الكتاب: شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي (المتوفى: 1122هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1417هـ-1996م عدد الأجزاء: 12   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية الزرقاني، محمد بن عبد الباقي الكتاب: شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي (المتوفى: 1122هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1417هـ-1996م عدد الأجزاء: 12   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ـ[شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية]ـ المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن شهاب الدين بن محمد الزرقاني المالكي (المتوفى: 1122هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1417هـ-1996م عدد الأجزاء: 12 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول باب مقدمة ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني مؤلف المواهب اللدنية ... بسم الله الرحمن الرحيم ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني 1 مؤلف المواهب اللدنية: هو الحافظ شهاب الدين أبو العباس، أحمد بن محمد، بن أبي بكر، بن عبد الملك، بن أحمد، بن محمد، بن حسين، بن علي القسطلاني المصري الشافعي، الإمام العلامة، الحجة الرحالة، الفقيه المقرئ المسند. قال السخاوي: مولده ثاني عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة بمصر، ونشأ بها وحفظ القرآن، وتلا السبع وحفظ الشاطبية والجزرية والوردية وغير ذلك، وذكر له عدة مشايخ منهم: الشيخ خالد الأزهري النحوي، والفخر المقدسي، والجلال البكري وغيرهم، وأنه قرأ صحيح البخاري في خمسة مجالس على الشاوي، وتلمذ له أيضًا, وأنه قرأ عليه أعني السخاوي بعض مؤلفاته، وأنه حج غير مرة، وجاور سنة أربع وثمانين وسنة أربع وتسعين، وأنه أخذ بمكة عن جماعة، منهم: النجم بن فهد، وولي مشيخة مقام سيدي الشيخ أحمد الحرار بالقرافة الصغرى، وعمل تأليفًا في مناقب الشيخ المذكور سماه نزهة الأبرار في مناقب الشيخ أبي العباس الحرار، وكان يعظ بالجامع العمري، وغيره ويجتمع عنده   1 انظر ترجمته في السخاوي: الضوء اللامع 2/ 103-104، ابن العماد، شذرات الذهب 8/ 121-123، الغزي: الكواكب السائرة 1/ 126-127، العيدروسي: النور السافر 113-115، الشوكاني: البدر الطالع 1/ 102-103، الكناني: فهرس الفهارس 2/ 318-320، حاجي خليفة: كشف الظنون 69, 166, 366, 552, 558, 647, 867, 919, 960, 2090, 1232, 1235, 1236, 1235, 1519, 1534, 1551, 1552, 1568, 1662, 1663, 1688, 1799, 1847, 1869, 1938, 1965، العش: فهرس مخطوطات الظاهرية 6/ 58-60، البغدادي: إيضاح المكنون 2/ 484-684، سركيس: معجم المطبوعات العربية والمصرية 1511، كحالة: معجم المؤلفين 2/ 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الجم الغفير، ولم يكن له نظير في الوعظ، وكتب بخطه شيئًا كثيرًا لنفسه ولغيره وأقرأ الطلبة وتعاطى الشهادة، ثم انجمع وأقبل على التأليف، وذكر من تصانيفه: العقود السنية في شرح المقدمة الجزرية، والكنز في وقف حمزة وهشام على الهمز، وشرحًا على الشاطبية زاد فيه زيادات ابن الجزري مع فوائد غريبة، وشرحًا على البردة سماه الأنوار المضية، وكتاب نفائس الأنفاس في الصحبة واللباس، والروض الزاهر في مناقب الشيخ عبد القادر، وتحفه السامع والقاري بختم صحيح البخاري ورسائل في العمل بالربع المجيب. انتهى ما ذكره السخاوي ملخصًا. وقال في النور: ارتفع شأنه بعد ذلك فأعطي السعادة في قلمه وكَلِمِه، وصنف التصانيف المقبولة التي سارت بها الركبان في حياته، ومن أجلها شرح على صحيح البخاري مزجًا في عشرة أسفار كبار، لعله أجمع شروحه وأحسنها وألخصها، ومنها المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، وهو كتاب جليل المقدار عظيم الواقع كثير النفع ليس له نظير في بابه، ويحكى أن الحافظ السيوطي كان يغض منه ويزعم أنه يأخذ من كتبه ويستمد منها ولا ينسب النقل إليها، وأنه ادعى عليه بذلك بين يدي شيخ الإسلام زكريا، فألزمه بيان مدعاه، فعدد مواضع قال: إنه نقل فيها عن البيهقي، وقال: إنه للبيهقي عدة مؤلفات فليذكر لنا ذكره في أي مؤلفاته لنعلم أنه نقل عن البيهقي، ولكنه رأى في مؤلفاتي ذلك النقل عن البيهقي فنقله برمته، وكان الواجب عليه أن يقول: نقل السيوطي عن البيهقي. وحكى الشيخ جار الله بن فهد، أن الشيخ رحمه الله قصد إزالة ما في خاطر الجلال السيوطي، فمشى من القاهرة إلى الروضة إلى باب السيوطي ودق الباب فقال له: من أنت؟ فقال أنا القسطلاني جئت إليك حافيًا مكشوف الرأس ليطيب خاطرك عليّ، فقال له: قد طاب خاطري عليك، ولم يفتح له الباب ولم يقابله، قال في النور: وبالجملة فإنه كان إمامًا حافظًا متقنا جليل القدر، حسن التقرير والتحرير، لطيف الإشارة بليغ العبارة، حسن الجمع والتأليف، لطيف الترتيب والترصيف، زينة أهل عصره ونقاوة ذوي دهره، ولا يقدح فيه تحامل معاصريه عليه، فلا زالت الأكابر على هذا في كل عصر. توفي في ليلة الجمعة سابع المحرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بالقاهرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ودفن بالمدرسة العينية جوار منزله، انتهى. وقال في الكواكب: كان موته بعروض فالحج نشأ له من تأثره ببلوغه قطع رأس إبراهيم بن عطاء الله المكي، بحيث سقط عن دابته وأغمي عليه، فحمل إليه منزله ثم مات بعد أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 التعريف بالمواهب اللدنية بالمنح المحمدية : قال حاجي خليفة في كشف الظنون: المواهب اللدنية في السيرة النبوية في مجلد، للشيخ الإمام شهاب الدين أبي العباس، أحمد بن محمد القسطلاني المصري، المتوفى سنة 923 ثلاث وعشرين وتسعمائة، وهو كتاب جليل القدر كثير النفع ليس له نظير في بابه، رتبه على عشرة مقاصد: الأول: في تشريف الله تعالى نبيه بسبق نبوته وطهارة نسبه وولادته ورضاعه ومغازيه وسراياه مرتبًا على السنين إلى وفاته عليه الصلاة والسلام. الثاني: في أسمائه وأولاده وأزواجه وأعمامه وخدمه. الثالث: فيما منحه الله تعالى من كمال خلقته؛ وفيه ثلاثة فصول. الرابع: في معجزاته وخصائصه. الخامس: في خصائص المعراج. السادس: فيما ورد من آي التنزيل في رفعة ذكره. السابع: في وجوب محبته واتباع سنته. الثامن: في طبه وتعبيره الرؤيا. التاسع: في لطيفه من حقائق عباداته. العاشر: في إتمامه سبحانه وتعالى نعمته عليه بوفاته, وفيه ثلاثة فصول. وذكر في كشف الظنون عن القسطلاني أنه فرغ من تأليفه في شوال سنة 898 ثمان وتسعين وثمانمائة ومن تبييضه في شعبان سنة 899 تسع وتسعين وثمانمائة. وقال الغزي في الكواكب: وأقام عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فحصل له جذب فصنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المواهب اللدنية لما صحا ... وقال: وكان له اعتقاد تام في الصوفية وأكثر في المواهب من الاستشهاد بكلام سيد وفا ... واختار مذهب مالك -رضي الله عنه- في تفضيل المدينة على مكة؛ قلت: -أي الغزي- وأول دليل على قبول أعماله وإخلاصه في تأليفه، عناية الناس بكتابه المواهب اللدنية، ومغالاتهم في ثمنه مع قلة الرغبات. ا. هـ. وفي كشف الظنون، ترجمه المولى الفاضل عبد الباقي بن ... 1 الشاعر الرومي المشهور أحسن ترجمة وسماه معالم اليقين2، وتوفي سنة 1088هـ. وعلى المواهب حاشية لمولانا نور الدين على القاري المكي المشهور المتوفى سنة 1014 أربع عشر وألف. وللعلامة لالشيخ إبراهيم بن محمد الميموني المصري الشافعي المتوفى سنة 1079 تسع وسبعين وألف، حاشية أيضًا. وشرح المواهب المولى العلامة خاتمة المحدثين محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري المالكي، المتوفى سنة 1122 اثنتين وعشرين ومائة وألف، شرحًا حافلا في أربع مجلدات، جمع فيه أكثر الأحاديث المروية في شمائل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسيره وصفاته الشريفة جزاه الله خيرًا ورحمه رحمة واسعة. وللشيخ أبي الضياء علي بن علي الشبراملسي المتوفى سنة 1087 سبع وثمانين، وألف حاشية على المواهب في خمس مجلدات ضخام، نقلها الأميني في خلاصة السير.   1 كذا في المطبوع من كشف الظنون. 2 أي أن المؤلف ترجم المواهب إلى الرومية حسب ما يظهر أو شرحه. ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ترجمة الزرقاني شارح المواهب : هو محمد الزرقاني بن عبد الباقي بن يوسف بن أحمد بن علوان المصري، الأزهري المالكي، الشهير بالزرقاني الإمام المحدث، الناسك النحرير، الفقيه العلامة. وقال الزركلي أبو عبد الله: خاتمة المحدثين بالديار المصرية، مولده ووفاته بالقاهرة، ونسبته إلى زرقان من قرى منوف بمصر. وقال كحالة: محدث فقيه أصولي. أخذ عن والده، وعن النور علي الشبراملسي، وعن الشيخ محمد البابلي وغيرهم، كما أخذ عن الشيخ محمد خليل العجلوني الدمشقي والجمال عبد الله الشبراوي: وله من المؤلفات: - شرح على الموطأ. ذكره كحالة1 باسم: أبهج المسالك بشرح موطأ الإمام مالك. - شرح على المواهب اللدنية. قال سركيس: وهو شرح حافل جمع فيه أكثر الأحاديث المروية في شمائل المصطفى وسيره وصفاته الشريفة. - وذكره كحالة2 باسم: إشراق مصابيح السيرة المحمدية بمزج أسرار المواهب اللدنية. - شرح المنظومة البيقونية. - مختصر3 المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة. - وصول الأماني في الحديث.   1 ذكر الزركلي في الأعلام 6/ 184: تلخيص المقاصد الحسنة. 2 انظر معجم المؤلفين 10/ 124. 3 مصادر ترجمته: معجم المؤلفين 10/ 124، الجبرتي: عجائب الآثار 1/ 69، المرادي: سلك الدرر 4/ 32-33، الكناني: فهرس الفهارس 1/ 342-343، البغدادي: هدية العارفين 2/ 311، الزركلي: الأعلام 6/ 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة : الحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس، ورفع منابر تشريفنا على منابر صفحات الدهور ثابتة الأساس، ووضع عنا الإصر والأغلال، ومنعنا الاجتماع على الضلال، وقدمنا تقديم البسملة في القرطاس، فنحن الآخرون السابقون تبجيلًا وتكريمًا لمن أرسله فينا رؤوفًا رحيمًا، فأقام دعائم الدين بعد طول تناس؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعالى عما يقول الظالمون الأرجاس، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده وسوله، وحبيبه وخليله، الأمين المأمون الطيب الأنفاس، ألا وهو أجل من أن يحيط به وصف، وأشرف من أن يضم جواهره نظم أو وصف، زكي المنابت، طيب الأغراس، أضاءت قبل كونه وإرهاصاته المقباس، وأزهرت في حمله وولادته ورضاعه زهراءي، اقتبس منها النبراس، وأشرقت أعلام نبوته، ولمعت لوامع براهين رسالته، فشيدت منار الهدى بعدما كان في إبلاس، وبهر بالآيات البينات، فشق له البدر في دجى الأغلاس، وغلب بمعجزات بدروها في التمام، وجواهرها تروق في الترصيع والانتظام، ورياضها تتأرج بنسمات سماته، وتنشق عن نور زهر شمائله، ونور زهر صفاته التي كل عن إحصاء راموزها المقياس؛ صلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين, وعلى آله وصحابته وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين الأكياس، الناهضين بأعباء المناقب، في علياء المناصب، البالغين في نصر الدين, النجوم الثواقب، الهادين من الكفر الجبال الرواس، حتى نسفوها نسفًا، وحكموا بالعدل وأقاموا القسطاس. أما بعد: فهذا الكتاب لم يطلبه مني طالب، ولا رغب إلي من تصنيفه راغب، وإنما تطلبت نفسي فيه مزج المواهب، فأودعته نفائس بها يتنافس في شرح السنة النبوية، وعرائس استجليتها من مخدرات خدور السيرة المحمدية، وجواهر استخرجتها من قاموس الحكم المصطفوية، وزواهر اقتبستها من أرقعة السيرة الهاشمية، وزهور اجتثيتها من جنات وجنات الروضة المدنية، يبهر من عقد نظامها الناظر، وينادي من أي هذا القاصر، فيجيبه حال اللسان الوهاب، قوي قادر، أما العيوب وإن كثرت، فما لا سبيل إلى السلامة منها لغير المعصوم، وقد قال: من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط وقد قال ابن عبدوس النيسابوري: لا أعلم في الدنيا كتابًا سلم إلى مؤلفه ولم يتبعه من يليه، فكيف وفهمي فاتر، ونظري قاصر، ووجودي في الزمان الآخر مع ما أقاسيه من تلاطم أمواج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الهموم وأقلامه من ترادف جيوش الغموم، لكني أنتظر الفرج من الحي القيوم، مستعيذًا به من حسود ظلوم، والله أسال العون على إتمامه، والتوفيق من امتنانه وهو حسبنا ونعم الوكيل. هذا؛ وجامعه الحقير الفاني، محمد بن عبد الباقي الزرقاني، قد أخذ الكتاب رواية ودراية, عن علامة الدنيا؛ الآخذ من بحار التحقيق بالغايتين: القصوى والدنيا، الأصول النحوي النظار الفقيه النحرير الجهبذ الفهامة النبيه الشيخ علي الشمرلسي شيخ الإسلام، فسح الله له وأدام به نفع الأنام. وكم بحمد الله صغى لي وسمع ما أقول وكتب أنقالي وحثني على إحضار ما أراه من النقول، إذا رأى ملالي، ولم أزل عنده من نعم الله بالمحل الأرفع العالي، والله يعلم أني لم أقل ذلك للفخر، وأي فخر لمن لا يعلم ما حاله في القبر، بل امتثالا للأمر بالتحدث بالنعمة، كشف الله عنا كل غمة، بحق روايته له عن شيخ الإسلام أحمد بن خليل السبكي، إجازة عن السيد يوسف الأرميوني عن المؤلف، وعن البرهان إبراهيم اللقاني، عن العرافين المحمدين: البنوفري, وابن الترجمان، عن العارف الشعراني، عن مؤلفها، وعن الفقيه النور الأجهوري, عن البدر القرافي والبنوفري، عن عبد الرحمن الأجهوري، عن مؤلفه. وقد وضع عليه حال القراءة، هاتيك الحاشية الرقيقة، الحاوية لجواهر أبحاثه الدقيقة، وبدور الأنقال الأنيقة. وهو مرادي بشيخنا في الإطلاق، وربما عبرت عنه بالشارح لغرض صحيح لدى الحذاق. ح وأخبرنا به إجازة أبو عبد الله الحافظ محمد العلائي البابلي، قال: أخبرنا بها سماعًا لبعضها وإجازة لباقيها، شيخ الإسلام علي الزيادي, عن قطب الوجود أبي الحسن البكري، عن مؤلفها وهو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن أحمد القسطلاني القتيبي المصري الشافعي، ولد كما ذكره شيخه الحافظ السخاوي، في الضوء بمصر عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، وأخذ عن الشهاب العبادي، والبرهان العجلوني والفخر لمقدسي، والشيخ خالد الأزهري النحوي، والسخاوي وغيرهم. وقرأ البخاري على الشهاوي في خمسة مجالس وحج مرارًا، وجاور بمكة مرتين وروى عن جمع منهم النجم بن فهد، وكان يعظ بالعمري وغيره الجم الغفير، ولم يكن له في الوعظ نظيرًا انتهى. وتوفي ليلة الجمعة بالقاهرة، سابع محرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة بالأزهر، ودفن بمدرسة العيني، وله عدة مؤلفات أعظمها هذه المواهب اللدنية، التي أشرقت من سطورها أنوار الأبهة والجلالة، وقطرت من أديمها ألفاظ النبوة والرسالة، أحسن فيها ترتيبًا وصنعًا، وأحكمها ترصيعًا، وكساه الله فيها رداء القبول، ففاقت على كثير مما سواها عند ذوي العقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 شرح مقدمة المواهب مدخل ... بسم الله الرحمن الرحيم شرح مقدمة المواهب:   قال رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم" بدأ بها عملا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع". رواه الخطيب وغيره من حديث أبي هريرة وأصله في سنن أبي داود، وابن ماجه، والنسائي في عمل يوم وليلة، وابن حبان في صحيحه، بلفظ بالحمد، وفي لفظ أبتر، وآخر أجذم بجيم وذال معجمة، تشبيه بليغ في العيب المنفر. واقتداء بأشرف الكتب السماوية، فإن العلماء متفقون على استحباب ابتدائه بالبسلمة في غير الصلاة وإن لم يقل بأنها منه، كما قاله الخطاب، فسقط اعتراض مالكي على من قال ذلك من المالكية، والأصح أنها بهذه الألفاظ العربية، على هذا الترتيب من خصائص المصطفى وأمته المحمدية، مما في سورة النمل جاء على جهة الترجمة عما في ذلك الكتاب، فإنه لم يكن عربيًا، كما أتقنه بعض المحققين وعند الطبراني عن بريدة رفعه: "أنزل عليّ آية لم ينزل على نبي بعد سليمان غيري {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ". وحديث: " {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كل كتاب"، رواه الخطيب في الجامع معضلا فيه وجهان أحدهما: لفظ البسملة قد افتتح به كل كتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، والثاني: إن حقها أن تكون في مفتتح كل كتاب، استعانة وتيمنا بها وهذا أقرب، وإن زعم أن المتبادر الأول، فلا ينافي الخصوصية، ولئن سلم فهو معضل لا حجة فيه. وفي الاسم لغات معلومة، وفي أنه عين المسمى أو غيره كلام سيجيء إن شاء الله تعالى في أول المقصد الثاني، وإضافته إلى الله من إضافة العام للخاص كخاتم حديد، واتفق على أنه أعرف المعارف، وإن كان علمًا انفرد به سبحانه فقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وهو عربي، ونطق غير العرب به من توافق اللغات، مرتجل جامد عند المحققين وقيل مشتق، وعليه جمهور النحاة وهو اسم الله العظيم، كما قاله جماعة، لأنه الأصل في الأسماء الحسنى، لأن سائر الأسماء تضاف إليه، وعدم إجابة الدعاء به لكثير, لفقد شروط الدعاء التي منها أكل الحلال البحت وحفظ اللسان والفرج. والرحمن المبالغ في الرحمة والإنعام، صفة الله تعالى؛ وعورض بوروده غير تابع لاسم قبله. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] , {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1/ 2] ، وأجيب بأنه وصف يراد به الثناء، وقيل عطف بيان، ورده السهيلي، بأن اسم الجلالة الشريفة غير مفتقر، لأنه أعرف المعارف كلها؛ ولذا قالوا: "وما الرحمن"، ولم يقولوا: وما الله. والرحيم: فعيل, حول من فاعل للمبالغة، والاسمان مشتقان من الرحمة، وقرن بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الحمد لله ................................................................   للمناسبة، ومعناهما واحد عند المحققين، إلا أن الرحمن مختص به تعالى، ولذا قدم على الرحيم لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره, وقول بني حنيفة في مسيلمة: رحمان اليمامة، وقول شاعرهم: لا زلت رحمانا. عنت في الكفر أو شاذ، أو المختص بالله تعالى، أو المعرف باللام، فالرحمن خاص لفظًا لحرمة إطلاقه على غير الله، عام معنى من حيث إنه يشمل جميع الموجودات، والرحيم عام من حيث الاشتراك في التسمي به خاص معنى لرجوعه إلى اللطف والتوفيق، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "الله رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما". رواه الحاكم. وقيل: اسم الله الأعظم هو الأسماء الثلاثة: الله الرحمن الرحيم. وروى الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس، أن عثمان بن عفان سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم عن: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال: "هو اسم من أسماء الله تعالى، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب". ولكون الحمد من أفرادها اقتصر عليها إمامنا في الموطأ والبخاري وأبو داود، ومن لا يحصى، وأيده الحافظ بأن أول ما نزل: {قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، فطريق التأسي به الافتتاح بها والاقتصار عليها، وبأن كتبه -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وغيرهم مفتتحة بها دون حمدلة وغيرها، لكن المصنف كالأكثر أردفها به، لأن المقتصر عليها لا يسمى حامدًا عرفًا، فقال: "الحمد لله" وللاقتداء بالكتاب العزيز ولقوله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يحب أن يحمد"، رواه الطبراني وغيره. وروى الشيخان وغيرهما مرفوعًا: لا أحد أحب إليه الحمد من الله عز وجل، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "فإن الله يحب الحمد يحمد به ليثيب حامده، وجعل الحمد لنفسه ذكرًا ولعباده ذخرًا". رواه الديلمي عن الأسود بن سريع. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع". رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وصححه ابن حبان وأبو عوانة، وإن كان في سنده قرة بن عبد الرحمن تكلم فيه، لأنه لم ينفرد به، بل تابعه سعيد بن عبد العزيز، وأخرجه النسائي. وفي رواية أحمد: لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع. تشبيه بليغ في العيب المنفر بحذف الأداة والأصل هو كالأبتر أو الأقطع في عدم حصول المقصود منه، أو استعارة ولا يضر الجمع فيه بين المشبه والمشبه به، لأن امتناعه إذا كان على وجه ينبئ عن التشبيه لا مطلقًا للتصريح بكونه استعارة في نحو: قد زر ازراره على القمر على أن المشبه في هذا التركيب محذوف، والأصل هو ناقص، كالأقطع، فحذف المشبه وهو الناقص وعبر عنه باسم المشبه به، فصار المراد من الأقطع الناقص، وعليه فلا جمع بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الذي أطلع في سماء الأزل شمس أنوار معارف النبوة المحمدية، وأشرق من أفق أسرار مظاهر الرسالة تجلي صفات .................................................   الطرفين بل المذكور اسم المشبه به فقط. "الذي أطلع" نعت لله، والجملة الفعلية صلة الموصول، وهو وصلته كالشيء الواحد، وهما في معنى المشتق؛ لأن الصلة هي التي حصلت بها الفائدة، وترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، فكأنه قال الاطلاع إلى آخره، فيكون حمده تعالى لذاته ولصفاته فهو واجب، أي يثاب عليه ثوابه لا أنه يأثم بتركه لا لفظًا ولا نية. وقد قام البرهان عقلا ونقلا على وجوب حمده سبحانه، لأن شكر المنعم واجب به للآيات والأخبار الآمرة بالتدبر الموجبة للتفكر, وهو سبحانه وتعالى، قد أفاض نعمه على كل موجود ظاهره وباطنه وإن كان قد فاوت بينهم فيها، ولذا قيل: نعمتان ما خلا موجود عنهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد. "في سماء الأزل،" بالتحريك القدم؛ فهو استعارة بالكناية شبه الأزل من حيث وجوده قبل العالم بمكان يعلوه سماء، وأثبت له السماء استعارة تخييلية، والسماء المظلة للأرض. قال بن الأنباري: تذكر وتؤنث، وقال الفراء: التذكير قليل، وهو على السقف وكأنه جمع سماوة كسحاب، وسحابة وجمعت على سموات. "شمس الأنوار:" جمع نور، أي: أضواء. "معارف النبوة المحمدية،" ولكونها قبل العالم عبر باطلع المشعر بأنها لم تكن موجودة، ثم كانت لانتفاء القدم لغير الباري، ثم بعد وجوده وإشراقه، بمظاهر الصفات، وهي كائنة في عالم المشاهدة عبر بالإشراق الذي هو الإضاءة لهذا العالم، فقال: "وأشرق" أي: أضاء، وهو لازم؛ كما قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} ويعد في كلام المولدين حملا على أضاء، لأنه بمعناه والشيء يحمل على نظيره وضده. وأضاء جاء متعديًا وازمًا بتضمين معناه، أو بمعنى التصيير كما قيل به في ثلاثة: تشرق الدنيا ببهجتها، واستعماله مزيدًا أكثر، وثبت ثلاثية، فقيل هما بمعنى، وقيل أشرقت: أضاءت، وشرقت، طلعت. "من أفق" بضم فسكون وبضمتين؛ كما في القاموس وغيره، أي: ناحية. "أسرار مظاهر الرسالة" جمع مظهر، اسم موضع الظهور، وقال في لطائف الأعلام: الأفق في اصطلاح القوم، يكنى به عن الغاية التي ينتهي إليها سلوك المقربين، وكل من حصل منهم إلى الله على مرتبة قرب إليه، فتلك المرتبة هي أفقه ومعراجه. "تجلي الصفات" هو عند الصوفية ما يكون مبدؤه من الصفات، من حيث تعيينها وامتيازها عن الذات، كذا في التوقيف. وقال صاحب لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الأحمدية، أحمده على أن وضع أساس نبوته على سوابق أزليته، ورفع دعائم رسالته   يعنون بالتجلي تجريد القوى والصفات عن نسبتها إلى الخلق بإضافتها إلى الحق، وذلك أن العبد إذا تحقق بالفقر الحقيقي، وهو انتفاء الملك بشهود العز له تعالى، صار قبلة للتجلي الصفاتي، بحيث يصير هذا القلب التقي النقي مرآة ومجلى للتجلي الوحداني الصفاتي الشامل حكمه لجميع القوى والمدارك، كما إليه الإشارة بالحديث القدسي: "فإذا أحببته كنت سمعه" الحديث، وأطال في بيان ذلك. "الأحمدية" المنسوبة إلى أحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو اسم لم يتسم به أحد قبله، قال الحافظ: والمشهور أن: "أول من سمي به بعده -صلى الله عليه وسلم- والد الخليل بن أحمد". لكن زعم الواقدي أنه كان لجعفر بن أبي طالب ابن اسمه أحمد. وحكى ابن فتحون في ذيل الاستيعاب أن اسم أبي حفص بن المغيرة الصحابي أحمد، ويقال في والد أبي السفر أن اسمه أحمد. قال الترمذي: أبو السفر هو سعيد بن يحمد، ويقال: ابن أحمد، انتهى. "أحمده على أن وضع أساس" أصل "نبوته"، أي: النبي المفهوم من نبوة أو نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- المستفاد من المحمدية "على سوابق أزليته"، أي: على الأمور التي اعتبرها في الأزل سابقة على غيرها. قال محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: "وليس هو الفخر" صاحب التفسير في كتابه -مختار الصحاح- الأزل: القدم يقال أزلي: ذكر بعض أهل العلم أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم الأب باختصار، فقالوا: يزلي ثم أبدلت الباء ألفًا؛ لأنها أخف، فقالوا: أزلي، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن أزني. "ورفع دعائم رسالته" أي: المعجزات عبر عنها بذلك لمشابهتها لها في إثبات رسالته وتقويتها، كتقوية الجدار بما يدعم به، ثم هو استعارة تصريحية شبه المعجزات بالدعائم واستعار اسمها لها، أو مكنية شبه الرسالة المؤيدة، بالمعجزة ببيت مشيد الأركان مدعم بما يمنع تطرق الخلل له، وأثبت الدعائم تخييلا، ولم تزل البلغاء تستعير الدعائم، كقول ابن زيدون: أين البناء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر ويقال للسيد في قومه: هو دعامة القوم، كما يقال: هو عمادهم، قال الراغب الرسالة سفارة العبد بين الله وبين خلقه. وقيل: إزاحة علل ذوي العقول فيما تقصر عنه عقولهم من مصالح المعاش والمعاد، وجمع بعض المحققين بينهما، "فقال سفارة بين الله وبين ذوي الألباب لإزاحة عللهم فيما يحتاجونه من مصالح الدراين" وهذا حد كامل جامع بين المبدأ المقصود بالرسالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 على لواحق أبديته. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الفرد المنفرد في فردانيته بالعظمة والجلال .................   وهي الخصوصية، وبين منتهاها وهو إزاحة عللهم، انتهى. "على لواحق أبديته"، أي: دهوره التي لا انقضاء لها؛ فالأبد الدهر الذي لا نهاية له أو الدهر، وعبر هنا بلواحق، لأنه محل المعجزات وهي إنما تكون بعد وجوده في ذا العالم، فناسب أن تكون على الأمور اللاحقة الخارقة للعادة. وفيما قيل بسوابق؛ لأنه مظهر لأساس النبوة وهو معتبر قبل وجود العالم. "وأشهد" أقر وأعلم وأبين، والشهادة الإخبار عن أمر متيقن قطعًا، "أن لا إله إلا الله" لا معبود بحق، إلا الله، أتى به لخبر أبي داود والترمذي والبيهقي، وصححه مرفوعًا، كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء، أي: القليلة البركة، وأن المخففة من الثقيلة لا الناصبة للفعل إذ لا فعل هنا، ولأن أشهد من أفعال اليقين فيجب أن يكون بعدها أن المؤكدة لتناسب اليقين. "وحده:" نصب على الحال بمعنى متوخذًا، وهو توكيد لتوحيد الذات. "لا شريك" لا مشارك "له" تأكيدًا لتوحيد الأفعال ردًا على نحو المعتزلة. وقد روى مالك وغيره مرفوعًا: "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له". "الفرد:" قال الراغب: الفرد الذي لا يختلط بغيره، وهو أعم من الوتر وأخص من الواحد، وجمعه فرادى. قال تعالى: {لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء: 89] أي: وحيدًا. ويقال في الله فرد تنبيها على أنه مخالف للأشياء كلها في الازدواج، المنبه عليها بقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] ، معناه أنه المستغني عما عداه، فهو كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبت: 6] ، فإذا قيل هو فرد فمعناه منفرد بوحدانيته، مستغن عن كل تركيب مخالف للموجودات كلها. "المنفرد" من باب الانفعال للمطاوعة، والمراد بدون صنع بل بذاته، وإطلاقه على الله، إما لثبوته كما يشعر به كلامهم، أو للاكتفاء بورود ما يشاركه في مادته ومعناه، أو بناء على جواز إطلاق ما لا يوهم نقصًا مطلقًا، أو على سبيل التوصيف دون التسمية كما ذهب إليه الغزالي. "في فرادنيته بالعظمة والجلال" مرادف، فجلال الله: عظمته، والعظمة هي جلاله وكبرياؤه. لكن قال الرازي: الجليل الكامل في الصفات، والكبير الكامل في الذات، والعظيم الكامل فيهما. فالجليل يفيد كمال الصفات السلبية والثبوتية. وقد ذهب الأصمعي إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الواحد المتوحد في وحدانيته باستحقاق الكمال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبده ورسوله ...................................   الجلال لا يوصف به غير الله لغة. وأكثر اللغوين على خلافه، وأنه يوصف به غيره، كقوله: ألمم على أرض تقادم عهدها ... بالجذع واستلب الزمان جلالها وكقول هدبة: فلا ذا جلال هبنه لجلاله ... ولا ذا ضياع هن يتركن للعقد "الواحد" في ذاته وصفاته وأفعاله، من الأسماء الحسنى؛ كما في رواية الترمذي، وفي رواية ابن ماجه: الأحد. قال الأزهري: الفرق بينهما أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والواحد اسم بني لمفتتح العدد، ما جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير والأحد منفرد بالمعنى. وقال غيره: الأحد الذي ليس بمنقسم ولا متحيز، فهو اسم لمعنى الذات فيه سلب الكثرة عن ذاته، والواحد وصف لذاته فيه سلب النظير والشريك عنه، فافترقا. وقال السهيلي: أحد أبلغ وأعم، ألا ترى أن ما في الدار أحد، أعم وأبلغ من ما فيها واحد, وقال بعضهم: قد يقال: إنه الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله، والأحد في وحدانيته إذ لا يقبل التغيير ولا التشبيه بحال. "المتوحد" فيه ما مر في المنفرد ولو أبدله بالأحد لكان فيه تلميح بالروايتين. "في وحدانيته باستحقاق الكمال" إذ الكمال الخالص المطلق ليس إلا له فلا يتغير سبحانه وتعالى. ولما كان الواسطة في وصول الفيض من الله إلينا هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وتطابق العقل والنقل على وجوب شكر المنعم عقب الشهادة لله، بالشهادة لرسوله، فقال: "وأشهد أن سيدنا وحبيبنا" طبعًا وشرعًا لحب الله "محمدًا عبده ورسوله" -صلى الله عليه وسلم- ولدخوله في قوله: "كل خطبة ... "، الحديث. قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] أي: لا أذكر إلا وتذكر معي، كما ورد مفسرًا عن جبريل عن الله تعالى. والمصطفى هو الذي علمنا شكر المنعم، وكان السبب في كمال هذا النوع إذ لا بد من القابل والمفيد، وأجسامنا في غاية الكدورة وصفات الباري في غاية العلو والصفاء والضياء. فاقتضت الحكمة الإلهية توسط ذي جهتين تكون له صفات عالية جدًا وهو من جنس البشر ليقبل عن الله بصفاته الكمالية، وتقبل عنه بصفاته البشرية، فلذا استوجب قرن شكره بشكره؛ و"محمدًا" عطف بيان لا صفة لتصريحهم بأن العلم ينعت ولا ينعت به، ولا بدل؛ لأن البدلية وإن جوزت في {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ، لكن القصد الأصلي، هنا إيضاح الصفة السابقة وتقرير النسبة تبع، والبدلية تستدعي العكس، وقدم العبودية المضافة لله، لكونها أشرف أوصافه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 أشرف نوع الإنسان، وإنسان عيون الأعيان، المستخلص من خالص خلاصة ولد عدنان، الممنوح ببدائع الآيات، والمخصوص بعموم الرسالة وغرائب المعجزات، السر الجامع الفرقاني، والمخصص بمواهب القرب من النوع الإنساني، مورد الحقائق الأزلية ومصدرها، وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها، وخطيبها إذا حضر في حظائر ......................   وله بها كمال اختصاص، ولأن العبد يتكفله مولاه بإصلاح شأنه، والرسول يتكفل لمولاه بإصلاح شأن الأمة، وكم بينهما، وإيماء إلى أن النبوة وهبية، ولأن العبودية في الرسول لكونها انصرافًا من الخلق إلى الحق أجل من رسالته؛ لكونها بالعكس. "أشرف" أفراد "نوع الإنسان" ذاتا وصفات والإضافة بيانية؛ "وإنسان" أي حدقة "عيون الأعيان المستخلص" المنتخب "من خالص خلاصة" قال في المصباح خلاصة الشيء بالضم ما صفا منه، مأخوذ من خلاصته السمن، وهو ما يلقى فيه تمر أو سويق ليخلص به من بقايا اللبن، انتهى. "ولد" بفتحتين وبضم فسكون يكون واحدا وجمعا "عدنان" أحد أجداده "الممنوح" المخصوص، وأصل المنحة العطية، ويتعدى بنفسه وضمنه هنا بمعنى المخصوص فعداه بالباء في قوله: "ببدائع الآيات" جمع آية، ولها معان منها العلامة الدالة على نبوته -صلى الله عليه وسلم, "المخصوص بعموم الرسالة" للعالمين، ومنهم الملائكة على ما رجحه جمع محققون، وردوا على من حكى الإجماع على انفكاكهم عن شرعه، بل زاد بعضهم والجمادات كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله في محله. "وغرائب المعجزات" من إضافة الصفة للموصوف، والآية والمعجزة مشتركان في الدلالة على صدقه، لكن الآية أعم؛ لأنه لا يشترط فيها مقارنة النبوة، والتحدي، فكل معجزة آية ولا عكس. فشق صدره وتسليم الحجر عليه قبل البعثة ونحوه آية لا معجزة؛ "السر الجامع" بين ما تفرقه في غيره وبين الحكم بالظاهر والباطن والشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما دليل قصة موسى مع الخضر. وقد نص عليه البدر ابن الصاحب في تذكرته وأيد بحديث السارق والمصلي الذي أمر بقتلهما. "الفرقاني" نسبة إلى الفرقان لفرقه بين الحق والباطل، "والمخصص بمواهب القرب" من ربه تبارك وتعالى قرب مكانه، زيادة من سواه "من النوع الإنساني" فإن المقربين منه لهم قرب دون قربه عليه السلام، "مورد الحقائق الأزلية" جمع حقيقة، وهي عند أرباب السلوك العلوم، المدركة بتصفية الباطن "ومصدرها"، يعني: أن ذاته محل لورود الحقائق عليها من الحق، ومحل لصدورها عنها على الخلق، "وجامع جوامع مفرداتها ومنبرها وخطيبها إذا حضر في حظائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 قدسها ومحضرها، بيت الله المعمور الذي اتخذه لنفسه، وجعله ناظمًا لحقائق أنسه، مدة مداد نقطة الأكوان، ومنبع ينابيع الحكم والعرفان، الممد من بحر مدد الوفاء على القائل من أهل المعارف والاصطفاء حيث خاطب .....................   قدسها"، بضمتين وتسكن داله، أي: مواضع جمع حظيرة وهي في الأصل ما حظرته على الغنم وغيرها من الشجر للحفظ, والقدس، أصل معناه الطهر سمي به جبل المقدس لطهارته بالعبادة فيه، وقدس الله وحظيرة قدسه الجنة. قال التبريزي في شرح ديوان الحماسة: واسم الجبل يقال أنه غير منصرف، وأنشدوا الكثير كالمصرخي غدًا فأصبح واقفًا في قدس بين مجاثم الأوعال. "ومحضرها،" أي: محل حضورها. "بيت الله المعمور" بما أورده عليه فوعاه مما لا يطيقه غيره، ولم ينزله على أحد قبله وسماه بيتا على التشبيه، وما يروى: القلب بيت الرب. لا أصل له كما في المقاصد، "الذي اتخذه لنفسه" مجاز عن إدخال علومه فيه، وأطلق النفس على الله؛ كقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، وقوله: "أنت كما أثنيت على نفسك"، وقيل: إنما يراد للمشاكلة، كقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] , "وجعله ناظمًا" أي: جامعًا "لحقائق أنسه"، جمع حقيقة وهي ما أقر في الاستعمال واشتقاقه على أصل وضعه في اللغة، قاله ابن جني وابن فارس، وزاد من قولنا حق الشيء إذا وجب، واشتقاقه من الشيء المحقق وهو المحكم، وقال المرزوقي: هي في كلام العرب الأور التي يحق حمايتها، والأنفة من تركها عن الرؤساء، وقال الخليل: هي ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه. كما قيل: ألم ترى أني قد حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت دونها "مدة" بالنصب والرفع، أي: أصل؛ "مداد نقطة الأكوان؛" أي: مركزه الذي يدور عليه. ومنبع؛" بفتح الميم والباء مخرج "ينابيع" جمع ينبوع؛ وهي في الأصل العين التي يخرج منها الماء فشبه بها. "الحكم؛" جمع حكمة، وهي تحقيق العلم وإتقان العمل، كما في الأنوار. وقال النووي: فيها أقوال كثيرة صفا لنا منها إنها العلم المشتمل على المعرفة بالله، مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده. والحكيم من جاز ذلك، انتهى ملخصًا، قال الحافظ، وقد تطلق الحكمة على القرءان، وهو مشتمل على ذلك كله وعلى النبوة كذلك، وقد تطلق على العلم فقط وعلى المعرفة فقط، انتهى. "والعرفان" أي: العلم مصدر عرف "الممد" اسم فاعل، "من بحر مدد الوفاء على القائل من أهل المعارف والاصطفاء" الاختيار، وعلل كونه من أهلهما بقوله "حيث خاطب" القائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ذاته، بالمنح الأنفسية بشعر من بحر الطويل: فأنت رسول الله أعظم كائن ... وأنت لكل الخلق بالحق مرسل عليك مدار الخلق إذ أنت قطبه ... وأنت منار الحق تعلو وتعدل فؤادك بيت الله دار علومه ... وباب عليه منه للحق يدخل ينابيع علم الله منه تفجرت ... ففي كل حي منه لله منهل منحت بفيض كل مفضل ... فكل له فضل به منك يفضل نظمت نثار الأنبياء فتاجهم ... لديك بأنواع الكمال مكلل   "ذاته" -صلى الله عليه وسلم- "بالمنح" العطايا؛ "الأنفسية" أي: الشريفة "بشعر من بحر الطويل" أحد بحور الشعر المعروفة، "فأنت رسول الله" نداء والخبر، "أعظم كائن" موجود "وأنت لكل الخلق بالحق" أي: الأمور المطابقة للواقع، "مرسل" من الله "عليك مدار" مصدر ميمي، أي: دوران، "الخلق إذ أنت قطبه" أي: أصل الخلق الذي يرجع إليه، "وأنت منار الحق تعلو" ترتفع على غيرك "وتعدل" في قضاياك بين الناس "فؤادك" قلبك أو غشاؤه وقوي بحديث: "أرق أفئدة وألين قلوبًا". "بيت الله" إضافة لامية على مجاز الحذف، أي: بيت علوم الله كما أوضحه بقوله "دار علومه" وهي لامية أيضًا وقد أعلمه الله تعالى ما عدا مفاتيح الغيب الخمسة، وقيل: حتى هـ وأمره بكتمها؛ كما في الخصائص "و" أنت "باب عليه منه للحق" أي: للأمور المطابقة للواقع فحذف الموصوف أولا وأمر الله، فحذف المضاف. "يدخل ينابيع" جمع ينبوع، وهو في الأصل العين التي تورد: "علم الله منه تفجرت ... ففي كل حي منه لله منهل" بفتح الميم والهاء، أي: عين تورد "منحت" أي: خصصت: "بفيض الفضل كل مفضل ... فكل له فضل" أي: كل إنسان ثبت له فضل فهو "به منك يفضل"؛ فالبيت على حد قول البوصيري: وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم "نظمت نثار" بكسر النون بعدها مثلثة بمعنى المنثور، ككتاب بمعنى مكتوب، "الأنبياء" أي: شرائعهم. "فتاجهم" مفرد تيجان، وهو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر وقد توجته إذا ألبسته التاج، كما في النهاية. "لديك" أي: عندك "بأنواع الكمال مكلل" بلامين خبر تاج، أي: مرصع, و"في" نسخة مكمل بالميم يأباها الطبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فيما مدة الإمداد نقطة خطه ... ويا ذروة الإطلاق إذ يتسلسل محال يحول القلب عنك وإنني ... وحقك لا أسلو ولا أتحول عليك صلاة الله منه تواصلت ... صلاة اتصال عنك لا تتنصل شخصت أبصار بصائر سكان سدرة المنتهى لجلال جماله، وحنت أرواح رؤساء الأنبياء إلى مشاهدة كماله .........................   "فيا مدة" أي: زيادة "الإمداد نقطة خطه ويا ذروة الإطلاق إذا يتسلسل محال": باطل غير ممكن الوقوع أنه "يحول" يتغير "القلب عنك وإنني وحقك لا أسلو" أصبر "ولا أتحول" عن حبك "عليك صلاة الله منه" متعلق بقوله: "تواصلت صلاة اتصال" مفعول مطلق "عنك لا تتنصل" أي: لا تزول عنك "شخصت" بفتحات نظرت "أبصار بصائر" جمع بصيرة، وهي للنفس كالعين للشخص "سكان سدرة المنتهى" بفتحات نظرت "أبصار بصائر" جمع بصيرة، وهي للنفس كالعين للشخص "سكان سدرة المنتهى" وهم الملائكة الكرام. روى أبو يعلى، والبزار وابن جري، وابن ماجه، عن أبي سعيد، رفعه في حديث المعراج وغشيها من الملائكة، أمثال الغربان حين يقعن على الشجر. وعند الحاكم وغيره عن أبي هريرة رفعه: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة "لجلال" عظمة "جماله" حسنه وفي جعله الشخوص لجلال الجمال دون الجمال نفسه لطف وإيماء إلى أن هؤلاء وإن كانوا مقربين ما استطاعوا النظر لنفس الحسن، بل شخصوا في الجلال الحاجب له فكيف بغيرهم، ولذا قال علي يقول ناعته، أي: عند العجز عن وصفه، لم أر قبله ولا بعده مثله، ومن ثم يفتتن به مع أنه أوتي كل الحسن؛ كما قال: بجمال حجبته بجلال ... طاب واستعذب العذاب هناكا "وحنت" اشتاقت، "أرواح رؤساء الأنبياء" أكابرهم، وهم الذين رأوه في السماوات ليلة المعراج "إلى مشاهدة" أي: رؤية "كماله" هو التمام فيما يفضل به الشيء على غيره؛ فيشمل الظاهر؛ والباطن، لكن المراد هنا الظاهر لأنه المشاهد بالحاسة لا الباطن، لعدم تعلقها به، وإن تعلقت بما دل عليه, وتخصيص الأرواح بالذكر لأن الإدراك بها وإن نسب للجسد فهو بواسطتها فلا يشكل بما في تنوير الحلك، من أنه لا يمتنع رؤية ذاته عليه السلام بجسده وروحه، وذلك لأنه وسائر الأنبياء صلى الله عليه وسلم ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم للتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، انتهى. ونحوه يأتي للمصنف في غير موضع من هذا الكتاب، وقد روى الحاكم في تاريخه، والبيهقي في حياة الأنبياء، عن أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور". قال البيهقي: فعلى هذا يصيرون، أي: يكونون حيث ينزلهم الله تعالى، انتهى. وهذا لا يشكل بأن الأنبياء في قبورهم، وأن المصطفى أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يقوم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى إلى نفائس نفحاته، وتطاولت أعناق العقول إلى أعين لمحاته ولحظاته، فعرج به إلى المستوى الأقدس، وأطلعه على السر الأنفس، في إحاطته الجامعة، وحضرات حظيرة قدسه الواسعة، فوقفت أشخاص الأنبياء في حرم الحرمة، على أقدام الخدمة، وقامت أشباح الملائكة في معارج الجلال، على أرجل   قبره. لأن معناه لا يتركون على حالة بحيث لا يقوى تعلق روحهم بجسدهم، على وجه يمنع من ذهاب الروح بعد تعلقها بالجسد حيث شاءت متشكلة بصورة الجسد، وإن بقي الجسد نفسه إلى يوم القيامة في القبر، وبهذا لا تعارض بين الأخبار؛ وطاح زعم من أدعي بطلان كونهم لا يتركون في نفسه. "وتلفتت لفتات أنفس الملأ الأعلى" أي: ذواتهم وأرواحهم "إلى نفائس نفحاته" أي: روائحه الطيبة "وتطاولت" امتدت "أعناق" ذوي "العقول"؛ فهو مجاز بالحذف أو مرسل باستعمال العقول في أهلها، أو شبه العقول بالذوات المدركة استعارة بالكناية. وأثبت لها ما هو من خواصها وهي الأعناق تخييلا، وقد جوزت الأوجه الثلاثة في نحو: واسأل القرية "إلى أعين لمحاته" من إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الأعين اللامحة واللمح: النظر باختلاس البصر، ولمح البصر امتد إلى الشيء ويمكن تنوين أعين. ولمحاته "ولحظاته" بدل اشتمال واللحظ: المراقبة أو النظر بمؤخر العين عن يمين وشمال. "فعرج به إلى المستوى" بفتح الواو: الموضع المشرف وهو المصعد، وقيل: المكان المستوي؛ "الأقدس وأطلعه على السر الأنفس" كما قال: "فأوحى إلى عبده ما أوحى"، فأبهمه للتعظيم في أحد الأقوال فلا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به؛ كما قيل: بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم في الكون يحكيه "في إحاطته الجامعة": متعلق باطلع، أي: فيما تتعلق إحاطته، أي: علمه به؛ "وحضرات" بالضاد المعجمة "حظيرة" بالظاء المعجمة المشالة "قدسه الواسعة" وليس المراد بها هنا الجنة، فإن اطلاعه على السر كان حين العروج إلى المستوى كما كلمه ربه، وهو بعد رفعه إلى السدرة، ورفعه إليها كان بعد دخوله الجنة، وعرض النار عليه؛ كما فصل في المعراج. "فوقفت أشخاص الأنبياء" صورهم "في حرم الحرمة" التعظيم "على أقدام" جمع قدم مؤنث، "الخدمة وقامت أشباح الملائكة" إضافة بيانية، جمع شبح وهو الشخص؛ كما في المصباح، فغاير تفننًا، وللإشارة إلى مغايرتها لأجسام البشر، وإنما هي أجسام لطيفة نورانية على الصحيح. "في معارج الجلال" جمع معرج ومعراج وهو المصعد والمرقى كلها بمعنى؛ "على أرجل" جمع رجل الإنسان التي يمشي بها، مؤنثة ولا جمع لها غيره؛ كما في المصباح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الإجلال، وهامت أرواح العشاق في معاناة الأشواق: كل إليك بكله مشتاق ... وعليه من رقبائه أحداق يهواك ما ناح الحمام بأيكة ... أو لاح برق في الدجى خفاق شوقي إليه لا يزال يديره ... فجميعه لجميعه عَشاق اشتاق القمر .............................................   "الإجلال وهامت أرواح العشاق" خرجت على وجهها فلم تدر أين تتوجه، "في معاناة الأشواق" جمع شوق، وهو نزاع النفس إلى الشيء والحنين، وشوقني إلى كذا هيجني وأنشد لغيره قوله "كل" استغراقية؛ كقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . "وكل راع مسئول عن رعيته". ولا يستعمل إلا مضافًا لفظًا كما رأيت، أو تقديرًا؛ كقوله: {كُلٌّ يَجْرِي} [الرعد: 2، لقمان: 29، فاطر: 13، الزمر: 5] . قال الأخفش: المعنى كلهم يجري كما تقول كل منطلق، أي: كلهم، ومنه ما هنا، أي: كل الشاخصين ومن بعدهم. "إليك بكله" بجملته روحًا وجسمًا "مشتاق وعليه من رقبائه" جمع رقيب "أحداق" عيون, "يهواك" تميل نفسه إليك "ما ناح الحمام بأيكة" مفرد أيك، كتمر وتمرة شجر، كما في المصباح، أو هو مضاف للضمير لأدنى ملابسة، فيكون جمعًا "أو لاح برق" ما يلمع من السحاب، مصدر "في الدجى" والظلم "خفاق" والدجى لا يكاد ينفك عن برق إن لم يعم فإن فقد في مكان وجد في غيره، "شوقي" فاعل يهوي "إليه" بإشباع الهاء للوزن، وفيه التفات عن الخطاب، وفي نسخ إليك "لا يزال يديره" يحرك الهوى "فجميعه" أي: كل أو الشوق، والأول أولى؛ لأنه المحدث عنه، ولفظ كل واحد ومعناه متعدد، فيجوز عود الضمير على اللفظ وعلى المعنى "لجميعه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم له ذكر لدلالة الكلام عليه فكأنه مذكور؛ كقوله: "ولأبويه, لكل واحد منهما السدس"، أي: الميت، أي: كل محب "عشاق" بفتح المهملة، أي: كثير العشق لجميع أجزاء المصطفى، فجميع متعلق به مقدم عليه "اشتاق القمر" سمي بذلك لبياضه. قال الفارابي وتبعه الجوهري: الهلال ثلاث ليال أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك. وقال الأزهري: القمر يسمى ليلتين أول الشهر هلالا، كليلتي ست وسبع وعشرين، ويسمى قمرًا فيما بين ذلك. وقال غيره: الهلال ثلاث ليال، ثم هو قمر إلى ثلاثة عشر، ثم يستوي ليلة ثلاثة عشر فتسمى تلك الليلة ليلة السواء، ثم تليها ليلة البدر؛ لأنه إذا بدرت الشمس بالغروب بادرها بالطلوع. وقيل: من البدرة، وهي ألف دينار لتمام عدده، ثم يسمى ليلة النصف قمرًا وزبرقانًا بكسر الزاي، ومنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 لمشاهدته فانشق، فشق مرائر الأشقياء الشاقين، وحن لمفارقته الجذع، فتصدع فانصدعت قلوب الأغبياء المنافقين وبرقت من مشكاة بعثته بوارق طلائع الحقائق، وانقادت لدعوته العامة خاصة خلاصة الخلائق، ولم يزل يجاهد في الله بصدق عزماته، وينظم أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته، حتى كملت كمالات دينه ..........   تضيء بك المنابر حين ترقى ... عليها مثل ضوء الزبرقان "لمشاهدته فانشق" لما سأله أهل مكة آية قبل الهجرة بنحو خمس سنين فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، "فشق مرائر الأشقياء" الكفار "الشاقين" عليه باقتراح الآيات، وفي جعله انشقاقه مفرعًا على اشتياقه وقفة، إذ الثابت أنه انشق لطلب الكفار آية، وقد تدفع الوقفة "وحن" اشتاق، "لمفارقته الجذع" الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر "فتصدع" الجذع وانشق، كما في حديث أبي بن كعب عند الشافعي وغيره بلفظ، فلما صنع، أي: المنبر، وضعه موضعه الذي هو فيه فكان إذا بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب عليه، تجاوز الجذع الذي كان يخطب عليه، فلما جاوزه خار حتى تصدع وانشق فنزل، فلما سمع صوت الجذع فمسحه بيده. وفي حديث أنس عند الموصلي: لما قعد على المنبر خار كخوار الثور، وارتج المسجد لخواره حزنًا عليه، فنزل إليه فالتزمه وهو يخور فسكت. فقال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة"، فأمر به فدفن. وفي حديث أحمد والدارمي وابن ماجه: فأخذ أبي بن كعب ذلك الجذع لما هدم المسجد، فلم يزل عنده حتى بلي واد رفاتًا، قال الجاحظ: وهذا لا ينافي أنه دفن لاحتمال أنه ظهر بعد الهدم عند التنظيف، انتهى. كان الحسن البصري إذا حدث هذا الحديث بكى، وقال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. "فانصدعت قلوب الأغبياء" الجهال، جمع غبي؛ "المنافقين" غيظًا من هذه المعجزة الباهرة، التي قال فيها الشافعي: إنها أعظم من إحياء عيسى الموتى. "وبرقت" لمعت، "من مشكاة" هي القنديل أو موضع القتيلة منه، أو معلاقه أو كوة غير نافذة، والكوة بفتح الكاف وضمها اسم ما لا ينفذ، قيل: إنها معربة من الحبشية "بعثته بوارق طلائع الحقائق وانقادت لدعوته العامة" بالجر نعت وفاعل انقاد "خاصة خلاصة الخلائق" ما صفا منهم "ولم يزل يجاهد في الله" بالسيف والحجة "يصدق عزماته وينظم" يجمع "أشتات الإسلام بعد افتراق جهاته حتى كملت" بتثليث الميم والكسر أردأها؛ كما في الصحاح، "كمالات دينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وحججه البالغة، وتمت على سائر أمته نعمته السابغة، وخير فاختار الرفيق الأعلى، وآثر الآخرة على الأولى، فنقله الله قائمًا على قدم السلامة، إلى دار السلام   وحججه البالغة" بيناته الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة "وتمت على سائر" أي: جميع "أمته" والأكثر استعماله بمعنى الباقي مطلقًا على الأصح، أو الباقي القليل مشتق من السؤر بالهمز البقية. حتى قال الأزهري: اتفق أهل اللغة على أن سائر الشيء باقيه قل أو كثر، واستعماله بمعنى الجميع ذهب إليه الجوهري والجواليقي وجماعة وخطأهم فيه كثير، كابن قتيبة والحريري في الدرة؛ لأنه مخالف للسماع. ففي الحديث: "أمسك أربعًا وفارق سائرهن": أي: باقيهن، والاشتقاق فإنه من السؤر فلا يصح كونه بمعنى الجميع، وقال الصغاني: سائر الناس: باقيهم، وليس معناه جميعهم، كما زعم من قصر في اللغة باعه، وجعله بمعنى الجميع من لفظ العوام، انتهى. ولكن انتصر للجوهري والجماعة قوم بأنه سمع من الصحفاء؛ كقوله: ألزم العالمون حبك طرا ... فهو فرض في سائر الأديان وقول عنترة: إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمي سائري بلمنصل وقول ذي الرمة: معرسًا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذلك السير واشتقاقه عندهم من اليسير، أي: يسير فيه هذا الاسم ويطلق عليه، لا البقية. "الأمية" المنسوبة إلى النبي الأمي -صلى الله عليه وسلم, "نعمته السابغة" الكثيرة التامة، وهو في الأصل صفة للدرع والثوب الطويل استعير من الطول والسعة لما ذكر، ثم صار حقيقة فيه لشيوعه، "وخير" بين الحياة والممات، "فاختار الرفيق الأعلى" أي: الجماعة من الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، اسم جاء على فعيل كصديق وخليط، أو الله تعالى فإنه الرفيق بعباده، وعند مسلم مرفوعًا: "إن الله رفيق يحب الرفق". فهو فعل بمعنى فاعل، أو المراد حظيرة القدس، وعند النسائي وصححه ابن حبان، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله الرفيق الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وظاهره: أن الرفيق: المكان الذي يحصل فيه المرافقة مع المذكورين. "وآثر الآخرة على الأولى" أي: الدنيا؛ لأنها أحق بالإيثار منها، كما قال بعض الأماجد: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لآثر العاقل الباقي على الفاني، فكيف والنعيم السرمدي الذي لم يخطر على قلب بشر، إنما هو في الأخرى. "فنقله الله قائمًا على قدم السلامة" حسا ومعنى "إلى دار السلام" الجنة لسلام الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وفردوس الكرامة، وبوأه أسنى مراقي التكريم في دار المقامة، ومنحه أعلى مواهب الشرف في اليوم المشهود، فهو الشاهد المشهود، المحمود بالمحامد التي يلهمها للحامد المحمود، والمنزلة العلية، والدرجة السنية، في حظائر القدس الأقدسية، والمشاهد الأنفسية، واصل الله عليه فضائل الصلوات .................   وملائكته على من يدخلها، أو لسلامتهم من الآفات، "وفردوس الكرامة" التكريم والتبجيل له -صلى الله عليه وسلم، "وبوأه أسنى" أنزله أشرف "مراقي التكريم في دار المقامة" بالضم الإقامة، وقد تكون بمعنى القيام لأنك إذا جعلته من قام يقوم فمفتوح، أو من أقام يقيم، فمضمون وقوله تعالى: {لَا مُقَامَ لَكُمُ} [الأحزاب: 13] ، أي: لا موضع لكم وقرئ: {لَا مُقَامَ لَكُمُ} [الأحزاب: 13] ، بالضم، أي: لا إقامة لكم. قال الجوهري: "ومنحه" أعطاه "أعلى مواهب الشرف في اليوم المشهود" يوم القيامة بحضرة جميع الخلائق "فهو الشاهد"؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45، الفتح: 8] ، أي: على أمته بتبليغه إليهم، وعلى الأمم بأن أنبياءهم بلغتهم "المشهود" المنظور إليه من جميع الرسل، "المحمود" الذي يحمد "بالمحامد التي يلهمها" بالبناء للفاعل في ذلك اليوم، ولم يلهمها قبل "للحامد" الذي هو النبي -صلى الله عليه وسلم, "المحمود" أي: الله سبحانه وتعالى، فاعل يلهمها, "و" بوأه ومنحه "المزلة" المرتبة "العلية" كقيامه عن يمين العرش، وفي نسخ ذو المنزلة "والدرجة السنية" واحدة الدرجات وهي الوسيلة، التي هي أعلى درجة في الجنة؛ "في حظائر القدس الأقدسية" الجنة "والمشاهد الأنفسية" ولما ذكر أن المصطفى وصل إلى أعلى مراتب الكمال في الدارين، وكمال غيره، إما بهدايته والاقتباس من نور شريعته، ناسب أن يعظمه ويدعو له، أداء لبعض حقه وتوسلا إلى الله تعالى في قبول حمده وإتمام قصده. فقال: "واصل الله عليه فضائل الصلوات" قال السهيلي: أصل الصلاة انحناء وانعطاف من الصلوين وهما عرقان في الظهر، ثم قالوا: صلى عليه، أي: انحنى له رحمة له، ثم سموا الرحمة حنوا وصلاة إذا أرادوا المبالغة فيها، فقوله -صلى الله عليه وسلم- أرق وأبلغ من رحمة في الحنو والعطف، فالصلاة أصلها من المحسوسات، ثم عبر بها عن هذا المعنى للمبالغة، ومنه قيل: صليت على الميت، أي: دعوت له دعاء من يحنو عليه ويعطف. ولهذا لا تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الإطلاق، انتهى. والصلاة من الله رحمة، ومن العبد دعاء، ومن الملائكة استغفار. كما جاء عن الحبر ترجمان القرءان واعتراضه بقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، رد بأنه أخص من مطلق الرحمة، وعطف العام على الخاص مفيد، وخص المعصوم بلفظها تعظيمًا له وتمييزًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وشرائف التسليم، ونوامي البركات، وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأبرار، صلاة وسلامًا لا ينقطع عنهما أمد الأمد، ولا يحصيهما العدد أبد الأبد. وبعد:   "وشرائف التسليم" مصدر، وجمع بين الصلاة والسلام للآية. ولما رواه أحمد والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن عوف، قال: خرج صلى الله عليه وسلم فأتبعته حتى دخل نخلًا، فسجد فأطال السجود، حتى خفت أو خشيت أن يكون الله قد توفاه، قال: فجئت أنظر، فرفع رأسه، فقال: "ما لك يا عبد الرحمن"؟ قال: فذكرت ذلك له، فقال: "إن جبريل قال لي: ألا أبشرك أن الله تعالى قال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه"، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا. "ونوامي البركات" زوائد: والإضافة بيانية، فالبركة الزيادة "وعلى آله الأطهار" أصل معناه الأتباع، ولم يضف في الأكثر المطرد إلا إلى العقلاء الأشراف، وزيد قيد الذكور والكل أغلبي؛ لقولهم: آل الله وآل البيت، قال: وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك وفي أنهم بنو هاشم، أو والمطلب أو عترته وأهل بيته، أو بنو غالب أو أتقياء أمته، واختبر في مقام الدعاء، وأيد بأنه إذا أطلق في التعاريف، شمل الصحب والتابعين لهم بإحسان أقوال: ويجوز إضافته إلى الضمير على الأصح؛ وإن زعم المبرد أنه من لحن العامة، "وأصحابه" جمع قلة لصاحب وإن كانوا ألوفًا؛ لأن جمع القلة والكثرة إنما يعتبران في نكران الجموع، أما في المعارف فلا فرق بينهما. "الأبرار" روى البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الكبير عن ابن عمر رفعه: "إنما سماهم الله تعالى الأبرار، لأنهم بروا الآباء والأمهات والأبناء"، كما أن لوالديك عليك حقًا كذلك لولدك، "صلاة وسلامًا" اسمان مصدران منصوبان على المفعولية المطلقة، مفيدان لتقوية عاملهما مؤكدان لمعناه؛ "لا ينقطع عنهما أمد الأمد" أي: زمانه، والأمد الغاية، "ولا يحصيهما" يطيقهما "العدد" لكثرتهما "أبد الأبد" أي: آخر الدهر؛ كما في الصحاح. قال الراغب: والمد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي لا حد لها ولا تتقيد ولا يقال أبد كذا. والأمد لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر فيقال: أمد كذا، كما يقال زمن كذا، والفرق بين الزمان والأمد: أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمن عام في المبدأ والغاية، ولذا قيل: المدى والأمد متقاربان. "وبعد" ظرف مبني على الضم كغيره من الظروف المقطوعة عن الإضافة، وأجاز هشام فتحه من غير تنوين، وقال ابن النحاس: إنه غير معروف. وروي عن سيبويه رفعها ونصبها ظرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فهذه لطيفة من لطائف نفحات العواطف الرحمانية، ومنحة من منح مواهب العطايا الربانية، تنبئ عن نبذة من كمال شرف نبينا محمد -عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى الصلات ............................   زمان كثيرًا كجاء زيد بعد عمرو، ومكان قليلا كدار زيد بعد دار عمرو، وهي هنا كما قيل صالحة للزمان باعتبار اللفظ، وللمكان باعتبار الرقم. "فهذه" الفاء على توهم الناظر وجود، أما في الكلام البليغ لأن الشيء إذا كثر الإتيان به ترك وتوهم وجوده؛ كقوله: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيًا وقد كثر مصاحبة أما لبعد فإذا تركت توهم وجودها، أو على تقديرها في نظم الكلام، والواو عوض عنها او دون تعويض. أو لإجراء الظرف مجرى الشرط. قيل -وهو الوجه الوجيه- فلا يشكل بأن الفاء إنما تدخل في جواب الشرط. وذكر الدماميني أن بعد معمول لمحذوف تقديره وأقول بعد هذا الكلام، ومقول القول محذوف، أي: تنبه لكذا، فالفاء سببية، وهي هنا فصيحة والإشارة إلى موجود ذهنًا إن كانت قبل التأليف. هذا، وقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم، كان يقول أما بعد في خطبه وشبهها، كما روى ذلك أربعون صحابيًا كما أفاده الرهاوي في أربعينه المتباينة الأسانيد, وما أدري ما وجه اقتصار كثيرين على الظرف كالمصنف ولا يكفي الاعتذار بأن المدار عليه أو روما للاختصار؛ لأن المطلوب اتباع ما جاءت به السنة، لاسيما والإطناب مطلوب في الخطب، وكون المدار عليه يحتاج لوحي يسفر عنه؛ وفي أن أول من نطق بأما بعد، داود؛ وكانت له فصل الخطاب؛ أو كعب أو يعرب أو ق أو سحبان أو يعقوب أو أيوب أقوال: وفي غرائب مالك للدارقطني أن يعقوب أول من قالها. قال الحافظ: فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل فيعقوب أول من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم فيعرب أول من قالها، انتهى. "لطيفة" من اللطافة ضد الكثافة، "من لطائف نفحات" عطايا "العواطف الرحمانية" المنسوبة إلى الرحمن تبارك وتعالى، "ومنحة" عطية "من منح مواهب" من إضافة الأعم إلى الأخص "العطايا" بمعنى الإعطاءات، فكأنه قيل منحة: هي بعض المنح التي هي مواهب حاصلة بإعطاء الله "الربانية" المنسوبة إلى الرب المربي لعباده بنعم لا تحصى، "تنبئ": تخبر "عن نبذة" بضم النون وقد تفتح، يقال: ذهب ماله وبقي منه نبذة، أي قليل، لأن القليل ينبذ, أي: يطرح ولا يبالي به لقلته، أي: عن خواص قليلة "من كمال شرف نبينا محمد عليه أفضل الصلوات وأنمى التسليم وأسنى" أرفع "الصلات" بكسر الصاد، جمع صلة بمعنى الإحسان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وسبق نبوته في الأزمان الأزلية، وثبوت رسالته في الغايات الأحدية، والتبشير بأحمديته في الأزمان الخالية، والتذكير بمحمديته في الأمم الماضية، وإشراق بوارق لوامع أنوار آيات ولادته التي سار ضوء فجرها ...................................   وصل، والهاء عوض من الواو المحذوفة، كما في النهاية، وهذه النبذة وإن كانت قليلة في نفسها، لكنها محيطة في نوعها فريدة في فنها جامعة في شأنها. "و" تنبئ عن "سبق نبوته في الأزمان الأزلية" القديمة وآدم بين الروح والجسد "وثبوت رسالته في الغايات الأحدية" المنسوبة للأحد، قال الكاشي في لطائفه: الغايات يعني بها ما يتم به ظهور الكمال المختص بكل شيء بالنسبة إلى ما كان له من ذلك الكمال في حضرة العلم الأزلي، كما هو الحال من كون الغاية من السرير الجلوس عليه، والقلم الكتابة به. قال: وهكذا لكل موجود إنسانًا أو غيره غايات، انتهى. "والتبشير بأحمديته" أي: صفاته المحمودة، ومنها أن اسمه أحمد "في الأزمان الخالية" وقد روى أبو نعيم والطبراني أن في التوراة عبدي أحمد المختار, وفي التنزيل عن عيسى {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "والتذكير بمحمديته في الأمم الماضية" المتبادر بأن اسمه محمد عليه السلام. "و" تنبئ عن "إشراق بوارق" جمع بارق، قال المجد: سحاب ذو برق، "لوامع أنوار آيات ولادته" من نار ينور إذا نفر ومنه نوار للظبية، وبه سميت المرأة فوضع له لانتشاره أو لإزالة الظلام كأنه ينفر منه، ويطلئق على الله والمصطفى والقرءان "التي سار ضوء فجرها" قيل: الضوء أبلغ من النور؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس: 5] ، وعليه الزمخشري إذ قال: الإضاءة فرط الإنارة، ورد بأن ابن السكيت سوى بينهما، وأجيب بأن كلامه بحسب أصل الوضع، وما ذكر بحسب الاستعمال، كما في الأساس. والتحقيق ما في الكشف: أن الضوء فرع النور وهو الشعاع المنتشر، ولذا أطلق النور على الذوات دون الضوء، وفي الروض الأنف في قول ورقة: ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن يموجا ما يوضح الفرق بينهما، وأن الضياء الشعاع المنتشر عن النور، فالنور أصله ومنه مبدؤه وعنه يصدر، قال تعالى: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ، {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} لأن القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عنها، لا سيما في طرفي الشهر, ولذا سمى الله القمر نورًا دون ضياء فعلم أن بينهما فرقًا لغة واستعمالا، وأصل الفجر الشق الواسع، قال الراغب: ومنه قيل للصبح فجر لكونه فاجر الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 في سائر بريته، ودار بدر فخرها في أقطار ملته، وعواطف لطائف رضاعه وحضانته، وينابيع أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته، وعوارف معارف عبوديته الساري عرف شذاها في آفاق قلوب أهل ولايته، ونفائس أنفاس أحواله الزكية، ودقائق حقائق سيرته العلمية، إلى حين نقلته لروضة قدسه الأحدية، وتشريفه بشرائف الآيات، وتكريمه بكرائم المعجزات، وترفيعه في آي التنزيل برفعه ذكره، وعلو خطره، وتعظيم محاسن ................   "في سائر بريته" خليقته من برأ النسمة فيجوز همزه وتخفيفه وهو أفصح وأكثر، وهو يدل على أنه غير معتل من البري بمعنى التراب، كما ذهب إليه بعض اللغويين. "ودار بدر" اسم القمر ليلة الرابع عشر لمبادرته بالطلوع غروب الشمس، أو لتمام عدده من البدرة، كما مر "فخرها" بفاء وخاء معجمة، مصدر كالفخار، أي: المباهاة. "في أقطار" نواحي "ملته" قال الراغب: هي اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان أنبيائه، ليتوصلوا به إلى جواره، والفرق بينها وبين الدين: أن الملة لا تضاف إلى الذي تستند إليه، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها. كذا قال، "و" تنبئ عن "عواطف لطائف رضاعه وحضانته" بفتح الحاء وكسرها؛ كما في المصباح، "وينابيع" عيون "أسرار سر مسراه وبعثته وهجرته" من مكة إلى طيبة، "وعوارف معارف عبوديته الساري عرف" أي: ريح "شذاها" جمع شذاة، وهو في الأصل كسر العود بكسر ففتح، أي: العود الذي يتبخر به وهو مكسر لكونه أقوى في الرائحة، ويطلق على الرائحة نفسها. والمراد هنا المعنى الأول لئلا يتحد المضاف والمضاف إليه. "في آفاق" نواحي "قلوب أهل ولايته" الموالين له باتباع أوامره واجتناب نواهيه واقتباس هداه. "و" تنبئ عن "نفائس" جمع نفيس، أي: جلائل "أنفاس أحواله الزكية" التي لا يدانيه فيها مخلوق "ودقائق" جمع دقيقة من الدقة خلاف الغلظة أو صغر الجرم "حقائق سيرته العلية" هي هيئة السير جمعها سير، ثم خصت بحاله في غزواته ونحوها "إلى حين نقلته لروضة قدسه" الجنة "ألأحدية" المنسوبة للأحد سبحانه، لابتداعه لها وجعلها مختصة بالموحدين محرمة على غيرهم. "و" تنبئ عن "تشريفه بشرائف الآيات" العلامات الدالة على نبوته -صلى الله عليه وسلم، "و" عن "تكريمه بكرائم المعجزات" المور المعجزة للبشر الخارقة للعادة "وترفيعه في آي التنزيل" بمد الهمزة وتخفيف الباء، جمع آية أو اسم جنس جمعي لها "برفعة ذكره وعلو خطره" بفتح الخاء المعجمة وفتح الطاء المهملة: قدره ومنزلته، "وتعظيم" توفير وتكريم "محاسن" جمع حسن على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 شمائله وخلائقه، وتخصيصه بعموم رسالته، ووجوب محبته واتباع طريقته وسيادته الجامعة لجوامع السؤدد في مشهد مشاهد المرسلين، وتفضيله بالشفاعة العظمى، العامة لعموم الأولين والآخرين، إلى غير ذلك من عجائب آياته ومنحه، وغرائب أعلام نبوته وحججه. أوردتها حججًا قاهرة على الملحدين، وذكرى نافعة للموحدين ..................   خلاف القياس، أو جمع مفرد مقدر لم يسمع كمحسن بزنة مقعد أو لا واحد له، وهي الأمر الحسن مطلقًا، أو الحسن الخفي، "شمائله" جمع شمال بالكسر، أي: أخلاقه وصفاته المحمودة "وخلائقه" جمع خلق؛ كقول حسان: إن الخلائق فاعلم شرها البدع ولم يذكره صاحب القاموس في جموع خليقة. "وتخصيصه بعموم رسالته" مع الجواب عن نوح وآدم عليهما السلام، "و" تنبئ عن "وجوب محبته و" وجوب "اتباع طريقته" في غير ما اختص به "و" تنبئ عن "سيادته الجامعة لجوامع السؤدد" بالضم أنواع السيادة "في مشهد مشاهد المرسلين" في الدنيا كاقتدائهم به ليلة الإسراء، والأخرى فآدم فمن سواه تحت لوائه، "وتفضيله بالشفاعة العظمى" في فصل القضاء بين الخلق "العامة لعموم الأولين والآخرين" التي يتنصل منها رؤساء الأنبياء، حتى يقوم لها "إلى غير ذلك من عجائب آياته" جمع آية، وهي العلامة، "ومنحه" بكسر ففتح جمع، أي: عطاياه، "وغرائب أعلام" جمع علم بفتحتين، العلامة المنصوبة في الطريقة ليعرف بها، ولذا سميت نصبًا، ويكون بمعنى الجبل أيضًا لأنه يهتدي به؛ كما قالت الخنساء: إن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وفي قولها: صخر، وهو اسم أخيها لطيفة اتفاقية لمناسبة الجبل. "نبوته" عرفها إمام الحرمين بأنها صفة كلامية، هي قول الله تعالى: هو رسولي وتصديقه بالأمر الخارق، ولا تكون عن قوة في النفس كما قاله الحكماء، ولا عن رياضة يحصل بها الصفاء فيحصل التجلي في النفس، كما قاله بعض الصوفية، ولا عن قربان الهياكل السبعة كما زعمه المنجمون، ولا هي بالإرث، كما قال بعض أهل البيت وأتباعهم، ولا هي علم الإنسان بربه لأنه عام، ولا علم النبي بكونه نبيًا لتأخره بالذات، انتهى. "وحججه" براهينه "أوردتها حججًا قاهرة" صفة لحجج، أي: مانعة لهم من المعارضة، "على الملحدين" متعلق بحجج فلا حاجة لدعوى التضمين في قاهرة "وذكرى نافعة" أي: أسبابًا مذكرة "للموحدين" خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها كما في قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وتنبيهًا لعزائم المهتدين، ولم أكن -والله- أهلًا لذلك، ولم أر نفسي فيما هنالك، لصعوبة هذا المسلك، ومشقة السير في طريق لم يكن لمثلي يسلك، وإنما هو نكتة سر قراءتي كتاب "الشفا" بحضرة التخصيص والاصطفا .............   ت َنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ، "وتنبيها" إيقاظًا "لعزائم" جمع عزيمة وعزمة اجتهاد "المهتدين" جمع مهتدي. "ولم أكن والله أهلًا" أي: مستحقًا، "لذلك" التأليف من قولهم هو أهل للإكرام، أي مستحق له "ولم أر نفسي فيما هنالك لصعوبة" مصدر صعب، "هذا المسلك ومشقة السير في طريق" يذكر في لغة نجد وبه جاء القرءان في قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه: 77] ، ويؤنث في لغة الحجاز، "لم يكن لمثلي يسلك" يقال سلكه وأسكله، قال: وهم سلكوك في أمر عصيب وهذا من تواضع المصنف، وإلا فهو من العلماء العاملين أصحاب التصانيف المفيدة والباع العالي واليد المديدة، إلا أن عادتهم جرت بمثل هذا في التأليف خصوصًا، في باب السنة "وإنما هو نكتة" كنقطة جمعها نكت، كنقط، ويجمع أيضًا على نكات كبقعة وبقاع، وعليه اقتصر القاموس. وسمع أيضًا نكات بالضم، وهي في الأصل فعلة من النكت وهو النبش الخفيف في التراب بعود ونحوه، وتفعل إذا فكر في أمر خفي فنقلت للمعنى الدقيق النادر والكلام القليل الحسن لتأثيره في النفس أو احتياجه لفكر وتأمل، "سر" أي: خالص، "قراءتي كتاب الشفا" بتعريف حقوق المصطفى للإمام الشهير الجهبذ العلامة الفقيه المفسر الحافظ البليغ الأديب: عياض بن موسى بن عياض اليحصبي البستي المالكي، وشهرته تغني عن ترجمته رحمه الله. وكتابه هذا ذكر ابن المقري اليمني في ديوانه أنه شوهد بركته حتى لا يقع ضرر لمكان هو فيه، ولا تغرق سفينة كان فيا، وإذا قرأه مريض شفي. وقال غيره: إنه جرب قراءته لشفاء الأمراض، وفك عقد الشدائد، وفيه أمان من الغرق والحرق والطاعون ببركة المصطفى، وإذا صح الاعتقاد حصل المراد "بحضرة" ذي "التخصيص" قال الراغب: هو تفرد بعض الشيء بما لا تشاركه فيه الجملة. "والاصطفا" صلى الله عليه وسلم افتعال من الصفوة بالفتح والكسر، وهي: الاختيار، قال في النهاية حضرة الرجل قربه، وتكون بمعنى المجلس والفناء. وفي النسيم استعمله الكتاب في الإنشاء للتعظيم كالمقام العالي وحضرة الخليفة تأدبًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 في مكتب التأديب والتعليم في مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم، مستجليًا في مجالي تجليات الأنوار الأحمدية، محاسن صفات خلقته، وعظم أخلاقه الزكية، سائرًا بسر سيرته في منهاج ملته إلى سماء هديه الأسنى، رائعًا في رياض روضة سننه النزهة الحسنى، مستمدًا من فتح الباري ..............   بإضافة ماله لمحله "في مكتب التأديب والتعليم" قال شيخنا: أي بين روضة النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره, وكان المصنف يقرأه للناس هناك "في مشهد مشاهد المؤانسة والتكريم" ولقد صدق المصنف رحمه الله فإنه في هذا الكتاب اقتبس من أنوار الشفا، وتعلق بأذياله في غالب التقسيم والأبواب، حتى إنه اقتفى في صدر الخطبة، فقال المنفرد مع ما فيه من النزاع، منشدًا بلسان حال الاتباع. وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد "مستجليًا" أي: مستكشفًا، "في مجالي تجليات الأنوار الأحمدية محاسن صفات خلقته وعظم أخلاقه الزكية" فإنها قاطعة بأنه حائز لجميع صفات الحسن متصفًا بها على أكمل وجه، يليق به خَلقًا وخُلقًا وما بعد قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، مطلب "سائرًا بسر سيرته" طريقته وهيئته وحالته "في منهاج ملته" النهج والمنهج والمنهاج الطريق الواضح، "إلى ساء هديه الأسنى" الأرفع "رائعًا" منبسطًا أو لاهيًا أو متسعًا من الرتعة، قال الهروي: بسكون التاء وفتحها اتساع في الخصب، وكل مخصب مرتع، يقال: رتعت الإبل وأرتعها صاحبها، وقوله تعالى: "نَْتَعْ وَنَلْعَبْ"، قال أبو عبيد: نلهو، وابن الأنباري: أي هو مخصب لا يعدم ما يريده وغيره نسعى وننبسط، وقيل: نأكل، انتهى ملخصًا. "في رياض روضة" هو الموضع المعجب بالزهور، وجمعها ما أضيف إليها، وروضات بسكون الواو للتخفيف؛ كما في قوله تعالى: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} [الشورى: 22] ، وهذيل بفتح الواو على القياس، قيل: سميت بذلك لاستراضة المياه السائلة إليها، أي: لسكونها بها, وفي الغريبين الروضة، أي: في الأصل الموضع الذي يستنقع فيه الماء، ويقال للماء نفسه روضة، قال: وروضة سقيت منها نضرتي أراد ما اجتمع في غدير، انتهى. "سننه" جمع سنة، وهي الطريقة والسيرة حميدة كانت أو ذميمة "النزهة" قال الزمخشري: أرض نزهة ذات نزهة، وخرجوا يتنزهون: يطلبون الأماكن النزهة والنزه مثل غرفة وغرف، ذكره في المصباح. "الحسنى" تأنيث الأحسن، "مستمدًا من فتح" مصدر فتح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فيض فضله الساري، فمنحني صاحب هذه المنح من مصون حقائقه، وأبرز لي مما أكنه من مكنون رقائقه، فانفتحت بالفتح المحمدي عين بصيرة الاستبصار، وتنزه الناظر في رياض ارتياض رقائق الأسرار، فاستجليت من أبكار مخدرات السنة النبوية من كل صورة معناها، واقتبست من تلألؤ مصباح مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها، ..............   "الباري" أي: من عطاء الله تعالى وفيه تورية بذكر اسم الكتاب الذي هو شرح الحافظ ابن حجر على البخاري، فالأخذ منه من جملة عطاء الله ولا يشك من أحاط بهذا الكتاب. وبشرح البخاري للحافظ أن نحو نصف هذا الكتاب منه بعزو ودونه "فيض" مصدر فاض الماء، كثر حتى سال كالوادي. "فضله الساري فمنحني صاحب هذه المنح من مصون"، وزنه مفعول نقص العين كما في المصباح، أي: محفوظ. "حقائقه" جمع حقيقة وقد مر معناها لغة، وإنها عند أرباب السلوك العلوم المدركة بتصفية الباطن "وأبرز" أظهر ظهورًا تامًا، وأصله جعله على براز بالفتح، أي: مكان مرتفع، "لي مما أكنه" أخفاه "من مكنون رقائقه" جمع رقيقة، وهي اللطيفة الروحانية، وتطلق على أواسطة اللطيفة الرابطة بين الشيئين، كالمدد الواصل من الحق إلى العبد، وتطلق الرقائق على علوم الطريقة والسلوك، وما يلطف به سر العبد وتزول كثافة النفس، "فانفتحت بالفتح المحمدي عين بصيرة الاستبصار"، قال ابن الكمال: البصيرة قوة للقلب المنور بنور القدس، ترى حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للعين ترى به صورة الأشياء وظاهرها. وقال الراغب: البصر الجارحة كلمح البصر والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة، انتهى. "وتنزه الناظر في رياض" أصل التنزه التباعد عن المياه الأرياف، ومنه فلان يتنزه عن الأقذار، أي: يباعد نفسه عنها، ولذا قال ابن السكيت: قول الناس إذا خرجوا إلى البساتين خرجنا نتنزه غلط قال ابن قتيبة: وليس بغلط، لأن البساتين في كل بلدة إنما تكون خارج البلد، فإذا أراد أحد أن يأتيها فقد أراد البعد عن المنازل والبيوت، ثم كثر هذا حتى استعملت النزهة في الخضر والجنان، انتهى. "ارتياض رقائق الأسرار" جمع سر وهو الحديث المكتتم في النفس، وكنى به عن النكاح السر من حيث إنه يكتم، واستعير للخالص، فقيل: هو في سر قومه. "فاستجليت من أبكار" جمع بكر خلاف الثيب رجلا كان أو امرأة، كما في المصباح "مخدرات" مستورات، "السنة النبوية من كل صورة" تمثال، "معناها واقتبست" أصبت "من تلألؤ مصباح" القنديل أو الفتيلة مأخوذة من الصباح أو الصباحة "مشكاة المعارف من كل بارقة أضواها" أكثرها ضوءا والبارقة، لغة كل ما لمع، والسيف للمعانه وفي اصطلاح الصوفية لائحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 واستنشقت من كل عبقة صوفية شذاها، واجتنيت من أفنان لطائف تأويل أي الكتاب العزيز من كل ثمرة مشتهاها، ولازلت في جنات لطائف هذه المنح أغدو وأروح، في غبوق وصبوح، حتى انهلت غمائم المعاني على أرباض .............   ترد من جانب القدس وتنطفئ سريعًا، وهو من أوائل الكشف ومبادئه، ذكره في التوقيف. "واستنشقت" شممت "من كل عبقة" أي: نكتة تشبه الطيب "صوفية" كلمة مولدة، كما في المصباح. "شذاها" رائحتها. وفي المصباح: قالوا ولا يكون العبق إلا الرائحة الطيبة الذكية، انتهى. منسوبة إلى التصوف، وهو تجريد القلب لله، واحتقار ما عداه بالنسبة لعظمته، وإلا فاحتقار نبي كفر، وقيل فيه غير ذلك، مما عبر فيه كل على مقداره، وقد ألف الأستاذ أبو منصور البغدادي كتابًا في معنى التصوف والصوفي، جمع فيه من أقوال الطريق زهاء ألف قول، مرتبة على حروف المعجم. "واجتنيت" بمعنى جنيت الثمرة، كما في المصباح، "من أفنان" أغصان جمع فتن محركة، وجمع الجمع أفانين، كما في القاموس. "لطائف تأويل"، قال ابن الكمال: هو صرف الآية عن معناها الظاهر إلى معنى يحتمله، إذا كان المحتمل الذي يراه موافقًا للكتاب والسنة؛ كقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95، يونس: 31، الروم: 19] ، إن أريد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرًا، أو إخراج المؤمن من الكافر، أو العالم من الجاهل كان تأويلا، انتهى. "آي الكتاب العزيز" القوي الغالب على كل كتاب بمعانيه وإعجازه، ونسخه أحكامها، أو العظيم الشريف، أو الذي لا نظير له في الكتب، أو الممتنع من مضاهاته لإعجازه أو التغيير والتحريف لحفظ الله له، "من كل ثمرة" مؤنثة مفردة ثمرات مثل قصبة وقصبات "مشتهاها" مشتاقها. "ولا زلت" معناه ملازمة الشيء، "في جنات" جمع جنة على لفظها، وتجمع أيضًا على جنان، أي: حدائق. "لطائف هذه المنح" العطايا "أغدو" أذهب وقت الغداوة، وفي الأصل: ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان، ومنه الحديث: "اغد يا أنيس"، أي: انطلق "وأروح"، قال ابن فاس: الرواح رواح العشي وهو من الزوال إلى الليل. "في غبوق" بمعجمة، قال في القاموس: كصبور ما يشرب بالعشي، "وصبوح" بالفتح شرب الغداة "حتى انهلت غمائم" جمع غمامة، أي: سحائب "المعاني على أرباض" جمع ربض بفتحتين، وهو ما حول المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 رياض المباني، فأينعت أزهارها، وتكللت بنفائس جواهر العلوم أوراقها، وطابت لمجتني رقائق الحقائق ثمارها، وتدفقت حياض بدائع ألفاظها، بزلال كلماتها، وخطب خطيب قلوب أبناء الهوى، على منبر الغرام الأقدس، يدعو لكمال محاسن الحبيب الأرأس، فترنحت بسلاف راح الارتياح نفائس الأرواح، وتمايلت بمطربات ألحان الحنين إلى جمال المحبوب كرائم الأشباح، وزمزم مزمزم الصفا، بحضرة خلاصة أولي الوفا، منشدًا مرددًا:   وفي نسخة: على أرض "رياض المباني" ونسخة أرض أنسب بقوله: "فأينعت" بالألف أكثر استعمالا من ينعت، أي: أدركت "أزهارها" جمع زهر، قالوا: ولا يسمى زهرا حتى يتفتح. وقال ابن قتيبة: حتى يصفر. "وتكللت بنفائس جواهر" جمع جوهر على زنة فوعل "العلوم أوراقها" جمع ورق بفتحتين "وطابت" لذة وحلت "لمجتني رقائق الحقائق ثمارها" جمع ثمر بفتحتين مذكر وجمع الجمع أثمار "وتدفقت" انصبت بشدة "حياض" جمع حوض الماء، ويجمع أيضًا على أحواض، وأصل حياض الواو ولكن قلبت ياء للكسرة قبلها، كما في المصباح. "بدائع ألفاظها بزلال كلماتها" في القاموس ماء زلال كغراب إلى أن قال سريع المر في الحلق بارد عذب صاف سهل، "وخطب" بابه قتل وعظ "خطيب" مفرد خطباء "قلوب أبناء الهوى" بالقصر مصدر هويته إذا أحببته وعلقت به "على منبر" بكسر الميم على التشبيه باسم الآلة من النبر، قال ابن فارس: النبر في الكلام الهمز وكل شيء رفع فقد نبر ومنه المنبر لارتفاعه، "الغرام" وهو ما يصيب الإنسان من شدة ومصيبة "الأقدس" الأطهر "يدعو" ينادي ويطلب الإقبال، "لكمال محاسن الحبيب" في المصباح يستعمل الكمال في الذوات وفي الصفات، يقال: كمل إذا تمت أجزاؤه، وكملت محاسنه، "الأرأس" بالهمز، أي: الشريف القدر "فترنحت" تمايلت "بسلاف" بالضم بخمر "راح" هو أيضًا الخمر، فالإضافة بيانية "الارتياح" الراحة "نفائس الأرواح" جمع روح يذكر ويؤنث، قاله ابن سيده والجوهري، وقال ابن الأعرابي وابن الأنباري: الروح والنفس واحد، غير أن العرب تذكر الروح وتؤنث النفس، "وتمايلت بمطربات" من الطرب، وهو الخفة لشدة حزن أو سرور، "ألحان" جمع لحن، قال في القاموس: من الأصوات المصوغة الموضوعة، ويجمع أيضًا على لحون، "الحنين" المشتاق، "إلى جمال المحبوب كرائم" جمع كريمة، أي: نفائس، "الأشباح" الأشخاص. "وزمزم" في القاموس الزمزمة، الصوت البعيد له دوي، "مزمزم الصفا" الخلوص من الكدر "بحضرة خلاصة" بالضم "أولي الوفا منشدًا" إنشاد الشعر قراءته، "مرددًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه ... حبسي نعيم زال عنه حسيبه داوى فؤادي الوصل من أدوائه ... طوبى لقلبي والخبيب طبيبه صدق المحب حبيبه في حبه ... فحباه صدق الحب منه حبيبه لباه لب فؤاده فأجابه ... لما دعاه إلى الغرام وجيبه ولجامع الأهواء حيعل حبه ... ........................   "حضر الحبيب وغاب عنه رقيبه" هو الحافظ، إما لمراعاة رقبة المحفوظ، وإما لرفعة رقبته وغيبته من أجل المنح ونهاية الصفاء، فإن ملازمته أمر يضني ومرض يفني، مع أنه هو المبتلي؛ لأنه سهر وتعب وضاع زمانه وذاب فؤاده، بلا فائدة والعاشق يجد في الغرام لذة عليه عائدة، ولذا قال: أحب العذول لترديده ... حديث الحبيب على مسمعي وأهوى الرقيب لأن الرقيب ... أراه إذا كان حبي معي "حسبي" كافي "نعيم زال" ذهب "عنه حسيبه" عاده، "داوى فؤادي الوصل" ضد الهجر، "من أدوائه" متعلق بفؤادي جمع داء مثل باب وأبواب "طوبى" فعلى من الطبيب أي فرح وقرة عين "لقلبي والحبيب طبيبه" مداويه "صدق المحب حبيبه في حبه" بضم الحاء، قال الحرالي: هو إحساس بوصلة، لا يدرى كنهها "فحباه" أعطاه، "صدق الحب منه حبيبه" فاعل حبي "لباه لب" خالص "فؤاده" في المصباح لب كل شيء خالصه ولبابه مثله، "فأجابه لما دعاه إلى الغرام وجيبه" بالجيم، أي: سببه القوي وهو ميل قلبه ومحبته، "ولجامع الأهواء" جمع هوى مقصور وجمع الممدود أهوية، وقد تطرف من قال: جمع الهواء مع الهوى في أضلعي ... فتكاملت في مهجتي ناران فقصرت بالممدود عن وصل الظبا ... ومددت بالمقصور في أكفاني "حيعل حبه" الحاء والعين لا يجتمعان في كلمة واحدة، إلا أن تؤلف من كلمتين كالحيعلة، قاله الدميري، ونقل المازري عن المطرز في كتاب المواقيت وغيره: أن الأفعال التي أخذت من أسمائها سبعة: بسمل إذا قال باسم الله، وسبحل إذا قال سبحان الله، وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله، وحيعل إذا قال حي على الفلاح، وحمدل إذا قال الحمد لله، وهيلل إذا قال لا إله إلا الله، وجعفل إذا قال جعلت فداك، زاد الثعلبي طبقل إذا قال أطال الله بقاك، ودمعز إذا قال أدام الله عزك. انتهى. وفي قصيدة الشاطبي حسبل، وقبله شراحه وظاهرهم أنها مسموعة، وقول المازري حيصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ........................... ... ولحسنه خطب القلوب خطيبه فلما سمعت هذه المواهب آذان قلوب أولي الألباب، تلفتت عيون أعيانهم لتلخيص خلاصة جوهر هذا الخطاب، في سفر يسفر عن وجه المنح النبوية منيع النقاب،   إذا قال حي على الصلاة قياسًا على حيعل، رده عياض بأن حيعل يطلق عليهما معًا لأنها من حي على كذا ولو صح قياسه لقيل في حي على الفلاح الحيفلة، فكيف وهذا باب مسموع لا يقاس عليه، انتهى. "ولحسنه خطب القلوب خطيبه " "فلما سمعت هذه المواهب آذان" جمع أذن بضمتين ويسكن تخفيفًا مؤنثة، "قلوب" ذكر ابن العماد في كشف الأسرار أن للقلب أذنين يسمع بهما، كما في الرأس أذنان "أولي الألباب" جمع لب، قال الراغب: وهو العقل الخالص من الشوائب سمي به لكونه خالص ما في الإنسان من قواه كاللباب من الشيء، وقيل: هو ما زكا من العقل، فكل لب عقل ولا عكس، ولهذا علق الله الأحكام التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب نحو: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [البقرة: 269] ، إلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269, آل عمران: 7] ، وقال الحر: إلى اللب باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ الحقائق من الملحوظات، وقال ابن الكمال: هو العقل المنور بنور القدس الصافي عن قشور الأوهام والتخيلات، واللب عند الصوفية، قال بعضهم: ما صين من العلوم عن القلوب المعلقة بالكون، "تلفتت" عطفت وصرفت، قال الزمخشري: لفت رداءه على عنقه عطفه، "عيون أعيانهم" جمع عين، أي: أعين القلوب، فللقلب عين كما أن للبدن عينًا، قاله الراغب. "لتلخيص" هو استيفاء المقاصد بكلام وجيز. "خلاصة جوهر هذا الخطاب" وهو القول الذي يفهم المخاطب بالكسر المخاطب به شيئًا، وأما أحسن جعله تلفت العيون بعد السماع، فهو على حد قوله: يا قوم أذني لبعض البحي عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانًا قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهم ... الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا "في سفر" بالكسر، كتاب كبير جمعه أسفار، وسفر الكتاب كتبه، والسفرة الكتبة، ذكره الزمخشري. وقال الراغب: السفر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق، انتهى. "يسفر" من أسفر كشف مطلقًا، وقول القاموس: سفرت المرأة تمثيل لا تقييد، كما في النسيم، أي: يكشف "عن وجه المنح النبوية" الوجه الذي به المواجهة، ويكون بمعنى الجهة المقصودة، ويستعار لخيار الشيء وأوله ورأسه ومفعول يسفر، هو "منيع النقاب"؛ ككتاب جمعه نقب ككتب من إضافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فأطلقت عنان القلم إلى تحصيل مآربهم، وتسطير مطالبهم، جانحًا صوب الصواب، مودعًا ما كان مستودعًا لي في غيابات الغيب في هذا الكتاب ..................   الصفة للموصوف، أي: النقاب المنيع. "فأطلقت" من أطلقت الأسير إذا خليت عنه فذهب في سبيله، أي: أرسلت "عنان" ككتاب لجام الدابة من عن يعن اعترض، سمي به لأنه يعن، أي: يعترض الفم فلا يدخله إلا بمحاولة الإدخال. ويقال: جاء ثانيًا عنانه، إذا قضى وطره، وهو ذليل العنان منقاد؛ وفلان طويل العنان، إذا لم يرد عما يرومه لشرفه، "القلم" الذي يكتب فعل بمعنى مفعول؛ كحفر ونقض وخبط، ولذا قالوا: لا يسمى قلما إلا بعد البري وقبله قصبة. قال الأزهري: وسمي السهم قلما لأنه يقلم، أي يبرى، وكل ما قطعت منه شيئًا بعد شيء فقد قلمته، انتهى. وفي كثير النسخ بدل فأطلقت فثنيت، وفي المصباح ثنيته عن مراده إذا صرفته، فالمعنى هنا صرفت عنان القلم عما كان مشغولا به، "إلى تحصيل" قال ابن فارس: أصل التحصيل استخراج الذهب من المعدن، انتهى. وقال أبو البقاء: التحصيل الإدراك من حصلت الشيء أدركته، وقال غيره: هو إخراج اللب من القشر ومنه: {حُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، أي: أظهر ما فيها. "مآربهم" حاجتهم جمع مأربة بفتح الراء وضمها وهي الأرب بفتحتين، والأرب بالكسر: الحاجة، "وتسطير" كتابة "مطالبهم" جمع مطلب في المصباح، يكون المطلب مصدرًا وموضع الطلب "جانحًا" مائلا "صوب" هو المطر تسمية بالمصدر، وصابه المطر صوبًا من باب قال، كما في المصباح. وفي غيره صوب الشيء جهته "الصواب" قال الدماميني: كان المراد به الاستقامة من صاب السهم إذا قصد ولم يحد عن الغرض، والصواب المطر أو نزوله ويمكن أن يرادا هنا على الاستعارة، فأما أن الصواب مشبه بالسحاب فهو استعارة بالكناية وإثبات الصواب له استعارة تخييلية، وأما أنه مشبه بالمطر وأثبت له الصوب المراد به نزول المطر، ووجه التشبيه حصول النفع المبهج للنفوس. وفي صوب الصواب ما يشبه جناس الاشتقاق، انتهى. "مودعًا" بالكسر "ما كان مستودعًا" بالفتح "لي في غيابات" القاموس غيابة: كل شيء ما سترك منه، ومنه غيابات الجب، انتهى. أي: في مستورات "الغيب" وهو ما غاب عنك جمعه غيوب وغياب، كما في القاموس. "في هذا الكتاب" الحاضر في الذهن إن كانت الخطبة قبل تأليفه، والكتاب لغة يدور على الضم، والجمع من جميع وجوهه، وسمى الخط كتابة لجمع الحروف وضم بعضها إلى بعض، ويطلق على اسم الفاعل واسم المفعول. قال الأردبيلي: يطلق الكتاب على مطلق الخط وعلى الكلام المكتوب تسمية لاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مستعينًا في ذلك بالقوي الوهاب، حتى أتاح الله لي ذلك، وتمم ما هنالك، فأوضحت ما خفي من الدليل، ومهدت ما توعر من السبيل. وسميته: "المواهب اللدنية بالمنح المحمدية" ورتبته على عشرة مقاصد تسهيلا للسالك والقاصد:   المفعول بالمصدر، وعلى مطلق الكلام اتساعًا، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] ، ثم شاع استعماله في التعارف، فيما جمع فيه الألفاظ الدالة على نوع من المعنى أو أكثر لما بين المصدر والمكان من التعلق الخاص، فيقال: أتأتي كتاب عن فلان وسيرت إلى فلان كتابًا ومنه اذهب بكتابي هذا، وأما في عرف المؤلفين فيطلق تارة على مكتوب مشتمل على حكم أمر مستقل منفرد عن غيره، وعن آثاره ولواحقه وتوابعه وأسبابه وشروطه، وتارة على مكتوب مشتمل على مسائل علم أو أكثر، وقد يسمى ذلك المكتوب باسم خاص وهو المراد هنا، "مستعينًا في ذلك بالقوي" الذي لا يلحقه ضعف في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله ولا يمسه نصب ولا لغب ولا يدركه قصور ولا تعب، "الوهاب" كثير النعم ذي العطايا سبحانه، من الهبة، وهي العطية بلا سبب سابق ولا استحقاق ولا مقابلة ولا جزاء. "حتى أتاح" بفتح الهمزة الفوقية فألف فحاء مهملة، أي: يسر "الله لي ذلك وتمم ما هنالك فأوضحت" كشفت وجليت "ما خفي" استتر، "من الدليل" اسم فاعل وهو في الأصل المرشد والمكاشف "ومهدت" سلت "ما توعر" صعب "من السبيل" الطريق يذكر ويؤنث. "وسميته المواهب اللدنية" المنسوبة للدن، أي: المواهب التي هي من الله لا ينسب منها لغيره شيء لأن ما جرت العادة بحصول مثله من كسب العبد ينسب له، وما كان بالغًا في النفاسة ينسب إلى الله إشارة إلى أنه لا يمكن حصوله من غيره عادة لعزته، على نحو قول العرب لله دره. قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] ، أي: من عندنا، وهذا هو متعلق الصوفية وأهل السلوك في إثبات العلم اللدني نسبة إلى لدن، وهو إلهام المعرفة بالحقائق الغيبية وغيرها، وقال غيره: العلم اللدني يراد به العلم الحاصل بلا كسب ولا عمل للعبد فيه، سمي لدنيًا لحصوله من لدن ربنا لا من كسبنا. وقد صنف الغزالي كتابًا في بيان هذا وبين فيه كيفية حصوله، وأنه لا يمكن أن يحصل بكسب، وذكر فيه قول علي: لو طويت لي وسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، ولقلت في الباء من بسم الله وقر سبعين جملا. قال: ومعلوم أن عليًا -كرم الله وجهه- إنما أخذه من لدن ربه لا من تعليم بشر، انتهى. ولا يشكل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم"، رواه ابن أبي عاصم والطبراني والعسكري وغيرهم، وسنده حسن. كما قال الحافظ وجزم به البخاري تعليقًا لجواز أن المراد علم الأحكام والقرآن والأحاديث النبوية، إذ لا طريق إلى معرفتها إلا بالتعليم، فأل، عهدية ولا شك أن عليًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 المقصد الأول : في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بسبق نبوته في سابق أزليته،   كان قد تعلم القرآن والسنة والأحكام قبل أن يقول ذلك "بالمنح" الكاملة "المحمدية" فأل، للكمال، فالتعبير بها أولى بالمدح، فلا يرد أنه يوهم استيعابه جميعها هنا، ولا كذلك "ورتبته" أي: الكتاب، أي المقصود منه بالذات فلا ينافي أن الخطبة مقصودة والترتيب لغة جعل كل شيء في مرتبته، وعرفا جعل الأشياء الكثيرة بحيث يطلق عليها اسم الواحد، ويكون لبعض أجزائه نسبة إلى بعضها بالتقدم والتآخر، والمراد ألفته مرتبا فأل كونه مشتملا "على عشرة مقاصد" جمع مقصد بالكسر، المقصود من مكان أو غيره، وبما ذكر لا يرد أن ترتيبه عليها يفيد أنه غيرها ضرورة أن المرتب على شيء يغاير ما رتب عليه، "تهسيلا" تليينًا "للسالك والقاصد" اسم فاعل، أي: الآتي، أي: الشارع في قراءة "هذا" الكتاب والطالب للوقوف عليه. "المقصد الأول في" بيان "تشريف الله تعالى" حال لازمة، أي: متعاليًا عما لا يليق بعلى جناب قدسه، قال العكبري: وهو تفاعل من علو القدر والمنزلة هنا، وأصل تفاعل لتعاطي الفعل كتخاشع، وكذا تفعل كتكبر وهما في حقه تعالى بمعنى التفرد لا بمعنى التعالي، انتهى. "له عليه الصلاة والسلام" أي: فيما يدل على شرفه من الأحاديث وغيرها، "بسبق نبوته" أي: تقدمها ولم يشتغل الأكثر بتعريف النبوة والرسالة، بل بالنبي والرسول وقد عرفها إمام الحرمين بأنها صفة كلامية هو قول الله تعالى: هو رسولي، وتصديقه بالأمر الخارق، كما مر. وقال الغزالي: النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواص، أحدها: أنه يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله وصفاته وملائكته والدار الآخرة، علمًا مخالفًا لعلم غيره، بكثرة المعلومات وزيادة الكشف والتحقيق، ثانيها: أن له في نفسه صفة، بها تتم الأفعال الخارقة للعادة، كما أن لنا صفة تتم بها الحركات المقرونة بإرادتنا وهي القدرة ثالثها: أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم، كما أن للبصير صفة بها يفارق الأعمى، رابعها: أن له صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب، فهذه كمالات وصفات ينقسم كل منها إلى أقسام, انتهى. "في سابق أزليته" قال في التوقيف الأزل: القدم، ليس له ابتداء ويطلق مجازا على ما آل عمره، والأزل: استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي، كما أن يد استمراره كذلك في المآل، والأزلي ما ليس مسبوقًا بالقدم وللوجود ثلاثة لا رابع لها، أزلي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ونشره منشور رسالته في مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته في حظائر قدس كرامته، وطهارة نسبه وبراهين أعلام آيات حمله وولادته ورضاعه وحضانته، ودقائق حقائق بعثته وهجرته، ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته، مرتبًا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأزواجه وأصحابه.   أبدي وهو الحق سبحانه وتعالى، ولا أزلي ولا أبدي وهو الدنيا، وأبدي غير أزلي وهو الآخرة، وعكسه محال، إذ ما ثبت قدمه استحال عدمه، انتهى. "ونشره" بوزن نصر مصدر نشر، أي: إظهاره "منشور رسالته" أي: أثرها من الأحكام التي هي حياة للعالم، وبهذا التفسير لا يرد أن نشر المنشور من تحصيل الحاصل أو يراد بالمنشور ما من شأنه أن ينشر، فنشره عبارة عن إخراجه من القوة إلى الفعل "في مجلس مؤانسته" أي: مقام رحمته لعباده في الملأ الأعلى، بجعلهم آمنين غير مستوحشين، فالمراد لازم المؤانسة وبالمجلس أيضًا لازمه، وهو مطلق الوجود لتعاليه سبحانه عن الحسي وهو موضع الجلوس، جمعه مجالس ويطلق على أهله مجازًا تسمية للحال باسم المحل، "وكتبه" أي: إثباته، "توقيع" تعلق "عنايته", ومنه قولهم مواقع الغيث مساقطه "في حظائر قدس كرامته" أي: مواضع طهارته، "وطهارة نسبه" عما كان في الجاهلية من نحو السفاح "وبراهين" حجج "أعلام آيات" إضافة بيانية "حمله وولادته" وضعه "ورضاعه" بفتح الراء كرضاعة مصدر أرضع يرضع بفتحتين لغة، كما في المصباح. قال: ولغة نجد رضع رضعًا من باب تعب، ولغة تهامة من باب ضرب، وأهل مك يتكلمون بها. "وحضانته ودقائق حقائق بعثته وهجرته" من مكة إلى طابة بكسر الهاء لغة، مفارقة بلد إلى غيره فإن كانت قربة لله فهي الشرعية، كما وقع لكثير من الأنبياء. "ولطائف معارف مغازيه" جمع مغزاة "وسراياه" جمع سرية وتجمع أيضًا على سريات؛ كعطية وعطايا وعطيات، وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه. "وبعوثه" جمع بعث تسمية بالمصدر، وهو الجيش، كما في القاموس وغيره. وفي كلام المصنف الآتي أنه ما افترق من السرية. "وسيرته" أي: طريقته وهيئته لا ما اصطلح عليه لكونه قدمه حال كوني. "مرتبًا" بالكسر اسم فاعل أو حال كونه مرتبًا بالفتح اسم مفعول أو هو مفعول ثان لجعل مقدرة، أي: وجعلته مرتبًا "على السنين" فيقدم ما وقع في الأولى ثم الثانية وهكذا، وإن كان الأنسب ذكره من حيث ما ينضم إليه في غيره -وهذا أغلبي- لذكره كفاية المستهزئين بعد الأمر بالصدع، لمناسبة كون آيته بعد تلك الآية، وإن كان غيره إنما ذكره قبل انشقاق القمر وكذكره بعض ما وقع للمسلمين من أذى الكفار بعد إسلام حمزة وبعث المشركين إلى اليهود، "من حين نشأته" أي: وجوده، "إلى وقت" زمن "وفاته" أي: موته، "ونقلته" تحوله "لرياض روضته صلى الله عليه وسلم وعلى آله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المقصد الثاني : في ذكر أسمائه الشريفة المنبئة على كمال أخلاقه المنيفة، وأولاده الكرام الطاهرين وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وعماته، وإخوته من الرضاعة، وجداته وخدمه ومواليه وحرسه، وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام ومؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه، وآلات حروبه، ودوابه، والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم وفيه عشرة فصول.   وأزواجه" جمع زوج على اللغة العالية التي جاء بها القرآن، نحو {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35، الأعراف: 19] ، وبالهاء لغة نجدية تكلم بها أهل الحرم، قال أبو حاتم وغيره، وجمعها زوجات، وقول ابن السكيت: أهل الحجاز بلا هاء، وباقي العرب بالهاء فيه نظر، فقد قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة. "وأصحابه" كذا في النسخ، والمناسب للسجع وصحابته. "المقصد الثاني: في ذكر أسمائه" في الفصل الأول منه "الشريفة" مع شرح بعضها "المنبئة" صفة لازمة بين بها دلالة جميعها "على" وفي نسخة عن "كمال أخلاقه" سجاياه، "المنيفة" الزائدة في الكمال على غيرها من قولهم أنافت الدراهم على المائة زادت، ووجه إثباتها من الأسماء التي هي صفات إن أريد بها معنى الوصفية، كالمزمل والمتوكل ظاهر، وأما الأعلام المنقولة كمحمد فباعتبار المعنى اللغوي لا سيما وقد لوحظ ذلك في الوضع، إذ جعل سبب التسمية أو باعتبار أنه يفهم ذلك المعنى منها عند الاستعمال، بالنظر لخصوص أسماء المصطفى، وإن كانت الأعلام بحسب الوضع إنما تدل على مجرد الذات. "و" الفصل الثاني في ذكر "أولاده الكرام الطاهرين" صفتان كاشفتان "وأزواجه الطاهرات أمهات المؤنين" مع بيان هل يقال لهن أمهات المؤمنات وهو الفصل الثالث، وفيه ذكر سراريه أيضًا، "وأعمامه" جمع عم "وعماته" جمع عمة "وإخوته" آثر جمع المذكر تغليبًا؛ كما في قوله: وإن كان له إخوة، إذ المراد ما يشمل الإناث، كما يأتي في كلامه. "من الرضاعة" قيد لبيان الواقع إذ ليس له أخ ولا أخت من النسب، وقد قال الواقدي: المعروف عندنا وعند أهل العلم أن آمنة وعبد الله لم يلدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى. "وجداته" وهو الفصل الرابع، "وخدمه" جمع خادم، غلامًا كان أو جارية وبالهاء فيها قليل، "ومواليه وحرسه" وهو الفصل الخامس، "وكتابه" جمع كاتب، "وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع"، جمع شريعة سميت باسم الشريعة، وهي مورد الناس للاستقاء لوضوحها وظهورها، "والأحكام ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام" وهو الفصل السادس وفيه ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 المقصد الثالث : فيما فضله الله تعالى به من كمال خلقته، وجمال صورته، وكرمه به من الأخلاق الزكية وشرفه به من الأوصاف المرضية، وما تدعو ضرورة حياته إليه صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثة فصول.   أمرائه ورسله. "و" في ذكر "مؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه" وهو الفصل السابع، "وآلات حروبه" جمع آلة وهو الفصل الثامن. "و" في ذكر "دوابه" وهو التاسع، "والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم" وهو الفصل العاشر، "وفيه عشرة فصول" قد علمتها واستحرت من الكشف. "المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به"، أي: في صفات صيره بها أفضل من غيره، من فضل مخففًا على غيره زاد. "من كمال خلقته"، إيجاد أجزاء بدنه تامة معتدلة المقادير "وجمال صورته" أي: حسنها الظاهر في جسده بتناسب أعضائه وصفاء لونه واعتدال قده، وقيل: المراد حسن وجهه وحسن الصورة أمر محمود يدل على حسن السريرة ويمدح به كمل الرجال، ولذا خطأ الآمدي من اعترض على أبي تمام في وصف ممدوحه بالجمال؛ لأنه يليق بالغزل لما ذكر، فقال في كتاب الموازنة: جمال الوجه وحسنه مما يتمدح به، لأنه يتميز به ويدل على الخصال الممدوحة ويزيد في الهيبة، والدمامة يذم بها لعكس ذلك، وقد غلط فيه من توهم أنه لا يدخل في مدح العظماء، انتهى. وهذا هو الفصل الأول. "و" الثاني: فيما "كرمه" أي: عظمه وميزه على غيره، "سبحانه به من الأخلاق الزكية" جمع خلق وهو الموصوف الذي طبع عليه واكتسبه وجمعه بناء على تعدده، كما صار إليه كثيرون، أو باعتبار ما ينشأ عنه من حميد الأوصاف، "وشرفه" أعلاه "به" على غيره في الكتاب العزيز وغيره، "من الأوصاف المرضية" القائمة به مساوٍ في المعنى لما قبله. "و" الفصل الثالث في "ما تدعو ضرورة حياته إليه" متعلق بتدعو أو بضرورة أو بهما على التنازع، والضرورة شدة الاحتياج باعتبار العادة البشرية، وفي عبارة لطف لإيمائه إلى أنه ليس مضطرًا إليه كغيره، وإنما الضرورة هي التي دعته وطلبته، كما قال البوصيري: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم "صلى الله عليه وسلم، وفيه ثلاثة فصول" علمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المقصد الرابع، المقصد الخامس ... المقصد الرابع: في معجزاته الدالة على ثبوت نبوته وصدق رسالته وما خص به من خصائص آياته وبدائع كراماته. وفيه فصلان: المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بلطائف المعراج والإسراء، وتعميما بعموم لطائف التكريم في حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى.   "المقدمة الرابعة في معجزاته الدالة على ثبوت نبوته" صفة لازمة لا مخصصة؛ لأن معجزاته كلها دالة على ثبوت، "وصدق رسالته" أي: قوتها، في القاموس الصدق بالكسر الشدة فهو مساوٍ للثبوت فغاير تفننا، أو المراد صدقه في ادعاء الرسالة وهذا الفصل الأول، "و" الثاني في "ما خص به" أي: ثبت له دون غيره من الأنبياء أو أممهم وهو عطف على معجزاته عطف عام على خاص، "من خصائص آياته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: آياته الخاصة به أي: الفاضلة في الشرف على غيرها فلا يرد أن شرط المبين أن يزيد على المبين اسم مفعول، "وبدائع كراماته" أي: كراماته البديعة التي تفرد بها من بين المكرمات فالصفة مضافة لموصوفها، والمكرمات أمر أكرم الله به من اصطفاه من عباده المتقين بدون تحد ودعوى نبوة، فتكون للنبي والولي، وأعم من المعجزة لاشتراط مقارنة النبوة والتحدي بالقوة أو بالفعل، فخرج بقولهم أكرم ... إلخ السحر وما يصدر عن الكهنة والشياطين. "وفيه فصلان" علمًا. "المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بلطائف" وفي نسخة بخصائص والتخصيص، قال الراغب: تفرد بعض الشيء بما لا تشاركه فيه الجملة. والأصوليون، قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقترن به وحمله عليه شيخنا، فقال: أي قصره عليها يعني قصرًا إضافيًا دون غيره من الأنبياء فلا يشكل عليه بكثرة المعجزات، فالصواب التعبير بقصرها عليه لأن يجعله إضافيا يساوي ذلك "المعراج" بكسر الميم وتفتح، المصعد مفعال من العروج، "والإسراء" قال الحافظ الدمياطي الإسراء عبارة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة للمسجد الأقصى، والمعراج سلم من نور أو من جوهر تصعد فيه الأرواح إلى السماء ويطلق كل منهما على ما يشمل الآخر "ونعيمه" تسويده من عمم الرجل بالبناء للمفعول سود، أي: جعل سيدًا لأن العمائم تيجان العرب، كما في الصحاح، وهو لفظ حديث مرفوع أخرجه الديلمي عن ابن عباس، والقضاعي عن علي بزيادة: والاحتباء حيطانها، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه، وهو ضعيف. وفي نسخة: تكريمه، "بعموم" أي: كثرة "لطائف الكريم في حضرة التقريب" هي عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المقصد السادس : فيما ورد في آي التنزيل من عظم قدره، ورفعة ذكره، وشهادته تعالى له بصدق نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته واتباع سنته وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا ومنة إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه، والتنويه به في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل، بأنه صاحب الرسالة والتبجيل، وفيه عشرة أنواع.   الصوفية مقام للكامل المكمل بغير واسطة بشر، وهو النبي يأخذ عن الحق ما به يحصل كمال الحق المخلوق، كما في لطائف الكاشي "بالمكالمة والمشاهدة" لله سبحانه على القول بأنه رآه وهما من أعظم الآيات، فعطفه "والآيات الكبرى" عام على خاص، وأتى بهذا لئلا يتوهم غبي أن المراد القرب المكاني. "المقصد السادس: فيما ورد في آي التنزيل" القرآن، جمع آية، وهي ألفاظ منه ذات مقطع ومبدأ مندرجة في سورة، "من عظم قدره" أي: مقداره وشرف رتبته وتكون بمعنى التعظيم كما في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ، أي: عظموه حق تعظيمه في أحد الوجوه فيه "ورفعة" بكسر الراء آخر تاء تأنيث مضاف إلى "ذكره" وإن قرئ رفع بفتح الراء، والضمير للتنزيل فذكره بالنصب "وشهادته تعالى" عما لا يليق بعلى كماله "له بصدق نبوته" والشهادة خبر قاطع، كما في القاموس. "وثبوت بعثته وقسمه" بفتحتين "تعالى على تحقيق رسالته وعلو منصبه" بفتح الميم وكسر الصاد المهملة في كلام العرب، بمعنى: الحسب والشرف، كما ذكره اللغويون واستفاض في كلام الفصحاء، وفي المصباح يقال له منصب وزان مسجد، أي: علو ورفعة، وفلان له منصب صدق يراد به المنبت والمحتد، وامرأة ذات منصب، انتهى. وأما المنصب بمعنى الولايات ففي النسيم أنه مولد لم يرد في كلامهم أصلا؛ كقوله: نصب المنصب أوهى جلدي ... وعنائي من مداراة السفل فكأنه للنصب فيه للنظر في الأمور، أو هو من النصب والحيلة وكذا إطلاقه على ما يوضع عليه القدر مولد. "الجليل" العظيم "ومكانته" عظمته عنده من قولهم كما في المصباح: مكن فلان عند السلطان مكانة، وزان ضخم ضخامة، عظم عنده وارتفع فهو مكين، انتهى. أو استقامته، يقال الناس على مكانتهم، أي: على استقامتهم كما في المختار، وفي النسيم: المكان معروف، فإن زيد فيه الهاء أريد به المرتبة المعنوية؛ كالمنزل والمنزلة. "ووجوب طاعته واتباع سننه" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 المقصد السابع : في وجوب محبته واتباع سنته، والاهتداء بهديه وطريقته، وفرض محبة آله وأصحابه، وقرابته وعترته وحكم الصلاة والتسليم عليه، زاده الله فضلا وشرفًا لديه، وفيه ثلاثة فصول.   طريقته "وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلا منه إن أدركوه ليؤمنن به ولينصرنه والتنويه به" بالجر، أي: يذكره، يقال: ناه بالشيء نوها من باب قال ونوه به تنويهًا رفع ذكره وعظمه، وفي حديث عمر: أنا أول من نوه بالعرب، أي: رفع ذكرهم بالديوان والإعطاء، كما في المصباح. "في الكتب السالفة" الماضية؛ "كالتوراة والإنجيل" قيل: مشتقان من الورى والنجل، ووزنهما تفعلة وأفعيل ورد بأنه تعسف لأنهما أعجميتان، ويؤيده أنه قرئ الإنجيل بفتح الهمزة، وهو ليس من أبنية العرب. "بأنه صاحب الرسالة" العامة على وجه لم يوجد لغيره، "والتبجيل" التعظيم والتوقير، "وفيه عشرة أنواع" الأول: في آيات تتضمن عظم قدره إلى آخره، والثاني: في أخذ الله له الميثاق على النبيين فضلا، والثالث: في وصفه له بالشهادة وشهادته له بالرسالة، والرابع: في التنويه به في الكتب السالفة، والخامسة: في أقسامه على تحقيق رسالته وفيه خمسة فصول، والسادس: في وصفه له بالنور والسراج المنير، والسابع: في وجوب طاعته، والثامن: فيما يتضمن الأدب معه، والتاسع: في رده تعالى على عدوه، والعاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه متشابهات. وهذا وإن لم يكن شيئًا، ففيه إراحة للخاطر ولئلا يتوهم أنه على نسق ما قبله وعبر هنا، وفي التاسع بأنواع تفننا إذ المراد من الأنواع والفصول واحد. "المقصد السابع: في وجوب محبته, و" وجوب اتباع سنته, و" وجوب "الاهتداء بهديه" ومعنى الوجوب اعتقاد حقية ما أمر به عن الله تعالى، وأما مباشرة الفعل فتختلف في الوجوب والندب والإباحة، ولا يشكل بأن المندوب يجب بالنذر لأمره صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر، كالقرآن فهو من سنته وهديه، "وطريقته" وهذا هو الفصل الأول "وفرض محبة آله وأصحابه وقرابته وعترته" بكسر العين وسكون الفوقية، أي: نسله. قال الأزهري: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه ولا تعرف العرب م العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الأدنون، ويقال: أقرباؤه، ومنه قول أبي بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 المقصد الثامن، المقصد التاسع ... المقصد الثامن: في طلبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات، وتعبيره الرؤيا، وإنبائه بالأنباء المغيبات، وفيه ثلاثة فصول. المقصد التاسع: في لطيفة من حقائق عبادته، ويشتمل على سبعة أنواع.   نحن عترة رسول الله التي خرج منها، وبيضته التي تفقأت عنه. وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى، ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون، وكأنه ذكر فرض للاهتمام بطول الفصل، وغاير في التعبير فلم يقل وجوب تفننًا؛ لأنهما بمعنى عند الأكثرين، ولا يصح حمله هنا على مذهب الفارقين، لأن المقام يأباه، إذا يصير معناه محبة المصطفى بدليل ظني، وآله وما عطف عليه بدليل قطعي وهذا الفصل الثالث باللام، "و" الفصل الثاني بالنون في "حكم الصلاة والتسليم عليه" فرضية وسنية وفضيلة وصفة ومحلا "زاده الله فضلا وشرفًا لديه" عنده, "وفيه ثلاثة فصول". "المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض" جمع مرض، وهو كما في المصباح حالة خارجة عن الطبع، ضارة بالفعل، ويعلم من هذا أن الآلام والأورام أعراض عن المرض. وقال ابن فارس: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر. "والعاهات" جمع عاهة في تقدير فعلة -بفتح العين- أو الآفات، وهذا الفصل الأول، "و" الثاني في "تعبيره" تفعيل من عبرت الرؤيا مشددًا للمبالغة وأنكرها الأكثرون، وقالوا الوارد التخفيف؛ كما في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، لكن أثبتها الزمخشري اعتمادًا على بيت أنشده المبرد في الكامل، حيث قال: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا أي: تفسيره "الرؤيا" بوزن فعلى، وقد تسهل الهمزة، ما يراه الشخص في منامه، "و" الفصل الثالث في "إنبائه بالأنباء" إخبار الأخبار "المغيبات" بإلهام أو وحي، "وفيه ثلاثة فصول. "المقصد التاسع: في لطيفة" من لطف بالضم صغر جسمه لا بالفتح إذا رفق "من حقائق عباداته ويشتمل عى سبعة أنواع" الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والاعتكاف والحج، والسابع نبذة من أدعيته وذكره وقراءته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المقصد العاشر : في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إليه، وزيارة قبره الشريف، ومسجده المنيف، وتفصيله في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم، والدرجات العمليات، وتشريفه بخصائص الزلفى في مشاهد الأنبياء والمرسلين، وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، وانفراده السؤدد في مجمع مجامع الأولين والآخرين، وترقيه في جنة عدن أرقى معارج السعادة، وتعاليه في يوم المزيد أعلى معالي   "المقصد العاشر: في إتمامه تعالى نعمته عليه" قال الإمام الرازي: النعمة المنفعة على جهة الإحسان إلى الغير، فخرج بالمنفعة المضرة المحضة والمنفعة المفعولة لا على جهة الإحسان إلى الغير، كأن قصد الفاعل نفسه كمن أحسن إلى جاريته ليربح فيها، أو أراد استدراجه بمحبوب إلى ألم أو أطعم غيره نحو سكر أو خبيص مسموم ليهلك فليس بنعمة. وقال الراغب: النعمة ما قصد به الإحسان والنفع، "بوفاته" موته وأصله من توفيت الشيء إذا أخذته كله، قاله أبو البقاء. "ونقلته إليه" وهو الفصل الأول "و" الثاني في "زيارة قبره" هو مقر الميت، وهو في الأصل مصدر قبرته إذا دفنته، وهو هنا بمعنى المقبور فيه، كما في التوقيف. "الشريف" شرفًا ما ناله غيره بحيث صار أفضل البقاع إجماعًا، "ومسجده المنيف" المرتفع في الشرف على غيره، حتى المسجد الحرام أو إلا المسجد الحرام على القولين، "و" الفصل الثالث في "تفضيله" في الآخرة بفضائل الأوليات" أي: بالأمور التي يتقدم وصفه بها على جمع الخلق، ككونه أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول من يقرع باب الجنة "الجامعة لمزايا" فضائل "التكريم والدرجات" جمع درجة، أي: المراتب، "العليات وتشريفه بخصائص الزلفى" فعلى من أزلف، أي: القربى، "في مشاهد الأنبياء والمرسلين وتحميده بالشافعة" العظمى العامة، "والمقام المحمود" وهو مقام يقوم فيه للشفاعة العظمى فيحمده فيه الأولون والآخرون، ولا شك أنه مغاير للشفاعة وإن احتوى عليها على كلام فيه مبين. "وانفراده بالسؤدد" بالضم المجد والشرف "في مجمع" بكسر الميم وفتحها، وجمعه "مجامع" يطلق على الجمع وعلى موضع الاجتماع، كما في المصباح. "الأولين والآخرين وترقيه في جنة عدن" إقامة "أرقى معارج" جمع معرج ومعراج، كما مر. "السعادة" وهي كما في التوقيف معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، "وتعاليه في يوم المزيد" وهو يوم الجمعة في الجنة، كما في مسند الشافعي عن المصطفى عن جبريل "أعلى معالي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الحسنى وزيادة. وفيه ثلاثة فصول. والله تعالى جل جده وعز مجده أسأل بوجاهة وجهه الوجيه ونبيه النبيه أن يمدني في هذا الكتاب بمدد الإقبال والقبول، وينيلني ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين من لطائف العواطف المحمدية لطائف السول، ونهاية المأمول، وعلى الله قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.   "الحسنى وزيادة". قال الراغب: الزيادة أن ينضم إلى ما عليه الشيء في نفسه شيء آخر، وقد تكون زيادة مذمومة كالزيادة على الكفاية، كزائد الأصابع، أو قوائم الدابة، وقد تكون محمودة نحو للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وهي النظر إلى وجه الله. "وفيه ثلاثة فصول" قد علمتها "والله تعالى جل جده" بفتح الجيم وشد الدال تكون بمعنى الحظ والغنى ومنه: ولا ينفع ذا الجد منك الجد، يقال: جد بمعنى عظم، وإسناد التعالي للمبالغة، كجد جده فهو إسناد مجازي أو استعارة مكنية. "وعز" غلب "مجده" المجد: العز والشرف، ففي إسناد العز له المبالغة والله بالنصب قدم على عامله للتخصيص عند البيانيين، والحصر عند النحاة، أي: والله لا غيره. "أسأل بوجاهة" هو الحظ والرتبة "وجهه الوجيه" قال بعض العلماء: وجه الله مجاز عن ذاته عز وجل. تقول العرب: أكرم الله وجهك بمعنى. وفي التوقيف: الوجيه من فيه خصال حميدة من شأنه أن يعرف ولا ينكر، "ونبيه النبيه" الشريف في المصباح، نبه بالضم نباهة شرف، فهو نبيه، "أن يمدني" يعينني "في هذا الكتاب بمدد" بزيادة "الإقبال والقبول" بفتح القاف وضمها لغة حكاها ابن الأعرابي، وهو كما في التوقيف ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء. "وينيلني" يبلغني، "ومن كتبه أو قرأه أو سمعه والمسلمين" وإن لم يقع منهم ذلك "من لطائف العواطف المحمدية لطائف السول ونهاية المأمول" قال أبو البقاء: النهاية ما به يصير الشيء ذا كمية، أي: حيث لا يوجد وراءه شيء منه. وقيل: نهاية الشيء آخره أصلا من النهي وهو المنع، والشيء إن بلغ آخره امتنع من الزيادة، فإن قيل: قد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يسل بوجه الله إلا الجنة". رواه أبو داود، وقال: "ملعون من سأل بوجه الله"، رواه الطبراني. قلت: لما كان ما سأله يرجع إلى سؤال الجنة ساغ له ذلك، وقد استظهر أن النهي للتنزيه "وعلى الله قصد السبيل" بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحق، أو إقامة السبيل وتعديلها رحمة وفضلا، "وهو حسبنا" محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه، ويدل على أنه بمعنى المحسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المقصد الأول: في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام مدخل ... المقصد الأول: في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام بسبق نبوته في سابق أزليته ......   أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفًا في قولك هذا رجل حسبك، "ونعم الوكيل" ونعم الموكول إليه هو، ذكره في الأنوار، وهذا اقتباس، وهو جائز عند المالكية والشافعية بإتفاق غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة هكذا. حكى اتفاق المذهبين الشيخ داود الشاذلي الباهلي وقد نص على جوازه القاضي عياض وابن عبد البر وابن رشيق والباقلاني وهم من أجلة المالكية، والنووي شيخ الشافعية، ورواه الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد إلى الإمام مالك أنه كان يستعمله. قال السيوطي: هذه أكبر حجة على من يزعم أن مذهب مالك تحريمه، وقد نفى الخلاف في مذهبه الشيخ داود وهو أعرف بمذهبه، وأما مذهبنا فأنا أعرف أن أئمته مجمعون على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فسر وأبان عن أنه أجهل الجاهلين، انتهى. وهذا منه يقضي بغلطه فيما أورده في عقود الجمعان. المقصد الأول: اعلم: أن في أسماء الكتب وألفاظ التراجم احتمالات أقربها أن المراد بها الألفاظ والمعروف أنها ظروف وقوالب للمعاني، فإذا عكس كما هنا فهو بتقدير مضاف، أي: "في" بيان "تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام"، وبيان بمعنى مبين، أي: ما من شأنه أن يبين به، ولا شك أن ما ذكره بعض ما يمكن به البيان، فهو من ظرفية الكل لجزئه ويجوز أنه استعارة أو تشبيه للمعاني بالظروف، بجامع أن الألفاظ لا تزيد المظروف على ظرفه المشتمل عليه، أو -في- بمعنى على والتقدير هذه ألفاظ مخصوصة دالة على تشريف، أو بمعنى اللام والمراد بكونه فيه: أنه مقصود منه فلا ينافي ذكر غيره بطريق التبع، "بسبق" تقدم "نبوته" وذلك السبق موجود "في سابق أزليته" أي: ما هو قبل خلق الأشياء، فلا يقال السبق لا يكون مظروفًا في السبق، أو جعل الأزلية ظرفًا يستدعي عدم مسبوق تقدم نبوته بالأولية, فيلزم أن لا أول لتقدم نبوته، كما أنه لا أولى للأزلي، كذا قال شيخنا قال في المجمل: الأزل: القدم، يقال: هو أزلي، والكلمة ليست بمشهورة في كلام العرب، وأحسب أنهم قالوا في القديم: لم يزل ثم نسب إليه، فلم يستقم إلا باختصار، فقالوا: يزلي ثم أبدلوا الياء ألفًا، وقيل: الأزل اسم لما يضيق القلب عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ونشره منشور رسالته في مجلس مؤانسته، وكتبه توقيع عنايته في حظائر قدس كرامته. وطهارة نسبه. وبراهين أعلام آيات حمله وولادته. ورضاعه وحضانته. ودقائق حقائق بعثته. وهجرته. ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه. وسيرته. مرتبًا على السنين من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته. اعلم يا ذا العقل .........................   بدايته من الزل وهو الضيق فهمزته أصلية. "ونشره" إظهاره وإذاعته "منشور رسالته في مجلس مؤانسته" أي الله سبحانه أو النبي صلى الله عليه وسلم "وكتبه" إثباته "توقيع" تعلق "عنايته في حظائر قدس كرامته" أي: في المواضع التي تظهر فيها كرامته المنزهة عن النقائص، ككتبها على كل موضع في الجنة وعلى نحو العين، وساق العرش كما يجيء، "وطهارة نسبه" نزاهته عن دنس الجاهلية وسفاف الأمور تعاطيه الهمم العلية "وبراهين" جمع برهان وهو الدليل القوي الذي يحصل به اليقين لا المنطقي ليماوانيا، وإن شمله "أعلام آيات" إضافة بيانية، أي: براهين الأعلام التي هي آيات دالة على "حمله" وإضافة براهين إلى أعلام حقيقة، أي: البراهين الدالة على أن ما أدركته أمة من الآيات، هي أمارات على الحمل حقيقة "وولادته ورضاعه وحضانته ودقائق حقائق بعثته", أراد بها ما لا يفهم أنه من آثار الرسالة إلا بعد النظر الدقيق كرؤية الملك في ابتداء الوحي، فإنه إنما يدل على ذلك بعد التأمل وإمعان النظر فيه. "وهجرته" هي في اللغة: الترك، ثم خصت بترك مكان لا آخر، وغالب الأنبياء وقع لهم الهجرة لعداوة الناس لهم، "ولطائف معارف مغازيه وسراياه وبعوثه وسيرته" هيئته وحالته وطريقته، لا ما غلب في لسان الفقهاء من أنها المغازي لكونه قدمها "مرتبًا على السنين" غالبًا، "من حين نشأته إلى وقت وفاته ونقلته لرياض روضته". "اعلم" أمر من العلم يصدر به ما يعتني به من الكلام تقوية وتأكيدًا وحثًا على إلقاء البال لما بعده، تنبيهًا على أنه مما ينبغي أن يعلم ولا يترك, وقد ورد في القرآن وكلام العرب. كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] ، اعلموا {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] ولذا التزم بعده في الغالب أن المؤكدة؛ كقوله: فاعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا "يا ذا العقل"، مشتق من العقل مبعنى المنع، ومنه العقال لمنعه الإنسان عما لا يليق, ولذا تطرف في التلميح لأصله القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 السليم، والمتصف بأوصاف الكمال والتتميم وفقني الله وإياك بالهداية إلى الصراط المستقيم .................................   قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق "السليم" من شوائب الكدورات، وإنما خص ذوي العقول بالنداء، لأن شرف الإنسان إنما هو بالعقل، وبه يميز الحسن من القبيح، قال أبو الطيب: لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان وفي حقيقته ومحله كلام ألم المصنف فيما يأتي بشيء منه، "والمتصف" بالنصب؛ لأن تابع المناوي المعرب منصوب لا غير، سواء كان التابع معرفة أم نكرة، محلى باللام أم لا، وأجاز الأخفش رفعه "بأوصاف الكمال" لنفسه، "والتتميم" لغيره وغاير تفننا ورعاية للسجع وإلا فهما بمعنى، كما في الصحاح والقاموس وغيرهما. وقال الزركشي: تفسير الكمال بالتمام خطأ؛ لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، وقد فرق بينهما الشيخ عبد القاهر: بأن الإتمام لإزالة نقصان الأصل، والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل، وأيضًا التمام يشعر بحصو نقص قبل ذلك والكمال لا يشعر به. وتعقب بأن الإكمال في الآية للدين، والإتمام للنعمة التي من جعلتها ذلك الإكمال والنصر العام على كل معاند؛ فلم يتعاورا على شيء واحد، ووظيفة اللغوي بيان أصل اللغة، وأهل التفسير والمعاني النظر إلى كل مقام يحسبه ولو معنى مجازيًا, وقد جزم ابن أبي الأصبع بأنه قد يطلق كل منهما على الآخر، ومنه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ} الآية. "وفقني الله وإياك" جملة دعائية والتوفيق الهداية إلى وفق الشيء وقدره وما يوافقه، قاله أبو البقاء، وفيه تفاسير معلومة "بالهداية" الثبات عليها أو زيادتها أو حصول المراتب المرتبة عليها، إذ المسلم مهتد، والمراد خلق الاهتداء لا الدلالة هنا، والباء للتصوير والتحقيق، أي: وفقنا بهدايتنا أو السببية، أي: رزقنا مباشرة الطاعات بسبب هدايته لنا "إلى الصراط المستقيم" المستوى، يعني: طريق الخير أو دين الإسلام, قال صاحب الأنوار: والهداية دلالة بلطف ولذلك تستعمل في الخير، وقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] ، وأراد على التهكم ومنه الهدية، وهو أدى الوحش مقدماتها والفعل منه هدى، وهداية الله تعالى تتنوع أنواعًا لا يحصيها عد لكنها تنحصر في أجناس مترتبة: الأول: إفاضة القوى التي بها يتمكن المرء من الاهتداء إلى مصالحه؛ كالقوة العقلية والحواس الباطنة والمشاعر الظاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أنه لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه، وتقدير رزقه ..................................   والثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد وإليه أشار، حيث قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ، وقال: فهديناه فاستحبوا العمى على الهدى. والثالث: الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وإياه عنى بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ، وقوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . والرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي، بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة، وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء، وإياه عنى بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِيَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، فالمطلوب إما زيادة ما منحوه من الهدى، أو الثبات عليه، أو حصول المراتب المترتبة عليه، فإذا قاله العارف الواصل عنى به أرشدنا طريق السير فيك لتمحو عنا ظلمات أحوالنا، وتميط به غواشي أبداننا، لنستضيء بنور قدسك فنراك بنورك، انتهى. وفي الأساس يقال: هداه للسبيل وإلى السبيل هداية وهدى، وظاهره عدم الفرق بين المتعدى بنفسه والمتعدى بالحرف، قال ابن كمال: ومنهم من فرق بينهما بأن هداه لكذا أو إلى كذا، إنما يقال إذا لم يكن في ذلك فيصل بالهداية إليه، وهداه كذا لمن يكون فيه فيزداد ويثبت، ولمن لا يكون فيصل. والقول بأن ما تعدى بنفسه معناه الإيصال إلى المطلوب ولا يكون إلا فعل الله تعالى فلا يسند إلا إليه؛ كقوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت: 69] ، وما تعدى بالحرف، معناه الدلالة على ما توصل إليه، فيسند تارة إلى القرآن؛ كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، وتارة للنبي، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] ، ليس بتام لمجيء المتعدى بنفسه في القرآن كثيرًا مستندًا إلى غير الله تعالى؛ كقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] ، وقوله تعالى: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] ، انتهى. وفي البيضاوي: وأصله أن يعدى باللام أو إلى فعومل في اهدنا الصراط، معاملة اختار في قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، انتهى. والخلاف في أنها الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، وإن لم يصل، وهو مذهب أهل السنة أو الموصلة عند المعتزلة مشهور كأدلتهم، "أنه لما تعلقت إرادة الحق" الثابت الوجود على وجه لا يقبل الزوال ولا العدم، ولم يقل: لما أراد؛ لأن الإرادة أزلية والحادث إنما هو التعلق، "بإيجاد خلقه" أي: مخلوقه؛ لأنه الذي يتعلق به الإيجاد نحو: هذا خلق الله، أي: مخلوقه "وتقدير رزقه" أي: الله أو الخلق، فالمصدر مضاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية، في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها، علوها وسفلها، على صورة حكمه، كما سبق في سابق إرادته وعلمه، ثم أعلمه بنبوته، وبشره برسالته، هذا وآدم لم يكن إلا -كما قال- بين الروح والجسد، ثم انبجست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح ............................   للفاعل أو المفعول، قال السمين: والرزق لغة العطاء وهو مصدر، قال تعالى: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 75] ، وقيل: يجوز أنه فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح، وقيل: الرزق بالفتح مصدر وبالكسر اسم للمرزوق، واقتصر على الثاني في المختار والمصباح. "أبرز الحقيقة المحمدية" هي الذات مع النعت الأول، كما في التوقيف؛ وفي لطائف الكاشي يشيرون بالحقيقة المحمدية إلى الحقيقة المسماة بحقيقة الحقائق الشاملة لها، أي: للحقائق والسارية بكليتها في كلها سريان الكلي في جزئياته، قال: وإنما كانت الحقيقة المحمدية هي صورة لحقيقة الحقائق؛ لأجل ثبوت الحقيقة المحمدية في خلق الوسيطة والبرزخية والعدالة، بحيث لم يغلب عليه صلى الله عليه وسلم حكم اسمه أو وصفه أصلا، فكانت هذه البرزخية الوسطية هي عين النور الأحمدي المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما خلق الله نوري"، أي: قدر على أصل الوضع اللغوي، وبهذا الاعتبار سمي المصطفى بنور الأنوار، وبأبي الأرواح ثم إنه آخر كل كامل إذ لا يخلق الله بعده مثله، انتهى. "من الأنوار الصمدية" المنسوبة للصمد والإضافة للتشريف، كما في حديث جابر عند عبد الرزاق مرفوعًا: يا جابر إن الله قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، "في الحضرة الأحدية" هي أول تعينات الذات وأول رتبها، الذي لا اعتبار فيه لغير الذات، كما هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: "كان الله ولا شيء معه"، ذكره الكاشي "ثم سلخ" أخرج "منها العوالم كلها" بكسر اللام جمع عالم، بفتحها سماعًا وقياسًا "علوها" بضم العين وكسرها وسكون اللام، "وسفلها" بضم السين وكسرها وسكون الفاء، أي: عاليها وسافلها، يشير إلى العالم العلوي والسفلي، فهو مجاز من إطلاق اسم الكل وإرادة اسم الجزء "على صورة حكمه" أي: التي تعلق بها خطابه الأزلي لا صورة نفس الحكم؛ لأنه قديم. وفي نسخ حكمته، أي: على الصورة التي اقتضتها حكمته وإرادته والأولى أنسب بالسجعة في قوله: "كما سبق في سابق إرادته وعلمه" على ما سيجيء بيانه في حديث عبد الرزاق "ثم أعلمه بنبوته وبشره برسالته هذا وآدم" الواو للحال "لم يكن إلا كما قال" صلى الله عليه وسلم، "بين الروح والجسد ثم انبجست" تفجرت "منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح" أي: خالصها، كأرواح الأنبياء والمراد بالعيون الكمالات المفرغة من نوره على أرواح الأنبياء، عبر عنها بالعيون مجازًا لمشابهتها بعيون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 فظهر بالملأ الأعلى، وهو بالنظر الأجلى، وكان له المورد الأحلى، فهو صلى الله عليه وسلم الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس. ولما انتهى الزمان بالاسم الباطن في حقه صلى الله عليه وسلم إلى وجود جسمه، وارتباط الروح به، انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر، فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته جسمًا وروحًا ..........................   الإنسان للكمال، فلا يرد تأخر الأعلام والبشارة عن سلخ العوالم منه، "فظهر" عليه السلام، أي: حقيقته "بالملأ" أي: الخلق "الأعلى" وصفهم به إشارة إلى أن المراد المقربون "وهو بالمنظر الأجلى" بالجيم، أي: الأتم في الظهور "وكان له المورد" وزن مسجد تشبيه بليغ، أي: كالمورد الذي يرده الناس ليرتووا منه "الأحلى" بالحاء، الأعذب. "فهو صلى الله عليه وسلم الجنس" أي: كالجنس "العالي" المرتفع "على جميع الأجناس" لتقدمه خلقًا على غيره، "والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس" من حيث أن الجميع خلقوا من نوره، على ما يأتي في حديث عبد الرزاق، وأما ما ذكر أن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها فعرفت وذلقت، فخلق الله من كل نقطة نبيًا، وأن القبضة كانت هي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان كوكبًا دريًا، وأن العالم كله خلق منه، وأنه كان موجودًا قبل أن يخلق أبواه، وأنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه جبريل وأمثال هذه الأمور, فقال الحافظ أبو العباس أحمد بن تيمية في فتاويه، ونقله الحافظ ابن كثير في تاريخه وأقره: كل ذلك كذب مفترى باتفاق أهل العلم بحديثه، والأنبياء كلهم لم يخلقوا من النبي صلى الله عليه وسلم، بل خلق كل واحد من أبوابه، انتهى. "ولما انتهى" أي: بلغ النهاية، "الزمان" الحال التي كان عليها قبل خلق السماوات والأرض، "بالاسم" متعلق بانتهى، "الباطن، أي: عالم الملكوت المشار إليه بقوله: إبراز الحقيقة ... إلخ، "في حقه صلى الله عليه وسلم" متعلق بباطن "إلى وجود جسمه وارتباط الروح به" متعلق بانتهى أيضًا. "انتقل حكم الزمان إلى الاسم الظاهر" يعني: عالم الملك وهو الموجود في العناصر، والباطن والظاهر وصفان للمصطفى، ويجوز -وهو المناسب هنا- أنهما وصفان لله، أي: الظاهر وجوده لكثرة دلائله، أو الغالب على كل شيء من ظهر إذا غلب. والباطن حقيقة ذاته فلا يعرف أصلا؛ كما قال الصديق: غاية معرفته القصور عن وصفه أو العالم بالخفيات، والمعنى: أنه تعالى تصرف فيه بمقتضى علمه الخفي على جميع الكائنات الذي هو صفة الباطن إلى تعلق الإرادة بظهوره إلى عالم العناصر فربط روحه الشريفة بجسمه، فأظهره "فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بكليته" أي: بجملته "جسمًا وروحًا" تمييز أو حال، قال شيخنا: ولو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فهو صلى الله عليه وسلم وإن تأخرت طينته، فقد عرفت قيمته، فهو خزانة السر، وموضع نفوذ الأمر، فلا ينفذ أمر إلا منه، ولا ينقل خير إلا عنه. ألا بأبي من كان ملكًا وسيدا ... وآدم بين الماء والطين واقف فذاك الرسول الأبطحي ......   قال بكله كان أوضح، فإن الكل هو الذات المجتمعة من الأجزاء، والكلية إمكان الاشتراك وهي صفة الكلي، وهو ما لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، ويمكن توجيهه بأنه من نسبة الفرد إلى كله من جهة تحقق الكل، من حيث هو كل في الواحد للشخص من حيث تشخصه فيساوي التعبير به التعبير بالكل. "فهو صلى الله عليه وسلم وإن تأخرت طينته" أي: خلقته "فقد عرفت قيمته" أي: اعتداله وحسن قوامه وطوله حسًا ومعنى في الجميع، ففي الفاموس القيمة الشطاط، وفيه أيضا الشطاط كسحاب وكتاب الطول وحسن القوام أو اعتداله، "فهو خزانة" بكسر الخاء "السر" أي: محل لأسراره تعالى وكمالاته، حيث أفاض الله عليه ما لا يوجد في غيره من الخلق "وموضع نفوذ الأمر" أي: الموضع الذي يظهر منه الكمالات التي تفاض على خاصة خلقه، "فلا ينفذ أمر" شيء، جمعه أمور "إلا منه، ولا ينقل خير" مفرد خيور وخيار، أو هو بموحدة مفرد أخبر "إلا عنه" إذ هو واسطة العقد، وأنشد المؤلف لغيره "ألا" بفتح الهمزة والتخفيف حرف استفتاح يؤتى به للتنبيه والدلالة على تحقق ما بعده: "بأبي" بكسر الباءين بينهما همزة مفتوحة. قال ابن الأنباري: معناها بأبي هو فحذف هو لكثرة الاستعمال، وأصله أفدية بأبي، "من كان ملكًا" بفتح الميم وسكون اللام تخفيفًا؛ لأن البيت لا يتزن إلا به. في المصباح: ملك على الناس أمرهم، إذا تولى السلطنة فهو ملك بكسر اللام وتخفف بالسكون، انتهى وكذا كل ما كان على وزن فعل، وتوهم إنها لغة قرئ بها غلط؛ لأن ذاك في مصدر مالك: {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} [طه: 87] ، قرئ بتثليث الميم، وهو في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، "وسيدًا وآدم بين الماء والطين" أي: بين العلم والجسم، كذا في أنوار المشكاة. "واقف" ولما لم يستقم للناظم لفظ الوارد بتمامه عدل إلى معناه الذي اشتهر، فإن معناهما واحد؛ كما جزم به صاحب النسيم. فلا يقال: لو قال بين الروح والجسم طابقه، "فذاك الرسول" فعول بمعنى مفعل وهو المرسل، أي: المبعوث إلى غيره وقد يأتي بمعنى الرسالة؛ كقوله: ألا أبلغ أبا عمرو رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري "الأبطحي" المنسوب إلى بطحاء مكة على ما يفيده الجوهري، أو إلى أبطح مكة، وهو مسيل واد بها وهو ما بين مكة ومنى ومبتدؤه المحصب، كما صرح به غيره، وهو القياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 .............. محمد ... له في العلاء مجد تليد وطارف أتى بزمان السعد في آخر المدى ... وكان له في كل عصر مواقف أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه ... فأثنت عليه ألسن وعوارف إذا رام أمرًا لا يكون خلافه ... وليس لذاك الأمر في الكون صارف أسبقية نبوته صلى الله عليه وسلم: أخرج مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي ............   "محمد له في العلا" الارتفاع "مجد" عز وشرف "تليد" قديم "وطارف" حادث، "أتى بزمان السعد" الباء للآلة، "في آخر المدى" بفتحتين، يعني: الزمان الأخير من أزمنة الأنبياء، وهو زمن عيسى وبعثة المصطفى في آخر زمان عيسى، فالإضافة حقيقية فلا يشكل إضافة آخر المدى مع أن الغاية أو مطلق الزمان، مجازًا من تسمية الكل باسم الجزء، "وكان له في كل عصر مواقف" أحوال لتقدم خلقه، "أتى لانكسار الدهر" وفي نسخة: الدين من إضافة الصفة للموصوف، أي: الدين أو الدهر المنكسر بعبادة غير الله، "يجبر صدعه" شقه، أي: يصلحه ويزيل فساده، "فأثنت عليه ألسن" جمع لسان مذكر وهو الأكثر لغة وبه جاء القرآن، قاله أبو حاتم. "وعوارف" جمع عارفة، ومعناه: أن الأمور المعروفة في الشرع أثنت عليه لإظهاره لها وذبه عن معارضتها، وهو استعارة مكنية، شبه أمور الشرع في دلالتها على صدقه وكاله بنفوس ناطقة، وأثبت لها ما هو من لوازم النفوس الناطقة إذا فعل معهم الجميل وهو الثناء تخييلا "إذا رام أمرًا لا يكون" يوجد "خلافه وليس لذاك الأمر في الكون" أراد الوجود وله تعاريف معلومة "صارف" مانع، ثم شرع في المقصود وحسن معه تصديره بحديث صحيح، فقال: "خرج مسلم" بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، أحد الأعلام مناقبه شهيرة، أخذ عن البخاري وشاركه في كثير من شيوخه، وأحمد وخلق وروى عنه كثيرون، وروى له الترمذي حديثًا واحدًا، مات سنة إحدى وستين ومائتين في رجب، "في صحيحه" الذي صنفه من ثلاثمائة ألف حديث كما نقلوه عنه وهو يلي صحيح البخاري، وتفضيله عليه مردود؛ وفي ألفية السيوطي: ومن يفضل مسلمًا فإنما ... ترتيبه وصنعه قد أحكما "من حديث" أحد العبادلة "عبد الله بن عمرو بن العاصي" بن وائل السهمي الصحابي ابن الصحابي أبي محمد عند الأكثر، أو أبي عبد الرحمن الزاهد العابد أحد المكثرين الفقهاء، أسلم قبل أبيه، قيل: بين مولدهما اثنتا عشرة سنة، ويقال: عشرون سنة. روى ابن سبع والعسكري عنه، أنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل. ومن ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ................   ذكر العسكري في كتاب الأمثال ألف مثل عن المصطفى، وحسبك أن أحفظ الصحابة أبا هريرة شهد له بأنه أكثر حديثًا منه؛ لأنه كان يكتب وأبا هريرة لا يكتب، ولا يشكل أن المروي عنه دون المروي عن أبي هريرة بكثير، لأنه سكن مصر والواردون إليها قليل، وأبو هريرة سكن المدينة والمسلمون يقصدونها من كل وجهة, وفي أنه مات بالشام أو مكة أو الطائف أو بمصر أقوال، وهل عام خمس وستين أو ثمان وستين أو تسع وستين أو ثنتين وسبعين أو تسع وسبعين خلاف بسطه في الإصابة. وقال في تقريبه: مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف على الراجح، والعاصي بالياء وحذفها، والصحيح الأول عند أهل العربية وهو قول الجمهور كما قال النووي وغيره. وفي تبصير المنتبه، قال النحاس: سمعت الأخفش يقول: سمعت المبرد يقول: هو بالياء لا يجوز حذفها وقد لهجت العامة بحذفها. قال النحاس: هذا مخالف لجميع النحاة، يعني: أنه من الأسماء المنقوصة فيجوز فيه إثبات الياء وحذفها، والمبرد لم يخالف النحويين في هذا وإنما زعم أنه سمي العاصي لأنه أعيص بالسيف، أي: أقام السيف مقام العصا، وليس هو من العصيان؛ كذا حكاه الآمدي، عنه قلت: وهذا إن مشي في العاصي بن وائل لكنه لا يطرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم العاصي بن الأسود والد عبد الله فسماه مطيعًا، فهذا يدل على أنه من العصيان، وقال جماعة: لم يسلم من عصاة قريش غيره، فهذا يدل لذلك أيضًا، انتهى. "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق"" , قال البيضاوي في شرح المصابيح، أي: أجرى القلم على اللوح المحفوظ، وأثبت فيه مقادير الخلائق ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد، وعلى وفق ما تعلقت به إرادته أزلا، وقال الأبي: المقادير بمعنى القدر وهو عبارة عن تعلق علم الله وإرادته أزلا بالكائنات قبل وجودها، وهو سبحانه وتعالى بجميع صفاته أزلي لا يتقيد وجوده بزمان، "قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" قال القاضي عياض: حد لكتب ذلك في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء الله لا للمقادير فإن ذلك أزلي لا أول له وهي كناية عن الكثرة؛ كقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] ، قال: ويحتمل أنها حقيقة، ورده القرطبي وتبعه الأبي بأنه لا يتقرر كونها حقيقة بوجه؛ لأن السنين يقدر بها الزمان، والزمان تابع لخلق السماوات لأنه عبارة عن حركات الأفلاك وسير الشمس فيها، فقيل: خلق الزمان لا سماوات، فالخمسون ألف سنة تقديرية، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وكان عرشه على الماء.   بمدة في علم الله لو كانت السماوات موجودة فيها لعدت بذلك العدد، انتهى. وهو متعقب بقول البيضاوي وغيره في شرح المصابيح، معناه: أن طول الأمد وتمادي الأزمان بين التقدير والخلق من المدة خمسون ألف سنة مما تعدون، فإن قيل: كيف يحمل على الزمان وهو مقدار حركة الفلك الذي لم يخلق حينئذ؟ أجيب بأنه إن سلم أن الزمان ذلك، فإن مقدار حركة الفلك الأعظم الذي هو العرش موجود حينئذ، بدليل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ، أي: ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء، والماء على متن الريح، كما روي عن ابن عباس، وهو يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض، انتهى. وفي حديث أبي رزين الآتي: أن الماء قبل خلق العرش، وروى أحمد والترمذي وحسنه، وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: ""كان" في ماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء". وحكى في الفهم أن أول ما خلق الله ياقوتة حمراء ونظر إليها بالهيبة فصارت ماء، فوضع عرشه على الماء، وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعد الطائي، قال: "العرش ياقوتة حمراء". وأخرج أبو الشيخ عن حامد، قال: "خلق الله العرش من زمردة خضراء، وخلق له أربع قوائم من ياقوتة حمراء، وخلق له ألف لسان وخلق في الأرض ألف أمة، كل أمة تسبح بلسان من ألسن العرش"، وذكر الحافظ محمد بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، عن بعض السلف: أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء، بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، واتساعه خمسون ألف سنة، وبعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، وذهبت طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه الفلك التاسع والفك الأطلس. قال ابن كثير: وليس بجيد؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضًا فالعرش في اللغة سرير الملك وليس هو فلكًا، والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير، وقوائم تحمله الملائكة كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات، انتهى. والصحيح كما قال النعماني: أنه غير الكرسي، وما روي عن الحسن أنه عينه فضعيف، بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره، انتهى. كيف! وقد روى ابن جرير، وابن مردويه، وأبو الشيخ، عن أبي ذر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ومن جملة ما كتب في الذكر أن محمدًا خاتم النبيين.   ذر، ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة". "ومن جملة ما كتب في الذكر" وبينه بقوله: وهو {أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39، آل عمران: 7] ، أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ، إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه وفي أنه حقيقي أو تمثيل، والمراد علم الله، قولان، الأكثر أنه حقيقي وهو الأسعد بصريح الأحاديث والآثار، فقد أخرج الطبراني بطريقين رجال إحداهما ثقات والحاكم والحكيم الترمذي عن ابن عباس، عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق لوحًا محفوظا من درة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور". وفي الطبراني أيضًا: أن عرشه ما بين السماء والأرض. وفي كنز الأسرار: أن طوله كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ بسند جيد عن ابن عباس، قال: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام, وأخرج أبو الشيخ عن أنس رفعه: "أن لله لوحًا أحد وجهيه ياقوتة، والوجه الثاني من زمردة خضراء". وأخرج أيضًا عن ابن عباس رفعه: "خلق الله لوحًا من ندرة بيضاء وقفاه من زبرجدة خضراء كتابه نور، يلحظ إليه في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء". وأخرج ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في الشعب، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله لوحًا من زبرجدة خضراء تحت العرش، يكتب فيه إني أنا الله لا إله إلا أنا أرحم وأترحم، جعلت بضعة عشر وثلاثمائة خلق من جاء بخلق منها مع شهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة". وقد جمع بين هذا الاختلاف في لونه بجواز أنه يتلون والبياض لونه الأصلي. "أن محمدًا خاتم النبيين" في الوجود، فإن قيل: الحديث يفيد، سبق العرش على التقدير، وعلى كتابة محمد خاتم النبيين فيشكل بأن نوره صلى الله عليه وسلم خلق قبل العرش وغيره. أجاب شيخنا بجواز أن نوره خلق قبل العرش وكتابته لذلك، وإظهاره كان وقت التقدير وهو بعد خلق العرش وقبل خلق السماوات، انتهى. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن الماء والعرش مبتدأ العالم لكونهما خلقا قبل كل شيء وعند أحمد وابن حبان والحاكم وصححاه، عن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، أنبئني عن أصل كل شيء، قال: "كل شيء خلق من الماء". وهذا يدل على أن الماء أصل لجميع المخلوقات ومادتها، وأنها كلها خلقت منه، وقال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] قال في اللطائف: والقول بأن المراد النطفة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وعن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين" وإن آدم لمنجدل في طينته". رواه أحمد ..........................   بخلق منها الحيوانات بعيدة؛ لأن النطفة لا تسمى ماء مطلقًا بل مقيدًا نحو: من ماء دافق، وقوله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20] ، وأيضًا من الحيوانات ما يتولد من غير نطفة كدود الخل والفاكهة، فليس كل حيوان مخلوقًا من نطفة. فدل القرآن على أن كل ما يدب وكل ما فيه حياة من الماء، ولا ينافي هذا قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وخلقت الملائكة من نور" لأن أصل النور والنار الماء" ولا يستنكر خلق النار من الماء، فقد جمع الله بقدرته بين الماء والنار في الشجر الأخضر. وذكر الطبائعيون أن الماء بانحداره يصير بخارًا والبخار ينقلب هواء، والهواء ينقلب نارًا. وزعم مقاتل: أن الماء خلق من النور، وهو مردود بحديث أبي هريرة المتقدم وبغيره، انتهى. ملخصًا، وذكر نحوه المؤلف في الإرشاد. "وعن العرباض" بكسر العين وسكون الراء بعدها موحدة فألف فمعجمة "ابن سارية" السلمي، قديم الإسلام جدًا من البكائين ومن أهل الصفة، ونزل حمص، وروى عنه خالد بن معدان وأبو أمامة الباهلي وخلق، مات سنة خمس وسبعين، وقيل قبلها زمن فتنة ابن الزبير رضي الله عنهم. "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم" قال الطيبي: الواو وما بعدها في محل نصب على الحال من المكتوب، والمراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبًا في أم الكتاب في ذلك الحال، قبل نفخ الروح في آدم لا أنه حينئذ كتب في أم الكتاب ختمه للنبيين، انتهى. وبه اندفع ما يرد أن هذا ينافي رواية مسلم بخمسين ألف سنة المفيد سبق نبوته على جميع الموجودات. "لمنجدل" بضم الميم وسكون النون مطاوع جدله مخففًا، نائبًا عن جدله مشددًا، أي: ألقاه على الجدالة وهي الأرض الصلبة لا مطاوع جدل مخففًا لفساد المعنى، إذ معناه أخذه من الجدالة وليس بمراد هنا، أشار له الطيبي قائلا: "في طينته" خبر ثان؛ لأن لا متعلق بمنجدل، والألزم أن دم مظروف في طينته مع أنه ظرف له وهو حاصل فيه، "رواه" الإمام "أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني أبو عبد الله المروزي، ثم البغداي أحد كبار الأئمة الحفاظ الطوافين الصابر على البلوي، الذي من الله به على الأمة، ولولاه لكفر الناس في المحنة ذو المناقب الشهيرة. وحسبك قول الشافعي شيخه: خرجت من بغداد فأخلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم منه. وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، قيل: وما يدريك؟ قال: ذاكرته. ولد سنة أربع وستين ومائة ومات سنة إحدى وأربعين ومائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وقوله عليه الصلاة والسلام لمنجدل، يعني: طريحًا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه. وعن ميسرة الضبي ...................................   قال ابن خلكان: وحزر من حضر جنازته من الرجال فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستون ألفًا، وأسلم يوم موته عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس، انتهى. وفي تهذيب النووي: أمر المتوكل أن يقاس الموضع الذي وقف الناس للصلاة فيه على أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة، ووقع المأتم في أربعة أصناف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس. "والبيهقي" نسبة إلى بيهق قرية بناحية نيسابور، أحمد بن الحسين الإمام الحافظ المشهور بالفصاحة والبراعة سمع الحاكم وغيره، وتصانيفه نحو ألف. قال الذهبي: ودائرته في الحديث ليست كبيرة بل بورك له في مروياته وحسن تصرفه فيها، لحذفه وخبرته بالأبواب والرجال، وأفتى بجميع نصوص الشافعي، وخرج أحاديثها، حتى قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي فله على الشافعي منة. ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. "والحاكم" الإمام الحافظ الكبير محمد بن عبد الله الضبي، أبو عبد الله النيسابوري الثقة الثبت المجمع على صدقه، ومعرفته بالحديث حق معرفته، أكثر الرحلة والسماع حتى سمع بنيسابور من نحو ألف شيخ وفي غيرها أكثر، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ومات بنيسابور سنة خمس وأربعمائة، وتصانيفه نحو خمسمائة، قال الذهبي، أو ألف قاله عبد الغافر الفارسي، وقال غيرهما ألف وخسمائة، وعنه شربت ماء زمزم وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف. "وقال" الحاكم فيه "صحيح الإسناد" ورواه ابن حبان في صحيحه أيضًا، "وقوله صلى الله عليه وسلم: "لمنجدل" يعني طريحًا ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه" لا مأخوذ من الأرض كما قد بادر من بقاء منجدل على أصله، كما مر. "وعن ميسرة" بفتح الميم وسكون التحتية، "الضبي" كذا في النسخ، والذي في العيون والإصابة والسبل كالنور، والمقاصد عن مسند أحمد ميسرة الفجر بفتح الفاء وسكون الجيم، جزم به في السبل، وقاله في النور كذا ضبط في نسخة صحيحة من الاستيعاب بالقلم، لكن بهامشه بخط ابن الأمين الفجر بفتح الجيم، قيده البخاري في التاريخ وهو العطاء، وفي الصحاح الفجر بالفتح: الكرم. قال الذهبي: صحابي من أعراب البصرة, وزعم ابن الفرض أن ميسرة لقبه واسمه عبد الله بن أبي الجدعاء، والذي أفاده صنيع الحسيني أنه غيره وهو الظاهر، انتهى. فيحتمل أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد". هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخاري في تاريخه وأبو نعيم في الحلية، وصححه الحاكم.   ضبي ويلقب بالفجر فعدل المصنف عما في المسند لبيان نسبته. وقول الشارح ينافيه قول الإصابة أنه تميمي، وما ذكر في اللب: أن ضبة في تميم فيه أنه لم يذكر أن ميسرة تميمي إنما قاله في ابن أبي الجدعاء، وذكر في ميسرة ما يفيد أنهما اثنان؛ لأنه ترجم به ثم قال: وقيل إنه ابن أبي الجدعاء الماضي فحكاه مقابلا أو أنه ضبي خلفًا، ونحو ذلك. "قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" فإن ورد أن حقيقة آدم هذا الهيكل المخلوق من طين المنفوخ فيه الروح، فمجموعهما هو آدم فما معنى البينية؟ أجيب بأنه مجاز عما قبل تمام خلقه قريبًا منه، كما يقال: فلان بين الصحة والمرض، أي: في حالة تقرب منهما، وقال في النسيم: الظاهر أنه ظرف زمان بمعنى أن نبوته محكوم بها ظاهرة بين خلق روح آدم وخلق جسده حيث نبأه في عالم الأرواح، وأطلعها على ذلك، وأمرها بمعرفة نبوته والإقرار بها, وهذا المعنى يفيده قوله بين الماء والطين، أي: بعد خلق عناصره غير مركبة ولا منفوخ فيها الروح، فهو بمعنى الحديث الذي صححوه فتكون رواية بالمعنى إذا لم يثبت بهذا اللفظ، وهذا مما لم يحم أحد حول حماه، انتهى. "هذا لفظ رواية الإمام أحمد" في المسند من طريق بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر وأخرجه من وجه آخر بلفظ متى جعلت، "ورواه البخاري" إمام الفن محمد بن إسماعيل الجعفي مناقبه كالشمس، "في تاريخه" الكبير صنفه وعمره ثمان عشرة سنة عند قبره صلى الله عليه وسلم، قال ابن عقدة: لو كتب الرجل ثلاثين ألفًا ما استغنى عن تاريخ البخاري. وال السبكي: تاريخه لم يسبق إليه ومن ألف بعده في التاريخ أو الأسماء أو الكنى، فعيال عليه. "وأبو نعيم" بالتصغير أحمد بن عبد الله الأصفهاني الحافظ المكثر، أخذ عن الطبراني وغيره وعنه الخطيب وغيره، مات بأصفهان سنة ثلاثين وأربعمائة عن أربع وتسعين سنة، ذكره الذهبي "في الحلية" أي: في كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، قالوا: لما صنفه بيع في حياته بأربعمائة دينار, ورواه البغوي وابن السكن وغيرهم كلهم من هذا الوجه. "وصححه الحاكم" وفي الإصابة سنده قوي، لكن اختلف فيه على بديل بن ميسرة، فرواه منصور بن سعد عنه هكذا، وخالفه حماد بن زيد فرواه عن بديل عن عبد الله بن شقيق، قال: قيل: يا رسول الله! ولم يذكر ميسرة، وكذا رواه حماد عن والده وعن خالد الحذاء كلاهما عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين. فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه "المقاصد الحسنة": لم نقف عليه بهذا اللفظ. انتهى. وقال العلامة الحافظ ابن رجب، في اللطائف: وبعضهم يرويه: متى كتبت نبيًا ................   عبد الله بن شقيق، أخرجه البغوي، وكذا رواه حماد بن سلمة عن خالد عن عبد الله بن شفيق، عن رجل، قال: قلت: يا رسول الله! وأخرجه من هذا الوجه أحمد وسنده صحيح، انتهى. قلت: هذا اختلاف لا يقدح في الحديث؛ لأن راويه حماد بن زيد وموافقيه المرسلة غير قادحة في رواية من وصله لصحة الإسناد، وقد تابع منصورًا على وصله عن بديل إبراهيم بن طهمان أخرجه ابن نجيد، وهي متابعة تامة، وتابعه أيضا في شيخه خالد الحذاء عند أحمد، ورواية ابن سلمة غاية ما فيها إبهام الصحابي، ولا ضير فيه لعدالة جميعهم، واستظهر البرهان في النور أنه ميسرة، قائلا: لم يذكره الحسيني في مبهمات المسند. "وأما ما اشتهر على الألسنة" ألسنة من لا خبرة له بالحديث من أنه مروي "بلفظ: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين" فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" نسبة إلى سخا قرية من أعمال مصر على غير قياس، "في كتابه المقاصد الحسنة" في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة "لم نقف عليه بهذا اللفظ، انتهى" ما نقله من كلام شيخه وبقيته فضلا عن زيادة: "وكنت نبيًا ولا آدم ولا ماء ولا طين". وقد قال شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- في بعض الأجوبة عن الزيادة أنها ضعيفة والذي قبلها قوي، انتهى. ولعله أراد بالمعنى، وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما، والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين وأنهما كذب وأقره في النور. والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في وضع اللفظين، قائلا: ونهايك به اطلاعًا وحظًا، أقر له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، انتهى. "وقال العلامة الحافظ" زين الدين عبد الرحمن بن أحمد، "بن رجب" الحنبلي الواعظ المحدث الفقيه البغدادي ثم الدمشقي، أكثر الاشتغال حتى مهر وشرح الترمذي والعلل له وقطعة من البخاري وله طبقات الحنابلة، مات في رجب سنة خمس وتسعين وسبعمائة. "في اللطائف وبعضهم يرويه" أي: حديث ميسرة "متى كتبت نبيًا؟ " أي: متى كتبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 من الكتابة، انتهى. قلت: وكذا رويناه في جزء من حديث أبي عمرو، إسماعيل بن نجيد، ولفظه: متى كتبت نبيًا؟ قال: "كتبت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض على وجوب نبوته وثبوتها، فإن الكتابة تستعمل فيما هو واجب، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] و {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] . وعن أبي هريرة ..............................................   نبوتك؟ أي: ثبتت وحصلت "من الكتابة" لا من الكون، "انتهى. قلت: وكذا رويناه في جزء من حديث أبي عمرو" بفتح العين وزيادة واو كما في النور، "وإسماعيل بن نجيد" بضم النون وفتح الجيم فتحتية ساكنة فدال مهملة، ابن أحمد بن يوسف النيسابوري السلمي أحد الأئمة، الفصيح البارع الصوفي الشافعي، حدث عن محمد بن أيوب الرازي وأبي مسلم الكجي والإمام أحمد وغيرهم، وصحب من أئمة الحقائق الجنيد والخيري، حدث عنه خلق منهم سبطه أبو عبد الرحمن السلمي والحاكم والقشيري، ومات سنة ست وستين وثلاثمائة عن ثلاث وتسعين سنة، "ولفظه" يعني بإسناده إلى ميسرة، وهو: حدثنا محمد بن أيوب الرازي، أنبأنا أبو محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن بديل عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله! "متى كنت نبيًا؟ قال: "كتبت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". كذا ساقه على أنه من الكتابة، والمذكور في العيون عنه: متى كنت، قال: "كنت من الكون كالأول لا الكتابة". وهو الذي وقع لنا في جزء ابن نجيد، وهو ستة وخمسون حديثًا بخط جرامرد التركي الناصري الحنفي تلميذ السيوطي وعليه خط السيوطي ولكن مثل هذا لا يرد على المصنف؛ لأن روايته هو وقعت، كما قال: ألم تر قوله رويناه، "فتحمل هذه الرواية مع رواية العرباض على وجوب نبوته وثبوتها" عطف تفسير وعلل الحمل بقوله: "فإن الكتابة تسعمل فيما هو واجب" أما شرعًا؛ كما "قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 182] ، وإما تقديرًا؛ كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة: 21] أي: قدر. "وعن أبي هريرة" تصغير هرة، قيل كناه بها المصطفى لأنه رآه وفي كمه هرة، وقيل المكنى له غيره، قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية والاسم مثل ما اختلف في اسمه على عشرين قولا، وسرد ابن الجوزي في التلقيح منها ثمانية عشر، وقال النووي: تبلغ أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 أنهم قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة قال: "وآدم بين الروح والجسد". رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ورويناه في جزء من أمالي أبي سهل القطان عن سهل بن صالح الهمداني، قال: سألت أبا جعفر، محمد بن علي، كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث؟ قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق من بني آدم من .................   من ثلاثين، قال الحافظ في الفتح: وقد جمعتها في تهذيب التهذيب فلم تبلغ ذلك، فيحمل كلامه على الخلاف في اسمه واسم أبيه معًا، انتهى. واختلف في أرجحها فذهب جمع إلى أنه عمرو بن عامر، وذهب كثيرون وصححه النووي إلى أنه عبد الرحمن بن صخر الدوسي، أسلم عام خيبر وشهد بعضها مع المصطفى ثم لزمه وواظبه حتى كان أحفظ أصحابه وأكثر المكثرين. ذكر بقي بن مخلد أنه روى عنه صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا، وتوفي بالمدينة سنة تسع أو ثمان أو سبع وخمسين، وأمه اسمها ميمونة، قال الطبراني، وقال أبو موسى المديني: أميمة، وقال ابن قتيبة في المعارف: أميمة بنت صفيح بن الحارث بن دوس أسلمت، فدعا لها المصطفى، وحديث إسلامها مشهور. "إنهم قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ " أي: حصلت وثبتت "قال: "وآدم بين الروح والجسد". أي: وجبت في هذه الحالة فعامل الحال وصاحبها محذوفان، قال الطيبي "رواه الترمذي" بكسر التاء والميم وضمهما وبفتح التاء وكسر الميم، أبو عيسى محمد بن عيسى أحد أوعية العلم والحفاظ الكبار، كان يضرب به المثل في الحفظ, أخذ عن البخاري وشاركه في شيوخه، بل قال ابن عساكر: كتب عنه البخاري وحسبه بذلك فخرا، مات سنة تسع وثمانين ومائتين. "وقال: حديث حسن وروينا في جزء من أمالي أبي سهل القطان عن سهل بن صالح الهمداني"، بفتح الهاء وسكون الميم وفتح الدال المهملة، نسبة إلى همدان شعب بن قحطان، قال في التبصير: منها الصحابة والتابعون وتابعوهم. "قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي" بن الحسين بن علي بن أبي طالب الملقب بالباقر، قال النووي: لأنه بقر العلم، أي: شقه. فعرف أصله وخفيه، ولد سنة ست وخمسين، وروى عنه خلق كالزهري وعمرو بن دينار، وكان سيد بني هاشم في زمانه علمًا وفضلا وسؤددًا ونبلا، قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث مات سنة ثمان عشرة ومائة. "كيف صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث، قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق" في عالم الذر "من بني آدم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم أول من قال: بلى، ولذلك صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء، وهو آخر من بعث. فإن قلت: إن النبوة وصف ولا بد أن يكون الموصوف به موجودًا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة .................................   ظهورهم" بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار "ذرياتهم" بأن أخرج بعضهم من صلب بعض من صلب آدم نسلا بعد نسل؛ كنحو ما يتوالدون كالذر بنعمان بفتح النون يوم عرفة، ونصب لهم دلائل على ربوبيته، وركب فيهم عقلا، والأخبار والآثار شاهد بهذا فتعسف من جعل الآية للتمثيل: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] ، قالوا: بلى "كان محمد صلى الله عليه وسلم أول من قال: بلى" أنت ربنا "ولذلك صار محمد صلى الله عليه وسلم يتقدم الأنبياء وهو آخر من بعث". وأورد على قوله وآدم بين الروح والجسد، فالمراد بالوصف الأثر، وهو في الأصل مصدر يقوم بالمحل وهو كونه موحى إليه بأمر يعمل به، فالمراد بالوصف الأثر، وهو في الأصل مصدر، "ولا بد أن يكون الموصوف به موجودًا وإنما يكون" الوصف بالنبوة "بعد بلوغ" الموصوف بها "أربعين سنة" إذ هو سن الكمال ولها تبعث الرسل، ومفاد هذا الحصر الشامل لجميع الأنبياء حتى يحيى وعسى هو الصحيح, ففي زاد المعاد ما يذكر أن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه. قال الشامي: وهو كما قال فإن ذلك إنما يروى عن النصارى، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة. أخرج الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة: "إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين". انتهى ملخصًا. وروى أبو يعلى عن فاطمة مرفوعًا، أن عيسى ابن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة، فهذا مما يؤيد ذاك ولا يرد عليه قوله تعالى في حق عيسى: {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30] ، لأن معناه جعلني مباركًا، نفاعًا للخير، والتعبير بلفظ الماضي باعتبار ما سبق في قضائه، أو لجعل المحقق وقوعه كالواقع. ولا قوله في يحيى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، لأن معناه الحكمة وفهم التوراة، ومن فسره بالنبوية فهو مجاز لأنه لظهور آثارها كأنه أوتيها، ولا ما في تهذيب النووي وعرائس الثعلبي أن صالحًا بعثه الله إلى قومه وهو شاب، وأقام فيهم عشرين سنة، وتوفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، لجواز أنه على التقريب بإسقاط عامي الولادة والموت، فلا ينافي أنه أرسل على رأس الأربعين، وكونه في ذلك السن، لا ينافي إطلاق الشاب عليه، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 مهمة أيضًا، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟   أطلق أنس لفظ الشاب على المصطفى في حديث الهجرة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وقد روى ابن مردويه والضياء في المختارة، عن ابن عباس رفعه: "ما بعث الله نبيًا إلا شابًا". مهمة: وقع للحافظ الجلال السيوطي في تكملة تفسير المحلى، وشرح النقابة وغيرهما من كتبه الجزم، بأن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، ويمكث بعد نزوله سبع سنين، وما زلت أتعجب منه مع مزيد حفظه وإتقانه وجمعه للمعقول والمنقول، حتى رأيته في مرقاة الصعود رجع عن ذلك. فقال في شرح حديث: فيمكث في الأرض أربعين سنة، قال ابن كثير يشكل عليه ما في مسلم أنه يمكث سبع سنين إلا أن يحمل على إقامته بعد نزوله، ويكون ذلك مضافًا إلى مكثه قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره حينئذ ثلاثًا وثلاثين سنة على المشهور. قلت: وقد أقمت سنين أجمع بذلك، ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور، هكذا في هذا الحديث: أن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في قصة الدجال: فيبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه، ثم يلبث الناس بعده سبع سنين ليس بين اثنين عداوة، قال البيهقي: ويحتمل أن قوله: ثم يلبث الناس بعده، أي: بعد موته، فلا يمكن مخالفًا للأول، انتهى. فترجح عندي هذا التأويل لوجوه أحدها. إن حديث مسلم ليس نصًا في الإخبار عن مدة لبث عيسى وذلك نص فيها، والثاني: أن ثم تؤيد هذا التأويل لأنها للتراخي. والثالث: قوله يلبث الناس بعده فيتجه أن الضمير فيه لعيسى؛ لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد في ذلك سوى هذا الحديث المحتمل، ولا ثاني له. وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة منها هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود وهو صحيح. ومنها ما أخرجه الطبران عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة"، ومنها ما أخرجه أحمد في الزهد عن أبي هريرة، قال: "يلبث عيسى ابن مريم في الأرض أربعين سنة لو يقول للبطحاء سيلي عسلا لسالت"، ومنها ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعًا في حديث الدجال: "فينزل عيسى ابن مريم فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلا وحكمًا مقسطًا". ورد أيضًا من حديث ابن مسعود عند الطبراني، فهذه الأحاديث الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل، انتهى. "أيضًا" أي: كما أنه لا بد للنبوة من محل تقوم به والمتعاطفات هنا اتفقا في الاشتراط فصح لفظ أيضًا، "فكيف يوصف به"، أي: بوصف النبوة "قبل وجوده" صلى الله عليه وسلم في الخارج "وإرساله؟ " في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أجاب العلامة الغزالي رحمه الله في كتابه "النفخ والتسوية" عن هذا، وعن قوله: كنت أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا: بأن المراد بـ"الخلق" هنا: التقدير دون الإيجاد ..............   ذكره مع أن فرض السؤال في النبوة إشعار بأنهما متقاربان وهو الصحيح، وقيل: نبوته سابقة على إرساله. "أجاب": كذا في نسخ بلا فاء، وفي أخرى بها, والأولى أولى إذ الفعل هنا ماض متصرف، وليس مما تدخل عليه الفاء، فإنها تدخل في سبعة مواضع جمعها القائل: اسمية طلبية وبجامد ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس وقد اشتهر أن ذا البيت للفقيه العلامة الأجهوري، وله عزاه شيخنا لكنه قال لنا في قراءة المعنى أنه رآه لأقدم منه، وهو كما قال فقد ذكره الشيخ عمر بن نجيم الحنفي في شرح الكنز في باب تعليق الطلاق، فقال: جواب الشرط يجب اقترانه بالفاء، حيث لم يصلح جعله شرطًا، وذلك في مواضع جمعت في قوله طلبية واسمية ... إلخ. فلعله من توافق الخاطر "العلامة" أبو حامد حجة الإسلام محمد بن محمد "الغزالي" بفتح الغين المعجمة وشدة الزاي على المشهور، كما قال ابن الأثير وفي التبيان عن الغزالي أنه أنكر التشديد، وقال: إنما أنا بالتخفيف، نسبة إلى غزالة من قرى طوس. وفي المصباح عن بعض ذريته أخطأ الناس في تشديد جدنا، لكن قال ابن الأثير أنه خلاف المشهور، قال: وأظن أنه نسبة إلى الغزالي على عادة أهل جرجان وخوارزم كالعصاري إلى العصار. قال: وحكى لي بعض من ينسب إليه من أهل طوس، أنه منسوب إلى غزالة بنت كعب الأحبار، انتهى. وفي طبقات السبكي كان والده يغزل الصوف ويبيعه بدكان بطوس. "رحمه الله" ذكر له الأسنوي في المهمات ترجمة حسنة منها هو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وروح خلاصة أهل الإيمان والطريق الموصل إلى رضا الرحمن يتقرب به إلى الله تعالى كل صديق ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق. قد انفرد في ذلك العصر الزمان، كما انفرد في هذا الباب فلا يترجم معه فيه لإنسان، انتهى. وله كتب نافعة مفيدة خصوصًا الإحياء فلا يستغنى عنه طالب الآخرة، مات بطوس سنة خمس وخمسمائة. "في كتابه النفخ والتسوية عن هذا"، المتقدم وهو وقوله: كنت نبيًا وآدم ... إلخ. "وعن قوله" صلى الله عليه وسلم " "كنت أول الأنبياء خلقًا وآخرهم بعثًا"" , رواه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم في تفسيره، وأبو إسحاق الجوذقاني, في تاريخه عن أبي هريرة، رفعه بلفظ، كنت، وما يقع في نسخ بلفظ أنا فتحريف أو رواية بالمعنى، "بأن المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد" إذ هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فإن قيل إن ولدته أمه لم يكن موجودًا مخلوقًا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود". قال: وهو معنى قولهم: "أول الفكرة آخر العمل، أول الفكرة" وبيانه: أن المهندس المقدر للدار، أول ما يمثل في نفسه صورة الدار، فيحصل في تقديره دار كاملة، وآخرة ما يوجد من أعماله هي الدار الكاملة، فالدار الكاملة هي أول الأشياء في حقه تقديرًا، وآخرها وجودًا، لأن ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان، وتركيب الجذوع، وسيلة إلى غاية وكمال وهي الدار الكاملة، فالغاية هي الدار ولأجلها تقوم الآلات والأعمال. ثم قال: وأما قوله عليه الصلاة والسلام: كنت نبيًا فإشارة إلى ما ...................   خلاف الواقع، "فإن قيل: إن ولدته أمه لم يكن موجودًا مخلوقًا، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير، لاحقة في الوجود. قال: وهو معنى قولهم" أي: المتقدمين، "أول الفكرة آخر العمل أول الفكرة"، كذا في النسخ الفكرة بالهاء في الموضعين، والمذكور في كتاب الغزالي المزبور بدون هاء فيهما، ونظمه القائل: نعم ما قال زمرة الدول ... أول الفكر آخر العمل "وبيانه" أي: إيضاح قولهم المذكور، "أن المهندس" قال الجوهري: المهندز الذي يقدر مجاري القنا والأبنية، والعرب صيروا زايه سينا، فقالوا مهندس في كلام العرب زاي قبلها دال، وفي القاموس: هندوس الأمر بالضم العالم به، جمعه هنادسة، والمهندس مقدر مجاري القنا حين تحفر، والاسم الهندسة مشتق من الهنداز معرب اندازه، فأبدلت الزاي لأنهم ليس لهم دال بعده زاي، انتهى. "المقدر للدار أول ما يمثل في نفسه صورة الدار، فيحصل في تقديره دارًا كاملة وآخرة" وزان قصبة كما في المصباح وغيره، وحكى في القاموس ضم أوله، أي: آخر "ما يوجد في أعماله هي الدار الكاملة، فالدار الكاملة هي أول الأشياء في حقه تقديرا وآخرها وجودًا؛ لأن ما قبلها من ضرب اللبنات" بكسر الموحدة جمع لبنة بالكسر وتسكن للتخفيف ما يعمل من الطين ويبنى به، "وبناء الحيطان" جمع حائط الجدار، قال القاموس: والقياس حوطان، "وتركيب الجذوع" جمع جذع، وهو ساق النخلة "وسيلة إلى غاية" أي: نهاية، "وكمال" عطف تفسير، "وهي الدار الكاملة فالغاية هي الدار، ولأجلها تقوم" بضم الفوقية وفتح القاف والواو المشددة، أي: توجد "الآلات والأعمال ثم قال" الغزالي بعد كلام وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" "فإشارة" أي: فهو إشارة "إلى ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ذكرناه، وأنه كان نبيًا في التقدير قبل تمام خلقه آدم عليه الصلاة والسلام، لأنه لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم ويستصفى تدريجًا إلى أن يبلغ كمال الصفات". "قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودًا في ذهن المهندس ودماغه، والوجود الثاني أنه ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن في الأعيان، والوجود الذهني سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة. كذلك فاعلم أن الله تعالى يقدر ثم يوجد على وفق التقدير ثانيًا"، انتهى.   ذكرنا، وأنه كان نبيًا في التقدير قبل تمام خلقه" بكسر فسكون "آدم عليه الصلاة والسلام، لأنه" أي: الحال والشأن "لم ينشأ خلق آدم إلا لينتزع من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم" وقد قال الله تعالى لآدم: لولاه ما خلقتك، "ويستصفى" أي: يستخلص من الكدورات كإخراج العلقة وشق الصدر، "تدريجًا" أي: شيئًا فشيئًا، "إلى أن يبلغ كمال الصفات" من إضافة الصفة للموصوف، أي: الصفات الكاملة أو بمعنى الكامل من الصفات وهو أعلاها، وهذا على ما في النسخ الصفات بالتاء والذي في كتاب الغزالي المذكور الصفا بلا تاء. "قال: ولا تفهم هذه الحقيقة إلا بأن يعلم أن للدار وجودين: وجودًا" بالنصب بدل مفصل من مجمل "في ذهن المهندس ودماغه" عطف تفسير لبيان محله عند الحكماء إذ الذهن القوي المدركة الباطنة، وهي حاصلة في مقدم الدماغ، وذكره لبيان تصويره في حد ذاته، فلا ينافي أن الغزالي كغيره من أهل السنة لا يقول به. "والوجود الثاني: أنه" أي: المهندس "ينظر إلى صورة الدار خارج الذهن في الأعيان والوجود الذهني سبب الوجود الخارج للعين، فهو سابق لا محالة" بفتح الميم، أي: لا بد كما في المختار "كذلك" مبتدأ حذف خبره، أي: كهذين الوجودين فعل الله وتصرفه في خلقه؛ كما أشار إليه بقوله "فاعلم" وهذا جواب شرط مقدر نشأ من قوله وكذلك، أي وإذا أردت معرفة ذلك في حقه تعالى وفيه إشارة إلى استحالة الوجود الذهني في حقه تعالى وأن الشبيه إنما هو من حيث سبق التقدم ثم الإيجاد فقط، "إن الله تعالى يقدر" الأشباء قبل إيجادها، "ثم يوجد" ذلك الذي قدره "على وفق التقدير ثانيًا، انتهى". واقتصر على هذين الوجودين؛ لأنهما الصالحان في مادة جوابه، وإلا فللشيء من حيث هو وجودان آخران: وجود في الكتابة ووجود في العبارة. صرح به الجعبري مقدمًا العيني على الذهني، نظرًا إلى الإخبار بالشيء بعد تحصيله وتعقله عند المخبر بالكسر، والغزالي قدم الذهني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وهو متعقب بقول الشيخ تقي الدين السبكي: "إنه قد جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله: كنت نبيًا إلى روحه الشريفة، أو إلى حقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهي، ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم ..................   نظرًا إلى صورة تحصيل الشيء في نفسه، وللقرافي في شرح تنقيحه قال الغزالي المختار: عندي أن للشيء في الوجود أربع مراتب حقيقية في نفسه، وثبوت مثاله في الذهن. ويعبر عنه بالعلم التصوري، الثالثة تأليف أصوات بحروف تدل عليه، الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ، وهي الكتابة؛ فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم، والعلم تبع للمعلوم، فهذه الأربعة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان في الأعصار والأمم واللفظ والكتابة، مختلفان فيهما لوضعهما بالاختيار. "وهو" أي: ما قاله الغزالي، "متعقب" أي: مردود "بقول الشيخ" الإمام العلامة أبي الحسن علي بن عبد الكافي الملقب "تقي الدين السبكي" الفقيه الحافظ المفسر الأصولي المتكلم النحوي اللغوي الجدلي الخلافي، النظار شيخ الإسلام، بقية المجتهدين. ولد بسبك من أعمال المنوفية في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وبرع في العلوم، وانتهت إليه الرئاسة بمصر، وصنف تصانيف عديدة، وتوفي بجزيرة الفيل على شاطئ النيل يوم الاثنين رابع جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وسبعمائة "إنه جاء أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد" وإذا كان كذلك "فقد تكون الإشارة بقوله" صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا لى روحه الشريفة أو إلى حقيقة من الحقائق" فيكون لنبوته محل قامت به. وهذا جواب قول السائل لا بد للوصف من محل يقوم به، وترك جواب أنها إنما تكون بعد الأربعين. وأجاب شيخنا بجواز أن محله في النبوة المتعلقة بالجسد بعد ارتباط الروح به، فلا ينافي أن إفاضة النبوة على الروح ووصفها به حقيقة لعدم اشتراط المحل الذي تقوم به النبوة خارجًا عن هذا. قال: وقد يؤخذ ذلك من إقصاره على إفاضة النبوة على روحه، إذ من لازم حصولها على الروح عدم اشتراط وجود الجسد في الأعيان، فضلا عن بلوغ أربعين، ولما استشعر سؤال: ما تلك الحقائق؟ قال مجيبًا: "والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعلمها خالقها ومن أمده الله بنور إلهي" يدرك ما يخفي من لم يمده، "ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم", أي: من وقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 آتاها الله ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وأفاضه عليها من ذلك الوقت، فصار نبيًا، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده. فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية، وإنما يتأخر البعث والتبليغ .... ...................   ابتدائه وقبل تمامه، "آتاها الله" بالمد أعطاها "ذلك الوصف" وصور الإعطاء بقوله: "بأن يكون خلقها متهيئة لذلك" أي: لقبول النبوة، "وأفاضه" أي: ذلك الوصف "عليها من ذلك الوقت" فحقيقته سابقة على خلق آدم وحصول النبوة عند خلقه, وفي اللطائف والسبل: وهذه، أي: الصفة التي هي النبوة الثابتة، مرتبة ثالثة وهي انتقاله من مرتبة العلم والكتابة إلى مرتبة الوجود العيني الخارجي. قال شيخنا: فأفاد أن نبوته مقدره في العلم أولا، ثم تعلق بها الكتابة، ثم تعلق بها الإبراز والإيجاد للملائكة في الوجود العيني, وقضية ما مر من إبراز حقيقته قبل سائر الموجودات، أن المراتب أربع تعلق العلم بأنه يصير نبيًا، ثم خلق نوره، ثم كتب في أم الكتاب، ثم إظهاره الملائكة، وقد يشعر بهذا قوله: وهي انتقاله ... إلخ. "فصار" عليه السلام، أي: حقيقته أو روحه "نبيًا وكتب" الله تعالى "اسمه" عليه السلام، "على العرش وأخبر" الله "عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم" من العالم الموجود حينئذ، أو الذي سيوجد من بني آدم "كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإن تأخر جسده الشريف" أي: إيجاده "المتصف بها" وقوله: "واتصاف حقيقته" مبتدأ "بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه" صفتان للأوصاف، "من الحضرة الإلهية" متعلقة بمفاضة بلا ريب وجعله خبر اتصاف يمجه السمع ويأباه الطبع، فليس القصد الإخبار بأن اتصافه كائن من الحضرة، بل حصوله من ذلك الوقت وإنما سقط خبر المبتدأ من قلم المصنف سهوًا. وهو ثابت في كلام السبكي الناقل عنه لمصنف، ولفظه واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة عليه من الحضرة الإلهية، حاصل من ذلك الوقت؛ "وإنما يتأخر البعث والتبليغ" فلا حاجة أيضًا لجعل اتصاف عطفًا على جسده، أي: تأخر اتصافه بالأوصاف في الوجود العيني لجسده وأنه أقرب، بل هو تعسف أيضًا يأباه قوله بعد وإنما المتأخر تكونه وتنقله ويبعده الحصر في قوله: إنما يتأخر ... إلخ. يصير معناه عسرًا، ولكن قد علمت أن منشأ هذا التحمل سقوط الخير، وأنه موجود في كلام من عزا إليه، فلا معدل عنه وبه استقام الكلام، بلا تعسف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وكل ما له من جهة الله ومن جهة أهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخر فيه, وكذلك استنباؤه وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم. وقد علم من هذا: أن من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى، لأن علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت, ولو كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له السلام خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد، لأن جميع الأنبياء يعلم الله تعالى نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلامًا لأمته ليعرفوا قدره عند الله تعالى.   "وكل ما له من جهة الله، ومن جهة أهل ذاته الشريفة وحقيقته، معجل لا تأخر فيه" جملة خبرية كالمفسرة لما قبلها؛ كقوله: "وكذلك استنباؤه", أي: جعله نبيًا، فالسين للتوكيد لا للطلب. "وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة" متقدم على ذاته، "وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم، وقد علم من هذا" الخبر الذي هو أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد، "أن من فسره" أي: الكون نبيًا وآدم بين الروح والجسد، كالغزالي. "بعلم الله بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى؛ لأن علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت، ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولو كان المراد بذلك مجرد العلم" أي: علم الله، "بما سيصير في المستقبل". "لم يكن له" عليه "السلام خصوصية" بضم الخاء وفتحها، وهو أفصح، كذا في المختار كأصله الصحاح، وفي المصباح والفتح: لغة، وكذا أفاده القاموس بقوله: وتفتح "بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد؛ لأن جميع الأنبياء، يعلم الله تعالى نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية" أمر ثابت "للنبي صلى الله عليه وسلم" دون غيره؛ "لأجلها أخبر بهذا الخبر إعلامًا لأمته، ليعرفوا قدره عند الله تعالى". إلى هنا كلام السبكي بتقديم وتأخير حسبما ذكره في رسالة لطيفة سماها التعظيم والمنة في لتؤمنن به ولتنصرنه، وفهمه المصنف ردًا على الغزالي بقوله وهو متعقب، وفيه أنه إنما عبر بالتقدير وهو مرتبة غير العلم، فيجوز أنه أمر اختص به قبل خلق آدم، دون بقية الأنبياء فلا يتم رده به, ويحتمل أن مراد السبكي الرد على غير الغزالي، وهو ظاهر قوله. ومن فسر دون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وعن الشعبي قال رجل: يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد، حين أخذ مني الميثاق". رواه ابن سعد من رواية جابر الجعفي فيما ذكره ابن رجب. فهذا يدل على أنه من حين صور آدم طينًا استخرج منه محمد صلى الله عليه وسلم .........   قدر، وفي نسيم الرياض قد يقال من فسره بالعلم مراده علم أظهره الله لغيره من الملائكة والأرواح، تشريفًا له وتعظيمًا، وكونه إشارة إلى حقيقته إن أراد به روحه، رجع إلى ما قبله وإن أراد غيره، فلا يعقل عند من خلع ربقة التقليد من جيده، انتهى. "وعن الشعبي" بفتح المعجمة وسكون المهملة، فموحدة، نسبة إلى شعب بطن من همدان بسكون الميم كما في الكواكب، وصدر به في اللب, وقال ابن الأثير: بطن من حمير عامر بن شراحيل الكوفي، أبي عمرو التابعي الوسط، ولد لست مضين من خلافة عمر على المشهور، وروي عن علي والسبطين وسعد وسعيد وابني عباس وعمر وغيرهم، وقال: أدركت خمسمائة صحابي، وما كتبت سوداء في بيضاء قط، ولا حدثني أحد بحديث إلا حفظته. مر به ابن عمر وهو يحدث بالمغازي، فقال: شهدت القوم فلهو أحفظ لها وأعلم بها مني قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، وابن عيينة كان أكبر الناس في زمانه، مات بالكوفة سنة ثلاث ومائة أو أربع أو سبع أو عشر ومائة. "قال رجل" يحتمل أنه عمر: "يا رسول الله، متى استنبئت؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق" ", وعند أبي نعيم عن الصنابحي عن عمر بن الخطاب، أنه قال: يا رسول الله، متى جعلت نبيًا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد"، "رواه" أبو عبد الله محمد "بن سعد" بن منيع الهاشمي، مولاهم البصري كاتب الواقدي روى عنه كثيرًا، وعن هشيم وابن عيينة وابن علية وطبقتهم، وكتب الفقه والحديث والغريب والعربية، وصنف الطبقات الكبير والصغير والتاريخ. قال أبو حاتم وغيره: صدوق مات في جمادى الآخرة سنة ثلاثين أو خمس وثلاثين ومائتين عن اثنتين وستين سنة, "من رواية جابر" بن يزيد بن الحارث "الجعفي" بضم الجيم وسكون العين، أي عبد الله الكوفي، عن الشعبي وأبي الطفيل، وعنه شعبة والسفيانان ضعيف شيعي تركه الحفاظ ووثقه شعبة، فشذ, قال أبو داود: ليس له في كتابي حديث سوى السهو، مات سنة ثمان وعشرين ومائة. "فيما ذكره ابن رجب" الحافظ عبد الرحمن، "فهذا" أي: مرسل الشعبي على ضعفه المعتضد بحديث عمر السابق، "يدل على أنه من حين صور آدم طينًا، استخرج منه محمد صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ونبئ وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه فهو أولهم خلقًا. لا يقال: يلزم خلق آدم قبله، لأن آدم كان حينئذ مواتًا لا روح فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حيًا حين استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق، فهو أول النبيين خلقًا وآخرهم بعثًا. فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه، كما دل عليه أكثر الأحاديث، والذي تقرر هنا: أنه استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق قبل نفخ الروح في آدم عليه الصلاة والسلام. أجاب بعضهم: بأنه صلى الله عليه وسلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح, فإن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني، وهو عينه وخلاصته وواسطة   ونبئ، وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى يخرج وقت خروجه الذي قدر الله خروجه فيه، فهو أولهم خلقًا لا يقال يلزم" على ما تقدم "خلق آدم قبله" لأنه استخرج من طينته فينا في خبر كنت أول الأنبياء خلقًا, "لأن آدم" تعليل لنفي القول لا للقول المنفي، فهو نفس الجواب. "كان حينئذ"، أي: حين نبئ النبي وأخذ منه الميثاق، "مواتًا" بفتح الميم" "لا روح فيه" صفة كاشفة، ففي الصحاح: الموات بالضم الموت، وبالفتح ما لا روح فيه. "ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حيًا حين استخرج" من طينة آدم "ونبئ وأخذ منه ميثاقه، فهو أول النبيين خلقًا وآخرهم بعثًا" كما قال: "فإن قلت إن استخراج ذرية آدم منه كان بعد نفخ الروح فيه؛ كما دل عليه أكثر الأحاديث" وأقلها أنه استخراج قبل نفخ الروح. روي عن سلمان وغيره، قال في اللطائف: ويدل له ظاهر قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] ، الآية على ما فسر به مجاهد وغيره، أن المراد إخراج ذرية آدم من ظهره، قبل أمر الملائكة بالسجود له، ويحتمل أن يدل له أيضًا قول آدم بين الروح والجسد جوابًا لمتى استنبئت. "والذي تقرر هنا أنه استخرج ونبئ وأخذ منه الميثاق قبل نفخ الروح في آدم عليه الصلاة والسلام"، هذه خصوصية للمصطفى؟ أم مبني على خلاف ما دل عليه أكثر الأحاديث؟ "أجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم خص باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الروح فيه، فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو المقصود من خلق النوع الإنساني"، إذ لولاه ما خلق. "وهو عينه وخلاصته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 عقده. والأحاديث السابقة صريحة في ذلك، والله أعلم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث، وهو حي، ليؤمنن به ولينصرنه، ويأخذ العهد بذلك على قومه. وهو مروي عن ابن عباس أيضًا, كما ذكره العماد بن كثير في تفسيره.   وواسطة عقده" بكسر العين، أي: الجوهر الذي في وسط القلادة، وهو أجودها، "والأحاديث السابقة صريحة في ذلك" الذي قلنا: إنه خصوصية له، "والله أعلم". قال العلامة الشهاب القرافي: لفظ والله أعلم لا ينبغي أن توضع هي ونحوها إلا وينوي بها ذكر الله، فإن استعمال ألفاظ الأذكار لا على وجه الذكر والتعظيم، قلة أدب مع الله تعالى ينهى عنه، بل ينوي بها معناها الذي وضعت له لغة وشرعًا، انتهى. "وروي" عند ابني جرير وكثير، "عن علي بن أبي طالب" أمير المؤمنين، زوج البتول الزهراء، تربية من خص بالنظر ليلة الإسراء القائل في حقه: "من كنت مولاه فعلي مولاه". رواه الترمذي والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة. وعند مسلم وأحمد: "ولا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق"، مناقبه شهيرة كثيرة جدًا، حتى قال أحمد والنسائي وإسماعيل القاضي ولم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في حق علي رضي الله عنه، "أنه قال" في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] الآية، "لم يبعث الله نبيًا من آدم فمن بعده" إلى عيسى، إن قلنا بالمشهور من أنه ليس بينه وبين المصطفى نبي أو إلى من بعده أيضًا؛ كخالد بن سنان، "إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه" المبعوث فيهم الرواية بنصب يأخذ عن عياض؛ كما أفاده الشمني والمصنف في حواشيهما للشفاء، قائلين عطفًا على يؤمنن نون التوكيد الخفيفة ورد بأنه حينئذ يكون من جزاء الشرط فيلزم أن الأخذ من الأمة بعد بعثه المصطفى وليس المراد؛ فالعطف على جملة: لئن بعث ... إلخ، على أنها في موضع مفرد، والوجه أو التقدير وأمر أن يأخذ نحو علفتها تبنًا، "وهو مروي عن ابن عباس أيضًا" موقوف عليها لفظًا، مرفوع حكمًا؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، "كما ذكره العماد" الحافظ ذو الفضائل إسماعيل بن عمر "ابن كثير" القيسي المفتي المحدث البارع المتقن كثير الاستحضار، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، مات سنة أربع وسبعين وسبعمائة عن أربع وسبعين سنة. "في تفسيره" الذي لم يؤلف على نمطه مثله، ورواه ابن عساكر والبغوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فغشيهم من نوره ما أنطقهم الله به وقالوا: يا ربنا، من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله، إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته فقال الله تعالى: أشهد عليكم؟ قالوا: نعم. فذلك قوله تعالى: ............   بنحوه، ووقع للزركشي وابن كثير والحافظ في الفتح عزوه لصحيح البخاري. قال الشامي: ولم أظفر به فيه، انتهى. وقال البغوي: اختلف في معنى الآية، فقيل: أخذ الميثاق من النبيين أن يبلغوا كتاب الله ورسالاته وأن يصدق بعضهم بعضًا، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده وينصره إن أدركه، وأن يأمر قومه بنصره فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، وقيل: إنما أخذ الميثاق عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف على هذا فقيل: الأخذ على النبيين وأممهم كلهم، واكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد على المتبوع عهد على التابع وهو معنى قول علي وابن عباس. وقال مجاهد والربيع: أخذ الميثاق إنما هو على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيون، ألا ترى قوله: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} [آل عمران: 81] ... إلخ، وإنما كان مبعوثًا لأهل الكتاب دون النبيين, يدل عليه قراءة ابن مسعود وأبي: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] ، وأما القراءة المعروفة، فالمراد منها أن الله أخذ عهد النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم بذلك، انتهى ملخصًا. "وقيل: إن الله تعالى لما خلق نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم" أي: أكمل خلقه بإفاضة الكمالات والنبوة على نوره "أمره أن ينظر إلى أنوار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" لا خلق نفس النور فلا يرد اقتضاؤه خلق نور الأنبياء قبل نوره؛ لأن تعليق الحكم على شيء يستدعي وجوده قبله، أو المراد لما خلق نوره أخرج منه أنوار بقية الأنبياء، ثم أمرهم بذلك، ولو قبل إفاضة النبوة على ذلك النور، لكن الأول أوفق بقولهم: آمنا به وبنبوته، إذ المتبادر إفاضة النبوة عليه بالفعل. "فغشيهم من نوره ما" أي: الذي "أنطقهم الله به، وقالوا: يا ربنا من غشينا نوره؟ فقال الله تعالى: هذا نور محمد بن عبد الله إن آمنتم به جعلتكم أنبياء، قالوا: آمنا به وبنبوته، فقال الله تعالى" لهم: "أشهد عليكم" بحذف همزة الاستفهام المقدرة، "قالوا: نعم" أشهد علينا، "فذلك قوله تعالى" واذكر " {وَإِذْ} " حين " {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} " [آل عمران: 81] ، عهدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} إلى قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] . قال الشيخ تقي الدين السبكي: في هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من آدم إلى يوم القيامة، ويكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: "وبعثت إلى الناس كافة". لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا.   "لما" بفتح اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق وكسرها متعلق بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي "ءاتيتكم" إياه وقرئ: "آتَيْنَاكُمْ "من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"" [آل عمران: 81] ، من الكتاب والحكمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ، جواب القسم وأممهم تبع لهم في ذلك، إلى قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] عليكم وعلى أممكم. "قال الشيخ تقي الدين السبكي" في رسالة صغيرة له سماها التعظيم والمنة، في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] ،"في هذه الآية الشريفة من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه" كأنه ذكر على معنى نظم الآية، وإلا فقياس سابقه وفيها: "مع ذلك أنه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلا إليهم فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من آدم إلى يوم القيامة" بهذا التقدير، "ويكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته" مع بقاء الأنبياء على نبوتهم، "ويكون قوله" صلى الله عليه وسلم في أثناء حديث رواه الشيخان وغيرهما: ""وبعثت إلى الناس كافة"" قومي وغيرهم من العرب والعجم والأسود والأحمر. وفي رواية لمسلم: "إلى الخلق كافة"، وهو يتناول الجن إجماعًا والملائكة في أحد القولين، ورجحه ابن حزم والبارزي والسبكي وغيرهم، ويأتي بسطه إن شاء الله في الخصائص، "لا يختص به الناس" الكائنون "من زمنه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا" ونحوه للبارزي في توثيق عرا الإيمان، وادعى بعضهم أن ما ذكره السبكي غريب لا يوافقه عليه من يعتد به، فالجمهور على أن المراد بالكافة ناس زمنه فمن بعدهم إلى يوم القيامة، ودفعه شيخنا لما ذكرته له بأنه لا ينافي كلام الجمهور إلا إذا أريد التبليغ بالفعل. أما إذا أريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". ثم قال: فإذا عرف هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء، ولهذا ظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم. ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته. وبذلك أخذ الله عليهم الميثاق. انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى لذلك في المقصد السادس.   بالبعث اتصافه صلى الله عليه وسلم بكونهم مأمورين في الأزل بتبعيته إذا وجد؛ كما هو صريح كلامه، فلا يخالفه واحد فضلا عن الجمهور. "ويتبين بذلك" وفي نسخة بهذا، أي: المذكور من أنه نبي وأخذ الميثاق عليهم باتباعه وأن الأرواح قبل الأجساد، "معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" " فقد يكون إشارة إلى روحه أو حقيقة من الحقائق إلى آخر ما مر، ومعناه: أن حقيقته ظهرت بالنبوة قبل خلق آدم وحلول الروح في جسده. "ثم قال" بعد نحو ورقة من جملتها ما قدمه عنه قريبًا، "فإذا عرف هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء" أي: مرسل إلى الجميع مع بقائهم على نبوتهم، "ولهذا" أي: كونه نبي الأنبياء "ظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه" كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس عند أحمد: "وبيدي لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائي"، وهو معنوي. وهو انفراده بالحمد يوم القيامة وشهرته به على رءوس الخلائق؛ كما جزم به الطيبي والسيوطي أو حقيقي مسمى بذلك وعند الله علم حقيقته ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان المصطفى أحمد الخلق في الدارين أعطيه ليأوي إليه الأولون والآخرون، ولذا قال آدم فمن دونه ... إلخ؛ كما قاله التوربشتي والطبري. وأما ما رواه ابن منيع والطبري وغيرهما في صفته، فقال الطبري: موضوع بين الوضع. "وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم" إمامًا "ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح" سمي به لنوحه على ذنوب أمته، واسمه عبد الجبار؛ كما في حياة الحيوان، أو عبد الغفار؛ كما في الأنس الجليل، أو يشكر أو لكثرة بكائه على نفسه من قوله في كلب ما أوحشه فأوحى إليه: أخلق أنت أحسن منه، فكان يبكي اعتذارًا من تلك المقالة، فأوحى الله إليه: يا نوح إلى كم تنوح، فسماه بذلك الله؛ كما في تفسير القشيري. وفي ربيع الأبرار بكى نوح ثلاثمائة سنة على قوله: إن ابني من أهلي. "وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله عليهم الميثاق، انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السادس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وذكر العارف الرباني عبد الله بن أبي جمرة في كتابه "بهجة النفوس" ومن قبله ابن سبع في "شفاء الصدور" عن كعب الأحبار ..................................   وهو نقل رسالة السبكي برمتها، ومن جملتها أن الأنبياء نواب له بشرائعهم، وأنه شرعه لأولئك القوم، وقد عاب عليه وشنع صاحب نسيم الرياض، بأن النصوص العقلية والنقلية ناطقان بخلافه؛ كقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وما في معناها من الآيات، والأنبياء مع تعظيمهم له ومحبتهم غير مكلفين بأحكام شرعه، وإلا لم يكونوا أصحاب شرع، فما تبجح به السبكي واستحسنه هو ومن بعده لا وجه له عند من له أدنى بصيرة، وكيف يتأتى قوله مع قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] ، فإنه عكسه، وقد طلب موسى أن يكون من أمته فأجابه الله بقوله: استقدمت واستأخر ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال، انتهى. وتعسفه لا يخفى فإن قوله ذلك من جملة مدخول لو في قوله: لو اتفق مجيئه ... إلخ؛ كما هو صريح رسالته فسقط جميع ما قاله. ومن أقوى تعسفه قوله: غير مكلفين بأحكام شرعه، فإنه لم يدع تكليفهم به، بل إن شرائعهم على تقدير وجوده في أزمانهم شرع له فيهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار. "وذكر" الإمام "العارف الرباني" بشد الموحدة، فألف فنون ينسب هذه النسبة من يوصف بسعة العلم والديانة، قاله في التبصير "عبد الله بن أبي جمرة" المقري المالك العالم البارع الناسك، قال ابن كثير: كان قوالا بالحق، أمارًا بالمعروف، مات بمصر في ذي القعدة سنة خمس وتسعين وستمائة. وفي التبصير في تعداد من هو بجيم وراء ما لفظه والشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي جمرة المغربي نزيل مصر، كان عالمًا عابدًا خيرًا شهير الذكر، شرح منتخبًا له من البخاري، نفع الله ببركته، وهو من بيت كبير بالمغرب شهير الذكر، انتهى. "في كتابه بهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما لها وعليها، وهو اسم شرحه على ما انتخبه من البخاري، "ومن قبله" الإمام أبو الربيع "بن سبع" بإسكان الموحدة وقد تضم؛ كما في التبصير. "في شفاء الصدور" ورواه أبو سعد في شرف المصطفى وابن الجوزي في الوفاء، "عن كعب الأحبار" جمع حبر بفتح الحاء وكسرها، وإليه يضاف؛ كالأول لكثرة كتابته بالحبر، حكاه أبو عبيد والأزهري عن الفراء. وقال ابن قتيبة وغيره: كعب الأحبار العلماء واحدهم حبر، كما في مشارق القاضي وتهذيب النووي ومثلثات ابن السيد والنور وغيرهم، وأغرب صاحب القاموس في قوله كعب الحبر ولا تقل الأحبار، فإنها دعوى نفي غير مسموعة مع مزيد عدالة المثبتين، بل إضافته إلى الجمع سواء قلنا أنه المداد، أو العلماء، أي: ملجؤهم أقوى في المدح، وهو كعب بن مانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدًا، أمر جبريل أن يأتيه بالطينه التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، قال: فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع الأعلى، فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منير، فعجنت بماء التسنيم في معين أنهار الجنة، حتى صارت كالدرة البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسي، وفي .......................   بالفوقية أبو إسحاق الحميري التابعي المخضرم، أدرك المصطفى وما رآه؛ المتفق على علمه وتوثيقه، سمع عمر وجماعة، وعنه العبادلة الأربعة، وأبو هريرة وأنس ومعاوية، وهذا من رواية الأكابر عن الأصاغر وكان يهوديًا يسكن اليمن، وأسلم زمن الصديق، وقيل عمر، وشهر، وقيل: زمن المصطفى على يد علي، حكاه المصنف. وسكن الشام وتوفي فيما ذكره ابن الجوزي والحافظ سنة اثنين وثلاثين في خلافة عثمان، وقد جاوز المائة، وما وقع في الكشاف وغيره من أدرك زمن معاوية فلا عبرة به، روى له الستة إلا البخاري، فإنما له فيه حكاية لمعاوية عنه. "قال: لما أراد الله أن يخلق محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها" هو الحسن؛ كما في القاموس. "ونورها، قال: فهبط جبريل في ملائكة الفردوس وملائكة الرقيع" بالراء والقاف: السماء السابعة كما أشار إليه بقوله: "الأعلى" لأنها العليا وذكر مع أن السماء مؤنثة لانتفاء علامة التأنيث في الرقيع فكأنه قال: الجرم أو المكان الأعلى، "فقبض قبضة رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منيرة فعجنت بماء التسنيم" وهو أرفع شراب الجنة، ويقال تسنيم: عين تجري من فوقهم تسنمهم في منازلهم، أي: تنزل عليهم من عال. يقال: سنم الفحل الناقة إذا علاها، قال العزيزي بضم العين المهملة وزاءين معجمتين صاحب غريب القرآن، هكذا سار في الآفاق ومر الكلام فيه في الأسماء، قال في التبصير. وملخص الغريب المشهور، ضبطه الدارقطني وخلق بزاي مكررة، وتعقبهم ابن ناصر وخلق بأنه بزاي فراء مهملة، لكنهم لم يستندوا إلى ضبط بالحروف، وإنما عولوا على الخط وضبط القلم ولا يفيد القلم بأن آخره راء إذ الكاتب قد يذهل عن نقط الزاي فكيف يقطع بالوهم على الدارقطني مع أنه لقيه وأخذ عنه، ثم قال: وبالفتح، فذكر جماعة فلا يتوهم أحد أنه لم يتعرض لكونه مكبرًا أو مصغرًا، وإنما نشأ من عدم استيفاء الكلام. وفي القاموس: أن كونه بالراء تصحيف. "في معين أنهار الجنة حتى صارت كالدرة" بضم الدال المهملة: اللؤلؤة العظيمة، "البيضاء لها شعاع عظيم، ثم طافت بها الملائكة حول العرش" وحول "الكرسي، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 السماوات والأرض والجبال والبحار، فعرفت الملائكة وجميع الخلق سيدنا محمدًا وفضله قبل أن تعرف آدم عليه الصلاة والسلام. وقيل: لما خاطب الله تعالى السماوات والأرض بقوله: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] . أجاب موضع الكعبة الشريفة، ومن السماء ما يحاذيها. وقد قال ابن عباس: أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة. فقال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن موضع الكعبة دحيت الأرض فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في التكوين ...........................   السماوات والأرض والجبال والبحار" التي في الأرض وغيرها. "فعرفت الملائكة وجميع الخلق" عطف عام على خاص، "سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وفضله قبل أن تعرف آدم عليه الصلاة والسلام" قال بعض العلماء: وهذا لا يقال من قبل الرأي، انتهى. يعني: فهو إما عن الكتب القديمة لأنه حبرها، أو عن المصطفى بواسطة، فهو مرسل، وتضعيف بعض المتأخرين جدًا له باحتمال أنه من الكتب القديمة وقد بدلت غير مسموع، فإن التضعيف إنما هو من جهة السند لأنه المرقاة كما هو معلوم عند من له أدنى إلمام بالفن، وليس كل ما ينقل من الكتب القديمة مردودًا بمثل هذا الاحتمال. "وقيل: لما خاطب الله تعالى السماوات والأرض بقوله: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} " [فصلت: 11] ، إلى مرادي منكما " {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} " [فصلت: 11] ، بمن فينا "طائعين، أجاب" أي: كان المجيب من الأرض. "موضع الكعبة الشريفة ومن السماء ما يحاذيها" ووافقهما على الجواب البقية، فلا ينافي أتينا طائعين. وقال السهيلي: لم يجبه إلا أرض الحرم، أي: من الأرض، وهو أعم مما هنا، ووجه ذكره لهذا قوله: "وقد قال ابن عباس" عبد الله الحبر البحر ترجمان القرآن. كان الفاروق يجله ويدخله مع أشياخ بدر، "أصل طينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرة الأرض بمكة" وهذا حكمه الرفع إذ لا يقال رأيًا، "فقال بعض العلماء": هو السهروردي صاحب العوارف "هذا" الذي قاله ابن عباس مع ما قبله، "يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا درة" بضم الدال المهملة: اللؤلؤة العظيمة جمعها در ودرر ودرات؛ كما في القاموس عبر بها عن طينة "المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم" لنفاستها وقراءتها بذال معجمة تصحيف غير لائق بالمقام، فإنها النملة الصغيرة جدًا، وقد مر قريبًا قوله: "صارت كالدرة البيضاء"، ويجيء التعبير عنها بجوهرة. "ومن موضع الكعبة دحيت" مدت "الأرض، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأصل في التكوين"، أي: الإحداث. القاموس، كونه أحدثه والله الأشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 والكائنات تبع له. وقيل: لذلك سمي أميًا لأن مكة أم القرى، ودرته أم الخليفة. فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام بمكة، حيث كانت تربته منها. فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف -أفاض الله علينا من عوارفه، وتعطف علينا بعواطفه- بأنه قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي، فوقعت جوهرة النبي صلى الله عليه وسلم .............................   أوجدها، "والكائنات تبع له" حذف من كلام السهروردي ما لفظه: وإليه والإشارة بقوله: "كنت نبيًا وآدم بين الماء والطين"، وفي رواية: "بين الروح والجسد"، قال: "وقيل لذلك" الذي قاله ابن عباس "سمي أميًا؛ لأن مكة أم القرى ودرته أم الخليفة" وإنما حذف ذلك من كلامه؛ لأنه قدم إنه لم يرو اللفظ الأول، "فإن قلت: تربة الشخص مدفنه، فكان مقتضى هذا أن يكون مدفنه عليه الصلاة والسلام بمكة حيث كانت تربته منها" فلا تقل ذلك وتذهل عن جوابه. "فقد أجاب عنه صاحب عوارف المعارف" هو العلامة عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السهروردي، بضم السين المهملة وسكون الهاء وضم الراء وفتح الواو وسكون الراء الثانية فدال مهملة، نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان كما في التبصير وغيره، الفقيه الشافعي الزاهد الإمام الورع الصوفي أخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف ثم انقطع ولازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلم على الناس عند علو سنه ثم كف وأقعد، ومع ذلك ما أخل بذكر ولا حضور جمع، ولازم الحج لى أن دخل في عشر المائة ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثيرون من العصاة، وكانت محفته تحمل على أعناق الرجال من العراق إلى البيت الحرام، ورأى من الجاه عند الملوك ما لم يره أحد ولما حج آخر حجاته ورأى ازدحام الناس عليه في المطاف واقتداءهم بأقواله وأفعاله، قال في سره: يا ترى أنا عند الله كما يظن هؤلاء فيّ، فكاشفه ابن الفارض وخاطبه بقوله: لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج فصرخ وخلع ما عليه وألقاه، فخلع المشايخ والفقراء ما عليهم وألقوه وكان أربعمائة خلعة، ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وتوفي ببغداد مستهل محرم سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. "أفاض الله علينا من عوارفه" أي: الله أو السهروردي فهو من التوجيه، "وتعطف علينا بعواطفه بأنه قيل: إن الماء" الذي كان عليه العرش "لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت جوهرة" واحدة جوهر معرب؛ كما في الصحاح. أي: طينة "النبي صلى الله عليه وسلم وفي القاموس الجوهر: كل حجر يستخرج منه شيء ينتفع به، انتهى. وبه يعلم حسن تسميته الطينة الشريفة جوهرة، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 إلى ما يحاذي تربته بالمدينة، فكان صلى الله عليه وسلم مكيًا مدنيًا، حنينه إلى مكة وتربته بالمدينة. انتهى. وفي "المولد الشريف" لابن طغربك: ويرى أنه لما خلق الله تعالى آدم، ألهمه أن قال: يا رب، لم كنيتني أبا محمد، قال الله تعالى: يا آدم ارفع رأسك، فرفع رأسه فرأى نور محمد في سرادق العرش ..................   لا يخفى. "إلى ما يحاذي تربته بالمدينة" أي: وبقي منها بمكة ما أخذه جبريل حين أراد الله إبراز المصطفى، "فكان صلى الله عليه وسلم مكيًا" لأن طينته من مكة، "مدنيًا" لدفنه بالمدينة، كما أشار له بقوله: "حنينه" أي: شوقه، "إلى مكة وتربته بالمدينة، انتهى". ووقع لبعض بعد نحو هذا، فهبط جبريل في ملائكة الفردوس والرقيع الأعلى، فقبضها من محل قبره الشريف وأصلها من مكة موجها الطوفان إلى هناك، فعجنت بماء التسنيم، ويتعين أن المراد بالطوفان الماء الكثير الذي كان عليه العرش، فإنه يطلق لغة على المطر الغالب والماء الغالب يغشى كل شيء؛ كقوله تعالى في قوم موسى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133] ، إلا الكائن في زمن نوح؛ لأن أمر جبريل كان قبل وجود آدم. "وفي" كتاب "المولد الشريف" المسمى بالدر النظيم في مولد النبي الكريم "لابن طغربك" بطاء مهملة مضمومة وغين معجمة ساكنة وراء مضمومة وفتح الموحدة، وكأنه علم مركب من طغر وبك، لقب للإمام العلامة المحدث سيف الدين أبي جعفر عمر بن أيوب بن عمر الحميري التركماني الدمشقي الحنفي، لم أر له في ابن خلكان ترجمة، إنما فيه آخر من الأمراء بهذا الضبط وزيادة لام ساكنة بعد الراء. "ويرى أنه لما خلق الله تعالى آدم ألهمه" قبل أن يناديه أحد من الملائكة به، فيكون ألهمه القول والكنية معًا أو بعد علمه بأنه كني بذلك بطريق آخر على ما يشعر به ألهمه، "أن قال" إذ معناه قول "يا رب لم كنيتني أبا محمد؟ " بالتشديد والتخفيف؛ كما في القاموس, واقتصر المختار على أن الكنية بالتشديد لا غير، وأن المخفف إنما هو فيمن تكلم بشيء مريدًا غيره، "قال الله تعالى: يا آدم ارفع رأسك فرفع رأسه فرأى نور محمد"، أي: النور الذي هو صورته، فالإضافة بيانية، لما مر من جعل نوره صورة روحانية "في سرادق العرش" شبهه من حيث الدلالة على كمال العظمة بسرادق حول الخباء مثلا دلالة على عظمة صاحبه، فالمعنى، رأى نوره في العرش الذي هو كالسرادق فهو من إضافته المشبه به إلى المشبه، أو هي بيانية، أو المعنى رأى نوره حول العرش. وسمي ما حوله سرادقًا على التشبيه، فشبه المحيط به بمحيط بخباء، فسماه باسمه؛ كما قال القاضي في أحاط بهم سرادقها فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فقال: يا رب، ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبي من ذريتك اسمه في السماء أحمد، وفي الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضًا. ويشهد لهذا، ما رواه الحاكم في صحيحه أن آدم عليه الصلاة والسلام رأى اسم محمد مكتوبًا على العرش، وأن الله تعالى قال لآدم لولا محمد ما خلقتك. ولله در من قال: وكان لدى الفردوس في زمن الصبا ... .................................   من النار، قال شيخنا: والأول أقرب. "فقال: يا رب ما هذا النور؟ قال: هذا نور نبي من ذريتك اسمه" المشهور به "في السماء" بين الملائكة "أحمدو" اسمه المشهور به "في الأرض" بين أهلها "محمد" فلا ينافي أن كتابه محمد على قوائم العرش واطلاع الملائكة عليها، كما يجيء صريح في تسميته في السماء بمحمد أيضًا، "لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضًا ويشهد لهذا" المروي المنقول من المولد من أوله في الجملة، أي: يقويه، "ما رواه الحاكم في صحيحه" المستدرك عن عمر رفعه، "أن آدم عليه الصلاة والسلام رأى اسم محمد مكتوبًا على العرش، وأن الله تعالى قال لآدم: لولا محمد ما خلقتك". وروى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين والحاكم عن ابن عباس: أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن. صححه الحاكم وأقره السبكي في شفاء السقام والبلقيني في فتاويه، ومثله لا يقال رأيًا فحكمه الرفع. وقال الذهبي: في سنده عمرو بن أوس لا يدرى من هو، وعند الديلمي: عن ابن عباس رفعه: "أتاني جبريل" فقال: إن الله يقول لولاك ما خلقت الجنة وللاك ما خلقت النار"، وذكر ابن سبع والعزفي بمهملة وزاي مفتوحتين وفاء؛ عن علي: أن الله قال لنبيه: من أجلك أسطح البطحاء وأموج الموج وأرفع السماء وأجعل الثواب والعقاب، قيل وهذا ليس لغيره من نبي ولا ملك: وما عجب إكرام ألف لواحد ... لعين تفدى ألف عين وتكرم "ولله در" أي: عمل مجازًا استعمل في المدح تعظيمًا، أي: أن اللبن الذي ربي به لا ينسب لغير الله، لخروج كمال الممدوح به عن العادة، "من قال" مضمنًا هذا الخبر وتوسل آدم بالمصطفى في قبول توبته، وهو صالح بن حسين الشاعر، قال بعض ما عمل مثلها في عصره. "وكان" آدم "لدى الفردوس في زمن الصبا" أي: في أول أمره بعد ارتباط الروح بجسده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ......................... ... وأثواب شمل الأنس محكمة السدى يشاهد في عدن ضياء مشعشعا ... يزيد على الأنوار في الضوء والهدى فقال إلهي ما الضياء الذي أرى ... جنود السما تعشو إليه ترددا فقال نبي خير من وطئ الثرى ... وأفضل من في الخير راح أو اغتدى تخيرته من قبل خلقك سيدا ... وألبسته قبل النبيين سؤددا   لا المعنى اللغوي، وفي نسخ كالشامي الرضا، أي: زمن كونه في الجنة قبل هبوطه، "وأثواب شمل الأنس محكمة السدى" كناية عن قربه من الله، والسدى وزان الحصى من الثوب خلاف اللحمة، "يشاهد" آدم "في عدن" الجنة وعبر به، وفي سابقه بالفردوس إشارة لتعدد أسمائها، والجار والمجرور حال من فاعل يشاهد أو من ضياء بناء على أنه في الأصل نعت له، ونعت المنكرة إذا قدم عليها أعرب حالا، "ضياء" أي: نورًا قويًا، "مشعشعًا" أي: منتشرًا؛ كما في الشامي. "يزيد على الأنوار" المتعارفة "في الضوء والهدى" أي: زيادة النور والاهتداء، فلا ينافي أن الضوء من جملة النور؛ كما في الأنوار. "فقال" آدم "إلهي ما" هذا "الضياء" بالنسبة لبقية الأضواء، "الذي أرى، جنود السما" بالقصر للوزن، "تعشو" بعين مهملة تقصده للاستضاءة به، "إليه ترددًا" مترددين إليه مرة بعد أخرى، "فقال" الله تعالى هو "نبي" أي: ضياؤه "خير من وطئ الثرى" بمثلثة التراب الندى، فإن لم يكن نديًا فتراب لكن المراد هنا الأرض مطلقًا، وسماها ثرى من إطلاق الجزء على الكل. "وأفضل من في" طرق "الخير راح أو اغتدى" أي: أخذ فيه وحصله، أي وقت ليلا أو نهارًا لاستعمال العرب الغدو والرواح في السير مطلقًا على نقل الأزهري، أي مجازًا. "تخيرته من قبل خلقك" يا آدم، "سيدا" حال من المفعول في تخيرته، "وألبسته قبل النبيين سؤددًا" بالضم سيادة فذكره بعد سيدًا إطناب، إذا حيث ثبتت قبل آدم علم ثبوتها قبل الأنبياء، أو المراد اخترته بتقديم السيادة له قبل خلقك، ثم ألبستها له بالفعل قبل النبيين، فهو كما مر في أن إفاضة النبوة عليه بعد النقل من التقدير إلى الكتابة ثم إلى النبوة وبقي من القصيدة أبيات، وهي: وأعددته يوم القيامة شافعًا ... مطاعًا إذا ما الغير حاد وحيدا فيشفع في إنقاذ كل موحد ... ويدخله جنات عدن مخلدا وإن له أسماء سميته بها ... ولكنني أحببت منها محمدًا فقال إلهي امنن علي بتوبة ... تكون على غسل الخطيئة مسعدا بحرمة هذا الاسم والزلفة التي ... خصصت بها دون الخليفة أحمدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فإن قلت: مذهب الأشاعرة: أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض، فكيف تكون خلقة محمد علة في خلق آدم عليه السلام؟ أجيب: بأن الظاهر من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التي هي غايات ومنافع لأفعاله تعالى، لا بواعث على إقدامه، ولا علل مقتضية لفاعليته، لأن ذلك محال في حقه تعالى، لما فيه من استكمال بغيره. والنصوص شاهدة بذلك، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي: قرنت الخلق بالعبادة، أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة، فالتعليل لفظي لا حقيقي،   أقلني عثاري يا إلهي فإن لي ... عدوًا لعينًا جار في القصد واعتدى فتاب عليه ربه وحماه من ... جناية ما أخطاه لا متعمدًا ذكرها بتمامها صاحب مصباح الظلام وغيره، ثم أورد على قوله: لولاه ما خلقتك، "فإن قلت: مذهب الأشاعرة" يعني أهل السنة القائلين بما عليه إمامهم أبو الحسن الأشعري، من ذرية أبي موسى نسبة إلى أشعر، وهو نبت بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبالان، أمه ولدته والشعر على بدنه، "أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض فكيف تكون خلقة محمد" اسم مصدر، أي: وجود. وفي نسخة: خلقه محمد، أي: إيجاده. "علة في خلق آدم صلى الله عليه وسلم" إذ لولا حرف امتناع لوجود، فتدل على امتناع جوابها لوجود شرطها، وجوابها هنا، وهو ما خلقتك نفي وامتناعه ثبوت، فكأنه قال: خلقتك لأجل خلق محمد، قلت: "أجيب: بأن الظاهر من الأدلة تعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح التي هي غايات" أي: ثمرات، "ومنافع" عطف تفسير "لأفعاله تعالى" أي: تترتب عليها، فاللام بمعنى على والغاية بمعنى الترتب "لا بواعث على إقدامه" أي: أسباب حاملة على الفعل، "ولا علل مقتضية" مستلزمة "لفاعليته" بحيث يلزم من وجودها كونه فاعلا؛ "لأن ذلك محال في حقه تعالى" علة لقوله: لا بواعث ... إلخ، وعلل الاستحالة بقوله: "لما فيه من استكماله" أي: الله، أي: التكمل بمعنى صيرورته كاملا أو طلب الكمال "بغيره" وهو محال، "والنصوص شاهدة بذلك" أي: بتعليل بعض الأفعال بالحكم والمصالح يعني على سبيل الظهور، فلا يخالف قوله: بأن الظاهر، وذكره توطئة لقوله: " {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} " [الذاريات: 56] ، ولا ينافيه أن كثيرًا لا يعبدون؛ لأنها عام خص بمؤمنيهم؛ كما قيل أو لما ذكره بقوله: "أي: قرنت الخلق بالعبادة، أي: خلقتهم وفرضت عليهم العبادة" ولا يلزم من الفرض قيامهم بها، "فالتعليل لفظي لا حقيقي" وحاصله تسليم كونها لا تعلل بالمعنى السابق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 لأن الله تعالى مستغن عن المنافع، فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره، لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل. وروى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء. قال صلى الله عليه وسلم: "يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك ................   وما وقع من صورة تعليل ليس المراد به ذلك؛ "لأن الله تعالى مستغن عن المنافع"علة لقوله: لا حقيقي، "فلا يكون فعله" تعالى" لمنفعة راجعة" أي: واصلة، "إليه ولا إلى غيره؛ لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل", فلا يتوقف عليه وصول المنفعة. وفي نسخة: فلا يكون فعله لمنفعته؛ لأن الله قادر بإسقاط راجعة إليه ولا إلى غيره، والظاهر أنه ضمير منفعته عائد للعبد المفهوم من {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ} [الذاريات: 56] ، كما يدل عليه؛ لأن الله قادر ... إلخ. "وروى عبد الرزاق" بن همام بن نافع الحميري مولاهم الحافظ أبو بكر الصنعاني، أحد الأعلام روى عن معمر وابن جريج ومالك والسفيانين والأوزاعي وخلق، وعنه أحمد وإسحاق وغيرهما, مات سنة إحدى عشرة ومائتين ببغداد عن خمس وثمانين سنة، "بسنده" إيضاح وإلا فهو مدلول. روى "عن جابر بن عبد الله" بن عمرو بن حرام، بمهملة وراء، الأنصاري الخزرجي السلمي بفتحتين الصحابي ابن الصحابي غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو ابن إحدى وتسعين سنة. "قال: قلت: يا رسول الله" أفديك "ببي أنت وأمي" كلمة تستعملها العرب لتعظيم المفدى بهما، "أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء، قال" صلى الله عليه وسلم: "يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك", لم يقل نوري، وإن كان مقتضى الظاهر للتفخيم، ولا   1 حديث جابر هذا المنسوب إلى عبد الرزاق موضوع لا أصل له، وقد عزاه غير واحد إلى عبد الرزاق خطأ فهو غير موجود في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره, ومن الذين نسبوه إلى عبد الرزاق ابن العربي الحاتمي في "تلقيح الأذهان" والديار بكري في كتاب "الخميس في تاريخ أنفس نفيس" والعجلوني في "كشف الخفاء" وفي "الأوائل العجلونية". وقال السيوطي في الحاوي في الفتاوى 1/ 325: أما حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت. وقد حكم الشيخ عبد الله بن الصديق في رسالة "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر" على هذا الحديث بالوضع وقد سبقه إلى ذلك أخوه أحمد بن الصديق فليتنبه إلى ذلك، فقد ساق المؤلف هنا عدة روايات بأسانيدها كلها لا تثبت والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأول القلم ........................   يشكل بأن النور عرض لا يقوم بذاته؛ لأن هذا من خرق العوائد. "من نوره" إضافة تشريف وإشعار بأنه خلق عجيب، وأن له شأنًا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية على حد قوله تعالى: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 9] ، وهي بيانية، أي: من نور هو ذاته، لا بمعنى إنها مادة خلق نوره منها، بل بمعنى تعلق الإرادة به بلا واسطة شيء في وجوده، وهذا أولى من احتمال أن المراد من سبق مخلوق له تعالى قبل خلق نور المصطفى، وأضافه إليه لتوليه خلقه وإيجاده لما يلزم عليه من سبق مخلوق على نور المصطفى، وهو خلاف المنصوص. والمراد ومن تجويز أنه معنى عبر عنه بالنور مشابهة، أي: خلق نور المصطفى من معنى يشبه النور موجود أزلا؛ كوجود الصفات القديمة القائمة به تعالى فإنها لا أول لوجودها لما فيه من إثبات ما لم يرد والقلاقة بإيهامه تعد القدماء، وإن كان المراد التشبيه في مطلق الوجود. "فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار" وإنما خلقوا بعد وخلقت الجنة قبل النار؛ كما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس موقوفًا، وحكمه الرفع "ولا ملك" بفتح اللام، "ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي" ولم يقل: ولم يكن في ذلك الوقت شيء وإن شمل المذكورات وغيرها، لئلا يتوهم اختصاصه ببعضها، فأدار النص على سبق وجوده على جميعها، ولأن الشيء يشمل صفاته تعالى وهي موجودة قائمة بذاته، لا أول لها "فلما أراد الله أن يخلق الخلق، قسم ذلك النور أربعة أجزاء" أي: زاد فيه؛ لا أنه قسم ذلك النور الذي هو نور المصطفى، إذ الظاهر أنه حيث صوره بصورة مماثلة لصورته التي سيصير عليها لا يقسمه إليه وإلى غيره. "فخلق من الجزء الأول القلم" فهو من نور وبه صرح في غير ما حديث؛ كخبر ابن عباس: "قلمه نور" وعند أبي الشيخ عن مجاهد: أول ما خلق الله اليراع القصب، ثم خلق من ذلك اليراع القلم، فقال: اكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فإن صح فلعل تجسمه من نور على صفة اليراع، وإلا فما في المرفوع أولى بالقبول وطوله خمسمائة عام، رواه أبو الشيخ عن ابن عمر، وعنده أيضًا بسند رواه أن عرضه كذلك وسنه مشقوقة ينبع منه المداد ولا يعارضه ما في خبر مرسل أنه من لؤلؤ طوله سبعمائة عام؛ لأن الإخبار بالأقل لا ينفي الأكثر، وكونه من لؤلؤ لعله على التشبيه لشدة بياضه، إذ هو نور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش. ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثانين نور قلوبهم -وهي المعرفة بالله- ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد، لا إله إلا الله محمد رسول الله ... الحديث.   "ومن الثاني: اللوح، ومن الثالث: العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء" مقتضى ثم تأخر خلق العرش عن اللوح والقلم. وفي المشكاة: تقديمه، ثم الكرسي عليهما فلعلها بمعنى الواو، مردويه وابن خزيمة والحاكم وصححه وغيرهم، عن العباس موقوفًا. ورواه ابن المنذر وغيره من حسان بن عطية وهارون بن رياب بلفظ: "حملة العرش ثمانية"، وكذا رواه عبد بن حميد عن الربيع وهو معضل عن الثلاثة، وقد روى ابن جرير عن ابن زيد رفعه مرسلا: "يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية"، وأخرجه أبو الشيخ من طريقين عن وهب معضلا، وعند ابن جرير وغيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] ، قال: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله. "ومن الثاني الكرسي" فيه حجة للقول الصحيح أنه غير العرش، "ومن الثالث باقي الملائكة" وهم أكثر المخلوقات. وحديث عبد الرزاق هذا مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم في مسلم: "خلقت الملائكة من نور". وعند أبي الشيخ عن عكرمة، قال: "خلقت الملائكة من نور العزة" وعنده عن يزيد بن رومان أنه بلغه أن الملائكة خلقت من روح الله. "ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السماوات" السبع، "ومن الثاني الأرضين" السبع وهي سابقة على خلق السماوات؛ كما فصل في فصلت. وأما قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ، فمعناه: بسطها؛ كما قال ابن عباس وغيره، وكانت مخلوقة قبلها من غير دحو "ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول نور أبصار" بمعنى بصائر "المؤمنين" أو الأعم منها ومن الحسية ولم يعتبر أبصار الكفار؛ لأنهم لما فقدوا نفعها كانت ضرورة عليهم لا منفعة لهم. "ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد" وبينه بقوله: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" الحديث. ولم يذكر الرابع من هذا الجزء فليراجع من مصنف عبد الرزاق مع تمام الحديث، وقد رواه البيهقي ببعض مخالفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقد اختلف: هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني: الأصح أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء، فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش, والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة بن الصامت، مرفوعًا: أول ما خلق الله القلم قال له اكتب، قال: ...............   "وقد اختلف" في جواب قول السائل "هل القلم أول المخلوقات بعد النور المحمدي؟ فقال الحافظ أبو يعلى الهمداني" بفتح الحاء وسكون الميم فمهملة العلامة شيخ الإسلام الحسن بن أحمد المتقن المتفنن في عدة علوم، البارع على حفاظ عصره، الذي لا يغشى السلاطين ولا يقبل منهم شيئًا ولا مدرسة ولا رباطًا ولا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة تسع وستين وخمسمائة. "الأصح" وهو مذهب الجمهور "أن العرش" خلق "قبل القلم، لما ثبت في الصحيح" أي: صحيح مسلم، "عن عبد الله بن عمرو" بن العاصي، أنه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض" أي: شيئًا منهما فلا يرد صدقه بخلقه بين خلقهما، "بخمسين ألف سنة" كناية عن الكثرة أو حقيقة، كما مر. "وكان عرشه على الماء فهذا صريح" في "أن التقدير وقع بعد خلق العرش والتقدير" للأشياء المذكورة في قوله: "قدر الله"، "وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة" بضم العين، "ابن الصامت" بن قيس الأنصاري الخزرجي أبي الوليد المدني النقيب البدري كان طويلا جسيمًا جميلا فاضلا خيرًا، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار. وفي الاستيعاب: وجهه عمر إلى الشام قاضيًا ومعلمًا، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين وبها مات، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين ودفن ببيت المقدس، وقبره به معروف. "مرفوعًا" لفظة استعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم، "أول ما" أي: شيء "خلق الله القلم" بالرفع كما أفاده كلام الحافظ وغيره على الخبرية والأولية نسبية، أي: أول ما خلق الله بعد العرش القلم، ويجوز نصبه مفعول خلق، فالخبر قوله: "قال له: اكتب" لكن قال السيوطي في حواشي الترمذي عن ابن السيد البطليوسي: الوجه الرفع، وما أعلم أحدًا رواه بالنصب وهو خطأ؛ لأن المراد أن القلم أول مخلوق لله، كما دلت عليه الأحاديث، فإن ثبت رواية صحيحة بنصبه خرجت على لغة نصب أن الجزأين، يعني في رواية: "إن أول، كما يجيء قريبًا على وجه أنه مفعول خلق لفساده في المعنى والإعراب، انتهى. "قال": القلم بخلق الله له قوة النطق، كما خلقها في الأعضاء ومحبة أحد وبغض غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 رب، وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء رواه أحمد، والترمذي. ورويا أيضًا من رواية أبي رزين العقيلي مرفوعًا: "إن الماء خلق قبل العرش". وروى السدي ...................................   وغير ذلك، فاحتمال غيره خروج عن المتبادر بلا دليل ولا طائل، يا "رب، وما أكتب؟ قال: "اكتب مقادير كل شيء" أسقط منه عند من عزاه لهما ما كان وما هو كائن إلى الأبد، أي: ما كان قبل القلم؛ لأن أوليته نسبية كما علم، فلا يرد تصريحه بأن أول مخلوق. والمراد: "بما هو كائن" انقضاء هذا العالم وما بعده مما يمكن تناهيه دون نعيم الآخرة وجحيمها، إذ لا نهاية له فلا يدخل تحت الكتابة، وبه صرح في أبي داود بلفظ: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة. "رواه أحمد" بلفظه، "والترمذي" بلفظ: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، من مات على غير هذا فليس مني"، قال شيخنا: وفي الاستدلال به على أن التقدير وقع عند أول خلق القلم نظرًا لجواز أنه إنما قال له: اكتب مقادير الأشياء التي قد أبرزت تقديرها في الوجود الخارجي، وإن كانت مقدرة في علمه في الأزل. "ورويا أيضًا" وفي نسخ: وروى أحمد والترمذي، وصححه أيضًا "من رواية أبي رزين" بفتح الراء وكسر الزاي وسكون التحتية وبنون لقيط بفتح اللام وكسر القاف بن عامر "العقيلي" بضم العين وفتح القاف نسبة إلى عقيل بن كعب صحابي مشهور غير لقيط بن صبرة عند الأكثر؛ كما في التقريب، وعزاه في الأصابة لابن المديني وخليفة وابن أبي خيثمة وابن سعد ومسلم والبغوي والدارمي والبارودي وابن قانع وغيرهم، وبه جزم المزي في الأطراف، وقيل: هو لقيط بن صبرة بن عامر فنسب لجده، قاله ابن معين وأحمد. ومال إليه البخاري، وجزم به ابن حبان وابن السكن، وعبد الغني وابن عبد البر ضعفًا كونه غيره، وجزم به المزي في التهذيب، ورجح في الإصابة الأول بأن ابن عامر معروف بكنيته وابن صبرة لا كنية له إلا ما شذ به ابن شاهين، فكناه أبا رزين أيضًا وبأن الرواة عن أبي رزين جماعة، وابن صبرة لا يعرف له راوٍ إلا ابنه. "مرفوعًا: إن الماء خلق قبل العرش" فهذا صريح أن القلم ليس أول المخلوقات إذ الماء قبل العرش الذي هو قبل القلم، "وروى" إسماعيل بن عبد الرحمن "السدي" الكبير المفسر المشهور عن أنس وابن عباس وعنه شعبة والثوري وزائدة، ضعفه ابن معين، ووثقه أحمد، واحتج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بأسانيد متعددة: أن الله تعالى لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء. فيجمع بينه وبين ما قبله، بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور النبوي المحمدي والماء والعرش، انتهى. وقيل: الأولية في كل بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري، وكذا في باقيها. وفي أحكام ابن القطان، فيما ذكره ابن مرزوق .................   به مسلم وفي التقريب أنه صدوق يهم ويتشيع، مات سنة سبع وعشرين ومائة، روى له الجماعة إلا البخاري، وهو بضم السين وشد الدال المهملتين، قال الذهبي: تبعًا لعبد الغني في الكمال لقعوده في باب جامع الكوفة، وفي اللب كأصله لبيعه عند سدته، أي: بابه. وفي صحاح الجوهري، وسمي إسماعيل السدي لأنه كان يبيع الخمر والمقانع في سدة مسجد الكوفة، وهي ما يبقى من الطاق المسدودة، وتبعه القاموس مقتصرًا على المقانع فقعوده عند السدة كان للبيع. وأغرب الحافظ أبو الفتح اليعمري، فقال: كان يجلس بالمدينة في مكان يقال له السد، فنسب إليه. "بأسانيد متعددة أن الله لم يخلق شيئًا مما خلق" أي: من جميع المخلوقات، "قبل الماء، فيجمع بينه وبين ما قبله" من حديثي جابر وأبي رزين، "بأن أولية" خلقه "القلم بالنسبة إلى ما عدا النور المحمدي والماء والعرش، انتهى. وقيل": في الجمع أيضًا "الأولية في كل" من المذكرات "بالإضافة إلى جنسه، أي: أول ما خلق الله من الأنوار نوري" الضمير له صلى الله عليه وسلم، "وكذا" يقال "في باقيها" أي: وأول ما خلق مما يكتب القلم الذي كتب المقادير، وأول ما خلق مما يصدق عليه العرش عرش الله إذ العرش يطلق على معان، كما في القاموس وغيره. وقيد البيضاوي الأولية بأولية الأجرام لا مطلقًا، قال في قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ، الذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها. "وفي أحكام ابن القطان" الحافظ الناقد أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الملك الحميري الكناني الفاسي، سمع أبا ذر الخشني وطبقته، وكان من أبصر الناس بصناعة الحديث وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية في الرواية معروفًا بالحفظ والإتقان، صنف الوهم والإيهام على الأحكام الكبرى لعبد الحق، ومات سنة ثمان عشرة وستمائة. "فيما ذكره" أي: نقله عنه العلامة محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر "بن مرزوق" التلمساني، عرف بالخطيب ولد عام عشرة وسبعمائة ومهر وبرع وشرح العمدة والشفاء والبردة والأحكام الصغرى لعبد الحق ومختصر ابن الحاجب الفرعي ومحلات من مختصر الشيخ خليل، ومات في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بمصر، ودفن بين ابن القاسم وأشهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نورًا بين يدي ربي قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام".   "عن علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الملقب زين العابدين التابعي الوسط، قال الزهري: ما رأيت قرشيًا أفضل منه ولا أفقه. وقال ابن المسيب: ما رأيت أورع منه. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا كثير الحديث عالمًا عابدًا، ولم يكن في أهل البيت مثله، وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام يصلي أرعد من الخوف، فقيل له في ذلك: فقال: أتدرون بين يدي من أقوم ولمن أناجي، وكان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، وكثير الصدقات سيما ليلا، وإذا خرج من منزله قال: اللهم إني أتصدق أو أهب عرضي اليوم لمن يغتابني، ولد سنة ثلاث وثلاثين، وتوفي أول سنة أربع وتسعين عند الجمهور، أو سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو تسع وتسعين، وأغرب المدائني، فقال سنة مائة ودفن في قبر عمه بالبقيع ابن عساكر، ومسجده بدمشق معروف، وهو الذي يقال له مشهد علي بجامع دمشق ابن تيمية كون قبره بمصر كذب، إنما مات بالمدينة. "عن أبيه" الحسين السبط أشبه الناس بجده، كما قال أنس عند البخاري المقتول ظلمًا وعدوانًا يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء، ودفن جسده حيث قتل، وأما رأسه ففي المشهد الحسيني بالقاهرة عند بعض المصريين، ونفاه بعضهم، قال الحافظ فيما نقله السخاوي. وقال ابن تيمية: اتفق العلماء كلهم على أن المشهد الذي بقاهرة مصر المسمى مشهد الحسين باطل ليس فيه رأسه ولا شيء منه، وإنما حدث بمصر في دولة بني عبيد القداح ملوك مصر المدعين أنهم من ولد فاطمة، والعلماء يقولون: لا نسب لهم بها في أثناء المائة الخامسة بناه طلائع بن رزيك الرافضي، ونقل من عسقلان زعمًا أنه كان في مشهد بها وهو باطل، فإن بني أمية مع ما أظهروه من القتل والعداوة لا يتصور أن يبنوا على الرأس مشهدًا للزيارة، وحجة العلماء ما ذكره عالم النسب الزبير بن بكار أن الرأس حمل إلى المدينة ودفن بها، قال ابن دحية: لم يصح سواه، انتهى ملخصًا. "عن جده" علي كرم الله وجهه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نورًا بين يدي ربي" " أي؛ في غاية القرب المعنوي منه، فاستعار لهذا اليدين؛ لأن من قرب من إنسان وقابله يكون بين يديه، "قبل خلق آدم بأربعة عشر ألف عام" لا ينافي ما مر أن نوره مخلوق قبل الأشياء، وأن الله قدر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ لأن نوره خلق قبل الأشياء وجعل يدور بالقدرة حيث شاء الله، ثم كتب في اللوح، ثم جسم صورته على شكل أخص من ذلك النور؛ ولأن التعبير بين اليدين إشارة لزيادة القرب، فالمقدر بهذه المدة مرتبة أظهرت له لم تكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وفي الخبر: لما خلق الله تعالى آدم جعل ذلك النور في ظهره فكان يلمع في جبينه، فيغلب على سائر نوره، ثم رفعه الله تعالى على سرير مملكته وحمله على أكناف ملائكته وأمرهم فطافوا به في السماوات ليرى عجائب ملكوته. قال جعفر بن محمد: مكث الروح في رأس أدم مائة عام، وفي ...............   قبل، وروى محمد بن عمر العدني شيخ مسلم في مسنده عن ابن عباس أن قريشًا، أي: المسعدة بالإسلام كانت نورًا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألفي عام، يسبح ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، قال ابن القطان: يجتمع من هذا مع ما في حديث علي، يعني المذكور في المصنف أن النور النبوي جسم قبل خلقه باثني عشر ألف عام، وزيد فيه سائر قريش وأنطق بالتسبيح. "وفي الخبر: لما خلق الله تعالى آدم جعل" أودع "ذلك النور" نور المصطفى "في ظهره فكان" لشدته "يلمع في جبينه فيغلب على سائر" باقي "نوره" أي: نور آدم الذي في بدنه أو يغلب على بقية النور الذي خلقه في غير آدم؛ كأنوار الأنبياء. "ثم "رفعه" أي آدم "الله تعالى على سرير مملكته" روى الحكيم الترمذي: لما أكمل الله خلق آدم رفعه على أكناف جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل على سرير من ذهب أو ياقوت أحمر له تسعمائة قائمة، فقال: طوفوا به في سمواتي ليرى عجائبها، ثم أمرهم أن يحولوا وجوههم إلى العرش ليسجدوا قبالته ففعلوا، ولذلك يحمل جنازة أولاده أربعة، انتهى. وكان هذا السرير مسمى فيما بينهم سرير المملكة، فقول الشارح أنه من باب التمثيل، أي: رفعه إلى مكان عال وعظمه فجعل حالته تلك كحالة من مكن على سرير وطيف به في جهات غير ظاهرة، فالأصل الحقيقة. "وحمله على أكناف ملائكته" بالنون، أي: أجنحتهم. وفي القاموس: الكنف من الطائر جناحه، ويحتمل أنه بالفوقية جمع كتف؛ لأن لهم قوة التشكل. "وأمرهم" أي: أمر الله ملائكته، "فطافوا به في السماوات ليرى" آدم "عجائب ملكوته" أي: ملكه العظيم، وتاؤه للمبالغة وسئل كعب: كم طاف الملائكة بآدم في السماوات مكرمًا؟ قال: ثلاث مرات، أولها على سرير الكرم، والثاني: على أكناف الملائكة، والثالث: على الفرس الميمون وهو مخلوق من المسك الأذفر وله جناحان من الدر والمرجان، وجبريل آخذ بلجامها وميكائيل عن يمينه، وإسرافيل عن يساره، فطافوا به في السماوات كلها، وهو يسلم على الملائكة عن يمينه وشماله، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيردون عليه كذلك، فقيل: هذه تحيتك وتحية ذريتك إلى يوم القيامة. "قال جعفر بن محمد: مكثت الروح في رأس آدم مائة عام" من أعوام الدنيا، "وفي صدره مائة عام، وفي ساقيه وقدميه مائة عام" لعل المراد بالرأس ما فوق الصدر وبه ما فوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 صدره مائة عام وفي ساقيه وقدميه مائة عام، ثم علمه الله تعالى أسماء جميع المخلوقات، ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، فطرده الله تعالى وأبعده وخزاه.   الساقين، أو المراد بالساقين ما تحت الصدر فيدخل البطن وما يتصل به في الصدر على الأول، وفي الساقين على الثاني. قال شيخنا: ولعل المراد بذا العد التكثير فلا ينافي أن المدة من ابتداء خلقه إلى نزوله إلى الدنيا ثلاث وثمانون سنة، انتهى. قلت: هذا قول ابن جرير ونقص منه وأربعة أشهر، وقال غيره: إن المدة فوق ذلك بكثير، وقد تكلف الشيخ فيما يجيء للتوفيق بينه وبين ما هنا عن جعفر بأنه مبني على أن مدة كونه طينًا كانت قبل دخول الجنة، أو أنه إنما أخرج منها بعد اليوم الذي ابتدأ خلقه فيه، وأن خلقه لم يتم إلا بعد مدة طويلة، وفيه أنه قد لا يقول جعفر يقول ابن جرير ولا يرضاه، فقد قال ابن عباس، مكث في الجنة خمسمائة عام، وقيل: مكثت الملائكة في سجودهم كذلك، وقيل أكثر، فهي أقوال متباينة؛ فاللائق الترجيح لا تعسف الجمع بتجويز عقلي. "ثم علمه الله تعالى" بإلهام أو بخلق علم ضروري فيه أو إلقاء في خاطره، أو على لسان ملك، قال القرطبي: وهو جبريل، "أسماء جميع المخلوقات" كلها روى وكيع في تفسيره عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، قال: علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة والفسوة والفسية، "ثم أمر" الله "الملائكة بالسجود له" أي: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص أو ملائكة الأرض أو إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإن تعالى أسكنهم الأرض أولا فأفسدوا فيها فبعث لهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم في الجزائر والجبال، وظاهر إتيان المصنف بثم اختيار القول بتراخي الأمر بالسجود عن التعليم وإنبائهم بالأسماء وإظهار فضله عليهم وإيجاب خدمتهم له بسبب العلم، وظاهر نظم البقرة يدل عليه، وقيل: سجدوا لما نفخ فيه الروح لقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] ، والفاء للتعقيب، والأظهر كما قال ابن عقيل وصاحب الخميس الأول: والفاء تكون للتعقيب مع التراخي؛ كقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] ، وذلك بعد مدة. والقول بأنهم سجدوا مرتين للآيتين رده النقاش بأنه لم يقل به أحد وإنما سجدوا مرة واحدة. "فسجدوا إلا إبليس" أبي "فطرده الله تعالى" عن رحمته، "وأبعده" عن جنته "وخزاه" في الدارين بعدما كان من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن عند ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، وعزاه القرطبي للجمهور، وصححه النووي بأنه لم ينقل أن غيرهم أمر بالسجود، والأصل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية، لا سجود عبادة، كسجود أخوة يوسف له، فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى، وآدم كالقبلة. وروي عن جعفر الصادق ..........................   الاستثناء من الجنس ولكن ذهب الأكثرون؛ كما قال عياض: إلى أنه لم يكن منهم طرفة عين وهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس وإنما كان من الجن الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعضهم صغيرًا، وذهب به إلى السماء؛ فالاستثناء منقطع عياض والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب، قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] ، ورجحه السيوطي بأنه الذي دلت عليه الآثار. وقول النووي: لم ينقل أمر غيرهم مردود بحكاية ابن عقيل في تفسيره والخميس قولا بأن الملائكة وجميع العالم حينئذ أمروا وخصوا بالخطاب دون غيرهم لكونهم الأشرف حينئذ، وكان من عداهم تبعًا واختلف في كيفية السجود لآدم، فقال الجمهور: هو أمر للملائكة بوضع الجباه على الأرض؛ كسجود الصلاة، لأنه الظاهر من السجود شرعًا وعرفًا ويدل له آية فقعوا له ساجدين، وعن أبي وابن عباس هو الانحناء لا الخرور على الأرض، أي: كما يفعل في لقاء العظماء. وقال قوم: إنما هو اللغوي من التذلل والانقياد، فإن الله سخرهم لآدم وذريته في إنزال المطر وحفظ آثارهم وكتب أعمالهم والعروج بها إلى السماء. "وكان السجود لآدم سجود تعظيم وتحية" وإظهار الفضلة وطاعة لله "لا سجود عبادة" لأنه لا عبادة إلا لله تعالى، "كسجود أخوة يوسف له" فإنه ما كان سجود عبادة، "فالمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى" تفريع على المنفي "وآدم؛ كالقبلة" وهذا ظاهر في أن المراد الشرعي، ففيه إشارة لمذهب الجمهور، وقال قتادة: كان خدمة لله وحرمة لآدم كصلاة الجنازة عبادة لله ودعاء للميت، وقال الحسن: والأصح أنه كان تحية لآدم على الخصوص، ولو كان عبادة لله وآدم قبله لما تكبر إبليس، انتهى. وفيه نظر، فقد حكى القرطبي الاتفاق على أنه لم يكن سجود عبادة واللازم ممنوع؛ لأن تكبره من حيث أنه لم يكن هو قبله لظنه فضله عليه وعلى غيره، قال الشعبي: ومعنى {اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] ، إلى آدم، كما يقال: صلى للقبلة ورد بأنه يقال: صلى إلى القبلة لا لها ودفع بقوله في علي. أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن "وروي عن جعفر الصادق" لقب به لصدقه في مقاله ابن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، كان من سادات أهل البيت ولد سنة ثمانين أو ثلاث وثمانين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أنه قال: كان أول من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون. وعن أبي الحسن النقاش: أول من سجد إسرافيل، قال: ولذا جوزي بتولية اللوح المحفوظ.   وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة، قال ابن خلكان وابن قتيبة في أدب الكاتب: وكتاب الجفر جلد كتبه جعفر الصادق كتب فيه لآل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة، قال الدميري ونسبه الجفر إلى علي وهم، والصواب لجعفر الصادق. "أنه قال: كان أول" بالنصب خبر، "من سجد لآدم جبريل ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم عزرائيل" ملك الموت القباض لجميع أرواح الجن والإنس والبهائم والمخلوقات، خلافًا لقول المبتدعة إنما يقبض أرواح الجن والإنس صرح به الجزولي في شرح الرسالة، وكأنهم تمسكوا بما أخرجه أبو الشيخ والعقيلي في الضعفاء، والديلمي عن أنس مرفوعًا: "آجال البهائم وخشاش الأرض والقمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب كلها والبقر وغير ذلك في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها وليس إلى ملك الموت منها شيء"، وهو حديث ضعيف جدًا، بل قال العقيلي: لا أصل له، وابن الجوزي موضوع ولا حجة فيه إذ لا حجة بضعيف، ولا سيما مع معارضته لعموم القاطع وهو الله يتوفى الأنفس حين موتها، ولذا لم يلتفت الإمام مالك إلى هذا الحديث بل احتج بالآية لما سأله رجل عن البراغيت: أملك الموت يقبض روحها؟ فأطرق طويلا، ثم قال: ألها نفس؟ قال: نعم، قال: فإن ملك الموت يقبض أرواحها، الله يتوفى الأنفس حين موتها، أخرجه الخطيب وأيد بما أخرجه الطبراني وابن منده وأبو نعيم أن عزرائيل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت حتى يأذن الله بقبضها. "ثم الملائكة المقربون" أي: ثم بقة الملائكة ونحوه قول وهب بن منبه أول من سجد لآدم جبريل، فأكرمه الله بإنزال الوحي على النبيين خصوصًا على سيد المرسلين، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم عزرائيل، ثم سائر الملائكة. "و" روي "عن أبي الحسن النقاش أن أول من سجد إسرافيل" وهذا رواه ابن أبي حاتم عن ضمرة والسلفي عن عمر بن عبد العزيز، "قال: ولذا" أي: لكونه أول من سجد "جوزي" أي: جازاه الله، "بتولية اللوح المحفوظ" بأن جعل مطلعًا عليه ومتصرفًا فيه بنقل ما فيه مثلا إلى الملائكة، وقيل: رفع رأسه وقد ظهر القرآن كله مكتوبًا على جبهته كرامة له على سبقه فهذا يعارض ما روي عن جعفر، وجمع شيخنا بأن أول من سجد بالفعل إسرافيل، وأول من سجد بامتثال الأمر جبريل، قال: ولعل الحكمة في عدم سجودهم دفعة واحدة أن الساجد أولا فهم بالإشارة أنه المخاطب به أولا، وفي الجمع وقفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وعن ابن عباس: كان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر. ثم خلق الله تعالى له حواء زوجته من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو نائم، وسميت حواء لأنها خلقت من حي، فلما استيقظ ورآها سكن إليها ....................   "وعن ابن عباس: كان" زمن "السجود" لآدم "يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر" لو فرض من أيام الدنيا فلا يشكل بخبر أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة المقدر بألف سنة، "ثم خلق الله تعالى له حواء" بفتح الحاء وشد الواو والمد "زوجته" كذا في نسخ بالهاء على لغة قليلة حكاها الفراء، وشاهدها قول عمار بن ياسر عند البخاري: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة -يعني عائشة- وقول الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها أي: يطلب بولها، وقيل: يأخذ أولادها، والكثير وهو لغة القرآن زوج بلا هاء، حتى قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة. "من ضلع" بكسر المعجمة وفتح اللام وتسكن مذكر، وقيل: مؤنث، وقيل: يذكر ويؤنث. "من أضلاعه اليسرى" قال في الفتح: أي: أخرجت منه كما تخرج النخلة من النواة، وجعل مكانه لحم، وقال القرطبي: يحتمل أن معناه أنها خلقت من ضلع فهو كالضلع، أي: عوجاء، "وهو نائم" لم يشعر بذلك ولا تألم، والألم يعطف رجل على امرأته، قال القرطبي وغيره. "وسميت حواء؛ لأنها خلقت من حي" وفي القرطبي: أول من سماها آدم لما انتبه قيل: من هذه؟ قال: امرأة، قيل: وما اسمها؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. وروي: أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه. وفي الفتح: قيل سميت حواء بالمد لأنها أم كل شيء. "فلما استيقظ ورآها سكن" اطمأن ومال "إليها"، بإلهام الله تعالى، واختلف في أنها خلقت في الجنة، فقال ابن إسحاق خلقت قبل دخول آدم الجنة لقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، روي عن ابن عباس وقطع به السيوطي في التوشيح: وقيل: بل خلقت في الجنة بعد دخول آدم؛ لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشًا، فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها، قال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي وأسكن إليك، قاله ابن عباس وابن مسعود وغيرهم من الصحابة، واقتصر عليه القرطبي والخازن. قال ابن عقيل: ونسب لأكثر المفسرين، وعلى هذا قيل: قال الله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، بعد خلقها وهما في الجنة، وقيل: قبل خلقها وتوجه الخطاب للمعدوم لوجوده في علم الله، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ومد يده إليها فقالت الملائكة مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها الله لي؟ فقالوا: حتى تؤدي مهرها، قال: وما مهرها؟ تصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. وذكر ابن الجوزي في كتابه "سلوة الأحزان": أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر، فقال: يا رب، وماذا أعطيها، فقال: يا آدم صل على حبيبي محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل.   "ومد يده إليها" يريد جماعها أو التلذذ بلا جماع، "فقالت الملائكة: مه يا آدم، قال: ولم وقد خلقها الله لي؟ " وكأنه علم ذلك بإلهام أو علم ضروري أو من إخبارها بأنها خلقت له، "فقالوا: حتى تؤدي مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: تصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات". والظاهر: أن علمهم بذلك بالوحي، "وذكر ابن الجوزي" العلامة أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الحافظ البكري الصديقي البغدادي الحنبلي الواعظ صاحب التصانيف السائرة في الفنون، قال في تاريخ الحافظ: ما علمت أحدًا صنف ما صنف، وحصل له من الحظوة في الوعظ ما لم يحصل لأحد قط، قيل: حضرة في بعض المجالس مائة ألف وحضرة ملوك ووزراء وخلفاء، وقال على المنبر كتبت بإصبعي ألف مجلد وتاب على يدي مائة ألف وأسلم على يدي عشرون ألفًا، مات يوم الجمعة ثالث رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وقيل له الجوزي لجوزة كانت في دراهم لم يكن بواسط سواها، انتهى. وكأن من قال إلى الجوز ببيع أو غيره لم يحرره "في كتابه سلوة الأحزان أنه لما رام القرب منها طلبت منه المهر" لسماعها قول الملائكة أو ألهمت أو بعلم ضروري، "فقال: يا رب، وماذا أعطيها؟ قال" الله وحيًا أو شفاها، والظاهر الأول: "يا آدم صل على حبيبي محمد بن عبد الله عشرين مرة" وكأنه رام زيادة البيان من الله تعالى فسأله يعطيها ماذا، فلا ينافي إخبار الملائكة بما يعطيها أو فهم أنهم قالوه اجتهادا فطلب أمر الله والإخبار بالقليل لا ينفي الكثير، أو قول الملائكة بأمر منهم مقدمة لحصول الألفة، وقوله تعلى كان حين إرادة القرب، كما هو ظاهر قوله لما رام فجملة المهر الثلاثة والعشرون لكن الأخير على أن مد يده كان للتلذذ لا الجماع، وصح كون الصلاة مهرًا؛ لأنه لما قالها بقصده كان ثوابها لحواء لكونها في مقابلة آدم ما أمر به من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: قالت الملائكة: مه يا آدم، حتى تنكحها، فزوجه الله إياها وخطب، فقال: الحمد لله والعظمة إزاري والكبرياء ردائي والخلق كلهم عبيدي وإمائي، اشهدوا يا ملائكتي وحملة عشري وسكان سماواتي أني زوجت حواء أمتي عبدي آدم بديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ثم إن الله تعالى أباح لهما نعيم الجنة، ونهاهما عن شجرة الحنطة، وقيل: شجرة العنب، وقيل: التين، فحسدهما إبليس، فهو أول من حسد وتكبر ......................   قطرتي وصنيع يدي على صداق تقديسي وتسبيحي وتهليلي، يا آدم {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، الآية، كذا في الخميس، والعلم عند الله. "ثم إن الله تعالى أباح لهما نعيم الجنة" فقال: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، قال القرطبي: وفيه تنبيه على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكًا بل مدة ثم تنقطع فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول ثواب، انتهى. وقال ابن عطية في الحظر بقوله: {لَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] ، دليل على أن سكناهما بها لا تدوم، فالمخلد لا يخطر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى. "ونهاهما عن شجرة الحنطة" في قول ابن عباس والحسن وعطية وقتادة والقرظي ومحارب ومقاتل، قال وهب: وهي التي جعلها الله رزق أولاده في الدنيا وكانت كل حبة ككلى البقر أحلى من العسل، وألين من الزبد. "وقيل" عن "شجرة العنب" وهو قول ابن مسعود وابن جبير والسدي وجعدة بن هبيرة، قالوا: ولذلك حرمت الخمر على بنيه ونسبه مكي لأكثر المفسرين. "وقيل: التين" عند قتادة وابن جريج وحكاه عن بعض الصحابة. قال السهيلي: ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها لندم آدم على أكلها، وعن علي: هي الكافور والدينوري شجرة العلم وهي علم الخير والشر من أكلها علم الأشياء، وابن إسحاق: شجرة الحنظل، وأبي مالك، هي النخلة، وقيل: شجرة من أكل منها أحدث، وقيل غير ذلك مما يطول جلبه. وقد قال ابن عطية: ليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله نهى آدم عن شجرة فخالف وأكل منها، وقال أبو نصر القشيري: كان والدي يقول نعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة، وقال ابن جرير: الأولى أن لا تبين، فإن العلم بها علم لا ينفع وجهل لا يضر. قال السيوطي: وقد يقال إن فيها نفعًا ما إذا قلنا إنها الكرم، فإن فيها إشارة إلى أن الخمر أم الخبائث أولا، فتجتنب لئلا يكون مانعًا من العود إليها في الآخرة، انتهى. "فحسدهما إبليس" وزن إفعيل مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله فلم ينصرف؛ لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قاله أبو عبيدة وغيره, وقال الزجاج وغيره: هو أعجمي لا اشتقاق له، فلم يصرف للعجمة والتعريف. قال النووي: وهو الصحيح. وحكى الثعلبي عن ابن عباس، قال: كان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث، وفي الدميري: قال أكثر أهل اللغة والتفسير: إنما سمي إبليس؛ لأنه أبلس من رحمة الله. "فهو أول من حسد وتكبر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فأتى إلى باب الجنة فاحتال حتى دخل الجنة، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف وناح نياحة أحزنتهما، فهو أول من ناح، فقالا: ما يبكيك؟ قال: عليكما، تموتان وتفقدان النعيم، ألا أدلكما على شجرة الخلد، فكلا منها، وحلف لهما أنه ناصح .........   قال القرطبي: وسبب تكبره أنه كان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفًا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكبر فعصى فمسخه الله شيطانًا رجيمًا، فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت في معصية فارجه، وقيل: إنه عبد الله ثمانين ألف سنة وأعطي الرئاسة والخزانة على الجنة استدراجًا كما أعطي المنافقون الشهادة على طرف لسانهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، وكان في رئاسته والكبر متمكن في نفسه. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه فضيلة على الملائكة، فلذا قال: أنا خير منه. "فأتى إلى باب الجنة" فجلس في صورة شيخ يعبد ثلاثمائة سنة من الدنيا انتظارًا لأن يخرج منها أحد يأتيه بخبر آدم، فخرج الطاوس، فقال له: من أين؟ قال: من حديقة آدم وبستانه، قال: ما الخبر عنه؟ قال: هو في أحسن الحال وأطيب العيش هنأت له الجنان ونحن من خدامه، فقال: هل تستطيع أن تدخلني عليه؟ قال: من أنت؟ قال: من الكروبيين عندي له نصيحة، قال: اذهب إلى رضوان فإنه لا يمنع أحد من النصيحة، قال: أريد أن أخفيها عنهم، قال: المخفية لا تكون نصيحة، قال: نحن معاشر الكروبيين لا نقول الأسرار إن فعلت ما أقول أعلمك دعاء لن تشيب بعده أبدًا، فقال: ما أقدر ولكن أدلك على الحية، فخرجت إليه فقالت: كيف أدخلك ورضوان لا يمكنني، فقال: أنا أتحول ريحًا فاجعليني بين أنيابك، ففعلت وأطبقت فاها، فقال: اذهبي إلى شجرة البر فذهبت، هكذا في العرائس وغيرها وإياه عنى بقوله: "فاحتال حتى دخل" باب "الجنة، وأتى إلى آدم وحواء، فوقف" عند شجرة البر وغنى بمزمار وهو في فم الحية، فجاء آدم وحواء يسمعان المزمار ظنًا أن الحية هي التي تغني، فقال لهما إبليس: تقدما فقالا: نهينا عن قرب هذه الشجرة، فبكى "وناح نياحة أحزنتهما" بها "فهو أول من ناح، فقالا" أي آدم وحواء، وفي رواية: فقال له آدم "ما يبكيك؟ قال: "أبكي "عليكما" لأنكما "تموتان وتفقدان" بكسر القاف هذا "النعيم" فقالا له: وما الموت؟ فقال: تذهب الروح والقوة وتعدم حركة الأعضاء ولا يبقى للعين رؤية ولا للأذن سماع، فوقع ذلك في أنفسهما واغتما، فقال لعنه الله: "ألا أدلكما على شجرة الخلد" وملك لا يبلى، "فكلا منها" فقالا: نهينا عنها، فقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} [الأعراف: 20] ، الآية، "وحلف لهما أنه ناصح" أي: أقسم لهما على ذلك والمفاعلة في الآية للمبالغة، وقيل: أقسما عليه بالله أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فهو أول من حلف كاذبًا، وأول من غش. فأكلت حواء منها، ثم زينت لآدم حتى أكل، وظنا أن أحدًا لا يتجاسر أن يحلف بالله كاذبًا، فقال الله تعالى: يا آدم، ألم يكن فيما أبحت لك من الجنة مندوحة   ناصح، فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة، "فهو أول من حلف كاذبًا وأول من غش" ولما قاسمهما الله، قال: أيكما بادر إلى الأكل فله الغلبة على صاحبه، "فأكلت حواء منها" حبة واحدة "ثم زينت لآدم حتى أكل" فأتت له بثلاث حبات، وقالت: أنا أكلت منها واحدة فكانت طيبة الطعم، وما أصابني منها مضرة، فمكث آدم مائة سنة بعد أكلها لم يأكل، ثم ناول وأخذ منها الحبات وجعل منها حبة في فيه، فقبل أن يصل طعمها إلى حلقة وجرمها إلى جوفه طار من رأسه تاجه المكلل بالدر والياقوت والجوهر ينادي: يا آدم طالت حسرتك وتزحزح السرير من تحتهما، وقال: أستحيي من الله أن أكون سريرًا لمن عصاه، وتساقط ما عليهما من سوار ودملج وخلخال ومنطقة مرصعة ونزع عنهما لباسهما، وكان على آدم سبعمائة حلة وكان من أمرهما ما كان. "و" إنما أكلا منها لأنهما "ظنا أن أحدًا لا يتجاسر" لا يجترئ على "أنه يحلف بالله كاذبًا" لعظمته سبحانه وتعالى في قلوبهما، بل لم يكن الكذب مطلقًا معروفًا، وظاهر سياق المصنف: أن اللعين شافههما بالإغواء، قال القرطبي: وهو قول ابن مسعود وابن عباس والجمهور، لقوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] ، والمقاسمة ظاهرها المشافهة، وقيل: بل وسوس لهما وأغواهما بشيطانه وسلطانه الذي أعطاه الله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، انتهى. واختلف في صفة توصله إلى إزلالهما بعدما قيل له: {اخرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] ، فقيل: منع دخول التكرمة لا الوسوسة ابتلاء، وروي أنه قصد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية، وقيل: لم يدخلها بعد إخراجه منها، قال الحسن: رآهما ببابها وكان يخرجان، وقيل: كانا يدنوا من السماء فيكلمهما، وقيل: قام عند الباب فناداهما، وقيل: نادى من الأرض فسمعاه من الجنة، حكاه في التعليق الوجيز، وقال قبله: الصحيح أنه لم يدخلها بل وقف بالباب وردته الخزنة عن الدخول، لكن قال السيوطي الوارد عن ابن مسعود وابن عباس وأبي العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس أنه دخل في فم الحية وقاولهما بذلك، كما أسنده عنهم ابن جرير ولم يسند شيئًا من الأقوال المذكورة عن أحد، انتهى. وفيه: أن كونه لم يسندها لا ينفي ورودها، والله أعلم. "قال الله تعالى": ابتلاء وعتابًا، "يا آدم ألم يكن فيما أبحت لك من الجنة مندوحة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 عن هذه الشجرة؟! قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدًا لا يحلف بك كاذبًا، قال الله: وعزتي وجلالي، لأهبطنك إلى الأرض، لا تنال العيش إلا كدا، فأهبط من الجنة.   بفتح الميم سعة وفسحة، "عن هذه الشجرة، قال: بلى يا رب وعزتك، ولكن ظننت أن أحدًا لا يحلف بك كاذبًا" فهذا الذي حملني على الأكل منها، "قال الله: وعزتي وجلالي لأهبطنك إلى الأرض لا تنال العيش" الكسب "إلا كدًا" بفتح الكاف ودال مهملة مشددة، أي: تعبا فتضرع آدم واعتذر، فقال: لا يجاورني من عصاني اخرج، فسأله بحق محمد أن يغفر له، فقال: قد غفرت لك بحقه ولكن لا يجاورني من عصاني، فبكى وودع كل من في الجنة حتى بكت عليه أشجارها إلا العود، فقيل له: لم تبك؟ قال: أبكي على عاص، فنودي: كما عظمت أمرنا عظمناك، ولكن هيأناك للإحراق، فقال: ما هذا؟ فنودي: أنت عظمتنا فكذلك يعظمونك لكن لم يحترق قلبك على محبينا فلذلك يحرقونك، فلما انتهى لباب الجنة ووضع إحدى رجليه خارج الباب، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال له جبريل: تكلمت بكلمة عظيمة، فقف ساعة فربما يظهر من الغيب لطف، فنودي: أن دعه يخرج، فقال: إلهي دعاك رحيمًا فارحمه، فقال: إن أرحمه لا ينقص من رحمتي شيء وإن يذهب لا يعاب عليه شيء، فخل عنه يذهب ثم يرجع في مائة ألوف من أولاده عصاة حتى يشاهد فضلنا على أولاده ويعلم سعة رحمتنا، هذا ملخص ما ساقه أصحاب القصص. "فأهبط من الجنة" بسرنديب بسين وراء مهملتين فنون فدال مهملة فتحتية فموحدة من الهند بجبل نوذ بفتح النون وذال معجمة، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هنالك طيبًا وأهبطت حواء بجدة، وقيل: بعرفة، وقيل: بالمزدلفة، وإبليس بالأبلة بضم الهمزة والموحدة وشد اللام، بلد بقرب البصرة، وقيل: أهبط بجدة والحية ببيسان، وقيل: بسجستان، وقيل: بأصفهان، وقيل غير ذلك. واختلف في قدر مكثه في الجنة. فعن ابن عباس مكث فيها نصف يوم من الآخرة وهو خمسمائة عام، وهذا قول الكلبي. وقال الضحاك: دخلها ضحوة وخرج بين الصلاتين، وقال الحسن البصري: لبث فيها ساعة من نهار وهي مائة وثلاثون سنة من سني الدنيا. وعن وهب وابن جرير: مكث ثلاثة وأربعين عامًا من أعوام الدنيا، وقيل: بعض يوم من أيامها. وروى أحمد ومسلم والنسائي في حديث أبي هريرة مرفوعًا، "وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة" قال ابن كثير: فإن كان يوم خلقه يوم إخراجه وقلنا الأيام الستة كهذه الأيام، فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا وفيه نظر، وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه، وقلنا: بأن كل يوم بألف سنة؛ كما قال ابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وعن ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم، ما حملك على ما صنعت؟ قال: زينته لي حواء، قال: فإني أعقبها أن لا تحمل إلا كرهًا، ولا تضع إلا كرهًا، ولأدمينها في الشهر مرتين. وقال وهب بن منبه: ........................   ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير، فقد لبث هناك مدة طويلة، انتهى. وهذا الحديث تكلم فيه البخاري وشيخه ابن المديني وغيرهما من الحفاظ وجعلوه من قول كعب، وإنما سمعه أبو هريرة منه فاشتبه على بعض رواته فرفعه. "وعن ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم ما حملك على ما صنعت، قال: زينته لي حواء" وقد ورد النساء حبائل الشيطان، "قال فإني أعقبها" بضم الهمزة وسكون المهملة وكسر القاف أجازيها "أن لا تحمل إلا كرهًا ولا تضع إلا كرهًا" أي: بمشقة "ولأدمينها في الشهر مرتين" قال الشارح: لعل المراد أن يدميها بحصول ذلك لها في مرة أو بإمكانه لها واستحقاقها إياه وأن تخلف؛ كما في العفو عن المعاصي المستحقة للعقوبة، انتهى. ولا يتم إلا أن ثبت أنه لم يداومها كل شهر مرتين وأنى به، وقيل: إنما عوقبت به لكونها أدمت الشجرة وقيل: بكسرها قوائم الحية ويحتمل أنه لذلك كله. وقد روى الحاكم وابن المنذر بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن ابتداء الحيض كان على حواء بعد أن أهبطت من الجنة، وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن مسعود قال: كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يصلون جميعًا، فكانت المرأة تتشوف للرجل فألقى الله عليهن الحيض ومنعهن المساجد، وعنده عن عائشة نحوه، وظاهره: أن أول إرساله على نساء بني إسرائيل، قال البخاري: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم"، أكثر بمثلثة أشمل وبموحدة أعظم. وجمع الحافظ بأن المرسل على بنات إسرائيل طول مكثه بهن عقوبة لهن لا ابتداء بوجوده. وقد روى الطبراني وغيره عن ابن عباس وغيره: أن قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود: 71] ، أي حاضت، والقصة متقدمة على بني إسرائيل بلا ريب، انتهى. وثم أجوبة أخر لا يقال إن على بنات آدم مخرج لحواء؛ لأنها لما خلقت من ضلعه نزلت منزلة بناته مجازًا أو أنه ليس قصرًا حقيقيًا، بل اقتصر على بنات آدم لكونهن من الجنس المشارك للمخاطبة بهذا الحديث، وهي عائشة تسلية لها. "وقال وهب بن منبه" بضم الميم وفتح النون وشد الموحدة المكسورة، ابن كامل الحافظ أبو عبد الله الصنعاني العلامة الأخباري الصدوق ذو التصانيف أخوهما، روى عن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكي ثلاثمائة سنة لا يرقأ له دمع. وقال المسعودي: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حين أخرجه الله من الجنة. وقال مجاهد: بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه إلى السماء، وأنبت الله من دموعه العود الرطب والزنجبيل والصندل وأنواع الطيب، وبكت حواء حتى أنبت الله من دموعها القرنفل والأقاوى.   عباس وابن عمر وعنه آله، وسماك بن الفضل مات سنة أربع عشرة ومائة، "لما أهبط آدم إلى الأرض مكث يبكي ثلاثمائة سنة لا يرقأ" بالهمز والقاف، أي: لا يسكن ولا يجف "له دمع" على ما أصابه، "وقال المسعودي" عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي الحافظ، قال ابن نمير: ثقة اختلط آخرًا، وقال ابن مسعر: ما أعلم أحدًا أعلم بعلم ابن مسعود منه، مات سنة ستين أو خمس وستين ومائة. "لو أن دموع أهل الأرض جمعت" وجمعت دموع آدم؛ "لكانت دموع آدم أكثر" من دموع أهل الأرض "حين أخرجه الله من الجنة" حزنًا على فراقها وفراق أهلها وعلى أكله من الشجرة وإن غفر له قبل الخروج؛ كما جزم به القرطبي وغيره لشدة الخشية وكمال عظمة الله في قلبه، وقول شيخنا: لعل المراد إلى وقت التوبة مبني على أنه لم يتب عليه إلا بعد خروجه بمدة. "وقال مجاهد" بن جبير بفتح الجيم وسكون الموحدة، وقيل: جبير بالضم مصغرًا والأول أكثر المخزومي مولاهم المكي الثقة الحافظ الإمام في التفسير، وفي العلم أحد الأعلام المجتمع على إمامته. وذكر ابن حبان له في الضعفاء: مردود مات بمكة وهو ساجد سنة ثلاث ومائة، وقيل غير ذلك، خرج له في الستة. "بكى آدم مائة عام لا يرفع رأسه" حياء من ربه عز وجل، "إلى السماء" وبهذا القيد لا ينافي قول وهب فهذه المائة بعض الثلاثمائة وخصت بالذكر للقيد، "وأنبت الله من دموعه العود الرطب" لعل المراد الذي يتبخر به، قال شيخنا: وقد ذكروا أنه مما نزل معه من الجنة، فإن صح ما ترجاه، فيحتمل أنه ما نبت في الأرض إلا بدموعه، "والزنجبيل" عرق يسري في الأرض ونباته كالقصب والبردي، له قوة مخنة يسيرًا باهية مذكية وإن خلط برطوبة كبد المعز وجفف وسحق واكتحل به أزال الغشاوة وظلمة البصر، "والصندل" خشب معرف أجوده الأحمر أو الأبيض محلل للأورام نافع للخفقان والصداع ولضعف المعدة الحارة والحميات، قاله وما قبله القاموس. "وأنواع الطيب" عام على خاص أي: الذي له رائحة وإن استعمل لغيرها، "وبكت حواء حتى أنبت الله من دموعها القرنفل والأقاوى" الطيب، وتطلق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يا بني آدم، انظروا كيف بكى أبوكم على فعله واحدة ثلثمائة سنة، فكيف بكم يا أصحاب الكبائر العظيمة؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار، كان آدم كلما رأى الملائكة تصعد وتهبط ازداد شوقًا إلى الأوطان، وتذكر العهد والجيران، يا أصحاب الذنوب احذروا زلة يقول فيها الحبيب: هذا فراق بيني وبينك، فياذا العقل السليم، انظر كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة ........................................   توابل الطعام؛ كما في المصباح. وفي القاموس: الأفواه التوابل الواحد فوه كسوق وجمع الجمع أفاويه، ونحوه في المصباح. فسقوط الهاء من المصنف تخفيف أو لغة قليلة ثم وشح المؤلف تلك القصة بمنزع صوفي على عادته، فقال: "يا بني آدم، انظروا كيف بكى أبوكم على فعلة واحدة" بفتح الفاء اسم للمرة من الفعل، وفي نسخة على صغيرة واحدة ولا يناسب ترديده الآتي، كذا قيل وأنت خبير بأن الترديد إنما هو على لسان السائل مع الجزم بأنها صغيرة في الجواب، فكلتاهما مناسبة "ثلاثماة سنة" مع النسيان والتأويل، "فكيف بكم يا أصحاب الكبائر العظيمة"؟ العمد "فاعتبروا" اتعظوا وقيسوا حالكم في استحقاق العقوبة بالذنب على حال أبيكم في إخراجه من الجنة بفعلة "يا أولي الأبصار" البصائر، "كان آدم" عليه السلام "كلما رأى الملائكة تصعد" بفتح العين مضارع صعد بكسرها، "وتهبط، ازداد شوقًا إلى الأوطان" جمع وطن، أي: أماكن الجنة سماها بذلك؛ لأنه أبيح له نعيمها بلا تخصيص محل منها دون آخر، وفيه إشعار بتكرر رؤيته للملائكة وأنها حقيقة وهل على صورهم الأصلية أو غيرها محل نظر، وقد ذكروا أن من خصائص المصطفى رؤية جبريل على صورته مرتين، "وتذكر العهد" الأمان الذي كان فيه قب هبوطه أو المنزل، فهو كالتفسير للأوطان أوائل عهدية، أي: تذكر عهد الله الذي نسيه فصار في هذه الحالة، "والجيران" جمع جار وهو المجاور في السكن والمراد الملائكة وغيرهم من الحيوان سماهم جيرانًا، لكونهم معه في الجنة، "يا أصحاب الذنوب، احذروا زلة يقول فيها الحبيب" لمحبه "هذا فراق بيني وبينك" تلميح بقصة موسى مع الخضر؛ لأن آدم لما أكل تباعد عنه أحبابه وما أواه أحد فكأنهم قالوا له ذلك، "فيا ذا العقل السليم، انظر" بعقلك "كيف جلس أبوك آدم على سرير المملكة" مر قول الحكيم أنه من ذهب أو ياقوت أحمر له سبعمائة قائمة، ونحوه في المشكاة وذلك يأبى ادعاء أنه تمثيل من حيث جعله سرير المملكة، وإن سلم فهو صورة جعلت لآدم اجلس عليها تكريمًا، وعبر عنها بذلك مجازًا، فإن الأصل الحقيقة وإثبات الصورة يمنع التمثيل وغاية الأمر أن التجوز في الإضافة للمملكة مع أنه مسمى بذلك عندهم؛ كما أفاده الخبر وما به ضرر، فليس أقوى من إضافة العرش والكرسي لله في التنزيل مع تنزهه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فمد يده إلى لقمة نهى عنها فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصي فإنها من نزلت به نزلت به وحطته عن مرتبته. فإن قلت: هذه الفعلة التي أهبط بها آدم من الجنة، إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة فلم جرى عليه بسببها ما جرى من نزع اللباس والإخراج من الجنة وغير ذلك؟ أجاب الزمخشري: بأنها ما كانت إلا صغيرة، مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأذكار الصالحة التي هي أجل الطاعات، وأعظم الأعمال، وإنما جرى عليه ما ..................   سبحانه عن الحلول والجسم، "فمد يده إلى لقمة نهى عنها، فأخرج من الجنة، فاحذروا يا بنيه عواقب المعاصي فإنها من نزلت به" أي: أصابته، "نزلت به" أي: خفضته، "وحطته عن مرتبته" عطف تفسير، "فإن قلت: هذه الفعلة" بفتح الفاء للمرة كما مر، وبكسرها اسمًا للهيئة، أي: ما هيئة هذه الفعلة؟ "التي أهبط بها آدم من الجنة" أبالغة في المخالفة، فتكون كبيرة أم لا؟ "إن كانت كبيرة، فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء" إجماعًا لا قبل النبوة ولا بعدها، "وإن كانت صغيرة" وقلتم بجوازها عليهم، فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر لآحاد الأمة فكيف بنبي ولد الأنبياء؟ "فلم جرى عليها بسببها ما جرى من نزع اللباس" بمجرد تعلق الإرادة لا بفعل فاعل لما مر أنه بمجرد وضع الحية في فيه طار عنه تاجه وتهافتت ثيابه، "والإخراج من الجنة، وغير ذلك" من المعاتبة بنحو قوله: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة والفضيحة يبدو السوأة وتهافت اللباس ووهن الجلد، بعدما كان الظفر والإخراج من الجنة مع النداء: لا يجاورني من عصاني، والفرقة بينه وبين حواء مدة والعداوة بعضكم لبعض عدو، والنداء بالنسيان: فنسي ولم نجد له عزمًا، وتسليط العدو على ولده وأجلب عليهم بخيلك ورجلك، وجعل الدنيا سجنًا له وولده والتعب والشقاء فلا يخرجنكما من الجنة فتشقا، فهذه خصال ابتلي بها آدم عليه السلام وبها ابتليت حواء مع خمس عشرة معها تطلب من التواريخ. قلت: "أجاب الزمخشري" أبو القاسم محمود العلامة جار الله المعتزلي، قال ابن خلكان وغيره: كان يتظاهر به وإذا استأذن على صاحب له بالدخول يقول أبو القسم المعتزلي بالباب وأول ما صنف الكشاف، توفي ليلة عرفة سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. "بأنها ما كانت إلا صغيرة مغمورة" بغين معجمة، مستورة "بأعمال قليلة من الإخلاص والأذكار الصالحة، التي هي أجل الطاعات وأعظم الأعمال" والصغيرة إذا غلبتها الطاعات لا يؤاخذ بها، "وإنما جرى عليه ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 جرى تعظيمًا للخطيئة، وتفظيعًا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفًا له ولذريته في اجتناب الخطايا، واتقاء المآثم. يا هذا، انظر كم لله من لطف وحكمة في إهباط آدم من الجنة إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجتهدين، واجتهاد العابدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين ...................   جرى تعظيمًا للخطيئة وتفظيعًا" بفاء معجمة، إظهارًا "لشأنها" أي: قبحها، وفي القاموس: الشأن: الخطب والأمر، فلعل الإضافة بيانية ولم يقل لها قصد للمبالغة كما هو عادتهم، "وتهويلا" تخويفًا لمرتكب الخطيئة؛ "ليكون ذلك لطفًا" بضم اللام، رفقًا "له ولذريته في اجتناب الخطايا" لأن ذلك كان سببًا لما حصل له من الكمالات في الدنيا المفيدة لكثرة الثواب وعظم المنزلة في الآخرة، "واتقاء المآثم" جمع مأثم عطف تفسير، وصريح ذا الجواب جواز وقوع الصغيرة من الأنبياء. قال القرطبي: وهو مذهب الأكثرين، والمراد نسيانًا إلا الدالة على خسة كسرقة لقمة، بل قال الطبري وغيره من الفقهاء المتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم خلافًا للرافضة، لكن قال جمهور الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي: إنهم معصومون من الصغائر كلها، انتهى. والأخير رأي الإسفراييني وعياض والشهرستاني والتقي السبكي: لكرامتهم على الله أن يصدر منهم ذنب وقد استدل الأولون بظواهر من الكتاب والسنة إن التزموها أفضت بهم إلى الكفر وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم فكيف وكل ما احتجوا به مما اختلفت فيه وتقابلت الاحتمالات في معناه؛ كما بسطه عياض في الشفاء، ولذا قال شيخنا: الأولى، والجواب بأن محل عصمتهم من الصغائر إن لم يترتب عليها تشريع ونحوه، فجاز وقوع ما هو صورة صغيرة من آدم لما ترتب عليها من المنافع له ولذريته، فلا ينافي أنها لا تقع منهم لا عمدًا ولا سهوًا. "يا هذا انظر كم لله من لطف وحكمة في إهباط آدم من الجنة إلى الأرض" الظاهر: أن الحكمة هنا الفائدة المترتبة على هبوطه، كما يشير إليه قوله: "لولا نزوله لما ظهر جهاد المجتهدين واجتهاد العابدين" وإن كانت الحكمة في الأصل تحقيق العلم وإتقان العمل، "وا صعدت" بكسر العين، "زفرات" بفتح الزاي والفاء وتسكن للشعر جمع زفرة، أي: أصوات "أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين" وفي تفسير القرطبي: لم يكن إخراج الله آدم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب فإني قريب مجيب، أجيب دعوة الداعي، إن كان حصل لك من الإخراج كسر فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، وإن كان فاتك في السماء زجل المسبحين فقد تعوضت في الأرض أنين المذنبين، أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم، زجل المسبحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار، "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم".   الجنة عقوبة له؛ لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته، وإنما أهبطه تأديبًا أو تغليظًا للمحنة، والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم، ويترتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا داري تكليف، فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه ولله فعل ما شاء، وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، وقال أرباب المعاني، في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} [البقرة: 35، الأعراف: 19] ، إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه لا تدوم؛ لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى، والدليل عليه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، انتهى. وفي الأحوذي: خروج منها سبب لوجود الذرية وهذا النسل العظيم، ووجود الأنبياء والمرسلين والصالحين ولم يخرج منها طردًا بل لقضاء أوطاره ثم يعود إليها، انتهى. ولما تاب الله على آدم بين له بالوحي والإلهام ما اطمأنت به نفسه، وذهب به روعه، حتى كأنه قال له: "يا آدم إن كنت أهبطت من دار القرب" فلا تحزن "فإني قريب مجيب" فقربي لك في الجنة، كهو في الأرض "أجيب دعوة الداعي، إن كان حصل لك من الإخراج كسر" وهو الواقع "فأنا عند المنكسرة قلوبهم" اسم فاعل من انكسر مطاوع كسر من باب ضرب، ووصف القلب به تجوزا كأنه شبه ضعفه وذلته بتفرق أجزاء شيء منكسر، "من أجلي" وليس هذا بحديث قدسي، فغاية ما في المقاصد حديث أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، جرى في البداية للغزالي. "وإن كان فاتك في السماء زجل" بفتح الزاي والجيم ولام: أصوات "المسبحين، فقد تعوضت في الأرض أنين المذنبين" ولا تقل فرق بينهما فـ"أنين المذنبين أحب إلينا من تسبيحهم" أي: المسبحين، وإذا أحب إلينا فأنت تحب ما نحب، "زجل المسبحين" من حيث هم لا مسبحي السماء، "ربما يشوبه الافتخار" فيفسده "وأنين المذنبين يزينه الانكسار" فبواسطته فاق الثلاثة ثم رشح هذا الوارد الصوفي المساق عن الحق جل جلاله على طريق الصوفية، بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "والذي نفسي بيده " لو لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدًا لم ينفعه كثرة اجتهاده، وكان عليه وبالا، لقن الله آدم حجته، وألقى عليه ما تقبل به توبته، وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته .........................   تذنبوا لذهب الله بكم" أي: لأماتكم بانقضاء آجالكم "ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون" الله تعالى "فيغفر لهم" ليكونوا مظهرًا للمغفرة التي وصف بها ذاته؛ كقوله: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيم} [النمل: 11] ، فالغفار يستدعي مغفورًا، والرحيم مرحومًا، أي: فلا تمنعكم ذنوبكم من التوبة والإنابة ليأسكم من روح الله فليس إذنا في الذنب ولا حثًا عليه، بل المقصود منه مجرد التنبيه على عظم الفضل وسعة المغفرة والحث على التوبة. قال الطيبي: لم يرد به ونحوه قلة الاحتفال بمواقعة الذنوب، كما توهمه أهل الغرة، بل كما أنه أحب الإحسان إلى المحسن أحب التجاوز عن المسيء، فمراده لم يكن ليجعل العباد كالملائكة منزهين عن الذنوب بل خلق فيهم من يميل بطبعه إلى الهوى، ثم كلفه توقيه وعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على الله، وإن أخطأ فالتوبة بين يديه، وسر ذلك إظهار صفة الكرم والحلم والغفران، ولو لم يوجد لانثلم طرف من صفة الألوهية، والله يتجلى لعبده بصفات الجلال والإكرام في القهر واللطف، انتهى. "سبحان من إذا لطف بعبده في المحن" بكسر ففتح جمع محنة، أي: البلايا "قلبها" صيرها أو أبدلها "منحا" بكسر ففتح: عطايا، "وإذا خذل عبدًا لم ينفعه كثرة اجتهاده، وكان عليه" اجتهاد "وبالا" فقد "لقن الله آدم حجته" حيث قال: ما ظننت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا وقد قال قوم: إن آدم وحواء ما أكلا من الشجرة المنهي عنها، وإنما أكلا من جنسها تأولا أن المراد العين، وكان المراد الجنس، حكاه القرطبي. "وألقى عليه ما تقبل به توبته" هو كما قال ابن عباس والحسن وابن جبير الضحاك وابن مجاهد: ربنا ظلمنا أنفسا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. وعن مجاهد أيضًا: سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، وقيل: رأى مكتوبًا على سابق العرش محمد رسول الله، فتشفع به، وقيل: المراد البكاء والحياء والدعاء والندم والاستغفار، ذكره القرطبي. "وطرد إبليس اللعين بعد طول خدمته" مر عن القرطبي أنه عبد الله ثمانين ألف سنة، وفي منتهى النقول: تسعة آلاف سنة، وفي الخميس: مائتين وأربعين ألف سنة، ولم يبق في السماوات والأرضين السبع موضع شبر إلا سجد فيه، فقال: إلهي هل بقي موضع لم أسجد فيه؟ فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فصار عمله هباء منصورًا، قال: أخرج منها {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34-35] إذا وضع عدله على عبد لم يبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم يبق له سيئة. انظر ......................................   اسجد لآدم، فقال: أتفضله عليّ؟ قال أفعل ما أشاء ولا أسأل عما أفعل، فأبى فطرد ولعن. وفي المشكاة: قال الحسن: عبد الله في السماء سبعمائة ألف وسبعين ألفًا وخمسة آلاف سنة، وعبد الله في الأرض فلم يترك موضع قدم إلا سجد فيه سجدة. "فصار عمله هباء منثورًا" هو ما يرى في الكوى التي عليها الشمس؛ كالغبار المفرق، أي: مثله في عدم النفع به لعدم شرطه. "قال" تعالى: "اخرج" التلاوة فاخرج، وصرح الدماميني عن ابن السبكي بجواز حذف العاطف في الاستدلال بل والإتيان بواو وفاء؛ لأنه ليس المراد إلا ما بعده، وقد كتب صلى الله عليه وسلم لهرقل: "ويا أهل الكتاب" "منها" أي: في الجنة لا السماء إذ لم يمنع منها إلا بعد البعثة، "فإنك رجيم" مطرود من الخير والكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب، "وإن عليك اللعنة" هذا الطرد والإبعاد "إلى يوم الدين" يوم القيامة، وإنما غيابه لانتهاء التكليف الذي هو مظنة الفعل سبب التوبة، ومعلوم أنه حيث انتفى سبب التوبة تأبد الطرد، أو لكونه أبعد ما يتعارفه الناس فجرى على أسلوب كلامهم أو لأنه لشدة العذاب يوم القيامة يذهل عن كونه مطرودًا عن الرحمة بخلاف الدنيا، فإن بالعيان عالم بالطرد. "وإذا وضع عدله على عبد" أي: إذا جازاه على فعله بمقتضى عدله، "لم يبق" بضم الياء أي الله وفتحها، "له حسنة" بالنصب والرفع؛ لأن العبد لا يخلو من أفعال مقتضية للمؤاخذة، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، أي: من يدب عليها بشؤم المعاصي، وقيل: المراد بالدابة الإنس فقط. "وإذا بسط فضله على عبد" أي: عامله بالرحمة والمغفرة، "لم يبق له سيئة" أي: لم يؤاخذه بذنوبه، والمراد: أن حسناته وسيئاته تمحيان من صحف الملائكة ليكون ذلك بالنسبة للحسنة أشد في إدخال الأسف والحزن عليه لتفريطه حتى ذهبت حسناته، وبالنسبة للسيئة أبلغ في الستر عليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض حتى يلقى الله، وليس عليه شاهد من الله بذنب" رواه الأصبهاني في الترغيب، والحكيم الترمذي في النوادر، وابن عساكر. وعبر في الأول بوضع لمناسبته للوزن والمحاسبة. وفي الثاني: بالبسط؛ لأنه المناسب للعفو والستر. "انظر" من النظر، بمعنى إعمال الفكر ومزيد التدبر والتأمل، قال الراغب: النظر إجالة الخاطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 لما ظهرت فضائل آدم عليه الصلاة والسلام على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه، والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، إنما هي دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجد والاجتهاد، وكأنك بالعيش الماضي وقد عاد على أكمل من ذلك المعتاد. ولما أظهر إبليس -عليه اللعنة- الحسد، سعى في الأذى، حتى كان سببًا في إخراج السيد آدم من الجنة، وما فهم الأبله ..................   نحو المرئي لإدراك البصيرة إياه، فللقلب عين، كما أن للبدن عينًا. "لما ظهرت فضائل آدم عليه الصلاة والسلام على الخلائق" من الملائكة وغيرهم "بالعلم" المشار إليه بقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وبما آتاه الله من قوة العقل. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة، وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى أرجحهم. قال القرطبي: يحتمل أن يخص من عمومه المصطفى فإنه أوفر الناس حلمًا، ويحتمل من المعنى غير الأنبياء. "وكان العلم لا يكمل إلا بالعمل بمقتضاه والجنة ليست دار عمل ومجاهدة، وإنما هي دار نعيم ومشاهدة" فيه إشارة إلى جنة المأوى، "قيل له: يا آدم اهبط إلى أرض الجهاد" إضافة بيانية، أي هي جهاد النفس "وصابر جنود الهوى" بالقصر، أي: هوى النفس، أي: ميلها إلى مشتهياتها "بالجد" بالكسر ضد الهزل، "والاجتهاد" بذل الوسع فهو مغاير للجد مفهومًا مقاربة ما صدق على مقتضى المختار والمصباح يقتضي تساويهما. "وكأنك بالعيش الماضي" أي: نعيم الجنة الذي فارقته، "وقد عاد" إليك بانتقالك للدار الآخرة والنعيم المقيم، وفيه إشارة إلى أن الدنيا وإن طالت لا تعد شيئًا بالنسبة لنعيم الآخرة؛ لبقائها وفناء الدنيا، والفاني كالعدم بالنسبة للباقي. "علي" حال "أكمل من ذلك" الحال "المعتاد" لك أولا في الجنة. "ولما أظهر" عطف على لما ظهرت "إبليس عليه اللعنة" كذا في كثير من النسخ بالواو، ووقع في نسخة شيخنا بدونها، فقال: ينبغي تقديرها "الحسد" لآدم "سعى في الأذى" له "حتى كان سببًا في إخراج السيد آدم من الجنة" في حديث رواه اليافعي في نفحات الأزهار عن علي رفعه: "هبط علي جبريل، فقال: إن لكل شيء سيدًا فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت" فإن صح ففي الفتح السيادة لا تقتضي الأفضلية، فقد قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وقال ابن عمر: ما رأيت أسود من معاوية، مع أنه رأى العمرين. "وما فهم الأبله" بفتح الهمزة، عديم المعرفة الأحمق الخالي من التمييز، ووصفه بذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أن آدم إذا خرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول. قالوا: وفيه إشارة، كأنه تعالى يقول: لو غفرت في الجنة لما تبين كرمي، بأني أغفر لنفس واحدة، بل أؤخره إلى الدنيا، وآتي بألوف من العصاة حتى أغفر لهم وله ليتبين جودي وكرمي. وأيضًا: علم الله تعالى أن في صلبه الأولاد، والجنة ليست دار توالد .................   مشعر بأنه سلب العلم عند كفره، قال القرطبي: لا خلاف أنه كان عالمًا بالله قبل كفره، فمن قال: كفر جهلا، قال: سلب العلم عند كفره، ومن قال عنادًا، قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر مع بقاء العلم مستبعدًا؛ إلا أنه جائز عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء، قال: واختلف هل كان قبله كافر؟ فقيل: لا، وهو أول من كفر، وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض، وهل كفر جهلا أو عنادًا، قولان لأهل السنة. "إن آدم إذا أخرج من الجنة كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنة على أكمل من الحال الأول" ولو فهم ذلك ما سعى فيه، قال القرطبي: لم يقصد إبليس إخراجه منها وإنما أراد إسقاطه عن مرتبته وإبعاده كما أبعده هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده بل ازداد غبنًا وغيظ نفس وخيبة ظن، قال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [طه: 122] ، فتاب عليه وهدي فصار خليفة الله في أرضه بعد أن كان جاره في داره. ا. هـ. "قالوا" أي الصوفية ونسبة للكل كأنه لظهوره صدر عن الجميع، فليس المراد التبرى، "وفيه" أي: إخراج آدم من الجنة، "إشارة" هي شيء يدل على النطق فهي مرادفة له؛ "كأنه تعالى يقول: لو غفرت في الجنة لما تبين كرمي بأني أغفر" الباء سببية علة للنفي، أي: لانتفى تبين كرمي؛ لأني إنما غفرت "لنفس واحدة" والغفر لها لا يستدعي سعة الكرم، وفي نسخة: بأن أغفر، أي: بسبب المغفرة، "ب أؤخره" بهمزتين أولاهما مضمومة "إلى الدنيا، وآتي بألوف من العصاة حتى أغفر لهم وله" يوم القيامة "ليتبين" له ولغيره، "جودي وكرمي" وكان هؤلاء الذين جعلوا هذا إشارة واستنبطوه لم يقفوا عليه منصوصًا, وفي الخميس: كغيره؛ كما مر قول الله تعالى لجبريل: إن رحمته لا ينقص من رحمتي شيء، وإن يذهب لا يعاب عليه شيء، فخل عنه حتى يذهب ثم يرجع غدًا في مائة ألوف من أولاده عصاة حتى يشاهد فضلنا على أولاده ويعلم سعة رحمتنا. "وأيضًا علم الله تعالى أن في صلبه الأولاد والجنة ليست دار توالد" أي: تكثر فيه الأولاد، فلا ينافي ما حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل الكتاب إن صح أن آدم كان يغشي حواء في الجنة قبل أن يأكل من الشجرة فحملت بقابيل وتوأمته فلم تجد عليهما وجعًا ولا طلقًا حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وأيضًا: ليخرج من ظهره في الدنيا من لا نصيب له في الجنة. يا هذا، الجنة إن شاء الله إقطاعنا. وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل عليه الصلاة والسلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] ، إنما يخرج الإقطاع عمن خرج عن الطاعة، نسأل الله التوفيق. وقد اختلف في الجنة التي سكنها ........................   ولدتهما ولم تر معهما دمًا. "وأيضًا ليخرج" الله "من ظهره في الدنيا من لا نصيب له في الجنة" وهم الكفار لما سبق منه سبحانه وتعالى: أن فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير. وقال الأستاذ التاج في التنوير: فكأن مراد الحق من آدم الأكل من الشجرة لينزله إلى الأرض ويستخلفه فيها، فكان هبوطًا في الصورة رقيًا في المعنى، ولذا قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: والله ما أنزل الله آدم إلى الأرض لينقصه، إنما أنزله إلى الأرض ليكمله ثم قال: فما أنزل إلى الأرض إلا ليكمل له وجود التعريف ويقيمه بوظائف التكليف، فتكاملت في آدم العبد عبودية التعريف وعبودية التكليف، فعظمت منه الله عليه وتوافر إحسانه إليه. ا. هـ. "يا هذا الجنة إن شاء الله إقطاعنا" أي: معطاة لنا لنرتفق بها ونتنعم فيها بأنواع النعم أطلق الإقطاع عليها استعارة أو تشبيهًا، والمعنى: أنها لنا كالإقطاع وهو ما يعطيه الإمام من أرض الخراج، "وقد وصل منشور الإقطع" أي: وصل خبرها إلينا، "مع جبريل عليه السلام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم" والدليل على وصوله قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} ، صدقوا بالله " {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} " من الفروض والنوافل، "أن" أي: بأن "لهم جنات" حدائق ذات شجر ومساكن "تجري من تحتها" أي: تحت أشجارها وقصورها، "الأنهار" [البقرة: 25] أي: المياه فيها والنهر الموضع الذي يجري فيه الماء؛ لأن الماء ينهره، أي: يحفره وإسناد الجري إليه مجاز، "إنما يخرج الإقطاع" بتحتية نظرًا للفظ الإقطاع فإنه مذكر وفوقية نظرًا لمعناه، وهي الأرض إذ هي مؤنثة إن أرضي واسعة، "عمن خرج عن الطاعة نسأل الله التوفيق" وأتى بهذا تأكيدًا لاستحقاق المؤمنين نعيم الجنة بمقتضى الوعد وتنبيهًا على استحقاقهم لذلك مشروط ببقائهم على الطاعة وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأنهم إذا خالفوا ذلك استحقوا العذاب بمقتضى الوعيد، وقرب ذلك بما هو مشاهد من معاملة السلطان لرعاياه فيما لو أنعم على بعضهم بسبب نصحه في الخدمة، فإنه إذا خرج عنها عاقبه ومنعه ما أولاه من أرض ونحوها. "وقد اختلف في الجنة" بالفتح واحدة الجنات، قال القرطبي: وهي البساتين سميت جنات؛ لأنها تجن من فيها، أي: يستره شجرها، ومنه المجن والجنين والجنة،"التي سكنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 آدم. فقيل: هي جنة الخلد. وقيل: غيرها، جعلها الله دار ابتلاء، لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة، ولأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهي، ودار سلامة لا دار ابتلاء وامتحان، ودار قرار لا دار انتقال. واحتج القائلون بأنها جنة الخلد ...............................   آدم" حين قيل له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، "فقيل: هي جنة الخلد" وهو قول جمهور الأشاعرة، بل حكى ابن بطال عن بعض المشايخ إجمال أهل السنة عليه؛ لأن اللام للعهد ولا معهود غيرها، ولقوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} ، وذلك صفة جنة الخلد؛ ولقوله: اهبطوا منها، والهبوط يكون من علو إلى سفل ولا يستقيم ذلك في بستان مخلوق على الأرض، ولأن موسى لما لقى آدم عليهما السلام وقال له: أنت أتعبت ذريتك وأخرجتهم من الجنة لم ينكر ذلك آدم، وإنما قال: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق. الحديث الصحيح، ولو كانت غيرها لرد على موسى. "وقيل" هي "غيرها" حكاه منذر بن سعيد زاعمًا كثرة الأدلة عليه، وحكاه الماوردي والرازي وابن عقيل والقرطبي والرماني وغيرهم، واختلف القائلون به، فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني، وحكاه الثعلبي عن القدرية هي بستان بالأرض، أي: بأرض عدن؛ كما في القرطبي، أو بأرض فلسطين، أو بين فارس وكرمان؛ كما في البيضاوي. قال الرازي وابن عقيل: ويحمل هؤلاء الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في: اهبطوا مصرا، وقيل: هي جنة أخرى كانت فوق السماء السابعة، وهو قول أبي هاشم، ورواية عن الجبائي. قال ابن عقيل: وهي دعوى بلا دليل فلم يثبت أن في السماء غير بساتين جنة الخلد. ا. هـ. "جعلها الله دار ابتلاء" لآدم وواء؛ "لأن جنة الخلد إنما يدخل إليها يوم القيامة" وهذه قد دخلت قبله، "ولأنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهي" فلو كانت هي ما وجدوا فيها، "ودار سلامة" من الآفات وكل خوف وحزن، "لا دار ابتلاء وامتحان" وقد وجدا فيها "ودار قرار" لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] ، "لا دار انتقال" وقد انتقلوا منها، فدل ذلك كله على أنها غيرها. "واحتج القائلون بأنها جنة الخلد" قيل: هي واحدة لها أسماء، وقيل: سبع، ورجح جماعة أنها أربع؛ لما في سورة الرحمن وتحتها أفراد كثيرة لحديث الصحيح: "إنها جنان كثيرة" وعليهما فإطلاق المصنف مجاز من تسمية الكل باسم الجزء، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة، وقد دخلها نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وبأن ما ذكره من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن والنصب فإنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها، والله أعلم. وروي أنه لما خرج آدم من الجنة رأى مكتوبًا على ساق العرش وعلى كل موضع في الجنة ............   أجابوا عن تلك الشبه التي احتج بها القائلون بأنها غيرها، وإلا فلم يظهر مما ذكره المصنف دليل على أنها جنة الخلد، فأجابوا عن الشبهة الأولى: "بأن الدخول العارض قد يقع قبل يوم القيامة و" دليل ذلك أنه "قد دخلها نبيًا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء" ثم خرج منها، وأخبر بما فيها وأنها جنة الخلد حقًا، "وبأن ما ذكره" القائلون بأنها غيرها، "من أن الجنة لا يوجد فيها ما وجده آدم من الحزن" بنحو تساقط اللباس "والنصب" التعب، بنحو طلب ورق الجنة يستر به سوأته، "فإنما" الأولى حذف الفاء لأنه خبر أن، أو هي تعليلية لمحذوف، أي: ما ذكروه من كذا لا يصح، فإنما "هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة؛ كما يدل عليه سياق الآيات كلها، فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها" يوم القيامة، وسكت عن جواب الأخير لعلمه من هذا وهو أن كونها دار قرار، إنما هو يوم القيامة، "والله أعلم. ا. هـ". وظاهر المصنف بل صريحة تساوي القولين وليس كذلك، فقد قال القرطبي: هي جنة الخلد، ولا التفات إلى ما ذهب إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن فيها وإنما كان في جنة بعدن، وذكر أدلتهم وردها بما يطول, ورجح أبو القاسم الرماني في تفسيره أنها جنة الخلد أيضًا، وقال: هو قول الحسن وعمر ووصل، وعليه أهل التفسير. "وروي أنه لما خرج آدم من الجنة" أي: لما أراد الخروج لما في الخميس إن الله لما قال له: اخرج لا يجاورني من عصاني رفع آدم طرفه إلى العرش فإذا هو مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال: يا رب بحق محمد اغفر لي، فقال: قد غفرت لك بحقه، ولكن لا يجاورني من عصاني، ويأتي للمصنف في المقصد الثاني ما يصرح بأن آدم رأى كتابة اسمه على العرش قبل تمام خلقه، ومر الخلاف في قدر مكثه في الجنة. "رأى مكتوبًا على ساق العرش" وكانت الكتابة قبل خلق السماوات والأرض بألفي سنة، كما روي عن أنس. "وعلى كل موضع في الجنة" من قصر وغرفة ونحور حور عين، وورق شجرة طوبى وورق سدرة المنتهى وأطراف الحجب وبين أعين الملائكة، رواه ابن عساكر عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 اسم محمد صلى الله عليه وسلم مقرونًا باسم الله تعالى، فقال يا رب هذا محمد من هو؟ فقال تعالى: هذا ولدك الذي لولاه ما خلقتك. فقال: يا رب بحرمة هذا الولد ارحم هذا الوالد، فنودي: يا آدم، لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت علي قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك   كعب الأحبار نقله المصنف في المقصد الثاني. "اسم محمد" إضافة بيانية فلا يرد أن لفظ محمد، وضع له اسم دال عليه، فالمرئي ذلك الاسم لا لفظ محمد صلى الله عليه وسلم حال كونه "مقرونًا باسم الله تعالى" وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله، "فقال" آدم: "يا رب، هذا" الاسم الذي هو "محمد من هو؟ " من الذات المسماة به، "فقال الله تعالى: هذا ولدك والذي لولاه ما خلقتك، فقال" آدم: "يا رب، بحرمة هذا الولد، ارحم هذا الوالد، فنودي" على لسان ملك أمره الله بالنداء، "يا آدم" قد قبلنا دعاءك و"لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك" قبلنا شفاعتك "وعن عمر بن الخطاب" القرشي العدوي أمير المؤمنين ثاني الخلفاء ضجيع المصطفى مناقبه شهيرة كثيرة "رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف" بقاف وآخره فاء أتى وفعل "آدم الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي" وفي نسخة لما بفتح اللام وشد الميم بمعنى إلا الاستثنائية؛ كقوله تعالى: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ، في قراءة شد الميم، "فقال الله تعالى: يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه" أي: جسده فلا ينافي أنه خلق نوره قبل جميع الكائنات، وفيه إظهار فضيلة آدم حيث تنبه وسأل عن صاحب الاس بعد رؤيته مكتوبًا، "قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك" أي: من غير واسطة كأم وأب، "ونفخت" أجريت "في من روحك" فصيرتني حيًا، وإضافة الروح إلى الله تشريف لآدم. "رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك" وهذا من وفور عقل آدم وبديع استنباطه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ، وإذا سألتني بحقه قد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" رواه البيهقي من دلائله من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال تفرد به عبد الرحمن ورواه الحاكم وصححه، وذكره الطبراني وزاد فيه: وهو آخر الأنبياء من ذريتك. وفي حديث سلمان عند ابن عساكر قال: هبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ربك يقول: إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا، فقد اتخذتك حبيبًا ........   "فقال الله تعالى: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إليّ، وإذا سألتني" تعليلية، أي: ولسؤالك إياي "بحقه قد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك، رواه البيهقي" ونقلته "من دلائله"، أي: كتابه دلائل النبوة الذي قال فيه الحافظ الذهبي: عليك به فإنه كله هدى ونور، "من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" المدني عن أبيه وابن المنكدر، وعنه أصبغ وقتيبة وهشام ضعفوه له تفسير توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة. "وقال" البيهقي: "تفرد به عبد الرحمن" أي: لم يتابعه عليه غيره فهو غريب مع ضعف روايه، "ورواه الحاكم وصححه وذكره" أي: رواه "الطبراني" الإمام أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي مسند الدنيا الحافظ المكثر صاحب التصانيف الكثيرة أخذ عن أكثر من ألف شيخ؛ كأبي زرعة الرازي وطبقته، وعنه أبو نعيم وغيره. قال الذهبي: ثقة صدوق واسع الحفظ بصير بالعلل والرجال والأبواب إليه المنتهى في الحديث وعلومه، مات بمصر سنة ستين وثلاثمائة عن مائة سنة وعشرة أشهر. "وزاد فيه" أي: في آخره "وهو آخر الأنبياء من ذريتك. وفي حديث سلمان" الفارسي الذي تشتاق له الجنة شهد الخندق وما بعدها، وعاش دهرًا طويلا حتى قيل: إنه أدرك حواري عيسى، ويأتي إن شاء الله تحقيق ذلك في خدمه صلى الله عليه وسلم. "عند ابن عساكر" الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله الدمشقي الشافعي صاحب تاريخ دمشق وغيره من المصنفات الثقة الثبت الحجة المتقن غزير العلم كثير الفضل دين خير، ولد سنة تسع وتسعين وأربعمائة ورحل إلى بغداد وغيرها وسمع من نحو ألف وثلاثمائة شيخ ونيف، وثمانين امرأة، وروى عنه من لا يحصى ثناء الناس عليه كثير مات سنة إحدى وسبعين وخمسمائة "قال: هبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم" أرسله سلمان فيحمل على أنه حمله على المصطفى أو عمن سمعه منه. "فقال" له: "إن ربك يقول" لك "إن كنت اتخذت إبراهيم خليلا" كما علمته تحقيقًا، "فـ" علم وتحقق إني "قد اتخذت حبيبًا" فأبشر وطب نفسًا، فإني بصورة الشك تطمينًا له أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وما خلقت خلقًا أكرم علي منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي، ولولاك ما خلقت الدنيا وما أحسن قول سيدي علي وفى في قصيدته الدالية التي أولها: سكن الفؤاد فعش هنيئًا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد روح الوجود حياة من هو واجد ... لولاه ما تم الوجود لمن وجد عيسى وآدم والصدور جميعهم ... ............................   إن بمعنى إذ، فلا يرد أن استعمال إن إنما هو في المشكوك فيه، ولا شك هنا. "وما خلقت خلقًا أكرم علي منك، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي، ولولاك ما خلقت الدنيا وما أحسن قول" وفي نسخة: ولله در، "سيدي علي وفي" الشاذلي العارف الكبير أبي الحسن ابن العارف الكبير، ولد بالقاهرة سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان يقظًا حاد الذهن، ومالكي المذهب وله نظم كثير، وكان أبوه معجبًا به، وأذن له في الكلام على الناس وهو دون العشرين، مات في ذي الحجة سنة سبع وثمانمائة، كذا ترجمه الحافظ ابن حجر، وتبعه السخاوي والسيوطي، ولا يشكل بأن أباه مات وهو ابن سنة، وقيل: ابن ست سنين، كما ادعى النجم ابن فهد؛ لجواز أن أباه أذن له حال الطفولية في ذلك إذا بلغ هذا السن لما اطل عليه فيه من الأسرار الربانية "في قصيدته الدالية" نسبة إلى الدال؛ لوقوعها آخر كل بيت، كما هو اصطلاح العروضين "التي أولها": "سكن الفؤاد فعش هنيئًا يا جسد ... هذا النعيم هو المقيم إلى الأبد" وبعد هذا البيت: أصبحت في كنف الحبيب ومن يكن ... جار الكريم فعيشه العيش الرغد عش في أمان الله تحت لوائه ... لا خوف في هذا الجناب ولا نكد لا تختشي فقرًا وعندك بيت من ... كل المنى لك من أياديه مدد رب الجمال ومرسل الجدوى ومن ... هو في المحاسن كلها فرد أحد قطب النهى غوث العالم كلها ... أعلى على سار أحمد من حمد ومقول قوله: ما أحسن قول هو قوله: "روح الوجود حياة من هو واجد" بالجيم، أي: هو صلى الله عليه وسلم سبب لحياة من وجدهم من الخلق، أي: علمهم موجودين منهم؛ لأنه "لولاه ما تم الوجود لمن وجد" فهو كالعلة لما قبله "عيسى وآدم" خصهما؛ لأن عيسى آخر الرسل قبله وآدم أولهم "والصدور جميعهم" أي: العظماء الذين يصدرون ويعظمون في المجالس من صدره في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ....................... ... هم أعين هو نورها لما ورد لو أبصر الشيطان طلعة نوره ... في وجه آدم كان أول من سجد أو لو رأى النمرود نور جماله ... عبد الجليل مع الخليل ولا عند لكن جمال الله جل فلا يرى ... إلا بتخصيص من الله الصمد ولما خلق الله تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين وصل إليها فاضت بركاته عليها، فولدت له في تلك الأعوام الحسناء ...........................   المجلس فتصدر "هم أعين" و"هو" صلى الله عليه وسلم "نورها، لما ورد" أتى "لو أبصر الشيطان" نظر بعين البصيرة، لما روي عن ابن عباس أنه لما نفخ في آدم الروح صار نور محمد صلى الله عليه وسلم يلمع من جبهته؛ كالشمس المشرقة، ويحتمل الحقيقة بأن يكون حجب الله بصره مع شدة ظهوره عن أن يرى "طلعة نوره، في وجه آدم كان أول من سجد" له، لكنه لم يبصر ذلك لخذلان الله عز وجل له، "أو لو رأى النمرود" بضم النون آخره دال مهملة، كما في القاموس وبالمعجمة نقله ثعلب عن أهل البصرة وهو الموافق للضابط الذي نظمه الفارابي فرقًا بينهما في لغة الفرس، حيث قال: احفظ الفرق بين دال وذال ... فهو ركن في الفارسية معظم كل ما قبله سكون بلا وا ... ي فدال وما سواه فمعجم واختصره القائل: إن تلت الدال صحيحًا ساكنًا ... أهملها الفرس وإلا أعجموا "نور جماله" في وجه إبراهيم عليهما السلام، "عبد الجليل" بالجيم "مع الخليل" إبراهيم "ولا عند" بفتح العين والنون، أي: خالف ورد الحق مع معرفته به. وأما عند الطريق بمعنى عدل عنها فمثلث النون، كما في الراموز. "لكن جمال الله" كماله ونوره الحامل على الطاعة، "جل" عن الأبصار والبصائر "فلا يرى" بالبصائر "إلا بتخصيص" بإعطاء "من الله الصمد" لمن شاء فلذا لم يره إبليس، وبقي من القصيدة ثلاثة أبيات: فأبشر بمن سكن الجوانح منك يا ... أنا قد ملأت من المنى عينا وبد عين الوفا معنى الصفا سر الندى ... نور الهدى روح النهى جسد الرشد هو للصلاة من السلام المرتضى ... الجامع المخصوص ما دام الأبد "ولما خلق الله تعالى حواء لتسكن إلى آدم ويسكن إليها، فحين وصل" وفي نسخة صار "إليها" أي: واقعًا وكان ذلك بعد هبوطهما بمائة سنة، وقيل: مائة وعشرين حكاهما الخميس، "فاضت بركاته عليها فولدت له في تلك الأعوام الحسناء" قد بينا لك عدة الأعوام فإنه عاش ألف سنة، فأسقط منها مقدار مكثه في الجنة الذي تقدم الخلاف فيه، وهذه المائة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أربعين ولدا في عشرين بطنًا، ووضعت شيثا وحده، كرامة لمن أطلع الله بالنبوة سعده. ولما توفي آدم ..................................   وعشرين بعد الهبوط تعرف عدة هذه الأعوام. "أربعين ولدًا في عشرين بطنًا" كما اقتصر عليه البغوي، قائلا: وكان أولهم قابيل وتوأمته إقليميا، ونقل ابن إسحاق عن بعض أهل الكتاب أنهما ولدا في الجنة وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمة الغيث. ا. هـ. وفي النسفي: أولهم الحارث "ووضعت شيثا" بكسر المعجمة فتحتية ساكنة فمثلثة مصروف، وفي سيرة مغلطاي ويقال: شاث، ومعناه هبة الله، ويقال: عطية الله، وقال السهيلي: وهو بالسريانية: شاث، وبالعبرانية: شيث، وقال ابن كثير وغيره: سماه هبة الله؛ لأنهما رزقاه بعد قتل هابيل بخمس سنين ووضعته على شكل هابين لا يغادر منه شيئًا، وقيل: ولد بعده بأربعين سنة، وقيل غير ذلك هذا ووقع في الشامية يقال: شاث، بإمالة الشين ورده شيخنا: بأن الشين مكسورة فلا تمال، وقيل: لا يصرف بناء على أن الثلاثي الأعجمي الساكن الوسط يجوز صرفه وعدمه، قال في الهمع وهو فساد إذ لم يحفظ. "وحده" ولا أخت معه على المشهور، وقيل: كان معه أخته؛ كما في الخميس. وفي بحر النسفي: أول ولد آدم الحارث ولا أخت معه، ثم قابيل وأخته، ثم هابيل وأخته، ثم أسوت وأخته، ثم شيث وحده، ثم أثنى بعده في بطن فزوجها منه، ثم كذا وكذا إلى تمام الأربعين بطنًا عند ابن إسحاق. وقال وهب بن منبه: مائة وعشرين بطنًا، وقيل: خمسمائة بطن لتمام ألف ولد. ا. هـ. "كرامة لمن أطلع الله بالنبوة سعده" وهو المصطفى فكان في وجه شيث نور نبينا صلى الله عليه وسلم وجاءت الملائكة مبشرة لآدم به، "ولما توفي آدم" عليه الصلاة والسلام وسنه ألف سنة؛ كما في حديث أبي هريرة وابن عباس مرفوعًا، وقيل: إلا سبعين، وقيل: إلا ستين، وقيل: إلا أربعين بمكة يوم الجمعة، وصلى عليه جبريل، واقتدى به الملائكة وبنو آدم. وفي رواية صلى عليه شيث بأمر جبريل ودفن بمكة في قبر بغار أبي قبيس، ذكرهما الثعلبي وغيره. وعن ابن عباس: لما فرغ آدم من الحج رجع إلى الهند، فمات. وعن ثابت البناني حفروا لآدم ودفنوه بسرنديب في الموضع الذي أهبط فيه وصححه الحافظ ابن كثير، وقيل: دفن بين بيت المقدس ومسجد إبراهيم، رأسه عند الصخرة ورجلاه عند مسجد الخليل، وقيل: دفن عند مسجد الخيف. وقال ابن إسحاق وغيره: دفنته الملائكة وشيث وأخوته في مشارق الفردوس عند قرية هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 كان شيث -عليه الصلاة والسلام- وصيًا لآدم على ولده، ثم أوصى شيث ولده بوصية آدم: أن لا يضع هذا النور إلا في المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية، تنتقل من قرن إلى قرن .......................   أول قرية كانت في الأرض وكسفت الشمس والقمر عليه أسبوعًا وعاشت حواء بعده سنة, وقيل: ثلاثة أيام ودفنت بجنبه. "كان شيث عليه الصلاة والسلام وصيًا لآدم على ولده" أي: أولاده ومر أن يكون واحدًا وجمعًا، وأطاعه أولاد أبيه، وروي عن ابن عباس: لم يمت آدم حتى بلغ أولاده وأحفاده أربعين ألفًا الصلبية منهم أربعون. وفي مسند الفردوس عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن آدم عليه الصلاة والسلام قام خطيبًا في أربعين ألفًا من ولده وولد ولده، وقال: إن ربي عهد إلي، فقال: يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري، وكان شيث أجمل أولاده وأشبههم به وأحبهم إليه وأفضلهم، وعلمه الله الساعات والعبادة في كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وزوجه الله أخته التي ولدت بعده وكانت جميلة كأمها حواء، وخطب جبريل وشهدت الملائكة، وكان آدم وليها ورزقه الله أولادًا في حياة أبيه وعمر تسعمائة واثنتي عشرة سنة، وقيل: عشرين ومات لمضي ألف واثنتين وأربعين سنة من هبوط آدم، ودفن في غار أبي قيس"، "ثم" بعد ما أوحى الله إلى شيث أن اتخذ ابنك أنوش صفيًا وصيًا علم أنه نعيت إليه نفسه، "أوصى شيث" واستخلف "ولده" هو أنوش بفتح الهمزة فنون مضمومة آخره شين معجمة، ويقال: يانش بتحتية فنون مفتوحة فمعجمة، وقيل: أنش. قال السهيلي: ومعنى أنوش الصادق وهو بالعربية أنش. وقال مغلطاي: يانش ومعناه الصادق، ذكره النور وانتقلت إليه رئاسة الخلق بعد أبيه وقام مقامه، وكان على طوله وبياضه وجماله وعاش تسعمائة وخمسين أو عشرين أو خمسًا وستين سنة. "بوصية آدم" وهي "أن لا يضع هذا النور" الذي كان في وجه آدم كالشمس "إلا في المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية تنتقل من قرن إلى قرن" أي: من طائفة إلى أخرى، فإن النور إذا كان في شيث مثلا كان موجودًا في مجموع من عاصره، فإذا مات وانتقل لولده انتقل النور من مجموع تلك الطائفة إلى مجموع طائفة ابنه وهكذا، أو المراد من واحد إلى واحد وسماه قرنًا تجوزًا، قال الحافظ: والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال: ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل، قال: ويطلق القرن على مدة من الزمان اختلف في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، لكن لم أر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 إلى أن أدى الله النور إلى عبد المطلب وولده عبد الله، فطهر الله تعالى هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المرضية. قال ابن عباس -فيما رواه البيهقي في سننه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء، ما ولدني   قائل. وفي حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور، وفي المحكم: هو القدر المتوسط من أعمال أهل كل زمن وهذا أعدل الأقوال، وبه صرح ابن الأعرابي، وقال: إنه مأخوذ من الأقران، ويمكن حمل المختلف عليه من الأقوال ممن قال: القرن أربعون فصاعدًا. أما من قال: إنه دون ذلك، فلا يلتئم على هذا القول. ا. هـ. "إلى أن أدى" أوصل "الله النور إلى عبد المطلب وولده عبد الله" أي: ثم وعبر بالواو لظهوره إذ الاشتراك في وقت واحد لم يقع، أي: ثم أسعد الله آمنة بذلك النور ولم يوص عبد المطلب ولده بذلك لتعاطيه تزويجه من آمنة مع علمه بمكانها من النسب، وإن نكاحه لها لا أثر فيه من الجاهلية فكفاه ذلك عن الوصية هذا، وزعم أن هذا ظاهر فيمن ظهر فيه النور، أما من لم يظهر فيه فمن أين وصلت إليه الوصية؟ فيه نظر، ففي الخميس كغيره: وذلك النور كان ينتقل من جبهة إلى جبهة، وكان يؤخذ في كل مرتبة عهد وميثاق، أنه لا يوضع إلا في المطهرات، فأول من أخذه آدم من شيث وهو من ابنه وهكذا. ا. هـ. فلو لم يظهر في الجميع لما قالوا: كان ينتقل من جبهة إلى جبهة، ويفرض تسليمه فقد أجاب عنه شيخنا: بأن ذلك إما بعلم ضروري أودعه الله في الموصي أو بأن عدم ظهوره فيمن كان من أصوله ليس نفيًا للنور من أصله بل يجوز تفاوته فيهم في ذاته، فمنهم من يظهر فيه تامًا بحيث يدركه من رآه بلا مزيد تأمل، ومنهم من يوجد فيه أصل النور فلا يدرك إلا بمزيد تأمل. "فطهر الله تعالى هذا النسب الشريف من سفاح الجاهلية" هي ما قبل البعثة سموا بذلك لكثرة جهالاتهم، ويقال: هي ما قبل الفتح وهو الظاهر، فقد خطب صلى الله عليه وسلم بهدم أمر الجاهلية، وما كانت عليه في الفتح. وقد قال ابن عباس: سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسًا دهاقًا، وابن عباس ولد في الشعب بعد المبعث، قاله في النور. "كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المرضية" عند العلماء وهي الصحيحة والحسنة، كالضعيفة المعتضدة، وفيه إشعار بوجه اقتصاره على ما ذكر من الأحاديث والإعراض عن غيرها مع كثرته، فكأنه قال: اقتصرت عليها لثبوتها على غيرها. "قال ابن عباس فيما رواه البيهقي في سننه" قال السبكي: لم يصنف أحد مثله تهذيبًا وجوده، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ولدني" " أي: مسني، "من سفاح الجاهلية، شيء ما ولدني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 إلا نكاح الإسلام". والسفاح -بكسر السين المهملة- الزنا، والمراد به هنا: أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم يتزوجها بعد ذلك. وروى ابن سعد وابن عساكر، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه محمد قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم ........................   إلا نكاح الإسلام" أي: نكاح كنكاحه في كونه بعقد صحيح يبيح الوطء، وإن لم يجمع شرائط الإسلام الآن فلا يرد أن نكاح الأخت كما وقع لشيث ليس من نكاح الإسلام الآن إذ المقصود نفي الفجور، فشمل الزواج وغيره، ودخل فيه أم إسماعيل، فإنها كانت ملكًا لإبراهيم بإتفاق المؤرخين وهبتها لها سارة، "والسفاح، بكسر السين المهملة" والفاء فألف فحاء مهملة، "الزنا" من سفحت الماء إذا صببته، فكأنه أراق ماءه وأضاعه وسواء كان جهرًا أو سرًا، كما هو ظاهر إطلاقه؛ كالقاموس والنور والمصباح. وفي الأنوار تفسيره بالمجاهرات. "والمراد به هنا" في الحديث: "أن المرأة تسافح رجلا مدة، ثم" إذا أعجبته وأعجبها "يتزوجها بعد ذلك" والأولى كما قال شيخنا: أن يراد به ما هو أعم من الزنا، فإن جملة الأحاديث دلت على نفي جميع نكاح الجاهلية عن نسبه من نكاح زوجة الأب لأكبر بنيه، والجمع بين الأختين، ونكاح البغايا وهو أن يطأ البغي جماعة متفرقون فإذا ولدت ألحق بمن غلب عليه شبهه منهم. ونكاح الاستبضاع وهو أن المرأة إذا طهرت من الحيض قال لها زوجها: أرسلي لفلان استبضعي منه ويعتزلها زوجها حتى يبين حملها منه، فإن بان أصابها زوجها إن أحب. ومن نكاح الجمع وهو أن يجتمع رجال دون عشرة ويدخلوا على بغي ذات راية كلهم يطؤها، فإذا وضعت ومر لها ليال بعده أرسلت لهم فلا يتخلف رجل منهم، فتقول: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت فيلحق به لا يستطيع نفيه وإن لم يشبهه. ا. هـ. ملخصًا. "وروى ابن سعد وابن عساكر، عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي" أبي المنذر المتوفى سنة أربع وثمانين ومائة؛ كما قال المسعودي. قال الدارقطني: هشام رافضي ليس بثقة، وذكره ابن حبان في الثقات. "عن أبيه محمد" بن السائب بن بشر الكلبي، أبي النضر الكوفي المفسر النسابة الأخباري، روى عن الشعبي وعنه ابنه وأبو معاوية متروك متهم بالكذب، مات سنة ست وأربعين ومائة، "قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم" استشكل بأن أمهاته لا تبلغ هذا العدد، فقال الشامي: يريد الجدات وجدات الجدات من قبل أبيه وأمه. ا. هـ. وفي نسيم الرياض ما محصله: إذا تأملت قولهم لم يكن قبيلة من العرب إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة أو قرابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فما وجدت فيهن سفاحًا ولا شيئًا مما كان في أمر الجاهلية. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، لم يصبني من نكاح أهل الجاهلية شيء". رواه الطبراني في الأوسط, وأبو نعيم وابن عساكر. وروى أبو نعيم، عن ابن عباس، مرفوعًا: "لم يلتق أبواي قط على سفاح، لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى مهذبًا، لا تتشعب شعبتان   عرفت المراد، فإنك إذا نظرت لقبيلة، فجميع ذكورهم آباء له، وجميع نسائهم جدات أو عمات أو خالات، فعمد قرابتهم ولادة له، والمراد أن نسبه بحواشيه وأطرافه جميل لم يمسه دنس. "فما وجدت فيهن سفاحًا" زنا، "ولا شيئًا مما كان في أمر الجاهلية" عطف خاص على عام لا عكسه، كما زعم فإنهم كانت لهم أنكحه لا يعونها سفاحًا فحرمها الشارع؛ كنكاح المصافحة ونكاح المقت هو نكاح زوجة الأب، وانتقد بأن النضر خلف على زوج أبيه ورد بأن هذا على تسليمه لم يكن محرمًا في شرع من قبلنا، كما سيأتي إيضاحه في النسب الشريف. "و" ورد "عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح" " وذلك "من لدن آدم" أي: من عند أول وَلَد وُلِد له هو في أصوله عليه السلام، واستمر ذلك ممتدًا "إلى أن ولدني أبي وأمي" فهو متعلق بمحذوف، "لم يصبني من نكاح أهل الجاهلية" أي: ما كانوا عليه من زنا وغيره "شيء"، رواه الطبراني. قال الهيثمي الحافظ: بسند رجاله ثقات إلا محمد بن جعفر تكلم فيه وصحح له الحاكم "في" معجمه "الأوسط" الذي ألفه في غرائب شيوخه، يقل: ضمنه ثلاثين ألف حديث، وفي تاريخ ابن عساكر وغيره: أن الطبراني كان يقول: هذا الكتاب روحي؛ لأنه تعب عليه. "وابن عساكر" وكذا ابن عدي. "وروى أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الحافظ "عن ابن عباس مرفوعًا" له صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لم يلتق أبواي قط على سفاح" " أي: أحد من آبائي مع واحدة من أمهاتي، لا خصوص أبيه وأمه الدال عليهما لفظ التثنية، بدليل أنه رتب على ذلك قوله: "لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة" حال كونه "مصفى مهذبًا" صفة لازمة لتقارب التصفية والتهذيب. ففي القاموس: هذبه يهذبه هذبًا، قطعه ونقاه وأصلحه وأخلصه؛ كهذبه والهذب محركة الصفاء والخلوص. وفي نسخة: مصطفى مهذبًا بزيادة طاء من الاصطفاء، "لا تتشعب شعبتان"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إلا كنت في خيرهما". وعنه، في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 129] . من نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبيًا. رواه البزار. وعنه أيضًا في الآية قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه. رواه أبو نعيم. وعن جعفر بن محمد عن أبيه، في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت من نكاح غير سفاح". وعن أنس قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} -بفتح الفاء- وقال: "أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا".   أي: لا تتفرع، أي: لا يولد من أصل طائفتان، "إلا كنت في خيرهما" ورد "عنه" أي: عن ابن عباس "في" تفسير "قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ} تفعل، أي: انتقالك {فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 129] أن المراد بهم "من" صلب "نبي إلى نبي" ولو مع الوسائط وفعلت ذلك معك، "حتى أخرجتك نبيًا" فلا يرد أن المطابق للآية حتى أخرجك، وهذا أحد تفاسير في الآية يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في ذكر الأبوين حيث تعرض المصنف لذلك. "رواه البزار" الحافظ العلامة الشهير أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، صاحب المسند الكبير المعلل، مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وكذا رواه ابن سعد وأبو نعيم في الدلائل بسند صحيح، والطبراني ورجاله ثقات. "و" ورد "عنه" أي: عن اب عباس "أيضًا في" تفسير "الآية، قال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتقلب" ينتقل "في أصلاب الأنبياء حتى" إلى أن "ولدته أمه" آمنة "رواه أبو نعيم," ورد "عن جعفر" الصادق "بن محمد عن أبيه" محمد الباقر "في" تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ، "قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قال" محمد "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خرجت من نكاح غير سفاح" " وهذا مرسل؛ لأن محمدًا تابعي. "و" ورد "عن أنس" بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي الصحابي الشهير خادم المصطفى مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، "قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم" قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] ، بفتح الفاء، وقال: "أنا أنفسكم نسبًا" " مصدر مطلق الوصلة بالقرابة، "وصهرًا" أي من جهة الآباء والأمهات قال ابن السكيت: كل من كان من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وحسبا -بفتحتين- ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح". رواه ابن مردويه. وفي الدلائل لأبي نعيم، عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم عن جبريل قال: ........   الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهو أحماء، ومن قبل المرأة ويجمع الصنفين الأصهار، وفي الأنوار في قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] ، أي: قسمه قسمين ذوي نسب، أي: ذكورًا ينسب إليه وذوات صهر، أي: إناثًا يصاهر بهن؛ كقوله: وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى. "وحسبا -بفتحتين" أي: شرفًا ثابتًا لي ولآبائي؛ كما قال الأزهري. وقال ابن السكيت: الحسب يكون في الإنسان وإن لم يكن في آبائه. ا. هـ. والواقع هنا أنه فيه وفي آبائه، وفي الصحاح: الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آباه، أي: أنا أنفسكم آباء وأمهات ومفاخر آباء" "ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا" أي: أنا وآبائي "نكاح"، إسناده إليهم بتأويل، أي: ذوو نكاح، أو على التجوز في الإسناد كأنهم تجسموا من النكاح؛ كقوله: فإنما هي إقبال وإدبار وفي رواية: كلها نكاح بالتأنيث باعتبار الجماعة، أي: كل جماعة آبائي نكاح فلا يرد أنهم عقلاء، فكان يقال كلهم، أو الضمير للوطآت، وقضية ذا الحديث أنه: لا سفاح في آبائه مطلقًا، واستظهر محقق أن المراد طهارة سلسلته فقط، واستشهد بالخبر المار: "لم يلتق أبواي قط على سفاح" وعندي أن الصواب: خلاف هذا التحقيق العقلي؛ لظهور إطلاق نفي السفاح عنهم في هذا الحديث، ويؤيده استقراء الكلبي المحمول على الحواشي؛ كما مر، فإذا انتفى عن حواشيه فكيف يحتمل وقوعه في نفس الآباء والأمهات في غير السلسلة الشريفة، وأما الاستشهاد بالخبر فضعيف، كما لا يخفى. "رواه" أبو بكر الحافظ أحمد بن موسى "بن مردويه" الأصبهاني اللبيب العلامة، ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وصنف التاريخ والتفسير المسند والمستخرج على البخاري، وكان فهمًا بهذا الشأن بصيرًا بالرجال طويل الباع مليح التصنيف، مات لست بقين من رمضان سنة عشر وأربعمائة، قال الحافظ ابن ناصر في مشتبه النسبة: مردويه بفتح الميم، وحكى ابن نقطة كسرها عن بعض الأصبهانيين، والراء ساكنة، والدال المهملة مضمومة، والواو ساكنة، والمثناة تحت مفتوحة تليها هاء. ا. هـ. "وفي الدلائل لأبي نعيم" أحمد بن عبد الله الحافظ "عن عائشة" الصديقة بنت الصديق المكثرة ذات المناقب الجمة، يأتي ذكرها في الزوجات إن شاء الله تعالى. قال المصنف: وعائشة بالهمزة وعوام المحدثين يبدلونها ياء، "عنه صلى الله عليه وسلم، عن جبريل" بلفظ: "قال" لي جبريل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم. وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط. قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن. وفي البخاري عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه". وفي مسلم عن واثلة بن الأسقع ............................   "قلبت مشارق الأرض ومغاربها"، أي: فتشتهم وبحثت عن أحوالهم، سماه تقليبًا تشبيهًا له بتحريك الشيء ظهر البطن وعكسه، وفي القاموس: قلب الشيء حوله ظهر البطن؛ كقلبه والتحريك يلزمه الإحاطة بالشيء ومعرفة أحواله عرفًا، فأطلق التقليب وأراد لازمه. "فلم أر رجلا أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم". قال الحكيم الترمذي: إنما طاف الأرض ليطلب النفوس الطاهرة الصافية المتزكية بمحاسن الأخلاق، ولم ينظر للأعمال؛ لأنهم كانوا أهل جاهلية، إنما نظر إلى أخلاقهم فوجد الخير في هؤلاء، وجواهر النفوس متفاوتة بعيدة التفاوت. ا. هـ. "وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط" والإمام أحمد والبيهقي والديلمي وابن لال وغيرهم. "قال الحافظ" أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي "بن حجر" الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي، ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وعانى أولا الأدب وتعلم الشعر فبلغ الغاية, ثم طلب الحديث فسمع الكثير ورحل وبرع فيه وتقدم في جميع فنونه وانتهت إليه الرحلة والرئاسة في الحديث في الدنيا بأسرها، فلم يكن في عصرها حافظ سواه وألف كتبًا كثيرة، وأملى أكثر من ألف مجلس، وتوفي في ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة، قال السيوطي: وختم به الفن "لوائح الصحة لائحة" ظاهرة "على صفحات هذا المتن" الحديث والصفحة لغة من كل شيء: جانبه، ففيه استعارة بالكناية شبه المتن بمكان له جوانب وأثبت له الصفحات تخييلا. "وفي" صحيح "البخاري" في صفة النبي صلى الله عليه وسلم "عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا فقرنًا" ". حال تفصيل والفاء للترتيب في الوجود أو الفضل نحو الأكمل فالأكمل، ومنه: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 1, 2] ، "حتى كنت من القرن الذي كنت" أي: وجدت "منه". وفي مسلم عن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف ابن عبد العزى الكناني الليثي من أهل الصفة غزا تبوكًا، وعنه مكحول ويونس بن ميسرة عاش ثمانيًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم". رواه الترمذي. وعن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق، فجعلني في خير فرقهم، وخير الفريقين   وتسعين سنة، ومات سنة خمس وثمانين وأبوه صحابي أيضًا؛ كما في الإصابة. "قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى" اختار "كنانة" عدة قبائل أبوهم كنانة ابن خزيمة "من ولد إسماعيل" وفي رواية الترمذي: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة" فكان في رواية مسلم اختصارًا. "واصطفى قريشًا من كنانة" ورواية الترمذي: "واصطفى من بني كنانة قريشًا" وهو قريب وفيه إبطال للقول بأن جماع قريش مضر وللآخر أنه الياس، "واصطفى من قريش بني هاشم" غاير أسلوب ما قبله للتعظيم. "واصطفاني من بني هاشم" زاد ابن سعد من مرسل أبي جعفر الباقر ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار ابن عبد المطلب من بني هاشم، قال الحليمي: أراد تعريف منازل المذكورين ومراتبهم؛ كرجل يقول: كان أبي فقيهًا، لا يريد الفخر؛ بل تعريف حاله دون ما عداه، وقد يكون أراد به الإشارة بنعمة الله عليه في نفسه وآبائه على وجه الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. ا. هـ. ونقله عنه البيهقي في الشعب وأقره، وقال الحافظ: ذكره لإفادة الكفاءة والقيام بشكر النعم والنهي عن التفاخر بالآباء، موضعه مفاخرة تفضي إلى تكبر أو احتقار مسلم. "رواه" أي: حديث واثلة "الترمذي" أتم منه، كما علم، وقال: حديث حسن صحيح غريب. ا. هـ. وفيه فضل إسماعيل على جميع ولد إبراهيم حتى إسحاق، وفضل العرب على العجم. قال ابن تيمية: وليس فضل العرب فقريش فبني هاشم، بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، أي: باعتبار الأخلاق الكرام والخصال الحميدة واللسان العربي، قال: وبذلك يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسًا ونسبًا، وإلا لزم الدور. "و" روى الترمذي "عن العباس" بن عبد المطلب عم المصطفى وصنو أبيه، كان يجله ويعظمه ويأتي إن شاء الله تعالى في الأعمام، "قال" قلت يا رسول الله! إن قريشًا تذاكروا أحسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة، أي: كناسة، فـ"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق الخلق" " أي: المخلوقات وأل للاستغراق فتدخل الملائكة فهو نص في أفضلية جنس البشر على جنس الملك، أو المراد الثقلان، أو المراد بنو آدم فرقًا، "فجعلني" صيرني "في خير فرقهم" جمع فرقة، أي: أشرفها. وفي نسخة: فرقتهم، أي: فرقة منهم. "و" جعلني "خير الفريقين" فهو بالنصب عطف على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ثم تخير القبائل فجعلني في خير القبيلة، ثم تخير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفسًا، وخيرهم بيتا أي أصلا". وفي حديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال: إن الله اختار خلقه ...........   محل في خير، كذا أعربه الواعظ، فإن كان رواية وإلا فيجوز جره عطفًا على مجرور في عطف تفسير، واقتصر عليه شيخنا. والمراد بالفرق الذين هو خيرهم العرب. "ثم تخير القبائل" من العرب، أي: اختار خيارهم فضلا، "فجعلني في خير القبيلة" منهم وهي قريش، أي: قدر إيجادي في خير قبيلة، "ثم تخير البيوت" أي: اختارهم شرفًا، "فجعلني في خير بيوتهم" أي: أشرفها وهم بنو هاشم وإذا كان كذلك، "فأنا خيرهم نفسًا" أي: روحًا وذاتًا، "وخيرهم بيتًا" وفسره بقوله: "أي أصلا". إذ جئت من طيب إلى طيب إلى صلب أبي بفضل الله علي ولطفه في سابق علمه، ولم يقل: ولا فخر، كما في خبر: "أنا سيد ولد آدم"؛ لأن هذا بحسب حال المخاطبين في صفاء قلوبهم بما يعلمه من حالهم أو هذا بعد ذاك. وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله حين خلق الخلق بعث جبريل، فقسم الناس قسمين، فقسم العرب قسمًا، وقسم مضر قسمًا، وقريشًا قسمًا، وكانت خيرة الله في قريش، ثم أخرجني من خير من أنا منهم"، رواه الطبراني وحسن العراقي إسناده، وهو شاهد الخبر المصنف وكالشرح له الجنة قال بعض العلماء: والتفاضل في الأنساب والقبائل والبيوت باعتبار حسن خلقه الذات، والتفاضل فيما قام بها من الصفات حتى في الأقوات والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، وهذا جار في سائر المخلوقات فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا اتجاه لما عساه يقال: الإنسان كله نوع، فما معنى التفاضل في الأنساب. ا. هـ. "و" قال صلى الله عليه وسلم "في حديث رواه الطبراني" في الأوسط، "عن" عبد الله "بن عمر" الخطاب أبي عبد الرحمن العالم المجتهد العابد: "لزوم السنة الفرور من البدعة الناصح للأمة", روى ابن وهب عن مالك: بلغ ابن عمر ستًا وثمانين سنة وأفتى ستين سنة، وقال نافع: ما مات حتى أعتق أكثر من ألف وشهد الخندق وما بعدها، قال الحافظ ولد في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث؛ لأنه ثبت أن كان يوم بدر ابن ثلاث عشرة سنة، وهي بعد المبعث بخمس عشرة، ومات في أوائل سنة ثلاث وسبعين. "قال" أي: المصطفى كما علم لا ابن عمر؛ لأنه مرفوع عند الطبراني لا موقوف. "إن الله اختار" أي: اصطفى "خلقه" مميزًا لهم على غيرهم ممن لو تعلقت بهم الإرادة ووجدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فاختار منهم بني آدم، ثم اختار من بني آدم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارًا من خيار، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم. ثم أعلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت، لانتهاء صفوتهما إليه، وقصور نسبهما عليه، ليكون مختصًا بنسب جعله الله تعالى للنبوة غاية ................   كانوا دونهم في الفضل لكونهم لم يختاروا، فلا يرد أن الاختيار إنما يكون فيما يختار من شيء، ولا يقال اختار شيئًا، إذ لا بد من مختار ومختار منه، ومحصل الجواب اختيارهم ممن يقدر وجودهم، "فاختار منهم بني آدم، ثم اختار من بني آدم العرب" كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى:"ثم اختار بني آدم، فاختار منهم العرب"، والمراد: نظر إليهم فاختار ... إلخ. فلا يقال لا حاجة له بل لا يصح؛ لأنه عين ما قبله. "ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارًا من خيار، ألا من أحب العرب، فبحبي" أي: فبسبب حبه لي "أحبهم، ومن أبغض العرب" أظهر للتعليم "فببغضي" بسبب بغضه لي "أبغضهم" وقد روى الترمذي، وقال: حسن غريب عن سلمان رفعه: "يا سلمان لا تبغضني، فتفارق دينك"، قلت: يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله؟ قال: "تبغض العرب فتبغضني"، وروى الطبراني عن علي رفعه: "لا يبغض العرب إلا منافق". "ثم اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يشركه" بفتح الياء والراء بينهما شين ساكنة، "في ولادته من أبويه أخ ولا أخت" المراد أنهما لم يلدا غيره؛ كما قال الواقدي: أنه المعروف عند العلماء. قال سبط ابن الجوزي: لم يتزوج عبد الله قط غير آمنة ولم تتزوج آمنة غيره. قال: وأجمع العلماء على أن آمنة لم تحمل بغيره صلى الله عليه وسلم، قال: وقولها: لم أحمل حملا أخف منه، المفيد حملها بغيره خرج على وجه المبالغة. وقال الحافظ ابن حجر: جازف سبط ابن الجوزي كعادته في نقل الإجماع ولا يمتنع أن تكون أسقطت من عبد الله سقطًا، فأشارت بقولها المذكور إليه. ا. هـ. وما رده بنقل كما ترى، بل بتجويز إنما يصح على ضعيف، وهو تأخر موت والده بعد ولادته؛ لأنها حملت بالمصطفى عقب التزوج؛ كما هو صريح في الأخبار الآتية. ولم تسقط قبله شيئًا ولم يتفوه به متفوه، فأين المجازفة؟ وإنما لم يلدا غيره. "لانتهاء صفوتهما" أي: خالصهما "إليه وقصور نسبهما عليه" أي: عدم مجاوزته إلى غيره تكريمًا، "ليكون مختصًا بنسب جعله الله للنبوة غاية" أي: خاتمًا للنبوة بحيث لا يولد بعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ولتمام الشرف نهاية، وأنت إذا اختبرت حال نسبه، وعلمت طهارة مولده تيقنت أنها سلالة آباء كرام. فهو صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأبطحي الحرمي الهاشمي القرشي، نخبة بني هاشم، المختار المنتخب من خير بطون العرب وأشرفها في الحسب وأعرقها في النسب، وأنضرها عودًا، وأطولها عمودًا، وأطيبها أرومة، وأعزها جرثومة، وأفصحها لسانًا، وأوضحها بيانًا، وأرجحها ..............   نبي، "ولتمام الشرف نهاية" لا غاية بعدها "وأنت إذا اختبرت حال نسبه وعلمت طهارة مولده تيقنت أنها" أي: ذاته الشريفة "سلالة آباء كرام، فهو صلى الله عليه وسلم النبي" بالهمز وتركه وهو لغته صلى الله عليه وسلم. وفي المستدرك: عن أبي ذر أن رجلا قال: يا نبي الله، بالهمز، فقال صلى الله عليه وسلم: "لست نبي الله"، قال الزركشي: أنكر الهمز لأنه لم يكن لغته. وقال الجوهري والصغاني: إنما أنكره لأن الرجل أراد يا من خرج من مكة إلى المدينة، يقال: نبأت من أرض إلى أرض إذا خرجت منها إلى أخرى. ا. هـ. وهذا هو الأحسن؛ لأن المصطفى يخاطب كل إنسان بلغته، ألا ترى إلى خبر: "ليس من امبر امصيام في امسفر". "العربي" نسبة إلى العرب خلاف العجم، وهم عاربة وهم الخلص وهم سبع قبائل ومتعربة، وهم بنو قحطان وليسوا بخلص ومستعربة وليسوا بخلص أيضًا، قال ابن دحية: وهم بنو إسماعيل، قال الشامي ملخصًا. "الأبطحي" نسبة إلى أبطح مكة وهو مسيل واديها، وهو ما بين مكة ومنى ومبتدؤه لمحصب، قال الشامي. وفي المختار البطحاء كالأبطح ومنه بطحاء مكة وعليه فهو نسبة إلى بطحاء مكة، ولكن القياس الأول. "الحرمي" إلى الحرمين "الهاشمي القرشي" عام بعد خاص، "نخبة" بالرفع نعت النبي "بني هاشم" وفي القاموس: النخبة بالضم وكهمزة المختار وانتخبه اختاره، فقوله: "المختار المنتخب" لعل مراده من جميع الخلق، وفي الكلام حذف هو ومعلوم أنهم خير العرب، فهو المختار من جمع الناس، "من خير بطون العرب، وأشرفها في الحسب" أي: المفاخر، "وأعرقها" بالقاف: أثبتها وأقواها "في النسب، وأنضرها" أحسنها "عودًا" أي: طيبًا وأصلا، كأنه مأخوذ من عهود البخور شبه أصله من ظهوره بالعود واستعار له اسمه، "وأطولها عمودًا" أعظمها أصلا يستند إليه ويتقوى به، "وأطيبها أرومة" بفتح الهمزة وتضم، أي: أصلا؛ كما في القاموس. "وأعزها جرثومة" بضم الجيم أصلا؛ كما في القاموس، فالجمع بين هذا وما قبله للإطناب إذا المراد منهما واحد، "وأفصحها لسانًا" لغة، "وأوضحها بيانًا" تبيينًا وإظهارًا للمراد، "وأرجحها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ميزانًا وأصحها إيمانًا، وأعزها نفرًا، وأكرمها معشرًا، من قبل أبيه وأمه، ومن أكرم بلاد الله على الله وعباده. فهو محمد بن عبد الله، الذبيح, ابن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، في قول محمد بن إسحاق، وهو الصحيح، وقيل ..............................   ميزانًا" عملا يفتخر به عبر عنه بميزان؛ لأنه آلة يميز بها الوافي من غيره، "وأصحها إيمانًا" تصديقًا بما يوافق الحق في كل زمن، "وأعزها نفرًا" بفتحتين حشمًا وأعوانًا تمييز محول عن المضاف، والأصل نفره أعز، فحذف المضاف وأضيف أعز إلى الضمير فحصل الإبهام، فبين بذلك المضاف، "وأكرمها معشرًا" طائفة وجماعة ينسب إليهم "و" أكرمها "من قبل" جهة "أبيه وأمه" أكرمها من قبل كونه "من أكرم بلاد الله على الله" يعني مكة، "و" من أكرم "عباده" عليه وهم العرب، "فهو محمد" اسم مفعول على الصفة للتفاؤل بأنه يكثر حمده، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق به في المقصد الثاني. قال في الفتح: المحمد الذي حمد مرة بعد أخرى أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة، قال الأعشى: إليك أبيت اللعن كان وجيفها ... إلى الماجد القرم الجواد المحمد "ابن عبد الله" قال الحافظ: لم يختلف في اسمه. ا. هـ. قال ابن الأثير: وكنيته أبو قثم بقاف فمثلثة، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم مأخوذ من القثم وهو الإعطاء، أو من الجمع، يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم، وقيل أبو محمد، وقيل: أبو أحمد. ا. هـ. فإن قلنا بالمشهور من وفاته والمصطفى حمل فلعله كني بالإلهام، وإن قلنا بعد ولادته، فظاهر. "الذبيح" بالجر نعت لعبد الله "ابن" شيخ البطحاء، "عبد المطلب" مجاب الدعوة محرم الخمر على نفسه، قال ابن الأثير: وهو أول من تحنث بحراء كان إذا دخل شهر رمضان صعده وأطعم المساكين، وقال ابن قتيبة: كان يرفع من مائدته للطير، والوحوش في رءوس الجبال، فكان يقال له الفياض لجوده ومطعم طير السماء؛ لأنه كان يرفع من مائدته للطير "واسمه شيبة الحمد" مركب إضافي، قال: على شيبة الحمد الذي كان وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدري "في قول محمد بن إسحاق" بن يسار المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق، الحافظ إمام المغازي صدوق، لكنه يدلس ورمي بالتشيع والقدر توفي سنة خمسين ومائة، "وهو" كما قال السهيلي "الصحيح" وعزاه في النور والفتح للجمهور، "وقيل" في سبب تسميته بشيبة الحمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سمي به لأنه ولد في رأسه شيبة. وقيل: اسمه عامر، وهو قول ابن قتيبة، وتابعه على ذلك المجد الشيرازي، وكنيته أبو الحارث، بابن له أكبر ولده. قيل: إنما قيل له عبد المطلب، لأن أباه هاشمًا قال لأخيه المطلب، وهو بمكة، حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك بيثرب، فمن ثم سمي عبد المطلب ..................   "سمي به لأنه ولد في رأسه شيبة" واحدة الشيب، وأقل ما تصدق به شعرة؛ لأنها أقل ما يتحقق فيه البياض. وفي رواية: وكانت ظاهرة في ذوائبه وأخرى وكان وسط رأسه أبيض، وقيل: لأن أباه أوصى أمه بذلك، وبالأول جزم المصنف في شرح البخاري وسوى بينهما الشامي، ولعل وجه إضافته إلى الحمد رجاء أنه يكبر ويشيخ ويكثر حمد الناس له وقد حقق الله ذلك فكثر حمدهم له؛ لأنه كان مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأمور، وشريفهم وسيدهم كمالا وفعالا. "وقيل: اسمه عامر وهو قول" أبي محمد عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" بقاف مصغر الدينوري بفتح الدال وتكسر النحوي اللغوي مؤلف أدب الكتاب وغيره، ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ومات سنة سبع وستين، وهذا حكاه في الفتح بلفظ زعم ابن قتيبة، وقد قال أبو عمر: إنه لا يصح، "وتابعه" أي: تبعه "على ذلك المجد" مجد الدين محمد بن يعقوب "الشيرازي" بكسر الشين المعجمة وفتح الراء وزاي نسبة إلى شيراز قرية بنواحي سرخس، مؤلف القاموس وغيره، مجدد اللغة على رأس المائة الثامنة ومهر فيها وهو شاب وتفقه وطلب الحديث وجال في البلدان، وكان له فيها الحظوة التامة، حتى عند الملوك وفي شيوخه كثرة وأخذ عنه الحافظ وغيره، ومات سنة سبع عشرة وثمانمائة وقد جاوز التسعين ممتعًا بحواسه. "وكنيته" أي: عبد المطلب "أبو الحارث بابن" لفظ مختص بالذكر إجماعًا حكاه الفكهاني في شرح العمدة، "له أكبر ولده" أي: أولاده وهو يكون واحد وجمعًا، وقيل: أبو البطحاء، "قيل: وإنما قيل له عبد المطلب؛ لأنه أباه هاشمًا قال لأخيه المطلب" بن عبد مناف "وهو بمكة حين حضرته الوفاة: أدرك عبدك" استعطافًا أو على عادة العرب في قولهم لليتيم المربى في حجر شخص عبده فسماه عبدًا باعتبار الأول؛ لأنه رأى نفسه مختصرًا وأنه لا يقوم على ابنه غيره، "بيثرب" اسم المدينة المنورة قبل الإسلام، وقد غيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى طيبة وسماها لأنها طابة، رواه مسلم في آخر الحج. "فمن ثم" أي: من هنا، أي: من أجل قول هاشم لأخيه أدرك عبدك "سمي عبد المطلب" ولا شك أن هذا قول غير القول بأنه مات بغزة، فلا وجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه -وهو بهيئة بذة- فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدي، حياء أن يقول: ابن أخي، فلما أدخله وأحسن من حاله، أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك قيل له: عبد المطلب. وهو أول من خضب بالسواد من العرب، وعاش مائة وأربعين سنة.   لإيراده عليه، "وقيل: إن عمه المطلب جاء به إلى مكة رديفه وهو بهيئة بذة" بفتح الموحدة والذال المعجمة المشددة، أي: رثة، وفي المنتقى: كان عليه أخلاف ثياب وأثرت فيه الشمس، "فكان يسأل عنه فيقول: هو عبدي" يقول ذلك "حياء من أن يقول ابن أخي" فيعترض عليه بكونه على تلك الهيئة، وكان بها مع أنه كان عند أمه بالمدينة؛ لأنه أخذه بغير علمها وهو يلعب، وقيل: إنما أخذه بعلمها فلعله استعجل لئلا تمنعه أمه بعد، "فلما أدخله" مكة "وأحسن من حاله أظهر أنه ابن أخيه، فلذلك" أي: قول المطلب هو عبدي، "قيل له" لشيبة الحمد "عبد المطلب، وبهذا القول جزم في شرح البخاري وجزم الحافظ بما نصبه: سمي عبد المطلب واشتهر بها لأن أباه لما مات بغزة، وكان خرج إليها تاجرًا، ترك أمه بالمدينة، فأقامت عند أهلها من الخزرج فكبر عبد المطلب فجاء عمه المطلب فأخذه ودخل به مكة، فرآه الناس مردفه، فقالوا: هذا عبد المطلب؛ فغلبت عليه في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق وغيره. ا. هـ. وقيل: سمي به على عادة العرب في قولهم لليتيم المربى في حجر إنسان عبده، وأتى بقوله: "وهو" كما قال السهيلي "أول من خضب" بابه ضرب "بالسواد من العرب" للإشعار باستمراره على إظهار الصفات الدالة على قوته وشجاعته إلى وفاته. روى ابن سعد عن المسور بن مخرمة، قال: أول من خضب بالوسمة ن قريش بمكة عبد المطلب، كان إذا ورد اليمن ورد على عظيم من حمير، فقال: هل لك من تغيير هذا البياض فتعود شابًا، فقال: ذلك إليك، فأمره به فخضب بحناء ثم علا بالوسمة، فقال له عبد المطلب: زودنا من هذا، فزوده فأكثر فدخل مكة بليل ثم خرج عليهم بالغد، كان شعره حلك الغراب، فقالت له نثيلة: لو دام لك هذا لكان حسنًا، فقال عبد المطلب: لو دام لي هذا السواد حمدته ... وكان بديلا من شباب قد انصرم تمتعت منه والحياة قصيرة ... ولا بد من موت نثيلة أو هرم وماذا الذي يجدي علي بحفظه ... ونعمته يومًا إذا عرشه انهدم فموت جهير عاجلا لا سوى له ... أحب إلي من مقالهم حكم قال: فخضب أهل مكة بالسواد، "وعاش مائة وأربعين سنة" فيما قاله عالم النسب الزبير بن بكار، كما حكاه سيد الناس عن أبي الربيع بن سالم عنه، قائلا: إنها أعلى ما قيل في سنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ابن هاشم، واسمه عمرو، وإنما قيل له هاشم لأنه كان يهشم الثريد لقومه في الجدب.   وحكاه مغلطاي، وجزم به السهيلي، وتبعه المصنف في شرح البخاري؛ فالتوقف فيه بأن الشامي لم يذكره عجيب، فلا يلزم من ترك مكثر الأنفال لشيء عدم وجود ما لم يحكه في غيره، فمن حفظ حجة بل أخشى أن زيادة أربعة في قول الشامي، يقال: بلغ مائة وأربعة وأربعين من تحريف النساخ لقولهم أعلى ما قيل مائة وأربعين، وقيل: عاش مائة وعشرين سنة، صدر به مغلطاي والمصنف فيما يأتي في وفاة عبد المطلب، ويأتي له مزيد ثم "ابن هاشم واسمه عمرو" قاله مالك والشافعي: منقول من العمر الذي هو العمر، أو العمر الذي هو من عمور الأسنان، أو العمر الذي هو طرف الكم، يقال: سجد على عمريه، أي: كميه، أو العمر الذي هو القرط؛ كما قال: وعمر هند كان الله صوره ... عمرو بن هند يسوم الناس تعنيتا وزاد أبو حنيفة وجهًا خامسًا، فقال: من العمر الذي هو اسم لنحل السكر، ويقال فيه عمر أيضًا، انتهى من الروض. "وإنما قيل له" لعمرو "هاشم؛ لأنه كان يهشم الثريد" بمثلثة: ما اتخذ من لحم وخبز، قال: إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد "لقومه في الجدب" بجيم مفتوحة ودال مهملة ساكنة خلاف الخصب، وفي فتح الباري؛ لأنه أول من هشم الثريد بمكة لأهل الموسم ولقومه أولا في سنة المجاعة، وفيه يقول الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف وأشعر إتيان المصنف بحرف المضارعة مع كان المفيد للتكرار بتكرر ذلك منه، وهو كذلك. ففي السبل: لما أصاب أهل مكة جهد وشدة، رحل إلى فلسطين، فاشترى منها دقيقًا كثيرًا وكعكًا، وقدم به مكة فأمر به فخبز ثم نحر جزورًا، وجعلها ثريدًا عم به أهل مكة ولا يزال يفعل ذلك بهم، حتى استقلوا. ا. هـ. وفي المنتقى كان هاشم أفخر قومه وأعلاهم وكانت مائدته منصوبة لا ترفع لا في السراء ولا في الضراء، وكان يحمل ابن السبيل ويؤدي الحقائق، وكان نور رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه يتوقد شعاعه ويتلألأ ضياؤه، ولا يراه حبر إلا قبل يده، ولا يمر بشيء إلا سجد إليه، تغدو إليه قبائل العرب ووفود الأحبار، يحملون بناتهم يعرضون عليه أن يتزوج بهن، حتى بعث إليه هرقل ملك الروم، وقال: إن لي ابنة لم تلد النساء أجمل منها، ولا أبهى وجهًا، فأقدم علي حتى أزوجكها، فقد بلغني جودك وكرمك، وإنما أراد بذلك نور المصطفى الموصوف عندهم في الإنجيل، فأبى هاشم. قال ابن إسحاق: وهو أول من مات من بني عبد مناف. واختلف في سنه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ابن عبد مناف، واسمه المغيرة. ابن قصي تصغير قصي، أي بعيد، لأنه بعد عن عشيرته في بلاد قضاعة، حين احتملته أمه فاطمة، واسمه مجمع، قال الشاعر: أبوكم قصي كان يدعي مجمعًا ... به جمع الله القبائل من فهر وقيل زيد ......................................   فقيل: عشرون، وقيل: خمس وعشرون سنة. "ابن عبد مناف" بفتح الميم وخفة النون من أناف ينيف إنافة إذا ارتفع، وقيل: الإنافة الأشراف والزيادة لقب بذلك؛ لأن أمه حبى بضم الحاء المهملة وموحدة مشددة ممالة أخدمته صنمًا عظيمًا لهم يسمى مناة، ثم نظر أبوه فرآه يوافق عبد مناة بن كنانة فحواه عبد مناف، "واسمه" كما قال الشافعي "المغيرة" منقول من الوصف والهاء للمبالغة سمي به تفاؤلا أنه يغير على الأعداء وساد في حياة أبيه، وكان مطاعًا في قريش ويدعى القمر لجماله، قال الواقدي: وكان فيه نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده لواء نزار وقوس إسماعيل. وذكر الزبير عن موسى بن عقبة أنه وجد كتابة في حجر: أنا المغيرة بن قصي آمر بتقوى الله وصلة الرحم، وإياه عنى القائل: كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف قال ابن هشام: ومات بغزة. "ابن قصي" بضم القاف، "تصغير قصي" بفتح فكسر فياء ساكنة من قصا يقصو إذا بعد، قال المصنف تبعًا للسهيلي: وصغر على فعيل؛ لأنهم كرهوا اجتماع ثلاث ياءات فحذفوا لثالثة التي تكون في فعيل، فبقي على وزن فعيل مثل فليس. ا. هـ. وفسر المصغر بقوله: "أي: بعيد؛ لأنه بعد عن عشيرته" أي: قبيلته. وفي القاموس: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون، أو قبيلة جمعه عشائر. "في بلاد قضاعة" بضم ففتح "حين احتملته أمه فاطمة" بنت سعد العذري في قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق. "واسمه مجمع" اسم فاعل من جمع "قال الشاعر: أبوكم قصي كان يدعى مجمعا ذكر ثعلب في أماليه أنه كان يجمع قومه يوم العروبة، فذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم أنه سيبعث فيهم نبي، "به جمع" بالتثقيل للمبالغة، "الله القبائل من" بني "فهر" في مكة بعد تفرقهم في البلدان، فجمعهم وأدخلهم مكة في قصة طويلة عند ابن إسحاق، "وقيل" اسمه "زيد" وجزم به في السبل والتوشيح والعيون والعراقي، واقتصر عليه في الفتح، فقال: روى السراج في تاريخه من طريق أحمد بن حنبل: سمعت الشافعي يقول: اسم المطلب شيبة الحمد، واسم هشام عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقال الشافعي، كما حكاه عنه الحاكم أبو أحمد يزيد. ابن كلاب، وهو إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة، وإما من الكلاب: جمع كلب، كأنهم يريدون الكثرة، كما يسمون بسباع.   "وقال" الإمام "الشافعي" محمد بن إدريس المطلبي المكي، نزيل مصر، عالم قريش، مجدد الدين على رأس المائتين، حفظ القرآن ابن سبع، والموطأ ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة، وكان يحيى الليل إلى أن مات في رجب سنة أربع ومائتين عن أربع وخمسين سنة، مناقبه جمة أفردها العلماء بالتصانيف. "كما حكاه عنه الحاكم" الكبير "أبو أحمد" كنية الحاكم محمد بن محمد بن إسحاق النيسابوري الإمام الحافظ الجهبذ محدث خراسان، سمع ابن خزيمة والباغندي والسراج، وسمع منه السلمي والحاكم أبو عبد الله، والمشهور الموافق له في الاسم واللقب والنسبة، وإنما افترقا في الكنية ووصفه بأنه إمام عصره في الحديث، كثير التصانيف، مقدم في معرفة شروط الصحيح والأسامي والكنى، وكان صالحًا ماشيًا على سنن السلف، مات في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة عن ثلاث وتسعين سنة. "يزيد" بزيادة ياء أوله، وهذا مقول قول الشافعي، قول ثان له، لكنه لا يساوي ما حكاه أحمد عنه؛ لأنه أجل تلامذته، ثم اقتصار المذكورين عليه يفيد أنه الأصح، فكان حق المصنف تقديمه وفي الخميس قصي هو الذي جمع الله به قريشًا، وكان اسمه زيد فسمي مجمعًا لما جمع من أمرها، وأنشد بيت المصنف فعليه مؤاخذة في مقابلته بزيد؛ لأن مجمعًا ليس اسمه الأصلي ولا هو مقابل لكونه زيدًا، كيف وبعد هذا البيت كما حكاه الماوردي وغيره: وأنتم بنو زيد وزيد أبوكم ... به زيدت البطحاء فخرًا على فخر وكان مصي أول بني كعب أصاب ملكًا طاعله به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، وحاز شرف مكة جميعًا وكان رجلًا جلدًا وعالم قريش وأقومها بالحق. "ابن كلاب" بكسر الكاف وتخفيف الام، "وهو" كما قال السهيلي "إما منقول من المصدر الذي في معنى المكالبة، نحو: كالبت العدو مكالبة" وكلابًا القاموس المكالبة المشاورة والمضايقة والتكالب التواثب، "إما من الكلاب، جمع كلب" الحيوان المعروف، "كأنهم" أي: العرب "يريدون الكثرة كما يسمون بسباع" وأنمار وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وسئل أعرابي: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء، نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو رزق ومرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا, يريدون أن الأبناء عدة للأعداء، وسهام في نحورهم، فاختاروا لهم هذه الأسماء. واسم كلاب: حكيم، وقيل: عروة. ابن مرة.   "وسئل أعرابي" هو كما في الروض: أبو الدقيش، وفي الصحاح: قال يونس لأبي الدقيش الشاعر: ما الدقيش؟ قال: لا أدري، هو أسماء نسمعها نتسمى بها, وفي حياة الحيوان: الدقش -بضم الدال المهملة وفتح القاف-: طائر صغير، "لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب، وعبيدكم بأحسن الأسماء، نحو: رزق ومرزوق ورباح" بموحدة "فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعداءنا وعبيدنا لأنفسنا، يريد" الأعرابي "أن الأبناء عدة للأعداء" بضم العين: ما أعد لحوادث الدهر من مال وسلاح؛ كما في المختار. "وسهام في نحورهم" جمع نحر: موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصدر أيضًا عطف خاص على عام على أن معنى العدة ما صدق عليه مفهوم ما أعددته ... إلخ. أو عطف جزء على كل إن أريد بالعدة مجموع ما يدخر من مال وسلاح، وعلى كل هو تشبيه بليغ، أي: كعدة أو استعارة على نحو زيد أسد. "فاختاروا لهم هذه الأسماء" دون عبيدهم؛ لأنهم لا يقصد منهم قتال غالبًا بل كان عارًا عند العرب، "واسم كلاب حكيم" بفتح الحاء وكسر الكاف وقدمه مغلطاي في الإشارة، وصححه المحب بن الشهاب بن الهائم، ويقال: الحكيم بزيادة أل، "وقيل: عروة" حكاه مغلطاي وغيره الفتح. ذكر ابن سعد: أن اسمه المهذب، وزعم محمد بن أسعد: أن اسمه حكيم، وقيل: عروة، فحكى ما قدمه المصنف بلفظ زعم وصدر بغيره، فكأنه اعتمد تصحيح ابن الهائم وتقديم مغلطاي، قال الحافظ: ولقب بكلاب لمحبته كلاب الصيد، وكان يجمعها فمن مرت به فسأل عنها، قيل هذه كلاب ابن مرة، وقال المصنف: لمحبته الصيد، وكان أكثر صيده بالكلاب، قاله المهلب وغيره: "ابن مرة" بضم الميم منقول من وصف الرجل بالمرارة، وقواه السهيلي فالتاء للمبالغة أو من وصف الحنظلة والعلقمة فالتاء للتأنيث، كذا في السبل. وفي المختار: العلقم شجر مر، ويقال للحنظل ولكل مر علقم. قال شيخنا: فالمناسب أن يقول من وصف الحنظل والعلقم بغير تاء أو بالتاء فلا يكون للتأنيث بل للوحدة، أو من اسم نبات مخصوص وهو بقلة تقطع فتؤكل بالخل أو من قولهم: مر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ابن كعب، وهو أول من جمع العروبة، وكانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم، فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم بأنه من ولده، ويأمرهم باتباعه والإيمان به، وينشد في ذلك أبياتًا منها قوله: يا ليتني شاهد فحواء دعوته .........................   الشيء، إذا اشتد مرارته أو من القوة، وعليهما فالظاهر: أن الهاء للمبالغة فمرجعهما والأول واحد، وله ثلاثة أولاد كلاب وتيم ومن نسله الصديق وطلحة ويقظة، وبه يكنى. "ابن كعب" قال السهيلي: سمي بذلك لستره على قومه ولين جانبه لهم، منقول من كعب القدم، وقال ابن دريد وغيره: من كعب القناة سمي بذلك لارتفاعه وشرفه فيهم، فكانوا يخضعون له حتى أرخوا بموته، قال الفتح، أي: إلى عام الفيل فأرخوا به، ثم بموت عبد المطلب، وقيل: من الكعب الذي هو قطعة السمن الجامد. "وهو" أي: كعب "أو من جمع" الناس لمجرد الوعظ، "العروبة" بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة، ولم يكن ثم صلاة يجمعهم إليها من الإعراب التحسين لتزين الناس فيه، قال النحاس: لا يعرفه أهل اللغة بالألف واللام، وإلا شاذًا، قال: ومعناه المبين المعظم من أعرب إذا بين، ولم يزل يوم الجمعة معظمًا عند أهل كل ملة. ا. هـ. وقال أبو موسى في ذيل الغريبين: الأفصح أن لا تدخله أل وكأنه ليس بعربي. ا. هـ. وهو اسم يوم الجمعة في الجاهلية اتفاقًا اختلف في أن كعبًا سماه الجمعة لاجتماع الناس إليه فيه، وبه جزم الفراء وثعلب وغيرهما وصحح، أو إنما سمي بعد الإسلام، وصححه ابن حزم، وقيل: أول من سماه به أهل المدينة لصلاتهم الجمعة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم مع أسعد بن زرارة أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين، وقيل غير ذلك. "وكانت تجتمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم" يعظمهم، وكان فصيحًا خطيبًا وكان يأمرهم بتعظيم الحرم ويخبرهم سيبعث فيهم نبي، أخرجه الزبير بن بكار عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مقطوعًا، وفي أمالي ثعلب: أنه قصيًا كان يجمعهم؛ كما مر ولا خلاف. "ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمهم بأنه من ولده" وعلمه هو به من الوصية المستمرة من آدم أن من كان فيه ذلك النور لا يضعه إلا في المطهرات؛ لأن ختام الأنبياء منه، وقد علمه ظاهرًا فيه قائمًا به أو من الكتب القديمة: أن من كان بصفة كذا كان محمد من ولده، ووجد تلك الصفة فيه، والأول أظهر. "ويأمرهم باتباعه" إن أدركوه "والإيمان به" عطف تفسير، فاتباعه الإيمان به، "وينشد في ذلك" أي معه "أبياتًا منها قوله: يا ليتني شاهد" حاضر "فحواء" بفاء فحاء مهملة ممدود فقط للوزن وفيه القصر أيضًا، أي: معنى "دعوته" الناس إلى الإيمان، وفي نسخة: نجواء بنون وجيم والمد للضرورة من إضافة الصفة للموصوف، أي: دعوته السر إشارة إلى ما وجد في ابتداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ....................... ... إذا قريش تبغي الحق خذلانا ابن لؤي، تصغير اللأي بوزن عصا، وهو الثور, ابن غالب, بن فهر، واسمه قريش، وإليه تنسب قريش، فما كان فوقه فكناني لا قرشي   الدعوة من الخفاء قبل الأمر بالصدع، وفي نسخة: فحواء؛ كالأولى طلعته بطاء ولام وعين. "إذا قريش تبغي" بضم الفوقية. وفتح الموحدة وكسر الغين المعجمة من بغاه الشيء بالتخفيف طلبة شدد مبالغة، وفي نسخة: حين العشيرة تبغي بفتح فسكون فكسر مخففًا من بغاه الشيء، طلبه له. "الحق خذلانا" والمراد: أنه يتمنى إدراك زمن دعوته صلى الله عليه وسلم للناس، وقريش يعارضونه ويطلبون خذلان دينه، لينصره ويظهر دينه وهذا الذي أورده المؤلف في كعب, رواه أبو نعيم في الدلائل عن كعب الأحبار مطولا، وفي آخره: وكان بين موت كعب ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة. "ابن لؤي" بضم اللام والهمزة ويسهل بإبدال همزته واوًا، وفي النور والإرشاد: الهمز أكثر عند الأكثرين. "تصغير اللأي" قال ابن الأنباري: تصغير لأي "بوزن عصا" واللأي الثور، قال: ويحتمل أنه تصغير لأي بوزن عبد وهو البطء بالهمز ضد العجلة، ويؤيده قوله: فدونكمو بني لأي أخاكم ... ودونك مالكًا يا أم عمرو انتهى. واختار السهيلي الثاني، وقد قال الأصمعي: هو تصغير لوا الجيش زيدت فيه الهمزة، وقيل: منقول من لوى الرمل مقصورًا، وفي القاموس: ولأي اسم تصغير لؤي ومنه لؤي بن غالب. قال شيخنا: اقتصر عليه؛ لأن النقل عن الاسم أولى من اسم الجنس وإلا فكل تلك الألفاظ صالح للتصغير. "وهو" كما قال ابن الأنباري وجماعة "الثور" الوحشي، وقال أبو حنيفة: اللأي البقرة وكنيته أبو كعب، وكان له سبعة ذكور. "ابن غالب" بالمعجمة وكسر اللام منقول من اسم فاعل مشتق من الغلب بفتحات أو فتح فسكون، ويقال: غلبة بهاء وله تيم وبه يكنى، ولؤي "ابن فهر" بكسر الفاء وسكون الهاء فراء، منقول من الفهر الحجر الطويل، قال السهيلي: وقال الخشني: الفهر حجر ملء الكف يذكر ويؤنث وخطأ الأصمعي من أنثه، وفي الفتح: الفهر الحجر الصغير، وفي الإرشاد: الطويل والأملس. "واسمه قريش" وفي الفتح والإرشاد: قيل اسمه قريش، ونقل عن الزهري: أن أمه سمته به وأبوه سماه فهرًا، وقيل: فهر لقبه، وقيل: بالعكس. "وإليه تنسب قريش" فيما قاله جماعة ونسب للأكثر، قال الزهري: وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نساب العرب: إن من جاوز فهرًا فليس من قريش. "فما كان فوقه فكناني" نسبة إلى كنانة بن مدركة، "لا قرشي" نسبة إلى قريش، ويقال: قريش أيضًا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 على الصحيح.   القياس. "على الصحيح" صححه الدمياطي والعراقي وغيرهما، والحجة لهم حديث مسلم والترمذي مرفوعًا: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة" الحديث، وذهب آخرون إلى أن أصل قريش النضر، وبه قال الشافعي وعزاه العراقي للأكثرين، فقال: أما قريش فالأصح فهر ... جماعها والأكثرون النضر قال النووي: وهو الصحيح المشهور، وأيضًا صححه الحافظ العلائي وعزاه للمحققين، واحتجوا بحديث الأشعث بن قيس: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة، فقلت: ألستم منا يا رسول الله؟ قال: "لا نحن بنو النضر بن كنانة" رواه ابن ماجه وابن عبد البر وأبو نعيم في الرياضة، وزاد: قال أشعث: والله لا أسمع أحدًا نفى قريشًا من النضر بن كنانة إلا جلدته، والاحتجاج بهذا ظاهر لا خفاء فيه. قال الحافظ في سيرته: وعندي أنه لا خلاف في ذلك؛ لأن فهو إجماع قريش ثم إن أباه مالكًا ما أعقب غيره، فقريش ينتهي نسبها كلها إلى مالك بن النضر، وكذلك النضر ليس له عقب إلا من مالك، فاتفق القولان بحمد الله تعالى. ا. هـ. ومن خطه نقلت: وقيل: إن قريشا هو الياس، وقيل: مضر، وحكى الماوردي وغيره: إنه قصي، قال البرهان: وهو قول باطل وكأنه قول رافضي؛ لاقتضائه أن أبا بكر وعمر ليسا من قريش فإمامتهما باطلة، وهو خلاف إجماع المسلمين. ا. هـ. ونقله عنه الشامي بلفظه وكثيرًا ما سمعت شيخنا حافظ العصر أبا عبد الله محمد البابلي يجزم بأنه قول الرافضة اخترعوه للطعن في الشيخين، ولم أر الجزم به الآن لكنه كان واسع الاطلاع واختلف في سبب تسميتها بقريش، فقيل: منقول من تصغير قرش، وهو دابة في البحر عظيمة من أقوى دوابه سميت به لقوتها؛ لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وكذلك قريش. أخرج ابن النجار في تاريخه عن ابن عباس: أنه دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاصي، فقال عمرو: إن قريشًا تزعم أنك أعلمها فلم سميت قريش قريشًا؟ فقال: بأمر بين، فقال: ففسره لنا، ففسره قال: هل قال فيه أحد شعرًا؟ قال: نعم، سميت قريشًا بدابة في البحر، وقد قال الشمرخ بن عمرو الحميري: وقريش هي التي تسكن البحـ ... ـر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تتـ ... ـرك فيه لدى الجناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهمو والخموشا يملأ الأرض خيله ورجال ... يحشرون المطي حشرًا كشيشا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ابن مالك. ابن النضر، واسمه قيس.   وأخرجه ابن عساكر إلا أنه ذكر أن السائل معاوية، ووصف ابن عباس الدابة بأنها أعظم دواب البحر، وعزا هذه الأبيات للجمحي. ا. هـ. وأكلا كميشًا، أي: سريعًا. والخموش: الخدوش، كما في القاموس وغيره. وقيل: من التقريش وهو التفتيش؛ لأنهم كانوا يفتشون عن خلة الناس وحاجاتهم فيسدونها بمالهم، وقيل: بقريش بن بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: لأنهم كانوا يتجرون ويأخذون ويعطون من قرش الرجل يقرش كيضرب إذا اتجر، وقيل: من الأقراش، وهو وقوع الرايات والرماح بعضها على بعض، وقيل: من التقريش وهو التحريش. قال الزجاجي: وهو بعيد؛ لأن المعروف لغة أن التحريش هو الترقيش بتقديم الراء، وقيل غير ذلك. وقد حكى ابن دحية في سبب تسمية قريش، ومن أول من سمي بها عشرين قولا, هذا وقريش فرقتان بطاح وظواهر، فالبطاح من دخل مكة مع قصي، والظواهر من أقام بظاهر مكة ولم يدخل الأبطح. "ابن مالك" اسم فاعل من ملك يملك، فهو مالك والجمع ملاك، ويكنى أبا الحارث، قال الخميس: سمي مالكًا لأنه كان ملك العرب، ويقع في نسخ ابن مالك قريش وإليه تنسب قريش، فما فوقه فكناني لا قريش على الصحيح، وكأنه كان بهامش مسودة المصنف فتحرف على الناسخ فخرجه في غير موضعه، وعلى تقدير صحته، فقوله: قريش، صفة لفهر بعد صفة، لا صفة لمالك "ابن النضر" بفتح النون وإسكان الضاد المعجمة فراء "واسمه قيس" ولقب بالنضر لنضارة وجهه وإشراقه وجماله، منقول من النضر اسم الذهب الأحمر، وله من الذكور مالك والصلت ويخلد بفتح التحتية وسكون المعجمة وضم اللام فدال مهملة، وبه يكنى أبوه ولكن لم يعقب إلا من مالك، كما مر. وأم النضر برة بنت أد بن طابخة تزوجها كنانة بعد أبيه خزيمة، فولدت له النضر على ما كانت الجاهلية تفعله إذا مات الرجل خلف على زوجته أكبر بنيه من غيرها، كذا قاله الزبير بن بكار، وتبعه السهيلي وزاد: ولذلك قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، أي: من تحليل ذلك قبل الإسلام، قال: وفائدة الاستثناء هنا لئلا يعاب نسب النبي صلى الله عليه وسلم، وليعلم أنه لم يكن في أجداده سفاح، ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن إلا ما قد سلف إلا في هذه الآية، وفي الجمع بين الأختين، فإن الجمع بينهما كان مباحًا في شرع من قبلنا، وقد جمع يعقوب بين أختين وهما أجيل، أي: بجيم، كما في السبل، أو حاء مهملة كما في القاموس، وليا، فقوله: إلا ما قد سلف، التفات إلى هذا المعنى، وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ابن كنانة. ابن خزيمة، تصغير خزمة.   النكتة من الإمام أبي بكر بن العربي، إلى هنا كلامه. وتعقبه الحافظ القطب عبد الكريم الحلبي ثم المصري في شرح السيرة لعبد الغني بما حاصله: أن هذا غلط نشأ من اشتباه، وذلك أن أبا عثمان الجاحظ قال: إن كنانة خلف على زوجة أبيه فماتت ولم تلد له ذكرا ولا أنثى، فنكح ابنة أخيها وهي برة بنت مرة بن أد بن طابخة فولدت لها النضر، قال الجاحظ: وإنما غلط كثيرًا لما سمعوا أن كنانة خلف على زوجة أبيه؛ لاتفاق اسمهما وتقارب نسبهما، قال: وهذا الذي عليه مشايخنا من أهل العلم والنسب، ومعاذ الله أن يكون أصاب نسبه صلى الله عليه وسلم نكاح مقت، وقد قال: "ما زلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام" ومن قال غير هذا فقد أخطأ وشك في هذا الخبر، والحمد لله الذي طهره من كل وصم تطهيرًا. ا. هـ. قال الدميري: وهذا أرجو به الفوز للجاحظ في منقلبه، وأن يتجاوز عنه فيما سطره في جميع كتبه. ا. هـ. وقد صوب مغلطاي كلام الجاحظ وأن خلافه غلط ظاهر، قال: وهذا الذي يثلج به الصدر ويذهب وحره ويزيل الشك ويطفئ شرره، قال الشامي: وهو من النفائس التي يرحل إليها والسهيلي تبع الزبير بن بكار، والزبير كأنه تبع الكبي -وهو متروك- بل لو نقله ثقة لم يقبل لعبد الزمان، ومخالفة الأحاديث الناطقة بخلافه. ا. هـ. وكذا ما قيل: إن هاشمًا خلف على واقدة زوجة أبيه بفرض صحته، فليست جدة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أم عبد المطلب أنصارية؛ ولذا كانت الأنصار أخوال المصطفى. "ابن كنانة" بكسر الكاف ونونين مفتوحتين بينهما ألف ثم هاء، منقول من الكنانة التي هي الجعبة بفتح الجيم وسكون العين المهملة، سمي بذلك تفاؤلا بأنه يصير كالكنانة الساترة للسهام، فكان سترًا على قومه، قال في السبل. وفي الخميس: إنما سمي كنانة؛ لأنه لم يزل في كن من قومه. وفي الفتح: هو بلفظ وعاء السهام إذا كانت من جلد. ونقل عن أبي عامر العدواني، أنه قال: رأيت كنانة بن خزيمة شيخنا مسنًا عظيم القدر يحج إليه العرب لعلمه وفضله بينهم. "ابن خزيمة تصغير خزمة" بمعجمتين مفتوحتين، وهي مرة واحدة من الحزم وهو شد الشيء وإصلاحه، وقال الزجاجي: يجوز أنه من الخزم بفتح فسكون، تقول: خزمته فهو مخزوم إذا أدخلت في أنفه الخزام، قال في الفتح، وقيل: تصغير خزمة بكسر فسكون، فقيل: هي برة في أنف البعير يشد فيها الزمان، وقيل: الحلقة التي تجعل في أنف البعير من شعر ونحوه، قال في الغر: ولم أر من تعرض لوجه المناسبة للنقل مما ذكر، وقد يقال: الانتقال لا يقال فيه ذلك بخلاف الألقاب. وفي الخميس: إنما سمي خزيمة تصغير خزمة؛ لأنه اجتمع فيه نور آبائه وفيه نور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ابن مدركة. ابن إلياس، بكسر الهمزة في قول ابن الأنباري، وبفتحها في قول قاسم بن ثابت، ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف والهمزة للوصل، قال السهيلي: ................   رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي القاموس: الخزامة كتابة للبرة، ثم قال: والخزمة محركة خوص المقل، قال شيخنا: فيجوز جعل خزيمة مصغر خزامة وخزمة، قال ابن عباس: مات خزيمة على ملة إبراهيم "ابن مدركة" بضم فسكون فكسر ففتح ثم هاء مبالغة، منقول من اسم فاعل من الإدراك، لقب به لإدراكه كل عز وفخر، كان في آبائه وكان فيه نور المصطفى ظاهرًا بينًا واسمه عمر، وعند الجمهور وهو الصحيح، وقال ابن إسحاق: عامر، وضعف. "ابن إلياس" بتحتية والمعروف أنه اسمه، وفي سيرة مغلطاي اسمه حبيب، وفي الخميس: إنما سمي إلياس؛ لأن أباه كبر ولم يولد له، فولد على الكبر واليأس فسمي إلياس، وكنيته أبو عمرو وله أخ يقال له الناس بنون، ذكره ابن ماكولا والجوهري، وإلياس "بكسر الهمزة" وهي همزة قطع تثبت في الابتداء والتدرج "في قول" الحافظ أبي بكر محمد بن القاسم "ابن الأنباريط بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة نسبة إلى الأنبار بلدة قديمة على الفرات على عشرة فراسخ من بغداد، صاحب التصانيف العلامة في النحو واللغة والأدب، المعدود في حفاظ الحديث, كان من أفراد الدهر في سعة الحفظ مع الصدق والدين ومن أهل السنة، مات ببغداد ليلة عيد النحر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وقد وافقه على كسر الهمزة طائفة. قال ابن الأنباري: وهو أفعال من قولهم: أليس للشجاع الذي لا يفر، قال الشاعر: أليس كالنشوان وهو صاحي "وبفتحها في قول قسم بن ثابت" جزم العوفي الأندلسي المالكي الفقيه المحدث المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه، الورع الناسك مجاب الدعوة المتوفى سنة اثنتين وثلاثمائة، قال: وهو "ضد الرجاء، واللام فيه للتعريف، والهمزة للوصل" وأنشد قسم على ذلك قول قصي: أمهتي خندف واليأس أبي وصححه المحققون، كما قال بعض مشايخ البرهان. "قال" الإمام الحافظ العلامة ذو الفهم الدقيق والمعاني الرائقة، عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أصبغ "السهيلي" الخثعمي الأندلسي المالقي، أبو القسم، واسع المعرفة، غزير العلم النحوي اللغوي، الإمام في لسان العرب، العالم بالتفسير وصناعة الحديث ورجاله وأنسابه، وبالتاريخ وعلم الكلام وأصوله وأصول الفقه الذكي النبيه، عمي وهو ابن سبع عشرة سنة، ولد سنة ثمان وخمسمائة، وصنف كتبًا منها الروض الآنف، ذكر فيه أنه استخرجه من مائة وعشرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وهذا أصح. وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام، ويذكر أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج؟!   مصنفًا، ومات في شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وهو منسوب إلى سهيل قرية قرب مالقة سميت سهيل بالكوكب؛ لأنه لا يرى في جميع بلاد الأندلس، إلا من جبل مطل على هذه القرية، يرتفع نحو درجتين ويغيب. "وهذا" الذي قاله قسم "أصح" من قول ابن الأنباري وصدق المصنف، فلفظ السهيلي والذي قاله غير ابن الأنباري أصح، وقد سقط لفظ غير من بعض نسخ النور، فأوهم اعتراضًا على المصنف مع أنه خطأ نشأ عن سقط. "وهو أول من أهدى البدن إلى البيت الحرام" جمع بدنة، وهي: البعير ذكرًا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى. وقال الأزهري: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه في التهذيب. وحكى النووي عنه: أن البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وهو خطأ نشأ عن سقط، وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها، قال الحافظ ابن حجر وفي حياة الحيوان، وهو أيضًا أول من وضع مقام إبراهيم للناس بعد غرق البيت وانهدامه زمن نوح، فكان إلياس أول من ظفر به فوضعه في زاوية البيت، كذا قال. والذي في الاكتفاء: وهو أول من وضع الركن للناس بعد هلاكه حين غرق البيت، ومن الناس من يقول: إنما هلك الركن بعد إبراهيم وإسماعيل وهو الأشبه، ولما مات أسفت عليه زوجته خندف أسفًا شديدًا، ونذرت أن لا تقيم في بلد مات فيه ولا يأويها بيت، فتركت بنيها منه، وساحت حتى هلكت حزنًا، ومات يوم الخميس فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس، وضربت الأمثال بحزنها عليه. "ويذكر" كما في الروض "أنه كان يسمع في صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج" وفي المنتقى: كان يسمع من ظهره أحيانًا دوي تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، ولم تزل العرب تعظمه تعظيم أهل الحكمة؛ كلقمان وأشباهه، وكان يدعى كبير قومه وسيد عشيرته، ولا يقطع أمر ولا يقضي بينهم دونه، قال الزبير بن بكار: ولما أدرك إلياس أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم وسيرهم، وبأن فضله عليهم ولأن جانبه لهم حتى جمعهم رأيه ورضوا به، فردهم إلى سنن آبائهم وسيرهم, قال ابن دحية، وهو وصي أبيه، وكان ذا جمال بارع، قال السهيلي: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا إلياس، فإنه كان مؤمنًا، قال البرهان، ولا أدري أنا حال هذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ابن مضر. وهو أول من سن الحداء للإبل، وكان من أحسن الناس صوتًا. ابن نزار -بكسر النون- من النزر، وهو القليل، قيل: إنه لما ولده، ونظر أبوه إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم بين عينيه فرح فرحًا شديدًا، وأطعم وقال: إن هذا كله نزر، أي قليل لحق هذا المولود، فسمي نزارًا لذلك. ابن معد.   "ابن مضر" بضم الميم وفتح الضاد المعجمة غير مصروف للعلمية والعدل، قال الحافظ: قيل سمي به لأنه كان يحب شرب اللبن الماضر وهو الحامض، وفيه نظر؛ لأنه يستدعي أنه كان له اسم غيره قبل أن يتصف بهذه الصفة، نعم يمكن أن يكون هذا اشتقاقه، ولا يلزم أن يكون متصفًا بهذه الصفة، وقيل: لبياضه، وقيل: لأنه كان يمضر القلوب لحسنه وجماله، وفي الخميس: لأنه أخذ بالقلوب ولم يكن يراه أحد إلا أحبه، وفي السبل: اسمه عمرو وكنيته أبو إلياس، ومن حكمه من يزرع شرًا يحصد ندامة، وخير الخير أعجله، فاحملوا أنفسكم على مكروهها، واصرفوها عن هواها فيما أفسدها، فليس بين الصلاح والفساد إلا صبر فواق، بضم الفاء وتفتح ما بين الحلبتين؛ كما في القاموس. "وهو أول من سن الحداء للإبل" بضم الحاء والمد: الغناء. قال البلاذري: وذلك أنه سقط عن بعيره وهو شاب فانكسرت يده، فقال: يا يداه يا يداه، فأبت إليه الإبل من المرعى، فلما صح وركب حدا، "وكان من أحسن الناس صوتًا" وقيل: بل كسرت يد مولى له فصاح فاجتمعت إليه الإبل، فوضع الحداء وزاد الناس فيه، انتهى كلام البلاذري وأخرج ابن سعد في الطبقات من مرسل عبد الله بن خالد: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا مضر، فإنه كان قد أسلم". "ابن نزار، بكسر النون" فزاي فألف فراء: مأخوذ "من النزر، وهو القليل، قيل" سبب ذلك "أنه لما ولد ونظر أبوه إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم بين عينيه" وهو نور النبوة الذي كن ينتقل في الأصلاب "فرح فرحًا شديدًا" ونحر "وأطعم، وقال: إن هذا كله نزر، أي: قليل لحق هذا المولود، فسمي نزارًا لذلك" وبهذا القيل جزم السهيلي وتبعه النور والخميس، وزاد: أنه خرج أجمل أهل زمانه وأكبرهم عقلا، وقال أبو الفرج الأصبهاني: سمي بذلك لأنه كان فريد عصره، وعليه اقتصر الفتح والإرشاد، وقيل: لقب به لنحافته. قال الماوردي: كان اسمه خلدان وكان مقدمًا وانبسطت إليه اليد عند الملوك، وكان مهزول البدن، فقال له ملك الفرس: ما لك يا نزار؟ قال: وتفسيره في لغة الفرس يا مهزول، فغلب عليه هذا الاسم وكنيته أبو إياد، وقيل: أبو ربيعة، وفي الوفاء: يقال إن قبر نزار بذات الجيش قرب المدينة. "ابن معد" بفتح الميم والمهملة وشد الدال ابن الأنباري، يحتمل أنه مقعل من العد، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ابن عدنان. قال ابن دحية: أجمع العلماء -والإجماع حجة- على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه. ولله در القائل: #ونسبة عز هاشم من أصولها ... ومحتدها ...................   من معد في الأرض إذا أفسد، وقيل غير ذلك. قال الفتح: وسمي معدًا، قال الخميس: لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ولم يحارب أحدًا إلا يرجع بالنصر والظفر، وكنيته أبو قضاعة، وقيل: أبو نزار. "ابن عدنان" بزنة فعلان من المعدن، أي: الإقامة، قال الحافظ وغيره. وفي الخميس: سمي به لأن أعين الجن والإنس. كانت إليه وأرادوا قتله، وقالوا: لئن تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدرك الرجال ليخرجن من ظهره من يسود الناس، فوكل الله به من يحفظه انتهى. وروى أبو جعفر بن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: كان عدنان ومعد وربيعة وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم فلا تذكروهم إلا بخير، وروى الزبير بن بكار مرفوعًا: "لا تسبوا مضر ولا ربيعة، فإنهما كانا مسلمين". وله شاهد عند ابن حبيب من مرسل سعيد بن المسيب، وحكى لزبير أن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وأول من كسا الكعبة، أو كسيت في زمنه. والبلاذري: أول من كساها الإنطاع عدنان، وفي أول من كساها خلاف ليس هذا موضعه، ولما استشعر المصنف قول سئل: لِمَ لَمْ توصل النسب إلى آدم؟ قال: "قال" الإمام الحافظ المتقن أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن محمد المشهور بأنه "ابن دحية" لأنه رحمه الله كان يذكر أنه من ولد الصحابي دحية الكلبي، بفتح الدال وكسرها، قال النور: لغتان مشهورتان الكرماني اختلف في الراجحة منهما، والجوهري اقتصر على الكسر، والمجد قدمه الأندلسي السبتي البصير بالحديث المعتنى به ذو الحظ الوافر من اللغة والمشاركة في العربية صاحب التصانيف وطن مصر وأدب الملك الكامل ودرس بدار الحديث الكاملية، مات رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستائة عن نيف وثمانين سنة. "أجمع العلماء، والإجماع حجة" لعصمة الأمة عن الخطأ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" "على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما انتسب إلى عدنان ولم يتجاوزه. ا. هـ. ولله در القائل: ونسبة عز هاشم من أصولها، ومحتدها" بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الفوقية أصلها؛ كما في القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ......................... ... ...... المرضي أكرم محتد سميت رتبة علياء أعظم بقدرها ... ولم تسم إلا بالنبي محمد ويرحم الله القائل: وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز معد بن عدنان، ثم يمسك ويقول: كذب النسابون مرتين أو ثلاثًا، رواه في مسند الفردوس. لكن قال السهيلي: الأصح في هذا الحديث أنه من قول ابن مسعود.   "المرضى أكرم محتد" كمجلس "سميت" بفتحتين مخفف الميم ارتفعت "رتبة" تمييز محول عن الفاعل، أي: منزلة، "علياء" أي: مرتفعة، وفي القاموس: العلياء كل ما علا من شيء، فالمعنى ارتفعت منزلة هذه النسبة المرتفعة، فكأنه قال: زادت رفعة، "أعظم بقدرها" فعل تعجب، أي: ما أعظم قدرها، "و" الحال أنها "لم تسم إلا بالنبي محمد" أي: بوجوده فيها، "ويرحم الله القائل" غاير تفننًا وكراهة لتوارد الألفاظ، وهو أبو العباس علي بن الروم: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان "وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان" ذرى بضم الذال المعجمة وخفة الراء المهملة، أي: أعالي شرف الواحدة ذروة بكسر الذال وضمها وأنشده المغني بلفظ: ذرى حسب لكن شرف أنسب، كما لا يخفى. قال ابن عصفور، يريد أن المتقدم قد يأتيه الشرف من جهة المتأخر. "وعن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انتسب لم يجاوز" من انتسابه "معد بن عدنان، ثم يمسك" توطئة لقوله: "ويقول: كذب النسابون" بقولها: "مرتين أو ثلاثًا" شك من الراوي، "رواه في مسند الفردوس" بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب والفردوس للإمام عماد الإسلام أبي شجاع الديلمي ألفه محذوف الأسانيد مرتبًا على الحرف ليسهل حفظه، وعلم بإزائها بالحروف للمخرقين ومسنده لولده الحافظ أبي منصور شهردار بن شهرويه المتوفى سنة تسع وخمسمائة، خرج سند كل حديث تحته، وكذا رواه ابن سعد في الطبقات. "لكن قال السهيلي: الأصح في هذا الحديث" المروي مرفوعًا "أنه من قول" عبد الله "بن مسعود" بن غافل بمعجمة وفاء قديم الإسلام أحد القراء هاجر الهجرتين وصلى للقبلتين وشهد بدرًا والحديبية وجمع القرآن على العهد النووي، وشهد له المصطفى بالجنة مات سنة اثنتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [إبراهيم: 9] قال: كذب النسابون، يعني أنهم يدعون علم الأنساب ونفى الله علمها عن العباد. وروي عن عمر أنه قال: إنما ينسب إلى عدنان وما فوق ذلك لا يدرى ما هو. وعن ابن عباس: بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.   وثلاثين، وقد جاوز الستين وصلى عليه عثمان ودفن بالبقيع، "وقال غيره: كان ابن مسعود إذا قرأ قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ} خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} قوم هود {وَثَمُودَ} قوم صالح {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [إبراهيم: 9] لكثرتهم "قال" احتجاجًا "كذب النسابون يعني" ابن مسعود بذلك "أنهم يدعون علم الأنساب، ونفى الله علمها عن العباد" بقوله: {لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ} [إبراهيم: 9] ، "وروي عن عمر" بن الخطاب القرشي العدوي أمير المؤمنين، وعند ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم كناه أبا حفص، وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس، عن عمرو بن سعد، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بالفاروق، وقال الزهري: لقبه به أهل الكتاب، رواه ابن سعد، وقيل: جبريل، ورواه البغوي. وفي البخاري عن ابن مسعود: "ما زلنا أعزة"، أي في الدين "منذ أسلم عمر". "أنه قال: إنما ينسب" بتحتية فنون النب صلى الله عليه وسلم أو بنونين، أي: معاشر قريش، "إلى عدنان وما فوق ذلك" من عدنان إلى إسماعيل، ومن إبراهيم إلى آدم "لا يدرى" بباء ونون "ما هو" أي: ما عدته، أو ما اسمه، وكلام الحافظين اليعمري والعسقلاني والمصنف وغيرهم صريح في ثبوت الخلاف فيمن بين إبراهيم وآدم، فلا عبرة بمن نفاه، وقال: إنه ثابت بلا خلاف ولفظ سيرة العسقلاني اختلف فيما بين عدنان وإسماعيل اختلافا كثيرًا، ومن إسماعيل إلى آدم متفق على أكثره وفيه خلف يسير في عدد الآباء، وفيه خلف أيضًا من ضبط بعض الأسماء، انتهى. ومن خطه نقلت، وقد التزم فيها الاقتصار على الأصح فلا يصح زعم أن الخلاف ضعيف جدًا لم يعتد به من نفاه، بمجرد تجويز عقلي. "وعن ابن عباس بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبًا لا يعرفون" بأسمائهم، فلا ينافي قوله: ثلاثون، وقيل: بينهما أربعة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرون أو ثمانية وثلاثون أو تسعة وثلاثون أو أربعون أو واحد وأربعون أو غير ذلك أقوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقال عروة بن الزبير: ما وجدنا أحدًا يعرف بعد معد بن عدنان. وسئل مالك عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك، وقال من أخبره بذلك؟ وكذا روي عنه في رفع نسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالذي ينبغي لنا، الإعراض عما فوق عدنان، لما فيه من التخليط والتغيير للألفاظ، وعواصة تلك الأسماء، مع قلة الفائدة. وقد ذكر الحافظ أبو سعيد النيسابوري ..................................   "وقال عروة بن الزبير" بن العوام القرشي الأسدي المدني التابعي الكبير أحد فقهاء المدينة السبعة الحافظ، المتوفى سنة أربع وسبعين وقيل غير ذلك. "وما وجدنا أحدًا يعرف بعد معد بن عدنان" هذا لا ينافي وجدان غيره من يعرف ذلك، "وسئل مالك" بن أنس بن مالك أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني عالم المدينة نجم الأثر العابد الزاهد الورع إمام المتقين وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، روى الترمذي وحسنه واللفظ له، والحاكم وصححه والنسائي عن أبي هريرة رفعه: "يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم، فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة"، قال النووي: قال سفيان ابن عيينة: هو مالك بن أنس. وفي الحلية: عن مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة تسع وسبعين ومائة. أفرد مناقبه بالتأليف جمع من العلماء؛ كالدينوري وعياض والذهبي وغيرهم. "عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم، فكره ذلك" قيل له: فإلى إسماعيل، فكره ذلك أيضًا، "وقال" على سبيل الإنكار، "من أخبره بذلك" حتى يعتمد عليه، "وكذا روي عنه" أنه كره ذلك "في رفع نسب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" إلى آدم، قال السهيلي: وقع هذا الكلام لمالك في الكتاب الكبير المنسوب إلى المعيطي وإنما أصله لعبد الله بن محمد بن جبير وتممه المعيطي فنسب إليه، وإذا كان كذلك، "فالذي ينبغي لنا الإعراض عما فوق عدنان لما فيه من التخلي والتغيير للألفاظ، وعواصة" بعين وصاد مهملتين، أي: صعوبة؛ كما في القاموس. "تلك الأسماء مع قلة الفائدة" في ذكرها "وقد ذكر الحافظ أبو سعيد" عبد الرحمن بن الحسن الأصبهاني الأصل "النيسابوري" بفتح النون نسبة إلى نيسابور أشهر مدن خراسان صاحب المسند وكتاب شرف المصطفى الثقة المتوفى سنة سبع وثلاثمائة، وقلد المصنف في قوله أبو سعيد بالياء السهيلي، وقد تعقبه مغلطاي بأنه: إنما هو سعد بسكون العين، انتهى، وكذا قال صاحب رونق الألفاظ، وقال: إن الذهبي ذكره، أي: بوصف الحافظ في تاريخه وأغفله من طبقات الحافظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عن أبي بكر بن أبي مريم عن سعد بن عمرو الأنصاري عن أبيه عن كعب الأحبار: أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار إلى عبد المطلب وأدرك، نام يومًا في الحجر فانتبه مكحولًا مدهونًا، قد كسي حلة البهاء والجمال، فبقي متحيرًا لا يدري من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده ثم انطلق به إلى كهنة قريش فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة فولدت له الحارث ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو ...........................   "عن أبي بكر" اسمه بكير، وقيل: عبد السلام، "بن أبي مريم" نسبة لجده للشهرة، واسم أبيه عبد الله الغساني عن خالد بن معدان ومكحول وعنه ابن المبارك وأبو اليمان، قال الذهبي: ضعفوه له علم وديانة، توفي سنة ست وخمسين ومائة، وقال العراقي: ضعفه غير واحد، وسرق له حلي فأنكر عقله ولم يتهمه أحد بكذب. "عن سعد بن عمرو" ابن شرحبيل "الأنصاري" السعدي من ذرية سعد بن عبادة ثقة، روى عنه مالك والدراوري "عن أبيه" عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي مقبول، روى عنه ابنه "عن كعب الأحبار" أي: ملجأ العلماء الحميري، "أن نور النبي صلى الله عليه وسلم لما صار" أي: انتقل، "إلى عبد المطلب وأدرك" أي: بلغ "نام يومًا" أي: في يوم "في الحجر، فانتبه" حال كونه: "مكحولا مدهونًا قد كسي حلة البهاء والجمال، فبقي متحيرًا لا يدري من فعل به ذلك، فأخذه أبوه بيده" أي: عمه المطلب إذ العرب تسمي العم أبا حقيقة أو على التشبيه لقيامه مقامه في تربيته فلا يرد ما مر عن الفتح وغيره من موت أبيه بغزة وهو حمل، أو بمكة على أثر ولادته على ما حكى المصنف، "ثم انطلق به إلى كهنة قريش" قال عياض: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترق من السمع عن السماء، وهذا بطل حين البعثة الثاني أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة ولا بعد في وجودهما الثالث المنجمون وهذا الضرب يخلق الله فيه لبعض الناس قوة ما، لكن الكذب فيه أغلب ومنه العرافة وصاحبها عراف، وقد نهى الشارع عن تصديقهم كلهم والإتيان لهم، "فأخبرهم بذلك، فقالوا له: اعلم أن إله السماوات قد أذن لهذا الغلام أن يتزوج، فزوجه قيلة" بفتح القاف وسكون التحتية فلام فهاء، "فولدت له الحارث" لا ينافي هذا ما في المقصد الثاني للمصنف كالسبل، والخميس من أن أم الحارث صفية بنت جندب لجواز أنه اسمها، وقيلة لقبها "ثم ماتت، فزوجه بعدها هند بنت عمرو" الظاهر: أن هند تحريف صوابه فاطمة، فقد نقل الخميس أن زوجات عبد المطلب خمس: صفية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك الأذفر، ونور رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيء في غرته، وكانت قريش إذا أصابها قحط شديد تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير فيتقربون به إلى الله، ويسألونه أن يسقيهم الغيث، فكان يغيثهم ويسقيهم ببركة نور رسول الله صلى الله عليه وسلم غيثًا عظيمًا.   بنت جندب من بني عامر بن صعصعة، ونثيلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر، وهالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وآمنة بنت هاجر الخزاعي، وفاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمرو ابن مخزوم أمهرها مائة ناقة كومًا وعشرة أواق من ذهب، فولدت له أولادًا منهم عبد الله والده صلى الله عليه وسلم فهي مخزومية وجدة أولى للمصطفى، ذكره ابن قتيبة في المعارف ونحوه في المقصد الثاني. "وكان عبد المطلب يفوح منه رائحة المسك" بكسر الميم والمشهور أنه دم يتجمد في خارج سرة ظباء معينة في أماكن مخصوصة وينقلب بحكمة الحكيم أطيب الطيب، "الأذفر" بذال معجمة، أي: المذكى ويطلق على النتن وليس مرادًا هنا، وبالمهملة خاص بالنتن؛ كما في المختار. "وكان نور رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيء في غرته" أي: جبهته بينًا واضحًا، "وكانت قريش إذا أصابها قحط شديد تأخذ بيد عبد المطلب فتخرج به إلى جبل ثبير" بمثلثة فموحدة، كأمير "فيتقربون به إلى الله" لما جربوه من قضاء الحوائج على يده ببركة نوره صلى الله عليه وسلم، ولما جعله الله فيه من مخالفة ما كان عليه الجاهلية بإلهام من الله، وكان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور، ويؤثر عنه سنن جاء بها القرآن والسنة كالوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، حكاه سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان. "ويسألونه أن يسقيهم الغيث" المطر، "فكان" الله "يغيثهم ويسقيهم ببركة نور رسول الله" الكائن في غرة جده "صلى الله عليه وسلم غيثًا عظيمًا" أو ببركة وجوده نفسه بعد ولادته، فإن عبد المطلب كان يخرج به. روى البلاذري وابن سعد عن مخرمة بن نوفل الزهري الصحابي، قال: سمعت أمي رقيقة بنت أبي صفي بن هاشم بن عبد مناف، تقول: تتابعت عن قريش سنون ذهبن بالأموال وأشقين على الأنفس، قالت: فسمعت قائلا يقول في المنام: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث منكم، وهذا أبان خروجه وبه يأتيكم الحيا والخصب، فانظروا رجلا من أوسطكم نسبًا، طوالا عظامًا، أبيض مقرون الحاجبين، أهدب الأشفار، جعد، أسيل الخدين، رقيق العرنين، فليخرج هو وجميع ولده، وليخرج منكم من كل بطن رجل فتطهروا وتطيبوا، ثم استلموا الركن، ثم ارقوا إلى رأس أبي قبيس، ثم يتقدم هذا الرجل فيستقي وتؤمنون فإنكم ستسقون، فأصبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 " عام الفيل وقصة أبرهة ":   فقصت رؤياها عليهم فنظروا فوجدوا هذه الصفة صفة عبد المطلب، فاجتمعوا إليه وأخرجوا من كل بطن منهم رجلا وفعلوا ما أمرتهم به، ثم علوا على أبي قبيس ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فتقدم عبد المطلب، وقال لهم: هؤلاء عبيدك وبنو عبيدك وإماؤك وبنو إمائك، وقد نزل بنا ما ترى وتتابعت علينا هذه السنون، فذهبت بالظلف والخف وأشقت على الأنفس، فاذهب عنا الجدب، وائتنا بالحيا والخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم سقوا، فقالت رقيقة: بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر فجاد بالماء جوني له سبل ... دان فعاشت به الأنعام والشجر منا من الله بالميمون طائره ... وخير من بشرت يومًا به مضر مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام عدل ولا خطر اجلوذ بجيم ساكنة فلام مفتوحة فواو مشددة فذال معجمة: امتدت وقت تأخره وانقطاعه. وجوني بفتح الجيم وسكون الواو فنون فتحتية مشددة: مطر هاطل، وسبل بفتح السين والموحدة وباللام: المطر. وبشرت بالبناء للفاعل. قصة الفيل: أورد المصنف منها طرفًا تنبيهًا على أن دفعهم من أجل النعم على قريش ببركته صلى الله عليه وسلم على يد جده، وحاصلها: أنه لما كان المحرم والنبي صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه على الصحيح، حضر أبرهة بن الصباح الأشرم يريد هدم الكعبة؛ لأنه لما غلب على اليمن وملكها من قبل النجاشي، رأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج، فقال: أين يذهبون؟ فقيل: يحجون بيت الله بمكة، قال: وما هو؟ قيل: من الحجارة، قال: وما كسوته؟ قيل: ما يأتي من هنا من الوصائل، فقال: والمسيح لأبنين لكم خيرًا منه، فبنى لهم كنيسة بصنعاء بالرخام الأبيض والأصفر والأحمر والأسود، وحلاها بالذهب والفضة وأنواع الجواهر، وأذل أهل اليمن على بنائها وكلفهم فيها أنواعًا من الشجر ونقل لها الرخام المجزع والحجارة المنقشة بالذهب والفضة من قصر بلقيس، وكان على فرسخ من موضعها ونصب فيها صلبانًا من ذهب وفضة ومنابر من عاج وأبنوس وغيره، وكان يشرف منها على عدن لارتفاع بنائها وعلوها، ولذا سماها القليس -بضم القاف- وفتح اللام مشددة ومخففة فتحتية ساكنة فسين مهملة، أو بفتح القاف وكسر اللام؛ لأن الناظر لها تسقط قلنسوته عن رأسه، وقيل: إنما سماها بذلك العرب فيحتمل أنهم تبعوه، واحتمال عكسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ...............................................................................   بعيد إذا لا تطيب نفسه بتبعيتهم في تسمية ما بناه افتخارًا عليهم، فلما أراد صرف الحج إليها كتب للنجاشي: إني بنيت كنسية باسم الملك لم يكن مثلها قبلها، أريد صرف حج العرب إليها وأمنع الناس من الذهاب لمكة، فلما اشتهر الخبر عند العرب خرج رجل من كنانة مغضبًا فتغوط فيها، ثم خرج فلحق بأرضه، فأغضبه ذلك؛ هذا قول ابن عباس. وقيل: أججت فتية من العرب نارًا وكان في عمارة القليس خشب مموه فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبة، وهو قول مقاتل. وقيل: كان نفيل الخثعمي يتعرض لأبرهة بالمكروه فأمهله حتى إذا كانت ليلة من الليالي لم ير أحدًا يتحرك فجاء بعذرة فلطخ بها قبلتها، وجمع جيفًا فألقاها فيها فأخبر بذلك فغضب غضبًا شديدًا وحلف لينقضن الكعبة حجرًا حجرًا، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه فيله محمودًا، فلما قدم الفيل إليه خرج في ستين ألفًا. وفي سيرة ابن هشام: فلما سمعت العرب بخروجه قطعوه ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج إليه رجل من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر وهو بنون ففاء فراء، فقاتله فهزم هو وأصحابه وأتي به أسيرًا فأراد قتله ثم تركه وحبسه عنده في وثاق ثم مضى، حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلته ومن تبعه من العرب فقاتله، فهزم وأخذ نفيل أسيرًا فهم بقتله، فقال: لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب، فتركه وخرج به يدله حتى إذا مر على الطائف خرج مسعود بن معتب الثقفي في رجال ثقيف، فقالوا: أيها لملك، إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون، ولست تريد هذا البيت -يعنون بيت اللات- إنما تريد الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال فخرج حتى إذا بلغ المغمس بطريق الطائف مات أبو رغال فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم إلى اليوم، ثم أرسل أبرهة خيلا له إلى مكة فأخذت إبلا لعبد المطلب فذهب له فردها عليه، ثم انصرف إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، ومعه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب: لا هم أن المرء يمـ ... ـنع رحله فامنع رحالك وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدًا محالك وزاد بعضهم، بعد البيت الثاني: جروا جميع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ولما قدم أبرهة ملك اليمن من قِبَل أصحمة النجاشي ..................   عمدوا حماك بكيدهم ... جهلًا وما رقبوا جلالك وأنشد ابن هشام البيت الأول والثالث فقط، وقال: هذا ما صح عندي له منها، ثم أرسل حلقة الباب وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة، فمنعه الله من دخولها؛ كما يجيء. وقيل: لم يخرج عبد المطلب من مكة بل أقام بها، وقال: لا أبرح حتى يقضي الله قضاءه، ثم صعد هو وأبو مسعود الثقفي على مكان عال لينظر ما يقع، وأبو رغال بكسر الراء وخفة المعجمة واللام وحكمة تقبيح حاله وإظهار شناعة أمره حتى صار يرجم بعد موته دون نفيل أنه إنما جعل نفسه دليله وقاية من القتل؛ فكان كالمكره على ذلك بخلاف أبي رغال، فإن قومه تلقوا أبرهة بالسلم واختاروه دليلا، وقول الشارح دون ذي نفر ونفيله سبق قلم، فما كان ذو نفر دليلا إنما كان أسيرًا معه في الوثاق، كما تلي عليك. "ولما قدم أبرهة" بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الهاء، "ملك اليمن" بكسر اللام بدل من أبرهة "من قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة جهة، "أصحمة" بوزن أربعة وحاؤه مهملة، وقيل معجمة، وقيل: بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بغير ألف، وقيل كذلك لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بميم في أوله بدل الألف عن ابن إسحاق في المستدرك للحاكم، والمعروف عن ابن إسحاق الأل ويتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ، لم أرها مجموعة. "النجاشي" بفتح النون على المشهور، وقيل: تكسر عن ثعلب وتخفيف الجيم، وأخطأ من شددها وتشديد آخره. وحكى المطرزي التخفيف، ورجحه الصغاني، قاله في الإصابة. وفي قوله: على المشهور رد للثاني من قول القاموس تكسر نونه أو هو الأفصح، قيل: أصحمة هذا ومعناه بالعربية، عطية، كما قاله ابن قتيبة وغيره: جد النجاشي الذي كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب ولايته اليمن أن بعض أهلها من أصحاب الأخدود لما أكثر القتل فيهم ملكهم وهو ذو نواس آخر ملوك اليمن من حمير فر إلى قيصر ملك الشام يستغيث به، فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة ليغيثه، فأرسل معه أميرين أرياط وأبرهة بجيش عظيم فدخلوا اليمن وقتلوا ملكه واستولوا عليه، ثم اختلفا وتقاتلا فقتل أرياط بعد أن شرم أنف أبرهة وحاجبه وعينه وشفته، فبذلك سمي الأشرم فداوى جراحه فبرئ، واستقل بالملك فبلغ النجاشي فغضب وأراد البطش به فترفق له أبرهة وتحيل بإرسال تحف حتى رضي عنه، وأقره في قصة طويلة عند ابن إسحاق هذا، حاصلها: وفي حواشي البيضاوي للسيوطي: قال الطيبي: سمي الأشرم؛ لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، انتهى. وكذا جزم به الأنصاري، دون عز وللطيبي، لكن معلوم أن ابن إسحاق مقدم على الطيبي في مثل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 لهدم بيت الله الحرام، وبلغ عبد المطلب ذلك، فقال: يا معشر قريش، لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربًا يحميه ويحفظه. ثم جاء أبرهة فاستاق إبل قريش وغنمها، وكان لعبد المطلب فيها أربعمائة ناقة. فركب عبد المطلب في قريش حتى طلع جبل ثبير، فاستدارت دارة غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ........................   "لهدم بيت الله الحرام" غضبًا من تغوط الكناني بكنيسته وتلطيخ الخثعمي قبلتها بالعذرة وإلقاء الجيف فيها واحتراقها بنار أججها بعض العرب، فحلف ليهدمن الكعبة، فهدمه الله وملكه. "وبلغ عبد المطلب ذلك، فقال: يا معشر قريش" لا تفزعوا؛ لأنه "لا يصل إلى هدم البيت، لأن لهذا البيت ربًا يحميه" بفتح أوله يدفع عنه من يريد فسادًا كأبرهة، "ويحفظه" بفعل ما هو سبب في بقائه؛ كعمارته، وهذا أولى من جعل يحفظه عطف تفسير. "ثم جاء أبرهة" أي: رسوله؛ كبني الأمير المدينة، فعند ابن إسحاق فلما نزل أبرهة المغمس أمر رجلا من الحبشة، يقال له الأسود بن مفصود بفاء وصاد مهملة على خيل له وأمره بالغارة فمضى حتى انتهى إلى مكة، فساق أموال تهامة وغيرها من قريش وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، "فاستاق" أبرهة، أي: رسوله، "إبل قريش وغنمها". قال ابن إسحاق: فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوه، "وكان لعبد المطلب فيها أربعمائة ناقة" ظاهره: أن الكل إناث، والظاهر: أن فيها ذكورًا فغلبت الإناث لكثرتها، ثم هو مخالف لما عند ابن إسحاق وتبعه ابن هشام، وجزم به البغوي واليعمري والدميري والشامي من قولهم: فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب، فيجوز أن الخاص به مائتان وباقيها لبعض خواصه، فنسبت إليه والبعير يقع على الذكر والأنثى فلا مخالفة، ولم يذكر المصنف كغيره الغنم، فيجوز أن عبد المطلب لم يكن له غنم أوله، ولم تذكر لخستها بالنسبة للإبل، "فركب عبد المطلب في قريش، حتى طلع بل ثبير" بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية، جبل بمكة، "فاستدارت دارة غرة" بضم الغين المعجمة، أي: بياض، أي: نور "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي المختار: الغرة بالضم: بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، وفي المصباح: الدارة دارة القمر وغيره، سميت بذلك لاستدارتها، فالمعنى، هنا: فحصلت دارة غرة المصطفى على سبيل التجريد، وإلا فالدارة هي المحيطة بالغرة فلا يصح إسناد الفعل لها؛ لاقتضائه تعلق الاستدارة بالدارة، ولا يصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 على جبهته كالهلال واشتد شعاعها على البيت الحرام مثل السراج، فلما نظر عبد المطلب إلى ذلك قال: يا معشر قريش: ارجعوا فقد كفيتم هذا الأمر، فوالله ما استدار هذا النور مني إلا أن يكون الظفر لنا، فرجعوا متفرقين. ثم إن أبرهة أرسل رجلا من قومه ليهزم الجيش، فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيًا عليه، فكان يخور كما يخور الثور عند ذبحه، فلما أفاق خر ساجدًا لعبد المطلب، وقال: أشهد أنك سيد قريش حقًا.   "على جبهته" متعلق باستدارت، وفي نسخة: على جبينه "كالهلال" وجعلت على جبينه؛ لأن الغرة في الجبهة والدائرة حولها إذا وجدت تكون نازلة عن الغر بالجنبين المحيطين بالجبهة، "واشتد شعاعها" حتى صار "على البيت الحرام مثل السراج" أي: الشمس مجازًا على مقتضى البيضاوي وحقيقة على مقتضى قول القاموس: السراج معروف والشمس، "فلما نظر" أي: أبصر "عبد المطلب إلى ذلك" أي: استدارة النور في جبهته، وكونه على البيت مثل السراج ولا يشكل بأن الشخص لا يبصر جبهته؛ لأنه لما استدار كالهلال أبصر شعاعه وعلم استدارته من أحواله السابقة، ويحتمل قصر اسم الإشارة على الشعاع وأخبر عنه بالاستدارة لعله من الحاضرين، أو من سابق أحواله أنه متى وجد مستديرًا، "قال: يا معشر قريش، ارجعوا" فرحين مستبشرين "فقد كفيتم هذا الأمر، فوالله ما استدار هذا النور مني إلا" كان سببًا وعلامة على "أن يكون الظفر لنا" وأقسم عليه لوثوقه به بناء على ما اعتاده قبل، أو لرؤيته على هذه الصورة الزائدة الإشراق غلب على ظنه، فحلف "فرجعوا متفرقين، ثم إن أبرهة أرسل" إلى مكة "رجلا من قومه" هو حناطة -بحاء مهملة مضمومة ونون وطاء مهملة- الحميري، "ليهزم الجيش" أي: يكون سببًا في هزمه بإدخال الرعب على قريش، أو سماهم جيشًا وإن لم ينصبوا القتال، ومر أنه لما جاء رسوله وساق الإبل همت طائفة بقتاله ثم تركوا لعدم طاقتهم له، فيجوز أن من نقل أن عبد المطلب جهز جيشًا لحرب أبرهة أراد هذا، "فلما دخل مكة ونظر إلى وجه عبد المطلب خضع" أي: ذل "وتلجلج" بلامين وجيمين: تردد "لسانه" في الكلام لعجزه "وخر مغشيًا عليه، فكان" أي: صار "يخور" يصوت؛ "كما يخور الثور عند ذبحه" تشبيه لبيان صفة فعله من الصياح واحترز به عن صوت غيره، ففي القاموس: الخوار بالضم: صوت البقر والغنم والظباء والبهائم، "فلما أفاق خر ساجدًا لعبد المطلب" أي: وضع جبهته على الأرض؛ كدأبهم في التعظيم وتجويز غير هذا في ذا المقام عجيب، "وقال: أشهد أنك سيد قريش حقًا" وعند ابن إسحاق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وروي: أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سائس فيله الأكبر الأبيض العظيم الذي كان لا يسجد للملك أبرهة كما تسجد سائر الفيلة ..................   بعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وقال له: اسأل عن سيد أهل البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربًا فائتني به، فدخل فسأل، فقيل له: عبد المطلب، فقال ما أمره به أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه، قال حناطة: فانطلق إليه، فإنه أمرني أن آتيه بك، فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه فتكلم أنيس سائس فيل أبرهة، فقال: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك، وهو صاحب عزة مكة ويطعم الناس في السهل والوحوش والطير في رؤوس الجبال، فأذن له أبرهة وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم فعظم في عين أبرهة فأجله وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه، فنزل عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال له: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها، فقال لترجمانه: قل له: كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك أتكلمني في مائتي بعير وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه، فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك، فرد عليه إبله، زاد ابن الكلبي: فقلدها وأشعرها وجللها وجعلها هديًا للبيت وبثها في الحرم، انتهى. وانصرف إلى قريش وأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال والشعاب تخوفًا عليهم من معرة الحبشة، انتهى. فظاهر هذا السياق: أن حناطة لم يأت لهزم جيش؛ كما ساق المصنف، بل مخبرًا بمراد أبرهة وطريق الجمع حمله على التسبب، كما مر. وأنه لما شاهد شيبة الحمد حصل له ما ذكر المؤلف، ثم لما أفاق أخبره بمراد أبرهة، قال ابن هشام: وكان فيما يزعم بعض أهل العلم قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حناطة بن عمرو بن نباتة بن عدي بن الديل بن بكر بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهزلي وهو يومئذ سيد هزيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت، فأبى؛ فالله أعلم كان ذلك أم لا. "وروي أنه لما حضر عبد المطلب عند أبرهة أمر سائس فيله" هو أنيس بضم الهمزة وفتح النون وسكون المثناة التحتية، "الأكبر الأبيض العظيم" بالجر صفات فيله، "الذي كان لا يسجد للملك أبرهة، كما تسجد سائر" أي: باقي "الفيلة" جمع فيل، ويجمع أيضًا على أفيال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أن يحضره بين يديه، فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب، برك كما يبرك البعير، وخر ساجدًا، وأنطق الله تعالى الفيل، فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب، كذا في النطق المفهوم. ولما دخل جيش أبرهة .................................   وفيول؛ كما في القاموس. "أن يحضره بين يديه" ليرهب به شيبة الحمد أو لعلمه من أخبارهم أو كهانهم أن الفيل يهابه، وينطق له، فأحضره، "فلما نظر الفيل إلى وجه عبد المطلب برك، كما يبرك البعير" قال السهيلي: فيه نظر؛ لأن الفيل لا يبرك، فيحتمل أن بروكه سقوطه إلى الأرض، ويحتمل أنه فَعَل فِعْل البارك الذي يلزم موضعه ولا يبرح، فعبر بالبارك عن ذلك، وسمعت من يقول في الفيل صنف يبرك، كما يبرك الجمل، فإن صح وإلا فتأويله ما قدمناه، انتهى. "وخر ساجدًا" وفي الدر المنظم: فتعجب أبرهة من ذلك، ودعا بالسحرة والكهان فسألهم عن ذلك، فقالوا: إنه لم يسجد له وإنما سجد للنور الذي بين عينيه، "وأنطق الله تعالى الفيل فقال: السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب" ألهم الفيل أن أصله في ظهره فلم يقل بين عينيك؛ لأنه فاض مما في ظهره، فنوره صلى الله عليه وسلم حين صار إلى جده فاض حتى ظهر في جبهته مع بقائه في ظهره. وأما السحرة والكهان فنظروا للمشاهد إذ لم يلهموا، وهذا والله أعلم إنما يأتي على القول المردود الموهون: أن ولادته صلى الله عليه وسلم بعد الفيل بأربعين أو بخمسين سنة، ولذا ساقه المصنف بصيغة التمريض وتبرأ منه، بقوله: "كذا في" كتاب "النطق المفهوم" لابن طغربك. وقول الخميس: كان عبد الله موجودًا؛ فالنور منتقل إليه مبني على أن ولادة المصطفى بعد الفيل بسنتين، فأما على المشهور من أنه كان حملا في بطن أمه فشكل؛ لأن النور انتقل إلى آمنة وأجيب بأن الله أحدث في عبد المطلب نورًا يحاكي ذلك النور المستقر في آمنة مع زيادة حتى صار في جبهته؛ كالشمس، وبنور آخر وجده في صلبه وأطلع عليه الفيل فسجد إكرامًا له؛ كما يدل عليه سياق القصة حين احتاج إلى كرامة تخلصه وماله من الجبابرة، وبأن النور لم ينتقل كله بل انتقل ما هو مادة المصطفى وبقي أثره في صلب أصوله تشريفًا لهم، وما رآه أبرهة والفيل منه غايته أن زاد إشراقه علامة على ظفرهم وذلك من إرهاصته صلى الله عليه وسلم إعزازًا لقومه. قلت: الأول أظهر، فإن ظاهر كلامهم أن النور ينتقل كله، ألا ترى قصة التي عرضت نفسها على الأب الشريف. "ولما دخل جيش أبرهة" المغمس بضم الميم وفتح الغين المعجمة وفتح الميم الثانية مشددة وبكسرها، قال في الروض عن ابن دريد وغيره، وهو أصح، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، انتهى. وفي القاموس: المغمس كمعظم ومحدث: موضع بطريق الطائف، فظاهره تساوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ومعهم الفيل لهدم الكعبة الشريفة برك الفيل: فضربوه في رأسه ضربًا شديدًا ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام.   اللغتين، فاقتصار الشامي على الثاني مراعاة لمن صححه، "ومعهم الفيل" محمود وكنيته أبو العباس، حكاه السمرقندي، وقيل: أبو الحجاج، وقدمه الدميري في منظومته؛ فقال: وفيلهم محمود دليل داجي ... وكان يكنى بأبي الحجاج وقال قوم بأبي العباس ... وكان معروفًا بعظم الباس وظاهره: أنهم لم يكن معهم سواه، وهو ما نقله الماوردي عن الأكثر، ويقال: كان معهم ثلاثة عشر فيلا هلكت كلها، حكاه ابن جرير، وجزم به في الروض. وعن الضحاك: ثمانية أفيلة حكاهما البغوي وقال: إنما وجد في الآية؛ لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم، وقيل: لو فاق رؤوس الآي ونقل، أعني البغوي عن الواقدي أن محمودًا نجا لكونه ربض ولم يتجرأ على الحرم، انتهى. فقول ابن جرير: هلكت كلها يريد إلا محمودًا، وقيل: كان معهم ألف فيل، حكاهما الخميس. "لهدم الكعبة الشريفة" قال بعضهم: بأن تجعل السلاسل في أركان البيت وتوضع في عنق الفيل ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة، وقال مقاتل: كان القصد أن يجعل الفيل مكان الكعبة ليعبد ويعظم كتعظيمها، وهو بعيد من السياق. "برك" بفتح الراء "الفيل" وعند ابن إسحاق فأصبح أبرهة متهيئًا لدخول مكة وهيأ فيله محمودًا وعبأ جيشه وأجمع على هدم البيت ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب، كذا عند ابن هشام. وقال السهيلي: عن البرقي كيونس عن ابن إسحاق: نفيل بن عبد الله بن جزي بن عامر بن مالك حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه، فقال له: ابرك محمودًا وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل فضربوه ليقوم، فأبى "فضربوه في رأسه ضربًا شديدًا ليقوم، فأبى" نحوه قول ابن إسحاق: فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى، فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم، فأبى الطبرزين، بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وسكونها: آلة عوجاء من حديد, والمحاجن جمع محجن: عصا معوجة وقد يجعل في طرفها حديد. والمراق: أسفل البطن. وبزغوه، بفتح الموحدة وزاي مشددة فغين معجمة: شرطوه بحديد المحاجن "فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام" قال ابن إسحاق: يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، قال أمية بن أبي الصلت: إن آيات ربنا بينات ... ما يماري بهن إلا الكفور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ثم أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل من البحر، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقره وحجران في رجليه كأمثال العدس، لا تصيب أحدًا منهم إلا أهلكته، فخرجوا هاربين ........................   جلس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور وفي معاني القرآن للزجاج: لم تسر دوابهم نحو البيت، فإذا عطفوها راجعين سارت, وفي رواية يونس عن ابن إسحاق، كما في الروض: أن الفيل ربض، فجعلوا يقسمون بالله أنهم رادوه إلى اليمن فيحرك لهم أذنيه، كأنه يأخذ عليهم عهدًا، فإذا أقسموا له قام يهرول فيردونه إلى مكة فيربض فيحلفون له فيحرك أذنيه كالمؤكد عليهم القسم، ففعلوا ذلك مرارًا. "ثم" بعد بروك الفيل "أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل". قال الشامي: أي: جماعات أمام كل جماعة طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، قيل لا واحد له، وقيل: واحدة أبول كعجول بكسر العين والتشديد مع الفتح أو إبال؛ كمفتاح أو أبيل كسكين البيضاوي، جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها. "من البحر" قال ابن إسحاق: أمثال الخطاطيف والميلسان، وعن عبد المطلب: أمثال اليعاسيب. ابن عباس: لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. عكرمة: لها رؤوس السباع، واختلفوا في ألوانها، فقال عكرمة وسعيد بن جبير: كانت خضراء، وقال عبيد بن عمير: سوداء، وقال قتادة: بيضاء، حكاه ابن الجوزي في زاد المسير. وروى سعيد بن منصور عن عبيد بن عمير: أنها بلق، والجمع بينها إنها كانت مختلفة فأخبر كل بحسب ما رأى أو سمع، في الشرح جمع آخر فيه تكلف. "مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقره، وحجران في رجليه" وعلى كل حجر اسم من يقع عليه واسم أبيه، كما جاء عن أم هانئ. "كأمثال العدس" تقريبًا، فلا ينافي قول الشامي: أكثر الأحاديث تدل على أنها أكبر من العدسة ودون الحمصة، وفي بعضها: كانت أكبر وكأنها كان فيها الكبير والصغير، فحدث كل بما رأى أو سمع. وعن ابن عباس: أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز حمر مخططة كالجزع الظفاري، بفتح الجيم وتكسر وسكون الزاي، خرز يمان فيه سواد وبياض؛ كما في القاموس، فأراد بالتشبيه أن حمرتها غير صافية، أو في المقدار والشكل فلا يشكل التشبيه مع قوله: حمر والظفاري، قال في الفتح: نسبة إلى ظفار مدينة بسواحل اليمن، وحكى ابن التين في ضبط ظفار: كسر أوله وصرفه أو فتحه، والبناء بوزن قطام، انتهى. "لا تصيب أحدًا منهم إلا أهلكته" وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، فإن كان راكبًا خرج من أسفل مركبه، "فخرجوا هاربين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 يتساقطون بكل طريق. وأصيب أبرهة في جسده بداء، وتساقطت أنامله أنملة أنملة، وسال منه الصديد والقيح والدم، وما مات حتى انصدع قلبه.   يتساقطون بكل طريق" ويهلكون على كل منهل وليس كلهم أصيب، ووجهوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاءوا منه يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن، فقال نفيل: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب قاله ابن إسحاق: وروى أبو نعيم عن عطاء بن يسار، قال: حدثني من كلم قائد الفيل وسائسه، أنه قال لهما: هل نجا أحد غيركما، قالا: نعم، ليس كلهم أصابه العذاب، وقالت عائشة: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس بمكة، رواه ابن إسحاق مسندًا، وإنما بقي منهم بقية على حالة غير مرضية تذكيرًا لمن رأى، وإعلامًا لمن لم ير فيزداد البيت تعظيمًا ويكون سببًا في تصديقه صلى الله عليه وسلم، والعلم بمنزلته عند الله. وفي زاد المسير: بعث عبد المطلب ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم فجعل يركض ويقول: هلك القوم، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وفي الروض عن تفسير النقاش: أن السيل احتمل جثثهم وألقاها في البحر. "وأصيب أبرهة في جسده بداء" هو الجدري، وهو أول جدري ظهر، قاله عكرمة، أي: بأرض العرب، فلا ينافي ما قيل أول من عذب بالجدري قوم فرعون، وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث: أن أول ما رؤيت الحصباء والجدري بأرض العرب ذلك العام، انتهى. وبهذا القيد لا يرد قوم فرعون؛ لأنهم لم يكونوا بها. "وتساقطت أنامله أنملة أنملة" أي: انتثر جسمه، والأنملة طرف الإصبع لكن قد يعبر بها عن طرف غيره ون الجزء الصغير، ففي مسند الحارث بن أبي أسامة مرفوعًا: "أن في الشجر شجرة هي مثل المؤمن لا يسقط لها أنملة"، ثم قال: "هي النخلة، وكذلك المؤمن لا يسقط له دعوة" قال السهيلي. "وسال منه الصديد" القيح وهو المدة الرقيقة، "والقيح" يعني به المدة الغليظة، "والدم" وعند ابن إسحاق كلما سقطت منه أنملة تبعها مدة تمصي قيحًا ودمًا، وظاهر المصنف كغيره أنه لم يصب بحجر، والظاهر: أن الداء الذي أصابه بعد وقوع حجر عليه ولم يعجل هلاكه به زيادة في عقوبته والمثلة به ويؤيده أن الذين أصيبوا بالحجارة لم يموتوا كلهم سريعًا بل تأخر موت جمع منهم. "وما مات حتى انصدع" أي: انشق "قلبه" وفي ابن إسحاق وغيره: حتى انصدع صدره فرقتين عن قلبه بصنعاء، وفي رواية: كلما دخل أرضًا وقع منه عضو حتى انتهى إلى بلاد خثعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] السورة إلى آخرها. فإن قلت: لم قال تعالى له عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ تَرَ} مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل؟ فالجواب أن المراد من الرؤية هنا: العلم والتذكر، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر، فكأن العلم الحاصل به ضروري، مساوٍ في القوة للرؤية.   وليس عليه غير رأسه فمات فيجوز أنه مات بها وحمل إلى صنعاء ميتًا، أو عبر بذلك مجاز القربة منه أو لظن المخبر موته لرؤيته وصل لهذه الحالة لا سيما وهم مشغولون بأنفسهم وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوق رأسه، وهو لا يشعر به حتى بلغ النجاشي فأخبره بما أصابهم، فلما أتم كلام رماه الطائر فوقع عليه الحجر ميتًا، فرأى النجاشي كيف كان هلاك أصحابه. "وإلى هذه القصة أشار سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم" مما عد على قريش من نعمة عليهم وفضله لبقاء أمرهم ومدتهم، قال ابن إسحاق. {أَلَمْ تَرَ} [الفيل: 1] ، استفهام تقرير، أي: ألم تعلم قرره على وجود علمه بما ذكر، وبه جزم في النهر، وقيل: تعجب لنقله نقل المتواتر، وبه جزم الجلال؛ أي: قد علمت أو تعجب {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، عبر بكيف دون ما؛ لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه للدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته وشرف رسوله، اقرأ "السورة إلى آخرها" وقد تلاها والتي بعدها معًا ابن إسحاق وجعلها متعلقة بها، كما هو أحد الأوجه. وفي الكشاف وحياة الحيوان: وإلى هذه القصة أشار صلى الله عليه وسلم في الصحيح، بقوله: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين". انتهى. وهو بيان لحالهم إذا خالفوا الله ورسوله والسورة أنسب في تعظيم جد المصطفى وقومه لأجله صلى الله عليه وسلم، فلذا اقتصر عليها المصنف. "فإن قلت: لم قال تعالى له عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ تَرَ} مع أن هذه القصة كانت قبل البعث بزمان طويل" إذ هي عام ولادته على أصح الأقوال وهو قول الأكثر، وقال مقاتل: قبل مولده بأربعين سنة، وقال الكلبي؛ بثلاث وعشرين سنة، وقيل: بثلاثين، وقيل: بخمسين، وقيل: بسبعين، وقيل غير ذلك. "فالجواب: أن المراد من الرؤية هنا العلم والتذكر" أي: قد علمت فهو تقريري. "وهو إشارة إلى أن الخبر به" أي: بالواقع لأصحاب الفيل؛ "متواتر، فكان العلم الحاصل به ضروري مساوٍ في القوة للرؤية" كما هو شأن المتواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتأسيسًا لنبوته وإرهاصًا لها، وإعزازًا لقومه بما ظهر عليهم من الاعتناء حتى دانت لهم العرب، واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس، بحماية الله لهم، ودفعه عنهم مكر أبرهة، الذي لم يكن لسائر العرب بقتاله قدرة، وكان ذلك كله إرهاصًا لنبوته عليه الصلاة والسلام. قال الرازي: ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسًا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله عليه الصلاة والسلام، يعني قبل بعثته.   "وقد كانت هذه القصة دالة على شرف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتأسيسًا لنبوته وإرهاصًا لها" هما متساويان، والمراد: أنها توطئة وتقوية لنبوته، "وإعزازًا لقومه" أي: تقوية لهم بعد الذل بما أصابهم من أبرهة واستعمال العز فيمن لم يسبق له ذل مجاز؛ كقوله: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] ، "بما ظهر عليهم من الاعتناء" أي: اعتناء الناس "حتى دانت" أي: خضعت وذلك "لهم العرب واعتقدت شرفهم وفضلهم على سائر الناس" بقيتهم، "بحماية الله لهم ودفعه عنهم" عطف تفسير، فالحماية الدفع فقالت العرب، كما في ابن إسحاق: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم، وقالوا في ذلك أشعارًا كثيرة. "مكر أبرهة" أي: إرادته السوء بهم سماه مكرًا مع أنه الاحتيال من حيث لا يعلم الممكور به، وأبرهة جاء مجاهرًا لحربهم نظرًا لعزمه على تخريب الكعبة وهم لا يشعرون، "الذي لم يكن للعرب جميعًا" وفي نسخة لسائر العرب، وهي أيضًا بمعنى الجميع عند الجوهري في جماعة، وإن خطّئوه فيها؛ لأنها لغة قليلة حكاها القاموس وغيره، وقد مر بسطه في الديباجة. "بقتاله" أي: عليه متعلق بقوله: "قدرته" قدم عليه لأنه ظرف، "وكان ذلك كله إرهاصًا لنبوته عليه الصلاة والسلام" وهو فائدة ذكر القصة هنا، لا لتعظيم ما كانت عليه قريش، فإن أصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم حينئذ أقرب حالا مما كان عليه أهل مكة؛ لأنهم كانوا عباد أوثان فنصرهم الله نصرًا لا صنع لبشر فيه، فكأنه يقول: لم أنصركم لخير بكم ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سيشرفه خير الأنبياء صلى الله عليه وسلم. "قال" الإمام العلامة فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين البكري الطبرستاني الأصل "الرازي" المولد المعروف بابن الخطيب، فاق أهل زمانه في علم الكلام والأوائل، وتوفي سنة ست وستمائة بمدينة هراة، "ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسًا" تقوية لها، قال: "ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله عليه الصلاة والسلام، يعني قبل بعثته" وأنت خبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وخالفه العلامة السيد في شرح المواقف -تبعًا لغيره- فاشترط في المعجزات أن لا تتقدم على الدعوة بل تكون مقارنة لها. كما سيأتي إن شاء الله في المقصد الرابع. فإن قلت: إن الحجاج خرب الكعبة ولم يحدث شيء من ذلك!! فالجواب: أن ذلك وقع إرهاصًا لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه، فلما ظهر عليه .....................   بأن قولهم ذلك لا يلزم منه أنهم سموها معجزة الذي هو محل النزاع. "وخالفه العلامة السيد" المحقق على الجرجاني، "في شرح المواقف تبعًا لغيره", وهو الجمهور "فاشترط في المعجزات أن لا تتقدم على الدعوة" إلى كلمة الإسلام؛ "بل تكون مقارنة لها" فالخوارق الواقعة قبل الرسالة إنما هي كرامات، والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها عليهم أيضًا، فتسمى إرهاصًا، صرح به السيد وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الرابع". "فإن قلت" إهلاك الله أصحاب الفيل إعزازًا لنبيه وحرمه، "وإن الحجاج" بن يوسف الثقفي الظلوم المختلف في كفره، واختار الإمام أبو عبد الله بن عرفة أنه كافر، قال الأبي رحمه الله: فأوردت عليه صلاة الحسن البصري، فأجاب بأنها تتوقف على صحة الإسناد إليه، انتهى. وفي الكامل للمبرد: مما كفر به الفقهاء الحجاج أنه رأى الناس يطوفون حول حجرته صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما يطوفون بأعواد برمة، قال الدميري: كفروه بهذه لأنه تكذيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، رواه أبو داود. "خرب الكعبة" لما أرسله عبد الملك بن مروان إلى قتال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لينزع منه الخلافة فتحصن عبد الله منه في البيت، فرمى الكعبة بالمنجنيق ثم ظفر به فقتله سنة ثلاث وسبعين، ووقع قبله في زمن يزيد بن معاوية حين أرسل الحصين بن نمير السكوني لقتال ابن الزبير لامتناعه من مبايعة يزيد فنصب المنجنيق على أبي قبيس وغيره من جبال مكة، ورمى الكعبة وكس الحجر الأسود واحترقت الكعبة حتى انهدم جدارها وسقط سقفها، ثم ورد لهم الخبر بموت يزيد عامله الله بعدله، فرجعوا إلى الشام. "ولم يحدث شيء من ذلك" الذي وقع لأصحاب الفيل، فما الفرق؟ "فالجواب: أن ذلك وقع إرهاصًا" أي: تأسيسًا "لأمر نبينا صلى الله عليه وسلم، إرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه" أي: ظهوره وثبوت نبوته، "فلما" أي: حيث "ظهر عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الصلاة والسلام، وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية فلا حاجة إلى شيء من ذلك، ذكر حفر زمزم والذبيحين ولما فرج الله عن عبد المطلب، ورجع أبرهة خائبًا، فبينما هو نائم يومًا في الحجر، إذ رأى منامًا عظيمًا ......................   الصلاة والسلام وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية، فلا حاجة إلى شيء من ذلك" جواب لما, ودخلته الفاء على قبله، وإيضاح هذا جواب الشامي بأنه إنما لم يمنعوا؛ لأن الدعوة قد تمت والكلمة قد بلغت والحجة قد ثبتت، فأخر الله أمرهم إلى الدار الآخرة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتن وأن الكعبة ستهدم. ا. هـ. أي: فكان عدم منعهم مظهرًا لمعجزته من الإخبار بالغيب. وأجاب النجم: بأن أبرهة قصد التخريب بالكلية وعدم عودها، فلذا عوجل بالعقوبة، والحجاج إنما قصد بالتخريب إذهاب صورة بناء ابن الزبير وإعادتها على حالتها الأولى، فلم يحدث له شيء وفيه نظر، فإنه حين قتاله لابن الزبير لم يكن قصده إذهاب صورة بنائه وإنما أراد ذلك بعد قتله، فكتب إلى عبد الملك مستشيره، كما قالوه في بناء الكبة، ولك أن تقول: لا يرد الإشكال من أصله؛ لأن جيش يزيد والحجاج إنما قاتلوا على الملك، ولم يقصدوا هدم الكعبة ولم يسيروا إليه كأبرهة، وما وقع من التخريب أدى إليه القتال، ثم أعاده ابن الزبير بعد ذهاب جيش يزيد واستقراره في الخلافة بمكة وبعض البلاد على قواعد إبراهيم على ما حدثته به خالته عائشة، ثم لما غزاه الحجاج وتهدم البيت أعاده الحجاج بأمر عبد الملك على ما كان عليه في الجاهلية وهو صفته اليوم. "ذكر حفر زمزم والذبيحين، ولما فرج الله تعالى عن عبد المطلب ورجع أبرهة خائبًا، فبينما هو نائم يومًا" أراد به مطلق الزمان، فلا ينافي قول عبد المطلب: رأيت الليلة؛ كقوله تعالى: {مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] , {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] , {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30] ، لا مقابل الليلة، نحو: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] ، ولا مدة القتال، نحو: {يَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] ، ولا الدولة، كقوله: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، "في الحجر إذا رأى منامًا عظيمًا"، هو كما رواه أبو نعيم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن أبي الخيثم، عن أبيه عن جده، قال: سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب، قال: بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعًا شديدًا، فأتيت كاهنة قريش، فقلت لها: إني رأيت الليلة كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب، وما رأيت نورًا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفًا، ورأيت العرب والعجم لها ساجدين، وهي تزداد كل ساعة عظمًا ونورًا وارتفاعًا ساعة تخفى وساعة تظهر، ورأيت رهطًا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قومًا من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فانتبه فزعًا مرعوبًا، وأتى كهنة قريش، وقص عليهم رؤياه، فقالت له الكهنة: إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض وليكونن في الناس علمًا مبينًا. فتزوج فاطمة، وحملت في ذلك الوقت بعبد الله الذبيح   أخذهم شاب لم أر قط أحسن منه وجهًا ولا أطيب ريحًا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبًا، فلم أنل؛ فقلت: لمن النصيب؟ فقال: النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك، فانتبهت مذعورًا فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، فقال عبد المطلب لأبي طالب: لعلك أن تكون هو المولود، فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، أي: بعث، ويقول: كانت الشجرة والله أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن به؟ فيقول: السبة والعار، أي: أخشى أو يمنعني فهما منصوبان أو مرفوعان، أو المراد بالمنام ما في الروض في سبب تسميته محمدًا عن علي القيرواني العابر في كتابه البستان، قال: زعموا أن عبد المطلب رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء، وطرف في الأرض وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب ويحمده أهل السماء وأهل الأرض. "فانتبه" حال كونه "فزعًا مرعوبًا" والمراد بهما واحد، فالفزع والرعب، الخوف، "وأتى كهنة قريش وقص عليهم رؤياه" وهذا مخالف لقوله في رواية أبي نعيم: فأتيت كاهنة قريش فقلت لها، إلا أن يقال اللام في الكهنة للجنس، والمعنى: أنه لما خرج قصد جملة الكهنة، فاتفق أنه اختار هذه للسؤل. "فقالت له الكهنة" اللام للجنس، أو اشتهر قولها وبلغهم وأقروه فنسب لهم "إن صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السماوات والأرض، وليكونن في الناس علمًا مبينًا" أي: كالراية الظاهرة، فالعلم بفتحتين، الراية؛ كما في المختار. "فتزوج فاطمة" بنت عمرو بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، "وحملت في ذلك الوقت بعبد الله الذبيح" فيه نظر؛ لأن عبد الله أصغر أولاد فاطمة، وقد ذكر اليعمري وغيره أن أبا طالب والزبير وعبد الكعبة أشقاء لعبد الله، اللهم إلا أن يكون تجوز في قوله في ذلك الوقت مبالغة في قرب حملها به، ثم هذا الذي ذكره المصنف من أن الرؤيا وحفر زمزم كانا بعد الفيل، إنما يأتي على أنه قبل المولد النبوي بأربعين أو سبعين سنة. أما على المشهور أنها كانت عامة فلا يتصور إلا أن يكون مراده مجرد الإخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وقصته في ذلك مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة. وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم، لأن الجرهمي .................   بقصة بعد أخرى، والمعنى: بعدما ذكرنا أن الله فرج عن عبد المطلب، نقول: بينما هو نائم والتزامه الترتيب على السنين إنما هو من حين نشأة المصطفى؛ كما قال في الديباجة، فلا يرد هذا عليه لكن هذا في غاية التعسف بل لا يصح مع قوله: لما خرج وخاب أبرهة نام فرأى فتزوج، فجعله جواب لما. "وقصته" أي: وصفه بالذبيح "في ذلك مشهورة مخرجة عند الرواة مسطورة، وكان سببها حفر أبيه عبد المطلب زمزم" أي: إظهارها وتجديدها، كما يعلم من قوله بعد وبالغ في طمها. وذكر البرقي عن ابن عباس: سميت زمزم؛ لأنها زمت بالتراب لئلا تأخذ يمينًا وشمالا، ولو تركت لساحت على الأرض حتى تملأ كل شيء، وقال الحربي: لزمزمة الماء، وهي صوته. وقال أبو عبيد: لكثرة مائها، وقيل غير ذلك، وليس بخلاف حقيقي فقد تكون التسمية لجميع ذلك، وحكى المطرزي أن اسمها زمازم وزمزم. قال السهيلي: وتسمى أيضًا همزة جبريل بتقديم الميم على الزاي، ويقال أيضًا: هزمة جبريل، أي: بتقديم الزاي، لأنها هزمته في الأرض، وتسمى أيضًا: طعام طعم وشفاء سقم. ا. هـ. والأخير لفظ حديث مرفوع عند الطيالسي عن أبي ذر وأصله في مسلم، كما ذكره السخاوي. وروى الدارقطني والحاكم عن ابن عباس رفعه: "ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، هي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل". وفي سيرة ابن هشام: "هي بين صنمي قريش، إساف ونائلة عند منحر قريش، كان جرهم دفنها حين ظعن من مكة، وهي بئر إسماعيل التي سقاه حين ظمئ، وهو صغير، فالتمست له أمه فلم تجده فقامت على الصفا تدعو الله وتستسقيه لإسماعيل، ثم أتت المروة ففعلت مثل ذلك فبعث الله جبريل فهمزها بعقبه في الأرض، وظهر الماء وسمعت أمه أصوات السباع فخافت عليه، فأقبلت نحوه فوجدته يفحص بيده عن الماء تحت خده ويشرب". قال السهيلي: حكمة همز جبريل بعقبه دون يده أو غيرها الإشارة إلى أنها لعقبه، أي: إسماعيل ووارثه وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] . ا. هـ. وإنما حفرها عبد المطلب؛ "لأن الجرهمي" بضم الجيم وسكون الراء وضم الهاء نسبة إلى جرهم حي من اليمن سموا باسم جرهم بن قحطان ابن نبي الله هود؛ كما في التيجان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 عمرو بن الحارث لما أحدث قومه بحرم الله الحوادث، وقيض الله لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو إلى نفائس فجعلها في زمزم وبالغ في طمها، وفر إلى اليمن بقومه، فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة .........................   "عمرو بن الحارث" بن مضماض بكسر الميم وضمها، "لما أحدث قومه" جرهم وكانوا ولاة البيت والحاكم بمكة لا ينازعهم بنو إسماعيل لخولتهم وقرابتهم وإكرامًا لمكة، أي: يكون بها بغي أو قتال، "يحرم الله الحوادث" فبغوا بمكة وظلموا من دخلها من غير أهلها وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها فساءت حالهم، "وقيض الله لهم من أخرجهم من مكة". قال القاضي تقي الدين الفاسي في شفاء الغرام: اختلف أهل الأخبار فيمن أخرج جرهمًا من مكة اختلافًا يعسر معه التوفيق، فقيل: بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وغيشان بن خزاعة لمنعهم بني عمرو بن عامر الإقامة بمكة حتى يصل إليهم رواؤهم، وقيل: عمرو بن ربيعة بن حارثة لطلبهم حجابة البيت. وقيل: بنو إسماعيل بعد أن سلط الله على جرهم آفات من رعاف ونمل حتى فني به من أصابهم بمكة، وقيل: سلط على ولاة البيت منهم دواب، فهلك منهم في ليلة واحدة ثمانون كهلا سوى الشبان حتى رحلوا من مكة، والقول الأول ذكره ابن إسحاق، فقال: إن بني بكر وغبشان لما رأوا بغيهم، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة فأذنوا بالحرب، فاقتتلوا فغلبهم بنو بكر وغبشان. فنفوهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها بغيًا ولا ظلمًا لا يبغي فيها أحد إلا أخرجته فكانت تسمى الناشة ولا يريدها ملك يستحل حرمتها، إلا هلك مكانه، فيقال: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة. "فعمد" بفتح الميم ومضارعه بكسرها، كذا المنقول، ورأيت في بعض الحواشي أن في بعض شروح الفصيح وأظنه عزاه للسبكي أنه يجوز فيه العكس، قاله في النور، أي: قصد "عمرو إلى نفائس" هي غزالان من ذهب وسيوف وأدراع وحجر الركن كما عند ابن هشام وغيره، "فجعلها في زمزم" بمنع الصرف للتأنيث والعلمية، قاله المصباح. "وبالغ في طمها" بفتح الطاء المهملة وكسر الميم المشددة بعدها هاء، قال القاموس: طم الركية دفنها وسواها، وفيه أيضًا الركية البئر. "وفر إلى اليمن بقومه" فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنًا شديدًا، وقال عمرو: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا الأبيات بتمامها في ابن إسحاق، قيل: كانت ولاية جرهم مكة ثلاثمائة سنة وقيل: خمسمائة، وقيل: ستمائة سنة. "فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة" وفي رواية: بقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إلى أن رفعت عنها الحجب برؤيا منام رآها عبد المطلب، دلته على حفرها بأمارات عليها. فمنعته قريش من ذلك .................................   مطمومة بعد جرهم زهاء خمسمائة سنة لا يعرف مكانها، "إلى أن رفعت" أزيلت "عنها الحجب" الموانع التي منعت من معرفتها، "برؤيا منام رآها عبد المطلب دلته على حفرها بأمارات عليها" روى ابن إسحاق بسنده عن علي، قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت، فقال: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ فذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر برة، فقلت: وما برة؟ فذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني، فقال: احفر المضنونة، فقلت: وما المضنونة؟ فذهب عني؛ فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني وقال: احفر زمزم، قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبدًا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل. برة بفتح الموحدة وشد المهملة سميت بذلك لكثرة منافعها وسعة مائها، قال في الروض، هو اسم صادق عليها؛ لأنها فاضت للأبرار وغاضت عن الفجار. والمضنونة بضاد معجمة ونونين: لأنها ضن بها على غير المؤمن فلا يتضلع منها منافق، قاله وهب ابن منبه. وروى الدارقطني مرفوعًا: "من شرب زمزم فليتضلع، فإنه فرق ما بيننا وبين المنافقين لا يستطيعون أن يتضلعوا منها" وفي رواية الزبير بن بكار: أن عبد المطلب قيل له: احفر المضنونة ضننت بها على الناس إلا عليك. ولا ينزف، بكسر الزاي: لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها. ولا تذم بمعجمة لا توجد قليلة الماء من قول العرب: بئر ذمة، أي: قليل ماؤها وهذا لأنه نفي مطلق وخبر صادق أولى من الحمل على نفي ضد المدح؛ لأنها مذمومة عند المنافقين، قاله السهيلي. قل: والغراب الأعصم فسره صلى الله عليه وسلم: "بأنه الذي إحدى رجليه بيضاء"، رواه ابن شيبة وأطال في الروض في وجه تأويل هذه الرؤيا بما يحسن كتبه بالعسجد، لكن الرهبة من التطويل تمنع من جلبه. "فمنعته قريش من ذلك" ظاهره: أنها منعته من أصل الحفر ونازعته ابتداء، والذي رواه ابن إسحاق عن علي عقب ما مر: فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه صدق، غدا بمعوله ومعه ولده الحارث ليس له يومئذ ولد غيره فجعل يحفر ثلاثة أيام، فلما بدا له الطي كبر، وقال: هذا طي إسماعيل، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل وإن لنا فيها حقًا، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ثم آذاه من السفهاء من آذاه، واشتد بذلك بلواه، ومعه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه، فنذر لئن جاءه عشرة بنين وصاروا له أعوانًا ليذبحن أحدهم لله قربانًا. ثم احتفر عبد المطلب زمزم ........................   كاهنة سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام بالفاء، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا حتى إذا كانوا بمفازة بين الحجاز والشام ظمئ عبد المطلب وأصحابه، وغيره حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش فأبوا، وقالوا: إنا بمفازة نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فلما رأى ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه، قال: ماذا ترون؟ قالوا: ما رأينا إلا تبع لرأيك، فمرنا بما شئت، فأمرهم فحفروا قبورهم، وقال: من مات واراه أصحابه حتى يكون الآخر فضيعته أيسر من ركب؛ وقعدوا ينتظرون الموت عطشًا، ثم قال: والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت عجز، لنضربن في الأرض عسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، وركب راحلته فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب وأصحابه ثم نزل فشربوا واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش، فقال لهم: هلم إلى الماء فقد سقانا الله، فاستقوا وشربوا، ثم قالوا: قد والله قضي لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبدًا إن الذي أسقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو أسقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدًا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبينها. "ثم آذاه من السفهاء من آذاه" هو عدي بن نوفل بن عبد مناف قال له: يا عبد المطلب تستطيل علينا وأنت فذ، لا ولذلك! فقال: أبا القلة تعيرني، فوالله لئن آتاني الله عشرة من الولد ذكورا لأنحرن أحدهم عند الكعبة، رواه ابن سعد والبلاذري. وفي الخميس: سفه عليه وعلى ابنه ناس من قريش ونازعوهما وقاتلوهما، "واشتد بذلك بلواه، وكان معه ولده الحارث ولم يكن له ولد سواه، فنذر" مر أنه حلف، فيحتمل أنه المراد بالنذر، أو أن صورة الالتزام تكررت مرة بالنذر، وأخرى بالحلف. "لئن جاء له عشر بنين وصاروا له أعوانًا" أي: بلغوا أن يمنعوه، وبه عبر ابن إسحاق وأتباعه "ليذبحن أحدهم قربانًا" لله عند الكعبة، واحتفر عبد المطلب زمزم" في عامه ذلك هو وابنه الحارث فقط، فعند ابن إسحاق، فإذا عبد المطلب ومعه الحارث فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين إساف ونائلة الذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها، فجاء بالمعول وقام يحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش، فقالوا: والله ما نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما، فقال لابنه: رد عني حتى أحفر، فوالله لأمضين لما أمرت به؛ فلما عرفوا أنه غير تارك خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه، فلم يحفر إلا يسيرًا حتى بدا له الطين، فكبر وعرف أنه قد صدق، فلما تمادى به الحفر وجد الغزالين والأسياف والأدراع التي دفنتها جرهم، فقالت قريش: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فكانت له فخرًا وعزًا. فلما تكامل بنوه عشرة وهم: الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم ..................   إنا معك في هذا شرك، قال: لا، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها القداح، قالوا: كيف نصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له, ومن تخلف قدحاه فلا شيء له، قالوا: أنصفت، فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وأسودين له وأبيضين لقريش، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة، والأسودين على الأسياف والأدراع له، وتخلف قدحًا قريش فضرب الأسياف بابًا للكعبة وضرب بالباب الغزالين من ذهب، فكان أول ذهب حليته الكعبة فيما يزعمون، ثم أتم حفر زمزم وأقام سقايتها للحاج، "فكانت له فخرًا وعزًا" على قريش وعلى سائر العرب، ذكر الزهري في سيرته: أنه اتخذ عليها حوضًا يستقي منه، فكان يخرب بالليل حسدًا له، فلما أهمه ذلك قيل له في النوم قل: لا أحلها لمغتسل، وهي للشارب حل وبل، فلما أصبح قالها فكان من أرادها بمكروه رمي بداء في جسده، حتى انتهوا عنه. حل بكسر الحاء، أي: من الحرام. وبل، بكسر الموحدة: مباح، وقيل: شفاء. وعند ابن إسحاق: فعفت زمزم على آبار كانت قبلها وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام وفضلها على ما سواها؛ ولأنها بئر إسماعيل وافتخر بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب، وعند غيره: فكان منها شرب الحاج، وكان لعبد المطلب إبل كثيرة يجمعها في الموسم ويسقي لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم، ويشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج ليكسر غلظها وكانت إذ ذاك غليظة، فلما توفي قام بالسقاية العباس وان له كرم بالطائف؛ فكان يحمل زبيبه إليها ويسقيه الحاج أيام الموسم، فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح قبض السقاية منه، ثم ردها إليه. "فلما تكامل بنوه عشرة" بعد حفره زمزم بثلاثين سنة، كما عند ابن سعد والبلاذري، زاد في نسخ "وهم الحارث" وأمه صفية بنت جندب "والزبير" بفتح الزاي عند البلاذري، وأبي القسم الوزير وضمها عند غيرهما, وهو مفاد التبصير وأمه فاطمة بنت عمرو، "وحجل" بفتح المهملة فجيم ساكنة عند الدارقطني، وتبعه النووي والذهبي والعسقلاني، وهو في الأصل القيد والخلخال، وضبطه اليعمري تبعًا لابن إسحاق بتقديم الجيم على الحاء الساكنة، وصدر به المصنف فيما يأتي وهو السقاء الضخم، وذكر المصنف: ثم إن اسمه المغيرة وتبع فيه الذهبي، ووهمه الحافظ، وقال: الذي اسمه مغيرة ابن أخيه حجل بن الزبير بن عبد المطلب، انتهى. وأمه هالة بنت وهيب. "وضرار" بضاد معجمة وراءين بينهما ألف، وهو شقيق العباس، "والمقوم" بفتح الواو مشددة اسم مفعول وكسرها مشددة اسم فاعل، كذا يخطي ولا أدري الآن من أين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، وقر الله عينه بهم، نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى في المنام قائلا يقول: يا عبد المطلب: أوف بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ فزعًا مرعوبًا، وأمر بذبح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين. ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورًا، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا، وأطعمه للمساكين، ثم نام فنودي: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فقال: ما أكبر من ذلك وقال: قرب أحد أولادك الذي نذرته. فاغتم غمًا شديدًا، وجمع أولاده، وأخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ قال: ليأخذ .............................   هو، قاله في النور، وأمه هالة. "وأبو لهب" عبد العزى وأمه آمنة بنت هاجر، "والعباس" رضي الله عنه، وأمه نتلة بفتح النون وسكون الفوقية، ويقال: نتيلة بضم النون وفتح الفوقية مصغرًا، واقتصر عليه التبصير. "وحمزة" سيد الشهداء رضي الله عنه، وأمه هالة بنت وهيب. "وأبو طالب وعبد الله" والده صلى الله عليه وسلم وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم، قال شيخنا: وهذه النسخة لا تناسب ما يأتي أن حمزة والعباس إنما ولدا بعد الوفاء بالنذر، فلعلها غير صحيحة، انتهى. أما الأول: فواضح، وأما ترجي عدم صحتها فلا إذ من المعلوم القول بأن أولاده عشرة فقط فيحتمل أن المراد بحمزة والعباس هنا اثنان من ولد ولده موافقًا اسم ابنيه. "وقر الله عينه بهم" كذا في نسخ وسقطت الجلالة من أخرى، وهي التي عند شيخنا، فقال: العين حاسة الرؤية مؤنثة ذكر الفعل؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. "نام ليلة عند الكعبة المطهرة فرأى في المنام قائلا يقول" له: "يا عبد المطلب، أوف" بهمزة قطع "بنذرك لرب هذا البيت، فاستيقظ" حال كونه "فزعًا مرعوبًا" أي: خائفًا وهما بمعنى كما مر، "وأمر ببح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين، ثم نام فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فاستيقظ من نومه وقرب ثورًا" ذكر البقر سمي ثورًا؛ لأنه يثير الأرض، كما سميت البقرة بقرة؛ لأنها تبقرها، "ثم نام، فرأى: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرب جملا" نحره، "وأطعمه للمساكين" والفقراء؛ لأنهما إذا افترقا اجتمعا، "ثم نام، فنودي: أن قرب ما هو أكبر من ذلك، فقال: وما هو أكبر من ذلك؟ وقال: قرب أحد أولادك الذي نذرته" أي: نذرت ذبحه، "فاغتم غمًا شديدًا" أي: أصابه كرب وحزن، "وجمع أولاده وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء" بالنذر "فقالوا: إنا نطيعك، فمن تذبح منا؟ " أي: فأي واحد تريد ذبحه لنعينك عليه، "قال: ليأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 كل واحد منكم قدحًا -والقدح: سهم بغير نصل- ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا، وأخذوا قداحهم ودخلوا على هبل -اسم صنم عظيم- وكان في جوف الكعبة، وكانوا يعظمونه، ويضربون بالقداح عنه، ويستقسمون بها، أي يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذي لها قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح وقام يدعو الله تعالى، فخرج على عبد الله، وكان أحب ولده إليه. فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد الله .......................................   كل واحد منكم قدحًا" قال المصنف: "والقدح" بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملة، "سهم بغير نصل" ولفظ القاموس القدح بالكسر: السهم قبل أن يراش وينصل، "ثم ليكتب فيه اسمه، ثم ائتوا به، ففعلوا وأخذوا قداحهم" بكسر القاف جمع قدح ويجمع أيضًا على أقداح أقاديح؛ كما في القاموس. "ودخلوا على هبل" بضم الهاء وفتح الموحدة فلام، "اسم صنم عظيم" من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يدًا من ذهب كذا ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام: أنه بلغه "وكان في جوف الكعبة" وكان تحته بئر يجمع فيها ما يهدى للكعبة، قاله ابن إسحاق وغيره. "وكانوا يعظمونه ويضربون بالقداح عنده" قال ابن إسحاق: كان عنده قداح سبعة كل قدح فيه كتاب قدح العقل، إذا اختلفوا من يحمله، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه، وقدح فيه لا، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا حفرها، فكانوا إذا أرادوا الختان أو النكاح أو دفن ميت أو شكوا في نسب، ذهبوا إلى هبل بمائة درهم وجزور فأعطوها الذي يضرب بها ثم ما خرج عملوا به، انتهى، ملخصًا، ففسرها كلها وأقره عبد الملك بن هشام. وأما ابن الكلبي، فقال: مكتوب في أولها صريح والآخر ملصق، وإذا شكوا في مولود أدوا له هدية ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح الحقوه وإن كان ملصقًا دفعوه، وقدح على الميتة، وقدح على النكاح، وثلاثة لم تفسر لي على ما كانت، فإذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفرًا أو عملا، أتوه، فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به، وانتهوا إليه. وفسر ضرب القداح بقوله: "ويستقسمون بها، أي: يرتضون بما يقسم لهم، ثم يضرب بها القيم الذي لها" والمعنى: كانوا يتفقون عند القيم بالرضا بما خرج، فكل من خرج اسمه على شيء رضي به، "قال: فدفع عبد المطلب إلى ذلك القيم القداح، وقام" عبد المطلب "يدعو الله تعالى" ويقول: اللهم إني نذرت لك نحر أحدهم وإني أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت، ثم ضرب السادن القدح "فخرج على عبد الله، وكان أحب ولده إليه، فقبض عبد المطلب على يد ولده عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وأخذ الشفرة ثم أقبل إلى إساف ونائلة -صنمين عند الكعبة تذبح وتنحر عندهما النسائك- فقام إليه سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفي بنذري، فقالوا: لا ندعك أن تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه وتكون سنة. وقالوا: له: انطلق إلى فلانة الكاهنة. قلت:   وأخذ الشفرة" بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء، وهي السكين العظيم؛ كما في القاموس. أو العريض؛ كما في المصباح. ولا خلف "ثم أقبل إلى إساف" بكسر الهمزة وفتح المهملة مخففة، "ونائلة" بنون فألف فتحتية، "صنمين عند الكعبة" قال هشام الكلبي في كتاب الأصنام: إساف رجل من جرهم، يقال له: إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم، وكان يتعشقها في أرض اليمن فحجا فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها فيه فمسخا فأصبحوا فوجدوهما ممسوخين فوضعوهما ليتعظ بهما الناس، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها، "تذبح وتنحر عندهما النسائك، فقام إليه سادة قريش" وعند ابن إسحاق وغيره: فقامت إليه قريش في أنديتها، "فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ " فلعل السادة هم الذين بدءوا بالقيام والقول فتبعوهم، وفي ابن إسحاق، فقالت له قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر، ولا يشكل بقوله قبله: فأطاعوه؛ كقول المصنف: إنا نطيعك فمن تذبح منا؛ لأنهم وافقوه أولا ثم وافقوا قريشًا في طلب الأعذار، ووقع في الشامية أن العباس جذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه، فيقال: إنه شبح وجهه شبحة لم تزل فيه حتى مات. ا. هـ. ولا يصح؛ لأن العباس إنما ولد بعد هذه القصة، إلا أن يقال على بعد شاركه في اسمه غيره من بني إخوته. "فقال: أوفي بنذري" بضم الهمزة وسكون الواو ففاء خفيفة، أو بفتح الواو وشدة الفاء، يقال: أوفى ووفى بمعنى، "فقالوا: لا ندعك تذبحه حتى تعذر" بضم فسكون من الإعذار، يقال: أعذر إذا أبدى العذر، والمراد حتى تطلب عذرًا "فيه" في ذبحه "إلى ربك" بأن تسأل الكاهنة، فإنها إن ذكرت أنه يذبح كان عذرًا عندهم، "ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتي بابنه فيذبحه" فما بقاء الناس على هذا، وقال المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: وكان عبد الله بن أخت القوم، والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، هكذا في ابن إسحاق. "وتكون سنة" أي: طريقة مستمرة في قومك؛ لأنك رئيسهم فيقتدون بك "وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة" وعند ابن إسحاق وأتباعه: وانطلق إلى الحجاز فإن به عرافة لها تابع من الجن وهو بتقدير مضاف، أي: أحد أرض الحجاز، فلا يخالفه قول القاموس الحجاز مكة والمدينة والطائف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قيل اسمها: قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغني في كتاب المبهمات، وذكر ابن إسحاق أن اسمها: سبجاج -فلعلها أن تأمرك فيه فرج لك. فانطلقوا حتى أتوها بخيبر، فقص عليها عبد المطلب القصة، فقالت: كم الدية عندكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليها القداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا في الإبل ثم اضربوا أيضًا، هكذا حتى يرضي ربكم. ويخلص صاحبكم فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم. فرجع القوم إلى مكة، وقربوا عبد الله، وقربوا عشرة ................   "قيل: كان اسمها قطبة، كما ذكره الحافظ عبد الغني" بن سعيد بن علي الأزدي الإمام المتقن النسابة إمام زمانه في علم الحديث وحفظه، قال البرقاني: ما رأيت بعد الدارقطني أحفظ منه له مؤلفات منها المبهمات، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ومات في سابع صفر سنة تسع وأربعمائة، "في كتاب" الغوامض و"المبهمات، وذكر ابن إسحاق" في رواية يونس عنه "أن اسمها سبجاج". كذا في النسخ، والذي في الروض: سجساج، "فلعلها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك" لفظ رواية ابن إسحاق: إن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته، "فانطلقوا حتى" قدموا المدينة فوجدوها بخيبر، فركبوا حتى "أتوها بخيبر، فقص عليها عبد المطلب القصة" فقالت لهم، كما في ابن إسحاق: ارجعوا عني حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا من عندها؛ فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله، ثم غدوا عليها "فقالت" لهم: قد جاءني الخبر "كم الدية عندكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم" أي: أحضروه إلى موضع ضرب القداح "ثم قربوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها القداح، فإن خرجت القداح على صابحكم فزيدوا في الإبل" عشرة أخرى، وهكذا على ما يظهر من أن الزيادة بإشارتها أو أطلقت. وزاد عبد المطلب اجتهادًا نظرًا لأن الدية عشرة فأريد تضعيفها، "ثم اضربوا أيضًا هكذا حتى يرضى ربكم ويخلص صاحبكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم" وكأنه غلب على ظنها أن القداح لا محالة تخرج على الإب مرة، فسكتت عن حكم ما لو لم تخرج عليها لعلمه عندهم، "فرجع القوم إلى مكة وقربوا عبد الله وقربوا عشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو، فخرجت القداح على ولده، فلم يزل يزيد عشرًا عشرًا حتى بلغت مائة فخرجت القداح على الإبل. فنحرت وتركت، لا يصد عنها إنسان ولا طائر ولا سبع. ولهذا روي -على ما عند الزمخشري في الكشاف- أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا ابن الذبيحين". وعند الحاكم في المستدرك، عن معاوية بن أبي سفيان قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ........................   من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو" الله تعالى "فخرجت القداح" أي: جنسها إذ الخارج في كل مرة قدح أحد "على ولده، فلم يزل يزيد عشرًا عشرًا حتى بلغت الإبل مائة، فخرجت القداح على الإبل" زاد ابن إسحاق: فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب، فزعموا أنه قال: لا والله حتى أضرب عليها بالقداح ثلاث مرات، فضربوا على عبد الله وعلى الإبل فقام عبد المطلب يدعو فخرجت على الإبل، ثم عادوا الثانية وهو قائم يدعو فضربوا فخرجت على الإبل، ثم الثالثة وهو قائم يدعو فخرجت على الإبل،"فنحرت وتركت لا يصد عنها إنسان" ذكر أو أنثى، قال لمجد المرأة إنسان وبالهاء عامية، وسمع في شعر كأنه مولد: لقد كستني في الهوى ... ملابس الصب الغزل إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل إذا زنت بها عيني ... من الدموع تغتسل "ولا طائر ولا سبع" بضم الموحدة وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان، قاله القاموس. وعند مغلطاي: أول من سن الدية مائة عبد المطلب، وقيل: العلمس أو سيارة. ا. هـ. "ولهذا" الواقع في قصة عبد الله "روى على ما عند الزمخشري في الكشاف" في سورة: {وَالصَّافَّاتِ} [الصافات: 1] ، استدلالا على أن الذبيح إسماعيل، "أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "أنا ابن الذبيحين" قال الزيلعي في تخريج أحاديثه: غريب، ثم ساق حديث الأعرابي المذكور في المتن ونحوه للحافظ، فحاصل كلامهما أنهما لم يجداه بهذا اللفظ؛ كما عزاه لهما الشامي. "وعند الحاكم في المستدرك" وابن جرير وابن مردويه والثعلبي في تفاسيرهم، "عن معاوية بن أبي سفيان" صخر ابن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أمير المؤمنين أسلم هو وأبواه وأخوه يزيد في فتح مكة وكان هو وأبوه من المؤلفة قلوبهم، ثم حسن إسلامهما ومعاوية من الموصوفين بالحلم توفي بدمشق سنة ستين، "قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله، خلفت البلاد يابسة، والماء يابسًا وخلفت المال عابسًا، هلك المال وضاع العيال، فعد علي ما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين. قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه. الحديث. وتأتي تتمته إن شاء الله تعالى قريبًا. ويعني بالذبيحين: عبد الله وإسماعيل بن إبراهيم. وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق. فإن صح هذا .................................   فأتاه أعرابي، فقال: يا رسول الله! خلفت البلاد يابسة" مجدبة لا خصب فيها، "والماء" أي: محلاته التي يصيبها "يابسًا" لعدم الماء, وفي نسخة: خلفت الكلأ يابسًا، أي: العشب وصفه باليبس لبيان صفته التي تركه عليها، فالكلأ العشب رطبًا كان أو يابسًا؛ كما في المختار، وزعم أن هذه النسخة هي التي في غيره والأولى تصحيف عجيب باطل، فالأولى هي الثابتة في المقاصد عن المستدرك، "وخلفت المال عابسًا" أي: كالحًا، أي: متغيرًا مهزولا؛ وكأنه أراد بالمال الماشية، "هلك المال وضاع العيال فعد علي" أعطني شيئًا أستعين به "مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، قال" معاوية "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه" فأفاد أنه إسماعيل، وهذا احتج به معاوية على من قال: إنه إسحاق، فإن أول الحديث عند الحاكم عن الصنابحي: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق، فقال بعضهم: إسماعيل الذبيح، وقال بعضهم: بل إسحاق، فقال معاوية، سقطتم على الخبير، وذكره "الحديث، وتأتي تتمته إن شاء الله تعالى قريبًا" جدًا، "ويعني بالذبيحين: عبد الله وإسماعيل بن إبراهيم" كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم ورجحه جماعة، وقال أبو حاتم: إنه الصحيح، والبيضاوي: إنه الأظهر. "وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أن الذبيح إسحاق" بل عزاه ابن عطية والمحب الطبري والقرطبي للأكثرين، وأجمع عليه أهل الكتابين وقال به من الصحابة، كما قال البغوي وغيره العباس وابنه، وعمر وابنه، وعلي وجابر وهو الصحيح عن ابن مسعود، ومن التابعين: علقمة، والشعبي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وكعب الأخبار، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابط، والزهري، والسدي، وعبد الله بن أبي الهذيل، والقاسم بن زيد، ومكحول، والحسن. وذهب إليه مالك واختاره ابن جرير، وجزم به عياض والسهيلي، ومال إليه السيوطي في علم التفسير. "فإن صح هذا" في نفس الأمر وإلا فكيف لا يصح، وقد قال به من ذكر والحجة لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فالعرب تجعل العم أبًا، قال الله تعالى إخبارًا عن بني يعقوب عليهم الصلاة والسلام: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] . وفي حديث معاوية -الموعود بتتمته قريبًا- ....................   قوله صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق" رواه الدارقطني عن ابن مسعود وابن مردويه والبزار عن العباس، وفيه المبارك بن فضالة ضعفه الجمهور، لكن رواه الحاكم من طرق عن العباس، وقال: صحيح علي شرطهما. وقال الذهبي: صحيح. ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة قال ابن كثير: وفيه الحسن بن دينار متروك، وشيخه منكر وقد رواه ابن أبي حاتم مرفوعًا ثم رواه عن مبارك بن فضالة موقوفًا وهو أشبه وأصح، وتعقبه السيوطي بأن مباركًا قد رفعه مرة فأخرجه البزار عنه مرفوعًا، وله شواهد عنده وعند الديلمي عن العباس مرفوعًا في حديث بلفظ: "وأما إسحاق فبذل نفسه للذبح"، والطبراني وابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه بسند ضعيف، وللطبراني أيضًا بسند ضعيف عن ابن مسعود: سئل صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس؟ قال: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الل"، وأخرج في الكبير عن أبي الأحوص، قال: افتخر رجل عند ابن مسعود، وفي لفظ: فاخر أسماء بن خارجة رجلا، فقال: أنا ابن الأشياخ الكرام، فقال عبد الله: ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله وإسناده صحيح موقوف. ا. هـ. ملخصًا. فهذه أحاديث يعضد بعضها بعضًا، فأقل مراتب الحديث الأول أنه حسن، فكيف وقد صححه الحاكم والذهبي وهو نص صريح لا يقبل التأويل بخلاف حديث معاوية فإنه قابل له. "فالعرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى إخبارًا عن بني يعقوب عليهم الصلاة والسلام" جمعها وإن كان فيهم غير أنبياء لجوازها تبعًا وهو استدلال على جعل العم أبا، {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133، الأنعام: 144] ، حضورًا والخطاب لليهود، فإنه نزل ردًا عليهم لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية، " {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} " [البقرة: 133] ، إذ بدل من إذ قبله: " {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} " بعد موتي، " {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} " [البقرة: 133] ، فجعل إسماعيل أبا وهو عم لأنه بمنزلته، في حمل حديث معاوية على ذلك جمعًا بين الحديثين. وأما القول بأنهما عبد الله وهابيل فغريب، وإن نقله مغلطاي ولا يصح إلا بجعل العم أبا أيضًا، فإن المصطفى من ولد شيث "وفي حديث معاوية الموعود بتتمته قريبًا" قال: راويه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم، وقالوا أرض ربك، وافد ابنك، ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول وإسماعيل الذبيح الثاني. قال ابن القيم: "ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار بها تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه".   الصنابجي، فقلنا: وما الذبيحان؟ "قال معاوية: إن عبد المطلب لما أمر" بالبناء للمفعول "بحفر زمزم" وعير بقلة الولد "نذر لله إن سهل" الله "الأمر بها" وجاءه عشرة بنين "أن ينحر بعض ولده" أي: واحدًا منهم؛ كما مر، والأخبار يفسر بعضها ببعض، "فأخرجهم فأسهم بينهم، فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه فمنعه أخواله من بني مخزوم" من ذبحه حتى يعذر فيه إلى ربه، ومر عن ابن إسحاق أن المغيرة المخزومي قال له: والله لا تذبحه أبدًا حتى يعذر فيه إلى ربه، ومر عن ابن إسحاق أن المغيرة المخزومي قال له: والله لا تذبحه أبدًا حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه ومثله في الشامية، وليس فيه أن المخاطب له بذلك منهم؛ كما ادعي، ولا اللفظ يقتضي ذلك فنقل كلام عن واحد لا ينفي أن غيره قال مثله، حتى يزعم الحصر "وقالوا: أرض ربك" بهمزة قطع مفتوحة "وافد ابن" بهمزة وصل "ففداه بمائة ناقة، فهو الذبيح الأول" من أبويه صلى الله عليه وسلم، سماه أولا لقربه منه وأنه أبوه بلا واسطة، "وإسماعيل الذبيح الثاني" وهذا لم يرفعه معاوية، وإنما قاله استنباطًا من تبسمه صلى الله عليه وسلم بعد قول الأعرابي: يا ابن الذبيحين، ومعلوم أن صريح المرفوع مقدم على الاستنباط، فيرد المحتمل إلى الصريح جمعًا بين الدليلين. "قال ابن القيم: ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل، أنه لا ريب" لا شك "أن الذبيح كان بمكة ولذلك جعلت القرابين" بفتح القاف جمع قربان بضمها، وهو ما تقرب به إلى الله،؛ كما في المختار "يوم النحر بها، كما جعل السعي بين الصفا والمروة" وكما جعل "رمي الجمار بها تذكيرًا لشأن إسماعيل وأمه، وإقامة لذكر الله تعالى، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه" وقد أجيب عن هذا بقول سعيد بن جبير: أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام فسار به من بيت المقدس مسيرة شهر في غدوة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة على البراق، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثم قال: "ولو كان الذبيح بالشام -كما يزعم أهل الكتاب، ومن تلقى عنهم- لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة". "وأيضًا فإن الله سمى الذبيح حليمًا، لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه، ولما ذكر إسحاق سماه: عليمًا". "وأيضًا: فإن الله تعالى أجرى العادة البشرية: أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، وإبراهيم لما سأل ربه الولد، ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه   جبريل ذهب بإبراهيم إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، ثم أتى به الجمرة الوسطى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات فساخ، فلما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق، قال لأبيه: يا أبت، أوثقني لا أضطرب فينتضح دمي عليك إذا ذبحتني، فشده فلما أخذ الشفرة وأراد ذبحه نودي من خلفه: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا"، "ثم قال" ابن القيم: "ولو كان الذبيح بالشام، كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة" لأنه هو المحل الذي أمر فيه بذبحه على هذا القول وأنت خبير بأن هذا مع ما فيه من الظن لسوء بأكثر العلماء، وهو أنه لا سلف لهم إلا التلقي عن أهل الكتاب لا يصح دليل إذ لا تلازم، وأيضًا فالدليل ما سلمه الخصم وابن عطية، حكى قولين، أحدهما: أنه أمر بذبحه في الشام، والثاني: أنه إنما أمر بذبحه في الحجاز، فجاء به معه على البراق. ا. هـ. ومر نقله عن ابن جبير وتأييده بالمرفوع. "وأيضًا" مما يدل على أنه إسماعيل ظاهر القرآن الكريم، "فإن الله سمى الذبيح حليمًا" في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] ، "لأنه لا أحلم ممن سلم نفسه للذبح طاعة لربه" مع كونه مراهقًا ابن ثمان سنين أو ثلاث عشرة سنة، حكاهما الجلال. "ولما ذكر إسحاق سماه عليمًا" في قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53] ، وقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، وهذا غير ظاهر، فلا ريب أن إسحاق حليم أيضًا، فأي مانع من جمعه الصفتين؟ "وأيضًا" دليل عقلي، "فإن الله تعالى أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد" بكسر الموحدة وسكون الكاف: أول ولد الأبوين، "أحب إلى الولدين ممن بعده" لكونه أول فيتمكن حبه قبل رؤية غيره، لكن لا ينافي أنه إذا حصلت مزية لمن بعده زاد بسببها حبه؛ كما أحب عبد المطلب الأب الشريف لرؤيته نور المصطفى في وجهه. "وإبراهيم لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة" بضم الشين الغصن لغة "من قلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بمحبته، والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك فيها، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيره الخلة تنزعها من قلب الخليل، فأمر بذبح المحبوب، فلما قدم على ذبحه، وكانت محبة الله عنده أعظم من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود، فنسخ الأمر وفدي الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا". انتهى. وقد أنشد بعضهم: إن الذبيح هديت إسماعيل ... ظهر الكتاب بذاك والتنزيل   بمحبته" فشبه القلب بشجرة استعارة بالكناية، والتعلق الحاصل به أغصانها وإثبات الغصن استعارة تخييلية، ولم يقل: تعلق قلبه بمحبته لئلا يتوهم تعلق قلبه بجملته بمحبة ولده، فلم يكن فيه محل لغيره مع أن قلبه إنما هو متعلق بربه غايته أن ثمة نوع تعلق بالولد. "والله تعالى قد اتخذه خليلا، والخلة" بضم الخاء وتفتح الصداقة المحضة التي لا خلل فيها؛ كذا في القاموس. "منصب" بكسر الصاد: أصل "يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك فيها" عطف تفسير "فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيره" بفتح الغين "الخلة تنزعها من قلب الخليل" ليتمحض للجليل "فأمر بذبح المحبوب" ولا ريب أن هذا يأتي على أنه إسحاق أيضًا، فلا شك أن في قلبه شعبة محبة له، غايته: أن محبة إسماعيل أكثر. "فلما قدم على ذبحه وكانت محبة الله عنده أعظم من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ" أي: حين إذ قدم على ذبحه، "من شوائب المشاركة، فلم يبق في الذبح مصلحة إذا كانت المصلحة إنما هي العزم وتوطين النفس، وقد حصل المقصود" أي: إظهاره إذ الله عالم به: "فنسخ الأمر، وفدى الذبيح، وصدق الخليل الرؤيا. ا. هـ." كلام ابن القيم، وهي أدلة إقناعية. "وأنشد بعضهم: أن الذبيح هديت إسماعيل ظهر" وفي نسخة: نطق، أي: دل "لكتاب بذاك والتنزيل" عطف صفة على موصوفها أو تفسيري؛ كأنه يشير به إلى قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112] ، ولا حجة فيه، فقد قال ابن عباس: هي بشارته بنبوته؛ كما قال تعالى في موسى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53] ، وهو قد كان وهبه له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 شرف به خص الإله نبينا وأبانه التفسير والتأويل وروي مما ذكره المعافى بن زكريا، أن عمر بن عبد العزيز سأل رجلا أسلم من علماء اليهود: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن اليهود ليعلمون أنه إسماعيل .........................   قبل ذلك فإنما أراد النبوة فكذلك هذه، قاله ابن عطية وغيره. وبه يعلم: أن قول العلامة التقي السبكي يؤخذ من تعدد البشارة بهما مع وصف إسحاق بأنه عليم، والذبيح بأنه حليم، القطع بأن الذبيح إسماعيل مردود، فكيف يكون قطعيًا مع فهم ترجمان القرآن "شرف به خص الإله نبينا" أي: قصره عليه لا يتجاوزه إلى غيره. "وأبانه" أظهره، وفي نسخة: وأتى به "التفسير والتأويل" عطف مساوٍ هنا. "وروي فيما ذكره المعافى ابن زكريا" بن يحيى بن حميد الحافظ العلامة المفسر الثقة النهرواني الجريري، كان على مذهب ابن جرير مات سنة تسع وثلاثمائة، "أن عمر بن عبد العزيز" بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي الثقة، الحافظ الورع المأمون التابعي الصغير أمير المؤمنين خامس أو سادس الخلفاء الراشدين على عد مدة البسط وعدمه؛ لأنها كالتتمة لولاية أبيه. روى أنس: وصلى أنس خلفه، وقال: ما رأيت أحدًا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، ولي إمرة المدينة للوليد وكان مع سليمان كالوزير، ثم ولي بعده باستخلافه الخلافة سنتين وخمسة أشهر ونصفًا، فملأ الأرض عدلا ورد المظالم وزاد الخراج في زمنه، وأبدل ما كان بنو أمية تذكر به عليًا كرم الله وجهه على المنبر بآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] ، ومناقبه كثيرة شهيرة مات مسمومًا يوم الجمعة لعشر بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب. "سأل رجلا أسلم من علماء اليهود" قال الطبري: وحسن إسلامه "أي: ابني إبراهيم أمر بذبحه، فقال: والله يا أمير المؤمنين إن اليهود" بالدال مهملة ومعجمة؛ كما في القاموس، "ليعلمون أنه إسماعيل" لأن في التوراة على ما في تفسير ابن كثير: أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة: بكره، فحرفوا وحيده، فقالوا: إن إسحاق كان مع أبيه وحده وإسماعيل كان مع أمه بمكة، قال ابن كثير: وهذا تأويل وتحريف باطل، فلا يقال وحيدًا إلا لمن ليس له غيره. ا. هـ. وفيه نظر، ففي فتح الباري ذكر ابن إسحاق: إن هاجر لما حملت بإسماعيل غارت سارة فحملت بإسحاق فولدتا معًا، ثم نقل عن بعض أهل الكتاب خلاف ذلك وأن بين مولديهما ثلاث عشرة سنة، والأول أولى. ا. هـ. وتبعه السيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن يكون أباكم، للفضل الذي ذكره الله عنه، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم. فانظر أيها الخليل ما في هذه القصة من السر الجليل، وهو أن الله تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم لذبح الولد، آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين، ومتعبدات لهم إلى يوم الدين، وهذه   "ولكنهم يحسدونكم" بضم السين، وحكى الأخفش كسرها "معشر" أي: يا جماعة "العرب" والإضافة بيانية على "أن يكون" إسماعيل "أباكم" فيتمنون زوال نسبة ذلك إليكم، ونقلها إليهم وقيل: الحسد تمني زوال نعمة الغير وإن لم تصل للحاسد وهذا أقبح ولا يعد في حمل حسدهم عليه "للفضل الذي ذكره الله عنه" كقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] ، الآيتين، "فهم يجحدون ذلك" ينكرونه مع العلم به، كما هو معنى الجحد "ويزعمون أنه إسحاق" عطف تفسير؛ "لأن إسحاق أبوهم" إذ هم من أولاد يهوذا قال السمين بمعجمة وألف مقصورة غيرته العرب إلى المهملة على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وهذا المروي الذي ساقه المصنف ممرضًا، فأفاد ضعفه ذكره تقوية؛ لأنه إسماعيل. والحاصل، كما قال السيوطي: أن الخلاف فيه مشهور بين الصحابة فيمن بعدهم، ورجح كل منهما. "فانظر أيها الخليل" الكامل في الحب والصداقة لله ورسوله "ما في هذه القصة" قصة إسماعيل مع أمه "من السر" هو لغة ما يكتم، أطلق على هذه القصة لما فيها من بدائع الحكم التي خفيت على العباد، "الجليل" بالجيم العظيم، وبين ذلك السر بقوله: "وهو أن الله تعالى يرى عباده الجبر بعد الكسر، واللطف بعد الشدة، فإنه كان عاقبة صبر هاجر" بفتح الجيم، وقد تبدل الهاء همزة اسم سرياني، وكان أبوها من ملوك القبط من قرية بمصر تسمى حفنى بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء من عمل انصنا بالبر الشرقي من الصعيد، قاله في التوشيح تبعًا لغيره. "وابنها على البعد" عن مواطنهم التي كانوا بها وهي بيت المقدس وأرض الشام و"الوحدة" بمكة مدة, فإن إبراهيم حين أسكنهما لم يكن بها أحد "والغربة والتسليم" منها لإبراهيم بمعنى صبرها "لذبح الولد" وصبره هو بتسليم نفسه، وهذا صريح في وجود أمه حين ذلك، بل لم تمت حتى تزوج زوجة ثم أخرى، "آلت" رجعت "إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما" أي: مواضع وطئهما بأقدامهما، "مناسك لعباده المؤمنين" أي: متعبدات، فالعطف في قوله: "ومتعبدات لهم إلى يوم الدين" تفسيري "وهذه" الحالة من إرادته تعالى الجبر بعد الكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 سنة الله تعالى فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره، وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] . وقد استشكل بعض الناس: أن عبد المطلب نذر نحر أحد بنيه إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه هالة أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره، فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب إنما ولدا بعد الوفاء بنذره، وإنما كان أولاده عشرة بهما. قال السهيلي: ولا إشكال في هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه الصلاة والسلام اثني عشر، فإن صح هذا، فلا إشكال في الخبر، وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون .......................   "سنة الله تعالى" عدته "فيمن يريد رفعته من خلقه بعد استضعافه وذله وانكساره وصبره وتلقيه القضاء بالرضا فضلا منه" متصل بقوله: هذا سنة، واستظهر عليه بقوله: قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} ، نتفضل {عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} , بإنقاذهم من البأس {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} , متقدمين في أمر الدين، {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ، وقد استشكل بعض الناس أن عبد المطلب نذر نحر أي: ذبح "أحد بنيه" وفي نسخة: بعض بنيه، وأخرى: نحر بنيه وهي بتقدير مضاف، أي: أحد أو بعض "إذا بلغوا عشرة، وقد كان تزويجه هالة" من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: تزويج ولي هالة له فلا يرد أن الأولى تزوجه؛ لأن التزويج فعل الولي، أي: إيجابه النكاح والتزوج قبول الزوج. "أم ابنه حمزة بعد وفائه بنذره" كما ذكره ابن إسحاق والعباس: ولد قبل المصطفى بثلاثة أعوام، كما يأتي. "فحمزة والعباس ولدا عبد المطلب، إنما ولدا بعد الوفاء بنذره" ولا نفهم أنهما شقيقان؛ لأنه سيذكر أن أم العباس نتلة أو نثيلة "وإنما كان أولاده عشرة بهما، قال السهيلي: ولا إشكال في هذا، فإن جماعة من العلماء قالوا: كان أعمامه عليه الصلاة والسلام اثني عشر" التسعة السابقة والغيداق وقثم وبعد الكعبة ووالده صلى الله عليه وسلم فأولاده شيبة الحمد ثلاثة عشر، "فإن صح هذا، فلا إشكال في الخبر" لحمل العشرة على من عدا حمزة والعباس، لكن يشكل عليه ما صرح به اليعمري: أن حمزة والمقوم وحجلا، وأراد بعضهم: والعوام من هالة المفيد وجود حمزة قبل النذر. "وإن صح قول من قال: كانوا عشرة لا يزيدون" ويقول الغيداق: وهو حجان وعبد الكعبة هو المقوم، وقثم لا وجود له؛ فالأعمام تسعة فقط، ولم يذكر ابن قتيبة ولا ابن إسحاق ولا ابن سعد غيره، فلا إشكال أيضًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازًا، فكان عبد المطلب قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى بنذره. ويقع أيضًا في بعض السير أن عبد الله كان أصغر بني أبيه عبد المطلب. وهو غير معروف. ولعل الرواية أصغر بني أمه، وإلا فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس أصغر من حمزة. وروي عن العباس أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء به حتى نظرت إليه، وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك، فقبلته. فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر؟! ولكن رواه البكائي ولروايته وجه: وهو أن يكون أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد له بعد ذلك حمزة والعباس.   "فالولد يقع على البنين وبنيهم حقيقة لا مجازًا وكان عبد المطلب، قد اجتمع له من ولده وولد ولده عشرة رجال حين وفى" بخفة الفاء وشدها "بنذره" وهذا أحسن لسلامته من الإشكال، "ويقع أيضًا في بعض السير" يعني: سيرة ابن إسحاق رواية ابن هشام عن البكائي عنه، وأبهمها لعدم اتفاق رواة ابن إسحاق عليها. "أن عبد الله كان أصغر بني أبيه عبد المطلب وهو" كما قال الإمام السهيلي في الروض، "غير معروف" مشهور بينهم "ولعل الرواية أصغر بني أمه وإلا" يكن كذلك لا يصح "فحمزة كان أصغر من عبد الله، والعباس أصغر من حمزة" ويأتي له الجواب أن معناه كان أصغر بني أبيه حين أراد ذبحه. "وروي عن العباس، أنه قال: أذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فجيء به" بالنبي صلى الله عليه وسلم إلي "حتى نظرت إليه وجعل النسوة يقلن لي: قبل أخاك" للتأليف على العادة بين الصغار، وإن كان ابن أخيه "فقبلته" وحيث روى هذا عن العباس "فكيف يصح أن يكون عبد الله هو الأصغر، ولكن رواه" أي: كونه أصغر بني أبيه زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري، أبو محمد الكوفي أحد رواة المغازي عن ابن إسحاق، صدوق ثبت في المغازي، أثبت الناس في ابن إسحاق. قال الحافظ: وفي حديثه عن غيره لين، ولم يثبت أن وكيعً كذبه، روى له البخاري حديثًا واحدًا في الجهاد مقرونًا بغيره. وروى له مسلم والترمذي وابن ماجه، مات سنة ثلاث وثمانين ومائة، ويقال له "البكائي" بفتح الموحدة وشد الكاف وبعد الألف همزة نسبة إلى البكاء، وهو ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة؛ كما في التبصير وغيره. قال في النور: وإنما لقب ربيعة بالبكاء؛ لأنه دخل على أمه وهي تحت أبيه فبكى وصاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 " ذكر تزوج عبد الله آمنة ": ولما انصرف عبد الله مع أبيه من نحر الإبل، مر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي عند الكعبة، واسمها قتيلة -بضم القاف وفتح المثناة الفوقية- ويقال رقيقة بنت نوفل، فقالت له حين نظرت إلى وجهه، وكان أحسن رجل رئي في قريش: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع عليّ الآن، لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .............................   وقال: إنه يقتل أمي "ولروايته وجه وهو أن يكون" عبد الله "أصغر ولد أبيه حين أراد نحره، ثم ولد له بعد ذلك حمزة" من هالة "والعباس" من نثلة أو نثيلة، قال الخميس: وهذا أيضًا على تقدير أن أولاد عبد المطلب اثنا عشر. ا. هـ. أي: فتكون أعمامه حين أراد نحره تسعة وأبوه عاشرهم. وقد سبق السهيلي إلى ذا الجمع أبو ذر الخشني، فقال له قوله: أصغر بني أبيه، يعني في ذلك الوقت. قال شيخنا: وهو لا يأتي على أن الأعمام اثنا عشر، فأولاده ثلاثة عشر، فالموجودون حينئذ أحد عشرة لا عشرة، إلا أن يكون المراد دفع النقص عن العشرة، فلا ينافي ولادة واحد بعدهم غير حمزة والعباس. ذكر تزوج عبد الله آمنة: "ولما انصرف" أي: فرغ "عبد الله مع أبيه من نحر الإبل مر على امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي عند الكعبة واسمها" فيما صدر به مغلطاي "قتيلة بضم القاف وفتح المثناة الفوقية" فتحتية ساكنة فلام فهاء تأنيث، "ويقال" اسمها "رقيقة بنت نوفل" صدر به السهيلي، قال: وهي أخت ورقة بنت نوفل وتكنى أم قتال، وبهذه الكنية ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس. قال في العيون: وكانت تسمع من أخيها أنه كائن في هذه الأمة نبي "فقالت له حين نظرت إلى وجهه" وفيه نور المصطفى، وظنت أن النبي الكائن في هذه الأمة منه، "وكان أحسن رجل رئي" بكسر الراء ثم همزة مفتوحة ويجوز ضم الراء وكسر الهمزة ثم ياء، أي: شوهد "في قريش" أدفع "لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن" أي: جامعني، ولعله كان من شرعهم أن المرأة تزوج نفسها بلا ولي وشهود؛ لأنها لم تكن زانية ولا مريدة له بل كانت عفيفة. قالت ذلك "لما رأت في وجهه من نور النبوة ورجت أن تحمل بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم" فأبى الله أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فقال لها: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه ولا فراقه، وقيل: أجابها بقوله: أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه وعند أبي نعيم والخرائطي وابن عساكر من طريق عطاء عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه، مر به على كاهنة من تبالة متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر ..............................   يجعله إلا حيث شاء، "فقال لها: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه" ولو لم أكن معه لوقعت عليك لوجه جائز كتزوجي بك أو مراده دفع كلامها، وإن لم يرد البغي بها ولا هم بها فلا يفهم أن المانع له مجرد كونه مع أبيه، "وقيل: أجابها بقوله: أما الحرام فالممات" وأنشده السهيلي بلفظ فالحمام "دونه" ومعرفته كالحلال مما بقي عندهم من شرائع إبراهيم؛ كغسل الجنابة والحج، فلا يرد أنهم كانوا في جاهلية لا يعرفون حلالا ولا حرامًا. "والحل لا حل" موجود لعدم تزوجي بك "فأستبينه" بالنصب في جواب النفي، أي: أطلب ظهوره وأعمل بمقتضاه، "فكيف بالأمر الذي تبغينه" أي: تطلبينه لا يكون ذلك، فاستعمل كيف بمعنى النفي وهو أحد مواقعها، "يحمي الكريم عرضه" هي أموره كلها التي يحمد بها ويذم من نفسه وأسلافه وكل ما لحقه نقص يعيبه خلافًا لابن قتيبة في قوله: عرض الإنسان هو نفسه لا أسلافه؛ لأن حسان ذكر عرض وأسلافه بالعطف في قوله: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء "ودينه" يصونهما فلا يفعل شيئًا يدنسهما، "وعند أبي نعيم والخرائطي وابن عساكر، من طريق عطاء" ابن أبي رباح أسلم الجمحي مولاهم المكي أبي محمد التابعي الوسط الحافظ الثقة العالم الفقيه إليه انتهت فتوى أهل مكة وكان أسود أفطس أشل أعرج أعور، ثم عمي وشرفه الله بالفقه وكثرة الحديث وإدراك مائتين من الصحابة، قدم ابن عمر مكة فسألوه، فقال: تسألوني وفيكم ابن أبي رباح، مات سنة إحدى أو خمس أو سبع ومائة. "عن ابن عباس: لما خرج عبد المطلب" من مكة بعد نحر الإبل على ظاهر سياق المصنف، "بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من تبالة" بفتح الفوقية فموحدة خفيفة وألف فلام مفتوحة فتاء تأنيث: موضع باليمن وآخر بالطائف، فيحتمل إرادته هذه وإرادة تلك، قاله البرهان وتبعه الشامي في الضبط، وجزم بأنه موضع باليمن وضبط بعضهم تبالة بضم التاء، سبق قلم، "متهودة" متمسكة بدين اليهود، "قد قرأت الكتب، يقال لها: فاطمة بنت مر" بضم الميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت له ... وذكر نحوه. ثم خرج به عبد المطلب، حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة -وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا- فزوجه ابنته آمنة، وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا. فزعموا: أنه دخل ..................................................   وراء مهملة ثقيلة، زاد البرقي عن هشام الكلبي: وكانت من أجمل النساء وأعفهن "الخثعمية" بفتح المعجمة وسكون المثلثة فعين مهملة نسبة إلى خثعم؛ كجعفر جبل وابن أنمار أبو قبيلة من معد، ذكره المجد. وظاهره: أن هذه الأوصاف وهي أنها من تبالة ومتهودة وخثعمية لامرأة واحدة، ووقع في سيرة مغلطاي اسمها قتيلة، وقيل: رقيقة، ويقال: فاطمة بنت مر، ويقال: ليلى العدوية، ويقال: امرأة من تبالة، ويقال: من خثعم، ويقال: كانت يهودية، "فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت له وذكر نحوه" نحو ما تقدم من دعائه إلى نكاحها وإبائه، زاد البرقي عن هشام الكلبي: فلما أبى، قالت: إني رأيت مخيلة نشأت ... فتلألأت بجناثم القطر فسماتها نور يضيء به ... ما حوله كإضاءة الفجر ورأيت سقياها حيا بلد ... وقعت به وعمارة القفر ورأيتها شرفًا ينوء به ... ما كل قادح زنده يوري لله ما زهرية سلبت ... منك الذي استلبت وما تدري وفي غريب ابن قتيبة: أن التي عرضت نفسها عليه ليلى العدوية, ذكره في الروض. "ثم خرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة" بضم الزاي وسكون الهاء زعم ابن قتيبة والجوهري أنها أمه وأبوه كلاب. قال السهيلي: وهذا منكر غير معروف، وفي الفتح المشهور عند جميع أهل النسب أن زهرة اسم الرجل، وشذ ابن قتيبة فزعم أنه اسم امرأته وأن ولدها غلب عليهم النسبة إليها، وهو مردود بقول إمام أهل النسب هشام الكلبي اسم زهرة المغيرة، "وهو يومئذ سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه ابنته آمنة" قاله ابن عبد البر وجماعة منهم عبد الملك بن هشام عن البكائي عن ابن إسحاق، وقيل: كانت في حجر عمها وهيب وهو المزوج لها. قاله ابن إسحاق في رواية واقتصر عليه اليعمري. "وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسبًا" من جهة الأب، "وموضعًا" من جهة الأم، فأمها بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي وأم أمها أم حبيب بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي؛ كما فصله ابن إسحاق، فليس قوله: وموضعًا عطف تفسير، كما زعم. "فزعموا" كما قال ابن إسحاق "أنه دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 عليها عبد الله حين ملكها مكانه، فوقع عليها يوم الاثنين من أيام منى، في شعب أبي طالب عند الجمرة، فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت عليّ بالأمس؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة، إنما أردت أن يكون النور فيّ فأبى الله، إلا أن يجعله حيث شاء. تنبيه ...............................................   عليها عبد الله حين ملكها" أي: تزوج بها "مكانه فوقع عليها" جامعها، زاد الزبير بن بكار "يوم الاثنين من أيام منى" وقيل من شهر رجب، "في شعب أبي طالب عند الجمرة" أي: الوسطى، كما هو المنقول عن الزبير، قال النجم: وهذا موافق لمن ذهب إلى أن ميلاده في رمضان، وأما القول بأنه في رجب، فمنطبق على أن ميلاده في ربيع، "فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم" وزعم الحاكم أبو أحمد أن سن عبد الله حينئذ كان ثلاثين سنة، ويأتي أن الصحيح خلافه، وقد جزم السهيلي بما لفظه: وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين أبيه ثمانية عشر عامًا. ا. هـ. "ثم خرج من عندها" بعدما أقام عندها ثلاثًا، وكان بينه صلى الله عليه وسلم وبين أبيه ثمانية عشر عامًا. ا. هـ. "ثم خرج من عندها" بعدما أقام عندها ثلاثًا، وكانت تلك السنة عندهم إذا دخل الرجل على امرأته في أهلها، نقله اليعمري عن محمد بن السائب الكلبي، "فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت" قال في النور: تقدم الكلام على هذه المرأة. ا. هـ. فهو صريح في أنها المختلف فيها الاختلاف السابق. "فقال لها: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما عرضت علي بالإمس؟ قالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك" بوقاعك "اليوم حاجة" لأنني "إنما أردت أن يكون النور في" بشد الياء، "فأبى الله إلا أن يجعله حيث شاء" وقد روي عن العباس: أنه لما بنى عبد الله بآمنة أحصوا مائتي امرأة من بني مخزوم وبني عبد مناف متن ولم يتزوجن أسفًا على ما فاتهن من عبد الله، وأنه لم تبق امرأة في قريش إلا مرضت ليلة دخل عبد الله بآمنة. تنبيه: ما أفاده ظاهر المصنف من أن تزوجه بآمنة عقب انصرافه من نحر الإبل هو مفاد ابن إسحاق. وفي تهذيب ابن هشام واليعمري في العيون هنا. لكن روى ابن سعد وابن البرقي والطبراني والحاكم عن ابن عباس عن أبيه: أن عبد المطلب لما سافر إلى اليمن في رحلة الشتاء، نزل على حبر من اليهود يقرأ الزبور، فقال: يا عبد المطلب بن هشام ائذن لي أنظر إلى بعضك، قلت: انظر ما لم تكن عورة، قال: ففتح إحدى منخريه فنظر فيه ثم نظر في الآخر، فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكًا وفي الأخرى نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زهرة، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ولما حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر لحمله عجائب، ووجد لإيجاده غرائب. فذكروا أنه لما استقرت نطفته الزكية، ودرته المحمدية في صدفة آمنة القرشية نودي في الملكوت .............................   ألك زوجة؟ قلت: أما اليوم فلا، فقال: فإذا رجعت فتزوج منهم، فلما رجع تزوج بهالة فولدت له حمزة وصفية، وزوج عبد الله بآمنة، أي: ابنة عمها، فولدت له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: فلج عبد الله على أبيه، وهو بفتح الفاء واللام والجيم، أي: ظفر بما طلب، وفيه شيئان: أحدهما ظاهره قوله: نجد ذلك في بني زهرة، ورجوع اسم الإشارة للملك والنبوة مع أن الملك إنما كان في بني العباس وأمه ليست بزهرية، بل من بني عمرو بن عامر؛ كما مر، فيتعين عود الإشارة إلى النبوة فقط. الثاني: قوله: أما اليوم فلا، مع ما ذكره اليعمري وغيره أن ضرارًا كان شقيق العباس المفيد وجود أمه قبل قصة الذبح، فيمكن أن قوله: أما اليوم، أي: هذا الزمن فلا زوج معي بهذه الأرض، فلا ينافي أن له زوجة بغيرها، ثم لا ينافي هذا مفاد المصنف والجماعة لجواز أنه لما رجع من اليمن رأى الرؤيا ووقعت قصة الذبيح، فلما انصرف منها تزوج وزوج ابنه، والعلم عند الله. ولما ذكر المصنف أنه حين بنى بها حملت به صلى الله عليه وسلم، أراد ذكر بعض ما حصل في حملها إظهارًا لشرف المصطفى مصدرًا ذلك بشذا عقبة صوفية، فقال: "ولما حملت آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر لحمله" اللام للتوقيت، أي: في مدته كلها "عجائب" فليس المراد عند ابتدائه فقط "و" لما وجد "وجد لإيجاده" أي: ظهوره في العالم بولادته وغاير تفننًا "غرائب" وإذا أردت معرفتها "فـ" نقول: "ذكروا أنه لما استقرت نطفته" التي خلق منها، فالإضافة لأدنى ملبسة "الزكية" الطاهرة النامية الممدوحة "ودرته" بضم الدال عطف تفسير إشارة إلى أن نطفته كالدرة التي هي اللؤلؤة العظيمة في النفاسة، ووصفها بقوله: "المحمدية" بمعنى المحمودة مبالغة في كمالها "في صدفة" بفتحتين غشاء الدر جمعها صدف، أي: رحم "آمنة القرشية" فشبه رحمها لاشتماله على نطفته بالصدفة المشتملة على اللؤلؤ استعارة تصريحية، وفي نسخة: صدف بدون هاء، فجعل كل جزء من أجزاء نطفته درة وكل جزء من أجزاء محلها صدفة مبالغة وتعظيمًا، أو جعل محل الولد لكونه مبدأ أو محلا لمن هو بمنزلة جميع العالم بل أعظم أرحامًا كثيرة فشبهها بالصدف، واستعار لها اسمه استعارة تصريحية. "نودي" المنادي ملك على ما يأتي "في الملكوت" اسم مبني من الملك؛ كالجبروت والرهبوت من الجبر والرهبة، قاله في النهاية. وقال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشيء يضرب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومعالم الجبروت، أن عطروا جوامع القدس الأسني، وبخروا جهات الشرف الأعلى، وافرشوا سجادات العبادات في صفف الصفاء لصوفية الملائكة المقربين، أهل الصدق والوفاء، فقد انتقل النور المكنون إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر، والفخر المصون، قد خصها الله تعالى القريب المجيب بهذا السيد المصطفى الحبيب، لأنها أفضل قومها حسبًا، وأنجب وأزكاهم أخلاقًا وفرعًا وأطيب.   القهر، وقد يقال الجبر في الإصلاح المجرد؛ كقول علي: يا جابر كل كسير ومسهل كل عسير، وتارة في القهر المجرد، ولعل الثالث مراد قول النهاية من الجبر. "ومعالم" جمع معلم "الجبروت" فعلوت من التجبر، قاله الراغب. والمراد: نودي في أفق السماء بذلك؛ لأنها الذي يظهر فيها كمال ملك الله وقهره؛ لأن أهلها الملائكة عالمون بذلك فهم دائمًا في مقام الخشية والإجلال؛ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] ، "أن عطروا جوامع القدس" بضمتين وسكون الدال الطهارة "الأسنى" الأشرف من السناء بالمد الرفعة، والمعنى: طيبوا أماكن الطهارة الشريفة، "وبخروا جهات الشرف الأعلى" عطف تفسير على سابقه، والمراد منهما: أظهروا علامات التعظيم في السماوات وما حولها فرحًا بمحمد صلى الله عليه وسلم. "وأفرشوا" بضم الراء وكسرها، كما في المصباح "سجادات" جمع سجادة، قال الجوهري: خمرة بالضم صغيرة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط، "العبادات في صفف" بضم الصاد وفتح الفاء جمع صفة "الصفاء" بالمد، ضد الكدر "لصوفية" كلمة مولدة؛ كما في المصباح، نسبة للتصوف وهو تجريد القلب لله واحتقار ما سواه بالنسبة لعظمته سبحانه، وإلا فاحتقار نحو نبي كفر، وقيل غير ذلك حتى أوصلها بعضهم زهاء ألف قول، "الملائكة المقربين أهل الصدق والوفاء" والمراد: تهيئوا للعبادة وإظهار السرور بالمصطفى؛ لأنه يظهر الحق ويبطل الباطل "فقد" الفاء تعليلية، أي: افعلوا ذلك؛ لأنه قد انتقل النور المكنون" المستور المخفي عن الأعين المدخر في الأصلاب من آدم إلى عبد الله "إلى بطن آمنة ذات العقل الباهر" الظاهر الغالب لغيره، بحيث قيل: أعطاها الله من الجمال والكمال ما كانت تدعي به حكيمة قومها، "والفخر" المباهاة بالمكارم من حسب ونسب، "المصون" بوزن مفعول على نقص العين؛ كما في المصباح، أي: المحفوظ عما يشينه "قد خصها الله تعالى القريب المجيب" من بين النساء التي تعلقن بتزويج عبد الله "بهذا السيد المصطفى الحبيب" وعلل تخصيصها بذلك؛ "لأنها أفضل قومها حسبًا وأنجب وأزكاها أخلاقًا وفرعًا وأطيب" فلم تنجب امرأة قط مضارع من أنجبت، ولا فرعت في نساء الدنيا مشابه من فرعت: من لحواء أنها حملت أحمـ ... ـد أو أنها به نفساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقال سهل بن عبد الله التستري فيما رواه الخطيب البغدادي الحافظ: لما أراد الله تعالى خلق محمد صلى الله عليه وسلم في بطن آمنة، ليلة رجب، وكانت ليلة جمعة، أمر الله تعالى في تلك الليلة رضوان خازن الجنان، أن يفتح الفردوس ..................................   وحاصل المعنى: أنه تعالى لما اختار لصفوة خلقه من أصوله في كل عصر أشرفه، وكانت آمنة أفضل قومها جعلها معدنًا لظهور نوره وتكونه. وقال" بواو الاستئناف المبينة لما أخبر به في قوله: فذكروا، فلا يرد أنه دليل على ما قدمه فيجب حذف الواو؛ لأن الدليل لا يعطف. "سهل ابن عبد الله" بن يونس بن عبد الله بن رفيع "التستري" الصالح المشهور الذي لم يسمع بمثله الدهر علمًا وورعًا، صاحب الكرامات الشهرية المتوفى سنة ثلاث وسبعين ومائتين بالبصرة، وولد سنة مائتين أو إحدى ومائتين بتستر بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية بينهما مهملة ساكنة آخره راء مهملة، كما ضبطه النووي وغيره، وحكي ضم الفوقيتين، وفتح الأولى وضم الثانية بالأهواز أو بجوزستان، ويقال أيضًا: شيشتر بمهملتين ومعجمتين. "فيما رواه الخطيب البغدادي الحافظ" أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت صاحب التصنيف الإمام الكبير محدث الشام والعراق المتقن الضابط العالم بصحيح الحديث وسقيمه المتعنت في علله وأسانيده، ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وعني بالحديث ورحل فيه إلى الأقاليم، وسمع أبا الصلت الأهوازي وأبا عمر بن مهدي وخلقًا، وحدث عنه البرقاني أحد شيوخه وابن ماكولا وخلق وقرأ البخاري على كريمة بمكة في خمسة أيام، وعلى إسماعيل الحيري في ثلاثة مجالس ذكره الذهبي، وقال: هو أمر عجب، وتوفي ببغداد سابع ذي الحجة سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ودفن عند بشر الحافي؛ لأنه شرب ماء زمزم على ذلك، وإملائه بجامع المنصور، وتحديثه بتاريخ بغداد، فقضي له بالثلاثة. "لما أراد الله تعالى خلق حمد صلى الله عليه وسلم في بطن آمنة ليلة" أول "رجب"، وهذا كما مر عن النجم منطبق على أن ميلاده في ربيع، يعني: على أحد الأقوال الآتية أن مدة الحمل ثمانية أشهر، ورجب من الشهور مصروف؛ كما في المصباح، وذكر التفتازاني منعه أن أريد به معين كصفر ووجه بأنه معدول عن الصفر والرجب فمنعا للعلمية والعدل أو العلمية والتأنيث باعتبار المدة. "وكانت ليلة جمعة" لا ينافي ذلك أن أطواره يوم الاثنين؛ لأن ذلك في الأطوار الظاهرة، كالولادة وما هنا فيما قبلها. "أمر الله تعالى في تلك الليلة رضوان خازن الجنان أن يفتح الفردوس" الذي هو أعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ونادى مناد في السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون الذي يكون منه النبي الهادي، في هذه الليلة يستقر في بطن آمنة الذي يتم فيه خلقه ويخرج إلى الناس بشيرًا ونذيرًا. وفي رواية كعب الأحبار: أنه نودي تلك الليلة في السماء وصفاحها، والأرض وبقاعها، أن النور المكنون الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطن آمنة، فيا طوبى لها ثم يا طوبى، وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا منكوسة، وكانت قريش في جدب شديد، وضيق عظيم، فاخضرت الأرض وحملت الأشجار، وأتاهم الرفد من كل جانب، فسميت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفتح والابتهاج. وطوبى: الطيب والحسنى والخير والخيرة ......................   درجات الجنة، وأعلاه الوسيلة إظهارًا لكرامته صلى الله عليه وسلم، "ونادى مناد في السماوات والأرض: ألا إن النور المخزون المكنون" صفة لازمة "الذي يكون منه النبي الهادي" بإثبات الياء أصح من حذفها، "في هذه الليلة يستقر في بطن آمنة الذي يتم فيه خلقه" أي: في البطن وهو خلاف الظهر مذكر؛ كما في القاموس. "ويخرج إلى الناس بشيرًا ونذيرًا" أي: موصوفًا بهما عند الله وإن تأخر وقوعهما في الخارج إلى بعثته أو حال منتظرة، فلا يرد أنهما إنما يكونان بعد البعثة وليست مقارنة لخروجه. "وفي رواية كعب الأحبار: أنه نودي تلك الليلة" التي حمل فيها بالمصطفى "في السماء وصفاحها" أي: جوانبها، "والأرض وبقاعها" أي: أجزائها وكأن الغرض من عطف الصفاح والبقاح الإشارة إلى تعميم مواضع النداء، "أن النور المكنون الذي منه رسول الله"، أي: تصور منه جسده "صلى الله عليه وسلم" انتقل "في بطن أمه، فيا طوبى لها، ثم يا طوبى" تأكيد لما قبله، "وأصبحت يومئذ أصنام الدنيا" جميعها "منكوسة" أي: مقلوبة على رءوسها "وكانت قريش في" زمن "جدب" بدال مهملة ضد الخصب، "شديد وضيق عظيم" شدة وكرب عطف مسبب على سبب، أي: إن عدم الخصب كان سببًا في شدة أمرهم، "فاخضرت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم" بالقر "الرفد" بكسر الراء: الخير الكثير، "من كل جانب، فسميت تلك السنة التي حمل فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة الفتح" وسنة "الابتهاج" أي: السرور "وطوبى" في قوله: فطوبى لها ثم يا طوبى، المراد بها هاهنا "الطيب" فواوها بدل من الياء، "والحسنى والخير والخيرة" قال المصباح: بكسر الخاء وفتح الياء التخير، وبفتح الخاء وسكون الياء الفاضلة من كل شيء، وبكسر الخاء وسكون الياء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قاله في القاموس. وقال غيره: فرح وقرة عين. وقال الضحاك: عطية. وقال عكرمة: نعم. وفي الحديث: "طوبى للشام فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها". فالمراد بها هنا: "فعلى" من الطيب وغيره مما ذكر، لا الجنة ولا الشجرة. وفي حديث ابن إسحاق: أن آمنة كانت تحدث: أنها أتيت ............................   الاختيار، "قاله في القاموس" المحيط، أي: البحر في جملة معان ذكرها، اقتصر منها المصنف على ما نقله؛ لأنه المناسب عنده. "وقال غيره" المراد بها "فرح وقرة عين وقال الضحاك" بن مزاحم الهلالي البلخي نسبة إلى بلخ مدينة بخراسان المفسر ضعفه يحيى بن سعد ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة وغيرهم، وفي التقريب: صدوق كثير الإرسال، روى له أصحاب السنن الأربعة توفي سنة خمس، وقيل: ست ومائة. "عطية، وقال عكرمة" بن عبد الله البربري مولى ابن عباس، أبو عبد الله المدني المفسر الحافظ المتوفى سنة خمس أو ست أو سبع ومائة، "نعم" جمع نعمة، "وفي الحديث" الذي رواه الترمذي عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "طوبى للشام" بهمزة ساكنة يخفف بحذفها وفي لغة شآم بالمد، حكاها جماعة. قال في المطالع: وأباها أكثرهم والمشهور أنه مذكر، وقال الجوهري: يذكر ويؤنث. وفي تاريخ ابن عساكر: دخل الشام عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم "فإن الملائكة باسطة أجنحتها عليها" استدلال على أن طوبى تطلق على غير الجنة والشجرة؛ "فالمراد بها هنا" في قوله: فيا طوبى لها "فعلى من الطيب، وغيره مما ذكر" من فرح وقرة عين وعطية ونعم "لا الجنة ولا الشجرة" لأنها كانت زمن حملها في جاهلية، وإنما الجنة والشجرة للمؤمنين، قال صاحب الخميس: ويحتمل أن تفسر بالجنة والشجرة، انتهى. أي: لأنها من أهل الفترة وليسوا كلهم بمعذبين، ولأن المختار أن أبويه صلى الله عليه وسلم ناجيان، فما آل أمرهما إلى الجنة والشجرة وهذه البشارة من الملك فلا مانع أن الله أعلمه بمآل أمرها، فبشرها بذلك. "وفي حديث ابن إسحاق" إمام المغازي في سيرته بلفظ: ويزعمون فيما يتحدث الناس "أن آمنة كانت تحدث أنها أتيت" بضم الهمزة مبني لما لم يسم فاعله، أي: رأت في امنام، قاله في النور ونحوه قول الشامي هي رؤيا منام وقعت في الحمل، وأما ليلة المولد فرأت ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 حين حملت به صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وقالت: ما شعرت بأني حملت به، ولا وجدت له ثقلا، ولا وحمًا، كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي، وأتاني آت وأنا بين النائمة واليقظانة فقال: هل شعرت بأنك قد حملت بسيد الأنام، ثم أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني فقال لي: قولي: أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد ثم سميه محمدًا. وفي رواية غير ابن إسحاق: وعلقي عليه هذه التميمة ..........................   رؤية عين. "حين حملت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة" بل بسيد الأولين والآخرين وقصره على هذه الأمة؛ لأن سيادته بالأمر والنهي إنما وجدت فيها، "وقالت" آمنة أيضًا مما رواه ابن إسحاق مسندًا لا من تتمة ما قبله، ومن ثم لم يعطفه المصنف بالفاء، "ما شعرت" قال النور: بفتح أوله وثانيه، أي: علمت "بأني حملت به ولا وجدت له ثقلا" بكسر المثلثة وفتح القاف وتسكن للتخفيف؛ كما في المصباح والقاموس، وعند الواقدي كما في العيون: ثقلة، قال في النور: بفتح المثلثة والقاف، تقول: وجدت ثقلة في جسدي: أي: ثقلا وفتورًا، حكاه الكسائي. "ولا وحمًا" بفتحتين مصدر وحم بسكر الحاء؛ كما في المختار، أي: شهوة الحبلى. "كما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي" بكسر الحاء هنا الاسم من الحيض والحالة التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض كالجلسة، وأما بالفتح فالمرة الواحدة من دفع الحيض ونوه به، قاله البرهان وتبعه الشامي وهو ظاهر؛ لأن الإنكار للهيبة الحاصلة للحائض عند نزول الدم من الضعف المقارن لنزوله أو المتقدم عليه الدال على حصوله، "وأتاني آت وأنا بين النائمة واليقظانة" بفتح الياء وسكون القاف، والذي عند ابن إسحاق: وأنا بين النوم واليقظة، أو قالت: بين النائمة واليقظانة، ورواه الواقدي كما في العيون بلفظ: بين النائم واليقظان، قاله الشامي تبعًا للبرهان: ذكرت آمنة اللفظين على إرادة الشخص. "فقال: هل شعرت" علمت "بأنك قد حملت بسيد الأنام، ثم أمهلني حتى إذا دنت" قربت "ولادتي أتاني، فقال لي: قولي" إذا وضعتيه "أعيذه" أطلب عصمته وحفظه "بالواحد" في ذاته وأسمائه وصفاته "من شر كل حاسد، ثم سميه محمدًا" ولا يلزم من أمرها بالتسمية أن لها ولايتها بل وافقها جده حين أخبرته؛ كما صرح به المصنف في المقصد الثاني تبعًا للسهيلي هنا، فقال ما حاصله: سماه جده محمدًا لرؤيا رآها مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إذا وضعتيه فسميه محمدًا، ثم هذا الذي قلناه كله رواية ابن إسحاق. "وفي رواية غير ابن إسحاق: وعلقي عليه هذه التميمة" سماها تميمة لمشابهتها لها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 قالت فانتبهت وعند رأسي صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه النسخة. أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد وكل خلق رائد ... من قائم وقاعد عن السبيل حائد ... على الفساد جاهد من نافث وعاقد ... وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد ... في طرق الموارد قال الحافظ عبد الرحيم العراقي: .......................................   التعليق وإلا فأصلها كما في القاموس: خرزة رقطاء تنظم في السير ثم تعقد في العنق، جمعها تمائم وتميم. "قالت: فانتبهت وعند رأسي صحيفة" قطعة "من ذهب مكتوب فيها هذه النسخة" هي لغة الكتاب المنقول، لكن المراد هنا مكتوب فيها أحرف قوله: "أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وكل خلق" مخلوق "رائد" طالب للسوء، وأصله المرسل لطلب الكلأ "من قائم وقاعد" تعميم لرائد "عن السبيل" الطريق السوي "حائد" مائل صفة ثانية الخلق "على الفساد" صفة ثالثة "جاهد" متحمل للمشقة في تحصيله، حتى كأنه استعلى عليه "من نافث" ساحر "وعاقد" يعقد عقدًا في خيط وينفخ فيها بشيء يقوله بلا ريق أو معه، وهذا بيان لجاهد فلا يرد أن الأولى الإتيان بالواو، أي: وأعيذه من كل نافث، "و" أعيذه من "كل خلق مارد" عاب متجبر "يأخذ بالمراصد" جمع مرصد كمذهب موضع الرصد والراصد للشيء الراقب له، وبابه نصر كما في المختار والجملة صفة مارد أو خلق، "في طرق الموارد" المواضع التي يجتمع فيها الناس وطرق المياه المقصودة للاستقاء. "وقال الحافظ عبد الرحيم العراقي" أبو الحسين الأثري الإمام الكبير العلم الشهير، ولد في جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وعني بالفن فبرع فيه وتقدم بحيث كان شيوخ عصره يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة؛ كالسبكي وابن كثير والعلائي وغيرهم، ونقل عنه الجمال الإسنوي في المهمات ووصفه بحافظ العصر وله مؤلفات في الفن بديعة، قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وشرع في إملاء الحديث من سنة ست وتسعين فأحيا الله به السنة بعد أن كانت دائرة، فأملى أكثر من أربعمائة مجلس غالبها من حفظه متقنة مهذبة، محررة كثيرة الفوائد الحديثية، قال: وكان جميل الصورة، منور الشيبة، كثير الوقار، نزر الكلام، سليم الصدر، كثير الحياء لا يواجه أحدًا بما يكره ولو آذاه، صالحًا متواضعًا، ضيق المعيشة، كثير التلاوة إذا ركب، حسن النادرة والفكاهة، لا يترك قيام الليل بل صار له كالمألوف، مات في شعبان سنة ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير، وجعلها من حديث ابن عباس ولا أصل لها. انتهى. نعم عند البيهقي من حديث ابن إسحاق أعيذه بالواحد من شر كل حاسد في كل بر عاهد وكل عبد رائد يرود غير رائد فإنه عبد حميد ماجد حتى أراه أثر المشاهد. وعن شداد بن أوس أن رجلا من بني عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حقيقة أمرك، فقال: "بدو شأني أني دعوة "أبي" إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، وأني كنت بكر أبي وأمي   وثمانمائة. "هكذا ذكر هذه الأبيات بعض أهل السير وجعلها من حديث ابن عباس، ولا أصل لها" يعتد به "انتهى". وقد رواه أبو نعيم وزاد عقب الأبيات: أنها هم عنه بالله الأعلى، وأحوطه منهم باليد العليا، والكنف الذي لا يرى، يد الله فوق أيديهم، وحجاب الله دون عاديهم، لا يطردونه ولا يضرونه في مقعد، ولا في منام، ولا مسير، ولا مقام أول الليل وآخر الأيام. قال الشامي: وسنده واه جدًا، وإنما ذكرته لأنبه عليه لشهرته في كتب المواليد. ويقع في بعض النسخ زيادة هي: "نعم عند البيهقي من حديث ابن إسحاق: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد في كل بر" ضد بحر "عاهد" اسم فاعل من عهد صفة لحاسد، أي: يتعهده بالحسد أينما سار كأنه لا ينفك عن حسده "و" أعيذه من "كل عبد رائد" طالب السوء "يرود" يطلبه له "غيره رائد" غير طالب له الكلأ كناية عن أنه لا ينفعه بوجه، "فإنه عبد حميد ماجد" اسمان له سبحانه "حتى أراه أثر المشاهد" وهو استدراك على قوله السابق. وفي رواية غير ابن إسحاق: كأنه قال: لكن جاء قريب منه عن ابن إسحاق في غير السيرة عند البيهقي: "وعن شداد بن أوس" بن ثابت الأنصاري، أبي يعلى الصحابي ابن أخي حسان بن ثابت المتوفى بالشام قبل الستين، وقيل: بعدها رضي الله عنه: "أن رجلا من بني عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال له: "ما حقيقة أمرك؟ " حالك "فقال: "بدو شأني" ظهور أمري "أني دعوة أبي إبراهيم" في قوله تعالى حكاية عنه وعن إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، ولعله خص إبراهيم بالذكر لمزيد شرفه، أو لأنه الأصل أو الداعي، وإسماعيل أمن "وبشرى أخي عيسى" قال تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، "وأني كنت بكر أبي وأمي" أول أولادهما، ومقصوده: أنهما ما ولدا قبله ولا يلزم منه وجود ثان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وأنها حملت بي كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمي رأت في منامها أن الذي في بطنها نور". الحديث. ففيه: أن أمه -عليه الصلاة والسلام- وجدت الثقل في حمله، وفي سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا وجمع أبو نعيم الحافظ بينهما بأن الثقل به كان في ابتداء علوقها به، والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون على الحالين خارجًا عن المعتاد المعروف، انتهى. وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة ...................   فلا ينافي أنهما لم يلدا غيره، "وأنها حملت بي كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد" من ذلك الحمل "ثم إن أمي رأت في منامها أن الذي في بطنها نور" الحديث، ففيه" تصريح "أن أمه عليه الصلاة والسلام وجدت الثقل في حمله، وفي سائر الأحاديث أنها لم تجد ثقلا" فحصل التعارض، "وجمع أبو نعيم الحافظ" أحمد بن عبد الله الأصفهاني الصوفي "بينهما" بين حديث شداد وبين سائر الأحاديث، "بأن الثقل به كان في ابتداء علوقها به" ولعلها حملته على أنه مرض أصابها، فلا ينافي أنها ما علمت به أو الابتداء نسبي وهو ما قرب من أول مدة الحمل لا حقيقي، ولم يفهم هذا من اعترض جمعه بأن عدم علمها به يقتضي أن الثقل لم يكن في ابتدائه، "والخفة عند استمرار الحمل به، فيكون" أمر حمله "على الحالين خارجًا عن المعتاد المعروف" عند النساء، فإنه في ابتدائه خفيف، فإذا استمر اشتد، "انتهى". جمع أبي نعيم: وبه يشعر قولها السابق كما تجد النساء، فإن الكلام إذا اشتمل على قيد زائد كان هو المقصود، كما قال عبد القاهر: فكأنها قالت: وجدت له ثقلا ليس كالثقل الذي تجده النساء، وجمع غيره: بأن المنفي الثقل المعنوي وهو الوجع والألم الحاصل للحوامل والمثبت لحسي وهو رزانته وزيادة مقداره من غير ألم ولا تعب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وزن بجميع أمته فرجحهم، وعندي: أن هذا تعسف لا دليل عليه وعلته لا تفيد دعواه، وإن زعم صاحبه أنه خير من جمع أبي نعيم. "وروى أبو نعيم" المذكور في الدلائل "عن ابن عباس رضي الله عنهما" أنه "قال: كان من دلالة حمل آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم" وهذا موقوف لفظًا وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيًا "أن كل دابة لقريش نطقت تلك الليلة" وتخصيص دوابهم بالنطق لعله لإعلامهم فضله من أول الأمر فلا يكون لهم شبهة ولا عذر وقت دعوته لكن لا تتم هذه النكتة إلا إن كانوا سمعوا نطق الدواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو إمام الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسًا، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضًا، وله في كل شهر من شهور حمله نداء في الأرض ونداء في السماء: أن أبشروا فقد آن أن يظهر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم ميمونًا مباركًا ... الحديث. وهو شديد الضعف.   "وقالت: حمل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة" وقالت: "هو" صلى الله عليه وسلم "إمام الدنيا" بالميم: قدوة أهلها، ورأيته في خصائص السيوطي الكبرى عن أبي نعيم أمان بالنون، أي: أمانها من العاهات العامة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، "و" قالت: هو "سراج أهلها" فهذا من جملة نطق الدواب الذي أخبر به ابن عباس، وتجويز أن الضمير له وأن المصنف قصد به جواب سؤال هو: أن ابن عباس ما شاهد ذلك ولا نقله، فمن أين علمه حتى أخبر به؟ خطأ باطل، فهذا موجود في كتاب أبي نعيم الدلائل، ونقله عنه السيوطي وغيره، وتشبث مجوزه بأن شيخه اقتصر على قوله: ورب الكعبة، وعقبه بقوله: ومثله لا يقال رأيًا لا يجدي، فلا حجة في الترك. وأما جواب السؤال، فهو قوله: لا يقال رأيًا، فقصد بذلك أن حكمة الرفع؛ كما قدمنا ومن العجيب أني لما أوردت على مبدئ هذا الاحتمال قول المصنف بعد الحديث، قال: نعم، لكن يجوز أن جملة معترضة بين أجزاء الحديث وهو فاسد نشأ من الاحتمال العقلي، فليس الإدراك بالتشهي؛ كما صرح به في فتح الباري. وإنما يعرف بورود رواية أخرى مبنية للقدر المدرج أو بالنص عليه من الراوي، أو من إمام مطلع؛ كما في شرح النخبة وغيرها على أن هذا مغلطة؛ لأن الإدراك من قول راو، والدعوى أنه من كلام المصنف، ثم لا يصح إطلاق أن ابن عباس إمام الدنيا وسارج أهلها، فإنهما هما وصفان للنبي صلى الله عليه وسلم. "ولم يبق سرير ملك" بكسر اللام "من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسًا" مقلوبًا عن الهيئة التي كان عليها بأن صار أعلاه أسفله فهو مجاز إذ نكس قلبه على رأسه على ظاهر المختار إن لم يكن تجوز بالرأس عن الأعلى، وفي الخميس: وكلت الملوك حتى لم يقدروا في ذلك اليوم على التكلم، "وفرت" حقيقة، ولا مانع منه "وحوش" جمع وحش حيوان البر "المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات" بما حصل لها من الفرح والسرور، وكأنها لقربها من موضع الحمل علمت ذلك بنداء الملائكة أو سماع دواب قريش أو بما شاء الله. "وكذلك أهل البحار" صار "يبشر بعضهم بعضًا، وله في كل شهر من شهور حمله نداء في الأرض ونداء في السماء" هو "أن أبشروا فقد آن" قرب "أن يظهر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم" حال كونه "ميمونًا مباركًا ... الحديث، وهو شديد الضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وعن غيره: لم يبق في تلك الليلة دار إلا أشرقت ولا مكان إلا دخله النور، ولا دابة إلا نطقت. وعن أبي زكريا يحيى بن عائذ: بقي صلى الله عليه وسلم في بطن أمه تسعة أشهر كملا، لا تشكو وجعًا ولا مغصًا ولا ريحًا ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء، وكانت تقول: والله ما رأيت من حمل هو أخف منه ولا أعظم بركة. ولما تم لها من حملها شهران توفي عبد الله .....................   و" روي "عن غيره" عن غير ابن عباس "لم يبق في تلك الليلة دار إلا أشرقت" أضاءت. "ولا مكان" أعم من الدار "إلا دخله النور" لهذه الزيادة أتى به "ولا دابة" ظاهره: عموم الدواب إلا أن يحمل على قوله في الرواية السابقة من دواب قريش "إلا نطقت" ولم يبين في هذه الرواية ما نطقت به، وبينه في السابقة، بقوله: وقالت: حمل برسول الله ... إلخ. ومن العجائب نقله من كلام غير المتن مع كونه قطعة منه، وينادي على ناقله بإبطال ذلك الاحتمال. "وعن أبي زكريا يحيى" بن مالك "بن عائذ" بتحتية وذال معجمة نسبة لجده لشهرته به الحافظ الكبير الأندلسي سمع أبا سهل القطان ودعلج بن أحمد وابن قانع، وأملى الحديث بجامع قرطبة، صعد المنبر يوم الجمعة ليخطب فمات في الخطبة فجأة في شعبان سنة ست وتسعين وثلاثمائة، فأنزل وطلب في الحال من يخطب. "بقي صلى الله عليه وسلم في بطن أمه تسعة أشهر كملا" بفتحتين مخفف الميم، أي: كاملة، وهذا أحد أقوال خمسة في مدة الحمل تأتي في المصنف، وذكره هنا لما بعده لا مقصود "لا تشكو وجعًا" في رأسها من نحو الدوخة التي تعرض للحامل ولا في بدنها من استرخاء الأعضاء والمفاصل "ولا" تشكو "مغصًا ولا ريحًا" في بطنها "ولا ما يعرض لذوات الحمل من النساء" من حب بعض المأكول وبغض بعضه؛ كما مر في قولها: لم أجد لحمله وحمًا فليس فسيريًا، كما زعم "وكانت تقول: والله ما رأيت" ما علمت "من حمل" لواحدة من النساء؛ لأنها ما حملت بغيره صلى الله عليه وسلم "هو أخف منه، ولا أعظم بركة" كناية عن كونه أخف ما يوجد من الحمل بناء على الاستعمال لا اللغة، فلا يرد أنه لا ينفي رؤيتها من يساويه مع أن قصدها أنه أخف ما يوجد، فهو كقولهم: ليس في البلد أعلم من زيد، يريدون أنه أعلم أهلها، ثم ذكر المصنف وفاة والده صلى الله عليه وسلم توطئة لما يأتي من امتناع الرضعاء من أخذه لموت أبيه، فقال: "ولما تم لها" لآمنة "من حملها شهران" وقيل: قبل ولادته بشهرين "توفي عبد الله" بن عبد المطلب عن خمس وعشرين سنة، قال الواقدي: وهو الأثبت أو عن ثلاثين سنة، قاله أبو أحمد الحاكم، أو عن ثمان وعشرين، أو عن ثمان عشرة سنة، وهو الذي صححه الحافظ العلائي، والحافظ ابن حجر، واختاره السيوطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وقيل: توفي وهو في المهد، قاله الدولابي. وعن ابن أبي خيثمة: وهو ابن شهرين. وقيل: وهو ابن سبعة أشهر وقيل: وهو ابن ثمانية وعشرين شهرًا. والراجح المشهور: الأول.   "وقيل توفي" عبد الله "وهو" صلى الله عليه وسلم "في المهد". قال السهيلي: وهو قول أكثر العلماء، واحتج له بقول عبد المطلب لأبي طالب: أوصيك يا عبد مناف بعدي بمؤتم بعد أبيه، فرد: فارقه وهو ضجيع المهد، انتهى. قال السمين: المهد ما يمهد للصبي ليربى فيه من مهدت له المكان، أي: وطأته ولينته، وفيه احتمالان: أحدهما: أن أصله المصدر فسمي به المكان وأن يكون بنفسه اسم مكان من غير مصدر، وقد قرئ مهدًا ومهادًا في طه. "قاله" الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد بن حامد بن سعيد الأنصاري الرازي "الدولابي" سمع محمد بن بشار وهارون بن سعيد وطبقتهما، ورحل وصنف، وعنه ابن أبي حاتم وابن عدي وابن حبان والطبراني وغيرهم. قال الدارقطني: تكلموا فيه وما يظهر من أمره الأخير، وقال ابن يونس: ضعيف ولد سنة أربع وعشرين ومائتين ومات بالعرج بين مكة والمدينة سنة عشر وثلاثمائة، قال في اللب: كأصله الدولابي صوابه بفتح أوله والناس يضمونه إلى عمل الدولاب، ودولاب قرية بالري، قال ابن السمعاني: وظني أن بعض أجداده نسب إلى عمل الدولاب، قال: وأصله من الري، فيمكن أن يكون من قرية دولاب، انتهى. وفي النور والقاموس: الدولاب القرية بالضم والذي كالناعورة بالضم ويفتح، "و" على كونه توفي وهو في المهد اختلف كم كان سنه صلى الله عليه وسلم، فنقل "عن" الحافظ أحمد "بن أبي خيثمة" زهير بن حرب الحافظ ابن الحافظ الإمام الثابت أبي بكر النسائي ثم البغدادي، قال الخطيب: ثقة عالم متقن حافظ بصير بأيام الناس، راوية للأدب، أخذ علم الحديث عن أحمد وابن معين، وعلم النسب عن مصعب، وأيام الناس عن المدائني، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي، ولا أعرف أغزر فوائد من تاريخه بلغ أربعًا وتسعين سنة، ومات في جمادى الأولى ستة تسع وسبعين ومائتين؛ "وهو ابن شهرين، وقيل" مات "وهو" عليه الصلاة والسلام "ابن سبعة أشه" بموحدة بعد السين، حكاه في العيون، وقيل: ابن تسعة "وقيل" مات "وهو" صلى الله عليه وسلم "ابن ثمانية وعشرين شهرًا" فكل هذه الأقوال مبنية على أنه مات وهو في المهد، وهو صريح العيون والسبل، "والراجح المشهور" كما قال ابن كثير ورجحه الواقدي وابن سعد والبلاذري والذهبي: هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وكان عبد الله قد رجع ضعيفًا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم، ورموا بالمدينة يثرب، فتخلف عند أخواله بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضًا شهرًا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه فقالوا: خلفناه مريضًا، فبعث إليه أخاه الحارث فوجده قد توفي، ودفن في دار التابعة، وقيل دفن بالأبواء. وقالت آمنة زوجته ترثيه: عنا جانب البطحاء من آل هاشم ... وجاور لحدًا خارجًا في الغماغم   "الأول" يعني أنه مات وهو حمل، والحجة له ما في المستدرك عن قيس بن مخرمة: توفي أبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه حبلى به، قال الحاكم: على شرط مسلم، وأقره الذهبي. "وكان عبد الله" فيما رجحه الواقدي، وقال: هو أثبت الأقاويل، "قد رجع" من غزة "ضعيفًا مع قريش لما رجعوا من تجارتهم ومروا بالمدينة يثرب" بدل أتى به لدفع توهم أن المراد غيرها؛ لأنها حينئذ ما كانت معروفة إلا بيثرب لا المدينة، سميت بيثرب بن قابل بن إرم بن سام بن نوح؛ لأنه أول من نزلها، وقد غيره صلى الله عليه وسلم إلى طيبة وسماها الله طابة، رواه مسلم، قال عيسى بن دينار: من سماها يثرب كتبت عليه خطيئة، وفي مسند أحمد عن البراء بن عازب، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله عز وجل، وهي طابة وإنما سميت في القرآن حكاية". "فتخلف عن أخواله بني عدي بن النجار" أي: أخوال أبيه؛ لأن هاشمًا تزوج من بني عدي فولدت له عبد المطلب، أما أخوال عبد الله فإنما هم من قريش من بني مخزوم "فأقام عندهم مريضًا شهرًا، فلما قدم أصحابه مكة سألهم عبد المطلب عنه، فقالوا: خلفناه مريضًا" عند أخواله "فبعث" عبد المطلب "إليه أخاه" أخا عبد الله "الحارث" وقال ابن الأثير: الزبير، "فوجده قد توفي" بالمدينة "ودفن" بها "في دار التابعة" بفوقية فموحدة فعين مهملة؛ كما في الزهر الباسم، قال الخميس: وهو رجل من بني عدي بن النجار. "وقيل: دفن بالأبواء" بفتح أوله ومد آخره قوية من عمل الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، والصحيح: أنها سميت بالأبواء لتبويء السيول بها، قاله ثابت بن حزم الحافظ، وقيل: لما فيها من الوباء. قال البرهان وغيره: ولو كان كذلك لقيل الأوباء، أو يكون مقلوبًا منه. "وقالت: آمنة زوجته ترثيه" شعرًا "عنا جانب البطحاء" المختار: عفا المنزل درس وضمنته معنى خلا، فعدته بمن في "من آل هاشم" وجعلت خلوها منه خلوا من آل هاشم مبالغة لعدم قيام غيره منهم مقامه، أو الإضافة عهدية والمعهود زوجها أطلقت عليه آل؛ لأنه اسم لأهل الرجل وعياله، فيطلق على الكثير الواحد. "وجاور" من المجاورة "لحدًا خارجًا في الغماغم" بغينين معجمتين وميمين، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 دعته المنايا دعوة فأجابها ... وما تركت في الناس مثل ابن هاشم عشية راحوا يحملون سريره ... تعاوره أصحابه في التزاحم فإنك تك غالته المنون وريبها ... فقد كان معطاء كثير التراحم ويذكرعن ابن عباس، أنه لما توفي عبد الله قالت الملائكة إلهنا وسيدنا، بقي نبيك يتيمًا، فقال الله تعالى: أنا له حافظ ونصير. وقيل لجعفر الصادق: لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: لئلا ...................   الأغطية، قاله الشامي. وكان المراد الأكفان التي لف فيها؛ فكأنها قالت: جاور حال كونه مدرجًا في أكفانه لحدًا بعيدًا عن أماكن أهله، "دعته المنايا" جمع منية بشد الياء: الموت، "دعوة" ويروى بغتة "فأجابها" وإسناد الدعوة إلى المنايا تجوز؛ وكأنها أرادت: ناداه ملك الموت حيث أراد قبض روحه، فأجابه بمعنى قام به الموت أو أسبابه حتى توفي، "وما تركت" المنايا "في الناس مثل ابن هاشم" عبد الله؛ لأنه كان يتلألأ نورًا في قريش وكان أجملهم فشغفت به نساؤهم وكدن أن تذهل عقولهن، قال أهل السير، فلقي عبد الله في زمنه من النساء ما لقي يوسف في زمنه من امرأة العزيز، "عشية راحوا" أي: ذهب المشيعون له حال كونهم "يحملون" في الوقت المسمى عشية، وهي آخر النهار، "سريره" النعش الذي هو عليه "تعاوره" تداوله "أصحابه في التزاحم" أي: مع التزاحم عليه، ففي بمعنى: مع؛ كقوله: ادخلوا في أمم "فإن تلك غالته" أي: أخذته على غفلة، أي أهلكته "المنون وريبها" أي: حوادثها، أي: الأسباب المؤدية للموت، وعبرت بأن التي للشك لاستبعاد وقوع الموت به استعظامًا له، وجواب الشرط محذوف، أي: أسف الناس لموته، والفاء للتعليل في قولها: "فقد كان معطاء" كثير الإعطاء، "كثير التراحم". "ويذكر عن ابن عباس: أنه لما توفي عبد الله، قالت الملائكة" يا "إلهنا" ويا "سيدنا بقي نبيك يتيمًا" لا أب له، قال الخميس: أعلى اليتم ما توفي الوالد والولد في بطن الأم، "فقال الله تعالى" جوابًا لهم: "أنا له حافظ ونصير" ومن كنت له كذلك لا يضيع، وهذا حكمه الرفع لو صح، لكن مرضه المصنف على عادتهم في نقل التضعيف بيروى ويذكر، وفي لفظ: قالت الملائكة: صار نبيك بلا أب، فبقي من غير حافظ ومرب، فقال الله؛ أنا وليه وحافظه وحاميه وربه وعونه ورازقه وكافيه، فصلوا عليه وتبركوا باسمه. "وقيل لجعفر الصادق" لقب به لأنه ما كذب قط، "لم يتم" بكسر التاء؛ كما اقتصر عليه الجوهري، وزاد المجد فتحها، والمصباح ضمها، "النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ما حكمة ذلك "قال: لئلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 يكون عليه حق لمخلوق. نقله عنه أبو حيان في البحر. وروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة قال: سمعت أبي -وكان من أوعية العلم- قال: لما حضرت آمنة الولادة قال للملائكة: افتحوا أبواب السماء كلها، وأبواب الجنان، وألبست الشمس يومئذ نورًا عظيمًا، وكان قد أذن الله تعالى تلك السنة لنساء الدنيا أن يحملن ذكورًا.   يكون عليه حق لمخلوق" ولا يرد عليه بقاء أمه حتى بلغ ست سنين أو أكثر؛ لأن تعلق الحقوق إنما هو بعد البلوغ "نقله عنه أبو حيان" الإمام أثير الدين محمد بن يوسف بن علي بن يوسف الأندلسي الغرناطي نحوي عصره ولغويه ومقريه، ولد في شوال سنة أربع وخمسين وستمائة، وأخذ عن ابن الصائغ وابن النحاس وغيرهما، وتقدم في النحو في حياة شيوخه واشتهر اسمه وألف الكتب المشهورة، وأخذ عنه أكابر عصره مات في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة. "في البحر" هو تفسيره الكبير، وقال ابن العماد في كشف الأسرار: إنما رباه يتيمًا؛ لأن أساس كل صغير كبير، وعقبى كل حقير حظير، ولينظر صلى الله عليه وسلم إذا وصل إلى مدارج عزه إلى أوائل أمره ليعلم أن العزيز من أعزه الله تعالى، وأن قوته ليست من الآباء والأمهات ولا من المال، بل قوته من الله تعالى وأيضًا ليرحم الفقير والأيتام. "وروى أبو نعيم عن عمرو بن قتيبة" الصوري الصدوق، روى عن الوليد بن مسلم وغيره وعنه النسائي وأحمد بن المعلى، "قال سمعت أبي وكان من أوعية العلم، قال: لما حضرت آمنة الولادة" وفي نسخة: حضرت ولادة آمنة، أي: دخل وقت ولادتها، "قال للملائكة" أي: للخزان، وفي نسخ: قال الله لملائكته "افتحوا أبواب السماء كلها" هو ظاهر في أنها مغلقة وإنما تفتح لأسباب وهو ما صرحت به النصوص وبه تشهد الأخبار، "و" افتحوا "أبواب الجنان" السبع، وهي على ما روي عن ابن عباس: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، وجنة المأوى، ودار السلام، وعليون؛ لكن قال السيوطي: لم أقف عليه، يعني مسندًا عن ابن عباس، فلا ينافي ذكره في البدور عن القرطبي أنها سبع وعد هذا، إلا أنه قال بدل عليون: دار الجلال، وقيل: الجنة واحدة مسماة بهذه الأسماء، وقيل: أربع، ورجح بما في سورة الرحمن، وقال السبكي: هذه الأربع أنواع تحتها أفراد كثيرة؛ كما في الحديث: أنها جنان كثيرة. "وألبست الشمس يومئذ" أي: زادت "نورًا عظيمًا" على نورها، "وكان قد أذن الله تعالى" أراد "تلك السنة" التي حمل فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم "لنساء الدنيا" أي: الحاملات منهن "أن يحملن ذكورًا" وليس المراد: أن جميع نساء الدنيا حملن إذ فيهن العزباء والكبيرة والصغيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، الحديث وهو مطعون فيه. وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابوري في كتابه المعجم الكبير كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة والبشرى عن كعب في حديثه الطويل، ورواه أبو نعيم من حديث ابن عباس قال: كانت آمنة تحدث وتقول: أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام وقال لي يا آمنة إنك حملت بخير العالمين فإذا ولدته فسميه محمدًا واكتمي شأنك قالت ثم أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد لا ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافه، فسمعت وجبة عظيمة وأمرًا عظيمًا هالني، ثم رأيت كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب عني الرعب وكل وجع أجده، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء   ومن لم تتزوج أصلا، ومن زوجها غائب عنها. كل ذلك "كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم" فهو راجع لجميع ما قبله "الحديث وهو مطعون فيه، وذكر أبو سعيد عبد الملك النيسابوري" مر أنه بفتح النون نسبة إلى نيسابور أشهر مدن خراسان، "في كتابه المعجم الكبير" وصريح المصنف أنه غير صاحب شرف المصطفى، فإن اسمه عبد الرحمن كما مر، والمصنف سماه عبد الملك؛ "كما نقله عنه صاحب كتاب السعادة، والبشرى عن كعب في حديثه الطويل، ورواه" أي: روى ما ذكره أبو سعيد عن كعب، "أبو نعيم من حديث ابن عباس" أنه "قال: كانت آمنة تحدث، وتقول" ومعلوم أنه ما سمعها، فيحتمل على أنه سمعه ممن سمعها. "أتاني آت حين مر بي من حملي ستة أشهر في المنام، وقال لي: يا آمنة، إنك قد حملت بخير العالمين" الماضين والموجودين والآتين، "فإذا ولدته" بتاء وهاء، وفي نسخة بينهما ياء على لغة قليلة للإشباع، "فسميه محمدًا واكتمي شأنك" حتى تضعي، فلا ينافي إخبارها به. "قالت: ثم أخذني ما يأخذ النساء" من الطلق "ولم يعلم بي أحد، لا ذكر ولا أنثى" أتت به بعد أحد لدفع توهم أن المراد الذكور فقط، "وإني لوحيدة" منفردة "في المنزل وعبد المطلب في طوافه" بالبيت الحرام، "فسمعت وجبة" بسكون الجيم وفتح الموحدة، أي: هدة "عظيمة" وهي سقوط وقع نحو الحائط "وأمرًا عظيمًا هالني" أفزعني، وهو تفسيري "ثم رأيت" رؤية عين بصرية شيئًا، "كأن جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي" هو القلب عند الجوهري وغشاؤه عند غيره، قال الزركشي: وهو أحسن لحديث: "ألين قلوبًا وأرق أفئدة"، "فذهب عني الرعب" الخوف الحاصل من تلك الوجبة، "وكل وجع أجده" بسبب الطلق فلا ينافي أنها لم تشك ما يعرض للحوامل، "ثم التفت، فإذا أنا بشربة بيضاء" أي: بآنية شربة أو أطلق الشربة على محلها وهو المشربة بكسر الميم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 فتناولتها فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالا كأنهن من بنات عبد مناف، يحدقن بي فبينما أتعجب وأنا أقول واغوثاه من أين علمن بي. قال في غير هذه الرواية فقلن لي نحن آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وهؤلاء من الحور العين واشتد بي الأمر وإني أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم فبينما أنا كذلك إذ بديباج أبيض قد مد بين السماء والأرض، وإذ بقائل يقول خذاه عن أعين الناس، قالت ورأيت رجالا قد وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت فإذا أنا بقطعة من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي، مناقيرها ............   مجازًا من تسمية المحل باسم الحال فيه، إذ الشربة المرة من الشرب، "فتناولتها" فشربتها، وفي رواية: فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنًا، وكنت عطشى فشربتها، فإذا هي أحلى من العسل، "فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل طوالا" بكسر الطاء جمع طويلة وأما بضمها ففرد كرجل طوال، وقال ابن الأثير: جمع طولى مثل الكبر في الكبرى، وهذا البناء يلزمه أل أو الإضافة؛ "كأنهن من بنات عبد مناف" شبهت بهن لاشتهارهن بين النساء بالطول والجمال، "يحدقن" بضم الياء وكسر الدال مخففة فقاف ساكنة، وبفتح الياء وكسر الدال، أي: يحطن بي "فبينما أتعجب وأنا أقول: واغوثاه! من أين علمن بي؟ قال في غير هذه الرواية: فقلن لي" أي: اثنتان منهن على أن أقل الجمع اثنان، أو مجاز "نحن آسية" بالمد وكسر السين المهملة؛ كما في التبصير بنت مزاحم، قيل: إنها إسرائيلية، وإنها عمة موسى، وقيل: إنها ابنة عم فرعون وإنها من العمالقة، "امرأة فرعون" ذات الفراسة الصادقة في موسى حين قالت: قرة عين لي ومن فضائلها: أنها اختارت القتل على الملك وعذاب الدنيا على النعيم الذي كانت فيه، "ومريم ابنة عمران" أم عيسى عليه السلام، قيل: إنهما نبيتان، بل قال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية، لكن قال عياض: الجمهور على خلافه، وبعضهم نقل الإجماع على عدم نبوة النساء، وعن الأشعري: نبئ منهن ست: هاتان، وحواء، وسارة، وهاجر، وأم موسى واستعمال نحن فيهما حقيقة؛ لأنها للمتكلم ومعه غيره واحد أو أكثر. "وهؤلاء من الحور العين" ولعل حكمة شهودهم كثرة الحور له في الجنة، كما أن مريم وآسية من نسائه في الجنة؛ كما في الحديث، "واشتد بي الأمر، وإني أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول مما تقدم، فبينما أنا كذلك إذ بديباج" بكسر الدال ويجوز فتحها: نوع من الحرير، قاله في التوشيح "أبيض قد مد بين السماء والأرض" تعظيمًا لولادته عليه السلام، "وإذا بقائل يقول: خذاه" إذا ولد "عن عين الناس، قالت: ورأيت رجلا قد وقفوا في الهواء" أي: ملائكة تشكلوا بصورة الرجال، "بأيديهم أباريق من فضة، ثم نظرت، فإذا أنا بقطعة" جماعة "من الطير قد أقبلت حتى غطت حجرتي" لكثرتها "مناقيرها" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 من الزمرد وأجنحتها من الياقوت فكشف الله عن بصري فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات، علمًا بالمشرق وعلمًا بالمغرب، وعلمًا على ظهر الكعبة فأخذني المخاض فوضعت محمدًا صلى الله عليه وسلم فنظرت إليه فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عني، ثم سمعت مناديًا ينادي طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ويعلمون أنه سمي فيها الماحي، لا يبقي شيء من الشرك إلا محي في زمنه .......................   مبتدأ خبره "من الزمرد" بزاي معجمة فميم فراء مضمومات فدال معجمة؛ كما صوبه الأصمعي، وجزم به المجد، وقال ابن قتيبة: مهملة الزبرجد فارسي معرب، "وأجنحتها من الياقوت، فكشف الله عن بصري، فرأيت مشارق الأرض ومغاربها، ورأيت أعلام مضروبات علمًا بالمشرق وعلمًا بالمغرب وعلمًا على ظهر الكعبة" ولعل حكمة ذلك الإشارة إلى أن شرعه يعم المشارق والمغارب ويعلو على مكة ويصير بينا واضحًا؛ كالأعلام، "فأخذني المخاض" قال البيضاوي: بفتح الميم وكسرها مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج، "فوضعت محمدًا صلى الله عليه وسلم" الظاهر أن الصلاة من الراوي "فنظرت إليه فإذا هو ساجد" حقيقة "قد رفع أصبعيه" أي: سبابتيه قابضًا بقية أصابعه؛ كما يأتي في رواية الطبراني "إلى السماء؛ كالمتضرع" المتذلل "المبتهل، ثم رأيت سحابة بيضاء قد أقبلت من السماء حتى غشيته فغيبته عني، ثم سمعت مناديًا ينادي: طوفوا به مشارق الأرض ومغاربها" خصت الأرض بذلك دون السماء؛ لأنها محل بعثته وظهور رسالته، والمناسب لقوله السابق: خذاه أن يقال طوفا به، فيحتمل أن معهما غيرهما تعظيمًا له، أو على أن الجمع ما فوق الواحد، "وأدخلوه البحار" جميعها وهي سبعة، أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس ووهب، وأخرج أيضًا عن حسان بن عطية، قال: بلغني أن مسيرة الأرض خمسمائة سنة بحورها منها مسيرة ثلاثمائة سنة، والخراب منها مسيرة مائة سنة, والعمران مسيرة مائة سنة. "ليعرفوه باسمه" فيها وهو الماحي؛ كما يأتي على الأثر، ولا تفهم أنه عام فتتعب، "ونعته وصورته" أي: لتعرفه البحار نفسها ولا مانع، فالله على كل شيء قدير، أو أهلها أو هما جميعًا، "و" حين إذ عرفوه بالثلاثة "يعلمون" قالوا: واستئنافية بدليل النون، "أنه سمي فيها" في البحار "الماحي" لأنه "لا يبقى شيء من الشرك إلا محي في زمنه" قال المصنف في أسمائه صلى الله عليه وسلم: ولما كانت البحار هي الماحية للأدران كان اسمه فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ثم انجلت عنه في أسرع وقت. الحديث. وهو مما تكلم فيه. وروى الخطيب البغدادي بسنده كما ذكره صاحب كتاب السعادة والبشرى أيضًا أن آمنة قالت لما وضعته عليه الصلاة والسلام رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل وخفقان الأجنحة وكلام الرجال، حتى غشيته وغيب عني فسمعت مناديًا طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض واعرضوه على كل روحاني من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش وأعطوه خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلة إبراهيم .............................   الماحي، انتهى. وهي مناسبة لطيفة، "ثم انجلت عنه" تلك السحابة "في أسرع وقت ... الحديث، وهو مما تكلم فيه" فذكره لينبه عليه؛ لشهرته في المواليد. "وروى" الخطيب "البغدادي" الحافظ أحمد بن علي بن ثابت "بسنده" إيضاح فهو عندهم مدلول، روى "كما ذكره صاحب كتاب السعادة والبشرى أيضًا" كما ذكر الأول: "أن آمنة قالت: لما وضعته عليه الصلاة والسلام" الظاهر: أن التصلية من الراوي؛ كما مر، "رأيت سحابة عظيمة لها نور أسمع فيها صهيل الخيل" كأمر أصواتها كما في القاموس. "وخفقان الأجنحة" مصدر خفق؛ كضرب، أي: اضطرابها "وكلام الرجال" الملائكة المتشكلين بصفتهم "حتى غشيته" تلك السحابة متعلق بمقدر، أي: أقبلت "وغيب عني، فسمعت مناديًا ينادي: طوفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها وأدخلوه البحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض" متعلق بيعرفوه "واعرضوه" بهمزة وصل: أظهروه "على كل روحاني" بضم الراء، أي: من فيه روح بدليل قوله: "من الجن والإنس والملائكة والطيور والوحوش، وأعطوه خلق آدم" بفتح الخاء وسكن اللام ففي حديث: "أنا أشبه الناس بأبي آدم، وكان أبي إبراهيم خليل الرحمن أشبه الناس بي خَلقًا وخُلقًا"، "ومعرفة شيث" بن آدم. نقل الثعلبي وغيره: أن الله علمه ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادة الحق في كل ساعة منها، فلعل هذا هو المراد بالمعرفة هنا، "وشجاعة نوح" ولو لم يكن من شجاعته إلا مكثه في قومه ألف سنة إلا خمسين مع تعنتهم عليه، وكفرهم وقلة من آمن معه، وهو لا يبالي بهم ويقاومهم كلهم ومواطن شجاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لا تحصر، "وخلة" بشد اللام "إبراهيم" لله عز وجل في قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] ، وفي الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا خليلا غير ربي، لاتخذت أبا بكر خليلا" وأخرج أبو يعلى في حديث المعراج: "فقال له ربه: اتخذتك خليلا وحبيبًا"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس ............................   فثبت أنه خليل كإبراهيم، وزاد كونه حبيبًا "و" أعطوه "لسان إسماعيل" أي: لغته، نحو: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، أخرج الزبير بن بكار بسند جيد عن علي مرفوعًا، "أول من فتق الله لسانه بالعربية البينة إسماعيل"، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق على الإطلاق. وقد روى أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن ابن عمر، قال: قال عمر: يا نبي الله! ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كانت لغة إسماعيل قد درست، فجاءني بها جبريل فحفظتها" بل زاد على ذلك فكان يخاطب كل ذي لغة بلغته، اتساعًا في الفصاحة. "ورضا إسحاق" بالذبح على أنه الذبيح في حديث: "أن داود سأل ربه مسألة، فقال: اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه: إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر، وابتليت إسحاق بالذبح فصبر، وابتليت يعقوب فصبر" الحديث، وقد رضي نبينا صلى الله عليه وسلم بما هو أقوى من ذلك، فقد أدمى الكفار رجليه، وكسروا رباعيته، وشجوا وجهه، واجتمعوا على قتله، وحاربوه وهو مع ذلك كله راض، ويقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون". "وفصاحة صالح" ذكر الثعلبي أنه كان من أفصح أهل زمانه وأحسنهم منطقًا، قال: وكان له من الحسن والجمال ما لا يقدر أحد أن يتمتع بالنظر إليه من نور وجهه، وكان أشبه الناس بشيث، وأعطاه الله من العلم والحلم والوقار والسكينة شيئًا كثيرًا، وكان لباسه الصوف، ونعلاه من خوص النخل، انتهى. والمصطفى لا يدانيه في الفصاحة أحد. "وحكمة لوط" المشار لها بقوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74] ، قال البيضاوي: أي حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم، واقتصر الجلال على الثالث، وما بلغه نبينا من ذلك لا مضارع له فيه. "وبشرى يعقوب" لعلها بسلامة ولده أو بالفوز بدعوة أبيه دون أخيه عبصو، وقد بشر نبينا صلى الله عليه وسلم من ربه بأمور كثيرة. "وشدة موسى" في دين الله وفي القوة، فقد حكي عنه قتل ذلك الرجل بوكزة وغير ذلك، ونبينا أعطي فوق ذلك فقد قتل أبي بن خلف بأدنى شيء حتى عيره قومه، فقال: لو بصق علي محمد لقتلني، وصارع بمكة رجلا كان لا يقدر على صرعه أحد فصرعه، إلى غير ذلك. "وصبر أيوب" الممدوح عليه بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44] ، وأحوال المصطفى في الصبر لا يضبطها الحصر. "وطاعة يونس" لله تعالى من الصغر، روي: أنه لما بلغ سبع سنين قال لأمه: أريد كسوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وجهاد يوشع، وصوت داود وحب دانيال ووقار إلياس وعصمة يحيى ...............   الصوف حتى ألحق بالعباد، فلم تجبه فلم يزل بها حتى كسته، وكان معهم حتى تم خمس عشرة سنة، ذكره الثعلبي، وطاعة المصطفى لربه من قبل السبع، فكان يخرج هو وأخوه من الرضاعة في بني سعد، فيمران بالغلمان يلعبون فيلعب أخوه، فإذا رآهم عليه الصلاة والسلام أخذ بيد أخيه، وقال: "إنا لم نخلق لهذا". "وجهاد يوشع" بن نون قاتل الجبارين بعد موسى يوم الجمعة، ووقفت له الشمس ساعة حتى فرغ من قتالهم، وقد جاهد صلى الله عليه وسلم الجبارين ببدر يوم الجمعة ونصره الله عليهم، ثم استمر مجاهدًا في الله حق جهاد حتى توفاه الله، واستمر في شرعه الجهاد إلى يوم القيامة، ولله الحمد. "وصوت داود" المشار له بحديث: "لقد أوتي أبو موسى مزمارًا من مزامير آل داود"، يعني: داود نفسه، ولا ريب في أن المصطفى فاقه لما رواه الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا". "وحب دانيال" آتاه الله النبوة والحكمة، روى ابن أبي الدنيا: "أن بختنصر ضرى أسدين وألقاهما في جب وأمر بدانيال فألقي عليهما" الحديث. وروى البيهقي: "أن دانيال طرح في الجب وألقيت عليه السباع، فجعلت تلحسه وتبصبص إليه، وأرسل الله له ملكًا بطعام" وروى ابن أبي الدنيا: "أن الملك الذي كان دانيا في سلطانه، قال له منجموه: يولد ليلة كذا وكذا غلام يفسد ملكك، فأمر بقتل من يولد تلك الليلة، فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد فبات الأسد ولبوته يلحسانه ونجاه الله"، وأقوى من ذلك: مكث نبينا صلى الله عليه وسلم في الغار ليلة الهجرة, وحفظ اللهِ له من الكفار الذين هم أشد من الأسد مع أن أحدهم لو نظر إلى عقبه لرآه وقد حفظه الله حين ولد من اليهودي ومكره به وتحريضه على قتله، بقوله: "يا معشر قريش، ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب"؛ كما يأتي قريبًا. "ووقار إلياس" من ذرية هارون كان على صفة موسى في الغضب والقوة، ونشأ نشأة حسنة يعبد الله وجعله الله نبيًا ورسولا وآتاه آيات، وسخر له الجبال والأسود وغيرها، وأعطاه قوة سبعين نبيًا، ذكره الثعلبي. والمصطفى صلى الله عليه وسلم لا يقارنه أحد في الوقار، وقد كان أصحابه لا يستطيعون إمعان النظر فيه لقوة مهابته ومزيد وقاره، ومن ثم لم يصفه إلا صغارهم أو من كان في تربيته قبل النبوة؛ كهند وعلي. "وعصمة يحيى" بن زكريا من اللعب ونحوه من الصغر، قال الثعلبي: روي في قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، قيل: تعلم التوراة في صغره، وقيل: نزل عليه الوحي لثلاثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وزهد عيسى، واغمسوه في أخلاق النبيين قالت: ثم انجلي عني فإذا به قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيًا شديدًا ينبع من تلك الحريرة ماء وإذا قائل يقول: بخ بخ قبض محمد على الدنيا كلها لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعًا في قبضته، قالت ثم نظرت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا هو كالقمر ليلة البدر وريحه يسطع ..............   سنة، وقيل: إن صبيانًا دعوه في صغره للعب، فقال: "أو للعب خلقنا"، وقد حكي أن زكريا قال: إن كان هذا الولد يريد الدنيا فلا حاجة لنا فيه، وإن كان يريد الآخرة فمرحبًا به، فقال جبريل: إنه لا يريد إلا الآخرة، فظهر يحيى ونشأ نشوأ حسنًا، انتهى. وقد عصم نبينا من كل شيء من أول أمره ومر اجتنابه اللعب عقب فطامه، وقوله: "إنا لم نخلق لهذا" وكانت همته وإرادته كلها في مرضاة ربه. "وزهد عيسى" ابن مريم المشهور، وقد فاق المصطفى كل زاهد حتى منع بعضهم من إطلاق الزهد عليه معللا بأنه لا قيمة للدنيا عنده حتى يزهد فيها، وقد عرض عليه أن تسير معه الجبال ذهبًا وفضة فأبى، وخير بين الملك والعبودية، فاختار العبودية. "واغمسوه في أخلاق النبيين" كلها ليجتمع فيه ما تفرق في غيره، كيف وقد كان خلقه القرآن. "قالت" آمنة: "ثم انجلى عني" ما رأيته من السحابة وما فيها، "فإذا به" صلى الله عليه وسلم "قد قبض على حريرة خضراء مطوية طيًا شديدًا ينبع" مثلث الموحدة؛ كما في القاموس والإرشاد وغيرهما، أي: يخرج "من تلك الحريرة ماء، وإذا بقائل يقول: بخ بخ" الأول منون والثاني مسكن، وبتسكينهما وبتنوينهما وبتشديدهما، وتفرد ساكنة ومكسورة ومنونة مضمومة، كلمة تقال عند الرضا، أي: عظم الأمر وفخم؛ كما في القاموس. "قبض محمد على الدنيا كلها" والإشارة إلى ذلك قبضه على الحريرة بيده، "لم يبق خلق من أهلها إلا دخل طائعًا في قبضته" حقيقة أو حكمًا؛ لظهور ما معهم من البراهين الدالة على أن امتناعهم من الإيمان مجرد عناد وظلم، فلا يرد أن كثر ما آمنوا به، أو باعتبار مبدأ الخلق لولادة الجميع على الفطرة. "قالت: ثم نظرت إليه صلى الله عليه وسلم، فإذا هو كالقمر" كذا في نسخة وهي ظاهرة؛ لأن إذا الفجائية تختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج لجواب، ولا تقع في الابتداء ومعناها الحال لا الاستقبال؛ كما في المغني. وفي نسخة: فإذا به كالقمر فيه خبر مقدم، وكالقمر صفة لمحذوف، أي: نور، والكاف اسم، بمعنى: مثل، فهو من الوصف بمفرد أو الباء مزيدة في المبتدأ على أن زيادتها فيه مقيسة، والأصل: فإذا هو كالقمر، فانقلب الضمير. "ليلة البدر ريحه يسطع" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 كالمسك الأذفر، وإذا بثلاثة نفر في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الآخر طست من زمرد أخضر وفي يد الثالث حريرة بيضاء فنشرها فأخرج منها خاتمًا تحار أبصار الناظرين دونه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم ولفه في الحريرة ثم احتمله فأدخله بني أجنحته ساعة ثم رده إلي ورواه أبو نعيم عن ابن عباس وفيه نكارة. وروى الحافظ أبو بكر بن عائذ في كتابه المولد -كما نقله عنه الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح بردة المديح- عن ابن عباس: لما ولد صلى الله عليه وسلم قال في أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا وقد أعطيته، فأنت أكثرهم   بفتح الطاء يظهر "كالمسك الأذفر" بذال معجمة الذكي "وإذا بثلاثة نفر" بالتنوين، ونفر بدل منه وبالإضافة بيانية عند البصرة، أو من إضافة الصفة لموصوفها عند الكوفة؛ كما صرح به الرضي خلافًا لزعم أبي البقاء: أن الصواب التنوين في مثله. "في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الآخر طست" بفتح الطاء وكسرها وسكون السين المهملة وبمثناة، وقد تحذف وهو الأكثر، وإثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها قاله الحافظ: "من زمرد" بضمات والراء مشددة والذال معجمة على الأفصح، وقد مر. "أخضر، وفي يد الثالث حريرة بيضاء، فنشرها" أي: فردها، "فأخرج منها خاتمًا تحار أبصار الناظرين دونه" أي: في مكان أقرب منه، والمراد: تتحير فيما دون ذلك الخاتم لصفته الخارقة للعادة. "فغسله" أي: غسل الملك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المحدث عنه "من ذلك الإبريق سبع مرات، ثم ختم بين كتفيه بالخاتم، ولفه" أي: لف الملك النبي صلى الله عليه وسلم "في الحريرة، ثم احتمله فأدخله بين أجنحته ساعة" الظاهر: أن المراد مدة من الزمن لا الفلكية، "ثم رده إلي، وراه" أي: هذا الحديث "أبو نعيم عن ابن عباس، وفيه نكارة، وروى الحافظ أبو بكر ابن عائذ في كتابه المولد؛ كما نقله عنه الشيخ بدر الدين" محمد بن عبد الله "الزركشي" الشافعي العلامة البارع، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وأخذ عن الأسنوي ومغلطاي وابن كثير وغيرهم، وألف تصانيف كثيرة في عدة فنون، مات في رجب سنة أربع وتسعين وسبعمائة، ودفن بالقرافة الصغرى. "في شرح بردة المديح" للبوصيري التي أولها: أمن تذكر جيران بذي سلم "عن ابن عباس" رضي الله عنه، أنه قال: "لما ولد صلى الله عليه وسلم قال في أذنه رضوان خازن الجنان: أبشر يا محمد فما بقي لنبي علم إلا وقد أعطيته" وإذا كان كذلك "فأنت أكثرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 علمًا، وأشجعهم قلبًا. وروى محمد بن سعد من حديث جماعة منهم عطاء وابن عباس: أن آمنة بنت وهب قالت: لما فصل مني -تعني النبي صلى الله عليه وسلم- خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدًا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء. وروى الطبراني: أنه لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يديه مشيرًا بالسبابة كالمسبح بها.   علمًا وأشجعهم قلبًا" وهذا أرسله ابن عباس ومرسل الصاحب وصل في الأصل وحكمه الرفع إذ لا مجال فيه للرأي. "وروى محمد بن سعد" بن منيع الهاشمي مولاهم البصري، الصدوق، الحافظ، نزيل بغداد، كاتب الواقدي، مات سنة ثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة. "من حديث جماعة منهم عطاء" بن أبي رباح، "وابن عباس: أن آمنة بنت وهب" بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب والدته صلى الله عليه وسلم، "قالت: لما فصل" أي: خرج "مني، تعني" تريد آمنة "النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع" عليه السلام "إلى الأرض" زاد ابن سعد عن الواقدي: جاثيًا على ركبتيه، "معتمدًا على يديه، ثم أخذ قبضة من التراب فقبضها" إشارة إلى أنه يغلب أهل الأرض، ويكون التراب من جملة معجزاته، ألا ترى أنه حثا في وجوه أعدائه قبضة من تراب ليلة الهجرة ويوم بدر وأحد وحنين، وللإشارة إلى الإعراض عن الدنيا؛ فكأنه حين رفع رأسه يقول: لا ألتفت إلى الدنيا وما فيها، فإنها كهذا التراب. "ورفع رأسه إلى السماء" ينظر ببصره إليها، قال الجوهري: وفيه إشارة دائمًا إلى ارتفاع شأنه وقدره وأنه يسود الخلق أجمعين، وكان هذا من آياته، وهو أنه أول فعل وجد منه في أول ولادته، وفيه إشارة وإيماء لمن تأمل إلى أن جميع ما يقع له من حين ولد إلى حين يقبض دال على العقل، فإنه لا يزال متزايد الرفعة في كل وقت وحين، عالي الشأن على المخلوقات، وفي رفعه رأسه إشارة وإيماء إلى كل سؤدد، وأنه لا يتوجه قصده إلا إلى جهات العلو دون غيرها، مما لا يناسب قصده. "وروى الطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب الحافظ "أنه" صلى الله عليه وسلم "لما وقع إلى الأرض" حال كونه "مقبوضة أصابع يديه ميرًا بالسبابة" اللام للاستغراق أو الجنس، فشمل السبابتين ليوافق قوله السابق أصبعيه، "كالمسبح بها" وفي السابقة: كالمتضرع المبتهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وروي عن عثمان بن أبي العاصي عن أمه أم عثمان الثقفية -واسمها فاطمة بنت عبد الله- قالت: لما حضرت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت البيت حين وقع قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع عليّ. رواه البيهقي. وأخرج أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك، إني دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت, وكذلك أمهات النبيين يرين" ..........................   "وروي عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي ولي الطائف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره أبو بكر، ثم عمر، ثم استعمله عمر على عمان والبحرين سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها سنة خمس أو إحدى وخمسين. "عن أمه أم عثمان الثقفية" الصحابية "واسمها فاطمة بنت عبد الله" ذكرها أبو عمر وغيره في الصحابة: أنها "قالت: لما حضرت ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت البيت" الذي ولد فيه "حين وقع" أي: نزل من بطن أمه "قد امتلأ نورًا، ورأيت النجوم تدنو" تقرب مني "حتى ظننت أنها ستقع علي، رواه البيهقي" والطبراني وابن عبد البر، قال في الفتح: وشاهده حديث العرباض فذكره وتبعه المصنف، فقال: "وأخرج أحمد" بن محمد ب حنبل الإمام المشهور "والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي، عن العرباض" بكسر العين "ابن سارية" السلمي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إني عند الله" بالنون مكتوب "لخاتم النبيين" باللام، ويقع محرفًا في بعض نسخ: "إني عبد الله وخاتم النبيين" , بباء وواو وهو تحريف لا شك فيه، فقد قدم المصنف نفسه الحديث في أول الكتاب على الصواب، وكذا الشامي، وليس القصد الإخبار في هذا الحديث بأنه عبد الله بل بأنه مكتوب عنده خاتم النبيين "و" الحال "إن آدم لمنجدل" أي: مطروح على الأرض "في طينته" خبر ثان؛ لأن لا متعلق بمنجدل، كما مر. "وسأخبركم عن ذلك: إني دعوة أبي إبراهيم" في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] ، "وبشارة" قال في النور: بكسر الموحدة وضمها: الاسم، "عيسى" هي قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ، "ورؤيا أمي التي رأيت"، رؤي2ة عين بصيرة، قال مغلطاي: وذكر ابن حبان أن ذلك كان في المنام، وفيه نظر "وكذلك أمهات النبيين" جمع نبي "يرين" ذلك الذي رأته أمه صلى الله عليه وسلم، فهو من خصائصه على الأمم لا على الأنبياء، كما نصوا عليه. وفي نسخة: وكذلك أمهات الأنبياء، وفي بعض النسخ من المصنف ومن الشامية: وكذلك أمهات المؤمنين، وهو تحريف لا شك فيه ولا ريب، فالحديث في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام. قال الحافظ ابن حجر: صححه ابن حبان والحاكم. وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار عن أم سلمة عن آمنة: قالت: لقد رأيت ليلة وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها. وأخرج أيضًا، عن بريدة عن مرضعته في بني سعد أن آمنة قالت: رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب ........................................   الجامع الكبير والخصائص وغيرهما من الدواوين: أمهات النبيين، وذكر ما رأته أمه، بقوله: "وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورًا أضاءت له قصور الشام" أي: أضاء النور وانتشر حتى رأيت قصور الشام، وأضاءت تلك القصور من ذلك النور. "قال الحافظ" أبو الفضل "ابن حجر: صححه" أي: الحديث "ابن حبان" بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة المشددة الإمام الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان التميمي البستي بضم الموحدة وسكون السين المهملة نسبة إلى بست بلد كبير من بلاد الغور بطرف خراسان؛ كما في التبصير، العلامة صاحب التصانيف، قال الحاكم: كان من أوعية العلم. "والحاكم" أبو عبد الله الحافظ زاد في الفتح وفي حديث أبي أمامة عند أحمد نحوه، وأخرجه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال فيه: "أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام". "وأخرج أبو نعيم عن عطاء بن يسار" ضد يمين الهلالي الثقة، كثر الحديث، القاص، مولى ميمونة عن مولاته، وأبي ذر وزيد بن ثابت وأبي وعدة، وعنه زيد بن أسلم وشريك بن أبي نمر وخلق، قال في الكاشف: كان من كبار التابعين وعلمائهم وخالف ذلك في طبقات الحافظ، فعده في أواسط التابعين مات سنة أربعمائة، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقيل: تسع وتسعين، عن أربع وثمانين سنة، قيل: بالإسكندرية. "عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية أم المؤمنين، ستأتي في الزوجات. "عن آمنة" والدته صلى الله عليه وسلم "قالت: لقد رأيت" رؤية عين بصرة "ليلة وضعه" عليه السلام "نورًا أضاءت له قصور الشام، حتى رأيتها. وأخرج" أبو نعيم "أيضًا" وكذا ابن سعد "عن بريدة" تصغير بردة ابن الحصيب بحاء وصاد مهملتين فتحتية فموحدة مصغر، قال الغساني: وصحف من قاله بخاء معجمة الصحابي الأسلمي شهد خيبر، وروى عنه ابناه والشعبي وعدة، توفي سنة اثنتين وستين. "عن مرضعته في بني سعد" هي امرأة مبهمة غير حليمة المشهورة، قاله الشامي. "أن آمنة، قالت: رأيت" رؤيا نوم "كأنه خرج من فرجي شهاب" ككتاب شعلة من نار، ساطعة؛ كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 أضاءت له الأرض حتى رأيت قصور الشام. وعن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفًا ما به قذر، رواه ابن سعد. وإلى هذا أشار العباس بن عبد المطلب في شعره، حيث قال: وأنت لما ولدت أشرقت الـ ... أرض وضاءت بنورك الأفق   في القاموس. "أضاءت له الأرض، حتى رأيت قصور الشام" فأول ولد يخرج منها تنور به الدنيا ويحرق أعاديه، قال في شرح الخصائص: بعدما قرر أن الرؤية الواقعة في الأحاديث الأول بصرية، ما لفظه: وأما الرؤيا الواقعة في رواية ابن سعد، يعني هذا فرؤيا منام؛ لأنها حين حملت به كانت ظرفًا للنور المنتقل إليها من أبيه، وقد خلط من جعل كلا منهما في النوم وجعل كلا منهما في اليقظة، انتهى. "وعن همام بن يحيى" بن دينار العوذي الحافظ البصري: قال أبو حاتم: ثقة صدوق، في حفظه شيء، مات سنة ثلاث وستين ومائة، "عن إسحاق بن عبد الله" بن أبي طلحة الأنصاري، أو هو ابن الحارث بن نوفل الهاشمي أو غيرهما "أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت لما ولدته خرج من فرجي نور أضاء له قصور الشام، فولدته نظيفًا ما به قذر" صفة موضحة للمبالغة في نظافته، إذ القذر ضد النظافة. "رواه ابن سعد" محمد قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده أنه ولد لك غلام، فائته فانظر إليه فأتاه فنظر إليه وحدثته بما رأت حين حملت، وما قيل لها: وما أمرت أن تسميه؟ فيزعمون أن جده أخذه فدخل به الكعبة وقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به فدفعه إلى أمه، وذكر ابن دريد: أنه ألقيت عليه جفنة لئلا يراه أحد قبل جده، فجاء جده والجفنة قد انفلقت عنه. "وإلى هذا" الواقع ليلة الميلاد من إضاءة القصور، وامتلاء البيت بالنور "أشار العباس بن عبد المطلب" عمه صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وقيل: حسان بن ثابت ذكره ابن عساكر في حديث ضعيف جدًا، ووهم من زعم أنه العباس بن مرداس الأسلمي؛ كما أشار له المصنف "في شعره" الذي سيذكره المصنف كله في غزوة تبوك، "حيث قال" يخاطبه صلى الله عليه وسلم: "وأنت لما ولدت" ويروى: وأنت لما ظهرت "أشرقت الأرض" من إشراق نورك "وضاءت بنورك الأفق" بضم الفاء وسكونها: الناحية جمعه آفاق مذكر أنثه العباس على تأويله بالناحية، فاعتبر معناه دون لفظه ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فنحن في ذاك الضياء وفي النو ... ر وسبل الرشاد نخترق قال في اللطائف: "وخروج هذا النور عند وضعه، إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك. قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} الآية: [المائدة: 15, 16] ، وأما إضاءة قصور بصرى ................................   يبعد أنه جمع فيكون للمفرد والجمع كالفلك، وأن يكون مضموم الفاء جمعًا لساكنها، وكل هذا احتمال؛ كذا قال أبو شامة، وفيه: أن اللغة لا تثبت بالاحتمال، فتعين الأول. "فنحن في ذلك الضياء، وفي النور وسبل الرشاد نخترق" والبيتان، من المدرج عند العروضيين، أي: الذي أدرج عجزه في الكلمة التي فيها آخر الصدر فلم ينفرد أحدهما من الآخر بكلمة تخصه ويمتاز بها، "قال" الحافظ عبد الرحمن بن رجب "في اللطائف" أي: في كتاب لطائف المعارف: فهو من التصرف في العلم والراجح جوازه. "وخروج هذا النور" الحسي المدرك بالبصر حال كونه "عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور" أي الأحكام والمعارف، سميت نورًا مجازًا للاهتداء بها؛ كالنور الحسي "الذي اهتدى به أهل الأرض" حقيقة؛ كالمؤمنين أو حكمًا بمعنى أنهم عرفوا الحق وامتنعوا منه عنادًا؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] والجاهلون منهم تابعون لكبرائهم المعاندين أو نزول المشركين منزلة العدم. "وزال به ظلمة الشرك" جهالاته؛ لأن الجهل يطلق عليه الظلمة مجازًا لأن الجاهل متحير في أمره لا يعلم ما يذهب إليه، كما أن الماشي في ظلمه متحير لا يهتدي لما بين يديه وخص الشرك لشدة قبحه أو لغلبته بمكة حين البعث أو أراد به الكفر؛ لأنه إذا أفرد أريد مطلق الكفر وإذا جمع أريد به عبارة الأوثان نحو لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، فهما كالفقير والمسكين. "كما قال تعالى" إخبارًا عما جاء به من الأحكام حيث جعله نورًا {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] قال البيضاوي: يعني القرآن، فإنه الكاشف لظلمات الشك والضلال والكتاب الواضح الإعجاز، وقيل: يريد بالنور محمدًا صلى الله عليه وسلم، انتهى. فما ذكره بناء على الأول والصحيح الثاني، كما قال المصنف كغيره. " {يَهْدِي بِهِ} " بالكتاب " {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} " بأن آمن به " {سُبُلَ السَّلَامِ} " طريق السلامة " {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} " الكفر " {إِلَى النُّورِ} " الإيمان " {بِإِذْنِهِ} " إرادته "الآية" أتلها "وأما إضاءة قصور بصرى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته، فإنها دار ملكه -كما ذكر كعب: أن في الكتب السالفة: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مولده بمكة ومهاجره بيثرب وملكه بالشام- فمن مكة بدت نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلى الشام انتهى ملكه، ولهذا أسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشام، إلى بيت المقدس، كما هاجر قبله إبراهيم عليه السلام إلى الشام، وبها ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، وهي أرض المحشر والمنشر.   بضم الموحدة وسكون الصاد المهملة وراء فألف مقصورة بلد بالشام من أعمال دمشق وهي حوران، قاله السيوطي. وفي الفتح: مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران. "بالنور الذي خرج معه" فيما رواه ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما مر. ورواه ابن سعد عن أبي العجفاء مرفوعًا: "رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاء له قصور بصرى"، فهو "إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته" وفي تخصيص بصرى لطيفة هي أنها أول موضع من بلاد الشام، دخله ذلك النور المحمدي، ولذا كانت أول ما فتح من الشام، قاله في المسكة الفائحة. وقال غيره إشارة إلى أنه ينور البصائر، ويحيي القلوب الميتة. "وأنها دار ملكه، كما ذكر كعب" بن مانع المعروف بكعب الأحبار، "أن في الكتب السالفة" ثابت من جملة ما يميزه عن غيره ويحقق نبوته، لفظ: "محمد رسول الله مولده" يكون "بمكة، ومهاجره" أي: هجرته "بيثر" الباء بمعنى إلى، وفي نسخة حذف الباء، أي: مكان هجرته هو يثرب؛ لأنه اسم مكان من هاجر بزنة اسم المفعول من المزيد يشترك فيه اسم المفعول والمصدر الميمي واسم الزمان والمكان، وهو المناسب هنا. "وملكه بالشام" وروى البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة رفعه: "الخلافة بالمدينة والملك بالشام"، "فمن مكة بدت" ظهرت "نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإلى الشام انتهى ملكه" أي: أولا، قاله النجم وغيره زاد شيخنا أو إنه صار مقرًا له؛ لأنه كان محلا للخلفاء والأول أولى، لأنه لم يكن محل الملوك إلا في مدة بني أمية، ثم انتقل في البلدان بحسب الملوك "ولهذا أسري" به "صلى الله عليه وسلم إلى الشام إلى بيت المقدس" وقيل غير ذلك في حكمة الإسراء؛ كما تقرر. "كما هاجر قبله إبراهيم عليه السلام" من حران بتشديد الراء آخره نون، "إلى الشام" إلى بيت المقدس منها، ففي تاريخ ابن كثير ولما كان عمر تأرخ خمسًا وسبعين سنة ولد إبراهيم بأرض بابل على الصحيح المشهور عند أهل السير، ثم هاجر إبراهيم إلى حرام ومات بها أبوه، ثم إلى بيت المقدس واستقر بها. "وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، وهي أرض المحشر" بكسر الشين وتفتح موضع الحشر؛ كما في القاموس وغيره وسوى بينهما في العين، قال شيخنا: والقياس الفتح؛ لأن فعله كنصر وضرب. "والمنشر" بالفتح اسم مكان من نشر الميت فهو ناشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده" انتهى ملخصًا.   إذا عاش بعد الموت، والمراد هنا خروج الموتى من قبورهم وانتشارهم إلى الشام، أي: أنها التي يساق إليها الموتى ويجتمعون بها. "وأخرج أحمد" بن محمد بن حنبل الإمام المشهور، قال ابن راهويه: هو حجة بين الله وبين عباده في أرضه، "وأبو داود "سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو الأزدي السجستاني الحافظ الكبير والعلم الشهير، روى عن أحمد والقعنبي وابن الحديد، وقال ابن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقهًا وحفظًا وعلمًا وإتقانًا ونسكًا وورعًا جمع وصنف وذب عن السنن، وقال ابن داسه: سمعته يقول كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما تضمنه هذا الكتاب، يعني السنن، ولد سنة اثنتين ومائتين وتوفي لأربع عشرة بقيت من شوال سنة خمس وسبعين ومائتين بالبصرة، وقيل غير ذلك. "ابن حبان" الحافظ العلامة أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان التميمي البستي، قيل: كتب عن أكثر من ألفي شيخ منهم النسائي وأبو يعلى والحسن بن سفيان، قال تلميذه الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه والحديث واللغة والوعظ ومن عقلاء الرجال وكانت إليه الرحلة، زاد غيره: وكان عالمًا بالطب والنجوم وفنون العلم، وقال الخطيب: كان ثقة نبيلا فهمًا مات في شوال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وهو في عشر الثمانين. "والحاكم" أبو عبد الله الحافظ مر بعض ترجمته دخل الحمام بنيسابور ثم خرج، فقال: آه وقبض وهو متزر ولم يلبس قميصه في صفر سنة خمس وأربعمائة. "في صحيحيهما" أي: صحيح ابن حبان وصحيح الحاكم المستدرك كلهم عن عبد الله بن حوالة الصحابي. "عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "عليكم بالشام" " أي: الزموا سكناها "فإنها خيرة الله من أرضه" , على معنى من خيرته أو من حيث الخصب ونمو البركات فيطلب سكناها، قيل: مطلقًا لكونها أرض المحشر والمنشر، وهو ظاهر سوق المصنف هنا لهذا الحديث، وقيل: المراد آخر الزمان عند اختلال أمر الدين وغلبة الفساد؛ لأن جيوش الإسلام تنزوي إليها، وفي حديث واثلة عند الطبراني فإنها صفوة بلاد الله، "يجتبي" يفتعل من جبوت الشيء وجبيته جمعته، أي: يجمع، "إليها خيرته من عباده" فهي أفضل البلاد بعد الحرمين ومسجد القدس يلي الحرمين في الفضل حتى المساجد المنسوبة له صلى الله عليه وسلم، "انتهى" كلام اللطائف "ملخصًا" حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف عن أمه الشفا قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي فاستهل، فسمعت قائلا يقول: رحمك الله، قالت الشفاء: وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب، حتى نظرت إلى بعض .................   "وأخرج أبو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف" بن عبد مناف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري أحد العشرة ذي الهجرتين البدري الذي صلى خلفه المصطفى المتصدق بأربعين ألف دينار الحامل على خمسمائة فرس في سبيل الله وخمسمائة راحلة، أخرجه ابن المبارك عن معمر عن الزهري، وفي الحلية لأبي نعيم: أنه أعتق ثلاثين ألف نسمة، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين على الأشهر، وله اثنتان وسبعون سنة على الأثبت، مناقبه جمة رضي الله عنه. "عن أمه الشفا" بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة، وهي بنت عم أبيه، قاله ابن الأثير؛ أي: عم أبي ابنها عبد الرحمن أسلمت وهاجرت قال ابن سعد: ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الرحمن: يا رسول الله! أعتق عن أمي، قال: "نعم" فأعتق عنها وهي بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء والقصر؛ كما صرح به البرهان في المقتفى والحافظ في التبصير. وقال ابن الأثير في الجامع: بالتخفيف والمد، وقال الدلجي بفتح المعجمة وشد الفاء ومد، وجرى عليه البوصيري في قوله: وشفتنا بقولها الشفاء. "قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على يدي" لا تعارضه الرواية السابقة، ثم وقع على الأرض لجواز أن ذاك بعد هذه بقرينة ثم "فاستهل" أي: صاح، وزعم الدلجي أن المراد عطس لا صاح بشهادة جواب لما، وهو "فسمعت قائلا" أي: ملكًا "يقول: رحمك الله" ونحا نحوه الجوجري، وهو مردود يقول الحافظ السيوطي في فتاويه: لم أقف في شيء من الأحادث على أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد عطس بعد مراجعة أحاديث المولد من مظانها، كطبقات ابن سعد والدلائل للبيهقي، ولأبي نعيم، وتاريخ ابن عساكر على بسطه واستيعابه، والمستدرك للحاكم، وإنما الحديث الذي روته الشفاء فيه لفظ يشبه التشميت لكن لم يصرح فيه بالعطاس، والمعروف في اللغة: أن الاستهلال صياح المولود أول ما يولد فإن أريد به هنا العطاس فمحتمل، وحمل القائل على الملك ظاهر، انتهى. فلا دلالة في رحمك الله على أنه عطس كما زعم الدلجي؛ لأنه يشبه التشميت ولا يلزم أنه تشميت بالفعل حتى يخرج به اللفظ عن مدلوله اللغوي لشيء محتمل، فتبين أن قوله رحمك الله ليس تشميتًا بل تعظيمًا بقرينة فاستهل؛ لأنه صياح المولود، كما علم. "قالت الشفاء: وأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى" بلاد "بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 قصور الروم، قالت: ثم ألبسته وأضجعته، فلم أنشب أن غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة ثم غيب عني، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى بعثه الله فكنت في أول الناس إسلامًا. ومن عجائب ولادته عليه السلام ما أخرجه البيهقي وأبو نعيم عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل ما رأيت وسمعت، إذا .....................   قصور الروم، قالت: ثم ألبسته" بموحدة فسين مهملة، أي: ألبست النبي صلى الله عليه وسلم ثيابه هكذا في نسخ ولم يقف عليها الشارح فأبعد النجعة، وفي نسخ: ثم ألبنته بنون بعد الباء، أي: سقيته اللبن، لكنهم عدوا مرضعاته عشرًا وما ذكروها مع أنها كانت أولى بالذكر؛ لأنها أول من دخل جوفه لبنها ويمكن صحتها بأن معناها سقيته لبن أمه، بمعنى: قربته إلى ثديها ليشرب منه ويناسب الأولى أيضًا، قولها: "وأضجعته فلم أنشب" أي: ألبث إلا قليلا "أن غشيتني ظلمة" والمعنى أنها رأت هذا عقب ذاك وتجوزت بأنشب عن ألبث؛ لأن من لبث في مكان فقد اتصل به فكأنه أدخل نفسه فيه "ورعب" خوف "وقشعريرة" بضم القاف وفتح الشين "ثم غيب عني، فسمعت قائلا" أي: ملكًا: "يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق" وحذف من خبر أبي نعيم ما لفظه: وقشعريرة عن يميني، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المغرب، وأسفر عني ذلك، أي: انكشف ثم عاودني الرعب والقشعريرة عن يساري، فسمعت قائلا يقول: أين ذهبت به؟ قال: إلى المشرق، "قالت: فلم يزل الحديث مني على بال حتى" أي: إلى أن "بعثه الله، فكنت في أول الناس إسلامًا" أي: في جملة السابقين له، ثم لا ينافي وجود الشفاء وفاطمة الثقفية عند الولادة قول آمنة المار: وإني لوحيدة في المنزل؛ لجواز وجودهما عندها بعد تأخر خروجه عليه السلام عن القول المذكور حتى نزل على يدي الشفاء؛ لقولهم: وقع على يدي، جمعًا بين الخبرين. "ومن عجائب ولادته عليه السلام ما أخرجه البيهقي وأبو نعيم، عن حسان بن ثابت" بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصاري شاعر المصطفى المؤيد بروح القدس، سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في شعرائه عليه السلام، وجوز الجوهري فيه الصرف وعدمه بناء على أنه من الحس أو الحسن. قال ابن مالك: والمسموع فيه منع الصرف، نقله السيوطي في حواشي المغني. "قال: إني لغلام ابن سبع سنين أو ثمان" سنين على التقريب، فقد ذكروا أنه عاش مائة وعشرين سنة كأبيه وجده وأبي جده، ومات سنة أربع وخمسين، "أعقل ما رأيت وسمعت إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 يهودي يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود، فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع، قالوا: يا ويلك ما لك؟ قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به في هذه الليلة. وعن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش: هل ولد فيكم الليلة مولود، قالوا: لا نعلم، قال: انظروا، فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة. بين كتفيه علامة. فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فذهب اليهودي معهم إلى أمه، فأخرجته لهم فلما رأى اليهودي العلامة خر مغشيًا عليه، وقال: ذهبت النبوة من بني .........................   يهودي يصرخ" بالمدينة، ففي رواية ابن إسحاق، يصرخ على أطمة يثرب، "ذات غداة" أي: في ساعة ذات غداة "يا معشر يهود" بمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل كما في المصباح، وفي نسخة: اليهود أقبلوا "فاجتمعوا إليه، وأنا أسمع" أي: أقصد سماع ما يتكلمون به، "قالوا: يا ويلك" كلمة عذاب صرفهم الله عن كلمة الترحم. "ما" اسم استفهام مبتدأ خبره "لك" أي: أي شيء عرض لك استنكروا صراخه، "قال: طلع نجم أحمد الذي ولد به" عنده أو سببية لاعتقاد اليهودي تأثير النجم، "في هذه الليلة" والغرض من سوقه كالذي بعده أن البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل، إنسي أو جني، "و" من عجائب ولادته أيضًا ما ورد "عن عائشة، قالت: كان يهودي قد سكن مكة" زاد في رواية الحاكم يتجر فيها وهو غير اليهودي الذي أخبر عنه حسان بلا ريب؛ لأن حسان كان بالمدينة فلا تغفل "فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" اليهودي ومعلوم أنها ما أدركته فهو مما روته عن غيرها، ومعلوم أنها إنما تروي عن الثقات، فيحتمل أنها سمعته من الشفاء، أو أم عثمان أو غيرهما، "يا معشر قريش! هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم، قال: انظروا" أي: فتشوا وتأملوا، يقال: نظرت في الأمر تدبرت، أي: انظروا في أهاليكم ونسائكم، "فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة" زاد الحاكم: الأخيرة "بين كتفيه علامة" زاد الحاكم: فيها شعرات متواترت كأنهن عرف الفرس، وأسقط المصنف من رواية يعقوب هذه، ما لفظه: لا يرضع ليلتين؛ لأن عفريتًا من الجن وضع يده على فمه، هكذا ساقه في الفتح متصلا، بقوله: "فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام فذهب اليهودي معهم" ليستكشفوا الخبر ويتحققوه بالعلامة، "إلى أمه" زاد الحاكم فقالوا: أخرجي المولود ابنك "فأخرجته لهم" زاد الحاكم وكشفوا عن ظهره، أي: ورأوا العلامة "فلما رأى اليهودي العلامة خر مغشيًا عليه، وقال" وفي رواية الحاكم: فلما أفاق، قالوا: يا ويلك! ما لك؟ قال: "ذهبت النبوة من بني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إسرائيل، يا معشر قريش: أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب. رواه يعقوب بن سفيان بإسناد حسن كما قاله في فتح الباري. ومن عجائب ولادته أيضًا: ما روي من ارتجاس إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته ................................   إسرائيل" قال: ذلك لما هو عندهم في الكتب أنه خاتم النبيين، "أما" بتخفيف الميم كلمته يفتتح بها الكلام، وتدل على تحقق ما بعدها، وهي من مقدمات اليمين؛ كقوله: أم والذي لا يعلم الغيب غيره، وقوله هنا: "والله ليسطون بكم سطوة" أي: ليقهرنكم ببطشه بكم، "يخرج خبرها من المشرق والمغرب" أي: ينشر في جميع الأرض حتى يتكلم به أهل المشرق والمغرب، "ورواه يعقوب بن سفيان" الفارسي الثقة المتقن الخير الصالح الحافظ، أبو يوسف الفسوي، بفاء وسين مهملة مفتوحتين فواو نسبة إلى فسا من بلاد فارس، عن القعنبي وسليمان بن حرب وأبي عاصم وأبي نعيم والفضل وغيرهم وعنه الترمذي والنسائي وعبد الله بن درستويه وخلق، قال ابن حبان: ثقة، والنسائي: لا بأس به، مات سنة سبع وسبعين ومائتين، وقيل بعدها. "بإسناد حسن، كما قاله في فتح الباري" بشرح البخاري ورواه الحاكم أيضًا عن عائشة، كما سيذكره المصنف، وقد بينا ألفاظه الزائدة. "ومن عجائب ولادته: ما روي من ارتجاس" بالسين، وهو: الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير، كما ضبطه البرهان، وهو مأخوذ من كلام الجوهري والمجد في باب السين والمهملة، وفي نسخ: ارتجاج بجيم آخره، وفي القاموس: الرج التحريك والتحرك والاهتزاز، فإن صحت تلك النسخ فكأنه لما صوت تحرك واهتز، إذ المراد هنا تصويت "إيوان" كديوان، ويقال: إوان بوزن كتاب بناء أزج غير مسدود الوجه، والأزج بفتح الهمزة والزاي بالجيم بيت يبنى طولا، "كسرى" بفتح الكاف وكسرها اسم ملك الفرس، حتى سمع صوته وانشق لا لخلل في بنائه، فقد كان بناؤه بالمدائن من العراق محكمًا مبنيًا بالآجر الكبار والجص، سمكه مائة ذراع في طول مثلها، وقد أراد الخليفة الرشيد هدمه لما بلغه أن تحته مالا عظيمًا، فعجز عن هدمه، وإنما أراد الله أن يكون ذلك آية باقية على وجه الدهر لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثم أفزع ذلك كسرى ودعا بالكهنة. "وسقوط أربع عشرة" هكذا في نسخ وهو الصواب، وفي نسخة: أربعة عشر وهو تحريف؛ لأن لفظ العدد من ثلاثة إلى عشرة يؤنث مع المذكر ويذكر مع المؤنث، ولفظ العشر يجري على القياس والمعدود هنا مؤنث. "شرفة" بضم الشين وسكون الراء "من شرفاته" بضم الراء وفتحها وسكونها جمع قلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وغيض بحيرة طبرية، وخمود نار فارس. وكان لها ألف عام لم تخمد، كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في "الهواتف" وابن عساكر وابن جرير. وفي سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم ملوك وملكات   لشرفه جمع سلامة، قال الشامي: إما تحقيرًا لها أو أن جمع القلة قد يقع موقع جمع الكثرة، وفي الصحاح: وشرفة وشرف، كغرفة وغرف. قال الخميس: وكانت اثنتين وعشرين، "وغيض" بغين وضاد معجمتين، أي: نقص، "بحيرة طبرية" مصغر بحرة ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، قال في ترتيب المطالع: هي بالشام لزمتها الهاء، وإنما هي تصغير بحرة لا بحر؛ لأن تصغيره بحير وهي بحيرة عظيمة يخرج منها نهر بينها وبين الصخرة ثمانية عشر ميلا، قال البكري: طولها عشرة أميال وعرضها ستة أميال، انتهى. لكن المعروف بالغيض إنما هي بحيرة ساوة بسين مهملة وبعد الألف واو مفتوحة فهاء ساكنة من قرى بلاد فارس، كانت بحيرة كبيرة بين همذان وقم. قال الخميس: وكانت أكثر من ستة فراسخ في الطول والعرض، وكانت تركب فيها السفن، ويسافر إلى ما حولها من البلدان. انتهى. فأما بحيرة طبرية فباقية إلى اليوم وغيضها علامة لخروج الدجال، تيبس حتى لا يبقى فيها قطرة، وأجيب: بأن غيض كليهما ثابت في الأحاديث التي نقلها السيوطي وغيره. غاية الأمر: أن بحيرة ساوة نشف ماؤها بالكلية فأصبحت يابسة كأن لم يكن بها شيء من غيضها أراد أنه ما نشف بالكلية كساوة ومن أثبته أراد أنها نقصت نقصًا لا ينقص مثله في زمان طويل، أو أن ماءها غار ثم عاد لما فيها من العيون النابعة التي تمدها الأمطار، وهو جمع حسن إلا أن المذكور في رواية من عزا له المؤلف ساوة؛ كما في الشامية، فتم الاعتراض على المصنف ووقع لبعض المتأخرين، وغاضت بحيرة ساوة وتسم بحيرة طبرية، وكان مراده الجمع أن تسمى في بعض الأحاديث بحيرة طبرية فهي واحدة، فلا يعترض عليه بأن ساوة بفارس، وطبرية بالشام. "وخمود" مصدر خمد؛ كنصر وسمع، خمدًا وخمودًا، كما في النور. "نار فارس" التي كانوا يعبدونها "وكان لها ألف عام لم تخمد" بضم الميم وفتحها، "كما رواه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي في الهواتف وابن عساكر وابن جرير" في تاريخه كلهم من حديث مخزوم بن هانئ عن أبيه، وأتت عليه مائة وخمسون سنة، قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان، فذكر الحديث بطوله: "وفي سقوط الأربع عشرة شرفة إشارة إلى أنه يملك منهم" من الفرس "ملوك وملكات" هذا على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بعدد الشرفات، وقد ملك منهم عشرة في أربع سنين، ذكره ابن ظفر زاد ابن سيد الناس: وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه. ومن ذلك أيضًا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب .....................   الجمع ما فوق الواحد، فإنه ما ملك منهم سوى امرأتين موران وأزد ميدخت؛ كما قاله البدر بن حبيب في جهينة الأخبار، "بعدد الشرفات، وقد ملك منهم عشرة في أربع سنين" وأسماؤهم مذكورة في التواريخ، ولا حاجة لنا بذكرهم، "ذكره" محمد بن محمد "بن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء بعدها راء الصقلي المولود بها أحد الأدباء الفضلاء صاحب التصانيف المليحة من أهل القرن السادس، ذكر ما نقله عنه المصنف في كتاب البشر، قائلا: وملك الباقون إلى أواخر خلافة عمر، هكذا رأيته فيه في آخر حديث سطيح، وكأنه لم يقع للمصنف فيه، فقال: "زاد ابن سيد الناس" الإمام العلامة الحافظ الناقد أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد اليعمري الأندلسي الأصل المصري، ولد في ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وستمائة ولازم ابن دقيق العيد وتخرج به وسمع من خلائق يقاربون الألف، وأخذ العربية عن البهاء بن النحاس، كان أحد أعلام الحفاظ أديبًا شاعرًا بليغًا صحيح العقيدة وحسن التصنيف، ولي درس الحديث بالظاهرية وغيرها وألف السيرة الكبرى والصغرى وشرح الترمذي، ولم يكمله فأتمه أبو الفضل العراقي، مات في شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. "وملك الباقون إلى خلافة عثمان" ذي النورين المختص بأنه لم يتزوج أحد بنتي نبي غيره، مناقبه جمة، "رضي الله عنه" وآخر ملوكهم يزدجر هلك في سنة إحدى وثلاثين، كذا في تاريخ حماة، وفي كلام السهيلي: أنه قتل في أول خلافة عثمان، قاله في النور. فعلى الثاني: لا مخالفة بين كلام ابن ظفر وابن سيد الناس؛ لأن آخر خلافة عمر قريب من أول خلافة عثمان. أما على الأول: فبينهما خلف كبير، والله أعلم. "ومن ذلك" أي: عجائب ولادته "أيضًا: ما وقع من زيادة حراسة السماء بالشهب" بسبب رميهم بها، وقد اختلف في أن المرجوم يتأذى فيرجع أو يحرق به لكن قد تصيب الصاعد مرة، وقد لا تصيب كالموج لراكب السفينة، ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا ولا يرد أنهم من النار فلا يحترقون؛ لأنهم ليسوا من النار الصرفة، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة أهلكتها، قال البيضاوي. وأشعر قوله زيادة: بأنها حرست قبل ولادته، وقد جاء عن ابن عباس: أن الجن كانوا لا يحجبون عن السماوات فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها، نقله المصنف في المعجزات. وروى الزبير بن بكار في حديث طويل: أن إبليس كان يخترق السماوات ويصل إلى أربع، فلما ولد صلى الله عليه وسلم حجب من السبع، ورميت الشياطين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقطع رصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع. ولقد أحسن الشقراطسي حيث قال: ضاءت لمولده الآفاق واتصلت ... بشرى الهواتف في الإشراق والطفل وصرح كسرى تداعى من قواعده ... وانقص منكسر الأرجاء ذا ميل   بالنجوم، "وقطع رصد الشياطين" بسكون الصاد وفتحها مصدر رصد؛ كنصر، أي: ترقبهم، "ومنعهم من استراق السمع" أي: استراقهم لاستماع ما تقول الملائكة، فيخبرون به غيرهم فيقع، وقضيته منعهم منه رأسًا بحيث لم يقع ذلك من أحد منهم، لكن قال السهيلي: أنه بقي من استراق السمع بقايا يسيرة بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وفي بعض البلاد، ونحوه قول البيضاوي؛ لعل المراد كثرة وقوعه أو مصيره دحورًا. "ولقد أحسن" أبو محمد عبد الله بن أبي زكريا يحيى بن علي "الشقراطسي" نسبة إلى شقراطسة ذكر لي أنها بلدة من بلاد الجريدة بأفريقيا، قاله أبو شامة في شرحه لهذه القصيدة: "حيث قال: يمدح النبي صلى الله عليه وسلم من جملة قصيدة كبيرة "ضاءت" أشرقت "لمولده" لأجل ولادته أو اللام للتوقيت؛ كقولك: جئت ليوم كذا، أي: فيه يريد ضاءت أيام مولده "الآفاق" جمع أفق بضم الفاء وسكونها وهي نواحي الأرض وأطرافها، وكذلك آفاق السماء وهي أطرافها التي يراها الرائي مع وجه الأرض، يعني بذلك ما ظهر معه عليه السلام من النور حين ولد. "واتصلت" بنا "بشرى" مصدر كالبشارة "الهواتف" جمع هاتف وهو الصالح، أو اتصل إلينا خبر ذلك أو اتصل إلينا خبر ذلك أو اتصل بعضها ببعض لكثرتها فما يبلغنا خبر إلا ويعقبه مثله، أي: كثرت وتواترت، يعني بذلك ما سمع من الجن وغيرهم من بعد ولادته إلى مبعثه من تبشيرهم به ونعيهم الكفر وإنذارهم بهلاكه يهتفون بذلك في كل ناحية، أي: ينادون به وكثر ذلك قبيل المبعث. "في الإشراق" أول النهار عند انتشار ضوء الشمس، "والطفل" وذلك إذا اطفلت الشمس للغروب، أي: دنت منه، وهو عبارة عن كثرة الأزمان التي وقع فيها، ذلك لأنه يعبر بذلك وما في معناه عن الدوام؛ كقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] ، "وصرح" القصرة، قيل: البناء المتسع الذي لا يخفى على الناظر، وإن بعد "كسرى تداعى" تساقط كأن بعضه دعًا بعضًا للوقوع "من قواعده" أساسه ومن لابتداء الغاية مبالغة كأن الانهدام ابتدأ من القواعد، "وانقص" بصاد مهملة سقط من أصله وبمعجمة أسرع سقوطه، "منكسر الأرجاء" النواحي "ذا ميل" بفتح الياء ما كان خلقة، قال ابن سيده: الميل في الحادث والميل في الخلقة والبناء، وهو على الثاني ظاهر. أما الأول فلأنه لما لم يكن بفعل فاعل ولا مسببًا عن خلل بناء نزله منزلة الخلق الطبيعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ونار فارس لم توقد وما خمدت ... مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل خرت لمبعثه الأوثان وانبعث ... ثواقب الشهب ترمي الجن بالشعل   "ونار فارس" اسم علم كالفرس لطائفة من العجم كانوا مجوسًا يعبدون النار، وكان لبيوتها سدنة يتناوبون إيقادها فلم يخمد لها لهب في ليل ولا نهار، إلى ليلة مولده عليه السلام، فإنه حين أوقدوها "لم توقد" بضم التاء وفتح القاف مبني للمفعول، لكنه وإن صح استعمالا إلا أنه لم ينتف إيقادهم لها بل إيقادها في نفسها مع تعاطيهم الإيقاد، فهذا موضع الآية العجيبة وأجيب بأنه لما لم تحصل فائدة إيقادها لها كأنها لم توقد؛ لأن خمودها من غير سبب يطفئها لا يكون إلا لعدم الإيقاد، ويحتمل فتح التاء وكسر القاف من وقدت النار هاجت، لكنه أصل رفضته العرب فلم تستعمله إلا أن ابن السراج ذكر أن أحسن ما استعمله الشاعر لضرورة ما رد فيه الكلام إلى أصله، فاللفظ ضعيف المخرج صحيح، قوي المعنى. "وما خمدت" بفتح الميم وكسرها "مذ ألف" بالرفع والجر بناء على أن مد حرف ج أو اسم ملتزم حذف المضاف إليه معه وتقديره مدة عدم الخمود، ألف "عام" قبل تلك الليلة، وذلك مدة عبادتهم النار، ولا ينافيه أن مدة ملكهم ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربع وستون سنة؛ لأنهم لم يعبدوها أول ملكهم، "ونهر القوم" يعني بحيرة ساوة عبر عنها بنهر القوم، أي: الفرس؛ لأنها في أرضهم ومن جملة أرض عراق العجم الذي هو في ملك كسرى، "لم يسل" أي ماؤه؛ لأنه غاض، أي: غار وكأنه عنى بالسيلان تحركه واضطرابه وإلا فماء البحيرة راكد غير جار، وكانت هذه الأمور أمارات لخمود دولتهم ونفاد ملكهم وظهور الحق عليهم، "خرت" سقطت "لمبعثه" لأجله "الأوثان" الأصنام على وجوهها "وانبعثت" مطاوع بعثه، "ثواقب" جمع ثاقب، وهي النجوم المتوقدة المضيئة، "الشهب" بسكون الهاء للتخفيف جمع شهاب، أي: المصابيح التي أخبر الله أنه زين بها السماء وجعلها رجومًا للشياطين والإضافة من باب سحق عمامة لقول الله: {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ، والمصابيح: النجوم، جعلت راجمة للشياطين بالشهب؛ لا أن النجوم تنقض بأنفسها خلف الشياطين، ولذا قال: "ترمي الجن بالشعل" أي: المنفصلة منها ولم يجعلها رامية بأنفسها، وقد قال الحليمي: ليس في كتاب الله أن الشياطين ترمى بالكواكب أو بالنجوم، ثم أطال في تقرير: أن الرمي إنما هو بالشهب وهو شعل النار وجعل المصابيح كناية عن الشعل لا عن النجوم، قال أبو شامة، وما جاء في الأحاديث وشعر العرب القديم من التصريح بأن الرمي بالنجوم يمكن تأويله، إما بأنه على تقدير مضاف أو استعمل النجم في الشهاب مجازًا، انتهى. ولا ينافيه ما ذكره المصنف في الخصائص عن البغوي، قيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه، انتهى. لجواز أن صورة الشعلة النازلة رجعت إلى مكانها التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وولد صلى الله عليه وسلم معذورًا أي مختونًا مسرورًا -أي مقطوع السرة- كما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن عساكر. وروى الطبراني في الأوسط وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا، ولم ير أحد سوأتي" وصححه الضياء في المختارة. وعن ابن عمر قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورًا مختونًا، رواه ابن عساكر. قال الحاكم في ....................................   جاءت منه وهو النجم، والله أعلم. "وولد صلى الله عليه وسلم معذورًا" هذا هو الواقع في حديث أبي هريرة وفسره المصنف، بقوله: "أي: مختونًا" لأن العذرة الختان، يقال: عذر الغلام يعذره بالكسر وأعذره بالألف، لغة إذا ختنه؛ كما في المصباح والنور وغيرهما وفيه حسن، كما في "مسرورًا" من التورية؛ لأنه من السرور أو من قطع السرة؛ كما فسره بقوله: "أي مقطوع السرة" الأولى حذف التاء إذ السر بالضم: ما تقطعه القابلة من سرة الصبي؛ كما في النهاية وغيرها، إلا أن يكون سمي السرسرة مجاز العلاقة المجاورة، أو فيه حذف، أي: مقطوعًا منه ما يتصل بالسرة؛ "كما روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم" أي: أنه قال ذلك ورفعه إليه، وأغرب زاعم أن هذا إخبار عن صفته من غيره، "عند ابن عساكر" وابن عدي. "وروى الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم والخطيب وابن عساكر من طرق" متعددة "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا" أي: على صورة المختون إذ هو القطع، ولا قطع هنا؛ كما يأتي. "ولم ير أحد سوأتي" عورتي لا لختان ولا غيره، على ظاهر عموم أحد فتدخل حاضنته ويكون عدم رؤيتها مع احتياجها لذلك من جملة كرامته على ربه، "وصححه" العلامة الحجة الحافظ "الضياء" أي: ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي المقدسي الحنبلي الثقة الجبل الدين الزاهد الورع، المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، "في" الأحاديث "المختارة" مما ليس في الصحيحين. وقد قال الزركشي وغيره أن تصحيحه أعلى مزية من تصحيح الحاكم، انتهى. وحسنه مغلطاي، قال: ورواه أبو نعيم بسند جيد عن ابن عباس. "و" ورد "عن ابن عمر، قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورًا مختونًا، رواه ابن عساكر" وقد صرح الحافظ بأن أحاديث الصفات النبوية والشمائل داخلة في قسم المرفوع، "قال الحاكم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 المستدرك: تواترت الأخبار أنه عليه السلام ولد مختونًا. انتهى. وتعقبه الحافظ الذهبي فقال: ما أعلم صحة ذلك؟! فكيف يكون متواترًا؟ وأجيب: باحتمال أن يكون أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها في السير، لا من طريق السند المصطلح عليه. "القول بغير ذلك": حكى الحافظ زين الدين العراقي، أن الكمال بن العديم ضعف أحاديث كونه ولد مختونًا، وقال: إنه لا يثبت في هذا شيء من ذلك. وأقره عليه، وبه صرح ابن القيم ....................   المستدرك: تواترت الأخبار أنه عليه السلام ولد مختونًا، انتهى. وتعقبه" الإمام "الحافظ" أبو عبد الله محمد بن عثمان "الذهبي" نسبة إلى الذهب؛ كما في التبصير، الدمشقي المتوفى بها سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، "فقال" في مختصر المستدرك، وفي ميزانه في ترجمة الحاكم: "ما أعلم صحة ذلك" لعله أراد على شرط الشيخين، وإلا فقد صححه الضياء وحسنه مغلطاي، كما ترى. "فكيف يكون متواترًا؟ وأجيب باحتمال أن يكون" الحاكم "أراد بتواتر الأخبار اشتهارها وكثرتها في السير، لا من طريق السند المصطلح عليه" وهو أن المتواتر عدد كثير أحالت العادة توافقهم على الكذب ورووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهائهم الحسن، وصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه؛ كما في شرح النخبة، وقد استبعد بعضهم هذا الجواب؛ لأنه خلاف المتبادر ولكنه أولى من التخطئة. "وحكى الحافظ زين الدين" عبد الرحيم "العراقي: أن الكمال بن العديم" عمر بن أحمد بن هبة الله الصاحب كمال الدين الحلبي الكاتب البليغ الحنفي، ولد بحلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، وبرع وساد وصار أوحد عصره فضلا ونبلا ورئاسة، وألف في الفقه والحديث والأدب وتاريخ حلب، وتوفي بمصر، "ضعف أحاديث كونه" عليه السلام "ولد مختونًا" في مؤلف صنفه في الرد على الكمال بن طلحة حيث وضع مصنفًا في أنه ولد مختونًا، وجلب فيه من الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام؛ كما في النور، "وقال: لا يثبت في هذا شيء، وأقره عليه وبه" أي: بتضعيف أحاديث ولادته مختونًا "صرح ابن القيم" في الهدي النبوي وليس بسديد من الثلاثة؛ لأن منها ما هو صحيح أو حسن، ومنها ما إسناده جيد؛ كما مر. اللهم إلا أن يكون حكمًا على المجموع على أنها وإن كانت ضعيفة، فقد وردت من طرق يقوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ثم قال: ليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا من الناس ولد مختونًا. وحكى الحافظ ابن حجر: أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت قلفته -أي اتسعت- فيصير كالمختون. وفي "الوشاح" لابن دريد: قال ابن الكلبي: بلغني أن آدم خلق مختونًا واثني عشر نبيًا من بعده خلقوا مختونين ..................   بعضها بعضًا، وفي مولد الحافظ ابن كثير ذكر ابن إسحاق في السيرة أنه عليه السلام ولد مسرورًا مختونًا، وقد ورد ذلك في أحاديث، فمن الحفاظ من صححها، ومنهم من ضعفها، ومنهم من رآها من الحسان. "ثم قال" ابن القيم: "وليس هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم فإن كثيرًا من الناس" الأنبياء وغيرهم، "ولد مختونًا" وظاهره: أن كونه مسرورًا من خصائصه وهو مقتضى كلام السيوطي وغيره. "وحكى الحافظ ابن حجر" ما فيه الجمع بين إثبات الختان ونفيه ذلك، "أن العرب تزعم أن الغلام إذا ولد في القمر" كالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه ولد في سلطانه على القول أنه لاثنتي عشرة "فسخت قلفته" بضم القاف وسكون اللام وبفتحهما: جلدته التي تقطع في الختان، "أي: اتسعت" فتقلصت عن موضعها بحيث تصير الحشفة مكشوفة "فيصير كالمختون" كما في عبارة غيره أن أصل قول العرب ختنه القمر، أن الطفل إذا ولد في ليلة مقمرة واتصل بحشفته ضوء القمر أثر فيها فتقلصت وإن محقت، فإن ضوءه يؤثر في اللحم وغيره، إلا أنه لا يكون قاطعًا لها بالكلية، قال الشاعر: إني حلفت يمينًا غير كاذبة ... لأنت أقلف إلا ما جنى القمر فغرض الحافظ من سوقه أنه بتقدير صحته في حقه صلى الله عليه وسلم يكون سببًا لوصفه بذلك؛ لكونها شابهة في ارتفاع القلفة وتقلصها أو خلقه بلا قلفة، وعبر بتزعم إشارة إلى أنه لا أصل له، فهو القول الذي لم يقم على صحته دليل، وقد قال ابن القيم: الناس يقولون لمن ولد كذلك ختنه القمر، وهذا من خرافاتهم. "وفي الوشاح لابن دريد" أبي بكر محمد بن الحسن اللغوي الثقة المتحري صاحب التصانيف المولود سنة ثلاث وعشرين ومائتين، المتوفى بعمان في رمضان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، قال في المزهر: ولا يقبل فيه طعن نفطويه؛ لأنه كان بينهما منافرة عظيمة بحيث أن كلا منهما هجا الآخر، قال: وقد تقرر في علم الحديث أن كلام الأقران في بعضهم لا يقدح. "قال ابن الكلبي: بلغني" وفي السبل: نقل ابن دريد في الوشاح وابن الجوزي في التلقيح، عن كعب الأحبار أنهم ثلاثة عشر، فيجوز أنه الذي بلغ ابن الكلبي "ان آدم خلق مختونًا" أي: وجد على هيئة المختون، "واثني عشر نبيًا من بعده خلقوا مختونين" أي: ولدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم: شيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى، وسليمان وشعيب ويحيى وهود صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن. وفي هذه العبارة تجوز، لأن الختان هو القطع، وهو غير ظاهر، لأن الله تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع، فيحمل الكلام باعتبار أنه على صفة المقطوع.   كذلك، ولعل هذا حكمة إفراد آدم بالذكر، "آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم" وهم "شيث" بن آدم عليهما السلام، "وإدريس" قيل عربي مشتق من الدراسة لكثرة درسه الصحف، وقيل: سرياني ابن يارد بن مهلائيل بن قنان بن أنوش بن شيث، قال ابن إسحاق: الأكثرون أن أخنوخ هو إدريس وأنكره آخرون، وقالوا: إنما إدريس هو إلياس، وفي البخاري يذكر عن ابن مسعود وابن عباس: أن إدريس هو إلياس، واختاره ابن العربي وتلميذه السهيلي؛ لقوله ليلة الإسراء مرحبًا بالأخ الصالح، ولم يقل بالابن الصالح، وأجاب النووي باحتمال أنه قال تلطفًا وتأدبًا وهو أخ وإن كان ابنًا والأبناء أخوة والمؤمنون أخوة، وقال ابن المنير: أكثر الطرق أنه خاطبه بالأخ الصالح، وقال لي ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه بالابن الصالح، قال بعض: وفي صحتها نظر. "ونوح" بن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف، ابن متوشلخ بفتح الميم وشدة الفوقية المضمومة وسكون الواو وفتح المعجمة واللام بدها معجمة ابن خنوخ، وهو إدريس، قال المازري: كذا ذكره المؤرخون: أن إدريس جد نوح، فإن قام دليل على أنه أرسل لم يصح قولهم: أنه قبل نوح لما في الصحيحين: ائتوا نوحًا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وإن لم يقم دليل جازم، قالوا: وحمل على أن إدريس كان نبيًا ولم يرسل، انتهى. قال السهيلي: وحديث أبي ذر الطويل، أي: المروي عند ابن حبان يدل على أن آدم وإدريس رسولان، انتهى. وأجيب بأن المراد أول رسول بعثه الله بالإهلاك وإنذار قومه، فأما رسالة آدم فكانت كالتربية لأولاده، قال القاضي عياض: لا يرد على الحديث رسالة آدم وشيث؛ لأن آدم إنما أرسل إلى بنيه ولم يكونوا كفارًا بل أمر بتبليغهم الإيمان وطاعة الله، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض، انتهى. "و" ابنه "سام" نبي على ما في هذا الخبر، وكذا رواه الزبير وابن سعد عن الكلبي، وقال: به أبو الليث السمرقندي، ومن قلده، والصحيح أنه ليس بنبي؛ كما قاله البرهان الدمشقي وغيره ولا حجة في أثر الكلبي؛ لأنه مقطوع مع أنه متروك متهم بالوضع. "ولوط" ابن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم. "ويوسف" بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الكريم ابن الكرام، قال بعضهم: هو مرسل؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] وقيل: ليس هو يوسف بن يعقوب، بل يوسف بن افرايم بن يوسف بن يعقوب، وحكى النقاش والماوردي: أن يوسف المذكور في الآية من الجن بعثه الله رسولا إليهم، وهو غريب جدًا، قاله في الإتقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وقد حصل من الاختلاف في ختنه ثلاثة أقوال : الأول: أنه ولد مختونًا كما تقدم.   "وموسى" بن عمران، "وسليمان" بن داود، "وشعيب، ويحيى، وهود صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين" وزاد محمد بن حبيب: زكريا وصالحًا وعيسى وحنظلة بن صفوان، فاجتمع من ذلك سبعة عشر نظمهم الحافظ السيوطي في قلائد الفوائد فقال: وسبعة مع عشر قدروا خلقوا ... وهم ختان فخذ لا زلت مأنوسا محمد آدم إدريس شيث ونو ... ح سام هود شعيب يوسف موسى لوط سليمان يحيى صالح زكريْ ... يَا وحنظلة الرسى مع عيسى "وفي هذه العبارة" وهي تسمية من ولد بلا قلفة مختونًا "تجوز؛ لأن الختان هو القطع وهو غير ظاهر" هنا "لأن الله تعالى يوجد ذلك على هذه الهيئة من غير قطع" فيما مضى ويأتي. قال ابن القيم: حدثنا صاحبنا أبو عبد الله محمد بن عثمان الخليلي المحدث ببيت المقدس، أنه ولد كذلك وأن أهله لم يختنوه، انتهى. ولذا عبر بيوجد المضارع دون الماضي إشارة إلى أن الإيجاد لا يقصر على من كان قبل المصطفى، فلا يقال الأولى التعبير بالماضي؛ لأنهم وجدوا كذلك وتم أمرهم. "فيحمل الكلام" على المجاز "باعتبار أنه على صفة المقطوع" فهو علة لمقدور وحاصله أنه لما كانت صورته صورة لمختون أطلق عليه اسمه مجازًا لعلاقة المشابهة في الصورة، "وقد حصل من الاختلاف" المذكور في كلامهم "في ختنه" صلى الله عليه وسلم "ثلاثة أقوال: "الأول": منها في الذكر "أنه ولد مختونًا، كما تقدم" وقال الحاكم، وبه تواترت الأخبار، وابن الجوزي: لا شك أنه ولد مختونًا، قال القطب الخيضري: وهو الأرجح عندي، وأدلته مع ضعفها أمثل من أدلة غيره، انتهى. وقد مر أن طريقًا جيدا صححه الضياء، وحسنه مغلطاي، مع أنه أوضح من جهة النظر؛ لأنه في حقه صلى الله عليه وسلم كما قال الخيضري: غاية الكمال؛ لأن القلفة قد تمنع كمال النظافة والطهارة واللذة، فأوجده ربه مكملا سالمًا من النقائص والمعايب، ولأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الثاني: أنه ختنه جده عبد المطلب يوم سابعه، وصنع له مأدبة وسماه محمدًا. رواه الوليد بن مسلم بسنده إلى ابن عباس وحكاه ابن عبد البر في التمهيد.   الختان من الأمور الظاهرة المحتاجة إلى فعل آدمي فخلق سليمًا منها لئلا يكون لأحد عليه منة، وبهذا لا ترد العلقة التي أخرجت بعد شق صدره؛ لأن محلها القلب ولا إطلاع عليه للبشر، فأظهره الله على يد جبريل ليتحقق الناس كمال باطنه كظاهره، انتهى ملخصًا. "الثاني: أنه خنته جده عبد المطلب" الظاهر: أن المراد أمر بختنه وأنه بالموسى إذ لو ختن بغيره لنقل لخرقه للعادة، والخوارق إذا وقعت توفرت الدواعي على نقلها، "يوم سابعه" لأن العرب كانوا يختنون؛ لأنها سنة توارثوها من إبراهيم وإسماعيل لا لمجاورة اليهود؛ كما أشار له في قوله في حديث هرقل: "أرى ملك الختان قد ظهر"، "وصنع له مأدبة" بضم الدال وفتحها اسم لطعام الختان، كما أفاده القاموس والمصباح، وأفاد الثاني: أنه يسمى إعذارًا أيضًا، "وسماه محمدًا. وفي الخميس: روى أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم أمر عبد المطلب بجزور فنحرت ودعا رجالا من قريش فحضروا وطعموا، وفي بعض الكتب: كان ذلك يوم سابعه، فلما فرغوا من الأكل قالوا: ما سميته فقال سميته محمدًا، فقالوا: رغبت عن أسماء آبائه، فقال: أردت أن يكون محمودًا في السماء لله وفي الأرض لخلقه، وقيل: بل سمته بذلك أمه لما رأته، وقيل لها في شأنه ويمكن الجمع بأن أمه لما نقلت ما رأته لجده سماه، فوقعت التسمية منه، وإذا كان بسببها يصح القول بأنها سمته به، انتهى. "رواه الوليد بن مسلم" القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي عن مالك والأوزاعي والثوري وابن جريج وخلق، وعنه الليث أحد شيوخه وابن وهب وأحمد وابن راويه وابن المديني متفق على توثيقه، وإنما عابوا عليه كثرة التدليس والتسوية، أخرج له الستة مات أول سنة خمس وتسعين ومائة "بسنده إلى ابن عباس وحكاه" شيخ الإسلام أبو عمر الحافظ يوسف بن عبد الله بن محمد "بن عبد البر" بن عاصم النمري، بفتح النون والميم القرطبي الفقيه المكثر العالم بالقراءات والحديث والرجال والخلاف الدين الصين، صاحب السنة والاتباع والتصانيف الكثيرة، ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان وانتهى إليه مع إمامته علو الإسناد. توفي ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن خمس وتسعين سنة وخمسة أيام، "في" كتاب "التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ولمؤلفه فيه شعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الثالث: أنه ختن عند حليمة، كما ذكره ابن القيم والدمياطي ومغلطاي وقالا: إن جبريل عليه السلام ختنه حين طهر قلبه. وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم من حديث أبي بكرة. قال الذهبي: وهذا منكر.   سمير فؤادي مذ ثلاثين حجة ... وصقيل ذهني والمفرج عن همي بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... لأني معانيه من الفقه والعلم وفيه من الآثار ما يهتدى به ... إلى البر والتقوى وينهى عن الظلم "الثالث: أنه ختن عند حليمة" السعدية مرضعته صلى الله عليه وسلم، "كما ذكره ابن القيم" مع القولين السابقين، "والدمياطي" بكسر الدال المهملة وبعضهم أعجمها وسكون الميم وخفة التحتية نسبة إلى دمياط بلد مشهور بمصر؛ كما في اللب الحافظ الإمام العلامة الحجة الفقيه النسابة شيخ المحدثين شرف الدين، أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الشافعي. ولد سنة ثلاث عشرة وستمائة، وتفقه وبرع وطلب الحديث فرحل وجمع فأوعى وألف وتخرج بالمنذري، وبلغت شيوخه ألفًا وثلاثمائة شيخ ضمنهم معجمه، قال المزي: ما رأيت في الحديث أحفظ منه، وكان واسع الفقه رأسًا في النسب جيد العربية غزيرًا في اللغة، مات فجأة سنة خمس وسبعمائة. "ومغلطاي" الإمام الحافظ علاء الدين بن قليج بن عبد الله بن الحنفي، ولد سنة تسع وثمانين وستمائة وكان حافظًا عارفًا بفنون الحديث، علامة في الأنساب وله أكثر من مائة مصنف؛ كشرح البخاري، وشرح ابن ماجه، وشرح أبي داود ولم يتما، مات سنة اثنتين وستين وسبعمائة وهو بضم الميم وسكون الغين وفتح اللام، كما ضبطه الحافظ بالقلم في كلام نثر، وأما ابن ناصر فضبطه بفتح الغين وسكون اللام في قوله: ذلك مغلطاي فتى قليجي ... ولعله للضرورة فلا تخالف وقليجي بقاف وجيم نسبة إلى القليج: السيف، بلغه الترك. "وقالا: إن جبريل عليه السلام ختنه" بآلة ولم يتألم منها على الظاهر، "حين طهر قلبه" بعد شقه، "وكذا أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم من حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه، "قال الذهبي: وهذا" الحديث "منكر" وهو ما رواه غير الثقة مخالفًا لغيره؛ كما في النخبة، ولا يعود اسم الإشارة على القول الثالث؛ لأنه إخراج لألفاظ الحفاظ عن معناها عندهم، وقد احتج للقول بأنه لم يولد مختونًا بأنه الأليق بحاله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم فأتمهن وأشد الناس بلاء الأنبياء والابتلاء به مع الصبر عليه مما يضاعف الثواب، فالأليق بحاله أن لا يسلب هذه الفضيلة، وأن يكرمه الله بها كما أكرم خليله، وأجيب بأنه إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 واعلم أن الختان: هو قطع القلفة التي تغطي الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل: إعذارًا -بالعين المهملة والذال المعجمة والراء- وختان المرأة خفاضًا -بالخاء المعجمة والفاء والضاد المعجمة أيضًا. واختلف العلماء: هل هو واجب؟ فذهب أكثرهم إلى أنه سنة وليس بواجب، وهو قول مالك وأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وذهب الشافعي إلى وجوبه، وهو مقتضى قول سحنون من المالكية. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء.   ولد مختونًا لئلا يرى أحد عورته؛ كما صرح به في الخبر. واعلم: أن الختان هو قطع القلفة التي تغطي الحشفة من الرجل، وقطع بعض الجلدة التي في أعلى الفرج من المرأة، ويسمى ختان الرجل إعذارًا بالعين المهملة" الساكنة قبلها ألف وحذفها في بعض النسخ تحريف، لا يوافق القاموس. "والذال المعجمة والراء" بعدها ألف ويسمى أيضًا عذرًا، كما في القاموس. "وختان المرأة خفاضًا" كذا في نسخ "بالخاء المعجمة" المكسورة "والفاء والضاد المعجمة أيضًا" فهو كقول القاموس: خفاض كختان وزنا، ومعنى فما في نسخ ختان المرأة خفضًا تحريف، "واختلف العلماء" في جواب قول السائل "هل هو" أي: الختان، لكل من الرجل والمرأة "واجب" أو سنة "فذهب أكثرهم إلى أنه سنة وليس بواجب" أتى به لدفع توهم أن المراد بالسنة الطريقة، "وهو قول مالك وأبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وذهب الشافعي إلى وجوبه" لكل من المرأة والرجل، "وهو مقتضى قول سحنون" بفتح السين وضمها "من" أئمة "المالكية" واسمه عبد السلام بن سعيد التنوخي القيرواني لقب باسم طائر حديد الذهن ببلاد المغرب، لكونه كان كذلك، ولد في شهر رمضان سنة ستين ومائة، وتلمذ لابن القاسم وغيره وصنف المدونة التي عليها العمل ومات في رجب سنة أربعين ومائتين. "وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء" وهو مذهب أحمد، وعنه الوجوب فيهما، وعن أبي حنيفة: واجب ليس بفرض، وعنه أيضًا: سنة يأثم بتركه، وعن الحسن: الترخيص فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 واحتج من قال: إنه سنة، بحديث أبي المليح بن أسامة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء". رواه أحمد في مسنده والبيهقي. وأجاب من أوجبه بأن ليس المراد بالسنة هنا خلاف الواجب، بل المراد الطريقة، واحتجوا على وجوبه بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] وثبت في .......................   "واحتج من قال: إنه سنة، بحديث أبي المليح" بفتح الميم وكسر اللام وتحتية وحاء مهملة عامر، وقيل: زيد، وقيل: زياد "بن أسامة" التابعي عن أبيه، وابن عمر وجابر وأنس وعائشة وبريدة وغيرهم، وعنه أبو قلابة وقتادة وأيوب وخلق، وثقه أبو زرعة وغيره، وروى له الستة، مات سنة ثمان وتسعين أو أربع ومائة، أو اثنتي عشرة ومائة، أقوال: "عن أبيه" أسامة بن عمير بن عامر الهذلي البصري، صحابي تفرد بالرواية عنه ولده، أخرج له أصحاب السنن الأربعة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة للرجال، مكرمة للنساء" أي: إنه في حقهن دونه في حق الرجال فهو فيهم متأكد، "رواه أحمد في مسنده والبيهقي" وفي مسنده الحجاج بن أرطاة ضعيف لكن له شواهد، فرواه الطبراني في كبيره من حديث شداد بن أوس، وابن عباس، وأبو الشيخ، والبيهقي عن ابن عباس من وجه آخر، والبيهقي أيضًا عن أبي أيوب، فالحدث حسن، فقامت به الحجة. "وأجاب من أوجبه بأنه ليس المراد بالسنة هنا" في هذا الحديث "خلاف الواجب، بل المراد الطريقة" زاعمين أن ذلك المراد في الأحاديث، ورد بأنه لما وقعت التفرقة بين الرجال والنساء، دل على أن المراد افتراق الحكم ودفعه بأنه في حق الرجال للوجوب والنساء للإباحة لما لا يسمح إذ ينبو عنه اللفظ على أنه قد ورد إطلاق السنة على خلاف الواجب في أحاديث كثيرة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض رمضان وسننت لكم قيامه". رواه النسائي والبيهقي. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن علي فرائض ولكنه سنة: الوتر والسواك وقيام الليل". فهذا الحديث من جملتها والتبادر آية الحقيقة، ويقويه خبر الصحيحين وغيرهما مرفوعًا: "خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". فإن انتظامه مع هذه الخصال التي ليست واجبة إلا عند بعض من شذ يفيد أن الختان ليس بواجب، إذ المراد بالفطرة بالكسر: السنة، بدليل بقية الحديث وحمله على الوجوب في الختان والسنة في باقيه تحكم بلا دليل. "واحتجوا على وجوبه، بقوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] والأمر للوجوب، ومن ملته الختان، "و" ذلك لأنه "ثبت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم ..........................   الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختن" بهمزة وصل "إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة". وعند مالك في الموطأ والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان عن أبي هريرة موقوفًا، وابن السماك وابن حبان أيضا عنه مرفوعًا: "وهو ابن مائة وعشرين"، وزادوا: "وعاش بعد ذلك ثمانين سنة"، وأعل بأن عمره مائة وعشرون, ورد بأنه مثله عند ابن أبي شيبة وابن سعد والحاكم والبيهقي وصححاه، وأبي الشيخ في العقيقة من وجه آخر، وزادوا أيضًا: "وعاش بعد ذلك ثمانين" فعلى هذا عاش مائتين. قال الحافظ في الفتح وتبعه السيوطي: وجمع بعضهم بأن الأول حسب من منذ نبوته، والثاني حسب من مولده، انتهى. ونحوه قال الحافظ في موضع آخر: يجمع بأن المراد بقوله: وهو ابن ثمانين من وقت فراق قومه وهجرته من العراق إلى الشام، وقوله: وهو ابن مائة وعشرين، أي: من مولده، وبأن بعض الرواة رأى مائة وعشرين، فظنها إلا عشرين أو عكسه، انتهى. والأول أولى، إذ الثاني توهيم للرواة بلا داعية مع أن الجمع أمكن بدون توهيمهم، وأم الجمع بأنه عاش ثمانين غير مختون، وعشرين ومائة مختونًا؛ فرده ابن القيم بأنه قال: أختتن وهو ابن مائة وعشرين، ولم يقل: لمائة وعشرين، وبينهما فرق. "بالقدوم" بالتخفيف عند أكثر رواة البخاري. وقال النووي ولم يختلف فيه رواة مسلم اسم آلة البخار، يعني: الفأس؛ كما في رواية ابن عساكر، ورواه الأصيلي والقابسي بالتشديد وأنكره يعقوب بن شيبة، وقيل: ليس المراد الآلة بل المكان الذي وقع فيه الختان، وهو أيضًا بالتخفيف والتشديد قرية بالشام، والأكثر على أنه بالتخفيف، وإرادة الآلة؛ كما قاله يحيى بن سعيد أحد رواته وأنكر النضر بن شميل الموضع ورجحه البيهقي والقرطبي والزركشي والحافظ مستدلا بحديث أبي يعلى: "أمر إبراهيم بالختان فاختتن بقدوم فاشتد عليه، فأوحى الله إليه: عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك"، انتهى. وذكر الحافظ أبو نعيم نحوه، وقال: قد يتفق الأمران فيكون قد اختتن بالآلة وفي الموضع، انتهى هذا. والاستدلال بما ذكر على وجوب الختان لا يصح؛ لأن معنى الآية كما ذكر البيضاوي والرازي وغيرهما؛ أن اتبع ملة إبراهيم في التوحيد والدعوة إليه برفق وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى، والمجادلة، مع كل أحد بحسب فهمه، أي: لا في تفاصيل أحكام الفروع وإلا لم يكن صاحب شرع مستقل بل داعيًا إلى شرع إبراهيم كأنبياء بني إسرائيل، فإنهم كانوا داعين إلى شرع موسى، وهذا خلاف الإجماع على أنهم قد وقعوا بهذا الاستدلال في محذور، وهو أنهم لا يرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وبما روى أبو داود من قوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أسلم: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". واحتج القفال لوجوبه: بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة، ويمنع صحة الصلاة، فيجب إزالتها. وقال الفخر الرازي: "الحكمة من الختان، أن الحشفة قوية الحبس، فما دامت مستورة بالقلفة تقوي اللذة عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة، وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعًا لها، كما تفعل المانوية،   أن شرع من قبلنا شرع لنا، وإن ورد في شرعنا ما يقرره ولا يرد هذا على مالك القائل به ما لم يرد ناسخ؛ لأنه ليس معنى الآية، كما علمت. وعلى التنزل لو سلمنا أنه من شمولها، فالأمر فيه لغير الوجوب، بدليل الحديث الناطق بالنسبة. "و" احتجوا أيضًا "بما روى أبو داود" وأحمد والواقدي "من قوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أسلم" وهو كليب الحضرمي أو الجهني: "ألق" ندبًا "عنك شعر الكفر" أزله بحلق أو غيره كقص ونورة من رأس وشارب وإبط وعانة، "واختتن" بالواو، وفي رواية: "ثم بدلها" روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن جريج، قال: أخبرت عن عثيم، وهو مصغر عثمان بن كثير بن كليب عن أبيه عن جده، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أسلمت، فقال: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". فأفاد الأمر الوجوب؛ لأنه الأصل فيه، والجواب: أن سنده ضعيف، صرح به الحافظ وقال الذهبي: منقطع، وقال ابن القطان: عثيم وأبوه مجهولان فلا حجة فيه، وعلى فرض حجته فليس الأمر للوجوب للحديث الناطق بالسنية؛ ولأن أوله محمول على الندب، بلا ريب. "واحتج القفال لوجوبه بأن بقاء القلفة يحبس النجاسة ويمنع صحة الصلاة، فتجب إزالتها" وهذا ممنوع مع قصوره على ختان الرجل دون المرأة، "وقال الفخر الرازي: الحكمة في الختان" سواء قلنا: بوجوبه أو سنيته "أن الحشفة قوية الحبس، فما دامت مستورة بالقلفة تقوي اللذة" أي: لذة الجماع، "عند المباشرة، فإذا قطعت القلفة تصلبت الحشفة فضعفت اللذة" وهذا يخالفه ما مر عن الخيضري: أن القلفة تمنع كمال اللذة، إلا أن يريد على بعد ما يدركه المجامع من اللذة بالفعل، ويراد بها عند الفخر قوة الشهرة المقتضية لإطالة الفعل، وكأنه لعدم ملاقاة حشفة محل الجماع يتأخر الإنزال، "وهو اللائق بشريعتنا تقليلا للذة لا قطعًا لها، كما تفعل المانوية" من تحريم النكاح وهو قطع لها، وهم أصحاب ماني بن فاتك الزنديق الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير بعد عيسى عليه السلام، وادعى النبوة وأن للعالم أصلين النور فذلك إفراط وإبقاء القلفة تفريط، فالعدل الختان". انتهى. وإذا قلنا بوجوب الختان، فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا، لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه سئل: مثل من أنت حيث قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وأنا يؤمئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك". وقال بعض أصحابنا: يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وقد اختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم : فالأكثرون على أنه عام الفيل، وبه قال ابن عباس ...................   خالق الخير، والظلمة خالق الشر، وأنهما قديمان حيان دراكان، فقيل سابور قوله: فلما ملك بهران بن هرمز بن سابور سلخه وحشا جلده تبنًا وقتل أصحابه، وبعضهم هرب إلى الصين، وقد أجاد أبو الطيب في قوله: وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب "فذلك" أي: فعل المانوية "إفراط" إسراف ومجاوزة حد، "وإبقاء القلفة تفريط" تضييع وتقصير، "فالعدل" فالوسط بينهما، "الختان، انتهى" كلام الرازي. "وإذ قلنا بوجوب الختان فمحل الوجوب بعد البلوغ على الصحيح من مذهبنا" يعني الشافعية ويندب عندهم في اليوم السابع بعد يوم الولادة "لما روى البخاري في صحيحه" من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد "عن ابن عباس أنه سئل مثل" بكسر الميم وسكون المثلثة "من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وأنا يومئذ مختون" قال أبو إسحاق: أو إسرائيل أو من دونه، "وقد كانوا لا يختنون" بفتح التحتية وكسر الفوقية؛ كما اقتصر عليه المصنف، وظاهره: أن الرواية وإن جاز ضم الفوقية لغة، أي: كانت عادتهم لا يختنون "حتى يدرك" الحلم، فأفاد نفي الختان قبله، إذ لو طلب قبله لما أطبقوا على تركه قبل البلوغ، قال السخاوي في البستان والمحفوظ الصحيح أن ابن عباس ولد بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، فتكون له عند الوفاة النبوية ثلاث عشرة سنة وبذلك قطع أهل السير، وصححه ابن عبد البر، انتهى. "وقال بعض أصحابنا: يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ" مقابل لما قدم أنه الصحيح "والله أعلم" بحقيقة الحكم فيه، "وقد اختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم، فالأكثرون" من العلماء "على أنه ولد عام الفيل، وبه قال ابن عباس" على المحفوظ عنه، ووقع عند البيهقي والحاكم عن ابن عباس، قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الفيل، لكن المراد مطلق الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه وقال: كل قول يخالفه وهم. والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يومًا، وإليه ذهب السهيلي في جماعة. وقيل: بعده بخمسة وخمسين يومًا، وحكاه الدمياطي في آخرين. وقيل: بشهر، وقيل بأربعين يومًا. وقيل: بعد الفيل بعشر سنين وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: وغير ذلك. والمشهور أنه بعد الفيل، لأن قصة الفيل كانت ....................   لقول يحيى بن معين يعني عام الفيل انتهى كما يقال يوم الفتح ويوم بدر، ويحتمل حقيقة اليوم فهو أخص من الأول وبه صرح ابن حبان في تاريخه، فقال ولد عام الفيل في اليوم الذي بعث الله فيه الطير الأبابيل على أصحاب الفيل، ذكره الحافظ في شرح الدرر. "ومن العلماء من حكى الاتفاق عليه" كابن الجوزي، حيث قال في الصفوة: اتفقوا على أنه ولد عام الفيل، وكذا ابن الجزار، "وقال: كل قول يخالفه" فهو "وهم" بفتح الهاء، أي: غلط، لكن قال مغلطاي: فيه نظر، يعني: لكثرة الخلاف وعلى الأول اختلفوا فيما مضى من ذلك العام. "والمشهور: أنه ولد بعد الفيل بخمسين يومًا، وإليه ذهب السهيلي في جماعة" أي: معهم، "وقيل بعده بخمسة وخمسين يومًا، وحكاه الدمياطي في" أي: مع "آخرين" منهم أبو جعفر محمد بن علي، قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وكان قدوم الفيل للنصف من المحرم، فبين الفيل ومولده خمس وخمسون ليلة نقله في المنتقى، وفي العيون ذكر الخوارزمي وغيره: أن قدوم الفيل مكة يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم، وكان أول المحرم تلك السنة يوم الجمعة. "وقيل" ولد بعده "بشهر" واحد، "وقيل: بأربعين يومًا" حكاهما مغلطاي واليعمري، "وقيل": بل ولد "بعد" عام "الفيل" واختلفوا في مدته، فقيل: بعده بسنتين، وقيل: بعد الفيل "بعشر سنين". قال مغلطاي: يروى هذا القول عن الزهري، ولا يصح. "وقيل" بل ولد "قبل الفيل" لا بعده "بخمس عشرة سنة" وسيأتي رده "وقيل غير ذلك" فقيل: بعده بثلاثين عامًا، وقيل: بأربعين عامًا، وقيل: بسبعين عامًا، وقيل: بثلاثة وعشرين عامًا، حكاها كلها مغلطاي، ثم رد المصنف القول بأنه ولد قبل الفيل، بقوله: "والمشهور: أنه ولد بعد الفيل" لا قبله؛ "لأن قصة الفيل كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 توطئة لنبوته، وتقدمة لظهوره وبعثته، وإلا فأصحاب الفيل -كما قاله ابن القيم- كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرًا من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد، أوثان، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة، وتعظيمًا للبلد الحرام. واختلف أيضا في الشهر الذي ولد فيه. والمشهور: أنه ولد في شهر ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء، ونقل ابن الجوزي الاتفاق عليه. وفيه نظر؛ فقد قيل في صفر، وقيل في ربيع الآخر. وقيل: في رجب، ولا يصح. وقيل: في شهر رمضان ................................   توطئة" تمهيدًا "لنبوته وتقدمه لظهوره" لوجوده "وبعثته" وقد وجد قبل وجوده خوارق كثيرة؛ ككثرة الهواتف، وأخبار الأحبار والكهان، فلا يرد ما قيل الإرهاص إنما يكون بما يوجد بعد مولده وقيل البعثة، إما لأن التعبير بالإرهاص مجاز، وإما لمنع تخصيص الإرهاص بما بعد الوجود، بل هو شامل لكل ما تقدمه البعث من خوارق قبل وجوده أم بعده. "وإلا" يكن توطئة له بل لشرف أهل مكة كان القياس العكس، "فأصحاب الفيل" أي: القوم الذين جاءوا به. "كما قال ابن القيم: كانوا نصارى أهل كتاب" وهو الإنجيل "وكان دينهم خيرًا من دين أهل مكة إذ ذاك" ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء؛ كما في الصحيح "لأنهم كانوا عباد أوثان" أصنام لا كتاب لهم، "فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب" مع كونهم خيرًا منهم "نصرًا لا صنع للبشر فيه إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج" وجد "من مكة، وتعظيمًا للبلد الحرام" لا لما كان عليه أهله "واختلف أيضًا في الشهر الذي ولد فيه" أهو ربيع أم غيره؟ "والمشهور: أنه ولد في ربيع الأول، وهو قول جمهور العلماء" بضم الجيم معظمهم وجلهم، ونقل التلمساني فتح الجيم أيضًا وأتى به بعد المشهور؛ لأن مجرد الشهرة لا تستلزم كثرة القائل لجواز أن يشتهر عن واحد مع مخالفة غيره له أو سكوته عنه. ونقل" العلامة الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن "ابن الجوزي الاتفاق عليه" فقال في الصفوة: اتفقوا على أنه صلى الله عليه وسلم ولد بمكة يوم الاثنين في شهر ربيع الأول عام الفيل، "وفيه" أي: نقل الاتفاق "نظر، فقد قيل: في صفر، وقيل: في ربيع الآخر" حكاهما مغلطاي وغيره، "وقيل: في رجب، ولا يصح" هذا القول، "وقيل: في شهر رمضان" حكاه اليعمري ومغلطاي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وروي عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به في أيام التشريق. وأغرب من قال: ولد في عاشوراء. وكذا اختلف أيضًا في أي يوم من الشهر: فقيل إنه غير معين، إنما ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين، والجمهور على أنه يوم معين. فقيل: لليلتين خلتا منه. وقيل: لثمان خلت منه، قال الشيخ قطب الدين القسطلاني: وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم ......................   "وروي" هذا القول بأنه في شهر رمضان "عن ابن عمر بإسناد لا يصح، وهو موافق لمن قال: إن أمه حملت به أيام التشريق" هي ثلاثة أو يومان بعد يوم النحر، سميت بذلك لأنهم يشرقون، أي: يقطعون فيها لحوم الأضاحي أو لصلاة العيد بعد وقت شروق الشمس، يعني: يوافقه على أن الحمل تسعة أشهر. "وأغرب من قال" جاء بقول غريب لا يعرف، "ولد في يوم عاشوراء" فشهر الولادة المحرم، وحكاه مغلطاي فحصل في شهر الولادة ستة أقوال، "وكذا اختلف أيضًا في أي يوم من الشهر" ولد، "فقيل: إنه" أي: اليوم الذي ولد فيه "غير معين" بأنه آخر الشهر أو غيره، "إنما" ثبت عند صاحب هذا الفيل أنه "ولد يوم الاثنين من ربيع الأول من غير تعيين" لكونه ثانية أو ثامنة أو غيرهما، "والجمهور على أنه معين" لكن اختلفوا في تعيينه، "فقيل" ولد "لليلتين خلتا منه" من ربيع الأول؛ فيوم ولادته ثانيه، وبه صدر مغلطاي "وقيل: لثمان خلت منه". "قال الشيخ قطب الدين" أبو بكر محمد بن أحمد بن علي المصري "القسطلاني" الشافعي، جمع بين العلم والعمل وألف في الحديث والتصوف وتاريخ مصر، ولد بمصر سنة أربع عشرة وستمائة، ومات في محرم سنة ست وثمانين وستمائة نسبة إلى قسطلينة من إقليم أفريقية؛ كما قال هو رحمه الله في تاريخ مصر، ونقله عنه ابن فرحون في الديباج في ترجمة أحمد بن علي المصري المالكي المعروف بابن القسطلاني ولم يضبطه، وقال القطب الحلبي في تاريخه: كأنه منسوب إلى قسطلينة بضم القاف من أعمال أفريقية بالمغرب، انتهى، وبعضهم ضبطه بفتح القاف وشد اللام، "وهو اختيار أكثر أهل الحديث، ونقل عن ابن عباس وجبير بن مطعم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن، واختاره الحميدي، وشيخه ابن حزم، وحكى القضاعي في "عيون المعارف" إجماع أهل الزيج عليه، ورواه الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، وكان عارفًا ..............................   النوفلي "وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن" يعني التاريخ "واختاره" الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن فتوح بن حميد الأزدي "الحميدي" بضم الحاء مصغرا نسبة لجده الأعلى حميد المذكور الأندلسي الظاهري من كبار تلامذة ابن حزم صاحب الجمع بين الصحيحين فريد عصره علمًا غزيرًا وفضلا ونبلا وحفظًا وورعًا، الثبت الإمام في الحديث والفقه والأدب والعربية والترسل عن الخطيب وطبقته وسمع بالأندلس ومصر والشام والعراق والحجاز، وعنه ابن ماكولا وغيره مات سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ومن نظمه، كما قال شيخ الإسلام: لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال "وشيخه" الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد "بن حزم" الأموي مولاهم اليزيدي القرطبي الظاهري الإمام العلامة الزاهد الورع له المنتهى في الذكاء والحفظ مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار، توفي سنة سبع وخمسين وأربعائة، "وحكى القضاعي" بضم القاف وضاد معجمة وعين مهملة نسبة إلى قاضعة شعب من معد أو من اليمن، أو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر الفقيه الشافعي قاضي مصر صاحب الشهاب والخطط وغيرهما، روى عنه الخطيب البغدادي، قال ابن ماكولا: كان متفننًا في عدة علوم، توفي بمصر ليلة الخميس سابع عشر ذي القعدة سنة أربع وخمسين وأربعمائة. "في عيون المعارف إجماع أهل الزيج" بزاي مكسورة فتحتية ساكنة فجيم، أي: الميقات، "عليه" وهو لغة خيط البناء ثم نقل وجعل لقب العمل الميقات لقولهم علا الخيط في أخذ استواء النجوم القاموس الزيج خيط البناء معرب ومقتضاه فتح الزاي؛ لأنه إذا أطلق أراد الفتح إلا فيما اشتهر بخلافه؛ كما قال في خطبته وقد ضبطه بعضهم بكسرها فلعله مما اشتهر، "ورواه" الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي، "الزهري" المدني أحد الأعلام نزيل الشام التابعي الصغير المتفق على إمامته وحفظه وإتقانه وفقهه الموصوف بأنه جمع علم جميع التابعين، القائل: ما استودعت قلبي شيئًا قط فنسيه المتوفى سابع عشر شهر رمضان سنة خمس أو ثلاث أو أربع وعشرين ومائة عن اثنتين وتسعين سنة، "عن محمد بن جبير بن مطعم" النوفلي الثقة أحد رجال الستة المتوفى على رأس المائة، "وكان" محمد "عارفًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 بالنسب وأيام العرب، أخذ ذلك عن أبيه جبير. وقيل لعشر، وقيل لاثني عشر، وعليه عمل أهل مكة في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت، وقيل لسبع عشرة وقيل لثمان عشرة، وقيل لثمان بقين منه. وقيل: إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية. والمشهور: أنه ولد "يوم الاثنين" ثاني عشر ربيع الأول، وهو قول ابن إسحاق وغيره. وإنما كان في شهر ربيع الأول على الصحيح ولم يكن في المحرم، ولا في رجب، ولا في رمضان، ولا غيرها من الأشهر ذوات الشرف، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به كالأماكن ........................   بالنسب وأيام العرب" وقائعهم وسيرهم، فيدل على قوة هذا القول وترجيحه ومعرفة ذلك مما به يتفاخرون "أخذ ذلك" الذي عرفه من النسب وأيام العرب "عن أبيه جبير" بضم الجيم مصغر بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي النوفلي الصحابي العارف بالأنساب المتوفى سنة ثمان أو تسع وخمسين، "وقيل: لعشر" مضين من ربيع، حكاه مغلطاي والدمياطي وصححه، "وقيل" ولد "لاثني عشر" من ربيع الأول "وعليه عمل أهل مكة" قديمًا وحديثًا، "في زيارتهم موضع مولده في هذا الوقت" أي: ثاني عشر ربيع "وقيل: لسبع عشرة" ليلة خلت من ربيع، "وقيل: لثمان عشرة" بفتح النون ويجوز كسرها؛ كما في الهمع والتوضيح واقتصر المصباح على الفتح حذف الياء كما هنا، وهو لغة أما مع ثبوتها في اللغة الأخرى فتسكن وتفتح وهو أفصح، "وقيل: لثمان بقين منه، وقيل: إن هذين القولين" الأخيرين "غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية" فتحصل في تعيين اليوم سبعة أقوال، "والمشهور أنه" صلى الله عليه وسلم "ولد يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول"، وهو القول الثالث في كلام المصنف، "وهو قول" محمد "بن إسحاق" بن يسار إمام المغازي، "و" قول "غيره" قال ابن كثير: وهو المشهور عند الجمهور، وبالغ ابن الجوزي وابن الجزار فنقلا فيه الإجماع وهو الذي عليه العمل، "وإنما كان" مولده "في شهر ربيع" الأول "على الصحيح" من الأقوال "ولم يكن في المحرم، ولا في رجب" بالصرف، ولو أريد به معين، ففي المصباح: رجب من الشهور مصروف، "ولا رمضان ولا غيرها من الأشهر ذوات الشرف" كبقية الأشهر الحرم وليلة نصف شعبان؛ "لأنه" كما ذكر ابن الحاج في المدخل "عليه الصلاة والسلام لا يتشرف بالزمان، وإنما الزمان يتشرف به؛ كالأماكن" لا يتشرف بها ومن ثم لم يولد في جوف الكعبة، وإنما الأماكن تتشرف به؛ كالمدينة تشرفت به حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فلو ولد في شهر من الشهور المذكورة، لتوهم أنه تشرف به، فجعل الله تعالى مولده عليه السلام في غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه. وإذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم عليه السلام خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه، فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المرسلين. ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين -المخلوق فيه آدم- من الجمعة والخطبة وغير ذلك، إكرامًا لنبيه عليه الصلاة والسلام بالتخفيف عن أمته ......................   صارت أفضل من مكة عند كثيرين وصار فيها بقعة روضة من رياض الجنة، وأخرى خير البقاع بإجماع، "فلو ولد في شهر من الشهور المذكورة لتوهم أنه تشرف به، فجعل الله تعالى مولده عليه السلام في غيرها ليظهر عنايته به وكرامته عليه" وهذا وجه كونه لم يولد في تلك الأشهر وحكمة كونه في شهر ربيع ما في شرعه من شبه زمن الربيع، فإنه أعدل الفصول وشرعه أعدل الشرائع، ولأن في ظهوره فيه إشارة لمن تفطن لها بالنسبة إلى اشتقاق لفظة ربيع؛ لأن فيه تفاؤلا حسنًا ببشارة أمته، فالربيع تنشق الأرض عما في بطنها من نعم الله، ومولده في ربيع إشارة ظاهرة إلى التنويه بعظيم قدره، وأنه رحمة للعالمين، وقد قال أبو عبد الرحمن الصقلي: لكل إنسان من اسمه نصيب، هذا حاصل ما ذكر ابن الحاج. "وإذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم عليه السلام، خض بساعة" في تعيينها أقوال كثيرة، "لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا، إلا أعطاه إياه" وأخرج بالخير غيره، وفي رواية أحمد: "ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم"، "فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المرسلين" وهي في يوم الاثنين، وأقرب ما قيل: إنها في أوله فينبغي الاجتهاد فيها رجاء مصادفتها لكن المصنف في عهدة أن فيه ساعة كساعة يوم الجمعة؛ لأنه إن أراد أن ذلك اليوم ومثله إلى يوم القيامة كساعة يوم الجمعة أو أفضل، فدليله هذا لا ينتج ذلك، وإن أراد عين تلك الساعة فساعة الجمعة لم تكن موجودة حينئذ، وإنما جاء تفضيلها في الأحاديث الصحيحة بعد ذلك بمدة، فلم يمكن اجتماعهما حتى يفاضل بينهما وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم، وقد نص الشارع عليها ولم يتعرض لساعة مولده ولا لأمثالها، فوجب علينا الاقتصار على ما جاءنا عنه ولا نبتدع شيئًا من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه، إلا بتوقيف. "ولم يجعل الله تعالى في يوم الاثنين يوم مولده" بالجر بدل "عليه السلام من التكليف بالعبادات ما جعل في يوم الجمعة المخلوق فيه آدم من" صلاة "الجمعة والخطبة وغير ذلك" من نحو الغسل وحلق العانة، "إكرامًا لنبيه عليه الصلاة والسلام بالتخفيف عن أمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 بسبب عناية وجوده قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ومن جملة ذلك: عدم التكليف. واختلف أيضًا في الوقت الذي ولد فيه. والمشهور أنه يوم الاثنين، فعن أبي قتادة الأنصاري: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت علي فيه النبوة". رواه مسلم، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نهارًا. وفي المسند، عن ابن عباس قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم .............................   بسبب عناية وجوده، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] مؤمنهم وكافرهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ، "ومن جملة ذلك عدم التكليف" وأبدى ابن الحاج حكمة تخصيصه بيوم الاثنين وهي خلق الأشجار فيه ومنها أرزاق العباد وأقواتهم، فوجوده فيه قرة عين بسبب ما وجد من الخير العظيم لأمته، "واختلف أيضًا في الوقت الذي ولد فيه" أهو الليل أم النهار؟ "والمشهور: أنه يوم الاثنين" كما مر، فأفاد أنه بالنهار "فعن أبي قتادة الأنصاري" الخزرجي السلمي المدني ارس رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر سائر المشاهد إلا بدرًا، ففيه خلف وليس في الصحابة من يكنى بكنيته غيره، واسمه الحارث بن ربعي بكسر الراء أو النعمان بن ربعي أو النعمان بن عمرو، وبالأول جزم في التبصير، مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، أو أربع وخمسين عن سبعين سنة، "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الاثنين، قال: "ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت علي فيه النبوة" أي: أنه أول يوم أوحي إلي فيه "رواه مسلم" من طريق شعبة عن غيلان، عن عبد الله بن معبد، عن أبي قتادة في حديث طويل، وفيه ما لفظه، وسئل عن صوم يوم الاثنين، قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه، أو أنزل علي فيه"، فالمصنف نقله بمعناه ويقع في بعض نسخ المواهب عن قتادة بحذف أبي وهو تحريف، فالذي في مسلم عن أبي قتادة، كما رأيت وقتادة هو ابن النعمان الأوسي صحابي آخر. "وهذا" الحديث "يدل" صريحًا "على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نهارًا" لقوله: "ذاك يوم ولدت فيه". "و" روى أحمد "في المسند عن ابن عباس، قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ" أي: نبئ فالسين للتأكيد، "يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ورفع صلى الله عليه وسلم "الحجر" الأسود إلى موضعه فوضعه فيه بيده المباركة "يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الاثنين. انتهى. وكذا فتح مكة ونزول سورة المائدة يوم الاثنين. وقد روي أنه ولد "يوم الاثنين" عند طلوع الفجر، فعن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: كان بمر الظهران راهب يسمى عيصا، من أهل الشام، وكان .......................   الاثنين" حين بنت قريش الكعبة سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم، واختصموا فيمن يرفع الحجر إلى موضعه حتى أعدوا للقتال، ثم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا، قال ابن إسحاق: فزعم أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة، وكان أسنهم يومئذ، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول داخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم، فكان صلى الله عليه وسلم أول داخل، فقالوا: هذا الأمين رضينا، وأخبروه الخبر، فقال: "هلم إلي ثوبًا" فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعًا"، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم، "انتهى" ما في المسند، وفيه إرسال صحابي؛ لأنه لم يدرك ذلك وكان في الهجرة ابن ثلاث سنين؛ كما مر. "وكذا فتح مكة" عند بعضهم، والمعروف ما رواه البيهقي أنه كان يوم الجمعة واقتصر عليه المصنف في غزوة الفتح، "ونزول سورة المائدة" أي قوله فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، الآية، كان ذلك "يوم الاثنين" ففي بعض الطرق عند ابن عساكر وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وكانت وقعة بدر يوم الاثنين، قال ابن عساكر: المحفوظ أن وقعة بدر ونزول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، يوم الجمعة. "وقد روي: أنه صلى الله عليه وسلم ولد عند طلوع الفجر" من يوم الاثنين "فعن عبد الله بن عمرو بن العاصي" بن وائل القرشي السهمي، قال النووي: الجمهور على كتابة العاصي بالياء، وهو الصحيح عند أهل العربية ويقع في كثير من كتب الحديث وغيرها بحذف الياء، وهي لغة قرئ بها في السبع كالكبير المتعال والداع ونحوهما، وقال في موضع آخر: الصحيح في العاصي وابن أبي الموالي والهادي واليماني إثبات الياء، انتهى. ومر له مزيد أول الكتاب "قال: كان بمر الظهران" موضع على مرحلة من مكة "راهب يسمى عيصا" كذا في نسخ؛ كفتح الباري: بألف منونًا سواء قلنا: إنه أعجمي أو عربي لأنه ثلاثي ساكن الوسط كنوح وهو مصروف، وفي نسخ: عيصي بالياء، وفي الشامية: عيص بلا ألف ولا ياء فهو ممنوع الصرف، "من أهل الشام" زاد في رواية ابن عساكر: آتاه الله علمًا كثيرًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 يقول: يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه، فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا فناداه، فأشرف عليه، فقال له عيصا: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين. قال: ولد لي الليلة مع الصبح مولود، قال: فما سميته؟ قال: محمدًا، قال: والله لقد كنت أتشهى أن يكون هذا المولود فيكم أهل هذا البيت، بثلاث خصال تعرفه، فقد أتى عليهن منها: أنها طلع نجمه البارحة، وأنه ولد .....................   وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة يدخل كل سنة إليها فيلقى الناس "وكان يقول: يوشك" يقرب "أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب" تنقاد وتخضع وتذل "ويملك العجم، هذا زمانه؛ فكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل" بالبناء للمفعول "عنه" ذلك الراهب؛ لقوله لهم ذلك، وفي رواية ابن عساكر: وكان لا يولد بها مولود إلا سألوه عنه. "فلما كان صبيحة" أي: أول "اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد المطلب حتى أتى عيصا" ليسأله عن هذا المولود: أهو الذي قال فيه ما قال؟ "فناداه" أي: فنادى عبد المطلب عيصا، "فأشرف عليه، فقال له عيص: كن أباه" أي: اتصف بكونك أباه بأن تعتقد ذلك، وتسمية الجد أبا حقيقة، ووقع في رواية ابن عساكر عن ابن عمر: والمذكور خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا ... إلخ، وإنما يجيء على أن أباه مات وهو في المهد، لكن المخرج متحد، فلعلها شاذة. "قد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث" بعد ذلك إلى الناس بشيرًا ونذيرًا "يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين، قال" عبد المطلب "ولد لي الليلة مع الصبح مولود" فأفادت المعية أنه ولد عند طلوع الفجر، وهو محل الشاهد من هذا الحديث، "قال" الراهب "فما سميته؟ قال: محمدًا" أي: عزمت على تسميته فلا ينافي ما مر أنه سماه يوم سابعه، "قال" الراهب: "والله لقد كنت أتشهى" أتمنى أن يكون "هذا المولود فيكم" يا "أهل هذا البيت" الكعبة، لما رأيته فيكم من تميزكم على غيركم من العرب بالخصال الحميدة ومكارم الأخلاق، وقد علمت وجوده مطابقًا لما كنت أتمناه، "بثلاث" أي: بسبب ثلاث "خصال تعرفه" بضم الفوقية فعين مفتوحة فراء مشددة، أي: تميزه تلك الخصال وتدل على أنه ذلك المولود، وفي نسخة: نعرفه، وكذا عند ابن عساكر بفتح النون، أي: نعرفه نحن بها "فقد أتى" مشتملا "عليهن" وهو مجاز عن أتى بكذا إذا مر عليه، ففي المصباح: أتى عليه: مر به، فكأنه لقيام الصفات به مر بها، "منها" أي: الخصال التي علم وجوده بها "أنه طلع نجمه البارحة، وأنه ولد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 اليوم، وأن اسمه محمد. رواه أبو جعفر بن أبي شيبة، وخرجه أبو نعيم في الدلائل بسند ضعيف. وقيل: كان مولده عليه الصلاة والسلام عند طلوع الغفر، وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين، ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان، وهو برج الحمل، وكان لعشرين مضت منه. وقيل ولد ليلا فعن عائشة قالت: كان بمكة يهودي يتجر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود قالوا لا نعلمه قال ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخير بين كتفيه علامة فيها   اليوم، وإن اسمه محمد، رواه أبو جعفر بن أبي شيبة" محمد بن عثمان العبسي الكوفي محدثها الحافظ البارع، صنف وجمع، وثقه صالح جزرة وابن عدي وعبدان، وقال عبد الله بن أحمد: كذاب، وقال ابن خراش: يضع وقال مطين: هو عصا موسى تلقف ما يأفكون، وقال ابن البرقاني: لم أزل أسمع أنه مقدوح فيه، مات في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين ومائتين، وما يقع في نسخ أبو جعفر وابن أبي شيبة بزيادة واو غلط من الجهلة. "وخرجه أبو نعيم في الدلائل" أي: في كتاب دلائل النبوة، وكذا رواه ابن عساكر "بسند ضعيف" ومن ثم عبر أولا بروي تمريضًا على العادة، "وقيل: كان مولده عليه الصلاة والسلام عند طلوع الغفر" بفتح الغين المعجمة وسكون الفاء ثم راء مهملة، كما ضبطه ابن باطيش وهو مقتضى القاموس. "وهو ثلاثة أنجم صغار ينزلها القمر، وهو مولد النبيين" أي: وقت مولدهم، "ووافق ذلك من الشهور الشمسية نيسان" بفتح النون وهو سابع الأشهر الرومية؛ كما في القاموس. "وهو برج الحمل" وفي النور عن الدمياطي ولد في برج الحمل، وهو يحتمل أن يكون في نيسان وأن يكون في آذار، انتهى. لكن ما جزم به المصنف نقله في روضة الأحباب عن أبي معشر البلخي. "وكان" ذلك، أي: مولده، "لعشرين مضت منه" من نيسان، قال الخزارومي "وقيل: ولد ليلا" من غير تعيين وقت ولادته؛ ككونه عند طلوع الغفر فغايره ما قبله، "فعن عائشة" أنها "قالت: كان بمكة يهودي يتجبر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال" اليهودي -وهذا مما تلقته عن غيرها؛ لأن ولادتها بعد ذلك بمدة وهي لا تحدث إلا عن ثقة: "يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه، قال" زاد في رواية يعقوب بن سفيان السابقة انظروا فإنه "ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة" هي: خاتم النبوة "فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 شعرات متواترات كأنهن عرف الفرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا: أخرجي المولود ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيًا عليه فلما أفاق قالوا ما لك ويلك قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل، رواه الحاكم. قال الشيخ بدر الدين الزركشي: "والصحيح أن ولادته عليه الصلاة والسلام كانت نهارًا، قال: وأما ما روي من تدلي النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا. قال: وهذا لا يصح أن يكون تعليلا، فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارًا" انتهى.   شعرات متواترات" أي: مجتمعات؛ كما في رواية في صفة الخاتم، وفي أخرى: متراكمات "كأنهن عرف الفرس" وفي رواية يعقوب: فانصرفوا فسألوا، فقيل لهم: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام "فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه، فقالوا: لها: "أخرجي المولود ابنك فأخرجته" أمه لهم "وكشفوا عن ظهره، فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيًا عليه، فلما أفاق قالوا: ما لك؟ " أي: أي شيء حصل لك "ويلك، قال: ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل" يعقوب عليه السلام "رواه الحاكم" ورواه يعقوب بن سفيان عن عائشة أيضًا؛ كما قدم المصنف قريبًا في عجائب ولادته، وأعاده هنا استدلالا على أنه ولد ليلا مع إفادة أنه رواه غير من عزاه له هناك، فلا تكرار وإن كانت القصة واحدة؛ لأن المخرج بفتح الميم متحد وهو عائشة رضي الله عنها، ولا يضر اختلاف بعض الألفاظ بالزيادة والنقص؛ لأنه من اختلاف الرواة. "قال الشيخ بدر الدين الزركشي: والصحيح أن ولادته عليه الصلاة والسلام كانت نهارًا" لا ليلا "قال: وأما ما روي من تدلي النجوم" ليلة مولده، كالذي رواه البيهقي في حديث فاطمة بنت عبد الله الثقفية: ورأيت النجوم تدنو حتى ظننت أنها ستقع علي، "فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلا" وإنما كانت نهارًا على الصحي، "قال" الزركشي: "وهذا لا يصلح أن يكون تعليلا" لتضعيف المروي من تدلي النجوم لا لكونه ولد ليلا، بدليل قوله: "فإن زمان النبوة صالح للخوارق، ويجوز أن تسقط النجوم نهارًا، انتهى" كلام الزركشي على أن في تضعيفه بتلك العلة شيئًا على مقتضى الصناعة، فالمحدثون إنما يعللون الحديث من جهة الإسناد الذي هو المرقاة، لا بمخالفة ظاهر القرآن فضلا عن معارضته بأحاديث آخر؛ كما صرح به الحافظ ابن طاهر وغيره، قال النجم: وقد يقال: إن الولادة عقب الفجر وللنجوم حينئذ سلطان كما في الليل، فلا ينافي سقوطها، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فإن قلت: إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلا، فأيما أفضل: ليلة القدر أو ليلة مولده عليه السلام؟ أجيب: بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة: أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع في ذلك، فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر. الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم. ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر، على الأصح المرتضى، فتكون ليلة .......................   "فإن قلت: إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلا" على القول المرجوح، "فأيما أفضل ليلة القدر أو ليلة مولده عليه السلام" الأصل: أليلة القدر بالهمزة؛ لأنه بدل من اسم الاستفهام وحكم المبدل منه أنه يلي الهمز، قال ابن مالك رحمه الله تعالى: وبدل المضمن الهمز يلي ... همزًا كمن ذا أسعيد أم علي قلت: "أجيب بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة، أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر معطاة له، وما" أي: والذي "شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه ولا نزاع في ذلك" الذي ذكرناه من أن ما شرف ... إلخ، وحيث لا نزاع "فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر" بهذا الاعتبار، "الثاني" من الوجوه الثلاثة "أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها" على أحد الأقوال في سبب تسميتها بذلك، والثاني: لنزول القرآن فيها، والثالث: أن الذي يراها يصير ذا قدر، والرابع: لما يكتب فيها من الأقدار فيها يفرق كل أمر حكيم. "وليلة المولد شرفت بظهوره صلى الله عليه وسلم، ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر" وهم الملائكة، "على الأصح المرتضى" عند جمهور أهل السنة من أن النبي أفضل من الملك، وأما نبينًا صلى الله عليه وسلم فأفضل من جميع العالمين إجماعًا، حكاه الإمام الرازي وابن السبكي والسراج البلقيني، قال الزركشي: واستثنوه من الخلاف في التفضيل بين الملك والبشر، فهو أفضل حتى من أمين الوحي خلافًا لما وقع في الكشاف، ولذا قال بعض المغاربة جهل الزمخشري مذهبه، فقد أجمع المعتزلة على استثناء المصطفى من الخلاف، انتهى. نعم، زعم أن طائفة منهم كالرماني خرقوا الإجماع فتبعهم الزمخشري، وحيث كان كذلك "فتكون ليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المولد أفضل. الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وليلة المولد الشريف وقع التفضل فيها على سائر الموجودات، فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين، فعمت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعًا، فكانت أفضل. فيا شهرًا ما أشرفه وأوفر حرمة لياليه، كأنها لآلئ ..........................   المولد أفضل" وهو المدعي. "الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد صلى الله عليه وسلم" فقط؛ لأنها مختصة بهم ولم تكن لمن قبلهم على الصحيح المشهور الذي قطع به جمهور العلماء؛ كما قال النووي. "وليلة المولد الشريف وقع التفضيل فيها على سائر" جميع "الموجودات" أمته وغيرهم، من حيث الأمن من العذاب العام؛ كالخسف والمسخ، "فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين" كما قال في الكتاب المبين "فعمت به" بمولده "النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعًا، فكانت أفضل" من ليلة القدر بهذا الاعتبار، وهذا الذي ساقه المصنف وأقره متعقب، قال الشهاب الهيثمي: فيه احتمال واستدلال بما لا ينتج المدعي؛ لأنه إن أريد أن تلك الليلة ومثلها من كل سنة إلى يوم القيامة أفضل من ليلة القدر، فهذه الأدلة لا تنتج ذلك كما هو جلي، وإن أريد عين تلك الليلة، فليلة القدر لم تكن موجودة إذ ذاك، وإنما أتى فضلها في الأحاديث الصحيحة على سائر ليالي السنة بعد الولادة بمدة، فلم يمكن اجتماعهما حتى يتأتى بينهما تفضيل وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم، وقد نص الشارع على أفضليتها ولم يتعرض لليلة مولده ولا لأمثالها بالتفضيل أصلا فوجب علينا أن نقتصر على ما جاء عنه ولا نبتدع شيئًا من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه إلا بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم على أنا وسلمنا أفضلية ليلة مولده لم يكن له فائدة في تفضيل الأزمنة إلا بفضل العمل فيها وأما تفضيل ذات الزمن الذي لا يكون العمل فيه فليس له كبير فائدة إلى هنا انتهى كلامه، وو وجيه. ثم إذا قلنا بما قال المصنف، وقلنا: إن الولادة نهارًا فهل الأفضل يوم المولد أو يوم البعث، والأقرب كما قال شيخنا: أن يوم المولد أفضل لمن الله به فيه على العالمين، ووجوده يترتب عليه بعثه فالوجود أصل والبعثة طارئة عليه، وذلك قد يقتضي تفضيل المولد، لأصالته. "فيا شهرًا ما أشرفه" بالفاء، "وأوفر حرمة لياليه، كأنها" لشدة لمعانها وضوئها "لآلئ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 في العقود، ويا وجهًا ما أشرقه من مولود، فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعًا وحسنه بديعًا. يقول لنا لسان الحال منه ... وقول الحق يعذب للسميع فوجهي والزمان وشهر وضعي ... ربيع في ربيع في ربيع واختلف أيضًا في مدة الحمل به. فقيل: تسعة أشهر وقيل عشرة وقيل ثمانية وقيل سبعة وقيل ستة. وولد عليه السلام في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج ويقال بالشعب، ويقال بالردم، ويقال بعسفان.   جمع لؤلؤة "في العقود" جمع عقد، "ويا وجهًا ما أشرقه" بالقاف، "من" وجه "مولود فسبحان من جعل مولده للقلوب ربيعًا وحسنه بديعًا" وأنشد المصنف لغيره بيتين هما: "يقول لنا لسان الحال منه" صلى الله عليه وسلم "وقول الحق يعذب" يحلو "للسميع" إن سألت عن صفاتي وأحوالي، "فوجهي والزمان وشهر وضعي" فالفاء جواب شرط مقدر "ربيع" المراد به وجهه صلى الله عليه وسلم بالربيع في اعتداله وحسنه ورونقه، "في ربيع" أي: زمن الربيع "في ربيع" أي: شهر ربيع المولود فيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال أهل المعاني كما في السبل: كان مولده في فصل الربيع وهو أعدل الفصول ليله ونهاره معتدلان بين الحر والبرد، ويسميه معتدل بين اليبوسة والرطوبة، وشمسه معتدلة في العلو والهبوط، وقمره معتدل في أول درجة من الليالي البيض، وينعقد في سلك هذا النظام ما هيأ الله تعالى له من أسماء مريبه، ففي الوالدة والقابلة الأمن والشفاء، وفي اسم الحاضنة البركة والنماء، وفي مرضعتيه الآتي ذكرهما الثواب والحلم والسعد. "واختلف أيضًا في" قدر "مدة الحمل به" صلى الله عليه وسلم، "فقيل: تسعة أشهر" كاملة وبه صدر مغلطاي، قال في الغرر: وهو الصحيح، "وقيل: عشرة" أشهر "وقيل: ثمانية، وقيل: سبعة، وقيل: ستة" حكى الأقوال الخمسة مغلطاي وغيره، "وولد عليه السلام" بمكة على الصحيح الذي عليه الجمهور، ولكن اختلف في مكانه منها على أقوال، فقيل: ولد "في الدار التي كانت" صارت بعد "لمحمد بن يوسف" الثقفي "أخي الحجاج" الظالم المشهور وهي بزقاق المدكك بدال مهملة، وكانت قبل ذلك بيد عقيل بن أبي طالب، قال ابن الأثير: قيل إن المصطفى وهبها له فلم تزل بيده حتى توفي عنها, فباعها ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، وقيل: إن عقيلا باعها بعد الهجرة تبعًا لقريش حين باعوا دور المهاجرين، وفي الخميس: فأدخل محمد بن يوسف ذلك البيت الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم في داره التي يقال لها البيضاء، ولم تزل كذلك حتى حجت خيزران جارية المهدي أم هارون الرشيد، فأفردت ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 " ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما معه ": وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة، عتيقة أبي لهب ..........................   البيت وجعلته مسجدًا يصلي فيه، وفي النور تبعًا للروض: وأما الدار التي لمحمد بن يوسف فقد بنتها زبيدة -يعني زوجة هارون الرشيد- مسجدًا حين حجت وهي عند الصفا. "ويقال: بالشعب" بكسر الشين، أطلقه تبعًا لمغلطاي، وفي العيون: بشعب بني هاشم، وظاهر المصنف كغيره مغايرة هذا القول لما قبله، ووقع في الخميس عن بعضهم: ولد بمكة في الدار التي تعرف بدار محمد بن يوسف في زقاق معروف بزقاف المدكك في شعب مشهور بشعب بني هاشم من الطرف الشرقي لمكة، تزار ويتبرك بها إلى الآن، انتهى. وفيه ما فيه: فبين الصفا والشعب مسافة بعيدة. "ويقال: بالردم" بفتح الراء وسكون الدال المهملتين، قال في النور: أي ردم بني جمح بمكة، وهو لبني قراد. "ويقال" لم يولد بمكة بل "بعسفان" حكاه مغلطاي، قال في النور: وهي قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة، انتهى، لكن ذا القول شاذ لا يعول عليه، كما في شرح الهمزة. ذكر رضاعه صلى الله عليه وسلم وما معه: "وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة" بضم المثلثة وفتح الواو وسكون التحتية، فباء موحدة فتاء تأنيث، توفيت بمكة سنة سبع من الهجرة، قال: ابن منده: اختلف في إسلامها، وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا ذكره إلا ابن منده، وقال ابن الجوزي: لا نعلم أنها أسلمت والبرهان في النور لم يذكرها أبو عمر في الصحابة. وقال الذهبي: يقال: إنها أسلمت، فإذًا الراجح عنده أنها لم تسلم، وقال الحافظ في طبقات ابن سعد ما يدل على أنها لم تسلم لكن لا يدفع به نقل ابن منده، قال: ولم أقف في شيء من الطرق على إسلامها مع ابنها مسروح وهو محتمل، انتهى. وذكر الحافظ أبو بكر بن العربي في سراج المريدين: أنه لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت. ونقل السيوطي عن بعضهم، ولعله عناه. "عتيقة أبي لهب" لبن ابنها مسروح بفتح الميم وسكون السين المهملة فراء مضمومة فحاء مهملتين، قال البرهان: لا أعلم أحدًا ذكره بإسلام أيامًا قبل أن تقدم حليمة بعد إرضاع أمه له، وما رواه ابن سعد أول من أرضعه ثويبة فالأولية نسبية، أي: غير أمه وقد ذكر العلماء أن مرضعاته صلى الله عليه وسلم عشر: أمه أرضعته تسعة أيام، ذكره صاحب المورد والغرر وغيرهما، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، حكاهما الخميس عن أهل السير، ووقع لبعضهم سبعة أشهر، وهو وهم كأنه اشتبه عليه سبعة أيام بأشهر، أو تحرف ذلك على الناقل عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أعتقها حين بشرته بولادته عليه السلام.   وثويبة أيامًا قلائل قبل قدوم حليمة، وأرضعت قبله حمزة وبعده أبا سلمة المخزومي، رواه ابن سعد. وحليمة السعدية التي فازت بجناية سعدها منه، قاله ابن المنذر وابن الجوزي وعياض وغيرهم، وخولة بنت المنذر زيد أم بردة الأنصارية، ذكرها ابن الأمين في ذيل الاستيعاب عن العدوي وتبعه في التجريد والمورد والعيون، قال الشامي: وهو وهم، وإنما أرضعت ولده إبراهيم، كما ذكر ابن سعد وابن عبد البر وغيرهما، وهو الذي في الإصابة بخطه وقد صرح ابن جماعة بأن ابن الأمين ذكرها في المراضع فوهم، قال: وتبعه على ذلك بعض العصريين وكأنه عنى به اليعمري. وامرأة من بني سعد غير حليمة أرضعته وهو عند حليمة، ذكره في الهدى وتجويز البرهان في النور أنها خولة التي قبلها لا يصح، فخولة أنصارية، وهذه سعدية. وأم أيمن بركة الحبشية، ذكرها القرطبي، والمشهور: أنها من الحواضن لا المراضع. وأم فروة ذكرها جعفر المستغفري. وثلاث نسوة من بني سليم، قال في الاستيعاب: مر به صلى الله عليه وسلم على نسوة أبكار من بني سليم فأخرجن ثديهن فوضعنها في فيه فدرت، قال بعضهم: ولذا قال: أنا ابن العواتك من سليم، انتهى. لكن قال السهيلي: عاتكة بنت هلال أم عبد مناف عمة عاتكة بنت مرة أم هاشم وعاتكة بنت الأوقص أم وهب جده صلى الله عليه وسلم لأمه هن عواتك ولدته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: ابن العواتك من سليم، وقيل: في تأويل هذا الحديث أن ثلاث نسوة من بني سليم أرضعنه كل تسمى عاتكة، والأول أصح، انتهى. واقتصر المصنف هنا، وفي المقصد الثاني على ثويبة وحليمة؛ لأنه أراد من استقلت بإرضاعه وهؤلاء لم يتصفن بذلك، وللنزاع في خولة وأم أيمن والعواتك سلمنا إرضاع العواتك، فإنما هو اتفاقي خصوصًا وقد كن أبكارًا وثويبة، وإن قلت: أيام رضاعها مستقلة له فيها، وأما أمه وإن أرضعته تلك المدة فهي في معرض دفعه لمرضعة فلم تستقل به. "أعتقها" أبو لهب "حين بشرته بولادته عليه السلام" على الصحيح، فقالت له: أشعرت أن آمنة قد ولدت غلامًا لأخيك عبد الله، فقال لها: اذهبي فأنت حرة، كما في الروض. وقيل: إنما أعتقها بعد الهجرة، قال الشامي: وهو ضعيف، والجمع بأنه أعتقها حينئذ ولم يظهره إلا بعد الهجرة مما لا يسمع فإنه لما هاجر كان عدوًا، فلا يتأتى منه إظهارًا أنه كان فرح بولادته وأيضًا فالقائل بالثاني لا يقول: إنه أعتقها للبشارة بالولادة، وقد روي أنه أعتقها قبل ولادته بدهر طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وقد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له ما حالك؟ قال: في النار، إلا أنه خفف عني كل ليلة اثنين، وأمص من بين أصبعي هاتين ماء، وأشار برأس أصبعه وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عندما بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.   "وقد رؤي" بالبناء للمفعول "أبو لهب بعد موته في النوم" والرائي له أخوه العباس بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر ذكره السهيلي وغيره، "فقيل له: ما حالك؟ قال: في النار، إلا أنه خفف عني" بعض العذاب بسبب ما أسقاه من الماء "كل ليلة اثنين" وذلك أني "أمص" بفتح الميم أفصح من ضمها من بابي تعب وقتل؛ كما في المصباح. "ومن بين أصبعي هاتين ماء" والظاهر أنهما السبابة والإبهام وحكمة تخصيصهما إشارته لها بالعتق بهما، وحملناه على أن التخفيف بسبب الماء ليلتئم مع ما رواه البخاري وعبد الرزاق الإسماعيلي عن قتادة أن ثويبة مولاة أبي لهب: كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشرحيبة، فقال: ماذا لقيت؟ قال: لم ألق بعدكم، زاد عبد الرزاق: راحة. ولفظ الإسماعيلي: رخاء. قال ابن بطال: سقط المفعول من جميع رواة البخاري، ولا يستقيم إلا به غير أني سقيت في هذه، زاد عبد الرزاق وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه، بعتاقتي ثويبة حبيبة بحاء مهملة مكسورة وتحتية ساكنة وموحدة مفتوحة أي: سوء حال وأصلها حوبة، وهي المسكنة والحاجة قلبت واوها ياء لإنكسار ما قبلها. وذكر البغوي: أنها بفتح الحاء، وللمستملي بخاء معجمة مفتوحة، أي: في حالة خائبة، وقال ابن الجوزي: أنه تصحيف وروي بالجيم، قال السيوطي: وهو تصحيف باتفاق. "وأشار" أبو لهب إلى تقليل ما يسقاه "برأس أصبعه" إلى النقرة التي تحت إبهامه؛ كما مر في رواية عبد الرزاق، قال ابن بطال: يعني أن الله سقاه ماء في مقدار نقرة إبهامه لأجل عتقها، وقال غيره: أراد بالنقرة التي بين إبهامه وسبابته إذ مد إبهامه فصار بينهما نقرة يسقى من الماء بقدر ما تسعه تلك النقرة، وبهذا علم أن النقرة التي أشار إليها على صورة خلقته في الدنيا، لا على صورة الكفار في جهنم، والمراد بقوله: سقيت من الماء، أنه وصل إلى جوفه بسبب ما يمصه من أصابعه، لا أنه يؤتى له به من خارج جمعًا بين الروايتين، وقد تعسف من قال: ما يسقاه ليسمن الجنة؛ لأن الله حرمها على الكافرين، فإنه لا يتوهم أحد أنه من الجنة سواء قلنا أنه يسقى مما يمصه أو يؤتى له به من خارج حتى ينص عليه. "و" أشار إلى "أن ذلك بإعتاقي لثويبة" وتقدمت رواية الجماعة بعتاقتي بفتح العين، قال في شرح العمدة: عبر به دون إعتاق وإن كان هو المناسب؛ لأنها أثره فلذا أضافها إلى نفسه. وعلى نقل المصنف فمعنى الإضافة ظاهر؛ لأن الإعتاق فعله والعتاقة أثر يترتب عليه. "حين بشرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له" أي: بأمره فلا يرد أنه ليس فعله حتى يجازى عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قال ابن الجزري: فإذا كان هذا الكافر، الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم به، فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام يسر بمولده، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم، لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم. ولا زال أهل ...................................   ولا يعارضه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] ، لأنه لما لم ينجهم من النار ويدخلهم الجنة، كأنه لم يفدهم أصلا؛ كما أشار إليه البيهقي أو لأنه هباء بعد الحشر، وهذا قبله. وقال السهيلي: هذا النفع إنما هو نقصان من العذاب، وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف، أي: لا يجده في ميزانه ولا يدخل به الجنة، انتهى. وجوز الحافظ تخفيف عذاب غير الكفر بما عملوه من الخير بناء على أنهم مخاطبون بالفروع. وفي التوشيح قيل هذا خاص به إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم، كما خفف عن أبي طالب بسببه، وقيل: لا مانع من تخفيف العذاب عن كل كافر عمل خيرًا. "قال" الحافظ أبو الخير شمس الدين "ابن الجزري" محمد بن محمد بن محمد الدمشقي الإمام في القراءات الحافظ للحديث صاحب التصانيف التي منها النشر في القراءات العشر لم يصنف مثله، ولد سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، ومات سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. "فإذا كان هذا الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه" هو "ليلة مولد" وضع "النبي صلى الله عليه وسلم به" أي: بالمولد "فما حال المسلم الموحد من أمته عليه السلام" حال كونه "يسر" وفي نسخة الذي يسر "بمولده ويبذل" بضم الذال: يعطى بسماحة "ما تصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم" من الصدقات، وهو استفهام تفخيم، أي: فحاله بذلك أمر عظيم، ولله در حافظ الشام شمس الدين محمد بن ناصر، في قوله: إذا كان هذا كافرا جاء ذمه ... وتبت يداه في الجحيم مخلدا أتى أنه في يوم الاثنين دائما ... يخفف عنه للسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسرورًا ومات موحدًا وقوله في يوم الاثنين على حذف مضاف، أي: في ليلة يوم الاثنين فلا يرد عليه حديث المصنف: كل ليلة اثنين الصريح في أن التخفيف ليلا فلا وجه لدعوى أنه يخفف نهارًا بسبب سقيه ليلا، لاحتياجه لبرهان ومجرد النظم لا دلالة فيه لما علم من كثرة حذف المضاف. "لعمري" بالفتح، أي: لحياتي، فسمي كما في القاموس لغة في العصر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لكثرة دوره على ألسنتهم؛ كما في الأنوار. "إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله العميم جنات النعيم" ويمتعه فيها برؤية وجهه العظيم، "ولا زال" أي: استمر "أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه الصلاة والسلام، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. ومما جرب من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، فرحم الله امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا، ليكون أشد علة   الإسلام" بعد القرون الثلاثة التي شهد المصطفى صلى الله عليه وسلم بخيريتها، فهو بدعة. وفي أنها حسنة، قال السيوطي: وهو مقتضى كلام ابن الحاج في مدخله فإنه إنما ذم ما احتوى عليه من المحرمات مع تصريحه قبل بأنه ينبغي تخصيص هذا الشهر بزيادة فعل البر وكثرة الصدقات والخيرات وغير ذلك من وجوه القربات، وهذا هو عمل المولد المستحسن والحافظ أبي الخطاب بن دحية. ألف في ذلك التنوير في مولد البشير النذير، فأجازه الملك المظفر صاحب أربل بألف دينار، واختاره أبو الطيب السبتي نزيل قوص وهؤلاء من أجلة المالكية أو مذمومة وعليه التاج الفاكهاني وتكفل السيوطي، لرد ما استند إليه حرفًا حرفًا، والأول أظهر، لما اشتمل عليه من الخير الكثير. "يحتفلون" يهتمون "بشهر مولده عليه الصلاة والسلام، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور" به "ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة" قصة "مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم" وأول من أحدث فعل ذلك الملك المظفر أبو سعيد صاحب أربل، قال ابن كثير في تاريخه: كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل فيه احتفالا هائلا وكان شهمًا شجاعًا بطلا عاقلا عالمًا عادلا، وطالت مدته في الملك إلى أن مات وهو محاصر الفرنج بمدينة عكا في سنة ثلاثين وستمائة محمود السيرة والسريرة، قال سبط بن الجوزي في مرآة الزمان: حكى لي بعض من حضر سماط المظفر في بعض المواليد أنه عد فيه خمسة آلاف رأس غنم شواء وعشرة آلاف دجاجة، ومائة فرس، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم، ويطلق لهم البخور وكان يصرف على المولد ثلاثمائة دينار، انتهى. "ومما جرب من خواصه" أي: عمل المولد "أنه أمان في ذلك العام وبشرى عاجلة بنيل البغية" بكسر الباء وضمها لغة الحاجة التي تبغيها، وقيل: بالكسر الهيئة وبالضم الحاجة، قاله المصباح "والمرام" أي: المطلوب فهو تفسيري، إلى هنا كلام ابن الجوزي في مولده المسمى عرف التعريف بالمولد الشريف. "فرحم الله امرأ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادًا" جمع عيد "ليكون" الاتخاذ "أشد علة" بكسر العين في أكثر النسخ، أي: مرضًا، وفي بعضها بغين معجمة مضمومة، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 على من في قلبه مرض وأعيى داء. ولقد أطنب ابن الحاج في "المدخل" في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع والأهواء والغناء بالآلات المحرمة عند عمل المولد الشريف، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل، ويسلك بنا سبيل السنة، فإنه حسبنا ونعم الوكيل.   احتراق قلب، فكلاهما صحيح. "على من في قلبه مرض، وأعيى" بفتح الهمزة وسكون العين مضافًا إلى "داء" المقصور للسجع، وأصله المد عطف على أشد علة، أي بما يصيبه من الغيظ الحاصل له بمولده صلى الله عليه وسلم. "ولقد أطنب ابن الحاج" أبو عبد الله محمد بن محمد العدبري الفارسي أحد العلماء العاملين المشهورين بالزهد والصلاح من أصحاب ابن أبي حمزة، كان فقيهًا عارفًا بمذهب مالك وصحب جماعة من أرباب القلوب، مات بالقاهرة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. "في" كتاب "المدخل" إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على كثير من البدع المحدثة والعوائد المنحلة، قال ابن فرحون: وهو كتاب حفيل جمع فيه علمًا غزيرًا، والاهتمام بالوقوف عليه متعين ويجب على من ليس له في العلم قدم راسخ أن يهتم بالوقوف عليه، انتهى. "في الإنكار على ما أحدثه الناس" البشر، وقد يكون من الإنس والجن، قيل: مشتق من ناس ينوس إذا تحرك، وقيل: من النسيان وإلى ترجيحه يومئ كلام المنجد، قال أبو تمام: لا تنسين تك العود فإنما ... سميت إنسانًا لأنك ناسي "من البدع والأهواء" أي: المفاسد التي تميل إليها النفس، فهو مساوٍ للبدع المرادة هنا، "والغناء" مثل كتاب الصوت وقياسه الضم؛ لأنه صوت وغني بالتشديد: ترنم بالغناء؛ كذا في المصباح. "بالآلات المحرمة" كالعود والطنبور "عند عمل المولد الشريف، فالله تعالى يثيبه على قصده الجميل" الجنة ونعيمها "ويسلك بنا سبيل السنة" أي: الطريق الموصلة إليها من فعل الطاعات واجتناب المعاصي، والمراد: طلب الهداية إلى ذلك، وفي نسخة: بنا وبه والمراد بسلوكها بالنسبة لابن الحاج جعله في زمرة المتقين في الآخرة، "فإنه" سبحانه "حسبنا" كافينا "ونعم الوكيل" الموكول إليه هو، والحاصل: أن عمله بدعة لكنه اشتمل على محاسن وضدها، فمن تحرى المحاسن واجتنب ضدها كانت بدعة حسنة، ومن لا فلا. قال الحافظ ابن حجر في جواب سؤال: وظهر لي تخريجه على أصل ثابت، وهو ما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى ونحن نصومه شكرًا، قال: فيستفاد منه فعل الشكر على ما من به في يوم معين، وأي نعمة أعظم من بروز نبي الرحمة والشكر يحصل بأنواع العبادة؛ كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وسبقه إلى ذلك الحافظ ابن رجب. قال السيوطي: وظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقد ذكروا أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة، التي لا يوجد لمثلها قيمة؟ قالت الطيور: نحن نكفله ونغتنم خدمته العظيمة، وقالت الوحوش: نحن أولى بذلك ننال شرفه وتعظيمه، فنادى لسان القدرة: أن يا جميع المخلوقات: إن الله كتب في سابق حكمته القديمة أن نبيه الكريم يكون رضيعًا لحليمة الحليمة.   لي تخريجه على أصل آخر وهو ما رواه البيهقي عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه، ولا تعاد العقيقة مرة ثانية، فيحمل على أنه فعله شكرًا، فكذلك يستحب لنا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات، وتعقبه النجم بأنه حديث منكر؛ كما قاله الحافظ، بل قال في شرح المهذب: إنه حديث باطل، فالتخريج عليه ساقط، انتهى. "وقد ذكروا" زعم من المراد أهل الإشارة من الصوفية، فأما الفقهاء والمحدثون فلم يذكروا شيئًا من ذلك وفيه نظر، ففي الخميس روي عن مجاهد، قلت لابن عباس: تنازعت الطيور في إرضاع محمد صلى الله عليه وسلم، قال: أي والله، وكل نساء، وذلك لما نادى الملك في السماء الدنيا هذا محمد سيد الأنبياء، طوبى لثدي أرضعه، فتنافست الجن والطير في إرضاعه، فنوديت أن كفوًا فقد أجرى الله ذلك على أيدي الإنس، فخص الله بتلك السعادة وشرف بذلك الشرف حليمة، انتهى. "أنه لما ولد صلى الله عليه وسلم، قيل: من يكفل هذه الدرة اليتيمة؟ " أي: نادى ملك بمعنى هذا الكلام في سماء الدنيا، حيث قال: طوبى لثدي أرضعه؛ كما مر. "التي لا يوجد لمثلها" أي: لنفي ما يماثلها، "قيمة" فليس المراد أن له مثلا لكن لا قيمة له لنفاسته، بل المراد نفي القيمة والمثل معًا، "قالت الطيور" بلسان القال على الظاهر، ولا مانع منه "نحن نكفله ونغتنم خدمته العظيمة، وقالت الوحوش" حيوان البر "نحن أولى بذلك" منكم أيها الطيور لكونه في الأرض ونحن بها بخلافكم "ننال شرفه وتعظيمه" العائدين على من يكفله "فنادى لسان القدرة" شبه القدرة بذي لسان يأمر به وينهى استعارة بالكناية وإثبات اللسان تخييل والنداء ترشيح، "أن: يا جميع المخلوقات إن الله كتب في سابق حكمته القديمة" والمراد: أن قدرته تعلقت بإعلامهم بذلك "أن نبيه الكريم يكون رضيعًا لحليمة الحليمة" من الحلم، وقد ذكر العزفي أن عبد المطلب سمع وقت دخول حليمة هاتفًا، يقول: إن ابن آمنة الأمين محمدا ... خير الأنام وخيرة الأخيار ما أن له غير الحليمة مرضع ... نعم الأمينة هي على الأبرار مأمونة من كل عيب فاحش ... ونقية الأثواب والأزرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 قالت حليمة: فيما رواه ابن إسحاق وابن راهويه ......................   لا تسلمنه إلى سواها إنه ... أمر وحكم جاء من الجبار "قالت حليمة" بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث، وقيل: الحارث بن عبد الله, السعدية، قال في الاستيعاب: روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال: جاءت حليمة بنت عبد الله أم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة إليه يوم حنين، فقام إليها وبسط لها رداء، فجلست عليه وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنها عبد الله بن جعفر. قال في الإصابة: وحديث عبد الله بن جعفر عنها بقصة إرضاعها أخرجه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه، وصرح فيه بالتحديث بين عبد الله وحليمة، انتهى. وقول ابن كثير: لم تدرك البعثة رده الحافظ بأن عبد الله بن جعفر حدث عنها عند أبي يعلى والطبراني وابن حبان، وهو إنما ولد بعد البعثة. وزعْم الدمياطي وأبي حيان النحوي أنها لم تسلم مردود، فقد ألف مغلطاي فيها جزأ حافلا سماه التحفة الجسيمة في إثبات إسلام حليمة وارتضاه علماء عصره، فأما أبو حيان فليس من فرسان ذا الميدان يذهب إلى زيده وعمره. وأما الدمياطي فحسبنا في الرد عليه قوله: وقد وهل غير واحد فذكروها في الصحابة؛ لأنهم مثبتون لذلك، فمن أين له الحكم عليهم، وقد ذكرها في الصحابة ابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عبد البر، وابن الجوزي في الحداء، والمنذري في مختصر سنن أبي داود، وابن حجر في الإصابة، وغيرهم، وحسبك بهم حجة. "فيما رواه ابن إسحاق" محمد في السيرة، فقال: حدثني جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي عن عبد الله بن جعفر، أو عمن حدثه عنه، قال: كانت حليمة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته تحدث أنها خرجت. فذكر الحديث، كما يأتي. "وابن راهويه" إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي، أبو يعقوب الحنظلي المروزي ساكن نيسابور أحد الأئمة الأعلام، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع. روى عن ابن عيينة وابن مهدي وابن علية وغيرهم، وعنه الأئمة الستة إلا ابن ماجه، قال ابن حنبل: هو أمير المؤمنين في الحديث، أملى المسند والتفسير من حفظه، وما كان يحدث إلا من حفظه، وقال: ما سمعت شيئًا إلا حفظته، ولا حفظت شيئًا فنسيته، مات ليلة نصف شعبان بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وراهويه براء فألف فهاء مضمومة فتحتية مفتوحة عند المحدثين، قال الحافظ أبو العلاء بن العطار: لأنهم لا يحبون ويه، وبفتح الهاء والواو وسكون التحتية قال الكرماني: وهو المشهور، والنووي: هو مذهب النحويين وأهل الأدب، وفي الكواكب: قال عبد الله بن طاهر لإسحاق: لم قيل لك ابن راهويه؟ فقال: اعلم أيها الأمير أن أبي ولد في طريق مكة، فقال المراوزة راهويه؛ لأنه ولد في الطريق، وهو بالفارسية راه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم: قدمت مكة في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء في سنة شهباء، على أتان لي ومعي صبي لنا .......................   "وأبو يعلى" الحافظ الثبت محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي صاحب المسند الكبير، سمع ابن معين وطبقته، وعنه ابن حبان وغيره ذو صدق وأمانة وعلم وحلم، وثقه ابن حبان والحاكم، ولد في شوال سنة عشر ومائتين، وعمر وتفرد ورحل الناس إليه، ومات سنة سبع وثلاثمائة. "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "والبيهقي" أحمد بن الحسين بن علي، "وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله مر بعض ترجمة الثلاثة، "قدمت مكة" أي: أردت قدومها "في" أي: مع "نسوة" عشرة، فيما ذكر "من بني سعد بن بكر" على عادة نساء القبائل التي حول مكة ونواحي الحرم من أنهن يأتينها كل عام مرتين ربيعًا وخريفًا للرضعاء، ويذهبن بهم إلى بدلاهم حتى تتم الرضاعة؛ لأن عادة نساء قريش دفع أولادهن إلى المراضع، قال العزفي: كن يرين رضاع أولادهن عارًا، وقال غيره: لينشأ الولد عربيًا فيكون أنجب ولسانه أفصح؛ كما في الحديث: "أنا أعربكم، أنا من قريش واسترضعت من بني سعد بن بكر". وكانت مشهورة في العرب بالكمال وتمام الشرف، وقيل: لتفرغ النساء للأزواج لكنه منتف في آمنة لموت زوجها وهي حامل على الصحيح. "نلتمس الرضعاء" جمع رضيع، قال عبد الملك بن هشام: إنما هو المراضع، قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] . قال السهيلي: وما قاله ظاهر؛ لأن المراضع جمع مرضع والرضعاء جمع رضيع، لكن للرواية مخرج من وجهين، أحدهما: حذف المضاف، أي: ذوات الرضعاء، الثاني: أن يكون المراد بالرضعاء الأطفال على حقيقة اللفظ؛ لأنهم إذا وجدوا له مرضعة ترضعه فقد وجدوا له رضيعًا يرضع معه، فلا بد أن يقال: التسموا له رضيعًا علمًا بأن الرضيع لا بد له من مرضع. "في سنة شهباء" ذات قحط وجدب، والشهباء: الأرض البيضاء التي لا خضرة فيها لقلة المطر من الشهبة وهي البيضاء، سميت بذلك لبياض الأرض لخلوها من النبات. "على أتان لي" بفتح الهمزة والفوقية: الأنثى من الحمير خاصة. قال الجوهري وابن السكيت: ولا يقال إتانة بالهاء، قال ابن الأثير: وإن كان قد جاء في بعض الحديث، لكن في القاموس: إنها لغة سليمية، أي: لبني سليم. "ومعي صبي لنا" هو عبد الله بن الحارث الذي كانت ترضعه حينئذ، لا أعلم له إسلامًا ولا ترجمة؛ كذا في النور، وهو تقصير. ففي الإصابة: سماه بعضهم عبد الله، ذكره في الصحابة، وكذا سماه ابن سعد لما ذكر أسماء أولاد حليمة، قال: وروى ابن سعد من مرسل إسحاق بن عبد الله، قال: كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وشارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك، لا يجد في ثديي ما يغذيه، ولا في شارفنا ما يغديه. فقدمنا مكة، فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذ قيل إنه يتيم من الأب .......................   رسول الله صلى الله عليه وسلم أخ من الرضاعة، فقال للنبي -يعني بعد النبوة- أترى أن يكون بعث؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده، لآخذن بيدك يوم القيامة، ولأعرفنك"، قال: فلما آمن بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس فيبكي ويقول: أنا أرجو أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي يوم القيامة فأنجو، هكذا أورده في ترجمة والده الحارث ثم أعاده في المخضرمين من حرف العين. فقال عبد الله بن الحارث: سماه الواقدي ولم يزد على ذكر خبر ابن سعد هذا، إلا أنه قال: هذا مرسل صحيح الإسناد. "وشارف لنا" بشين معجمة فألف فراء مكسورة ففاء، أي: ناقة مسنة، وعن الأصمعي: يقال: للذكر والأنثى شارف، والمراد هنا: الأنثى لا غير، والجمع الشرف بضم الراء وتسكن، قاله النور. "والله ما تبض" بفتح الفوقية وكسر الموحدة وشد الضاد المعجمة: ما تدر، "بقطرة" وقال أبو ذر في حواشيه: ما تبض بضاد معجمة: ما تسيل ولا ترشح، ومن رواه بصاد مهملة، فمعناه: ما يبرق عليها أثر لين من البصيص وهو البريق واللمعان. "وما ننام ليلنا ذلك أجمع" من شدة الجوع "مع صبينا ذاك" عبد الله لا ينام، قال في الرواية عند ابن إسحاق: من بكائه من الجوع؛ لأنه "لا يجد في ثديي ما يغذيه" أي: يكفيه، "ولا في شارفنا ما يغديه" بدال مهملة عند ابن إسحاق، ومعجمة عند ابن هشام، قال السهيلي: وهو أتم من الاقتصار على الغداء دون العشاء، وعند بعض الرواة يعذبه بعين مهملة وذال منقوطة وموحدة، أي: ما ينقعه حتى يرفع رأسه، وينقطع عن الرضاع، يقال منه: عذبته وأعذبته إذا قطعته عن الشرب ونحوه، قال: والذي في الأصل -يعني الروايتين المذكورتين- أصح في المعنى والنقل، انتهى من الروض. "فقدمنا مكة" أي: دخلناها "فوالله ما علمت منا امرأة" أنا واللاتي قدمت معهن، "إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا صريح في إسلامها حيث قالت رسول الله وصلت عليه "فتأباه" أي: أخذه، "إذ" تعليلية "قيل: إنه يتيم" زاد ابن إسحاق، وذلك أنا كنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، أي: أخذه "من الأب" صفة كاشفة، فاليتيم من لا أب له، وإن كان له جد. وفي نسخ حذف من الأب، وهنا فائدة حسنة. سئل الحافظ عما يقع من بعض الوعاظ في الموالد في مجالسهم الحفلة المشتملة على الخاص والعام من الرجال والنساء من ذكر الأنبياء بما يخل بكمال التعظيم حتى يظهر للسامعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما لم أجد غيره، قلت لزوجي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، فذهبت فإذا به مدرج في ثوب صوف ..................   لها حزن ورقة، فيبقى في حيز من يرحم لا من يعظم؛ كقوله: لم تأخذه المراضع لعدم ماله، إلا حليمة رغبت في رضاعه شفقة عليه، وأنه كان يرعى غنمًا وينشد: لأغنامه سار الحبيب إلى المرعى ... فيا حبذا راع فؤادي له مرعى وفيه: فما أحسن الأغنام وهو يسوقها وكثير من هذا المعنى المخل بالتعظيم، فأجاب بما نصه: ينبغي لمن يكون فطنًا أن يحذف من الخبر ما يوهم في المخبر عنه نقصًا ولا يضره ذلك، بل هذا جوابه بحروفه، نقله عنه السيوطي. "فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعًا غيري" فلم آخذ لأني لم أعط لما أنا عليه من الضيق. "فلما لم أجد غيره" يعطى لي "قلت لزوجي" الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي يكنى أبا ذؤيب، أدرك الإسلام وأسلم، رواه يونس بن بكير، قال: حدثنا ابن إسحاق، حدثني والدي عن رجال من بني سعد بن بكر، قالوا قدم الحارث أبو رسول الله من الرضاعة عليه الصلاة والسلام بمكة حين أنزل عليه القرآن فقالت له قريش: ألا تسمع يا حارث ما يقول ابنك؟ قال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه ويكرم فيهما من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني! ما لك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول إن الناس يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم". فأسلم الحارث بعد ذلك فحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني إن شاء الله حتى يدخلني الجنة. قال ابن إسحاق: وبلغني أنه إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا في رواية يونس. قال السهيلي: ولم يذكر ذلك البكائي في روايته عن ابن إسحاق ولا ذكره كثير ممن ألف في الصحابة، وقد ذكره فيهم صاحب الإصابة، وذكر هذا الخبر وعقبه بخبر ابن سعد المتقدم في ابنه، وقال: يحتمل أن يكون ذلك وقع للأب والابن. "والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع، لأنطلقن إلى ذلك اليتيم" الذي عرض جده علي وسألني أخذه، وقلت له: ألا تذرني أراجع صاحبي، فأذن لها وانتظرها حتى راجعته وعادت، "فلآخذنه" زاد ابن إسحاق، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: "فذهبت" إليه "فإذا به مدرج في ثوب صوف" بالإضافة والتنوين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أبيض من اللبن، يفوح منه المسك، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه، يغط، فأشفقت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدًا فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكًا، وفتح عينيه لينظر إليّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه، وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر فأبى، وكانت تلك حاله بعد. -قال أهل العلم: ألهمه الله تعالى أن له شريكًا فألهمه العدل- قالت: فروي وروي أخوه. ثم أخذته، بما هو إلا أن جئت به رحلي، فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي .............................   حال كون الثوب "أبيض من اللبن يفوح منه المسك وتحته حريرة خضراء راقد على قفاه يغط" بكسر المعجمة من باب ضرب، أي: يردد نفسه صاعدًا إلى حلقه حتى يسمعه من حوله؛ كما في المصباح. "فأشفقت أن أوقظه" أي: خفت من إيقاظه "من نومه" شفقة عليه "لحسنه وجماله، فدنوت منه رويدًا" قليلا بتأن، "فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكًا وفتح عينيه لينظر إليّ فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء" لشدة انتشاره "وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه وأعطيته ثديي الأيمن، فأقبل" الثدي أي: در "عليه بما شاء من لبن، فحولته إلى الأيسر، فأبى" أن يشربه "وكانت تلك" الصفة "حاله بعد" وفيها أنها فعلت ذلك معه في مجلسها الذي وضعت فيه يدها على صدره، وهذا من أول قوله: فإذا به مدرج إلى قوله الآتي قريبًا: ثم أخذته، زائد على ما في ابن سيد الناس؛ لأنه اقتصر على رواية ابن إسحاق، ولم يقع ذلك فيها. وأما المصنف فقد نقل الحديث عن ستة من الحفاظ، فلا يعترض عليه بما في اليعمري. "قال أهل العلم" في حكمة امتناعه صلى الله عليه وسلم من الثدي الأيسر "ألهمه الله تعالى أن له شريكًا فألهمه العدل" فلذا امتنع وأخذ الأيمن؛ لأنه كان يحب التيمن في أموره كلها، "قالت" حليمة في بقية حديثها الذي رواه من تقدم وأعاد، قالت: لفصله بقول أهل العلم "فروي وروي أخوه" ابنها عبد الله ووقع للبيهقي أن اسمه ضمرة، وتوقف فيه الشامي، فقال: فالله أعلم. "ثم أخذته بما هو" مشتمل عليه من كونه مدرجًا ... إلخ ما مر "إلى أن جئت به" وفي نسخة: فما هو إلا أن جئت به، أي: فما الشأن، فما مبتدأ، وما بعد إلا هو الخبر. وفي رواية: فقالت آمنة: يا حليمة، قيل لي ثلاث ليال استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثم في آل أبي ذؤيب، قالت حليمة: فإن زوجي أبو ذؤيب، فجئت به "رحلي" بحاء مهملة مسكن الشخص وما يستصحبه من الأثاث والمنزل والمأوى، قاله البرهان وتبعه الشامي. "فأقبل عليه ثدياي بما شاء" الله "من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فقام صاحبي -تعني زوجها- إلى شارفنا تلك، فإذا أنها لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا، وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي: يا حليمة، والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة، ألم تري ما بتنا به الليلة من البركة والخير حين أخذناه، فلم يزل الله يزيدنا خيرًا. قالت في رواية ذكرها ابن طغر بك في "النطق المفهوم": فلما نظر صاحبي إلى هذا قال: اسكتي واكتمي أمرك، فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار قوامًا على أقدامها، لا يهنؤها عيش النهار ولا نوم الليل. قالت حليمة: فودعت النساء بعضهن وودعت أنا أم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت أتاني وأخذت محمدًا صلى الله عليه وسلم بين يدي، قالت: فنظرت ...................   فقام صاحبي- تعني" حليمة بقولها صاحبي "زوجها" الحارث "إلى شارفنا تلك" التي ما كانت تبض بقطرة "فإذا" فجائية "أنها لحافل" بمهملة وفاء: ممتلئة الضرع من اللبن، "فحلب ما" لبنًا "شرب" هو "وشربت" أنا "حتى روينا وبتنا بخير ليلة، فقال صاحبي" حين أصبحنا؛ كما في ابن إسحاق "يا حليمة، والله إني لأراك" بالفتح: أعتقدك، بدليل رواية ابن إسحاق: تعلمي والله يا حليمة، أي: اعلمي؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا أن ربكم ليس بأعور" أي: اعلموا. "قد أخذت نسمة" بفتحات ذاتًا "مباركة". زاد ابن إسحاق: قلت: والله إني لأرجو ذلك، "ألم تري ما بتنا به الليلة من البركة والخير حين أخذناه" قالت حليمة "فلم يزل الله يزيدنا خيرًا" ببركته صلى الله عليه وسلم "قالت" حليمة. وفي نسخة: بتذكير الفعل على معنى الشخص. "في رواية ذكرها ابن طغربك" بضم الطاء والراء المهملتين بينهما معجمة ساكنة؛ كان علم مركب من طغر وبك، "في" ككتاب "النطق المفهوم، فلما نظر صاحبي إلى هذا قال: اسكتي واكتمي أمرك" فلا تبديه لأحد، خشي عليها الحسد، وعلى المصطفى الناس. "فمن ليلة ولد هذا الغلام أصبحت الأحبار" جمع حبر "قواًا على أقدامها لا يهنؤها" بالهمز من هنأ الطعام لذ، أي: لا يلذ لهم "عيش النهار، ولا نوم الليل" وإخباره بذلك عنهم لما بلغه أو شاهده من بعضهم. "قالت حليمة" فلما ذهبت بمحمد إلى منزلي مكثنا بمكة ثلاث ليال؛ كذا في شواهد النبوة. قالت: "فودعت النساء بعضهن" بليل، أي: ودع بعض النساء بعضًا. وفي نسخة: فودعت النساء بعضهم بالتذكير، والأول أنسب، بقوله: "وودعت أنا أم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ركبت. أتاني" حماري الأنثى، ويقال: حمارة بالهاء على قلة، "وأخذت محمدًا صلى الله عليه وسلم بين يدي، قالت: فنظرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 إلى الأتان وقد سجدت نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معي، وصار الناس يتعجبون مني ويقلن النساء لي وهن ورائي: يا بنت أبي ذؤيب أهذه أتانك التي كنت عليها وأنت جائية معنا تخفضك طورًا وترفعك أخرى؟ فأقول: تالله إنها هي فيتعجبن منها ويقلن إن لها لشأنًا عظيمًا، قالت: فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: والله إن لي لشأنًا ثم شأنًا بعثني الله بعد موتي ورد لي سمني بعد هزالي، ويحكن ..................   إلى الأتان وقد سجدت" خفضت رأسها أو وضعت وجهها على الأرض وهو الظاهر، فلا مانع "نحو" أي: جهة "الكعبة ثلاث سجدات، ورفعت رأسها إلى السماء" ألهمها الله فعل ذلك شكرًا له أن خصها بكونه صلى الله عليه وسلم على ظهرها، "ثم مشت حتى سبقت دواب الناس الذين كانوا معي، وصار الناس يتعجبون مني" وفي رواية ابن إسحاق: فوالله لقد قطعت بالركب حتى ما يقدر علي شيء من حمرهم، "ويقلن النساء لي" هذا نحو: أسروا النجوى يتعاقبون فيكم ملائكة، وسموها لغة أكلوني البراغيث، وجوزوا في نحوه أن النون فاعل، والاسم الظاهر بدل منه حتى لا يكون من تلك اللغة. "وهن ورائي: يا بنت أبي ذؤيب" بذال معجمة كنية أبيها، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بكسر الشين المعجمة فجيم ساكنة فنون مفتوحة ثم تاء التأنيث، هكذا في النور. ووقع في الشامية بسين مهملة ابن جابر بن رزام بكسر الراء ثم زاي فألف فميم ابن ناصر بن سعد بن بكر بن هوازن هكذا في الاستيعاب، وقيل في نسبها غير ذلك. "أهذه أتانك التي كنت عليها وأنت جائية معنا، تخفضك طورًا" بفتح الطاء مرة "وترفعك" مرة "أخرى" فأنت على معنى الطور لضعفها وعجفها، "فأقول: تالله إنها هي، فيتعجبن منها، ويقلن: إن لها لشأنًا عظيمًا، قالت" حليمة "فكت أسمع أتاني تنطق، وتقول: والله إن لي لشأنًا ثم لشأنًا" وكأنه قيل: ماذا الشأن؟ فقالت: "بعثني الله بعد موتي" أعطاني قوة قدر بها على سرعة السير بعدما كنت كالميتة من الضعف، "ورد لي سمني بعد هزالي" بضم الهاء ضد السمن، وفي نسخة: بعد هزلي، بفتح الهاء وتضم وسكون الزاي بلا ألف بمعنى الأول أيضًا. ففي القاموس: الهزال بالضم نقيض السمن هزل، كعنى وهزل كنصر هزلا وبضم، انتهى. وأما نقيض الجد فبابه ضرب وفرح؛ كما فيه أيضًا، وليس مرادًا هنا، كما هو معلوم. والجملتان تفسير للشأن على الاستئناف البياني، كما قررنا. "ويحكن" بالنصب بإضمار فعل كلمة ترحم، وويل كلمة عذاب. وقال اليزيدي: هما بمعنى واحد، تقول: ويح لزيد وويل له، فترفعهما على الابتداء ولك نصبهما كأنك قلت: ألزمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 يا نساء بني سعد إن كن لفي غفلة وهل تدرين من على ظهري، على ظهري خيار النبيين وسيد المرسلين وخير الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين. قالت -فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: ثم قدمنا منازل بني سعد، ولا أعلم أرضًا من أرض الله أجدب -بدال مهملة- منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به شباعًا لبنًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضر من قومنا يقولون لرعيانهم: اسرحوا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح أغنامي شباعًا لبنًا.   الله ويحًا وويلا، ولك إضافتهما فنصبهما بإضمار فعل؛ كذا ذكر العلامة الشمني، ومقتضاه: أنه ليس لويح فعل من لفظه، وقد ذكر ابن عصفور في شرح الجمل: أن من الناس من ذهب إلى أنه قد استعمل من ويح فعل فهو على مذهبه منصوب بفعل من لفظه، تقديره واح ويحًا. "يا نساء بني سعد، إن كن لفي غفلة وهل تدرين" بكسر الراء "من" أي: الذي "على ظهري" وقوله: على ظهري خبر مبتدؤه "خيار النبيين، وسيد المرسلين, وخير الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين" وكأنها فرضت أنهن كلمنها بما قلنه لحليمة، فإجابتهن بذلك وفي نطقها وسجودها قبل إرهاص للنبي صلى الله عليه وسلم وكرامة لحليمة، "قالت، فيما ذكره ابن إسحاق" مسندًا في بقية الحديث السابق. "وغيره ثم قدمنا منازل بني سعد، ولا أعلم أرضًا من أرض الله أجدب" بجيم "فدال مهملة" فموحدة ضد الخصب. "منها، فكانت غنمي تروح علي" أي: ترجع بعشي "حين قدمنا به" صلى الله عليه وسلم "شباعًا لبنًا" بضم اللام وكسرها لغتان؛ حكاهما الجوهري وشد الموحدة أي كثيرة اللبن جمع لبون "فنحلب" بضم اللام وكسرها لغتان كما في النور. "ونشرب وما يحلب إنسان" غيرنا "قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضر" هم القوم النزول على ما يقيمون به ولا يرحلون عنه، ويقولون للمناهل المحاضر للاجتماع والحضور، ذكره البرهان. "من قومنا يقولون لرعيانهم" جمع راع. وفي نسخة: لرعاتهم، جمع ثان. قال القاموس: كل من ولي أمر قوم جمعه رعاة ورعيان ورعاء، ويكسر، انتهى. زاد ابن إسحاق: ويلكم "اسرحوا حيث تسرح" ظرف مكان، أي: اذهبوا إلى المكان الذي تذهب إليه "غنم بنت أبي ذؤيب" ولفظ ابن إسحاق: حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، "فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض" بالضاد معجمة ومهملة "بقطرة لبن، وتروح" ترجع "أغنامي شباعًا لبنًا" مع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 فلله درها من بركة كثرت بها مواشي حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت فلم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة وتفوز منه بالحسنى وزيادة. لقد بلغت بالهاشمي حليمة ... مقامًا علا في ذروة العز والمجد وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عم هذا السعد كل بني سعد قال ابن الطراح رأيت في كتاب الترقيص لأبي عبد الله بن المعلى الأزدي   مسرحها واحد، قالت في رواية ابن إسحاق: فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، قال المصنف. "فلله درها من بركة" تمييز للنسبة في درها؛ لأن مرجع الضمير هنا معلوم. "كثرت بها مواشي حليمة ونمت" زادت "وارتفع قدرها به، وسمت" أي: علت، فهو مساوٍ؛ "فلم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة، وتفوز منه بالحسنى وزيادة" وأنشد لغيره: "لقد بلغت بالهاشمي" محمد صلى الله عليه وسلم "حليمة مقامًا علا" ارتفع "في ذروة" بكسر الذال المعجمة: أعلى، "العز والمجد" مستعار من ذروة الجبل: أعلاه، "وزادت مواشيها وأخصب ربعها" بفتح الراء وسكون الموحدة: محلها ومنزلها، ويطلق على القوم مجازًا. "وقد عم هذا السعد كل بني سعد" وذلك أن حليمة، قالت لما دخلت به منزلي: لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك، وألقيت محبته في قلوب الناس حتى إن أحدهم كان إذا نزل به أذى من جسده أخذ كفه صلى الله عليه وسلم فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله سريعًا، وكذا إذا اعتل لهم بعير أو شاه، ولو لم يكن من سعدهم إلا أنهم لما سبوا في وقعة هوازن ثم جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: نحن أهل وعشيرة وقام خطيبهم، وقال: يا رسول الله! إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك وأنت خير مكفول، ثم قال: امنن علينا رسول الله في كرم الأبيات المشهورة الآتية في كلام المصنف. فقال صلى الله عليه وسلم: $"ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ورسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ورسوله، فرد عليهم سبيهم. "قال ابن الطراح: رأيت في كتاب الترقيص لأبي عبد الله بن المعلى الأزدي" البصري، ونقله أيضًا عن كتاب الترقيص مغلطاي في الزهر، والحافظ في الإصابة، وأبو المظفر المقرئ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أن من شعر حليمة ما كانت ترقص به النبي صلى الله عليه وسلم. يا رب إذ أعطيته فأبقه ... وأعله إلى العلا وأرقه وادحض أباطيل العدا بحقه وعند غيره وكانت الشيماء أخته من الرضاعة تحضنه وترقصه وتقول: هذا أخ لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي فديته من مخول معمي ... ....................   الواعظ في أربعينه، "أن من شعر حليمة ما كانت ترقص" بضم التاء وشد القاف المكسورة من الترقيص "به النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب إذ أعطيته فأبقه وأعله إلى العلا ورقه" بدون ألف؛ كما في نسخ، وهو ما نقله أبو المظفر. وفي نسخ: وأرقه بألف، وكذا في السبل. والأولى أنسب؛ كما يفيده القاموس. "وادحض" بكسر الحاء حذفت همزته للضرورة، أي: أذل، "أباطيل العدا بحقه، وعند غيره" أي: غير ابن الطراح، فإن الزهر والإصابة وأبا المظفر نقلوه كله عن كتاب الترقيص المذكور لابن المعلى، فليس ضمير غيره عائدًا عليه؛ كما زعم. "وكانت الشيماء" بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية، ويقال: الشماء بلا ياء ابنة الحارث بن عبد العزى السعدية، ذكرها أبو نعيم وغيره في الصحابة، واسمها جدامة بضم الجيم وبالدال المهملة والميم، جزم به ابن سعد. وقيل: حذافة بضم الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة، ذكره السهيلي مع الثاني فقط، واقتصر في الإصابة على الأولين. "اخته من الرضاعة" من جهة أنه عليه السلام رضع أمها حليمة بلبن أخيها "تحضنه" بضم الضاد ومن ثم تدعى أم النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا؛ كما في النور. "وترقصه، وتقول: هذا أخ لي لم تلده أمي" من أبي ولا غيره "وليس من نسل أبي" من غير أمي، "و" من نسل "عمي" فاسمه أخي لشدة قربه، ومرادها: تعميم نفي أخوة النسب ولو بسبب رضاعه أمها. "فديته من مخول" بضم الميم وكسرها الواو ومن أخول على الأصل، وتفتح الواو على أن غيره جعله ذا أخوال كثيرة ورجل معم مخول، أي: كريم الأعمال والأخوال، ومنع الأصمعي الكسر فيهما، وقال: كلام العرب الفتح، قال المصباح. "معمي" بكسر الميم الثانية اسم فاعل أنسب بالشعر من فتحها اسم مفعول وإن جاز، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ................. ... فأنمه اللهم فيما تنمي وأخرج البيهقي والصابوني في المائتين والخطيب وابن عساكر في تاريخيهما وابن طغر بك السياف في النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت يا رسول الله دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بأصبعك فحيث أشرت إليه مال قال: إني كنت أحدثه   المصباح: أعم الرجل إذا كرم أعمامه يروى مبنيًا للمفعول والفاعل وجرت من التمييز مع أنه تمييز لنسبة الفعل إلى المفعول؛ لأنه ليس محولا عنه فيجوز زجره، نحو: ما أحسنه من رجل. "فانمه" بفتح الهمزة من أنماه "اللهم فيما تنمي" بضم الفوقية المصباح نمى من باب رمى كثر، وفي لغة: من باب قعد ويتعدى بالهمز والتضعيف فعبر بانمه مجاز لغوي من إطلاق السبب، وإرادة المسبب، فالكثرة يلزمها القوة؛ فكأنها قالت: قوة فيمن قويتهم، وزد رفعته، أو مجاز بالنقص بحذف المضاف، أي: أنم أتباعه وذريته، وقد زاد الجماعة عن كتاب الترقيص المذكور، وقالت الشيماء أيضًا: يا ربنا أبق أخي محمدا ... حتى أراه يافعًا وأمردا ثم أراه سيد مسودًا ... واكبت أعاديه معا والحسدا وأعطه عزًا يدوم أبدا قال الأزدي: ما أحسن ما أجاب الله دعاءها، يعني: لرؤيتها ياه بجميع ما طلبت. "وأخرج البيهقي و" أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم "الصابوني" شيخ الإسلام الإمام المفسر المحدث الفقيه الواعظ الخطيب، وعظ المسلمين ستين سنة، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وتوفي في المحرم سنة سبع أو أربع وأربعين وأربعمائة. "في" كتاب "المائتين والخطيب" البغدادي "وابن عساكر" الدمشقي "في تاريخيهما" لبغداد ودمشق "وابن طغربك السياف في" كتاب "النطق المفهوم عن العباس بن عبد المطلب" رضي الله عنه "قال: قلت: يا رسول الله! دعاني إلى الدخول في دينك" أي: حملني عليه، واستعماله بهذا المعنى مجاز؛ لأن الدعاء النداء. "أمارة لنبوتك" علامة عليها، فشبه الأمارة بالداعي استعارة بالكناية وإثبات الدعاء لها تخييل، "رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بإصبعك. فحيث أشرت إليه مال" إلى جهتك، أي: ففي أي وقت فحيث هنا للزمان مجازًا على مقتضى القاموس والمصباح، وبه صرح المغني، فقال: وهي للمكان اتفاقًا، قال الأخفش: وقد ترد للزمان. "قال: إني كنت أحدثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ويحدثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش قال البيهقي تفرد به أحمد بن إبراهيم الحلبي وهو مجهول وقال الصابوني: هذا حديث غريب الإسناد والمتن وهو في المعجزات حسن. والمناغاة: المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة. وفي فتح الباري عن سيرة الواقدي: ....................   ويحدثني، و" كان بتحديثه لي "يلهيني عن البكاء و" كنت "أسمع وجبته" أي: سقطته؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] ، "حين يسجد تحت العرش، قال البيهقي" عقب إخراجه: "تفرد به أحمد بن إبراهيم" أي: لم يتابعه عليه أحد. "الحلبي" نسبة إلى حلب البلدة الشهيرة، قال في الميزان: قال أبو حاتم: أحاديثه باطلة تدل على كذبه ويقع في نسخ الجيلي بجيم وياء ولام، وهو تحريف فقد استوفى الحافظ في التبصير من ينسب هذه النسبة، وما ذكره فيهم. "وهو مجهول" وهو ثلاثة أنواع: مجهول العين من له راو فقط. ومجهول الحال، وهما مردودان عند الجمهور. مجهول العدالة، وفيه خلف. وظاهر كلام أبي حاتم المار: أن هذا من النوع الثاني. "وقال الصابوني" نسبة إلى الصابون، قال في اللباب: لعله لأن أحد أجداده عمله فعرفوا به، "هذا حديث غريب الإسناد" لأن راويه أحمد بن إبراهيم لم يتابع عليه، فهو كقول البيهقي: تفرد به، وزاد عليه قوله: "والمتن" أي: لفظ الحديث، ولعل غرابته لأن العباس أصغر الأعمام، فحمزة أكبر منه، وحمزة كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، كما رواه البكائي عن ابن إسحاق، فرؤية العباس لذلك وروايته غريب. "و" لكن الخوارق لا يقاس عليها فـ "هو في المعجزات حسن" ذكره لأن عادة المحدثين التساهل في غير الأحكام والعقائد ما لم يكن موضوعًا، وأيضًا فإنه يتمشى على القول بأن العباس ولد قبل الفيل بثلاث سنين، وبه جزم المصنف فيما يأتي، ومر له أيضًا: روي عن العباس، أنه قال: أذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاثة أعوام أو نحوها، فحمزة والعباس متقاربان غايته أن حمزة أسن منه بيسير. "والمناغاة المحادثة، وقد ناغت الأم صبيها" أي: "لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة" مصدر لاعب. "وفي فتح الباري" في كتاب الأنبياء في قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة"، نقلا "عن سيرة" محمد بن عمرو بن واقد "الواقدي" أبي عبد الله الأسلمي مولاهم المدني الحافظ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد. وذكر ابن سبع في الخصائص أن مهده كان يتحرك بتحريك الملائكة. وأخرج البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال كانت حليمة تحدث بأنها أول ما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فقال: "الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الل هـ .........................................   روى عن مالك والثوري عن ابن جريج وغيرهم، وعنه الشافعي وابن سعد كاتبه وخلق، كذبه أحمد، وتركه ابن المبارك وغيره، وقال في الميزان، استقر الإجماع على وهنه، وفي التقريب: متروك مع سعة علمه. مات سنة سبع، وقيل: تسع ومائتين، روى له ابن ماجه. "أنه صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد" وعند ابن عائذ: أول ما تكلم به حين خرج من بطن أمه: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وفي الروض عن الواقدي: أول ما تكلم به لما ولد: جلال ربي الرفيع. وفي شواهد النبوة: روى أنه صلى الله عليه وسلم لما وقع على الأرض رفع رأسه, وقال بلسان فصيح: "لا إله إلا الله، وإني رسول الله"، وطريق الجمع أنه قال جميع ذلك، ثم الكلام في المهد ليس من خصائصه، بل ولا من خصائص الأنبياء، فقد تكلم فيه ابن ماشطة بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج، رواه أحمد والحاكم مرفوعًا، وعند مسلم في قصة أصحاب الأخدود: أن امرأة جيء بها لتلقى في النار لتكفر ومعها صبي فتقاعست، فقال لها: يا أماه اصبري، فإنك على الحق. وفي زمنه صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة وقصته من دلائل البيهقي، فهؤلاء خمسة تكلموا وليسوا بأنبياء، ونظم جملة من تكلم السيوطي، فقال: تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم قال بعضهم: وكلام الصبي في مهده يحتمل كونه بلا تعقل؛ كما خلق الله التكلم في الجماد ويحتمل كونه عن معرفة بأن خلق الله فيه الإدراك ولعل كلام النبي كان كذلك. "وذكر ابن سبع" بإسكان الموحدة وقد تضم؛ كما في التبصير. "في الخصائص: أن مهده" أي: ما هيئ له لينام فيه "كان يتحرك بتحريك الملائكة" له. قال بعض: ولم ينقل مثل ذلك لأحد من الأنبياء. "وأخرج البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس" أنه "قال: كانت حليمة تحدث بأنها أول ما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم، فقال: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بكرة وأصيلا"، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيتجنبهم. الحديث. وقد روى ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر، عن ابن عباس قال: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانًا بعيدًا، فغفلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة إلى البهم، فخرجت حليمة تطلبه، حتى تجده مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ قالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرًا رأيت غمامة تظل .........................   بكرة وأصيلا" وأفاد هذا مع ما مر عن ابن عائذ قريبًا أنه تكلم بهذا في الوقتين، "فلما ترعرع" قوي على الخروج والاختلاط بالصبيان، "كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيتجنبهم الحديث" وروي أنه كان يخرج هو وأخوه فيلعب أخوه مع الغلمان فيتجنبهم عليه السلام ويأخذ بيد أخيه، ويقول: "إنا لم نخلق لهذا". "وقد روى محمد بن سعد وأبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس، قال: كانت حليمة لا تدعه" لا تترك النبي صلى الله عليه وسلم "يذهب مكانًا بعيدًا "خوفًا عليه وشفقة، أي: في غالب الأحوال أو في ابتداء الأمر، فلا ينافي ما روي أنه قال لها: يا أماه مالي لا أرى إخوتي بالنهار، قالت: يرعون غنمًا لنا فيروحون من الليل إلى الليل، فقال: ابعثيني معهم، فكان يخرج مسرورًا ويعود مسرورًا. "فغفلت عنه، فخرج مع أخته الشيماء في الظهيرة" أول الزوال وهو أشد ما يكون من حر النهار "إلى البهم" بفتح الموحدة جمع بهيمة وهي ولد الضأن، كذا في النهاية. وفي القاموس: البهيمة أولاد الضأن والبقر والمعز وجمعه بهم ويحرك. وفي النور: يطلق على الذكر والأنثى لكن يرد عليه حيث أنه عليه السلام قال للراعي: "ما ولدت"؟. قال: بهمة، قال: "اذبح مكانها شاة". فهذا يدل على أن البهمة اسم للأنثى؛ لأنه إنما سأله ليعلم أذكر م أنثى، لعلمه أن المولود أحدهما "فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده" غالبًا للطلب أو تعليل له، أي: إلى أن تجده أو لتجده فوجدته "مع أخته" وعلى التقديرين فحتى جارة لوقوع المضارع بعدها منصوبًا. وفي نسخة: فوجدته وهي ظاهرة، "قالت في هذا الحر" الهمزة فيه مقدرة، أي: أفيه تخرجين به؛ كقول الكميت: طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب ... ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب أراد أو ذو الشيب، "قالت أخته: يا أمه" الهاء بدل من تاء التأنيث، والأصل: يا أمة بلا تاء عند جمهور البصريين، "ما وجد أخي حرًا" لأن الشمس لم تصبه، فقد "رأيت غمامة" سحابة "تظل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع الحديث. وكان صلى الله عليه وسلم يشب شبابًا لا يشبه الغلمان. قالت حليمة: فلما فصلته قدمنا به على أمه، ونحن أحرص شيء على مكثه فينا، لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلنا: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ، فإنا نخشى عليه وباء مكة ..............................   عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت" معه تظلله "حتى انتهى إلى هذا الموضع" الذي نحن فيه "الحديث" وفيه إظلال الغمام له صلى الله عليه وسلم، فهو حجة على من أنكره. قال ابن جماعة من ذهب إلى أن حديث إظلال الغمام لم يصح بين المحدثين فهو باطل، نعم لم يكن كما قال السخاوي وغيره دائمًا في حديث الهجرة: إن الشمس أصابته صلى الله عليه وسلم وظلله أبو بكر بردائه، وثبت أنه كان بالجعرانة ومعه ثوب قد أظل عليه، وأنهم كانوا إذا أتوا على شجرة ظليلة تركوها له صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك. "وكان صلى الله عليه وسلم يشب" بكسر الشين من باب ضرب "شبابًا لا يشبه" أي: لا يشب مثله: "الغلمان" كذا في رواية ابن إسحاق محملا، وفي شواهد النبوة: روي أنه صلى الله عليه وسلم لما صار ابن شهرين كان يتزحلف مع الصبيان إلى كل جانب، وفي ثلاثة أشهر كان يقوم على قدميه، وفي أربعة كان يمسك الجدار ويمشي، وفي خمسة حصل له القدرة على المشي، ولما تم له ستة أشهر كان يسرع في المشي، وفي سبعة أشهر كان يسعى ويغدو إلى كل جانب، ولما مضى له ثمانية أشهر شرع يتكلم بكلام فصيح، وفي عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان. "قالت حليمة: فلما فصلته" بعد مضي عامين "قدمنا به على أمه" على عادة المراضع في إتيانهن بالأولاد إلى أمهاتهم بعد تمام الرضاع، فأتت به موافقة لهن، ثم حاولت الرجوع به لنصل إلى مقصودها؛ كما أفاده قولها: "ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته" أي: حرصنا على مكثه فينا أشد من حرص كل حريص على شيء يحرص عليه، فلا يرد أن أفعل التفضيل عض ما يضاف إليه، ومعلوم أن حليمة وزوجها وابنتها لم يشاركهم جميع الناس في الحرص على مكثه فيهم. "فكلمنا أمه" وبيان الكلام "وقلنا" نود "لو تركتيه عندنا حتى يغلظ" أي: يعظم جسمه وتزيد قوته، فلو للتمني أو جوابها محذوف، أي: لكان خيرًا له بدليل "فإنا نخشى عليه وباء مكة" بالهمز مقصورًا وممدودًا؛ كما في النهاية والصحاح والقاموس. وفسره بأنه الطاعون أو كل مرض عام، والظاهر أن المراد هنا الثاني، ومن ثم فسره الشامي بأنه كثرة الموت والمرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ولم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به. فوالله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة، لفي بهم لنا خلف بيوتنا، جاء أخوه يشتد، فقال: ذاك أخي القرشي، قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه، فنجده قائمًا منتقعًا لونه، فاعتنقه أبوه وقال: أي بني، ما شأنك، قال: "جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني، ثم استخرجا منه شيئًا فطرحاه، ثم رداه كما كان". فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة خشيت أن يكون ابني قد أصيب، فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ..........................   "ولم نزل" نتلطف" بها حتى ردته معنا، فرجعنا به فوالله إنه لبعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة" شكت "مع أخيه من الرضاعة" عبد الله "لفي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد" يسرع في المشي "فقال: ذاك أخي القرشي، قد جاء رجلان" ملكان في صورة رجلين "عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه" بعد أن صعدا به ذروة الجبل؛ كما في رواية البيهقي الآتية. "فخرجت أنا وأبوه" من الرضاعة وهو زوجها "نشتد نحوه، فنجده قائمًا" من استعمال المضارع موضع الماضي ففي الكلام حذف، أي: وما زلنا نسرع إلى أن وجدناه قائمًا "منتقعًا لونه" بنون ففوقية فقاف مفتوحة، أي: متغيرًا، قال الكسائي: انتقع مبنيًا إذا تغير من حزن أو فزع، قال: وكذا ابتقع بالموحدة، وامتقع بالميم أجود، قال الجوهري: أي: مبنيًا للمفعول وبه صرح المجد، واقتصر البرهان والشامي. وفي المصباح: ما يفيد بناءه للفاعل. "فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني! ما شأنك" ما حالك "قال: "جاءني رجلان" ", هما جبريل وميكائيل؛ كما في النور، "عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني" ولا ينافي هذا قوله الآتي قريبًا: "فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض"؛ لجواز أنه نسب الإضجاع إلى مجموعهما وإن كان في الحقيقة من واحد مجازًا أو نزل فعل المشارك له في الغسل ونحوه منزلة المشارك في نفس الإضجاع، فأطلق عليه اسمه. "ثم استخرجا منه شيئًا" هو مضغة سوداء؛ كما في الحديث الآتي على الأثر، "فطرحاه ثم رداه كما كان" قالت حليمة: "فرجعناه معنا، فقال أبوه: يا حليمة، قد خشيت" خفت "أن يكون ابني قد أصيب من الجن، وأصل الخشية الخوف مع الإجلال، لكنها هنا في مجرد الخوف؛ لأن المعنى: نخاف عليه ما يصيبه من الجن. "فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ما نتخوف، قالت حليمة فاحتملناه حتى قدمنا به مكة على أمه، فقالت: ما ردكما به، فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا نخشى عليه الإتلاف والإحداث، فقالت: ما ذاك بكما، فاصدقاني شأنكما، فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره، قالت: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابني هذا شأن عظيم فدعاه عنكما.   ما نتخوف" أي: ما نتخوفه، فالمفعول محذوف "قالت حليمة: فاحتملناه حتى قدمنا به مكة على أمه" بعد أن ضل منا في باب مكة حين نزلت لأقضي حاجتي، فأعلمت عبد المطلب بذلك فطاف بالبيت أسبوعًا، ودعا الله برده، فسمع مناديًا ينادي: معاشر الناس، لا تضحوا فإن لمحمد ربا لا يضيعه ولا يخذله، قال عبد المطلب: يا أيها الهاتف، من لنا به؟ وأين هو؟ قال بوادي تهامة، فأقبل عبد المطلب راكبًا متسلحًا، فلما صار في بعض الطريق لقي ورقة بن نوفل، فسارا جميعًا فوجدوه صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وفي رواية: بينا أبو مسعود الثقفي وعمرو بن نوفل على راحلتيهما إذ هما به قائمًا عند شجرة الموز يتناول من ورقها، فأقبل إليه عمرو، وهو لا يعرفه، فقال: من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد المطلب بن هاشم، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبد المطلب، وعن ابن عباس: لما رد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم على عبد المطلب تصدق بألف ناقة كوماء وخمسين رطلا من ذهب، وجهز حليمة أفضل الجهاز؛ كذا في الخميس. "فقالت" أمه: ما ردكما" أي شيء ردكما "به، فقد كنتما حريصين عليه" أي: على مقامه عندكما، "قلنا: نخشى عليه الإتلاف والإحداث" أي: الأسباب العارضة المقتضية لإتلافه أو حصول الأمراض له، "فقالت: ما ذاك؟ " بكسر الكاف خطاب لحليمة، أي: ما خوف الإتلاف والإحداث حملكما على رده، أو بفتح الكاف على أنه خطاب لزوج حليمة، أو على أن الكاف المتصلة باسم الإشارة مفتوحة أبدًا، "فاصدقاني شأنكما" حالكما الحامل لكما على رده، "فلم تدعنا" تتركنا "حتى أخبرناها خبره، قالت" إنكارًا عليهما، "أخشيتما عليه الشيطان" إبليس أو الجنس وهو أظهر، زاد في رواية ابن إسحاق عن حليمة، قلت: نعم، قالت: آمنة "كلا" ردع لهما عن خشية الشيطان عليه، "والله ما للشيطان عليه سبيل" طريق يتوصل له منها "وإنه لكائن لابني هذا شأن" أمر "عظيم" قالت ذلك لما شاهدته في حملها به وعند ولادته؛ كما صرحت به لحليمة، فقالت كما في حديث ابن إسحاق: أفلا أخبرك خبره، رأيت حين حملت به خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف منه ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء. "فدعاه عنكما" وظاهر هذا السياق، بل صريحه: أن شق الصدر ورجوعه إلى أمه كانا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وفي حديث شداد بن أوس عن رجل من بني عامر، عند أبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت مسترضعًا في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم في بطن واد، مع أتراب لي من الصبيان، إذ أنا برهط ثلاثة   السنة الثالثة لقوله فيه بشهرين أو ثلاثة، وقد قال ابن عباس: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين، وقال غيره: وهو ابن أربع؛ حكاهما الواقدي. وقال ابن عبد البر: ردته بعد خمس سنين ويومين. وقال الأموي: وهو ابن ست سنين. وحاول في النور الجمع بتعدد الواقعة مستدلا بأن صدره شق مرارًا، وفيه ما فيه. وأيضًا يعكر عليه أن الأموي ذكر أن حليمة لم تره بعد إلا مرتين بعد تزويج خديجة جاءته تشكو السنة، وأن قومها أسنتوا كلهم فكلم خديجة فأعطتها عشرين من الغنم وبكرات، والثانية يوم حنين. والراجح أنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين، وإن شق الصدر إنما كان في الرابعة؛ كما جزم به الحافظ العراقي في نظم السيرة وتلميذه الحافظ ابن حجر في سيرته وهي صغيرة مفيدة، وذكر أنه التزم فيها الاقتصار على الأصح مما اختلف فيه، قال العراقي: أقام في سعد بن بكر عندها ... أربعة الأعوام تجني سعدها وحين شق صدره جبريل ... خافت عليه حدثا يئول ردته سالما إلى آمنة ولفظ سيرة ابن حجر: أقام عندها أربع سنين أرضعته حولين كاملين، ثم أحضرته إلى أمه وسألتها أن تتركه عندها إلى أن يشب ففعلت، فأتاه جبريل فشق صدره وأخرج منه علقة، فقال: هذا خط الشيطان منك، فخافت عليه حليمة فرجعته إلى أمه، انتهى. ومن خطه نقلت: "وفي حديث شداد بن أوس عن رجل من بني عامر" لا يضر إبهامه؛ لأن الصحابة كلهم عدول ولا سيما وهو من رواية صحابي عن صحابي، عند أبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كنت مسترضعًا" بصيغة اسم الفاعل وسين التأكيد لا الطلب، وإن كان الأصل فيها وليس اسم مفعول؛ لأن فعله لازم، "في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم" تأنيث ذي بمعنى صاحب، أي: في ساعة ذات يوم، أي: منه، فحذف ذلك لوضوح المراد؛ كقول امرئ القيس: إذا قامتا تضوع المسك منها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل أي: مثل تضوع نسيم الصبا، "في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان" جمع ترب، وهو من ولد معه؛ كما في القاموس بأن كان في سنه. "إذ أنا برهط" بسكون الهاء أفصح من فتحها "ثلاثة" وسمى الملائكة رهطًا لمجيئهم على صورة الرجال، إذ الرهط لغة ما دون العشرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 معهم طست من ذهب، مليء ثلجًا، فأخذوني من بين أصحابي، وانطلق الصبيان هربًا مسرعين إلى الحي، فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعًا لطيفًا، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه، لم أجد لذلك مسًا، ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قام الثاني فقال لصاحبه تنح، ثم أدخل يده في جوفي وأخرج قلبي وأنا أنظر إليه وصاعه ثم أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده ...........................   الرجال ليس فيهم امرأة؛ كما في النهاية وغيرها. "معهم طست من ذهب مليء" نعت للطست على معنى الإناء، لا اللفظ؛ لأنها مؤنثة. "ثلجًا، فأخذوني من بين أصحابي" أترابي الذين كنت معهم، "وانطلق الصبيان هربًا" بكسر الهاء وتخفيف الراء جمع هارب، ويجوز ضم الهاء مع شد الراء "مسرعين" صفة لازمة، ففي الصحاح هرب الرجل إذا جد في الذهاب مذعورًا، "إلى الحي" بفتح الميم، ونقل في النور عن الليلي كسرها؛ كما مر، "فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض إضجاعًا لطيفًا" لم يشق عليّ "ثم شق ما بين مفرق" كمسجد وتكسر ميمه أيضًا؛ كما في الصحاح. "صدري" والمراد منه الموضع الذي يفترق فيه عظم الصدر وهو رأس المعدة، "إلى منتهى عانتي". قال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر فوق قبل المرأة وذكر الرجل، والشعر النابت عليها يسمى الشعرة. "وأنا أنظر إليه، لم أجد لذلك مسًا" أي: أثرًا؛ كأنه لم يمس، ولا ينافيه وجدانه منتقعًا لجواز أنه من الفزع الحاصل من مجرد رؤية الملك وشق الصدر، "ثم أخرج أحشاء بطني" جمع حشى بالقصر، وهي المصارين "ثم غسلها بذلك الثلج، فأنعم غسلها" أحسنه مجاز عن جعل الشيء ناعمًا، "ثم أعادها مكانها". قال السهيلي في حكمه: الثلج لما يشعر به من ثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ولذا حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به بوحدانية ربه، انتهى. "ثم قام الثاني، فقال لصاحبه: تنح" فتنحى فوقف مكانه، "ثم أدخل يده في جوفي وأخرج قلبي، وأنا أنظر إليه وصاعه " شقه، "ثم أخرج منه مضغة سوداء، فرمى بها" وعند مسلم وأحمد من حديث أنس: فأخرج علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك ولا منافاة فقد تكون العلقة لكبرها تشبه المضغة. "ثم قال بيده" أشار بها من إطلاق القول على الفعل مجازًا لغويًا، فقد قال ثعلب وغيره: العرب تطلق القول على جميع الأفعال، قال ابن بطال: سمي الفعل قولا؛ كما سمي القول فعلا في حديث: "لا حسد إلا في اثنتين" حيث قال في الذي يتلو القرآن: لو أوتيت مثل ما أوتي لفعلت مثل ما فعل، وتقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يمنة ويسرة كأنه يتناول شيئًا فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبي فامتلأ نورًا وذلك نور النبوة والحكمة ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا، ثم قال الثالث لصاحبه تنح، فأمر يده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا لطيفًا ثم قال الأول للثالث: زنه بعشرة من أمته فوزنني فرجحتهم ثم قال زنه بمائة من أمته فرجحتهم ثم قال زنه بألف فرجحتهم فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا: يا حبيب لم ترع إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك" ...   العرب: قل لي برأسك، أي: أمله. "يمنة ويسرة، كأنه يتناول شيئًا فإذا بخاتم في يديه من نور يحار الناظر دونه" أي: في مكان أقرب منه، والمراد يتحير فيما دون ذلك الخاتم لصفته الخارقة للعادة، "فختم به قلبي وامتلأ" قلبي "نورًا، وذلك نور النبوة والحكمة" قال النووي: فيها أقوال كثيرة مضطربة صفا لنا منها أنها العلم المشتمل على المعرفة بالله مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به، والكف عن ضده والحكيم من حاز ذلك، انتهى ملخصًا قاله الحافظ. "ثم أعاده" أي: قلبي "مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا" أي: مدة طويلة واستمر. ففي رواية: "فأنا الساعة أجد برده في عروقي ومفاصلي"، قاله الشامي. "ثم قال الثالث لصاحبه: تنح، فأمر يده بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدي فأنهضني" أقامني "من مكانه" الذي كان أضجعني فيه "إنهاضًا لطيفًا، ثم قال الأول للثالث: زنه بعشرة من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف" فوزنني "فرجحتهم، فقال" يخاطب صاحبيه: "دعوه" اتركوه فهو من استعمال الجمع موضع المثنى، ويجوز أنه كان معهم غيرهم، "فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني" تبركًا وإيناسًا، "ثم قالوا: يا حبيب" الله والمؤمنين "لم ترع" بضم أوله وفتح الراء فمهملة مجزوم، أي: لم تخف بعد ولم يقصد به الأمر. وفي نسخة: لن تراع، بزيادة ألف منصوب بلن وهي أولى، إذ المقصود بشارته والتسهيل عليه حتى لا يحصل له الروع في المستقبل، وبمثل النسختين ورد حديث رؤيا ابن عمر في الصحيح، وروي فيه أيضا: لن ترع، ووجه ابن مالك بوجهين لا داعي لإيرادهما هنا. "إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك" سكنت وبردت كناية عن السرور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الحديث. وفي رواية ابن عباس، عند البيهقي، قالت حليمة: إذا أنا بابني ضمرة يعدو فزعًا، وجبينه يرشح باكيًا ينادي: يا أبت، يا أمت، الحقا محمدًا فما تلحقانه إلا ميتًا. أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا، وعلا به ذروة الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه: أنه عليه السلام قال: "أتاني رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء". الحديث. فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف في الطست خاص به، أو ...........   قال في الفتح: قرت العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه؛ لأن عينه قرت، أي: سكنت حركتها عن التلفت لحصول غرضها فلا تستشرف لشيء آخر وكأنه مأخوذ من القرار، وقيل: معناه أنام الله عينك وهو يرجع إلى هذا، وقيل: بل هو مأخوذ من القر، وهو البرد، أي: إن عينه باردة لسروره، ولذا قيل: دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة، ومن ثم قيل في ضده: أسخن الله عينه، انتهى. "الحديث". "وفي رواية ابن عباس عند البيهقي: قالت حليمة: إذا أنا بابني ضمرة" مر أن اسمه عبد الله، وأنه وقع في رواية البيهقي هذه: ضمرة، وأن الشامي توقف، فقال والله أعلم. "يعدو فزعًا" بفتح الزاي مفعول لأجله وبكسرها حال، "وجبينه يرشح باكيًا ينادي: يا أبت، يا أمت" وفي نسخة: يا أماه، ولعل الأصل يا أمتا بإشباع الفتحة فتولد منها ألف ثم قدم الألف على التاء للقلب المكاني فصار: يا أمات، ثم قلبت التاء هاء؛ كما قيل بمثله في: يا أبات. "الحقا محمدًا فما تلحقانه إلا ميتًا، أتاه رجل" وتقدم أنه قال: رجلان، الموافق لقول المصطفى فيه: "جاءني رجلان" فيجوز أن المختطف الصاعد واحد فقط؛ كما قد يدل له قوله: "فاختطفه من أوساطنا وعلا" صعد "به ذروة" بكسر الذال وضمها: أعلى "الجبل، حتى شق صدره إلى عانته، وفيه" أي: حديث ابن عباس هذا, أنه عليه السلام، قال: "أتاني رهط ثلاثة" وهو موافق لما في حديث شداد عنه عليه السلام: "لماء فوق هذا" ... الحديث، ومخالف كما ترى لقول ضمرة: رجل أو رجلان، فلعله لم ير سوى اثنين، وأما المصطفى، فرأى الثلاثة "بيد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء" ... الحديث بطوله وغرضه أيضًا من سياقه التنبيه على ما فيه من مخالفة الحديث فوقه في أن الطست من ذهب، فيحتمل والله أعلم أن الزمرد مرصع فوق الذهب، "فإن قلت: هل غسل قلبه الشريف في الطست خاص به، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فعل بغيره من الأنبياء عليهم السلام؟ أجيب: بأنه ورد في خبر التابوت والسكينة: أنه كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء، ذكره الطبري، وعزاه العماد ابن كثير في تفسيره لرواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس. فإن قلت: ما الحكمة في ختم قلبه المقدس؟ أجيب: بأنه إشارة إلى ختم ............................   فعل بغيره من الأنبياء عليهم السلام" قلت: "أجيب بأنه ورد في خبر التابوت" الصندوق الذي كان فيه صور الأنبياء، أنزله الله على آدم قاله الجلال، وقال البيضاوي: هو صندوق التوراة وكان من خشب الشمشار مموهًا بالذهب نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين، انتهى. ولا منافاة بينهما "والسكينة" الطمأنينة الحاصلة من ذلك التابوت، وقيل: إنها ريح هفافة لها وجه كوجه إنسان، أخرجه ابن جرير عن علي، زاد مجاهد: ورأس كرأس الهر، وزاد ابن أبي الربيع عن أنس: لعينيها شعاع. زاد أبو الشيخ: إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليها، فيهزم الجيش من الرعب، "أنه كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء" فليس خاصًا بنبينا صلى الله عليه وسلم، "ذكره الطبري" يعني محمد بن جرير أحد الأعلام، وحكاه عنه السهيلي والحافظ في الفتح، وأقره قائلا: هذا يشعر بالمشاركة، وذكر البرهان أنه رأى بهامش الروض عن ابن دحية أن هذا أثر باطل، انتهى. وهو مردود، فقد رواه سعيد بن منصور وابن جرير بسند ضعيف عن السدي عن ابي مالك عن ابن عباس. "و" هو الذي "عزاه" العماد "بن كثير في تفسيره لرواية السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس" فحيث وجد مسندًا وليس فيه وضاع ولا كذاب، فمن أين يجيء بطلانه خصوصًا وقد أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن السدي الكبير، في قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] ، قال: طست من ذهب الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء. وفي الفتح: اختلف هل كان شق صدره وغسله مختصًا به أو وقع لغيره من الأنبياء، فذكر المنقول عن الطبري، قال الشامي: والراجح المشاركة، وما صححه الشيخ -يعني السيوطي- في خصائصه الصغرى من عدم المشاركة لم أر ما يعضده بعد الفحص الشديد، انتهى. "فإن قلت: ما الحكمة في ختم قلبه المقدس" صلى الله عليه وسلم "أجيب" وفي نسخة بالفاء وحذفها أولى، كما مر "بأنه إشارة إلى ختم الرسالة به؟ " الأولى النبوة، لأن ختم الرسالة لا يستلزم ختم النبوة بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الرسالة به، وهذا مسلم، إن كان الختم خاصا به، أما إذا ورد أنه ليس خاصًا به بل بكل نبي فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها عن غيره ممن ليس بنبي وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى ما في الخاتم الشريف من المباحث. والمراد بالوزن: في قوله: "زنه بعشرة ... إلخ" الوزن الاعتباري، فيكون المراد به الرجحان في الفضل، وهو كذلك. وفائدة فعل الملكين، ذلك، ليعلم الرسول عليه السلام ذلك، حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية.   العكس، "وهذا مسلم إن كان الختم" أي: خاتم النبوة "خاصًا به، أما إذا" أي: حيث "ورد أنه ليس خاصًا به، بل بكل نبي، فتكون الحكمة أنه علامة يمتاز بها النبي عن غيره ممن ليس بنبي، ويأتي قريبًا" جدًا "إن شاء الله تعالى، ما في الخاتم الشريف من المباحث" ولما كان المتبادر من الوزن في الحديث الحقيقي، وليس مرادًا بين المراد بقوله: "والمراد بالوزن في قوله" أي: الملك "زنه بعشرة إلخ" يريد وزنه بألف "الوزن الاعتباري" لا الحقيقي؛ فكأنه قال: اعتبره بعشرة، "فيكون المراد به الرجحان" وفي نسخة والرجحان، أي: المراد بالرجحان الرجحان، "في الفضل وهو كذلك" ووقع في حديث ساقه الشامي، ثم قال: "زنه بألف فوزنوني فرجحتهم" فجعلت أنظر إلى الألف، فوقي أشفق أن يخر علي بعضهم، وهذا كالصريح في أنه حسي، اللهم إلا أن يقال فيه: تجوز، والمراد: رأيت زيادة رجحان في الاعتبار لو كانت محسوسة لكادت أن يسقط علي بعضها. "وفائدة فعل الملكين ذلك: ليعلم الرسول عليه السلام ذلك حتى يخبر به غيره، ويعتقده إذ هو من الأمور الاعتقادية" ولما نقل الشامي من أول قوله: والمراد إلى هنا عن بعض العلماء قال: وسألت شيخ الإسلام برهان الدين بن أبي شريف عن هذا الحديث قبل وقوفي على الكلام السابق، فكتب لي بخطه: هذا الحديث يقتضي أن المعاني جعلها الله تعالى ذواتًا، فعند ذلك قال الملك لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفًا من أمته في كفة، فلعل ترجح ماله صلى الله عليه وسلم رجحانًا طاش معه ما للألف بحيث يخيل إليه أنه يسقط بعضهم، ولما عرف الملكان منه لرجحان، وأنه معنى: لو اجتمعت المعاني كلها التي للأمة ووضعت في كفة ووضع ماله صلى الله عليه وسلم لرجح على الأمة، قالوا: لو أن أمته وزنت به مال بهم؛ لأن مآثر خير الخلق وما وهبه الله تعالى له من الفضائل يستحيل أن يساويها غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقد وقع شق صدره الشريف واستخراج قلبه مرة أخرى عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء. ومرة أخرى عند الإسراء. وروى الشق أيضًا، وهو ابن عشر أو نحوها، مع قصة له مع عبد المطلب، أبو نعيم في الدلائل. وروي خامسة، ولا تثبت. والحكمة في شق صدره الشريف في حال صباه، واستخراج العلقة منه، تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ على أكمل الأحوال من العصمة.   "وقد وقع شق صدره الشريف، واستخرج قلبه مرة أخرى" هي ثالثة "عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء" كما أخرجه أبو نعيم والبيهقي في دلائلهما والطيالسي والحارث في مسنديهما من حديث عائشة، وسأذكر الحديث إن شاء الله تعالى هناك، قال الحافظ: والحكمة فيه زيادة الكرامة ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير. "ومرة أخرى" وهي رابعة "عند الإسراء" رواه الشيخان وأحمد من حديث قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم، فذكره الشيخان والترمذي والنسائي من طريق الزهري، عن أنس عن أبي ذر مرفوعًا، ورواه البخاري من طريق شريك عن أنس رفعه، ومسلم والبرقاني وغيرهما من طريق ثابت عن أنس رفعه بلا واسطة، فلا عبرة بمن نفاه؛ لأن رواته ثقات مشاهير. قال الحافظ: والحكمة فيه الزيادة في إكرامه ليتأهب للمناجاة، قال ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة؛ كما تقرر في شرعه، انتهى. وفيه: أن هذه رابعة؛ كما أشار له بقوله. "وروي" بالبناء للفاع "الشق أيضًا وهو ابن عشر" من السنين "أو نحوها" يعني أشهرًا؛ كما في رواية في الزوائد وهي المرة الثانية، وقد جزم بها الحافظ في كتاب التوحيد "مع قصة له مع عبد المطلب أبو نعيم" فاعل روى "في الدلائل" ورواها أيضًا عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات وابن حبان والحاكم وابن عساكر والضياء في المختارة، عن أبي بن كعب: أنا أبا هريرة، قال: يا رسول الله! ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: "إن لفي صحراء ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي، يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذاني فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على خلق قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأخذهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني". وفي لفظ: "فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، ففلقاه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب والآخر يغسل جوفي، ثم قال: شق قلبه، فشق قلبي فأخرج الغل والحسد منه، فأخرج شبه العلقة فنبذ به" فذكر الحديث. قال الشامي: والحكمة فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 " ذكر خاتم النبوة ": وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة ......................   أن العشر قريب من سن التكليف فشق قلبه وقدس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، قال: لكن هل كان في هذه المرة بختم لم أقف عليه في شيء من الأحاديث. وأما الثلاث المرات، ففي كل مرة يختم؛ كما هو مقتضى الأحاديث، انتهى ملخصًا. "وروي" شق صدره مرة "خامسة" وهو ابن عشرين سنة، فيما قيل: "ولا تثبت" فلا تذكر إلا مقرونة ببيان عدم الثبوت، "والحكمة في شق صدره الشريف في حال صباه" وهو عند ظئره، كما مر. قال البرهان: وهو متفق عليه عند الناس. "واستخراج العلقة منه" هي كما قال الحافظ: "تطهيره عن حالات الصبا حتى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ على أكمل الأحوال من العصمة" من الشيطان وغيره، وخلقت هذه العلقة؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملة للخلق الإنساني ولا بد ونزعها كرامة ربانية طرأت بعده، فإخراجها بعد خلقها أدل على مزيد الرفعة وعظيم الاعتناء والرعاية من خلقه بدونهما، قاله العلامة السبكي. وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يكن للآدميين اطلاع على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحققوا كمال باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر. ذكر خاتم النبوة: "وقد روي أنه ختم بخاتم النبوة" قال القرطبي في المفهم: سمي بذلك لأنه أحد العلامات التي يعرفه بها علماء الكتب السابقة، ولذا لما حصل عند سلمان من علامات صدقه ما حصل كموضع مبعثه ومهاجره جد في طلبه، فجعل يتأمل ظهره فعلم صلى الله عليه وسلم أنه يريد الوقوف على خاتم النبوة، فأزال الرداء عنه، فلما رأى سلمان الخاتم أكب عليه فقبله، وقال: أشهد أنك رسول الله. وفي قصة بحيراء الراهب: وإني أعرفه بخاتم النبوة، وقال غيره: إضافته للنبوة لكونه من آياتها أو لكونه ختمًا عليها لحفظها، أو ختمًا عليها لإتمامها كما تكمل الأشياء، ثم يختم عليها قال السهيلي: وحكمة وضعه أنه لما شق صدره وأزيل منه مغمز الشيطان ملئ قلبه حكمة وإيمانًا، فختم عليه كما يختم على الإناء المملوء مسكًا، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بين كتفيه، وكان ينم مسكًا. وأنه مثل زر الحجلة، ذكره البخاري. وفي مسلم: جمع عليه خيلان، كأنها الثآليل السود عند نغض كتفه، ويروى: غضروب كتفه اليسرى.   وروى الحربي في غريبة وابن عساكر في تاريخه عن جابر، قال أردفني صلى الله عليه وسلم خلفه، فالتقمت خاتم النبوة بفمي فكان ينم علي مسكًا. ومر في حديث شداد: أنه من نور يحار الناظر دونه، قال شيخنا: فلعل المراد أن الذي ختم به شديد اللمعان حتى كأنه جسم من نور، قلت: بقاؤه على ظاهره أولى. "بين كتفيه" وفي مسلم: إلى جهة كتفه اليسرى، فالبينية تقريبية إذا الصحيح كما يأتي في المتن عن السهيلي أنه عند كتفه الأيسر، "وكان ينم مسكًا" روي بضم النون وكسرها، أي: تظهر منه رائحة المسك، قال في المقتفى: من قولهم نمت الريح إذا جلبت الرائحة، انتهى، وهو مستعار من النميمة، ومنه سمي الريحان نمامًا لطيب رائحته، وهي استعارة لطيفة شائعة. "وأنه مثل زر" بزاي فراء على المشهور، وقيل بالعكس. "الحجلة" بفتحتين، وقيل: بسكون الجيم مع ضم الحاء، وقيل: مع كسرها ذكره غير واحد. وفي المطالع: أن بعضهم ضبطه بضم الحاء وفتح الجيم على أنه من حجل الفرس. "ذكره" أي: رواه "البخاري" وكذا مسلم كلاهما من حديث السائب بن يزيد. "وفي" صحيح "مسلم" ومسند أحمد من حديث عبد الله بن سرجس وهو بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم، فمهملة: أنه "جمع عليه خيلان؛ كأنها" أي: الخيلان "الثآليل السود" فالتشبيه في لونها لا صورتها "عند نغض" بضم النون وفتحها وسكون المعجمة آخره ضاد معجمة؛ كما ضبطه المصنف بشرح البخاري. "كتفه" اليسرى، "ويروى" بدل نغض "غضورف" بضم الغين وسكون الضاد المعجمتين فراء مضمومة فواو ساكنة ففاء، ويقال: غضروف بتقديم الراء أيضًا، وهو رأس لوح "كتفه اليسرى" محذوف من الأول لدلالة الثاني، وهذا نقل لما في مسلم بالمعنى، ولفظه من حديث المذكور؛ ثم درت خلفه، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عندنا غض كتفه اليسرى جمعًا عليه خيلان كأمثال الثآليل، ودرت من الدوران وجمعًا نصب على الحال. قال السهيلي: وحكمة وضعه عند النغض؛ لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يدخل الشيطان، وقد روى ابن عبد البر بسند قوي عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وفي كتاب أبي نعيم: الأيمن. وفي مسلم أيضًا: كبيضة الحمامة. وفي صحيح الحاكم: شعر مجتمع. وفي البيهقي: مثل السلعة.   سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، فأرى جسدًا ممهى يرى داخله من خارجه، وأرى الشيطان في صورة ضفدع عند كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس، قال في الفتح: وهو مقطوع وله شاهد مرفوع عن أنس عند أبي يعلى وابن عدي، ولفظه: "أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم" الحديث، وممهى بضم الميم الأولى وسكون الثانية وتخفيف الهاء اسم مفعول من أمهاه، أي: مصفى. وفي النهاية: أنه رأى ذلك منامًا قال: والمها البلور، وكل شيء صفى فهو ممهى تشبيهًا به زاد في الفائق أو مقلوب من مموه وهو مفعل من أصل الماء، أي: مجعول الماء. "وفي كتاب أبي نعيم" عند نغض أو غضروف كتفه "الأيمن" ولا شك في شذوذ هذا لمباينته ما في الصحيح الواجب تقديمه، وعلم من تعبيره أولا باليسرى، وثانيًا بالأيمن، أن الكتف يذكر ويؤنث، وبه صرح ابن مالك. "وفي مسلم أيضًا" عن جابر بن سمرة أثناء حديث بلفظ: ورأيت الخاتم عند كتفه، "كبيضة" نقل بالمعنى، ولفظه: مثل بيضة "الحمامة" يشبه جسده، وأخرجه عنه أيضًا من وجه آخر مختصرًا بلفظ: رأيت خاتمًا في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام، ووقع في رواية لابن حبان: كبيضة نعامة. قال الحافظ الهيثمي: والصواب ما في الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر: قد تبين من رواية مسلم أنها غلط من بعض رواته. "وفي صحيح الحاكم" المستدرك: وكذا في الترمذي وأبي يعلى والطبراني كلهم من حديث عمرو بن أخطب، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادن فامسح ظهري"، فدنوت ومسحت ظهره ووضعت أصابعي على الخاتم، فقيل له: وما الخاتم؟ قال: "شعر مجتمع" عند كتفه، أي: ذو شعر أو فيه شعر، فلا ينافي حديث أبي سعيد عن البخاري في تاريخه، والبيهقي: أنه لحمة ناتئة، وكأنه رآه على استعجال فلم ير إلا الشعر فأخبر عنه. "وفي البيهقي" وأحمد وابن سعد من طرق عن أبي رمثة بكسر الراء وسكون الميم فثاء مثلثة، قال: انطلقت مع أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى "مثل السلعة" بين كتفيه بكسر فسكون فمهملة مفتوحة، أي: خراج كهيئة الغدة تتحرك بالتحريك، ورواه قاسم بن ثابت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وفي الشمائل: بضعة ناشزة. وفي حديث عمرو بن أخطب: كشيء يختم به. وفي تاريخ ابن عساكر: مثل البندقة. وفي الترمذي ودلائل البيهقي: كالتفاحة. وفي الروض: كأثر المحجمة القباضة على اللحم. وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: شامة خضراء محتفرة في اللحم.   حديث قرة بن إياس. "وفي الشمائل" للترمذي عن أبي سعيد الخدري، قال: الخاتم الذي بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم "بضعة" بفتح الموحدة، وحكي كما في الفتح ضمها وكسرها أيضًا وسكون المعجمة، أي: قطعة لحم "ناشزة" بنون وشين مكسورة، فزاي معجمتين مرتفعة ولأحمد عنه لحم ناشز بين كتفيه، وللبيهقي والبخاري في التاريخ عنه لحمة ناتئة وكلتا الروايتين تفسر رواية بضعة. "وفي حديث" ابن أبي شيبة عن "عمرو بن أخطب" بفتح الهمزة وسكون المعجمة صحابي بدري خرج له مسلم والأربعة، "كشيء يختم به" لفظ ابن أبي شيبة عنه: رأيت الخاتم على ظهره صلى الله عليه وسلم هكذا؛ كأنه يختم به، أي: على صورة الآلة التي يختم بها. وفي الشمائل عنه: "شعرات مجتمعات، ومر لفظ الجماعة عنه: شعر مجتمع، فيحمل على أن مراده أن الشعرات على صورة الشيء الذي يختم به بلا منافاة. "وفي تاريخ ابن عساكر" وتاريخ الحاكم وصحيح ابن حبان عن ابن عمر: "مثل البندقة" من اللحم "وفي" جامع "الترمذي ودلائل البيهقي" عن أبي موسى الأشعري"كالتفاحة" ولفظه: كان خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. "وفي الروض" الأنف على قول ابن هشام كان كأثر المحجم، يعني: "كأثر المحجمة" بكسر الميم "القابضة على اللحم" حتى يكون ناتئًا، انتهى كلام الروض. قال الشامي: هي الآلة التي يجتمع بها دم الحجامة عند المص، والمراد من أثرها اللحم الناتئ من قبضها عليه ويأتي أنه غير ثابت، أي: ضعيف. وقد رواه أحمد والبيهقي عن التنوخي رسول هرقل في حديثه الطويل بلفظ: فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف، مثل المحجمة الضخمة. "وفي تاريخ" أبي بكر "بن أبي خيثمة" عن بعضهم "شامة خضراء محتفرة" بالراء، أي: غائرة "في اللحم" مغطاة بالجلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وفيه أيضًا: شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات كأنها عرف الفرس. وفي تاريخ القضاعي: ثلاث شعرات مجتمعات. وفي كتاب الترمذي الحكيم: كبيضة حمام، مكتوب في باطنها: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها: توجه حيث كنت فإنك منصور. وفي كتاب المولد لابن عائذ: كان نورًا يتلألأ. وفي سيرة ابن أبي عاصم: عذرة كعذرة الحمام ....................   "وفيه أيضًا" عن عائشة، قالت: كان خاتم النبوة "شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكمات" مجتمعات "كأنها عرف" بضم العين شعر عنق "الفرس" أي: في الاجتماع، ويأتي أنهما غير ثابتين. "وفي تاريخ" أبي عبد الله محمد بن سلامة "القضاعي" بضم القاف وضاد معجمة وعين مهملة مر بعض ترجمته "ثلاث شعرات مجتمعات" بجره نعت لشعرات، ورفعه نعت لثلاث. "وفي كتاب" نوادر الأصول للإمام الحافظ محمد بن علي "الترمذي الحكيم" الصوفي سمع الكثير من الحديث بالعراق ونحوه، وهو من طبقة البخاري حدث عن قتيبة بن سعيد وغيره، وحسبك فيه قول الحافظ ابن النجار في تاريخه: كان إمامًا من أئمة المسلمين له المصنفات الكبار في أصول الدين ومعاني الحديث، لقي الأئمة الكبار وأخذ عنهم. وقول أبي نعيم في الحلية: له التصانيف الكثيرة في الحديث، مستقيم الطريقة تابع للأثر له حكم عليه الشأن، وقول ابن عطاء الله: كان الشاذلي والمرسي يعظمانه جدًا، ولكلامه عندهما الحظوة التامة، ويقولان: هو أحد الأوتاد الأربعة. وأطال القشيري وغيره الثناء عليه، مات سنة خمس وتسعين ومائتين. "كبيضة حمامة مكتوب في باطنها" أي: البيضة، قال شيخنا: ولعل المراد ما يلي جسده الشريف. "الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها" قال شيخنا: لعل المراد ما يقابل الجهة التي خلفه "توجه حيث كنت" أي: إلى أي جهة أردت، فلا تفرق بين مكان ومكان، "فإنك منصور" ورواه أبو نعيم أيضًا ويأتي أنه غير ثابت، وقال في المورد: هو حديث باطل، انتهى. ولا يقدح في جلاله من خرجه؛ لأن المحدثين عندهم إذا أبرزوا الحديث بسنده برءوا من عهدته. "وفي كتاب المولد" النبوي "لابن عائذ" بمهملة فتحتية فمعجمة عن شداد بن أوس "كان نورًا يتلألأ" أي: صورة ذات نور كأنه لشدته ما يمكن من وصفه بصورة يعبر بها عنه، "وفي سيرة ابن أبي عاصم عذرة كعذرة الحمام" في النهاية العذرة بالضم وجع في الحلق يهيج من الدم أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 قال أبو أيوب: يعني قرطمة الحمامة. وهي نقطة على أصل منقارها كما يأتي فليس المراد بالعذرة حقيقتها. وفي تاريخ نيسابور: مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم: محمد رسول الله. وعن عائشة: كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة، وكان مما يلي الفقار قالت: فلمسته حين توفي فوجدته قد رفع.   قرحة تخرج في الخرم الذي بين الأنف والحلق. "قال أبو أيوب: يعني قرطمة الحمامة وهي نقطة على أصل منقارها، كما يأتي فليس المراد بالعذرة حقيقتها وفي تاريخ نيسابور" بفتح النون لأبي عبد الله الحاكم، وكذا في صحيح ابن حبان من طريق إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند: حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عمر، قال: كان خاتم النبوة على ظهره صلى الله عليه وسلم "مثل البندقة من اللحم مكتوب فيه باللحم" يحتمل أن اللحم بارز أو غائر بحروف "محمد رسول الله" ولا يتوهم أحد أنه بمداد مع قوله: باللحم، ويأتي أنه ضعيف وإنما قصر عزوه لتاريخ الحاكم لزيادته على ابن حبان لفظًا باللحم، ولقوله: "و" فيه أيضًا "عن عائشة" رضي الله عنها "كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة" بضم الدال السواد، "وكان مما يلي الفقار" بفتح الفاء وكسرها؛ كما في القاموس. واقتصر المصباح على الفتح، فقال جمع فقارة كسحاب جمع سحابة عظام الظهر. "قالت فالتمسته حين توفي فوجدته قد رفع" أي: ظهوره، فاختفى في جسده كما تتقلص الأنثيان عند الوفاة، لا أنه نزع من جسده فلا ينافي قول شيخ الإسلام الولي ابن العراقي في جواب سؤال، وأما دفنه معه فلا شك فيه؛ لأنه قطعة من جسده، انتهى. وعليه: فهل يبعث به يوم القيامة ظاهرًا في جسده كالدنيا إظهارًا لشرفه بتلك العلامة التي لم تكن لغيره، فإن شامات الأنبياء كانت في أيديهم أم لا؟ فإن قيل: النبوة والرسالة باقيتان بعد الموت، كما هو مذهب الأشعري وعامة أصحابه؛ لأن الأنبياء أحياء في قبورهم فلم رفع ما هو علامة على ذلك؟ أجيب: بأنه لما وضع لحكمة هي تمام الحفظ والعصمة من الشيطان، وقد تم الأمن منه بالموت، لم يبق لبقائه من جسده فائدة، لكن توقف العلامة الشامي في رفعه عند الوفاة المروي هنا عن عائشة، قال: لا أظنه صحيحًا، فينظر سنده. قال: وروى أبو نعيم والبيهقي من طريق الواقدي عن شيوخه، قالوا شكوا في موته صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: مات، وبعضهم لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 حكى هذا كله الحافظ مغلطاي. لكن قال في فتح الباري: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم، أو الشامة السوداء أو الخضراء، أو المكتوب عليها: محمد رسول الله، أو: سر فإنك المنصور. لم يثبت منها شيء. قال: ولا تغتر بشيء مما وقع منها في صحيح ابن حبان، فإنه غفل حيث صحح ذلك. وقال الهيثمي .................................   فقالت: قد مات قد رفع الخاتم من بين كتفيه، قال: والواقدي متروك، بل كذبه جماعة. "حكى هذا" الذي ساقه المصنف من اختلاف الروايات في قدر الخاتم "كله الحافظ مغلطاي" في الزهر الباسم مقرًا له ومن قبله الحافظ القطب الحلبي، وبقي من الروايات: أنه كركبة عنز، رواه الطبراني وابن عبد البر وأبو نعيم في المعرفة من حديث عباد بن عبد عمرو، وزاد: وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يرى الخاتم، وسنده ضعيف. ورواه ابن عساكر من طريق أبي يعلى، وقال: كركبة البعير. قال في الإصابة: وفي سنده من لا يعرف، وقال الشامي: هو وهم من بعض رواته؛ كأنه تصحف عليه كركبة عنز بركبة بعير، وأنه بين كتفيه كدارة القمر مكتوب فيها سطران، الأول: لا إله إلا الله، وفي السطر الأسفل: محمد رسول الله؛ رواه أحمد بن إسماعيل الدمشقي، قال في المورد والغرور: وهو باطل بين البطلان، وأنه كبيضة نعامة، رواه ابن حبان، ومر أنه غلط. "لكن قال" شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر "في فتح الباري: ما ورد من أن الخاتم كان كأثر المحجم" كما في الروض وغيره "أو الشامة السوداء أو الخضراء" كما في تاريخ ابن أبي خيثمة "أو المكتوب عليها محمد رسول الله"؛ كما في تاريخ الحاكم وغيره "أو سر فإنك المنصور" كما في النوادر، "لم يثبت منها شيء" بل بعضها باطل، وبعضها ضعيف، فلا معنى لذكرها مع السكوت عليها، قال -أعني الحافظ: وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في شرح السيرة، وتبعه مغلطاي ولم يبينا شيئًا من حالها، والحق ما ذكرته. قال: ولا تغتر بشيء مما وقع منها في صحيح ابن حبان، فإنه غفل" بفتح الفاء وتكسر، ذكره الأنصاري، "حيث صحح ذلك" بإيراده في صحيحه المسمى بالأنواع والتقاسيم، "وقال" الحافظ نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان "الهيثمي" رفيق أبي الفضل العراقي ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، ورافق العراقي في سماع الحديث ولازمه، وألف وجمع ومات في تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانمائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 في "مورد الظمآن" بعد أن أورد الحديث ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه: محمد رسول الله. اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به. وبخط الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق ابن إبراهيم قاضي سمرقند وهو ضعيف. وقوله: زر الحجلة -بالزاي والراء- والحجلة -بالحاء المهملة والجيم- قال النووي: هي واحدة الحجال، وهي بيت كالقبة، لها أزرار كبار وعرًا، هذا هو الصواب. وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف. وزرها بيضها، وأشار إليه الترمذي   وفي نسخة: وقال شيخه الهيثمي: والضمير لصاحب فتح الباري؛ لأنه شيخه وذكره في مشايخه "في مورد الظمآن" إلى زوائد ابن حبان "بعد أن أورد الحديث، ولفظه: مثل البندقة من اللحم مكتوب عليه محمد رسول الله، اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به" صلى الله عليه وسلم "وبخط" تلميذه "الحافظ ابن حجر على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم" راويه عن ابن جريج "قاضي سمرقند" بفتح المهملة والميم وسكون الراء وفتح القاف وسكون النون ودال مهملة: مدينة عظيمة، يقال لها اثنا عشر بابًا بين كل بابين فرسخ وهو معرب شمركند بالمعجمة والكاف، قال المجد: وإسكان الميم وفتح الراء لحن، "وهو ضعيف" فلا يعول على مروياته، ثم أخذ في تفسير بعض ما مر على عادتهم، فقال: "وقوله: زر الحجلة بالزاي والراء" بعدها في المشهور، وبه جزم عياض وغيره، وقيل قبلها: حكاه الخطابي، وفسره بأنه البيض، يقال: رزت الجرادة بفتح الراء وشد الزاي غرزت ذنبها في الأرض لتبيض، قال التوربشتي: وهو أوفق بظاهر الحديث، لكن الرواية لا تساعده. وقال في المفهم، العرب لا تسمي البيضة رزة ولا تؤخذ اللغة قياسًا والمصنف محتمل للقولين، "والحجلة بالحاء المهملة والجيم" المفتوحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء أو كسرها. "قال النووي" في شرح مسلم "هي واحدة الحجال، وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرا" جمع عروة، قال السيوطي وغيره: هي المعروفة الآن بالبخانة، "هذا هو الصواب" في تفسيرها، وبه جزم الأزهري، فقال في التهذيب: الحجلة بيت كالقبة يستر بالثياب ويجعل له باب من جنسه فيه زر وعروة تشد إذا أغلقت، قال القرطبي: وهو المشهور والأشبه بالمعنى، وبه جزم السهيلي، فالزر على هذا حقيقة؛ لأنها ذات أزرار وعرا. "وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف وزرها بيضها، وأشار إليه الترمذي" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وأنكره عليه العلماء. وقوله: جمع -بضم الجيم وإسكان الميم- أي كجمع الكف، وصورته: أن تجمع الأصابع وتضمها. وقوله: خيلان -بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية- جمع خال، وهو الشامة على الجسد. وقوله: نغض -بالنون والغين والضاد، المعجمتين- قال النووي: النُّغْض والنَّغْض والناغض: أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه ............   فقال في جامعه: المراد بالحجلة هذا الطائر وزرها بيضها "وأنكره عليه العلماء"؛ لأن اللغة لا تساعد على الزر بمعنى البيض وحمله على الاستعارة تشبيهًا لبيضها بأزرار الحجال إنما يصار إليه إذا ورد ما يصرف اللفظ عن ظاهره، لكن قال ابن الأثير: يشهد له حديث مثل بيضة الحمامة، وقيل: المراد بالحجلة من حجل الفرس، نقله البخاري في الصحيح عن محمد بن عبيد الله، واستبعده السهيلي بأن التحجيل إنما يكون في القوائم؛ وأما الذي في الوجه، فهو الغرة. قال الحافظ: وهو كما قال: إلا أن منهم من يطلقه على ذلك مجازًا، وكأنه أراد أنها قدر الزور إلا فالغرة لا زر لها، انتهى. وفيه ما قد يجاب به عن قول ابن قرقول: إن كان سمى البياض بين عيني الفرس حجلة لكونها بياضًا؛ كما سمي بياض القوائم تحجيلا، فما معنى الزر؟ مع هذا لا يتجه لي فيه وجه. "وقوله: جمع، بضم الجيم" جزم به ابن الأثير وغيره وحكى ابن الجوزي وابن دحية كسرها، وجزم به في المفهم. "وإسكان الميم، أي: كجمع الكف، وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها" أي: الأصابع إلى باطن الكف؛ كالقابض على شيء هذا المتبادر، واحتمال أن ذلك مع انتشارها بعيد جدًا، بل يمنعه جواب عياض الآتي في المتن، وتفسير المصنف هذا حكاه في الروض عن القتيبي، وصدر بقوله: يعني كالمحجمة لا كجمع الكف، ومعناه كمعنى الأول، أي: كأثر الجمع، كذا قال: وهو تكلف والمتبادر تفسير ابن قتيبة، وقد تبعه عليه عياض والنووي والمصنف وغيرهم، الآتي. "وقوله خيلان بكسر الخاء المعجمة وإسكان التحتية جمع خال، وهو الشامة على الجسد" جمعها شام وشامات، "وقوله: نغض، بالنون" تضم وتفتح "والغين" الساكنة "والضاد المعجمتين، قال النووي: النغض" بضم النون "والنغض" بفتحها "والناغض" بألف بين النون والغين، "أعلى الكتف" وهو رأس لوحه، "وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عند التحرك بأعضاء التحرك، سمي ناغضًا للحركة. وقوله: بضعة ناشزة -بالمعجمة والزاي- قطعة لحم مرتفعة على جسده. وبيضة الحمامة: معروفة. انتهى. والثآليل -بالمثلثة- جمع ثؤلول: وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها. وفي القاموس: وقرطمتا الحمام -أي بكسر القاف- نقطتان على أصل منقاره. وقال بعض العلماء: اختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة، وليس ذلك باختلاف، بل كل شبه بما سنح له، وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو: قطعة لحم، ومن قال: شعر، فلأن الشعر حوله متراكم عليه، كما في الرواية الأخرى.   عند التحرك بأعضاء التحرك"، وفي شرح مسلم للآبي، قال المازري: قال شمر: الناغض من الإنسان أصل العنق حيث ينغض رأسه ونغض الكتف هو العظم الرقيق على طرفه. وقال غيره: الناغض فرع الكتف، "سمي نغضًا للحركة" ومنه قيل للظلم ناغض؛ لأنه يحرك رأسه إذا عدا، أي: جرى. وقال النووي: ناغض الكتف ما رق منه، سمي بذلك لنغوضه، أي: لتحركه، نغض رأسه حركه، ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} [الإسراء: 51] ، أي: يحركونها استهزاء. "وقوله: بضعة ناشزة بالمعجمة" المكسورة "والزاي قطعة لحم مرتفعة على جسده وبيضة الحمامة معروفة، انتهى" كلام النووي. "والثآليل بالمثلثة، جمع ثؤلول" بهمزة ساكنة وزان عصفور، ويجوز تخفيف الهمزة بإبدالها واوًا، "وهو حب يعلو ظاهر الجسد، واحدته كالحمصة فما دونها" وفي المفهم الخيلان جمع خال، وهي نقط سود كانت على الخاتم شبهها لسعتها بالثآليل، لا أنها كانت ثآليل، انتهى. "وفي القاموس: وقرطمتا الحمام" قال المصنف "أي: بكسر القاف" لأن صاحب القاموس عطفه على قوله: وقرطمة بالكسر بلدة بالأندلس، وقرطمتا الحمام. "نقطتان على أصل منقاره، وقال بعض العلماء: اختلفت أقوال الرواة في خاتم النبوة" على نحو عشرين قولا، "وليس ذلك باختلاف" حقيقي "بل كل شبه بما سنح" ظهر "له" لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستهر وواصفه أما رآه من غير قصد؛ كما في حديث عمرو بن أخطب: أو أراه له عليه السلام كما في قصة سلمان مع مزيد ما حواه صلى الله عليه وسلم من المهابة، "وكلها ألفاظ مؤداها واحد، وهو طعة لحم" بارزة عليها شعرات، "فمن قال: شعر فلأن الشعر حوله متراكم" مجتمع "عليه؛ كما في الرواية الأخرى" عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وقال القرطبي: الأحاديث الثابتة دالة على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلل، قدر بيضة الحمامة، وإذا كثر: جمع اليد. وقال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة، متفقة على أنه شاخص في جسده، قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة ............................   عائشة، فإن أشكل برواية محتفرة في اللحم، أجيب: بأنها إن صحت يجوز أن حولها احتفار ليزداد ظهورها وتميزها عن الجلد. "وقال" أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم الأنصاري "القرطبي" المالكي الفقيه المحدث نزيل الإسكندرية ومدرسها، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وتوفي في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، واختصر الصحيحين، وصنف المفهم في شرح صحيح مسلم، فقال فيه: "الأحاديث الثابتة دالة" وفي نسخة: تدل "على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر إذا قلل" قيل فيه: هو "قدر بيضة الحمامة، وإذا كثر" قيل فيه: هو "جمع اليد" أي: قدره فقدر وجمع مرفوعان ويجوز النصب بتقدير كان، وحاصله: أن اختلافه باختلاف الأحوال، وكذا يقال في الاختلاف في لونه. "قال القاضي" أبو الفضل "عياض" بن موسى بن عياض السبتي الدار والبلاد الأندلسي الأصل، حافظ مذهب مالك الأصولي العلامة الحافظ إمام المحدثين وأعرف الناس بعلومه وبالتفسير وفنونه وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، شاعر بليغ حليم صبور جواد كثير الصدقة صاحب التصانيف المشهورة؛ كشرح مسلم والشفاء والأعلام والمشارق، وهو كتاب لو وزن بالجوهر أو كتب بالذهب كان قليلا فيه، وفيه أنشد: مشارق أنوار تبدت بسبتة ... ومن عجب كون المشارق بالغرب ولد بسبتة سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي متغربًا عن وطنه في شهر رمضان أو جمادى الآخر سنة أربع وأربعين وخمسمائة، ودفن بمراكش، وقيل مات مسمومًا سمه يهودي. "وهذه الروايات" الإشارة إلى جملة روايات ذكرها في شرح مسلم: هي مثل بيضة الحمامة وبضعة ناشزة ومثل السلعة وزر الحجلة، عند ناغض كتفه اليسرى جمعًا، ثم قال: وهذه الروايات كلها "متقاربة" في المعنى "متفقة على أنه شاخص" بارز مرتفع "في جسده قدر بيضة الحمامة، وزر الحجلة" أي: وعليه شعر، ولما كان ذا الجمع شاملا للروايات السابقة، كلها ذكره المصنف عقبها، ولم يبال بأن عياضًا إنما ذكره عقب الروايات المذكورة عنه. "وأما رواية جمع الكف، فظاهرها المخالفة. فتتأول" تحمل "على وفق الروايات الكثيرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ويكون معناه: على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. قال: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه. قال النووي: هذا الذي قاله ضعيف، بل باطل، لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه. انتهى. ويشهد له قول أنس في حديث عند مسلم, يأتي في ذكر قلبه الشريف، من المقصد الثالث، إن شاء الله تعالى: فكنت أرى أثر المخيط في صدره. لكن أجيب: بأن في حديث عتبة بن عبد السلمى -عند أحمد والطبراني- أن الملكين لما شقا صدره قال أحدهما ..................................   ويكون معناه على هيئة جمع الكف، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة" وتبعه على ذا الجمع النووي، "قال" يعني عياضًا: "وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه، قال النووي: هذا الذي قاله ضعيف بل باطل؛ لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه، انتهى" وفي المفهم: هذا غلط من عياض؛ لأن الشق إنما كان في صدره وأثره إنما كان خطأ واضحًا من صدره إلى مراق بطنه؛ كما في الصحيح، ولم يرد قط في رواية أنه بلغ بالشق حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت لزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى أسفل بطنه؛ لأنه الذي يحاذي الصدر من مسيرته إلى مراق البطن، قال: فهذه غفلة من القاضي، قال: ولعل هذا الغلط وقع من بعض الناسخين لكتابه، فإنه لم يسمع عليه فيما علمت، انتهى. "ويشهد له قول أنس في حديث عند مسلم يأتي في ذكر قلبه الشريف من المقصد الثالث إن شاء الله تعالى، فكنت أرى أثر المخيط" بكسر الميم: ما يخاط به، "في صدره" صلى الله عليه وسلم، وظاهره: أنه كان بآلة كالشق وبدل له قول الملك في حديث أبي ذر: خط بطنه فخاطه، صلى الله عليه وسلم وظاهره: أنه كان بآلة كالشق ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر: خط بطنه فخاطه، وقوله في حديث عتبة بن عبد حصه فحاصه، وقد وقع السؤال عن ذلك ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرض له بعد التتبع. وأما قوله: "وأتيت بالسكينة فوضعت في صدري"، فالصواب كما قال ابن دحية: تخفيف السكينة لذكرها بعد شق البطن، خلافًا للخطابي ذكره الشامي. "لكن أجيب" عن عياض؛ كما ذكره الحافظ متبرئًا من الاعتراض عليه، "بأن في حديث عتبة بن عبد" بلا إضافة "السلمى" أبي الوليد صحابي شهير أول مشاهده قريظة، مات سنة سبع وثمانين، ويقال: بعد السبعين، وقد قارب المائة رضي الله عنه. "عند أحمد والطبراني" وغيرهما ويأتي لفظه قريبًا، "أن الملكين لما شقا صدره" صلى الله عليه وسلم، وهو في بني سعد بن بكر، "قال أحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 للآخر: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه حمل القاضي عياض ذلك على أن الشق لما وقع في صدره، ثم خيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر الختم. وفهم النووي وغيره منه: قوله بين كتفيه متعلق بالشق وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم، وحينئذ فليس ما قاله القاضي عياض باطلا، انتهى،   للآخر: خطه فخاطه" نقل بالمعنى، وإلا فالرواية حصه فحاصه، قال الشامي: بمهملة مضمومة، أي: خطه يقال حاص الثوب يحوصه حوصًا، إذا خاطه. "وختم عليه بخاتم النبوة، فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه، حمل القاضي عياض ذلك على أن الشق لما وقع في صدره، ثم خيط حتى التأم" عاد "كما كان، ووقع الختم بين كتفيه كان ذلك أثر" عقب "الختم، وفهم النووي وغيره" كالقرطبي "منه قوله: بين كتفيه، متعلق بالشق" فغلطوه "وليس كذلك" أي: كما فهموه "بل هو متعلق بأثر الختم". قال الحافظ: ويؤيده ما في حديث شداد عند أبي يعلى وأبي نعيم: أن الملك لما أخرج قلبه وغسله ثم أعاده ختم عليه بخاتم في يده من نور، فامتلأ نورًا وذلك نور النبوة والحكمة، فيحتمل أن يكون ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر؛ لأن القلب في تلك الجهة. وفي حديث عائشة عند الطيالسي والحارث وأبي نعيم: "أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المبعث هبط جبريل فسبقني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه لأمه، ثم ألقاني وختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، وقال: "اقرأ" وذكر الحديث، فهذا مسند القاضي. "وحينئذ فليس ما قاله القاضي عياض باطلا انتهى" جواب الحافظ رحمه الله. وأجاب أبو عبد الله الآبي بأنه نص في حديث أبي ذر أن وضع الخاتم كان بعد الشق، قال: فلفظة أثر في كلام القاضي ليست بفتح الهمزة والثاء، وإنما هي بكسر الهمزة وسكون الثاء، ويتخرج الكلام على حذف مضاف تتعلق به لفظة بين، أي: وضع هذا الخاتم بين كتفيه أثر شق الصدر والكلام مستقيم دون غلط، ولا بطلان وإنما جاء ما فهماه من قبيل التصحيف، انتى. وفي نسيم الرياض: حديث أبي ذر المذكور موافق لكلام عياض سواء قرئ أثر بفتحتين أو بكسر فسكون. أما الثاني فظاهر، وأما على الأول، فلأنه لما وقع بعده وبسببه جعل أثرًا، انتهى. وأجاب بعضهم بأن قوله بين كتفيه خبر بعد خبر؛ لقوله هو فقد تحامل من اعترض عياضًا؛ لأن مثل هذا ظاهر جدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقال السهيلي: والصحيح أنه -يعني خاتم النبوة- كان عند نغض كتفه الأيسر. واختلف هل ولد وهو به؟ أو وضع بعد ولادته؟ على قولين. وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه، في حديث أبي ذر .....................................   "قال السهيلي: والصحيح أنه يعني خاتم النبوة كان عند نغض كتفه الأيسر" كما في مسلم، ففيه رد رواية الأيمن ووقع في حديث شداد في مغازي ابن عائذ في قصة شق صدره، وهو في بلاد بني سعد بن بكر، وأقبل الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه، قال الحافظ: وتبعوه وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده، ومنعه شيخنا بجواز أن الختم وقع بين كتفيه في مقابلة ما بين الثديين فيكون الغرض تعيين موضعه عنده، قلت: وهو وجيه، لولا مباينته لما في مسلم أنه نغض كتفه المفسر بأعلى الكتف. "واختلف" في جواب قول السائل: "هل ولد وهو به أو وضع بعد ولادته على قولين؟ " فقيل: ولد به، نقله ابن سيد الناس، ورده في الفتح بأن مقتضى الأحاديث السابقة أن الخاتم لم يكن موجودًا حين ولادته، قال: ففيها تعقب على من زعم أنه ولد به، واختلف القائلون بالثاني، فقيل: حين ولد، نقله مغلطاي عن يحيى بن عائذ، وورد به حديث ابن عباس عند أبي نعيم وغيره وفيه نكارة، قيل: عند شق صدره وهو في بني سعد. وورد في حديث عتبة بن عبد عند أحمد والطبراني وقطع به عياض. قال الحافظ: وهو الأثبت. وفي حديث عائشة المار قريبًا أنه عند المبعث، وعند أبي يعلى وابن جرير الحاكم في حديث المعراج من حديث أبي هريرة: ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وطريق الجمع أن الختم تكرر ثلاث مرات في بني سعد، ثم عند المبعث، ثم ليلة الإسراء؛ كما دلت عليه الأحاديث، ولا بأس بهذا الجمع، فإن فيه إعمال الأحاديث كلها إذ لا داعي لرد بعضها وإعمال بعضها، لصحة كل منها، وإليه أشار الشامي؛ كما مر. وأما رواية بعد الولادة فضعيفة، وأما أنه ولد به، فضعيف أيضًا بطلب زاعمه، بدليله. "وقد وقع التصريح بوقت وضع الخاتم، وكيف وضع، ومن وضعه في حديث أبي ذر" جندب بن جنادة أو يزيد ابن جنادة أو جندب بن سكن أو خلف بن عبد الله الغفاري قديم الإسلام، ذي الزهد الزائد والفضل المنوه عليه بقول خير شاهد: "ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء بعد النبيين امرأ أصدق لهجة من أبي ذر"، وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 عند البزار وغيره قال: قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبي، وبم علمت أنك نبي حتى استيقنت؟ قال: $"أتاني آتيان، وفي رواية ملكان، وأنا ببطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: زنه برجل" ... الحديث ............................   وذكر ابن الربيع أنه سكن مصر مدة ثم خرج منها لما رأى اثنين تنازعا في موضع لبنة؛ كما أمره صلى الله عليه وسلم وحديثه في مسلم وغيره، مات بالربذة في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين، "عند البزار وغيره" كالدارمي وابن أبي الدنيا وابن عساكر والروياني والضياء في المختارة، "قال: قلت: يا رسول الله! " أخبرني "كيف علمت أنك نبي وبم؟ " بأي دليل "علمت أنك نبي حتى استيقنت" أي: تيقنت، أي: علمت، "أتاني آتيان"، وفي رواية: "ملكان" هما جبريل وميكائيل كما في النور، أتياه في صورة طائرين، فروى أحمد والدارمي والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وأبو نعيم عن عتبة بن عبد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زاد، فقلت: يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل إليّ طيران كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: حصه، فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة" الحديث. ولابن إسحاق ورواه البيهقي عن يحيى بن جعدة مرسلا يرفعه: "أن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد، فشق أحدهما بمنقاره صدري ومج الآخر بمنقاره فيه فغسله" قلت: فإن صحت هذه الرواية أفادت آلة الشق في هذه المرة، لكن قال السهيلي: هي رواية غريبة ذكرها يونس عن ابن إسحاق. "وأنا ببطحاء مكة" أي: بنواحيها؛ لأنه كان في بني سعد وليست بمكة إذ الأبطح بمكة المحصب، ولعله قال ذلك ليبين أنه في ابتداء أمره، إذ جوابه لأبي ذر كان بالمدينة وبهذا اندفع قول السهيلي: أنه وهم من بعض الرواة، ولم يقع في رواية البزار بطحاء مكة، انتهى. "فوقع" نزل "أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو، قال: زنه برجل" ... الحديث, أسقط منه ما لفظه: "فوزنني برجل فرجحته، ثم قال: زنه بعشرة فوزنني بعشرة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف فوزنني فرجحتهم، فجعلوا ينثرون علي من كفة الميزان؛ فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وفيه: "ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان".   "وفيه" عقب هذا، "ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه، فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان" بفتح الميمين وإسكان الغين المعجمة هكذا ضبطه البرهان وضبطه الشامي بكسر الميم الثانية، فالله أعلم. قال في العيون: وهو الذي يغمزه الشيطان من كل مولود إلا عيسى وأمه؛ لقول أمها حنة: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . ولأنه لم يخلق من مني الرجال وإنما خلق من نفخة روح القدس. قال السهيلي: ولا يدل هذا على فضله على المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عند نزع ذلك منه ملئ حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد، زاد البرهان: وقوله: "مغمز الشيطان" محل نظر، فإن جاء بسند صحيح فمؤول. وقد رواه مسلم، وقال: "هذا حظ الشيطان منك" انتهى. قلت: لا شك في صحة إسناده فقد صححه الضياء، وقد قال العلماء: إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم، وتأويله سهل هو أن هذا محل الغمز والغمز عبارة عما يؤلمه ويؤذيه، فهو من الأمراض الحسية التي الأنبياء فيها كغيرهم. وقد قال السهيلي: إنما كان ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني، وذلك المغمز راجع إلى الأب دون الابن المطهر صلى الله عليه وسلم، انتهى. وقوله: وقد رواه: أي: الحديث من حيث هو لا حديث أبي ذر؛ كما قد يوهمه فإن مسلمًا إنما رواه من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشق عن قلبه واستخرج القلب ثم شق القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، فأعاده مكانه وجعل الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فجاءوا وهو منقطع اللون، قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره؛ ورواه أحمد أيضًا عنه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره"، ورواه أحمد أيضًا عنه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من مولد يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه"، قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ، قال عياض: يريد أن الله قبل دعاءها مع أن الأنبياء معصومون. وفي رواية: فذهب ليطعن في خاصرته فطعنه من الحجاب، قال النووي: أشار عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركون عيسى في هذه الخصوصية، انتهى. وقد تعقب الآبي عياضًا بأن هذا الطعن من الأمراض الحسية والأنبياء فيها كغيرهم، فيحمل الحديث على العموم إلا فيما استثني ولا يحتاج لقوله: الأنبياء معصومون, انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وعلق الدم فطرحهما، فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن، ووليا عني، وكأني أرى الأمر معاينة".   قال الطيبي: النخس عبارة عما يؤلمه ويؤذيه، لا كما زعمت المعتزلة أنه تخييل واستهلاله صارخًا منه تصوير لطعمه فيه، انتهى. وقول الزمخشري: المراد بالمس الطمع في إغوائه واستثناء مريم وابنها لعصمتهما، ولما لم يخص هذا المعنى بهما عم الاستثناء كي من يكون على صفتهما شنع عليه التفتازاني بأنه إما تكذيب للحديث بعد صحته، وإما قول بتعليل الاستثناء والقياس عليه وليت شعري من أين ثبت تحقق طمع الشيطان ورجائه في أن هذا المولود محل لإغوائه ليلزمنا إخراج كل ما لا سبيل له إلى إغوائه فلعله يطمع في إغواء من سوى مريم وابنها ولا يتمكن منه، وقال قبل ذلك: طعن الزمخشري في الحديث بمجرد أنه لم يوافق هواه وإلا فأي مانع من أن يمس الشيطان المولود حين يولد بحيث يصرح كما يرى ويسمع، وليست تلك المسة للإغواء، انتهى. "وعلق الدم فطرحهما" صريح في أنه غير المغمز، وفي حديث عتبة بن عبد: "ثم استخرجا قلبي فشقاه، ثم أخرجا منه علقتين سوداوين" قال الشامي: فتكون إحداهما محل غمز الشيطان والأخرى منشأ الدم الذي قد يحصل منه إضرار في البدن، وعلى هذا فلا حاجة لما أجيب به عن حديث العلقتين؛ باحتمال أنها علقة واحدة انقسمت عند خروجها قسمين، فسمي كل جزء منها علقة مجازًا. "فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء" جمع ملاءة بالضم والمد: الثوب الذي يتغطى ب، وأسقط المصنف من حديث أبي ذر هذا، ما لفظه: ثم دعا بسكينة كأنها برهرة بيضاء، فأدخلت قلبي. قال السهيلي: البرهرة بصيص البشرة، وزعم الخطابي: أنه أراد بها سكينة بيضاء صافية الحديد، متمسكًا بأنه عثر على رواية فيها، فدعا بسكينة كأنها درهمة بيضاء، قال ابن الأنباري: هي السكينة المعوجة الرأس، التي تسميها العامة: المنجل بالجيم، قال ابن دحية: والصواب السكينة بالتخفيف لذكرها بعد شق البطن، فإنما عنى بها فعلية من السكون وهي أكثر ما تأتي في القرآن بمعنى السكون والطمأنينة. "ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني" هذا لفظ حديث أبي ذر، وحديث عتبة: حصه فحاصه؛ كما مر. "وجعل الخاتم بين كتفي، كما هو الآن" فصرح بأنه ما ولد بالخاتم، وإن واضعه الملك وكيفية وضعه، "ووليا عني وكأني أرى الأمر" الآن "معاينة" أي: عيانًا إشارة إلى شدة استحضاره، وهذا الحديث وإن أورده الشامي في أحاديث فيها ذكر شق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وعند أبي نعيم في الدلائل: أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد، ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة من حرير أبيض، فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، تضيء كالزهرة. وقيل: ولد به. روى الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال: لم يبعث الله نبيًا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنة، إلا أن يكون نبينا فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه. وعلى هذا: فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء قلبه مما اختص به على سائر الأنبياء والله أعلم.   الصدر من غير تعيين زمان، لكن سياق الحديث يدل على أنه كان في بني سعد، وبه صرح في حديث عتبة بن عبد، فيحمل انطلق على المقيد، فإن قيل: فكيف جعله صلى الله عليه وسلم علامة على النبوة، وإنما كانت بعد الأربعين؟ أجاب شيخنا: بجواز أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى تلك الحالة العجيبة في صغره علم أنه يكون له شأن وصار مطمئنًا لم يرد عليه، فلما جاءه الوحي علم بالمقدمات المستقرة في نفسه أن هذا أمر من الله، ليس للشيطان فيه سبيل. "وعند أبي نعيم في الدلائل" في حديث طويل مر في ولادته عن ابن عباس، "أنه صلى الله عليه وسلم لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه" أي: أحضره الملك ذلك الوقت في الإبريق الفضة؛ كما مر في حديث أبي نعيم: "ثلاث غمسات، ثم أخرج سرقة" بفتح المهملة والراء والقاف، أي: قطعة. "من حرير أبيض" قال القاموس في باب القاف: السرقة محركة شقق الحرير الأبيض أو الحرير عامة الواحدة بهاء، انتهى. وبالقاف ضبط به الحافظ والمصنف والسيوطي وغيرهم، قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أريتك في المنام في سرقة من حرير". فأبعد من ضبط ما هنا بالفاء ناقلا قول القاموس في بابه السرف بضمتين شيء أبيض؛ كأنه نسج دود اقز فجعلها من حرير مجاز لمشابهتها له في الهيئة، انتهى. لاحتياجه إلى دعوى المجاز الذي لا قرينة له، إلا الوقوف مع النقطة "فإذا فيها خاتم" زاد فيما مر: يحار أبصار الناظرين دونه، "فضرب على كتفه" فأثر فيه ما صورته "كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة" بضم الزاي وفتح الهاء: النجم، قاله النووي وغيره، فأفاد في ذا الخبر أن الخاتم وضع عقب الولادة، فهو دليل القائل به لكن فيه نكارة؛ كما قدم المصنف كغيره. "وقيل ولد به" كذا يوجد في نسخ، والصواب: حذفه الاستغناء عنه؛ لقوله المار قريبًا، واختلف ... إلخ "وروى الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه" بضم الميم ففتح النون فشد الموحدة المكسورة، أنه "قال: لم يبعث الله نبيًا إلا وقد كان عليه شامات" علامات "النبوة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 " ذكر وفاة أمه وما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم ": ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربع سنين -وقيل: خمسًا، وقيل: ستًا، وقيل: سبعًا، وقيل: تسعًا، وقيل: اثنتي عشرة سنة وشهرًا وعشرة أيام- ماتت أمه بالأبواء وقيل: بشعب أبي ذئب بالحجون. وفي القاموس: ودار رائعة بمكة فيه مدفن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم.   يده اليمنى، إلا أن يكون" النبي المبعوث "نبينا، فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه" صلى الله عليه وسلم، "وعلى هذا فيكون وضع الخاتم بين كتفيه بإزاء" أي: حذاء، "قلبه مما اختص به على سائر الأنبياء" وبه جزم الجلال، فقال: وجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان، وسائر الأنبياء كان الخاتم في يمينهم، "والله أعلم". باب وفاة أمه وما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم: "ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربع سنين" فيما حكاه العراقي، وصدر به مغلطاي، فتبعه المصنف. "وقيل: خمسًا" حكاه مغلطاي ومثله في بعض نسخ الشامي، ويأتي دليله. وفي بعضها بدله عشرًا، وما أراه إلا تحريفًا. "وقيل: ستًا" وبه قطع ابن إسحاق، ويأتي قريبًا دليله، ووقع في نقل الخميس عن المصنف التصدير به وهو الأولى، فقد قدمه العراقي واقتصر عليه الحافظ وقد التزم الاقتصار على الأصح، غير أن الأول قال: ومائة يوم، والثاني: وثلاثة أشهر، فالمراد ستًا ونحوها. "وقيل: سبعًا" حكاه ابن عبد البر، "وقيل: تسعًا" حكاه مغلطاي ويقع في بعض النسخ خمس ست سبع تسع بدون ألف، وذكر أن خط المصنف كذلك فيخرج على أنه بالفتح على نية حذف المضاف إليه وإبقاء المضاف، أي: خمس سنين أو كتب بصورة المرفوع على لغة ربيعة. "وقيل: اثنتي عشرة سنة وشهرًا وعشرة أيام" حكاه مغلطاي، وبقي قول محمد بن حبيب وهو ابن ثمان سنين، حكاه أبو عمر. "ماتت أمه بالأبواء" بفتح الهمزة والمد: وادٍ بين مكة والمدينة، "وقيل: بشعب" بكسر المعجمة: ما انفرج بين جبلين أو الطريق في الجبل، قاله المصنف وغيره. "أبي ذئب" رجل من سراة بني عمرو، "بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم، قال المجد: جبل بمعلاة مكة، "وفي القاموس" في فصل الراء من باب العين المهملتين في روع "ودار رائعة" براء وبعد الألف تحتية، "بمكة فيه مدفن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم" وفي ذخائر العقبي قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 روى ابن سعد عن ابن عباس وعن الزهري، وعن عاصم بن عمرو بن قتادة دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم، ومعه أم أيمن، فنزلت به دار التابعة.   ابن مسعود: دفنت أمه صلى الله عليه وسلم بمكة وأهل مكة يزعمون أن قبرها في مقابر أهل مكة في الشعب المعروف بشعب أبي ذئب رجل من سراة بني عمرو، وقيل: في دار رائعة في المعلاة. ا. هـ. "وروى ابن سعد" محمد "عن ابن عباس" عبد الله، "وعن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "وعن عاصم بن عمرو بن قتادة" بن النعمان المدني الأنصاري الأوسي العالم الثقة كثير الحديث العلامة بالمغازي، مات سنة عشرين ومائة، خرج له الجماعة. "دخل حديث بعضهم في بعض". قال السيوطي تبعًا لغيره: معناه أن اللفظ لمجموعهم، فعند كل منهم ما انفرد به عن الآخر، انتهى. "قالوا" أرسله الثلاثة، إلا أن مرسل ابن عباس في حكم الموصول؛ لأنه مرسل صحابي. "لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين خرجت به أمه إلى أخواله بني عدي بن النجار" بإضافة الأخوال إليه مجازًا؛ لأنهم أخوال جده عبد المطلب؛ لأن أمه سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن عدي بن النجار النجارية. "بالمدينة تزورهم" نسب الزيارة لها؛ لأنها المرادة لها وهي المباشرة، وعند ابن إسحاق تزيره إياهم بضم الفوقية وكسر الزاي وسكون الياء من أزاره إذا حمله على الزيارة، أي: إنها قصدت بزيارتها نقل المصطفى إليهم وإراءته لهم. "ومعه" أضافها إليه لكونها حاضنته. وفي نسخة ومعها "أم أيمن" بركة الحبشية بنت ثعلبة بن حصن أعتقها أبو المصطفى وقيل: بل هو صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت لأمه أسلمت قديمًا وهاجرت الهجرتين مناقبها كثيرة. وفي صحيح مسلم وابن السكن عن الزهري: أنها ماتت بعده صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر، وقيل: بستة، قال البرهان: وبه يرد قول الواقدي ماتت في خلافة عثمان، وقد صرح بعضهم: بأنه شاذ منكر، انتهى. لكن أيده في الإصابة بما رواه ابن سعد بسند صحيح عن طارق بن شهاب لما قتل عمر بكت أم أيمن، فقيل لها: فقالت اليوم وهي الإسلام، وهذا موصول فهو أقوى من خبر الزهري المرسل واعتمد ابن منده وغيره قول الواقدي، وزاد ابن منده: أنها ماتت بعد عمر بعشرين يومًا، وجمع ابن السكن بين القولين بأن التي ذكرها الزهري هي مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرها طارق هي مولاة أم حبيبة واسم كل منها بركة، ويكنى أم أيمن، وهو محتمل على بعده، انتهى. "فنزلت به دار التابعة" بفوقية فموحدة فمهملة، رجل من بني عدي بن النجار؛ كما مر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فأقامت به عندهم شهرًا، فكان صلى الله عليه وسلم يذكر أمورًا كانت في مقامه ذلك، ونظر إلى الدار فقال: "ها هنا نزلت بي أمي، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار، وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليّ". قالت أم أيمن فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، فوعيت ذلك كله من كلامهم، ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت.   "فأقامت به عندهم شهرًا، فكان صلى الله عليه وسلم يذكر أمورًا كانت في مقامه" بضم الميم، "ذلك" الخطاب لكل من صلح له أو للجماعة المخاطبين به لتأويلهم بنحو القبيل أو الجمع أو القوم أو هو يجري على أن الكاف المتصلة باسم الإشارة تفتح مطلقًا، "ونظر" صلى الله عليه وسلم "إلى الدار" وهو بالمدينة بعد الهجرة، وهذا قد يشعر بأن ابن عباس حمل الحديث هذا عنه صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه حمله عن غيره وحدث به. فقال: "هاهنا نزلت بي أمي" وفي الرواية: "وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله". "وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار" استدل به السيوطي على أنه صلى الله عليه وسلم عام رادًا على القائل من معاصريه، الظاهر أنه لم يعم؛ لأنه لم يثبت أنه سافر في بحر ولا بالحرمين بحر، قال السيوطي: وروى أبو القاسم البغوي وابن عساكر مرسلا وابن شاهين موصولا عن ابن عباس: سبح صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غدير، فقال: "ليسبح كل رجل إلى صاحبه"، فسبح صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر حتى عانقه، وقال: "أنا وصاحبي، أنا وصاحبي". "وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليّ"، قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة، وهذه الدار، وهي المدينة "دار هجرته، فوعيت" حفظت "ذلك كله من كلامهم" عبر بالجمع؛ لأن اليهود لما خاطب به أصحابه وأقروه نسب إليهم. وفي نقل الشامي: فوعيت ذلك منه، وهي ظاهرة؛ لأن الضمير للأحد. "ثم رجعت به أمه" قاصدة "إلى مكة" سريعًا خوفًا عليه صلوات الله عليه من اليهود، ففي رواية أبي نعيم: قال صلى الله عليه وسلم: "فنظر إلي رجل من اليهود يختلف ينظر إلي، فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد، ونظر إلي ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى إخوانه فأخبرهم فأخبروا أمي فخافت علي فخرجنا من المدينة". وقدرنا قاصدة ليلاقي قوله: "فلما كانت بالأبواء توفيت" ودفنت فيها على المشهور، وهو قول ابن إسحاق، وجزم به العراقي وتلميذه الحافظ، ويعارضه ما مر؛ كالأحاديث من أنها بالحجون، وجمع بعض؛ كما في الخميس: بأنها دفنت أولا بالأبواء، وكان قبرها هناك، ثم نبشت ونقلت بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وروى أبو نعيم من طريق الزهري عن أسماء بنت رهم عن أمها قالت: آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها، ومحمد عليه السلام غلام يفع له خمس سنين عند رأسها، فنظرت أمه إلى وجهه ثم قالت: بارك فيك الله من غلام ... يابن الذي من حومة الحمام نجا بعون الملك العلام ... فودي غداة الضرب بالسهام بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت في المنام   "وروى أبو نعيم" في دلائل النبوة بسند ضعيف "من طريق" محمد "الزهري" ابن شهاب "عن أسماء بنت رهم" بضم الراء، وفي نسخة: بنت أبي رهم، وفي كتب السيوطي نقلا عن أبي نعيم عن أم سماعة بنت أبي رهم، فلعل اسمها أسماء وكنيتها أم سماعة، فتصرف المصنف لإفادة اسمها. "عن أمها، قالت آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في علتها التي ماتت بها" بسببها صورة، وفي نسخة فيها "ومحمد عليه الصلاة والسلام غلام" هو الطار الشارب أو من حين يولد إلى أن يشب؛ كما في القاموس وغيره، والمراد هنا الثاني، وفي الأساس الغلام الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعد الالتحاء غلام فهو مجاز. "يفع" بفتح الفاء؛ كما في القاموس وغيره، أي: مرتفع. "له خمس سنين" هذا دليل القول به؛ كما قدمنا. وإن أبيت إلا الجمع بينه وبين الحديث فوقه، فقل المراد خمس ونحوها، ولعلها جمعت بين هذا ولفظ غلام، مع أن هذا يغني عنه إشارة إلى ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من النجابة الظاهرة، فإن غلام يشعر بذلك بخلاف مجرد ذكر السن. "عند رأسها فنظرت أمه إلى وجهه، ثم قالت: "بارك فيك الله من غلام ... يابن الذي من حومة الحمام" وفي القاموس: حومة القتال وغيره معظمه أو أشد موضع فيه، والحمام الموت، وقيل: قدر الموت، وقضاؤه من حم كذا، أي: قدر، انتهى. والمعنى: هنا يابن الذي من سبب الموت. "نجا بعون الملك العلام" وفي نسخة المنعام، وهو ما أنشده السيوطي. "فودي" بالواو من فاداه مزيد، أقلبت الألف واوًا لانضمام ما قبلها حين بني للمجهول. وفي نسخة: فدى بلا واو من فداه مجردًا، أي: أعطى فداءه "غداة" صبيحة "الضرب بالسهام" والمراد بعد الضرب بالقداح بينه وبين إخوته حين أراد عبد المطلب وفاء نذره "بمائة من إبل سوام" بالفتح جمع سام أو سامية، بمعنى مرتفع أو مرتفعة، أي: فدي حين خرج عليه السهم بمائة إبل مرتفعة القيامة ثم سوام بدون ياء في أكثر النسخ، وهو الذي في كتب السيوطي، وفي بعضها ثبوت الياء، قال شيخنا: وهو القياس؛ لأن الياء أصلية. "إن صح ما أبصرت في المنام" خصته لتقدمه وتحققه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فأنت مبعوث إلى الأنام ... تبعث في الحل وفي الحرام تبعث في التحقيق والإسلام ... دين أبيك البر إبراهام فالله أنهاك عن الأصنام ... أن لا تواليها مع الأقوام ثم قالت: كل حي ميت، وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وأنا ميتة   عندها حتى كان ما رأته يقظة بعد؛ كالدليل على صحة المنام فلا يرد أنها رأت ما يدل على ذلك يقظة، فكان ذكره أولى لقوته على المنام، وعبرت بإن دون إذا لأن المقصود تعليق ما أولت به الرؤيا، ولا يلزم من كونها محققة أن ما أولت به محقق، وهذا من كمال فطنتها وفهمها حيث لم تجزم في التعليق بصحة ما رأته. "فأنت مبعوث إلى الأنام" الجن والإنس أو جميع من على وجه الأرض، ولعله المراد هنا لكونه أبلغ في التعظيم، وقد بعث صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن إجماعًا وإلى الملائكة عند كثير، واختاره جمع محققون. "تبعث في" بيان "الحل" أي: الحلال، "وفي" بيان "الحرام" أو تبعث في أرض الحل والبلد الحرام؛ فكأنها قالت: تبعث في جميع الأرض وليست بعثتك قاصرة على بلدة دون بلدة؛ كما كانت الرسل. "تبعث في" أي: لبيان، "التحقيق" الحق من الباطل، وبهذا يجاب عن قول السيوطي، كذا هو في النسخة وعندي أنه تصحيف وإنما هو بالتخفيف، انتهى. فحيث صح المعنى لا تصحيف "و" بيان "الإسلام" وأنه الدين "دين" بالجر بدل من الإسلام "أبيك البر" المحسن المطيع "إبراهام" بدل من أبيك وهو لغة في إبراهيم، قرأ بها ابن عامر في مواضع والصرف لمناسبة القوافي لا لقصد تنكيره لعدم صحته؛ لأنها إنما أرادت معينًا وهو الخليل بنص قولها: أبيك. "فالله أنهاك" نصب على التوسع، أي: فأنهاك مقسمة عليك بالله "عن" عبادة "الأصنام أن لا تواليها" لا تناصرها من الموالاة ضد المعاداة، أي: لا تعظمها بنحو عبادتها والذبح إليها والاستقسام عندها. "مع الأقوام" جمع قوم: الجماعة من رجال ونساء معًا في أحد الأقوال وبه صدر المجد، وهو المراد هنا؛ لأنه كان يواليها من الفريقين. "ثم قالت: كل حي ميت" بالتشديد، أي: سيموت. وأما بالتخفيف فمن حل به الموت؛ كما في القاموس وغيره، وليس مرادًا هنا. "وكل جديد بال وكل كبير" بالموحدة "يفنى" وفي نسخة بالمثلثة، قال شيخنا: وهي أظهر لدلالتها على فناء جميع الأشياء، "وأنا ميتة" بالتشديد، أي: سأموت. قال الخليلي: أنشد أبو عمرو: أيا سائلي تفسير ميت وميت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقلي فمن كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وذكري باق، وقد تركت خيرًا، وولدت طهرًا، ثم ماتت. فكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك: نبكي الفتاة البرة الأمينه ... ذات الجمال العفة الرزينه زوجة عبد الله والقرينه ... أم نبي الله ذي السكينه   "وذكري باق وقد تركت خيرًا" عظيمًا كثيرًا، أي: خير وهو المصطفى وكأنه كالتعليل لبقاء ذكرها، "وولدت طهرًا" أي: طاهرًا أطلق المصدر على اسم الفاعل، مبالغة وهذا أولى من تقدير ذا طهر، ومن استعماله بمعنى اسم الفاعل. "ثم ماتت" رضي الله عنها، وهذا القول منها صريح في أنها موحدة إذ ذكرت دين إبراهيم، وبعث ابنها صلى الله عليه وسلم بالإسلام من عند الله ونهيه عن الأصنام وموالاتها، وهل التوحيد شيء غير هذا التوحيد الاعتراف بالله وإلهياته وأنه لا شريك له، والبراءة من عبادة الأصنام ونحوها، وهذا القدر كاف في التبري من الكفر وثبوت صفة التوحيد في الجاهلية قبل البعثة، وإنما يشترط قدر زائد على هذا بعد البعثة، وقد قال العلماء في حديث: "الذي أمر بنيه عند موته أن يحرقوه ويسحقوه ويذروه في الريح" وقوله: "إن قدر الله عليّ فيعذبني" إن هذه الكلمة لا تنافي الحكيم بإيمانه، ولكن جهل فظن أنه إذ فعل ذلك لا يعاد ولا يظن بكل من كان في الجاهلية أنه كافر فقد تخلف فيها جماعة، فلا بدع أن تكون أمه صلى الله عليه وسلم منهم، كيف وأكثر من تحنف إنما كان سبب تحنفه ما سمعه من أهل الكتاب والكهان قرب زمنه صلى الله عليه وسلم من أنه قرب بعث نبي من الحرم صفته كذا، وأمه صلى الله عليه وسلم سمعت من ذلك أكثر مما سمعه غيرها، وشاهدت في حمله وولادته من آياته الباهرة ما يحمل على التحنف ضرورة، ورأت النور الذي خرج منها أضاء له قصور الشام، حتى رأتها كما ترى أمهات النبيين، وقالت لحليمة حين جاءت به وقد شق صدره: أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وأنه لكائن لابني هذا شأن في كلمات أخر من هذا النمط، وقدمت به المدينة عام وفاتها، وسمعت اليهود فيه وشهادتهم له بالنبوة ورجعت به إلى مكة، فماتت في الطريق فهذا كله مما يؤيد أنها تحنفت في حياتها، ذكره العلامة الحافظ السيوطي في كتاب الفوائد، وهو المسمى أيضًا التعظيم والمنة، شكر الله مسعاه. "فكنا نسمع نوح" مصدر ناح، أي: صياح "الجن عليها" أسفًا، "فحفظنا من ذلك" أبياتًا هي: "نبكي الفتاة" الشابة فإنها ماتت في حدود العشرين تقريبًا، ذكره السيوطي. "البرة" المحسنة، "المطيعة، "الأمينة" كيف وهي قرشية أما وأبا "ذات الجمال" البارع "العفة" بفتح العين وشد الفاء، "الرزينة" أي: ذات الوقار، "زوجة عبد الله والقرينة" عطف تفسير، ومنه قوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54، الطور: 20] ، أي: قرناهم لهن، "أم نبي الله ذي السكينة" الثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وصاحب المنبر بالمدينه ... صارت لدى حفرتها رهينه وقد روي أن آمنة آمنت به صلى الله عليه وسلم بعد موتها. فروى الطبري بسنده عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كئيبًا حزينًا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورًا، قال: "سألت ربي فأحيا لي أمي، فآمن بي ثم ردها". ورواه أبو حفص بن شاهين ..........................................   والطمأنينة، "وصاحب المنبر بالمدينة صارت لدى" أي: في "حفرتها" قبرها "رهينة" مرهونة، زاد في رواية: لو فوديت لفوديت ثمينه ... وللمنايا شفرة سنينه لا تبق ظعانًا ولا ظعينه ... إلا أتت وقطعت وتينه أما حللت أيها الحزينه ... عن الذي ذو العرش يعلي دينه فكلنا والهة حزينه ... تبكيك للعطلة أو للزينه وللضعيفات وللمسكينه ولما ذكر وفاة أمه وما يدل على موتها على التوحيد جره ذلك إلى حديث إحيائها وإحياء أبيه، لكن قدمها لكثرة الروايات فيها، فقال: "وقد روي أن آمنة آمنت به صلى الله عليه وسلم بعد موتها" أتى به ممرضًا لضعفه، أي: روى ذلك جماعة فصلهم بقوله: "فروى" الحافظ محب الدين أحمد بن عبد الله بن محمد، أبو العباس المكي "الطبري" الإمام المحدث الصالح، الزاهد الشافعي، فقيه الحرم ومحدث الحجاز، المتوفى في جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين وستمائة، "بسنده" فقال في سيرته: أنبأنا أبو إسحاق بن المقير، أنبأنا الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي إجازة، أنبأنا أبو منصور محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزاق الحافظ الزاهد، أنبأنا القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن الأخضر، حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه "عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كتيبًا حزينًا" صفة لازمة لكئيبًا، "فأقام به ما شاء الله عز وجل ثم رجع مسرورًا، قال" يخاطب عائشة بعد سؤالها له عن اختلاف حاليه؛ كما في الحديث التالي: "سألت ربي" إحياء أمي بدليل الحديث الآتي، ولا محيص عن هذا فخير ما فسرته بالوارد، "فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها" إلى ما كانت عليه من الموت. "ورواه" أي: حديث عائشة هذا بنحوه، "أبو حفص بن شاهين" الحافظ الكبير الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 في كتاب "الناسخ والمنسوخ" له، بلفظ: قالت عائشة: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر بي على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه، ثم أنه نزل فقال: "يا حميراء .............................   المفيد عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي، الثقة المأمون، صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفًا منها التفسير الكبير ألف جزء، والمسند ألف وثلاثمائة جزء، مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. "في كتاب الناسخ والمنسوخ له" بعد أن أورد قبله حديث الزيارة والنهي عن الاستغفار وجعله منسوخًا، وروى بعده هذا الحديث، فقال: حدثنا محمد بن الحسين بن زياد مولى الأنصار، حدثنا أحمد بن يحيى الحضرمي بمكة، حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى الحجون كئيبًا حزينًا، فأقام به ما شاء الله عز وجل، ثم رجع مسرورًا، فقلت: يا رسول الله! نزلت إلى الحجون كئيبًا حزينًا فأقمت به ما شاء الله ثم رجعت مسرورًا، قال: "سألت الله ربي فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها". هذا لفظ ابن شاهين، كما في كتب السيوطي وغيرها. وأما قوله: "بلفظ، قالت عائشة" فإنما عزاه القرطبي والسيوطي وغيرهما للخطيب فلعله سقط من قلم المؤلف والخطيب في السابق واللاحق، قال -أعني الخطيب- أنبأنا أبو العلاء الواسطي، حدثنا الحسين بن محمد الحلبي، حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الزاهد، حدثنا علي بن أيوب الكعبي، حدثنا محمد بن يحيى الزهري عن أبي غزية، حدثنا عبد الوهاب ابن موسى، حدثنا مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن عائشة، قالت: "حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي علي عقبة الحجون" أي: الطريق الموصل إلى الحجون، أو الإضافة بيانية "وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه" لفظ الخطيب: لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم إنه نزل، فقال: "يا حميراء" تصغير حمراء، أي: بيضاء للتحبب؛ كقولهم: يا بني يا أخي، وروى النسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة: دخلت الحبشة المسجد يلعبون، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا حميراء! أتحبين أن تنظري إليهم" فقلت: نعم، قال الحافظ: إسناده صحيح، ولم أر حديثًا صحيحًا فيه ذكر الحميراء غيره، انتهى. وروى الحاكم عن أم سلمة، قالت: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة: فقال: "انظري يا حميراء، أن لا تكوني أنت"، ثم التفت إلى علي فقال: "إن وليت من أمرها شيئًا، فارفق بها" قال الحاكم: صحيح على شرطهما. قال الذهبي: لكن عبد الجبار لم يخرجا له، قال في الفلك المشحون: هذا حديث فيه يا حميراء صحيح، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 استمسكي"، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث مليًا، ثم عاد إليّ وهو فرح متبسم فقال: "ذهبت لقبر أمي فسألت ربي أن يحييها، فأحياها فآمن بي وردها الله".   أي: وإن لم يكن على شرط الشيخين؛ لأن الصحيح مراتب. "استمسكي" أي: تمسكي بشيء يمنعك السقوط "فاستندت إلى جنب البعير، فمكث مليًا" بشد الياء زمانًا طويلا، ولفظ الخطيب: فمكث عني طويلا "ثم عاد إلي وهو فرح متبسم" أسقط من لفظ ابن شاهين ما تلي عليك، ومن رواية الخطيب، ما لفظه: فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم، فمم ذاك يا رسول الله؟ فقال: "ذهبت لقبر أمي فسألت ربي" ولفظ الخطيب: فسألت الله، "أن يحييها فأحياها، فآمنت بي، وردها الله" إلى الموت. وأخرج الدارقطني هذا الحديث من هذا الوجه، وقال: باطل وابن عساكر، وقال منكر وهشام لم يدرك عائشة فلعله سقط من كتابي عن أبيه، قال في اللسان: ثبت في رواية عن أبيه التي ظن أنها سقطت، فهو كما ظن يشير إلى روايتي الطبري وابن شاهين الثابت فيهما عن أبيه، كما قدمنا. وذكره ابن الجوزي في الموضوع ولم يتكلم على رجاله. وفي الميزان: أن عمر بن الربيع كذاب ورده في اللسان بأن الدارقطني ضعفه فقط، وقال مسلمة بن قاسم: تكلم فيه قوم ووثقه آخرون، وكان كثير الحديث. والكعبي، قال الذهبي: لا يكاد يعرف وكأنه تبع قول ابن عساكر مجهول، ورده في اللسان بأن الدارقطني عرفه وسماه علي بن أحمد ويأتي الكلام على باقي رجاله، فلا يتصور كونه موضوعًا بل هو ضعيف فقط. وكذا أورد رواية ابن شاهين في الموضوعات، وقال محمد بن زياد هو النقاش ليس بثقة، ومحمد بن يحيى وأحمد بن يحيى مجهولان. ورده السيوطي بأن محمد بن يحيى ليس مجهولا، فقد قال الدارقطني: متروك والأزدي ضعيف ومن ترجم بهذا إنما يكون حديثه ضعيفًا لا مضوعًا وكذا أحمد بن يحيى ليس بمجهول، فقد ذكره في الميزان، وقال: روى عن حرملة التجيبي وكنيته أبو سعيد ومن ترجم بهذا إنما يعتبر بحديثه، قال: وأما محمد بن زياد فإن كان هو النقاش، كما ذكر فهو أحد علماء القراءات وأئمة التفسير، قال في الميزان: صار شيخ المقرئين في عصره على ضعف فيه، أثنى عليه أبو عمرو الداني، وحدث بمناكير ومع ذلك لم ينفردا به، فله طريقان آخران عن أبي غزية، فذكر طريق الطبري وطريق الخطيب، قال: وأعله الذهبي بجهالة عبد الوهاب بن موسى وليس كما قال، بل هو معروف من رواة مالك، وقد وثقه الدارقطني وأقره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به. أورده السهيلي، وكذا الخطيب في السابق واللاحق. وقال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل. وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدًا، وسنده مجهول.   الحافظ ابن حجر، ولم ينقل عن أحد فيه جرح، فتلخص أن الحديث غير موضوع قطعًا؛ لأنه ليس في رواية من أجمع على جرحه فإن مداره على أبي غزية بن عبد الوهاب، وقد وثق ومن فوقه من مالك فصاعدًا، لا يسأل عنهم لجلالتهم والساقط بين هشام وعائشة وهو عروة؛ كما ثبت في طريق آخر وأبو غزية، قال فيه الدارقطني: منكر الحديث، وابن الجوزي: مجهول، وترجمه ابن يونس ترجمة جيدة أخرجته عن حد الجهالة والكعبي أكثر ما قيل فيه مجهول، وقد عرف وعمر بن الربيع نقل مسلمة توثيقه عن آخرين، وأنه كان كثير الحديث، فهذا الطريق بهذا الاعتبار ضعيف لا موضوع على مقتضى الصنعة، فكيف وله متابع أجود منه وهو طريق أحمد الحضرمي عن أبي غزية من حديث أن طريق الكعبي فيها رجال على الولاء، تكلم فيهم بخلاف طريق الحضرمي حيث اقتصر فيه عليه، وقد عرف لما نسب باللين، وهي من ألفاظ التعديل الذي يحكم لصاحبه بالحسن إذا توبع، فالحديث إذن مداره على أبي غزية وهو من أفراده ولولا تفرده به لحكمت له بالحسن، انتهى ملخصًا، فلله دره. "وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم" معًا "حتى آمنا به، أورده السهيلي" في الروض، فقال: روي حديث غريب لعله يصح، وجدته بخط جدي القاضي أحمد بن الحسن بسند فيه مجهولون. ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ الزاهد، يرفعه إلى أبي الزناد عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما له فآمنا به، ثم أماتهما. قال السهيلي: والله قادر على كل شيء وليس يعجز رحمته وقدرت عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أن يختصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته. "وكذا الخطيب في السابق واللاحق" أي: المتقدم والمتأخر، بمعنى المنسوخ والناسخ، "وقال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل" وهو يفيد ضعفه فقط، وبه صرح في موضع آخر من الروض وأيده بحديث ولا ينافي هذا ترجيحه صحته، كما مر عنه؛ لأن مراده من غير هذا الطريق إن وجد أو في نفس الأمر؛ لأن الحكم بالضعف وغيره إنما هو في الظاهر. "وقال ابن كثير: إنه حديث منكر جدًا وسنده مجهول" وإن كان ممكنًا بالنظر إلى قدرة الله تعالى، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه هذا كله كلام ابن كثير، وهو أيضًا صريح في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع. انتهى. وقد جزم بعض العلماء: بأن أبويه صلى الله عليه وسلم ناجيان، وليسا في النار، تمسكًا بهذا الحديث وغيره.   أنه ضعيف فقط، فالمنكر من قسم الضعيف، ولذا قال السيوطي بعدما أورد قول ابن عساكر: منكر هذا حجة لما قلته من أنه ضعيف لا موضوع؛ لأن المنكر من قسم الضعيف وبينه وبين الموضوع فرق معروف في الفن، فالمنكر ما انفرد به الراوي الضعيف مخالفًا لرواته الثقات، وهذا كذلك إن سلم مخالفته لحديث الزيارة ونحوه، فإن انتفت كان ضعيفًا فقط وهي مرتبة فوق المنكر أصلح حالا منه. "وقال ابن دحية: هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع" قال تعالى: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] ، وقال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] ، فمن مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه، فكيف بعد الإعادة؟ وفي التفسير أنه عليه السلام، قال: "ليت شعري ما فعل أبواي"، فنزل: {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] ، "انتهى" كلام ابن دحية بما زدته؛ كما نقله كله القرطبي عنه. وقد عابه السيوطي بأن تعليله بمخالفة ظاهر القرآن ليس طريق المحدثين؛ لأن الحفاظ إنما يعللون الحديث من طريق الإسناد الذي هو المرقاة إليه؛ كما صرح به الحافظ ابن طاهر المقدسي، انتهى. وهذا مراد الشامي بقوله: لو اقتصر أبو الخطاب على قوله موضوع وسكت عن قوله: يرده القرآن والإجماع، لكان جيدًا وتأدبًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. أي: لكان جيدًا من حيث أن له دعوى وضعه سلفًا وإن لم تسلم دعواه وكان فيه زيادة هي التأدب، فليس قوله: وتأدبًا عطف علة على معلول؛ كما زعم، قال في الفرائد: وأما حديث ليست شعري فمعضل ضعيف، لا تقوم به حجة. "وقد جزم بعض العلماء بأن أبويه" صلى الله عليه وسلم "ناجيان وليسا في النار" بل في الجنة، "تمسكًا بهذا الحديث وغيره" ظاهره: أن البعض واحد ونحوه، ويصرح به قوله الآتي: وتعقبه عالم آخر مع أن القائل بنجاتهما قوم كثير، فأما الذين تمسكوا بالحديث، فقال السيوطي في سبل النجاة: مال إلى أن الله أحياهما حتى آمنا به طائفة من الأئمة وحفاظ الحديث، واستندوا إلى حديث ضعيف لا موضوع؛ كما قال ابن الجوزي: وقد نص ابن الصلاح وأتباعه على تسامحه في الموضوعات، فأورد أحاديث ضعيفة فقط، وربما تكون حسنة أو صحيحة، قال الحافظ العراقي: وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عني أبا الفرج وحديثنا هذا خالفه فيه كثير من الحفاظ، فذكروا أنه ضعيف تجوز روايته في الفضائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ................................................   والمناقب لا موضوع؛ كالخطيب، وابن عساكر، وابن شاهين، والسهيلي، والمحب الطبري، والعلامة ناصر الدين بن المنير، وابن سيد الناس، ونقله عن بعض أهل العلم ومشى عليه الصلاح الصفدي في نظم له، والحافظ بن ناصر في أبيات له قال: وأخبرني بعض الفضلاء أنه وقف على فتيا بخطه شيخ الإسلام ابن حجر أجاب فيها بهذا مع أن الحديث الذي أورده السهيلي لم يذكره ابن الجوزي، وإنما أورد حديثًا آخر من طريق آخر في إحياء أمه فقط، وفيه قصة بلفظ غير لفظ الحديث الذي أورده السهيلي، فعلم أنه حديث آخر مستقل، قال: وقد جعل هؤلاء الأئمة هذا الحديث ناسخًا للأحاديث الواردة بما يخالفه ونصوا على أنه متأخر عنها فلا تعارض بينه وبينها، انتهى. وقال في الدرج المنيفة: جعلوه ناسخًا ولم يبالوا بضعفه؛ لأن الحديث الضعيف يعمل به في الفضائل والمناقب، وهذه منقبة؛ هذا كلام هذا الجهبذ وهو في غاية التحرير، وأغرب الشهاب الهيثمي فقال في مولده بعدما ذكر قول ابن كثير منكر، وليس كما قال؛ لأن حافظ الشام ابن ناصر أثبت منه وقد حسنه، بل صححه وسبقه إلى تصحيحه القرطبي، وارتضى ذلك بعض الحفاظ الجامعين بين المعقول والمنقول، انتهى. وما في تذكرة القرطبي ولا مولد ابن ناصر ما نقله عنهما، فإن الذي في التذكرة هو ما سينقله المصنف قريبًا والذي في مولد ابن ناصر، إنما هو التصريح بضعف الحديث في الأبيات الآتية التي آخرها وإن كان الحديث به ضعيفًا، وأغرب من ذلك قوله في شرح الهمزية، صححه غير واحد من الحفاظ ولم يتلفتوا للطعن فيه، انتهى. وليت شعري من أين يصح وهو ما بلغ درجة الحسن ومن الحفاظ والسيوطي غاية ما وصل إلى القول بضعفه، والذي يظهر لي أن مراده أنهم صححوا العمل به في الاعتقاد، وإن كان ضعيفًا لكونه في منقبه فيرجع لكلام السيوطي ووقع للتلماسني في حواشيه، روى إسلام أمه بسند صحيح، وروى إسلام أبيه وكلاهما بعد الموت تشريفًا له حتى أسلما، فإن أراد إسناد الحديث المتقدم، فلا يسلم له وإن أراد غيره فعليه البيان، ولولا قوله بسند لأولته كالسابق، هذا وفي الدرج المنيفة أيد بعضهم ذا الحديث بالقاعدة المتفق عليها أنه ما أوتي نبي معجزة إلا وأوتي صلى الله عليه وسلم مثلها، وقد أحيا الله لعيسى الموتى من قبورهم، فلا بد أن يكون لنبينا مثل ذلك، ولم يرد من هذا النوع إلا هذه القصة، فلا يبعد ثبوتها وإن كان له من هذا النمط نطق الذراع وحنين الجذع، لكنه غير ما وقع لعيسى فهو أشبه بالمماثلة، ولا شك أن من الطرق التي يعتضد بها الحديث الضعيف موافقته للقواعد المقررة، انتهى. وهو منابذ لما قاله القرطبي إن الله أحيا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 وتعقبه عالم آخر: بأنه لم ير أحدًا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل. انتهى. وقد سبقه لذلك، أبو الخطاب بن دحية، وعبارته: فمن مات كافرًا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة انتهى. وتعقبه القرطبي .................................   يد المصطفى جماعة، وقد أقره هو -أعني السيوطي- وغيره، وذكر المصنف في المعجزات أن الله أحيا على يده خمسة منهم الأبوان ويمكن أن لا ينابذه؛ لأن غاية ما صرح به أن الله أحيا على يده والمؤيد به أن الله أحياهم لعيسى من قبورهم، وهذا لم يرد لنبينا منه إلا هذه القصة؛ كما قال مع قصة أخرى تأتي قريبًا لكنها مرسلة، فكأنه لم يعتبرها أو اعتبرها لكنها واحدة، ومراده: أزيد ليوافق ما اتفق لعيسى. "وتعقبه" أي القائل بنجاتهما لأنهما آمنا بعد الموت، "عالم آخر" رأيت بهامش أنه أراد به السخاوي شيخه، وبالبعض الذي أبهمه أولا السيوطي، "بأنه لم ير أحدًا صرح بأن الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإن ادعى أحد الخصوصية فعليه الدليل، انتهى" ويلزمه إما أن يقول بوضع الحديث فيرد بأن أكثر الحفاظ، قالوا: ليس بموضوع وهو الحق الأبلج الذي أسفر عنه النظر في أسانيده، كما مر تفصيله أو بضعفه ولا يعمل به فيرد بأن طريق الحفاظ العمل به؛ لأنه في منقبه أو يبقى التعارض بين الأحاديث، وليس شأن أهل الفن ولا أهل الأصول. وأما الدليل على الخصوصية فواضح من سياق الأحاديث لقوله: "سألت ربي أن يحييها فأحياها، فآمنت بي"، وقد صرح في فتح الباري بأنه لا يلزم التنصيص على لفظ الخصوصية. "وقد سبقه" أي: هذا المتعقب "لذلك" التعقب بمعناه، "أبو الخطاب الحافظ عمر "ابن دحية وعبارته" عقب قوله السابق: يرده القرآن والإجماع وتلاوة الآيتين، "فمن مات كافرًا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعاينة" لأسباب العذاب "لم ينفعه ذلك، فكيف بعد الإعادة انتهى" وقدمت ذلك تتميمًا لعبارته ولبيان أن قوله: فمن ... إلخ، تفسير لقوله: والإجماع. "وتعقبه" تعقب ابن دحية ومن لازمه تعقب من وافقه "القرطبي" الإمام المفسر محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح بإسكان الراء وبالحاء المهملة، كما في الديباج، أبو عبد الله الأنصاري الورع الزاهد، صاحب التصانيف العديدة، المشغول بما يعنيه، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف، سمع أبا العباس القرطبي صاحب المفهم وأبا علي الحسن بن محمد البكري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 في "التذكرة" بأن فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله به وأكرمه، قال: وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا ولا شرعًا، فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بني إسرائيل، وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحي الموتى   وغيرهما، واستقر بمنية ابن خصيب، وبها توفي ودفن في شوال سنة إحدى وسبعين وستمائة. "في" كتاب "التذكرة" بأمور الآخرة "بأن فضائله صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع عطف تفسير إلى حين مماته فيكون هذا" أي إحياؤهما "مما فضله الله به وأكرمه"، فلا يرد حديث إحيائهما قرآن ولا إجماع؛ لأن محلهما في غير الخصوصية. وقد أخرج ابن شاهين والحاكم عن ابن مسعود، قال: جاء ابنا مليكة فقالا: يا رسول الله! إن أمنا كانت تكرم الضيف وقد وأدت في الجاهلية، فأين أمنا؟ فقال: "أمكما في النار" فقاما وقد شق عليهما فدعاهما صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن أمي مع أمكما"، فقال منافق: ما يغني هذا عن أمه إلا ما يغني ابنا مليكة عن أمهما، فقال شاب من الأنصار: لو أن أبويك، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما سألتهما ربي فيعطيني فيهما، وإني لقائم المقام المحمود". ففيه كما قال السيوطي إن قوله: "أمي مع أمكما"، كان قبل أن يسأل ربه فيهما فلا ينافي حديث إحيائهما وإيمانهما وأنه جوز صلى الله عليه وسلم أنه إذا سأل ربه يعطيه وأن أصحابه جوزوا ذلك عليه، واعتقدوا أن من خصائصه ما يقتضيه، وقال بعد أن أورد أحاديث امتحان أهل الفترة: وبها يرد على ابن دحية؛ لأن الإيمان إذا كان ينفع أهل الفترة في الآخرة التي ليست دار تكليف، وقد شاهدوا جهنم بشهادة الأحاديث، فلأن ينفعهم بالإحياء عن الموت من باب أولى، انتهى. فقد حصل للمطالب بدليل الخصوصية أدلة كالنهار. "قال" القرطبي "وليس إحياؤهما وإيمانهما بممتنع عقلا"، لأنه يجوز مثل ذلك فلا يدعي وضع الحديث؛ لأن العقل يخيله، "ولا شرعًا فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله" وذلك أنه قتل لهم قتيل لا يدري قاتله، فسألوا موسى أن يدعو الله يبينه لهم فأوحى الله إليه أن يأمرهم بذبح بقرة، فذبحوها بعدما قضى الله وضربوها ببعضها، أي: لسانها أو عجب ذنبها أو بالبضعة التي بين كتفيها أو بفخذيها أبو بالعظم الذي يلي الغضروف أو بذنبها أو بعظم من عظامها، أقوال حكاها في المبهمات فحيي، وقال: قتلني فلان وفلان، لابني عمه أو ابني أخيه، ومات فحرما الميراث وقتلا. "وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى" بنص القرآن، فأحيا العازر بفتح الزاي، صديقًا له بعد موته ودفنه بثلاثة أيام، وابن العجوز وهو محمول على نعشه في أكفانه وابنة العاشر فعاشوا مدة وولد لهم وعزيرًا وسام بن نوح ومات في الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يده جماعة من الموتى. قال وإذا ثبت هذا فما يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما، ويكون ذلك زيادة في كرامته وفضيلته. قال: فقوله: من مات كافرًا إلى آخر كلامه، مردود بما روي في الخبر أن الله رد الشمس على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها, ذكره الطحاوي وقال: إنه حديث ثابت، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعًا، وأنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم نافعًا لإيمانهما ...................................   "وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يده جماعة من الموتى" فأحيا ابنة الرجل الذي قال: لا أؤمن بك حتى تحيي لي ابنتي، فجاء إلى قبرها وناداها، فقالت: لبيك وسعديك، رواه البيهقي في الدلائل، وأباه وأمه، وتوفي شاب من الأنصار فتوسلت أمه وهي عجوز عمياء بهجرتها لله ورسوله فأحياه الله، رواه البيهقي وابن عدي وغيرهما، ولما مات زيد بن حارثة من سراة الأنصار كشفوا عنه، فسمعوا على لسانه قائلًا يقول: "محمد رسول الله" الحديث، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت، وأخرج ابن الضحاك: أن أنصاريًا توفي فلما كفن وحمل، قال محمد رسول الله، هذا ملخص ما ذكره المصنف في المعجزات. "قال وإذا" أي: حيث "ثبت هذا فما يمتنع إيمانهما بعد إحيائهما ويكون ذلك زيادة في كرامته وفضيلته" مع ما ورد من الخبر في ذلك، ويكون ذلك مخصوصًا بمن مات كافرًا، هذا أسقطه المصنف من كلام القرطبي "قال: فقوله: من مات كافرًا ... إلخ، كلامه مردود بما روي في الخبر أن الله رد الشمس على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها، ذكره" أي: رواه الإمام العلامة الحافظ، صاحب التصانيف البديعة، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سالم الأزدي "الطحاوي" المصري الحنفي، الثقة الثبت الفقيه، ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين، ومات مستهل ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، "وقال: إنه حديث ثابت" أي: صحيح أو حسن، قال السيوطي: وهل يخص بالصحيح الثابت ... أو يشمل الحسن نزاع ثابت ووجه الرد: أنه كما أن إحياء الموتى وانتفاعهم بالحياة بعد موتهم بعيد عقلا لعدم وقوعه، كذلك عود الشمس بعد غروبها وحصول الانتفاع بها كما كانت قبل الغروب بعيد غير متوقع، وقد أعيدت وحصل الانتفاع بها مع استحالة مثله عادة، فلا مانع من جواز إحياء الميت وانتفاعه بحياته بعده خرقًا للعادة، وإلى هذا أشار بقوله: "فلو لم يكن رجوع الشمس نافعًا، وأنه" لو لم يكن "لا يتجدد الوقت" بل استمر عدم تجدده، "لما ردها عليه" وفي نسخة: وأنه يتجدد بدون لا، عطفًا على نافعًا تفسيرًا، "فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم نافعًا لإيمانهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وتصديقهما بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى.   وتصديقهما النبي صلى الله عليه وسلم" قال في التعظيم والمنة واستدلاله على عدم تجدد الوقت بقصة رجوع الشمس في غاية الحسن، ولهذا حكم يكون الصلاة أداء وإلا لم يكن لرجوعها فائدة إذ كان يصح قضاء العصر بعد الغروب، وقد ظفرت باستدلال أوضح منه وهو ما ورد أن أصحاب الكهف يبعثون آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفًا لهم بذلك، وروى ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعًا: "أصحاب الكهف أعوان المهدي" فقد اعتد بما يفعله أهل الكهف بعد إحيائهم عن الموت، ولا بدع في أن يكون الله تعالى كتب لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم عمرًا، ثم قبضهما قبل استيفائه، ثم أعادهما لاستيفاء تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به ويكون تأخير تلك اللحظة الباقية بالمدة الفاضلة بينهما لاستدراك الإيمان من جملة ما أكرم الله به نبيه كما أن تأخير أصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما أكرموا به ليحوزوا شرف الدخول في هذه الأمة، "انتهى" ما نقله من كلام القرطبي. وبقيته: وقد قبل الله إيمان قوم يونس وتوبتهم مع تلبسهم بالعذاب، كما هو أحد الأقوال، وهو ظاهر القرآن. وأما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما وكونهما من العذاب، انتهى. ومراده بالآية ما روي فيها من التفسير الذي احتج به ابن دحية، وكأنه يفرض التسليم للمروي وإلا فقد مر قول السيوطي في الفوائد أنه معضل ضعيف لا تقوم به حجة، وصرح في مسالك الحنفاء بأنه لم يخرج في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وإنما ذكر في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحتج به ولا يعول عليه، قال: ثم إن هذا السبب مردود من وجوه آخر من جهة الأصول والبلاغة وأسرار البيان وأطال في بيان ذلك، قال شيخنا: ولعل المصنف أسقط إشارة القرطبي لقصة قوم يونس لعدم صراحتها في نفع الإيمان، بعد الأسباب المحققة للعذاب؛ كصراحة إحياء الموتى ورد الشمس، انتهى. وعلى كل حال هي شاهد حسن في المدعي، وإن لم تكن صريحة. وقد نقل الحافظ ابن سيد الناس نحو ما أشار له القرطبي من الخصوصية، فقال في العيون بعد أن ذكر رواية ابن إسحاق، في أن أبا طالب أسلم عند الموت، ما نصه: وقد روي أن عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أسلما أيضًا، وأن الله أحياهما له فآمنا به، وروي ذلك في حق جده عبد المطلب وهو مخالف لما أخرجه أحمد عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله! أين أمي؟ قال: "أمك في النار" قلت فأين من مضى من أهلك؟ قال: "أما ترضى أن تكون أمك مع أمي". وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات، ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيًا في المقامات السنية صاعدًا إلى الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة إليه، وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامات إلى حين القدوم عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وقد طعن بعضهم في حديث رد الشمس. كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات. وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضًا بأنهما ماتا قبل البعثة، في زمن الفترة، ولا تعذيب قبلها لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] قال: وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا.   فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن، وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرًا عن تلك الأحاديث فلا تعارض، انتهى. وهو حسن، إلا أن ما ذكره في عبد المطلب باطل، كما يأتي. "وقد طعن بعضهم في حديث رد الشمس" الذي أشار له القرطبي وهو الإمام أحمد، فقال: لا أصل له وتبعه ابن الجوزي فأورده في الموضوعات وكذا صرح ابن تيمية بوضعه، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات" لكن رد مغلطاي والحافظ ابن حجر القطب والخيضري والسيوطي وغيرهم على ابن الجوزي، وقالوا: إنه أخطأ فقد أخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس وابن مردويه من حديث أبي هريرة وإسنادهما حسن، ومن ثم صححه الطحاوي والقاضي عياض، قال العلامة الشامي: وأما قول الإمام أحمد وجماعة من الحفاظ بوضعه، فالظاهر أنه وقع لهم من طريق بعض الكذابين، وإلا فطرقه السابقة، أي: في كلامه يتعذر معها الحكم عليه بالضعف فضلا عن الوضع، انتهى. وأما المتمسكون بغير الحديث، فإليهم أشار بقوله: "وقد تمسك القائل بنجاتهما أيضًا، بأنهما ماتا قبل البعثة في زمن الفترة" التي عم الجهل فيها طبق الأرض، وفقد فيها من بليغ الدعوة على وجهها خصوصًا وقد ماتا في حداثة السن، فإن والده صلى الله عليه وسلم صحح الحافظ صلاح الدين العلائي، أنه عاش من العمر نحو ثمان عشرة سنة، ووالدته ماتت وهي في حدود العشرين تقريبًا، ومثل هذا العمر لا يسع الفحص عن المطلوب في مثل ذلك الزمان، وحكم من لم تبلغه الدعوة، أنه يموت ناجيًا ولا يعذب ويدخل الجنة، قاله في سبل النجاة. "ولا تعذيب قبلها" أي: البعثة؛ "لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] "، يبين لهم الحجج ويمهد لهم الشرائع، ففيه دليل على أن لا وجوب قبل الشرع. "قال: وقد أطبقت الأئمة الأشاعرة من أهل الأصول والشافعية من الفقهاء على أن من مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا" ويدخل الجنة. قال السيوطي هذا مذهب لا خلاف فيه بين الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ...........................................................   ونص على ذلك الشافعي في الأم والمختصر وتبعه سائر الأصحاب، فلم يشر أحد منهم لخلاف، واستدلوا على ذلك بعدة آيات منها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وهي مسألة فقهية مقررة في كتب الفقه، وهي فرع من فروع قاعدة أصولية متفق عليها عند الأشاعرة، وهي قاعدة شكر المنعم وأنه واجب بالسمع لا بالعقل، ومرجعها إلى قاعدة كلامية هي التحسين والتقبيح العقليين، وإنكارهما متفق عليه بين الأشاعرة؛ كما هو معروف في كتب الكلام والأصول وأطنب الأئمة في تقرير هاتين القاعدتين والاستدلال عليهما. والجواب عن حجج المخالفين إطنابًا عظيمًا خصوصًا إمام الحرمين في البرهان، والغزالي في المستصفى، والمنخول والكيا الهراسي في تعليقه، والرازي في المحصول، وابن السمعاني في القواطع والباقلاني في التقريب وغيرهم من أئمة لا يحصون كثرة، وترجع مسألة من لم تبلغه الدعوة ثانية أصولية، وهي أن الغافل لا يكلف، وهذا هو الصواب في الأصول؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] ، ثم اختلف عبارة الأصحاب فيمن لم تبلغه الدعوة فأحسنها من قال إنه ناج، وإياها اختار السبكي، ومنهم من قال على الفترة، ومنهم من قال مسلم. قال الغزالي: والتحقيق أن يقال في معنى مسلم، وقد مشى على هذا السبيل في والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من العلماء فصرحوا بأنهما لم تبلغهما الدعوة، حكاه عنهم سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان وغيره. ومشى عليه الآبي في شرح مسلم، وكان شيخنا شيخ الإسلام شرف الدين المناوي يعول عليه ويجيب به إذا سئل عنهما، قال: وقد ورد في أهل الفترة أحاديث أنهم موقوفون إلى أن يمتحنوا يوم القيامة، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وهي كثيرة. والمصحح منها ثلاثة: الأول: حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة معًا مرفوعًا: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة" الحديث، أخرجه أحمد وابن راهويه والبيهقي وصححه، وفيه: "وأمال الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها". والثاني: حديث أبي هريرة موقوفًا، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم إسناده صحيح على شرط الشيخين. والثالث: حديث ثوبان مرفوعًا، أخرجه البزار والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 .........................................   شرط الشيخين، وأقره الذهبي. ورابع عند البزار وابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعًا، وفيه عطية العوفي وفيه ضعف، إلا أن الترمذي يحسن حديثه خصوصًا إذا كان له شاهد وهذا له عدة شواهد؛ كما ترى. وخامس عند البزار وأبي يعلى عن أنس مرفوعًا. وسادس عند الطبراني وأبي نعيم عن معاذ وسند كل منهما ضعيف، والعمدة على الثلاثة الأول الصحيحة. قال: وهذا السبيل نقل حافظ العصر ابن حجر عن بعضهم أنه مشى عليه فيما نحن فيه، ثم قال: والظن بآله صلى الله عليه وسلم كلهم الذين ماتوا في الفترة أن يطيعوا عند الامتحان لتقربهم عينه. وذكر الحافظ ابن كثير قضية الامتحان في والديه صلى الله عليه وسلم وسائر أهل الفترة، وقال: منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، إلا أنه لم يقل الظن في الوالدين أن يجيبا، ولا شك أن الظن أن الله يوفقهما للإجابة بشفاعته؛ كما رواه تمام في فوائده بسند ضعيف عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي" الحديث. وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أبويه، فقال: "ما سألتهم ربي فيعطيني فيهما، وإني لقائم يومئذ المقام المحمود" فهذا تلويح بأنه يرتجى أن يشفع لهما في ذلك المقام ليوفقا للطاعة عند الامتحان، وينضم إلى ذلك ما أخرجه أبو سعد في شرف النبوة وغيره عن عمران مرفوعًا: "سألت ربي أن لا يدخل النار أحد من أهل بيتي فأعطاني ذلك" وما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس، في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، قال: من رضا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار، فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضًا؛ لأن الحديث الضعيف إذا كثرت طرقه أفاد ذلك قوة، كما تقرر في علوم الحديث. وأمثلها حديث ابن مسعود فإن الحاكم صححه، قال: وهذا السبيل قد يعد مغايرًا للأول، يعني أنهما لم تبلغهما الدعوة كما مشيت عليه هنا، وفي الكتاب المطول؛ لأن مقتضى الأول الجزم بنجاة من لم تبلغه الدعوة ودخوله الجنة من غير توقف على الامتحان، وقد يعد مراد قاله: كما مشيت عليه في مسالك الحنفاء، وفي الدرج المنيفة وفي المقامة السندسية، وهو أقرب إلى التحقيق ويكون معنى قولهم: أنه ناج، أي: بشرط لا مطلقًا وقولهم: لا يعذب، أي: ابتداء كما يعذب من عاند بل يجري فيه الامتحان ويكون امتحانه في الآخرة منزلا منزلة بلوغه دعوة الرسل في الدنيا وعصيانه في الآخرة بمنزلة مخالفته للرسل، ويؤيد ذلك أن أبا هريرة راوي حديث أهل الفترة استدل في آخره بالآية التي استدل بها الأئمة على انتفاء التعذيب قبل البعثة. ولفظه فيما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر الثلاثة من طريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 قال: وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتابه "أسرار التنزيل" ما نصه: "قيل إن آزر لم يكن والد إبراهيم، بل كان عمه، واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارًا، ويدل عليه وجوه منها: قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218، 219] قيل معناه: أنه كان ينتقل نوره من ساجد   عبد الرزاق، عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله أهل الفترة والمعتوه والأصم والأبكم والشيوخ الذين لم يدركوا الإسلام، ثم أرسل إليهم رسلا أن ادخلوا النار، فيقولون: كيف ولم تأتنا رسل؟ قال: وايم الله، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا، ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يعطيه". ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، ففهم رضي الله عنه من الآية ما هو أعم من رسل الدنيا والرسول المبعوث إليهم يوم القيامة أن ادخلوا النار ولا تستنكر هذا الفهم العظيم من مثله، وعلى هذين السبيلين؛ فالجواب عن الأحاديث الواردة في أطفال المشركين أنهم في النار بأنها قبل ورود قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18] ، وسائر الأحاديث المخالفة لتلك. وقال بعض أئمة المالكية في الجواب عن تلك الأحاديث الواردة في الأبوين: إنها أخبار آحاد، فلا تعارض القاطع، وهو قله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، ونحوها من الآيات في معناها. قلت: مع ضميمة أن أكثرها ضعيف الإسناد، والصحيح منها قابل للتأويل، إلى هنا كلام هذا الإمام، إذا قالت: حذام، ولا تقل: طولت بنقله فكله طائل ولا أكثرت، فكم رجعت منه بنائل. "قال: وقال الإمام فخر الدين الرازي في كتابه أسرار التنزيل" اسم تفسير ما يصرح بأنهما كانا على الحنيفية دين إبراهيم، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه وهو سبيل آخر ثالث في نجاتهما، فإنه قال "ما نصه: قيل: إن آزر لم يكن والد إبراهيم بل كان عمه واحتجوا عليه بوجوه، منها: أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارًا" تشريفًا لمقام النبوة وكذلك أمهاتهم، كما جزم به الفوائد واستدل عليه بالاستقراء وذكر أدلة ذلك تفصيلا وإجمالا. "ويدل عليه" أي: على أن آزر لم يكن والد إبراهيم "وجوه، منها قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 218, 219] ، قيل: معناه أنه كان ينتقل نوره من ساجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 إلى ساجد، قال ففيه دلالة على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين". ثم قال: ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين، قوله عليه الصلاة والسلام: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركًا .............................   إلى ساجد"، من آدم إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم، ولهذا يتضح قوله: "قال" أي: الرازي، "ففيه دلالة" وإنما قال: فالآية دالة "على أن جميع آباء محمد كانوا مسلمين" وإلا فمجرد انتقاله من ساجد إلى ساجد لا يقتضي ذلك لجواز كونه في بعض أصوله، "ثم قال" أشار إلى أنه حذف منه ولفظه، وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم ما كان من الكافرين، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، على وجوه أخرى، وإذا وردت الروايات بالكل ولا منافاة بينها، وجب حمل الآية على الكل، ومتى صح ذلك ثبت أن والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان. "ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين، قوله عليه الصلاة والسلام" فيما رواه أبو نعيم عن ابن عباس: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات". وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وإذا قيل: إن فيهم مشركًا نافى الحديث، "فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركًا" وقد ارتضى ذلك العلامة المحقق السنوسي والتلمساني محشى الشفاء، فقالا: لم يتقدم لوالديه صلى الله عله وسلم شرك، وكانا مسلمين؛ لأنه عليه الصلاة والسلام انتقل من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، لا يكون ذلك إلا مع الإيمان بالله تعالى، وما نقله المؤرخون قلة حياء وأدب، انتهى. وهذا لازم في جميع الآباء وإن قصراه على الأبوين والإلزام المحذور، قال السيوطي: وقد وجدت لكلام الرازي أدلة قوية ما بين عام وخاص، فالعام مركب من مقدمتين، إحداهما: أنه ثبت في الأحاديث الصحيحة أن كل جد من أجداده صلى الله عليه وسلم خير قرنه؛ كحديث البخاري: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنًا حتى بعثت من القرى الذي كنت فيه". والثانية: أنه قد ثبت أن الأرض لم تخل من سبعة مسلمين، فصاعدا يدفع الله بهم عن أهل الأرض، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر بسند صحيح على شرط الشيخين عن علي: قال: "لم يزل على وجه الدهر سبعة مسلمون فصاعدًا، فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها". وأخرج أحمد في الزهد والخلال في كرامات الأولياء بسند صحيح على شرط الشيخين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 .....................................................   عن ابن عباس، قال: "ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض" وإذا قرنت بين هاتين المقدمتين أنتج ما قاله الإمام؛ لأنه إن كان كل جد من أجداده من جملة السبعة المذكورين في زمانه فهو المدعي، وإن كانوا غيرهم لزم أحد أمرين: إما أن يكون غيرهم خيرًا منهم، وهو باطل لمخالفته الحديث الصحيح. وإما أن يكونوا خيرًا، وهم على الشرك وهو باطل بالإجماع. وفي التنزيل: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنُ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} فثبت أنهم على التوحيد ليكونوا خير أهل الأرض في زمانهم. وأما الخاص، فأخرج ابن سعد عن ابن عباس، قال: ما بين نوح إلى آدم من الآباء، كانوا على الإسلام، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر والبزار والحاكم، وصححه عن ابن عباس، قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين" قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة، فاختلفوا. وفي التنزيل حكاية عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} وسام بن نوح مؤمن بنص القرآن والإجماع، بل ورد في أثر أنه نبي وولده أرفخشذ صرح بإيمانه في أثر عن ابن عباس، أخرجه ابن عبد الحكم في تاريخ مصر وفيه: أنه أدرك جده نوحًا ودعا له أن يجعل الله الملك والنبوة في ولده. وروى ابن سعد من طريق الكلبي: أن الناس ما زالوا ببابل وهم على الإسلام من عهد نوح إلى أن ملكهم نمروذ فدعاهم إلى عبادة الأوثان، وفي عهد نمروذ كان إبراهيم وآزر, وأما ذرية إبراهيم، فقد قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 26، 27، 28] . أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد في الآية: أنها لا إله إلا الله باقية في عقب إبراهيم، وأخرج عن قتادة في الآية: قال شهادة أن لا إله إلا الله والتوحيد لا يزال في ذريته من يقولها من بعده، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} [إبراهيم: 35] ، الآية، أخرج ابن جرير عن مجاهد فيها، قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنمًا بعد دعوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه سئل هل عبد أحد من ولد إسماعيل الأصنام؟ قال: لا، ألم تسمع قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، قيل: فكيف ما يدخل ولد إسحاق وسائر ولد إبراهيم؟ قال: لا لأنه دعا لأهل البلد أن لا يعبدوا إذا أسكنهم إياه، قال: {اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] ، ولم يدع لجميع البلدان، بذلك فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، فيه وقد خص أهله، وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 كذا قال. وهو متعقب: بأنه لا دلالة في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} على ما ادعاه، وقد ذكر البيضاوي -في تفسيره- أن معنى الآية: وترددك في تصفح أحوال المتهجدين،   ب ِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 37] ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، في قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] ، قال: "فلن تزال من ذرية إبراهيم ناس على الفطرة يعبدون الله"، وقد صحت الأحاديث في البخاري وغيره، وتظافرت نصوص العلماء بأن العرب من عهد إبراهيم على دينه لم يكفر أحد منهم إلى أن جاء عمرو بن عامر الخزاعي، وهو الذي يقال له عمرو بن لحي فهو أول من عبد الأصنام، وغير دين إبراهيم، وكان قريبًا من كنانة جد النبي عليه السلام، ثم ساق أدلة تشهد بأن عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد وإلياس وكعبًا على ملة إبراهيم، ثم قال: فتلخص من مجموع ما سقناه أن أجداده من آدم إلى كعب وولد مرة مصرح بإيمانهم إلا آزر، فإنه مختلف فيه، فإن كان والد إبراهيم فإنه يستثنى، وإن كان عمه كما هو أحد القولين، فهو خارج عن الأجداد وسلمت سلسلة النسب، وبقي بين مرة وعبد المطلب أربعة لم أظفر فيهم بنقل وعبد المطلب فيه خلاف، حكاه السهيلي عن المسعودي. والأشبه فيه أنه لم تبلغه الدعوة، وإلى هذا أشار الحافظ شمس الدين ابن ناصر الدمشقي، فقال: تنقل أحمد نورًا عظيما ... تلألأ في جباه الساجدين تنقل فيهم قرنًا فقرنا ... إلى أن جاء خبر المرسلينا انتهى كلامه في سبل النجاة. وذكر في الفوائد أدلة تشهد بأن عبد المطلب كان على الحنيفية والتوحيد وكذا في الدرج المنيفة، وزاد فيه قوله ساقط: أن الله أحياه حتى آمن به صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن سيد الناس وغيره، وهو مردود لا أعرفه عن أحد من أئمة السنة، إنما يحكى عن بعض الشيعة، وهو قول لا دليل عليه، ولم يرد فيه قط حديث لا ضعيف ولا غيره، انتهى. وأغرب المصنف فتبرأ من كلام الإمام، بقوله: "كذا قال" الرازي "وهو متعقب بأنه لا دلالة في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، على ما" الذي "ادعاه" الحال أنه "قد ذكر البيضاوي" ما يعارضه "في تفسيره أن معنى الآية: وترددك في تصفح" تأمل "أحوال المتهجدين" في العبادة ببحثك عنها مرة بعد أخرى مأخوذ من تصفحت الكتاب إذا قلبت وجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصًا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى. وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مات على كفر، كما صرح به البيضاوي وغيره، قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] ، وأما قوله إنه كان عمه فعدول عن الظاهر من غير دليل. انتهى.   أوراقه لتنظر إليها، "كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصًا على كثرة طاعتهم، فوجدها كبيوت الزنابير" جمع زنبور بضم الزاي، أي: الدبابير، "لما سمع لها من دندنتهم" أصواتهم الخفية وما موصول، والعائد محذوف ومن دندنتهم بيان لما، أي: للأصوات التي سمعها، "بذكر الله تعالى" وهذا التعقب بيت العنكبوت إذ ليس في كلام البيضاوي نفي لغير ما ذكره من التفسير، ولا حكاية إجماع عليه بل ذكر بعده تفسيرًا آخر أن المراد بهم المصلون والرازي أيضًا لم ينف غير التفسير الذي ذكره، بل قال أقصى ما في الباب حمل الآية على وجوه أخرى لا منافاة بينها، فتعقبه بأحد تفاسير اعترف هو بها، وأشار إلى الجمع بينها مما لا يليق تسطيره على أن ما فسر به الرازي هو الأولى بالقبول، فقد أخرج ابن سعد والبزار والطبراني وأبو نعيم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، قال: من نبي إلى نبي، ومن نبي إلى نبي حتى أخرجتك نبيًا، ففسر تقلبه في الساجدين بتقلبه في أصلاب الأنبياء، ولو مع الوسائط، قال في الفوائد: وحمل الآية على أعم منهم، وهم المصلون الذين لم يزالو في ذرية إبراهيم أوضح؛ لأنه ليس في أجداده صلى الله عليه وسلم أنبياء بكثرة بل إسماعيل وإبراهيم ونوح وشيث وآدم وإدريس في قول، انتهى. "وقد ورد النص بأن أبا إبراهيم عليه الصلاة والسلام مات على كفر، كما صرح به البيضاوي وغيره" ممن استروح وتساهل وذكر ما زعم أنه النص، بقوله: قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} [التوبة: 114] بالموت على الكفر أو أوحي إليه أنه لن يؤمن ذكرهما البيضاوي واقتصر الجلال على الأول، "تبرأ منه" وترك الاستغفار له، واستشعر نقض قوله النص بأنه ليس نصًا؛ لأن العرب تسمي العم أبا وبلغتهم جاء القرآن، فقال: "وأما قوله: إنه كان عمه" وفيه: أنه لم يقله بل نقله وهو إمام ثبت حجة في النقل، ثم قال وجد عن السلف، "فعدول عن الظاهر من غير دليل" بل دليله كالشمس، فقد صرح الشهاب الهيثمي بأن أهل الكتابين والتاريخ أجمعوا على أنه لم يكن أباه حقيقة، وإنما كان عمه والعرب تسمي العم أبا؛ كما جزم به الفخر بل في القرآن ذلك. قال تعالى: {وَإِلَهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وأجاب صاحب العقائق بأنهم كانوا ساجدين، بعضهم للصمد، وبعضهم للصنم. ونقل أبو حيان في "البحر" عند تفسير قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وبقوله عليه الصلاة والسلام: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين" انتهى.   آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] ، مع أنه عم يعقوب، بل لو لم يجمعوا على ذلك وجب تأويله بهذا جمعًا بين الأحاديث. قال: وأما من أخذ بظاهره كالبيضاوي وغيره فقد استروح وتساهل، انتهى. وقال في الدرج المنيفة: الأرجح أن آزر عم إبراهيم؛ كما قال الرازي لا أبوه، وقد سبقه إلى ذلك جماعة من السلف، فروينا بالأسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج والسدي، قالوا: ليس آزر أبا إبراهيم إنما هو إبراهيم بن تارخ ووقفت على أثر في تاريخ ابن المنذر صرح فيه بأنه عمه، "انتهى" وبه تعلم ما تحامل به بعض المتأخرين جدًا، فخطأ من قال: إنه عمه وزعم أنه تبع الشيعة، وأنه مخالف للكتاب والسنة وأهلها وغيرهم، وزعم اتفاق المفسرين وغيرهم على أن والد إبراهيم كان كافرًا، وإنما الخلاف في اسمه وأطال في بيان ذلك بما لا طائل تحته. وحاصله: أنه احتجاج فقيه بمحل النزاع وتخطئته هي الخطأ وحصره القول به للشيعة هو صنو قول أبي حيان: أنهم الرافضة، ويأتي رده ولا دخل للرفض ولا للتشيع في ذلك، وزعمه الاتفاق باطل، كيف وقد قال أولئك السلف أنه عمه، وحكاه الرازي ونقله حافظ السنة في عصره وأقصره وأيده بما لا محيص عنه إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. "وأجاب صاحب العقائق" عن احتجاج الرازي بالآية، "بأنهم كانوا ساجدين بعضهم للصمد" الذي لا جوف له أو المقصود في الحوائج على الدوام سبحانه وتعالى، "وبعضهم للصنم" كذا رأيت هذا الجواب في بعض نسخ المتن العتيقة وأكثرها سقوطه، وهو لا يساوي فلسًا ولا ينبغي كتبه، فإن سياق الآيات للامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم واطلاع ربه على تنقله حالا وماضيًا، فكيف يليق أن يمتن عليه بأنه رأى تقلبه في بعض آبائه الساجدين للصنم، إن هذا لجمود عظيم. "ونقل أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، أن الرافضة هم القائلون أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين مستدلين بقوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين، انتهى" ومراده من نقله: تقوية تعقبه على الرازي، وقد عرض به وشدد عليه النكير الشهاب الهيثمي، فقال: وقول بعضهم أبو حيان ... إلخ سوء تصرف منه؛ لأنه أعني ناقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وقد روى ابن جرير عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرًا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال: "إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي، استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي"، فما رؤي باكيًا أكثر من يومئذ.   هذا الكلام عن أبي حيان، لو كان له أدنى مسكة من علم أو فهم، لتعقب قوله: إن الرافضة هم القائلون بذلك، وقال له: هذا الحصر باطل منك أيها النحوي البعيد عن مدارك الأصول والفروع، كيف والأئمة الأشاعرة من الشافعية وغيرهم على ما مر التصريح به في نجاة سائر آبائه صلى الله عليه وسلم كبقية أهل الفترة، فلو كنت ذا إلمام بذلك لما حصرت نقله الرافضة، وزعمت أنهم المستدلون بالآية والحديث، وهذا الفخر من أكابر أئمة أهل السنة قد استدل بهما ونقل ذلك عن غيره، فليتك أيها الناقل عن أبي حيان سكت عن ذلك، ووقيت عرضه وعرضك من رشق سهام الصواب فيهما، انتهى. وقد وافقه على الاستدلال بالآية لهذا المعنى: الماوردي من أئمة الشافعية، وناهيك بهما ثم أيد المصنف تعقبه بأحاديث، وقبل أخذك الجواب عنها واحدًا واحدًا مفصلا، فقد علمت أنا أسلفنا لك عنها جوابين أنها أخبار آحاد، فلا تعارض القاطع؛ كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، مع ضعف أكثرها وقبول صحيحها للتأويل، وأنها منسوخة بما ورد في الأبوين مما يخالفها، فلا تغفل. فقال: "وقد روى" محم "بن جرير" بن يزيد بن كثير الإمام الحافظ الفرد، أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام المجتهد المطلق، صاحب التصانيف، المتوفى سنة عشر وثلاثمائة، "عن علقمة بن مرثد" بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة الحضرمي، أبي الحارث الكوفي الثقة، "عن سليمان بن بريدة" بن الحصيب الأسلمي المروزي، قاضيها الثقة المتوفى سنة خمس ومائة عن تسعين سنة. "عن أبيه" بريدة بن الحصيب بحاء وصاد مهملتين مصغر، قال الغساني: وصحف من قاله بخاء معجمة، "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة" سنة الفتح؛ كما رواه ابن سعد وابن شاهين من هذا الوجه، أتى رسم قبر" أثره لانمحاء صورته "فجلس إليه" عنده "فجعل يخاطب" بكسر الطاء، وفي حديث ابن مسعود: فناجاه طويلا، "ثم قام مستعبرًا" بموحدة: جاري الدمع، "فقلنا: يا رسول الله! إنا رأينا ما صنعت؟ قال: "إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي ثم استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي"، فما رؤي باكيًا أكثر من يومئذ". ورواه ابن سعد وابن شاهين عن بريدة بنحوه، وابن جرير من وجه آخر عنه، بلفظ: لما قدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وروى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أومأ إلى المقابر فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعاه ثم دعانا، فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، وإني استأذنته في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنزل عليّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] فأخذني ما يأخذ الولد للوالد .........................   مكة وقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، فنزلت الآية، قاله السيوطي وله علتان مخالفته الحديث الصحيح في نزول الآية في أبي طالب، والثانية: قال ابن سعد في الطبقات: هذا غلط ليس قبرها بمكة، قبرها بالأبواء، انتهى. ويأتي قريبًا الجواب عن عدم الإذن في الاستغفار عن البكاء. "وروى ابن أبي حاتم" الإمام الحافظ الناقد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الرازي الحنظلي التميمي، الثقة الزاهد الذي يعد في الإبدال البحر في العلوم ومعرفة الرجال، كساه الله بهاء نور يسر به من نظر إليه، مات في محرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة "ي تفسيره" وكذا الحاكم "عن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أومأ" أشار "إلى المقابر" أنه يريد الذهاب إليها، "فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى" جانب "قبر منها" وفي رواية الحاكم: خرج ينظر في المقابر وخرجنا معه، فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور، حتى انتهى إلى قبر منها، "فناجاه طويلا، ثم بكى" وفي رواية الحاكم: ثم ارتفع نحيبه باكيًا، "فبكينا لبكائه، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعاه ثم دعانا، فقال: "ما أبكاكم"؟. فقلنا: بكينا لبكائك". وفي رواية الحاكم: ثم أقبل إلينا، فتلقاه عمر، فقال: يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟ فقد أبكانا وأفزعنا، فجاء فجلس إلينا، فقال: "أفزعكم بكائي"؟ قلنا: نعم، فقال: "إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة". زاد الحاكم: بنت وهب، "وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي وإني استأذنته في الدعاء". وفي رواية الحاكم: في الاستغفار، "لها فلم يأذن لي وأنزل عليّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] ، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد". من الرقة والشفقة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح ورده الذهبي في اختصار المستدرك بأن فيه أيوب بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ورواه الطبراني من حديث ابن عباس. وفي مسلم: "استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الآخرة".   هانئ ضعفه ابن معين، قال السيوطي: فهذه علة تقدح في صحته والعجب من الذهبي كيف صححه في الميزان اعتمادًا على تصحيح الحاكم، مع أنه خالفه في مختصره، قال: وله علة ثانية هي مخالفته لما في البخاري وغيره من أن هذه الآية نزلت بمكة عقب موت أبي طالب واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم له، ووردت أحاديث أخر في الترمذي وغيره فيها سبب غير قصة آمنة، فإن كان الذهبي رد حديث الإحياء لمخالفته هذا الحديث، فهذا الحديث يرد لمخالفته المقطوع بصحته في صحيح البخاري وغيره، انتهى. "ورواه الطبراني من حديث ابن عباس" بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة واعتمر هبط من ثنية عسفان، فنزل على قبر أمه، فذكر نحو حديث ابن مسعود وفيه نزول الآية، قال السيوطي: وله علتان مخالفة الحديث الصحيح كما سبق وإسناده ضعيف، ثم قال: فبان بهذا أن طرق الحديث كلها معلولة خصوصًا قصة نزول الآية الناهية عن الاستغفار؛ لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة في تقدم نزولها في قصة أبي طالب وغيره، وأصح طرق هذا الحديث ما أخرجه الحاكم وصححه على شرط الشيخين عن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه في ألف مقنع، فما رؤي باكيًا أكثر من يومئذ هذا القدر، لا علة له وليس فيه مخالفة لشيء من الأحاديث ولا نهي عن الاستغفار، وقد يكون البكاء لمجرد الرقة التي تحصل لزيارة الموتى من غير سبب تعذيب ونحوه، انتهى. والحافظ ابن حجر لما أبدى احتمالا أن لنزول الآية سببين متقدم وهو أمر آمنة رده بأن الأصل عدم تكرار النزول، ثم لا يشكل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين، وبراءة من أواخر ما نزل بالمدينة؛ لأن هذه الآية مستثناة من كون السورة مدنية، كما نقله في الإتقان عن بعضهم وأقره، فلا حاجة لجواب الطيبي ونحوه بجواز أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر له إلى نزولها، فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة؛ لأنه مجرد تجويز مبني على أن جميع السورة مدني. "وفي مسلم" من حديث أبي هريرة مرفوعًا "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الآخرة" وكذا رواه ابن ماجه، إلا أنه قال: "فإنها تذكركم الموت"، فهذا حديث صحيح معارض لحديث إحيائهما وكلام الرازين وهذا الذي أراده المصنف أورده في الفوائد بطريق السؤال، فقال: كيف قررت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 قال القاضي عياض: بكاؤه عليه السلام على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به.   أنها كانت موحدة في حياتها ومتحنفة؟ وهذا الحديث في أنه استغفر لها فلم يؤذن له، وقوله في الحديث الآخر، أي: "مع أمكما"، يؤذنان بخلاف ذلك وهبك أجبت عنهما فيما يتعلق بحديث الإحياء بأنهما متقدمان في التاريخ وذاك متأخر وكان ناسخًا، فما تقول في هذا فإن الموت على التوحيد ينفي التعذيب البتة. وأجاب: بأن حديث عدم الإذن في الاستغفار لا يلزم منه الكفر بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان ممنوعًا في أول الإسلام من الصلاة على من عليه دين لم يترك له وفاء، ومن الاستغفار له وهو من المسلمين، وعلل بأن استغفاره مجاب على الفور، فمن استغفر له وصل عقب دعائه إلى منزله في الجنة، والمديون محبوس عن مقامه حتى يقضي دينه؛ كما في الحديث، فقد تكون أمه مع كونها متحنفة كانت محبوسة في البرزخ عن الجنة لأمور أخرى غير الكفر اقتضت أن لا يؤذن له في الاستغفار إلى أن أذن الله له في بعد ذلك، قال: وأما حديث "أمي مع أمكما" على ضعف إسناده فلا يلزم منه كونها في النار؛ لجواز أنه أراد بالمعية كونها معها في دار البرزخ أو غير ذلك وعبر بذلك تورية وليها ما تطييبا لقلوبهما، قال: وأحسن منه أنه صدر ذلك منه قبل أن يوحى إليه أنها من أهل الجنة؛ كما قال في تبع: "لا أدري تبعًا ألعينًا كان أم لا"؟. أخرجه الحاكم وابن شاهين عن أبي هريرة، وقال بعد أن أوحي إليه في شأنه: "لا تسبوا تبعًا، فإنه كان قد أسلم"، أخرجه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ عن سهل وابن عباس، فكأنه أولا لم يوح إليه في شأنها ولم يبلغه القول الذي قالته عند موتها، ولا تذكره، فأطلق القول بأنها مع أمها جريًا على قاعدة أهل الجاهلية، ثم أوحي إليه أمرها بعد ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث نفسه: "ما سألتهما ربي"، قال: ويمكن الجواب عن الحديثين: بأنها كانت موحدة غير أنها لم يبلغها شأن البعث والنشور، وذلك أصل كبير فأحياها الله له حتى آمنت بالبعث وبجميع ما في شريعته، ولذا تأخر إحياؤها إلى حجة الوداع حتى تمت الشريعة: ونزل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فأحييت حتى آمنت بجميع ما أنزل عليه، قال: وهذا معنى نفيس بليغ. "قال القاضي عياض: بكاؤه عليه السلام" ليس لتعذيبها إنما هو أسف "على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به" وقد رحم الله تعالى بكاءه فأحياها له حتى آمنت به، وما ألطف هذه العبارة من القاضي، فإنها صريحة في أن البكاء إنما هو لكونها لم تحز شرف الدخول في هذه الأمة، لا لكونها على غير الحنيفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وفي مسلم أيضًا: أن رجلا قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار"، فلما قفا دعاه، قال: "إن أبي وأباك في النار".   "وفي مسلم أيضًا" وأبي داود كلاهما من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن رجلا" هو أبو رزين العقيلي، فيما قاله ابن أبي خيثمة أو حصين بن عبيد والد عمران فيما ذكره ابن رشيد وتعقب البرهان الأول بأن والد أبي رزين أسلم، واسمه عامر بن صبرة، قال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار". وفي مسند أحمد: أن أبا رزين سأل عن أمه أين هي؟ فقال: كذلك، وجمع البرهان بأنه سأل عن أبيه مرة وعن أمه أخرى، ويتأكد ما قدمه أن أباه أسلم، "فلما قفا" بقاف ففاء مخففة، أي: انصرف عنه وولى بأن جعل قفاه إلى جهته صلى الله عليه وسلم ولا يرد أن قفا، إنما هو بمعنى تبع على مقتضى الصحاح؛ لأنه هنا بمعنى اتبع الجهة التي جاء منها منصرفًا إليها ومن لازمها توليه عن المصطفى. دعاه، فقال: "إن أبي وأباك في النار". فهذا صريح في رد حديث الإحياء، وكلام الرازي ومن قال إنهما أهل فترة لم تبلغهما دعوة، والجواب: أنه منسوخ بالآيات والأحاديث الواردة في أهل الفترة وأراد بأبيه عمه أبا طالب؛ لأن العرب تسمي العم أبا حقيقة، ولأنه رباه والعرب تسمي المربي أبا، أو أنه خبر آحاد فلا يعارض القاطع وهو نص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، واستظهر في شرح الهمزية الثاني فلم يتم ماد المصنف من سوقه على أن حديث مسلم هذا، كما قال السيوطي: لا يصح للاحتجاج به فإنه انفرد به عن البخاري، وفي إفراده أحاديث تكلم فيها يوشك أن هذا منها، وذلك أن ثابتًا وإن كان إمامًا ثقة فقد ذكره ابن عدي في الضعفاء، وقال: وقع في أحاديثه نكرة من الرواة عنه؛ لأنه روى عنه ضعفاء. وقد أعل السهيلي هذا الحديث بأن معمر بن راشد في روايته عن ثابت عن أنس خالف حمادًا، فلم يذكر أن أبي وأباك في النار، بل قال: إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار، وهو كما قال فمعمر أثبت في الرواية من حماد؛ لاتفاق الشيخين على تخريج حديثه، ولم يتكلم في حفظه ولم ينكر عليه شيء من حديثه، وحماد وإن كان إمامًا عالمًا عابدًا فقد تكلم جماعة في روايته، ولم يخرج له البخاري شيئًا في صحيحه، وما خرج له مسلم في الأصول إلا من حديثه عن ثابت، وأخرج له في الشواهد عن طائفة، صرح به الحاكم في المدخل. وقال الذهبي: حماد ثقة له أوهام ومناكير كثيرة، وكانوا يقولون: إنها دست في كتبه من ربيبه ابن أبي العوجاء، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم، ومن ثم لم يخرج له البخاري فحديث معمر أثبت وقد وجدناه ورد بمثل رواية معمر عن ثابت عن أنس، ومن حديث سعد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 .........................................   مالك، ومن حديث ابن عمر. أخرج البيهقي والبزار والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح، عن سعد بن أبي وقاص: أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار"، قال: فأين أبوك؟ قال: "حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار"، زاد الطبراني: فأسلم الأعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار. وروى ابن ماجه عن ابن عمر، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي كان يصل الرحم وكان وكان، فأين هو؟ قال: "في النار" فكأنه وجد من ذلك، فقال: أين أبوك أنت؟ فقال: "حيثما مررت بقبر كافر، فبشره بالنار" فأسلم الأعرابي بعد، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار، فبين أن السائل أعرابي وهو مظنة خشية الفتنة والردة والمصطفى كان إذا سأله أعرابي وخاف من إفصاح الجواب له فتنته واضطراب قلبه، أجاب بجواب فيه تورية وإيهام وهذا كذلك إذا لم يصرح فيه بالأدب الكريم، إنما قال: حيثما مررت ... إلخ، وهذه جملة لا تدل بالمطابقة على ذلك فكره صلى الله عليه وسلم أن يفصح له بحقيقة الحال ومخالفة أبيه لأبيه في المحل الذي هو فيه خشية ارتداده لما جلبت عليه النفوس من كراهة الاستئثار عليها، ولما كانت عليه العرب من الجفاء وغلظ القلوب، فأورد له جوابًا موهمًا تطمينًا لقلبه، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره وقد أوضحت الزيادة، بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمرًا مقتضيًا للامتثال فلم يسعه إلا امتثاله، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة، فعلم أنه تصرف الرواة وأن هذه الطريق في غاية الإتقان. ولذا قال بعض الحفاظ: لو لم نكتب الحديث من ستين وجهًا ما عقلناه، أي: لاختلاف الرواة في إسناده وألفاظه، فهذا الحديث معلل من هذه الحيثية وليس ذلك قد حافى صحته من أصله بل في هذه اللفظة فقط، ثم لو فرض اتفاق الرواة على لفظ مسلم كان معارضًا بالأدلة القرآنية والأدلة الواردة في أهل الفترة والحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه؛ كما هو مقرر في الأصول، انتهى ملخصًا. وقد تقدم تأويله، فإن قيل: حيث قررت أن أهل الفترة لا يقضى عليهم بشيء حتى يمتحنوا، فكيف حكم صلى الله عليه وسلم على أبي السائل بأنه في النار؟ أجاب السوطي: بجواز أنه يعصي عند الامتحان وأوحى إليه بذلك فحكم بأنه من أهل النار وبأن حديثه متقدم على أحاديث أهل الفترة، فيكون منسوخًا بها وبجواز أنه عاش حتى أدرك البعثة، وبلغه وأصر ومات في عهده وهذا لا عذر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 قال النووي: فيه أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا ينفعه قرابة المقربين. وفيه: أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو في النار، وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء.   له البتة، انتهى. وفي الثالث نظر؛ لأنه لو كان كذلك لما كان السؤال عن الأب الكريم وجه إذ الفرق لائح؛ لأن أباه بلغته البعثة والأب الشريف لم تبلغه، اللهم إلا أن يجاب بأن الأعرابي توهم أنه لا يكفي بلوغ البعثة حتى يشاهد النبي ولا ينكر هذا منه؛ لأنه لم يكن حينئذ تفقه في الدين بل لم يكن أسلم؛ كما صرح به في حديث سعد وابن عمر. "قال النووي فيه" أي: حديث مسلم، إفادة " أن من مات على الكفر، فهو في النار ولا ينفعه قرابة المقربين" قال السيوطي: ينبغي عندي أن النووي أراد الحكم على أبي السائل وكلامه ساكت عن الحكم على الأب الشريف، "وفيه" أيضًا إفادة أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان، فهو في النار" ووجه استفادة هذا منه أن أبا الأعرابي كان في الفترة بدليل سؤاله عن الأب الكريم، "وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء" وهذا خلاف ما أطبقت عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من أن أهل الفترة لا يعذبون؛ كما تقدم بسطه وقد ورد السيوطي كلام النووي هذا، بما محصله: أنا لو اعتبرنا مطلق وجود بعثة الأنبياء لاستحال وجود من تبلغهم الدعوة إذ ما من فترة إلا وقبلها نبي إلى آدم وهو أول الأنبياء، ولسقطت الأحاديث والآثار الواردة في أهل الفترة بأسرها على كثرتها وصحتها، ولحكم عليهم أجمعين بأنهم في النار من غير امتحان. وفي هذا إلغاء ورد للأحاديث الصحيحة بلا دليل كيف وفي حديث ثوبان: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم"، وذكر بقية الحديث في الامتحان، فهذا نص في المسألة وإذا لم يكن أهل الفترة هم الذين لم تبلغهم الدعوة، فليت شعري من هم وهل يمكن أن يوجد في الأرض من لم يبلغها، أن الله بعث نبيًا لدن آدم وبعثة أنبياء الله ووقائعهم مع أممهم وإهلاكاتهم مشهورة، ولو لم يكن إلا بعثة نوح وإقامته ألف سنة، والطوفان الذي غرق أهل الأرض جميعًا لكفى على أن العرب ما كانوا مكلفين بشريعة إبراهيم ولا غيره؛ كما دلت عليه الأحاديث وبه صرح القرآن، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92، 155] الآيتين. أخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد، قال: الطائفتين اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركًا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة، لأن المشركين كانوا قد غيروا الحنيفية دين إبراهيم، واستبدلوا بها الشرك وارتكبوه، وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلومًا من دين الرسل كلهم، من أولهم إلى آخرهم، قبح الشرك والوعيد عليه في النار، وأخبار عقوبات الله لأهله متداولة بين الأمم قرنًا بعد قرن، فلله الحجة البالغة على المشركين، في كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده عليه من توحيد ربوبيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل، وهو مخلد فيها دائمًا .......................   والنصارى خاف أن تقوله قريش، انتهى. وحكى في شرح الهمزية الاتفاق على أن العرب ما كانوا مكلفين بشرع أحد، ورد به كلام النووي هذا وكلام الرازي الذي ذكره المصنف، بقوله: "وقال الإمام فخر الدين: من مات مشركًا فهو في النار، وإن مات قبل البعثة؛ لأن المشركين كانوا قد غيروا" الملة "الحنيفية" أي: المائلة إلى الحق "دين إبراهيم" بدل من الحنيفية "واستبدلوا بها الشرك" أي: أخذوه بدلها، فالباء داخلة على المتروك. وقول الشارح على المأخوذ سبق قلم؛ لأن مادة استبدل وتبدل إنما تدخل الباء فيهما على المتروك؛ كقوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل. "وارتكبوه وليس معهم حجة من الله به، ولم يزل معلومًا من دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم قبح الشرك والوعيد عليه" بالتذيب "في النار، وأخبار عقوبات الله" عليه "لأهله متداولة بين الأمم قرنًا بعد قرن، فلله الحجة البالغة" التامة "على المشركين، في كل وقت وحين، ولو لم يكن إلا ما فطر الله عباده" أي: خلقهم مشتملين "عليه من توحيد ربوبيته وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل" عطف تفسير "أن يكون معه إله آخر" أي: أنه خلقهم قابلين لذلك، وجواب لو محذوف، أي: لكفى ذلك في الحجة "وإن كان سبحانه وتعالى لا يعذب بمقتضى هذه الفطرة وحدها" لأن الصحيح أن الإيمان إنما يجب بالشرع لا العقل، فهم وإن أدركوا بعقولهم لكن لا يعذبهم على عدم الجري على مقتضى ما أدركوه. "فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك" بعبادة الأوثان "مستحق للعذاب في النار لمخالفته دعوى الرسل، وهو مخلد فيها دائمًا" لكن بعد الامتحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 كخلود أهل الجنة في الجنة. انتهى. وقد تعقب العلامة أبو عبد الله الأبي من المالكية فيما وضعه على صحيح مسلم قول النووي الماضي وفيه "أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار، إلى آخره" بما معناه: تأمل ما في كلامه من التنافي، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة، لأن أهل الفترة هم: الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني، كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى ولا لحقوا النبي صلى الله عليه وسلم. والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين، كالفترة بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة فإنهم يعنون التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام.   فمن عصى خلد فيها، ومن أطاع ففي الجنة؛ كما صرحت به الأحاديث وإن كانت عبارته لا تؤدي ذلك "كخلود أهل الجنة في الجنة، انتهى" كلام الرازي. "وقد تعقب العلامة أبو عبد الله" محمد بن خلف "الأبي، من" أجل علماء "المالكية" المتأخرين أخذ عن ابن عرفة واشتهر في حياته بالمهارة والتقدم في العلوم وكثر انتقاده لشيخه مشافهة وربما رجع؛ إليه كما قال أحمد بابا في ذيل الطبقات، وقال الحافظ في التبصير: الأبي بالضم منسوب إلى أبة من قرى تونس عصرينا بالمغرب محمد بن خلف الأبي الأصولي عالم المغرب بالمعقول، سكن تونس، انتهى. "فيما وضعه على صحيح مسلم" يعني شرحه المسمي بإكمال الإكمال، "قوله النووي الماضي، وفيه: "أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار ... إلخ"، بما معناه: تأمل ما في كلامه من التنافي، فإن من بلغتهم الدعوة ليسوا بأهل فترة" وهو قد صرح أولا بأنهم أهل فترة، فهو تنافٍ "لأن أهل الفترة هم الأمم الكائنة بين أزمنة الرسل الذين لم يرسل إليهم الأول، ولا أدركوا الثاني؛ كالأعراب الذين لم يرسل إليهم عيسى عليه السلام ولا لحقوا النبي" محمد صلى الله عليه وسلم وأجيب عن التنافي بأن النووي كمن وافقه وإن كان مرجوحًا يكتفى في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل، وإن لم يكن مرسلا إليه، وإنما يتأتى التنافي لو ادعى أن الخليل وغيره أرسلوا إليهم وهو لم يدع ذلك، "والفترة بهذا التفسير تشمل ما بين كل رسولين؛ كالفترة" التي "بين نوح وهود، لكن الفقهاء إذا تكلموا في الفترة" وأطلقوا "إنما يعنون" الفترة "التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 وذكر البخاري عن سلمان أنها كانت ستمائة سنة. ولما دلت القواطع على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة، علمنا أنهم غير معذبين، فإن قلت قد صحت أحاديث بتعذيب أهل الفترة، كحديث: "رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ورأيت صاحب المحجن في النار"، وهو الذي يسرق الحاج بمحجنه، فإذا بصر به، قال: إنما تعلق بمحجني. أجيب بأجوبة: أحدها: أنها أخبار آحاد ........................   "وذكر" أي: روى "البخاري عن سلمان" الفارسي موقوفًا عليه "أنها كانت ستمائة سنة" قال ابن كثير: وهو المشهور، وقال قتادة: خمسمائة وستون، والكلبي: وأربعون، وغيرهما: أربعمائة، "ولما دلت القواطع" القرآنية نحو أن تقولوا: إنما أنزل الكتاب {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، "على أنه لا تعذيب حتى تقوم الحجة" ببعث الرسل "علمنا أنهم غير معذبين" إذ لا يجب إيمان ولا يحرم كفر، "فإن قلت" يرد على هذا أنه "قد صحت أحاديث بتعذيب" بعض "أهل الفترة؛ كحديث" البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "ورأيت عمر بن لحي" بضم اللام وفتح الحاء المهملة وشد الياء، وفي رواية لهما أيضًا: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي"، قال عياض: والمعروف في نسبته الأول، وأجاب الأبي أخذًا من كلام ابن عبد البر السهيلي بأن عامرًا اسم أبيه، ولحي لقب عرف به، قال: وكونه خزاعيًا لا ينافي أنه من ولد إلياس بن مضر؛ لأن خزاعة من مضر ومضر أبو خزاعة وعزو الشارح لكتاب المناقب من البخاري عمرو بن عامر المخزومي سبق قلم، فالذي فيه إنما هو الخزاعي وضبطه المصنف في شرحه بضم الخاء وفتح الزاي المخففة وبالمهملة، "يجر قصبه" قال النووي: بضم القاف وسكون الصاد، قال الأكثرون: يعني أمعاءه، "في النار". بقية الحديث: "وكان أول من سيب السائبة". "و" كحديث مسلم والإمام أحمد عن جابر مرفوعًا، في حديث أوله: "يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله". فذكر الحديث، وفيه: "ورأيت صاحب المحجن في النار". وزان مقود خشبة في طرفها اعوجاج مثل الصولجان، قال ابن دريد: كل عود معطوف الرأس، فهو محجن والجمع المحاجن، قاله المصباح. "وهو الذي يسرق الحاج" أي: متاعه، "بمحجنه فإذا بصر" بضم الصاد وتكسر، أي: علم "به" أحد فالضمير في به لصاحب، وفي بصر للحاج، أي: جنسه، "قال: إنما تعلق بمحجني" لينفي عن نفسه السرقة، ولفظ الحديث عند أحمد ومسلم: "ورأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن به قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به"، "أجيب بأجوبة، أحدها: أنها أخبار آحاد" إنما تفيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فلا تعارض القطع. الثاني: قصر التعذيب على هؤلاء، والله أعلم بالسبب. الثالث: قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة، بما لا يعذر به من الضلال كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام: الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته، ثم من هؤلاء من لم يدخل في شريعة، كقس بن ساعدة ................................   الظن "فلا تعارض القطع" بأنهم غير معذبين وهو القرآن، فوجب تقديمه عليها، وإن صحت "الثاني: قصر التعذيب على هؤلاء" اتباعًا للوارد ولا نقيس غيرهم عليهم، فلا تنافي القاطع "والله أعلم بالسبب" الموقع لهم في العذاب، وإن كنا نحن لا نعلمه. "الثالث: قصر التعذيب المذكور في هذه الأحاديث على من بدل وغير من أهل الفترة" كابن لحي "بما لا يعذر به من الضلال؛ كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع، فإن أهل الفترة ثلاثة أقسام، الأول: من أدرك التوحيد ببصيرته" أي: بعلمه وخبرته فمنعه هذا التبصر عن عبادة غير الله ولا يلزم الاتصاف بالصحة ولا بالأجزاء ولا بغيرهما، "ثم من هؤلاء من لم يدخل في شريعة" بل طلب التوحيد وعبادة الله وانتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، "كقس بن ساعدة" الأيادي أول من آمن بالبعثة من أهل الجاهلية، وأول من اتكأ على عصا في الخطبة، وأول من قال: أما بعد، وأول من كتب من فلان إلى فلان، وعاش ثلاثمائة وثمانين سنة، وذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة، وكان خطيبًا حكيمًا عاقلا له نباهة وفضل ذكره المرزباني. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق عكاظ، فقال في خطبته، سيعلم حق من هذا الوجه، وأشار بيده نحو مكة، قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش الأبد ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه، وروى الأزدي وغيره من طرق عن أبي هريرة رفعه: رحم الله قسا كأني أنظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام له حلاوة ولا أحفظه، فقال بعض قومه: نحن نحفظه، فقال: هاتوه، فذكروا خطبته المشحونة بالحكم والمواعظ، وروى ابن شاهين عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله قسا كأني أنظر إليه على جمل أورق تكلم بكلام لا أحفظه"، فقال أبو بكر: أنا أحفظه، قال: "اذكره". فذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وزيد بن عمرو بن نفيل. ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم، كتبع وقومه من حمير وأهل نجران، ورقة بن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث. القسم الثاني من أهل الفترة: وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد، وشرع لنفسه   وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات الزهد لما قدم وفد بكر بن وائل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "ما فعل قس بن ساعدة الأيادي"؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: "كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أحمر" ... الحديث، قال في الإصابة: قال الجاحظ في كتاب البيان لقس وقومه فضيلة ليست لأحد من العرب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى كلامه وموقفه على جمله بعكاظ وموعظته وعجب من حسن كلامه وأظهر تصويبه، وهذا شرف تعجز عنه الأماني وتنقطع دونه الآمال، وإنما وفق الله ذلك القس لتوحيده وإظهاره الإخلاص وإيمانه بالبعث، ومن ثم كان قس خطيب العرب قاطبة. "وزيد بن عمرو بن نفيل" بضم النون وفتح الفاء والد سعيد بن زيد أحد العشرة، وعم عمر بن الخطاب فإنه كان ممن طلب التوحيد وخلع الأوثان وجانب الشرك، ومات قبل المبعث، فروى ابن سعد والفاكهي عن عامر بن ربيعة حليف بني عدي بن كعب، قال: قال لي زيد بن عمرو: إني خالفت قومي واتبعت ملة إبراهيم وإسماعيل وما كانا يعبدان، وكان يصليان إلى هذه القبلة، وأنا أنتظر نبيًا من بني إسماعيل يبعث، ولا أراني أدركه وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، وإن طالت بك حياة فأقرئه مني السلام، قال عامر: فلما أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بخبره رد عليه السلام وترحم عليه، وقال: رأيته في الجنة يسحب ذيولا، وروى الزبير بن بكار، عن عروة، قال: بلغنا أن زيدًا كان بالشام فبلغه مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل يريده فقتل بأرض البلقاء، وقال ابن إسحاق: لما توسط بلاد لخم قتلوه، وقيل: مات قبل المبعث بخمس سنين. وفي حديث البزار والطبراني عن سعيد بن زيد: سألت أنا وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم"، انتهى من فتح الباري ملخصًا. وكذا عامر بن الظرب العدواني وقيس بن عاصم التميمي، وصفوان بن أبي أمية الكناني، وزهير ابن أبي سلمى في جماعة ذكرهم الشهرستاني فلا بدع أن يكون الأبوان الشريفان كذلك بل هما أولى؛ كما تقدم. "ومنهم من دخل في شريعة حق قائمة الرسم" أي: الأثر، "كتبع وقومه من حمير وأهل نجران" بفتح النون وسكون الجيم: بلد قريب من اليمن. "وورقة بن نوفل وعمه عثمان بن الحويرث" فإنهم تنصروا في الجاهلية قبل نسخ دين النصرانية. "القسم الثاني من أهل الفترة وهم من بدل وغير، فأشرك ولم يوحد وشرع لنفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فحلل وحرم، وهم الأكثر، كعمرو بن لحي، أول من سن للعرب عبادة الأصنام وشرع الأحكام، فبحر البحيرة وسيب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحام ..................   فحلل وحرم وهم الأكثر" من العرب: "عمرو بن لحي" بن قمعة بن إلياس بن مضر "أول من سن للعرب عبادة الأصنام" روى الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا أو من غير دين إبراهيم عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف، أبو خزاعة وخندف بكسر الخاء المعجمة آخره فاء، هي زوج إلياس كما مر في النسب الشريف فنسب قمعة لأمه وقد ذكر ابن إسحاق في سبب ذلك أنه خرج إلى الشام، وبها يومئذ العماليق وهم يعبدون الأصنام فاستوهبهم واحدًا منها وجاء به إلى مكة فنصبه إلى الكعبة، وهو هبل؛ وذكر محمد بن حبيب عن ابن الكلبي أن سبب ذلك أنه كان له تابع من الجن، يقال له: أبو ثمامة، فأتاه ليلة، فقال: أجب أبا ثمامة، فقال: لبيك من تهامة، أدخل بلا ملامة، فقال: ائت سيف جدة تجد آلهة معدة فخذها ولا تهب وادع إلى عبادتها تجب، قال فتوجه إلى جدة فوجد الأصنام التي كانت تعبد زمن نوح فحملها إلى مكة ودعا إلى عبادتها، فانتشرت بسبب ذلك عبادة الأصنام في العرب، ذكره في فتح الباري. وقال السهيلي في الروض: كان عمرو بن لحي، حين غلبت خزاعة على البيت ونفت جرهما من مكة جعلته العرب ربًا لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة؛ لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم، فنحر في موسم عشرة آلاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة، وقد ذكر ابن إسحاق أنه أول من أدخل الأصنام الحرم وحمل الناس على عبادتها، قال: وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، حتى كان عمرو بن لحي فبين هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شرك لك، فقال الشيخ: إلا شريكًا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، فقال: ما هذا؟ فقال: قل: تملكه وما ملك فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو: فدانت بها العرب. "وشرع الأحكام فبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام" روى البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثني بعد بأنثى فكانوا يسيبوها بعد بأنثى فكانوا يسيبونها بعد لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحام، وفي الأنوار إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها، أي: شقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وتبعته العرب في ذلك وغيره مما يطول ذكره. القسم الثالث من أهل الفترة، وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل في شريعة نبي، ولا ابتكر لنفسه شريعة، ولا اخترع دين، بل بقي عمره على حين غفلة من هذا كله. وفي الجاهلية من كان على ذلك. وإذا انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة أقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني لكفرهم بما تعدوا به من الخبائث، والله تعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارًا ومشركين، فإنا نجد القرآن ....................   زاد في المدارك: ولا تطرد من ماء ولا مرعى وسموها البحيرة، وكان الرجل منهم يقول: إن شفيت من مرضي أو قدمت من سفري فناقتي سائبة، ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وقيل: كان الرجل إذا أعتق عبدًا، قال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وفي الصحاح: السائبة الناقة التي كانت تسيب في الجاهلية إذا ولدت عشرة أبطن كلها أناث فلا تركب ولا يشرب لبنها إلا ولدها، والضيف حتى تموت فإذا مات أكلها الرجال والنساء جميعًا. وبحرت، أي: شقت أذن بنتها الأخيرة فتسمى البحيرة، وهي بمنزلة أمها في أنها سائبة. وفي القاموس: الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن أناث سيبت، أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب، قال: هي سائبة، أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء، ولا كلأ، ولا تركب. وفي الأنوار: وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وذكرًا فهو لآلهتهم، وإن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، وإذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى، وقالوا: قد حمى ظهره. وفي المدارك: إذا ولدت الشاة سبعة أبطن، والسابع ذكر أو أنثى، قالوا وصلت أخاها، فهي معنى الوصيلة. "وتبعته العرب في ذلك و" في "غيره مما يطول ذكره" كعبادة الجن والملائكة وخرق البنين والبنات، واتخذوا بيوتًا لها سدنة وحجاب يضاهون بها الكعبة؛ كاللات والعزى ومنات. "القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحد، ولا دخل في شريعة نبي ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا" ابتكر "اختراع دين بل بقي عمره" أي: مدته "على حين غفلة من هذا كله، وفي الجاهلية من كان على ذلك، وإذا" وحيث "انقسم أهل الفترة إلى الثلاثة الأقسام، فيحمل من صح تعذيبه على أهل القسم الثاني لـ"أجل" "كفرهم بما" بسبب ما "تعدوا به من الخبائث، والله تعالى قد سمى جميع هذا القسم كفارًا ومشركين، فإنا نجد القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 كلما حكى حال أحدهم سجل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} ثم قال: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [المائدة: 103] . والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين. وأما أهل القسم الأول: كقس وزيد بن عمرو، فقد قال عليه السلام في كل منهما: "إنه يبعث أمة وحده".   كلما حكى حال أحدهم سجل عليهم بالكفر والشرك؛ كقوله تعالى: في مقام الرد والإنكار لما ابتدعوه {مَا جَعَلَ} ما شرع {اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] ، ثم قال تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [المائدة: 103] ، يريد: يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون، أي: يفترون عليه في ذلك ونسبته إليه، ولا يعقلون أن ذلك افتراء؛ لأنهم قلدوا فيه آباءهم. "والقسم الثالث هم أهل الفترة حقيقة، وهم غير معذبين" اتفاقًا، ومنه: والده صلى الله عليه وسلم فنهما لم تبلغهما دعوة لتأخر زمانهما وبعد ما بينهما وبين الأنبياء السابقين، وكونهما في زمن جاهلية عم الجهل فيها شرقًا وغربًا، وفقد فيها من يعرف الشرائع ويبلغ الدعوة على وجهها إلا نفرًا يسيرًا من أحبار أهل الكتاب مفرقين في أقطار الأرض؛ كالشام وغيرها، وما عهد لهما تقلب في الأسفار سوى المدينة، ولا أعطيا عمرًا طويلا يسع الفحص عن المطلوب مع زيادة أن أمه صلى الله عليه وسلم مخدرة مصونة محجبة عن الاجتماع بالرجال لا تجد من يخبرها، وإذا كان النساء اليوم مع فشو الإسلام شرقًا وغربًا لا يدرين غالب أحكام الشريعة لعدم مخالطتهن الفقهاء فما ظنك بزمان الجاهلية والفترة الذي رجاله لا يعرفون ذلك فضلا عن نسائه، ولهذا لما بعث صلى الله عليه وسلم تعجب أهل مكة، وقالوا: أبعث الله بشرًا رسولا؟ وقالوا: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة، فلو كان عندهم علم من بعثة الرسل، ما أنكروا ذلك وربما كانوا يظنون أن إبراهيم عليه السلام بعث بما هم عليه، فإنهم لم يجدوا من يبلغهم شريعته على وجهها لدثورها، وفقد من يعرفها إذ كان بينهم وبينه أزيد من ثلاثة آلاف سنة، قاله في مسالك الحنفاء والدرج المنفية ملخصًا، وتقدم له مزيد. وأما أهل القسم الأول؛ كقس وزيد بن عمرو، فقد قال عليه السلام في كل منهما: "إنه يبعث أمة وحده". فأخرج الطيالسي عن سعد بن زيد أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي كان كما رأيته وكما بلغك فاستغفر له، قال: "نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" وروى اليعمري عن ابن عباس مرفوعًا: "رحم الله قسًا، إني أرجو أن يبعثه الله أمة وحده" وصرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه واقع. وروى الطبراني في كبيره وأوسطه بسند رجاله ثقات عنه صلى الله عليه وسلم: "رحم الله قسًا"، قيل: يا رسول الله! تترحم على قس، قال: "نعم، إنه كان على دين أبي إسماعيل بن إبراهيم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وأما عثمان بن الحويرث، وتبع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه، ما لم يلحق أحدهم الإسلام الناسخ لكل دين. انتهى ملخصًا وسيأتي ما قيل في ورقة في حديث المبعث إن شاء الله تعالى. فهذا ما تيسر في مسألة والديه، وقد كان الأولى ترك ذلك، وإنما جرنا إليه ما وقع من المباحثة فيه بين علماء العصر. ولقد أحسن الحافظ شمس الدين بن ناصر .......................   وأخرج البزار عن جابر، قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل، فقلنا: يا رسول الله! إنه كان يستقبل القبلة ويقول: ديني إبراهيم، وإلهي إله إبراهيم، قال: "ذاك أمة وحده، يحشر بيني وبين يدي عيسى ابن مريم"، وقد عدا في الصحابة، لكن قال الذهبي: فتأكد من أورد قسًا في الصحابة كعبدان وابن شاهين، وأما زيد فذكره ابن منده والبغوي وغيرهما في كتب الصحابة، قيل: وإيراد البخاري يميل إليه ورده البرهان، بما حاصله: أن الثابت أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ومات قبلها، فلم ينطبق عليه حد الصحابي. وقال في الإصابة: فيه نظر؛ لأنه مات قبل البعثة بخمس سنين، ولكنه يجيء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي، وهو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، هل يشترط كون رؤيته بعد البعثة، فيؤمن به حين يراه أو بعد ذلك، أو يكفي كونه مؤمنًا بأنه سيبعث؛ كما في قصة هذا وغيره، انتهى. "وأما عثمان بن الحويرث وتبع وقومه وأهل نجران، فحكمهم حكم أهل الدين الذين دخلوا فيه ما لم يلحق أحدهم الإسلام الناسخ لكل دين" يريد غير تبع فإنه لم يدرك الإسلام، فقد تقدم حديث: "لا أدري تبعًا، ألعينا كان أم لا"، وحديث: "لا تسبوا تبعًا، فإن كان قد أسلم" وأخرج أبو نعيم عن عبد الله بن سلام، قال: لم يمت تبع حتى صدق النبي صلى الله عليه وسلم لما كانت ليهود يثرب يخبرونه، "انتهى" كلام الأبي "ملخصًا، وسيأتي ما قيل في ورقة في حديث المبعث إن شاء الله تعالى" من أنه صحابي وأنه أول من أسلم مطلقًا. "فهذا ما تيسر من البحث في مسألة والديه" ولما قوي عند المؤلف توقفه، قال: "وقد كان الأولى ترك ذلك" تبعًا لقول شيخه السخاوي الذي أراه الكف عن ذلك إثباتًا أو نفيًا، "وإنما جرنا إليه ما وقع من المباحثة فيه مع علماء العصر" وقد أحسن الإمام السيوطي في قوله: ثم إني لم أدع أن المسألة إجماعية، بل هي مسألة ذات خلاف، فحكمها كحكم سائر المسائل المختلف فيها، غير أني اخترت أقوال القائلين بالنجاة؛ لأنه الأنسب بهذا المقام. "ولقد أحسن الحافظ شمس الدين" محمد "بن ناصر" أي: ناصر "الدين" أبي بكر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الدين الدمشقي حيث قال: حبا الله النبي مزيد فضل ... على فضل وكان به رءوفا فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا فسلم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا والحذر الحذر، من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه، أو وصف بوصف به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة. وقد قال عليه السلام: "لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات". رواه الطبراني في الصغير، ولا ريب .......   عبد الله بن محمد "الدمشقي" بكسر الدال وفتح الميم وبكسرهما، ولد سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وطلب الحديث وصنف تصانيف حسنة، وصار محدث البلاد الدمشقية، ومات في ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، "حيث قال" في كتابه مورد الصادي بمولد الهادي، بعد أن خرج الحديث في إحياء أمه من طريق الخطيب: حبا الله النبي مزيد فضل ... على فضل وكان به رءوفا فأحيا أمه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا لطيفا فسلم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا فصرح بضعف الحديث ولم يلتفت لزعم وضعه وكفى به حجة، وحبا بمهملة فموحدة: أعطى والباء في بذا قدير بمعنى على، كما تفيده اللغة. ولما ساق المصنف تلك الأحاديث خاف أن يستروح منها انتقاصهما، فقال: "والحذر الحذر من ذكرهما بما فيه نقص، فإن ذلك قد يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه" بفتح أوله وسكون النون أفصح من ضم الياء وفتح النون وشد القاف، "أو وصف بوصف" قائم "به، وذلك الوصف فيه نقص تأذى ولده بذكر ذلك له عند المخاطبة" كيف؟ وقد روى ابن منده وغيره عن أبي هريرة، قال: جاءت سبيعة بنت أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن الناس يقولون: أنت بنت حطب النار، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغضب، فقال: "ما بال أقوام يؤذونني في قرابتي، ومن آذاني فقد آذى الله". وقد قال عليه السلام: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، رواه الطبراني في معجمه "الصغير" وهو عن كل شيخ له حديث واحد من شيوخه، وقد أبعد المصنف النجعة، فقد رواه أحمد والترمذي عن مغيرة بن شعبة رفعه، بلفظ: "لا تسبوا الأموات، فتؤذوا الأحياء"، "ولا ريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أن أذاه عليه السلام كفر يقتل فاعله -إن لم يتب- عندنا. وستأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في الخصائص من مقصد المعجزات.   أن أذاه عليه السلام كفر يقتل فاعله، إن لم يتب عندنا" أي: الشافعية احترازًا ممن يحتم قتله، ولو تاب كالمالكية؛ لأن حده فإن أنكر ما شهد به عليه أو تاب غسل وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، وإلا قتل كفرًا ودفن بمقابر الكفار، بلا غسل وصلاة، هذا وقد بينا لك أيها المالكي حكم الأبوين فإذا سئلت عنهما، فقل: هما ناجيان في الجنة، إما لأنهما أحييا حتى آمنا؛ كما جزم به الحافظ السهيلي والقرطبي وناصر الدين بن المنير، وإن كان الحديث ضعيفًا؛ كما جزم به أولهم ووافقه جماعة من الحفاظ؛ لأنه في منقبة وهي يعمل فيها بالحديث الضعيف. وإما لأنههما ماتا في الفترة قبل البعثة ولا تعذيب قبلها؛ كما جزم به الأبي. وإما لأنهما كانا على الحنيفية والتوحيد لم يتقدم لهما شرك؛ كما قطع به الإمام السنوسي والتلمساني المتأخر محشي الشفاء، فهذا ما وقفنا عليه من نصوص علمائنا ولم نر لغيرهم ما يخالفه إلا ما يشم من نفس ابن دحية، وقد تكفل برده القرطبي. "وسيأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في الخصائص من مقصد المعجزات" وقد قال السيوطي: ومن العلماء من لم تقو عندهم هذه المسالك، فأبقوا أحاديث مسلم ونحوها على ظاهرها من غير عدول عنها بنسخ ولا غيره، ومع ذلك قالوا: لا يجوز أحد أن يذكر ذلك. قال السهيلي، بعد إيراد حديث مسلم: وليس لنا نحن أن نقول ذلك في أبويه صلى الله عليه وسلم؛ لقوله: "لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات"، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] الآية، وسئل القاضي أبو بكر أحد أئمة المالكية عن رجل قال: إن أبا النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فأجاب بأنه ملعون؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] ، ولا أذى أعظم من أن يقال: أبوه في النار. ومن العلماء من ذهب إلى الوقف، روى التاج الفاكهاني في الفجر المنير: الله أعلم بحال أبويه، وأخرج ابن عساكر وأبو نعيم والهروي في ذم الكلام أن رجلا من كتاب الشام استعمل رجلا على كورة من كوره وكان أبوه يزن بالمنانية، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلا على كورة من كور المسلمين، وكان أبوه يزن بالمنانية؟ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، وما عليّ من كان أبوه، كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم مشركًا، فقال عمر: آه، ثم سكت ثم رفع رأسه، ثم قال: أأقطع لسانه! أأقطع يده ورجله! أأضرب عنقه؟ ثم قال: لا تل لي شيئًا ما بقيت، وعزله عن الدواوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ولقد أطنب بعض العلماء في الاستدلال لإيمانهما، فالله يثيبه على قصده الجميل.   "ولقد أطنب بعض العلماء في الاستدلال لإيمانهما، فالله يثيبه على قصده الجميل" وقد بذل السيوطي في ذلك جهده، فألف فيه ست مؤلفات حفلة، ولذا قيل: لعل المصنف أراده فإن ذلك عادته في النقل عنه، قال في مسالك الحنفاء: وقد سئلت أن أنظم في هذه المسألة أبياتًا أختم بها هذا التأليف، فقلت: إن الذي بعث النبي محمدا ... أنجى به الثقلين مما يجحف ولأمه وأبيه حكم شائع ... أبداه أهل العلم فيما صنفوا فجماعة أجروهما مجرى الذي ... لم يأته خبر الدعاة المسعف والحكم فيمن لم تجئه دعوة ... أن لا عذاب عليه حكم مؤلف فبذاك قال الشافعية كلهم ... والأشعرية ما بهم متوقف وبسورة الإسراء فيه حجة ... وبنحو ذا في الذكرى آي تعرف ولبعض أهل الفقه في تعليله ... معنى أرق من النسيم وألطف ونحا الإمام الفخر رازي الورى ... منحى به للسامعين تشنف إذ هم على الفطر الذي ولدوا ولم ... يظهر عناد منهم وتخلف قال الأولي ولدوا النبي المصطفى ... كل من التوحيد إذ يتحنف من آدم لأبيه عبد الله ما ... فيهم أخو شرك ولا يستنكف فالمشركون كما بسورة توبة ... نجس وكلهم بطهر يوصف وبسورة الشعراء فيه تقلبا ... في الساجدين فكلهم متحنف هذا كلام الشيخ فخر الدين في ... أسراره هبطت عليه الذرف فجزاه رب العرش خير جزائه ... وحباه جنات النعيم تزخرف فلقد تدين في زمان الجاهليـ ... ـة فرقة دين الهدى وتحنفوا زيد بن عمرو وابن نوفل هكـ ... ـذا الصديق ما شرك عليه يعكف قد فسر السبكي بذاك مقالة ... للأشعري وما سواه مزيف إذ لم تزل عين الرضا منه على الصـ ... ـديق وهو بطول عمر أحنف عادت عليه صحبة الهادي فما ... في الجاهلية للضلالة يعرف فلأُمّه وأبوه أحرى سيما ... ورأت من الآيات ما لا يوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وقد قال الحافظ ابن حجر في بعض كتبه: والظن بآله صلى الله عليه وسلم -يعني الذين ماتوا قبل البعثة- أنهم يطيعون عند الامتحان ........................   وجماعة ذهبوا إلى إحيائه ... أبويه حتى آمنوا لا تخرفوا وروى ابن شاهين حديثًا مسندا ... في ذاك لكن الحديث مضعف هذي مسالك لو تفرد بعضها ... لكفى فكيف بها إذا تتألف وبحسب من لا يترضيها صمته ... أدبًا ولكن أين من هو منصف صلى الإله على النبي محمد ... ما جدد الدين الحنيف محنف وعلى صحابته الكرام وآله ... أوفى رضاه يدوم لا يتوقف "وقد قال الحافظ ابن حجر في بعض كتبه والظن بآله صلى الله عليه وسلم، يعني الذين ماتوا قبل البعثة أنهم يطيعون عند الامتحان" يوم القيامة. أخرج البزار وأبو يعلى عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود والمعتوه، ومن مات في الفترة، والشيخ الفاني؛ كلهم يتكلم بحجته، فيقول الرب تعالى لعنق من النار: ابرز، ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم، ادخلوا هذه؛ فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أندخلها ومنها كنا نفر؟ ومن كتبت عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعًا، فيقول الله: قد عصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبًا ومعصية، فيدخل، هؤلاء الجنة وهؤلاء النار". وأخرج أحمد وابن راهويه والبيهقي، صححه عن الأسود بن سريع وأبي هريرة معًا، رفعاه: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة, فأما الأصم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئًا, وأما الأحمق، فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر, وأما الهرم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئًا, وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم: أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يسحب إليها". وأخرج البزار عن أبي سعيد رفعه: "الهالك في الفترة والمعتوه والمولود، يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرًا ولا شرًا، ويقول المولود: رب لم أدرك العقل؛ فترفع لهم نار فيردها من كان في علم الله سعيدًا ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًا لو أدرك العمل". وروى البزار عن ثوبان والطبراني وأبو نعيم عن معاذ رفعاه: "إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على ظهورهم فيسألهم ربهم، فيقولون: ربنا لم ترسل لنا رسولا ولم يأتنا لك أمر، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 إكرامًا له صلى الله عليه وسلم لتقر عينه. وقال في الأحكام: ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب الجنة في جملة من يدخلها طائعًا فينجو، إلا أبا طالب فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن.   أتطيعوني؟ "، وذكر نحو ما تقدم. وفي الباب أحاديث آخر كما مرت الإشارة إليه، فإذا أطاع جماعة؛ كما هو صريح الأحاديث فما الظن بالآل إلا أنهم يطيعون ويدخلون الجنة. "إكرامًا له صلى الله عليه وسلم" وكفى بظن هذا الحافظ حجة إذ لايقوله إلا عن أدلة كالنهار، "وقال في الأحكام" وكذا في الإصابة "ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته الجنة في جملة من يدخلها طائعًا، فينجو" لأنه ورد ما يدل على أنه كان على الحنيفية والتوحيد حيث تبرأ من الصليب وعابديه، فقد روى ابن سعد عن ابن عباس، أنه قال لما قدم أصحاب الفيل: لا هم إن المرء يمـ ... ـنع رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك وأورده جماعة بلفظ: وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك وفي طبقات ابن سعد بأسانيده أن عبد المطلب، قال: لأم أيمن: يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبًا من السدرة وإن أهل الكتاب يقولون: إن ابني نبي هذه الأمة، وقال الشهرستاني: مما يدل على إثباته المعاد والمبدأ أنه كان يضرب بالقداح على ابنه، ويقول: يا رب أنت الملك المحمود ... وأنت ربي الملك المعيد من عند الطارف والتليد ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب أمر أبا طالب أن يحضر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فاستقى به. "إلا أبا طالب" لا ينجو "فإنه أدرك البعثة ولم يؤمن" وقد ثبت في الصحيح: أنه أهون أهل النار عذابًا، قال السيوطي: فهذا مما يدل على أن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ليسا في النار، إذ لو كانا فيها أهون عذابًا، منه؛ لأنها أقرب منه مكانًا وأبسط عذرًا فإنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلافه، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه أهون أهل النار عذابًا فليس أبواه من أهلها، وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة، ولم يقل وإلا أبا لهب للقطع بكفره فلا يحتاج لإخراجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وقد كانت أم أيمن، بركة، دابته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السلام يقول لها: أنت أمي بعد أمي. ومات جده عبد المطلب كافله، وله ثمان سنين -وقيل ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل ست، وقيل ثلاث وفيه نظر- وله عشر ومائة سنة، وقيل مائة وأربعون سنة.   "وقد كانت أم أيمن" بفتح الهمزة وسكون التحتية وفتح الميم وبالنون ابن عبيد الخزرجي المستشهد يوم حنين، "بركة" الحبشية "دايته وحاضنته بعد موت أمه، وكان عليه السلام يقول لها: "أنت أمي بعد أمي" أي: كأمي في رعايتك لي وتعظيمي والشفقة عليّ أو في رعايتي لك واحترامك، وقد كانت تدل عليه صلى الله عليه وسلم وكان العمران يزورانها بعده، وكانت تبكي وتقول: أنا أبكي لخبر السماء كيف انقطع عنا. ومن مناقبها الشريفة ما رواه ابن سعد، قال: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن جرير بن حازم، قال: سمعت عثمان بن القاسم يحدث، قال: هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء فعطشت فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته حتى رويت، فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرض للصوم في الهواجر فما عطشت بعد تلك الشربة. "ومات جده عبد المطلب كافله" بعد أمه، روى أنها لما ماتت ضمه جده إليه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام ويجلس على فراشه وأولاده لا يجلسون عليه، وذكر ابن إسحاق: أنه كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان لا يجلس عليه من بنيه أحد إجلالا له، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه فتذهب أعمامه يؤخرونه، فيقول عبد المطلب: دعوا ابني ويمسح على ظهره بيده، ويقول: إن لابني هذا لشأنا، "وله" صلى الله عليه وسلم "ثمان سنين" فيما جزم به ابن إسحاق وتبعه العراقي وتلميذه الحافظ. "وقيل" مات وله "ثمان سنين وشهر وعشرة أيام، وقيل" وله "تسع، وقيل: عشر، وقيل: ست" حكاها مغلطاي وغيره. "وقيل: ثلاث" حكاه ابن عبد البر ومغلطاي، قائلا: "وفيه نظر" لأن أقل ما قيل أنه كان في موت أمه ابن أربع سنين، واتفقوا على أجده كفله بعدها فكيف يتأتى أن يكون ابن ثلاث، "وله" لعبد المطلب "عشر ومائة سنة" قدمه مغلطاي فتبعه المصنف هنا. "وقيل: مائة وأربعون سنة" قاله الزبير بن بكار عالم النسب، وقال: إنها على ما قيل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف، وكان عبد المطلب قد أوصاه بذلك لكونه شقيق عبد الله.   سنه، وجزم به السهيلي والمصنف فيما مر، وقيل: وله مائة وعشرون، لكن قال الواقدي: ليس ذلك يثبت، وقيل: خمس وتسعون، وقيل: اثنتان وثمانون، وقيل: خمس وثمانون، وعمي قبل موته ودفن على ما ذكر ابن عساكر بالحجون. "وكفله أبو طالب، واسمه عبد مناف" عند الجميع وشذ من قال عمران، بل هو قول باطل نقله ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض، فقال: زعم بعض الروافض في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران: 33] ، أن آل عمران هم آل أبي طالب، وأنه اسمه عمران ذكره الحافظ في الفتح، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن اسمه كنيته، قال: ووجدت بخط علي الذي لا شك فيه، وكتب علي بن أبي طالب، قال البرهان: وقد رأيت بحلب بحارة المغاربة في مسجد يقال له مسجد غورث فيه عمود أسود مكتوب عليه: كتبه علي بن أبي طالب وقد ذكر هذا العمود الكمال بن العديم في أوائل تاريخ حلب، وأنه خط علي رضي الله عنه، انتهى. "وكان عبد المطلب أوصاه بذلك؛ لكونه شقيق عبد الله" والده دون الحارث ونحوه، فالقصر إضافي فلا يرد أن الزبير شقيقه أيضًا، وقد قيل: شاركه في كفالته وخص أبو طالب بالذكر لامتداد حياته، فإن الزبير لم يدرك الإسلام، وقيل: أقرع عبد المطلب بينهما فخرجت القرعة لأبي طالب. وفي أسد الغابة للحافظ عز الدين بن الأثير: كفله أبو طالب؛ لأنه شقيق أبيه وكذلك الزبير لكن كفالة أبي طالب إما لوصية عبد المطلب، وإما لأن الزبير كفله حتى مات، ثم كفله أبو طالب، وهذا غلط؛ لأن الزبير شهد حلف الفضول وللمصطفى نيف وعشرون سنة، وأجمع العلماء على أنه شخص مع أبي طالب إلى الشام بعد موت عبد المطلب بأقل من خمس سنين، فهذا يدل على أن أبا طالب هو الذي كفله، انتهى. وذكر الواقدي أن عيال أبي طالب كانوا إذا أكلوا جميعًا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل المصطفى معهم شبعوا، فكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم، يقول: كما أنتم حتى يأتي ابني، فيأتي فيأكل معهم فيفضل من طعامهم، وإذا كان لبنًا شرب أولهم ثم يشربون فيروون كلهم من قعب واحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعبًا وحده، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. وروى أبو نعيم وغيره، عن ابن عباس، قال: كان بنو أبي طالب يصبحون عمشًا رمصًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب، ومعه غلام كأنه شمس دجن، تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه .........................   ويصبح محمد صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينًا كحيلا، وكان أبو طالب يحبه حبًا شديدًا لا يحب أولاده كذلك، ولذا لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج به متى خرج. وذكر ابن قتيبة في غريب الحديث: أنه كان يوضع له الطعام ولصبية أبي طالب فيتطاولون إليه ويتقاصر هو وتمتد أيديهم وتنقبض يده تكرمًا منه واستحياء ونزاهة نفس وقناعة قلب، ويصبحون عمصًا رمصًا مصفرة ألوانهم ويصبح هو صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينًا كأنه في أنعم عيش وأعز كفاية لطفًا من الله به. "وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة" بضم الجيم وتفتح؛ كما في القاموس "ابن عرفطة" بضم العين والفاء، "قال: قدمت مكة وهم في قحط" بسكون الحاء، وحكى الفراء فتحها، أي: وأهل مكة في زمن شدة لاحتباس المطر عنهم، "فقالت قريش" بعد أن تشاوروا، فلفظ الحديث عند ابن عساكر: قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: أعمدوا اللات والعزى، وقائل منهم: أعمدوا منات الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون، وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل؟ قالوا: كأنك عنيت أبا طالب، قال: أيها، فقاموا بأجمعهم فقمت فدققنا عليه الباب فخرج إلينا فثاروا إليه، فقالوا: "يا أبا طالب، أقحط" بالبناء للفاعل والمفعول "الوادي" أصابه القحط، "وأجدب العيال، فهلم" اسم فعل يستعمل متعديًا؛ كقوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ} [الأنعام: 150] ، ولازمًا كما هنا "فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام" هو النبي صلى الله عليه وسلم، "كأنه شمس دجن" بضم الدال المهملة والجيم وشد النون على مفاد قول القاموس: كعتل الظلمة والغيم المطبق الريان المظلم لا مطر فيه، ثم يحتمل تنوين دجن على الوصف؛ أي: كأنه شمس كسيت ظلمة والإضافة، أي: شمس ذات يوم ظلمة أو ذات يوم دجن، أي: مظلم، "تجلت عنه سحابة قتماء" بفتح القاف وسكون الفوقية والمد تأنيث أقتم، أي: سحابة يعلوها سواد غير شديد وهذا من بديع التشبيه، فإن شمس يوم الغيم حين ينجلي سحابها الرقيق تكون مضيئة مشرقة مقبولة للناس ليست محرقة، "وحوله أغيلمة" تصغير أغلمة جمع غلام، ويجمع أيضًا على غلمة وغلمان؛ كما في القاموس وصغر إشارة إلى صغرهم؛ لأنه الغلام قد يطلق على البالغ؛ كما مر "فأخذه" أي: الغلام، "أبو طالب فألصق ظهره" أي: ظهر الغلام "بالكعبة ولاذ" التجأ "الغلام بأصبعه" أي: أصبع نفسه السبابة على الظاهر؛ لأن الذي يشار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق وأغدوق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي والبادي. وفي هذا يقول أبو طالب: وأبيض يستقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل   به غالبًا، ولعل المعنى: أشار به إلى السماء كالمتضرع الملتجئ. وفسر الشامي: لاذ بطاف والأول أولى وأغرب من رجع ضمير أصبعه لأبي طالب؛ أي: أمسك المصطفى أصبعه؛ لأنه خلاف الظاهر من معنى لاذ، لأنه إنما جاء بمعنى التجأ ودنا وطاف. "وما في السماء قزعة" بقاف فزاي فعين مهملة مفتوحات فهاء، أي: قطعة من السحاب كما في القاموس. "فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا" أي: من جميع الجهات لا من جهة دون أخرى، "وأغدق" السحاب، أي: كثر ماؤه والإسناد مجازي، "واغدودق" مرادف، ففي القاموس: أغدق المطر واغدودق كثر قطره، "وانفجر له" للسحاب "الوادي" أي: جرى الماء فيه وسال، "وأخصب النادي" بالنون أهل الحضر "والبادي" بالموحدة أهل البادية، أي: أخصبت الأرض للفريقين، "وفي هذا يقول أبو طالب" يذكر قريشًا حين التمالؤ عليه صلى الله عليه وسلم يده وبركته عليهم من صغره، "وأبيض" بفتح الضاد مجرور برب مقدرة؛ كما صدر به الحافظ كالكراماني والسيوطي، وجزم به في المغني أو منصوب، قال الحافظ: بإضمار أعني أو أخص، قال: والراجح أنه بالنصب عطفًا على سيد المنصوب في البيت قبله، وهو: وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب موكل انتهى. وبه قطع الدماميني في مصابيحه ورد به على ابن هشام، واستظهره في شرح المغني، وقال: هو من عطف الصفات التي موصوفها واحد أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، وقاله الكرماني وأفاده المصنف عن ضبط الشرف اليونيني في نسخته من البخاري، أي: هو أبيض فقوله: سيدًا معمول ترك بسكون الراء، والذمار بكسر الذال المعجمة: ما يحق على الإنسان حمايته. والذرب بذال معجمة وموحدة على زنة كتف سكنت راؤه تخفيفًا، وهو الحاد. والمواكل المتكل على غيره. وفي رواية بدل وأبيض وأبلج من البلج بفتحين وهو نقاء ما بين الحاجبين من الشعر. "يستسقى" بالبناء للمفعول "الغمام" السحاب "بوجهه" أي: يطلب السقي من الغمام بوجهه، والمراد ذاته، أي: يتوسل إلى الله به، "ثمال اليتامى عصمة للأرامل" قال الدماميني: بنصب ثمال وعصمة ويجوز رفعهما على أنهما خبر محذوف، زاد المصنف: وبجرهما على أن أبيض مجرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل والثمال -بكسر المثلثة: الملجأ والغياث، وقيل: المطعم في الشدة. وعصمة للأرامل: أي يمنعهم من الضياع والحاجة. والأرامل: والمساكين من رجال ونساء، ويقال لكل واحد من الفريقين على انفراده: أرمل، وهو بالنساء أخص، وأكثر استعمالا، والواحد أرمل وأرملة.   "يلوذ" يلتجئ "به الهلاك" جمع هالك، أي: المشرفون على الهلاك، "من آل هاشم" وإذا التجأ إليه هؤلاء السراة فغيرهم أولى، "فهم عنده في نعمة" يد ومنة على حذف مضاف، أي: في ذوي نعمة، أي: سعة وخير أو جعل النعمة ظرفًا لهم مبالغة، "وفواضل" عطف خاص على عام، ففي القاموس الفواضل الأيادي الجسيمة أو الجميلة، إذ المراد بالنعمة النعم الكثيرة الشاملة للنعم العظيمة والدقيقة، وثبت البيت الثاني في بعض النسخ وأكثرها بحذفه ويدل له قوله الآتي: وهذا البيت حيث لم يقل، وهذان البيتان "والثمال بكسر المثلثة" وتخفيض الميم هو "الملجأ والغياث" اسم مصدر من أغاثه، أي: أعانه ونصره، والمراد: أنه يلتجأ إليه ويستعان به فهما متساويان معنى، "وقيل: المطعم في الشدة" ويصح إرادتهما معًا هنا، ومن ثم قال الحافظ الثمال: العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي قد أطلق على كل من ذلك، "و" قوله: "عصمة للأرامل" أي: "يمنعهم من الضياع والحاجة" عطف تفسير، أي: الاحتياج وما ألطف قول الفتح، أي: يمنعهم مما يضرهم، "والأرامل المساكين من رجال ونساء" قاله ابن السكيت، قال: ويقال لهم وإن لم يكن فيهم نساء، "ويقال لكل واحد من الفريقين على افنراده: أرمل" قال جرير: هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر "وهو بالنساء أخص" أليق "وأكثر استعمالا" عطف تفسير، "والواحد أرمل و" الواحدة "أرملة" بالهاء، وفي الفتح: الأرامل جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها، وقد يستعمل في الرجل أيضًا مجازًا ومن ثم لو أوصى للأرامل خص النساء دون الرجال، انتهى. وفي هذا الحديث من الفوائد أن أبا طالب منشئ البيت، وأنه قال: يستسقى الغمام بوجهه عن مشاهدة فلا يرد أن الاستسقاء إنما كان بعد الهجرة وهو قد مات قبلها، وقد شاهده مرة أخرى قبل ذلك فروى الخطابي حديثًا فيه: أن قريشًا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب، فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس، فقام عبد المطلب واعتضده صلى الله عليه وسلم فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو قرب، ثم دعا فسقوا في الحال فقد شاهد أبو طالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب، ذكرها ابن إسحاق بطولها، وهي أكثر من ثمانين بيتًا. قالها لما تمالأت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، ونفروا عنه من يريد الإسلام، وأولها: لما رأيت القوم لا ود عندهم ... ..........................   ما دله على ما قال، ذكره السهيلي في الروض. وقول الفتح: يحتمل أنه مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد وقوعه عجيب؛ كما قال في شرح الهمزية وغفلة عن رواية ابن عساكر هذه إذ لو استحضرها لم يبد هذا الاحتمال، انتهى. وأعجب منه جزم السيوطي به، وبنحو هذا لوح المصنف في المقصد التاسع، فقال بعد ذكره: احتمال الحافظ، قلت: قد أخرج ابن عساكر، فذكره. "وهذا البيت من أبيات في قصيدة لأبي طالب" على الصواب، وقول الدميري وتبعه جماعة أنه لعبد المطلب غلط، فقد أخرج البيهقي عن أنس، قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أتيناك وما لنا صبي يغط ولا بعير يئط، وأنشد أبياتًا، فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ودعا، فما رد يديه حتى التقت السماء بأبراقها وجاءوا يضجون الغرق، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "لله د أبي طالب، لو كان حيًا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله". فقال علي: يا رسول الله كأنك تريد قوله: وأبيض يستقى. وذكر أبياتًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل"، فهذا نص صريح من الصادق بأن أبا طالب منشئ البيت نبه عليه في شرح الهمزية، وقد ساق المصنف خبر البيهقي بتمامه في المقصد التاسع. "ذكرها ابن إسحاق بطولها وهي" عنده "أكثر من ثمانين بيتًا" بثلاثة أبيات في رواية ابن هشام عن البكائي عنه، قائلا: هذا ما صح له من هذه القصيدة وبعض علماء الشعر ينكر أكثره، وفي شرح المصنف للبخاري وعدة أبياتها مائة بيت وعشرة أبيات. وفي المزهر: قال محمد بن سلام زاد الناس في قصيدة أبي طالب التي فيها: وأبيض يستقي الغمام بوجهه وطولت بحيث لا يدري أين منتهاها، وقد سألني الأصمعي عنها، فقلت: صحيحة، فقال: أتدري منتهاها؟ قلت: لا، وذكر ابن إسحاق أنه "قالها: لما تمالأت" اجتمعت "قريش على" أذى "النبي صلى الله عليه وسلم ونفروا عنه من يريد الإسلام" لا عقب استسقائه في صغره به، ولذا قلت في قوله السابق: وفي ذلك يقول أبو طالب، يذكر قريشًا حين التمالؤ عليه يده وبركته من صغره ليلتئم مع كلام ابن إسحاق هذا، فلا يصح زعم أنه أنشد البيت أثر هذه الواقعة، ثم أكملها بعد البعث إذ مجرد قوله: وفي ذلك يقول: لا يستلزم كونه قال عقب الاستسقاء. "وأولها" عند ابن إسحاق وتبعه في الفتح، "لما رأيت" علمت "القوم" قريشًا "لا ود عندهم" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ............................ ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل وقد جاهرونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل أعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم ... تكونوا كما كانت أحاديث وائل أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملح بباطل وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه ... وراقٍ لبر في حراء ونازل   لنا ولفظ ابن إسحاق فيهم، وهو ما في الفتح "وقد قطعوا كل العرا" جمع عروة، قال الشامي: أراد بها العهود "والوسائل" جمع وسيلة وهي القربة، يقال: وسل إلى ربه وسيلة إذا تقرب بعمل إليه، والوسيلة المنزلة عند الملك، انتهى. "وقد جاهرونا" معشر بني هاشم "بالعداوة والأذى، وقد طاوعوا" فينا "أمر العدو المزايل" قال الشامي: هو المحاول المعالج، وقال شيخنا: هو المفارق ففي المختار المزايلة المفارقة، وبعد هذين البيتين: وقد حالفوا قومًا علينا أظنه ... يغضون غيظًا حلفنا بالأنامل صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول فقوله: صبرت ... إلخ، جواب لما، ومر الناظم في غرضه إلى أن قال ما أنشده المصنف، وهو: "أعبد" الهمزة للنداء بتقدير مضاف، أي: يا آل عبد "مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل" هو الضعيف النذل الساقط المقصر في الأشياء والمدعي نسبًا كاذبًا والداخل على القوم في طعامهم وشرابهم؛ كما في القاموس. وفيه النذل، أي: بذال معجمة الخسيس من الناس المحتقر في جميع أحواله. "فقد خفت إن لم يصلح الله أمركم" بالإيمان به صلى الله عليه وسلم "تكونوا كما كانت" تصيروا كما صارت، "أحاديث وائل أعوذ برب الناس" خالقهم ومالكهم، وخصوا بالذكر في التنزيل وكلام العرب تشريفًا لهم، "من كل طاعن علينا بسوء أو ملح" أي: متماد "بباطل" يقال: ألح على الشيء، إذا واظب عليه وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق: ومن كاشح يسعى لنا بعبية ... ومن ملحق في الدين ما لم يحاول وبعده قوله: "وثور" بمثلثة مفتوحة فواو فراء: جبل: "ومن أرسى" أثبت "ثبيرًا" بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية فراء "مكانه وراق" صاعد "لبر" بموحدة ضد الإثم، "في حراء" بالمد "ونازل" فيه من النزول، هكذا رواه ابن إسحاق وغيره. وأما ابن هشام، فقال: وراق ليرقى من الرقي، قال السهيلي: وهو وهم منه أو من شيخه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وبالبيت حق البيت في بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نطا عن دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ومعنى نناضل: نجادل ونخاصم وندافع. ونبزي: هو بالباء الموحدة والزاي نقهر ونغلب.   البكائي، وقد قال البرقي وغيره: الصواب الأول وفي الشامي أنه تصحيف ضعيف المعنى، فمعلوم أن الراقي يرقى، فإنما أقسم بطالب البر يصعد في حراء للتعبد فيه وبالنازل فيه، "وبالبيت" الكعبة "حق البيت في بطن بكة" بموحدة لغة جاء بها التنزيل، "وبالله" كرر القسم به تأكيدًا فإنه أقسم به في قوله: ومن أرسى "إن الله ليس بغافل" عما تعملون من عداوتكم لنا وللنبي صلى الله عليه وسلم وتمالئكم عليه وتنقيركم من يريد الإسلام فيجازيكم على ذلك أشد النكال إن لم ترجعوا، وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق أربعة عشر بيتًا، وبعدها قوله: "كذبتم وبيت الله" في قولكم "نبزي" بضم النون وسكون الموحدة وفتح الزاي: نقهر ونغلب "محمدا" كذا ضبطه الشامي، لكن في النهاية أنه بالتحتية بدل النون ورفع محمد على أنه نائب فاعل يبزي، ولفظه يبزى، أي: يقهر ويغلب، أراد لا يبزي فحذف لا من جواب القسم وهي مراده، أي: لا يقهر، "ولما نطا عن" مجزوم بلما وحذف المفعول ليعتم، أي: نطا عنكم وغيركم "دونه ونناضل" بنونين وضاد معجمة، "ومنها" قوله بلصق هذا البيت: فاللائق حذف، ومنها كما هو في نسخ "ونسلمه" لكم معشر قريش تفعلون به ما شئتم، كما قلتم لا "حتى نصرع حوله" وحتى "نذهل" نغفل "عن أبنائنا والحلائل" الزوجات، واحدها حليلة "ومعنى نناضل نجادل ونخاصم وندافع" عنه، وقال الشامي: نرامي بالسهام، "ونبزي هو بالباء الموحدة، والزاي: نقهر", وقال الشامي: معناه نسلب "ونغلب"، انتهى. وما أحل قوله في ختامها عند ابن إسحاق. لعمري لقد كلفت وجد أبا أحمد ... وأحببته دأت المحب المواصل فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل حليم رشيد عاقل غير طائش ... يوالي إلها ليس عنه بغافل فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدًا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعني بقول الأباطل فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 قال ابن التين: إن في شعر أبي طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، لما أخبره به بحيرى وغيره من شأنه. وتعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر: بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر كان بعد المبعث، ومعرفة أبي طالب بنبوته عليه السلام جاءت في كثير من الأخبار. وتمسك بها الشيعة في أنه كان مسلمًا. قال: ورأيت لعلي بن حمزة البصري جزءًا فيه شعر أبي طالب، وزعم أنه كان مسلمًا، وأنه مات على الإسلام، وأن الحشوية .........................   حديث بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذرى والكلاكل "قال" الإمام عبد الواحد "بن التين" السفاقسي في شرح البخاري، قال البرهان في مبحث انشقاق القمر، والنطق به كالنطق بالتين المأكول، "إن في شعر أبي طالب هذا دليلا على أنه كان يعرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به بحيرًا" الراهب "وغيره من شأنه" وكأنه أخذ ذلك من كون الاستسقاء به في صغره وليس بلازم؛ كما مر. "و" لذا "تعقبه الحافظ أبو الفضل بن حجر" في الفتح؛ "بأن ابن إسحاق ذكر أن إنشاء أبي طالب لهذا الشعر، كان بعد المبعث" ووصفه فيه بما شاهده من أحواله ومنها الاستسقاء به في صغره، "ومعرفة أبي طالب بنبوته عليه السلام جاءت في كثير من الأخبار" فلا حاجة إلى أخذها من شعره هذا "وتمسك بها الشيعة" بكسر الشين اسم لطائفة من الفرق الإسلامية شايعوا عليًا رضي الله عنه، وقالوا: إنه الإمام بعده صلى الله عليه وسلم بالنص إما جليًا وإما خفيًا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده وإن خرجت، فإما بظلم من غيرهم، وإما بتبعية منه ومن أولاده، وهم اثنتان وعشرون فرقة بكفر بعضهم بعضًا أصولهم ثلاث فرق غلاة وزيدية وإمامية، قاله في المواقف وشرحها، وفي مقدمة فتح الباري التشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر، فقال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض، فقال في الرفض: وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا، فأشد في الغلو، انتهى. "في أنه كان مسلمًا" وهو تمسك واهٍ؛ لأن مجرد المعرفة بالنبوة لا يستلزم الإسلام، "قال: ورأيت لعلي بن حمزة البصري" الرافضي "جزءًا جمع فيه شعر أبي طالب، وزعم أنه كان مسلمًا وأنه مات على الإسلام" وزعم "أن الحشوية" بفتح الحاء والشين وبضم الحاء وسكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 تزعم أنه مات كافرًا، واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه. انتهى. ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، حتى بلغ بصري، فرآه بحيرى الراهب، واسمه جرجيس ............................   الشين، وهم المنتمون للظاهر، قيل: سموا بذلك لقول الحسن البصري لما رأى سقوط كلامهم وكانوا يجلسون في حلقته ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة، أي: جانبها. "تزعم أنه مات كافرًا" وأنهم بذلك يستجيزون لعنه ثم بالغ في سبهم والرد عليهم، "واستدل لدعواه بما لا دلالة فيه" قال: وقد بينت فساد ذلك كله في الإصابة، "انتهى" كلام الحافظ في كتاب الاستسقاء، وقال في باب قصة أبي طالب: إنه وقف على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولا يثبت من ذلك شيء، انتهى. "ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة" قاله الأكثر، وقيل: تسع سنين، قاله الطبري وغيره. وقيل: ثلاثة عشر، حكاه أبو عمر. وقال ابن الجوزي: قال أهل السير والتواريخ: لما أتت عليه صلى الله عليه وسلم اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام، وفي سيرة مغلطاي: وشهر، ويمكن حمل القول الأول عليه بأن المراد: وما قاربها، "خرج مع عمه أبي طالب" قاصدًا "إلى الشام" وسبب ذلك؛ كما في ابن إسحاق: أن أبا طالب لما تهيأ للرحيل صب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرق له أبو طالب، وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا فارقه أبدًا، فخرج به معه. وصب بصاد مهملة فموحدة، قال السهيلي: الصبابة رقة الشوق، يقال: صببت بكسر الباء أصب وقرئ: أصب إليهن، وعند بعض الرواة: خبث به، أي: لزمه. قال الشاعر: كان فؤادي في يد خبثت به ... محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه انتهى. وفي النور: خبث بفتح الضاد المعجمة والموحدة وبالمثلثة، انتهى. فهما روايتان فقصر من اقتصر على الثانية. وسار "حتى بلغ بصري" بضم الموحدة مدينة حوران فتحت صلحًا لخمس بقين من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة وهي أول مدينة فتحت بالشام، ذكره ابن عساكر، وردها عليه السلام مرتين. "فرآه بحيرا الراهب" وكان إليه علم النصرانية، قال ابن إسحاق: "واسمه جرجيس" بكسر الجيمين بينهما راء وبعد الثانية تحتية فسين مهملة، هكذا رأيته بخط مغلطاي في الزهري وصحح عليه، وكذا في الإصابة غيره مصروف للعجمة والعلمية وهو في الأصل اسم نبي، قاله الشامي، قال السهيلي وصاحب الإصابة: وقع في سيرة الزهري أن بحيرا كان حبرًا من أحبار اليهود تيمًا. وفي مروج الذهب للمسعود: إنه كان نصرانيًا من عبد القيس واسمه سرجس. قال البرهان: هكذا في نسخة صحيحة من الروض وأخرى قريبة من الصحة، وفي الشامية، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فعرفه بصفته فقال وهو آخذ بيده: هذا سيد العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة، لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة، في أسفل من غضروف كتفه، مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفًا عليه من اليهود. والحديث رواه ابن أبي شيبة، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل وعليه غمامة تظله.   المسعود: اسمه جرجس، كذا فيما وقفت عليه من نسخ الروض. "فعرفه بصفته، فقال: وهو آخذ بيده" كما رواه الترمذي والبيهقي في الدلائل والخرائطي وابن أبي شيبة عن أبي موسى، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب يعني بحيرا، هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم وكان قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فنزل وهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هذا سيد المرسلين، هذا سيد العالمين" ذكره لإفادة تعميم السيادة نصا، وإن استلزمه ما قبله، "هذا يبعثه الله رحمة للعالمين". كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ففيه أن معنى الآية كان عندهم في الكتب القديمة، "فقيل له" وفي رواية الترمذي والجماعة، فقال له الأشياخ من قريش: "وما علمك بذلك" أي: علم لك به، نحو، وما علمي بما كانوا يعملون، "قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل من غضروف كتفه" بضم الغين وسكون الضاد المعجمتين فراء مضمومة فواو ساكنة، وهو رأس لوح الكتف، ويقال: غضروف بتقديم الراء. وقدمه الجوهري. "مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب أن يرده خوفًا عليه من اليهود، رواه ابن أبي شيبة" عن أبي موسى الأشعري. قال السخاوي: وهو إما أن يكون تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار الصحابة، أو كان مشهورا أخذه بطريق الاستفاضة. "وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل وعليه غمامة تظله" ولفظه ثم رجع يصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وغمامة تظله ... الحديث، وتأتي بقيته في كلام المصنف. وساق ابن إسحاق: الحديث بلفظ: أنه صنع إليهم طعامًا وأرسل إليهم أن احضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك يوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرًا، فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرًا: صدقت، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعامًا فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 و "بحيرى"، بفتح الموحدة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة. قال الذهبي في تجريد الصحابة: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وآمن به، وذكره ابن منده، وأبو نعيم في الصحابة. وهذا ينبني على تعريفهم الصحابي: بمن رآه صلى الله عليه وسلم، هل المراد حال النبوة، أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة ومات قبلها على دين الحنيفية .......................   وتخلف صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحالهم، فلما نظر بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش! لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي، فقال له: يا بحيرا! ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام أحدث القوم سنًا فتختلف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر معكم، فقال رجل من قريش: إن كان للؤما بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا، فقام الحارث بن عبد المطلب فأتى به الحديث، وفيه: أنه أحضرهم للطعام وأن المصطفى تخلف لحداثته. وفي السابق: أنه أتى لهم بالطعام وأن النبي عليه السلام كان في رعية الإبل، وإسناده صحيح فوجب تقديمه على خبر ابن إسحاق؛ لأنه معضل وعلى تقدير ثبوته، فيحتمل على بعد أنه صنع فلهم الطعام مرتين. "وبحيرا بفتح الموحدة وكسر" الحاء "المهملة وسكون المثناة التحتية آخره راء مقصورة" قاله غير واحد. قال الشامي: ورأيت بخط مغلطاي والمحب بن الهائم وغيرهما: عليها مدة، وقال البرهان: رأيته ممدودًا بخط الإمام شهاب الدين بن المرحل. "قال الذهبي في تجريد الصحابة: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث وآمن به" كما أفاده هذا الخبر، وأصرح منه ما في الإصابة عن أبي سعد في شرف المصطفى أنه صلى الله عليه وسلم مر ببحيرا أيضًا لما خرج في تجارة خديجة ومعه ميسرة، وإن بحيرا قال له: قد عرفت العلامات فيك كلها إلا خاتم النبوة، فاكشف لي عن ظهرك، فكشف له عن ظهره، فرآه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر به عيسى ابن مريم، ولا يشكل على ما مر أنه رأى الخاتم وهو ابن عمه؛ لاحتمال أنه نسىي صورة ما رآه أو تردد في أنه الخاتم، فأراد التثبت. "وذكره ابن منده" بفتح الميم والدال المهملة بينهما نون ساكنة، كما ضبطه ابن خلكان، "وأبو نعيم في الصحابة" لهما "وهذا" الذي قاله الذهبي "ينبني على تعريفهم الصحابي بمن رآه صلى الله عليه وسلم، هل المراد حال النبوة" وهو ظاهر كلامهم، وعليه صاحب الإصابة، إذ قال: لا ينطبق عليه تعريف الصحابي وهو مسلم لقى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به ومات على ذلك، فقولنا: مسلم، أظن أنه يخرج من لقيه مؤمنًا به قبل أن يبعث؛ كبحيرا هذا، ولا أدري أدرك البعثة أم لا؟. "أو أعم من ذلك حتى يدخل من رآه قبل النبوة، ومات قبلها على دين الحنيفية" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وهو محل نظر، وسيأتي البحث فيه إن شاء الله في المقصد السابع. وخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه أن في هذه السفرة أقبل سبعة من الروم يقصدون قتله عليه السلام، فاستقبلهم بحيرى، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: إن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها بأناس، فقال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا قال: فبايعوه وأقاموا معه، ورده أبو طالب ............................   كزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، "وهو محل نظر" أي: بحث بينهم، "وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في المقصد السابع. وخرج الترمذي وحسنه" فقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، "والحاكم وصححه" فقال على شرطهما، وكذا خرجه البيهقي وأبو نعيم والخرائطي وابن عساكر. في حديث أبي موسى السابق صدره، وكان المناسب لو أتى بالحديث دون تقطيع، ثم عقبه بالتكلم على بحيرا وعلى إشكاله الآتي. "أن في هذه السفرة أقبل سبعة من الروم يقصدون قتله عليه السلام" ولفظه عقب قوله السابق: فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، قال: فبينا هو قائم عليهم وهو ينشادهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، "فاستقبلهم بحيرا، فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: إن هذا النبي" الذي بشر به في كتبنا، فاللام للعهد "خارج في هذا الشهر" أي: إلى السفر لا إلى النبوة؛ لأنه حينئذ كان صغيرًا "فلم يبق طريق إلا بعث" بالبناء للمفعول، أي: بعث ملكهم، "إليها بأناس" وأسقط من الحديث ما لفظه: وأنا مذ أخبرنا خبره بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا، "فقال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه" بفتح الياء خبر لا أمر، قال ابن سيد الناس: إن كان المراد فبايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى الله عليه وسلم فقريب، وإن كان غير ذلك فلا أدري ما هو. قال المحب بن الهائم: الأول هو الظاهر، لتوافق الضمير فيه، وفي "وأقاموا معه" ومعناه: بايعوه على أن لا يأخذوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذوه على حسب ما أرسلوا فيه، وأقاموا مع بحيرا خوفًا على أنفسهم إذا رجعوا بدونه، قال: وهذا وجه حسن جدًا، انتهى. وخفي هذا على الحافظ الدمياطي، فقرأه بكسر الياء أمرًا وحكم بأنه وهم. "ورده" أي: النبي صلى الله عليه وسلم "أبو طالب" بأمر بحيرا، ففي حديث الترمذي والجماعة بعده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وبعث معه أبو بكر بلالا. قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي. انتهى. وضعف الذهبي الحديث لقوله في آخره: "وبعث معه أبو بكر بلالا" فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا، ولا اشترى بلالا. قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: الحديث رجاله ثقات، وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة فيه مقتطعة من حديث آخر ..............   فأقاموا معه، فقال: أنشدكم بالله! أيكم؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، "وبعث معه أبو بكر بلالا" بقية الحديث، وزوده الراهب من الكعك والزيت، "قال البيهقي: هذه القصة مشهورة عند أهل المغازي، انتهى. "وضعف" الحاف محمد بن أحمد "الذهبي الحديث؛ لقوله في آخره، وبعث معه أبو بكر بلالا، فإن أبا بكر إذ ذاك لم يكن متأهلا" قال ابن سيد الناس: لأنه حينئذ لم يبلغ عشر سنين، فإن المصطفى أزيد منه بعامين وكان له يومئذ تسعة أعوام على ما قاله الطبري وغيره، أو اثنا عشر عامًا، على ما قاله آخرون. "ولا اشترى بلالا" قال اليعمري: لأنه لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأزيد من ثلاثين عامًا؛ فإنه كان لبني خلف الجمحيين وعندما عذب في الله اشتراه أبو بكر رحمة له، واستنقاذًا له من أيديهم، وخبره بذلك مشهور، انتهى. ولفظ الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الرحمن بن غزوان: كان يحفظ وله مناكير، وأنكر ما له حديث عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى في سفر النبي صلى الله عليه وسلم وهو مراهق مع أبي طالب إلى الشام، وقصة بحيرا ومما يدل على أنه باطل، قوله: وبعث معه أبو بكر بلالا، وبلال لم يكن خلق وأبو بكر كان صبيًا. وقال في تلخيص المستدرك، بعد ما ذكر قول الحاكم على شرطهما: قلت أظنه موضوعًا، فبعضه باطل، انتهى. ورد قوله: بلال لم يكن خلق بأن ابن حبان قال في الثقات: إن بلالا كان ترب الصديق، أي: قرينه في السن. "قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: الحديث رجاله ثقات" من رواة الصحيح وعبد الرحمن بن غزوان ممن خرج له البخاري، ووثقه جماعة من الأئمة والحفاظ. قال السخاوي: ولم أر لأحد فيه جرحًا، "وليس فيه منكر سوى هذه اللفظة، فتحمل على أنها مدرجة" ملحقة "فيه" من أحد رواته من غير تمييز له من الحديث، "مقتطعة من حديث آخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وهما من أحد رواته. وفي حديث عند البيهقي وأبي نعيم: أن بحيرى رأى -وهو في صومعته- في الركب حين أقبلوا، وغمامة بيضاء تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبًا منه، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها. الحديث. وفيه: أن بحيرى قام فاحتضنه وأنه جعل يسأله عن أشياء من حاله: ونومه وهيئته وأموره. ويخبره صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده.   وهما" بفتح الهاء غلطًا "من أحد رواته" فلا يحكم على جميع الحديث بالضعف ولا بغيره لأجلها بل عليها فقط؛ لكون رجال ثقات. "وفي حديث عند البيهقي" في الدلائل "وأبي نعيم" في حديث أبي موسى السابق "أن بحيرا رأى" تأمل "وهو في صومعته في الركب" لعلمه بخروج المصطفى للسفر حينئذ من الكتب القديمة، وهذا أولى من تقدير المفعول وجعل رأى بصرية، وفي نسخة: رآه، أي: رأى بحيرا النبي عليه السلام، والصومعة منزل الراهب. قال البرهان: يقال أتانا بثريد مصمعة إذا دققت وحدد رأسها وصومعة النصارى فوعلة من هذا؛ لأنها دقيقة الرأس "حين أقبلوا وغمامة بيضاء تظله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا بظل شجرة قريبًا منه" من بحيرا، "فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت". قال البرهان: بالصاد المهملة المشددة، أي: مالت وتدلت "أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها الحديث"، وفي الزهر الباسم عن الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم لما فارق تلك الشجرة التي كان جالسًا تحتها وقام انقلعت من أصلها حين فارقها، "وفيه: أن بحيرا قام فاحتضنه" صلى الله عليه وسلم "وأنه جعل يسأله عن أشياء" وعند ابن إسحاق، أنه قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى، إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني بهما شيئًا، فوالله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما". فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال له: "سلني عما بدا لك" فجعل يسأله عن أشياء "من حاله ونومه وهيئته وأموره" ليعلم: هل هو أو غيره، "ويخبره صلى الله عليه وسلم فيوافق ذلك" الذي يخبره به "ما عند بحيرا من صفته" وإنما سأله بحق اللات والعزى اختبارًا؛ كما في الشفاء، وهو أنسب من قول ابن إسحاق؛ لأنه سمع قومه يحلفون بهما. "ورأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده" وعند ابن إسحاق: فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وتقدم أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته في الظهيرة، وغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر. ولله در القائل: إن قال يومًا ظللته غمامة ... هي في الحقيقة تحت ظل القائل ونقل الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض أهل المعرفة: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس بالحر ولا بالبرد، وأنه كان في ظل غمامة من اعتداله. كذا نقل رحمه الله.   فرغ أقبل على عمه، فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما هو ابنك، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيًا، قال: فإنه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟ قال مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه أو عرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرًا، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به أبو طالب سريعًا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام. "وتقدم" في حديث إقامته صلى الله عليه وسلم في بني سعد بعد الفطام، "أن أخته الشيماء بنت حليمة رأته في الظهيرة" هي انتصاف النهار مطلقًا، أو إنما ذلك في القيظ، حكاهما المجد. "وغمامة تظله إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، رواه أبو نعيم وابن عساكر، ولله در القائل إن قال يومًا" المراد: إن دخل في وقت القيلولة وإن لم ينم فيه سائرًا أو غير سائر، "ظللته غمامة" سحابة "هي في الحقيقة تحت ظل القائل" أي: في كنفه وستره من قولهم: فلان يعيش في ظل فلان، أي: كنفه، والمعنى أن الغمامة هي المحتاجة له للتبرك به، وليس هو محتاجًا لها. "ونقل الشيخ بدر الدين الزركشي عن بعض أهل المعرفة: أنه صلى الله عليه وسلم كان معتدل الحرارة والبرودة، فلا يحس" بضم الياء من أحس بالشيء، إذا شعر "بالحر ولا بالبرد، وإنه كان في ظل غمامة" ناشئة "من اعتداله" كأنها أخذت منه والقصد المبالغة في كماله حتى صلح لأن تؤخذ الغمامة منه، ثم تظله فلا يعترض عليه بأن كلامه يقتضي أنه تمثيل، فيخالف ما شوهد من تظليل الغمام، أو من بمعنى إلى، أي: إلى كمال اعتداله بالنبوة دون ما بعدها، أو المعنى أنها ظللته لكمال الاعتدال فيه إكرامًا له لا لاحتياجه إليها. "كذا قال رحمه الله" تبرأ منه؛ لأنه بعد هذا العنايات في فهمه منابذ لما تشهد به الأحاديث من أنه عليه السلام كان يحس بالبرد والحر، ففي حديث الهجرة عند البخاري أن الشمس أصابته صلى الله عليه وسلم وظلله أبو بكر بردائه, وفي البخاري أيضًا: أنه كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به، وروى ابن منده والبيهقي مرفوعًا لا نصبر على حر ولا برد. وروى أحمد بسند جيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وأخرج ابن منده، بسند ضعيف عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، حتى نزلا منزلا فيه سدرة، فقعد في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى، يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظل الشجرة، قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبي، ما استظل تحتها بعد عيسى عليه السلام إلا محمد. ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في الإصابة: إن صحت هذه القصة فهي سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب. انتهى.   أنه صلى الله عليه وسلم وضع يده في طعام حار فاحترقت أصابعه، فقال: حس. "وأخرج" أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى "بن منده" الأصبهاني الحافظ الجوال ختام الرحالين وفرد المكثرين مع الحفظ والمعرفة والصدق وكثرة التصانيف، سمع ألفًا وسبعمائة، وعاد من رحلته، وكتبه أربعون جملا، قال المستغفري: ما رأيت أحفظ منه، مات سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. "بسند ضعيف عن ابن عباس: أن أبا بكر الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة" سنة، "والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة" فهو أسن منه بعامين، وهذا قول الجمهور. وما رواه حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "من أكبر أنا أو أنت"؟ فقال: أنت أكبر وأكرم وخير مني، وأنا أسن منك، فقال في الاستيعاب: لا نعرفه إلا بهذا الإسناد وأحسبه وهما لقول جمهور أهل العلم بالأخبار والسير والآثار: أنا أبا بكر استوفى بمدة خلافته سن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وهم يريدون الشام في تجارة، حتى نزلا منزلا فيه سدرة، فقعد" عليه السلام "في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا، يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظل الشجرة؟ قال:" هو "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال" بحيرا "هذا والله نبي! ما استظل تحتها بعد عيسى عليه السلام إلا محمد" وكأنه علم ذلك من رؤيته في كتبهم أو بقرائن قوية ويأتي قريبًا مزيد لذلك عن السهيلي. "ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه" سريعًا، فكان أول الناس إيمانًا. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في الإصابة إن صحت هذه القصة" في نفس الأمر أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 تزوجه عليه السلام من خديجة : ثم خرج صلى الله عليه وسلم أيضًا ومعه ميسرة غلام خديجة بنت خويلد بن أسد، في تجارة لها ...............................   بورودها من طريق آخر، قال: ذلك لضعف إسنادها، "فهي سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب، انتهى" وفيه توهين قول بعضهم: هذا السفر هو الذي كان مع أبي طالب، فإن أبا بكر حينئذ كان معه، انتهى. للاتفاق على أنه في ذلك السفر ما بلغ هذا السن وقاربه، فإن غاية ما قيل: إنه كان في الثالثة عشرة. تزوجه عليه السلام من خديجة: "ثم خرج صلى الله عليه وسلم أيضًا" إلى الشام مرة ثانية وسبب ذلك؛ كما رواه الواقدي وابن السكن: أن أبا طالب، قال: يابن أخي! أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة تبعث رجالا من قومك يتجرون في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لعلها ترسل إليّ في ذلك"، فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، وأرسلت إليه، وقالت: دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك، فذكر ذلك صلى الله عليه وسلم لعمه، فقال: إن هذا الرزق ساقه الله إليك. فخرج "ومعه ميسرة غلام خديجة" قال في النور: لا ذكر له في الصحابة فيما أعلمه وظاهر أنه توفي قبل البعث، ولو أدركه لأسلم، وفي الإصابة: لم أقف على رواية صحيحة صريحة في أنه بقي إلى البعثة، فكتبته على الاحتمال، وفيه: أن الصحبة لا تثبت بالاحتمال، بل كما قاله هو في شرح نخبته بالتواتر والاستفاضة أو الشهرة أو بإخبار بعض الصحابة أو بعض ثقات التابعين، أو بإخباره عن نفسه بأنه صحابي إذا دخل تحت الإمكان. "بنت خولد بن أسد في تجارة لها" وعند الواقدي وغيره: وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير، وتجارة تبعث بها إلى الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قومًا تجارًا، ومن لم يكن منهم تاجرًا فليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 حتى بلغ سوق بصرى، وقيل سوق حباشة بتهامة، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية بعد عيسى ................   عندهم بشيء، فسار صلى الله عليه وسلم "حتى بلغ سوق بصرى" رواه الواقدي وابن السكن وغيرهما، "وقيل: سوق حباشة" بحاء مهملة مضمومة فموحدة فألف فشين معجمة فتاء تأنيث، قال في الروض: سوق من أسواق العرب، انتهى. وهذا القول رواه الدولابي عن الزهري، ولفظه: استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، وهو سوق "بتهامة" بكسر التاء اسم لكل ما نزل عن نجد إلى بلاد الحجاز ومكة من تهامة، قال ابن فارس في مجمله، سميت تهامة من التهم بفتح التاء والهاء وهو شدة الحر وركود الريح. وفي المطالع: سميت بذلك لتغير هوائها، يقال: تهم الدهن إذا تغير، وذكر الحازمي في مؤتلفه أنه يقال في أرض تهامة تهائم، انتهى. وقيد بذلك؛ لأن حباشة مشترك، ففي القاموس: حباشة كثمامة سوق تهامة القديمة، وسوق آخر كان لبني قينقاع. "وله" صلى الله عليه وسلم "خمس وعشرون سنة" فيما رواه الواقدي وابن السكن وصدر به ابن عبد البر وقطع به عبد الغني، قال في الغرر: وهو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقيل غير ذلك؛ كما يأتي. "لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، فنزل تحت ظل شجرة" في سوق بصرى قريبًا من صومعة نسطورا الراهب، فاطلع إلى ميسرة وكان يعرفه، "فقال نسطورا الراهب" بفتح النون وسكون السين وضم الطاء المهملتين، قال في النور: وألفه مقصورة كذا نحفظه، ولم أر أحدًا ضبطه ولا تعرض لعدة في الصحابة، وينبغي أن الكلام فيه كالكلام في بحيرا, وعند الواقدي وابن إسحاق، فقال: يا ميسرة من هذا الذي تحت هذه الشجرة؟ فقال: رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له لراهب: "ما نزل تحت هذه الشجرة" زاد ابن إسحاق: قط، "إلا نبي". "وفي رواية: بعد عيسى" قال السهيلي: يريد ما نزل تحتها هذه الساعة، ولم يرد: ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك، وإن كان في لفظه: قط، فقد تكلم بها على جهة التوكيد للنفي، والشجر لا يعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدري أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء، ويبعد في العادة أيضًا أن تخلو شجرة من نزول أحد تحتها نبي إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: أحد بعد عيسى ابن مريم، وهي رواية عن غير ابن إسحاق، فالشجرة على هذه مخصوصة بهذه الآية، انتهى, وأقره مغلطاي والبرهان وتعقبه العز بن جماعة؛ بأنه مجرد استبعاد لا دلالة فيه على امتناع ولا استحالة؛ وبأنه استبعاد يعارضه ظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس، ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة، وخديجة في علية لها، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره وملكان يظلان عليه. رواه أبو نعيم. وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يومًا .........   الخبر، وكون متعلقات الأنبياء مظنة خرق العادة، فلا يكون ذلك حينئذ من طول البقاء وصرف غير الأنبياء عن النزول تحتها بعيدًا، وذلك واضح، انتهى. وأيد بما ذكره أبو سعد في الشرف: أن الراهب دنا إليه صلى الله عليه وسلم وقبل رأسه وقدميه، وقال: آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكر الله في التوراة، فلما رأى الخاتم قبله، وقال: أشهد أنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر بك عيسى، فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة ولواء الحمد. وعند الواقدي وابن السكن: ثم قال له: في عينيه حمرة، قال: ميسرة نعم، لا تفارقه أبدًا. قال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت إني أدركه حين يؤمر بالخروج، فوعى ذلك ميسرة ثم حضر صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى، وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: أحلف باللات والعزى، فقال: "ما حلفت بهما قط". فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة وخلا به: هذا نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو الذي تجده أحبارنا منعوتًا في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة ثم انصرف أهل العير جميعًا. "وكان ميسرة يرى في الهاجرة ملكين يظلانه في الشمس" فيه جواز رؤية الملائكة وبه وبرؤية الجن، صرح في الحديث الصحيح: وأما قوله: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم، فمحمول عل الغالب ولو كانت رؤيتهم محالة، لما قال صلى الله عليه وسلم في الشيطان: "لقد هممت أن أربطه حتى تصبحوا تنظروا إليه كلكم". "ولما رجعوا إلى مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية" بكسر العين، والضم لغة؛ كما في المصباح. وسوى بينهما في النور، أي: غرفة، والجمع العلالي بالتشديد والتخفيف. "لها، رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعير وملكان يظلان عليه، رواه أبو نعيم" زاد غيره: فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليهما صلى الله عليه وسلم فأخبرها بما ربحوا فسرت، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول نسطورًا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع، وقدم صلى الله عليه وسمل بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما كانت سمته له، "وتزوج صلى الله عليه وسلم خديجة بعد ذلك" أي: قدومه من الشام، "بشهرين وخمسة وعشرين يومًا" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وقيل: كان سنة إحدى وعشرين سنة، وقيل ثلاثين -وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وكانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي، فولدت له هندًا وهالة، وهما ذكران، ثم تزوجها عتيق بن عابد ....................   قاله ابن عبد البر، وزاد: إن ذلك عقب صفر سنة ست وعشرين، "وقيل: كان سنه" صلى الله عليه وسلم "إحدى وعشرين سنة" قال الزهري، "وقيل: ثلاثين" سنة، حكاه ابن عبد البر عن أبي بكر بن عثمان وغيره، وقال ابن جريج: كان سبعًا وثلاثين سنة، وقال البرقي: تسعًا وعشرين قد راهق الثلاثين، وقيل غير ذلك. "وكانت تدعي في الجاهلية بالطاهرة" لشدة عفافها وصيانتها. وفي الروض: كانت تسمى الطاهرة في الجاهلية والإسلام. وفي سير التميمي: كانت تسمى سيدة نساء قريش، "وكانت تحت أبي هالة بن زرارة التميمي" بميمين نسبة إلى تميم؛ كما صرح به اليعمري وغيره، واختلف في اسم أبي هالة، فقيل ملك، حكاه الزبير والدارقطني وصدره به في الفتح، وقيل: زرارة حكاه ابن منده والسهيلي، وقيل: هند جزم به العسكري، واقتصر عليه في العيون وصدر به في الروض، وقيل: اسمه النباش، قطع به أبو عبيد وقدمه مغلطاي، واقتصر عليه المصنف في الزوجات، وهو بفتح النون فموحدة ثقيلة فشين معجمة، وفي فتح الباري: مات أبو هالة في الجاهلية. "فولدت له هندًا" الصحابي راوي حديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم شهد بدرًا، وقيل: أحدًا، روى عنه الحسن بن علي، فقال: حدثني خالي؛ لأنه أخو فاطمة لأمها وكان فصيحًا بليغًا وصافًا، وكان يقول: أنا أكرم الناس أبا وأما وأخًا وأختًا، أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخي القاسم وأختي فاطمة وأمي خديجة رضي الله عنهم، قتل مع علي يوم الجمل، قاله الزبير بن بكار والدارقطني. وقيل: مات بالبصرة في الطاعون، قال التجاني: والصحيح أن الذي مات في الطاعون ولده واسمه هند كأبيه، انتهى. وهو المذكور في الروض عن الدولابي. وفي فتح الباري: ولهند هذا ولد اسمه هند، ذكره الدولابي وغيره، فعلى قول العسكري أن اسم أبي هالة هند، فهو ممن اشترك مع أبيه وجده في الاسم، انتهى. "وهالة" التميمي، قال أبو عمر: له صحبة، وأخرج المستغفري عن عائشة: قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلى الله عليه وسلم قائل فسمعه، فقال: "هالة هالة هالة"، وأخرج الطبراني عن هالة بن أبي هالة: أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد فاستيقظ فضم هالة إلى صدره، وقال: "هالة هالة هالة". "وهما ذكران" خلافًا لمن وهم، فزعم أن هالة أنثى. "ثم" بعد أن هلك عنها أبو هالة "تزوجها عتيق بن عابد" بالموحدة والدال المهملة؛ كما في الإكمال، وتبعه التبصير، وقال اليعمري: إنه الصواب، ووقع في جامع ابن الأثير أنه بتحتية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 المخزومي فولدت له هند. وكان لها -حين تزوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم- من العمر أربعون سنة وبعض أخرى. وكانت عرضت نفسها عليه .................................   وذال معجمة وهو مردود، فإنه عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وقد صرح علامة النساب الزبير بن بكار بأن من كان من ولد عمر بن مخزوم فهو عابد، يعني بموحدة ودال مهملة، ومن كان من ولد أخيه عمران بن مخزوم فعائد، يعني بتحتية وذال معجمة، نقله الأمير في إكماله، والحافظ في تبصيره، وأقراه. "المخزومي" نسبة إلى جده مخزوم المذكور، "فولدت له هندًا" أسلمت وصحبت ولم ترو شيئًا، قاله الدارقطني، فهو أنثى وبه صرح المصنف في الزوجات وغيره تبعًا للزبير، وروى الدولابي عن الزهري أنها أم محمد بن صيفي المخزومي وهو ابن عمه، قال ابن سعد: ويقال لولد محمد: بنو الطاهرة؛ لمكان خديجة. وفي النور عن بعضهم: ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف، وهذا ثم ما ذكره المصنف من أن عتيقًا بعد أبي هالة، هو ما نسبه ابن عبد البر للأكثر وصححه، ولذا جزم به هنا وصدر به في المقصد الثاني. وقال قتادة وابن شهاب وابن إسحاق، في رواية يونس عنه: تزوجها وهي بكر عتيق بن عابد، ثم هلك عنها، فتزوجها أبو هالة. واقتصر عليه في العيون والفتح، وحكى القولين في الإصابة. "وكان لها حين تزوجها بالنبي صلى الله عليه وسلم" مصدر مضاف لمفعوله، أي: حين تزويج مزوجها إياها منه. وفي نسخة: تزوجها بإضافة المصدر لفاعله، "من العمر أربعون سنة" رواه ابن سعد، واقتصر عليه اليعمري، وقدمه مغلطاي والبرهان. قال في الغرز: وهو الصحيح، وقيل: خمس وأربعون، وقيل: ثلاثون، وقيل: ثمانية وعشرون، حكاه مغلطاي وغيره. وأم قول المصنف هنا: وفي المقصد الثاني أربعون، "وبعض أخرى" فينظر ما قدر البعض، "وكانت عرضت نفسها عليه" بلا واسطة، فعند ابن إسحاق فعرضت عليه نفسها، فقالت: يا ابن عم! إني قد رغبت فيك لقرابتك وسلطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، أو بواسطة؛ كما رواه ابن سعد من طريق الواقدي عن نفيسة بنت منية، قالت: كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبًا وأعظمهم شرفًا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصًا على نكاحها لو قدر على ذلك، طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسًا إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد! ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: "ما بيدي ما أتزوج به"، قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال: "فمن هي"؟ قلت: خديجة، قال: "وكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه. فتزوجها عليه السلام، وأصدقها عشرين بكرة .............................   لي بذلك"؟. فذهبت فأخبرتها فأرسلت إليه: أن ائت لساعة كذا، "فذكر ذلك لأعمامه" والجمع ممكن بأنها بعثت نفيسة أولا لتعلم هل يرضى، فلما علمت ذلك كلمته بنفسها، قال الشامي، وسبب عرضها ما حدثها به غلامها ميسرة مع ما رأته من الآيات. وما ذكره ابن إسحاق في المبتدأ، قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه، فاجتمعن يومًا فيه، فجاءهن يهودي، فقال: يا معشر نساء قريش! إنه يوشك فيكن نبي، فأيتكن استطاعت أن تكون فراشًا له فلتفعل، فحصبنه وقبحنه وأغلظن له وأغضت خديجة على قوله؛ ولم تعرض فيها عرض فيه النساء، وقر ذلك في نفسها، فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات، وما رأته هي، قالت: إن كان ما قال اليهودي حقًا، ما ذاك إلا هذا، انتهى. وحصبنه: رمينه بالحصباء، وأغضت بغين وضاد معجمتين: سكتت. "فخرج معه منهم حمزة" كذا عند ابن إسحاق، ونقل السهيلي عن المبرد: أن أبا طالب هو الذي نهض معه، وهو الذي خطب خطبة النكاح. قال في النور: فلعلهما خرجا معه جميعًا والذي خطب أبو طالب؛ لأنه أسن من حمزة. "حتى دخل على" أبيها "خويلد" بضم الخاء مصغر "ابن أسد" بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، "فخطبها إليه" أي: فخطبها من خويلد له صلى الله عليه وسلم، "فتزوجها عليه السلام" وظاهر سياقه هذا: أنه عليه السلام ذكر ذلك لأعمامه من غير طلبها حضور واحد بعينه وعند ابن سعد في الشرف، أنها قالت له: اذهب إلى عمك، فقل له: عجل إلينا بالغداة، فلما جاء، قالت: يا أبا طالب، ادخل على عمي، فقل له: يزوجني من ابن أخيك، فقال: هذا صنع الله ... فذكر الحديث. ولا منافاة أصلا فذكره عرضها لأعمامه لا ينافي كونها عينت له واحدًا منهم. وفي الروض: ذكر الزهري في سيرته وهي أول سيرة ألفت في الإسلام: أنه صلى الله عليه وسلم قال لشريكه الذي كان يتجر معه في مال خديجة: هلم فلنتحدث عند خديجة، وكانت تكرمهما وتتحفهما، فلما قاما من عندها جاءت امرأة، فقالت له: جئت خاطبًا يا محمد، قال: كلا، فقالت: ولم!! فوالله ما في قريش امرأة وإن كانت خديجة إلا تراك كفؤًا لها، فرجع صلى الله عليه وسلم خاطبًا لخديجة مستحيًا منها، وكان أبوها خويلد سكران من الخمر، فلما كلم في ذلك أنكحها، فألقت عليه خديجة حلة وضمخته بخلوق، فلما صحا من سكره، قال: ما هذه الحلة والطيب، فقيل: إنك أنكحت محمدًا خديجة وقد ابتنى بها، فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه، وقال راجز من أهل مكة في ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتًا محجوجًا، وحرمًا آمنًا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا، محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا   لا تزهدي خديج في محمد ... نجم يضيء كما ضياء الفرقد "وأصدقها عشرين بكرة" من ماله صلى الله عليه وسلم زيادة على ما دفعه أبو طالب ويأتي له مزيد قريبًا. "وحضر أبو طالب" هذا هو الصواب المذكور في الروض وغيره، وما في نسخ أبو بكر رضي الله عنه لا أصل له، وقد صرح المصنف نفسه بالصواب في المقصد الثاني، فقال: وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب "ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب" لا ينافيه قوله السابق: فخرج معه منهم حمزة؛ لما مر عن النور، "فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم" خصه دون نوح؛ لأنه شرفهم وأسكنهم البيت الحرام، أما نوح وآدم فيشاركهم فيه جميع الناس، "وزرع إسماعيل" والد العرب الذي هم أشرف الناس لا زرع إسحاق ولا مدين، ولا غيرهما من ولد إبراهيم، أي: مزروعة والمراد ذريته غاير تفننًا وكراهة لتوارد الألفاظ، وأطلق عليها اسم الزرع لمشابهتها له في النضارة والبهجة أو لتسببه في تحصيلها بفعل الزرع من إلقاء الحب وفعل ما يحتاج لتحصيل الإنبات، "وضئضئ معد" بكسر الضادين المعجمتين وبهمزتين الأولى ساكنة، ويقال: ضيضئ بوزن قنديل وضؤضؤ بوزن هدهد وضؤضوء بوزن سرسور، ويقال أيضًا بصادين وسينين مهملتين، وهو في الجميع الأصل والمعدن، ذكره الشامي. "وعنصر مضر" بضم العين المهملة وسكون النون وضم الصاد المهملة وقد تفتح الأصل أيضًا وغاير تفننا والإضافة فيهما بيانية، أي: أصل هو معد ومضر وخصهما لشرفهما وشهرتهما أو لما ورد أنهما ماتا على ملة إبراهيم، لكن وروده كان بعد ذلك بمدة فلعله كان مشهورًا في الجاهلية، قال شيخنا: ويجوز أن المراد بالأصل الشرف والحسب، والمعنى: من أشراف معد ومضر. "وجعلنا حضنة بيته" الكعبة "وسواس حرمه" مدبريه القائمين به، "وجعل له بيتًا محجوجًا" أي: مقصودًا بالحج إليه، "وحرمًا آمنًا" لا يصيبنا فيه عدو؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، "وجعلنا الحكام على الناس" حكم معروف وطوع وانقياد لمكارم أخلاقهم وحسن معاملاتهم، لا حكم ملك وقهر فلا ينافي قول صخر لقيصر ليس في آبائه من ملك، "ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله، لا يوزن برجل إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال ظل زائل، وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها ما آجله وعاجله من مالي كذا، وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم، فزوجها.   رجح به" زاد في رواية: شرفًا ونبلا وفضلا وعقلا، وعداه بالباء وفيما مر عداه صلى الله عليه وسلم بنفسه في قوله: فوزنوني بهم فرجحتهم فيفيد جواز الأمرين، "فإن" وفي نسخة: وإن بالواو، وهي أولى؛ لأن ما ذكر لا يتفرع على ما قبله، "كان في المال" اللام عوض عن المضاف إليه، أي: ماله "قل" بضم القاف مشترك بين ضد الكثرة، وهو الوصف والشيء القليل؛ كما في القاموس. "فإن المال ظل زائل" تشبيه بليغ، أي: كالظل السريع الزوال، "وأمر" أي: شيء "حائل" لا بقاء له لتحوله من شخص لآخر ومن صفة إلى أخرى فمال زائل وحائل واحد، زاد في رواية: وعارية مسترجعة، "ومحمد ممن" من الذين "قد عرفتم قرابته" أفراد ضميره رعاية للفظ من، وفي نسخ إسقاط من أي ومحمد الذي قد عرفتم قرابته لهاشم وعبد المطلب والآباء والكرام، فالحسب أعظم من كثرة المال، "وقد خطب خديجة بنت خويلد" أي: جاء لها خاطبًا، "وبذل" أعطى بسماحة "لها ما آجله وعاجله من مالي". "كذا" هو ما يأتي عن الدولابي، ففي رواية: إن أبا طالب قال: وقد خطب إليكم راغبًا كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق ما حكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ذهبًا ونشا، وقال المحب الطبري في السمط الثمين في أزواج الأمين: أصدقها المصطفى عشرين بكرة، ولا تضاد بين هذا وبين ما يقال أبو طالب أصدقها؛ لجواز أنه صلى الله عليه وسلم زاد في صداقها فكان الكل صداقًا وذكر ادولابي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم أصدقها اثنتي عشرة أوقية من ذهب، وفي المنتقى: الصداق أربعمائة دينار، فيكون ذلك أيضًا زيادة على ما تقدم ذكره الخميس. "وهو والله بعد هذا" الذي قلته فيه "له نبأ" خبر "عظيم" لا تعلمونه إشارة إلى ما شاهده من بركته عليه في أكله مع عياله، وما أخبر به بحيرا وغير ذلك، "وخطر جليل" عظيم "جسيم" فزوجها بالبناء للمفعول، وفي رواية: فتزوجها صلى الله عليه وسلم. وفي المنتقى: فلما أتم أبو طالب الخطبة تكلم ورقة بن نوفل، فقال: الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت، وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ يا معاشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار، ثم سكت، فقال أبو طالب: قد أحببت أن يشركك عمها، فقال عمها: اشهدوا علي يا معاشر قريش أني قد أنكحت محمدًا بن عبد الله خديجة بنت خويلد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 والضئضئ: الأصل. وحضنة بيته: أي الكافلين له والقائمين بخدمته. وسواس حرمه: أي متولوا أمره. قال ابن إسحاق: وزوجها أبوها خويلد. وقد ذكر الدولابي وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشر أوقية ذهبًا ونشًا. قالوا: وكل أوقة أربعون درهمًا، قال المحب الطبري والنش: نصف أوقية تتميم. ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة ........................   وشهد على ذلك صناديد قريش. "والضئضئ" بجميع وجوهه المتقدمة معناه: "الأصل وحضنة بيته، أي: الكافلين له والقائمين بخدمته" أي: هم المعروفون بذلك وإلا فالأولى الرفع؛ لأن حضنة مبتدأ فهو مرفوع وإن قصد حكاية ما سبق، "وسواس حرمه، أي: متولو أمره" من ساس الرعية، "قال ابن إسحاق: وزوجها أبوها خويلد" للنبي صلى الله عليه وسلم أعاده للغزو، وهذا جزم به ابن إسحاق هنا، وصدر به في آخر كتابه وقابله بقوله: ويقال أخوها عمرو، وفي الفتح: زوجه إياها أبوها خويلد، ذكره البيهقي من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمها عمرو بن أسد ذكره الكلبي، وقيل: أخوها عمرو بن خويلد، ذكره ابن إسحاق، انتهى. وكأنه لم يعتبر قول الواقدي الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم أن أباها مات قبل حرب الفجار، وإن عمها عمرًا هو الذي زوجها لمزيد حفظ الثبت وهو الزهري خصوصًا، وقد رواه عن صحابي من السابقين، لكن قال الشامي الذي ذكره أكثر علماء السير: أن الذي زوجها عمها. قال السهيلي: وهو الصحيح لما روى الطبري: أن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن خويلدًا كان قد مات قبل حرب الفجار، ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه، وحكى عليه المؤملي الاتفاق. "وقد ذكر" الحافظ أبو بشر بموحدة مكسورة فشين معجمة محمد بن أحمد الأنصاري، "الدولابي" قال في اللب: كأصله بفتح الدال المهملة والناس يضمونها نسبة إلى عمل الدولاب شبه الناعورة، لكن في النور والقاموس: أن القرية دولاب بالضم والذي كالناعورة بالضم وقد يفتح وقد مر ذلك مع بعض ترجمته. "وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة" من مال أبي طالب على ما مر فنسب إليه لوقوع النكاح له، "اثنتي عشرة أوقية ذهبًا ونشًا" وظاهر كلام الطبري حمله على ظاهره وأن الذي من أبي طالب غيره، "قالوا وكل أوقية أربعون درهمًا قال المحب الطبري" فتكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي، انتهى. أي: ذهبًا ولا ينافيه تعبيره بدرهم؛ لأنه بيان للوزن فلا يستلزم كونه فضة فأراد الشرعي وزنًا وهو خمسون وخمسًا حبة من مطلق الشعير، أي: لا طبري ولا بغلي ثم هذا لا ينافي أن صداق الزوجات لم يزد على خمسمائة درهم فضة لحمله على ما بعد البعثة، أو على ما إذا كان منه عليه السلام، أما هذا فشاركه فيه أبو طالب. "والنش" بفتح النون وبالشين المعجمة "نصف أوقية" لأن النش لغة نصف كل شيء، روى مسلم عن عائشة: كان صداقه صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، أتدري ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية فذلك خمسمائة درهم، وهذا أولى من قول ابن إسحاق: صداقه لأكثر زوجاته أربعمائة درهم؛ لأن فيه زيادة، ومن ذكر الزيادة معه زيادة علم، ولصحته "تتميم" ذكر الملأ في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ذهب ليخرج، فقالت له: إلى أين يا محمد؟ اذهب وانحر جزورًا أو جزورين وأطعم الناس، ففعل وهو أول وليمة أولمها صلى الله عليه وسلم. وفي المنتقى: فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن الدفوف، وقالت: مر عمك ينحر بكرًا من بكراتك، وأطعم الناس وهلم فقل مع أهلك، فأطعم الناس ودخل صلى الله عليه وسلم فقال: "معها فقر الله عينه"، وفرح أبو طالب فرحًا شديدًا وقال: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ودفع عنا الهموم، وسيأتي شيء من فضائلها إن شاء الله من المقصد الثاني، وقبله في المبعث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 بنيان قريش الكعبة : "ولما بلغ صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة" فيما جزم به ابن إسحاق وغير واحد من العلماء وقيل: خمسًا وعشرين سنة، رواه ابن عبد البر عن محمد بن جبير وعبد الرزاق عن ابن جريج عن مجاهد، وجزم به موسى بن قبة في معاوية ويعقوب بن سفيان في تاريخه، قال الحافظ: والأول أشهر، ويمكن الجمع بأن الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء. وحكى الأزرقي: أنه كان غلامًا، قال الحافظ: ولعل عمدته ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: لما بلغ صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت الكعبة امرأة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت، فذكر القصة، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، حكى الأخير المصنف ولعله غلط قائله. وأما قول الشامي ما حاصله: وسن المصطفى خمس وثلاثون سنة، وقيل: قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وقيل: ابن خمس وعشرين وغلط قائله فعجيب، فإن الثالث هو عين الثاني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول، فأمروا باقوم -بموحدة فألف فقاف مضومة فواو ساكنة فميم- القبطي مولى سعيد بن العاصي ..........................   وليس بغلط بل هو قوي، ولذا احتاج الحافظ للجمع بينه وبين الأول كما ترى، وممن ذكر جمعه الشامي. وأما ما رواه ابن راهويه عن علي: أنه صلى الله عليه وسلم كان حينئذ شابًا فهو يأتي على جميع الأقوال. "خافت قريش أن تنهدم الكعبة من السيول" فيما حكاه في العيون والفتح عن موسى بن عقبة، قال: إنما حمل قريشًا على بنائها أن السيل أتى من فوق الردم الذي بأعلى مكة فأخربه فخافوا أن يدخلها الماء، وقيل سبب ذلك احتراقها، فروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح عن الزهري: أن امرأة أجمرت الكعبة فطارت شرارة في ثيابها فأحرقتها، وروى الفاكهي عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كانت الكعبة فوق القامة فأرادت قريش رفعها وتسقيفها، وروى ابن راهويه عن علي في حديث: فمر عليه الدهر فبنته قريش، حكاه في الفتح، وقيل: إن السيل دخلها وصدع جدرانها بعد توهينها. وقيل: إن الأنفر أسرقوا حلي الكعبة وغزالين من ذهب، وقيل: غزالا واحدًا مرصعًا بدر وجوهر، وكان في بئر في جوف الكعبة، فأرادوا أن يشيدوا بنيانها ويرفعوه حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، وجمع بأنه لا مانع أن سبب بنائهم ذلك كله. وقال شيخنا: يجوز أن خشية هدم السيل حصل من الحريق حتى أوهن بناءها ووجدت السرقة بعد ذلك أيضًا، "فأمروا باقوم بموحدة فألف فقاف مضمومة فواو ساكنة فميم" ويقال: باقول باللام الصحابي؛ كما في الإصابة، "القبطي" بالقاف نسبة إلى القبط نصارى مصر، "مولى سعيد بن العاصي" بن أمية، وفي الإصابة روى ابن عيينة في جامعه عن عمرو بن دينار عن عبيدة بن عمير، قال: اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم، وكان روميًا وكان في سفينة حبسها الريح فخرجت إليها قريش وأخذوا خشبها، وقالوا له: ابنها على بناء الكنائس، رجاله ثقات مع إرساله، انتهى. فيحتمل أنهما اشتركا جميعًا في بنائها أو أحدهما بنى والآخر سقف وإنهما واحد وهو رومي في الأصل ونسب إلى القبط حلفًا ونحوه، وهذا هو الظاهر من كلام الإصابة، فإنه بعدما جزم بأنه مولى بني أمية، وذكر الرواية التي صرحت بأنه مولى سعيد منهم ذكر روايتي بنائه الكعبة وعمله المنبر، وقال في آخره: يحتمل أنه الذي عمل المنبر بعد ذلك ولم يقع عنده أنه قبطي وهو يؤدي ما في بعض نسخ المصنف النبطي بفتح النون والموحدة. قال في الفتح: هذه النسبة إلى استنباط الماء واستخراجه وإلى نبيط بن هانب بن أميم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وصانع المنبر الشريف، بأن يبني الكعبة المعظمة.   لاود بن سام بن نوح، انتهى. فيحتمل أنه كان يستخرج الماء فنسب إليه وإن كان روميًا، ويؤيده قول بعضهم وكان نجارًا بناء فإن من جملة حرف البناء معرفة استخراج الماء من المواضع بأن يقول: الماء يوجد هنا أقرب من هنا فليست بتحريف. "وصانع المنبر الشريف" النبوي المدني في أحد الأقوال كما يجيء إن شاء الله تعالى، وأخرج أبو نعيم بسند ضعيف عن صالح مولى التوءمة: حدثني باقوم مولى سعيد بن العاص، قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبرًا من طرفاء الغابة ثلاث درجات المقعد ودرجتين. "بأن يبني الكعبة المعظمة" وذلك أنه كان بسفينة ألقاها الريح بجدة فتحطمت فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إليها، فابتاعوا خشبها وأعدوه لتسقيف الكعبة وكلموا باقوم الرومي في بنائها فقدم معهم. قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم بعض ما يصلحها، قال: فهاب الناس هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام وهو يقول: اللهم لم ترع، بفوقية مضمومة فراء مفتوحة، أي: لم تفزع الكعبة فأضمرها التقدم ذكرها، وهذا أولى من إعادة السهيلي الضمير لله قائلا: لا روع هنا، فينبغي لكن الكلمة تقتضي إظهار قصد البر فيجوز التكلم بها في الإسلام، واستشهد بحديث: "فاغفر فدا لك ما أبقينا"، قال: وفي رواية: لم نزغ، أي: بفتح النون وكسر الزاي وغين معجمة، قال: وهو جلي لا يشكل، أي: لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه، اللهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين الأسود واليماني وتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ورددناها كما كانت وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته عائدًا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسمنة جمع سنام، وهو أعلى الظهر للبعير، ومن رواه كالأسنة جمع سنان شبهها بالأسنة في الخضرة أخذ بعضها ببعض فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منها ليقلع بها بعضها، فلما تحرك الحجر تنغصت مكة بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس وبنوا عليه. وفي رواية: لما شرعوا في نقض البناء خرجت عليهم الحية التي كانت في بطنها تحرسها سوداء البطن، فمنعتهم من ذلك فاعتزلوا عند مقام إبراهيم فتشاوروا، فقال لهم الوليد: ألستم تريدون بها الإصلاح؛ قالوا: بلى، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين ولكن لا تدخلوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وحضر صلى الله عليه وسلم وكان ينقل معهم الحجارة، وكانوا يضعون أزرهم .........   بيت ربكم إلا طيب أموالكم، وتجنبوا الخبيث فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. وعند موسى بن عقبة، أنه قال: لا تجعلوا فيها مالا أخذه غصبًا ولا قطعت فيه رحم، ولا انتهكت فيه حرمة. وعند ابن إسحاق: أن الذي أشار عليهم بذلك هو أبو وهب بن عمر بن عامر بن عمران بن مخزوم ففعلوا ودعوا، وقالوا: اللهم إن كان لك في هدمها رضى فأتمه وأشغل عنا هذا الثعبان، فأقبل طائر من جو السماء كهيئة العقاب ظهره أسود وبطنه أبيض ورجلاه صفراوان والحية على جدار البيت فأخذها ثم طار بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن الله قبل عملكم ونفقتكم. وفي التمهيد عن عمرو بن دينار: لما أرادت قريش بناء الكعبة خرجت منها حية فحالت بينهم وبينها فجاء عقاب أبيض، فأخذها ورمى بها نحو أجياد، انتهى. وعن ابن عباس: أنها الدابة التي تخرج في آخر الزمان تكلم الناس اختطفها العقاب، فألقاها الحجون فابتلعتها الأرض، وقيل: الخارجية فصيل ناقة صالح وهما غريبان. وروى ابن راهويه في حديث عن علي: فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان صلى الله عليه وسلم أول من خرج فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل. وذكر الطيالسي، أنهم قالوا: نحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فكان صلى الله عليه وسلم أول من دخل منه، فأخبروه فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه ثم أخذه فوضعه بيده. وذكر الفاكهي وابن إسحاق أن الذي أشار عليهم أن يحكموا أول داخل أبو أمية المخزومي أخو الوليد، وعند موسى بن عقبة أن المشير أخوه الوليد. قال السهيلي: وذكر أن إبليس كان معهم في صورة شيخ نجدي، فصاح بأعلى صوته، يا معشر قريش، أقد رضيتم أن يضع هذا الركن وهو شرفكم غلام يتيم دون ذوي أسنانكم، فكاد يثير شرًا بينهم، ثم سكتوا. وحكى في الروض: أنها كانت تعة أذرع من عهد إسماعيل، يعني طولا، ولم يكن لها سقف فلما بنتها قريش زادوا فيها تسعة أذرع ورفعوا بابها على الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج أو سلم. وقال الأزرقي: كان طولها سبعة وعشرين ذراعًا، فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر، ونقصوا من عرضها أذرعًا أدخلوها في الحجر. "وحضر صلى الله عليه وسلم" بناءها "وكان ينقل معهم الحجارة" من أجياد "وكان يضعون أزرهم" جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم فلبط به -بالموحدة، كعنى أي سقط من قيامه كما في القاموس- ونودي: عورتك، فكان ذلك أول ما نودي.   إزار، يذكر ويؤنث، "على عواتقهم ويحملون الحجارة، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم" بأمر العباس، فروى الشيخان عن جابر، قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: "إزاري إزاري"، فشد عليه إزاره، فما رئي بعد ذلك عريانًا. "فلبط به بالموحدة، كعنى" فهو من الأفعال التي جاءت بصيغة المبني للمفعول، وهي بمعنى المبني للفاعل، "أي: سقط من قيامه؛ كما في القاموس، ونودي" يا محمد، غط "عورتك" روى عبد الرزاق والطبراني والحاكم عن أبي الطفيل، قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدور وكانت ذات ركنين، فأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبًا من جدة انكسرت فخرجت قريش ليأخذوا خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارًا فقدموا به وبالخشب ليبنوا به البيت، فكانوا كلما أرادوا القرب لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث الله طيرًا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها، فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي فرفعوها في السماء عشرين ذراعًا، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة، فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها، فنودي: يا محمد خمر عورتك، فلم ير عريانًا بعد ذلك. ففي قول السراج بن الملقن في شرح البخاري: لعل جزعه لانكشاف جسده، وليس في الحديث، يعني حديث جابر المتقدم أنه انكشف شيء من عورته تقصير؛ لأنه وإن لم يكن فيه فقد ورد في غيره، وخير ما فسرته بالوارد نعم ليس المراد العورة المغلظة. "فكان ذلك أول ما نودي" زاد في رواية أبي الطفيل: فما رأيت له عورة قبل ولا بعد، وذكر ابن إسحاق في المبعث: وكان صلى الله عليه وسلم يحدث عما كان الله يحفظه في صغره أنه قال: "لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره فجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة، فإني لأقبل معهم لذلك وأدبر، إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل وإزاري عليّ من بين أصحابي". قال السهيلي: إنما وردت هذه القصة في بنيان الكعبة، فإن صح أن ذلك كان في صغره فهي قصة أخرى، مرة في الصغر، ومرة بعد ذلك، قلت: قد يطلق على الكبير غلام إذا فعل فعل الغلمان فلا يستحيل اتحاد القصة اعتمادًا على التصريح بالأولية في حديث أبي الطفيل، كذا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فقال له أبو طالب أبو العباس: يابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: "ما أصابني ما أصابني إلا من التعري". خاتمة.   فتح الباري. وجمع في كتاب الصلاة بحمل ما عند ابن إسحاق على غير الضرورة العادية، وما في حديث جابر على الضرورة العادية، والنفي فيها على الإطلاق، أو يتقيد بالضرورة الشرعية؛ كحالة النوم مع الأهل أحيانًا، انتهى. "فقال له أبو طالب أو العباس" شك من الراوي "يابن أخي، اجعل إزارك على رأسك" وكأنه توهم أن سقوطه من جعله على رقبته، لا من كشف عورته ولا يشكل أنه نودي عورتك؛ لجواز أنه لم يسمع النداء وإنما سمعه المصطفى، فقال: "ما" نافية "أصابني ما" الذي "أصابني" من السقوط "إلا من التعري". خاتمة: اختلف في أول من بنى الكعبة، فذكر المحب الطبري في منسكه قولا: أن الله وضعه أولا لا ببناء أحد، وروى الأزرقي عن علي بن الحسين: أن الملائكة بنته قبل آدم. وروى عبد الرزاق عن عطاء، قال: أول من بنى البيت آدم. وعن وهب بن منبه: أول من بناه شيث بن آدم. وفي الكشاف: أول من بناه إبراهيم، وجزم به ابن كثير، زاعمًا أنه أول من بناه مطلقًا إذ لم يثبت عن معصوم أنه كان مبنيًا قبله. قلت: ولم يثبت عن معصوم أنه أول من بناه. وقد روى البيهقي في الدلائل عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قصة بناء آدم لها، ورواه الأزرقي وأبو الشيخ وابن عساكر، عن ابن عباس موقوفًا وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيًا، وأخرج الشافعي عن محمد بن كعب القرظي، قال: حج آدم فلقيته الملائكة، فقالوا: بر نسكك يا آدم. وقد روى ابن أبي حاتم، من حديث ابن عمر: أن البيت رفع في الطوفان فكان الأنبياء بعد ذلك يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى بوأه الله لإبراهيم فبناه على أساس آدم وجعل طوله في الساء سبعة أذرع بذراعهم، وذرعه في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعهم، وأدخل الحجر في البيت ولم يجعل له سقفًا وجعل له بابًا وحفر به بئرًا عند بابه يلقى فيها ما يهدى للبيت؛ فهذه الأخبار وإن كان مفرداتها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضًا ثم العمالقة ثم جرهم، رواه ابن أبي شيبة وابن راهويه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل، عن علي: أن بناء إبراهيم لبث ما شاء الله أن يلبث ثم انهدم فبنته العمالقة ثم انهدم، فبنته جرهم ثم قصي بن كلاب نقله الزبير بن بكار وجزم بن الماوردي، ثم قريش فجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعًا وفي رواية: عشرين، ولعل راويها جبر بالكسر ونقصوا من طولها ومن عرضها أذرعًا أدخلوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مدخل ... "بسم الله الرحمن الرحيم" "باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم": ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة وقيل: وأربعين يومًا، وقيل: وعشرة أيام، وقيل: وشهرين ...............................   في الحجر لضيق النفقة بهم، ثم لما حوصر ابن الزبير من جهة يزيد تضعضعت من الرمي بالمنجنيق فهدمها في خلافته وبناها على قواعد إبراهيم، فأعاد طولها على ما هو عليه الآن، وأدخل من الحجر الأذرع المذكورة، وجعل له بابًا آخر، فلما قتل ابن الزبير شاور الحجاج عبد الملك في نقض ما فعله ابن الزبير فكتب إليه: أما ما زاده في طولها فأقره، وأما ما زاده في الحجر فرده إلى بنائه وسد بابه الذي فتحه، ففعل ذلك؛ كما في مسلم عن عطاء. وذكر الفاكهي: أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج في هدمها، ولعن الحجاج. وفي مسلم نحوه من وجه آخر: واستمر بناء الحجاج إلى الآن وقد أراد الرشيد أو أبوه أو جده أن يعيده على ما فعله ابن الزبير فناشده مالك، وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه ولم يتفق لأحد من الخلفاء ولا غيرهم تغيير شيء ممخا صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته: وكذا وقع الترميم في الجدار والسقف وسلم السطح غير مرة، وجدد فيها الرخام. قال ابن جريج: أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك، فالمتحصل من الآثار؛ كما أفاده الفتح والإرشاد والسبل وشفاء الغرام: أنها بنيت عشر مرات وقد علمتها وذكر بعضهم أن عبد المطلب بناها بعد قصي وقبل بناء قريش، قال الفاسي: ولم أر ذلك لغيره وأخشى أن يكون وهمًا، قال: واستمر بناء الحجاج إلى يومنا هذا وسيبقى على ذلك إلى أن تخر بها الحبشة وتقلعها حجرًا حجرًا؛ كما في الحديث، وقد قال العلماء: إن هذا البنيان لا يغير، انتهى. والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: "ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أربعين سنة" قاله جمهور العلماء. السهيلي: هو الصحيح عند أهل السير والعلم بالأثر. النووي هو الصواب وهو المروي في الصحيحين عن ابن عباس وأنس، وروي أيضًا عن عطاء وابن المسيب وجبير بن مطعم، وقباث بن أشيم الصحابي. "وقيل: أربعين يومًا، وقيل: وعشرة أيام، وقيل: وشهرين" حكاه في الروض ممرضًا بلفظ: روي، وقيل: ويوم واحد، حكاه المنتقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان, وقيل: لسبع، وقيل: لأربع وعشرين ليلة. وقال ابن عبد البر: يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من الفيل. وقيل: في أول ربيع: بعثه الله رحمة للعالمين ........................   وفي تاريخ يعقوب بن سفيان وغيره عن مكحول: أنه بعث بعد اثنتين وأربعين سنة. وقال الواقدي وابن عاصم والدولابي: وهو ابن ثلاث وأربعين. وفي كتاب العتقي: ابن خمس وأربعين، قال مغلطاي: وجمع بأن ذلك حين حمى الوحي وتتابع. وقال البهران: هما شاذان، والثاني أشد شذوذًا. وفي الفتح حديث ابن عباس: فمكث بمكة ثلاث عشرة أصح مما عند أحمد من وجه آخر عنه أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين فمكث بمكة عشرًا، وأصح مما أخرجه مسلم من وجه آخر عنه: أنه أقام بمكة خمس عشرة سنة. "يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان" رواه ابن سعد واقتصر عليه المصنف في إرشاده، "وقيل: لسبع" منه، "وقيل: لأربع وعشرين ليلة" من رمضان على ما في حديث واثلة الآتي، ثم كون البعث فيه هو قول الأكثر والمشهور عند الجمهور، قال الحافظان ابنا كثير وحجر وصححه الحافظ العلائي، قال في الفتح: فعلى الصحيح المشهور أن مولده في ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وكلام ابن الكلبي يؤذن بأن ولد في رمضان، وبه جزم الزبير بن بكار وهو شاذ، انتهى. "وقال ابن عبد البر" والمسعودي بعث "يوم الاثنين لثمان من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، من" عام "الفيل" وبه صدر ابن القيم، وعزاه للأكثرين، ثم حكى أنه كان في رمضان عكس النقل الأول، فعلى هذا يكون له أربعون سنة سواء، قاله الفتح. وجمع بين النقلين: بما في حديث عائشة: أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة. وحكى البيهقي: إن مدتها ستة أشهر فيكون نبئ بالرؤيا في ربيع الأول ثم أتاه جبريل في رمضان وحمل عليه بعضهم الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة؛ لأن مدة الوحي كانت ثلاثًا وعشرين سنة فيها ستة أشهر منام وذلك جزء من ستة وأربعين. وأما الجمع بأن نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] في رمضان، وأول المدثر في ربيع، فاعترض بأن نزول المدثر بعد ثلاث سنين. "وقيل: في أول ربيع بعثه الله رحمة للعالمين" أوحى إليه وأمره بتبليغ ما أوحاه فنزل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ورسولا إلى كافة الثقلين أجمعين. ويشهد لبعثه يوم الاثنين ما رواه مسلم عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ". وقال ابن القيم في "الهدى النبوي": واحتج القائلون بأنه كان في رمضان بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . قالوا: أول ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن.   منزلة الإرسال، فعبر عنه بالبعث مجازًا وإلا فحقيقة إرسال شخص من مكان لآخر يتعدى إليه الفعل بنفسه وإن وصل بنفسه كما هنا، وإلا فبالياء كبعثت بالكتاب عند أكثر اللغويين، وبه قطع المصباح. "ورسولا إلى كافة الثقلين" الإنس والجن "أجمعين" وكأنه اقتصر عليهما؛ لأن آثار الإرسال إنما يتعلق بهما، والملائكة وإن كان مرسلا إليهم في الراجح غير مكلفين بشرعة وأشعر المصنف بتقارن الرسالة والنبوة، قال شيخنا: وهو الصحيح كما قال بعض مشايخنا، وقيل: النبوة متقدمة على الرسالة، وعليه ابن عبد البر وغيره، واقتصر عليه المصنف فيما يجيء. "ويشهد لبعثه يوم الاثنين، ما رواه مسلم" مختصرًا من طريق مهدي بن ميمون عن غيلان عن عبد الله بن معبد، "عن أبي قتادة" الخزرجي السلمي الحارث بن ربعي بكسر الراء، شهد المشاهد، إلا بدرًا ففيها خلف "أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم" يوم "الاثنين، فقال: "فيه ولدت، وفيه أنزل عليّ" ورواه مسلم قبل ذلك في حديث طويل من طريق شعبة عن غيلان عن ابن معبد عن أبي قتادة، بلفظ: وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت فيه" أو قال: "أنزل عليّ فيه"، فصدق كل من المصنف والشامي في العزو لمسلم؛ لأنهما روايتان فيه. "وقال ابن القيم في الهدي" بفتح الهاء وسكون الدال، "النبوي" يعني: كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد؛ لأن تراجمه كلها يقول: هديه عليه السلام في كذا "واحتج القائلون بأنه كان في رمضان" وإن اختلفوا في تعيين، أي: يوم منه على ما مر. وأما حديث واثلة: وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان على تسليم أن المراد على المصطفى، فإنما هو دليل للقائل به إذ المعنى: احتج المتفقون على أنه كان في رمضان، "بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، أي: ابتدئ فيه إنزاله، "قالوا: أو ما أكرمه الله تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن" وهو إنما أنزل في رمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقال آخرون: إنما نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة، ثم نزل نجومًا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة.   فيكون ابتداء نزوله فيه، "وقال آخرون: إنما أنزل القرآن جملة واحدة" من اللوح المحفوظ "في ليلة القدر إلى بيت العزة" في سماء الدنيا؛ كما جاء عن ابن عباس، فلا دلالة على الآية على أن ابتداء نزوله على المصطفى في رمضان ولا أن ابتداء نبوته فيه، لكن روى أحمد وابن جرير والطبراني والبيهقي عن واثلة مرفوعًا: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان"، قال الحافظ في الفتح: هذا الحديث مطابق لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين، أي: صبيحتها إلى الأرض أول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، انتهى. قال في الإتقان: لكن يشكل على ذا الحديث ما عند ابن أبي شيبة عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان، انتهى. ولا إشكال فالمقطوع لا يعارض المرفوع. "ثم نزل نجومًا" قطعًا متفرقة؛ لأن كل جزء منه يسمى نجمًا، "بحسب الوقائع" خمس آيات وعشر أو أكثر وأقل، وصح نزول عشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة، وصح نزول {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، وحدها وهي بعض آية، وكذا: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] إلى آخر الآية، نزول بعد نزول أول الآية وذلك بعض آية، وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة: أنزل الله القرآن نجومًا ثلاث آيات وأربع آيات وخمس آيات وما عند البيهقي عن عمر: تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات؛ فإن جبريل كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا خمسًا. ومن طريق ضعيف عن علي: أنزل القرآن خمسًا خمسًا إلا سورة الأنعام، فمعناه: إن صح إلقاؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر حتى يحفظه ثم يلقي الباقي لا إنزاله بهذا القدر خاصة، ويوضح ذلك ما عند البيهقي عن أبي العالية: كان صلى الله عليه وسلم يأخذ القرآن من جبريل خمسًا خمسًا، قاله في الإتقان. "في ثلاث وعشرين سنة" على قول الجمهور: أنه صلى الله عليه وسلم بعث لأربعين وعاش ثلاثًا وستين، ولا ينافيه أن الفترة التي لم ينزل فيها القرآن بعد نزول {اقْرَأ} [العلق: 1] ثلاث سنين؛ لأنه نزل قبلها أول اقرأ فصدق أنه نزل ثلاث وعشرين سنة؛ لأنه لم يقل كان ينزل عليه كل يوم ولا كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ....................................................................   شهر، وقيل: نزل في عشرين بناء على أنه عاش ستين أو على إلغاء الفترة. قال الأصفهاني: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال، فقيل: إظهار القراءة، وقيل: ألهم الله تعالى كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان. وقال القطب الرازي: المراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفًا روحانيًا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم، وقال غيره في المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقوال: أحدها: اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف، وتحت كل حرف منها معان لا يحيط بها إلا الله. الثاني: أن جبريل نزل بالمعاني خاصة وعلم صلى الله عليه وسلم تلك المعاني، وعبر عنها بلغة العرب لظاهر قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] . الثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى وعبر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم نزل به كذلك بعد. ويؤيد الأول ما رواه الطبراني عن النواس بن سمعان مرفوعًا إذا تكلم الله بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله فإذا سمع أهل السماء صعقوا وخروا سجدًا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أرادوا، وينتهي به على الملائكة كلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قل ربنا؟ قال: الحق، فينتهي به حيث أمر. وقال البيهقي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، يريد والله أعلم إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع فيكون الملك متنقلا من علو إلى سفل، قال أبو ثمامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قدم القرآن وأنه صفة قائمة بذاته تعالى. وقال العلامة الخوي، بضم الخاء المعجمة: كلام الله المنزل قسمان، قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مرسل إليه إن الله يقول لك كذا وكذا، وأمر بكذا وكذا، ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي، وقال له ما قال ربه ولم تكن العبارة تلك العبارة؛ كما يقول الملك لمن يثق به: قل لفلان يقول لك الملك: اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال، فإن قال الرسول: يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب وتقصير في أداء الرسالة. وقسم آخر، قال الله لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب، فنزل بكلام الله من غير تغيير كما يكتب الملك كتابًا ويسلمه إلى أمين، ويقول: اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفًا، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وقيل: كان ابتداء المبعث في رجب. وروى البخاري في "التعبير" من حديث عائشة: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي ....................................   والقرآن هو القسم الثاني، والأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة؛ كما ينزل بالقرآن. وقد رأيت ما يعضد كلامه، فروى ابن أبي حاتم عن الزهري أنه سئل عن الوحي، فقال: الوحي ما يوحي الله إلى نبي من أنبيائه فيثبته في قلبه فيتكلم به ويكتبه، وهو كلام الله ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته ولكنه يحدث به الناس حديثًا ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه، قاله في الإتقان ببعض اختصار. وذكر في فتاويه عن شيخه الكافيجي أن التلقف الروحاني لا يكيف. "وقيل: كان ابتداء المبعث في رجب" حكى مغلطاي وغيره من العتقي أنه بعث وهو ابن خمس وأربعين سنة لسبع وعشرين من رجب، قال شيخنا: فيحتمل أن هذا اليوم هو المراد لصاحب هذا القول وهو وضاح وإن ثبت أنه يقول: سنة خمس وأربعون سنة. "وروى البخاري في" كتاب "التعبير" من صحيحه، وفي التفسير، وفي بدء الوحي والإيمان لكنه اختار ما في التعبير؛ لأن سياقه فيه أتم فذكر الحزن والتردي إلى آخر الحديث إنما هو فيه دون تلك المواضع ودون كتاب مسلم ولذا لم يعزه لهما. وأما جعل نكتة ذلك أنه كان بصدد ما وقع له يقظة والآن بصدهه أوقع له قبل ذلك فناسب نقله من التعبير، فبادرة لا محصل لها والتعبير تفعيل من عبرت مشددًا، قال المصنف: وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات وأنكروا التشديد لكن أثبته الزمخشري اعتمادًا على بيت أنشده المبرد في الكامل لبعض الأعراب: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارًا وقال غيره: يقال عبرت الرؤيا بالتخفيف إذا فسرتها وعبرتها بالتشديد للمبالغة، انتهى. وهو تفسير الرؤيا؛ لأنه يعبر من ظاهرها إلى باطنها والعبر والعبور الدخول والتجاوز، وقيل: لأنه ينظر فيها، ويعتبر بعضها ببعض حتى تفهم فهو من الاعتبار وسيأتي بسط القول فيه إن شاء الله تعالى في مقصد الرؤيا بحول الله وقوته. "من حديث عائشة" مرسلا؛ لأنها لم تدرك ذلك الوقت فإنما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابي آخر عنه، قال الحافظ تبعًا للطيبي: ويؤيد سماعها له منه قولها في أثناء الحديث، قال: فأخذني فغطني. "أول ما بدئ" بضم الموحدة وكسر المهملة فهمزة "به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" أي: من أقسامه فمن للتبعيض، وقول القزاز لبيان الجنس: كأنها قالت: من جنس الوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. وكان يأتي حراء ...................................   وليست منه، أي: فهي مجاز علاقته المشابهة للوحي في أنه لا دخل للشيطان فيها رده عياض بحديث: "إنها جزء من النبوة". "الرؤيا الصادقة" هكذا في التعبير والتفسير، أي: لا كذب فيها أو لا تحتاج لتعبير، أو ما يقع بعينه، أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به صادق، وفي بدء الوحي ومسلم الصالحة، قال المصنف: وهما بمعنى بالنسبة إلى الآخرة في حق الأنبياء. وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص فرؤيا الأنبياء كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا كرؤيا يوم أحد، انتهى. "في النوم" زيادة للإيضاح أو لتخرج رؤية العين يقظة مجازًا، قاله الحافظ وغيره ويأتي إن شاء الله تعالى. الخلاف فيه في الإسرء حيث تكلم فيه المصنف، ثم فلا نطيل به هنا. قال الحافظ: وبدء بذلك ليكون توطئة وتمهيدًا لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضًا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر، انتهى. "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت" في بياتها، وللحموي والمستملي: إلا جاءته مجيئًا "مثل" فنصب نعت مصدر محذوف، "فلق" بفتحتين "الصبح" أي: شبيهة له في الضياء والوضوح أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فالنصب على الحال، وقدمه الفتح واقتصر عليه النور، وأكثر الشراح. وقال العيني: الأول أولى؛ لأنه مطلق والحال مقيد. قال الحافظ: وخص بالشبه لظهوره الواضح الذي لا يشك فيه، أو للتنبيه على أنه لم يكن في باعث البشر أو كون ذلك من باعث الأفهام. وقال المصنف: لأن شمس النبوة كانت مبادئ أنوارها الرؤيا إلى ظهور أشعتها وتمام نورها. وقال البيضاوي: شبه ما جاء في اليقظة ووجده في الخارج طبقًا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه، والفلق: الصبح، لكنه لما استعمل في ذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام للخاص. "وكان يأتي حراء" بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء والمد والتذكير والصرف على الصحيح، وحكى الفتح والقصر، وهي لغة مصروف على إرادة المكان ممنوع على إرادة البقعة، فيذكر ويؤنث جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، وزعم الخطابي خطأ المحدثين في قصره وفتح حائه والأربعة في قباء أيضًا، وجمعهما القائل: حرا وقبا ذكر وأنثهما معا ... ومد أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها، حتى فجأه ..........................................   "فيتحنث فيه" بحاء مهملة آخره مثلثة، أي: يتجنب الحنث، أي: الإثم فهو من الأفعال التي معناها السلب، وهو اجتناب فاعلها لمصدرها مثل تأثم وتحوب إذا اجتنب الإثم والحوب بضم المهملة، أي: الذنب العظيم أو هو بمعنى رواية ابن هشام في السيرة يتحنف بفاء خفيفة، أي: يتبع الحنيفية دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وقدمه الفتح. وفي كتاب الأضداد للصغاني: تحنث إذا أتى الحنث وإذا تجنبه. "وهو التعبد" من تسمية المسبب باسم السبب على التفسير الأول؛ لأن التعبد سبب لإزالة الإثم وليس نفسه. وعلى الثاني ظاهر "الليالي" نصب على الظرفية متعلق بيتحنث لا بالتعبد؛ لأنه لا يشترط فيه الليالي بل مطلق التعبد، "ذوات العدد" مع أيامهن واقتصر عليهن تغليبًا؛ لأنهن أنسب للخلوة ووصفها بذلك للتقليل كما في دراهم معدودة أو للتكثير لاحتياجها إلى العدد، وهو المناسب للمقام والتفسير للزهري أدرجه في الخبر؛ كما جزم به الطيبي. قال الحافظ: ورواه البخاري في التفسير تدل عليه وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وللبخاري ومسلم جاورت بحراء شهرًا، ولابن إسحاق: أنه شهر رمضان، ولم يصح عنه أكثر منه. وروى سوار بن معصب: أربعين يومًا لكنه متروك الحديث، قال الحاكم وغيره. وفي تعبده قبل البعثة بشريعة أم لا قولان، الجمهور على الثاني. واختار ابن الحاجب والبيضاوي الأول ففي أنه بشريعة إبراهيم أو موسى أو عيسى أو نوح أو آدم أو بشريعة من قبله دون تعيين، أو بجميع الشرائع. ونسب للمالكية أو الوقف أقوال، ولم يأت تصريح بصفة تعبده بحراء، فيحتمل أنه أطلق على الخلوة بمجردها تعبد، فإن الانعزال عن الناس، ولا سيما من كان على باطل عبادة، وعن ابن المرابط وغيره كان يتعبد بالفكر، وهذا على قول الجمهور. "ويتزود" بالرفع عطفًا على يتحنث، أي: يتخذ الزاد، "لذلك" أي: للتعبد، "ثم يرجع إلى خديجة، فتزوده لمثلها" أي: الليالي؛ كما اقتصر عليه الفتح في بدء الوحي ورجحه في التعبير وإن رجح غيره في التفسير لأن مدة الخلوة كانت شهرًا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر، فإذا نفد رجع إلى أهله فيتزود قدر ذلك، ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش وكان غالب أدمهم اللبن واللحم ولا يدخر منه كفاية شهر لسرعة فساده، لا سيما وقد وصف بأنه كان يطعم من يرد عليه، وفيه أن الانقطاع الدائم عن الأهل ليس من السنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينقطع بالغار بالكلية بل كان يرجع إلى أهله لضروراتهم، ثم يرجع لتحنثه. "حتى" على بابها من انتهاء الغاية، أي: واستمر بفعل ذلك حتى "فجأه" بفتح الفاء وكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، $"فقلت ما أنا بقارئ ...............................   الجيم وتفتح؛ كما في الديباج فهمزة، أي: جاءه؛ كما في رواية بدء الوحي بغتة، فإنه لم يكن متوقعًا له "الحق" بالرفع صفة لمحذوف، أي: الأمر حق، وهو الوحي سمي حقًا لمجيئه من عند الله أو رسول الحق وهو جبريل فأصله الجر بتقديم مضاف لكنه حذف وأقيم مقامه، فأعطى على الإعراب، "وهو في غار حراء" فترك ذلك التحنث والجملة حالية، "فجاءه الملك" جبريل اتفاقًا "فيه" واللام لتعريف الماهية لا العهد، إلا أن يكون المراد: ما عهده عليه السلام لما كلمه في صباه أو اللفظ لعائشة وقصدت به ما يعهده من تخاطبه به. قال الإسماعيلي: هي عبارة عما يعرف بعد أنه ملك وإنما الأصل فجاءه جاء وكان الجائي ملكًا فأخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم أخبر بحقيقة جنسه، والحامل عليه أنه لم يتقدم له معرفة به، انتهى. وهو ظاهر ولا ينافيه أن اللفظ لعائشة؛ لأنها حكت ما سمعته وفاء، فجاءه تفسيرية؛ كقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ، لا تعقيبية، قال الحافظ: لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى يعقب به بل هو نفسه ولا يلزم منه تفسير الشيء بنفسه بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال وغيره من جهة التفصيل، انتهى. ولا سببية؛ لأن المسبب غير المسبب. "فقال" له: "اقرأ" أمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه أو على بابه من الطلب، فهو دليل على تكليف ما لا يطاق في الحال وإن قدر عليه بعد. قال الحافظ: وهل سلم قبل قوله: اقرأ، أم لا؟ وهو الظاهر؛ لأن المقصود حينئذ تفخيم الأمر وتهويله وابتداء السلام متعلق بالبشر لا الملائكة، وتسليمهم على إبراهيم؛ لأنهم كانوا في صورة البشر، فلا يرد هنا ولا سلامهم على أهل الجنة؛ لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبًا نعم. في رواية الطيالسي: أن جبريل سلم أولا لكن لم يرد أنه سلم عند الأمر بالقراءة، انتهى. "فقلت" هذه رواية الأكثر في البخاري في التعبير. وفي رواية أبي ذر فيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وفي بدء الوحي قال بدون فاء. وفي رواية: فيه، أي: بدء الوحي، قلت: بلا فاء أيضًا. "ما أنا بقارئ" وجعل المصنف في التعبير متنه الأحمر رواية أبي ذر، وعقبها بقوله: ولغير أبي ذر، فقلت: "ما أنا بقارئ ما أحسن أن أقرأ"، انتهى. فلم ينتبه لذلك الشارح فوهم حيث أشار للاعتراض على المصنف هنا، بما حاصله: أن لفظ فقلت لما يقع في التعبير ولا بدء الوحي مع أنك قد علمت أن رواية الأكثر، وما نافية، وقيل: استفهامية وضعفه عياض وابن قرقول بدخول الباء في خبرها، وهي لا تدخل على ما الاستفهامية، وأجيب: بأن رواية أبي الأسود عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] " -حتى .......................   عروة: "كيف أقرأ"؟. وابن إسحاق عن عبيد بن عمير: "ماذا أقرأ"؟. دلتا على أنها استفهامية وقد جوز الأخفش دخول الباء على الخبر المثبت، وجزم به ابن مالك في: بحسبك زيد، فجعل الخبر حسبك، والباء زائدة. "فأخذني فغطني" بغين معجمة فطاء مهملة مشددة، أي: ضمني وعصرني. وفي رواية الطبري وابن إسحاق: "فغتني" بالتاء الفوقية، وهو حبس النفس، وللطيالسي بسند جيد: "فأخذ بحلقي" , "حتى بلغ مني الجهد". قال الحافظ: روي بالفتح والنصب، أي: بلغ الغط مني غاية وسعي، وروى بالضم والرفع، أي: بلغ مني الجهد مبلغه، "ثم أرسلني" أي: أطلقني "فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ" أي: حكمي كسائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو بالتعلم وعدمه بعدمه فلذا كرر عظمه ليخرجه عن حكم سائر الناس، ويستفرغ منه البشرية ويفرغ فيه من صفات الملكية، قاله شارح المشكاة الطيبي. "فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذن فغطني". كذا رواه الكشميهني ولغيره بحذف: فأخذني، "الثالثة، حتى بلغ مني الجهد" كذا ثبت الغلط ثلاثًا في التعبير والتفسير، وسقطت في بدء الوحي الثالثة، قال الحافظ: ولعل الحكمة في تكرير اقرأ، الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ عنه الوحي بسببه في ثلاث: القول والعمل والنية، وأن الوحي يشتمل على ثلاث التوحيد والأحكام والقصص، ويأتي حكمة الغط في كلام المصنف. قال في الروض: وانتزع شريح القاضي التابعي أن لا يضرب الصبي إلا ثلاثًا على القرآن؛ كما غط جبريل محمدًا صلى الله عليه وسلم ثلاثًا، "ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] "، استدل به القائل بأن البسملة ليست آية من كل سورة، فهذه أول سورة نزلت وليست فيها. وقال السهيلي: نزلت بعد ذلك مع كل سورة لا منها، وقد ثبتت في المصحف بإجماع الصحابة وما ذكره البخاري عن مصحف الحسن البصري شذوذ ولا نلتزم قول الشافعي: أنها آية من كل سورة، ولا أنها آية من الفاتحة بل آية من القرآن مقترنة مع السورة، وهو قول داود وأبي حنيفة، وهو قول بين لمن أنصف، انتهى. وهو اختيار له مخالف للمعتمد من مذهب مالك. " {الَّذِي خَلَقَ} " وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة، "حتى" هي رواية أبي ذر ولغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بلغ- {مَا لَمْ يَعْلَمِ} [العلق: 5] . فرجع بها ترجف بوارده فؤاده، حتى دخل على خديجة، فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال: "يا خديجة، ما لي"؟. وأخبرها الخبر، وقال: "قد خشيت على نفسي". فقالت له: كلا .................................   ثم "بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها" قال الحافظ: أي: بالآيات أو بالقصة، "ترجف" بضم الجيم تضطرب "بوارده" بفتح الموحدة وخفة الواو فألف فدال مهملة قراء، قال المصنف: جمع باردة وهي اللحمة بين العنق والمنكبين، وقال ابن بري: ما بين المنكب والعنق، أي: لا تختص بعضو واحد وذلك لما فجأه من الأمر المخالف للعادة إذ النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها وفي بدء الوحي يرجف "فؤاده"، قال المصنف: أي قلبه أو باطنه أو غشاؤه، انتهى. فعلى الثالث عدل عن القلب؛ لأن الغشاء إذا حصل له الرجفان حصل للقلب، ففي ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب. "حتى دخل على خديجة" التي ألف تأنيسها له فأعلمها بما وقع له، "فقال: "زملوني زملوني" بكسر الميم مع التكرار مرتين من التزميل، وهو التلفيف، أي: غطوني بالثياب ولفوني بها، قال ذلك لشدة ما لحقه من هول الأمر والعادة جارية بسكون الرعدة بالتلفيف، "فزملوه" بفتح الميم، أي: لفوه، أي: خديجة ومن معها فلذا لم يؤنث أو خديجة وحدها وعبر بجمع الذكور للتعظيم؛ كقوله: وإن شئت حرمت النساء سواكم وقوله: وكم ذكرتك لو أجزى بذكركم ... يا أشبه الناس كل الناس بالقمر "حتى ذهب عنه الروع" بفتح الراء: الفزع، فقال: "يا خديجة ما" استفهام تعجب، أي: أي شيء ثبت "لي" حتى حصل لي ما حصل "وأخبرها الخبر" جملة حالية، وقال: "قد خشيت عليّ". بتشديد الياء في رواية الحموي والمستملي للصحيح في التعبير ولغيرهما كالتفسير وبدء الوحي على "نفسي". فقالت له, وفي بدء الوحي، فقالت خديجة: "كلا" نفي وإبعاد، أي: لا تقل ذلك أو لا خوف عليك بدليل رواية: فقالت: معاذ الله، قال الشامي: ومن اللطائف أن هذه الكلمة التي ابتدأت خديجة النطق بها عقب ما ذكر لها من القصة هي التي وقعت عقب الآيات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.   فجرت على لسانها اتفاقًا؛ لأنها لم تنزل إلا بعد في قصة أبي جهل على المشهور. "أبشر" بقطع الهمزة أمر أيد به الخبر، والمقصود منه، تعجيل المسرة بالبشرى، أي: إني مبشرة لك بخير أو بأنك رسول الله، "فو الله لا يخزيك الله أبدًا" بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الزاي فتحتية ساكنة، أي: لا يفضحك. وللكشميهني: يحزنك، بفتح أوله وسكون الحاء وضم الزاي؛ كما اقتصر عليه الحافظ، زاد المصنف وغيره: أو بضم أوله مع كسر الزاي وبالنون، يقال: حزنه وأحزنه أوقعه في بلية. "إنك" بكسر الهمزة لوقوعها في الابتداء، قال الدماميني: فصلت هذه الجملة عن الأولى؛ لكونها جوابًا عن سؤال اقتضته، وهو عن سبب خاص، فحسن التأكيد وذلك أنها لما أثبتت القول بانتفاء الخزي عنه وأقسمت عليه، انطوى ذلك على اعتقادها أن ذلك بسبب عظيم فيقدر السؤال عن خصوصه حتى كأنه قيل هل سبب ذلك الإنصاف بمكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف؛ كما بشر إليه كلامك؟ فقالت: إنك "لتصل الرحم" أي: القرابة بالإحسان إليهم على حسب حال الواصل والموصول إليه، فتارة بالمال والخدم وبالزيارة وبالسلام وغير ذلك، "وتصدق الحديث" فما كذب قط ولا اتهم به قبل النبوة؛ كما اعترف به أو سفيان عند هرقل وكان حينئذ عدوه وثبتت هذه الخصلة في التعبير والتفسير وسقطت في بدء الوحي، وهي من أشرف الخصال. "وتحمل الكل" بفتح الكاف وشد اللام من لا يستقل بأمره كما قال تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76] ، أو الثقل بكسر المثلثة وسكون القاف. وقال الداودي: الكل المنقطع ويدخل فيه الاتفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك من الكلال وهو الإعياء، زاد هنا في بدء الوحي؛ كمسلم وتكسب المعدوم بفتح التاء في الأشهر، وروي بضمها، أي: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى، أو ما يعجز عنه غيرك تصيبه وتكسبه ثم تجود به في الوجود التي ذكرت، وعلى رواية ضم التاء، قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو، ورده الحافظ بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالميت الذي لا تصرف له، فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودًا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزًا فتعاونه، "وتقري الضيف" بفتح الفوقية من غير همز ثلاثيًا، قال الأبي: وسمع بضمها رباعيًا، أي: تهيئ له طعامه وتنزله، قال المصنف في بدء الوحي، وفيه إفادة أن الرواية الأول ولذا اقتصر عليه في التعبير. "وتعين على نوائب الحق" جمع نائبة، أي: حوادثه، وهذه جامعة لإفراد ما سبق ولغيره وقيدت بالحق؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخو أبيها -وكان امرأ تنصر في الجاهلية .................   لأنها تكون فيه، وفي الباطل قال لبيد: نوائب من خير وشر كلاهما ... فلا الخير ممدود ولا الشر لازب أي: فلا يصيبك مكروه، لما جمع الله فيك من مكارم الأخلاق ومحاسن الشمائل، وفيه دلالة على أن ذلك سبب للسلامة من مصارع السوء ومدح الإنسان في وجهه لمصلحة تطرأ، وأما خبر: "احثوا في وجوه المداحين التراب"، ففي مدح بباطل أو يؤدي إلى باطل وتأنيس من حصلت له مخافة وتبشيره وذكر أسباب السلامة له، وكمال خديجة وجزالة رأيها وعظم فقهها فقد جمعت كل أنواع المحاسن وأمهاتها فيه عليه السلام؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب، وإما إلى الأجانب، وإما بالمال أو البدن، وإما لمن يستقل بأمره أو غيره، وإجابته بجواب فيه قسم وتأكيد بأن، واللام لتذهب حيرته ودهشته، واستدلت على ذلك بأمر استقرائي جامع لأصول المكارم. "ثم" قبل أن تأتي به ورقة، انطلقت خديجة على ما عند سليمان التيمي وموسى بن عقبة حتى أتت غلامًا لعتبة بن ربيعة نصرانيًا من أهل نينوى بكسر النون وفتحها وتحتية ساكنة فنون، يقال عداس بفتح العين وشد الدال وبسين مهملات، فقالت له: أذكرك الله! إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس يا سيدة نساء قريش، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟ فقالت: أخبرني بعلمك فيه، قال: هو أمين الله بينه وبين النبيين وهو صاحب موسى وعيسى، فرجع من عنده، ثم "انطلقت به" أي: مضت معه فالباء للمصاحبة، قاله الحافظ، وسارت به "خديجة" مصاحبة له "حتى أتت به ورقة" بفتح الواو والراء والقاف. "ابن نوفل" بفتح النون والفاء "ابن أسد بن عبد العزى" تأنيث الأعز، وهو الصنم "ابن قصي" بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وأنهى الحديث نسبة إلى قصي؛ لأنه الذي يشترك فيه مع المصطفى عليه السلام توفي ولم يعقب، ويأتي قريبًا الكلام في أنه صحابي عند قول المتن، وقيل: أول من أسلم ورقة. "وهو ابن عم خديجة" لأنها بنت خويلد بن أسد، وهو "أخو أبيها" بالرفع خبر مبتدأ محذوف ولابن عساكر أخي بالجر صفة لعم. وفائدته: رفع المجاز في إطلاق العم. "وكان امرأ"ترك عبادة الأوثان و"تنصر" قال الحافظ: أي صار نصرانيًا، "في الجاهلية" وذلك أنه خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأعجب ورقة النصرانية وكأنه لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولذا أخبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب -وكان شيخًا كبيرًا قد عمي- فقالت له خديجة: أي ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال له ورقة: هذا   بشأنه صلى الله عليه وسلم والبشارة به إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل، انتهى. وذكر ابن عبد البر أنه تهود، ثم تنصر "وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب بالعربية" أي: باللغة العربية، "من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب" أي: الذي شاء الله كتابته، فحذف العائد هكذا في التعبير؛ كمسلم. وفي بدء الوحي العبراني وبالعبرانية، فرجح الزركشي الرواية الأولى؛ لاتفاقهما. وجمع النووي وتبعه الحافظ بأنه تمكن من دين النصارى وكتابهم بحيث صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب إن شاء بالعربية وإن شاء بالعبرانية انتهى. فعلم أن الإنجيل ليس عبرانيًا، قال الكراماني: وهو المشهور خلافًا للتيمي، انتهى. وإنما هو سرياني والتوراة عبرانية بكسر العين، قال الحافظ: وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرًا كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة فلهذا جاء في صفتها أناجيلها في صدورها، انتهى. "وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم! " نداء على حقيقته، ووقع في مسلم: أي عم، قال الحافظ: وهو وهم؛ لأنه وإن صح بجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين فتعين الحمل على الحقيقة، وإنما جوزنا ذلك في العبراني والعربي، لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، انتهى. وفي اديباج: وعندي أنها قالت: ابن عم على حذف حرف النداء، فتصحفت ابن بأي، انتهى. "اسمع" بهمزة وصل "من ابن أخيك" تعني النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأب الثالث لورقة وهو عبد العزى، هو الأخ للأب الرابع للمصطفى، وهو عبد مناف، كأنها قالت: من ابن أخي جدك، فهو مجاز بالحذف، قال الحافظ: أو لأن والده عبد الله في عدد النسب إلى قصي الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة أخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه، قال: وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول، وذلك مستفاد من قولها، أرادت أن يتأهب لسماع كلامه، وذلك أبلغ في التعظيم. "فقال ورقة: ابن أخي" بالنصب منادى مضاف، "ماذا ترى" قال الحافظ: فيه حذف دل عليه السياق، وصرح به في دلائل أبي نعيم بسند حسن بلفظ: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى، فقال: ماذا ترى؟ "فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى" وفي بدء الوحي خبر ما رأى، فهنا مضاف مقدر "فقال ورقة: هذا" أي: الملك الذي ذكره عليه السلام نزله منزلة القريب لقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا ..........................   ذكره؛ كما في الفتح. "الناموس" بنون وسين مهملة وهو صاحب السر؛ كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء، أي: مطلقًا عند الجمهور وهو الصحيح خلافًا لمن زعم أن صاحب سر الشر، يقال له الجاسوس، وقال ابن دريد: وهو صاحب سر الوحي، والمراد جبريل وأهل الكتاب يسمونه الناموس الأكبر "الذي أنزل" بالبناء للمفعول في التعبير والتفسير، وفي بدء الوحي: نزل الله، وللكشميهني: أنزل الله، "على موسى" لم يقل عيسى مع أنه كان نصرانيًا تحقيقًا للرسالة؛ لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب بخلاف عيسى، فكثير من اليهود ينكر نبوته أو لاشتمال كتاب موسى على أكثر الأحكام؛ ككتاب نبينا بخلاف الإنجيل فأمثال ومواعظ، أو لأن النصارى يتبعون أحكام التوراة ويرجعون إليها. قال الحافظ: أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون وأتباعه بخلاف عيسى وكذلك وقعت النقمة على يده صلى الله عليه وسلم لفرعون هذه الأمة ومن معه ببدر، قال: وأما ما تمحل به السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل، أو أخذ عمن لم يبدل على أن قد ورد عند الزبير بن بكار بلفظ عيسى، ولا يصح نعم لأبي نعيم في الدلائل بسند حسن: أن خديجة أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر، فقال: إن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي صلى الله عليه وسلم، قال له ناموس موسى، والكل صحيح، انتهى. "يا ليتني" أكون "فيها" أي: مدة النبوة أو الدعوة، "جذعًا" بفتح الجيم والمعجمة شابًا، فالنصب وهو المشهور في الصحيحين خبر أكون المقدرة، كذا أعربه الخطابي والمازري وابن الجوزي على رأي الكوفيين في نحو: انتهوا خيرًا لكم وضعف بأن كان لا تضمر إلا إذا كان في الكلام لفظ يقتضيها، نحو: إن خيرًا فخير، أو على الحال من الضمير المستكن في خبر ليت، وهو فيها، أي: كائن فيها حال التشبيه والقوة لأبالغ في نصرك، ورجحه عياض ثم النووي وعزاه للمحققين. قال السهيلي: والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار أو على أن ليت تنصب الجزأين؛ كقوله: يا ليت أيام الصبا رواجعًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم"؟. فقال   وقال ابن بري: بفعل محذوف، والتقدير: يا ليتني جعلت، ورواه الأصيلي في البخاري وابن ماهان في مسلم بالرفع خبر ليت. قال ابن بري: المشهور عند أهل اللغة: والحديث جذع بسكون العين، قال السيوطي: هو رجز مشهور عندهم يقولون: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها واضع "ليتني أكون حيًا حين يخرجك قومك" هكذا هو في التعبير بلفظ: حين، وفي بدء الوحي: إذ بدلها باستعمال إذا في المستقبل تنزيلا له منزلة الماضي؛ لتحقق وقوعه، كقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: 39] ، قال الحافظ: فيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في خير؛ لأن ورقة تمنى أن يعود شابًا وهو مستحيل عادة ويظهر لي أن التمني ليس على بابه بل المراد التنبيه على صحة ما أخبر به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به، انتهى. وقيل: هو تحسر لتحققه عدم عود الشباب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو" بفتح الواو "مخرجي" بشد الياء مفتوحة خبر مقدم لقوله "هم" جمع مخرج، قاله ابن مالك، وأصله مخرجون لي حذفت اللام تخفيفًا ونون الجمع للإضافة إلى ياء المتكلم، فصار: أو مخرجي اجتمعت الواو والياء وسبقت الواو بالسكون، فقلبت ياء، ثم أدغمت في ياء المتكلم وقلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء والهمزة للاستفهام، ولم يقل: أو مخرجي مع أن الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف، نحو: فأين تذهبون لاختصاص الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أصالتها، نحو: أو لم يسيروا، هذا مذهب سيبويه والجمهور. وقال الزمخشري وجماعة: الهمزة في محلها الأصلي والعطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف، والتقدير: أمعادي هم ومخرجي هم، وإذا دعت الحاجة لمثل هذا التقدير فلا يستنكر وعطفه مع أنه إنشاء على قول ورقة: حين يخرجك قومك، وهو خبر؛ لأن الأصح كما قال المصنف: جوازه عند النحويين وإنما منعه البيانيون، فاحتاجوا للتقدير المذكور فالتركيب سائغ عند الجميع. وأما كونه عطف جملة على جملة والمتكلم مختلف، فسائغ معروف في القرآن والكلام الفصيح: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] ، ثم الاستفهام إنكاري؛ لأنه استبعد صلى الله عليه وسلم إخراجه من الوطن لا سيما حرم الله وبلد أبيه إسماعيل من غير سبب يقتضيه، فإنه كان جامعًا لأنواع المحاسن المقتضية لإكرامه وإنزاله منهم منزلة الروح من الجسد ويؤخذ منه؛ كما قال السهيلي: إن مفارقة الوطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي ..............................................   على النفس شديدة لإظهاره الانزعاج لذلك، بخلاف ما سمعه من ورقة من إيذائهم وتكذيبهم له، ففي مرسل عبيد بن عميران ورقة قال له: لتكذبنه ولتؤذينه ولتقاتلنه، بهاء السكت. "فقال ورقة: نعم لم يأت رجل قط" بفتح القاف وشد الطاء مضمومة في أفصح اللغات ظرف لاستغراق الماضي، فتختص بالنفي "بما" وللكشميهني في التعبير كبدء الوحي: بمثل ما "جئت به إلا عودي" وفي التفسير: إلا أوذي، ذكر ورقة أن علة ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه وأنه يلزم ذلك منابذتهم فتنشأ العداوة، وفيه دليل على أنه يلزم المجيب إقامة الدليل على جوابه إذا اقتضاه المقام. "وإن يدركني" بالجزم بأن الشرطية، "يومك" فاعل يدرك، أي: يوم انتشار نبوتك، زاد في التفسير: حيًا، "أنصرك" بالجزم جواب الشرط "نصرًا" بالنصب على المصدرية، ووصفه بقوله: "مؤزرًا" بضم الميم وفتح الزاي المشددة آخره راء مهموز من الأزر، أي: قويًا بليغًا وإنكار القزاز الهمز لغة رد بقول الجوهري، أزرت فلانًا عاونته، والعامة تقول: وأزرته، وقال أبو شامة: يحتمل أنه من الإزار إشارة إلى تشميره في نصرته، قال الأخطل: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم البيت. وفي رواية ابن إسحاق من مرسل عبيد بن عميران: أدرك ذلك اليوم. قال السهيلي: والقياس رواية الصحيح؛ لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده، كما جاء: أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي، قال: ولرواية ابن إسحاق وجه؛ لأن المعنى إن أر ذلك اليوم فسمى روايته إدراكًا، وفي التنزيل: لا تدركه الأبصار رأى لا تراه على أحد القولين، انتهى. "ثم لم ينشب" بفتح التحتية والمعجمة، أي: لم يلبث "ورقة" بالرفع فاعل ينشب، "أن توفي" بفتح الهمزة وخفة النون بدل اشتمال من ورقة، أي: لم تتأخر وفاته، وتجويز أن محله جر بجار مقدر، أي: عن الوفاة أو نصب بنزع الخافض لا يلتفت إليه إذ الأول شاذ، والثاني مقصور على السماع، فلا يخرج عليه كلام الفصحاء، قال الحافظ: وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وهذا يخالف ما في سيرة ابن إسحاق: إن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب ذلك يقتضي تأخيره إلى زمن الدعوة ودخول بعض الناس في الإسلام، فإن تمكنا بالترجيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه، تبدى له جبريل فقال: "يا محمد إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه   فما في الصحيح أصح، وأن لحظنا الجمع أمكن أن الواو في: وفتر الوحي، ليست للترتيب ولعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرًا بعد ذلك في أمر من الأمور فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع، انتهى. واعتمد هذا في الإصابة، وأول قوله: أن توفي بأن معناه قبل اشتهار الإسلام والأمر بالجهاد، انتهى. وقد أرخ الخميس موت ورقة في السنة الثالثة من النبوة، وقيل: الرابعة. وأما قول الواقدي إنه قتل ببلاد لخم وجذام بعد الهجرة فغلط بين، فإنه دفن مكة؛ كما نقله البلاذري وغيره. "وفتر الوحي" أي: احتبس جبريل عنه بعد أن بلغه النبوة، "فترة" سيذكر المصنف قدرها، حتى حزن" بكسر الزاي "النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا" جزم عياض بأن هذا قول معمر وخالفه السيوطي والمصنف تبعًا للحافظ، وقالوا: هو شيخه الزهري، "حزنًا غدا" بغين معجمة من الذهاب، وبمهملة من الغدو وهو الذهاب بسرعة "منه" أي: الحزن "مرارًا كي يتردى" يسقط "من رءوس شواهق الجبال" أي: طوالها جمع شاهق وهو العالي الممتنع. وعند ابن سعد من حديث ابن عباس: مكث أيامًا بعد مجيء الوحي لا يرى جبريل فحزن حزنًا شديدًا حتى كان يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء أخرى يريد أن يلقي نفسه، "فكلما أوفى" بفتح الهمزة وسكون الواو: أشرف، "بذروة" بكسر الذال المعجمة وتفتح وتضم: أعلى، "جبل لكي يلقي نفسه" إشفاقًا أن تكون الفترة لأمر أو سبب "منه" فخشي أن تكون عقوبة من ربه، ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بعد شرع بالنهي عنه فيعترض به أو لما أخرجه من تكذيب من بلغه؛ كما قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] الآية، ذكرهما عياض. وقول المصنف: أو حزن على ما فاته من بشارة ورقة، ولم يخاطب عن الله بأنه رسول الله ومبعوث إلى عباده فيه أن في مرسل عبيد بن عمير عند ابن إسحاق: أنه ناداه: أنت رسول الله وأنا جبريل بعد الغط، وقبل أن يأتي إلى خديجة. "تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًا" وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: فبينما هو عامد لبعض تلك الجبال إذ سمع صوتًا فوقف فزعًا ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعًا، يقول: يا محمد، أنت رسول الله حقًا وأنا جبريل، "فيسكن لذلك جأشه" بجيم فهمزة ساكنة، ويجوز تسهيلها فشين معجمة، أي: اضطراب قلبه، "وتقر" بفتح الفوقية والقاف، "نفسه" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك". وقد تكلم العلماء في معنى قوله عليه السلام لخديجة: "قد خشيت علي" فذهب الإسماعيلي إلى أن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله. وكان أشق شيء عليه أن يقال عليه مجنون.   والعطف تفسيري "فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى". وفي رواية: بدا في الموضعين بدل تبدى "له جبريل، فقال له مثل ذلك" يا محمد، إنك رسول الله حقًا، وهذا البلاغ ليس بضعيف؛ كما ادعى عياض متمسكًا بأنه لم يسنده؛ لأن عدم إسناده لا يقدح في صحته بل الغالب على الظن أنه بلغه من الثقات؛ لأنه ثقة ثم إن معمرًا لم ينفرد به عن الزهري بل تابعه عليه يونس بن يزيد عند الدولابي، ورواه ابن سعد من حديث ابن عباس بنحوه، وفي بعض النسخ السقيمة هنا، وفي رواية أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، قال: جاورت بحراء شهرًا، فذكر حديث جابر الآتي إلى قوله: ولم تكن الرجفة هي خطأ محض لتكررها مع الآتي وقصر عزوها لأبي داود مع أنه أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي، والذي في النسخ الصحيحة المقروءة: إنما هو ما يأتي لا ما هنا ولم يتعرض شيخنا لهذا إنما كتب على الآتي وأيضًا فالمناسب ذكره، ثم لأنه شرع هنا يتكلم على بعض حديث البخاري، فقال: "وقد تكلم العلماء في معنى قوله عليه السلام لخديجة: "قد خشيت علي" لأن ظاهره مشكل لاقتضائه الشك في أن ما أتاه من الله ولا يجوز بمقامه صلى الله عليه وسلم فهو محتاج للتكلم في معناه، فاختلفوا فيه على اثني عشر قولا، "فذهب" الإمام الحافظ الثبت، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس "الإسماعيلي" الجرجاني، قال الحاكم: كان واحد عصره وشيخ المحدثين والفقهاء وأجلهم رئاسة ومروءة وسخاء، علا إسناده وتفرد ببلاد العجم، ومات في رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. "إلى" حمله على ظاهره ولا ضير فيه لجواز "إن هذه الخشية كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله" وأما بعد وصوله فلا "وكان أشق" بالنصب خبر "شيء عليه" والاسم "أن يقال" أي: قولهم، "عليه مجنون" فكان يكره ذلك في نفسه، وإن لم يقل عليه حينئذ، فإنهم إنما قالوه بعد دعائهم إلى الإيمان تنفيرًا للناس عنه، أو علم بنور أودعه الله في قلبه، أنه يقال عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه، ولا غرو، فإنه بشر يخشى من القتل والأذية، كما يخشى البشر. وقوله: "ما أنا بقارئ" أي: أنا أمي فلا أقرأ الكتب.   وحاصل هذا القول ما لخصه الحافظ، بقوله: أولها أنه خشي الجنون وأن يكون ما جاءه من جنس الكهانة جاء مصرحًا به في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلي على ذلك، انتهى. قال السهيلي: ولم ير الإسماعيلي أن هذا محال في مبدأ الأمر؛ لأن العلم الضروري لا يحصل دفعة واحدة وضرب مثلا بالبيت من الشعر تسمع أوله فلا تدري أنظم هو أم نثر، فإذا استمر الإنشاد علمت قطعًا أنه قصد به الشعر، كذلك لما استمر الوحي واقترنت به القرائن المقتضية للعلم القطعي، وقد أثنى الله عليه بهذا العلم، فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] إلى قوله: {وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] . "وقيل: إن خشيته كانت من قومه أن يقتلوه" وإن كان عالمًا بأن ما جاءه من ربه، "ولا غرو" بغين معجمة مفتوحة فراء فواو: ولا عجب في خشيته ذلك، وإن كان سيد أهل اليقين؛ لأن ذلك مما يرجع للطبع. "فإنه بشر يخشى من القتل والأذية كما يخشى البشر" ثم يهون عليه الصبر في ذات الله كل خشية ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة قاله في الروض. ثالثها: خشي الموت من شدة الرعب. رابعها: تعييرهم إياه، قال الحافظ: وهذان أَولى الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب وما عداهما معترض؛ خامسها خشي المرض، وبه جزم ابن أبي جمرة. سادسها: دوامه. سابعها: العجز عن رؤية الملك من الرعب. ثامنها: مفارقة الوطن. تاسعها: عدم الصبر على أذى قومه. اشرها: تكذيبهم إياه. حادي عشرها: مقاومة هذا الأمر وحمل أعباء النبوة، فتزهق نفسه أو ينخلع قلبه لشدة ما لقيه أولا عند لقاء الملك. ثاني عشرها: إنه هاجس، قال الحافظ: وهو باطل؛ لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة. وأما قول عياض: هذا أول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحقق رسالة ربه، أما بعد أن جاءه بالرسالة، فلا يجوز عليه الشك فضعفه النووي بأنه خلاف تصريح الحديث، بأن هذا بعد الغط وإتيانه: {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، وأجاب العيني: بأن مراده إخبارها بما حصل له؛ لأنه خاف حال الإخبار فلا يكون ضعيفًا. وقوله: "ما أنا بقارئ". أي: إني أمي، فلا أقرأ الكتب, فما نافية لا استفهامية لوجود الباء في الخبر، وإن جوزه الأخفش فهو شاذ والباء زائدة لتأكيد النفي، أي: ما أحسن القراءة. قال السهيلي: فلما قال ذلك ثلاثًا، قيل له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، أي: لا بقوتك ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقال القاضي عياض: إنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا، لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا تحتملها قوى البشر، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة. انتهى. فإن قلت: فلم كرر قوله: "ما أنا بقارئ" ثلاثًا؟ فأجاب أبو شامة كما في فتح الباري: بأن يحمل قوله أولا على الامتناع، وثانيًا: على .........................................................   بمعرفتك لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع علق الدم ومغمز الشيطان منك في الصغر بعدما خلقه فيك كما خلقه في كل إنسان؛ فالآيتان المتقدمتان لمحمد صلى الله عليه وسلم والأخريان لأمته، وهما: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5] ؛ لأنها كانت أمة أمية لا تكتب، فصاروا أهل كتاب وأصحاب قلم، فتعلموا القرآن بالقلم وتعلمه نبيهم تلقيا من جبريل عليهما السلام. "وقال القاضي عياض وغيره: إنما ابتدئ عليه السلام بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة، فلا تحتملها قوى البشر، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة" من المرائي الصادقة الصالحة الدالة على ما يئول إليه أمره. وقد روى ابن إسحاق في مرسل عبيد بن عمير: "جاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، قال: اقرأ، فقلت: ما أقرأ، فغتني حتى ظننت أنه الموت". وذكر أنه فعل به ذلك ثلاث مرات، وهو يقول: "ما أقرأ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، فقرأتها ثم انصرف عني، وهببت من نومي، فكأنما كتبت في قلبي كتابًا". فذكر الحديث. وذكر السهيلي عن بعض المفسرين: أن الإشارة في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] ، للذي جاء به جبريل حينئذ، "انتهى". واعترض على المصنف بأن الأولى تقديم هذا على قوله تكلم العلماء، ورده شيخنا بأن الغرض منه بيان ما يوهم خلاف المراد، فكان الاعتناء ببيانه أهم. "فإن قلت: فلم كرر قوله: "ما أنا بقارئ" ثلاثًا، فأجاب" الأولى حذف الفاء؛ كما في الفتح. "أبو شامة" الإمام الحافظ العلامة أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المقدسي ثم الدمشقي، الشافعي المقرئ النحوي المتوفى تاسع عشر رمضان سنة خمس وستين وستمائة، ومولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة. "كما في فتح الباري" بأن ذلك لحكمة "بأن يحمل قوله أولا على الامتناع، وثانيًا: على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا: على الاستفهام. والحكمة من الغط ثلاثًا، شغله عن الالتفات لشيء آخر، وإظهاره الشدة والجد في الأمر، تنبيهًا على ثقل القول الذي سيلقى إليه. وقيل: إبعادًا لظن التخيل والوسوسة، لأنهما ليسا من صفات الجسم، فلما وقع ذلك بجسمه علم أنه من أمر الله. فإن قلت: من أين عرفه صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أظهر على يدي جبريل عليه السلام معجزات عرفه بها ............   الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا: على الاستفهام" بدليل روايتي: "كيف أقرأ"؟. "وماذا أقرأ"؟. كما مر، فهو حجة للأخفش في جواز دخول الباء في الخبر المثبت، وبه جزم بعض الشراح ومرت حكمة تكرير اقرأ، "والحكمة من الغط ثلاثًا شغله عن الالتفات لشيء آخر، وإظهاره الشدة والجد في الأمر" وأن يأخذ الكتاب بقوة "تنبيهًا على ثقل القول" القرآن "الذي سيلقى إليه" فإنه لما فيه من التكاليف ثقيل على المكلفين، سيما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يتحملها ويحملها أمته، قاله البيضاوي. "وقيل: إبعادًا لظن التخيل والوسوسة" اللذين ظنهما عليه الصلاة والسلام قبل؛ كما في رواية يونس عن ابن إسحاق بسنده إلى أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: أنه صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر"، قالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك ذلك، إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. "لأنهما ليسا من صفات الأجسام، فلما وقع ذلك" الغط ثلاثًا "بجسمه علم أنه من أمر الله" فاطمأن، وقيل: الغطة الأولى للتخلي عن الدنيا، والثانية: لما يوحى إليه، والثالثة: للمؤانسة. وقيل: إشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقعت له وهي الحصر في الشعب وخروجه إلى الهجرة وما وقع يوم أحد، وفي الإرسالات الثلاث إشارة إلى حصول الفرج والتيسير له عقب الثلاث أو في الدنيا والبرزخ والآخرة. وقيل: للمبالغة في التنبيه، ففيه أنه ينبغي للمعلم الاحتياط في تنبيه المتعلم وأمره بإحضار قلبه. "فإن قلت: من أين عرف صلى الله عليه وسلم أن جبريل ملك من عند الله، وليس من الجن" وبم عرف أنه حق لا باطل؟ "فالجواب من وجهين أحدهما" يجوز "أن الله تعالى أظهر على يدي جبريل عليه السلام معجزات عرفه بها" ولم تذكر لأنها مما لا تحيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 كما أظهر الله تعالى على يدي محمد صلى الله عليه وسلم معجزات عرفناه بها. وثانيهما: أن الله خلق في محمد صلى الله عليه وسلم علمًا ضروريًا بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان، كما أن الله تعالى خلق في جبريل علمًا ضروريًا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غيره. وقول ورقة: يا ليتني فيها جذعًا. الضمير للنبوة، أي: ليتني كنت شابًا عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع: .........................   بها عقولنا أو لا يتعلق لنا بها غرض. "كما أظهر الله تعالى على يدي محمد صلى الله عليه وسلم معجزات عرفناه بها" وعلى هذا اقتصر في الكوكب وعمدة القارئ "وثانيهما: أن الله خلق في محمد صلى الله عليه وسلم علمًا ضروريًا بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان" عطف مباين بالصفة على ما ذكر الحافظ: أن من كان كافرًا سمي شيطانًا وإلا فهو جني أو بالذات على ما في المقاصد أن الغالب على الجن عنصر الهواء وعلى الشياطين عنصر النار، "كما أن الله تعالى خلق في جبريل علمًا ضروريًا بأن المتكلم معه هو الله تعالى، وأن المرسل له ربه تعالى لا غيره" ولعل الثاني أولى "وقول ورقة: يا ليتني فيها جذعًا الضمير للنبوة" أي: مدة النبوة، زاد الحافظ: أو الدعوة والعيني أو الدولة، واستشكل هذا النداء، بأن لا منادى ثم يطلب إقباله بيا وبأن ليت حرف النداء، لا يدخل على، فجعل أبو البقاء والأكثر المنادى محذوفًا، أي: يا محمد! وضعفه ابن مالك بأن قائل ليتني قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى؛ كقول مريم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ} ، وأجيب بأنه يجوز أن يجرد من نفسه نفسًا يخاطبها كأن مريم قالت: يا نفسي ليتني، فكذا يقدر هنا. وضعف ابن مالك دعوى الحذف أيضًا؛ بأنه إنما يجوز إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته كحذف المنادى قبل أمر، نحو: "ألا يا اسجدوا". في قراءة الكسائي، أي: يا قوم أو دعاء، نحو: ألا يا سلمى، أي: ألا يا دار فحسن حذف المنادى قبلها اعتياد ثبوته، نحو: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} ، {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} ، بخلاف ليت فلم تستعمله العرب ثابتًا قبلها، فادعاء حذفه باطل ورده العيني بأنه لا ملازمة بين جواز الحذف وبين ثبوت استعماله، قلت: وهو رد لين والذي اختاره ابن مالك أن يا هذه لمجرد التنبيه مثل: ألا في: ألا ليت شعري، هو الوجيه. وفسر جذعًا بقوله: "أي: ليتني كنت شابًا عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها" بنصرك وحمايتك، وفي مرسل عبيد بن عمير: لئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرًا يعلمه، "وأصل الجذع" قال ابن سيده: مفرد جذعان وجذاع بالكسر والضم وأجذاع، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 من أسنان الدواب، وهو ما كان منها شابًا فتيا. وأخرج البيهقي من طريق العلاء بن جارية الثقفي عن بعض أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه، فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تحية بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول الله. الحديث.   الأزهري: ويسمى الدهر جذعًا؛ لأنه شاب لا يهرم. "من أسنان الدواب" واستعير للإنسان، ومعناه على التشبيه حيث أطلق الجذع الذي هو الحيوان المنتهي إلى القوة، وأراد به الشاب الذي فيه قوة الرجل وتمكنه من الأمور، "وهو ما كان منها شابًا فتيًا" قال ابن سيده: قيل الجذع من المعز الداخل في السنة الثانية، ومن الإبل فوق الحق، وقيل: منها لأربع، ومن الخيل لسنتين، ومن الغنم لسنة، وقيل معناه: يا ليتني أدرك أمرك فأكون أول من يقوم بنصرك؛ كالجذع الذي هو أول الأسنان، قال صاحب المطالع: والقول الأول أبين. "وأخرج البيهقي من طريق العلاء بن جارية" بجيم وراء وتحتية "الثقفي" صحابي؛ كما في الإصابة وغيرها، لكن الراوي هنا إنما هو حفيده فالذي عند البيهقي من طريق ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان العلاء بن جارية الثقفي وكان واعية، أي: للعلم فسقط على المصنف اسمه واسم أبيه وكنية جده المسمى بالعلاء وأتى باسمه وليس هو الراوي؛ لأن ابن إسحاق ليس تابعيًا بل من صغار الخامسة، وقد قال: حدثني، فإنما الراوي حفيد العلاء وهو عبد الملك. "عن بعض أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد الله كرامته وابتداءه" عطف تفسير "بالنبوة كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه وسمع منه" ذكره لأنه لا يلزم من السلام أن يسمعه وكان ابتداء ذلك قبل النبوة بسنتين على ما روى ابن الجوزي، عن ابن عباس، قال: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة سبعًا يرى الضوء والنور ويسمع الصوت، وثمان وستين يوحى إليه، قال الخازن: وهذا إن صح يحمل على سنتين قبل النبوة فيما كان يراه من تباشيرها وثلاث سنين بعدها قبل إظهار الدعوة، وعشر سنين معلن بالدعوة بمكة، انتهى. وهو حمل مناف لقوله ثمانية، اللهم إلا أن يقال الحق سنتين من ابتداء العشر بما قبلها؛ لعدم ظهور الدعوة فيهما كل الظهور. "فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة، وهي تحية بتحية النبوة" التي لم تكن معروفة قبلها إكرامًا وإعلامًا بأنه سيوحى إليه بالرسالة، تقول: "السلام عليك يا رسول الله ... الحديث" وأفاد المصنف فيما يأتي استمرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا فلم أثبت له, فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني وصبوا عليّ ماء باردًا" , فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ   السلام بعد النبوة، قال السهيلي: الأظهر أنهما نطقا بذلك حقيقة وليست الحياة والعلم والإرادة شرطًا له؛ لأنه صوت وهو عرض عند الأكثر لا جسم؛ كما زعم النظام، وإن قدر الكلام صفة قائمة بنفس الشجر والحجر فلا بد من شرط الحياة والعلم مع الكلام فيكونان مؤمنين به، ويحتمل أنه مضاف في الحقيقة إلى ملائكة يسكنون تلك الأماكن، فهو مجاز؛ كاسأل القرية، وفي كلها علم على النبوة لكن لا يسمى معجزة إلا ما تحدى به الخلق، فعجزوا عن معارضته، انتهى ملخصًا. "وعن جابر" بن عبد الله الأنصاري الخزرجي الصحابي ابن الصحابي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "جاورت بحراء" أقمت فيه، والفرق بينه وبين الاعتكاف أنه لا يكون إلا داخل المسجد، والجوار قد يكون خارجه، قاله ابن عبد البر وغيره ولذا لم يسمه اعتكافًا؛ لأن حراء ليس من المسجد. "شهرًا" في مدة الفترة غير الشهر الذي نزل عليه فيه جبريل بسورة {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، ففي مرسل عبيد بن عمير عند البيهقي أنه كان يجاور في كل سنة شهرًا وهو رمضان، فلا حجة في الحديث على أن أول ما نزل المدثر. "فلما قضيت جواري" بكسر الجيم وخفة الواو، أي: مجاورتي، "هبطت" وفي مسلم: "نزلت، فاستبطنت بطن الوادي"، أي: صرت في باطنه، "فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا" هو جبريل؛ كما قال في بدء الوحي. والتفسير: فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، وهو معنى رواية التفسير أيضًا: وهو جالس على عرش بين السماء والأض، "فلم أثبت له" وفي بدء الوحي: فرعبت منه، قال الحافظ: فدل على بقية بقيت معه من الفزع الأول، ثم زالت بالتدريج، "فأتيت خديجة، فقلت: دثروني دثروني" مرتين هكذا في الصحيحين في التفسير. وفي البخاري في بدء الوحي: "زملوني زملوني" والأول أولى، لاتفاقهما عليه ولأنها، كما قال الزركشي: أنسب بنزول المدثر. "وصبوا علي ماء باردًا" أي: على جميع بدني على ظاهره "فنزلت" أيناسا له وإعلامًا بعظيم قدره وتلطفًا، {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، بثيابه، قاله الجمهور. وعن عكرمة: بالنبوة وأعبائها، {قُمْ} [المدثر: 2] من مضجعك أو هو مجاز، أي: قم مقام تصميم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} الآية, وذلك قبل أن تفرض الصلاة. رواه البخاري ومسلم والترمذي. ولم يكن جواره عليه الصلاة والسلام لطلب النبوة، لأنها أجل من أن تنال بالطلب أو الاكتساب، وإنما هي موهبة من الله، وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.   {فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، حذر من العذاب من لم يؤمن بك، وحذف المفعول تفخيمًا، وفيه: أنه أمر بالإنذار عقب نزول الوحي للإتيان بفاء التعقيب، واقتصر على الإنذار وإن كان بشيرًا ونذيرًا؛ لأن التبشير إنما يكون لمن دخل في الإسلام ولم يكن حينئذ من دخل فيه. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] ، عظمه ونزهه عما لا يليق به، وقيل: المراد تكبير الصلاة واعترض. "الآية" أل للجنس، بدليل رواية بدء الوحي: فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2] إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] يعني: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} من النجاسة أو قصرها أو طهر نفسك من كل نقص، أي: اجتنب النقائص، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، الرجز: لغة العذاب وفسر في الحديث بالأوثان؛ لأنها سبب العذاب، وقيل: الشرك، وقيل: الظلم، وكلها أفراد، فالمراد ما ينافي التوحيد ويئول إلى العذاب. "وذلك قبل أن فرض الصلاة" التي هي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي؛ لأنها المحتاجة للتنبيه عليها، وأما الخمس فمتأخرة عن ذلك؛ لكونها ليلة الإسراء، "رواه البخاري" في التفسير والأدب وبدء الوحي، "ومسلم" في التفسير "والترمذي والنسائي ولم يكن جواره عليه الصلاة والسلام لطلب النبوة" لأنه ولو علم بالبشارات الحاصلة قبل ولادته، وإخبار الكهنة وبحيرا وغيرهم بأنه نبي آخر الزمان لكن صانه الله سبحانه عن اعتقاد ما يخالف ما عنده تعالى من أنها لا تنال بطلب فإنه صلى الله عليه وسلم قبل النبوة منشرح الصدر بالتوحيد والإيمان وكذلك الأنبياء فإنهم، كما قال عياض: معصومون قبلها من الشك في ذلك والجهل به اتفاقًا، فإنما كان جواره مجرد عبادة وانعزال عن الناس واقتفاء لآثار جده، فإنه كما مر أول من تحنث بحراء لا للنبوة؛ "لأنها أجل من أن تنال بالطلب والاكتساب" عطف تفسير "وإنما هي موهبة" بكسر الهاء "من الله وخصوصية يخص بها من يشاء من عباده" ولو كانت تنال بذلك لنالها كثير من العباد سنين كثيرة. "و" قد قال سبحانه: "الله أعلم حيث يجعل رسالاته" أي: المكان الذي يضعها فيه، وغرض المصنف دفع ما يتوهم أن الجواز للنبوة التي الكلام فيها: فأين إشعاره بأن الولاية مكتسبة حتى يعترض عليه بنص بعض المحققين على امتناع اكتساب الولاية أيضًا، لكن لا يكفر إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ولم تكن الرجفة المذكورة خوفًا من جبريل عليه السلام، فإنه صلى الله عليه وسلم أجل من ذلك وأثبت جنانًا، وإنما رجف غبطة بحاله وإقباله على الله عز وجل، فخشي أن يشغل بغير الله عن الله. وقيل: خاف من ثقل أعباء النبوة. وفي رواية البيهقي في الدلائل: أن خديجة قالت لأبي بكر: يا عتيق اذهب به إلى ورقة، فأخذه أبو بكر، فقص عليه ما رأى، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء: يا محمد، فأنطلق هاربًا" , فقال: لا تفعل إذا قال: فاثبت   مجوزًا اكتساب النبوة، نعم لا يقصر كما قال بعض المتأخرين شأن مجوز اكتساب الولاية عن التبديع، "ولم تكن الرجفة المذكورة" في قوله: فلم أثبت له، وفي رواية: فرعبت منه، وفي أخرى: فجئت بضم الجيم وكسر الهمزة وسكون المثلثة ففوقية، وفي أخرى: فجثثت بمثلثتين من جثى كعنى، وفيه روايات أخر والكل في الصحيح. "خوفًا من جبريل عليه السلام، فإنه صلى الله عليه وسلم أجل من ذلك وأثبت جنانًا" بفتح الجيم، أي: قلبًا، "وإنما رجف" بفتحتين "غبطة" بكسر الغين: فرحًا، "بحاله" وهي في الأصل حسن الحال؛ كما في القاموس. "وإقباله على الله عز وجل فخشي أن يشغل بغير الله عن الله" وقد أمن الله خوفه فلم يكن يشغله عن الله شيء، "وقيل" لم يخش ذلك بل "خاف من ثقل أعباء النبوة" أثقالها جمع عبء مهموز، فالإضافة بيانية. "وفي رواية البيهقي في الدلائل أن خديجة قالت لأبي بكر" الصديق، قال الزمخشري: لعله كنى بذلك لابتكاره الخصال الحميدة، "يا عتيق" ظالهر في القبول بأنه اسمه الأصلي؛ لأن أمه استقبلت به الكعبة لما ولد وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت؛ لأنه كان لا يعيش لها ولد، وقيل: سمي به لقول المصطفى: "من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر"، وبينهما تناف، فإن قول خديجة قبل ظهور النبوة وقد يتعسف التوفيق بأنه اسمه ابتداء لكن لم يشتهر به إلا بعد قول المصطفى، والصحيح ما جزم به البخاري وغيره أن اسمه عبد الله بن عثمان. "اذهب به إلى ورقة، فأخذه أبو بكر فقص عليه ما رأى" ووفق العيني بين هذا ونحوه وبين ما في الصحاح: أنها ذهبت معه إلى ورقة بأنها أرسلته مع الصديق مرة وذهبت به أخرى، وسألت عداسًا بمكة وسافرت إلى بحيرا؛ كما رواه التيمي كل ذلك من شدة اعتنائها به صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، انتهى. وبين ما قصه بقوله: فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء: يا محمد فأنطلق هاربًا" , خوفًا أن يكون من الجن، "فقال: لا تفعل، إذا قال" المنادي ذلك "فاثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 حتى تسمع، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد فثبت فقال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1، 2] إلى آخرها. ثم قال: قل لا إله إلا الله ... الحديث. واحتج بذلك من قال بأولية نزول الفاتحة. والصحيح أن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن {اقْرَأْ} كما صح ذلك عن عائشة، وروي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير. قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف. وأما ما روي عن جابر وغيره: أن أول ما نزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقال النووي: ضعيف، بل باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي.   حتى تسمع" ما بعد يا محمد، "ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه" على عادته التي كان يفعلها معه، "يا محمد، فثبت فقال: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ, الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 1، 2] إلى آخرها" أي: الفاتحة، "ثم قال: قل: لا إله إلا الله ... الحديث" وغرضه من سياقه أنه معارض بحديث الصحيح في أن أول ما نزل اقرأ، كما أرشد إلى ذلك قوله الآتي، فقال البيهقي: هذا منقطع ... إلخ، وكذا قوله: "واحتج بذلك من قال بأولية نزول الفاتحة" أولية مطلقة، "والصحيح أن أول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم من القرآن" أول سورة {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، "كما صح ذلك عن عائشة" مرفوعًا. "وروي عن أبي موسى الأشعري وعبيد بن عمير" بن قتادة بن سعد، أبي عاصم الليثي المكي قاضيها الثقة الحافظ أحد كبار التابعين، "قال النووي: وهو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وأما ما روي عن جابر وغيره أن أول ما نزل" مطلقًا أول سورة {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] ، "فقال النووي: ضعيف بل باطل" بطلانًا ظاهرًا ولا تغير بجلالة من نقل عنه فإن المخالفين له هم الجماهير ثم ليس إبطالنا قوله تقليد للجماهير بل تمسكًا بالدلائل الظاهرة، ومن أصرحها حديث عائشة. "وإنما نزلت" {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، "بعد فترة الوحي" بعد نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] ؛ كما صرح به في مواضع من حديث جابر نفسه؛ كقوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] ، وقوله: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيه بين السماء والأرض". وقوله: "فحمى الوحي وتتابع"، أي: بعد فتراته، انتهى كلام النووي كله في شرحه للبخاري، وهو قطعة من أوله فلا حجة في حديث جابر على الأولية المطلقة، وإن استدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وأما حديث البيهقي أنه الفاتحة -كقول بعض المفسرين- فقال البيهقي: هذا منقطع، فإن كان محفوظًا فيحتمل أن يكون خبرًا عن نزولها بعدما نزلت عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] . وقال النووي -بعد ذكر هذا القول- بطلانه أظهر من أن يذكر. انتهى.   به جابر عليه. ففي البخاري ومسلم من طريق يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة ابن عبد الرحمن: أي القرآن أنزل أول؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فقلت: أنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أول؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فقلت: أنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، قال: لا أخبرك إلا بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "جاورت بحراء" الحديث المتقدم في المصنف، ولذا قال الكرماني: استخرج جابر أن أول ما أنزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] باجتهاده، وليس هو من روايته، فالصحيح ما في حديث عائشة: من أول ما نزل {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، انتهى. لأنها رفعته والمرفوع مقدم على الاستنباط ولا سيما مع قبوله للتأويل، بل هو الظاهر منه وبهذا علمت صعوبة قول السيوطي والمصنف مراد جابر أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، أو بالأمر بالإنذار، أو بقيد السبب، وهو ما وقع من التشديد. وأما {اقْرَأْ} [العلق: 1] فنزلت ابتداء بغير سبب، انتهى. لأن هذا إنما يصح لو لم يقل له السائل أنبئت أن أوله: {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، نعم هي أجوبة عن دليله. فإن قلت: كيف حكم النووي وغيره بالضعف بل بالبطلان على المروي عن جابر مع صحة الطريق إليه، كيف وهو أرفع الصحيح مروي الشيخين؟ قلت: حكمه إنما هو على نفس القول الذي صحت نسبته لقائله بصحة إسناده، ونظير هذا في القرآن كثير، وقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون، فلا شك أن قولهم باطل، ولا في القطع بأنهم قالوه. "وأما حديث البيهقي" المار "أنه الفاتحة؛ كقول بعض المفسرين، فقال البيهقي: هذا منقطع", فلا حجة فيه؛ لأنه من أقسام الضعيف، "فإن كان محفوظًا" من غير هذا الوجه، "فيحتمل أن يكون خبرًا عن نزولها بعد ما نزلت عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، فلا حجة فيه للأولية المطلقة، وبهذا يسقط زعم أن رواية البيهقي قبل أن يرى المصطفى جبريل بالمرة. "وقال النووي: بعد ذكر هذا القول: بطلانه أظهر من أن يذكر لمخالفته للمرفوع مع صحته وعدم تطرق الاحتمال إليه لصراحته، ولذا جزم به الجمهور، "انتهى". فتحصل ثلاثة أقوال في أول ما نزل: {اقْرَأْ} ، "المدثر"، "الفاتحة"، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن أمره بالاستعاذة، كما رواه الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا محمد، استعذ، قال: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، قال: قل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] . قال عبد الله: وهي أول سورة أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ عماد الدين بن كثير بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا، والله أعلم. وقد أورد ابن أبي جمرة سؤالا، وهو أنه: لم اختص صلى الله عليه وسلم بغار حراء، فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من المواضع؟ وأجاب: بأن هذا الغار له فضل زائد على غيره من جهة أنه منزو مجموع   "المزمل"، وقيل: {ن وَالْقَلَمِ} ، وهما ضعيفان أيضًا. "وقد روي أن جبريل عليه السلام أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن أمره بالاستعاذة؛ كما رواه الإمام" المجتهد المطلق "أبو جعفر" محمد "بن جرير" الطبري البغدادي الحافظ، "عن ابن عباس، قال: أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، قال: يا محمد، استعذ، قال: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم" يحتمل أنه فهم منه هذا اللفظ أو قال له: قال ذلك، كما "قال" له "قل: بسم الله الرحمن الرحيم" فقالها: "ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، "قال عبد الله" بن عباس: "وهي أول سورة أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم"، ولو صح لكان حكمه الرفع، إذ لا مجال للرأي فيه، لكن "قال الحافظ عماد الدين بن كثير، بعد أن ذكره: وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا" ولا يقدح ذلك في جلالة مخرجه ابن جرير؛ لأن المحدثين إذا أرادوا الحديث بسنده برئوا من عهدته، "والله أعلم بصحته في نفس الأمر وضعفه". "وقد أورد" الإمام "ابن أبي جمرة" بجيم وراء "سؤالا وهو أنه: لم اختص صلى الله عليه وسلم بغار حراء" الباء داخلة على المقصور عليه، أي: لم قصر نفسه على الخلوة به دون غيره؟ وفي نسخة: لم خص غار حراء؟، أي: لم ميزه؟ والمعنى واحد. "فكان يخلو فيه ويتحنث دون غيره من الواضح وأجاب بأن" المصطفى خصه لأن "هذا الغار له فضل زائد على غيره من جهة أنه منزو مجموع" صفة كاشفة، ففي المختار: زوى الشيء جمعه، ولعل المعنى هنا منعطف مائل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 لتحنثه وهو يبصر بيت ربه، والنظر إلى البيت عبادة، فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة والتحنث والنظر إلى البيت. وغيره ليس فيه هذه الثلاث. ولله در المرجاني حيث قال في فضائل حراء وما اختص به: تأمل حراء في جمال محياه ... فكم من أناس من حلا حسنه تاهوا فمما حوى من جا لعلياه زائرا ... ..............................   مرور الناس عليه فيتمكن من عدم مخالطتهم، فيتخلى للعبادة صالح "لتحنثه" فهو متعلق بمحذوف أو بمجموع على أنه نعت سببي، أي: مجموع حواس من يختلى به، "وهو يبصر" فيه "بيت ربه" الكعبة "والنظر إلى البيت عبادة" كما في الخبر: "إن الله ينزل عليه عشرين رحمة" "فكان له فيه اجتماع ثلاث عبادات: الخلوة" هي أن يخلو عن غيره بل وعن نفسه بربه، وعند ذلك يكون خليقًا بأن يكون قالبه ممر الواردات من علوم الغيب وقلبه مقرًا لها، قاله المصنف. "والتحنث والنظر إلى البيت، وغيره ليس فيه هذه الثلاث" وناهيك بالخلوة من عبادة؛ لأنها فراغ القلب والانقطاع عن الخلق والراحة من أشغال الدنيا والتفرغ لله فيجد الوحي فيه متمكنًا؛ كما قيل: وصادف قلبًا خاليًا فتمكنا ... ولذا حببت للمصطفى ثم هذا الجواب أولى من قول المصنف في شرح البخاري، إنما كان يخلو بحراء دون غيره؛ لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش وكانوا يعظمونه لجلالته وسنه، فتبعه على ذلك فكان يخلو بمكان جده وكان الزمن الذي يخلو فيه شهر رمضان فإن قريشًا كانت تعظمه، كما كانت تصوم شهر عاشوراء، انتهى. "ولله در المرجاني" عبد الله بن محمد القرشي الإمام القدوة الواعظ المفسر أحد الأعلام في الفقه والتصوف، قدم مصر ووعظ بها واشتهر في البلاد وامتحن وأفتى العلماء بتكفيره ولم يؤثروا فيه، فعملوا عليه الحيلة فقتل بتونس سنة تسع وستمائة، ذكره في اللواقح "حيث قال في فضائل حراء وما اختص به" أبياتًا، هي: "تأمل حراء" بالمد على اللغة الفصحى فيه، ولا يقصر هنا للوزن، "في جمال محياه" هو الوجه، "فكم من أناس من حلا" بضم الحاء، "حسنه تاهوا" بإشباع الهاء للروي. "فمما حوى" الظاهر: أنه مبتدأ بمعنى بعض على حد ما قيل في نحو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] ، وما موصول وصلته جملة حوى والعائد محذوف، أي: فبعض الذي حواه، "من" فاعل حوى "جا" صلته "لعلياه" متعلق به "زائرًا" حال من الفاعل للتبرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ........................ ... يفرج عنه الهم في حال مرقاه به خلوة الهادي الشفيع محمد ... وفيه له غار له كان يرقاه وقبلته للقدس كانت بغاره ... وفيه أتاه الوحي في حال صبراه وفيه تجلى الروح بالموقف الذي ... به الله في وقت البداءة سواه وتحت تخوم الأرض في السبع أصله ... ومن بعد هذا اهتز بالسفل أعلاه ولما تجلى الله قدس ذكره ... لطور تشظى فهو إحدى شظاياه ومنها ثبير ................... ... ............................   بحلول المصطفى وجبريل فيه؛ كما نزل صلى الله عليه وسلم في أماكن حل بها أنبياء ليلة الإسراء، والخبر هو قوله: "يفرج عنه الهم في حال مرقاه" بالبناء للمفعول، أي: يفرج الله كل همه في حال صعوده ذلك الجبل فضائله أنه كانت "به خلوة الهادي الشفيع محمد" قبل النبوة وبعدها في مدة الفترة، "وفيه له غار له" كررها للتقوية والإشارة إلى اختصاصه به حتى كأنه ملكه "كان يرقاه" فجاءه فيه جبريل "وقبلته للقدس كانت بغاره" فه نظر، فإنه إنما صلى للقدس بعد الإسراء وفرض الصلاة، وأول ما صلى إلى الكعبة؛ كما يجيء مبينًا في تحويل القبلة، ويحتمل أنه بناه على أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا قبل النبوة بشرع موسى وكانت قبلته للقدس. "وفيه أتاه الوحي في حال صبراه" من الصبر حبس النفس على الخلوة به والتعبد فيه، وفي نسخ: مبدأه، والأولى أحسن؛ لعدم الإيطاء فإنه سيقول مبدأه رابع بيت بعد هذا: "وفيه تجلى الروح بالموقف الذي به الله في وقت البداءة سواه وتحت تخوم الأرض" جمع تخم كفلس وفلوس، وهو منتهى كل قرية أو أرض أو حدودها، وقال ابن السكيت: تخوم مفرد، وجمعه: تخم، مثل صبور وصبر؛ كما في الصحاح وغيره. "في السبع أصله" أي: أن أصله تحت الأرض السابعة، "ومن بعد هذا اهتز" تحرك طربًا بمن علاه "بالسفل" أي: بسبب تحرك أسفله وفاعل اهتز "أعلاه" معجزة، روى مسلم عن أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" ووقع ذلك لأحد وثبير أيضًا، ويأتي إن شاء الله تفصيله في المعجزات. "ولما تجلى الله قدس ذكره" أي: أظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر؛ كما في حديث صححه الحاكم. "لطور تشظى" أي: تفلق وتطاير منه قطع فصارت جبالا، "فهو إحدى شظاياه" جمع شظى وهو كل فلقة من شيء، وتشظى العود: تطاير شظا؛ كما في القاموس "ومنها" أي: شظاياه، "ثبير" بمثلثة فموحدة فتحتية فراء بوزن أمير، جبل مقابل حراء، وبينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ........... ثم ثور بمكة ... كذا قد أتى في نقل تاريخ مبداه وفي طيبة أيضًا ثلاث فعدها ... فعيرًا وورقانًا وأحدًا رويناه ويقبل في ساعة الظهر من دعا ... به وينادي من دعانا أجبناه وفي أحد الأقوال في عقبة حرا ... أتى ثم قابيل لهابيل غشاه   الوادي وهما على يسار السالك إلى منى، حراء قبلى ثبير مما يلي شمال الشمس. "ثم ثور" بمثلثة جبل "بمكة" به الغار المذكور في التنزيل دخله صلى الله عليه وسلم في الهجرة "كذا قد أتى في نقل تاريخ مبداه" أي: حراء والله أعلم بصحته. "وفي طيبة أيضًا" تشظى الطور، "ثلاث فعدها فعيرا" أي: فتشظى عيرا بفتح العين وسكون التحتية وراء مهملة بلفظ مرادف الحمار جبلي قبلي المدينة قرب ذي الحليفة، قال فيه صلى الله عليه وسلم "وعير يبغضنا ونبغضه، وإنه على باب من أبواب النار"، ورواه البزار وغيره ولكن الناظم في عهدة: إن عيرًا منها، فالذي رواه الواحدي مرفوعًا كما يأتي، وحكاه البغوي عن بعض التفاسير بدل عير رضوى وهو بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة جبل بالمدينة على ما في الصحاح. وفي حديث رضوى رضي الله عنه: وقدس، فهذا المناسب؛ لكونه من شظايا الطور مع أنه الوارد، لا عير المبغوض. "وورقانا" بفتح الواو وكسر الراء وسكنها للنظم فقاف، قال في القاموس: ورقان بكسر الراء جبل أسود بين العرج والرويثة بيمين المصعد من المدينة إلى مكة حرسهما الله تعالى، "وأحدًا" بضم الهمزة والحاء وسكنها للوزن، الجبل المشهور الذي قال فيه المصطفى: "أحد جبل يحبنا ونحبه". "رويناه" أخرج الواحدي عن أنس رفعه: "لما تجلى ربه للجبل جعله دكا طار لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة: أحد وورقان ورضوى، ووقع بمكة: ثور وثبير وحراء". وقال البغوي: وفي بعض التفاسير فذكره، ولم يرفعه في فتح الباري. أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي مالك رفعه، وهو غريب مع إرساله. "ويقبل فيه" في حراء "ساعة الظهر" دعاء "من دعا به وينادي من دعانا أجبناه وفي أحد الأقوال في عقبة حرا" بالقصر والصرف وسكون قاف عقبة للشعر، قال القاموس: العقبة بالتحريك، أي: بفتح العين والقاف مرقى صعب من الجبال والجمع عقاب، "أتى ثم" جاء هناك "قابيل" بن آدم "لهابيل" أخيه "غشاه" أي: قتله، قال الثعلبي: كان لهابيل يوم قتل عشرون سنة، واختلفوا في مصرعه وموضع قتله، فقال ابن عباس: على جبل ثور، وقال بعضهم: على عقبة حراء، وقال جعفر الصادق: بالبصرة في المسجد الأعظم، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ومما حوى سرًا حوته صخوره ... من التبر إكسيرا يقام سمعناه سمعت به تسبيحها غير مرة ... وأسمعته جمعًا فقالوا سمعناه به مركز موضع النور الإلهي مثبتًا ... فلله ما أحلى مقامًا بأعلاه وروى أبو نعيم أن جبريل وميكائيل شقا صدره وغسلاه ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ   وذكر السدي بأسانيده أن سبب قتله أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن من ولده بأنثى الآخر، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فأراد قابيل أن يستأثر بأخته فمنعه آدم فلما ألح عليه به أمرهما أن يقربا قربانًا، فقرب قابيل حزمة من زرع، وكان صاحب زرع، وقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب مواش، فنزلت نار فأكلت قربان هابيل دون قابيل، فكان ذلك سبب الشر بينهما، قال في فتح الباري: هذا هو المشهور. ونقل الثعلبي بسنده عن جعفر الصادق أنه أنكر أن يكون آدم زوج ابنا له بابنة له، وإنما زوج قابيل جنية وزوج هابيل حورية، فغضب قابيل، وقال له: يا بني ما فعلته إلا بأمر الله، فقربا قربانًا وهذا لا يثبت عن جعفر ولا عن غيره ويلزم منه أن بني آدم من ذرية إبليس؛ لأنه أبو الجن كلهم أو من ذرية الحور العين وليس لذلك أصل ولا شاهد، انتهى. "ومما حوى" حراء "سرًا" هو لغة ما يكتم ويستعار للشيء النفيس، "حوته صخوره" أي: حراء، "من التبر" بالكسر: الذهب والفضة أو فتاتهما قبل أن يصاغا فإذا صيغا فهما ذهب وفضة، أو ما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ، قال القاموس. "إكسيرا" بالكسر: الكيمياء؛ كما في القاموس. "يقام" يصاغ، ومعنى البيت "سمعناه" أي: روينا عن غيرنا تسبيحًا ويصدقه أنني "سمعت به" بحراء "تسبيحها" أي: صخوره "غيره مرة وأسمعته جمعًا فقالوا سمعناه" أي: نفس التسبيح بآذاننا فاندفع الإيطاء بوجه بديعي، "به مركز موضع النور الإلهي مثبتًا" ثابتًا "فلله ما أحلى" أعذب "مقامًا" بضم الميم وفتحها على ما في القاموس، أي: إقامة، "بأعلاه" وجعل الجوهري الضم للإقامة من أقام يقيم، والفتح للموضع، قال: وقوله تعالى: {لَا مُقَامَ لَكُمُ} [الأحزاب: 13] ، أي: لا موضع لكم وقرئ بالضم، أي: لا إقامة لكم، انتهى. واعلم: أن قوله: ولله در المرجاني إلى هنا ساقط في أكثر النسخ؛ لكنه ثابت في بعض النسخ القديمة المقروءة. "وروى أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصبهاني في دلائل النبوة من حديث عائشة، "أن جبريل وميكائل شقا صدره وغسلاه، ثم قال" جبريل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 رَبِّكَ} ، الآيات، الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر، أشهد بأنك الذي بشر بك المسيح ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل. وكذا روى شق صدره الشريف هنا أيضًا الطيالسي والحارث في مسنديهما. والحكمة فيه: ليتلقى النبي صلى الله عليه وسلم ما يوحى إليه بقلب قويي من أكمل الأحوال من التطهير. قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له من الوحي مراتب عديدة: إحداها: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الثانية: مال كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، ......   وفي نسخة: قالا: فإن كان محفوظًا فلعله نسبة لهما وإن كان القائل جبريل لإقرار ميكائيل مقالة جبريل ورضاه بها، "الآيات" إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] ، "الحديث، وفيه: فقال ورقة: أبشر أشهد بأنك الذي بشر بك المسيح ابن مريم" في قوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، "وأنك على مثل" أي: صفة مماثلة لصفة "ناموس موسى" من مجيء الوحي لك كما جاء له، "وأنك نبي مرسل" وفيه دلالة ظاهرة على إيمانه. "وكذا روى شق صدره الشريف هنا" عند مجيء الوحي، "أيضًا" وفاعل روى "الطيالسي" أبو داود سليمان بن الجارود البصري الحافظ الثقة كثير الحديث، روى عن ابن عون وشعبة وخلق، وعنه أحمد وابن المديني وغيرهما، علق له البخاري، وأخرج له مسلم والأربعة توفي سنة ثلاث أو أربع ومائتين عن اثنتين وسبعين سنة، "والحارث" بن محمد بن أبي أسامة واسمه داهر الحافظ أبو محمد التميمي البغدادي ولد سنة ست وثمانين ومائة، وسمع يزيد بن هارون وغيره وعنه ابن جرير والطبري وعدة، وثقه ابن حبان والحربي مع علمه بأنه يأخذ على الرواية، وضعفه الأزدي وابن حزم، وقال الدارقطني: صدوق، وأما أخذه على الرواية فكان فقيرًا كثير البنات، توفي يوم عرفة سنة اثنتين وثمانين ومائتين. "في مسنديهما" والبيهقي وأبو نعيم في دلائلهما كلهم عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهرًا هو وخديجة فوافق ذلك شهر رمضان، فخرج ذات ليلة، فقال: "السلام عليك، قال: فظننت أنها فجأة الجن، فجئت مسرعًا حتى دخلت على خديجة، فقالت: ما شأنك؟ فأخبرتها فقالت: أبشر فإن السلام خير، ثم خرجت مرة أخرى فإذا أنا بجبريل على الشمس جناح له بالمشرق وجناح له بالمغرب، فهلت منه فجئت مسرعًا؛ فإذا هو بيني وبين الباب، فكلمني حتى أنست منه، ثم وعدني موعدًا فجئت له فأبطأ عليّ، فأردت أن أرجع فإذا أنا به وبميكائيل قد سد الأفق، فهبط جبريل وبقي ميكائيل بين السماء والأرض فأخذني جبريل فألقاني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج، ثم غسله في طست من ماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لأمه ثم كفأني كما يكفأ الإناء، ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي". "والحكمة فيه" أي: الشق، حينئذ هي كما قال في الفتح "ليتلقى النبي صلى الله عليه وسلم ما يوحي إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير." وهذا الشق ثالث مرة، والأولى: عند حليمة، والثانية: وهو ابن عشر سنين، والرابعة: ليلة الإسراء، ولم تثبت الخامسة، كما مر ذلك مبسوطًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 مراتب الوحي : "قال ابن القيم وغيره: وكمل الله تعالى له" أي: أعطاه "من الوحي مراتب" جمع مرتبة، أي: منازل، أي: أنواعًا انحصرت في مراتب "عديدة" هي هذه المراتب لا ما يتبادر من لفظ كمل وهو حصول وحي قبلها لعدم وجود شيء من الوحي قبل نزوله، وعبر بمراتب دون أنواع وإن عبر به الشامي إشارة لشرفها، وتعبير الحافظ كاليعمري بحالات يوهم أنها غير الوحي ضرورة أن المضاف غير المضاف إليه، إلا أن تكون الإضافة بيانية، ومن في الوحي ابتدائية أو بيانية فلا وحي غير المراتب أو تبعيضية؛ لأنه عليه السلام لم يقع له مما يروى أن من الأنبياء من يسمع صوتًا ولا يراه فيكون نبيًا، ففي أنه صوت ليس بحرف يخلق في الجو ويخلق في سامعه علم ضروري يعلم به المراد أو بحرف يسمعه من قصدت نبوته مع خلق علم ضروري أنه من الله احتمالان وأيضًا فهو لم يستوف المراتب لقوله الآتي: ويزاد ... إلخ. "إحداها" أي: المراتب، وفي نسخة: أحدها بالتذكير نظرًا إلى أن المراد بالمراتب الأنواع والتأنيث فيما بعدها نظرًا للفظ، والأولى أنسب. "الرؤيا الصادقة" بعد النبوة أو قبلها لأنها مقررة لما بعدها. نعم، المختص بما بعدها الوحي بالأحكام التي يعمل بها، "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" كما مر عن عائشة واستدل السهيلي وغيره على أنها من الوحي، يقول إبراهيم {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] ، فدل على أن الوحي يأتيهم منامًا كما يأتيهم يقظة، وبرواية ابن إسحاق: أن جبريل أتاه ليلة النبوة وغطه ثلاثًا وقرأ عليه أول سورة {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، ثم أتاه وفعل ذلك معه يقظة، وفي الصحيح عن عبيد بن عمير: رؤيا الأنبياء وحي، وقرأ {يَا بُنَيَّ} الآية. "الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه" وإطلاق الوحي على ذلك مجاز من إطلاق المصدر بمعنى اسم المفعول وحقيقة الوحي هنا الإعلام في خفاء أو الإعلام بسرعة، وشرعًا الإعلام بالشرع، قاله الشامي. "من غير أن يراه" وعلم أنه وحي دون الإلهام الذي لا يستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي، لن تموت نفسي حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" ... الحديث رواه ابن أبي الدنيا .........   الوحي بعلم ضروري أنه وحي لا مجرد إلهام، كما خلق في جبريل أن المخاطب له الحق تعالى وأنه أمره بتبليغ من أراد، على نحو ما مر. "كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث" بفاء مثلثة "في روعي" أي: ألقى الوحي في خلدي وبالي أو في نفسي أو قلبي أو عقلي من غير أن أسمعه ولا أراه، ومفعول نفث قوله: "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها" الذي كتبه لها الملك وهي في بطن أمها، فلا وجه للوله والكد والتعب والحرص فإنه سبحانه قسم الرزق وقدره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، بحسب علمه القديم الأزلي، {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف: 32] فلا يعارض هذا ما ورد الصبحة تمنع الرزق، والكذب ينقص الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه وغير ذلك مما في معناه، أو أن الذي يمنعه وينقصه هو الحلال أو البركة فيه لا أصل الرزق، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني وأبي نعيم: "إن نفسا لن تمون حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها". وفي حديث جابر عند ابن ماجه: "أيها النس، اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الرزق ليطلب أحدكم كما يطلبه أجله". رواه البيهقي وغيره وقال عليه السلام: "والذي بعثني بالحق إن الرزق ليطلب أحدكم كما يطلبه أجله". رواه العسكري. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغ آخر الرزق، فأجملوا في الطلب". رواه البيهقي وغيره. "فاتقوا الله" أي: ثقوا بضمانه لكنه أمرنا تعبدًا بطلبه من حله، فقال: "وأجملوا في الطلب" بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحللة بلا كد ولا حرص ولا تهافت على الحرام والشبهات، أو غير منكبين عليه مشتغلين عن الخالق الرازق به، أو بأن تعينوا وقتًا ولا قدرًا؛ لأنه تحكم على الله أو ما فيه رضا الله لا حظوظ الدنيا، أو لا تستعجلوا الإجابة وقد أبدى العلامة العارف ابن عطاء الله في التنوير في معناه وجوهًا عديدة هذه منها، وفي أن طلب نحو المغفرة يمنع تعيينه نظر، استظهر شيخنا المنع لجواز أنه تعالى يريد مغفرته على سبب لم يوجد وعلم أنه سيوجد، فطلب تعيينها تحكم. "الحديث"، بقيته: "ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا ينال ما عنده إلا بطاعته". "رواه" بتمامه "ابن أبي الدنيا" عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس الأموي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 في القناعة، وصححه الحاكم. والروع -بضم الراء- أي نفسي، وروح القدس: جبريل عليه السلام.   مولاهم، أبو بكر البغدادي الحافظ صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، وثقه أبو حاتم وغيره، مات سنة إحدى وثمانين ومائتين. "في" كتاب "القناعة" والحاكم من حديث ابن مسعود "وصححه الحاكم" من طرق، ورواه ابن ماجه عن جابر ومر لفظه، والطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة الباهلي بنحوه. قال الطيبي: والاستبطاء بمعنى الإبطاء، والسين للمبالغة، وفيه: أن الرزق مقدر مقسوم لا بد من وصوله إلى العبد لكنه إذا سعى وطلب على وجه مشروع فهو حلال وإلا فحرام، فقوله: ما عنده، إشارة إلى أن الرزق كله من عنده الحلال والحرام، وقوله: أن يطلبه بمعصية الله، إشارة إلى أن ما عنده إذا طلب بها سمي حرامًا، وقوله: إلا بطاعته، إشارة إلى أن ما عنده إذا طلب بطاعته مدح وسمي حلالا، وفيه دليل ظاهر لأهل السنة أن الحرام يسمى رزقًا والكل من عند الله خلافًا للمعتزلة، انتهى. وفيه: أن الطلب لا ينافي التوكل. وأما حديث ابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه عن عمر رفعه: "لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" فقال الإمام أحمد: فيه ما يدل على الطلب لا القعود، أراد: لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم وعلموا أن الخير بيده ومن عنده لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين كالطير، لكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم، وهذا خلاف التوكل. وفي الإحياء أن أحمد قال في القائل: أجلس لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي: هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عل رزقي تحت ظل رمحي"، وقوله: "تغدو خماصًا وتروح بطانًا"، وكان الصحابة يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم، وبهم القدوة. "والروع بضم الراء" لا بفتحها؛ لأن معناه الفزع ولا دخل له هنا، ورعى لفظ الحديث، فقال: "أي نفسي" وإلا فالظاهر، والروع النفس فهو مجاز شبه إلقاء جبريل بالنفث الذي هو دون التفل بالفوقية لعدم ظهروه، ولا ينافيه قول المصباح: نفث الله الشيء في القلب: ألقاه؛ لأنه بيان للمعنى المجازي إذا أسند لله لاستحالة الحقيقة عليه، وهذا يقتضي أن المراد به غير القلب، قال شيخنا: والظاهر أن المراد بهما واحد، وهو محل الإدراك وقد يشعر به لفظ الحديث. "وروح القدس جبريل عليه السلام" سمي به لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب، فإنه المتولى لإنزال الكتب الإلهية التي بها تحيا الأرواح الربانية والقلوب الجسمانية كالمبدأ لحياة القلب؛ كما أن الروح مبدأ لحياة الجسد، وأضيف إلى القدس لأنه مجبول على الطهارة والنزاهة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلا، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، فقد كان يأتيه في صورة دحية الكلبي، رواه النسائي بسند صحيح من حديث ابن عمر. وكان دحية جميلا وسيما، إذا قدم لتجارة خرجت الظعن لتراه. فإن قلت: إذا لقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية، فأين تكون روحه؟ فإن كانت في الجسد الذي له ستمائة جناح .........................   العيوب، وخص بذلك وإن كانت جميع الملائكة كذلك؛ لأن روحانيته أتم وأكمل، ذكره الإمام الرازي وعليه يحمل قول الشامي: سمي به لأنه خلق من محض الطهارة. وقال الراغب: خص بذلك لاختصاصه بنزوله بالقدس من الله، أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي. المرتبة "الثالثة" خطاب الملك له حين "كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه" ويديم خطابه "حتى يعي" أي: يفهم. "عنه ما يقول له" فحتى غائية، "فقد" ثبت أنه "كان يأتيه في صورة دحية" بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان؛ كما في النور. واقتصر الجوهري على الكسر وقدمه المجد. وفي التبصير اختلف في الراجحة منهما، وهو بلسان أهل اليمن رئيس الجند ابن خليفة بن فضالة بن فروة "الكلبي" شهد المشاهد كلها بعد بدر. "رواه النسائي" أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني ثم المصري، الحافظ أحد الأئمة المبرزين والأعلام الطوافين والحفاظ المتقنين، حتى قال الذهبي: هو أحفظ من مسلم، مات سنة ثلاث وثلاثمائة. "بسند صحيح من حديث ابن عمر" وزعم أن مجيء جبريل على صورة دحية كان بعد بدر، إذ يبعد مجيئه على صورته قبل إسلامه ممنوع وسند أنه لا ضير في التمثل بصورته لجمالها، وإن قبل إسلامه لعلم الله أزلا بأنه من السعداء وخير القرون، فكان يأتي على صفته، فلما رأى المصطفى دحية أخبر بأنه يأتيه في صورته، والأمور النقلية لا دخل فيها للعقول. "وكان دحية جميلا وسيما" أي: حسن الوجه، ولذا كان "إذا قدم لتجارة خرجت الظعن" بضم الظاء المعجمة والعين المهملة جمع ظعينة، سميت بذلك لأن زوجها يظعن بها "لتراه". وفي النور حكوا أنه كان إذا قدم من الشام لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه، والمعصر: التي بلغت سن المحيض، "فإن قلت: إذا لقي جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية" مثلا والمراد في غير صورته التي خلق عليها "فأين تكون روحه فإن كانت في الجسد الذي له ستمائة جناح" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت في هذا الذي هو في صورة دحية فهل يموت الجسد العظيم أم يبقى خاليًا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية. فأجيب -كما ذكره العيني- بأنه لا يبعد أن لا يكون انتقالها موجبًا موته، فيبقى الجسد حيًا، لا ينقص من معارفه شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر، وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم، فلا تلزم في غيرهم. انتهى.   حقيقة من لؤلؤ، أخرجه ابن منده. وقول السهيلي: إنها في حقهم صفة ملكية وقوة روحانية، لا كأجنحة الطير. قال الحافظ: ممنوع فلا مانع من الحمل على الحقيقة إلا قياسه الغائب على المشاهد وهو ضعيف، وقال غيره: هذا التأويل لا يليق بالإمام السهيلي بل هو أشبه بكلام الفلاسفة والحشوية ولا ينكر الحقيقة إلا من ينكر وجود الملائكة. "فالذي أتى لا روح جبريل"؛ لأن الفرض أنها في جسده الأصلي، "ولا جسده" لأنه لم يأت، "وإن كانت في هذا الجسد الذي هو صورة دحية" بقي جسده الأصلي بلا روح، "فهل يموت" ذلك "الجسد العظيم أم" لا يموت ولكن "يبقى خاليًا من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد المشبه بجسد دحية" ولا يلزم من انتقالها موت الجسد العظيم، "فأجيب" باختيار ما بعد أم؛ كما سيقرره "كما ذكره العيني" بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى الحنفي ولد في رمضان سنة اثنتين وستين وسبعمائة، وتفقه واشتغل بالفنون وبرع وولي الحسبة مرارًا وقضاء الحنفية وغير ذلك، ومات في ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وفي بناء أجيب للمفعول إشعار بأن الجواب ليس له بل نقله فقط، وهو كذلك، فقد نقله بمعناه عن العز الحافظ في الفتح ونقل السؤال بعينه، والجواب أصحاب الحبائك عنه، أي: الشيخ عز الدين بن عبد السلام. "بأنه لا يبعد أن يكون انتقالها موجبًا موته فيبقى الجسد حيًا لا ينقص من معارفه شيء ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خطر" مع اتصالها بقبورها، "وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلا" لتجويزه ذهاب الروح، ولا الجسد "بل بعادة أجراها الله تعالى في بني آدم، فلا تلزم في غيرهم، انتهى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الرابعة: كأن يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه ...................   وحاصله: أنه يزول الزائد دون فناء. وقال إمام الحرمين: معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعده، والسراج البلقيني يجوز أن الآتي هو جبريل بشكله الأول إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد نفشه، وهذا على سبيل التقريب. قال في فتح الباري: والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه: أنه ظهر بتلك الصورة أنيسًا لمن يخاطبه. والظاهر: أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط، انتهى. وفي الحبائك أجاب العلاء القونوي بجواز أن خصه بقوة ملكية يتصرف فيها بحيث تكون روحه في جسده الأصلي مدبرة له ويتصل أثرها بجسم آخر يصير حيًا بما اتصل به من ذلك الأثر، وقد قيل: إنما سمي الأبدال أبدالا؛ لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحًا آخر شبيهًا بشبحهم الأصلي بدلا عنهم، وأثبت الصوفية عالمًا متوسطًا بين عالم الأجساد والأرواح سموه عالم المثال، وقالوا: إنه ألطف من عالم الأجساد وأكثف من عالم الأرواح وبنوا على ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صورة مختلفة من عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] ، ويجوز أن جسمه الأول بحاله لم يتغير وقد أقام شبحًا آخر وروحه متصرفة فيهما جميعًا في وقت واحد، قال: والجواب بأنه كان يندمج إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر دحية ثم يعود كهيئته الأولى تكلف، وما ذكره الصوفية أحسن. وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي: لا قدرة للملائكة والجن على تغيير خلقهم والانتقال في الصورة، وإنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات وضربًا من ضروب الأفعال إن فعلوه وتكلموا به نلهم الله من صورة إلى صورة. الحالة "الرابعة: كان يأتيه" مخاطبًا له بصوت "في مثل" أي: صفة، "صلصلة" بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة، "الجرس" بجيم ومهملتين: الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب، قال الحافظ والمصنف. وقال الشامي: الجرس مثال يشبه الجلجل الذي يعلقه الجهال في رءوس الدواب، انتهى. قال في الفتح: والصلصلة المذكورة قيل صوت الملك بالوحي. وقال الخطابي: صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: صوت حفيف، أي: بمهملة وفاءين، دوي أجنحة الملك. والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره. "وكان أشده عليه" لأنه يرد فيه من الطباع البشرية إلى الأوضاع الملكية، فيوحي إليه كما يوحي إلى الملائكة؛ كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ...........................................................   يأتي في حديث أبي هريرة، ولأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أثقل من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، ودل اسم التفضيل على أن الوحي كله شديد. قال الحافظ: وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات، وقال شيخنا شيخ الإسلام، يعني البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به؛ كما في حديث ابن عباس: وكان يعالج من التنزيل شدة. وقال بعضهم: إنما كان شديدًا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع، وقيل: نزوله هكذا إذا نزلت آية وعيد، وفيه نظر. والظاهر: أنه لا يختص بالقرآن؛ كما في قصة المتضمخ بالطيب بالحج، ففيه: أنه رآه صلى الله عليه وسلم حالة نزول الوحي عليه وأنه ليغط، فإن قيل صوت الجرس مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأن الملائكة لا تصحبهم؛ كما في مسلم وأبي داود وغيرهما. والمحمود -وهو الوحي- هنا لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، فالجواب: أنه لا يلزم من التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، والمقصود هنا بيان الجنس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبًا لإفهامهم. والحاصل؛ أن للصوت جهتين: جهة قوة وبها وقع التشبيه، وجهة طنين وبها وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، انتهى ببعض اختصار. وقال التوربشتي: لما سئل عليه السلام عن كيفية الوحي، وكان من المسائل العويصة التي لا يماط نقاب التغور عن وجهها لكل أحد، ضرب لها في الشاهد مثلا بالصوت المتدارك الذي يسمع ولا يفهم منه شيء، تنبيها على أن إتيانها يرد على القلب في هيئة الجلال وأبهة الكبرياء، فتأخذ هيبة الخطاب حين ورودها بمجامع القلب، وتلاقي من ثقل القول ما لا علم له به مع وجود ذلك، فإذا سري عنه وجد القول المقول بينا ملقى في الروع واقعًا موقع المسموع، وهذا الضرب من الوحي شبيه بما يوحى إلى الملائكة على ما رواه أبو هريرة مرفوعًا "إذا قضى الله في السماء أمرًا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا"؛ لقوله: كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، انتهى. هذا وقد روى أحمد والحاكم وصححه، والترمذي والنسائي عن عمر، قال: "كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي سمع عنده دوي كدوي النحل" الحديث، فأفهم قوله عنده أن ذلك بالنسبة للصحابة، ولذا قال الحافظ: إنه لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأنه سماع الدوي بالنسبة للحاضرين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد، حتى إن راحلته لتبرك به في الأرض، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.   كما شبهه عمر، والصلصلة بالنسبة إليه، كما شبهه به صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقامه، انتهى. وجزم به في فتح القريب بأن سماعه كدوي النحل حين كان يتمثل له رجلا، انتهى. وبه تعلم الصفة التي كان عليها حين خطابه بذلك الصوت. "حتى" ابتدائية غائية متعلقة بمحذوف، أي: فتناوله مشقة عظيمة حتى "إن" بكسر الهمزة "جبينه ليتفصد" بفاء وصاد مهملة مشددة، أي يسيل، "عرقًا" بفتح الراء والنصب على التمييز، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق من كثرة معاناة التعب والكرب عند نزوله لطروه على طبع البشر، وذلك ليبلو صبره فيرتاض لما كلفه من أعباء النبوة وقراءته بالقاف تصحيف، قاله العسكري وغيره. قال الدماميني: والجبين غير الجبهة وهو فوق الصدغ، والصدغ ما بين العين والأذن، فالإنسان جبينان يكتفيان الجبهة، والمراد والله أعلم أن جبينيه معًا يتفصدان، وأفراده لجواز أنه يعاقب التثنية في كل اثنين بغنى أحدهما عن الآخر كالعينين والأذنين، تقول: عين حسنة، وتزيد عينيه معًا. "في اليوم الشديد البرد" قال المصنف: الشديد صفة جرت على غير من هي له؛ لأنه صفة البرد لا اليوم. "حتى" الأولى بالواو كما في الشامية؛ لأنه عطف غاية على غاية لا غاية للغاية. "إن راحلته لتبرك" بضم الراء "به في" أي: على "الأرض" كما رواه البيهقي في الدلائل في حديث عائشة، بلفظ: "وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فتضرب جرانها من ثقل ما يوحى إليه". "ولقد اءه الوحي مرة كذلك وفخذه" بكسر الخاء وتسكن تخفيفًا، "على فخذ زيد بن ثابت" الأنصاري النجاري أحد كتاب الوحي ومن كان يفتي في العصر النبوي، وروى أحمد بسند صحيح: "أفرضكم زيد"، مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين. "فثقلت" بضم القاف "عليه، حتى كادت ترضها" بفتح الفوقية وشد المعجمة تكسرها؛ كما رواه البخاري عن زيد: "أنزل الله على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي". لما ذكر ابن القيم دليل المرتبتين الأولتين، وكانت الثالثة والرابعة غير محتاجين لذكر الدليل لشهرته في الصحيحين والموطأ عن عائشة: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي، فيفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قلت: وروى الطبراني عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقًا شديدًا مثل الجمان، ثم سري عنه. وكنت أكتب وهو يملي عليّ، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدًا. ولما نزلت عليه سورة المائدة، كادت أن ينكسر عضد ناقته من ثقل السورة، ورواه أحمد والبيهقي في الشعب. الخامسة: أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين ............................   ولم يذكر دليل قوله: حتى إن راحلته تبرك به المصنف تقوية لابن القيم، فقال: "قلت: وروى الطبراني عن زيد بن ثابت، قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا نزل عليه" الوحي "أخذته برحاء" بضم الباء وفتح الراء وحاء مهملة والمد: شدة أذى الحمى وغيرها، "شديدة وعرق" بكسر الراء، "عرقًا" بفتحها، أي: رشح جلده رشحًا "شديدًا مثل الجمان" بضم الجيم وخفة الميم، قال في الدر: اللؤلؤ الصغار، وقيل: خرز يتخذ من الفضة مثله، "ثم سري" بضم السين المهملة وكسر الراء الثقيلة، أي: انكشف الوحي، "عنه، وكنت أكتب وهو يملي علي" وربما وضع فخذه على فخذي حال الكتابة، "فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل الوحي، حتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدًا" لظني كسرها، "ولما نزلت عليه سورة المائدة" لعل المراد بعضها، نحو: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3] ، فإنه نزلت وهو صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على راحلته؛ كما في الصحيح. "كادت" هي: أي: ناقته، "أن ينكسر والأصل كادت ناقته، أي: ينكسر عضدها، لكنه لما حول الإسناد عن الاسم الظاهر إلى الضمير لم يبق له مرجع نبه عليه، بقوله: "عضد ناقته" فلا يرد أن المناسب كاد بالتذكير لتأويل الفعل بعده بمصدر، أي: كاد انكسار على أنه اسم كاد، "من ثقل السورة، ورواه أحمد والبيهقي في الشعب"، وهذه المراتب ثلاث من صفات الوحي، وواحدة من صفات حامله، وهي تمثّله رجلا. المرتبة "الخامسة" وهي من صفات حامله أيضًا "أن يرى الملك" جبريل "في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح" كل جناح منها يسد أفق السماء حتى ما يرى في السماء شيء "فيوحي" يوصل "إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين" إحداهما في الأرض حين سأله أن يريه نفسه، فرآه في الأفق الأعلى، قال الحافظ ابن كثير: كأنك والنبي بغار حراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 كما في سورة النجم. السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها.   أوائل البعثة بعد فترة الوحي، والثانية عند سدرة المنتهى. "كما" دل عليه قوله تعالى: "في سورة النجم" {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 13-14] ، وروى أحمد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود: لم ير صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته الأصلية إلا مرتين، أما واحدة فإنه سأله أن يريه نفسه فأراه نفسه سد الأفق، وأما الأخرى فليلة الإسراء عند السدرة. قال في الفتح: وهو مبين لما في صحيح مسلم عن عائشة: لم يره -يعني جبريل- على صورته التي خلق عليها إلا مرتين. وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد. وهو يقوي رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم أول ما رأى جبريل بأجياد وصرخ: يا محمد فنظر يمينًا وشمالا فلم ير شيئًا فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال جبريل: يا محمد فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئًا ثم خرج عنهم فناداه فهرب ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، ذكر قصة إقرائه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يخطفان البصر، فتكون هذه المرة غير المرتين وإنما لم تضمها عائشة إليهما؛ لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى، انتهى. ووقع عند أبي الشيخ، عن عائشة: أنه صلى الله عله وسلم، قال لجبريل: "وددت أني رأيتك في صورتك الأصلية". قال: وتحب ذلك؟ قال: "نعم". قال: موعدك كذا وكذا من الليل ببقيع الغرقد، فلقيه موعده فنشر جناحًا من أجنحته فسد أفق السماء حتى ما يرى في السماء شيء". وفي مرسل الزهري عند ابن المبارك في الزهد: أنه سأله أن يتراءى له في صورته الأصلية، قال: إنك لن تطيق ذلك، قال: "إني أحب أن تفعل". فخرج إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبريل في صورته فغشي عليه حين رآه، ثم أفاق" الحديث، فإن صحا فيمكن أنه أراه بعض صورته الأصلية؛ كما هو صريح قوله: فنشر جناحًا ... إلخ؛ لأنها مرة ثالثة على تمام الصفة، فلا يخالف ما في الصحيح ولا ما عدوه من خصائصه من رؤيته له مرتين على صورته الأصلية، وقد كنت أبديت هذا قبل وقوفي على كلام الفتح، الذي سقته فحمدت الله على الموافقة. المرتبة "السادسة" وهي واللتان بعدها من صفات الوحي: "ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها" كالجهاد، والهجرة، والصدقة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما صرح به في حديث أبي سعيد عند البيهقي: أن الله قال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 السابعة: كلام الله تعالى له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم موسى. قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله له كفاحًا بغير حجاب. انتهى. قال شيخ الإسلام الولي ابن عبد الرحيم العراقي: وكأن ابن القيم أخذ ذلك من روض السهيلي لكنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحي قبل جبريل.   ذلك ليلة الإسراء، وساقه المصنف في المقصد السادس. وفي نسخة وغيره، قال شيخنا: وهي أولى لشمولها السنن وفرض غير الصلوات. المرتبة "السابعة: كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة، كما كلم موسى" ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] ؛ لأن معناه كما "قال" البيضاوي: كلامًا خفيًا يدرك بسرعة؛ لأنه ليس في ذاته مركبًا من حروف مقطعة يتوقف على متموجات متعاقبة، أو هو ما يعم المشافهة به؛ كما في حديث المعراج. وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف، كما اتفق لموسى في طوى والطور، ولكن عطف قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] عليه يخصه بالأول، فالآية دالة على جواز الرؤية لا على امتناعها، انتهى. "وزاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي: تكليم الله له كفاحًا" بكسر الكاف، أي: مواجهة، "بغير حجاب، انتهى" كلام ابن القيم. "قال شيخ الإسلام" عبر به على عادتهم أن من ولي قاضي القضاة يطلقون عليه ذلك، "الولي" أي: ولي الدين فهو من التطرف في العلم والراجح جوازه، واسمه أحمد "بن عبد الرحيم" بن الحسين "العراقي" المصري قاضيها الإمام العلامة الحافظ ابن الحافظ الأصولي الفقيه ذو الفنون والتصانيف النافعة المشهورة، تخرج في الفن بأبيه واعتنى به أبوه، فأسمعه الكثير من أصحاب الفخر وغيره، واستعلى على أبيه، ولازم البلقيني في الفقه وأملى أكثر من ستمائة مجلس، توفي في سابع عشرين شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة. "وكأن ابن القيم أخذ ذلك" المذكور من المراتب الخمسة الأولى، "من روض السهيلي" فإنه عدها سبعًا فذكر الخمسة وكلام الله من وراء حجاب، إما في اليقظة أو المنام ونزل إسرافيل؛ فدع عنك احتمالات العقول لا تغتر بها في روض النقول. "كنه لم يذكر نزول إسرافيل إليه بكلمات من الوحي" بعدما أوحى إليه جبريل أول سورة اقرأ و"قبل" تتابع مجيء "جبريل" مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فقد ثبت في الطرق الصحاح عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به إسرافيل فكان يتراءى له ثلاث سنين ويأتيه بالكلمة والشيء، ثم وكل به جبريل فجاءه بالقرآن. وأما قوله -أعني ابن القيم: السادسة، ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعني ليلة المعراج، السابعة كلام الله بلا واسطة. فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل فهو داخل فيما تقدم، لأنه إما أن يكون جبريل في تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمي، وكلاهما قد تقدم ذكره ...............................   أنه ذكره في الروض، بقوله: "فقد ثبت في الطرق الصحاح" بفتح الصاد وكسرها، "عن عامر الشعبي" التابعي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل به" أي: قرن، كما هو المنقول عن الشعبي فيما يأتي، بلفظ: فقرن بنبوته، "إسرافيل" على الثابت عن الشعبي لا ميكائيل وإن جزم به ابن التين، قاله الشامي: كالحافظ. "فكان يتراءى" أي: يظهر، "له" بحيث يراه النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث سنين" بناء على الظاهر من الرؤية، وقيل: كان يسمعه ولا يراه فإن صح، فيحتمل أنه قبل النبوة وأنه بعدها، ولا يلزم من الترائي الرؤية بل مجرد الالتقاء نحو: فلما تراءت الفئتان، أي: التقت، "ويأتيه بالكلمة" أي: اللفظ الذي يخاطبه به "والشيء" الأفعال والآداب التي يعلمه إياها وهذا أولى من أن الشيء تفسيري، "ثم وكل" قرن "به جبريل" ليوحي إليه ما يؤمر بتبليغه له "فجاءه بالقرآن" والوحي هكذا بقية كلام الروض، وكان المصنف حذفه؛ لأنه لم يقع في المسند عن الشعبي، كما يأتي فعله اقتصر على القرآن؛ لأنه الذي انفرد به جبريل، ولأنه أعظم المعجزات، وظاهر هذا الأثر: أن جبريل لم يأته تلك المدة وقد ورد أنه لم ينقطع عنه، وجمع بأنه كان يأتيه فيها أحيانًا، وإسرافيل قرن به ليفعل معه كل ما يحتاج له، فقد اجتمعا في المجيء إليه فيا لكن أثر الشعبي هذا وإن صح إسناده إليه مرسل أو معضل وقد عارضه ما هو أصح منه؛ كما يأتي قريبًا. وقد أنكر الواقدي كون غير جبريل وكل به، قال الشامي: وهو المعتمد، انتهى. فلذا لم يذكره ابن القيم. "وأما قوله -أعني ابن القيم- السادسة ما أوحاه الله إليه فوق السماوات، يعني: ليلة المعراج" مع قوله: "السابعة: كلام الله بلا واسطة" فلا يظهر التغاير بينهما حتى يجعلهما مرتبتين فلا يخلو من إرادة أحد أمرين، "فإن أراد ما أوحاه إليه جبريل" أي: ما أوحاه الله إليه على لسانه "فهو داخل فيما تقدم" له من المراتب وذلك "لأنه إما أن يكون جبريل في تلك الحالة على صورته الأصلية، أو على صورة الآدمي وكلاهما قد تقدم ذكره" في كلامه، فلا يصح كونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وإن أراد وحي الله إليه بلا واسطة -وهو الظاهر- فهي الصورة التي بعدها. وأما قوله: وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة: وهي تكليم الله له كفاحًا بغير حجاب، فهذا على مذهب من يقول أنه عليه السلام رأى ربه تعالى، وهي مسألة خلاف يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. ويحتمل أن ابن القيم رحمه الله أراد بالمرتبة السادسة وحي جبريل، وغاير بينه وبين ما قبله باعتبار محل الأحياء، أي كونه فوق السماوات، بخلاف ما تقدم، فإن كان في ......................   مرتبة مستقلة. "وإن أراد وحي الله إليه بلا واسطة" ملك "وهو الظاهر" المتبادر من قوله: أوحاه الله إليه، "فهي الصورة التي بعدها" وهي السابعة، وأجاب شيخنا: بأنه أراد الشق الأول ويمنع دخوله فيما قبله لجواز أنه أوحاه إليه بصفة من صفات الملائكة وليست صفته الأصلية، فإنه كما هو متمكن من مجيئه على صورة بني آدم، متمكن من مجيئه على صورة ليست مألوفة، ولا هي صورته الأصلية. "وأما قوله: وزاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي: تكليم الله له كفاحًا بغير حجاب، فهذا" بناه "على مذهب من يقول: أنه عليه السلام رأى ربه تعالى" وأما على مذهب من قال: لم يره، فلا يصح عدها مرتبة زائدة لدخولها في السابعة، هذا تقريره. قال شيخنا: ولا يتعين لجواز أنهما حالتان، وإن قلنا: بمنع الرؤية بأن يكون سمع الكلام بمجرده لكن مرة على وجه على غاية القرب اللائق به من كونه بعد مجاوزة الرفرف، ومرة فيما دون ذلك، قال: ويجوز التغاير أيضًا. وإن قلنا: رآه بأن يكون كلمة مرة بدون واسطة ملك بلا رؤية، ومرة بعد مجاوزة الرفرف برؤية. "وهي مسألة خلاف" الراجح منه عند أكثر العلماء أنه رآه؛ كما قال النووي. "يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى" في المقصد الخامس، ويأتي فيه ذكر الحجب، وكم هي في نفس كلام المصنف، وأنها بفرض صحتها، إنما هي بالنسبة إلى المخلوقين، أما هو تعالى فلا يحجبه شيء، ولذا قال ابن عطية ونقله عنه السبكي: معنى: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أن يمع كلامه من غير أن يعرف له جهة ولا خبرًا، أي: من خفاء عن المتكلم لا يجده السامع ولا يتصور بذهنه، وليس كالحجاب الشاهد، انتهى. "ويحتمل" في وجه التغاير بين السادسة والسابعة، "أن ابن القيم رحمه الله أراد بالمرتبة" السادسة وحي جبريل" لا ما هو الظاهر منه، "و" لكنه "غاير بينه وبين ما قبله" من المراتب الخمسة، "باعتبار محل الأحياء، أي: كونه فوق السماوات بخلاف ما تقدم، فإن كان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 الأرض، ولا يقال، يلزم عليه أن تتعدد أقسام الوحي باعتبار البقعة التي جاء فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير ممكن، لأنا نقول: الوحي الحاصل في السماء باعتبار في تلك المشاهد من الغيب نوع غير نوع الأرض على اختلاف بقاعها. انتهى. قلت: ويزاد أيضًا: كلامه تعالى له في المنام، كما في حديث الزهري: "أتاني ربي في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى" .....................   الأرض" والأولى جواب شيخنا المار: أنه باعتبار الصفة، "ولا يقال: يلزم" على هذا الاحتمال "أن تتعدد أقسام" أي: أنواع "الوحي باعتبار البقعة" بضم الباء أكثر من فتحها: القطعة من الأرض وجمعها على الضم بقع كغرف، وعلى الفتح بقاع ككلاب وأول جنسية فيصدق بجميع الأماكن التي نزل عليها فيها، فلا يرد أن الأولى التعبير بالجمع، "التي جاء فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير ممكن" لكثرة نزوله عليه في أماكن لا تحصى، "لأنا نقول: الوحي الحاصل في السماء باعتبار ما في تلك المشاهد من الغيب نوع غير الأرض على اختلاف بقاعها، انتهى" كلام الولي العراقي، ومحصله: أن جميع بقاع الأرض نوع واحد، وما في السماء نوع واحد، فلم يلزم تعدد أنواعه باعتبار البقعة. "قلت: ويزاد أيضًا كلامه تعالى له في المنام" فقد عده في الروض منها، قال في الإتقان: وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة البقرة وبعض سورة الضحى، و {أَلَمْ نَشْرَحْ} ، واستدل على ذلك بأخبار. "كما في حديث الزهري" نسبة إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب القشي من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على إتقانه وإمامته بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أتاني" الليلة "ربي" تبارك وتعالى "في أحسن صورة" أي: صفة هي أحسن الصفات، وفي رواية: أحسبه قال: في المنام، "فقال: يا محمد، أتدري" وفي رواية: هل تدري، "فيم يختصم الملأ الأعلى" قال في النهاية: أي: فيم تتقاول الملائكة المقربون سؤالا وجوابًا فيما بينهم؟ وقال التوربشتي: المراد بالاختصام التقاول الذي كان بينهم في الكفارات والدرجات، شبه تقاولهم في ذلك وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين، انتهى. أي: واستعير له اسمه ثم اشتق منه يختصم، فهو استعارة تصريحية تبعية. وقال البيضاوي: هو إما عبارة عن تبادرهم إلى كتب تلك الأعمال والصعود بها إلى السماء، وإما عن تقاولهم في فضلها وشرفها وإنافتها على غيرها، وإما عن اغتباطهم الناس بتلك الفضائل لاختصاصهم بها وتفضيلهم على الملائكة بسببها مع تفاوتهم في الشهوات وتماديهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الحديث. ثم مرتبة أخرى، وهي العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام، لأنه اتفق على أنه عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد أصاب قطعًا، وكان معصومًا من الخطأ، وهذا خرق للعادة في حقه دون الأمة، وهو يفارق النفث في الروع من حيث حصوله بالاجتهاد، والنفث بدونه. ومرتبة أخرى: وهي مجيء جبريل في صورة رجل غير دحية ................   الجنايات، انتهى. "الحديث" تمامه: "قلت: لا، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد، هل تدري فيم يخاصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات. فالكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره، قال: صدقت يا محمد، ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان في خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وتتوب عليّ، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، والدرجات: إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام". رواه بتمامه عبد الرزاق وأحمد والترمذي والطبراني، عن ابن عباس مرفوعًا. والترمذي وابن مردويه والطبراني من حديث معاذ. "ثم مرتبة أخرى، وهي العلم الذي يلقيه الله تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام" على القول بأنه يجتهد، وإنما عد اجتهاده من مراتب الوحي؛ "لأنه اتفق على أنه عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد أصاب قطعًا" إما لظهور الحق له ابتداء، وإما بالتنبيه عليه إن فرض خلافه فلا يقدح فيه القول بجواز وقوع الخطأ في اجتهاده، لكن لا يقر عليه. "وكان معصومًا من الخطأ" فلا يقع منه أصلا على الصحيح، "وهذا خرق لعادة في حقه دون الأمة، وهو" أي: العلم الحاصل بالاجتهاد، "يفارق النفث" أي: ما يحصل به، "في الروع" فالمشبه به ليس نفي النفث؛ لأنه إلقاء الملك في الروع ولا يحسن تشبيه العلم به. "من حيث حصوله بالاجتهاد و" حصول "النفث" أي: أثره؛ لأنه الحاصل في الروع "بدونه" أي: الاجتهاد، "ومرتبة أخرى، وهي: مجيء جبريل في صورة رجل غير دحية" كما في الصحيحين عن أبي هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارز للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان ... الحديث، وفي رواية: فأتاه جبريل، وفي آخره: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم". ورواه مسلم أيضًا عن عمر، بلفظ: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 لأن دحية كان معروفًا عندهم، ذكره ابن المنير، وإن كانت داخلة في المرتبة الثالثة التي ذكرها ابن القيم. وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا، فذكرها، وغالبها -كما قال في فتح الباري- من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر والله أعلم.   شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فهذا صريح في أنه تمثل بصورة رجل غير دحية؛ "لأن دحية كان معروفًا عندهم، ذكره" أي: هذا النوع "ابن المنير" والأوفق ذكرها بالتأنيث؛ لقوله: مرتبة، ولقوله: "وإن كانت داخلة في المرتبة الثالثة التي ذكرها ابن القيم" لأنه صدرها بقوله: كان يتمثل له الملك رجلا، ولا ترد هذه على قول السبكي في تائيته: ولازمك الناموس إما بشكله ... وإما بنفث أو بحلية دحية لأن هذه الأحوال الثلاثة لما غلبت لم يعتد بغيرها، ولذا قال: ولازمك، على أنه أراد لازمك على الصورة التي تعلم منها حين المجيء أنه وحي، وأما هذه فلم يعلم أنه جبريل حتى ولي؛ كما دل عليه قوله في الصحيح: ثم أدبر، فقال: "ردوه". فلم يروا شيئًا، وصرح به في حديث أبي عامر، بلفظ: "والذي نفس محمد بيده، ما جاءني قط إلا وأنا أعرفه إلا أن تكون هذه المرة" وفي رواية سليمان التيمي وابن حبان: "والذي نفسي بيده، ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفت به حتى ولى". "وذكر الحليمي" بالتكبير نسبة إلى جد أبيه، فإنه العلامة البارع المحدث القاضي أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم الشافعي الفقيه صاحب اليد الطولى في العلم والأدب المفيدة، مات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعمائة. "أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا، فذكرها وغالبها كما قال في فتح الباري: من صفات حامل الوحي، ومجموعها" أي: جملتها، "ويدخل فيما ذكر، والله أعلم" ومنها ما في الإتقان: أن الملك يأتيه في النوم، وهل نزل عليه فيه قرآن أم لا؟ والأشبه أنه نزل كله يقظة، وفهم فاهمون من خبر مسلم وأبي داود والنسائي، عن أنس: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ غفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: "أنزل علي آنفًا سورة"، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] إلى آخرها، إن الكوثر نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي. وأجاب الرافعي: بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة في اليقظة أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسرها لهم، أو الإغفاءة ليست نومًا بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي، قال صاحب الإتقان: والأخير أصح من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وذكر ابن المنير أن الحال كان يختلف في الوحي باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد وبشارة نزل الملك بصورة الآدمي، وخاطبه من غير كد، وإن نزل بوعيد ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس. انتهى.   الأول؛ لأن قوله: "أنزل علي آنفًا" يدفع كونها نزلت قبل ذلك، انتهى. ووهم من ذكر هذا عند قوله الماهر كلامه تعالى له في المنام؛ لأنه في الإتقان إنما ذكره في مجيء الملك منامًا، وما ذكر في تلك المرتبة إلا ما قدمته عنه، ومنها: تصوره بصورة فحل من الإبل فاتحًا فاه ليلتقم أبا جهل لما أراد أن يلقي على النبي صلى الله عليه وسلم حجرًا كبيرًا وهو يصلي، وأخبر عليه السلام أنه جبريل، وما اقتضى منه دين الإراشي الذي مطله بثمن إبله وشكى لقريش فدلوه على المصطفى استهزاء لعلمهم بشدة عداوته، فلما أتاه قال: لا تبرح حتى يأخذ حقه، فعيره قريش؛ فقال: رأيت فحلا من الإبل لو امتنعت لأكلني، ذكرهما ابن إسحاق. "وذكر" القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور المعروف بأنه "ابن المنير" الجروي الجذامي الإسكندري قاضيها وخطيبها المصقع الإمام العلامة البارع الفقيه الأصولي المفسر المتبحر في العلوم، ذو التصانيف الحسنة المفيدة والباع الطويل في التفسير والقراءات والبلاغة والإنشاء، توفي أول ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وستمائة عن ثلاث وستين سنة، قال العز بن عبد السلام: الديار المصرية تفتخر برجلين في طرفيها ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية. "أن الحال كان يختلف في الوحي باختلاف مقتضاه، فإن نزل بوعد" خاص بالخير حيث أطلق كالعدة؛ كما قال الفراء ولذا عطف عليه، "وبشارة" بكسر الباء وتضم مختصة بالخير، حيث أطلقت أيضًا لبيان المراد به، ولعله أراد بها ما قابل التخويف بالعذاب، فشمل القصص والأحكام وغيرها مما لم يصرح فيه بالعذاب، على أن القصص باعتبار ما سيقت له، فيها إيماء بأن من لم يؤمن ربما يصيبه ما أصاب من فيهم القصص. "نزل الملك بصورة الآدمي، وخاطبه من غير كد" إتعاب في تلقي الوحي، "وإن نزل بوعيد" بشر لاختصاصه به كالإبعاد، "ونذارة كان حينئذ كصلصلة الجرس" وظاهره: أنه لا فرق في انقسام ما نزل به إلى القسمين بين القرآن وغيره، ولعله أشار إلى أن هذا مراد ابن المنير، وإلا فالذي في كلامه تقسيم ما جاء به من القرآن إلى هذين ونظر فيه الحافظ بأن الظاهر: أنه لا يختص بالقرآن، ولما ذكر مراتب الوحي ناسب أن يذكر عدد مراته، وذكر غير المصطفى بيانًا لزيادة كرامته على ربه، وهذا أولى من جعله استطرادًا ولوقوعه في كلام الناقل عنه، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وقد ذكر ابن عادل، في تفسيره: أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات. كذا قال رحمه الله. وقد روي: أن جبريل بدى له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك: أنت رسولي إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله ......................................   "وقد ذكر ابن عادل في تفسيره أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرين ألف مرة، ونزل على آدم اثنتي عشرة مرة، ونزل على إدريس أربع مرات، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى إبراهيم اثنتي وأربعين مرة" وفي كلام الحافظ عثمان الديمي أربعين فقط، "وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات" قال بعضهم: ثلاث مرات في صغره، وسبع مرات في كبره. وزاد الحافظ الديمي، كما نقله عنه تلميذه الشمس التتائي في شرح الرسالة: وعلى يعقوب أربعًا، وعلى أيوب ثلاثًا. وظاهره، كابن عادل: أنه لم يبلغهما عدد في غيرهم، وظاهرهما أيضًا: أن نزوله على المذكورين يقظة، وفي الإتقان عن بعضهم: أن الوحي إلى جميعهم منامًا، إلا أولي العزم المصطفى ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، فإنه كان يأتيهم يقظة ومنامًا. وقال بعض: للملك صورتان: حقيقية ومثالية، فالحقيقية لم تقع إلا للمصطفى، والمثالية هي الواقعة لبقية الأنبياء، بل شاركهم فيها بعض الصحابة، انتهى. "كذا قال، رحمه الله" تبرأ منه؛ لأنه لم يسنده ومثله يحتاج لتوقيف. "وقد روى" مرضه؛ لأن له طرقًا لا تخلو من مقال لكنها متعددة يحصل باجتماعها القوة، واعتضاد بعضها ببضع فيفيد أن للحديث أصلا. "أن جبريل بدا" أي: ظهر، وفي نسخة: تبدى، والأولى أوفق باللغة. "له صلى الله عليه وسلم" وهو بأعلى مكة؛ كما عند ابن إسحاق، أي: بجبل حراء؛ كما في الخميس، وهو يفسر قول زيد بن حارثة عند ابن ماجه وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه أتاه جبريل فعلمه الوضوء، "في أحسن صورة وأطيب رائحة، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك" بضم الياء والهمزة: من أقرأ، "السلام، ويقول لك: أنت رسولي إلى الجن والإنس" لعله اقتصر عليهما؛ لقوله: "فادعهم إلى قول لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، فلا ينافي أنه مبعوث إلى الملائكة أيضًا على الأصح عند جمع محققين، منهم: البارزي وابن حزم والسبكي، أو لاختصاص الدعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل ثم أمره أن يتوضأ وقام جبريل يصلي وأمره أن يصلي معه فعلمه الوضوء والصلاة ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشي عليها من الفرح ثم أمرها فتوضأت وصلى بها كما صلى به جبريل فكان ذلك أول فرضها ركعتين ثم إن الله تعالى أقرها في السفر كذلك وأتمها في الحضر.   في الابتداء بهما، ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في الخصائص. "ثم ضرب برجله الأرض" من إطلاق الكل على الجزء، بدليل رواية ابن إسحاق وغيره، فهمز بعقبه بفتح السين وكسر القاف: مؤخر القدم. "فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبريل" زاد ابن إسحاق: ورسول الله ينظر إليه ليريه كيف الطهور إلى الصلاة, "ثم أمره أن يتوضأ" كما رآه يتوضأ، وروى أحمد وابن ماجه والحارث وغيرهم، عن أسامة بن زيد عن أبيه: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه فأراه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، "وقام جبريل يصلي وأمره أن يصلي معه" زاد في رواية أبي نعيم عن عائشة: فصلى ركعتين نحو الكعبة، "فعلمه الوضوء والصلاة، ثم عرج إلى السماء ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بحجر ولا مدر" محركة جمع مدرة: قطع الطين اليابس أو العلك الذي لا رمل فيه والمدن والحضر؛ كما في القاموس. "ولا شجرة، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله" يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يرد عليها مكافأة وإن لم يكن واجبًا، قال الدلجي: ورد بأن السلام شرع للتحية وليست من أهلها وبأنه يتوقف على بقل وفيه نظر، فإن المكافأة تكون ولو لغير الأهل، وهو لم يجزم به حتى طالب بنقل إنما أبداه احتمالا وهو كاف في مثل هذا. وسار صلى الله عليه وسلم "حتى أتى خديجة، فأخبرها فغشي عليها من الفرح" زاد في رواية: ثم أخذ بيدها وأتى بها إلى العين فتوضأ ليريها الوضوء، "ثم أمرها فتوضأت وصلى بها كما صلى به جبريل" وزاد في رواية: وكانت أول من صلى. وفي رواية أبي نعيم، فقالت: أرني كيف أراك، فأراها فتوضأت ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله، "فكان ذلك أول فرضها" أي الصلاة من حيث هي لا الخمس؛ لأن فرضها إنما كان صبح الإسراء، وهذه وقعت عقب الوحي؛ كما مر. والمراد: أول تقديرها، "ركعتين" فلا يخالف ما يجيء عن النووي من أنه لم يفرض قبل الخمس إلا قيام الليل، "ثم إن الله تعالى أقرها" أي: شرعها على هيئة ما كان يصليها قبل "في السفر كذلك" ركعتين، "وأتمها في الحضر" أربعًا وبهذا التقرير اندفع الإشكال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وقال مقاتل: كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] . قال في فتح الباري: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعًا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف: هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا؟ فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [طه: 130] . انتهى. وقال النووي: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد .............   "وقال مقاتل" بن سلميان البلخي المفسر: قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة. وقال وكيع: كان كذابًا. وقال النسائي: يضع الحديث، مات سنة خمس ومائة، وقيل بعدها. "كانت الصلاة أول فرضها ركعتين بالغداة" وهي أول النهار، والمتبادر أنه كان يصليها قبل طلوع الشمس؛ كما يأتي عن الفتح. "وركعتين بالعشي" قبل غروبها، ويحتمل أنه كان يصليها قبل طلوع الشمس؛ كما يأتي عن الفتح. "وركعتين بالعشي" قبل غروبها، ويحتمل أنه كان يقرأ فيهما بما أتاه من سورة {اقْرَأ} [العلق: 1] ، حتى نزلت افاتحة، "لقوله تعالى: {وَسَبِّحَ} [غافر: 55] صل ملتبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] ، قيل: يرده ما جاء أن تاجرًا قدم الحج في الجاهلية، فأتى العباس ليبتاع منه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة وعليًا خرجوا من خباء، وصلى بهم حين زالت الشمس، وسأل التاجر العباس: فأخبره بهم وإن هذا الفعل صلاة مشروعة لهم ولا رد فيه، فقد قيل: العشي ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه قيل للظهر والعصر: صلاتا العشي، وقيل: هو آخر النهار، وقيل: من الزوال إلى الصباح، وقيل: من الغرب إلى العتمة. "قال في فتح الباري: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة، أم لا؟ فقيل: إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والحجة فيه" أي: الدليل له، "قوله تعالى: {وَسَبِّحْ} " [طه: 130] ، أي: صل حال كونك ملتبسًا {بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ، "انتهى". "وقال النووي" الإمام الفقيه الحافظ الأوحد القدوة المتقن البارع الورع الزاهد الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر التارك ملاذ الدنيا حتى الزواج المهاب عند الملوك شيخ الإسلام علم الأولياء: محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن سرى المبارك له في علمه وتصانيفه لحسن قصده، المتوفى في رابع عشري رجب سنة ست وسبعين وستمائة عن ست وأربعين سنة، "أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد" لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} ، [المدثر: 1، 2] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 ثم فرض الله تعالى من قيام الليل ما ذكره في أول سورة المزمل، ثم نسخه بما في آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأما ما ذكره في هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به فيدل على أن فريضة الوضوء كانت قبل الإسراء. ثم فتر الوحي فترة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وأحزنه. وفترة الوحي: عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده عليه السلام من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود.   "ثم فرض الله تعالى من قيام الليل" عليه وعلى أمته، "ما ذكره في أول سورة المزمل" بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1، 2] ، نصفه أو أنقص منه قليلا أو زد عليه، "ثم نسخه بما في آخرها" من قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] ، إذ المراد: صلوا ما تيسر لكم، "ثم نسخه بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة" فقد حكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي: أن قيام الليل كان واجبًا أول الإسلام عليه وعلى أمته، ثم نسخ عنه بما في آخر سورة المزمل وعن أمته بالصلوات الخمس، قال النووي: وهو الأصح، أو الصحيح. وفي مسلم عن عائشة ما يدل عليه، انتهى. لكن الذي عليه الجمهور وأكثر أصحاب الشافعي وغيرهم: أنه لم ينسخ؛ لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] ، أي: عبادة زائدة في فرائضك، نعم نسخ الوجوب في حق الأمة وبقي الندب لأحاديث كثيرة. "وأما ما ذكره في هذه الرواية من أن جبريل علمه الوضوء وأمره به، فيدل على أن فرضية الوضوء كانت قبل الإسراء" قال السهيلي: فالوضوء على هذا الحديث مكي بالفرض مدني بالتلاوة؛ لأن آية الوضوء مدنية، وإنما قالت عائشة: فأنزل الله آية التيمم، ولم تقل آية الوضوء وهي هي؛ لأن الوضوء كان مفروضًا قبل، غير أنه لم يكن قرآنًا يتلى حتى نزلت آية المائدة، انتهى. ثم عقب المصنف هذا المبحث بفترة الوحي لبيان أن الوضوء والصلاة كانا عقب الوحي قبل الفترة، خلافًا لمن توهم أنهما بعد نزول المدثر، فقال: "ثم فتر الوحي فترة حتى شق عليه صلى الله عليه وسلم وأحزنه" خوفًا أن يكون لتقصير منه، أو لما أخرجه من تكذيب من بلغه؛ كما مر عن عياض. "وفترة الوحي كما قال في الفتح "عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب عنه ما كان يجده عليه السلام من الروع" بفتح الراء: الفزع، "وليحصل له التشوق إلى العود" فقد روى البخاري من طريق معمر ما يدل على ذلك، انتهى كلام الفتح. يعني: البلاغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين، كما جزم به ابن إسحاق وفي تاريخ الإمام أحمد ويعقوب بن سفيان عن الشعبي: أنزل عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وكذا رواه ابن سعد والبيهقي.   المذكور آخر الحديث السابق. "وكانت مدة فترة الوحي ثلاث سنين" قال السهيلي: جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها سنتان ونصف، وفي رواية أخرى: أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث بمكة عشرًا حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة أضافهما، قال في الفتح: ولا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة كانت أيامًا، انتهى. وقال مغلطاي في الزهر: يخدش فيه ما في تفسير ابن عباس إنها كانت أربعين يومًا. وفي تفسير ابن الجوزي ومعاني الزجاج: خمسة عشر. وفي تفسير مقاتل: ثلاثة أيام، ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه، لا ما ذكره السهيلي، وجنح لصحته، انتهى. وعلى فرض الصحة جمع بأنها كانت سنتين ونصفًا، فمن قال: ثلاثة جبر الكسر، ومن قال: سنتان ألغاه، والمراد بأربعين فما دونها: إن مدة الانقطاع بحيث لا يأتيه فيها إسرافيل ولا جبريل اختلفت؛ فأقلها ثلاثة أيام وأكثرها أربعون، وفي بعضها: خمسة عشر، وبعضها: اثنا عشر. وقوله: "كما جزم به" أي: بأنها ثلاث سنين، "ابن إسحاق" مخالف لقول العيون تبعًا للروض وفترة الوحي لم يذكر لها ابن إسحاق مدة معينة، انتهى. وهو الصواب، وتبع المصنف في ذلك الحافظ كما تبعه السيوطي ورد على الثلاثة جميعًا بالصراحة الشامي، فقال: هذا وهم بلا شك وعزو ذلك بالجزم لابن إسحاق أشد، انتهى. "و" دليل كونها ثلاث سنين ما "في تاريخ الإمام أحمد" بن حنبل "ويعقوب بن سفيان" الحافظ "عن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي، أنه قال: "أنزل عليه" صلى الله عليه سلم "النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، وكان يعلمه الكلمة" اللفظ الذي يخاطبه به، "والشيء" لأفعال الآداب التي يعلمها له، "ولم ينزل عليه القرآن على لسانه" لأن إنزال الكتب الإلهية من خصائص جبريل. "فما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه السلام، فنزل عليه القرآن" وغيره "على لسانه" ومر أنه خص القرآن بالذكر لاختصاص جبريل به، "عشرين سنة، وكذا رواه" أي: أثر الشعبي "ابن سعد والبيهقي" وأثر الشعبي هذا وإن صح إسناده إليه مرسل أو معضل وكلاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 قد تبين أن نبوته عليه الصلاة والسلام كانت متقدمة على إرساله، كما قال أبو عمر ..................   من أقسام الضعيف وقد أنكره الواقدي، وقال: لم يكرم به من الملائكة إلا جبريل، قال الشامي: وهو المعتمد، انتهى. وتوقف الحافظ فيه بأن المثبت مقدم على النافي إن لم يصحبه دليل نفيه، وجوابه قول الحافظ السيوطي: قد ورد ما يوهي أثر الشعبي، وهو ما أخرجه مسلم والنسائي والحاكم عن أبي عباس، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نقيضًا من السماء من فوق فرفع جبريل طرفه إلى السماء، فقال: يا محمد! هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. قال جماعة من العلماء: هذا الملك إسرافيل، وأخرج الطبراني عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربي إليك، أمرني أن أخبرك إن شئت نبيًا عبدًا وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلي أن تواضع، فلو أني قلت: نبيًا ملكًا لسارت معي الجبال ذهبًا"، قال: وهاتان القضيتان بعد ابتداء الوحي بسنين كما يعرف من سائر طرق الأحاديث وهما ظاهرتان في أن إسرافيل لم ينزل إليه قبل ذلك، فكيف يصح قول الشعبي أنه اتاه في ابتداء الوحي؟ انتهى. وفي شرح البخاري للمصنف تبعًا للفتح قول الشعبي: معارض بما روي عن ابن عباس أن الفترة المذكورة كانت أيامًا قلائل فلا يحتج بمرسله لا سيما مع ما عارضه، انتهى. فلم تكن الفترة إلا أيامًا؛ كما قال مغلطاي: أنه الأشبه وصريح قوله في حديث البخاري المار: وفتر الوحي فترة حتى حزن حزنًا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل ... إلخ، وورد أنه لم ينقطع عنه كما مر، أي إلا أيامًا على أنه لو صح أن إسرافيل أتاه في الابتداء لم يمنع مجيء جبريل فكانا يختلفان في المجيء إليه زيادة إكرام له من ربه، وقد صرح في فتح الباري بأنه ليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين بين نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن فقط. ا. هـ. "فقد تبين" من جملة ما ساقه "أن نبوته عليه الصلاة والسلام كانت متقدمة على إرساله" لأن نزول {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، إنما كان بعد الفترة الواقعة بعد النبوة، "كما قال أبو عمر" بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وغيره، كما حكاه أبو أسامة بن النقاش. وكان في نزول سورة {اقْرَأْ} نبوته، وفي سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعًا متأخر عن الأول، لأنه لما كانت سورة {اقْرَأْ} متضمنة لذكر أطوار الآدمي: من الخلق والتعليم والإفهام، ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعي، وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك في معرض تعريف عباده بما أسداه إليهم من نعمة البيان الفهمي والنطقي والخطي، ثم يأمره سبحانه وتعالى أن يقوم فينذر عباده.   عبد البر "وغيره؛ كما حكاه أبو أسامة بن النقاش، وكان" الأول الفاء؛ لأنه بيان لسبق نبوته، "في نزول سورة {اقْرَأْ} نبوته، وفي سورة المدثر إرساله بالنذارة والبشارة والتشريع، وهذا قطعًا متأخر عن الأول" فيفيد المدعي، وهو سبق النبوة؛ "لأنه لما كانت سورة اقرأ متضمنة لذكر أطوار" جمع طور، أي: أحوال، "الآدمي من الخلق والتعليم والإفهام ناسب أن تكون أول سورة أنزلت، وهذا هو الترتيب الطبيعي وهو أن يذكر سبحانه وتعالى ما أسداه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام من العلم والفهم والحكمة والنبوة، ويمن عليه بذلك في معرض" بفتح الميم وكسر الراء، أي: موضع ظهوره "تعريف عباده بما أسداه" أوصله "إليهم من نعمة البيان الفهمي والنطقي والخطي، ثم يأمره سبحانه وتعالى أن يقوم فينذر عباده" فلهذه النكتة كانت النبوة سابقة، وقيل: هما متقارنان. وذكر شيخنا فيما مر عن بعض شيوخه أنه الصحيح، قال: ويؤيده أن الوضوء والصلاة كانا أول الوحي مع نزول {اقْرَأْ} [العلق: 1] ، فإن مفاده أنه لم يأمر خديجة وعليًا بهما إلا بعد الوحي إليه بذلك، وهذا عين الرسالة وتأخر إظهارها لا يضر؛ لجواز أنه أمر بالتبليغ حالا لمن علم ابنه وعدم إبائه؛ كما كان يصلي مستخفيًا، "والله أعلم" بحقيقة ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 " ذكر أول من آمن بالله ورسوله ": وكان أول من آمن بالله وصدق صديقة النساء خديجة، فقامت بأعباء الصديقية. قال لها عليه الصلاة والسلام: $"خشيت على نفسي". فقالت له: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا. ثم استدلت بما فيه من الصفات والأخلاق والشيم على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا.   ذكر أول من آمن بالله ورسوله: "وكان أول" بالنصب "من آمن بالله وصدق" عطف تفسير، فالإيمان التصديق، "صديقة" بالرفع اسم كان ويجوز عكسه، الأول أولى إذ المجهول الأولية وأضافها لقوله: "النساء" أي: الدائمة الصدق منهن مع اختصاص الصديقة بالنساء دفعًا لتوهم أنها صديقة الأمة فيوهم تميزها على أبي بكر، "خديجة" قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي والأموي وغيرهم، قال النووي: عند جماعة من المحققين، وحكى الثعلبي وابن عبد البر والسهيلي عليه الاتفاق. وقال ابن الأثير؛ لم يتقدمها رجل ولا امرأة بإجماع المسلمين، "فقامت بأعباء" أي: بالمشاق التي يطلب تحملها وفاء بحقوق "الصديقية" والأعباء في الأصل: الثقل، فشبه الأحوال بها مبالغة ودليل قيامها بتلك الحقوق أنه "قال لها عليه الصلاة واللام" لما رجع يرجف فؤاده بعد مجيء جبريل له: "خشيت على نفسي". فقالت له: أبشر. بهمزة قطع "فوالله لا يخزيك الله أبدًا، ثم استدلت" على ذلك "بما فيه من الصفات" الحميدة كقرى الضيف وحمل الكل، "والأخلاق" الزكية المرضية، أي: الملكات الحاملة على الأفعال الحسنة، "والشيم" بمعنى الأخلاق، فالعطف مساوٍ وعطفهما على الصفات عطف سبب على مسبب، "على أن من كان كذلك لا يخزى أبدًا" وهو من بديع علمها وقوة عارضتها. قال ابن إسحاق: وآزرته على أمره فخفف الله بذلك عنه، فكان لا يسمع شيئًا يكرهه من رد وتكذيب إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، ولهذا السبق وحسن المعروف جزاها الله سبحانه فبعث جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بغار حراء كما في رواية الطبراني، وقال له: "اقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب"؛ كما في الصحيح. وفي الطبراني: فقالت هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام. وفي النسائي: وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته، وهذا من وفور رفقها حيث جعلت مكان رد السلام على الله الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق به وما يليق بغيره. قال ابن هشام: والقصب هنا اللؤلؤ المجوف، وأبدى السهيلي لنفي الصخب والنصب لطيفة هي أنه صلى الله عليه وسلم ما عاد إلى الإيمان أجابت طوعًا ولم تحوجه لرفع صوت ولا منازعة ولا نصب، بل أزالت عنه كل تعب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير، فناسب أن تكون منزلتها التي بشرها بها وبها بالصفة المقابلة لفعلها وصورة حالها رضي الله عنها، واقرأ السلام من ربها خصوصية لم تكن لسواها ولم تسؤه صلى الله عليه وسلم قط، ولم تغاضبه وجازاها فلم يتزوج عليها مدة حياتها وبلغت منه ما لم تبلغه امرأة قط من زوجاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وكان أول ذكر آمن بعدها صديق الأمة، وأسبقها إلى الإسلام أبو بكر، فآزره في الله. وعن ابن عباس أنه أول الناس إسلامًا، واستشهد بقول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوى من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي .............   "وكان أول" بالنصب والرفع على ما مر رجل "ذكر آمن بعدها صديق الأمة" لسبقه بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم، وروى الطبراني برجال ثقات: أن عليًا كان يحلف بالله أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق وحكمه الرفع فلا مدخل فيه للرأي، وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، "وأسبقها" أي: الأمة بعد خديجة "إلى الإسلام أبو بكر" بدل أو عطف بيان لصديق على أنه اسم كان، وعلى أنه خبرها فهو خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان أبي قحافة على المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، قاله الفتح. وفي جامع الأصول يقال: كان اسمه في الجاهلية عبد رب الكعبة، فغيره صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله، وينافيه ما روى ابن عساكر عن عائشة أن اسمه الذي سماه به أهله عبد الله ولكن غلب عليه اسم عتيق، إلا أن يكون سمي بهما حين الولادة، لكن اشتهر في الجاهلية بذاك وفي الإسلام بعبد الله، فمعنى سماه النبي صلى الله عليه وسلم قصر اسمه على عبد الله. قال في الفتح: وكان يسمى أيضًا عتيقًا واختلف في أنه اسم أصلي له، أو لأنه ليس في نسبة ما يعاب به أو لقدمه في الخبر ولسبقه إلى الإسلام، أو لحسنه، أو لأن أمه استقبلت به البيت، وقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت؛ لأنه كان لا يعيش لها ولد، أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار؛ كما في حديث عائشة عند الترمذي، وصححه ابن حبان، انتهى. قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر لابتكاره الخصال الحميدة، انتهى. ولم أقف على من كناه به هل المصطفى أو غيره. "فآزره" بالهمز، أي: واساه وعاونه، وبالواو شاذ؛ كما في القاموس. "في" نصر دين "الله" بنفسه وماله، "وعن ابن عباس: أنه أول الناس إسلامًا، واستشهد" ابن عباس، وفي لفظ: وتمثل، "يقول حسان بن ثابت" الأنصاري "إذا تذكرت شجوًا" أي: همًا وحزنًا يريد ما كابده أبو بكر، فأطلق عليه شجوًا لاقتضائه ذلك، أو أراد حزنه مما حرى على المصطفى "من أخي ثقة" أي: صديق أو صاحب ائتمان، والمعنى: إذا تذكرت من يقتدي به في تحمل المشاق القلبية والبدنية لأجل صديقه، "فاذكر أخاك أبو بكر بما فعلا" صلة اذكر، وما مصدرية، أي: تذكر بفعله الجميل "خير البرية" بالنصب بدل من "أبا بكر" أو صفة له "أتقاها" صفة بعد صفة والعاطف مقدم، "وأعدلها بعد النبي" تنازعه خير البرية وما عطف عليه وأل للعهد وهو المصطفى، فالمراد بالبرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ........................... ... ......... وأوفاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس قدمًا صدق الرسلا رواه أبو عمر.   أمته، وبالبعدية في رتبة الفضل لا الزمانية، فإن خيريته وما بعدها كان ثابتًا في حياته صلى الله عليه وسلم، هكذا نبهنا عليه شيخنا العلامة البابلي لما قرأ قول البخاري باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو أل للاستغراق فالمراد بها من عدا الأنبياء. "وأوفاها" اسم تفضيل من وفى بالعهد، أي: أحفظها "بما حملا" أي: بالذي حمله عنه عليه السلام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بحقوق الله وآدابه، وعطف على خير، قوله: "والثاني" للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار و"التالي" التابع له باذلا نفسه مفارقًا أهله وماله ورئاسته في طاعة الله ورسوله وملازمته ومعاديًا للناس فيه جاعلا نفسه وقاية عنه، وغير ذلك من سيره الحميدة التي لا تحصى، بحيث قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر"، وقال: "ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر، واساني بنفسه وماله"، رواه الطبراني. وقال: "إن أعظم الناس علينا منًّا أبو بكر زوني ابنته وواساني بنفسه" رواه ابن عساكر. وقال الشعبي: عاتب الله أهل الأرض جميعًا في هذه الآية، أي آية: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} [التوبة: 40] ، غير أبي بكر، وقد جوزي بصحبة الغار الصحبة على الحوض؛ كما في حديث ابن عمر رفعه: "أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار" فيا نعم الجزاء "المحمود مشهده" بفتح الهاء، أي: الممدوح مكان حضوره من الناس؛ لأنه كما قال ابن إسحاق: كان رجلا مؤلفًا لقومه محببًا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بها، وبما كان فيها من خير وشر، وكان تاجرًا ذا خلق حسن ومعروف، وكان رجال من قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعائه جماعة عدهم كما يأتي. "وأول الناس قدمًا" بكسر القاف وسكون الدال تخفيفًا، وأصلها الفتح، أي: قديمًا، أو بضم القاف وسكون الدال، أي: تقدمًا، وهو معمول لقوله: "صدق الرسلا" بالجمع؛ لأن تصديقه تصديق لجميعهم؛ كما في نحو: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، وفي نسخة منهم بذل قدمًا، أي: حال كونه معدودًا منهم لمهماتهم فصرح بأنه أول من بادر لتصديق المرسلين، وهو محل الاستشهاد من الأبيات والألف في آخر كل منها للإطلاق، وهو إشباع حركة الروي فيتولد منها حرف مجانس لها. "رواه أبو عمر" بن عبد البر، وكذا الطبراني في الكبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وممن وافق ابن عباس وحسانا على أن الصديق أول الناس إسلامًا، أسماء بنت أبي بكر، والنخعي وابن الماجشون ومحمد بن المنكدر والأخنس.   وروى الترمذي عن أبي سعيد، قال: أبو بكر: ألست أول من أسلم "وممن وافق ابن عباس وحسانًا" بالصرف ومنعه على أنه من الحسن أو الحسن، قال الجوهري، لكن قال ابن مالك: المسموع فيه منع الصرف. "على أن الصديق أول الناس إسلامًا أسماء بنت أبي بكر" ذات النطاقين زوج الزبير المتوفاة بمكة سنة ثلاث وسبعين، وقد بلغت المائة ولم يسقط لها سن، ولم يتغير لها عقل. "و" إبراهيم بن يزيد بن قيس "النخعي" بفتح النون والخاء المعجمة نسبة إلى النخع قبيلة الكوفي الفقيه الحافظ التابعي الوسط المتوفى وهو مختف من الحجاج سنة ست وتسعين، "وابن الماجشون" بفتح الجيم وكسرها وضم الشين، لفظ: فارسي لقب به؛ لأنه تعلق من الفارسية بكلمة: إذ لقي الرجل يقول: شوني شوني، قاله الإمام أحمد، أو لأنه لما نزل المدينة كان يلقى الناس ويقول: جوني جوني، قاله ابن أبي خيثمة أو لحمرة وجنتيه، سمي بالفارسية المايكون فعربه أهل المدينة بذلك، قاله الحربي. وقال الغساني: هو بالفارسية الماهكون فعرب، ومعناه: المورود، ويقال: الأبيض الأحمر. وقال الدارقطني: لحمرة وجهه، ويقال: أن سكينة بالتصغير بنت الحسين بن علي لقبته بذلك، وقال البخاري في تاريخه الأوسط: الماجشون هو يعقوب بن أبي سلمة أخو عبد الله، فجرى على بنيه وبني أخيه. "ومحمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي التابعي الصغير كثير الحديث عن أبيه، وجابر وابن عمر وابن عباس وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة وخلق، وعنه الزهري ومالك وأبو حنيفة وشعبة والسفيانان، قال ابن عيينة: كان من معادن الصدق ويجتمع إليه الصالحون، مات سنة ثلاثين، وقيل: إحدى وثلاثين ومائة. "والأخنس" بفتح الهمزة وخاء معجمة ساكنة ونون مفتوحة وسين مهملة، ابن شريق بفتح المعجمة وكسر الراء وتحتية وقاف الثقفي، واسم الأخنس أبي حليف بني زهرة صحابي من مسلمة الفتح، وشهد حنينًا وأعطي مع المؤلفة وتوفي أول خلافة عمر، ذكره الطبري وابن شاهين هذا على ما في النسخ. والذي عند البغوي بدله والشعبي، وكذا رواه عنه في المستدرك ووقوع إسلام الصديق عقب خديجة؛ لأنه كان يتوقع ظهور نبوته عليه السلام لما سمعه من ورقة، وكان يومًا عند حكيم بن حزام إذ جاءت مولاة له، فقالت: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 .............................................   مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم. وروى ابن إسحاق بلاغًا: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر ما عكم عنه حين ذكرت له، قال ابن هشام قوله: ما عكم، أي: تلبث. قال في الروض: وكان من أسباب توفيق الله له أنه رأى القمر نزل مكة ثم تفرق على جميع منازلها وبيوتها فدخل في كل بيت منه شعبة، ثم كان جمعه في حجرة فقصها على بعض الكتابيين فعبرها له بأن النبي المنتظر الذي قد أطل زمانه يتبعه ويكون أسعد الناس به، فلما دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام لم يتوقف. وذكر ابن الأثير في أسد الغابة وابن ظفر في البشر عن ابن مسعود: أن أبا بكر خرج إلى اليمن قبل البعثة، قال: فنزلت على شيخ قد قرأ الكتب وعلم من علم الناس كثيرًا, فقال: أحسبك حرميًا؟ قلت: نعم، وأحسبك قرشيًا؟ قلت: نعم، وأحسبك تيميًا؟ قلت: نعم، قال: بقيت لي فيك واحدة، قلت: وما هي؟ قال: تكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل، أو تخبرني لم ذاك، قال: أجد في العلم الصحيح الصادق أن نبيًا يبعث في الحرم يعاونه على أمره فتى وكهل، أما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة، وما عليك إلا أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إلا ما خفي علي، فكشفت له بطني فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو ورب الكعبة! وإني متقدم إليك في أمره، قلت: وما هو؟ قال: إياك والميل عن الهدى وتمسك بالطريق الوسطى، وخف الله فيما خولك وأطاك فقضيت باليمن أربي، ثم أتيت الشيخ لأودعه، فقال: أحامل أنت مني أبياتًا إلى ذلك النبي؟ قلت: نعم، فذكر أبياتًا، فقدمت مكة، وقد بعث صلى الله عليه وسلم فجاءني صناديد قريش، فقلت: نابكم أو ظهر فيكم أمر؟ قالوا: أعظم الخطب يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا أنت ما انتظرنا به والكفاية فيك، فصرفتهم على أحسن شيء وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرعت عليه الباب فخرج إلي، فقلت: يا محمد! قدحت منازل أهلك وتركت دين آبائك؟ فقال: "إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله"، قلت: وما دليلك؟ قال: "الشيخ الذي لقيته باليمن"، قلت: وكم لقيت من شيخ باليمن، قال: "الذي أفادك الأبيات"، قلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: "الملك المعظم الذي يأتي الأنبياء قبلي" قلت: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فانصرفت وقد سر صلى الله عليه وسلم بإسلامي. وفي سياقه نكارة، فإن كان محفوظًا أمكن الجمع بأن سفره لليمن قبل البعثة؛ كما صرح به ورجوعه عقب إسلام خديجة، واجتمع بحكيم وسمع الخبر عنده ولقيه الصناديد، وقالوا له ما ذكر، فأتاه صلى الله عليه وسلم وآمن به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وقيل: إن علي بن أبي طالب أسلم بعد خديجة، وكان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يكون أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ويكون علي أول صبي أسلم، لأنه كان صبيًا لم يدرك، ولذا قال:   بعد حصول الأمرين. وأما الجمع بأنه آمن به أولا ثم سافر إلى اليمن ولم يظهر إسلامه لقومه، فلما رجع وأخبروه بذلك أتى المصطفى وأظهر إسلامه بين يديه ثنيًا، ففاسد لتصريحه بأن سفره قبل البعثة، ولأنه لو كان آمن ما خاشنه في الخطاب، بقوله: يا محمد! قدحت ... إلخ، على أنه مما لا يليق التفوه به في هذا المقام، كيف وقد صرح غير واحد، منهم ابن إسحاق بأنه لما أسلم أظهر إسلامه، ودعا إلى الله ورسوله. "وقيل: إن علي بن أبي طالب" الهاشمي "أسلم بعد خديجة" قبل الصديق، قطع به ابن إسحاق وغيره محتجين بحديث أبي رافع: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم الاثنين، وصلت خديجة آخره، وصلى علي يوم الثلاثاء"، رواه الطبراني، وبما في المستدرك: نبئ النبي يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء، وروى ابن عبد البر: أن محمد بن كعب القرظي سئل عن أولهما إسلامًا، فقال: سبحان الله علي أولهما إسلامًا، وإنما اشتبه على الناس؛ لأن عليًا أخفى إسلامه عن أبيه وأبو بكر أظهره، "وكان" مما أنعم الله به عليه؛ كما قال ابن إسحاق: أنه كان "في حجر" مثلث الحاء، أي: منع "النبي صلى الله عليه وسلم" وكفالته وحفظه مما لا يليق به، وذلك أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان من أيسر بني هاشم: "يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلا، وتأخذ أنت رجلا، فنكفهما عنه" قال العباس: نعم، فانطلقا حتى أتياه وأخبراه بما أراد، فقال: إذا تركتماني عقيلا، ويقال: وطالبًا، فاصنعا ما شئتما، فأخذ المصطفى عليًا، فلم يزل معه حتى بعثه الله فاتبعه وآمن به وصدقه، وأخذ العباس جعفرًا فلم يزل عنده حتى أسلم، واستغنى عنه. "فعلى هذا" المذكور من كونه في حجر النبي لا تنافي بين القولين في أيهما بعد خديجة لإمكان الجمع؛ كما قال السهيلي بأنه "يكون أول من أسلم من الرجال" البالغين "أبو بكر، ويكون عليّ أول صبي أسلم، لأنه كان صبيًا لم يدرك" أي: لم يبلغ، "ولذا قال" علي: ما حكى أن معاوية كتب إليه: يا أبا حسن، إن لي فضائل أنا صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتبه، فقال علي: والله ما أكتب إليه إلا شعرًا، فكتب: محمد النبي أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 سبقتكم إلى الإسلام طرًا ... صغيرًا ما بلغت أوان حلمي وكان سن علي إذ ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبري. وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليًا أول من أسلم من الرجال:   وجعفر الذي يضحى ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ابناي منها ... فمن منكم له سهم كسهمي "سبقتكم إلى الإسلام طرا ... صغيرًا ما بلغت أوان حلمي" فلما قرأ معاوية الكتاب، قال: مزقه يا غلام لا يراه أهل الشام، فيميلوا إلى ابن أبي طالب. قال البيهقي: هذا الشعر مما يجب على كل متوان في علي حفظه ليعلم مفاخره في الإسلام. وطرا بضم الطاء المهملة وفتحها، أي: جميعًا وما بلغت بيان للمراد من صغيرًا؛ لأن الصغر يتفاوت. وحلمي بضم المهملة وسكون اللام على إحدى اللغتين والثانية بضمهما، أي: احتلامي، أي: خروج المني. وزعم المازني، وصوبه الزمخشري: أنه لم يقل غير بيتين هما: تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما بروا ولا ظفروا فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر وذات ودقين الداهية كأنها ذات وجهين، ذكره القاموس. وهو مردود بما في مسلم، فقال علي، أي: مجيبًا لمرحب اليهودي: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره وروى الزبير بن بكار في عمارة المسجد النبوي، عن أم سلمة, وقال علي بن أبي طالب: لا يستوي من يعمر المساجدا ... بدأت فيها قائمًا وقاعدا ومن يرى عن التراب حائدا "وكان سن علي إذا ذاك عشر سنين، فيما حكاه الطبري" وهو قول ابن إسحاق: واقتصر المصنف عليه لقول الحافظ أنه أرجح الأقوال، وروى ابن سفيان بإسناد صحيح عن عروة، قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين، وصدر به في العيون، لكن ابن عبد البر بعد أن حكاه عن أبي الأسود يتيم عروة، قال: لا أعلم أحدًا قال كقوله، وقيل: اثنتي عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست، وقيل: خمس، حكاهما العراقي. "وقال ابن عبد البر: وممن ذهب إلى أن عليًا أول من أسلم من الرجال" أي: الذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 سلمان وأبو ذر والمقداد وخباب وجابر وأبو سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم، وهو قول ابن شهاب وقتادة وغيرهم. قال: واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا. وقيل: أول رجل أسلم ورقة بن نوفل. ومن يمنع، يدعى أنه أدرك نبوته عليه السلام لا رسالته ......................................   وإن كان صبيًا، "سلمان" الفارسي "وأبو ذر" جندب بن جنادة الغفاري الزاهد أحد السابقين، روى الطبراني عنهما، قالا: أخذ صلى الله عليه وسلم بيد علي، فقال: "إن هذا أول من آمن بي"، "وخباب" بفتح المعجمة وشد الموحدة فألف فموحدة ابن الأرت بشد الفوقية التميمي البدري أحد السباق، روى عنه علقمة وقيس بن أبي حازم، توفي سنة سبع وثلاثين. "وجابر" بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، "وأبو سعيد" سعد بن مالك بن سنان، "الخدري" بدال مهملة، "وزيد بن الأرقم" بن زيد بن قيس الخزرجي أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في سورة المنافقين، مات سنة ست أو ثمان وستين، والروايات عن هؤلاء بكونه أول من أسلم عند الطبراني بأسانيده، ورواه، أعني الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس موقوفًا، وبسند ضعيف عنه مرفوعًا، ورواه الترمذي من طريق آخر عنه موقوفًا. "وهو قول" محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله "ابن شهاب" نسب إلى جد جده لشهرته، "وقتادة" بن دعامة الأكمه "وغيرهم" بالرفع، أي: غير سلمان، ومن عطف عليه كأبي أيوب ويعلى بن مرة وعفيف الكندي وخزيمة بن ثابت وأنس؛ كما أسنده عنهم الطبراني، "قال" الحافظ في التقريب: ورجحه جمع، وجملة: وهو قول معترضة ويصح جر غير بناء على أن الجمع ما فوق الواحد، ونشد المرزبان لخزيمة في علي: أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن وقال كعب بن زهير من قصيدة يمدحه بها: إن عليًا لميمون نقيبته ... بالصالحات من الأفعال مشهور صهر النبي وخير الناس مفتخرا ... فكل من رامه بالفخر مفخور صلى الطهور مع الأمي أولهم ... قبل المعاد ورب الناس مكفور "واتفقوا على أن خديجة أول من أسلم مطلقًا" من جملة كلام ابن عبد البر، ووافقه على حكاية الاتفاق الثعلبي والسهيلي، "وقيل: أول رجل" خرجت خديجة؛ لأنها آمنت قبل ذهابها بالمصطفى إليه، "أسلم ورقة بن نوفل" قال جماعة ومنعه آخرون، "و" لكن "من يمنع" إنه أول من أسلم "يدعى" تأخر الرسالة عن النبوة و"أنه أدرك نبوته عليه السلام لا رسالته" التي لا يحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 لكن جاء في السير، وهي رواية أبي نعيم المتقدمة أنه قال: أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك, فهذا تصريح منه بتصديقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.   بالإسلام إلا لمن آمن بعدها "لكن" لا تسلم له هذه الدعوى، فقد "جاء في السير" كما في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن عمرو بن أبي إسحاق عن أبيه، عن أبي ميسرة التابعي الكبير مرسلا "وهي رواية أبي نعيم المتقدمة" قريبًا قبل مراتب الوحي مسندة عن عائشة: "أنه" أي: ورقة، "قال: ابشر فأنا أشهد" أقر وأذعن "أنك" الرسول "الذي بشر به ابن مريم، وإنك على مثل" أي: صفة مماثلة لصفة "ناموس موسى، وإنك نبي مرسل" تأكيد زيادة في تطمينه، "وإنك ستؤمر بالجهاد" علم ذلك من الكتب القديمة لتبحره في علم النصرانية، "وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك" وفي آخر هذا الحديث: فلما توفي، قال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني". وأخرجه البيهقي في الدلائل أيضًا، وروى ابن عدي عن جابر مرفوعًا: "رأيت ورقة في بطنان الجنة عليه السندس"، ورواه ابن السكن بلفظ: "رأيت ورقة على نهر من أنهار الجنة". "فهذا تصريح منه بتصديقه، برسالة محمد صلى الله عليه وسلم" لكن يجوز أنه قاله قبل الرسالة؛ لعلمه بالقرائن الدالة على ذلك، فيكون كبحيرا سيما وقد مر أن ذهاب خديجة لورقة كان عقب نزول {اْرَأْ} [العلق: 1] ، ولم تتأخر وفاته وإلى هذا أشار الحافظ، فقال: حديث الصحيح ظاهر في أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو الناس إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا، وفي إثبات الصحبة له نظر. وتعقبه تلميذه البرهان البقاعي، فقال: هذا من العجائب، كيف يماثل من آمن بأنه قد بعث بعدما جاءه الوحي فانطبق عليه تعريف الصحابي الذي ذكره في نخبته بمن آمن أنه سيبعث، ومات قبل أن يوحى إليه. قال العلامة البرماوي: ليس ورقة من هذا النوع؛ لأنه اجتمع به بعد الرسالة لما صح في الأحاديث أنه جاء له بعد مجيء جبريل وإنزال اقرأ، وبعد قوله: أبشر يا محمد، أنا جبريل أرسلت إليك وإنك رسول هذه الأمة، وقول ورقة: أبشر ... وذكر ما ساقه المصنف، وقال بعده: ورؤيته عليه السلام لورقة في الجنة وعليه ثياب خضر، وجاء أنه قال: "لا تسبوه، فإني رأيت له جنة أو جنتين". رواه الحاكم في المستدرك. وأما قول الذهبي في التجريد، قال ابن منده: اختلف في إسلامه والأظهر أنه مات بعد النبوة، وقيل: الرسالة، فبعيد لما ذكرناه فهو صحابي قطعًا بل أول الصحابة كما كان شيخنا شيخ الإسلام يعني البلقيني يقرره، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قال البلقيني: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وبه قال العراقي في نكته على ابن الصلاح. وذكره ابن منده في الصحابة. وحكى العراقي: كون علي أول من أسلم عن أكثر العلماء، وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه. وادعى الثعلبي ..........................................   ونقل كلام البلقيني، بقوله: "قال" شيخ الإسلام علامة الدنيا سراج الدين، أبو حفص عمر بن رسلان بن نصر "البلقيني" الحافظ الفقيه البارع المجتهد المفنن المصنف، المتوفى سنة خمس وثمانمائة بضم الموحدة وسكون اللام والياء وكسر القاف، نسبة إلى قرية بمصر قرب المحلة؛ كما في اللب والمراصد والنسخ المعتمدة من القاموس، خلاف ما في بعضها من أن بلقين كغرنيق، "بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال" وذكره وإن استفيد مما قدمه؛ لأنه على أنه بعد الرسالة ولم يتقدم تصريح به "وبه قال العراقي" الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم "في نكته على" كتاب "ابن الصلاح" في علوم الحديث وبه جزم في نظم السيرة، حيث قال: فهو الذي آمن بعد ثانيًا، وكان برًا صادقًا مواتيًا، "وذكره ابن منده في الصحابة" حاكيًا الخلاف؛ كما مر، وذكره فيهم أيضًا الطبري والبغوي وابن قانع وابن السكن وغيرهم كما في الإصابة، وحسبك بهم حجة، ومر أن الصحيح أن النبوة والرسالة متقارنان. وروى الزبير بن بكار عن عروة: أن ورقة مر ببلال وهو يعذب برمضاء مكة ليشرك، فيقول: أحد أحد، فقال ورقة: أحد أحد يا بلال، والله لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، قال في الإصابة: وهذا مرسل جيد، يدل على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، والجمع بينه وبين قوله عائشة: فلم ينشب ورقة أن توفي، أي: قبل أن يشتهر الإسلام ويؤمر المصطفى بالجهاد، قال: وما روي في مغازي ابن عائد، عن ابن عباس: أنه مات على نصرانيته، فضعيف، انتهى باختصار. وقد أرخ الخميس وفاة ورقة في السنة الثالثة من النبوة، قال: وفي المنتقى في السنة الرابعة، قلت: وما وقع في الخميس من قوله، وفي الصحيحين عن عائشة: أن الوحي تتابع في حياة ورقة، فغلط إذ الذي فيهما عنها: فلم ينشب ورقة أن توفي. "وحكى العراقي كون علي أول من أسلم عن أكثر العلماء" وقال الحاكم: لا أعلم فيه خلافًا بين أصحاب التواريخ، قال: والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر أول من أسلم الرجال البالغين؛ لحديث عمرو بن عبسة، يعني: حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يعني أبا بكر وبلالا، رواه مسلم ولم يذكر عليًا لصغره. "وحكى ابن عبد البر الاتفاق عليه" فقال: اتفقوا على أن خديجة أول من آمن ثم علي بعدها، "وادعى الثعلبي" أحمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها. قال ابن الصلاح: والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر. ومن الصبيان أو الأحداث علي. ومن النساء خديجة. ومن الموالي زيد بن حارثة.   محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق النيسابوري صاحب التفسير والعرائس في قصص الأنبياء. قال الذهبي: وكان حافظًا رأسًا في التفسير والعربية متين الديانة والزهادة، مات سنة سبع وعشرين أو سبع وثلاثين وأربعمائة، ويقال له: الثعلبي والثعالبي، "اتفاق العلماء على أن أول من أسلم خديجة، وأن اختلافهم إنما هو فيمن أسلم بعدها" هل الصديق أو علي أو ورقة؛ لأنها آمنت قبل مجيئها بالمصطفى له لما أخبرها عن صفة ما رأى في الغار لما ثبت عندها قبل ذلك عن بحيرا وغيره أنه النبي المنتظر، وقيل: زيد بن حارثة ذكره معمر عن الزهري، وقدمه ابن إسحاق على الصديق، فقال: أول من آمن خديجة، ثم علي، ثم زيد، ثم أبو بكر، انتهى. وقيل: بلال وذكر عمر بن شيبة أن خالد بن سعيد بن العاصي أسلم قبل علي، وذكر ابن حبان أنه أسلم قبل الصديق. "قال" شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمر وعثمان "بن الصلاح" بن عبد الرحمن بن عثمان الكردي الشهروري الإمام الحافظ المتبحر في الأصول والفروع والتفسير والحديث، الزاهد وافر الجلالة المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمائة. "والأورع" أي: الأدخل في الورع والأسلم من القول، بما لا يطابق الواقع "أن" لا يطابق القول في تعيين أول المسلمين على الحقيقة؛ لكونه هجومًا على عظيم وتعارض الأدلة فيه وعدم وجود قاطع يستند عليه بل يذكر قول يشمل جمع الأقوال، بأن "يقال أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث" تنويع في العبارة، "علي، ومن النساء خديجة" وسبق ابن الصلاح لهذا الجمع إلى هنا الخبر، فأخرج ابن عساكر عن ابن عباس، قال: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، فتبعه العسكري وابن الصلاح، وزاد العبيد والموالي، فقال: "ومن الموالي زيد بن حارثة" حب المصطفى ووالد حبه أسر في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بأربعمائة درهم فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها فوهبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ومن العبيد بلال. والله أعلم، انتهى. وقال الطبري: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال: أول من أسلم مطلقًا خديجة. وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب، وهو صبي لم يبلغ، وكان مستخفيًا بإسلامه. وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة. وأول من أسلم من الموالي زيد. قال: هو متفق عليه لا اختلاف فيه، وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار، ويؤيد هذا ما روي عن الحسن أن علي بن أبي طالب قال: إن أبا بكر سفيان إلى أربع لم أؤتهن: سبقني إلى إفشاء الإسلام، وقدم الهجرة،   له، وجاء أبوه وعمه كعب مكة وطلبا أن يفدياه، فخيره عليه السلام بين أن يدفعه إليهما أو يثبت عنده، فاختار أن يبقى عنده، فلاماه فما رجع، وقال: لا اختيار عليه أحد، فقام صلى الله عليه وسلم إلى الحجر، وقال: "اشهدوا أن زيدًا ابني، يرثني وأرثه"، فطابت نفسهما وانصرفها، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام فصدقه وأسلم في قصة مطولة، ذكرها ابن الكلبي وابن إسحاق هذا حاصلها. "ومن العبيد بلال" المؤذن "والله أعلم" بحقيقة الأولية المطلقة، "انتهى. وقال" نحوه الحافظ المحب "الطبري" بفتح الطاء والموحدة وراء نسبة إلى طبرستان على غير قياس، "الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها، فيقال: أول من أسلم مطلقًا خديجة" لكنه خالف فيها ابن الصلاح لقوة الأدلة، كيف وقد قال ابن الأثير: لم يتقدمها رجل ولا امرأة بإجماع المسلمين. "وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب وهو صبي لم يبلغ الحلم، وكان مستخفيًا بإسلامه" من أبيه "وأول رجل عربي بالغ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان، "وأول من أسلم من الموالي زيد" بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي، "قال: وهو متفق عليه لا اختلاف فيه" إطناب للتأكيد، "وعليه يحمل قول من قال: أول من أسلم من الرجال البالغين الأحرار" لا مطلقًا "ويؤيد هذا ما روي عن الحسن: أن علي بن أبي طالب، قال" لما جاءه رجل، فقا: يا أمير المؤمنين، كيف سبق المهاجرون والأنصار إلى بيعة أبي بكر، وأنت أسبق سابقة، وأورى منه منقبة، فقال علي: ويلك "إن أبا بكر سبقني إلى أربع لم أؤتهن" ولم أعتض منهن بشيء؛ كما في الرواية "سبقني إلى إفشاء الإسلام" هذا محل التأييد، وقد يمنع بأن السبق على إفشائه لا يلزم منه السبق على الإسلام نفسه، "وقدم الهجرة" لأنه هاجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ومصاحبته في الغار، وإقام الصلاة، وأنا يومئذ بالشعب يظهر إسلامه وأخفيه ... الحديث، خرجه صاحب فضائل أبي بكر وخيثمة بمعناه. وأما ما روي: من صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة، وحديث بحيرى، وأنه وقع في قلب أبي بكر اليقين، وقول ميمون بن مهران: والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرى، فالمراد بهذا الإيمان اليقين بصدقه، وهو ما وقر في قلبه .............................   مع المصطفى وتأخر علي بعده، حتى أدى عنه الودائع التي كانت عنده صلى الله عليه وسلم ثم لحقه بقباء "ومصاحبته في الغار، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشعب" بالكسر شعب بني هاشم بمكة، "يظهر إسلامه وأخفيه ... الحديث" تتمته: يستحقرني قريش وتستوفيه، والله لو أن أبا بكر زال عن مزيته ما بلغ الدين العبرين -يعني الجانبين- ولكان الناس كرعة ككرعة طاولت، ويلك إن الله ذم الناس ومدح أبا بكر، فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] ، الآية كلها. "خرجه صاحب فضائل أبي بكر وخيثمة" ابن سليمان بن حيدرة الإمام الحافظ أبو الحسن القرشي الطبرابلسي أحد الثقات الرحالة جمع فضائل الصحابة، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، قال ابن منده: كتبت عنه بطرابلس، ألف جزء "بمعناه" ورواه الدارقطني في الغرائب وضعفه. قال في الرياض النضرة، بعد سوق الحديث تامًا: وأورى من ورى الزند خرجت ناره وظهرت، أي: أظهر منقبة وأنور. وتستوفيه، أي: توفيه حقه من الإعظام والإكرام. والمزية: الفضيلة، أي: زال عن فضيلته بالتقديم على الناس إمامًا. وكرعة جمع كارع كركبة وراكب من كرع بالفتح يكرع إذا شرب الماء من فيه دون إناء، ولعله أراد: لولا أبو بكر لخالف الناس الدين كما خالفه كرعة طالوت بالشرب من النهر الذي نهوا عنه، انتهى. "وأما ما روي" عند ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس "من صحبة الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وهم يريدون الشام في تجارة وحديث بحيرا" أي: سؤاله لأبي بكر: من الذي تحت الشجرة؟ وقوله: هو محمد بن عبد الله، فقال: هذا نبي "وأنه وقع في قلب أبي بكر اليقين" من ذلك "وقول ميمون بن مهران" بكسر فسكون الكوفي أبي أيوب الجزري نزيل الرقة الثقة الفقيه التابعي الوسط كثير الحديث والي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز المتوفى سنة سبع عشرة ومائة، وله سبع وسبعون سنة. "والله لقد آمن أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمن بحيرا، فالمراد بهذا الإيمان" اللغوي، وهو "اليقين صدقه، وهو ما وقر" ثبت "في قلبه" فلا ينافي أنه أول المسلمين أو ثانيهم أو ثالثهم بعد النبوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر إلى الشام قبل المبعث. ثم أسلم بعد زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله ......................   "وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وسافر" مع غلامها ميسرة "إلى الشام قبل المبعث" بعد تلك السفرة التي كان فيها أبو بكر وكان ذلك سبب التزوج بها وسنه صلى الله عليه وسلم خمس وعشرون سنة؛ كما مر فالواو عطفت سابقًا على لاحق على أنه لا يصح إيراد قصة صحبته له في تلك السفرة؛ لأن في بقية خبرها؛ كما مر. ووقع في قلب أبي بكر الصديق، فلما بعث النبي اتبعه. "ثم أسلم بعد زيد بن حارثة وعثمان بن عفان" أمير المؤمنين ذو النورين؛ لأنه كما قال المهلب: لم يعلم أحد تزوج ابنتي نبي غيره، أو لأنه كان يختم القرآن في الوتر؛ فالقرآن نور وقيام الليل نور، أو لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين، أخرج أبو سعد في الشرف عنه: كنت بفناء الكعبة، فقيل: أنكح محمد عتبة ابنته رقية، فدخلتني حسرة أن لا أكون سبقت إليها، فانصرفت إلى منزلي فوجدت خالتي سعدى بنت كريز، أي: الصحابية العبشمية فأخبرتني أن الله أرسل محمدًا وذكر حثها له على اتباعه مطولا، قال: وكان لي مجلس من الصديق، فأصبته فيه وحده فسألني عن تفكري، فأخبرته بما سمعت من خالتي فذكر حثه له على الإسلام، قال: فما كان بأسرع من أن مر صلى الله عليه وسلم ومعه علي يحمل له ثوابًا، فقام أبو بكر فساره فقعد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل عليّ، فقال: "أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه" فوالله ما تمالكت حين سمعته أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية. "والزبير بن العوام" بن خويلد القرشي الأسدي الحواري وهو ابن اثنتي عشرة سنة عند الأكثر، وقيل: خمس عشرة، وقول عروة وهو ابن ثمان سنين أنكره ابن عبد البر، وكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول: ارجع، فيقول: لا أكفر أبدًا. "وعبد الرحمن بن عوف" القرشي الزهري أحد العشرة والثمانية والستة، "وسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري أحد العشرة وآخرهم موتًا، وأحد الستة والثمانية أسلم بعد ستة هو سابعهم، وهو ابن تسع عشرة سنة؛ كما قاله ابن عبد البر وغيره. وأما قوله: لقد رأيتني وأنا ثالث الإسلام، أخرجه البخاري فحمل على ما اطلع هو عليه. "وطلحة بن عبيد الله" التيمي أحد العشرة والثمانية السابقين إلى الإسلام والستة أصحاب الشورى، ويقال: إن سبب إسلامه ما أخرجه ابن سعد عنه، قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم أنا، فقال: هل ظهر أحمد؟ قلت: من أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 بدعاء أبي بكر الصديق، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له، فأسلموا وصلوا. ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بعد تسعة أنفس. والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي .................   وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخيل وحرة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، فوقع في قلبي فخرجت سريعًا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة فخرجت حتى أتيت أبا بكر فخرج بي إليه، فأسلمت فأخبرته بخبر الراهب، "بدعاء أبي بكر الصديق" لأنه كان محببًا في قومه فجعل يدعو من وثق به فأسلموا بدعائه، "فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استجابوا له" أي: أجابوا دعاءه إياهم، "فأسلموا وصلوا" أي أظهروا إسلامهم عند المصطفى على ما أفادته الفاء في قوله فجاء بهم من أنه كان عقب إسلامهم والأظهر أن المراد انقاد والدعائة فأسلموا حين جاء بهم لقصة عثمان وطلحة، "ثم أسلم" أمين هذه الأمة، "أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح" القرشي الفهري اشتهر بجده، "وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد" القرشي المخزومي البدري توفي في حياته صلى الله عليه وسلم فخلفه على زوجه أم سلمة وأولاده منها، وهم أربعة حال كون إسلامهما جميعًا، "بعد تسعة أنفس" فيكون أبو سلمة الحادي عشر؛ كما قال ابن إسحاق وهم خديجة وعلي وزيد والصديق والخمسة المسلمون على يده، وأبو عبيدة وأبو سلمة. "والأرقم بن أبي الأرقم" عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي "المخزومي" البدري وشهد أحدًا والمشاهد كلها، وأقطعه صلى الله عليه وسلم دارًا بالمدينة، قيل: أسلم بعد عشرة. وفي المستدرك: أسلم سابع سبعة وتوفي سنة خمس أو ثلاث وخمسين وهو ابن خمس وثمانين سنة، وأوصى أن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص، فصلى عليه، "وعثمان بن مظعون" بظاء معجمة وغفل من أهملها؛ كما في النورين حبيب بن وهب بن حذافة بن جمع القرشي، "الجمحي" بضم الجيم وفتح الميم وحاء مهملة نسبة إلى جده المذكور، قال ابن إسحاق: أسلم بعد ثلاثة عشر رجلا، وهاجر إلى الحبشة. روى ابن شاهين والبيهقي عنه، قلت: يا رسول الله! إني رجل يشق علي العزبة في المغازي، فتأذن لي في الخصي؟ فقال: $"لا، ولكن عليك يابن مظعون بالصوم"، وشهد بدرًا، وتوفي بعدها في السنة الثانية، وأول مهاجري مات بالمدينة، وأول من دفن بالبقيع منهم. روى الترمذي عن عائشة: قبل صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي وعيناه تذرفان، فلما توفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وامرأته فاطمة ابنة الخطاب. وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل زوج العباس، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة أختها. كذا قاله ابن إسحاق وغيره. وهو وهم، لأنه لم تكن عائشة ولدت بعد فكيف أسلمت. وكان مولدها سنة أربع من النبوة، قاله مغلطاي وغيره.   ابنه إبراهيم، قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون". "وأخواه قدامة" يكنى أبا عمر من السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرًا وكانت تحبه صفية بنت الخطاب أخت عمر، واستعمله على البحرين فشرب فأحضره عمر، فلما أراد حده، قال: لو شربت كما قالوا، أي: الذين شهدوا عليه ما كان لكم أن تحدوني، قال الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، فقال عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم ثم حده، فلما حجا وقفلا من الحج، قال عمر: عجلوا بقدامة، فوالله لقد أتاني آت من منامي، فقال لي: سالم قدامة، فإنه أخوك، فأبى قدامة أن يأتي عمر إن أبى فجروه، فأتى إليه فكلمه واستغفر له، رواه عبد الرزاق وغيره مطولا مات سنة ست وثلاثين أو ست وخمسين، وهو ابن ثمان وستين سنة. "وعبد الله" يكنى أبا محمد هاجر إلى الحبشة وشهد بدرًا، "وعبيدة" بضم العين وفتح الموحدة، "ابن الحارث بن المطلب" أخي هاشم، "ابن عبد مناف" بن قصي المستشهد يوم بدر، "وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل" بضم النون القرشي العدوي أحد العشرة، "وامرأته فاطمة ابنة الخطاب" بن نفيل المذكور فهي ثانية النساء إسلامًا. "وقال ابن سعد: أول امرأة أسلمت بعد خديجة أم الفضل" لبابة الكبرى بضم اللام وخفة الموحدتين بنت الحارث الهلالية، "زوج العباس" وأم بنيه الستة النجباء ورده في الفتح: بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها لا تذكر في السابقين فقد سبقتها سمية والدة عمار وأم أيمن. "وأسماء بنت أبي بكر" ذات النطاقين "وعائشة أختها" وهي صغيرة "كذا قاله ابن إسحاق وغيره" ممن تبعه، فلا يخالف قول العراقي: كذا ابن إسحاق بذاك انفردا "وهو وهم" غلط "لأنه لم تكن عائشة ولدت بعد" أي: في ذلك الزمن، وهو أول البعثة. "فكيف أسلمت، وكان مولدها سنة أربع" وبه جزم في العيون والإصابة، وقال ابن إسحاق: سنة خمس "من النبوة، قاله مغلطاي وغيره" وقد قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين؛ كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 ودخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء. ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاءه، أي يواجه المشركين به. وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ..............................   الصحيح ولم يذكر بناته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا شك في تمسكهن قبل البعثة بهديه وسيرته، وقد روى ابن إسحاق عن عائشة: لما أكرم الله نبيه بالنبوة أسلمت خديجة وبناته، وكان أبو العاص زوج زينب عظيمًا في قريش فكلمته قريش في فراقها على أن يتزوج من أحب من نسائهم، فأبى. وفي الشامية أسلمت رقية حين أسلمت أمها خديجة وبايعت حين بايع النساء، وأم كلثوم حين أسلمت أخواتها وبايعت معهن. ا. هـ. فاطمة لا يسأل منها لولادتها بعد النبوة أو قبلها بخمس سنين. والحاصل أنه لا يحتاج للنص على سبقهن للإسلام؛ لأنه معلوم هذا، ولا يشكل تزويج زينب بأبي العاصي ورقية وأم كلثوم بولدي أبي لهب مع صيانة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل البعثة عن الجاهلية؛ لأن تحريم المسلمة على الكافر لم يكن ممنوعًا حتى نزل قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ، وقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} بعد صلح الحديبية؛ كما صرح به العلماء، وقد كفاه الله ولدي أبي لهب فطلقاهما قبل الدخول، واستمرت زينب حتى أسر أبو العاصي ببدر فأرسلت في فدائه، فلما عاد بعثها إليه صلى الله عليه وسلم فلم تزل حتى أسلم وهاجر، فردها إليه صلى الله عليه وسلم. ووقع في حديث عائشة عند ابن إسحاق: أن الإسلام فرق بينهما لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقدر على نزعها منه حينئذ، "ودخل الناس في الإسلام" أي: تلبسوا به فالظرفية مجازية حال كونهم "أرسالا" جماعات متتابعين، "من الرجال والنساء" وقد عد العراقي وغيره من كل جملة صالحة، "ثم" بعد ذلك فشوة ذكره بمكة، وتحدث الناس به؛ كما عند ابن إسحاق، "أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصدع بما جاءه" منه "أي: يواجه" يخاطب "المشركين" على وجه العموم فلا يخص بعضًا دون بعض؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما أمر به لمن ظن إجابته دون مبالغة في التعميم فآمن به من مر مع كثيرين، ثم أمر بالمبالغة في إظهار الدعوة، بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، "وقال مجاهد: هو" أي: الصدع المفهوم من {فَاصْدَعْ} ، "الجهر بالقرآن في الصلاة" ومن لازمه المواجهة بما جاءه، وخص الصلاة؛ لأنها كانت أعظم ما يخفيه لكنه على طريق الدلالة والأول شفاها؛ كما صرح به قول ابن إسحاق: ينادي الناس بأمره ويدعوهم إليه، "وقال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود" الكوفي الثقة مشهور بكنيته، قال الحافظ: والأشهر أنه الاسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فجهر هو وأصحابه. وقال البيضاوي: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا أو أفرق به بين الحق والباطل، وأصله: الإبانة والتمييز. و "ما" مصدرية أو موصولة، "والعائد" محذوف، أي بما تؤمر به من الشرائع انتهى. قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة، وهي المدة التي أخفى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره. فبادئ قومه بالإسلام وصدع به ............................   مات بعد سنة ثمانين. "ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا" هو والمسلمون في دار الأرقم، "حتى نزلت {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، فجهر هو وأصحابه" ثم بعد بيان المراد من الآية ذكر مأخذها بقوله: "وقال البيضاوي" في تفسير قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية، فاجهر به "من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارًا" وعطف على فاجهر الذي حذفه المصنف من كلامه، قوله: "أو" يعني: وقيل معناه "افرق به بين الحق والباطل" لأن الصدع الفرق بين الشيئين، فالصدع بالحجة يفرق كلمة من ظهرت عليه وقهر بها وكأنه صدع على جهة البيان والتشبيه لظلمة الجهل والشرك بظلمة الليل، ولنور القرآن بنور الفجر؛ لأن الفرج يسمى صديعًا، قال الشاعر: ترى السرحان مفترشًا يديه ... كأن بياض غرته صديع "و" هو مجاز من صدع الشيء شقه إذ "أصله" لغة "الإبانة والتمييز" وفي القاموس: صدعه كمنعه شقه أو شقه نصفين أو شقه، ولم يفترق ولا منافاة لجواز أن يراد بالإبانة الشق مع الفصل وهو مستفاد من شقه، أي: مطلقًا وبالتميز الشق بلا فاصل، وهو مستفاد من الأول والثالث. "وما مصدرية" أي: بأمرنا لك، "أو موصولة والعائد" على أنها موصولة "محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع، انتهى" ولا يشكل بأن شرط حذف عائد الموصول أن يجر بمثل ما جر به الموصول لفظًا ومتعلقًا، نحو: ويشرب مما تشربون، أي: منه؛ لأن الصداع بمعنى الأمر المؤثر ولا تشترط المناسبة اللفظية. "قالوا: وكان ذلك بعد ثلاث سنين من النبوة" تبرأ منه لجزم الحافظ في سيرته بأن تزول الآية كان في السنة الثالثة، "وهي المدة التي أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إلى أن أمره الله تعالى بإظهاره، فبادى" قال البرهان: الظاهر أنه بموحدة، أي: جاهر، "قومه بالإسلام و" لم يقتصر على مجرد المجاهرة بالدعوة بل كرر ذلك وأكده وبالغ في إظهار الحجة حتى كأنه "صدع به" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 كما أمره الله تعالى. ولم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، وكان ذلك سنة أربع، كما قال العتقي. فأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام. وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه. فاشتد الأمر، وتضارب القوم، وأظهر بعضهم لبعض العداوة، وتذامرت قريش على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم. ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب وببني هاشم -ما عدا أبا لهب- ................   قلوبهم بما أورده عليهم من الحجج والبراهين التي عجزوا عن دفعها "كما أمره الله تعالى و" مع ذلك "لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه" بل كانوا؛ كما قال الزهري: غير منكرين لما يقول وكان إذا مر عليهم في مجالسهم يقولون: هذا ابن عبد المطلب يكلم من السماء واستمروا على ذلك، "حتى ذكر آلهتهم وعابها" لما دخل المسجد يومًا فوجدهم يسجدون للأصنام فنهاهم، وقال: "أبطلتم دين أبيكم إبراهيم"، فقالوا: إنما نسجد لها لتقربنا إلى الله، فلم يرض بذلك منهم وعاب صنعهم، "وكان ذلك في سنة أربع" من النبوة؛ "كما قاله العتقي" بضم المهملة وفتح الفوقية وقاف، وقيل: سنة خمس، وجمع بأن ابتداء الإظهار والمعاداة في الرابعة، وكماله واشتداده في الخامسة. "فأجمعوا على خلافه" أي: عزموا على مخالفته وصمموا عليه "و" على "عداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام" وهم قليل مستخفون؛ كما في العيون، ولا ينافيه قول الزهري: استجاب له من أحداث الرجال وضعفاء الناس حتى كثر من آمن به "وحدب" بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين فموحدة، أي: عطف "عليه عمه أبو طالب ومنعه" وأصل الحدب انحناء في الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره ورق له؛ كما في الشامية. "وقام دونه" كناية عن منعهم من الوصول له، يقال: هذا دون ذلك، أي: أقرب منه، أي: قام في مكان قريب منه حاجزًا بينه وبينهم، "فاشتد الأمر وتضارب القوم" ضرب بعضهم بعضًا بالفعل؛ كما جاء أن سعد بن أبي وقاص كان في نفر من قريش يصلون في بعض شعاب مكة فظهر عليهم نفر من المشركين فعابوا صنعهم حتى قاتلوهم فضرب سعد رجلا منهم بلحى بعير فشجه، فهو أول دم أهريق في الإسلام، أو المعنى: أرادوا التضارب وعزموا عليه إشارة إلى ما كان بين أبي طالب وقومه. "وأظهر بعضهم لبعض العداوة وتذامرت قريش" بذال معجمة: حض بعضهم بعضًا؛ كما في النور وغيره. وفي نسخة: توامرت بالواو، أي: تشاورت والأولى أنسب، بقوله: "على من أسلم منهم يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب، وببني هاشم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وببني المطلب. وقال مقاتل: كان صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم. وقال: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينًا لا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا   ما عدا أبا لهب وببني المطلب" أخي هاشم بن عبد مناف بطلب أبي طالب لذلك منهم لما رأى ما صنعوا بالمسلمين، فاجتمعوا إليه وأقاموا معه. وفي بعض نسخ العيون: وببني عبد المطلب، قال النور: والصواب الأول. "وقال مقاتل: كان صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءًا" هو أنهم أتوه بعمارة بن الوليد ليتخذه ولدًا ويعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، "فقال أبو طالب" والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا، وقال: "حين تروح الإبل" ترجع من مراعيها "فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم" تعليق على محال على طريق إلزامهم إنها لا تحن إلى غيره مع كونها عجماء، فكيف أنا مع كوني من ذوي اللب والمعرفة؟ "وقال" شعرًا في النبي تطمينًا له: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا "فاصدع بأمرك" جهرًا بالشيء الذي أمرت بتبليغه، أو الأمر مصدر بمعنى الطلب، أي: اصدع بسبب أمر الله لك، "ما عليك غضاضة" بفتح الغين وضادين معجمات: ذلة ومنقصة، "وابشر" بحذف الهمزة للضرورة، وأصله بقطع الهمزة؛ كقوله تعالى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] ، "وقر بذاك منك عيونا" بفتح القاف من قرت عينه سكنت أو بردت، لكنه حول الإسناد من العين إلى ذاته الكريمة وجيء بـ"عيونًا" تمييزًا للنسبة، ولغة نجد كسر القاف وبهما قرئ: "وَقِرِّي عَينًا"، "ودعوتني" طلبت مني الدخول في دينك "وزعمت" ذكرت لي "أنك ناصحي" فلم يستعمل الزعم في معناه المشهور أنه القول الذي لا دليل عليه، بدليل قوله: "ولقد صدقت وكنت ثم" فيما دعوتني إليه "أمينًا" لم تزد فيما أمرت بتبليغه ولم تنقص، "وعرضت" أظهرت لنا "دينًا لا محالة" بفتح الميم: لا حيلة في دفع "إنه من خير أديان البرية دينًا" إذ هو حق ثابت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا وقد كفى الله تعالى نبيه المستهزئين. كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي لا تلتفت إلى ما يقولون: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95] يعني بقمعهم وإهلاكهم. وقد قيل للتحقيق لأن قول الجمهور: إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش. الوليد بن المغيرة. والعاصي بن وائل. والحارث بن قيس.   بالحجج القاطعة، "لولا الملامة" العذل "أو حذاري" بكسر الحاء مصدر حاذر، أي: خوفي، "سبة" بضم السين عارًا وفتح الحاء تعسف؛ لأنه يكون اسم فعل أمر ولا يصح هنا إلا بتقدير أن خوفي من أن يقال لي حذار، أي: احذر العار مع جعل الياء للإشباع، "لوجدتني سمحًا بذاك" الذي دعوتني إليه، "مبينًا" ولما تكلم على المراد من آية الصدع جره ذلك إلى ذكر الآية الثانية، وإن كان اليعمري إنما ذكره بعد ذلك قبل انشقاق القمر، فقال على ما في بعض النسخ. "وقد كفى الله تعالى نبيه المستهزئين؛ كما قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ، أي: لا تلتفت إلى ما يقولون" وهذا كان قبل الأمر بالجهاد، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بك ومن استهزاء الحارث قوله عن محمد نفسه وصحبه إذ وعدهم أن يحيوا بعد الموت: والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والحوادث، رواه ابن جرير عن قتادة. "يعني بقمعهم" مصدر قمع كمنع، أي: بقهرهم وإذلالهم "وإهلاكهم" حكم على المجوع، فلا ينافي أن من أسلم لم يهلك "وقد قيل للتحقيق؛ لأن قول الجمهور" ومنهم ابن عباس في أكثر الروايات عنه "إنهم كانوا خمسة من أشراف قريش الوليد بن المغيرة" بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قال البغوي: وكان رأسهم، "والعاصي بن وائل" السهمي "والحارث بن قيس" بن عدي السهمي ابن عم العاصي كان أحد أشراف قريش في الجاهلية وإليه كانت الحكومة والأموال التي كانوا يسمونها، قال ابن عبد البر: أسلم وهاجر إلى الحبشة مع بنيه الحارث وبشر ومعمر، وتعقبه ابن الأثير بأن الزبير بن بكار وابن الكلبي ذكر أنه كان من المستهزئين. وزاد الذهبي في التجريد: لم يذكر أحد أنه أسلم إلا أبو عمر ورده في الإصابة بأنه ذكره في الصحابة أيضًا أبو عبيد ومصعب والطبري وغيرهم، ولا مانع أن يكون تاب وصحب وهاجر، والآية ليست صريحة في عدم توبة بعضهم، انتهى. وأمه كنانية واسمها العيطلة، وينسب إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 والأسود بن عبد يغوث. والأسود بن المطلب. وكانوا يبالغون في إيذائه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به. فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم. فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيمًا لأخذه، فأصاب عرقًا في عقبه فمات، وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالوحي فمات، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحًا فمات، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ...........   روى ابن جرير عن أبي بكر الهذلي، قال: قيل للزهري: إن سعيد بن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: الحارث بن عيطلة، وقال عكرمة: الحارث بن قيس، فقال: صدقا جميعًا، كانت أمه عيطلة وكان أبوه قيسًا، وما ذكر من أنه الحارث هو ما وقفت عليه. وفي نسخ صحيحة، وفي بعضها: وعدي بن قيس، وهو وإن قيل: بأنه منهم لكن يعين الأول قوله الآتي: فأشار إلى أنف الحارث. "والأسود بن عبد يغوث" بن وهب بن زهرة الزهري ابن خاله صلى الله عليه وسلم, من استهزائه: أنه كان يقول: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد؟ "والأسود بن المطلب" بن أسد بن عبد العزى "وكانوا يبالغون في إيذائه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به" فكان جبريل عليه السلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فمروا بهما واحدًا بعد واحد فشكاهم إلى جبريل، "فقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد، فمر بنبال" يريش نبله ويصلحها "فتعلق بثوبه سهم" وفي البغوي: فمرض، "فمات" كافرًا "وأومأ" جبريل "إلى أخمص" بفتح أوله وإسكان الخاء المعجمة فميم فصاد مهملة، "العاصي" فخرج يتنزه فنزل شعبًا، "فدخلت فيه شوكة" من رطب الضريع "فانتفخت رجله حتى صارت كالوحي" وفي البغوي: كعنق البعير، "فمات" مقامه. "وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحًا، فمات" وقيل: أكل حوتًا مملوحًا فما زال يشرب عليه حتى انقد بطنه، وقيل: أخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه، فمات. وعلى القول بإسلامه فمعنى: كفيناك بإسلامه وهو لذي يظهر من الإصابة ترجيح، فإنه أورده في القسم الأول ورد على من جزم بخلافه، "و" أشار جبريل "إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات" على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وإلى عيني الأسود بن عبد المطلب فعمي. وكان صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا"، وأبو لهب ...........................   كفره، وقيل: أشار جبريل إلى بطنه بإصبعه فاستسقى بطنه فمات، رواه الطبراني بسند ضعيف. وقيل: خرج في رأسه قروح فمات، ويمكن أنها سبب نطحه الشجرة. وروى الطبراني والبيهقي والضياء بإسناد صحيح: أن جبريل أومأ إلى رأسه فضربته الأكلة فامتخض رأسه قيحًا بخاء وضاد معجمتين، أي: تحرك شديدًا، وعند ابن أبي حاتم والبلاذري بسند صحيح عن عكرمة: أنه حنى ظهره حتى احقوقف صدره، فقال صلى الله عليه وسلم: "خالي خالي"، فقال جبريل: دعه عنك، فقد كفيته. احقوقف: انحنى، وقيل: خرج من عند أهله فأصابته السموم حتى صار حبشيًا، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب فرجع وصار يطوف بشعاب مكة حتى مات عطشًا، ويقال: إنه عطش فشرب الماء حتى انشق بطنه وجمع باحتمال أن جميع ذلك وضع له. "و" أشار جبريل "إلى عيني الأسود بن المطلب" قال ابن عباس: رماه بورقة خضراء، "فعمي" بصره كما عميت بصيرته فلم يميز بين الحسن والقبيح، ورجعت عينه فضرب برأسه الجدار حتى هلك، وهو يقول: قتلني رب محمد، وقال ابن عباس في رواية: كانوا ثمانية، وصححه في الغرر وجزم به ابن عبد البر والعراقي فزادوا أبا لهب هلك بالعدسة، وهي ميتة شنيعة بعد بدر بأيام كما يأتي، وعقبة ابن أبي معيط قتل صبرًا بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من بدر، والحكم بن العاصي بن أمية أسلم يوم الفتح، وتوفي في آخر خلافة عثمان. قال العراقي: ثامنهم أسلم وهو الحكم ... فقد كفاه شره إذ يسلم وأسقط الشامي ابن أبي معيط وأبدله بمالك بن الطلاطلة وهو خلاف ما في العيون ونظم السيرة على أن اليعمري سماه قبل ذكر المستهزئين بقليل في المجاهرين بالظلم الحارث بن الطلاطلة الخزاعي بطاءين مهملتين، الأولى مضمومة، والثانية مكسورة بينهما لام خفيفة، ثم لام مفتوحة، ثم تاء تأنيث، وهي لغة الداء العضال الذي لا دواء له. وعند ابن إسحاق: أن الحارث هذا مر به صلى الله عليه وسلم فأشار إلى رأسه فامتخض قيحًا فقتله كافرًا. "وكان صلى الله عليه وسلم" كما رواه عبد الله في زوائد المسند والحاكم، وقال على شرطهما عن ربيعة بن عباد بكسر العين مخففًا الديلي الكناني الصحابي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يطوف على الناس" في أول أمره "في منازلهم يقول: "إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا"، وأبو لهب عمه على المحفوظ ويروى أبو جهل قال ابن كثير: وقد يكون وهمًا ويحتمل أنهما تناوبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وراءه يقول: يا أيها الناس: إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم. ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر، وتبعه قومه عن ذلك.   على إيذائه صلى الله عليه وسلم، قال الشامي: وهو الظاهر. "وراءه" يتبعه إذا مشى "يقول: يا أيها الناس! إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم" وذلك عار عليكم، فانظر هذا الابتلاء في الله فلو كان من غير قريب كان أسهل؛ لأن العرب كانت تقول: قوم الرجل أعلم به، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "ما أوذي أحد ما أوذيت"، "ورماه الوليد بن المغيرة بالسحر" مع اعترافه بأنه باطل، لكنه لعنه الله لما ضاقت عليه المذاهب، قال إنه أقرب القول فيه تنفيرًا للناس عنه. "وتبعه قومه عن ذلك" بعد التشاور فيما يرمونه به، فعند ابن إسحاق والحاكم والبيهقي بإسناد جيد أنه اجتمع إلى الوليد نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، فقال لهم: يا معشر قريش، قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم، فاجمعوا فيه رأيًا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، قالوا: فأنت فأقم لنا رأيًا نقوله فيه قال: بل أنتم فقولوا: أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: والله ما هو بمجنون، لقد رأينا المجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا بخابخه ولا وسوسته، قالوا: شاعر، قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، قالوا: ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما تقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناه وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا لا أعرف إنه باطل وأن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره فصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها. وفي سيرة الحافظ: فانتشر بذلك ذكره في الآفاق، وانقلب مكرهم عليهم حتى كان من أمر الهجرة ما كان وقدم عليه عشرون من نجران، فأسلموا فبلغ أبا جهل فسبهم وأقذع في القول، فقالوا له: سلام عليكم وفيهم نزل: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا} [القصص: 55] الآيات، انتهى. قال السهيلي: رواه ابن إسحاق لعذق بفتح المهملة وسكون المعجمة استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وهي العذق أفصح من رواية ابن هشام لغذق بفتح المعجمة وكسر المهملة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وآذته قريش ورموه بالشعر والكهانة والجنون. ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه، ويجعل الدم على بابه. ووطئ عقبة بن أبي معيط على رقبته الشريفة وهو ساجد عند الكعبة حتى كادت عيناه تبرزان. وخنقوه خنقًا شديدًا، فقام أبو بكر دونه، فجذبوا رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم .............................   الغذق وهو الماء الكثير، ومنه يقال: غيذق الرجل إذا كثر بصاقه؛ لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله، وإن فزعه لجناه استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جني، انتهى. وفي حواشي أبي ذر: لجناه، أي: فيه ثمر يجنى، انتهى. فانظر هذا اللعين، كيف تيقنت نفسه الحق وحمله البطر والكبر على خلافه وقد ذمه الله ذمًا بليغًا، في قوله: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم: 10] ، حتى قوله: على الخرطوم، وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} [المدثر: 11] ، حتى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] . "وآذته قريش" أشد الأذية "ورمته بالشعر والكهانة والجنون" وبرأه الله من جميع ذلك في الكتاب العزيز، "ومنهم من كان يحثو التراب على رأسه" روي أن فرعون هذه الأمة أبا جهل رآه صلى الله عليه وسلم عند الحجون فصب التراب على رأسه، ووطئ برجله على عاتقه، "ويجعل الدم على بابه" كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنت بين شر جارين، بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي، حتى إنهم ليأتون ببعض ما يطرحونه من الأذى فيطرحوه على بأبي"، رواه ابن سعد عن عائشة. "ووطئ عقبة بن أبي معيط على رقبته الشريفة، وهو ساجد عند الكعبة، حتى كادت عيناه تبرزان" وروى البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وأبو يعلى وابن حبان، عن عمرو بن العاصي: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلا يوم أغروا به وهم في ظل الكعبة جلوس وهو يصلي عند المقام، فقام إليه عقبة فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه وتصايح الناس، وأقبل أبو بكر يشتد حتى أخذ بضبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عنه فلما قضى صلاته مر بهم، فقال: "والذي نفسي بيده، ما أرسلت إليكم إلا بالذبح"، فقام له أبو جهل: يا محمد، ما كنت جهولا، فقال: "أنت منهم". "وخنقوه خنقًا" بفتح الخاء وكسر النون وتسكن للتخفيف؛ كما في المصباح "شديدًا" قويًا ونسبه إليهم مع أن الفعل من عقبة فقط، كما في رواية البخاري الآتية على الأثر لإقرارهم عليه ومعاونتهم له إن لم نقل بتعدد القصة. "فقام أبو بكر دونه فجذبوا رأسه ولحيته صلى الله عليه وسلم" وسقطت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله. وقال ابن عمرو -كما في البخاري: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر فأخذه بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] . وقد ذكر العلماء ............................   الصلاة في نسخة "حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه، وهو" يبكي و"يقول: أتقتلون رجلا" لأجل "أن يقول ربي الله! " فقال صلى الله عليه وسلم: "دعهم يا أبا بكر، فوالذي نفسي بيده، إني بعثت إليهم بالذبح"، ففرجوا عنه عليه السلام. "وقال" عبد الله "بن عمرو" بفتح العين ابن العاصي الصحابي ابن الصحابي "كما في البخاري" في مناقب أبي بكر، وفي باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين بمكة عن عروة بن الزبير، قال: سألت ابن عمرو بن العاصي، قلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا" بلا ميم، وفي رواية بالميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة" لفظ البخاري في الباب المذكور: يصلي في حجر الكعبة، "إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب النبي صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه" أي: ثوب النبي صلى الله عليه وسلم "في عنقه" الشريف "فخنقه" بفتح النون "خنقًا" بكسرها وتسكن "شديدًا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه" أي: بمنكب عقبة بفتح الميم وكسر الكاف "ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: وهو يبكي، ثم جزم عبد الله بأن هذا أشد ما صنعه المشركون بالمصطفى يخالف ما في البخاري عن عائشة، قلت: هل أتى عليك يوم أشد من أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك"، فذكر قصته بالطائف مع ثقيف لما ذهب إليهم بعد موت أبي طالب ويأتي الحديث في محله. قال الحافظ: والجمع بينهما أن عبد الله استند إلى ما رآه ولم يكن حاضرا للقصة التي وقعت بالطائف. "وفي رواية" للبخاري أيضًا "ثم قال" الصديق {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} [غافر: 28] كراهية لـ {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} بقية الرواية في الباب الآتي، وفي المناقب: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] استفهام إنكاري وفي الكلام ما يدل على حسن هذا الإنكار؛ لأنه ما زاد على أن قال: ربي الله وجاء بالبينات، وذلك لا يوجب القتل البتة. "وقد ذكر العلماء" وفي شرحه للبخاري بعضهم فكان أصله لبعضهم وسكت الباقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 أنا أبا بكر أفضل من مؤمن آل فرعون، لأن ذاك اقتصر حيث انتصر على اللسان، وأما أبو بكر رضي الله عنه فأتبع اللسان يدًا، ونصر بالقول والفعل محمدًا صلى الله عليه وسلم. وفي رواية البخاري أيضًا: "كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي،   عليه، فنسب للعلماء "أن أبا بكر أفضل من مؤمن آل فرعون" رجل من أقاربه، وقيل: غريب بينهم يظهر دينهم خوفًا منهم وهو مؤمن باطنًا، قال الحافظ: اختلف في اسمه، فقيل: هو يوشع بن نون وهو بعيد؛ لأنه من ذرية يوسف لا من آل فرعون، وقد قيل: إن قوله من آل فرعون متعلق بيكتم إيمانه والصحيح أنه من آل فرعون، قال الطبري: لأنه لو كان من بني إسرائيل لم يصغ إليه فرعون ولم يسمعه، وقيل: اسمه شمعان بالشين المعجمة، وصححه السهيلي، وقيل: حيزر، وقيل: خرييل، وقيل: جالوت، وقيل: حبيب ابن عم فرعون، وقيل: حبيب النجار وهو غلط، وقيل: خونكة بن سود بن أسلم بن قضاعة. ا. هـ. باختصار. "لأن ذاك اقتصر حين انتصر" لموسى حين أراد فرعون قتله، "على لسان" فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا} [غافر: 28] الآية. "وأما أبو بكر رضي الله عنه، فاتبع اللسان يدًا ونصر بالقول والفعل محمدًا صلى الله عليه وسلم" والمراد أن هذا من جملة ما فضل به أبو بكر، لا أن فضله إنما جاء من هذه الحيثية ضرورة أن الحكم يدور مع العلة كذا أفاده بعض شيوخنا، وأصل هذا المنسوب للعلماء جاء عن علي كرم الله وجهه بمعناه، فقد روى البزار وأبو نعيم من رواية محمد بن علي عن أبيه: أنه خطب، فقال: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكنه أبو بكر لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه وهذا يتلببه، ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم بكى علي ثم قال: أنشدكم بالله أمؤمن من آل فرعون أفضل أم أبو بكر، فسكت القوم، فقال علي: والله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا أعلن إيمانه. "وفي رواية البخاري أيضًا" في الطهارة والصلاة والجزية والجهاد والمغازي، والمذكور هنا لفظه في الصلاة عن عبد الله يعني ابن مسعود، "كان عليه الصلاة والسلام" نقل بالمعنى، فلفظه: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم "يصلي عند الكعبة وجمع من قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم" هو أبو جهل؛ كما في مسلم. وفي رواية: قالوا: ولا منافاة لجواز أنه قاله ابتداء وتبعوه عليه، "ألا تنظرون إلى هذا المرئي" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها، فيجئ به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم، فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم ....................   يتعبد في الملأ دون الخلوة "أيكم يقوم إلى جزور" بفتح الجيم وضم الزاي يقع على الذكر والأنثى، وفي الفائق الجزور بفتح الجيم قيل: النحر فإذا نحر، قيل: جزور بالضم "آل فلان" زاد مسلم: وقد نحرت جزور بالأمس، "فيعمد" بكسر الميم وتفتح مرفوع عطفًا على يقوم، وفي رواية بالنصب جوابًا للاستفهام، "إلى فرثها" بفتح الفاء وسكون الراء ومثلثة: ما في كرشها، "ودمها وسلاها" بفتح المهملة والقصر: وعاء جنين البهيمة كالمشيمة للآدميات، وبه يعلم أن الجزور كانت أنثى، قال في المحكم: ويقال: الآدميات أيضًا سلى، "فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم" وفي رواية الطهارة: أشقى القوم به، وبه يفسر هذا الضمير وهو عقبة بن أبي معيط؛ كما في الصحيحين، أي: بعثته نفسه الخبيثة من دونهم فأسرع السير، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا وإيذاء للمصطفى منه لاشتراكهم في الكفر والرضا، وانفراد عقبة بالمباشرة ولذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبرًا، وحكى ابن التين عن الداودي أنه أبو جهل، فإن صح احتال أن عقبة لما انبعث حمل أبا جهل شدة كفره فانبعث على أثره، والذي جاء به عقبة. وفي رواية: فانبعث أشقى قوم بالتنكير وفيه مبالغة ليست في المعرفة؛ لأن معناه أشقى كل قوم من أقوام الدنيا، قال الحافظ: لكن المقام يقتضي التعريف؛ لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك القوم فقط. "فلما سجد عليه السلام وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا" لا يرفع رأسه، كما في رواية "وضحكوا حتى مال بعضهم على" وفي رواية: إلى "بعض من الضحك" استهزاء لعنهم الله "فانطلق منطلق" قال الحافظ: يحتمل أن يكون هو ابن مسعود، انتهى، أي: وأبهم نفسه لغرض صحيح ولا ينافيه رواية فهبنا أن نلقيه عنه لما لا يخفى. "إلى فاطمة" بنته سيدة نساء هذه الأمة ذات المناقب الجمة، "وهي" يومئذ "جويرية صغيرة" السن؛ لأنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم على الصحيح، "فأقبلت تسعى وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا حتى ألقته" أي: الذي وضعوه، "عنه وأقبلت عليهم تسبهم" وفي رواية للشيخين: ودعت على من صنع ذلك زاد البزار فلم يردوا عليها شيئًا، قال: في الفتح وفيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها لشرفها في قومها ونفسها لكونها صرحت بشتمهم وهم رءوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: "اللهم عليك بقريش"، ثم سمى فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام, وعتبة بن ربيعة, وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، ..........................   قريش، فلم يردوا عليها "فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش"، هكذا كرره البخاري في الصلاة لفظًا، وذكره في غيره بلفظ: "اللهم عليك بقريش"، ثلاث مرات. وفي رواية مسلم: وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، والمراد بإهلاك كفارهم على حذف المضاف أو الصفة بقريش الكفار أو من سيأتي منهم بعد فهو عام أريد به الخصوص. وفي البخاري: فشق عليهم إذ دعا عليهم، وفي مسلم: فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، وصريح الحديث: أن الدعاء بعد الفراغ من الصلاة، وفي رواية: فسمعته يقول وهو قائم يصلي: "اللهم اشدد وطأتك على مضر سنين كسني يوسف"، فيمكن أنه دعا به في الصلاة وبعدها، وهذا خير من تجويز أن معنى قضى صلاته قارب الفراغ منها، وقوله: وهو قائم ثابت في صلاته وإن لم يكن في خصوص القيام؛ لأن فيه مع تعسفه إخراج المتبادر من لفظ كل من الحديثين مع إمكان الجمع بدون ذلك. "ثم سمى" أي: عين في دعائه وفصل من أجمل فقال: "اللهم عليك بعمرو بن هشام" المخزومي الأحوال المأبو فرعون هذه الأمة كنته العرب بأبي الحكم وكناه الشارع بأبي جهل، ذكره غير واحد، وللبخاري أيضًا: "اللهم عليك بأبي جهل"، قال الحافظ: فلعله سماه وكناه. "وعتبة بن ربيعة و" أخيه "شيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة" بن ربيعة ثاني المذكورين، قال الحافظ: لم تختلف الروايات في أنه بعين مهملة بعدها مثناة ساكنة، ثم موحدة لكن عند مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل المثناة وهو وهم قديم نبه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم. ا. هـ. قيل: وسبب الوهم أن الوليد بن عقبة بالقاف لم يكن حينئذ موجودًا، أو كان صغيرًا جدًا، قال في النور: ويوضح فساده أن الزبير وغيره من علماء السير والخبر ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عقبة خرجا ليردا أختهما عن الهجرة بعد الحديبية ولا خلاف أن قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] نزلت فيه، فالظاهر أنه كان كبيرا؛ كما قال بعضهم، انتهى. يعني: فهو وهم بلا سبب. "وأمية بن خلف" وفي بعض روايات البخاري: أبي بن خلف، قال في الفتح: وهو وهم والصواب: وهو ما أطبق عليه أصحاب المغازي أمية؛ لأنه المقتول ببدر. وأما أخوه أبي فإنما قتل بأحد، "وعقبة بن أبي معيط" أشقى القوم واسم والده أبان بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وعمارة بن الوليد". قال عبد الله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة".   عبد شمس، "وعمارة" بضم العين وخفة الميم "ابن الوليد" هكذا رواه البخاري في الصلاة جزمًا من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله، ورواه في الوضوء من رواية إسحاق وشعبة عن أبي إسحاق عن عمرو عن ابن مسعود، بلفظ: وعد السابع فلم يحفظه. ولمسلم من رواية الثوري، قال أبو إسحاق: ونسيت السابع، قال الحافظ: ففيه أن فاعل عد عمرو بن ميمون، ولم يحفظه أبو إسحاق خلاف ترديد الكرماني في فاعل عد بين النبي وابن مسعود، وفاعل فلم يحفظه بين ابن مسعود وعمرو بن ميمون على أن أبا إسحاق تذكره مرة؛ كما عند البخاري في الصلاة وسماع إسرائيل منه في غاية الإتقان للزومه إياه؛ لأنه جده وكان خصيصًا به. قال ابن مهدي: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوري عن أبي إسحاق إلا اتكالا على إسرائيل؛ لأنه يأتي به أتم. وقال إسرائيل: كنت أحفظ حديث أبي إسحاق، كما أحفظ سورة الحمد، انتهى ملخصًا. "قال عبد الله" بن مسعود "فوالله لقد رأيتهم" وفي رواية: فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عد رسول الله صلى الله عليه وسلم "صرعى" موتى مطروحين على الأرض، "يوم بدر ثم سحبوا" أي: جروا، "إلى القليب" بفتح القاف وكسر اللام البئر قبل أن تطوى، أي: تبنى بالحجارة ونحوها أو العادية القديمة التي لا يعرف صاحبها، "قليب بدر" الرواية بالجر على البدل ويجوز الرفع بتقدير هو والنصب بأعني، كما أفاده المصنف وغيره. قال العلماء: وإنما أمر بإلقائهم فيه لئلا يتأذى الناس بريحهم، وإلا فالحربي لا يجب دفنه، والظاهر أن البئر لم يكن فيها ماء معين، قال الحافظ. قال المصنف وتحقيرًا لشأنهم، "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة" بضم الهمزة ورفع أصحاب إخبار منه صلى الله عليه وسلم بعد إلقائهم في القليب بأن الله أتبعهم، أي: كما أنهم مقتولون في الدنيا فهم مطرودون في الآخرة عن رحمة الله، ورواه أبو ذر بفتح الهمزة وكسر الموحدة ونصب أصحاب عطفًا على عليك بقريش؛ كأنه قال: أهلكهم في حياتهم وأتبعهم اللعنة في مماتهم، وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم والنسائي والبزار وغيرهم. قال الحافظ رحمه الله: وفيه جواز الدعاء على الظالم، لكن قال بعضهم: محله إذا كان كافرًا، فأما المسلم فيستحب الاستغفار له والدعاء بالتوبة، ولو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر ما بعد؛ لاحتمال إطلاعه صلى الله عليه وسلم على أن المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يدعى لكل أحد بالهداية، وفيه حلمه صلى الله عليه وسلم عمن آذاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 واستدل بهذا الحديث: على أن من عرض له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال، ولا أثر لها صحت صلاته اتفاقًا. واستدل به أيضًا: على طهارة فرث، ما يؤكل لحمه، وعلى أن إزالة النجاسة ليست بفرض، وهو ضعيف. وأجاب النووي: بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده، استصحابًا لأصل الطهارة.   ففي رواية الطيالسي عن ابن مسعود: لم أره دعا عليهم إلا يومئذ وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما قدموا عليه من الاستخفاف به حال عبادة ربه، وفيه استحباب الدعاء ثلاثًا، وغير ذلك. "واستدل بهذا الحديث على أن من عرض له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء" لأن من شروطها طهارة الخبث عند الأكثرين، "لا تبطل صلاته، فلو كانت نجاسة فأزالها في الحال" أو لم تستقر عليه "ولا أثر لها، صحت صلاته اتفاقًا" وقال الخطابي: لم يكن إذ ذاك حكم بنجاسة ما ألقي عليه كالخمر، فإنهم كانوا يلاقون بثيابهم وأبدانهم الخمر قبل نزول التحريم، ورده ابن بطال بأنه لا شك أنها كانت بعد نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] ؛ لأنها أول ما نزل قبل كل صلاة، اللهم إلا أن يقال المراد بها طهارة القلب ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام. "واستدل به أيضًا على طهارة فرث ما يؤكل لحمه" وتعقب: بأن الفرث لم يفرد بل كان مع الدم؛ كما في رواية إسرائيل والدم نجس اتفاقًا، وأجيب بأن الفرث والدم كانا داخل السلى، وجلدة السلى الظاهرة ظاهرة فكان كحمل القارورة المرصصة ورد بأنها ذبيحة عبدة أوثان، فجميع أجزائها نجسة؛ لأنها ميتة، وأجيب بأن ذلك كان قبل التعبد بتحريم ذبائحهم وتعقب بأنه يحتاج إلى تاريخ ولا يكفي فيه الاحتمال. "و" استدل به أيضًا "على أن إزالة النجاسة ليست بفرض" بل سنة، "وهو" أي: الاستدلال "ضعيف" لأنها قضية عين مع احتمال كون النجاسة داخل الجلدة، "وأجاب النووي" قائلا: إنه الجواب المرضي، "بأنه عليه السلام لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابًا لأصل الطهارة" ولا يرد عليه أنه كان صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما ينظر أمامه؛ لجواز أن هذه الخصوصية إنما كانت بعد هذه الواقعة، ولكن تعقب بأنه يدل على علمه بما وضع عليه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وتعقب: بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة، في مثل هذه الصورة. وأجيب عنه، بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها فريضة فالوقت متسع فلعله أعاد. وتعقب: بأنه لو أعاد لنقل، ولم ينقل، وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة. وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين، لأنه لم يقتل ببدر، بل ذكر أصحاب المغازي: أنه مات بأرض الحبشة، وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل عمارة من سحره فتوحش، وصار مع البهائم ............   فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه، وعقب هو في صلاته بالدعاء عليهم. "وتعقب" أيضًا "بأنه مشكل على قولنا بوجوب الإعادة في مثل هذه الصورة" على الصحيح، "وأجيب عنه بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة" فلعل صلاته كانت نافلة، "فإن ثبت أنها فريضة فالوقت متسع، فلعله أعاد" صلاته "وتعقب بأنه لو أعاد لنقل ولم ينقل وبأن الله لا يقره على صلاة فاسدة" وقد خلع نعليه وهو في الصلاة لما أخبره جبريل أن فيهما قذرًا، ويمكن الانفصال عنه هنا بأنه أقره لمصلحة إغاظة الكفار بإظهار ثباته وعدم التفاته إلى فعلهم؛ كما أقر على السلام من ركعتين لتشريع عدم بطلانها بالسلام سهوًا. "وقد استشكل بعضهم عد عمارة بن الوليد في المذكورين؛ لأنه لم يقتل ببدر بل ذكر أصحاب المغازي أنه مات بأرض الحبشة وله قصة مع النجاشي، إذ تعرض لامرأته فأمر النجاشي ساحرًا فنفخ في إحليل" مجرى بول "عمارة من سحره عقوبة له فتوحش وصار مع البهائم" وذلك كما ذكره أبو الفرج الأموي الأصبهاني وغيره أن المسلمين لما هاجروا الهجرة الثانية إلى الحبشة بعثت قريش عمرًا وعمارة إلى النجاشي بهدية، فألقى الله بينهما العداوة في مسيرهما؛ لأن عمرا كان دميمًا ومعه امرأته وعمارة جميل، فهوى امرأة عمرو وهويته فعزما على دفع عمرو في البحر فدفعاه فسبح ونادى أصحاب السفينة فأخذوه فرفعوه إليها فأضمرها في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبلي ابن عمك عمارة لتطيب نفسه، فلما أتيا الحبشة وردهما الله خائبين مكر عمرو بعمارة، فقال له: أنت جميل والنساء يحببن الجمال، فتعرض لامرأة النجاشي فلعلها أن تشفع لنا عنده في قضاء حاجتنا ففعل وتكرر تردده إليها وأخذ من عطرها فأتى عمرو للنجاشي، فأخبره فأدركته عزة الملك، وقال: لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل، فأمر الساحرات فنفحن في إحليله نفحة طار منها هائمًا على وجهه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 إلى أن مات في خلافة عمر. وأجيب: بأن كلام ابن مسعود -أنه رآهم صرعى في القليب- محمول على الأكثر، ويدل عليه: أن عقبة بن أبي معيط لم يصرع في القليب، وإنما قتل صبرًا بعد أن رحلوا عن بدر بمرحلة. وأمية بن خلف لم يطرح في القليب، كما هو بل مقطعًا كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقوله: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة". يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي، فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة ويحتمل أن يكون قاله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ألقوا في القلبيب   لحق بالوحوش في الجبال، وكان إذا رأى آدميًا ينفر منه. "إلى أن مات في خلافة عمر" لما جاءه ابن عمه عبد الله بن أبي ربيعة الصحابي بعد أن استأذن عمر بن الخطاب في السير إليه لعله يجده، فأذن له فسار إلى الحبشة فأكثر الفحص عنه حتى أخبر أنه في جبل يرد مع الوحوش ويصدر معها فسار إليه حتى كمن له في طريقه إلى الماء، فإذا هو قد غطاه شعره وطالت أظفاره وتمزقت عليه ثيابه حتى كأنه شيطان، فقبض عليه وجعل يذكره بالرحم ويستعطفه وهو ينتفض منه ويقول: أرسلني أرسلني حتى مات بين يديه، ذكره أيضًا أبو الفرج في كتاب الأغاني، وكان عمرو قال يخاطب عمارة: إذ المرء لم يترك طعامًا يحبه ... ولم ينه قلبًا غاويًا حيث يمما قضى وطرا منها وغادر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما "وأجيب بأن كلام ابن مسعود نه رآهم صرعى في القليب محمول على الأثر، ويدل عليه أن عقبة بن أبي معيط لم يصرع في القليب"؛ لأنه لم يقتل ببدر بل أسر، "وإنما قتل" أي: قتله عاصم بن ثابت، أو علي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم "صبرًا" أي: بعد حبسه. ففي المصباح كل ذي روح يوثق حتى يقتل، فقد قتل صبرًا، "بعد أن" أسروا "رحلوا عن بدر مرحلة" بمحل يقال له: عرق الظبية، "وأمية بن خلف لم يطرح في القليب كما هو بل مقطعًا" فإنه كان رجلا بادنًا قبل أن يبلغ به إليه؛ "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في غزوة بدر، وفي ذكره تبعًا للفتح أمية شيء؛ لأن كلام ابن مسعود يصدق على أنه رآه ولو مقطعًا إذ لم يقل رأيتهم فيه بلا تقطيع، "وقوله: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأتبع أصحاب القليب لعنة". يحتمل أن يكون من تمام الدعاء الماضي, فيكون عطفًا على قوله: "عليك بقريش"، "فيكون فيه علم عظيم من أعلام النبوة" هو أنه أطلع على أنهم سيلقون في القليب، وأخبر بذلك في ضمن دعائه، وجاء كما قال: وهذا على رواية أبي ذر أتبع بفتح الهمزة وكسر الموحدة ونصب أصحاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 " إسلام حمزة ": ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان أعز فتى في قريش، وأشد شكيمة، وكان إسلامه -فيما قاله العتقي- سنة ست .....................   "ويحتمل أن يكون قاله صلى الله عليه وسلم بعد أن ألقوا في القليب" فيكون إخبارًا بأن الله أتبعهم، وهذا على رواية الباقين: أتبع بالبناء للمفعول. إسلام حمزة: "ثم أسلم حمزة بن عبد المطلب" سيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله خير أعمام المصطفى وأخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة؛ كما في الصحيح، ولا يشكل بأنه أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو أربع؛ لأنها أرضعتهما في زمانين؛ كما قال البلاذري، وقريبه من أمة أيضًا؛ لأن أمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة عم آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا عمارة بضم العين بابن له من امرأة من بني النجار، وقيل: هي بنت له كني بها، وقيل: كنيته أبو يعلى وقدمه بعضهم. قال السهيلي: ولم يعش لحمزة ولد غير يعلى وأعقب خمسة بنين ثم انقرض عقبهم، فيما ذكر مصعب. "وكان" كما قال ابن إسحاق "أعز فتى" أي: أقوى شاب، "في قريش وأشده" أي أشد فتى، والمراد به الجنس؛ لأن اسم التفضيل بعض ما يضاف إليه فلا بد من حمل فتى على ما يشمله وغيره ليكون الأعز والأشد واحدًا منهم، "شكيمة" بفتح المعجمة وكسر الكاف، يقال؛ كما في الصحاح وغيره لمن كان عزيز النفس أبيًا قويًا، وأصله من شكيمة اللجام الحديدة المعترضة في فم الفرس التي فيها الفاس، ويقال: شكيم أيضًا، والجمع شكائم. "وكان إسلامه فيما قاله العتقي" وابن الجوزي "سنة ست" من النبوة، وقيل: في السنة الثانية بالنون، قطع به في الإصابة، وصدر به في الاستيعاب، وتبعه المصنف في ذكر الأعمام وسببه أن أبا جهل آذى النبي صلى الله عليه وسلم وبالغ في تنقيصه وما جاء به عند الصفا؛ كما لابن إسحاق ولغيره عند الحجون ولا مانع من تكرره، فأخبرته مولاة ابن جدعان؛ كما عند ابن إسحاق ولغيره صفية أخته، ولا منافاة فعند ابن أبي حاتم: فأخبره امرأتان فغضب حمزة لما أراد الله من إكرامه فجاء المسجد فعلا رأس اللعين بقوسه فشجه شجة منكرة وقال: أتشتمه أنا على دينه، فرد ذلك علي إن استطعت، فقام رجال من بني مخزوم لنصره، فقال: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا، وعند ابن أبي حاتم: فقال حمزة: ديني دين محمد، إن كنتم صادقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفت عنه قريش قليلا، وقال حمزة حين أسلم: حمدت الله حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدين الحنيف لدين جاء من رب عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف   فامنعوني، فوثبت إليه قريش، فقالوا: يا أبا يعلى، يا أبا يعلى، أي ما هذا الذي تصنع؟ فأنزل الله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] ، إلى قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] ، "فعز به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفت عنه قريش قليلا" أي: بعض ما كانوا ينالون منه؛ كما عبر به ابن إسحاق لشدته، وعلمهم أنه يمنعه، "وقال حمزة حين أسلم: حمدت الله حين هدى فؤادي إلى" الثبات على "الإسلام" بعد ترددي في البقاء عليه، فعند يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم رجع حمزة؛ أي: بعد إسلامه وشجه أبا جهل إلى بيته، فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك للموت، خير لك بما صنعت، وقال: اللهم إن كان هذا رشدًا، فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا، فبات بليلة لم يبت مثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخي، إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري أهو رشد أم لا؟ غي شديد، فحدثني حديثًا فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني، فأقبل صلى الله عليه وسلم فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قاله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك الصادق، فأظهر دينك، فوالله ما أحب أن لي ما ظلته السماء وأنا على ديني الأول، وتم حمزة إسلامه، وعلى ما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم. "والدين الحنيف" عطف تفسير بجعل الإسلام نفس الأحكام أو مغاير يحمله على الانقياد الباطني والدين على الأحكام المشروعة، والمعنى: حمدت الله حين دلني على حقيقة هذا الدين، فانقدت إليه باطنًا وتلبست به ظاهرًا فيكون جمع التصديق والإذعان والإقرار والانقياد الظاهري "لدين" بدل من قوله: إلى الإسلام، "جاء من رب عزيز" ممتنع لا يدرك ولا ينال أو غالب أو جليل القدر أو لا نظير له أو معز لغيره، وفي إتيانه بهذا اسم هنا لطاقة ومناسبة ظاهرة للإيماء إلى أن المشركين وإن عاندوا وجحدوا مآلهم إلى الذل بالقتل والأسر، ومآل هذا الدين الحنيف إلى العزة والظهور؛ لمجيئه من العزيز. "خبير بالعباد" مطلع على حقيقة الشيء عالم به أو مخبر أنبياءه، ورسله بكلامه المنزل عليهم وعباده يوم القيامة بأعمالهم، إذ لا يعزب عن علمه شيء، وفي ذكره إيماء إلى أن سبهم للمصطفى وإيذاءهم سينالون عقابه من الخبير. "بهم" متعلق بقوله: "لطيف" مقدم عليه، أي: لطيف بعباده برهم وفاجرهم، حيث لم يهلكهم جوعًا وعطشًا بمعاصيهم، وفي ذكره رمز إلى أن المشركين لا يغتروا بالنعم، وقد كذبوا المرسلين؛ لأن هذا من لطف الله بهم في الدنيا ومتاعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 إذا تليت رسائله علينا ... تحدر دمع ذي اللب الحصيف رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبينة الحروف وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف فلا والله نسلمه لقوم ... ولما نقض فيهم بالسيوف وعند مغلطاي: وسألوه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- إن كنت تطلب الشرف فينا   قليل، "إذا تليت رسائله" أي: أحكام الرب التي أمرنا بها "علينا" وسمى ما جاء به من الله رسالة؛ لأن جبريل بلغه إياه عن الله وأمره بتبليغه للناس، "تحدر" تساقط "دمع ذي اللب" العقل "الحصيف" بحاء وصاد مهملتين، أي: الكامل المحكم لينا إليها وتكفرًا وفي أحكامها بعجيب النظم وبديع المعاني وتفصيلها بالأحكام والقصص والمواعظ، "رسائل جاء أحمد من" أجل "هداها" أي: الرشاد بها أو الدلالة عليها "بآيات" ظاهرة "مبينة الحروف" يعني القرآن، "وأحمد مصطفى مختار من الخلق "فينا" متعلق بقوله: "مطاع" أي: واجب الطاعة لما ظهر على يديه من الآيات، فلا عبرة بمخالفة المنكرين ولا اتداد بها لظهور بطلانها، "فلا تغشوه" تغطوا ما جاء به من الحق "بالقول العنيف" الباطل الموقع في المشقة والتعب من العنف بالضم ضد الرفق، "فلا والله نسلمه لقوم" ولا نترك نصرته "ولما نقض" بالنون والبناء للفاعل: نحكم، "فيهم" أي: نستأصلهم قتلا "بالسيوف" بل نقاتل دونه إلى منتهى الطاقة، وهذا أولى من قراءة يقض بتحتية مبنيًا للمفعول، وبعده: ونترك منهم قتلى بقاع ... عليها الطير كالورد العكوف وقد خبرت ما صنعت ثقيف ... به فجزى القبائل من ثقيف إله الناس شر جزاء قوم ... ولا أسقاهمو صوب الخريف الورد بكسر الواو وسكون الراء العكوف بضم العين، أي: إن الطير مستديرة على القتلى كالقوم المجتمعين على الماء المستديرين حوله، "وعند مغلطاي" بضم الميم وسكون الغين، "وسألوه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم" حين أسلم حمزة ورأوا الصحابة يزيدون؛ كما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسمي السائلين أن عتبة وشيبة وابن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري والأسود بن المطلب وزمعة والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيها ومنبهًا اجتمعوا، فقالوا: يا محمد! ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة، فما من قبيح إلا وقد جلبته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، "وإن كنت تطلب الشرف فينا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر.   فنحن نسودك علينا" زاد في رواية: حتى لا نقطع أمرًا دونك، "وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا" فانظر إلى حمقهم وجهلهم رضوه ملكًا مع أن الغالب من الملوك التجبر وسلب الأموال بغير حق، ولم يرضوا به نبيًا رسولا يدعوهم إلى الصراط المستقيم، ويوصلهم جنات النعيم. "وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك رئيًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك" مثلث الطاء العلاج في النفس والجسم؛ كما في النور والقاموس. "حتى نبرئك منه أو نعذر" بفتح النون وضمها من عذر وأعذر، أي: يرتفع عنا اللوم؛ كما في المصباح. وروى ابن أبي شيبة وغيره عن ابن عمر وأبو يعلى بسند جيد عن جابر: اجتمع نفر من قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه، قالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، وعند ابن إسحاق والبيهقي وغيرهما عن محمد بن كعب القرظي، قال: حدثت أن عتبة قال يومًا، وكان جالسًا في نادي قريش والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضي من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها، فقال صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع"، قال: يابن أخي! إن كنت ... فذكر الأمور الأربع، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه، قال له: "أقد فرغت أبا الوليد"؟ قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، قال صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1-2] ، إلى قوله: {مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] ، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف، ثم انتهى إلى السجدة سجد. ثم قال: "قد سمعت أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك" الحديث، في عدم رجوع عتبة لقومه وظنهم إسلامه وذهابهم به وغضبه لذلك وحلفه لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: قد علمتم أنه لا يكذب فخفت نزول العذاب عليكم، فأطيعوني واعتزلوه فإن يصبه غيركم كفيتموه، وإن ظهر فملكه ملككم وعزه عزكم، فقال سحرك والله يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم، والظاهر أن هذه القصة في مرة ثانية قبل مجيء عتبة مع الجماعة أو بعده فأجابه المصطفى بما ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما بي ما تقولون، ولكن الله بعثني رسولا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله بيني وبينكم". والرئي -بفتح الراء، وقد تكسر، ثم همزة، فياء مشددة جني يرى فيحب، المكسورة للمحبوب منها. قاله في القاموس. ثم إن النضر بن الحارث، ............................   وأما مع الجماعة، فأجابهم: فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "ما بي ما تقولون" أي: ولا شيء منه، بدليل قوله: "ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا" بالجنة إن صدقتم "ونذيرًا" منذرًا بالنار إن كذبتم، "فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر" بالجزم جواب الشرط، "لأمر الله بيني وبينكم". وفي بقية حديث ابن عباس هذا، فقالوا له: فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا ولا أقل مالا ولا أشد عيشًا منا، فسل ربك فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارًا كالشام والعراق، ويبعث لنا من مضى من آبائنا ويكون فيهم قصي، فإنه كان شيخ صدق، فنسألهم عما تقول أهو حق أم باطل، وسله يبعث معك ملكًا يصدقك ويراجعنا عنك، ويجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عن المشي في الأسواق والتماس المعاش، فإن لم تفعل؛ فأسقط السماء علينا كسفًا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن يفعل، فقام صلى الله عليه وسلم ... الحديث، وفيه: فأقسم أبو جهل ليرضخن رأسه بحجر غدا، فلم دنا منه رجع منهزمًا منتقعًا لونه مرعوبًا قد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده، وقال: عرض لي فحل إبل ما رأيت مثله، فهم أن يأكلني؛ قال ابن إسحاق: فذكر لي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ذاك جبريل لو دنا لأخذه". "والرئي" بزنة كمي "بفتح الراء، وقد تكسر" لاتباعها ما بعدها، "ثم همزة فياء مشددة جني يرى فيحب" فعيل أو مفعول سمي به؛ لأنه يتراءى لمتبوعه أو هو من الرأي من قولهم، فلان رأى قومه إذا كان صاحب رأيهم؛ كما في النور. "و" قيل الراء "المكسورة للمحبوب منها" أي: جماعة الجن إلا أن لفظ القاموس منهم وهو أصرح، "قاله في القاموس" اللغوي "ثم إن النضر" بنون وضاد معجمة ساكنة "ابن الحارث" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وعقبة بن أبي معيط ذهبا إلى أحبار يهود، فسألاهم عنه عليه السلام فقالوا لهما: سلوه عن ثلاثة، فإن أخبركما بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يجب فهو متقول ...............   ابن علقمة بن كلدة بفتح الكاف واللام العبدري المشتري لهو الحديث القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق ... إلخ، أسر ببدر وقتل كافرًا بالصفراء بإجماع أهل السير، وهم ابن منده وأبو نعيم، فقالا: شهد حنينًا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه مائة من الإبل وكان من المؤلفة وقلبا نسبه فقالا: كلدة بن علقمة، وأطنب الحافظ العز بن الأثير وغيره من الحفاظ في تغليظهما والرد عليهما، وتعقب باحتمال أن يكون له أخ سمي باسمه فهو الذي ذكراه لا هذا المقتول كافرًا؛ كذا في الإصابة، وفي مغازي ابن عبد البر ذكر في المؤلفة قلوبهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرًا، انتهى. فجزم بأنه أخوه. "وعقبة" بقاف "ابن أبي معيط" أحد رءوس الكفر لعنه الله قتل بعد بدر، "ذهبا" إلى المدينة ببعث قريش لهما بعد مراجعة بينهم وبين النضر؛ كما رواه ابن إسحاق والبيهقي، عن ابن عباس، قال: إن النضر كان من شياطين قريش، فقال: يا معشر قريش، والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم وأصدقكم حديثًا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، فلما قال ذلك بعثوه مع عتبة "إلى أحبار" بفتح الهمزة جمع حبر بفتح الحاء وكسرها، أي: علماء "يهود" علم لمن دخل دين اليهودية غير مصروف للعلمية وزن الفعل ويجوز دخول أل فلا يمتنع التنوين لنقله من وزن الفعل إلى باب الأسماء، "فسألاهم عنه عليه السلام" بعد إخبارهما لهم بصفته وبعض قوله: وقولهما إنكم أهل الكتاب الأول، أي: التوراة، وعندكم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، وقد أتيناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا؛ كما في حديث ابن عباس. "فقالوا لهما: سلوه عن ثلاثة، فإن أخبركم بهن" على طريق الحقيقة والإجمال؛ لأنه لم يجب عن الروح إلا إجمالا، لأنها مما استأثر الله بعلمه. وفي بعض التفاسير: إن أجابكم عن البعض فهو نبي، وفي كتابهم: إن الروح من الله. وفي رواية: إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي، وإن أجابكم بأنها من أمر الله، فهو نبي. وفي رواية: إن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء فليس بنبي، وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن واحد "فهو نبي مرسل" تأسيس إذ لا يلزم من النبوة الرسالة على المشهورة، "وإن لم يجب" عن شيء منها بأن سكت أو أجاب عن جميعها تفصيلا "فهو متقول" اسم فاعل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، وعن رجل طواف، وعن الروح ما هو؟ فقال لهم عليه السلام: "أخبركم غدًا". ولم يقل إن شاء الله تعالى، فلبث الوحي أيامًا، ثم نزل قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] وأنزل الله تعالى ذكر الفتية الذين ذهبوا،   تقول، أي: ذاكر ما لا حقيقة له، "سلوه" أمر من سال مخفف سأل "عن فتية ذهبوا في الدهر الأول" أي: الزمان المتقدم، سموه أول بالنظر لتقدمه على زمانهم بمدة طويلة، وبقية الرواية: ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجيب "وعن رجل طواف" قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه "وعن الروح" يذكر ويؤنث، ولذا قال: "ما هو" فأقبل النضر وعقبة، وقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، فجاءوا رسول الله فسألوه، "فقال لهم عليه السلام: "أخبركم غدًا" ولم يقل: إن شاء الله فلبث الوحي أيامًا" خمسة عشر يومًا؛ كما عند ابن إسحاق عن ابن عباس، وفي سير التيمي وابن عقبة: إنما أبطأ ثلاثة أيام"، وعن مجاهد: اثنا عشر، وقيل: أربعة، وقيل: أربعين، حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: قد لاه ربه وتركه، وقالت حمالة الحطب: ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك. وفي رواية: فقالت امرأة قريش: أبطأ عليه شيطانه، حتى أحزنه ذلك صلى الله عليه وسلم. وقد نزل في الرد عليهم: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3] ، وأفتاه الله تعالى في سورة الكهف والإسراء عن مسائلهم، "ثم نزل قوله تعالى" عتابًا لنبيه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24] استثناه من النهي، أي: لا تقولن لشيء تعزم عليه إني فاعله في المستقبل إلا ملتبسًا بمشيئة الله، قائلا: إن شاء الله، وقيل: المراد وقت أن يشاء الله أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه، والأول أوفق بكونه عتابًا على عدم الاستثناء، "وأنزل الله تعالى ذكر الفتية" جمع قلة لفتى آثره على جمع الكثرة وهو فتيان لكونهم دون عشرة، "الذين ذهبوا" ولا يعلمهم إلا قليل، قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكر أنهم سبعة، وفي رواية عنه: ثمانية، أخرجهما ابن أبي حاتم، وفي التلفظ بأسمائهم خلف تركته لقول الحافظ في النطق بها اختلاف كثير لا يقع الوثوق من ضبطها بشيء، انتهى. وعن ابن عباس: لم يبق منهم شيء بل صاروا ترابًا قبل البعث، وقيل: لم تأكلهم الأرض ولم تغيرهم، وفي معجمات الأقران أكثر العلماء على أنهم كانوا بعد عيسى، وذهب ابن قتيبة إلى أنهم كانوا قبله، وأنه أخبر قومه خبرهم، وأن يقظتهم بعد رفعه زمن الفترة. وفي تفسير ابن مردويه، عن ابن عباس: أصحاب الكهف أعوان المهدي، قال الحافظ: وسنده ضعيف، فإن ثبت حمل على أنهم لم يموتوا بل هم في المنام إلى أن يبعثوا لإعانة المهدي، وقد ورد حديث آخر بسند واهٍ أنهم يحجون مع عيسى ابن مريم، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وهم أصحاب الكهف، وذكر الرجل الطواف. وهو ذو القرنين ..................   "وهم أصحاب الكهف" الغار الواسع في الجبل اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم أو الصخرة التي أطبقت على الوادي، أو اسم قربتهم أو كلبهم أو لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف، أو كتب فيه شرعهم الذي كانوا عليه، أو الدواة, واختلف في مكان الكهف، فالذي تظافرت به الأخبار أنه في بلاد الروم, وروى الطبري بإسناد ضعيف عن ابن عباس: أنه بالقرب من أيلة، وقيل: قرب طرسوس، وقيل: بين أيلة وفلسطين، وقيل: بقرب زايزا، وقيل: بغرناطة من الأندلس، انتهى ملخصًا من فتح الباري. وذكر غيره أن اسم البلد الذي هو بها بالروم وعريسوس، وفي الفتح أيضًا. وقد روى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن عباس قصة أصحاب الكهف مطولة غير مرفوعة، وملخصها: أنهم كانوا في مملكة جبار يعبدون الأوثان فخرجوا منها فجمعهم الله على غير ميعاد فأخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق، فجاء أهاليهم يطلبونهم ففقدوهم فأخبروا الملك، فأمر بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزائنه، ودخل الفتية فضرب الله على آذانهم فناموا، فأرسل الله من يقلبهم ويحول الشمس عنهم، فلو طلعت عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، ثم ذهب الملك وجاء آخر فكسر الأوثان وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف فبعثوا أحدهم يأتيهم بما يأكلون، فدخل المدينة مستخفيًا فرأى هيئة وناسًا أنكرهم لطول المدة فدفع درهمًا لخباز فاستنكر ضربه، وهم بأن يرفعه إلى الملك، فقال. أتخوفني بالملك وأبي دهقانه؟ فقال: من أبوك؟ قال: فلان، فلم يعرفه فاجتمع الناس فرفعوه إلى الملك، فسأله قال: علي باللوح وكان قد سمع به فسمى أصحابه فرفعهم من اللوح، فكبر الناس وانطلقوا إلى الكهف وسبق الفتى، لئلا يخافوا من الجيش، فلما دخل عليهم عمى الله على الملك ومن معه المكان، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفقوا على أن يبنوا عليهم مسجدًا، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون لهم، انتهى. "وذكر الرجل الطواف وهو ذو القرنين" الأكبر الحميري المختلف في نبوته والأكثر وصح أنه كان من الملوك الصالحين، وذكر الأزرقي وغيره أنه حج وطاف مع إبراهيم وآمن به واتبعه وكان الخضر وزيره. وعن علي: لا نبيًا ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا دعا قومه إلى عبادة الله فضربوه على قرني رأسه ضربتين، وفيكم مثله -يعني نفسه- رواه الزبير بن بكار وابن عيينة في جامعه بإسناد صحيح وصححه الضياء في المختارة، وقيل: كان من الملائكة، حكاه الثعلبي، وقيل: من بنات آدم وأبوه من الملائكة، حكاه الجاحظ في كتاب الحيوان. لقب بذي القرنين واسمه الصعب على الراجح؛ كما في الفتح، أو المنذر أو هرمس أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 .................................................   هردويس أو عبد الله أو غير ذلك، وفي اسم أبيه أيضًا خلاف لطوافه قرني الدنيا شرقها وغربها؛ كما في حديث، أو لانقراض قرنين من الناس في أيامه، أو لأنه كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا، أو لأن لتاجه قرنين أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو لكرم طرفيه أما وأبا، أو لرؤياه أنه أخذ بقرني الشمس، أو لغير ذلك أقوال. قال البيضاوي: ويحتمل لشجاعته، كما يقال الكبش للشجاع، لأنه ينطح أقرانه. وأما ذو القرنين الأصغر فهو الإسكندر اليوناني قتل دارا وسلبه ملكه وتزوج ابنته، واجتمع له الروم وفارس ولذا سمي بذلك. قال السهيلي: ويحتمل أنه لقب به تشبيهًا بالأول، لملكه ما بين المشرق والمغرب فيما قبل أيضًا واستظهره الحافظ وضعف قول من زعم أن الثاني هو المذكور في القرآن، كما أشار إليه البخاري بذكره قبل إبراهيم؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى، وبين إبراهيم وعيسى أكثر من ألفي سنة، قال: والحق أن الذي قص الله نبأه في القرآن هو المتقدم، والفرق بينهما من وجوه: أحدها: أن الذي يدل على تقدم ذي القرنين ما روى الفاكهي، طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين حج ماشيًا فسمع به إبراهيم، فتلقاه. ومن طريق عطاء عن ابن عباس: أن ذا القرنين دخل المسجد الحرام فسلم على إبراهيم وصافحه، ويقال: إنه أول من صافح. ومن طريق عثمان بن ساج أنه سأل إبراهيم أن يدعو له، فقال: وكيف وقد أفسدتم بئري؟ فقال: لم يكن ذلك عن أمري، يعني أن بعض الجند فعل ذلك بغير علمه. وذكر ابن هشام في التيجان أن إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في بئر فحكم له. وروى ابن أبي حاتم من طريق علبا بن أحمر: قدم ذو القرنين مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة، فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال: من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش فشهدت، فقال: صدقتما، قال: وأظن الأكبش المذكورة حجارة، ويحتمل أن تكون غنمًا، فهذه الآثار يشد بعضها بعضًا وتدل على قدم عهد ذي القرنين. الوجه الثاني: قال الفخر الرازي: كان ذو القرنين نبيًا والإسكندر كافرًا ومعلمه أرسطاطاليس، وكان يأتمر بأمره وهو من الكفار بلا شك. ثالثها: كان ذو القرنين من العرب والإسكندر من اليونان من ولد يافث بن نوح على الأرجح، والعرب كلها من ولد سام بن نوح باتفاق، وإن اختلف هل كلهم من ولد إسماعيل أم لا؟ فافترقا، وشبهة من قال: إن ذا القرنين هو الإسكندر. ما أخرجه ابن جرير ومحمد بن الربيع الجيري: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وقال فيما سألوه عن الروح {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الآية. وفي البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: بينا أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث، وهو متكئ على عسيب. إذ مر اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه .............................   فقال: "كان من الروم فأعطي ملكًا فسار إلى مصر فبنى الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به، فقال: انظر ما تحتك، فقال: أرى مدينتي ومدائن حولها، ثم عرج به فقال: انظر ما تحتك، قال أرى مدينة واحدة، قال: تلك الأرض كلها، وإنما أراد الله تعالى أن يريك، وقد جعل الله لك في الأرض سلطانًا، فسر فيها وعلم الجاهل وثبت العالم"، وهذا لو صح لرفع النزاع كله، لكنه ضعيف، انتهى. وذكر نحوه الحافظ ابن كثير وصوب أيضًا أن ذا القرنين غير الإسكندر فعض عليه بالنواجذ. "وقال فيما سألوه" ما مصدرية، أي: في جواب سؤالهم "عن الروح" ولعل حكمة المغايرة بينه وبين ما قبله أنه بين فيه نفس المسئول عنه وهو الفتية والرجل، ولم يبينه هنا بل رد علمه إليه سبحانه، فقال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، أي: علمه لا تعلمونه. "وفي البخاري" في العلم والتفسير والاعتصام والتوحيد ما يعارض ما علم من أن السؤال من قريش بمكة، فإنه أخرج "من حديث عبد الله بن مسعود، قال بينا أنا" أمشي "مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث" بفتح الحاء وراء مهملتين فمثلثة، أي: زرع، وفي العلم: في خرب المدينة بمعجمة مفتوحة وراء مكسورة وموحدة، قال الحافظ: والأول أصوب لرواية مسلم في نخل، زاد في العلم: بالمدينة، وابن مردويه: للأنصار، "وهو متئ" معتمد، وفي العلم: وهو يتكئ "على عسيب" بفتح العين وكسر السين المهملتين وسكون التحتانية وموحدة، وهي الجريدة التي لا خوص فيها، ولابن حبان: ومعه جريدة، "إذ مر اليهود" كذا في التفسير بالرفع على الفاعلية في المواضع الثلاثة مر بنفر من اليهود، وكذا رواه مسلم، قال الحافظ فيحمل على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر، ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود، "فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح" وفي الاعتصام والتوحيد: وقال بعضهم: لا تسألوه، "فقالوا" وفي العلم والتفسير: قال بالإفراد، أي: بعضهم، "ما رابكم إليه" بلفظ الفعل الماضي بلا همز من الريب، قال عياض: أي ما شككم في أمر الروح، أو ما الريب الذي رابكم حتى احتجتم إلى معرفته والسؤال عنه، أو ما دعاكم إلى شيء يسوءكم عقباه، ألا ترى قوله: لا يستقبلكم ... إلخ، انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك فلم يرد عليهم شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الآية.   وللحموي: ما رأبكم بهمزة مفتوحة وموحدة مضمومة من الرأب، وهو الإصلاح، يقال فيه: رأب بين القوم إذا أصلح بينهم، قال الحافظ: وفي توجيهه هنا بعد، وقال الخطابي: الصواب ما أربكم بتقديم الهمزة وفتحتين من الأرب وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية، نعم رأيته في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري، كذلك قال. وفي رواية القابسي، قال المصنف: رأيته عن الحموي أيضًا، ما رأيكم بسكون الهمزة وتحتية بدل الموحدة من الرأي. "وقال بعضهم: لا يستقبلكم" بالرفع على الاستئناف، أي: لا تسألوه لئلا يستقبلكم لا بالجزم لانتفاء شرطه وهو صحة وقوع إن الشرطية قبل أداة النهي مع استقامة المعنى، إذ لا يستقيم هنا أن لا تسألوه يستقبلكم، قال في الفتح: ويجوز السكون وكذا النصب أيضًا، انتهى. ولعل الجزم على النهي مبني على رأي من لا يشترط ذلك. "بشيء" وفي العلم: لا تسألوه لا يجيء بشيء "تكرهونه" إن لم يفسره؛ لأنهم قالوا: إن فسره فليس بنبي؛ لأن في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من عباده، فإذا لم يفسره دل على نبوته وهم يكوهونها، وقامت الحجة عليهم في نبوته. وفي الاتصام: لا يسمعكم ما تكرهون، "فقالوا: سلوه، فسألوه عن الروح، فأمسك فلم يرد عليهم شيئًا" وللكشميهني: عليه بالإفراد، أي: السائل. وفي العلم: فقال بعضهم: لنسألنه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت. وفي الاعتصام: فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح، فأقام ساعة ينظر، قال ابن مسعود: "فعلمت" وفي التوحيد: فظننت، وفي الاعتصام: فقلت "إنه يوحى إليه" وهي متقاربة وإطلاق العلم على الظن مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس؛ كما في الفتح. "فقمت مقامي" أي: مكثت بمحلي الذي كنت فيه. وفي العلم: فقمت فقط، أي: حتى لا أكون مشوشًا عليه، أو فقمت حائلا بينه وبينهم؛ كما في المصنف. وفي الاعتصام: فتأخرت، قال الحافظ: أي أدبًا معه لئلا يتشوش بقربي منه، انتهى. ولا ينافيه رواية مقامي؛ لأنه تأخر قليلا فكأنه فيه، "فلما نزل الوحي" وفي العلم: فلما انجلى عنه، أي الكرب الذي كان يغشاه حال الوحي. "قال" وفي الاعتصام حتى صعد الوحي، فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من الإبداعيات الكائنة يكن من غير مادة وتولد عن أصل، واقتصر على هذا الجواب؛ كما اقتصر موسى في جواب وما رب العالمين بذكر بعض صفاته؛ لكونها مما استأثر الله بعلمه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي -فيما يظهر من بادئ الرأي- أن هذه آية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك, ومما يدل على نزولها بمكة ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت. الحديث. انتهى. وهذا الحديث رواه الترمذي أيضًا بإسناد رجاله رجال مسلم. فيحمل على تعدد النزول كما أشار إليه ابن كثير ...............................   ولأن في عدم بيانها تصديقًا لنبوته، زاد البخاري في التوحيد: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. "قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي فيما يظهر من بادئ الرأي" بالهمز، أي: أوله من غير تثبت وتفكر فيه أو ظاهره دون تفكر فيه باطنًا، "أن هذه آية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية" وقيل: إلا قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] ، إلى آخر ثمان آيات؛ كما في الأنوار، وبه جزم الجلال، "وقد يجاب عن هذا" الاختلاف "بأنه قد تكون نزلت عليه مرة ثانية بالمدينة؛ كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، ومما يدل على نزولها بمكة ما روى الإمام أحمد من حديث ابن عباس، قال: قالت قريش لليهود: أعطونا" بفتح الهمزة "شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت. الحديث، انتهى". "وهذا الحديث" الذي عزاه ابن كثير لأحمد، "رواه الترمذي أيضًا" وقال: إنه صحيح فقصر ابن كثير بل عليه معمر في غزوه لأحمد فقط؛ لأن الحديث إذا كان في أحد الستة لا ينقل من غيرها إلا لزيادة أو صحة؛ كما قال مغلطاي، فكيف وقد صرح الترمذي رواية بصحته وهو ظاهر؛ لأنه "بإسناد رجاله رجال مسلم" فهو من المرتبة السادسة من مراتب الصحيح؛ كما في الألفية، وإن كان لا يلزم أنه كصحة ما رواه مسلم نفسه، كما نبه على ذلك ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم، فقال: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في الصحيح بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك يتوقف على النظر في كيفية روايته عنه، وعلى أخرج حديثه؟ "فيحمل على تعدد النزول؛ كما أشار إليه ابن كثير" وكذا الحافظ ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك. وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر: فقيل: روح الإنسان. وقيل: جبريل. وقيل: عيسى: وقيل: ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة. وقيل غير ذلك.   حجر، وحيث قلنا بذلك فالعلم حاصل، فما وجه ترك المبادرة بالجواب؟ "و" جهه كما قال الحافظ أنه "يحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك" قال: أعني الحافظ، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح. وفي الإتقان: إذا استوى الإسنادان صحة رجح أحدهما بحضور رواية القصة ونحو ذلك من وجوه الترجيحات، ومثل بحديثي ابن مسعود وابن عباس المذكورين، ثم قال: وحديث ابن عباس يقتضي نزولها بمكة والأول خلافه، وقد يرجح بأن ما رواه البخاري أصح وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة لكنه نقل في الإتقان نفسه بعد قليل عن الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيمًا لشأنه وتذكيرًا عند حدوث سببه خوف نسيانه، ثم ذكر منه آية الروح، فإن سورة الإسراء مكية وسبب نزولها يدل على أنها نزلت بالمدينة، ولذا أشكل ذلك على بعضهم ولا إشكال؛ لأنها نزلت مرة بعد مرة، انتهى. "وقد اختلف في المراد بالروح المسئول عنه في هذا الخبر" لأن الروح جاء في التنزيل على معان، "فقيل: روح الإنسان" الذي يحيا به البدن، وقيل: روح الحيوان، "وقيل جبريل" كقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] ، "وقيل: عيسى" كقوله: وروح منه. وقيل: القرآن؛ كقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} [الشورى: 52] . وقيل: الوحي؛ كقوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] . "وقيل: ملك يقوم وحده صفًا يوم القيامة، وقيل غير ذلك" فقيل: ملك له أحد عشر ألف جناح ووجه، وقيل: ملك له سبعون ألف لسان، وقيل: سبعون ألف وجه في كل وه سبعون ألف لسان، لكل لسان ألف لغة، يسبح الله بكلها فيخلق بكل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة، وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش. وقيل: خلق كخلق بني آدم، يقال لهم الروح يأكلون ويشربون لا ينزل ملك من السماء إلا ومعه واحد منهم. وقيل: خلق يرون الملائكة ولا تراهم الملائكة، كالملائكة لبني آدم؛ كذا ذكره ابن التين بزيادات من كلام غيره. قال الحافظ: وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى: لفنا الروح الوارد في القرآن، لا في خصوص هذه الآية، فمنه نزل به الروح، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا} [الشورى: 52] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح. وقال الإمام فخر الدين: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيز أم لا؟ وهل هي قديمة أم حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد ...................   {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} ، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] ، يوم يقوم الروح تنزل الملائكة والروح، فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوة، والخامس والسادس محتمل لجبريل ولغيره, وورد إطلاق روح الله على عيسى. وروى إسحاق يعني ابن راهويه في تفسيره بإسناد صحيح، عن ابن عباس، قال: الروح من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم لا ينزل ملك إلا ومعه واحد من الروح، انتهى. "قال القرطبي: الراجح" وهو قول الأكثر "أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله" واضح، وأما قوله: "ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح" فغير واضح، إذ سؤالهم تعنت وامتحان لا استفهام، كما هو معلوم، وجنح ابن القيم في كتاب الروح إلى ترجيح أن الروح المسئول عنه، ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] ، قال: فأما أرواح بني آدم فلم تسم في القرآن إلا نفسًا، قال الحافظ: ولا دلالة فيه لما رجحه بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبري من طريق العوفي، عن ابن عباس، أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح وكيف يعذب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية. "وقال الإمام فخر الدين" الرازي "المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل" أنه عن "ماهيته" أي حقيقته، "وهل هي متميزة" منفصلة عن البدن غير حالة فيه، تتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق وتدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله؛ كما قال الغزالي والحكماء وكثير من الصوفية، "أم لا؟ " بل حالة فيه حلول الزيت في الزيتون؛ كما قال جمهور أهل السنة. "وهل هي حالة في متحيز، أم لا؟ وهل هي قديمة" كما قال الزنادقة، "أم حادثة؟ " مخلوقة، كما أجمع عليه أهل السنة، وممن نقل الإجماع: محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة، ومن الأدلة عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، والمجندة لا تكون إلا مخلوقة"، "وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد" بالموت وهو الصحيح والأخبار به طافحة، ففي فنائها عند القيامة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 وتفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها، وغير ذلك من متعلقاتها. قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية. وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} ، فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله تعالى: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} :   عودها توفية بظاهر قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] ، وعدمه بل تكون مما استثنى الله في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87، الزمر: 68] قولان، حكاهما السبكي في تفسيره، وقال الأقرب الثاني، "أو تفنى؟ " كما قال الفلاسفة وشرذمة قليلة من الأندلسيين وشدد عليهم النكير ورد عليهم بما أخرجه ابن عساكر عن سحنون أنه ذكر عنده رجل يذهب إلى أن الأرواح تموت بموت الأجساد، فقال: معاذ الله، هذا قول أهل البدع. وقال ابن القيم: الصواب أنه إن أريد بذوقها للموت مفارقتها للجسد، فنعم هي ذائقة الموت بهذا المعنى، وإن أريد أنها تعدم فلا؛ بل هي باقية بإجماع في نعيم أو عذاب. "وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من متعلقاتها؟ قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني؛ إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة؟ والجواب" الصادر من الله لنبيه "يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع" جمع طبيعة، وهي مزاج الإنسان المركب من الأخلاط؛ كما في المصباح ونحوه في القاموس. "والأخلاط" جمع خلط، قال في القاموس: أخلاط الإنسان أمزجته الأربعة. "وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: {كُنْ} [يس: 82] ، قيل: هو عبارة عن سرعة الحصول، أي: متى تعلقت إرادته تعالى بشيء كان، وقيل: إذا أراد شيئًا قال قولا نفسانيًا له: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ، وعليه فكن علامة وسبب لوجود ما أراده تعالى؛ "فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه" إيجاده فهو تفسير للأمر، "ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد" بجعل الله تعالى إياها سببًا في وجود الحياة، فلا ينافي أن التأثير إنما هو بإرادته تعالى وخلقه "ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه، قال: ويحتمل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 الفعل، كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أي فعله. فيكون الجواب: أنها حادثة. ثم قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها. انتهى. وقال في فتح الباري: وقد تنطع قوم فتباينت أقوالهم. فقيل: هي النفس الداخل الخارج. وقيل: جسم لطيف، يحل في جميع البدن. وقيل: هي الدم. وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة. ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين: أن لكل نبي خمسة أرواح، ولكل مؤمن ثلاثة ............   "الفعل؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، أي: مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح، "أي: فعله فيكون الجواب: أنها حادثة، ثم قال: سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها، انتهى" كلام الرازي. "وقال في فتح الباري" في التفسير بعد نقله كلامي القرطبي والرازي المذكورين، "وقد تنطع قوم" من جميع الفرق؛ أي: تعمقوا وبالغوا في الكلام وخرجوا عن الحد في معرفة ماهية الروح، "فتباينت أقوالهم" قال بعضهم: وما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل، "فقيل: هي النفس الداخل الخارج" وعزى للأشعري "وقيل: جسم لطيف يحل" بضم الحاء، "في جميع البدن" ويسري فيه سريان ماء الورد فيه، وهذا اعتمده عامة المتكلمين من أهل السنة؛ كما قال المصنف وهو أقرب الأقوال "وقيل: هي الدم" أسقط من الفتح، وقيل: هي عرض قبل قوله: "وقيل: إن الأقوال فيها بلغت المائة"، وقيل: هي أكثر من ألف قول، قال ابن جماعة: وليس فيها قول صحيح، بل هي قياسات وتخيلات عقلية. "ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح" فما به حياتهم روح، وما ثبت في قلوبهم من الإيمان روح، وما ترقوا به من معرفة الله وهدايتهم إلى الأعمال الصالحة واجتنابهم المناهي روح، ويشاركهم المؤمنون في الثلاثة، وهو المراد بقوله: "ولكل مؤمن ثلاثة" وأيدت الأنبياء زيادة عليهم بقبول وحي الله ويسمى روحًا لحياة القلوب به وبقوة خلقها الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ولكل حي واحدة. وقال ابن العربي: اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران، وهو الحق، وقيل هما شيء واحد .....................   فيهم، فيتمكنون بها من سماع كلامه تعالى بلا واسطة فيتحققون أنه ليس من جنس كلام البشر ذكر الخمسة هذه ابن القيم في كتاب الروح ملخصًا، ولا تشكل الأخيرة بأن الكلام لم يقع للجميع؛ لأنه لا يلزم من خلق القوة وقوعه بالفعل، وهذا أولى من تفسير ثلاثة: المؤمن، بما ذكره الأنصاري في شرح الرسالة القشيرية أن في باطن الجسد روح اليقظة، وهي التي ما دامت فيه كان متيقظًا فإذا فارقته نام ورأى المرائي. وروح الحياة: التي ما دامت فيه كان حيًا، فإذا فارقته مات فالنوم انقطاع الروح عن ظاهر البدن فقط. والموت: انقطاعه عن ظاهره وباطنه، وروح الشيطان ومقرها الصدر؛ لقوله تعالى: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] ، انتهى؛ لأن هذه الثلاثة لا تخص المؤمن بل يشاركه الكافر. "ولكل حي واحدة" بقية، نقل ابن منده؛ كما في الفتح، وإن سقط في كثير من نسخ المصنف: ونقل ابن القيم عن طائفة أن للكافر والمنافق روحًا واحدة، وقال: أما الروح التي تتوفى وتقبض فواحدة، وما زاد عليها مما سمي روحًا مجاز، والمراد خاصة نسبتها لروح الحياة كنسبة الروح إلى الجسد، فإنه إنما يحس ويدرك ويقوى بحلولها فيه، فإذا فقدها كان بمنزلة الجسد إذا فقد روحه، قال: وتسمى قوى البدن روحًا، فيقال: الروح الباصر والسامع والشام ويطلق على أخص من هذا كله وهو قوة معرفة الله والإنابة إليه وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، فللعلم روح، وللأجساد روح، وللإخلاص روح، انتهى. زاد البقاعي: ولكل من التوكل والمحبة والصدق روح، والناس متفاوتون، فمن غلب عليه الأرواح صار روحانيًا، ومن فقدها أو أكثرها صار أرضيًا مهينًا. "وقال" القاضي محمد أبو بكر "بن العربي" الحافظ المشهور "اختلفوا في الروح والنفس، فقيل: متغايران" كما عليه فرقة محدثون وفقهاء وصوفية، قال السهيلي: ويدل عليه {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] ، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} ، فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك، ولذا رجحه ابن العربي، فقال: "وهو الحق" فالنفس تخرج في النوم والروح في الجسد، والنفس لا تريد إلا الدنيا والشيطان معها، والروح تدعو إلى الآخرة والملك معها، وقيل: هما شيء واحد" قاله الأكثرون وهو الصحيح؛ كما قال ابن القيم والسيوطي وسبقهما الإمام أبو الوليد بن رشد أحد أئمة المالكية، فقال: إنه الصواب، وجزم به ابن السبكي وأقره شارحوه، وقيل: لابن آدم نفس مطمئنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 قال وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس. وقال ابن بطال القرطبي حقيقتها مما استأثر الله بعلمه بدليل هذا الخبر. قال: والحكمة في إبهامه، اختيار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه. وقال القرطبي: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى. وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أن يطلعهم. وقد قالوا في علم الساعة.   ولوامة وأمارة، قال الصفوي: والتحقيق أنها واحدة لها تسمى باعتبار كل صفة باسم، "قال" أي ابن العربي، "وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس" حقيقة على الثاني ومجازًا على الأول، قال ابن العربي: كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء، بل الجماد مجازًا. "قال" العلامة أبو الحسن علي بن خلف "بن بطال القرطبي" شارح البخاري أحد شيوخ ابن عبد البر كان من أهل العلم والمعرفة والفهم عنى بالحديث العناية التامة وأتقن ما قيد، ومات سنة أربع وأربعين وأربعمائة، "معرفة حقيقتها مما استأثر بعلمه بدليل هذا الخبر" كالقرآن وتلك الأقوال تنطع، "قال: والحكمة في إبهامه" أي: عدم بيان حقيقته، "اختبار" بموحدة "الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم" يلجئهم "إلى رد العلم إليه" وأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد الضاد. "وقال القرطبي: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء؛ لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى" ذكره بعد سابقه، إشارة إلى أن الاختبار إذا نسب إلى الحق كان مستعملا في لازمه وهو إظهار عجز المختبر؛ لأن الاختبار الامتحان والقصد به طلب بيان ما عليه المختبر، وإنما يكون ممن لا يعلم حقيقة الحال لا من العليم بما في الصدور. "وقال بعضهم: ليس في الآية" ولا في الحديث "دلالة على أن الله لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه ولم يأمره أن يطلعهم" بل أمره بعدم إطلاعهم، وذكر في الأنموذج هذا الاحتمال قولا، قال شارحه: والصحيح خلافه، "وقد قالوا في علم الساعة" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 نحو هذا فالله أعلم. انتهى ملخصًا. ولما كثر المسلمون، وظهر الإيمان ................................................   وباقي الخمس المذكورة في آية {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] "نحو هذا" يعني: أنه أوتي علمها ثم أمر بكتمها، قال بعضهم: وظاهر الأحاديث يأباه، "فالله أعلم" بحقيقة ذلك "انتهى" كلام الفتح "ملخصًا" وفيه بعد هذا: وممن رأى الإمساك عن ذلك الأستاذ أبو القاسم القشيري، فقال بعد كلام الناس في الروح: وكان الأولى الإمساك عن ذلك والتأدب بأدبه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الجنيد: إنها مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود، وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير. وأجاب من خاض في ذلك: بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليظ، لكونه يطلق على أشياء فأضمروا أنه بأي شيء أجاب، قالوا: ليس هذا المراد، فرد الله كيدهم، وأجابهم جوابًا مجملا كسؤالهم المجمل. وقال السهروردي: يجوز أن من خاض فيها سلك التأويل لا التفسير، إذ لا يسوغ إلا نقلا. أما التأويل فتمتد العقول إليه بذكر ما تحتمل الآية من غير قطع بأنه المراد، وقد خالف الجنيد ومن تبعه جماعة من متأخري الصوفية فأكثروا من القول في الروح، وصرح بعضهم بمعرفة حقيقتها وعاب من أمسك عنها، انتهى. ثم ذكر المصنف بعض ما أوذي به المسلمون, سنة الله في الذين خلوا من قبل؛ كما قال تعالى: {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 1-3] الآية، يقال: نزلت في عمار. وفي البخاري عن خباب: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة، ولقد لقينا من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ فقعد محمرًا وجهه، فقال: "إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه"، انتهى. إلا أن المصنف يشعر بأنه بعد إسلام حمزة وبعث المشركين إلى اليهود وليس بمراد؛ لأن إسلام حمزة في السادسة والهجرة الأولى في الخامسة، نعم يأتي على أن إسلامه في الثانية، فقال: "ولما كثر المسلمون وظهر الإيمان" لم يقل الإسلام مع أنه أنسب بالمسلمين إيماء إلى أن ما صدقهما واحد إذ لا اعتداد بأحدهما دون الآخر شرعًا؛ فالإسلام النافع هو الانقياد ظاهرًا وباطنًا لإجابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتحقق بدون الإيمان، كما أن الإيمان الذي هو التصديق لاعتداد به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 أقبل كفار قريش على من آمن يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم. حتى إنه مر عدو الله، أبو جهل، بسمية أم عمار بن ياسر، وهي تعذب فطعنها في فرجها فقتلها. وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب اشتراه منهم وأعتقه، منهم بلال   شرعًا بدون انقياد، "أقبل كفار قريش" أي: التفتوا وسعوا لا الإقبال بالوجه "على من آمن" بإغراء أبي جهل "يعذبونهم" بأنواع العذاب إن لم يكن لهم قوة ومنعة، "ويؤذونهم" بالتوبيخ بالكلام ونحوه لمن له منعة؛ كما روي أن أبا جهل كان إذا سمع برجل أسلم وله شرف ومنعة لامه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنغلبن رأيك ولنضعن شرفك؛ وإن كان تاجرًا، قال: لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك؛ وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به، واستمر الملعون في أذاه "حتى إنه" بكسر الهمزة "مر عدو الله أبو جهل بسمية" بضم المهملة مصغر، إحدى السابقات كانت سابع سبعة في الإسلام، "أم عمار بن ياسر وهي تعذب" هي وابناها عمار وعبد الله وأبوهما ياسر بن عامر؛ كما رواه البلاذري عن أم هانئ، قالت: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة" فمات ياسر في العذاب وأعطيت سمية لأبي جهل "فطعنها في فرجها" بحربة وهي عجوز كبيرة "فقتلها" ورمى عبد الله فسقط، وقد روى ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد أن سمية أول شهداء الإسلام. وروى ابن عبد البر عن ابن مسعود: أن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار حتى بلغت فرجها فماتت، فقال عمار: يا رسول الله! بلغ منا أو بلغ منها العذاب كل مبلغ، فقال صلى الله عليه وسلم: "اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحد بالنار" وأما عمار ففرج الله عنه بعد طول تعذيبه؛ فقد جاء أنه كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، ورئي في ظهره أثر كالمخيط فسئل، فقال: هذا ما كانت تذبني قريش في رمضاء مكة، وجاء أنهم أحرقوه بالنار، فمر صلى الله عليه وسلم فأمر يده عليه، وقال: "يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم"، "وكان الصديق إذا مر بأحد من العبيد يعذب" أراد ما يشمل الإناث لكونهن فيهم "اشتراه منهم" من سادتهم المعذبين لهم. "وأعتقه" ابتغاء وجه ربه الأعلى، "منهم" من العبيد الذين اشتراهم: "بلال" بن رباح براء مفتوحة فموحدة خفيفة فألف مهملة، الحبشي على المشهور، وهو ما رواه الطبراني وغيره عن أنس، وقيل: النوبي ذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، وكان مولى بعض بني جمح، ثم مولى الصديق. روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم أن أبا بكر اشتراه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وعامر بن فهيرة. وعن أبي ذر: كان أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد ......................   بخمس أواق وهو مدفون بالحجارة، "وعامر بن فهيرة" بضم الفاء وفتح الهاء وإسكان التحتانية وفتح الراء فتاء تأنيث، أسلم قديمًا. روى الطبراني عن عروة: أنه كان ممن يعذب في الله، فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وكذا اشترى أبا فكيهة. ذكر ابن إسحاق: أنه أسلم حين أسلم بلال فعذبه أمية بن خلف، فاشتراه أبو بكر فأعتقه، واشترى أيضًا حمامة بفتح المهملة وخفة الميم، أم بلال وجارية بني المؤمل، قال في الإصابة: وردت في غالب الروايات غير مسماة وسماها البلاذري لبينة، أي: بلام وموحدة تصغير لبنة، والنهدية وابنتها وزبيرة وأمة بني زهرة. "وعن أبي ذر: كان أول من أظهر الإسلام" إظهارًا تامًا لا خفاء معه بحيث لا يبالي بمن علم به "سبعة" فلا ينافي إسلام كثيرين غيرهم، وإظهار بعضهم لبعض خفاء "رسول الله صلى الله عليه وسلم" ودعا إلى الله وليس ثم من يوحده وهذا من أقوى شجاعته، "وأبو بكر" وكانت له اليد العليا في الإسلام وعادى قومه بعدما كان محببًا فيهم، ودفع عن المصطفى قولا ويدًا ودعا إلى الله، وحسبه أن فضلاء الصحابة أسلموا على يده. "وعمار" بن ياسر المملوء إيمانًا الصابر على البلوى أولا وآخرًا، المجاهد في الله حق جهاده. وروى الطبراني في الكبير عنه: قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس, أرسلني إلى بئر بدر فلقيت الشيطان في صورة الإنس فصارعني فصرعته، فجعلت أدقه بفهير أو حجر معي، فقال صلى الله عليه وسلم: "عمار لقي الشيطان عند البئر فقاتله"، فرجعت فأخبرته، فقال: "ذاك الشيطان". "وأمه سمية" بنت سلم، قاله ابن سعد. وقال شيخه الواقدي: بنت خاط بمعجمة مضمومة وموحدة ثقيلة، ويقال: بمثناة تحتية، وعند الفاكهي: بنت خبط بفتح أوله بلا ألف مولاة أبي حذيفة بن المغيرة، وكان ياسر حليفًا له فزوجه سمية فولدت عمارًا، فأعتقه. "وصهيب" بضم الصاد المهملة وفتح الهاء وتحتية ساكنة فموحدة، ابن سنان الرومي مولى عبد الله بن جدعان أسلم هو وعمار في يوم واحد بعد بضع وثلاثين رجلا على يد المصطفى ومكثا عنده بقية يومهما، ثم خرجا مستخفين فدخل عمار على أبويه، فسألاه أين كان، فأخبرهما بإسلامه وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك، فأعجبهما فأسلما على يده، فكان صلى الله عليه وسلم يسميه الطيب المطيب. "وبلال" المؤذن "والمقداد" بن عمرو المعروف بابن الأسود؛ لأنه تبناه, شهد بدرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون ليعذبونهم فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، وإن بلالا هانت نفسه عليه في الله عز وجل، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. رواه أحمد في مسنده. وعن مجاهد مثله، وزاد في قصة بلال: وجعلوا في عنقه حبلا ....................   والمشاهد كلها. "فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله" من أذية الكفار البالغة المتوالية، فلا ينافي وطء عتبة رقبته وسب أبي جهل، ونحو ذلك. "بعمه أبي طالب" وبغيره كبعث جبريل في صورة فحل ليلتقم أبا جهل لما أراد أذاه، ورؤيته أفق السماء سد عليه لما نذر أن يطأ عنقه الشريف، ورؤيته رجالا عن يمينه وعن شماله معهم رماح، حتى قال: لو خالفته لكانت إياها، أي: لأتوا على نفسه لما أخذ صلى الله عليه وسلم بظلامة الزبيدي في جماله التي كان أكسدها عليه وظلمه، فأقبل إليه المصطفى، وقال: "يا عمرو، إياك أن تعود لمثل ما صنعت، فترى مني ما تكره" فجعل يقول: لا أعود لا أعود، كما بين في الأخبار، وكستر ملك له بجناحه لما أرادته امرأة أبي لهب فلم تره، وغير ذلك من الآيات البينات. "وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه" من الأذى المتوالي "وأما سائرهم" أي: باقيهم، "فأخذهم المشركون يعذبونهم فألبسوهم أدراع الحديد" جمع درع ولعل الإضافة للاحتراز عن نحو القمص، "وصهروهم" بفتح الهاء مخففًا طرحوهم، "في الشمس" لتؤثر حرارتها فيهم "وإن بلالا" بكسر الهمزة استئناف، "هانت نفسه عليه في الله عز وجل" فلم يبال بتعذيبهم، وصبر على أذاهم، "وهان على قومه" أي: مواليه، "فأخذوه فأعطوه الولدان" جمع وليد "فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد" قال البرهان: مرفوع منون كذا أحفظه، وكذا هو في أصلنا من سنن ابن ماجه خبر مبتدأ محذوف، أي: الله أحد، كأنه يشير إلى أني لا أشرك بالله شيئا، ويحتمل أنه مرفوع غير منون، أي: يا أحد، قال شيخنا: وأما النطق به حكاية لكلام بلال، فالظاهر أنه بالسكون لكونه موقوفًا عليه غير موصول بما يقتضي تحريكه، "رواه أحمد في مسنده، وعن مجاهد مثله. وفيه: أنه نزل فيهم {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} [النحل: 110، 119] الآية، وأخرجه بقي بن مخلد في مسنده، لكنه أبدل المقداد بخباب، "وزاد" مجاهد "في قصة بلال، وجعلوا في عنقه حبلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل في عنقه. فانظر كيف فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر، وهو يقول: أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان، وهذا كما وقع له أيضًا عند موته، كانت امرأته تقول: واحرباه وهو يقول: واطرباه. غدا ألقى الأحبة محمدًا وصحبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء. ولله در أبي محمد الشقراطسي حيث قال: لاقى بلال بلاء من أمية قد ... أحله الصبر فيه أكرم النزل إذ أجهدوه ............... ... ........................   ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به حتى أثر الحبل في عنقه" ليرجع إلى الكفر والله يعيذه وحسبه بهذا منقبه، قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: "سمعت دق نعليك في الجنة"، رواهما البخاري. "فانظر كيف" تأمل صفته مع صبره، فليست كيف للاستفهام أو هي بتقدير مضاف، أي: انظر جواب السائل عن حاله، بقوله: كيف، "فعل ببلال ما فعل من الإكراه على الكفر" بيان لما "وهو يقول: أحد أحد، فمزج" خلط "مرارة العذاب" مشقته وألمه" بحلاوة الإيمان" أي: الراحة الحاصلة به فهو استعارة تصريحية فشبه تحمله ألم العذاب بمن خلط الصبر ونحوه بنحو سكر فسهل عليه تناوله على أن في كون هذه الحلاوة حقيقية لأولياء الله أو استعارة خلافًا بسطه المصنف في مقصد المحبة. "وهذا كما وقع له أيضًا عند موته كانت امرأته تقول: واحرباه" روي بفتح الحاء والراء المهملتين والموحدة من الحرب بالتحريك، وهو كما في النهاية نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، وبفتح الحاء والزاي ونون وبضم الحاء وسكون الزاي، وروي: واحوباه بفتح الحاء وسكون الواو فموحدة من الحرب وهو الإثم، والمراد ألمها بشدة جزعها وقلقها في المصيبة أو من الحوبة بمعنى رقة القلب وهو تكلف، كما في النسيم. "وهو يقول: واطرباه" أي: فرحاه، "غدا ألقى الأحبة" الذين طال شوقي إليهم، "محمدًا وصحبه فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، ولله در أبي محمد الشقراطسي، حيث قال" في قصيدته المشهورة: "لاقى بلال بلاء من أمية قد" وروى إذا "أحله" من الحلول بالمكان، "الصبر فيه" أي: أحله الصبر على البلاء الذي كان يعذب به لما أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم كلمة مما يريدون، ففي بمعنى على، "أكرم" بالنصب على الظرف مواضع "النزل" وهو طعام الضيف الذي يكرم به إذا نزل وأكرم تلك المواضع هو الجنة، قال تعالى: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 35] ، وفسر ما لاقاه، بقوله: "إذ" ظرف لقوله: لاقى أو أحله، "أجهدوه" حملوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 ...... بضنك الأسر وهو على ... شدائد الأزل ثبت الأزر لم يزل ألقوه بطحا برمضاء البطاح ... وقد عالوا عليه صخورًا جمة الثقل فوحد الله إخلاصًا وقد ظهرت ... بظهره كندوب الطل في الطلل إن قد ظهر ولي الله من دبر ... قد قد قلب عدو الله من قبل   فوق طاقته من العذاب من الجهد وهو المشقة "بضنك" ضيق "الأسر وهو على شدائد الأزل" بفتح الهمزة وبالزاي واللام الحبس والتضييق، "ثبت" مصدر بمعنى اسم الفاعل "الأزر" بزاي فراء القوة، أي: ثابت القوة، "لم يزل" بفتح الزاي من زال أخت كان وبضمها، أي: لم يزل عن ذلك وبين سبب ذلك بقوله: "ألقوه بطحًا" مفعول مطلق، أي: إلقاء هو بطح على وجهه أو حال من ضمير الفاعل، أي: باطحين أو المفعول، أي: مبطوحًا "برمضاء" بفتح الراء وسكون الميم وضاد معجمة ممدود، أي: بأرض اشتد وقع الشمس فيها سواء كان بها رمل أو حصى أو غيرهما، قاله أبو شامة. وفي النور الرمضاء الرمل إذا اشتدت حرارته، "البطاح" جمع بطحاء أبو أبطح على غير القياس إذ قياس أبطح وبطحاء بطحاوات والكل مستعمل والإضافة من الأعم إلى الأخص كشجر أراك، أي: في أرض شديدة الحر، هو أودية واسعة، "وقد عالوا" مثل أعلوا، أي: رفعوا، "عليه صخورًا جمة الثقل" أي: كثيرته وألقوها عليه. وأخرج الزبير بن بكار وأبو الفتح اليعمري عن عروة، قال مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب يلصق ظهره برمضاء البطحاء في الحر، وهو يقول: أحد أحد، فقال: يا بلال صبرًا يا بلال صبرًا، لم تعذبونه فوالذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حنانًا، يقول: لأتمسحن به واستأنف قوله: "فوحد الله" حال كون توحيده "إخلاصًا" أو هو مفعول مطلق في موضع توحيد إلا أنه بمعنى يوحد، قال أبو شامة: ويجوز أن يكون فوحد الله في موضع الحال من القوه أو من عليه، أي: في حال توحيده لله. ورده شيخنا بأن الحال لا تقع جملة إلا خبرية غير مصدرة بعلم استقبال مرتبطة بالواو والضمير أو بالواو فقط، كما هو مقرر. "و" الحال أنه "قد ظهرت بظهره كندوب" جمع ندب بفتح الدال، أي: آثار، وقيل: أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد، "الطل" المطر الضعيف "في الطلل" ما شخص من آثار الديار على وجه الأرض وقد يعبر به عن محل القوم ومنزلهم وهو مراده هنا، فكأنه يقول: أثر التعذيب في ظهره؛ كما أثر المطر في الأطلال فخدد أرضها ومحا وسومها، قاله الطرابلسي. قال أبو شامة: وإذا كان المطر ضعيفًا ظهرت آثار نقطه في الأرض. "إن قد ظهر ولي لله من دبر قد قد قلب عدو الله من قبل" فيه كما قال أبو شامة: من البديع اللفظي والمعنوي ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 يعني إن كان ظهر ولي الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده، فقد جوزي عدو الله أمية وقد قلبه ببدر، لأنه قتل يومئذ، وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاء لأخوة كانت بينهما في الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا ..................   المتصفين في الآيتين إن كان قميصه قد من قبل وإن كان قميصه قد من دبر، وجعل صفة بلال الصفة التي كان عليها نبي الله يوسف، والصفة المكروهة صفة الكافر أمية، فأضاف إلى كل ما يليق بحاله والتجانس بين قد وقد، وبين قلب عدو الله ومن قبل، وذكره للقلب دون غيره من أعضاء الجسد مبالغة في تقطيعه بالسيوف، أي: أنها وصلت إلى قلبه فقدته، والمقابلة بين ولي الله وعدو الله وظهر وقلب إذ القلب من أعضاء الباطن والظهر بخلافه، والإشارة بقوله: من دبر إلى أن تعذيبه، كانت صورته صورة من أتى من ورائه غيلة؛ لأنه عذب بعد أن بطح وألقي عليه الصخر، وعدو الله أتى من قبل وجهه لا غيلة ولا خديعة. "يعني: إن كان ظهر ولي الله بلال قد ظهر فيه التعذيب بقده فقد جوزي عدو الله أمية وقد قلبه ببدر؛ لأنه قتل يومئذ" وكان السيف وصل إلى قلبه فقده؛ كما مر؛ وأشار إلى أن حذف الفاء للضرورة؛ لأنه من المواضع التي يجب اقتران الجواب فيها بالفاء؛ لأن الشرط ماض مقرون بقد، وبه جزم الطرابلسي. وقال أبو شامة: أو هو جواب قسم محذوف، فلا تلزم الفاء نحو: وإن أطعتموهم إنكم لمشركون لكن حذف لام القسم، أي: لقد قد، فجواب الشرط محذوف؛ لأنه إذا قدر القسم قبله يكون ما اجتمع فيه الشرط والقسم فيحذف جواب المتأخر منهما؛ قال: ويجوز أنه عبر بقد قلبه عن همه ووجعه وتألمه وجزعه بإخبار سعد بن معاذ إياه بمكة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتله، ففزع لذلك فزعًا شديدًا ولم يخرج لبدر إلا كرهًا؛ كما في الصحيح. أو عبر بقد قلبه عن انفلاقه وتقطعه حسرة وغيظًا لمشاهدته قتل صناديدهم يوم بدر، واختلال أمرهم وعلو كلمة الإسلام وأسره هو ثم قتله وعذاب بلال كان غير مشعر بشيء من ذلك فكأنه من وراء وراء. وعذاب أمية مباشرة مواجهة، فقال فيه من قبل، وفي بلال من دبر، وهذا معنى دقيق، انتهى. "وكان عبد الرحمن بن عوف قد أسره يومئذ وأراد استبقاءه لأخوة كانت بينهما في الجاهلية، فرآه بلال معه فصاح بأعلى صوته" وكان حسنًا نديًا فصيحًا، وما يروى سين بلال عند الله شين، أنكره الحافظ المزي وغيره، "يا أنصار الله" خصهم لمزيد اعتنائهم بالنصرة ومعاهدتهم المصطفى عليها، وخشية أن المهاجرين لا يعينونه عليه إكرامًا لعبد الرحمن، "رأس الكفر" قال السيوطي وغيره بالنصب على الإغراء والرفع على حذف المبتدأ، أي: هذا "أمية بن خلف لا نجوت إن نجا" وفي البخاري عن عبد الرحمن فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فنهسوه بأسيافهم حتى قتلوه. وأخرج البيهقي عن عروة أن أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة منهم: الزنيرة، فذهب بصرها، وكانت ممن تعذب في الله، فتأبى إلا الإسلام، فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى فقالت: والله ما هو كذلك فرد الله عليها بصرها. والزنيرة: بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة، كسكينة: كما في القاموس.   ابنه عليا لأشغلهم فقتلوه، ثم تبعونا وكان رجلا ثقيلا فلما أدركونا، قلت له: آبرك، فبرك فألقيت عليه نفسي لأمنعه "فنهسوه" تناولوه "بأسيافهم حتى قتلوه" ففيه استعارة تصريحية تبعية شبه ضربهم بالسيوف بالنهس بالمهملة أخذ اللحم بمقدم الأسنان للأكل وبالمعجمة أخذه بالأسنان والأضراس، وفي نسخة: فنهبوه بموحدة وهو استعارة أيضًا، شبه ما ذكر بالنهب وهو أخذ المال بالغلبة والقهر فظهر مصداق، وأعلم أن النصر مع الصبر صبر على تعذيبه له فكان قتله على يديه قبل، فهناه الصديق بأبيات منها: هنيئًا زادك الرحمن فضلا ... فقد أدركت ثأرك يا بلال "وأخرج البيهقي عن عروة: أنا أبا بكر أعتق ممن كان يعذب في الله سبعة" هم: بلال وعامر بن فهيرة وأم عنيس بعين مهملة مضمومة فنون، وقيل: بموحدة فتحتي فسين مهملة أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، وزنيرة والنهدية وبنتها والمؤملية؛ كما في سيرة ابن هشام. وذكر ابن إسحاق أنه أعتق أبا فكيهة وابن عبد البر, وغيره أنه اعتق أم بلال، فاقتصار عروة على سبعة باعتبار ما بلغه فلا ينافي أنهم تسعة. وأخرج الحاكم عن عبد الله بن الزبير، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقابًا ضعافًا فلو أنك أعتقت رجالا جلدًا يمنعونك ويقومون دونك، فقال: يا أبة، إني إنما أريد له عند الله، فنزلت هذه الآية فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] ، إلى آخر السورة. "منهم الزنيرة" الرومية أمة عمر بن الخطاب أسلمت قبله، فكان يضربها "فذهب بصرها" عميت من شدة العذاب، "وكانت ممن يعذب في الله" وروى الواقدي أن عمر وأبا جهل كانا يعذبانها، "فتأبى إلا الإسلام" وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون إلى هؤلاء وأتباعهم لو كان ما أتى محمد خيرًا وحقًا ما سبقونا إليه، أفتسبقنا زنيرة إلى رشد. وأخرج ابن المنذر عن عون أبي شداد، قال: كان لعمر أمة أسلمت قبله، يقال لها زنيرة فكان يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرًا ما سبقتنا إليه زنيرة، فأنزل الله في شأنها، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] الآية، وروى نحوه ابن سعد عن الضحاك والحسن. "فقال المشركون: ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى" وعند البلاذري، فقال لها أبو جهل: إنهما فعلا بك ما ترين، فيحتمل أنهم تبعوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 " الهجرة الأولى إلى الحبشة ": ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة للحبشة ...............   في قوله: "فقالت": وهي لا تبصر "والله ما هو كذلك" وما يدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد علي بصري، "فرد الله عليها بصرها" صبيحة تلك الليلة، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر فأعتقها. "والزنيرة بكسر الزاي وتشديد النون المكسورة" فتحتية فراء "كسكينة؛ كما في القاموس" قال الشامي: وهي لغة الحصاة الصغيرة، ويروى زنيرة بفتح الزاي وسكون النون فموحدة، انتهى. وفي الإصابة: زنيرة بكسر الزاي وشد النون المكسورة بعدها تحتية ساكنة: الرومية ووقع في الاستيعاب زنيرة بنون وموحدة وزن عنبرة، وتعقبه ابن فتحون، وحكى عن مغازي الأموي بزاي ونون مصغرة من السابقات إلى الإسلام وممن يعذب في الله، انتهى. والله أعلم. الهجرة الأولى إلى الحبشة: "ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة للحبشة" بالجانب الغربي من بلاد اليمن ومسافتها طويلة جدًا، وهم أجناس وجميع فرق السودان يعطون الطاعة لملك الحبشة ويقال أنهم من ولد حبش بن كوش بن حام، قال ابن دريد: جمع الحبش أحبوش بضم أوله، وأما قولهم الحبشة فعلى غير قياس، وقد قالوا أيضًا: حبشان وأحبش وأصل التحبيش التجميع، ذكره في فتح الباري. وعند ابن إسحاق أن سبب الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى المشركين يؤذون أصحابه ولا يستطيع أن يكفهم عنهم، قال: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه". فخرجوا إليها مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: لما كثر المسلمون وظهر الإسلام أقبل كفار قريش على من آمن من قبائلهم يعذبونهم ويؤذونهم ليردوهم عن دينهم فبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين: "تفرقوا في الأرض، فإن الله سيجمعكم"، قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: "إلى هاهنا"، وأشار بيده إلى أرض الحبشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وذلك في رجب سنة خمس من النبوة. فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا, وقيل: اثنا عشر رجلا, وأربع نسوة, وقيل: وخمس نسوة، وقيل: وامرأتين.   "وذلك في رجب" بالصرف ولو كان معينًا ففي المصباح رجب من الشهور مصروف، "سنة خمس من النبوة" كما قاله الواقدي، وزاد: فأقاموا شعبان وشهر رمضان وفيه كانت السجدة وقدموا في شوال من سنة خمس، "فهاجر إليها ناس ذوو عدد منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه، وكانوا أحد عشر رجلا" عثمان بن عفان، وعبد الرحمن، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة هاربًا من أبيه بدينه، ومصعب، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمر والعامريان، وابن مسعود، كذا قال الواقدي. قال في الفتح: وهو غير مستقيم مع قوله أول كلامه: كانوا إحدى عشر، فالصواب ما قاله ابن إسحاق أنه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سبرة أو حاطب. وجزم ابن إسحاق بأن ابن مسعود إنما كان في الهجرة الثانية، ويؤيده ما عند أحمد بإسناد حسن عنه، قال: بعثنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا، انتهى. وقال أبو عمر: اختلف في هجرة أبي سبرة إلى الحبشة، ولم يختلف في شهوده بدرًا، قال في النور: ولم أر أحدًا سماه. "وقيل: اثنا عشر رجلا" وجزم في العيون والحافظ في سيرته إلا أن الأول ترك الزبير وذكر سليط بن عمرو وأهمل الثاني حاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء، وذكر بدلهما حاطب بن الحارث وهاشم بن عمرو، "وأربع نسوة" السيدة رقية مع زوجها عثمان، وسهلة بنت سهيل مع زوجها أبي حذيفة مراغمة لأبيها فارة عنه بدينها فولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة، وأم سلمة مع زوجها، وليلى العدوية مع زوجها عامر بن ربيعة. "وقيل: وخمس نسوة" هؤلاء الأربع وأم كلثوم بنت سهل بن عمرو زوج أبي سبرة، وبهذا جزم الحافظ اليعمري قائلا: لم يذكرها ابن إسحاق، وذكر ابن عبد البر وتبعه ابن الأثير في المهاجرات أم أيمن بركة الحاضنة. قال البرهان: وأظنها هاجرت مع رقية؛ لأنها جارية أبيها، انتهى. فلعل من أسقطها لكونها تبعًا. "وقيل: وامرأتين" بالباء عطفًا على أحد عشر، وفي نسخة بالألف، أي: ومعهم امرأتان أو على لغة من يلزم المثنى الألف، وقيل: كانوا اثني عشر رجلا وثلاث نسوة، وقيل: عشرة رجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وأميرهم عثمان بن مظعون، وأنكر ذلك الزهري وقال: لم يكن لهم أمير، وخرجوا مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار. وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج يعقوب بن سفيان بسند موصول إلى أنس قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال:   وأربع نسوة. "وأميرهم" قال ابن هشام: فيما بلغني "عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة "وأنكر ذلك الزهري" محمد بن مسلم "وقال: لم يكن لهم أمير" ويحتمل أنهم أمروه بعد سيرهم باختيارهم ولم يؤمر المصطفى عليهم أحدًا، فلا خلف. "وخرجوا" سرًا من مكة "مشاة" ثم عرض لبعضهم الركوب، وانتهوا في خروجهم "إلى البحر" فهو متعلق بمحذوف لا صلة مشاة أو غلب المشاة لكثرتهم على الراكبين، فلا تنافي بينه وبين قول العيون والمنتقى والسبل: فخرجوا متسللين سرًا حتى انتهوا إلى الشعبية منهم الراكب ومنهم الماشي، والشعبية بمعجمة مضمومة ومهملة مفتوحة ساكنة فموحدة فتاء تأنيث: واد، كما قال الصغاني والمجد؛ كما في النور وفي السبل: مكان على ساحل البحر بطريق اليمن، لكن وقع في بعض نسخة الشعبية بزيادة ياء بعد الموحدة وهو تحريف من النساخ لقوله تصغير شعبة، إذ تصغيره بلا ياء وهو الذي في الذيل والقاموس, "فاستأجروا سفينة" جزم به تبعًا لفتح الباري، والذي في العيون وغيرها: فوفق الله ساعة للمسلمين جاءوا سفينتين للتجارة حملوهم فيهما "بنصف دينار" وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهما أحدًا، ويحتمل الجمع بأنهم استأجروا سفينة واحدة لقلتهم فضاقت عنهم لشحنها بالتجار وتجارتهم، فحملوهم في اثنتين، واستئجار واحدة لا ينافي الحمل في اثنتين، وهذا أقرب من إمكان أنهم استأجروا صاحب السفينتين على حملهم إلى مقصودهم في السفينتين أو مجموعهما، فاتفق حملهم بواحدة، فالمصنف نظر إلى الحمل وغيره لما وقع عليه التوافق؛ لأن فيه قصر حملهم في واحدة وأتى به مع قولهم: حملوهم فيهما."وكان أول من خرج عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقيل: حاطب بن عمرو، وقيل: سليط بن عمرو، حكاهما اليعمري هنا وذكر في أزواج المصطفى، وتبعه المصنف ثم أن أم سلمة وزوجها أول من هاجر، فهي أربعة أقوال. "وأخرج يعقوب بن سفيان" الحافظ الفسوي بالفاء "بسند موصول إلى أنس" وأما بعده فمرسل صحابي "قال: أبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقدمت امرأة فقالت: قد رأيتهما وقد حمل عثمان امرأته على حمار، فقال" صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله"، كما في نفس رواية يعقوب قبل قوله: "إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط" نبي الله هاجر من كوثي إلى حران ولما وصلوا الحبشة أقاموا عند النجاشي آمنين، وقالوا: جاورنا بها خير جار على ديننا وعبدنا الله لا نؤذى ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط. فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصي، وعبد الله بن أبي ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي, واسمه أصحمة, وكان معهما عمارة بن الوليد، ليردهم إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما خائبين ولم يقبل هديتهما.   نسمع شيئًا نكرهه، "فلما رأت قريش استقرارهم في الحبشة وأمنهم أرسلوا عمرو بن العاصي" القرشي السهمي الصحابي أسلم بعد ذلك على يد النجاشي وهي لطيفة صحابي أسلم على يد تابعي، ولا يعلم مثله. "وعبد الله بن أبي ربيعة" عمر بن المغيرة المخزومي المكي أسلم بعد وصحب وكان حسن الوجه ولاه صلى الله عليه وسلم الجندي ومخالفيها فلما حوصر عثمان جاء لينصره فوقع عن راحلته بقرب مكة فمات. "بهدايا وتحف من بلادهم إلى النجاشي" بفتح النون وتكسر وخفة الجيم فياء ثقيلة وتخفف، لقب قديم لملك الحبشة، قال الحافظ. وأما اليوم فيقال له الحطي بفتح الحاء وكسر الطاء الخفيفة المهملتين وتحتانية خفيفة، "واسمه" كما في البخاري "أصحمة" بمهملتين بوزن أربعة، وفي مصنف ابن أبي شيبة: صحمة بحذف الهمزة، وحكى الإسماعيلي أصخمة بخاء معجمة، وقيل: أصحبة بموحدة بدل الميم، وقيل: صحبة بلا ألف، وقيل: مصحمة، بميم أوله بدل الهمزة ابن أبجر، وقيل: اسمه مكحول بن صصة، قال مغلطاي. ولقب ملك الترك خاقان، والروم قيصر واليمن تبع، واليونان بطليوس، واليهود القيطون، فيما قيل والمعروف مالخ، وملك الصابئة النمروذ ودهمز، وملك الهند يعفور، والزنج زغانة، ومصر والشام فرعون، فإن أضيف إليهما الإسكندرية سمي العزيز، ويقال المقوقس، ولملك العجم كسرى، ولملك فرغانة الأخشيد، ومل العرب من قبل العجم النعمان، وملك البربر جالوت. "وكان معهما عمارة بن الوليد" بن المغيرة المخزومي، والذي في العيون: وكان عمرو بن العاصي رسولا في الهجرتين ومعه في أحداهما عمارة وفي الأخرى عبد الله، ثم قال في الهجرة الثانية ولم يذكر ابن إسحاق مع عمرو إلا عبد الله في رواية زياد. وفي رواية ابن بكير لعمارة ذكر. وفي الشامية: الصحيح أن في الأولى عمارة, وفي الثانية عبد الله، انتهى. وهو خلاف ما اقتصر عليه الحافظ في سيرته من أن عمرًا وعمارة ذهبا في الهجرة الثانية، انتهى. ورواه أحمد عن ابن مسعود "ليردهم" أي: ليرد النجاشي المهاجرين "إلى قومهم، فأبى ذلك وردهما" أي: عمرًا وعبد الله "خائبين" لم يجبهما إلى ما طلبا "ولم يقبل هديتهما" ولم يذكر عمارة لأنه تبع لهما، لا لما تقدم أنه توحش ولم يعد لأن المتقدم إنما هو في الهجرة الثانية، نعم على ما صححه الشامي إن ثبت يكون المعنى لم يجبهما، وزاد عمارة: خيبة بفعله ذلك معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 باب الفهرس : 3 ترجمة شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني 6 التعريف بالمواهب اللدنية 8 ترجمة الزرقاني 9 المقدمة 11 شرح مقدمة المواهب 40 محتوى الكتاب: المقصد الأول 42 محتوى الكتاب: المقصد الثاني 43 محتوى الكتاب: المقصد الثالث 44 محتوى الكتاب: المقصد الرابع والخامس 45 محتوى الكتاب: المقصد السادس 46 محتوى الكتاب: المقصد السابع 47 محتوى الكتاب: المقصد الثامن والتاسع 48 محتوى الكتاب: المقصد العاشر 50 المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام 156 عام الفيل وقصة أبرهة 190 ذكر تزوج عبد الله آمنة 236 الاختلاف في شختنه 243 وقد اختلف في عام ولادته صلى الله عليه وسلم 257 وفي مدة حمله 258 ذكر رضاعة صلى الله عليه وسلم وما معه 289 ذكر خاتم النبوة 307 ذكر وفاة أمه وما يتعلق بأبويه صلى الله عليه وسلم 370 تزوجه عليه السلام خديحة 379 بنيان قريش الكعبة 385 باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 420 مراتب الوحي 444 ذكر أول من آمن بالله ورسوله 477 إسلام حمزة 503 الهجرة الأولى إلى الحبشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 المجلد الثاني تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام إسلام الفاروق ... تابع المقصد الأول في تشريف الله تعالى له عليه الصلاة والسلام: بسم الله الرحمن الرحيم "إسلام الفاروق": وأسلم عمر بن الخطاب بعد حمزة بثلاثة أيام فيما قاله أبو نعيم بدعوته صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب"   إسلام عمر الفاروق: "وأسلم عمر بن الخطاب" بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بكسر الراء وتحتية، وقيل: بكسرها وموحدة، وهو بعيد ابن عبد الله بن قرط بضم القاف وإسكان الراء وطاء مهملة، ابن رزاح بفتح الراء والزاي، كما قاله الدارقطني وابن ماكولا وخلق، وقيل: بكسر الراء ابن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب، قال في الفتح: وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت بواحد فبين المصطفى وكعب سبعة آباء، وبينه وبين عمر ثمانية، قال ابن إسحاق: أسلم عقب الهجرة الأولى إلى الحبشة، وذكر ابن سعد عن ابن المسيب في ذي الحجة سنة ست من المبعث، وحكى عليه ابن الجوزي في بعض كتبه الاتفاق لكنه قال في التلقيح: سنة ست، وقيل: سنة خمس. "بعد حمزة بثلاثة أيام" لا أشهر كما قيل، "فيما قاله أبو نعيم" لأنه قد رواه عن ابن عباس، قال: سألت عمر عن إسلامه، قال: خرجت بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام فذكر القصة وهو موافق لما حكاه ابن سعد. أما على قول ابن إسحاق، فلا يجيء لأن الهجرة في الخامسة وإسلام حمزة في السادسة، كما أنه لا يأتي على القول بأن إسلام حمزة في الثانية بالنون "بدعوته صلى الله عليه وسلم" كما رواه الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأبي جهل" بن هشام "أو بعمر بن الخطاب"، قال: فأصبح فغدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ورواه أبو نعيم من وجه آخر عن ابن عمر، قال: قال صلى الله عليه وسلم "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر أو بأبي جهل"، وأخرجه خيثمة في فضل الصحابة من حديث علي به، والحاكم عن ابن مسعود بلفظ: أيد بدل جهل. وفي حديث خباب عند البزار مرفوعا: "اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وكان المسلمون إذ ذاك بضعة وأربعين رجلا، وإحدى عشرة إمرأة. وكان سبب إسلامه -فيما ذكره أسامه بن زيد عن أبيه عن جده عن ......   بعمر بن الخطاب"، فيمكن أنه قال هذا مرة وهذا أخرى، ودعوى أن بأبي جهل رواية بالمعنى لا تصح؛ لأنها رد للروايات المتعددة الطرق لرواية واحدة. وأخرج الحاكم وصححه عن نافع عن ابن عمر عن ابن عباس رفعه: "اللهم أيد الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة"، وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي من حديث عائشة وجمع ابن عساكر لأنه صلى الله عليه وسلم دعا بالأول أولا، فلما أوحى إليه أن أبا جهل لن يسلم خص عمر بدعائه، انتهى. ثم بحديث عائشة هذا الصحيح يرد ما نقل عن الدارقطني أن عائشة قالت: إنما قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز عمر بالإسلام"؛ لأن الإسلام يعز ولا يُعز. وقد قال السخاوي: ما زعمه أبو بكر التاريخي أن عكرمة سئل عن قوله: "اللهم أيد الإسلام"، فقال: معاذ الله دين الإسلام أعز من ذلك، ولكنه قال: "اللهم أعز عمر بالدين، أو أبا جهل"، فأحسبه غير صحيح، انتهى. وفي الدر قد اشتهر هذا الحديث الآن على الألسنة، بلفظ: "بأحب العمرين"، ولا أصل له في شيء من طرق الحديث بعد الفحص البالغ. "وكان المسلمون إذ ذاك بضعة" بكسر الباء وقد تفتح من ثلاثة إلى سبعة ولا تستعمل فيما زاد على عشرين إلا عند بعض المشايخ، كما في المصباح. "وأربعين رجلا" كما قاله السهيلي، زاد: "وإحدى عشرة امرأة" لكنه مخالف لقول فتح الباري في مناقب عمر: روى ابن أبي خيثمة عن عمر: لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تسعة وثلاثون، فكملتهم أربعين فأظهر الله دينه وأعز الإسلام. وروى البزار نحوه من حديث ابن عباس، وقال فيه: فنزل جبريل، فقال: أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين، انتهى. اللهم إلا أن يكون عمر لم يطلع على الزائد؛ لأن غالب من أسلم كان يخفيه خوفا من المشركين لا سيما وقد كان عمر عليهم شديدا، فلذا أطلق أنه كملهم أربعين، ولم يذكر النساء؛ لأنه لا إعزاز بهن لضعفهن. "وكان سبب إسلامه فيما ذكره أسامة بن زيد" بن أسلم العدوي مولاهم المدني ضعيف من قبل حفظه مات في خلافة المنصور وروى له ابن ماجه "عن أبيه" زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني أبو أسامة أو أبو عبد الله الفقيه العالم المفسر الثقة الحافظ التابعي المتوفى سنة ست وثلاثين ومائة. روى له الستة، "عن جده" أسلم مولى عمر اشتراه سنة إحدى عشرة كنيته أبو خالد، ويقال: أبو زيد التابعي الكبير، قيل: إنه من سبي عين النمر، وقيل: حبشي روى عن مولاهم والصديق ومعاذ، قال أبو زرعة: ثقة مات سنة ثمانين وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة، أخرج له الجماعة "عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 عمر- أنه قال: بلغني إسلام أختي، فدخلت عليها، فقلت يا عدوة نفسها، قد بلغني عنك أنك صبوت، ثم ضربتها، فسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت: يابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت. قال: فدخلت وأنا مغضب، فإذا كتاب في ناحية .................   عمر، أنه قال: بلغني" من نعيم بن عبد الله النجام القرشي الصحابي؛ كما في رواية ابن إسحاق، وجزم به ابن بشكواك، وقال: إن في كلام أبي القسم البغوي شاهده أو من سعد بن أبي وقاص؛ كما في الصفوة ويحتمل أن يكونا معا بلغاه ذلك في سيره مريدا قتل النبي، كما اتفق مع قريش على ذلك "إسلام أختي" فاطمة عند الأكثر، وقيل: أميمة، حكاه الدارقطني قال في الإصابة: فكأن اسمها فاطمة ولقبها أميمة وكنيتها أم جميل، وقيل: اسمها رملة لها حديث أخرجه الواقدي عن فاطمة بنت الخطاب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "لا تزال أمتي بخير ما لم يظهر فيهم حب الدنيا في علماء فساق وقراء جهال، وجوره فإذا ظهرت خشيت أن يعمهم الله بعقاب". وحذف المصنف صدر حديث أسلم، فلفظه: قال لنا عمر: أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدو إسلامي؟ قلنا: نعم، قال: كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش، فقال: أين تذهب؟ إنك تزعم أنك هكذا وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك، قلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد صبأت، فرجعت مغضبا وقد كان صلى الله عليه وسلم يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند رجل به قوة فيكونان معه ويصيبان من طعامه، وقد ضم إلى زوج أختي رجلين، فجئت حتى قرعت الباب، فقيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وكان القوم جلوسا يقرءون صحيف معهم فلما سمعوا صوتي تبادروا واختلفوا، أو قال: نسوا الصحيفة من أيديهم، فقامت المرأة معهم فلما سمعوا صوتي تبادروا واختفوا، أو قال: نسوا الصحيفة من أيديهم، فقامت المرأة ففتحت لي "فدخلت عليها، فقلت: يا عدو نفسها، قد بلغني عنك أنك صبوت" أي: خرجت من دينك "ثم ضربتها" وفي الصفوة: فوثب عمر على ختنه سعيد بن زيد وبطش بلحيته وضرب به الأرض وجلس على صدره، فجاءته أخته لتكفه عن زوجها فلطمها لطمة شج بها وجهها، "فسال الدم، فلما رأت الدم بكت" وغضب "وقالت" زاد في الصفوة: أتضربني يا عدو الله على أن أوحد الله، لقد أسلمنا على رغم أنفك، "يابن الخطاب، ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت". وفي رواية ابن عباس عن عمر عند ابن عساكر والبيهقي: فوجدت همهمة فدخلت فقلت: ما هذا؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس ختني فضربته وأدميته، فقامت إلي أختي فأخذت برأسي، وقالت: قد كان ذلك على رغم أنفك، فاستحييت حين رأيت الدماء "قال: فدخلت وأنا مغضب" زاد في الرواية: على السرير فنظرت "فإذا كتاب في ناحية" جانب من جوانب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 البيت، فإذا فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت ورميت بالصحيفة من يدي، ثم رجعت فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى بلغت {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} [الحديد: 7] فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.   "البيت" أسقط من رواية أسلم: فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطينيه، فقالت: لا أعطيكه، لست من أهله أنت لا تغتسل من الجناية ولا تطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون، قال: فلم أزل بها حتى أعطتنيه. وفي الصفوة: قال: أعطوني هذا الكتاب أقرؤه، وكان عمر يقرأ الكتب، قالت أخته: لا أفعل، قال: ويحك وقع في قلبي مما قلت، فأعطينيها أنظر إليها وأعطيك من المواثيق أن لا أخونك حتى تحوزها حيث شئت، قالت: إنك رجس، فانطلق فاغتسل أو توضأ فإنه كتاب لا يمسه إلا المطهرون فخرج ليغتسل، فخرج ليغتسل، فخرج خباب، فقال: أتدفعين كتاب الله إلى كافر، قالت: نعم، إني أرجو أن يهدي الله أخي، فدخل خباب البيت وجاء عمر فدفعته إليه "فإذا فيه: {بسم الله الرحمن الرحيم} ، فلما مررت بالرحمن الرحيم ذعرت" بضم الذال المعجمة وكسر المهملة أفزعت، زاد في رواية البزار: فجعلت أفكر من أي شيء اشتق "ورميت بالصحيفة من يدي، ثم رجعت" لفظ الرواية: ثم رجعت إلى نفسي، أي: فأخذت الصحيفة "فإذا فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحديد: 1] ، زاد البزار: فجعلت أقرأ وأفكر "حتى بلغت {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه} كما في الروض. ولفظ رواية غيره: فإذا فيها {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 7] ، هذا لفظ رواية البزار كما في الروض. ولفظ رواية غيره: فإذا فيها {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1] ، فكلما مررت باسم من أسماء الله ذعرت ثم ترجع إليَّ نفسي، حتى بلغت {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [الحديد: 8] ، "فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله". وفي رواية ابن عساكر وأبي نعيم عن ابن عباس والدارقطني عن أنس كلاهما عن عمر، فقلت: أروني هذا الكتاب، فقالوا: إنه لا يمسه إلا المطهرون، فقمت فاغتسلت فأخرجوا لي صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، فقلت: أسماء طيبة طاهرة، {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1، 2] إلى قوله تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 8] ، فعظمت في صدري، وقلت: من هذا فرت قريش، فأسلمت. وعند الدارقطني: فقام فتوضأ ثم أخذ الصحيفة، وكذا ذكره ابن إسحاق: وأنه تشهد لما بلغ فلا يصدنك عنها. وزاد يونس عنه: أنه كان فيها مع سورة طه {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] ، وأن عمر انتهى في قراءتها إلى قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَت} [التكوير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت في أسفل الصفا، فدخلت عليه وأخذ رجلان، بعضدي حتى دنوت .....................   14] ، فيمكن أنه توضأ ثم اغتسل أو عكسه، وأنه وجد السور الثلاث في صحيفة أو صحيفتين فقرأها وتشهد عقب بلوغ كل من الآيتين. وفي الصفوة: فلما بلغ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، قال: ما ينبغي لمن يقول هذا أن يعبد معه غيره!! دلوني على محمد، "فخرج القوم" الذين كانوا عند أخته، يعني زوجها سعيد بن زيد وخباب بن الأرت أحد الرجلين اللذين ضمهما المصطفى إلى سعيد، وكان خباب يقرؤهم القرآن والرجل الثاني، قال في النور: لا أعرفه، "يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوه مني" وحمدوا الله، ثم قالوا: يابن الخطاب! أبشر فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا يوم الاثنين، فقال: "اللهم أعز الإسلام بعمرو أو عمر"، وإنا نرجو أن تكون دعوته لك فأبشر، فلما عرفوا مني الصدق، قلت: أخبروني بمكانه -صلى الله عليه وسلم- قالوا: هو في أسفل الصفا. "فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت في أسفل الصفا" هي دار الأرقم الصحابي، كان صلى الله عليه وسلم مختفيا فيها بمن معه من المسلمين، قال المحب الطبري: ويقال لها اليوم دار الخيزران، وفي الصفوة: فقال عمر: يا خباب، انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خباب وسعيد عه. وفي حديث أسلم: فقرعت الباب، قيل: من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، قال: وقد عرفوا شدتي على رسول الله ولم يعلموا بإسلامي، فما اجترأ أحد منهم أن يفتح الباب، فقال صلى الله عليه وسلم: "فافتحوا له فإن يرد الله بخيرا يهده"، وأخرجه ابن عائذ من حديث ابن عمر، وقال: وهذا وهم إنما الذي قال: " فإن يرد الله به خيرا يهده وإلا كفيتموه بإذن الله حمزة" وتجويز أن الوهم إنما هو في نسبة قوله: "وإلا كفيتموه" للنبي صلى الله عليه وسلم فلا ينافي ما في الشامي من أن: "فإن يرد الله به خيرا يهده" من كلام المصطفى فيه نظر، إذ كيف يأتي هذا مع قول ابن عائذ: إنما الذي ... إلى آخره، والشامي: إنما هو في مقام سياق الحديث الذي حكم ابن عائذ على هذه القطعة منه بالوهم، ولذا حسن من المصنف إسقاطهما. وفي رواية: فلما رأى حمزة وجل القوم منه، قال فإنه يرد الله به خيرا يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا، والنبي صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ففتح الباب "فدخلت عليه وأخذ رجلان" قال البرهان: لا أعرفهما ولعل حمزة أحدهما؛ لأنه الذي أذن في دخوله، "بعضدي" بشد الياء تثنية عضد، وفي هامش: إن حمزة أخذ بيمينه والزبير بيساره "حتى دنوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أرسلوه"، فأرسلوني فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع ثيابي فجذبني إليه ثم قال: "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه"، قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة واحدة سمعت بطرق مكة. وكان الرجل إذا أسلم استخفى ثم خرجت إلى رجل لم يكن يكتم السر،   من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرسلوه"،" يفتح الهمزة: "فأرسلوني، فجلست بين يديه فأخذ بمجمع ثيابي" لفظ رواية أسلم: بمجمع قميصي، وعند ابن إسحاق، بحجزته أو بمجمع ردائه، "فجذبني إليه" جذبه شديدة؛ كما في الرواية، وفي رواية: فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم في صحن الدار، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه، وفي لفظ: أخذه ساعة وهزه فارتعد عمر من هيبته وجلس. وفي آخر: أخذ بمجامع ثيابه فنثره فما تمالك أن وقع عمر على ركبته، وقال له: "فما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك ما أنزل بالوليد بن المغيرة"، يعني الخزي والنكال ولعله صلى الله عليه وسلم فعل معه ذلك ليثبته الله على الإسلام ويلقي حبه الطبيعي في قلبه، ويذهب عنه رجز الشيطان، فكان كذلك حتى كان الشيطان يفر منه وليكون شديدا على الكفار وفي الدين، فصار كذلك. وعند ابن إسحاق، فقال: "ما جاء بك يابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة"، فقال: يا رسول الله! جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم بعد اخذه بمجامع ثوبه وهزه، وقوله ما ذكر "أسلم يابن الخطاب، اللهم اهد قلبه" لفظ رواية أسلم اهده؛ كما في العيون والإرشاد للمصنف، فلعه هنا بالمعنى أو جمع بينهما. وفي رواية: "اللهم هذا عمر بن الخطاب اللهم أعز الدين بعمر بن الخطاب" "قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله، فكبر المسلمون" بعد تكبير النبي صلى الله عليه وسلم، كما في رواية "تكبير واحدة سمعت بطرق مكة، وكان الرجل إذا أسلم استخفى" بإسلامه، زاد أبو نعيم وابن عساكر في رواية ابن عساكر عن عمر، فقلت: يا رسول الله! ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق إن متم وإن حييتم"، فقلت: ففيهم الخفاء يا رسول الله؟ علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال: "يا عمر، إنا قليل قد رأيت ما لقينا"، وقال: والذي بعثك بالحق نبينا لا يبقي مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، ثم خرج في صفين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر، حتى دخلنا المسجد فنظرت قريش إلينا فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ الفاروق "ثم خرجت" فذهبت بعد كراهتي عدم ضربي كمن آمن وإخباري لخالي ورجل من عظماء قريش بإسلامي وقول رجل، قال في النور: لا أعرفه، ويظهر أنه مسلم: تحب أن يعلم إسلامك، فأرشدني "إلى رجل لم يكتم السر" هو جميل بفتح الجيم وكسر الميم، ابن معمر بفتح الميم بينهما مهملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فقلت له: إني صبوت، قال فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربوني وأضربهم، فقال خالي: ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب، فقام على الحجر وأشار بكمه فقال: ألا إني قد أجرت ابن أختي، قال: فانكشف الناس عني؛   ساكنه ثم راء، ابن حبيب الجمحي أسلم يوم الفتح وقد شاخ وشهد حنينا وفتح مصر، ومات في خلافة عمر فحزن عليه حزنا شديدا، "فقلت له" سرا "إني صبوت" ملت من دين إلى دين، "قال: فرفع صوته بأعلاه: ألا إن ابن الخطاب" عمر، وكأنه لم يسمه لشهرته فيهم "قد صبأ" وروى ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث، فقيل له: جميل، فغدا عليه وغدوت أتبع أثره وأنا غلام أعقل ما رأيت حتى جاءه فقال: أعلمت يا جميل أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدا فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر واتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن ابن الخطاب قد صبا، ويقول عمر من خلفه، كذب، ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فتعبير عمر لجميل أولا بقوله: صبؤت، يعني على زعمكم "فما زال الناس يضربوني وأضربهم، فقال خالي" يحتمل أنه أبو جهل أو أخوه الحارث بن هشام؛ لأنهما خالاه مجازا لأن عصبة الأم أخوال، الابن وأمه حنتمة بفتح المهملة وسكون النون وفتح الفوقية فتاء التأنيث ابنه هاشم بن المغيرة المخزومي، وهاشم وهاشم أخوان فهما ابنا عم أمه، ومن قال: إنها بنت هشام فقد أخطأ وصحف هاشما بهشام؛ كما قاله ابن عبد البر والسهيلي والحافظ وغيرهم؛ ويحتمل أنه أراد غيرهما من بني مخزوم. كما ال البرهان: فالجزم بأنه أبو جهل يحتاج لبرهان واختيار أنه خاله حقيقة مبني على خطأ مخالف، لما نبه عليه الحفاظ وأقره ختامهم في فتح الباري. "ما هذا؟ قالوا: ابن الخطاب فقام" خالي "على الحجر" بكسر الحاء وغلط من فتحها؛ كما في النور "وأشار بكمه، فقال: ألا إني قد أجرت ابن أختي" قال في النور، أي: هو في ذمامي وعهدي وجواري، "قال: فانكشف الناس عني" لجلالة خاله عندهم، وعند ابن إسحاق في حديث ابن عمر أن العاصي بن وائل أجاره منهم حينئذ، فيحتمل أنهما معا أجاراه. وروى البخاري عن ابن عمر، قال: بينا عمر في الدار خائفا إذ جاءه العاصي بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير، فقال: ما بالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني لأنني أسلمت، قال: لا سبيل إليك، بعد أن قال آمنت، فخرج العاصي فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد ابن الخطاب الذي قد صبا، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس وانصرفوا عنه وطريق الجمع أن العاصي أجاره مرتين، مرة مع خاله والأخرى بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام.   كونه في الدار، والله أعلم. "فما زلت" بعد رد جواز خالي كراهة أن لا أكون كالمسلمين وقول خالي: لا تفعل يابن أختي، فقلت: بلى هو ذاك، قال: فما شئت؛ كما في حديث أسلم، قال: فما زلت "أضرب" بالبناء للفاعل "وأضرب" للمفعول "حتى أعز الله الإسلام". روى حديث أسلم عن عمر هذا بطوله البزار والطبراني وأبو نعيم والبيهقي، ورواه الدارقطني من حديث أنس وابن عساكر، والبيهقي عن ابن عباس، وأبو نعيم عن طلحة وعائشة كلهم عن عمر نحوه، فهذه طرق يعضد بعضا، فانجيز ما فيه من ضعف أسامة. وفي فتح الباري ألمح البخاري بإيراد قصة سواد بن قارب في باب إسلام عمر إلى ما جاء عن عائشة وطلحة عن عمر، أن هذه القصة كانت سبيل إسلامه، انتهى. ومن جملة القصة التي رواها البخاري آخر حديث سواد، قال عمر: بينا أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت، فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فما نشبنا إن قيل هذا نبي. وروى أبو نعيم في الدلائل عن طلحة وعائشة عن عمر: أن أبا جهل جعل لمن يقتل محمدا مائة ناقة حمراء أو سوداء وألف أوقية من فضة، فقلت له: يا أبا الحكم! الضمان صحيح، قال: نعيم، فخرجت متقلدا السيف متنكبا كنانتي أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت على عجل وهم يريدون ذبحه فقمت أنظر إليه، فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا آل ذريح، أمر نجيح رجل يصيح بلسان فصيح يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقلت في نفسي: إن هذا الأمر ما يراد به إلا أنا ثم مررت بصنم، فإذا هاتف من جوفه، يقول: يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام ومسند الحكم إلى الأصنام ... أصبحتهم كراتع الأنعام أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو دجى الظلام قد لاح للناظر من تهام ... وقد بدا للناظر الشآمي محمد ذو البر والإكرام ... أكرمه الرحمن من إمام قد جاء بعد الشرك بالإسلام ... يأمر بالصلاة والصيام والبر والصلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام فبادروا سبقا إلى الإسلام ... بلا فتور وبلا إحجام قال عمر: فقلت: والله ما أراه إلا أرادني، ثم مررت بالضمائر فإذا هاتف من جوفه، يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 قال ابن عباس: لما أسلم عمر قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد، لقد استبشر أهل   أودي الضمار وكان يعبد مدة ... قبل الكتاب وقبل بعث محمد إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي سيقول من عبد الضمار ومثله ... وليت الضمار ومثله لم يعبد أبشر أبا حفص بدين صادق ... تهدي إليه وبالكتاب المرشد واصبر أبا حفص فإنك آمر ... يأتيك عز غير عز بني عدي لا تعجلن فأنت ناصر دينه ... حقا يقينا باللسان وباليد قال عمر: فوالله لقد علمت أنه أرادني، فلقيني نعيم وكان يخفي إسلامه فرقا من قومه، فقال: أين تذهب؟ قلت: أريد هذا الصابي الذي فرق أمر قريش فأقتله، فقال نعيم: يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وبالغ في منعه، ثم قال: ألا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم، فذكر دخوله على أخته ... القصة بطولها ولا تنافي بينهما فهو حديث واحد طوله مرة واختصره أخرى. وفي رواية عند ابن إسحاق: أن سبب إسلامه أنه دخل المسجد يريد الطواف فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فقال: لو سمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فقلت: إن دنوت منه استمع لأرد عنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابه، أي: البيت، فجعلت أمشي حتى قمت في قبلته وسمعت قراءته، فرق له قبلي فبكيت وداخلني الإسلام فمكثت حتى انصرف، فتبعته فالتفت في أثناء طريقه فرآني، فظن إنما تبعته لأوذيه، فنهمني، ثم قال: "ما جاء بك في هذه الساعة"؟ قلت: جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله، قال: فمحمد الله ثم قال: "قل هداك الله"، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت عنه، ودخل بيته. نهمني بالنون، أي: زجرني، والنهم زجر الأسد، كما في الروض. ففيه من شجاعته صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. وروى ابن سنجر في مسنده عن عمر: خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هو شاعر كما قالت قريش: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40، التكوير: 19] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع، الواقعة تكفل شيخنا برده. "قال ابن عباس: لما أسلم عمر، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد لقد استبشر أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 السماء بإسلام عمر. رواه ابن ماجه.   السماء بإسلامه عمر" لأن الله أعز به الدين ونصر به المستضعفين، قال ابن مسعود، كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وإمارته رحمة، والله ما ستطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر، رواه ابن أبي شيبة والطبراني، وقال صهيب، لما أسلم عمر، قال المشركون: أنتصف القوم منا، رواه ابن سعد. وروي: أنه لما أسلم، قال: يا رسول الله! لا ينبغي أن يكتم هذا الدين، أظهر دينك، فخرج ومعه المسلمون وعمر أمامهم معه سيف ينادي: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد، فقالت قريش: لقد أتاكم عمر مسرورا، ما وراءك يا عمر؟ قال: ورائي لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن تحرك أحد منكم لأمكنن سيفي منه، ثم تقدم أمامه صلى الله عليه وسلم يطوف ويحميه حتى فرغ من طوافه. "رواه ابن ماجه" أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني الثقة المتفق عليه المحتج به له معرفة بالحديث وحفظه ومصنفات في السنن والتفسير والتاريخ والسماع بعده أمصار مات سنة ثلاثة وثمانين ومائتين، ورواه أيضا الحاكم وصححه ورده الذهبي بأن فيه عبد الله بن خراش، ضعفه الدارقطني، انتهى. وضعفه أيضا غيره ورواه ابن سعد عن الزهري وداود بن الحصين مرسلا، والله أعلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 " دخول الشعب وخبر الصحيفة ": ولما رأت قريش عزة النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه، وإسلام عمر، وعزة أصحابه بالحبشة، وفشو الإسلام في القبائل، أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب، فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ..........   دخول الشعب وخير الصحيفة: "ولما رأت قريش" كما قال ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما بمعناه، "عزة النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه وإسلام" بالجر، أي: ابن إسحاق ودخولهم في أول المحرم من السابعة، "وعزة أصحابه بالحبشة" يريد بهم أهل الهجرة الثانية، فإن عود الأولين كان في الخامسة؛ كما مر "وفشو الإسلام في القبائل أجمعوا على أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم" وقالوا: قد أفسد أبناءنا ونساءنا، وقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة ويقتل رجل من غير قريش فتريحوننا وتريحون أنفسكم، "فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم، وبني" أخيه "المطلب" فأمرهم "فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم" بكسر الشين كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه لذلك حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية. فلما رأت قريش ذلك أجمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني المطلب: أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعون منهم شيئا، ولا يبتاعوات منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل. وكتبوه في صحيفة بخط منصور بن عكرمة -وقيل بغيض بن عامر- فشلت   منزل بني هاشم غير مساكنهم ويعرف بشعب ابن يوسف كان لهاشم، فقسمه عبد المطلب بين بنيه حين ضعف بصره وصار للنبي صلى الله عليه وسلم فيه خط أبيه؛ كذا في المطالع، وتعقبه في النور: بأن عبد الله مات في حياة أبيه وما أظنهم كانوا يخالفون شرعنا، قال: ويحتمل أنه وصل إليه حصة أبيه بطريق آخر، انتهى. قال شيخنا في تقريره بجوار أن عبد المطلب قسمه في حياته على أولاده في حياة عبد الله، فلما مات صار للمصطفى حظ أبيه وهو حسن، وإن كان شيخنا البابلي يتوقف فيه بأن القسم لم ينقل عن عبد المطلب في حياة عبد الله؛ لأنه احتمال يكفي في الجواب، يمكن أنهم جعلوا له بعد موت جده حصة أبيه أن لو كان حيا، فهو ابتداء عطية من أعمامه وهذا حسن جدا، وكل هذا على تسليم ظن البرهان أنهم لا يخالفون شرعنا ومن أين ذاك الظن؟ "ومنعوه ممن أراد قتله" لما سألهم أبو طالب "فأجابوا لذلك حتى كفارهم فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية، فلما رأت قريش ذلك أجمعوا وائتمروا" تشاوروا في "أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني المطلب أن لا ينكحوا إليهم" بفتح حرف المضارعة، أي: لا يتزوجوا المضارعة، أي: لا يتزوجوا منهم فإلى بمعنى من "ولا ينكحوهم" بضمها لا يزوجوهم "ولا يبيعوا منهم شيئا ولا يبتاعوا، ولا يقبلوا منهم صلحا أبدا" زاد في العيون ولا تأخذهم بهم رأفة "حتى يسلموا" من أسلم أو سلم مثقلا "رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل" أي: يخلو بينه وبينهم، "وكتبوه في صحيفة بخط منصور بن عكرمة" كما ذكره ابن إسحاق قائلا: فشلت يده فيما يزعمون، وصدر به في الفتح، قال في النور: والظاهر هلاكه على كفره، "وقيل" بخط "بغيض" بموحدة ومعجمتين بينهما تحتية "ابن عامر" بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، قاله ابن سعد. "فشلت" بفتح الشين المعجمة واللام المشددة وضم الشين خطأ، أو قليل أو لغة ردية والشلل نقص في الكف وبطلان لعملها وليس معناه القطع؛ كما زعم بعضهم، قاله المصنف. وفي الفتح: يجوز ضمها في لغة، ذكر الجيلاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، هلال المحرم سنة سبع من النبوة. فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه، إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتن أو ثلاثا، وقال ابن سعد: سنتين حتى جهدوا وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا.   وقال ابن درستويه: هي خطأ. "يده" أي: الكاتب سواء قيل منصور أو بغيض؛ لأن القائل بالأول، قال: شلت كالثاني، قال في النور: الظاهر أنه لم يسلم وهو بغيض كاسمه، قال ابن هشام: ويقال بخط النضر بن الحرث فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه، وقتل كافرا بعد بدر، وقيل: بخط هشام بن عمرو بن الحرث العامري وهو من الذين سعوا في نقضها، قاله ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما، أسلم وكان من المؤلفة، وقيل: طلحة بن أبي طلحة العبدري، حكاه في الفتح، وقيل: منصور بن عبد شرحبيل بن هاشم، حكاه الزبير بن بكار مع القول بأنه بغيض فقط، قال السهيلي والزبير: أعلم بالإنسان، وجمع البرهان وتبعه الشامي باحتمال أن يكون كتب بها نسخ. "وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة" وتمادوا على العمل بما فيها، وكان ذلك "هلال المحرم سنة سبع من النبوة" قال ابن سعد وابن عبد البر وغيرهما، وبه جزم في الفتح، وقيل: سنة ثمان، حكاه الحافظ في سيرته وكان ذلك بخيف بني كنانة؛ كما في الصحيح وهو المحصب، "فانجاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه" أضافه له لأنه كبيرهم؛ كذا نسبه في الفتح لابن إسحاق، وهو ظاهر في أن انحيازهم بعد كتابة الصحيفة للعطف بالفاء، وفي العيون: ودخلوا شعبهم مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دينا والكافر حمية، فلما رأت قريش أنه قد منعه قومه أجمعوا على كتابة صحيفة، وهذا صريح في أن كتابتها بعد دخولهم. "إلا أبا لهب فكان مع قريش" وأما المؤمنون من غير بني هاشم والمطلب، فظاهر العيون أنهم ذهبوا كلهم إلى الحبسة، "فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا" قاله ابن إسحاق: وأو تحتمل الشك والإشارة إلى قول وجزم موسى بن عقبة بأنها ثلاث سنين. "وقال ابن سعد: سنتين حتى جهدوا" بالبناء للمفعول لقطعهم عنهم الميرة والمادة، "وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرا" ولا يحجون إلا من موسم، وكان يصلهم فيه حكيم بن حزام وهشام بن عمرو والعامري وهو أوصلهم لبني هاشم، وكان أبو طالب مدة إقامتهم في الشعب يأمرهم صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة، فإذا نام أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه، فاضطجع على فرش المصطفى وأمره أن يأتي بعض فرشهم فيرقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وقدم نفر من مهاجرة الحبشة، حين قرأ عليه الصلاة والسلام: {النَّجْمِ إِذَا هَوَى} حتى بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان في أمنيته، أي في قراءته: تلك الغرانيق العي وإن شفاعتهن لترتجى، فلما ختم السورة سجد صلى الله عليه وسلم وسجد معه المشركون، ............................   عليها، "وقدم" في شوال سنة خمس؛ كما مر. "نفر من مهاجرة الحبشة" فخالف شرطه في الترتيب على السنين، ولو رعاه لذكرها قبل إسلام عمر؛ كما فعل اليعمري والشامي وغيرهما، وهذا مما يعطي أن الشرط أغلبي ثم كلامه يقتضي أنهم لم يقدموا كلهم، وهو خلاف قول اليعمري والحافظ وغيرهما كان سبب رجوع الاثني عشر، وفي لقظ: قدم أولئك الفقراء مكة، "حين قرأ عليه الصلاة والسلام" وهو يصلي أو خارج الصلاة على اختلاف الروايات، كما يأتي عن عياض، وأما ما عند ابن مردويه والبيهقي عن ابن عمر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ النجم، فسجد بنا فأطال السجود فلم يذكر فيه هذه القصة فلا معنى لذكره هنا الموهم أن ابن عمر روى هذه القصة، ولا قائل به لما يأتي أنها لم ترو عن صحابي سوى عن ابن عباس،" {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، حتى بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان في أمنيته أي في قراءته" يقال تمنى إذا قرأ، قال حسان يمدح عثمان: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل لأن أصل معناه: تفعل من المنى بمعنى القدر، ومنه المنية وقوله إلا أماني، أي: تلاوة بلا معرفة، فأجرى مجرى التمني لما لا وجود له. "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى"، ويروى لترتضى، ويروى أن شافعتها لترتجى وإنها لمع الغرانيق الأولى، وفي أخرى والغرانقة العلى، ذكره في الشفاء، "فلما ختم السورة سجد صلى الله عليه وسلم، وسجد معه المشركون" والجن والإنس؛ كما في الصحيحين غير أمية بن خلف؛ كما في تفسير سورة النجم من البخاري أخذ كفا من تراب فسجد عليه، وقال: يكفيني هذا، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: أبو لهب وفيهما نظر؛ لأنهما لم يقتلا، وقيل: عتبة بن ربيعة. قال المنذري: وما رواه البخاري أصح، وقول ابن بزيزة كان منافقا وهم. قال في النور: لأن النفاق إنما كان بالمدينة، انتهى. وقيل: إنه المطلب بن أبي وداعة، وهو باطل؛ لأنه صحابي أسلم في الفتح؛ والجمع بأنه لا مانع أنهم فعلوه جميعا بعضهم تكبرا وبعضهم عجزا لا يصح فالمانع موجود، وهو قول راوي الحديث الذي شاهده وهو ابن مسعود: فما بقي أحد إلا سجد إلا رجلا، فلقد رأيته قتل كافرا بالله، يعني يوم بدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير، وفشا ذلك في الناس، وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومن بها من المسلمين، عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، وصلوا معه صلى الله عليه وسلم، وقد أمن المسلمون بمكة، فأقبلوا سراعا من الحبشة.   "لتوهمهم أنه ذكر آلهتهم بخير" كما ارتضاه الحافظ لا خوفا من مخالفة المسلمين في ذلك المجلس؛ كما جوزه الكرماني إذ لا يظهر له وجه بل الظاهر العكس، انتهى. فرضوا وقالوا: قد عرفنا أنه يحيى ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس في البيت. "وفشا ذلك في الناس وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة و" بلغ "من بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أمن المسلمون بمكة" من الأذى، فقال القوم: عشائرنا أحب إلينا، "فأقبلوا" حال كونهم "سراعا" أي: مسرعين، "من الحبشة" حتى إذا كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم عن قريش، فقالوا: ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملأ ثم عاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر، فتركناهم على ذلك، فائتمر القوم في الرجوع إلى الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا مكة فندخل فننظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله، ثم نرجع؛ فدخلوها ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار، إلا ابن مسعود، فإنه مكث يسيرا ثم رجع إلى الحبشة؛ كذا في العيون. وروى ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم عمن حدثه عن عثمان بن مظعون أنه لما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن رد عليه جواره، فبينما هو في مجلس لقريش وفد عليهم لبيد بن ربيعة قبل إسلامه فقعد ينشدهم من شعره، فقال لبيد: إلا كل شيء ما خلا الله باطل فقال عثمان، صدقت، فقال: وكل نعيم لا محالة زائل فقال: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: متى كان يؤذي جليسكم يا معشر قريش، فقام رجل منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه، فلامه الوليد على رد جواره، فقال: قد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة، فقال له الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 والغرانيق في الأصل: الذكور من طير الماء، وأحدها: غرنوق وغرنيق، سمي به لبياضه. وقيل: هو الكركي. والغرنوق أيضا: الشاب الأبيض الناعم. وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله، وتشفع لهم، فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع. ولما تبين للمشركين عدم ذلك، رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه. وقد تكلم القاضي عياض -رحمه الله- في "الشفاء" على هذه القصة وتوهين أصلها بما يشفي ويكفي، لكن تعقب في بعضه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.   "والغرانيق" بغين معجمة المراد بها هنا الأصنام، وهي "في الأصل الذكور من طير الماء" وقيل: طير الماء مطلقا إذا كان أبيض طويل العنق، وهي جمع "واحدها غرنوق" بضم الغين والنون وكسر الغين وإسكان الراء وفتح النون، ذكرهما في النور. "وغرنيق" بضم المعجمة وفتح النون؛ كما في النور والقاموس. وفي الشامي: بكسر الغين وفتح النون، "سمي به لبياضه، وقيل: هو الكركي، والغرنوق أيضا الشاب الأبيض الناعم، وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم" عنده كما في التنزيل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ، ونقل الحليمي في تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] ، أن مشركي العرب زعمت في اللات والعزى ومناة أنها بنات الله تقربهم له لسماعهم كلامها، وإنما كان يكلمهم شياطين الجن من أجوافها، "فشبهت" الأصنام "بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع" تشبيها بليغا بحذف الأداة أو استعارة بحذف المشبه، والأصل تلك آلهة مرتفعة كالغرانيق في ارتفاعها، فحذف المشبه واستعمل اسم المشبه به فيه بجامع الارتفاع فيهما: المعنوي للأصنام الحسي للطيور، "ولما تبين للمشركين عدم ذلك" الذي توهموه من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لآلهتهم حاشاه "رجعوا إلى أشد ما كانوا عليه" من إيذائه وإيذاء أصحابه ولقي مهاجرو الحبشة منهم الأذى الشديد "وقد تكلم القاضي عياض في الشفاء على هذه القصة" لإشكالها إذ مدح إله غير الله كفر ولا يصح نسبته إلى نبي، فذكر لها محامل على تقدير الصحة. "و" تكلم على "توهين" تضعيف "أصلها" من جهة الرواة "بما يشفي ويكفي لكن تعقب في بعضه" وهو دعواه بطلانها، وفي بعض المحامل "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" قريبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وقال الإمام فخر الدين الرازي -مما لخصته من تفسيره- هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] وقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] . وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون. وأيضا: فقد روى البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق. بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق. ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون ...   "وقال الإمام فخر الدين الرازي" نحو كلام عياض "مما لخصته من تفسيره: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها"، إلا مع بيان بطلانها كما هو شأن الموضوع. "قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ} بما يأتيكم به {عَنِ الْهَوَى} هوى نفسه، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] "، إليه "وقال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] "، فإنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتى يتكلم صلى الله عليه وسلم بأوله مخافة أن ينساه فأنزل الله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] ، رواه الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عبس بإسناد ضعيف. "وقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون" من الحذف والإيصال، أي: مطعون، أي: مقدوح فيهم، "وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه" وكذا مسلم عن ابن مسعود "أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق" فدل على خطأ من ذكرها "بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة" بهمزة قطع على غير قياس "حديث الغرانيق" فهذا دليل بطلانها من جهة الإسناد والرواية. "و" أما من جهة النظر فإنه "لا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ولو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه"، وعطف سببا على مسبب قوله: "وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 كذلك. ويبطل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في الفعل بين النقصان في الوحي والزيادة فيه. فبهذه الوجوه، عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. وقد قيل: إن هذه القصة من موضوع الزنادقة لا أصل لها. انتهى. وليس كذلك. بل لها أصل. فقد خرجها: ابن أبي حاتم، والطبري، وابن المنذر، من طرق عن شعبة عن ابن بشر، عن سعيد جبير.   كذلك" أي: مما ألقاه الشيطان على لسانه، "ويبطل قوله تعالى" أي: فائدة قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] "، أي: فلم تكن عاملا بالآية؛ إذ العمل بها تبليغ ما أنزل إليه، فلو زاد انتفى التبليغ؛ "فإنه لا فرق في الفعل بين النقصان في الوحي والزيادة فيه، فبهذه الوجوه" النقلية والعقلية "عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة، وقد قيل: إن هذه القصة من موضوع الزنادقة لا اصل لها، انتهى". قال عياض: لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس على ضعفاء المسلمين، انتهى. "وليس كذلك بل لها أصل" قوي "فقد خرجها ابن أبي حاتم" الحافظ، أو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي، صاحب التصانيف الكثيرة الثقة، كان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال وزاهدا يعد من الأبدال، توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وقد ناهز التسعين، "والطبري" محمد بن جرير البغدادي عالم الدنيا "و" محمد بن إبراهيم "ابن المنذر" النيسابوري نزيل مكة صاحب التصانيف الحافظ كان غاية في معرفة الخلاف والدليل فقيها مجهدا لا يقلد أحدا مات سنة تسع أو عشر أو ست عشرة أو ثمان عشرة وثلاثمائة، "من طرق عن شعبة" بضم المعجمة وسكون المهملة، ابن الحجاج الواسطي ثم البصري أمير المؤمنين في الحديث كان من سادات زمانه حفظا وإتقانا وورعا وفضلا، قال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق، ولد سنة اثنتين وثمانين ومات بالبصرة سنة ستين ومائة. "عن أبي بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، جعفر بن أبي وحشية بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وشد التحتية، اسمه إياس بالكسر وخفة التحتية، الواسطي الثقة من رجال الصحيح توفي سنة ربع أو خمس أو ست وعشرين ومائة، "عن سعيد بن جبير"، التابعي المشهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وكذا ابن مردويه، والبزار، وابن إسحاق في السيرة، وموسى بن عقبة في المغازي، وأبو معشر في السيرة. كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال: إن طرقها كلها مرسلة وأنه لم يرها مسندة من وجه صحيح. وهذا متعقب بما سيأتي: وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ الإسلام والحافظ أبو الفضل العسقلاني فال: أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم، ...............   المقتول ظلما، "وكذا" خرجها الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى "ابن مردوديه" بفتح الميم وتكسر، كما مر. "والبزار" الحافظ العلامة الشهير أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل مات بالرملة سنة اثنتين وتسعين ومائتين، "وابن إسحاق" محمد "في السيرة وموسى بن عقبة" بالقاف ابن أبي عياش القرشي مولاهم المدني التابعي الصغير الثقة الثبت الحافظ الفقيه، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة "في المغازي" له التي كان تلميذه ملك إذا سئل عنها، قال: عليك بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة فإنها أصح المغازي، وقال الشافعي: ليس في المغازي أصح من كتاب موسى مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره، رواه الخطيب. "وأبو معشر" بفتح الميم وإسكان المهملة وفتح المعجمة نجيح بن عبد الرحمن الهاشمي مولاهم السندي، قال أحمد: صدوق لا يقيم الإسناد، وابن معين ليس بالقوي، وابن عدي يكتب حديثه مع ضعفه، مات سنة سبعين ومائة. "في السيرة" وقد قال مغلطاي: أبو معشر من المعتمدين في السير "كما نبه عليه الحافظ عماد الدين بن كثير وغيره، لكن قال" ابن كثير "إن طرقها كلها مرسلة وإنه لم يرها مسندة" أي: موصولة، "من وجه صحيح وهذا متعقب بما سيأتي" قريبا من إخراج جماعة لها عن ابن عباس، وجوابه: أنه قيد عدم رؤيته بالصحة والآتي لم يبلغها فلا يتعقب به، "وكذا نبه على ثبوت أصلها شيخ السلام والحافظ أو الفضل" أحمد بن علي بن حجر "العسقلاني، فقال: أخرج ابن أبي حاتم" الحافظ الكبير ابن الحافظ الشهير. "والطبري" محمد بن جرير "وابن المنذر" بضم الميم وإسكان النون وكسر المعجمة ثم راء، "من طرق عن شعبة" ابن الحجاج بن الورد وليس الثقفي الظالم، "عن أبي بشر" جعفر بن إياس "عن سعيد بن جبير" تقدم الستة قريبا "قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم" في رمضان سنة خمس من المبعث، وكان خروج أهل الحبشة إليها في رجب وقدومهم في شوال، قاله الواقدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ، ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية. وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال: في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب، ثم ساق الحديث. وقال البزار: لا يروي متصلا إلا بهذا الإسناد. وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور. قال: إنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. انتهى، والكلبي متروك لا يعتمد عليه.   قال في النور: فهذا تباين لكن يحتمل أنه تحدث بذلك قبل وقوعه وفيه ما فيه، انتهى. وقد يقال: لا تباين؛ لأن الحبشة باليمن كما مر، فيمكن وصول الخبر في تلك المدة ولا سيما البحر قد يقطع فيه مسافات كثيرة في أيام قليلة، "فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] ، ألقى الشيطان على لسانه، تلك الغرانيق العلى إن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد" لما ختم السورة "وسجدوا" معه وكبر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم "فنزلت هذه الآية" تسلية له {وَمَا أَرْسلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ، أي: في قراءته بين كلمات القرآن "الآية" أتلها "وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد" ابن الأسود العنسي، أبي عبد الله البصري، مات سنة مائتين أو وإحدى "عن شعبة، فقال: في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، فيما أحسب" أي: أظن، "ثم ساق الحديث" المذكور. "وقال البزار" عقب تخريجه "لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور" أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، مع كون سعيد لم يجزم بوصله إنما ظنه كما علم، "وقال" البزار أيضا "إنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح" باذان بنون أو باذام بميم وذاله معجمة عن مولاته أم هانئ وعلي وعنه السدي وغيره، أخرج له أصحاب السنن، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وفي التقريب: إنه مقبول "عن ابن عباس، انتهى". "والكلبي" وهو محمد بن السائب "متروك لا يعتمد عليه"، بل قال ابن الجوزي إنه من كبار الوضاعين، وشيخه أبو صالح فيه مقال، وقال ابن حبان يروي الكلبي عن أبي صالح عن ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي. وذكرها ابن إسحاق في السيرة مطولا، وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب الزهري. وكذا أبو معشر بالسيرة له عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وأورده من طريقه الطبري. وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي. ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب ............   عباس، التفسير، وأبو صالح لم ير ابن عباس ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فلما احتيج إليه أخرجت الأرض أفلاذ كبدها لا يحل ذكره في الكتب فكيف الاحتجاج به، "وكذا أخرجه النحاس" الحافظ الإمام الصدوق أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى المصري نزيل نيسابور ذو الرحلة الواسعة والمعرفة الجيدة، روى عنه الحاكم، وقال: حافظ يتحرى الصدق في مذاكراته مات سنة ست وسبعين وثلاثمائة عن خمس وثمانين سنة "بسند آخر فيه الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني الذي استقر الإجماع على وهنه؛ كما في الميزان. "وذكرها ابن إسحاق في السيرة" ذكرا "مطولا وأسندها عن محمد بن كعب" القرظي "وكذلك" ذكرها "موسى بن عقبة في المغازي عن" شيخه "ابن شهاب" محمد بن مسلم "الزهري" "وكذا أبو معشر بالسيرة له عن محمد بن كعب القرظي" بضم القاف وفتح الراء وظاء معجمة نسبة إلى بني قريظة، نزل الكوفة مدة ثقة عالم ولد سنة أربعين، ووهم من قال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم يثبت في سبي قريظة، مات محمد سنة عشرين ومائة، وقيل قبل ذلك. "ومحمد بن قيس" شيخ أبي معشر ضعيف، ووهم من خلطه بمحمد بن قيس المدني القاص الثقة؛ كما في التقريب. "وأورده من طريقه" أي: أبي معشر، "الطبري" محمد بن جرير "وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط" بن نصر الهمداني بسكون الميم، قال في التقريب: صدوق كثير الخطأ يغرب "عن السدي" بضم السين وشد الدال المهملتين إسماعيل بن عبد الرحمن "ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب" قال البخاري والنسائي وأبو حاتم: متروك، وابن المديني ذهب حديثه، وقال ابن حبان: يروي المناكير عن المشاهير حتى يشهد المبتدئ في الصناعة أنها موضوعة، وقال زكريا الساجي: كانت كتبه ملأى من الكذب، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 عن يحيى بن كثير، عن الكلبي عن أبي صالح، وعن أبي بكر الهذلي، وأيوب عن عكرمة وعن سليمان التيمي عمن حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس. وأوردها الطبري أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس. ومعناهم كلهم في ذلك واحد. وكلها سوى طريق ................   أبو داود: هو صدوق فيما قد روى، وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب، وجمع الحافظ في الأمالي بأنه كان لا يتعمد الكذب بل يقع ذلك في روايته من غلطه وغفلته، ولذا تركوه. "عن يحيى بن كثير" أبي النضر ضعيف "عن الكلبي عن أبي صالح" البصري اشتهر بكنيته ومراسمه "وعن أبي بكر الهذلي" قيل: اسمه سلمى بضم السين المهملة ابن عبد الله، وقيل: روح الأخباري متروك الحديث؛ كما في التقريب مات سنة سبع وستين ومائة، روى له ابن ماجه. "وأيوب" بن كيسان البصري التابعي الصغير، قال فيه شعبة: أيوب سيد الفقهاء ما رأيت مثله، وقال ابن سعد: كان ثقة ثبتا حجة عدلا جامعا، ولد سنة أربع وستين ومات سنة إحدى وثلاثين ومائة بالبصرة، ويقال له السختياني: بفتح المهملة على الصحيح وحكى ضمها وكسرها وفتح الفوقية؛ كما في اللباب، وكرها كما في المطالع نسبه إلى بيع السختيان، هو الجلد أو إلى عمله. "عن عكرمة" بن عبد الله البربري ثم المدني مولى ابن عباس أحد الأعلام الكبار، كان بحرا من البحار ونسبته للكذب على سيده أو البدعة أو سوء العقيدة لا تثبت، كما بسطه الحافظ في مقدمة الفتح مات سنة ست أو سبع ومائة. "و" رواه ابن مردويه أيضا عن "سليمان" بن بلال "التيمي" مولاهم المدني أحد علماء البصرة، قال ابن سعد: كان بربريا جميلا حسن الهيئة عاقلا ثقة كثير الحديث، مات سنة اثنتين وسبعين ومائة. "عمن حدثه ثلاثتهم" يعني أبا صالح وعكرمة والذي حدث سليمان "عن ابن عباس وأوردها الطبربي من طريق العوفي" بسكون الواو وبالفاء عطية بن سعد بن جنادة بجيم مضمومة فنون خفيفة، الجدلي بفتح الجيم والمهملة الكوفي أبي الحسن: صدوق شيعي مدلس يخطئ كثيرا؛ إلا أن الترمذي يحسن حديثه خصوصا مع الشاهد وهذا له شواهد كما ترى، مات سنة إحدى عشرة ومائة، أخرج له أبو داود والنسائي والترمذي وتجويز أن المراد سليمان بن يحيى قاضي مرو؛ لأنه يروي عن ابن عباس وابن عمر مردود، فقد جزم في الأنساب من التقريب بأن العوفي عطية بن سعد. "عن ابن عباس ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها" أي: كل طريق منها "سوى طريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع. لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا. مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح. أحدهما: ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فذكر نحوه. والثاني: ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان، وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية.   سعيد بن جبير، إما ضعيف، وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا" وإن كان فيها ذلك "مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح أحدهما" أي: الطريقين، والطرق يذكر ويؤنث "ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد" بتحتية وزاي، الأيلي الحافظ روى عن الزهري ونافع وغيرهما، وعنه الليث وابن وهب والأوزاعي وخلق، مات بمصر سنة سبع وخمسين ومائة على الصحيح، روى له الجميع ووثقه الجمهور مطلقا حتى بالغ أحمد بن صالح، فقال: لا نقدم على يونس في الزهري أحدا، "عن" محمد بن مسلم "بن شهاد" الزهري العلم الشهير، قال: "حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" بن المغيرة المخزومي المدني الثقة أحد الفقهاء السبعة التابعي الكبير، كثير الحديث من سادات قريش، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه وكنيته واحد، ولد في خلافة عمر، ومات سنة ثلاث أو أربع أو خمس وتسعين، "فذكر نحوه" وهذا رجاله على شرط الشيخين. "والثاني: ما أخرجه" ابن جرير" أيضا من طريق المعتمر بن سليمان" بن طرخان التيمي الثقة الحافظ البصري المتوفى بها سنة سبع وثمانين ومائة، روى له الستة. "وحماد بن سلمة" بفتحات ابن دينار البصري أحد الأئمة الأثبات العابد الزاهد الحافظ مجاب الدعوة، كان يعد من الأبدال تزود سبعين امرأة، فلم يولد له؛ لأنه لا يولد للبدل، احتج به مسلم والأربعة والبخاري في التاريخ وعلق له في الصحيح، قال الحافظ: ولم يخرج له فيه احتجاجا ولا مقرونا ولا متابعة إلا في موضع واحد في الرقاق؛ لأنه ساء حفظه في الآخر، مات سنة سبع وستين ومائة. "كلاهما عن داود بن أبي هند" القشيري مولاهم أبو بكر أو أبو محمد، ثقة متقن أخرج له مسلم والأربعة مات سنة أربعين ومائة، فهذا على شرط مسلم. "عن أبي العالية" بمهملة وتحتية، رفيع بضم الراء وفتح الفاء ابن مهران الرياحي براء وتحتية ومهملة، البصري التابعي الكبير أسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قال الحافظ ابن حجر: وقد تجرأ ابن العربي -كعادته- فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول القاضي عياض: "هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، مع ضعف نقلته، واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده". وكذا قوله: "ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية".   بعد الوفاة النبوية بسنتين، وقيل فيه: ليس بعد الصحابة أعلم منه بالقرآن مات سنة تسعين، وقيل: ثلاث، وقيل غير ذلك. "قال الحافظ ابن حجر" أيضا إذ ما قبله كلامه: "وقد تجرأ ابن العربي" الحافظ المتجر في العلوم محمد بن عبد الله بن أحمد الإشبيلي المالكي القاضي، يكنى أبا بكر، له التصانيف الحسنة والمناقب الجمة والرحلة إلى عدة بلاد في طلب العلوم، توفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. "كعادته" في التجرؤ "فقال: ذكر الطبري" يعني ابن جرير "في ذلك روايات كثيرة" باطلة؛ كما في الفتح عنه قبل طوله "لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه" لكثرة الطرق مع المراسيل الثلاثة الصحيحة، "وكذا قول القاضي عياض" في الشفاء "هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم" أي: سالم من الطعن فيه، "متصل" قال: وإنما أولع به ويمثله المفسرون والمؤرخون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون. "مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده" واختلاف كلماته، فقائل تقول في الصلاة وآخر في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول بل حدث نفسها فسها، وآخر قالها الشيطان على لسانه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها جبريل قال: ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها فلما بلغ النبي ذلك، قال: "والله ما هكذا أنزلت"، إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، "وكذا قوله" أي: ياض عقب ما زدته منه "ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين" كالزهري وابن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن "والمفسرين" كابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر، "لم يسندها أحد منهم" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "ولا رفعها إلى صاحب" من أصحابه "وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية" ساقطة غير مرضية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 قال: وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره، إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله. "ثم رده من طريق النظر: بأن ذلك لو وقع لارتد كثير من أسلم. قال: ولم ينقل ذلك". انتهى. وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد: فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل على أن لها أصلا. وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمراسيل، وكذا من لا يحتج بها الاعتضاد. وإذا تقرر ذلك: تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فإن ..........   "قال" ابن عياض "وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق" شعبة عن "أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله" من سعيد، وهو قوله: عن ابن عباس فيما أحسب، قال: ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد وغيره يرسله عن سعيد وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال القاضي: وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار، انتهى كلامه في الشفاء. قال شارحه: وفي قوله: لقوة ضعفه طباق بديع جدا فهذا رده من حيث الإسناد، "ثم رده" أي: عياض، "من طريق النظر" أي: الفكر الصادر عن عقل سليم مستقيم "بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم" أنهم إذا سمعوه مع قرب عهدهم بالإسلام اعتقدوا في الأصنام النفع فيميلون لها، "قال: ولم ينقل ذلك، انتهى". قال الحافظ ابن ججر: "وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها" جمع مخرج، أي: محل خروجها "دل ذلك على أن لها أصلا" إذ يبعد اتفاق طوائف متباينين على ما لا أصل له، "وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح" ولو لأحدهما وهي طريق ابن جبير وطريق أبي بكر بن عبد الرحمن وطريق أبي العالية، "وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمراسيل" لصحتها "وكذا من لا يحتج بها الاعتضاد" بعضها ببعض فحصلت لها القوة فقامت بها الحجة عند الفريقين "وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 ذلك لا يجوز حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته. وقد سلك العلماء في ذلك مسالك: فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم الله بذلك أحكم آياته، وهذا أخرجه الطبري عن قتادة. ورده القاضي عياض: بأنه لا يصح، لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا ولاية للشيطان عليه في النوم. وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره. ورده ابن العربي ..........................   ذلك لا يجوز" أي: يحرم بإجماع "حمله على ظاهره؛ لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه" كيف؟ وقد قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} [الحاقة: 44] إلخ. وقال: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} الآية، "وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته" وهذا يؤذن بجواز زيادته على ما في القرآن سهوا، إن وافق ما جاء به من التوحيد وفيه ما فيه، فلا يقع منه ذلك ولا سهوا وإجماعا حكاه عياض وغيره "وقد سلك العلماء في ذلك مسالك" عبر عن تلبسهم بالأجوبة المختلفة بالدخول في الطرق المختلفة مجازا، إذ سلوك الطريق الدخول فيه والمسالك الطرق التي يدخل فيها، وقد أنصف في الشفاء، حيث قال: وأجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغث والسمين. "فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته" أي: عرضت له، "سنة" فتور مع وائل النوم قبل الاستغراق فيه، "وهو لا يشعر، فلما علم الله" أظهر علمه للناس "بذلك أحكم آياته، وهذا أخرجه الطبري عن قتادة" ونقله عياض عنه وعن مقاتل، "ورده القاضي عياض بأنه لا يصح" وقوعه منه "لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم" ولذا احتاجوا للجواب عن نومه في الوادي، وأجاب شارح الهمزية بأن هذا لا يثبت له الولاية عليه؛ غاية الأمر أن الشيطان لما رآه أصابته تلك السنة حكى قراءته بصوت يشبه صوته، ودفعه شيخنا بأن عياض لم يرد بالولاية عليه السلطنة، بحيث يصير فاعلا لما أمره به، بل مراده بنفي الولاية أنه لا تسلط له عليه في شيء مما يريد فعله بوجه ما، أعم من أن يكون بحمله موافقته أو بحكاية شيء عنه على وجه الكذب والبهتان. "وقيل: إن الشيطان ألجاه إلى أن قال ذلك بغير اختياره ورده" محمد "ابن العربي بقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 بقوله تعالى، حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية [إبراهيم: 22] ، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة. وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك، فعلق ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا. وقد رد ذل القاضي عياض فأجاد. وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار. قال القاضي عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائز. وإلى هذا نحا الباقلاني.   تعالى حكاية عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة" لأنه إذا قدر على إلجائه، وحاشاه من ذلك فما الناس بعده، فهذا الجواب أقبح من القصة. "وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك فعلق ذلك" بكسر اللام، أي: تعلق "بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا، وقد رد ذلك القاضي عياض، فأجاد" حيث قال: هذا إنما يصح فيما لم يغير المعاني ويبدل الألفاظ، وزيادة ما ليس من القرآن؛ بل الجائز عليه السهو عن إسقاط آية منه أو كلمة، ولكنه لا يقر عليه بل ينبه عليه ويذكر به للحين، انتهى. "وقيل: لعله" صلى الله عليه وسلم "قال ذلك توبيخا للكفار" كقول إبراهيم: هذا ربي على أحد التأويلات، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا بعد السكت، وبيان الفصل بين الكلامين ثم رجع إلى تلاوته، "قال القاضي عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد" مع بيان الفصل، وأنه ليس من المتلو "ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا" لفظ عياض، ولا يعترض هذا بما روي أنه كان في الصلاة، فقد كان الكلام قبل فيها غير ممنوع. "وإلى هذا نحا" مال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب "الباقلاني" البصري ثم البغدادي الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة الأصولي الأشعري المالكي مجدد الدين على رأس المائة الرابعة على الصحيح؛ كما قال الزناتي في طبقات المالكية. وفي الديباج: انتهت إليه رئاسة المالكية في وقته، وكان حسن الفقه عيم الجدل، وكان له بجامع المنصور حلقة عظيمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} خشى المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك. أو المراد بالشيطان شيطان الإنس. وقيل المراد بالغرانيق العلى، الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله، ويعبدونها، فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك،   وحدث عنه أبو ذر، وتوفي يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأوربعمائة "وقيل: أنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] ، خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به" كعادته إذا ذكرها "فبادروا إلى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن" إذا قرأ "والغوا فيه" أظهروا اللغو برفع الأصوات تخليطا وتشويشا عليه بما يشغل عنه الخواطر لعجزهم عن مثله؛ زاد في الشفاء وأشاعوا ذلك وأذاعوه، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم من كذبهم عليه فسلاه الله بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} الآية [يوسف: 109] ، [الأنبياء: 25] ، وبين للناس الحق من ذلك الباطل، وحفظ القرآن وأحكم آياته ودفع ما ليس به العدو؛ كما ضمنه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} الآية [الحجر: 9] . "ونسب ذلك للشيطان" إبليس "لكونه الحامل لهم على ذلك" كما جزم به عياض، "أو المراد بالشيطان شيطان الإنس" أي: جنسه، قال شيخنا: وهذا الجواب أقرب الأجوبة فيما ينبغي، وإن قال في شرح الهمزية: إنه تعسف. "وقيل المراد" واستظهره عياض، والمراد: "بالغرانيق العلا الملائكة" كما قاله الكلبي بناء على رواية مجاهد، والغرانقة العلا؛ كما قال عياض، لا على رواية تلك: لأنه لم يتقدم للملائكة ذكر حتى يرجع إليه اسم الإشارة. "وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها" قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19، 20] والغرانقة العلا وإن شفاعتهن لترتجى؛ "ليرد عليهم بقوله: {لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] ، فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع" جهلا أو عنادا أو تلبيسا، "وقالوا: قد عظن آلهتنا ورضوا بذلك" مع أنه إنما يعود الغرانقة أي: الملائكة؛ لأن استعارة الطير لهم أظهر من استعارة الأصنام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 فنسخ الله تينك الكلمتين وأحكم آياته. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن، فارتصده الشيطان في سكته من تلك السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله، وأشاعها. وقال: وهذا أحسن الوجوه، ويؤيده ما ورد عن ابن عباس في تفسير "تمنى" بـ"تلا". وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال: معنى قوله: في أمنيته، أي في تلاوته، فأخبر الله تعالى أن سنة الله في رسله، إذا قالوا ....   قال عياض: ورجاء الشفاعة منهم صحيح "فنسخ الله تينك الكلمتين" اللتين وجد الشيطان بهما سبيلا للتلبيس، وهما: والغرانقة العلا وإن شفاعتهن لترتجى، عبر عنهما بالكلمتين مجازا من تسمية الكل باسم الجزء، "وأحكم آياته" كما نسخ كثير من القرآن، وكان في كل من إنزالهما ونسخهما حكمة ليضل به من يشاء ويهدي من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين، وليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد، وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، ذكره القاضي عياض. "وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن" ترتيلا ويفصل الآيات تفصيلا في قراءته، كما رواه عنه الثقات "فارتصده الشيطان في سكتة من تلك السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمة" أي: صوت "النبي صلى الله عليه وسلم" والنغمة في الأصل الصوت الخفي؛ كما في القاموس. "بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله" أي: مما تلاه من القرآن، "وأشاعها" ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل على ما أنزلت وتحققهم حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان، بل حكى ابن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم، ويكون حزنه صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة، وسبب هذه الفتنة، ذكره عياض مريدا به بيان القرينة القائمة على أنه ليس من قوله ولا مما أوحي إليه، فسقط الاعتراض عليه بأنه لا سبيل للشيطان عليه حتى يتمكن من إدخاله في كلامه ومتلوه ما ليس منه. "وقال" أي: عياض ما معناه "وهذا أحسن الوجوه" وهو الذي يظهر ويترجح، "ويؤيده ما ورد عن ابن عباس في تفسير تمني بتلا" قال تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] ، أي: تلاوة، "وكذا استحسن ابن العربي" الحافظ محمد "هذا التأويل، وقال: معنى قوله في أمنيته، أي: في تلاوته فأخبر الله تعالى أن سنة الله في رسله" عليهم الصلاة والسلام "إذا قالوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وقد سبق إلى ذلك الطبري، مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر، فصوب هذا المعنى. انتهى.   قولا زاد الشيطان فيه من قبل"، بكسر ففتح جهة "نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" حتى يحتاج للعذر بشيء مما سبق، "وقد سبق" عياضا وابن العربي "إلى ذلك" أبو جعفر بن جرير "الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه" بحيث قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم منه. وقال الخطيب: كان أحد الأئمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، حافظا للقرآن بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين بصيرا بأيام الناس وأخبارهم، له تاريخ الإسلام والتفسير الذي لم يصنفه مثله. "وشدة ساعده في النظر" وله في الأصول والفروع كتب كثيرة، وعده السيوطي في العشرة الذين دونت مذاهبهم وكان لهم أتباع يفتون بقولهم ويقضون، ولم ينقرضوا إلا بعد الخمسمائة لموت العلماء، لكن قال ابن فرحون في الديباج: انقطعت أتباع الطبري بعد الأربعمائة. "فصوب هذا المعنى، انتهى" كلام فتح الباري في التفسير، وكذا ارتضاه الإمام الرازي، وقال: إنه الجواب السديد، واختاره أيضا في المواقف والمدارك والأنوار وغيرها، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 " الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة ": ثم هاجر المسلمون الثانية إلى أرض الحبشة وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم، .........   الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة: "ثم هاجر المسلمون" الهجرة "الثانية إلى أرض الحبشة" بإذنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية: لما استقبلوهم حين رجعوا بالأذى والشر، فرجع الأولون ومعهم خلق سواهم، "وعدتهم ثلاثة وثمانون رجلا إن كان عمار بن ياسر فيهم" فقد شك فيه ابن إسحاق، وقال السهيلي: الأصح عند أهل السير كالواقدي وابن عقبة وغيرهما أنه لم يكن فيهم، انتهى. وجزم في الاستيعاب بهجرته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وثماني عشرة امرأة. وكان منهم عبيد الله بن جحش مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك ................   وكلام العيون كما في النور يقتضي اختياره؛ لأنه قال في تعدادهم: وعمار بن ياسر، وفيه خلاف، وقيل: إن أبا موسى كان فيهم، وليس كذلك، ولكنه خرج في طائفة من قومه إلى أرضهم باليمن يريدون المدينة فركبوا البحر فرمتهم الريح إلى الحبشة فأقام هناك حتى قدم مع جعفر، انتهى. وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود: بعثنا صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم ابن مسعود وجعفر وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري ... الحديث. واستشكل ذكر أبي موسى؛ لأن الذي في الصحيحين عنه: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب قأقمنا معه حتى قدمنا المدينة فوافتنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فقال: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان"، قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن موسى هاجر أولا إلى مكة، فأسلم، فبعثه صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحققوا استقراره صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح إلى الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار، فليعتمد. وعلى هذا فقول أبي موسى بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، أي: إلى المدينة لا بلغنا مبعثه؛ لأنه يبعد كل البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك؛ إذ يبعد أيضا أن يخفي عنهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين، ويحتمل أن إقامة أبي موسى بالحبشة طالت لتأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يؤذنه صلى الله عليه وسلم بالقدوم، وذكر ابن مظعون فيهم، وإن كان مذكورا في الأولى؛ لأنهم رجعوا معهم، كما ذكره ابن إسحاق وابن عقبة وغيرهما. "وثماني عشر امرأة" إحدى عشرة قرشيات وسبع غرباء؛ كما في العيون، فالجملة مائة أو واثنان إن عد عمار وأبو موسى، قال ابن إسحاق: فلما سمعوا بمهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا وثمان نسوة، فمات منهم رجلان بمكة وحبس سبعة وشهد منهم بدرا أربعة وعشرون. "وكان منهم: عبيد الله" بضم العين "ابن جحش" أخو عبد الله بفتح العين المستشهد بأحد "مع امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتنصر هناك" روى ابن سعد عنها: رأيت في المنام كان زوجي عبيد الله بأسوأ صورة ففزعت فأصبحت فإذا به قد تنصر فأخبرته بالمنام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ثم مات على دين النصرانية. وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان سنة سبع من الهجرة إلى المدينة، وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم. وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة ....   فلم يحفل به وأكب على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين! ففزعت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن فإذا هي جارية يقال لها: أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك: وكلي من يزوجك، فوكلت خالد بن سعيد بن العاصي.. الحديث، "ثم مات على دين النصرانية، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة" رملة على الأصح، وقيل: هند اشتهرت بابنتها حبيبة من عبيد الله المذكور، وهي صحابية ربيبة المصطفى اختلف هل ولدت بمكة أو الحبشة، "بنت أبي سفيان" صخر بن حرب رضي الله عنه "سنة سبع من الهجرة إلى المدينة" متعلق بالهجرة "وهي بالحبشة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم" وروى أحمد بإسناد حسن عن ابن مسعود، قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فقدما على النجاشي فدخلا عليه وسجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه والآخر على شماله، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا، قال: وأين هم؟ قال: هم بأرضك، فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم، فاتبعوه فدخل فسلم فقالوا: ما لك لا تسجد للملك؟ فقال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل، قالوا: ولم ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولا وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة، قال عمرو: فإنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه، قال: فما تقول فيهما؟ قال: نقول كما قال الله تعالى: {رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعرضها ولد، فرفع النجاشي عودا من الأرض، فقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيد على ما تقولون أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه، وقال: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين فردت عليهما؛ وتعجل ابن مسعود فشهد بدرا. وفي رواية: فقال النجاشي: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله، وتوفي النجاشي بعد الهجرة سنة تسع عند الأكثر، وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة؛ كما ذكره البيهقي في الدلائل. "وخرج أبو بكر الصديق" كما في الصحيح عن عائشة: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين ولا يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر "رضي الله عنه مهاجرا إلى الحبشة" ليلحق من سبقه من المهاجرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 حتى بلغ برك الغماد، ورجع في جوار سيد القارة، ابن الدغنة -بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة، وتخفيف النون. وبضم الدال وتشديد النون- .............   إليها "حتى بلغ برك" بفتح الموحدة وحكى كسرها وسكون الراء فكاف، "الغماد" بكسر المعجمة على المشهور ومن الروايات وجزم ابن خالويه بضمها، وخطأ الكسر، وجوز أبو عبيد وغيره الضم والكسر، والقزاز وغيره الفتح أيضا، وذكره ابن عديس في المثلث، وأغرب من حكى إهمال العين وميم خفيفة فألف فدال مهملة، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن. وقال البكري: هي أقاصي هجر، وقال الهمداني: في أقصى اليمن، قال الحافظ: والأول أولى، انتهى. وعورض هذا بما رواه ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة: استأذن أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر مهاجرا حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة. الحديث، وسنده حسن أو صحيح، وبين برك الغماد وبين يوم أو يومين تباين كثير، وجمع بأنها لم تعن المكان المخصوص بل مكانا بعيدا، فإنها تقال فيما تباعد كسعفان وهجر وحوض الثعلب، أو أرادت حتى بلغ أقصى المعمور من مكة، فإن برك الغماد فسرت بذلك أو حديث الصحيح فيه زيادة، فيؤخذ بها. "ورجع في جوار سيد القارة" بقاف وراء خفيفة قبيلة مشهورة من بني الهون بضم الهاء والتخفيف، ابن خزيمة من مدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش ويضرب بهم المثل في قوة الرمي، قال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها "ابن الدغنة" قال في النور: لا أعلم له إسلاما، "بفتح الدال المهملة وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون" كما نسبه الحافظ للرواة، وقال: قال الأصيلي: قرأه لنا المروزي بفتح الغين والصواب الكسر. "وبضم الدال والغين وتشديد النون" عند أهل اللغة وبه رواه أبو ذر في الصحيح، ولذا قال النووي: روي بهما في الصحيح، وفي الفتح: ثبت بالتخفيف والتشديد من طريق وهي أمه، وقيل أم أبيه، وقيل: دايته، وقيل: لاسترخاء كان في لسانه، ومعنى الدغنة المسترخية وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، واختلف في اسمه: فعند البلاذري من طريق الواقدي عن معمر عن الزهري أنه الحارث بن يزيد حكى السهيلي أنه مالك، وقول الكرماني سماه ابن إسحاق ربيعة بن ربيع وهم، فالذي ذكره ابن إسحاق شخص غير هذا سلمي، وهذا من القارة وأيضا إنما ذكره في غزوة حنين وأنه صحابي ولم يذكر في قصة الهجرة وكان رجوعه بطلب ابن الدغنة، ففي الصحيح خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 يعبد ربه في داره، وابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، ويعجبون منه. وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن. فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فقالوا ............   الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا تخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مر أبا بكر، فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك "يعبد ربه في داره" ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره. قال الحافظ: ولم يقع لي بيان المدة التي أقام فيها أبو بكر على ذلك، "وابتنى" لفظ عائشة: ثم بدا لأبي بكر فابتنى "مسجدا بفناء داره" بكسر الفاء وخفة النون والمد، أي: أمامها، "وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن" أي: ما نزل منه كله أو بعضه، "فيتقصف" بتحتية ففوقية فقاف فصاد مهملة ثقيلة مفتوحتين، أي: يزدحم "عليه نساء المشركين وأبناؤهم" حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، قال الحافظ: وأطلق يتقصف مبالغة، يعني لأنهم لم يصلوا إلى هذه الحالة. وفي رواية المستملي والمروزي: ينقذف بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فقاف مفتوحة فذال معجمة مكسورة ففاء. قال الخطابي: ولا معنى له والمحفوظ الأول، إلا أن يكون من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضا بعضا فيتساقطون عليه فيرجع إلى معنى الأول، وفي رواية الكشميهني والجرجاني: فينقصف بنون ساكنة بدل الفوقية وكسر الصاد أي: يسقط، "ويعجبون منه وكان أبو بكر رجلا بكاء" بشد الكاف: كثير البكاء، "لا يملك عينيه" قال الحافظ: أي لا يطيق إمساكهما عن البكاء من رقة قلبه "إذا قرأ القرآن" إذا ظرفية والعامل فيه لا يملك أو شرطية والجزاء مقدر، "فأفزع ذلك" أي: أخاف ما فعله أبو بكر "أشراف قريش من المشركين" لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب أن يميلوا إلى الإسلام. قال في الرواية: فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، "فقالوا" إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 إنا قد خسينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك. فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله الحديث رواه البخاري. ثم قام رجال في نقض الصحيفة، .............   والقراءة فيه، و"إنا قد خشينا أن يفتن" بفتح أوله أبو بكر "نساءنا وأبناءنا" بالنصب مفعول كذا رواه أبو ذر، ورواه الباقون يفتن بضم أوله: نساؤنا بالرفع على البناء للمجهول، قال الحافظ. "فانهه" عن ذلك "فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن فسله" بفتح السين وسكون اللام بلا همز نسب هذا الحافظ للكشميهني وصدر بقوله: فسأله بالهمز "أن يرد إليك ذمتك" أمانك له، "فإنا قد كرهنا أن نخفرك" بضم النون وسكون المعجمة وكسر الفاء، يقال: خفره إذا حفظه وأخفره إذا غدر، أي: نغدرك. قال في الرواية: ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، قال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له "فقال أبو بكر لابن الدغنة: فإني أرد إليك جوارك" بكسر الجيم وضمها وراء "وأرضى بجوار الله" عز وجل، أي: بحمايته، "الحديث، رواه البخاري" في باب الهجرة إلى المدينة مطولا وليس في بقيته غرض يتعلق بما هنا، فإنما أراد المصنف إفادة أن ما ذكره قطعة منه، ورواه البخاري أيضا في مواضع مختصرا، قال الحافظ: وفيه من فضائل الصديق أشياء كثيرة قد امتاز بها عمن سواه ظاهرة لمن تأملها، قال: وفي موافقة ابن الدغنة في وصف الصديق لخديجة فيما وصفت به النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل الصديق واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال، انتهى. ونحوه في النور، وزاد: وفي الحديث: كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان، فسبقته إلى النبوة، وقد خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من طينة واحدة، "ثم" في السنة العاشرة أو التاسعة "قام رجال في نقض الصحيفة" التي كتبت على بني هاشم والمطلب أشدهم في ذلك صنيعا هشام بن عمرو بن الحارث العامري أسلم بعد ذلك -رضي الله عنه، وكانت أم أبيه تحت هاشم بن عبد مناف قبل أن يتزوجها جده، وكان يصلهم في الشعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما فعلمت قريش، فمشوا إليه حين أصبح فكلموه، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط، ..........   فانصرفوا عنه ثم رد الثانية، فأدخل عليهم حملا أو حملين فغالظته قريش وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه رجل وصل أهل رحمه أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل لكان أحسن بنا، ثم مشى هشام إلى زهير بن أبي أمية وأسلم بعد وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ فقال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع فإنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقال: أنا معك. فقال: ابغنا ثالثا ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي، فقالا له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد، فقالا: إنما أنا واحد، فقالا: أنا معك، فقال: ابغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري القاضي ابن هشام، فقال: ابغنا خامسا، فذهب إلى زمعة بن الأسود فقعدوا ليلا بأعلى مكة وتعاقدوا على ذلك، فلما جلسوا في الحجر تكلموا في ذلك وأنكروه، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة ومزقوها وأبطلوا حكمها، وهذا ملخص ما ذكر ابن إسحاق. "فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على أن الأرضة" بفتح الهمز والراء والضاد المعجمة: دويبة صغيرة كالعدسة تأكل الخشيب، "أكلت جميع ما فيها من القطيعة والظلم، فلم تدع إلا أسماء الله فقط" فيما ذكر ابن هشام، وأما ابن إسحاق وابن عقبة وعروة فذكروا عكس ذلك، وهو أن الأرضة لم تدع اسما لله إلا أكلته، وبقي ما يها من الظلم والقطيعة. قال البرهان، ما حاصله: وهذا أثبت من الأول فعلى تقدير تساوي الروايتين يجمع بأنهم كتبوا نسختين فأبقت في إحداهما ذكر الله وفي الأخرى خلافه، وعلقوا إحداهما في الكعبة والأخرى عندهم، فأكلت من بعضها اسم الله ومن بعضها ما عداه لئلا يجتمع اسم الله مع ظلمهم، انتهى. قال في الرواية: فذكر صلى الله عليه وسلم ذلك لعمه، فقال: أربك أخبرك بهذا، قال: "نعم"، قال: لا، والثواقب ما كذبتني قط، فانطلق في عصابة من بني هشام والمطلب حتى أتوا المسجد فأنكر قريش ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال أبو طالب: جرت بيننا وبينكم أمور لم تذكر في صحيفتكم فائتوا بها لعل أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا فيها قبل أن يأتوا بها، فأتوا بها معجبين لا يشكون أنه صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم فوضعوها بينهم، وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم، إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله بعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 فلما أنزلت لتمزق وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام. وكان ذلك في السنة العاشرة.   على صحيفتكم دابة فلم تترك فيها اسما لله إلا لحسته، وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان كما قال فأفيقوا فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: رضينا، ففتحوها فوجدوها كما قال -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، والجمع بين هذا وبين ما مر من سعي رجال في نقضها باحتمال أنهم لما جلسوا في الحجر وتكالموا وافق قدوم أبي طالب وقومه عليهم بهذا الخبر، فزادهم ذلك رغبة فيما هم فيه. "فلما أنزلت لتمزق" اللام للعاقبة "وجدت كما قال عليه الصلاة والسلام" لا للتعليل فلا يرد أنها لم تنزل وقت سؤال أبي طالب لتمزق بل لينظر ما فيها فقط، وإن القائمين في نقضها لم يستندوا إلى أخباره -صلى الله عليه وسلم. وأجاب شيخنا: بأن إنزالها لتمزق كان بفعل المجتهدين لإنزالها لا لسؤال أبي طالب. "وكان ذلك في السنة العاشرة" من النبوة بناء على ما صدر به فيه ما مر أن إقامتهم بالشعب ثلاث سنين، أما على قول ابن سعد سنتين، فيكون في التاسعة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وفاة خديجة وأبي طالب : ولما أتت عليه -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، مات عمه أبو طالب. وقيل: مات في شوال من السنة العاشرة. وقال ابن الجزار: قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين.   وفاة خديجة وأبي طالب: "ولما أتت عليه -صلى الله عليه وسلم- تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما" كما حرره بعض المتقنين "مات عمه أبو طالب" بعد خروجهم من الشعب في ثاني عشر رمضان سنة عشر من النبوة، "وقيل: مات" بعد ذلك بقليل، "في شوال من السنة العاشرة" متعلق بكل من القولين؛ كما علم "وقال ابن الجزار قبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين" وهذا يأتي على كلا القولين قبله؛ لأنه إذا مات في ذلك كان قبلها بثلاث. وفي الاستيعاب: خرجوا من الشعب في أول سنة خمسين وتوفي أبو طالب بعده بستة أشهر فتكون وفاته في رجب. وفي سيرة الحافظ: مات في السنة العاشرة بعد خروجهم من الشعب بثمانية أشهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول له عند موته: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة. فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: يابن أخي، لولا مخافة قريش أني إنما قلتها جزعا .........   وعشرين يوما، "وروي" مرضه لأن مجموع رواية ابن إسحاق ضعيف، فلا يرد أن صدر الحديث إلى قوله: فلما رأى أبو طالب صحيح، فقد أخرجه البخاري في الجنائز والتفسير وبابه قصة أبي طالب عن سعيد بن المسيب عن أبيه، أي: المسيب بن حزن بفتح المهملة وسكون الزاي، "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول له عند موته" قبل الغرغرة "يا عم" وفي رواية: "أي عم"، وأي هنا لنداء القريب، "قل: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله؛ لأن الكلمتين صارا كالكلمة الواحدة، ويحتمل أن يكون أبا طالب كان يتحقق أنه رسول الله، ولكن كان لا يقر بتوحيد الله ولذا قال في الأبيات النونية: ودعوتني وعلمت أنك صادق ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا فاقتصر على أمره له بقوله: لا إله إلا الله فإذا أقر بالتوحيد لم يتوقف على الشهادة له بالرسالة، قاله الحافظ. "كلمة" نصب بدل من مقول القول وهو لا إله إلا الله أو على الاختصاص، قال الطبيبي: والأول أحسن ويجوز الرفع، أي: هي كلمة "أستحل لك بها الشفاعة" وفي الوفاة أحاج، وفي الجنائز أشهد لك بها عند الله، قال الطيبي: مجزوم على جواب الأمرن أي: أن تقل أشهد. وقال الزركشي: في موضع نصب صفة كلمة. قال الحافظ: كأنه -صلى الله عليه وسلم- فهم امتناعه من الشهادة في تلك الحالة أنه ظن أن ذلك لا ينفعه لوقوعه عند الموت، أو لكونه لم يتمكن عن سائر الأعمال كالصلاة وغيرها، فلهذا ذكر له المحاجة، وأما لفظ الشهادة فيحتمل أن يكون ظن أن ذلك لا ينفعه إذا لم يحضره حينئذ أحد من المؤمنين مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فطيب قلبه بأنه يشهد له بها، فينفعه "يوم القيامة" والشفاعة لا تستلزم أن تكون عن ذنب، بل تكون على نحو رفع الدرجات في الجنة فلا يشكل بأن الإسلام يجب ما قبله، فأي ذنب يشفع فيه لو أسلم ويتعسف الجواب بأنها فيما يحصل من الذنوب بتقدير وقوعها، "فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم" على إيمانه "قال له يابن أخي، لولا مخافة" قول "قريش إني إنما قلتها جزعا" بجيم وزاي خوفا؛ كما نقله النووي عن جميع روايات المحدثين وأصحاب الأخبار، أو بخاء معجمة وراء مفتوحتين؛ كما قاله الهروي وثعلب وشمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها، فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه، فأصغى إليه بأذنه فقال: يابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: لم أسمع. كذا في رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت. وأجيب بأن شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد بقوله عليه الصلاة والسلام: "لم أسمع"، لأن الشاهد العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع. ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم. مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك، كما رويناه في صحيح البخاري من حديث سعيد بن المسيب ..........   واختاره الخطابي والزمخشري. قال عياض: ونبهنا غير واحد من شيوهنا على أنه الصواب، أي: خوارا وضعفا، وقال شمر دهشا "من الموت لقلتها" ولو قلتها "لا أقولها إلا لأسرك بها" لا إذعانا حقيقة حكمة بالغة "فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه، فقال: يابن أخي، والله لقد قال أخي الكملة التي أمرته بها" لم يصرح بها العباس؛ لأنه لم يكن أسلم حينئذ "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لم أسمع" وثبت في نسخة زيادة: ولم يكن العباس حينئذ مسلما، وهي وإن صحت في نفسها لكنها ليست عند ابن إسحاق، "كذا في رواية ابن إسحاق" عن ابن عباس بإسناد فيه من لم يسم "أنه" أي: إفادة أنه "أسلم عند الموت" من قول العباس، لقد قال: لم يروه بلفظ أنه أسلم عند الموت كما توهم، فقد ساق ابن هشام في السيرة والحافظ في الفتح لفظه، وما فيه ذلك وبهذا احتج الرافضة ومن تبعهم على إسلامه. "وأجيب" كما قال الإمام السهيلي في الروض "بأن شهادة العباس لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ولم ترد" شهادته "بقوله عليه السلام "لم أسمع لأن الشاهد العدل إذا قال: سمعت، وقال من هو أعدل منه: لم أسمع أخذ بقول من أثبت السماع" قال السهيلي لأن عدم السماح يحتمل أسبابا منع الشاهد من السمع، "ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم" فلا تقبل شهادته "مع أن الصحيح من الحديث قد أثبت لأبي طالب الوفاة على الكفر والشرك؛ كما رويناه في صحيح البخاري" في مواضع "من حديث سعيد بن المسيب" عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والله ..............   المغيرة، فقال: "أي عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزد لإيراد أنه "حتى قال أبو طالب: آخر" تصب على الظرفية "ما كلمهم" وفي رواية: آخر شيء كلمهم به" على ملة عبد المطلب" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو وثبت ذلك في طريق أخرى، قاله الحافظ. قال السهيلي في الروض: ظاهر الحديث يقتضي أن عبد المطلب مات مشركا، وحكى المسعودي فيه خلافا، وأنه قيل مات مسلما لما رأى من دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم، وعلم أنه إنما يبعث بالتوحيد، لكن روى البزار والنسائي عن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: وقد عزت قوما من الأنصار عن ميتهم: "لعلك بلغت معهم الكدي"، قالت: لا، قال: "لو كنت بلغته معهم الكدي ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك"، قال: وقد رواه أبو داود ولم يذكر فيه حتى يراها جد أبيك، وفي قوله: "جد أبيك"، ولم يقل جدك تقوية الحديث الضعيف إن الله أحيا أباه وأه وآمنا به، قال: ويحتمل أنه أراد تخويفهما بذلك؛ لأن قوله -صلى الله عليه وسلم- حق، وبلوغها معهم الكدي لا يوجب خلودا في النار، انتهى. لكن يؤيد القول بإسلامه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- انتسب إليه يوم حنين، فقال: أنا ابن عبد المطلب، مع نهيه عن الانتساب إلى الآباء الكفار في عدة أحاديث وإن كان حديث البخاري المذكور مصادقا قويا لا يوجد له تأويل قريب، والبعيد يأباه أهل الأصول، ولذا وقف السهيلي عن الترجيح. قال السيوطي: وخطر لي في تأويله وجهان بعيدان فتركتهما، وأما حديث النسائي فتأويله قريب. وقد فتح السهيلي بابه ولم يستوفه انتهى. قلت: التأويل وإن كان بعيدا لكنه قد يتعين هنا جمعا بينه وبين حديث البخاري عن أبي هريرة رفعه: بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه، وفي مسلم: واصطفى من قريش بني هاشم ومعلوم أن الخيرية والاصطفاء من الله تعالى والأفضلية عنده لا تكون مع الشرك. وفي التنزيل: ولعبد مؤمن خير من مشرك وقد أورده في الإصابة، أعني عبد المطلب، وقال: ذكره ابن السكن في الصحابة لما جاء عنه أنه ذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيبعث؛ كما ذكروا بحيرا الراهب أنظاره ممن مات قبل البعثة، انتهى. "وأبى أن يقول لا إله الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والله" وفي رواية مسلم: "أما والله" بزيادة، أما قال النووي بألف ودونها وكلاهما صحيح، قال ابن الشجري في أماليه: ما الزائدة للتوكيد ركبوها مع همزة الاستفهام واستعملوا مجموعهما عن وجهين، أحدهما: أن يراد به معنى حقا في قولهم، أما والله لأفعلن، والآخر أن يكون افتتاحا للكلام بمنزلة ألا كقولك: أما إن زيدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] .....   منطلق وأكثر ما تحذف الألف إذا وقع بعدها القسم ليدل على شدة اتصال الثاني بالأول؛ لأن الكلمة إذا بقيت على حرف لم تقم بنفسها فعلم بحذف ألف ما افتقارها إلى الاتصال بالهمز، انتهى. "لأستغفرن لك" كما استغفر إبراهيم لأبيه "ما لم أنه" بضم الهمزة وسكون النون مبني لمفعول، "عنك" أي: إن لم ينهني الله عن الاستغفار لك، "فأنزل الله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] ، ما صح الاستغفار في حكم الله وحكمته من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، أي: ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك فهو كالعلة للمنع من الاستغفار ولا يشكل بأن براءة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه القصة قبل الهجرة بثلاث سنين؛ لأن هذه الآية مستثناة من كون السورة مدنية؛ كما نقله في الإتقان عن بعضهم وأقره فلا حاجة لتجويز أنه كان يستغفر له إلى نزولها؛ لأن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، ثم لفظ البخاري في التفسير: فأنزل الله بعد ذلك، فقال في الفتح الظاهر نزولها بعده بمدة لرواية التفسير، انتهى. وكأنه لم يقف على القول باستثنائها من كونها مدنية، فإن صح فلا يعارضه قوله بعد ذلك لكون المعنى بعد موته والاستغفار له بمكة أو بالمدينة فالبعدية محتملة، وأما قول السيوطي في التوشيح المعروف أنها نزلت لما زار -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه واستأذن في الاستغفار لها، كما رواه الحاكم وغيره فتساهل جدالا يليق بمثله فإنها لا تعادل رواية الصحيح. وقد رد الذهبي في مختصر المستدرك تصحيح الحاكم بأن في إسناده أيوب بن هانئ ضعفه ابن معين وتعجب السيوطي نفسه في الفوائد من الذهبي كيف أقر الحديث في ميزانه مع رده في مختصر المستدرك، قال وله علة ثانية وهي مخالفته للمقطوع بصحته في البخاري من نزلها عقب موت أبي طالب، ثم قال السيوطي بعد طعنه في جميع أحاديث نزولها في آمنة، فبان بهذا إن طرقه كلها معلولة، خصوصا قصة نزول الآية الناهية عن الاستغفار؛ لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة في تقدم نزولها في أبي طالب، انتهى. وقد تقدم ذلك مبسوطا بما يشفي، ثم هذه الآية وإن كان سببها خاصا عامة في حقه وحق غيره، ولذا استشكل قوله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، وأجيب بأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة من الشرك حتى يغفر لهم بدليل رواية من روى: "اللهم اهدي قومي"، وبأنه أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من مسخ وخسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . وفي الصحيح عن العباس أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح".   "وأنزل الله في أبي طالب" أيضا "فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ، هدايته أو لقرابة، أي: ليس ذلك إليك، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} وإنما عليك البلاغ ولا ينافيه قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ؛ لأن الذي أثبته وأضافه إليه هداية الدعوة والدلالة والمنفي هداية التوفيق، "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم "عن العباس، أنه قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك" بضم الحاء المهملة من الحياطة، وهي المراعاة وفي رواية: يحفظك، "وينصرك ويغضب لك" يشير إلى ما كان يرد به عنه من قول وفعل، وفيه تلميح إلى ما ذكره ابن إسحاق، قال: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، وكانت خديجة وزيرة صدق له على الإسلام يسكن إليها وكان أبو طالب له عضدا وناصرا على قومه فلما هلك نالت قريش منه من الأذى ما لم تطمع به في حياته، حتى اعترضه سفيه من سهاء قريش فنثر على رأسه ترابا، فحدثني هشام بن عروة عن أبيه، قال: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته، يقول: "ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب"، ذكره في الفتح. "فهل ينفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح" بضادين معجمتين مفتوحتين وحاءين مهملتين أولاهما ساكنة وأصله ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين فاستعير للنار، قاله المصنف وغيره. وفي الفتح: هو من الماء ما يبلغ الكعب، ويقال أيضا: لما قرب من الماء وهو ضد الغمر والمعنى أنه خفف عنه العذاب، انتهى. زاد في رواية: "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، وصريح هذا الحديث أنه خفف عنه عذاب القبر في الدنيا، كما يومئ إليه كلام الحافظ ويوم القيامة يكون في ضحضاح أيضا؛ كما في الحديث الآتي، ففي سؤال العباس عن حاله دليل على ضعف رواية ابن إسحاق؛ لأنه كانت تلك الشهادة عنده لم يسأل لعلمه بحاله، وقد قال الحافظ: هذا الحديث لو كان طريقه صحيحة لعارضه هذا الحديث الذي هو أصح منه فضلا عن أنه لا يصح، ويضعف ما ذكره السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي أنه أسلم، لا أن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وفي الصحيح أيضا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه". وفي روية يونس عن ابن إسحاق زيادة فقال: "يغلي منه دماغه حتى يسيل على قدميه". قال السهيلي: من باب النظر في حكمة الله تعالى، ومشاكلة الجزاء للعمل؛ أن أبا ................   وروى أبو داود والنسائي وابن الجارود وابن خزيمة من علي لما مات أبو طالب، قلت: يا رسول الله! إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: "اذهب فواره"، قلت: إنه مات مشركا، قال: "اذهب فواره"، فلما واريته رجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "اغتسل"، وفي الحديث جواز زيارة القريب المشرك وعيادته وأن التوبة مقبولة ولو في شدة مرض الموت حتى يصل إلى المعاينة فلا تقبل؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] ، وأن الكافر إذا شهد شهادة الحق نجا من العذاب؛ لأن الإسلام يجب ما قبله وأن عذاب الكفار متفاوت والنفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد قال: "إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب" رواه مسلم، انتهى ملخصا. "وفي صحيح" للبخاري ومسلم "أيضا" عن أبي سعيد الخدري "أنه -صلى الله عليه وسلم، قال": وذكر عنده عمه أبو طالب "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر اللام، "منه دماغه" وفي رواية أم دماغه، أ: رأسه من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاوره وقد صرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه للوقوع، بل في النور عن بعض شيوخه: إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه معناها التحقيق. "وفي رواية يونس" بن كبير الشيباني الحافظ، قال ابن معين: صدوق، وقال أبو داود: ليس بحجة لكن احتج به مسلم، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وعلق له البخاري قليلا. "عن ابن إسحاق زيادة، فقال: "يغلي منه دماغه حتى يسل على قديمه" واستشكل الحديث بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] ، وأجاب البيهقي بأنه خص لثبوت الخبر، ولذا عد في الخصائص النبوية، والقرطبي بأن المنفعة في الآية الإخراج من النار، وفي الحديث بالتخفيف، وقيل: يجوز أن الله يضع عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيهم تطييبا لقلب الشافع، وقيل: شفاعته -صلى الله عليه وسلم- في أبي طالب بالحال لا بالمقال. "قال السهيلي من باب النظر في حكمة الله تعالى ومشاكلة الجزاء للعمل: أن أبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 طالب كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجملته متحيزا له، إلا أنه كان متثبتا لقدميه على ملة عبد المطلب، حتى قال عند الموت: أنا على ملة عبد المطلب، فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه. ثبتنا الله على الصراط المستقيم. وفي شرح التنقيح للقرافي: الكفار على أربعة أقسام، فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكي عن أبي طالب أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته. وفي شعره يقول: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل   طالب كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجملته متحيزا" ناصرا "له" وحده ويجمع بني هاشم والمطلب لمناصرته، "إلا أنه كان مثبتا لقدميه على ملة عبد المطلب حتى قال عند الموت" آخر كل شيء كلمهم "أنا على ملة عبد المطلب فسلط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه" ولا يعارض هذا بقول الإمام الرازي آباء الأنبياء ما كانوا كفارا، وأيده السيوطي بأدلة عامة وخاصة، كما مر؛ لأن هذا بعد نسخ جميع الملل بالملة المحمدية فليس في الحديث ولا كلام السهيلي أن عبد المطلب وآباءه لها كانوا مشركين، "ثبتنا الله على الصراط المستقيم" قال في الفتح: ولا يخلو كلام السهيلي عن نظر، انتهى. فإن كان وجهه أن الثبات على الدين إنما هو بالقلب؛ لأنه اعتقاد فلا يحسن ما ذكر توجيها لتخصيص القدم بالعذاب، أجاب شيخنا بأنه لما لازم ما كان عليه ولم يتحول عنه شبه بمن وقف في محل ولم يتول عنه إلى غيره، وذلك يستدعي ثبوت القدم في المحل الذي وقف فيه خصت العقوبة بالقدم. "وفي شرح التنقيح" في الأصول والمتن والشرح "للقرافي" العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي البهنسي المصري البارع في العلوم ذي التصانيف الشهيرة كالقواعد والذخيرة وشرح المحصول، مات في جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين وستمائة ودفن بالقرافة، "الكفار على أربعة أقسام فذكر منها من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما حكي عن أبي طالب أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته، وفي شعره يقول" في قصيدته المشهورة: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل وفي شعره من هذا النحو كثير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 قال فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن. انتهى. وحكي عن هشام بن السائب الكلبي، أو أبيه أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جمع إليه وجوه قريش، فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه .............   "قال" القرافي: "فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن" وحبه للمصطفى كان طبيعيا فكان يحوطه وينصره لا شرعيا فسبق القدر فيه، واستمر على كفره ولله الحجة البالغة "انتهى" والأربعة حكاها ابن الأثير في النهاية وكذا البغوي، وهي كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله بقلبه ولا يعترف باللسان، وكفر جحود وهو من عرفه بقلبه دون لسانه كإبليس واليهود، وكفر نفاق وهو المقتر باللسان دون القلب، وكفر عناد وهو أن يعرفه بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به كأبي طالب، قال البغوي: وجميع الأربعة سواء في أن الله لا يغفر لأصحابها إذا ماتوا، انتهى. وأقبحها على الراجح كفر النفاق لجمعه بين الكفر والاستهزاء بالإسلام؛ لذا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، وقيل: أقبحها الكفر ظاهرا وباطنا، وقيل: الكفر صنفان، أحدهما الكفر بأصل الإيمان وهو ضده، والآخر الكفر بفرع من فروع الإسلام فلا يخرج به عن أصل الإسلام، وبهذا صدر في النهاية وقابله بقوله: وقيل الكفر على أربعة أنحاء، فذكرها. "وحكى عن هشام بن السائب" نسبه لجده لأنه ابن محمد بن السائب "الكلبي" أبي المنذر الكوفي وثقه ابن حبان، وقال الدارقطني: هشام رافضي ليس بثقة مات سنة أربع وثمانين ومائة، "أو أبيه" محمد شك، "أنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش" وروى ابن إسحق عن ابن عباس: لما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله، قال بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وفشا أمر محمد، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب يأخذ لنا على ابن أخيه ويعطه منا، فمشى إليه عتبة وشبية وأبو جهل وأمية وابن حرب في رجال من أشرافهم فأخبروه بما جاءوا له، فبعث أبو طالب إليه -صلى الله عليه وسلم- فجاءه فأخبره بمرادهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "نعم كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم"، فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات، فعرض عليهم الإسلام فصفقوا وعجبوا ثم قالوا: ما هو بمعطيكم شيئا، ثم تفرقوا، فيحتمل أن أبا طالب جمعهم بعد ذلك، أو قال لهم ما حكى الكلبي في هذه المرة قبل عرض الإسلام أو بعده وقبل تفرقهم. "فأوصاهم، فقال: يا معشر قريش، أنتم صفوة الله من خلقه" وقلب العرب، فيكم السيد المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع، واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضلة ولهم به إليكم الوسيلة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 إلى أن قال: وإني أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاءنا بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن، وايم الله كأني انظر إلى صعاليك العرب، وأهل الأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أرباب، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد   والناس لكم حرب وعلى حربكم ألب، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنية -يعني الكعبة- فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم فإن في صلة الرحم منسأة -أي: فسحة في الأجل- وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي وأعطوا السائل، فإن فيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام، "إلى أن قال" عقب ما ذكرته "وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصديق" الكثير الصدق "في العرب" فلم يعرفوه من ابتداء نشأته إلا بالأمانة والصدق، ومن ثم لما كذبوه، قال بعضهم: والله قد ظلمنا محمدا. "وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به" من هذه الخصال الحميدة التي ذكرها في وصيته لهم ومدحهم بها "وقد جاءنا بأمر قبله الجنان" بالجيم "وأنكره اللسان مخافة الشنآن" أي: البغض لما تعيرونه به من تبعيته لابن أخيه تربيته، "وايم الله" بهمزة وصل عند الجمهور ويجوز القطع مبتدأ حذف خبره، اي: قسمي. وقال الهروي: بقطع الهمزة ووصلها وهي حلف ووهم الشارح، فقال: عبارة الشامي: أما والله، ثم قال: قال النووي: وقال الهروي بقطع الهمزة ووصلها وهي حلف ووهم الشارح، فقال عبارة الشامي: أما والله، ثم قال: قال النووي ... فذكر كلامه ظنا منه أنه في هذه الوصية مع أن ذاك اللفظ إنما ذكره الشامي كغيره شرحا لقوله -صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك". "كأني انظر إلى صعاليك" أي: فقراء "العرب" جمع صعلوك كعصفور؛ كما في القاموس. "وأهل الأطراف" النواحي جمع طرف بفتحتين، "والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت" وقد وقع ذلك يوم بدر "فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا" أتباعا وسفلة جمع صنديد وهو السيد الشجاع أو الحليم أو الجواد أو الشريف؛ كما في القاموس. "ودورها خرابا" حيث قتل سبعون وأسر سبعون، "وضعفاؤها أربابا" ملوكا، قال القاموس: رب كل شيء مالكه ومستحقه أو صاحبه والجمع أرباب وربوب. "وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه" كما وقع يوم فتح مكة، "وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها، يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي. ثم هلك. ثم بعد ذلك بثلاثة أيام -وقيل: بخمسة- في رمضان، بعد البعث بعشر سنين، على الصحيح، ماتت ...........   محضته" بمهملة فمعجمة أخلصت له "العرب ودادها وأصفت" بالفاء "له فؤادها" أزالت ما فيه من حسد وبغض، وفي نسخة بالغين، أي: استمعوا بقلوبهم، أي: أمالوها له. "وأعطته قيادها" كما انقاد له العرب لما سار بهم إلى فتح مكة، وكما وقع في مجيء هوازن منقادين لحكمه فمن عليهم برد سباياهم. "يا معشر قريش! " كذا في النسخ، وفيها سقط فلفظه كما في الروض عن الكلبي: دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم "كونوا له ولاة" موالين ومناصرين "ولحزبه حماة" من أعدائهم وتأمل ما في قوله ابن أبيكم من الترقيق والتقريع والتصريح بأنه منهم فعزه عزهم ونصره نصرهم، فكيف يسعون في خذلانه فإنما هو خذلان لأنفسهم، وهذا من حيث النظر إلى مجرد القرابة فكيف وهو على الصراط المستقيم ويدعو إلى ما يوصل إلى جنات النعيم، كما أشار إليه مؤكدا بالقسم، فقال: "والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد" بكسر الشين وفتحها والكسر أولى بالسجع، "ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد" في الدارين "ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز" بهاءين وزاءين منقوطين بعد أولاهما ألف، قال الجوهري: الهزاهز الفتن تهتز فيها الناس، وفي القاموس: الهزاهز تحريك البلايا والحروب في الناس، "ولدفعت عنه الدواهي، ثم هلك" على كفره، فانظر واعتبر كيف وقع جميع ما قاله من باب الفراسة الصادقة، وكف هذه المعرفة التامة بالحق وسبق فيه قدر القهار؛ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ولهذا الحب الطبيعي كان أهون أهل النار عذابا؛ كما في مسلم وفي فتح الباري تكملة من عجائب الاتفاق إن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة لم يسلم منهم اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين وهما أبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد العزى بخلاف من أسلم وهما: حمزة والعباس. "ثم بعد ذلك بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة" وقيل: بشهر، وقيل: بشهر وخمسة أيام، وقيل: بخمسين يوما، وقيل: بخمسة أشهر، وقيل: ماتت قبله "في رمضان بعد البعث بعشر سنين على الصحيح" كما قال الحافظ، وزاد: وقيل بعده بثمان سنين وقيل: بسبع، "ماتت" الصديقة الطاهرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 خديجة رضي الله عنها. وكان عليه الصلاة والسلام يسمى ذلك العام عام الحزن، فيما ذكره صاعد. وكانت مدة إقامتها معه خمسا وعشرين سنة سنة على الصحيح. ثم بعد أيام من موت خديجة تزوج عليه السلام بسودة بنت زمعة.   "خديجة رضي الله عنها" ودخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي في الموت، فقال: "تكرهين ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكره خيرا"، رواه الزبير بن بكار، وأطعمها من عنب الجنة، رواه الطبراني بسند ضعيف وأسند الواقدي عن حكيم بن حزام أنها دفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم تكن يومئذ الصلاة على الجنازة. "وكان عليه الصلاة والسلام يسمي ذلك العام" الذي ماتا فيه "عام الحزن" وقالت له خولة بنت حكيم: يا رسول الله! كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة؟ قال: "أجل، كانت أم العيال وربة البيت"، وقال عبيد بن عمير: وجد عليها حتى خشي عليه حتى تزوج عائشة، رواهما ابن سعد "فيما ذكره صاعد" بن عبيد البجلي أبو محمد، وأبو سعيد الحراني مقبول من كبار العاشرة؛ كما في التقريب، يعني الطبقة التي أخذت عن تبع التابعين كما أفصح عنه في خطبته. "وكانت مدة إقامتها معه خمسا وعشرين سنة على الصحيح" كما في الفتح، وزاد: وقال ابن عبد البر أربعا وعشرين سنة وأربعة أشهر. "ثم بعد أيام ممن موت خديجة" الواقع في رمضان "تزوج عليه السلام" في شوال "بسودة بنت زمعة" بفتح الزاي وإسكان الميم وتفتح؛ كما في القاموس. وبه يرد قول المصباح: لم أظفر بسكونها في شيء من كتب اللغة. وفي سيرة الدمياطي: ماتت خديجة في رمضان وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة وبنى بسودة قبل عائشة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف : ثم خرج عليه السلام إلى الطائف بعد موت خديجة بثلاثة أشهر، في ليال بقين من شوال سنة عشرة .................   خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف: "ثم خرج عليه السلام إلى الطائف" قال ابن إسحاق: يلتمس النصر من ثقيف والمنعة ورجاء أن يقبلوا منه ما جاء به من الله تعالى، قال المقريزي: لأنهم كانوا أخواله، قال غيره: ولم يكن بينه وبينهم عداوة. "بعد موت خديجة بثلاثة أشهر في ليال بقين من شوال سنة عشرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 من النبوة. لما ناله من قريش بعد موت أبي طالب. وكان معه زيد بن حارثة. فأقام به شهرا، يدعو أشارف ثقيف إلى الله فلم يجيبوه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه.   من النبوة" هذا على موتها في رجب، لا على ما جزم به أنه في رمضان، وعادة العلماء أنهم إذا مشوا في محل على قول وفي آخر على غيره، لا يعد تناقضا. "لما ناله" صلة خرج واللام للتعليل، أي: خرج للأذى الذي ناله "من قريش بعد موت أبي طالب وكان معه زيد بن حارثة" فيما رواه ابن سعد عن جبير بن مطعم، وذكر ابن عقبة وابن إسحاق وغيرهما أن خرج وحده ماشيا، فيمكن أن زيدا لحقه بعد ولا يؤيده ما يأتي أنه صار يقيه بنفسه، ولم يحك فيه خلافا كما زعم؛ لأن الآتي إنما هو كلام ابن سعد وحده الذي روى أنه كان معه، "فأقام به شهرا" وقال ابن سعد: عشرة أيام، وجمع في أسنى المطالب بأن العشرة في نفس الطائف العشرين فيما حولها وطريقها وأقرب منه؛ كما قال شيخنا: إن الشهر كله في الطائف، لكنه مكث عشرين قبل اجتماعه بعبد ياليل وعشرة بعده؛ لأنه لم يرجع عقب دعائه بل مكث "يدعو أشراف ثقيف إلى الله" ويدور عليهم واحدا واحدا رجاء أن أحدا يجيبه "فلم يجيبوه" لا إلى الإسلام ولا إلى النصرة والمعاونة. وعند ابن إسحاق والواقدي وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم عمد إلى عبد ياليل ومسعود وحبيب بني عمرو بن عوف وهم أشراف ثقيف وساداتهم، وعند أحدهم صفية بنيت معمر القرشي الجمحي فجلس إليهم وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك، والثاني: أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، والثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسول الله، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقال صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خيرهم، وقال: "إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي"، وكره أن يبلغ قومه عنه ذلك فيزيدهم عليه، فلم يفعلوا، وقد أسلم مسعود وحببيب بعد ذلك وصحبا؛ كما جزم به في الإصابة. وفي عبد ياليل خلف يأتي فيحتمل أن المصنف أراد بأشرافهم هؤلاء الثلاثة، وكأنه لم يعتد بغيرهم أو لأنه دعاهم أولا لكونهم العظماء ثم عمم الدعوة. ففي رواية: إنه لم يترك أحدا من أشرافهم إلا جاء إليه وكلمه فلم يجيبوه وخافوا على أحداهم منه، فقالوا: يا محمد اخرج من بلدنا، والحق بمحابك من الأرض. "وأغروا" بفتح الهمزة: سلطوا، "به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه" زاد ابن إسحاق: ويصيحون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 قال موسى بن عقبة: ورموا عراقبيه بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره: وكان إذا أزلقته الحجارة قعد إلى الأرض؛ فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شج في رأسه شجاجا. وفي البخاري ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، ..........   به حتى اجتمع عليه الناس "قال موسى بن عقبة: ورموا عراقيبه" جمع عرقوب لخفته لفظا كعريض الحواجب، "بالحجارة" فقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر بين صفيهم جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، "حتى اختضبت نعلاه بالدماء، زاد غيره" وهو سليمان التيمي "وكان إذا أزلقته" بمعجمة وقاف: ألمته "الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه" مبالغة في أذاه إذ لم يمكنوه من القعود ليخف تعبه وليتمكنوا من إدامة رميه بالحجارة في المراق والمفاصل التي ألم إصابتها أشد من غيرها، "فإذا مشى رجموه وهم يضحكون" قال ابن سعد: "وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج" زيد، أي: جرح "في رأسه" احتراز عن الوجه إذ الجراحة إنما تسمى شجة إذا كانت في أحدهما، "شجاجا" بكسر المعجمة جمع شجة بفتحها، ويقال أيضا: شجات؛ كما في المصباح. "وفي البخاري" في ذكر الملائكة من بدء الخلق تاما، وفي التوحيد: مختصرا، "ومسلم" في المغازي والنسائي في البعوث "من حديث عائشة، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم" عزوة "أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك" قريش وسقط المفعول في رواية مسلم، وثبت في البخاري بلفظ: "لقيت من قوك ما لقيت"، وأبهمه تعظيما "وكان أشد" بالرفع، ولأبي ذر بالنصب خبر كان واسمه عائد إلى مقدر هو مفعول لقد لقيت، "ما لقيت منهم" من قومك قريش إذ كانوا سببا لذهابي إلى ثقيف، فهو من إضافة الشيء إلى سببه فلا يرد أن ثقيفا ليسوا قومها "يوم العقبة:" ظرف، جزم المصنف بأنها التي بمنى، وفيه ما فيه فأين منى والطائف؟ ولذا قال شيخنا: لعل المراد به هنا موضع مخصوص اجتمع فيه مع عبد يا ليل، لا عقبة منى التي اجتمع فيها مع الأنصار، "إذا" أي: حين "عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عد كلال" كذا في الحديث، والذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلمه صلى الله عليه وسلم عبد يا ليل نفسه، وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، قاله الحافظ وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق مما أنا فيه إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا به عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ............ "   "فلم يجبني إلى ما أردت" منه من النصرة والمعاونة والإسلام "فانطلقت وأنا مهموم على وجهي" قال المصنف: أي الجهة المواجهة لي. وقال الطيبي: أي انطلقت حيرانا هائما لا أدري أين أتوجه من شدة ذلك، "فلم أستفق" أي: أرجع "مما أنا فيه" من الغم "إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أطلتني فنظرت" إليها "فإذا فيها جبريل" على غير صورته الأصلية، لما مر أنه لم يره عليها إلا بغار حراء وعند سدرة المنتهى، "فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك" لك، كما في الصحيحين فسقط من قلم المؤلف، والأحسن أنه يعني بقومه قريشا وغيرهم لا خصوص ثقيف؛ لأنهم وإن كانوا قومه؛ لأنه بعث إليهم كغيرهم، لكنهم ليسوا بمكة والأخشبان حيطان بها، "وما ردوا به عليك" ظاهر في إنه إخبار عما قاله أشراف ثقيف، ويحتمل أنه أراد قريشا لما دعاهم للإيمان، فقالوا ساحر شاعر كاهن مجنون، وغير ذلك. "وقد بعث إليك" وفي رواية الكشميهني: وقد بعث الله إليك "ملك الجبال" الذي سخرت له وبيده أمرها، قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "لتأمره بما شئت" فيهم، قال صلى الله علي وسلم: "فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وأنا ملك الجبال وقد بعثني إليك ربك لتأمرني بأمرك" هذا لفظ مسلم، زاد الطبري: فما شئت، ولفظ البخاري: ثم قال: يا محمد! ذلك فيما شئت، قال المصنف: ذلك كما قال جبريل، أو كما سمعت منه فيما، ولأبي ذر عن الكشميهني: مما شئت، استفهام جزاؤه مقدر، أي: فعلت، وعزا المصنف لفظه هنا في شرح البخاري للطبراني مع أنه لفظ مسلم كما علمت؛ لأنه كما في الفتح أخرجه من طريق شيخ البخاري فيه: "إن شئت أن أطبق" بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر الموحدة، "عليهم الأخشبين" بمعجمتين جبلي مكة: أبا قبيس ومقابله قعيقعان؛ كما جزم به المصنف وغيره، وبه صدر البرهان. وفي الفتح: وكأنه قعيقعان. وقال الصغاني: بل هو الجبل الأحمر المشرف وجهه على قعيقعان، انتهى. وجرى ابن الأثير على الثاني. وقول الكرماني: ثور وهموه، سميا بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له". وعبد يا ليل؛ بتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم لام -ابن عبد كلال- بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام، وكان ابن عبد يا ليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف.   لصلابتهما وغلظ حجارتهما، ويقال: هما الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد. قال الحافظ: والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكة، ويحتمل أن يصيرا طبقا واحدا وجزء إن مقدر، أي: فعلت. "قال للنبي -صلى الله عليه وسلم" لا أشاء ذلك "بل أرجو" وللكشميهني: أنا أرجو "أن يخرج الله" بضم الياء من الإخراج "من أصلابهم من يعبد الله" يوحده قوله: "وحده لا شريك له" تفسيره وهذا من مزيد شفقته وحلمه وعظيم عفوه وكرمه، وعن عكرمة رفعه مرسلا: "جاءني جبريل، فقال: يا محمد! إن ربك يقرئك السلام وهذا ملك الجبال قد أرسله وأمره أن لا يفعل شيئا إلا بأمرك، فقل له إن شئت دممت عليهم الجبال، وإن شئت خسفت بهم الأرض، قال: يا ملك الجبال، فإني آتي بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون لا إله إلا الله، فقال ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رءوف رحيم"، ولعل هذين الاسمين كانا معلومين له عند الملائكة قبل نزول الآية، فلا ينافي أنها من أواخر ما نزل، وبقي أنه قيد فيها بالمؤمنين وهؤلاء كفار فكيف قول الملك، ولعله باعتبار ما رجاه من ربه؛ لأنه محقق. "وعبد يا ليل بتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم لام" بزنة هابيل؛ كما في القاموس. قال في الإصابة: عبد يا ليل بن عمرو الثقفي، قال ابن حبان: له صحبة ان من الوفد، وقال غيره: إنما هو ولده مسعود اختلف فيه كلام ابن إسحاق، وقال موسى بن عقبة: إن القصة لمسعود، انتهى. منه في النوع الرابع فيمن ذكره في الصحابة غلطا. "ابن عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام آخره لام" بعد الألف بوزن غراب "وكان ابن عبد ياليل" مسعود أو كنانة "من أكابر أهل الطائف من ثقيف" كأبيه وعميه، وقد روى عبد بن حميد عن مجاهد قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ، قال: نزلت في عتبة بن ربيعة وابن عبد ياليل الثقفي، ورواه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وزاد: يعني كنانة، وقال قتادة: هما الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود، رواه عبد بن حميد. قال ابن عبد البر: وفد كنانة وأسلم مع وفد ثقيف سنة عشر، وكذا قال ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغير واحد. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وقرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل. وأفاد ابن سعد: أن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بالطائف كانت عشرة أيام. ولما انصرف عليه السلام عن أهل الطائف ولم يجيبوه، مر في طريقه بعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما في حائط لهما، فلما رأيا ما لقي تحركت له رحمهما، فبعثا له مع عداس النصراني -غلامهما- قطف ...........   المدائني: وفد في قومه فأسلموا إلا كنانة فقالا: لا يرني رجل من قريش، وخرج إلى نجران ثم إلى الروم فمات بها كافرا. قال في الإصابة: ويقويه ما حكاه ابن عبد البر أن هرقل دفع ميراث أبي عامر الفاسق إلى كنانة بن عبد ياليل لكونه من أهل المدر كأبي عامر، انتهى. فقول النور: لا أعلم له إسلاما تقصير شديد. "وقرن الثعالب" بفتح القاف وإسكان الراء اتفاقا، وحكى عياض أن بعض الرواة ذكره بفتح الراء، قال: وهو غلط، وذكر القابسي: أن من سكن الراء أراد الجبل ومن حركها أراد الطريق التي تتفرق منه. وغلط الجوهري في فتحها ونسبة أويس إليها وإنما هو إلى قرن بفتح الراء بطن من مراد "وهو ميقات أهل نجد" تلقاء مكة على يوم وليلة منها "ويقال له" أيضا "قرن المنازل" قال في النور والفتح: وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير. "وأفاد ابن سعد" محمد "أن مدة إقامته عليه الصلاة والسلام بالطائف كانت عشرة أيام" خلاف ما مر أنها شهر، ومر الجمع "ولما انصرف عليه السلام عن أهل الطائف ولم يجيبوه" ورجع عنه من كان يتبعه من سفهاء ثقيف؛ كما عند ابن إسحاق. "مر في طريقه بعتبه وشيبة ابني ربيعة" الكافرين المقتولين ببدر "وهما في حائطا" بستان إذا كان عليه عليه جدار؛ كما في النور وغيره، وأطلق المصباح "لهما" بشراء أو غيره وهو من بساتين الطائف المنسوبة إليه كما يفيده قول موسى بن عقبة، فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم، فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع، وكذا قول ابن إسحاق فاجتمعوا عليه وألجئوه إلى حائط لعتبة وسيبة والحيلة، بفتح الحاء والموحدة وتسكن الأصل أو القضيب، من شجر العنب؛ كما في النهاية وغيرها، ولا ينافي استظلاله قوله في الحديث: "فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب"؛ لجواز أنه لم يعد استظلاله مكروبا موجعا محزونا مفكرا فيما أصابه إفاقة. "فلما رأيا ما لقي تحركت له رحمهما" قرابتهما؛ لأنهما من بني عبد مناف "فبعثا له مع عداس" بفتح العين وشد الدال فألف فسين مهملات "النصراني غلامهما قطف" بكسر القاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 عنب، فلما وضع -صلى الله عليه وسلم- يده في القطف قال: "بسم الله، ثم أكل"، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من أي البلاد أنت. وما دينك"؟ قال نصراني من نينوى. فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى"؟ قال: وما يدريك؟ ..............   عنقود "عنب" وعند ابن عقبة: ووضعه عداس في طبق بأمرهما، وقالا له: اذهب إلى ذلك الرجل، فقال له يأكل منه، ففعل ولم يذكر زيد بن حارثة لأن هذا من كلام ابن عقبة، وهو ممن قال إنه خرج وحده، أو لأنه تابع والحامل على بعث القطف إنما هو المصطفى فخص بتقديمة له وخطابه، "فلما وضع -صلى الله عليه وسلم- يده في القطف" ليأكل قال: "بسم الله" فقط كما عند ابن عقبة وابن إسحاق، ووقع في الخميس: "الرحمن الرحيم"، "ثم أكل فنظر عداس إلى جهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من أي البلاد أنت؟ وما دينك"؟ قال: نصراني من نينوي" بكسر النون وسكون التحتية فنون مفتوحة على الأشهر. قال أبو ذر: وروي بضمها فواو مفتوحة فألف. قال ياقوت: ممالة بلد قديم مقابل الموصل خرب وبقي من آثار مشي، وبه كان قوم يونس. وقال الصغاني: هي قرية يونس بالموصل. "فقال له -صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى"، بفتح الميم وشد الفوقية مقصور اسم أبيه. وفي تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه وتبعه صاحب تاريخ حماة قائلا: لم يشتهر بأمه غيره وغير عيسى ورده الحافظ بحديث ابن عباس عند البخاري لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى ونسبه إلى أبيه، فإن فيه إشارة إلى الرد على من زعم أن متى اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري وتبعه ابن الأثير في الكامل، والذي في الصحيح أصح، وقيل: سبب قوله: ونسبه إلى أبيه، أنه كان في الأصل يونس بن فلان، فنسي الراوي اسم أبيه وكنى عنه بفلان، فقال الذي نسي يونس بن متى وهي أمه ثم اعتذر، فقال: ونسبه أي شيخه إلى أبيه، أي: سماه فنسيته ولا يخفى بعد هذا التأويل وتكلفه، قال: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس، انتهى من فتح الباري. يؤيده ما نقله الثعلبي عن عطاء: سألت كعب الأحبار عن متى، فقال: هو أبو يونس واسم أمه برورة أي: صديقة بارة قانتة وهي من ولد هارون، انتهى. فقول السيوطي التأويل عندي أقوى وإن استبعده الحافظ، فيه نظر. "فقال" عداس "وما يدريك" ما يونس بن متى؟ كما في الرواية، وعند التيمي: فقال عداس: والله لقد خرجت من نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفته وأنت أُمي في أمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 قال: "ذاك أخي، وهو نبي مثلي". فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم.   أمية؟ "قال: "ذاك أخي وهو نبي مثلي" وعند ابن عقبة والتيمي: "كان نبيا وأنا نبي"، "فأكب عداس على يديه ورأسه ورجليه يقبلها وأسلم" رضي الله عنه وهو معدود في الصحابة، وفي سير التيمي، أنه قال: أشهد أنك عبد الله ورسوله. وعند ابن إسحاق: ونظر إليه ابنا ربيعة، فقال أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه، قال: يا سيدي -بشد الياء مثنى- ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك يا عداس، لا يصرفك عن دينك، فإنه خير من دينه. وفي الروض: ذكروا أن عداسا لما أراد سيداه الخروج إلى بدر أمراه بالخروج معهما، فقال: أقتال ذلك الرجل الذي رأيت بحائطكما تريدان؟ والله ما تقوم له الجبال، فقالا له: ويحك يا عداس، سحرك بلسانه. وفي الإصابة عن الواقدي: قيل قتل عداس بدر، وقيل: لم يقتل، بل رجع فمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 ذكر الجن : ولما نزل نخلة -وهو موضع على ليلة من مكة- صرف إليه سبعة من جن نصيبين، مدينة بالشام ............   ذكر الجن: "ولما نزل" صلى الله عليه وسلم، في منصرفه من الطائف سنة عشر، وهو ابن خمسين سنة تقريبا، "نخلة" غير مصروف للعلمية والتأنيث، وفي مسلم: بنخل، قال البرهان: والصواب نخلة، ويحتمل أن يقال الوجهان، انتهى. "وهو موضع على ليلة من مكة صرف إليه" بالبناء للمفعول للعلم به، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] ، "سبعة" كما رواه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة وأحمد بن منيع من طريق عاصم عن زر عن عبد الله، قال: هبطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه، قالوا: أنصتوا وكانوا سبعة أحدهم زوبعة وإسناده جيد، وقيل: تسعة، وقيل غير ذلك. "من جن نصيبين" بنون مفتوحة وصاد مهملة مكسورة فتحتية ساكنة فموحدة مكسورة فتحتية ساكنة أيضا فنون، بلد مشهور يجوز صرفه وتركه، وفي خبر أن جبريل رفعها للنبي -صلى الله عليه وسلم- ورآها، قال: "فسألت الله أن يعذب ماؤها، ويطيب ثمرها ويكثر مطرها" وهي بالجزيرة، كما في مسلم وبه جزم غير واحد، قال البرهان: ووهم من قال باليمن، وقوله: "مدينة بالشام" تبع فيه ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وكان عليه السلام قد قام في جوف الليل يصلي فاستعموا له وهو يقرأ سورة الجن. وفي الصحيح أن الذي آذنه -صلى الله عليه وسلم- بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أو فرما كان لحما، ..............   التين السفاقسي، قال الحافظ: وفيه تجوز فإن الجزيرة بين الشام والعراق، انتهى. وفي تفسير عبد بن حميد أنهم من نينوى، وقيل: ثلاثة من نجران وأربعة من نصيبين، وعن عكرمة: كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل. "وكان عليه السلام قد قام في جوف الليل يصلي" كما ذكره ابن إسحاق ولا يعارضه ما في الصحيحين عن ابن عباس: وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر؛ لأنه كان قبل في أول مرة عند المبعث لما منعوا من استراق السمع، نعم وقع لبعض من ساق هذه القصة التي هنا وهو يصلي الفجر، فإن صح فيكون أطلق على وقت الفجر جوف الليل لاتصاله به، أو ابتدأ الصلاة في الجوف واستمر حتى دخل وقت الفجر، أو صلى فيهما وسمعوهما معا، والمراد بالفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس، وإطلاق الفجر عليهما صحيح لوقوعهما بعد دخول وقته، فسقط اعتراض البرهان بأن صلاة الفجر لم تكن فرضت، وقال الحافظ في حديث ابن عباس وهو يصلي بأصحابه: لم يضبط من كان معه في تلك السفرة غير زيد بن حارثة، فلعل بعض الصحابة تلقاه لما رجع، انتهى. وكأنه بناه على تسليم اتحاد مجيء الجن. "فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن" قاله ابن إسحاق وأقره اليعمري ومغلطاي واعتراضه البرهان بما في الصحيح أنها إنما نزلت بعد استماعهم، وجوابه أن الذي في الصحيح كان في المرة الأولى عند المبعث كما هو صريحه، وهذه بعده بمدة فلا تعترض به. "وفي الصحيح" عن ان مسعود "أن الذي آذنه" بالمد أعلمه -صلى الله عليه وسلم- "بالجن ليلة الجن شجرة" هي كما في مسند إسحاق بن راهويه سمرة فتح السن وضم الميم من شجر الطلح جمعه كرجل وفيه معجزة باهرة، "وأنهم سألوه الزاد" أي: ما يفضل من طعام الإنس، وقد يتعلق به من يقول الأشياء قبل الشرع على الخطر حتى ترد الإباحة، ويجاب عنه بمنع الدلالة على ذلك، بل لا حكم قبل الشرع على الصحيح، قاله في فتح الباري. وقال شيخنا: أي نوعا يخصهم به كما جعل للإنس في المطعوم حلالا وحراما ولعلهم قبل السؤال كانوا يأكلون ما اتفق لهم أكله بغير قيد نوع مخصوص أو ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الإنس. "فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه" هو زادكم "يقع في يد أحدكم أو فرما كان لحما" ولأبي داود: "كل عظم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وكل بعر علف لدوابكم". وفي هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب.   لم يذكر اسم الله عليه"، وجمع بأن رواية مسلم في حق المؤمنين، وهذه في حق شياطينهم. قال السهيلي: وهو صحيح يعضده الأحاديث. "وكل بعر علف لدوابكم" زاد في سلام في تفسيره: أن البعر يعود خضرا لدوابهم واعترض على المؤلف ومتبوعه السهيلي في سياق حديث الصحيح هنا بما صرح به الحافظ الدمياطي أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بهم حين استمعوه في رجوعه من الطائف حتى نزل عليه {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا} [الأحقاف: 29] الآية، قال: وسؤالهم الزاد كان في قصة أخرى. "وفي هذا" دليل على أن الجن يأكلون ويشربون و"رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب" لأن صيرورته لحما إنما تكون للأكل حقيقة، ثم اختلف هل أكلهم مضغ وبلع أو يتعذون بالشم، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله"، مجاز أي: يحبه الشيطان ويزينه ويدعو إليه، قال ابن عبد البر: وهذا ليس بشيء فلا معنى لحمل شيء من الكلام على المجاز إذا أمكنت فيه الحقيقة بوجه ما انتهى. وهو الراجح عند جماعة من العلماء حتى قال ابن العربي: من نفى عن الجن الأكل والشرب فقد وقع في حبالة إلحاد وعدم رشاد، بل الشيطان وجميع الجان يأكلون ويشربون وينكحون ويولد لهم ويموتون وذلك جائز عقلا، وورد به الشرع، وتظافرت به الأخبار لا يخرج عن هذا المضمار إلا حمار، ومن زعم أن أكلهم شم فما شم رائحة العلم، انتهى. ورى ابن عبد البر عن وهب بن منبه: الجن أصناف، فخالصهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يتوالدون وصنف يفعل ذلك ومنهم السعالي والغيلان والقطرب، قال الحافظ: وهذا إن ثبت كان جامعا للقولين، ويؤيده ما روى ابن حبن والحاكم عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا: "الجن تلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيات وعقارب، وصنف يحلون ويظعنون ويرحلون". وروى ابن بي الدنيا عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه، لكن قال في الثالث: "وصنف عليهم الحساب والعقاب"، انتهى. قال السهيلي: ولعل هذا الصنف الطيار هو الذي لا يأكل ولا يشرب إن صح القول به، انتهى. وقال صاحب آكام المرجان: وبالجملة فالقائلون الجن لا تأكل ولا تشرب إن أرادوا جميعهم فباطل؛ لمصادمة الأحاديث الصحيحة وإن أرادوا صنفا منهم فمحتمل، لكن العمومات تقتضي أن الكل يأكلون ويشربون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وذكر صاحب الروض من أسماء السبعة الذين أتوه عليه السلام، عن ابن دريد: منشى وناشى وشاصر وماصر والأحقب. لم يزد على تسمية هؤلاء.   "وذكر صاحب الروض" السهيلي فيه هنا "من أسماء السبعة الذين أتوه عليه السلام عن ابن دريد منشى" بميم فنون فمعجمة "وناشى" بنون "وشاصر" بشين معجمة فألف فصاد فراء "وماصر" بميم فألف فمعجمة ضبطهما في الإصابة، "والأحقب" قال في الروض "لم يزد" ابن دريد "على تسمية هؤلاء" الخمسة، وقد ذكرنا تمام أسمائهم فيما تقدم يعني قبيل المبعث، إذ قال وعمرو بن جابر وسرق، انتهى. وفي الإصابة: الأرقم الجني أحد من استمع القرآن من جن نصيبين، ذكر إسماعيل بن زياد في تفسيره عن ابن عباس أنهم تسعة: سليط وشاصر وماضر وحسا ونسا وبجعم والأرقم والأدرس وخاضر، نقلته مجودا من خط مغلطاي، ثم ضبط في الإصابة خاضرا بخاء وضاد معجمتين وآخره راء، وسرق بضم السين وفتح الراء المشددة المهملتين وقاف، قال: وضبطه العسكري بتخفيف الراء على وزن عمر وأنكر على أصحاب الحديث شد الراء، انتهى. فهؤلاء أربعة عشر صحابة من الجن، وترجم في الإصابة أبيض الجني ذكره في كتاب السنن لأبي علي بن الأشعث أحد المتروكين المتهمين، فأخرج إسناده أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "أخزى الله شيطانك" الحديث، وفيه: "ولكن الله أعانني عليه حتى أسلم واسمه أبيض وهو في الجنة، وهامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس في الجنة"، انتهى. وفي التجريد هامة بن الهيم حديثه موضوع، انتهى. وسمحج بسين مهلمة أوله بوزن أحمر آخره جيم وسماه المصطفى عبد الله، رواه الفاكهي وغيره؛ كا في الإصابة، وعد أبو موسى المديني في الصحابة عمرو بن جابر المتقدم ومالك بن مالك وعمرو بن طارق وزوبعة ووردان. قال الذهبي: وزوبعة إما لقب لواحد منهم أو اسم له والمذكور لقب، ولم يذكر ذلك صاحب الإصابة، بل ترجم لكل منهم، فاقتضى أن زوبعة اسم علم على جني غير الأربعة وهو الأصل، وذكر في عمرو بن طلق، ويقال ابن طارق، أخرج الطبراني في الكبير عن عثمان بن صالح، قال: حدثني عمر والجني، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النجم فسجد وسجدت معه. وأخرج ابن عدي عن عثمان بن صالح، قال: رأيت عمرو بن طلق الجني، فقلت له: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم وبايعته وأسلمت معه وصليت خلفه الصبح، فقرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين، وعثيم الجني وعرفطة بن سمراح الجني من بني نجاح ذكره الخرائطي في الهواتف عن سلمان الفارسي بسند ضعيف جدا، انتهى. وعبد النور الجني، قال الذهبي: روى شيخنا ابن حمويه عن رجل عنه، وهذه خرفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه عليه السلام إلى أهل الطائف ودعاءه إياهم، وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعه الجن من أهل نصيبين. قالك وهذا صحيح، لكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، ............   مهتوكة، انتهى. وامرأة اسمها رفاعة، وفي رواية عفراء، قال ابن الجوزي: حديثها موضوع، ولو صح لعدت في الصحابيات، ولم أر أحدا ذكرها لا في رفاعة ولا في عفراء، ثم ذكر الحديث من وجه آخر وسماها الفارعة بنت المستورد، وترجم لها في الإصابة الفارعة وذكر حديثها، وقال: في سنده من لا يعرف، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال أعني صاحب الإصابة في ترجمة زوبعة: أنكر ابن الأثير على أبي موسى المديني ترجمة الجن في الصحابة، ولا معنى لإنكاره؛ لأنهم مكلفون وقد أرسل إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما قوله كان الأولى أن يذكر جبريل، ففيه نظر؛ لأن الخلاف في أنه أرسل إلى الملائكة مشهور بخلاف الجن. وفي فتح الباري الراجح دخول الجن؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم قطعا وهم ملكفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم، انتهى. "قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكر ابن إسحاق خروجه عليه السلام إلى أهل الطائف ودعاءه إياهم وأنه لما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن" أي: بعضه، وهو كما مر سورة الجن، وقيل: اقرأ، وقيل: الرحمن وجمع بأن اقرأ في الأولى والرحمن في الثانية، أي: والجن في الثالثة. "فاستمعه الجن من أهل نصيبين" من العرب من يجعله اسما واحدا ويلزمه الإعراب كالأسماء المفردة الممنوعة الصرف، والنسبة نصيبين بإثبات النون، ومنهم من يجريه مجرى الجمع، والنسبة نصيبي بحذف النون، وعكس ذلك الجوهري فاعترض لأن المثنى والجمع وما ألحق بهما إن جعلا علمين وبقي إعرابها بالحروف ثم نسب إليهما ردا إلى مفردهما، وإن جعلا اسمين تامين أعربا بالحركات على النون ونسب إليهما على لفظهما بلا خلاف. "وقال: وهذا صحيح لكن قوله: إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر، فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء" ولا نظر، فهذه المرة بعد تلك، وقد جزم في فتح الباري بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد قال: كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا، فيكون ما سمعوه حقا وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك، فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب منه، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث، فبعث جنوده فإذا هم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بين جبلي نخلة فأخبروه فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. ورواه النسائي وصححه الترمذي.   كلام ابن إسحاق ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم، قال: والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء من استراق الجن السمع دال على أن ذلك عند المبعث النبوي وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا عن ذلك إلى أن وقفوا على السبب، ولذا لم يقيد البخاري الترجمة بقدوم ولا وفادة أي وإنما، قال باب ذكر الجن: لما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم، قدموا فسمعوا فأسلموا، وكان ذلك بين الهجرتين ثم تعدد مجيئهم حتى في المدينة، انتهى. ونقله الشامي عن ابن كثير نفسه أيضا. "ويدل له حديث ابن عباس عند أحمد، قال: كان الجن يستمعون الوحي" هو ما كانت تسمعه الملائكة مما ينزل الأرض، فيتكلمون به، "فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا فيكون ما سمعوه حقا، وما زادوه باطلا، وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك" البعث النوي "فلما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصابه منه" ولا يشكل هذا بما مر أن السماء حرست بمولده -صلى الله عليه وسلم- لجواز أنه بقي لهم بعض قدرة على الاستماع كاللص، فلما بعث زال ذلك، بل قال السهيلي: إنه بقي منه بقايا يسيرة بدليل وجوده نادرا في بعض الأزمنة وبعض البلاد. وقال البيضاوي: لعل المراد منعهم من كثرة وقوعه. "فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث فبث جنوده" في الأرض، وفي الصحيحين: فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة "فإذا هم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي بين جبلي نخلة فأخبروه" أي: إبليس، "فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض، ورواه النسائي وصححه الترمذي" ورواه الشيخان بنحوه، ولم يعزه لهما لزيادة فيما ذكر على روايتهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 قال: وخروجه علي السلام إلى الطائف كان بعد موت عمه. وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآية [الأحقاف: 29] . فهذا مع حديث ابن عباس يقتضي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا، قوما بعد قوم وفوجا بعد فوج.   "قال" ابن كثير "وخروجه عليه السلام إلى الطائف كان بعد موت عمه" أبي طالب الواقع في السنة العاشرة من النبوة، والاستماع كان عقب البعثة، فلا يصح ما في ابن إسحاق وقد علم جوابه، "وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود، قال:" إن الجن "هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن" وفي نسخة: وهو يقرأ الجن، أي: سورة الجن، لكن الأولى هي المعزوة في لباب النقول لابن أبي شيبة "ببطن نخلة فلما سمعوه، قالوا: أنصتوا" حذف من رواية ابن أبي شيبة بعد قوله: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، "فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] الآية"، يريد جنسها، فلفظ ابن أبي شيبة فأنزل الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] إلى قوله: {ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32] ، وقولهم من بعد موسى، قيل: لأنهم كانوا يهودا وفي الجن ملل كالإنس، وقيل: لم يسمعوا بعيسى واستبعد، وقيل: لأنهم كانوا يعلمون بشارة موسى به وكأنهم قالوا هذا الذي بشر به موسى ومن بعده. "فهذا" أي: حديث ابن مسعود، "مع حديث ابن عباس" الذي قبله "يقتضي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم" وبهذا جزم الدمياطي، فقال: فلما انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا إليه وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم حتى نزل عليه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْك} [الأحقاف: 29] ، انتهى. وبه تعقب قول من قال: لما وصل في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه. "ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا" بفتح الهمزة وأبدل منه قوله: "قوما بعد قوم وفوجا" أي: جماعة جمعه فؤوج وأفواج وجمع الجمح أفاوج وأفاويج؛ كما في القاموس. "بعد فوج" كما تفيده الأحاديث العديدة، ففي حديث أنهم كانوا على ستين راحلة وآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وفي طريقه -عليه السلام- هذه، دعا بالدعاء المشهورة: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، .........   ثلاثمائة وآخر خمسة عشر، وعن عكرمة: اثني عشر ألفا، فهذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم؛ كما أشار إليه البيهقي وابن عطية، وقال: إنه التحرير بمكة والمدينة، فالمتحصل من الأخبار أنهم وفدوا عليه لما خرجوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها لاستكشاف الخبر عن حراسة السماء بالشهب، فوافوه -صلى الله عليه وسلم- بنخلة عامدا سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر فسمعوا القرآن، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا، فأنزل الله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1] ، وما قرأ عليهم ولا رآهم؛ كما قاله ابن عباس في الصحيحين وغيرهما وأخرى بنخلة وهو عائد من الطائف وأخرى بالحجون. وفي لفظ: بأعلى مكة بالجبال، لما أتاه داعي الجن فذهب معه وقرأ عليهم القرآن، ورجع لأصحابه من جهة حراء، وأخرى ببقيع الغرقد، وفي هاتين حضر ابن مسعود وخط عليه خطا بأمر المصطفى وأخرى خارج المدينة وحضرها الزبير، وأخرى في بعض أسفار لها وحضرها بلال بن الحارث؛ بل حديث أبي هريرة في الصحيح يحتمل أنهم أتوه حين حمل أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم الأدواة وإنما قدم أبو هريرة في سابعة الهجرة، وبهذا لا يبق تعارض بين الأخبار ويحصل الجمع؛ كا قال الحافظ بين نفي ابن عباس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لهم، قال المصنف: وهو ظهر القرآن وبين ما أثبته غيره من رؤيته لهم، والله أعلم. "وفي طريقه عليه السلام هذه" لما اطمأن في ظل الحيلة، أي: الكرمة، "دعا بالدعاء المشهور" المسمى كما قال بعضهم بدعاء الطائف، وهو: "اللهم إليك أشكو" قدم المعمول ليفيد الحصر، أي: لا إلى غيرك فإن الشكوى إلى الغير لا تنفع "ضعف قوتي" بضم الضاد أرجح من فتحها وهما لغتان؛ كما في الأنوار، وفي المصباح: الضم لغة قريش. وفي القاموس: الضعف بالفتح والضم ويحرك ضد القوة. "وقلة حيلتي" في مخلص أتوصل به إلى القيام بما كلفني، "وهواني على الناس" احتقارهم واستهانتهم بي واستخفافهم بشأني واستهزاءهم، والشكوى إليه عز وجل لا تنافي أمره بالصبر في التزيل؛ لأن إعراضه عن الشكوى لغيره وجعلها إليه وحده هو الصبر، والله سبحانه يمقت من يشكوه إلى خلقه ويحب من يشكو ما به إليه، "يا أرحم الراحمين" أي: يا موصوفا بكمال الإحسان، "أنت أرحم الراحمين" وصف له تعالى بغاية الرحمة بعدما ذكر لنفسه ما يوجبها، واكتفى بذلك عن عرض المطلوب بصريح اللفظ تلطفا في السؤال وأدبا وأكد ذلك ولمح للمراد، فقال: "وأنت رب المستضعفين" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 إلى من تكلني إلى عدو بعيد يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبانا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ............   في ذكر لفظ رب والإضافة إليهم مزيد الاستعطاف، فطوى في ضمن هذه الألفاظ العذبة البديعة نحو أن يقول: فقوني واجعل لي المخلص وأعزني في الناس، وعدل إلى الثناء على ربه بهاتين الجملتين الثابتتين عند ابن إسحاق الساقطتين في رواية الطبراني؛ لأن الكريم بالثناء يعطي المراج ولا أكرم منه سبحانه وتعالى. "إلى من تكلني" تفوض أمري "إلى عدو بعيد" وسقط في رواية الطبراني لفظ بعيد "يتجهمني" بتحتية ففوقية فجيم فهاء مشددة مفتوحات والاستفهام للاستعطاف بحذف أداة، أي: اتكلني إلى عدو "أم إلى صديق قريب ملكته أمري" جعلته مسلطا على إيذائي ولا أستطيع دفعه، والجملة دالة على المدعو به، أي: لا تجعل لي ذلك. "إن لم تكن غضبانا" وفي رواية: إن لم تكن ساخطا، وأخرى: إن لم يكن بك سخط وأخرى إن لم يكن بك غضب، "علي لا أبالي" بما تصنع بي أعدائي وأقاربي من الإيذاء طلبا لمرضاتك ووثوقا بما عندك، "غير أن عافيتك" وهي السلامة من البلايا والأسقام مصدر جاء على فاعله، "أوسع لي" فيه أن الدعاء بالعافية مطلوب محبوب ونحوه ل تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، وهكذا عادة الأنبياء عليهم السلام إنما يسألون بعد البلاء عنهم، "أعوذ بنور وجهك" أي: ذاتك، زاد الطبراني: الكريم، أي: الشريف والكريم يطلق على الشريف النافع الدائم نفعه، قال السهيلي: وأتى بالوجه إيذانا بأن بغيته الرضا والقبول والإقبال؛ لأن من رضى عنك أقبل عليك بوجهه لا صلة للتأكيد؛ كما زعم من غلظ طبعه ولو قال بنورك لحسن ولكنه توصل إليه بما أودع قلبه من نوره، فتوسل إلى نعمته بنعمته وإلى فضله ورحمته بفضله ورحمته، انتهى. "الذي" زاد الطبراني الأضاءت له السماوات والأرض و "أشرقت" بالبناء للفاعل، أي: أضاءت "له الظلمات" أي: أزيلت، وعطفه عليه في رواية الطبراني مع أنه بمعناه؛ لأن اختلاف اللفظ سوغ العطف ولذا غاير في التعبير كراهة توالي لفظين بمعنى، ولم يسقطه للإطناب المطلوب في الدعاء، وضبط بعضهم أشرقت بالبناء للمفعول لقول الزمخشري في قراءة: واشرقت الأرض بنور ربها بالمفعول من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به مردود، فإنما هو ظاهر في الآية لا الحديث، إذ لا يظهر فيه امتلأت الظلمات بالضوء إلا بتعسف، قال في الروض: النور هنا عبارة من الظهور وانكشاف الحقائق الإلهية وأشرقت الظلمات، أي: محالها وهي القلوب التي كانت فيها ظلمات الجهالات والشكوك فاستنارت بنور الله تعالى، قال: وقد تكون الظلمات هنا أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك". أورده ابن إسحاق، ورواه الطبراني في كتاب الدعاء عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ماشيا إلى الطائف، ..............   المحسوسة وإشراقها دلالتها على خالقها وكذلك الأنوار المحسوسة الكل دال عليه فهو نور النور، أي: مظهره ومنور الظلمات، أي: جاعلها نورا في حكم الدلالة عليه سبحانه، انتهى. والحمل على ما يشمل الحسي والمعنوي أولى، وإن أخره وقلله، فيكون من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو عموم المجاز، ثم لا يشكل الحديث بأن المعروف أنه لا ظلمة في الملأ الأعلى؛ لأنه إنما هو به تعالى وله وما أحسن قول صاحب الحكم الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو قبله أو عنده أو بعده فقد أعوزه وجود الأنوار وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار، انتهى. "وصلح" بفتح اللام وتضم استقام وانتظم، "عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل" بكسر الحاء يجب وضمها، أي: ينزل وبهما قرئ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه: 81] ، "بي سخطك" أي: غضبك فهو من عطف الرديف مرفوعان فاعل ينزل، ويحل بالتحتية ومنصوبان على المفعولية لكن بالفوقية في الفعلين مضمومة مع كسر حاء تحل فقط، وأفاد بعضهم أن الوجهين رواية في لفظ الطبراني أن يحل علي غضبك أو ينزل علي سخطك. "ولك العتبى" بضم العين وألف مقصور أي: أطلب رضاك "حتى ترضى" قال في النهاية: استعتب طلب أن يرضى عنه، وقال الهروي: ويقال عتب عليه وجد فإذا فاوضه ما عتب عليه، قيل: عاتبه والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي المعاتب، انتهى. ولا يظهر تفسير الشامي العتبى بالرضا لركة قولنا لك الرضا حتى ترضى. "ولا حول" أي: تحول عن المعاصي، "ولا قوة" على فعل الطاعات "إلا بك" بتوفيقك واستعاذ بهما بعد الاستعاذة بذاته تعالى للإشارة إلى أنه لا توجد حركة ولا سكون في خير أو شر إلا بأمره تعالى التابع لمشيئته إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، "وأورده ابن إسحاق" محمد في السيرة بلفظ: فلما اطمأن، قال فيما ذكره فساقه "ورواه الطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب "في كتاب الدعاء" وهو مجلد، وكذا رواه في معجمة الكبير "عن عبد الله بن جعفر" بن أبي طالب الصحابي ابن الصحابي، "قال" وهذا مرسل صحابي؛ لأنه ولد بالحبشة فلم يدرك ما حدث به لقوله: "لما توفي أبو طالب خرج النبي صلى الله عليه وسلم ماشيا إلى الطائف" بلد معروف سمي بذلك لأن رجلا من حضرموت أصاب دما في قومه وفر إليه، فقال لهم: ألا أبني لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال: "اللهم إليك أشكو". فذكره. وقوله: يتجهمني -بتقديم الجيم على الهاء- أي يلقاني بالغلظة والوجه الكريه. ثم دخل عليه السلام مكة في جوار المطعم بن عدي.   حائطا يطيف ببلدتكم، فبناه. أو لأن الطائف المذكور في القرآن وهو جبريل اقتلع الجنة التي كانت بصوران على فراسخ من صنعاء، فأصبحت كالصريم وهو الليل وأتى بها إلى مكة فطاف بها ثم وضعها به فكان الماء والشجر بالطائف دون ما حولها؛ أو لغير ذلك أقوال. "فدعاهم إلى الإسلام" أو إلى نصره وعونه حتى يبلغ رسالة ربه، "فلم يجيبوه" لا إلى الإسلام ولا إلى غيره، "فأتى ظل شجرة" من عنب، فعند ابن إسحاق جلس إلى ظل حبلة بمهملة فموحدة مفتوحة، قال السهيلي: وسكونها ليس بالمعروف، أي: كرمة اشتق اسمها من الحبل؛ لأنها تحبل بالعنب، ولذا فتح حمل الشجرة والنخلة فقيل: حمل بفتح الحاء تشبيها بحمل المرأة وقد يقال حمل بكسرها تشبيها بالحمل على الظهر، انتهى. "فصلى ركعتين" قبل الدعاء ليكون أسرع إجابة وليزول غمه وهمه مناجاة ربه فيها، "ثم قال: "اللهم إليك أشكو" ... فذكره بنحو ما أورده ابن إسحاق، وقد بينا ألفاظه التي زادها ونقصها. "وقوله: يتجهمني بتقديم الجيم على الهاء" المشددة "أي: يلقاني بالعلظة والوجه الكريه" قاله في النهاية، وقال الزمخشري: وجه جهم غليظ وهو البائس الكريه ويوصف به الأسد وتجهمت الرجل وجهمته استقبلته بوجه كريه، وقيل: هو أن يغلظ له في القول ومن المجاز الدهر يتجهم الكرام، وتجهمه: أمله إذا لم يصبه، "ثم دخل عليه السلام مكة في جوار المطعم بن عدي" بعد أن أقام بنخلة أيام، وقال له زيد بن حارثة: كيف دخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال: "يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله مظهر دينه وناصر نبيه"، ثم انتهى إلى حراء، وبعث عبد الله بن الأريقط إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدي فأجابه فدخل صلى الله عليه وسلم فبات عنده، فلما أصبح تسلح المطعم هو وبنوه وهم ستة أو سبعة، فقالوا له -صلى الله عليه وسلم: "طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف"، فقال أبو سفيان للمطعم: أمجير أم تابع، قال: بل مجير، قال: إذن لا تخفر قد أجرنا من أجرت فقضى -صلى الله عليه وسلم- طوافه وانصرفوا معه إلى منزله، ذكر ابن إسحاق هذه القصة مبسوطة، وأوردها الفاكهي بإسناد حسن مرسل، لكن فيه أنه أمر أربعة من أولاده فلبسوا السلاح وقام كل واحد عند ركن من الكعبة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وقت الإسراء : ولما كان في شهر ربيع الأول أسرى بروحه وجسده يقظة من المسجد الحرام ................   فقالت له قريش: أنت الرجل الذي لا تخفر ذمتك، ويمكن الجمع بأن الأربعة عند الأركان والمطعم وباقيهم في المطاف، قال في النور: وفي جواب سهيل والأخنس نظر؛ لأنهما لو لم يكونا ممن يجير لما سألهما النبي صلى الله عليه وسلم، كيف وعامر الذي هو جد سهيل وكعب أخوان ولدا لؤي، انتهى. قيل: ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، وقيل: لقيامه في نقض الصحيفة ولا مانع أنه لكليهما وسماهم نتنى لكفرهم؛ كما في النهاية وغيرها. وقول المصنف: المراد قتلى بدر الذين صاروا جيفا يرده قول الحديث في أسارى بدر وهذا من شيمه صلى الله عليه وسلم الكريمة تذكر وقت النصر والظفر للمطعم هذا الجميل، ولم يذكر قوله صبح الإسراء كل أمرك كان قبل اليوم أمما هو يشهد أنك كاذب، وقد قال واصفه: لا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح، ولما مات المطعم قبل وقعة بدر رثاه حسان بن ثابت؛ كما سأذكره إن شاء الله في غزوتها، ولا ضير فيه؛ لأن الرثاء تعداد المحاسن بعد الموت، ولا ريب أن فعله مع المصطفى من أجلها، فلا مانع منه ومن ذكر نحو كرم أصله وشرفهم هذا، وذكر ابن الجوزي في دخوله -صلى الله عليه وسلم- في جوار كافر، وقوله في المواسم: "من يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي"، حكمتين، إحداهما: اختبار المبتلى، أي: معاملته معاملة من يختبر ليسكن قلبه إلى الرضا بالبلاء فيؤدي القلب ما كلف به من ذلك، والثانية: أن بت الشبهة في خلال الحجج لثبات المجتهد في دفع الشبهة، انتهى. وقت الإسراء: "ولما كان في شهر ربيع الأول" أو الآخر أو رجب أو رمضان أو شوال، أقوال خمسة "أسرى بروحه وجسده يقظة" لا مناما مرة واحدة في ليلة واحدة عند جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عنه، وقيل: وقع الإسراء والمعراج في مرتين مناما ويقظة، وقيل: الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة، وقيل: الإسراء يقظة والمعراج منام، وقيل: الخلاف في أنه يقظة أو منام خاص بالمعراج لا بالإسراء، وقيل: الإسراء مرتان يقظة الأولى بلا معراج والثانية به، "من المسجد الحرام" عند البيت في الحطيم أو الحجز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات، ورأى ربه بعيني رأسه، وأوحى الله إليه ما أوحى، وفرض عليه الصلاة، ثم انصرف في ليلته إلى مكة. فأخبر بذلك، فصدقه الصديق، وكل من آمن بالله. وكذبه الكفار واستوصفوه مسجد بيت المقدس، فمثله الله له، ............   وفي رواية: فرج سقف بيتي، وفي أخرى أنه أسرى به من شعب أبي طالب، وفي أخرى: من بيت أم هانئ، وجمع الحافظ بأنه كان في بيت أم هانئ وهو عند شعب أبي طالب ففرج سقف بيته وأضافه إليه؛ لأنه كان يسكنه فنزل منه الملك فأخرجه منه حتى أتى المسجد وبه أثر النعاس ثم أخرجه إلى باب المسجد فأركبه البراق، "إلى المسجد الأقصى" وصرحت السنة بأن دخله، وإليه أشار بقوله: "ثم عرض به من المسجد الأقصى إلى فوق سبع سماوات" إلى حيث شاء العلي الأعلى "ورأى ربه بعيني رأسه" على ما رجحه جمع ونفتها عائشة وابن مسعود، ورجح في المفهم القول بالوقف وعزاه لجماعة من المحققين، وقول عائشة: ما فقدت جسده، إنما احتج به من قال إن الإسراء كان مناما؛ كما سيأتي بسط ذلك للمصنف في مقصده. "وأوحى إليه ما أوحى" أيهم للتعظيم فلا يطلع عليه بل يتعبد بالإيمان به أو {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] الآية، ألخ أو الجثة حرام على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك أو تخصيصه بالكوثر أو الصلوات الخمس، أقوال. "وفرض عليه الصلاة ثم انصرف في ليلته إلى مكة، فأخبر بذلك" الناس مؤمنهم وكافرهم "فصدقه الصديق" قيل: فلقب بذلك يومئذ، "وكل من آمن بالله" تعالى إيمانا قويا لا تعرض له الشكوك والأوهام فلا ينافي أنه ارتد كثيرا استبعادا للخبر "وكذبه الكفار" وزادوا عليه عتوا "واستوصفوه مسجد بيت المقدس" فسألوه عن أشياء لم يثبتها، قال صلى الله عليه وسلم: "فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط"، ومن جملة اأشياء قولهم: كم للمسجد من باب، قال: ولم أكن عددتها، "فمثله الله له" وعند ابن سعد: "فخيل إلي بيت المقدس وطفقت أخبرهم عن آياته"، قال الحافظ: يحتمل أن المراد مثل قريبا منه كما قيل في حديث: "أريت الجنة والنار". وفي البخاري: "فجلى الله لي بيت المقدس"، أي: كشف الحجب بيني وبينه حتى رأته ويحتمل أنه حمل حتى وضع حيث يراه ثم أعيد، ففي حديث ابن عباس عند أحمد والبزار: "فجيء بالمسجد وأنا انظر إليه"، وهذا أبلغ في المعجزة ولا استحالة فيه فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين، انتهى ملخصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فجعل ينظر إليه ويصفه. قال الزهري: وكان ذلك بعد المبعث بخمس سنين. حكاه عنه القاضي عياض، ورجحه القرطبي والنووي. واحتج: بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث أو بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء. وتعقب: بأن موت خديجة عبد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان، وذلك قبل أن تفرض الصلاة. ويؤيده إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما تردده في سنة وفاتها فيرده جزم عائشة بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين قاله الحافظ ابن حجر.   "فجعل ينظر إليه ويصفه" فيطابق ما عندهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد، "قال الزهري" الأولى العطف بالواو؛ لأنه مقابل ما أفاده قوله في شهر ربيع الأول من أنه من سنة إحدى عشرة من المبعث؛ لأنه يرتب الوقائع على السنين. "وكان ذلك" الإسراء "بعد المبعث" كذا في النسخ والذي في الفتح عن الزهري قيل الهجرة "بخمس سنين" فيكون بعد المبعث بثمان؛ لأنه أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، اللهم إلا أن يكون المصنف ألغى مدة الفترة على أنها ثلاث سنين وهذا إن أمكن به صحته لكن المنقول عن الزهري كما ترى خلافه "حكاه عنه القاضي عياض" ورجحه كما في الفتح عنه. "و" كذا "رجحه القرطبي والنووي" تبعا لعياض ثلاثتهم في شرح مسلم "واحتج" عياض وتابعاه "بأنه لا خلاف أن خديجة صلت معه بعض فرض الصلاة ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، إما بثلاث أو بخمس ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء وتعقب بأن موت خديجة بعد المبعث بعشر سنين على الصحيح في رمضان وذلك قبل أن تفرض الصلاة" فبطل قولهم: صلت معه الخمس اتفاقا "ويؤيده" أي: الصحيح، "إطلاق حديث عائشة أن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلوات الخمس ويلزم منه أن يكون موتها قبل الإسراء وهو المعتمد، وأما تردده" أي: عياض وتابعيه "في سنة وفاتها" بقوله: إما بثلاث أو بخمس "فيرده جزم عائشة" عند البخاري، "بأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، قاله الحافظ ابن حجر" في فتح الباري، وقال فيه في باب المعراج في جميع ما نفاه أي: عياض وتابعاه من الخلاف نظر، أما أولا فقد حكى العسكري أنا ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وقيل: بأربع، وعن ابن الأعرابي أنها ماتت عام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وقيل: الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السيدي وأخرجه من طريقه الطبري والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال. وقيل: كان في رجب. حكاه ابن عبد البر، وقبله ابن قتيبة، وبه جزم النووي في الروضة. وقيل: كان قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر، فعلى هذا يكون في ذي الحجة، وبه جزم ابن فارس. وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكر ابن الأثير.   الهجرة، وأما ثانيا فإن فرض الصلاة اختلف فيه، فقيل: كان من أول البعثة وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وأما الذي فرض ليلة الإسراء، فالصلوات الخمس، وأما ثالثا: فقد جزمت عائشة بأن خديجة ماتت قبل أن تفرض الصلاة المكتوبة فالمعتمد أن مراد من قال بعد أن فرضت الصلاة ما فرض قبل الصلوات الخمس إن ثبت ذلك، ومراد عائشة الصلوات الخمس، فيجمع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء، انتهى. "وقيل" كان الإسراء "قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، قاله السدي، وأخرجه من طريقه" أي: عنه، "الطبري" ابن جرير "والبيهقي، فعلى هذا كان في شوال" لما يجيء أنه خرج إلى المدينة لهلال ربيع الأول وقدمها لاثنتي عشرة خلت منه، وقال الحافظ: فعلى هذا كان في رمضان أو شوال على إلغاء الكسرين، "وقيل: كان في رجب حكاه" أبو عمرو يوسف "بن عبد البر" النمري بفتحتين القرطبي الحافظ المشهور ساد أهل الزمان في الحفظ والاتقان ولد في ربيع الآخر سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ومات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، مر بعض ترجمته. "و" حكاه "قبله" بسكون الباء ظرف أبو محمد عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري بفتح الدال وتكسر النحوي اللغوي مؤلف أدب الكاتب وغيره ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين ومات سنة سبع وستين ومائتين، "وبه جزم النووي الروضة" تبعا للرافعي وقيل: قبل الهجرة بسنة واحدة قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النووي وقاله ابن حزم وبالغ وادعى فيه الإجماع قال الحافظ: وهو مردود، ففي ذلك خلاف يزيد على عشرة أقوال، "وقيل: قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر فعلى هذا يكون في ذي الحجة" لما مر في خروجه من المدينة، "وبه جزم" أحمد "بن فارس" اللغوي أبو الحسين الرازي الإمام في علوم شتى المالكي الفقيه غل عليه علم النحو ولسان العرب فشهر به له مصنفات وأشعار جيدة مات سنة تسعين، وقيل: خمس وسبعين وثلاثمائة. "وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، ذكر ابن الأثير" وقيل: قبلها بثمانية أشهر، وقيل: بستة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وقال الحربي: إنه كان في سابع عشري ربيع الآخر، وكذا قال النووي في فتاويه، لكن قال في شرح مسلم: في ربيع الأول. وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب، واختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي. وأما اليوم الذي يسفر عن ليلتها، فقيل الجمعة، وقيل السبت، .............   أشهر، حكاهما ابن الجوزي، وقيل: بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر "وقال": إبراهيم بن إسحاق "الحربي" نسبة إلى محلة الحربية ببغداد، البغدادي شيخ الإسلام الإمام البارع في العلوم الزاهد، مات في ذي الحجة سنة خمس وسبعين ومائتين، "أنه كان في سابع عشري ربيع الآخر" قبل الهجرة بسنة واحدة، ورجحه ابن المنير في شرح سيرة ابن عبد البر كذا نسبه للحربي جمع منهم الحافظ في الفتح، وابن دحية في الابتهاج، والذي نقله ابن دحية في التنوير والمعراج الصغير، وأبو شامة في الباعث، والحافظ في فضائل رجل عن الحربي ربيع الأول. "وكذا قال النووي في فتاويه" على ما في بعض نسخها "لكن قال في شرح مسلم" على ما في بعض نسخه "ربيع الأول" وفي أكثر نسخ الشرح ربيع الآخر والذي في النسخ المعتمدة من الفتاوى الأول، وهكذا نقله عنها الإسنوي والأذرعي والدميري، "وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من رجب" وعليه عمل الناس، قال بعضهم: وهو الأقوى، فإن المسألة إذا كان فيها خلاف للسلف ولم يقم دليل على الترجيح واقترن العمل بأحد القولين أو الاقوال، وتلقى بالقبول فإن ذلك مما يغلب على الظن كونه راجحا. "و" لذا "اختاره الحافظ عبد الغني" ابن عبد الواحد بن علي "بن سرور المقدسي" فنسبه لجد أبيه الحنبلي الإمام أوحد زمانه في الحديث والحفظ الزاهد العابد صاحب العمدة والكمال وغير ذلك، نزل مصر في آخر عمره وبها مات يوم الاثنين ثالث عشرى ربيع الآخر سنة ستمائة وله تسع وخمسون سنة، وقال ابن عطية بعد نقل الخلاف: والتحقيق أنه كان بعد شق الصحيفة، قبل بيعة العقبة، وقيل: كان قبل المبعث، قال الحافظ: وهو شاذ إلا أن حمل على أنه وقع حينئذ في المنام. "وأما اليوم الذي يسفر" بفتح الياء وكسر الفاء من سفرت الشمس: طلعت، "عن ليلتها" أي: الذي يطلع فجره بعد ليلتها وبضمها من أسفر الصبح إسفارا أضاء، أي: الذي يضيء بعد ليلتها وعن بمعنى بعد عليهما، "فقيل" هو "الجمعة" أي: اليوم المسمى به، "وقيل": هو "السبت" أي: يومه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 وعن ابن دحية: يكون إن شاء الله تعالى يوم الاثنين، ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات: وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة. وستأتي إن شاء الله تعالى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث والله الموفق والمعين.   "وعن ابن دحية" الحافظ أبي الخطاب عمر بفتح الدال وكسرها نسبة إلى جده الأعلى دحية بن خليفة الكلبي الصحابي؛ لأنه كان يقول إنه من ولده، "يكون إن شاء الله تعالى يوم الاثنين ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة، فإن هذه أطوار الانتقالات وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة" لكن في عده المعراج شيء؛ لأنه محل النزاع فكيف يستدل به؟ وحاصله؛ كما قال الشامي أنه استنبطه بمقدمات حساب من تاريخ الهجرة وحاول موافقته لتلك الأطوار، وقال: يكون الاثنين في حقه كالجمعة لآدم، "وستأتي إن شاء الله تعالى قصة الإسراء والمعراج وما فيهما من المباحث" في المقصد الخامس، وإنما ذكر هنا زمن وقوعه مراعاة لالتزامه ترتيب الوقائع، "والله الموفق" للخير "والمعين" عليه لا غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار : ولما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج -صلى الله عليه وسلم- في الموسم الذي لقي فيه الأنصار -الأوس والخزرج.   ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار: "ولما أراد الله تعالى إظهار دينه" انتشاره بين الناس ودخولهم فيه، "وإعزاز نبيه" تصييره عزيزا معظما عند جميع الناس، ومنع من يريده بسوء بعدما لقي من قومه، "وإنجاز موعده" تعالى "له" صلى الله عليه وسلم، أي: نصره على أعدائه، فهو تفسير لما قبله، وقد قال تعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32، 33] ، وفي الصحيح: "إن الله روى ليس الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما روى لي منها". "خرج صلى الله عليه وسلم في الموسم" وكان في رجب كما في حديث جابر عند أصحاب السنن "الذي لقي فيه الأنصار" جمع ناصر كأصحاب وصاحب على تقدير حذف ألف ناصر لزيادتها، فهو ثلاثي يجمع على أفعال قياسا، ويقال: جمع نصير كشريف وأشراف على القياس وجمعوا جمع قلة وإن كانوا ألوفا؛ لأن جمع القلة والكثرة إنما يعبتران في نكرات الجموع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 فعرض -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، ..........   أما في المعارف فلا فرق بينهما وتسميتهم بالأنصار حينئذ باعتبار المآل وإلا فهو اسم إسلامي لما فازوا به دون غيرهم من نصره -صلى الله عليه وسلم- وإيوائه ومن معه ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم. "الأوس والخزرج" بنصبهما على البدلية، وفي نسخة بواو عطف التفسير سموا باسم جديهما الأعليين الأوس والخزرج الأكبر، ولدى حارثة بن ثعلبة، قال السهيلي: الأوس في الأصل الذئب والعطية والخرزج الريح الباردة، وفي الصحاح الأوس العطية والذئب وبه سمي الرجل، وفيه أيضا الخزرج ريح، قال الفراء: الجنوب غير مجراة فلم يقيده بالباردة، وتبعه القاموس لكنه قال الأوس إلا عطاء، وبينه وبين العطية التي عبر بها فرق. "فعرض -صلى الله عليه وسلم- نفسه على قبائل العرب" بأمر الله تعالى؛ كما في حديث علي الآتي، "كما كان يصنع في كل موسم" ذكر الواقدي أنه -صلى الله عليه وسلم- مكث ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي المواسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز، يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه، ويقولون: قومك أعلم بك، فكان ممن سمي لنا من تلك القبائل بنو عامر بن صعصعة ومحارب وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو نصر والبكاء وكندة وكعب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة، وذكر نحوه ابن إسحاق بأسانيد متفرقة. وقال موسى بن عقبة عن الزهري: كان قبل الهجرة يعرض نفسه على القبائل ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: "لا أكره أحد منكم بل أريد أن تمنعوا من يؤذيني حتى أبلغ رسالات ربي"، فلا يقبله أحد بل يقولون: قوم الرجل أعلم به، وأخرج أحمد والبيهقي وصححه ابن حبان عن ربيعة بن عباد بكسر المهملة وخفة الموحدة، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله تعالى. وروى أحمد وأصحاب السنن وصححه الحاكم، عن جابر: كان -صلى الله عليه وسلم- يعرض نفسه على الناس بالموسم، فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"، فأتاه رجل من همدان فأجابه ثم خشي أن لا يتبعه قومه فجاء إليه، فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم أتيك من العام المقبل، فانطلق الرجل وجاء وفد الأنصار في رجب. وأخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس: حدثني علي بن أبي طالب، قال: لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدم أبو بكر وكان نسابة، فقال: من القوم؟ قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 فبينما هو عند العقبة، لقي رهطا من الخزرج، أراد الله بهم خيرا، فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال: "أفلا تجلسون أكلمكم"؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان من صنع الله، أن اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب، وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا سيبعث الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه. فلما كلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض:   من ربيعة، قال: من أي ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل، فذكر حديثا طويلا في مراجعتهم وتوقفهم أخيرا عن الإجابة، قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخرزج وهم الذين سماهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأنصار لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصره، قال: فما نهضنا حتى بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم. "فبينما هو عند العقبة" الأولى كما في ابن إسحاق، أي: عقبة الجمرة كما جزم به غير واحد، واستظهره البرهان تبعا للمحب الطبري إذ ليس ثم عقبة أظهر منها، ويجوز أن المراد بها المكان المرتفع عن يسار قاصد منى، ويعرف عند أهل مكة مسجد البيعة، وعليه فالمعنى في مكان قريب من العقبة، "لقي رهطا" رجالا دون عشرة "من الخزرج" لا ينافي قوله: أولا الأوس والخرزج؛ لجواز أنه لقيهم من جملة القبائل قبل لقي أولئك الرهط من الخزرج، "أراد الله بهم خيرا" هو الهداية للدين القويم، "فقال لهم: "من أنتم"؟ قالوا: نفر" بفتحتين "من الخزرج" زاد ابن إسحاق: قال: "أمن موالي يهود"؟ قالوا: نعم، يعني من حلفائهم؛ لأنهم كانوا تحالفوا على التناصر والتعاضد، "قال: "أفلا تجلسون أكلمكم" بالجزم جواب الطلب وجازمه شرط مقدر على الصحيح، ويجوز الرفع على الاستئناف، "قالوا: بلى" زاد في رواية: من أنت؟ فانتسب لهم وأخبرهم خبره، "فجلسوا معه" وفي رواية: وجدهم يحلقون رءوسهم فجلس إليهم، "فدعاهم إلى الله" وبين المراد منه بقوله: "وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن" أي: بعضه، "وكان من صنع الله أن اليهود كانوا معهم" مع الأوس والخزرج "في بلادهم كانوا أهل كتاب" وعلم وكانوا هم أصحاب شرك أصحاب أوثان وكانوا قد عزوهم ببلادهم؛ كما عند ابن إسحاق "وكان الأوس والخزرج أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء" من خصومة أو محاربة "قالوا" أي: اليهود "إن نبيا سيبعث" السين لتخليص الفعل عن وقت التكلم فلا تنافي بينه وبين قوله: "الآن" أي: الزمان الذي فيه الحروب والمخالفة بينهم وإن امتد وأطلق اسم الآن عليه للعرف في مثله، ولفظ المصنف هو ما في الفتح عن ابن إسحاق، ولفظ العيون عنه أن نبيا مبعوث الآن "قد أظل" قرب "زمانه نتبعه فنقتلكم معه" قتل عاد وإرم؛ كما في ابن إسحاق، أي: نستأصلكم، "فلما كلمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عرفوا النعت" الوصف الذي كانوا يسمعونه قبل من اليهود، "فقال بعضهم لبعض" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 لا تسبقنا اليهود إليه. فأجابوه إلى ما دعاهم إليه، وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، فأسلم منهم ستة نفر وكلهم من الخزرج وهم: أبو أمامة، أسعد بن زرارة. وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء. ورافع بن مالك بن العجلان.   بادروا لاتباعه "لاتسبقنا اليهود إليه" وفي رواية: فلما سمعوا قوله أيقنوا به واطمأنت قلوبهم إلى ما سمعوا منه وعرفوا ما كانوا يسمعون من صفته، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقونكم إليه، "فأجابوه إلى ما دعاهم إليه وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام" وكانوا من أسباب الخير الذي سبب له -صلى الله عليه وسلم، "فأسلم منهم ستة نفر" وقيل: ثمانية، ذكره غير واحد "وكلهم من الخزرج" أتى به مع علمه من قوله: لقي رهطا من الخزرج لما قد يتوهم أنه انضم إليهم وقت الإسلام بعض الأوس، أو لدفع توهم التغليب لما جرت به عادتهم من تغليب الخزرج على الأوس والخزرج معا، قال شيخنا البابلي: ولم يعكس ذلك فرارا من إشعار لفظ الأوس بالذم؛ لأنه معناه لغة الذئب ولزجر البقر والمعز بخلاف لفظ الخزرج، فإنما يشعر بالمدح لأنه الريح أو الريح الباردة. "وهم أبو أمامة أسعد" بألف قبل السين الساكنة "ابن زرارة" بضم الزاي النجاري شهد العقبات الثلاث، وكان أول من صلى الجمعة على قول، وأول من مات من الصحابة بعد الهجرة، وأول ميت صلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا قول الأنصار، أما المهاجرون، فقالوا: أول ميت صلى عليه عثمان بن مظعون، رواه الواقدي. قال في الإصابة: واتفق أهل المغازي والأخبار على أن أسعد مات في حياته -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة سنة إحدى من الهجرة في شوال. "وعوف بن الحارث بن رفاعة" بكسر الراء وبالفاء النجاري استشهد ببدر، "وهو ابن عفراء" بنت عيد النجارية الصحابية وهي أم معاذ ومعوذ وإليها ينسبون، "ورافع بن مالك بن العجلان" ضد المتاني الزرقي بزاي فراء فقاف العقبي اختلف في شهوده بدرا، قال ابن إسحاق: هو أول من قدم المدينة بسورة يوسف. وروى الزبير بن بكار عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زريق أول مسجد قرئ فيه القرآن، وأن رافع بن مالك لما لقيه -صلى الله عليه وسلم- بالعقبة أعطاه ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليهم في موضعه، قال: وتعجب -صلى الله عليه وسلم- من اعتدال قبلته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابي. وجابر بن عبد الله بن رئاب، وليس بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام.   استشهد بأحد، "وقطبة" بضم القاف وسكون المهملة "ابن عامر بن جديدة" بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين، أبو الوليد السلمي، حضر العقبات الثلاث وبدرا والمشاهد، قال أبو حاتم: مات في خلافة عمر، وقال ابن حبان: في خلافة عثمان. "وعقبة" بضم العين وسكون القاف "ابن عامر بن نابي" بنون فألف فموحدة منقوص كالقاضي، قال ابن دريد: من نبا ينبو إذا ارتفع؛ كما في النور، وفي سبل الرشاد بنون فألف فموحدة فتحتية، السلمي حضر بدرا وسائر المشاهد واستشهد باليمامة، "وجابر بن عبد الله بن رياب" بكسر الراء فتحتية خفيفة فألف فموحدة ضبطه ابن ماكولا وغيره ابن النعمان بن سنان السلمي شهد بدرا وما بعدها، له حديث عند الكلبي عن أبي صالح عنه رفعه في قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] ، قال: يمحو من الرزق، قال ابن عبد البر: لا أعلم له غيره، ورده في الإصابة بأن البغوي وابن السكن وغيرهما رووا عنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مر بي ميكائيل في نفر من الملائكة" الحديث، قال البغوي: لا أعرف له غيره، وهو مردود أيضا بالحديث قبله، وبأن البخاري في التاريخ روى عنه قصة أبي ياسر بن أخطب والأحاديث الثلاثة طرقها ضعيفة، انتهى ملخصا. "وليس" جابر هذا "بجابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام" بفتح المهملة الأنصاري الصحابي بن الصحابي، وجابر بن عبد الله في الصحابة خمسة، الثالث جابر بن عبد الله العبدي من عبد القيس، الرابع: جابر ن عبد الله الراسبي نزل البصرة، روى ابن منده عنه رفعه: "من عفا عن قاتله دخل الجنة"، قال ابن منده: غريب إن كان محفوظا. وقال أبو نعيم: قوله الراسبي وهم، إنما هو الأنصاري. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري استصغره النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فرده وليس بالذي يروى عنه الحديث، رواه ابن سعد عن زيد بن حارثة وذكره الطبري وكذا اليعمري في المغازي كما في الإصابة، فقصر البرهان في قوله: إنهم أربعة، فترك الخامس مع أن ممن ذكره اليعمري الذي حشاه هو ونبه على أنه غير راوي الحديث، لكن البرهان قال في غزوة أحد: هو إما الراسبي أو العبدي، انتهى. وفيه نظر للتصريح بأنه أنصاري وأيضا فالعبدي من وفد عبد القيس وإنما وفدوا سنة تسع ولهم قدمة قبلها سنة خمس، وأُحد سنة ثلاث باتفاق. وقوله أيضا: لا أعلم رواية لغير جابر بن عبد الله بن عمرو تقصير، فقد علمت أن لابن رياب ثلاثة أحاديث وكذا العبدي، فقد روى أحمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ومن أهل العلم بالسير، من يجعل فيهم عبادة بن الصامت، ويسقط جابر بن رئاب، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي". فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث أول عام أول، يوم من أيامنا، اقتتلنا به،   والبغوي عنه، قال: كنت في وفد عبد القيس مع أبي فنهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن الشرب في الأوعية.. الحديث. "ومن أهل العلم بالسير" كما قال أبو عمر "من يجعل فيهم عبادة بن الصامت" أبا الوليد البدري وحضر سائر المشاهد، مات بفلسطين ودفن ببيت المقدس عن الأشهر، وقيل: بالرملة سنة أربع وثلاثين، وحكى ابن سعد أنه بقي إلى خلافة معاوية وأمه قرة العين بنت عبادة أسلمت وبايعت. "ويسقط جابر بن رياب" نسبة لجده كما علم، ولكن الأول قول ابن إسحاق وتبعه جماعة وبه صدر في الفتح، ثم قال: وقال موسى بن عقبة عن الزهري وأبو الأسود عن عروة هم أسعد ورافع ومعاذ بن عفراء، ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة، ويقال كان فيهم عبادة بن الصامت وذكوان، انتهى. واختلف في أول الأنصار إسلاما، فقال ابن الكلبي وغيره: أولهم رافع بن مالك، وقال ابن عبد البر: جابر بن عبد الله بن رياب، وقال مغلطاي: لما ذكر ابتداء إسلام الأنصار فأسلم منهم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس، فلما كان من العام المقبل في رجب أسلم منهم ستة، وقيل: ثمانية فذكرهم، انتهى. ويمكن الجمع بأن أسعد ما أظهره إلا مع الخمسة أو السبعة المذكورين معه وإن رافعا وابن رياب أول من أظهره من الستة. "فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "تمنعون ظهري حتى أبلغ رسالة ربي"، فقالوا: يا رسول الله، إنما كانت بعاث" بضم الموحدة، وحكى القزاز فتحها وتخفيف المهملة فألف فمثلثة، وذكر الأزهري أن الليث صحفه عن الخليل بغين معجمة، وذكر عياض أن الأصيلي رواه بالمهملة والمعجمة، وأن رواية أبي ذر بالمعجمة فقط، ويقال: إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا وهو مكان، ويقال: حصن، يقال: مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة كانت به وقعة بين الأوس والخزرج قتل فيها كثير منهم وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد الصحابي، ويقال له رئيس الكتاب، ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان البياضي وقتلا يومئذ وكان النصر فيها أولا للخزرج، ثم ثبتهم حضير فرجعوا وانتصرت الأوس، ذكره الفتح، قال في المطالع: يجوز صرف بعاث وتركه. قال العيني: إذا كان اسم يوم صرف وإذا كان اسم بقعة منع للتأنيث والعلمية، انتهى. "أول عام أول" بالإضافة ومنعه ابن السكيت وأجازه غيره كالعام الأول، وهو "يوم من أيامنا اقتتلنا به" ذكر أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني أن سبب ذلك أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع، فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا، لعل الله أن يصلح ذات بيننا، وندعوهم إلى ما دعوتنا، فعسى الله أن يجمعهم عليك، فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك، وموعدك الموسم العام القابل. وانصرفوا إلى المدينة. ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   لا يقتل بالحليف، فقتل أوسي حليفا للخزرج فأرادوا أنه يقتدوه فامتنعت فوقعت الحرب بينهم لأجل ذلك فقتل فيها من أكابر من كان لا يؤمن، أي: لا يتكبر ويأنف أن يدخل في الإسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وإلى ذلك أشارت عائشة رضي الله عنها؛ بقولها في الصحيح: كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قال الحافظ: وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبد الله بن أُبي ابن سلول وكانت هذه الوقعة قبل الهجرة بخمس سنين على الأصح، وقيل: بأربعين سنة، وقيل بأكثر. "فإن تقدم ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع فدعنا حتى نرجع إلى عشائرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا" وقد فعل كما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم- يوم خطبهم، بقوله: "ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي"، "وندعوهم" أي: عشائرنا، "إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد" بالنصب اسم لا النافية للجنس، "أعز منك" بالرفع خبرها وهو أظهر من رفع أحد ونصب أعز على أنها نافية للوحدة لإفادة النافية للجنس التنصيص على العموم. "وموعدك الموسم العام المقبل وانصرفوا إلى المدينة، ولم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لتحدثهم بما علموا منه فظهر وانتشر، "فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا، وفي الإكليل" اسم كتاب للحكام بكسر الهمزة وسكون الكاف وهو في الأصل؛ كما في الفتح العصابة التي تحيط بالرأس وأكثر استعماله إذا كانت العصابة مكللة بالجوهر، وهي من سمات ملوك الفرس، وقيل: أصله ما أحاط بالظفر من اللحم ثم أطلق على كل ما أحاط بشيء ما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 فلما كان العام المقبل لقيه اثنا عشر رجلا -وفي الإكليل: أحد عشر- وهي العقبة الثانية، فأسلموا فيهم خمسة من الستة المذكورين، وهم: أبو أمامة. وعوف بن عفراء، ورفع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، ولم يكن جابر بن عبد الله بن رياب لم يحضرها. والسبعة تتمة الاثني عشر هم: معاذ بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء أخو عوف المذكور. وذكوان بن عبد قيس الزرقي، وقيل إنه رحل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري قتل يوم أحد.   "أحد عشر وهي العقبة الثانية" وعدها أولى ابن إسحاق وغيره باعتبار المبايعة أو بالنسبة للثالثة؛ كما في نحو: ادخلوا الأول فالأول فسمى غير الأول أولا بالنسبة لمن بعده، "فأسلموا فيهم خمسة من الستة المذكورين" في الأولى "وهم أبو أمامة" أسعد بن زرارة "وعوف بن عفراء ورافع بن مالك وقطبة بن عامر بن حديدة وعقبة بن عامر بن نابي ولم يكن منهم جابر بن عبد الله بن رياب لم يحضرها" صفة لازمة لمجرد التأكيد "والسبعة تتمة الاثني عشر وهم معاذ بن الحارث بن رفاعة" كما في العيون وأقره البرهان وبه جزم في الإصابة، وأبدل الشامي معاذا بأخيه معوذ وضبطه بصيغة اسم الفاعل ولكن لم يذكر ذلك في الإصابة في ترجمة معوذ، "وهو" أي: معاذ المشهور بأنه "ابن عفراء" أمه "أخو عوف المذكور" وأخو معوذ أيضا الثلاثة أشقاء وأخوتهم لأمهم إياس وعاقل وخالد وعامر بنو البكير الليثي وشهد السبعة بدرا وهل جرح معاذ بأحد فمات بالمدينة من جراحته أو شهد جميع المشاهد، ومات في خلافة عثمان وفي خلافة علي أقوال حكاها أبو عمر. قال ابن الأثير: وزعم ابن الكلبي أنه استشهد ببدر لم يوافق عليه، "وذكوان" بفتح المعجمة وإسكان الكاف، "ابن عبد قيس" البدري "الزرقي" بتقديم الزاي المضمومة على الراء وكذا كل ما في نسب الأنصار، قاله ابن ماكولا وغيره نسبه إلى جده زريق الخزرجي يكنى أبا اليسع. "وقيل: إنه رحل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة فسكنها معه، فهو مهاجري أنصاري" وبه جزم أبو عمر وتبعه الذهبي وروى الواقدي عن حبيب بن عبد الرحمن، قال: خرج أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس إلى عتبة بن ربيعة بمكة فسمعا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتياه فأسلما ولم يقربا عتبة وكانا أول من قدم المدينة بالإسلام، "قتل يوم أحد" قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق فشد علي رضي الله عنه على أبي الحكم فقتله، وقال -صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينظر إلى رجل يطأ بقدمه غدًا خضرة الجنة، فلينظر إلى هذا"، رواه ابن المبارك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وعبادة بن الصامت بن قيس. وأبو عبد الرحمن، يزيد بن ثعلبة البلوي. والعباس بن عبادة بن نضلة. وهؤلاء من الخزرج، ومن الأوس رجلان: أبو الهيثم بن التيهان، من بني عبد الأشهل.   "وعبادة" بمهملة مضمومة فموحدة "ابن الصامت بن قيس" بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج، "وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة" بن خزمة بفتح المعجمتين ضبطه الدارقطني كالطبري، وقال ابن إسحاق والكلبي بسكون الزاي ابن أصرم بن عمرو بن عمارة بفتح العين وشد الميم ابن مالك بن فران بفتح الفاء وتخفيف الراء وتشديدها، ويقال فيه أيضا فاران بن بلى، "البلوي" بفتحتين نسبة إلى جده: بلى هذا حليف الخزرج، ذكر ابن إسحاق أنه شهد العقبة الثانية، وقال الطبري شهد العقبتين، "والعباس بن عبادة بن نضلة" بنون مفتوحة وضاد معجمة ابن مالك بن العجلان، روى ابن إسحاق أنه قال: إنكم تأخذون محمدا على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذ أنهكتكم الحرب أسلمتموه، فمن الآن فاتركوه وإن صبرتم على ذلك فخذوه، قال عاصم بن عمر: والله ما قال ذلك إلا ليشد العقد، وقال عبد الله بن أبي بكر لحضور ابن سلول: وأقام العباس بمكة حتى هاجر معه -صلى الله عليه وسلم- فكان أنصاريا مهاجريا واستشهد بأحد، "وهؤلاء من الخزرج ومن الأوس رجلان أبو الهيثم" مالك، ويقال: عبد الله "ابن التيهان" بفتح الفوقية فتحتية مخففة عند أهل الحجاز مشددة عند غيرهم، قال السهيلي: واسمه أيضا مالك، لكن في الإصابة: يقال التيهان لقب واسمه مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعوراء الأنصاري الأوسي، وزعوراء وأخو عبد الأشهل شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها وشهد صفين مع علي في قول الأكثر، ويقال: قتل بها سنة سبع وثلاثين، ويقال: مات سنة عشرين، ويقال: سنة إحدى وعشرين، قال أبو أحمد الحاكم: ولعلها أصوب، وقد قال الواقدي: لم أر من يعرف أنه قتل بصفين ولا يثبته، وقيل: مات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر: هذا لم يتابع عليه قائله، انتهى ملخصا. "من بني عبد الأشهل" على حذف مضاف، أي: بني أخي عبد الأشهل، وفي الاستيعاب: حليف بني عبد الأشهل، ونسبه أوسيا، قال السهيلي: وأنشد فيه ابن رواحة: فلم أر كالإسلام عزا لأهله ... ولا مثل أضياف الأراشي معشرا فجعله أراشيا نسبة إلى أرأشه في خزاعة، وإلى أراش بن لحيان بن الغوث، وقيل: إنه بلوي من بني أرأشة بن فاران بن بلى والهيثم لغة العقاب وضرب من العشب، وبه أو بالأول سمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وعويم بن ساعدة. فأسلموا وبايعوا على بيعة النساء، أي وفق بيعتهم التي أنزلت عند فتح مكة وهي: أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، والسمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط .............   الرجل، انتهى. "وعويم" بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية فميم ليس بعدها راء، "ابن ساعدة" ابن عائش بتحتية وشين معجمة بن قيس بن النعمان شهد العقبتين وبدرا وباقي المشاهد، ومات في خلافة عمر عن خمس أو ست وستين سنة، ووقف عمر على قبره، وقال: لا يستطيع أحد أن يقول أنا خير من صاحب هذا القبر، ما نصبت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- راية إلا وعويم تحت ظلها، أخرجه البخاري في التاريخ، وبه جزم غير واحد وهو أصح من قول الواقدي: مات عويم في حياته -صلى الله عليه وسلم؛ كما في الإصابة. "فأسلموا وبايعوا" كما رواه ابن إسحاق عن عبادة، قال: كنت فيمن حضر العقبة وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "على بيعة النساء، أي: على وفق بيعتهم" أي: المذكورين من إضافة المصدر لمفعوله، أي: إن بيعة النساء "التي أنزلت عند فتح مكة" وفق بيعة هؤلاء النفر، وجعل بيعة النساء موافقة لتأخيرها عن هذه "وهي أن لا نشرك بالله شيئا" عام؛ لأنه نكرة في سياق النهي كالنفي وقدم على ما بعده؛ لأنه الأصل "ولا نسرق" بحذف المفعول ليدل على العموم كان فيه قطع أم لا، "ولا نزني ولا نقتل أولادنا" خصهم بالذكر؛ لأنهم كانوا غالبا يقتلونهم خشية الإملاق ولأنه قتل وقطيعة رحم فصرف العناية إليه أكثر، "ولا نأتي ببهتان" قال المصنف وغيره، أي: يكذب يبهت سامعه، أي: يدهشه لفظاعته، كالرمي بالزنا والفضيحة والعار "نفتريه" نختلقه "بين أيدينا وأرجلنا" أي: من قبل أنفسنا فكنى باليد والرجل عن الذات؛ لأن معظم الأفعال بهما أو إن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه، أو المعنى لا نبهت الناس بالمعايب كفاحا مواجهة، انتهى. "ولا نعصيه" -صلى الله عليه وسلم- "في معروف" قيد به، تطيبيا لقلوبهم إذ لا يأمر إلا به، أو تنبيها على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، "و" نعطيه "السمع والطاعة" فهما بالنصب بفعل محذوف أو بالجر عطف على بيعة النساء أو على معروف، قال الباجي: السمع هنا يرجع إلى معنى الطاعة، "في العسر واليسر" أي: عسر المال ويسره "والمنشط" بفتح الميم والمعجمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 والمكره، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: فإن وفيتم فلكم الجنة، ومن غشي من ذلك شيئا كان أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. ولم يفرض يومئذ القتال.   بينهما نون ساكنة، أي: ما تنشط له النفوس مما يسرها "والمكره" ما تكرهه النفوس مما يشق عليها، والمراد أنهم يطيعونه -صلى الله عليه وسلم- في كل أمره ونهيه سهل أو شق، "وأثرة" بضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما وبكسر الهمزة وسكون المثلثة، كما ذكره المصنف في حديث: "ستلقون بعدي أثرة"، وهو بالجر والنصب أيضا، أي: وعلى أثرة أو نعطيه أثره "علينا" بأن نرضى بفعله استبد لنفسه أو لغيره لكن لم يقع استئثاره لنفسه أو لغيره، لكن لم يقع استئثار لنفسه الشريفة في الأمور الدنيوية عليهم ولا على غيرهم إلا في نحو الزوجات ولسن بدنيوية محضة، "وأن لا ننازع الأمر" الملك والإمارة "أهله" فلا نتعرض لولاة الأمور حيث كانوا على الحق، قال الباجي في شرح الموطأ: يحتمل أنه شرط على الأنصار ومن لبس من قريش أن لا ينازعوا قريشا ويحتمل عمومه في جميع الناس أن لا ينازعوا من ولاه الله الأمر منهم، وإن كان فيهم من يصلح له إذا صار لغيره، قال السيوطي: والصحيح الثاني، ويؤيده أن في مسند أحمد زيادة وإن رأيت أن لك في الأمر حقا ولابن حبان وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، وزاد البخاري إلا أن تروا كفر بواحا، أي: ظاهرا باديا، انتهى. "وأن نقول" ضمنه معنى نعترف فعداه بالباء، "بالحق" أي: "نعترف به" حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم" بل نتصلب في ديننا واللومة المرة من اللوم، وفيها: وفي تنكير لائم مبالغتان "ثم قال عليه الصلاة والسلام" بعد هذه المبايعة "فإن وفيتم فلكم الجنة" فضلا من الله "ومن غشى" بغين وشين معجمتين، أي: فعل، "من ذلك شيئا كان أمره مفوضا إلى الله إن شاء عذبه" بعدله، "وإن شاء عفا عنه" بفضله، "ولم يفرض يومئذ القتال" فلم يبايعهم عليه. وهذا الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة لكن لم يقع في رواية الشيخين التصريح بأن المبايعة هذه ليلة العقبة، نعم إخراج البخاري الحديث في وفود الأنصار ظاهر في وقوعها ليلتئذ، وبه جزم عياض وغيره، لكن رجح الحافظ أن المبايعة ليلة العقبة، إنما كانت على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، وأما على الصفة المذكورة فإنما هي بعد فتح مكة وبعد نزول آية الممتحنة بدليل ما في البخاري في حديث عبادة هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لما بايعهم قرأ الآية كلها، ولمسلم فتلا علينا آية النساء، وله أيضا أخذ علينا كما أخذ على النساء، وعند النسائي "ألا تبايعوني على ما أبايع عليه النساء". وفي حديث أبي هريرة: ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا وإسلام أبي هريرة متأخر عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام. وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم. وكتبت الأوس والخزرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يقرئنا القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير. وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن   ليلة العقبة عند ابن أبي خيثمة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئا"، فذكر نحو حديث عبادة ورجاله ثقات، فإذا كان عبد الله بن عمرو ممن حضر البيعة وليس أنصاريا ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما أسلم قرب إسلام أبي هريرة وضح تغاير البيعتين، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة حضر البيعتين معا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به فكان يذكرها إذا حدث تنويها بسابقيته؛ فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مثل بيعة النساء، توهم من لم يقف على حقيقة الحال أن بيعة العقبة وقعت على ذلك، وإنما وقعت على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، انتهى ملخصا. وقال المصنف: الراجح أن التصريح بذلك، أي: بأن بيعة العبة وقعت على وفق بيعة النساء، وهم من بعض الرواة؛ والذي دل عليه الأحاديث أن البيعة ثلاثة العقبة، وكانت قبل فرض الحرب، والثانية بعد الحرب على عدم الفرار، والثالثة على نظير بيعة النساء، انتهى. "ثم انصرفوا إلى المدينة فأظهر الله الإسلام وكان أسعد بن زرارة يجمع بالمدينة بمن أسلم" وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: كان أبي إذا مسع الأذان للجمعة استغفر لأسعد بن زرارة، فسألته فقال: كان أول من جمع بنا بالمدينة. "وكتب الأوس والخزرج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ابعث إلينا من يقرئنا القرآن فبعث إليهم مصعب بن عمير" وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين وكان يسمى بالمدينة المقرئ والقارئ ونزل على أسد بن زرارة، وذلك أن الأوس والخزر كره بعضهم أن يؤمهم بعض، هكذا ذكرها ابن إسحاق في رواية وذكر في رواية أخرى أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث مع الاثني عشر رجلا مصعب بن عمير العبدري، وهو الذي ذكره ابن عقبة. قال البيهقي وسياق ابن إسحاق أتم، انتهى. وجمع بجواز أنه أرسله معهم ابتداء واتفق أنهم كانوا كتبوا له قبل علمهم بإرساله وفيه بعد. "وروى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مصعب بن عمير أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 يجمع بهم.. الحديث، وكانوا أربعين رجلا. فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصار، وأسلم في جماعتهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، .........   يجمع بهم ... الحديث" ولفظه عن ابن عباس: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة ولا يبدي ذلك لهم فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا زال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين. قال: فهو أول من جمع حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع عند الزوال وأظهر ذلك، ولا تنافي بين هذا وبين قوله قبل كان أسعد يجمع بهم، الموافق لقول كعب بن مالك: أول من جمع بهم أسعد؛ لأن جمع مصعب بمعاونته لأنه لما نزل عليه وكان يقوم بأمره وسعى في التجميع نسب إليه لكونه سببا في الجمع. "وكانوا أربعين رجلا" كما رواه أبو داود: وصريح هذا أنهم إنما جمعوا بأمره -صلى الله عليه وسلم؛ وروى عبد بن حميد بإسناد صحيح عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله المدينة وقبل أن ينزل بهم الجمعة، فقال الأنصار: إن اليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد من زرارة فصلى بهم يومئذ وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} [الجمعة: 9] الآية، قال الحافظ: فهذا يدل على أنهم اختاروه بالاجتهاد، وقال السهيلي: تجميع الصحابة الجمعة وتسميتهم إياها بهذا الاسم هداية من الله لهم قبل أن يؤمروا بها، ثم نزل سورة الجمعة بعد ن هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة فاستقر فرها واستمر حكمها، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "أضلته اليهود والنهارى وهداكم الله له"، قال الحافظ: ولا يبعد أنه -صلى الله عليه وسلم- علم بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها. وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة؛ كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوقيف، انتهى. يعني أنهم لما اجتهدوا فيه، وأجمعوا على فعله يوم الجمعة قدم عليهم الكتاب النبوي إلى مصعب بالجمع بهم فوافق اجتهادهم النص، فلذا قال: هداكم الله له، "فأسلم على يد مصعب بن عمير خلق كثير من الأنصاري الأوسي سيدهم وافق حكمه حكم الله واهتز عرش الرحمن لموته، "وأسيد" بضم الهمزة وفتح السين "ابن حضير" بضم المهملة وفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وأسلم بإسلامهم جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد، الرجال والنساء، ولم يبق منهم أحد إلا أسلم، حاشا الأصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة. ولم يكن في بني عبد الأشهل منافق ولا منافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين رضي الله عنهم. ثم قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثالثة في العام المقبل في ذي الحجة، أوسط أيام التشريق منهم سبعون رجلا وقال ابن سعد: يزيدون .............   المعجمة ابن سماك بن عنيك الأنصاري الأوسي الأشهلي المتوفى في خلافة عمر سنة عشرين على الأصح وصلى عليه عمر، أسلما في يوم واحد أسيد أولا ثم سعد والقصة مبسوطة في السير. "وأسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل" بفتح الهمزة والهاء بينهما معجمة ساكنة آخره لام ابن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس، قال ابن دريد: زعموا أن الأشهل صنم "في يوم واحد الرجال والنساء ولم يبق منهم أحد إلا أسلم" وذلك أن سعدا لما ذهب لمصعب وأسلم أقبل إلى نادي قومه ومعه أسيد، فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال في الرواية: فوالله ما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة. "حاشي الأصيرم" بصاد مهملة تصغير أصرم وبه يلقب أيضا وقدمه بعض على المصغر، "وهو عمرو" بفتح العين "ابن ثابت" بمثلثة "ابن وقش" بفتح الواو وسكون القاف وتفتح وشين معجمة، ويقال: أقيش، وقد ينسب إلى جده فيقال عمرو بن أقيش، "فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد" بأحد "ولم يسجد لله سجدة وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة" رواه ابن إسحاق بإسناد حسن مطولا عن أبي هريرة، أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط فإذا لم يعرفه الناس، قال: هو أصيرم بني عبد الأشهل ... فذكر الحديث. "ولم يكن في" بني "عبد الأشهل منافق ولامنافقة، بل كانوا كلهم حنفاء مخلصين رضي الله عنهم" وهذه منقبة عظيمة "ثم قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في العقبة الثالثة في العام المقبل في ذي الحجة أوسط أيام التشريق منهم" أي: الأنصار، "سبعون رجلا" كما ورد من حديث جابر وأبي مسعود الأنصاري وقطع به الحافظ في سيرته، وقدمه مغلطاي "وقال ابن سعد: يزيدون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 رجلا أو رجلين -وامرأتان. وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون وامرأتان. وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا. فكان أول من ضرب على يده عليه السلام البراء بن معرور. ويقال أسعد بن زرارة، .........   رجلا أو رجلين وامرأتان" عطف على سبعون "وقال ابن إسحاق: ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان" وعينهما ابن إسحاق، فقال: نسيبة، أي: بفتح النون وكسر المهملة بنت كعب بن عمرو بن عوف المازني البخاري شهدت هذه العقبة مع زوجها زيد بن عاصم وولديها حبيب وعبد الله، والثانية، أسماء بنت عمرو بن عدي بن ناني، وقد صدر في الاستيعاب، يقول ابن إسحاق. قال اليعمري: هذا العدد هو المعروف وإن زاد في التفصيل على ذلك فليس بزيادة في الجملة، وإنما هو بمحل الخلاف فيمن شهد، فبعض الرواة يثبته وبعضهم يثبت غيره بدله وقد وقع ذلك في أهل بدر وشهداء أحد وغير ذلك، انتهى. وبينهم هو وغيره بما يطول ذكره. "وقال الحاكم: خمسة وسبعون نفسا" هو عين ما قبله إن لم يثبت أنه كان فيهم أكثر من امرأتين، "فكان" كما روى الحاكم من طريق ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس "أول من ضرب على يده عليه السلام" في البيعة ليلة العقبة "البراء" بفتح الباء الراء ممدود مخففا "ابن معرور" بميم مفتوحة فمهملة ساكنة فراء مضمومة فواو فراء ثانية. قال السهيلي: معناه مقصود بن صخر الخزرجي السلمي، ابن عمة سعد بن معاذ، كان سيد قومه وأفضلهم، قدم في هذه العقبة مسلما وصلى في سفره ذلك إلى الكعبة مع نسخها باجتهاد منه، وخالفه غيره، فلما سأله -صلى الله عليه وسلم، قال له: "قد كنت على قبلة لو صبرت عليها"، ولم يأمر بالإعادة. قال السهيلي: لأنه كان مأولا ثم أمره أن يستقبل المقدس فأطاع، فلما حضر موته أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه -صلى الله عليه وسلم- بشهر، قاله ابن إسحاق وغيره، وأوصى بثلث ماله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقبله ثم رده على ولده وهو أول من أوصى بثلثه، "ويقال" كما نله ابن إسحاق عن بني عبد الأشهل "أسعد بن زرارة" ورواه العدني عن جابر، وزاد: وهو أصغر السبعين إلا أنا، وأخرج ابن سعد عن سليمان بن نجيم، قال: تفاخرت الأوس والخزرج فيمن ضرب على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة أول الناس، فقالوا: لا أحد أعلم به من العباس بن عبد المطلب فسألوه، فقال: ما أحد أعلم بهذا مني، أول من ضرب على يده -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وعلى حرب الأحمر والأسود. وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] وفي الإكليل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية. ونقب عليهم اثني عشر نقيبا. وفي حديث جابر عند أحمد بإسناد صحيح، وصححه الحاكم وابن حبان: مكث -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بمنى وغيرها، يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة"؟ حتى يعثنا الله له من ...........   أسعد بن زرارة ثم البراء بن معرور ثم أسيد بن الحضير. "على أنهم يمنعونه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم وعلى حرب الأحمر والأسود" قال في النور: يعني العرب والعجم، والظاهر أنه يجيء فيه ما جاء في بعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى الأسود والأحمر العجم والعرب أو الجن والإنس؛ لأنه مبعوث للكل بخلاف الحرب "وكانت أول آية نزلت في الإذن بالقتال": {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] الآية"، كما قاله الزهري عن عروة عن عائشة أخرجه النسائي، "وفي الإكليل" أول آية نزلت في الإذن به، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية، وهذه فائدة استطرادية هنا، المناسبة المبايعة على الحرب، "ونقب عليهم اثني عشر نقيبا" قال السهيلي: اقتداء بقوله تعالى في قوم موسى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] . قال ابن إسحاق: تسعة من الخزرج: أسعد بن زرارة، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع، ورافع بن مالك، وأبو جابر عبد الله بن عمرو، والبراء بن معرور، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس: أسيد بن حضير، وسعيد بن خيثمة، ورفاعة بن عبد المنذر، قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة، وروى البيهقي عن الإمام مالك حدثني شيخ من الأنصار أن جبريل كان يشير له إلى من يجعله نقيبا، وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال للنقباء: "أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم"، قالوا: نعم. "وفي حديث جابر" بن عبد الله "عند أحمد بإسناد صحيح وصححه الحاكم وابن حبان: مكث -صلى الله عليه وسلم" بمكة "عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بمنى وغيرها، يقول: "من يؤويني، من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة"، أن أسلم "حتى بعثنا" معشر الأنصار "الله له من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 يثرب، فذكر الحديث. وفيه: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة". الحديث. وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومؤكدا على أهل يثرب، وكان يومئذ على دين قومه.   يثرب" المدينة المنورة "فذكر الحديث" وهو فصدقناه فرحل إليه منا سبعون رجلا فواعدناه شعب العقبة، فقلنا: علام نبايعك، فقال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. "وفيه" عقب هذا: "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".. الحديث، ولأحمد من وجه آخر عن جابر، قال: كان العباس آخذ بيد رسول الله، فلما فرغنا، قال -صلى الله عليه وسلم: "أخذت وأعطيت"، وللبزار عن جابر، قال: قال -صلى الله عليه وسلم- للنقباء من الأنصار: "تؤوني وتمنعوني"، قالوا: نعم، فما لنا؟ قال: "الجنة". وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي ووصله الطبري من حديث أبي مسعود الأنصاري، قال: انطلق -صلى الله عليه وسلم- معه العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال له أبو أمامة، يعني أسعد بن زرارة، سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت ثم أخبرنا ما لنا من الثواب قال: "أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم"، قالوا: فما لنا؟ قال: "الجنة"، قالوا: ذلك لك، وأخرجه أحمد من الوجهين جميعا وعند ابن إسحاق، فقال أبو الهيثم: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال، أي: اليهود، حبالا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، فتبسم -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "بل الدم الدم، والهدم والهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم". "وحضر العباس العقبة تلك الليلة متوثقا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومؤكدا على أهل يثرب وكان يؤمئذ على دين قومه" إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، فلما جلس كان أول متكلم، فقال: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، فقالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لربك ولنفسك ما أحببت.. الحديث، ذكره ابن إسحاق، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة : قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرا عن كفار قريش، أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان معه بالهجرة ....   باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة: قال -صلى الله عليه وسلم: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب"، رواه الشيخان. وروى البيهقي عن صهيب رفعه: "رأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو يثرب"، ولم يذكر اليمامة. وأخرج الترمذي والحاكم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله أوحى إلي -أي هؤلاء الثلاثة- نزلت هي دار هجرتك المدينة أو الحرين أو قنسرين"، زاد الحكام: فاختار المدينة صححه الحاكم وأقره الذهبي في تلخيصه، لكنه قال في الميزان: ما في الصحيح من ذكر اليمامة؛ لأن قنسرين من الشام من جهة حلب واليمامة إلى جهة اليمن، إلا إن حمل على اختلاف المأخذ فالأول جرى على مقتضى الرؤية، والثاني خير بالوحي، فيحتمل أنه أُري أولا ثم خير ثانيا، فاختار المدينة. وفي الصحيح مرفوعا: "أريت دار هجرتكم بين لابتين"، قال الزهري: وهما الحرتان. قال ابن التين: رأى -صلى الله عليه وسلم- دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرا ثم رأى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت، انتهى. "قال ابن إسحاق: ولما تمت بيعة هؤلاء لرسول لله -صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة، وكانت سرا" عن كفار قومهم و"عن كفار قريش" هكذا عند ابن إسحاق أنها كانت سرا عن الفريقين فكأنه سقط من قلم المصنف أو لم يتعلق به غرضه، أي كفار الأنصار الذين قدموا معهم حجاجا، قال الحاكم: وكانوا خمسمائة، ثم ظهرت لهم بعد، ففي حديث عائشة وأبي أمامة ابن سهل: لما صدر السبعون من عنده -صلى الله عليه وسلم- طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة أهل حرب ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلنون من الخروج فضيقوا على أصحابه وأتعبوهم ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى، فشكوا للنبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "قد أريت دار هجرتكم سبخة"، ثم مكث أياما ثم خروج مسرورا، فقال: "قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد منكم أن يخرج فليخرج إليها"، فجعلوا يتجهزون ويترافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، وهذا معنى قوله: "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كان معه بالهجرة" بعد الأذى والشكوى، الرؤيا والإخبار بالوحي أنها يثرب، خلاف مقتضى جعله جواب لما من اتصاله بالبيعة، وأنهما في زمن واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 إلى المدينة. فخرجوا أرسالا، وأقام بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة أو سلمة بن عبد الأسد، قبل بيعة العقبة بسنة، قدم من الحبشة لمكة، فآذاه أهلها، وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار فخرج إليهم.   "إلى المدينة" علم على النبوة بحيث إذا أطلق لا يتبادر إلى غيرها، سميت بذلك في القرآن، وبالدار ودار والإيمان في التوراة بطابة وطائب وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة، وفي مسلم: "إن الله سمى المدينة طابة". وفي الطبراني: "إن الله أمرني أن أسمي المدينة طيبة"، ومن أسمائها دار الأخيار والإسلام ودار الأبرار، وغير ذلك إلى نحو مائة اسم، وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، وألف في ذلك المجد الشيرازي مؤلفا حافلا. "فخرجوا أرسالا" بفتح الهمزة، أي: أفواجا وفرقا متقطعة وأحدهم رسل بفتح الراء والسين؛ كما في النور. قال شيخنا: وفيه تغليب فقد خرج كثير منهم منفردين مستخفين. "وأقام" صلى الله عليه وسلم "بمكة ينتظر أن يؤذن له في الخروج، فكان أول من هاجر من مكة إلى المدينة" بنصب أول خبر كان واسمها "أبو سلمة" عبد الله "بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين؛ كما في السبل، ابن هلال المخزومي البدري أخو المصطفى من الرضاعة وابن عمته برة، وقال فيه: أول من يعطي كتابه بيمينه أبو سلمة بن عبد الأسد، رواه ابن أبي عاصم توفي سنة أربع عند الجمهور، وهو الراجح. وفي الاستيعاب سنة ثلاث. وفي التجريد تبعا لابن منده سنة اثنتين. "قبل: بيعة العقبة بسنة" وذلك أنه "قدم من الحبشة لمكة فآذاه أهلها وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار" وهم الاثنا عشر أصحاب العقبة الثانية؛ كما قال ابن عقبة "فخرج إليهم" وكلام المصنف متناف؛ إذ أوله صريح في أن خروج أبي سلمة بعد العقبة الثالثة، وهذا صريح في أنه قبلها، إلا أن تكون الفاء بمنزلة الواو ليست مرتبة على أمره -صلى الله عليه وسلم- بل غرضه مجرد الإخبار عن أول من هاجر، وهذا قول ابن إسحاق وبه جزم ابن عقبة، وأنه أول من هاجر مطلقا. وفي الصحيح عن البراء: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم. قال الحافظ: فيجمع بينهم بحمل الأولية على صفة خاصة هي أن أبا سلمة خرج لا لقصد الإقامة بالمدينة، بل فرارا من المشركين بخلاف مصعب، فكان على نية الإقامة بها، وجمع شيخنا بأن خروج مصعب، لما كان لتعليم من أسلم بالمدينة لم يعده من الخارجين لأذى المشركين بخلاف أبي سلمة، انتهى. وفي النور حاصل الأحاديث في أول من هاجر، هل هو مصعب وبعده ابن أم مكتوم، أو أبو سلمة، أو عبد الله بن جحش، وحاصلها في النسوة أم سلمة، أو ليلى بنت أبي حثمة، أو أم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ثم عامر بن ربيعة وامرأته ليلى، ثم عبد الله بن جحش. ثم المسلمون أرسالا،   كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أو الفارعة بنت أبي سفيان. "ثم عامر بن ربعية" المذحجي أو العنزي بسكون النون من عنز بن وائل أحد السابقين الأولين، هاجر إلى الحبشة بزوجته أيضا شهد بدرا وما بعدها، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين وغيرهما توفي سنة ثلاثا أو اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك. "و" معه "امرأته ليلى" بنت أبي حثمة بفتح المهملة وسكون المثلثة ابن غانم، قال أبو عمر: هي أول ظعينة قدمت المدينة، وقال موسى بن عقبة وغيره: أولهن أم سلمة، وجمع بأن ليلى أول ظعينة مع زوجها وأم سلمة وحدها. فقد ذكر ابن إسحاق: أن أهلها بني المغيرة حبسوها عن زوجها سنة ثم أذنوا لها في اللحاق به، فهاجرت وحدها حتى إذا كانت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة العبدري، وكان يؤمئذ مشركا فشيعها حتى إذا أوفى على قباء، قال لها: زوجك في هذه القرية ثم رجع إلى مكة، فكانت تقول: ما رأيت صاحبا قط أكرم من عثمان، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده بالشجر، ثم يضطجع تحت شجرة، فإذا دنا الرواح قام إلى البعير فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي، فإذا استوت عليه أخذ بخطامه فقادني، قال البرهان: ويكفيه من مناقبه هذه التي يثاب عليها في الإسلام على الصحيح لحديث حكيم: "أسلمت على ما سلف لك من خير"، انتهى. "ثم عبد الله بن جحش" بأهله وأخيه أبي أحمد عبد بلا إضافة، الصحيح؛ كما قاله السهيلي تبعا لابن عبد البر. وقيل: اسمه ثمامة ولا يصح، وقيل: عبد الله وليس وليس بشيء كان ضريرا يطوف أعلى مكة وأسفلها بلا قائد فصيحا شاعرا، وعنده الفارعة بمهملة بنت أبي سفيان، ومات بعد العشرين وكان منزلهما ومنزل أبي سلمة على مبشر بن عبد المنذر بقباء في بني عمرو بن عوف، قال أبو عمر: هاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها، زاد غيره فباعها من عمرو بن علقمة العامري، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لما بلغه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها"؟ قال: بلى، قال: "فذلك لك"، فلما فتح مكة كلمة أبو أحمد في دارهم فأبطأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا أبا أحمد، إنه -صلى الله عليه وسلم- يكره أن ترجعوه في شيء أصيب منكم في الله، فأمسك أبو أحمد عن كلام رسول الله، هكذا في العيون. وسقط في الشامية فاعل أمسك فأوهم أنه أمر وإنما هو فعل مات. "ثم المسلمون أرسالا" ومنهم عمار بن ياسر وبلال وسعد بن أبي وقاص؛ كما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ثم عمر بن الخطاب وأخوه زيد وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا، فقدموا المدينة فنزلوا في العوالي.   الصحيح أنهم هاجروا قبل عمر. "ثم عمرو بن الحطاب" أمير المؤمنين تقدم قول ابن مسعود: كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وأمارته رحمة، وأخرج ابن عساكر وابن السمان في الموافقة عن علي، قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا، إلا عمر بن الخطاب فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وأنفض بدنة، أي: أخرج أسهما من كنانته وجعلها في يديه معدة للرمي بها، واختصر عترته، أي: حملها مضمومة إلى خاصرته، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المغاطس، من أراد أن تثلكه أمه أو يؤتم ولده أو ترمل زوجته فيلقني وراء هذا الوادي، فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم إليه، ثم مضى لوجهه. "وأخوه زيد" بن الخطاب أسن من عمر وأسلم قبله وشهد بدرا والمشاهد، واستشهد باليمامة وراية المسلمين بيده سنة اثنتي عشرة، وحزن عليه عمر شديدا، وقال: سبقني إلى الحسنيين أسلم قبلي واستشهد قبلي. "وعياش" بفتح المهملة وشد التحتية وشين معجمة "ابن أبي ربيعة" واسمه عمرو، ويلقب ذا الرمحين بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن محزوم القرشي المخزومي من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين، ثم خدعه أبو جهل إلى أن رجع من المدينة إلى مكة فحبسوه، فكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو له في القنوت؛ كما في الصحيحين. وقول العسكري: شهد بدرا غلطوه، مات بالشام سنة خمس عشرة، وقيل: استشهد باليمامة، وقيل: باليرموك "في عشرين راكبا" كما في الصحيح عن البراء، وسمى ابن إسحاق منهم زيا وعياشا المذكورين وعمرا وعبد الله ابني سراقة بن المعتمر العدوي، وخنيس بن حذافة السهمي، وسعيد بن زيد، وواقد بن عبد الله، وخولي بن أبي خولي، ومالك بن أبي خولي، واسم أبي خولي عمرو بن زهير وبنو البكير أربعتهم إياس وعاقل وعامر وخالد، وزاد ابن عائذ في مغازيه: الزبير، قال في الفتح: فلعل بقية العشرين كانوا من أتباعهم. "فقدموا المدينة فنزلوا" على رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر بقباء؛ كما قاله ابن إسحاق وهو بيان قوله تبعا لأبي عمر، "في العوالي" جمع عالية، قال السمهودي: وهي ما كان في جهة قبلتها من قباء وغيرها على ميل فأكثر لما قالوه في السنح بضم المهملة وسكون النون وتضم وحاء مهملة أنه بالعوالي على ميل من المسجد النبوي، وهو أدناه وأقصاها عمارة ثلاثة أميال أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 ثم خرج عثمان بن عفان، حتى لم يبق معه -صلى الله عليه وسلم- إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر. كذا قال ابن إسحاق، قال مغلطاي وفيه نظر لما يأتي بعده. وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة فيقول: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكون هو.   أربعة وأقصاها مطلقا ثمانية أميال أو ستة. "ثم خرج عثمان بن عفان" ذو النورين أمير المؤمنين وتتابع الناس بعده، "حتى لم يبق معه -صلى الله عليه وسلم- إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر" الصديق؛ "كذا قال ابن إسحاق" وغيره "قال مغلطاي: وفيه نظر، لما يأتي بعده" في كلام ملغطاي من أنه لما رأى ذلك، أي: هجرة الجماعة من كان بمكة يطيق الخروج خرجوا، فطلبهم أبو سفيان وغيره فردوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، ولما ذكر ابن هشام وغيره أن صهيبا لما أراد الهجرة، قال له الكفار: أتينا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك!! والله لا يكون ذلك، فقال صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني جعلت لكم مالي، فتركوه فسار حتى قدم المدينة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ربح بيعك ثلاثا"، والجواب: أن المعنى لم يبق ممن قدر على الخروج، وقد عبر اليعمري وغيره بلفظ: لم يتخلف معه أحد من المهاجرين إلا من حبس بمكة أو افتتن إلا علي وأبو بكر، قال البرهان الحلبي: هذا صحيح لا اعتراض عليه. "وكان الصديق كثيرا ما يستأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة" إلى المدينة بعد أن رد على ابن الدغنة جواره؛ كما في حديث عائشة في البخاري، قالت: وتجهز أبو بكر قبل المدينة، ولابن حبان عنها: استأذن أبو بكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخروج من مكة، "فيقول: "لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا"، فيطمع أبو بكر أن يكون هو" وعند البخاري: فقال: له -صلى الله عليه وسلم: "على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي" فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك؟ بأبي أنت وأمي، قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر، ورسلك بكسر الراء والرسل السير الرفيق. وفي رواية ابن حبان: فقال: "اصبر"، ولفظ أنت مبتدأ خبره بأبي، ويحتمل أنه تأكيد لفاعل ترجو، وبأبي قسم، وحبس نفسه منعها. وفي رواية ابن حبان: فانتظره أبو بكر؛ والسمر بفتح المهملة وضم الميم، وقوله: وهو الخبط مدرج من تفسير الزهري، وفي قوله: أربعة أشهر بيان المدة التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة بين العقبة الأولى والثانية، وبين هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ثم اجتمع قريش ومعهم إبليس، في صورة شيخ نجدي، في دار الندوة، دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها، يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام .................. ،   ومر أن بين العقبة الثانية وبين هجرته -صلى الله عليه وسلم- شهرين وبعض شهر على التحرير، انتهى من فتح الباري. "ثم اجتمع قريش" قال ابن إسحاق: لما رأوا هجرة الصحابة وعرفوا أنه صار له أصحاب من غيرهم فحذروا خروجه وعرفوا أنه أجمع لحربهم، فاجتمعوا "ومعهم إبليس في صورة شيخ نجدي" وذلك أنه وقف على باب الدار في هيئة شيخ جليل عليه بت، بفتح الموحدة وشد الفوقية، قيل: كساء غليظ أو طيلسان من خز، قال في النور: والظاهر أنه فعل ذلك تعظيما لنفسه، فقالوا: من الشيخ؟ قال: من نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم رأيا ونصحا، قالوا: ادخل، فدخل "في دار الندوة" بفتح النون والواو بينهما مهملة ساكنة ثم تاء تأنيث "دار قصي بن كلاب" قال ابن الكلبي: وهي أول دار بنيت بمكة. وحكى الأزرقي: أنها سميت بذلك لاجتماع الندى فيها يتشاورون، والندى الجماعة ينتدون، أي: يتحدثون، فلما حج معاوية اشتراها من الزبير العبدري بمائة ألف درهم ثم صارت كلها بالمسجد الحرام، وهي في جانبه الشمالي. وقال الماوردي: صارت بعد قصي لولده عبد الدار فاشتراها معاوية عن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وجعلها دار الإمارة. وقال السهيلي: صارت بعد بني عبد الدار إلى حكيم بن حزام فباعها في الإسلام بمائة ألف درهم زمن معاوية فلامه، وقال: أبعت مكرمة آبائك وشرفهم، فقال حكيم: ذهبت والله المكارم إلا التقوى، والله لقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر، وقد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله، فأينا المغبون، ذكر ذلك الدارقطني في رجال الموطأ، انتهى. "وكان قريش لا تقضي أمرا إلا فيها" قيل: وكانوا لا يدخلون فيها غير قرشي إلا إن بلغ أربعين سنة بخلاف القرشي، وقد أدخلوا أبا جهل ولم تتكامل لحيته واجتمعوا يوم السبت ولذا ورد يوم السبت يوم مكر وخديعة، "يتشاورون فيما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام" وكانوا مائة رجل كما في المولد لابن دحية، وزعم بن دريد في الوشاح أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، فقال أبو البختري بفتح الموحد وسكون المعجمة وفتح الفوقية فراء فياء كياء النسب، ابن هشام المقتول كافرا ببدر: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء قبله، فقال النجدي: ما هذا برأي، والله لو حبستموه ليخرجن أمره من وراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك. فإن قيل: لم تمثل الشيطان في صورة نجدي؟ فالجواب: لأنهم قالوا -كما ذكره بعض أهل السير- لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم مع محمد، فلذلك تمثل في صورة نجدي. انتهى. ثم أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ............   الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم تكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا في غيره، فقال أبو الأسود: ربيعة بن عمرو العامري، قال في النور: لا أعلم ماذا جرى له، نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فلا نبالي أين ذهب، فقال النجدي لعنه الله: والله ما هذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب بذلك عليهم من قوله حتى يتابعوه عليكم، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا، فقال أبو جهل: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه، أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمد إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه ويتفرق دمه في القبائل، فلا تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فنعقله لهم، فقال النجدي لعنه الله: القول ما قال، لا أرى غيره. "فأجمع رأيهم على قتله وتفرقوا على ذلك" هكذا رواه ابن إسحاق، وفي خلاصة الوفاء: وصوب إبليس قول أبي جهل: أرى أن يعطى خمسة رجال من خمس قبائل سيفا فيضربوه ضربة رجل واحد، انتهى. فلعلهم استبعدوا عليه قوله: من كل قبيلة؛ إذ لا يمكن عشرون مثلا أن يضربوا شخصا ضربة واحدة، فقال لهم: خمسة رجال. "فإن قيل: لم تمثل الشيطان في صورة نجدي؟ فالجواب": كما قال السهيلي في الروض "لأنهم قالوا، كما ذكره بعض أهل السير: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة؛ لأن هواهم" أي: ميلهم، "مع محمد، فلذلك تمثل في صورة نجدي، انتهى". ووقع له ذلك أيضا يوم وضع الحجر الأسود قبل النبوة، فصاح: يا معشر قريش! أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، فإن صح فلمعنى آخر "ثم أتى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر عليه السلام عليا فنام مكانه، وغطى ببرد أخضر، فكان أول من شرى نفسه في الله ووفى بها رسول الله وفي ذلك يقول علي. وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر   لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كان الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه"، بضم الصاد: يرقبونه، "حتى ينام فيثبوا عليه، فأمر عليه السلام عليا فنام مكانه وغطي ببرد" له -صلى الله عليه وسلم- بأمره بقوله كما رواه ابن إسحاق: "وتسج بردي هذا الحضري الأخضر فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم"، وكان -صلى الله عليه وسلم- ينام في برده ذلك إذا نام "أخضر" قيل: كان يشهد به الجمعة العيدين بعد ذلك عند فعلهما وعورض بقول جابر: كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة، وجمع باحتمال أن الخضرة لم تكن شديدة فتجوز من قا أحمر. "فكان" علي "أول من شرى" باع "نفسه في الله، ووفى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم" واستشكل هذا بقوله عليه السلام: "أن يخلص إليك شيء تكرهه"؛ لأن بعد خبر الصادق تحقق أن لا يصيبه ضرر وأجيب بجواز أنه أخبره بذلك بعد أمره بالنوم وامتثاله فصدق أنه بالامتثال باع نفسه قبل بلوغ الخبر، ويحمل أنه فهم أنه لن يخلص إليك ما دام البرد عليك لجعله ذلك علة لأمره بتغطيه به والبرد لا يؤمن زواله عنه بريح أو انقلاب في نوم، فصدق مع هذا أنه باع نفسه. وأما معارضة رواية ابن إسحاق: "لن يخلص إليك"، بأنه لم يذكرها المقريزي في الأمتاع، وإنما فيه أنه أمره ينام مكانه لأمر جبريل له بذلك، ففاسدة، إذ الترك لا يقضي على الذاكر مع أن روايته لا علة لها إلا إرسال الصحابي وليس بعلة وهب إن ما في الأمتاع رواية لا علة فيها، فزيادة الثقة مقبولة، ولكن القوس في يد غير باريها. "وفي ذلك يقول علي: "وقيت بنفسي خير من طئ الثرى ... ومن طاف وبالبيت العتيق وبالحجر" "رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر" وبعدهما في الشامية وغيرها: وبات رسول الله في الغار آمنا ... موقى وفي حفظ الإله وفي ستر وبت أراعيهم وما يتهمونني ... وقد وطنت نفسي على القتل والأسر يتهمونني بضم التحتية من اتهمه بكذا إتهاما أدخل عليه التهمة؛ كما في القاموس. ومر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 ثم خرج -صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد منهم، ونثر على رءوسهم كلهم ترابا كان في يده، وهو يتلو قوله تعالى: {يس} إلى قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} ...............   ما صوبه الزمخشري أنه لم يقل إلا بيتين مرا في أول من أسلم، لكن في مسلم: فقال علي، أي: مجيبا لمرحب اليهودي يوم خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندره إلا أن يقال لم يقل في غير الافتخار الجائز في الحرب، هذا وما في الإحياء أن الله أوحى إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياة، فاختار كل منهما الحياة، فأوحى الله إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، ينادي: بخ بخ، من مثلك يابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، وفيه نزل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207] الآية. فقال الحافظ ابن تيمية: إنه كذب، باتفاق علماء الحديث والسير. وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه أحمد مختصرا عن ابن عباس شرى علي نفسه فلبس ثوب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم نام مكانه.. الحديث، وليس فيه ذكر جبريل وميكائيل ولم أقف لهذه الزيادة على أصل، والحديث منكر، انتهى. ورد أيضا بأن الآية في البقرة وهي مدنية اتفاقا، وقد صحح الحاكم نزولها في صهيب. "ثم خرج -صلى الله عليه وسلم" من الباب عليهم "وقد أخذ الله على أبصارهم فلم يره أحد منهم" وروى ابن منده وغيره عن مارية خادم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها طأطأت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين، قال البرهان: والأولى أولى؛ لأن ابن إسحاق أسنده وما فيه إلا الإرسال، أي: إرسال الصحابي، وهو ابن عباس وحديث مارية فيه مجاهيل فإن صحا وفق بينهما، انتهى. بأن يكون صعد الحائط ليراهم ثم رجع وخرج من الباب أو يكون أراد ذلك أولا كراهة رؤيتهم، ثم ترك ذلك ثقة بالله تعالى، وخرج من الباب. "ونثر على رءوسهم كلهم ترابا كان في يده، وهو يتلو قوله تعالى: {يس} [يس: 1] ، إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 9] . قال الإمام السهيلي: يؤخذ منه أن الشخص إذا أراد النجاة من ظالم أو من يريد به سوءا وأراد الدخول عليه يتلو هذه الآيات، وقد روى ابن أبي أسامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر في فضل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 ثم انصرف حيث أراد. فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج محمد عليكم، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب.   يس إن قرأها خائف أمن، أو جائع أشبع، أو عار كسي أو عاطش سقي، أو سقم شفي، حتى ذكر خلالا كثيرة. "ثم انصرف حيث أراد" روى أحمد بإسناد حسن تشاورت قريش ... الحديث. وفيه: فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراشه، وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى لحق بالغار، أي: غار ثور؛ كما في رواية ابن هشام وغيره، فأفاد أنه توارى فيه حتى أتى أبا بكر منه في نحر الظهيرة، ثم خرج إليه هو وأبو بكر ثانيا، وبهذا علم الجواب عن قوله في النور: لم أقف على ما صنع من حين خروجه إلى أن جاء إلى أبي بكر في نحو الظهيرة، ووقع في البيضاوي، فبيت عليا على مضجعه وخرج مع أبي بكر إلى الغار. وفي سيرة الدمياطي: أنه ذهب تلك الليلة إلى بيت أبي بكر، فكان فيه إلى الليلة، أي: المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر إلى جبل ثور، انتهى. وفيه أن الثابت في الصحيح أنه عليه السلام أتى أبا بكر في نحر الظهيرة. وفي رواية أحمد: جعل انتهاء خروجه بعد أن بيت عليا على فرشه لحوقه بالغار، فيفيد ما قلنا، والله أعلم. "فأتاهم آت" قال في النور: لا أعرفه، "ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ههنا، قالوا: محمدا!! قال: قد خيبكم الله قد والله خرج محمد عليكم ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا" قال البرهان: وحكمة وضع التراب دون غيره الإشارة لهم بأنهم الأرذون الأصغرون الذين أرغموا وألصقوا بالرغام وهو التراب، أو أنه سيلصقهم بالتراب بعد هذا. "وانطلق لحاجته فما ترون ما بمكم فوضع كل رجل يده على رأسه، فإذا عليه تراب" بقية رواية ابن إسحاق: ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا برد رول الله -صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائم عليه برده، فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش، فقالوا: لقد صدقنا الذي كان حدثنا وعند أحمد، فبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه فلما أصبحوا ورأوا عليا رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، وعند ابن عقبة عن الزهري: وباتت قريش يختلفون ويأتمرون أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، فلما أصبحوا إذا هم بعلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وفي رواية ابن أبي حاتم، مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا. وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية. ثم أذن الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة. قال ابن عباس: بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ...............   قال السهيلي: ذكر بعض أهل السير أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا، فهذا الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا. "وفي رواية ابن أبي حاتم مما صححه الحاكم من حديث ابن عباس: فما أصاب رجلا منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا" لا يشكل على القول بأنهم كانوا مائة، وقتلى بدر سبعون لجواز أن التراب الذي كان بيده فيه حصى فمن أصابه الحصى قتل، ومن أصابه التراب لم يقتل "وفي هذا نزل" بعد ذلك بالمدينة يذكره الله نعمته عليه؛ كما في نفس رواية ابن أبي حاتم هذه قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، وقد اجتمعوا للمشاورة في شأنك بدار الندوة "ليثبتوك" يوثقوك ويحبسوك إشارة لرأي أبي البختري فيه "أو يقتلوك" كلهم قتلة رجل واحد إشارة لرأي أبي جهل فيه الذي صوبه صديقه إبليس لعنهما الله، "أو يخرجوك" من مكة منفيا إشارة لرأي أبي الأسود: {اتْلُ} [النعكبوت: 45] ، الآية أي: بقيتها وهي ويمكرون ويمكر الله، أي: بهم بتدبير أمرك بأن أوحي إليك ما دبروه وأمرك بالخروج والله خير الماكرين أعلمهم به، زاد ابن إسحاق: ونزل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 30، 31] . هذا وروى ابن جرير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: "يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني"، قال: من حدثك بهذا؟ قال: "ربي"، قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرا، قال: "أنا أستوصي به هو يستوصي بي" فنزلت: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] الآية، قال الحافظ ابن كثير: ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر؛ لأن القصة ليلة الهجرة وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين. "ثم أذن الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة، قال ابن عباس بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} [الإسراء: 80] ، المدينة {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] " إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره، {وَأَخْرِجْنِي} [الإسراء: 80] من مكة {مُخْرَجَ صِدْقٍ} إخراجا لا ألتفت إليها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] أخرجه الترمذي وصححه الحاكم. فإن قيل ما الحكمة في هجرته عليه السلام إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل؟ أجيب: بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه عليه السلام تتشرف به الأشياء، لا أنه يتشرف بها، فلو بقي عليه السلام في مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بها، إذ إن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة، فلما هاجر إليها تشرفت به، حتى وقع الإجماع على أن أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه.   يقلبي {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80] "، قوة تنصرني بها على أعدائك. "أخرجه الترمذي وصححه" هو و"الحاكم" في المستدرك "فإن قيل: ما الحكمة في هجرته عليه السلام" من مكة "إلى المدينة وإقامته بها إلى أن انتقل إلى ربه عز وجل" وهلا أقام بها إذ هي دار أبيه إسماعيل التي نشأ ومات بها وفي حديث: "قبر إسماعيل في الحجر"، رواه الديلمي عن عائشة مرفوعا بسند ضعيف. "أجيب بأن حكمة الله تعالى قد اقتضت أنه عليه السلام تتشرف به الأشياء" حتى الأزمنة والأمكنة "لا أنه يتشرف بها، فلو بقي عليه السلام في مكة إلى انتقاله إلى ربه لكان يتوهم أنه قد تشرف بها إذ إن شرفها قد سبق بالخليل وإسماعيل، فأراد الله تعالى أن يظهر شرفه عليه السلام فأمره بالهجرة إلى المدينة"، ولذا لم تكن إلى الأرض المقدسة مع أنها أرض المحشر والمنشر وموضع أكثر الأنبياء، لئلا يتوهم ما ذكر أيضا "فلما هاجر إليها تشرفت به" لحلوله فيها وقبره بها، "حتى وقع الإجماع" كما حكاه عياض والباجي وابن عساكر "على أن أفضل البقاع الموضع الذي ضم أعضاءه الكريمة صلوات الله وسلامه عليه" حتى من الكعبة لحلوله فيه، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أنه أفضل من العرض، وصرح الفاكهاني بتفضيله على السماوات، بل قال البرماوي: الحق أن مواضع أجساد الأنبياء وأرواحهم أشرف م كل ما سواها من الأرض والسماء. ومحل الخلاف في أن السماء أفضل أو الأرض غير ذلك، كما كان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يقرره، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وذكر الحاكم أن خروجه عليه السلام كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها. وجزم ابن إسحاق: بأنه خرج أول يوم من ربيع الأول. فعلى هذا يكون بعد البيعة بشهرين وبضعة عشر يوما، وكذا جزم الأموي ....   يعني: وأفضل تلك المواضع القبر الشريف بالإجماع، واستشكله العز بن عبد السلام بأن معنى التفضيل أن ثواب العمل في أحدهما أكثر من الآخر، وكذا التفضيل في الأزمان وموضع القبر الشريف لا يمكن العمل فيه؛ لأن العمل فيه يحرم فيه عقاب شديد، ورد عليه تلميذه العلامة الشهاب القرافي بأن التفضيل للمجاورة والحلول كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محدث ولا يلابس بقذر، لا لكثرة الثواب وإلا لزمه أن لا يكون جلد المصحف بل ولا المصحف نفسه أفضل من غيره لتعذر العمل فيه، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة وأسباب التفضيل أعم من الثواب، فإنها منتهية إلى عشرين قاعدة وبينها في كتابه الفروق، ثم قال: بل إنها أكثر وإنه لا يقدر على إحصائها خشية الإسهاب. وقال التقي السبكي: قد يكون التفضيل بكثرة الثواب، وقد يكون لأمر آخر وإن لم يكن عمل فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عنه، فكيف لا يكون أفضل الأمكنة؛ وأيضا فباعتبار ما قيل كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه وقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعبتار حياته -صلى الله عليه وسلم- به، وإن أعماله مضاعفة أكثر من كل أحد، قال السمهودي: والرحمات النازلات بذلك المحل يعم فيضها الأمة وهي غير متناهية لدوام ترقياته -صلى الله عليه وسلم، فهو منبع الخيرات، انتهى. "وذكر الحاكم أن خروجه عليه السلام" من مكة "كان بعد بيعة العقبة بثلاثة أشهر أو قريبا منها، وجزم ابن إسحاق أنه خرج أول يوم من ربيع الأول فعلى هذا يكون بعد البيعة لشهرين وبضعة عشر يوما"؛ لأن البيعة كما مر في ذي الحجة ليلة ثاني أيام التشريق، فالباقي من الشهر ثمانية عشر يوما إن كان تاما وإلا فسبعة عشر، "وكذا جزم الأموي" بفتح الهمزة وضمها كما ضبطه في النور في أول من أسلم نسبة لبني أمية، قال الحافظ في تقريره يحيى بن سعيد بن إبان بن سعيد العاصي الأموي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل، صدوق يضطرب من كبار التاسعة مات سنة أربع وتسعين ومائتين، روى له الستة، انتهى. فنسبه أمويا فليس هو الحافظ محمد بن خير الأموي بفتح الهمزة والميم بلا مد نسبة إلى أمة جبل بالمغرب كما ترجى من مجرد قول التبصير له برنامج حافل، فإنه فاسد نقلا كما علم وعقلا لأن التبصير، قال: إنه خال السهيلي، أي: أخو أمه وزمنه متأخر عن هذا بكثير فقد أرخوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 -في المغازي- عن ابن إسحاق فقال: كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال. وخرج لهلال ربيع الأول وقادم المدينة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. قال في فتح الباري: وعلى هذا خرج يوم الخميس. وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس. ويجمع بينهما: بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأن أقام فيه ثلاث ليال: ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين. وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة.   وفاة ابن خير في ربيع الأول سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وقد قال المصنف "في المغازي" وهو يروي فيها عن أبيه وغيره "عن ابن إسحاق" وهو قد توفي سنة خمسين ومائة فلا يدرك ابن خير اتباعه، وفي الألقاب للحافظ في حرف الجيم جمل يحيى بن سعيد الأموي صاحب المغازي من الثقات، "فقال كان مخرجه من مكة بعد العقبة بشهرين وليال" أتى بنصه لفائدة فيه لم تستفد مما قبله، "وخرج" -صلى الله عليه وسلم- من مكة "لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول" على الراجح، قيل: لثمان خلت منه كما في الاستيعاب، وقيل: خرج في صفر وقدم في ربيع، حكاه في الصفوة. "قال في فتح الباري: وعلى هذا خرج يوم الخميس، وقال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال إنه خرج من مكة يوم الخميس"، وهذا يوافق نقل الأموي ويخالف ما تواترت به الأخبار، قال الحافظ: "ويجمع بينهما بأن خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأنه أقام فيه ثلاث ليال ليلة الجمعة، وليلة السبت، وليلة الأحد، وخرج أثناء ليلة الاثنين" فقول الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه يوم الاثنين مجاز أطلق اليوم مريدا به الليلة لقربه منها، والمراد الخروج من الغار لا مكة. وفي الاستيعاب عن الكلبي: قدم المدينة يوم الجمعة، والله أعلم. "وكانت مدة مقامه بمكة من حين النبوة إلى ذلك الوقت بضع عشرة سنة" ثلاث عشرة سنة؛ كما رواه البخاري عن ابن عباس. وروى مسلم عنه خمس عشرة، قال الحافظ: والأول أصح، انتهى، وهو قول الجمهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 ويدل عليه قول صرمة: ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى صديقا مواتيا وقيل غير ذلك. وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر. وأخبر عليه السلام عليا بمخرجه وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: .............   "ويدل عليه قول صرمة" بكسر الصاد ابن أنس، ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي أنس بن مالك بن عدي أبي قيس الأنصاري النجاري صحابي له أشعار حسان فيها حكم ووصايا وكان قوالا بالحق ولا يدخل بيتا فيه جنب ولا حائض، معظما في قومه إلى أن أدرك الإسلام شيخا كبيرا وعاش عشرين ومائة سنة. "ثوى" بمثلثة أقام -صلى الله عليه وسلم- "في قريش بضع" بكسر الباء وتفتح "عشرة حجة" بكسر الحاء على الراجح وتفتح "يذكر" الناس بما جاء به عند الله فيدعوهم إليه وحده ويتحمل مشاقه، ويود "لو يلقى صديقا مواتيا" موافقا ومطيعا، فلو للتمني فلا جواب لها، أو جوابها محذوف نحو لسهل عليه أمرهم وهذا البيت ثبت في بعض نسخ مسلم وهو من قصيدة لصرمة عند ابن إسحاق. "وقيل غير ذلك" فعن عروة أنها عشرة سنين، ورواه أحمد عن ابن عباس والبخاري في باب الوفاة عنه وعن عائشة، لكن أول بأنهما لم يحسبا مدة الفترة بناء على قول الشعبي أنها ثلاث سنين لقولهما أقام عشرا ينزل عليه القرآن والأنافي ما رواه البخاري عقبه عن عائشة أنه توفي وهو ابن ثلاث وستين، "وأمره جبريل أن يستصحب أبا بكر" روى الحاكم عن علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل: "من يهاجر معي"، قال أبو بكر الصديق، قال الحاكم: صحيح غريب. "وأخبر عليه السلام عليا بمخرجه" بفتح فسكون مصدر ميمي بمعنى الخروج، أي: بإرادة خروجه "وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس" قاله ابن إسحاق وزاد: وليس بمكة أحد عنده شيء يخلف عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. "قال ابن شهاب" الزهري فيما رواه عنه البخاري في الحديث الطويل المتقدم بعضه في إرادة أبي بكر الهجرة للحبشة ورجوعه في جوار ابن الدغنة ثم قال: قال ابن شهاب: قال الحافظ: هو بالإسناد المذكور أولا، "قال عروة" بن الزبير بن العوام أحد الفقهاء "قالت عائشة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. قال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أخرج من عندك"، فقال أبو بكر: إنما هم   فبينما" بالميم "نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحر" بفتح النون وسكون المهملة "الظهيرة" بفتح المعجمة وكسر الهاء، قال الحافظ: أي أول الزوال وهو أشد ما يكون من حرارة النهار والغالب في أيام الحر القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبان: فأتاه ذات يوم ظهرا. وفي حديث أسماء عند الطبراني: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتينا بمكة كل يوم مرتين بكرة وعشية، فلما كان يوم من ذلك جاءنا في الظهيرة، فقلت: يا أبت هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، "قال قائل": قال الحافظ في مقدمة الفتح: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة. وفي الطبراني: أن قائل ذلك أسماء بنت أبي بكر، انتهى. أي: وهو لا يمنع الاحتما المذكور لجواز أنهما معا قالا "لأبي بكر: هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعا" أي: مغطيا رأسه، قاله المصنف. وقال الحافظ: أي متطيلسا "في ساعة لم يكن يأتينا فيها". وفي رواية موسى بن عقبة، قال ابن شهاب: قالت عائشة: وليس عند أبي بكر إلا أنا وأسماء، قيل فيه جواز لبس الطيلسان وجزم ابن القيم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يلبسه ولا أحد من الصحابة وأجاب عن الحديث بأن التقنع يخالف التطيلس، قال: ولم يكن يفعل التقنع عادة بل للحاجة، وتعقب بأن في حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر التقنع. وفي طبقات ابن سعد مرسلا: وذكر الطيلسان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا ثوب لا يؤدي شكره، انتهى. ويأتي بسط ذلك في اللباس، إن شاء الله تعالى. "قال أبو بكر: فداء" بكسر الفاء والقصر، وللحموي والمستملي: فداء بالمد والهمز، "له أبي وأمي" في حجة لا لأصح القولين بجواز التفدية بهما، قال البرهان: وما أظن الخلاف إلا في غير النبي -صلى الله عليه وسلم، لأن كل الناس يجب عليهم بذل أنفسهم دون نفسه، "والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر" وفي رواية يعقوب بن سفيان: إن جاء به بأن النافية بمعنى ما، وابن عقبة: فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما جاء بك إلا أمر حدث، "قالت" عائشة: "فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن، فأذن له" أبو بكر "فدخل" زاد في رواية: فتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله "فقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "أخرج" بهمزة قطع مفتوحة "من عندك" هكذا في البخاري في الهجرة وله في محل آخر ما عندك بما مرادا بها من يعلم نحو: لما خلقت بيدي {وَالسَّمَاءِ} [الشمس: 5] ، و {وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3، 5] "فقال أبو بكر: إنما هم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 أهلك بأبي أنت وأمي. قال السهيلي: وذلك أن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك. فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإنه قد أذن لي في الخروج". فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم". فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل بالثمن".   أهلك" يعني عائشة وأسماء، ففي رواية ابن عقبة، فقال: لا عين عليك إنما هما ابنتاي، وكذا في رواية هشام. "بأبي أنت وأمي، قال السهيلي: وذلك" أي: وجه قوله هم أهلك "إن عائشة قد كان أبوها أنكحها منه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك" وأسماء صارت بمنزلة أهله لنكاحه أختها فلا يخشى عليه منهما؛ كما يرشد إليه قوله: لا عين عليك، وقيل كما في النور: أطلق عليهما أهله، كقول الإنسان حريمي حريمك وأهلي أهلك، يعني: أنا وأنت كالشيء الواحد، وقول من قال كانت أمهما عنده وتركها سترا يرده قول عائشة: وليس عنده إلا أنا وأسماء وأيضا فأم عائشة غير أم أسماء، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإنه" كذا رواه الكشميهني وللأكثر فإني "قد أذن" بالبناء للمفعول "لي في الخروج" من مكة إلى المدينة "فقال أبو بكر" أريد "الصحبة" ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: مطلوبي، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم"، زاد ابن إسحاق: قالت عائشة: فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح، وفي رواية هشام: قال الصحبة: يا رسول الله! قال: "الصحبة"، "فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إحدى راحلتي هاتين" إشارة للتين كان علفهما أربعة أسهر، لما قال المصطفى إنه يرجو الهجرة، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم": لا أخذها مجانا "بل بالثمن"، وعند ابن إسحاق، قال: "لا أركب بعيرا ليس هو لي"، قال: هو لك، قال: "لا ولكن بالثمن بالذي ابتعتها به"، قال: "أخذتها بكذا وكذا"، قال: هي لك. وفي حديث أسماء عند الطبراني، فقال: "بثمنها يا أبا بكر"، فقال: بثمنها إن شئت، وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائية درهم، وأن التي أخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- هي القصواء وكانت من نعم بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 فإن قلت: لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقيل؟ أجيب: بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فضل الهجرة إلى الله تعالى، وأن تكون على أتم الأحوال، انتهى.   قشير وعاشت بعده عليه السلام قليلا، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع، وذكر ابن إسحاق: إنها الجدعاء وكانت من إبل بني الحريش. وكذا في رواية ابن حبان عن هشام عن أبيه عن عائشة: أنها الجدعاء، ذكره في فتح الباري وعجب إبعاده النجعة بالعز. ولابن حبان فقد رواه البخاري في غزوة الرجيع من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بلفظ: فأعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدهما وهي الجدعاء والحريش بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وسكون التحتية وشين معجمة. وفي سيرة عبد الغني وغيره: أن الثمن كان أربعمائة درهم؛ كما في المقدمة، فصدق حفظ البرهان إذ قال في النور: في حفظي أنه أربعمائة، انتهى. وكأنه مستند من قال الثمانمائة ثمن الراحلتين. "فإن قلت: لم يقبلها إلا بالثمن، وقد أنفق عليه أبو بكر من ماله ما هو أكثر من هذا فقبل"، بموحدة وحذف المفعول، أي: فقبله. فقد روى ابن حبان عن عائشة، قال: أنفق أبو بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين ألف درهم. وروى الزبير بن بكار عنها أن أبا بكر لما مات ما ترك دينارا ولا درهما. وفي الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من الناس أمن على نفسه وماله من أبي بكر". وروى الترمذي مرفوعا: "ما لأحد عندنا يدا إلا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة". "أجيب" كما ذكره السهيلي: حدثني بعض أصحابنا، قال ابن دحية، يعني ابن قرقول عن الفقيه الزاهد أبي الحسن بن اللوان "بأنه إنما فعل ذلك لتكون هجرته إلى الله بنفسه وماله رغبة منه عليه السلام في استكماله فض الهجرة إلى الله تعالى وأن تكون على أتم الأحوال"، قال السهيلي: وهو قول حسن. انتهى. وهذا الحديث الصحيح يعارض ما رواه ابن عساكر عن أنس رفعه: "إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر زوجني ابنته وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالا أبو بكر أعتق منه بلال وحملني إلى دار الهجرة"، والمنكر منه آخره فقط، وهو حمله إلى الهجرة فإن كان محفوظا فالحمل مجاز عن المعاونة والخدمة في السفر وعلف الدابة أربعة أشهر حتى باعها للمصطفى بحيث لم يحتج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة من جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت بها على فم الجراب فبذلك سميت بذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور -جبل بمكة.   لتطلب شراء دابة فلا معارضة. "قالت عائشة" عند البخاري بإسناد: "فجهزناهما احث" بمهملة ومثلثة: أسرع، وفي رواية: بموحدة، والأولى أصح "الجهاز" قال الحافظ: بفتح الجيم وتكسر ومنهم من أنكره وهو ما يحتاج إليه في السفر، وقال في النور: بكسر الجيم أفصح من فتحها، بل لحن من فتح والذي في الصحاح وأما جهاز العروس والسفر فيفتح ويكسر، انتهى. "وصنعنا لهما سفرة من" كذا في النسخ، والذي في البخاري في "جراب" قال الحافظ سفرة، أي: زادا في جراب؛ لأن أصل السفرة لغة الزاد الذي يصنع للمسافر ثم استعمل في وعاء الزاد ومثله المزادة للماء وكذا الرواية فاستعملت هنا على أصل اللغة، وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة، انتهى. "فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها" بكسر النون "فربطت بها على فم الجراب" بكسر الجيم وفتحها لغتان الكسر أفصح وأشهر وهو وعاء من جلد، قاله النووي تبعا لعياض، وفي القاموس: الجراب ولا يفتح أو هو لغة فيما ذكره عياض وغيره المزود أو الوعاء "فبذلك سميت بذات النطاقين" بالتثنية رواية الكشميهني، ورواية غيره النطاق بالإفراد، قال الحافظ: النطاق ما يشد به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تكة، وقيل: ثوب تلبسه المرأة، ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، قاله أبو عبيد الهروي. قال: وسميت ذات النطاقين لأنها كانت تجعل نطاقا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس إحداهما وتحمل في الآخر الزاد، قال الحافظ والمحفوظ كما سيأتي بعد هذا الحديث، أي: في البخاري أنها شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر، فمن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين بالثنية والإفراد بهذين الاعتبارين. وعند ابن سعد في حديث الباب: شقت نطاقها فأوكت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين، انتهى. "قالت" عائشة "ثم لحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر بغار ثور" بمثلثة ولفظ البخاري: بغار في جبل ثور، فكمنا ثلاث ليال "جبل بمكة" بجره على البدلية ورفعه على الخبرية وهو أولى؛ لأنه من كلام المصنف لا من الحديث، قال في الأنوار: الغار ثقب في أعلى ثور في يمني مكة على مسيرة ساعة، وقيل: إنه من مكة على ثلاثة أميال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وكان من قوله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة، لما وقف على الحزورة، ونظر إلى البيت: "والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". وهذا من أصح ما يحتج به في تفضيل مكة على المدينة.   وفي معجم: ما استعجم أنه منها على ميلين وارتفاعه نحو ميل وفي أعلى الغار الذي دخله النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وهو المذكور في القرآن، والبحر يرى من أعلى هذا الجبل وفيه من كل نبات الحجاز وشجره، وفيه شجر البان. وفي القاموس: ثور جبل بمكة فيه الغار المذكور في التنزيل، ويقال له ثور أطحل واسم الجبل أطحل نزله ثور بن عبد مناف فنسب له، انتهى. فقول النور: إنه كالثور الذي يحرث عليه، أي: في النطق ولم أر فيه أنه سمي به لأنه على صورة الثور كما تصرف عليه من زعمه، ثم فصل المؤلف بين أجزاء حديث الصحيح بجمل وسيعود إلى بقية منه، أولها: وكان يبيت عندهما عبد الله.. إلخ، فقال: "وكان من قوله -صلى الله عليه وسلم- حين خرج من مكة لما وقف على الحزورة" بفتح المهملة فزاي ساكنة فواو فراء، سوق كان بمكة أدخلت في المسجد، وعن الشافعي: الناس يشددونها وهي مخففة، "ونظر إلى البيت "والله إنك" بكسر الكاف خطاب لمكة "لأحب أرض الله إلي وإنك لأحب أرض الله إلى الله" من خطف العلة على المعلول، "ولولا أن أهلك أخرجوني" تسببوا في إخراجي، "ما خرجت منك" أخرجه أحمد والترمذي وصححه عن عبد الله بن عدي، بلفظ: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحزورة، فقال: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". وروى الترمذي أيضا، وقال: حسن صحيح عن ابن عباس رفعه: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"، و"وهذا من أصح ما يحتج به في تفضيل مكة على المدينة" وجوابه أن التفضيل إنما يكون بين شيئين يأتي بينهما تفضيل وفضل المدينة لم يكن حصل حتى يكون هذا حجة، ولو سلم ففي الحجج البينة هو مؤول بأنه قبل أن يعلم تفضيل المدينة أو بأنها خير الأرض ما عدا المدينة؛ كما قاله ابن العربي، وهو أحد التأويلين في قوله عليه السلام لمن قال له: "يا خير البرية، ذاك إبراهيم"، ومعارض بما في البخاري عن عائشة رفعته: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، ونحن نقطع بإجابة دعائه -صلى الله عليه وسلم- فقد كانت أحب إليه من مكة. وفي الصحيحين مرفوعا: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة"، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ..........................................................................................................   وقال غيره: قد استجاب الله دعوة المصطفى للمدينة فصار يجبى إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كل شيء، وكذا مكة ببركة دعاء الخليل، وزادت المدينة عليها لقوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه"، أخرجه الترمذي عن أبي هريرة شيئان أحدهما في ابتداء الأمر وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما وإنفاقها في سبيل الله على أهلها، وثانيهما في آخر الأمر وهو أن الإيمان يأرز إليها من الأقطار، انتهى. وقد اختلف السلف، أي: البلدين أفضل فذهب الأكثر إلى تفضيل مكة، وبه قال الشافعي وابن وهب ومطرف وابن حبيب واختاره من متأخري المالكية ابن رشد وابن عرفة؛ كما قاله الأبي وذهب عمر بن الخطاب في طائفة وأكثر المدنين إلى تفضيل المدينة على مكة وهو مذهب مالك، ومال إليه من متأخري الشافعية السمهودي والسيوطي والمصنف في المقصد الأخير واعتذر عن مخالفة مذهبه بأن هوى كل نفس حيث حل حبيبها والأدلة الكثيرة من الجانبين، حتى قال الإمام ابن أبي جمرة بتساوي البلدين، والسيوطي: المختار الوقف عن التفضيل لتعارض الأدلة بل الذي تميل إليه النفس تفضيل المدينة، ثم قال: وإذا تأمل ذو البصيرة لم يجد فضلا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره وأعلى منه، هكذا قال في الحجج البينة وجزم في أنموذجه بأن المختار تفضيل المدينة. وأما التشبث بأن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض والمدينة حرمها المصطفى وما حرمه الله أعظم، فشبهة فاسدة؛ لأن الأشياء كلها حرامها وحلالها حرم وأحل من القدم بخطابه تعالى القديم النفسي. وفي البخاري حرمت المدينة على لساني، فهذا صريح في أن الله حرمها، قال في الحجج: وأما كون مكة بها المشاعر والمناسك فقد عوض الله تعالى المدينة عن الحج والعمرة بأمرين وعد الثواب عليهما. وأما العمرة ففي الصحيح "صلاة في مسجد قباء كعمرة". وأما الحج، فعن أبي أمامة مرفوعا: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة"، انتهى. ومحل الخلاف كما مر، فيما عدا البقعة التي ضمت أعضاءه -صلى الله عليه وسلم، فإنها أفضل إجماعا ويليها الكعبة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا، كما قال الشريف السمهودي. وذكر الدماميني: أن الروضة تنضم لموضع القبر في الإجماع على تفضيله بالدليل الواضح إذ لم يثبت لبقعة أنها من الجنة بخصوصها إلا هي، فلذا أورد البخاري حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"، تعريفا بفضل المدينة؛ إذ لا شك في تفضيل الجنة على الدنيا، كذلك، قال: ولا يخلو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 ولم يعلم بخروجه عليه السلام إلا علي وآل أبي بكر. وروي أنهما خرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ليلا إلى الغار. ولما فقدت قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافلة أثره في كل وجه، فوجد الذي ذهب قبل ثورا أثره ..............   من نظر لما فيه من الاحتجاج بالاحتمال؛ لأن في معنى روضة احتمالات كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة وكون الموضع نفسه روضة من رياض الجنة الآن ويعود روضة كما كان، وإن كان لا مانع من الجمع بين الثلاثة؛ كما هو معلوم في محله هذا. وكان من قوله -صلى الله عليه وسلم- أيضا لما خرج مهاجرا: "الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام، اللهم أصحبني في سفري واخلفني في أهلي وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض وكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن يحل بي غضبك أو ينزل علي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك وفجأة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك، لك العتبى عندي حيثما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك"، رواه عن ابن إسحاق بلاغا. "ولم يعلم بخروجه عليه السلام إلا علي" لكونه خلفه مكانه "وآل أبي بكر" لأن ذهب إليه فعلم به من عنده وآل الرجل لغة أهله وعياله، فشمل عامر بن فهيرة؛ لأنه مولاه. "وروى" عند الواقدي "أنهما خرجا من خوخة" بفتح المعجمتين بينهما واو ساكنة: باب صغير "لأبي بكر في ظهر بيته" بعد دخول عليه في نحر الظهيرة؛ كما مر، فخرجا "ليلا" ومضيا "إلى الغار" وروى أن أبا جهل لقيهما فأعمى الله بصره عنهما حتى مضيا، قالت أسماء: وخرج بو بكر بماله خمسة آلاف درهم. قال البلاذري: وكان ماله يوم أسلم أربعين ألف درهم، فخرج إلى المدينة للهجرة وماله خمسة آلاف أو أربعة، فبعث ابنه عبد الله فحملها إلى الغار، "ولما فقدت" بفتح القاف "قريش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة" جمع قائف وهو الذي يعرف الأثر "أثره" بفتحتين وبكسر فسكون، أي: عقب خروجه "في كل وجه" وذكر الواقدي أنهم بعثوا في أثرهما قاصدين أحدهما كرز بن علقمة ولم يسم الآخر، وسماه أبو نعيم في الدلائل من حديث زيد بن أرقم وغيره سراقة بن جعشم، كما في الفتح. "فوجد الذي ذهب قبل" بكسر ففتح جهة، "ثورا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 هنالك، فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انتهى إلى ثور. وشق على قريش خروجه وجزعوا لذلك، وجعلوا مائة ناقة لمن رده. ولله در الشيخ شرف الدين الأبوصيري ...............   أثر هناك فلم يزل يتبعه حتى انقطع لما انهى إلى ثور" ويروى أنه قعد وبال في أصل الشجرة، ثم قال: ههنا انقطع الأثر، ولا أدري أخذ يمينا أم شمالا أم صعد الجبل. وفي رواية: فقال لهم القائف: هذا القدم قدم ابن أبي قحافة، وهذا الآخر لا أعرفه إلا أنه يشبه القدم الذي في المقام -يعني مقام إبراهيم- فقالت قريش: ما وراء هذا شيء ولا يشكل هذا بما روي أنه عليه السلام كان يمشي على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثرهما على الأرض، ويقول لأبي بكر: "ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا يتم"، بفتح أوله وضم النون وكسرها، أي: لا يظهر أثر القدم حتى تضع قدمك موضع قدمي لجواز أنهما لما قربا من الغار مشيا ووضع المصطفى جميع قدمه فلما وصل القائف وجد أثر القدمين فأخبر بما رأى. "وشق على قريش خروجه وجزعوا" بكسر الزاي لم يصبروا، "لذلك وجعلوا مائة ناقة لمن رده" عن سيره ذلك بقتل أو أسر، فلا ينافي ما في الصحيح: جعلوا الدية لمن قتله أو أسره. "ولله در الشيخ شرف الدين" محمد بن سعيد بن حماد الدلاصي المولد المغربي الأصل البوصيري المنشأ ولد بناحية دلاص يوم الثلاثاء أول شوال سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم، قال فيه الحافظ ابن سيد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق مات سنة خمس وتسعين وستمائة، ذكره السيوطي وقوله: "الأبوصيري" فيه نظر؛ لأن اسم القرى وهي أربعة بمصر بوصير بضم الموحدة وإسكان الواو وكسر الصاد المهملة وإسكان التحتية وراء والنسبة إليها بوصيري؛ كما في المراصد واللباب وإنه في باب الموحدة ولم يذكر واشيا في الهمزة. قال ابن ججر الهيثمي: كان أحد أبوي المذكور من بوصير الصعيد والآخر من دلاص، أي: بفتح الدال المهملة قرية بالبهنسي، أي: كفر مصري كما في المراصد والقاموس، فركبت النسبة نهما، فقيل الدلاصيري: ثم اشتهر بالبوصيري، قيل: ولعلها بلد أبيه فغلبت عليه، انتهى. أو لنشأته بها كما مر عن السيوطي، ولو سلم أن القرية بلفظ الكنية فإنما يقال في النسبة صيري بحذف الجزء الأول كما يقال بكري في النسبة إلى أبي بكر؛ إذ لا ينسب إلى الاسمين معا المضاف والمضاف إليه؛ لأن إعراب أولهما بحسب العوامل، والثاني مخفوض بالإضافة كما بينه الشاطبي والرضي وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 حيث قال: ويح قوم جفوا نبيا بأرض ... ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه ... وقلوه ووده الغرباء أخرجوه منها وآواه غار ... وحمته حمامة ورقاء وكفته بنسجها عنكبوت ... ما كفته الحمامة الحصداء يقال شجرة حصداء: أي كثيرة الورق، فكأنه استعاره للحمامة لكثرة ريشها.   "حيث قال: ويح" نصب بفعل محذوف لا بالنداء كلمة ترحم لمن وقع في مهلكة لا يستحقها، فالترحم من حيث قرابتهم له عليه السلام وإنهم من عمود نسبه وجلدته ولا محظور فيه؛ لا لأن كثيرا منهم أسلم بعد، فالترحم باعتبار المآل إذ لم يقعوا في هلكة أصلا، فلا يقال فيهم ويح، "قوم جفوا نبيا" أبغضوه وآذوه أشد الأذى بل قصدوا قتله، "بأرض ألفته ضبابها" جمع ضب "والظباء" جمع ظبي ويأتي حديثهما في المعجزات، "وسلوه" أي: نفرت قلوبهم عنه حتى هجروه مع نشأته فيهم وعلمهم بغاية نزاهته وكماله، "و" الحال أنه قد "حن جذع إليه" كان يخطب عليه بالمدينة قبل أن يصنع له المنبر فصار يخور كما يخور الثور حتى نزل وضمه، كما يأتي إن شاء الله تعالى في المعجزات. "وقلوه" أبغضوه "و" الحال أنه قد "وده الغرباء" كالأنصار الذين ليسوا من عشيرته ولا عرفوا في ابتداء ودادهم له ما عرفه قومه من كماله الظاهر، وفضله الباهر "أخرجوه" بدل من جفوه، أي: كانوا السبب في خروجه "منها"، من تلك الأرض التي هي وطنه ووطن آبائه "وآواه غار" بجبل ثور "وحمته" منهم "حمامة ورقاء" لونها أبيض يخالطه سواد فباضت عليه، "وكفته بنسجها عنكبوت" دويبة تنسج في الهواء يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى، والجمع العناكب "ما" أي: الأعداء الذين "كفته" إياهم "الحمامة الحصداء، يقال" لغة "شجرة حصداء أي: كثيرة الورق فكأنه استعارة للحمامة لكثرة ريشها"، أي: استعارة مصرحة حيث شبه كثيرة الريش بكثرة الورق، واستعار له اسمها ووصفها بورقاء وحصداء لاجتماعهما فيها، ومنع تعدد الوصف إنما هو إذا كان بمتضادين أو متماثلين، وزعم أن البيت حرفه شراحه والمصنف وإنما هو ما كفته الجنانة بجيم ونونين؛ لأنها تجن البدن، أي: تستره والحصداء المحكمة النسج كما في اللغة. رده شيخنا بأن المناسب للسياق والقصة ما ذكروه وهم ثقات وتلقوه بسندهم إلى الناظم، وأدري بكلامه، فلا وجه للعدول عنه إلى غيره وإن صح في نفسه لغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وفي حديث مروي في الهجرة، أنه عليه السلام ناداه ثبير: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه حراء: إلي يا رسول الله. وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل الغار وأبو بكر معه، أنبت الله على بابه الراءة. قال قاسم: وهي شجرة معروفة، ................   "وفي حديث مروي في الهجرة" وذكره عياض في الشفاء "أنه عليه السلام ناداه ثبير" لما صعده "اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري، فأعذب" بالنصب عطفا على تقتل، وإنما خاف العذاب؛ لأنه لو لم يذكر له ذلك مع علمه بأنه لا مكان فيه يستره كان غشا منه يستحق به العذاب، أو لأنه لو قتل على ظهره غضب الله على المكان الذي يقع فيه مثل هذا الأمر العظيم كما غضب على أرض ثمود، فلا يرد كيف يعذب بذنب غيره ولا تزر وازرة وزر أخرى، ويوجه بأن خوفه بمعنى حزنه وتأسف عليه، ونحو ذلك مما لا وجه له. "فناداه حراء: إلي يا رسول الله! " وهو مقابل ثبير مما يلي شمال الشمس وبينهما الوادي وهما على يسار السالك إلى منى، ولم يذهب له لسبق عبده فيه فخشي طلبهم فيه لما عهدوه من ذهابه إليه، فذهب إلو ثور دون غيره لحبه الفال الحسن، فقد قيل: الأرض مستقرة على قرن الثور فناسب استقراره فيه تفاؤلا بالطمأنينة والاستقرار فيما قصده هو وصاحبه. قال السهيلي: وأحسب في الحديث أن ثورا ناداه أيضا لما قال له ثبير: اهبط عني، انتهى. وذكر بعضهم: أنه ذهب إلى حنين فناداه: اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه ثور إلي: يا سول الله فإن صح ذلك كله فيحتمل أنه ذهب له أولا فلما قال ذلك وناداه حراء لم يذهب له لما ذكر فناداه ثور إن صح أو ذهب إليه دون نداء لكن الذي في الحديث الصحيح أنهما وعدا الدليل غار ثور بعد ثلاث ليال يقتضي أنهما ما خرجا إلا قاصدين إليه. "وذكر قاسم بن ثابت" بن حزم أبو محمد العوفي السرقسطي الأندلسي المالكي الفقيه المحدث المقدم في المعرفة بالغريب والنحو والشعر المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه، الورع الناسك مجاب الدعوة، سأله الأمير أن يلي القضاء فامتنع فأراد أبوه إكراهه فقال: أمهلني ثلاثة أيام فمات فيها سنة ستين وثلاثمائة، فكانوا يرون أنه دعا نفسه بالموت. "في الدلائل" في شرح ما أغفل أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث: مات قاسم ولم يكمله فأتمه أبوه ثابت الحافظ المشهور، "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما دخل الغار وأبو بكر معه أنبت الله على بابه الراءة" بالراء المهملة والمد والهمز والجمع الراء بلا هاء؛ كما في القاموس. "قال" قاسم المذكور: "وهي شجرة معروفة" فحجبت عن الغار أعين الكفار، إلى هنا كلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وهي أم غيلان. وعن أبي حنيفة: تكون مثل قامة الإنسان لها خطيان وزهر أبيض يحشى به المخاد فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن، فحجبت عن الغار أعين الكفار. وفي مسند البزار: أن الله عز وجل أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين. ثم .................   قاسم؛ كما في النور. قال المصنف تبعا لابن هشام "وهي أم غيلان" بفتح المعجمة ضرب من العضاه، كما في المصباح. "وعن أبي حنيفة" الدينوري، كما في الشامية لا الإمام الراءة من أعلاث الشجر، و"تكون مثل قامة الإنسان لها خيطان وزهر أبيض يحشى به المخاد" بفتح الميم جمع مخدة بكسرها، "فيكون كالريش لخفته ولينه؛ لأنه كالقطن فحجبت عن الغار أعين الكفار" من كلام قاسم، كما علم. قال في النور: هذه الشجرة التي وصفها أبو حنيفة غالب ظني أنها العشار كذا رأيتها بأرض البركة خارج القاهرة وهي تنفق عن مثل قطن يشبه الريش في الخفة، ورأيت من يجعله في اللحف في القاهرة، انتهى. "وفي مسند البزار" من حديث أبي مصعب المكي، قال: أدركت زيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك يتحدثون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان ليلة بات في الغار أمر الله تعالى شجرة فنبتت في وجه الغار، فسترت وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- و"إن الله عز وجل" أمر العنكبوت" "فنسجت على وجه الغار" هكذا أوله عند البزار ولو ساقه المصنف من أوله كان أولى؛ لأن فيه تقوية ما ذكره قاسم وما كان يزيد به الكتاب، وقد رواه أحمد عن ابن عباس، وفيه: ونسج العنكبوت على بابه، أي: فالشجرة لما نبتت على وجه الغار انتشرت أغصانها فغطت فمه، ونسج العنكبوت عليه فصار نسجها بين أغصانها وفتحه الغار، وقول بعض نسجت ما بين فروع الشجرة كنسج أربع سنين مخالف لرواية البزار، ولرواية أحمد أشد مخالفة، اللهم إلا أن يراد أنها نسجت على مقابل وجه فيصدق بالملتصق بفهمه وبما بين أغصان الشجرة المقابلة لفم الغار، كن فيه رد الروايات المسند إلى كلام لا يعلم حاله. "وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار" فعششتا على بابه "وأن ذلك مما صد المشركين عنه، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين" جزاء وفاقا لما حصل بهما الحماية جوز بابا لنسل وحمايته في الحرم فلا يتعرض له، وفي المثل: آمن من حمام الحرم، "ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 أقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، فجعل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه فقالوا له: ما لك؟ فقال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد. وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم إلى الغار، إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد. وقد روي أن الحمامتين باضتا في أسفل النقب ونسج العنكبوت، فقالوا لو دخلا لكسر البيض ................   أقبل فتيان من كل بطن بعصيهم وهراويهم" بفتح الهاء الأولى جمع هراوة، وهي العصا الضخمة فهو عطف خاص على عام، قال البرهان: وكان ينبغي أن يكتب بالألف وينطق بها، فيقال: هراواهم، أو أنه يقال هراوي وهراوى كصحاري وصحارى. "وسيوفهم فجعل بعضهم ينظر في الغار، فرأى حمامتين وحشيتين بفم الغار" هذا ظاهر في قربه منه جدا، وفي الشامية: حتى إذا كانوا من الغار على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر فيه والمنافاة. ففي الاكتفاء: حتى إذا كانوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- على قدر أربعين ذراعا تقدم أحدهم فنظر فرأى الحمامتين، "فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: ما لك؟ فقال حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه أحد" زاد في رواية: فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قاله، فعرف أن الله قد درأ عنه. "وقال آخر: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف": الكافر المقتول ببدر "وما أربكم؟ " بفتحتين وبكسر فسكون، أي: حاجتكم، "إلى الغار إن فيه لعنكبوتا أقدم من ميلاد محمد" تتمة الحديث: ثم جاء فبال. وفي حديث أسماء عند الطبراني: وخرجت من قريش حين فقدوهما وجعلوا في النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة ناقة، وطافوا في جبال مكة حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه -صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن هذا الرجل ليرانا وكان ماجهه، فقال: "كلا إن ثلاثة من الملائكة تسترنا بأجنحتها"، فجلس ذلك الرجل يبول مواجه الغار، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو كان يرانا ما فعل هذا"، ومر أن القائف قعد وبال، فيحتمل أنه هو أو أمية أو غيرهما. "وقد روي أن الحمامتين باضتا في أصل النقب ونسج" بالجيم "العنكبوت" والنسج في الأصل الحياكة استعمل في فعل العنكبوت مجازا لما بينهما من المشابهة، وفي حياة الحيوان: العنكبوت دويبة تنسج في الهواء، ومنه نوع من حكمته أنه يمد السدى ثم يعمل اللحمة ويبتدئ من الوسط ونسجها ليس من جوفها بل من خارج جلدها، وفمها مشقوق بالطول، وهذا النوع ينسج بيته دائما مثلت الشكل وسعته بحيث يغيب فيه شخصها. "فقالوا: لو دخل لكسر البيض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وتفسخ العنكبوت. وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود. فتأمل كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت الطالب، وجاءت العنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان فحاكت ثوب نسجها، فحاكت سرا حتى عمي على القائف الطلب "ولله در القائل": والعنكبوت أجادت حوك حلتها ... فما تخال خلال النسج من خلل ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك، وما أحسن قول ابن النقيب:   وتفسخ" بمعجمة: تقطع، "العنكبوت وهذا أبلغ في الإعجاز من مقاومة القوم بالجنود" لأنها معتادة ونبات الشجرة وبيض الحكام ونسج العنكبوت في زمن يسير مع حصول الوقاية به خارق للعادة، "فتأمل" انظر بعين البصيرة، "كيف أظلت الشجرة المطلوب وأضلت" حيرت "الطالب وجاءت عنكبوت فسدت باب الطلب، وحاكت وجه المكان" أي: نزلت فيه وثبتت من قولهم حاك في صدري كذا إذا رسخ، "فحاكت ثوب نسجها" أي: أوجدت الثوب الذي نسجته وهو ما على فم الغار من نسجها، "فحاكت" أي: آثرت، "سترا" بما نسجته "حتى عمي على القائف الطالب" من قولهم: حاك الشيء إذا أثر، وأنشد لغيره بيتا هو: "والعنكبوت أجادت" أحكمت "حوك" نسج "حلتها" أي: ما نسجته والحلة لغة زار ورداء، فاستعار له اسمها، وأطلقه على ما نسجته "فما تخال" تظن "خلال النسج من خلل"، أي: فبسبب ذلك الإحكام لا ترى خللا فيما نسجته، وعبر عن الرؤية بالظن مجازا، "ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك" وروي أن حمام مكة أظلته -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة فدعا لها بالبركة ونهى عن قتل العنكبوت، وقال: "هي جند من جنود الله". وقد روى الديلمي في مسند الفردوس مسلسلا بمحبة العنكبوت حديا، فقال: أخبرنا والدي، قال: وأنا أحبها، أخبرنا فلان: وأنا أحبها، حتى قال عن أبي بكر: لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أحبها، ويقول: "جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت علي وعليك يا أبا بكر في الغار حتى لم يرنا المشركون ولم يصلوا إلينا"، وكذا رواه أبو سعد السمان البصري في مسلسلاته، قال في العمدة: إلا أن البيوت تظهر من نسجها، انتهى. وأسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي، قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن عدي عن ابن عمر رفعه: "العنكبوت شيطان مسخه الله، فاقتلوه"، وهو حديث ضعيف ورواه أبو داود مرسلا بدون مسخه الله. "وما أحسن قول ابن النقيب" محمد بن الحسن الكناني من مشاهير الشعراء مات سنة سع وثمانين وستمائة عن تسع وسبعين سنة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه في كل شيء فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبي وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعم أبصارهم"، فعميت عن دخوله، وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار. وهذا يشير إليه قول صاحب البردة: أقسمت بالقمر المنشق إن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عم فالصدق ...........   "ودود القز إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه في كل شيء" أي: في كل حال ن الأحوال للملابس، فليست أشرف من غيرها مطلقا. "فإن العنكبوت أجل منها ... بما نسجت على رأس النبي فهو علة لجواب الشرط المحذوف، وما مصدرية، أي: بنسجها. "وروى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أعم" بهمزة قطع "أبصارهم" اجعلها كالعمياء الإدراك ولم يرد الدعاء عليهم بالعمى الحقيقي إذ لو أراده لعمو؛ لأنه مجاب الدعوة ولم يعموا، كما أفاده قوله: "فعميت عن دخوله" ويصرح به قوله: "وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار وهذا يشير إليه قول صاحب البردة، أقسمت" حلفت "بالقمر المنشق" آية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وجواب القسم "إن له" أي: للقمر المنشق، "من قلبه نسبة" شبها بقلب المصطفى في انشقاق كل منهما وما أحلى قوله في الهمزية: شق عن قلبه وشق له البدر "مبرورة القسم" صفة يمينا دل عليه أقسمت، قيل: والقسم جائز بالقمر، ويحتمل تقدير مضاف، أي: برب القمر. "وما" منصوب بتقدير اذكر أو مجرور عطفا على القمر وجوابه مقدر بما قبله، أي: أن له من قلبه نسبة، أي: واذكر من أو وأقسمت بمن "حوى" جمعه "الغار من خير ومن كرم" يعني المصطفى والصديق وصفهما بما هو من شأنهما وجوز بقاء ما على معناها، وحمل الخير والكرم على صفاتهما، أي: ما جمعه الغار من الخير والكرم الصادرين من النبي -صلى الله عليه وسلم- والصديق، وقال المصنف من خير بكسر الخاء، وقيل: بفتحها، فالكرم عطف خاص على عام، وقال غيره بفتح الخاء، وقيل: بكسرها والخطب سهل. "وكل طرف" بصر "من الكفار عنه" عن المحوى "عمى" والجملة حال من ما وعمى يحتمل الفعل والاسم، ويمكن الياء على الأول للوقف، وردها على الثاني له أيضا على لغة. "فالصدق" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 في الغار والصديق لم ير ما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعم عال من الأطم أي عموا عما في الغار مع خلق الله ذلك فيهم؛ لأنهم ظنوا أن الحمام لا يحوم حوله -صلى الله عليه وسلم- وأن العنكبوت لا تنسج عليه إسلام لما جرت العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا، فمهم أحسا بالإنسان فرا منه، وما علموا أن الله يسخر ما شاء عن خلقه لمن شاء من خلقه، وأن وقاية عبده بما شاء تغني   أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- مبالغة أوفذ والصدق وهو "في الغار الصديق" وهو فيه "لم ير ما" بكسر الراء: لم يبرحا، يقال: لا أريم مكانه، أي: لا أبرح وأصله يريما بياء قبل الميم حذفت تبعا لحذفها في إسناده إلى المفرد لالتقاء الساكنين، والمعروف في مثله إثبات الياء، نحو: استقيما. "وهم" أي: الكفار، "يقولون ما بالغار من أرم" بفتح الهمزة وكسر الراء، أي: أحد نظرا إلى حوم الحمام حول الغار ونسج العنكبوت على فمه، كما أشار إليه قوله: "ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية" الخلق "لم تنسج" بفتح التاء وكسر السين وضمها: العنكبوت، "ولم تحم" لم تدر الحمام حوله ففيه لف ونشر مقلوب، "وقاية الله" حفظه بهذين الضعيفين جدا من عدوه مع شدة بأسه، "أغنت" كفت "عن مضاعفة من الدروع" بمهملة، أي: من الدروع المضاعفة وهي المنسوجة حلقتين حلقتين تلبس للحفظ من العدو "وعن وعال من الأطم" بضم الهمزة والطاء: الحصون التي يتحصن فيها، "أي: عموا عما في الغار مع خلق الله ذلك" العمى المفهوم من قوله قبل فعميت عن دخوله، "فيهم" والمراد إن الله خلق في أعينهم هيئة منعتهم الرؤية مع سلامة أبصارهم، "لأنهم ظنوا أن الحمام لا تحوم حوله عليه السلام" لأن عادته النفرة "وأن العنكبوت لا تنسج عليه السلام لما جرت" به" العادة أن هذين الحيوانين متوحشان لا يألفان معمورا فهم أحسا بالإنسان فرا منه" وقد روي أن المشركين لما مروا على باب الغار طارت الحمامتان فنظروا بيضهما ونسج العنكبوت، فقالوا: لو كان هنا أحد لما كان هنا حمام، فلما سمع -صلى الله عليه وسلم- حديثهم علم أن الله حماهما بالحمام وصرف كيدهم بالعنكبوت، "وما علموا أن الله يسخر ما شاء من خلقه لمن شاء من خلقه" وقد سخر الأسد ولبوته ولدانيال في الجب حتى صارا يلحسانه، وسخر العصا ثعبانا لموسى وهارون إذا ناما تدور حولهما وتحميهما، ولكن ما هنا أبلغ في إذلال المشركين لما نالهم من شدة الحسرة لما علموا بعد ذلك وأنهم منعوا بشيء لا يضرهم لو أزالوه بزعمهم بخلاف الأسد والحية، "وأن وقاية الله عبده بما شاء تغني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع، وعن التحصن بالعالي من الأطم، وهي الحصون، فلله در الأبوصيري شاعرا، وما أحسن قوله في قصيدته اللامية حيث قال: وأغيرتا حين أضحى الغار وهو به ... كمثل قلبي معمور ومأهول كأنما المصطفى فيه وصاحبه الـ ... ـصديق ليثان قد آواهما غيل وجلل الغار نسج العنكبوت على ... وهن فيا حبذا نسج وتجليل عناية ضل كيد المشركين بها ... وما مكائدهم إلا الأضاليل إذ ينظرون وهم لا يبصرونهما ... كأن أبصارهم من زيغها حول وفي الصحيح عن أنس قال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لرآنا،   عبده عن التحصن بمضاعفة من الدروع وعن التحصن بالعالي من الأطم وهي الحصون، فلله در الأبوصيري من شاعر، وما أحسن قوله في قصيدته اللامية" التي أولها: لى متى أنت باللذات مشغول ... وأنت عن كل ما قدمت مسئول "حيث قال" في الجمع بين هذا وما قبله تسامح، "واغيرتا حين أضحى الغار وهو به" عبر بالندبة أسفا على ما فعله قومه معه حتى ألجئوه إلى دخول الغار، "مثل قلبي" صفة مصدر محذوف، أي: تعمير وتأهيل قلبي، "معمور ومأهول" والجملة خبر أضحى "كأنما المصطفى فيه وصاحبه الصديق ليثان" أسدان "قد آواهما غيل" بكسر المعجمة: أجمة أو شجر كثير ملتف فلا يستطاع الوصول إليهما، "وجلل" بجيم غطى "الغار نسج العنكبوت على وهن" ضعف "فيا حبذا نسج وتجليل" تغطية "عناية" بكسر العين وفتحاها مصدر عناه يعنيه ويعنوه، "ضل" من الضلالة ضد الرشاد، "كيد المشركين" مكرهم وخديعتهم "بها وما مكائدهم إلا الأضاليل" جمع أضليلة من الضلال، "إذ ينظرون" للحمام وبيضه ونسج العنكبوت "وهم لا يبصرونهما" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم وصاحبه، "كأن أبصارهم من زيغها حول" وهذا من بقاء بصرهم أبلغ من عماهم. "وفي" الحديث "الصحيح" الذي أخرجه البخاري في المناقب والهجرة والتفسير ومسلم في الفضائل، والترمذي في التفسير، والإمام أحمد كلهم "عن أنس" قال: "قال أبو بكر" وفي التفسير من البخاري: حدثنا أنس، قال: حدثني أبو بكر، قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في الغار، وزاد: في الهجرة فرفعت رأسي فرأيت أقدام القوم "لو أن أحدهم نظر إلى قدميه" بالتثنية "لرآنا" لأبصرنا، قال الحافظ: وفيه مجيء لو الشرطة للاستقبال خلافا للأكثر، واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها؛ كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وعلى هذا فيكون قاله حاله وقوفهم على الغار، وعلى قول الأكثر يكون قاله بعد مضيهم شكرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما". وروي أن أبا بكر قال: نظرت إلى قدمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وقد تقطرتا دما فاستبكيت وعلمت أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن تعود الحفا والجفوة.   لله تعالى على صيانتهما، "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما ظن" استفهام تعظيم، أي: أي ظن تظنه، أي: لا تظن إلا أعظم ظن "باثنين الله ثالثهما"، أي: جاعلهما ثلاثة بضم ذاته تعالى إليهما في المعية المعنوية المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، وهو من قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار، ومن لازم ذلك الظن أنه لا يصل إليهما سوء وذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال له -صلى الله عليه وسلم: "لو جاءونا من ههنا لذهبنا من ههنا"، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه. قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا. "وروي أن أبا بكر، قال: نظرت إلى قدمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الغار وقد تقطرتا دما" أي: سال دمهما، فدما تمييز محول عن الفاعل، أي: أثر حفاة في قدميه حتى أسال دمهما، "فاستبكيت" اسين زائدة للتأكيد لا للطلب لما علم من رقة قلبه وشدة حبه للمصطفى المقتضي لغلبة البكاء بلا استجلاب له، "وعلمت أنه" بحذف مفعول علمت، أي: أن ما أصابه إنما هو لما ناله من المشقة؛ لأنه "لم يكن تعود الحفى" بفتح المهملة مقصور المشي بلا خف ولا نعل، "والجفوة" بفتح الجيم وتكسر، أي: الجفاء، أي: لم يتعود كونه مجفوا أو لم يتعود أن قومه جفوة له، قال في الرياض النضرة: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وكان حافيا وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه رواية: فمشى رسول الله ولا يحتمل ذلك مشي ليلة إلا بتقدير ذلك أو سلوك غير الطريق تعمية على الطالب، انتهى. ويروى أنه عليه السلام خلع نعليه في الطريق، وعند ابن حبان أنهما ركبا حتى أتيا الغار فتواريا، ولا ينافي ذلك ما روي من تعب المصطفى وحمل أبي بكر إياه على كاهله؛ لاحتمال أن يكون ذلك في بعض الطريق، قال في الوفا: ولا ينافي ركوبهما مواعدتهما الدليل بأن يأتي بالراحلتين بعد ثلاث؛ لاحتمال أنهما ركبا غير الراحلتين أو هما، ثم ذهب بهما ابن فهيرة إلى الدليل ليأتي بعد ثلاث. وفي دلائل النبوة من مرسل ابن سيرين، وهو عند أبي القاسم البغوي من مرسل ابن أبي مليكة وابن هشام عن الحسن بلاغا: أن أبا بكر ليلة انطلق معه -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار كان يمشي بين يديه ساعة ومن خلفه ساعة، فسأله فقال: أذكر الطلب فأمشي خلفك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وروي أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وأنه رأى جحرا فيه، فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات والأفاعي تضربنه وتلسعنه، فجعلت دموعه تتحدر. وفي رواية: فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لك يا أبا بكر"؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده. رواه ابن رزين.   وأذكر الرصد فأمشي أمامك، فقال: "لو كان شيء أحببت أن تقتل دوني"، قال: أي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فاستبرأه. "وروي أيضا أن أبا بكر دخل الغار قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليقيه بنفسه، وإنه رأى جحرا" بضم الجيم وإسكان المهملة، "فيه فألقمه عقبه" بعد أن سد غيره بثوبه، فيروي أنه قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى جحرا قطع من ثوبه وألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع فبقي جحر فوضع عقبه عليه. وروي أن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي بكر: أنهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فألقمه أبو بكر رجليه، وقال: يا رسول الله! إن كانت لدغة أو لسعة كانت بي، وهو صريح في إلقامه رجليه جميعا فتحمل رواية عقبة على الجنس فتصدق بهما، وهي مبينة للمراد من رجليه؛ "لئلا يرج منه ما يؤذي رسول اله -صلى الله عليه وسلم" لاشتهاره بكونه مسكن الهوام، فدخل فرأى غارا مظلما فجلس وجعل يلتمس بيده كلما وجد جحرا أدخل فيه أصبعه حتى انتهى إلى جحر كبير فأدخل رجله إلى فخذه، كذا في البغوي. "فجعلت الحيات والأفاعي تضربنه وتلسعنه" عطف تفسير "فجعلت دموعه تنحدر" من ألم لسعها. "وفي رواية" عن عمر بن الخطاب، ثم قال -أي بعد استبرائه الغار لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: ادخل، فإني سويت لك مكانا، "فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجر أبي بكر" بكسر الحاء وسكون الجيم، "ونام فلدغ" بمهملة فمعجمة لذوات السموم وعكسه للذع النار "أبو بكر في رجله من الجحر ولم يتحرك" لئلا يوقظ المصطفى "فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: $"ما لك يا أبا بكر"؟ قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل" بالفوقية "عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب ما يجده، رواه ابن رزين" بفتح الراء وكسر الزاي ابن معاوية أبو الحسن العبدري السرقسطي الأندلسي المالكي مؤلف تجريد الصحاح جمع فيه الموطأ والصحيحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وروي أيضا: أن أبا بكر لما رأى القافة اشتد حزنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال إن قتلت أنا رجل ............   وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، قال ابن بشكوال: كان صالحا فاضلا عالما بالحديث وغيره، جاور بمكة أعواما وبها مات سنة خمس وعشرين، وقيل: خمس وثلاثين وخمسمائة. وفي الرياض النضرة: فلما أصبحا رأى على أبي بكر أثر الورم فسأله، فقال: من لدغة الحية، فقال: "هلا أخبرتني"، قال: كرهت أن أوقظك، فمسحه فذهب ما به من الورم. ولأبي نعيم عن أنس: فلما أصبح قال لأبي بكر: "أين ثوبك"، فأخبره بالذي صنع فرفع -صلى الله عليه وسلم- يديه، وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة"، فأوحى الله إليه قد استجبنا لك. وعن ابن عباس، فقاله -صلى الله عليه وسلم: "رحمك الله صدقتني حين كذبني الناس، ونصرتني حين خذلني الناس، وآمنت بي حين كفر بي الناس، وآنستني في وحشتي"، والظاهر كما قال شيخنا أنه كان عليه غير ثوبه مما يستر جميع البدن إذ لم ينقل طلبه لغيره ممن كان يأتي لهما بالغار كابنه وابن فهيرة. وروي ابن مردويه عن جندب بن سفيان، قال: لما انطلق أبو بكر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الغار، قال: يا رسول الله! لا تدخل الغار حتى أستبرئه لقطع الشبهة عني، فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعيه، ويقول: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت وذكر الواقدي وابن هشام: إن ذا البيت للوليد بن المغيرة الصحابي لما رجع في صلح الحديبية إلى المدينة وعثر بحرتها، فانقطعت أصبعه. وروى ابن أبي الدنيا: إن جعفرا لما قتل بمؤتة دعا الناس بعبد الله بن رواحة فأقبل فأصيب أصبعه، فارتجز يقول: هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت يا نفس ألا تقلتي تموتي ... هذا حياض الموت قد صليت وما تمنيه فقد لقيت ... أن تفعلي فعلهما هديت وروى الشيخان وغيرهما عن جندب: بينما نحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت.. البيت والذي يظهر أنه من إنشاء الصديق وأن كلا من المصطفى والوليد تمثل به والممتنع على النبي عليه السلام إنشاء الشعر لا إنشاده وضمنه ابن رواحة شعره المذكور. "وروي أيضا أن أبا بكر لما رأى القافة" أتوا على ثور وطلعوا فوقه، كما في رواية "اشتد حزنه" وبكى وأقبل عليه الهم والخوف والحزن، "على رسول الله -صلى الله علي وسلم، وقال: إن قتلت أنا رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، فعندها قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا"، يعني بالمعونة والنصر، فأنزل الله سكينته -وهي أمنة تكن عندها القلوب- على أبي بكر لأنه كان منزعجا، وايده -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنود لم تروها يعني الملائكة ليحرسوه في الغار، وليصرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته. انظر، لما رأى الرسول حزن الصديق قد اشتد لكن لا على نفسه، قوي قلبه ببشارة "لا تحزن إن الله معنا" وكان تحفة "ثاني اثنين" مدخرة له دون الجميع، فهو   واجد" لا تهلك الأمة بقتلي فلا تفوتهم نفع ولا يلحقهم ضرر، "وإن قتلت أنت هلكت الأمة" بهلاك الدين "فعندها" وبعد فراغه من الصلاة "قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" فروى عن الحسن البصري: جاءت قريش يطلبون النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال: هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال: "لا تحزن إن الله معنا". "يعني بالمعونة والنصر" فالمراد المعنوية لاستحالة الحسية في حقه تعالى لا بالعلم فقط؛ إذ لا يختص بهما وهو معكم أينما كنتم، "فأنزل الله سكينته" عليه "وهي" أي السكينة، "أمنة" بفتحتين، أي: حالة للنفس، "تكن عندها القلوب" لا منها مما تكرهه "على أبي بكر" فالضمير في الآية عائد على صاحبه في قول الأكثر، قال البيضاوي: وهو الأظهر "لأنه كان منزعجا" لا على النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم تزل السكينة معه، قال ابن عباس كما رواه ابن مردويه والبيهقي وغيرهما. "وأيده -يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- بجنود لم تروها -يعني الملائكة- ليحرسوه في الغار، وليصروا وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته" عطف سبب على مسبب، أي: ليحرسوه بصرف وجوههم عنه. وفي نسخ بأو يعني أن القصد أحد الأمرين وإن لزم أولهما للثاني، وقيل: معناه لقوا العرب في قلوب الكفار حتى رجعوا، حكاهما البغوي مصدرا بما اقتصر عليه المصنف. "انظر" تأمل بعين البصيرة في أمر المصطفى وشفقته على الصديق "لما رأى" علم "الرسول حزن الصديق" مفعول رأي الأول والثاني، "قد اشتد" ويجوز أنها بصرية مجازا؛ لأنه لما رأى ما علاه من الكآبة نزل الحزن القائم به منزلة المبصر حتى جعله مرئيا عليه، فالجملة حال. "لكن لا على نفسه قوي" الرسول عليه السلام "قلبه ببشارة لا تحزن إن الله معنا، وكانت تحفة" بفتح الحاء وتسكن، ما أتحفت به غيرك؛ كما في المصباح بمعنى الإتحاف، أي: كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الثاني في الإسلام والثاني في بذل النفس والعمر وسبب الموت لما وقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بماله ونفسه جوزي بمواراته معه في رمسه، وقام مؤذن التشريف ينادي على منائر الأمصار "ثاني اثنين إذ هما في الغار" ولقد أحسن حسان حيث قال: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من الخلائق لم يعدل به بدلا وتأمل قول موسى لبني إسرائيل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- للصديق: "إن الله معنا" .....   إتحاف المصطفى لأبي بكر بكونه "ثاني اثنين مدخرة له دون الجميع" أي: جميع الصحابة، "فهو الثاني" من الرجال "في الإسلام والثاني في بذل النفس والعمر وسبب الموت" عطف تفسير، والمراد أنه لما جعل نفسه وقاية له كأنه بذل نفسه وعمره حفظا عليه السلام، "لما وقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بماله ونفسه" مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: ما كان جزاؤه فيما فعل؟ فقيل: "جوزي بمواراته معه في رمسه وقام مؤذن التشريف ينادي على منائر الأمصار" جمع منارة بفتح الميم، والقياس كسرها لأنها آلة، "ثاني اثنين إذ هما في الغار، ولقد أحسن حسان، حيث قال": يمدحه "وثاني اثنين في الغار المنيف" الزائد في الشرف على غيره بدخول أفضل الخلق فيه وإقامته به هو وصاحبه، "وقد طاف العدو به إذ" لمجرد الوقت "صاعد" بالألف لعله بمعنى صعد بالتشديد، لكن لم يذكر الجوهري والمجد ولا المصباح صاعد "الجبلا" نصب بنزع الخافض والألف للإطاق، والمعنى: إذ ارتقى العدو على الجبل، "وكان" الصديق "حب" بكسر الحاء محبوب "رسول الله قد علموا" أي عامة الناس العارفين بحال المصطفى والصديق مسلما أو غيره، "من الخلائق" متعلق بيعدل من قوله: "لم يعدل به بدلا" وأنشد الشامي رجلا، والتقدير: علم كل أحد أنه عليه السلام لم يعدل بأبي بكر أحد، أي: لم ينزل أحدا منزلته بحيث يجعله قائما مقامه. وروى ابن عدي وابن عساكر عن أنس: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "هل قلت في أبي بكر شيئا"؟ قال: نعم، قال: "قل، وأنا أسمع"، فقال: وثاني اثنين.. إلخ، فضحك -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "صدقت يا حسان، هو كما قلت". فصريح هذا أنه قالهما في حياته. وفي ينبوع الحياة الذي أعرف أنهما من أبيات رثى بها حسان أبا بكر، فهذا يخالف ذاك إذ الرثاء تعداد المحاسن بعد الموت وجمع باحتمال أنه مدحه بهما في حياته، ثم أدخلهما في مرئيته بعد وفاته. "وتأمل" عطف على انظر "قول موسى لبني إسرائيل: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ، وقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- للصديق: "إن الله معنا"، قدم المسند إليه للإشارة إلى أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 فموسى خص بشهود المعية ولم يتعد إلى أتباعه، ونبينا تعدى منه إلى الصديق، ولم يقل "معي" لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة إلى أبي بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلي والشهود، وأين معية الربوبية في قصة موسى عليه السلام من معية الإلهية في قصة نبينا -صلى الله عليه وسلم، قاله العارف شمس الدين بن اللبان. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين، مرة على داود حين كان طالوت يطلبه، ......   لا يزول عن الخاطر لشدة التعلق به أو لأنه يستلذ به لكونه محبوبا للعباد إذ لا انفكاك لأحد عن الاحتياج إليه أو لتعظيمه بوصفه بالألوهية لأن سائر صفات الكمال تتفرع عليه، "فموسى خص" من ربه "بشهود المعية" له وحده "ولم يتعد" ذلك الشهود "إلى أتباعه ونبينا تعدى منه" شهوده" إلى الصديق" ولهذا "لم يقل معي لأنه أمد أبا بكر بنوره فشهد سر المعية، ومن ثم سرى سر السكينة إلى أبي بكر، وإلا لم يثبت تحت أعباء هذا التجلي والشهود" إذ ليس في طوق البشر إلا بذلك الإمداد "وأين" استفهام تعجب وتعظيم للفرق بين المقامين، "معية الربوبية في قصة موسى عليه السلام" حيث قال: إن معي ربي والرب من التربية وهي التنمية والإصلاح، "من معية الإلاهية في قصة نبينا -صلى الله عليه وسلم" حيث عبر بالاسم الجامع لصفات الكمال، "قاله العارف شمس الدين بن اللبان" محمد بن أحمد الدمشقي، ثم المصري الشافعي الفقيه الأصولي النحوي الأديب الشاعر قدم مصر من دمشق، فأكرمه ابن الرفعة إكراما كثيرا، اختصر الروضة ورتب الأم، مات بالطاعون في شوال سنة تسع وأربعين وسبعمائة، هذا وما نقله الشارح عن شرح الهمزية هو معنى ما نقله المصنف عن ابن اللبان. "وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة" الخراساني صدوق يهم ويرسل كثيرا روى له مسلم والأربعة ولم يصح أن البخاري أخرج له كما زعم المزي، مات سنة خمس وثلاثين ومائة. "قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود" عليه السلام "حين كان طالوت" بن قيس من ذرية بنيامين شقيق يوسف عليه السلام، يقال إنه كان سقاء، ويقال: كان دباغا، "يطلبه" لأن داود لما قتل جالوت رأس الجبارين وكان طالوت وعد من قتله أن يزوجه ابنته ويقاسمه الملك، فوفى طالوت لداود قتله، وعظم قدر داود في بني إسرائيل حتى استقل بالمملكة فتغيرت نية طالوت لداود وهم بقتله، فلم يتفق له ذلك، ثم رآه في برية، فقال: اليوم أقتله، ففر منه ووجد مغرة فتوارى بها، فنسجت العنكبوت عليه فمر به طالوت فلم يره فتاب وانخلع من الملك وخرج مجاهدا هو ومن معه من ولده حتى ماتوا كلهم شهداء، وكانت مدة ملك طالوت أربعين سنة، وانتقل ملكه إلى داود واجتمعت عليه بنو إسرائيل ولم تجتمع على ملك واحد إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ومرة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار. وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس لما بعثه -صلى الله عليه وسلم- لقتل خالد بن نبيح الهذلي بعرنة، فقتله ثم حمل رأسه ودخل في غار فنسجت عليه العنكبوت، فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين. وفي تاريخ ابن عساكر: أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما صلب عريانا في سنة إحدى وعشرين ومائة.   عليه ومدة ملكه سبع سنين في قصة طويلة مذكورة في المبتدأ لابن إسحاق، كما في فتح الباري. "ومرة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار" لأن كل كرامة ومعجزة أوتيها نبي لا بد وأن يكون للمصطفى مثلا أو نظيرها أو أجل، فنسج عليه العنكبوت كداود وتعدى إلى بعض أصحابه وذريته، كما قال: "وكذا نسجت على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس" بن أسعد الجهني الأنصاري السلمي "لما بعثه -صلى الله عليه وسلم- لقتل خالد" بن سفيان "بن نبيح" بضم النون وفتح الموحدة وإسكان التحتية وحاء مهملة، "الهذلي" فنسبه المصنف لجده بناء على قول ابن إسحاق: أن البعث لخالد بن سفيان بن نبيح، وذكر ابن سعد نه سفيان بن خالد بن نبيح، وتبعه المصنف فيما يأتي واليعمري وغيرهما؛ لأنه كان يجمع الجموع للنبي -صلى الله عليه وسلم. "بعرنة" بالنون وادي عرفة "فقتله ثم حمل رأسه ودخل في غار، فنسجت عليه العنكبوت فجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين" ثم سار بالرأس فلما رآه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أفلح الوجه"، قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه وأخبره الخبر فدفع -صلى الله عليه وسلم- إليه عصا كانت بيده، وقال: "تحضر بهذه في الجنة"، فلما حضره الموت أوصى أهله أن يجعلوها في كفنه، ففعلوا "وفي تاريخ ابن عساكر أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" رضي الله عنهم أبي الحسين المدني الثقة، ولد سنة ثمانين وروى عن أبيه وجماعة، وأخرج له أصحاب السنن. "لما صلب عريانا" أربع سنين كما في تاريخ ابن عساكر وبه جزم غير واحد، وقيل: خمس سنين، وكان قد بايعه خلق كثير من أهل الكوفة، وقالوا: تتبرأ من أبي بكر وعمر فأبى، فقالوا: نرفضك فسموا الرافضة، وقالت طائفة: نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما فسموا الزيدية فخرجوا معه وحارب متولي العراق لهشام بن عبد الملك وهو يوسف بن عمر ابن عم الحجاج الثقفي فظفر به يوسف فقتله وصلبه ووجهوه لغير القبلة، فاستدارت خشبته إلى القبلة، ثم أحرقوا جسده وخشبته وذري رماده في الرياح على شاطئ الفرات وكان قتله وصلبه "في" صفر "سنة إحدى وعشرين ومائة" فيما قاله سعيد بن عفير وأبو بكر بن أبي شيبة وخليفة وآخرون قائلين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وكان مكثه -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الغار ثلاث ليال، وقيل بضعة عشر يوما. والأول هو المشهور. وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي ثابت المعرفة بما يحتاج إليه لقن- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت معهم، فلا يسمع بأمر يكادان به .........   وبقي مصلوبا إلى سنة ست وعشرين، وقال ابن سعد: ومصعب في ثاني صفر سنة عشرين، وقال الليث بن سعد وهشام الكلبي والهيثم بن عدي والزبير بن بكار وآخرون، قتل يوم الاثنين ليومين مضيا من صفر سنة اثنين وعشرين ومائة، وقال ابن عساكر: صلب في سنة ست وعشرين، قال البرهان: وعليه يكون في خلافة الوليد بن يزيد؛ لأن هشاما مات سنة خمس وعشرين ومائة. "وكان مكثه -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر في الغار ثلاث ليال" كما في الصحيح: فكمنا فيه ثلاث ليال، "وقيل: بضعة عشر يوما" رواه أحمد والحاكم عن طلحة البصري مرسلا، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "لبثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما، ما لنا طعام إلا طعام البرير". "والأول هو المشهور" كما قال ابن عبد البر وغيره، وجمع الحاكم بأنهما كمنا في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، لكن قال الحافظ: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حال الهجرة لما في الصحيح كما تراه من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقي الراعي ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصة أخرى، انتهى. "وكان يبيت عندهما" في الغار "عبد الله بن أبي بكر" الصديق أصابه سهم في غزوة الطائف فاندمل جرحه ثم نقض بعد ذلك فمات في خلافة أبيه، قال الحافظ: وفي نسخة من البخاري عبد الرحمن وهو وهم. "وهو غلام شاب ثقف" بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز سكانها وفتحها، كما قال الحافظ، وتبعه المصنف وجوز البرهان ضمها وأسقطه الفتح، وبعدها فاء" أي" حاذق "ثابت المعرفة بما يحتاج إليه" تفسير من المصنف زائد على الحديث وهو من الفتح، وما ألطف قوله في مقدمته، أي: فطن وزنا ومعنى "لقن" بفتح اللام وكسر القاف وتسكن؛ كما في النور: فنون، أي: سريع الفهم، "فيدلج" بضم الياء وسكون الدال، ولأبي ذر بشد الدال بعدها جيم؛ كما قال المصنف، واقتصر الحافظ وتبعه الشامي على رواية أبي ذر، أي: يخرج "من عندهما بسحر" إلى مكة "فيصبح مع قريش بمكة كبائت" لشدة رجوعه بغلس يظنه من لا يعرف حقيقة أمره مثل البائت، "فلا يسمع بأمر يكادان به" بضم التحتية فكاف فألف، رواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام. ويرعى عليهما عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل، وهو لبن منحتهما، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث. واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، عبد الله بن أريقط ............   الكشميهني ولغيره: يكتاد أنه بفتح أوله وفوقيه بعد الكاف، أي: يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد، "إلا وعاه" حفظه "حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة" بضم الفاء مصغر "مولى أبي بكر" من السابقين الأولين، ذكر ابن عقبة عن ابن شهاب: أن أبا بكر اشتراه من الطفيل بن سخبرة فأسلم فأعتقه وهو مخالف لما رواه الطبراني عن عروة أنه كان ممن يعذب في الله فاشتراه أبو بكر فأعتقه، اشتهد ببئر معونة. "منحة" بكسر الميم وسكون النون وفتح المهملة: شاة تحلب إناء بالغداة وإناء بالعشي، قال الحافظ: وتطلق أيضا على كل شاة، "من غنم" ذكر ابن عقبة عن الزهري أنها كانت لأبي بكر فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان ثم يسرح بكرة، فيصبح في رعيان الناس فلا يفطن له. "فيريحها" بضم أوله، أي: يردها. قال المصنف: أي الشاة أو الغنم، "عليهما حين تذهب ساعة من العشاء" فيحلبان ويشربان "فيبيتان في رسل" بكسر الراء وسكون المهملة: لبن طري، "وهو لبن منحتهما" أسقط من الرواية: ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس. رضيف بفتح الراء وكسر المعجمة بزنة رغيف لبن فيه حجارة محماة بالشمس أو النار، لينعقد وتزول رخاوته وهو بالرفع ويجوز الجر. وينعق بكسر المهملة يصيح بغنمة ويزجرها. وفي رواية بهما بالتثنية، أي: يسمع المصطفى والصديق صوته إذا زجر غنمه. "يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث" ولابن عقبة عن ابن شهاب: وكان عامر أمينا مؤتمنا حسن الإسلام وفي رواية: وكانت أسماء تأتيهما من مكة إذا أمست بما يصلحهما من الطعام. وعند ابن إسحاق: فإذا أمسى عامر أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما تبع عامر أثره بالغنم حتى يعفي أثره وخرج معهما حتى قدم المدينة، ولا ينافي بيات ابن الصديق عندهما وتردد عامر وأسماء نسج العنكبوت على فم الغار؛ لأنه خارق فيجوز عدم نسج العنكبوت أو تكرّر النسج كل يوم أو غير ذلك. "واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر" قبل خروجهما من مكة، بدليل: وغداة الغار، قال في الصحيح: رجلا من بني الدبل وبينه ابن عقبة وابن سعد، فقالا: استأجر "عبد الله بن أريقط" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 دليلا -وهو على دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام- فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل، ...........   بالقاف والطاء مصغر وسماه ابن إسحاق في رواية ابن هشام: عبد الله بن أرقد، وفي رواية الأموي عنه: أريقد، بالدال بدل الطاء وبالطاء أشهر، وقال مالك في العيبة: اسمه رقيط، والديل بكسر الدال وسكون التحتية، وقيل: بضم أوله وكسر ثانيه مهموز، ذكره في الفتح. "دليلا" حال منتظرة أو ليكون دليلا "وهو" أي: الرجل الذي استأجره، "على دين كفار قريش" من عبدة الأوثان لا من أهل الكتاب ومع ذلك سخره الله ليقضي أمره، وهذا من جملة الرواية. "ولم يعرف له إسلام" هكذا جزم به الحافظ عبد الغني المقدسي في سيرته وتبعه النووي، وقال السهيلي: لم يكن إذ ذاك مسلما ولا وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ولا يعترض بأن الواقدي ذكر أنه أسلم؛ لأنه قيد بصحيح وضعّف الواقدي معلوم خصوصا مع الانفراد وكأنه سلف الذهبي في عده صحابيا، وقد قال في الإصابة: لم أر من ذكره في الصحابة إلا الذهبي في التجريد ووصفه في الرواية بأنه كان هاديا ضريتا، أي: ساديا للطريق، قال: والخريت، أي: بكسر الخاء المعجمة والراء الثقيلة وتحتية ساكنة ففوقية: الماهر بالهداية، أي: هداية الطريق، وهذا التفسير مدرج من كلام الزهري، كما بينه ابن سعد. قال الأصمعي: سمي خريتا لأنه يهتدي بمثل خرت الإبرة، أي: ثقبها. وقال غيره: لاهتدائه لآخرات المفازة وهي طرقها الخفية، قال في الرواية: فأمناه، بفتح الهمزة مقصورة كسر الميم، أي: ائتمناه، "فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه" بمعنى التواعد، وهو الذي في البخاري بلفظ: ووعداه، "غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث" وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيريهما، "وانطلق معهما عامر بن فهيرة" زاد ابن عقبة: يخدمهما ويعينهما يردفه أبو بكر ويعقبه ليس معهما غيره، "والدليل: فأخذ بهم طريق السواحل" بسين وحاء مهملتين، أسفل عسفان. وفي رواية ابن عقبة: فأجازهما أسفل مكة ثم مضى بهما حتى جاء بهما الساحل أسفل من عسفان، ثم أجارهما حتى عارض الطريق، وقد بين الزبير بن بكار من حديث عائشة، وابن عائذ من حديث ابن عباس سيرهما منزلة منزلة إلى قبا، ثم فصل المصنف حديث الصحيح بذكره قصة أم معبد، وسنذكر منه بقية في خبر سراقة، وقد مروا قبل ذلك كما في الصحيح بصخرة فنام المصطفى في ظلها، ورأى أبو بكر راعيا معه غنم فاستحلبه فحلب له منها فبرده أبو بكر حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 فمروا بقديد علي أم معبد -عاتكة بنت خالد الخزاعية- وكانت برزة جلدة، تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم. وكان القوم مرملين مسنتين، فطلبوا لبنا أو لحما يشترونه منها، فلم يجدوا عندها شيئا، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة، خلفها الجهد عن الغنم، فسألها رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل بها لبن"؟ فقال: هي أجهد من ذلك، ..........   قام -صلى الله عليه وسلم- فسقاه ثم ارتحلوا، "فمروا" كما رواه الحاكم وصححه البيهقي وصاحب الغيلانيات ومن طريقه اليعمري عن أبي سليط الأنصاري البدري، وابن عبد البر وابن شاهين وابن السكن والطبراني وغيرهم، عن أخي أم معبد حبيش صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالا: لما خرج -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة ومعه أبو بكر وابن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق مروا "بقديد" بضم القاف وفتح الدال الأولى إسكان التحتية: موضع معروف، "على أم معبد" بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الموحدة ودال مهملة "عاتكة" بكسر الفوقية وبالكاف "بنت خالد" ابن خليد مصغر آخره دال مهملة كما صدر به ابن الأثير في الجامع، وقيل: ابن خليف، بفاء بدل الدال مصغر وقيل: ابن منقذ بضم الميم وسكون النون وكسر القاف وذال معجمة وقال الطبراني: عاتكة بنت خليف، وقال: بنت خالد بن منقذ. وفي ثقات ابن حبان: أم معبد بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس. وفي الإكمال: عاتكة بنت خليفة بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حزام بن حبشية، زاد السهيلي: ابن كعب بن عمرو الكعبية. "الخزاعية" بضم الخاء والزاي المنقوطتين ومهملة، صحابية خرج لها أبو يعلى الموصلي وروى ابن السكن حديث نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها من حديثها نفسها من رواية أخيها حبيش عنها. "وكانت برزة" كضخمة عفيفة جليلة مسنة أو غيرها، وقيل: هي المسنة التي برزت فلم تنخدر لسنها وخرجت عن حد المحجوبات، حكاهما ابن المنير وغيره. "جلدة" قوية أو عانية "تحتبي" تجلس "بفناء القبة" الخيمة والفناء سعة أمام البيت أو ما امتد من جوانبه، "ثم تسقي وتطعم" من يمر بها "وكان القوم مرملين مسنتين" بكسر النون والمثناة الفوقية، أي: أصابتهم السنة، "فطلبوا بنا أو لحما" وعند أبي عمر: سألوها لحما وتمرا فكأنهم طلبوا ما تيسر من الثلاثة، "يشترونه منها فلم يجدوا عندها شيئا" وقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزناكم القرى؛ كما في الرواية، أي: أحوجناكم، "فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى شاة في كسر الخيمة خلفها" بشد اللام "الجهد" بفتح الجيم، وضمها، أي: الهزال، "عن الغنم فسألها -صلى الله عليه وسلم: "هل بها من لبن"؟ فقالت: هي أجهد من ذلك" تريد أنها لضعفها وعدم طروق الفحل لها دون من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فقال: "أتأذنين لي أن حلها"؟ فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بالشاة فاعتقلها ومسح ضرعها، وسمى الله، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء يربض الرهط -أي يشبع الجماعة حتى يربضوا- فحلب فيه ثجا وسقى القوم حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيه مرة أخرى علا بعد نهل، ثم غادره عندما وذهبوا. فلما لبث أن جاء أبو معبد زوجها ...........   لهما لبن، فكأنها قالت: هي على صفة دون المسئول عنه، "فقال: "أتأذنين لي أن أحلبها"؟ بضم اللام وكسرها؛ كما في القاموس. "فقالت: نعم، بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا" بفتح اللام وسكونها، أي: لبنا في الضرع، "فاحلبها، فدعا بالشاة" طلبها أن تأتي إليه، فالباء زائدة فيكون معجزة، لكن في رواية: فبعث معبدا وكان صغيرا، فقال: "ادع هذه الشاة"، ثم قال: "يا غلام هات" فأحضرها إليه "فاعتقلها" أي: وضع رجلها بين ساقه وفخذه ليحلبها، "ومسح ضرعها" زاد في رواية: وظهرها "وسمى الله" زاد في رواية: ودعا لها في شاتها، "فتفاجت ودرت ودعا بإناء يربض الرهط" أي: طلب إناء موصوفا بذلك، كما يفيده العيون، لا أنه طلب مطلق إناء فأحضر بتلك الصفة، وفسره فقال: "أي: يشبع الجماعة حتى يربضوا" بكسر الموحدة "فحلب فيه ثجا" بمثلثة وجيم حلبا قويا "وسقى القوم" بعد أن سقى أم معبد حتى رويت؛ كما في رواية. "حتى رووا ثم شرب آخرهم" وقال: "ساقي القوم آخرهم شربا"، "ثم حلب فيه مرة أخرى" فشربوا "علا" بفتح المهملة واللام والأولى "بعد نهل" بفتح النون والهاء وتسكن ولام، أي: شربا ثانيا بعد الأول، "ثم" حلب فيه آخر و"غادره" بغين معجمة: تركه، "عندها" زاد في رواية: قال لها: "ارفعي هذا لأبي معبد إذا جاءك"، ثم ركبوا "وذهبوا، فلما لبث" أي: ما لبث إلا قليلا "أن جاء أبو معبد زوجها" وهذا كله صريح في أنها لم تذبح لهم. ووقع في بعض الروايات عن أم معبد، قالت: طلع علينا أربعة على راحلتين فنزلوا بي، فجئت رسول الله بشاة أريد ذبحها فإذا هي ذات در، فأدنيتها منه فلمس ضرعها، وقال: "لا تذبحها"، وجئت بأخرى وذبحتها وطبختها فأكل هو وأصحابه وملأت سفرتهم منها، ما وسعت، وبقي عندنا لحمها أو أكثر، وبقيت الشاة التي مس ضرعها إلى زمن عمر، فإن صحت مع أنه لم يكن عندها إلا شاة واحدة، فيحتمل أنها لما أتته بها وشاهدت فيها الآية البينة تسلفت من جيرانها التي ذبحت إكراما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 قال السهيلي: ولا يعرف اسمه، وقال العسكري: اسمه أكثر بن أبي الجون، ويقال: ابن الجون يسوق أعنزا عجافا، يتساوكن هزلا، مخهن قليل. فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب حيال، ولا حلوب بالبيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا. فقال: صفيه يا أم معبد. فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة. مبلج الوجه حسن الخلق، ...........   للمعجزة الظاهرة فشاهدت فيها آية أخرى، والله أعلم. "قال السهيلي: ولا يعرف اسمه، وقال العسكري": الحافظ الإمام أبو الحسن علي بن سعيد بن عبد الله نزيل الري صنف وجمع، ومات سنة خمس وثلاثمائة، "اسمه أكثر" بفتح الهمزة والمثلثة "ابن أبي الجون" بفتح الجيم وبالنون، قال السهيلي: له رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوفي في حياته، وقال الذهبي: قيل اسمه حبيش. وقيل: أكثم، قديم الوفاة. "ويقال: ابن الجون" بإسقاط أبي حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالمعجمة على الأصح. وقيل: بمعجمة مضمومة ونون مفتوحة وسين مهملة، وفي الإصابة أبو معبد الخزاعي ذكره ابن الأثير، وقال: تقدم في حبيش، والمتقدم إنما وصف بأنه أخو أم معبد، وأما زوجها فلم يسم وترجم ابن منده لمعبد بن أبي معبد ولم يسم أباه، وأخرج البخاري في التاريخ وابن خزيمة والبغوي قصة أم معبد من طريق الحر بن الصباح النخفي عن أبي معبد الخزاعي، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر وأبو بكر وعمر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمة أم معبد.. الحديث، وفي آخره عند البغوي، قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت. قال البخاري: هذا مرسل، فأبو معبد مات قبل النبي -صلى الله عليه وسلم. "يسوق أعنزا عجافا" بكسر المهملة جمع عجفاء، وهي المهزولة. "يتساوكن هزلا" بضم الهاء وسكون الزاي "مخهن قليل" بخاء معجمة، أي: الودك الذي في العظم. وسقط في نسخ لأنه مساو لعجاف، "فلما رأى اللبن أبو معبد عجب، وقال: ما هذا يا أم معبد؟ أنى لك هذا والشاة عازب" بمهملة فألف فزاي فموحدة "حيال" بكسر المهملة وتحتية "ولا حلوب بالبيت" أي: ليس فيه ذات لبن تحلب؛ كما في المصباح. فليس للمبالغة، "فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا" أي: رأى الشاة ودعا لها، فحكت له القصة، فهي مركبة من كاف التشبيه وذا الأشاربة كنى بها عن غير عدد على أحد أوجهها، "فقال: صفية" يا أم معبد! فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة" بفتح الواو وضاد معجمة ومد: الحسن والبهجة، "مبلج الوجه" مشرقة "حسن الخلق" بضم الخاء واللام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل، أزج أرقن، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم طوال تحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، ..........   عرفت ذلك من حاله مع رفقته، أو بفتح فسكون تأكيدا لما علم من أوصافها، والظاهر الأول. "لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة" لعدم وجودهما فيه، وهو "وسيم قسيم" عطف مرادف إذ معناهما الحسن كما يجيء، "في عينيه دعج" بفتح الدال والعين المهملتين وجيم، "وفي أشفاره وطف" بفتح الواو والطاء المهملة وبالفاء، ويروي غطف بغين معجمة بدل الواو، ورجحها الحافظ عبد الغني المقدسي والقطب الحلبي ومعناهما طول، ويروي بعين مهملة، ويأتي بيانه. "وفي صوته صحل" بفتح المهملتين ولام "أحور، أكحل، أزج" بفتح الهمزة والزاي وشد الجيم بصوف به الرجل والحاجب في المدح، "أقرن" مثله في حديث علي، وهو مخالف لما في حديث هند بن أبي هالة: أزج الحواجب سوابغ من غير قرن. قال ابن الأثير: وهو الصحيح، وقال غيره: إنه المشهور وإن قول راويه وكان هند وصافا رد لما خالفه، وأجيب بأن بينهما شعرا خفيفا جدا يظهر إذا وقع عليه الغبار في نحو سفر، وحديث أم معبد سفري، وبغير ذلك. "شديد سواد الشعر، في عنقه سطع" طول "وفي لحيته كثاثة" بمثلثتين، "إذا صمت" بفتح الميم "فعلية الوقار" بفتح الواو: الحلم والرزانة، "وإذا تكلم سما وعلاه البهاء وكأنه منطقه خرزات نظم طوال يتحدرن" لعل وجه التشبيه التناسق بين كلماته وشدة اتصال بعضها ببعض، فأشبهت في تناسقها الكلمات، وفي تواليها الخرزات إذا تتابعت، "حلو المنطق" الحلو في المطعوم مستلذ، فاستعير لما يعجب السامع ويستلذ بماعه، "فصل" بفاء فصاد ساكنة بين الحق والباطل أو بين قاطع للشك لا لبس فيه، أو ذو فصل بين أجزائه؛ كقول عائشة: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا. "لا نزر ولا هذر، أجهر الناس" أرفعهم صوتا إذا تكلم من بعد "وأجمله" أحسنه، "من بعيد" يعني أن علو صوته لا ينقصه بل يزيد معه حسنا وكمالا، وهذا على ما في نسخ المصنف والذي في الشفاء: أجمل الناس من بعيد، ولغيره: أجمل الناس وأبهاه من الجمال الذي هو الحسن وجعل الجمال من بعيد؛ لأنه يحقق للناظر النظر فيه لمهابته بحيث لا يطيل القريب منه النظر له إلا الصغير أو المحرم أو الأعراب، فإذا فعل ذلك أدرك فوق الجمال مرتبة أخرى؛ كما قيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذ أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند. فقال: هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته. قالت أسماء بنت أبي بكر: لما خفي علينا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك؟ فقلت: والله لا أدري أين ............   يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا وإليه أشار قولها: "وأحلاه" من حلا بعينه وقلبه إذا أعجبه واستحسنه، فالعطف تفسيري في قولها: "وأحسنه من قريب" بإفراد الضمير فيها حملا على لفظ الناس، أو على الجنس، كأنها قالت: أحلى وأحسن هذا الجنس أو لسد واحد مسدهم، كما في التسهيل. ومثله في شرحه بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} [المؤمنون: 21] ؛ لأن النعم تسد مسد الأنعام. "ربعة لا تشنؤه" بمعجمة ونون وهمزة مضمومة فهاء الضمير، "من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن" أي: كغصن "بين غصنين" تعني الصديق ومولاه؛ لأنهما المقصودان له بالصحبة، والدليل كان على دينه فلم تعنه، "فهو أنضر" بضاد معجمة "الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون" بضم الحاء: يطوفون "به" ويستدبرون حوله "إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفود" أي: مخدوم، "محشود" أي: عنده قوم، "لا عابس ولا مفند" بكسر النون: كثير اللوم، كما يأتي. "فقال" أبو معبد: "هذا والله صاحب قريش، لو رأيته لاتبعته" ولأجتهدن أن أفعل. وفي رواية: ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. وفي الوفاء: فهاجرت هي وزوجها وأسلما. وفي خلاصة الوفاء: فخرج أبو معبد في أثرهم ليسلم، فيقال: أدركهم بطن ريم فبايعه وانصرف. وفي شرح السنة للبغوي: هاجرت هي وزوجها وأسلم أخوها حبيش واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك. "قالت أسماء بنت أبي بكر" فيما رواه في الغيلانيات من طريق ابن إسحاق، قال: حدثت عن أسماء فهو منقطع، لكن رواه الحافظ أبو الفتح اليعمري متصلا، من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء، قالت: "لما خفي علينا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فخرجت إليهم فقال: أين أبوك؟ " يابنة أبي بكر "فقلت: والله لا أدري أين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة خرج منها قرطي، ثم انصرفوا. ولما لم ندر أين توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أتى رجل من الجن يسمعون صوته ولا يرونه، وهو ينشد هذه الأبيات: جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد فيما لقصي ما زوى .........   أبي قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدي لطمة" واحدة "خرج منها" أي: بسبب اللطمة. وفي رواية: خرم. وفي أخرى: طرح منها "قرطي" بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة: نوع من حلي الأذن معروف، "ثم انصرفوا" قالت: "ولما لم ندر أين توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى رجل" بعد ثلاث ليال، كما في رواية الغيلانيات. وفي رواية اليعمري: فلبثنا أياما ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليال لا ندري أين وجه، ولا يأتينا عنه خبر، حتى أقبل رجل "من الجن" من مؤمنيهم ولا أعرف اسمه، قال في النور. وفي رواية عن أسماء: إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة تغنى بأبيات غنى بها العرب، وإن الناس يتبعونه "يسمعون صوته ولا يرونه" وفي رواية الغيلانيات عن أبي سليط: حتى سمعوا هاتفا على أبي قبيس. واليعمري ذكر الروايتين. وعذر شيخنا أنه لم يقرأ له الرواية الأولى التي عن أبي سليط. "وهو ينشد هذه الأبيات: جزى الله رب الناس خير جزائه" هكذا رواية أسماء. ورواية أبي سليط: جزى الله خيرا والجزاء يكفه، "رفيقين" مفعول جزى، "حلا" من الحلول، كما في نسخة صحيحة من الاستيعاب بالهامش. ورواه اليعمري، قال: من القيلولة، وضبب عليها في الاستيعاب كما في النور. "خيمتي أم معبد" تثنية خيمة بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر، قال ابن الأنباري: لا تكون عندهم من ثياب بل من أربعة أعواد ثم تسقف بالثمام. وفي معجم: ما استعجم من قديد إلى المشلل ثلاثة أميال بينهما خيمتا أم معبد، "هما نزلا بالبر" ضد الإثم، "ثم ترحلا" وفي رواية: هما نزلا بالهدى واغتدوا به، "فأفلح" وفي رواية: هما رحلا بالحق وانتزلا به. وفي أخرى: هما نزلاها بالهدى فاهتدت به فقد فاز "من أمسى رفيق محمد" فعيل يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع، فيدخل في قوله: رفيقين عامر بن فهيرة، وقد ينافيه حلا إلا أن يكون ثنى نظرا للفظ. "فيالقصي" بضم القاف وفتح المهملة وشد التحتية، "ما زوى" بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ................ الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدهما للمؤمنين بمرصد سلو أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزيد فغادرها رهنا لديها لحالب ... يرددها في مصدر ثم مورد فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه -صلى الله عليه وسلم.   الزاي والواو أي: جمع وقبض، "الله عنكم به من فعال" قال البرهان وتبعه الشامي: الظاهر أنه بفتح الفاء وخفة العين وهو الكرم، ويجوز أن يكون بكسر الفاء جمعا، "لا تجاري" بالراء وفي رواية: بالزاي، "وسؤدد" بضم السين وإسكان الواو مصدر ساد "ليهنا" بفتح الياء وتثليث النون، أي: ليسر "بني كعب" هو ابن عمر وأبو خزاعة، "مكان" فاعل يهنأ. وفي نسخة: مقام بفتح الميم "فتاتهم ومقعدها للمؤمنين بمرصد" بفتح الميم والصاد، أي: مقعدها بمكان ترصد، أي: ترقب المؤمنين فيه لتواسيهم "سلو أختكم" أم معبد "عن" المعجزة التي شاهدتها في "شاتها" التي حلبها المصطفى ولم يطرقها فحل ولم تستطع الرعي من الهزال، و"إنائها" الذي حلب فيها منها مرارا، فإنها معجزة باهرة لا تنكر، "فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل" لا حمل بها "فتحلبت له" مطاوع احتلبها وضمنه معنى سمحت، فعداه بالياء في "بصريح" بصاد وحاء مهملتين: لبن خالص لم يخلط "ضرة" بفتح الضاد وشد الراء الفوقية: أصل الضرع؛ كما في النهاية مرفوع فاعل تحلبت، "الشاة مزبد" بضم الميم وإسكان الزاي وكسر الموحدة فدال مهملة: علاه الزبد، "فغادرها" تركها "رهنا لديها لحالب يرددها" الحالب" في مصدر ثم مورد" أي: يحلبها مرة ثم أخرى، والمعنى: ترك الشاة عندها ذات لبن مستمر، "يردد الحالب الحلب" عليها مرة بعد مرة لكثرة لبنها، "فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه -صلى الله عليه وسلم" وفي الرواية: فلما سمع حسان الأبيات، قال يجاوب الهاتف، قال في النور: والظاهر أنه إنما قاله بعد إسلامه: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليه ويغتدي ترحل عن قوم فضلت عقولهم ... وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم ... وأرشدهم من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمى وهداة يهتدون بمهتدي وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتا الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى غد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وقوله: مرملين: أي نفدت أزوادهم. ومسنتين: أي مجدبين، ويروى: مشتين: أي دخلوا الشتاء. وكسر الخيمة: بكسر الكاف وفتحها، وسكون السين، جانبها. وتفاجت: -بتشديد الجيم- فتحت ما بين رجليها. ويربط الهرط: -بضم المثناة التحتية، وكسر الموحدة- أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض. من ربض بالمكان يربض: إذا لصق به وأقام. والثج: السيلان. وفي رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال -بضم المثلثة- الرغوة واحده: ثمالة. .............   ليهنأ أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد "وقوله: مرملين، أي: نفدت" بالمهملة "أزوادهم ومسنتين، أي: مجدبين" بالمهملة، أي: أصابتهم سنة جدبة، "ويروى مشتين" بشين معجمة اسم فاعل من أشتى القوم، "أي: دخلوا في الشتاء" وحينئذ يقل طعامهم، "وكسر الخيمة بكسر الكاف وفتحها وسكون السين" المهملة "جانبها" وهذه رواية ابن عبد البر الحاكم والبيهقي، وفسرها ابن المنير وغيرها بما ذكر. ورواه اليعمري بلفظ، قال: ما هذه الشاة التي أرى لشاة رآها في كفاء البيت. قال البرهان: بكسر الكاف وبالفاء المخففة ممدود. قال المؤلف، يعني اليعمري، في الفوائد: كفاء البيت ستره من أعلاه إلى أسفله، من مؤخره، وقيل الكفاء: الشقة التي تكون في مؤخر الخباء، وقيل: كساء يلقى على الخبار كالآزرار حتى يبلغ الأرض، وقد أكفأ البيت، ذكره ابن سيده، انتهى. والجمع بين الروايتين سهل بأن تكون الشاة في جانب الخيمة تحت كفائها، فالمعبر بهذا أو ذاك صادق. "وتفاجت بتشديد الجيم: فتحت ما بين رجليها، ويربط الرهط بضم المثناة التحتية وكسر الموحدة، أي: يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض من ربض بالمكان يربض إذا لصق به وأقام" ملازما له يقال: أربضت الشمس إذ اشتد حرها حتى تربض الوحوش في كياسها، أي: تجعلها تربض. ويروى بتحتية بدل الموحدة، أي: يرويهم بعض الري من أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يواري أرضه، والمشهور الرواية الأولى بالموحدة، كما في النور، ولذا اقتصر عليها المصنف. "والثج" بمثلثة وجيم "السيلان، وفي رواية: فحلب ثجا حتى علاه الثمال بضم المثلثة الرغوة" مثلث الراء: لبن الزبد "واحده ثمالة" لكن في تفيره الجمع بالمفرد نظر، والأظهر لو قال: الثمال واحدة ثمالة وهي الرغوة إلا أن يراد جنس الرغوة وإن كل جزء مما على وجه اللبن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 والبهاء أي بها اللبن: وهو وبيص رغوته. وتساوكن هزالا: أي تمايلن، ويروي: تشاركن من المشاركة، أي في الهزال. وغادره: -بالغين المعجمة- أي: أبقاه والشاة عازب، أي بعيدة المرعى. والأبلح: -بالجيم- المشرق الوجه المضيئة. والثجلة: -بفتح المثلثة، وسكون الجيم- عظم البطن، ويروى بالنون والحاء: أي نحول ودقة. والصعلة: -بفتح الصاد- صغر الرأس، وهي أيضا الدقة والنحول في البدن.   رغوة، "والبهاء بها اللبن وهو وبيص" بمهملة، أي: لمعان، "رغوته وتساوكن هزلا، أي: تمايلين" من الهزال "ويروى: تشاركن بمعجمة بدل المهملة والراء بدل الواو، "من المشاركة، أي: في الهزال، وغادره بالغين المعجمة، "أي: أبقاه" تفسر باللازم إذ هو الترك "والشاة عازب، أي: بعيدة المرعى" والحيال بكسر الحاء المهملة جمع حائل، وهي التي ليس بها حمل "والأبلج" بالموحدة و"الجيم المشرق الوجه المضيئة" وفي النور: مبلج الوجه مشرقه مسفره، ومنه تبلج الصبح وابتلج، فأما الأبلج فهو الذي وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا، والاسم البلج بفتح اللام ولم ترده أم معبد؛ لأنها وصفته بالقرن. "والثجلة بفتح المثلثة": كذا في النسخ، والذي في النور: والسبل بضم المثلثة، "وسكون الجيم" وفتح اللام آخره تاء، "عظم البطن" وسعته، يقال: رجل أثجل بين الثجل وامرأة ثجلاء، قال أبو ذر في حواشيه: فالثجلة عظم البطن، يقال: بطن أثجل، إذا كان عظيما. و"يروى بالنون والحاء" المهملة، "أي: نحول ودقة من الجسم الناحل وهو القليل اللحم، قاله أبو ذر. "والصعلة بفتح الصاد" وإسكان العين المهملتين، "صغر الرأس وهي أيضا الدقة والنحول في البدن"، كما قال ابن الأثير. وفي رواية: سقلة بقاف وبسين معها على الإبدال من الصاد، وذكره ابن الأثير بالصاد السين مع القاف وبالعين المهملة، وكذا الهروي في الغربيين، لكن لم يذكر السين ومعناه نحل ودقة قال شمر: من صقلت الناقة ضمرتها وصقلها السير أضمرها، والسقل الخاصرة. وقال غيره: أرادت أنه لم يكن منتفخ الخاصرة جدا ولا ناحلا جدا، انتهى. وفي حاشي أبي ذر: لم تزر، أي: لم تقصر، والصقل والصقلة جلدة الخاصرة، تريد: أنه ناعم الخاصرة، وهذا من الأوصاف الحسنة انتهى. وعلا كلام غيره وهو نفي للأوصاف الغير الحسنة. وقال ابن المنير: الصعلة انتفاخ الأضلاع، وقيل: الرقة، وقيل: صغر الرأس واختير في هذه الكلمة فتح العين، ذكر الهروي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 والوسيم: الحسن، وكذلك: القسيم. وفي عينيه دعج: أي سواد. والوطف: قال في القاموس: محركة كثرة شعر الحاجبين والعينين. وفي صوته صحل: -بالتحريك- هو كالبحة -بضم الموحدة وأن لا يكون حاد الصوت. وأحور: قال في القاموس: الحور -بالتحريك- أن يشتد بياض العين، وسواد سوادها. والكحل: -بفتحتين- سواد في أجفان العين خلقة، والرجل: أكحل وكحيل. والأزج: الدقيق طرف الحاجبين وفي القاموس: والزجج -محركة ...........   انتهى. ولم أر ذلك في الغربيين. "والوسيم الحسن وكذلك القسيم وفي عينيه دعج، أي: سواد" شديد "والوطف، قال في القاموس: محركة" أي: مفتوح الطاء، "كثرة شعر الحاجبين والعينين" وفي الغربيين: في أشفاره وطف، أي: طول قد ووطف يوطف، انتهى. وفي حواشي أبي ذر: في أشفاره غطف أو عطف، ويروى وطف الوطف طول أشفار العين، وفي كتاب العين: الغطف بالغين المعجمة مثل الوطف، وإما بالمهملة فلا معنى له هنا، وفسره بعضهم بأن تطول أشفار العين حتى تنعطف، انتهى. واقتصر ابن المنير على المعجمة، وقال: لم يعرفه الرياشي بغيرها. "وفي صوته صحل" بالتحريك، أي: فتح الحاء وكذا الصاد المهملتين فلام، "هو كالبحة بضم الموحدة وأن لا يكون حاد الصوت" يقال: منه صحل الرجل، بالكسر يصحل صحلا بفتحها إذا صار أبح فهو صحل وصاحل، "وأحور، قال في القاموس: الحور بالتحريك" أي: فتح الواو، "أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها"، وهو المحمود المحبوب، ولذا كان أغزل ما قالت العرب، قول جرير: إن العيون التي في طرفها حور ... قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا "والحكل بفتحتين سواد في أجفان العين خلقة، والرجل أكحل وكحيل" والمرأة كحلاء وكثر تغزل المولدين بذلك؛ كقول ابن النبيه: كحلاء نجلاء لها ناظر ... منزه عن لوثة المرود "والأزج الدقيق طرف الحاجبين، وفي القاموس: والزج محركة" أي: مفتوحة الجيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 دقة الحاجبين في طول. والأقرن: المقرون الحاجبين. وفي عنقه سطع: -بفتحتين- أي ارتفاع وطول. وفي لحيته كثاثة: بمثلثتين الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة، وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية -بالفتح- وقوم كث -بالضم.. وإذا تكلم سما وعلاه البهاء: أي ارتفع وعلا على جلسائه. وفصل -بالصاد المهملة- لا نزر -بسكون المعجمة- ولا هذر -بفتحها: أي: بين ظاهر، يفصل بين الحق والباطل. ولا تشنؤه من طول: كذا جاء في رواية، أي لا يبغض لفرط طوله، ويروى: لا يشنى من طول: أبدل من الهمزة ياء، يقال: شنئته أشنؤه، شنا ........   الأولى، "دقة الحاجبين في طول" أي: امتداد إلى مؤخر العين، والزجج خلقة والتزجيج ما كان يصنع كما قال: وزججن الحواجب والعيونا، أي: صنعن ذلك وهو ما تسميه العوام تخفيفا بمهملة، "والأقرن المقرون" الحاجبين" قال ثابت في كتاب خلق الإنسان: رجل أقرن وامرأة قرناء فإذا نسب إلى الحاجبين، قالوا: مقرون الحاجبين ولا يقال: أقرن الحاجبين، انتهى. "وفي عنقه سطح بفتحتين، أي: ارتفاع وطول" كما قال الهروي، وزاد: يقال عنق سطعاء وهي المنتصبة الطويلة، ورجل أسطع، ومن هذا قيل للصبح أول ما ينشق مستطيلا قد سطع يسطع. "وفي لحيته كثاثة بمثلثتين الكثاثة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة وفيها كثاثة، يقال: رجل كث اللحية بالفتح"، للكاف "وقوم كث بالضم"، لها "وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، أي: ارتفع وعلا على جلسائه، وفصل بالصاد المهملة، لا نزر بسكون المعجمة" التي هي الزاي، أي: قليل "ولا هذر بفتحها" أي المعجمة التي هي الذال، أي: كثير بل وسط، هكذا ضبطه الحافظ العلائي وغيره بالفتح وضبطه بعض شراح الشفاء بسكون الذال مصدر قال بفتحها الاسم وفي غريبي الهروي في وصف كلامه عليه السلام لا نزر ولا هذر، أي: لا قليل ولا كثير ورجل هذر وهذار مهذار وهذريان كثير الكلام، وقوله: "أي: بين ظاهر يفصل بين الحق والباطل"، تفسير لقولها فصل، وقال العلائي: يفسره قولها: لا نزر ولا هذر، "ولا تشنؤه من طول، كذا جاء في رواية، أي: لا يبغض لفرطه طوله، ويروى: لا يشنى من طول أبدل من الهمزة ياء" ثم قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، "يقال: شنئته أشنؤه شنا" بوزن فلس، كما في المصباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وشنأنا، قاله ابن الأثير. ولا تقتحمه عين من قصر: أي لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له وكل شيء ازدريته فقد اقتحمته. ومحفود: أي مخدوم. والمحشود: الذي عنده حشد وهم الجماعة. ولا عابس: من عبوس الوجه. والمنفد: الذي يكثر اللوم وهو التفنيد. والضرة: لحمة الضرع. وغادرها أي خلف الشاة عندها مرتهنة بأن تدر، انتهى. وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدي: حدثني حزام ابن هشام عن أبيه ..............   "وشنأنا، قاله ابن الأثير" في النهاية "ولا تقتحمه عين من قصر، أي: لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له وكل شيء ازدريته فقد اقتحمته" قال أبو بكر بن الأنباري: كما في الغربيين، "ومحفود، أي: مخدوم والمحشود الذي عنده حشد" بفتح المهملة وسكون المعجمة وتفتح فدال مهملة، "وهم الجماعة ولا عابس من عبوس الوجه، والمنفذ الذي يكثر اللوم" فهو اسم فاعل، "وهو التنفيد والضرة لحمة الضرع"، وقال الهروي: أصل الضرع، "وغادرها، أي: خلف الشاة عندها مرتهنه بأن تدر" بضم الدال، "انتهى" ما أراده من شرح غريبه. قال ابن المنير: وفي الحديث من الفقه أنه لا يسوغ التصرف في ملك الغير ولا إصلاحه وتنميته إلا بإذنه، ولهذا استأذنها في إصلاح شاتها وفيه لطيفة عجيبة، وهو أن اللبن المحتلب من الشاة لا بد أن يفرض مملوكا، والملك ههنا دائر بين صاحب الشاة وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأشبه شيء بذلك المساقاة؛ فإنها تكرمة الأصل وإصلاحه بجزء من الثمرة، وكذلك فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- أكرم الشاة وأصلحها بجزء من اللبن، ويحتمل أن يقال: إن اللبن مملوك للنبي -صلى الله عليه وسلم- وسقاها تفضلا منه لأنه ببركته كان وعن دعائه وجد والفقه الأول أدق وألطف، انتهى. "وأخرج ابن سعد وأبو نعيم من طريق الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، أبي عبد الله المدني، قال: "حدثني حزام بن هشام" بكسر الحاء المهملة وبالزاي كما ضبطه الأمير وغيره، "عن أبيه" هشام بن خنيس بمعجمة ونون ومهملة مصغر عند إبراهيم بن سعد وسلمة بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 عن أم معبد قالت: بقيت الشاة التي لمس عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمن عمر بن الخطاب، وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا وما في الأرض لبن قليل ولا كثير.   الفضل عن ابن إسحاق ولغيرهما عنه حبيش بضم المهملة وفتح الموحدة فياء فشين معجمة، قال في الإصابة: وهو الصواب ابن خالد الخزاعي، "عن" عمته "أم معبد، قالت: بقيت الشاة التي لمس عليه السلام ضرعها عندنا حتى كان زمن الرمادة" سنة ثمان أو سبع عشرة من الهجرة، قيل لها ذلك لأن الريح كانت إذا هبت ألقت ترابا كالرماد وأجدبت الأرض إلى الغابة حتى أوت الوحوش إلى الإنس، "زمن عمر بن الخطاب" رضي الله عنه وآلى أن لا يذوق لحما ولا سمنا ولا لبنا، حتى حيى الناس، أي: يأتي إليهم الحيا بالقصر ويمد: المطر، وقال: كيف لا يعنين شأن الرعية إذا لم يمسني ما مسهم حتى استسقى بالعباس بإشارة كعب فسقوا، وفي ذلك يقول عقيل: بعمي سقى الله البلاد وأهلها ... عشية يستسقي بشيبته عمر توجه بالعباس في الجدب داعيا ... فما حار حتى جاد بالديمة المطر "وكنا نحلبها" بضم اللام وكسرها، كما في القاموس وما بالعهد من قدم، "صبوحا" بفتح المهملة وضم الموحدة: ما شرب بالغداة مما دون النائلة، "وغبوقا" بفتح الغين المعجمة الشرب بالعشي، "وما في الأرضي لبن قليل ولا كثير" في بقية حديث هشام هذا: وكانت أم معبد يوم نزل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- مسلمة. قال الواقدي: وقال غير هشام: قدمت بعد ذلك وأسلمت وبايعت؛ كما في الإصابة. وذكر السهيلي عن هشام المذكور، قال: أنا رأيتها وإنها لتأدم أم معبد وجميع صرمها، أي: أهل ذلك الماء. وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار عن هند بنت الجون، قالت: نزل -صلى الله عليه وسلم- خيمة خالتي أم معبد، فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت كأعظم دوحة، وجاءت بتمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا در لبنها، فكنا نسميها المباركة حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفر ورقها، ففزعنا فما راعنا إلا نعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك وذهبت صفرتها، فما شعرنا إلا بقتل أمير المؤمنين علي، فما أثمرت بعد ذلك، وكنا ننتفع بورقها، ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من أسفلها دم عبيط، وقد ذبل ورقها، فبينما نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر قتل الحسين ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت، والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كالشاة، كذا ذكره وعهدته عليه، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 قصة سراقة : ثم تعرض لهما بقديد سراقة من مالك بن جعشم المدلجي، فبكى أبو بكر وقال: يا رسول الله أتينا، قال: "كلا"، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوات، .........   قصة سراقة: "ثم" بعد رواحهم من عند أم معبد، كما عند مغلطاي، "تعرض" أي: تصدى، "لهما" يريد منعهما وردهما إلى قومهما. وذكر ابن سعد أن سراقة عارضهم يوم الثلاثاء، "بقديد" ولا يخالفه قول مغلطاي: فلما راحوا من قديد؛ لأن معناه: لما ساروا وإن لم ينفصلوا عنه تعرض لهما "سراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم والشين المعجمة بينهما مهملة ساكنة ثم ميم، وحكى الجوهري فتح الجيم والشين، نقله النووي في التهذيب، والبرهان في النور، وإن انتقد بعدم وجوده في نسخ الصحاح؛ لأنهما حجة، أي: حجة "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة وكسر اللام ثم جيم من بني مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، الكنان الحجازي أسلم سراقة عنده -صلى الله عليه وسلم- بالجعرانة منصرفة من حنين والطائف، وروى عنه ابن عباس وجابر وابن أخيه عبد الرحمن بن مالك بن جعشم وابن المسيب وطاوس، ومات سنة أربع وعشرين في أول خلافة عثمان، وقيل: مات بعده. والصحيح الأول، أخرج له البخاري والأربعة وأحمد، وسبب تعرضه لهما ما رواه البخاري عنه، قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إن قد رأيت آنفا أسودة بالسواحل، أراها محمدا وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: أنهم ليسوا هم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي، أخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت..الحديث، وفيه: أنه لما دنا منهم سقط عن فرسه، واستقسم بالأزلام فخرج ما يكره لا يضرهم ثم ركبها ثانيا، وقرب حتى سمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسه في الأرض إلى الركبتين فسقط عنها، ثم خلصها واستقسم بالأزلام فخرج الذي يكره فناداهم بالأمان. وفي رواية ابن عقبة: وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة. وفي رواية عن أبي بكر: تبعنا سراقة ونحن في جلد من الأرض، فقلت هذا الطلب لقد لحقنا، فقال: "لا تحزن إن الله معنا"، فلما دنا منا وكان بيننا وبينه رمحان أو ثلاثة، قلت: هذا الطلب لقد لحقنا وبكيت، قال -صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك"؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي ولكن عليك، "فبكى أبو بكر، وقال: يا رسول الله! أتينا، قال: "كلا" ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوات" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 فساخت قوائم فرسه، وطلب الأمان، فقال: أعلم أن قد دعوتهما علي، فادعوا لي ولكما أن أرد الناس عنكما ولا أضركما. قال: فوقفا لي، فركبت فرسي حتى جئتهما، قال: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخبرتهما أخبار ما يريد بهما الناس، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني.   وعند الإسماعيلي وغيره، فقال: "اللهم اكفناه بما شئت". وفي حديث أنس عند البخاري، فقال: "اللهم اصرعه"، فصرعه فرسه، "فساخت" بسين مهملة وخاء معجمة، أي: غاصت، "قوائم فرسه" حتى بلغت الركبتين، كما في حديث عائشة. في حديث أسماء عند الطبراني: فوقعت لمنخريها. وللبزار: فارتطمت به فرسه إلى بطنها. وللإسماعيلي: فساخت في الأرض إلى بطنها. "وطلب الأمان، فقال": زاد ابن إسحاق: أنا سراقة، انظروني أكلمكم، فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه، "أعلم أن قد دعوتما علي، فادعوا لي" وللإسماعيلي: قد علمت يا محمد، أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيها، و"لكما" خبر مقدم "أن أرد الناس" في تأويل المصدر مبتدأ، أي: لكما علي رد الناس "عنكما"، وفي رواية: فالله لكما مبتدأ وخبر، أي: ناصر وعلي أن أرد، وبالجر على القسم والنصب بإسقاط حرف القسم كله، قال: أقسم بالله، فحذف فنصب "ولا أضركما" وفي حديث ابن عباس: وأنا لكم نافع غير ضار، ولا أدري لعل الحي يغني قومه فزعوا لركوبي وأنا راجع ورادهم عنكم، "قال: فوقفا لي" وفي حديث البراء، قال: ادع لي ولا أضرك، فدعا له -صلى الله عليه وسلم، "فركبت فرسي حتى جئتهما، قال: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت" من الحبس عنهم؛ كما في حديث عائشة. "أن سيظهر" مرفوع وأن مخففة، أي: أنه سيظهر، "أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق: أنه قد منع مني، قال: "فأخبرتهما خبر ما يريد بهما الناس" من الحرص على الظفر بهما وبذلك المال لمن يحصلهما. وفي حديث ابن عباس: وعاهدهم أن لا يقاتلهم ولا يخبر عنهم وأن يكتم عنهم ثلاث ليال، "وعرضت عليهما الزاد والمتاع، فلم يرزآني" بفتح أوله وسكون الراء فزاي فهمزة، أي: لم ينقصاني مما معي شيئا. وللإسماعيلي: وهذه كنانتي فخذ منها سهما، فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال: لا حاجة لنا في إبلك ودعا له. وفي حديث عائشة: ولم يسألاني شيئا إلا أن قال: أخف عنا، بفتح الهمزة وسكون المعجمة بعدها فاء: أمر من الإخفاء فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 واجتاز -صلى الله عليه وسلم- في وجهه ذلك بعبد يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقي .........   وفي حديث أنس، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركن أحد يلحق بنا، فكان أول النهار جاهدا على نبي الله، وكان آخر النهار مسلحة له، رواهما البخاري، أي: حارسا له بسلاحه. وذكر ابن سعد: أنه لما رجع قال لقريش: قد عرفتم نظري بالطريق وبالأثر، وقد استبرأ لكم، لم أر شيئا، فرجعوا. وفي رواية ابن إسحاق وابن عقبة: فسألته كتابا يكون بيني وبينك آية، فأمر أبا بكر فكتب لي في عظم أو رقعة أو خرقة، ثم ألقاه إلي فأخذته فجعلته في كنانتي، ثم رجعت وجمع في النور بأن عامرا لما كتب طلب سراقة كتابة الصديق لشهرته وعظمته. وعند ابن عقبة وابن إسحاق: فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حنين خرجت لألقاه ومعي الكتاب لقيته بالجعرانة حتى دنوت منه فرفعت يدي بالكتاب، فقلت: يا رسول الله! هذا كتابك، قال: "يوم وفاء وبردان"، فدنوت منه وأسلمت. وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن الحسن عن سراقة: فبلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومه فأتيته، فقلت: أحب أن توادع قومي أسلموا، وإلا آمنت منهم، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- بيد خالد، فقال: "اذهب معه، فافعل ما يريد"، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله -صلى الله عليهوسلم- وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90] ، فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم. قال ابن إسحاق: ولما بلغ أبا جهل ما لقي سراقة ولامه في تركهم، أنشده: أبا حكم واللات لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه عجبت ولم تشكك بأن محمدا ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه زاد بعضهم: عليك بكف القوم عنه فإنني ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه وفي الحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى". وذكر ابن المنير عليه السلام قال له، ذلك يوم لحقهما في الهجرة: "تعجب من ذلك"، فلما أتى بهما عمر وبتاجه ومنطقته دعا سراقة فألبسه السوارين، وقال: "ارفع يديك، وقل: الله أكبر الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن مالك أعرابيا من بني مدلج"، ورفع عمر صوته ثم قسم ذلك بين المسلمين. "واجتاز -صلى الله عليه سلم- في وجهه" أي: طريقه، "ذلك" الذي هو مار به "بعيد" قال في النور: أسود، ولا أعرفه ولم أر من ذكره في الصحابة، "يرعى غنما، فكان من شأنه ما رويناه من طريق البيهقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 بسنده عن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت عام أول، وما بقي لها لبن، فقال: "ادع بها"، فاعتقلها -صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها، ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك. فقال: "أوتراك تكتم عليَّ حتى أخبرك"؟ قال: نعم، قال: "فإني رسول الله"، فقال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: "إنهم ليقولون ذلك" قال: فأشهد أنك نبي، وأن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك، قال: "إنك لن تستطيع   بسنده عن قيس بن النعمان" السكوني أحد وفد عبد القيس الكوفي، يقال: قرأ القرآن على عهد المصطفى وأحصاه على عهد عمر، له حديث في سنن أبي داود. "قال: لما انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر" حال كونهما "مستخفين مرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب" بالبناء للمفعول، "غير أن ههنا عناقا" بفتح العين: الأنثى من ولد المعز قبل استكمال الحول، كذا في المصباح. فلعله عبر بالعناق جازا من تسمية الشيء بما يقرب منه، والأنا في قوله: "حملت عام أول وما بقي لها لبن"، فإنه ظاهر في أنه سبق لها حمل وولادة، لكن رواية البيهقي كما في العيون: حلمت أول بإسقاط عام، وزيادة: وقد أخدجت وما بقي لها لبن، وأخدجت بفتح الهمزة وإسكان المعجمة فمهملة فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث، أي: ألقت ولدها ناقص الخلق وإن تم حملها، أو ألقته وقد استبان حمله، كما في أفعال ابن القطاع، ورواه أبو الوليد الطيالسي، بلفظ: حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها حمل، "فقال: "ادع بها"، فدعا بها، كما في رواية البيهقي فكأنه سقط من قلم المصنف "فاعتقلها -صلى الله عليه وسلم- ومسح ضرعها ودعا" ربه "حتى أنزلت" اللبن "وجاء أبو بكر بمجن" بكسر الميم وفتح الجيم وشد النون: ترس سمي مجنا لأنه يواري حامله، أي: يستره، والميم زائدة. "فحلب سقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك، قال: "أوتراك" الهمزة داخلة على محذوف، أي: أأخبرك وتراك "تكتم عليَّ حتى أخبرك"؟ قال: نعم، قال: "فإني محمد رسول الله"، قال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ" بالهمز: خارج من دين إلى دين، سموه بذلك زعما منهم أنه خرج من دينهم إلى الإسلام مع أنه ما دخل دينهم قط إجماعا، ولذا "قال" -صلى الله عليه وسلم: "إنهم ليقولون ذلك" أي: وهم فيه كاذبون، "قال: فأشهد أنك نبي وإن ما جئت به حق، وإنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك" أي: ذاهب معك إلى ما تريد على المتبادر، لا أنه أتبعه في الدين، "قال: "إنك لن تستطيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا". قال الحافظ مغلطاي -بعد ذكره لقصة أم معبد: وفي الإكليل قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد. قال الحاكم: فلا أدري أهي هي، أم غيرها. خاتمة.   ذلك يومك" لعلمه أنه إذا ذهب معه تبعه قومه ومنعوه من ذهابه معه وعاقبوه، والمراد باليوم مطلق الزمن، لا خصوص اليوم الذي هو فيه، بدليل قوله: "فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا"، وهو يرد احتمال: أنا متبعك فأظهر إيماني وإن نهيه خوفا عليه من الإيذاء، ثم هذا الحديث قطعا غير قصة الراعي الذي أتى يريد ظل الصخرة التي نام تحتها -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: إن في غنمه لبنا وحلب هو لأبي بكر وبرّد أبو بكر اللبن حتى استيقظ المصطفى كراهة أن يوقظه ثم سقاه، وأما هذا العبد فذكر أنه لا لبن معه وإنما أتى اللبن معجزة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي حلب وسقاه بعد أبي بكر ثم شرب هو آخرهم، ففي ظن صاحب الخميس اتحادهما، فإنه ذكر قطعة من حديث الراعي وعقبها بخبر العبد، ثم قال: أورد في المواهب قصة العبد الراعي بعد قصة أم معبد نظر ظاهر، وقصة الراعي كانت قبل قصة سراقة، وهي بعد قصة أم معبد؛ كا أفاده في فتح الباري. فقال: قبل حديث سراقة في قوله: فأخذ بهم طريق الساحل تقدم في علامات النبوة، وفي مناقب أبي بكر ما اتفق لهما حين خرجا من الغار من لقى راعي الغنم وشربهما من اللبن، انتهى. "قال الحافظ مغلطاي بعد ذكره لقصة أم معبد، وفي الإكليل" للحاكم أبي عبد الله "قصة أخرى شبيهة بقصة أم معبد، قال الحاكم: فلا أدري أهي هي أم غيرها"، وفي قوله: أخرى، وقوله شبيهة رد لتردد الحاكم فيها، وقد رواه تلميذه البيهقي بسند حسنه ابن كثير عن أبي بكر، قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنزلنا على بيت منه لم يكن فيه إلا امرأة وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز يسوقها فقالت له أمة: انطلق بهذه الشفرة والشاة لهذين الرجلين، وقل لهما: اذبحاها وكلا منها وأطعمانا، فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- الشفرة، وقال له: "ائتني بقدح"، فقال له: إنها عزبة، أي: لم يطرقها الفحل، قال: "انطلق"، فانطلق فجاء بقدح، فمسح -صلى الله عليه وسلم- ضرعها ثم حلب ملء القدح وأرسلها لأم الغلام معه فشربت حتى رويت، ثم دعا -صلى الله عليه وسلم- بأخرى ففعل بها كذلك، ثم سقى أبا بكر، ثم دعا بأخرى ففعل بها كذلك وشرب -صلى الله عليه وسلم، فلبثنا ليلتين ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر عليها فعرفه ابنها، وقال لها: هذا الذي كان مع المبارك فسألته عنه، فقال لها: هو نبي الله -صلى الله عليه وسلم، فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: "أسلمت ". قال البيهقي في الدلائل: وهذه القصة قريبة من قصة أم معبد ويشبه أن تكونا واحدة. وذكر ابن إسحاق ما يدل على أنهما واحدة، فيحتمل أنه رأى التي في كسر الخيمة أولا، ثم رجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ولما بلغ المسلمين بالمدينة خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غادة إلى الحرة ينتظرونه حتى ............   ابنها بأعنز ففعل بها ما مر، ثم لما أتى زوجها وصفته له، والله أعلم. انتهى. والذي يظهر أنها غيرها كما أشار إليه مغلطاي، كيف وفي قصة أم معبد أن الشاة التي حلب، إنما هي التي في كسر الخيمة وسقى الجميع منها ثم شرب، وإن الآتي بالأعنز إنما هو زوجها بعدما ذهبوا، وأيضا فقد قال في هذه: فلبثنا ليلتين إذ لو لبثا هما لأدركهما زوجها على المبتادر ولا مانع من التعدد، إلى هذا جنح في فتح الباري فقال: أخرج البيهقي في الدلائل شبيها بأصل قصة أم معبد في لبن الشاة المهزولة دون ما فيها من صفته -صلى الله عليه وسلم- لكنه لم يسمها في هذه الرواية ولا نسبها، فاحتمل التعدد. والله أعلم. خاتمة: ومما وقع لهم في الطريق أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي الزبير في ركب من المسلمين، كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثيابا بيضاء، رواه البخاري عن عروة مرسلا، ووصله الحاكم عن عروة عن أبيه الزبير، وكذا لقيهما طلحة بن عبيد الله وكساهما، رواه ابن أبي شيبة وغيره، وأخرج البيهقي عن بريدة بن الحصين، قال: لما جعلت قريش مائة من الإبل لمن يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- حملني الطمع فركبت في سبعين من بني سهم فلقيته، فقال: "من أنت"؟ قلت: بريدة، فالتقت -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر، وقال: "بردًا مرنًا وصلح"، ثم قال: "ممن أنت"؟ قلت: من أسلم، قال: "سلمنا"، ثم قال: "ممن"؟ قلت: من بني سهم، قال: "خرج سهمك يا أبا بكر"، فقال بريدة للنبي -صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: "أنا محمد بن عبد الله رسول الله"، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا، قال بريدة: الحمد لله الذي أسلم بنو سهم طائعين غير مكرهين، فلما أصبح قال بريدة: يا رسول الله! لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه حتى دخلوا المدينة. "ولما بلغ المسلمين" حال كونهم "بالمدينة خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة" ولعله بلغهم لما سمع أهل مكة الهاتف أو نحو ذلك، فلا ينافي أنه لم يعلم بخروجه من مكة إلا علي وآل أبي بكر، "فكانوا" جواب لما دخلته الفاء على قلة "يغدون" بسكون المعجمة: يخرجون غدوة، وأتى بقوله: "كل غادة" أي: بكرة النهار مع قوله يغدون إشارة إلى تكرر ذلك منهم وهو أقوى من كان من المضارع؛ لأن منهم من صحح أنها لا تفيد التكرار أو لأنه لما استعمل الغدوة في الذهاب، أي: وقت كان، كان ذكره الأزهري أتى به ليعين المراد منه "إلى الحرة" بفتح المهملة وشد الراء: أرض ذات حجارة سود كانت بها الوقعة المشهورة أيام يزيد، "ينتظرونه حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 يردهم حر الظهيرة، فانقبلوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه فصاح فأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم -أي حظكم ومطلوبكم- قد أقبل، فخرج إليه بنو قيلة -وهم الأوس والخزرج- سراعا بسلاحهم، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف.. الحديث رواه البخاري. وفيه: أن أبا بكر قام للناس، وجلس .........   يردهم حر الظهيرة" كما في حديث عائشة في البخاري، وعند ابن سعد: فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم، وللحاكم عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن رجل من قومه: كنا نخرج فنلجأ بظاهر الحرة نلجأ إلى ظل المدر حتى تغلبنا عليه الشمس، ثم نرجع إلى رحالنا، ولم أر عدة الأيام التي فعلوا ذلك فيها، ويحتمل أنها الثلاثة التي مكثها في الغار واليومان اللذان لبثهما عند المرأة، "فانقلبوا يوما بعدما طال انتظارهم" له عليه السلام، "فلما أووا إلى بيوتهم أوفى" بفتح الهمزة والفاء طلع، "رجل من يهود" قال الحافظ: لم أقف على اسمه "على أطم" بضم الهمزة والطاء، "من آطامهم" وهو الحصن، ويقال: إنه كان بناء من حجارة كالقصر، كما في الفتح. "فبصر" بفتح الموحدة وضم المهملة، أي: علم "برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه" كأبي بكر ومولاه، والدليل: وبريدة حال كونهم "مبيضين" أي: عليهم الثياب البيض التي كساها إياهم الزبير وطلحة، وقال ابن التين: يحتمل أن معناه مستعجلين، قال ابن فارس: يقال بائض، أي: مستعجلين ويدل عليه "يزول بهم" أي: يرفعهم ويظهرهم، "السراب" المرئي نصف النهار في شدة الحر كأنه ماء، وفي الفتح: أي يزول بسبب عروضهم له، وقيل: معناه ظهرت حركتهم فيه للعين، "فلم يملك اليهودي نفسه فصاح بأعلى صوته: يا بني قيلة" بفتح القاف وسكون التحتية: الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخرزج وهي بنت كاهل بن عذرة، "هذا جدكم" بفتح الجيم وشد المهملة، "أي: حظكم ومطلوبكم" وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه، وفي رواية: هذا صاحبكم، "قد أقبل فخرج إليه بنو قيلة وهم الأوس والخزرج سراعا بسلاحهم" إظهارا للقوة والشجاعة لتطمئن نفسه -صلى الله عليه وسلم- بقدومه عليهم ويظهر صدقهم له في مبايعتهم إياه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبنائهم وأنفسهم، "فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف" بن مالك من الأوس بن حارثة على فرسخ من المسجد النبوي، وكان نزوله على كلثوم بن الهدم، قيل: كان يومئذ مشركا، وجزم به محمد بن زبالة. "الحديث رواه البخاري" من حديث عائشة "وفيه: أن أبا بكر قام للناس" يتلقاهم "وجلس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك. وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام كانت الشمس تصيبه، وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثه، كما هو صريح في موضعه. قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه عليه السلام لهلال ربيع الأول، أي أول يوم منه. وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبي معشر، ........   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صامتا فطفق" بكسر الفاء وفتحها: جعل، "من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر" أي: يسلم عليه يظنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما في رواية ابن عقبة عن ابن شهاب، وهو ظاهر السياق خلافا لقول ابن اللتين لمعرفتهم أبا بكر لكثرة تردده لهم في التجارة إلى الشام، بخلاف المصطفى فلم يأتها بعد أن كبر، قاله الحافظ ملخصا، أي: وأما من رآه كاهل العقبات فإنهم يحيونه لمعرفتهم به، لكن لو وقع لعلمه غيرهم ممن لم يره بتحية الرأس، فلعلهم تأخروا ذلك الوقت لعذر، "حتى أصابت الشمس رسول -صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله عند ذلك"، وعن ابن عقبة عن الزهري: فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يكن رآه يحسبه إياه، حتى إذا أصابته الشمس أقبل أبو بكر بشيء أظله به، وعند ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن عويم: أناخ إلى الظل هو وأبو بكر، والله ما أدري أيهما هو حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظل فعرفناه بذلك. "وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام كانت الشمس تصيبه وما تقدم من تظليل الغمام والملك له كان قبل بعثته كما هو صريح في موضعه" فلا ينافي ما هنا "ال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: وكان قدومه عليه السلام لهلال ربيع الأول، أي أول يوم منه" فليس دخوله مقارنا لطلوع الهلال، كما قد يتوهم من قوله لهلال إذ اللام بمعنى عند. "وفي رواية جرير بن حازم" بن زيد بن عبد الله الأزدي البصري الثقة المتوفى سنة سبعين ومائة، "عن ابن إسحاق قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول"، وهذا يجمع بينه وبين ما قبله بالاختلاف في رؤية الهلال كما يأتي قريبا، "ونحوه عند أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن الهاشمي مولاهم السندي بكسر المهملة وسكون النون فيه مقال، لكن قال مغلطاي: هو من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 لكنه قال: ليلة الاثنين. وعن ابن سعد: قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وفي "شرف المصطفى" من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول. وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال. وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. وبه جزم النووي في كتاب السير من الروضة. وقال ابن الكلبي: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم ربيع الأول ............   المعتمدين في السير مر بعض ترجمته، "لكنه قال ليلة الاثنين" ومثله عن ابن البرقي، وثبت كذلك في أواخر مسلم، قال مغلطاي: وفيه نظر، والدمياطي: هو غير محفوظ ويأتي جمع الحافظ، "وعن ابن سعد" ليس هو محمد بن سعد كانت الواقدي كما هو المتبادر عند الإطلاق، وإنما هو هنا كما في فتح الباري إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق، "قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول" وإبراهيم هذا آخر من روى المغازي عن ابن إسحاق، كما في الروض. "وفي" كتاب "شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري "من طريق أبي بكر" بن محمد بن عمرو "بن حزم" بمهملة وزاي الأنصاري النجاري قاضي المدينة ثم أميرها، مات سنة عشرين ومائة عن أربع وثمانين سنة. "قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول". قال الحافظ في الفتح: "وهذا" أي: المذكور، "يجمع بينه وبين الذي قبله" من القولين الأولين وهما لهلال ولليلتين والأخيرين وهما لاثنتي عشرة ولثلاث عشرة، "بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال" زاد في الفتح: وعند أبي سعد في الشرف من حديث عمر: ثم نزل على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الأول، كذا فيه ولعله كان خلتا ليوافق رواية جرير بن حازم. "وقيل: كان حين اشتد الضحاء" بالفتح والمد كما في النور، أي: قوي وكمل ببلوغه آخر وقته، فلا ينافي ما مر أن اليهود رآهم يزول بهم السراب. وأما الضحى بالضم والقص فالشمس، كما في القاموس "يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وبه جزم النووي في كتاب السير من الروضة"، وثنى به في الإشارة. "وقال ابن الكلبي" هشام بن محمد "خرج من الغار يوم" الذي في الفتح عن ابن الكلبي: ليلة "الاثنين أول ربيع الأول"، قال الحافظ: ويوافقه جزم ابن حزم بأنه خرج من مكة ثلاث ليال بقين من صفر، فإن كان محفوظا فلعل قدومه قباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأول، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة خلت منه، وقيل ليلتين خلتا منه. وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة. وقال ابن حزم: خرجا من مكة وبقي من صفر ثلاث ليال. وأقام علي بمكة بعد مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع -وقيل: ثامن- عشر ربيع الأول، وكان مدة مقامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة أو ليلتين. وأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتاريخ ...........   وهذا الذي ترجاه صدر به مغلطاي في الإشارة، قال الحافظ: وإن ضم إلى قول أنس أقام بقباء أربع عشرة ليلة خرج منه أن دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه، لكنه قال: "ودخل المدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه"، فعلى هذا تكون إقامته بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبان فإنه قال: أقام بها الثلاثاء والأربعاء والخميس، يعني: وخرج يوم الجمعة فلم يعد يوم الخروج، وكذا قال ابن عقبة: أنه أقام فيهم ثلاث ليال، فكأنه لم يعتد بيوم الخروج ولا الدخول، انتهى. "وقيل: ليلتين خلتا منه" قاله ابن الجوزي. قال مغلطاي: وفيه نظر، وعند ابن الزبير عن الزهري: قدم في نصف ربيع الأول، وقيل: في سابعه، والأكثر أنه قدم نهارا. وفي مسلم: ليلا، وجمع الحافظ بأن القدوم كان آخر الليل فدخل فيه نهارا. "وعند البيهقي: لاثنتين وعشرين ليلة" فيوافق قول أنس: أقام بقباء أربع عشرة ليلة، مع ضمه لقوله: "وقال ابن حزم: خرجا من مكة، وبقي من صفر ثلاث ليال" فيكون خروجهما يوم الخميس والإقامة بالغار ليلة الجمعة والسبت والأحد والخروج منه ليلة الاثنين، وهذا يوافق الجمع السابق. "وأقام علي بمكة بعد مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أيام" حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند المصطفى وخلفه لردها، "ثم أدركه بقباء يوم الاثنين سابع، وقيل: ثامن عشر ربيع الأول، وكانت مدة مقامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم" بقباء "ليلة أو ليلتين" وفي روضة الأحباب: وكان علي يسير بالليل ويختفي بالنهار، وقد نقبت قدماه فمسحهما النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا له بالشفاء، فبرئتا في الحال، وما اشتكاهما بعد اليوم قط. "وأمر -صلى الله عليه وسلم" وهو بقباء "بالتاريخ" قال الجوهري: هو تعريف الوقت والتوريخ مثله، يقال: أرخت وورخت، وقيل: اشتقاقه من الأخ، وهو الأنثى من بقر الوحش، كأنه شيء حدث كما يحدث الولد، وقيل: هو معرب، ويقال: أول ما أحدث التاريخ من الطوفان، قاله في الفتح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فكتب من حين الهجرة. وقيل: إن عمر أول من أرخ وجعله من المحرم.   واصطلاحا، قيل: توقيت الفعل بالزمان ليعلم ما بين مقدار ابتدائه وبين أي غاية وضعت له فإذا قلت: كتبت كذا في يوم كذا من شهر كذا، ثم قرئ بعد سنة مثلا علم أن ما بين القراءة والكتابة سنة، وقيل: هو أول مدة من شهر ليعلم به مقدار ما مضى، واختصت العرب بإنها تؤرخ بالسنة القمرية لا الشمسية، فلذا قدمت الليالي؛ لأن الهلال إنما يظهر ليلا. "فكتب من حين الهجرة" رواه الحاكم في الإكليل عن الزهري وهو معضل والمشهور خلافه، وأن ذلك زمن عمر، كما قال الحافظ. "وقيل: إن عمر أول من أرخ" أخرج أبو نعيم الفضل بن دكين في تاريخه، ومن طريقه الحاكم عن الشعبي أن أبا موسى كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم أرخ بالمبعث وبعضهم بالهجرة، فقال عمر: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها وبالمحرم؛ لأنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه وذلك سنة سبع عشرة. ورواه ابن أبي خيثمة عن ابن سيرين بنحوه، قال: ولك في سنة سبع عشرة، وقيل: ست عشرة في ربيع الأول، فلذا قال: "وجعله من المحرم"؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذا البيعة وقعت أثناء ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة وأول هلال استهل بعدها، والعزم على الهجرة الهلال المحرم، فناسب أن يجعل مبتدأ؛ والمتحصل من مجموع آثار أن الذي أشار بالمحرم عمر وعثمان وعلي، وذكر السهيلي: أن الصحابة أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ؛ لأن من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام وعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه آمنا وابتدأ فيه بناء المسجد، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ، أنه أول التاريخ الإسلامي، قال في الفتح: كذا قال والمتبادر أن معنى قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108] ، أي: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة، انتهى. وقد قال ابن المنير: كلام السهيلي تكلف وتسعف وخروج عن تقدير الأقدمين فإنهم قدروه من تأسيس أول يوم، فكأنه قيل: من أول يوم وقع فيه التأسيس، وهذا تقدير تقتضيه العربية وتشهد له الآية، وقيل: أول من أرخ يعلى بن أبية حين كان باليمن، حكاه مغلطاي. ورواه أحمد بإسناد صحيح عن يعلى. قال الحافظ: لكن فيه انقطاع بين عمرو بن دينار ويعلى، ولم يؤرخوا بالمولد ولا بالمبعث؛ لأن وقتهما لا يخلو من نزاع من حيث الاختلاف فيهما، ولا بالوفاة النبوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 وأقام عليه السلام بقباء في بني عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة. وفي صحيح مسلم: أقام فيهم أربع عشرة ليلة. ويقال: إنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء، الذي أسس على التقوى، على الصحيح، ............   لما يقع في تذكره من الأسف والتألم على فراقه، وقيل: بل أرخ بوفاته عليه السلام، حكاه مغلطاي. "و" اختلف في قدر إقامته في قباء، فذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب عن مجمع بن جارية: أنه "أقام عليه السلام بقباء في بني عمرو بن عوف اثنتين وعشرين ليلة" وحكاه الزبير بن بكر عن قوم بن بني عمرو. "وفي صحيح مسلم" لا وجه لاقتصار عليه بل والبخاري كلاهما عن أنس، "أقام فيهم أربع عشرة ليلة" وبه يفسر قول عائشة: بضع عشرة ليلة، "ويقال: أنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس"، قاله ابن إسحاق، وجزم به ابن حبان. قال اليعمري: وهو المشهور عند أصحاب المغازي، قيل: أقام ثلاثا فقط، رواه ابن عائذ عن ابن عباس وابن عقبة عن الزهري، وقال إسحاق: أقام فيهم خمسا وبنو عمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك. قال الحافظ: أنس ليس من بني عمرو فإنهم من الأوس وأنس من الخزرج، وقد جزم بما ذكر فهو أولى بالقبول من غيره انتهى. لا سيما مع صحة الطريق إليه لاتفاق الشيخين عليه، وفي ذخائر العقبى: أقام ليلة أو ليلتين. "وأسس" -صلى الله عليه وسلم- "مسجد قباء" وصلى فيه، روى ابن زبالة: أنه كان لكلثوم بن الهدم مربد فأخذه -صلى الله عليه وسلم- فأسسه وبناه مسجدا. وأخرج عبد الرزاق والبخاري عن عروة وابن عائد عن ابن عباس: الذي بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف. وروى يونس في زيادات المغازي عن الحكم بن عتيبة: لما نزل -صلى الله عليه وسلم- قباء، قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله بد من أن نجعل له مكانا يستظل فيه ذا استيقظ، ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء، فهو أول مسجد بني، يعني في الإسلام. وروى ابن أبي شيبة عن جابر، قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة، ولذا أقبل المتقدمون في الهجرة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- والأنصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه، فلما هاجر -صلى الله عليه وسلم- وورد بقباء صلى فيه إلى بيت المقدس ولم يحدث فيه شيئا، وجمع بينها بما حاصله: أنه لم يحدث فيه شيئا في أول بنائه لكن لما قدم وصلى فيه غير بناءه وقدم القبلة موضعها اليوم، كما في حديث عند ابن أبي شيبة أيضا. "الذي أسس على التقوى على الصحيح" في تفسير الآية، وهو ظاهرها وقول الجمهور، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وهو أول مسجد بني في الإسلام وأول مسجد صلى فيه عليه السلام بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه.   وبه جزم عروة بن الزبير عند البخاري وغيره، كما علم وذهب قوم منهم ابن عمر وأبو سعد وزيد بن ثابت إلى أنه مسجد المدينة وحجته قوية فقد صح مرفوعا نصا. أخرج مسلم عن أبي سعيد: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: "وهو مسجدكم هذا". وروى أحمد والترمذي عن أبي سعيد: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألاه عن ذلك، فقال: "هو هذا، وفي ذلك خير كثير"، وأخرجه أحمد عن سهل بن سعد نحوه. وأخرجه من وجه آخر عن سهل عن أبي كعب مرفوعا، ولهذه الأحاديث وصحتها جزم الإمام مالك في العتيبة بأن الذي أسس على التقوى مسجد المدينة. وقال ابن رشد في شرحها: أنه الصحيح، قال الحافظ: والحق أن كلا منهما أسس على التقوى، وقوله تعالى في بقية {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} ، الآية يؤيد كون المراد مسجد قباء، وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: نزلت رجال يحبون أن يتطهروا في أهل قباء، وعلى هذا فالسر في جوابه -صلى الله عليه وسلم- بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء، قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلافا؛ لأن كلامهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد غيره: أن قوله من أول يوم يقتضي مسجد قباء؛ لأن تأسيسه في أول يوم حل النبي -صلى الله عليه وسلم- بدار الهجرة، انتهى. "وهو" في التحقيق، كما قال الحافظ: "أول مسجد بني في الإسلام وأول مسجد صلى فيه عليه السلام بأصحابه جماعة ظاهرا، وأول مسجد بني لجماعة المسلمين عامة، وإن كان تقدم بناء غيره من المساجد" كبناء أبي بكر بفناء داره، "لكن لخصوص الذي بناه" فلا يعادل هذا، وقد روى الترمذي عن أسيد بن ظهير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصلاة في مسجد قباء ركعتين أحب إليَّ من أن آتي بيت المقدس مرتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل". وأخرج الشيخان عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- يزور قباء أو يأتي قباء راكبا أو ماشيا، وأخرجا عنه أيضا رفعه: "من صلى فيه كان كعدل عمرة". روى ابن ماجه عن سهل بن حنيف رفعه: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة، كان كأجر عمرة". وأخرج مالك وأحمد والبخاري والنسائي والحاكم عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ثم خرج عليه السلام من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، في بطن وادي رانوناء -براء مهملة ونونين ممدودا، كعاشوراء وتاسوعاء- واسم المسجد "غبيب"، بضم الغين المعجمة، بتصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة،   ماشيا وكان عبد الله يفعله. "ثم خرج عليه السلام من قباء يوم الجمعة" كما عند ابن عائذ وابن إسحاق، وإنما يأتي على أنه أقام بقباء أربعة أيام، كما قال زين الحافظ: أقام أربعا لديه وطلع ... في يوم جمعة فصلى وجمع في مسجد الجمعة وهو أول ... ما جمع النبي فيما نقلوا وقيل بل أقام أربع عشرة ... فيهم وهم ينتحلون ذكره وهو الذي أخرجه الشيخان ... لكن ما مر من الإتيان لمسجد الجمعة يوم جمعة ... لا يستقيم مع هذي المدة إلا على القول بكون القدمة ... إلى قبا كانت بيوم الجمعة "حين ارتفع النهار فأدركته الجمعة" أي: صلاتها وتعبيره بيوم الجمعة مشعر بقدم تسميتها بذلك، وهو أحد الأقوال لجمع الخلائق فيه يوم القيامة، أو لأن خلق آدم جمع فيه، وقيل: أول من سماه بذلك كعب بن لؤي، وقيل: قصي، كما مر في النسب الكريم. وقيل: التسمية به إسلامية لاجتماع الناس للصلاة فيه، لما جمع أسعد بن زرارة بالناس قبل الهجرة النبوية. "في" أرض أو مساكن "بني سالم بن عوف فصلاها" بمسجدهم "بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة" وقيل: أربعون، ولا ينافيهما رواية: أنه حين قدم عليه السلام استقبله زهاء خمسمائة بقباء لجوا أنهم رجعوا بعد إلى المدينة، فلم يبق معه لما دخل بني سالم إلا هؤلاء. "في بطن وادي رانوناء، براء مهملة ونونين ممدودا كعاشوراء وتاسوعاء، واسم المسجد غبيب بضم الغين المعجمة" وفتح الموحدة وسكون التحتية فموحدة، "بتصغير غب، كما ضبطه صاحب المغانم المطابة" في فضائل طابة، وهو المجد الشيرازي صاحب القاموس، ويقع في بعض النسخ السقيمة زيادة. وفي القاموس: الغبغب كجندب وكان أصله طرة معارضة لضبط المصنف؛ لأن تصغيره على هذا: غبيب، بشد الياء فألحقها من لا يميز وهي خطأ شنيع؛ لأن القاموس إنما ذكره في العين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 والودي: ذي صلب، ولذا سمي مسجد الجمعة، وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء. وركب -صلى الله عليه وسلم- على راحلته بعد الجمعة متوجها إلى المدينة. وروى أنس بن مالك أنه -صلى الله عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، .........   المهملة، فقال: العب شرب الماء، إلى أن قال: والعيعب كجندب كثرة الماء وواد، وصرح في الغين المعجمة بمثل ما هنا، فقال: وكزبير موضع بالمدينة. "الوادي" اسمه "ذي صلب" كذا في نسخ بالياء، وكان اسمه بالياء، فقصد حكايته. وفي نسخة: ذو صلب، وأخرى: والوادي صلب، وهما ظاهرتان. وفي القاموس: الصلب بالضم وعسكر وأسير. "ولذا" أي: لصلاته عليه السلام فيه "سمي مسجد الجمعة" وهي أول جمعة صلاها، وأول خطبة خطبها في الإسلام؛ كما قال ابن إسحاق، وجزم به اليعمري، وقيل: كان يصلي الجمعة في مسجد قباء مدة إقامته. "وهو مسجد صغير مبني بحجارة قدر نصف القامة، وهو على يمين السالك إلى مسجد قباء" أي: وكان مختصا بني سالم، لما مر أن أول مسجد بني لعامة المسلمين مسجد قباء، وبكونه للعامة لا ينافيه قول جابر: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتن نعمر المساجد، ولا يرد أن التحرير أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين الهجرة النبوية شهرين؛ وبعض شهر؛ لأن ابتداء الهجرة كان بعد العقبة الثالثة هجرة الصحابة وبين الهجرة النبوية شهرين؛ وبعض شهر؛ لأن ابتداء الهجرة كان بعد العقبة الثالثة بتلك المدة، وعمارة المساجد بعد الأولى، ودفع اتشكاله بزيادة المدة على سنتين بأنهم لم يعمروا بمجرد رجوع الستة الأولين إلى المدينة، بل بعد ظهور الإسلام بها. "وركب -صلى الله عليه وسلم- على راحلته بعد" صلاة "الجمعة متوجها إلى المدينة. وروى أنس بن مالك: أنه -صلى الله عليه وسلم- أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر" خلفه على الراحلة التي هو عليها إكراما له، وإلا فقد كان له راحلة، كما مر. وفي فتح الباري، قال الداودي: يحتمل أنه مرتدف خلفه على راحلته، ويحتمل أن يكون على راحلة أخرى. قال الله تعالى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، أي: يتلو بعضهم بعضا. ورجح ابن التين الأول، وقال: لا يصح الثاني لأنه يلزم منه أن يمشي أبو بكر بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم. قلت: إنما يلزم ذلك لو كان الخبر جاء بالعكس، كأن يقول: والنبي مرتدف خلف أبي بكر، فأما ولفظه: وهو مردف أبا بكر فلا، وسيأتي في الباب بعده، يعني في البخاري من وجه آخر عن أنس: فكأني انظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على راحلته وأبو بكر ردفه، انتهى. وذكر ابن هشام: أنهم لما وصلوا إلى العرج أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوس بن حجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الذي بين يديك، فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير، الحديث رواه البخاري. وقد روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أله عني الناس"، فكان إذا سئل من أنت؟ قال: باغي فإذا قيل: من هذا معك؟ قال: هذا يهديني السبيل. وفي حديث الطبراني، من رواية أسماء: وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس، فإذا لقيه لاق يقول لأبي بكر: من هذا معك؟ فيقول: هذا يهديني الطريق يريد الهداية في الدين، ويحسبه الآخر دليلا.   الأسلمي على جمل له إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة، وأخرجه الطبراني وغيره عن أوس وفيه: أنه أعطاهما فحل إبله وأرسل معهما غلامه مسعودا، وأمره أن لا يفارقهما حتى يصلا المدينة. "وأبو بكر شيخ" قد أسرع إليه الشيب "يعرف" لأنه كان يمر على أهل المدينة في سفر التجارة، كما في الفتح، "والنبي صلى الله عليه وسلم شاب" لا شيب فيه، "لا يعرف" لعدم تردده إليهم، فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة. "قال" أنس: "فيلقى الرجل أبا بكر: فيقول: يا أبا بكر! من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب" بفتح السين في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة فكسروها في المضارع والماضي على غير قياس، "الحاسب أنه إنما يعني الطريق" الحسية، "وإنما يعني" أبو بكر "سبيل الخير ... الحديث" ذكر في بقيته تعرض سراقة وتلقي الأنصار ثم ركوبه إلى أن وصل دار أبي أيوب، "رواه البخاري" في الهجرة. "وقد روى" محمد "بن سعد" ما يبين سبب هذه التورية، وهو "أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أله" بفتح الهمزة وإسكان اللام "عني الناس، فكان إذا سئل من أنت، قال: باغي حاجة، فإذا قيل: من هذا معك؟ " حذف الموصول الاسمي وأبقى صلته، أي: الذي معك، وهو جائز عند الكوفيين، أو هو حال من ذا، "قال: هذا يهدين السبيل،" وهذا من معاريض الكلام المغنية عن الكذب جمعا بين المصلحتين: "وفي حديث الطبراني من رواية أسماء" بنت الصديق: "وكان أبو بكر رجلا معروفا في الناس، فإذا لقيه لاق، يقول لأبي بكر: من هذا" حال كونه "معك؟ " أو الذي معك، "فيقول: هذا يهديني الطريق، يريد الهداية في الدين" المتجددة المتكررة لتعبيره بالمضارع دون الماضي، "ويحسبه الآخر" الذي سأله، "دليلا" للطريق الحقيقي، وإلى هنا انتهى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه مر عليهم في سفره للتجارة، وكان صلى الله عليه وسلم لم يشب، وكان صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر. وفي حديث: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر.   ما نقله من رواية الطبراني. وبين المصنف سبب قول أنس: يعرف ولا يعرف، فقال: "وإنما كان أبو بكر معروفا لأهل المدينة لأنه مر عليهم في سفره للتجارة" إلى الشام مرور تردد ومخالطة حتى عرفوه لا مجرد السير؛ إذ لا يستدعي المعرفة. وفي الفتح: لأنه كان يمر على المدينة في سفر التجارة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم في الأمرين، فإنه كان بعيد العهد بالسفر من مكة، أي: لأنه سافر مع عمه وهو صغير، كما مر. "وكان صلى الله عليه وسلم لم يشب" حينئذ ثم شاب بعض شعرات في راسه ولحيته، كما يأتي في شمائله، "و" إلا ففي نفس الأمر، "كان صلى الله عليه وسلم أسن من أبي بكر" فإنه استكمل بمدة خلافته سن المصطفى، على الصحيح خلاف ما يتوهم من قوله شاب وأبو بكر شيخ. وقد ذكر أبو عمر من رواية حبيب بن الشهيد عن ميمون مهران عن يزيد بن الأصم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أيما أسن أنا أو أنت"؟ قال: أنت أكرم يا رسول الله مني وأكبر، وأنا أسن منك، قال أبو عمر: هذا مرسل، ولا أظنه إلا وهما. قال الحافظ: وهو كما ظن وإنما يعرف هذا الناس. وأما أبو بكر ففي مسلم عن معاوية أنه عاش ثلاثا وستين سنة، وعاش بعد المصطفى سنتين وأشهرا، فيلزم على الصحيح في سنة صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر أصغر منه بأكثر من سنتين، انتهى. ولا يرد عليه قول أنس شيخ؛ لأنه من جاوز الأربعين كان في المصباح. "وفي حديث أنس" عند البخاري "لم يكن في الذين هاجروا أشمط" بفتح الهمزة والميم بينهما معجمة ساكنة ثم طاء مهملة، أي: خالط سواد شعره بياضه، "غير أبي بكر" فغلفها بالحناء والكتم حتى قنأ لونها غلف، بفتح الغين المعجمة واللام الثقيلة، كما قال عياض: إنه الرواية وبالفاء قال الحافظ: أي خضبها، والمراد اللحية وإن يقع لها ذكر حتى قنأ بفتح القاف والنون والهمزة، أي: اشتدت حمرتها. ا. هـ. أي: حتى ضربت إلى السواد وإطلاق الشمط على شيب غير الرأس نقله في المغرب عن الليث وخصه غيره بشيب الرأس، والحديث شاهد للأول. والكتم فتح الكاف والمثناة الخفيفة، وحكي تثقيلها: ورق يخضب به كالآس ينبت في أصغر الصخور فيتدلى حيطانا لطافا ومجتناه صعب، ولذا قال. وقيل: إنه يخلط بالوسمة، وقيل: إنه الوسمة، وقيل: هو النيل، وقيل: حناء قريش وصبغه أصفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وكان عليه الصلاة والسلام كلما مر على دار من دور الأنصار يدعوه إلى المقام عندهم: يا رسول الله، هلم إلى القوة والمنعة، فيقول: خلوا سبيله -يعني ناقته- فإنها مأمورة. وقد أرخى زمامها، وما يحركها، وهي تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار ابن مالك بن النجار، بركت على باب المسجد، وهو يومئذ مربد   "وكان عليه الصلاة والسلام كلما مر على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام" بضم الميم، أي: الإقامة، "عندهم" بقولهم: "يا رسول الله! هلم إلى القوة والمنعة" العز والجماعة الذي يمنعونك ويحمونك بحيث لا يقدر عليك، من استعمال المشترك في معنييه، فالمنعة بفتحتين: مشترك بين العز والجماعة الذين يحمونك وإن سكنت النون فبمعنى العز فقط، قال الحافظ: وسمي ممن سأله الزول عندهم: عنبان بن مالك في بني سالم، وفروة بن عمرو في بني بياضة، والمنذر بن عمرو وسعد بن عبادة وغيرهما في بني ساعدة، وأبو سليط وغيره في بني عدي. "فيقول:" لكل منهم: "خلو سبيلها"، يعني ناقته" القصواء أو الجدعاء، وفي إنهما ثنتان أو واحدة لها لقبان خلاف، وفي الألفية: عضباء جدعاء هما القصواء، لكن روى البزار عن أنس: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم على العضباء وليست الجدعاء. قال السهيلي: فهذا من قول أنس أنها غير الجدعاء، وهو الصحيح، "فإنها مأمورة" قال ابن المنير: الحكمة البالغة في إحالة الأمر على الناقة أن يكون تخصيصه عليه السلام لمن خصه الله بنزوله عند آية معجزة تطيب بها النفوس، وتذهب معها المنافسة، ولا يحيك ذلك في صدر أحد منهم شيئا. "وقد أرخى زمامها وما يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا حتى إذا أتت دار ابن مالك بن النجار بركت" بفتح الراء "على باب المسجد" كذا عند ابن إسحاق، ولابن عائذ وسعيد بن منصور مرسلا: عند موضع المنبر من المسجد. وفي الصحيح عن عائشة: عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو فيه يومئذ رجال من المسلمين. وفي حديث البراء عن ابن بكر: فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال: "إني أنزل على أخوال عبد المطلب"، أكرمهم بذلك. وقد قيل: يشبه أن يكون هذا أول قدومه من مكة قبل نزوله قباء لا في قدومه باطن المدينة، فلا يخالف قوله: "إنها مأمورة". "وهو يومئذ مربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة: هو الموضع الذي يجفف فيه التمر. وقال الأصمعي: المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم، وبه سمي مربد البصرة؛ لأنه كان موضع سوق الإبل، قاله الحافظ. وفي النور: أصله من ربد بالمكان إذا أقام فيه، وربده: حبسه، والمربد أيضا الذي يجعل فيه التمر لينشف كالبيدر للحنطة، انتهى. والمراد هنا التمر. ففي البخاري عن عائشة: وكان مربدا للتمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 لسهل وسهيل ابني رافع بن عمرو، وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء -وقال أسعد بن زرارة وهو الراجح- ثم ثارت، وهو صلى الله عليه وسلم عليها حتى بركت على باب أبي أيوب الأنصاري، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول، ..........................   "لسهل" مكبرا ذكره اليعمري في البدريين، وقال أبو عمر: لم يشهدها. وقال ابن منده: يقال: شهد أحدًا ومات في خلافة عمر، "وسهيل" مصغرا بدرا وما بعدها، وتوفي في خلافة عمر، قاله ابن عبد البر. قال في الإصابة: وزعم ابن الكلبي أنه قتل مع علي بصفين. "ابني رافع بن عمرو" كما عند ابن الكلبي، وتبعه الزبير بن بكار وابن عبد البر والذهبي وغيرهم، وقال الزهري وابن إسحاق: هما ابنا عمرو. وقال اليعمري: وهو الأشهر. والحافظ في الإصابة: هو الأرجح. وحاول السهيلي التوفيق، فقال: هما ابنا رافع بن عمرو، يعني كما صرح به الجماعة فنسبهما الزهري وابن إسحاق إلى جدهما، وهذا حسن. وابن عقبة في الإصابة بأن أرجح قول الزهري وتلميذه؛ لأنه ذكر في الفتح ما جمع به السهيلي عن نص الزبير بن بكار وهو ابن الكلبي إماما أهل النسب، فتعين جمع السهيلي. "وهما يتيمان في حجر معاذ بن عفراء" كما عند ابن إسحاق وأبي عبيد في التقريب، "وقال: أسعد" بالألف "ابن زرارة" أبو أمامة من سباق الأنصار إلى الإسلام، ذكر ابن سعد أن أسعد كان يصلي فيه قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم "وهو الراجح" إذ هو الثابت في البخاري وغيره. قال في الإصابة: ويمكن الجمع بأنهما كانا تحت حجرهما معا، ولذا وقع في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "يا بني النجار، ثامنوني". ووقع في رواية أبي ذر وحده للبخاري سعد بلا ألف، والصواب كما في الفتح والنور: أسعد، بالألف وهو الذي في رواية الباقين. قال الحافظ: وسعد تأخر إسلامه، انتهى. وذكره غير واحد في الصحابة، قال عياض: لم يذكره كثيرو؛ لأنه ذكر في المنافقين. وحكى الزبير أنهما كانا في حجر أبو أيوب. قال في فتح الباري: وأسعد أثبت وقد يجمع باشتراكهم أو بانتقال ذلك بعد أسعد إلى من ذكروا واحدا بعد واحدا. "ثم ثارت وهو صلى الله عليه وسلم عليها" ومشت "حتى بركت على باب أبي أيوب" خالد بن زيد بن كليب "الأنصاري" من بني مالك بن النجار من كبار الصحابة، شهد بدرا والمشاهد ومات غازيا الروم سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: اثنتين وخمسين، وهو الأكثر. "ثم ثارت" بمثلثة وفوقية: قامت "منه وبركت في مبركها الأول" عند المسجد إشارة إلى أن بروكها في الأول بطريق القصد لا الاتفاق، قاله الحافظ. أو إلى أنه منزله حي وميتا، وقد يكون مشيها قليلا ثم رجوعها إشارة إلى الاختلاف اليسير الذي وقع في دفنه، ثم الموافقة لرأي أبي بكر في أنه يخط له تحت الفرش الذي توفي عليه، قاله البرهان البقاعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وألقت جرانها بالأرض -يعني باطن عنقها أو مقدمه من المذبح- وأرزمت -يعني صوتت من غير أن تفتح فاها- ونزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال: "وهذا المنزل إن شاء الله". واحتمل أبو أيوب رحله وأدخله في بيته، ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب، جده عليه السلام. وفي حديث أبي أيوب الأنصاري، عند أبي يوسف يعقوب ...........................   "وألقت جرانها" بكسر الجيم "بالأرض، يعني باطن عنقها" كما قاله السهيلي "أو مقدمه من المذبح" إلى المنحر، وبه جزم المجد، وذكر السهيلي عن بعض السير: أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار جعل جبار بن صخر السلمي ينخسها بحديدة رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة، فلم تفعل. "وأرزمت" بهمزة فراء ساكنة فزاي مفتوحة "يعني: صوتت من غير أن تفتح فاها" قاله أبو زيد، قال: وذلك على ولدها حين ترأمه، وقال صاحب العين: أرزمت بالألف معناه رغت ورجعت في رغائها، ويقال منه أرزم الرعد وأرزمت الريح، ويروى: رزمت بلا ألف، أي: نامت من الإعياء والهزال ولم تتحرك. "ونزل عنها صلى الله عليه وسلم، وقال: "وهذا المنزل إن شاء الله" واحتمل أبو أيوب رحله" بإذنه صلى الله عليه وسلم "وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بني النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها،" عطف تفسير لأوسط، كما في الصحيح مرفوعا: "خير دور الأنصار بنو النجار"، "وهم أخول عبد المطلب جده عليه السلام" ولذا أكرمهم بنزوله عليهم، كما مر. وروى ابن عائذ وسعيد بن منصور عن عطاف بن خالد: استناخت به أولا فجاءه ناس، فقالوا: المنزل يا رسول الله؟ فقال: "دعوها"، فانبعثت حتى أناخت عند موضع المنبر من المسجد، ثم تحلت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب، فقال: إن منزلي أقرب المنازل، فائذن لي أن أنقل رحلك، قال: "نعم"، فنقله وأناخ الناقة في منزله. وذكر ابن سعد أن أبا أيوب لما نقل رحله، قال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع رحله"، وأن أسعد بن زرارة جاء فأخذ ناقته فكانت عنده، قال: وهذا أثبت. "وفي حديث أبي أيوب الأنصاري" النجاري "عند أبي يوسف يعقوب" ابن إبراهيم الأنصاري الإمام العلامة الحافظ فقيه العراق الكوفي، صاحب أبي حنيفة، وروى عن هشام بن عروة وأبي إسحاق الشيباني وعطاء بن السائب وطبقتهم، وعنه محمد بن الحسن وابن حنبل وابن معاوية وخلق: نشأ في طلب العلم وكان أبوه فقيرا، فكان أبو حنيفة يتعاهد أبو يوسف بمائة بعد مائة، قال ابن معين: ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثا ولا أثبت من أبي يوسف وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 في كتاب الذكر والدعاء له قال: لما نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب قلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله، ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب، قال: "لِمَ يا أبا أيوب"؟ قال: قلت: كنت أحق بالعلو منا تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحي، لا والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا. الحديث .....................   صاحب حديث وسنة، مات في ربيع الآخر سنة وثمانين ومائة عن تسع وستين سنة. "في كتاب الذكر والدعاء له، قال" أبو أيوب: "لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو" وفي رواية ابن إسحاق: لما نزل صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وكنت أنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن ونكون في السفل، فقال: "يا أبا أيوب، إن الأرفق بنا ومن يغشانا أن نكون في سفل البيت"، قال: فكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن. "فلما خلوت إلى أم يوب" زوجته بنت خالة قيس بن سعد الأنصارية النجارية الصحابية، لم يذكر لها اسما في الإصابة. "قلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، تنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي، فما بت تلك الليلة لا أنا ولا أم أيوب" بحالة هنية بل بشر ليلة لتلك الفكرة، أو استعمل المبيت في النوم، كأنه قال: ما نمنا من اشتغال الفكر بذلك. وفي رواية: أن أبا بكر أيوب انتبه ليلا فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحول، فباتوا في جانب. وفي رواية ابن إسحاق: فلقد انكسر لنا حب فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب لقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها، ننشف بها تخوفا أن يقطر على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء، فيؤذيه، "فلما أصبحت، قلت: يا رسول الله! ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب. قال: "لِمَ يا أبا أيوب"؟ قال: قلت: كنت" أنت "أحق بالعلو منا، تنزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحي،" زاد في رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "الأسفل أرفق بنا"، فقلت: "لا،" يكون ذلك فهي داخلة على محذوف، فقوله: "والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا،" تأكيد لاشتماله على القسم. زاد في رواية: فلم يزل أبو أيوب يتضرع إليه حتى تحول إلى العلو وأبو أيوب في السفل ... "الحديث" تمامه: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا وأم أيوب موضع يده نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه بعشائه، وقد جلنا فيه بصلا أو ثوما، فرده ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا، قال: "إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه" فأكلنا ولن نصنع له تلك الشجرة بعد، أخرجه بتمامه ابن إسحاق في السيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 رواه الحاكم أيضا. وقد ذكر أن هذا البيت الذي لأبي أيوب، بناه له عليه الصلاة والسلام تبع الأول لما مر بالمدينة وترك فيها أربعمائة عالم، وكتب كتابا للنبي صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى كبيرهم، وسألهم أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب، وهو من ولد ذلك العالم ..........................................................   "وراه الحاكم أيضا" وغيرهم "وقد ذكر" في المبتدأ لابن إسحاق وقصص الأنبياء: "إن هذا البيت لأبي أيوب بناه عليه الصلاة والسلام، تبع الأول" ابن حسان الحميري، الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه: "لا تسبوا تبعا، فإنه قد أسلم"، أخرجه الطبراني. وذكر ابن إسحاق في السيرة. أن اسمه تباب، بضم الفوقية وخفة الموحدة فألف فموحدة: ابن سعد، وفي مغاص الجوهري في أنساب حمير أنه كان تدين بالزبور. "لما مر بالمدينة" في رجوعه من مكة، "وترك فيها أربعمائة عالم" روى ابن عساكر في ترجمته: أنه قدم مكة، وكسا الكعبة وخرج إلى يثرب، وكان في مائة ألف وثلاثين ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، ولما نزلها أجمع أربعمائة رجل من الحكماء والعلماء وتبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في مقامهم، فقالوا: إن شرف البيت وشرف هذه البلدة بهذا الرجل الذي يخرج يقال له محمد صلى الله عليه وسلم، فأراد تبع أن يقيم وأمر ببناء أربعمائة دار لكل رجل دار، واشترى لكل منهم جارية وأعتقها وزوجها منه وأعطاهم عطاء جزيلا وأمرهم بالإقامة إلى وقت خروجه، "وكتب كتابا للنبي صلى الله عليه وسلم" فيه إسلامه، ومنه: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم وختمه بالذهب، "ودفعه إلى كبيرهم وسألهم أن يدفعه للنبي صلى الله عليه وسلم" وعند ابن عساكر: ودفع الكتاب إلى عالم عظيم فصيح كان معه يدبره، وأمره أن يدفع الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإلا من أدركه من ولده وولد ولده أبدا إلى حين خروجه، وكان في الكتاب: أنه آمن به وعلى دينه. وخرج تبع من يثرب، فمات بالهند، ومن موته إلى مولده صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء. "فتداول الدار" التي بناها تبع للنبي صلى الله عليه وسلم لينزلها إذا قدم المدينة كما في المبتدأ والقصص: "الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب وهو من ولد ذلك العالم،" الذي دفع إليه الكتاب، ولما خرج صلى الله عليه وسلم أرسلوا إليه كتاب تبع مع أبي ليلى، فلما رآه صلى الله عليه وسلم، قال له: "أنت أبو ليلى ومعه كتاب تبع الأول" فبقي أبو ليلى متفكرا ولم يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أنت؟ فإني لم أرَ في وجهك أثر السحر، وتوهم أنه ساحر، فقال: "أنا محمد، هات الكتاب"، فلما قرأه قال: "مرحبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 قال: وأهل المدينة الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من ولد أولئك العلماء. فعلى هذا: إنما نزل في منزل نفسه، لا في منزل غيره، كذا حكاه في تحقيق النصرة. وفرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم، وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير عند قدومه يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع   بتبع الأخ الصالح"، ثلاث مرات. "قال: وأهل المدينة الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من ولد أولئك العلماء" الأربعمائة، وفي رواية: أنهم كانوا الأوس والخزرج، "فعلى هذا" المذكور من أن تبعا بنى للمصطفى دارا "إنما نزل في منزل نفسه لا في منزل غيره، كذا حكاه في تحقيق النصرة،" في تاريخ دار الهجرة لقاضيها الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي من مراغة الصعيد من فضلاء طلبة الجمال الإسنوي، "وفرح أهل المدينة بقدومه صلى الله عليه وسلم." روى البخاري عن البراء بن عازب: فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود عن أنس: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه، "وأشرقت المدينة بحلوله فيها، وسرى السرور إلى القلوب. قال أنس بن مالك: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضاء منها كل شيء" فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أكرنا قلوبنا، أخرج الترمذي في المناقب، وقال: صحيح غريب، وابن ماجه في الجنائز، واقتصر المصنف على حاجته منه هنا. وروى ابن أبي خيثمة والدارمي عن أنس أيضا: شهدت يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه صلى الله عليه وسلم المدينة، "وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير" بجيمين جمع أجار، وفي لغة: الأناجير بالنون، أي: الأسطحة، "عند قدومه يقلن" تهنئة له حال دخوله: "طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع" "وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع" زاد رزين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه عليه السلام المدينة رواه البيهقي في الدلائل، وأبو بكر المقرئ في كتاب الشمائل له عن ابن عائشة، وذكره الطبري في الرياض عن ابن الفضل الجمحي قال: سمعت ابن عائشة يقول: أراه عن أبيه فذكره. وقال خرجه الحلواني على شرط الشيخين. انتهى. وسميت ثنية الوداع لأنه عليه السلام ودعه بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره. وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه، فودعه عندها. وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما.   أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع "قلت: إنشاد هذا الشعر عند قدومه عليه السلام المدينة، رواه البيهقي في الدلائل" النبوية "وأبو بكر المقرئ" بضم الميم وسكون القاف الحافظ محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني، صاحب المعجم الكبير وغيره، سمع أبا يعلى وعبدان، وعنه ابن مردويه، وأبو نعيم وأبو الشيخ، مات سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، "في كتاب الشمائل له، عن ابن عائشة" عبيد الله بضم العين، ابن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي، ثقة مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، قال الحافظ: ورمي بالقدر ولا يثبت، ويقال له: ابن عائشة، والعائشي والعيشي نسبة إلى عائشة بن طلحة؛ لأنه من ذريتها. وذكر ابن أبي شيبة أنه أنفق على إخوانه أربعمائة ألف دينار، حتى التجأ إلى أن باع سقف بيته. "وذكره الطبري في الرياض" النضرة" عن ابن الفضل الجمحي، قال: سمعت ابن عائشة يقول: أراه" أظنه "عن أبيه" محمد بن حفص التيمي "فذكره، وقال" المحب الطبري: "خرجه الحلواني" بضم المهملة وسكون اللام نسبة إلى حلوان آخر العراق، الحسن بن علي بن محمد الهذلي، أبو علي الخلال نسبة إلى الخل نزيل مكة، ثقة حافظ له تصانيف شيخ الجماعة، خلا النسائي مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، "على شرط الشيخين، انتهى" كلام الطبري. وفيه معمر، فالشيخان لم يخرجا لابن عائشة، فلا يكون على شرطهما ولو صح الإسناد عليه، "وسميت ثنية الوداع؛ لأنه عليه السلام ودعه به بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره" هو غزوة تبوك، "وقيل: لأنه عليه السلام شيع إليها بعض سراياه،" هي سرية مؤتة "فودعه عندها" وهذان يعطيان أن التسمية حادثة، "وقيل: لأن المسافر من المدينة كان يشيع إليها ويودع عندها قديما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وصحح القاضي عياض الأخير، واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين قدومه عليه السلام: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع فدل على أنه اسم قديم. وقال ابن بطال: إنما سميت ثنية الوداع لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي. انتهى. قال شيخ الإسلام الولي بن العراقي: وهذا كله مردود، ففي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع. قال: وهذا صريح في أنها من جهة الشام، ولهذا لما نقل والدي رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن .................................   وصحح القاضي عياض الأخير: واستدل عليه بقول نساء الأنصار حين قدومه عليه السلام: "طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع" "فدل على أنه اسم قديم"، وهي في الأصل: ما ارتفع من الأرض، وقيل: الطريق في الجبل، "وقال ابن بطال: إنما سميت بثنية الوداع؛ لأنهم كانوا يشيعون الحاج والغزاة إليها، ويودعونهم عندها، وإليها كانوا يخرجون عند التلقي. انتهى. "قال شيخ الإسلام الولي بن العراقي: وهذا كله مردود، ففي صحيح البخاري" في الجهاد والمغازي "وسنن أبي داود والترمذي عن السائب بن يزيد" بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل في نسبه غير ذلك، صحابي صغير له أحاديث قليلة ولاه عمر سوق المدينة، وهو آخر من مات بها سنة إحدى وتسعين أو قبلها، "قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك خرج الناس" كلهم رجالا ونساء وصبيانا وولائد فرحا به وسرورا بضد ما أرجف به المنافقون إذ كانوا يخبرون عنه أخبار السوء في غيبته، ولأنهن ألفنه صلى الله عليه وسلم بخلاف الهجرة، صعدت المخدرات على الأسطحة؛ لأنهن لم يكن رأينه وإن فشا فيهم الإسلام، "يتلقونه من ثنية الوداع، قال" ابن العراقي: "وهذا صريح في أنها من جهة الشام" لا مكة، فظهر منه رد كلام ابن بطال، وأثر ابن عائشة ولم يظهر منه رد كلام عياض؛ لأنه لم يقل حين قدومه من مكة، فيحمل على أنه حين قدومه من تبوك، وكذا القولان قبله في سبب التسمية؛ لأن بعض أسفاره وسراياه مبهم، فيحمل على تبوك ومؤتة، ففي قوله: وهذا كله مردود، نظر بل بعضه. "ولهذا لما نقل والدي" الحافظ عبد الرحيم "رحمه الله في شرح الترمذي كلام ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 بطال قال: إنه وهم، قال: وكلام ابن عائشة معضل لا تقوم به حجة. انتهى. وسبقه إلى ذلك ابن القيم في الهدي النبوي فقال: هذا وهم من بعض الرواة؛ لأن ثنية الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك. لكن قال ابن العراقي أيضا: ويحتمل أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها بثنية الوداع.   بطال، قال: إنه وهم" بفتحتين: غلط، "قال: وكلام ابن عائشة، معضل لا تقوم به حجة، انتهى" ونحوه قول الفتح هنا بعد أثر ابن عائشة، وعزوه لتخريج أبي سعد في الشرف، والخلعي في فوائد هذا سنده معضل، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك، انتهى. وأما قوله في الفتح: في تبوك، في شرح حديث السائب أنكر الداودي هذا، وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك، بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة. قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر من جهتها وهذا واضح، كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في الخليعات قول النسوة لما قدم المدينة: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع فقيل ذلك عند قدومه من غزوة تبوك، انتهى. فهو مع ما فيه من المخالفة لكلام شيخه العراقي وابنه، وكلامه نفسه هنا آخره مخالف لأوله، ونقله عن ابن القيم مخالف لقول المصنف. "وسبقه إلى ذلك ابن القيم في الهدي النبوي،" أي: كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد، "فقال: هذا وهم من بعض الرواة؛ لأن ثنية الوداع إنما هي من ناحية الشام لا يراها القادم من مكة ولا يمر بها إلا إذا توجه إلى الشام، وإنما وقع ذلك عند قدومه من تبوك" وأجاب الشريف السمهودي: بأن كونها شامي المدينة لا يمنع كون هذه الأبيات أنشدت عند الهجرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ركب ناقته وأرخى زمامها، وقال: " دعوها فإنها مأمورة" ومر بدور الأنصار من بني ساعدة، ودارهم شامي المدينة وقرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية، فلا وهم وهو جواب حسن، وإن كان شيخنا البابلي رحمه الله يستبعده بأنه يلزم عليه أن يرجع ويمر على قباء ثانيا، فلا يعد فيه ولو لزم ذلك لإرخائه زمام الناقة، وكونها مأمورة. "لكن قال ابن العراقي أيضا: ويحتمل" في دفع الوهم "أن تكون الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها بثنية الوداع" قال الخميس: يشبه أن هذا هو الحق ويؤيده جمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وفي "شرف المصطفى" وأخرجه البيهقي عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار من بني النجار بالدفوف ويقلن: نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحببنني"، قلن: نعم يا رسول الله. وفي رواية الطبراني في الصغير فقال عليه السلام: "الله يعلم أن قلبي يحبكم". وقال الطبري: وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون جاء محمد، جاء رسول الله. ووعك أبو بكر وبلال، ....................................................................   الثنيات؛ إذ لو كان المراد التي من جهة الشام لم تجمع، قال: ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة، ومرة عند قدومه من تبوك، فلا ينافي ما في البخاري وغيره، ولا ما قاله ابن القيم، انتهى. "وفي شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري، "وأخرج البيهقي" وشيخه الحاكم "عن أنس: لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار" في الطرقات "من بني النجار" زاد الحاكم: يضربن "بالدفوف" جمع دف بضم الدال وفتحها. لغة، "ويقلن" عطف على يضربن، "نحن جوار" جمع جارية وهي الشابة أمة أو حرة، وهو المراد: لقولهن "من بني النجار" دون لبني النجار "يا" قومنا "حبذا" فدخل حرف النداء على مقدر؛ لأنه لا يدخل على الأفعال، وحب فعل ماض "محمد بن جار" تمييز، "فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحبنني"؟ بضم التاء من أحب، وبفتحها وكسر الموحدة من حب، "قلن: نعم يا رسول الله. وفي رواية الطبراني في الصغير" زيادة "فقال عليه السلام: "الله يعلم إن قلبي يحبكم"، بالميم: يا معشر الأنصار أنتن منهم أو الميم للتعظيم، كقوله: وإن شئت حرمت النساء سواكم وفي رواية: فقال: "والله وأنا أحبكن"، قالها ثلاث مرات، فلعله قال الجميع، أو ذا لبعض وذا لبعض. "وقال الطبري: وتفرق الغلمان" جمع غلام وهو الابن الصغير، "والخدم" جمع خادم ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا، "في الطريق ينادون" فرحا "جاء محمد جاء رسول الله" وهذا أخرجه الحاكم في الإكليل عن البراء، ولفظه: فخرج الناس حين قدم المدينة في الطرق والغلمان والخدم، يقولون: جاء محمد رسول الله، الله أكبر جاء محمد رسول الله، "و" لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة "وعك" بضم الواو وكسر العين، أي: حم "أبو بكر وبلال" قالت عائشة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي إذخر وجليل وهل ..........................   فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ كما في رواية للبخاري. وأخرج ابن إسحاق والنسائي عنهما: لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وهي أوبأ أرض الله، أصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه، وأصابت أبا بكر وبلالا وعامر بن فهيرة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، فأذن لي فدخلت عليهم وهم في بيت واحدة، قالت: "وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى، يقول:" وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فقلت: كيف تجدك يا أبت؟ فقال: "كل امرئ مصبح" بضم الميم وفتح المهملة والموحدة الثقيلة، أي: مصاب الموت صباحا، وقيل: يقال هـ: صبحك الله بالخير وهو منعم "في أهله والموت أدنى" أقرب إليه "من شراك" بكسر المعجمة وخفة الراء: سير، "نعله" الذي على ظهر القدم، والمعنى: أن الموت أقرب إلى الشخص من قرب شراك نعله إلى رجله، وذكر عمر بن شيبة في أخبار المدينة: أن هذا الرجز لحنظلة بن سيار قاله يوم ذي قار، وتمثل به الصديق رضي الله عنه. وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي وما يدري ما يقول: ثم دنوت إلى عامر فقلت: كيف تجدك يا عامر، فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي أنفه بروقه فقلت: هذا والله ما يدري ما يقول، أي: لأنها سألتهم عن حالهم فأجابوها بما لا يتعلق به. والطوق: الطاقة. والروق: القرن يضرب مثلا في الحث على حفظ الحريم، قال السهيلي: ويذكر أن هذا الشعر لعمرو بن مامة. "وكان بلال إذا أقلعت" بفتح الهمزة واللام، ولأبي ذر بضم الهمزة وكسر اللام، "عنه الحمى" أي: تركته، كما في رواية ابن إ سحاق والنسائي، وزادا: اضطجع بفناء البيت، ثم "يرفع عقيرته" بفتح المهملة وكسر القاف وسكون التحتية وفتح الراء وفوقية، أي: صوته بالبكاء، "ويقول: ألا" بخفة اللام أداة استفتاح "ليت شعري" أي: مشعوري، أي: ليتني علمت بجواب ما تضمنه قولي "هل أبيتن ليلة بواد" هو وادي مكة، "وحولي إذخر" بكسر الهمزة وسكون الذال وكسر الخاء المعجمتين: حشيش مكة ذو الرائحة الطيبة، "وجليل" بجيم: نبت ضعيف، "وهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ... أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححه لنا ..........................................   أردن" بنون التوكيد الخفيفة "يوما مياه" بالهاء "مجنة" بفتح الميم والنون المشددة وتكسر الميم: موضع على أميال من مكة كان به سوق في الجاهلية، "وهل يبدون" بنون التأكيد الخفيفة: يظهرن، "لي شامة" بمعجمة وميم خفيفة على المعروف، "وطفيل" بفتح المهملة وكسر الفاء وسكون التحتية، قيل: وهذان البيتان ليسا لبلال بل لبكر بن غالب الجرهمي أنشدهما لما بعثهم خزاعة من مكة، فتمثل بهما بلالا "اللهم العن" عتبة بن ربيعة و"شيبة بن ربيعة ,وأمية بن خلف،" هكذا ثبت لعنه للثلاثة في البخاري، آخر كتاب الحج وسقط الأول من قلم المصنف سهوا، وبه يستقيم الجمع في "كما أخرجونا" فلا حاجة للاعتذار بأن المراد: ومن كان على طريقهما في الإيذاء ولذا جمع والكاف للتعليل وما مصدرية، أي: أخرجهم من رحمتك لإخراجهم إيانا "من أرضنا" التي توطناها، ولا يشكل بأن لعن المعين لا يجوز لإمكان أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يؤمنون، وقد قيل في آية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] ، أنها نزلت في معينين، كأبي جهل وأضرابه "إلى أرض الوباء" بالقصر والمد: المرض العام، وهو أعم من الطاعون. وقال المصنف في مقصد الطب: الدليل على مغايرة الطاعون للوباء أن الطاعون لم يدخل المدينة. وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، انتهى. فلا يعارض قدومه إليها وهي وبئة نهيه عن القدوم على الطاعون، لاختصاص النهي به وبنحوه من الموت السريع لا المرض، ولو عم "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد أن أخبرته عائشة بشأنهما. ففي رواية البخاري هنا: قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. وفي رواية ابن إسحاق والنسائي: فذكرت ذلك لرسول الله، فقلت: يا رسول الله! إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى، فنظر إلى السماء، وقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد" فاستجاب الله له وكانت أحب إليه من مكة، كما جزم به السيوطي. "اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وصححها لنا"، فاستجاب الله له فطيب هواءها وترابها وساكنها والعيش بها، قال ابن طبال وغيره: من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها. قال العلامة الشامي: وقد تكرر دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتحبيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وانقل حماها إلى الجحفة". قالت -يعني عائشة: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، ...................................   المدينة والبركة في ثمارها، والظاهر أن الإجابة حصلت بالأول، والتكرير لطلب المزيد فيها من الدين والدنيا، وقد ظهر ذلك في نفس الكيل بحيث يكفي المد بها ما لا يكفيه بغيرها، وهذا أمر محسوس لمن سكنها. "وأنقل حماها إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة وفتح الفاء: قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة نحو خمس مراحل وثمانية من المدينة، وكانت تسمى مهيعة، وبه عبر هنا في رواية ابن إسحاق والنسائي بفتح الميم وسكون الياء على وزن جميلة، وكانت يومئذ مسكن اليهود، وهي الآن ميقات مصر والشام والمغرب، ففيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة وإظهار معجزة عجيبة فإنها من يومئذ وبئة لا يشرب أحد من مائها إلا حم، ولا يمر بها طائر إلا حم وسقط. وروى البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رفعه: "رأيت في المنام، كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إليها". وفي رواية: قدم إنسان من طريق مكة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل لقيت أحدًا"؟ قال: يا رسول الله، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الرأس فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك الحمى، ولن تعود بعد اليوم"، ولا مانع من تجسم الأعراض خرقا للعادة، لتحصل الطمأنينة لهم بإخراجها. قال السمهودي: والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس من حمى الوباء بل رحمة ربنا، ودعوة نبينا للتكفير، قال: وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة، والعريض"، وهو يؤذن ببقاء شيء منها به، وأن الذي نقل عنها أصلا ورأسا سلطانها وشدتها ووباؤها وكثرتها بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليها شيئا، قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية ثم أعيدت خفيفة لئلا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر، ويدل له ما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني عن جابر: استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من هذه"؟ فقالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء، فبلغوا ما لا يعلمه إلا الله فشكو ذلك إليه، فقال: "ما شئتم" إن شئتم دعوت الله ليكشفها عنكم، وإن شئتم تكون لكم طهورا؟ " قالوا: أوتفعل؟ قال: "نعم"، قالوا: فدعها، انتهى. "قالت: يعني عائشة: وقدمنا المدينة" بعد ذلك والمسجد يبنى، كما يأتي "وهي أوبأ أرض الله" أي: أكثر وباء وأشد من غيرها، زاد ابن إسحاق: قال هشام بن عروة: وكان وباؤها معروفا في الجاهلية، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يسلم من وبائها، قيل: انهق، فينهق كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فكان بطحان يجري نجلا. تعني: ماء آجنا. وقال عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك. رواه البخاري.   ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر: لعمري لئن غنيت من خيفة الردى ... نهيق حمار إنني لمروع وفي حديث البراء عند البخاري: أن عائشة وعكت أيضا وكان أبو بكر يدخل عليها. وأخرج ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: أصابت الحمى الصحابة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه حتى ما كانوا يصلون إلا وهم قعود، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك، فقال: "اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا القيام" أي: تكلفوه على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل، "فكان بطحان" بضم الموحدة وحكى فتحها وسكون الطاء المهملة: معهما، وقيل: بفتح أوله وكسر الطاء، وعزا عياض الأول للمحدثين، والثالث للغويين وبين واد بالمدينة. روى البزار وابن أبي شيبة عن عائشة مرفوعا: "بطحان على ترعة من الجنة" بضم الفوقية، أي: باب أو درجة "يجري نجلا" بفتح النون وسكون الجيم، أي: ينزنز، أي: ماء قليلا، وقيل: هو الماء حين يسيل، وقيل: الغدير الذي لا يزال فيه الماء. وقال البخاري: "تعني" عائشة "ماء آجنا" أي: متغير الطعم واللون، وخطأه عياض ورده الحافظ: بأنها قالته كالتعليل لكون المدينة وبئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بالماء الحاصل من النز فهو بصدد أن يتغير، وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء في العادة، انتهى. "و" استجاب الله لرسوله فسكن محبة المدينة في قلوب صحبه، حتى "قال عمر: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك" لما في كل منهما من الفضل العظيم، فقد روى أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، أي: أخصه بشفاعة غير العامة زيادة في إكرامه. قال السمهودي: فيه بشرى لساكنها بالموت على الإسلام، لاختصاص الشفاعة بالمسلمين وكفى به مزية، فكل من مات بها مبشر بذلك، وقال ابن الحاج: فيه دليل على فضلها على مكة لإفراده إياها بالذكر، انتهى. واستجاب الله دعاء الفاروق فرزقه الشهادة بها على يد فيروز النصراني عبد المغيرة ودفن عند حبيبه. "رواه" أي: هذا الحديث الذي أوله: ووعك أبو بكر "البخاري" عن عائشة في كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 وقوله: يرفع عقيرته: أي صوته؛ لأن العقيرة الساق، وكان الذي قطعت رجله رفعها وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك، حكاه الجوهري. وشامة وطفيل: عينان بقرب مكة، والمراد بالوادي وادي مكة. وجليل: نبت ضعيف.   الحج وغيره، ورواه أيضا مسلم وأحمد وابن إسحاق والنسائي، "وقوله: يرفع عقيرته، أي: صوته؛ لأن العقيرة السابق" المقطوعة كما في القاموس فغيرها لا يسمى به. "وكان" فعل ماض "الذي قطعت رجله فرفعها" كما قال الأصمعي، أصله أن رجلا انعقرت رجله فرفعها "وصاح، ثم قيل لكل من صاح ذلك" وإن لم يرفع رجله، "حكاه الجوهري" قال ثعلب: وهذا من الأسماء التي استعملت على غير أصلها، انتهى. فجعله مأخوذا من العقيرة بمعنى الساق، إشارة إلى أنه الأصل لا أنه لا يمكن غيره، فإنه يمكن تفسيره بالصوت الكائن من ألم الحمى التي أصابته. ففي القاموس إطلاق العقيرة على صوت الباكي، "وشامة وطفيل عينان بقرب مكة" كما ارتضاه الخطابي، فقال: كنت أحسبهما جبلين حتى مررت بهما، ووقفت عليهما فإذا هما عينان من ماء، وقواه السهيلي بقول كثير: وما أنس مشيا ولا أنس موقفا ... لنا ولها بالخب خب طفيل والخب: منخفض الأرض، انتهى. وقيل: هما جبلان على نحو ثلاثين ميلا من مكة. وقال البكري: مشرفان على مجنة على بريد من مكة، وجمع باحتمال أن العينين بقرب الجبلين أو فيهما، إلا أن كلام الخطابي يبعد الثاني. وزعم القاموس أن شامة بالميم تصحيف من المتقدمين، والصواب: شابة، بالباء، قال: وبالميم وقع في كتب الحديث جميعها، كذا قال وأشار الحافظ لرده. فقال: زعم بعضهم أن الصواب بالموحدة، بدل الميم، والمعروف بالميم، انتهى. "والمراد بالوادي" في قول بلال: بواد "وادي مكة" وقد رواه النسائي وغيره بفج، وهو أيضا واد خارج مكة، يقول فيه الشاعر: ماذا بفج من الأسواق والطيب ... ومن جوار نقيات عرابيب "وجليل: نبت ضعيف" له خواص أو شيء يشبه الخوص يحشى به البيوت وغيرها، وهو الثمام بضم المثلثة. قال السهيلي رحمه الله: وفي هذا الخبر وما ذكر فيهم من حنينهم إلى مكة ما جلبت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه، وقد جاء في حديث أصيل الغفاري، ويقال فيه الهذلي: أنه قدم من مكة فسألته عائشة: كيف تركت مكة يا أصيل؟ فقال: تركتها حين ابيضت أباطحها، وأحجن ثمامها، وأغدق إذخرها، وأبشر سلمها، فاغروقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "تشوقنا يا أصيل". ويروى أنه قال: "دع القلوب تقر" وقد قال الأول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وأقام صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب سبعة أشهر. وقيل: إلى صفر من السنة الثانية. وقال الدولابي: شهرا.   ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي الخزامى حيث ربتني أهلي بلاد بها نيطت على تمائمي ... وقطعن عني حين أدركني عقلي انتهى. وأصيل بالتصغير، كما في الإصابة. "وأقام صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب سبعة أشهر" قاله ابن سعد، وجزم به في الفتح. "وقيل: إلى صفر من السنة الثانية، وقال الدولابي:" أقام عنده "شهرا" حكى الأقوال الثلاثة مغلطاي، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 " ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر ": وكان يصلي حيث أدركته الصلاة، ولما أراد عليه السلام بناء المسجد الشريف، قال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأبى ذلك صلى الله عليه وسلم ...................................................................   ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر: "وكان" عليه الصلاة والسلام "يصلي حيث أدركته الصلاة" فأراد بناء مسجد جامع للمصلين معه، "ولما أراد عليه السلام بناء المسجد الشريف، قال" الأظهر: فلما، بالفاء كما عبر بها أنس. أخرج الشيخان وغيرهما عنه: كان صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، فأرسل إلى ملأ من بني النجار، فقال: "يا بني النجار ثامنوني" بالمثلثة، أي: اذكروا لي ثمنه لأشتريه منكم، قاله الحافظ في كتاب الصلاة. وقال هنا، أي: قرروا معي ثمنه أو ساوموني بثمنه، ثامنت الرجل إذا ساومته، واقتصر المصنف على الثاني، ونحوه قول الشامي، أي: بايعوني وقاولوني، انتهى. وهو بالنظر إلى الصيغة فقط إذ ليس ثم مفاعلة، فالأول أولى وخاطب البعض بخطاب الكل؛ لأن المخاطبين أشرافهم "بحائطكم" أي: بستانكم، وتقدم أنه كان مربدا، فلعله كان أولا حائطا ثم خرب فصار مربدا، ويؤيده قوله أي أنس: أنه كان فيه نخل وحرث، وقيل: كان بعضه بستانا وبعضه مربدا، قاله الحافظ. ويؤيده أيضا حديث عائشة فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، ولا ينافيه حديث أنس؛ لأنه لا مانع من وجود النخل والحرث في المربد وسماه حائطا باعتبار ما كان. وفي رواية ابن عيينة: فكلم عمهما، أي: الذي كانا في حجره أن يبتاعه منهما. "قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله" قال الحافظ: تقديره من أحد لكن الأمر فيه إلى الله، أو إلى بمعنى من، كما في رواية الإسماعيلي وزاد ابن ماجه: أبدا "فأبى" أي: كره "ذلك صلى الله عليه وسلم" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان قد خرج من مكة بماله كله. قال أنس: وكان في موضع المسجد نخل وخرب ...................................   وامتنع من قبوله إلا بالثمن، "وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه" كما رواه الواقدي عن الزهري، أي: ابتاعها من اليتيم أو من وليهما، إن كنا بالغين، ولا ينافيه وصفهما باليتم؛ لأنه باعتبار ما كان أو كانا يتيمين وقت المساومة، وبلغا قبل التبايع. وفي حديث عائشة عند البخاري، ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا. قال الحافظ: ولا منافاة بينه وبين حديث أنس: فيجمع بأنهم لما قالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا له الغلامين فابتاعه منهما، وحينئذ يحتمل أن القائلين: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، تحملوا عنه للغلامين بالثمن. وعند الزبير أن أبا يوب أرضاهما عن ثمنه، انتهى. وكذا عند أبي معشر. وفي رواية: أن أسعد بن زرارة عوضهما نخلا في بني بياضة، وفي أخرى: أن معاذ بن عفراء، قال: أنا أرضيهما. قال الشامي: ويجمع بأن كلا منهم أرضى اليتمين بشيء فنسب ذلك لكل منهم، ورغب أبو بكر في الخير فدفع العشرة زيادة على ما دفعه أولئك، أو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ أولا بعض المربد في بنائه الأول سنة قدومه، ثم أخذ بعضا آخر؛ لأنه بناه مرتين. وزاد فيه: فكان الثمن من مال أبي بكر في إحداهما، ومن الآخرين في الأخرى، انتهى. وذكر البلاذري أن العشرة التي دفعها من مال أبي بكر كانت ثمن أرض متصلة بالمسجد لسهل وسهيل وعرض عليه أسعد أن يأخذها ويغرم عنه لهما ثمنهما، فأبى. وجمع البرهان بأنهما قضيتان وأرضان كلتاهما لليتيمين، فاشترى كل واحدة بعشرة إحداهما المسجد والأخرى زيادة فيه، وأدى ثمنهما معا أبو بكر والواحدة عاقده عليها أسعد، والأخرى معاذ، قال: وما ذكر من شراء أبي أيوب منهما فيحمل على المجاز أنه كان متكلما بينهما أو عقد معهما بطريق الوكالة أو الوصية، أو أنها أرض ثالثة وفيه بعد، انتهى. "وكان قد خرج من مكة بماله كله" وهو أربعة آلاف أو خمسة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعطيهما ثمنه عشرة دنانير، كره ابن سعد عن الواقدي عن معمر عن معمر وغيره عن الزهري وقبله لعموم نفع المسجد له ولغيره على عادته من قبول ماله في المصالح بخلاف الهجرة، فأحب كونها من ماله عليه السلام، كما مر. "قال أنس" بن مالك فيما رواه الشيخان وغيرهما: "وكان في موضع المسجد نخل وخرب" بفتح المعجمة وكسر الراء فموحدة جمع خربة ككلم وكلمة هكذا ضبط في سنن أبي داود، قال الخطابي: وهي رواية الأكثر. قال ابن الجوزي: وهو المعروف، وحكى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 ومقابر مشركين، فأمر بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت، ثم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ، وبني المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده خشب النخل،   الخطابي: كسر أوله وفتح ثانيه جمع خربة كعنب وعنبة. وللكشميهني بفتح المهملة وسكون الراء ومثلثة وهو وهم؛ لأن البخاري أخرجه من طريق عبد الوارث. وبين أبو داود أن رواية عبد الوارث بمعجمة وموحدة، ورواية حماد بن سلمة بمهملة ومثلثة، ذكره الحافظ، فالوهم إنما هو في روايته في البخاري وإن ثبتت في رواية غيره فهي ثلاث روايات. وجوز الخطابي أنه حرب بضم المهملة وسكون الراء وموحدة وهي الخروق المستديرة في الأرض، أو حدب بمهملتين، أي: مرتفع من الأرض، أو جرب بكسر الجيم وفتح الراء: ما تجر فيه السيول وتأكله الأرض. قال: وهذا لائق بقوله: فسويت؛ لأنه إنما يسوى المكان المحدوب أو الذي جرفته الأرض. أما الخراب فيبنى ويعمر دون ن يصلح ويسوّى. ورده الحافظ، فقال: ما المانع من تسوية الخراب بأن يزال ما بقي منه وتسوى أرضه، ولا ينبغي الالتفات إلى هذه الاحتمالات مع توجيه الرواية الصحيحة، انتهى. "ومقابر مشركين" زاد في رواية: من الجاهلية، "فأمر بالقبور فنبشت" زاد في رواية وبالعظام فغيبت، "وبالخرب فسويت" بإزالة ما كان فيها، "وبالنخل فقطعت،" وجعلت عمدا للمسجد فيه جواز التصرف في المقبرة المملوكة بالهبة والبيع ونبش القبور الدارسة إذا لم تكن محترمة، قال ابن بطال: لم أجد في نبش قبور المشركين لتتخذ مسجدا نصا عن أحد من العلماء، نعم اختلفوا هل تنبش لطلب المال، فأجازه الجمهور، ومنعه الأوزاعي. وهذا الحديث حجة للجواز؛ لأن امشرك لا حرمة حيا ولا ميتا فيه جواز الصلاة في مقابر المشركين، بعد نبشها وإخراج ما فيها وجواز بناء المساجد في أماكنها. قيل: وفيه جواز قطع الأشجار المثمرة للحاجة وفيه نظر، لاحتمال أن تكون مما لا يثمر. واحتج من أجاز بيع غير المالك بهذه القصة؛ لأن المساومة وقعت مع غير الغلامين، وأجيب باحتمال أنهما كانا من بني النجار فساوهما واشترك معهما في المساومة عمهما الذي كانا في حجره، كما تقدم ذكره في فتح الباري في موضعين. "ثم أمر باتخاذ اللبن" بفتح اللام وكسر الموحدة: الطوب النيء، "فاتخذ، وبني المسجد وسقف بالجريد، وجعلت عمده" بفتح أوله وثانيه، ويجوز ضمهما "خشب" بفتحتين وبضم فسكون، "النخل" الذي كان في الحائط. وفي حديث أنس: قصفوا النخل قبلة المسجد. وظاهر هذا الحديث الصحيح أن بناءه باللبن وتسقيفه بالجريد من يومئذ. وروى ابن الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن أنس، قال: بنى صلى الله عليه وسلم مسجده أول ما بناه بالجريد، وإنما بناه باللبن بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وعمل فيه المسلمون وكان عمار بن ياسر ينقل لبنتين، لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام: "للناس أجر ولك أجران، ..................................   الهجرة بأربع سنين، فإن صح أمكن أن معنى أول ما بناه، سقفه وإنما بناه، أي: طينه ويؤيده ما أخرجه رزين عن جعفر بن محمد أنه بنى ولم يلطخ وجعلوا خشبه وسواريه جذوعا وظللوا بالجريد، فشكوا الحر فطينوه بالطين، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح، ولا سيما وقد اتفق عليه أنس وابن عمر وعائشة وأبو سعيد وأحاديثهم في الصحيح. وروى محمد بن الحسن المخزومي وغيره عن شهر بن حوشب: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبنى المسجد، قال: "ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك". قيل: ما ظلة موسى؟ قال: "كان إذا قام أصاب رأسه السقف"، فلم يزال المسجد كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وثمامات بضم المثلث جمع ثمام واحده ثمامة نبت ضعيف، وذكر في الأوج أن قامة موسى وعصاه ووثبته سبعة أذرع، فهو تشبيه تام؛ لأنه جعل ارتفاع سقف المسجد سبعة. وعلى ما ذكر ابن كثير: إن قامة موسى وعصاه ووثبته عشرة، فالتشبيه في أن السقف يصيب رأسه لا يقيد الطول ثم مرسل ابن حوشب هذا، لا معارضة فيه الخبر الصحيح أصلا؛ لأن ذلك لا يمنع أن جدرانه باللبن، كما هو ظاهر. ووقع عند ابن عائذ عن عطاف بن خالد أنه عليه السلام صلى فيه وهو عريش اثني عشر يوما، ثم بناه وسقفه. "وعمل فيه المسلمون" روى أبو يعلى رجال الصحيح عن عائشة والبيهقي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: لما بنى صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة وضع حجرا، ثم قال: "ليضع أبو بكر حجره إلى جنب حجري، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر، ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر، ثم ليضع علي" فسئل عن ذلك، فقال: "هؤلاء الخلفاء من بعدي". وأخرج أحمد عن طلق بن علي، قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: "قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسيسا". وروى أحمد عنه أيضا: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم فأخذت المسحاة فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: "دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين" وعند ابن حبان، فقلت: يا رسول الله أأنقل كما ينقولون؟ قال: "لا، ولكن أخلط لهم الطين، فأنت أعلم به". "وكان" المسلمون يحملون لبنة لبنة، وكان "عمار بن ياسر ينقل لبنتين" كما في البخاري عن أبي سعيد وزاد معمر في جامعه عنه: "لبنة عنه ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية الإسماعيلي وأبي نعيم، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمار، ألا تحمل كما يحمل أصحابك"؟، قال: إني أريد من الله الأجر. "فقال له عليه السلام" بعد مسح ونفض التراب عنه: "للناس أجر، ولك أجران" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وآخر زادك من الدنيا شربة لبن، وتقتلك الفئة الباغية". وروينا أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو ينقل اللبن: "هذا الحمال لا حمال ......   فيه جواز ارتكاب المشقة في عمل البر، وتوقير الرئيس والقيام عنه بما يتعاطاه من المصالح. "وآخر زادك من الدنيا شربة لبن" فكان كذلك، أخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن أبي سنان الدؤلي الصحابي، قال: رأيت عمار بن ياسر دعا غلاما له بشراب فأتاه بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال: صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبة محمد، أو حزبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن آخر شيء تزوده من الدنيا صبحة لبن"، ثم قال: "والله لو هزمونا حتى بلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، يعني لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتقتلك الفئة الباغية" فقتل مع علي بصفين ودفن بها سنة سبع وثلاثين عن ثلاث أو أربع وتسعين سنة، تراجع وروى البخاري في بعض نسخه ومسلم والترمذي وغيرهم مرفوعا: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، أي: إلى سبب فيهما. واستشكل بأن معاوية كان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار. وأجاب الحافظ، بما حاصله: إنهم ظنوا أنهم يدعونه إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم، وإن كان في نفس الأمر بخلاف ذلك فإن الإمم الواجب الطاعة إذ ذاك هو علي الذي كان عمار يدعوهم إليه كما أرشد له بقوله: "يدعوهم إلى الجنة" وبجعله قتلة عمار بغاة وقول ابن بطال تبعا للمهلب: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث إليهم علي يدعوهم إلى الجماعة وهم إذ الخوارج إنما خرجوا على علي بعد عمار اتفاقا. وأما الذين بعثه إليهم فإنما هم أهل الكوفة يستفزهم على قتال عائشة ومن معها قبل وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة جماعة كمن كان مع معاوية وأفضل فما فر منه المهلب، وقع في مثل مع زيادة إطلاقه عليهم الخوارج وحاشهم من ذلك. وفي الحديث فضيلة ظاهرة لعلي وعمار ورد على النواصب الزاعمين أن عليا لم يكن مصيبا في حروبه، انتهى ملخصا. "وروينا" في صحيح البخاري في حديث عائشة الطويل "أنه صلى الله عليه وسلم كان ينقل معهم اللبن" بفتح اللام وكسر الموحدة الطوب النيء "في بنائه" ولا يعارضه أن عمارا كان يحمل عنه؛ لأنه عليه السلام ابتدأ في النقل ترغيبا لهم في العمل، "ويقول: وهو ينقل اللبن" هذا هو الصواب المروي عنه البخاري، فما في بعض النسخ السقيمة الأحمال تصحيف، "هذا الحمال لإحمال" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 .......... خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا. انتهى. وقد قيل: إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا.   بالرفع ولا وجه لنصبه، قاله في النور. "خيبر هذا أبر" بموحدة وشد الراء يا "ربنا وأطهر" بمهملة، أي: أشد طهارة وهذا البيت لعبد الله بن رواحة، يقول: "اللهم إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة" بكسر الجيم وهذا البيت لابن رواحة أيضا، كما قال ابن بطال، وتبعه في الفتح وغيره. وبعضهم نسبة لامرأة من الأنصار. وفي حديث أنس عند الشيخين: اللهم لا خير إلا خيرة الآخرة ... فانصر الأنصار والمهاجرة وزعم الكرماني في كتاب الصلاة: أنه كان يقف على الآخرة والمهاجرة بالتاء ليخرجه عن الوزن، قال الحافظ: ولم يذكر مستنده والكلام الذي بعد هذا، يعني كلام الزهري، يرده، انتهى. بل فيه الوقف على متحرك وليس عربيا، فكيف ينسب إلى سيد الفصحاء، وزعم الداودي أن ابن رواحة: إنما قال لا هم ... إلخ، فأتى به بعض الرواة على المعنى، وإنما يتزن هكذا، ورده الدماميني بأن توهيم للرواة بلا داعية فلا يمتنع أنه قاله بألف ولا على جهة الخزم بمعجمتين، وهو الزيادة على أول البيت حرفا فصاعدا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني حرفا أو اثنين على الصحيح، هذا لا نزاع فيه بين العروضيين، ولم يقل أحد بامتناعه، وإن لم يستحسنوه، وما قال أحد أن الخزم يقتضي إلغاء ما هو فيه على أن يعد شعرا، نعم الزيادة، لا يعتد بها في الوزن، ويكون ابتداء النظم ما بعدها فكذا ما نحن فيه، انتهى. "قال ابن شهاب" محمد بن مسلم الزهري "ولم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم تمثل بشعر تام غير هذا" البيت، كما هو بقية قوله في البخاري ولأبي ذر غير هذه الأبيات، أي: البيتين المذكورين، وزاد ابن عائذ عن الزهري التي كان يرتجز بهن، وهو ينقل اللبن لبنيان المسجد، "انتهى" قول الزهري. قال الحافظ: ولا اعتراض عليه ولو ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنشد غير ما نقله، لأنه نفى أن يكون بلغه ولم يطلق النفي، واستشكل هذا بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، ولذا قال ابن التين: أنكر هذا على الزهري؛ لأن العلماء اختلفوا هل أنشد صلى الله عليه وسلم شعرا أم لا، وعلى الجواز هل ينشد بيتًا واحدًا أو يزيد، وقيل: البيت الواحد ليس بشعر، وفيه نظر. "و" أجاب الحافظ وتبعه المصنف، بأنه "قد قيل: إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، ولا دليل على منع إنشاده متمثلا" فالمفهوم من الآية الكريمة منع إنشائه لا إنشاده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 وقوله: هذا الحمال: -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- أي المحمول من اللبن أبر عند الله من حمال خيبر، أي: التي تحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك. وفي رواية المستملي بالجيم. وفي كتاب "تحقيق النصرة" قيل: وضع عليه السلام رداءه فوضع الناس أوديتهم وهم يقولون: لئن قعدنا والنبي يعمل ... ذاك إذا للعمل المضلل   قال ابن التين أيضا: وأنكر على الزهري من جهة أنه رجز لا شعر ولذا يقال لقائله: راجز وأنشد رجز الأشاعر وأنشد شعرا، وأجاب الحافظ بأن الجمهور على أن الرجز الموزون من الشعر، وقد قيل: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يطلق القافية بل يقولها متحركة ولا يثبت ذلك، وسيأتي في الخندق من حديث سهل بلفظ: "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وهذا ليس بموزون، انتهى. وقال في المصابيح: لا نسلم أن هذا الحمال لإحمال البيت من الرجز، وإنما هو من مشطور السريع دخله الكشف والخبن، انتهى. "وقوله: هذا الحمال، بكسر الحاء المهملة" وكذا في الإحمال. ولأبي ذر بفتحها فيهما ذكره المصنف، "وتخفيف الميم" وهو جمع، أي: هذا الحمل أو مصدر بمعنى المفعول، "أي:" هذا "المحمول من اللبن أبر عند الله" قال الحافظ: أي أبقر ذخرا وأكثر ثوابا وأدوم منفعة وأشد طهارة، "من حمال خيبر، أي: التي يحمل منها من التمر والزبيب ونحو ذلك" وتفسيره بهذا مراد المتمثل به صلى الله عليه وسلم. وقول القاموس، يعني تمر الجنة، وأنه لا ينفد مراد منشئ الشعر ان رواحة، "وفي رواية المستملي" أبي إسحاق إبراهيم البلخي المتوفى سنة ست وسبعين وثلاثمائة أحد رواة البخاري عن الفريري "بالجيم" المفتوحة على ما في بعض النسخ عنه كما في الفتح، ولذا قال في العيون: قيل: رواه المستملي بالجيم فيهما وله وجه، والأول أظهر. ونحوه في المطالع، أي: لأن وجه تخصيصها بالذكر كونها تأتي بما يحتاج إليه من تمر وزبيب ونحوهما. "وفي كتاب تحقيق النصرة" للزين المراغي "قيل: وضع عليه السلام رداءه فوضع الناس أرديتهم" أي: ما كان على عواتقهم. ففي رواية: وضعوا أرديتهم وأكسيتهم "وهم" يعملون و"يقولون لئن قعدنا والنبي يعمل ذاك إذا" التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ذاك إذا فعلناه "للعمل المضلل" صاحبه ففيه حذف وإيثال، والذي رواه الزبير بن بكار عن مجمع بن يزيد ومن طريق آخر عن أم سلمة، قال قائل من المسلمين في ذلك، قال في النور، ولا أعرفه: لئن قعدنا والنبي يعمل ... لذاك منا العمل المضلل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وآخرون يقولون: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا ومن يرى عن التراب حائدا وجعلت قبلته للقدس، ............................................................................   وهو كذلك في بعض نسخ المصنف. "وآخرون يقولون" ورواه ابن بكار عن أم سلمة بلفظ، وقال علي بن أبي طالب: "لا يستوي من يعمر المساجدا" بألف الإطلاق "يدأب" يجد في عمله، "فيها قائما وقاعدا، ومن يرى عن التراب حائدا" أي: مائلا، قال ابن هشام: سألت غير واحد من علماء الشعر عن هذا الرجز، فقالوا: بلغنا أن عليا ارتجز به فلا يدري أهو قائله أم غيره، قال: وإنما قال علي ذلك مباسطة ومطايبة كما هو عادة الجماعة إذا اجتمعوا على عمل وليس ذلك طعنا، انتهى. وعند البيهقي عن الحسن: لما بنى صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، وكان عثمان بن مظعون رجلا متنطعا بميم مضمومة ففوقية فنون مفتوحتين فطاء مكسورة فعين مهملتين: من تنطع إذا تغالى وتأتق، وكان يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه فإن أصابه شيء من التراب نفضة، فنظر إليه علي بن أبي طالب فأنشد يقول: لا يستوي ... إلخ، فسمعها عمار بن ياسر فجعل يرتجزها ولا يدري من يعني بها، فمر بعثمان، فقال: يابن سمية، لأعرفن بمن تعرض ومعه حديدة، فقال: لتكفن أن لأعترضن بها وجهك، فسمعه صلى الله عليه وسلم فغضب، ثم قالوا لعمار: أنه قد غضب فيك، وناف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه كما غضب، فقال: يا رسول الله! ما لي ولأصحابك؟ قال: "ما لك ولهم" قال: يريدون قتلى يحملون لبنة ولبنة، ويحملون علي لبنتين، فأخذ صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به المسجد وجعل يمسح وفرته، ويقول: "يابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية" وقوله: يحملون ... إلخ، استعطاف ومباسطة ليزول الغضب، وإنما كان يحمل عن المصطفى إرادة للأجر، كما مر. وفي هذه الأحاديث جواز قول الشعر وأنواعه خصوصا الرجز في الحرب، وفي التعاون على سائر الأعمال الشاقة لما فيه من تحريك الهمم وتشجيع النفوس وتحريكها على معالجة الأمور الصعبة. "وجعلت قبلته القدس" كما رواه النجار وغيره ووقع في الشفاء، رواه الزبير بن بكار عن نافع بن جبير وداود بن قيس وابن شهاب مرسلا رفعت له الكعبة حين بنى مسجده. وفي الروض روي عن الشفاء بنت عبد الرحمن الأنصارية، قال: كان صلى الله عليه وسلم حين بنى المسجد يؤمه جبريل إلى الكعبة ويقيم له القبلة، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخرة، وباب يقال له باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه. وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، ............................   وأخرج الطبراني برجال ثقات عن الشموس بنت النعمان الأنصارية رضي الله عنها وإسماعيل الأزدي عن رجل من الأنصار والغرافي بغين معجمة وفاء من طريق مالك بن أنس عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أقام رهطا على زاوية المسجد ليعدل القبلة فأتاه جبريل، فقال: ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة، لا يحول دون بصره شيء، فلما فرغ قال جبريل بيده هكذا، فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت القبلة على الميزاب، واستشكل بأنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر كان يستقبل القدس واستمر بعد الهجرة مدة كما يأتي، ولذا قال التجاني في شرح الشفاء أن ما فيها غريب والمعروف أن جبريل أعلمه بحقيقة القبلة وأراه سمتها لا أنه رفع له الكعبة حتى رآها، ولذا جاءت الآثار من غير تقييد. وقال أبو الوليد ابن رشدي في شرح قول مالك في العتيبة: سمعن أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبلة مسجد المدينة، يعني أراه سمتها وبين لها جهتها، والصواب أن ذلك كان حين حولت القبلة لا حين بناء مسجده، وكون جبريل أراه سمتها لا يقتضي رفعها، انتهى. وأجيب: بأنه لا مانع من أن يسأل جبريل أن يريه سمتها حتى إذا وقع استقبالها لم يتردد فيه، ولا يتحير. وفي الإصابة: خطر لي في جوابه أنه أطلق الكعبة وأراد القبلة أو الكعبة على الحقيقة، فإذا بين له جهتها كان إذا استدبرها استقبل بيت المقدس وتكون النكتة فيه أنه سيحول إلى الكعبة فلا يحتاج إلى تقويم آخر، قال: ويرجح الاحتمال الأول، رواية محمد بن الحسن المخزومي بلفظ تراءى له جبريل حتى أم له القبلة، انتهى. وأكثر الناس اأجوبة عن ذلك بما فيه نزاع، وهذا أحسنها. "وجعل له ثلاث أبواب في مؤخره" وهو المعروف بباب أبي بكر "وباب يقال له باب الرحمة،" وكان يقال له باب عاتكة، "والباب الذي يدخل منه" وهو المعروف بباب آل عثمان، ولما حولت القبلة سد صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان في مؤخره وفتح بابا حذاءه، ولم يبق من الأبواب إلا باب عثمان المعروف بباب جبريل، ذكره ابن النجار. "وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع" كما رواه يحيى بن الحسن عن زيد بن حارثة، ورواه رزين عن محمد الباقر، روى ابن النجار وغيره عن خارجة بن ثابت، قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده مربعا وجعل قبلته إلى بيت المقدس وطوله سبعون ذراعا في ستين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه. وجعلوا أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، ..............................................   ذراعا، فيحتمل أنه كان كذلك ثم زاد فيه فبلغ المائة، ويؤيده قول أهل السير: بنى صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة أقل من مائة في مائة ثم بناه، وزدا فيه: "وفي الجانبين" أي: العرض "مثل ذلك" كما في خبر محمد الباقر وزيد بن حارثة فكان مربعا "أو دونه" إشارة للقول بأن عرضه كان أقل من مائة حكاه غير واحد، "وجعلوا أساسه" أي: طرفه الثابت عن الأرض، "قريبا من ثلاثة أذرع" بالحجارة ولم يسطح فشكوا الحر فجعل خشبه وسواريه جذوعا وظللوه بالجريد ثم بالجص، فلما وكف عليهم طينوه بالطين وجعلوا وسطه رحبة وكان جداره قبل أن يسقف قامة وشيئا، رواه رزين عن جعفر بن محمد. وذكر البلاذري ورواه يحيى بن الحسن عن النوار أم زيد بن ثابت: أنها رأت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم صلى بهم في ذلك المسجد وبناه هو فهو مسجده، فإن صح فكأنه هدم بناء أسعد وزاد فيه أو زاد بدون هدم لضيقه عن المسلمين أو نحو ذلك، وإلا فما في الصحيح أصح من أنه اشترى المربد وبناه، كما قالت عائشة، وقال: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم"، رواه أنس هذا وفي البخاري, وأبي داود عن ابن عمر: أن المسجد كان على عهده صلى الله عليه وسلم مبنيا اللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهده صلى الله عليه وسلم وأعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وجعل عمده جارة منقوشة وسقفه بالساج، قال ابن بطال وغيره: هذا يدل على أن السنة في بنيان المسجد القصد وترك الغلو في تحسينه، فقد كان عمر مع كثرة الفتوح في أيامه وسعة بيت المال عنده لم يغيره عما كان عليه وإنما احتاج إلى تجديد؛ لأن جريد النخل قد نخر في أيامه فكلم العباس في بيع داره ليزيدها فيه فوهبها العباس لله وللمسلمين فزادها عمر في المسجد، ثم كان عثمان والمال في زمانه أكثر فحسنه بما لا يقتضي الزخرفة، ومع ذلك أنكر عليه بعض الصحابة. وأول من زخرف المساجد الوليد بن عبد الملك وذلك في أواخر عصر الصحابة، وسكت العلماء عن إنكار ذلك خوف الفتنة، ورخص فيه بعضهم وهو قول أبي حنيفة إذا وقع تعظيما للمساجد ولم يصرف عليه من بيت المال، وقال ابن المنير لما شيد الناس بيوتهم، وزخرفوها، ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد صونا لها عن الاستهانة، وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية، فهو كما قال: وإن كان لخشية شغل بال المصلي للزخرفة، فلا لبقاء العلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد، فلما فرغ من البناء بنى لعائشة في البيت الذي يليه شارعا إلى المسجد، وجعل سودة بن زمعة في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان.   "وبنى بيوتا" أي: بيتين فقط، كما صرح به غير واحد، "إلى جنبه" أي: المسجد، "باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد،" ويفيد أنهما بيتان، قوله: "فلما فرغ من البناء" للمسجد "بنى لعائشة" لأنها كانت زوجه وإن تأخر دخوله بها "في البيت الذي يليه شارعا إلى المسجد" وكان باب عائشة مواجه الشام بمصراع واد من عرعر أو ساج، ذكره ابن زيالة عن محمد بن هلال "وجعل سودة بنت زمعة" بفتح الزاي وسكون الميم عند المحدثين وصدر به المجد، فقول المصباح: لم أظفر بالسكون في كتب اللغة قصور "في البيت الآخر الذي يليه إلى الباب الذي يلي" باب "آل عثمان" ثم بنى عليه السلام بقية الحجرات عند الحاجة إليها، قال الواقدي: كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أحدث صلى الله عليه وسلم أهلا نزل له حارثة عن منزل، أي: محل حجرة حتى صارت منازله كلها له عليه السلام، قال أهل السير: ضرب الحجرات ما بين عائشة وبين القبلة والشرق إلى المسجد، ولم يضربها في غربيه، وكانت خارجة من المسجد مديرة به إلا من المغرب، وكانت أبوابها شارعة من المسجد. قال ابن الجوزي: كانت لها في الشق الأيسر إلى وجه الأمام المنبر إلى جهة الشام، وعن عطاء الخراساني ومحمد بن هلال: أدركنا حجر الزوجات من جريد على أبوابها مسوح من شعر أسود. وروى البخاري في الأدب عن داود بن قيس: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظن أن عرض البيت من باب الحجرة إلى البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع، ومن داخل عشرة أذرع، وأظن السمك ما بين الثمان والسبع. وعند ابن سعد: وعلى أبوابها المسوح السود من الشعر. وكتب الويد بن عبد الملك بإدخالها في المسجد، فهدمت، فقال ابن المسيب: ليتها تركت ليراها من يأتي بعد فيزهد الناس في التكاثر والتفاخر. وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: ليتها تركت ليرى الناس ما رضي الله لنبيه ومفاتيح خزائن الدنيا بيده. قال ابن سعد: أوصت سودة ببيتها لعائشة وباع أولياء صفية بيتها من معاوية بمائة ألف، وقيل: بثمانين ألفا، وتركت حفصة بيتها فورثه ابن عمر، فلم يأخذ له ثمنا، وأدخل المسجد. قال ابن النجار: وبيت فاطمة اليوم جوف المقصورة وفيه محراب وهو خلف حجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال السمهودي: المقصورة اليوم دائرة على بيت فاطمة وعلى حجرة عائشة من جهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ثم تحول عليه السلام من دار أبي أيوب إلى مساكنه التي بناها. وكان قد أرسل زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه إلى مكة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن، وخرد عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبيه. وكان في المسجد موضع مظلل، تأوي إليه المساكين، يسمى الصفة، وكان أهله يسمون: أهل الصفة، .......................   الزوراء، وبينهما موضع يحترمه الناس ولا يدوسونه بأرجلهم، ويذكر أنه قبر فاطمة على أحد الأقوال. "ثم تحول عليه السلام من دار أبي أيوب إلى مساكنه التي بناها، وكان قد أرسل زيد بن حارثة" كما رواه الطبراني عن عائشة، قالت: لما هاجر صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفنا بمكة، فلما استقر بالمدينة بعث زيد بن حارثة، "وأبا رافع مولاه إلى مكة" قال: وبعث أبو بكر عبد الله بن أريقط، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان وأم أبي بكر وأنا وأختي أسماء، فخرج بنا وخرج زيد وأبو رافع، "فقدما بفاطمة وأم كلثوم" وأما رقية فسبقت مع زوجها عثمان وزينب أخرت عند زوجها أبي العاصي بن الربيع حتى أسر ببدر، فلما من عليه أرسلها إلى المدينة، "وسودة بنت زمعة وأسامة بن زيد وأم أيمن" وولدها أيمن، كما في رواية الطبراني. "وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبيه" ومنهم عائشة، كما علم؛ لأنه إنما بنى بها بعد. قالت عائشة: واصطحبنا حتى قدمنا المدينة فنزلنا في عيال أبي بكر ونزل آل النبي صلى الله عليه وسلم عنده وهو يومئذ يبني مسجده وبيوته، فأدخل سودة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، رواه الطبراني. "وكان في المسجد موضع مظلل يأوي إليه المساكين، يسمى الصفة" بضم الصاد وشد الفاء، قال عياض: وإليها نسبوا على أشهر الأقاويل، وقال الذهبي: كانت القبلة قبل أن تحول في شمال المسجد، فلما حولت بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة. وقال الحافظ: الصفة مكان في مؤخر المسجد مظلل أعد لنزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له ولا أهل وكانوا يكثرون فيه ويقلون بحسب من يتزوج منهم، أو يموت، أو يسافر. وفي الحلية من مرسل الحسن: بنيت صفة في المسجد لضعفاء المسلمين. "وكان أهله يسمون أهل الصفة" قال عبد الرحمن بن أبي بكر: كان أصحاب الصفة الفقراء. وقال أبو هريرة: أهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل، ولا مال، ولا على أحد إذا أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، رواهما البخاري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وكان عليه السلام يدعوهم بالليل، فيفرقهم على أصحابه، وتتعشى طائفة منهم معه عليه السلام. وفي البخاري من حديث أبي هريرة: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار، وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساق، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. وهذا يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم في غزوة بئر معونة، وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة.   "وكان عليه السلام يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه" لاحتياجهم وعدم ما يكفيهم عنده، "وتتعشى طائفة منهم معه عليه السلام" مواساة وتكرما منه وتواضعا لربه، وفي حديث: أن فاطمة طلبت منه، فقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم" , "وفي البخاري من حديث أبي هريرة: لقد" وفي رواية بحذف لقد، "رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء" بكسر الراء: ما يستر أعالي البدن فقط، لشدة فقرهم لا يزيد الواحد منهم على ساتر عورته، كما أفاده بقوله: "إما إزار" فقط "وإما كساء" على الهيئة المشروحة، بقول: "قد ربطوا" الأكسية فحذف المفعول للعلم به، "في أعناقهم" لعدم تيسر عورتهم، وجمع؛ لأن المراد بالرجل الجنس، "فمنها" أي: الأكسية، قال المصنف: والجمع باعتبار أن الكساء جنس "ما يبلغ نصف الساق" وفي نسخة: آخر الساق، والذي في البخاري: نصف الساقين بالتثنية، وهو أنسب بقوله: "ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه" الواحد منهم "بيده كراهية أن ترى عورته" لأنه لا يستمسك بنفسه وربطه على تلك الهيئة إنما يمنع سقوطه لا ظهور العورة. قال الحافظ: وزاد الإسماعيلي أن ذلك في حال كونهم في الصلاة، ومحصله أنه لم يكن لأحد منهم ثوبان، انتهى. وفي شرح المصنف: الأصيلي بدل الإسماعيلي، وهو سبق قلم. "وهذا" أي: قوله من أصحاب الصفة، "يشعر بأنهم كانوا أكثر من سبعين" لأن من للتبعيض على المتبادر. وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن سيرين، قال: كان أهل الصفة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد، والرجل بالاثنين، والرجل بالجماعة فأما سعد بن عبادة فكان ينطلق بثمانين. "وهؤلاء الذين رآهم أبو هريرة غير السبعين الذين بعثهم" النبي صلى الله عليه وسلم "في غزوة بئر معونة" سنة ثلاث من الهجرة بعد أحد، "وكانوا من أهل الصفة أيضا، لكنهم استشهدوا قبل إسلام أبي هريرة" لأنه كان عام خيبر سنة سبع، وذكر المصنف قصتهم في المغازي، فذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي والسلمي، والحاكم وأبو نعيم، وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشته، قال في فتح الباري. وكان صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع في المسجد قائما، فقال: $"إن القيام قد شق علي، فصنع له المنبر".   ههنا تكثير للسواد، "وقد اعتنى بجمع أصحاب الصفة ابن الأعرابي،" الإمام الحافظ الزاهد أبو سعيد، أحمد بن محمد بن زياد البصري الورع الثقة الثبت العابد الرباني كبير القدر صاحب التصانيف، سمع أبا داود وخلقا عمل لهم معجما، وعنه ابن منده وغيره، ولد سنة ست وأربعين ومائتين، ومات سنة أربع وثلاثمائة. "والسلمي" في كتاب تاريخ أهل الصفة بضم السين نسبة لجد له اسمه سليم، هو الإمام الزاهد محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري، أبو عبد الرحمن الرحال سمع الأصم وغيره، وعنه الحاكم والقشيري والبيهقي، وحدث أكثر من أربعين سنة، وكان وافر الجلالة، وصنف نحو مائة، وقيل: نحو ألف، وفي اللسان كأصله ليس بعمدة ونسبه البيهقي للوهم، وقال القطان: كان يضع الصوفية الأحاديث، وخالفه الخطيب، وقال: إنه ثقة صاحب علم، وحال قال السبكي: وهو الصحيح، ولا عبرة بالطعن فيه، مات سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. "والحاكم" في الإكليل، "وأبو نعيم" في الحلية فزادوا عنده على مائة، "وعند كل منهم ما ليس عند الآخر، وفيما ذكروه اعتراض ومناقشة" لا يسعها هذا المختصر. "قال في فتح الباري:" وقال ابن تيمية: جملة من أوى إلى الصفة مع تفرقهم، قيل: أربعمائة، وقيل أكثر. "وكان صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جذع" بمعجمة واحدة: الجذوع وهو ساق النخلة، قيل: ولا يسمى جذعا إلا بعد يبسه، وقيل: يسمى أخضر أو يابسا بعد قطعه. "في المسجد قائما، فقال: "إن القيام قد شق علي"، فصنع له المنبر" من إثل الغابة، كما في الصحيحين عن سهل بن سعد بفتح الهمزة وسكون المثلثة: شجر كالطرفاء لا شوك له وخشبه جيد يعمل منه القصاع والأواني، والغابة بمعجمة وموحدة موضع بالعوالي، واختلف في اسم صانعه، فروى قاسم بن أصبغ، وأبو سعد في الشرف عن سهل: أنه ميمون. قال الحافظ وغيره: وهو الأصح الأشهر والأقرب، وهو مولى امرأة من الأنصار، كما في الصحيح. وقيل: إنه مولى سعد بن عبادة، فكأنه في الأصل مولى امرأته، ونسب إلى سعد مجازا واسم امرأته فكيهه بنت عمه عبيد بن دليم أسلمت وبايعت، لكن عند ابن راهويه أنه مولى لبني بياضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 وكان عمه وحنين الجذع في السنة الثامنة -بالميم- من الهجرة، وبه جزم ابن النجار .........................................................   وقول جعفر المستغفري، اسمها علاثة بمهملة ومثلثة تصحيف، كما قاله أبو موسى المديني. وعند الطبراني في الأوسط: اسمها عائشة، وإسناده ضعيف. وروى أبو نعيم: أن صانعه باقوم بموحدة فألف فقاف فواو فميم، الرومي مولى سعيد بن العاصي، أو باقوم بلام آخره، وهي رواية عبد الرزاق أو صباح بضم المهملة وخفة الموحدة، أو قبيصة المخزومي، أو مينا بكسر الميم، أو صالح مولى العباس، أو إبراهين، أو كلاب وهو أيضا مولى العباس، أو تميم الداري. روى أبو داود وغيره عن ابن عمر أن تميما الداري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كثر لحمه: "ألا تتخذ لك منبرا يحمل عظامك؟ " قال: "بلى"، فاتخذ له منبرا ... الحديث، قال في الفتح: وليس في جميع الروايات التي سمي فيه النجار شيء قوي السند، إلا حديث ابن عمر فإن إسناده جيد، لكن لا تصريح فيه بأن صانعه تميم، بل بين ابن سعد في روايته من حديث أبي هريرة أن تميما لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب القول بأنه ميمون، لكونه من طريق سهل بن سعد. وأما الأقوال الأخرة فلا اعتداد بها لوهائها، ويبعد جدا أن يجمع بينها بأن النجار كانت له أسماء متعددة. وأما احتمال كون الجميع اشتركوا في عمله، فيمنع منه قوله في كثير من الروايات السابقة لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد، يقال له ميمون، إلا أن حمل على المراد بالواحد في صناعته والبقية أعوانه، فيمكن. وكان ثلاث درجات إلى أن زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات، وسبب ذلك أن معاوية كتب إليه أن يحمل إليه المنبر، فأمر بقلعه فقلع، فأظلمت المدينة وانكسفت الشمس، حتى رأوا النجوم، فخرج مروان فخطب، فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارا فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس، أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة من طرق، واستمر على ذلك إلى أن احترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحترق، فجدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرا، فأزيل منبر المظفر فلم يزل منبر بيبرس إلى سنة عشرين وثمانمائة، فأرسل المؤيد شيخ منبرا فبقي إلى سنة سبع وستين وثمانمائة، فأرسل الظاهر خشقدم منبرا. "وكان عمله" أي: المنبر النبوي "وحنين الجذع في السنة الثامنة، بالميم" والنون احترازا من الثانية بنون وياء، "من الهجرة" حكاه ابن سعد، "وبه جزم ابن النجار" الحافظ الإمام البارع المؤرخ أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي الثقة الدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وعورض: بما في حديث الإفك في الصحيحين، قالت عائشة: فثار الحيان -الأوس والخزرج- حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فنزل فخفضهم حتى سكتوا. وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان في السابعة: وعورض: بذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع. وعن بعض أهل السير: أنه عليه السلام كان ............................................................   الورع الفهم، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع ابن الجوزي وطبقته وله ثلاثة آلاف شيخ وتصانيف، ومات سنة ثلاث وأربعين وستمائة، "وعورض بما في حديث الإفك في الصحيحين" لما رقى صلى الله عليه وسلم المبر، وقال: "يا معشر المسلمين!! من يعذرني في رجل قد بلغني أذاه في أهلي -يعني عبد الله بن أبي- والله ما علمت على أهلي إلا خيرا" فقام سعد بن معاذ، فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير فقال لابن عبادة: كذبت، لعمر الله لنقتلنه. "قالت عائشة: فثار الحيان الأوس والخزرج" بمثلثة، أي: نهض بعضهم إلى بعض من الغضب، "حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل فخفضهم" بالتشديد، أي: تلفط بهم "حتى سكتوا" وتركوا المخاصمة وسكت عليه السلام. وقصة الإفك كانت في سنة خمس، كما في مغازي ابن عقبة، ونقل البخاري عنه سنة أربع وهم كما قاله الحافظ وغيره، وقال ابن إسحاق: سنة ست فعلى كل لا يصح كون عمله في الثامنة، قال الحافظ: فإن حمل على التجوز في ذكر المنبر، ألا فهو أصح مما مضى، انتهى. يعني القول بأنه سنة ثمان، وبأنه سنة سبع، ولولا ذكر تميم فيه لأمكن الجواب باحتمال أن المنبر الذي رقاه في قصة الإفك الجذع الذي كان يخطب عليه؛ ذ المنبر كما في الصحاح وغيره: كل ما ارتفع. وأما جواب شيخنا البابلي باحتمال أنه منبر آخر غير هذا، فيرده قول ابن سعد: إن هذا أول منبر عمل في الإسلام. "وجزم ابن سعد بأن عمل المنبر كان في السابعة" بسين فألف فموحدة، "وعورض بذكر العباس" بن عبد المطلب "وتميم" الداري "فيه، وكان قدوم العباس" المدينة "بعد الفتح" لمكة "في آخر سنة ثمان وقدوم تميم سنة تسع" بفوقية فسين، "وعن بعض أهل السير أنه عليه السلام كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب. وعورض. بأن الحديث الصحيحة أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب. وستأتي قصة حنين الجذع إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات.   يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب" ولو صح لأمكن الجواب منه وسقط الإشكال، "و" لكن "عورض بأن الحديث الصحيحة" المروية في الصحيحين وغيرهما من عدة طرق، "أنه كان يستند إلى الجذع إذا خطب" قبل اتخاذه المنبر الذي من خشب "وستأتي قصة حنين الجذع إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات،" وهو الرابع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 " ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ":   ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: وكانت كما قال ابن عبد البر وغيره: مرتين، الأولى بمكة قبل الهجرة بين المهاجرين بعضهم بعضا على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر وطلحة والزبير، وبين عثمان وعبد الرحمن، رواه الحاكم. وفي رواية له: بين الزبير وبين ابن مسعود، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وهكذا بين كل اثنين منهم إلى أن بقي علي، فقال: آخيت بين أصحابك، فمن أخي؟ قال: "أنا أخوك". وجاءت أحاديث كثيرة في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، وقد روى الترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أما ترضى أن أكون أخاك"؟ قال: بلى، قال: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، وأنكر ابن تيمية هذه المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا بين المصطفى وعلي، وزعم أن ذلك من الأكاذيب وأنه لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، قال: لأنها شرعت لإرفاق بعضهم بعضا، ولتتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاته لأحد ولا لمؤاخاة المهاجرين، ورده الحافظ بأنه رد للنص بالقياس، وإغفال عن حكمة المؤاخاة؛ لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى، ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا تظهر حكمة مؤاخاته لعلي؛ لأنه هو الذي يقوم به من الصبا قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد لأن زيدا مولاهم فقد ثبتت أخوتهما وهما من المهاجرين. وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيدا، قال: إن بنت حمزة ابنة أخي، وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود، وهما من المهاجرين، وأخرجه الضياء في المختارة، وابن تيمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر، آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون، ...................................   من أحاديث المستدرك، انتهى. والثانية هي التي ذكرها المصنف، فقال: "ولما كان بعد قدومه بخمسة أشهر" كما قال أبو عمر، وقيل: بثمانية، وقيل: بسبعة، وقيل: بسنة وثلاثة أشهر قبل بدر، وقيل: والمسجد يبنى، وقيل: قبل بنائه، "آخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار" قال السهيلي: ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أبطل المواريث وجعل المؤمنين كلهم أخوة، وأنزل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] يعني: في التوادد وشمول الدعوة، انتهى. وقال العز بن عبد السلام: الأخوة حقيقية ومجازية، فالحقيقية المشابهة، يقال: هذا أخو هذا؛ لأنه شابهه في خروجه من البطن الذي خرج منه ومن الظهر أيضا، وآثارها المعاضدة والمناصرة، فتستعمل في هذه الآثار من التعبير بالسبب عن المسبب، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} [الحجرات: 10] هو خبر معناه الأمر، أي، لينصر بعضهم بعضا، وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن أخو المؤمن" خبر أيضا، بمعنى الأمر، ولما انقسمت الحقيقية إلى أعلى المراتب كالشقيق وإلى ما دون ذلك، كالأخ للأب أو للأم كانت المجازية كذلك، فالأخوة الناشئة عن الإسلام هي الدنيا من المجازية، ثم إنها كملت بالأخوة التي سنها صلى الله عليه وسلم بمؤاخاته بين جماعة من أصحابه ومعناها أنه أمر ندب أن يعين كل واحد أخاه على المعروف ويعاضده وينصره، فصار المسلمان في هذه الأخوة الثانية في أعلى مراتب الأخوة المجازية كالشقيقين في الحقيقة، فإن قيل هذه الأخوة مستفادة من أصل الإسلام، فإنه يقتضي المعاونة على كل أمر جوابه، أن الأمر الثاني مؤكد لا منشئ لأم آخر؛ لأنه لا يستوي من وعدته بالمعروف من المسلمين ومن لم تعده، فإن الموعود قد وجد في حقه سببان الإسلام والمواعدة وهذه الأخوة هي التزام ومواعدة، ولا شك أن طلب الشارع للوفاء بالخير الموعود به أعلى رتبة من طلب الخير الذي لم يعد به، فقد تحقق طلب لم يكن ثابتا بأصل الإسلام وفيها فائدة أخرى، وهي أن هذه العزم المتجدد من هذا الوعد يترتب عليه من الثواب على عدد معلوماته لقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة"، ولا شك أن هذا ثواب عظيم، وكذلك كل من وعد بخير فإنه يثاب على عزمه ووعده ما لا يثاب على العزم المتلقى عن أصل الإسلام، انتهى. "وكانوا تسعين رجلا من كل طائفة خمسة وأربعون" كما ذكره ابن سعد بأسانيد الواقدي، قائلا: وقيل مائة من كل طائفة خمسون. وروى ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "تآخوا في الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 على الحق والمواساة والتوارث. وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] تتميم.   أخوين أخوين"، ثم أخذ بيد علي فقال: "هذا أخي" وآخى بينهم في دار أنس بن مالك، كما في الصحيح. وعند أبي سعد في الشرف: آخى بينهم في المسجد، "على الحق والمواساة" وبذل الأنصار رضي الله عنهم في ذلك جهدهم حتى عرض سعيد بن الربيع على أخيه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه نصف ماله، وكان له زوجان فقال: اختر إحداهما أطلقها وتزوجها، كما في الصحيح. وروى أبو داود والترمذي عن أنس: لقد رأيتنا وما الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، وعزاه اليعمري لمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر وتعقبه في النور بأنه لم يره فيهما بعد التفتيش. "و" على "التوارث" وشدد الله عقد نبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال: 72] ، إلى قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيم} [الأنفال: 74] ، فاحكم الله بهذه الآيات العقد الذي عقده بينهما بتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيما بمكة والقرابا. "وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر" حين أعز الله الإسلام وجمع الشمل وذهبت الوحشة، {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] الآية" فانقطعت المؤاخاة في الميراث، وبقيت في التوادد وشمول الدعوة والمناصرة "تتميم". روى البخاري عن عاصم، قلت لأنس: أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام"، فقال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري، وأخرجه أبو داود بلفظ: حالف بين المهاجرين والأنصار في دارنا مرتين أو ثلاثا، وروى أبو داود عن جبير بن مطعم مرفوعا: "لا حلف في الإسلام، وأي حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة". وروى أحمد والترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رفعه: "أوفوا بحلف الجاهلية، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام". قال في النهاية: أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والإنفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال والغارات فذاك الذي نهى عنه، بقوله: "لا حلف في الإسلام" وما كان منه على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذاك الذي قال فيه: "وأي حلف ... " إلخ، يريد من المعاقدة على الخير ونصر الحق، انتهى. وقول سفيان بن عيينة: حمل العلماء قول أنس على المؤاخاة تعقبه الحافظ بأن سياق عاصم عنه يقتضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر, وقيل ثمانية، وقيل ثمانية عشر شهرا في شوال.   أنه أراد المحالفة حقيقة، وإلا لما كان الجواب مطابقا. وقول البخاري باب الإخاء: والحلف ظاهر في المغايرة بينهما. "وبنى بعائشة على رأس تسعة أشهر" من هجرته، "وقيل: ثمانية عشر شهرا" من الهجرة فيكون البناء في السنة الثانية، وبه صدر المصنف في الزوجات، وجزم به النووي في تهذيبه، قال الحافظ: ويخالفه ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين، "في شوال" كما في مسلم عنها، ولذا كانت تحب أن تدخل أهلها وأحبتها على أزواجهن في شوال، قاله أبو عمر. وقيل: بنى بها في الثامن والعشرين من ذي الحجة، والأول أصح. قال الحافظ: وإذ ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى، قوي قول من قال دخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، ووهاه النووي في تهذيبه وليس بواه إذا عددناه من ربيع الأول. انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 " باب بدء الأذان ": وكان الناس -كما في السير وغيرها- إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين مواقيتها، .......................................   باب بدء الأذان: هو لغة الأعلام، قال: آذتنا ببينها أسماء ... ليت شعري متى يكون اللقاء وشرعا الإعلام بوقت الصلاة المفروضة بألفاظ مخصوصة، وهو كالإقامة من خصائص الأمة المحمدية، واستشكل بما رواه لحاكم وابن عساكر وأبو نعيم بإسناد فيه مجاهيل: إن آدم لما نزل الهند استوحش فنزل جبريل فنادى بالأذان، وأجيب بأن مشروعيته للصلاة هو الخصوصية، واستطرد بعض هنا بعض خصائص سيذكرها المصنف في المقصد الرابع، واستأنف فقال: "وكان الناس كما في السير وغيرها، إنما يجتمعون إلى الصلاة لتحين" بكسر اللام وفتح الفوقية وكسر الحاء المهملة وسكون التحتية مضافا إلى "مواقيتها" ففي المختار: الحين الوقت، وربما أدخلوا عليه التاء، فقالوا: تحين بمعنى حين، فضبطه بفتح الحاء وشد التحتية مضمومة يخالفه مع عدم ظهور المعنى؛ إذ التحيين ضرب الحين، أي: الوقت، إلا أن يوجه بأنهم لا يحضرونها حتى يطلبوا لها وقتا يعرفون به دخولها بمعنى: إن كان واحد منهم يتخذ له علامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 من غير دعوة. وأخرج ابن سعد في الطبقات، من مراسيل سعيد بن المسيب: أن بلالا كان ينادي للصلاة بقوله: الصلاة جامعة. وشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة -ذلك فيما قيل في السنة الثانية-   يهتدي بها لدخول الوقت "من غير دعوة" بل إذا عرفوا دخوله بعلامة أتوا المسجد، وقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر: كان المسلمون لما قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة ليس ينادى لها، فتكلموا يوما في ذلك، فقال بعضهم: نتخذ ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أولا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا بلال قم فناد بالصلاة". "وأخرج ابن سعد في الطبقات" للصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى وقته فأجاد فيه وأحسن، قاله الخطيب "من مراسيل سعيد بن المسيب" بفتح الياء على المشهور وبكسرها، قاله عياض وابن المديني ابن حزن القرشي المخزومي التابعي الكبير، فقيه الفقهاء ابن الصحابي، مات سنة أربع أو ثلاث وتسعين، "أن بلالا كان ينادي للصلاة" قبل التشاور والرؤيا وبعد قول عمر: تبعثون رجلا ينادي بالصلاة، فاستحسن عليه السلام ذلك فأمر بلالا أن ينادي: "الصلاة جامعة" بنصب الأول على الإغراء، والثاني على الحال ورفعهما على الابتداء والخبر، ونصب الأول ورفع الثاني، وعكسه قاله الحافظ وغيره. وعن الزهري ونافع بن جبير وابن المسيب: وبقي، أي: بعد فرض الأذان ينادي في الناس الصلاة جامعة للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به وإن كان في غير وقت صلاة، "وشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة" لما كثر المسلمون، وروى أبو داود بإسناد صحيح: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، "وذلك فيما قيل في السنة الثانية" مرضه لقول الحافظ الراجح: إنه شرع في السنة الأولى من الهجرة. وروي عن ابن عباس: أن فرض الأذان نزل مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، رواه أبو الشيخ. وذكر أهل التفسير: أن اليهود لما سمعوا الأذان، قالوا: يا محمد! لقد أبدعت شيئا لم يكن فيما مضى، فنزلت: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا} [المائدة: 58] ، الآية، وعدى النداء في الأولى باللام، وفي الثانية بإلى؛ لأن صلات الأفعال يختلف بحسب مقاصد الكلام، فقصد في الأولى معنى الاختصاص، وفي الثانية معنى الانتهاء، قاله الكرماني. ويحتمل أن اللام بمعنى إلى أو العكس، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 فقال بعضهم: ناقوس النصارى، وقال آخرون: بوق كبوق اليهود، وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعه فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة. فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه في منامه رجلا فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى، .......................................   "فقال بعضهم" الذي يجمع به "ناقوس" وفي أبي داود: قيل له: أنصب راية فإذا رأوها أذن بعضهم بعض، فلم يعجبه ذلك، فذكر له ناقوس "كناقوس النصارى" الذي يعلمون به أوقات صلاتهم وهو خشبة طويلة تضرب بخشبة أصغر منها، فيخرج منهما صوت، كما في الفتح والنور وغيرهما. وقال في مقدمة الفتح وتبعه الشامي: آلة من نحاس أو غيره تضرب، فتصوت. ولأبي الشيخ في كتاب الأذان، فقالوا: لو اتخذنا ناقوسا، فقال عليه السلام: "ذلك للنصارى". ولأبي داود: فقال: "هو من أمر النصارى". "وقال آخرون: بوق" بضم الموحدة قرن ينفخ فيه، "كبوق اليهود" ولأبي الشيخ فقالوا: لو اتخذنا بوقا، فقال: "ذاك اليهود". ولأبي داود: فذكر له القنع -يعني الشبور- فلم يعجبه ذلك، وقال: "هو من أمر اليهود"، القنع بضم القاف وسكون النون ومهملة، وروي بموحدة مفتوحة، وروي بفوقية ساكنة، وروي بمثلثة ساكنة بدل النون والنون أشهر. قال السهيلي: وهو أولى بالصواب، والشبور بفتح المعجمة وضم الموحة مشددة، كما في الفتح وغيره وقول النور بفتحهما سبق قلم ففي القاموس وكتنور البوق. "وقال بعضهم: بل نوقد نارا ونرفعها، فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة" ولأبي الشيخ فقالوا: لو رفعنا نارا، فقال: "ذاك للمجوس" وعند أبي داود: فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فرأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه" أبو محمد الأنصاري العقبي البدري، قال الترمذي لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان، وكذا قال ابن عدي: قال في الإصابة: وأطلق غير واحد أنه ما له غير وهو خطأ، فقد جاءت عنه أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد، مات سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن أربع وستين، وصلى عليه عثمان، قاله ولده محمد بن عبد الله، نقله المدائني. وقال الحاكم: الصحيح أنه قتل بأحد، فالروايات عنه كلها منقطعة وخالف ذلك في المستدرك، انتهى. "في منامه رجلا" يحمل ناقوسا "فعلمه الأذان والإقامة، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما رأى" وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه: أن عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، وجمع باحتمال أن المراد: فلما قارب الصباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وفي رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد قال: يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم -ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت- رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران. فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، مثنى مثنى، حتى فرغ من الأذان. الحديث، فقال عليه السلام: "إنها الرؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى منك صوتا" .........................................   "وفي رواية معاذ بن جبل عند الإمام أحمد، قال" عبد الله بن زيد: ففيه من للطائف رواية صحابي عن صحابي فليس معاذ رائيا ولا قائلا "يا رسول الله، إني رأيت فيما" أي: الحالة التي "يرى النائم" فيها، أشار من أول كلامه إلى أنه غير حقيقي وأفصح بذلك في قوله: "ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت" لقرب نومه من اليقظة، فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة، قال السيوطي: يظهر من هذا أن يحمل على الحالة التي تعتري أرباب الأحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون ويسمعون ما يسمعون، والصحابة رءوس أرباب الأحوال. "رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران" زاد في رواية ابن إسحاق الآتية: يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله1 أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة؟ قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت: بلى، "فاستقبل القبلة، فقال: الله أكبر الله أكبر" بكون الراء وضمها عامي، لأنه روي موقوفا، قاله ابن الأثير والهروي، وزاد: وكان المبرد يقول: الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، والأصل إسكان الراء فحركت فتحة الألف من اسم الله في اللفظة الثانية لسكون الراء قبلها ففتحت، كقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} [آل عمران: 1، 2] ، وفي المطالع: اختلف في فتح الراء الأولى وضمها وتسكينها، وأما الثانية فتضم أو تسكن "مثنى مثنى حتى فرغ من الأذان ... الحديث" وفيه:"فقال عليه السلام: "إنها الرؤيا حق" بالرفع صفة رؤيا والجر بإضافة رؤيا إليه لأدنى ملابسة: أي: إنها مخصوصة بكونها حقا لمطابقتها للواقع، "إن شاء الله قم مع بلال، فألق" بفتح الهمزة ثلاث مزيد "عليه ما رأيت فيؤذن به" ولأبي داود عن أبي بشر: فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان مريض لجعله صلى الله عليه وسلم مؤذنا وكأنه عبر بلفظ تزعم؛ لأنه مناف بحسب الظاهر لقوله: "فإنه أندى منك صوتا" بفتح الهمزة وسكون النون، أي: أرفع وأعلى أو أحسن وأعذب أو أبعد حكاها ابن الأثير، ولا مانع من إرادة الثلاثة. والظاهر كما قال شيخنا: تساوي الأول والثالث بحسب التحقيق؛ إذ يلزم من كونه أرفع وأعلى أن يكون أبعد. وفي هذا رد للحديث المشهور على الألسنة: "سين بلال عند الله شين"، وقد قال الحافظ المزي: لم نره في شيء من الكتب، وذكر بعضهم مناسبة اختصاص بلال بالأذان أنه لما عذب ليرجع عن الإسلام كان يقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن. قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته، فخرج يجر رداءه يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما أرى. ووقع في الأوسط للطبراني: أن أبا بكر أيضا رأى الأذان. وفي الوسيط للغزالي، أنه رآه بضعة عشر رجلا. وعبارة الجيلي في شرح التنبيه: أربعة عشر. وأنكره ابن الصلاح ثم النووي، وفي سيرة مغلطاي: أنه رآه سبعة من الأنصار.   المشتمل على التوحيد من ابتدائه وانتهائه. "قال: فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن، قال: فسمع بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج يجر رداءه" استعجالا فرحا بصحة منامه وموافقة غيره لرؤياه، "يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله! لقد رأيت مثل ما أرى" وكأنه أخبر بذلك في طريقه قبل وصوله له عليه السلام، قال الحافظ: ولا يخالفه ما راه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار، قال: وكان عمر قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوما ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "ما منعك أن تخبرني"؟ فقال له: ما صنعك أن تخبرني، فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت؛ لأنه يحمل على أنه لم يخبر بذلك عقب إخبار عبد الله بن زيد بل متراخيا عنه لقوله: "ما منعك أن تخبرني"؟ أي: عقب إخبار عبد الله، فاعتذر بالاستحياء فدل على أنه لم يخبره على الفور، "ووقع في الأوسط للطبراني أن أبا بكر أيضا رأى الأذان" أخرجه من طريق زفر بن الهذيل عن أبي حنيفة عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه: أن رجلا من الأنصار مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حزين لأمر الأذان بالصلاة، فبينما هو كذلك إذ نعس فأتاه آت في النوم، فقال: قد علمت ما حزنت له، فذكر قصة الأذان، فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخبرنا بمثل ذلك أبو بكر"، فأمر بلالا بالأذان. قال الطبراني: لم يروه عن علقمة إلا أبو حنيفة. "وفي الوسيط للغزالي أنه رآه بضعة عشر رجلا وعبارة الجيلي في شرح التنبيه،" رآه "أربعة عشر" فيمكن أن يفسر بها قول الغزالي ضعة عشر "وأنكره ابن الصلاح" فقال: لم أجد هذا بعد إمعان البحث، "ثم النووي" في تنقيحه فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه "وفي سيرة مغلطاي" عن بعض كتب الفقهاء، "أنه رآه سبعة من الأنصار، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله: ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض الطرق. قال السهيلي: فإن قلت: ما الحكمة التي خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين في نومه. ولم يكن عن وحي من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية. وفي قوله عليه السلام: "إنها لرؤيا حق". ثم بنى حكم الأذان عليها، وهل كان ذلك عن وحي من الله له أم لا؟ وأجاب: بأنه صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء. فروى البزار عن علي قال: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان جاءه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك خرج ملك من الحجاب،   قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله" في فتح الباري: "ولا يثبت شيء من ذلك إلا لعبد الله بن زيد وقصة عمر جاءت في بعض الطرق" في سنن أبو داود. "قال السهيلي" في الروض: "فإن قلت: ما الحكمة التي خصت الأذان بأن يراه رجل من المسلمين في نومه، ولم يكن عن وحي من الله لنبيه كسائر العبادات والأحكام الشرعية" فإنها كلها عن وحي، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] ، ولا يرد هذا على القول بأنه يجتهد؛ لأنه مأذون فيه من ربه، ولا يقول إلا حقا، فكأنه وحي "وفي قوله عليه السلام: "إنها لرؤيا حق"، ثم بنى حكم عليه السلام، وهل كان ذلك" أي: بناؤه حكم الأذان على الرؤيا، "عن وحي، من الله له" عليه السلام، يعني أن ابن زيد حين رأى ولم يكن عن وحي، هل أوحي إليه بعد حتى بنى حكم الأذان عليها، "أم لا؟ " فهذا الاستفهام راجع لابتناء حكم الأذان، فلا ينافي جزمه أولا بأنه لم يكن عن وحي؛ لأنه بخصوص الرؤيا وجدت من ابن زيد "وأجاب بأنه صلى الله عليه وسلم قد أريه ليلة الإسراء، فروى البزار" في مسنده، فقال: حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد، قال: حدثنا أبي علي بن المنذر عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، "عن علي" بن أبي طالب، "قال: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان جاءه جبريل عليه السلام بدابة يقال لها البراق،" بضم الموحدة، "فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن" وهذا يأتي على أنه عرج به على البراق، كظاهر حديث البخاري. والصحيح أن العروج إنما كان على المعراج، قال النعماني: ولا مانع أنه ركب البراق فوق المعراج، "فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب" بالنسبة للمخلوق، أما الخالق تبارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فقال: "يا جبريل من هذا" قال: والذي بعثك بالحق، إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه. فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر، أنا أكبر.. وذكر بقية الأذان. قال السهيلي: وهذا أقوى من الوحي لأنه سماع بواسطة وهذا بدونها، فلما تأخر فرض الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحي حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: "إنها الرؤيا حق إن شاء الله تعالى"، وعلم حينئذ أن مراد الله بما رآه في السماء أن يكون سنة في الأرض وقوى ذلك عند موافقة رؤيا عمر للأنصاري. انتهى.   وتعالى فلا يحجبه شيء، "فقال: "يا جبريل من هذا"؟ قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا" في العالم العلوي "وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه، فقال الملك: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر أنا أكبر ... وذكر بقية الأذان" وفي هذا أنه شرع بمكة قبل الهجرة، قال الحافظ: ويمكن على تقدير صحته أن يحمل على تعدد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة. وأما قول القرطبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروع في حقه، ففيه نظر، لقوله أوله: لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان، وكذا قول المحب الطبري يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغوي وهو الإعلام فيه نظر أيضا، لتصريحه بكيفيته المشروعة فيه، انتهى. "قال السهيلي" بعد ميله إلى صحة هذا الخبر مائلا لما يعضده ويشاكله من حديث الإسراء: "وهذا أقوى من الوحي؛ لأنه سماع بواسطة وهذا بدونها، لما تأخر فرض" أو مشروعية "الأذان إلى المدينة وأراد إعلام الناس بوقت الصلاة تلبث الوحي،" أي: تأخر نزوله "حتى رأى عبد الله الرؤيا فوافقت ما رأى صى الله عليه وسلم، فلذلك قال: "إنها الرؤيا حق إن شاء الله" قاله تبركا أو قبل الوحي اعتمادا على رؤيته في السماء إن ثبت ولم يفهمه إنها وحي جبرا له ابتداء مع العزم على إخباره بحقيقة الأمر بعد لا تعليقا فينا في العلم بحقيقتها حيث كانت عن وحي "وعلم حينئذ" أي: حين أقر المصطفى رؤياه، وقال: "إنها لرؤيا حق" "إن مراد الله بما أراده" له، وفي نسخة: بما رآه، أي: النبي عليه السلام بإرادة الله تعالى إياه ذلك، "في السماء أن يكون سنة في الأرض، وقوى ذلك عند موافقة رؤيا عمر للأنصاري" قال السهيلي: لأن السكينة تنطق على لسان عمر، "انتهى" كلام السهيلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وتعقب: بأن حديث البزار في إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك. وقال في فتح الباري: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي: وأجيب: باحتمال مقارنة الوحي لذلك. ويؤيده ما رواه عبد الرزاق وأبو داود في المراسيل، من طريق عبيد بن عمير الليثي -أحد كبار التابعين- أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد جاءه وفي نسخة قد ورد بذلك، فما راعه إلا أذان بلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذل الوحي".   قال في الفتح: وحاول بذلك الجمع بين حديث كونه رؤيا وبين الأحاديث الدالة على أنه شرع بمكة قبل الهجرة، فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى. "وتعقب بأن حديث البزار" لا يصح الاحتجاج به؛ لأن "في إسناده زياد بن المنذر" وهو "أبو الجارود" الأعمى الكوفي الرافضي المتوفى بعد الخمسين ومائة، "وهو متروك" وإن خرج له الترمذي، بل قال ابن معين: هو كذاب عدو الله. وقال الذهبي وابن كثير: هذا الحديث من وضعه، قال السهيلي أيضا، ما ملخصه: والحكمة أيضا في إعلام الناس به على غير لسانه صلى الله عليه وسلم التنويه بقدره والرفع لذكره بلسان غيره ليكون أقوى لأمره وأفخر لشأنه. قال الحافظ: وهذا حسن بديع ويؤخذ منه حكمة عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد حتى أضيف عمر للتقوية التي ذكرها ولم يقتصر على عمر ليصير في معنى الشهادة. "وقال في فتح الباري: وقد استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد؛ لأن رؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي" بل ورؤيا الشخص للنبي كذلك، وإن كان حقا؛ لأن النائم لا يضبط ما يقال له، "وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك" لم يجزم به لعدم وقوفه على التصريح به، "ويؤيده ما رواه عبد الرزاق" بن همام الحافظ الصنعاني "وأبو داود في المراسيل من طريق عبيد بن عمير" بن قتادة "الليثي أحد كبار التابعين" المكي قاضيها ولد في حياة النبوة، وقيل له رؤية ومات قبل ابن عمر، "أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد الوحي قد جاءه" وفي نسخة: قد ورد، بذلك، فما راعه إلا أذان بلال" أي ما أشعر عمر، أي: ما أعلمه، قال الشامي: فحقيقة الروع هنا منتفية واستعمل في البيان ففسره لغة ثم مرادا، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "سبقك بذلك الوحي"،" فهذا يؤيد احتمال المقارنة وليس نصا فيه، لجواز أن الوحي إنما جاء بعد إذنه في الأذان اعتمادا على ماظهر له عند الإخبار بالرؤيا، فيكون مقررا للأمر به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وهذا أصح مما حكى الداودي عن ابن إسحاق: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد بن عمر بثمانية أيام. وقد عرفت رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق وغيره وذلك أنه قال: "طاف بي -وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ .........................................................................   "وهذا" المرسل "أصح مما حكمى الداودي" أحمد بن نصر اليشكري، أبو جعفر الأسدي الطرابلسي وبها ألف شرح الموطأ، وسماه النامي العالم الفاضل المالكي الفقيه المفنن المجيد له حظ من اللسان، والحديث والنظر ثم انتقل إلى تلمسان وألف الواعي في الفقه وشرح البخاري وسماه النصيحة وغير ذلك، وحمل عنه أبو عبد الملك البوني وأبو بكر بن محمد بن أبي زيد وتوفي بتلمسان سنة ثلاثين وأربعمائة، "عن ابن إسحاق" محمد إمام المغازي "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد وعمر بثمانية أيام" ولو صح أمكن حمله، كما قال شيخنا: على أنه أوحي إليه بإعلام الناس بوقت الصلاة من غير بيان ما يعلم به، وبهذا الإجمال وقعت المشاورة فيما يعلم به، ثم بعدها جاء الوحي بخصوص كلمات الأذان ليلة الرؤيا فلما أخبر بها، قال: "سبقك الوحي بهذه الكلمات". وأجاب في الفتح أيضا عن الإشكال بأنه عليه السلام أمر بمقتضى الرؤيا لينظر: أيقر على ذلك أم لا؟ ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، وهذا ينبني على القول بجواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأحكام، وهو المنصور في الأصول. انتهى. "وقد عرفت" بالبناء للمفعول زيادة على ما مر، "رؤيا عبد الله بن زيد برواية ابن إسحاق" وليس عرفت بالخطاب، كما ضبط بالقلم إذ لم تتقدم رواية ابن إسحاق "وغيره" كأبي داود والترمذي وابن ماجه، كلهم من طريقه "وذلك أن" أي: عبد الله، كما أخرجه ابن إسحاق، فقال: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: حدثني أبي، "قال:" لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعلم ليضرب به للناس لجمع الصلاة "طاف بي" أي: دار حولي "وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله! " ليقال لمن لا يعرف اسمه على أصل معناه الحقيقي؛ لأن الكل عبيد الله، "أتبيع هذا الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو" أنا ومن معي من المسلمين "به" الناس "إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك" ولم يقل أفاد لك مع أن القصد الدلالة لا عدمها لأنه لما رآه راغبا في طلب الناقوس نزله منزلة المعرض عن غيره الراغب في نفي إرادة الدلالة فاستفهمه عن النفي والهمزة داخلة على مقدر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 فقلت: بلى، قال: تقول الله أكبر، الله أكبر، وذكر بقية كلمات الأذان. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: إذا قمت إلى الصلاة فقل: الله أكبر، الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة". ورواه أبو داود بإسناد صحيح. ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذي رأى. وفي مسند الحارث: أول من أذن الصلاة جبريل أذن في سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله صلى الله عيه وسلم فأخبره بها، فقال عليه السلام لبلال: "سبقك بها عمر"، وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا النداء في اليقظة. وقد وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرح بمكة قبل الهجرة. منها ما للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، ...............................   أي: أأعرض عنك فلا أدلك أم لا، فأدلك، ولذا أجاب بقوله: "فقلت: بلى" الذي هو لرد النفي "قال" بعد أن استقبل القبلة، كما مر، "نقول: الله أكبر الله أكبر، وذكر بقية كلمات الأذان، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: إذا قمت إلى الصلاة فقل: الله أكبر الله أكبر، إلى آخر كلمات الإقامة، ورواه أبو داود" وفيه عند ابن إسحاق وهو ثقة يدلس، لكنه صرح هنا بالتحديث فانتفت تهمة تدليسه، ولذا قال: "بإسناد صحيح" وقال الترمذي بعد إخراجه من طريقه: حسن صحيح، وأخرجه من طريقه أيضا ابن حبان وابن خزيمة ناقلا عن الذهلي باللام أنه ليس في طرقه أصح منه، "ولم تعرف كيفية رؤيا عمر حين رأى النداء، وقد قال: رأيت مثل الذي رأى" وغاية ما تفيده المثلية المشاركة في أصل رؤيا الأذان ولا يستلزم أنه رأى رجلا يطوف، إلى آخر ما وقع لابن زيد. "وفي مسند الحارث" بن أبي أسامة بسند واه عن كثير الحضرمي: "أول من أذن بالصلاة جبريل، أذن في سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بها" ثم جاء بلال "فقال عليه السلام لبلال: "سبقك بها عمر" وهذا لو صح لم يدل على تقدمها على رؤيا عبد الله، لاحتمال سماعهما ذلك بعد رؤياه، "وظاهره: أن عمر وبلالا سمعا النداء في اليقظة" بفتحات: ضد النوم، ولا مانع من ذلك كرامة لهما، "وقد وردت أحايث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة" لكن لا يصح منها شيء "منها ما للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عمر" بن الخطاب أحد الفقهاء أشبه ولد أبيه به، مات في ذي القعدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 عن أبيه، قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا. وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك. ومنها: للدارقطني في "الأفراد" من حديث أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حيث فرضت الصلاة. وإسناده ضعيف. ومنها: حديث البزار عن علي، المتقدم. قال في فتح الباري: والحق أنه لا يصح شيء من هذا الأحاديث. وقد جزم ابن المنذر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور في ذلك. والله أعلم.   أو الحجة سنة ست أو خمس أو سبع أو ثمان ومائة، "عن أبيه، قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه الأذان فنزل" ملتبسا "به" حيث علمه "وعلمه بلالا، وفي إسناده طلحة بن زيد" القرشي، أبو مسكين أو أبو محمد الرقي، وأصله دمشقي، روى له ابن ماجه، "وهو متروك" كما في الفتح والتقريب، وزاد فيه: قال أحمد وعلي وأبو داود: كان يضع. "ومنها: ما للدارقطني في الأفراد" بفتح الهمزة "من حديث أنس أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأذان حين فرضت الصلاة وإسناده ضعيف" فلا حجة فيه. "ومنها: حديث البزار عن علي المتقدم" قريبا، وأن فيه زياد بن المنذر متروك، وغفل الشارح فنقل كلام ابن كثير في زياد هذا في قول المصنف في إسناده طلحة. ومنها حديث عائشة عند ابن مردويه مرفوعا: "لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت"، وفيه من لا يعرف، كما في الفتح. ومنها: ما عند ابن شاهين عن زياد بن المنذر المتروك، قال: قلت لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان كان رؤيا، فقال: هذا والله باطل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج به بعث إليه ملك علمه الأذان، قال الذهبي: هذا باطل. "قال في فتح الباري" أيضا إذا الذي قبله كله منه: "والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث" الدالة على مشروعية الأذان بمكة ومر قوله أيضا: لا يصح شيء من ذلك، أي: رؤيا الأذان لأحد من الصحابة إلا لعبد الله بن زيد وهذا غير ذاك، كما هو واضح جدا. "وقد جزم ابن المنذر بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، إلى أن وقع التشاور في ذلك" فأمر به بعد رؤيا ابن زيد في السنة الأولى أو الثانية، فجزمه بذلك دليل على ضعف تلك الأحاديث عنده، "والله أعلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 فإن قلت: هل أذن عليه الصلاة والسلام بنفسه قط؟ أجاب السهيلي: بأنه قد روى الترمذي من طريق يدور على عمر بن الرماح، قاضي بلخ يرفعه إلى أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى وهم على رواحلهم. الحديث. قال: فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه عليه السلام أذن بنفسه. انتهى. وليس هذا الحديث من حديث أبي هريرة، إنما هو من حديث يعلى بن مرة. وكذا جزم النووي بأنه عليه السلام أذن مرة في السفر، وعزاه للترمذي وقواه. ولكن روى الحديث الدارقطني وقال فيه: أمر بالأذان، ولم يقل: أذن. قال السهيلي والمفصل يقضي على المجمل المحتمل.   يضعفها في نفس الأمر وعدمه، فإن الحكم إنما هو على ظاهر الأسانيد. "فإن قلت: هل أذن عليه الصلاة والسلام بنفسه قط" فقد كثر السؤال عنه، "أجاب السهيلي بأن قد روى الترمذي من طريق يدور" يرجع وإن تعدد طرقه، "على عمر بن الرماح" هو ابن ميمون بن بحر بن سعد الرماح البلخي أبي علي، وسعد هو الرماح، كما في التقريب فنسبه لجده الأعلى "قاضي بلخ" المتوفى سنة إحدى وسبعين ومائة، روى الترمذي ووثقه ابن معين وأبو داود فلا يقصر حديثه عن درجة الحسن، ولو انفرد به؛ لأنه ثقة "يرفعه إلى أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أذن في سفر وصلى وهم على رواحلهم..الحديث، قال" السهيلي: "فنزع بعض الناس بهذا الحديث إلى أنه عليه السلام أذن بنفسه" وتبع بهذا البعض النووي، "انتهى". "وليس هذا الحديث من حديث أبي هريرة، إنما هو" عند الترمذي والدارقطني "من حديث يعلى بن مرة" بن وهب الثقفي ممن بايع تحت الشجرة، فسبق السهيلي حفظه أو سبق مستمليه قلمه؛ لأنه كان ضريرا، فقال أبو هريرة: "وكذا جزم النووي" في شرح المهذب وغيره "بأنه عليه السلام أذن مرة في السفر، وعزاه للترمذي وقواه" فقال في الخلاصة: حديث صحيح، وفي المجموع: قد ثبت فذكره، انتهى. وقال الترمذي: غريب تفرد به عمر بن الرماح، ولا يعرف إلا من حديثه. "لكن روى الحديث الدارقطني" بسند الترمذي ومتنه" وقال في أمر بالأذان" وفيه بعده، فقام المؤذن فأذن "ولم يقل أذن،" كما قاله في رواية الترمذي، "قال السهيلي: والمفصل يقضي على المجمل المحتمل" فلا يصح تمسك بعض الناس به وجزمه، وإن تبعه النووي، وعجبت كيف لم يقف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وفي مسند أحمد من الوجه الذي أخرج منه الترمذي هذا الحديث: فأمر بلالا فأذن، قال في فتح الباري: فعرف أن في رواية الترمذي اختصارا، وأن قوله أذن: أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر، انتهى.   على كلام السهيلي مع أنه متأخر عنه، وجواب الشهاب الهيثمي بأن هذا إنما يصار إليه لو لم يحتمل تعدد الواقعة، أما إذا أمكن فيجب المصير إليه إبقاء الإذن على حقيقته عملا بقاعدة الأصول أنه يجب إبقاء اللفظ على حقيقته مردود بأن ذاك إنما يصح إذا اختلف سند الحديث ومخرجه، أما مع الاتحاد فلا، ويجب رجوع المجمل للمفصل، كما هو قاعدة المحدثين وأهل الأصول. وقد قال بعض الحفاظ: لو لم نكتب الحديث من ستين وجها ما عقلناه لاختلاف الرواة في إسناده وألفاظه، وليس كل احتمال يعمل به خصوصا في الحديث، فهذه قصة المعراج والإسراء وردت عن نحو أربعين صحابيا مع اختلاف أسانيدها ومتونها إلى الغاية، ومع ذلك فالجمهور على أنها واحدة، حتى قال ابن كثير وغيره: من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب، وحديث الأذن من هذا القبيل، لقوله في رواية الدارقطني: فقام المؤذن فأذن. "و" لقوله "في مسند أحمد من الوجه" أي: الطريق "الذي أخرج منه الترمذي هذا الحديث فأمر بلالا فأذن، قال في فتح الباري: فعرف" من روايتي أحمد والدارقطني "أن في رواية الترمذي اختصارا وأن قوله: أذن،" معناه: "أمر، كما يقال: أعطى الخليفة فلانا ألفا، وإنما باشر العطاء" اسم من الإعطاء ولم يعبر به؛ لأنه لا وجود لشيء من المصادر في الخارج بل آثارها، "غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر، انتهى" كلام فتح الباري. وهذا سائغ شائع. نعم قال السيوطي في شرح البخاري: قد ظفرت بحديث آخر مرسل أخرجه سعيد بن منصور في سننه: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر القرشي عن ابن أبي مليكة، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فقال: "حي على الفلاح" وهذ رواية لا تقبل التأويل، انتهى. فهذا الذي يجزم فيه بالتعدد لاختلاف سنده، وانظر ما أحسن قوله آخر، ولذا قال في شرحه للترمذي: من قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر هذه العبادة بنفسه وألغز في ذلك بقوله: ما سنة عمل بها ولم يفعلها فقد غفل، انتهى. وفي التحفة: أذن مرة، فقال: "أشهد أن محمدًا رسول الله"، انتهى. هذا وإنما لم يواظب صلى الله عليه وسلم على الأذان مع فضله المنوه عليه، بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤذنون أطول أعناقا يوم القيامة" أخرج مسلم. وفي شعب البيهقي عن داود السجستاني: "المؤذنون لا يعطشون يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فإن قلت هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أصحابه؟ قلت: نعم، ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولفظه: عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، ...............................   القيامة" فأعناقهم قائمة لاشتغاله، كما قال العز بن عبد السلام في الفتاوي الموصلية بالقيام بأعباء الرسالة ومصالح الشريعة، كالقتال والفصل بين الناس وغير ذلك التي هي خير من الأذان وأفضل. لذا قال عمر: لولا الخليفي لأذنت، ولأنه كان إذا عمل عملا أثبته وداوم عليه، وقول بعضهم مخافة أن يعتقد أن محمدًا غيره، إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، انتهى ملخصا. وفي الفتح: اختلف في الجمع بين الإمامة والأذان، فقيل: يكره. وفي البيهقي عن جابر مرفوعا: "النهي عن ذلك"، لكن سنده ضعيف وصح عن عمر: لو أطيق الأذان مع الخليفي لأذنت، رواه سعيد بن منصور وغيره. وقيل: خلاف الأولى، وقيل: يستحب، وصححه النووي، انتهى. وقول الشيخ أبي الحسن الشاذلي في شرح الترغيب تبعا للنيسابوري وغيره؛ لأن فيه ثناء وتزكية وشهادة للنفس وهي غير مقبولة، ولأن في حي على الصلاة أمر إيجاب، فإن معناه: أقبلوا، فلو أذن لوجبت الإجابة مردود بأن النهي عن تزكية النفس إنما هو إذا كان افتخارا وهو منه عليه السلام ليس كذلك، بل تحدثا بالنعمة وعدم قبول الشهادة للنفس إنما هو في نحو حق ما لي على غيره، وهذا ليس منه، بل هي سهادة أريد بها طلب ما أوجبه الله على الناس إنقاذا لهم من الضلال، ولا يزيد قوله في الأذان: أشهد أن محمدا رسول الله، على قوله للناس: أدعوكم إلى وحدانية الله وشهادة أني رسوله، فلم يخرج عن قوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] على أن من خصائصه أن يشهد ويحكم لنفسه، وليس القصد بحي على الصلاة في الأذان خصوص لطلب الحضور، بل الإعلام بدخول الوقت؛ لأنه شرعا الإعلام بوقت الصلاة المفروضة. "فإن قلت: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من الصحابة؟ قلت: نعم،" كذا في نسخ، وهو حسن. وفي أكثرها إسقاط السؤال والاقتصار على نعم، وليس استدراكا على ما قبله، بل تقريرا لسؤال نشأ منه تقديره هذا ما تقرر في الأذان، ومعلوم أنه كان يؤم فهل أمه أحد، أو هو استدراك من جهة نفيه أذانه مع تقرر إمامته فقد يتوهم أنه لم يقتد بغيره، فنفاه بقوله: نعم، "ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم صلى خلف عبد الرحمن بن عوف" وهذا السؤال سئل عنه الصحابي قديما، فأخرج ابن سعد في الطبقات بإسناد صحيح عن المغيرة بن شعبة: أنه سئل هل أم النبي صلى الله عليه وسلم أحد من هذه الأمة غير أبي بكر؟ قال: نعم فذكر الحديث. "ولفظه" أي: مسلم "عن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك" بعدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 فتبرز صلى الله عليه وسلم قبل الغائط، فحملت معه إدواة قبل صلاة الفجر ... الحديث إلى أن قال: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح،   الصرف على المشهور للتأنيث والعلمية، كذا قال النووي وتبعه في الفتح، ورد بأنه سهو؛ لأن علة منعه كونه على مثال الفعل كنقول، والمذكر والمؤنث في ذلك سواء، ومن صرف أراد الموضع، "فتبرز" بالتشديد "صلى الله عليه وسلم" أي: خرج لقضاء حاجته، وعند ابن سعد: لما كنا بين الحجر وتبوك ذهب لحاجته "قبل" بكسر ففتح، أي: جهة "الغائط" أي: المكان المطمئن الذي تقضي فيه الحاجة، فاستعمل في أصل حقيقته اللغوية، فليس المراد الفضلة، والظاهر: أن تبرز معمول لقال مقدرة ليظهر قوله: "فحملت" وفي نسخة: فحمل، وهو أنسب بما قبله، "معه أدواة قبل صلاة الفجر" أي: الصبح، ولابن سعد: وتبعته بماء بعد الفجر ويجمع بأن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح، "الحديث، إلى أن قال" أسقط منه: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت أهريق على يديه من الأدواة وغسل يديه ثلاث مرات، ثم غسل وجهه، ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته، فأدخل يديه على الجبة حتى أخرج ذراعيه إلى المرفقين، ثم توضأ على خفية، ثم اقبل قال المغيرة: "فأقبلت معه حتى نجد" بمعنى الماضي، أي: وسرنا إلى أن وجدنا "الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف" ولابن سعد: فأسفر الناس بصلاتهم حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن "فصلى بهم" أي: أحرم، ولابن سعد: فانتهينا إلى عبد الرحمن وقد ركع ركعة، فسبح الناس له حين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادوا يفتنون فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن أثبت، فليس المراد فرغ من صلاته، والأنافي أيضا قوله: "فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين" أي: الثاني، لقوله "فصلى مع الناس الركعة الآخرة" ودفع به توهم أن معنى أدرك: حضر، ولا يلزم منه الاقتداء، لجواز صلاته مفردا أو بجماعة لم يصلوا أو انتظر سلامه، فأتى بها كاملة. وعند ابن سعد: فصلى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة، "فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين" لسبقهم النبي صلى الله عليه وسلم "فأكثروا التسبيح" رجاء أن يشير لهم هل يعيدونها معه أم لا؟ وليس لظنهم أنه أدرك الصلاة من أولها وأن قيامه لأمر حدث، كأنهم ظنوا الزيادة في الصلاة لتصريحه في رواية ابن سعد بأنهم علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين دخل معهم، فسبحوا حتى كادوا يفتتنون، ويحتمل أن الفاء في: فأفزع، بمعنى الواو، لرواية ابن سعد: أن التسبيح حين رأوا النبي، كما رأيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنهم، أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا لوقتها. ورواه أبو داود في السنن بنحوه ولفظه: ووجدنا عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من صلاة الفجر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف مع المسلمين فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية، ثم سلم عبد الرحمن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته. الحديث. قال النووي: فيه جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته. وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته وتأخر أبي بكر ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، ...................................................   "فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم، ثم قال: "أحسنتم"، أو قال: "أصبتم"، شك الراوي قال ذلك، "يغبطهم" بالتشديد، أي: يحملهم على الغبط لأجل "أن صلوا لوقتها" ويجعل هذا الفعل عندهم مما يغبط عليه، وإن رُوي بالتخفيف فيكون قد غبطهم لتقدمهم وسبقهم إلى الصلاة، قال في النهاية: "ورواه أبو داود" سليمان بن الأشعث السجستاني "في السنن بنحوه، ولفظه: ووجدنا" فأفاد هذا أن رواية مسلم: نجد، من استعمال المضارع بمعنى الماضي، "عبد الرحمن وقد ركع بهم ركعة من الفجر" الصبح، "فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصف" نفسه "مع المسلمين" بأن دخل معهم في الصف، أو هو لازم بمعنى: اصطف، أي: دخل معهم فيه وصف جاء لازما ومتعديا، "فصلى وراء عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية" ففي هذا بيان للمعية في رواية مسلم وتصريح بأنه صلى خلفه، "ثم سلم عبد الرحمن فقام النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ... الحديث بنحوه، والمراد من سوق هذا منه إيضاح ما قد يخفى في رواية مسلم، فالروايات تفسر بعضها. "قال النووي" في شرح مسلم "فيه" من الفوائد "جواز اقتداء الفاضل بالمفضول" وإن كان تقديم الفاضل أفضل "وجواز صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته وأما بقاء عبد الرحمن بن وف في صلاته، وتأخر أبي بكر ليتقدم لنبي صلى الله عليه وسلم فالفرق بينهما أن عبد الرحمن كان قد ركع ركعة، فترك النبي صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم" قال شيخنا: لأنه إذا قام لإتمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 كتاب المغازي مدخل ... "بسم الله الرحمن الرحيم" "كتاب المغازي": وأذن الله تعالى لرسوله عليه السلام بالقتال. قال الزهري: أول آية نزلت في الإذن بالقتال {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] أخرج النسائي بإسناد صحيح. قال في البحر: والمأذون فيه -أي في الآية- محذوف، أي: في القتال، لدلالة الذين "يقاتلون" عليه، وعلل ...............................................................   بسم الله الرحمن الرحيم كتاب المغازي: "وأذن الله تعالى لرسوله عليه السلام بالقتال" لاثنتي عشرة ليلة مضت من صفر في السنة الثانية من الهجرة. "قال الزهري" محمد بن مسلم شيخ الإسلام: "أول آية نزلت في الإذن بالقتال" كما أخبرني عروة عن عائشة، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] "أخرجه النسائي بإسناد صحيح" موقوفا عن عائشة، كما هو في النسائي وحكمه الرفع لا على الزهري كما أوهمه المصنف، نعم رواه ابن عائذ عن الزهري معضلا بإسقاط قوله: كما أخبرني عروة عن عائشة، وزاد تلاوة الآية التي تليها إلى قوله: {لَقَوِيٌّ عَزِيز} [الحج: 40] ، وأخرج أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن سعد والحاكم، وصححه عن ابن عباس، قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكن، فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] الآية قال ابن عباس: فهي أول آية أنزلت في القتال، وقيل: قوله تعالى: {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 19] ، أخرجه ابن جرير عن أبي العالية. وفي الإكليل للحاكم: أول آية نزلت فيه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُم} [التوبة: 111] . "قال في البحر" أي: التفسير الكبير لأبي حيان: "والمأذون فيه، أي: في الآية محذوف، أي في القتال لدلالة الذي يقاتلون عليه وعلل" في الآية فهو مبني للمفعول أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الإذن: بأنهم ظلموا، كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: "اصبروا، فإني لم أؤمر بالقتال"، حتى هاجر فأذن له بالقتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية. انتهى. وقال غيره: وإنما شرع الله الجهاد في الوقت اللائق به؛ لأنهم كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر المسلمين -وهم قليل- بقتال الباغين لشق عليهم فلما بغى المشركون، وأخرجوه عليه السلام من بين أظهرهم وهموا بقتله، واستقر عليه السلام بالمدينة واجتمع عليه أصحابه، وقاموا بنصره، وصارت المدينة دار إسلام، ومعقلا يلجئون إليه، شرع الله تعالى جهاد الأعداء، فبعث عليه السلام البعوث والسرايا ..................................................   الفاعل، أي: الله "الإذن" لهم في القتال، "بأنهم ظلموا كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال" حتى هاجر فأذن له بالقتال، ولم يفرض عليهم، وظاهره: أنه لم يؤمر بالصبر بعد الهجرة مع أنه أمر بالصبر على أذى اليهود ووعد بالنصر عليهم، كما قال العلماء فيما نقله في الشامية لكنه نزله كالعدم بالنسبة لأذى أهل مكة، فإن كان بالمدينة في غاية العزة والقوة من أول يوم، وأذى اليهود غايته بالمجادلة والتعنت في السؤال، وكان جبريل يأتيه من ربه بغالب الأجوبة أو لقلة مدته أتى بالتعقيب، أي: فأذن له بعد صبر قليل على أذى اليهود لما قويت الشوكة واشتد الجناح، "بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية" غالبها بمكة، "انتهى" ثم فرض عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتل، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة، وبين المصنف في غزوة قينقاع أن الكفار بعد الهجرة كانوا معه ثلاثة أقسام. "وقال غيره" في بيان حكمة تأخر مشروعية الجهاد حتى هاجر، "وإنما شرع لله الجهاد في الوقت الائق به؛ لأنهم كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا، فلو أمر" الله "المسلمين وهم قليل بقتال الباغين لشق عليهم، فلما بغى المشركون وأخرجوه عليه السلام من بين أظهرهم وهموا بقتله" عطف على بغي، "واستقر عليه السلام بالمدينة واجتمع عليه أصحابه" المهاجرون والأنصار، "وقاموا بنصره وصارت المدينة دار إسلام ومعقلا" بفتح الميم وكسر القاف: ملجأ "يلجئون إليه" تصريح بما علم من المعقل، وفي هامش تفسير المعقل بالحصن الكبير، "شرع الله جهاد الأعداء" جواب لما بغى، وفي نسخة: ولما استقر، بزيادة لما وحذفها أولى، لاحتياجها إلى تقدير جواب لما بغى، أي: هاجر "فبعث عليه السلام البعوث والسرايا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وغزا وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا. وكان عدد مغازيه عليه السلام التي خرج فيها بنفسه، سبعا وعشرين ...............   وغزا" بنفسه، وقد جرت عادة المحدثين وأهل السير واصطلاحاتهم غالبا أن يسموا كل عسكر حضره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة غزوة، وما لم يحضره بل أرسل بعضا من أصحابه إلى العدو سرية وبعثا، "وقاتل هو وأصحابه حتى دخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا" جماعات بعد جماعات جاءوه بعد الفتح من أقطار الأرض طائعين، "وكان عدد مغازيه عليه السلام" قال في الفتح: جمع مغزى، يقال: غزا غزوا ومغزى، والأصل: غزو، والواحد غزوة وغزاة والميم زائدة. وعن ثعلب: الغزوة المرة والغزاة عمل سنة كاملة، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده، والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه أو بجيش من قبله وقصدهم أعم من أن يكون إلى بلادهم أو إلى الأماكن التي حلوها حتى دخل مثل أحد والخندق، انتهى. "التي خرج فيها بنفسه سبعا وعشرين" كما قاله أئمة المغازي موسى بن عقبة وابن إسحاق وأبو معشر والواقدي وابن سعد، وأسنده عن هؤلاء وجزم به الجوزي والدمياطي والعراقي وغيرهم. وقال ابن إسحاق في رواية البكائي عنه ستا وعشرين، وجزم به في ديباجة الاستيعاب، قائلا: وهذا أكثر ما قيل. قال السهيلي: وإنما جاء الخلاف لأن غزوة خيبر اتصلت بغزوة وادي القرى، فجعلهما ابن إسحاق غزوة واحدة، وقيل: خمسا وعشرين، ولعبد الرزاق بسند صحيح عن ابن المسيب: أربعا وعشرين. وعند أبي يعلى بإسناد صحيح عن جابر: أنها إحدى وعشرين غزاة، وروى الشيخان والترمذي عن زيد بن أرقم: أنها تسع عشرة. وفي خلاصة السير للمحب الطبري جملة، المشهور منها: اثنتان وعشرون، ويمكن الجمع على نحو ما قال السهلي بأن من عدها دون سبع وعشرين نظر إلى شدة قرب بعض الغزوات من غيره، فجمع بين غزوتين وعدهما واحدة، فضم للأبواء بواطا لقربهما جدا؛ إذ الأبواء في صفر، وبواط في ربيع الأول، وضم حمراء الأسد لأحد، لكونها صبيحتها. وقريظة للخندق، لكونها ناشئة عنها وتلتها. ووادي القرى لخيبر، لوقوعها في رجوعه من خيبر قبل دخول المدينة. والطائف لحنين، لانصرافه منها إليها، فبهذا تصير اثنتين وعشرين، وإلى هذا أشار الحافظ، فقال بعد نقل كلام السهيلي المار، وقول جابر: إحدى وعشرين، فلعل الستة الزائدة من هذا القبيل. وأما من قال: تسع عشرة فلعله أسقط الأبواء وبواطا، وكان ذلك خفي عليه لصغره ويؤيد ما قلته: ما وقع عند مسلم، بلفظ: قلت: ما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العسير أو العسيرة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وقاتل في تسع منها بنفسه: بدر، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وهذا على قول من قال: فتحت مكة عنوة. وكانت سراياه التي بعث فيها سبعا وأربعين سرية. وقيل: إنه قاتل في بني النضير.   والعسيرة هي الثالثة، انتهى. "وقاتل في تسع منها" قال ابن تيمية: لا يعلم أنه قاتل في غزاة إلا في أحد ولم يقتل أحد إلا أبي بن خلف فيها، فلا يفهم من قولهم: قاتل في كذا أنه بنفسه كما فهمه بعض الطلبة ممن لا اطلاع له على أحواله عليه السلام، انتهى. ففي قوله: "بنفسه" شيء وأجيب بأن المراد قتال أصحابه بحضوره فنسب إليه لكونه سببا في قتالهم، ولم يقع في باقي الغزوات قتال منه ولا منهم، قال في النور: قد يرد على ابن تيمية حديث. كنا إذا لقينا كتيبة أو جيشا أول من يضرب النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن تأويله. "بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف" وقال ابن عقبة: قاتل في ثمان وأهمل عد قريظة؛ لأنه ضمها للخندق لكونها أثرها وأفردها غيره لوقوعها عقبة: قاتل في ثمان وأهمل عد قريظ؛ لأنه ضمها للخندق لكونها أثرها وأفردها غير لوقوعها مفردة بعد هزيمة الأحزاب، وكذا وقع لغيره وعد الطائف وحنين واحدة لكونهاكانت في أثرها، هكذا في الباري وأيما كان لا ينفي أنه قاتل في جميعها، غايته أنه على عد الاثنتين واحدة بالاعتبار المذكور يكون قاتل في موضعين منها. "وهذا على قول من قال" وهم الجمهور "فتحت مكة عنوة" أي: بالقهر والغلبة. وأما على قول الأقل: فتحت صلحا، فيكون القتال في ثمان. "وكانت سراياه" أراد بها ما يشمل البعوث، لقوله الآتي: وكان أول بعوثه، ولقوله: "التي بعث فيها سبعا وأربعين سرية" كما رواه ابن سعد عن ذكر في عد المغازي، وبه جزم أول الاستيعاب فيما قال الشامي، والذي في النور: قال ابن عبد البر في ديباجة الاستيعاب: كانت بعوثه وسراياه خمسا وثلاثين من بعث النور: قال ابن عبد البر في ديباجة الاستيعاب: كانت بعوثه وسراياه خمسا وثلاثين من بعث وسرية، انتهى. وقال ابن إسحاق: رواية البكائي ثمانيا وثلاثين. وفي الفتح عن ابن إسحاق: ستا وثلاثين، والواقدي: ثمانيا وأربعين. وابن الجوزي: ستا وخمسين. والمسعودي: ستين ومحمد بن نصر المروزي سبعين. والحاكم في الإكليل: إنها فوق المائة. قال العراقي: ولم أجده لغيره، وقال الحافظ: لعله أراد بضم المغازي إليها وقرأت بخط مغلطاي أن مجموع الغزوات والسرايا مائة،، وهو كما قال، انتهى. "وقيل:" وحكاه اليعمري بلفظ: وفي بعض رواياتهم "إنه قاتل في بني النضير" ولكن الله جعلها له نفلا خاصة وقاتل في غزوة وادي القرى، وقاتل في الغابة، انتهى. ولم يقدم هذا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وأفاد في فتح الباري: أن السرية -بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية- هي التي تخرج بالليل، والسارية: التي تخرج بالنهار. قال: وقيل سميت بذلك -يعني السرية- لأنها تخفي ذهابها. وهذا يقتضي أنها أخذت من السر، ولا يصح، لاختلاف المادة. وهي قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه، وهي من مائة إلى خمسمائة، وما زاد على الخمسمائة يقال له: منسر، بالنون ثم المهملة .....................................   عد السرايا؛ لأنه أراد حكاية المروي عن الجماعة على حدة ثم تذكر ما في بعض روايتهم، وأفاد صلى الله عليه وسلم حكمة بعوثه وسراياه، فقال: "والذي نفسي بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني، ويشق أن يقعدوا بعدي، والذي نفسي بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل"، رواه مالك وأحمد والشيخان عن أبي هريرة بتكرير ثم ست مرات. "وأفاد في فتح الباري أن السرية بفتح المهملة وكسر الراء وتشديد التحتانية، هي: التي تخرج بالليل" وجمعها سرايا وسرايات، مثل: عطية وعطايات. "والسارية" بالتحتية أيضا وقراءته بموحدة غلط، "التي تخرج بالنهار" سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء النفيس، كما في النهاية. "قال" في الفتح: "وقيل سميت بذلك لأنها تخفي ذهابها" فتسري في خفية "وهذا يقتضي أنها أخذت من السر ولا يصح لاختلاف المادة" لأن لام السرراء وهذه ياء، قاله ابن الأثير. وأجاب شيخنا: بأن اختلاف المادة إنما يمنع الاشتقاق الصغير وهو رد فرع إلى أصل لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية، ويجوز أنه أراد بالأخذ مجرد الرد للمناسبة والاشتراك في أكثر الحروف. "وهي قطعة من الجيش تخرج منه" فتغير "وتعود إليه" وكأنه أريد بالجيش عسكر الأمام، فيشمل ما إذا بعث طائفة مستقلة كسرية حمزة، "وهي من مائة إلى خمسمائة" قضيته أن ما دونها لا يسمى سرية وهو مخالف لقوله نفسه في مقدمة الفتح، قال ابن السكيت: السرية ما بين الخمسة إلى الثلاثمائة، وقال الخليل: نحو أربعمائة، انتهى. ونحوه في القاموس، بل في النهاية: يبلغ أقصاها أربعمائة، "وما زاد على الخمسمائة، يقال له: منسر بالنون ثم المهملة" بوزن مجلس ومنبر، كما في القاموس. وهذا لا يوافق المصباح ولا القاموس، فإنه حكى أقوالا أكثرها أن المنسر من المائة إلى المائتين، وصدر به المصباح وقابله بقول الفارابي جماعة من الخيل، ويقال: هو الجيش لا يمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 فإن زاد على الثمانمائة سمي جيشا، فإن زاد على أربعة آلاف سمي جحفلا، والخميس: الجيش العظيم، وما افترق من السرية يسمى بعثا، والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى ملخصا.   بشيء إلا اقتلعه. "فإن زاد على الثمانمائة" الأولى حذف أل لقولهم: إنها لا تدخل على أول المتضايفين مع تجرد الثاني بإجماع كالثلاثة أثواب، قاله في الهمع إلا أن يقرأ مائة بالنصب بجراء أل في تصحيح المميز مجر التنوين، والنون كما في التصريح في نحوه. "سمي جيشا" وقال ابن خالويه: الجيش من ألف إلى أربعة آلاف، وأسقط والمصنف من الفتح قوله: وما بين المنسر والجيش يسمى هبطة؛ لأنه فسر الجيش بما زاد على ثمانمائة فلم يكن بين المنسر والجيش واسطة ثم حرر ضبط هبة، "فإن زاد على أربعة آلاف سمي جحفلا" بفتح الجيم والفاء بينهما مهملة ساكنة، وأسقط من الفتح قوله: فإن زد فجيش جرار بفتح الجيم وراء مهملتين الأولى مشددة. "والخميس" بلفظ اليوم "الجيش العظيم" الكثير، وكذا المجير والمدهم والعرمرم، كما في سامي الأسامي. وقال ابن خالويه: الخميس من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفا، "وما افترق من السرية يسمى بعثا" وقدم أن مبدأها مائة، فظاهره: أن ما دون المائة يسمى بعثا لكن بقية كلام الفتح وهو فالعشرة فما بعدها تسمى حفيرة، والأربعون عصبة وإلى ثلاثمائة مقنب بقاف ونون وموحدة، أي: بكسر الميم وسكون القاف وفتح النون فإن زاد سمي جمرة بجيم مفتوحة وسكون الميم، انتهى. يفيد تخصيص البعث بما دون العشرة. "والكتيبة" بفتح الكاف وكسر الفوقية وإسكان التحتية فموحدة فتاء تأنيث. "ما اجتمع ولم ينتشر" وفي القاموس: الكتيبة الجيش أو الجماعة المتحيزة من الخيل أو جماعة الخيل إذا أغارت من المائة إلى الف، "انتهى" كلام فتح الباري في قول البخاري في أواخر المغازي باب السرية التي قبل نجد "ملخصا" بمعنى أنه أسقط منه ما ذكرته عند لا التلخيص المتعارف، ومقتضاه: أن ما أرسله الإمام مستقلا وهو دون مائة لا يسمى بعثا ولا سرية. وفي القاموس: البعث، ويحرك الجيش جمعه بعوث. وقال ابن خالويه: أقل العساكر الجريدة، وهي قطعة جردت من سائرها لوجه ما، ثم السرية أكثرها وهي من خمسين إلى أربعمائة، ثم الكتيبة من أربعمائة إلى ألف، ثم الجيش من ألف إلى أربعة آلاف، وكذلك الفيلق والجحفل، ثم الخميس من أربعة آلاف إلى اثني عشر ألفا، والعسكر يجمعها انتهى. روى أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وحسنه عن صخر بن وداعة مرفوعا: "اللهم بارك لأمتي في بكورها" قال صخر: وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية بعثها أول النهار، وكان صخر تاجرا وكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضعه. وروى الطبراني عن عمران عن عمران: كان صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أغزاها أول النهار، وقال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 بعث حمزرة رضي الله عنه: وكان أول بعوثه صلى الله عليه وسلم على رأس سبعة أشهر، في رمضان، وقيل في ربيع الأول سنة اثنتين. بعث عمه حمزة، وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين. وقيل من الأنصار، وفيه نظر؛ لأنه لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا؛ لأنهم شرطوا له أن يمنعوه في دارهم. فخرجوا يعترضون عيرا لقريش، ..............................................   بعث حمزة رضي الله عنه : "وكان أول بعوثه صلى الله عليه وسلم" حال كونه "على رأس سبعة أشهر في رمضان" قال ابن سعد، أي: تقريبا أو اعتبرت السبعة من أول تهيئته للخروج من مكة، فلا ينافي ما مر أن قدومه كان لاثنتي عشر ليلة خلت من ربيع الأول أو ثلاثة عشرة أو ثنتين وعشرين أو لليلتين، "وقيل: في ربيع الأول سنة اثنتين" قاله المدائني، وقال أبو عمر: بعد ربيع الآخر، "بعث عمه حمزة" كما رواه ابن عائذ عن عروة، وجزم به ابن عقبة والواقدي وأبو معشر وابن سعد في آخرين، وقيل: أولها بعث عبيدة، وقيل: عبد الله بن جحش، قال ابن البر: والأول أصح "وأمره على ثلاثين رجلا من المهاجرين" قاله ابن سعد وغيره، "وقيل: من الأنصار" كذا في النسخ، وصوابه: ومن الأنصار، بالواو إذ لم يقل أحد بخلوهم من المهاجرين. وقد حكى مغلطاي وغيره القولين على ما صوب، وذكر بعضهم: أنهم كانوا شطرين من المهاجرين والأنصار، "وفيه نظر؛ لأنه" كما قال ابن سعد: "لم يبعث أحدا من الأنصار حتى غزا بهم بدرا؛ لأنهم شرطوا له" ليلة العقبة "أن يمنعوه في دارهم" ولذا لما أراد بدرا صار يقول: أشيروا علي، حتى قال الأنصاري: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال في النور: وذكر ابن سعد في غزوة بواط أن سعد بن معاذ حمل اللواء وكان أبيض، فهذا تناقض منه. ويحتمل أن خروج سعد فيها من غير أن يندبه عليه السلام، إلا أن حمل اللواء يعكر على ذلك. والظاهر أن ابن سعد أراد أنه يبعث أحدا منهم، وتخلف عليه السلام إلى غزوة بدر، وبعدها جهزهم وقعد، لكن آخر الكلام يعكر على هذا التأويل، انتهى. "فخرجوا يعترضون عيرا لقريش" جاءت من الشام تريد مكة، أي: يتعرضون لها ليمنعوها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 فيها أبو جهل اللعين، فلقيه في ثلاثمائة راكب فبلغوا سيف البحر من ناحية العيص، فلما تصافوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان عليه الصلاة والسلام قد عقد له لواء أبيض. "واللواء هو العلم الذي يحمل في الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر. وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، لكن روى أحمد والترمذي عن ابن عباس: كان راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض، ومثله عند الطبراني عن بريدة، ..........................................................   من مقصدها باستيلائهم عليها، "فيها أبو جهل اللعين فلقيه في ثلاثمائة راكب،" قال ابن إسحاق وابن سعد. وقال ابن عقبة: في ثلاثين ومائة راكب من المشركين، "فبلغوا سيف" بكسر المهملة وسكون التحتية وبالفاء: ساحل "البحر من ناحية العيص" بكسر العين وسكون التحتية وصاد مهملتين، "فلما تصافوا" للقتال "حجز" بفتح الحاء والجيم وبالزاي: فصل "بينهم مجدي" بفتح الميم وسكون الجيم وكسر الدال المهملة وياء كياء النسب "ابن عمرو الجهني" وكان موادعا للفريقين: أي: مصالحا مسالما. قال في النور: ولا أعلم له إسلاما، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال، وأفاد الواقدي أن رهط مجدي قدموا عليه صلى لله عليه وسلم فكساهم، وقال في مجدي: إنه ما علمت ميمون النقيبة مبارك الأمر، أو قال: رشيد الأمر، "وكان عليه الصلاة والسلام قد عقد له" أي: لحمزة، "لواء" بكسر اللام والمد. روى أبو يعلى عن أنس رفعه: "إن الله أكرم أمتي بالألوية" وسنده ضعيف. "أبيض" زاد ابن سعد: وكان الذي حمله أبو مرثد البدري، أي: بفتح الميم وإسكان الراء وفتح المثلثة ودال مهملة: كناز بفتح الكاف وشد النون فألف فزاي، ابن الحصين بمهملتين مصغر الغنوي بفتح المعجمة والنون نسبة إلى غني بن يعصر فألف فزاي، ابن الحصين بمهملتين مصغر الغنوي بفتح المعجمة والنون نسبة إلى غني بن يعصر حليف حمزة. "واللواء" كما قال الحافظ في غزاة خيبر "هو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع صاحب" أي: أمير "الجيش، وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه لمقدم العسكر" وفي الفتح أيضا في الجهاد: اللواء الراية، ويسمى أيضا العلم وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحلم على رأسه، "وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية" فقالوا: في كل منها علم الجيش، ويقال: أصل الراية الهمز وآثرت العرب تركه تخفيفا ومنهم من ينكر هذا القول، ويقول: لم يسمع الهمز. "لكن روى أحمد والترمذي عن ابن عباس" قال: "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض، ومثله عند الطبراني عن بريدة" بن الحصيب بهملتين: مصغر الأسلمي، "و" مثله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة فيه عرفية. وذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة: أن أول ما حدثت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية" انتهى.   "عند ابن عدي" الحافظ عبد الله أبي أحمد الجرجاني أحد الأعلام، مات سنة خمس وستين وثلاثمائة، "عن أبي هريرة، وزاد: مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله" وروى أبو داود عن رجل: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، وجمع الحافظ بينهما باختلاف الأوقات، قال: وقيل: كانت له راية تسمى العقاب سوداء مربعة وراية تسمى الربية بيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود. "وهو ظاهر في التغاير" بين اللواء والراية، وبه جزم ابن العربي، فقال: اللواء غير الراية، فاللواء: ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه. والراية: ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية: يتولاها صاحب الحرب. "فلعل التفرقة فيه عرفية" فلا يخالف ما صرح به الجماعة من الترادف، وقد جنح الترمذي إلى التفرقة فترجم الألوية، وأورد حديث البراء: أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض، ثم ترجم الرايات. وأورد حديث البراء: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء مربعة، وحديث ابن عباس المذكور أولا. "وذكر ابن إسحاق" محمد إمام المغازي "وكذا أبو الأسود" محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي النوفلي المندين يتيم عروة، وثقه أبو حاتم والنسائي وأخرج له الجميع، "عن عروة" بن الزبير أحد الفقهاء: "إن أول ما حدثت الرايات" جمع راية "يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية" وهذا أيضا ظاهر في التغاير بينهما، "انتهى" لفظ فتح الباري في خيبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 " سرية عبيدة المطلبي ": ثم سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ، في شوال، على رأس ثمانية أشهر، .............................................   سرية عبيدة المطلبي: "ثم سرية عبيدة" بضم العين وفتح الموحدة وإسكان التحتية فدال فهاء، "ابن الحارث" بن المطلب بن عبد مناف المستشهد ببدر، "إلى بطن رابغ" بموحدة مكسورة وغين معجمة، "في شوال على رأس ثمانية أشهر" من الهجرة تقريبا أو تحقيقا على ما مر، وأوردها ابن هشام وأبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 في ستين رجلا، وعقد له لواء أبيض، حمله مسطح بن أثاثة، يلقى أبا سفيان بن حرب. وكان على المشركين -وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبي جهل- في مائتين، ولم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رمى بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام.   الربيع في الاكتفاء بعد غزوة الأبواء في السنة الثانية في ربيع الأول، ورواه ابن عائذ عن ابن عباس، وبه صرح بعض أهل السير، لكن ذكر غير واحد أن الراجح الأول، فلذا اقتصر عليه المصنف. "في ستين رجلا" أو ثمانين كذا عند ابن إسحاق، فيحتمل أنه شك أو إشارة إلى قولين، ولفظه: في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، "وعقد" عليه السلام "له" لعبيدة "لواء أبيض حمله مسطح" بميم مكسورة وسين ساكنة وطاء مفتوحة وحاء مهملات، "ابن أثاثة" بضم الهمزة وخفة المثلثتين ابن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي اسمه عوف ومسطح لقبه، أسلم قديما ومات سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان، ويقال: عاش إلى خلافة علي وشهد معه صفين، ومات تلك السنة سنة سبع وثلاثين. "يلقى أبا سفيان" صخر "بن حرب" أسلم في الفتح رضي الله عنه، "وكان على المشركين" كما قال الواقدي: إنه الثبت عندنا، وصدر به مغلطاي. "وقيل:" أي: قال ابن هشام عن أبي عمرو بن العلاء المدني: يلقى "مكرز" بكسر الميم وإسكان الكاف وفتح الراء والزاي، كما ضبطه الغساني وغيره. قال السهيلي: وهكذا الرواية حيث وقع، قال ابن ماكولا: ووجدته بخط ابن عبدة النسابة بفتح الميم، قال الحافظ: وبخط يوسف بن خليل بضم الميم وكسر الراء والمعتمد الأول، "ابن حفص" بن الأخيف بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح التحتية وبالفاء ابن علقمة العامري، وهو الذي جاء في فداء سهيل بن عمرو بعد بدر، وجاء أيضا في قصة الحديبية، قال في الإصابة والنور، ولم أرَ من ذكره في الصحابة إلا ابن حبان، فقال في ثقاته: يقال له صحبة. "وقيل" أي: قال ابن إسحاق: يلقى "عكرمة بن أبي جهل" أسلم في الفتح "في مائتين ولم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص" مالك "رمى" يومئذ "بسهم، فكان أول سهم رمي به في الإسلام" كذا عند ابن إسحاق، والمراد: جنس سهم، فلا ينافي قول الواقدي: إنه نثر كنانته وتقدم أمام أصحابه وقد تترسوا عنه فرمى بما في كنانته، وكان فيها عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة. قال ابن إسحاق: ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان، وكانا مسلمين ولكنهما خرجا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة -فيما بلغنا- أول راية عقدت في الإسلام، وبعض الناس يقول: راية حمزة. قال: وإنما أشكل أمرهما لأنه عليه السلام بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس. انتهى. وهذا يشكل بقولهم: إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر، لكن يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية، لأمر اقتضاه، والله أعلم.   ليتوصلا بالكفار. "قال ابن إسحاق: وكانت راية عبيدة فيما بلغنا أول راية عقدت في الإسلام" قال: وبعض العلماء يزعم أنه صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة، قال: "وبعض الناس يقول" كانت "رواية حمزة " أول راية "قال: وإنما أشكل أمرهما؛ لأنه عليه السلام بعثهما معا، فاشتبه ذلك على الناس" فكل من قال ذلك في واحد منهما فهو صادق، "انتهى" قول ابن إسحاق بما زدته من سيرته. "وهذا يشكل بقولهم إن بعث حمزة كان على رأس سبعة أشهر" في رمضان وبعث عبيدة على رأس ثمانية في شوال، فكيف يشتبه مع هذا؟ "لكن يحمل أن يكون صلى الله عليه وسلم عقد رايتيهما معا، ثم تأخر خروج عبيدة إلى رأس الثمانية لأمر اقتضاه" فيلتئم القولان، "والله أعلم" بحقيقة الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 سرية سعد بن ملك ... "سرية سعد بن مالك": ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار -بخاء معجمة وراءين مهملتين، وهو واد يصب في الجحفة ...................................   سرية سعد بن مالك: "ثم سرية سعد بن أبي وقاص" واسمه مالك الزهري آخر العشرة موتا من السابقين الأولين المختص بكثرة جمع المصطفى له أبويه يوم أحد حيث كرر له: "ارم فداك أبي وأمي"، رضي الله عنه. "إلى الخرار بخفاء معجمة" مفتوحة "وراءين مهملتين" الأولى ثقيلة، كما ذكره الصغاني في خزر المجد في فصل الخاء من باب الراء وهو الذي في النور في نسخة صحيحة مقروءة على ابن مصنفها، فما في نسخة محرفة منه ومن سيرة الشامي وتشديد الزاي الأولى لا يلتفت إليه، ولعلها كانت همزة عقب الألف فصحفت ياء فظنت زايا من تحريف النساخ. "وهو" كما في سيرة مغلطاي "واد في الحجاز يصب في الجحفة" وفي ذيل الصغاني: موضع قريب الجحفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 وكان ذلك في القعدة، على رأس تسعة أشهر، وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو، في عشرين رجلا، يعترض عيرا لقريش، فخرجوا على أقدامهم، فصبحوها صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس.   وفي القاموس: عين قرب الجحفة. "وكان ذلك في القعدة" بكسر القاف وفتحها، "على رأس تسعة أشهر" عند ابن سعد وشيخه الواقدي، وجعلها ابن إسحاق في السنة الثانية، وتبعه أبو عمر، فقال: بعد بدر. "وعقد له لواء أبيض حمله المقداد" بكسر الميم وسكون القاف ودالين مهملتين،"ابن عمرو" بن ثعلبة الكندي البدري المعروف بابن الأسود؛ لأنه تبناه، "في عشرين رجلا" من المهاجرين، وقيل: ثمانية، "يعترض عيرا" إبلا تحمل الطعام وغيره من التجارات، ولا تسمى عيرا إلا إذا كانت كذلك، كما في النور. وكانت "لقريش فخرجوا على أقدامهم فصبحوها" أي: الخرار، وأنت لأنها اسم عين وهي مؤنثة، "صبح خامسة فوجدوا العير قد مرت بالأمس،" فرجعوا ولم يلقوا كيدا، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 "أول المغازي: ودان": ثم غزوة ودان، وهي الأبوء وهي أول مغازيه، كما ذكره ابن إسحاق وغيره.   أول المغازي ودان : قال الزهري: في علم المغازي خير الدنيا والآخرة. وقال زين العابدين علي بن الحسين بن علي: كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السور من القرآن، رواهما الخطيب وابن عساكر. وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها. "ثم غزوة ودان" بفتح الواو وشد المهملة فألف فنون قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع، وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. "وهي" أي: غزوة ودان، "الأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد: قرية من عمل الفرع بينها وبين لجحفة من جهة المدينة وثلاثة وعشرون ميلا. قيل: سميت بذلك لما فيها من الوباء، وهو على القلب وإلا لقيل الأوباء، والصحيح كما قال قاسم بن ثابت: إنها سميت بذلك لتبوء السيول بها، ومراد المصنف أن منهم من أضافها لودان وبعضهم للأبواء لتقاربهما، فليس ضمير هي راجعة لودان، لاقتضائه أنه مكان واحد له اسمان، وهو خلاف الواقع كما يأتي. "وهي" أي: غزوة ودان، "أول مغازيه" صلى الله عليه وسلم "كما ذكره ابن إسحاق وغيره،" وآخرها تبوك، ولا يرجع ضمير هي للأبواء وإن كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وفي صحيح البخاري عنه: أوله الأبواء. خرج صلى الله عليه وسلم في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمة المدينة، يريد قريشا، في ستين رجلا وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب. فكانت الموادعة -أي المصالحة- على أن بني ضمرة لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوا. واستعمل على المدينة سعد بن عبادة. وليس بين ما وقع في سيرة ابن إسحاق وبين ما نقله عنه البخاري اختلاف، لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال أو ثمانية.   أقرب مذكور؛ لأنه لا يتخيل تناف حتى يحتاج للجواب الآتي. "وفي صحيح البخاري عنه" أي: ابن إسحاق تعليقا: "أولها" أي: المغازي "الأبواء" ثم بواط ثم العشيرة، ولا تنافي كما يأتي، "خرج صلى الله عليه وسلم في صفر" لاثنتي عشرة مضت منه، كما عند بعض الرواة عن ابن إسحاق، "على رأس" أي: عند أول "اثني عشر شهرا" ففي المصباح: رأس الشهر: أوله، "من مقدمه المدينة يريد قريشا" زاد ابن إسحاق: وبني ضمرة، فكأنه قصره على قريش؛ لأنهم المقصودون بالذات والمراد غيرهم، "في ستين رجلا" من المهاجرين ليس فيهم أنصاري، "وحمل اللواء" قال أبو عمر: كان أبيض، "حمزة بن عبد المطلب" سيد الشهداء "فكانت الموادعة" أي: فكان الأثر المترتب على خروجه الموادعة "أي: المصالحة" مع بني ضمرة ولم يدرك العير التي أراد "على أن بني ضمرة" بفتح المعجمة وإسكان الميم: ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة "لا يغزونه ولا يكثرون عليه جمعا، ولا يعينون عليه عدوا" وإنه إذا دعاهم لنصر أجابوه، قال ابن إسحاق وابن سعد وأبو عمر: عقد ذلك معه سيدهم مخشي ابن عمرو الضمري. وقال ابن الكلبي وابن حزم: عمارة بن مخشي بن خويلد، ومخشي بفتح الميم وسكون الخاء وكسر الشين المعجمتين ثم ياء مشددة كياء النسبة، قال البرهان: لا أعلم له إسلاما. وقال الشامي: لم أر من ذكر له إسلاما، وكتب بينهم بذلك كتابا، كما قال السهيلي، وسيذكره المصنف بعد بواط، والأولى تقديمه هنا. "واستعمل على المدينة سعد بن عبادة" كما ذكره ابن المصنف بعد بواط، والأولى تقديمه هنا. "واستعمل على المدينة سعد بن عبادة" كما ذكره ابن هشام وابن سعد وابن عبد البر: وغاب عنها خمسة عشر يوما ثم رجع ولم يلق كيدا. "و" أفاد في فت الباري أنه "ليس بين ما وقع في سيرة ابن إسحاق" من أن أول غزواته ودان "وبين ما نقله عنه البخاري" أن أولها الأبواء "اختلاف؛ لأن الأبواء وودان مكانان متقاربان بينهما ستة أميال" وبه جزم اليعمري، "أو ثمانية" كما قال غيره، زاد في الفتح: ولهذا وقع في حديث الصعب بن جثامة وهو بالأبواء أبو بودان، كما مر في الحج. وفي مغازي الأموي: حدثني أبي عن ابن إسحاق، قال: ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم غازيا بنفسه حتى انتهى إلى ودان وهي الأبواء. وعند ابن عائذ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل إلى الأبواء، انتهى. فكما وقع في العيون أنه سار حتى بلغ ودان وقع في غيره أنه سار حتى بلغ الأبواء. وروى البخاري في التاريخ الصغير والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده، قال: أول غزوة غزوناها مع النبي صلى الله عليه وسلم الأبواء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 غزوو بواط: ثم غزوة بواط -بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره مهملة- غزاها صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول، على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوى -بفتح الراء وسكون المعجمة، مقصور- في مائتين من أصحابه، .....................................................................   ثم غزوة بواط: "بفتح الموحدة" عند الأصيلي والمستملي من رواة البخاري والعذري من رواة مسلم، وصدر به في الفتح فتبعه السيوطي والمصنف هنا، قائلين: "وقد تضم" صريح في قلته مع أنه الأعرف، كما قاله في المطالع، واقتصر عليه في المقدمة، والمصنف في الشرح، وصاحب القاموس. "وتخفيف الواو" فألف "وآخره" طاء "مهملة" جبل من جبال جهينة بقرب ينبع لعلى أرعة برد من المدينة. وقال السهيلي: بواط جبلان فرعان لأصل واحد، أحدهما جلسي والآخر غوري. وفي الجلسي بنو دينار ينسبون إلى دينار مولى عبد الملك بن مروان "غزاها صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول" قاله ابن إسحاق، وقال أبو عمر وتلميذه ابن حزم في ربيع الآخر "على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة، حتى بلغها من ناحية رضوي بفتح الراء وسكون" الضاد "المعجمة مقصور" جبل بالمدينة والنسبة إليه رضوي، قاله الجوهري. وفي السبل: على أربعة برد من الميدنة وبه يفسر قول المجد على أبراد. وفي خلاصة الوفاء: رضوى كسكرى جبل على يوم من ينبغ وأربعة أيام من المدينة ذو شعاب وأودية وبه مياه وأشجار، هذا هو المعروف ومنه يقطع أحجار المنارة، قيل: هو أول تهامة، انتهى. وهو مباين لكلام أولئك بكثير، ويذكر أن رضوى من الجبال التي بني منها البيت، أنه من جبال الجنة. وفي حديث رضوي رضي الله عنه: وقدس وتزعم الكيسانية أن محمدا ابن الحنفية مقيم به حي يرزق. "في مائتين من أصحابه" المهاجرين وحمل لواءه وكان أبيض سعد بن أبي وقاص، كما في الشامية وغيرها. وفي العيون: سعد بن معاذ، فيما ذكر ابن سعد. وتقدم مناقضة البرهان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 يعترض عيرا لقريش فيهم أمية بن خلف الجمحي. واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. فرجع ولم يلق كيدا، أي حربا، قال ابن الأثير: والكيد الاحتيال والاجتهاد، وبه سميت الحرب كيدا. ثم غزوة العشيرة -بالشين المعجمة، والتصغير، آخره هاء. لم يختلف أهل المغازي في ذلك، وفي البخاري ..........................................................   له وتأويله ولكن الأقرب أنه ابن أبي واقاص، للتصريح بأن الذين خرجوا من المهاجرين، نعم قيل إنه استخلف ابن معاذ على المدينة، قال شيخنا: فعله التباس للاستخلاف بالحمل. "يعترض عيرا" لتجار قريش عدتها ألفان وخمسمائة بعير، قاله ابن سعد وشيخه الواقدي. "فيهم أمية بن خلف الجمحي" ومائة رجل من قريش، "واستعمل على المدينة" فيما قال ابن هشام وابن عبد البر ومغلطاي، "السائب بن عثمان بن مظعون" الجمحي أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة وشهد بدرا في قول الجميع إلا ابن الكلبي، فقال: الذي شهدها عمه، ووهمه ابن سعد لمخالفته جميع أهل السير، واستشهد يوم اليمامة. وفي نسخة من سيرة ابن هشام، كما في الفتح: استخلف السائب بن مظعون وجرى عليه السهيلي. انتهى. وهو أخو عثمان شهد بدرا عند ابن إسحاق ولم يذكره موسى بن عقبة فيهم، وربما علم من أنهما نسختان عن ابن هشام سقط انتقد البرهان وتبعه الشامي على السهيلي بأن الذي في الهشامية السائب ابن الأخ لا عمه. وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ. "فرجع" عليه السلام "ولم يلق كيدا، أي: حربا، قال ابن الأثير" في النهاية أبو السعادات المبارك بن أبي الكرم بن محمد الشيباني الجزري العالم النبيل أحد الفضلاء صاحب التصانيف الشهيرة، ولد في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ومات بالموصل يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة، "والكيد الاحتيال والاجتهاد وبه سميت الحرب كيدا" مجازا لاقترانها بالاشتهار فيه. وذكر القاموس من معاني الكيد الحرب، فمقتضاه اشتراكه فيه وفي غيره وضعا. وجمع شيخنا بأن القاموس أراد التنبيه على المعاني التي يصدق عليها الكيد أعم من أن يكون حققة أو مجازا، والله أعلم. ثم غزوة العشيرة: بالعين المهملة المضمومة "بالشين المعجمة والتصغير آخره هاء" قال السهيلي: واحدة العشيرة مصغر، "لم يختلف أهل المغازي في ذلك" الضبط، قال في المشارق: وهو المعروف. قال الحافظ: وهو الصواب، ووقع في الصحيحين خلافه، فنبه عليه فقال: "وفي البخاري" ومسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 العشيرة، أو العسيرة بالتصغير، والأولى بالمعجمة بلا هاء، والثانية: بالمهملة وبالهاء -وأما غزوة العسرة- بالمهملة بغيرة تصغير- فهي غزوة تبوك، وستأتي إن شاء الله تعالى. ونسب هذه إلى المكان الذي وصلوا إليه، وهو موضع لبني مدلج بينبع. وخرج إليها صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى ..................................   والترمذي من طريق أبي إسحاق: سألت زيد بن أرقم ... الحديث، وفيه: فأيهم كانت أول؟ قال: "العشيرة أو العسيرة" هكذا ثبت في أصل الحافظ من البخاري، فقال في الفتح: "بالتصغير" فيهما "والأولى بالمعجمة بلا هاء والثانية بالمهملة وبالهاء" وفي أصل المصنف من البخاري: العسيرة أو العشير؟ فقال: بالتصغير فيهما وبالمهملة مع الهاء في الأولى والمعجمة بلا هاء في الثانية، ولأبي ذر: العسير بالمهملة بلا هاء والعشير بالمعجمة بلا هاء. وللأصيلي: العشير أو العسير بالمعجمة في الأول والمهملة في الثاني مع حذف الهاء والتصغير في الكل. وفي نسخة عن الأصيلي: العشير بفتح العين وكسر الشين المعجمة بغير هاء، كذا رأيته في الفرع كأصله، انتهى. وفي مسلم: العسير أو العشير، قال النووي: هكذا في جميع نسخ صحيح مسلم بضم العين، والأول بالسين المهملة والثاني بالمعجمة، انتهى. ورواية الترمذي كرواية مسلم كما أفاده الحافظ، وبهذا كله بأن خطّأ من زغم أنه بالهمز ومنشؤه قراءته العشيراء بالمد، والعسيرة بالواو. "وأما غزوة السعرة بالمهملة بغير تصغير، فهي غزوة تبوك" قال الله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة} [التوبة: 117] ، "وستأتي إن شاء الله تعالى" سميت بذلك لما كان فيها من المشقة، كما يأتي بيانه. ولما كان يتوهم في هذه على ضبطه الثاني أنها سميت بذلك لما سميت به تبوك، وصغرت دفع هذا الوهم وخصها دون السابقين، فقال: "ونسبت هذه إلى المكان الذي وصلوا إليه، وهو موضع لبني مدلج بينبع" لس بينها وبين البلد إلا الطريق السالك، كما في النور وغيره. وفي القاموس: موضع ناحية ينبع وفيه ينبع كينصر حصن له عيون ونخيل وزرع بطريق حاج مصر، فهو غير مصروف كيشكر. وفي الفتح: يذكر ويؤنث. قال ابن إسحاق: موضع ببطن ينبع. وفي الروض: معنى العسير أو العسيرة أنه اسم مصغر من العسرى والعسر، إذا صغرت تصغير ترخيم، قيل: عسير وهي بقلة تكون أذنة، أي: عصيفة، ثم تكون سحاء، ثم يقال لها: العسري. "خرج إليها صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى" قاله ابن إسحاق وتبعه ابن حزم وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 -وقيل: الآخرة- على رأس ستة عشرة شهرا من الهجرة، في خمسين ومائة رجل -وقيل في مائتي رجلا- ومعهم ثلاثون بعيرا يعتقبونها، وحمل اللواء -وكان أبيض- حمزة، يريد عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجارة. فخرج إليها ليغنمها فوجدها قد مضت. ووادع بني مدلج من كنانة. تتميم.   "وقيل: الآخرة" قاله ابن سعد، أي: المتأخرة وفي نسخة الأخرى: وعبر به لمقابلتها بالأولى، فاندفع اللبس بالواحدة المتناولة للمتقدمة والمتأخرة. وقد ذكر السيوطي في الشماريخ ما حاصله: أنه إذا دلت قرينة على المراد ساغ التعبير بالآخر والأخرى، وفي نسخة: الأول. وقيل: الآخر بتذكيرهما ذهابا إلى معنى الشهر، وإن كان المصباح إنما نقل تأويله إذا وقع في شعره، وإلا فحمادان مؤنثان دون الشهور، ويخرج تذكير الآخر أيضا على مفاد الشماريخ. "على رأس ستة عشر شهرا من الهجرة في خمسين ومائة رجل، وقيل:" في "مائتين" حكاهما ابن سعد، وزاد: من قريش من المهاجرين ممن انتدب ولم يكره أحدًا على الخروج، "رجلا" تمييز مائتين وهو شاذ، كقوله: إذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد ذهب المسرة والغناء ولا يقاس عليه عند الجمهور، والقياس في مائتي رجل بالإضافة. "ومعهم ثلاثون بعيرا يعتقبونها" يركبها بعضهم ثم ينزل فيركب غيره، "وحمل اللواء، وكان أبيض حمزة" أسد الله وأسد رسوله، "يريد عير قريش التي صدرت من مكة إلى الشام بالتجار" وكانت قريش جمعت أموالها في تلك العير، ويقال: إن فيها خمسين ألف دينار وألف بعير، ولا يرد على هذا العير الإبل التي تحمل الميرة، لقول المصباح: إنها غلبت على كل قافلة. "فخرج إليها ليغنما فوجدها قد مضت" قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام فكان بسببها وقعة بدر الكبرى، كما في العيون وغيرها. قال أبو عمر: فأقام هناك بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة وبه يعلم أن في قول اليعمري: فأقام بها جمادى الأولى ... إلخ، تجوزا بدليل قوله: أولا خرج في أثناء جمادى الأولى. "ووادع" في هذه السفرة "بني مدلج" زاد ابن إسحاق: وحلفاؤهم من بني ضمرة، وتقدم في ودان إنه وادع بن ضمرة فلعلها تأكيد للأولى، أو أن حلفاء بن يمدلج كانوا خارجين عن بني ضمرة لأمر ما، وبسببه حالفوا بني مدلج فكان ابتداء صلح لبني مدلج "من كنانة" هي تجمع بني مدلج وبني ضمرة؛ لأن كلا قبيلة من كنانة. وذكر الواقدي أن هذه السفرات الثلاث كان صلى الله عليه وسلم يخرج فيها لتلقي تجار قريش حين يمرون إلى الشام ذهابا وإيابا، وبسبب ذلك كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وكانت نسخة الموادعة .................................................................   وقد بدر وكذلك السرايا التي بعثها قبل بدر. تتميم: روى ابن إسحاق وأحمد من طريقه، عن عمار: أن النبي صلى الله عليه وسلم كنى عليا أبا تراب حين نام هو وعمار في نخل لبني مدلج مجتمع، ولصق بهما التراب، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحركنا برجله وقد تتربنا، فيومئذ قال لعلي بن أبي طالب: "ما لك يا أبا تراب"؟، ويعارضه ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد، قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا، فقال صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو"، فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: "قم أبا تراب". وفي رواية: "اجلس أبا تراب" مرتين، قال سهل: وما كان له اسم أحب إليه منه. وغلط ابن القيم رواية السيرة، وقال: إنما كناه بذلك بعد بدر، وهو أول يوم كناه فيه. وقال السهيلي: ما في الصحيح أصح، إلا أن يكون كناه بها مرة في هذه الغزوة ومرة بعدها في المسجد، ومال الحافظ وصاحب النور إلى ذا الجمع، لكنهما قالا: فإن صح فيكون كناه ... إلخ، إشارة للتوقف فيه، فإن إسناده لا يخلو من مقال. قيل: ولهذا اختص علي بقولهم كرم الله وجهه دون غيره من الصحابة والآل، وقيل: لأنه لم يسجد لصنم قط وقيل غير ذلك. وروى الطبراني عن ابن عباس، وابن عساكر عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم لما آخى بين أصحابه ولم يؤاخ بين علي وبين أحد غضب فذهب إلى المسجد، فذكر نحو حديث الصحيح. قال الحافظ: ويمتنع الجمع بينهما؛ لأن المؤاخاة كانت أول ما قدم المدينة ودخول علي على فاطمة بعد ذلك بمدة. وما في الصحيح أصح، انتهى. ولم يظهر من تعليله امتناع الجم، فإنه ممكن بمثل ما جمعوا به بين الحديثين قبله، فيكون كناه ثلاث مرات، أولها: يوم المؤاخاة في المسجد. وثانيها: في هذه الغزوة في نخل بني مدلج. وثالثها: بعد بدر في المسجد لما غاضب الزهراء وإنما يمتنع لو قال في رواية الصحيح: إنه أول يوم كناه فيه، كما ادعى ابن القيم. "وكانت نسخة الموادعة" بينه صلى الله عليه وسلم وبين بني ضمرة الواقعة في غزوة ودان، وذكر ههنا وإن كان الأولى تقديمها، ثم كان فعل السهيلي وأتباعه لأنه أراد ذكر الغزوات الثلاث على حدة ولم يخش لبس أنها لبني مدلج لتصريح الكتاب أنها لبني ضمرة، ولذا أسقط أولا قول ابن إسحاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 فيما ذكره غير ابن إسحاق. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم أن لا يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبي إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا سلم بن عبد الأسد.   وحلفاؤهم من بني ضمرة، "فيما ذكر غير ابن إسحاق" كما أفاده السهيلي في الروض: "بسم الله الرحم الرحيم" فيه ندب افتتاح الكتب بالبسملة فقط، وقد جمعت كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم فوجدت مفتتحة بها دون حمدلة وغيرها، "هذا كتاب من محمد رسول الله صلى لبني ضمرة بأنهم" بالباء الموحدة، كما هو المنقول في الروض وغيره، ويقع في نسخ: فإنهم، بالفاء وفي توجيهها عسر. "آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم" أي: قصدهم بسوء بشرط "أن لا يحابوا" أي: يخالفوا "في دين الله" بإرادتهم إبطال ما جاء به الشرع أو المعنى على من قصدهم، يريد منهم: أن لا يحاربوا في نصرة دين الله "ما بل بحر صوفة" كناية عن تأييد مناصرتهم؛ إذ معلوم أن ماء البحر لا ينقطع، "وأن النبي" صلى الله عليه وسلم "إذا دعاهم لنصر أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله" بكسر الذال المعجمة، أي: عهده "و" عهد "رسوله" وفسرها الشامي بأمانة، والأول أولى، وفي مقدمة الفتح: ذمة الله، أي: ضمانه، وقيل: الذمام الأمان، زاد في الروض: ولهم النصر على من بر منهم واتقى، وعلى بمعنى اللام، أي: لمن بر منهم واتقى النصر منا على عدوهم. "قال ابن هشام" عبد الملك، ,واستعمل" صلى الله عليه وسلم "على المدينة" في خروجه للعشيرة "أبا سلمة" عبد الله "بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين المخزومي البدري أحد السابقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 غزوة بدر الأولى : "ثم غزوة بدر الأولى": قال ابن إسحاق: ولما رجع عليه الصلاة والسلام -أي: من غزوة العشيرة- لم يقم إلا ليالي، وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام، .............................   ثم غزوة بدر الأولى: "قال ابن إسحاق: ولما رجع عليه الصلاة والسلام، أي: من غزوة العشيرة لم يقم إلا ليالي" قلائل لا تبلغ العشر، كما هو نص ابن إسحاق. "وقال ابن حزم: بعد العشيرة بعشرة أيام" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فخرج صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ سفوان -بفتح المهملة والفاء- موضع من ناحية بدر، ففاته كرز بن جابر. وتسمى بدرا الأولى. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه.   نقله عنه مغلطاي، ونقل الشامي عنه أنه عليه السلام خرج في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا، هو مبني على أن هذه قبل العشيرة، كما ذهب إليه ابن سعد ورزين وغيرهما، وابن إسحاق إلى أنها بعدها، "حتى " غاية للإثبات المستفاد من نقض النفي بألا، فكأنه قال: استمر إقامته إلى أن "أغار كرز" بضم الكاف وسكون الراء وبالزاي، "ابن جابر الفهري" نسبة إلى جده الأعلى فهر بن مالك بن النضر كان من رؤساء المشركين، ثم أسلم وصحب وأمر على سرية واستشهد في غزوة فتح مكة، "على سرح المدينة" بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات: الإبل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة، كما في النور والسبل، ولعل المراد بالمواشي المال السائم، كما في المختار في الشرح، وإن كان المواشي، كما في القاموس: الإبل والغنم. وفي العيون: السرح ما رعوا من نعمهم، ويروى: أنه أغار عليهم من سعر، وفي خلاصة الوفاء: سعر كزفر جمع سعير الواردي جبل بأصل حمى أم خالد يهبط منه إلى بطن العتيق، كان يرعى بها السرح. "فخرج صلى الله عليه وسلم حتى بلغ سفوان بفتح المهملة و" فتح "الفاء" وبالنون "موضع من ناحية بدر" ذكره في النهاية وتبعه السمهودي، فقال: سفوان بفتحات واد من ناحية بدر، وقيل: الفاء ساكنة "ففاته كرز بن جابر، وتسمى بدرا الأولى، قال ابن هشام واستعمل على المدينة زيد بن حارثة وحمل اللواء" وكان أبيض، كما في الشامية "علي بن أبي طالب رضي الله عنه" فرجع ولم يلق كيدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش : ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش ....................................................   ثم سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش: ابن رباب براء مكسورة فتحتية فموحدة ابن معمر الأسدي أحد السابقين البدري، وهاجر إلى الحبشة واستشهد بأحد. وروى أبو القاسم البغوي عن سعد بن أبي وقاص: بعثنا صلى الله عليه وسلم في سرية، وقال: "لأبعثن عليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش"، فبعث علينا عبد الله بن جحش فكان أول أمير في الإسلام. قال اليعمري: سمي في هذه السرية أمير المؤمنين، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 في رجب على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية -وقيل اثنا عشر- من المهاجرين، إلى نخلة على ليلة من مكة، يترصد قريشا، فمرت به عيرهم تحمل زبيبا وأدما، فيها عمرو بن الحضرمي، ...................................   غيره: سماه صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين فهو أول من تسمى به في الإسلام، ولا ينافيه القول بأن أول من تسمى به عمر؛ لأن المراد من الخلفاء أو على العموم وهذا على من معه. "في رجب" عند الأكثر, وقطع به الحافظ في سيرته وفي الفتح، وقيل: في جمادى الآخرة، "على رأس سبعة عشر شهرا، وكان معه ثمانية" كما رواه ابن إسحاق وسماهم، فقال: أبو حذيفة بن عتبة العبشمي، وعكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء. "وقيل: اثنا عشر" فزيد: عامر بن إياس، والمقداد بن عمرو، وصفوان بن بيضاء، فلعل القائل بالثاني عد الأمير منهم، وهو ظاهر قول الحافظ في كتاب العلم: وكانوا اثني عشر رجلا، انتهى. وزيادة بعضهم وجابر السلمي خطأ لأنه أنصاري، وقد قال المؤلف كغيره "من المهاجرين" زاد ابن سعد: ليس فيهم من الأنصار أحد يعتقب كل اثنين منهم بعيرا، "إلى نخلة على ليلة من مكة" بين مكة والطائف، وفي المعجم: نخلة على يوم وليلة من مكة وهي التي ينسب إليها بطن نخلة التي استمعه الجن فيها. روى ابن إسحاق عن عروة مرسلا ووصله الطبراني بإسناد حسن من حديث جندب البجلي: أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره من أصحابه أحدا، فلما سار يومين فتح الكتاب، فإذا فيه: "إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم"، فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه أنه نهاه أن يستكره أحدا منهم، فلم يتخلف منهم أحد وسلك على الحجاز حتى إذا كان ببحران بفتح الموحدة وضمها أضل سعد وعتبة بعيرهما الذي كانا يعتقبان عليه، فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله وأصحابه حتى نزل بنخلة، "يرتصد قريش فمرت به عيرهم تحمل زبيبا وأدما" بفتح الهمزة والدال، أي: جلود، زاد ابن القيم وغيره: وتجارة من تجارة قريش، أي: مالا من أموالهم. وفي الفتح: لقوا أناسا من قريش راجعين بتجارة من الشام، "فيا عمرو بن الحضرمي" بمهملة ومعجمة ساكنة، واسمه عبد الله بن عباد أو ابن عمار له عمر، وهذا وعامر والعلاء وأختهم الصعبة أسلم، والعلاء كان من أفاضل الصحابة، وكذا الصعبة وهي أم طلحة بن عبيد الله وفيها أيضا عثمان ونوفل ابنا عبد الله المخزوميان والحكم بن كيسان فنزلوا قربهم فهابوهم فأرشدهم عبد الله إلى ما يزيل فزعهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب، فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر، وإن تركناهم الليلة دخلوا حرم مكة، فأجمعوا على قتلهم فقتلوا عمرا واستأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وهرب من هرب، واستاقوا العير، فكانت أول غنيمة في الإسلام، فقسمها ابن جحش، وعزل الخمس من ذلك قبل أن يفرض، ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها.   فحلق عكاشة رأسه، وقيل: واقد وأشرف عليهم فلما رأوهم آمنوا، وقالوا: عمار، بضم العين وشد الميم، أي: معتمرون، لا بأس عليكم منه، فقدوا ركابهم وسرحوها وصنعوا طعاما. "فتشاور المسلمون، وقالوا: نحن في آخر يوم رجب" ويقال: أول يوم من شعبان، وقيل: في آخر يوم من جمادى الآخرة. وفي الاستيعاب: الأكثر أن سرية عبد الله في غرة رجب إلى نخلة وفيها قتل ابن الحضرمي لليلة بقيت من جمادى الآخرة. قال البرهان: وهو تباين ولعله غلط من الناسخ، صوابه: لليلة بقيت من رجب فيتفق الكلامان مع تأويل، أي: قوله في غرة رجب، وقوله: بقيت من رجب على ما صوب مع تأويل اليوم بالليلة لقربها منه أو الليلة باليوم، وقد يقال: لا تباين ولا غلط، بل هو إشارة للشك الذي وقع لهم، ففي حديث جندب عند الطبراني وغيره: ولم يدروا أذلك اليوم من رجب أو من جمادى، وحاصله: أنهم شكوا في اليوم أهو من الشهر الحرام أم لا؟ "فإن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر" الحرام "وإن تركناهم الليلة دخلوا حرمة مكة" فامتنعوا به منا ثم شجعوا أنفسهم عليهم، "فأجمعوا على قتلهم" أي: قتل من قدروا عليه منهم، كما في الرواية: "فقتلوا عمرا" الحضرمي وفيه تجوز؛ لأنه لما كان برضاهم نسب إليهم، وإلا فالقاتل له، كما في الرواية: واقد بن عبد الله رماه بسهم فقتله، "واستأسروا" أي: أسروا "عثمان بن عبد الله" بن المغيرة المخزومي "والحكم بن كيسان" بفتح الكاف وسكون التحتية وسين مهملة ونون. روى الواقدي عن المقداد قال: أنا الذي أسرت الحكم، فأرادوا قتله فأسلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، "وهرب من هرب" وسمي في الرواية منه: نوفل بن عبد الله، "واستاقوا العير" أي: ساقوها فالمجرد والمزيد بمعنى، كما في القاموس، أي: أخذوها، "فكانت أول غنيمة في الإسلام" قال في الفتح: وأول قتل وقع في الإسلام، "فقسمها ابن جحش" بين أصحابه، "وعزل الخمس من ذلك" باجتهاد منه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، "قبل أن يفرض" الخمس، كما رواه ابن إسحاق عن بعض آل عبد الله. قال ابن سعد: فكان أول خمس خُمس في الإسلام. "ويقال: بل قدموا بالغنيمة كلها" المدينة فقسمها صلى الله عليه وسلم بدر، ويقال: تسلمها منهم وخمسها ثم قسمها عليهم، ولم يحكه لمنابذته للمروي عند ابن إسحاق والطبراني، بلفظ: فقدموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، فأخر الأسيرين والغنيمة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنمائمها. وتكلمت قريش: إن محمدًا سفك الدماء، وأخذ المال في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية [البقرة: 217] . وفي ذلك يقول عبد الله بن جحش:   على رسول الله صلى الله عليه وسلم. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، فأخر الأسيرين والغنيمة" لتوقفه في حل ذلك، وأبى أن يأخذ شيئا من ذلك، وفيه أن شرع من قبلنا شرع لنا حتى يرد ناسخ. قال في الرواية: فلما قال صلى الله عليه وسلم ذلك سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم هلكوا وعنفهم إخوانهم فيما صنعوا، "حتى رجع من بدر فقسمها مع غنمائمها" على غانميها فقط، لا إنه خلطها مع غنائم بدر وعم بها الجميع. وذكر ابن وهب: أنه صلى الله عليه وسلم رد الغنيمة، وودى القتيل. قال ابن القيم: والمعروف في السير خلافه، "وتكلمت قريش أن محمدًا سفك الدماء وأخذ المال" أي: أمر بهما "في الشهر الحرام" أو هو حقيقة بأن علموا أو ظنوا أخذه عليه السلام الغنيمة من أصحابه، زاد ابن إسحاق في روايته: وأسر فيه الرجال، فقال: من يرد عليهم من المسلمين ممن كانوا بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان، وقالت يهود: تفاءل بذلك عليه صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمر وعمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب، فجعل الله ذلك عليهم، لا لهم. "فأنزل الله تعالى" بعد أن أكثر الناس القول: " {يَسْأَلُونَكَ} [البقرة: 217] ، قال البيضاوي: أي الكفار بعثوا يعيرون، وقيل: أصحاب السرية، {عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] ، بدل اشتمال "الآية" قال في الرواية: ففرج الله عن المسلمين وأهل السرية ما كانوا فيه، ولكنهم ظنوا أنه إنما نفى عنهم الإثم فلا أجر لهم فطمعوا فيه، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين. وفي رواية: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فلا أجر لهم، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] ، فوضعهم الله تعالى من ذلك على أعظم الرجاء. "وفي ذلك يقول عبد الله بن جحش" كما قال ابن هشام. وقال ابن إسحاق: الصديق، ورجح البرهان الأول بما في الاستيعاب عن الزهري: أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام حتى مات، فإن صح فلا يعارضه كل امرئ مصبح في أهله ... البيت؛ لأنه تمثل به وإنما هو لحنظلة بن سيار، كما قاله عمر بن شبة، وقد ذكرها ابن إسحاق ستة أبيات اقتصر المصنف كاليعمري على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 تعدون قتلا في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد سقينا من ابن الحضرمي رماحنا ... بنخلة لما أوقد الحرب واقد وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسيرين، وهما: عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا، وأما .................................. عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا.   ثلاثة واذكر ما حذفه، فقال: "تعدون قتلا في" الشهر "الحرام عظيمة وأعظم" أكبر وأشد "منه" من القتل الواقع منافيه وجملة "لو يرى الرشد راشد"، معترضة وجواب لو محذوف، أي: لعلم إن فعلكم أعظم، "صدودكم" خبر أعظم، "عما يقول محمد، وكفر به والله راء وشاهد" جملة حالي، والثالث والرابع: وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد فإنا وإن عيرتمونا بقتله ... وارجف بالإسلام باغ وحاسد "سقينا من" عمرو "بن" عبد الله "الحضرمي رماحنا، بنخلة لما" حين "أوقد الحرب واقد" ابن عبد الله التميمي برميه ابن الحضرمي بسهم قتله به، ومفعول سقينا الثاني دماني البيت السادس، وهو: دما وابن عبد الله عثمان بيننا ... ينازهه غل من القيد قاعد وغل بضم المعجمة: طوق من حديد يجعل في العنق، وأما بكسرها فالحقد كما في المصباح، ولم يذكر الناظم الحكم مع أنه أسير أيضا، لجواز أنه بعد إسلامه أو قبله وصرفه الله عن ذلك لعلمه بأنه من السعداء الشهداء. "وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسيرين، وهما: عثمان بن عبد الله" المخزومي "والحكم بن كيسان" فقال صلى الله عليه وسلم: "لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا -يعني سعدا وعتبة- فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم"، فقدم سعد وعتبة بعدهم بأيام، "ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم" كل واحد بأربعين أوقية، كما الشامية. "فأما الحكم" بن كيسان مولى عمرو المخزومي والد أبي جهل، "فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا" ذكره ابن إسحاق وابن عقبة وعروة بن الزبير، وروى الهيثم بن عدي عن يونس عن ابن عباس، وعن أبي بكر بن أبي جهم، قال: تزوج الحكم بن كيسان مولى بني مخزوم وكان حجاما، آمنة بنت عفان أخت عثمان، وكانت ماشطة، ذكره في الإصابة. و"وأما عثمان فلحق بمكة، فمات بها كافرا" ومن يضلل الله فلا هادي له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 " تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر ": ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس بالمدينة ستة عشرا شهرا. وقيل سبعة عشر، ...........................   تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر: "ثم حولت القبلة" أي: الاستقبال لا ما يستقبله المصلي؛ إذ لا يتعلق به تحويل أو حول، أي: غير وجوب استقبال المقدس، "إلى الكعبة" الترتيب ذكري لا زماني، فلا يرد عليه جزمه أن السرية على رأس سبعة عشر شهرا في رجب، وحكايته الخلاف الآتي في التحويل. "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إلى" صخرة "بيت المقدس" التي كان موسى يصلي إليها بحذاء الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، نقله القرطبي عن بعضهم. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي، قال: ما خالف نبي نبيا في قبلة ولا سنة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس ثم تحول إلى الكعبة. وروى أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن الحسن في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، قال: أعلم قبلته فلم يبعث نبي إلا وقبلته البيت، وهذا قواه الحافظ العلائي، فقال في تذكرته: الراجح عند العلماء أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار. قال بعضهم: وهو الأصح، انتهى. اختار ابن العربي وتلميذه السهيلي: أن قبلة الأنبياء بيت المقدس، قال بعض: وهو الصحيح المعروف. فعد صاحب الأنموذج من خصائص المصطفى وأمته استقبال الكعبة: إنما هو على أحد القولين المرجحين، نعم ذكر فيما اختص به على جميع الأنبياء والمرسلين أن الله جمع له بين القبلتين صلى الله عليه وسلم "بالمدينة" حال "ستة عشر شهرا" كما رواه مسلم عن أبي الأحوص، والنسائي عن زكريا بن أبي زائدة، وشريك وأبو عوانة عن عمار بن زريق بتقديم الراء مصغر، أربعتهم عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب جزما. ورواه أحمد بسند صحيح عن ابن عباس، ورجحه النووي في شرح مسلم، وفي رواية زهير عند البخاري وإسرائيل عنده، وعند الترمذي عن أبي إسحاق عن البراء ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا بالشك. "وقيل: سبعة عشر" شهرا، رواه البزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف، والطبراي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وقيل ثمانية عشر شهرا. وقال الحربي: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربع الأول، فصلى إلى بيت المقدس تمام السنة وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر. ثم حولت القبلة. وقيل: كان تحويلها في جمادى، وقيل: كان يوم الثلاثاء في نصف شعبان،   أيضا من حديث ابن عباس، وهو قول ابن المسيب ومالك وابن إسحاق. قال القرطبي: وهو الصحيح. قال الحافظ: والجمع بينها سهل بأن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور. ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حبان: سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني ربيع الأول، انتهى. قال البرهان: ويمكن أن هذا مراد من قال سبعة عشر بإلغاء الكسر. "وقيل: ثمانية عشر شهرا" رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء، قال الحافظ: وهو شاذ، وأبو بكر سيئ الحفظ وقد اضطرب فيه، فعند ابن جرير من طريقه في رواية سبعة عشر، وفي آخر: ستة عشر، قال: ومن الشذوذ أيضا ثلاثة عشر شهرا، ورواية تسعة أشهر أو عشرة، ورواية: شهرين، ورواية: سنتين، ويمكن حمل الأخيرة على الصواب وأسانيد الجميع ضعيفة، والاعتماد على الثلاثة الأول، فجملة ما حكي تسع روايات، انتهى. وكأنه لم يعد رواية الشك، وإلا كانت عشرة، وكذا لم يعدها البرهان وعد الأقوال عشرة، فزاد القول بأنه بضعة عشر شهرا ولم يعده الحافظ؛ لأنه يمكن تفسيره بكل ما زاد على العشرة. "وقال" إبراهيم "الحربي: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع الأول فصلى إلى بين المقدس تمام السنة، وصلى من سنة اثنتين ستة أشهر، ثم حولت القبلة" وهذا محتمل، لكون المراد أن مدة الصلاة لبيت المقدس دون سة عشر، ولذا قال في النور: هذا كاد أن يكون قولا، انتهى. ومحتمل لأن يكون مراده ستة عشر بشهر القدوم. "وقيل: كان تحويلها في جمادى" الآخرة، وبه جزم ابن عقبة "وقيل: كان يوم الثلاثاء في نصف شعبان" قاله محمد بن حبيب، وجزم به في الروضة مع ترجيحه في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرا للجزم بها في مسلم، كما مر. قال الحافظ: ولا يستقيم أنه في شعبان إلا بإلغاء شهري القدوم والتحويل، انتهى. نعم هو يوافق سبعة عشر بتلفيق واحد من شهري القدوم والتحويل، والقول الشاذ بأنه ثمانية عشر بإلغاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 وقيل يوم الاثنين نصف رجب. وظاهر حديث البراء في البخاري: أنها كانت صلاة العصر. ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى: أنها الظهر. وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني، كما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت ...................................   الكسر واعتبار شهري التحويل والقدوم. "وقيل: يوم الاثنين نصف رجب" رواه أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح. قال الواقدي: وهذا أثبت. قال الحافظ: وهو الصحيح، وبه جزم الجمهور، كما مر، وهو صالح لروايتي ستة عشر وسبعة عشر والشك، فالحاصل في الشهر ثلاثة أقوال، وفي اليوم قولان. "وظاهر حديث البراء" بتخفيف الراء والمد على الأشهر، ابن عازب الأنصاري الأوسي الصحابي ابن الصحابي "في البخاري أنها" أي: الصلاة التي وقع فيها التحويل، "كان صلاة العصر" لقوله وأنه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم أول صلاة صلاها صلاة العصر، أي: متوجها إلى الكعبة. "ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى" بضم الميم وفتح المهملة وشد اللام، صحابي جليل اسمه سعيد، وقيل: رافع ووهاه ابن عبد البر، وقوى الأول. "أنها الظهر" وكذا عند الطبراني والبزار من حديث أنس، وعند ابن سعد: حولت في صلاة الظهر أو العصر، وجمع الحافظ فقال في كتاب الإيمان: التحقيق: أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بشر بن البراء بن معرور الظهر الأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر. "وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر" أي: الصبح، "من اليوم الثاني" وقال في كتاب الصلاة: لا منافاة بين الخبرين؛ لأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة وهم بنو حارثة، ووصل وقت الصبح إلى من هو خارجها وهم أهل قباء، "كما في الصحيحين" البخاري في الصلاة والتفسير ومسلم في الصلاة، وكذا النسائي "عن ابن عمر" بن الخطاب "أنه قال: بينما الناس" المعهودون في الذهن "بقباء" بالمد والتذكير والصرف على الأشهر ويجوز القصر وعدم الصرف ويؤنث. موضع معروف ظاهر المدينة وفيه مجاز الحذف، أي: بمسجد قباء. "في صلاة الصبح" ولمسلم في صلاة الغداة وهو أحد أسمائها ونقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، "إذ جاءهم آت" قال الحافظ: ولم يسم وإن كان ابن طاهر وغيره نقلوا أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي هذا أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله أعلم.   عباد بن بشر ففيه نظر؛ لأن ذلك إنما ورد في حق بني حارثة في صلاة العصر، فإن كان ما نقلوه محفوظا فيحتمل أن عبادا أتى بني حارثة أولا وقت العصر ثم توجه إلى أهل قباء، فأعلمهم بذلك في الصبح، ومما يدل على تعددهما أن مسلما روى عن أنس: أن رجلا من بني سلمة مر وهم ركوع في صلاة الفجر، فهذا موافق لرواية ابن عمر في تعيين الصلاة، وبنو سلمة غير بني حارثة انتهى. وكون مخبر بني حارثة عباد بن بشر رواه ابن منده وابن أبي خيثمة، وقيل: عباد بن نهيك، بتفح النون وكسر الهاء، ورجح أبو عمر الأول. وقيل: عباد بن نصر الأنصاري. قال الحافظ: والمحفوظ عباد بن بشر، انتهى. وقيل: عباد بن وهب. قال البرهان: ولا أعرفه في الصحابة إلا أن يكون نسب إلى جده أو جد له أعلى إلى خلاف الظاهر، انتهى. "فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسقط من الحديث ما ألفظه: قد أنزل عليه الليلة قرآن، قال الحافظ: فيه إطلاق الليلة على بعض اليوم الماضي وما يليه مجازا والتنكير لإرادة البعضية، والمراد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144] الآية. "قد أمر" بضم الهمزة مبنيا للمفعول "أن" أي: بأن "يستقبل" بكسر الموحدة، أي: باستقبال "الكعبة، فاستقبلوها" بفتح الموحدة عن أكثر رواة الصحيحين على أنه فعل ماض، أي: تحول أهل قباء إلى جهة الكعبة، "وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة" وضمير استقبلوها ووجوههم لأهل قباء، ويحتمل أنه للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. وفي رواية الأصيلي للبخاري، والعذري لمسلم: فاستقبلوها بكسر الموحدة بصيغة الأمر، قال الحافظ: وفي ضمير وجوههم الاحتمالان المذكوران، وعوده إلى أهل قباء أظهر. وترجح رواية الكسر رواية البخاري في التفسير، بلفظ: وقد أمر أن يستقبل الكعبة ألا فاستقبلوها، فدخول حرف الاستفتاح يشعر بأن الذي بعده أمر لا أنه بقية الخبر الذي قبله، انتهى. وفي النور أن بعض الحفاظ، قال: الكسر أفصح وأشهر وهو الذي يقتضيه تمام الكلام بعده. "وفي هذا" الحديث من الفوائد "أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء" زاد الحافظ: واستنبط منه الطحاوي أن من لم تبلغه الدعوة ولم يمكنه استعلام فالفرض غير لازم له، وفيه جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لما تمادوا في الصالة ولم يقطعوها، دل على أنه رجح عندهم التمادي والتحول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وروى الطبري عن ابن عباس: لما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واليهود أكثر أهلها يستقبلون بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء فنزلت الآية.   على القطع والاستئناف، ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد، كذا قيل وفيه نظر، لاحتمال أن عندهم في ذلك يقينا سابقا لأنه عليه السلام كان مترقبا للتحويل، فلا مانع من تعليمهم ما صنعوا من التمادي والتحول، وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به ونسخ ما تقرر بطريق العلم به؛ لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت عندهم بطريق القطع لمشاهدتهم صلاته صلى الله عليه وسلم إليه، وتحولوا إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد، وأجيب: بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن ومقدمات أفادت العلم عندهم بصدق المخبر، فلم ينسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم. وقيل: كان النسخ بخبر الواحد جائزا في زمنه صلى الله عليه وسلم مطلقا، وإنما منع بعده ويحتاج إلى دليل. انتهى. "وروى الطبري" محمد بن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، "عن ابن عباس" قال: "لما هجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واليهود أكثر أهلها يستقبلون" خبر ثان لليهود أو لمبتدأ محذوف، أي: وهم يستقبلون "بيت المقدس أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس" ليجمع له بين القبلتين، كما عده السيوطي من خصائصه على الأنبياء والمرسلين وتأليفا لليهود، كما قال أبو العالية "ففرحت اليهود" لظنهم أنه استقبله اقتداء بهم مع أنه كان لأمر ربه "فاستقبلها سبعة عشر شهرا، وكان صلى الله عليه وسلم يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم" وعند الطبري أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس، قال: إنما أحب أن يتحول إلى الكعبة؛ لأن اليهود قالوا: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل، وددت أن الله صرف وجهي عن قبلة يهود"، فقال جبريل: إنما أنا عبد فادع ربك وسله. وعند السدي في الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يصلي قبل الكعبة؛ لأنها قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل، فقال لجبريل: "وددت أنك سألت الله أن يصرفني إلى الكعبة"، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدئ الله عز وجل بالمسألة ولكن إن سألني أخبرته. "فكان يدعو" دعاء محبة لذلك بالحال لا بالقال، ففي الفتح فيه بيان شرف المصطفى وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب من غير تصريح بالسؤال، وعليه فالعطف تفسيري في قوله: "وينظر إلى السماء" ينظر جبريل ينزل عليه، كما عند السدي وغيره، ولأنها قبلة الداعي "فنزلت الآية" يعني قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] الآية، وبقية حديث ابن عباس هذا عند ابن جرير: فارتاب في ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 قال في فتح الباري وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة. لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه، قال: والجمع بينهما ممكن: بأن يكون أمر لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس. وأخرج الطبري أيضا من طريق ابن جريج قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاثة حجج، ثم هاجر، فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة.   اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] الآية. "قال في فتح الباري" في كتاب الصلاة "وظاهر حديث ابن عباس هذا أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن أخرج أحمد من وجه آخر عن ابن عباس" قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه" فحصل تخالف بين حديثيه؛ إذ مقتضى الأول أنه إنما أمر به في المدينة، وهذا صريح في أنه كان بمكة. "قال" يعني في الفتح: "والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمر" صلى الله عليه وسلم "لما هاجر أن يستمر على الصلاة لبيت المقدس" فالأمر بابتداء استقباله كان بمكة، والذي بالمدينة باستمراره، ثم نسخ باستقبال الكعبة، فلم يقع نسخ بيت المقدس إلا مرة واحدة. "وأخرج الطبري" محمد بن جرير "أيضا من طريق ابن جريج" بجيمين مصغر عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي الثقة الفقيه الحافظ أحد الأعلام، مات سنة خمسين ومائة، "قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى ثلاثة حجج" بكسر المهملة وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية منون، أي: سنين بناء على أن الإسراء قبل الهجرة بخمس سنين. أما على أنه قبلها بسنة أو نحوها، فالمراد: ما كان يصليه قبل فرض الخمس، "ثم هاجر فصلى إليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله إلى الكعبة" فهذا الأثر صريح في الجمع المذكور، فلا بأس. وقوله في حديث ابن عباس الثاني: والكعبة بين يديه يخالف قول البراء عند ابن ماجه صلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة، فإن ظاهره: أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا. وحكى الزهري خلافا في أنه كان بمكة يجعل الكعبة خلف ظهره أو يجعلها بينه وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وقوله في حديث ابن عباس الأول: "أمره الله تعالى" يرد قول من قال: إنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد. وعن أبي العالية: أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب. وهذا لا ينفي أن يكون .................................................................   بيت المقدس. قال الحافظ: فعلى الأول: كان يجعل الميزان خلفه. وعلى الثاني: كان يصلي بين الركنين اليمانيين وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وحمل ابن عبد البر هذا على قول الثاني ويؤيده حمله على ظاهره إمامة جبريل ففي بعض طرقه: أن ذلك كان عند البيت. وفي الفتح أيضا اختلفوا في الجهة التي كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه كان لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس. وأطلق آخرون: أنه كان يصلي إليها بمكة. فقال ابن عباس وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس. وقال آخرون: كان يصلي إلى الكعبة، فلما هاجر استقبل المقدس. وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح؛ لأنه يجمع به بين القولين وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، انتهى. ولا يخالفه قول ابن العربي: نسخ الله القبلة ونكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية مرتين مرتين ولا أحفظ رابعا.. وقال أبو العباس العزفي -بفتح المهملة والزاي وبالفاء: رابعها الوضوء مما مست النار، ونظم ذلك السيوطي؛ لأن مراد الحافظ أن خصوص نسخ بيت المقدس لم يتكرر، وما أثبته ابن العربي النسخ للقبلة في الجملة، بمعنى: أنه أمر باستقبال الكعبة ثم نسخ باستقبال بيت المقدس، ثم نسخ بالكعبة، كما هو مدلول كلاميهما، ودل عليه أثر ابن جريج. "وقوله في حديث ابن عباس الأول: أمره الله يرد قول من قال" وهو الحسن البصري، "أنه صلى إلى بيت المقدس باجتهاد" وكذا قول الطبري: كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختاره طمعا في إيمان اليهود، ويرده أيضا سؤاله لجبريل؛ إذ لو كان مخيرا لاختار الكعبة لما أحبها من غير سؤال. قال شيخنا: إلا أن يقال بعد اختياره وجب عليه لكنه استبعد هذا بمجلسه؛ لأن فيه تضييقا عليه ولو خير كان كتخييره بين المسح على الخفين وغسل الرجلين، والذي عليه الجمهور، كما قال القرطبي: أنه إنما كان بأمر الله ووحيه. "وعن أبي العالية" رفيع بضم الراء مصغر بن مهران بكسر الميم، الرماحي بكسر الراء وتحتية، مولاهم البصري التابعي الكبير، أخرج له الجميع. "أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف أهل الكتاب" وعن الزجاج امتحانا للمشركين؛ لأنهم ألقوا الكعبة "وهذا لا ينفي أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 بتوقيف. واختلفوا في المسجد الذي كان يصلي فيه: فعند ابن سعد في الطبقات: أنه صلى ركعتين من الظهر في مسجده بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام، فاستدار إليه ودار معه المسلمون. ويقال: إنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة، فصنعت له طعاما، وكانت الظهر، فصلى عليه السلام بأصحابه ركعتين، ثم أمر فاستداروا إلى الكعبة، واستقبل الميزاب، فسمي مسجد القبلتين ...................   بتوقيف" فقد يكون الأمر به لتأليفهم، "واختلفوا في المسجد الذي كان يصلي فيه" حين حولت القبلة، "فعند ابن سعد في الطبقات أنه" صلى الله عليه وسلم "صلى ركعتين من الظهر في مسجده" النبوي "بالمسلمين، ثم أمر أن يتوجه إلى المسجد الحرام" أي: الكعبة وعبر به كالآية دون الكعبة؛ لأنه كما قال البيضاوي: كان عليه السلام بالمدينة والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها، أي: للبعيد، حرج عليه بخلاف القريب. "فاستدار إليه ودار معه المسلمون" فصلى بهم ركعتين أخريين؛ لأن الظهر كانت يومئذ أربعا، فثنتان منها لبيت المقدس، وثنتان للكعبة، ووقع التحويل في ركوع الثالثة، كما في النور، فجعلت كلها ركعة للكعبة مع أن قيامها وقراءتها وابتداء ركوعها للقدس؛ لأنه اعتداد بالركعة إلا بعد الرفع من الركوع ولذا يدركها المسبوق قبله. "ويقال: إنه عليه السلام زار أم بشر بن البراء بن معرور" بمهملات، يقال: اسمها خليدة، كما في التجريد. "في بني سلمة" بكسر اللام والنسبة إليها بفتحها على المشهور، وفي الألفية. والسلمي افتحه في الأنصاري. وفي اللب كسرها المحدثون في النسبة أيضا. "فصنعت له طعاما، وكانت" أي: وجدت "الظهر" أي: دخل وقتها، فكان تامة، لكن المذكور في الفتح الذي هو ناقل عنه، وكذا العيون والسبل عن ابن سعد، بلفظ: وحانت الظهر بمهملة، أي دنا وقتها، "فصلى عليه السلام بأصحابه ركعتين ثم أمر" باستقبال الكعبة في ركوع الثالثة، "فاستدارواإلى الكعبة" بأن حول الإمام من مكانه الذي كان يصلي فيه إلى مؤخره، فتحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال، ولا يشكل بأنه عمل كثير، لاحتمال أنه قبل تحريمه فيها كالكلام، أو اغتفر هذا العمل للمصلحة، أو لم تتوال الخطا عند التحويل بل وقعت متفرقة، "فسمي مسجد القبلتين" لنزول النسخ وتحويله عليه السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 قال ابن سعد قال الواقدي: هذا عندنا أثبت. ولما حول الله القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار واليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وشك، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم في قوله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} أي الحكم والتصرف، والأمر كله لله، فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده، وفي تصريفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا. ولله تعالى بنبينا عليه الصلاة والسلام وبأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة خليله إبراهيم ................................   فيه ابتداء فلا يرد أن التحويل وقع في مسجدي قباء وبني حارثة، ولم يسميا بذلك، وأيضا فحكمة التسمية لا يلزم اطرادها. "قال ابن سعد: قال الواقدي: هذا عندنا أثبت" من القول الأول أن التحويل وقع في المسجد النبوي "ولما حول الله القبلة حصل لبعض الناس من المنافقين والكفار" المشركين من قريش، "واليهود ارتياب" شك "وزيغ" ميل "عن الهدى وشك" فيه، "وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" على استقبالها في الصلاة "أي: ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا، وتارة يستقبلون كذا،" وصريحه أن هذا قول الطوائف الثلاث، وبه صرح البيضاوي وسيذكر المصنف مقابله أخيرا. "فأنزل الله جوابهم في قوله:" {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] ، أي: الجهات كلها؛ لأنهما ناحيتا الأرض، فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، لا اعتراض عليه، كما في الجلال، فحمله على الحقيقة، وحمله المصنف على المجاز، فقال: "أي الحكم والتصرف والأمر كله لله" لا يسأل عما يفعل، "فحيما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة، فنحن عبيده. وفي تصريفه و" ونحن "خدامه حيثما وجهنا توجهنا" وقد قال تعالى: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة: 142] ، فأينما تولوا فثم وجه الله، تقدم عن ابن عباس أن سبب نزولها إنكار اليهود. قال السيوطي: وإسناده قوي فليعتمد. وفي سببها روايات أخر ضعيفة. "ولله تعالى بنبينا عليه الصلاة والسلام وبأمته عناية" أي: رعاية "عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة خليله إبرهيم" وألقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد عن عائشة: "إن اليهود لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا الله إليها وضلوا عنها .....................   حبها في قلب حبيبه عليه السلام، ولم يفعل ذلك بغير أمته بل تركوا على ضلالهم الذي وقعوا فيه مع أنها قبلة الأنبياء كلهم على أحد القولين، كما مر. وربما يؤيد الحديث الذي ذكره بقوله: "قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه أحمد عن عائشة: "إن اليهود لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها" قال الحافظ: يحتمل بأن نص لنا عليه، ويحتمل بالاجتهاد، ويشهد له أثر ابن سيرين في جمع أهل المدينة قبل قدوم المصطفى، فإنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها. ثم قد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، انتهى ملخصا. "وضلوا عنها" لأنه فرض عليهم يوم الجمعة وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا ليوم الجمعة، قاله ابن بطال، ومال إليه عياض قواه. وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحا، فاختلفوا هل يلزم بعينه أن يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا فأخطئوا، قال الحافظ: ويشهد له ما للطبري عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْت} [النحل: 124] ، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه. وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا"، وقالوا يا موسى: إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعل عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] الآية، وغير ذلك، وكيف لا؟ وهم القائلون: سمعنا وعصينا، انتهى. "وعلى القبلة التي هدانا الله إليها" بصريح البيان بالأمر المكرر، أولا لبيان تساوي حكم السفر وغيره، وثانيا للتأكيد، "وضلوا عنها" لأنهم لم يؤمروا باستقبال الصخرة، كما دل عليه هذا الحديث، وهو يؤيد ما رواه أبو داود في الناسخ والمنسوخ عن خالد بن يزيد بن معاوية قال: لم تجد اليهود في التوراة القبلة، ولكن تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه، وكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشورة منهم. وروى أبو داود أيضا: أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: كان موسى يصلي عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام، فكانت قبلته، وكانت الصخرة بين يديه، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين". وقال بعض المؤمنين: فكيف صلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] .   اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة وفي مسجد ذي القرنين وقبلته إليها. وفي البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَة} [يونس: 87] الآية، روى ابن جريج عن ابن عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، انتهى. وبه قطع الزمخشري والبيضاوي. "وعلى قولنا خلف الإمام: آمين" فإنها لم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا هارون فإنه كان يؤمن على دعاء موسى، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث أنس عند ابن مردويه وغيره. "و" روى ابن إسحاق وغيره عن البراء، قال: "قال بعض المؤمنين:" لما حولت القبلة "فكيف صلاتنا التي صليناها نحو بيت المقدس؟ وكيف من مات من إخواننا" من المسلمين؟ قال في الفتح: وهم عشرة، فبمكه من قريش: عبد الله بن شهاب: والمطلب بن أزهر الزهريان، وسكران بن عمر، والعامري. وبأرض الحبشة: حطاب بالمهملة ابن الحارث الجمحي، وعمرو بن أمية الأسدي، وعبد الله بن الحارث السهمي، وعروة بن عبد العزى، وعدي بن نضلة العدويان. ومن الأنصار بالمدينة: البراء بن معرور بمهملات، وأسعد بن زرارة، فهؤلاء العشرة متفق عليهم، ومات في المدة أيضا: إياس بن معاذ الأشهلي، لكنه مختلف في إسلامه. "وهم يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل اله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، صلاتكم إلى بيت المقدس، انتهى. وبهذا جزم الجلال، فلا عليك ممن قال إيمانكم بالقبلة المنسوخة. وروى البخاري من طريق زهير عن أبي إسحاق عن البراء: مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ، قال الحافظ: وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، وكذلك روى أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم صحيحا عن ابن عباس، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدًا قتل من المسلمين قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة، فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير جهاد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وقيل قال اليهود: اشتاق إلى بلد أبيه، وهو يريد أن يرضي قومه، ولو ثبت على قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي. فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] يعني أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله سيوجهك إليه بما في كتبهم عن أنبيائهم. ثم فرض صيام شهر رمضان ...................................................   ولم يضبط اسمه لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك، ثم وجدت في المغازي رجلا اختلف في إسلامه. فقد ذكر ابن إسحاق: أن سويد بن الصامت لقي النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإسلام، فقال: إن هذا القول حسن، وانصرف إلى المدينة فقتل به في وقعة بعاث، بضم الموحدة وإهمال العين ومثلثة، وكانت قبل الهجرة، قال: وكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم. وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسرار، انتهى. "وقيل: قال اليهود" مقابل ما فهم من كلامه المتقدم أن ما ولاهم عن قبلتهم صدر عنهم وعن المنافقين والمشركين، "اشتاق إلى بلد أبيه،" مكة "وهو يريد أن يرضي قومه" قريشا "ولو ثبت عى قبلتنا لرجونا أن يكون هو النبي الذي ننتظر أن يأتي" وهذا القول نقله في العيون عن السدي، وزاد عنه: وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وقال كفار قريش: تحير على محمد دينه، فاستقبل قبلتكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم، "فأنزل الله تعالى" في اليهود: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 144] ، أي: التوراة، {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] يعني أن اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم" قال السدي: وأنزل فيهم: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 145] الآيتين، قال: أي يعرفون أن قبلة النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل قبل الكعبة كذلك هو مكتوب عندهم في التوراة وهم يعرفونه بذلك، كما يعرفون أبناءهم وهم يكتمون ذلك وهم يعلمون أنه الحق، يقول الله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] ، أي الشاكين: وأنزل الله في المنافقين: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِب} [البقرة: 142] ، وفي المشركين: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} [البقرة: 150] الآية. "ثم فرض صيام شهر رمضان" ذكر بعضهم حكمة كونه شهرا، فقال: لما تاب آدم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 بعدما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر، في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه عليه السلام. وزكاة الفطر قبل العيد بيومين: أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من شعير، أو صاع من زبيب، أو صاع من بر، وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال. وقيل إن زكاة الأموال فرضت فيها، وقيل: قبل الهجرة والله أعلم.   أكل الشجرة تأخر قبول توبته لما بقي في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوما، فلما صفا جسده منها تيب عليه ففرض على ذريته صيام شهر، انتهى. روى الواقدي عن عائشة وابن عمر وأبي سعيد الخدري، قالوا: نزل فرض شهر رمضان "بعدما حولت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان،" أي: في نصفه بناء على أن التحويل في نصف رجب، أو في أوله بناء على أنه في آخر جمادى الآخرة، ولا يأتي هنا القول بأنها حولت في نصف شعبان؛ لأنه يلزم أن فرض الصوم في نصف رمضان، "على رأس" أي: أول، "ثمانية عشر شهرا، من مقدمة عليه السلام" المدينة تقريبا، فلا بد من التجوز إما في شهر أو في ثمانية عشر، "و" فرضت "زكاة الفطر" في هذه السنة، كما في حديث الثلاثة، وزاد المؤلف: تبعا لما في أسد الغابة. "قبل العيد بيومين" وهي كما في حديثهم "أن يخرج عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر، أو صاع من شعير" بفتح الشين وتكسر "أو صاع من زبيب، أو صاع من بر" أي: قمح، كذا في حديث الثلاثة، كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عند أبي داود وأحمد والترمذي وحسنه. وذكر أبو داود: أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان هذه الأشياء. وفي الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك. وعند الدراقطني عن عمر: أمر صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم بنصف صاع من حنطة، ورواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس مرفوعا، وفيه: فقال علي: أما إذ وسع الله فأوسعوا، اجعلوه صاعا من بر وغيره، ويرى صاعا من دقيق، ولكنها وهم من سفيان بن عيينة نبه عليه أبو داد. "وذلك قبل أن تفرض زكاة الأموال" من جملة حديث عائشة وابن عمر وأبي سعيد، "وقيل: إن زكاة الأموال فرضت فيها" أي: السنة الثانية، وقيل: بعدها، وقيل: سنة تسع، "وقيل:" فرضت زكاة الأموال "قبل الهجرة" حكاه مغلطاي وغيره، واعترض بأنه لم يفرض بمكة بعد الإيمان إلا الصلاة كل الفروض بالمدينة، وإن قيل فرض الحج قبل الهجرة فالصحيح خلافه، والأكثر أن فرض الزكاة إنما كان بعد الهجرة "والله أعلم" بالصواب من ذلك، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 "باب غزوة بدر العظمى": ثم غزوة بدر الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية، وبدر القتال. وهي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن يخلد بن النضر بن كنانة، كان نزلها، وقيل: بدر بن الحارث، حافر بئرها، وقيل بدر اسم البئر التي بها سميت لاستدارتها، أو لصفائها ورؤية البدر فيها. وقال ابن كثير: وهو يوم الفرقان، الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، .................   باب غزوة بدر العظمى: "ثم" بعد مجموع ما ذكر "غزوة بدر" أو في العطف تغليب أو الترتيب ذكرى، فلا يرد تأخر زكاة الفطر عن وقت بدر "الكبرى" نعت لغزوة لا لبدر، "وتسمى العظمى والثانية وبدر القتال" لوقوعه فيها دون الأولى والثالثة، وتسمى أيضا بدر الفرقان، "وهي قرية مشهورة" بين مكة والمدينة على نحو أربع مراحل من المدينة، قاله النووي، وفي معجم ما استعجم: على ثمانية وعشرين فرسخا من المدينة يذكر ولا يؤنث جعلوه اسم ماء، "نسبت إلى بدر بن يخلد" بفتح التحتية وإسكان الخاء المعجمة وضم اللام غير منصرف للعلمية ووزن الفعل هكذا في نسخة صحيحة، وهي المنقول فما في أكثر النسخ كبعض نسخ الفتح مخلد بالميم تحريف من النساخ "ابن النضر" بضاد معجمة جماع قريش، ولا يستعمل إلا باللام، فلا يلتبس بنصر بمهملة؛ لأنه بلا لام "ابن كنانة" لأنه "كان نزلها" وعلى هذا اقتصر اليعمري، وصدر به في الفتح. "وقيل: بدر بن الحارث حافر بئرها" وبهذا صدر مغلطاي وأسقط الأول قائلا: وقيل بدر بن كلدة: "وقيل": نسبت القرية إلى "بدر" فهو مجرور منون، "اسم البئر التي بها سميت" البئر بدرا "لاستدارتها" كبدر السماء "أو" يعني، وقيل: كما في سيرة مغلطاي: سميت البئر بدرا "لصفائها" أي: صفاء مائها "ورؤية البدر فيها" وقال ابن قتيبة: كانت البئر لرجل يسمى بدرا من غفار، وقيل: بدر رجل من بني ضمرة. وحكى الواقدي إنكار ذلك كله عن غير واحد من شيوخ بني غفار: وإنما هي ماؤنا ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد. قال البغوي: وهذا قول الأكثر. "قال ابن كثير: وهو" أي: يوم بدر، "يوم الفرقان" المذكور في قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَان} [الأنفال: 41] الآية؛ لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل، قاله ابن عباس رواه ابن جرير وابن المنذر وصححه الحاكم، "الذي أعز الله فيه الإسلام" قواه وأظهره، "و" قوى "أهله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 ودمغ فيه الشرك وخرب محله، وهذا مع قلة عدد المسلمين، وكثرة العدو مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد، والعدة الكاملة، الخيل المسومة، والخيلاء الزائد، أعز الله به رسوله وأظهر وحيه وتنزيله، وبيض وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبيله، وأخزى الشيطان وجيله، ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: .........................   ودمغ" الله "في الشرك أخفاه وأذهب شوكته، يقال: دمغه كسر عظم دماغه، فشبه الشرك بالدماغ المكسورة استعارة بالكناية، وأثبت الدمغ له تخييلا أو الاستعارة في الفعل فهي تبعية، "وخرب محله" أي: أهله الذين كانوا يعظمونه، أو خرب الأماكن التي كان ظاهرا فيها، والأول أظهر؛ لأن تخريب أماكنه إنما كان بعد فتح مكة بهدم العزى وتكسير هبل وإزالة جميع الأصنام. "وهذا" المذكور من عز الإسلام ودمغ الشرك حاصل "مع قلة عدد المسلمين وكثرة العدو" فهو آية ظاهرة على عناية الله تعالى بالإسلام وأهله، "مع ما" أي: حال "كانوا" أي: العدو "فيه من" القوة الحاصلة لهم بلبس "سوابغ الحديد" أي: الدروع الحديد السوابغ، أي: الواسعة من إضافة الصفة للموصوف وتقدير القوة إلخ؛ لأن السوابغ ليست حالا حتى يبين بها ما كانوا عليه. "والعدة" بضم العين "الكاملة" أي: الاستعداد والتأهب، والعدة ما أعددته من المال والسلاح أو غير ذلك، كما في المصباح، فعطفه على ما قبله عطف عام على خاص على الثاني ومسبب على سبب على الأول. "والخيل" جمع لا واحد له من لفظه "المسومة" الراعية أو من السمة وهي العلامة أو البارعة الجمال، وذكره بعد العدة من الخاص بعد العام، "والخيلاء" بضم الخاء وكسرها الكبر "الزائد" فذكر رعاية لمعناه، وفي نسخة الزائدة بالهاء رعاية للفظة؛ لأن فيه ألف التأنيث، "أعز الله به رسوله وأظهر وحيه وتنزيله" أي: القرآن عطف أخص على أعم أو تفسير إن أريد الأعم على أن الوحي بمعنى الموحى والتنزيل بمعنى المنزل أعم من أن يكون لفظا أو معنى، "وبيض وجه النبي" كناية عن ظهور بهجة السرور، فأطلق البياض وأريد لازمه نحو يوم تبيض وجوه، أي: أظهر سرور النبي صلى الله عليه وسلم، "وقبيله" أي: أتباعه بالنصب عطف على رسوله أو على وجه بتقدير مضاف، أي: وبيض وجه قبيلة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. "وأخزى الشيطان" إبليس وغيره من الشياطين "وجيله" أتباعه من أهل الضلال والزيغ نسبوا إليه لقبولهم ما وسوس به فضلوا عن الحق واتبعوه، أو المراد إبليس وأعوانه من الشياطين، والأول أولى لإفادته العموم في أنه أخرى شياطين الجن والأنس. "ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين" قال شيخنا: أضافهم إليه تشريفا، فالمراد الكاملون في الإيمان، فقوله: "وحزبه" أي: أنصار دينه "المتقين" مساوٍ لما قبله بالنظر للتحقيق والوجود، وهو ما صدق عليه المؤمن والمتقي له في المفهوم، فإن العبد معناه الذي لا يملك لنفسه شيئا مع سيده، فكأنه قال: على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] أي قليل عددكم، لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد. انتهى. فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام، إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الآفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار، وأعز الله من حضرها من المسلمين، فهو عنده من الأبرار.   عباده الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، بل كانوا منقادين له بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} حال من الضمير، ولم يقل ذلائل، ليدل على قتلهم، "أي: قليل عددكم" فهو من ذكر السبب وإرادة المسبب وإلا فأذلة جمع ذليل ضد عزيز، وقلة العدد سبب لذلك، أي: قليلون بالنسبة إلى من لقيتم من المشركين من جهة أنهم كانوا مشاة إلا قليلا وعارين من السلاح؛ لأنهم لم يأخذوا أهبة القتال كما ينبغي، وإنما خرجوا لتلقي الغير بخلاف المشركين، "لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله" كما قال تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران: 160] ، "لا بكثرة العدد" بفتح العين "والعدد" بضمها جمع عدة، كغرفة وغرف، "انتهى" كلام اب كثير. "فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام" أي: أفضلها وأشرفها، قال في الاستيعاب: وليس في غزواته ما يصل لها في الفضل ويقرب منها غزوة الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان، انتهى. فليس المراد العظم من حيث كثرة الجند والشدة؛ لأن في غيرها ما هو أقوى منها في ذلك، ويدل لهذا قوله: "إذ منها كان ظهوره" أي: كمال انتشار الإسلام وكثرة الداخلين فيه، "وبعد وقوعها أشرق على الآفاق" جمع أفق بضمتين وبسكون الفاء أيضا، كما مر في: وضاءت بنورك الأفق. وفي القاموس: الأفق بضمة وبضمتين الناحية، انتهى. أي: من الأرض والسماء "نوره" عدله وإصلاحه بعد الشدة التي كان فيها من المشركين، سماه نورا؛ لأنه يزين البقاع ويظهر الحقوق "ومن حين" أي: وقت "وقوعها أذل الله الكفار" بقتل صناديدهم وأسرهم، "وأعز الله من حضرها من المسلمين" والملائكة "فهو عنده من الأبرار" الأتقياء المقربين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة "، أو: "فقد غفرت لكم". وقال في حارثة بن سراقة الأنصاري: وقد أصيب يومئذ وأنه في جنة الفردوس وجاءه جبريل، فقال: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة"، رواها البخاري وهي بشارة عظيمة، وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله ورسوله للوقوع، على أن أحمد وأبا داود وغيرهما، ورووه بلفظ: "إن الله أطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار من شهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 وكان خروجهم يوم السبت لثنتي عشرة خلت من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا، ويقال: لثمان خلون منه. قاله ابن هشام. واستخلف أبا لبابة. وخرجت معه الأنصار، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه. وكان عدة من خرج معه ثلاثمائة ......................................   بدرا وا لحديبية"، رواه مسلم. "وكان خروجهم يوم السبت" كما جزم به مغلطاي وعند ابن سعد: يوم الاثنين، وقالا: معا "لثنتي عشرة" ليلة "خلت من رمضان" وزاد مغلطاي: "على رأس تسعة عشر شهرا" لأن باقي سنة القدوم عشرة أشهر تقريبا والماضي من السنة الثانية ثمانية أشهر كاملة، وما مضى من رمضان في مقابله الماضي من ربيع الأول "ويقال: لثمان خلون منه، قاله" أي: هذا القول الثاني عبد الملك "بن هشام" تفسيرا لقول شيخ شيخه ابن إسحاق. خرج لليال مضت من رمضان، "واستخلف أبا لبابة" بشيرا، وقيل: رفاعة بن عبد المنذر الأوسي رده من الروحاء واليا على المدينة، كذا قاله ابن إسحاق. قال الحاكم: لم يتابع على ذلك إنما كان أبو لبابة زميل النبي صلى الله عليه وسلم ورده مغلطاي بمتابعته له في المستدرك، قال: وبنحوه ذكره ابن سعد وابن عقبة وابن حبان، انتهى. فيكون زميل المصطفى حصل قبل رده إياه من الروحاء: قرية على ليلتين من المدينة والصلاة معا قبل رد أبي لبابة من الروحاء قبل رده إياه من الروحاء: قرية على ليلتين من المدينة، والصلاة معا قبل رد أبي لبابة من الروحاء، انتهى. أي: فبقي على الصلاة فقط. "وخرجت معه الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه" وما ظنوا أنه يقع قتال؛ لأن خروجهم إنما كان لتلقي العير "وكان عدة" البدريين ثلاثمائة عشر، كما رواه أحم والبزار والطبراني عن ابن عباس، وهو المشهور عند ابن إسحاق وجماعة من أهل المغازي وللطبراني والبيهقي عن أبي أيوب، قال: خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فقال لأصحابه: "تعادوا" فوجدهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، ثم قال لهم: "تعادوا" فتعادوا مرتين فأقبل رجل على بكر له ضعيف وهم يتعادون فتمت العدة ثلاثمائة وخمسة عشر، وللبيهقي أيضا بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: خرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومعه ثلاثمائة وخمسة عشر ولا تنافي، لاحتمال أن الأول لم يعد المصطفى ولا الرجل الآتي آخرا. وفي حديث عمر عند مسلم: ثلاثمائة وتسعة عشر، قال الحافظ: فيحمل على أنه ضم إليهم من استصغر ولم يؤذن له في القتال، كابن عمر والبراء وأنس وجابر وللبزار من حديث أبي موسى ثلاثمائة وسبعة عشر. وحكى السهيلي أنه حضر مع المسلمين سبعون نفسا من الجن كانوا أسلموا، وإذا تحرر هذا، فليعلم أن الجميع لم يشهدوا القتال، وإنما عدة "من خرج معه" واستمر حتى شهد القتال "ثلاثمائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 وخمسة، وثمانية لم يحضروها، إنما ضرب لهم بسهمهم وأجرهم فكانوا كمن حضرها.   وخمسة" قاله ابن سعد: ولابن جرير عن ابن عباس: وستة. قال الحافظ: فكأن ابن سعد لم يعد النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، قال ابن سعد: المهاجرون منهم أربعة وستون وسائرهم من الأنصار، وهو يفسر قول البراء عند البخاري: كان المهاجرون يوم بدر نيفا على ستين والأنصار نيفا وأربعين ومائتين. وفي البخاري عن الزبير، قال: ضربت يوم بدر للمهاجرين بمائة سهم، وجمع الحافظ بأن حديث البراء فيمن شهدها حسا وحكما، أو المراد بالعدد الأول الأحرار، والثاني: بانضمام مواليهم وأتباعهم. وسرد ابن إسحاق أسماء من شهدها من المهاجرين، وذكر معهم خلفاءهم مواليهم، فبلغوا ثلاثة وثمانين رجلا، وزاد عليه ابن هشام ثلاثة. وسردهم الواقدي خمسة وثمانين. ولأحمد والبزار والطبراني عن ابن عباس: أن المهاجرين ببدر كانوا سبعة وسبعين، فلعله لم يذكر من ضرب له بسهم ممن لم يشهدها حسا. وقال الداودي: كانوا على التحرير أربعة وثمانين ومعهم ثلاثة أفراس فأسهم لهم بسهمين وضرب لرجال أرسلهم في بعض أمره بسهامهم، فصح أنها كانت مائة بهذا الاعتبار. قال الحافظ: ولا بأس بما قاله، لكن ظهر لي أن إطلاق المائة إنما هو باعتبار الخمس وذلك أنه عزله ثم قسم ما عداه على ثمانين سهما عدد من شهدها ومن ألحق بهم، فإذا أضيف له الخمس كان ذلك من حساب مائة سهم، انتهى. وقد ينازع فيما ظهر له بأن الخمس لا يكون نسبته للمهاجرين فقط، وسرد اليعمري: المهاجرين أربعة وتسعين، والخزرج مائة وخمسة وتسعين، والأوس أربعة وسبعين، فلذلك ثلاثمائة وثلاثون وستون، قال: وإنما ذلك من جهة الخلاف في بعضهم. وفي الكواكب: فائدة ذكرهم معرفة فضيلة السبق وترجيحهم على غيرهم والدعاء لهم بالرضوان على التعيين. وقال العلاة الدواني: سمنا من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم في البخاري مستجاب وقد جرب. "وثمانية لم يحضروها" لكنهم "إنما" تخلفوا للضرورات ولذا "ضرب لهم بسهمهم" بأن أعطاهم ما يخصهم من الغنيمة، "وأجرهم" بأن أخبرهم أن لهم أجر من شهدها، "فكانوا كمن حضرها" فعدوا في أهلها، وهم: عثمان بن عفان تخلف على زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه وكانت مريضة مرض الموت، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: "إن لك لأجر رجل ممن شهدها وسهمه"، وطلحة وسعيد بن زيد بعثهما يتجسسان عير قريش، ومن الأنصار: أبو لبابة استخلفه على المدينة، وعاصم بن عدي على أهل العالية، والحارث بن حاطب على بني عمرو بن عوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وكان معهم ثلاثة أفراس: "بعزجة" فرس المقداد، وفرس الزبير وفرس لمرثد الغنوي، لم يكن لهم خيل يومئذ غير هذه، وكان معهم سبعون بعيرا.   لشيء بلغن عنهم، والحارث بن الصمة وقع بالروحاء فكسر فرد هؤلاء من الروحاء وخوات بن جبير أصابه حجر في ساقه فرده من الصفراء هؤلاء الذين ذكرهم ابن سعد. وذكر الواقدي عن سعد بن مالك الساعدي والد سهل، قال: تجهز ليخرج لبدر فمات فضرب له بسهمه وأجره، وممن اختلف فيه هل شهدها أو رد لحاجة سعد بن عبادة، وصبيح مولى أبي أحيحة رجع لمرضه، وفي المستدرك: أن جعفر بن أبي طالب ضرب له صلى الله عليه وسلم يومئذ بسهمه وأجره وهو بالحبشة، وأقره الذهبي، فهؤلاء اثنا عشر. "وكان معهم ثلاثة أفراس بعزجة" بفتح الموحدة وإسكان المهملة فزاي فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث، كما في النور. وحرف نساخ الشامية الزاي بالراء، فقد قال السهيلي: البعزجة شدة جري الفرس في مغالبة، كأنه منحوت من أصلين: من بعج إذا شق، وعز، أي غلب، انتهى. "فرس المقداد" بن عمرو الشهير بابن الأسود، كأنها سميت بذلك لشدة جريها، ويقال: اسمها سبحة، بفتح السين وإسكان الموحدة وبالحاء المهملتين وتاء تأنيث، وبه صدر الشامي، لكن صدر اليعمري بالأول، وجزم به في الروض، فلذا اقتصر المصنف عليه. واليعسوب بفتح التحتية فعين فسين مضمومة مهملتين فواو ساكنة فموحدة "فرس الزبير" بن العوام، وقيل: اسمها السيل، وبه صدر الشامي وعلى الأول اقتصر اليعمري. "وفرس لمرثد" بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة ودال مهملة، ابن أبي مرثد كناز بن الحصين، "الغنوي" بفح المعجمة والنون نسبة إلى غنى بن يعصر، صحابي ابن صحابي، بدري ابن بدري، "لم يكن لهم يومئذ خيل غير هذه" الثلاثة وثبت ذكر فرس مرثد عند ابن سعد في روية، وجزم المصنف في المقصد الثامن بأنه لم يكن معهم غير فرسين للمقداد والزبير، وقال ابن عقبة: ويقال كان معه عليه السلام فرسان، واستشكل هذا بما رواه أحمد بإسناد صحيح عن علي، قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وأجيب بحمل النفي على بعض الأحوال دون الباقي، لكن في التقريب للحافظ: لم يثبت أنه شهدها فارس غير المقداد. "وكان معهم" كما قال ابن إسحاق: "سبعون بعيرا" فاعتقبوها، فكان صلى الله عليه وسلم وعلي وزيد بن حارثة، ويقال: مرثد يعتقبون بعيرا هكذا. وقد روى الحارث بن أبي أسامة وابن سعد عن ابن مسعود: كنا يوم بدر كل ثلاثة بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم، قالا: اركب حتى نمشي عنك، فيقول: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" وعليه فجملة الذين يعتقبون مائتان وعشرة، فيحتمل أن الباقين لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وكان المشركون ألفا ويقال: تسعمائة وخمسون رجلا، معهم مائة فرس، وسبعمائة بعير.   يركبوا، أو أن الثلاثة تركب مدة يدفعونه إلى غيرهم ليركبه مدة أخرى، والعقبة النوبة، كما في المصباح. فالمراد: أن كل واحد يركب مدة وركوب أبي لبابة معهم كان قبل رده من الروحاء وبعده أعقب مرثدا، كما عند ابن إسحاق، أو زيدا، كما عند غيره. وذكر ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم دفع اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، قال: وكان أمامه عليه السلام رايتان سوداوان بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ. قال اليعمري: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وأن لواء المهاجرين كان بيد علي ثم روى بسنده عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عليا الراية يوم بدر، وهو ابن عشرين سنة. وأجيب عن الأول بأن هذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فيحتمل أن سعد لغيره أدفعه لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليحرسه في العريش، إذ هو ببدر. "وكان المشركون ألفا" كما رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن عمر، ورواه ابن سعد عن ابن مسعود، "ويقال" هم "تسعمائة وخمسون رجلا" مقاتلا "معهم مائة فرس وسبعمائة بعير" قال ابن عقبة وابن عائذ، والتقييد بمقاتلا لفظهما، فيمكن الجمع بأن باقي الألف الخمسين غير مقاتلين. وعند ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا والزبير وسعد بن مالك في نفر إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وغريض أبو يسار غلام بني العاصي فأتوا بهما، والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فلما سلم، قال: "أخبراني عن قريش" قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي تراه بالعدوة القصوى، قال: "كم القوم"؟ قالا: كثير، قال: "ما عدتهم"؟ قال: ما ندري قال: "كم ينحرون كل يوم" قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، قال صلى الله عليه وسلم: "القوم ما بين التسعمائة والألف"، ثم قال: "فمن فيهم من أشرف قريش"، فسميا له خمسة عشر، فأقبل صلى الله عليه وسلم على الناس، فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" أي: قطع كبدها، شبه أشرافهم بفلذة الكبد بفاء ومعجمة المستور في الجوف وهو أفضل ما يشوى من البعير عند العرب، وأمرؤ. قال ابن عقبة: وزعموا أن أول من نحر لهم عشر جزائر حين خرجوا من مكة أبو جهل، ثم صفوان تسعا بسعفان، ثم سهيل عشرا بقديد، ومالوا منه إلى نحو البحر فضلوا، فأقاموا يوما فنحر شيبة تسعا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر مقيس الجمحي تسعا، ونحر العباس عشرا، والحارث تسعا، وأبو البختري على ماء بدر عشرا، ومقيس عليه تسعا، ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وكان قتالهم يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وقيل يوم الاثنين وقيل غير ذلك. وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] . وإنما قصد صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش، وذلك أن أبا سفيان كان بالشام في ثلاثين راكبا منهم عمرو بن العاصي، ..................   "وكان قتالهم يوم الجمعة" عند الأكثرين، قال ابن عساكر: وهو المحفوظ، "لسبع عشرة خلت من رمضان" قاله ابن إسحاق، وتبعه في الاستيعاب والعيون والإشارة، ولا يوافق ما مر أن خروجهم يوم السبت لثنتي عشرة خلت من رمضان، إلا أن يكون وقع خلاف في هلاله، فالقائل بخروجهم ثاني عشرة بناء على أن أوله الثلاثاء، والقائل بأن القتال في سابع عشره بناء على أن أوله الأربعاء. "وقيل: يوم الاثنين" رواه ابن عساكر في تاريخه بإسناد ضعيف، قال أبو عمر: لا حجة فيه عند الجميع، "وقيل غير ذلك،" فقيل: لسبع عشرة بقيت من رمضان، وقيل: لثنتي حجة فيه عند الجميع، "وقيل غير ذلك" فقيل: لسبع عشرة بقيت من رمضان، وقيل: لثنتي عشرة خلت منه، ويقال: لثلاث خلون منه، حكاها كلها مغلطاي. وعلى الأخير فخروجهم قبل رمضان. "وكانت من غير قصد من المسلمين إليها ولا ميعاد، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ} أنتم وهم للقتال ثم علمتم حالهم وحالكم، {لَاخْتَلَفْتُم} ، أنتم وهم {فِي الْمِيعَاد} الآية، هيبة منه وبأسا من الظفر علهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنيعا من الله خارقا للعادة، فيزدادوا إيمانا وشكرا، {وَلَكِنْ} جمعكم بغير ميعاد {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42] حقيقا بأن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه، "وإنما قصد صلى الله عليه وسلم والمسلمون التعرض لعير قريش" التي خرج عليه السلام في طلبها وهي ذاهبة. من مكة إلى الشام، حتى بلغ العشيرة فوجدها سبقته بأيام، فلم يزل مترقبا لرجوعها من الشام، "وذلك" كما أخرجه ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان عن عروة: "أن أبا سفيان" صخر بن حرب المسلم في الفتح رضي الله عنه، "كان بالشام في ثلاثين راكبا" كذا نقله الفتح عن ابن إسحاق والذي في ابن هشام عن البكائي عنه في ثلاثين أو أربعين، وتبعه اليعمري وغيره، فإما أنه اقتصار على المحقق، أو رواية أخرى عنه. "منهم:" مخرمة بن نوفل و"عمرو بن العاصي" أسلما بعد ذلك وصحبا رضي الله عنهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 فأقبلوا في قافلة عظيمة، فيها أموال قريش، حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فندب أصحابه إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو، وقال: "هذه عير لقريش فيها أموال فأخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها". فلما سمع أبو سفيان بسيره عليه السلام، استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري أن يأتي قريشا بمكة، فيستغفرهم ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لعيرهم في أصحابه. فنهضوا في قريب من ألف مقنع ولم يتخلف أحد من أشراف قريش إلا أبا لهب، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة.   وقال ابن عقبة: وابن عائذ في سبعين رجلا وكانت عيرهم ألف بعير، ولم يكن لحويطب بن عبد العزى شيء فلم يخرج معهم، "فأقبلوا في قافلة عظيمة فيها أموال قريش" يقال: كان فيها خمسون ألف دينار، وكأن لم يبق قرشي ولا قرشية له مثقال إلا بعث به في العير، "حتى إذا كانوا قريبا من بدر، فبلغ النبي صلى الله عليه ذلك" حذف الفاء أولى؛ لأن ما بعدها جواب إذا وهو ماض متصرف، فلا تقترن به الفاء "فندب أصحابه" أي: دعاهم "إليهم وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدو" إذ غاية ما قيل: أنهم سبعون، "وقال: "هذه عير لقريش فيها أموال" كثيرة "فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها" مثله في العيون، وفي نسخة: "يغنمكموها" ومثله في السبل. وكل عزى لابن إسحاق والخطب سهل، قال في الرواية: فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم؛ لأنهم ظنوا أنهم لم يلقوا حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، "فلما سمع أبو سفيان بسيره عليه السلام" عن بعض الركبان أن محمدا قد استنفر لك ولعيرك، "استأج ضمضم" بفتح المعجمة بعد كل ميم أولاهما ساكنة، "ابن عمرو الغفاري" بكسر المعجمة وتخفيف الفاء، قال في النور: الظاهر هلاكه على كفره، "أن يأتي قريشا بمكة" بعشرين مثقالا وأمره أن يجدع بعيره، أي: يقطع أنفه ويحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، "فيستنفرهم" يحثهم على الخروج بسرعة، "ويخبرهم أن محمد قد عرض" أي: ظهر "لعيرهم في" مع "أصحابه" فلما بلغ مكة فعل ما أمر به، وهو يقولك يا معشر قريش!! اللطيمة اللطيمة، أموالك مع أبي سفيان عقد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، فقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، كلا والله ليعلمن غير ذلك، "فنهضوا في قريب من ألف مقنع" وكانوا ما بين رجلين إما خارج وإما باعث مكثه رجلا، "ولم يتخلف أحد من أشراف قريش، إلا أبا لهب" وفي نسخة: إلا أبا لهب، وكلاهما صحيح. "وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة" أخا أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، حتى بلغ الروحاء، فأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في طلب العير، وحرب النفير، وقال: إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إما العير وإما قريش ..............................................   جهل كان له عليه أربعة آلاف درهم أفلس له بها فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه واشتد حذر أبي سفيان، فأخذ طريق الساحل وجد في السير حتى فات المسلمين، فلما أمن أرسل إلى قريش يأمرهم بالرجوع، فامتنع أبو جهل، "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال ابن إسحاق: وضرب عسكره ببئر أبي عنبة، كواحدة العنب المأكول على ميل من المدينة، فعرض "أصحابه" ورد من استصغر وسار "حتى بلغ الروحاء" بفتح الراء وسكون الواو وحاء مهملة ممدودة: قرية على نحو أربعين ميلا من المدينة. وفي مسلم: على ستة وثلاثين. وفي كتاب ابن أبي شيبة: على ثلاثين، ونزل صلى الله عليه وسلم سجسجا، يفتح السين المهملة وسكون الجيم بعدهما مثلهما، وهي بئر الروحاء سميت بذلك، قال السهيلي: لأنها بين جبلين، وكل شيء بين شيئين سجسج، انتهى. وهو تفسير مراد، ففي اقاموس: السجسج: الأرض ليست بصلبة ولا سهلة، وما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، "فأتاه الخبر" بعد أن سار من الروحاء وقرب من الصفراء، كما عند ابن إسحاق. "فأتاه الخبر" بعد أن سار من الروحاء وقرب من الصفراء، كما عند ابن إسحاق. "عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عن عيرهم" من رسوليه اللذين بعثهما يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان، أحدهما: بسبس، بموحدتين مفتوحتين ومهملتين أولاهما ساكنة، ووقع لجميع رواة مسلم وبعض رواة أبي داود: بسبسة بضم الموحدة وفتح المهملة وإسكان التحتية وفتح السين وتاء تأنيث والمعروف، قال الذهبي وغيره: وهو الأصح الأول، وكذلك ذكره ابن إسحاق والدارقطني وابن عبد البر وابن ماكولا والسهيلي، قال في الإصابة: وهو الصواب، فقد قال ابن الكلبي: إنه الذي أراده الشاعر بقوله: أقم لها صدورها يا بسبس ... إن مطايا القوم لا تجسس وهو ابن عمرو الجهني، كما نسبه ابن إسحاق: قال السهيلي: ونسبه غيره إلى ذبيان الأنصاري حليف الخزرج، والثاني: عدي بن أبي الزغباء سنان الجهني حليف بني النجار، الزغباء بفتح الزاي وسكون المعجمة وموحدة ممدودة، فمضي حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء، وأخذا يستسقيان من الماء فسمعا جاريتين، تقول إحداهما لصاحبتها: إن أتاني الغير غدا أو بعد غد أعمل لهم ثم أقضك الذي لك، فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا، "فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس" أصحابه رضي الله عنهم "في طلب العير و" في "حرب النفير" القوم النافرين للحرب، يعني: خيرهم بين أن يذهبوا للعير أو إلى محاربة النافرين لقتالهم، وأخبرهم عن قريش بمسيرهم، "وقال: "إن الله وعدكم إحدى الطائفتين، إما العير وإما قريش" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وكانت العير أحب إليهم. فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا برك ...........................   كما قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُم} [الأنفال: 7] ، "وكانت العير أحب إليهم" كما قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم} [الأنفال: 7] ، والمراد بذات الشوكة: الطائفة التي فيها السلاح. قال أبو عبيدة في المجاز: يقال ما أشد شوكة بني فلان، أي: حدهم، وكأنها استعارة من واحدة الشوك. وروى الطبري وأبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس: أقبلت عير لأهل مكة من الشام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم يريدها، فبلغ ذلك أهل مكة فأسرعوا إليها فسبقت العير المسلمين، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر مغنما من أن يلقوا النفير، "فقام أبو بكر" وفي الشامية: استشار الناس فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم فقام أبو بكر "فقال فأحسن،" أي: جاء بكلام حسن، ولم أرَ من ذكره، "ثم قام عمر، فقال فأحسن" ذكر ابن عقبة وابن عائذ أنه قال: يا رسول الله! إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنك فتأهب لذلك أهبته وأعد لذلك عدته، وأعزها بالنصب مفعول معه أو مبتدأ حذف خبره، أي: ثابت لم يتغير، "ثم قام المقداد بن عمرو" وعند النسائي: جاء المقداد يوم بدر على فرس، "فقال: يا رسول الله! امضِ لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول" بنون الجميع، أي: معاشر المسلمين "لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى". وفي رواية البخاري: كما قال قوم موسى " {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} [المائدة: 24] الآية،" قالوه استهانة وعدم مبالاة بالله ورسوله، وقيل: تقدير اذهب أنت وربك يعينك، فإنا لا نستطيع قتال الجبابرة، وقال السمرقندي: أنت وسيدك هارون؛ لأنه أكبر من موسى بسنتين أو ثلاثة، "ولكن" نقول: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون" هذه رواية ابن إسحاق. ورواية البخاري: ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، زاد ابن إسحاق: "فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا برك" بفتح الموحدة عند الأكثر. وفي رواية بكسرها، وصوبه بعض اللغويين لكن المشهور المعروف في الرواية الفتح والراء ساكنة، وحكى عياض عن الأصيلي فتحها، قال النووي: وهو غريب ضعيف آخره كاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 الغماد -يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير ........................................   "الغماد" بكسر المعجمة وتخفيف الميم، قال الحازمي: موضع على خمس ليال من مكة إلى جهة اليمن، وقال البكري: هي أقاصي هجر. وقال الهمداني: هو في أقصى اليمن. قال الحافظ: والأول أولى. وحكى ابن فارس ضم الغين، والقزاز فتحها، وأفاد النووي أن المشهور في الرواية الكسر، وفي اللغة الضم وفي فتح الباري: قال ابن خالويه. حضرت مجلس المحاملي وفيه زهاء ألف، فأملى عليهم حديثا فيه: لو دعوتنا إلى برك الغماد، قالها بالكسر، فقلت للمستملي: هي بالضم، فذكر له ذلك، فقال لي: وما هو فقلت: سألت ابن دريد عنه، فقال: هو بقعة في جهنم، فقال المحاملي: وكذا في كتاب أبي علي الغين ضمت. قال ابن خالويه: وأنشد ابن دريم: وإذا تنكرت البلا ... فأولها كف البعاد واجعل مقامك أو مقـ ... ـرك جانبي بكر الغماد لست ابن أم القاطنيـ ... ـن ولا ابن عم للبلاد وبعض المتأخرين قال القول بأنه موضع باليمن لا يثبت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يدعوهم إلى جهنم وخفي عليه أن ذلك بطريق المبالغة، فلا يراد به الحقيقة على أنه لا يتنافي بين القولين، فيحمل قوله جهنم على مجاز المجاورة بناء على القول أن برهوت مأوى أرواح الكفار، وهم أهل النار، انتهى ملخصا. وقد دلت رواية ابن عائذ في قصة سعد بن معاذ، بلظ: لو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن على أنها من جهة اليمن، وذكر السهيلي أنه رأى في بعض كتب السهيلي أنه رأى في بعض كتب التفسير أنه "يعني مدينة الحبشة" قال الحافظ: وكأنه أخذه من قصة الصديق مع ابن الدغنة، فإن فيها: أنه لقيه ذاهبا إلى الحبشة ببرك الغماد، كما مر ويجمع بأنها من جهة اليمن مقابل الحبشة وبينهما عرض البحر، انتهى. ونقل عياض عن إبراهيم الحربي: برك الغماد وشعفات هجر، يقال فيما تباعد، ولذا قال شيخنا: الأولى تفسيره هنا بأقصى معمور الأرض، كما هو أحد معانيه في القاموس؛ لأنه أتم في امتثال أمره واتباعه. "لجالدنا" أي: لضاربنا "معك من دونه" أي: برك الغماد، يعني: لو طلبتنا له وعارضك قبله أحد جالدناه ومنعناه، "حتى تبلغه، فقال له صلى الله عليه وسلم "خيرا"، ودعا "له بخير" هذا لفظ رواية ابن إسحق. وروى البخاري عن ابن مسعود: شهدت من المقداد مشهد لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، الحديث، وفي آخره: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره، يعني قوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ثم قال عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس أشيروا عليَّ"، وإنما يريد الأنصار. لأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم. فلما قال ذلك عليه الصلاة والسلام: قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك ............................   وروى ابن مردويه وابن أبي حاتم، عن أبي أيوب، قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان، فهل لكم أن تخرجوا إليها لعل الله يغنمناها ويسلمنا"، قلنا: نعم، فخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين، قال: "قد أخبروا خبرنا فاستعدوا للقتال"، فقلنا: لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم، فأعاد فقال المقداد: لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، ولكن نقول: إنا معكما مقاتلون. قال: فتمنينا معشر الأنصار، لو أنا قلنا كما قال المقداد، قال: فأنزل الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] ، "ثم قال عليه الصلاة والسلام" ثالث مرة، "أيها الناس أشيروا عليَّ وإنما يريد الأنصار" كما ذكره سعد جوابا له، والمصنف تابع للفظ الرواية عند ابن إسحاق، فلذا لم يذكر جواب سعد، ثم يعلله بذلك وإن كان أولى على أنه ق يقال الأولى ما في الرواية للاهتمام بحكمة تكرير الاستشارة من سيد الحكماء مع حصول الجواب الكافي من المقداد بحضورهم وسكوتهم عليه وتمنيهم لو كانوا قالوا مثله، "لأنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله! إنا برآء من ذمامك" بكسر الذال، فسره البرهان بالحرمة، ويطلق على الضمان أيضا. قال شيخنا: ولعله المراد، أي: من ضمان مناصرتك، "حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمعنك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا، وكان صلى الله عليه وسلم يتخوف" يخشى "أن لا تكون الأنصار ترى" تعتقد "عليها نصرته إلا ممن دهمه" بفتح الدال وكسر الهاء وفتحها، كما في المصباح. أي: نزل به وفحاه "بالمدينة من عدوه" وذكر ابن القوطية: أن اللغتين في دهمتهم الخيل، وأن دهمه الأمر بالكسر فقط، "وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك عليه الصلاة والسلام، قال له سعد بن معاذ" السيد الذي هو في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين، صرح به البرهان في غير هذا الموضع: "والله لكأنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 تريدنا يا رسول لله؟ قال: "أجل". قال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله ما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا، إن لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله تعالى. فسر عليه السلام بقول سعد، ونشطه ذلك، ........................................   تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل" أي: نعم، "قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيقا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت". وفي رواية: لما أمرت به وعند ابن عائذ من مرسل عروة، وابن أبي شيبة من مرسل علقمة بن وقاص عن سعد: ولعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، ولعلك يا رسول الله خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت به من أمر فمرنا نتبع لأمرك، لئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن، لفظ علمقة، ولفظ عروة: ولو سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمد ذي يمن، وغمد بضم المعجمة وسكون الميم ودال مهملة، لنسيرن معك. وفي رواية ابن إسحاق: "فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت" أي: طلبت أن تقطع "بنا" عرض "هذا البحر" أي: الملح "فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا أنا لصبر" بضم الصاد والموحدة "عند الحرب صدق" بضم الصاد والدال، "عند اللقاء" هكذا ضبطه البرهان وتبعه الشامي، وهو جمع صبور وصديق بزنة فعيل وفعول بالفتح، بمعنى فاعل على فعل بضمتين قياسا مطردا، "ولعل الله أن يريك" منا "ما تقر به عينك" وقد فعل، فأراه ذلك منهم في هذا اليوم وفي غير رضي الله عنهم، "فسر على بركة الله تعالى، فسر عليه السلام بقول سعد ونشطه" أي: صيره "ذلك" مسرعا في طلب العدو، ووقع عن ابن مردويه عن علمقة أن سعدا قال: فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 ثم قال: "سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم". قال ثابت عن أنس قال عليه الصلاة والسلام: "هذا مصرع فلان"، ويضع يده على الأرض، ههنا وههنا ... قال فما ماط أحدهم -أي ما تنحى- عن موضع يده عليه السلام. تنبيه: قال ابن سيد الناس في "عيون الأثر": روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك: سعد بن عبادة سيد الخزرج، وإنما يعرف ذلك عن سعد بن معاذ، كذا رواه   متبعون. قال الحافظ: والمحفوظ أن هذا الكلام للمقداد وإن سعدا إنما قال ما ذكر عنه. "ثم قال: "سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا"، بفتح الهمزة وكسر الشين: أمر، "فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين" إما العير وإما النفير، وقد فاتت العير فلا بد من الطائفة الأخرى؛ لأن وعد الله لا يختلف وإلى هذا أرشد أيضا بقوله: "والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم" الذين سيقتلون ببدر وأقسامه على ذلك وهو الصادق المصدوق زيادة في تبشيرهم وطمأنينتهم. "قال ثابت" البناني فيما رواه مسلم من طريقه، "عن أنس" بن مالك عن عمر، كما في مسلم: ففيه من لطائف الإسناد عن صحابي، "قال" عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم ليرينا مصارع أهل بدر، بقول النبي "عليه الصلاة والسلام: "هذا مصرع فلان" غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان، "ويضع يده على الأرض ههنا وههنا" يشير إلى مواضع قتلهم إشارة محسوسة، "قال: فما ماط أحدهم، أي: ما تنحى" وفي شرح النووي: أي تباعد، "عن موضع يده عليه السلام" فهو معجزة ظاهرة. قال الحافظ: وهذا وقع وهم ببدر في الليلة التي التقوا في صبيحتها، انتهى. فقد بين الحديث أنه سمى وعين جماعة. وفي رواية: أنه أخر بمصارعهم قبل الواقعة بيوم أو أكثر. وفي أخرى: أخبر بذلك يوم الواقعة، وجمع ابن كثير بأنه لا مانع من أنه يخبر به في الورقتين. تنبيه: "قال ابن سيد الناس" الحافظ أبو الفتح اليعمري "في عيون الأثر" في فنون المغازي والشمائل والسير: "روينا من طريق مسلم أن الذي قال ذلك" المذكور عن سعد بن معاذ "سعد بن عبادة سيد الخزرج" ولفظه عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا ... الحديث، "وإنما يعرف ذلك" القول "عن سعد بن معاذ، كذا رواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 ابن إسحاق وغيره. واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي والمدائني وابن الكلبي منهم انتهى. ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم قريبا من بدر، نزل قريش بالعدوة القصوى من الوادي، ونزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب، وسبقهم المشركون إلى ماء .............................................   ابن إسحاق وغيره" كابن أبي شيبة وابن عائذ وابن مردويه. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم استشارهم مرتين، الأولى بالمدينة أول ما بلغه خبر العير، وذلك بين من لفظ مسلم: أنه شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، كانت بعد أن خرج، كما في حديث الجماعة. ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية، وهذا أولى بالصواب، انتهى. "واختلف في شهود سعد بن عبادة بدرا، ولم يذكره" موسى "ابن عقبة ولا ابن إسحاق في البدريين، وذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد المدني أبو عبد الله الأسلمي الحافظ المتروك مع سعة علمه، "المدائني" أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الأخباري صاحب تصانيف، وثقه ابن معين. وقال ابن عدي: ليس بالقوي، مات سنة أربع وخمسين ومائتين عن ثلاث وتسعين سنة. "وابن الكلبي منهم، انتهى" كلام العيون. وفي فتح الباري إشارة إلى أنه ليس بخلاف حقيقي؛ لأنه قال: لم يشهد سعد بن عبادة بدرا وإن عد منهم، لكونه ممن ضرب له بسهمه وأجره. وفي العيون بعد ما نقله المصنف عنه، وروين عن ابن سعد أنه كان يتهيأ للخروج إلى بدر، ويأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش قبل أن يخرج فأقام، فقال صلى الله عليه وسلم: "لئن كان سعد لم يشهدها لقد كان عليها حريصا". قال وروى بعضهم أنه عليه السلام ضرب بسهمه وأجره، انتهى. وهو أيضا إيماء إلى أن الخلاف بالاعتبار لا حقيقي. "ثم ارتحل صلى الله عليه وسلم" من المكان الذي كان فيه وهو ذفران. بفتح المعجمة وكسر الفاء فراء فألف فنون: واد قرب الصفراء، وسار حتى نزل "قريبا من بدر ونزل قريش بالعدوة" بضم العين وكسرها وبهم قرئ في السبع، وقرئ شاذا بفتحها جانب الوادي وحافته. وقال أبو عمرو: المكان المرتفع، "القصوى" البعدي من المدينة تأنيث الأقصى وكان قياسه قلب الواو كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الاسم، كالقعود، وهو أكثر استعمالا من القصيا، كما في الأنوار. "من الوادي، ونزل المسلمون على كثيب" بمثلثة: رمل مجتمع، "أعفر" أحمر أو أبيض ليس بالشديد ولعله المراد، "تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وسبقهم المشركون إلى ماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 بدر فأحرزوه، وحفروا القلب لأنفسهم. وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب، وأصابهم الظمأ، وهم لا يصلون إلى الماء، ووسوس الشيطان لبعضهم وقال: تزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبي الله، وأنكم أولياء الله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون محدثين مجنبين، وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيتحكموا فيكم كيف شاءوا. فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوايد، فشرب المسلمون واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وملئوا الأسقية، وأطفأ الغبار ولبد الأرض حتى ثبتت عليها الأقدام. ووالت عنهم وسوسة الشيطان، وطابت أنفسهم، .........................   بدر، فأحرزوه وحفروا القلب" جمع قليب: البئر قبل أن تبنى بالحجارة ونحوها، "لأنفسهم" ليجعلوا فيها الماء من الآبار المعينة فيشربوا منها ويسقوا دوابهم، ومع ذلك ألقى الله عليهم الخوف حتى ضربوا وجوه خيلهم إذا صهلوا من شدة الخوف، وألقى الله الأمنة والنوم على المسلمين بحيث لم يقدروا على منعه، "وأصبح المسلمون بعضهم محدث وبعضهم جنب وأصابهم الظمأ" العطش، "وهم لا يصلون إلى الماء" لسبق المشركين له، ثم نهض المسلمون إلى أعدائهم فغلبوهم على الماء وعاروا القلب التي كانت تلي العدو فعطش الكفار وجاء النصر، قاله السهيلي ويأتي قريبا في حديث الحباب. "ووسوس الشيطان لبعضهم، وقال: تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش وتصلون محدثين" الحدث الأصغر، "مجنبين" محدثين الحدث الأكبر؛ لأنهم لما ناموا احتلم أكثرهم، كما في الأنوار، ولم تكن آية التيمم نزلت، فرأى إبليس لعنه الله تلك الغرة، "وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم" قطعا مجازيا، فلذا عطف عليه عطف تفسير، "ويذهب قواكم" إذ لو كان حقيقة ما استقام قوله: "فيتحكموا فيكم كيف شاءوا" من قتل من أرادوا وسبي من أرادوا، "فأرسل الله عليهم مطرا سال منه الوادي فشرب المسلمون" واتخذوا الحياض على عدوة الوادي، "واغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب" الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة لا واحد لها من لفظها، كما في المختار. "وملئوا الأسقية وأطفأ" المطر "الغبار ولبد الأرض" أيبسها "حتى ثبت عليه الأقدام" والحوافر "وزالت عنهم وسوسة الشيطان" ورد كيده في نحره، "وطابت أنفسهم" وضر ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فذلك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} أي من الأحداث والجناية {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} بالصبر {ويثبت به الأقدام} [الأنفال: 11] حتى لا تسوغ في الرمل، بتلبيد الأرض. وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..........................................................   بالمشركين لكون أرضهم كانت سهلة لينة وأصابهم ما لم يقدروا معه على الارتحال، "فذلك قوله تعالى: " {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] الآية، أي: من الإحداث والجنابة" وهو طهارة الظاهر، "ويذهب عنكم رجز الشيطان، أي: وسوسته" وتخويفه إياهم من العطش، وقيل: الجنابة؛ لأنها من تخييله وهو تطهير الباطن، "وليربط على قلوبكم بالصبر" والإقدام على مجالدة العدو وهو شجاعة الباطن، وفي الأنوار: بالوثوق على لطف الله بهم، "ويثبت به الأقدام" أي: بالمطر، حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض" وهو شجاعة الظاهر، وفي الأساس تلبد التراب والرمل ولبده المطر، ثم قال: ومن المجاز كذا فأفاد أنه هنا حقيقة، وقيل: ضمير به للربط على القلوب حتى تثبت في المعرفة، قال ابن إسحاق: فخرج صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به، فقال الحباب بن المنذر بن الجموع: يا رسول الله! هذا منزل أنزلكه الله لا تتقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: فإن هذا ليس بمنزله فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزل ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا، فنملئه ماء فنشرب ولا يشربون، فقال صلى الله عليه وسلم: "أشرت بالرأي"، وعند ابن سعد: فنزل جبريل فقال: الرأي ما أشار به الحباب، فنهض صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فنزل حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه، فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآية، وقوله: نغور بالغين المعجمة وشد الواو، أي: ندفنها ونذهبها وبالعين المهملة بمعناه عند ابن الأثير، وقال أبو ذر: معنى المهملة نفسدها، انتهى. والسهيلي ضبطه بضم المهملة وسكون الواو على لغة من يقول قول القوع وبوع المتاع، انتهى. "وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم" بإشارة سعد كما رواه ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن سعد بن معاذ، قال: يا رسول الله! ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا، فإن أغزنا الله وأظهرنا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 عريش فكان فيه. ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء- ................................................................................   تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير. "عريش" شبه الخيمة يستظل به. "فكان فيه" قال السمهودي: مكانه الآن عند مسجد بدر، وهو معروف عند النخيل والعين قريبة منه، قال: وبقربه في جهة القبلة مسجد آخر يسميه أهل بدر مسجد النظر، ولم أقف فيه على شيء. "ثم" لما عدل صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه وأقبلت قريش ورآها عليه السلام، فقال: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم احنهم الغداة" كما رواه ابن إسحاق. "خرج عتبة بن ربيعة" بن عبد شمس بن عبد مناف وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في القوم على جمل أحمر، فقال: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر أن يطيعوه ويرشدوا، وذكر ابن إسحاق أنه قام خطيبا، فقال: يا معشر قريش! والله ما تصنعوا بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فإن أصابه غيركم فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم ولم تعدموا منه ما تريدون، وأرسل بذلك حكيم بن حزام إلى أبي جهل فأخبره، فقال: والله ما بعتبه ما قال، ولكنه رأى أن محمدًا وأصحابه آكلة جزور وفيهم ابنه فتخوفكم عليه ثم أفسد على الناس رأي عتبة وبعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد الرجوع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشده مقتل أخيك، فقام عامر فصرخ: واعمراه! واعمراه! فحميت الحرب وتعبوا للقتال والشيطان معهم لا يفارقهم، فخرج الأسود المخزومي وكان شرسا سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهتد منه أو لأموتن دونه، فتبعه حمزة رضي الله عنه فضربه دون الحوض، ثم خرج بعده عتبة "بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة" حتى فصل من الصف، "ودعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار، وهم: عوف" بالفاء قال ابن عبد البر: وسماه بعضهم عوذا أي بالذال وعوف أصح "ومعاذ" كذا في النسخ والذي في الرواية: معوذ "ابن الحارث" الأنصاريان النجاريان، "وأمهما عفراء" جملة استئنافية لشهرتهما بها لا أنها خرجت معهم وهي بنت عبيد بن ثعلبة الأنصاري الجارية الصحابية، قال في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وعبد الله بن رواحة. فقالوا من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم حاجة. ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي". فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم؟ فتسموا لهم، قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة -وكان أسن القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فقتل علي الوليد. هكذا ذكره ابن إسحاق. وعند موسى بن عقبة -كما نقله في فتح الباري- برز حمزة لعتبه، وعبيدة لشيبة وعلي للوليد.   الإصابة: لها خصوصية لا توجد لغيرها وهي أنها تزوجت بعد الحارث البكير بن ياليل الليثي فولدت له إياسا وعاقلا وخالدا وعامرا وأربعتهم شهدوا بدرا، وكذلك أخوتهم لأمهم بنو الحارث، يعني: عوفا ومعوذا ومعاذا، فانتظم من هذا أنها صحابية لها سبعة أولا شهدوا بدرا معه صلى الله عليه وسلم، "وعبد الله بن رواحة" النقيب البدري الأمير المستشهد بموتة، "فقالوا: من أنتم؟ قالوا: من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم حاجة" وفي رواية لابن إسحاق: فقال عتبة: أكفاء كرام إنما نريد قومنا، "ثم نادى مناديهم" قال في النور: لا أعرف اسمه، والظاهر أنه أحد الثلاثة: "يا محمد أخرج" بقطع الهمزة "إلينا أكفاءنا من قومنا" وعند ابن عقبة وابن عائذ: أنه صلى الله عليه وسلم استحيا من خروج الأنصار؛ لأنه أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون وهو عليه السلام شاهد معهم، فأحب أن تكون الشوكة ببني عمه فنادهم أن ارجعوا إلى صافكم وليقم إليهم بنو عمهم، "فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا حمزة، قم يا علي"، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ " لأنهم كانوا متلثمين لما خرجوا فلا يرد أنهم يعرفونهم لولادتهم بمكة ونشأتهم بينهن، "فتسموا لهم" اختصار لقول ابن إسحاق: فقال عبيدة عبيدة، وقال حمزة حمزة، وقال علي علي، "قالوا: نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم" المسلمين "عتبة بن ربيعة" وكان أسن الثلاثة المشركين "وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة فقتل علي الوليد"، وقتل حمزة شيبة واختلف عبيدة وعتبة بضربتين كلاهم أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه، "وهكذا ذكره ابن إسحاق" محمد في السيرة. "وعند موسى بن عقبة كما في فتح الباري: برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعلي للوليد ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ثم اتفقنا: فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه، واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين، فوقعت الضربة في ركبة عبيدة ومال علي وحمزة على الذي بارزه عبيدة فأعاناه على قتله. وعند الحاكم، من طريق عبد خير عن علي: مثل قول موسى بن عقبة. وعند أبي الأسود عن عروة مثله. وأورد ابن سعد من طريق عبيدة السلماني: أن شيبة لحمزة، وعبيدة لعتبة، وعليا للوليد، ثم قال: الثبت أن عتبة لحمزة، وشيبة لعبيدة. وأخرج أبو داود عن علي قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه، فنادى: من يبارزه فانتدب له شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه، فقال: ........................   اتفقا" معا على قولهما "فقتل علي الوليد، وقتل حمزة الذي بارزه" وهو عتبة أو شيبة على الروايتين "بضربتين" بأن ضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة أثخنه بها، "فوقعت الضربة في ركبة عبيدة،" فمات منها لما رجعوا بالصفراء كما في الفتح قبل قوله: "ومال حمزة وعلي على الذي بارزه عبيدة فأعاناه على قتله" فهو قاتله بإعانتهما، وعلى رواية ابن إسحاق: هما اللذان قتلاه، أي: عجلا موته وإلا فعبيدة كان أثخنه. "وعند الحاكم من طريق عبد خير" بن يزيد الهمداني اللذان قتلاه أي قال في التقريب: مخضرم ثقة لم يصح له صحبة، "عن علي مثل قول موسى بن عقبة وعند أبي الأسود" محمد يتيم عروة "عن عروة" بن الزبير "مثله" فقويت رواية ابن عقبة على ابن إسحاق، "وأورد ابن سعد من طريق عبيدة" بفتح العين وكسر الموحدة ابن عمرو وقيل: ابن قيس بن عمرو "السلماني" الكوفي التابعي الكبير أحد الأعلام أسلم قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يلقه ومات سنة سبعين، وقيل: ثلاث وقيل أربع وسبعين "أن شيبة لحمزة وعبيدة لعتبة" مثل ما عند ابن إسحاق "وعليا للوليد، ثم قال" ابن سعد القول "الثبت" أي القوي: "أن عتبة لحمزة وشيبة لعبيدة" لوروده عن علي الذي هو أحد الثلاثة من طرق عدة ومن وجوه الترجيح حضورا لراوي القصة ثم اعتضد بمرسل عروة، وهو من كبار التابعين لا سيما أن كان حمله عن الترجيح حضور الراوي للقصة ثم اعتضد بمرسل عروة، وهو من كبار التابعين لا سيما أن كان حمله عن أبيه وهو من البدريين، وجزم به موسى بن عقب في مغازيه التي قال مالك والشافعي: إنها أصح المغازي. قال في فتح الباري: قال بعض من لقيناه: اتفقت الروايات على أن عليا للوليد، وإنما اختلف في عتبة وشيبة أيهما لعبيدة وحمزة والأكثر أن شيبة لعبيدة، قلت: "و" في دعوى الاتفاق نظر فقد "أخرج أبو داود" من الحارث بن مضرب "عن علين قال: تقدم عتبة وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يبارزه فانتدب له" أي: أجابه شبان من الأنصار، فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة"، فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فاثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات، لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة كانا شيخين كعتبة وحمزة، بخلاف علي والوليد فكانا شابين. وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك. وهذا موافق لرواية أبي داود.   لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة" فأقبل حمزة إلى عتبة" فهذا طريق ثان عن علي، أنه لا لشيبة، "وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه" فصرح بأن الوليد لعبيدة وشيبة لعلي بخلاف ما ادعى عليه ذلك البعض الاتفاق مع صحته، "ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومخ ساقه يسيل، فقال: أشهيد أنا يا رسول الله، قال: "نعم"، قال: وددت والله أن أبا طالب كان حيا ليعلم إننا أحق منه، بقوله: ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم أنشأ يقول: فإن يقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجى به عيشا من الله عاليا وألبسني الرحمن من فضل منه ... لباسا من الإسلام غطى المساويا هذا بقية رواية أبو داود. "قال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات" من جهة الإسناد؛ لأن إسناد أبي داود صحيح، "لكن الذي في السير من أن الذي بارزه علي هو الوليد هو المشهور، وهو اللائق بالمقام؛ لأن عبيدة وشيبة" مبارزة عند الأكثرين، "كانا شيخين" فإن سن عبيدة يومئذ ثلاث وستون سنة "كعتبة وحمزة" مبارزة على الأرجح، فإن سن حمزة حينئذ كان ثمانيا وخمسين سنة، "بخلاف علي والوليد فكانا شابين" إذ سن علي يومئذ عشرون سنة، "وقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي، قال: أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد بن عتبة، فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك،" ففيه جواز الإعانة لمن فرغ من قرنه، "وهذا موافق لرواية أبي داود" في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 والله أعلم. انتهى. قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض. ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ............................................   أن الوليد لعبيدة فكيف يقول ذلك البعض. اتفقت الروايات على أن عليا للوليد "والله أعلم" بما كان من ذلك، "انتهى" كلام الحافظ، وفيه جواز المبارزة خلافا لمن أنكرها، كالحسن البصري وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق للجواز إذن أمير الجيش وفضيلة ظاهرة لعبيدة وحمزة وعلي رضي الله عنهم، وقد أقسم أبو ذر أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ، نزلت في الذين برزوا يوم بدر فذكر هؤلا الستة، وقال علي: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة فينا نزلت هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] رواهما البخاري. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل الكتاب، قالوا للمؤمنين نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون: نحن أحق بالله آمنا بمحمد وبنبيكم وبما أنزل الله من كتاب. وعن مجاهد: أنها مثل المؤمن والكافر اختصما في البعث، وهذا يشمل جميع الأقوال وينتظم فيه قصة بدر وغيرهما، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل، واختار ابن جرير هذا واستحسن، ولذا قال: فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار. "قال ابن إسحاق و" لما قتل المبارزون وخرج صلى الله عليه وسلم من العريش لتعديل الصفوف ثم عاد إليه "تزاحف الناس" أي: مشى كل فريق جهة الآخر، "ودنا" قرب "بعضهم من بعض" وعند ابن إسحاق أيضا: أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوضه صلى الله عليه وسلم، فقال: "دعوهم" فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا حكيم بن حزام ثم أسلم وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمنه قال: لا والذي نجاني من يوم بدر، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا على المشركين حتى يأمرهم وإن أكثبوكم فانضحوهم عنكم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم واستبقوا نبلكم، فقال أبو بكر: يا رسول الله! قد دنا القوم ونالوا منا، فاستيقظ وقد أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر أصحابه فكان تثبيتا لهم. وفي الصحيح عن أبي أسيد: قال لنا صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "إذا أكثبوكم فارموهم واستبقوا نبلكم" قال ابن السكيت: أكثب الصيد إذا أمكن من نفسه، فالمعنى: إذا قربوا منكم فأمكنوكم فارموهم واستبقوا نبلكم في الحالة التي إذا رميتم لا تصيب غالبا. "ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ومعه أبو بكر، ليس معه فيه غيره، وهو عليه الصلاة والسلام يناشد ربه إنجاز ما وعده من النصر ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض أبدا". وأبو بكر يقول: يا رسول الله، خل بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وعند سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ...............   ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره" وسعد بن معاذ متوشحا سيفه في نفر من الأنصار على باب العريش يحرسونه، "وهو عليه الصلاة والسلام يناشد" أي: يسأل "ربه إنجاز ما وعده من النصر" قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} [الأنفال: 7] {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين} [الروم: 47] الآية، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171، 172، 173] ، "يقول" مع سؤال ذلك: "اللهم إن تهلك هذه العصابة". قال النووي: ضبطوه بفتح التاء وضمها فعلى الفتح العصابة بالرفع فاعل، وعلى الضم بالنص مفعول، والعصابة: الجماعة، انتهى. وجوز نصبها مع فتح التاء على أنه متعد والثلاثة مع سر اللام، وفي لغة بني تميم بفتح اللام مع فتح التاء ورفع ما بعده، فهي أربعة لكن الرواية بالأوليين فقط، كما أفاده النووي بقوله ضبطوه بل اقتصر الحافظ على فتح التاء وكسر اللام ورفع العصابة ففيه إشارة إلى أنه أشهر الروايتين. "من أهل الإيمان اليوم فلا تعبد في الأرض أبدا" لفظ ابن إسحاق الذي هو ناقل عنه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد". وفي حديث عمر عند مسلم: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام، لا تعبد في الأرض"، والاعتذار للمصنف بأنه نقله بالمعنى إشارة إلى أن المراد من الإيمان والإسلام واحد، إنما يصح لو عزاه المصنف لمسلم، وهو إنما نقله عن ابن إسحاق، ولم يقع ذلك عنده، وفيه إشعار بأن من أسباب سؤاله ربه إنجاز وعده بقاء عبادته في الأرض. "وأبو بكر يقول" شفقة عليه ومحبة: "يا رسول الله! خل" أترك "بعض مناشدتك" مصدر مضاف لفاعله و"ربك" مفعوله، وعلله بقوله: "فإن الله منجز" قاض أو معجل "لك ما وعدك" من النصر والظفر عليهم وغير ذلك. "وعند سعيد بن منصور" بن شعبة، أبي عثمان الخراساني الحافظ الثقة أحد الأعلام صاحب السنن، أخذ عن مالك والليث وخلق، وعنه أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات بمكة سنة سبع وعشرين ومائتين، وهو في عشر التسعين، "من طريق عبيد الله" بضم العين "ابن عبد الله" بفتحها "ابن عتبة" بضم العين وإسكان الفوقية ابن مسعود الهذلي، أبي عبد الله المدني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، تكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال عليه السلام وهو في صلاته: "اللهم لا تخذلني، اللهم إني أنشدك ما وعدتني". وروى النسائي والحاكم عن علي قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "يا حي، يا قيوم". فرجعت وقاتلت ثم جئت فوجدته كذلك. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لماكان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ..................................   التابعي الوسط الثقة الثبت الفقيه كثير العلم والحديث، أحد الفقهاء السبعة المتوفى سنة أربع أو ثمان أو خمس أو تسع وتسعين، "قال: لما كان" تامة، أي: حضر "يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين" إلى "تكاثرهم" وفي نسخة: فتكاثرهم بفتح المثلثة والراء من التفاعل، وهي أنسب بقوله: "وإلى المسلمين فاستقلهم" من القلة "فركع ركعتين" أي: أحرم بهما لا فرغ منهما لما بعده، "وقام أبو بكر عن يمينه" يحرسه لا يصلي معه، ويؤيده قول علي: قام أبو بكر شاهر السيف على رأسه صلى الله عليه وسلم لا يهوى إليه أحد إلا أهوى إليه، "فقال عليه السلام، وهو في صلاته:" لعله في سجودها إذ هو الأليق بمقام الدعاء لخبر أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد "اللهم" أسقط من رواية من عزا له: "لا تودع مني، اللهم" "لا تخلني" بفتح التاء وضم المعجمة، أي: لا تترك عوني ونصري، "اللهم إني أنشدك" بفتح الهمزة وسكون النون وضم المعجمة والدال، أي: أطلب منك "ما وعدتني" وعند الطبراني بإسناد حسن عن ابن مسعود: ما سمعنا مناشدا ينشد ضالة أشد من مناشدة محمد لربه يوم بدر: "اللهم أنشدك ما وعدتني". "وروى النسائي والحاكم عن علي: قال: قاتلت يوم بدر شيئا من قتال، ثم جئت" لاستكشاف حاله صلى الله عليه وسلم، "فإذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "يا حي يا قيوم"،" أي: لا يزيد على ذلك، كذا قاله الشامي ولا يعارضه الحديث قبله المحتمل أنه قال ما فيه من سجوده؛ لأنه قاله قبل إتيان علي، "فرجعت فقاتلت، ثم جئته فوجدته كذلك" فعل ذلك أربع مرات، وقال في الرابعة: ففتح عليه. "وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم" فتور يتقدم النوم، يحتمل بعد فراغه من صلاته، ويحتمل فيها. وعند ابن إسحاق: أنه عليه السلام خفق في العريش خفقة، قال في النور: بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ثم استيقظ متبسما، فقال: "أبشر يا أبا بكر، وهذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} .   المعجمة والقاف، أي: حرك رأسه وهو ناعس، انتهى. ففيه أنه لم يستغرق على أنه لو استغرق ما ضر؛ لأن نومه ليس بناقض. "ثم استيقظ متبسما، فقال: "أبشر" بقطع الهمزة "يا أبا بكر"، زاد ابن إسحاق: أتاك نصر الله، "هذا جبريل على ثناياه النقع" بفتح النون وسكون القاف وعين مهملة: الغبار إشارة للاهتمام بمناصرته صلى الله عليه وسلم ليدخل عليه وعلى أصحابه السرور. وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب". قال الحافظ: وأخرج سعيد بن منصور تتمة لهذا الحديث مفيدة من مرسل عطية بن قيس: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد عصب الغبار ثنيته عليه درعه، وقال: "يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى، أفرضيت؟ قال: "نعم". وروى البيهقي عن علي، قال: هبت ريح شديدة لم أر مثلها، ثم هبت شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبرائيل، والثانية ميكائيل، والثالثة إسرافيل، فكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره، وأنا فيها، انتهى. ورواه ابن سعد وذكر الثلاثة جزما، وقال: فكانت الأولى جبريل في ألف من الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية ميكائيل في ألف عن يمينه، والثالثة إسرافيل في ألف عن يساره. وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن علي، قال: قيل لي ولأبي بكر يوم بدر: مع أحدكما جبريل ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل، مالك عظيم يحضر الصف ويشهد القتال. قال الحافظ: والجمع بينه وبين هبت ريح ... إلخ، ممكن. "ثم خرج من باب العريش، وهو يتلو: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] الآية،" قال الزجاج: يعني الإدبار؛ لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي: سيفرق شملهم ويغلبون، وقيل: أفرد لأن كل واحد يولي دبره. وقيل: إشارة إلى أنهم في التولية والهزيمة كنفس واحدة ولا يثبت أحد فيهم دبر أحد. وقيل: لأجل رءوس الآي، وفي هذا علم من أعلام النبوة؛ لأن هذه الآية نزلت بمكة وأخبرهم بأنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال. وأخرج الطبري وابن مردويه عن ابن عباس: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] الآية، قال عمر: أن جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت في الدرع، وهو يقول: "سيهزم الجمع"، ولابن مردويه عن أبي هريرة عن عمر: لما نزلت هذه الآية، قلت: يا رسول الله! أي جمع؟ فذكره. ولابن أبي حاتم: فعرفت تأويلها يوم بدر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فإن قلت: كيف جعل أبو بكر يأمره عليه السلام بالكف عن الاجتهاد في الدعاء ويقوي رجاءه ويثبته، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد، ويقينه فوق يقين كل أحد؟ أجاب السهيلي نقلا عن شيخه: بأن الصديق في تلك الساعة كان في مقام الرجاء، والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف؛ لأن الله تعالى أن يفعل ما يشاء، فخاف أن لا يعبد الله في الأرض، فخوفه ذلك عبادة انتهى. وقال الخطابي: لا يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعملون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال، كف عن ذلك وعلم أن استجيب له لما وجد أبا بكر في نفسه من القوة ...............................   "فإن قلت: كيف جعل" أي: شرع "أبو بكر يأمره عليه السلام" يسأله أو يلتمس منه على التسوية بين الأمر والدعاء والالتماس "بالكف عن الاجتهاد في الدعاء، ويقوي رجاءه ويثبته، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقام الأحمد" الذي لا يصل إليه أحد، ومقام الصديق رضي الله عنه دونه بمراحل، فإنه بعد النبيين، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم فوق الجميع. "ويقينه فوق يقين كل أحد، أجاب السهيلي نقلا عن شيخه" القاضي أبي بكر بن العربي الحافظ: "بأن الصديق في تلك الساعة كان في مقام الرجاء" ثقة بوعد الله نبيه "والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف" قال القاضي أبو بكر: وكلا المقامين سواء في الفضل. قال السهيلي: لا يريد: يعني شيخه، أن النبي صلى الله عليه وسلم والصديق سواء، ولكن الخوف والرجاء مقامان لا بد للإيمان منهما، فكان الصديق في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف من الله، "لأن الله تعالى أن يفعل ما شاء فخاف أن لا يعبد الله في الأرض" بعدها "فخوفه ذلك عبادة، انتهى" ولا ريب أن خوفه أعلى من رجاء أبي بكر "وقال الخطابي: لا يتوهم" لفظه، لا يجوز أن يتوهم "أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، في تلك الحالة بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم باطنا، "والدعاء" الطلب باللسان "والابتهال" التضرع والإخلاص في الدعاء "لتسكن نفوسهم عند ذلك؛ لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك" الاجتهاد في الدعاء "وعلم أنه استجيب له لما" حين "وجد أبا بكر في نفسه من القوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: سيهزم الجمع ويولون الدبر. وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ، لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا. هذا هو الذي يظهر من بادئ الرأي. وإنما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد اليوم" لأنه علم أنه خاتم النبيين، فلو هلك هو ومن معه حينئذ، لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان.   والطمأنينة" اللتين هما علامة بحسب العادة الربانية مع المصطفى وصحبه على عدم ضررهم وحصول مطلوبهم، "فلهذ أعقبه بقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْع} [القمر: 45] ،" الذين قالوا: نحن جميع منتصر، {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ،" قال في الفتح: وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا، فلا يلتفت إليه، ولعل الخطابي أشار إليه. "وقال غيره: وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف، وهو أكمل حالات الصلاة" الدعاء أو الشرعية، فإن وقوعها في الخوف أعلى الأحوال والدرجات، "وجاز عنده" عليه السلام "أن لا يقع النصر يومئذ؛ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة، وإنما كان مجملا" فبفرض تأخره مدة لا ينافي أنه أعطاه ما وعده به، "هذا هو الذي يظهر من بادئ الرأي" وهذا غير جواب السهيلي؛ لأن محلظه تجويز أن النصر لا يقع يومئذ ويتأخر مدة، وملحظ جواب السهيلي أنه خاف أن لا يعبد الله في الأرض، ويأتي ما قاله النووي عن العلماء. وذهب قاسم بن ثابت في معنى الحديث إلى غير ذلك، فقال: إنما قال ذلك الصديق رة عليه صلى الله عليه وسلم لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه، فقال له بعض هذا: يا رسول الله! أي: لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدم بالنصر، وكان رقيق القلب شديد الإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم: "وإنما قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام" ساقه هنا بلفظ مسلم وفيما مر بمعناه "فلا تعبد بعد اليوم لأنه علم أنه خاتم النبيين فلو هلك هو ومن معه" أفاد أن العصابة هو وأصحابه لا هم فقط، لجواز أنه يدعو غيرهم أفيؤمنون ويعبدون، "لا يبعث أحد ممن يدعو إلى الإيمان" وذلك مستلزم عادة لعدم الإيمان، وإن كان الله قادرا على أن الناس يعبدونه بغير واسطة رسول تتعلق إرادته بعبادتهم، كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء} [النحل: 40] الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وأما شدة اجتهاده عليه الصلاة والسلام ونصبه في الدعاء، فإنه رأى الملائكة تنصب في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمرات الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء، ومن سنة الإمام أن يكون وراء الجند لا يقاتل معه، فكان الكل في جد واجتهاد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين وأنصار الله وملائكته يجتهدون، ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون. انتهى. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال عمر بن الخطاب: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا دخل العريش فاستقبل القبلة ومد يديه، وجعل يهتف ..............................   "وأما شدة اجتهاده عليه الصلاة والسلام ونصبه" بفتحتين: تعبه، "في الدعاء، فإنه" كما قال السهيلي " رأى الملائكة تنصب" بفتح الصاد، "في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون" يقتحمون "غمرات الموت" شدائده "والجهاد على ضربين جهاد بالسيف، وجهاد بالدعاء. ومن سنة الإمام" عادته وطريقته "أن يكون وراء الجند" خلف الجيش، "لا يقاتل معه، فكان الكل في جد" بكسر الجيم "واجتهاد" عطف تفسير، "ولم يكن" مريدا "ليريح نفسه من أحد الجدين وأنصار الله وملائكته يجتهدون" جملة حالية، "ولا ليؤثر الدعة" الراحة، "وحزب الله" المؤمنون "مع أعدائه يجتلدون، انتهى" كلام السهيلي. "وفي صحيح مسلم" وسنن أبي داود والترمذي "عن ابن عباس، قال": حدثني "عمر بن الخطاب،" قال: "لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف" هذ أولى بالصواب لصحته وكونه عن عمرو، وافقه عليه ابن مسعود وهما بدريان، ومر قول ابن عقبة وابن عائذ أنهم تسعمائة وخمسون مقاتلا وأنه يمكن الجمع بأنه الخمسين باقي الألف غير مقاتلين، وهذا خير من تأويل الحديث بأنه في نظر الرائي؛ لأن فيه رد الحديث لصحيح المسند عمن حضر الواقعة إلى كلام أهل السير بلا إسناد على أن الرائي إنما كان يراهم قليلا، كما في القرآن وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، "وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا" بفوقية فسين مهملة، ونسخة وبضعة عشر بموحدة فضاد تحريف من النساخ للعز، ولمسلم: فإن بضعة رواية البخاري عن البراء. أما رواية مسلم عن عمر فتسعة بفوقية وسين، وكذا نقله عنه اليعمري والحافظ جامعا بأنه ضم إلى الثلاثمائة عشر من لم يؤذن له في القتال، "دخل العريش، فاستقبل القبلة ومد يديه وجعل يهتف" بفتح أوله وكسر الفوقية، قال النووي: أي يصيح ويستغيث بالدعاء، وفيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 بربه: "اللهم أنجر لي ما وعدتني" ... فمازال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فانزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي ....................   استحباب استقبال القبلة ورفع اليدين في الدعاء، وأنه لا بأس برفع الصوت فيه، "بربه" بقول: رافعا صوته، "اللهم أنجز" بفتح الهمزة "لي ما وعدتني" أسقط من رواية مسلم: "اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، "فما زال يهتف بربه مادا يديه" أسقط من الرواية مستقبل القبلة، "حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كذاك" بالذال المعجمة، بمعنى: كفاك. قال قاسم بن ثابت: كذا يراد بها الإغراء والأمر بالكف عن الفعل، وهو المراد هنا. ومنه قول جرير: تقول وقد ترامحت المطايا ... كذاك القول إن عليك عينا أي: حسبك من القول، فاتركه. قال الحافظ: وخطأ من زعم أنه تصحيف وأن الأصل كفاك. ا. هـ. وقال النووي: قوله كذاك بالذال. ولبعضهم، أي الرواة: كفاك بالفاء. وفي البخاري: حسبك، وكله بمعنى "مناشدتك" بالنصب على الأشهر بما فيه من معنى الفعل من الكف وبالرفع فاعل به، قاله عياض ثم النووي. "ربك" بالنصب، قال السهيلي: أتى بالمفاعلة والرب لا ينشد عبده؛ لأنها مناجاة للرب، ومحاولة لأمر يريده. وفي البخاري: فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك قد ألححت على ربك، "فإنه سينجز لك ما وعدك" من النصر، قال النووي: قال العلماء: إنما فعل صلى الله عليه وسلم هذه المناشدة ليراه أصحابه بتلك الحال يتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة، وقد كان الله وعده إحدى الطائفتين إما العير وإما الجيش، والعير قد ذهبت فكان على ثقة من حصول الأخرى، ولكن سأل تعجيل ذلك من غير أذى يلحق المسلمين. "فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} تطلبون منه الغوث بالنصر عليهم بدل من إذ يعدكم أو متعلق بقوله: ليحق الحق، أو على إضمار اذكر، وجمع وإن كان الدعاء من المصطفى وحده للتعظيم، أو لأنه يعم الجميع فكأنهم مشاركون له، أو لأن الصحابة كانوا يستغيثون أيضا، كما روى أنهم لما علموا أن لا محيص من القتال، قالوا: أي رب، انصرنا على عدوك، أغثنا يا غياث المستغيثين، {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي} [الأنفال: 9] الآية، قال البيضاوي: أي بأني فحذف الجار وسلط عليه الفعل، وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول، أو إجراء استيجاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 مُمِدُّكُمْ} مرسل إليكم مددا لكم {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} أي متتابعين بعضهم في أثر بعض. وعلى قراءة فتح الدال معناه: أردف الله عز وجل المسلمين وجاءهم بهم مددا. وفي الآية الأخرى {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} [آل عمران: 124] فقيل معناه: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف. فكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف مردفين بمن وراءهم. والألف هم الذي قاتلوا مع المؤمنين، وهم الذين قال لهم: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وكانوا في صور الرجال، .............................   مجرى، قال: لأن الاستجابة من القول. {مُمِدُّكُم} [الأنفال: 9] ، أي: "مرسل إليكم مددا لك {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} بكسر الدال اسم فاعل حال من الملائكة، "أي: متتابعين بعضهم في أثر" حكى تثليث الهمزة، كما في النور. "بعض" من أردفته إذا جئت بعده أو متبعين أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه، "وعلى قراءة فتح الدال" وهي قراءة نافع ويعقوب اسم مفعول "معناه: أردف الله عز وجل المسلمين" بألف من الملائكة "وجاءهم بهم مددا" وهو حال من مفعول من يمدكم أو من الملائكة، والمعنى: أنهم مردفون بملائكة تعقبهم وتنضم إليهم، قال النحاس ومكي وغيرهما: وقراءة كسر الدال أولى؛ لأن أهل التأويل عليها ولأن عليه أكثر القراء، ولأن فيها معنى الفتح، قال القرطبي. "وفي الآية الأخرى" في آل عمران: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124] "، قرأ جعفر بن محمد وعاصم الجحدري بألف بضم اللام جمع ألف، كفلس جمع فلس، فلا خلاف بين الآيتين، وعلى القراءة المشهور بالإفراد، "فقيل في معناه:" جمعا بينهما، "إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، فكان الأكثر مددا للأقل، وكان الألف مردفين" بفتح الدال "بمن وراءهم" والمعنى أن الثلاثة آلاف قوت الألف وزادتهم، "والألف هم الذين قاتلوا مع المؤمنين" والباقون كانوا عددا ومددا، فاتفقت الآيتان. وقيل في الجمع أيضا: أن الألف كانوا على المقدمة أو الساقة أو هم وجوههم وأعيانهم، "وهم الذين قال لهم: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] كالتفسير لقوله {إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12، هود: 93] ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا "وكانوا في صور الرجال" فكان الملك يمشي أمام الصف في صورة رجل، ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم عليهم، ويظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 ويقولون للمؤمنين: اثبتوا فإن عدوكم قليل وإن الله معكم. وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف. وعن عامر الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر الفهري يمد المشركين فشق عليهم، فأنزل الله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} ..........................................   المسلمون أنه منهم، ذكره القرطبي. "ويقولون للذين آمنوا اثبتوا"، وعللوا ذلك بقولهم: "فإن عدوكم قليل، باعتبار ما انضم إليهم من الملائكة، أو بخذلان الله لهم حتى قلوا في المعنى، وإن كثروا في العدد أو قليل في نظركم، كما قال: وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا، حتى قال ابن مسعود لمن بجنبه: أتراهم سبعين، فقال: أراهم مائة، "وإن الله معكم"، بالنصر والمعونة، وقد رأى المشركون الملائكة لتضعف قلوبهم وتنكسر، كما في عدة أخبار. "وقال الربيع بن أنس" البكري أو الحنفي البصري نزيل خراسان، صدوق له أو هام ورمى بالتشيع مات سنة أربعين ومائة، وقيل: قبل الأربعين. "أمد الله المسلمين بألف" أو لا وهو الذي في الأنفال، "ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم" لما صبروا واتقوا "صاروا خمسة آلاف" كما قال تعالى: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ} [آل عمران: 125] ، الآية قال في فتح الباري: كان الربيع جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال. "وقال سعيد بن أبي عروبة" مهران اليشكري مولاهم البصري مما رواه ابن أبي حاتم عنه، "عن قتادة" بن دعامة الأكمه المفسر المشهور: "أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف" من الملائكة، وهذا موافق للربيع. "و" روى ابن أبي حاتم بسد صحيح، "عن عامر الشعبي" التابعي: "أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز" بضم الكاف وسكون الراء وزاي، "ابن جابر الفهري" صحب بعد واستشهد في الفتح، كما مر "يمد" بضم الياء وكسر الميم من الإمداد، أي: يعين "المشركين فشق عليهم، فأنزل الله تعالى: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين} [آل عمران: 124] الآية، إنكار أن لا يكفيهم ذلك، وإنما جيء بلن إشعارا بأنهم كانوا كالآيسين من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 إلى قوله: {مُسَوِّمِين} [آل عمران: 125] ، قال: فبلغت كرر الهزيمة فلم يمد المشركين، ولم تمد المسلمون بالخمسة. وعن ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم، فلما أقبل جبريل عليه السلام والملائكة كانت يده في يد رجل   النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم، كذا في الأنوار. قال شيخنا: وكان وجه الإشعار أنه لما أدخل همزة الاستفهام الإنكاري على النفي للكفاية في المستقبل أفاد أنهم كانوا لا يرجونه ولا يأملونه، "إلى قوله: مسومين" معلمين من التسويم وهو إظهار سيماء الشيء، وقيل: مرسلين من التسويم بمعنى الأسامة. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو. "قال" الشعبي: "فبلغت كرز الهزيمة" للمشركين "فلم يمد المشركين ولم تمد المسلمون بالخمسة" وإنما أمدوا بالألف ثم بالثلاثة، وما ذكره من أن هذه الآية في قصة بدر، قال الحافظ: هو قول الأكثر، فهي متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْر} [آل عمران: 123] الآية، وبه جزم الداودي، وعليه عمل البخاري، وأنكره ابن التين فذهل. وقيل: متعلقة بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} [آل عمران: 121] الآية، فهي في غزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. وقد لمح البخاري للاختلاف في النزول فذكر قوله تعالى: {وإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} [آل عمران: 121] الآية، فهي في غزوة أحد، وهو قول عكرمة وطائفة. وقد لمح البخاري للاختلاف في النزول قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِك} ، وكذا {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْء} [آل عمران: 128] الآية، في أحمد، وذكر له غدا ذلك في بدر، وهو المعتمد. انتهى. "و" روى البيهقي وغيره "عن ابن عباس" قال: "جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين في صورة سراقة بن مالك بن جعشم" بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة على المشهور، وحكي فتحها، تقدم في الهجرة وكان جنده في صورة رجال من بني مدلج، وذلك كما عند ابن إسحاق أن قريشا لما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فقالوا: إنا نخشى أن نؤتى من خلفنا، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، "فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، "وإني جار" مجير "لكم". وفي رواية ابن إسحاق: وأنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، "فخرجوا سراعا، "فلما أقبل جبريل عليه السلام والملائكة" إلى إبليس، كما في رواية البيهقي، ورآه إبليس "كانت يده في يد رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 من المشركين فانتزع يده ثم نكص على عقيبه، فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب. وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال على خيل بلق، عليهم ثياب بيض، وعلى رءوسهم .....................................................   من المشركين" هو عمير بن وهب أو الحارث بن هشام، ذكرهما ابن إسحاق، وأسلم كل منهما بعد ذلك وصحب، "فانتزع يده ثم نكص على عقبيه" أي: رجع بلغة سليم، قال: ليس النكوص على الإدبار مكرمة ... إن المكارم إدبار على الأسل وقال: وما نفع المستأخرين نكوصهم ... ولا ضر أهل السابقات التقدم وليس هنا قهقرى بل هو فرار، كما قال إذا سمع الأذن أدبروا له ضراط، قاله القرطبي. قال في رواية البيهقي: ثم ولى هاربا هو وشيعته، "فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار" وقد خذلتنا وانهزمت لتكون سببا في هزيمتنا، "فقال: إني أرى ما لا ترون" من مجيء الملائكة لنصر المسلمين ولا ينافيه أن المشركين رأوا الملائكة لأنهم رأوهم في صورة الرجال فظنوهم رجالا، وإبليس عرف أنهم ملائكة، أو رأى جملتهم والمشركون بعضهم أو غير ذلك، "إني أخاف الله" قال الحسن: خاف أن يكون يوم بدر اليوم الذي أنظر إليه إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وقال قتادة: كذب ما به من خوف ولكن علم أنه لا قوة له، فأوردهم وأسلمهم، وهذه عادته لمطيعه، وقيل غير ذلك. "والله شديد العقاب" قال البيضاوي: ويجوز أنه من كلامه وأنه مستأنف، وفي ذلك يقول حسان: سرنا وساروا إلى بدر لحينهم ... لم يعلمون يقين العلم ما ساروا دلاهمو بغرور ثم أسلمهم ... إن الخبيث لمن والاه غرار وحمل الآية على تصوره بصفة سراقة، هو مذهب الجمهور. وقيل: المراد الوسوسة، وقوله: إني جار لكم مقالة نفسانية، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما رأى الشيطان يوما هو أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة"، وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عز وجل عن الذنوب العظام، إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: "أما إنه رأى جبريل والملائكة" رواه مالك في الموطأ. "وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال،" لا ينافي هذا أن كلا نزل في ألف، كما رواه ابن سعد وغيره، كما مر، لجواز أنه أردف كل بخمسمائة أو الخمسمائة بقيد كونهم "على خيل بلق عليهم ثياب بيض وعلى رءوسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 عمائم بيض، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين: عمائم خضر. وعن علي: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض، وكانت سيماهم أيضا في نواصي خيلهم. رواه ابن أبي حاتم. وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه، في قوله تعالى: {مُسَوِّمِينَ} قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم حنين عمائم خضر. وروى ابن أبي حاتم عن الزبير: أن الملائكة نزلت وعليهم عمائم صفر.   عمائم بيض" من نور، كما في الرواية: "قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم" ففي كونها من نور إشارة إلى ذلك بالنظر لما تصوروا به إذ لم يكن عليهم شيء من العمائم المعروفة عليهم الصلاة والسلام، "وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان سيما" خبر مقدم، أي: علامات "الملائكة يوم بدر عمائم" اسم كان "بيض" صفته "وعن علي: كانت سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض" أي: النور المرئي للناظر، مثل الصوف الأبيض إذ الملائكة أجسام نورانية لا يليق بها الملابس الجسمانية "وكانت سيماهم أيضا في نواصي خيلهم" وأذناها، كما هو بقية الرواية عند من عزا له، بقوله: "رواه ابن أبي حاتم" عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي الحافظ ابن الحافظ. "وروى ابن مردويه" بسند فيه عبد القدوس بن حبيب وهو متروك، "عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه" لفظة استعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم "في" تفسير قوله تعالى {مُسَوِّمِينَ} قال: "معلمين"، بضم الميم وسكون العين اسم مفعول من أعلم الفارس جعل لنفسه علامة الشجعان، أو بفتح العين وشد اللام من علم، أو اللام مخففة من علم كنصر وضرب: وسم. "وكانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم سود" أي: بعضهم، فلا يخالف ما قبله لا ما بعده إشارة للمسلمين بالسؤدد والنصر، وأنهم يسودون عدوهم بالقتل والأسر، كما لبس صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء يوم فتح مكة، "ويوم حنين عمائم خضر" موافق لما قبله. "وروى ابن أبي حاتم، عن الزبير" بن العوام البدري الحواري "أن الملائكة نزلت" يوم بدر "وعليهم عمائم صفر" ورواه ابن جرير بإسناد حسن ع أبي أسيد الساعدي وهو بدري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 قيل: ولم تقاتل الملائكة غير يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا، وبذلك صرح العماد بن كثير في تفسيره فقال: المعروف من قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، ثم روى عن ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل في غيرها بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال عند بعضهم. وفي نهاية البيان في تفسير التباين عند تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْن} وهل قاتلت ............................................................................................   ولفظه: خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم، وذلك إظهار لإمارات السرور للمسلمين، وإن هذا الحرب الذي هم فيه إنما هو فرح ينالهم لا ترح، وفي الأصفر من التفريح والسرور ما يشهد به قوله تعالى {تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] الآية، ولذا قيل: من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، ورفعه كذب، كما قال أبو حاتم، فعلم من هذه الروايات أن عمائمهم اختلفت ألوانها. لكن قال السيوطي: الذي صح من الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف ورواية البيض والسود ضعيفة، ثم هذا كله مع ما يأتي يرد قول عكرمة ومن وافقه أن نزول الملائكة في غزوة أحد، ويؤيد قول الأكثرين وهو المعتمد، كما مر عن الحافظ أنه في بدر. وقد قال البخاري في صحيحه باب شهود الملائكة بدرا، وقال مسلم في الصحيح باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر. وفي مسند إسحاق بن راهويه عن جبير بن مطعم: رأيت قبل هزيمة القوم ببدر مثل البجاد الأسود أقبل من السماء كالنمل، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم والأخبار طافحة بقتالهم يوم بدر، وو ظاهر القرآن. حتى "قيل: ولم تقاتل الملائكة غير يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا" بضم العين جمع عدة كغرف وغرفة، "ومددا" لا يضربون "وبذلك" بل وبترجيحه "صرح العماد بن كثير في تفسيره، فقال: المعروف من قتال الملائكة" على العموم "إنما كان يوم بدر، ثم روى" بإسناده "عن ابن عباس: قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر،" وهذا حجة على من زعم أنهم لم يقاتلوا فيها. "وقال ابن مرزوق: ولم تكن تقاتل في غيرها، بل يحضرون خاصة على المختار من الأقوال" الثلاثة "عند بعضهم" التي هي قاتلت فيها دون غيرها قاتلت فيها، وفي غيرها لم تقاتل فيها ولا في غيرها، وإنما يكثرون السود ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك أهل الدنيا، وهذه شبهة يدفعها ما يأتي عن السبكي. "وفي نهاية البيان في تفسير التباين عند تفسير قوله تعالى، {وَيَوْمَ حُنَيْن} وهل قاتلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 الملائكة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما -وهو قول الجمهور- إنها لم تقاتل، انتهى. وهذا يرده حديث مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد -يعني جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام- يقاتلان كأشد القتال. قال النووي: فيه بيان إكرامه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر. قال: وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاصه، فهذا صريح في الرد عليه. قال وفيه أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يراهم الصحابة والأولياء. انتهى. قال ابن الأنباري: وكانت الملائكة .............................................   الملائكة" يوم حنين "أم لا؟ فيه قولان، أحدهما، وهو قول الجمهور: إنها لم تقاتل" لأن الله إنما قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] الآية، ولا دلالة فيه على قتال، "انتهى، وهذا" أي: القول بأنها لم قتال إلا ببدر "يرده حديث مسلم في صحيحه" في المناقب لا المغازي، "عن سعبد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين" ملكين في صفة رجلين، "عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد،" وفي رواية الطيالسي: لم أرهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، "يعني جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام يقاتلان كأشد القتال" الكاف زائدة أو للتشبيه، أي: كأشد قتال بني آدم، وإنما عزاه لمسلم فقط مع أن البخاري أخرجه أيضا لزيادة مسلم: يعني جبريل وميكائيل. "قال النووي: فيه" من الفوائد "بيان إكرامه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه وبيان أن قتالهم لم يختص بيوم بدر، قال:" النووي "وهذا هو الصواب خلاف لمن زعم اختصاصه" أي: يوم بدر بقتال الملائكة، "فهذا" الحديث "صريح في الرد عليه" ولا صراحة فيه، وقد أجاب عنه البيهقي وغيره، بما حاصله: إن قتال الملائكة ببدر كان عاما عن جميع القوم، وأما في أحد فإنهما ملكان وقتالهما عن النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، على أنه لا يلزم من ذلك قتالهما بل يجوز أنهما كانا يدفعان عنه ما يرمى به من نحو السهام، وعبر عن ذلك بالقتال مجازا. "قال" النووي: "وفيه" أيضا "أن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يراهم الصحابة والأولياء" ولكن غير صورهم الأصلية، "انتهى". وقد يعلمون بأنهم ملائكة وقد لا يعلمون، كما في حديث: ولا يعرفه منا أحد، وقال صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم". "قال ابن الأنباري:" بفتح الهمزة وسكون النون نسبة إلى الأنبار بالعراق، "وكانت الملائكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 لا تعلم كيف يتقتل الآدميون، فعلمهم الله تعالى بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} أي الرءوس {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قال ابن عطية: كل مفصل. قال السهيلي: جاء في التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا في رأس أو مفصل، وكانوا يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوه بآثار سود في الأعناق والبنان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا على جبل يشرف على بدر -ونحن مشركان-   لا تعلم كيف تقتل" بالبناء للمفعول. "الآدميون فعلمهم الله تعالى بقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} [الأنفال: 12] الآية، "أي: الرءوس" فالتعبير بالأعناق مجاز، فإنها الوصلة بين الرأس والجسد والضرب على الرأس أبلغ، لأن أدنى شيء يؤثر في الدماغ، وهذا قول عكرمة ويوافقه قول ابن عباس: كل هام وجمجمة. وقال الضحاك وعطية والأخفش: فوق زائدة، وخطأهم محمد بن يزيد؛ لأن فوق تفيد معنى، فلا تجوز زيادتها، ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها. {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاق} قال ابن عطية، أي: "كل مفصل" وهو قول الضحاك. قال الزجاج: وواحده بنانة، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء. قال ابن فارس: البنان الأصابع، ويقال: الأطراف، وقيل: المراد بالبنان في الآية أطراف الأصابع من اليدين والرجلين؛ لأن ضربهما يعطل المضروب عن القتال بخلاف سائر الأعضاء، ويؤيد الأول قوله: "قال السهيلي: جاء في التفسير أنه ما وقعت ضربة يوم بدر إلا في رأس أو مفصل، وكانوا" كما رواه يونس بن بير في زيادات المغازي والبيهقي عن الربيع بن أنس، قال: كان الناس "يعرفون قتلى" جمع قتيل "الملائكة ممن قتلوه بآثار سود في الأعناق والبنان" مثل سمة النار قد احترق، كما هو بقية الرواية، ولعله الغالب عنه المصنف، قال أبو زميل: فحدثني ابن عباس، قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة". "وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حدثني رجل من بني غفار" قال البرهان: لا أعرف اسمه وهو مذكور في الصحابة. قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا" أي: علونا، يقال: صعد وأصعد بمعنى، كما في المطالع، "على جبل يشرف على بدر، ونحن مشركان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ننظر الوقعة على من تكون الدبرة، فننهب مع من ينهب، فبينما نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه في الحال. وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت. رواه البيهقي وأبو نعيم. والدبرة: بفتح الموحدة وفي نسخه -بسكون الموحدة- الهزيمة في القتال. وحيزوم: اسم فرس جبريل. قاله في القاموس.   أي: كافران، قال البرهان: ورأيت في نسخه من سيرة ابن هشام مشتركان بزيادة تا، وصحح عليها، انتهى. فإن صحت فترد لما هنا، أي: مشتركان في الكفر وفي كوننا "ننظر الوقعة على من تكن الدبرة" بفتح الدال المهملة الهزيمة، "فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت سحابة فيها حمحمة" بحاءين مهملتين بعد كل ميم: صوت "الخيل" دون الصهيل "فسمعت قائلا يقول: أقدم" بهمزة قطع مفتوحة وكسر الدال من الإقدام، كما رجحه ابن الأثير وصوبه الجوهري، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور، أو بهمزة وصل مضمومة وضم الدال المهملة من التقدم، وقدمه ابن قرقول وبكسر الهمزة وفتح الدال، واقتصر عليه في البارع، قال أبو ذر: كلمة يزرج بها الخيل، "حيزوم" بحذف حرف النداء، أي: يا حيزوم، بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فزاي مضمومة فميم فيعول من الحزم، وتطلق أيضا على الصدر. قال الشامي: فيجوز أنه سمي به لأنه صدر خيل الملائكة ومتقدم عليها، انتهى. ورواه العذري بالنون بدل الميم، قال عياض: والصواب الأول، وهو المعروف لسائر الرواة والمحفوظ. "فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه" بكسر القاف وتخفيف النون وعين مهملة: غشاؤه تشبيها بقناع المرأة، "فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت" مثله في العيون، وفي السبل: ثم انتعشت بعد ذلك، "رواه البيهقي وأبو نعيم" وابن إسحاق "والدبرة بفتح الموحدة وفي نسخة بسكون موحدة" وفي النور: بإسكان الموحدة ويجوز فتحها. وفي السبل بفتحتين وتسكن. "الهزيمة في القتال" وفي تذكرة القرطبي: الدبرة ويروى الدابرة والمعنى متقارب. قال الأزهري: الدابرة الدولة تدول على الأعداء، والدبرة النصر والظفر، يقال لمن الدبرة، أي: الدولة. وعلي من الدبرة، أي: الهزيمة، انتهى. "وحيزوم اسم فرس جبريل، قاله في القاموس" تبعا لجمع، ورده الشامي بما رواه البيهقي عن خارجه بن إبراهيم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "من القائل يوم بدر من الملائكة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. رواه الحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم. قال الشيخ تقي الدين السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.   أقدم حيزوم"؟ فقال جبريل: ما كل أهل السماء أعرف"، وجوابه أن قائله غير جبريل خاطب به فرس جبريل، فلا ينافيه قوله: ما كل ... إلخ، على أن ذا الحديث دال لمن قال إنها فرس جبريل، لقوله: "من القائل"؟ ولم يقل: وما حيزوم. قال البرهان: ولجبريل فرس أخرى ويحتمل أن أحدهما اسم والآخر لقب الحياة، وهي التي قبض أثرها السامري فألقاها في العجل الذي صاغه، فكان له خوار. "وروى أبو أمامة" أسعد، وقيل: سعد "بن سهل بن حنيف" الأنصاري المعروف بكنيته المعدود في الصحابة؛ لأن له رؤية ولم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه ولد قبل وفاته بعامين، وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه اسم باسم جده لأمه أبي أمامة أسعد بن زرارة وكناه وبارك عليه، مات سنة مائة وله اثنتان وتسعون سنة، روى له الجميع، "عن أبيه" سهل بن حنيف بضم المهملة وفتح النون وسكون التحتية وبالفاء ابن واهب الأنصاري الأوسي شهد المشاهد كلها، وثبت يوم أحد وبايع يومئذ على الموت، استخلفه علي على البصرة بعد الجمل، ثم شهد معه صفين، ومات في خلافته سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه وصح أنه كبر عليه خمسا، وفي رواية: ستا، وقال: إنه شهد بدرا، "قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف" وما ذاك إلا من الملائكة ففيه حجة لى من أنكره. "رواه الحاكم وصححه" تلميذه "البيهقي وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله. وروى ابن إسحاق عن أبي واقد المازني، قال: إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذا وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قتله غيري، لكن قال ابن عساكر: في سنده من لا يعرف، وهذه القصة إنما كانت لأبي واقد يوم اليرموك والصحيح قول الزهري عن سنان الديلي أن أبا واقد إنما أسلم عام الفتح، وقال أبو عمر: لا يثبت أنه شهد بدرا، وكذا قال أبو نعيم. "قال الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار" بأجمعهم "بريشة من جناحه" كما روي أنه رفع مدائن قوم لوط، وهي أربع مدائن في كل مدينة أربعمائة ألف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة الجيوش، رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله في عباده، والله فاعل الجميع انتهى. ولما التقى الجمعان، تناول صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء، فرمى به في وجوههم وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه منها شيء فانهزموا   مقاتل من الأرض السفلى على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها ودجاجها وقبلها، "فقلت:" في الجواب فعل "ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله في عباده والله فاعل الجميع، انتهى" وذكر ابن هشام أن شعار الملائكة كان يوم بدر: أحد، "ولما التقى الجمعان" بعد ما مر من الصلاة والابتهال النبوي، وقتال علي ورجوعه يجد المصطفى ساجدا، وتزاحف الناس ونزول الملائكة، وقول أبي جهل، كما عند ابن إسحاق: اللهم إينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه. "تناول صلى الله عليه وسلم كفا" أي: ملء كف بأمر جبريل، كما جاء عن ابن عباس "من الحصباء" بالمد صغار الحصى. وفي رواية: ثلاث حصيات، كما يأتي. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن حكيم بن حزم: سمعنا صوتا من السماء يوم بدر وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْت} [الأنفال: 17] الآية، الآية. وعن جابر: سمعت صوت حصيات وقعت من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست. وعن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "ناولني قبضة من الحصباء"، وعنه أيضا: أن جبريل قال له: خذ قبضة من تراب، والجمع بينها سهل بأن تكون الحصيات نزلت من المسلمين وبعض عبر عنها بحصاة، وبعض بحصيات بحسب ما تخيله، ثم تفتت فقال له جبريل: خذها، فقال لعلي: "ناولني قبضة من الحصباء"، فناوله "فرمى به" أي: بما تناوله فلذا ذكر الضمير؛ لأنه لو أراد الكف لأنثه لأنها مؤنثة، "في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه" أي: قبحت خبر بمعنى الدعاء، أي: اللهم تنح وجوههم، ويحتمل أنه خبر؛ لأن جبريل لما أمره برميهم بالحصباء تحقق ذلك، "فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه ومنخريه" وفمه كما في رواية: والمنخر بفتح الميم والخاء وكسرها وضمهما، وكمجلس وعصفور الأنف، كما في القاموس وغيره. "منها شيء، فانهزموا" قال ابن عقبة وغيره: فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها صار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وقتل الله من قتل من صناديد قريش، .............................................................   المشرك لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه، فصاروا يقتلونهم ويأسرونهم. "فقتل الله من قتل" أسند إليه تعالى لكونه الخالق له والمميت حقيقة، وإن نسب الضرب للعبد. "من صناديد قريش" أشرافهم وشجعانهم فمنهم أمية بن خلف أسره عبد الرحمن بن عوف، وأراد استبقائه لصداقة كانت بينهما فنظره بلال، فنادى: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فهبروه أسيافهم. وذكر الواقدي أن الذي تولى قتله خبيب، بمعجمة وموحدة مصغر، ابن أساف بكسر الهمزة وخفة المهملة وفاء، الأنصاري، وقال ابن إسحاق: رجل من بني مازن من الأنصار. وفي المستدرك: أن رفاعة طعنه بالسيف. وقال ابن هشام: اشترك في تقله معاذ بن عفراء، وخارجة بن زيد، وخبيب بن أساف، ويقال: قتله بلال، والجمع: أن الكل اشتركوا فيه، وكان أمية قد عذب بلالا بمكة في المستضعفين فجعل الله قتله على يده وفجعه قبل قتله يومئذ بقتل ابنه علي بن أمية قتله عمار بن ياسر حتى صاح أمية صيحة لم يسمع مثلها، قيل: وهنأ الصديق بلالا بقوله: هنيئا زادك الرحمن فضلا ... فقد أدركت ثأرك يا بلال ومنهم: عدو الله أبو جهل، قال ابن إسحاق: أقبل يرتجز، ويقول: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني لمثل هذا ولدتني أمي فأذاقه الله الهوان بأن قتله حفزا في زعمه وجعل ذلك حسرة عليه، حتى قال: لو غير أكار قتلني، بشدة الكاف، أي: زارع، يعني أن الأنصار أصحاب زرع فأشار إلى تنقيص من قتله منهم، والمعنى: لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلي وأعظم لشأني، ولم يكن علي نقص في ذلك. وروى البخاري وغيره عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه، يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أقتله أن أموت دونه، فقال لي الآخر سرا مثل صاحبه، فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء معاذ، ومعوذ في الصحيحين عن أنس، قال صلى الله عليه وسلم: "من ينظر ما فعل أبو جهل"؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برك فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبا جهل فقال: فهل فوق رجل قتله قومه، أو قال: قتلتموه والرواية: أنت أبا جهل بالنصب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 .................................   ولها توجيهات معلومة، من غريبها أنه خاطبه باللحن قصدا لإهانته. وعند ابن إسحاق والحاكم: قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فوضعت رجلي على عنقه، فقلت: أخزاك الله يا عدو الله، قال: ولم أخزاني هل أعمد رجل قتلتموه؟ أي: أشرف، أي: إنه ليس بعار، أخبرني لمن الدبرة اليوم؟ أي: النصر والظفر، قلت: لله ورسوله، قال: وزعم رجال من بني مخزوم أنه قال لابن مسعود: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، ثم احترزت رأسه. وعند ابن عقبة وأبي الأسود عن عروة، أنه أي بعد هذه المكالمة وجده لا يتحرك منه عضو، فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع بيضته عن قفاه فوقع رأسه بين يديه. وعند ابن إسحاق والحاكم في حديث ابن مسعود: فجئت برأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال: "الله الذي لا إله إلا هو" فحلفت له، ثم ألقيت رأسه بين يديه، فحمد الله. وفي زيادات المغازي ليونس بن بكير: فأخذ صلى الله عليه وسلم بيد ابن مسعود: ثم انطلق حتى أتاه، فقام عنده، ثم قال: "الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله" ثلاث مرات. وروى ابن عائذ من مرسل قتادة رفعه: "إن لكل أمة فرعونا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قتلة، قتله ابنا عفراء وقتلته الملائكة"، وتذافه ابن مسعود بفتح الفوقية والذال معجمة ومهملة وشد الفاء، أي: أجهز عليه. والحاصل: أن معاذا ومعوذا ابني عفراء وهي أمهما، كما مر، وأبوهما الحارث بلغا به بضربهما إياه بسيفهما منزلة المقتول حتى لم يبق به إلا مثل حركة المذبوح، وي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فكالمه ثم ضرب عنقه بسيف نفسه. لكن في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر في سيفيهما وقال: "كلاكما قتله" وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. قال ابن عبد البر وعياض: وأصح منه حديث الصحيحين عن أنس، أي: وعبد الرحمن أيضا، كما مر أن قاتله ابن عفراء، وجمع الحافظ باحتمال أن معاذ بن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو ضربه بعد ذلك معوذ بن عفراء حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الأقوال كلها، انتهى. وسبقه إليه النووي، فقال: اشترك الثلاثة في قتله، لكن ابن الجموح أثخنه أولا، فاستحق السلب، وإنما قال: "كلاكما قتله"، تطييبا لقلب الآخر من حيث إن له مشاركا في قتله، وإن كان القتل الشرعي الذي يستحق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا إنما وجد من ابن الجموح، انتهى. قال في النور: وهو صحيح لكن عطاء بن الجموح السلب يدل على أنه الذي أزال امتناعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وأسر من أسر من أشرافهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] قال: هذا يوم بدر، أخذ صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين أظهرهم، وقال: "شاهت   قلت: هذا حاصل الجمع، وبه صرح النووي كما ترى، فلا معنى لاستدراكه، وجاء أنه قال لابن مسعود: احتز من أصل العنق ليرى عظيما مهابا في عين محمد، وقل له: ما زلت عدوا لله إلى سائر الدهر واليوم أشدة عدواة، فلما أتاه برأسه وأخبره قال: "كما أني أكرم النبيين على الله، وأمتي أكرم الأمم على الله، كذلك فرعون هذه الأمة أشد وأغلظ من فراعنة سائر الأمم، إذ فرعون موسى حين أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وفرعون هذه الأمة ازداد عداوة وكفرا". وذكر عياض أن ابن مسعود إنما وضع رجله على عنقه ليصدق رؤياه. قال ابن قتيبة: ذكر أن أبا جهل قال لابن مسعود: لأقتلنك، فقال: والله لقد رأيت في النوم إني أخذت حدجة حنظل فوضعتها بين كتفيه ورأيتني أضرب كتفيك ولئن صدقت رؤياي لأطأن على رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة الحدجة -بفتح المهملتين والجيم وتاء تأنيث- الحنظلة الشديدة ومنهم ومنهم وقد أطلت لتشوف النفس لقتل هذا الفرعون، مع أنه ما خلا من فائدة. "وأسر من أسر" وهم سبعون "من أشرافهم" جمع شريف، ويجمع أيضا على شرفاء، ولعله خصهم بهذا. والقتلى بالصناديد تنبيها على أن القتلى هم المعروفون بالشجاعة بينهم وإن كانوا شرفاء. وعند ابن إسحاق: أنهم لما جعلوا يأسرون، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ على شرفاء. وعند ابن إسحاق: أنهم لما جعلوا يأسرون، والنبي صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ على بابه متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسونه يخافون كرة العدو، فرأى عليه السلام في وجه سعد الكراهة، فقال له: "والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم"؟ قال: أجل والله يا رسول الله! كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك فكأن الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجل. "وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم" العدوي مولاهم المدني "في" تفسير "قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17] الآية، أتيت بصورة الرمي، " {وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] الآية" بإيصال ذلك إليهم؛ لأن كفا من الحصباء لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، وقيل: ما رميت الفزع والرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء فانهزموا، ولكن أعانك الله وظفرك وصنع ذلك، حكاه أبو عبيدة في المجاز عن ثعلب. "قال" عبد الرحمن وأعاده للفصل بين كلام الله وتفسيره: "هذا يوم بدر أخذ صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات" نزلت من السماء وأمره جبريل بأخذها فناولها له علي، كما مر. "فرمى بحصاة في ميمنة القوم" جهة يمينهم "وبحصاة في مسيرة القوم" جهة شمالهم، "وبحصاة بين أظهرهم" أي: بينهم فأظهر زائدة، "وقال: "شاهت" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 الوجوه" فانهزموا. وقد روي عن غير واحد: أن هذ الآية نزلت في رميه صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وإن كان فعل ذلك يوم حنين أيضا سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد اعتقد جماعة: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده!! وهذا غلط .........................................................................................................   قبحت "الوجوه" زاد في الرواية: "اللهم أرعب قلوبهم وزلزل أقدامهم"، "فانهزموا" لا يلوون على شيء، أي: لا يلتفتون وألقوا دروعهم. "وقد روي عن غير واحد" كعمر عند الطبراني وحكيم بن حزام عنده، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم وابن عباس كلاهما عند أبي الشيخ، وقاله الجمهور، قال القرطبي: وهو الصحيح، والسيوطي هو المشهور. "أن هذه الآية نزلت في رميه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك" أي: الرمي بالحصباء، "يوم حنين أيضا" ويوم أحد أيضا، كما عند الحاكم على شرط مسلم، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في غزوتيهما، وقيل: نزلت في طعنة طعنها عليه السلام لأبي بن خلف يوم أحد بحربته فوقع عن فرسه، ولم يخرج منه دم، فجعل يخور حتى مات، رواه الحاكم بسند صحيح. قال السيوطي: لكنه غريب، وقيل: في سهم يوم خيبر فسار في الهواء حتى أصاب ابن أبي الحقيق وهو على فراشه، رواه ابن جرير بإسناد مرسل جيد لكنه غريب، وقيل: في حصبه يوم خيبر. قال القرطبي، ما حاصله: وهذا كله ضعيف؛ لأن الآية نزلت عقب بدر، وأما قوله: فلم تقتلوهم، فروي أن الصحابة لما صدروا عن بدر، ذكر كل واحد منهم ما فعل: فعلت كذا فعلت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحوه ذلك، فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المحيي المميت والمقدر لجميع الأشياء وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده، انتهى. "وقد اعتقد جماعة" كما قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: أن المراد بالآية سلب فعل الرسول" صلى الله عليه وسلم "عنه وإضافته إلى الرب تعالى" لغرضهم الفاسد المشار له بقوله: "وجعلوا ذلك أصلا في الجبر" بجيم وموحدة ساكنة، أي: مذهب الجبريين الزاعمين جبر العبد على الفعل لا ينسب له منه شيء، كما فسره بقوله: "وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده" تعالى عن ذلك علوا كبيرا، "وهذا" كما قال ابن القيم: "غلط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 منهم في فهم القرءان، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا لزمهم في أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو برميه وحده ناقضوا. فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية. ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي، وهو الحذف، ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته. ونظير هذا في الآية نفسها قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ   منهم في فهم القرآن، ولو صح ذلك لوجب طرده، فيقال: ما صليت إذ صليت ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كذا إذ فعلت" بفتح التاء في الجميع خطابا على المتبادر أو بضمها للمتكلم، "ولكن الله فعل ذلك فإن طردوا ذلك لزمهم في أفعال العباد" وبينها بقوله: طاعتهم معاصيهم إذ لا فرق" فلا ينسب لهم منها شيء فلا يكونون ممتثلين لفعل مأمور به ولا ترك منهي عنه، فلا يثابون على طاعة ولا يعاقبون على معصية، وهذا هدم للشريعة وإبطال للآيات والأحاديث. "وإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله" أي: بأفعال الرسول "جميعها أو" خصوه "برميه وحده" دون باقي أفعال، "ناقضوا" أنفسهم حيث نفوا جملة الأفعال عن العباد ونسبوا بعضها إلى بعضهم، "فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية و" إنما تأويلها مع الجواب أنه "معلوم أن تلك الرمية من البشر" وخصوصا من واحد "لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي وهو الحذف" بمهملة ومعجمة الرمي بالحصباء "ومن الرب تعالى نهايته وهو الإيصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: الرمي الذي هو الحذف وكذا يقال في "نفي عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته،" وذهب ثعلب في معنى الآية إلى أن المنفي الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم حتى انهزموا، كما مر، ولكنه يقتضي انهزامهم بمجرد الرعب، وهو خلاف الواقع من تسليط الملائكة والمسلمين بالقتل والأسر، فأثر ذلك انهزامهم لا بمجرد الرعب، فما عليه ابن القيم في فهم الآية كغيره أولى. "ونظير هذا في الآية نفسها" باعتبار المآل إذ ليس فيها نفي قتل عنهم وإثباته لهم، "قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال: 17] لم تزهقوا روحهم بقوتكم وضربكم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 قَتَلَهُمْ} ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فأخبر أنه تعالى وحده هو الذي انفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتال والنصر مضافا إليه وبه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِين} . قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا فقال له: "قاتل به"، فهزه فعاد في يده سيفا طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ..................................................................   قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] ، إذ هو الذي أهلكهم وأماتهم، وقيل: قتلهم بتمكينكم منهم، وقيل: بالملائكة الذين أمدكم بهم، حكاهما القرطبي، ولم يقل إذ قتلتموهم، كما قال: إذ رميت لمشاركة الملائكة لهم في قتلهم بخلاف الرمي فلم يشاركه صلى الله عليه وسلم فيه أحد. "ثم قال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ، فأخبر أنه تعالى وحده هو الذي تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم ولكن وجه الإشارة بالآية أنه سبحانه وتعالى أقام أسبابا تظهر للنا، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصر مضافا إليه" صلوات الله وحاصلا بفعله، ولا يرجع الضمير للأسباب لتذكيره، وبه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 150] الآية، كما قال في الكتاب المبين. "قال" محمد "بن إسحاق" بن يسار إمام المغازي: "وقاتل عكاشة" بضم العين وشد الكاف وتخفف "ابن محصن" بكسر الميم وفتح الصاد، ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء ومثلثة، "الأسدي" ممن يدخل الجنة بغير حساب، كما في الصحيحين. "يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا" بكسر الجيم وفتحها وسكون الدال المعجمة واحد الأجذال وهي أصل الحطب، قال الشامي: والمراد هنا العرجون بضم المهملة أصل العذق بكسر العين الذي يفرج وينعطف ويقطع منه الشماريخ فيبقى على النخلة يابسا، "فقال له: "قاتل به" يا عكاشة، فأخذه منه "فهزه فعاد في يده سيفا طويل القامة شديد المتن" أي: الظهر من إضافة الوصف إلى فاعله، أي: شديدا متنه، أو المراد بالمتن هنا الذات تسمية للكل باسم جزئه، "أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون" بفتح المهملة وإسكان الواو وبالنون، قاله البرهان وتبعه الشامي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده. وجاءه عليه الصلاة والسلام يومئذ -فيما ذكره القاضي عياض عن ابن وهب- معاذ بن عمرو يحمل يده، ضربه عليها عكرمة، فبصق عليه الصلاة والسلام عليها فلصقت. قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.   "ثم لم يزل" السيف "عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل وهو عنده" في قتال أهل الردة زمن الصديق قتله طليحة بن خويلد الأسدي، وروى الواقدي: حدثني أسامة بن زيد الليثي عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الأشهل، قالوا: انكسر سيف سلمة بن أسلم بن الحريس يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه فأعطاه صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: اضرب به فإذا سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيد، ورواه البيهقي أيضا الحريس بفتح المهملة وكسر الراء وسين مهملة، قاله البرهان محتجا بقول الزبير: ليس في الأنصار حريش بمعجمة غير الحريش بن حجبي، وما سواه بالمهملة وضبطه الشامي بالمعجمة، وأعزل بفتح الهمزة وسكون المهملة فزاي، وابن طاب بمهملة فألف فموحدة نوع من تمر المدينة نسب إلى ابن طاب رجل من أهلها، وجسر أبي عبيد كان سنة أربع عشرة. "وجاءه عليه الصلاة والسلام يومئذ" أي: يوم بدر "فيما ذكره القاضي عياض عن" عبد الله "بن وهب" بن مسلم الفهري مولاهم المصر الحافظ الإمام الزاهد من أجله الناس وثقاتهم ورجال الجميع، مات في شعبان سنة سبع وتسعين ومائة، "معاذ بن عمرو" قلد في ذلك اليعمري وانتقده محشيه البرهان بأن الذي في الشفاء معوذ بن عفراء، "يحمل يده ضربه عليها عكرمة" ابن أبي جهل أسلم بعد الفتح وقلد في ذلك اليعمري أيضا، ورده محشيه بأن الذي في الشفاء أن القاطع لها أبو جهل، "فبصق عليه الصلاة والسلام" بالصاد والزاي، أي: أخرج ريقه ورمى به "عليها فلصقت" بكسر الصاد وفيه علم من علم من أعلام النبوة باهر، نعم روى ابن إسحاق، ومن طريقه الحاكم عن ابن عباس، قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة سمعتهم يقولون: وأبو جهل في مثل الحرجة أبو جهل يخلص إليه فجعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، قال: فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخه حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها. "قال ابن إسحاق" في بقية ذا الحديث الذي ذكرته: "ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وعن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: لما أمر صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب، فطرحوا فيه، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها، فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. وإنما ألقوا في القليب ولم يدفنوا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن ......................................................   رضي الله عنه ولم يذكر في حديثه هذا أنه أتى بها المصطفى فتوهم اليعمري وتبعه المصنف أن كلام القاضي فيه فوهما؛ لأنها قصة أخرى، كما علم. والحرجة بفتح المهملة والراء الجيم وتاء تأنيث: شجر ملتف، كالغيصة، قاله في النهاية، وفي حواشي أبي ذر: الشجرة الكبيرة الأغصان، وفي العين: الحرجة الغيضة أطنت قدمه أسرعت قطعها، مرضخه بضاد وخاء معجمتين، كما في النهاية وفي الصحاح أنه بحاء مهملة أيضا، وأجهضني بجيم وهاء معجمة: شغلني، واشتد علي. "و" روى ابن إسحاق: حدثني يريد بن رومان "عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها" قالت: "لما أمر صلى الله عليه وسلم بالقتلى" أي: بعظمائهم "أن يطرحوا في القليب" ففي الصحيح عن أنس عن أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقدموا في طوى من إطواء بدر خبيث مخبث. وعند ابن عائذ: ببضعة وعشرين. قال الحافظ: ولا تنافي فالبضع يطلق على الأربع أيضا، قال: ولم أقف على تسمية الأربع والعشرين جميعهم بل تسمية بعضهم، ويمكن إكمالهم ممن سرده ابن إسحاق من قتلى الكفار ببدر بأن يقتصر على من كان يذكر بالرئاسة ولو تبعا لأبيه. وفي حديث البراء في الصحيح أن قتلى بدر من الكفار سبعون، فكان المطروحين في القليب الرؤساء منهم، ثم من قريش وخصوا بالمخاطبة الآتية لما تقدم منهم من المعاندة وطرح باقي القتلى في أمكنة أخرى، وأفاد الواقدي أن هذا القليب كان حفره رجل من بني النار، فناسب أن يلقى فيه هؤلاء الكفار. "فطرحوا فيه" بالفاء في جواب لما على رأي ابن مالك أو زائدة على رأي الجمال بن هشام، لكن الثابت عند ابن إسحاق بدون فاء فهي زائدة من قلم المصنف أو نساخه، "إلا ما كان من أمية بن خلف فإن انتفخ في درعه فملأها" أي: الدرع لأنها مؤنثة عند الأكثر، "فألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة" قال السهيلي الله في الروض "وإنما ألقوا في القليب" لأنه كان من سنته عليه السلام في مغازيه إذ مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا، كذا وقع في السنن للدارقطني فإلقاؤهم في القليب من هذا الباب. "ولم يدفنوا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم. وفي الطبراني عن أنس بن مالك قال: أنشأ عمر بن الخطاب يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس من بدر، يقول: "هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله" قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى إليهم ...............................................................   يأمرهم بدفنهم، فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم" قال: ووافق أن القليب حفره رجل من بني النار اسمه بدر، فكان فألا مقدما لهم وهذا على أحد القولين في بدر، انتهى كلامه السهيلي برمته، ولا يرد على قوله؛ لأنه كان من سنته أن بدرا أول مغازيه التي وقع فيها القتل، لجواز أن المراد أنها طريقته التي كان يحبها في نفسه ويميزها على غيرها، ففعل ما سهل عليه في بدر، ثم داوم على ما يحبه في بقية مغازيه. "وفي الطبراني عن أنس بن مالك": روى أحمد بسند صحيح عنه أنه سئل: هل شهدت بدرا؟ فقال: وأين أغيب عن بدر. قال الحافظ في الفتح: وكأنه كان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما ثبت عنه أنه خدمه عشر سنين، وذلك يقتضي أن ابتداء خدمته له حين قدومه المدينة، فكأنه خرج معه إلى بدر أو مع عمه زوج أمه أبي طلحة، وقال في الإصابة: إنما لم يذكروه في البدريين؛ لأنه لم يكن في سن من يقاتل. "قال: أنشا" بفتح أوله وهمزة أخره، أي: أبتدأ "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه "يحدثنا عن أهل بدر، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرين مصارع أهل بدر بالأمس من بدر" وهذا ظاهر في أنه كان ليلا، وبه صرح الحافظ، فقال: وقع هذا في الليلة التي التقوا في صبيحتها، كما مر، وإن في رواية أخبر بذلك قبل الواقعة بيوم أو أكثر. وفي أخرى: يوم الواقعة، وجمع ابن كثير بأنه لا مانع أن يخبر بذلك في الوقتين وعلى أنه أراهم ليلا فيمكن أنه مراد رواية يوم الواقعة بإطلاق اليوم على ما يقرب منه الليل، ولا ينافيه قوله: "يقول: "هذا مصرع فلان" لجواز أن قوله ذلك ليلا وحينئذ فقوله "غدا" مستعمل في حقيقته "إن شاء الله" ويقع في أكثر النسخ. وفي الطبراني عن أنس بن مالك، قال: أنشا، فظاهره أن الحديث من مسند أنس وإنه شهد تحديث المصطفى بذلك، والذي في الطبراني إنما هو عن أنس عن عمر، كما سقناه، وكذا أخرجه مسلم بنحوه عنه عن عمر وتلك النسخ، فيها سقط، ويدل عليه قوله: "قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما أخطئوا الحدود التي حدها صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم" غاية لمحذوف، صرح به في حديث أبي طلحة عند البخاري عقب قوله الذي قدمته قريبا عنه: خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فقال: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟! فإني وجدت ما وعدني الله حقا". وفي رواية فنادى: "يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل هشام"   براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، فقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، "فقال: "يا فلان بن فلان" جوز في النور ضم فلان وفتح ابن وفتحهما وضمهما، قال: وذكر الثالث في التسهيل، انتهى. فضم الأول على الأصل وفتحه على الإتباع لفتحه ابن، واختاره البصريون والمبرد لخفته، وضمهما قال الدماميني على التسهيل: رواه الأخفش عن بعض العرب، قال: وكأن قائله راعى أن التابع ينبغي أن يتأخر عن المتبوع، ولم يراع أن الأصل الحامل على الإتباع قصد التخفيف. وفي التصريح حكى الأخفش: أن بعض العرب يضم الابن إتباعا لضم المنادى نظير الحمد لله بضم اللام في تبديل حركة بأثقل منها للإتباع وفي كون ذلك من كلمتين وفي تبعية الثاني للأول لكنه مخالف في كونه إتباع معرب لمبني، والحمد لله بالعكس. "ويا فلان بن فلان" كناية عن علم مذكر لعاقل، وأنثاه فلانة بزيادة تاء، وزادوا أل في علم ما لا يعقل فرقا بينه وبين العاقل، لكن في الهمع: إنه وقع في الحديث بغير لام فيما لا يعقل. أخرج ابن حبان والبيهقي وأبو يعلى عن ابن عباس، قال: ماتت شاة لسودة، فقالت: يا رسول الله فلانة تعني الشاة. "هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا" وفي رواية عن أنس: إن وقوفه على شفة الركي ومناداته لهم بذلك كان ليلا، وشفة الركي طرف البئر. وللكشميهني: شفا بفتح المعجمة والفاء مقصور حرفه، والركي بفتح الراء وكسر الكاف وشد الياء: البئر أن تطوى والإطواء جمع طي، وهي البئر التي طويت وبنيت بالحجارة لتثبت ولا تنهار. قال الحافظ: ويجمع بأنها كانت مطوية فاستهدمت فعادت كالركي. "وفي رواية" أخرجها ابن إسحاق وأحمد ومسلم وغيرهم، عن أنس: "فنادى: "يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام" فسمى أربعة من الأربعة والعشرين الذين ألقوا في القليب. قال الحافظ: ومن رؤساء قريش ممن يصح إلحاقه بمن سمي عبيدة والعاصي والدا أبي أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية، وحنظلة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي وهؤلاء من بني عبد مناف. ومن سائر قريش: نوفل بن عبد، وزمعة وعقيل ابنا الأسود، والعاصي بن هشام أخو أبي جهل، وأبو قيس بن الوليد أخو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وفي بعضه نظر؛ لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب لأنه كان -كما تقدم- ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه. لكن يجمع بينهما بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم. قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا أهل القليب: بئس العشيرة كنتم، كذبتموني وصدقني الناس". فقال عمر بن الخطاب: كيف تكلم أجسادا لا أروح فيها، ............................   خالد، ونبيه ابنا الحجاج السهمي، وعلي بن أمية بن خلف، وعمرو بن عثمان عم طلحة أحد العشرة، ومسعود بن أبي أمية أخو أم سلمة، وقيس بن الفاكه بن المغيرة، والأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة، وأبو العاصي بن قيس بن عدي السهمي، وأمية بن رفاعة، فهؤلاء عشرون تنضم إلى الأربعة فتكمل العدة، انتهى. "وفي بعضه نظر؛ لأن أمية بن خلف لم يكن في القليب؛ لأنه كان كما تقدم ضخما وانتفخ فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيبه" وقد أخرج ذلك ابن إسحاق حديث عائشة، كما مر. "ولكن" قال الحافظ في الفتح: "يجمع بينهم بأنه كان قريبا من القليب فنودي فيمن نودي لكونه كان من جملة رؤسائهم،" وخصت الرؤساء بالمخاطبة لما تقدم منهم من المعاندة، كما مر عن الحافظ فتخصيصهم زيادة في إذلالهم. "قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل العلم أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "يا أهل القليب! بئس العشيرة" أنتم، فالمخصوص بالذم محذوف "كنتم" ولفظ ابن إسحاق: بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، "كذبتموني وصدقني الناس" وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فجزاكم الله عني من عصابة شرا خونتموني أمينا وكذبتموني صادقا، إلى هنا رواية ابن إسحاق، وهو مرسل أو معضل. وذكر ابن القيم في الهدي، أنه قال ذلك قبل أن يأمر بطرحهم في القليب، فإن كان مراده خصوص رواية ابن إسحاق هذه فمحتمل، ولا يرد قوله: "يا أهل القليب" لأنه سماهم أهله باعتبار الأول، وإلا فحديث أبي طلحة في الصحيح يرد عليه فإن صرح بأنه أمر بطرحهم فلما كان اليوم الثالث قام على شفا الركي فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائه: "يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان 1 أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" قال -أي أبو طلحة: فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، وفي بقية رواية الطبراني التي قدمها المصنف عن أنس، "فقال عمر بن الخطاب" مستفهما: "كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ " وفي رواية مسلم: فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا". وتأولت عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم إنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم الحق. ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية، فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، لقولها: إنهم الآن ليعلمون.   أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ ويقول الله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] الآية، "فقال" صلى الله عليه وسلم، زاد في رواية الصحيحين: "والذي نفسي بيده "، "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" بل هم أسمع منهم، قال الحافظ: بآذان رءوسهم على قول الأكثر، أو بآذان قلوبهم، انتهى. وإن صدق النفي بالمساواة لغة، لكن خصه الاستعمال بأن المنفي عنه الحكم أقوى في ثبوت مدلوله ممن فضل عليه، ويؤيده رواية: "ما أنتم بأفهم لقولي منهم" ويؤيد المساواة قوله عند الطبراني بسند صحيح من حديث ابن مسعود: "يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون"، "غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا" هذه رواية الطبراني، ولفظ رواية مسلم: "لكن لا يستطيعون أن يجيبوا"، أي: لعدم الإذن لهم في إجابة أهل الدنيا، كقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} هذا هو الأصل، فلا يقدح فيه ما اتفق من كلام بعض الموتى لبعض الأحياء لاحتمال الآذان لذلك البعض، "وتأولت عائشة رضي الله عنها ذلك، فقالت: إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم" من استعمال المضارع بمعنى الماضي، أي: ليعلمون أن ما قلت لهم فيما مضى من التوحيد والإيمان وغيرهما هو "الحق، ثم قرأت" مستدلة لما ذهب إليه: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} الآية،" وهذه عبارة اليعمري، والذي في الصحيح عن عروة عن ابن عمر، قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر، فقال: "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا" ثم قال: "إنهم الآن ليسمعون ما أقول"، فذكر لعائشة فقالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق"، ثم قرأت {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} حتى قرأت الآية "فقولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا" أي في حالة استقرارهم في النار وغيرها خلاف قول عروة في البخاري، تقول: أي عائشة حين تبوءوا مقاعدهم من النار، قال الحافظ: مراده أن يبين مراد عائشة فأشار إلى أن الإطلاق في إنك لا تسمع الموتى مقيد باستقرارهم في النار، وعلى هذا فلا معاوضة بين إنكار عائشة وإثبات ابن عمر لكن قولها يدل على أنها كانت تنكر ذلك مطلقا، "لقولها" إن الحديث إنما هو بلفظ "إنهم الآن ليعلمون" وأن ابن عمر وهم في قوله: ليسمعون. ا. هـ. فالمصنف أسقط من كلام الحافظ ما يبين الإطلاق فتحير شيخنا فيه، فقال: لعله في أهل القليب وغيرهم أولا بحالهم ولا بأحيائه في قبورهم وإنما يحيون بعد البعث، انتهى. قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وقال قتادة: أحياهم الله تعالى توبيخا وتصغيرا، ونقمة وحسرة. وفيه رد على من أنكر أنهم يسمعون، كما روي عن عائشة رضي الله عنها. ومن الغريب، أن في المغازي -لابن إسحاق- من رواية يونس بن بكير، بإسناد جيد عن عائشة حديثا وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". وأخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن. فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار، لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة.   البيهقي: والعلم لا يمنع السماع والجواب عن الآية أنهم لا يسمعون وهم موتى، "و" لكن أحياهم حتى سمعوا كما "قال قتادة" بن دعامة فيما رواه البخاري عنه عقب حديث أبي طلحة السابق "أحياهم الله تعالى" زاد الإسماعيلي، بأعيانهم، وأسقط المصنف من قول قتادة: حتى أسمعهم قوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري قبل قوله: "توبيخا وتصغيرا" قال الحافظ: الصغار الذلة والهوان "ونقمة" بكسر النون وسكون القاف كما في الناصرية، وفي حاشية اليونينية بفتح النون وكسر القاف، قال المصنف. "وحسرة" وندما كما هو بقية قول قتادة في البخاري: أي لأجل التوبيخ فالمنصوبات للتعليل، "وفيه" أي قول قتادة هذا "رد على من أنكر أنهم يسمعون" لأنه أثبت سماعهم غايته أنه بعد الإحياء "ما روي عن عائشة رضي الله عنها" إنكار ذلك، وفي التعبير بروي شيء لأنه في الضعيف وهذا ثابت عنها في الصحيح، ولذا عبر الحافظ بلفظ كما جاء عن عائشة، "ومن الغريب" أي خلاف المشهور عنها "أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد،" أي مقبول كما قال السيوطي وللقبول يطلقون جيدا "عن عائشة رضي الله عنها حديثا" مثل حديث أبي طلحة السابق كما في الفتح، "وفيه: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم". "وأخرجه الإمام أحمد" عنها "بإسناد حسن فإن كان" ذلك "محفوظا" عن عائشة، "فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة" الذين رووا القصة وهم فصحاء عارفون بمواقع الكلام كيف وهم عمرو بن مسعود وعبد الله بن سيلان بكسر المهملة وسكون التحتية أخرج أحاديثهم الطبراني وأبو طلحة وابن عمر أخرجهما البخاري وغيره، "لكونها لم تشهد القصة" وهؤلاء شهدوها إلا ابن عمر وابن سيلان، فأما ابن عمر فاستصغر يوم بدر كما في الصحيح. وأما ابن سيلان فلم يذكر فيمن شهدوها فأرسلا ذلك عن غيرهما ومرسل الصحابي حكمه الوصل وهو حج كما تقرر وهذا كما هو ظاهر إنما هو على رواية الصحيح عن عائشة أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وقال الإسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله، يدل على نسخه أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون"؛ لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وأما جوابها بأنه إنما قال: "إنهم ليعلمون"، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية "يسمعون" بل يؤيدها.   المصطفى إنما قال: "إنهم الآن ليعلمون" أما على ما قدمه المصنف أنها تأولت إنما أراد لنبي إلخ، فلا يتأتى هذا فإن نفي الإرادة لا ينافي أنه قاله بل التأويل فرع الثبوت، اللهم إلا أن يكون المراد أنها رجعت عن إنكارها بقاء اللفظ على ظاهره، وأن تأويله واجب وأبقته على ظاهره والمحوج لهذا التعسف عدول المصنف عن رواية الصحيح عنها إلى عبارة اليعمري كما مر، ثم أفتى بكلام الحافظ في شرح الصحيح. "وقال الإسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء" سرعة الفطنة، كما في القاموس "وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه" أتى بذلك تأدبا وتمهيدا للاستدراك لئلا يتوهم غبي منه أنه لم يعرف مقامها، "لكن لا سبيل" طريق "إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله" في كونه رواية عن الثقة أيضا "يدل على نسخه أو تخصيصه" ويصار لهما بالواية "أو استحالته" عطف على بنص أو على نسخه والأول أقرب وتدرك بالعقل والثلاثة منتفي هنا، "فكيف" يصار إلى إنكارها مع انتفاء الثلاثة، "والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن" وذلك "لأن قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهم الآن يسمعون" لأن الإسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" ولم يسمعهم المصطفى فحصل التوفيق بين الآية والحديث. "وأما جوابها بأنه إنما قال: "إنهم ليعلمون"، فإن كانت" بنته على فهمها الآية فقد علمت أن لا تنافي، وإن كانت "سمعت ذلك" من النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أو غيره لأنا لم تشهد القصة، "فلا تنافي رواية: "يسمعون" إذ العلم لا يمنع السماع "بل تؤيدها" لأن علم المخاطب في العادة إنما يكون بما يسمعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا؟! فأجابهم بما أجابهم. قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك إما بآذان رءوسهم إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد، أو إلى بعضه عند المسألة، وهو قول أكثر أهل السنة، وإما بآذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال على الروح من غير رجوع إلى الجسد أو بعضه.   "وقال السهيلي ما محصله: أن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك" من الله "لنبيه صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له" كما رواه مسلم في حديث أنس عن عمر: "أتخاطب أقواما قد جيفوا" بفتح الجيم وشد الياء، أي صاروا جيفا منتنين كما تفيده النهاية وغيرها وضبطه شيخنا في النسخ الصحيحة خلاف ما في بعضها من ضبطه بالبناء للمجهول، فإنه أمر بالضرب عليه وأثبت فتح الجيم كما قلنا "فأجابهم بما أجابهم" أجمله ليأتي على كل الروايات فيما أجابهم به، وإلى هنا ما تصرف فيه على السهيلي، ولذا احتاج أن يقول ما محصله: ولفظه في الروض: عائشة لم تحضر وغيرها ممن أحضر أحفظ للفظة صلى الله عليه وسلم، وقد قالوا له: يا رسول الله! أتخاطب أقواما قد جيفوا؟ فقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، "وقال" السهيلي تلو هذا ما لفظه: "وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين" كما أثبتته عائشة "جاز أن يكونوا سامعين" كما أثبته عمر وابنه وأبو طلحة وغيرهم إذ لا فرق وأيضا فالعلم لا يمنع السماع كما قال البيهقي، "وذلك إما بآذان رءوسهم" على قول الأكثر، وأما بآذان قلوبهم هذا ما نقله الحافظ عن محصل كلام السهيلي وتبعه المصنف في الشر والشامي ولم ينقلوا ما زاده هنا عنه بقوله: "إذا قلنا إن الروح تعاد إلى الجسد" كله "أو إلى بعضه عند المسألة وهو قول أكثر أهل السنة. وأما بآذان القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال على الروح من غير رجوع إلى الجسد أو بعضه" ولعلهم حذفوه من كلامه لإشكاله لأنه إذا قيل: لا تعاد الروح لشيء من الجسد لزم أن لا يكون السماع بإذن القلب، فالمناسب أن يقول: أما بآذان رءوسهم أو قلوبهم إذا قلنا ... إلخ، اللهم إلا أن يكون لم يرد بالقلوب الشكل الصنوبري بل الأحوال القائمة به فيحصل بها الإدراك كما قال غير واحد في معنى القلب. وفي الفتح قال السهيلي: وقد تمسك بهذا الحديث من قال السؤال يتوجه على الروح والبدن ورده من قال: إنما يتوجه على الروح فقط بأن الأسماع لأذن الرأس لا لأذن القلب، فلم يبق فيه حجة. قلت: إذا كان الذي وقع حينئذ من خوارق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم لم يحسن التمسك به في مسألة السؤال أصلا، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 قال: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها احتجت بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 22] وهذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي} [الزخرف: 40] أي إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت. وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالأموات وهم أحياء وبالصم، فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء، لا نبيه ولا أحد، فإذًا لا تعلق بالآية من وجهين: أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان. والثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو، يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير .........................   "قال" السهيلي: "وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها احتجت بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} وفي الصحيح أنها احتجت أيضا بقوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} ، "و" لا حجة فيه؛ لأن "هذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْي} ، أي أن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت" وإن أوصلتها إلى آذان الرءوس، "وجعل الكفار أمواتا" في {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} صريحا، و {أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} استلزاما "وصما" في {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} ، "على جهة التشبيه بالأموات وهم أحياء، وبالضم فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء لا نبيه ولا أحد، فإذًا لا تعلق بالآية من وجهين، أحدهما: أنها إنما نزلت" أي: وردت "في دعاء الكفار إلى الإيمان" فهو مجاز "والثاني" لو حملت على الحقيقة لم يكن فيها معارضة وذلك "أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير" إلى هنا انتهى كلام السهيلي، كما يعلم من رؤية روضه لا كما زعمه من قال الفصل بأي في قوله: أي إن الله..إلخ، مشعر بأنه ليس من كلامه بل هو كله كلامه، وأتى بأي ليفسر المراد بالآية، وهذا ظاهر جدا، يعني: فحمل الحديث على أنه أسمعهم كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينافي الآية. وفي فتح الباري اختلف أهل التأويل في المراد بالموتى وبمن في القبور، فحملته عائشة على الحقيقة وجعلته أصلا احتاجت معه إلى تأويل الحديث، وهذا قول الأكثر. وقيل: هو مجاز والمراد بالموتى وبمن في القبور: الكفار شبهوا بالموتى وهم أحياء، والمعنى: من هم في حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 ولقد أحسن العلامة ابن جابر حيث قال: بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله ... كواكب في أفق الكواكب تنجلي وجبريل في جند الملائك دونه ... فلم تغن أعداد العدو المخذل رمى بالحصى في أوجه القوم رمية ... فشردهم مثل النعام بمجهل   الموتى أو في حال من سكنوا القبور، وعلى هذا لا يبقى في الآية دليل على ما نفته عائشة، والله أعلم. "ولقد أحسن العلامة" أبو عبد الله محمد بن أحمد بن علي، "بن جابر" فنسهب لجد أبيه لاشتهاره به الأندلسي الأعمى صاحب شرح الألفية الشهير بالأعمى والبصير، "حيث قال: بدا" ظهر صلى الله عيه وسلم "يوم بدر، وهو كالبدر" الواو للحال "حوله، كواكب" رجال كالكواكب في الظهور والإشراق تشبيه بليغ بحذف الأداة أو استعارة "في أفق" بسكون الفاء على إحدى اللغتين للوزن، أي: في ناحية "الكواكب" أو فيما يظهر من نوحي الفلك التي هي مطلع الكواكب ومظهرها، أو في مهب الرياح. ففي القاموس: الأفق بضمة وبضمتين الناحية جمعه آفاق أو ما ظهر من نواحي الفلك، أو هي مهب الجنوب والشمال والدبور والصبا، انتهى. وفي نسخ المواكب بميم، وكذا أنشده الشامي، وقال: جمع موكب، أي: بكسر الكاف وهو جماعة ركاب يسيرون برفق وهم أيضا القوم الركاب للزينة والتنزه، "تنجلي" تظهر وتتميز ع غيرها "وجبريل في جند" أعوان وأنصار "الملائك" من إضافة الأعم إلى الأخص: أي: جندهم الملائك جمع ملك ويجمع أيضا على ملائكة، "دونه" أي: أمامه صلى الله عليه وسلم، وفرع على ما أثبته له ولصحبه من كثرة الملائك المناصرين له قوله: "فلم تغن" بالفوقية "أعداد" بفتح الهمزة جمع عدد، أي: كثرة "العدو" أي: الأعداء. ففي القاموس: العدو ضد الصديق للواحد والجمع، ويحتمل قراءة يغن بتحتية وكسر همزة إعداد مصدر أعد الشيء هيأه، أي: لم تعن تهيئة العدو والسلاح وغيره شيئا "المخذل" اسم مفعول من خذله تخذيلا إذا حمله على الفشل وترك القتال، كما في المصباح، يعني: إن شدة المسلمين وقوتهم في أعينهم حملتهم على ذلك حتى انهزموا وتمكن المسلمون من قتلهم وأسرهم، "رمى بالحصى في أوجه القوم رمية، فشردهم" طردهم وبدد جمعهم، وفي حديث عمر عند الطبراني: لما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف، يقول {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر} [البقرة: 45] الآية، ورماهم فوسعتهم الرمية وملأت أعينهم حتى إن الرجل ليقتل وهو يقذى عينيه وفاه "مثل النعام" حال كونه "بمجهل" بفتح الميم والهاء بينهما جيم ساكنة، قال القاموس: أرض مجهل كمقعد لا يهتدى فيها ولا يثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وجاد لهم بالمشرفي فسلموا ... فجاد له بالنفس كل مجندل عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع ... حديثهم في ذلك اليوم من علي هم عتبوا بالسيف عتبة إذ غدا ... فذاق الوليد الموت ليس له ولي وشيبة لما شاب خوفا تبادرت ... إليه العوالي بالخضاب المعجل وجال أبو جهل .............   ولا يجمع، انتهى. وأما قوله: إنا لنصفح عن مجاهل قومنا، فمعناه زلاتهم الحاملة لنا على الجهل وهو جمع مجهل ما يحمل على الجهل وزعم ابن سيدة أنه اسم للأرض ورد بأنه لا يصح إذ لا يتأتى الصفح عن الأراضي إلا بتعسف. وفي نسخة المجفل بشد الفاء، أي: المبالغ في طرده وله ما يهتدي إليه، وفي أخرى بمجفل بفاء ساكنة دون أل، أي: بمحل يطرد منه والأولى أبلغ في المقام، "وجادلهم" من المجادلة خاصمهم وضاربهم، أو من الجود تهكما، أي: سمح لهم "بالمشرفي" بفتح الميم والراء: السيف نسبة لمشارف بالفاء، وهي كما في الصحاح وغيره: قرية من أرض العرب تدنو من الريف "فسلموا، فجاد" سمح "له بالنفس" وسلم فيها قهرا عليه، "كل مجندل" مصروع مطروح على الأرض، ولم يقل متجدل للوزن. وفي نسخ: كل مجدل بشد الدال، وهي أولى. ففي المصباح: جدته تجديلا ألقيته إلى الجدالة وطعنه فجدله، "عبيدة" بضم أوله ابن الحارث المطلبي، "سل عنهم و" سل "حمزة" الهاشمي "واستمع، حديثهم في ذلك اليوم من علي" بن أبي طالب، وخصهم لأنهم الذين برزوا لعتبة وشيبة والوليد الذين طلبوا المبارزة وأظهروا من أنفسهم الشدة، وخص عليا بالاستماع منه؛ لأنه عاش وروى الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف عبيدة، فاستشهد يومئذ، وحمزة ثاني عام، وزعم أنه على القدر، وهو المصطفى خلاف الظاهر المتبادر بل يأباه قوله: "هم عتبوا" بفوقية مخففا ومشددا للمبالغة، أي: ضربوا "بالسيف عتبة" بن ربيعة وهو مجاز عن اللوم أو مضمن معنى القطع، "إذ غدا" أتى مبادرا لطب البراز "فذاق" هو وابنه "الوليد الموت ليس له ولي" ناصر "وشيبه لما شاب" رأسه ولحيته "خوفا" من الخوف، كناية عن الحزن الذي أصابه بحيث حصل منه الشيب في غير أوان، "تباردت، إليه العوالي" جمع عالية، وهي السنن من القنا "بالخضاب المعجل" المنساق سريعا، والمعنى: أنهم أسالوا دمه بالرماح فشبهه بخضاب الحناء، واستعار له اسمه تهكما، "وجال" دار في مكن الحرب يظهر شدته، "أبو جهل"، فكان يقول في جولاته: ما تنقم الحرب العوان مني ... بازل عامين حديث سني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ......... فحقق جهله ... غدة تردى بالردى عن تذلل وأضحى قليبا في القليب وقومه ... يؤمونه فيه إلى شر منهل وجاءهم خير الأنام موبخا ... ففتح من أسماعهم كل مقفل وأخبر ما أنتم بأسمع منهم ... ولكنهم لا يهتدون لمقول سلا عنهم يوم السلا إذا تضاحكوا ... فعاد بكاء عاجلا لم يؤجل ألم يعلموا علم اليقين بصدقه ... ولكنهم لا يرجعون لمعقل   كما مر. "فحقق جهله،" فعمل بمقتضاه فقتله الله شر قتلة، "غداة" حين "تردى بالردى" الهلاك شبهه بالرداء فأثبت له ما هو من لوازمه، فقال: تردى، أي: تسربل "عن تذلل" هوان وحقارة "وأضحى قليبا" أي: صار ملقى "في القليب" حين جر وطرح فيه "وقومه، يؤمونه" يقصدونه "فيه" ويسيرون به "إلى شر منهل" مورد وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي عبر به عن النار التي وردوها تهكما واستهزاء، "وجاءهم خير الأنام" صلى الله عليه وسلم "موبخا" لائما لهم حيث وقف ونادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقل: "يا أهل القليب! بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم"، إلى آخر ما مر. "ففتح من أسماعهم كل مقفل" مغلق من قولهم أقفلته إقفالا فهو مقفل، يعني: أنهم كانوا في غفلة وإعراض لما عليها من الختم المانع من حلول الحق فيها وأزيل بعد الموت، فعلموا الحق عيانا، كما أرشد لذلك صلى الله عليه وسلم قوله: "فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا" فوصل خطابه إلى أسماعهم على أكمل حالات السماع. "وأخبر" عليه السلام من سأله مستفهما كيف تكلم أجسادًا لا أرواح فيها، بقوله: "ما أنتم بأسمع" لما أقول "منهم"، بل هم أسمع أو مساوون، على ما مر، "ولكنهم لا يهتدون لمقول" كمنبر، أي: لقول الجواب إذ هو إشارة لقوله عليه السلام: "غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا"، "سلا عنهم"، فعل أمر لاثنين على عادة الشعراء من فرض اثنين يخاطبونهما "يوم" وضع "السلا" بفتح السين وعاء جنين البهيمة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في صلاته عند الكعبة بإشارة عدو الله أبي جهل "إذ تضاحكون" مال بعضهم على بعض من الضحك، وثبت عليه السلام ساجدا حتى ألقته عنه فاطمة الزهراء "فعاد" ضحكهم "بكاء عاجلا لم يؤجل" ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات وغيره ذلك، وقد مر شرح القصة مبسوطا في أوائل المبعث، "ألم يعلموا" استفهام تقريري، أي: قد علموا الآن "علم اليقين" ما يتيقن "بصدقه، ولكنهم لا يرجعون" لا يتمكنون من الرجوع، "لمعقل" ملجأ يخلصهم مما أصابهم، والمعنى، قد علموا صدقه فيما مضى علم اليقين، بما شاهدوه من الآيات البينات الشاهدات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 فيها خير خلق الله جاهك ملجئي ... وحبك ذخري في الحساب وموئلي عليك صلاة يشكل الآل عرفها ... وأصحابك الأخيار أهل التفضل وحكى العلامة ابن مرزوق أن ابن عمر رضي الله عنهما مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فلما اجتاز به ناداه: يا عبد الله، قال ابن عمر، فلا أدري أعرف اسمي أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبد الله، فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبد الله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر. ورواه الطبراني في الأوسط.   بصدقه، كما في شعر أبي طالب: لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... يقينا ولا يعزى لقول الأباطل ولكنهم لم يرعووا وفعلوا ما فعلوا لعدم رجوعهم لملجأ يهتدون بما، وإنما اتبعوا الفخر والكبر. "فيا خير خلق الله جاهك ملجئي، وحبك ذخري" بضم الذال اعتمادي "في" يوم "الحساب وموئلي" مرجعي "عليك صلاة يشمل الآل عرفها" رائحتها الذكية، "و" يشمل "أصحابك الأخيار أهل التفضل" بالنفس والمال. "وحكى العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" التلمساني المتوفى في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة بمصر، ودفن بين ابن القاسم وأشهب مر بعض ترجمته أوائل الكتاب، "أن ابن عمر" عبد الله "رضي الله عنهما مر مرة ببدر فإذا رجل يعذب ويئن" من وجع العذاب، "فلما اجتاز به ناده: يا عبد الله! قال ابن عمر: فلا أدري أعرف اسمي أم كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه عبد الله" على عادة العرب نظرا إلى المعنى الحقيقي؛ لأن الجميع عبيد الله، "فالتفت إليه، فقال: اسقني فأردت أن أفعل" أي: اسقيه، "فقال: الأسود" ولم يقل الملك "الموكل بتعذيبه" لاحتمال أنه لم يعلم بأنه ملك؛ لأنه إنما رأى شخصا فيجوز أنه عبد سلط عليه أو حيوان على صورته أو علم إنه ملك، ولكن عبر بالأسود تفظيعا له، "لا تفعل" لا تسقه "فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر" هو أبو جهل، فإن هذا الذي حكاه ابن مرزوق قد رواه الطبراني وابن أبي الدنيا وابن منده وغيرهم، عن ابن عمر قال: بينما أنا سائر بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسله فناداني: "يا عبد الله! اسقني" فلا أدري أعرف اسمي أو دعاني بدعية العرب، وخرج رجل من تلك الحرة في يده سوط، فناداني: يا عبد الله، لا تسقه فإنه كافر، ثم ضربه بالسوط فعاد إلى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته بذلك، فقال لي: "قد رأيته"؟ قلت: نعم، قال: "ذاك عدو الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قال: ومن آيات بدر الباقية، ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون هيئة الطبل طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأنه الموضع لعله صلب فتستجيب فيه حوافر الدواب، وكان يقال لي: إنه دهس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفافها لا تصوت في الأرض الصلبة، فكيف بالرمال؟ قال ثم لما من الله عليه بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف، نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان، ........................................   وروى ابن أبي الدنيا عن الشعبي: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه حتى يغيب في الأرض ثم يخرج، فيفعل به مثل ذلك ففعل ذلك مرارا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة"، كذلك والرجل الذي أبهمه الشعبي، الظاهر أنه ابن عمر ويحتمل أنه غيره فيكون الرائي لأبي جهل تعدد. "قال" أي: ابن مرزوق في شرح البردة: "ومن آيات بدر" أضافها إليها لترتبها على غزوتها فهي لأدنى ملابسة "الباقية" على مدى الأزمان، وبه صرح الإمام المرجاني، فقال: وضربت طبل خانة النصر ببدر فهي تضرب إلى يوم القيامة، ونقله الشريف في تاريخيه وأقره، والشامي وأقره "ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع" أي: بدر، "يسمعون هيئة الطبل طبل ملوك الوقت ويرون" يعتقدون "أن ذلك لنصر أهل الإيمان، قال: وربما أنكرت ذلك وربما تأولته بأن الموضع صلب" بضم فسكون، أي: شديد لا سهولة فيه "فتستجيب" تجيب "فيه حوافر الدواب" أي: تقابل بصوت يشبه تصويتها في الأرض وهو الصدى الذي يجيب بمثل الصوت في الجبال وغيرها، "وكان يقال لي: إنه دهس" بمهملتين: سهل ليس يرمل ولا ترا ولا طين، كما في الصحاح والقاموس. زاد في نسخة: "رمل" أي: أنه للينه يشبه المكان الذي به الرمل أو استعمل دهس في مجرد كون الأرض لينة لا تقتضي سماع الصوت، فقال: رمل "غير صلب" صفة كاشقة، "وغالب ما يسير هناك الإبل وأخفاقها لا تصوت في الأرض الصلبة فكيف بالرمال" فانتفى تأويلك "قال: ثم لما من الله علي بالوصول إلى ذلك الموضع المشرق" المضيء "نزلت عن الراحلة أمشي وبيدي عود طويل من شجر السعدان" بفتح المهملة، قال في القاموس: نبت من أفضل مراعي الإبل ومنه مرعى ولا كالسعدان وله شوك يشبه حلمه الثدي "المسمى بأم غيلان" بكسر المعجمة ولعله عند العوام فلا ينافي ما رأيت عن القاموس، وفيه أيضا: وأم غيلان من شجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وقد نسب ذلك الخبر كنت أسمع، فما راعني وأنا أسير في الهاجرة إلا واحد من عبيد الأعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل، فأخذتني -لما سمعت كلامه- قشعريرة بينة وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان في الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت، وقلت: لعل الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي أوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدي، وجلست على الأرض، أو وثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا، أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل، وذلك من ناحية اليمين ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا إلى بدر، فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع، المرة بعد المرة. قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس، انتهى.   السمر، "وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمع فما راعني وأنا أسير في الهاجرة" شدة الحر "إلا واحد" فاعل راعني؛ لأن الاستثناء مفرغ "من عبيد الأعراب الجمالين" وفي نسخة: إلا وواحد، بواوين لكن الفاعل لا يقترن بالواو فإن صحت ففيه حذف، أي: إلا أمر عرض لي وواحد، بواوين لكن الفاعل لا يقترن بالواو فإن صحت ففيه حذف، أي: إلا أمر عرض لي وواحد، فاللعطف تفسيري أو خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو واحد أو مبتدأ أخبره "يقول: أتسمعون الطبل فأخذتني لما" حين "سمعت" أو اللام اللتعليل، أي: لسماعي "كلامه قشعريرية" بضم القاف وفتح الشين "بينة" قوية لا تلبس بغيرها "وتذكرت ما كنت أخبرت به وكان في الجو بعض ريح، فسمعت صوت الطبل وأنا دهش" متحير "مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به" يعني حصل له حالة لم يتحقق ما هي حتى يعبر عنها، "فشككت وقلت لعل الريح سكنت في هذا العود الذي في يدي أوجدت مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقيق لهذه لآية العظيمة، فألقيت العود من يدي وجلست على الأرض، أو وثبت قائما أو فعلت جميع ذلك" شك فيما حصل له حين أخبر، "فسمعت صوت الطبل سماعا محققا أو صوتا لا أشك فيه أنه صوت طبل وذلك من ناحية اليمن ونحن سائرون إلى مكة المشرفة لم نزلنا بدر إلى فظللت" بكسر اللام الأولى وإسكان الثالثة، "أسمع ذلك الصوت يومي أجمع" بالنصب تأكيد ليومي، "المرة بعد المرة" بالنصب على الحال، أي: متتابعا جميع يومه من ابتداء سماعه من الهاجرة فاستعمل اليوم في بقيته مجازا، "قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس، انتهى" كلام ابن مرزوق. قال صاحب الخميس: ولما نزلت بدرا سنة ست وثلاثين وتسعمائة وصليت الفجر يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 وروى الطبراني من حديث أبي اليسر، أنه أسر العباس، وقيل للعباس -وكان جسيما- كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم، ولو شئت لجعلته في كفك، فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني كالخندمة ..................................   الأربعاء أوائل شعبان، وأقمنا يوما، ابتكرت نحوذ لك الصوت يجيء من كثيب ضخم طويل مرتفع كالجبل شمالي بدر، فطلعت أعلاه وتتابع الناس لسماعه، وكانوا زهاء مائة من رجال ونساء، فما سمعت شيئا، فنزلت أسلفه فسمعت من سفح الكثيب صوتاكهيئة الطبل الكبير سماعا محققا بلا شك مرارا متعددة وسمعه الناس كلهم، كما سمعت، وكان الصوت يجيء تارة من تحتنا ثم ينقطع، وتارة من خلفنا ثم ينقطع، وتارة قدامنا، وتارة من شمالنا، فسمعنا سماعا محققا وكان الوقت صحوا رائفا لا ريح فيه، انتهى. ولما ذكر ما أراد من الغزوة، في ذكر الأساري، فقال: "وروى الطبراني" والبزار "من حديث أبي اليسر" بفتح التحتية والسين المهملة وبالراء كعب بن عمرو الأنصاري السلمي بفتحتين مشهور باسمه وكنيته، شهد العقبة وبدرا والمشاهد، ومات سنة خمس وخسمين بالمدينة. وقول ابن إسحاق كان آخر من مات من الصحابة كأنه يعني أهل بدر، كما في الإصابة. "أنه أسر العباس" بن عبد المطلب رضي الله عنه. أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني عرفت أن رجلا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما خرج مستكرها". فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف فبلغه صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: "يا أبا حفص"، قال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه بأبي حفص "أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله بالسيف"، فقال عمر: يا رسول الله! دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقولك ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فاستشهد يوم اليمامة رضي الله عنه. "وقيل للعباس وكان جسيما" جميلا وسيما أبيض له ضفيرتان معتدلا. وقيل: طويلا والقائل ابنه. ففي رواية الطبراني وأبي نعيم عن ابن عباس، قال: قلت لأبي "كيف أسرك أبو اليسر وهو دميم" بدال مهملة قبيح المنظر صغير الجسم، "ولو شئت" أن تجعله في كفك، "لجعلته في كفك" فالمفعول محذوف دل عليه الجواب. وفي رواية البزار: ولو أخذته بكفك لوسعته، "فقال:" زاد البزار: يا بني لا تقل ذلك، "ما هو إلا أن لقيته فظهر في عيني" بالتثنية أو الإفراد مرادا به الجنس، "كالخندمة" وفي رواية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وهي بالخاء المعجمة -جبل من جبال مكة، قاله في القاموس. ولما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم، فبلغ الأنصار، فأطلقوا العباس، فكأن الأنصار فهموا رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه، وسألوه ..................................   أبي نعيم: لقيني وهو في عيني أعظم من الخندمة، وهذا قاله جوابا لسائله: كيف أسرك مع صغره وضعفه عنك جدا، وفي السياق إشعار بأنه بعد معرفة أبي اليسر؛ لأن السائل له ابنه ولم يشهد بدرا فلا تعارض بينه وبين ما في مسند أحمد في حديث طويل عن علي، فجاء رجل من الأنصار بالعباس أسيرا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس أبلق ما أره في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، فقال صلى الله عليه سلم: "اسكت فقد أيدك الله بملك كريم"؛ لأن هذا قاله أول ما رأى أبا اليسر بصورة خلقته، فنفى أن يكون أسره لأنه إنما رأى وقت الأسر الصورة التي وصفها في الملك، وفي أبي اليسر كالخندمة، ولذا قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اسكت" إلى آخره، إشارة إلى أنه لم يستقل بأسره، وقوله: "أنا أسرته رد لإنكار أسره من أصله، فلا يعارض ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأله: "كيف أسرته"؟ فقال: "قد أعانني الله عليه ملك كريم". "وهي" أي: الخندمة "بالخاء المعجمة" المفتوحة والنون الساكنة والدال المهملة المفتوحة فميم فتاء تأنيث "جبل من جبال مكة" شرفها الله تعالى، "قاله في القاموس" والعيون وغيرهما، ويقع في نسخ من جبال تهامة بدل مكة وهو وإن صح في نفسه؛ لأن مكة بعض تهامة غير صحيح للعزو فالذي في القاموس مكة لا تهامة، "ولما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه" كما روى ابن عائذ في المغازي من طريق مرسل أن عمر لما ولي "وثاق" بالفتح والكسر: ما يوثق ويشد به، "الأسري شد وثاق العباس" رجاء إسلامه وإلا فقد علم تغيظ المصطفى ممن قال: لألجمنه السيف، "فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم فبلغ الأنصار" يحتمل من عمر "فأطلقوا العباس" كما جاء عن ابن عمر: لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم العباس وعدته الأنصار أن يقتلوه فبلغ رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه"، قال عمر: أفآتيهم، قال: "نعم"، فأتاهم فقال: أرسلوا العباس، فقالوا: والله لا نرسله، فقال عمر: فإن كان لرسول الله رضا، قالوا: فإن كان لرسول الله رضا فخذه، فأخذه عمر فلما صار في يده، قال له: يا عباس، أسلم فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك، "فكأن الأنصار فهموا" بقرائن أو من تصريح عمر "رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه" ففكوه، "وسألوه" أي: سأل بعض الأنصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 أن يتركوا له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم. وفي حديث أنس عند الإمام أحمد: استشار عليه الصلاة والسلام الناس في الأسرى يوم بدر فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم"، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، ...........................................................   المصطفى، والمذكور في الفتح عقب رواية ابن عائذ لفظه، فكان الأنصار لما فهموا رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفك وثاقه سألوه، "أن يترك له الفداء طلبا لتمام رضاه فلم يجبهم" كما أخرج البخاري من حديث ابن شهاب: حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال: "والله لا تذرون منه درهما"، قال الحافظ: وأم العباس ليست من الأنصار بل جدته أم عبد المطلب هي الأنصارية فسموها أختا لكونها منهم، وعلى العباس ابنها لأنها جدته وهي سلمى بنت عمر والخزرجية، قال: وإنما لم يجبهم؛ لأنه خشي أن يكون فيه محاباة لكونه عمه لا لكونه قريبهم من النساء، وفيه أيضا إشارة إلى أن القريب لا ينبغي له أن يتظاهر بما يؤذي قريبه، وإن كان في الباطن يكره ما يؤذيه، ففي ترك قبول ما تبرع له الأنصار به من الفداء تأديب لمن يقع منه مثل ذلك، انتهى. أو للتسوية بينهم حتى لا يبقى في نفوس أصحابه الذين لهم أقارب أسرى شيء بسبب مسامحته وأخذ الفداء منهم. "وفي حديث أنس عند الإمام أحد استشار عليه الصلاة والسلام الناس في الأسرى يوم بدر" أي: زمنه "فقال: "إن الله قد أمكنكم" وفي نسخة: "مكنكم" وهما بمعنى "منهم" أسقط من رواية أحمد عن أنس: "وإنما هم إخوانكم بالأمس" "فقام عمر" ظاهره أنه تكلم قبل أبي بكر، وفي حديث عمر عند مسلم إن أبا بكر تكلم قبل عمر، ولفظه: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلي، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضدا، فقال: "ما ترى يا عمر"؟ قال: والله ما أرى ما رأى أبو بكر .... الحديث مطولا. وأخرجه بنحوه أحمد والترمذي وغيرهما، عن ابن مسعود وابن مردويه عن ابن عباس ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم استشار الناس عموما وخصوصا. فلما خص تكلم أبو بكر قبل عمر، ولما عم، بادر عمر في الجواب على عادته في الشدة في دين الله تعالى، "فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم" أمر أو مضارع ويؤيد الأول رواية مسلم والجماعة بلفظ: ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فاضرب عنه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا مودة للمشركين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 فأعرض عنه عليه السلام، ثم عاد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد أمكنكم منهم". فقال عمر: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه السلام، فعل ذلك ثلاثا، فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله، أرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم، فعفا وقبل منهم الفداء ...........................................................   هؤلاء أئمة الكفر وصناديد قريش وأئمتهم وقادتهم، فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى فإنما نحن راعون مؤلفون، "فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام" لما جبل عليه من الرأفة والرحمة في حالة إيذائهم له، فكيف في حال قدرته عليهم؟ "ثم عاد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم" فيه ترقيقهم عليهم واستعطافهم؛ لأن العفو بعد القدرة من شيم الكرام، "فقال عمر: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام، ففعل ذلك ثلاثا" وما تغير عمر عن رأيه، "فقام أبو بكر الصديق" رضي الله عنه "فقال: يا رسول الله أرى أن تعفو عنهم" بفتح الهمزة والواو، أي: فلا تقتلهم، هكذا في نسخ صحيحة، "وأن تقبل منهم الفداء" بالفتح أيضا، أي: رأى عدم القتل استبقاء للقرابة ورجاء لإسلامهم مع أخذ الفداء مراعاة للجيش ليقووا على الكفار، وفي نسخة: أن تعف بحذف الواو فالهمزة فيهما مكسورة والجواب محذوف، أي: أن تعف مجانا فلا بأس إذ هم بنو العم والعشيرة، وإن تقبل مهم الفداء فلا بأس لأنا نستعين به، ودعوى أنها أليق بأدب الصديق مع المصطفى، فلا، ينسب لنفسه أمرا مردودة بأنه لكل مقام مقال، والمقام هنا بيان الرأي الذي طلبه المصطفى خصوصا مع مخالفة عمر وإعراضه عنه، وأيضا فالكسر يقتضي أنه خيره في العفو مجانا والأحاديث تأباه، كيف وقد صرح الصديق في رواية مسلم، بقوله: أرى أن تأخذ منهم الفدية. وفي رواية الترمذي وغيره: استبقهم وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم. "فذهب من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان" ظهر "فيه من" التغير الدال على "الغم" من قول عمر وهوى ما قال أبو بكر "فعفا عنهم" فلم يقتلهم "وقبل منهم الفداء" فلم يسترقهم ولم يضرب عليهم جزية هذا، ولم يذكر عن علي جواب مع أنه أحد الثلاثة المستشارين، كما في مسلم؛ لأنه لما رأى تغير المصطفى حين اختلف الشيخان عليه لم يجب، أو لم تظهر له مصلحة حتى يذكرها، ولهذا لما ظهر لعبد الله بن رواحة الجواب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد تخصيص الثلاثة، قال -كما رواه الترمذي والجماعة: يا رسول الله! أنظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك. وفي رواية: ثكلتك أمك، فدخل صلى الله عليه وسلم بيته فقال أناس: يأخذ بقول عمر، وأناس بقول أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 قال: وأنزل الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية ..................................................   بكر، وأناس بقول ابن رواحة، ثم خرج فقال: "إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين ن اللبن، وإن الله ليشدد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة كمثل ميكائيل ينزل بالرحمة ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيم} [إبراهيم: 36] الآية. ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية. ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله، ومثلك في الأنبياء مثل نوح، إذ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] الآية، ومثلك في الأنبياء مثل موسى، إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] الآية، لو اتفقتما ما خالفتكما أنتم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق"، فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله! إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخاف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إلا سهيل بن بيضاء" "قال: وأنزل الله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَق} بإحلال الغنائم والأسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 68، 69] "الآية" يريد: واتقوا الله إن الله غفور رحيم، وهذه رواية أحمد عن أنس، وفي روايته وهو الترمذي والحاكم عن ابن مسعود، فنزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلى آخهر الآيات. وفي رواية مسلم عن عمر فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هوى أبو بكر ولم يهو، ما قلت: فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة" لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] الآية. وفي رواية: إن كاد ليسمنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن لخطاب، زاد في رواية: وسعد بن معاذ، أي: لأنه كره يوم الوقعة والأسر وأحب الإثخان، كما مر ولم يقل وابن رواحة لأنه أشار بإضرام النار وليس بشرع، وهذه من جملة موافقات عمر المنتهية إلى نحو الثلاثين، وتحدث عمر ببعضها من باب وأما بنعمة ربك فحدث، فقال كما في الصحيح: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، ومقام إبراهيم، وفي أسارى بدر، واستشكل هذا كله بأنه وافق رأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 ويأتي الكلام عليها في النوع العاشر في إزالة الشبهات من الآيات المشكلات من المقصد السادس إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عباس، افد نفسك وابني أخيك، عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو". قال: إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني. قال: "الله أعلم بما تقول، إن يكن ما تقول حقا فإن الله يجزيك، ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا". وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم .....................................................   المصطفى ولا أجل منه ولا أسد من رأيه. "ويأتي الكلام عليها في النوع العاشر في إزالة الشبهات عن الآيات المشكلات من المقصد السادس إن شاء الله تعالى" في نحو ورقة بما يشفي ويكفي. وفي فتح الباري هنا اختلف السلف، في أي الرأيين كان أصوب، فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر؛ لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الواقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له، الرحمة, وأما من رجح الرأي الآخر فتمسك بما وقع من العتاب على أخذ الفداء وهو ظاهر، لكن الجواب عنه أنه لا يدفع حجة الرجحان عن الأول بل ورد للإشارة إلى ذم من آثر شيئا من الدنيا على الآخرة، ولو قل قال. وروى الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن علي، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خير أصحابك في الأسرى إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عاما مقبلًا مثلهم، قالوا: الفداء ويقتل منا، انتهى. ورواه، ابن سعد من مرسل عبيد، وفيه فقالوا: بل نفاديهم فنقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون ففادوهم. "وأخرج ابن إسحاق من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم، قال" هذا من مراسيل الصحابة،؛ لأن ابن عباس لم يشهد ذلك بل كان صغيرا مع أمه بمكة فكأنه حمله على أبيه أو غيره، "يا عباس افد" بفتح الهمزة وكسرها "نفسك وابني أخيك عقيل" بفتح العين وكسر القاف "ابن أبي طالب ونوفل بن الحارث" أكبر ولد عبد المطلب، "وحليفك عتبة بن عمر، وقال: إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني" بسين للتأكيد أو زائدة، "قال الله أعلم بما تقول إن يكن ما تقول حقا فإن الله يجزيك" الثواب الأخروي والدنيوي، "ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا" وشريعتنا العمل بالظاهر لا بما في نفس الأمر، وفيه رد على من قال: لو كان مسلما ما أسروه ولا أخذوا منه الفداء، "وذكر موسى بن عقبة أن فداءهم" أي: الأسرى لا العباس ومن ذكر معه، فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 كان أربعين أوقية ذهبا. وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس أنه جعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ} [الأنفال: 70] فقال العباس: وددت لو كنت أخذت مني أضعافه لقوله تعالى: {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُم} [الأنفال: 70] .   ينافي ما بعده، أي: كل واحد منهم "كان أربعين أوقية ذهبا" وقال قتادة: كان فداء كل أسير أربعة آلاف. وفي العيون: كان الفداء من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف درهم، وعارضه في النور بما في أبي داود والنسائي عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم جعل فداءهم يوم بدر أربعمائة، قال: فبينهما تفاوت كبير، انتهى. وروى ابن سعد من مرسل الشعبي، قال: كان صلى الله عليه وسلم يفاديهم على قد أموالهم، وكان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه، وهذا يمكن أن يجمع به بين الأقوال، ومن ثم قال في الشامية: ومنهم من عليه؛ لأنه لا مال له. "وعند أبي نعيم في الدلائل بإسناد حسن من حديث ابن عباس، أنه" قال: كان فداء الرجل أربعين أوقية، هذا أسقطه المصنف من الدلائل. والأوقية أربعون درهما فمجموع ذلك ألف وستمائة درهم، قال: وجعل لى العباس مائة أوقية، وعلى عقيل ثمانين أوقية" وبما أسقطه من الدلائل، أو كأنه اكتفى بما قبله عن موسى وإن كان لا يليق لأنه دليله، أو عم يتضح قوله: "فقال له" صلى الله عليه وسلم "العباس: اللقرابة صنعت هذا؟ " يعاتبه، إذ مقضتى القرابة التخفيف، وقد شددت وأخذت منا أزيد مما أخذ من غيرنا، وإنما فعل النبي صل الله عليه وسلم ذلك لثروة العباس حتى لا يكون في الدين محاباة، وقد كان يفاديهم على قدر أموالهم. وقيل: جعل عليه أربعمائة أوقية. وقيل: أربعين أوقية من ذهب، "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى} [الأنفال: 70] "الآية،" هذا يفيد أن سبب النزول خاص واللفظ عام، لكن في الشامية: قال جماعة له صلى الله عليه وسلم منهم العباس: إنا كنا مسلمين وإنما خرجنا كرها، فعلام يؤخذ منا الفداء فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال: 70] ، أي: إيمانا وإخلاصا {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] من الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة، زاد في رواية: فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد. وفي لفظ: أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا: ستة من المهاجرين، .................................   به، أي: يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة، أي: لقوله تعالى: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] الآية. وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، قال: قال العباس: في والله نزلت حين أخبرت رسول اله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقية التي وجدت معني، فأعطاني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي في يده مع ما أرجو من مغفرة الله. وفي الصحيح عن أنس: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين، فقال: "انثروه في المسجد"، وكان أكثر مال أتى به، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جلس إليه فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه إذ جاءه العباس، فقال: أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، فقال له: "خذ" فحثا في ثوب ثم ذهب يقله فلم يستطيع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه إلي، قال: "لا"، قال: فارفعه أنت علي، قال: "لا"، فنثر منه ثم احتمله فألقاه على كاهله ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز، فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرص، فما قام صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم. وعند ابن أبي شيبة: أن المال كان مائة ألف، وهذا كله صريح في أنه لم يفد إلا نفسه وعقيلا، قيل وفدى نوفلا لقوله صلى الله عليه وسلم: "فادِ نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا"، ولما أسلم نوفل آخى بينه وبين العباس، ذكره ابن إسحاق. وقيل: بل فدى نوفل نفسه، فقد روى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال لنوفل: "أفد نفسك"، قال: ليس لي مال أفتدي به، فقال: "أفد نفسك بأرماحك التي بجدة"، قال: والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحا غير الله، أشهد أنك رسول الله، وفدى نفسه بها وكانت ألف رمح. ويمكن الجمع بأنه أمر العباس قبل أن يعلم أن لنوفل مالا فلما أعلمه الله بذلك أمر نوفلا بفداء نفسه ويؤيد ذلك قول العباس في الصحيح: فاديت نفسي وعقيلا ولم يذكر نوفلا وصدر السهيلي بأن نوفلا أسلم عام الخندق، وهاجر ومات بالمدينة سنة خمس عشرة وصلى عليه عمر. "وكان قد استشهد يوم بدر من المسلمين أربعة عشر رجلا" قيل: وأسهم لهم صلى الله عليه وسلم "ستة من المهاجرين" عبيدة بن الحارث المطلبي قطعت رجله في المبارزة، فمات بالصفراء فدفنه صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: مات بالروحاء. ومهجع بكسر الميم وإسكان الهاء وفتح الجيم وعين مهملة، مولى عمر. قال ابن إسحاق: وابن سعد كان أول قتيل من المسلمين وأول من جرح، قتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه، وقال صلى الله عليه وسلم يومئذ: "مهجع سيد الشهداء". وروى الحاكم عن واثله رفعه: "خير السودان لقمان وبلال ومهجع" قاله البرهان. ونقل بعض مشايخي أنه أول من يدعى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وثمانية من الأنصار، ستة من الخزرج، ....................................................   من شهداء هذه الأمة. وعمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص الزهدي ذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم رده لأنه استصغره فبكى عمير، فلما رأى بكاءه أذن له في الخروج فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، قتله العاصي بن سعيد، قاله السهيلي. وفي الإصابة: يقال قتله عمرو بن عبدود العامري، وعاقل -بعين وقاف- ابن البكير بالتصغير الليثيي. وجزم ابن حبان بأنه مات سنة ثلاثين، والواقدي وتبعه أبو أحمد والحاكم بأنه مات ثمان وثلاثين، وقيل: مات في طاعون عمواس، ذكره في الإصابة. وذو الشمالين عمير، وقيل: الحارث، ويقال: عمرو بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي وكان أعسر، وقيل: اسمه خلف بن أمية وهو غير ذي اليدين، فإن اسمه الخرباق، كما في مسلم ابن عمرو السلمي. قال العلماء: وهم الإمام ابن شهاب على جلالته، وتبعه ابن السمعاني، فقال: إنهما واحد، وخالفه غيره وجعلوهما اثنين، فإن ذا اليدين عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى أبو هريرة أنه الذي نبه على السهو، وأبو هريرة إنما أسلم عام خيبر وذو الشمالين استشهد ببدر، نعم ذكر البرهان عن بعض الحفاظ أن ذا اليدين كان يقال له أيضا ذو الشمالين، وأنه ليس هذا المستشهد ببدر. "وثمانية من الأنصار، ستة من الخزرج" عوف بن عفراء، ذكر ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: "غمسه يده في القوم حاسرا فنزع درعا عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل". وشقيقه معوذ، قال في الفتح: بشد الواو وبفتحها معاذا استشهد ببدر أيضا لم يوافق عليه. وحارثة بن سراقة بحاء مهملة ومثلثة وكان في النظارة، أي: الذين لم يخرجوا لقتال فجاءه سهم غرب فوقع في نحره فقتله، فجاءت أمه الربيع -بضم الراء وفتح الموحدة وشد التحتية- فقالت: يا رسول الله! قد علمت مكان حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإلا فسترى ما أصنع!! فقال: "إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس"، كما في الصحيح، وقتله -كما في العيون: حبان بكسر المهملة وشد الموحدة، ابن العرقة بفتح المهملة وكسر الراء. ونقل الواقدي فتحها وفتح القاف فتاء تأنيث وهي أمة، وأبوه قيس. قال ابن إسحاق: وهو أول قتيل بعد مهجع، والروايات الصحيحة في البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم أن حارثة هذا قتل في بدر، ولم يختلف في ذلك أهل المغازي، وما في بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 واثنان من الأوس.   الروايات أنه قتل في أحد وإن اعتمده ابن منده أنكره أبو نعيم، كما أوضح ذلك في الإصابة. ويزيد بن الحارث بن قيس بن مالك، ورافع بن المعلى قتله عكرمة بن أبي جهل. وعمير بن الحمام، بضم المهملة وخفة الميم، ابن الجموح، ذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم خرج على الناس فحرضهم، فقال: "والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة"، فقال عمير بن الحمام، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل، وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد وقتله خالد بن الأعلم العلقمي. وروى مسلم عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قوموا إلى الجنة عرضها السموات والأرض"، فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: "عم"، قال: بخ بخ، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بخ بخ"؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "فإنك من أهلها"، فأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. قال ابن عقبة وهو أول قتيل قتل يومئذ، ومر قول ابن إسحاق وابن سعد: أولهم مهجع، وجمع في النور بأنه أول قتيل بسهم وعمير بغيره، أو من المهاجرين وعمير من الأنصار، ولا يعارضه ما حكاه ابن سعد: أول قتيل من الأنصار حارثة بن سراقة؛ لأنه أول قتيل من الفتيان، انتهى. وهو ظاهر لكن لا يعلم منه أول قتيل على الإطلاق. "واثنان من الأوس" سعدبن خيثمة أحد النقباء بالعقبة الصحابي ابن الصحابي، الشهيد ابن الشهيد، قيل: قتله طعمية بن عدي، وقيل: عمرو بن عبدود، واستشهد أبوه يوم أحد، ومبشر بن عبد المنذر، وقيل: إنما قتل بأحد. قال السمهودي في الوفاء: يظهر من كلام أهل السير أنهم دفنوا ببدر ما عدا عبيدة لتأخر وفاته، فدفن بالصفراء أو الروحاء، انتهى. وروى الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود، قال: إن الذين قتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسرح في الجنة، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربهم اطلاعه، فقال: يا عبادي ماذا تشتهون؟ فقالوا: يا ربنا هل فوق هذا من شيء؟ قال: فيقول: ماذا تشتهون؟ فيقولون في الرابعة: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قتلنا، موقوف لفظا مرفوع حكما؛ لأنه لا مدخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 تنبيه: لا يقدح في وعد الله تعالى أن استشهد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وإنما هذا الوعد كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فقد نجز الموعود وغلبوا كما وعدوا، فكان وعد الله مفعولا ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله. وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، ............................................   للرأي فيه، والله أعلم. تنبيه: "لا يقدح في وعد الله تعالى" للمسلمين بالظفر بقوله سبحانه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن} [الأنفال: 7] الآية، "إن استشهد هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم" لأنه وعدهم بالظفر بقريش وقد فعل ولم يعدهم أنه لا يقتل أحد منهم، فلا ينافي قتل هؤلاء، "إنما هذا الوعد، كقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية، إلى قوله {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] ،" حال، أي: منقادين أو بأيديهم لا يوكلون بها {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] الآية، أذلاء منقدون لحكم الإسلام، ووجه التشبيه أن هذه الآية دلت على أمرهم بالقتال حتى يتمكنوا من عدوهم بإذلالهم وأخذ الجزية إن لم يؤمنوا، وآية {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] الآية، تلد على الظفر بالأعداء من غير دلالة على عدم قتل أحمد منهم، "فقد نجز الموعود" به "وغلبوا" بالبناء للفاعل "كما وعدوا" بالبناء للمفعول "فكان وعد الله مفعولا"، أي: موعوده، "ونصره للمؤمنين ناجزا والحمد لله وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون" كما في حديث البراء عند البخاري وابن عباس، وعمر عند مسلم ووافقهم آخرون وبه جزم ابن هشام ونقله عن أبي عمر، وقال ابن كثير: وهو المشهور. قال الحافظ: وهو الحق وأن أطبق أهل السير على إن القتلى خمسون قتيلا يريدون قليلا أو ينقصون وأطلق كثير من أهل المغازي أنهم بضعة وأربعون، وسرد ابن إسحاق أسماؤهم فبلغوا خمسين. وزاد الواقدي ثلاثة أو أربعة، وسردهم ابن هشام فزادوا على الستين لكن لا يلزم من معرفة أسماء من قتل على التعيين أن يكونوا جميع من قتل، وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] الآية. اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أحد، وإن المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر، وبذلك جزم ابن هشام واستدل له بقول كعب بن مالك من قصيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وكان من أفضلهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، ...............................   فأقام بالعطن المعطن منهم ... سبعون عتبة منهم والأسود يعني عتبة بن ربيعة ومر من قتله، والأسود بن عبد الاسد المخزومي قتله حمزة، انتهى. وفي البخاري عن جبير بن مطعم: أنه صلى الله عليه وسلم قال في أساري بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له"، والنتنى بنون وفوقية كزمنى جمع نتن سماهم بذلك لكفرهم، كما في النهاية وغيرها، وبه جزم الحافظ. وقول المصنف: المراد قتلى بدر الذي صاروا جيف يرده قول الحديث في أسارى بدر، قال الحافظ: أي لتركتهم له بغير فداء. وبين ابن شاهين من وجه آخر أن سبب ذلك اليد التي كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حين رجع من الطائف ودخل في جواره، وقيل: اليد أنه كان من أشد القائمين في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم والمسلمين لما حصروهم في الشعب. وروى الطبراني عن جبير بن مطعم، قال: قال المطعم بن عدي لقريش: إنكم قد فعلتم بمحمد ما فعلتم فكونوا أكف الناس عنه، وذلك بعد الهجرة، ثم مات المطعم قبل وقعة بدر وله بضع وتسعون سنة. وذكر الفاكهي بإسناد مرسل أن حسان بن ثابت رثاه لما مات مجازاة له على ما صنع مع النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. ونقل ابن إسحاق رثاء حسان، وهو: عيني ألا أبكي سيد الناس واسفحي ... بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما وبكى عظيم المشعرين كليهما ... على الناس معروفا له ما تكلما فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده اليوم مطعما أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبى مهل وأحرما لو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما لقالوا هو الموفي بخفرة جاره ... وذمته يوما إذا ما تذمما فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم ... على مثله فيهم أعز وأعظما وأنأى إذا يأبى وألين شيمة ... وأنوم عن جار إذا الليل أظلما ورثاء حسان رضي الله عنه له وهو كافر لأنه تعداد المحاسن بعد الموت، ولا ريب في أن فعله مع المصطفى من أقوى المحاسن، فلا ضير في ذكره، وقد كفن المصطفى عبد الله بن أبي المنافق بثوبه مجازاة له على إلباس العباس قميصه يوم بدر، لما كان في الأساري. "وكان من أفضلهم العباس بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب" أسره عبيد بن أوس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وكل أسلم. وكان العباس -فيما قاله أهل العلم بالتاريخ- قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، وخرج مع المشركين يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها"،   الذي يقال له مقرن؛ لأنه قرن أربعة أسرى يوم بدر، قاله ابن هشام، وأسلم قبل الحديبية، ويقال: عام الحديبية "ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب" أسلم عام الخندق وهاجر، ويقال: بل أسلم حين أسر، قاله السهيلي. "وكل أسلم" رضي الله عنهم وهؤلاء من بني هاشم، وممن أسلم من الأسرى من سائر قريش: أبو العاصي بن الربيع زوج السيدة زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلم قبيل الفتح وأثنى عليه المصطفى في مصاهرته ورد عليه زينب. وأبو عزيز بفتح العين وكسر الزاي الأولى وإسكان التحتية، واسمه زرارة بن عمير أخو مصعب أسلم يوم بدر وله صحبة وسماع من النبي صلى الله عليه وسلم وقول الزبير بن بكار: قتل كافرا يوم أحد، رده ابن عبد البر بأن ابن إسحاق عد من قتل من الكفار من بني عبد الدار أحد عشر رجلا ليس فيهم أبو عزيز، وإنما فيهم يزيد بن عمير. وقال السهيلي: غلط الزبير فلا يصح هذا عند أحد من أهل الأخبار. وقد روى عنه نبيه بن وهب وغيره، ولعل المقتول بأحد كافرا أخ لهم غيره، انتهى. وقد علم من كلام أبي عمر أنه يزيد بن عمير فتوهم الزبير أنه اسم أبي عزيز فغلط، وإنما اسمه زرارة. وقد رى الطبراني في الكبير عنه، قال: كنت في الأسارى يوم بدر، فقال صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالأسارى خيرا" قال الحافظ الهيثمي: إسناده حسن، والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر بعد أن أسرى وفدى نفسه، نقله الذهبي عن أبي الطيب الطبري. وعدي بن الخيار، والسائب بن أبي حبيش، وأبو وداعة السهمي، وسهيب بن عمرو العامري أسلموا في فتح مكة، وخالد بن هشام المخزومي، وعبد الله بن السائب، والمطلب بن حنطب، وعبد الله بن أبي بن خلف أسلم يوم الفتح وقتل يوم الجمل، قاله أبو عمر، وعبد بن زمعة أخو سدوة، ووهيب بن عمير الجمحي، وقيس بن السائب المخزومي، ونسطائس مولى أمية بن خلف، ذكره السهيلي وقال: أسلم بعد أحد، والوليد بن الويد أسره عبد الله بن جحش فافتكوه وذهبوا به مكة فأسلم فحبسوه بها، فكان صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت فنجا وهاجر إلى المدينة فمات بها في الحياة النبوية. "وكان العباس فيما قاله أهل العلم بالتاريخ قد أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه" قال ابن عبد البر: وذلك بين في حديث الحجاج بن علاط، أن العباس كان مسلما يسره ما يفتح الله على المسلمين، ثم أظهر إسلامه يوم الفتح. "وخرج مع المشركين يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها" ولا ينافيه قوله عليه السلام له: "ظاهر أمرك كنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 ففادى نفسه ورجع إلى مكة. وقيل إنه أسلم يوم بدر، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بالأبواء، وكان معه حين فتح مكة، وبه ختمت الهجرة. وقيل أسلم يوم فتح خيبر. وقيل كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة، وكان إسلامه قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه عليه الصلاة والسلام: "إن مقامك بمكة خير لك". وقيل إن سبب إسلامه، أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: "أما شيء خرجت تستعين به   علينا"؛ لأن كونه عليهم في الظاهر لا ينافي أنه مكره في الباطن. "ففادى نفسه ورجع إلى مكة" فأقام بها على سقايته والمصطفى عنه راض "وقيل: أنه أسلم يوم بدر" ولكنه كتمه حتى تمكن من إظهاره، "فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بالأبواء" وأظهر إسلامه "وكان معه حين فتح مكة" فشهده وحنينا والطائف وثبت يوم حنين، "وبه ختمت الهجرة" كما قال عليه السلام. "وقيل: أسلم يوم خيبر" قبل فتحها، كما حكاه أبو عمر. "وقيل: كان يكتم إسلامه وأظهره يوم فتح مكة وكان إسلامه قبل بدر" وهذا حاصل القول الأول. "وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤده لإسلامه باطنا وعدم تمكنه من إظهاره، قال مولاه أبو رافع: لأنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان ذا مال، رواه ابن إسحاق. "فكتب إليه عليه الصلاة والسلام: "إن مقامك بمكة خير لك" لما علمه من ضياع عياله وأمواله لو تركهم وهاجر، ولأنه كان عونا للمسلمين المستضعفين بمكة. "وقيل: إن سبب إسلامه أنه خرج لبدر بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين" لأنه كان من الأغنياء المشهورين بالكرم، وكانوا يذبحو لهم الجزائر فلو لم يفعل لعيب عليه ونسب للبخل، ولذا نحر لهم، كما مر، فلا ينافي هذا أن خروجه مكرها ولا يصح هنا أن يقال لا ينافي ذلك إسلامه باطنا؛ لأن صاحب هذا القول لا يقول به إذ هو قائل بأنه إنما أسلم بوم بدر، وأن ذلك سبب إسلامه. "فأخذت منه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب" بضم السين: يعد "العشرين أوقية من فدائه فأبى، وقال: "أما شيء خرجت تستعين به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 علينا فلا نتركه لك"، فقال العباس: تركتني أتكفف قريشا، فقال له عليه السلام: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة"، فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، فقال: "أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله". ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من بدر في آخر رمضان وأول يوم من شوال، بعث زيد بن حارثة بشيرا فوصل المدينة ضحى، وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو   علينا" ظاهرا وإن كرهته باطنا، "فلا نتركه لك"، فقال العباس: تتركني أتكفف قريشا" أمد كفي إليهم بالمسألة أو أخذ الشيء منهم بكفي، كما في المصباح. وفي رواية: تتركني فقير قريش ما بقيت، "فقال له عليه السلام: "فأين الذهب" استفهام إنكاري "الذي دفعته إلى أم الفضل" لبابة الكبرى زوجه رضي الله عنهما، "وقت خروجك من مكة"؟ فقال العباس: وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي" فقال: أشهد أنك صادق، فإن هذا لم يطلع عليه إلا الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله" وهذا القول كالشرح للقول الثاني في كلامه. وفي رواية: فنزل في العباس: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 70] الآية، قال العباس: فأبدلني الله عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها، أي: بدلها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي. "ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من" جميع أمر "بدر في آخر" يوم من "رمضان، وأول يوم من شوال" قاله ابن إسحاق: وقد كان القتال يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان على أرجح الأقوال المتقدمة، وقول المقريزي في إمتاع الأسماع: أنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان مبني على أن الخروج منها كان لثلاث مضين من رمضان، "بعث زيد بن حارثة" حبه ومولاه "بشيرا" بما فتح الله عليه إلى أهل المسافلة وبعث عبد الله بن رواحة بشرا إلى أهل العالية، قاله ابن إسحاق وغيره. "فوصل المدينة" يوم الأحد "ضحى وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية" بضم الراء وفتح القاف وشد التحتية "بنت النبي صلى الله عليه وسلم" بعد دفنها بالبقيع، وهي ابنة عشرين سنة. وروى ابن المبارك عن يونس عن الزهري: أنها كانت قد أصابها الحصبة، قال ابن إسحاق: ويقال إن ابنها عبد الله بن عثمان مات بعدها سنة أربع من الهجرة وله ست "وهذا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 الصحيح في وفاة رقية. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية، فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال: "أيكم لم يقارف الليلة" فقال أبو طلحة أنا، فأمره أن ينزلها قبرها. وأنكر البخاري هذه الرواية، وخرج الحديث في الصحيح فقال فيه: عن أنس: شهدنا دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث ولم يسم رقية ولا غيرها. وذكر الطبري أنها أم كلثوم فحصل في حديث الطبري التبيين. ومن قال: كانت رقية فقد وهم.   الصحيح في وفاة رقية" كما قاله السهيلي وغيره. "وقد روي" عند البخاري في التاريخ الأوسط، والحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية فقعد على قبرها ودمعت عيناه، وقال: "أيكم لم يقارف"، بقاف وفاء، يجامع "الليلة" أهله، كما صرح به في رواية وقول فليح بن سليمان يعني الذنب خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذا، قاله السهيلي "فقال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "أنا فأمره أن ينزلها قبرها" زاد في رواية: فقبرها، ففيه إيثار بعيد العهد بالملاذ بمواراة المبيت ولو امرأة على الزوج، وعلل بأنه حينئذ يأمن أن يذكره الشيطان ما كان منه تلك الليلة، "وأنكر البخاري هذه الرواية" في تاريخه، فقال: ما أدري ما هذا فإن رقية ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر لم يشهدها، وهو وهم. قال الحافظ بن حماد في تسميتها فقط، "وخرج الحديث في الصحيح فقال فيه عن أنس: شهدنا دفن بنت النبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر الحديث" وهو: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وعيناه تدمعان، وقال: $"هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "أنزل قبرها" فنزل "ولم يسم رقية ولا غيرها. وذكر" أي: روى محمد بن جرير "الطبري" والطحاوي والواقدي وابن سعد والدولابي "أنها" أي: البنت التي شهد صلى الله عليه وسلم دفنها " أم كلثوم فحصل في حديث الطبري" والجماعة "التبيين و" إن "من قال كانت رقية فقد وهم،" بكسر الهاء غلط بلا شك، ووقع في مقدمة الفتح أن ابن بشكوال صحح أنها زينب، انتهى. لكنه لا يعادل رواية الجماعة. وفي التاريخ والمستدرك: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة" فتنحى عثمان. حكى ابن حبيب أنه جامع بعض جواريه تلك الليلة، قال ابن بطال: أحرم صلى الله عليه وسلم عثمان إنزالها في قبرها وكان أحق الناس لأنه بعلها لأنه لم يشغله الحزن بالمصيبة التي فقد فيها ما لا عوض لها منه وانقطاع صهره من النبي صلى الله عليه وسلم عن المقورفة، ولم يقل له شيئا؛ لأنه فعل حلالا، غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وكان عثمان رضي الله عنه قد تخلف لأجل رقية زوجته فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره. وأمر صلى الله عليه وسلم عند انصرافه عاصم بن ثابت -وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب- بقتل عقبة بن أبي معيط، فقتله ........................................................................   أن المصيبة مع عظمها لم تبلغ عنده مبلغا يشغله، فحرم ما حرم بتعريض دون تصريح ولعله عليه السلام كان قد علم ذلك بالوحي، انتهى. وقال الحافظ: لعل مرض المرأة طال واحتاج عثمان إلى الوقاع ولم يظن موتها تلك الليلة وليس في الحديث ما يقتضي أنه واقع بعد موتها ولا حين احتضارها، انتهى. "وكان عثمان رضي الله عنه قد تخلف" عن بدر "لأجل" مرض "رقية زوجته" بأمره صلى الله عليه وسلم ففي المستدرك: خلف النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وأسامة بن زيد على رقية في مرضها لما خرج إلى بدر، فماتت حين وصل زيد بالبشارة، "فضرب له" لعثمان "رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره" مع أحد عشر رجلا، كما مر، وجزم الخطابي وتبعه السيوطي بأن ذلك خاص بعثمان لما رواه أبو داود بإسناد صالح عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب لعثمان يوم بدر بسهم ولم يضرب لغائب غيره، والجواب: أن المراد غائب تخلف لأمر لا تعلق له بمصالح المسلمين ولم يمنعه العذر فلا يرد أولئك الذين ضرب لهم؛ لأن منهم من تخلف للعذر ومنهم للمصالح، كما مر بسطه. "وأمر صلى الله عليه وسلم عند انصرافه" من بدر "عاصم بن ثابت" بن أبي الأقلح بفتح الهمزة واللام بينهما قاف ساكنة وحاء مهملة آخره، واسمه قيس بن عصمة بن النعمان من السابقين الأولين من الأنصار، وأصحاب العقبة وبدر والعلماء بالحرب، كما أنزلت بالنص النبوي "وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب" لأمه، قال في الفتح: هذا وهم من بعض رواية عاصم بن ثابت حال عاصم بن عمر أن أم عاصم جميلة بنت ثابت أخت عاصم كان اسمها عاصية فغيرها النبي صلى الله عليه وسلم جميلة، انتهى. وعاصم بن عمر هذا، قال ابن عبد البر: مات النبي صلى الله عليه وسلم وله سنتا، وكان طوالا جسيما جميلا شاعرا، قال أخوه عبد الله: أنا وأخي عاصم لا نغتاب الناس، زوجه أبوه في حياته وأنفق عليه شهرا، ثم قال: حسبك، ومات سنة سبعين أو ثلاث وسبعين، ثم هذا قول ابن إسحاق. وقال ابن هشام. أمر علي بن أبي طالب "بقتل عقبة بن أبي معيط" أسير عبد الله بن سلمة بكسر اللام العجلاني، قال ابن إسحاق: فقال عقبة: يا محمد من للصبية؟ قال: "النار"، "فقتله" بعرق الظبية بكسر العين وسكون الراء المهملتين وقاف وبضم الظاء المعجمة وسكون الموحدة وفتح التحتية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 صبرا. ثم أقبل عليه الصلاة والسلام قافلا إلى المدينة ومع الأساري من المشركين، واحتمل النفل، وجعل عليه عبد الله بن كعب من بني مازن. فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين ...........................................................   فتاء تأنيث، مكان على ثلاثة أميال من الروحاء مما يلي المدينة، وثَمَّ مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكره الصغاني. وقال السهيلي: الظبية شجرة يستظل بها "صبرا" هو كل ذي روح يوثق حتى يقتل، كما في المصباح. ويروى أنه قال: يا معشر قريش، ما لي أقتل من بينكم صبرا؟ فقال عليه السلام: "بكفرك وافترائك على الله"، وإنه قال له: "لست من قريش، هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية"، وذلك لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام فوقع على يهودية لها زوج من صفورية فولدت ذكوان المكنى أبا عمرو وهو والد أبي معيط على فراش اليهودي، فاستلحقه بحكم الجاهلية، قال الإسماعيلي: وهذا الطعن خاص بنسب عقبة من بني أمية، وفي نسب أمية نفسه مقالة أخرى، وهي أن أم أمية يقال لها الزرفاء، واسمها أرنب كانت في الجاهلية من ذوات الرايات لكن قد عفا الله عن أمر الجاهلية ونهى عن الطعن في الأنساب، ولو لم يجب الكف عن نسب أمية إلا لموضع عثمان لكفى، انتهى. وفي معجم البكري: صفورية بفتح أوله وثم ثانيه المشدد وكسر الراء المهملة وخفة الياء: موضع من ثغور الشام، وفي الميزان روى أبو الهيثم عن إبراهيم التيمي مرسلا أنه عليه السلام صلب عقبة إلى شجرة وأبو الهيثم لا يدري من هو. "ثم أقبل عليه الصلاة والسلام قافلا" بقاف وفاء: "راجعا "إلى المدينة ومع الأساري من المشركين، واحتمل النفل" بفتح النون والفاء: الغنيمة والجمع الأنفال، "وجعل عليه عبد الله بن كعب" بن زيد بن عاصم "من بني مازن" بن النجار، كما قال ابن إسحاق. قال الواقدي: مات زمن عثمان سنة ثلاث وثلاين وكنيته أبو الحارث وتبع الواقدي المدائني وابن أبي خيثمة والعسكري وغيرهم، وأسقط ابن الكبي وابن سعد زيدا من نسبه وتبعهما البغوي وغيره، فجعلوا الكنية والوظيفة، أي: كونه على النفل والوفاة لعبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف من بني مازن بن النجار أيضا، كما في الإصابة والمصنف محتمل لهما؛ لأنه لم يسم جده فيحتمل أنه زيد وأنه عمرو. "فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل بين المسلمين" وقد كانوا اختلفوا فيه، كما رواه ابن إسحاق وغيره عن عبادة بن الصامت، فقال من جمعه: هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه: لولا نحن ما أصبتموه نحن شغلنا عنكم العدو فهو لنا، وقال الذين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وسلم لقد رأينا أن نقتل العدو حين منحنا الله أكتافهم، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 على السواء. وأمر عليا رضي الله عنه بالصفراء بقتل النضر بن الحارث.   لم يكن له من يمنعه ولكن خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو، فما أنتم بأحق به منا، فنزعه الله تعالى من أيديهم فجعله إلى رسوله وأنزل عليه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} [الأنفال: 1] الآية، فقسمه بينهم "على السواء" لفظ الرواية عن بواء بفتح الموحد وخفة والواو وبالمد، أي: على السواء، فأتى المصنف بمعناها؛ لأنه لم يتقيد بها، ورواه أبو عبيد عن فواق، وقال: معناه جعل بعضهم فوق بعض في القسم ممن رأى تفضيله أو يعني سرعة القسم من فواق الناقة. قال السهيلي: ورواية ابن إسحاق أشهر وأثبت عند أهل الحديث، انتهى. ويرد على تفسيره الأول للفواق ما جاء أن سعد بن معاذ، قال: يا رسول الله! أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف؟ فقال صلى الله عليه وسلم: $"ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائك"، "وأمر" صلى الله عليه وسلم "عليا رضي الله عنه بالصفراء" كما ذكره ابن إسحاق ومن لا يحصى، وغلط من قال بعرق الظبية؛ لأن ذاك إنما هو عقبة "بقتل النضر" بضاد معجمة "ابن الحارث" بن علقمة بن كلدة بفتحتين بن عبد مناف بن عبد الدر بن قصي هذا هو الصواب في نسبه، كما ذكره ابن الكلبي والزبير بن بكار وخلق لا يحصون، وغلط ابن منده وأبو نعيم فيه غلطين فاحشين، فقالا: كلدة بن علقمة، وأن النضر شهد حنينا، وأعطاه صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل وكان مسلم من المؤلفة قلوبهم وعزيا ذلك لابن إسحاق، وهو غلط، فالذي قاله ابن إسحاق وأجمع عليه أهل المغازي والسير، أنه قتل كافرا بعد بدر صبرا، وقد أطنب الحافظ العز بن الأثير وغيره من الحفاظ في تغليظهما والرد عليهما، لكن تعقب كما في الإصابة باحتمال أن يكون له أخ سمي باسمه، فهو الذي ذكرها لا هذا المقتول كافرا، انتهى. لكن إنما ينهض هذا الاحتمال لو وجد ما نسباه لابن إسحاق فيه، أما حيث لم يوجد فالمتبادر أنه غلط، كما قال الجماعة. نعم قال ابن عبد البر في كتاب المغازي: قد ذكر في المؤلفة النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة أخو النضر بن الحارث المقتول ببدر صبرا وذكر آخرون النضر بن الحارث فيمن هاجر إلى البحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة؛ لأنه ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، لا ممن يؤلف عليه. وفي قتله تقول قتيلة بضم القاف وفتح الفوقية وسكون التحتية وهي أخته في قول ابن هشام، وتبعه جمع منهم النووي واليعمري وبنته في قول الزبير بن بكار، وتبعه ابن عبد البر والجوهري والذهبي وغيرهم، قال السهيلي: وهو الصحيح وهو كذلك في الدلائل، وذكر أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأساري بيوم   عمر أنها أسلمت يوم الفتح وكانت شاعرة محسنة: يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبغ خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما أن تزال بها النجائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تحنق هل يسمعني النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضن كريمة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلينفقن ... بأعز ما يغلو به ما ينفق فالنضر أقرب من أسرت قرابة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق صبرا يقاد إلى المنية متعبا ... رسف المقيد وهو عان موثق فيقال إنه صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: "لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه". وفي رواية الزبير بن بكار: فرق صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه، وقال: "يا أبا بكر، لو سمعت شعرها ما قتلت أباها"، قال الزبير: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات، ويقول: إنها مصنوعة. قال ابن المنير: وليس معنى كلامه صلى الله عليه وسلم الندم؛ لأنه لا يقول ولا يفعل إلا حقا والحق لا يندم على فعله، ولكن معناه: لو شفعت عندي بهذا القول لقلبت شفاعتها، ففيه تنبيه على حق الشافعة والضراعة ولا سيما الاستعطاف بالشعر، فإن مكارم الأخلاق تقتضي إجازة الشاعر وتبليغه قصده، انتهى. والأثيل: بمثلثة مصغر أثل موضع. مظنة بفتح الميم وكسر المعجمة وفتح النون المشددة: تخفق تسرع، الواكف: السائل، تحنق بضم النون. والضن: الولد، معرى بفتح الراء وكسرها: العريق المغيظ بفتح الميم وكسر المعجمة وإسكان التحتية وظاء معجمة. وأقرب من أسرت، أي: من أقرب، وإلا فالعباس وغيره أقرب منه. "ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأسارى بيوم" فدخلها من ثنية الوداع، مؤيدا منصورا قد خافه كل عدو له بها وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، ودخل عبد الله بن أبي في الإسلام ظاهرا، وقالت اليهود تيقنا: إنها لنبي الذي نجد نعته في التوراة، ولكن من يضلل الله فلا هادي له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فلما قدموا فرقهم بين أصحابه وقال: "استوصوا بهم خيرا". وقد استقر الحكم في الأساري عند الجمهور أن الإمام مخير فيهم، إن شاء قتل إياهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسارى بدر، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الشافعي وطائفة من العلماء وفي المسألة خلاف مقرر في كتب الفقه والله أعلم. و .........................   "فلما قدموا فرقهم بين أصحابه، وقال: "استوصوا بهم خيرا" ذكره ابن إسحاق، وزاد: فكان أبو عزيز بن عمير شقيق مصعب بن عمير في الأساري، فقال: مر بي أخي ورجل من الأنصار يأسرني، فقال له: شد يديك به، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال: فكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا. "وقد استقر الحكم في الأسارى عند الجمهور أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل إياهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل ببعض أسرى بدر، كأبي العاصي بن الربيع زوج بنته زينب بعثت بقلادة لهاكانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى بها فلما رآها صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها فافعلوا"، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها، رواه أبو داود وغيره من حديث عائشة، وكذا من على المطلب بن حنطب وقد أسلم كأبي العاصي رضي الله عنهما، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبي عزة الجمحي وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدًا أبدا، فلم يفعل فقتله صلى الله عليه وسلم يوم أحد صبرا، "هذا مذهب الشافعي وطائفة من العلماء، وفي المسألة خلاف مقرر في كتب الفقه، والله أعلم" بالحق. وذكر أبو عبيد أنه صلى الله عليه وسلم لم يفد بعد بدر بمال إنما كان يمن أو يفادي أسيرا بأسير، قال السهيلي: وذلك والله أعلم، لقوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] الآية، يعني الفداء بالمال، وإن كان قد أحل ذلك وطيبه، ولكن ما فعله الرسول بعد ذلك أفضل من المن أو المفاداة بالرجال، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] الآية، كيف قدم المن على الفداء، فلذلك اختاره رسول الله وقدمه، انتهى. ومما يتصل بغزوة بدر هلاك أبي لهب فذكره المصنف كغيره، فقال: "و" روى ابن إسحاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 لما قدم أبو سفيان بن الحارث، سأله أبو لهب عن خبر قريش. فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله -مع ذلك- ما لمت الناس. لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء. قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم   من حديث عكرمة عن أبي رافع، قال: "لما قدم أبو سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب أخو المصطفى من رضاع حليمة، لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى غزوة الفتح بالأبواء أو غيرها، فأسلم وشهدها معه وحنينا، وثبت يوم حنين اسمه وكنيته وذكر إبراهيم بن المنذر والزبير بن بكار وجماعة أن اسمه المغيرة، لكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر والسهيلي بأن المغيرة أخوه مات سنة عشرين. "سأله أبو لهب" عبد العزى "عن خبر قريش" فقال: هلم إلي فعندك الخبر، "قال: والله ما هو" شيء فهو مبتدأ وشيء خبره وما بعد إلا بدل منه، لكن لما حذف الخبر أعطى ما بعد إلا حكمه فصار هو الخبر لفظا، وإن كان بدلا في الأصل، وكذا كل ما حذف فيه المستثنى منه وسبق ما يخرجه عن الإيجاب من نفي نحو: وما محمد إلا رسول، أو نهي نحو: لا تقولوا على الله إلا الحق، أو استفهام إنكاري نحو: فهل يهلك إلا القوم الفاسقون، ولا فرق بين الجملة الاسمية كهذه الأمثلة والفعلية، نحو: ما قام إلا زيد أصله ما قام أحد، حذف الفاعل وأعرب ما بعد إلا بأعرابه. "إلا أن لقينا" بإسكان الياء "القوم" نصب مفعول ويجوز فتح الياء ورفع القوم، قال البرهان: الأول أحسن، لقوله: فمنحناهم أكتافنا" لينتسق الكلام، يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا" بكسر السين "كيف شاءوا، وايم الله" بهمزة وصل أو قطع، أي: قسمي "مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض" هكذا رواية ابن إسحاق كما في العيون، وأوردها الشامي: رجالا بيضا، "على خيل بلق بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء" والمصنف تصرف في الرواية وحذف منها كثيرا؛ لأنه لم يتقيد بها ولفظها هنا: والله لا تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، بضم الفوقية وكسر اللام وسكون التحتية وقاف، أي: ما تبقي، كما قال أبو ذر في الإملاء. "قال أبو رافع:" أسلم أو إبراهيم، أو صالح، أو هرمز، أو ثابت، أو سنان، أو يسار، أو عبد الرحمن، أو قزمان، أو يزيد، فتلك عشرة كاملة أشهرها الأول، كما قال أبو عمر "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أسلم قبل بدر وشهد أحدًا وما بعدها، وفتح مصر وزوجه المصطفى مولاته سلمى فولدت له، ومات بالمدينة في أول خلافة علي، كما قال ابن حبان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وكان غلاما للعباس بن عبد المطلب قال: وكان الإسلام قد دخلنا فقلت له: والله تلك الملائكة. فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربت به في رأس أبي لهب وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده. قال: فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله   قال في التقريب: وهو صحيح، وقال الواقدي: مات قبل عثمان أو بعده بيسير. "وكان غلاما" مملوكا "للعباس بن عبد المطلب" فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه لما بشره بإسلام العباس، ومن الموالي النبوية آخر يقال له أبو رافع والد البهي، قيل: اسمه رافع كان عبد السعيد بن العاصي فلما مات أعتق كل بنيه العشرة نصيبه منه إلا خالد بن سعيد، فوهب حصته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، فزعم جماعة أنه هو الأول. قال في الإصابة: وهو غلط بين، فالأول كان للعباس، فالصواب أنهما اثنان. "قال: وكان الإسلام قد دخلنا" أهل بيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم فكان يكتم إسلامه وكان ذا مال، هذا كله قول أبي رافع عند ابن إسحاق. "فقلت له" وقد سرنا ما جاءنا من الخبر: "والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة" شديدة، قال: وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني "فقامت أم الفضل" لبابة الكبرى بنت الحارث بن حزن الهلالية أخت ميمونة أم المؤمنين قديمة الإسلام، حتى قال ابن سعد: إنها أول امراة أسلمت بعد خديجة، لكن رده في الفتح بأنها وإن كانت قديمة الإسلام لكنها لا تذكر في السابقين، فقد سبقتهما سمية أم عمار وأم أيمن، انتهى. وجزم غيره بأن أول من أسلم بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، كما مر، أنجبت للعباس بنيه الستة النجباء: الفضل، وعبيد الله، وعبد الرحمن، وقثم، ومعبدا، وأختهم أم حبيب ويقال أم حبيبة بالهاء. ذكر ابن إسحاق في رواية يونس: أنه صلى الله عليه وسلم رآها وهي طفلة تدب بين يديه، فقال: "إن بلغت وأنا حي تزوجتها" فقبض قبل أن تبلغ فتزوجها سفيان بن الأسود المخزومي. "إلى عمود" من عمد الخيمة وكانت جالسة عند أبي رافع بحجرة زمزم "فضربت به في رأس أبي لهب" لفظ الرواية: فضربته به ضربة فلغت في رأسه شجه منكرة، وفلغت بفتح الفاء واللام والغين المعجمة: شدخت، "وقالت: استضعفته أن" بفتح الهمزة، أي: لأن "غاب عنه سيده" وفي نسخة: إذ وهي للتعليل بلا تقدير، "قال" أبو رافع: فقام موليا ذليلا "فوالله ما عاش" صحيحا سليما "إلا سبع ليال" واستمر على ما هو عليه "حتى" إلى أن "رماه الله" ابتلاه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 بالعدسة، وهي قرحة كانت العرب تتشاءم بها. وقيل إنها تعدي أشد العدوى، فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله، وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه. فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.   "بالعدسة" بمهملات مفتوحات آخره تاء تأنيث، "وهي قرحة كان العرب تتشاءم بها، وقيل: إنها" كذا جعله قولا، والذي في تاريخ ابن جرير: كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها "تعدي" بضم أوله "أشد العدوى" أي: تجاوز صاحبها إلى من قاربه، وفي النور: العدسة بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد من جنس الطاعون تقتل صاحبها غالبا. وفي حواشي أبي ذر: قرحة قاتلة كالطاعون، فتباعد عنه بنوه "عتبة ومعتب أسلما يوم الفتح وثبتا يوم حنين، وأختهما درة لها صحبة وهي من المهاجرات، وأما عتيبة المصغر فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الحاكم وصححه وكان ذلك في حياة أبي لهب، كما رواه أبو نعيم، فتردد البرهان في أنه هلك زمن أبيه أو بعده تقصير، "حتى قتله الله وبقي بخلاف ثأر بعد موته ثلاثا لا تقرب" بالبناء للمفعول ونائبه "جنازته" بكسر الجيم أفصح من فتحها، وهو من إضافة الأعم إلى الأخص، كشجر أراك، أي: لا يقرب هو فإطلاق الجنازة تجوز من تسمية المطلق باسم المقيد إذ هي الميت في النعش أو النعش وعليه الميت، وكلاهما لا يراد هنا؛ لأنه لم يكن على نعش "ولا يحاول دفنه" لا يفكر فيه ولا يشرع في أسبابه من الحيلة، "فلما خافوا السبة" بضم المهملة وشد الموحدة فتاء تأنيث، أي: العار الذي يلحقهم فيسبون به "في تركه" أي: بسببه، "حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته" وقيل: لم يحفروا له بل دفعوه إلى أن ألصقوه بالحائط، "وقذفوه بالحجار من بعيد حتى واروه" قال اليعمري: ويروى أن عائشة كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها، قال البرهان: الظاهر أن ذلك لنتنه، انتهى. فكأنه كان يظهر من قبره إهانة له أبدا، ويحتمل أن فعلها ذلك لكونه محل عذاب، كما فعل صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر فغطى وجهه بثوبه واستحث راحلته إشارة إلى التباعد عنه، هذا والقبر الذي يرجم خارج باب شبيكة ليس بقبر أبي لهب، كما أفاده البرهان، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة في الدولة العباسية، فلما أصبح الناس ورأوها كمنوا لهما فأخذا ثم صلبا في هذا الموضع ودفنا واستمرا يرجمان إلى الآن، كما قاله المحب الطبري، وأنه لا أصل لما اشتهر عند المكيين أنه قبر أبي لهب، وقيل: إنه قبر أبي الطاهر القرمطي بكسر القاف والميم، عدو الله الذي قتل الحجيج في المسجد الحرام وطرح القتلى في زمزم واقتلع الحجر الأسود، فابتلي بالجدري فقطع جسده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وقال ابن عقبة: أقام النوح على قتلى قريش شهرا.   "قال ابن عقبة" موسى الإمام الحافظ: "أقام النوح" أي: دام من النائحات "على قتلى قريش شهرا" واستعمال القيام بهذا المعنى مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت، على حد ما ذكر البيضاوي في يقيمون الصلاة. وروى ابن إسحاق من مرسل عباد بن عبد الله بن الزبير، قال: ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدًا وأصحابه فيشتموا بكم، وقد اقتصر المصنف في هذه الغزوة العظيمة على ما ذكر قصدا للاختصار، وإن كان بسطها يحتمل أضعاف ذلك، والله يهدينا إلى الصواب بجاه النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 " قتل عمير عصماء ": ثم سرية عمير بن عدي الخطمي، وكانت لخمس ليال بقين من رمضان، على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة، إلى عصماء بنت مروان -زوج يزيد بن زيد الخطمي-   قتل عمير عصماء: "ثم سرية" إطلاقها على الواحد تجوز لأن فيه خلافا، مر أقله خمسة "عمير بن عدي" بن حرشة الأنصاري، ثم "الخطمي" بفتح المعجمة وسكون الطاء المهملة وميم، نسبة إلى جده خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس الأعمى إمام بني خطمة، وقيل: إنه أول من أسلم منهم، وكان يدعى القارئ صحابي شهير كان صلى الله عليه وسلم يزوره، روى عنه ابن عدي وسماه ابن دريد غشمير بمعجمتين قبل الميم، وقال: إنه فعليل من الغشمرة وهي أخذ الشيء بالغلبة، قال الذهبي: وقيل غشمين بنون آخره. قال في الإصابة: صحفه ابن دريد ثم تكلف توجيهه، وإنما هو عمير لا شك فيه ولا ريب. انتهى. "وكانت لخمس ليال بقين من" شهر "رمضان على رأس تسعة عشر شهرا من الهجرة" كذا قاله ابن سعد، وهو منابذ لما مر أن فراغه من بدر كان آخر يوم من رمضان وأول يوم من شوال، نعم هو يأتي على ما مر عن الإمتاع، أنه دخل المدينة ثاني عشر رمضان، وقد ذكره ابن إسحاق بعد قتل أبي عفك وتبعه أبو الربيع، وبعضهم ذكرها بعد قرقرة الكدر، "إلى عصماء" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين والمد "بنت مروان" اليهودية "زوج" بلا هاء أفصح من زوجة، أي: امرأة يزيد بن زيد" بن حصن الأنصاري "الخطمي" الصحابي شهد أحدا وهو والد عبد الله الصحابي وجد عدي بن ثابت لأمه، وقول الاستيعاب في ترجمة عمير بن عدي قتل أخته لشتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وكانت تعيب الإسلام، وتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءها ليلا، وكان أعمى، فدخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فحبسها بيده، ونحى الصبي عنها، ووضع سيفه على صدرها، حتى أنقذه من ظهرها. وصلى الصبح معه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره بذلك، فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، أي لا يعارض فيها معارض ولا يسأل عنها فإنها هدر.   قال في الإصابة: وهم وخلط قصة بقصة، فإن قاتل أخته عمير بن أمية كما رواه الطبراني وغيره، ولم يقف البرهان على هذا فتوقف في كلام أبي عمر بأنها يهودية وعمير أنصاري، انتهى. ولا يعارض كونها يهودية نسبة من نسبها إلى بني أمية بن زيد وهو في الأنصار لجواز أنها منهم بالحلف، أو لكون زوجها منهم، أو نحو ذلك. "و" سبب ذلك أنها "كانت تعيب الإسلام" بفتح فكسر من عاب يستعمل لازما ومتعديا أو بضم ففتح وشد التحتية من عيبه إذا نسبه العيب أو أحدث فيه عيبا، "وتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم" عطف لازم على ملزوم؛ لأن سب الإسلام يلزمه إيذاؤه أو أعم على أخص؛ لأن عيب الإسلام يكون بذكر خلل في الدين وإيذاء المصطفى يكون به وبغيره، وكانت تحرض عليه وتقول الشعر ونافقت لما قتل أبو عفك، وذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في بدر قالت في الإسلام وأهله أبياتا، فسمعها عمير بن عدي فنذر إذا رد الله رسوله من بدر سالما ليقتلنها، "فجاءها" لما قدم صلى الله عليه وسلم وسل سيفه ودخل عليها "ليلا، وكان أعمى" وسماه المصطفى البصير "فدخل عليها بيتها وحولها نفر" بفتحتين، والمراد هنا جماعة "من ولدها نيام" لا بقيد كونهم رجالا ولا ذكورا، لقوله: "منهم من ترضعه" إذ الرضيع لا يتبادر من الرجل وإن أطلق عليه على أحد قولين اللمس لا بقيد كونه باليد فيكون تأسيسا، "ونحى" أبعد"الصبي" الذي ترضعه "عنها" مخافة أن يصيبه شيء فيهلك، "ووضع سيفه على صدرها حتى أنقذه" أي: أخرجه "من ظهرها، ثم" رجع فأتى المسجد و"صلى الصبح معه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأخبره بذلك" لما قال له، كما رواه ابن سعد: "أقتلت ابنة مروان"؟ قال: نعم، فهل علي في ذلك من شيء؟ "فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم "أي: لا يعارض فيها معارض" ليأخذ بثأرها "ولا يسأل عنها" يطلب بدمها "فإنها هدر" وفي النور: أي أن قتلها هين لا يكون فيه طلب ثأر ولا اختلاف، انتهى. وقد تحقق ذلك، فذكر ابن إسحاق وغيره: أن عميرا رجع إلى قومه بعد قتلها فوجد بنيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 قالوا: وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ، الذي لم يسبق إليه عليه الصلاة والسلام، وسيأتي لذلك نظائر إن شاء الله تعالى. وفي أول شوال صلى صلاة الفطر.   وهم خمسة رجال في جماعة يدفنوها، فقال: أنا قتلتها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم، فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم، وأسلم يومئذ رجال لما رأوا من عز الإسلام، ولكن يعارضه ما وقع في مصنف حماد بن سلمة أنها كانت يهودية وكانت تطرح المحايض في مسجد بني خطمة، فأهدر صلى لله عليه وسلم دمها ولم ينتطح فيها عنزان، فإن المسجد صريح في ظهور الإسلام قبل ذلك، إلا أن يقال ظهر كل الظهور. وإن المعنى كان الضعيف الذي لم يقدر على الإسلام يستخفي بإسلامه، وأثنى صلى الله عليه وسلم على عمير بعد قتله عصماء، فأقبل على الناس، وقال: "من أحب أن ينظر إلى رجل كان في نصرة الله ورسوله، فلينظر إلى عمير بن عدي"، فقال عمر بن الخطاب: انظروا إلى هذ الأعمى الذي يرى. وفي رواية: بات في طاعة الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "مه يا عمر، فإنه بصير"، وسماه البصير لما رأى من كمال إيمانه وقوة قلبه في الله حتى قتلها وهدد بنيها وقومها مواجها لهم مع عجزه الظاهر، وكونه قاتلها هو المشهور. وفي الروض: أن زوجها قتلها. وفي رواية أنه عليه السلام، قال: "ألا رجل يكفينا هذه"؟ فقال رجل من قومها: أنا، فأتاها وكانت تبيع التمر، قال: أعندك أجود من هذا التمر؟ قالت: نعم، فدخلت البيت وانكبت لتأخذ شيئا فالتف يمينا وشمالا فلم ير أحدا فضرب رأسها حتى قتلها. "قالوا" ليس للتبري بل للإشارة إلى شهرته حتى كأنه إجماع "وهذا من الكلام المفرد الموجز البليغ الذي لم يسبق إليه عليه الصلاة والسلام، وسيأتي لذلك نظائر إن شاء الله تعالى" في المقصد الثالث، وذكر صاحب النور هنا جملة منها: "وفي أول شوال صلى صلاة الفطر" وهذا مع ما مر يعطي أنه صلاها ببدر، وذكر ابن سعد بأسانيد الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى وحملت العنزة بين يديه وغرزت في المصلى وصلى إليها صلاة الفطر، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 " غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر ": وفي أول شوال أيضا -وقيل بعد بدر بسبعة أيام،   غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر: "وفي أول شوال أيضا، وقيل: بعد بدر بسبعة أيام" وبه جزم ابن إسحاق ومن تبعه، وتقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وقيل في نصف المحرم سنة ثلاث -خرج عليه الصلاة والسلام يريد بني سليم. فبلغ ماء يقال له الكدر، وتعرف بغزوة قرقرة، وهي أرض ملساء. والكدر: طير في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع. فأقام بها عليه الصلاة والسلام ثلاثا، وقيل عشرا، فلم يلق أحدا   قوله: فرغ من بدر في آخر رمضان وأول شوال، ويمكن أن لا تنافي بين القولين، "وقيل: في نصف المحرم سنة ثلاث" وبه جزم ابن سعد وابن هشام "خرج عليه الصلاة والسلام" في مائتي رجل "يريد بني سليم" بضم المهملة وفتح اللام، "فبلغ ماء يقال له الكدر" بضم الكاف وسكون المهملة؛ لأنه كما ذكر ابن إسحاق وابن سعد وابن عبد البر وابن حزم: بلغه صلى الله عليه وسلم أن بهذا الموضع جمعا من بني سليم وغطفان، "وتعرف" غزوة بني سليم بالكدر "بغزوة ذي قرقرة" بفتح القافين. وحكى البكري ضمهما، قال الدميري وغيره: والمعروف فتحهما بعد كل قاف راء أولاهما ساكنة، ثم تاء تأنيث. قال ابن سعد: ويقال قرارة الكدر، وفي الصحاح: قراقر، وإن عرف ما حكاه البكري يكون أربعة. "وهي أرض ملساء والكدر" كما قال السهيلي وابن الأثير وغيرهما "طير في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع" الذي هو قرقرة لاستقرار هذه الطيور به، فهما غزوة واحدة، وتبع المصنف على ذلك تلميذه الشامي، فقال: غزوة بني سليم بالكدر، ويقال لها: قرقرة الكدر، وجعلهما اليعمري غزوتين، وجعل شيخه الدمياطي غزوة بني سليم هي غزوة نجران الآتية، ويجي قول المصنف فيها وتسمى غزوة بني سليم. "فأقام بها عليه الصلاة والسلام ثلاثا" قاله ابن إسحاق والجماعة "وقيل: عشرا، فلم يلق أحدًا" من سليم وغطفان الذين خرج يريدهم في المحال، وذكر ابن إسحاق والجماعة أنه أرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي، واستقبلهم صلى الله عليه وسلم في بطن الوادي فوجد رعاة، بالكسر جمع راع فيهم غلام يقال له يسار، بتحتية ومهملة، فسأله عن الناس، فقال: لا علم لي بهم، إنما أرود لخمس وهذا يوم ربعي والناس قد ارتفعوا في المياه، ونحن عزاب في النعم، فانصرف صلى الله عليه وسلم وقد ظفر بالنعم فانحدر بها إلى المدينة واقتسموا غنمائهم بصرار على ثلاثة أميال من المدينة وكانت خمسمائة بعير، فأخرج خمسه وقسم أربعة أخماسه على المسلمين، فأصاب كل رجل منهم بكران، وكانوا مائتي رجل وصار يسار في سهمه صلى الله عليه وسلم فأعتقه لأنه رآه يصلي، أي: لأنه أسلم بعد الأسر وتعلم الصلاة من المسلمين، واستشكل بأنه لما أسلم لم يقم به رق، فلا يكون غنيمة فكيف وقع في سهم؟ وأجيب: بأن إسلامه إنما يعصم دمه ويخير الإمام فيه بين الرق والفداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وكانت غيبته عليه السلام خمس عشرة ليلة، واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، وقيل ابن أم مكتوم. وحمل اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق.   والمن بلا شيء، فيجوز أنه صلى الله عليه وسلم اختار رقه بعد علمه بإسلامه أو قبله ثم صار في سهمه حين القسمة، فأعتقه لرؤيته يصلي. وخمس بكسر المعجمة: من أظماء الإبل أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع، وقد أخمس الرجل، أي: وردت إبله خمسا. ومياه بالهاء، وغلط فيه بعض المدرسين فقاله بالتاء. وصرار بكسر المهملة وراء مهملة مخففة فألف فراء ثانية، كما قيده الدارقطني وغيره للحموي والمستملي بضاد معجمة وهو وهم، كما في المطالع: موضع قريب من المدينة. وقيل: بئر قديمة على ثلاثة أميال منها من طريق العراق. "وكانت غيبته عليه السلام" كما قال ابن إسحاق والجماعة: "خمس عشرة ليلة" قال ابن إسحاق وغيره: وأقام بالمدينة شوالا وذا القعدة وأفدى في إقامته تلك جل الأسارى من قريش "واستخلف على المدينة سباع" بمهملة مكسورة فموحدة فألف فمهملة "ابن عرفطة" بمهملة مضمومة فراء ساكنة ففاء مضمومة فطاء مهملة، الغفاري ويقال له الكناني، الصحابي الشهير، واستعمله عليها أيضا عام خيبر، فجاء أبو هريرة وصلى خلفه الصبح، "وقيل" وبه جزم ابن سعد وابن هشام: استخلف عليها "ابن أم مكتوم" عمرا على الأكثر، وقيل: عبد الله بن قيس بن زائدة القرشي العامري، والصحيح الأول. ففي مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم سماه عمرا في حديث فاطمة بنت قيس وأم مكتوم لم تسلم، واسمها عاتكة بنت عبد الله، وجمع بينهما بأنه استخلف سباعا للحكم، وابن مكتوم للصلاة على عادته في استخلافه للصلاة. "وحمل اللواء" وكان أبيض، كما عند الجماعة "علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكرها ابن سعد بعد غزوة السويق" ضرورة جزمه بأنها في المحرم سنة ثلاث، وأن غزوة السويق في ذي الحجة، وكأنه وجه جعل اليعمري لهما غزوتين؛ لأن الكدر بعد بدر وقرقرة بعد السويق، فترجم هنا غزوة بني سليم، وذكر فيها ما حاصله: أنه بلغ ماء يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاثا، ثم رجع ولم يلق كيدا، ثم بعد السويق ترجم غزوة قرقرة الكدر، وساق فيها القصة بتمامها من طريق ابن سعد، فعليه يكون غزا بني سليم مرتين، مرة وصل فيها لذلك الماء فلم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها تلك الأرض ووجد فيها النعم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 " قتل أبي عفك اليهودي ": ثم سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك اليهودي -وكان شيخا كبيرا، قد بلغ عشرين ومائة سنة-وكان يحرض على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول فيه الشعر، فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده، ثم اعتمد عليه حتى خش في الفراش، فصاح عدو الله أبو عفك، فثار إليه أناس ممن هم على قوله، فأدخلوه منزله فقتل.   قتل أبي عفك اليهودي: "ثم" في شؤال أيضا "سرية سالم بن عمير" ويقال ابن عمرو، وقال ابن عقبة: سالم بن عبد الله بن ثابت الأنصاري الأوسي أحد بني عمرو بن عوف، العقبي شهد بدرا والمشاهد، أحد البكائين، مات في آخر خلافة معاوية رضي الله عنهما. "إلى أبي عفك" بفتح المهملة والفاء الخفيفة وكاف، يقال: رجل أعفك بين العفك، أي: أحمق، "اليهودي" من بني عمرو بن عوف "وكان شيخا كبيرا قد بلغ" من السن "عشرين ومائة سنة، وكان يحرض" يحث ويحمل الناس "على" قتال "النبي صلى الله عليه وسلم ويقول فيه الشعر" يهجوه به، فقال صلى الله عليه وسلم كما عند ابن سعد وغيره: "من لي بهذا الخبيث"؟ فقال سالم: علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه، فأمهل يطلب له غرة، بكسر المعجمة وشد الراء المفتوحة: غفلة، حتى كانت ليلة صائفة، أي: حارة نام أبو عفك بفناء منزله وعلم سالم به، "فأقبل إليه سالم ووضع سيفه على كبده ثم اعتمد عليه حتى خش" دخل "في الفراش فصاح عدو الله أبو عفك فثار" بمثلثة وراء، كذا في النسخ. والذي في العيون والسبل عن ابن سعد: فثاب بمثلثة وموحدة، أي: اجتمع وهو أولى؛ لأن ثاب لغة اجتمع ورجع فأطلق على أحد استعماليه فإنه لازم لمعنى ثاب لا مدلوله، "إليه أناس ممن هم على قوله" في موافقته على الكفر والتحريض "فأدخلوه منزله فقتل" أي: مات، ولفظ ابن سعد: فأدخلوه منزله وقبروه، وعند غير ابن سعد: فقالت أمامة المريدية في ذلك: تكذب دين الله والمرء أحمدا ... لعمر والذي أمناك أن بئس ما يمنى حباك حنيف آخر الليل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السن أمامة بضم أوله، ويقال: أسامة المريدية بضم الميم وكسر الراء، كما في التبصير كأصله الذهبي. وقال في الألقاب: بفتحها فتحتية ساكنة فدال مهملة فتحتية مشددة نسبة إلى مريد بطن من بلى صحابية رضي الله عنهما، ولعمر والذي أمناك، أي: وحياة الذي أنشأك. وحباك بموحدة: أعطاك وحنيف: مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 وكانت هذه السرية في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة.   "وكانت هذه السرية" فيه تجوز، كما مر، "في شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة" قاله ابن سعد. قال اليعمري: وكان أبو عفك ممن نجم، أي: ظهر نفاقه حين قتل صلى الله عليه وسلم الحارث بن سويد بن الصامت، وتوقف فيه البرهان بأنه قتل بعد أحد، كما قال ابن إسحاق: قال: إلا أن هذا ليس عن ابن إسحاق، انتهى والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 غزوة بني قينقاع : ثم غزوة بني قينقاع -بتثليث النون، والضم أشهر- بطن من يهود المدينة، لهم شجاعة وصبر. وكانت يوم السبت نصف شوال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة. وقد كانت الكفار بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام: قسم وادعهم صلى الله عليه وسلم على أن لا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة والنضير وبنو قينقاع. وقسم حاربوه ونصبوا له العدواة كقريش.   "ثم غزوة بني قينقاع": بفتح القافين وسكون التحتية و"بتثليث النون" كما حكاه ابن قرقول وغيره، "والضم أشهر" كما أفاده الحافظ وغيره "بطن من يهود المدينة" قال في الوفاء: منازلهم عند جسر بطحان مما يلي العالية، وفي الصحيح عن ابن عمر: وهم رهط عبد الله بن سلام، "لهم شجاعة وصبر" هو لازم للشجاعة، قيل: كانوا أشجع اليهود وأكثرهم مالا وأشدهم بغيا، "وكانت" كما قال ابن سعد: "يوم السبت نصف شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة" النبوية "وقد كانت الكفار،" كما أفاده الحافظ في غزوة بني النضير "بعد الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام، قسم وادعهم" صالحهم "عليه الصلاة والسلام على أن لا يحاربوه ولا يؤلبوا" يحرضوا "عليه" على قتاله "عدوه"، وقيل: على أن لا يكونوا معه ولا عليه، وقيل: على أن ينصروه ممن دهمه من عدوه، "وهم طوائف اليهود الثلاثة: قريظة" بالظاء المعجمة المشالة، "والنضير، وبنو قينقاع،" فنقض الثلاثة العهد، فمكن الله رسوله منهم فقتل قريظة وأجلى الأخيرين. "وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة، كقريش" فنصره الله عليهم، فقتل سبعين وأسر سبعين ببدر، وقتل في أُحد اثنين وعشرين منهم أهل اللواء بنو عبد الدار وأبي بن خلف، وفي الخندق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وقسم تركوه، وانتظروا ما يؤول إليه أمره، كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة. وبالعكس كبني بكر. ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون. وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم عليه الصلاة والسلام في شوال بعد وقعة بدر. قال الواقدي بشهر. وأغرب الحاكم، فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني   عمرو بن عبدود، وغيره، حتى فتح مكة فصار أعظمهم عليه أحوجهم إليه، ثم في حجة الوداع لم يبق قرشي إلا أسلم وصاروا كلهم أتباعه، ولله الحمد. "وقسم تركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره" فإن آل إلى النصر والظفر بقريش تبعوه وإلا تبعوهم، "كطوائف من العرب" إلا أن هذا القسم ليسوا سواء بل "منهم من كان يحب ظهوره في الباطن، كخزاعة" ولذا دخلوا في عقده وعهده عام الهدنة ولما استنصروه صلى الله عليه وسلم حين غارت عليهم بنو بكر، قال: "لا نصر إن لم أنصركم"، "وبالعكس، كبني بكر" ولذا دخلوا في عهد قريش وعقدهم سنة الحديبية، "ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا، وهم المنافقون" فكانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، "وكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع" ثم النضير، ثم قريظة، "فحاربهم عليه الصلاة والسلام في شوال" أي: نصفه على ما مر "بعد وقعة بدر" وهذا كله لفظ الحافظ في الفتح في أول غزوة بني النضير، ثم قال فيه بعد قليل: "قال الواقدي: "أجلاهم في شوال سنة اثنتين، يعني بعد بدر "بشهر" ويؤيده ما روى ابن إسحاق بسند حسن عن ابن عباس، قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق قينقاع، فقال: "يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا"، فقالوا: إنهم كانوا لا يعرفون القتال، ولو قتلناك لعرفت إنا الرجال، فأنزل الله عالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] إلى قوله {لِأُولِي الْأَبْصَار} [آل عمران: 13] الآية، انتهى لفظ الفتح. فأفاد أن المحاربة بعد بدر بنصف شهر، والإجلاء بعد بدر بشهر، وهو ظاهر؛ لأنه حاصرهم نصف شهر. وأما عبارة المصنف ففيها قلاقة، لجزمه بأنها نصف شوال وأن الفراغ من بدر أوله فينا في نقله هنا عن الواقدي أن الحرب بعد بدر بشهر، وأيضا فالواقدي لم يقل ذلك، إنما قال: أجلاهم في شوال سنة اثنتين. فقال الحافظ: يعني بدر بعد شهر، فاختلط على المصنف رحمه الله الحرب بالإجلاء. "وأغرب الحاكم" جاء بقول غريب لا يعرف، زعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 النضير كانا في زمن واحد، ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر، على قول عروة، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق. وكان من أمر بني قينقاع، أن امرأة من العرب جلست إلى صائغ يهودي، فراودها على كشف وجهها، فأبت فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع. فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف أبا لبابة   النضير كانا في زمن واحد" حيث قال: هذه وغزوة بني النضير واحدة، وربما اشتبها على من لا يتأمل، "ولم يوافق على ذلك؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة" بن الزبير وعمل عليه البخاري، "أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق" أنها بعد أحد، ونصره ابن كثير بأن الخمر حرمت ليالي حصار بني النضير. وفي الصحيح: أنه اصطبح الخمر جماعة ممن قتل يوم أحد شهيدا، فدل على أنها كانت حلال حينئذ، وإنما حرمت بعد ذلك، ويأتي مزيد لذلك في غزوتها، إن شاء الله. "وكان" كما رواه ابن هشام "من أمر بني قينقاع أن امرأة" قال البرهان: لا أعرف اسمها، "من العرب" وفي الإمتاع أنها كانت زوجة لبعض الأنصار، أي: من العرب فلا ينافي أن الأنصار بالمدينة. وفي الرواية: أنها قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، "وجلست إلى صائغ يهودي" لا أعرف اسمه، والظاهر أنه من قينقاع، قاله البرهان. "فراودها على كشف وجهها" أراد منها ذلك، ولفظ الرواية عند ابن هشام: فجعلوا يريدونها على كشف وجهها "فأبت فعمد" بفتح الميم وتكسر: الصائغ "إلى طرف" بفتح الراء "ثوبها" من ورائها "فعقده" ضمه "إلى ظهرها" وخله بشوكة "فلما قامت انكشفت سوأتها" هو لفظ رواية ابن هشام، أي: عورتها "فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه" فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون "ووقع الشر بين المسلمين وبين بني قينقاع" وذكر ابن سعد أنهم لما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ونبذوا العهد والمدة، فأنزل الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أخاف من بني قينقاع"!! "فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن استخلف" على المدينة "أبا لبابة" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ابن عبد المنذر. فحاصرهم أشد الحصار، خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة، وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب، وكان أبيض، فقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرية. فأمر عليه الصلاة والسلام المنذر بن قدامة بتكتيفهم. وكلم عبد الله بن أبي سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وألح عليه من أجلهم.   بشير بفتح الموحدة وكسر المعجمة، أو رفاعة، ووهم من سماه مروان "ابن عبد المنذر" الأنصاري الأوسي المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، فحاربوا وتحصنوا في حصنهم "فحاصرهم أشد الحصار خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة،" بفتح القاف وكسرها "وكان اللواء بيد حمزة بن عبد المطلب وكان أبيض،" قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ، "فقذف الله في قلوبهم الرعب" الخوف "فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن له أموالهم وأن لهم النساء والذرية، فأمر عليه الصلاة والسلام المنذر بن قدامة" السلمي الأوسي البدري "بتكتيفهم" مصدر كتفه بالتشديد للمبالغة، والأصل التخفيف، أي: بشد أيديهم خلف أكتافهم موثقا بحبل ونحوه، قال ابن هشام: فكتفوا وهو يريد قتلهم فمر بهم ابن أُبي فأراد أن يطلقهم، فقال له المنذر: أتطلق أقواما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطهم، والله لا يفعله أحد إلا ضربت عنقه. "وكلم عبد الله بن أبي بن سلول" رأس المنافقين "رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم" لما أراد قتلهم وهذا مشكل؛ إذ مقتضى نزولهم على أن لهم النساء والذرية أنهم نزلوا بأمان، ولا يتصور من المصطفى غدر إلا أن يقال نزولهم على حكمه لا يقتضي موافقته لهم، كما نزل بنو قريظة على حكم سعد، فحكم فيهم بحكم الله. "وألح عليه من أجلهم" فقال، كما ذكر ان هشام وابن سعد وغيرهما: يا محمد! أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم،، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، فأعرض عنه فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه وكان يقال لها ذات الفضول، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويحك أرسلني" وغضب عليه السلام حتى رأوا وجهه ظلالا جمع ظلة وهي السحابة استعيرت لتغير وجهه الكريم لما اشتد غضبه، ويروى ظلالا جمع ظلة أيضا كبرمة وبرام ومهما بمعنى، كما في الروض، ثم قال: "ويحك أرسلني"، قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر بمهملتين، أي: لا درع معه وثلاثمائة دراع وقد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 فأمر عليه الصلاة والسلام أن يحلوا من المدينة، وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا من المدينة، فلحقوا بأذرعات. فما كان أقل بقاءهم فيها. وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة. وكانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي، وعبادة بن الصامت، فتبرأ عبادة من حلفهم، فقال: يا رسول الله، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله أنزل. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الَْالِبُون} [المائدة: 56] .   فقال صلى الله عليه وسلم: "وهم لك"، "فأمر عليه الصلاة والسلام أن يحلوا" من كتافهم، فقال: "حلوهم لعنهم الله ولعنه معهم"، "وتركهم من القتل، وأمر أن يجلوا" بالجيم مبني للمفعول، أي: يخرجوا "من المدينة" قال ابن سعد: وولى إخراجهم عبادة بن الصامت، وقيل: محمد بن مسلمة ولا مانع أنهما اشتركا في إخراجهم، "فلحقوا بأذرعات" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وكسر الراء فمهملة وبالصرف: بلدة الشام "فما كان" زائدة "أقل بقاءهم فيها" قيل: لم يدر عليهم الحول "وأخذ من حصنهم سلاحا وآلة كثيرة" وكان الذي ولي قبض أموالهم محمد بن مسلمة، قاله ابن سعد، فأخذ صلى الله عليه وسلم خمسة وفض أربعة أخماسه على أصحابه، فكان أول ما خمس بعد بدر، ووقع عند ابن سعد: أخذ صفية الخمس، وتوقف فيه اليعمري بأن المعروف الصفي غير الخمس، فعند أبي داود عن الشعبي: كان له صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي قبل الخمس. وعن عائشة: كانت صفية من الصفي، قال: فلا أدري أسقطت الواو أو كان هذا قبل حكم الصفي، انتهى. "و" أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت، قال: "كانت بنو قينقاع حلفاء لعبد الله بن أبي وعبادة بن الصامت فتبرأ عبادة رضي الله عنه من حلفهم" بكسر المهملة وإسكان اللام، حين قال صلى الله عليه وسلم لما رأى من فعلهم القبيح: "ما على هذا أقررناهم"، "فقال: يا رسول الله أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف" جميع "الكفار وولايتهم" أو هو تأكيد لما قبله من إقامة الظاهر مقام المضمر، وفائدته التشنيع عليهم بالكفر، "ففيه وفي عبد الله" بن أبي "أنزل" الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] الآية، فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ، إيماء إلى علة النهي، أي: فإنهم متفقون على خلافكم يولي بعضهم بعض لاتحادهم في الدين واجتماعهم على مضادتكم من يتولهم منكم فإنه منهم، تشديد في وجوب مجانبتهم "إلى قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُون} " [المائدة: 56] الآية، أي: فإنهم هم الغالبون ولكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه، وكأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فهو حزب الله وحزب الله هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم، وتعريضا بمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان، وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم، قاله البيضاوي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 غزوة السويق : ثم غزوة السويق في ذي الحجة، يوم الأحد لخمس خلون منها، على رأس اثنين وعشرين شهرا، من الهجرة، وقال ابن إسحاق في صفر. وسميت: غزوة السويق؛ لأنه كان أكثر زاد المشركين، وغنمه المسلمون. واستخلف أبا لبابة على المدينة. وكان سبب هذه الغزوة أن أبا سفيان حين رجع بالعير من بدر إلى مكة نذر   ثم غزو السويق: هو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن فيتزود به ملتوتا بماء أو سمن أو عسل أو وحده بالسين، قال ابن دريد: وبنو العنبر يقولونه بالصاد، وفي الجمهرة بنو تميم، ولا خلف فالعنبر هو عمرو بن تميم، وكانت "في ذي الحجة" بفتح الحاء وكسرها "يوم الأحد لخمس" من الليالي "خلون منها على رأس اثنين وعشرين شهرا من الهجرة" قاله ابن سعد، "وقال ابن إسحاق: في صفر" بمنع الصرف؛ لأنه أريد من سنة بعينها ففيه العلمية والعدل عن الصفر، وانتقد صاحب الخميس المصنف بأن الذي في ابن هشام عن البكائي عن ابن إسحاق أن رخوجه إنما كان في ذي الحجة، وهو كما قال، وكذا نقل عن اليعمري وغيره، يحمل أنها رواية غير البكائي؛ لأن رواة سيرة ابن إسحاق جماعة، وفيها اختلاف بالزيادة والنقص، وقد ذكر بعض أهل السير أن هذه الغزوة في سنة ثلاث، فيصح كونها في صفر. "وسميت غزوة السويق لأنه كان أكثر زاد المشركين" فكانوا يلقونه للتخفيف "وغنمه" بفتح الغين وكسر النون "المسلمون" أي: استفادوه وأخذوه بلا عوض، لكن فيه مجاز إذ الغنيمة، كما قال أبو عبيدة: ما نيل من أهل الشرك والحرب قائمة، والفيء ما نيل منهم بعد أن تضع الحرب أوزارها. "واستخلف أبا لبابة" بشير أو رفاعة أو مبشر بن عبد المنذر بن زنبر بفتح الزاي والموحدة بينهما نون ساكنة آخره راء، "على المدينة، وكان سبب هذه الغزوة" كما عند ابن إسحاق وغيره: "أن أبا سفيان" صخر بن حرب "حين رجع بالعير من بدر إلى مكة" ورجع فل قريش من بدر بفتح الفاء وشد اللام، أي: منهزموهم "نذر" أن لا يمس رأسه ماء من جنابة، هكذا الرواية عن ابن إسحاق قال مغلطاي: كنى بحلفه عن أن لا يمس النساء والطيب، فاقتصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 أن لا يمس النساء والدهن حتى يغزو محمدا -عليه الصلاة والسلام- فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه، حتى أتوا العريض -ناحية من المدينة على ثلاثة أميال-   المصنف على تفسير الرواية، فقال: "أن لا يمس النساء والدهن" لأنه لم يتقيد بها أو هي رواية أخرى وردت باللفظ أو بالمعنى، "حتى يغزو محمدًا عليه الصلاة والسلام" ليأخذ بثأر المشركين الذين قتلوا ببدر. واستدل به السهيلي على أن غسل الجنابة كان في الجاهلية لبقية من دين إبراهيم وإسماعيل كالحج والنكاح، ولذا سموها جنابة لمجانبتهم البيت الحرام وموضع حرماتهم، أطلق في {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] بخلاف الوضوء فلم يعرف قبل الإسلام، فبين بقوله: اغسلوا وجوهكم ... إلخ، "فخرج في مائتي راكب" وقيل: أربعين "من قريش ليبر" بضم التحتية النجدية حتى نزل صدر قناة إلى جبل يقال له نيب على بريد من المدينة أو نحوه، ثم خرج حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه، فانصرف إلى سلام بن مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له وقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم خرج في عقب ليلته حى أتى أصحابه فبعث رجالا من قريش، فساروا "حتى أتوا العريض" بضم المهملة وفتح الراء وإسكان التحتية وضاد معجمة: "ناحية من المدينة على ثلاثة أميال" وفي النور: إنه واد بالمدينة به أموال لأهلها، انتهى. ففي سياق ابن إسحاق هذا الذي ذكرته أن أبا سفيان لم يأت العريض معهم خلاف ما يفيده المصنف، وقناة بفتح القاف وخفة النون: واد بالمدينة. ونيب بنون فتحتية فموحدة، قال البرهان: كذا في نسختي، أي: في العيون أصولها ولم أره فلعله تصحيف يتيب بفتح التحتية وكسر الفوقية وسكون التحتية فموحدة بوزن يغيب: جبل بالمدينة، ذكره القاموس، أو هو تيت بفوقيتين أولاهما مفتوحة بينهما تحتية ساكنة أو مشددة كميت جبل قرب المدينة، ذكره في الذيل والقاموس، انتهى ملخصا. والذي يظهر أن ذا الأخير هو المراد لقوله على بريد أو نحوه من المدينة، أو لأن الرسم لا يخالفه يتيب الذي بزنة يغيب، وحيي بمهملة مصغر، وأخطب بخاء معجمة، وسلام بالتشديد ويخفف، ومشكم بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الكاف، وقراه: أضافه وسقاه، أي: الخمر، كما قال أبو سفيان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 فحرقوا نخلا وقتلوا رجلا من الأنصار. فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه، فانصرف بقومه راجعين. وخرج عليه الصلاة والسلام في طلبهم، في مائتين من المهاجرين والأنصار، وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق -وهي عامة أزوادهم- يتخففون للهرب، فأخذا المسلمون، ولم يلحقهم عليه الصلاة والسلام، فرجع إلى المدينة. وكانت غيبته خمسة أيام.   سقاني فرواني كميتا مدامة ... على ظمأ مني سلام بن مشكم "فحرقوا" بخفة الراء وشدها مبالغة "نخلا" صغارا، كما دل عليه قوله في الرواية: فحرقوا في أصوار من نخل، بفتح الهمزة الصاد المهملة وراء: نخل مجتمع صغار، كما في الصحاح. "وقتلوا رجلا من الأنصار" زاد في رواية: وحليفا لهم، قال البرهان: ولا أعرفهما وفيه تقصير فقد ذكر الواقدي أن الأنصاري معبد بن عمرو "فرأى أبو سفيان أن قد انحلت يمينه" بقتل الرجلين وحرق الأصور، "فانصرف بقومه راجعين" إلى مكة ونذر الناس، بفتح النون وكسر الذال المعجمة: علموا بهم "وخرج عليه الصلاة والسلام في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار" وعند مغلطاي: في ثمانين راكبا، وجمع البرهان بأن الركبان ثمانون وكل الجيش مائتان، "وجعل أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق" بضمتين جمع جراب، ككتاب وكتب، ولا يفتح مفرده أو هو لغية، فيما حكاه حياض وغيره، كما في القاموس، ويجمع أيضا على أجربه. "وهي عامة أزوادهم" أي: أكثرها أو جميعها من عمه بالعطاء إذا شمله، "يتخففون للهرب" خوفا ممن نصر بالرعب "فيأخذها المسلمون" ولذا سميت غزوة السويق، كما مر "ولم يلحقهم عليه الصلاة والسلام، فرجع إلى المدينة وكان غيبته خمسة أيام" بيومي الخروج والرجوع فدخوله يوم التاسع بدليل صلاة العيد وأن خروجه لخمس خلون من الحجة، أو دخل ليلا أو أول يوم العيد، وأدركه قبل الزوال، وعند ابن إسحاق: وقال المسلمون حين رجعوا: يا رسول الله!! أنطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال: "نعم"، وأورد ابن هشام وتبعه أبو الربيع في الاكتفاء: هذه الغزوة قبل بني قينقاع، وعند بعض أهل العلم والسير أنها في سنة ثلاث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 " ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة ": وفي ذي الحجة صلى الله عليه وسلم العيد وأمر بالأضحية. وفيه مات عثمان بن مظعون. وفي أول شوال ولد عبد الله بن الزبير. تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أوله ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله تعالى عنهما.   ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة: "وفي ذي الحجة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد" بالمصلى وضحى بكبشين، "وأمر" الناس "بالأضحية" وهو أول عيد أضحى رآه المسلمون، "وفيه مات عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة ابن حبيب القرشي الجمحي البدري، وقبله النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وعيناه تذرفان ودفنه بالبقيع، وهو أول ميت من المهاجرين وأول من دفن به منهم، ولما مات ولده إبراهيم، قال: "الحق بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون". وقد علم أن غرض المصنف بيان بعض وقائع السنة الثانية وإن لم تتعلق بالمغازي، ولذا قال: "وفي أول شوال" سنة اثنتين بعد عشرين شهرا، فيما جزم به الواقدي وتبعه جمع، منهم: ابن الأثير والذهبي. "ولد عبد الله بن الزبير" قال الحافظ: والمعتمد أنه ولد في السنة الأولى؛ لأن هجرة أمه أسماء وعائشة وآل الصديق كانت بعد استقراره صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فالمسافة قريبة جدا لا تحتمل تأخر عشرين شهرا، بل ولا عشرة أشهر، وقد ثبت في الصحيحين عن أسماء أنها هاجرت وهي حبلى به متم فولدته بقباء، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بتمرة ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام. وزاد الإسماعيلي: ففرح المسلمون فرحا شديدا؛ لأن اليهود كانوا يقولون: قد سحرناهم حتى لا يولد لهم. وللإسماعيلي أيضا: أنها لم ترضعه حتى أتت به النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. وزاد: ثم صلى عليه، أي: دعا له، ثم سماه عبد الله، وهو أول مولود للمهاجرين بالمدينة، وولد لهم بالحبشة عبد الله بن جعفر، وأول مولود للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد، رواه ابن أبي شيبة. وقيل: النعمان بن بشير، انتهى ملخصا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 " ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما ": وفي هذه السنة تزوج علي رضي الله عنه، بفاطمة رضي الله عنها كما قاله الحافظ مغلطاي وغيره. وقال الطبري في كتابه "ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى": تزوجها في صفر في السنة الثانية، وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ. وقال أبو عمر بعد وقعة أحد، وقال غيره: بعد بنائه صلى الله عليه وسلم بعائشة   ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما: "وفي هذه السنة" الثانية من الهجرة، "تزوج علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها" الزهراء البتول، أفضل نساء الدنيا، حتى مريم، كما اختاره المقريزي والزركشي والقطب الخيضري والسيوطي في كتابيه، شرح النقاية وشرح جمع الجوامع، بالأدلة الواضحة التي منها أن هذه الأمة أفضل من غيرها. والصحيح أن مريم ليست نبية، بل حكي الإجماع على أنه لم تنبأ امرأة، وقد قال صلى الله عليه ولسلم: "مريم خبير نساء عالمها وفاطمة خير نساء عالمها"، رواه الحارث في مسنده والترمذي، بنحوه. وقال صلى الله عليه وسلم: "يا بنية، ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"؟، قالت: يا أبت، فأين مريم؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، رواه ابن عبد البر، وبسط ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني. وقد أخرج الطبراني بإسناد على شرط الشيخين. قالت عائشة: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها. "قاله الحافظ مغلطاي وغيره" وفيه إجمال بينه بقوله: "وقال الطبري" أحمد بن عبد الله الحافظ محب الدين المكي، "في كتابه ذخائر العقبى" بالمعجمة، جمع ذخيرة، "في مناقب ذوي القربى" للنبي صلى الله عليه وسلم: "تزوجها" أي: عقد عليها "في صفر". وفي الإصابة: في أوائل المحرم، "في السنة الثانية" وفي الخميس عقد عليها في رجب، على الأصح، وقيل: في رمضان. "وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا من التاريخ" للهجرة. "وقال أبو عمر" ابن عبد البر "بعد وقعة أحد": ووقعتها في شوال سنة ثلاث، اتفاقا ورده في الإصابة، بأن حمزة استشهد بأحد. وقد ثبت في الصحيحين قصة الشارفين لما ذبحهما حمزة، وكان علي أراد أن يبني بفاطمة، انتهى. "وقال غيره": عقد عليها "بعد بنائه صلى الله عليه وسلم بعائشة"، الواقع في شوال سنة اثنين أو بعد سبعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف. وتزوجها وهي ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر -أو ستة أشهر ونصف- وسنة يومئذ إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر. ولم يتزوج عليها حتى ماتت. وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسكت ولم يرجع إليهما شيئا   أشهر من الهجرة، وقولان ذكرهما المصنف في الزوجات "بأربعة أشهر ونصف" فيكون العقد في نصف صفر سنة اثنين، أن حسب شهر بنائه بعائشة من المدة، "وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف" فيكون في شوال، فيوافق قول أبي عمر أنه بعد أحد، فهذا القول كما ترى غير قائل بأن البناء في الحجة، حتى يقال عليه العقد في أوائل جمادى الأولى كما وهم. "وتزوجها وهي ابنة خمس عشرة سنة وخمسة أشهر، أو ستة أشهر ونصف" شهر، والقولان مبنيان على نقل أبي عمر عن عبيد الله بن محمد بن جعفر الهاشمي، أنها ولدت سنة إحدى وأربعين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم. أما على ما رواه الواقدي عن العباس، وجزم به المدائني وابن الجوزي، أنها ولدت قبل النبوة بخمس سنين، فتكون ابنة تسع عشر سنة وشهر ونصف "وسنة"، أي: "يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر"، بناء على قول عروة الذي ضعفه أبو عمر، أنه أسلم وهو ابن ثمان سنين، أما على قول ابن إسحاق وهو الراجح، كما مر أنه أسلم وهو ابن عشر سنين، فيكون سنة يوم التزويج، أربعة وعشرين سنة وشهرا ونصف شهر. ويقع في كثير من النسخ إحدى وعشرين بالجر، فقوله: وسنه اسم كان مقدرة وهو أظهر من تقدير نحو إحدى وعشرين؛ لأن العبارة تصير محتملة للزيد والنقص، "ولم يتزوج عليها". ولما خطب ابنة أبي جهل، واسمها جويرية، في أشهر الأقوال قام صلى الله عليه وسلم على المنبر وقال: "لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن"، وقال: "والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا، فترك علي الخطبة"، رواه الشيخان وغيرهما. قال أبو داود: حرم الله على علي أن ينكح على فاطمة حياتها لقوله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [الحشر: 7] ، وألحق بعضهم أخواتها بها، ويحتمل اختصاصها ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في الخصائص، واستمر ذلك "حتى ماتت" فتزوج بعدها أمامة بنت أختها زينب بوصية من فاطمة بذلك، قاله الحافظ وغيره. "وعن أنس قال: جاء أبو بكر ثم عمر يخطبان فاطمة" كل لنفسه "إلى النبي" غاية لجاء "صلى الله عليه وسلم، فسكت ولم يرجع إليهما شيئا" أي: لم يرد عليهما جوابا بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 فانطلقا إلى علي رضي الله عنه يأمرانه بطلب ذلك. قال علي: فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجني فاطمة؟ قال: "وعندك شيء"؟ فقلت: فرسي وبدني، قال: "أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها"، فبعتها بأربعمائة وثمانين، فجئته بها، فوضعتها في حجره، فقبض منها قبضة فقال: "أي بلال: ابتع بها لنا طيبا"   وفي رواية أبي داود: أن أبا بكر خطبها فأعرض عنه، ثم عرم فأعرض عنه، ويروى أنه قال لكل منهما: أنتظر بها القضاء وأنها بكت لما خطباها، فلم يرد عليهما بشيء. "فانطلقا إلى علي رضي الله عنه يأمرانه بطلب ذلك" لرؤيتهما أنه أصلح لها من غيره، لقربه وخلوه من النساء، أو بطلب ذلك لهما على عادة الاستشفاع بالأقارب، وفيه بعد. "قال علي: فنبهاني لأمر" بنون وموحدة ثقيلة، أوقفاني على أمر كنت عنه غافلا، وهو خطبتها، فتنبهت "فقمت أجر ردائي" فرحا بما تنبهت له وهو خطبة خير النساء، "حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: تزوجني"، بحذف الهمزة المقدرة، أي: أتزوجني "فاطمة؟ قال:" "وعندك" فهو على تقدير همزة الاستفهام أيضا، "شيء" تصدقها به؟ "، "فقلت: فرسي وبدني" بفتح الباء والدال، درعي. وروى ابن إسحاق في السيرة الكبرى، عن علي، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هل عندك شيء"؟ " قلت: لا، قال: "فما فعلت الدرع التي سلحتكها"، يعني من مغانم بدر، وروى أحمد عن علي، أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فقلت: والله ما لي من شيء، ثم ذكرت صلته وعائدته، فخطبتها إليه، فقال: "وهل عندك شيء"؟، قلت: لا، قال: "فأين درعك الحطيمة التي أعطيتك يوم كذا وكذا"؟ قلت: هي عندي، قال: "فأعطها إياها" وله شاهد عند أبي داود عن ابن عباس، ولا منافاة؛ لأنه فهم أولا أن مراده النقد، فنفاه، فلما سأله عن درعة علم أنه لا يريد خصوص النقد، فقال: فرسي وبدني، وفي النهاية: الحطيمة التي تحطم السيوف، أي: تكسرها، أو العريضة الثقيلة، أو نسبة إلى بطن من عبد القيس يقال لهم حطمة، كهمزة ابن محارب كانوا يعملون الدروع، وهذا أشبه الأقوال، انتهى. "قال: "أما فرسك فلا بد لك منها" للحروب، "وأما بدنك فبعها"، أي: الدرع وهي مؤنثة وتذكر، "فبعتها" عن عثمان بن عفان "بأربعمائة وثمانين" درهما، ثم إن عثمان رد الدرع إلى علي فجاء بالدرع والدراهم إلى المصطفى، فدعا لعثمان بدعوات، كما في رواية "فجئته بها، فوضعتها في حجره فقبض منها قبضة،" مفعول به بضم القاف أكثر من فتحها، ما قبضت عليه من شيء، كما في القاموس والصحاح، والمعنى أخذ بيده دراهم قبض عليها، "فقال -أي بلال-" بفتح الهمزة وسكون الياء حرف نداء: "ابتع" اشتر "بها لنا طيبا". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سرير مشروط، ووسادة من أدم حشوها ليف. وقال لعلي: إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك. فجاءت مع أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وأنا في جانب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أههنا أخي"، قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك؟ قال: "نعم". ودخل صلى الله عليه وسلم فقال لفاطمة: "ائتني بماء"، فقامت إلى قعب في البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه ثم   وفي رواية ابن أبي خيثمة، عن علي أمر صلى الله عليه وسلم أن يجعل ثلث الأربعمائة وثمانين في الطيب، وعلى هذا فهذه القبضة ثلثها، أو أقل، وكملها إلى الثلث. ووقع عند ابن سعد وأبي يعلى، بسند ضعيف عن علي، فقال صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا ثلثين في الطيب وثلثا في الثياب" "وأمرهم أن يجهزوها، فجعل لها سريرا مشروطا" أي: مجعول فيه شرائط، أي: حبال. وفي القاموس: الشريط خوص مفتول يشرط به السرير ونحوه، "ووسادة من أدم حشوها ليف" وعن جابر: كان فرشهما ليلة عرسهما إهاب كبش، رواه ابن فارس. وفي رواية: كان لهما فراشان أحدهما محشو بليف، والآخر بحذاء الحذاءين وأربع وسائد، وسادتين من ليف وثنتين من صوف، ولا معارضة لجواز أن واحدة للنوم على السرير، والثلاثة في البيت. "وقال لعلي: إذا أتتك فلا تحدث شيئا" من جماع ولا مقدماته "حتى آتيك". زاد في رواية: فأرسل صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس، فهيأت البيت، فصلى العشاء، وأرسل فاطمة، "فجاءت مع أم أيمن" بركة الحبشية مولاته عليه السلام، "حتى قعدت" فاطمة مع أم أيمن "في جانب البيت وأنا"، أي: علي، كما في الرواية، "في جانب" آخر من البيت، "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعدما صلى العشاء الآخرة، "فقال: أههنا أخي! " قالت أم أيمن" مباسطة له عليه السلام، لا مستفهمة إذ لا يخفى حال علي عليها، "أخوك وقد زوجته ابنتك، قال: "نعم" هو كأخي في المنزلة والمواخاة، التي سلفت بين وبينه في الدين لا في النسب والرضاع، فلا يمتنع علي تزويج إياه بنتي. صح أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" "ودخل صلى الله عليه وسلم" البيت "فقال لفاطمة: "ائتني بماء" فقامت" امتثالا لأمره، زاد في رواية: تعثر في ثوبها، وربما قال: في مرطها من الحياء، "إلى قعب" بقاف مفتوحة، فعين ساكنة فموحدة، قدح كبير، أو صغير، أو يروي الرجل، كما في القاموس، وفي مقدمة الفتح: هو إناء من خشب "في البيت فأتت فيه بماء فأخذه ومج فيه" أي: أخذ منه ماء ووضعه في فمه، ثم رمى به في القعب، "ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 قال لها: "تقدمي"، فتقدمت: فنضح بين ثديها وعلى رأسها وقال: " اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". ثم قال: "أدبري" فأدبرت فصب بين كتفيها. ثم فعل مثل ذلك بعلي رضي الله عنه. ثم قال له: "ادخل بأهلك بسم الله والبركة". خرجه أبو حاتم، وأحمد في المناقب بنحوه. وفي حديث أنس عند أبي الخير القزويني الحاكمي: خطبها علي بعد أن خطبها أبو بكر ثم عمر ................................   قال لها: "تقدمي"، فتقدمت، فنضح" بفتحات رش "بين ثدييها وعلى رأسها وقال: "اللهم إني أعيذها بك" أجيرها بحفظك "وذريتها من الشيطان الرجيم" المطرود. وقد استجاب الله تعالى دعاء أم مريم، فما بالك بدعاء سيد الخلق. "ثم قال: "أدبري" بفتح الهمزة، "فأدبرت، فصب بين كتفيها، ثم فعل مثل ذلك بعلي رضي الله عنه" اختصر الرواية فلفظ: من عزى له ثم قال لعلي: "ائتني بماء"، قال: فعلمت الذي يريده، فقمت فملأت القعب ماء فأتيته به، فأخذه فمج فيه، ثم صب على رأسي وبين ثديي، ثم قال لي: "أدبر"، فصب بين كتفي، ثم قال: "اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم". وفي حديث أسماء بنت عميس، عند الطبراني تقديم علي على فاطمة في ذلك، "ثم قال له: "ادخل بأهلك باسم الله والبركة"، خرجه أبو حاتم" بن حبان التميمي البستي، "وأحمد في المناقب"، وكذا خرجه أبو داود كلاهما "بنحوه،" من حديث أنس، وحكايته ليلة البناء من قوله: وجاء رسول الله.. إلى آخر الحديث. أما عن مشاهدة بأن يكون دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خادمه، وكان ذلك قبل بلوغه، وقبل نزول الحجاب، وأما أن يكون حمله عن علي وهو ظاهر قوله، فعلمت الذي يريد.. إلخ، وروى النسائي عن علي: توضأ صلى الله عليه وسلم في إناء ثم أفرغه على علي وفاطمة، ثم قال: "اللهم بارك فيهما، وبارك لهما في شملهما"، وهو بالتحريك الجماع. في رواية: في شبليهما قال: في الصواعق، قيل: وهي تصحيف، فإن صحت فالشبل ولد الأسد، فيكون ذلك كشفا وإطلاعا منه صلى الله عليه وسلم على أنها تلد الحسنين، فأطلق عليهما شبلين وهما كذلك، انتهى. يروى عن علي أنه صلى الله عليه وسلم حين زوجه دعا بماء فمجه، ثم صبه، ثم رشه في جبينه وبين كتفيه، وعوذه بقل هو الله أحد والمعوذتين. "وفي حديث أنس عند أبي الخير القزويني الحاكمي" وابن عساكر، وابن شاذان، بنحوه قال: "خطبها علي،" طلب تزويجها، "بعد أن خطبها أبو بكر، ثم عمر" وذكرهما ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 فقال له عليه الصلاة والسلام: "قد أمرني ربي بذلك". قال أنس: ثم دعاني عليه الصلاة والسلام بعد أيام فقال: "ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وعدة من الأنصار"، فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم وكان علي غائبا فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع المرهوب من عذابه وسطوته، النافذ أمره في سمائه وأرضه، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه، وأكرمهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم   لعلي كما في حديثه السابق فوقه، "فقال له عليه الصلاة والسلام: "قد أمرني ربي بذلك"، التزويج المفهوم من خطبها. وقد روى الطبراني برجال ثقات مرفوعا، "أن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي"، ولا يقال لم أخره حتى سأله علي لجواز أن الأمر ورد بعد سؤال علي، أو قبله بأن يزوجه إذا سأله. "قال أنس: ثم دعاني عليه الصلاة والسلام بعد أيام، فقال: "ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن" بن عوف رضي الله عنهم، "وعدة من الأنصار" جماعة بينهم له، لا أنه قال له: أدع عدة، ففي رواية ابن عساكر، عن أنس: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ غشيه الوحي، فلما سرى عنه قال: "إن ربي أمرني أن أزوج فاطمة من علي، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر"، وسمي جماعة من المهاجرين وبعددهم من الأنصار، "فلما اجتمعوا وأخذوا مجالسهم"، أي: قعد كل واحد في مجلسه اللائق به، "وكان علي غائب" عن هذا المجلس، وما رواه ابن عساكر أنه عليه السلام أمر عليا أن يخطب لنفسه، فخطب، وأوجب له صلى الله عليه وسلم في حضوره فقبل، واستشهد على الصحابة الحاضرين على ذلك، فقال ابن كثير: هذا خبر منكر، "فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله المحمود" من أسماء الله تعالى، كما صرح به هذا الخبر، وعده بعض العلماء في أسمائه، وفي شعر حسان: فذو العرش محمود؛ لأنه تعالى حمد نفسه وحمده عباده "بنعمته" التي لا تتناهى ولا يستطاع حصرها ولا تضاهي، "المعبود بقدرته" إذ لا قدرة على عبادته إلا بأقداره، "المطاع" المتبع الذي ينقاد له فيما أراده وفي التنزيل: {أَطِيعُوا اللَّه} [الأنفال: 20] ، "المرهوب" الذي يخاف "من عذابه" وفي التنزيل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُون} [البقرة: 40] ، "وسطوته" قهره وإذلاله، "النافذ أمره في سمائه وأرضه" جنسهما، فالمراد جميع السموات والأرضين، "الذي خلق الخلق" قدرهم وأوجدهم "بقدرته، وميزهم بأحكامه، وأعزهم بدينه وأكرمهم" كلهم مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم وملكهم، "بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم". ودليل العموم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فإرساله إكرام لجميع الخلائق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 إن الله تبارك اسمه وتعالت عظمته جعل المصاهرة سببا لاحقا، أمرا مفترضا، أوشج به الأرحام، وألزم به الأنام"، فقال عز من قائل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان: 54] فأمر الله يجري إلى قضائه، وقضاؤه يجري إلى قدره، ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت   ويحتمل تخصيص الإكرام بالمؤمنين من الخلق، والأول أولى "إن الله تبارك اسمه، وتعالت عظمته، جعل المصاهرة"، المناكحة، "سببا" أمرا يتوصل به إلى اتصال بعض الأنساب ببعض "لاحقا" لازما لا يستغني عنه، ولا ينفك عن الناس. "وأمرا مفترضا" ثابتا، وهو قريب في المعنى مما قبله، فهو إطناب مستحسن في الخطب، "أوشج" بشين وجيم، أوصل "به الأرحام" القرابات، فإن من تزوج من قوم حصل بينه وبينهم قرابة بالنسل، ولم يذكر المجد، تعديته بالهمزة. وفي المغني: النقل بالهمزة قيل: كله قياسي، وقيل: سماعي في القاصر، والمتعدي إلى واحد. والحق أنه قياسي في القاصر، سماعي في غيره، وهذا ظاهر مذهب سيبويه، "وألزم" بلام وزاي، "به" بالتلبس بذلك السبب "الأنام"، وفي نسخة: بكاف وراء، من الإكرام "فقال عز من قائل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} " [الفرقان: 54] ، من المني إنسانا "فجعله نسبا"، أي: ذا نسب، "وصهرا" ذا صهر، بأن يتزوج ذكر أو أنثى طلبا للتناسل. قال الكيا الهراسي: وهو يدل على أن الله جعل الماء سبب الاجتماع والتآلف والرضاع، وفيه إشارة إلى المحرمات بالنسب والسبب، وأن كل ذلك تولد من الماء، "فأمر الله يجري إلى قضائه"، هو إرادته إيجاد العالم على نظامه العجيب، كذا في شرح المشكاة للشهاب المكي، وفي شرحه للأربعين، هو عند الأشعرية إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، وفي شرح المقاصد: هو عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم مجتمعة، ومجملة على سبيل الإبداع. "وقضاؤه يجري إلى قدره" هو تعلق الإرادة بالأشياء في أوقاتها، كما في شرح المشكاة، وفي شرح الأربعين: إيجاده على ما يطابق العلم، وأنه يرحم من يشاء من خلقه فضلا، ويعذب من شاء عدلا، وفي شرح المقاصد: هو عبارة عن وجود مواد الموجودات الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد، فيما لا يزال بشهادة وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم، "ولكل قضاء قدر، ولكل قدر أجل" مدة، "ولكل أجل كتاب" لكل وقت وأمد حكم مكتوب فيه تحديد، "يمحو" منه "ما يشاء ويثبت" بالتخفيف والتشديد، فيه ما يشاء من الأحكام وغيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 وعنده أم الكتاب. ثم إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته على أربعمائة مثقال فضة إن رضي بذلك علي". ثم دعا صلى الله عليه وسلم بطبق من بسر ثم قال: "انتهبوا"، فانتهبنا. ودخل علي فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه ثم قال: "إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك"؟ فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال: عليه الصلاة والسلام   واستدل به الحنفية على تبدل السعادة والشقاوة، وأجاب الأشعرية: بأن ذلك التبديل في غير الكتاب الأزلي لقوله: "وعنده أم الكتاب"، أي: أصله الذي لا يغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل. وقيل: أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ؛ إذ ما من كائن إلا وهو مكتوب فيه وذكر هذا في هذا المقام للإلماج إلى أن من سنن المرسلين النكاح؛ لأن صدر الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} ، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة: إني أريد أن أتبتل، قالت: لا تفعل، أما سمعت الله يقول: وتلت الآية. "ثم" أقول: "إن الله تعالى أمرني أن أزوج فاطمة من علي بن أبي طالب، فاشهدوا أني قد زوجته" إياها "على أربعمائة مثقال فضة". وفي الحديث السابق: أنه باع بدنه بأربعمائة وثمانين درهما، فيجوز أن الدراهم كانت مقدرة بما تساوي المثاقيل وزنا، أو أنه زاد على ما باع به الدرع، "إن رضي بذلك علي" وفي ذخائر العقبى: اختلف في صداقها كيف كان، فقيل: كان الدرع ولم يكن إذ ذاك بيضاء ولا صفراء، وقيل: كان أربعمائة وثمانين، وورد ما يدل لكلا القولين. ويشبه أن العقد وقع على الدرع، وأنه صلى الله عليه وسلم أعطاها عليا ليبيعها فباعها، وأتاه بثمنها، فلا تضاد بين الحديثين، انتهى ملخصا. وهذا الجمع مدلول الحديث السابق، ثم إياك أن تفهم أن هذا الصداق يماثلها. وقد ذكر السيوطي، أنه رأى في بعض المجاميع عن التكريتي: أن مهر المثل لا يتصور في حق فاطمة؛ لأنه لا مثل لها، قال وهو قول حسن بالغ: "ثم دعا صلى الله عليه وسلم بطبق" أي: طلب طبقا، على التوسع، أدخلت عليه الباء أو الباء سببية، والمفعول محذوف تقديره: دعا رجلا بسبب إحضار طبق "من بسر، ثم قال: "انتهبوا" أمر من الانتهاب، وهو أخذ الجماعة الشيء على غير اعتدال، "فانتبهنا، ودخل علي" بعد ذلك، "فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه" تبشيرا له، بأن الله رضيها لمن خطبها قبل، كما أرشد له قوله، "ثم قال: "إن الله عز وجل أمرني أن أزوجك فاطمة" فلا تنافي بين هذا وبين السابق، أن عليا خطبها وركن له المصطفى "على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت بذلك"؟ فقال: قد رضيت بذلك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 "جمع الله شملكما وأعز جدكما، وبارك عليكما، وأخرج منكما كثيرا طيبا". قال أنس: فوالله لقد أخرج الله منهما الكثير الطيب. والعقد لعلي وهو غائب محمول على أنه كان له وكيل حاضر، أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك، ثم عقد معه لما حضر،   "جمع الله شملكما وأعز جدكما"، بفتح الجيم، حظكما، "وبارك عليكما" ودعا لهما أيضا بنحو ذلك ليلة البناء كما مر، "وأخرج منكما" نسل "كثيرا طيبا". وفي رواية أبي الحسن بن شاذان: أنه لما زوجه وهو غائب قال: "جمع الله شملهما، وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة، ومعادن الحكمة، وأمن الأمة" فلما حضر علي تبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله أمرني أن أزوجك فاطمة، وإن الله أمرني أن أزوجكها على أربعمائة مثقال فضة"، فقال: رضيتها يا رسول الله، ثم خر علي ساجدا لله شكرا، فلما رفع رأسه قال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكما، وبارك فيكما، وأعز جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب". "قال أن" بن مالك: راوي الحديث رضي الله عنه مشيرا إلى أن الله تعالى أجاب دعاءه صلى الله عليه وسلم، مؤكدا ذلك بالقسم، "فوالله لقد أخرج" الله "منهما الكثير الطيب" الطاهر، وجعل فيهم علماء وأولياء وكرماء، وملأ بهم الأرض ولله الحمد، وهم نسل النبوة. وقد روى الطبراني والخطيب، عن ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يبعث نبيا قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي"، ثم حديث أنس هذا، قال ابن عساكر: غريب فيه مجهول، وأقره الحافظ في اللسان، وإشارة صاحب الميزان إلى أنه كذب مردوده، كيف وله شاهد عند النسائي بإسناد صحيح عن بريدة: أن نفرا من الأنصار قالوا لعلي: لو كانت عندك فاطمة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ليخطبها، فسلم عليه فقال: "ما حاجة ابن أبي طالب"؟ قال: فذكرت فاطمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "مرحبا وأهلا" فخرج إلى الرهط من الأنصار ينتظرونه، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما أدري غير أنه قال لي: "مرحبا وأهلا"، قالوا: يكفيك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما قد أعطاك الأهل، وأعطاك الرحب، فقلما كان بعدها زوجة، قال: "يا علي لا بد للعرس من وليمة"، قال سعد: عندي كبش، وجمع له رهط من الأنصار آصعا من ذرة، فلماكان ليلة البناء، قال: "يا علي لا تحدث شيئا حتى تلقاني"، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ، ثم أفرغه على علي وفاطمة، فقال: "اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما"، "والعقد لعلي وهو غائب محمول، على أنه كان له وكيل حاضر" قبل العقد من المصطفى فورا، "أو على أنه لم يرد به العقد، بل إظهار ذلك ثم عقد معه لما حضر" وقد يرد على هذا قوله: "اشهدوا أني قد زوجته"، ثم لم ينقل عقده له بعد حضوره، إلا أن يقال قوله له: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 أو على تخصيصه بذلك، جمعا بينه وبين ما ورد، مما يدل على شرط القبول على الفور. وأخرج الدولابي، عن أسماء قالت: لقد أولم علي على فاطمة، فما كان وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن ردعه عند يهودي بشطر من شعير، وكانت وليمته آصعا، من شعير وتمر وحيس. والحيس: التمر والأقط.   "أمرني الله أزوجك فاطمة"، وإن كان إخبارا تضمن العقد لقوله: "أرضيت"؟، فقال علي: "قد رضيت"، "أو على تخصيصه بذلك" لأن له صلى الله عليه وسلم أن يزوج من شاء لمن شاء، "جمعا بينه وبين ما ورد مما يدل على شرط القبول على الفور. وقد ذهب المالكية إلى أن التفريق اليسير لا يضر، فلعل غيبة علي كانت قريبة جدا، وقد يفهم من ظاهر الحديث أنه أتى في المجلس وهم ينتهبون البسر أو بعده، وأجاز أبو حنيفة التفريق مطلقا، ومنعه الشافعي مطلقا، هذا وأخذ بعضهم من هذا الخبر، أن نكاح القرابة القريبة ليس خلاف الأولى، كما تقول الشافعية، وأجيب بأن عليا قريب بعيد؛ إذ المراد بالقرابة القريبة من هي في أول درجات الخؤلة والعمومة، وفاطمة بنت ابن عم، فهي بعيدة، ونكاحها أول من الأجنبية، وأما الجواب بأن عليا لم يكن كفئا حينئذ لفاطمة سواه، فرد بأن أباه كافر، وأبوها سيد الخلق، "وأخرج الدولابي" بفتح الدال وضمها، الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد الرازي، "عن أسماء قالت: لقد أولم علي على فاطمة، فما كان" وجد "وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته" لتقللهم حينئذ "رهن درعه عند يهودي" لا ينافي أنه باعها؛ لأن عثمان ردها له، كما مر أو أنها غيرها لتخلل مدة بين العقد والبناء. ولم أر تسمية اليهودي "بشطر من شعير" قيل: أراد نصف مكوك، وقيل: صف وسق، قاله في النهاية، "وكانت وليمته آصعا" بفتح الهمزة وضم الصاد ومد "من شعير وتمر وحيس" وكبش من عند سعد، وآصع ذرة من عند جماعة من الأنصار. كما في حديث بريدة "والحيس"، بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية وسين مهملة، "التمر والأقط" فعطفه على التمر من عطف الكل على الجزء، وهو بفتح الهمزة وكسر القاف. قال عياض: هو جبن اللبن المستخرج زبده، وقيل: لبن مجفف مستحجر يطبخ به، وفي القاموس: الحيس: تمر يخلط بسمن، وأقط يعجن شديدا، ثم يندر منه نوه. قال الحافظ: وقد يخلط مع هذه الثلاثة غيرها، كالسويق انتهى، ولا ينافي هذا قول الشاعر: التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط لأنه أراد أنه لم يختلط فيما حضره، وأنها حيس بالقوة لوجود الأجزاء دون الخلط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 وأخرج أحمد في المناقب عن علي: كان جهاز فاطمة رضي الله عنها خميله وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف.   "وأخرج" الإمام "أحمد في المناقب عن علي" قال: "كان جهاز فاطمة رضي الله عنها، خميله" باللام والهاء، بساط له خمل، أي: هدب رقيق، والجمع خميل بحذف الهاء، "وقربة ووسادة،" بكسر الواو، مخدة "من أدم" جلد "حشوها ليف،" أي: وسريرا مشروطا، كما في الرواية السابقة، ومر أن في رواية: أربع وسائد، وأنه يجمع بأن واحدة على السرير، وثلاثة في البيت، ومر أن فرشهما ليلة عرسهما كان جلد كبش، وأنه كان لهما فراشان، ولا معارضة؛ لأن الجهاز مجموع ذلك، فبعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر. وروي عن الحسن البصري قال: كان لعلي وفاطمة قطيفة، إذا لبسوها انكشفت ظهورهما، وإذا لبسوها بالعرض انكشفت رءوسهما، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة أيام لا يدخل عليهما بعد البناء، ثم دخل في الرابع في غداة باردة وهما في لحاف واحد، فقال: "كما أنتما"، وجلس عند رأسهما، ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي أحدهما فوضعها على صدره وبطنه، ليدفيهما، وأخذت فاطمة الأخرى فوضعتها على صرها وبطنها لتدفيهما، وطلبت خادما فأمرها بالتسبيح والتحميد والتكبير. وروي عن الحسن البصري قال: كان لعلي وفاطمة قطيفة، إذا لبسوها انكشفت ظهورهما، وإذا لبسوها بالعرض انكشفت رءوسهما، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة أيام لا يدخل عليهما بعد البناء، ثم دخل في الرابع في غداة باردة وهما في لحاف واحد، فقال: "كما أنتما"، وجلس عند رأسهما، ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي أحدهما فوضعها على صدره وبطنه، ليدفيهما، وأخذت فاطمة الأخرى فوضعتها على صدرها وبطنها لتدفيهما، وطلبت خادما فأمرها بالتسبيح والتحميد والتكبير. وعن أنس قال: جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني وابن عمي، ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف ناضحنا بالنهار، فقال: "يا بنية، اصبري، فإن موسى بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين ما لهما فراش إلا عباءة قطوانية"، أي: بيضاء قصيرة الخمل، كما في النهاية، وهو بفتحتين نسبة إلى موضع بالكوفة كما في القاموس، وفي الصحيحن ومسند أحمد عن علي أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى مما تطحن، فأتى النبي صلى اله عليه وسلم سبي، فانطلقت فلم تجده، فأخبرت عائشة، فلما جاء صلى الله عليه وسلم، أخبرته عائشة بمجئيء فاطمة، فجاء صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم فقال: "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: "ألا أعلمكما خيرا مما سألتماني"؟، قلنا: بلى، قال: "كلمات علمنيهن جبريل، إذ أخذتما مضاجعكما من الليل، فكبرا ثلاثا وثلاثين وسبحا ثلاثا وثلاثين، وأحمد ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم"، ويأتي إن شاء الله تعالى من مناقبهما في الأولاد والكتب النبوية، والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 " قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة ": ثم سرية محمد بن مسلمة وأربعة معه إلى كعب بن الأشرف اليهودي، لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. روى أبو داود والترمذي من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن   قتل كعب بن الأشرف: "ثم سرية محمد بن مسلمة،" بفتح الميم واللام، الأنصاري الأوسي، أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو عبد الله شهد بدرا والمشاهد كلها، وكان من فضلاء الصحابة، وهو أكبر من اسمه محمد فيهم، ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول الواقدي، وهو ممن سمي محمدا في الجاهلية ومات بالمدينة في صفر سنة ثلاث وأربعين. والإضافة بيانية، أي: السرية التي هي محمد، "وأربعة معه،" سيأتي أسماؤهم، وخص بالذكر لأنه الأمير عليهم والملتزم لقتل كعب، وإطلاق السرية عليهم، على قول ابن السكيت وغيره، أن مبدأها خمسة، كما مر "إلى كعب بن الأشرف،" بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الراء وبالفاء "اليهودي" حلفا. قال ابن إسحاق وغيره: كان عربيا من بني نبهان، وكان أبوه أصاب دما في الجاهلية، فأتى المدينة، فحالف بني النضير، فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، شاعرا مجيدا، ساد يهود الحجاز بكثرة ماله، فكان يعطي أحبار يهود ويصلهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، جاءه أحبار اليهود من بني قينقاع، وبني قريظة لأخذ صلته على عادتهم، فقال لهم: "ما عندكم من أمر هذا الرجل؟ "، قالوا: هو الذي كنا ننتظر، ما أنكرنا من نعوته شيئا، فقال لهم: "قد حرمتم كثيرا من الخير، ارجعوا إلى أهليكم، فإن الحقوق في مالي كثير"، فرجعوا عنه خائبين، ثم رجعوا إليه وقالوا له: إنا أعجلنا فيما أخبرناك به أولا، ولما استنبانا علمنا أنا غلطنا، وليس هو المنتظر، فرضي عنهم ووصلهم، وجعل لكل من تابعهم من الأحبار شيئا من ماله، وكانت كما قال ابن سعد: "لأربع عشرة ليلة" أي: في الليلة الرابعة عشر، لما يأتي أن قتله كان ليلا "مضت من ربيع،" بالتنوين، "الأول" وصف تابع له في الإعراب، وتجوز الإضافة من إضافة الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظين، نحو: حب الحصيد، واستعماله بدون شهر مخالف لقول الأزهري: العرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان، للفرق بين ربيع الشهور والزمان، لاشتراك ربيع بين الشهر والفصل. فالتزموا لفظ شهر في الشهر، وحذفوه في الفصل للفصل، ولم يبال المصنف بذلك تبعا للحافظ، لأمن اللبس هنا لا سيما مع قوله: "على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة" النبوية، "روى أبو داود والترمذي من طريق الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك" الأنصاري، أبي الخطاب المدني، الثقة العالم من رجال الصحيحين، مات في إمارة هشام، "عن أبيه" عبد الله أحد الإخوة الأنصاري، الشاعر المدني الثقة، يقال له: رؤية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 كعب بن مالك عن أبيه: أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط، فأراد استصلاحهم، وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر. فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه   مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين. "أن كعب بن الأشرف كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش،" واستأنف قوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط،" جمع خلط كأحمال وحمل، أي: مجتمعون، من قبائل شتى، "فأراد" لاختلاف عقائدهم وأحوالهم "استصلاحهم" بجمعهم على كلمة الإسلام، "وكان اليهود والمشركون يؤذون المسلمين أشد الأذى،" كما قال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] ، "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم،" لفظ الرواية كما في الفتح، فأمر الله رسوله والمسلمين، "بالصبر" قال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186] . قال البيضاوي: من معزوماتها التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله عليه، أي: أمر به وبالغ فيه، "فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذاه" وقد كان عاهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن لا يعين عليه أحد، فنقض كعب العهد، وسبه وسب أصحابه، وكان من عداوته، أنه لما قدم البشير أن يقتل من قتل ببدر، وأسر من أسر، قال كعب: أحق هذا؟ أترون أن محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان فهؤلاء أشراف العرب، وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما أيقن الخبر، ورأى الأسرى، مقرنين كبت وذل، وخرج إلى قريش يبكي على قتلاهم ويحرضهم على قتاله صلى الله عليه وسلم فنزل بمكة على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وعنده زوجه عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فأنزلته وأكرمته، فجعل يحرض على النبي، وينشد الأشعار، فبلغه ذلك، فدعا حسان فهجا المطلب وزوجته، وأسلما بعد رضي الله عنهما، فلما بلغ ذلك عاتكة ألقت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي، فخرج من عندها وصار يتحول من قوم إلى قوم، فيفعل مثل ما فعل عند عاتكة ويبلغ خبره النبي صلى الله عليه وسلم، فيذكره لحسان، فيهجوه فيفعلون معه كما فعلت عاتكة، ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. ذكر ابن إسحاق وغيره قال في الإملاء، أي: تغزل فيهن وذكرهن بسوء، قال السهيلي: وكان قد شبب بمكة بأم الفضل زوج العباس فقال: أراحل أنت لم ترحل بمنقبة ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لنا بابن الأشرف"؟ وفي أخرى: "من لكعب بن الأشرف" أي من ينتدب لقتله، "فقد استعلن بعداوتنا وهجانا، وقد خرج إلى قريش فجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني الله بذلك". ثم قرأ على المسلمين {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ   في أبيات رواها يونس عن ابن إسحاق. "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه" ففعل كما يأتي، "وفي رواية:" عند ابن عائذ، من طريق أبي الأسود عن عروة، "قال عليه الصلاة والسلام: "من يتكفل لنا بابن"، أي: يقتل ابن "الأشرف"، فإنه قد آذى الله ورسوله"، قال في الفتح: "أي: من" الذي "ينتدب لقتله،" أي: يتوجه له، وجمع شيخنا بين هذه الروايات، بأنه سأل خصوص سعد مرة، ثم قال: "من لنا بابن الأشرف"؟ مرة ثانية، وفي أخرى: "من لكعب بن الأشرف"؟، وفي رواية ابن عائذ عن عروة، "فقد استعلن" الفاء تعليلية، والسين للتأكيد، أي: أعلن بعداوتنا" أو للطلب، والياء زائدة، أي: طلب إظهار عداوتنا حتى من غيره، "وهجانا، وقد خرج إلى المشركين" بمكة "فجمعهم" حملهم "على قتالنا" بقوله الشعر لهم، وتذكيرهم قتلى بدر. وعند ابن عائذ أيضا عن الكلبي: أنه خالف قريشا عند أستار الكعبة على قتال المسلمين، ثم لفظ ابن عائذ عن عروة: "فأجمعهم على قتالنا"، وتوقف فيه الجمال ابن هشام النحوي، بقول اللغويين أجمع في المعاني، خاصة نحو: فأجمعوا أمركم، وأما جمع، ففي المعاني كجمع كيده، والإجرام كجمع مالا، قال: فإن صح لفظ الحديث وجب تأويله على حذف مضاف، أي: فاجمع رأيهم، انتهى. "وقد أخبرني الله بذلك". حذف من الرواية ما لفظه: ثم قدم أخبث ما كان ينتظر قريشا تقدم فيقاتلنا، ثم قرأ على المسلمين" ما أنزل الله عليه فيه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] . قال الجلال: صنمان لقريش، وقال البيضاوي: الجبت الصنم في الأصل، واستعمل في كل ما يعبد من دون الله، وقيل: أصله الجبس، وهو الذي لا خير فيه، فقلبت سينه تاء، والطاغوت الباطل من معبود أو غيره. {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} لأجلهم وفيهم {هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} أقوم دينا، وأرشد طريقه، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} طردهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 51، 52] . وفي الإكليل: "فقد آذانا بشعره، وقوى المشركين".   {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} ، مانعا من عذابه، ذكر ابن عائذ في صدر هذه الرواية عن أبي الأسود، عن عروة قال: أنبعث عدو الله يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويمتدح عدوهم، ويحرضهم عليهم، فلم يرض بذلك حتى ركب إلى قريش فاستقواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحب إليك أم دين محمد وأصحابه، وأي ديننا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟، فقال: أنتم أهدى سبيلا وأفضل، إلى أن قال: فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَاب} [آل عمران: 23] الآية، وخمس آيات فيه وفي قريش، فجزم عروة بأنها نزلت في كعب، ونحوه ما روى أحمد وغيره، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب مكة قالت قريش: ألا ترى إلى هذا المنبصر المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، قال: أنتم خير، فنزل فيهم: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَر} [الكوثر: 3] ، ونزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} إلى {نصيرا} [آل عمران: 23] . وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس، كان الذين خربوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والربيع، وعمارة، وهوذة، فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود، وأهل العلم بالكتب الأولى، فسلوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] ، إلى قوله: {مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] ، ولذا قال الجلال والبيضاوي: أنها نزلت في كعب، وفي جمع من اليهود خرجوا إلى مكة وساقا نحو القصة، وزاد البيضاوي: إنهم سجدوا لآلهة الكفار، ليطمئنوا إليهم. وقوله في صدر عبارته نزلت في يهود، قالوا: عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يقول محمد، وقيل: في حيي وكعب في جمع من اليهود.. إلخ، ليس بخلاف محقق، لإمكان حمل الأول المبهم على الثاني المبين، خصوص من نزلت فيه كما هو الواقع. "وفي الإكليل" لأبي عبد الله الحاكم من حديث جابر: "فقد آذانا بشعره وقوى المشركين" علينا، قال الحافظ: ووجدت لقتل كعب بن الشرف سببا آخر في فوائد عبد الله بن إسحاق الخراساني، بسند ضعيف من مرسل عكرمة، وهو أنه صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود، أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوليمة، فإذا حضر فتكوا به، ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه، فأعلمه جبريل بما أضمروا بعد أن جالسه، فقام يستره جبريل بجناحه، فلما فقدوه تفرقوا، فقال حينئذ: "من ينتدب لقتل كعب؟ "، ويمكن الجمع بتعدد الأسباب، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وفي رواية ابن إسحاق: فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: "فافعل إن قدرت على ذلك". قال: يا رسول الله إنه لابد لنا أن نقول، قال: "قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك".   "وفي رواية ابن إسحاق" عن شيخه عبد الله بن أبي المغيث بن أبي بردة، "فقال محمد بن مسلمة، أخو بني عبد الأشهل: أنا" أتكفل "لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: "فافعل إن قدرت على ذلك"، قال: "وفي البخاري عن جابر، فقال: أي محمد: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم". وعند الحاكم، عن جابر فقال صلى الله عليه وسلم: ""أنت له"، وفي رواية ابن عائذ، عن عروة، فسكت صلى الله عليه وسلم، فقال محمد بن مسلمة: أقر صامت ومثله في فوائد سمويه، قال الحافظ: فإن ثبت احتمل أنه سكت أولا، ثم أذن له، فإن في رواية عروة أيضا أنه قال له: "إن كنت فاعلا فلا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ"، قال: فشاروه، فقال له: توجه إليه، وأشك إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعاما، انتهى. وعند ابن إسحاق: فرجع محمد بن مسلمة ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه، فذكر ذلك له صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال: "لم تركت الطعام والشراب"؟، قال: يا رسول الله قلت لك قولا لا أدري هل أفين لك به أم لا؟، قال: "إنما عليك الجهد". وعند ابن عبد البر: فمكث أياما مشغول النفس بما وعده من قتل ابن الأشرف، فأتى أبا نائلة، وعباد بن بشر، والحارث بن أوس، وأبا عبس بن جبر فأخبرهم بما وعد به رسول الله صل الله عليه وسلم من قتله، فأجابوه وقالوا: كلنا نقتله، ثم أتوا رسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله، لا بد لنا أن نقول" قولا غير مطابق للواقع، يسر كعبا لنتوصل به إلى التمكن من قتله، وقال المبرد: حقه أن يقول نتقول، يريد نفتعل قولا نحتال به، "قال: "قولوا مابدا لكم فأنتم في حل من ذلك" فأباح لهم الكذب؛ لأنه من خدع الحرب. وفي البخاري: قال محمد: فأذن لي أن أقول شيئا، قال: "قل"، فكأنه قال له ذلك، ثم قاله للجماعة. قال الحافظ: وظهر من سياق ابن سعد للقصة أنهم استأذنوه في أن يشكوا منه وأن يعيبوا دينه، انتهى. قال ابن المنير: هنا لطيفة هي أن النيل من عرضه كفر، ولا يباح إلا بإكراه لمن قلبه مطمئن بالإيمان، وأين الإكراه هنا، وأجاب أن كعبا كان يحرض على قتل المسلمين، وكان في قتله خلاصهم، فكأنه أكره الناس على النطق بهذا الكلام، بتعريضه إياهم للقتل، فدفعوا عن أنفسهم بألسنتهم، مع أن قلوبهم مطمئنة، بالإيمان، انتهى. وهو حسن نفيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وأبو نائلة -بنون وبعد الألف تحتية-   وفي البخاري ومسلم: فأتاه محمد بن مسلمة، فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، زاد الواقدي: ونحن ما نجد ما نأكل، وفي مرسل عكرمة: إن نبينا أراد منا الصدقة، وليس مال نصدقه. انتهى. وأنه قد عنانا، وإني قد أتيتك أستسلفك، قال كعب: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه فلا يجب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. وفي رواية عروة: وأحب أن تسلفنا طعاما، قال: وأين طعامكم؟ قالوا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه، قال: ألم يأن لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل، انتهى. قال: نعم ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟، قال: ارهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ زاد ابن سعد من مرسل عكرمة: ولأنا منك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك. وفي رواية الخراساني: وأنت رجل حسان يعجب النساء، وحسان بضم الحاء، وشد السين المهملتين، ولعلهم قالوا له: أنت أجمل العرب تهكما، وإن كان هو في نفسه جميلا كما قال الحافظ، انتهى. قال: فارهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهنك أبناءنا، فيسب أحدهم، فيقال رهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا ولكنا نرهنك اللأمة، يعني السلاح. وفي مرسل عكرمة: ولكنا نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه، قال: نعم. وفي رواية الواقدي: وإنما قالوا له ذلك لئلا ينكر عليهم مجيئهم إليه بالسلاح، انتهى. فواعده أن يأتيه هكذا في الصحيح: أن الذي خاطب كعبا بذلك، هو محمد بن مسلمة، وعند ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي: أنه أبو نائلة جاءه وقال له: ويحك يابن الأشرف، إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السيل حتى جاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب: أنا ابن الأشرف، فأما والله لقد كنت أخبرك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال: إني أردت أن تبيعنا طعاما لك، ونرهنك ونوثق لك، وتحسن في ذلك وإن معي أصحابا على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فتبيعهم وتحسن نرهنك من الحلقة ما فيه وفاء، فقال: إن في الحلقة لوفاء، وأومأ الدمياطي إلى ترجيحه، قال الحافظ: ويحتمل أن كلا منهما كلمه في ذلك لأن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة ابن أخيه، "فاجتمع في قتله،" أي: الذهاب له، "محمد بن مسلمة وأبو نائلة، بنون بعد الألف تحتية،" وهذا لفظ الفتح. وفي شرح المصنف: وبعد الألف همزة، ويمكن الجمع أنه يكتب بالياء، وينطق بالهمزة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 سلكان بن سلامة -وكان أخا كعب من الرضاعة- وعباد بن بشر، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر. وهؤلاء الخمسة من الأوس.   "سلكان،" بكسر السين المهملة، وإسكان اللام اسمه، وقيل: لقبه واسمه سعد، وقيل: سعد أخوه "ابن سلامة" بن وقش، بسكون القاف وفتحها، الأوسي الأشهلي. شهد أحدًا وغيره، وكان شاعرا ومن الرماة المذكورين كما في الإصابة، "وكان أخا كعب من الرضاعة" كما في البخاري. وذكروا أنه كان نديمه في الجاهلية فكان يركن إليه. وعند الواقدي: أن محمد بن مسلمة كان أيضا أخاه، ووقع في جميع نسخ مسلم إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعه، وأبو نائلة، ونقل عياض عن شيخه القاضي الشهيد، يعني الحافظ أبا علي بن سكرة، أن صوابه أبو نائلة بلا واو، كما ذكر أهل السير: أن أبا نائلة كان رضيعا لابن مسلمة، انتهى فتحصل أن أبا نائلة رضيع لمحمد وكعب "وعباد" بفتح العين وشد الموحدة. "ابن بشر" بكسر الموحدة وإسكان المعجمة، الأشهلي الأوسي البدري، من كبار الصحابة، استشهد يوم اليمامة، وله خمس وأربعون سنة. قال البرهان: ورأيت بخط ابن الجوزي في جامع الترمذي ابن بشير بزيادة يا ولا أعلم ذلك في الصحابة، "والحارث بن أوس بن معاذ" بن النعمان بن امرئ القيس، ابن أخي سعد بن معاذ. ووقع في رواية الحميدي الحارث بن معاذ، نسبه إلى جده ومن قال: الحارث بن أوس بن النعمان، نسبه إلى جده الأعلى، وذكر ابن عائذ: أن عمه سعدا بعثه مع ابن مسلمة، وقول ابن الكلبي وتبعه أبو عمر، استشهد يوم أحد، وهو ابن ثمان وعشرين سنة. قال في الإصابة: وهم؛ لأن أحدًا قبل الخندق بمدة. وقد روى أحمد وصححه ابن حبان عن عائشة قالت: خرجت يوم الخندق، فسمعت حسا فالتفت فإذا أنا بسعد بن معاذ، ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس، نعم ذكر ابن إسحاق في شهداء أحد الحارث بن أوس بن معاذ، لكن لم يقل إنه ابن أخي سعد، فهو غيره، انتهى ملخصا. "وأبو عبس" بمهملتين بينهما موحدة، عبد الرحمن على الصحيح كما قل النووي وغيره، وقيل: عبد الله "بن جبر" بفتح الجيم، وإسكان الموحدة، وقيل: ابن جابر بن عمرو بن زيد الأنصاري الأوسي الحارثي البادري، المتوفى سنة أربع وثلاثين عن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان. له في الكتب الستة ومسند أحمد حديث واحد وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار". "وهؤلاء الخمسة من الأوس" فتفردت الأوس بقتل كعب، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 ....................................   تفردت الخزرج بقتل سلام بن أبي الحقيق، قاله عبد الغني الحافظ، وفي البخاري عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار: أن ابن مسلمة جاء معه برجلين، قال سفيان: وقال غير عمرو، وأبو عبس بن جبر والحارث بن أوس، وعباد بن بشر. قال الحافظ: فعلى هذا كانوا خمسة، وكذا سماهم في رواية ابن سعد، ويؤيده قول عباد بن بشر، وكان الله سادسنا، وهو أولى مما وقع في رواية الحاكم وغيره، إنهم ثلاثة فقط، ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرة ثلاثة، وفي الأخرى خمسة، انتهى. ووقع في الشامية عدهم ستة، فزاد الحارث بن عبس، وفيه نظر، فليس في الصحابة من سمي بذلك إلا الحارث بن عيسى، وقيل: ابن عبس، بالموحدة العبدي أحد وفد عبد القيس، كما في الإصابة وقدوم عبد القيس سنة تسع ولهم قدمة قبل ذلك سنة خمس وأياما كان، فهذه القصة سابقا على القدمتين؛ لأنها في الثالثة، وأيضا فليس أوسيا، والذاهبون لقتله أوسيون، باتفاق. وأخرج ابن إسحاق بإسناد حسن. عن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم" ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى بيته وهو في ليلة مقمرة، وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، وكان حديث عهد بعرس، فهتف به أبو نائلة، فوثب على ملحفته فأخذته امرأته بناحيتها وقالت: إنك امرؤ تحارب، وإن أصحاب الحروب لا ينزلون في مثل هذه الساعة، قال: إنه أبو نائلة لو وجدني نائما ما أيقظني، فقالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، ولم تسم امراة كعب كما في مقدمة الفتح. وقوله في الفتح: تقدم أن اسمها عقيلة سهو، وإذ المتقدم أن عقيلة أمه، وفي البخاري قالت: أسمع صوته كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب، انتهى. فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه وقالوا: هل لك يابن الأشرف أن تمشي إلى شعب العجوز، فنتحدث به بقية ليلتنا، فقال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة شام يده، بمعجمة وميم مخففا، أدخلها في فود رأسه، ثم شد يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها حتى اطمأن، ثم مشى ساعة، ثم عاد لمثلها، فأخذ بقود رأسه وقال: اضربوا عدو الله. وفي البخاري: أن ابن مسلمة قال لأصحابه: إذا ما جاء كعب فإني قائل بشعره، أي: آخذ به من إطلاق القول على الفعل مجازا وأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، فنزل إليهم متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي: أطيب، فقال: عندي أعطر نساء العرب، وأكمل العرب، فقال ابن مسلمة: أتأذن لي أن أشم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد   رأسك؟ قال: نعم، فشمه، ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فيحتمل أن كلا من محمد بن مسلمة وأبي نائلة استأذنه في ذلك. وفي رواية الواقدي: وكان كعب يدهن بالمسك المفتت والعنبر حتى يتلبد في صدغيه، انتهى. فضربوه، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا. قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار، فوضعته في ثنته، ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله. إلى هنا رواية ابن إسحاق، وميزت الزائد عليها بعزو، أوله وقول انتهى آخره، وثنته، بضم المثلثة وشد النون المفتوحة، أي: سرته، كما هو رواية ابن سعد، والمغول، بكس الميم وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو، شبه سيف قصير تغطيه الثياب، أو حديدة دقيقة لها حد ماض، وقفا أو سوط دقيق يسده الفاتك على وسطه ليغتال به الناس، كما في النهاية. وعند ابن عائذ عن الكلبي: فضربوه حتى برد وصاح عند أول ضربة، واجتمعت اليهود، فأخذوا على غير طريق الصحابة ففاتوهم. وعند ابن سعد: أنه صاح، وصاحت امرأته: يا آل قريظة والنضير مرتين، واستشكل قتله على هذا الوجه. وأجاب المازري: بأنه إنما قتله كذلك؛ لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجه وسبه، وكان عاهده أن لا يعين عليه أحدا، ثم جاءه مع أهل الحرب معينا عليه، قال عياض: وقدر لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بالأمان في شيء من كلامه، وإنما كلمه في أمر البيع والشراء، واشتكى إليه وليس في كلامه عهد ولا أمان، قال: ولا يح لأحد أن يقول إن قتله كان غدرا. وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب، فأمر به فضربت عنقه، وإنما يكون الغدر بعد أمان، موجود وكعب كان قد نقض عهده صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنه محمد ورفقته، لكنه استأنس بهم، فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان. قال: وأما ترجمة البخاري على هذا الحديث، باب الفتك فليس معناه الغدر، بل الفتك هو القتل على غرة وغفلة، والغيلة نحوه، انتهى. وأقره النووي وقال السهيلي في هذه القصة: قتل المعاهد إذا سب الشارع، خلافا لأبي حنيفة، ونظر فيه الحافظ بأن صنيع البخاري في الجهاد يعطي أن كعبا كان محارب حيث ترجم الفتك بأهل الحرب، وترجم له أيضا الكذب في الحرب، وفيه قتل المشرك بغير دعوة، إذا كانت الدعوة العامة قد بلغته، وجواز الكلام المحتاج إليه في الحرب، ولو لم يقصد قائله إلى حقيقته. "وفي رواية ابن سعد: فلما قتلوه وبلغوا بقيع الغرقد،" قال عياض في المشارق بالموحدة، بلا خلاف، سميت به مقبرة المدينة لشجرات غرقد وهو العوسج، كان فيه، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 كبروا، وقد قام عليه الصلاة والسلام تلك الليلة يصلي، فلما سمعوا تكبيرهم كبر وعرف أن قد قتلوه، ثم انتهوا إليه فقال: "أفلحت الوجوه". قالوا وجهك يا رسول الله، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله تعالى على قتله. وفي كتاب "شرف المصطفى" أن الذين قتلوا كعبا حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة، فقيل إنه أول رأس حمل في الإسلام. وأصاب ذباب السيف الحارث بن أوس بن معاذ فجرح ونزف الدم فتفل عليه   وفي القاموس: الغرقد شجر عظام، أو العوسج إذا عظم، وسمى به مقبرة المدينة لأنه كان منبتها، وهذا صريح في قدم تسميته بذلك، وذكر الأصمعي أنه سمي لقطع غرقدات دفن فيها ابن مظعون، ومران موته في السنة الثانية، "كبروا وقد قام عليه الصلاة والسلام تلك الليلة يصلي، فلما سمعوا تكبيرهم كبر، وعرف أن" أي: أنهم "قد قتلوه، ثم انتهوا إليه". وفي رواية ابن إسحاق: ثم جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل، وهو قائم يصلي، فسلمنا عليه، فخرج إلينا، فأخبرناه بمقتل عدو الله، "فقال: "أفلحت الوجوه"، قالوا: وجهك" وفي الفتح: والسبل، قالوا: ووجهك "يا رسول الله،" بواوين وحذفها أمس بالأدب؛ لأنها تثبت فلاح وجهه مع وجوههم، إلا أن كلا عزاه لابن سعد، "ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله تعالى على قتله"، لعنه الله. "وفي كتاب شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري: "أن الذين قتلوا كعبا، حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة، فقيل: إنه أول رأس حمل في الإسلام" وقيل: بل رأس أبي عزة الجمحي الذي قال له صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فقتل، واحتمل رأسه في رمح إلى المدينة، قاله السهيلي في الروض. قال البرهان في غزوة بدر: فإن صح ما قال، فمراده من بلدة إلى بلدة، أو من مكان بعيد إلى المدينة فلا ينافي ما رواه ابن ماجه بسند جيد عن عبد الله بن أبي أوفى، لما قتل أبو جهل، حمل رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه السلام كان قريبا جدا من مكان الوقعة. انتهى. وفي مبهمات ابن بشكوال: أن عصماء جيء برأسها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقتلها قبل كعب. "و" في حديث ابن عباس عند ابن إسحاق: "أصاب ذباب السيف الحارث بن أوس بن معاذ، فجرح" في رأسه، أو في رجله أصابه بعض أسيافنا، كذا فيه على الشك، "ونزف الدم،" قال: فجرحنا حتى سلكنا عن نبي أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، ثم على بعاث، حتى استندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا، فوقفنا له ساعة، ثم أتانا يتبع آثارنا، فاحتملناه فجئنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل "فتفل عليه الصلاة والسام على جرحه" زاد في رواية الواقدي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 الصلاة والسلام على جرحه فلم يؤذه بعد.   "فلم يؤذه بعد،" وبقية رواية ابن إسحاق: ورجعنا إلى أهلنا، وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس بها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه. وفي رواية: فلما أصبح صلى الله عليه وسلم قال: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه"، فخافت اليهود، فلم يطلع من عظمائهم أحد، ولم ينطقوا وخافوا أن يبيتوا كما بيت. وفي مرسل عكرمة عند ابن سعد: فأصبحت يهود مذعورين، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكرهم صنيعه وما كان يحرض عليه، ويؤذي المسلمين، فخافوا، فلم ينطقوا، ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحا، فكان ذلك الكتاب مع علي بعد، وروى الحاكم القصة في المستدرك بنحو رواية ابن إسحاق، وزاد: وقال عباد بن بشر في ذلك شعرا: صرخت به فلم يعرض لصوتي ... وأوفى طالعا من رأس خدر فعدت له فقال: من المنادي؟ ... فقلت: أخوك عباد بن بشر وهذي درعنا هنا فخذها ... لشهران وفي أو نصف شهر فقالوا: معاشر سغبوا وجاعوا ... وما عدموا الغني من غير فقر فأقبل نحونا يهوي سريعا ... وقال لنا: لقد جئتم لأمر وفي أيماننا بيض حداد ... مجربة بها الكفار نفري فعانقه ابن مسلمة المردي ... به الكفار كالليث الهزبر وشد بسيفه صلتا عليه ... فقطره أبو عبس بن جبر وكان الله سادسنا فأبنا ... بأنعم نعمة وأعز نصر وجاء برأسه نفر كرام ... هم ناهيك من صدق وبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 غزوة غطفان : غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر -بفتح الهمزة والميم-   غزوة غطفان: بفتح المعجمة، والطاء المهملة، قبيلة من مضر، أضيفت لها الغزوة؛ لأن بني ثعلبة الذين قصدهم من غطفان، "وهي" كما قال ابن إسحاق: "غزوة ذي أمر" أي: المسماة بهذا كالأول، فدفع توهم الواقف على العبارتين أنهما غزوتان، "بفتح الهمزة والميم" وشد الراء، موضع من ديار غطفان، قاله ابن الأثير وغيره. وقال ابن سعد: بناحية النخيل، وأفاد قول البكري في معجمه: أفعل من المرارة أنه ممنوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وسماها الحاكم غزوة أنمار. وهي بناحية نجد. كان لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. وسببها: أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب تجمعوا يريدون الإغارة، جمعهم دعثور. ابن الحارث المحاربي، وسماه الخطيب: غورث، ....................................   الصرف، "وسماها الحاكم غزوة أنمار"، فلها ثلاثة أسماء، "وهي بناحية نجد" عند واسط الذي بالبادية، كما في معجم البكري، "وكانت لثنتي عشرة مضت من" شهر "ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. كذا قاله ابن سعد، ولا ينتظم مع قوله: إن قتل كعب، كان لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع، وأنهم جاءوا برأسه تلك الليلة للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فإن ما هنا يقتضي أنه لم يكن تلك الليلة بالمدينة. نعم قال ابن إسحاق: أقام بنجد صفر كله، أو قريبا من ذلك، وجزم أبو عمر بأنه أقام صفر كله، وعليهما يصح كون السرية في التاريخ المذكور؛ إذ من لازم إقامته صفر بنجد، أن خروجه قبل ربيع، وعلى هذا يكون ابن سعد متبوع المصنف بني كلامه هنا على قول غير الذي مشى عليه في السرية، والعلماء إذا مشوا في محل على قول، وعلى غيره في آخر، لا يعد تناقضا، "وسببها" كما عند ابن سعد، "أن جمعا من بني ثعلبة" بن سعد بن قيس، بسكون العين، ابن ذبيان، بمعجمة، فموحدة، فتحتية، فألف فنون، ابن بغيض، بفتح الموحدة، وكسر المعجمة، وإسكان التحتية وضاد معجمة، ابن ريث، براء مفتوحة، وتحتية ساكنة ومثلثة، ابن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، "و" من بني "محارب" بضم الميم وحاء مهملة وراء، فموحدة، ابن خصفة، بمعجمة، فمهملة، ففاء مفتوحات، ابن قيس عيلان، بفتح العين المهملة، وسكون التحتية، فغطفان ومحارب ابنا عم، "تجمعوا، يريدون الإغارة" ولفظ ابن سعد: يريدون أن يصيبوا من أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، "جمعهم دعثور،" بضم الدال وسكون العين المهملتين، وضم المثلثة وإسكان الواو فراء. "ابن الحارث المحاربي" نسبة لمحارب المذكور، هكذا سماه ابن سعد ونسبه، "وسماه الخطيب غورث" بفتح المعجمة، وعن المستملي والحموي: إهمالها، لكن قال عياض الواب بمعجمة وإسكان الواو وفتح الراء ومثلثة، وبعضهم ضم أوله. قال القرطبي: والفتح أصح مأخوذ من الغرث وهو الجوع، وقال الخطابي: يقال له غويرث، أي: بمعجمة، أو عويرث، أي: بمهملة على التصغير، والصحيح بالغين المعجمة، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 وغيره: عورك -وكان شجاعا. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه. فلما سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم هربوا في رءوس الجبال، فأصابوا رجلا منهم من بني ثعلبه يقال له: حبان، فأدخل   "وغيره عورك" بكاف آخر بدل المثلثة مع إعجام أوله وإهماله، وظاهر كلام ابن بشكوال أن دعثورا غير غورث، وفي الإصابة قصة دعثور، تشبه قصة غورث المخرجة في الصحيح من حديث جابر، فيحتمل التعدد أو أحد الاسمين، لقب أن ثبت الإتحاد، انتهى. بل يمكن كما قال شيخنا: إن دعثورا يقال له غورث، وأحدهما اسم، والآخر لقب، غايته أنه شارك المذكور في الصحيح، في التسمية بغورث، "وكان شجاعا فندب،" أي: دعا "رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين" للخروج، أو حثهم عليه، "وخرج في أربعمائة وخمسين فارسا" أي: شجاعا أو تناوبوا ما معهم من الأفراس، فعدوا فرسانا فلا ينافي قول ابن سعد في أربعمائة وخمسين رجلا، ومعهم أفراس. قال البرهان: ولا أعلم عدتها، "واستخلف على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه" ذا النورين أمير المؤمنين، "فلما سمعوا بمهبطه صلى الله عليه وسلم" أي: المسلمون، لما كانوا بذي القصة كما في الرواية، بفتح القاف والصاد المهملة الثقيلة، وتاء تأنيث، موضع على أربعة وعشرين ميلا من المدينة، "رجلا منهم من بني ثعلبة" زاد في نسخة: كالعيون، "يقال له حبن" بكسر الحاء وبالموحدة، بالقلم، ولا أعلم له ترجمة في الصحابة، ولا التصريح بإسلامه، فينبغي أن يستدرك على من لم يذكره للتصريح، بأنه أسلم. كذا قاله البرهان بناء على هذا التصحيف الواقع من النساخ، والصواب ما في الشامية أنه جبار، بالجيم وشد الموحدة، وبعد الألف راء، فقد ذكره كذلك أبو بكر بن فتحون في ذيل الاستيعاب، وصاحب الإصابة كلاهما في حرف الجيم، فقالا: جبار الثعلبي أسره الصحابة في غزوة ذي أمر، فادخلوه على النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، ذكره الواقدي. زاد في الإصابة، وذكر، أي الواقدي، في موضع آخر أنه كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى غطفان، فهربوا، انتهى. غلط بعض المتأخرين لما رأى كلامي البرهان والشامي، فحكاهما قولين في اسمه، وما درى أن الحافظ في التبصير استوفى حبان، بالمهملة والنون، وما ذكره فيهم، ولكن القوس في يد غير باريها، "فأدخل" أي: أدخله الصحابة بعد أن قالوا له: أين تريد؟، قال: يثرب لأرتاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه إلى الإسلام فأسلم، وضمه إلى بلال. وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم مطر فنزع ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتهما، وهم ينظرون، فقالوا لدعثور: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف حتى قام على رأسه عليه الصلاة والسلام فقال: من يمنعك مني اليوم؟ فقال له النبي: "الله". فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني"؟ قال: لا أحد يمنعني منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام وأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية. [المائدة: 1] .   لنفسي وأنظر "على رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائر معك، "فدعاه إلى الإسلام، فأسلم" رضي الله عنه، "وضمه" النبي صلى الله عليه وسلم "إلى بلال" ليعلمه الشرائع، "وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم" وأصحابه "مطر، فنزع ثوبيه، ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع تحتهما وهم،" أي: المشركون "ينظرون" إليه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنهم كانوا بمرأى منه، وقد اشتغل المسلمون في شئونهم، "فقالوا لدعثور:" لشجاعته "قد انفرد محمد فعليك به". وفي رواية: لما رآه قال: قتلني الله إن لم أقتل محمدا. "فأقبل ومعه سيف، حتى قام على رأسه عليه الصلاة والسلام، فقال: "من يمنعك مني اليوم؟ "." وفي رواية: الآن، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الله" يمنعني منك"، "فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده" بعد وقوعه على ظهره، "فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يمنعك مني"؟ قال: لا أحد يمنعني منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك"، وفي العيون، وأن محمدا "رسول الله". زاد ابن فتحون في الذيل: فأعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه، ثم أقبل بوجهه فقال: أما والله لأنت خير مني، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بذلك منك"، "ثم أتى قومه"، فقالوا له: ما لك، ويلك، فقال: نظرت إلى رجل طويل أبيض، قد دفع في صدري، فوقعت لظهري، فعرفت أنه ملك، وشهدت بأن محمدًا رسول الله لا أكثر عليه جمعا، "فدعاهم إلى الإسلام". قال في رواية الواقدي: فاهتدى به خلق كثير، "وأنزل الله تعالى" على ما ذكر الواقدي، وابن سعد في طائفة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] بالقتل والإهلاك، يقال: بسط إليه يده، إذا بطش، "الآية" وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في بني النضير، وقيل: والمصطفى بعسفان، لما أراد المشركون الفتك بالمسلمين وهم في الصلاة، فأنزل الله صلاة الخوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 ويقال كان ذلك في ذات الرقاع. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة.   قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة، ثم تنزل في أخرى، لإذكار ما سبق، "ويقال كان ذلك،" أي: قصة السيف ونزول الآية، "في" غزوة "ذات الرقاع،" واستظهره اليعمري إذ قال: هناك الظاهر أن الخيرين واحد، لكن قال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان في غزوتين، نقله المصنف ثمة، وقال ابن كثير: إن كانت هذه القصة التي هنا محفوظة، فهي غيرها قطعا؛ لأن ذلك الرجل اسمه غورث، ولم يسلم، بل استمر على دينه، لكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتله، انتهى. نعم، ذكر الذهبي أن غورث صاحب ذات الرقاع أسلم، وعزاه للبخاري وانتقده في الإصابة، بأنه ليس في البخاري تصريح بإسلامه، وباقتضائه الجزم، باتحاد القصتين مع احتمال التعدد، "ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق كيدا،" أي: حربا، "وكانت غيبته إحدى عشرة ليلة" كما قال ابن سعد، وقيل: خمس عشرة ليلة، ومر قولان آخران، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 " غزوة بحران ": وتسمى غزوة بني سليم، من ناحية الفرع -بفتح الفاء والراء- كما قيده السهيلي،   غزوة بحران: بضم الموحدة، وسكون المهملة، فراء فألف فنون، وبعضهم فتح الباء. قال المنذري: والمشهور الضم، انتهى. لكن قدم الصغاني والمجد الفتح، وسوى بينهما في النهاية والدرر، ويحتمل أنه أكثر لغة، والضم المشهور بين المحدثين، "وتسمى غزوة بني سليم،" بضم السين وفتح اللام؛ لأن الذين اجتمعوا وبلغ خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم منهم. وبحران موضع "من ناحية الفرع، بفتح الفاء والراء، كما قيده السهيلي" تبع اليعمري، وقد اعترضه محشيه البرهان، بأن الذي في الروض الفرع، بضمتين، من ناحية المدينة يقال هي أول قرية مارت إسماعيل وأمه التمر بمكة، وفيها عينان يقال لهما: الربض والنخف، يسقيان عشرين ألف نخلة. كانت لحمزة بن عبد الله بن الزبير، والربض منابت الإراك في الرمل، والفرع، بفتحتين، موضع بين الكوفة والبصرة، فانتقل نظر المصنف، أو سقط بعض الكلام من نسخته بالروض، أو سقط من ميرته، أي: من الكتبة، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وقال في القاموس: وبحران موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير. وسببها: أنه بغله عليه الصلاة والسلام أنه به جمعا كبيرا من بني سليم، فخرج في ثلاثمائة رجل من أصحابه، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، فرجع ولم يلق كيدا. وكان قد استتعمل على المدينة ابن أم مكتوم، قاله ابن هشام، وكانت غيبته عشر ليال.   "وقال في القاموس" في باب الراء: "وبحران،" ويضم، "موضع بناحية الفرع، كذا رأيته بخطه بضم الفاء لا غير". وبذلك صرح في باب العين فقال: الفرع، بالضم، موضع من أضخم أعراض المدينة، أي: والراء ساكنة كما هو عادته، والذي قال السهيلي كما ترى ضم الراء، وبه جزم عياض في المشارق، وقال في كتابه التنبيهات: هكذا قيده الناس، وكذا رويناه، وحكى عبد الحق عن الأحول: إسكان الراء، ولم يذكره غيره، انتهى. ونقل مغلطاي في الزهر، أن الحازمي وافق الأحول، وبه صرح في النهاية، والنووي في تهذيبه لكنه مرجوح كما علم، "وسببها أنه بلغه عليه الصلاة والسلام أن بها جمعا كثيرا، من بني سليم" لم نر سبب اجتماعهم، "فخرج" لست خلون من جمادى الأولى. قاله ابن سعد: "في ثلاثمائة رجل من أصحابه" ولم يظهر وجها للسير، حتى إذا كان دون بحران بليلة، لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم افترقوا فحبسه مع رجل، وسار حتى ورد بحران، "فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، ولم يلق كيدا،" أي: حربا، ولا وجد به أحدا. "وكان قد استعمل على المدينة" عمرا، أو عبد الله "بن أم مكتوم قاله ابن هشام" وظاهره للقضاء الأحكام، ويحتمل للصلاة فقط "وكانت غيبته عشر ليال" عند ابن سعد، ومر عنه وقت خروجه، فيكون رجوعه لستة عشر من جمادى الأولى. وقال ابن إسحاق: فخرج صلى الله عليه وسلم يريد قريشا حتى بلغ بحران بالحجاز من ناحية الفرع، فأقام به شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا، انتهى. فلم يوافقه في سبب الغزوة ولا مقدار الغيبة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 " سرية زيد إلى القردة ": سرية زيد بن حارثة إلى القردة -بالقاف المفتوحة وسكون الراء، وقيل بالفاء وكسر الراء، كما ضبطه ابن الفرات- اسم ماء من مياه نجد. وسببها: -كما قال ابن إسحاق- أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكون إلى الشام، حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب،   سرية زيد إلى القرد: "سرية زيد" حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والد حبه "ابن حارثة" الطبراني، أحد السابقين الأولين، ابن الصحابي، ووالد الصحابي، وأخو الصحابي، الخليق هو وابنه للإمارة بالنص النبوي المختص، بأن الله لم يصرح في كتابه العزيز باسم أحد من الصحب سوى زيد البدري، ثم السجل أن ثبت "إلى القردة بالقاف المفتوحة وسكون الراء" كما ضبطه أبو نعيم، "وقيل: بالفاء" المفتوحة "وكسر الراء، كما ضبطه" الحافظ البارع أبو الحسن محمد بن العباس بن محمد "بن الفرات" بضم الفاء ومد التاء في الخط وصلا ووقفا البغدادي سمع ابن مخلد وطبقته، وجمع فأوعى. قال الخطيب: كان غاية في ضبطه حجة في نقله، مات سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وهذا نقله عنه الحموي، وقال أيضا: أنه رآه بخط ابن الفرات في غير موضع، بفتح القاف وفتح الراء، وصدر اليعمري، بأنه بفتح الفاء وسكون الراء، فهي أربعة، "اسم ماء من مياه نجد،" قاله ابن إسحاق وغيره. زاد ابن سعد: بين الربذة والغمزة ناحية ذات عرق، "وسببها، كما قال ابن إسحاق" محمد المشهور: "أن قريشا خافوا من طريقهم التي يسلكون إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان فسلكوا طريق العراق، فخرج منهم تجار" بكسر الفوقية وخفة الجيم، وبضم الفوقية وشد الجيم، كما ضبطه الشامي كالبرهان، "فيهم أبو سفيان" صخر "بن حرب" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، المسلم في الفتح رضي الله عنه. روى ابن أبو حاتم، عن السدي قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك، وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف، فغضب أبو سفيان، وقال: ما تنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل، فوقع به وخوفه، فنزلت: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء: 36] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 ومعهم فضة كثيرة. وعند ابن سعد: بعثه صلى الله عليه وسلم لهلال جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة، في مائة راكب يعترض عيرًا لقريش فيها صفوان بن أمية وحويطب بن عبد العزى، ومعهم مال كثير وآنية فضة. فأصابوها وقدموا بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسها وبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم.   "ومعهم فضة كثيرة" بقية كلام ابن إسحاق، وهي عظم، بضم فسكون، أي: أكثر تجاراتهم واستأجروا فرات بن حيان دليلا، وبعث صلى الله عليه وسلم زيدا، فلقيهم على ذلك الماء، فأصاب العير وما فيها، وأعجزه الرجال فقدم بها، فقال حسان في غزوة بدر الأخيرة: يؤنب قريشا في أخذها تلك الطريق: دعوا فلجات الشام قد حال دونها ... جلاد كأفواه المخاض الأوارك بأيدي رجال هارجوا نحو ربهم ... وأنصاره حقا وأيدي الملائك إذا سلكت للغور من بطن عالج ... فقولا لها ليس الطريق هنالك "وعند ابن سعد" أنها أول سرية خرج فيها زيد أميرا، وأنه "بعثه صلى الله عليه وسلم، لهلال جمادى الآخر، على رأس ثمانية وعشرين شهرا من الهجرة في مائة راكب يعترض عيرا،" بكسر العين، الإبل التي تحمل الميرة، بكسر الميم، ثم غلب على كل قافلة كما مر، "لقريش فيها صفوان بن أمية" بن خلف القرشي الجمحي، أسلم بعد حنين، وصحب رضي الله عنه. "وحويطب" بضم المهملة وفتح الواو، وسكون التحتية، وكسر الطاء المهملة، وموحدة، "ابن عبد العزى" القرشي العامري، أسلم في الفتح، وكان من المؤلفة وشهد حنينا، وحسن إسلامه، وصحب رضي الله عنه، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين. وأسقط المصنف من كلام ابن سعد، وعبد الله بن أبي ربيعة، وقد أسلم بعد رضي الله عنه، "ومعهم مال كثير وآنية فضة"، عطف خاص على عام. قال ابن سعد: وزنها ثلاثون ألف درهم، "فأصابوها، وقدموا بالعير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخمسها وبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم،" إضافة بيانية، أي: قيمة، هي عشرون ألف درهم، والأولى أن يقول بلغ قيمة الخمس عشرين ألف درهم، لكنه أتى بلفظ ابن سعد؛ لأنه ناقل عنه، والخطب سهل. "وعند مغلطاي خمسة وعشرين ألف درهم،" فزاد خمسة آلاف، لكن بالأول جزم الحافظ في سيرته حيث قال: فحصلوا مائة ألف غنيمة، وذكر في ديباجتها، أنه اقتصر على الأصح، مما اختلف فيه، انتهى. وبقية كلام ابن سعد: وأسر الدليل فرات بن حيان، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 وعند مغلطاي: خمسة وعشرين ألف درهم. وذكرها محمد بن إسحاق قبل قتل كعب بن الأشرف.   له: "إن تسلم تترك"، فأسلم، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم من القتل وحسن إسلامه، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: "إن منكم رجالا نكلهم إلى إسلامهم منهم فرات بن حيان"، انتهى. وهذا الحديث رواه أبو داود في الجهاد منفردا به، من حديث فرات المذكور، وهو بضم الفاء، وأبوه بفتح المهملة وشد التحتية، ابن ثعلبة بن عبد العزى الربعي البكري، حليف بني سهم. روى له أبو داود، وأحمد في المسند، وروى عنه حارثة بن مضرب، وقيس بن زهير، والحسن البصري، وعند الواقدي: وأسروا رجلين، أو ثلاثة فيهم فرات بن حيان، وكان أسر يوم بدر فأفلت على قدميه، فكان الناس عليه أحنق شيء، وكان الذي بينه وبين أبي بكر حسنا، فقال له: أما آن لك أن تقصر، أي بضم الفوقية، وكسر الصاد، من أقصر عن الشيء إذا أمسك عنه مع القدرة عليه، قال: إن أفلت من محمد هذه المرة لم أفلت أبدا، فقال له أبو بكر: فأسلم، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فتركه. قال في الروض: وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة بن أثال في شأن مسليمة وردته ومر به عليه السلام وهو مع أبي هريرة والرحال بن عنفوة، فقال: "ضرس أحدكم في النار مثل أحد"، فما زال فرات وأبو هريرة خائفين حتى بلغهما ردة الرحال وإيمانه بمسيلمة، فخرا ساجدين والرحال لقبه واسمه نهار، انتهى. "وذكرها"، أي: هذ السرية "محمد بن إسحاق" في السيرة، "قبل قتل كعب بن الأشرف" ومر أن قتله لأربع عشرة ليلة من ربيع الأول، فهذه السرية قبل ذلك فيخالف قول ابن سعد، أنها لهلال جمادى الآخرة، لكنه تبع شيخه الواقدي، وجزم به الحافظ في سيرته، وقد التزم الاقتصار على الأصح والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 " غزوة أحد ": ثم غزوة أحد وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها.   ثم غزوة أحد: بضم الهمزة والحاء وبالدال المهملتين: قال المصباح: مذكر مصروف، وقيل: يجوز تأنيثه على توهم البقعة فيمنع، وليس بالقوي، "وهو جبل مشهور بالمدينة على أقل من فرسخ منها" لأن بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل تزيد يسيرا. كما حرره الشريف السمهودي قائلا: تسمح النووي في قوله: على نحو ميلين، قلت: لكن عادتهم في مثل ذلك عدم الجزم بالتحديد للاختلاف في قدر الميل، فيقولون: على نحو، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 وسمي بلك لتوحده وانقطاعه عن جبال آخر هناك، ويقال له: ذو عينين، قال في القاموس: بكسر العين وفتحها مثنى، جبل بأحد. انتهى. وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: "أحد جبل يحبنا ونحبه"   وشبهه "وسمي بذلك لتوحده وانقطاعه" تفسيري، "عن جبال آخر هناك" كما قاله السهيلي. قال: أو لما وقع من أهله من نصر التوحيد، وقال ياقوت في معجم البلدان: هو اسم مرتجل لهذا الجبل، وهو أحمر "ويقال له: ذو،" أي: صاحب "عينين"، لمجاورته لجبل يسمى عينين. "قال في القاموس" ما نصه: وعينين، "بكسر العين" المهملة "وفتحها مثنى" على كل منهما لا بفتح العين، وسكون الياء وكسر النون الأولى، كما قال المطرزي وعليه فليس مثنى "جبل بأحد" وقف عليه إبليس، فنادى: أن محمدًا قد قتل، "انتهى". نص القاموس بقوله وقف إلى آخره، وفي البخاري ومسلم: وعينين، جبل بجبال أحد بينه وبينه واد. قال في الفتح: حيال بحاء مهملة مكسورة بعدها تحتية خفيفة، أي: مقابله، وهو تفسير من بعض الرواة، لقول وحشي خرج الناس عام عينين، والسبب في نسبه وحشي العام إليه دون أحد، أن قريشا نزلوا عنده. قال ابن إسحاق: فنزلوا بعينين جبل ببطن السبخة على شفير الوادي، مقابل المدينة، انتهى. و"هو" أي: أحد، كما قال في الفتح والعيون والنور وغيرها لا عينين، كما زعم من وهم، "الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام" كما أخرجه الشيخان عن أنس والبخاري عن سهل بن سعد "أحد". وفي رواية لهما أيضا عن أنس: أن أحدا، "جبل" خبر موطئ لقوله: "يحبنا،" حقيقة كما رجحه النووي وغيره، وقد خاطبه صلى الله عيه وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب: "أسكن أحد.." الحديث، فوضع الله الحب فيه، كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، وكما وضع الخشية في الحجارة التي قال فيها: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّه} وكما حن الجذع لمفارقته صلى الله عليه وسلم، حتى سمع الناس حنينه فلا ينكر وصف الجماد بحب الأنبياء، وقد سلم عليه الحجر والشجر، وسبحت الحصاة في يده، وكلمه الذراع، وأمنت حوائط البيت وأسكفه الباب على دعائه، إشار إلى حب الله إياه صلى الله عليه وسلم، حتى أسكن حبه في الجماد، وغرس محبته في الحجر مع فضل يبسه وقوة صلابته، "ونحبه" حقيقة؛ لأن جزاء من يحب أن يحب، ولكونه كما قال الحافظ: من جبال الجنة، كما في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا: "أحد جبل يحبنا ونحبه، وهو من جبال الجنة"، أخرجه أحمد، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 تنبيه: وقيل: وفيه قبر هارون، أخي موسى، عليهما السلام.   وروى البزار والطبراني: "أحد هذا جبل يحبنا ونحبه، على باب من أبواب الجنة"، أي: من داخلها، كما في الروض، فلا ينافي رواية الطبراني أيضا: "أحد ركن من أركان الجنة"؛ لأنه ركن بجانب داخل الباب، بدليل رواية ابن سلام في تفسيره: أنه ركن باب الجنة، وقيل: هو على الحال، إذا قدم من سفر بقربه من أهله ولقائهم، وذلك فعل المحب بمن يحب، وضعف بما للطبراني عن أنس، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه، بكسر المهملة وبالضاد معجمة، كل شجرة عظيمة ذات شوك، فحث على عدم إهمال الأكل حتى لو فرض أنه لا يوجد إلا ما لا يؤكل، كالعضاة يمضغ منه تبركا ولو بلا ابتلاع. قال في الروض: ويقوى على الأول قوله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"، مع أحاديث أنه في الجنة، فتناسبت هذه الآثار وشد بعضها بعضا، وقد كان عليه السلام يحب الاسم الحسن، ولا أحسن من اسم مشتق من الأحدية، وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم تقدمة لما أراده مشاكلة اسمه لمعناه، إذا هله وهم الأنصار نصروا التوحيد، والمبعوث بدين التوحيد، واستقر عنده حيا وميتا، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يستعمل الوتر، ويحبه في شأنه كله استشعارا للأحدية، فقد وافق اسمه أغراضه ومقاصده عليه السلام قال: ومع أنه مشتق من الأحدية، فحركات حروفه الرفع، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب به منه صلى الله عليه وسلم اسما ومسمى، فخص من بين الجبال، بأن يكون معه في الجنة إذا بست الجبال بسا انتهى. وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال، وقيل: عرفة، وقيل: أبو قيس، وقيل: الذي كلم الله عليه موسى، وقيل: قاف. "تنبيه:" علق الشارح بجد المؤلف، ما لم يقله أحد، فرجع ضمير قوله وهو الذي قال فيه لعينين لا لأحد؛ لأنه لو كان كذلك لحتج للبيان؛ لأن أحا نص فيه وهو عجب كيف يتوهم ذلك الصادق المصدوق، يقول أحد والمتعلق بالضمائر يقول عينين، مع أن جبل آخر مقابل له، كما علمت، ولذا لم يبال المصنف تبعا لمغلطاي بإيهام ذلك؛ لأنه غير متوهم، بل قصد كغيره من أصحاب المغازي وغيرهم، تشريف الجبل الذي أضيفت إليه هذه الغزوة بالحديث الصحيح. "وقيل: وفيه قبر هارون،" بفتح القاف وسكون الباء اسما لا بضمها، وكسر الباء لقوله: "أخي موسى عليهما السلام" وفيه: قبض، وقد كانا مرا حاجين أو معتمرين. روي هذا المعنى في حديث أسنده الزبير بن بكار في كتاب فضل المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا في الروض. قال في الفتح: وسند الزبير في ذلك ضعيف جدا، ومنقطع وليس بمرفوع انتهى. بل في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 وكانت عنده الوقعة المشهورة، في شوال سنة ثلاث بالاتفاق، يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه -وقيل لسبع ليال خلون منه، وقيل وفي نصفه. وعن مالك: بعد بدر بسنة، وعنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة. وكان سببها، كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود   النور عن ابن دحية أنه باطل بيقين، إنما مات بنص التوراة في موضع على ساعة من مدينة جبلة من مدن الشام، انتهى. وبه تعلم أنه لا يصح الجمع، بأنه يقول للمدينة شامية، وقيل: قبره بجبل مشرف قبلي بين المقدس، يقال له: طور هارون، حكاه ياقوت في المشترك، وفي الأنوار الأكثر أن موسى وهارون ماتا في التيه، وأن موسى مات بعد هارون بسنة انتهى. وفي النور: بنحو خمسة أشهر. وقال المصنف وغيره: مات هارون قبل موسى بنحو أربعين سنة، "وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوال سنة ثلاث بالاتفاق" أي: باتفاق الجمهور، كما عبر به في الفتح قائلا، وشذ من قال سنة أربع، ولعله لشذوذه لم يعتد به فحكى الاتفاق "يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه،" عند ابن عائذ، كما في العيون وابن إسحاق، كما في الفتح، "وقيل: لسبع ليال خلون منه" قاله ابن سعد. زاد في الفتح، وقيل: لثمان، "وقيل": لتسع، "وفي نصفه" جزم به إسحاق في رواية ابن هشام، عن زياد عنه قال: وكان يوم السبت. "وعن مالك" الإمام كانت "بعد بدر بسنة" قال الحافظ: وفيه تجوز؛ لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق، فهي بعدها بسنة وشهر، ولم يكمل "و" لذا روى "عنه أيضا: كانت على أحد وثلاثين شهرا من الهجرة" لكن قال شيخنا: قد مر أن انصرافه من بدر كان أول شوال، فمن لازمه أن أحدًا بعدها بسنة، كما قال مالك في شوال، وكذا قوله الآخر لا يخالف أن أحدًا في شوال؛ لأن دخول المدينة كان في ربيع الأول، الأحد وثلاثون، إذا كان ابتداؤها من دخوله عليه السلام المدينة، كان نهايتها آخر رمضان من السنة الثالثة، إذا ألغى كسر ربيع الأول، وإلا فنهايتها في أثناء شوال، فاتفقت الأقوال على أن أحدً في شوال، "وكان سببها كما ذكره ابن إسحاق عن شيوخه" الذين عين منهم أربعة، فقال: حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ وغيرهم، "وموسى بن عقبة" بالقاف، "عن ابن شهاب" الزهري، "وأبو الأسود" المدني، يتيم عروة، ومحمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، الأسدي الثقة، المتوفى سنة بضع وثلاثين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 عن عروة، وابن سعد، قالوا -أو من قال منهم- ما حاصله: إن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره، قال عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، في جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه -بعنون عير أبي سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة- لعلنا أن ندرك به ثأرنا   ومائة، "عن عروة" بن الزبير، "و" كما ذكره "ابن سعد، قالوا:" أرسله الجميع، "أو من قال منهم:" هذا لفظ ابن إسحاق، وهو بمعنى قول المحدثين: دخل حديث بعضهم في بعض، ومعناه: أن اللفظ لجميعهم، فعند كل ما ليس عند الآخر، وهو جائز، إن كان الجميع ثقات، كما هنا، وقد فعله الزهري في حديث الإفك، "ما حاصله" من كلام المصنف، إشارة إلى أنه لم يتقيد بلفظ واحد من الأربعة، "أن قريشا لما رجعوا من بدر إلى مكة، وقد أصيب أصحاب القليب" خصهم لكونهم أشرافهم، وهم أربعة وعشرون، وجملة قتلى بدر سبعون، "ورجع أبو سفيان" المسلم في الفتح "بعيره". "قال عبد الله بن أبي ربيعة" عمرو أو يقال حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، أسلم في فتح مكة، وصحب، "وعكرمة بن أبي جهل" أسلم بعد الفتح، وصحب، "في" أي: "مع "جماعة" منهم: الحارث بن هشام، وحويطب بن عب العزى، وصفوان بن أمية، وأسلموا كلهم بعد ذلك رضي الله عنهم، "ممن أصيب آباؤهم" كعرمة، وصفوان، "وإخوانهم" كالحارث، وأبي جهل، "وأبناؤهم"، كأبي سفيان أصيب ابنه حنظلة "يوم بدر". والمراد من القوم الذين أصيبوا بمن ذكر سواء كانت بالبعض أو الكل، "يا معشر قريش" إضافة حقيقية، أي: يا هؤلاء الجماعة المنسوبون إلى قريش أو بيانية أطلق على الحاضرين لأنهم أشرافهم، فلا يخالفهم غيرهم ثم القول من الجميع أو بعضهم، ونسب لهم لسكوتهم عليه، "أن محمدا قد وتركم" بفتح الواو والفوقية، قال أبو ذر: قد ظلمكم، والموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك دمه. قال الشامي كالبرهان ويطلق على النقص كقوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] ، تصح إرادته، أي: نقصكم بقتل أشرافكم، "وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال" أي: بربحه، "على حربه، يعنون عير أبي سفيان، ومن كانت له في ذلك تلك العير تجارة" وكانت موقوفة بدار الندوة، كما عند ابن سعد، "لعلنا أن ندرك منه ثأرنا" بمثلثة وهمزة، وتسهل الحقد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 فأجابوا لذلك، فباعوها وكانت ألف بعير، والمال خمسين ألف دينار. وفيهم -كما قال ابن إسحاق وغيره- أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36] . واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر   أي: ما يذهب حقدنا على من قتل منا بأخذ جماعة في مقابلتهم، "فأجابوا لذلك". وعند ابن سعد: مشت أشراف قريش إلى أبي سفيان، فقالوا: نحن طيبو أنفس إن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: فأنا أول من أجاب إلى ذلك، وبنو عبد مناف. قال البلاذري: ويقال بل مشى أبو سفيان إلى هؤلاء الذين سمعوا "فباعوها" قال ابن سعد: فصارت ذهبا، قال: "وكانت" أي: الإبل الحاملة للتجارة، "ألف بعير والمال خمسين ألف دينار" فسلموا إلى أهل العير رءوس أموالهم، وأخرجوا أرباحهم، وكانوا يربحون في تجاراتهم لكل دينار دينارا، قاله ابن سعد، وهو ظاهر في أن الربح خمسون ألفا، لكن حمله النور وتبعه الشامي، على أنهم أخرجوا خمسة وعشرين ألفا لمسيرهم لحربه صلى الله عليه وسلم وعليه ففي قوله: وأخرجوا أرباحهم، تجوز، أي: نصف أرباحهم، وقوله: وكانوا ... إلخ، مجرد أخبار. "وفيهم كما قال اب إسحاق" عن بعض أهل العلم: قال في النور: لا أعرفه، ووقع في لباب النقول، وعن ابن إسحاق، ففيهم كما ذكر عن ابن عباس، ولعله في رواية غير البكائي عنه "وغيره أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال: 36] ، أي: يريدون إنفاقها في حرب النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا} بالفعل، {ثُمَّ تَكُونُ} في عاقبة الأمشر {عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندامة أو غما، لفواتها وفوات ما قصدوه، جعل ذاتها حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} في الدنيا آخر الأمر، وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتيبة، تصغير عتبة الباب، قال: نزلت في أبي سفيان: أنفق على المشركين أربعين أوقية من ذهب، وأخرج ابن جرير عن ابن أبزى، وسعيد بن جبير قالا: نزلت في أبي سفيان: استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش، ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: نزلت في المطمعين يوم بدر، وهم اثنا عشر رجلا من قريش، أطعم كل واحد منهم كل يوم عشرة حزر. "واجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال ابن إسحاق: بأحابيشها، ومن أطاعها من قبل كنانة، وأهل تهامة، وكان خروجهم من مكة لخمس مضين من شوال، "وكتب" كما قال ابن سعد "العباس بن عبد المطلب كتابا يخبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم، وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة. وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر. ورأى صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة رؤيا، فلما أصبح قال: "والله إني قد رأيت خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أني أدخلت يدي في درع   رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم" وبعثه مع رجل من بني غفار، وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها، فقدم عليه وهو بقباء، فقرأه عليه أبي بن كعب، واستكتم أبيا، ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع، فأخبره بكتاب العباس، فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا، فاستكتمه، "وسار بهم أبو سفيان حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أحد مقابل المدينة. قال ابن إسحاق: حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي، مقابله المدينة. وقال المطرزي: فنزلوا بدومة من وادي العقيق، يوم الجمعة، وقال ابن إسحاق والسدي: يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، فأقاموا بها الأربعاء والخميس والجمعة، وقال ابن إسحاق والسدي: يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، فأقاموا بها الأربعاء، والخميس والجمعة، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، هكذا نقله البغوي عنهما، ولعله في رواية غير البكائي، عن ابن إسحاق أو هو مما انفرد به السدي عنه، "وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر" لما سمعوه من أخباره صلى الله عليه وسلم، بفضل من شهدها وعظيم ثوابه، فودوا غزوة ينالون بها مثل ما ناله البدريون، وإن استشهدوا. "ورأى" وفي نسخة: وأرى بالبناء للمفعول "صلى الله عليه وسلم ليلة الجمعة" كما عند ابن عقبة وابن عائذ، "رؤيا" بلا تنوين، "فلما أصبح، قال: "والله إني قد رأيت خيرا". وفي الصحيح: "ورأيت فيها بقرا، والله خير". قال الحافظ: مبتدأ وخبر، بتقدير وصنع الله خير، وقال السهيلي: معناه والله عنده خير، وهو من جملة الرؤيا، كما جزم به عياض وغيره، انتهى. ولذا فسره صلى الله عليه وسلم، فقال: "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير"، كما رواه البخاري. وفي رواية ابن إسحاق: "رأيت والله خيرا"، "رأيت بقرا"، بفتح الموحدة والقاف، جمع بقرة، استئناف بياني، كأنه قيل: ماذا رأيت؟، فقال: رأيت بقرا "تذبح ورأيت في ذباب" بمعجمة فموحدة، طرف "سيفي" الذي يضرب به، وفي مغازي أبي الأسود، عن عروة: "رأيت سيفي ذا الفقار قد انفصم صدره"، وكذا عند ابن سعد، وأخرجه البيهقي في الدلائل من حديث أنس قاله في الفتح، "ثلما" بمثلثة مفتوحة فلام ساكنة، أي: كسرا، "ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة" أنث الصفة؛ لأن الدرع مؤنثة، وبقي من الرؤيا شيء لم يذكر هنا، وهو ما رواه أحمد عن أنس رفعه: "طرأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا"، وكان ضبطة سيفي انكسرت، فأولت يأني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 حصينة، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل". وقال موسى بن عقبة، ويقول رجال: كان الذي بسيفه ما أصاب وجهه، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، يومئذ، وكسروا رباعيته، وجرحوا شفته.   أقتل صاحب الكتيبة، وكبش القوم سيدهم، فصدق الله رسوله الرؤيا، فقتل علي رضي الله عنه طلحة بن عثمان، صاحب لواء المشركين يومئذ، "فأما البقر" جواب لقولهم، كما في رواية قالوا: ما أولتها؟ قال: البقر، "فناس من أصحابي يقتلون". وفي الصحيح: "ورأيت فيها بقرا، خير"، فإذا هم المؤمنون يوم أحد. قال السهيلي: البقر في التعبير بمعنى رجال متسلحين يتناطحون. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد رأى الملك بمصر البقر، وأولها يوسف بالسنين. وفي حديث ابن عباس ومرسل عروة: فأولت البقر الذي رأيت بقرا يكون فينا، قال: فكان أول من أصيب من المسلمين، وقوله: بقرا، بسكون القاف، وهو شق البطن، وهذا أحد وجوه التعبير أن يشتق من الاسم معنى يناسب، ويمكن أن يكون ذلك لوجه آخر من وجوه التأويل، وهو التصحيف، فإن لفظ: بقر، مثل لفظ: نفر، بالنون والفاء خطأ. وعند أحمد والنسائي، وابن سعد من حديث جابر بسند صحيح في هذا الحديث، "ورأيت بقرا منحورة"، وقال فيه: فأولت الدرع المدينة والبقر نفر، هكذا فيه بنون وفاء، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، انتهى. وخالفه المصنف، فضبط بقرا الثاني، بسكون القاف، فلا أدري لم خالفه، ثم لا تعارض بين الأحاديث في التأويل بالقتل أو البقر كما هو ظاهر. "وأما الثلم"، الكسر، "الذي رأيت في" ذباب "سيفي فهو رجل من أهل بيتي يقتل" فكان حمزة سيد الشهداء رضي الله عنه، هكذا قال ابن هشام عن بعض أهل العلم مرفوعا معضلا. "وقال موسى بن عقبة: ويقول رجال" منهم عروة "كان الذي بسيفه ما أصاب وجهه الشريف، فإن العدو أصابوا وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم يومئذ وكسروا رباعيته" بتخفيف الياء، أي: تثنيته اليمنى، "وجرحوا شفته" السفلى، ولعل هذا تفسير للكسر الذي أصاب صدر سيفه، وتفسيره صلى الله عليه وسلم للثلم الذي بطرفه فيكون في سيفه خلل في موضعين، فسر عليه السلام واحدًا منهما، وهؤلاء الرجال فسروا الموضع الآخر. وفي الصحيح: "رأيت في رؤياي أني هززت سيفا فانقطع صدره"، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد. قال المهلب: لما كان صلى الله عليه وسلم يصول بأصحابه، عبر عن السيف بهم وبهزه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: "وأولت الدرع الحصينة المدينة فامكثوا، فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم، ورموا من فوق البيوت". فقال أولئك القوم، يا رسول الله، كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم.   "وفي رواية" عند أحمد والنسائي وابن سعد بسند صحيح، عن جابر قال: "قال عليه الصلاة والسلام:" "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر" "وأولت الدرع الحصينة المدينة" نصب بنزع الخافض، أي: بالمدينة، ووجه التأويل أنهم كانوا شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، وجعلوا فيها الآطام والحصون، فهي حصن، ولذا قال: "فامكثوا فإن دخل القوم المدينة". وفي نسخة: الأزقة، أي: أزقة المدينة، "قاتلناهم ورموا"، بالبناء للمفعول، "من فوق البيوت" وعند ابن إسحاق: "فإن رأيت أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلو، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها"، وكان رأي عبد الله بن أبي بن سلول مع رأية صلى الله عليه وسلم، وكان عليه السلام يكره الخروج إليهم، "فقال أولئك القوم" أي: الرجال الذين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر، وغالبهم أحداث، لم يشهدوا بدرا وأحبوا لقاء العدو، وطلبوا الشهادة، فأكرمهم الله يومئذ، "يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا" بفتح الجيم وضم الموحدة وشد النون، فعل ماض وفاعله "عنهم". زاد ابن إسحاق: وضعفنا، فقال ابن أبي: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إل أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعواخائبين كما جاءوا، فلم يزل أولئك القوم به صلى الله عليه وسلم وعند غيره، فقال حمزة وسعد بن عبادة، والنعمان بن مالك، وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أن كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم، فيكون هذا جراءة منهم علينا. زاد حمزة: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، وقال النعمان: يا رسول الله، لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها، فقال صلى الله عليه وسلم: "لمه" فقال: لأني أحب الله ورسوله، وفي لفظ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، ولا أفر يوم الزحف، فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت"، فاستشهد يومئذ فإن قيل لم عدل صلى الله عليه وسلم عن رأيه الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد، وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك. ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي، ثم دخل عليه الصلاة والسلام بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه وألبساه. وصف الناس ينتظرون خروجه عليه الصلاة والسلام، فقال لهم سعد بن معاذ   لا أسد منه، وقد وافقه عليه أكابر المهاجرين والأنصار وابن أبي، وإن كان منافقا، لكنه من الكبار المجربين للأمور، ولذا أحضره عليه السلام واستشاره إلى رأي هؤلاء الأحداث، قلت: لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالجهاد خصوصا، وقد فاجأهم العدو، فلما رأى تصميم أولئك على الخروج، لا سيما وقد وافقهم بعض الأكابر من المهاجرين، كحمزة والأنصار، كابن عبادة، ترجح عنده موافقة رأيهم، وإن كرهه ابتداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وهذا ظهر لي ولم أره لأحد. "فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس الجمعة، ثم وعظهم وأمرهم بالجد" بكسر الجيم، وشد الدال، ضد الهزل "والاجتهاد" في التأهب للقتال وإعداد الجيش، "وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا" مدة صبرهم على أمره، بأن لا يبرحو من مكانهم، فلما تأولوا وفارقوه، استشهدوا ليتخذ الله منهم شهداء، "وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم، ففرح الناس بذلك" لأنهم لا غرض لهم في الدنيا وزهرتها لما وقر في قلوبهم، وارتاحت له نفوسهم من حب لقاء الله، والمسارعة إلى جنات النعيم. وعند ابن إسحاق: وقد مات ذلك اليوم مالك بن عمرو النجاري، فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ويقال: بل هو محرر بمهملات، قال الأمير: بوزن محمد، وقال الدارقطني: آخره زاي معجمة، بوزن مقبل ابن عامر النجاري "ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا" بفتح المعجمة، ومضارعة بكسرها، أي: اجتمعوا، "وحضر أهل العوالي" جمع عالية، وهي القرى التي حل المدينة من جهة نجد على أربعة أميال، وقيل: ثلاثة، وذلك أدناها وأبعدها ثمانية، وما دون ذلك من جهة تهامة، فالسافلة كما في النور، "ثم دخل عليه الصلاة والسلام بيته" الذي فيه عائشة، كما عند الواقدي وغيره، "ومعه صاحباه" دنيا وبرزخا وموقفا وحوضا وجنة، "أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فعمماه وألبساه". قال شيخنا: الظاهر أن المراد عاوناه في لبس عمامته, ثيابه والتقليد بسيفه، غير ذلك مما تعاطاه عند إراد الخروج، "وصف" لازم بمعن اصطف "الناس" مرفوع فاعل، كما في النور ما بين حجرته إلى منبره، "ينتظرون خروجه عليه الصلاة وا لسلام، فقال لهم سعد بن معاذ" سيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، فردوا الأمر عليه، فخرج صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته -وهي بالهمز وقد يترك تخفيفا: الدرع- وتقلد سيفه، فندموا جميعا على ما صنعوا،   الأوس وهو في الأنصار بمنزلة الصديق في المهاجرين، فهو أفضل الأنصار، قاله البرهان "وأسيد" بضم الهمزة وفتح السين المهملة، "ابن حضير" بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة، ويقال: الحضير باللام. روى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، وصححه الحاكم، عن عائشة قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعقد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل، سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر، "استكرهتم" بسين التأكيد، لا الطلب، أي: أكرهتم "رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج". زاد في رواية: وقلتم له ما قلتم، والوحي ينزل عليه من السماء، "فردوا الأمر إليه" لأنه أعلم منكم بما فيه المصلحة ولا ينطق عن الهوى، ولا يفعل إلا بأمر الله، "فخرج" عطف على مقدر، أي: وانتظروه فخرج "صلى الله عليه وسلم، وقد لبس لامته وهي بالهمز، وقد يترك تخفيفا" وجمعها لام، كتمرة وتمر، ويجمع أيضا على لؤم بوزن نغر، على غير قياس؛ لأنه جمع لؤمة، قاله الجوهري، أي: بضم اللام. "الدرع" وقيل: السلاح ولامة الحرب أداته، كما في الصحاح. وروى أبو يعلى والبزار بسند حسن، عن سعد وطلحة: أنه ظاهر بين درعين يوم أحد، قال البرهان: بالظاء المعجمة، أي: لبس درعا فوق درع، وقيل: طارق بينهما، أي: جعل ظهر إحداهما لظهر الأخرى، وقيل: عاون والظهير العوين، أي: قوي إحدى الدرعين بالأخرى في التوقي، ومنه تظاهرون ولم يظاهر بين درعين إلا في أحد وفي حنين. ذكر مغلطاي أنه ظاهر فيها بين درعين. وفي سيرة عبد الغني روى عن محمد بن مسلمة، رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم نين درعين، درعه ذات الفضول، والسعدية، وكان سيفه ذو الفقار، تقلده يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، انتهى. "وتقلد سيفه" أي: جعل علاقته على كتفه الأيمن وهو تحت إبطه الأيسر. وعند ابن سعد: أظهر الدرع وخرم وسطها بمنطقة من أدم، من حمائل سيفه، وتقلد السيف ألقى الترس في ظهره. وقول ابن تيمية: لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم شد على وسطه منطقة، يرد برواية ابن سعد فإنه ثقة حافظ، وقد أثبته وأقره عليه اليعمري، فهو حجة على من نفاه، لا سيما وإنما نفى أنه بلغه ولم يطلق النفي، "فندموا جميعا على ما صنعوا" الطالبون للخروج على فعله، ومن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فقالوا: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت. فقال: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم: نحو حديث ابن إسحاق، وفيه إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة، ولبسه لأمته، وندامتهم على ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" وفيه: "إني رأيت أني في درع حصينة" الحديث. وعقد عليه الصلاة والسلام ثلاثة ألوية:   يطلب على الموافقة، أو هو قاصر على الطالبين، "فقالوا: ما كان" ينبغي "لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت،" ولابن سعد: ما بدا لك، وعند ابن إسحاق: فإن شئت فاقعد، "فقال: "ما ينبغي" قال الشامي: "أي: ما يحسن، أو ما يستقيم "لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه". وعند ابن إسحاق حتى يقاتل، زاد في رواية: "أو يحكم الله بينه وبين أعدائه"، وروى البيهقي عن ابن عباس، والإمام أحمد عن جابر رفعاه: "لا ينبغي لنبي إذا أخذ لامة الحرب، وأذن في الناس بالخروج إلى العدو أن يرجع حتى يقاتل"، وعلقه البخاري قال البرهان: وظاهره أن ذلك حكم جميع الأنبياء عليهم السلام، ولم أر فيه نقلا، قال: وفيه دليل على حرمة ذلك، وهو المشهور خلافا لمن قال بكراهته. "وفي حديث ابن عباس عند أحمد" بن حنبل، "والنسائي" أحمد بن شعيب، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "وصححه الحاكم" محمد بن عبد الله، "نحو حديث ابن إسحاق" هذا الذي سقناه مع من ذكرناه معه أولا. ولما كان قوله نحو: قد يقتضي خروج بعض ما ذكره من غير تعيين نص على أن فيه ما ذكره بقوله، "وفيه إشارة الني صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا" لا يخرجوا "من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة، ولبسه لأمته وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" إن وجد من يقاتله، "وفيه: "أني رأيت أني في درع حصينة"، الحديث" وغرضه من هذا تقوية رواية ابن إسحاق، ومن ذكر معه؛ لأنها مرسلة بالحديث الموصل حكما؛ لأن ابن عباس، ما شاهد ذلك، فهو مرسل صحابي، وحكمه الموصل إلى الصواب، وقد أخرج حديث الرؤيا بنحوه الشيخان وغيرهما. "وعقد عليه الصلاة والسلام ثلاثة ألوية، لواء" للأوس، "بيد أسيد بن الحضير" باللام، للمح الأصل المنقول عنه، "ولواء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 - لواء بيد أسيد بن حضير. - ولواء للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب وقيل بيد مصعب بن عمير. - ولواء الخزرج بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة. وفي المسلمين مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، دارعين. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة.   للمهاجرين بيد علي بن أبي طالب، وقيل: بيد مصعب بن عمير" وليس بخلاف حقيقي، فإنه كان بيد علي، ثم بيد مصعب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "من يحمل لواء المشركين"؟، فقيل: طلحة بن أبي طلحة، فقال: "نحن أحق بالوفاء منهم" فأخذه من علي، ودفعه إلى مصعب بن عمير، أي: لأنه من بني عبد الدار بن قصي، وكان بكر قصي، فجعل إليه اللواء، والحجابة، والسقاية، والرفادة، وكان قصي مطاعا في قومه، لا يرد عليه شيء صنعه، فجرى ذلك في عبد الدار وبنيه حتى قام الإسلام. كما أسنده ابن إسحاق، عن علي فيما مر فإلى هذا أشار عليه السلام، أي: بوفاء عهد قصي؛ لأنه لم يخالف شرعه، "ولواء الخزرج بيد الحباب" بضم الحاء المهملة، وتخفيف الموحدة، فألف فموحدة، "ابن المنذر، وقيل: بيد سعد بن عبادة" سيدهم، "وفي المسلمين مائة دارع"، أي: لابس الدرع، وهو الزردية، وركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب على إحدى الروايتين، والأخرى أنه خرج من منزل عائشة على رجليه إلى أحد، "وخرج السعدان" القائل فيهما الهاتف بمكة، فإن يسلم السعد أن يصبح محمد بمكة، لا يخشى خلاف المخالف "أمامه يعدوان" بعين مهملة، أي: يمشيان مشيا مقارب الهرولة ودون الجري، "سعد بن معاذ وسعد بن عبادة" رضي الله عنهما، حال كونهما "دارعين" مثنى دارع بوزن فاعل، والناس عن يمينه وشماله، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" أي: على الصلاة بالناس، كما قاله هشام وتبعه جمع، ومقتضاه أنه لم يول أحدا للقضاء بين الناس، وكأنه لقرب المسافة، أو لأنه لم يبق فيها إلا القليل، اذين لا يتخاصمون، "وعلى الحرس تلك الليلة" التي باتها بالشيخين، تثنية شيخ موضع بين المدينة وأحد على الطريق الشرقي إلى أحد مع الحرة، "محمد بن مسلمة" الأنصاري، أكبر من اسمه محمد في الصحابة، في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، وعين المشركون لحراستهم. عكرمة بن أبي جهل في جماعة، وروى أنه عليه السلام بعدما صلى العشاء قال: "من يحرسنا الليلة"؟ فقال ذكوان بن عبد قيس: أنا، قال: "اجلس" ثم قال: "من يحرسنا"؟، فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وأدلج عليه الصلاة والسلام في السحر، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما عسكر رد جماعة من المسلمين لصغرهم، منهم: أسامة، وابن عمر،   رجل: أنا، ثم قال: "من يحرسنا"، فقال رجل: أنا، قال: "اجلس" فأمر بقيام الثلاثة، فقام ذكوان وحده، فسأله عن صاحبيه، فقال: يا رسول الله، أنا كنت المجيب في كل مرة، قال: "اذهب حفظك الله"، فلبس لامته، وأخذ قوسه، وحمل سلاحه وترسه، فكان يطوف بالعسكر ويحرس خيمته صلى الله عليه وسلم. "وأدلج عليه الصلاة والسلام" قال البرهان: اختلف اللغويون في أن أدلج مخففا ومثقلا لغتان، في سير الليل كله أو بينهما فرق، وهو قول الأكثر فأدلج بالتشديد، سار آخر الليل، وأدلج، بسكون الدال، سار الليل كله، وسار دلجة من الليل، أي: في ساعة، انتهى. فإن قرئ المصنف بالتشديد، فقوله "في السحر" وهو قبيل الفجر، بيان للمراد من آخر الليل، وإن خفف كان بيانا لوقت السير، ويؤخذ من كلام ابن إسحاق، أنهم خرجوا من ثنية الوداع شامي المدينة. وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط، برجال ثقات، عن أبي حميد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم أحد، حتى إذا جاوز ثنية الوداع، فإذ هو بكتيبة خشناء، فقال: "من هؤلاء"؟ قالوا: عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من اليهود، فقال: "وقد أسلموا"؟، قالوا: لا يا رسول الله، قال: "مروهم فليرجعوا" فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين". قال ابن إسحاق: وكان دليله صلى الله عليه وسلم أبو خيثمة الحرثي، بخاء معجمة، وياء ومثلثة، ووهمه اليعمري ومغلطاي بأن الذي ذكره الواقدي، وابن سعد، أنه أبو حتمة، والد سهل بن أبي حتمة، يعني بحاء مهملة ففوقية، زاد مغلطاي: وقول ابن أبي حاتم، كان الدليل سهل بن أبي حتمة غير صحيح، لصغر سنه عن ذلك، انتهى, "وقد كان صلى الله عليه وسلم لما عسكر" بالشيخين قال السمهودي: بلفظ تثنية شيخ اطمأن بجهة الوالج، سميا بشيخ وشيخة، كانا هناك هيأ مسجدا له صلى الله عليه وسلم صلى به في مسيره لأحد وعسكر هناك، "رد جماعة من المسلمين لصغرهم". قال الإمام الشافعي: رد صلى الله عليه وسلم سبعة عشر صحابيا، عرضوا عليه وهم أبناء أربع عشرة سنة؛ لأنه لم يرهم بلغوا، وعرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة، فأجازهم. قال البرهان: يحتمل أن يريد ردهم في أحد، ويحتمل مجموع من رده في هذا السن في غزواته وكل منهما فائدة. وظاهر الشامي احتمال الأول فإنه عد من رده في أحد سبعة عشر، ثم أجاز اثنين منهم، "منهم: أسامة" بن زيد، "و" عبد الله "بن عمر" بن الخطاب، وما وقع في نسخة سقيمة من الشامية عمر، وبزيادة واو خطأ، لا يعول عليه، فإن ابن عمرو بن العاص لم يكن أسلم حينئذ، وكان مع أبيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري. والنعمان بن بشير. قال مغلطاي: وفيه نظر. وكان المسلمون الخارجون ألف رجل، ويقال: تسعمائة، والمشركون ثلاثة آلاف رجل   والحديث عند أحمد، والبخاري، وأبي داود والنسائي، لابن عمر بن الخطاب، "وزيد بن ثابت" الأنصاري، "وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير. قال مغلطاي: وفيه نظر" لأنه ولد في السنة الثانية قبل أحد بسنة، زاد اليعمري وغيره، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وسعد بن عقيب، وسعد بن حبتة، وزيد بن جارية، بجيم وراء، الأنصاري، وجابر بن عبد الله: وليس بالذي يروي الحديث. قال البرهان: وهو إما الراسبي البصري، وإما العبدي، وعمرو بن حزم ذكره مغلطاي، ورافع بن خديج ذكره الواقدي، وأوس بن ثابت الأنصاري، كذا رواه ابن فتحون، عن ابن عمر بن الخطاب، وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل له: إنه رام، فقال سمرة لزوج أمه: أجاز رافعا وردني وأنا أصرعه، فأعلمه صلى الله عليه فقال: "تصارعا"، فصرع سمرة رافعا فأجازه، وعقيب، بصم المهملة، وفتح القاف، وسكون التحتية، والموحدة، وحبتة، بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وفتح الفوقية، فتاء تأنيث، هي أمه، واسم أبيه بجير، بضم الموحدة، وفتح الجيم عند ابن سعد، وبفتحها، وكسر الحاء المهملة عند الدارقطني. "وكان المسلمون الخارجون" معه حقيقة وظاهرا "ألف رجل"، كما عند ابن إسحاق وغيره. "ويقال: تسعمائة" حكاه مغلطاي وغيره، فلما انخذل ابن أبي بالمنافقين الثلاثمائة صاروا سبعمائة على الأول، وستمائة على الثاني، كما في النور، فغلط من زعم أن تسعمائة مصحف عن سبعمائة؛ إذ الكلام في الخارجين أولا هل ألف أو إلا مائة. قال ابن عقبة: وليس في المسلمين إلا فرس واحد، وقال الواقدي: لم يكن معهم من الخيل إلا فرسه صلى الله عليه وسلم، وفرس بي بردة. وفي الاستيعاب، في ترجمة عباد بن الحارث بن عدي: أنه شهد أحدا، والمشاهد كلها معه عليه السلام على فرسه ذي الحزق. قال الحافظ في الفتح: وقع في الهدى، أنه كان معهم خمسون فرسا، وهو غلط بين، وقد جزم موسى بن عقبة، بأنه لم يكن معهم في أحد شيء من الخيل، ووقع عند الواقدي، كان معهم فرس له عليه السلام، وفرس لأبي بردة، انتهى بلفظه. "والمشركون ثلاثة آلاف رجل" كما جزم ابن إسحاق، وتبعه اليعمري. قال البرهان: وقال بعض الحفاظ: فجمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش، والحلفاء والأحابيش، انتهى. وعطف الأحابيش على الحلفاء مساو هنا؛ لأن المراد بهم، كما في العيون وغيرها بنو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 فيهم سبعمائة دارع ومائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة. ونزل عليه الصلاة والسلام بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق   المصطلق وبنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة، الذين حالفوا قريشا بذنبة حبشي، جبل بأسفل مكة، فسموا به، ويقال: هو واد بمكة، ويقال: سموا بذلك، لتجمعهم على أنهم يد واحدة على غيرهم أبدا. "فيهم سبعمائة دارع" لابس الدرع، وهكذا ذكره ابن سعد. "ومائتا فرس" قاله ابن إسحاق، "وثلاثة آلاف بعير وخمس عشرة امرأة" من أشرافهم. قال ابن إسحاق: خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة، وأن لا يفروا، بفتح الحاء المهملة، وكسر الفاء، فتحتية ساكنة، ثم ظاء معجمة مفتوحة، ثم تاء تأنيث. قال السهيلي: أي الغضب للحرم، وقال أبو ذر: الأنفة والغضب، وسمي ابن إسحاق منهن هند بنت عتبة، خرجت مع أبي سفيان، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام مع زوجها عكرمة بن أبي جهل، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة مع زوجها الحارث بن هشام، وبرزة بنت مسعود الثقفية مع زوجها صفوان بن أمية، وريطة بنت منبه السهمية مع زوجها عمرو بن العاص، وهي أم ابنة عبد الله، وسلافة بنت سعد الأنصارية مع زوجها طلحة الحجبي، وخناس بنت مالك مع ابنها أبي عزيز بن عمير أخي مصعب شقيقه، وخرجت عميرة بنت علقمة، ولم يسم الباقين، ونقله عنه الفتح، ولم يزد عليه. وكذا ذكر في النور الثمانية فقط، وقد أسلمن بعد ذلك وصحبن الأخناس، وعميرة بنت مالك، فلم أر لما ذكرا في الإصابة، وقد صرح في النور، بأنه لا يعلم لهما إسلاما، "ونزل عليه الصلاة والسلام بأحد، ورجع عنه عبد الله بن أبي" بن سلول "في ثلاثمائة ممن تبعه من قومه من أهل النفاق" وقال: كما عند ابن سعد عصاني، وأطاع الوالدان ومن لا رأي له ولإبن إسحق قال: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا، فأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، وكان خزرجيا كابن أبي، فقال: أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم بعدما حضر من عدوهم، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فلما أبوا، قال: أبعدكم الله فسيغني الله عنكم نبيه، واعتذاره لعبد الله، بما ذكر، وإن كان كاذبا فلا ينافي قوله أطاعهم وعصاني، كما توهم؛ لأنه خطاب لقومه الذين هم منافقون مثله. قال ابن عقبة: فلما انخزل ابن أبي بمن معه، سقط في أيدي طائفتين من المسلمين، وهما أن يقتتلا، وهما بنو حارثة من الخزرج، وبنو سلمة، بكسر اللام، من الأوس. وفي الصحيح، عن جابر، نزلت هذه الآية فينا: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، ويقال بأحد.   عمران: 122] ، بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: والله وليهما. قال الحافظ: أي: أن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم، لكن في آخرها غاية الشرف لهم. قال ابن إسحاق: قوله والله وليهما، أي الدافع عنهما ما هموا به من الفشل؛ لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم في دينهم. وفي الصحيح أيضا عن عبد الله بن زيد، لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى غزوة أحد، رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم، وفرقة تقول لا نقاتلهم. فنزل: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] ، وقال: إنها طيبة تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد، وهذا هو الأصح في سبب نزولها، وقوله: الذنوب، كذا رواه البخاري في المغازي، وفي الحج بلفظ: تنفي الرجال، وفي التفسير: تنفي الخبث، وهو المحفوظ قاله في الفتح: "ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم"، حكاه مغلطاي وغيره. والتنظير فيه بأن الذين ردهم لكفرهم، حلفاء ابن أبي اليهود، وكان رجوعهم قبل الشوط لا يلتفت إليه، فنقل الحفاظ لا يدفع بالتوهمات العقلية، وأيضا فهؤلاء ثلاثمائة، واليهود ستمائة، كما مر. والجواب: بأن المعنى أمر بالكف عنهم ونهي عن طلب رجوعهم، فكأنه أمرهم "بمكان يقال له: الشوط" بشين معجمة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء مهملة، اسم حائط بالمدينة، كما في النور. وفي ابن إسحاق: بين المدينة وأحد. "ويقال:" انخزلوا "بأحد"، وبالأول جزم ابن إسحاق، ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من يخر بنا على القوم من كثب" أي: "من قرب من طريق لا يمر بنا عليهم" فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة بوبين أمواله، حتى سلك في مال لمربع بن قيظي، وكان منافقا ضريرا، فلما سمع حس المصطفى والمسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، ويقول: إن كنت رسول الله، فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي، وقد ذكر لي، أنه أخذ وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب، أعمى البصر"، وقد بدر إليه سعد بن زيد الأشهلي قبل النهي، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وفي رواية: أنه لما وصل إلى أحد صلى به الصبح صفوفا عليهم سلاحهم وغلط من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 ثم صف المسلمون بأصل أحد، وصف المشركون بالسبخة. قال ابن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وجعل صلى الله عليه وسلم على الرماة -وهم خمسون رجلا- عبد الله بن جبير، وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم   زعم أنه بات بأحد ومربع، بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الموحدة، وعين مهملة، وقيظي، بفتح القاف، وسكون التحتية، وظاء معجمة، وياء مشددة، ويحثي بالياء، على إحدى اللغتين. ففي القاموس: حثى التراب، يحثوه ويحثيه وحثيا، "ثم صف" أي: اصطف "المسلمون بأصل أحد" أي: سفحه، "وصف المشركون بالسبخة" بفتح السين المهملة، وفتح الموحدة، وسكونها، الأرض المالحة وجمعها سباخ، فإذا وصفت بها الأرض قلت: سبخة بالكسر، كما في النور. "قال" موسى "بن عقبة: وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد" سيف الله الذي سله على المشركين بعد، "وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل" زاد غيره: وجعلوا على المشاة صفوان بن أمية، ويقال: عمرو بن العاص، وعلى الرماة وكانوا مائة عبد الله بن أبي ربيعة، وأسلموا كلهم. "و" في البخاري "جعل الله على الرماة" بضم الراء بالنبل، "وهم خمسون رجلا" هذا هو المعتمد. وفي الهدي: أن الخمسين عدد الفرسان، وهو غلط بين، كما في الفتح، وقد قدمته، وقيل: ما في الهدى انتقال حفظ من الرماة إلى الفرسان، قال البرهان: والظاهر أنه ليس بانتقال؛ لأنه ذكرهم فيما يليه، فقال: واستعمل على الرماة، وكانوا خمسين، انتهى، أي: فهو غلط محض. "عبد الله بن جبير" بن النعمان، أخا بني عمرو بن عوف الأنصاري الأوسي العقبي البدري، المستشهد يومئذ، وهو أخو خوات بن جبير "وقال: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير" قال المصنف، بفتح الفوقية، وسكون الخاء المعجمة، وفتح المهملة مخففا، ولأبي ذر تخطفنا، بفتح الخاء وشد الطاء، وأصله تتخطفنا بتاءين إحداهما، أي: إن رأيتمونا قد زلنا من مكاننا وولينا، أو إن قتلنا، أو أكلت الطير لحومنا "فلا تبرحوا من مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم". وعند ابن إسحاق: انضحوا الخيل عنا النبل، لا يأتوننا من خلفنا، "وإن رأيتمونا هزمنا القوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". كذا في البخاري من حديث البراء. وفي حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم: أن صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال: "احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا". قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف بحقه"، فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك، فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني"،   وأوطأناهم" بهمزة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء فهمزة ساكنة، أي: مشينا عليهم، وهم قتلى "فلا تبرحوا" أي: من مكانكم "حتى أرسل إليكم، كذا في البخاري" في الجهاد، بهذا اللفظ. وفي المغازي بتغيير قليل "من حديث البراء" بن عازب. وفي حديث ابن عباس، عند أحمد والطبراني والحاكم، أنه صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال لهم: "احموا ظهورنا؛ لا يأتونا من خلفنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" بفتح التاء والراء، أي: لا تكونوا مشاركين لنا. زاد في رواية: "وارشقوهم بالنبل، فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم"، وكان أول من أنشب الحرب أبو عامر الفاسق كما يأتي. "قال ابن إسحاق: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ هذا السيف"؟ ذكر أبو الربيع في الاكتفاء، أنه كان مكتوبا في إحدى صفحتيه: في الجبن عار وفي الأقدام مكرمة ... والمرء بالجبن لا ينجو من القدر وروى أحمد ومسلم عن أنس، والطبراني عن قتادة بن النعمان وابن راهويه، والبزار عن الزبير، قالوا: عرض صلى الله عليه وسلم سيفا يوم أحد، فأخذه رجال ينظرون إليه. وفي لفظ: فبسطوا أيديهم، كل إنسان يقول: أنأ، فقال: "من يأخذه بحقه" فأحجم القوم، "فقام إليه رجال" سمى منهم عمرو الزبير، كما عند ابن عقبة، وعلي كما في الطبراني، وأبو بكر كما في الينابيع، "فأمسكه عنهم". ولابن راهويه، أن الزبير طلبه ثلاث مرات، كل ذلك يعرض عنه، "حتى قام إليه أبو دجانة" بضم الدال المهملة، وبالجيم والنون، "سماك" بسين مهملة، ابن خرشة وقيل: ابن أوس بن خرشة الأنصاري المتفق على شهود بداره، وعلى أنه استشهد باليمامة، "فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: "أن تضرب به في وجه العدو حتى ينحني". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه عليه الصلاة والسلام، يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن".   وروى الدولابي في الكنى عن الزبير، قال عليه السلام: "لا تقتل به مسلما، ولا تفر به من كافر". "قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله" أي: بما يقابله من الثمن، وهو الصفة التي ذكرتها، وجعل القتال به ثمنه مجازا. وعند الطبراني قال: "لعلك إن أعطيتكه تقاتل به في الكيول"، قال: لا، "فأعطاه إليه،" ولعله علم بالوحي أنه لا يقوم به حق القيام إلا هو وهي مزية. "وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب" قال في النور: الخيلاء والمخيلة والاختيال، كله التكبر، "فلما رآه عليه الصلاة والسلام يتبختر قال: "إنها لمشية يبغضها الله" بضم الياء وكشر الغين، من أبغض لا بفتحها، وضم الغين من بغض؛ لأنه لغة رديئة، كما في المصباح والقاموس، وقد وهم في ذلك بعضهم، "إلا في مثل هذا الموطن" لدلالتها على احتقار العدو، وعدم مبالاته بهم على حد قوله: جاء شقيق عارضا رمحه فينكسر قلب العدو، ويداخله مزيد الرعب. "قال الزبير بن العوام فيما قاله" عبد الملك "بن هشام" الحميري المعافري المصري، وأصله من البصرة، العلامة في النسب والنحو، المشهور بحمل العلم، مهذب سيرة ابن إسحاق التي رواها عن زيادة البكائي، عنه المتوفى بمصر سنة ثلاث عشرة ومائتين. ولفظه: حدثني غير واحد من أهل العلم، أن الزبير بن العوام قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فمنعنيه، وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته ومن قريش، وقد قمت إليه وسألته إياه قبله، فأعطاه أبا دجانة وتركني "فقلت: والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة فاتبعته" لأشاهد الآية الباهرة في منع المصطفى لي ولغيري فيزداد يقيني. وقوله: وجدت، أي غضبت، أو حزنت، كما في النور وغيره، أي: على نفسه، خوفا أن المنع بسبب فيه يقتضيه، "فأخذ" لفظ ابن هشام، فأخرج. وفي الينابيع ثم أهوى إلى ساق خفه، فأخرج منها "عصابة له حمراء" مكتوبا في أحد طرفيها نصر من الله وفتح قريب، وفي طرفها الآخر الجبانة في الحرب عار، ومن فر لم ينج من النار، انتهى. "فعصب" قال البرهان: مخفف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت فخرج وهو يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل أن لا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول فجعل لا يلقى أحدًا من المشركين إلا قتله.   ومشدد، "بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج عصابة الموت" في ابن هشام، وهكذا كانت تقول له: إذا تعصب بها، "فخرج وهو يقول: أن الذي" وأنشده الجوهري بلفظ: إني امرؤ "عاهدني" أراد قوله: لعلك إن أعطيتكه تقاتل به في الكيول فقال: "لا "خليلي" قال: في الروض أنكره عليه بعض الصحابة، وقالوا له: متى كان خليلك؟ وإنما أنكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لأتخذت أبا بكر خليلا، ولكن إخوة الإسلام" قال: وليس في الحديث ما يدفع أن يقول الصحابي خليلي؛ لأنهم يريدون به معنى الحبيب، ومحبتهم له تقتضي هذا وأكثر منه، ما لم يكن غلوا وقولا مكروها، وإنما فيه أنه عليه السلام لم يكن يقولها لأحد، ولا خص بها أحدًا دون أن يمنع أصحابه أن يقولوها له، انتهى. "ونحن بالسفح،" قال في النور: رأى جانب الجبل عند أصله، "لدى" بفتح اللام والمهملة، أي: عند "النخيل" اسم جنس نخلة، "أن لا أقوم الدهر في الكيول اضرب" بضم الموحدة، قال الجوهري: وإنما سكنه لكثرة الحركات، قال شيخنا: أو لإرادة الإدغام؛ لأن النظم لا يستقيم بدونه، "بسيف الله والرسول" وأنشده الجوهري، بدون الشطر الثاني، ولكن مثله لا يعترض به لأنه زيادة ثقة، "فجعل لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله". وفي مسلم من حديث أنس: ففلق أبو دجانة بالسيف هام المشركين. وعند ابن هشام عن الزبير، وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلا دفف عليه، فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبو دجانة فأتقاه بدرقته، فعضت بسيفه، وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة، ثم عدل السيف عنها. قال ابن إسحاق، وقال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس حمسا شديدا، فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وعن الزبير خرج أبو دجانة بعدما أخذ السيف وأتبعته، فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه وهتكه وفلق به المشركين، وكان إذا كل شحذه بالحجارة، ثم يضرب به العدو كأنه منجل، حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند، وهي تغني، تحرض المشركين فحمل عليها، فنادت: يا لصخر، فلم يجبها أحد، فانصرف عنها فقلت له: كل سيفك رأيته فأعجبني، غير أنك لم تقتل المرأة، قال: كرهت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 وقوله: في الكيول -بفتح الكاف وتشديد المثناة التحتية- مؤخر الصفوف. وهو: فيعول من كال الزند يكيل كيلا إذا كبا ولم يخرج نارا، فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل. قال أبو عبيدة: ولم يسمع إلا في هذا الحديث.   أن أضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة لا ناصر لها. ذفف، بالذال المعجمة وشد الفاء الأولى، مفتوحات أسرع قتله، ويحمس حمسا، بحاء مهملة، يروى بالسين المهملة، يشجعهم من الحماسة، وبالشين المعجمة، من أحمشت النار أوقدتها، قاله السهيلي وغيره. وصمدت إليه قصدته، والمعروف صمدته، لكن ضمن معنى قصد فعداه بإلى؛ لأن قصد يتعدى بإلى وبنفسه، وولولت قالت: يا ويلها هذا قول أكثر اللغويين. وقال ابن دريد: الولولة، رفع المرأة صوتها في فرح أو حزن، قاله أبو ذر في حواشيه. "وقوله في الكيول، بفتح الكاف وتشديد المثناذة التحتية" مضمومة ثم واو ساكنة ثم لام، "مؤخر الصفوف" كما قاله الجوهري، وأبو عبيد والهروي، وقالا: ما معناه: "وهو فيعول من كال الزند يكيلك يلا إذا كبا ولم يخرج نارا" وذلك شيء لا نفع فيه، "فشبه مؤخر الصفوف به لأن من كان فيه لا يقاتل" وقيل: الكيول الجبان، وقيل: ما أشرف من الأرض بريد تقوم فوقه فتنظر ما يصنع غيرك، كما في النهاية وغيرها، والأول أنسب بالمقام، ولذا اقتصر عليه المصنف تبعا للجماعة، وأما الجبان فلا معنى له هنا إلا بتكلف، وكذا الثالث بعيد من السياق، فإنه وإن كان له معنى لا يناسب قوله: تقاتل به في الكيول، وقال أبو ذر في حواشيه: الكيول، بالتشديد والتخفيف، آخر الصفوف في الحرب. وقال ابن سراج: من رواه بالتخفيف، فهو من قولهم: كال الزند، إذا نقص، انتهى. وفي الصحاح: كال الزند يكيل، إذا لم يخرج نارا. قال البرهان: وفي نسخة بهذه السير، يعني العيون في الهامش الكبول، بضم الكاف والموحدة بالقلم جمع كبل، وهو القيد الضخم. وهذا إن صح رواية فله معنى، وفي صحته نظر، انتهى. "قال أبو عبيدة" معمر بن المثنى: ولد سنة اثنتي عشرة ومائة، ومات سنة تسع أو ثمان، أو عشر أو إحدى عشرة ومائتين، "ولم يسمع" لفظ الكيول، "إلا في هذا الحديث" قال شخنا: لعل المراد لم يسمع في حديث غيره، وإلا فهو منقول عن اللغة، كما يدل عليه الخلاف المتقدم في معناه. وعند ابن سعد: وكان أول من أنشب الحرب بينهم أبو عامر، وذكر ابن إسحاق عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف. والتقى حنظلة الغسيل وأبو سفيان فضربه شداد بن أوس فقتله فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة"،   عاصم بن عمر قتادة أنه حين خرج إلى مكة مباعدا له صلى الله عليه وسلم معه خمسون غلاما من الأوس، وقيل: خمسة عشر، كان يعد قريشا لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان، فلقيهم في الأحابيش، وعبدان أهل مكة فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر، فقالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وكان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه صلى الله عليه وسلم الفاسق، فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالا شديدا. قال ابن سعد: ثم تراموا بالحجارة حتى ولى أبو عامر وأصحابه، وجعل نساء المشركين يضربن بالدفوف والغرابيل، ويحرضن ويذكرنهم قتلى بدر، ويقلن شعرا. قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أثخن في الناس كما مر، "وقاتل حمزة بن عبد المطلب،" فأثخن خصوصا في الرؤساء، "حتى قتل أرطأة بن شرحبيل" بضم الشين "ابن هاشم بن عبد مناف" بن عبد الدار بن قصي، كما في ابن إسحاق، ولو زادهما المصنف، كان أحسن لئلا يوهم أنهما اللذان في النسب الشريف، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ولذا خصه بالذكر وكونه قاتله، جزم به ابن إسحاق، وقال ابن سعد وغيره: قتله علي وصححه، "والتقى حنظلة الغسيل" بن أبي عامر الفاسق، واسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي. قال البرهان: ووقع في العيون عبد بن عمرو، والصواب حذف ابن، "وأبو سفيان" بن حرب، فعلاه حنظلة، "فضربه شداد بن أوس" ابن شعوب، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق والواقدي وغيرهما: شداد بن الأسود، وهو ابن شعوب الليثي، قال في الإصابة: قال المرزباني: شعوب أمه، والأسود أبوه أسلم بعد ذلك وصحب، انتهى. فقصر البرهان في قوله: لا أعلم لشداد إسلاما. وفي تفسير الحميدي، كما قاله السهيلي: مكان شداد جعونة ابن شعوب الليثي، وهو مولى نافع القاري، وجعونة هو أخو شداد له إدراك، كما في الإصابة في قسم المخضرمين، "فقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن حنظلة لتغسله الملائكة". وعند ابن سعد: "رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن، في صحافي الفضة بين السماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 فسألوا امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبي فقالت: خرج وهو جنب فقال عليه الصلاة والسلام: "لذلك غسلته الملائكة". وبذلك تمسك من قال من العلماء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا. وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة لواء المشركين،   والأرض"، "فسألوا امرأته جميلة، أخت عبد الله بن أبي" ابن سلول المنافق، وكان ابتني بها تلك الليلة، وكان عرسوا عنده، فرأت في المنام تلك الليلة كأن بابا من السماء، قد فتح له، فدخله، ثم أغلق دونه، فعلمت أنه ميت من غده، فدعت رجالا حين أصبحت من قومها، فأشهدتهم على الدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، ذكره الواقدي، كما في الروض، "فقالت: خرج وهو جنب" حين سمع الهاتفة، "فقال عليه الصلاة والسلام: "لذلك غسلته الملائكة". قال في الروض: وذكر أنه التمس في القتلى، فوجدوه يقطر رأسه ماء، وليس بقربة ماء تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم انتهى. والهاتفة، بالتاء والفاء، عند ابن إسحاق أي: الذات الصائحة، قال ابن هشام: ويقال الهائعة، يعني بتحتية، فعين مهملة. قال: والهائعة الصيحة التي فيها فزع، قال: وفي الحديث: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه، كلما سمع هيعة طار إليها". قال الطرماح: أنا ابن حماة المجد من آل هاشم ... إذا جعلت خور الرجال تهيع "وبذلك" أي: إخبار المصطفى أن الملائكة غسلته، "تمسك من قال من العلماء" كالحنابلة: "أن الشهيد يغسل إذا كان جنبا". والجواب عن الجمهور: أن تغسيل الملائكة إكرام له، وهو من أمور الآخرة لا يقاس عليه، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتغسيل أحد ممن استشهد جنبا، "وقتل علي رضي الله عنه طلحة بن أبي طلحة" عثمان، أخو شيبة بن عثمان، "صاحب لواء المشركين" أحد بني عبد الدار لما صاح: من يبارز؟ فبرز له علي، فقتله وهو كبش، أي: سيد الكتيبة، الذي رآه صلى الله عيه وسلم في رؤياه، هكذا ذكر ابن سعد وابن عائذ. وعند ابن إسحاق: لما قتل مصعب بن عمير أعطى صلى الله عليه وسلم اللواء عليا. قال ابن هشام: وحدثني مسلمة بن علقمة المازني، قال: لما اشتد القتال يوم أحد، جلس صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار، وأرسل إلى علي أن قدم الراية، فتقدم وقال: أنا أبو القصم بالقاف والفاء" فناداه أبو سعد بن أبي طلحة، صاحب لواء المشركين: أن هل لك يا أبا القصم في البراز من حاجة؟، قال: نعم، فبرز بين الصفين، فاختلقا ضربتين، فضربه علي فصرعه، ثم انصرف عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة رضي الله عنه فقطع يديه وكتفيه. ثم أنزل الله نصره على المسلمين فحسوا الكفار بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة، فولى الكفار لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل، وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم. ووقعوا ينتهبون العسكر ويأخذون ما   ولم يجهز عليه، فقال له أصحابه: "أفلا أجهزت عليه؟ قال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم، وعرفت أن الله قتله. ويقال: إن أبا سعد بن أبي طلحة خرج بين الصفين فنادى: أين قاصم، من يبارز مرارا، فلم يخرج إليه أحد، فقال: يا أصحاب محمد، زعمتم أن قتلاكم في الجنة وأن قتلانا في النار، كذبتم واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم، فخرج إليه علي فقتله. وقال ابن إسحاق: قتله سعد بن أبي وقاص، "ثم حمل لواءهم عثمان بن أبي طلحة" وهو يقول: إن علي أهل اللواء حقا ... أن يخضبوا الصعدة أو تندقا "فحمل عليه حمزة رضي الله عنه، فقطع يديه وكتفيه" أي: ثم مات. زاد ابن سعد: ثم حمله أبو سعد بن أبي طلحة، فقتله سعد بن أبي وقاص، أي: أو علي كما رأيت، ثم حمله مسافع بن طلحة فرماه عاصم فقتله، ثم حمله الحارث بن طلحة فقتله عاصم، ثم حمله كلاب بن طلحة فقتله الزبير، ثم حمله الجلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله، ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله علي، ثم حمله شريح بن قارظ فلا يدرى قاتله، ثم حمله صواب غلامهم، فقيل: قتله علي، وقيل: سعد، وقيل: قزمان، وهو أثبت الأقاويل، انتهى. وجزم به ابن إسحاق كما جزم، بأن قاتل أرطأة حمزة كما مر، "ثم أنزل الله نصره على المسلمين" وصدقهم وعده، "فحسوا الكفار" بفتح الحاء وضم السين مشددة المهملتين، أي: لاستأصلوهم قتلا "بالسيوف، حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت" تامة، أي: وقعت "الهزيمة" لا شك فيها، "فولى الكفار لا يلوون"، يعرجون "على شيء ونساؤهم يدعون بالويل. روى ابن إسحاق: عن الزبير قال: والل لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عقبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل، ولا كثير، وأصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنو منه أحد، "وتبعهم المسلمون حتى أجهضوهم،" بجيم وضاد معجمة. قال البرهان: أي: نحوهم وأزالوهم، ووقعوا"، أي شرعا، "ينتهبون العسكر، ويأخذون ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 فيه من الغنائم. وفي البخاري: قال البراء: فقال أصحاب عبد الله بن جبير: أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون، فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين.   فيه من الغنائم" واشتغلوا عن الحرب. قال الزبير: فخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من خلفنا، وصرخ صارح: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا وانكفأ علينا قوم. قال ابن إسحاق، وحدثني بعض أهل العلم: أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، بمثلثة، أي: استداروا حوله. قال البرهان: ولا أعلم لها إسلاما، والظاهر هلاكها على دينها. "وفي البخاري:" عقب ما قدم المصنف عنه قريبا، "قال البراء:" فأنا والله رأيت النساء يشتددن، قد بدت خلاخلهن وأسواقهن رافعات ثيابهن، "فقال أصحاب عبد الله بن جبير" وهم الرجالة، الغنيمة، "أي: قوم" أي: يا قوم، "الغنيمة" نصب على الإغراء فيهما، قاله المصنف "ظهر،" أي: غلب "أصحابكم" المؤمنون الكافرين، "فما تنتظرون؟ " أي: فأي شيء تنتظرون بعد ظفر أصحابكم وهزمهم العدو؟، "فقال عبد الله بن جبير:" إنكارا عليهم، "أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي المغازي من البخاري، فقال عبد الله عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا. "قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة". وعند ابن سعد: وثبت أميرهم عبد الله بن جبير، في نفر يسير دون العشرة مكانه، وقال: لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لم يرد هذا، قد انهزم المشركون فما مقامنا ههنا، فانطلقوا يتبعون العسكر، وينتهبون معهم، وخلو الخيل، "فلما أتوهم صرفت وجوههم". قال المصنف: أي: قلبت وحولت إلى الموضع الذي جاءوا منه، قال شيخنا: ولعل سببه أن المشركين كروا عليهم، "فأقبلوا" حال كونهم "منهزمين" عقوبة لهم لمخالفتهم قوله صلى الله عليه وسلم "لا تبرحوا". قال الحافظ: وفيه شؤم ارتكاب النهي، وأنه يعم ضرره من لم يقع منه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وأن من آثر دنياه أضر بأمر آخرته ولم تحصل له دنياه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري أيضا: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولادهم فاجتلدت مع أخراهم. وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس: أنهم لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض. وفي رواية غيرهما: ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من النفر الرماة   "وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري أيضا" أنها قالت: "لما كان يوم" وقعة "أحد، هزم المشركون هزيمة بينة" ظاهرة، "فصاح إبليس" وفي رواية: فصرخ إبليس، لعنة الله عليه، "أي: عباد الله" يعني المسلمين، "أخراكم". قال الحافظ: أي: احترزوا من جهة أخراكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه. وكان ذلك لما ترك الرماة مكانهم، ودخلوا ينتهبون عسكر المشركين كما سبق، انتهى. "فرجعت أولادهم فاجتلدت" بالجيم، اقتتلت، "مع أخراهم" هي رواية الكشميهني في المناقب ولغيره، فرجعت أخراهم على أولاهم فاجتلدت أخراهم. قال الدماميني: أي: وأولاهم، ففيه حذف عاطف ومعطوف، مثل سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد ومثله كثير. وفي المغازي: فاجتلدت هي وأخراهم، أي: لظنهم أنهم من العدو، "وعند أحمد والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لما رجعوا، اختلطوا بالمشركين والتبس" اختلط "العسكران فلم يتميزوا" لشدة ما دهشهم، صاروا لا يعرفون المسلم من الكافر، وتركوا شعارهم الذي يتميزون به، وهو أمت أمت. قال الشامي: أمر بالموت، والمراد التفاؤل بالنصر، يعني الأمر بالإماتة مع حصول الغرض للشعار، فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها، انتهى. "فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض" فكان ممن قتلوه خطأ اليمان، والد حذيفة، فقال: غفر الله لكم وترك ديته لهم. "وفي رواية غيرهما" يعني ابن سعد، "ونظر خالد بن الوليد" المخزومي، أسلم بعد الحديبية، وصحب وصار سيف الله صبه على المشركين، وسيأتي إن شاء الله تعالى في أمراء المصطفى، "إلى خلاء الجبل" بفتح الخاء والمد، "وقلة أهله" عطف سبب على مسبب، "فكر" رجع "بالخيل وتبعه عكمة بن أبي جهل، فحملوا على من بقي من النفر الرماة" الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 فقتلوهم وأميرهم عبد الله بن جبير. وفي البخاري: أنهم لما اصطفوا للقتال، خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فشد عليه فكان كأمس الدابر، وكان وحشي كامنا تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحريته حتى خرجت من بين   دون العشرة، "فقتلوهم، و" قتلوا "أميرهم عبد الله بن جبير" رضي الله عنهم. "وفي البخاري" في حديث وحشي الطويل: "أنهم لما اصطفوا للقتال خرج سباع" بكسر المهملة بعدها موحدة خفيفة، ابن عبد العزى الخزاعي، الغبشاني بضم المعجمة، وسكون الموحدة، ثم معجمة، ذكر ابن إسحاق أن كنيته أبو نيار، بكسر النون وتخفيف التحتانية، وليس المراد أنه خرج في ابتداء الحرب؛ لأن حمزة قاتل قبله، وقتل عدة، وهذا آخر من قتله، بل المراد خرج في زمن اصطفاف القوم، "فقال: هل من مبارز؟ فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه". وللطيالسي: فإذا حمزة جمل أو رق، ما وقع له أحد إلا قمعه بالسيف، ولابن إسحاق: فجعل يهد الناس بسيفه، ولابن عائذ: رأيت رجلا إذ حمل لا يرجع حتى يهزمنا، فقلت: من هذا؟، قالوا: حمزة، فقلت: هذا حاجتي. وفي البخاري، فقال: يا سباع، يابن أم أنمار، مقطعة البظور اتحاد الله ورسوله، "فشد" حمزة "عليه" على سباع، "فكان كأمس الذاهب". قال الحافظ: كناية عن قتله، أي: صيره عدما، وفي رواية ابن إسحاق: فكأنما أخطأ رأسه، وهذا يقال عند المبالغة في الإصابة. "وكان وحشي" بن حرب الحبشي مولى جبير بن مطعم "كامنا" مختفيا، وهذا نقل بالمعنى، ولفظ البخاري قال: أي: وحشي، وكمنت لحمزة "تحت صخرة" لأن مولاه جبير أو عده بالعتق إن قتله، فصدر هذا الحديث عند البخاري. قال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عدي ببدر، فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، فلما إن خرج الناس عام عينين، جبل بحيال أحد، بينه وبينه واد، خرجت مع الناس إلى القتال، فلما اصطفوا للقتال خرج سباع، فذكر ما نقله المصنف. وفي رواية الطيالسي: فانطلقت يوم أحد معي حربتي وأنا رجل من الحبشة ألعب لعبهم، قال: وخرجت ما أريد أن أقتل، ولا أقاتل إلا حمزة. وعند ابن إسحاق: وكان وحشي يقذف بالحربة قذف الحبشة قلما يخطئ، "فلما دنا منه رماه بحربته"، لفظ البخاري: فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته، "حتى خرجت من بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وركيه وكان آخر العهد به. انتهى. وكان مصعب بن عمير قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان الذي قتله ابن قمئة، وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح ابن قمئة أن محمدًا قد قتل. ويقال كان ذلك أزب العقبة،   وركيه" وعند ابن عائذ: أنه كمن عند شجرة، وعند ابن أبي شيبة من مرسل عمير بن إسحاق: أن حمزة عثر، فانكشف الدرع عن بطنه، فرماه في ثنته، بضم المثلثة، وشد النون، أي: عانته، وقيل: ما بين السرة والعانة. وللطيالسي: فجعلت ألوذ من حمزة بشجرة، ومعي حربتي حتى إذا استمكنت منه هززت الحربة حتى رضيت منها، ثم أرسلتها فوقعت بين ثندوتيه، وذهب ليقوم فلم يستطع، والثندوة بفتح المثلثة، وسكون النون وضم المهملة بعدها واو خفيفة هي من الرجل، موضع الثدي من المرأة، والذي في الصحيح أن الحربة أصابت ثنته أصح، انتهى من الفتح. "وكان" ذلك، أي: الرمي بالحربة، "آخر العهد به" كناية عن موته رضي الله عنه، "انتهى" ما نقله من حديث الباري عن وحشي، وذكر في بقيته ضيق مكة والطائف عليه، لما فشا الإسلام ثم قدومه على المصطفى وإسلامه، وقوله: "غيب وجهك عني"، ثم مشاركته في قتل مسيلمة بتلك الحربة. "وكان مصعب بن عمير" الذي أطلق عبد الرحمن بن عوف أنه خير منه، كما في الصحيح. "قاتل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل". قال ابن سعد: وكان حامل اللواء فأخذه ملك في صورته، وعند غيره فلما قتل أعطى صلى الله عليه وسلم الراية عليا، "وكان الذي قتله ابن قمئة" بفتح القاف وكسر الميم بعدها همزة، واسمه عبد الله كما قاله ابن هشام، "وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنه كان إذ لبس لامته يشبه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال بعضهم، "فصاح ابن قمئة" لظنه الخائب ولله الحمد "أن محمدًا قد قتل". روى ابن سعد، عن محمد بن شرحبيل: أن مصعبا حمل اللوء يوم أحد، فقطعت يده اليمنى، فأذه بيده اليسرى وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] الآية، ثم قطعت يده اليسرى فحتى على اللواء، أي: أكب عليه، وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144] الآية. قال محمد بن شرحبيل: وما نزلت هذه الآية يومئذ حتى نزلت بعد، "ويقال" وبه جزم ابن هشام، "كان ذلك" الصارخ بأن محمدا، قد قتل، "أزب" أي: عامر، "العقبة" وجاء في حديث مرفوع أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هذا إزب العقبة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 ويقال: إبليس لعنه الله تصور في صورة جعال. وقال قائل: أي عباد الله أخراكم، أي: احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل.   قال السهيلي: قيد هنا بكسر الهمزة، وسكون الزاي، وابن ماكولا قيده بفتح الهمزة. وحديث ابن الزبير يشهد للأول إذا رأى رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال: ما أنت؟ قال: إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى باض، أي: هرب. وقال يعقوب بن السكيت في الألفاظ: الإزب القصير، فالله أعلم، أي الضبطين أصح هل الإزب والأزب شيطان واحد أو اثنان، انتهى. وظاهره سكون الزاي، وخفة الباء مع كسر الهمزة وفتحها، ومقتضى القاموس، أي: مفتوحها بفتح الزاي وشد الموحدة، وبعض المتأخرين جعلهما قولين. "ويقال إبليس لعنه الله" كما جزم به ابن سعد، "تصور في صورة جعال"، ويقال له جعيل بن سراقة الضمري، أو الغفاري، أو الثعلبي. قال في الاستيعاب: وكان رجلا صالحا دميما أسلم قديما وشهد معه عليه السلام أحدًا، ويقال: إنه الذي تصور إبليس في صورته يوم أحد، انتهى. فصرخ ثلاث صرخات أن محمدا قد قتل ولم يشك فيه أنه حق، وكان جعال إلى جنب أبي بردة بن نيار، وخوات بن جبير يقاتل أشد القتال، ثم ليس هذا بخلاف محقق، فالثلاثة صاحوا ابن قمئة لظنه، والأزب وإبليس لمحاولة ما لم يصلا إليه. "وقال قائل" هو إبليس لعنه الله، كما في البخاري، وقدمه المصنف قريبا، فنقله عن غيره عجب، "أي: عباد الله أخراكم، أي: احترزوا من جهة أخراكم". قال المصنف: أي: احترزوا من الذين وراءكم متأخرين عنكم، وهي كلمة تقال لمن يخشى أن يؤتى عند القتال من ورائه، وغرض اللعين أن يغلطهم ليقتل المسلمون بعضهم بعضا، "فعطف" أي: رجع "المسلمون يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون" من العجلة والدهش، "وانهزمت طائفة" قليلة "منهم"، واستمروا "إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم ووقع فيهم القتل". قال الحافظ: والواقع أنهم صاروا ثلاث فرق، فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة، فما رجعوا حتى انفض القتال وهم قليل، وهم الذين نزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] ، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فصارت غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه، أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل وهم أكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 وقال موسى بن عقبة: ولما فقد عليه الصلاة والسلام، قال رجل: منهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم، فإنهم داخلو البيوت. وقال رجال منهم: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء. منهم أنس بن مالك بن النضر شهد له بها عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ. قال في "عيون الأثر": كذا وقع في هذا الخبر: أنس بن مالك، وإنما هو   الصحابة، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم تراجعت إليه الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي، انتهى. "وقال موسى بن عقبة: ولما فقد" بالبناء للمفعول، "عليه الصلاة والسلام"، أي: غاب عن أعينهم لشدة ما دهشهم، أو في ظنهم، أو بحسب الإشاعة فلا يرد أنه عليه السلام لم يفارق مكانه، ولم تزل قدمه شبرا واحدا. "قال رجل منهم"، قال في النور لا أعرف اسمه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل". وفي رواية الطبراني قال بعض من فر إلى الجبل: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ليستأمن لنا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدًا قد قتل، "فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم" الكفار "فيقتلوكم فإنهم داخلوا البيوت" مجرور بالإضافة، ولذا حذفت النون، ويجوز عربية نصب البيوت، وقد قرئ شاذا، والمقيمي الصلاة بنصب الصلاة كما في النور، أي تخفيفا بحذف النون كما يحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وهي قراءة الحسن وأبي عمر. وفي رواية كما في إعراب السمين. وفي رواية الطبراني فقال أنس بن النضر: يا قوم إن كان محمدا قتل فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وأسقط من كلام ابن عقبة، وقال رجال منه: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وهؤلاء منافقون. "وقال رجال منهم" مؤمنون، قد تمكن الإيمان من قلوبهم، وهم الذين غشاهم النعاس أمنة: "إن كا رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل" شكوا في الأخبار لما وقر في قلوبهم، واطمأنت عليه نفوسهم أنه صلى الله عليه وسلم لا بد وأن يظهره الله على أعدائه، ويفتح له الفتح المبين، وهم أهل الصدق واليقين، "أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء منهم أنس بن مالك بن النضر" بنون وضاد معجمة ساكنة، "شهد له بها" بهذه المقالة، "عند النبي صلى الله عليه وسلم" بعد قتله يومئذ "سعد بن معاذ" سيد الأوس. "قال" الحافظ اليعمري "في عيون الأثر: كذا وقع في هذا الخبر أنس بن مالك، وإنما هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر. انتهى. وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ...................................................................   أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر، انتهى" وهو تعقيب حسن كما في النور، والجمع بإمكان أن كلا قال ذلك فاسد لصغر أنس عن قول مثل ذلك في المشاهد، فقد صح أنه خدم النبي لما قدم المدينة وهو ابن عشر سنين، فيكون يوم أحد ابن ثلاث عشرة سنة، فإن كان حضر الوقعة، فإنما كان في خدمة المصطفى، أو مع عمه على نحو ما مر في بدر. وقد روى ابن إسحاق أن أنس بن النضر عم أنس بن مالك جاء إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟، قالوا: قتل صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل العدو فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك. فحدثني حميد الطويل، عن أنس قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته عرفته ببنانه. وفي الصحيح عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد، وانكشف المسلمون قال: اللهم إني اعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال الحافظ: وأو للتقسيم لا للشك، قال: وسياق الحديث يشعر بأن أنس بن مالك إنما سمع هذا الحديث من سعد بن معاذ؛ لأنه لم يحضر قتل عمه، انتهى. وهذا مما يرد الجمع المار، "وثبت النبي صلى الله عليه وسلم" بإجماع. قال ابن سعد: ما يزول يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا، ويرمي بالحجر. وروى البيهقي عن المقداد: فوالذي بعثه بالحق ما زالت قدمه شبرا واحدا، وإنه لفي وجه العدو، وتفيء إليه طائفة من أصحابه مرة، وتفترق مرة، فربما رأيته قائما يرمي عن قوسه، ويرمي بالحجر حتى انحازوا عنه. وروى أبو يعلى بسند حسن عن علي لما انجلى الناس يوم أحد، نظرت في القتلى فلم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: والله ما كان ليفر وما أراه في القتلى، ولكن أرى أن الله غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيه فما لي خير من أن أقاتل حتى أقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وانكشفوا عنه، وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسبعة من الأنصار. وفي البخاري: لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا اثنا عشر رجلا   القوم فأفرجوا إلي، فإذا أنا برسول الله بينهم، أي: يقاتلهم صلى الله عليه وسلم. وروى الحاكم في المستدرك بسند على شرط مسلم، عن سعد: لما جال الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الجولة يوم أحد، قلت: أذود عن نفسي فإما أن أستشهد، وإما أن ألحق حتى ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا كذلك إذا رجل مخمر وجهه، ما أدري من هو، فأقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه، فملأ يده من الحصى، ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقري حتى يأتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا، ولا أدري من هو وبيني وبينه المقداد، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه، إذ قال المقداد: يا سعد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك، فقلت: وأين هو، فأشار لي إليه، فقمت ولكأنه لم يصبني شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك، فارم به عدوك، ورسول الله يقول: "اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته وأجب دعوته"، حتى إذا فرغت من كنانتي، نثر صلى الله عليه وسلم ما في كنانته، فنبلني سهما نضا. قال: وهو الذي قد ريش وكان أشد من غيره. "وانكشفوا عنه" قال محمد بن سعد، "وثبت معه من أصحابه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين، فيهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه" وعمر، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، "وسبعة من الأنصار" أبو دجانة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة بدل الأخيرين، ذكره الواقدي كما في الفتح، وذكر غيره في المهاجرين علي بن أي طالب، وكان من لم يذكره لأنه كان حامل اللواء بعد مصعب، فلا يحتاج إلى أن يقال ثبت، قال في السبل، ويقال ثبت بين يديه يومئذ ثلاثون رجلا كلهم يقول: وجهي دون وجهك، ونفسي دون نفسك، وعليك السلام غير مودع. "وفي البخاري" في حديث البراء الذي قدم المصنف منه قطعتين عقب قوله في الثانية: فأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم فـ" لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا اثنا عشر رجلا" ولفظه: فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا. زاد ابن عائذ من مرسل عبد الله بن حنطب من الأنصار. وفي مسلم عن أنس أفرد صلى الله عليه وسلم يوم أحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، فقول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 فأصابوا منا سبعين، وكان عليه الصلاة والسلام وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة، سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.   طلحة وسعد إنه لم يبق معه غيرهما رواه البخاري، أي من المهاجرين. وعند الحاكم أن المقداد ممن ثبت، فيحتمل أنه حضر بعد تلك الجولة، وللنسائي والبيهقي بسند جيد عن جابر، تفرق الناس يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة، وهو كحديث أنس إلا أنه زاد ثلاثة، فلعلهم جاءوا بعد، ويجمع بينه وبين حديث غير طلحة وسعد، بأن سعدا جاءهم بعد ذلك كما مر عنه، وأن المذكورين من الأنصار استشهدوا كما في مسلم عن أنس، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة" فقام رجال من الأنصار فاستشهدوا كلهم، فلم يبق غير طلحة وسعد، ثم جاء بعدهم من جاء، وسمى ابن إسحاق بسنده ممن استشهد من الأنصار الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ زياد بن السكن، قال: وبعضهم يقول: عمارة بن زياد بن السكن في خمسة من الأنصار، واختلاف الأحاديث باعتبار اختلاف الأحوال، وأنهم تفرقوا في القتال، فلما ولى من ولى، وصاح الشيطان، اشتغل كل واحد بهمه والذب عن نفسه، كما في حديث سعد، ثم عرفوا عن قرب بقائه صلى الله عليه وسلم فتراجعوا إليه أولا فأولا، ثم بعد ذلك كان يقدمهم إلى القتال، فيشتغلون به، ذكره الحافظ ملخصا، وذكر بعض شراح البخاري أن الانثي عشر قيل هم العشرة، وجابر، وعمار، وابن مسعود. قال الحافظ في مقدمة الفتح: هذا غلط من قائله إنما ذلك حال الانفضاض يوم الجمعة، وقد ثبت في الصحيح أن عثمان لم يبق معه. وقال البرهان: وهؤلاء ثلاثة عشر، وكأنه انتقل حفظه من الانفضاض في الجمعة إلى هنا. "فأصابوا منا" أي: من المسلمين، وفي رواية منهم "سبعين" قتيلا، "وكان عليه الصلاة والسلام" وأصحابه أصابوا" هكذا رواه الكشميهني ولغيره أصاب فينبغي كما قال شيخنا قراءة، وأصحابه بالنصب مفعولا معه، أي: أصاب مع أصحابه "من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا" كما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] . قال الحافظ: وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي الضحى: قتل يوم أحد سبعون، أربعة من المهاجرين: حمزة، ومصعب، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار، وبهذا جزم ابن إسحاق، وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي بين كعب قال: أصيب يوم أحد من الأنصار أربعة وستون من المهاجرين، ستة، وكان الخامس سعدا مولى حاطب بن أبي بلتعة، والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني شمس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، ثلاث مرات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات،   وذكر المحب الطبري عن الشافعي أنهم اثنان وسبعون، وعن مالك خمسة وسبعون من الأنصار خاصة أحد وسبعين، وسرد أبو الفتح اليعمري أسماءهم فبلغوا ستة وتسعين من المهاجرين، أحد عشر وسائرهم من الأنصار منهم من ذكره ابن إسحاق، والزيادة من عند موسى بن عقبة، أو ابن سعد، أو هشام بن الكلبي، ثم ذكر عن ابن عبد البر، وعن الدمياطي أربعة، أو خمسة: قال: فزادوا على المائة. قال اليعمري: قد ورد في تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، فإن ثبت، فالزيادة ناشئة عن الخلاف في التفصيل، وليست زيادة في الجملة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي يعول عليه، والحديث الذي أشار إليه أخرجه الترمذي وحسنه، والنسائي عن علي: أن جبريل هبط فقال: خيرهم في أسارى بدر القتل، أو الفداء على أن يقتل منهم قابل مثلهم. قالوا: الفداء ويقتل منا. قال اليعمري: ومن الناس من يجعل السبعين من الأنصار خاصة، وبه جزم ابن سعد. قال الحافظ: فكان الخطاب بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ} [آل عمران: 165] ، للأنصار خاصة، ويؤيده قول أنس: أصيب منا يوم أحد سبعون وهو في الصحيح بمعناه، انتهى. قال الحافظ برهان الدين الحلبي: ولم أر أحدا ذكر أسرى في أحد، وما وقع في بعض نسخ سيرة مغلطاي الصغرى، وتفسير الكواشي من أنه أسر سبعون، ويقال: خمسة وستون، فغلط وخطأ أو شاذ منكر لا التفات إليه. "فقال أبو سفيان" لما انحاز الفريقان وأراد الانصراف إلى مكة: "أفي القوم محمد؟ ثلاث مرات، فناههم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه" هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد، ولفظه في كتاب المغازي: وأشرف أبو سفيان، فقال: أفي القوم محمد؟، فقال: "لا تجيبوه"، وهي التي وقف عليها شيخنا، فاعترض على المصنف بها وهو معذور، "ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ " أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان، "ثلاث مرات" هكذا ثبت في الجهاد من البخاري، وفي المغازي قال: أي النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تجيبوه". "ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب" عمر، "ثلاث مرات". قال المصنف: والهمزة في الثلاثة للاستفهام الاستخباري ونهيه عليه السلام عن إجابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لكما يسوءك، قال: يوم بيوم، والحرب سجال.   أبي سفيان تصاونًا عن الخوض فيما لا فائدة فيه، وعن خصام مثله. وكان ابن قمئة قال لهم: قتلته "ثم رجع" أبو سفيان عن السؤال "إلى" أخبار "أصحابه،" فلا ينافي ما قيل إنه ناداهم وهو على فرسه في مكانه، "فقال: أما،" بشد الميم، "هؤلاء فقد قتلوا". وفي المغازي فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا، "فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت" والله "يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم". قال المصنف: إنما أجابه بعد النهي حماية للظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأن بأصحابه الوهن فليس فيه عصيان له في الحقيقة، انتهى، يعني على ظاهر حديث البخاري هذا في الجهاد والمغازي، وإلا ففي فتح الباري في حديث ابن عباس عند أحمد والطبراني والحاكم أن عمر قال: يا رسول الله ألا أجيبه؟ قال: "بلى"، فكأنه نهى عن إجابته في الأولى، وأذن فيها في الثالثة، انتهى. ولا منافاة بين الحديثين لأن عمر لم يتمكن من إدامة ترك الجواب، فاستأذنه صلى الله عليه وسلم فأذن له، فأجابه سريعًا "وقد بقي لك ما يسوءك". قال المصنف: يعني يوم الفتح، وهذا لفظ البخاري في الجهاد، ولفظه في المغازي: أبقى الله عليك، وفي لفظ: لك ما يحزنك. قال المصنف: بالتحتية المضمومة، وسكون الحاء المهملة بعدها نون ساكنة أو بالمعجمة وبعدها تحتية ساكنة، انتهى. "قال" أبو سفيان: "يوم بيوم بدر" أي: هذا اليوم في مقابلة يوم بدر، وفي حديث ابن عباس، فقال عمر: لا سواء قتلاا في الجنة وقتلاكم في النار. قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا، "والحرب سجال" قال الحافظ وغيره: بكسر المهملة وتخفيف الجيم، أي: دول مرة لهؤلاء، ومرة لهؤلاء. وفي حديث ابن عباس: الأيام دول والحرب سجال، واستمر أبو سفيان على اعتقاد ذلك حتى قاله لهرقل وقد أقر، بل نطق صلى الله عليه وسلم بقوله: "الحرب سجال"؛ كما في حديث أوس بن أوس عند ابن ماجه، ويؤيده قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، بعد قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] ، فإنها نزلت في قصة أحد بالاتفاق، والقرح: الجراح، انتهى. قال ابن إسحاق: فلما أجاب عمر أبا سفيان قال له: هلم إلي يا عمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: "ائته فانظر ما شأنه"، فقال: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدًا؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وتوجه صلى الله عليه وسلم أصحابه، فاستقبله المشركون فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، والذي جرح وجهه الشريف عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد هو الذي كسر رباعيته،   الآن، قال: أنت عندي أصدق من ابن قمئة وأبر. قال الحافظ: في الحديث منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيتهما به بحيث كان أعداؤهم لا يعرفون غيرهما، إذ لم يسأل أبو سفيان عن غيرهما، ولم يسأل عن هؤلاء الثلاثة إلا لعلمه وعلم قومه أن قيام الإسلام بهم. "وتوجه صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه، فاستقبله المشركون، فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته" بفتح الراء وتخفيف الموحدة، والجمع رباعيات، وهي السن التي بين الثنية والناب، والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها، قاله في الفتح والنور، "والذي جرح وجهه الشريف عبد الله"، وسماه ابن القيم في الهدى عمرو "بن قمئة، لكن بالأول جاء حديث أبي أمامة الآتي، وبه جزم ابن هشام، "وعتبة بن أبي وقاص أخو سعد،" أحد العشرة، "هو الذي كسر رباعيته" لأنه رماه بأربعة أحجار، فكسر حجر منها رباعيته. روى ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله". وروى عبد الرزاق في تفسيره من مرسل مقسم، وسعيد بن المسيب، أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة حين كسر رباعيته ودمى وجهه، فقال: "اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا" فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار. وروى الحاكم في المستدرك بإسناد فيه مجاهيل عن حاطب بن أبي بلتعة، أنه لما رأى ما فعل قال: يا رسول الله، من فعل بك هذا؟، قال: "عتبة" قلت: أين توجه؟ فأشار إلى حيث توجه، فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف، فطرحت رأسه، فنزل، فأخذت رأسه وفرسه وسيفه، وجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى ذلك، ودعا لي، فقال: "رضي الله عنك" مرتين. قال الحافظ: وهذا لا يصح لأنه لو قتل إذ ذاك كيف كان يوصي أخا سعدا، وقد يقال لعله ذكر له، قبل وقوع الحرب احتياطا، انتهى. قال ابن إسحاق: وقال حسان لعتبة: إذا الله جازى معشرا بفعالهم ... ونصرهم الرحمن رب المشارق فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ... ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق بسطت يمينا للنبي تعمدا ... فأدميت فاه قطعت بالبوارق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 ومن ثم لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أبخر أو أهتم -أي مكسور الثنايا من أصلها- يعرف ذلك في عقبه. وقال ابن هشام: في حديث أبي سعيد الخدري: إن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب   فهلا ذكرت الله والمنزل الذي ... تصير إليه عند إحدى البوائق قال ابن هشام: تركت منها بيتين أقذع فيهما وفي هذا كله أنه مات كافرا. قال في الإصابة في القسم الرابع فيمن ذكر في الصحابة غلطا لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن منده، واستند لقول سعد في ابن أمة زمعة: عهد إلى أخي عتبة أنه ولده، وليس فيه ما يدل على إسلامه، وقد شدد أبو نعيم في الإنكار على ابن منده، واحتج بما مر عن عبد الرزاق، وفي الجملة ليس من الآثار ما يدل على إسلامه بل فيها ما يصرح بموته على الكفر كما مضى، فلا معنى لإيراده في الصحابة، انتهى. "ومن ثم" كما قال في الروض: "لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث" أي: أوانه، وهو الحلم كما عبر به السهيلي، "إلا وهو أبخر"، منتن الفم. وقال صاحب الخميس: أي: عطشان لا يروى. وفي القاموس: البخر العطش، فلا يروى من الماء، "أو اهتم، أي: مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه" هكذا لفظ الروض أبخر، أو أهتم بأو، كما رأيته فيه، وكما نقله في النور عنه، وهو يفيد أن الحاصل لهم أحد الأمرين لا هما معا، ووقع في نقل السبل عن الروض بحذف أو، فإن لم تكن سقطت أو من الكاتب فكان نسخ الروض اختلفت، فتجعل أو مانعة خلو، فلا ينافي الجمع في نسله بينهما، ولم يحصل مثل ذلك في نسل ابن شهاب، وابن قمئة؛ لأن أثر جراحتهما لم يدم بخلاف كسر الرباعية، فباق وإن لم يشنه صلى الله عليه وسلم لا سيما والزهري أسلم، فجب ما قبله هذا. وروى ابن الجوزي والخطيب في تاريخه، عن محمد بن يوسف الحافظ الفريابي قال: بلغني أن الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم لم يولد له صبي، فتنبت له رباعية، وجمع شيخنا بينهما بحمل الثنايا في المصنف على الرباعية لمجاورتها لها، والكسر على عدم نباتها من أصلها. "وقال ابن هشام" عبد الملك في السيرة: من زيادته على ابن إسحاق، "في حديث أبي سعيد الخدري: أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، فكسر رباعيته اليمنى السفلى" هذا فائدة ذكره رواية ابن هشام؛ لأن فيها تعيين الرباعية المبهمة في الرواية السابقة، ولقوله: "جرح شفته السفلى" ولقوله: "وإن عبد الله بن شهاب" بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الزهري شجه في جبهته، وإن ابن قمئة جرح وجنته فدخلت حلقتان من المغفر في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين. وفي رواية: وهشموا البيضة على وجهه -أي كسروا الخوذة- ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما،   ابن كلاب القرشي "الزهري" جد الإمام الفقيه من قبل أبيه، شهد أحدًا مع الكفار، ويقال: هو الذي شج وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعد ذلك، ومات بمكة. قاله أبو عمر تبعا للزبير بن بكار، وذكر البلاذري أنه مات في أيام عثمان، وأما جده من قبل أمه وهو أخو هذا، واسمه أيضا عبد الله، فكان من السابقين، ذكره الزهري والزبير والطبري فيمن هاجر إلى الحبشة، ومات بمكة قبل هجرة المدينة. زاد ابن سعد: وليس له حديث ذكره في الإصابة. وفي الروض: أن الأول أصغر من الثاني، واختلف من المهاجر منهما للحبشة، وقيل لابن شهاب: أكان جدك ممن شهد بدرا؟ فقال: نعم، ولكن من ذلك الجانب، يعني مع الكفار، انتهى. "شجه في جبهته" ذكر البرهان عن بعض أشياخه أن هذا غريب، ولذا مرضه في الإصابة حيث قال: يقال: هو الذي شج وجهه كما رأيت، "وإن ابن قمئة جرح وجنته" مثلث الواو، والأشهر الفتح، أي: ما ارتفع من لحم خده، فحصل في رواية ابن هشام هذه بيان مبهم قوله في الأول جرح وجهه، "فخلت حلقتان من المغفر" بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء، زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، قاله المصنف في المقصد الثالث "في وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق" كما سماه صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له الراهب، وهو عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي، مات كافرا سنة تسع، وقيل: سنة عشر، ذكرهما ابن عبد البر. وقال غيره: سنة سبع، وقد مر أنه أول من أنشب الحرب، "يكيد بها المسلمين" لفظ ابن هشام من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيه المسلمون وهم لا يعلمون. "وفي رواية: وهشموا البيضة على وجهه" لفظ مسلم عن عمر: وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه، "أي: كصروا الخوذة ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه" أي: عليه، "في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر، فأخذ علي بيده واحتضنه" ولفظ ابن هشام، ورفعه "طلحة بن عبيد الله" التيمي، أحد العشرة، "حتى استوى قائما". وفي الصحيح عن قيس: رأيت يد طلحة شلاء، وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 ونشبت حلقتان من المغفر في وجهه الشريف، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه الشريف.   الإكليل: أن طلحة جرح يوم أحد تسعا وثلاثين، أو خمسا وثلاثين، وشل أصبعاه، أي: السبابة والتي تليها. وللطيالسي عن عائشة: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: كان ذلك اليوم كله لطلحة. وروى النسائي والبيهقي بسند جيد عن جابر: أدرك المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من للقوم"؟ فقال طلحة: أنا، فذكر قتل الذين كانوا معهما من الأنصار، قال: ثم قاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده، فقطعت أصابعه، فقال: حس، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء ثم رد الله المشركين" "ونشبت" بكسر الشين المعجمة، أي: علقت، والمراد دخلت، "حلقتان" تثنية حلقة بسكون اللام، "من المغفر في وجهه الشريف" أي: في وجنته بسبب جراح ابن قمئة وجنته، كما بينه في رواية ابن هشام التي قبل هذه الرواية، "فانتزعهما أبو عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" أحد العشرة، أمين هذه الأمة، "وعض عليهما حتى سقطت ثنتياه" في مرتين، "من شدة غوصهما في وجهه الشريف" كما روى ابن إسحاق عن أبي بكر بسند صحيح: أن با عبيدة نزع إحدى الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيته، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى، فكان ساقط الثنيتين. وفي الاستيعاب قيل: إن عقبة بن وهب بن كلدة هو الذي نزع الحلقتين، وقيل: أبو عبيدة. قال الواقدي: قال عبد الرحمن بن أبي الزياد: نرى أنهما جميعا عالجاهما وأخرجاهما من وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وفي الرياض النضرة قيل: إن المنتزع أبو بكر، انتهى. فيجوز أن الثلاثة عالجوهما، وقول النور قوله يعني اليعمري في العيون: أن طلحة بن عبيد الله نزع إحدى الحلقتين وهم، فلم يقع ذلك في العيون ولا في غيرها. وروى أبو حاتم عن الصديق: رمي صلى الله عليه وسلم ووجنته، فأهويت إلى السهم لأنزعه، فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر ألا تركتني، فتركته، فأخذ أبو عبيدة الهم بشفته، فجعل يحركه ويكره أن يؤذيه صلى الله عليه وسلم ثم استله بفيه. قال في الرياض النضرة: يجوز أن السهمين أثبتا حلقتي الدرع، فانتزع الجميع فسقطتا لذلك، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وامتص مالك بن سنان -والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- الدم من وجنته ثم ازدرده، فقال عليه الصلاة والسلام: "من مس دمي لم تصبه النار"، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه عليه الصلاة والسلام. وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسر رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: "أقماك الله"، فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.   وعند الواقدي عن أبي سعيد: أن الحلقتين لما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن بسين مهملة وضم الراء، أي: يجري، "وامتص" أي: مص، وبه عبر ابن هشام، "مالك بن سنان، والد أبي سعيد" سعد، "الخدري رضي الله عنهما الدم من وجنته، ثم ازدرده" كله على ظاهر رواية ابن هشام هذه، لكن في رواية: أنه جعل يأخذ الدم بفيه، ويمجه ويزدرد منه، فقال له: "أتشرب الدم"؟ فقال: نعم يا رسول الله، "فقال عليه الصلاة والسلام: "من مس دمي لم تصبه" وفي رواية: "لم تمسه" "النار"، وسيأتي إن شاء الله تعالى حكم دمه عليه الصلاة والسلام وهو الطهارة على الراجح، ومجموع من قيل: إنه شرب دمه لا في خصوص هذا اليوم مالك بن سنان هذا، وعلي، وابن الزبير، وأبو طيبة الحجام، وسالم بن أبي الحجاج وسفينة مولى المصطفى. "وفي الطبراني من حديث أبي أمامة" صدى بصاد ودال مفتوحة مهملتين، ابن عجلان الباهلي، "قال: رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فشج وجهه وكسر رباعيته" مر إن الذي كسرها عتبة بن أبي وقاص، وجعلهم صاحب المنتقى قولين، وجمع شيخنا بأن عتبة كسرها أولا، فلما شجه ابن قمئة، أثرت ضربته في رباعيته، فنسب كسرها له، "فقال: خذها وأنا ابن قمئة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: "أقمأك الله". قال البرهان: بهمزة مفتوحة في أوله، وأخرى في آخره، أي: صغرك وذلك، "فسلط الله عليه تسيل جبل" وهو ذكر الظباء، فإن لم يضف للجبل فذكر المعز، "فلم يزل" أي: استمر، "ينطحه حتى قطعه" فعل، وفاعل ومفعول، "قطعة قطعة" أي: قطعة بعد قطعة. وروى ابن عائذ عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر، قال: انصرف ابن قمئة عن ذلك اليوم إلى أهله، فخرج إلى غنمه، فوافاها على ذروة جبل، فأخذ فيها يعترضها، ويشد عليه تيسها، فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل، فتقطع وهو منقطع، كما قال الحافظ: فإن أردت الترجيح، فرواية الطبراني موصولة، فتقدم على المنقطع، ولذا اقتصر عليها المصنف، وإن أردت الجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 وروى ابن إسحاق عن حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسحه ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:   فيمكن أنه لما نطحه تيس غنمه، وقع من هاشق الجبل إلى أسفل، فسلط الله عليه تيس الجبل، فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله. "وروى ابن إسحاق" محمد في السيرة، "عن حميد الطويل" الخزاعي البصري، ثقة تابعي صغير حافظ، توفي وهو قائم يصلي سنة أربعين ومائة، وقيل: سنة ثلاث، وقيل: اثنتين، وله خمس وسبعون سنة، واختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، قيل: كان طويل اليدين، فلقب بذلك. وقال الأصمعي: رأيته ولم يكن طويلا، لكن كان له جار يعرف بحميد القصير، فقيل له: الطويل، ليعرف من الآخر. ولفظ ابن إسحاق: حدثني حميد، وكان الأولى للمصنف أن يأتي به؛ لأن ابن إسحاق وإن كان ثقة حافظا، لكنه يدلس فلا يقبل منه إلا ما صرح فيه بالتحديث، كما هو الواقع هنا، ثم حميد يدلس أيضا، ولذا علقه البخاري، وقرنه بثابت، فقال: حميد وثابت، "عن أنس قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسحه، ويقول: "كيف" استفهام تعجب، "يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم" وذلك مقتض لمزيد إكرامه، وإنزالهم إياه منزلة الروح من الجسد لا إيذائه، "فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم، وجهادهم وشيء اسمه ليس ولك خبر، ومن الأمر حال من شيء لأنها صفة مقدمة، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} إن أسلموا فنسر به، {أَوْ يُعَذِّبَهُم} إن أصروا فتشتفي منهم، وأو بمعنى إلا أن كما قطع به الجلال، وزاد البيضاوي: أو عطف على الأمر، أو شيء بإضمار أن، أي: أليس لك شيء من أمرهم، أو التوبة عليهم، أو تعذيبهم، {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُون} [آل عمران: 128] ، بالكفر، وأما جعله عطفا على قوله: ليقطع طرفا من الذين كفروا، كما جزم به المصنف في شرح الصحيح، أو على قوله: أو يكبتهم وليس لك من الأمر اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والمعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم، كما هو أحد الوجوه في البيضاوي، فقيه وقفة؛ لأن عامل يكبتهم هو قوله: ليقطع، وهو متعلق بقوله: نصركم، فكيف يكون سبب لنزول قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ} الآية، المسوق لغير ما سيق له ما قبله، ثم قوله فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 128] . ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق حميد به. وعند ابن عائذ من طريق الأوزاعي: بلغنا أنه لما جُرِحَ -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، أخذ شيئًا فجعل ينشف دمه ويقول: "لو وقع شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء،   شَيْءٌ} الآية. ليس قول المصنف، بل قول أنس، وحكمه الرفع, فإنه في ابن إسحاق، كما ذكر المصنف حرفًا بحرف لم يتصرَّف عليه إلّا في إبدال، حدَّثني حميد بقوله عن حميد، وقد رواه مسلم من حديث ثابت عن أنس بلفظ: فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. "ورواه أحمد والترمذي والنسائي من طرق، عن حميد" عن أنس، "به" إشارة إلى ابن إسحاق, لم ينفرد به عن حميد، والحديث صحيح. وروى البخاري أيضًا، وأحمد، والنسائي والترمذي في سبب نزول الآية، عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الآخرة من الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا، بعدما يقول سمع الله لمن حمده وربنا ولك الحمد" , فأنز الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، وجمع الحافظ بأنه دعا على المذكورين في صلاته، بعدما وقع له يوم أحد، فنزلت الآية فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم. قال: لكن يشكل ذلك بما في مسلم عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في الفجر: "اللهم العن لحيان ورعلًا، وذكوان وعصية" حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ووجه الإشكال أنَّ الآية نزلت في قصة أحد، وقصة رعل وذكوان بعدها، ثم ظهرت لي علة الخبر، وأنَّ فيه إدراجًا، فإن قوله: حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمَّن بلغه, بَيِّنَ ذلك مسلم، وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته، ويحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك، وتأخَّر نزول الآية عن سببها قليلًا، ثم نزلت في جميع ذلك، وقال في محل آخر فيه بعد: والصواب أنها نزلت بسبب قصة أحد، انتهى. "وعند" الحافظ محمد "بن عائذ" -بتحتية وذال معجمة- الدمشقي الكاتب، صاحب المغازي وغيرها، وثَّقه ابن معين وغيره، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، "من طريق الأوزاعي،" عبد الرحمن بن عمرو، إمام أهل زمانه. قال ابن سعد: ثقة مأمون صدوق، فاضل خيِّر، كثير الحديث والعلم والفقه، وُلِدَ سنة ثمان وثمانين، ومات في الحمام سنة سبع وخمسين ومائة. قال: "بلغنا أنه لما جُرِحَ -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد أخذ شيئًا، فجعل ينشف دمه" فيه ليمنعه من النزول على الأرض، "ويقول: "لو وقع منه شيء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء" لعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: ضُرِبَ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها. قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي، ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها, أو المبالغة في الكثرة. انتهى. وقاتلت أم عمارة نسيبة   حكمته أنَّ نزوله يحقق مرادهم من آذاه، ويدوم فيما أصابه من الأرض، وهي محلّ الامتهان, بخلاف إزالته بالمسح، فلم يبق له أثرظاهر، فكأنه لم ينزل، فلا امتهان، وهذا من كمال شفقته وحلمه وعظيم عفوه وكرمه، "ثم" لم يكتف بإزالة ما ينزل العذاب عليهم حتى "قال: " اللهم اغفر لقومي" , فأظهر سبب الشفقة بإضافتهم إليه، فإن الطبع البشري يقتضي الحنوَّ على القرابة بأي حال، وليبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان، ثم اعتذر عنهم، فقال: "فإنهم لا يعلمون" , فاعتذر عنهم بالجهل الحكمي، لعدم جريهم على مقتضى علمهم، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البينات عذرًا تضرعًا إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم، أو من ذريتهم مؤمن، وقد حقق الله رجاءه, ولم يقل: يجهلون تحشينًا للعبارة، ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، ثم استشكل هذا بنحو قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، وإن كان سببها خاصًّا فهي عامَّة في حق كل مشرك، وأجيب كما قال السهيلي في الروض: بأنَّ مراده الدعاء لهم بالتوبة من الشرك حتى يغفر لهم، بدليل رواية من روى: "اللهم اهد قومي"، وهي رواية عن ابن إسحاق، ذكرها بعض سيرته عنه بهذا اللفظ، وبأنه أراد مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من نحو خسف ومسخ، انتهى. وفي الينابيع: كان -صلى الله عليه وسلم- يأخذ قطرات الدم، ويرمي بها إلى السماء، ويقول: "لو وقع منها شيء على الأرض لم ينبت عليها نبات". "وروى عبد الرزاق" بن همام الحافظ الصنعاني، "عن معمر" بن راشد الأزدي البصري، نزيل اليمني، الحافظ المتقن، الفقيه الورع، المتوفَّى في رمضان سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين ومائة، "عن الزهري قال: ضُرِبَ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- يومئذ"، أي: يوم أحد، "بالسيف سبعين ضربة، ووقاه الله شرها كلها" فلم يحصل مرادهم بالضرب، ولله المنة. "قال في فتح الباري: وهذا مرسل قوي" إسناده؛ لأنَّ رجاله من رواة الصحيح، "ويحتمل أن يكون أراد بالسبعين حقيقتها" على أصل مدلول اللفظ، "أو المبالغة في الكثرة" على عادة العرب في ذلك، "وقاتلت أم عمارة" بضم العين وتخفيف الميم، "نسيبة" بفتح النون، وكسر السين المهملة فمهملة مفتوحة، فهاء كما ضبطها في الإكمال، والتبصير، والإصابة، والنور وغيرهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بنت كعب المازنية يوم أحد -فيما قاله ابن هشام, فخرجت أوَّل النهار حتى انتهت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه بالسيف وأرمي عن القوس, حتى خلصت الجراحة إلي، أصابني ابن قمئة -أقمأه الله تعالى- لما ولَّى الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت له، فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته ثلاث ضربات على ذلك، ولكنَّ عدو الله عليه درعان. قالت أم سعد بنت سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور.   وقول الشامي بالتصغير على المشهور، عن ابن معين والفربري ككريمة وهم, إنما هذا في نسيبة أم عطية، كما في الفتح الباري في الجنائز، فنقله في أمّ عمارة غلط، "بنت كعب المازنية" من بني مازن بن النجار الأنصارية النجارية. قال أبو عمر: شهدت العقبة وأحدًا مع زوجها زيد بن عاصم، وولديها حبيب -بحاء مهملة، وكسر الموحدة، وعبد الله، وشهدت بيعة الرضوان، وخرجت يوم اليمامة اثنتي عشرة جراحة، وقطعت يدها، وقتل ولدها حبيب. روت عن المصطفى، وعنها عكرمة وغيره، "يوم أحد فيما قاله" عبد الملك "بن هشام"، عن سعيد بن أبي يزيد الأنصاري، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع، عنها قالت: "فخرجت أوَّل النهار حتى انتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: فقمت أباشر القتال وأذبّ عنه" صلى الله عليه وسلم، "بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت" أي: وصلت، "الجراحة" هذا, فاللام للحضور، "إليَّ" بالتشديد، من أجل أن "أصابني ابن قمئة -أقمأه الله" بهمزتين مفتوحتين أوّله وآخره، "لما ولَّى الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا، قالت: فاعترضت" أي: تعرَّضت "له" لأمنعه عنه -صلى الله عليه وسلم, أنا، ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت معه -صلى الله عليه وسل، كما قالته عند ابن هشام، "فضربني هذه الضربة، ولكن ضربته على ذلك ضربات" وثبت لفظ ثلاث عند ابن هشام، وسقط من أكثر نسخ المصنف، "ولكن عدوَّ الله عليه درعان،" فلم تؤثر فيه ضرباتي. "قالت" رواية هذا الحديث عنها "أم سعد" واسمها جميلة، كما قال ابن سعد، "بنت سعد بن الربيع" الصحابية بنت الصحابي، قُتِلَ أبوها يوم أحد, وكانت يتيمة في حجر الصديق، وقيل: إنها زوجة زيد بن ثابت، أخرج لها أبو داود، "فرأيت على عاتقها جرحًا أجوف له غور،" فبيَّنَت صفة الجراحة ومحلها، وأخرج الواقدي عن عمارة ابن غزية: إن أم عمارة قتلت يومئذ فارسًا من المشركين، وبسند آخر عن عمر، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما التفت يوم أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 وتترِّس دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فيما قاله ابن إسحاق- أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو ينحني عليه حتى كثر فيه النبل وهو لا يتحرك. ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل ويقول: "ارم فداك أبي وأمي،   يمينًا، ولا شمالًا إلّا وأراها تقاتل دوني"، "وتترَّس دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: جعل نفسه كالترس المانع من وصول سهام العدو إليه، "فيما قاله ابن إسحاق، أبو دجانة بنفسه, يقع النبل في ظهره، وهو ينحني عليه حتى كثر فيه النبل، وهو لا يتحرك، ورمى سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، أحد العشرة، "دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بألف سهم، كما رواه الحاكم، وبعضها من سهام المصطفى حين فرغت سهام سعد. "قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل، ويقول: "ارم فداك أبي وأمي" بكسر الفاء وتفتح، أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل، لفديتك بأبوي اللذين هما عزيزان عندي، والمراد من التفدية لازمها، أي: ارم مرضيًا، قاله المصنف. وقال النووي: والمراد بالتفدية الإجلال والتعظيم؛ لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظّمه، وكأنَّ مراده بذلت نفسي، أو مَنْ يعزّ علي في مرضاتك وطاعتك. انتهى. وروى البخاري عن سعد: نثل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كنانته يوم أحد, فقال: "ارم فداك أبي وأمي". وروى الشيخان، والترمذي، والنسائي وابن ماجه عن علي: "ما سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع أبويه لأحد إلّا لسعد بن مالك، فإني سمعته يقول يوم أحد: "يا سعد، ارم فداك أبي وأمي". وفي رواية أخرى عن علي: ما جمع -صلى الله عليه وسلم- أبويه إلّا لسعد. قال السهيلي: والرواية الأولى أصح، والله أعلم؛ لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع. وقد قال الزبير ن العوام أنه جمع له أبويه، وقال له كما قال لسعد، رواه الزبير بن بكار. انتهى. أي: في هذا اليوم كما هو صريحه، وبه صرَّح في رواية أخرى. وروى الشيخان عن الزبير قال: جمع لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبويه يوم بني قريظة. قال البرهان: ويحتمل أن عليًّا أراد تفدية خاصَّة؛ لأن الحاكم روى أن سعدًا رمى يوم أحد بألف سهم، وفي شرف المصطفى ما منها سهم إلّا والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "ارم فداك أبي وأمي"، فلم يفد أحدًا ألف مرة على هذا إلّا سعد بن أبي وقاص، انتهى. قال القاضي عياض: ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك, سواء كان المفدى به مسلمًا أو كافرًا. قال النووي: وجاء من الأحاديث الصحيحة ما لا يحصى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول: "ارم به". وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده, وردَّها إلى موضعها وقال: "اللهم اكسه جمالًا"، فكانت أحسن عينيه وأحدُّهما نظرًا. ورواه الدارقطني بنحوه، ويأتي إن شاء الله تعالى لفظه   وقال السهيلي عن شيخه ابن العربي: فقه هذا الحديث جوازه إن كان أبواه غير مؤمنين وإلّا فلا؛ لأنه كان كالعقوق. قال البرهان: وقد فدى الصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- بأبويه حين كانا مسلمين، وقد لا يمنع ابن العربي هذه المسألة؛ لأنه يجب على الخلق تفديته، بالآباء والأمهات والأنفس, انتهى. وصار -صلى الله عليه وسلم- يناول سعد السهام كيفما اتفق، "حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول: "ارم به" كما عند ابن إسحاق، "وأصيبت" بسهم، ويقال: برمح، "يومئذ" أي: يوم أحد، وقيل: يوم بدر، وقيل: يوم الخندق, والأول أصح, قاله في الاستيعاب. "عين قتادة بن النعمان" بن زيد الأوسي المدني، شهد جميع المشاهد معه -صلى الله عليه وسلم، سمعه -عليه السلام يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] يردِّدها، فقال: "وجبت"، وحديثه في الموطأ, توفي سنة ثلاث وعشرين عن خمس وستين سنة، وصلى عليه عمر, "حتى وقعت على وجنته", وقيل: صارت في يده، "فأتى بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم". زاد في الصفوة فقال له: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها، ودعوت الله لك فلم تفقد منها شيئًا"، فقال: يا رسول الله، إن الجنة لجزاء جميل وطاء جليل، ولكني رجل مبتلى بحب النساء، وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله لي الجنة، فقال: "أفعل يا قتادة". وفي الروض: وإن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني، "فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وردَّها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالًَا". وعند الطبراني وأبي نعيم، عن قتادة: كنت أتقي السهام بوجهي دون وجهه -صلى الله عليه وسلم, فكان آخرها سهمًا ندرت منه حدقتي، فأخذتها بيدي, وسعيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلما رآها في كفِّي دمعت عيناه فقال: "اللهم قِ قتادة، كما وقى وجه نبيك, فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرًا"، "فكانت أحسن عينيه وأحدّهما" أقواهما "نظرًا". زاد في رواية: وكان لا ترمد إذا رمدت الأخرى، وفي رواية: إنها صارت لا تعرف، ولا يدري أيتهما التي سالت على خده، "ورواه الدارقطني بنحوه، ويأتي إن شاء الله تعالى لفظه" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 في مقصد المعجزات. ورمي أبو رهم الغفاري كلثوم بن الحصين بسهم فوقع في نحره, فبصق عليه -صلى الله عليه وسلم- فبرئ. وانقطع سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه -صلى الله عليه وسلم- عرجونًا فعاد في   وهو: أصيبت عيناي يوم أحد، فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي -صلى الله عليه وسلم, فأعادهما مكانهما، وبصق فيهما، فعادتا تبرقان. قال الدارقطني: تفرَّد به عن مالك عمارُ بن نصر، وهو ثقة, هكذا ساق لفظه "في مقصد المعجزات" هو الرابع، فلا يصح الجمع بأنَّ إحداهما وقعت على وجنته، والأخرى أصيبت، لكنها لم تصل إلى مثل ما وصلت إليه الأخرى؛ لأنه صرَّح في رواية العينين، كما ترى بأنهما معًا, فأسقطتا على وجنتيه. وقد قال النووي: وقال أبو نعيم: سالت عيناه، وغلطوه. قال البرهان في النور، وروى الأصمعي عن أبي معشر قال: قدم على عمر بن عبد العزيز رجل من ولد قتادة بن النعمان، فقال: ممن الرجل؟ فقال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد فقال عمر: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا انتهى. وفي رواية: فقال عمر: بمثل هذا فليتوسّل المتوسِّلون، ووصله وأحسن جائزته، وقوله: ويا حسن ما خد، هكذا رواية الأصمعي، وبها استدرك البرهان إنشاده اليعمري، ويا حسن ما رَدَّ وعلى صحتها فلا إيطاء فيه؛ لأنَّ الأوّل معرف، والثاني منكر، هذا ووقع في مسند أبي يعلى الموصلي أنَّ أبا ذر أصيبت عينه يوم أحد، وفيه عبد العزيز بن عمران، متروك، وأبو ذر لم يحضر بدرًا، ولا أحدًا ولا الخندق، قاله في الاستيعاب. "ورُمِيَ" بالبناء للمفعول, ونائبه "أبو رهم الغفاري، كلثوم بن الحصين" بن خالد، أحد من بايع تحت الشجرة، واستخلفه -عليه السلام- على المدينة في عمرة القضاء، وعام الفتح. وروى الزهري عن ابن أخيه عنه: "بسهم، فوقع في نحره", قال في النور: فسمي المنحور، "فبصق عليه -صلى الله عليه وسلم- فبرئ", في هذا كسابقه معجزة باهرة، "وانقطع" كما ذكر الزبير بن بكار، "سيف عبد الله بن جحش، فأعطاه -صلى الله عليه وسلم- عرجونًا" لفظ الزبير: عرجون نخلة، "فعاد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 يده سيف، فقاتل به, وكان ذلك السيف يسمَّى العرجون، ولم يزل يتوارث حتى بيع من بغا التركي من أمراء المعتصم بالله في بغداد بمائتي دينار. وهذا نحو حديث عكاشة السابق في غزوة بدر, إلّا أن سيف عكاشة كان يسمَّى العون، وهذا يسمَّى العرجون. واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون, وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأشراف أصحابه.   يده سيفًا، فقاتل به" حتى قُتِلَ -رضي الله عنه، قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، ثم قتله علي بعده، ودُفِنَ هو وخاله حمزة في قبرٍ واحد كما يأتي. "وكان ذلك السيف يسمَّى العرجون" باسم أصله قبل الآية الباهرة، "ولم يزل يتوارث" هذا لفظ السهيلي عن الزبير. ولفظ أبي عمر عنه: يتناول، واليعمري عنه: يتناقل، والمعنى قريب، وإنما ذكرته لأنَّ البرهان استدرك على اليعمري بأبي عمر، "حتى بيع من بغا التركي من أمراء المعتصم بالله" الخليفة العباسي، إبراهيم بن هارون الرشيد، "في بغداد بمائتي دينار"، وهذا" كما قال السهيلي، "نحو حديث عكاشة -بضم العين وشد الكاف وتخفف- ابن مصحن "السابق في غزوة بدر، إلّا أن سيف عكاشة كان يسمَّى العون -بفتح العين، وسكون الواو بعدها نون, وهذا يسمَّى العرجون" -بضم العين وسكون الراء، وجيم، فواو فنون؛ لأنه عرجون نخلة، فافترقا، "واشتغل المشركون" ذكورًا وإناثًا، فهو تغليب. وذكر النساء بعد من عطف الخاص على العام، لمبالغتهنَّ وإظهارهنَّ الفرح "بقتلى المسلمين يمثلون بهم" -بفتح الياء، وضم المثلثة مخففة، وبضم الياء وفتح الميم، وكسر المثلثة مشددة- أي: بجميعهم. قال في العيون: إلّا حنظلة بن أبي عامر، فإن أباه كان معهم فلم يمثلوا به، ذكره ابن عقبة. انتهى، لكنه مختلف، فبالغوا في بعضهم دون بعض. "يقطعون الآذان" بدل من يمثلون، "والأنوف" جمع أنف، ويجمع أيضًا على آناف وآنف كما في القاموس، حتى اتخذت هند منهما خلاخل، "وقلائد, "والفروج ويبقرون" بفتح الياء، وضم القاف: يشقون "البطون, وهم يظنُّون أنهم أصابوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وأصابوا "أشراف أصحابه" اعتمادًا على قول ابن قمئة, وما وقع بهامش: إنَّ التمثيل إنما وقع من النساء فقط لا يصح، فعند الواقدي، وتبعه الحافظ أبو الربيع بن سالم في مغازيه: أنَّ وحشيًّا بعدما رمى حمزة تركه حتى مات، ثم أتاه وأخذ حربته، وأخرج كبده، وذهب بها إلى هند, وقال لها: هذه كبد حمزة قاتل أبيك، فأخذتها ومضغتها، فلم تقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وكان أوَّل مَنْ عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كعب بن مالك، قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلمَّا عرفوه نهضوا ونهض معهم نحو الشِّعْب، معه أبو بكر وعمر وعلي ورهط من المسلمين، فلمَّا أسند   أن تسيغها، فلفظتها وأعطته ثوبها وحليها, ووعدته عشرة دنانير بمكة، انتهى. وعند ابن إسحاق: إن سيد الأحابيش الحليس مَرَّ بأبي سفيان وهو يضرب بزجّ الرمح في شدق حمزة ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بني كنانة, هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون لحمًا، فقال: ويحك اكتمها عني، فإنها كانت زلة. وفي العيون: كان خارجة بن زيد بن أبي زهير أخذته الرماح يوم أحد، فجُرِحَ بضعة عشر جرحًا، فمَرَّ به صفوان بن أمية فعرفه، فأجهز عليه، ومثَّلَ به, وقال: هذا ممن أغرى بأبي يوم بدر. "وكان أوَّل" بالفتح خبر مقدّم، والضم اسم، وهو أَوْلَى؛ لأن المبتدأ والخبر إذا عُرِفَا قُدِّمَ المبتدأ، ولأنَّ الذي يقصد بيانه وتعيينه هو الخبر، قرره شيخنا "مَنْ عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بعد التحدث بقتله وخفائه عن أعينهم، "كعب بن مالك" بن عمرو، الخزرجي السلمي العقبي، أحد الثلاثة الذي تيبَ عليهم في تخلفهم عن تبوك. روى له الستة، وأحمد في المسند, "قال: عرفت عينيه تزهران،" أي: تضيئان، ومن رواه تزران، فمعناه تتوقدان، قاله أبو ذر في الإملاء. وفي الصحاح: زرت عينه تزر -بالكسر- زريرًا، وعيناه تزران إذا توقدتا، "من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين" أبشروا، كما في رواية ابن إسحاق، "هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم", زاد في رواية ابن إسحاق: فأشار لي -صلى الله عليه وسلم- أن أنصت. وروى الطبراني برجال ثقات عن كعب: كان يوم أحد، وصرنا إلى الشِّعب، كنت أول من عرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقلت: هذا رسول الله، فأشار إلي بيده أن اسكت، ثم ألبسني لامته ولبس لامتي، فلقد ضربت حتَّى جرحت عشرين جراحة، أو قال: بضعًا وعشرين، كل من يضربني يحسبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم, "فلمَّا" سمعوا ذلك، وأقبلوا عليه، و"عرفوه نهضوا" أي: أسرعوا إليه، حتى أتوه، "ونهض معهم نحو الشِّعْب"؛ لينظر حال الناس, "معه أبو بكر، وعمر وعلي ورهط من المسلمين". قال ابن عقبة: بايعوه على الموت، انتهى. منهم طلحة، والزبير، والحارث بن الصمة، كما في ابن إسحاق وغيره. قال شيخنا: وظاهره أنهم لم يكونوا ممن نهض إليه، ولا مانع منه لجواز أن كعبًا حين نادى سمعه طائفة لم يكونوا عنده فأقبلوا, وكان عند أبو بكر ومن معه فساروا معه، "فلمَّا أسند،" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشِّعْب أدركه أُبَيّ بن خلف وهو يقول: أين محمد، لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منَّا؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "دعوه"، فلمَّا دنا تناول -عليه الصلاة والسلام- الحربة من الحارث بن الصمة، فلمَّا أخذها منه -عليه الصلاة والسلام- انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله -عليه الصلاة والسلام، فطعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعنة   قال في النور: أي صعد "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشِّعب"، وكأنَّ معناه: إنهم لما دخلوا به في الشعب صعدوا به في الصخرة، فاستندوا إلى جانب من الجبل، بدليل رواية ابن إسحاق: نهض -صلى الله عليه وسلم- إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان قد بدن وظاهر بين درعين، فلمَّا ذهب لينهض لم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله، فنهض به، حتى استوى عليها، فقال كما حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير بن العوام، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ: "أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع". قال ابن هشام: وبلغني عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يبلغ الدرجة المبنية في الشِّعب. قال البرهان: بدن -بفتح الدال المهملة المشددة أي: أسنّ، أو ثقل من السنّ، وأوجب طلحة. قال اليعمري: يعني أحدث شيئًا يستوجب به الجنة. "أدركه أُبَيّ بن خلف وهو يقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، فقالوا: يا رسول الله! "يعطف" فهو استفهام بتقدير الهمزة، وكأنها سقطت من قلم المصنف؛ إذ هي ثابتة في ابن إسحاق، "عليه رجل منا، فقال -صلى الله عليه سلم: "دعوه" , وعند ابن عقبة: عن سعيد بن المسيب، فاعترضه رجال من المؤمنين، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم, فخلوا طريقه، واستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، فقتل مصعب، "فلمَّا دنا تناول -عليه الصلاة والسلام- الحربة من الحارث بن الصمة", ويقال من الزبير، ويقال من طلحة، ويقال من سهل بن حنيف، "فلمَّا أخذها -عليه الصلاة والسلام- منه, انتفض بها انتفاضة تطايرنا،" وفي نسخة: تطايروا، أي: بعدنا، "عنه تطاير الشعراء" بشين معجمة، فعين مهملة ساكنة فراء، فألف تأنيث. قال ابن هشام: ذباب صغير له لذع، "عن ظهر البعير إذا انتفض" البعير. قال السهيلي: ورواه العتيبي: تطاير الشعر، أي: بضم الشين وسكون العين، وقال: هي جمع شعراء. "ثم استقبله -عليه الصلاة والسلام، فطعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم طعنة" في عنقه، وفي لفظ: في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 وقع بها عن فرسه, ولم يخرج له دم, فكسر ضلعًا من أضلاعه. فلمَّا رجع إلى قريش قال: قتلني والله محمد، أليس قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات عدو الله بسرف   ترقوته من فرجة، في سابغة البيضة والدرع. وفي لفظ: فخدشه في عنقه خدشًا غير كبير، والترقوة في أصل العنق فلا خلف، "وقع بها عن فرسه" مرارًا، وجعل يخور كما يخور الثور، "ولم يخرج له دم،" بل احتبس، "فكسر ضلعًا" بكسر الضاد وفتح اللام، وتسكن "من أضلاعه", ففيه آية باهرة، سواء كان كسره من الطعنة، أو من سقوطه عن فرسه؛ لأن سقوطه من الطعنة، "فلمَّا رجع إلى قريش" يركض فرسه حتى بلغهم وهو يخور كالثور، "قال: قتلني والله محمد", فقالوا: ليس عليك بأس ما أجزعك، إنما هو خدش, لو كان بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز، وفي رواية: بربيعة ومضر لماتوا أجمعين، وفي رواية: بجميع الناس لقتلهم، "أليس قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك". وروى ابن إسحاق عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: إن أبيًّا كان يلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة فيقول: يا محمد, إن عندي فرسًا أعلفه كل يوم فرقًا من ذرة أقتلك عليه، فيقول -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك عليه إن شاء الله تعالى"، فلمَّا رجع إلى قريش، وقد خدشه في عنقه خدشًا غير كبير، فاحتقن الدم, قال: قتلني والله محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك, "فوالله لو بصق عليّ لقتلني". وفي رواية: قال له أبو سفيان: ويلك ما بك إلّا خدشة، قال: ويلك يا ابن حرب, ما تعلم من ضربها، أما ضربها محمد، وإنه قال لي: سأقتلك، فعلمت أنه قاتلي، ولا أنجو منه ولو بزق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني، وأنا أجد من هذه الطعنة ألمًا لو قُسِّمَ على جميع أهل الحجاز لهلكوا، وكان يصرخ ويخور حتى مات، وإنما اقتصر أُبَيّ على قوله: قال لي بمكة, مع أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك بالمدينة أيضًا بعد بدر, لما بلغه قول أُبَيّ: إنه يقتله على فرسه كما في رواية؛ لأنه لم يبلغ أبيًّا، أو بلغه، واقتصر على ما شافهه به هذا. وفي النور ما نصه: ذكر الذهبي ما لفظه، وأخبر، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقتل أُبَيّ بن خلف الجمحي، فخدشه يوم بدر، أو أحد خدشًا فمات منه، وهو غريب، والمعروف أنه يوم أحد، انتهى. فلم يذكر أن الذهبي روى حديثًا يدل على ذلك كما زعم، "فمات عدو الله بسرف،" بفتح السين المهملة، وكسر الراء وبالفاء، على ستة أميال من مكة، وقيل: سبعة، وتسعة واثني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 وهم قافلون إلى مكة. رواه أبو نعيم والبيهقي ولم يذكر: فكسر ضلعًا من أضلاعه. قال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أُبَيّ بن خلف ببطن رابغ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج فهبتها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم، هذا أُبَيّ بن خلف، ورواه البيهقي.   عشر، ووجه هلاكه بها أنه مسرف, قاله البرهان، "وهم قافلون" أي: راجعون "إلى مكة، رواه أبو نعيم و" كذا "البيهقي، و" لكنه "لم يذكر: فكسر ضلعًا من أضلاعه", وهي ثابتة عند ابن عقبة وغيره. وقد روى الحاكم، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أُبَيّ بن خلف يوم أحد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فاعترضه رجال من المؤمنين، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم, فخلوا سبيله, ورأى -صلى الله عليه وسلم- ترقوة أُبَيّ من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه بحربته، فسقط عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، فكسر ضلعًا من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خور الثور، فقالوا له: ما أعجزك إنما هي خدش، فذكر لهم قوله -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتل أبيًّا"، ثم قال: "والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين، فمات أُبَيّ قبل أن يقدم مكة، فأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] . قال في اللباب: صحيح الإسناد لكنه غريب، والمشهور أنها نزلت في رميه يوم بدر بالقبضة من الحصباء. انتهى. "قال الواقدي" محمد بن مر بن واقد، أبو عبد الله المدني: "وكان ابن عمر" عبد الله "يقول: مات أُبَيّ بن خلف ببطن رابغ" بكسر الموحدة وغين معجمة، بطن واد عند الجحفة، "فإني لأسير ببطن رابغ بعد هويّ" بفتح الهاء، وكسر الواو وشد التحتية، الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص باليل، كما في الشامية، فقوله: "من الليل" صفة مقيدة على الأول، ولازمة على الثاني، "إذا نار تأجّج" بحذف إحدى التاءين، "تتوقد، "فهبتها, وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها" بذال معجمة يسحبها: "يصيح" بفتح الياء من صاح، "العطش" بالرفع والنصب، "وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, هذا أُبَيّ بن خلف، ورواه البيهقي". وقد روى البخاري وغيره عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشتدَّ غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 ولما انتهى -صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشِّعب ملأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- درقته من المهراس -وهو صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد-   وروى البرقاني عن ابن مسعود قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن أشدَّ الناس عذابًا من قتله نبي أو مصور". قال المحب الطبري: وجه ذلك، والله أعلم، أن المصور ضاهى فعل الله -عز وجل، ومن قتله نبي محمول على أنه قتله دفعًا عن نفسه، أو بارز لعناده، فإن الأنبياء مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، والرأفة, فما يحمله على قتله إلّا أمر عظيم، انتهى. قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في ذلك هذه الأبيات: لقد ورث الضلالة عن أبيه ... أُبَيّ حين بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رم عظم ... وتوعده وأنت به جهول وقد قتلت بنو النجار منكم ... أمية إذ يغوث يا عقيل وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا ... أبا جهل وأمهما الهيول وأفلت حارث لما اشتغلنا ... بأسر القوم أسرته قليل وقال حسان أيضًا: ألا من مبلغ عني أُبَيًّا ... فقد ألقيت في سحق السعير تمنى بالضلالة من بعيد ... وتقسم إن قدرت مع النذور تمنيك الأماني من بعيد ... وقول الكفر يرجع في غرور فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ ... كريم البيت ليس بذي فجور له فضل على الأحياء طرًّا ... إذا نابت ملمات الأمور "ولما انتهى -صلى الله عليه وسلم- إلى فم الشِّعب، ملأ علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- درقته من المهراس" بكسر الميم، وسكون الهاء، وبالراء وسين مهملة آخره، "وهي صخرة منقورة تسع كثيرًا من الماء" تجعل إلى جانب البئر، ويصبّ فيها الماء لينتفع به الناس، "وقيل: هو اسم ماء بأحد". قال الشاعر: وقتيلًا بجانب المهراس، قاله المبرد، وحكاه عنه أبو ذر الهرويّ، وتبعه ابن الأثير، لكن غلط السهيلي المبرد، فقال: المهراس حجر منقور يمسك الماء فيتوضأ منه, شبه بالمهراس الذي هو الهاون، ووهم المبرد، فجعل المهراس اسمًا علمًا للمهراس الذي بأحد خاصة، وإنما اسم لكل حجر نقر، فأمسك الماء. ورى ابن عبدوس عن مالك أنه سُئِلَ عن رجل مَرَّ بمهارس في أرض فلاة، كيف يغتسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 فجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وغسل عن وجهه الدم، وصبّ على رأسه وهو يقول: "اشتدَّ غضب الله على من دمى وجه نبيه". وصلى النبي -صلى لله عليه وسلم- الظهر يومئذ قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المسلمون خلفه قعودًا. قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة والنسوة اللاتي معها يمثِّلن بالقتلى   منه، فقال مالك: هلَّا قلت بغدير، ومن يجعل له مهراسًا في أرض فلاة، وبهذا يتبين لك أن المهراس ليس مخصوصًا بالذي كان بأُحد، ولذا وقع في غريب الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بقوم يتحارون مهراسًا أن يرفعوه. انتهى. "فجاء به،" أي: بالماء الذي ملأ به درقته، وفي الشامية: فجاء بها، أي: بالدرقة، لكن الذي في ابن إسحاق، وتبعه اليعمري به، "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم". قال ابن إسحاق: ليشرب منه، فوجد له ريحًا، فعافه فلم يشرب منه، "وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه", وهذا وقع قبل انصراف الكفَّار من علي وحده، ثم لما انصرفوا، كما في رواية الطبراني: أتت فاطمة في النسوة، فجعلت تغسل وعلي يسكب كما يأتي، فلا يورد على هذا كما زعم، "وهو" صلى الله عليه وسلم "يقول" كما ذكره ابن إسحاق بلا إسناد: "اشتد غضب الله على من دمى". قال البرهان: بفتح الميم المشددة، وهذا ظاهر، انتهى. أي: جرح, "وجه نبيه" , وأسنده البخاري وغيره عن ابن عباس بلفظ: "غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله". قال المصنف: بفتح الدال المهملة، والميم المشددة، أي: جرحوا. انتهى. "وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم" فيما ذكره ابن هشام مرسلًا، "الظهر يومئذ قاعدًا من الجراح التي أصابته، وصلَّى المسلمون خلفه قعودًا" من الجراح التي أصابتهم، أو لأنَّ موافقة الإمام كانت واجبة، ثم نسخت. "قال ابن إسحاق: ووقعت هند بنت عتبة" بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلمت في الفتح بعد إسلام زوجها أبي سفيان بليلة، وشهدت معه اليرموك. روى الأزرقي وغيره: أنها لما أسلمت جعلت تضرب صنمها في بيتها بالقدوم فلذة فلذة وتقول: كفاني غرورًا. روى عنها ابنها معاوية وعائشة، ماتت سنة أربع عشرة. "والنسوة اللاتي معها" تقدَّمت عدتهن، "يمثِّن بالقتلى" يقال: مَثَل به -بفتح الميم والثاء المخففة- يمثل، بضم الثاء، مثلًا، بفتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, يجدعن الآذان والآنف، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها.   الميم وإسكان الثاء، أي: نكَّل، والاسم المثلة بالضم، ومثَّل بالقتيل: جدعه, وكثير من الناس يشدد مثل، وكأنه إذا أريد التكثير يجوز ذلك، "من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجدعن" بفتح الياء وإسكان الجيم وخفة الدال، وكأنه إذا أريد المبالغة يجوز التشديد، "أي: يقطعن "الآذان والآنف" بفتح الهمزة الممدودة وضم النون, قاله كله البرهان. قال ابن إسحاق: حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأنفهم خدمًا وقلائد، وأعطت خدمها، وقلائدها، وقرطها وحشيًّا الخدم -بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة: الخلاخيل, الواحدة خدمة، "وبقرت" بموحدة وقاف، أي: شقَّت، "عن كبد حمزة -رضي الله عنه, فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها". قال البرهان: يقال: ساغ الشراب يسوغ سوغًا، أي: سهل مدخله في الحلق، وسغته أنا أسوغه وأسيغه يتعدَّى ولا يتعدَّى، والأجود أسغته إساغة، "فلفظتها" طرحتها، ولا ينافي هذا ما ذكره الواقدي وغيره أن وحشيًّا لما قتل حمزة شقَّ بطنه وأخرج كبده، فجاء بها إلى هند فقال: هذه كبد حمزة، فمضغتها ثم لفظتها, وقامت معه حتى أراها مصرع حمزة، فقطَّعت من كبده، وجدعت أنفه؛ لأن الذي أخذه وجاء به إليها بعض الكبد، ثم أخذت هي باقيه كما هو صريحه. قال ابن إسحاق: ثم علت، أي: هند، على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها، فقالت: نحن جزيناكم بيوم بدر ... والحرب بعد الحرب ذات سعر ما كان عن عتبة لي من صبر ... ولا أخي وعمه وبكر شفيت نفسي وقضيت نذري ... شفيت وحشي غليل صدري فشكر وحشي على عمري ... حتى ترم أعظمي في قبري فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب المطلبية، أخت مسطح: خزيت في بدر وبعد بدر ... يابنت وقاع عظيم الكفر صبحك الله غداة الفجر ... بالهاشميين الطوال الزهر بكل قطاع حسام يفري ... حمزة ليثي وعليّ صقري إذا رام شيب وأبوك غدري ... فخضبا منه ضواحي النحر ونذرك السوء فشر نذر قال الحافظ أبو الربيع في الاكتفاء: هذا قول هند، والكفر يحنقها، والوتر يقلقها، والحزن يحرقها، والشيطان ينطقها، ثم إن الله هداها للإسلام وعبادة الله وترك الأصنام، وأخذ بحجزتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم بدر، أعل هبل. وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أُحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر: لا، وأجالها عند هبل، فخرج سهم نعم، فخرج إلى أُحد، فلما قال: أعل هبل، أي: زد علوًّا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر: "أجبه فقل: الله أعلى وأجل". فقال أبو سفيان:   عن سوء النار، ودلها على دار السلام فصلحت حالها، وتبدَّلت أقوالها حتى قالت له -صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله, ما كان على أهل الأرض خباء أحب إليَّ أن يذلوا من أهل خبائك، وما أصبح اليوم أهل خباء أحبَّ إليَّ أن يعِزُّوا من أهل خبائك، فالحمد لله الذي هدانا برسوله أجمعين، انتهى. "ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت" روي بفتح التاء خطابًا لنفسه وبسكونها، أي: الواقعة، أو الحرب، أو الأزلام، "فعال" بفتح الفاء وتخفيف المهملة، "إن الحرب سجال" بكسر المهملة وخفة الجيم، أي: مرَّة لنا ومرَّة علينا, من مساجلة المستقيين على البئر بالدلاء. وفي رواية: سمال جمع سملة، وهي الماء القليل، والمراد بها ما أريد بالأول؛ لأن الماء القليل يتناوبه وراده ولا يزدحمون عليه لقِلَّته، "يوم بيوم بدر". وعند الطبراني حنظلة بحنظلة، ويوم أُحد بيوم بدر، "أعل" بضم الهمزة، وسكون العين المهملة وضم اللام، "هبل"، أي: أظهر دينك، قاله ابن إسحاق. وقال السهيلي: معناه: زد علوًّا، وقال الكرماني: فإن قلت ما معنى أعل ولا علوًّا في هبل، فالجواب هو بمعنى العلى، أو المراد: أعلى من كل شيء. انتهى من الفتح. وعند البخاري في الجهاد، ثم جعل يرتجز: أعل هبل أعل هبل، "و" سبب قوله ذلك أنه "كان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد،" استقسم بالأزلام، "كتب على سهم نعم، "وعلى الآخر لا، وأجالهما" أي: أدارهما، "عنده" أي: هبل، "فخرج سهم نعم، فخرج إلى أُحد، "فلمَّا قال: أعل هبل" بضم الهاء، وفتح الموحَّدة ولام، اسم صنم كان في الكعبة، "أي: زد علوًّا" كما قال السهيلي، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت. "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر" بن الخطاب: "أجبه، فقل: الله أعلى وأَجَلّ"، فقال أبو سفيان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 أنعمت فعال، أي: اترك ذكرها, فقد صدقت في فتواها وأنعمت، أي: أجابت بنعم. فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال: إن لنا عزى ولا عزى لكم. فقال له -عليه الصلاة والسلام- قولوا: "إن الله مولانا ولا مولى لكم".   أنعمت" بسكون التاء "فعال، أي: اترك ذكرها فقد صدقت في فتواها، وأنعمت" الأزلام، "أي: أجابت بنعم" التي يحبها، وهذا كله ظاهر في سكون التاء، وإن فاء فعال من بنية الكلمة لا حرف عطف, فهو معدول عن فاعلة كحذام عن حاذمة. وقال أبو ذر في الإملاء: أنعمت يخاطب نفسه، ومن رواه: أنعمت عني الحرب، أو الواقعة وفعال. قال اليعمري: اسم الفعل الحسن، وأنعم زاد. وقال السهيلي: فعال أمر، أي: عالٍ عنها، وأقصر عن لومها, تقول العرب: أعل عني، وعالٍ بمنى ارتفع عني ودَعْني. ويروى أن الزبير قال لأبي سفيان يوم الفتح: أين قولك أنعمت؟ فقال: قد صنع الله خيرًا، وذهب أمر الجاهلية. وقال أبو ذر: عالٍ من فعال، ارتفع يقال: عالٍ وأعل عن الوسادة، أي: ارتفع. قال: وقد يجوز أن تكون الفاء من نفس الكلمة، ويكون معدولًا عن الفعلة كما عدلوا، فجار عن الفجرة، أي: بالغت هذه الفعلة، ويعني بها: الوقعة، انتهى. "فقال عمر: لا سواء" قال السهيلي: أي: لا نحن سواء، ولا يجوز دخول لا على اسم مبتدأ معرفة إلّا مع التكرار نحو: لا زيد قائم، ولا عمرو خارج، ولكنه جاز في هذا الموضع؛ لأن القصد فيه إلى نفي الفعل، أي: وهو لا يجب تكرار لا معه، فكذا ما هو بمعناه، أي: لا نستوي, كما جاز لا لك، أي: لا ينبغي لك. وفي رواية أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر:"قل: لا سواء, قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". قال أبو سفيان: إنكم لتزعمون ذلك، لقد خبنا إذًا وخسرنا، "فقال: إن لنا العزى ولا عزى لكم" تأنيث الأعزّ -بالزاي- اسم صنم لهم، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "أجيبوه"، قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: إن الله مولانا ولا مولى لكم" هكذا في رواية البخاري. وفي رواية: فقال لعمر: "قل إن الله ... إلخ ". قال المصنف: أي: لا ناصر لكم، فالله تعالى مولى العباد جميعًا من جهة الاختراع، وملك التصرف، ومولى المؤمنين خاصَّة من جهة النصرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه: "قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد". وذكر الطبراني: أنه لما انصرف المشركون، خرج النساء إلى الصحابة يعنّهم, فكانت فاطمة فيمن خرج، فلمَّا لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتنقته, وجعلت تغسل جراحاته بالماء فيزداد الدم، فلمَّا رأت ذلك أخذت شيئًا   "ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر" هكذا رواية ابن إسحاق وأتباعه. وفي بعض الروايات: ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول. قال الشامي: بالإضافة, وبدر تقدمت, والصفراء -بفتح الصاد المهملة، وسكون الفاء- تأنيث الأصفر، قرية فوق ينبع، كثيرة النخل والزرع، والحول السنة, انتهى. وفي رواية: يا محمد, موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت. "فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه" هو عمر بن الخطاب، كما عند الواقدي، وذكره الشامي في غزوة بدر الأخيرة، فقول البرهان لا أعرفه تقصير: "قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد" زاد في رواية: إن شاء الله. قال ابن إسحاق: ثم بعث -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بنِ أبي طالب، وقال ابن عائذ: سعد بن أبي وقاص، ويحتمل أنه بعثهما جميعًا، فقال: "اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل، وساقوا الإبل، فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرنَّ إليهم، ثم لأناجزنهم" , قال علي، أو سعد: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة, قال الله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} [آل عمران: 151] الآية. قال في الكشاف: قذف الله في قلوبهم الخوف يوم أحد، فانهزموا إلى مكة من غير سبب. "وذكر"، أي: روى "الطبراني" من طريق سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه لما" كان يوم أحد، "وانصرف المشركون, خرج النساء إلى الصحابة يعنَّهم، فكانت فاطمة" الزهراء سيدة النساء، "فيمن خرج، فلمَّا لقيت النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتنقته" فرحًا وشوقًا، "وجعلت تغسل جراحاته بالماء، فيزداد الدم، فلمَّا رأت ذلك". وفي رواية البخاري: فلمَّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة، "أخذت شيئًا،" وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 من حصير أحرقته بالنار وكمَّدته به حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم. ثم أرسل -عليه الصلاة والسلام- محمد بن سملة -كما ذكره الواقدي- فنادى في القتلى: "يا سعد ...   البخاري، قطعة "من حصير" زاد في رواية: بردى، هو نبات يعمل منه الحصر، "أحرقته", وللبخاري في النكاح: عمدت إلى حصيرها فأحرقتها "بالنار", وللطبراني من طريق آخر: حتى صار رمادًا، فأخذت من ذلك الرماد، "وكمَّدته" بشد الميم, أي: ألصقته "به", وفعلت ذلك "حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم", وللطبراني من الطريق الآخر: فوضعته فيه حتى رقا الدم، وقال في آخر الحديث: ثم قال يومئذ: "اشتدَّ غضب الله على قوم دموا وجه رسوله"، ثم مكث ساعة، ثم قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". قال الحافظ: وفي الحديث جواز التداوي، وأنَّ الأنبياء قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام ليعظم لهم بذلك الأجر، وتزداد درجاتهم رفعة، وليتأسَّى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره, والعاقبة للمتقين, انتهى. قال غيره: وليتحقق الناس أنهم مخلوقون لله، فلا يفتتنون بما ظهر على أيديهم من المعجزات، كما افتتن النصارى بعيسى، وفيه أنه لا ينافي التوكُّل والاستعانة في المداواة، وأنَّ الدواء حصير فاطمة التي أحرقتها. وروى الجوزجاني عن أبي أمامة بن سهل، أنه -صلى الله عليه وسلم- داوى جرحه يوم أحد بعظم بال، لكنه حديث غريب، كما قال ابن كثير، فلا يعادل ما في الصحيح، وعلى فرض الصحة, فقد يكون جمع بينهما، وإنما عزاه المصنف للطبراني، مع أنه في الصحيحين، والترمذي وابن ماجه؛ لأنه بَيِّنَ فيه سبب مجيء فاطمة إلى أُحد -رضي الله عنها. "ثم أرسل -عليه الصلاة والسلام"؛ لينظر خبر سعد بن الربيع، فقال كما في رواية ابن إسحاق: "من ينظر إلى سعد بن الربيع، أفي الأحياء أم في الأموات، فإني رأيت اثني عشر رمحًا شرعا إليه" , فقال رجل من الأنصار، يعني "محمد بن سلمة، كما ذكره" محمد بن عمر بن واقد "الواقدي". وعند الحاكم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، قال: بعثني -صلى الل عليه وسلم- يوم أُحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي: "إن رأيته، فأقرأه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك"؟. وقال ابن عبد البَرِّ واليعمري: أرسل أُبَيّ بن كعب. قال البرهان: فلعله أرسل الثلاثة متعاقبين، أو دفعة واحدة. "فنادى في القتلى: يا سعد،" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 ابن الربيع، مرة بعد أخرى، فلم يجبه، حتى قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليك، فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحًا في القتلى وبه رمق, فقال: أبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام، وقل له: يقول لك: جزاك الله عنَّا خير ما جزى به نبيًّا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: لا عُذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم مات -رضي الله عنه. وقتل أبو جابر,   بضم الدال وفتحها، "ابن" بالفتح "الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه"؛ لكونه في غمرات الموت، واستمرّ لا يجيبه، "حتى قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليك", وعند ابن إسحاق: أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ "فأجابه بصوت ضعيف" قال: أنا في الأموات، "فوجده جريحًا في القتلى", وفي حديث زبد بن ثابت: وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، "وبه رمق" بقية حياة، "فقال: أبلغ". قال البرهان: بقطع الهمزة وكسر اللام رباعي، وهذا ظاهر جدًّا, "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عني السلام, وقل له: يقول لك: جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبيًّا عن أمته" وقل له: إني أجد ريح الجنة، "وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص" -بضم أوله وفتح ثالثه- مبني للمفعول، كما في النور، والأصل: أن يخلص أحد "إلى نبيكم, وفيكم عين تطرف" بفتح أوله وكسر الراء، أي: تطبق أحد جفنيها على الآخر، والمراد كما قال البرهان وغيره: وفيكم حياة، "ثم مات -رضي الله عنه". وعند ابن إسحاق: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته خبره. قال ابن هشام: وحدثني أبو بكر الزبيري: أن رجلًا دخل على أبي بكر، وبنت سعد بن الربيع جارية صغيرة على صدره يرشفها ويقبلها، فقال له الرجل، من هذه؟ قال: بنت رجل خير مني، سعد بن الربيع، كان من النقاباء يوم العقبة وشهد بدرًا، واستُشهد يوم أُحد. وروى الطبراني عن أم سعد بنت سعد بن الربيع: إنها دخلت على الصديق فألقى لها ثوبه، حتى جلست عليه، فدخل عمر فسأله فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك، قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل قبض على عهد رسول الله مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت. "وقتل أبو جابر" عبد الله بن عمرو بن حرام -بمهملة وراء. قال المصنف: قتله أسامة أبو الأعور بن عبيد، أو سفيان بن عبد شمس، أبو أبي الأعور السلمي، وعن جابر: أنه أول قتيل من المسلمين، وأن أخته هندًا حملته هو وزوجها عمرو بن الجموح وابنها خلّاد على بعير، ورجعت بهم إلى المدينة, فلقيتها عائشة وقالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي وابني خلّاد وزوجي، قالت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 فما عرف إلّا ببنانه -أي أصابعه، وقيل أطرافها، واحدتها بنانة. وخرج -صلى الله عليه وسلم- يلتمس حمزة، فوجده ببطن الوادي، قد بُقِرَ بطنه عن كبده، ومُثِّل به فجدع أنفه وأذناه، فنظر -عليه الصلاة والسلام- إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه, فقال: "رحمة الله عليك، لقد كنت فعولًا للخير، وصولًا للرحم، أما والله   فأين تذهبين بهم؟ قالت: إلى المدينة أقبرهم فيها، ثم زجرت بعيرها فبرك، فقالت لها عائشة لما عليه قالت: ما ذاك به؟ فإنه لربما حمل ما يحمل بعيران، ولكن أراه لغير ذلك, وزجرته ثانيًا، فقام وبرك, فوجهته إلى أُحد فأسرع, فرجعت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فأخبرته فقال: "إن الجمل مأسور، هل قال عمرو -يعني ابن الجموح، شيئًا"؟ قالت: إنه لما توجه إلى أُحد قال: اللهمَّ لا تردني إلى أهلي وارزقني الشهادة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "فلذلك الجمل لا يمضي, إن فيكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبَرَّه, منهم عمرو بن الجموح، ولقد رأيته يطأ بعرجته في الجنة". وهذا يناكد من قال: لعل سرَّ عدم سير الجمل أنه ورد الأمر بدفن الشهداء في مضاجعهم. "فما عرف"؛ لأنه مُثِّل به وجدع "إلّا ببنانه، أي: أصابعه،" قيل: سميت بنانًا؛ لأن بها صلاح الأحوال التي يستقر بها الإنسان، يقال: أبن بالمكان إذا استقرَّ به كما في المصباح، "وقيل: أطرافها واحدتها بنانة". قال ابن إسحاق: "وخرج -صلى الله عليه وسلم" فيما بلغني، "يلتمس حزة، فوجده ببطن الوادي قد بقر" بالبناء للمفعول، أي: شُقَّ "بطنه عن كبده", وفاعل ذلك هند ووحشي كما مَرَّ، "ومثل به" بضم الميم وكسر المثلثة المخففة, وتشدد لإرادة التكثير كما مَرَّ، "فجدع" بالتخفيف والتشديد للمبالغة، أي: قطع "أنفه وأذناه" بالرفع نائب الفاعل. قال ابن إسحاق: فحدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا أن تحزن صفية وتكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير". زاد ابن هشام وقال: "لن أصاب بمثلك أبدًا"، ونزل جبريل فقال: إن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع أسد الله وأسد رسوله. وأخرج اليعمري من طريق أبي طالب في الغيلانيات بسنده عن أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، "فنظر -عليه الصلاة والسلام- إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه, فقال: "رحمة الله عليك لقد كنت" ما علمتك كما في الرواية، أي: مدة علمي لك، "فعولًا للخير" أي: مكثرًا لفعله، "وصولًا للرحم"، مكثرًا لوصلهم يما يليق بكل منهم، وأسقط المؤلف من ذا الحديث ما لفظه: "ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواهٍ شتى" قبل قوله: "أما والله" بألف بعد ميم وبحذفها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 لأمثِّلنَّ بسبعين منهم مكانك"، قال: فنزلت عليه خواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} [النحل: 126] الآية, فصبر وكفَّر عن يمينه وأمسك عمَّا أراد.   قال ابن الشجري في الأمالي: ما الزائدة للتوكيد، ركبوها مع همزة الاستفهام، واستعملوا مجموعهما على وجهين: أحدهما أن يراد به معنًى حقًّا في قولهم: أما والله لأفعلنَّ، والآخر: أن تكون افتتاحًا للكلام بمنزلة ألَّا, كقولك: أما إن زيدًا منطلق، وأكثر ما تحذف ألفًا إذا وقع بعدها القسم؛ ليدلَّ على شدة اتصال الثاني بالأول؛ لأنَّ الكلمة إذا بقيت على حرف لم تقم بنفسها، فعُلِم بحذف ألفها افتقارها إلى الاتصال بالهمزة، هكذا قاله النووي في شرح: أما والله لأستغفرنَّ لك، فنقله هنا البرهان وهو حسن, إلا أنه لم يعجبني نقله قول النووي: أم من غير ألف بعد الميم، وفي كثير من الأصول أو أكثرها: إما بالألف بعد الميم، وكلاهما صحيح؛ لأن هذا إنما قاله النووي في لفظ حديث مسلم، لا في هذا الحديث، فإنه ليس في مسلم، فلذا أسقطت صدر عبارة النووي. "لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك" , وفي رواية ابن إسحاق: "ولئن أظهرني الله على قريش لأمثلنَّ بثلاثين رجلًا منهم". قال البرهان: فيحتمل أنه قال مرتين، أو أنَّ مفهوم العدد ليس بحجة، ورواية الأقل داخلة في رواية الأكثر، "فنزلت عليه" لفظ الحديث: فنزل جبريل والنبي -صلى الله عليه وسلم- واقف بـ "خواتيم سورة النحل، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية, {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] إلى آخر السورة، "فصبر" كما أمره ربه بقوله: فاصبر، "وكفَّر عن يمينه" لعزمه على الضد، "وأمسك عمَّا أراد، وهذا الحديث رواه الحاكم، والبيهقي، والبزار والطبراني, قال في الفتح بإسناد فيه ضعف، عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى حمزة قد مُثِّلَ به قال: "رحمة الله عليك, لقد كنت وصولًا للرحم، فعولًا للخير، ولولا حزن من بعدك لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى"، ثم حلف وهو مكانه: "لأمثلنَّ بسبعين منهم"، فنزل القرآن: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلخ السورة. وعند ابن مردويه، عن ابن عباس نحوه، وقال في آخره: بل نصبر يا رب. وروى الترمذي، وحسَّنه، والحاكم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند، والطبراني عن أُبَيّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد مثَّل المشركون بقتلى المسلمين، فقال الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا من الدهر لنريين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة نادى رجل: لا قريش بعد اليوم، فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفّوا عن القوم". قال في اللباب: وظاهر هذا تأخر نزولها إلى الفتح، وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وممن مثِّل به كما بحمزة عبد الله بن جحش، ابن أخت حمزة, ولذا يعرف بالمجدع في الله، وكان حين قتل ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع حمزة في قبر واحد. ولما أشرف -عليه الصلاة والسلام- على القتلى   وجمع ابن الحصار، بأنها نزلت أولًا بمكة، ثم ثانيًا بأحد، ثم ثالثًا بعد الفتح تذكيرًا من الله لعباده، انتهى. وروى الحاكم عن ابن عباس قال: قتل حمزة جنبًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "غسَّلته الملائكة". وعند ابن سعد من مرسل الحسن: لقد رأيت الملائكة تغسّل حمزة. وروى الطبراني برجال ثقات عن أبي أسيد، والحاكم عن أنس قالا: كفَّن -صلى الله عليه وسلم- حمزة في نمرة، فمدت على رأسه فانكشف رجلاه, فمدت على رجليه فانكشف رأسه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "مدوها على رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الحرمل" , وفي لفظ: من الإذخر. "وممن مثِّل به كما مثِّل بحمزة عبد الله بن جحش" ابن رياب براء مكسورة وتحتية وموحدة. قال في العيون: غير أنه لم يبقر عن كبده، "ابن أخت حمزة" أميمة -بميمين مصغرًا- بنت عبد المطلب, شقيقة والده -صلى الله عليه وسلم، اختُلِف في إسلامها، فنفاه ابن إسحاق, ولم يذكرها غير ابن سعد، "ولذا يعرف بالمجدع في الله"؛ لأنه سأل الله ذلك. روى الطبراني وأبو نعيم بسند جيد عن سعد بن أبي وقاص: أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله, فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال: يا رب إذا لقيت العدو، فبلغني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده -بفتح المهملة والراء ودال مهملة- أي: غضبه, أقاتله فيك، ويقاتلني، ثم ارزقني عليه الظفر حتى أقتله وآخذ سلبه، فأمَّنَ عبد الله، ثم قال: "اللهم ارزقني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني فيقتلني, ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك قلتَ: يا عبد الله, فيم جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فيقول الله: صدقت. قال سعد: كانت دعوته خيرًا من دعوتي, لقد رأيته أخير النهار، وأنَّ أنفه وأنه معلقان في خيط، "وكان حين قتل" على يد أبي الحكم ابن الأخنس الثقفي, "ابن بضع وأربعين سنة، ودفن مع" خاله "حمزة في قبر واحد", وهذا صريح في أنه قتل بأُحد. قال البرهان: وهو الصحيح، ورأيت بعضهم حكى قولًا أنه قتل بمؤتة. انتهى، وكان قائله انتقل حفظه لعبد الله بن رواحة، "ولما أشرف" أي: اطَّلع "عليه الصلاة والسلام" كما قال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أشرف "على القتلى" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 قال: "أنا شهيد على هؤلاء، وما من جريح يجرح في الله إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه, اللون لون الدم, والريح ريح المسك".   يوم أحد، "قال: "أنا شهيد على هؤلاء" راقب أحوالهم، وشفيع لهم بما فعلوه من بذل أجسامهم، وأرواحهم وأموالهم، وترك من له الأولاد كأبي جابر، ترك تسع بنات، طيبة بذلك قلوبهن، فرحين مستبشرين بوعد خالقهم، حتى إنه منهم من قال: إني لأجد ريح الجنة دون أُحد؛ كأنس بن النضر، وسعد بن الربيع, ومنهم من ألقى تمرات كنَّ في يده، وقاتل حتى قُتِل كما في الصحيح، ومنهم من قال: اللهمَّ لا تردَّني إلى أهلي؛ كعمرو بن الجموح، ومنهم من خلفه المصطفى لكبر سِنِّه، فخرج رجاء الشهادة, وهو اليمان وثابت بن وقش، فحذف المشهود به للعلم به. قال السهيلي: شهيد من الشهادة, وهي ولاية وقيادة، فوصلت بحرف على؛ لأنه مشهود له وعليه. وقال البيضاوي في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، وهذه الشهادة وإن كانت لهم، لكن لما كان -صلى الله عليه وسلم- كالرقيب المؤتمن على أمته عدّي بعلى، وظاهره أن مجرَّد كون اللفظ بمعنى لفظ آخر يعدَّى بما يعدَّى به ما هو بمعناه، وليس من التضمين. قال شيخنا: والمراد لما اطَّلع عليهم بعد البحث عن حمزة وغيره، وعرف جملة من قتل قال ذلك, فلا يرد أنه يقتضي قوله بمجرد رؤيتهم، والسياق يدل على خلافه، وأنه إنما قال ذلك بعد الإحاطة بهم. "وما من جريح يجرح في" القتال لمحبة, "الله" وإخلاصه في إعزاز دينه، ففيه حذف شيئين، أو هو استعارة تبعية, شبه تمّن المجروح في المحبَّة بتمكّن المظروف في الظرف، فاستعار له لفظ في بدل اللام كما في قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْل} [طه: 71] ، "إلّا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه" بفتح الياء والميم، أي: يخرج منه الدم, "اللون" أي: لوم ما يخرج من جرحه، "لوم الدم" , والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل ما صفة دمائهم؟ هل هي على صفة دماء الدنيا أم لا؟ "والريح ريح المسك". قال المصنف: أي كريحه, أي: ليس هو مسكًا حقيقة, بخلاف اللون لون الدم، فلا يقدر فيه ذلك؛ لأنه دم حقيقة، فليس له من أحكام الدنيا وصفاتها إلا اللون فقط. قال: وظاهر قوله في رواية مسلم: كل كلم يكلمه المسلم إنه لا فرق في ذلك بين أن يموت، أو تبرأ جراحه، لكن الظاهر أن الذي يجيء يوم القيامة، وجرحه يجري دمًا من فارق الدنيا وجرحه كذلك، ويؤيده ما رواه ابن حبان في حديث معاذ: عليه طابع الشهداء, والحكمة في بعثته كذلك أن يكون معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وفي رواية عبد الله بن ثعلبة: قال -عليه الصلاة والسلام- لقتلى أحد: "زمّلوهم بجراحهم".   شاهد فضيلته ببذله نفسه في طاعة الله. ولأصحاب السنن، وصحّحه الترمذي وابن حبان والحاكم من حديث معاذ: "من جرح جرحًا في سبيل الله، أو نكب نكبة، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت, لونها الزعفران, وريحها المسك". قال الحافظ ابن حجر: وعرف بهذه الزيادة أنَّ الصفة المذكورة لا تختص بالشهيد, كذا قال فليتأمل. وقال النووي: قالوا: وهذا الفضل، وإن كان ظاهره أنه في قتال الكفّار، فيدخل فيه من جرح في سبيل الله في قتال البغاة وقطّاع الطريق، وفي إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونحو ذلك، وكذا قال ابن عبد البر، واستشهد على ذلك بقوله -عليه الصلاة والسلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد". لكن قال الولي بن العراقي: قد يتوقف في دخول المقاتل دون ماله في هذا الفضل؛ لإشاراته -صلى الله عليه وسلم- إلى اعتبار الإخلاص في ذلك في قوله: "والله أعلم بمن يكلم في سبيله"، والمقاتل دون ماله لا يقصد بذلك وجه الله, وإنما يقصد صون ماله وحفظه، فهو يفعل ذلك بداعية الطبع لا بداعية الشرع، ولا يلزم من كونه شهيدًا أن يكون دمه يوم القيامة كريح المسك، وأي بذلٍ بذَلَ نفسه فيه لله حتى يستحق هذا الفضل، انتهى. "وفي رواية" النسائي من طريق الزهري، عن "عبد الله بن ثعلبة" بن صعير بصادٍ وعين مهملتين مصغرًا، العذري، حليف بني زهرة، له رؤية ولم يثبت له سماع. مات سنة سبع أو تسع وثمانين، وقد قارب التسعين. "قال -عليه الصلاة والسلام- لقتلى أحد" اللام للتعليل، أي: لأجلهم بيانًا لما يفعل في تكفينهم: "زمّلوهم بجراحهم" , أي: معها باقية على ما هي عليه, فلا تزيلوا ما عليها من الدم بغسل ولا غيره. قال أبو عمر: اختُلِف في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على شهداء أحد، ولم يختلف في أنه أمر بدفنهم بثيابهم ودمائهم ولم يغسّلوا. وقد ثبت في الصحيح عن جابر، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلّ عليهم، ولم يغسَّلوا. قال العلماء: وأما حديث صلاته عليهم صلاته على الميت، فالمراد دعاؤه لهم كدعائه للميت جمعًا بين الأدلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وروى أبو بكر بن مردويه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا جابر ألا أخبرك، ما كلم الله تعالى أحدًا قط إلّا من وراء حجاب، وإنه كلَّم أباك كفاحًا، فقال: سلني أعطك، فقال: أسألك أن أردَّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب -عز وجل: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا، قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " [آل عمران: 169] الآية.   "وروى أبو بكر بن مردويه" وكذا الترمذي، وحسَّنه وابن ماجه, كلهم عن جابر: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا جابر ألا أخبرك". وفي رواية الترمذي وابن ماجه: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك"، وللترمذي أيضًا: لقيني النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما لي أراك منكسرًا"، قلت: يا رسول الله! استشهد أبي يوم أُحد وترك دينًا وعيالًا، قال: "أفلا أبشرك"، وفي رواية: قلت: بلى، قال: "ماكلم الله أحدًا قط" غير من قام الدليل على تكليمهم بلا واسطة كالمصطفى ليلة الإسراء وموسى, قال: "إلّا من وراء حجاب" , أو المراد من هؤلاء الشهداء، كما يرشد إليه السياق فلا يردّان؛ لأنه كلمهما في حياتهما، "وإنه كلم أباك" عبد الله بن عمر، المدفون هو وعمرو بن الجموح في قبر واحد بأمره -صلى الله عليه وسلم, قال: لماكان بينهما من الصفاء, فحفر لهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه ويده عليه، فأميطت يده عن وجهه، فانبعث الدم فردت إلى مكانها، فسكن، ذكره ابن سعد. "كفاحًا" بكسر الكاف، مصدر كافح الشيء إذا باشره بنفسه، أي: بلا واسطة، "فقال: سلني أعطك" عطف مفصل على مجمل. وفي رواية الترمذي وابن ماجه: "فقال: يا عبدي تمنَّ علي أعطك" , "قال: أسألك أن أردَّ إلى الدنيا". وفي رواية الترمذي وابن ماجه قال: "يا رب تحييني فأقتل فيك" قتلة "ثانية, "فقال الرب -عز وجل: إنه سبق مني" الوعد. وفي رواية: "قد قضيت"، "أنهم" بفتح الهمزة "لا يرجعون" أي: يعدم رجوعهم " إلى الدنيا، قال: يارب فأبلغ من ورائي" ما صنعت بي لئلَّا يزهدوا في الجهاد، "فأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} - بالتخفيف والتشديد- {فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} الآية". وناهيك بها شرفًا حيث وصفهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهي عندية تخصيص وتشريف، والمراد حياة الأرواح في النعيم الأبدي لا حقيقة الدنيوية، بدليل أن الشهيد يورث وتتزوج زوجته. قال بعضهم: ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام المشاهدة، بل يكون لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلَّا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا   حكم آخر, فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم، وأمَّا الإدركات فحاصلة لهم ولسائر الموتى، ثم المراد بالآية جنسها، فلا ينافي قوله الآتي، فأنزل الله على نبيه هذه الآيات، وهي كما في الشامية إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 171] الآية، وأما قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ} [آل عمران: 172] الآية إلخ، فليس في شأن الشهداء، بل في حمراء الأسد كما يأتي. "وعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب" بحسب الظاهر بالقتل، "إخوانكم بأُحد جعل الله أرواحهم" مع اتصالها بأجسادهم، "في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها" كما قال: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [آل عمران: 169] الآية، "وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش"، أنكر هذا قوم، وقالوا: لا يكون روحان في جسد. قال القاضي عياض: وليس للأقيسة والعقول في هذا حكم، فإذا أراد الله جعلها في قناديل أو أجواف طير وقع ذلك ولا إشكال، فإن الروح وإن وجدت في جوف الطير فليس فيه قيام روحين بجسد واحد، بل قيام الروح بجوف الطير، كقيام الجنين في بطن أمه، وروحه غير روحها. وقال السهيلي والبيضاوي: خلق الله لأرواحهم بعد مفارقة أجسامهم صورة طيور تجعل فيها الأرواح خلفًا عن الأبدان، توسلًا لنيل اللذات الحسية إلى أن يعيده الله يوم القيامة. وقال بعضهم: في بمعنى على، أي: أرواحهم على أجواف هي طيور، وسمي الطير جوفًا لإحطاته واشتماله عليه, فهو من تسمية الكل باسم المجزء, وفيه تعسّف. وقال السهيلي: أي في صورة طير خضر، كما تقول: رأيت ملكًا في صورة إنسان، "فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم" من الأنهار, "وحسن مقيلهم" مكانهم الذي يأوون إليه للاسترواح والتمتع تجوّز به عن مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبًا؛ إذ لا نوم في الجنة، كما قاله البيضاوي في قوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} . "قالوا: يا" للتنبيه أو النداء المحذوف، أي: يا هؤلاء "ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلّا يزهدوا في الجهاد" , أي: يتركوه ويعرضوا عنه، "ولاينكلوا" بضم الكاف وتفتح في لغة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 عن الحرب، "قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم, فأنزل الله عز وجل هذه الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " رواه أحمد. قال بعض من تكلّم على هذا الحديث: قوله: ثم تأوي إلى قناديل، يصدقه قوله تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} , وإنما تأوي إلى ذلك القناديل ليلًا وتسرح نهارًا قبل دخول الجنة, وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في البرزخ.   ومنعها الأصمعي, "عن الحرب" أي: ولئلَّا يجبنوا عنه ويتأخروا، "قال الله تعالى: أن أبلغهم عنكم, فأنزل الله -عز وجل- على نبيه هذه الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} " [آل عمران: 169] مفعول ثانٍ، والأول الذين, والفاعل إمَّا ضمير كل مخاطب، أو ضمير الرسول -صلى الله عليه وسلم, وهذا صريح في نزولها في شهداء أحد. وحكى البيضاوي قولًا: إنها نزلت في شهداء بدر، فإن صحَّ أمكن أنها مما تكرر نزوله، وعليه فكأنهم تمنَّوا علم إخوانهم بما حصل لهم، مع أنَّ الآيات عندهم متلوّة؛ لأنه عَبَّر فيها بالماضي, في قوله: قُتِلُوا، ثم لا يعارض هذا ما قبله من نزولها في شأن أبي جابر؛ لأن كلامه تعالى له لا يمنع قول قية الشهداء ما ذكر, فنزلت إبلاغًا عن الجميع على مفاد الخبرين، ولا مانع من تعدد سبب النزول وهو أولى من تجويز أنها مم تعدَّد نزوله؛ لأن الأصل عدمه، "روه أحمد", أخرجه مسلم عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هؤلاء الآيات، قال: أمَّا إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: "لما أصيب إخوانكم" الحديث. ولم يعزه له المصنف لعدم صراحته برفع الحديث، فلذا عدل لحديث ابن عباس عند أحمد لكونه صريحًا في الرفع. "قال بعض من تكلَّم على هذا الحديث" هو الإمام السهيلي في الروض، "قوله: "ثم تأوي إلى قناديل" يصدقه قوله على أحد الأقوال: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مبتدأ وخبر، أي: الذين استشهدوا {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} وقيل: المراد الأنبياء من قوله: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وقيل: هو عطف على الخبر وهو الصديقون: أي: أولئك بمنزلة الصديقين والشهداء، أو المبالغون في الصدق لتصديقهم جميع أخبار الله ورسله، وقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة، حكاها كلها البيضاوي وغيره. "وإنما تأوي إلى تلك القناديل ليلًا، وتسرح نهارًا قبل دخول الجنة", فتعلم بذلك الليل من النهار، "وبعد دخول الجنة في الآخرة لا تأوي إلى تلك القناديل، وإنما ذلك في" مدة "البرزخ" هذا ما يدل عليه ظاهر الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها. وقد ردَّ هذا القول، ويشهد له ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشهداء بنهر أو على نهر يقال له بارق, عند باب الجنة، في قباب خضر, يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيًّا". قال الحافظ عماد الدين بن كثير: كأنَّ الشهداء أقسام، منهم من تسرح أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر, فيجتمعون هناك ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح.   "وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها، وقد ردَّ هذا القول" أنكره ابن عبد البر. قال السهيلي: وليس بمنكر عندي، "ويشهد له" أي: لقول مجاهد ويبيّن مراده "ما وقع في مسند ابن أبي شيبة وغيره"؛ كالإمام أحمد والطبراني والحاكم, كلهم عن ابن عباس, "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الشهداء بنهر أو على نهر" شكَّ، "يقال له بارق" بالموحدة وبعد الألف راء مكسورة، ثم قاف في الحديث نهر، "عن باب الجنة, في قباب خضر, يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيًّا". ولفظ أحمد ومن ذكر بعده: "الشهداء على بارق بباب الجنة, في قبة خضراء, يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا". قال البيضاوي: يعني تعرض أرزاقهم على أرواحهم, فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض الناس على آل فرعون غدوًّا وعشيًّا فيصل إليهم الوجع، وفيه دلالة على أنَّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها, مغايرة لما يحس من البدن، باقية بعد الموت داركة، وعليه الجمهور, وبه نطقت الآية والسنن، فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الربّ, ومزيد البهجة والكرامة. "قال الحافظ عماد الدين بن كثير" في الجمع بين مختلف الروايات، الدالّ بعضها على دخولهم الجنة، وبعضها على وقوفهم ببابها عند النهر، "كأنَّ الشهداء أقسام منهم من تسرح أرواحهم في الجنة" كما دلَّ عليه حديث ابن عباس الأول، "ومنهم من تكون على هذا النهر بباب الجنة" كما دل عليه حديثه الثاني، وعبَّر بكان؛ لأنه عل سبيل الاحتمال لا القطع؛ لأن حقيقة الحال غيب عنَّا، "وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هناك ويغدى" بالبناء للمفعول وضمّنه معنى يمر, فعدَّاه بعلى في قوله: "عليهم برزقهم هناك ويراح" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 قال: وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه بشرى لكل مؤمنٍ بأنه روحه تكون في الجنة أيضًا, وتسرح فيها, وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور, وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة. قال: وهو إسناد صحيح عزيز عظيم, اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة، أصحاب المذاهب المتَّبعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي عن مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه يرفعه: "نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة   مبنى للمفعول أيضًا, والغدوّ والرَّوَاح هنا بمعنى السير، أي: وقت كان، فالعطف تفسيري. "قال" ابن كثير: "وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه بشرى لكل مؤمن" وإن لم يكن شهيدًا، "بأن روحه تكون في الجنة أيضًا، وتسرح فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة" بسكون الضاد- والرونق، "والسرور" عطف مسبب على سبب، فإن الحسن سبب السرور، والرؤية علمية لا بصرية؛ إذ البصر لا يتعلّق بالسرور، أو بصرية، بتقدير مضاف، أي: ترى ما فيها من أسباب السرور، أو استعمل السرور فيما يحصله مجازًا، "وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة، قال: وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم" جمعها مبالغة في الثناء على إسناده، "اجتمع فيه ثلاث من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتَّبَعة، فإن الإمام أحمد رواه عن الشافعي عن مالك بن أنس، عن الزهري" محمد بن مسلم، "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري السلمي, يكنَّى أبا الخطاب. وُلِدَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم, وذكره البغوي في الصحابة. روى عن أبيه وأخيه عبد الله, وجابر وسلمة بن الأكوع, وأبي قتادة وعائشة، وعنه أبو أمامة بن سهل، وهو من أقرانه وأسنّ منه, والزهري وغيرهما. قال ابن سعد: ثقة، وهو أكثر حديثًا من أخيه، مات في خلافة سليمان بن عبد الملك، "عن أبيه يرفعه" لفظة استعملها المحدثون بدل قال -صلى الله عليه وسلم: "نسمة" أي: روح "المؤمن طائر يعلق" بفتح اللام في رواية الأكثر، كما قاله القرطبي, "في شجر الجنة" تسرح فيها لتأكل منها. وقال الإمام السهيلي في الروض: ويعلق -بفتح اللام- يتشبث بها، ويرى مقعده منها، ومن رواه بضم اللام فمعناه: يصيب منها العلقة من الطعام، فقد أصاب دون ما أصاب غيره ممن أدرك الرغد، أي: العيش الواسع, فهو مثل مضروب يفهم منه هذا المعنى، وإن أراد بيعلق الأكل نفسه, فهو مخصوص بالشهيد، فتكون رواية من رواه بالضم للشهداء، ورواية الفتح لمن دونهم، والله تعالى أعلم بما أراد رسوله من ذلك، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". وقوله: يعلق، أي: يأكل، وفي هذا الحديث أنَّ روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة، وأمَّا أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها. فنسأل الله تعالى الكريم المنَّان أن يميتنا على الإسلام. وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون -فيما ذكره مغلطاي وغيره, وقيل: خمسة وستون, أربعة من المهاجرين. وروى ابن منده من حديث أُبَيّ بن كعب قال:   ووقع في بعض نسخ الشافية تصحيف، فقال: يعلق -بضم اللام: يتشبث، وبفتحها: يصيب منها العلقة، والصواب ما في الروض وهو المناسب لقوله العلقة؛ إذ هي بالضم, كلَّ ما يتبلّغ به من العيش كما في القاموس، "حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" يوم القيامة، "وقوله: يعلق" بالتحتية، صفة لطائر كتذكير الضمير في يرجعه، "أي: يأكل، وفي هذا الحديث: "إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة" , لا أن روحه جعل في جوف طائر ليأكل ويشرب كالشهيد. "وأمَّا أرواح الشهداء ففي حواصل طير خضر، فهي كالراكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين، فإنها تطير بأنفسها" على ما دلَّ عليه الحديثان، وقد تأوَّل بعضهم كما في الروض حديث "نسمة المؤمن" مخصوصًا بالشهيد، انتهى. ولكن المتبادر خلافه، ولذا جزم ابن كثير بالعموم, "فنسأل الله تعالى الكريم المنَّان أن يميتنا على الإسلام" بمنِّه وكرمه, "وقد استشهد من المسلمين يوم أحد سبعون فيما ذكره مغلطاي وغيره" اعتمادًا على ما صرَّح به حديث البراء وأنس في الصحيح، وأُبَيّ بن كعب، وقد صحَّحه ابن حِبَّان وهو المؤيَّد بقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] . اتفق علماء التفسير على أن المخاطب بذلك أهل أُحد، وأنَّ المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر بقتل سبعين، وأسر سبعين، وبه جزم ابن إسحاق, وقد مَرَّ له مزيد، وأنَّ الزيادة إن ثبتت إنما نشأت عن الخلاف في التفصيل, وليست زيادة في الجملة، قاله اليعمري والعسقلاني: "وقيل: خمسة وستون, أربعة من المهاجرين" حمزة، وعبد الله بن جحش، وشماس بن عثمان، ومصعب بن عمير كما عند ابن إسحاق. "وروى ابن منده" والحاكم في الإكليل والمستدرك "من حديث أُبَيّ بن كعب، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون, ومن المهاجرين ستة, وصحَّحه ابن حِبَّان من هذا الوجه. وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا، وقتل -عليه الصلاة والسلام- بيده أُبَيّ بن خلف.   استشهد من الأنصار يوم أحد أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة. قال الحافظ: وكان الخامس سعد مولى حاطب، ذكره موسى بن عقبة، والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي حليف بني عبد شمس، فقد عدَّه الواقدي منهم، "وصحَّحه ابن حبان من هذا الوجه", وكذا الحاكم وهو قول الأكثر، وعد ابن سعد من استشهد بأحد من غير الأنصار: الحارث بن عقبة بن قابوس المزني، وعمَّه وهب بن قابوس، وعبد الله وعبد الرحمن ابني الهبيب -بموحدتين- مصغَّر من بني سعد بن ليث، ومالكًا والنعمان ابني خلف بن عون الأسلميين، قال: إنهما كانا طليعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقتلا. قال الحافظ: ولعلَّ هؤلاء كانوا من حلفاء الأنصار فعدوا فيهم، فإن كانوا من غير المعدودين أولًا، فحينئذ تكمل العدة سبعين من الأنصار، وتكون جملة من قتل أكثر من سبعين. ومن قال سبعون، ألغى الكسر، انتهى. "وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون رجلًا" منهم حملة اللواء من بني عبد الدار بن قصي، عشرة بغلامهم قد سبق ذكرهم. وقال ابن إسحاق: اثنان وعشرون رجلًا، فأسقط واحدًا, وهو شريح بن قارظ. وفي سيرة مغلطاي ما لفظه: وقتل من المشركين ثلاثة، ويقال: اثنان وعشرون رجلًا، وهذه عبارة موهمة كما قاله البرهان. "وقتل -عليه الصلاة والسلام- بيده أُبَيَّ بن خلف", ولم يقتل بيده أحد سواه. ففي قول ابن إسحاق: ناول سيفه فاطمة فقال: "اغسلي عن هذا دمه" نظر، وكذا في قوله: "رمى عن قوسه حتى صارت شظايا"، كذا ذكر ابن تيمية، وقال: الشجاعة تكون شيئين: قوة القلب وثباته عند المخاوف، والثاني: شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرًا، أو يقتل قتلًا عظيمًا, والأول هو الشجاعة، والثاني يدل على قوة البدن وعمله، وليس كل قوي البدن قوي القلب، ولا عكسه، والخصلة الأولى يحتاج إليها أمراء الجيوش والحروب وقوادها أكثرمن الثانية، فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتًا، أقدم وثبت ولم ينهزم، فقاتل معه أعوانه، وإذا كان جبانًا ضعيف القلب ذلَّ ولم يقدم ولم يثبت، ولو كان قوي البدن, وكان -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب، ولم يقتل بيده إلّا أُبَيّ بن خلف. قال البرهان: وفي المستدرك عن ابن عباس، لما رجع -صلى الله عليه وسلم- من أُحد أعطى فاطمة ابنته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 وحضرت الملائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه: أنه رأى عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل يقاتلان عنه كأشد القتال. وفيه -كما قدمناه في غزوة بدر- أن قتال الملائكة معه -صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم بدر، خلافًا لمن زعمه، كما نصَّ عليه النووي في شرح مسلم كما قدَّمته, والله أعلم.   سيفه، فقال: "بنية اغسلي عنه الدم" وأعطاها علي سيفه. وقال هذا: فاغسلي عنه دمه.. الحديث. ولم يتعقبه الذهبي ففيه ردّ على ابن تيمية. "وحضرت الملائكة يومئذ، ففي حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم في صحيحه" في كتاب المناقب، لا المغازي، "أنه رأى", ولفظه قال: رأيت، "عن يمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن شماله يوم" وقعة "أُحد رجلين" أي: ملكين في صورة رجلين, "عليهما ثياب بيض, ما رأيتهما قبل ولا بعد". وفي رواية الطيالسي: لم أرهما قبل ذلك اليوم ولا بعده. "يعني: جبريل وميكائيل يقاتلان عنه" صلى الله عليه وسلم "كأشد القتال". قال المصنف: الكاف زائدة، أو للتشبيه، أي: كأشد قتال بني آدم، وهذ الحديث أخرجه البخاري أيضًا، ولكنه لم يقع عنده التصريح باسم الملكين، فلذا اقتصر المصنّف على عزوه له، "وفيه كما قدمناه في غزوة بدر أن قتال الملائكة معه -صلى الله عليه وسلم- لا يختص بيوم ببدر،" لتصريحه بأنهما قاتلا يوم أُحد. وأيضًا روى الطبراني وابن منده أنه -صلى الله عليه وسلم- سأل الحارث بن الصمَّة عن عبد الرحمن بن عوف، فقال: هو بجنب الجبل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تقاتل معه". قال الحارث: فذهبت إليه فوجدت بين يديه سبعة، فقلت له: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ فقال: أما هذا وهذا فأنا قتلتهما، وأمَّا هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقلت: صدق الله ورسوله. وروى ابن سعد: أن مصعبًا لما قُتِلَ أخذ اللواء ملك في صورته، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تقدَّم يا مصعب" فالتفت الملك إليه وقال: لست بمصعب، فعرف أنه ملك أُيّد به، "خلافًا لمن زعمه كما نصَّ عليه انووي في شرح مسلم كما قدمته، والله أعلم" وقد قدَّمنا ثمة الجواب عن البيهقي وغيره, بما حاصله أنَّ قتالهم ببدر كان عامًّا عن جميع القوم، وأمَّا في أُحد فإنهما ملكان, وقتالهما عن المصطفى فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 ولما بكى المسلمون على قتلاهم سر بذلك المنافقون, وظهر غش اليهود. ذكر القاضي عياض في الشفاء, عن القاضي أبي عبد الله بن المرابط من المالكية أنه قال: من قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم- هزم يستتاب, فإن تاب وإلّا قُتِل؛ لأنه تنقص،؛ إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته؛ إذ هو على بصيرة من أمره ويقين من عصمته،   قال شيخنا: على أنه لا يلزم من ذلك قتال, بل يجوز أنهما كانا يدفعان عنه ما يُرْمَى به من السهام، ونحوهما، وعبَّر عن ذلك بالقتال مجازًا، وأمَّا الذي حمل اللواء فليس فيه أنه قاتل، فيجوز أنه رفع اللوء ليراه المسلمون فلا ينكسروا، وكذا لا يرد مقاتلتهم مع ابن عوف؛ لأنه ليس عن عموم الجيش, فهو مخصوص بعبد الرحمن. "ولما بكى المسلمون على قتلاهم سُرَّ بذلك المنافقون" باطنًا، ولذا عبَّر بسُرَّ لإسلامهم ظاهرًا, حتى بعد أُحد, وإن خذلوا وأمروا بالتفرق، وقالوا: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ، فرد الله عليهم: {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} ، "وظهر غش اليهود" الذي كانوا يخفونه خوفًا من المسلمين؛ حيث تخيَّلوا وهنهم، فلذلك عبَّر بظهر لمخالفتهم في الظاهر والباطن، فقالوا: ما محمد إلّا طالب ملك، ما أصيب هكذا نبيّ قط, أصيب في بدنه وفي أصحابه، وما هذا البهتان بأقوى من قتلهم الأنبياء بغير حق. تتمة إيقاظ لئلَّا يغترَّ ناقص العلم بما قد وقع في سياق الحديث، فيسري إلى وهمه أنه يجوز اعتقاده أو التكلم به. "ذكر القاضي عياض في الشفاء عن القاضي أبي عبد الله" محمد بن خلف بن سعيد، المعروف ب"ابن المرابط, من المالكية" الإفريقي، فقيه بلده، ومفتيه وقاضيه، كان من أهل الفضل والفقه والتفنن, سمع أبا القاسم المهلب، وأجازه أبو عمر الطلمنكي، وشرح البخاري شرحًا كبيرًا حسنًا، ورحل إليه الناس وسمعوا منه. توفِّي بعد الثمانين وأربعمائة، "أنه قال: من قال إنَّ النبي -صلى عليه وسلم- هزم", وما في معناه من فَرَّ وهَرَب وتوارى واختفى؛ إذ العلة في ذلك تنقيصه, ولا توقف عندنا في ذلك، "يستتاب"" أي: يطلب منه الرجوع عمَّا قاله، "فإن تاب" قبلت توبته، "وإلّا قُتِلَ؛ لأنه تنقُّص" أي: ذم وتعييب، لكن في القاموس وغيره: انتقصه، فالمناسب أن يقول: لأنه انتقاص، والذي في الشفاء تنقيص بياء قبل الصاد، "إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصيته" أي: لا مرخصه الله به، حيث ثبَّت قلبه، وألقى الرعب في قلوب أعدائه؛ "إذ هو على بصيرة من أمره" يعرف بها أن أحدًا لا يقدر على إصابته بسوء، "ويقين من عصمته", أي: عصمة الله له بحفظه، وأي يقين مثل ما وقع له يوم أُحد بحيث لم يبق معه غير طلحة وسعد في بعض الأوقات، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 انتهى. وهذا موافق لمذهبنا. لكن قال العلامة البساطي من المالكية: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة، أعني: حكم السابّ، فله وجه، وإن وافق على أن السابّ لا تقبل توبته فمشكل, انتهى. وقد كان في قصة أُحد، وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحِكَم الربانية أشياء عظيمة: منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية, وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يبرحوا منه.   ثابت, ما يزال يرمي عن قوسه ينادي إلي عباد الله، ولم يبال بأن تسمع الأعادي صوته. "انتهى" كلام ابن المرابط وهو ضعيف، وإن مشى عليه صاحب المختصر؛ لأنه خلاف قول مالك وأصحابه، ولذا عقَّب صاحب الشفاء كلامه بقول القروي مذهب مالك وأصحابه أنَّ من قال فيه ما فيه نقص قُتِلَ دون استتابة. "و" لذا قال المصنف: "هذا موافق لمذهبنا" أي: الشافعية، أنَّ سبَّ الرسول رِدَّة, "لكن قال العلامة" شيخ الإسلام " البساطي" قاضي القضاة المالكية بمصر, شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، وُلِدَ سنة ستين وسبعمائة، وبرز في الفنون ودرس بالشيخونية وغيرها، وصنَّف تصانيف، ومات في رمضان سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة "من المالكية" في شرح المختصر، "هذا القائل إن كان يخالف" المالكية "في أصل المسألة، أعني: حكم السباب" بمعنى السبّ، أي: الشتم، من أنه يقتل حدًّا وإن تاب، ويقول بمذهب الشافعية من قبول توبته مطلقًا، "فله وجه"؛ لأنه خرج عن مذهبه لغيره، "وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته" بالنسبة إلى أحكام الدنيا، بمعنى أنها لا تفيده في نفي قتله؛ لأنه حدٌّ كالزنا والشرب، "فمشكل" لمخالفته، نص مالك وأصحابه، "انتهى. وقد كان في قصة أُحد" كما نقله في الفتح عن العلماء: "وما أصيب به المسلمون من الفوائد والحِكَم الربانية أشياء عظيمة, منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب النهي،" أي: المنهيّ عنه، "لما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ايبرحوا منه", وإلى هذا أشار -سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] الآية، إلى قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 152] الآية. أخرج الطبري عن السدي وغيره: إن المراد بالوعد قوله -صلى الله عليه وسلم- للرماة: "إنكم ستظهرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 ومنها: إن عادة الرسل أن تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، والحكمة في ذلك أن لو انتصروا دائمًا لدخل في المسلمين من ليس منهم, ولم يتميز الصادق من غيره, ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميّز الصادق من الكاذب, وذلك أنَّ نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين, فلمَّا جرت هذه القصة وأَظْهرَ أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول, عاد التلويح تصريحًا، وعرف المسلمون أن لهم عدوًّا في دورهم, فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. ومنها:   عليهم فلا تبرحوا من مكانكم حتى آمركم" , وعن قتادة ومجاهد: تحسونهم، أي: تقتلونهم. وقال البخاري وابن هشام: تستأصلونهم قتلًا، وهو من كلام أبي عبيدة. قال جرير: تحسهم السيوف كما تسامى ... حريق النار في الأجمّ الحصيد قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152] الآية. رواه السدي، وقد يرد عليه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] الآية، فإنها نزلت في شأن بدر وهي قبل هذه. "ومنها: أنّ عادة الرسل أن تبتلى، وتكون لهم العاقبة" كما قاله هرقل لأبي سفيان, "والحكمة في ذلك: أن لو انتصروا دائمًا، لدخل في المسلمين من ليس منهم, ولم يتميز الصادق من غيره" كما قال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] الآية، ذكره ليدل على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور وغيرها؛ لأنه عالم بجميع المعلومات، وإنما ابتلاهم لمحض الإلهية، أي: للاستصلاح. "ولو انكسرو دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين ليتميز الصادق من الكاذب" كما قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] الآية، أي: المنافقين من المؤمنين، "وذلك أن نفاق المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين" أي: مستورًا، اسم مفعول من خفاء لا من خفي، فإنه لازم ولا يأتي المفعول منه إلّا بالصلة, "فلمَّا جرت هذه القصة وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول" كانخزالهم وقولهم: لو نعلم قتالًا لاتَّبعناكم، "عاد التلويح تصريحًا" أي: عاد ما كانوا يضمرونه ويتكلمون به فيما بينهم ويخفونه عن المسلمين مصرحًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 أنَّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس وكسرًا لشماختها, فلمَّا ابتلي المسلمون صبروا وجزع المنافقون. ومنها: أنَّ الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيِّضَ لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها. ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها. ومنها: أنه أراد هلاك أعدائه فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحَّص ذنوب المؤمنين   به، "وعرف المسلمون أنَّ لهم عدوًّا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم، ومنها: أنَّ في تأخير النصر في بعض المواطن هضمًا للنفس، وكسرًا لشماختها" تكبرها وتعاظمها، تفسير لهمضها، "فلمَّا ابتلي المسلمون صبروا وجزع" بكسر الزاي "المنافقون" أي: لم يصبروا. "ومنها: أنَّ الله تعالى هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته" الجنة، "لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمِحَن" جمع محنة، مساوٍ للابتلاء، "ليصلوا إليها" كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين} [آل عمران: 142] . قال ابن إسحاق: أي: حسبتم أن تدخلوا الجنة فتصيبوا من ثوابي الكرامة، ولم أخبركم بالشدة، وأبتليكم بالمكاره، حتى أعلم أصدق ذلك منكم الإيمان بي, والصبر على ما أصابكم فيّ. "ومنها: أن الشهادة من أعلى مراتب الأولياء فساقهم إليها،" إكرامًا لهم؛ حيث اتخذ منهم شهداء، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده, لولا أنَّ رجالًا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عنِّي, ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلَّفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله, ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. "ومنها: أنه أراد إهلاك أعدائه، فقيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها ذلك"؛ حيث اعتقدوا أنهم على شيء من ظفرهم الصوري بالمسلمين، فزادوا وعتوًّا وتجبرًا، وإلّا فقد ألقى في قلوبهم الرعب "من كفرهم وبغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه، فمحَّص ذنوب المؤمنين،" التمحيص التخليص من الشيء المعيب، وقيل: هو الابتلاء والاختيار. قال: رأيت فصيلًا كأن شيئًا ملفقًا ... فكشفه التمحيص حتى بداليا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 ومحق بذلك الكافرين.   "ومحق بذلك الكافرين" كما قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين} الآية. أي: يهلك الكافرين الذين حاربوا يوم أحد ولم يسلموا؛ لأنه تعالى لم يمحق كل كافر، بل بقي منهم كثير على كفرهم. والمعنى: إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص، وإن كان على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم. ومنها: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إذا أصيبوا ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام تعظيمًا لأجرهم, تأسَّى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره والعاقبة للمتقين. قال ابن إسحاق: أنزل الله في شأن أُحد ستين آية من آل عمران. وروى ابن أبي حاتم وأبو يعلى من طريق المسْوَر بن مخْرَمَة قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أخبرني عن قصتكم يوم أُحد؟ قال: اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجدها، {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إلى قوله: {أَمَنَةً نُعَاسًا} . قال: ألقى عليهم النوم، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 " غزوة حمراء الأسد ": وهي على ثمانية أميال من المدينة, على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة. وكانت صبيحة يوم الأحد لست عشرة، أو لثمان خلون من شوال, على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة لطلب عدوهم بالأمس،   غزوة حمراء الأسد: بالحاء المهملة والمد. قال أبو عبيد البكري: تأنيث أحمر مضافة إلى أسد، "وهي" أنَّثه لكونه اسمًا للبقعة أو نظرًا للفظ حمراء، وإلّا ففي النور اسم مكان، والقاموس موضع، "على ثمانية أميال", وقيل: عشرة كما في الخميس، "من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت" أيها الذاهب من المدينة "ذا الحليفة", تكون عن يسارك، "وكان صبيحة يوم أحد" وهو يوم السبت، فهذه الغزوة يوم الأحد "ليست عشرة ليلة مضت" عند ابن إسحاق, "أو لثمانٍ خَلَوْنَ" عند ابن سعد، "من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرًا من الهجرة". قال اليعمري: والخلاف عندهم كما سبق في أُحد، "لطلب عدوهم" مصدر مضاف لمفعوله، أي: الذين عادوهم "بالأمس" أي: اليوم الذي قبل يوم خروجهم؛ لأنه كما ذكر الواقدي، باتت وجوه الأنصار على بابه -صلى الله عليه وسلم خوفًا من كرة العدوّ، فلمَّا طلع الفجر وأذَّن بلال بالصلاة، وجاء عبد الله ابن عمرو المزني, فأخبره -صلى الله عليه وسلم- أنه قد أقبل من أهله, حتى إذا كان بملل بميم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 ونادى مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أن لا يخرج معنا أحدٌ إلّا من حضر يومنا بالأمس"، أي: من شهد أُحدًا.   ولامين, موضع قرب المدينة، إذا قريش قد نزلوا فسمعهم يقولون: ما صنعتم شيئًا، أصبتم شوكة القوم وحدهم, ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، فقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: لا تفعلوا، فإن القوم قد حربوا -بمهملة وموحدة، أي: غضبوا، وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم, فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. فقال -صلى الله عليه وسلم: "أرشدهم صفوان وما كان برشيد، والذي نفسي بيده, لقد سومت لهم الحجارة, ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب"، ودعا -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر, فذكر لهما ما أخبر به المزني، فقالا: يا رسول الله, اطلب العدو ولا يقحمون على الذرية، أي: يدخلون، فلمَّا انصرف من صلاة الصبح ندب الناس، "وأذَّن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم". قال البرهان: لا أعرفه، وفيه تقصير، فقد ذكر الواقدي أنه بلال, أمره أن ينادي: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمركم بطلب عدوكم, و"أن لا يخرج معنا أحد إلّا من خرج معنا أمس". زاد ابن إسحاق: وكلمه جابر فقال: إن أبي كان خلَّفني على أخوات لي سبع, وفي لفظ: تسع، وهو الصحيح. وقال: يا بني, إنه لا ينبغي لي ولا لك أن تترك هذه النسوة لا رجل فيهنّ, ولست بالذي أترك الجهاد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نفسي, فتخلف على أخواتك, فتخلفت عليهنَّ فأذن له -صلى الله عليه وسلم- فخرج معه. وعند الواقدي: فوثب المسلمون إلى سلاحهم, وما عولوا على دواء جراحهم, وجرح من بني سلمة أربعون جريحًا, بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحًا، وبخراش بن الصمة عشر، وبقطبة بن عامر تسع، وبكعب بن مالك بضعة عشر. "أي: من شهد أُحد"؛ لعل حكمة ذلك وإن كان خروج المتخلفين فيه زيادة في إرهاب الأعداء وتقوية المسلمين، أنه أراد إظهار الشدة للعدو, فيعلمون من خروجهم مع كثرة جرحاتهم أنَّهم على غاية من القوة والرسوخ في الإيمان وحب الرسول, والزيادة في تعظيم من شهد أُحد، أو أنه خاف اختلاط المنافقين بهم فيمنون عليه بعد بخروجهم معهم وهم مسلمون ظاهرًا، فلا يرد أنه كان يمنعهم دون المسلمين. وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة: لما انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: "من يذهب في أثرهم"، فانتدب منهم سبعون رجلًا فيهم أبو بكر والزبير. زاد الطبراني عن ابن عباس، وعمر وعثمان وعلي وعمّار وطلحة وسعد وابن عوف وأبو عبيدة وحذيفة وابن مسعود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 وإنما خرج -عليه الصلاة والسلام- مرهبًا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم؛ ليظنّوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.   قال الحافظ ابن كثير: هذا سياق غريب جدًّا، فالمشهور عند أصحاب المغازي أنَّ الذين خرجوا إلى حمراء الأسد كل من شهد أُحدًا، وكانوا سبعمائة، قُتِلَ منهم سبعون، وبقي الباقون. قال الشامي: والظاهر أنه لا تخالف بين قولي عائشة وأصحاب المغازي؛ لأن معنى قولها: فانتدب منهم سبعون، أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق الباقون, ولم ينبه على ذلك الحافظ في الفتح، انتهى. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم. قال ابن سعد: ودعا -صلى الله عليه وسلم- بلوائه وهو معقود لم يحل, فدفعه إلى عليِّ، ويقال: إلى أبي بكر الصديق. "وإنما خرج -عليه الصلاة والسلام- مرهبًا." قال البرهان: بكسر الهاء, اسم فاعل، أي: مخيفًا "للعدو, وليبلغهم أنه خرج في طلبهم" عطف سبب على مسبب، أي: خرج ليبلغهم فيخافوا، وفي نسخة: حذف الواو وهو الذي في ابن إسحاق، وكذا في العيون عنه، "ليظنوا به قوةً, وأن الذي أصابهم لم يوهنهم", أي: لم يضعفهم، "عن عدوهم،" فهذا سبب الغزوة عند ابن إسحاق، وعند موسى بن عقبة وغيره أن سببها ما بلغه من إرادة أبي سفيان العود لاستئصال المسلمين، كذا جعله الشامي خلافًا، وانتقده شيخنا بأنَّ مثل هذا لا يستلزم أن يكون خلافًا في السبب، بل يجوز أنه لما بلغه خبر أبي سفيان خرج لإرهاب العدو حتى لا يرجعوا إلى المدينة, فذكر ابن عقبة السبب الحقيقي وهو بلوغ خبر أبي سفيان وابن إسحاق, ما أراده -صلى الله عليه وسلم- بعد بلوغ الخبر. وذكر ابن سعد أنه -صلى الله عليه وسلم- ركب فرسه وهو مجروح، فبعث ثلاثة نفر من أسلم طليعةً في آثار القوم، فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد, ولهم زجل, ويأتمرون بالرجوع, وينهاهم صفوان، فبصروا بالرجلين فقتلوهما، ومضوا ومضى -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه, ودليله ثابت بن الضحاك بن ثعلبة بن الخزرج، حتى عسكر بحمراء الأسد، فوجد الرجلين فدفنهما بقبر واحد. وروى النسائي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدًا قتلتم ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم ارجعوا، فسمع بذلك -صلى الله عليه وسلم, فندب المسلمين فانتدبوا, حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عتبة، فأنزل الله -عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول} [آل عمران: 172] الآية، وهذا قول أكثر المفسرين ورجَّحه ابن جرير. وقال مجاهد وعكرمة: نزلت في بدر الصغرى. قال ابن كثير: والصحيح الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وأقام -عليه الصلاة والسلام- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة يوم الجمعة, وقد غاب خمسًا. وظفر -عليه الصلاة والسلام- في مخرجه ذلك بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص, فأمر بضرب عنقه صبرًا.   "وأقام -عليه الصلاة والسلام- بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء". قال ابن سعد: وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار، حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معكسرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله بذلك عدوهم. وعند ابن إسحاق: أنه لقيه بحمراء الأسد معبد بن أبي معبد الخزاعي، فعزاه بمصاب أصحابه، وهو يومئذ مشرك، وأسلم بعد, كما جزم به ابن عبد البر وابن الجوزي، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان وأصحابه وهم بالروحاء، وقد أجمعوا الرجعة وقالوا: أصبنا في أُحد أصحاب محمد وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؛ لنكِرنَّ عليهم فلنفرغنَّ منهم، فلمَّا رأى أبو سفين معبدًا قال: ما وراءك؟ قال: محمد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط, يتحرقون عليكم تحرقًا, قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم, وندموا على ما صنعوا, فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول! قال: ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فثنى ذلك المشركين فرجعوا إلى مكة. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه، فرجع إلى مكة. فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفين قد أصاب منكم طرفًا، وقذف الله في قلبه الرعب". "ثم رجع" -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء "إلى المدينة يوم الجمعة", لم يذكر ابن إسحاق وأتباعه يوم الجمعة، فلعله -صلى الله عليه وسلم- خرج من حمراء الأسد يوم الخميس، وبات بالطريق لغرض ما ليلة الجمعة، ثم دخل يومها، "وقد غاب خمسًا" كما جزم به البلاذري، "وظفر -عليه الصلاة والسلام- في مخرجه ذلك", أي: رجوعه من حمراء الأسد قبل روعه إلى المدينة "بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص" بن أمية بن عبد شمس، وهو جد عبد الملك بن مروان أبو أمه عائشة، "فأمر بضرب عنقه صبرًا" بأن أوثقه حتى أمر بقتله. قال ابن هشام: ويقال: إن زيد بن حارثة وعمَّار بن ياسر قتلاه بعد حمراء الأسد، كان لجأ إلى عثمان فاستأمن له رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمَّنه على أنه إن وجد بعد ثلاث قُتِل، فأقام بعد ثلاث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 قال الحافظ مغلطاي: وحُرِّمَت الخمر في شوال، ويقال: سنة أربع. انتهى. قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حُرِّمَت الخمر ثلاث مرات, قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، .............................................   وتوارى، فبعثهما -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا"، فوجداه فقتلاه، وبهذ عارض البرهان الأول. وجمع شيخنا بأنه لما توارى أرسل يطلبه، فظفر به زيد وعمَّار وأوثقاه وجاءا به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فأمرهما بقتله, وأنهما لما ظفرا به أوثقاه ثم قتلاه اكتفاء بإشارته لهما بقتله، فيكون في قوله: "أمر بضرب عنقه صبرًا" تسمح. وفي سيرة ابن هشام: وأخذ -صلى الله عليه وسلم- أبا عزَّة -بعين مهملة وزاي مشددة مفتوحة وتاء تأنيث- عمرو بن عبد الله الجمحي، وكان أسره ببدر، ثم مَنَّ عليه فقال: يا رسول الله, أقلني، فقال: "والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول: خدعت محمدًا مرتين، اضرب عنقه يا زبير"، فضرب عنقه. قال ابن هشام: وبلغني عن سعيد بن المسيب أنه قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت"، فضرب عنقه. "قال الحافظ مغلطاي: وحُرِّمَت الخمرة في شوال" سنة ثلاث بعد وقعة أُحد. ففي الصحيح عن جابر قال: اصطبح الخمر يوم أُحد ناس، ثم قتلوا شهداء. زاد في رواية: وذلك قبل تحريمها، "ويقال: سنة أربع"، ذكره ابن إسحاق وفيه نظر؛ لأن أنسًا كان الساقي يوم حُرِّمَت، فلمَّا سمع النداء بتحريمها بادر فأراقها. فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر ع ذلك "انتهى" كلام مغلطاي بما زدته، كما نقله عنه المصنف في الحديبية، وفي نظره نظر؛ لأن أنسًا كان ابن أربع عشرة سنة، فليس يصغر عن ذلك على أن إراقتها كان بأمر الصحابة له، كما في البخاري عنه. وجزم الدمياطي بأن تحريمها كان سنة الحديبية. "قال أبو هريرة فيما رواه أحمد: حُرِّمَت الخمر ثلاث مرات", أي: نزل تحريمها في القرآن ثلاثًا، إلّا أنها حرمت ثم حرمت. وهكذا قال الإمام الشافعي: ليس شيء أُحِلَّ ثم حُرِّمَ، ثم أُحِلَّ ثم حُرِّمَ إلا المتعة. قال بعضهم: نسخت ثلاثًا، وقيل: أكثر. ويدل عليه اختلاف الروايات في وقت تحريمها، نقله الحافظ في تخريج الرافعي, ومَرَّ في تحويل القبلة عن ابن العربي أنها كنكاح المتعة ولحوم الحمر الأهلية, نُسِخَت مرتين. وزاد أبو العباس العزفي: الوضوء مما مسَّت النار، وأيًّا كان فليس الخمر منها, وبين المرات بقوله: "قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر" أي: يتناولون المال المتحصل من القمار، ويصرفونه في منافعهم، وخصَّ الأكل لكثرة وقوعه وعمومه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] إلى آخر الأية. فقال الناس: ما حرم علينا، إنما قال: فيهما إثم كبير. وكانوا يشربون الخمر حتى كان يومًا من الأيام صلى رجل من المهاجرين, أمَّ أصحابه في المغرب خلط في قراءته، فأنزل الله آية أغلظ منها فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] .   والاحتياج إليه، "فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهما" عن حكمهما أحلال أم حرام؟ "فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية، ما حكمهما؟ {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِير} [البقرة: 219] الآية، عظيم, وفي قراءة بالمثلثة لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش، {وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} باللذة والفرح في الخمر، وإصابة المال بلا كَدٍّ في الميسر "إلى آخر الآية", يعني: وإثمهما أكبر من نفعهما، "فقال الناس: ما حرم علينا, إنما قا فيهما إثم كبير" كأنهم فهموا أن المراد به ما يكون سببًا لفعل الحرام من تغيير العقل بالخمرة، وقيام النفوس بالقمار, فهما مظنة للحرام، ولا يلزم منه التحريم، "وكانوا يشربون الخمر", وفي إقراره -صلى الله عليه وسلم- لهم دليل على أن المراد ما فهموه "حتى كان" وجد "يوم من الأيام" وفي نسخة: يومًا بالنصب على الظرفية، أي: في يوم، وعلى التقديرين فقوله: "صلى رجل" في موضع المصدر, لكن على النصب, المصدر المؤوّل اسم كان، وعلى الرفع فاعل لفعل مقدَّر، أي: حتى وجد يوم وقع فيه صلاة رجل "من المهاجرين" هو علي، وقيل: ابن عوف، على ما حكاه ابن كثير، "أمَّ أصحابه في المغرب خلط في قراءته". وروى أبو داود، والترمذي، وحسَّنه النسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منَّا وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ونحن نعبد ما تعبدون، "فأنزل الله آية أغلظ منها فيها،" ولم تقع هذه الجملة في حديث علي, إنما قال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 43] الآية، أي: لا تصلوا {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية، من الخمر عند الأكثرين؛ لأن سبب نزولها صلاة جماعة حال السكر. وقال الضحاك: المراد من النوم، قاله البغوي، {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] الآية" بأن تصحوا، وكان وجه الغلظ اشتمالها على النهي صريحًا، لكنه ليس عن شرب الخمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 وكان الناس يشربون ثم نزلت آية أغلظ منها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] قال: انتهينا ربنا. والميسر: القمار وقيل غيره.   وإنما هو عن الصلاة مع السكر خصوصًا، وقد فسَّر البيضاوي السكر بما يشمل غير الخمر من نحو نوم حتى ينتبهوا. وقال ابن كثير: يحتمل أنَّ المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة أوقات من الليل والنهار، فلا يتمكَّن شارب الخمر من أدائها في أوقاتها دائمًا، انتهى. فكأنما قيل لهم: حال الصحو لا تسكروا لئلّا يفوتكم به شيء من الصلاة. "وكان الناس يشربون،" لأنهم ما نهوا عنه، "ثم نزلت آية أغلظ من ذلك" للأمر الصريح باجتنابها، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] "الآية، إلى قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية، وضمير اجتنبوه للرجس المعبّر به عن هذه الأشياء، كما جزم به الجلال. وزاد البيضاوي: أو للتعاطي. قال: وأكد تحريمهما فصدر الجملة بإنما, وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وسمَّاهما رجسًا، وجعلهما من عمل الشيان تنبيهًا على أنَّ الاشتغال بهما شر بحت أو غالب، وأمر باجتناب عينهما، وجعله سببًا يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بيِّن ما فيهما من المفاسد، فقال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَان} الآية. "قال: انتهينا ربنا" كذا في النسخ. فقال الشارح: قائله عمر، كما مَرَّ عن البيضاوي, والذي مَرَّ حديث آخر غير هذ، والذي في المسند لأحمد عن أبي هريرة، ثم نزلت آية أغلظ من ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} [المائدة: 91] الآية، قالوا: انتهينا ربنا، فقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية، إلى آخر الآية. "والميسر" بكسر السين، وتضم وتفتح كما في القاموس، "القمار" بكسر القاف. قال البيضاوي: سُمِّيَ به؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يساره، أي: غناه، "وقيل غيره", فقيل هو التردد، وقيل: اللعب بالقداح، وقيل: الجزور التي كانوا يتقامرون عليها إذا أرادوا أن ييسروا، اشتروا جزورًا نسيئة، ونحروه قبل أن ييسروا، وقسموه ثمانية وعشرين قسمًا، وعشرة أقسام، فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل، ظهر فوز من خرج لهم ذوات الأنصباء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 وولد الحسن بن علي في هذه السنة.   وغرم من خرج لهم الغفل، كذا في القاموس، انتهى. "وولد الحسن بن علي في هذه السنة"، سنة ثلاث في منتصف رمضان. قال أبو عمر: هذا أصحّ ما قيل، وقيل: ولد لنصف شعبان سنة ثلاث، وقيل: ولد بعد أُحد بسنة، وقيل: بسنتين، حكاها ابن الأثير. قال الواقدي: وحملت فاطمة بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، وكانت الداية أسماء بنت عميس وأم أيمن. وروى ابن منده عن سوادة الكندية، قالت: كنت فيمن شهد فاطمة حين ضربها المخاض، فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "كيف هي"؟ قلت: إنها لتجهد، قال: "فإذا وضعت فلا تحدثي شيئًا" فوضعت ابنًا، فسررته ووضعته في خرقة صفراء، فقال: "ائتيني به"، فلففته في خرقة بيضاء، فتفل في فيه، وسقاه من ريقه، ودعا عليًّا فقال: "ما سميته"؟، قال جعفرًا، قال: "لا, ولكنه الحسن". وأخرج أحمد وأبو حاتم عن علي, لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أروني ابني ما سميتموه" , قلنا: سميناه حربًا فقال: "بل هو حسن"، فلمَّا ولد الحسين الثالث سميته حربًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أروني ابن ما سميتموه" قلنا: حربًا، قال: "بل هو حسين" , فلمَّا ولد الثالث سميته حربًا, فجاء -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أروني ابني ما سميتموه"، قلنا: حربًا، فقال: "بل هو محسن". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 " سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد ": ثم سرية عبد الله بن عبد الأسد، هلال المحرَّم على رأس خمس وثلاثين شهرًا من الهجرة، إلى قطن -جبل بناحية فيد-   ثم سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد: بسين مهملة، ابن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، "هلال المحرَّم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى قطن" بفتح القاف، والطاء المهملة وبالنون، "جبل بناحية فيد" بفتح الفاء وسكون التحتية، وبالدال المهملة. قال ابن سعد: ماء لبني أسد بن خزيمة، قال غيره: على يمينك إذا فارقت الحجاز وأنت صادر من النفرة. وقال ابن إسحاق: قطن ماء من مياه بني أسد بنجد, بعث إليه -صلى الله عليه وسلم- أبا سلمة في سرية، فقتل مسعود بن عروة، وما في القاموس: إن فيد قطعة بطريق مكة لا تفهم منه أن السرية إليها؛ إذ لم يقل هو ذلك، والذي ذكره أصحاب المغازي إنما هو ما ذكره، فإنما ذكر الشارح كلامه استطرادًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 ومعه مائة وخمسون رجلًا من الأنصار والمهاجرين، لطلب طليحة وسلمة ابني خويلد، فلم يجدهما، ووجد إبلًا وشاء فأغار عليهما ولم يلق كيدًا.   "ومعه مائة وخمسون رجلًا من المهاجرين والأنصار" منهم أبو عبيدة وسعد وأسيد بن حضير وأبو نائلة وأبو سبرة وعبد الله بن سهل والأرقم، كذا في الخميس، "لطلب طليحة" بالتصغير, وأسلم بعد ذلك، ثم ارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وادَّعى النبوة, فقاتله خالد بن الوليد فهزمه, فهرب إلى الشام، ثم أسلم إسلامًا صحيحًا، ولم يغمض عليه في إسلامه بعد ذلك، وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين، وذكر له الواقدي وغيره مواقف عظيمة في الفتوح، ويقال: إنه استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووقع في الأم للشافعي أن عمر قتل طليحة وعيينة. قال في الإصابة: وراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني فاستغربه جدًّا، ولعله قبل بالباء الموحدة، أي: قبل منهما الإسلام، "وسلمة". قال البرهان: لا أعرف له إسلامًا، وجزم الشامي بأنه لم يسلم. "ابني خويلد" قال ابن سعد وغيره: وذلك أن الوليد بن زبير الطائي أخبره -صلى الله عليه وسلم- أنه مَرَّ على طليحة وسلمة وهما يدعوان قومهما ومن أطاعهما لحربه -صلى الله عليه وسلم, فنهاهم قيس بن الحارث فلم ينتهوا، فدعا -صلى الله عليه وسلم- أبا سلمة وعقد له لواء، وقال: "سِرْ حتى تنزل أرض بني أسد بن خزيمة فأغر عليهم"، فخرج فأسرع السير حتى انتهى إلى أدنى قطن، فأغار على سرح لهم مع رعاء لهم مماليك ثلاثة، وأفلت سائرهم، فجاءوا جمعهم، وأخبروهم الخبر، فتفرقوا في كل وجه، "فلم يجدهما"؛ لأنهم خافوا، فهربوا عن منازلهم، "ووجد إبلًا وشاء" جمع شاة، "فأغار عليهما ولم يلق كيدًا" أي: حربًا. وعند ابن سعد وغيره: وورد أبو سلمة الماء فعسكر به وفرَّق قومه ثلاث فرق, فرقة قامت معه، وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتّى، فرجعتا إليه سالمتين، وقد أصابتا نعمًا وشاءً، فانحدر بهم أبو سلمة إلى المدينة. وأخرج منه صفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدًا، وأعطى الطائي الدليل ما رضي به، ثم خمسها, وقسم الباقي على أهل السرية، قيل: فبلغ سهم كل واحد سبع بعير، وأغنامًا، ومدة غيبته في تلك السرية عشرة أيام، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 " سرية عبد الله بن أنيس ":   ثم سرية عبد الله بن أنيس: بضم أوَّله، وفتح النون وسكون التحتية، ابن أسعد الجهني الأنصاري السلمي، وتردَّد المحب الطبري فيمن هو بعينه لا معنى له؛ لأنه الجهني وهو أشهر ذكرًا من الخمسة الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 ثم سرية عبد الله بن أنيس وحده، يوم الإثنين لخمس خلون من المحرَّم، على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة، إلى سفيان بن خالد الهذلي بعرنة -وادي عرفة؛ لأنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه. فلمَّا وصل إليه قال له: ممن الرجل؟ قال: من بني خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد, فجئتك لأكون معك، قال: اجلس. فمشى معه ساعة، ثم اغترَّه .....   وافقوه في الاسم، واسم الأب من الصحابة -رضي الله عنهم، ذكره الشامي. "ثم سرية عبد الله بن أنيس وحده" إطلاق السرية على الواحد مجاز، "يوم الإثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى سفيان بن خالد" بن نبيح -بضم النون، وفتح الموحدة، وسكون التحتية وبالحاء المهملة, "الهذلي" ثم اللحياني، قاله ابن سعد، وتبعه اليعمري. وقال ابن إسحاق: لقتل خالد بن سفيان بن نبيح، وفي حياة لحيوان: لقتل خالد بن نبيح، وتبعه المصنف فيما مرَّ, فنسباه لجدّه على قول ابن إسحاق. "بعرنة" بضم العين المهملة، وفتح الراء، والنون فتاء تأنيث، موضع بقرب عرفة موقف الحجيج، كذا في السبل، وقد ينافي قوله "وادي عرفة"؛ لأن ظاهره أن عرفة، بعضه, إلّا أن يكون أضافها إليها لاتصالها بها، ففي النور: عرنة موضع عند الموقف بعرفات. وقال بعض مشايخ مشايخي قرية بوادي عرفة؛ "لأنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أنه جمع الجموع لحربه،" فقال لعبد الله: "ائته فاقتله"، فقلت: صفه لي حتى أعرفه" قال: "إذا رأيته هبته, وفرقت ووجدت له قشعريرة, وذكرت الشيطان"، وكنت لا أهاب الرجال"، فقلت: يا رسول الله, ما فرقت من شيء قط، فقال: "آية ما بينك وبينه ذلك"، واستأذنته أن أقول، فقال: "قل ما بدا لك". وقال: انتسب لخزاعة، فأخذت سيفي ولم أزد عليه, وخرجت أعتزي إلى خزاعة، "فلمَّا وصل إليه" بعرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش, فهبته, وعرفته بنعته -صلى الله عليه وسلم, فقلت: صدق الله ورسوله، وقد دخل وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومئ برأسي إيماءً، فلمَّا دنوت منه، "قال له: ممن الرجل؟ قال: من بني خزاعة، سمعت بجمعك لمحمد، فجئتك لأكون معك", قال: أجل إني لفي الجمع له، فمشيت معه، وحدَّثته فاستحلى حديثي، وأنشدته, وقلت عجبًا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث, فارق الآباء وسفّه أحلامهم، قال: إنه لم يلق أحدًا يشبهني، وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض، حتى انتهى إلى خبائه، وتفرَّق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه، وهم يطيفون به، فقال: هلمَّ يا أخا خزاعة، فدنوت منه، "قال: اجلس، فمشى معه ساعة" قبل الجلوس، أو المراد مشى معه في الكلام، "ثم اغترَّه" بغين معجمة، أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وقتله، وأخذ رأسه، فكان يسير الليل ويتوارى النهار، حتى قدم المدينة، فقال له -عليه الصلاة والسلام: "أفلح الوجه"، قال: أفلح وجهك يا رسول الله، ووضع رأسه بين يديه. وكانت غيبته ثمان عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من محرم.   أخذه في غفلة، "وقتله", عند ابن سعد، فقال: اجلس، أي: في الخباء، فجلست معه حتى إذا نام الناس اغتررته، وفي أكثر الروايات، وهي رواية ابن إسحاق أنه قال: مشيت معه حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف وقتلته، "وأخذ رأسه", قال: ثم أقبلت فصعدت جبلًا فدخلت غارًا وأقبل الطلب، وأنا مكتمن في الغار، وضرب العنكبوت على الغار، وأقبل رجل معه إداوة ضخمة، ونعلاه في يده، وكنت حافيًا، فوضع إداوته ونعله، وجلس يبول قريبًا من فم الغار، ثم قال لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين، وخرجت فشربت ما في الإداوة ولبست النعلين، "فكان يسير الليل ويتوارى النهار" خوفًا من الطلب، "حتى في المدينة" فوجده -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، "فقال له -عليه الصلاة والسلام: "أفلح الوجه" أي: فاز، قال: أفلح وجهك يا رسول الله", هكذا رواية ابن سعد، وفيها من الأدب ما لا يخفى؛ حيث لم يأت بالعطف المفيد للمشاركة؛ لأن فلاحه -صلى الله عليه وسلم- لا يشاركه فيه أحد، وإن شاركوه في أصل الفلاح. نعم في رواية: ووجهك بالواو, فلعل إحداهما بالمعنى، أو تكررت بالعطف، ودونه، "ووضع رأسه بين يديه", وأخبرته خبري فدفع إليَّ عصا وقال: "تخصّر بها في الجنة, فإنَّ المتخصرين في الجنة قليل"، فكانت العصا عنده، حتى إذا حضرته الوفاة، أوصى أن يدرجوها في أكفانه، ففعلوا, والتخصر بفتح الفوقية، والخاء المعجمة وضم الصاد المهملة: الاتكاء على قضيب ونحوه، "وكانت غيبته ثماني عشرة ليلة، وقدم يوم السبت لسبع بقين من المحرم". قال ابن عقبة: وزعموا أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بموته قبل قدوم عبد الله بن أنيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 [ بعث الرجيع ] :   بعث الرجيع: "ثم سرية عاصم بن ثابت" بن أبي الأقلح -بالقاف، واللام والمهملة- قيس بن عصمة بن النعمان الأنصاري، من سباقهم إلى الإسلام. روى الحسن بن سفيان: لما كان ليلة العقبة، أو ليلة بدر، قال -صلى الله عليه وسلم- لمن معه: "كيف تقاتلون"، فقام عصام بن ثابت، فأخذ القوس والنبل، وقال: إذا كان القوم قريبًا من مائتي ذراع، كان الرمي، وإذا دنوا حتى تنالهم الرماح، كانت المداعبة حتى تقصف، فإذا تقصفت وضعناها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 ثم سرية عاصم بن ثابت، في صَفَر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة إلى الرجيع -بفتح الراء وكسر الجيم، اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان- بناحية الحجاز، وكانت الوقعة بالقرب منه فسميت به. وحديث عضل والقارة -بفتح الضاد المعجمة بعده لام- بطن من بني الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش، وأما القارة -بالقاف وتخفيف الراء: بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، وقال ابن دريك: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها. وقصة عضل والقارة كانت في بعث الرجيع، لا في سرية بئر معونة، وقد فصل بينهما ابن إسحاق، فذكر بعث الرجيع في أواخر سنة   وأخذنا السيوف وكانت المجالدة, فقال -صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت الحرب من قاتل، فليقاتل كما يقاتل عاصم". وشهد العقبة وبدرًا وأحدًا، "في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة" فتكون في السنة الرابعة، "إلى الرجيع -بفتح الراء وكسر الجيم فتحتية ساكنة فعين مهملة. قال في الفتح: هو في الأصل اسم للروث, سمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا "اسم ماء لهذيل" بذال معجمة, "بين مكة وعسفان", وبينهما مرحلتان "بناحية الحجاز، كانت الوقعة بالقرب منه" بالهداة، كما يأتي، "فسميت به، وحديث عضل" عطف على سرية، "والقارة" وعضل "بفتح" العين المهملة، والضاد "المعجمة بعدها لام، بطن من بين الهون" بضم الهاء وسكون الواو وبالنون كما في الصحاح. "ابن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش" بفتح الدال المهملة وكسرها، ثم تحتية ساكنة ثم شين معجمة، كما قاله البرهان، وشيخه المجد في القاموس، ووقع في السبل بدال وسين مهملتين "ابن محكم، والقارة بالقاف وتخفيف الراء" فتاء تأنيث. "بطن من الهون أيضًا، ينسبون إلى الديش المذكور". "وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء، فيها حجارة كأنهم نزلوا بها" أي: عندها، "فسموا بها" قال: ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي, قال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها "وقصة عضل والقارة كان في" أي: مع "بعث الرجيع لا في سرية بئر معونة" كما قد يوهمه ترجمة البخاري، "وقد فصل" فرق "بينهما ابن إسحاق, فذكر بعث الرجيح في أواخر سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 ثلاث، وبئر معونة أوائل سنة أربع. وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاءا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة واحدة. وسياق ترجمة البخاري يوهِمُ أن بعث الرجيع وبئر معونة شيء واحد، وليس كذلك؛ لأن بعث الرجيع كان سرية عاصم وخبيب وأصحابهما، وهي مع عضل والقارة. وبئر معونة كان سرية القراء، وهي مع رعل وذكوان، وكأن البخاري أدمجها معها لقربها منها. ويدل على قربها منها ما في حديث أنس من تشريك النبي -صلى الله عليه وسلم- بين بني لحيان وبين عصية وغيرهم في الدعاء عليهم. ولم يرد البخاري -رحمه الله- أنهما   ثلاث" وهذا قول ابن إسحاق, وما مَرَّ أنها في صفر قول ابن سعد فلا يورد عليه، "وبئر معونة في أوائل سنة أربع". "وذكر الواقدي أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاءا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في ليلة واحدة", فهذا يدل على أن البخاري أدمجها معها للقرب، والجائي بالخبر الوحي فسيأتي في المتن، فاستجاب الله لعاصم، فأخبر رسوله خبرهم يوم أصيبوا، ويأتي في بئر معونة عن الحافظ، أن الله أخبر بهم على لسان جبريل. "وسياق ترجمة البخاري" بقوله: باب غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان وبئر معونة، وحديث عضل، والقارة، وعاصم بن ثابت، وخبيب وأصحابه، "يوهم أن بعث الرجيع وبئر معونة شيء واحد، وليس كذلك؛ لأن بعث الرجيع كانت سرية عاصم وخبيب" بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة الأولى مصغرًا، "وأصحابهما, وهي مع عضل، والقارة وبئر معونة كان سرية القراء, وهي مع رعل" بكسر فسكون "وذكوان" بذال معجمة، "وكأنَّ البخاري أدمجها" أدخلها، "معها لقربها منها، ويدل على قربه منها ما في حديث أنس" في الصحيح، "من تشريك النبي -صلى الله عليه وسلم- بين بني لحيان" بكسر اللام وفتحها، "وبين عصية" بضم الضم مصغرًا، "وغيرهم" كرعل وذكوان "في الدعاء عليهم" في قنوت الصبح شهرًا. ووجه الدلالة أن بعث الرجيع مع بني لحيان وبئر معونة كانت مع عصية ورعل وذكوان، وقد جمع بين الكل في الدعاء، وهنا قال الحافظ، وذكر الواقدي، أنَّ خبر بئر معونة ... إلخ، استدلالًا على القرب أيضًا، فما كان ينبغي للمصنف تقديمه، "ولم يرد البخاري -رحمه الله- أنهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 قصة واحدة، ولم يقل ذكر عضل والقارة عنده صريحًا. وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق, فإنه بعد أن استوفى قصة أُحد قال: ذكر يوم الرجيع: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أُحدٍ رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا، فبعث معهم ستة من أصحابه, وأمَّرَ -عليه الصلاة والسلام- على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي, كذا في السيرة له, وفي الصحيح: وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتي، وهو   قصة واحدة"؛ لأنه خلاف الواقع، فلا يحمل عليه وإن أوهمه كلامه، "ولم يقل ذكر عضل والقارة عنده صريحًا، وإنما وقع ذلك عند ابن إسحاق، فإنه بعد أن استوفى قصة أُحد قال: ذكر يوم الرجيع: حدثني عاصم بن عمر" بضم العين "ابن قتادة" الأنصاري الظفري العلامة في المغازي "قال: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أُحد رهط من عضل والقارة" سبعة، كما في رواية الواقدي عن شيوخه، مشت بنو لحيان من هذيل بعد قتل سفيان بن نبيح الهذلي إلى عضل والقارة، فجعلوا لهم إبلًا على أن يكلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج إليهم نفرًا من أصحابه، فقدم سبعة نفر منهم مقرِّين بالإسلام، "فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهوننا" في الدين، ويقرؤننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام. وفي الصحيح عن أبي هريرة, بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية عينًا، وفي رواية: بعث عشرة عينًا يتجسسون له، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: بعثهم عيون إلى مكة ليأتوه بخبر قريش، ويجمع بأنه لما أراد بعثهم عيونًا، وافق مجيء النفر في طلب مَنْ يفقههم، فبعثهم في الأمرين، "فبعث معهم ستة من أصحابه", وسماهم ابن إسحاق فقال: وهم: عاصم ومرثد وخبيب وزيد بن الدثنة وعدب الله بن طارق وخالد بن البكير، وجزم ابن سعد بأنهم كانوا عشرة، فزاد: معتب بن عبيد، وكذا سمَّى موسى بن عقبة السبعة المذكورين، لكن قال: مغيث بن عوف. قال الحافظ: فلعل الثلاثة الآخرين كانوا أتباعًا فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. "وأمَّرَ -عليه الصلاة والسلام- على القوم مرثد" بفتح الميم، وسكون الراء، وفتح المثلثة وبالدال المهملة "ابن أبي مرثد", صحابي وأبوه صحابي, واسمه كناز -بنون ثقيلة- ابن الحصين، وهما ممن شهد بدرًا "الغنوي" بفتح المعجمة والنون نسبة إلى غني بن أعصر، "كذا في السيرة له" لابن إسحاق. "وفي الصحيح" من حديث أبي هريرة: "وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، كما سيأتي وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 أصح -فخرجوا مع القوم حتى أتوا الرجيع- ماء لهذيل, غدروا بهم, فاستصرخوا عليهم هذيلًا فلم يرع القوم، وهم في رحالهم، إلّا الرجال بأيديهم السيوف، وقد غشوهم، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنَّا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، فأبوا، فأمَّا مرثد وخالد وعاصم، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا, وقاتلوا حتى قتلوا -رضي الله عنهم. وفي البخاري: وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، حتى إذا كانوا بالهدأة   أصح" كما قاله السهيلي وغيره. قال في الفتح: وجمع بعضهم بأن أمير السرية مرثد وأمير العشرة عاصم بناء على التعدد، ولم يرد البخاري أنهما قصة واحدة، "فخرجوا مع القوم حتى أتوا الرجيع ماء لهذيل" بن مدركة بن إلياس بن مضر, "غدروا بهم فاستصرخوا" أي: استغاثوا "عليهم هذيلًا" ليعينوهم على قتلهم، "فلم يرع القوم" أي: يبغتهم ويفجأهم أو يفزعهم، "وهم في رحالهم إلّا الرجال بأيديهم السيوف وقد غشوهم" بضم الشين وهذا ظاهر، قاله البرهان؛ لأن فعله غشي كتعب، فإذا أسند إلى واو الجماعة قيل: غشيوا كرضيوا، استثقلت الضمة إلى الياء فحذفت الضمة ثم الياء, ثم قلبت كسرة الشين ضمة، لمناسبة الواو، "فأخذوا" أي: عاصم ومن معه، "أسيافهم ليقاتلوا القوم، فقالوا لهم: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة", بأن نسلمكم لهم ونأخذ بدلكم شيئًا منهم، لعلمهم أنه لا شيء أحبَّ إليهم من أن يؤتوا بأحد من الصحابة يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر وأحد، "ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم فأبوا، فأمَّا مرثد" بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة "وخالد" بن البكير -بضم الموحدة وفتح الكاف- الليثي حليف بني عدي, من السابقين، وشهد بدرًا, استشهد يومئذ وهو ابن أربع وثلاثين سنة. ذكره ابن إسحاق وغيره، "وعاصم" بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف، "فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا، وقاتلوا حتى قتلوا -رضي الله عنهم" في الموضع الذي جاءوهم فيه حتى استصرخ عليهم الآتي بهم إليه وقسيم، أمَّا تركه المصنف استغناء بذكره بمعناه كما يأتي, وهو ثابت في ابن إسحاق قال: وأما زيد وخبيب وابن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة. "وفي البخاري" في الجهاد وغزوة بدر، وهنا من طريق الزهري عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة رهط سرية عينًا، "وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت حتى إذا كانوا بالهدأة" -بفتح الهاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 بين عسفان ومكة -وذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو الحيان، فنفروا لهم بقريب من مائتي رجل. وعند بعضهم فتبعوهم بقريب من مائة رام. والجمع بينهما واضح، بأن تكون المائة الأخرى غير رماة. وفي رواية أبي معشر في مغازيه: فنزلوا بالرجيع سحرًا، فأكلوا تمرة عجوة، فسقط نواه بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون بالنهار،   قال الحافظ: وسكون الدال بعدها همزة مفتوحة لأكثر الرواة. وللكشميهني: بفتح الدال وتسهيل الهمزة. وعند ابن إسحاق بالهدة بتشديد الدال بغير ألف موضع. "بين عسفان ومكة" وعند ابن إسحاق وهي على سبعة أميال من عسفان، "وذكروا" بضم المعجمة مبنيًّا للمفعول "لحي من هذيل" بضم الهاء، وفتح المعجمة، وسكون التحتية وباللام "يقال لهم بنو لحيان" بكسر اللام، وقيل: بفتحها وسكون المهملة، ولحيان هو ابن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر، وزعم الهمداني النسَّابة أن أصل بني لحيان من بقايا جُرْهُم, دخلوا في هذيل فنسِبُوا إليهم، قاله الحافظ: "فنفروا لهم بقريب من مائتي رجل", هكذا عند البخاري في الجهاد من رواية شعيب عن الزهري بسنده، وزاد كلهم رامٍ، "وعند بعضهم" أي: الرواة، وهو معمر عن الزهري في صحيح البخاري في هذا الباب، "فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ" بالنبل، ومثله عنده في غزوة بدر من رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري، ولفظه: فنفروا لهم بقريب من مائة رجل رام، والجمع بينهما واضح بأن تكون المائة الأخرى غير رماة" ولم أقف على اسم أحد منهم, هكذا قال الحافظ، وفيه وقفة. فإن لفظ رواية شعيب في الجهاد: فنفروا لهم قريبًا من مائتي رجل كلهم رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مآكلهم تمرًا تزودوه من المدينة, فقالوا: هذا تمر يثرب. "وفي رواية أبي معشر" بفتح الميم، وسكون المهملة وفتح المعجمة نجيح بن عبد الرحمن السندي "في مغازيه، فنزلوا بالرجيع سحرًا, فأكلوا تمرة عجرة" إضافة بيانية، أي: تمرًا مسمَّى بهذا الاسم "فسقط نواه في الأرض، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون" بضم الميم وفتحها. قال في القاموس: كمن كنصر وسمع كمونًا: استخفى "بلنهار", وهذا واضح على أنهم كانوا عيونًا ليأتوه بخبر قريش، وكذا على أنهم ذهبوا ليفقهوا الآتين في طلب من يفقههم؛ لأنهم قليل؛ إذ غاية ما قيل في السرية عشرة، والآتين في طلبهم سبعة، ومثل هذا العدد في زمن المحاربة خصوصًا بعد أُحد لا يأمنون على أنفسهم فيسيروا ظاهرين نهارًا، فلذا كانوا يكمنون به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنمًا، فرأت النواءات وأنكرت صغرهن، وقالت: هذا تمر يثرب, فصاحت في قومها قد أتيتم، فجاءوا في طلبهم، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، وتبعوا آثارهم حتى لحقوهم. وفي رواية ابن سعد: فلم يرع القوم إلّا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم. فلما حسَّ بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد -بفاءين مفتوحتين ومهملتين, الأولى ساكنة- وهي الرابية المشرفة، فأحاط بهم القوم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا،   "فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنمًا فرأت النواءات" هذا جمع تصحيح لم يذكره القاموس والمصباح، فإنهما قالا: النوى جمع نواة، وجمع الجمع أنواء, مثل سبب وأسباب، فالظاهر كما قال شيخنا: إنه كان يقال: فلمَّا رأت النوى بالقصر، أو الأنواء، "فأنكرت صغرهن وقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: قد أتيتم" بالبناء للمفعول من قِبل العدو، "فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا" بفتحتين وبفتح فكسر: استخفوا "في الجبل، واتبعوا آثارهم" حين أخبرتهم المرأة "حتى لحقوهم" بالجبل، والواو لا ترتب, فلا يرد اقتضاؤه أن اقتفاء الأثر بعد وجدانهم كامنين بالجبل. "وفي رواية ابن سعد" في حديث أبي هريرة هذا، "فلم يرع القوم إلّا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم", أعاده وإن مَرَّ عن ابن إسحاق؛ لأن ذاك مرسل، وهذا مسند، ويقع سقوطه في نسخ وهو خطأ؛ لإيهامه أن ما بعده رواية ابن سعد، مع أنه من جملة حديث البخاري, ففيه عقب قوله: حتى لحقوهم، "فلمَّا حسَّ". قال المصنف: صوابه كما قال السفاقسي أحسَّ رباعيًّا، أي: علم "بهم عاصم وأصحابه لجأوا" بفتح الجيم وكسرها آخره همزة- تحرزوا واعتصموا "إلى فدفد -بفاءين مفتوحتين ودالين مهملتين الأولى ساكنة- وهي الرابية المشرفة". قال الحافظ: ووقع عند أبي داود إلى قردد -بقاف وراء ودالين. قال ابن الأثير: هو الموضع المرتفع، ويقال: الأرض المستوية، والأول أصح, "فأحاط بهم القوم فقالوا: لكم العهد والميثاق" تفسيري، "إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلًا". وعند ابن سعد فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتالكم، إنما نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، وهي رواية ابن إسحاق المتقدمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 فقال عاصم بن ثابت أيها القوم: أما أنا فلا أنزل في ذمَّة كافر، ثم قال: اللهم أخبر عنَّا رسولك، فاستجاب الله تعالى لعاصم فأخبر رسوله خبرهم يوم أصيبوا. فرموهم بالنبل، فقتلوا عاصمًا، ونزل إليهم على العهد والميثاق: خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة -بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة والنون المفتوحة المشددة, وعبد الله بن طارق.   "فقال عاصم بن ثابت" لأصحابه: قاله المصنف: "أيها القوم أمَّا" بتشديد الميم "أنا فلا أنزل في ذمة كافر" أي: في عهده. وعند سعيد بن منصور، فقال عاصم: لا أقبل اليوم عهدًا من مشرك. "ثم قال: اللهمَّ أخبر عنّا رسولك" وفي لفظ: نبيك، وقوله، "فاستجاب الله تعالى لعاصم، فأخبر رسوله خبرهم يوم أصيبوا", هذه الجملة إنما نسبها في الفتح لرواية الطيالسي، وتبعه المصنف في شرح البخاري في المواضع الثلاثة، كما أوهمه المصنف، "فرموهم" أي: رمى الكفار المسلمين حين امتنعوا من النزول، "بالنبل" -بفتح النون وسكون الموحدة- السهام العربية، ورماهم عاصم بالنبل حتى فني نبله. وفي رواية: نثر عاصم كنانته فيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلًا من عظماء المشركين، ثم طاعنهم حتى انكسر رمحه، ثم سلَّ سيفه، وقال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره، "فقتلوا عاصمًا", زاد البخاري في هذا الباب: وفي الجهاد في سبعة، أي: في جملة سبعة، وقد مَرَّ أنهم عشرة, سمَّى منهم سبعة, وثلاثة لم يسموا؛ لأن الظاهر أنهم أتباع فلم يعتن بتسميتهم، كما قاله الحافظ، "ونزل إليهم على العهد والميثاق خبيب" بضم المعجمة وفتح الموحدة الأولى "ابن عدي" الأنصاري الأوسي البدري، "وزيد بن الدثنة" بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضي، شهد بدرًا وأحدًا "بفتح الدال المهملة وكسر" الثاء "المثلثة" زاد البرهان: وقد تسكن "والنون المفتوحة المشددة" ثم تاء تأنيث. قال ابن دريد: من قولهم: دثن الطائر إذا طاف حول وكره ولم يسقط عليه. وفي القاموس: دثن الطائر تدثينًا: طار وأسرع السقوط ف مواضع متقاربة. قال في رواية البخاري: ورجل آخر وسماه ابن إسحاق فقال: "وعبد لله بن طارق" البلوي البدري، فليست تسميته من رواية البخاري، كما أوهمه المصنف. وفي رواية أبي الأسود عن عروة: إنهم صعدوا في الجبل فلم يقدروا عليهم حتى أعطوهم العهد والميثاق. وفي حديث البخاري: فلمَّا استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها, فقال الرجل الثالث، أي: ابن طارق: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم, إن لي بهؤلاء أسوة، يريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبًا،   القتلى، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل، فقتلوه. قال الحافظ: هذا يقتضي أن ذلك وقع منه أول ما أسروهم. وفي رواية ابن إسحاق: فخرجوا بالنفر الثلاثة، حتى إذا كانوا بمر الظهران أشرع عبد الله بن طارق يده، وأخذ سيفه واستأخر عنه القوم، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بمر الظهران، فيحتمل أنهم إنما ربطوهم بعد أن وصلوا إلى مر الظهران, وإلا فما في الصحيح أصح، انتهى. "فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة،" والذي باعهما زهير وجامع الهذليان. قال ابن هشام: باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة. وعند سعيد بن منصور: أنهم اشتروا خبيبًا بأمة سوداء، ويمكن الجمع، قاله الحافظ. وقال الواقدي: بيع خبيب بمثقال ذهبًا، ويقال: بخمسين فريضة، وبيع الثاني بخمسين فريضة. وعند ابن سعد وابن إسحاق: فأمَّا زيد فابتاعه صفوان بن أمية، فقتله بأبيه. وعند ابن سعد: أن الذي قتله نسطاس مولى صفوان، ويقال: اشترك فيه ناس من قريش، ودخلوا بهما في شهر حرام في ذي القعدة, فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم. "فابتاع بنو الحارث بن عامر" بن نوفل بن عبد مناف "خبيبًا", وهم عقبة وأبو سروعة وأخوهما لأمهما حجير -بضم الحاء المهملة، وفتح الجيم وسكون التحتية وبالراء- ابن أبي إهاب -بكسر أوله وبالموحدة- التميمي, حليف بني نوفل، وبَيِّنَ ابن إسحاق أنه الذي تولّى شراءه وقد أسلم الثلاثة بعد ذلك وصحبوا. قال في حديث البخاري: وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بن عامر يوم بدر. قال الحافظ: هكذا وقع في حديث أبي هريرة، واعتمده البخاري، فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرًا وهو متجه، لكن تعقَّبه الدمياطي بأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أن خبيب بن عدي شهد بدرًا ولا قتل الحارث بن عامر، وإنما ذكروا أن الذي قتل الحارث ببدر خبيب بن إساف الخزرجي, وابن عدي أوسي, قلت: يلزم من كلامه رد الحديث الصحيح, فلو لم يقتل ابن عدي الحارث ما كان لاعتناء بن الحارث بن عامر بأسر خبيب معنى، ولا بقتله, مع تصريح الحديث الصحيح أنهم قتلوه به، لكن يحتمل أنهم قتلوه لكون ابن أساف قتل الحارث على عادة الجاهلية بقتل بعض البيلة عن بعض، ويحتمل أن يكون خبيب بن عدي شارك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 فلبث خبيب عندهم أسيرًا، حتى اجتمعوا على قتله, استعار من بعض بنات الحارث موسى ليستحد بها -يعني يحلق عانته-   قتل الحارث، والعلم عند الله تعالى. "فلبث خبيب عندهم أسيرًا" في بيت ماوية، مولاة حجير بن أبي إهاب، وأسلمت بعد. قال في الروض: ماوية -بواو، أي: مكسورة وشد التحتية في رواية يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وكذا في النسخ العتيقة من رواية غيره عن ابن إسحاق بالراء، أي: والتخفيف، والماوية بالتخفيف البقرة، وبالتشديد القطاة الملساء، انتهى. وعند سعيد بن منصور، فأساءوا إليه فقال لهم: ما يصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم، فأحسنوا إليه بعد ذلك, وجعلوه عند امرأة تحرسه. وروى ابن سعد عن موهب مولى آل نوفل قال: قال لي خبيب: وكانوا جعلوه عندي يا موهب, أطلب إليك ثلاثًا، أن تسقيني العذب، وأن تجنبني ما ذُبِحَ على النصب، وأن تعلمني إذا أرادوا قتلي. قال الشامي: فكان موهبًا كان زوج ماوية. انتهى. ويؤيده أن في رواية الواقدي عنها, كانت تحدث بقصة خبيب بعد أن أسلمت وحسن إسلامها، وفيها: وكان يتهجد بالقرآن، فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، فقلت له: له لك من حجاجة، قال: لا، إلا أن تسقيني العذب, ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبريني إذا أرادوا قتلي، فلمَّا أرادوا ذلك أخبرته، فوالله ما اكترث بذلك, فكأنه طلب ذلك من ماوية وموهب معًا، وقد أسلم موهب في فتح مكة كما في الإصابة. "حتى اجتمعوا" عزموا واتفقوا "على قتله" حين خرجت الأشهر الحرم، "استعار من بعض بنات الحارث". ذكر خلف في الأطراف أن اسمها زينب بن الحارث أخت عقبة، قاتل خبيب، وقيل: امرأته، وعند ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح قال: حدثت عن ماوية مولاة حجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت قالت: حبس خبيب في بيتي، ولقد اطَّلعت عليه يومًا، وإن في يده لقطفًا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، فإن كان محفوظًا احتمل أن كلًّا من ماوية وزينب رأت القطف في يده يأكله، والتي حبس في بيتها ماوية، والتي كانت تحرسه زينب، جمعًا بين الروايتين، ويحتمل أن الحارث أب لماوية من الرضاع، وفي ابن بطال: أن اسم المرأة جويرية، فيتمله أن وجده رواية, أو سماها جويرية لكونها أمة، قاله الفتح. "موسى" بعدم الصرف؛ لأنه على وزن فعلى، وبالصرف على وزن مفعل على خلاف بين الصرفيين، والذي في اليونينية الصرف قاله المصنف. "ليستحدَّ بها، يعني يحلق عانته،" لئلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 فغفلت عن ابن لها صغير, فأقبل إليه الصبي فأجلسه عنده, فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت، فقال خبيب: ما كنت لأغدر. قال: قالت: والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يأكل قطفًا من   تظهر عند قتله، "فغفلت عن ابن لها صغير، فأقبل إليه الصبي، فأجلسه عنده". زاد في حديث البخاري: على فخذه والموسى بيد، "فخشيت المرأة أن يقتله، ففزعت" بكسر الزاي. وفي رواية البخاري: ففزعت فزعة عرفها خبيب، "فقال:" أتخشين أن أقتله, ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله. وفي مرسل بريدة بن سفيان: "ما كنت لأغدر". قال في الفتح: ذكر الزبير ابن بكار: أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وفي رواية بريدة بن سفيان: وكان لها ابن صغير، فأقبل إليه الصبي, فأخذه فأجلسه عنده، فخشيت المرأة أن يقتله، فناشدته. وعند أبي الأسود عن عروة: فأخذ خبيب بيد الغلام فقال: هل أمكن الله منك؟ فقالت: ماكان هذا ظني بك، فرمى لها الموسى، وقال: إنما كنت مازحًا. وعند ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح وعاصم بن عمر: أن ماوية قالت: قال لي خبيب حين حضره القتل: ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل، قالت: فأعطيت غلامًا من الحي الموسى، فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت، فوالله ما هو إلّا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت: ماذا صنعت؟ أصاب الله الرجل ثأره يقتل هذ الغلام، فيكون رجل برجل، فلمَّا ناوله الحديدة، أخذها من يده, ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي، ثم خلَّى سبيله. قال ابن هشام: يقال إن الغلام ابنها. قال الحافظ: ويجمع بين الروايتين، بأنه طلب الموسى من كلٍّ من المرأتين، فأوصله إليه ابن إحداهما، وأما الابن الذي خشيت عليه، ففي رواية هذا الباب، فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه, فهذا غير الذي أحضر إليه الحديدة، انتهى. "قالت: والله ما رأيت أسيرًا" زاد في رواية: قط، "خيرًا من خبيب". وعند الواقدي في حديث ماوية: وأسلمت وحسن إسلامها. قالت: كان يتهجد بالقرآن، فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه، "والله لقد وجدته يأكل قطفًا" بكسر القاف، عنقودًا "من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 عنب، مثل رأس الرجل، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمرة، وما كان إلا رزقًا رزقه الله تعالى خبيبًا. وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب، آية على الكفار، وبرهانًا لنبيه لتصحيح رسالته. والكرامة للأولياء ثابتة مطلقًا عند أهل السنة, لكن استثني بعض المحققين مهم كالعلامة الرباني أبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء, فقال: ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك, وهذا أعدل   عنب،" وقوله: "مثل رأس الرجل" زائد على خبر الصحيح من رواية ابن إسحاق، كما قدمنا, فما كان ينبغي للمصنف إلا البيان، "وأنه لموثق" بالمثلثة، مقيد "بالحديد، وما بمكة من ثمرة" بمثلثة وفتح الميم، أي: من ثمرة عنب. وفي رواية ابن إسحاق عن ماوية: وما أعلم في الأرض حبة عنب فأطلقت الأرض، وأرادت أرض مكة، ووقع في بعض نسخ البخاري بالمثناة وسكون الميم، "وما كان" ذلك القطف "إلّا رزقًا رزقه الله تعالى خبيبًا، وهذه كرامة جعلها الله تعالى لخبيب آية على الكفار، وبرهانًا لنبيه لتصحيح رسالته" وتوسط ابن بطال بين من يثبت الكرامة ومن ينفيها، فجعل الثابت ما جرت به العادة لآحاد الناس أحيانًا, والممتنع ما يقلب الأعيان. "و" لكن "الكرامة للأولياء ثابتة مطلقًا" سواء كانت من معجزات الأنبياء، أم لا "عند أهل السنة، لكن استثني بعض المحققين منهم، كالعلامة الرباني، أبي القاسم" عبد الكريم بن هوازن، الحافظ المفسر، الفقيه النحوي اللغوي، الأديب، الكاتب، "القشيري" الشجاع، البطل، المجمَع على إمامته، وأنه لم ير مثل نفسه، ولا رأى الراءون مثله، وأنه الجامع لأنواع المحاسن, ولد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وسمع الحديث من الحاكم وغيره. وروى عنه الخطيب وغيره، وصنّف التصانيف الشهيرة، وتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة، "ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء، فقال: ولا يصلون"، أي: الأولياء "إلى مثل إيجاد ولد من غير أب، ونحو ذلك" كقلب جماد بهيمة، لكن الجمهور على الإطلاق, والتفصيل أنكروه على قائله, حتى ولده أبو نصر في المرشد، وإمام الحرمين في الإرشاد، وقال: إنه مذهب متروك، وبالغ النووي فقال: إنه غلط، وإنكار للحس, وأن الصواب وقوعها بقلب الأعيان ونحوه, انتهى. ولكن له قوة ما فقد اختاره السبكي وغيره، والحافظ ابن حجر فقال: "وهذا أعدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 المذاهب في ذلك. فإن إجابة الدعوة في الحال، وتكثير الطعام, والمكاشفة بما يغيب عن العين، والإخبار بما سيأتي, ونحو ذلك, قد كثر جدًّا، حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة. فانحصر الخارق الآن في نحو ما قاله القشيري، وتعيّن تقييد من أطلق، بأن كل معجزة لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي. ووراء ذلك: إن الذي استقر عند العامة، أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء الله تعالى، وهو غلط، فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأَوْلى من ذكروه: أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسكًا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا   المذاهب" الثلاثة، إثبات الكرامة نفيها التفصيل، "في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال،" أي: سريعًا، "ولكثير الطعام والمكاشفة بما يغيب عن العين والإخبار بما سيأتي, ونحو ذلك قد كثر جدًّا حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق" المذكور في تعريف الكرامة، بأنها ظهور أمر خارق للعادة على يد الولي، مقرون بالطاعة والعرفان، بلا دعوى نبوة, "الآن في نحو ما قاله القشيري وتعيّن تقييد من أطلق" القول، "بأن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي،" لا فارق بينهما إلّا التحدي, بقصر الجواز على غير إيجاد ابن بلا أب، وقلب العصا حية، والجمهور كما علمت على الإطلاق, إلّا بمثل القرآن مما خرج من المعجزات إلى الخصائص، قاله السعد والنووي "ووراء ذلك" الذي حققناه، "أن الذي استقرَّ عند العامَّة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك يكون من أولياء الله تعالى وهو غلط، فإن الخارق" كما قال الباقلاني: "قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب". وقال إمام الحرمين: فيه نظر, فلسنا نثبت لهم كرامة، "فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق" بين الولي وغيره، "وأولى مما ذكروه أن يختبر حال من وقع له" الخارق، "فإن كان متمسكًا بالأوامر الشرعية والنواهي، كان علامة على ولايته، ومن لا فلا،" فقد حكي الاتفاق على أن الكرامة لا تظهر على الفسقة الفجرة، بل على الموفَّقين البررة. نعم، قد تظهر على يد فاسق إنقاذًا له مما هو فيه، ثم يتوب بعدها، ويصير على أحسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 والله أعلم, انتهى ملخصًا من الفتح. ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين -وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم -وقال: اللهمَّ أحصهم عددًا، ولا تبق منهم أحدًا، واقتلهم بددًا -يعني متفرقين، فلم يحل الحول ومنهم أحد حي.   حال, كأصحاب الكهف كانوا عبدة أوثان، فحصل لهم ما حصل إرشادًا وتذكرة "والله أعلم، انتهى". كل ما ذكره من أول هذه السرية "ملخصًا من الفتح" أي: فتح الباري للحافظ -رحمه الله. قال في حديث البخاري: "ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه،" في الحل، "قال: "دعوني" اتركوني "أصل" بلا ياء للكشميهني، ولغيره بثبوت الياء، ولكل وجه قاله الحافظ، "ركعتين", قال في حديث البخاري: فتركوه، فركع ركعتين. "وعند موسى بن عقبة: أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم" بفتح الفوقية، يقال له الآن: مسجد عائشة، وهو عند طرف حرم مكة من جهة المدينة والشام, على ثلاثة أميال، وقيل: أربعة من مكة، سمي بذلك؛ لأنَّ عن يمينه جبلًا يقال له نعيم، وعن شماله جبلًا يقال له ناعم، والوادي نعمان بفتح النون، ويقال له: نعما الأراك، قال الشاعر: أما والراقصات بذات عرق ... ومن صلى بنعمان الأراك وفي حديث البخاري: ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أنَّ ما بي جزع من الموت لزدت، وفي مرسل بريدة بن سفين: لزدت سجدتين أخريين، "وقال: اللهمَّ أحصهم،" بقطع الهمزة وحاء ساكنة وصاد مكسورة مهملتين، "عددًا" أي: أهلكهم واستأصلهم، بحيث لا يبقى من عددهم أحد، "ولا تبق منهم أحدًا، واقتلهم بددًا". قال السهيلي: بفتح الموحدة، والدال المهملة الأولى, مصدر بمعنى: التبدد، أي: ذوي بدد، "يعني متفرقين". قال -أعني السهيلي: ومن رواه بكسر الباء، فجمع بدة وهي الفرقة والقطعة من الشيء المتبدد، ونصبه على الحال من المدعو عليهم. قال الدماميني: ويحتمل أن بددًا نفسه حال على جهة المبالغة، أو على تأويله باسم الفاعل انتهى. "فلم يحل الحول ومنهم أحد حي" كما في مرسل بريدة بن سفيان، ولفظه: فلما وقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وفي رواية بريدة بن سفيان، فقال خبيب: اللهمَّ إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه. وفي رواية أبي الأسود عن عروة، جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, فأخبر أصحابه بذلك.. الحديث. ثم أنشأ خبيب يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلمًا ... على أي شق كان لله مصرعي   على الخشبة استقبل الدعاء, فلبد رجل بالأرض خوفًا من دعائه, فلم يحل الحول ومنهم أحد حي غير ذلك الرجل الذي لبد في الأرض. وحكى ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان قال: كنت مع أبي، فجعل يلقيني إلى الأرض خوفًا من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه. قال في الروض: فإن قيل: هل أجيبت عوة خبيب، والدعوة في تلك الحال من مثله مستجابة، قلنا: أصابت منهم من سبق في علم الله أن يموت كافرًا، ومن أسلم منهم لم يعنه خبيب ولا قصد بدعائه، ومن قتل منهم بعد الدعوة فإنما قتلوا بها بددًا غير معسكرين ولا مجتمعين كاجتماعهم في أُحد وبدر، وإن كانت الخندق بعدها، فقد قتل منهم آحاد متبددون, ثم لم يكن لهم بعد ذلك جمع، ولا معسكر غزوا فيه، فنفذت الدعوة على صورتها فيمن أراد خبيب، وحاشاه أن يكره إيمانهم، انتهى. "وفي رواية" سعيد بن منصور من مرسل "بريدة بن سفيان" الأسلمي المدني، ليس بالقوي، وفيه رفض من السادسة. روى له النسائي، كما في التقريب "فقال خبيب: اللهمَّ إني لا أجد من يبلغ رسولك مني السلام فبلغه". "وفي رواية أبي الأسود عن عروة: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, فأخبر أصحابه بذلك. الحديث". وعند موسى بن عقبة، فزعموا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك اليوم وهو جالس: "وعليك السلام, خبيب قتلته قريش"، "ثم أنشأ خبيب يقول: فلست أبالي" هذه رواية الكشميهني، واختارها المصنّف لقول الحافظ، هي أوزن قال: وللأكثر: ما إن أبالي، وهو جائز, لكنه مخروم، ويكمل بزيادة الفاء وما نافية، وإن بكسر الهمزة نافية أيضًا للتأكيد. وفي رواية: وما إن أبالي، بزيادة واو في أخرى، ولست أبالي، "حين أقتل" بالبناء للمفعول، حال كوني مسلم، على أيّ شق" بكسر الشين المعجمة، أي: جنب، "كان لله مصرعي" أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع والأوصال: جمع وصل، وهو العضو. "والشلو -بكسر المعجمة- الجسد, ويطلق على العضو. لكن المراد به هنا الجسد. والممزع -بالزاي ثم المهملة- المقطّع, ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع. وعند أبي الأسود عن عروة, زيادة في هذا الشعر فقال: لقد أجمع الأحزاب فيّ وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وفيه أيضًا: إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي وساقه ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتًا،   مطرحي على الأرض، "وذلك في ذات الإله،" أي: في وجه الله وطلب رضاه وثوابه، كما قاله المصنف. "وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع" بضم الميم الأولى، وفتح الثانية وزاي مشددة "والأوصال جمع وصل، وهو العضو، والشلو بكسر" الشين "المعجمة" وإسكان اللام وبالواو: الجسد, ويطلق على العضو، لكن المراد به هنا الجسد" كما قال الخليل لقوله: على أوصال -يعني: أعضاء جسد؛ إذ لا يقال أعضاء عضو. انتهى. "والممزَّع بالزاي" المشددة "ثم" العين "المهملة المقطع، ومعنى الكلام: أعضاء جسد مقطع" مفرق. "وعند أبي الأسود عن عروة، زيادة في هذا الشعر، فقال: لقد أجمع الأحزاب في" أي: في شأني، "وألَّبوا" بشدّ اللام وموحدة أي: حضوا "قبائلهم", ولا يفسّر يجمعوا أيضًا، كما في النور ليغاير قوله: أجمع "واستجمعوا كل مجمع, وفيه أيضًا: إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي روي أن قريش طلبوا جماعة ممن قتل آباؤهم وأقرباؤهم ببدر، فاجتمع أربعون بأيديهم الرماح والحراب، وقالوا لهم: هذا الرجل قتل آباءكم، فطعنوه بالرماح والحراب، فتحرَّك على الخشبة، فانقلب وجهه إلى الكعبة، فقال: الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته، فلم يستطع أحد أن يحوله، "وساقه" أي: الشعر محمد "ابن إسحاق ثلاثة عشر بيتًا" هكذا في الفتح، ولعله في رواية غير زيادة، وإلّا فروايته عشرة فقط، وكذا عند الواقدي وغيره وهي: لقد جمع الأحزاب حوالي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العداوة جاهد ... علي؛ لأني في وثاق مضيع وقد جمعوا أبناءهم ونساؤهم ... وقربت من جذع طويل ممنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 قال ابن هشام: ومن الناس من ينكرها لخبيب. فكان أول مَن سنَّ الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرًا، كذا قاله ابن إسحاق، وقوله هذا يدل على أنها سنة جارية. وإنما صار فعل خبيب سنة -والسنة إنما هي أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره؛ لأنه فعلها في حياته -صلى الله عليه وسلم, فاستحسن ذلك من فعله واستحسنها المسلمون   إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطمعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع ووالله ما أخشى إذا مت مسلمًا ... على أي جنب كان في الله مضجعي فلست بمبد للعدوّ تخشعًا ... ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي "قال ابن هشام: ومن الناس من" لفظه: وبعض أهل العلم، "ينكرها لخبيب،" والمثبت مقدم على النافي كيف وبيتان منها في الصحيح. قال الحافظ: وفيه إنشاء الشعر، وإنشاده عند القتل، وقوة نفس خبيب، وشدة قوته في دينه. قال في حديث البخاري: ثم قال إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو الذي سنَّ لكل مسلم قتل صبرًا الصلاة، وأخبر أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، هكذا في البخاري في بدر من رواية إبراهيم بن سعد عن الزهري, ونحوه في الجهاد من رواية شعيب عن ابن شهاب، وسقط ذلك في هذا الباب من رواية معمر، فوقف معه المصنف, فعزا لابن إسحاق قوله: "فكان أوّل من سنَّ الركعتين عند القتل لكل مسلم قتل صبرًا" أي: مصبورًا، أي: محبوسًا للقتل، "كذا قاله ابن إسحاق" عن شيخه عاصم ابن عمر بن قتادة، ولا أدري ما وجه التبري ولا قصر العزو. ولابن إسحاق مع كونه في الصحيح موصولًا، وفي السيرة مرسلًا، وقيل: أول من سنهما زيد بن حارثة للبلاغ الآتي، وردّ بأنه لم يتصل، فلا يقاوم ما في الصحيح. "وقوله: هذا" كما قال صاحب الروض، "يدل على أنها سنة جارية، وإنما صار فعل خبيب سنة، والسنة إنما هي أقوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريره؛ لأنه فعلها في حياته -صلى الله عليه وسلم, فاستحسن ذلك من فعله" فهو تقرير له، "واستحسنها المسلمون", وفعلوها كحجر بن عدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 والصلاة خير ما ختم به عمل العبد. وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته -عليه الصلاة والسلام، كما رويناه من طريق السهيلي بسنده إلى الليث بن سعد قال: بلغني أن زيد بن حارثة اكترى بغلًا من الطائف، فاشترط عليه الكراء أن ينزله حيث شاء. قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل فنزل، فإذا في الخربة قتلى كثيرة، قال: فلمَّا أراد أن يقتله قال له: دعني أصلي ركعتين، قال: صلِّ فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئًا، فلمَّا صليت أتاني ليقتلني فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتًا: لا تقتله، فهاب ذلك، فخرج ليطلب فلم ير شيئًا، فرجع إليّ، فناديت: يا أرحم الراحمين، فعل ذلك ثلاثًا، فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها   الصحابي، فدلَّ ذلك على عدم نسخها, "والصلاة خير ما ختم به عمل العبد" هو وجه استحسانهم لها, فهو عطف علة على معلول, ولفظ الروض: مع أن الصلاة، "وقد صلى هاتين الركعتين زيد بن حارثة، مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته -عليه الصلاة والسلام، كما رويناه من طريق السهيلي" في الروض "بسنده إلى الليث" وهو: حدثنا أبو بكر بن طاهر الإشبيلي، حدثنا أبو علي الغساني، حدثنا أبو عمر النمري، حدثنا أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان بن خيرون، حدثنا قسم بن أصبغ، حدثنا أبو بكر بن أبي خيثمة، حدثنا ابن معين، حدثنا يحيى عبد الله بن بكير المصري، حدثني الليث "بن سعد، قال: بلغني أن زيد بن حارثة" الحِبّ والد الحبّ المختص، بأن الله لم يصرّح في القرآن باسم أحد من الصحابة سواه, البدري، "اكترى" من رجل "بغلًا من الطائف، واشترط عليه الكراء أن ينزله حيث شاء، قال: فمال به إلى خربة، فقال له انزل، فنزل, فإذا في الخربة قتلى كثيرة، قال: فلمَّا أراد أن يقتله، قال: دعني أصلي ركعتين، قال: صلِّ، فقد صلى قبلك هؤلاء" الفرائض وغيرها، "فلم تنفعهم صلاتهم شيئًا" فمراده الاستهزاء بالمسلمين وصلاتهم من حيث هي، أو الركعتين عند القتل، وهؤلاء كانوا بعد قتل خبيب، فلا ينافي أنه أول من سنَّهما. "قال: فلمَّا صليت أتاني ليقتلني، فقلت: يا أرحم الراحمين، قال: فسمع صوتًا لا تقتله فهاب ذلك، فخرج ليطلب فلم ير شيئًا، فرجع إليّ فناديت: يا أرحم الراحمين, فعل ذلك ثلاثًا، فإذا بفارس" يحتمل أنه جبريل أو غيره، "على فرس, في يده حربة حديد, في رأسها شعلة نار، فطعنه بها فأنفذها" كذا في نسخ، وهي ظاهرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 من ظهره فوقع ميتًا. ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين, كنت في السماء السابعة، فلمَّا دعوت المرة الثانية: يا أرحم الراحمين, كنت في سماء الدنيا، فلمَّا دعوت الثالثة أتيتك. انتهى. في رواية أبي الأسود عن عروة: فلمَّا وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب -نادوه وناشدوه: أتحب أن محمدًا مكانك؟ قال: لا والله، ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه. ويقال: إن الذي قال ذلك زيد بن الدثنة، وأنَّ أبا سفيان قال له: يا زيد، أنشدك بالله, أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تُضْرَب عنقه، وإنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني لجالس في أهلي   وفي أخرجه: وهي التي رأيتها بالروض فأنفذه، أي: أنفذ ما طعنه به، "من ظهره، فوقع ميتًا، ثم قال: لما دعوت المرة الأولى: يا أرحم الراحمين, كنت في السماء السابعة، فلما دعوت المرة الثانية: يا أرحم الراحمين, كنت في سماء الدنيا، فلما دعوت" المرة "الثالثة": يا أرحم الراحمين "أتيتك. انتهى" فيه الاعتناء بهذا الدعاء، وأن المخلص فيه كزيد محقق الإجابة، ولعلَّ حكمة عدم نزوله في أوّل مرة رجاء أن الكافر ينتهي عن قتله بالقول، فلمَّا كرره ثلاثًا ولم يكف تحقق عتوه فاستحقّ القتل، ولعلَّ عدم استمراره في السماء السابعة لآخر الدعوات مع قدرته على نزوله في أسرع زمن, الاعتناء بشأن الداعي في تقربه منه، وتعليمه بذلك الفعل, وإخباره عنه, بعد كيف يعين من استغاث به، وذلك بأن يبادر إلى جوابه ويشرع في إغاثة الملهوف بالأخذ في أسباب الدفع عنه، هكذا أبدعه شيخنا -رحمه الله. "وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فلمّا وضعوا فيه السلاح،" الرماح والحرب وطعنوه بها طعنًا خفيفًا، "وهو مصلوب, نادوه وناشدوه: أتحب أنّ محمدًا مكانك، قال: لا والله ما" أحب أن يفديني" بفتح الياء وسكون الفاء "بشوكة في قدمه، ويقال" وهو الذي عند ابن إسحاق: "إن الذي قال ذلك زيد بن الدثنة" لما بعث به صفوان مع مولاه نسطاس إلى التنعيم ليقتله، واجتمع هو وخبيب في الطريق, فتواصوا بالصبر والثبات على ايلحقهما من المكاره. "وأنَّ أبا سفيان قال له: يا زيد, أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين، أسألك "بالله, أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تُضْرَب عنقه، وإنك في أهلك, فقال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لجالس في أهلي،" ولا منافاة بين النقلين، فقد يكونون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 قال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا. ثم قتله نسطاس -بكسر النون. وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم   قالوا ذلك لخبيب، وقاله أبو سفيان لزيد، "فقال أبو سفيان: ما" نافية لا تعجبية كما زعم، وإن كان معنى كلامه التعجب، "رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، ثم قتله نسطاس بكسر النون" مولى صفوان حضر يوم أُحد مع الكفار، ثم أسلم وحسن إسلامه, فكان يحدِّث عن يوم أُحد كما في الإصابة، وضمير قتله راجع لزيد فقط, كما هو المنقول في ابن إسحاق وأتباعه، وأما خبيب ففي الصحيح عن أبي هريرة وجابر, أن الذي قتله أبو سروعة -بكسر السين المهملة وفتحها- عند الأكثر، والراء ساكنة. قال الحافظ: زاد سعيد بن منصور والإسماعيلي عن سفيان بن عيينة, واسمه: عقبة بن الحارث، وهذا خالف سفيان فيه جماعة من أهل السير والنسب، فقالوا: أبو سروعة أخو عقبة, حتى قال العسكري: من زعم أنهما واحد فقد وَهِمَ. وفي الإصابة: أبو سروعة النوفلي: هو عقبة بن الحارث عند الأكثر، وقيل: أخوه, واسمه: الحارث, أسلم يوم الفتح، وكذا قال الزبير بن بكار وغيره, انتهى. ولابن إسحاق بإسناد صحيح عن عقبة بن الحارث قال: ما أنا قتلت خبيبًا؛ لأني كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله، انتهى. وروى أحمد عن عمرو بن أمية الضمري قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحدي عينًا إلى قريش، فجئت خشبة خبيب بن عدي لأنزله من الخشبة، فصعدت خشبته ليلًا فقطعت عنه وألقيته، فسمعت وجبة خلفي، فالتفت فلم أر خبيبًا، وكأنما ابتلعته الأرض, فلم أر له أثرًا حتى الساعة. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- أرسل الزبير والمقداد بن الأسود فأتياه، فإذا هو رطب لم يتغير منه شيء بعد أربعين يومًا ولونه لون الدم، وريحه ريح المسك, فحمله الزبير على فرسه وسارا, فلحقهم سبعون من الكفار، فقذفه الزبير، فابتلعته الأرض, فسمي بليع الأرض. "وبعثت قريش إلى عاصم" الأمير المقتول أولًا في جملة السبعة حين حدّثوا أنه قتل "ليؤتوا" بضم التحتية وفتح الفوقية "بشيء من جسده يعرفونه" به كرأسه، "و" سبب ذلك أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، ولعلَّ العظيم المذكور: عقبة بن أبي معيط، فإن عاصمًا قتله صبرًا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر. ووقع عند ابن إسحاق, وكذا في رواية بريدة بن سفيان: أن عاصمًا لما قُتِل أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وهي أمّ مسافع وجلاس ابني طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنَّ الخمر في قحفة -بكسر القاف، وهو ما انفلق من الجمجمة فبان. قال الطبري: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة. فمنعهم منهم الدبر -بفتح الدال   "كان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر" هكذا في حديث أبي هريرة في الصحيح. قال الحافظ: "ولعلَّ العظيم المذكور عقبة بن أبي معيط، فإن عاصمًا قتله" على قول ابن إسحاق "صبرًا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن انصرفوا من بدر،" بمحلٍّ يُقال له: عرق الظبية, "ووقع عند ابن إسحاق، وكذا في رواية بريدة بن سفيان: أن عاصمًا لما قُتِلَ أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة" بضمِّ السين المهملة وخفة اللام وبالفاء. وصحَّف ابن الأثير فأبدلها ميمًا "بنت سعد" بن شهيد -بضم الشين المعجمة وفتح الهاء- الأنصارية الأوسية، أسلمت في فتح مكة بعدما نازعت طويلًا في إعطاء مفتاح البيت كما في الإصابة، "وهي أم مسافع" بضم الميم وكسر الفاء "وجلاس" بضم الجيم وخفة اللام وسين مهملة، "ابني طلحة العبدري" -بفتح العين المهملة وسكون الموحَّدة وفتح الدال المهملة وبالراء- نسبة إلى عبد الدار بن قصي، "وكان عاصم قتلهما يوم أُحد، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها" المذكورين "يوم أُحد: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنَّ الخمر في قحفة -بكسر القاف وسكون الحاء المهملة وبالفاء، "وهو ما انفلق من الجمجمة فبان" ظهر، ولا ينافيه قول غيره أعلى الدماغ؛ لأن الجمجمة إذا انفلقت ظهر أعلى الدماغ، فإذا شربت في القحف فقد شربت في الجمجمة. قال الحافظ: فإن كان محفوظًا احتمل أن تكون قريش لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدبر لها من أخد رأس عاصم، فأرسلت من يأخذه أو عرفوا بذلك، ورجعوا أن يكون الدبر تركته فيتمكنوا من أمره. "قال الطبري: وجعلت لمن جاء برأسه مائة ناقة، فمنعهم منهم الدبر -بفتح الدال المهملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 المهملة وسكون الموحَّدة: الزنابير -فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا, وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه في حياته. وإنما استجاب الله تعالى له في حماية لحمه من المشركين، ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه.   وسكون الموحدة الزنابير: قال الحافظ: وقيل: ذكور النحل ولا واحد له من لفظه، وللبخاري: فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر, فحمته من رسلهم، "فلم يقدروا منه على شيء". وفي رواية البخاري في الجهاد: فلم يقدروا أن يقطعوا من لحمه شيئًا، ولأبي الأسود عن عروة: فبعث الله عليهم الدبر، تطير في وجوههم وتلدغهم، فحالت بينهم وبين أن يقطعوا. ولابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، فلمَّا حالت بينهم وبينه قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الوادي فاحتمل عاصمًا، فذهب به. وفي معالم التنزيل: فاحتمله السيل، فذهب به إلى الجنة, وحمل خمسين من المشركين إلى النار، وفي حياة الحيوان أنهم لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به, فحماه الله بالدبر حتى أخذه المسلمون فدفنوه. "و" في رواية ابن إسحاق، عن شيخه عاصم بن عمر، "كان عاصم بن ثابت قد أعطى الله عهدًا أن لا يمسَّه مشرك،" قوي رجاؤه في الله فعاهده بذلك، أو عاهده أن لا يمكِّن مشركًا من مَسِّه، أو المراد: سأله ذلك، "ولا يمس مشركًا" بمصافحة ونحوها مما يشعر بتعظيمه، أو الميل له, فلا ينافي أنه يقتلهم بالسيف والرمح. "وكان عمر" بن الخطاب، "لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته، كما حفظه في حياته" ففيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حيًّا وميتًا، "وإنما استجاب الله له في حماية لحمه من المشركين"؛ لقوله: اللهمَّ إني حميت لك دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره. "ولم يمنعهم من قتله لما أراد الله من إكرامه بالشهادة، ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه" كما طلب، ولا يستلزم ذلك كونه أفضل من حمزة ونحوه كما هو ظاهر، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 بئر معونة : سرية المنذر بن عمرو -بفتح العين المهملة- إلى بئر معونة -بفتح الميم وضم المهملة وسكون الواو بعدها نون: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان. في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أُحد. بعث معه المطلب السلمي ليدلهم على الطريق. وكانت مع رعل -بكسر الراء وسكون العين المهملة: بطن من بني سليم، ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك، وذكوان بطن من بني سليم أيضًا, ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة. فنسبت الغزوة إليها.   بئر معونة: "سرية المنذر" بضم فسكون، وكسر الذال المعجمة وراء "ابن عمرو -بفتح العين المهملة" الخزرجي العقبي، البدري، النقيب، من أكابر الصحابة، له حديث رواه عنه سهل بن سعد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد سجدتي السهو قبل التسليم. أخرجه الدارقطني وغيره. "إلى" أهل "بئر معونة" ليدعوهم إلى الإسلام، أو مددًا لهم على عدو لهم، ويجيء بسطه "بفتح الميم، وضم المهملة، وسكون الواو بعدها نون: موضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان" هذا لفظ الفتح تبعًا للمطالع، وفي ابن إسحاق، وتبعه اليعمري، وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم, كلا البلدين منها قريب، وهي إلى حرة بني سليم أقرب. قال شيخنا: والظاهر أنه لا تنافي؛ لجواز أن يكون ذلك الموضع المنسوب لهذيل بين مكة وعسفان, وبجواره أرض بني عامرة وحرة بني سليم. "في صفر على رأس ستة وثلاثين شهرًا من الهجرة, على رأس أربعة أشهر من أُحد" عند ابن إسحاق، وجعلها بعضهم في المحرّم، وقدمها على بعث الرجيع، "وبعث" -صلى الله عليه وسلم "معه" أي: المنذر, خصَّ بالذكر لأنه الأمير، وفي نسخة معهم، أي: السرية "المطلب السلمي" بضم السين وفتح اللام، نسبة لبني سليم, صحابي له ذكر في هذه الغزوة، "ليدلهم على الطريق, وكانت مع رعل -بكسر الراء وسكون المهملة: بطن من بني سليم" بلفظ التصغير "ينسبو إلى رعل بن عوف" بالفاء "بن مالك" بن امرئ القيس بن نهية بن سليم، "و" مع "ذكوان" بفتح المعجمة وسكو الكاف، وواو وألف ونون "بطن من بني سليم" أيضًا ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة" بن نهية بن سليم "فنُسِبَت الغزوة إليها،" أي: بئر معونة لنزولهم بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وهذه الوقعة تعرف بسرية القراء، وكان من أمرها -كما قاله ابن إسحاق: أنه قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر, المعروف بملاعب الأسنّة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم   "وهذه الوقعة" كما تعرف بسرية المنذر وبئر معونة "تعرف بسرية القرّاء" جمع قارئ؛ لكثرة قراءة السبعين الذين ذهبوا فيها، "وكان من أمرها كما قاله ابن إسحاق" عن شيوخه: "أنه قدم أبو براء" بفتح الموحدة وبالراء والمد "عامر بن مالك بن جعفر" العامري. اختُلِفَ في إسلامه، فذكره جماعة في الصحابة. وقال الذهبي: الصحيح أنه لم يسلم. وقال في الإصابة: ليس في شيء من الأخبار ما يدل على إسلامه، وعمدة من ذكره في الصحابة ما عند ابن الأعرابي وغير عنه، أنه قال: بعثت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ألتمس منه دواء، فبعث إليّ بعكة عسل، وليس ذلك بصريح في إسلامه، بل ذكر أبو حاتم السجستاني عن هشام الكلبي، أن عامر بن الطفيل، لما أخفر ذمّة عمه عامر بن مالك، عمد إلى الخمر فشربها صرفًا حتى مات. نعم، ذكر عمرو بن شبة، عن مشيخة من بني عامر، قالوا: قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة وعشرون رجلًا من بني جعفر، ومن بني بكر, فيهم عامر بن مالك، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: "قد استعملت عليكم هذا" , وأشار إلى الضحاك بن سفيان الكلابي، وقال لعامر بن مالك: "أنت على بني جعفر"، وقال للضحاك: "استوص به خيرًا", فهذا يدل على أنه وفد بعد ذلك مسلمًا، انتهى. "المعروف بملاعب الأسنة،" جمع سنان، وهو نصل الرمح، كما في القاموس, عبَّر به لكونه المقصود من الرمح. قال في الرض: سمي بذلك في يوم سوبان، وهو يوم كان بين قيس وتميم, وجبلة اسم لهضبة عالية؛ لأن أخاه طفيلًا الذي يقال له فارس قرزل، أسلمه ذلك اليوم وفرّ، فقال الشاعر: فررت وأسلمت ابن أمك عامرًا ... يلاعب أطراف الوشيج المزعزع فسمِّي ملاعب الرماح، وملاعب الأسنة، وهم عم لبيد بن ربيعة. انتهى. "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وفي رواية: أنه أهدى إليه فرسين وراحتلين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا أقبل هدية مشرك". وفي رواية: "إني نهيت عن زبد المشركين" بفتح الزاي، وسكون الموحدة وبالدال المهملة: الرفد والعطاء. قال السهيلي في غزوة تبوك: ولم يقل من هديتهم؛ لأنه إنما كره ملاينتهم ومداهنتهم إذا كانوا حراب له؛ لأن الزبد مشتق من الزبد، كما أن المداهنة مشتقة من الدهن، فعاد المعنى إلى معنى اللين ووجود الجد في حربهم والمخاشنة، وقد ردَّ هدية أبي براء، وكان أهدى إليه فرسًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد, وقال: يا محمد, لو بعثت رجالًا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك لرجوت أن يستجيبوا لك, فقال -عليه الصلاة والسلام: "إني أخشى أهل نجد عليهم". قال أبو براء: أنا لهم جاء فابعثهم. فبعث -عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء وهم سبعون -وقيل: أربعون, وقيل: ثلاثون. وقد بَيِّنَ قتادة في روايته أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل   وأرسل إليه أنني قد أصابني وجع، أحسبه قال: يقال له الدبلة، فابعث إلي شيء أتداوى به، فأرسل إليه بعكة عسل، وأمره أن يستشفي به, وردَّ عليه هديته، وقال: "إني نهيت عن زبد المشركين" انتهى. وهذا قبل ما تقدَّم بلا ريب لا بعده؛ لموته أسفًا على ما صنع عامر سريعًا. "فعرض عليه الإسلام فلم يسلم، ولم يبعد" بفتح أوله وضم العين, بل قال: يا محمد, إني أرى أمرك هذا حسنًا شريفًا، وقومي خلفي، فلو أنك بعث معي نفرًا من أصحابك؛ لرجوت أن يتبعوا أمرك، فإنهم إن اتبعوك فما أعز أمرك، "وقال: يا محمد, لو بعثت رجال من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم" بفتح التاء خطابًا، أي: بواسطة من ترسله إليهم، "إلى أمرك لرجوت" بضم التاء على التكلم "أن يستجيبوا لك، فقال -عليه الصلاة والسلام: "إني أخشى أهل نجد عليهم" هو في الأصل ما أشرف من الأرض. "قال أبو براء: أنا لهم جار" أي: هم في ذمامي وعهدي وجواري، "فابعثهم، فعث -عليه الصلاة والسلام- المنذر بن عمرو، ومعه القراء" وانفصل المصنف عن رواية ابن إسحاق التي هو فيها دون بيان، فقال: "وهم سبعون" كما في البخاري ومسلم من طرق عن أنس. قال السهيلي: وهو الصحيح، "وقيل: أربعون،" كما في رواية ابن إسحاق وموسى بن عقبة. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنّ الأربعين كانوا رؤساء، وبقية العدة أتباعًا "وقيل: ثلاثون". قال الحافظ: هو وهم، لكن قال في الغرر: إن رواية القليل لا تنافي رواية الكثير، وهو من باب مفهوم العدد، وكذا قول من قال ثلاثين، انتهى. "وقد بَيِّنَ قتادة" بن دعامة "في روايته", عن أنس في الصحيح "أنهم كانوا يحتطبون،" يجمعون الحطب "بالنهار، ويصلون بالليل", ولفظه: استمدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأمدَّهم بسبعين من الأنصار, كنَّا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل, وادَّعى الدمياطي أن هذه الرواية وهم، فإنهم لم يستمدوه -صلى الله عليه وسلم, وإنما الذي استمدَّهم عامر بن الطفيل على الصحابة. قال الحافظ: ولامانع أن يستمدوه -صلى الله عليه وسلم- في الظاهر, وقصدهم الغدر بهم، ويحتمل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 وفي رواية ثابت: ويشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن بالليل. فساروا حتى وصلوا إلى بئر معونة، بعثوا حرام بن ملحان بكتابه -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل العامري، ومات كافرًا -وليس هو عامر بن   الذي استمدوه غير الذين استمدهم عامر، والكل من بني سليم. وفي رواية عاصم عن أنس عند البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث أقوامًا إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد، ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم لقتال عدو، وإنما هو للدعاء للإسلام، وقد أوضح ذلك ابن إسحاق، فذكر ما نقله المصنف عنه، وقيل في تأويله أيضًا، أي: طلبوا منه مدة يمهلهم فيها، أي: للتروي في الإسلام؛ لأنهم لم يسلموا ولم يظهروا إسلامًا. "وفي رواية ثابت" البناني، عن أنس في الصحيح: "ويشترون به،" أي: الحطب, "الطعام لأهل الصفة" وللفقراء. وفي رواية: ويأتون به إلى حجر أزواجه -صلى الله عليه وسلم، "ويتدارسون القرآن بالليل"، ويصلون كما هو بقية رواية ثابت، والجمع بين هذه الروايات سهل, بأنهم كانوا يصلون بعض الليل، ويدرسون بعضه، ويحتطبون ويبيعون بعضه، يشترون به طعامًا لأهل الصُّفَّة والفقراء، وبعضه يأتون به الحجر الشريفة, أو بعضهم يفعل كذا، والآخر كذا، أو يفعلون ذا مرة وذا مرة، وقوله: لأهل الصفة, لا يفهم أنهم ليسوا من أهلها. وقد نصَّ المصنف في بناء المسجد على أنهم من أهل الصفة، فبعض أهل المحل يشتري لبعض، كما هو مشاهد في كثير من الزوايا والربط, فلا حاجة لحمله على النفي والإثبات وتعسف الجمع، بأن من عدهم من أهلها نظر إلى إعراضهم عن نحو: التجارة والزراعة ومخالطة أهلها إلّا وقت الحاجة, ومن لم يعد بناه على أن أهلها هم الملازمون للمسجد الذين لم يتعلقوا بشيء غير العبادة، أو أمر ضروري يخرجون له ويعودون سريعًا. "فساروا حتى وصلوا إلى بئر معونة، بعثوا حرام" بمهملة وراء "ابن ملحان" بكسر الميم أشهر من فتحها، أخو أم سليم, خال أنس بن مالك "بكتابه -صلى الله عليه وسلم- إلى عدو الله عامر بن الطفيل" ابن مالك بن جعفر الكلابي "العامري", وهو ابن أخي أبي براء، "ومات كافرًا" بإجماع أهل النقل، وعدَّه المستغفري صحابيًّا غلط، قاله البرهان. وقال الحافظ: هو خطأ صريح، فإن عامرًا مات كافرًا، وقصته معروفة -يريد في الصحيح وغيره, من قدومه على النبي -صلى الله عليه وسلم، وقوله: لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بألف أشقر وألف شقراء، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اكفني عامرًا"، فطعن في بيت امرأة فقال: غدة كغدة البكر في بيت امرأة، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، "وليس هو عامر بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 الطفيل الأسلمي الصحابي -فلمَّا أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجبيبوه، وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقدًا وجوارًا، فاستصرخ عليهم قبائل من سليم: عصية   الطفيل الأسلمي الصحابي. قال الحافظ: وسبب وهم المستغفري: أنه أخرج عن أبي أمامة عن عامر بن الطفيل، أنه قال: يا رسول الله, زودني كلمات، قال: "يا عامر, أفش السلام، وأطعم الطعام، واستحي من الله، وإذا أسأت فأحسن" في ترجمة العامري، والحديث إنما هو للأسلمي, كما أخرجه البغوي عن عبد الله بن بريدة الأسلمي قال: حدثني عمّي عامر بن الطفيل فذكره. وفي رواية الطبري: فخرج حرام، فقال: يا أهل بئر معونة, إني رسولُ رسولِ الله إليكم, فآمنوا بالله ورسوله، فخرج رجل برمح، فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر. وفي الصحيح: فجعل يحدثهم فأومئوا إلى رجل، فأتاه من خلفه فطعنه بالرمح، قال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، قال الحافظ: لم أعرف اسم الرجل الذي طعنه. وفي سيرة ابن إسحاق ما ظاهره، أنه عامر بن الطفيل؛ لأنه قال: "فلما أتاه لم ينظر في كتابه،" بل أعرض عنه، واستمرّ في طغيانه، "حتى عدا على الرجل فقتله". لكن في الطبراني من طريق ثابت عن أنس, قاتل حرام بن ملحان أسلم، وعامر بن الطفيل مات كافرًا كما تقدَّم، انتهى من الفتح. فكان نسبة ذلك إليه على سبيل التجوّز؛ لكونه رأس القوم، كما قاله نفس الحافظ بعد في ابن فهيرة. وفي الصحيحين، عن أنس: لما طُعِنَ حرام بن ملحان قال: فزت ورب الكعبة. واتفق أهل المغازي على أنه استشهد يوم بئر معونة المذكور. وحكى أبو عمر عن بعض أهل الأخبار أنه ارتثّ يومئذ. فقال الضحاك ابن سفيان الكلابي، وكان مسلمًا يكتم إسلامه، لامرأة من قومه: هل لك من رجل إن صح كان نعم الراعي، فضمته إليها, فعاجته, فسمعته يقول: أيا عامر ترجو المودة بيننا ... وهل عامر إلا عدو مداهن إذا ما رجعنا لم يك وقعة ... بأسيافنا في عامر أو تطاعن فوثبوا عليه فقتلوه. "ثم استصرخ" استغاث "عليهم من بني عامر" قومه، "فلم يجيبوه، وقالوا: لن نخفر" بضم أوله وكسر الفاء، "أبا براء" أي: لن ننقض عهده وذمامه. "و" الحال أنه "قد عقد لهم عقدًا وجوارًا" بكسر الجيم وضمها، فالأجانب راعوه, وابن أخيه نقض عقده، "فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية،" بدل من قبائل بضم العين، وفتح الصاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 ورعلًا, فأجابوه إلى ذلك، ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم، إلّا كعب بن زيد, فإنهم تركوه وبه رمق، فعاش حتى قُتِلَ يوم الخندق شهيدًا. وأسرَّ عمرو بن أمية الضميري، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل   المهملتين، وشد التحتية وتأنيث, "ورعلًا" بكسر فسكون، وذكوان هكذا هو ثابت في سيرة ابن إسحاق، وكأنه سقط من قلم المصنف كابن سيد الناس، وبه يستقيم ضمير الجمع في قوله، "فأجابوه إلى ذلك", ولا حاجة إلى أنه نظرًا لإفراد القبيلتين، أو الضمير للقبائل "ثم خرجوا" وساروا "حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم" حين أتوهم "في رحالهم،" أي: في منازلهم التي نزلوا بها، "فلما رأوهم أخذوا سيوفهم، وقاتلوهم حتى قتلوا،" مبتدئًا القتل من أولهم، منتهيًا "إلى آخرهم" يعني استأصلوهم. ولفظ ابن إسحاق: من عند آخرهم "إلّا كعب بن زيد" بن قيس بن مالك بن كعب بن حارثة ابن دينار بن النجاري الأنصاري البدري، "فإنهم تركوه" لظنّهم موته، "وبه رمق" بفتح الراء والميم وبالقاف: بقية الحياة، فارتثّ من بين القتلى، "فعاش حتى قُتِلَ يوم الخندق" قتله ضرار بن الخطاب، قاله الواقدي. وقال ابن إسحاق: أصابه سهم غرب، فقتله "شهيدًا" رضي الله عنهم، ناس اتخذ الله منهم شهداء بكثرة. قال قتادة: ما نعلم حيًّا من أحياء العرب أكثر شهيدًا، أعز يوم القيامة من الأنصار، قال: وحدثنا أنس أنه قتل منهم يوم أُحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر سبعون يوم قتال مسيلمة الكذاب. رواه البخاري. "وأسرَّ عمرو" استثناء في المعنى، كأنه قال: قتلوا إلّا كعبًا وعمرو "بن أمية الضميري" بفتح فسكون. قال ابن إسحاق: كان في سرح القوم هو ورجل من الأنصار. قال ابن هشام: هو المنذر بن محمد بن عقبة، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلّا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنًا، فاقبلا لينظرا, فإذا القوم في دمائهم والخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو: ما ترى، قال: أرى أن نلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ماكنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل حتى قُتِلَ وأخذ عمرو أسيرًا، "فلمَّا أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه. فلمَّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرهم، قال: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ ذلك أبا براء, فمات أسفًا على ما صنع عامر بن الطفيل. وقُتِل عامر بن فهيرة يومئذ, فلم يوجد جسده -رضي الله عنه، دفنته الملائكة.   قال ابن إسحاق: وجزّ ناصيته، أي: الشعر المجاور لها مجازًا، "وأعتقه عن رقبة، زعم أنها كانت على أمه، فلمَّا بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرهم" قال الحافظ: قد ظهر من حديث أنس أن الله أخبره بذلك على لسان جبريل. وفي رواية عروة: فجاء خبرهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة، "قال: هذا" سببه "عمل أبي براء"؛ حيث أخذهم في جواره، "قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا، فبلغ أبا براء فمات" عقب ذلك كما في الفتح، "أسفًا على ما صنع" ابن أخيه "عامر بن الطفيل", ومات عامر بعد ذلك كافرًا بدعائه -عليه السلام- كما مَرَّ، وذكر أبو سعيد السكريّ في ديوان حسان, روايته عن أبي جعفر بن حبيب. قال حسان لربيعة بن عامر: ملاعب الأسنة يحرضه بعامر بن الطفيل بإخفاء ذمة أبي براء: ألا من مبلغ عني ربيعًا ... فما أحدثت في الحدثان بعدي أبوك أبو الفعال أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تحكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطا كعمد فلما بلغ ربيعة هذا الشعر، جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, أيغسل عن أبي هذه الغدرة أن أضرب عامًا ضربة أو طعنة، قال: نعم، فرجع, فضرب عامرًا ضربة أشواه بها، فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر: اقتصّ، فقال: قد عفوت. قال في الإصابة: لم أر من ذكر ربيعة في الصحابة إلّا ما تفيده هذه القصة، ورأيت له رواية عن أبي الدرداء، فكأنه عمَّر في الإسلام. "وقتل عامر بن فهيرة" بضم الفاء وفتح الهاء، وسكون التحتية، وراء وتاء تأنيث- أحد السابقين, مولى أبي بكر "يومئذ", وهو ابن أربعين سنة, "فلم يوجد جسده -رضي الله عنه، دفنته الملائكة، كما رواه ابن المبارك عن عروة. وفي الصحيح عنه: لما قتلوا وأُسر عمر، وقال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فقال: هذا عامر بن فهيرة، فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء، حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع, وفي هذا تعظيم لعامر، وترهيب للكفّار وتخويف، ومن ثَمَّ تكرَّرَ سؤال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 قال ابن سعد عن أنس بن مالك ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة. وفي صحيح مسلم عن أنس أيضًا: دعا -صلى الله عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحب بئر معونة ثلاثين صباحًا،   ابن الطفيل عن ذلك. روى يونس عن ابن إسحاق عن هشام، عن أبيه، لما قدم عامر بن الطفيل عليه -صلى الله عليه وسلم- قال له: من الرجل الذي لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض، حتى رأيت السماء دونه ثم وضع، فقال: هو عامر بن فهيرة. وفي رواية ابن المبارك عن عروة: وكان الذي قتله رجلًا من بني كلاب جبار بن سلمى، ذكر أنه لما طعنه، قال: فزت والله، قال: فقلت في نفسي: ما قوله فزت، فأتيت الضحاك بن سفيان، فسألته فقال، بالجنة، قال: فأسلمت, ودعاني إلى ذلك ما رأيت من عامر بن فهيرة من رفعه إلى السماء علوًّا. قال البيهقي: يحتمل أنه رفع، ثم وضع، ثم فقد بعد ذلك، ثم روي عن عائشة موصولًا بلفظ: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء, حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ولم يذكر فيها ثم وضع، ورواه بنحوه ابن سعد وعنده مرفوعًا: أن الملائكة وارت جثته، وأنزل في عليين. قال السيوطي: فقويت الطرق وتعدّدت بمواراته في السماء، وجبار -بالجيم والموحدة: مثقل بن سلمى بضم المهملة، وقيل: بفتحها وسكون اللام والقصر، صحابي كما في الإصابة. ووقع في الاستيعاب أن عامر بن الطفيل قتل عامر بن فهيرة. قال الحافظ: وكأنّ نسبة ذلك له على سبيل التجوّز لكونه كان رأس القوم. "قال" أي: روى "ابن سعد" بسند صحيح "عن أنس بن مالك: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد" بجيم، أي: حزن، "على أحدٍ ما وجد على أهل بئر معونة"؛ لعل حكمته أنه لم يرسلهم لقتال, إنما هم مبلغون رسالته، وقد جرت عادة العرب قديمًا بأن الرسل لا تقتل. "وفي صحيح مسلم" لا وجه لقصر عزوه له، كابن سيد الناس، فإنه في صحيح البخاري أيضًا كلاهما، "عن أنس أيضًا, دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحًا. وفي البخاري أيضًا: فدعا -صلى الله عليه وسلم شهرًا في صلاة الغداة بعد القراءة، وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 يدعو على رعل ولحيان وعصية عصت الله ورسوله، قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنًا قرأناه ثم نسخ بعد -أي: نسخت تلاوته- بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه.   وفي البخاري في الجهاد: فدعا عليهم أربعين صباحًا, والأخبار بالأقل لا ينفي الزائد. "يدعو على رعل، ولحيان وعصية" بيان لتعيين المدعو عليهم، فلا يتكرر مع قوله أولًا دعا، "عصت الله ورسوله" ليس حكمة التسمية, بل بيان لما هم عليه من الفعل القبيح. "قال أنس: أنزل الله في الذين قتلوا يوم بئر معونة قرآنًا ثم نسخ بعد،" بالبناء على الضم. وفي رواية: ثم رفع، ذلك ولا حمد. ثم نسخ ذلك، "أي: نسخت تلاوته" وبقي معناه. قال في الروض: فإن قيل هو خبر، والخبر لا ينسخ، قلنا: لم ينسخ منه الخبر، وإنما نسخ الحكم، فإن حكم القرآن أن يتلى في الصلاة، ولا يمسّه إلا طاهر، ويكتب بين اللوحين, وتعلمه فرض كفاية، فما نسخ رفعت منه هذه الأحكام، وإن بقي محفوظًا فهو منسوخ, فإن تضمن حكمًا جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولًا به، وإن تضمَّن خبرًا بقي ذلك الخبر مصدقًا به، وأحكام التلاوة منسخوة عنه، كما نزل: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف بن آدم إلّا التراب، ويتوب الله على من تاب. ويروى: ولا يملأ عيني ابن آدم وفم ابن آدم، وكلها في الصحاح. وكذا روي من مال, فهذا خبر حق، والخبر لا ينسخ، وإنما نسخت أحكام تلاوته، قال: وكانت هذه الآية في سورة يونس بعد قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] الآية. كما قال ابن سلام، انتهى. وفي رواية البخاري في الجهاد: فأخبر جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم قد لقوا ربهم, فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ: "بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا, فرضي عنا ورضينا عنه". وفي رواية: فرضي عنا وأرضانا. وسبب نزوله أنهم قالوا: اللهمَّ بلغ عنا نبينا، وفي لفظ: إخواننا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا، فأخبره جبريل، فحمد الله وأثنى عليه فقال: "إن إخوانكم" إلخ. قال الإمام السهيلي: ثبت هذا في الصحيح وليس عليه رونق الإعجاز، فيقال: إنه لم ينزل بهذا النظم، ولكن بنظم معجم كنظم القرآن، انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 كذا وقع في هذه الرواية، وهو يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة، وليس كذلك. وإنما أصاب هؤلاء رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأمَّا بنو لحيان فهم الذي أصابوا بعث الرجيع. وإنما أتى الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم كلهم في وقت واحد، فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاءً واحدًا. والله أعلم. خاتمة.   قال الحافظ اليعمري في العيون تبعًا لشيخه الدمياطي: "كذا وقع في هذه الرواية" يدعو على رعل، ولحيان وعصية، "وهو يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة وليس كذلك، وإنما أصاب هؤلاء" القراء "رعل، وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم،" كزعب بكسر الزاي، وسكون العين المهملة والموحدة, "وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع" كما مَرَّ، "وإنما أتى الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم كلهم في وقت واحد"، أي: في ليلة واحدة، كما قاله الواقدي، "فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحدًا", فيحمل على ذلك الحديث، ويندفع الإيهام "والله أعلم". "خاتمة" ذكر صاحب شرف المصطفى، أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أصيب أهل بئر معونة جاءت الحمَّى إليه فقال لها: "اذهبي إلى رعل وذكوان وعصية الله ورسوله"، فأتتهم، فقتلت منهم سبعمائة رجل بكل رجل من المسلمين عشرة. قال شيخنا: وإنما لم يخبره -سبحانه وتعالى- بما ترتَّب على ذهاب القراء، وأهل الرجيع قبل خروجهم، كما أخبره بنظير ذلك في كثير من الأشياء؛ لأنه سبق في علمه تعالى إكرامهم بالشهادة، وأراد حصول ذلك بمجيء أبي براء، ومن جاء في طلب أصحاب الرجيع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 حديث بني النضير: ثم غزوة بني النضير -بفتح النون وكسر الضاد المعجمة- قبيلة كبيرة من اليهود، في ربيع الأول سنة أربعة. وذكرها ابن إسحاق هنا.   حديث بني النضير: "ثم غزوة بني النضير -بفتح النون، وكسر الضاد المعجمة فتحتية فراء- قبيلة كبيرة من اليهود, دخلوا في العرب وهم على نسبتهم إلى هارون -عليه السلام, "في ربيع الأول سنة أربعة، وذكرها" محمد "بن إسحاق" بن يسار, إمام أهل المغازي "هنا"، أي: بعد أُحد وبئر معونة مجزومًا به في مغازيه, وعنه حكاه البخاري, ووقع في رواية القابسي للصحيح إسحاق. قال عياض: وهو وهم، يعني: إن الصواب ابن إسحاق، ووقع في شرح الكرماني محمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 قال السهيلي: وكان ينبغي أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل بن خالد وغيره عن الزهري قال: كانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أُحد. ورجَّح الداودي ما قاله ابن إسحاق، من أن غزوة بني النضير بعد بئر معونة، مستدلًا بقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] . قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واهٍ، فإن الآية نزلت في شأن بني   إسحاق بن نصر. قال الحافظ: وهو غلط، إنما اسم جده يسار. "قال السهيلي: وكان ينبغي أن يذكرها بعد بدر، لما روى عقيل" بضم العين وفتح القاف "ابن خالد" الإيلي, "وغيره" كمعمر "عن الزهري", وصدَّر به البخاري تعليقًا جزمًا عنه عن عروة، "قال: كانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أُحد". قال الحافظ: وصله عبد الرزاق في مصنَّفه عن معمر، عن الزهري, أتمّ من هذا، وهو في حديثه عن عروة، ثم كانت غزوة بني النضير، وهم طائفة من اليهود, على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة, فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلوا على الجلاء, وعلى أن لهم ما أقلّت الإبل من الأمتعة والأموال إلّا الحلقة، يعني السلاح, فأنزل الله فيهم: {سَبَّحَ لِلَّه} [الحديد: 1] الآية، إلى قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْر} [الحشر: 2] الآية، وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء، فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسباء، فكان جلاؤهم أول حشر حشر في الدنيا إلى الشام، انتهى. وهذا مرسل، وقد وصله الحاكم عن عائشة، وصحَّحه وقال في آخره: فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} سورة الحشر. الآية. "ورجَّح الداودي" أحمد بن نصر الطرابلسي في شرح البخاري "ما قاله ابن إسحاق, من أنَّ غزوة بني النضير بعد بئر معونة، مستدلًا بقوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم} [الأحزاب: 26] الآية، أي: عاونوا الأحزاب، {مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب} [الأحزاب: 26] الآية، وهم قريظة، {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب: 26] الآية. حصونهم. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وهو استدلال واهٍ، فإن الآية نزلت في شأن بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب، وأمَّا بنو النضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع من إجلائهم، فإنه كان من رءوسهم حيي بن أخطب، وهو الذي حسن لبني قريظة الغدر، وموافقة الأحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان, فكيف يصير السابق لاحقًا. انتهى. وقد تقدَّم قريبًا أنَّ عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة, فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من   قريظة، فإنهم هم الذين ظاهروا الأحزاب" وهي بعد بني النضير بلا ريب. "وأمَّا بنو النضير فلم يكن لهم في الأحزاب ذكر، بل كان من أعظم الأسباب في جمع الأحزاب ما وقع" بلا واو على الصواب المذكور في الفتحِ؛ لأنه اسم كان, ولا تدخل عليه الواو، فنسخة الواو تحريف "من إجلائهم، فإنه كان من رءوسهم حيي" بلفظ تصغير "حي ابن أخطب" بفتح الهمزة وبالخاء المعجمة، "وهو الذي حسَّن لبني قريظة الغدر وموافقة الأحزاب, حتى كان من هلاكهم ما كان, فكيف يصير السابق لاحقًا، انتهى" كلامه في الفتح, ومنازعته إنما هي في الدليل فقط؛ لقوله بعد نحو ورقة، وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير همهم بالفتك به، وهو إنما وقع عندما جاء إليهم يستعين في دية قتيلي عمر، وتعين ما قاله ابن إسحاق؛ لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق، وأغرب السهيلي، فرجَّح ما قاله الزهري، انتهى. لكن يقويه السبب الآتي صحيحًا مسندًا، وقد قدم البخاري قول الزهري عن عروة، وجرى عليه وضعًا، فذكر بني النضير عقب بدر فلم يغرب السهيلي في ترجيحه، لا سيما وقد ثبت عن عائشة عند الحاكم وصحَّحه، وأما كون سببها ما ذكره ابن إسحاق فهو مرسل كما يجيء، "وقد تقدَّم قريبًا". وذكره ابن إسحاق عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيره من أهل العلم، "أنَّ عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمه، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف" بالقرقرة من صدر قتادة، كما في ابن إسحاق بفتح القاف، والنون "رجلين من بني عامر" ثم من بني كلاب. قال ابن هشام: وذكر أبو عمرو المدني أنها من بني سليم. قال ابن إسحاق: حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان "معهما عقد وعهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: من أنتما؟ فذكرا له أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما فقتلهما عمرو، وظنَّ أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك, فقال: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما". قال ابن إسحاق وغيره: ثم خرج -عليه الصلاة والسلام- إلى بني النضير؛ ليستعين بهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية؛ للجوار الذي كان -صلى الله عليه وسلم- عقده لهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف. فلمَّا أتاهم -عليه الصلاة والسلام- يستعينهم في ديتهما قالوا: يا أبا القاسم, نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال. وكان -صلى الله عليه وسلم- إلى جنب جدار من بيوتهم. قالوا: من رجل يعلو على هذا البيت   فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظنَّ أنه ظفر بثأر" بالهمز، وتركه "بعض أصحابه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك" لما قدم عليه" فقال: "لقد قتلت قتيلين لأدينهما"، أي: لأعطين ديتهما لما بيننا وبينهما من العهد. "قال ابن إسحاق وغيره" الواقدي، وابن سعد، وعائذ: وجل أهل المغازي في سبب هذه الغزوة، "ثم خرج -عليه الصلاة والسلام" إلى بني النضير؛ ليستعين بهم في دية ذينك القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية؛ للجوار الذي كان -صلى الله عليه وسلم- عقده لهما" كما حدثني يزيد بن رومان، "وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف" بكسر الحاء وسكون اللام. قال شيخنا: ولعل سؤالهم لسهولة الإعطاء عليهم لكون المدفوع لهم من حلفائهم؛ إذ لو كانوا أعداءهم لشق عليهم الإعطاء لهم، فاندفع ما قيل هذا يقتضي أن الحليف يلزمه دية من قتل من محالفيه، "فلما أتاه -عليه الصلاة والسلام- يستعينهم في ديتهما، قالوا:" نعم "يا أبا القاسم, نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه" يحتمل أنهم قالوا ذلك ليتمكنوا من تدبير ما أرادوه، ويحتمل أنه إنما طرأ لهم الغدر بعد, حين رأوه جنب الجدار. وفي رواية: إنهم قالوا: نفعل ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا، وأن تأتينا، اجلس حتى تطعم وترجع بحاجتك، ونقوم فنتشاور ونصلح أمرنا فيما جئنتنا به. "ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذا الحال" منفردًا ليس معه من أصحابه إلّا نحو العشرة، "وكان -صلى الله عليه وسلم" قاعدًا "إلى جنب جدار من بيوتهم، قالوا: من" بفتح الميم "رجل يعلو على هذا البيت, فيلقي هذا الصخرة عليه" هكذا في نقل المصنّف كالفتح عن ابن إسحاق، وظاهره أنه معينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب, فقال: أنا لذلك، فصعد ليقي عليه الصخرة, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفرٍ من أصحابه, فيهم أبو بكر وعمر وعلي. قال ابن سعد: فقال سلام بن مشكم لليهود: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ بما هممتم، وإنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه. قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام -عليه الصلاة والسلام- مظهرًا أنه يقضي حاجته، وترك أصحابه في مجلسهم، ورجع مسرعًا إلى المدينة. واستبطأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقاموا في طلبه   وفي سيرة ابن هشام عنه: وجرى عليه اليعمري فيلقي عليه صخرة، وظاهره أن المراد، أي: صخرة "فيقتله ويريحنا منه, فانتدب لذلك عمرو بن جحاش" بفتح الجيم وشد الحاء المهملة آخره شين معجمة "بن كعب, فقال: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه الصخرة". وفي رواية: فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه, "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفرٍ من أصحابه, فيهم أبو بكر وعمر وعلي" زاد عكرمة وغيره: وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف. رواه ابن جرير، وزاد غيره: والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة. "قال ابن سعد: فقال سلّام" بالتشديد عند ابن الصلاح وغيره، ورجَّح الحافظ التخفيف مستندًا لوقوعه في أشعار العرب كقول أبي سفيان: سقاني فرواني كميتًا مدامة ... على ظمأ مني سلام بن مشكم "ابن مشكم" بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة وفتح الكاف "لليهود: لا تفعلوا، والله ليخبرنّ" بفتح اللام جوابًا للقسم والبناء للمفعول, مؤكَّد بالنون الثقيلة، أي: ليخبره ربه "بما هممتم به، ونه لنقض العهد الذي بيننا وبينه". وفي رواية قال لهم: يا قوم أطيعوني في هذه المرة، وخالفوني الدهر، والله لئن فعلتم ليخبرنّ بأنّا قد غدرنا به, وإن هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه. "قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء" مع جبريل، "بما أراد القوم, فقام -عليه الصلاة والسلام- مظهرًا،" أي: موهمًا، "أنه يقضي حاجته" ويرجع, مخافة أن يفطنوا فيجتمعوا عليهم وهم قليل, فقد يؤذون أصحابه, "و" لذا "ترك أصحابه في مجلسهم، ورجع مسرعًا إلى المدينة، واستبطأ النبي أصحابه فقاموا في طلبه." فقال لهم حيي: لقد عجل أبو القاسم, كنا نريد أن نقضي حاجته ونقريه، وندمت اليهود على ما صنعوا، فقال لهم كنانة بن صويراء -بضم الصاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما أردت يهود من الغدر به. قال ابن عقبة: ونزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] .   المهملة، وفتح الواو، وسكون التحتية وبألف التأنيث الممدودة: هل تدرون لم قام محمد؟ قالوا: والله ما ندري وما تدري أنت؟ فقال: والله أُخْبِرَ بما هممتم به من الغدر، فلا تخدعوا أنفسكم، والله إنه لرسول الله "حتى انتهوا إليه" فقالوا: قمت ولم نشعر، "فأخبرهم الخبر بما أرادت يهود من الغدر به". "قال" موسى بن عقبة: ونزل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] الآية. وهكذا قاله عكرمة ويزيد بن أبي زياد ومجاهد وعاصم بن عمر وغيرهم في سبب النزول، كما أخرج عنهم ابن جرير، وكله مرسل أو معضل، وقيل: نزلت لما أراد بنو ثعلبة وبنو محارب الفتك به -صلى الله عليه وسلم, فعصمه الله. وقال ابن عقبة في سبب الغزوة: وكانوا قد دسوا إلى قريش في قتاله -صلى الله عليه وسلم, فحضوهم على القتال, ودلوهم على العروة. وروى ابن مرديه بسند صحيح, وعبد بن حميد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري, أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: كتب كفار قريش إلى عبد الله بن أُبَيّ وغيره ممن يعبد الأوثان قبل بدر، يهددونهم بإيوائهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ويتوعدونهم أن يغزوهم بجمع العرب، فهمَّ ابن أُبَيّ ومن معه بقتال المسلمين، فأتاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ماكادكم أحد بمثل ما كادتكم قريش، يريدون أن يلقوا بأسكم بينكم"، فلما سمعوا ذلك عرفوا الحق فتفرّقوا، فلما كانت وقعة بدر كتب كفار قريش بعدها إلى اليهود أنكم أهل الحلقة والحصون يتهددونهم، فاجتمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إليه -صلى الله عليه وسلم- أخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك، فاشتمل اليهود الثالثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النصير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم, تخبره بأمرهم، فأخبر أخوها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصدر إليهم، فرجع وصبَّحهم بالكتائب فحصرهم يومه، ثم غدا على بني قريظة فحصرهم فعاهدوه، فانصرف عنهم إلى بني النضير، فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنَّ لهم ما أقلَّت الإبل إلّا السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم فيهدمونها, ويحملون ما يوافقهم من خشبه، وكان جلاؤهم ذلك أوّل حشر الناس إلى الشام. قال في الفتح: وفي هذا ردّ على زعم ابن التين، أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 قال ابن إسحق: فأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتيهؤ لحربهم والسير إليهم. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. ثم سار بالناس حتى نزل بهم, فحاصرهم ست ليال. قال ابن إسحاق: فتحصَّنوا منه في الحصون, فقطع النخل وحرقها   فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق أن سبب غزوة بني النضير طلبه -صلى الله عليه وسلم- أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافقه جلّ أهل المغازي. "قال ابن إسحاق: فأمر -صلى الله عليه وسلم- بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم". "قال ابن هشام: واستعمل على المدينة، ابن أمّ مكتوم" إمامًا على الصلاة، ولم يستعمل على أمرها أحدًا لقربها؛ لأن بينها وبين المدينة ميلين، كما قال البيضاوي، "ثم سار بالناس حتى نزل بهم، فحاصرهم ست ليال". وقال ابن سعد والواقدي وأبو معشر والبلاذري وابن حبان: خمسة عشر يومًا. وقال التيمي: قريبًا من عشرين. وقال ابن الطلاع: ثلاثًا وعشرين ليلة. وعن عائشة: خمسًا وعشرين. وفي تفسير مقاتل: إحدى وعشرين ليلة. وجمع شيخنا بأن حصار الستة كان وهم مصرون على الحرب طمعًا فيما منَّاهم به المنافقون، وما زاد إلى الخمسة عشر كانوا آخذين في أسباب الخروج، وفيما بعد خرجوا في أوقات مختلفة، فكان آخر خروجهم خمسًا وعشرين، وقد يؤيده ما في الشامية، أنه لما ولّى إخراجهم محمد بن مسلمة، قالوا: إن لنا ديونًا على الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا وضعوا" , فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارًا، وأبطل ما فضل. انتهى. "قال ابن إسحاق: فتحصَّنوا منه في الحصون, فقطع النخل،" أي: أمر بقطعها أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام، فكان أبو ليلى يقطع العجوة, وابن سلام يقطع اللين، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو ليلى: كانت العجوة أحرق لهم. وقال ابن سلام: قد عرفت أن الله سيغنمه أموالهم، وكانت العجوة خير أموالهم، فلمّا قطعت العجوة شقّ النساء الجيوب وضربن الخدود ودعون بالويل، "وحرَّقها" بشد الراء كما ضبط به المصنف قول ابن عمر: حرَّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخل بني النضير وقطع. ويجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وخرب. فنادوا: يا محمد, قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها. قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء, حتى أنزل الله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} إلى قوله: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] واللينة: ألوان التمر ما عدا العجوة والبرني   التخفيف, وهو بمعناه كما في القاموس. وذكر المصباح أن حرَّق إذا أكثر الإحراق. قال شيخنا: وعليه فالأنسب التخفيف لقول البغوي، قيل: قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة، وقيل: جملة ما قطع وحرق ست نخلات، وكتبنا عنه في التقرير أن المناسب هنا التشديد، كأنه بولغ في التحريق والقطع حتى أنكاهم، ونادوه: يا محمد، وشق النساء الجيوب إلخ، ولا ينافي ذلك قول البغوي بفرض صحته؛ لأنهم ظنوا أنه -عليه السلام- يديم ذلك. "وخرب" أماكنهم، أي: تسبَّب في خرابها بقطع نخيلهم التي هي قوام أمرهم، وهذا لم يقع في ابن إسحاق، ولا في نقل الفتح والعيون عنه، ولا يحمل على يخربون بيوتهم؛ لأنه إنما وقع بعد موافقتهم على الجلاء، "فنادوه: يا محمد, قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه"، أي: تعده عيبًا "على من صنعه, فما بال" أي: حال "قطع النخل وتحريقها" أهو فساد أم صلاح؟ توبيخ على قطعه. "قال السهيلي: قال أهل التأويل: وقع في نفوس بعض المسلمين من هذا الكلام شيء" فخافوا أن يكون فعلهم فسادًا، وبعض المسلمين قال: بل نقطع لنغيظهم بذلك، وكان أولئك لم يسمعوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى بالقطع والتحريق، فاعتقدوا أنه باجتهاد من القاطعين، أو زيادة المباشر على أمره، أو أنه للتهديد، فلا يلزم القطع بالفعل، أو ذلك ممن قرب عهده بالإسلام. وفي تفسير السبكي: إنَّ من كان يقطع الأجود يقصد إغاظة الكفار، ومن كان يبقيه يقصد إبقاءه للنبي -صلى الله عليه وسلم. انتهى واستمر ما في نفوسهم، "حتى أنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الآية. بيان لما المنصوب محلًّا بقطعتم، "كأنه قيل: أي شيء قطتعتم "الآية إلى قوله -يريد: {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} ، فبإذن الله قطعها وتركها ومشيئته {وَلِيُخْزِيَ} [الحشر: 5] الآية بالإذن في القطع {الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] الآية. اليهود في اعتراضهم، بأن قطع شجر الثمر فساد، وفيه جواز قطع الشجر الكفار وإحراقه، وبه قال الجمهور؛ كمالك والثوري والشافعي وأحمد. "واللينة" بالياء المنقلبة عن الواو لكسر اللام، وجمعها ليان، مثل كتاب، "ألوان" أي: أنواع "التمر" كلها "ما عدا العجوة والبرني،" هكذا قاله في الروض تبعًا لابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ففي هذه الآية أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلّا ما ليس بقوت الناس، وكانوا يقتاتون، العجوة، وفي الحديث: "العجوة من الجنة   هشام، عمَّا حدثه أبو عبيدة به. قال ذو الرمة: كان فؤادي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها وصدَّر به المصنف في شرح البخاري، وقابله بقوله: وقيل: كرام النخل، وقيل: كل الأشجار للينها, وأنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعًا. انتهى. وفي الجامع والمصباح والأنوار: اللينة: النخلة، وقيل: الدقل -بفتحتين- أردأ التمر. وعن الفراء: كل شيء من النخل سوى العجوة، فعلى كلام هؤلاء في تفسيره تسمح؛ لأن اللينة النخلة لا ثمرها. "ففي هذ الآية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحرق من نخلهم إلّا ما ليس بقوت الناس" ولا يشكل بما روي أنه لما قطع العجوة شقّ النساء الجيوب، وضربن الخدود ودعون بالويل، إما لقلة ما قطع من العجوة، فلم يعتدّ به, أو لأنَّ الحاصل الهم لا القطع بالفعل، "وكانوا يقتاتون العجوة" عطف علة على معلول، ووجه دلالة الآية أن اللينة اسم لما عداها. وعند البرني: وإنما كانوا يقتاتونها، وكان موضع نخل بني النضير يقال له البويرة -بضم الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء بعده هاء تأنيث. قاله المصنف. وفي الصحيح عن ابن عمر: حرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخل بني النضير وقطع, وهي البويرة، فنزل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} الآية. وفي الفتح: البويرة -بضم الموحدة- مصغَّر بورة وهي الحفرة، وهي هنا مكان معروف بين المدينة وبين تيما من جهة الغرب، ويقال لها أيضًا: البويلة بالام، بدل الراء، انتهى. فجميع نخلهم بهذا الموضع، فلا يقال القطع في جميع بساتينهم, بل في موضع يقال له البويرة كما زعم؛ لأن البويرة اسم لموضع البساتين التي فيها النخل لا لبستان منها يسمَّى بذلك. "وفي الحديث" الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد وجابر عنه -صلى الله عليه وسلم: "العجوة من الجنة" , ولأبي نعيم في الطب عن بريدة: من فاكهة الجنة. قال الحليمي وغيره: أي في الاسم والشبه الصوري، لا اللذة والطعم؛ لأن طعام الجنة لا يشبه طعام الدنيا، غير أن ذلك الشبه يكسبها فخرًا وفضلًا، ولذا قال في بقية الحديث: وفيها شفاء من السمّ، وذلك لأنه قاتل, وثمر الجنة خالٍ من المضار، فإذا اجتمعا في جوف عدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وتمرها يغذوا أحسن غذاء", والبرني أيضًا كذلك. ففي قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} ولم يقل من نخلة على العموم، تنبيه على كراهة قطع ما يقتات ويغذو من شجر العدو إذا رجي أن يصل إلى المسلمين. قال ابن إسحاق: وقد كان رهط من بني عوف بن   السليم الفاسد فدفع الضرر. وقال البيضاوي: يريد المبالغة في الاختصاص بالمنفعة والبركة، فكأنها من طعامها؛ لأن طعامها يزيل الأذى، أو المراد أنَّ أصلها نزل به آدم من الجنة. روى الثعلبي عن ابن عباس: هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة وهي سيدة ريحان الدنيا، والسنبلة وهي سيدة طعام الدنيا، والعجوة وهي سيدة ثمار الدنيا، وهي ظاهر ما رواه أحمد، وابن ماجه وصححه الحاكم مرفوعًا: "العجوة والصخرة والشجرة من الجنة"، "وتمرها يغذو أحسن غذاء". قال السمهوري: لم يزل أطباق الناس على التبرك بالعجوة، وهو النوع المعروف الذي يأثره الخلف عن السلف بالمدينة, ولا يرتابون في تسميته بذلك. وقال ابن الأثير: ضرب من التمر أكبر من الصيحاني، عمَّا غرسه المصطفى بيده بالمدينة. "والبرني أيضًا كذلك" كانوا يقتاتونه؛ لأنه يغذو أحسن غذاء، فليس تشبيهًا في كل ما سبق حتى يشمل أنه من الجنة كالعجوة؛ لعدم وروده. وفي الفتح: والبرني دون اللينة، وأسقط المصنف من كلام الروض عقب قوله كذلك ما لفظه. وقال أبو حنيفة: معناه بالفارسية: حمل مبارك، فإن بر معناه: حمل وني، ومعناه: جيد أو مبارك, فعربته العرب وأدخلته في كلامها. وفي حديث وفد عبد القيس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم، وذكر البرني أنه من خير تمركم، وإنه دواء وليس بداء، "ففي قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَة} [الحشر: 5] الآية، ولم يقل من نخلة على العموم، تنبيهًا على كراهة قطع ما يقتات، ويغذو من شجر العدو إذا رجي أن يصل إلى المسلمين", وقد كان أبو بكر يوصي الجيوش أن لا يقطعوا شجرًا مثمرًا، وأخذ بذلك الأوزاعي، فأمّا تأولوا حديث بني النضير، وإما رأوه خاصًّا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, إلى هنا كلام الروض. "قال ابن إسحاق": عقب ما مَرَّ عنه قبل كلام السهيلي: "وقد كان رهط من بني عوف بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الخزرج منهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول, بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتمنَّعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم. فتربصوا, فقذف في قلوبهم الرعب، فلم ينصروهم. فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم عن أرضهم ويكفّ عن دمائهم. وعند ابن سعد: أنهم حين هموا بغدره -صلى الله عليه وسلم, وأعلمه الله بذلك، بعث إليهم محمد بن مسلمة: "أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، وقد أجَّلتكم عشرًا، فمن رؤي منكم بعد ذلك ضربت عنقه". فمكثوا على ذلك أيامًا يتجهزون، وتكاروا من أناس من أشجع إبلًا، فأرسل   الخزرج،" منافقون "منهم: عبد الله بن أُبَيّ بن سلول" رأسهم, وديعة بن مالك بن أبي قوقل، وسويد وداعس "بعثوا" سويدًا وداعسًا "إلى بني النضير" حين هموا بالخروج، كما عند ابن سعد، ولذا عقب بها المصنف رواية ابن إسحاق هذه تبعًا لما في العيون قصدًا إلى الإحاطة بالروايتين: "أن اثبتوا وتمنّعوا". قال البرهان: بتشديد النون المفتوحة، "فإنّا لن نسلمكم, إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم فتربصوا" أي: انتظروا ذلك، "فقذف الله في قلوبهم الرعب" بقتل سيدهم كعب بن الأشرف. روى عبد بن حميد: إن غزوة بني النضير كانت صبيحة قتل كعب بن الأشرف، "فلم ينصروهم،" وفيهم نزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} الآية. إلى قوله: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم} الآية. قاله ابن إسحاق. "فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجليهم" يخرجهم، "عن أرضهم،" وكان لهم الجلاء نقمة من الله، "ويكف عن دمائهم", أي: بد سؤالهم في أنه يخرجهم مع بقاء أموالهم، كما أمرهم أولًا، فقال: "لا أقبله اليوم" كما ذكر ابن سعد. "وعند ابن سعد أنهم حين هموا بغدره -صلى الله عليه وسلم, وأعلمه الله بذلك" نهض سريعًا إلى المدينة، "بعث إليهم محمد بن مسلمة" الأنصاري "أن أخرجوا من بلدي" المدينة؛ لأن مساكنهم من أعماله، فكأنها منها، "فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر" جملة حالية، "وقد أجَّلتكم عشرًا فمن رؤي منكم بعد ذلك ضربت" بالبناء للمفعول "عنقه" يذكر ويؤنث، وهو لغة الحجاز بمعنى: أنه يأذن إذنًا عامًّا يقتل كل يهودي، "فمكثوا على ذلك أيامًا". روى البيهقي في الدلائل عن محمد بن مسلمة أنه -صلى الله عليه وسلم- بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام، "يتجهزون وتكاروا،" أي: اكتروا، "من أناس من أشجع إبلًا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 إليهم عبد الله بن أُبَيّ: لا تخرجوا من دياركم، وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي من العرب يدخلون حصونكم, وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيي فيما قاله ابن أُبَيّ، فأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إنا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فأظهر -صلى الله عليه وسلم- التكبير، وكبَّر المسلمون بتكبيره، وسار إليهم -عليه الصلاة والسلام- في أصحابه، فصلَّى العصر بفناء بني النضير، وعلي يحمل رايته، فلمَّا رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم، ومعهم النبل والحجارة، واعتزلهم ابن أُبَيّ ولم يمنعهم، وكذا حلفاؤهم من غطفان،   فأرسل إليهم عبد الله بن أُبَيّ" سويداء "وداعسًا: "لا تخرجوا من دياركم، وأقيمو في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي من العرب يدخلون حصونكم, وتمدكم قريظة" بالظاء المعجمة المشالة، "وحلفاؤكم من غطفان، فطمع حيي فيما قاله ابن أُبَيّ، فأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" مع أخيه جُدَيّ -بضم الجيم، وفتح الدال المهملة وشد التحتية: "إنا لن نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك، فأظهر -صلى الله عليه وسلم- التكبير، وكبَّر المسلمون بتكبيره،" وقال: حاربت يهود، "وسار إليهم -عليه الصلاة والسلام- في أصحابه", قيل: مشى المسلمون إليهم على أرجلهم؛ لأنهم كانوا على ميلين، وركب -عليه السلام- على حمار فحسب، "فصلَّى العصر بفناء بني النضير, وعليّ -رضي الله عنه- يحمل رايته، فلمَّا رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاموا على حصونهم ومعهم البل والحجارة" واعتزلتهم قريظة فلم تعنهم، "واعتزلهم ابن أُبَيّ ولم يمنعهم، كذا حلفاؤهم من غطفان", فقال ابن مشكم وكنانة لحيي: أين الذي زعمت؟ قال: ما أصنع, هي ملحمة كتبت علينا, وحلمت معه -صلى الله عليه وسلم- حين سار قبَّة من خشب عليها مسوح، أرسل بها إليه سعد بن عبادة، فلمَّا صلى العشاء رجع إلى بيته في عشرة من أصحابه، واستعمل على العسكر عليًّا، ويقال: أبا بكر، وبات المسلمون يحاصرونهم حتى أصبحوا، ثم أذَّن بلال الفجر, فغدا -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه الذين كانوا معه, فصلى بالناس في فضاء بني خطمة, وأمر بلالًا فضرب القبة في موضع المسجد الصغير الذي بفناء بني خطمة، ودخلها -صلى الله عليه وسلم, وكان عزوك اليهودي أعسر راميًا، فتباعدت من النبل، فيرمي فيبلغ القبة, فحولت إلى مسجد الفضيخ -بفاء مفتوحة, فضاد وخاء معجمتين بينهما تحتية, فتباعدت من النبل, ففقد علي في ليلة قرب العشاء، فقال الناس: يا رسول الله, ما نرى عليًّا، فقال: "دعوه, فإنه في بعض شأنكم" , فعن قليل جاء برأس عزوك، وقد كمن له حين خرج يطلب غرة من المسلمين، وكان شجاعًا راميًا فشد عليه، فقتله وفَرَّ من كان معه، وبعث -صلى الله عليه وسلم- خلفهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 فيئسوا من نصرهم، فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم, وقطع نخلهم، وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة" -بإسكان اللام, قال في القاموس: الدرع, فنزلت يهود على ذلك, فحاصرهم خمسة عشر يومًا، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم. ثم أجلاهم عن المدينة, وولي إخراجهم محمد بن مسلمة. وحملوا النساء والصبيان، وتحمَّلوا أمتعتهم على ستمائة بعير   أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة، فأدركوا اليهود الذين فروا من علي، فقتلوهم وطرحوا رؤسهم في بعض الآبار، انتهى من السبل. "فيئسوا من نصرهم, فحاصرهم -صلى الله عليه وسلم, وقطع نخلهم". زاد ابن سعد، فقالوا: نحن نخرج من بلادك، فقال: لا أقبله اليوم، "وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "اخرجوا منها ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلا الحلقة -بإسكان اللام". "قال في القاموس: الدرع"، وقيل: السلاح كله، حكاه في النور، واقتصر عليه المصباح، وهو المراد هنا لقوله بعد، ووجد من الحلقة إلخ. "فنزلت يهود على ذلك, وكان حاصرهم خمسة عشر يومًا", وقيل: أكثر وأقل كما مَرَّ بالجمع. "فكانوا" كما قال الله تعالى: {يُخْرِبُونَ} بالتشديد والتخفيف، من أخرب، {بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره, {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} يخربون باقيها. وفي الروض: يخربونها من داخل, والمؤمنون من خارج، وقيل: معنى بأيديهم: بما كسبت أيديهم من نقض العهد, وأيدي المؤمنين، أي: بجهادهم, انتهى. "ثم أجلاهم عن المدينة"؛ لأنه كتب عليهم كما في التنزيل {وَلَوْلا} ، أي: {أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} ، أي: بالقتل والسباء, {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} مع ذلك، فلذا لم يستأصلهم بالقتل، أو لأنه رآه مصلحة, وإن حربهم قد يؤدي إلى سفك دماء المسلمين، وقد يرجع حلفاؤهم ويعينونهم، "وولي إخراجهم محمد بن مسلمة" الأنصاري، "وحملوا النساء والصبيان" على الهوادج، وعليهنّ الديباج والحرير والخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب والفضة والمعصفر، وأظهروا تجلدًا عظيمًا. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث أنهم خرجوا بالنساء والأبناء والأموال، معهم الدفوف والمزامير والقينات، يعزفن خلفهم بزهاء وفخر لم ير مثله، قال: ولم يسلم منهم إلا يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب، فأحرزوا أموالهما. قال: وحدثني بعض آل يامين، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني" , فجعل يامين لرجل من قيس عشرة دنانير، ويقال: خمسة أوسق من تمر على أن يقتل عمرو بن جحاش, فقتله غيلة، "وتحمَّلوا" بمعنى احتملوا، أي: حملوا "أمتعتهم على ستمائة بعير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 فلحقوا بخيبر. وحزن المنافقون عليهم حزنًا شديدًا. وقبض -صلى الله عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة خمسين درعًا وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفًا. وكانت بنو النضير صفيًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, حبسًا لنوائبه، ولم يسهم منها   فلحقوا بخيبر،" أي: أكثرهم, منهم حيي وسلام بن أبي الحقيق, وكنانة بن صويرا, فدان لهم أهلها، وذهبت طائفة منهم إلى الشام، كما في الشامية، ولا ينافيه قول البيضاوي: لحق أكثرهم بالشام، لجواز أن الأكثر نزلوا أولًا بخيبر، ثم خرج منهم جماعة إلى الشام، فكان جملة من لحق به بآخرة الأمر أكثرهم. لكن في ابن إسحاق: فخرجوا إلى خيبر, ومنهم من سار إلى الشام، فكان أشرافهم من سار إلى خيبر سلام وكنانة وحيي. وفي الخميس: ذهب بعضهم إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء، ولحق أهل بيتين وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بخيبر, انتهى. وفي الروض: روى موسى بن عقبة أنهم قالوا: إلى أين نخرج يا محمد؟ قال: "إلى الحشر"، يعني: أرض المحشر، وهي الشام، وقيل: كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، فلذا قال لأوَّل الحشر، والحشر الجلاء، وقيل: الحشر الثاني، هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن، فتحشر الناس إلى الموقف، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتأكل من تخلف، والآية متضمَّنة لهذه الأقوال كلها، ولزائد عليها لإيذانها أن ثَمَّ حشرًا آخر، فكان هذا الحشر والجلاء إلى خيبر، ثم أجلاهم عمر منها إلى تيماء وأريحاء حين بلغه خبر: "لا يبقين دينان بأرض العرب"، انتهى. "وحزن المنافقون عليهم حزنًا شديدًا، لكونهم إخوانهم "وقبض -صلى الله عليه وسلم- الأموال، ووجد من الحلقة" السلاح كله "خمسين درعًا وخمسين بيضة"، أي: خودة, "وثلاثمائة وأربعين سيفًا، وكانت بنو النضير صفيًّا" بالتشديد، أي: مختارة "لرسول الله -صلى الله عليه وسلم". قال في الروض: لم يختلفوا أنَّ أموالهم كانت خاصَّة به -صلى الله عليه وسلم, وأن المسلمين لم يوجفوا عليهم بخيل ولا ركاب, ونه لم يقع قتال أصلًا، "حبسًا" بضم الحاء، وإسكان الموحدة وبالسين المهملة، أي: وقفًا كما في النور, ولعله الرواية، "وإلا ففي المصباح الحبس -بضمتين وإسكان الثاني للتخفيف- لغة "لنوائبه" أي: ما يعرض له من النوازل جمع نائبة, فكان ينفق منها على أهله، ويزرع تحت النخل ويدخر قوت أهله سنة من الشعير والتمر لأزواجه, وبني عبد المطلب، وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 لأحد؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، وإنما قدف في قلوبهم الرعب، وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر، ولم يكن ذلك من المسلمين لهم، فقسمها -عليه الصلاة والسلام- بين المهاجرين؛ ليرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار؛ إذ كانوا قد قاسموهم في الأموال والديار،   فضل جعله في السلاح والكراع -بضم الكاف وخفة الراء، أي: جماعة الخيل، "ولم يسهم منها لأحد؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها" أي: يحركوا ويتعبوا في السير. قال عبد الملك بن هشام: أوجفتم: حركتم وأتعبتم في السير. قال الشاعر: مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانًا إذا القوم أوجفوا والوجيف وجيف القلب والكبد، وهو الضربان، "بخيل ولا ركاب وإنما قذف في قلوبهم الرعب وأجلوا عن منازلهم إلى خيبر, ولم يكن ذلك عن قتال من المسلمين لهم", فكانت له -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة, يضعها حيث شاء, كما حكى عليه السهيلي الاتفاق وأقرَّه الحافظ، وفي الخميس: أكثر الروايات على أنَّ أموال بني النضير وعقارهم كان فيئًا له -صلى الله عليه وسلم- خاصة له, خصها الله حبسًا لنوائبه، لم يخمسها، ولم يسهم منها لأحد، كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة. وورد في بعض الروايات أنه خمَّسَها. وذهب إليه الإمام الشافعي "فقسمها -عليه الصلاة والسلام- بين المهاجرين؛ ليرفع بذلك مؤنتهم" أي: مشقتهم "عن الأنصار" باعتبار ما في نفس الأمر، وإن رأى الأنصار ذلك من أَجَلِّ النعم، كما في التنزيل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} [الحشر: 9] الآية، "إذ كانوا قد قاسموهم في الأموال والديار" لما هاجروا, وآخى بينهم -صلى الله عليه وسلم, فذهب كل أنصاريّ بالمهاجري الذي واخى بينه وبينه -صلى الله عليه وسلم- إلى منزله, وكفاه المؤنة، ثم تنافسوا حتى آل أمرهم إلى القرعة، فأي أنصاري تخرج القرعة باسمه يذهب بالمهاجري، فبلغت مواساتهم الغاية القصوى حتى ورد في الصحيح: أن سعد بن الربيع الأنصاري قال لأخيه عبد الرحمن بن عوف: هلمَّ أقسم مالي بيني وبينك نصفين, ولي امرأتان, انظر أعجبهما إليك أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك. روى الحاكم في الإكليل من طريق الواقدي بسنده عن أم العلاء قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في القرعة، فكان في منزلي حتى توفي: قالت: فكان المهاجرون في دورهم وأموالهم، فلما غنم -صلى الله عليه وسلم- بني النضير, دعا ثابت بن قيس بن شماس، فقال: "ادع لي قومك". قال ثابت: الخزرج، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الأنصار كلها" فدعا له الأوس والخزرج, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 غير أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما. وفي الإكليل: وأعطى سعد بن معاذ سيف بن أبي الحقيق، وكان سيفًا له ذكر عندهم.   أنفسهم، "ثم قال: "إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله علي من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم"، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يا رسول الله, بل تقسم بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا، وقالت الأنصار: رضينا وسلّمنا يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار" وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا. "غير أنه أعطى أبا دانة وسهل بن حنيف لحاجتهما". وعند ابن إسحاق، أنهما ذكرا فقرًا فأعطاهما. قال السهيلي: وقال غير ابن إسحاق: أعطى ثلاثة، فذكر الحارث بن الصمّة, انتهى. ونظر فيه بأنه قتل في بئر معونة، ولذا تركه المصنف، والنظر إنما يأتي على أنها بعدها، أما على قول عروة أنها قبلها بمدة فلا نظر. "وفي الإكليل" لأبي عبد الله الحاكم بقية حديثه الذي سقته، "وأعطى سعد بن معاذ سيف" سلام "بن أبي الحقيق" بحاء مضمومة فقاف مفتوحة فتحتية ساكنة ثم قاف أخرى، "وكان سيفًا له ذكر عندهم". وذكر البلاذري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار: "ليست لإخوانكم من المهاجرين أموال، فإن شئتم قسمت هذه وأموالكم بينكم وبينهم جميعًا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه خاصة"، فقالوا: بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت، فنزلت {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 5] الآية. قال أبو بكر الصديق: جزاكم الله خيرًا يا معشر الأنصار، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلّا كما قال الغنوي: وهو بالمعجمة والنون: جزى الله عنا جعفرًا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت قال: وكان يزرع تحت النخيل في أرضهم، فيدَّخر من ذلك قوت أهله وأزواجه سنة، وما فضل جعله في الكراع والسلاح. انتهى، فهذا صريح في أنه لم يقسم الأرض والنخيل بين المهاجرين, بل الدور والأموال. قال ابن إسحاق: ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر بأسرها. قال السهيلي: اتفاقًا، انتهى. فقول البيضاوي: فأنزل الله: {سَبَّحَ لِلَّه} الآية. إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} الآية. لعلَّ المراد منه نزول هذا القدر في أخبار خروجهم حتى جلوا، وبقيتها فيما ترتَّب عليه من قسم الأموال، ومدح الأنصار، وذمّ المنافقين وغير ذلك, فهي كلها فيهم. وفي البخاري عن سعيد بن جبير, قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: قل: سورة النضير. قال الداودي: كأنه كره تسميتها بذلك لئلَّا يظن أنه يوم القيامة، أو لإجماله فكرة النسبة إلى غير معلوم، كذا قال. وعند ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الحشر في بني النضير، وذكر الله فيها الذي أصابهم من النقمة. ذكره في الفتح، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 " غزوة ذات الرقاع ": واختلف فيها متى كانت: فعند ابن إسحاق: بعد بني النضير سنة أربع، في شهر ربيع الآخر، وبعض جمادى. وعند ابن سعد وابن حبان: في المحرم سنة خمس. وجزم أبو معشر ........   غزوة ذات الرقاع: بكسر الراء بعدها قاف فألف فعين مهملة جمع رقعة بضمها، وهي غزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار، وغزوة صلاة الخوف لوقوعها فيها، وغزوة الأعاجيب لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وقول البخاري: وهي غزوة محارب بن حصفة من بني ثعلبة بن غطفان، وهم لاقتضائه أن ثعلبة جَدٌّ لمحارب, وليس كذلك، فصوابه كما عند ابن إسحاق وغيره: وبني ثعلبة بواو العطف، فإن غطفان هو ابن سعد بن قيس عيلان، ومحارب بن خصفة بن قيس عيلان, فمحارب وغطفان ابنا عم، فكيف يكون الأعلى منسوبًا إلى الأدنى، وقد ذكر في الباب حديث جابر بلفظ: محارب وثعلبة بواو العطف على الصواب، وفي قوله: ابن غطفان بموحدة ونون, نظر أيضًا، والأولى ما وقع عند ابن إسحاق, وبني ثعلبة من غطفان بميم ونون، فإنه ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان, على أنَّ لقوله ابن غطفان وجهًا بأن يكون نسبه إلى جدِّه الأعلى, قاله الحافظ. وكذا نبَّه على ذلك أبو علي الجيالي في أوهام الصحيح. "واختلف فيها متى كانت", وفي سبب تسميتها بذلك. "فعند ابن إسحاق" كانت "بعد بني النضير سنة أربع, في شهر ربيع الآخر وبعض جمادى" لفظ ابن إسحاق، ثم أقام -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الآخر وبعض جمادى. "وعند ابن سعد وابن حبان" أنها كانت "في المحرم سنة خمس، وجزم أبو معشر" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 بأنها بعد بني قريظة في ذي القعدة سنة خمس، فتكون ذات الرقاع في آخر السنة الخامسة وأول التي تليها. قال في فتح الباري: قد جنح البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدلّ لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر، فلا أدري: هل تعمّد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين -كما أشار إليها البيهقي. على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمنها. انتهى. والذي جزم به ابن عقبة تقدمها، لكن تردَّد في وقتها فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها؟ أو قبل أُحد أو بعدها؟ قال الحافظ ابن حجر: وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به   نجيح بن عبد الرحمن السندي "بأنها بعد بني قريظة". قال الحافظ، وهو موافق لصنيع البخاري وقريظة: كانت "في ذي القعدة" أي: لسبع بقين منها -كما يأتي, "في سنة خمس" فليس قوله في ذي القعدة من مقول أبي معشر، كما أوهمه المصنف, فيعرب حالًا من بني قريظة, بدليل قوله: "فتكون ذات الرقاع في آخر السنة الخامسة، وأول التي تليها"؛ لأن الانصراف من قريظة كان في أواخر الحجة. "قال في فتح الباري: قد جنح" مال "البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر" صريحًا، فقال: وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، أي: وخيبر كانت في المحرم سنة سبع، "واستدلَّ لذلك بأمور، ومع ذلك فذكرها قبل خيبر" عقب بني قريظة، "فلا أدري هل تعمَّد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنها كانت قبلها، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسم لغزوتين مختلفتين" واحدة بعد خيبر، وأخرى قبلها، "كما أشار إليه البيهقي، على أن أصحاب المغازي مع جزمهم بأنها كانت قبل خيبر مختلفون في زمنها". فعند ابن إسحق أنها سنة أربع. وعند ابن سعد وابن حبان سنة خمس.. إلخ ما مرَّ كما في الفتح، وأسقطه المصنف لكونه قدَّمه, "انتهى" كلام الفتح، والذي بعده له أيضًا, فلو أسقط انتهى هذه واكتفى بالآتية. "والذي جزم به ابن عقبة تقدُّمها, لكن تردد في وقتها فقال: لا ندري أكانت قبل بدر" الكبرى، كما هو المراد عند الإطلاق، وفي كلام مغلطاي أنها بعد بدر الصغرى، لن لم ينقله عن ابن عقبة "أو بعدها، أو قبل أُحد أو بعدها". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعَت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع. فدلَّ على تأخرها بعد الخندق. ثم قال عند قول البخاري: "وهي بعد خيبر"؛ لأن أبا موسى جاء بعد خيبر، وإذ كان كذلك وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع لزم أنها كانت بعد خيبر. قال: وعجبت من ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر. قال: وليس في حديث   "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح: "وهذا التردد لا حاصل له، بل الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة" كما صنع البخاري، وبه جزم أبو معشر. قال مغلطاي: وهو من المعتمدين في السِّيَر، وقوله موافق لما ذكره أبو موسى، "لأن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعَت، وقد ثبت" في الصحيح عن جابر وغيره "وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، فدلَّ على تأخرها بعد الخندق". وروى أحمد وأصحاب السنن وصحَّحه ابن حبان عن أبي عيَّاش الزرقي قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بعسفان, فصلى بنا الظهر, وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد، فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم، فنزلت صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلَّى بنا العصر. الحديث. وهو ظاهر في أنَّ صلاة الخوف بعسفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وإذا تقرَّر أن أوَّل ما صليت صلاة الخوف بعسفان، وكانت في عمرة الحديبية, وهي بعد الخندق وقريظة, تعيِّنَ تأخرها عنهما وعن الحديبية أيضًا، فيقوى القول بأنها بعد خيبر؛ لأن خيبر كانت عقب الرجوع من الحديبية. قاله في الفتح. "ثم قال" الحافظ ابن حجر "عند قول البخاري: وهي بعد خيبر؛ لأن أبا موسى" الأشعري "جاء بعد خيبر" من الحبشة سنة سبع، هكذا استدلَّ به, وقد ساق حديث أبي موسى بعد قليل، وهو استدلال صحيح, وسيأتي أنَّ أبا موسى إنما قَدِمَ من الحبشة بعد فتح خيبر في باب غزوتها, ففيه في حديث طويل. قال أبو موسى: فوافينا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر "وإذا كان كذلك، وثبت أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع، لزم أنها كانت بعد خيبر، قال: وعجبت من" شيخ شيوخنا "ابن سيد الناس كيف قال: جعل البخاري حديث أبي موسى هذا حجة في أنَّ غزوة ذات الرقاع متأخرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك، انتهى كلام ابن سيد الناس. قال: وهذا النفي مردود، والدلالة على ذلك واضحة كما قررته. قال: وأما الدمياطي فادَّعى غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السِّيَر على خلافه, وقد تقدَّم أنهم مختلفون في زمانها. فالأولى الاعتماد على ما ثبت في الصحيح. وأمَّا قول الغزالي: إنها آخر الغزوات, فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره.   عن خيبر، قال: وليس في حديث أبي موسى ما يدل على شيء من ذلك, انتهى كلام ابن سيد الناس". "قال" الحافظ: "وهذا النفي مردود, والدلالة من ذلك واضحة، كما قررته" بقوله: وإذا كان كذلك وثبت إلخ. "قال" ابن حجر: "وأمَّا" شيخه "الدمياطي" مَرَّ مرارًا أنه -بكسر الدال المهملة، وبعضهم أعجمها، "فادَّعى غلط الحديث الصحيح" يعني: حديث أبي موسى، "وأن جميع أهل السير على خلافه، وقد تقدَّم أنهم مختلفون في زمانها، فالأَوْلَى الاعتماد على ما ثبت في الصحيح". وقد ازداد قوّة بحديث أبي هريرة، وبحديث ابن عمر: فإن أبا هريرة في ذلك نظير أبي موسى؛ لأنه إنما جاء والنبي -صلى الله عليه وسلم- بخيبر, فأسلم، وقد ذكر في حديثه أنه صلى معه صلاة الخوف في غزوة نجد، وكذلك ابن عمر ذكر أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف بنجد، وقد تقدَّم أن أوّل مشاهده الخندق، فتكون ذات الرقاع بعد الخندق، وقد قيل: الغزوة التي شهدها أبو موسى وسميت ذات الرقاع, غير غزوة ذات الرقاع التي وقعت فيها صلاة الخوف؛ لأن أبا موسى قال: إنهم كانوا ستة أنفس، والغزوة التي وقعت فيها صلاة الخوف كان المسلمون فيها أضعاف ذلك، والجواب عن ذلك أنَّ العدد الذي ذكره أبو موسى محمول على من كان مرافقًا له, ولم يرد جميع من كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم. قال في الفتح. ثم قال فيه: بعد أوراق في شرح حديث جابر لا عند قول البخاري, وهي بعد خيبر كما أوهمه المصنف ما نصه. "وأما قول الغزالي: إنها" أي: غزوة ذات الرقاع، "آخر الغزوات, فهو غلط واضح، وقد بالغ ابن الصلاح في إنكاره" على الغزالي ذلك القول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 وقال بعض من انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صليت فيها صلاة الخوف. وهو انتصار مردود بما أخرجه أبو داود والنسائي وصحَّحه ابن حبان من حديث أبي بكرة: أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف. وإنَّما أسلم أبو بكرة بعد غزوة الطائف بالاتفاق. انتهى. وأما تسميتها بذات الرقاع: فلأنهم رقَّعوا فيها راياتهم، قاله ابن هشام. وقيل: لشجرة في ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع. وقيل: الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض، كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت ذات الرقاع لذلك. وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض. قاله ابن حبان.   "وقال بعض من انتصر للغزالي: لعله أراد آخر غزوة صُلّيَت فيها صلاة الخوف, وهو انتصار مردود بما أخرجه أبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن حبان من حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث "أنه صلى مع النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف، وإنما أسلم أبو بكرة بعد" لفظ الفتح في "غزوة الطائف بالاتفاق", وذلك بعد ذات الرقاع قطعًا، هذا أسقطه من كلام الفتح، أي: فيلزم من صلاة أبي بكر صلاة الخوف مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا تكون ذات الرقاع آخر صلاة الخوف. قال -أعني الحافظ: وإنما ذكرت هذا استطرادًا لتكميل الفائدة. "انتهى" كلام الحافظ. "وأما تسميتها بذات الرقاع، فلأنهم رقعوا" بالتخفيف، ويشدد مبالغة على مفاد اللغة، أي: جعلوا مكان القطع رقعة, ويجمع على رقاع, كبرمة وبرام، "فيها راياتهم. قاله" عبد الملك "بن هشام". قال أيضًا: "وقيل لشجرة في ذلك الموضع يقال لها ذات الرقاع", قيل: لأن هذه الشجرة كانت العرب تعبدها، وكل من كان له حاجة منهم يربط فيها خرقة، كذا بهامش وهو غريب. وقال غير هشام: "وقيل الأرض التي نزلوا بها فيها بقع سود وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة، فسميت" الغزوة "ذات الرقاع لذلك", وصحَّحه صاحب تهذيب المطالع، "وقيل: لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبان" وأبو حاتم البستي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وقال الواقدي: سميت بحبل هناك فيه بقع. قال الحافظ ابن حجر: وهذا لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحّف عليه بخيل. قال: وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها. قال السهيلي: وأصحّ من هذه الأقوال كلها، ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة, ونحن ستة نفر، بيننا بعير نعتقبه،   "وقال الواقدي: سميت بجبل هناك فيه بقع". "قال الحافظ ابن حجر: وهذا" أي: قول الواقدي، "لعله مستند ابن حبان، ويكون قد تصحف عليه" جبل -بجيم وموحدة، الواقع عند الواقدي "بخيل" بخاء معجمة وتحتية. "قال: وأغرب الداودي فقال: سميت ذات الرقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها"؛ لأنهم لما فعلوا بعضها منفردين عن المصطفى أشبه ذلك إصلاح خلل الثوب برقعة, فكأنه جعل انفراد الفرقة الأولى بمنزلة رقعة، وقيام الثانية وإتمامها في جلوسه بمنزلة رقعة أخرى. قال في الفتح: وبهذ الخلاف استدلَّ على تعدد ذات الرقاع، فإنهم اتفقوا في تسميتها على غير السبب الذي ذكره أبو موسى، لكن ليس ذلك مانعًا من اتحاد الوقعة ولازمًا للتعدد، وقد رجَّح السهيلي السبب الذي ذكره أبو موسى، وكذا النووي، ثم قال: ويحتمل أن تكون سميت بالمجموع. "قال السهيلي" في الروض بعد ذكر الأقوال الثلاثة الأول: "وأصح من هذه الأقوال كلها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة", وفي رواية: في غزاة "ونحن ستة نفر". قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم وأظنّهم من الأشعريين. "بيننا بعير نعتقبه" أي: نركبه عقبة، وهو أن يركب هذا قليلًا، ثم ينزل فيركب الآخر بالنوبة حتى يأتي على سائرهم، وفيه جواز مثل هذا إذا لم يضر المركوب. هذا ما قاله النووي والحافظ والمصنف وغيرهم من شراح الحديث، فعلى من زعم أن المراد بين كل ستة منا بعير، لا أنَّ الجميع كانوا ستة، بيان الرواية التي صرَّحت بأنَّ الجميع فعلوا فعل أبي موسى ورفقته وأنَّى بها، وإنما أراد أبو موسى كما مَرَّ عن الحافظ من كان مرافقًا مزاملًا له لا جميع الجيش، فإن إخباره عن نفسه ورفقته لا يستلزم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع، لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا. وكان من خبر هذه الغزوة، كما قاله ابن إسحاق: أنه -صلى الله عليه وسلم- غزا نجدًا يريد بني محارب وبني ثعلبة -بالمثلثة- من غطفان -بفتح الغين المعجمة والمهملة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- بلغه أنهم جمعوا المجموع. فخرج في   الجيش كله كذلك. "فنقبت" قال الحافظ: بفتح النون وكسر القاف بعدها موحدة، أي: رقت "أقدامنا" يقال: نقب البعير، إذا رقَّ خفه. انتهى. وقال النووي: أي: قرحت من الحفاء، وجمع بينهما المصنّف فقال: أي: رقَّت وتقرَّحت وقطعت الأرض جلودها من الحفاء، "ونقبت قدماي" عطف خاص على عام؛ ليعطف عليه قوله: "وسقطت أظفاري" لذلك "فكنَّا نلف" بضم اللام "على أرجلنا الخرق, فسميت غزوة ذات الرقاع لما" أي: لأجل ما "كنا نعصب". قال الحافظ: بفتح أوله وكسر الصاد المهملة، زاد المصنف ولأبي ذر: نعصب -بضم النون وفتح العين وتشديد الصاد "من الخرق على أرجلنا", وبقية خبر الصحيح هذا، وحدث أبو موسى بهذا، ثم كره ذلك قال: ماكنت أصنع بأن أذكره كأنه كره أن يكون شيء من عمله أفشاه. "وكان من خبر هذه الغزوة كما قاله ابن إسحاق أنه -صلى الله عليه وسلم- غزا" أي: قصد "نجدًا، يريد بني محارب" بضم الميم وحاء مهملة وموحدة، ابن خصفة -بفتح المعجمة والصاد المهملة والفاء، ابن في عيلان، "وبني ثعلبة بالمثلثة" وعين مهملة "من غطفان"؛ لأن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض -بفتح الموحدة وكسر المعجمة وإسكان التحتية فضاد معجمة، ابن ريث -بفتح الراء وسكون التحتية ومثلثة، ابن غطفان -بفتح الغين المعجمة والظاء المهملة والفاء, ابن سعد بن قيس عيلان -بفتح العين المهملة وسكون التحتية، فمحارب وغطفان ابنا عم، وهذا هو الصواب الثابت في الصحيح وغيره عن جابر. ووقع في ترجمة البخاري وَهْمٌ مَرَّ التنبيه عليه. قال في الفتح جمهور أهل المغازي: على أن غزوة ذات الرقاع هي غزوة محارب. وعند الواقدي: أنهما اثنتان، وتبعه القطب الحلبي في شرح السيرة، والله أعلم بالصواب، انتهى، "لأنه عليه الصلاة والسلام" تعليل, أي: سبب لغزوهم، "بلغه أنهم جمعوا الجموع". قال ابن سعد قالوا: قدم قادم المدينة بجلب له، فأخبر الصحابة أن أنمارًا وثعلبة قد جمعوا إليهم الجموع, "فخرج" ليلة السبت لعشر خَلَوْنَ من المحرم على قول ابن سعد ومن وافقه "في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 أربعمائة من أصحابه -وقيل: سبعمائة, واستعمل على المدينة عثمان بن عفان، وقيل: أبا ذر الغفاري. حتى نزل نخلًا -بالخاء المعجمة- موضع من نجد من أراضي غطفان. قال ابن سعد: فلم يجد في مجالسهم إلّا نسوة فأخذهنَّ. وقال ابن إسحاق: فلقي جمعًا منهم فتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد أخاف الناس بعضهم بعضًا، حتى صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف، ثم انصرف الناس.   أربعمائة من أصحابه، وقيل: سبعمائة" قاله ابن سعد، وقيل: ثمانمائة كما في السبل، "واستعمل على المدينة عثمان بن عفان" ذا النورين أمير المؤمنين "رضي الله عنه" فيما قال الواقدي وابن سعد وابن هشام، "وقيل: أبا ذر الغفاري" قاله ابن إسحاق، وتعقَّبه ابن عبد البر، بأنه خلاف ما عليه الأكثر, وبأنَّ أبا ذر لما أسلم بمكة رجع إلى بلاده، فلم يجئ إلّا بعد الخندق, انتهى. وعلى مختار البخاري أنها بعد خيبر, وأبي معشر أنها بعد قريظة لا تعقب، وسار -صلى الله عليه وسلم- إلى أن وصل إلى وادي الشقرة -بضم الشين المعجمة وسكون القاف، فأقام فيها يومًا وبت السرايا، فرجعوا إليه من الليل وخبَّروه أنهم لم يروا أحدًا، فسار "حتى نزل نخلًا -بالخاء المعجمة- موضع من نجد من أراضي غطفان". وفي الفتح: هو مكان من المدينة على يومين, وهو بواد يقال له: شدخ -بشين معجمة بعدها مهملة ساكنة ثم خاء معجمة، وبذلك الوادي طوائف من قيس من بني فزارة، وإنما ذكره أبي عبيد البكري انتهى. وادَّعى البكري أنه غير مصروف. قال الدماميني: فإن أراد تحتمه فليس كذلك ضرورة أنه ثلاثي ساكن، وغفل من قال: المراد نخل المدينة. "قال ابن سعد: فلم يجد في مجالسهم إلّا نسوة فأخذهنَّ", وفيهنَّ جارية وضيئة, وهربوا في رءوس الجبال. "وقال ابن إسحاق: فلقي جمعًا منهم" والجمع بينهما واضح، بأن يكون لقي الجمع في غير مجالسهم، "فتقارب الناس" دنا بعضهم من بعض, "ولم يكن بينهم حرب, وقد أخاف الناس" بالألف، وفي نسخة بدونها وكلاهما صحيح، "بعضهم" بدل من الناس "بعضًا" مفعوله، أي: أوقع بعض الناس في قلوب بعضهم الرعب، "حتى صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس صلاة الخوف", وكان ذلك في صلاة العصر، كما رواه البيهقي عن جابر، "ثم انصرف الناس". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 قال ابن سعد: وكان ذلك أوّل ما صلاها. وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة, ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسَّر منها في مقصد عباداته -صلى الله عليه وسلم. وكانت غيبته -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة خمس عشرة ليلة. وفي البخاري عن جابر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم, فجاء رجل من المشركين وسيف النبي -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة, فاخترطه -يعني سله من غمده, فقال: تخافني, قال: "لا"، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله".   "قال ابن سعد: وكان ذلك أوّل ما صلاها" بناءً على قوله -أعني: ابن سعد: أن هذه الغزوة سنة خمس، أمَّا على أنه صلاها بعسفان، وأنها أوّل صلاته, كما رواه أحمد وأصحاب السنن كما مَرَّ، فتكون هي أول, ويكون نزول جبريل في الأولى معلمًا والثانية مذكرًا. "وقد رويت صلاة الخوف من طرق كثيرة، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما تيسَّر منها في مقصد عباداته -صلى الله عليه وسلم" وهو التاسع, "وكانت غيبته -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة خمس عشرة ليلة". قاله ابن سعد, قال: وبعث جعال بن سراقة بشيرًا بسلامته وسلامة المسلمين. "وفي البخاري" تعليقًا, ووصله مسلم، فلو عزاه المصنف لهما كان أَوْلَى "عن جابر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بذات الرقاع، فإذا أتينا" ظرفية لا شرطية، أي: ففي وقت إتياننا "على شجرة ظليلة" ذات ظل، وفي نسخة: إذ وهي ظاهرة، لكنها ليست في البخاري "تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم" لينزل تحتها فيستظل بها. وفي البخاري أيضًا قبل هذا بلصقه بمسندًا عن جابر، أنه غزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فلمَّا قفل قفل معه, فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاء، فنزل النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة, فعلق بها سيفه, قال جابر: فنمنا نومة، "فجاء رجل من المشركين وسيف النبي -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة" وهو نائم "فاخترطه، يعني: سله من غمده، فقال: له "تخافني، قال: "لا"، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: "الله" يمنعني منك، وبقية هذا الحديث، فتهدده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، وأقيمت الصلاة, فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخَّروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم أربع، وللقوم ركعتان، وبقية الحديث الآخر الذي سقت أوله: فنمنا نومة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأعرابي اخترط سيفي وأنا نائم, فاستيقظت وهو في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وعند أبي عوانة: فسقط السيف من يده, فأخذه -عليه الصلاة والسلام- فقال: "من يمنعك مني"؟ قال: كن خير آخذ. قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"؟ قال الأعرابي: أعاهدك أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. قال: فخلى سبيله. فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس. وفي رواية عند البخاري: ولم يعاقبه. وإنما لم يؤاخذه -عليه الصلاة والسلام- بما صنع، وعفا عنه، لشدة رغبته -عليه الصلاة والسلام- في استئلاف الكفَّار. وفي رواية أبي اليمان عند البخاري -في الجهاد- قال: من يمنعك مني ثلاث مرات. وهو استفهام ......   يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني، قلت: "الله"، فها هو ذا جالس"، ثم لم يعاقبه النبي -صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: وظاهر قوله فتهدده يشعر بأنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عمَّا كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، بل في رواية البخاري في الجهاد بعد قوله قلت: الله فشام السيف، أي: بفاء وشين معجمة، أي: أغمده, وهي من الأضداد, شمه استله وأغمده، قاله الخطابي وغيره. وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه فألقى السلاح وأمكن من نفسه. "وعند أبي عوانة" في حديث جابر: "فسقط السيف من يده", وكأنه لما شامه سقط من يده زيادة في المعجزة، "فأخذه -عليه الصلاة والسلام، فقال: "من يمنعك مني"، قال: كن خير آخذ"، "قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" , قال الأعرابي: أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك" أجابه بغير ما سأله، فلم يثبت؛ لأنه لم يهتد حينئذ، ولم ينف كراهة لمواجهته بعد هذه الآية الباهرة والحلم الذي لا يباري بخلاف ما أمره، ونسخة: بل لا أعاهدك يأباها الطبع. "قال: فخلى سبيله، فجاء إلى قومه فقال: جئتكم من عند خير الناس". "وفي رواية عند البخاري ولم يعاقبه", فيجمع مع قوله في رواية ابن إسحاق: "قم فاذهب لشأنك"، بأن قوله فاذهب كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته, فمَنَّ عليه, قاله الحافظ. قال: وإنما لم يؤاخذه -عليه الصلاة والسلام- بما صنع وعفا عنه؛ لشدة رغبته -عليه الصلاة والسلام- في استئلاف الكفار". "وفي رواية أبي اليمان" الحكم ابن نافع، شيخ البخاري، أخبرنا شعيب عن الزهري، فذكر الحديث. "عند البخاري في الجهاد" في باب من علَّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة "قال: من يمنعك مني ثلاث مرات، وهو" كما في الفتح هنا في المغازي "استفهام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد. وكان الأعرابي قائمًا على رأسه والسيف في يده, والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه. ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه منع نبيه، وإلّا فما الذي أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله. وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- في جوابه: الله، أي: يمنعني منك، إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابي فلم يزده على ذلك الجواب، وفي ذلك غاية التهكم وعدم المبالاة به. وذكر الواقدي في نحو هذه القصة أنه أسلم، ورجع إلى قومه فاهتدى به خلق كثير. وقال فيه: إنه رمي بالزلخة حين همَّ بقتله -صلى الله عليه وسلم, فندر السيف من يده وسقط إلى الأرض. والزلخة -بضم الزاي وتشديد اللام- وجع يأخذ في الصلب.   إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد، وكان الأعرابي قائمًا على رأسه والسيف في يده, والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس لا سيف معه، ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أن الله سبحانه منع نبيه" منه "وإلّا فما الذي أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه" استفهام يفيد استبعاد كون ذلك من غير مانع من الله تعالى "إلى الحظوة" بضم الحاء المهملة وكسرها، كما في القاموس, وبالظاء المعجمة المكانة، أي: المنزلة الرفيعة "عند قومه بقتله" كما قاله لهم. فعند ابن إسحاق أنه قال: ألا أقتل لكم محمدًا، قالوا: بلى، وكيف تقتله، قال: أفتك به. "وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- في جوابه: "لله"، أي: يمنعني منك إشارة إلى ذلك، ولذلك لما أعادها الأعرابي لم يزده على ذلك الجواب, وفي ذلك التهكم وعدم المبالاة به" أصلًا عطف تفسير. "وذكر الواقدي في نحو هذه القصة أنه" أي: الأعرابي الذي هو دعثور المذكور عند الواقدي "أسلم ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير". وفي رواية ابن إسحاق ثم أسلم بعد، "وقال فيه: إنه رمي الزلخة حين همَّ بقتله -صلى الله عليه وسلم, فندر" بنون ودال وراء مهملتين: سقط أو خرج "السيف من يده وسقط" هو، أي: الأعرابي "إلى الأرض" لشدة وجع صلبه, فلم يستطع القيام، ولا يظهر جعل ضمير سقط للسيف، وأنه عطف مسبب على سبب؛ لأن خروجه من يده سبب لسقوطه؛ لأن هذا ليس فيه كبير فائدة، لأنه مستفاد من ندر، فإنما أراد أنه حين رمي بالزلخة أصابه شيئان: سقوط سيفه وقامة نفسه لشدة الوجع، "والزلخة بضم الزاي وتشديد اللام" بعدها خاء معجمة فتاء تأنيث "وجع يأخذ في الصلب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وقال البخاري: قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، أي: على وزن جعفر. وحكى الخطابي فيه: غويرث -بالتصغير. وقد تقدَّم في غزوة غطفان, وهي غزوة ذي أمر بناحية نجد, مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور، وأنه قام على رأسه -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "الله"، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده وأنه أسلم. قال في عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد.   "وقال البخاري" في الصحيح. "قال مسدد" بن مسرهد شيخه، "عن أبي عوانة" الوضاح اليشكري البصري، "عن أبي بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة، جعفر بن إياس. قال الحافظ: اختصر البخاري إسناده وتمامه، كما أخرجه مسدد في مسنده, رواية معاذ بن المثنى عنه، وكذا أخرجه إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصفة بنخل, فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث، حتى قام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فذكره، فاختصر البخاري متنه أيضًا، فقال: "اسم الرجل غورث بن الحارث" بفتح الغين المعجمة، وسكون الواو، وفتح الراء فمثلثة، "أي: على وزن جعفر" وقيل: بضم أوله مأخوذ من الغرث وهو الجوع، ووقع عند الخطيب بالكاف بدل المثلثة. "وحكى الخطابي فيه غويرث بالتصغير". وحكى عياض أن بعض المغاربة قاله في البخاري بالعين المهملة، قال: "وصوابه بالمعجمة، "وقد تقدَّم في غزوة غطفان وهي غزوة ذي أمر" بفتح الهمزة والميم وشد الراء، "بناحية نجد مثل هذه القصة لرجل اسمه دعثور" بضم الدال وسكون العين المهملتين وضم المثلثة وسكون الواو وراء، وتقدَّم للمصنف أيضًا أن الخطيب سماه غورث، وغيره غورك. "وأنه قام على رأسه -صلى الله عليه وسلم- بالسيف فقال: من يمنعك مني اليوم؟ ". وفي رواية الآن, "فقال -عليه الصلاة والسلام: "الله"، فدفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، وأنه أسلم". "قال" الحافظ فتح الدين اليعمري "في عيون الأثر: والظاهر أن الخبرين واحد" اختلف الرواة في اسمه، فبعضهم سماه غورث، وبعضهم دعثور، وقد استدرك الذهبي في التجريد غورث ابن الحارث على من تقدمه، وعزاه للبخاري وتعقبه في الإصابة، بأنه ليس في البخاري تعرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 وقال غيره من المحققين: الصواب أنهما قصتان في غزوتين. وفي هذه القصة: فرط شجاعته، وقوة يقينه وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال -صلى الله عليه وسلم. وفي انصرافه -صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة، أبطأ جمل جابر بن عبد الله فنخسه -صلى الله عليه وسلم- فانطلق متقدمًا بين يدي الركاب،   لإسلامه, وبأنه يلزم عليه الجزم بكون القصتين واحدة مع احتمال كونهما واقعتين، وأطال في بيان ذلك، وقال: قد يتمسّك لإسلمه بقوله: جئتكم من عند خير الناس، انتهى. وجزم صاحب النور بإسلام غورث بعد رجوعه إلى قومه، إنما تبع فيه الذهبي على عادته, وقد علم التوقف فيه. "وقال غيره من المحققين" كابن كثير: "الصواب أنهما قصتان في غزوتين" قصة لرجل اسمه دعثور بغزوة ذي أمر، وفيها التصريح بأنه أسلم، ورجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير، وقصة بذات الرقاع لرجل اسمه غورث، وليس في قصته تصريح بإسلامه. وفي فتح الباري: وقع عند الواقدي في شبيه هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين، فالله أعلم. وفي الإصابة قصة تشبه قصة غورث المخرَّجة في الصحيح، فيحتمل التعدد, أو أحد الاسمين لقب إن ثبت الاتحاد. "وفي هذه القصة" كما قال في الفتح: "فرط شجاعته وقوة يقينه و" قوة "صبره على الأذى و" قوة "حلمه على الجهّال -صلى الله عليه وسلم" قال: وفيه جواز تفرّق العسكر في النزول ونومهم، وهذا محله إذا لم يكن هناك ما يخافون منه، انتهى. "وفي انصرافه -صلى الله عليه وسلم- من هذه الغزوة" كما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان، عن جابر مطولًا، ومثله في طبقات ابن سعد. وفي البخاري: أن ذلك كان في غزوة تبوك. وفي مسلم أنه في غزوة الفتح "أبطأ جمل جابر بن عبد الله" فلا يكاد يسير, "فنخسه" النبي "صلى الله عليه وسلم" بعد أن أناخه جابر بأمره نخسات بعصا من يد جابر، أو قطعها من شجرة، كما في رواية ابن إسحاق، ولمسلم وأحمد: فضربه برجله ودعا له،"فانطلق متقدمًا بين يدي الركاب" وللإسماعيلي: فضربه ودعا, فمشى مشية ما مشى مثل ذلك قبله. ولأبي نعيم: أنه نفث في ماء ثم مج من الماء في نحره ثم ضربه بالعصا، فوثب فقال: "اركب"، قلت: إني أرضى أن يساق معنا، قال: "اركب"، فركبت، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتني وأنا أكفه عنه -صلى الله عليه وسلم, إرادة أن لا يسبقه, وليس هذا اختلافًا، بل يحمل على أنه -عليه السلام- فعل به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 ثم قال: "أتبيعنيه"؟ فابتاعه منه, وقال: "لك ظهره إلى المدينة"، فلما وصلها أعطى الثمن وأرجح، ووهب له الجمل. والحديث أصله في البخاري. ولا حجة فيه لجواز بيع وشرط، لما وقع فيه من الاضطراب. وقيل غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم.   جميع ما ذكر. "ثم قال: "أتبيعنيه"، فابتاعه منه" بأوقية، "وقال: "لك ظهره" أي: الركوب عليه "إلى المدينة"، فلمَّا وصلها أعطى الثمن وأرجح" فزاده شيئًا يسيرًا على الأوقية، كما في رواية بن إسحاق، "ووهب له الجمل، والحديث أصله في البخاي" في عشرين موضعًا، لكن لم يقع فيه أن ذلك في ذات الرقاع، ولذا لم يذكره في غزواتها، بل في بعضها أنه في تبوك، "ولا حجة فيه لجواز بيعه، وشرط" كما قال به أحمد والبخاري في طائفة لكثرة رواة الاشتراط، ومنعه أبو حنيفة والشافعي مطلقًا، وإن وقع بطلًا للنهي عن بيع وشرط وتوسط مالك، ففصل كما قرر في الفروع، وقالوا: لا حجة في خبر جابر، "لما وقع فيه من الاضطراب". قال في الروض: فقد روي: أفقرني ظهره إلى المدينة، وروي: شرط لي ظهره إليها. وقال البخاري: الاشتراط أكثر وأصح، واضطربوا في الثمن، فقيل: بأوقية وبأربع أواق وبخمس أواق وبخمسة دنانير وبأربعة دنانير، وهو في معنى أوقية, وبدينارين ودرهمين، وكل هذه الروايات ذكرها البخاري, "وقيل غير ذلك مما يطول ذكره". ومنه أنه لم يرد حقيقة البيع، بل أراد أن يعطيه الثمن بهذه الصورة، أو لم يكن الشرط في نفس العقد، بل كان سابقًا أو لاحقًا فلم يؤثِّر في العقد. ووقع عند النسائي: "أخذته بكذا، وأعرتك ظهره إلى المدينة" فزال الإشكال, لكن فيها اضطراب "والله أعلم" بالصواب في نفس الأمر. قال السهيلي -رحمه الله: ومن لطيف العلم في حديث جابر بعد أن يعلم قطعًا أنه -عليه السلام- لم يفعل شيئًا عبثًا، بل لحكمة مؤيدة بالعصمة اشتراؤه الجمل منه ثم أعطاه الثمن، وزاده ثم ردَّه عليه، وكان يمكن أن يعطيه ذلك بلا مساومة، ولا اشتراء, ولا شرط توصيل، فالحكمة فيه بديعة جدًّا, فلتنظر بعين الاعتبار، وذلك أنه سأله "هل تزوجت"؟ ثم قال: "هلَّا بكرًا"، فذكر مقتل أبيه وما خلف من البنات. وقد كان -عليه السلام- أخبر جابرًا، بأنَّ الله قد أحيا أباه، وردَّ عليه روحه، وقال: ما تشتهي فأزيدك؟ فأكد -صلى الله عليه وسلم- هذا الخبر بمثل شبهه، فاشترى منه الجمل وهو مطيته، كما اشترى الله من أبيه ومن الشهداء أنفسهم بثمن هو الجنة, ونفس الإنسان مطيته، كما قال عمر بن العزيز: إن نفسي مطيتي. ثم زادهم زيادة، فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ثم ردَّ عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية. فأشار -صلى الله عليه وسلم- باشتراء الجمل من جابر وإعطائه الثمن وزيادة، ثم رد الجمل المشترى عليه إشارة بذلك كله إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن فعل الله بأبيه, فتشاكل الفعل مع الخبر كما تراه، وحاشا لأفعاله أن تخلو من حكمة، بل هي كلها ناظرة إلى القرآن ومنتزعة منه. انتهى. فما أحسن استنباطاته. هذا واقتصر المصنف من الآيات الواقعة في هذه الغزوة على قصتي غورث وجابر لتعلقهما بها، وتعلق قصة جابر من جهة سيره معه -عليه الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 "غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى": وتسمَّى: بدر الموعد. وكانت في شعبان، بعد ذات الرقاع. قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع، أقام بها جمادى الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان. ويقال: كانت في هلال ذي القعدة.   غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى: بعدم وقوع حرب فيها، فكانت صغرى بالنسبة للكبرى للقتال، ونصر المؤمنين، فهي تسمية اصطلاحية للتمييز. وأما قول الشامي في غزوة أُحد بدر الصغرى, الإضافة تأنيث الأصغر، فلعله اسم للبقعة في حَدِّ ذاتها، "وتسمَّى بدر الموعد" للمواعدة عليها مع أبي سفيان يوم أُحد، وهي الثالثة، "وكانت في شعبان" سنة أربع "بعد ذات الرقاع" في قول أبي إسحاق. قال ابن كثير: وهو الصحيح. وقال الواقدي: في مستهلّ ذي القعدة، يعني: سنة أربع، ووافق ابن عقبة على أنها في شعبان، لكنه قال: سنة ثلاث وهو وَهْم، فإن هذه تواعدوا عليها من أُحد, وكانت في شوال سنة ثلاث. "قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة من غزوة ذات الرقاع أقام بها جمادى الأولى، آخر رجب" نقل بالمعنى, تبع فيه ابن سيد الناس، ولفظ ابن إسحاق: أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبًا، "ثم خرج في شعبان إلى بدر لميعاد أبي سفيان" حتى نزله، إلى هنا انفصل المصنّف من كلام ابن إسحاق دون بيان، فإن قوله: "ويقال: كانت في هلال ذي القعدة" الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وميعاد أبي سفيان: هو ما سبق أنَّ أبا سفيان قال يوم أُحد: الموعد بيننا وبينكم بدر العام القابل، فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه: $"قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد". فخرج -عليه الصلاة والسلام- ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، وعشرة أفراس، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان. وخرج أبو سفيان حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران،   قول الواقدي كما مَرَّ، وفي تعبيره: بِيُقَالُ إشارة إلى ضعفه، "وميعاد أبي سفيان هو ما سبق أن أبا سفيان قال يوم أحد: الموعد بيننا وبينكم بدر من العام القابل، فقال -عليه الصلاة والسلام- لرجل من أصحابه" هو عمر كما عند الواقدي: "قل: نعم هو بيننا وبينكم موعد"، فخرج -عليه الصلاة والسلام- ومعه" كما رواه الحاكم في الإكليل، عن الواقدي "ألف وخمسمائة من أصحابه, وعشرة أفراس" وعدَّها فقال: فرس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفرس لأبي بكر، وفرس لعمر، وفرس لأبي قتادة، وفرس لسعيد بن زيد، وفرس للمقداد، وفرس للحباب، وفرس للزبير، وفرس لعباد بن بشر، كذا نقله في العيون. قال البرهان: هي تسعة: فينبغي أن يطلب العاشر مع من قال, أعني: الواقدي، "واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة" الأنصاري الخزرجي، الأمير المستشهد بموتة، قال: وحمل اللواء علي بن أبي طالب. وقال ابن هشام: استخلف عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سلول, هكذا عزاه لنفسه في تهذيب السيرة، وتبعه اليعمري، وأمَّا الشامي فعزاه لابن إسحاق, ولعله وقف عليه في رواية غير زياد البكائي، كيونس أو إبراهيم بن سعد، ويحتمل أنه استخلف أحدهما على الصلاة والآخر على الحكم، أو وجه الخطاب إلى أحدهما، ثم عدل إلى الآخر لأمرٍ اقتضاه، فروى كل ما علم وعاد المصنف إلى خبر ابن إسحاق، فقال: "فأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان" ثمان ليال، "وخرج أبو سفيان" في قريش، وهم ألفان ومعهم خمسون فرسًا، كذا عند الواقدي، "حتى نزل مجنة" بميم فجيم فنون مشددة مفتوحات، ويجوز كسر الميم والنون: سوق بقرب مكة، كما في الشامية، أي: إمالة النون في الوقف والجيم مفتوحة، إلّا أن انون مكسورة في الوصل لفتح ما قبل هاء التأنيث أبدًا، "من ناحية مَرَّ" بفتح الميم وشد الراء "الظهران" بفتح الظاء المعجمة وإسكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 ويقال: عسفان، ثم بدا له الرجوع، فقال: يا معشر قريش، إنه لا يصلحكم إلّا عام خصيب، ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس. فسماهم أهل مكة: جيش السويق, يقولون: إنما خرجتم تشربون السويق. وأقام -صلى الله عليه وسلم- ببدر ثمانية أيام،   الهاء، وادٍ بين مكة وعسفان, تسمِّيه العامة: بطن مرو، "ويقال" حتى نزل "عسفان" بدل مجنة، "ثم بدا له الرجوع" أي: ظهر له صورة، وإلّا فقد كان دبره لقريش وهو بمكة. روي أن نعيم بن مسعود الأشجعي قدم مكة، فأخبر قريشًا بتهيؤ المسلمين لحربهم، فذكر أبو سفيان أنه كاره للخروج، وجعل له عشرين بعيرًا على أن يخذّل المسلمين ضمنها له سهيل بن عمرو, وحمله على بعير فقدم المدينة، وأرجف بكثرة العدو حتى قذف في قلوبهم الرعب، ولم يبق لهم نية في الخروج حتى خشي -عليه السلام- أن لا يخرج معه أحد، وجاءه العمران، فقالا: إن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وقد وعدنا القوم موعدًا لا نحب أن نتخلّف عنه، فيرون أن هذا جبن، فسر لموعدهم, فوالله إن في ذلك لخيرة، فسر بذلك وقال: "والذي نفسي بيده لأخرجنّ وإن لم يخرج معي أحد" فأذهب الله عن المسلمين ما كان الشيطان رعبهم به، وقال أبو سفيان لقريش: قد بعثنا نعيمًا يخذّل أصحاب محمد عن الخروج، وهو جاهد لكن نخرج فنسير ليلة أو ليلتين، ثم نرجع، فإن لم يخرج محمد بلغه أنا خرجنا فرجعنا؛ لأنه لم يخرج، فيكون لنا هذا عليه، وإن خرج أظهرنا أن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب، قالوا: نعم ما رأيت، "فقال: يا معشر قريش, إنه لا يصلحكم" أي: لا يريحكم ويزيل عنكم مشقة اسفر، "إلّا عام خصب" بالتنوين، أي: ذو خصب، أو مخصب، والإضافة لوجود النماء فيه، والبركة بظهور النبات وكثرته "ترعون فيه الشجر وتشربون فيه اللبن، وإنّ عامكم هذا عام جدب" بالإضافة والتنوين، أي: محل، وهو انقطاع المطر، ويبس الأرض، "وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيس السويق، ويقولون: إنما خرجتم تشربون السويق" وهو قمح، أو شعير يقلى ثم يطحن، ويتزوّد به ملتوتًا بماء، أو عسل، أو سمن، أو وحده، فسمع الناس بمسير جيش الإسلام، وذهب صيته إلى كل جانب، وكبت الله عدوهم، فقال صفوان لأبي سفين: والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترأوا علينا, ورأونا قد اخلفناهم, وأخذوا في الكيد والنفقة والتهيؤ لحرب الخندق. "وأقام عليه الصلاة والسلام ببدر ثمانية أيام" ينتظر أبا سفيان لميعاده، كذا عند ابن إسحاق، ومقتضاه أنها أيام الموسم، وصرّح بذلك السبل فقال: فانتهوا إلى بدر ليلة هلال ذي القعدة, وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيام والسوق قائمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 وباعوا ما معهم من التجارة، فربحوا الدرهم درهمين. وأنزل الله في المؤمنين: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] إلى قوله {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] . والصحيح أن هذه الآية نزلت في شأن حمراء الأسد، كما نصَّ عليه العماد بن كثير.   وفي البغوي: كانت بدر الصغرى موضع سوق الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام لهلال ذي القعدة إلى ثمانٍ تخلو منه، ثم يتفرّقون إلى بلادهم، لكنه مشكل مع ما قدَّمه المصنف من أن الخروج في شعبان، ويقال لهلال ذي القعدة، بل لا يصح إلّا على القول بأن الخروج في شوال، اللهمَّ إلا أن يخرج على الثاني مع تأويله بأنه كانت كذلك بالنظر لوصوله إلى بدر، لا لخروجه من المدينة، أو أطلق الهلال، وأراد ما يقاربه, بقي أنه يشكل على تصحيح قول ابن إسحاق أنه خرج في شعبان إلا أن يئول بأن معناه: عزم على الخروج فيه، وأمر أصحابه بالتهيؤ، ولم يخرج بالفعل إلّا في أواخر شوال, حتى وصل هلال ذي القعدة، وهذا جمع بين الأقوال. "وباعوا ما معهم من التجارة" التي خرجوا بها معهم، "فربحوا الدرهم درهمين" كما روي أن عثمان قال: ربحت للدينار دينارًا، "وأنزل الله في المؤمنين: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] الآية، بأُحد، وخبر المبتدأ قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} إلى قول: {فَانْقَلَبُوا} [آل عمران: 174] الآية. رجعوا من بدر {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْل} [آل عمران: 174] الآية. بسلامة وربح {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] , من قتل أو جرح. هذا قول مجاهد وعكرمة. "والصحيح" وهو قول المفسرين: "إن هذه الآية نزلت" قبل ذلك "في شأن حمراء الأسد كما نص عليه العماد بن كثير" وسبقه إلى ترجيحه ابن جرير, ووقع في البيضاوي والجلال ما يشبه التناقض, فذكر أن قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا} [آل عمران: 172] الآية. في حمراء الأسد، وأعرب الجلال {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ} بدلًا منه، ثم قالا: فانقلبوا، أي: رجعوا من بدر بنعمة من الله، وفضل ربح في التجارة، فإنهم أتوا بدرًا وافوا بها سوقًا، فاتَّجروا وربحوا. انتهى. وهذا إنما يأتي على أنها نزلت في بدر، فهو خلط بين قولين متنافيين، إلّا أن يقال قولهما رجعوا من بدر، بيان لما ترتَّب على استجابتهم له -عليه السلام- في حمراء الأسد، ولم يبالوا بكونها في عام آخر لكونها من ثمرات الأولى, فكأنهما شيء واحد، وعليه فتفسيرهما قوله: {فَانْقَلَبُوا} برجعوا من بدر يكون حملًا للآية على أنه عبَّر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه, هكذا أملاني شيخنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 " غزوة دومة الجندل ": وهي بضم الدال "من "دومة" هي مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال، وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. قال أبو عبيدة الله البكري: سميت بدومي بن إسماعيل، كان نزلها. وكان في شهر ربيع الأول، على رأس تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة، وكان سببها أنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعًا كثيرًا يظلمون من مَرَّ بهم،   غزوة دومة الجندل: "وهي بضم الدال من دومة" عند أهل اللغة وأصحاب الحديث يفتحونها كذا في الصحاح. ورجَّح الحازمي وغيره من المحدثين الضم. وقال اليعمري: بضم الدال وفتحها. وقال ابن القيم: بضم الدال، وأما بفتحها فمكان آخر. وقال بعضهم: دومة الجندل بالضم والفتح، وأما المكان الآخر الذي باليمن فبالفتح فقط، "وهي مدينة بينها وبين دمشق" بكسر الدال وفتح الميم، على المشهور. وحكي في المطالع كسر الميم، قاله النووي. قال الجواليقي: أعجمي معرّب، فهو ممنوع الصرف, "خمس ليال وبعدها من المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة" كما قاله ابن سعد. "قال أبو عبد الله البكري: سميت بدومي بن إسماعيل, كان نزلها" وفي الوفاء قيل: كان منزل أكيدر أولًا دومة الحيرة، وكان يزور أخواله من كلب، فخرج معهم للصيد، فرفعت له مدينة متهدمة لم يبق إلا حيطانها مبنية بالجندل، فأعادوا بناءها وغرسوا الزيتون وسموها دومة الجندل، تفرقة بينها وبين دومة الحيرة، وكان أكيدر يتردد بينهما. "وكان في شهر ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة" فتكون سنة خمس، وبه صرح ابن هشام، "وكان سببها" كما قال ابن سعد وغيره: "أنه بلغه -صلى الله عليه وسلم- أن بها جمعًا يظلمون من مَرَّ بهم", وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة, وهي طرف من أفواه الشام، فأراد -عليه الصلاة والسلام- الدنوَّ إلى أدنى الشام، وقيل له: لو دنوت لها لكان ذلك مما يفزع قيصر، وكان بها سوق عظيم وتجار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 فخرج -عليه الصلاة والسلام- لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع، في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل ويكمن النهار. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة. فلمَّا دنا منهم، لم يجد إلّا النعم والشاء، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم, فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة فتفرقوا، ونزل -صلى الله عليه وسلم- بساحتهم, فلم يلق بها أحدًا، فأقام بها أيامًا، وبعث السرايا وفرَّقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحد. ودخل المدينة في العشرين من ربيع الآخر.   "فخرج -صلى الله عليه وسلم- لخمس ليالٍ بقين من شهر ربيع" الأول "في ألف من أصحابه، فكان يسير الليل، ويكمن النهار" بضم الميم وفتحها, "واستخلف على المدينة" كما قال ابن هشام: "سباع" -بكسر السين المهملة فموحدة فألف فعين مهملة, "ابن عرفطة" -بضم العين والفاء- الغفاري، ويقال له: الكناني. وعندا بن سعد وغيره: فقال له دليله مذكور العذري، ونكب عن طريقهم لما دنا من دومة: يا رسول الله, إن سوائمهم ترعى عندك, فأقم لي حتى أطلع لك، قال: "نعم"، فخرج العذري طليعة وحده، فوجد آثار النعم والشاء وهم مغربوم -بفتح الغين المعجمة وكسر الراء مشددة، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره, وقد عرف مواضعهم، "فلما دنا منهم لم يجد" النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة: لم يجدوا، أي: النبي ومن معه "إلّا النعم والشاء" عطف خاص على عام، على أن النعم الإبل والبقر والغنم أو المال الراعي، "فهجم على ماشيتهم ورعاتهم" جمع راعٍ، كقاض وقضاة, ويجمع أيضًا على رعاء بالكسر والمد، ورعيان كرغفان كما في المصباح. زاد القاموس: ورعاء -بالفتح، أي: من ولي أمر مواشيهم. "فأصاب من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه، وجاء الخبر أهل دومة، فتفرقوا" فرقًا من المنصور بالرعب، "ونزل -عليه الصلاة والسلام- بساحتهم, فلم يلق بها أحدًا، فأقام بها أيامًا، وبعث السرايا وفرَّقها، فرجعوا ولم يصب منهم أحد" بالبناء للمفعول، أي: من المسلمين في تلك الغزوة، أو من الكفار الذي بعث لهم السرايا. وفي نسخة: أحدًا -بالنصب, وهي المنقولة في العيون عن ابن سعد, وزاد: وأخذوا منهم رجلًا فسأله -صلى الله عليه وسلم- عنهم، فقال: هربوا حيث علموا أنك أخذت نعمهم، فعرض عليه الإسلام فأسلم "ودخل المدينة في" يوم "العشرين من ربيع الآخر", فتكون غيبته خمسًا وعشرين ليلة، ولعله جَدَّ في السير لما مَرَّ أن بعد دومة من المدينة خمس عشرة، فيكون الذهاب والإياب في ثلاثين، وأقام بها أيام وأقلها ثلاثة، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الفهرس : 3 إسلام الفاروق 12 دخول الشعب وخبر الصحيفة 31 الهجرة الثانية إلى الحبشة ونقض الصحيفة 38 وفاة خديجة وأبي طالب 49 خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف 56 ذكر الجن 67 وقت الإسراء 72 ذكر عرض المصطفى نفسه على القبائل ووفود الأنصار 89 باب هجرة المصطفى وأصحابه إلى المدينة 143 قصة سراقة 175 ذكر بناء المسجد النبوي وعمل المنبر 191 ذكر المؤاخاة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين 194 باب بدء الأذان كتاب المغازي 224 بعث حمزة رضي الله عنه 226 سرية عبيدة المطلبي 228 سرية سعد بن مالك 229 أول المغازي ودان 231 غزوة بواط 236 غزوة بدر الأولى 237 سرية أمير المؤمنين عبد الله بن جحش 242 تحويل القبلة وفرض رمضان وزكاة الفطر 255 باب غزوة بدر العظمى 342 قتل عمير عصماء 344 غزوة بني سليم وهي قرقرة الكدر 347 قتل أبي عنك اليهودي 348 غزوة بني قينقاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 353 غزوة السويق 356 ذكر بعض وقائع ثانية الهجرة 357 ذكر تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما 367 قتل كعب بن الأشرف وهي سرية محمد بن مسلمة 378 غزوة غطفان 382 غزوة بحران 384 سرية زيد إلى القردة 386 غزوة أحد 464 غزوة حمراء الأسد 471 سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد 472 سرية عبد الله بن أنيس 474 بعث الرجيع 496 بئر معونة 505 حديث بني النضير 521 غزوة ذات الرقاع 535 غزوة بدر الأخيرة وهي الصغرى 539 غزوة دومة الجندل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 المجلد الثالث تابع كتاب المغازي غزوة المريسيع ... تابع كتاب المغازي: بسم الله الرحمن الرحيم "غزوة المريسيع": غزوة المريسيع: بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة وآخره عين مهملة- وهو ماء لبني خزاعة، بينه وبين الفرع مسيرة اليوم. وتسمى غزوة بني المصطلق -بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء المشالة المهملة، وكسر اللام بعدها قاف- وهو لقب اسمه: جذيمة بن سعد بن عمرو، بطن من خزاعة.   غزوة المريسيع: "بضم الميم وفتح الراء وسكون التحتيتين بينهما مهملة مكسورة آخره عين مهملة" قال في القاموس مصغر مرسوع. قال السهيلي: وهو من قولهم: رسعت عين الرجل، إذا دمعت من فساد، "وهو ماء لبني خزاعة" بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي المخففة، قال في القاموس: حي من الأزد سموا بذلكن؛ لأنهم تخزعا، أي: تخلفوا عن قومهم، وأقاموا بمكة "بينه وبين الفرع" بضم الفاء والراء كما قاله السهيلي. وجرى عليه في المشارق، وقال في التنبيهات: كذا قيده الناس، وكذا رويناه، وحكى عبد الحق عن الأحول، إسكان الراء ولم يذكر غير ا. هـ. ونقل مغلطاي أن الحازمي وافقه وتبعهما ابن الأثير والصغاني، وغيرهما موضع من ناحية المدينة، وأما الفرع بفتحتين، فموضع بين الكوفة والبصرة "مسيرة يوم" هكذا في الفتح، وشرح المصنف، ويقع في بعض النسخ يومين ومثله في سيرة مغلطاي، وقال: بين الفرع والمدينة ثمانية برد، "وتسمى غزوة بني المصطلق، بضم الميم وسكون" الصاد "المهملة وفتح الطاء المشالة المهملة" المبدلة من التاء لأجل الصاد "وكسر اللام بعدها قاف، هو لقب" لحسن صوته، وهو أول من غنى من خزاعة قاله المصنف. وفي الروض: هو مفتعل من الصلق، وهو رفع الصوت، فأفاد أنه كان حسن الصوت شديده، واقتصر المصنف على الحسن؛ لأنه المرغوب في سماعه، "واسمه جذيمة" بجيم مضمومة فذال معجمة مفتوحة فتحتية ساكنة "ابن سعد بن عمرو" بفتح العين، ابن ربيعة بن حارثة "بطن من بني خزاعة". وقد روى الطبراني من حديث سفيان بن وبرة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وكانت يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، سنة خمس، وفي البخاري قال ابن إسحاق في شعبان سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع ا. هـ. قالوا: وكأنه سبق قلم، أراد أن يكتب سنة خمس فكتب سنة أربع، والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس. وسببها أن بلغه عليه الصلاة والسلام أن رئيسهم الحارث بن أبي   غزوة بني المصطلق، "وكانت" كما قال ابن سعد: "يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس" ورواه البيهقي عن قتادة وعروة وغيرهما، ولذا ذكرها أبو معشر قبل الخندق، ورجحه الحاكم. "وفي البخاري: قال ابن إسحاق" محمد في مغازيه: رواية يونس بن بكير وغيره "في شعبان سنة ست" وبه جزم خليفة والطبري. "وقال موسى بن عقبة: سنة أربع ا. هـ، قالوا: وكأنه سبق قلم" من البخاري، "أراد أن يكتب سنة خمس" لأنه الذي قاله ابن عقبة، "فكتب سنة أربع" سهوا، وتبعه عليه اليعمري، وهو عجيب، "والذي في مغازي موسى بن عقبة من عدة طرق، أخرجها الحاكم وأبو سعيد النيسابوري والبيهقي في الدلائل، وغيرهم سنة خمس" ولفظه عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، ثم قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس. قال في فتح الباري بعد ذكر ما ساقه المصنف من أول الغزوة إلى هنا غير أنه أسقط صورة التبري، ويؤيده ما أخرجه البخاري في الجهاد عن ابن عمر؛ أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق في شعبان، وابن عمر سنة أربع لم يؤذن له في القتال؛ لأنه إنما أذن له فيه في الخندق، وهي بعد شعبان سواء قلنا إنها كانت سنة خمس، أو سنة أربع. وقال الحاكم في الإكليل: قول عروة وغيره أنها كانت سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق قلت: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، فلو كانت المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها لكان ما وقع في الصحيح من ذكر سعد بن معاذ غلطا؛ لأنه مات أيام قريظة، وكانت في سنة خمس على الصحيح، وإ كانت كما قيل سنة أربع، فهو أشد غلطا، فظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان قبل الخندق؛ لأنها كانت في شوال سنة خمس أيضا، فيكون سعد بن معاذ موجودا في المريسيع، ورمي بها بعد ذلك بسهم في الخندق ومات من جراحته في قريظة ا. هـ. "وسببها أنه بلغة عليه الصلاة والسلام أن رئيسهم" أي: بني المصطلق، "الحارث بن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 ضرار سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه، وتهيئوا للمسير معه إليه. فبعث عليه الصلاة والسلام بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في بشر كثير من المنافقين، لم يخرجوا في غزاة قط مثلها, واستخلف على المدينة زيد بن حارثة, وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرشا   ضرار" والد جويرية أم المؤمنين، وأسلم لما جاء في فدائها، "سار في قومه، ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابوه وتهيئوا للمسير معه إليه" وكانوا ينزلون ناحية الفرع، "فبعث عليه الصلاة والسلام" كما قال ابن سعد "بريدة" بضم الموحدة وفتح الراء مصغر "ابن الحصيب" بضم الحاء. قال الغساني: وصحف من أعجمها وفتح الصاد المهملتين. "الأسلمي يعلم علم ذلك" أي: ليعلم حالهم الذي هم عليه، فاستأذنه أن يقول, فأذن له، "فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار، وكلمه" فوجدهم قد جمعوا الجموع، قالوا: من الرجل؟، قال: منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني فنكون يدا واحدة حتى نستأصله. قال الحارث: فنحن على ذلك فعجل علينا، فقال بريدة: اركب الآن وآتيكم بجمع كثير من قومي، فسروا بذلك منه، "ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" فأخبره خبرهم، فندب صلى الله عليه وسلم الناس "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا في"، أي: مع "بشر" يطلق على الواحد والجمع، لكن العرب ثنوه ولم يجمعوه. وفي التنزيل: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} [المؤمنون: 47] ، كما في المصباح، لكن وصفه بقوله "كثير" دليل على استعماله في الجمع "من المنافقين، لم يخرجوا في غزاة قط مثلها". قال الشامي: ليس بهم رغبة في الجهاد، إلا أن يصيبوا من عرض الدنيا بفتحتين ما سوى العين، ولقرب السفر، "واستخلف على المدينة" حبه "زيد بن حارثة" قاله ابن سعد وشيخه. وقال ابن هشام: أبا ذر الغفاري، ويقال: نميلة بن عبد الله الليثي، ونميلة تصغير نملة، كما قال البرهان، "وقادوا الخيل، وكانت ثلاثين فرسا" قاله ابن سعد قال: منها عشرة في المهاجرين, وفي الأنصار عشرون ومعه صلى الله عليه وسلم لزاز والظرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وخرجت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما. وبلغ الحارث ومن معه مسيره عليه الصلاة والسلام فسيء بذلك هو ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب. وبلغ عليه الصلاة والسلام المريسيع، وصف أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة   وذكر الشامي أنهما من جملة عشرة المهاجرين. قال البرهان: لزاز بكسر اللام وزاي مكررة مخففة بينهما ألف، من لاززته، أي: ألصقته، كأنه لصق بالمطلوب لسرعته، وقيل: لاجتماع خلقه، واللزز المجتمع الخلق، ا. هـ. والظرب بفتح الظاء المعجمة كما في القاموس والنور في الخيل النبوية، والسبل وتكسر على ما في بعض نسخ النور هنا، وصدر به الشامي في ذكر الخيل النبوية فراء مكسورة فموحدة واحد الظراب، وهي الروابي الصغار سمي بذلك لكبره وسمنه، وقيل: لقوته وصلابته. "وخرجت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما" فسار صلى الله عليه وسلم حتى سلك على الخلائق بالخاء والقاف، مكان به مزارع وآبار قرب المدينة، فنزل بها فأتي يومئذ برجل من عبد القيس، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "أين أهلك"؟، قال: بالروحاء من عمل الفرع، قال: "أين تريد"؟، قال: إياك جئت لأؤمن بك، وأشهد أن ما جئت به حق وأقاتل معك عدوك، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداك إلى الإسلام"، فقال: "أي الأعمال أحب إلى الله"؟، قال: "الصلاة، لأول وقتها". فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها، وأصاب صلى الله عليه وسلم عينا للمشركين، أي: جاسوسا لهم، فسألوه عنهم فلم يذكر من شأنهم شيئا، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر عمر بن الخطاب فضرب عنقه كما في الشامية. "وبلغ الحارث ومن معه مسيره عليه الصلاة والسلام" وأنه قتل جاسوسه "فسيء بذلك" الخبر "هو ومن معه" أي: ساءهم خبر مسيره إليهم، كما قاله البيضاوي، وسيء بهم معناه ساءه مجيئهم، وفي إعراب السمين سيء مبني للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير لوط من ساءني بكذا، أي: حصل لي سوء وبهم متعلق به، أي: بسببهم "وخافوا شديدا" للرعب الذي قذفه الله في قلوب أعدائه، "وتفرق عنهم من كان معهم من العرب" الذين جمعهم الحارث من غير قومه، "وبلغ عليه الصلاة والسلام إلى المريسيع". قال ابن سعد: فضرب عليه قبة فتهيئوا للقتال، "وصف أصحابه ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر" الصديق، قاله ابن سعد، ويقال: إلى عمار بن ياسر "وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 فتراموا بالنبل ساعة ثم أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم، وسبوا الرجال والنساء والذرية والنعم والشاء.   وروي أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر، فنادى في الناس: قولوا: لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، فأبوا "فتراموا بالنبل ساعة" فكان أول من رمى رجل منهم، "ثم أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه فحملوا حملة رجل واحد" فما أفلت منهم إنسان، "وقتلوا عشرة وأسروا سائرهم" أي: باقيهم. قال البرهان: لم يذكر عدتهم، وقد قال بعض شيوخي: كانت الأسرى أكثر من سبعمائة فطلبتهم منه جويرية ليلة دخوله بها فوهبهم لها ا. هـ، ولا يشكل بما رواه ابن إسحاق وغيره من حديث عائشة، وخرج الخبر إلى الناس أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، ا. هـ؛ لأن طلبها إياهم منه وكونه وهبهم لها لا يمنع كون المسلمين حين سمعوا أنه تزوجها أطلقوا الأسرى، فكان ذلك زيادة إكرام من الله لنبيه حتى لا يسأل أحدا منهم في ذلك بشيء أو مجانا. نعم، روى الواقدي بسند له مرسل أن جويرية قالت: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال، كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبرها أحدا من الناس حتى قدم صلى الله عليه وسلم، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فلما أعتقني وتزوجني والله ما كلمته في قومي، حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم من أيديهم وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر فحمدت الله تعالى، فإن صح أمكن أن يكون قولها ما كلمته، أي: ألححت عليه، بل اكتفيت بأول مرة ليلة الدخول، أو ما كلمته حين خطبني. "وسبوا الرجال والنساء والذرية" تفسير لأسر سائرهم، "و" ساقا "النعم والشاء" فهو مفعول لمحذوف؛ لأن السبي مخصوص بأسر العدو، أو ضمن سبي معنى أخذ فلا تقدير. قال ابن سعد: وكانت الإبل ألفي بعير، والشاء خمسة آلاف شاة، وكان المسبي مائتي بيت. قال البرهان: وأحد البيوت. وفي نسخة: بنت بكسر الموحدة ونون ساكنة وفوقية، والأولى أظهر ا. هـ. وهو الذي دل عليه حديث عائشة: لقد أعتق ..... إلخ، ثم ظاهر حديث عائشة أنهم كلهم أطلقوا بلا فداء. وذكر الواقدي أنه قدم وفدهم فافتدوا الذرية والنساء كل واحد منهم بست فرائض ورجعوا إلى بلادهم وخير من خير منهن أن تقيم عند من صارت في سهمه، فأبين إلا الرجوع، فإن صح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحدا، كذا ذكره ابن إسحاق. والذي في صحيح البخاري من حديث ابن عمر يدل على أن أغار عليهم على حين غفلة منهم فأوقع بهم ولفظه: أن النب صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تستقي على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وهم على الماء. يحتمل أنهم حين الإيقاع بهم ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل انهزموا بأن يكونوا لما دهمهم   فيحتمل أن بعض الوفد قدم ففادى جملة، وذهبوا بهم قبل تزوج جويرية، ثم أعتق المسلمون الباقي بعد تزوجها وإلا فالأصلح الأول. "ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد" هو هشام بن صبابة، بصاد مهملة مضمومة فموحدة مخففة فألف فموحدة أخرى، أصابه أنصاري يقال له أوس من رهط عبادة بن الصامت، يرى أنه من المشركين فقتله خطأ، وقدم أخوه مقبس بن صبابة من مكة مسلما في الظاهر، فقال: يا رسول الله جئتك مسلما، وأطلب دية أخي قتل خطأ، فأمر له بدية أخيه، فأقام غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا، كما ذكر ابن إسحاق وأتباعه، فأهدر صلى الله عليه وسلم دمه فقتل يوم الفتح، "كذا ذكره" أي: حاصل المعنى الذي ساقه المصنف "ابن إسحاق" وإلا فأكثره لفظ ابن سعد، كما فصله صاحب العيون. وإنما قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى، قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث، فخرج حتى لقيهم على المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق، وقتل من قتل منهم، ونفل رسول الله أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه. قال الحافظ: كذا عنده بأسانيد مرسلة، "والذي في صحيح البخاري" في كتابه العتق، وكذا في صحيح مسلم "من حديث ابن عمر يدل على أنه أغار عليهم على حين غفلة منهم، فأوقع بهم" القتل والأسر. قال المصباح: وقع بالقوم وقيعة قتلت وأثخنت وتميم تقول: أوقعت بهم بالألف، "ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون" بغين معجمة فألف فراء مشددة، أي: غافلون "وأنعامهم تستقي على الماء فقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم وهم على الماء" فهذا خلاف رواية ابن إسحاق أنهم اقتتلوا. "فيحتمل" في الجمع بينهما، كما قاله الحافظ "أنهم حين الإيقاع بهم" وإن كانوا غافلين "ثبتوا قليلا، فلما كثر فيهم القتل" بحمل المسلمين عليهم حملة واحدة، "انهزموا بأن يكونوا" تصوير لما فعل بهم "لما دهمهم" بكسر الهاء وفتحها، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وهم على الماء وتصافوا وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم. قيل وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فذكر حديث التيمم.   فجأهم "وهم على الماء وتصافوا، وقع القتال بين الطائفتين، ثم بعد ذلك وقعت الغلبة عليهم" للمسلمين، والحمد لله. وذكر ابن سعد القصة بنحو ما ذكر ابن إسحاق، ثم أشار إلى حديث ابن عمر، ثم قال: الأول أثبت وأقره اليعمري، ورده الحافظ، فقال: والحكم يكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردوده، ولا سيما مع إمكان الجمع ا. هـ. وذكر ابن إسحاق من جملة السبي جويرية أم المؤمنين، وسيذكر المصنف قصتها التي ساقها الشارح في الزوجات، فلا نطيل بها هنا. "قيل: وفي هذه الغزوة نزلت آية التيمم". قال ابن بطال: هي آية النساء، أو المائدة. وقال القرطبي: آية النساء ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء. وكذا ذكر الواحدي في سبب النزول الحديث في آية النساء. قال الحافظ: وخفي على الجميع ما ظهر للبخاري من أنها آية المائدة بلا تردد لرواية عمرو بن الحارث، إذ صرح فيها بقوله: فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] . "وفي الصحيحين" البخاري في التيمم والمناقب والنكاح والتفسير والمحاربين، ومسلم في الطهارة "من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فذكر" كل في صحيحه "حديث التيمم" بطوله، وهو حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا له: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيه في خاصرتي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 قال في فتح الباري: "قوله في بعض أسفاره" قال ابن عبد البر في التمهيد: يقال كان ذلك في غزوة بني المصطلق. وجزم بذلك في الاستذكار. وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان، وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع. وفيها كانت قصة الإفك لعائشة، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا. فإن كان ما جزموا به ثابتا، حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين, لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما.   فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثا البعير فأصبنا العقد تحته. "قال في فتح الباري" في كتاب التيمم "قولا في بعض أسفاره. قال ابن عبد البر في التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد رتبه على أسماء شيوخ مالك على حروف المعجم، ولم يتقدمه أحد إلى مثله، وهو سبعون جزءا. قال ابن حزم: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله، فكيف أحسن منه "يقال كان ذلك في غزوة بني المصطلق، وجزم بذلك في الاستذكار" بمذاهب علماء الأمصار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار، شرح فيه الموطأ على وجهه، ونسق أبوابه، "وسبقه إلى ذلك" الجزم "ابن سعد وابن حبان وغزوة بني المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها كانت" تامة، أي: وقعت، وبه عبر الفتح "قصة الإفك لعائشة" حال من قصة أو صفة لها، أي: المنسوبة لعائشة لا حال من الإفك وإلا لقال عن عائشة، ثم هو كما ترى لم يذكر قصة الإفك كما توهمه الشارح، وجعل له ترجمة وتكلم فيها على لفظ الإفك لغة. "وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا" كما أنه سبب حديث التيمم، "فإن كان ما جزموا به" من أن قصة التيمم في غزوة المريسيع "ثابتا حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين، لاختلاف القصتين، كما هو بين من سياقهما" فقد علمت سياق حديث التيمم. وأما حديث الإفك ففي البخاري ومسلم عن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي، وأنزل فيه حت إذا فرغ صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين أذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل، فمضيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 واستبعد بعض شيوخنا ذلك؛ لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، وهما بين مكة وخيبر كما جزم به النووي. قال: وما جزم به مخالف لما جزم به ابن التين فإنه قال: البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش وراء ذي الحليفة.   فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش في نحر الظهيرة وهم نزول، فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ... الحديث في نحو أربع ورقات. "واستبعد بعض شيوخنا ذلك" أي: ما جزموا به، أي: ابن سعد وابن حبان وابن عبد البر، من أن قصة التيمم في غزاة المريسيع؛ "لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة" أي: قصة التيمم، "كانت من ناحية خيبر لقولها في الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء" بفتح الموحدة والمد، "أو بذات الجيش" بفتح الجيم، وسكن التحتية وشين معجمة، والشك من عائشة قاله المصنف، "وهما بين مكة وخيبر" وليست خيبر من جهة قديد التي بها المريسيع "كما جزم به النووي". "قال" أي: بعض شيوخه: "وما جزم به" النووي "مخالف لما جزم به ابن التين" شارح البخاري "فإنه قال: البيداء هو ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة وذات الجيش وراء ذي الحليفة" وهذا يرد الاستبعاد، ويدل على أن قصة التيمم كانت بالمريسيع كما جزموا به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وقال أبو عبيد البكري في معجمه: البيداء أدنى إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا، ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد. قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال, والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين تنبيه.   "وقال أبو عبيد البكري في معجمه: البيداء أدنى" أقرب "إلى مكة من ذي الحليفة، ثم ساق حديث عائشة هذا" في التيمم، ثم ساق حديث ابن عمر، قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد. قال: والبيداء هو الشرف الذي قدام ذي الحليفة من طريق مكة، هكذا أسقطه المصنف من الفتح قبل قوله، "ثم قال: وذات الجيش من المدينة على بريد قال: وبينها وبين العقيق سبعة أميال". قال ابن حجر: قلت: "والعقيق من طريق مكة، لا من طريق خيبر، فاستقام ما قاله ابن التين" وظهر به عدم استبعاد كون قصة التيمم بالمريسيع. "تنبيه" لا يخفى عليك أن الكلام كله صريح في أن الاستبعاد، إنما هو في كون قصة التيمم بالمريسيع، ولم أدر ما وجه ترجيع اسم الإشارة لقصة الإفك، وأيضا فقصة الإفك لا نزاع في كونها في غزاة المريسيع؛ لأنه المنقول في البخاري عن الزهري. ورواه الجوزقي والبيهقي عنه عن عروة عن عائشة، وجزم به ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، فلا يتأتى من شيخ الحافظ استبعادها؛ لأنه يشبه خرق الإجماع؛ فإنما استبعد ما جزم به أولئك، كما هو صريح الكلام السابق واللاحق. وفي الفتح عقب قوله: فاستقام، ما قال ابن التين ويؤيده ما رواه الحميدي: أن القلادة سقطت ليلة الأبواء، والأبواء بين مكة والمدينة. وعند الفريابي: وكان ذلك المكان يقال له الصلصل بمهملتين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة بين الصادين. قال البكري: جبل عند ذي الحليفة، كذا ذكره في حرف الصاد المهملة، ووهم مغلطاي وغيره، فزعم أنه ضبطه بالمعجمة، وعرف من تظافر هذه الروايات تصويب ما قال ابن التين ا. هـ. ثم قال في الفتح في شرح قول أسيد: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، أي: بل مسبوقة بغيرها من البركات، وهذا يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك، فيقوى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد، فأخذه المصنف ووصله بكلامه الأول وهو صادق؛ لأنه كله كلامه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد مرتين، ومنهم محمد بن حبيب الأخباري فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق. وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا. وقال الداودي: كانت قصة التيمم في غزاة الفتح ثم تردد في ذلك. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع, فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة، وهي بعدها بلا خلاف. وكان البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة. ومما يدل على تأخر القصة أيضا عن قصة ...........   فقال: "وقد قال قوم بتعدد ضياع العقد مرتين، ومنهم محمد بن حبيب الأخباري". قال أبو ذر في حواشيه: أكثر العلماء لا يصرف حبيب هنا يجعله اسم أمه، فعلى هذا لا ينصرف للتعريف والتأنيث ا. هـ، أي: العلمية والتأنيث المعنوي. وبهذا جزم النووي في شرح مسلم وهو مردود. ففي الروض للسهيلي ما لفظه وابن حبيب النسابة مصروف اسم أبيه، ورأيت لابن المغربي إنما هو حبيب بفتح الباء غير مجرى، أي: مصروف لأنها أمه، وأنكر عليه غيره، وقالوا: هو حبيب بن المحبر معروف ا. هـ. "فقال: سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع، وفي غزوة بني المصطلق" فليست المرتان في غزوة واحدة، "وقد اختلف أهل المغازي في أي هاتين الغزوتين كانت أولا" بالفتح وشد الواو. "وقال الداودي" أحمد بن نصر المالكي شارح البخاري: "كانت قصة التيمم في غزاة الفتح، ثم تردد في ذلك وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع" لأنه ليس فيها بيان كيفية التيمم، "فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق؛ لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة وهي بعدها" أي: بعد غزوة بني المصطلق، "بلا خلاف" وهذا أيضا يرد أن المرتين كانتا في غزوة واحدة، "وكان" فعل ماض "البخاري يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبي هريرة" في سنة سبع، "ومما يدل على تأخر القصة" للتيمم "أيضا عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 الإفك ما رواه الطبراني من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى جلس الناس على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله تعالى الرخصة في التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة.   قصة الإفك ما رواه الطبراني من طريق" محمد بن إسحاق، عن "يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير" بن العوام، المدني الثقة، مات بعد المائة، وله ست وثلاثون سنة "عن أبيه" عباد قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج ثقة. روى له الجميع "عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عقدي" أي: قلادتي، وكانت من جزع ظفار كما مر عنها في حديث الإفك، ورواه أبو داود وغيره عن عمار في هذه القصة، وجزع بفتح الجيم وسكون الزاي خرز يمني وظفار مدينة باليمن. وفي رواية عروة، عنها في الصحيح: أنها استعارتها من أسماء أختها فهلكت، أي: ضاعت. قال الحافظ: والجمع أن إضافتها إليها لكونها في يدها وتصرفها، وإلى أسماء لكونها ملكها لتصريحها بأنها استعارتها منها "ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى جلس الناس" بجلوس النبي صلى الله عليه وسلم "على التماسه" أي: لأجل طلبه. وفي أبي داود: فبعث أسيد بن حضير وناسا معه في طلبه، وفيه اعتناء الإمام بحفظ حقوق المسلمين، وإن قلت فقد نقل ابن بطال أنه روي أن ثمن العقد كان اثني عشر درهما، وفيه إشارة إلى ترك إضاعة المال, قاله الحافظ وقد مر في حديث الصحيحين، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. "فقال لي أبو بكر" قال الحافظ: لم تقل أبي؛ لأن قضية الأبوة الحنو، وما وقع من العتاب بالقول والتأديب بالفعل مغاير لذلك في الظاهر، فلذا أنزلته منزلة الأجنبي، فقال أبو بكر: "يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء على الناس، فأنزل الله تعالى الرخصة في التيمم". اختلف فيه هل هو عزيمة أو رخصة، وفصل بعضهم قال هو لعدم الماء عزيمة وللعذر رخصة، "فقال أبو بكر: إنك لمباركة" هذا لفظ الفتح، ولفظ العيون: والله يا بنية إنك كما علمت لمباركة. وكل عزى للطبراني فكأنهما روايتان له، أو الفتح اختصر وقال لها صلى الله عليه وسلم: "ما كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وفي إسناده محمد بن حميد الرازي. وفيه مقال. وفي سياقه من الفوائد: بيان عتاب أبي بكر رضي الله عنه الذي أبهم في حديث الصحيح، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين. ا. هـ. وفي هذه الغزوة   أعظم بركة قلادتك" رواه ابن إسحاق القتيبي في تفسيره، وقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية: لقد بارك الله فيكم، وفي رواية: فقال أسيد: جزاك الله خيرا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيرا، وفي رواية: إلا جعل الله لك منه مخرجا، وجعل للمسلمين فيه بركة، رواها كلها البخاري. قال الحافظ: إنما قال ذلك دون غيره؛ لأنه كان رئيس من بعث في طلب العقد الذي ضاع، قال: وقولها: فأصبنا العقد تحته ظاهر في أن الذين توجهوا في طلبه لم يجدوه. وللبخاري أيضا: فبعث رجلا فوجدها وله ولمسلم، فبعث ناسا من أصحابها في طلبها, ولأبي داود: فبعث أسيد بن حضير، وناسا معه قال: وطريق الجمع أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك، فلذا سمي في بعض الروايات دون غيره وأسند الفعل إلى واحد منهم، وهو المراد به، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا، فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد، فرواية وجدها, أي: بعد جميع ما تقدم من التفتيش وغيره انتهى ملخصا. "وفي إسناده" الحافظ "محمد بن حميد الرازي" أبو عبد الله التميمي عن ابن المبارك وخلق. وعنه أبو داود والترمذي وابن ماجه وطائفة، توفي سنة ثلاثين ومائتين، "وفيه مقال" فضعفه النسائي والجوزجاني، ووثقه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد، "وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر رضي الله عنه الذي أبهم في حديث الصحيح" في قولها: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول. "والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين" في قولها: خرجت مرة أخرى فسقط أيضا عقدي، وقول أبيها في كل سفرة "انتهى" كلام الفتح، وحاصله: هل السفر المبهم في قول عائشة في بعض أسفاره المريسيع، أو ذات الرقاع، أو الفتح أقوال، وهل سقط العقد مرتين في غزوة واحدة وهي المريسيع, أو مرتين في غزوتين "وفي هذه الغزوة" على ما عند ابن إسحاق وأهل المغازي. وعند النسائي أن ذلك كان في غزوة تبوك وأيده الحافظ, بأن في رواية للبخاري في سفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 قال ابن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه زيد بن أرقم، ذو الأذن الواعية، فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأرسل إلى ابن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد صدقك يا زيد". رواه البخاري. وكانت غيبته عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما.   أصاب الناس فيه شدة، ورجح ابن كثير الأول، بأن ابن أبي لم يخرج في غزوة تبوك، بل ورد أنه رجع بطائفة من الجيش. "قال ابن أبي" ابن سلول، رأس المنافقين: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز" يعني نفسه، "منها" أي: المدينة، "الأذل" يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحسن قول أسيد بن حضير بالموجب، لما قال له ذلك عليه السلام، قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: ارفق به فوالله لقد جاء الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا، ذكره ابن إسحاق، وذلك أنه ضرب مهاجري أنصاريا بيده, فقال الأنصاري: يا للأنصار وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها الله رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما هذا"؟ فأخبروه، فقال: "دعوها فإنها منتنة"، فقال ابن أبي أوقد: فعلوا والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" رواه البخاري عن جابر، وأورده ابن إسحاق مطولا، وسمى المهاجري جهجاه بن مسعود أجير عمر بن الخطاب والأنصاري سنان بن وبر, "فسمعه زيد بن أرقم" الأنصاري استصغر بأحد وأول مشاهده الخندق، وقيل: المريسيع، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، كما في الصحيح وله حديث كثير وشهد صفين مع علي، ومات بالكوفة سنة ست، وقيل: ثمان وستين "ذو الأذن الواعية" الضابطة لما سمعته؛ لأنه لما نقل قول ابن أبي، واتهم فيه نزل القرآن مصدقا له، فدل على قوة ضبطه وحفظه لما سمعه، "فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك" بنفسه، كما في رواية أو ذكر ذلك لعمه، فذكره عمه له صلى الله عليه وسلم كما في أخرى، وكلاهما في الصحيح، "فأرسل إلى ابن أبي وأصحابه، فخافوا ما قالوا". قال في حديث البخاري فصدقهم، وكذبني فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، "فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد صدقك يا زيد" وفي مرسل الحسن: أنه أخذ بإذنه فقال له: وفي الله بإذنك يا غلام، وكان عليه السلام لما حلف له ابن أبي قال لزيد: لعله أخطأ سمعك، "رواه" أي: أصل الحديث بمعناه، لا كونه في هذه الغزوة "البخاري" بطرق عديدة من حديث زيد. وفي الترمذي فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي: والله لا تنقلب، أي: إلى المدينة، حتى تقول إنك أنت الذليل ورسول الله العزيز، ففعل. "وكانت غيبته عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة ثمانية وعشرين يوما" وقدم المدينة لهلال رمضان، قاله ابن سعد، وفي هذه الغزوة أيضا نهى صلى الله عليه وسلم عن العزل، رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 " غزوة الخندق وهي الأحزاب ": جمع حزب، أي: طائفة فأما تسميتها بالخندق: فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره عليه الصلاة والسلام، ولم يكن اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس وكان الذي أشار به سلمان   غزوة الخندق وهي الأحزاب: هذه الترجمة للبخاري قال الحافظ: يعني أن لها اسمين وهو كما قال: والأحزاب "جمع حزب، أي: طائفة فأما تسميتها بالخندق" بفتح الخاء المعجمة وسكون النون، "فلأجل الخندق الذي حفر حول المدينة" في شاميها من طرف الحرة الشرقية إلى طرف الحرة الغربية "بأمره عليه الصلاة والسلام". روى الطبراني بسند لا بأس به عن عمرو بن عوف المزني: أنه صلى الله عليه وسلم خط الخندق من أحمر الشيخين تثنية شيخ ضد شاب، وهما أطمان تثنية أطم بضمتين، طرف بني حارثة حتى بلغ المداحج، فقطع لكل عشرة أربعين ذراعا. قال شيخنا: لعلها حاصلة من ضرب قدر من الطول في العرض، والحاصل في ذلك في العمق وليس المراد لكل عشرة أربعين طولا لزيادة ذلك على مسافة عرض المدينة بكثير لكثرة الصحابة الذين حفروا فيه، قلت: وفي رواية خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، "ولم يكن" كما أفاده السهيلي "اتخاذ الخندق من شأن العرب، ولكنه من مكايد الفرس" وحروبها جمع مكيدة، أي: حيلها التي يتوصلون بها إلى مرادهم، "و" لذا "كان الذي أشار به سلمان" الفارسي. قال ابن جرير: أول من اتخذ الخنادق موشهر بن أيرج، وإلى رأس ستين سنة من ملكه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 فقال: يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره، وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين. وأما تسميتها بالأحزاب، فلاجتماع طوائف من المشركين على حزب المسلمين، وهم: قريش وغطفان واليهود ومن تبعهم   بعث موسى عليه السلام، وأول من فعل الكمائن في الحروب بختنصر انتهى من الروض، وتبعه العيون وهو بميم مفتوحة فواو فشين معجمة فهاء ساكنة فراء، وإيرج بهمزة في أوله مكسورة فتحتية فراء فجيم، كما في نسخة صحيحة من الروض والعيون قرئت على مصنفيهما. "فقال" سلمان، كما ذكره أصحاب المغازي منهم، أبو معشر "يا رسول الله إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفرة" حول المدينة "وعمل فيه بنفسه ترغيبا للمسلمين"، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه وجاء المشركون فحاصروهم. وذكر ابن سعد وغيره أنه لما تهيأت قريش للخروج، أتى ركب خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أربع ليال حتى أخبروه، فندب الناس وأخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم أيبرز من المدينة، أم يكون فيها ويحاربهم عليها؟، وفي طرقها، فأشار سلمان بالخندق، فأعجبهم وأحبوا الثبات بالمدينة وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالجد ووعدهم النصران إن هم صبروا واتقوا وأمرهم بالطاعة. "وأما تسميتها بالأحزاب فلاجتماع طوائف من المشركين على حرب المسلمين وهم قريش وغطفان واليهود"، عد اليهود مشركين وإن كانوا أهل كتاب؛ لأنهم لما ظاهروهم وخالفوا ما يعلمونه من كتابهم المقتضي لمبادرتهم للإسلام، أفلا أقل من كف الأذى وترك القتال، كانوا كأنهم منهم أو ضمهم إليهم بالتبعية؛ لأن الجل مشركون، أو لأن المراد مطلق الكفار، كما هو المراد بهم إذا أفردوا، فإن جمعوا فعباد الأوثان، "ومن تبعهم" كبني سليم. ذكر موسى بن عقبة في المغازي، قال: خرج حيي بن أخطب بعد بني النضير إلى مكة يحرض المشركين على حربه صلى الله عليه وسلم، وخرج كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق يسعى في غطفان، ويحرضهم على قتاله على أن لهم نصف تمر خيبر، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك، وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طليحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش، فنزلوا بمر الظهران فجاءهم من أجابهم من بني سليم مددا لهم، فصاروا في جمع عظيم فهم الذين سماهم الله الأحزاب. وذكر الواقدي أنهم جعلوا لهم تمر خيبر سنة، ولعلهما كان قصدهما خروج حيي لمكة وكنانة لغطفان ابتداء ثم طرأ لهما الذهاب جملة لمكة، ثم لغطفان فلا ينافي رواية ابن إسحاق الآتية لذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وقد أنزل الله تعالى في القصة صدرا من سورة الأحزاب. واختلف في تاريخها: فقال موسى بن عقبة: كانت سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي. ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة، وقواه بقول ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة فلم يجزه، وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه   "وقد أنزل الله تعالى في هذه القصة صدرا" أي: جملة، "من سورة الأحزاب" من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11] ، إلى قوله: {قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] سميت صدرا لارتفاعها على غيرها من بقية السورة من حيث دلالتها على فضل المؤمنين، وثباتهم وخبث المنافقين وعنادهم. وفي المصباح صدر المجلس مرتفعه. "واختلف في تاريخها فقال موسى بن عقبة" في مغازيه التي شهد مالك والشافعي بأنها أصح المغازي "كانت سنة أربع". قال الحافظ: وتابع على ذلك الإمام مالك أخرجه أحمد عن موسى بن داود عنه. "وقال ابن إسحاق:" كانت "في شوال سنة خمس، وبذلك جزم غيره من أهل المغازي". قال ابن القيم: وهو الأصح والذهبي هو المقطوع به، والحافظ هو المعتمد، انتهى غايته أن ابن سعد وشيخه قالا: كانت في ذي القعدة "ومال البخاري إلى قول موسى بن عقبة" فنقله عنه مقتصرا عليه، "وقواه بقول ابن عمر" الذي أخرجه أول أحاديث الباب عن نافع عنه بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد". قال الحافظ: عرض الجيش اختبار أحوالهم قبل مباشرة القتال للنظر في هيآتهم، وترتيب منازلهم وغير ذلك، "وهو ابن أربع عشرة" سنة. وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم يأذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه". وفي رواية مسلم: عرضني يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، "فلم يجزه" بضم أوله وكسر الجيم فزاي، أي: لم يمضه، ولم أذن له لعدم أهليته للقتال، "وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة" سنة، "فأجازه". قال الحافظ: أي: أمضاه وأذن له في القتال. وقال الكرماني: أجازه من الإجازة وهي للأنفال، أي: أسهم له، قلت: والأول أولى، ويرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث، فيكون الخندق في سنة أربع. ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس، لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي. وقال الشيخ ولي الدين بن العراقي: والمشهور أنها في السنة الرابعة. وكان من حديث هذه الغزوة:   الثاني هنا أنه لم يكن في غزوة الخندق غنيمة يحصل منها نقل. وفي حديث أبي واقد الليثي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد إلى الذراري، فهذا يوضح أن المراد بالإجازة الإمضاء للقتال؛ لأن ذلك كان في مبدأ الأمر قبل حصول الغنيمة، أن لو حصلت غنيمة ا. هـ. وعلى هذا "فيكون بينهما سنة واحدة، وأحد كانت سنة ثلاث" باتفاق "فيكون الخندق في سنة أربع" كما قال ابن عقبة، "ولا حجة فيه إذا ثبت أنها كانت سنة خمس"، كما جزم به أهل المغازي "لاحتمال أن يكون ابن عمر في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب استكمل الخمس عشرة، وبهذا أجاب البيهقي". زاد الحافظ ويؤيد قول ابن إسحاق: أن أبا سفيان قال للمسلمين لما رجع من أحد: موعدكم العام المقبل ببدر، فخرج صلى الله عليه وسلم من السنة المقبلة إليها، فلم يأت أبو سفيان للجدب، فرجعوا بعد أن وصلوا إلى عسفان، أو دونها، ذكره ابن إسحاق وغيره، وقد بين البيهقي سبب هذا الاختلاف، وهو أن جماعة من السلف كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة، ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، وعلى ذلك جرى يعقوب بن سفيان في تاريخه، فذكر أن غزوة بدر الكبرى كانت في السنة الأولى، وأحد في الثانية، والخندق في الرابعة، وهذا عمل صحيح على ذلك البناء لكنه بناء واه مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة، وعلى ذلك تكون بدر في الثانية، وأحد في الثالثة، والخندق في الخامسة، وهو المعتمد، ا. هـ. "و" لكن "قال الشيخ" الحافظ ابن الحافظ "ولي الدين بن العراقي المشهور: أنها" أي: الخندق، "في السنة الرابعة" حقيقة لمزيد إتقان القائلين بذلك كيف وهم موسى بن عقبة ومالك والبخاري، ولذا صححه النووي في الروضة. "وكان من حديث" أي: سبب هذه الغزوة، "هذه الغزوة" كما رواه ابن إسحاق بأسانيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 أن نفرا من يهود خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله، فاجتمعوا لذلك واتعدوا له. ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان، فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد بايعوهم على ذلك واجتمعوا معهم. فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن   كلها مرسلة، "أن نفرا من يهود" منهم سلام بن مشكم وابن أبي الحقيق وحيي وكنانة النضيريون وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان، "خرجوا" من خيبر "حتى قدموا على قريش مكة، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله". قال في رواية ابن إسحاق: فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دينه، قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} فسر ذلك قريشا ونشطوا لما دعوهم إليه، "فاجتمعوا لذلك واتعدوا له" أي: تواعدوا على وقت يخرجون فيه، وفي نسخة: واستعدوا له، والأول هو الرواية في ابن إسحاق والمناسب لقوله، "ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان" بعين مهملة. قال الجوهري: وليس في العرب عيلان غيره، وهو في الأصل اسم فرسه، ويقال هو لقب مضر؛ لأنه يقال قيس بن عيلان، "فدعوهم إلى حربه عليه الصلاة والسلام وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه". قال الواقدي: وجعلوا لهم خيبر سنة إن هم نصروهم، "وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فخرجت قريش" في أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وحمله عثمان بن أبي طلحة "وقائدها أبو سفيان بن حرب" المسلم في الفتح، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفا وخمسمائة بعير ولاقتهم بنو سليم بمر الظهران في سبعمائة يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وخرجت معهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خويلد الأسدي، قاله ابن سعد، وأسلم طليحة بعد ذلك. "وخرجت غطفان وقائدها يينة بن حصن" بن حذيفة بن بدر الفزاري، "في فزارة" قبيلته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 في فزارة، والحارث بن عوف المري في مرة. وكان عدتهم -فيما ذكره ابن إسحاق- عشرة الآف, والمسلمون ثلاثة آلاف وقيل غير ذلك.   وكانو ألفا. قال في الروض: سمي عيينه لشتر كان بعينيه واسمه حذيفة، وهو الذي قال في صلى الله عليه وسلم: "الأحمق المطاع" لأنه كان يتبعه عشرة الآف قناة. وقال فيه أيضا: إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره. وفي رواية: إني أداريه لأني أخشى أن يفسد علي خلقا كثيرا، وفيه بيان معنى الشر الذي أتقي منه، ودخل عليه صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فقال له: "أين الإذن"، قال: "ما استأذنت على مضري قبلك"، وقال: "ما هذه الحميراء معك"؟ قال: "عائشة بنت أبي بكر"، فقال: "طلقها"، وأنزل لك عن أم البنين في أمور كثيرة من جفائه أسلم، ثم ارتد وآمن بطليحة حتى تنبأ، وأخذ أسيرا، فأتي به للصديق، فمن عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات. قال الشاعر: وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة أعرابيتي لأديب ا. هـ. "والحارث بن عوف المري" بضم الميم وشد الراء، أسلم بعد تبوك في وفد قومه بني مرة، وكانوا ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث أحد الفرسان المشهورين "في" بني "مرة" وكانوا أربعمائة. زاد ابن سعد: وخرجت أشجع، وهم أربعمائة يقودهم مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء، وأسلم بعد وخرج معهم غيرهم. قال: وقد روى الزهري: أن الحارث بن عوف رجع ببني مرة، فلم يشهد الخندق منهم أحد، وكذلك روت بنو مرة والأول أثبت ا. هـ. "وكان عدتهم فيما ذكره ابن إسحاق" بأسانيده, وابن سعد "عشرة الآف". قال ابن سعد: وكانوا ثلاثة عساكر، وعاج الأمر إلى أبي سفيان، قالا أيضا: "والمسلمون ثلاثة آلاف". قال الشامي: وهو الصحيح المشهور "وقيل غير ذلك". قال في الفتح: وقيل: كان المشركون أربعة آلاف، والمسلمون نحو الألف. ونقل ابن القيم في الهدى عن ابن إسحاق أن المسلمين كانوا سبعمائة. قال: وهذا غلط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرسا. ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب، ما أجمعوا عليه من الأمر، ضرب على المسلمين الخندق، فعمل فيه عليه الصلاة والسلام ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون، فدأب ودأبوا. وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك ناس من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف عن العمل   من خروجه يوم أحد. قال الشامي: ولا دليل في قول جابر في قصة الطعام، وكانوا ألفا؛ لأنه أراد الآكلين فقط لا عدة من حضر الخندق ا. هـ. وقيل: كان المشركون خمسة عشر ألفا، كذا حكاه في النهر. قال ابنا سعد وهشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. "وذكر ابن سعد أنه كان مع المسلمين سنة وثلاثون فرسا، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحزاب وما أجمعوا عليه من الأمر" الذي زعموه، وهو استئصال المسلمين "ضرب على المسلمين الخندق"، أي: جعل على كل عشرة أربعين ذراعا كما مر، وكان الخندق بسطة أو نحوها، "فعمل فيه عليه الصلاة والسلام" بنفسه "ترغيبا للمسلمين في الأجر، وعمل معه المسلمون فدأب ودأبوا" جدوا وتعبوا، حتى كان سلمان يعمل عمل عشرة رجال حتى عانه قيس بن صعصعة، أي: أصابه بالعين فلبط، بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة، أي: صرع فجأة من عين، أو علة وهو ملتو، فقال صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتوضأ وليغتسل به سلمان وليكفئ الإناء خلفه" ففعل، فكأنما حل من عقال. وعند الطبراني: وت نافس المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقال الأنصار: سلمان منا. فقال صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" بنصب أهل على الاختصاص، أو على إضمار، أعني وأما الخفض على البدل فلم يجزه سيبويه من ضمير المتكلم، ولا من ضمير المخاطب؛ لأنه في غاية البيان، وأجازه الأخفش، قاله السهيلي. "وأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في عملهم ذلك" أي: تأخر عن العمل معهم، "ناس من المنافقين" وهذا كالاستثناء من دأب ودأبوا، كأنه قال: إلا المنافقين وإنما أخرجوا؛ لأنهم مسلمون ظاهرا، "وجعلوا يورون بالضعف عن العمل" أي: يخفون مقصودهم من خذلان المسلمين بإظهار الضعف. ففي القاموس وراه تورية أخفاه كواراه أو يتعللون به سماه تورية، لإظهارهم خلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق، وهم يحفرون ونحن ننقل التراب على أكتادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار". والأكتاد: بالمثناة الفوقية- جمع كتد -بفتح أله وكسر المثناة- وهو ما بين الكاهل إلى الظهر، وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بالموحدة، وهي موجه على أن المراد به مما يلي الكبد من الجنب.   قصدهم من عدم إعانة المسلمين وخذلانهم، وأبرزوه في صورة الضعف، لكن حيث صح المعنى اللغوي بالحقيقة، فلا معدل عنه للمجاز. "وفي البخاري" ثاني حديث في هذا الباب. "عن سهل بن سعد" الساعدي "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الخندق وهم يحفرون" بكسر الفاء "ونحن ننقل التراب على أكتادنا" بالتاء والباء. وفي حديث أنس: على متونهم كما عند البخاري. ق ال الحافظ: ووهم ابن التين فعزا هذه اللفظة لحديث سهل. "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله لا عيش" دائم "إلا عيش الآخرة". قال الداودي: إنما قال ابن رواحة: لا هم إن العيش بلا ألف ولام، فأورده بعض الرواة على المعنى. قال الحافظ: وحمله على ذلك ظنه أنه يصير بالألف واللام غير موزون، وليس كذلك بل يكون دخله الجزم، ومن صوره زيادة شيء من حروف المعاني في أول الجزء "فاغفر للمهاجرين والأنصار"، وفي حديث أنس بعده، " فاغفر للأنصار والمهاجرة". قال الحافظ: وكلاهما غير موزون، ولعله صلى الله عليه وسلم تعمد ذلك، ولعل أصله فاغفر للأنصار وللمهاجرة بتسهيل همزة الأنصار، وباللام في المهاجرة، وفي الرواية الأخرى فبارك بدل فاغفر، "والأكتاد بالمثناة الفوقية، جمع كتد، بفتح أوله وكسر المثناة". زاد المصباح وفتحها "ما بين الكاهل" كصاحب الحارك، أو مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق وهو الثلث الأعلى، وفيه ست فقرات، أو ما بين الكتفين، أو موصل العنق في الصلب، كما في القاموس "إلى الظهر". وقال ابن السكيت: الكتد مجتمع الكتفين، وحاصل المعنى أنهم كانوا يحملون على أكتافهم أعالي ظهورهم، "وفي بعض نسخ البخاري: أكبادنا بموحدة، وهو موجه على أن المرد به ما يلي الكبد من الجنب" لاستحالة الحقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 وفي البخاري أيضا: عن أنس: فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة" فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا قال ابن بطال: وقوله: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، هو من قول ابن رواحة تمثل به عليه الصلاة والسلام   "وفي البخاري أيضا" ثالث حديث في الباب عن حميد، "عن أنس": خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، "فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم". قال الحافظ: أي: إنهم عملوا فيه بأنفسهم لاحتياجهم إلى ذلك لا مجرد الرغبة في الأجر، "فلما رأى ما بهم من النصب" بفتح النون والصاد التعب "والجوع". "قال:" وفي رواية أبي الوقت فقال: والأولى أولى؛ لأن جواب لما لا يقترن بالفاء "صلى الله عليه وسلم" وفي هذا كما قال الفتح بيان سبب قوله: "اللهم إن العيش" المعتبر الدائم "عيش الآخرة " لا عيش الدنيا لكدورته، وكونه مع المنغصات التي لا تتناهى، ثم بعد هو فإن وإن طال قل متاع الدنيا قليل، هكذا رواية أنس في الصحيح كما سقته. ومت رواية سهل لا عيش إلا عيش الآخرة، وما يقع في نسخ من جعله كذلك في خبر أنس مخالف للبخاري. "فاغفر للأنصار والمهاجرة" بكسر الجيم وسكون الهاء، "فقالوا": أي الطائفتان حال كونهم، "مجيبين له نحن الذين بايعوا" صفة الذين لا صفة نحن، قاله الفتح "محمدا على الجهاد". وفي رواية عبد العزيز، عن أنس عند البخاري على الإسلام بدل الجهاد، والأول أثبت، قاله الحافظ. "ما بقينا أبدا. قال ابن بطال وقوله: اللهم لا عيش إلى عيش الآخرة، هو من قول ابن رواحة" عبد الله الصحابي الشهير "تمثل به عليه الصلاة والسلام" قال: ولو لم يكن من لفظه لم يكن بذلك شاعرا، قال: وإنما يسمى شاعرا من قصده، وعلم السبب والوتد، وجميع معايبه من الزحاف ونحو ذلك، قال الحافظ كذا، قال: وعلم الوتد إلخ، إنما تلقوه من العروض التي اخترع ترتيبها الخليل بن أحمد وقد كان من شعراء الجاهلية والمخضرمين والطبقة الأولى والثانية من شعراء الإسلام قبل أن يضعه الخليل، كما قال أبو العتاهية، أن أقدم من العروض، يعني أنه نظم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وعند الحارث بن أبي أسامة من مرسل طاوس زيادة في آخر الرجز: والعن عضلا والقارة ... هم كلفونا ننقل الحجارة وفي البخاري من حديث البراء قال: لما كان يوم الأحزاب، وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه،   الشعر قبل وضعه: وقال أبو عبد الله بن الحجاج الكاتب: قد كان شعر الورى قديما ... من قبل أن يخلق الخليل ا. هـ. "وعند الحارث" بن محمد "بن أبي أسامة" داهر الحافظ المشهور، "من مرسل طاوس" بن كيسان اليماني الفارسي تابعي ثقة، فقيه، كثير الحديث. يقال اسمه ذكوان وطاوس لقب. مات سنة ست ومائة، وقيل بعدها "زيادة في آخر" هذا "الرجز" هي: والعن عضلا والقاره ... هم كلفونا ننقل الحجاره قال الحافظ: والأول غير موزون أيضا، ولعله والعن الهي عضلا والقارة. وفي رواية عبد العزيز عن أنس عند البخاري: وينقلون التراب على متونهم وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الإسلام ما بقينا أبدا يقول صلى الله عليه وسلم وهو يجيبهم: "اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فبارك في الأنصار والمهاجره". قال الحافظ: ولا أثر للتقديم والتأخير فيه؛ لأنه يحمل على أنه كان يقول إذا قالوا ويقولون إذا قال، يعني يجيبونه تارة ويجيبهم أخرى، قال: وفيه أن في إنشاد الشعر تنشيطا في العمل، وبذلك جرت عادتهم في الحرب، وأكثر ما يستعملون في ذلك الرجز. "وفي البخاري" من طريقين ذكر المصنف الثانية "من حديث البراء" بن عازب، "قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى" أخفى، "عني الغبار" لتراكمه، "جلدة بطنه". وفي الطريق الأولى حتى أغمر أو اغبر بطنه بالشك، وغين معجمة فيهما، فإما بالموحدة فواضح، وإما بالميم. فقال الخطابي: إن كانت محفوظة فمعناها وارى التراب جلدة بطنه، أي: فبطنه بالنصب، ومنه غمار الناس وهو جمعهم إذا تكاثف، ودخل بعضهم في بعض. قال: وروي اعفر بمهملة وفاء، والعفر بالتحريك التراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وكان كثير الشعر، فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة، وهو ينقل التراب ويقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إن الأولى قد رغبوا علينا   قال عياض: وقع للأكثر بمهملة وفاء وبمعجمة وموحدة، فمنهم من ضبطه بنصب بطنه، ومنهم من ضبطه برفعها. وعند النسفي حتى غبر بطنه، أو أغبر بمعجمة فيهما وموحدة. ولأبي ذر وأبي زيد: حتى أغمر. قال: ولا وجه لها إلا أن تكون بمعنى ستر، كما في الرواية الأخرى حتى وارى عني التراب جلدة بطنه. قال: وأوجه هذه الروايات اغبر بمعجمة وموحدة، ورفع بطنه. "وكان كثير الشعر" بفتحتين، أي: شعر بطنه، وفي حديث أم سلمة عند أحمد بسند صحيح كان صلى الله عليه وسلم يعاطيهم اللبن يوم الخندق، وقد أغبر شعر صدره، وظاهره أنه كان كثير شعر الصدر، وليس كذلك فإن في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان دقيق المسربة، أي: الشعر، الذي في الصدر إلى البط، فيمكن أن يجمع بأنه كان مع دقته كثيرا، أي: لم يكن منتشرا بل كان مستطيلا، والله أعلم انتهى كله من الفتح. "فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب ويقول: اللهم" وفي الطريق الأولى والله، "لولا أنت ما اهتدينا" وعلى الطريق الأولى وهو موزون، وأما الثانية فقال الزركشي: صوابه في الوزن لا هم، أو تالله لولا أنت، قال الدماميني: هذا عجيب، فإنه صلى الله عليه وسلم هو المتمثل بهذا الكلام والوزن لا يجري على لسانه الشريف غالبا. قلت: إنما قال صوابه في الوزن، ولا عجب في ذلك أصلا. "ولا تصدقنا" ولفظ أبي يعلى: اللهم لولا أنت، وقال بدل تصدقنا صمنا كذا في الشامية، ومراده أنه ذكره بإحدى روايتي الصحيح في أوله، وأبدل تصدقنا بصمنا كما هو ظاهر جدا، إلا أنه انفرد عن البخاري بلفظ: اللهم لولا أنت، كما توهم فإنه فاسد لثبوتها في البخاري "ولا صلينا فأنزلن" بنون التوكيد الخفيفة "سكينة" بالتنكير، أي: وقارا، "علينا" هكذا رواية البخاري في المغازي من الطريقين، وله في الجهاد: فأنزل السكينة علينا، وللحموي والمستملي: فأنزل سكينة، وللكشميهني كما هنا، "وثبت" قوّ "الأقدام إن لاقينا" العدو "إن الأولى" هو من الألفاظ الموصولات، لا من أسماء الإشارة جمعا للمذكر، "قد رغبوا" بغين معجمة، العدو "علينا" أي: على قتالنا. قال الحافظ: كذا للسرخسي، والكشميهني، وأبي الوقت، والأصيلي، وابن عساكر وللباقين قد بغوا كالأولى، لكن الأصيلي ضبطها بالعين المهملة الثقيلة والموحدة، وضبطها في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 إذا أرادوا فتنة أبينا قال: ويمد بها صوته ... وفي روية له أيضا: إن الأولى بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا وفي حديث سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي أنه صلى الله عليه وسلم ضرب في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا حبذا ربا و ..............   المطالع بالغين المعجمة، وكذا ضبطت في رواية أبي الوقت لكن بزاي أوله، والمشهور ما في المطالع ا. هـ، وعلى خلاف المشهور، وهو الإهمال فتشديد رعبوا للمبالغة، أي: رعبوا المسلمين بتحزبهم علينا، فلا حاجة إلى أنه ضمنه معنى جمعوا، فعداه بعلي مع أنه يتعدى بنفسه وبالهمزة، "إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة، الفرار، كما رجحه عياض وبالفوقية، أي: جئنا وأقدمنا على عدونا، وتتمة حديث البراء من هذا الطريق لفظها "قال:" ثم يمد صوته بآخرها. قال المصنف كالحافظ، أي: بقوله: أبينا، ولفظه في الطريق الأولى ورفع صوته أبينا أبينا، وكان المصنف ذكر حاصل معنى الروايتين بقوله: "ويمد بها صوته" أي: باللفظة الأخيرة لا بالجميع. "وفي رواية له" للبخاري "أيضا" في الطريق الأولى: "إن الأولى بغوا علينا، إذا أرادوا فتنة أبينا". قال الحافظ: ليس بموزون وتحريره إن الذين قد بغوا علينا، فذكر الراوي الأولى بعنى الذين وحذف قد وزعم ابن التين أن المحذوف هم وقد والأصل أن الأولى هم قد بغوا علينا وهو يتزن بما قال لكن لم يتعين، وذكر بعض الرواة في مسلم أبوا بدل بغوا، ومعناه صحيح، أي: أبوا أن يدخلوا في ديننا. "وفي حديث" الحارث بن أبي أسامة من طريق "سليمان" بن طرخان "التيمي" أبي المعتمر البصري، نزل في التيم فنسب إليهم الثقة العابد، المتوفى سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو ابن سبع وتسعين سنة. روى له الجميع "عن أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل، بميم مثلثة ولام ثقيلة "النهدي" بفتح النون وسكون الهاء، ثقة عابد مخضرم، مات سنة خمس وتسعين، وقيل بعدها وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر. روى له الستة وهو مرسل، وقد أخرجه البيهقي موصولا عن سلمان "أنه صلى الله عليه وسلم حين ضرب في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا" لا بحولنا وقوتنا، "ولو عبدنا غيره شقينا، حبذا ربا" هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 ............. حبذا دينا قال في النهاية: يقال بديت بالشيء -بكسر الدال- أي: بدأت به، فلما خفف الهمزة كسر الدال، فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء. ا. هـ. وقد وقع في حفر الخندق آيات من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام. منها ما في الصحاح عن جابر قال: إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة -وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة- .........   "وحبذا دينا" ديننا، وهذا غير موزون، ويتزن بإسكان باء حبذا، الثانية لكن الذي في الفتح عن رواية النهدي هذه حبذا ربا حبذ دينا بإسقاط ذا الثانية وهذا موزون. "قال في النهاية يقال: بديت بالشيء بكسر الدال، أي: بدأت به، فلما خفف الهمز كسر الدال فانقلبت الهمزة ياء، وليس هو من بنات الياء" أي: ليس فيه أصلية، "انتهى". قال شيخنا: يرد عليه أن الدال مكسورة قبل التخفيف، إذ الظاهر من قوله بديت أن كسره أصلي غايته أن مكسور الدال بمعنى مفتوحها، اللهم إلا أن يقال المراد إن مكسور الدال أصله الفتح فقلبت الهمزة ياء، ثم كسرت الدال لمناسبة الياء، "وقد وقع في حفر الخندق آيات" علامات "من أعلام" جمع علم، وهو العلامة وجمعها علامات فكأنه قال وقع علامات هي بعض علامات "نبوته عليه الصلاة والسلام" وتفنن فعبر أولا بالآيات، وثانيا بإعلام "منها ما في الصحاح" البخاري وغيره. "عن جابر قال: إنا" بتشديد النون "يوم الخندق" ظرف لقوله: "نحفر" أي: كنا في وقت حفرنا مشغولين به. وفي رواية الإسماعيلي: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق نحفر "فعرضت" أي: ظهرت، "كدية شديدة، وهي بضم الكاف وتقديم الدال المهملة على التحتية، وهي القطعة الصلبة" من الأرض لا يعمل فيها المعول، وبهذه الرواية صدر المصنف في شرح البخاري، وعزاها الحافظ لرواية الإسماعيلي وأحمد وصدر بقوله كيدة كذا لأبي ذر بفتح الكاف وسكون التحتية، قيل: هي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض. وقال عياض: كأن المراد أنها واحدة الكيد، كأنهم أرادوا أن الكيد وهو الحيلة أعجزهم، فلجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وللأصيلي عن الجرجاني كندة بالنون. وعند ابن السكن: كتدة بفوقية. قال عياض: لا أعرف لهما معنى ا. هـ. وحكى الأنصاري كبدة بفتح الكاف، وسكون الموحدة انتهى فهي خمسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم. كذا بالشك من الراوي، وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك،   وفي شرح المصنف عن الفتح: أن رواية الجرجاني بفتح الكاف والموحدة، أي: قطعة صلبة من الأرض لكن الذي في الفتح كما رأيت بالنون، "فجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق". وفي رواية الإسماعيلي فقال: رشوها بالماء، فرشوها "فقام وبطنه معصوب بحجر" زاد في رواية من الجوع، ولأحمد أصابهم جهد شديد حتى ربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرا من الجوع. قال الحافظ: وفائدة ربطه على البطن أنها تضمر من الجوع، فيخشى على انحناء الصلب بواسطة ذلك، فإذا وضع فوقها الحجر وشد عليها العصابة استقام الظهر. وقال الكرماني: لعله لتسكين حرارة الجوع ببرد الحجر، أو لأنها حجارة رقاق قدر البطن تشد الأمعاء، لئلا يتحلل شيء مما في البطن، فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل، "ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا" بفتح الذال المعجمة، أي: شيئا. قال الحافظ وهي جملة معترضة أوردها لبيان السبب في ربطه صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه.. وزاد الإسماعيلي: ولا نطعم شيئا، ولا نقدر عليه ا. هـ. قال شيخنا: أو لبيان اجتهاد الصحابة ومبالغتهم في امتثال أمره، وإن كانوا على غاية من الجهد وتوطئة لصنع جابر للطعام. "فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو بعدها لام، أي: المسحاة. وفي رواية أحمد: فأخذ المعول، أو المسحاة بالشك أي: في اللفظ الذي قاله وإن اتحدا معنى "فضرب" في رواية الإسماعيلي، ثم سمي ثلاثا، ثم ضرب "فعاد" المضروب "كثيبا" بمثلثة، أي: رملا "أهيل" بفتح الهمزة والتحتية بينهما هاء ساكنة آخره لام. وعند ابن إسحاق بلاغا عن جابر أنه دعا بإناء من ماء فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق لاهالت حتى عادت مثل الكثيب، لا ترد فاسا ولا مسحاة "أو أهيم" بالميم بدل اللام، "كذا بالشك من الراوي" ولم يعينه الحافظ ولا غيره. "وفي رواية الإسماعيلي باللام من غير شك" كما في الفتح. قال: وكذا عند يونس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 والمعنى: أنه صار رملا يسيل ولا يتماسك. وأهيم: بمعنى أهيل. وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] المراد: الرمال التي لا يرويها الماء. وقد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول   وفي رواية أحمد كثيبا يهال، "والمعنى أنه صار رملا يسيل، ولا يتماسك" قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} الآية، أي: رملا سائلا، "و" أما "أهيم" بالميم، فقال عياض: ضبطها بعضهم بالمثلثة، وبعضهم بالمثناة، وهي "بمعنى أهيل" باللام، ووقع للمصنف في شرح البخاري أن رواية الإسماعيلي بالميم، فكأنه سبق قلم، فما بعد هذا البيان من الحافظ بيان، "وقد قيل في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} المراد الرمال التي لا يرويها الماء" أي: لا يظهر أثره فيها لكثرتها شبه ظهور الماء، بزوال العطش الذي هو الري، واستعير له اسمه، ثم اشتق منه الفعل على أنه جمع هيام بالفتح كسحاب، فخفف بنقل حركة الياء إلى الهاء بعد سلب حركتها، أو حذفت ضمتها بلا نقل، ثم قلبت كسرة لتسلم الياء، فصار هيم كما أشار إليه البيضاوي، وصدر بأن المراد الإبل التي بها الهيام، أي: بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمة: فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضي عليها هيامها ا. هـ. وما أفاده من اختلاف مفرده بالمعنيين قد ينافي ما يشعر المصنف من ن أهيم يجمع على هيم، فلا يختص بالإبل اللهم إلا أن يكون إذا وصف به الكثيب جمع على هيم، ولا يطلق إلا هيم على الرمل بل الهيام، وإذا جمع قيل هيم، و"قد وقع عند أحمد والنسائي في هذه القصة زيادة بإسناد حسن من حديث البراء" بن عازب "قال: لما كان" تامة وفاعلها "حين" بالبناء على الفتح لإضافته إلى الجملة الماضوية في قوله: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو الأكثر لإضافته إلى مبني، ويجوز فيه الإعراب أو كان ناقصة، أي: عملنا في الخندق حاصلا حين أمرنا "بحفر الخندق"، وجواب لما هو قوله: "عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول" جمع معول، وهو الفأس العظيمة التي ينقر بها قوي الصخر، كما في الجوهري. وقول شيخنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 فاشتكينا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء وأخذ المعول فقال: بسم الله، ثم ضرب ضربة فنشر ثلثها، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة وقال بسم الله فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.   جوابها محذوف، أي: لما كان زمن أمره بالحفر حفرنا؛ لأن نسخته فعرضت بالفاء لكن الثابت في النسخ الصحيحة، وهو الذي رأيته في الفتح في نسختين صحيحتين عرضت بدون فاء فهي الجواب على أنه قد يقترن بالفاء جواب لما، فلا حاجة للتقدير، "فاشتكينا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء وأخذ المعول" من سلمان "فقال: بسم الله، ثم ضربه فنشر" بشين معجمة قطع، والذي في الفتح فكسر "ثلثها" بالمعول. وفي رواية: فخرج نور أضاء ما بين لابتي المدينة، "وقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة" من مكاني" "ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر". زاد في رواية: فبرقت برقة من جهة فارس أضاء ما بين لابتيها، "فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن" مدائن كسرى "الأبيض" لعل المراد به قصر كسرى المعد له "الآن". وفي رواية: والله إني لأبصر قصور الحيرة، ومدائن كسرى، كأنها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا بالنصر، فسر المسلمون، "ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر". زاد في رواية فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كان مصباحا في جوف ليل مظلم، "فقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة" " وهذا الحديث الحسن لا يعارضه رواية ابن إسحاق بلفظ عن سلمان فذكره، وفيه أما الأولى فإن الله فتح بها على اليمن، والثانية الشام والمغرب، والثالثة المشرق فارس؛ لأنه منقطع، فلا يعارض المسند المرفوع الحسن، ومن ثم لم يلتفت الحافظ لرواية ابن إسحاق وإن تبعه عليها اليعمري وغيره، بل اقتصر على هذا الحديث وأيده، بأن طرقه تعددت بقوله عقبه، وللطبراني من حديث عبد الله بن عمر ونحوه، وأخرجه البيهقي مطولا من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده. وفي رواية: خط صلى الله عليه وسلم الخندق لكل عشرة أناس عشرة أذرع، وفيه فمرت بنا صخرة بيضاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 ومن أعلام نبوته ما ثبت في الصحيح من حديث جابر من تكثير الطعام والقليل يوم حفر الخندق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره. وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق قريبا من عشرين ليلة. وعند الواقدي: أربعا وعشرين. وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما. وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا.   كسرت معاويلنا، فأردنا أن نعدل عنها ثم قلنا حتى نشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلنا إليه سلمان، وفيه فضرب ضربة صدع الصخرة، وبرق منها برقة، فكبر وكبر المسلمون، وفيه رأيناك تكبر فكبرنا بتكبيرك قال: "إن البرقة الأولى أضاءت لها قصور الشام فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم"، وفي آخره ففرح المسلمون واستبشروا، وأخرجه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاصي بنحوه ا. هـ. قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن أبي هريرة، أنه كان يقول حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر وعثمان افتحوا ما بدا لكم، والذي نفس أبي هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة، ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك. "ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيح من حديث جابر" المتقدم أوله في حديث الكدية "من تكثير الطعام القليل" وهو صاع من شعير وعنز صغير "يوم حفر الخندق" فجاء بالقوم وهم ألف، فبصق في العجين والبرمة. قال جابر: فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه، وإن برمتنا كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى، مستوفى في مقصد المعجزات مع غيره". ومنها خبر الحفنة من التمر التي جاءت بها ابنة بشير بن سعد، أخت النعمان لأبيها وخالها ابن رواحة ليتغديا به، فقال لها صلى الله عليه وسلم: "هاتيه فصبته في كفيه" فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم قال لإنسان: "اصرخ في أهل الخندق، أن هلموا إلى الغداء"، فاجتمعوا عليه فجعلوا يأكلون، وجعل يزيد حتى صدروا عنه، وإنه ليسقط من أطرا الثوب رواه ابن إسحاق، "وقد وقع عند موسى بن عقبة أنهم أقاموا في عمل الخندق" أي: مدة حفره، "قريبا من عشرين ليلة، وعند الواقدي: أربعا وعشرين" وعند ابن سعد: ستة أيام. قال السمهودي، وهو المعروف. "وفي الروضة للنووي: خمسة عشر يوما، وفي الهدي النبوي لابن القيم: أقاموا شهرا" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وتهامة. ونزل عيينة بن حصن في غطفان ومن تبعهم من أهل نجد إلى جانب أحد.   كذا قاله المصنف تبعا للفتح حرفا بحرف، ورد ذلك الشريف السمهوري، بأن الذي في الروضة، والهدي ومغازي ابن عقبة، إنما هو في مدة الحصار، لا في عمل الخندق، ثم استدرك على الرد بأن ابن سيد الناس بعد نقله عن ابن سعد، أنه كمل في ستة أيام. قال وغيره يقول بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعا وعشرين ا. هـ، وليست بواثق من هذا التعقب، فإن الحافظ نقل أولا عن ابن عقبة، أن مدة الحصار عشرون يوما، ثم بعد قليل ذكر هذا الخلاف في مدة الحفر، وتوهيم مثله بمجرد نسخ قد يكون سقط منها أحد الموضعين، لا ينبغي فإنه لا يجازف في النقل. قال ابن إسحاق: "ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من: حفر "الخندق, أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع" بضم الميم الأولى، وسكون الجيم، وفتح الفوقية والميم الثانية، أي: الموضع الذي تجتمع فيه "السيول" جمع سيل, كما في القاموس وغيره، ويجمع أيضا على أسيال. وفي ابن إسحاق على أسيال من رومة بين الجرف وزغابة. قال السهيلي: بزاي مفتوحة وغين منقوطة، وقيل: بضم الراء وعين مهملة اسم موضع ذكرهما البكري، مقدما الثاني وحكي عن الطبري، أنه قال في هذا الحديث: بين الجرف والغابة، واختار هذه الرواية، وقال: لأن زغابة لا تعرف وإلا عرف عندي رواية الغين المنقوطة لحديث: ألا تعجبون لهذا الأعرابي، أهدى إلي ناقتي أعرفها بعينها ذهبت مني يوم زغابة، وقد كافأته بست فيسخط ا. هـ، وتحققت ووجدت جملة قريش، ومن معهم "في عشرة آلاف" منهم، "ومن أحابيشهم" فهو ظرف لمقدر لا لقريش، وإلا لاقتضى أنهم ليسوا من العشرة والجار والمجرور عطف على محذوف مع حذف العاطف، حتى لا يقتضي ذلك أيضا، مع أن الجميع عند ابن إسحاق الذي هذا كلامه عشرة آلاف فقط، ثم الأحابيش الحلفاء من التحبيش التجميع لتجمعهم على أنهم يد واحدة، أو لتحالفهم بذنبة حبشي جبل بأسفل مكة، أو واديها كما مر في أحد، "ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة، ونزل عيينة بن حصن في" على بابها، أو بمعنى مع "غطفان، ومن تبعهم من أهل نجد". قال ابن إسحاق: بذنب نقمي، "إلى جانب أحد" ونقمي بفتح النون، والقاف وفتح الميم مقصور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين حتى جعلوا أظهرهم إلى سلع، وكانوا ثلاثة آلاف رجل, فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم, وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة خوفا على الذراري من بني قريظة. قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وكان وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاقده، فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال ويحك يا حيي، إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال: ويحك افتح لي، ولم يزل، به حتى فتح له   قال الصغاني: موضع من أعراض المدينة ذكره البرهان. "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع" بفتح السين المهملة، وسكون اللام وبالعين المهملة، جبل بالمدينة "وكانوا ثلاثة آلاف رجل". قال الشافعي: ووهم من قال كانوا سبعمائة، "فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم". قال ابن هشام: واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، "وكان" كما ذكر ابن سعد "لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث الحرس إلى المدينة". قال ابن سعد: كان يبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير "خوفا على الذراري من بني قريظة" زاد غيره فإذا أصبحوا أمنوا. قال ابن إسحاق: وخرج عدو الله حيي بن أخطب" فسار "حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم"، تفسيري، "وكان وادع" صالح "رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده فأغلق كعب دونه باب حصنه، وأبى أن يفتح له، وقال" بعدما ناداه حيي: ويحك يا كعب، "ويحك يا حيي"، كلمة ترحم وتوجع، والمراد أمره بالانصراف عنه، كأنه قال: اذهب عني "إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، فإني لم أرم من إلا وفاء وصدقا فقال: ويحك افتح لي" أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، "ولم يزل به حتى فتح له"، ذلك أنه نسبه إلى البخل بالطعام، والله إني أغلقت دوني إلا تخوفا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فقال: ويلك يا كعب جئتك بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال، ومن دونه غطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، ولم يزل به حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان   جشيشتك أن آكل معك منها، ففتح له "فقال: ويلك" كلمة تقال لمن وقع في هلاك يستحقه، والمعنى وقعت في الهلاك إن لم توافقني، "يا كعب جئتك بعز الدهر" أي: بسبب عز مدته وبينه بقوله، "جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال" جمع سيل، "ومن دونه" أي: منزل قريش "غطفان، وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا، حتى نستأصل محمدًا ومن معه" فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماءه يرعد، ويبرق وليس فيه شيء، ويحك يا حيي دعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمدًا إلا صدقا ووفاء، "ولم يزل به" يفتله في الذروة والغارب. قال في الروض: هو مثل أصله البعير، يستصعب عليك، فتأخذ القراد من ذروته، وغارب سنامه فيجد لذة، فيأنس عند ذلك، فضرب مثلا في المراوضة. قال الحطيئة: لعمرك ما قراد بني بغيض ... إذا نزع القراد بمستطاع "حتى نقض عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم" وأعطاه عهدا على أنه إن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمدًا أن أدخل معك في حصنك يصيبني ما أصابك. "وعن عبد الله بن الزبير" الصحابي أمير المؤمنين ابن الصحابي الحواري "قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمر" بضم العين "ابن أبي سلمة" بن عبد الأسد القرشي المخزومي الصحابي ابن الصحابي ربيبه صلى الله عليه وسلم أمه أم سلمة "مع النساء" يعني نسوة النبي صلى الله عليه وسلم "في أطم" بضمتين حصن مبني بالحجارة "حسان" بن ثابت أضيف إليه لكونه فيه مع النساء، وهذا لفظ مسلم، وله في رواية في الأطم الذي فيه النسوة. قال ابن الكلبي: كان حسان لسا شجاعا فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان لا ينظر إلى قتال ولا يشهده. وأخرج ابن إسحاق من مرسل يحيى بن عباد، عن أبيه، والطبراني برجال الصحيح من مرسل عروة، وأبو يعلى والبزار بإسناد حسن عن الزبير بن العوام قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت يا أبت رأيتك تختلف، قال: أرأيتني يا بني قلت: نعم   إلى الخندق جعل نساءه وعمته صفية في حصن، ومعهم حسان فأقبل عشرة من اليهود، فجعلوا يرمون الحصن، ودنا أحدهم إلى بابه، وجعل يطيف به. قالت صفية: وقد حاربت قريظة، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، والنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم، فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي، كما ترى ولا آمنه أن يدل على عوراتنا، فانزل إليه فاقتله، قال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، ولو كان في لخرجت مع رسول الله، قالت: فلم لم أر عنده شيئا أخذت عمودا، ثم نزلت فضربته به ضربة شدخت رأسه، حتى قتلته، ورجعت فقلت: يا حسان اسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه، إلا أنه رجل قال ما لي بسلبه من حاجة، فقلت: خذ الرأس وارم به إلى اليهود، قال: ما ذاك في، قالت: فأخذت الرأس فرميت به على اليهود، فقالوا: قد علمنا أن محمدًا لم يترك أهله خلوا ليس معهم أحد فتفرقوا. زاد أبو يعلى، فأخبر بذلك صلى الله عليه وسلم فضرب لها بسهم كالرجال، أي: من غنائم قريظة. قال في الروض: محمل هذا الحديث على أن حسان كان جبانا شديد الجبن، وأنكره بعض العلماء منهم ابن عبد البر في الدرر؛ لأنه حديث منقطع الإسناد، ولو صح لهجي به حسان، فإنه كا يهاجي الشعراء كطرار وابن الزهراء، وكانوا يناقضونه، ويردون عليه، فما عيره أحد منهم بجبن، ولا وسمه به، فدل ذلك على ضعف حديث ابن إسحاق وإن صح فالأولى أنه كان معتلا ذلك اليوم بعلة تمنعه شهود القتال ا. هـ. وإنما كان أولى لأن ابن إسحاق لم ينفرد به، بل جاء بسند حسن متصل، كما علم فاعتضد حديثه، وقد قال ابن السراج: سكوت الشعراء عن تعبيره بذلك من أعلام النبوة؛ لأنه شاعره صلى الله عليه وسلم وفي مسلم وكان، أي: عمر، يطأطئ لي مرة فأنظر، وأطأطئ له مرة، فينظر فكنت أعرف أبي إذا مر على فرسه في السلاح "فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة" أي: يذهب ويجيء، "مرتين أو ثلاثا". قال المصنف بالشك، كذا بإثبات مرتين أو ثلاثا في كل ما وقفت عليه من الأصول، وعزاه الحافظ ابن حجر، وتبعه العيني لرواية الإسماعيلي من طريق أبي أسامة لا يقال مراد الحافظ زيادة لك عند الإسماعيلي على رواية البخاري بعد قوله يختلف؛ لأنه ذكر ذلك عقب قوله إلى بني قريظة، "فلما رجعت" من أطم حسان إلى منزلنا، "قلت: يا أبت رأيتك تختلف" تجيء وتذهب إلى بني قريظة "قال" مستفهما بالهمز استفهام تقرير: "أرأيتني يا بني؟ قلت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه في الفداء فقال: "فداك أبي وأمي". أخرجه الشيخان والترمذي وقال: حديث حسن. وفي رواية أصحاب المغازي: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما ابن رواحة وخوات بن جبير ليعرفوا الخبر،   نعم" رأيتك "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأت بني قريظة، فيأتيني بخبرهم" بتحتية ساكنة بعد الفوقية، ولأبي ذر عن الكشميهني، فيأتني بحذفها، "فانطلقت" إليهم، "فلما رجعت" بخبرهم "جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه في الفداء" تعظيما لي وإعلاء لقدري، فإن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل له نفسه، "فقال: فداك أبي وأمي" لا يعارضه قول على ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لغير سعد بن مالك؛ لأن مراده بقيد يوم أحد أو تفدية خاصة كما مر. قال الحافظ: وفي هذا الحديث صحة سماع الصغير، وأنه لا يتوقف على أربع، أو خمس؛ لأن ابن الزبير كان ابن سنتين وأشهر، أو ثلاث وأشهر بحسب الاختلاف في وقت مولده. وفي تاريخ الخندق فإن قلنا: إنه ولد في أول سنة الهجرة، والخندق سنة خمس فيكون ابن أربع وأشهر، وإن عجلنا إحداهما وأخرنا الأخرى فيكون ابن ثلاث سنين وأشهر، "أخرجه الشيخان والترمذي، وقال: حديث حسن" من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير. قال الحافظ: وبين مسلم أن في هذه الرواية أدراجا، فساقه من رواية علي بن مسهر إلى قوله إلى بني قريظة. ثم قال: قال هشام، وأخبرني عبد الله بن عروة عن عبد الله بن الزبير، قال فذكرت ذلك لأبي، إلخ الحديث ثم ساقه من طريق أبي أسامة عن هشام، فساق الحديث نحوه، ولم يذكر عبد الله بن عروة، ولكن أدرج القصة في حديث هشام عن أبيه، ويؤيده أن النسائي أخرج القصة الأخيرة من طريق عبدة عن هشام، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، والله أعلم. "وفي رواية أصحاب المغازي فلما انتهى الخبر" أي: خبر نقض قريظة العهد، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، ومعهما ابن رواحة وخوات" بفتح الخاء المعجمة، وشد الواو فألف ففوقية "ابن جبير" الأنصاري الأوسي، شهد بدرا والمشاهد كلها. زاد الواقدي وأسيد بن الحضير "ليعرفوا الخبر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، قالوا من رسول الله وتبرءوا من عقده وعهده، ثم أقبل السعدان ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: عضل والقارة، أي: كغدرهما بأصحاب الربيع. فعظم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن.   وعند ابن إسحاق فقال: انطلقوا لتنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟، فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا فاجهروا به للناس. قال في الروض: اللحن العدول بالكلام على الوجه المعروف عند الناس إلي وجه لا يعرفه إلا صاحبه، كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول على الصواب المعروف، وتفتوا بضم الفاء وشد الفوقية. قال في الروض: أي تكسروا من قوتهم، وتوهنوهم وضرب العضد مثلا، وقال في أعضاد ولم يقل أعضاء؛ لأنه كناية عن الرعب الداخل في القلب، ولم يرد كسرا حقيقيا، ولا العضد الذي هو العضو، وإنما هو عبارة عما يدخل في القلب من الوهن، وهو من أفصح الكلام، فخرجوا حتى أتوهم، "فوجدوهم على أخبث ما بلغه عنهم، قالوا من رسول الله" فتكلموا فيه بما لا يليق، وقالوا من رسول الله "وتبرءوا من عقده وعهده" فقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، "ثم أقبل السعدان، ومن معهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم،" فلحنوا له كما أمرهم، "وقالوا: عضل والقارة أي:" غدرروا "كغدرهما بأصحاب الربيع" خبيب وأصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين"، كذا في ابن إسحاق، ثم رواية أصحاب المغازي هذه لا تنافي رواية الصحيح التي قبلها أنه أرسل الجميع دفعة، أو بعد إرسال الزبير لاحتمال أن يرجعوا إلى العهد بعد نقضه حياء من حلفائهم؛ لأنهم كانوا حلفاء الأوس، وقد أرسل إليهم سيدهم فغلبت عليهم الشقوة، وليس لك أن تقول أو لاحتمال أن الزبير علم من غيرهم نقض العهد، فاكتفى به؛ لأنه ظن سوء بمثل الزبير تأباه مروءته وشجاعته "فعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، فأتاهم عدوهم من فوقهم" من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان، "ومن أسفل منهم"، من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش. وعند ابن مردويه عن ابن عباس: إذ جاءوكم من فوقكم. قال عيينة بن حصن: ومن أسفل منكم أبو سفيان بن حرب "حتى ظن المؤمنون كل ظن" كما قال تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10] أي: المختلفة بالنصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 ونجم النفاق من بعض المنافقين، وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إَِّلا غُرُورًا} الآيات [الأحزاب: 12] .   واليأس، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214] . قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب. أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ وأصحابه بلاء وحصر. وعند الواقدي فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر أبشروا بنصر الله وعونه إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن كسرى وقيصر ولننفقن أموالهما في سبيل الله"، يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب. وذكر ابن إسحاق ما حاصله فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعطي عيينة بن حصن، ومن معه ثلث ثمار المدينة على أن يرجعوا، فمنعه السعدان وقالا: كنا نحن وهم على الشرك لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا بقرى أو بيع، أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا بهذا من حاجة، والله ما نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت وذاك". وروى البزار والطبراني عن أبي هريرة: أتى الحارث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا ورجالا، فقال: "حتى أستأمر السعود سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلمهم" فقالوا: لا والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله بالإسلام، فأخبر الحارث فقال: غدرت يا محمد، كذا في هذا الحديث، وسعد بن الربيع وقد تقدم أنه استشهد بأحد ولا خلف لاحتمال أن إتيان الحارث بسبب ذلك قبل أحد إذ ليس في الحديث أنه أتى يوم الخندق. "ونجم" بفتح النون والجيم والميم، ظهر "النفاق من بعض المنافقين" كذا عند ابن إسحاق، وينافيه ظاهر قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 12] إلا أن يكون الذين أظهروه بعضهم ولم ينكره باقيهم ولا ضعاف القلوب من المؤمنين، فنسب القول إلى جميعهم "وأنزل الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 12] " من الظفر وإعلاء الدين " {إِلَّا غُرُورًا} " [الأحزاب: 12] وعدا باطلا. ذكر ابن إسحاق أن قائله معتب بن قشير. قال: كان محمد يرى أن نأكل من كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا، وقال أوس بن قيظي: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا، فإنها خارج المدينة. وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي على فرس له ليوثبه فوقع في الخندق فقتله الله. وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية على أن تدفعوه إلينا فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله   وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية في معتب بن قشير الأنصاري، هو صاحب هذه المقالة وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه. قال ابن هشام: وأخبرني من أثق به من أهل العلم أن معتبا لم يكن من المنافقين، واحتج بأنه كان من أهل بدر "الآيات" وهذا إخبار إجمالي عما نزل بسبب ظهور النفاق، فصله بقوله: "وقال رجال ممن معه: يا أهل يثرب لا مقام لكم" بضم الميم وفتحها، أي: لا إقامة ولا مكان، "فارجعوا" إلى منازلكم بالمدينة. "وقال أوس بن قيظي" بتحتية وظاء معجمة، الأنصاري الأوسي، يقال: إنه منافق تمسكا بهذه القصة ونحوها، لكن ذكره في الإصابة في القسم الأول، وقال: شهد أحدًا هو وابناه عرابة وعبد الله، ويقال كان منافقا، وإنه القائل: إن بيوتنا عورة، ا. هـ. وابنه عرابة في صحبته خلاف، وكان سيدا وفيه يقول شماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين "يا رسول الله إن بيوتنا عورة" غير حصينة، نخشى عليها "من العدو" قال ابن إسحاق، وذلك عن ملأ من رجال قومه، "فائذن لنا فنرجع إلى ديارنا فإنها خارج المدينة" قال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] . قال ابن عائذ: بياء وذال معجمة، محمد الحافظ صاحب المغازي، "وأقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي" يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي نعيم "على فرس له ليوثبه الخندق، فوقع في الخندق". زاد في رواية أبي نعيم: فاندقت عنقه، "فقتله الله وكبر" عظم "ذلك على المشركين فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نعطيكم الدية". قال ابن هشام: بلغني عن الزهري أنهم أعطوا في جسده عشرة آلاف درهم، "على أن تدفعوه إلينا، فندفنه، فرد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم" جواب قولهم ذلك بقوله: "إنه خبيث" لموته كافرا محاربا لله ورسوله، "خبيث الدية" لعدم حلها، إذ لا دية في مثل هذه الصورة، "فلعنه الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنون ولا أرب لنا في ديته". قال ابن إسحاق: وأقام عليه الصلاة والسلام والمسلمون وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل، لكن كان عمرو بن عبدود العامري اقتحم هو ونفر معه خيولهم من ناحية ضيقة من الخندق، حتى كانوا بالسبخة، فبارزه علي فقتله،   ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب" بفتح الهمزة والراء وبالموحدة، أي: حاجة "لنا في ديته". "وقال ابن إسحاق: وأقام عليه الصلاة والسلام والمسلمون" على الخندق، "وعدوهم يحاصرهم، ولم يكن بينهم قتال،" إلا أنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة، قاله ابن سعد، "اقتحم هو ونفر معه" هم: عكرمة وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان وضرار بن الخطاب، كما في ابن إسحاق "خيولهم" بالرفع بدل من الفاعل فهو المقصود بالنسبة، ومعناه اقتحمت بإكراههم إياها، أو بالنصب واقتحم بمعنى أقحم مجاز "من ناحية ضيقة من الخندق حتى كانوا بالسبخة" بمهملة فموحدة فمعجمة مفتوحات، واحدة السباخ، ويقال أرض سبخة بالكسر ذات سباخ وهو أنسب بالمصنف، أي: حتى صاروا بالأرض السبخة بين الخندق وسلع، "فبارزه علي" بعدما نادى عمرو ثلاثا من يبازر؟ وفي كل مرة يقول علي: أنا له يا نبي الله، فيقول: "اجلس، إنه عمرو"، فقال علي في الثالثة: وإن كان عمرا فأعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه وعممه، وقال: "اللهم أعنه عليه"، فدعاه إلى الإسلام أو الرجوع عن الحرب، فأبى إلا البراز فضحك، وقال: ما كنت أظن أحدا يرومني على هذه الخصلة فمن أنت، قال: علي بن أبي طالب، قال: يابن أخي من أعمامك من هو أسن منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي: لكني والله لا أكره أن أهريق دمك فغضب عمرو، فنزل عن فرسه وعقرها وسل سيفه، كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحوه علي مغضبا, فاستقبله على بدرقته ودنا أحدهما من الآخر، وثارت بينهما غبرة فضربه عمرو فاتقاها بدرقته، فانقدت وأثبت فيها السيف وضربه علي فوق عاتقه "فقتله" وقيل: طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فسقط ثم أقبل نحوه صلى الله عليه وسلم وهو متهال، فقال له عمر بن الخطاب: هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع خير منها، فقال: إنه حين ضربته استقبلني بسوأته فاستحييت. قال الحاكم: سمعت الأصم، قال: سمعت العطاردي قال: سمعت الحافظ يحيى بن آدم يقول: ما شبهت قتل علي عمرا إلا بقوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة فقتله الزبير وقيل قتله علي، ورجعت بقية الخيول مهزومة. ورمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل -وهو بفتح الهمزة والمهملة بينهما كاف ساكنة- عرق في وسط الذراع. قال الخليل: هو عرق الحياة يقال إن في كل عضو منه شعبة فهو في اليد الأكحل وفي الظهر الأبهر وفي الفخذ النسا،   "وبرز نوفل بن عبد الله بن المغيرة" المخزومي "فقتله الزبير" بن العوام بالسيف، حتى شقه اثنتين وقطع سرجه حتى خلص إلى كاهل الفرس، فقيل: ما رأينا مثل سيفك، قال: ما هو السيف، ولكنها الساعد، "وقيل: قتله علي" هكذا عزاه في الفتح لابن إسحاق فتبعه المصنف ولم يذكر ذلك ابن هشام في روايته عن البكائي عنه، فلعله في رواية غيره ثم هو معارض لما قدمه المصنف عن ابن عائذ من أنه اقتحم الخندق، فوقع فيه فقتل، وهو الذي ذكره ابن هشام عن زياد عن ابن إسحاق ومثله في رواية أبي نعيم، وعليه اقتصر اليعمري. وقد روي ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة، أن رجلا من المشركين قال يوم الخندق: من يبارز؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قم يا زبير" فقالت أمه صفية: واحدي يا رسول الله، فقال: "قم يا زبير"، فقام فقتله، ثم جاء بسلبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله إياه. وذكر ابن جرير، أن نوفلا لما تورط في الخندق، رماه الناس بالحجارة، فجعل يقول قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب، فنزل إليه علي فقتله، وفي الجمع بين الثلاثة عشر. "ورجعت بقية الخيول مهزومة" قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ، وهو منهزم عن عمرو فعيره حسان بأبيات، فلما رجعوا إلى أبي سفيان قال: هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء فارجعوا، وكان شعار الصحابة يوم الخندق وبني قريظة حم لا ينصرون، "ورمي سعد بن معاذ بسهم، فقطع منه الأكحل، وهو بفتح الهمزة و" الحاء "المهملة بينهما كاف ساكنة، عرق في وسط الذراع". "قال الخليل" ابن أحمد لأزدي الفراهيدي، أبو عبد الرحمن البصري اللغوي، صاحب العروض والنحو، العالم العابد الصدوق في الحديث. مات بعد الستين ومائة، وقيل: سنة سبعين أو بعدها. أخرج له ابن ماجه في التفسير، "هو عرق الحياة يقال: إن في كل عضو منه شعبة، فهو في اليد الأكحل". وفي القاموس: هو عرق في اليد، أو هو عرق الحياة، ولا تقل عرق الأكحل، "وفي الظهر الأبهر" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة، وفي القاموس: الأبهر الظهر، وعرق فيه ووتد العنق والأكحل، "وفي الفخذ النسا" بفتح النون مقصور، كما قال الأصمعي: عرق من الورك إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 إذا قطع لم يرقا الدم. وكان الذي رمى سعدا، ابن العرقة، أحد بني عامر بني لؤي، قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد: عرق الله وجهك في النار. ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه.   الكعب. قال أبو زيد: يثنى نسوان ونسيان والجمع أنساء. قال ابن السكيت: هو عرق النسا، وقال الأصمعي: هو النسا، ولا تقل عرق النسا. قال الزجاج: لأن الشيء لا يضاف إلى بعضه. "إذا قطع لم يرقأ الدم" بالهمز، أي: لم ينقطع، ونسخة لم يرق تحريف، فالذي في اللغة إنه مهموز، لكن وجهها شيخنا في التقرير، بأن الهمزة أبدلت ألفا قبل الجازم، فلما دخل حذفت الألف كالحركة، "وكان الذي رمى سعدا هو ابن العرقة" بفتح العين المهملة وكسر الراء، وهي أمه واسمها قلابة بنت سعيد بن سعد بن سهم، تكنى أم فاطمة، سميت العرقة لطيب ريحها، وهي جدة خديجة أم أبيها، وهو حبان بن عبد مناف بن منقذ بن عمرو بن هصيص بن عامر بن لؤي، كذا قال السهيلي. وقال ابن الكلبي: هي أم عبد مناف جد أبيه، وهو عنده حبان بن أبي قيس بن علقمة بن عند مناف. قال في التبصير: وحبان، بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة مثقلة، وصحفه موسى بن عقبة، فقال جبار، بجيم وموحدة وراء، والأول أصح قاله الأمير، يعني ابن ماكولا "أحد بني عامر بن لؤي" ولذا يقال له العامري، "قال: خذها وأنا ابن العرقة، فقال سعد" ويقال النبي صلى الله عليه وسلم "عرق" بعين مهملة "الله وجهك في النار، ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا، فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه" وأخرجوه وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة، هذا بقية قوله عند ابن إسحاق ونحوه في الصحيح، وقد استحباب الله له، فلم يقم لقريش حرب بعدها، وما مات حتى حكم في بني قريظة كم يأتي. قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشني حليف بني مخزوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وأقام عليه الصلاة والسلام وأصحابه بضع عشرة ليلة. فمشى نعيم بن مسعود الأشجعي -وهو مخف إسلامه- فثبط قوما عن قوم وأوقع بينهم شرا لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الحرب خدعة   وقال ابن هشام: ويقال الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان، والله أعلم. "وأقام عليه الصلاة والسلام وأصحابه" في حصار الكفار على الخندق، ولم يكن بينهم قتال إلا مراماة بالنبل والحجارة "بضع عشرة ليلة". وذكر موسى بن عقبة أن مدة الحصار عشرون يوما، نقله الفتح. وفي العيون: بضع وعشرون ليلة قريب من شهر. وفي الهدي: إنه شهر. "فمشى نعيم بن مسعود" بن عامر بن أنيف، بنون وفاء مصغر "الأشجعي" الصحابي، المشهور، المتوفى أول خلافة علي، خرج له أبو داود، "وهو مخف إسلامه، فثبط قوما" وهم بنو قريظة "عن قوم" وهم قريش ومن معهم، "وأوقع بينهم شرا" كراهية من كل فريق للآخر لا حربا، وإنما فعل ذلك "لقوله عليه الصلاة والسلام" له لما أتاه قائلا: إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، قال صلى الله عليه وسلم: "خذل عنا فـ " إن الحرب خدعة " ". قال الحافظ: بفتح المعجمة، وبضمها مع سكون الدال المهملة فيها، وبضم أوله وفتح ثانيه صيغة مبالغة، كهمزة لمزة. قال النووي: اتفقوا على أن الأولى أفصح، حتى قال ثعلب: بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزار، والثانية ضبطت كذلك في رواية الأصيلي. قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعملها كثيرا لو جاه لفظها ولكونها تعطي معنى للشيئين الآخرين. قال: ويعطي معناها أيضا الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن، ولو مرة، فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى إذ المعنى أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر، أو أنها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير، أي: مضروبه. وقال الخطابي: إنها المرة الواحدة، يعني أنه إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته، ومعنى الضم مع السكون أنها تخدع الرجال، أي: ي محل الخداع، وموضعه ومع فتح الدال، أي: تمنيهم الظفر، ولا تفي لهم، كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: الحكمة في الإتيان بالتاء، الدلالة على الوحدة، فإن الخداع أن كان من المسلمين، فكأنه حضهم على ذلك، ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار، فكأنه حذرهم من مكرهم، ولو وقع مرة واحدة، فلا ينبغي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 فاختلفت كلمتهم.   التهاون بهم، لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قل. وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع، أي: إن أهلها بهذه الصفة، فكأنه قال أهل الحرب خدعة. وحكى مكي، ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة كسر أوله مع الإسكان، وأصل الخدع أبطأن أمر وإظهار خلافه، وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار، وإن لم يتيقظ لذلك لم يأمن أن ينعكس الأمر عليه. قال النووي: اتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. قال ابن العربي: ويقع الخداع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك، وفي الحديث الإشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة، ولذا اقتصر على ما يشير إليه بهذا الحديث، وهو كقوله: الحج عرفة. قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة، أن الحرب الجيدة لصاحبها، الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة، لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر. وذكر الواقدي أن أول ما قال صلى الله عليه وسلم الحرب خدعة في غزوة الخندق انتهى من الفتح، وهو صريح في أن الرواية إنما هي بالثلاثة، الأولى لتصريحه بلغة رابعة لغة خامسة، وتبعه المصنف. وفي القاموس: أنه روي أيضا بكسر الخاء وسكون الدال، ويوافقه قول السيوطي في التوشيح بفتح الخاء وضمها، وكسرها وسكون الدال، أمر باستعمال الحيلة فيه ما أمكن. "فاختلفت كلمتهم" وذلك أن نعيما أتاه صلى الله عليه وسلم فقال: إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال: "إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة" فخرج حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما، فقال: قد عرفتم ودي وإياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشا وغطفان ليسا كأنتم، البلد بلدكم به أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وأنهم جاءوا لحرب محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبينه ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي، ثم أتى قريشا، فقال لأبي سفيان ومن معه: قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر رأيت حقا علي أن أبلغكموه نصحا لكم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وروى الحاكم عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب   فاكتموه عني، قالوا: نفعل، قال: إن يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا إلى محمد إنا قد ندمنا على ما فعلنا، أيرضيك أن نأخذ من أشراف قريش وغطفان رجالا تضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم، فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا، ثم أتى غطفان فقال: إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهموني، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فقال لهم مثل ما قال لقريش، وكان من صنع الله لرسوله أن أبا سفيان ورءوس غطفان أرسولوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين، فقالوا: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فأعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أن اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئا، وكان قد أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بمقاتلين معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدًا، فإنا نخشى إن اشتد عليكم القتال، أن ترجعوا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طلاقة لنا به، فقالت قريش وغطفان: والله إن الذي حدثكم نعيم به لحق، فأرسلوا إليهم إناوالله لا ندفع إليكم جلا واحدا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق، فأرسلوا إليهم إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث الله عليهم الريح في ليال شديدة البرد، فأكفأت قدورهم وطرحت أبنيتهم، ذكره ابن إسحاق في رواية ابن هشام عن البكائي عنه، ولخصه الحافظ في الفتح بأوجز عبارة، وقال بعده ما لفظه. قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة عن عائشة: أن نعيما كان رجلا نمويا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إن اليهود قد بعثت إلي، إن كان يرضيك أنا نأخذ من قريش وغطفان رهنا نبعثهم إليك فتقتلهم فعلنا، فرجع نعيم مسرعا إلى قومه فأخبرهم، فقالوا: والله ما كذب محمد عليهم وإنهم لأهل غدر، وكذا قال لقريش، فكان ذلك سبب خذلانهم ورحيلهم ا. هـ. "وروى الحاكم عن حذيفة" بن اليمان الصحابي ابن الصحابي "قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب" أي: الليلة التي اشتد علينا الأمر فيها من ليالي الأحزاب، وهي الليلة التي كانت بعد المحاصرة الشديدة، وذلك كما ذكر ابن سعد وغيره، أنه لما طال المقام على قريش، وقتل عمرو، وانهزم من معه اتعدوا أن يفدوا جميعا، ولا يتخلف منهم أحد، فباتوا يعبون أصحابهم، ثم وافوا الخندق قبل طلوع الشمس وعبى صلى الله عليه وسلم أصحابه، وجمعهم على القتال، ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جمعوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم، فأحدقوا بكل وجه من الخندق، ووجهوا على خيمته صلى الله عليه وسلم كتيبة عظيمة غليظة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 وأبو سفيان ومن معه من فوقنا، وقريظة أسفل منا نخافهم على ذرارينا، وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها، فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون بيوتنا عورة، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأن جاث على ركبتي   ذلك إلى هوى من الليل ما يقدر صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين أن ينزلوا من مواضعهم، ولا على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل الصحابة يقولون: ما صلينا، فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما صليت" حتى كشفهم الله، فرجعوا متفرقين، ورجع كل فريق إلى منزله، وأقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق فكرت خيل المشركين، وعليها خالد يطلبون غرة فناوشوهم ساعة، فزرق وحشي بن حرب الطفيل بن النعمان، وقيل: فيه الطفيل بن مالك بن النعمان من بني سلمة بمزراقه، فقتله وانكشفوا وسار صلى الله عليه وسلم إلى قبته، فأمر بلالا فأذن، وأقام فصلى الظهر، ثم أقام لكل صلاة إقامة فصلوا ما فاتهم، وقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا، ولم يكن بعد قتال حتى انصرفوا، لكنهم لا يدعون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة "وأبو سفيان ومن معه من فوقنا" أي: من فوق الوادي من قبل المشرق، "وقريظة أسف منا" من بطن الوادي من قبل المغرب، وهذا خلاف ما مر عن ابن عباس أن الذين من فوقهم غطفان، ومن أسفل منهم قريش، رواه ابن مردويه، وبه جزم البغوي وغيره، وزادوا وانضم إلى غطفان بنو قريظة والنضير، ويحتمل الجمع بأن قريشا كانت تأتي تارة من فوق وغطفان من أسفل، وتارة على العكس من ذلك، ثم لعل معنى كون قريظة مع المشركين، أي: في جهتهم منحازين في جانب لأنفسهم ممتنعين من الزحف معهم عليه صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي أيضا حديث نعيم من امتناعهم من القتال، وفيه بعد لأن ظاهر حديث نعيم أنهم لم يخرجوا من ديارهم، فلعل معنى قوله وقريظة أسفل منا وهم في ديارهم، ويؤيده أو يعينه قوله: "نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة أشد ظلمة ولا ريحا منها،" لا ينافي هذا قوله في بقية ذا الحديث، فإذا الريح فيه، أي: عسكر المشركين لا يجاوز شبرا؛ لأن شدة هذه بالنسبة للعادة، والآتية هي التي هتكت قبابهم وأطفأت نيرانهم، "فجعل المنافقون يسأذنون" النبي، "ويقولون: بيوتنا عورة" أي: غير حصينة. وفي رواية البيهقي: فما يستأذن أحد منهم إلا أذن له فيتسللون. وفي رواية له أيضا: أن رجلا قال لحذيفة: أدركتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندركه، قال: يابن أخي والله لا تدري لو أدركته كيف تكون، لقد رأيتنا ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة، فوالله ما قام أحد" فقال الثانية: " جعله الله رفيقي" فلم يقم أحد، فقال أبو بكر: ابعث حذيفة، "فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا جاث على ركبتي" من شدة البرد والجوع والخوف، ولابن إسحاق: فدعاني فلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 فقال: اذهب فائتني بخبر القوم ولم يبق معه إلا ثلاثمائة قال ودعا لي، فأذهب الله عز وجل عني القر والفزع، فدخلت عسكرهم فإذا الريح فيه، لا تجاوز شبرا، فلما رجعت رأيت فوارس في طريقي فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم. وفي رواية: أن حذيفة لما أرسله عليه الصلاة والسلام ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول:   يكن لي بد من القيم "فقال: اذهب فائتني بخبر القوم" وعند البيهقي: فقلت: أخشى أن أؤسر، قال: "إنك لن تؤسر" "ولم يبق معه إلا ثلاثمائة" لا يفهم منه أن من عداهم وهم ألفان وسبعمائة منافقون. وقد قال تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} [الأحزاب: 13] . قال ابن عباس: الفريق بنو حارثة، قال غيره: وبنو سلمة، أي: منافقوهم، لأنهم خصوا بالذكر لتعللهم بالباطل، وإنما هو وسيلة الفرار، كما قال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] إن يريدون إلا فرارا. وأما المؤمنون فإنما رجعوا لألم البرد والجوع الشديدين، أو الخوف الحقيقي على بيوتهم، أو لفهمهم عدم التغليظ في ذهاب من يذهب فكشفوا حال بيوتهم ثم رجعوا. "قال: ودعا لي" وفي رواية أبي نعيم عن حذيفة، فقال: اللهم احفظه من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، وعند ابن عقبة وابن عائذ فقال: قم حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا، فقمت مستبشرا بدعائه فما شق علي شيء مما كان، "فأذهب الله عز وجل عني القر" بضم القاف والبرد، "والفزع" الخوف. زاد في رواية أبي نعيم: فوالله ما خلق الله تعالى قرا ولا فزعا في جوفي إلا خرج، فما وجدت منه شيئا، فمضيت كأنما أمشي في حمام، فلما ولت دعاني، فقال: "يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئا حتى تأتيني"، "فدخلت عسكرهم". قال في رواية ابن إسحاق: والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء "فإذا الريح فيه لا تجاوز" عسكرهم "شبرا فلما رجعت رأيت فوارس" نحو عشرين "في طريقي" حين انتصف بي الطريق، أو نحو ذلك معتمين، "فقالوا:" وفي رواية فارسين، فقالا: "أخبر صاحبك أن الله قد كفاه القوم" بالريح والجنود. "وفي رواية" لابن إسحاق: "أن حذيفة لما أرسله عليه الصلاة والسلام ليأتيه بالخبر سمع أبا سفيان يقول،" ولفظه: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة: أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه، قال: نعم، قال: فكيف كنتم تصنعون، قال: والله لقد كنا نجهد، قال: والله لو أدركنا ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الخف والكراع، واختلفنا وبنو قريظة، ولقينا من هذا الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم. ووقع في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم الأحزاب:   على أعناقنا فقال حذيفة: والله لقد رأيتني بالخندق وصلى صلى الله عليه وسلم هو يأمن الليل، ثم التفت إلينا فقال: "من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم، ثم يرجع بشرط له الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة" فما قام رجل من شدة الخوف، وشدة الجوع وشدة البرد, فلما لم يقم أحد، دعاني فلم يكن لي بد من القيام، فقال: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتنيا"، فذهبت فدخلت فيهم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقال أبو سفيان: لينظر امرؤ من جليسه. فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثم قال أبو سفيان: "يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام" أي: بمحل يصلح للإقامة فيه، "ولقد هلك الخف والكراع" بضم الكاف، وخفة الراء وبالعين المهملة، اسم لجمع الخيل، كما في الشامية، "واختلفنا وبنو قريظة" حيث امتنعوا من القتال معنا، وفيه عطف الظاهر على ضمير الرفع المتصل بلا فاصل، وهو جائز على قلة، لكن لفظ الرواية عند ابن إسحاق: وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، "ولقينا من هذا الريح ما ترون"، ما يطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، "فارتحلوا فإني مرتحل، ووثب على جمله، فما حل عقال يده،" أي: الجمل، "إلا وهو قائم". ولفظ الرواية في ابن إسحاق: ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي، أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني، ثم شئت لقتلته بسهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه، فلما رآني أدخلني إلى رجليه وطرح علي طرف المرط، ثم ركع وسجد وإني لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر وسمعت غطفان بما صنعت قريش، فرجعوا إلى بلادهم هذا بقية رواية ابن إسحاق. "ووقع في البخاري" في الجهاد، وفي المغازي، وكذا في مسلم، والترمذي، والنسائي وابن ماجه كله عن جابر، "أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم الأحزاب" وفي رواية النسائي عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 "من يأتينا بخبر القوم". فقال الزبير: أنا، فقال: "من يأتينا بخبر القوم"، فقال الزبير: أنا، فقال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ قالها ثلاثا. وقد أشكل ذكر الزبير في هذه القصة. فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب والمشهور أنه حذيفة بن اليمان. قال الحافظ بن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر   جابر، أنه قال: يوم بني قريظة "من يأتيني بخبر القوم" بين الواقدي، أن المراد بهم بنو قريظة، وبه يسقط الإشكال الآتي، "فقال الزبير: أنا" آتيك بخبرهم، "ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: "من يأتينا بخبر القوم"؟ فقال الزبير: أنا ثم قال: "إن لكل نبي حواريا، وإن حواري الزبير" هذا بقية الحديث في البخاري وغيره، وقوله "قالها ثلاثا" من المصنف ضبطا للحديث لئلا تسقط واحدة، وهي رواية المغازي، وأما الجهاد فقالها مرتين. "وقد أشكل ذكر الزبير في هذه القصة، فقال ابن الملقن: وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب" لكشفها، "والمشهور" كما قال شيخنا أبو الفتح اليعمري، "أنه حذيفة بن اليمان"، كما رويناه من طريق ابن إسحاق وغيره. "قال الحافظ ابن حجر: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب" الزبير "لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها" فتوهمها ابن الملقن وشيخه واحدة وليس كذلك، "فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين" وهي التي رواها جابر في الصحيحين وغيرهما. "وصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله عليهم الريح، واشتد البرد تلك الليلة فانتدب" أي: دعا "عليه الصلاة والسلام من يأتيه بخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 قريش فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل وعرف قصتهم.   قريش، فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك"، وهو الذي رواه ابن إسحاق وغيره، فتوهم اليعمري وتلميذه القصتين واحدة، فقضى بأن المشهور رواية ابن إسحاق وغيره، أنه حذيفة على رواية الصحيحين، وغيرهما أنه لزبير مع أنك قد علمت من هذا البيان الشافي، أنهما قصتان وهو واضح جدا، ولم يظهر لي قول شيخنا لا يظهر منه رد قول ابن الملقن، فالمفهوم منه أنه إنما أنكر أن الذاهب لقريش هو الزبير، ولم يدع أنه لم يذهب في غزوة الخندق بأمره صلى الله عليه وسلم البتة ا. هـ. فإن وجه الرد عليه ليس من دعواه ذلك، حتى يقال إنه لم يدعه، بل من توهمه أن حديث الصحيح في بعثه لقريش، مع أنه إنما كان لبني قريظة، كما بينه الواقدي، بل روى النسائي عن جابر نفسه لما اشتد الأمر يوم بني قريظة، قال صلى الله عليه وسلم: "من يأتيني بخبرهم"، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير فجاء بخبرهم، ثم اشتد الأمر أيضا، فقال: "من يأتينا بخبرهم"؟، فلم يذهب أحد، فذهب الزبير، ثم اشتد الأمر أيضا، قال: "من يأتينا بخبرهم"؟ فلم يذهب أحد، فذهب الزبير. ففيه أنه ذهب لقريظة ثلاث مرات، وقول بعضهم: لا مانع أنه أرسل الزبير لقريظة مرة أخرى للبحث عن حال قريش فاسد، فالمانع موجود وهو مجيء الرواية عن جابر نفسه، أن ذهاب الزبير لبني قريظة. والروايات يفسر بعضها بعضا، وتجويز أنه صلى الله عليه وسلم عدل عن إرسال الزبير؛ لأن له حة وشدة، لا يملك معها نفسه أن يحدث بالقوم، ما نعى عنه حذيفة، فاختار إرساله لذلك، وأن بهذا يرد كلام الحافظ، هذا الذي نقله المصنف خطأ صريح أوقعه في حق الحواري أحد الشعرة، حاشاه من هذا الهذيان، فإنه لا يفعل ما نهاه عنه لو وقع. "وقصته" أي: حذيفة "في ذلك مشهورة لما دخل بين قريش في الليل، وعرف قصتهم"، فعند أبي نعيم والبيهقي وغيرهما عنه قال: لما دخلت بينهم نظرت في ضوء نار توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار، ويمسح خاصرته وحوله عصبة، قد تفرق عنه الأحزاب، وهو يقول الرحيل، ولم أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش لأضعه في كبد القوس لأرميه في ضوء النار، فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني" فأمسكت ورددت سهمي، فلما جلست فيهم أحس أبو سفيان أنه قد دخل فيهم من غيرهم، فقال: "ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه"، فضربت بيدي على يد الذي عن يميني، فأخذت بيده فقلت: من أنت؟، قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي، فبدرتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وفي البخاري من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب   بالمسألة ثم تلبثت فيهم هنيهة، فأتيت قريشا وبني كنانة وقيسا، وقلت: ما أمرني به صلى الله عليه وسلم بقوله: ادخل حتى تدخل بين ظهراني القوم، فأتيت قريشا، فقلت: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقال أين قريش، أين قادة الناس، أين رءوس الناس، فيقدمونكم فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة فقل إذا كان غدا فيقال: أين رماة الحذف فيقدمونكم فتصلوا القتال فيكون القتل فيكم ثم ائت قيسا فقل: يا معشر قيس إنما يريد الناس إذا كان غدا أن يقولوا أين قيس، أين أحلاس، الخيل أين الفرسان، فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم الحديث. وذكر في بقيته ارتحالهم وغلبة الريح عليهم، وأنه عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولقيه الفوارس في نحو نصف الطريق، فلما وصل عاد له البرد ووجده صلى الله عليه وسلم يصلي، فأومأ إليه بيده فدنا منه، فسدل عليه من فضل شملته، قال: فأخبرته الخبر وإني تركتهم يترحلون، فلم أزل نائما حتى الصبح، فلما أصبحت، قال صلى الله عليه وسلم: "قم يا نومان". "وفي البخاري" في الجهاد، والمغازي، والتوحيد والدعوات، ومسلم في المغازي، والترمذي وابن ماجه في الجهاد والنسائي في السير كلهم "من حديث" الصحابي ابن الصحابي "عبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة، كما ضبطه الكرماني وغيره، واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي، شهد عبد الله الحديبية، وعمر دهرا، ومات سنة سبع وثمانين، وهو آخر من مات بالكوفة من الصحابة. "قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب". وفي رواية أحمد وابن سعد عن جابر، أنه صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فوضع رداءه، فقام فرفع يديه يدعو عليهم، فرأينا البشر في وجهه. وفي رواية أبي نعيم: انتظر حتى زالت الشمس، ثم قام، فقال: "يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإن لقيتم العدو فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف"، ثم دعا "فقال: "اللهم" أي: يا الله، يا "منزل الكتاب" القرءان. قال الطيبي: لعل تخصيص هذا الوصف بهذا المقام تلويح إلى معنى الانتصار في قوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] ، وأمثال ذلك يا "سريع الحساب". قال الكرماني: إما أن يريد به سريع حسابه، بمجيء وقته، وإما أنه سريع في الحساب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم". وروى أحمد عن أبي سعيد قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر فقال: "نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا". قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح فهزمهم بالريح.   "اهزم الأحزاب" بزاي: اكسرهم، وبدد شملهم، "اللهم اهزمهم وزلزلهم" فلا يثبتوا عند اللقاء، بل تطيش عقولهم، وترعد أقدامهم، وقد استجاب الله لرسوله، فأرسل عليهم ريحا وجنودا، فهزمهم حتى قال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد فقد بدأكم بالسحرة فالنجاء النجاء، فانهزموا من غير قتال. وخص الدعاء عليهم بالهزيمة والزلزلة دون الهلاك؛ لأن في الهزيمة سلامة نفوسهم، وقد يكون ذلك رجاء أن يتوبوا من الشرك ويدخلوا في الإسلام والإهلاك مفوت لهذا المقصد الصحيح. "وروى أحمد عن أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان الخدري، الصحابي، ابن الصحابي، "قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر" جمع حنجرة، وهي مجرى النفس. قال قتادة: شخصت مكانها، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها لخرجت، رواه ابن أبي حاتم، وقد قيل: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع والغضب، أو الغم الشديد ربت، وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وقيل: هو تمثيل عن شدة الخوف، وعليه السهيلي. قال في الروض فيه: أن التكلم بالمجاز مبالغة حتى إذا فهمه المخاطب، فإن القلب لو انتقل إلى الحنجرة لمات صاحبه، فحالهم فيما بلغهم من الخوف وضيق الصدر، كمثل المنخلع قلبه من موضعه، ومثله جدارا يريد أن ينقض، أي: مثله كمثل من يريد الفعل، ويهم به فهو من مجاز التشبيه، وقيل: هو على حذف مضا، تقديره بلغ وجيف القلوب الحناجر ا. هـ، "فقال: "نعم"، قولوا: اللهم استر عوراتنا"" أي: خللنا، أي: عيوبنا، وتقصيرنا وما يسوءها إظهاره، "وآمن" بمد الهمزة وكسر المبهم مخففة، ويجوز القصر والتثقيل "روعاتنا" خوفنا وفزعنا من الروع بالفتح الفزع، وفيه من أنواع البديع جناس القلب، وإيقاع الأمن على الروع مجاز من إطلاق اسم المحل، وهو القلب على الحال فيه وهو الروع، وبهذا وافق قوله تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] ، قوله: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] ، حيث أوقع الأمن على الذوات. "قال: فضرب الله وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم بالريح" وكفى الله المؤمنين القتال، فانصرف الكفار خائبين خائفين، حتى إن عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد أقاما في مائتي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وفي "ينبوع الحياة" لابن ظفر: قيل إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي". فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه ورفع يديه قائلا: "شكرا شكرا"، وهبت ريح الصبا ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الأبنية وكفت القدور   فارس، ساقه عسكر المشركين ردأ لهم، مخافة الطلب، كما ذكره ابن سعد. "وفي ينبوع الحياة" اسم تفسير القرءان العظيم "لابن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء بعدها راء، كما ضبطه ابن خلكان، ونسب إلى جده لشهرته به، وإلا فهو محمد بن محمد بن ظفر أحد الفضلاء صاحب التصانيف الصقلى، ولد بها، ونشأ بمكة، وتنقل في البلاد، وسكن آخر وقته بحماة، وكان فقيرا جدا حتى قيل: إنه زوج بنته بغير كفؤ للحاجة، فخرج الزوج بها من حلب، وباعها "قيل: إنه صلى الله عليه وسلم دعا فقال: "يا صريخ" بخاء معجمة، أي: يا مغيث "المكروبين"، ويطلق على المستغيث أيضا, كما في القاموس, وليس مرادا هنا "يا مجيب المضطرين" المكروبين الذي مسهم الضر، كما قال: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء "اكشف همي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي، فأتاه جبريل فبشره بأن الله سبحانه وتعالى يرسل عليهم ريحا وجنودا، فأعلم أصحابه" بذلك ليزول خوفهم، "ورفع يديه قائلا" أشكرك "شكرا شكرا" أي: شكرا بعد شكر على ما أوليتني من نعمائك "وهبت ريح الصبا" بفتح الصاد المهملة وخفة الموحدة، وهي الشرقية، ويقال لها القبول؛ لأنها تقابل الشمال، وهي الريح العقيم التي لا خير فيها "ليلا". روى ابن مردويه والبزار وغيرهما برجال الصحيح، عن ابن عباس قال: لما كانت ليلة الأحزاب قال الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها، فجعلها عقيما، وأرسل الصبا، فأطفأت نيرانهم، وقطعت أطنابهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور". وروى الشيخان والنسائي عنه مرفوعا: نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور بفتح الدال، الريح الغربية، ومن لطيف المناسبة، كون القبول نصرت أهل القبول، والدبور أهلكت أهل الأدبار "فقلعت" الأوتاد" وأطفأت النيران، "وألقت عليهم الأبنية" أي: الأخبية، "وكفت" قلبت "القدور" على أفواهها. قال مجاهد: سلط الله عليهم، الريح فكفت قدورهم، ونزعت خيامهم حتى أظعنتهم، رواه البيهقي فهذا صريح في أنه من الريح، ومثله في الأنوار والنهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصى، وسمعوا في أرجاء معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح فارتحلوا هرابا في ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم. قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] . وفي البخاري عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا   وزاد: وبعث الله مع الصبا ملائكة تسدد الريح، وتفعل نحو فعلها ا. هـ. "وسفت عليهم التراب" في وجوههم، "ورمتهم بالحصا وسمعوا في أرجاء معسكرهم" أي: جوانبه، "التكبير وقعقعة السلاح" من الملائكة "فارتحلوا هرابا" بضم الهاء والتشديد، جمع هارب، أي: هاربين، "في ليلتهم وتركوا ما استثقلوه من متاعهم" فغنمه المسلمون مع عشرين بعيرا أرسلها أبو سفيان لحيي فحملها له شعيرا وتمرا وتبنا، فلقيها جماعة من المسلمين فأخذوها وانصرفوا بها إليه صلى الله عليه وسلم، فتوسعوا بها وأكلوه حتى نفد ونحروا منها أبعرة، وبقي منها ما بقي حتى دخلوا به المدينة، فلما رجع ضرار بن الخطاب أخبرهم الخبر، فقال أبو سفيان: إن حييا لمشئوم قطع بنا ما نجد، ما نحمل عليه إذا رجعنا، أخرجه الواقدي بإسناد له مرسل. "قال: فذلك قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب: 9] ، صبا باردة في ليلة شاتية، {وَجُنُودًا} ملائكة قيل: كانوا ألفا. وروى ابن سعد عن ابن المسيب قال: أتى جبريل يومئذ، ومعه الريح فقال صلى الله عليه وسلم حين رأى جبريل: "ألا أبشروا" ثلاثا، {لَمْ تَرَوْهَا} قذفت في قلوبهم الرعب والفشل، وفي قلوب المؤمنين القوة والأمل، وقيل: إنما أرسلت لتزجر خيل العدو وإبلهم، فقطعوا ثلاثة أيام في يوم واحد، ذكره ابن دحية. قال مجاهد: ولم تقاتل الملائكة يومئذ. قال البلاذري: بل غشيتهم تطمس أبصارهم فانصرفوا، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال. "وفي البخاري" في الجهاد، والمغازي، والتفسير والدعوات، ومسلم وأبي داود والنسائي في الصلاة، والترمذي في التفسير، "عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم" وقعة "الخندق". قال الحافظ: وفي الجهاد يوم الأحزاب: وهو بالمعنى "ملأ الله بيوتهم" أي: الكفار أحياء، "وقبورهم" أمواتا "نارا"، والجملة خبرية لفظا، إنشائية معنى أي: اللهم املأ، ففيه كما قال الحافظ جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك "كما شغلونا". وفي رواية المستملي: لما شغلونا بزيادة لام وهو خطأ، قاله الفتح، والكاف للتعليل بمعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس" ومقتضى هذا أنه استمر اشتغاله، بقتال المشركين حتى غابت الشمس. ويعارضه ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى". الحديث. ومقتضى هذا أنه لم يخرج الوقت بالكلية. قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أي: الحمرة أو الصفرة، ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب ا. هـ. وفي البخاري عن عمر بن الخطاب   اللام، وما مصدرية نحو كما هداكم، أي: لشغلهم إيانا "عن" صلاة "الصلاة الوسطى" أي: عن إيقاعها. زاد مسلم: صلاة العصر، "حتى غابت الشمس" زاد مسلم: ثم صليناها بين المغرب والعشاء، "ومقتضى هذا" صراحة "أنه استمر اشتغاله بقتال المشركين" أي: المراماة بينهم بالنبل والحجارة، "حتى غابت الشمس، ويعارضه ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود، أنه قال: حبس" منع "المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت،" أي: قاربت الغروب، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن الصلاة الوسطى"، الحديث. ومقتضى هذا" صراحة أيضا، "أنه لم يخرج الوقت بالكلية". "قال الشيخ تقي الدين" أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري المنفلوطي، العلامة الفقيه الحافظ، صاحب التصانيف "ابن دقيق العيد". قال السخاوي، الملقب بذلك جده وهب لخروجه يوما من قوص، وعليه طيلسان أبيض وثوب أبيض، فقال بدوي: كأن قماش هذا يشبه دقيق العيد، يعني في البياض، فلزمه ذلك "الحبس انتهى إلى ذلك الوقت، أي: الحمرة أو الصفرة" كما هو لفظ ابن مسعود، "ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب" كما صرح به علي، وكأنه حصل لهم عذر، كخوف عود الكفار لهم، "انتهى" كلام تقي الدين وهو جمع بين الحديثين. "وفي البخاري" في المواقيت، وصلاة الخوف والمغازي، ومسلم، والترمذي والنسائي في الصلاة عن جابر أن عمر جاء، وأما قوله: "عن عمر بن الخطاب" ففيه تسمح من المصنف، لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 أنه جاء يوم الخندق بعد ما غابت الشمس وجعل يسب كفار قريش قال: يا رسول الله، ما كدت أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب تنبيه   يرد أنه راوي الحديث؛ لأنه خلاف الواقع في البخاري وغيره، فإنما مراده عن قصة عمر، فقد قال الحافظ: اتفق الرواة على أن هذا الحديث من رواية جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حجاج بن نصير، فرواه عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير، عن جابر، عن عمر، فجعله من مسند عمر، تفرد بذلك حجاج، وهو ضعيف ا. هـ. "أنه جاء يوم الخندق بعدما غابت"، وفي لفظ: غربت "الشمس و". في رواية للبخاري أيضا: بعدما أفطر الصائم، والمعنى واحد. "جعل" بلا فاء في المغازي من البخاري، وله في المواقيت بإثباتها، فجعل "يسب كفار قريش" لأنهم السبب في تأخيرهم الصلاة عن وقتها، إما المختار كما وقع لعمر، وإما مطلقا كما وقع لغيره. "قال: يا رسول الله ما كدت" قال المصنف: بكسر الكاف وقد تضم، "أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب". قال اليعمري: كاد من أفعال المقاربة، فمعناه أنه صلى العصر قرب غروب الشمس؛ لأن نفي الصلاة يقتضي إثباتها وإثبات الغروب يقتضي نفيه، فيحصل من ذلك لعمر ثبوت الصلاة، ولم يثبت الغروب. وقال الكرماني: يلا يلزم منه وقوع الصلاة في وقت العصر، بل يلزم منه أن لا تقع الصلاة؛ لأنه يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها. قال: وحاصله عرفا ما صليت حتى غربت ا. هـ، وفيه نظر، فإن كاد إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، ولا يخفى ثقل تعبيره بكيدودة، ثم قوله: أن تغرب بحذف، أن عند البخاري في المواقيت، وثبوتها له في المغازي، ومثله في مسلم. قال اليعمري: وهو من تصرف الرواة، والراجح أن كاد لا تقترن بأن بخلاف عسى، فالراجح اقترانها وهل تسع الرواية بالمعنى مثل هذا أو لا، الظاهر الجواز؛ لأن المقصود الإخبار عن صلاته العصر كيف وقعت، لا الإخبار أن عمر تكلم بالراجحة، أو المرجوحة، فإن قيل: الظاهر أن عمر كان معه صلى الله عليه وسلم فكيف اختص بإدراك العصر قل الغروب دونهم، فالجواب يحتمل أنه كان متوضئا، فبادر فصلى، ثم جاءه عليه السلام في حال تهيئة للصلاة فاعلمه، فقام هو وأصحابه إلى الوضوء انتهى ملخصا من الفتح. "تنبيه": ما سقته من لفظ المتن هو ما في نسخة صحيحة، وهو الصواب المذكور في صحيح البخاري، وما في أكثر النسخ من قوله عن عمر، أنه جاء بعدما كادت الشمس تغرب، فهو مع كونه خلاف ما في البخاري من الاختصار المخل، لإيهامه أن مجيء عمر للمصطفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب. وقد يكون ذلك للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها، ومقتضى هذه الرواية المشهورة أنه لم يفت غير العصر. وفي الموطأ: الظهر والعصر.   قبل الغروب، وهو خلاف تصريحه بأنه جاء بعدما غربت الشمس، ويوهم أيضا أن عمر لم يصل العصر قبل الغروب، مع أن الحديث كالنص في أنه صلاها قبل الغروب كما علم "فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها " " فيه جواز اليمين من غير استحلاف، إذا اقتضته مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهم، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه وتألفهم، "فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان". قال الحافظ: بضم أوله وسكون ثانيه، واد بالمدينة، وقيل: بفتح أوله وكسر ثانيه، حكاه أبو عبيد البكري، ونسب عياض الأول للمحدثين، والثاني للغويين، وحكى الفتح مع السكون أيضا. "فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها فصلى" زاد الإسماعيلي: بنا، "العصر بعدما غربت الشمس،" ففيه قضاء الفائتة جماعة، وبه قال الأكثر إلا الليث، مع إجازته صلاة الجمعة جماعة إذا فاتت، "ثم صلى بعدها المغرب" ووقع عند أحمد، أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب يوم الأحزاب، فلما سلم قال: "هل علم رجل مسلم أني صليت العصر"؟ قالوا: لا يا رسول الله فصلى العصر، ثم صلى المغرب. قال الحافظ: وفي صحته نظر، لمخالفته لحديث الصحيحين، هذا ويمكن الجمع بينهما بتكلف. قال: واختلف في سبب تأخير الصلاة ذلك اليوم، فقيل: النسيان، واستبعد وقوعه من الجميع، وقيل: شغلهم إياهم، فلم يتمكنوا من ذلك وهو أقرب لا سيما, ولأحمد والنسائي عن أبي سعيد، أن ذلك كان قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف، فرجالا أو ركبانا، "وقد يكون ذلك" أي: التأخير عن إيقاعها قبل الغروب "للاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها" كخوف عود العدو قبل الغروب، "ومقتضى هذه الرواية المشهورة" في الصحيحين وغيرهما، عن جابر وعلي، "أنه لم يفت غير العصر". "وفي الموطأ" من طريق أخرى، أنه فاتهم "الظهر والعصر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وفي الترمذي عن ابن مسعود أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق. وقال: ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من عبد الله، فمال ابن العربي إلى الترجيح فقال: الصحيح أن التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة وهي العصر. وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا في بعض الأيام وهذا في بعضها. قال: وأما تأخيره عليه الصلاة والسلام صلاة العصر حتى غربت الشمس فكان قبل نزول صلاة الخوف.   وفي حديث أبي سعيد عند أحمد والنسائي: الظهر والعصر والمغرب، وأنهم صلوا بعد هوى من الليل. "وفي الترمذي" والنسائي "عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق" حتى ذهب من الليل ما شاء الله. قال الحافظ: وفي قوله: أربع، تجوز لأن العشاء لم تكن فاتت. "وقال الترمذي: "ليس بإسناده بأس إلا أن أبا عبيدة" ابن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال اسمه عامر كوفي ثقة، مات بعد سنة ثمانين، "لم يسمع من" أبيه "عبد الله" بن مسعود، فهو منقطع، وفي التقريب الراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، "فمال ابن العربي إلى الترجيح، فقال: الصحيح أن التي اشتغل عنها صلى الله عليه وسلم واحدة وهي العصر". قال الحافظ: ويؤيده حديث علي في مسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر. "وقال النووي: طريق الجمع بين هذه الروايات، أن وقعة الخندق بقيت أياما فكان هذا،" أي: شغلهم عن العصر أو الظهر والعصر، "في بعض الأيام، وهذا" أي: تأخير أربع صلوات، "في بعضها". قال الحافظ: ويقربه أن روايتي أبي سعيد وابن مسعود ليس فيهما تعرض لقصة عمر، بل فيهما أن قضاءه للصلاة وقع بعد خروج وقت المغرب، وأما حديث جابر ففيها أن ذلك كان عقب غروب الشمس. "قال" النووي: "وأما تأخيره عليه الصلاة والسلام للعصر حتى غربت الشمس، فكان قبل نزول" قوله تعالى: {فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} ، "صلاة الخوف" كما مر من حديث أبي سعيد، وقد صلى صلاة الخوف في ذات الرقاع، وهي قبل الخندق عند جماعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو، ويحتمل أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل تصلي صلاة الخوف على حسب الحال. وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى. وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفا مفردا سماه: كشف المغطي عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا، وهي: الصبح   "قال العلماء: يحتمل أنه أخرها نسيانا لا عمدا، وكان السبب في النسيان الاشتغال بأمر العدو". قال الحافظ: واستبعد وقوع ذلك من الجميع، "ويمكن أنه أخرها عمدا للاشتغال بالعدو". قال الحافظ: وهو أقرب. وكان هذا عذرا في تأخير الصلاة "قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم، فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال، بل تصلي صلاة الخوف على حسب الحال"، ثم استطرد المصنف، فذكر الخلاف في الصلاة الوسطى لمناسبة وقوعها في الحديث السابق. فقال: "وقد اختلف في المراد بالصلاة الوسطى،" تأنيث الأوسط، وهو الأعدل من كل شيء، وليس المراد التوسط بين شيئين؛ لأن معنى فعلى التفضيل ولا يبنى منه إلا ما يقبل الزيادة والنقص والوسط بمعنى العدل والخيار يقبلهما بخلاف المتوسط، فلا يقبلهما، فلا يبنى منه أفعل تفضيل قاله الحافظ. "وجمع الحافظ الدمياطي في ذلك مؤلفا مفردا سماه كشف المغطى عن الصلاة الوسطى، فبلغ تسعة عشر قولا وهي الصبح، "قاله أبي، وأنس، وجابر، وأبو العالية، وعبيد بن عمير، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد وغيرهم، نقله ابن أبي حاتم عنهم، وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس، نقله مالك والترمذي عنهما، ونقله مالك بلاغا عن علي، والمعروف عنه خلافه. وروى ابن جرير عن أبي رجاء: صليت خلف ابن عباس الصبح، فقنت فيها، ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى أمرنا أن نقوم فيها قانتين، وأخرجه من وجه آخر عن ابن عمر، ومن طريق أبي العالية صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر، صلاة الغداة، فقلت لهم: ما الصلاة الوسطى؟ قالوا: هي هذه، وهو قول مالك والشافعي الذي نص عليه في الأم، واحتجوا بأن فيه القنوت، وقد قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، وبأنها لا تقصر في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو جميع الصلوات وهو يتناول الفرائض والنوافل واختاره ابن عبد البر، أو الجمعة وصححه القاضي   السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر، "أو الظهر" رواه في الموطأ عن زيد بن ثابت، وابن المنذر وغيره عن أبي سعيد وعائشة، وبه قال أبو حنيفة في رواية. وأخرج أبو داود عن زيد بن ثابت، كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحابه منها، فنزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] . وروى أحمد عنه، كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجيرة، فلا يكون وراءه إلا الصف، أو الصفان والناس في قائلتهم، وفي تجارتهم، فنزلت الآية "أو العصر". قال الترمذي: هو قول أكثر الصحابة الماوردي وجمهور التابعين ابن عبد البر، وأكثر علماء الأثر، وقال به من المالكية ابن حبيب، وابن العربي وابن عطية، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة، وقول أحمد، وصار إليه معظم الشافعية مخالفين، نص إمامهم لصحة الحديث فيه، وقد قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. قال ابن كثير: لكن صمم جماعة من الشافعية أنها الصبح قولا واحدا. وروى الترمذي والنسائي عن علي: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعته صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى" صلاة العصر. قال الحافظ: وهذه الرواية تدفع دعوى أن صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة، فهي نص في أن كونها العصر من كلامه عليه السلام، وأن حجة من قال الصبح قوية ا. هـ. وقال ابن عبد البر: الاختلاف القوي في الصلاة الوسطى، إنما هو في هاتين الصلاتين، أعني العصر والصبح، وغير ذلك ضعيف، "أو المغرب" قاله ابن عباس عند ابن أبي حاتم بإسناد حسن، وقبيضة بن ذؤيب عند ابن جرير، وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات ولا تقصر في الأسفار، وأن العمل مضى على المبادرة إليها، وتعجيلها عقب الغروب، وأن قبلها صلاتي سر، وبعدها صلاتي جهر، "أو جميع الصلوات" قاله ابن عمرو. رواه ابن أبي حاتم بسند حسن. ومعاذ بن جبل "و" احتج له بأن قوله: حافظوا على الصلوات: "هو يتناول الفرائض والنوافل" فعطف الوسطى عليه، وأريد بها كل الفرائض تأكيدا لها، "واختاره ابن عبد البر" أبو عمر، وتعجب منه ابن كثير حيث اختار مع اطلاعه وحفظه ما لم يقم عليه دليل، وأنها لإحدى الكبر كذا قال، وإنه من مثله لشيء عجاب، فإن السند إلى ابن عمر حسن، كما في الفتح فهو دليله، ولذا أعرض الحافظ عن تعقبه فحكاه بلا تعقب، "أو الجمعة" ذكره ابن حبيب، واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، "وصححه القاضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 حسين في صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء لأنها بين صلاتين لا تقصران، أو الصبح والعشاء، أو الصبح والعصر لقوة الأدلة. فظاهر القرءان الصبح، ونص السنة العصر، أو صلاة الجماعة أو الوتر أو صلاة الخوف أو صلاة عيد الأضحى أو الفطر أو صلاة الضحى، أو واحدة من الخمس غير معينة، أو الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول السابق أو التوقف   حسين في صلاة الخوف من تعليقه، أو الظهر في الأيام، والجمعة يوم الجمعة، أو العشاء" نقله ابن التين والقرطبي، "لأنها بين صلاتين لا تقصران" ولأنها تقع عند النوم فلذا أمر بالمحافظة عليها، واختاره الواحدي، "أو الصبح والعشاء" معا للحديث الصحيح أنهما أثقل الصلاة على المنافقين. وبه قال الأبهري من المالكية، "أو الصبح والعصر" معا "لقوة الأدلة" في أن كلا منهما الوسطى، "فظاهر القرءان الصبح" لقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، "ونص السنة العصر" عند مسلم وغيره وليس بنص؛ لأن قوله: شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، يحتمل كما قال الباجي أن يريد به الوسطى من الصلوات التي شغل عنها، وهي الظهر والعصر؛ لأنها وسطى هذه الثلاث لتأكد فضلها عن الصلاتين اللتين معا ولا يدل ذلك على أنها أفضل من الصبح وإنما الخلاف عند الإطلاق ا. هـ، على أن السيوطي قد قال في الديباج على مسلم أن قوله صلاة العصر مدرج، كما ذكره بعضهم، ولهذا سقط في رواية البخاري. وفي رواية يعني العصر، وهو صريح في الإدراج ا. هـ. ومر أن الحافظ دفع ذلك ولكن فيه وقفة، "أو صلاة الجماعة، أو الوتر" صنف فيه علم الدين الشجاعي جزءا، ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي في جزء "أو صلاة الخوف، أو صلاة عيد الأضحى، أو الفطر، أو صلاة الضحى" كذا في النسخ الصحيحة، ومثله في الفتح، وفي نسخة بدله صلاة الفجر وهي تصحيف، "أواحدة من الخمس غير معينة" قاله الربيع بن خيثم وسعيد بن جبير، وشريح القاضي، واختاره إمام الحرمين في النهاية قال: كما أخفيت ليلة القدر "أو الصبح، أو العصر على الترديد، وهو غير القول السابق" الجازم بأن كلا منهما يقال له الوسطى، "أو التوقف". فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه. زاد في الفتح: العشرون صلاة الليل، وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله، وصار إلى أنها أبهمت جماعة من المتأخرين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 ا. هـ. وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة، وكان قد أقام بالخندق خمسة عشر يوما، وقيل أربعة وعشرين يوما. فقال صلى الله عليه وسلم: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا". وفي ذلك علم من أعلام النبوة. فإنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في السنة التي صدته قريش عن البيت، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة فوقع الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وقد أخرج البزار من حديث جابر بإسناد حسن شاهدا لهذا   قال القرطبي: وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح "انتهى". ولنمسك عنان القلم رغبة عن التطويل. "وانصرف صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من ذي القعدة" قاله ابن سعد، وهو مخالف لقول ابن إسحاق فلما أصبح انصرف، ثم هو ظاهر على أن الخندق في القعدة، وكذا على أنه في شوال؛ لأن المراد ابتداء حفره، فلا ينافي استمرار ما تعلق به إلى الوقت المذكور، "وكان قد أقام بالخندق" محاصرا "خمسة عشر يوما" فيما جزم به ابن سعد والبلاذري. وقال الواقدي: إنه أثبت الأقوال، "وقيل: أربعة وعشرين يوما"، كما رواه يحيى بن سعيد عن ابن المسيب. ورى الزهري عنه بضع عشرة ليلة، ويمكن أن يفسر بخمسة عشر كما أنه يحتمل تفسير قول ابن إسحاق بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر بالأربعة وعشرين. وعند الواقدي عن جابر عشرين يوما، وفي الهدي شهرا. "فقال عليه الصلاة والسلام: "لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا" ". وفي البخاري عن سليمان بن صرد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه: "الآن نغزوهم ولا يغزونا نحن نسير إليهم" ". قال الحافظ في شرحه: "وفي ذلك علم من أعلام نبوته، فإنه عليه الصلاة والسلام اعتمر في السنة" المقبلة "التي صدته قريش عن البيت" سنة الحديبية، "ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها فكان ذلك سبب فتح مكة، فوقع الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وقد أخرج البزار من حديث جابر بإسناد حسن شاهد لهذا" يعني الحافظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 ولفظه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب، وقد جمعوا له جموعا كثيرة: "لا يغزونكم بعدها أبدا، ولكن أنتم تغزونهم" تتميم.   حديث سليمان بن صدر الذي لم يذكره المصنف اكتفاء بذكر معناه "ولفظه أن النبي صلى لله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "وقد جمعوا له جموعا كثيرة، لا يغزونكم بعدها أبدا ولكن أنتم تغزونهم" " فهذا بمعنى حديث الصحيح، وفي زيادة لفظ أبدا، وذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد أن انصرفوا. "تتميم": ذكر ابن إسحاق والواقدي أنه استشهد من المسلمين يوم الخندق ستة لا غير سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهل الأوسيون، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عنمة، بمهملة ونون مفتوحتين، وكعب بن زيد الخزرجيون، وزاد الدمياطي في الأنساب قيس بن زيد بن عامر، وعبد الله بن أبي خالد. وذكر الحافظ في الكنى أبا سنان ابن صيفي بن صخر، فقال: شهد بدرا، واستشهد في الخندق، وقتل من المشركين ثلاثة منبه بن عبيد. قال ابن هشام: هو عثمان بن أمية بن منبه العبدري أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبد الله المخزومي وعمرو بن عبدود. في البخاري عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم كان إذ قفل من الغزو أو الحج أو العمرة، يبدأ، فيكبر ثلاث مرات، ثم يقول: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، وهذا من السجع المحمود، وهو ما جاء بانسجام واتفاق بلا قصد، والمذموم ما يأتي بتكلف واستكراه والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 " غزوة بني قريظة ": ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء هو وأصحابه، ووضعوا السلاح   غزوة بني قريظة: "ولما دخل صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الأربعاء" الذي انصرف فيه من الخندق لسبع بقين من ذي القعدة، قاله ابن سعد، وكان المصنف لم يترجم لها لاتصالها بغزوة الخندق حتى كأنها بيان لبعض تعلقاته؛ لأنهم ظاهروا الأحزاب، فكانوا من جملتهم "هو وأصحابه ووضعوا السلاح". قال ابن إسحاق: وكان الظهر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 جاء جبريل عليه السلام معتجرا بالعمامة من استبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج. وفي البخاري من حديث عائشة أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم ووضع السلاح واغتسل أتاه جبريل   "جاء جبريل علي السلام معتجرا بالعمامة" وهو أن يلفها على رأسه، ويرد طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه، كما في النهاية، وتبعه الشامي ونحوه في القاموس. وقال ابن فارس: اعتجر الرجل لف العمامة على رأسه فلم يقيده، فإما أن يحمل عليه، أو هو قول ثان، "من استبرق" ضرب من الديباج غليظ، وتصغيره أبيرق قاله البرهان. قال ابن سعد: وكانت سوداء وأرخى منها بين كتفيه "على بغلة" بيضاء عليها رحالة، "عليها قطيفة ديباج"، هكذا لفظ ابن إسحاق عن الزهري، ورحالة، بكسر الراء، وخفة الحاء المهملة، سرج من جلود لا خشب فيها، تتخذ للركض الشديد، والجمع رحائل، والقطيفة كساء له خمل، وكانت حمراء كما روي عن الماجشون، وديباج بكسر الدال، وقد تفتح، فارسي معرب، والإضافة بيانية على معنى من، وفي لفظ: بغلة شهباء، وآخر فرس أبلق، وجمع بأن الدابة ليست من دواب الدنيا، فبعض الرائين تصورها بغلة، وبعضهم فرسا، فأخبر كل بما تصور، وبعض أمعن نظره، فقال بلقاء لكونها ذات لونين، وبعض لم يمعنه، ورأى غلبة البياض، فقال شهباء أو بيضاء. "وفي البخاري" في الجهاد والمغازي "من حديث عائشة، أنه لما رجع صلى الله عليه وسلم" من الخندق، كما في رواية للبخاري أيضا، أي: إلى المدينة، "ووضع السلاح، واغتسل" للتنظيف من آثار السفر، وعليه بوب البخاري الغسل بعد الحرب، وظاهره أنه فرغ من غسله، وبه صرح كعب بن مالك عند الطبراني وغيره بسند صحيح، أنه اغتسل واستجمر، وكذا الواقدي، وقال: ودعا بالمجمرة ليتبخر، وقد صلى الظهر. وعند ابن عقبة فأخذ يغسل رأسه، وقد رجل أحد شقيه، ويحتمل أنه أتم الغسل، وأخذ يرجل رأسه مكانه، والمحمرة عنده "أتاه جبريل" جواب لما، وللبخاري في الجهاد فأتاه بالفاء وهي زائدة قاله القرطبي، ويؤيده رواية المغازي هذه الأولى، وفي الرواية الثانية في المغازي لما رجع من الخندق، وضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل. قال الحافظ: فهذا يبين أن الواو في الجهاد زائدة في قوله: ووضع السلاح، هو أولى من دعوى زيادة الفاء لكثرة مجيء زيادة الواو، وللواقدي أنه وقف موضع الجنائز، وللطبراني والبيهقي عن كعب بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الأحزاب، وجمع عليه اللامة، واغتسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 فقال: قد وضعت السلاح، والله ما وضعناه. واخرج إليهم.. وأشار إلى بني قريظة. وعند ابن إسحاق: إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فزلزل بهم   واستجمر تبدى له جبريل فنادى عذيرك من محارب، فوثب فزعا بفتح العين المهملة، وكسر الذال المعجمة، وسكون التحتية وفتح الراء، أي: من يعذرك فعيل بمعنى فاعل، وللطبراني والبيهقي عن عائشة قالت: سلم علينا رجل، ونحن في البيت، فقام صلى الله عليه وسلم فزعا، فقمت في أثره، فإذا بدحية الكلبي، فقال: "هذا جبريل يأمرني أن أذهب إلى بني قريظة"، فكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه جبريل، وللبخاري أيضا، وهو أي: جبريل، ينفض رأسه من الغبار، وله في الجهاد، وقد عصب رأسه الغبار، "فقال: قد وضعت السلاح" بحذف همزة الاستفهام الثابتة في ابن إسحاق، ولفظه: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: "نعم" قال: "والله" نحن "ما وضعناه". وعند ابن سعد من مرسل يزيد بن الأصم: وضعت السلاح، ولم تضعه ملائكة الله، "واخرج إليهم". وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال فقال: يا رسول الله انهض إلى بني قريظة، فقال: "إن في أصحابي جهدا، فلو أنظرتهم أياما"، قال: انهض إليهم فلأضعضعنهم، وأسقط المصنف من حديث البخاري قال: قل لي: أين، قال: ههنا، "وأشار" زاد الكشميهني بيده "إلى بني قريظة" بضم لقاف، وفتح الراء، وسكون التحتية، وبالظاء المعجمة فتاء تأنيث. قال السمعاني: اسم رجل نزل أولاده قلعة حصينة بقرب المدينة فنسبت إليهم، وقريظة والنضير أخوان من أولاد هارون، وذكر عبد الملك بن يوسف أن بني قريظة كانوا يزعمون أنهم من ذرية شعيب نبي الله. قال الحافظ: وهو محتمل، وأن شعيبا كان من بني جذام القبيلة المشهورة وهو بعيد جدا، ا. هـ. "وعند ابن إسحاق" عن شيخه الزهري: "إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة،" فاذهب كما أمرك الله، "فإني عامد إليهم" فهو علة لمقدر "فزلزل بهم" حصونهم، فالمفعول محذوف لرواية ابن إسحاق: أن جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: فأدبر جبريل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم من الأنصار بفتح الغين المعجمة وسكون النون، بطن من الخزرج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة. وعند ابن عائذ: قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض على الصفا، وبعث مناديا ينادي يا خيل الله اركبي. وعند الحاكم والبيهقي: وبعث عليا على   وفي البخاري عن أنس لكأني أنظر إلى الغبار في زقاق بني غنم موكب جبريل حين سار إلى بني قريظة. روى كما قال المصنف وغيره بنصب موكب بتقدير انظر، والجر بدل من الغبار، والرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا موكب وهو نوع من السير، وجماعة الفرسان، أو جماعة يسيرون برفق ا. هـ. "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا"، أي: مناديا. قال البرهان: لا أعرفه، وقال الشامي: هو بلال، ومثله في الفتح ناسبا لابن إسحاق ولعله في رواية غير البكائي إذ روايته "مؤذنا، فأذن من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وعند ابن عائذ" بسنده عن جابر، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، مرجعه من طلب الأحزاب إذ وقف عليه جبريل، فقال: ما أسرع ما حللتم والله ما نزعنا من لامتنا شيئا منذ نزل العدو، "قم فشد عليك سلاحك، فوالله لأدقنهم دق البيض"، كذا في نقل المصنف عنه، ومثله في الفتح والذي في العيون عن ابن عائذ كدق البيض، "على الصفا" وليس المراد أنه يقتلهم، وإن كان ظاهر اللظف لكونه خلاف الواقع، بل المراد ألقى الرعب في قلوبهم حتى يصيروا كالهالكين، ثم أزلزلهم، فأنزلهم من حصونهم، فتقتلهم فيصيروا كالبيض على الصفا، فعبر عن اسم السبب بالمسبب، وقد كان ذلك وبقية حديث هذا ثم ولى فأتبعته بصري، فلما رأينا ذلك نهضنا. "و" روى ابن عائذ أيضا من مرسل قتادة، قال: "بعث" صلى الله عليه وسلم "مناديا" قال البرهان: لا أعرف اسمه، وقال الشامي: هو بلال. "ينادي: يا خيل الله اركبي". قال العسكري وابن دريد هو على المجاز والتوسع أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصره لعلم المخاطب ما أراده، وتعقبه شيخنا، بأنه لا يناسب قوله اركبي، فالأظهر أنه نزل الخيل منزلة المقاتلين حتى كأنها هي التي يوجد منها الفعل، فخاطبها بطلب الركوب منها، والمقصود أصحابها، فلما عبر بالخيل راعى لفظها، فأسند الفعل إليها، أو أنه سمى أصحاب الخيل خيلا مجازا لعلاقة المجاورة. "وعند الحاكم والبيهقي" من طريق أبي الأسود عن عروة، "وبعث عليا" أميرا "على" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 المقدمة، وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره. وعند ابن سعد: ثم سار إليهم في المسلمين، وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، فيما قال ابن هشام. ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة   الجماعة "المقدمة" على الجيش بكسر الدال مثقلة، من قدم اللازم، بمعنى تقدم، "وخرج صلى الله عليه وسلم في أثره" بكسر الهمزة، وسكون المثلثة ويجوز فتحها، وحكي تثليث الهمزة كما في السبل، أي: لم يتأخر في خروجه عنه. "وعند ابن سعد، ثم سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف" أي: جملة الخارجين أعم من كونهم معه، أو قبله، أو بعده "والخيل ستة وثلاثون فرسا، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة" ذكره تتميما لكلام ابن سعد وإن قدمه أول كلامه، "واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم" عبد الله، أو عمرا "فيما قال ابن هشام" بيان للعز، ولا احتراز عن قول آخر، ولبس صلى الله عليه وسلم الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قتادة بيده، وتقلد القوس، وركب فرسه اللحيف، بضم اللام وفتحها. قال القاموس: كأمير وزبير وحاؤه مهملة، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة رواه البخاري، ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله ابن الأثير. وللطبراني عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى بني قريظة ركب على حمار عري يقال له يعفور، والناس حوله فإن صحا، فيمكن أنه ركب الفرس بعض الطريق والحمار بعضها. قال ابن إسحاق: وقدم صلى الله عليه وسلم عليا برايته وابتدرها الناس، فسار حتى دنا من الحصون، سمع مقالة قبيحة له عليه السلام، فرجع حتى لقيه بالطريق، فقال: لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث؟، قال: "لم أظنك سمعت منهم لي أذى"، قال: نعم، قال: "لو رأوني لم يقولوا شيئا"، فلما دنا من حصونهم قال: "يا خوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته"؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، ومر بنفر من أصحابه قبل أن يصل إليهم، فقال: "هل مر بكم أحد"؟، قالوا: مر بنا دحية بن خليفة على بغلة بيضاء، فقال: "ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم"، "ونزل عليه الصلاة والسلام على بئر من آبار بني قريظة". قال ابن إسحاق يقال لها بئر أنا. وقال ابن هشام: بئر أنا، وفي الشامية بالضم وتخفيف النون، وقيل: بالفتح والتشديد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وتلاحق به الناس. فأتى رجال منهم بعد عشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة، فما عابهم الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي البخاري عن ابن عمر: فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك   وقيل: بموحدة بدل النون وقيل غير ذلك. "وتلاحق به الناس فأتى رجال". قال البرهان: لا أعرفهم بأعيانهم، "من بعد عشاء" الصلاة "الآخرة" بالإضافة، ولعل المراد من بعد الظلام الذي تفعل فيه الصلاة الآخرة، "ولم يصلوا العصر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين" بنون التوكيد الثقيلة "أحد العصر إلا في بني قريظة". قال في رواية ابن إسحاق: "فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم،" أي: فما نسب إليهم عيبا، أي: ذنبا، "الله تعالى في كتابه ولا عنفهم به" أي: ما لامهم ولا عتب عليهم بسببه "رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأنهم إنما أخروها لفهمهم النهي عن فعلها قبل بني قرظة، وإن خرج الوقت كما هو ظاهر اللفظ. "وفي البخاري عن ابن عمر" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" "فأدرك بعضهم العصر" بالنصب مفعول، ولأبي ذر بنصب بعضهم، ورفع العصر فاعل، "في الطريق، فقال بعضهم": الضمير لنفس بعض الأول، "لا نصلي حتى نأتيها" حملا للنهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحا للنهي الثاني على الأول، وهو ترك تأخير الصلاة على وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بالحرب، بنظير ما وقع في الخندق، أنهم صلوا العصر بعد غروب الشمس لشغلهم بأمر الحرب، فجوزوا عمومه في كل شغل تعلق بالحر، ولا سيما والزمان زمان تشريع قاله في الفتح. وقال المصنف: عملا بظاهر النهي؛ لأن في النزول مخالفة للأمر الخاص، فخصوا عموم الأمر بالصلاة أول وقتها، بما إذا لم يكن غدر بدليل أمرهم بذلك. "وقال بعضهم" نظرا إلى المعنى، لا إلى ظاهر اللفظ، "بل نصلي" حملا للنهي عن غير حقيقته وأنه كناية عن الحث والاستعجال والإسراع، "لم يرد" بضم أوله، وفتح الراء وكسرها، كما قال المصنف "منا ذلك" الظاهر بل لازمه من الحث والإسراع إلى قريظة. قال ابن القيم: فحازوا الفضيلتين امتثال الأمر في الإسراع، وفي المحافظة على الوقت، ولا سيما ما في هذه القصة بعينها من الحث على المحافظة عليها، وأن من فاتته حبط عمله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم. كذا وقع في جميع النسخ من البخاري: أنها العصر، واتفق عليه جميع أهل المغازي.   "فذكر" بضم الذال "ذلك" المذكور من فعل الطائفتين "للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف،" لم يلم "واحدا منهم" لا التاركين ولا الفاعلين؛ لأنهم بذلوا جهدهم، واجتهدوا فلم يأثموا. قال السهيلي وغيره فيه: أن لا يعاب من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مجتهد في الفروع مصيب. قال الحافظ: وليس بواضح، فإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه. قال السهيلي: ولا يستحيل كون الشيء صوابا في إنسان وخطأ في حق غيره، وإنما المحال الحكم في نازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد، والأصل فيه أن الخطر والإباحة صفات أحكام لا أعيان، فكل مجتهد وافق وجها من التأويل فهو مصيب ا. هـ. والمشهور وعليه الجمهور أن المصيب في القطعيات واحد، وخالفه الجاحظ والعنبري وما لا قطع فيه، فالجمهور أيضا واحد. وعن الأشعري كل مجتهد مصيب، وأن حكم الله تابع لظن المجتهد. وقال بعض الحنفية والشافعية: هو مصيب في اجتهاده، فإن لم يصب ما في نفس الأمر فهو مخطئ، وادعى ابن المنير أن الذين صلوا إنما صلوا على دوابهم؛ لأن النزول ينافي مقصود الإسراع. قال: فالذين لم يصلوا عملوا بالدليل الخاص، وهو الأمر بالإسراع، فتركوا عموم إيقاع العصر في وقتها إلى أن فات، والذين صلوا جمعوا بين دليلي وجوب الصلاة ووجوب الإسراع فصلوا ركبانا؛ لأنهم لو صلوا نزولا لضادوا ما أمروا به الإسراع، ولا يظن بهم ذلك مع ثقوب أذهانهم وفيه نظر؛ لأنه لم يصرح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن المراد بالأمر المبالغة في الإسراع فامتثلوه، وخصوا الصلاة من ذلك لما تقرر عندهم من تأكيد أمرها فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا، ولا يكون مضادا لما أمروا به، ودعوى أنهم صلوا ركبانا يحتاج إلى دليل، ولم أره صريحا في شيء من طرق هذه القصة ا. هـ. من الفتح ملخصا، وفيه أيضا ما حاصله قوله: "لا يصلين أحد العصر"، "كذا وقع في جميع نسخ البخاري أنها العصر"، ووافقه أبو نعيم، "واتفق عليه جمع أهل المغازي". "ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ووقع في مسلم أنها الظهر مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد وبإسناد واحد. ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون. وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم -قبل الأمر- كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر.   بإسناد واحد،" وهو حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية أسماء، عن نافع، عن ابن عمر، فذكراه مسلم بلفظ الظهر، والبخاري بلفظ العصر. "ووافق مسلما أبو يعلى وآخرون" كابن سعد، وابن حبان كلاهما من طريق مالك بن إسماعيل عن جويرية. قال الحافظ ولم أره من رواية جويرية إلا بلفظ الظهر، غير أن أبا نعيم أخرجه من طريق أبي حفص السلمي عن جويرية، فقال: العصر، كذا أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل بإسناد صحيح، عن كعب بن مالك، والبيهقي عن عائشة. "وجمع بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل: لمن لم يصلها لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها: العصر". قال الحافظ: وكلاهما جمع لا بأس به، لكن يبعده اتحاد مخرج الحديثح لأنه عند الشيخين بإسناد واحد من مبدئه إلى منتهاه، فيبعد أن يكون كل من رجال إسناده، حدث به على الوجهين، ولم يوجد ذلك، ثم تأكد عندي أن الاختلاف في اللفظ المذكور من حفظ بعض رواته، فإن سياق البخاري وحده مخالف لسياق من رواه عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية، فذكر لفظ البخاري المذكور في المصنف بما زدته أوله، وقال: ولفظ مسلم وسائر من رواه نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة"، فتخوف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت، فما عنف واحدا من الفريقين، فالذي يظهر من تغاير اللفظين أن عبد الله شيخ الشيخين لما حدث البخاري حدثه على هذا اللفظ، ولما حدث به الباقين حدثهم به على اللفظ الآخر، وهو اللفظ الذي حدثه به عمه جويرية بدليل موافقة مالك بن إسماعيل له عليه بخلاف اللفظ الذي حدث به البخاري، أو أن البخاري كتبه من حفظه، ولم يراع اللفظ كما عرف من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وللطائفة التي بعدها العصر، والله أعلم. قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة، حتى أجهدهم الحصار. وعند ابن سعد: خمس عشرة. وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة. وقذف الله في قلوبهم الرعب. فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا فقال لهم:   مذهبه في تجويز ذلك بخلاف مسلم، فإنه يحافظ على اللفظ كثيرا، وإنما لم أجوز عكسه لموافقة من وافق مسلما على لفظه بخلاف البخاري، لكن موافقة أبي حفص السلمي تؤيد الاحتمال الأول، وهذا من حيث حديث ابن عمر، أما بالنظر إلى حديث غيره، فالاحتمالان المتقدمان في كونه قال: الظهر لطائفة، والعصر لطائفة، مجيئهما متجه، فيحتمل أن رواية الظهر هي التي سمعها ابن عمر. ورواية العصر هي التي سمعها كعب بن مالك وعائشة، وقيل في وجه الجمع أيضا أن يكون لأهل القوة، أو لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر، وقال لغيرهم: لا يصلين أحد العصر ا. هـ. والجمع الأخير ظاهر أيضا بالنظر لغير رواية ابن عمر "والله أعلم" بما وقع في نفس الأمر. "قال ابن إسحاق: وحاصرهم عليه الصلاة والسلام خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم" أي: بلغهم "الحصار" غاية المشقة، وكونه بالألف مثله في الفتح، وروايته في ابن إسحاق، وكذا نقله اليعمري جهدهم بلا ألف، وهما بمعنى. ففي القاموس جهد دابته، بلغ جهدها كأجهدها ا. هـ. "وعند ابن سعد: خمس عشرة" ليلة. "وعند ابن عقبة: بضع عشرة ليلة" ولو قدمه على ما قبله، كما في الفتح ليكون كالتفسير للبضع كان أولى، وقد جمع شيخنا في التقرير، بأنه يمكن أن مدة شدة الحصار خمس عشرة المردودة إليها رواية بضع عشرة والخمس وعشرين مدته كلها، وعطف على أجهدهم قوله: "وقذف" ألقى "الله في قلوبهم الرعب" وإطلاقه على ذلك مجاز؛ لأن حقيقة القذف الرمي بالحجارة، فعرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد أن يؤمنوا، فقال لهم:" عطف على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي: قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين أنه لنبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. فأبوا. قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين   عرض، "يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم"، أي: أذكر لكم، "خلالا". قال الشامي: بكسر الخاء المعجمة، أي: خصالا جمع خلة، بفتح المعجمة وشد اللام، "ثلاثا فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع" من المتابعة "هذا الرجل، ونصدقه فوالله لقد تبين" ظهر، وتحقق لكم "أنه" بفتح الهمزة "نبي مرسل" هكذا في نسخة صحيحة من ابن إسحاق. وفي العيون عنه، وكذا في بعض نسخ المصنف أنه لنبي بزيادة لام. فقال البرهان: بكسر الهمزة؛ لأن اللام في خبرها. قال: وكذا، "وإنه الذي" والمذكور في ابن إسحاق، والعيون للذي بلام "تجدونه في كتابكم" التوراة، "فتأمنون على دمائكم" من القتل، "وأموالكم وأبنائكم ونسائكم" من الأسر والسلب، ولم يقل فنأمن، وإن كان الظاهر المطابق لقوله قبل نتابع اقتصارا على ما يحملهم على المتابعة مما تتعلق به أنفسهم، وذكر نفسه فيها إشارة إلى رضاه به لنفسه وأنه شريكهم فيه إن فعلوه ليكون أدعى لقبول ما عرضه، "فأبوا" حيث قالوا: لا نفارق حكم التوراة، ولا نستبدل به غيره. "قال: فإذا" حيث "أبيتم علي" بشد الياء "هذه" الخصلة، فامتنعتم بها، "فهلم" تعالوا وافقوني، "فقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا" أي: مشاة، "مصلتين". قال الشامي: جمع مصلت بكسر اللام، وبالصاد المهملة الساكنة، أي: مجردين السيوف من أغمادها ا. هـ. فقوله: "بالسيوف" متعلق بمحذوف ذكر تأكيدا، كأنه قيل مجردين السيوف، مقاتلين بها، وأقام الظاهر مقام المضمر لعدم تقدمه لفظا، أو هو متعلق بنخرج، وإن أخر لفظا عن مصلتين "لم نترك وراءنا ثقلا". قال البرهان: بفتح المثلثة والقاف، ويجوز كسر الثاء، ونقاتل "حتى يحكم الله بيننا وبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما نخشى عليه. فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا. فقال: إن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ. وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة -وهو رفاعة بن عبد المنذر- نستشيره في أمرنا. فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم يا أبا لبابة، أترى أن ننزل   محمد" غاية لنخرج أو لمحذوف، "فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا ما" وفي ابن إسحاق والعيون: نسلا، "نخشى عليه" حال من فاعل نهلك، وهو المقصود من الجواب، فلم يتحد الشرط والجزاء وبقية قوله: وإن نظهر على محمد، فلعمري لنجدن النساء والأبناء "فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا" استفهام إنكاري لرد قتلهم "فقال: إن أبيتم علي هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا" بفتح الهمزة المقصورة وكسر الميم، أي: اطمأنوا، وسكنت قلوبهم لاعتقادهم أنا لا نحدث شيئا "فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة" بكسر الغين المعجمة وشد الراء، غفلة، "قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ" قردة وخنازير، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما، "وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أيقنوا بالهلاك "أن ابعث إلينا أبا لبابة" الأنصاري المدني أحد النقباء عاش إلى خلافة علي، "وهو" أي: اسمه فيما صدر به السهيلي، "رفاعة" وقيل: مبشر، وقيل: بشير، "ابن عبد المنذر". قال في التقريب: ووهم من سماه مروان، "نستشيره في أمرنا" في شأننا وحالنا، وخصوه لكون ماله وولده وعياله فيهم، "فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش" بفتح الجيم والهاء وكسرها، فزع وأسرع، "إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم" رحمهم لما رآهم عليه من الحزن والذلة، "وقالوا:" عطف على قام إليه الرجال، "يا أبا لبابة، أترى أن ننزل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.   على حكم محمد" وذلك أنهم لما حوصروا حتى أيقنوا بالهلكة أنزلوا شاس بن قيس، فكلمه صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزل بنو النضير من تلك الأموال والحلقة والخروج بالنساء والذراري، وما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله، فقال: تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل، فأبى صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكمه وعاد شاس إليهم بذلك، "قال: نعم، وأشار بيه إلى حلقه أنه" أي: حكمه فيهم، "الذبح" كأنه فهم ذلك من ترك إجابته بحقن دمائهم. "قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله"، زاد في رواية: فندمت واسترجعت فنزلت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم، حتى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى، حتى جئت إلى المسجد، "ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده" بضم العين، والميم وفتحهما، ويكون مفردا وجمعا. قال في رواية: وكان ارتباطي إلى الأسطوانة المخلقة، أي: التي طليت بالخلوق بوزن رسول، وهو ما يخلق به من الطيب، "وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى" أموت، أو "يتوب الله علي" أي: ينزل توبتي، "مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ" وفي نسخة: وعاهدت الله أن لا أطأ على الالتفات "بني قريظة أبدا، ولا أرى". قال البرهان: بضم الهمزة وفتح الراء مبني للمفعول، وقال الشامي: بفتح الهمزة فإن كان رواية، فالمعنى لا أرى أحدا "في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا"، وهو يستلزم أن لا يذهب إليهم. قال ابن هشام: وأنزل الله في أبي لبابة، فيما قال ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي قتادة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه. قال ابن هشام: وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فتربطه بالجذع. وقال أبو عمر: روى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه   تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] "فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه قال: أما لو جاءني" وأخبرني خبره "لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه". قال أبو لبابة: فكنت في أمر عظيم في حر شديد عدة ليال لا آكل فيهن شيئا، ولا أشرب، وقلت: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله علي، وأذكر رؤيا رأيتها في النوم، ونحن محاصرون بني قريظة، كأني في حمأة، أي: طين سود آسنة، أي: متغيرة، فلم أخرج منها حتى كدت أموت من ريحها، ثم رأيت نهرا جاريا، فأراني اغتسلت فيه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحا طيبة، فاستعبرتها أبا بكر، فقال: لتدخلن في أمر تغتم له، ثم يفرج عنك، فكنت أذكر قوله وأنا مرتبط، فأرجو أن ينزل الله توبتي، فلم أزل كذلك حتى ما أسمع الصوت من الجهد ورسول الله ينظر إلي. "قال ابن هشام" عبد الملك: "وأقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال تأتيه امرأته" بطلب منه، أو بلا طلب على العادة من تفقد الزوجة، ونحوها الشخص في الشدة، "في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة، ثم يعود فتربطه بالجذع" وكان هذه الست تقيدت به فيها امرأته، وباقي البضع عشرة بنته، فلا تنافي بين هذه والآتية. "وقالوا أبو عمر" بن عبد البر الحافظ: "روى ابن وهب" عبد الله أحد الأعلام، "عن مالك" بن أنس الإمام، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني، قاضيها الثقة، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة عن سبعين سنة، "أن أبا لبابة ارتبط بسلسلة ثقيلة،" لفظ الرواية، كما في العيون عن أبي عمر بسلسلة ربوض، والربوض الثقيلة وهو بفتح الراء، وضم الموحدة مخففة، فواو فضاد معجمة، أي: عظيمة غليظة، "بضع عشرة ليلة حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 فما كاد يسمع، وكاد يذهب بصره، وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ أعادته. وعن يزيد بن عبد الله بن قسيط: أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، فقالت: قلت يا رسول الله مم تضحك، أضحك الله سنك. قال: "تيب على أبي لبابة". قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله، قال: "بلى إن شئت". قال: فقامت على باب حجرتها -وذلك قبل أن يضرب عليهن الححاب- فقالت: فقلت يا أبا لبابة   ذهب سمعه، فما يكاد يسمع، وكاد يذهب بصره فكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة، أو أراد أن يذهب لحاجة، فإذا فرغ" من الصلاة، أو لحاجة "أعادته". والظاهر كما قال الشامس أن زوجه كانت تحله مرة وبنته أخرى. "و" روى ابن إسحاق "عن يزيد" بياء تحتية وزاي "ابن عبد الله بن قسيط" بقاف ومهملتين مصغر، ابن أسامة الليثي أبي عبد الله المدني الأعرج الثقة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائة، وله تسعون سنة. روى له الستة وفي غالب النسخ بإسقاط يزيد، وهو خلاف ما عند ابن إسحاق، وغيره من أنه عن يزيد، وهو الصواب، "أن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال ابن هشام: والآية التي نزلت في توبته قول الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ، "وهو في بيت أم سلمة،" وهذا مرسل، وقد رواه ابن مردويه بسند فيه الواقدي، موصولا عن أم سلمة، وفيه، وأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ..} ويحتمل أن يزيد حمله عنها وقد يشعر به قوله. "قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر، وهو يضحك" فرحا بالتوبة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، "فقالت: قلت: يا رسول الله مم تضحك؟، أضحك الله سنك، قال: "تيب على أبي لبابة"، قالت: قلت:" أأترك الذهاب إليه "فلا أبشره" أم أذهب إليه فأبشره، "يا رسول الله؟، قال: "بلى" بريه "إن شئت"". ولفظ ابن مردويه قال: "ما شئت" وكله إليها حتى لا يشق عليها بالليل. "قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: "ولفظ ابن مردويه: فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، "فقلت: يا أبا لبابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 أبشر فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. وروى البيهقي في الدلائل بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] قال: هو أبو لبابة إذ قال لبني قريظة ما قال وأشار إلى حلقه إن محمدًا يذبحكم إن نزلتم على حكمه. قال البيهقي وترجم محمد بن إسحاق بن يسار أن ارتباطه كان حينئذ. وقد روينا عن ابن عباس ما دل على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك   أبشر" بهمزة قطع، "فقد تاب الله عليك، فثار" أي: نهض "الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده"، تعظيما له ورجاء حصول بركته حتى لا يعود لمثلها "فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح، أطلقه" زاد ابن مردويه عقب هذا: ونزلت: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} . قال السهيلي: فإن قيل الآية ليست نصا في توبة الله عليه، أكثر من قوله: عسى الله أن يتوب عليهم، فالجواب أن عسى منه سبحانه واجبة وخبر صدق، فإن قيل القرءان نزل بلسان العرب، وعسى ليست في كلامهم بخبر، ولا تقتضي وجوبا، قلنا: عسى تعطي الترجي مع المقاربة، ولذا قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ، ومعناه الترجي مع الخبر بالقرب كأنه قال قرب أن يبعثك، فالترجي مصروف إلى العبد، والخبر عن القرب، مصروف إلى الله، وخبره حق ووعده حتم، فما تضمنه من الخبر، فهو الواجب الذي هو الترجي الذي هو محال على الله انتهى باختصار. "وروى البيهقي في الدلائل" النبوية "بسنده عن مجاهد في قوله تعالى: {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} قال: هو أبو لبابة، إذ قال لبني قريظة ما قال"، هو من إطلاق القول على الفعل، إذ لم يصدر منه قول غير الإشارة، ولذا أتى بعطف التفسير في قوله، "وأشار إلى حلقه بأن محمدًا يذبحك إن نزلتم على حكمه". "قال البيهقي: وترجم محمد بن إسحاق بن يسار" ضد يمين إمام المغازي "أن ارتباطه كان حينئذ" أي: حين إشارته لقريظة، "وقد روينا عن ابن عباس" من طرق عند ابن مردويه وابن جرير "ما دل" على سبيل الصراحة "على أن ارتباطه بسارية المسجد كان بتخلفه عن غزوة تبوك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية. ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم سعد بن معاذ، وكان قد جعله في خيمة في المسجد الشريف لامرأة من أسلم   كما قال ابن المسيب قال: وفي ذلك نزلت هذه الآية {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} ، وقد أخرجه أبو الشيخ وابن منده عن جابر بسند قوي، وعلى تقدير صحة الخبرين، فيجمع باحتمال تعدد ربطه نفسه، "ولما اشتد الحصار ببني قريظة أذعنوا"، خضعوا وذلوا ورضوا، "أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: على ما يحكم به فيهم. قال ابن إسحاق: فقالت الأوس: قد فعلت في موالي الخزرج، أي: بني قينقاع، ما علمت فقال: ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟، قالوا: بلى، قال: فذلك إلى سعد بن معاذ. وعند ابن عقبة فقال: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعدا، فرضي صلى الله عليه وسلم. قال ابن هشام: وحدثني من أثق به، أن عليا صاح وهم محاصرون: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأقتحمن حصنهم، فقالوا: ننزل على حكم سعد، "فحكم فيهم سعد بن معاذ". وفي الصحيح: فرد الحكم إلى سعد. قال الحافظ: كأنهم أذعنوا للنزول على حكم المصطفى، فلما سأله الأنصار فيهم رد الحكم إلى سعد، كما بينه ابن إسحاق قال: وفي كثير من السير، أنهم أبوا أن ينزلوا على حكم سعد، ويجمع بأنهم نزلوا على حكمه قبل أن يحكم فيهم سعدا. وفي حديث عائشة عند أحمد والطبراني: فلما اشتد بهم البلاء، قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استشاروا أبا لبابة قالوا: ننزل على حكم سعد، ونحوه في حديث جابر عند ابن عائذ، فحصل في سبب رد الحكم إلى سعد أمران: أحدهما سؤال الأوس، والآخر إشارة أبي لبابة، ويحتمل أن الإشارة أثرت توقفهم، ثم لما اشتد بهم الحصار عرفوا سؤال الأوس، فأذعنوا للنزول على حكمه صلى الله عليه وسلم واثقين بأنه يرد الحكم إلى سعد. وفي رواية مسلم: وكانوا حلفاءه. "وكان" عليه السلام "قد جعله في خيمة في المسجد الشريف" النبوي، كما دل عليه كلام ابن إسحاق خلافا لمن قال، المراد المسجد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعده للصلاة فيه في قريظة أيام حصارهم قاله الفتح، والجملة حالية والأولى أنها مستأنفة؛ لأن التحكيم لم يكن وقت جعله في الخيمة، بل وقت كونه فيها، وكانت تلك الخيمة "لامرأة من أسلم"، كما جزم به ابن إسحاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 يقال لها رفيدة وكانت تداوي الجرحى، فلما حكمه أتاه قومه فحملوه على حمار وقد وطؤا له بوسادة من أدم -وكان رجلا جسيما- ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين   وغيره، وصدر البرهان بأنها أنصارية، وفي الإصابة: الأنصارية أو الأسلمية، "يقال لها رفيدة" بضم الراء، وفتح الفاء، وسكون التحتية، وفتح الدال المهملة ثم تاء تأنيث، صحابية، "وكانت تداوي الجرحى"، وتحتسب بنفسها على من به ضيعة من المسلمين، قاله ابن إسحاق. وروى البخاري في الأدب المفرد، بسند صحيح عن محمود بن لبيد: لما أصيب أكحل سعد يوم الخندق، فثقل حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، وكان صلى الله عليه وسلم إذا مر به يقول: "كيف أمسيت"، وإذا أصبح يقول: "كيف أصبحت" فيخبره ذكره في الإصابة، ثم قال في الكاف كعيبة بالتصغير، بنت سعيد الأسلمية. ذكر أبو عمر عن الواقدي: أنها شهدت خيبر معه صلى الله عليه وسلم فأسهم لها سهم رجل. وقال ابن سعد: هي التي كانت لها خيمة في المسجد، تداوي المرضى والجرحى، وكان سعد بن معاذ عندها تداوي جرحه حتى مات ا. هـ. فهما امرأتان، وقع الخلاف فيمن تنسب إليه الخيمة منهما، وليس أحدهما اسما، والآخر لقبا، ثم عجب من الشامي في اقتصاره على قول ابن سعد، وتركه قول إمام المغازي، مع أنه لم ينفرد به، بل ورد عن محمود الصحابي بسند صحيح هذا. وقال البخاري: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب. قال المصنف: وعند ابن إسحاق في خيمة رفيدة عند مسجد ا. هـ. ففهم فاهم منه أنه جعله مقابلا للبخاري، وليس كذلك، فمراده بيان اسم صاحبة الخيمة، وأن قوله ضرب مجاز عن جعل، كما عبر به ابن إسحاق، وهو ما دل عليه كلام الفتح. "فلما حكمه أتاه قومه" الأوس، "فحملوه على حمار" لأعرابي عليه قطيفة، "وقد وطؤا له" زيادة عى ذلك، "بوسادة من أدم"، لمشقة ركوبه على القطيفة للجرح "و" لأنه "كان رجلا جسيما، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". زاد ابن إسحاق: وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، "فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين". وفي البخاري عن أبي سعيد: فلما دنا من المسجد، فقيل هو تصحيف صوابه، فلما دنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم". فأما المهاجرون من قريش فيقولون إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار، وأما الأنصار فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.   من النبي صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم وأبي داود، وفيه تخطئة الراوي بمجرد الظن، فالأولى كما في المصابيح، أن المراد بالمسجد الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة في قريظة أيام حصارهم، قال: ولئن سلمنا أنه لم يكن ثَمّ مسجد صلاة فلا نسلم أن قوله من المسجد متعلق بقوله قريبا، بل بمحذوف، أي: فلما دنا آتيا من المسجد، فإن مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من مسجد المدينة. "قال عليه الصلاة والسلام: "قوموا إلى سيدكم" " وفي حديث عائشة عند أحمد: "قوموا إلى سيدكم فأنزلوه" فقال عمر. السيد هو الله. قال رجال من بني عبد الأشهل: قمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجل منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأم المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد صلى الله عليه وسلم الأنصار" لكونه سيدهم، وهو فيهم بمنزلة الصديق في المهاجرين، ففهموا أن الإضافة عهدية، "وأما الأنصار، فيقولون: عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين" أنصارا ومهاجرين، إبقاء للفظ العام على عمومه، والسيادة لا تقتضي الأفضلية. وفي رواية: "قوموا إلى خيركم". وفي البخاري في المناقب والمغازي: إلى سيدكم، أو خيركم، بالشك. وله في الجهاد: إلى سيدكم بلا شك. وفيه أيضا في المغازي، عن أبي سعيد الخدري، قال للأنصار، وكأنه من تصرف بعض الرواة لما رأى اختلاف المهاجرين والأنصار، ويدل له أنه أسقط في الجهاد والمناقب قوله للأنصار. قال ابن إسحاق: فقاموا إليه، "فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهو عطف على ما حذفه المصنف من كلام ابن إسحاق، وإلا فليس قبله ما يظهر عطفه عليه. وفي رواية: فقالت الأوس: "قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم". وفي رواية: فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك، أي: مناصرتهم ومعاونتهم لك قبل هذا اليوم. وعند ابن إسحاق فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، أن الحكم فيهم لما حكمت، قالوا: نعم، قال: وعلي من ههنا من الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معرض عنه إجلالا له، فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم". وفي البخاري عن أبي سعيد: فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن هؤلاء نزلوا على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 فقال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" والرقيع: السماء سميت بذلك؛ لأنها رقعت بالنجوم.   حكمك، فكأنه عليه السلام تكلم أولا، ثم تكلمت الأوس بذلك. "فقال سعد: فإني أحكم فيهم، أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال وتسبى"، بالبناء للمفعول في الأفعال الثلاثة، كما في النور؛ لأنه جواب لقومه الأنصار، "الذراري" الأولاد الذين لم يبلغوا الحلم، "والنساء" أي: أزواجهم. وفي البخاري، فقال: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم. قال المصنف: بفتح الفوقية الأولى، وضم الثانية، وهم الرجال، وتسبى، بفتح الفوقية، وكسر الموحدة، ذراريهم بالتشديد، وهم النساء والصبيان ا. هـ، فضبطه بالبناء للفاعل؛ لأنه جواب لقول المصطفى: احكم فيهم يا سعد. "فقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه ابن إسحاق من مرسل علقمة بن وقاص الليثي: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة" بالقاف، جمع رقيع بتذكير العدد على معنى السقف، كما قال ابن دريد: إذا السماء مؤنث سماعي، فقياسه سبع أرقعة بتأنيث العدد. قال السهيلي: معناه: أن الحكم ينزل من فوق قال، ومثله قول زينب ابنة جحش: زوجني الله من نبيه من فوق سبع سموات، أي: نزل تزويجها من فوق، وهذا نحو يخافون ربهم من فوقهم، أي: عقابا ينزل من فوقهم، وهو عقاب ربهم. قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الفهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه، ولكن لا ينبغي إطلاق ذلك الوصف، بما تقدم من الآية والحديثين، لارتباط حرف الجر بالفعل، حتى صار وصفا لا وصفا للباري سبحانه ا. هـ. "والرقيع السماء" بدليل الرواية الآتية من فوق سبع سموات، "سميت" كما قال السهيلي "بذلك؛ لأنها رقعت" مخفف مبني للمفعول "بالنجوم" على التشبيه؛ لأنها لما كانت في مواضع منها شبهت بالثوب الذي فيه رقع في مواضع متفرقة، وظاهره أن كل سماء مرقوعة بالنجوم، وهو أحد قولين، والآخر أن الكواكب كلها في السماء الدنيا حكاهما ابن كثير. هذا وفي القاموس: الرقيع كالأمير السماء أو السماء الدنيا والرقع السابعة، فعلى القول الثاني ففي الحديث تغليب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 ووقع في البخاري: قال: قضيت فيهم بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك -أي: بكسر اللام. وفي رواية محمد بن صالح لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات. وفي حديث جابر بن عبد الله -عند ابن عائد-   السماء الدنيا على غيرها. "ووقع في البخاري" من حديث أبي سعيد، قال" صلى الله عليه وسلم "قضيت"، وفي الجهاد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله، وربما قال: بحكم الملك" شك الراوي في أي اللفظين قاله، وهما بمعنى، "أي بكسر اللام" أي: الله كما وجه الحافظ لرواية محمد بن صالح الآتية. ورواية جابر: قد أمرك الله أن تحكم فيهم. ورواية ابن إسحاق المذكورة في المصنف، قال: وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام، أي: جبريل؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام ا. هـ. لكن نقل القاضي عياض، أن بعضهم ضبطه في البخاري بكسر اللام وفتحها، فإن صح الفتح فالمراد جبريل، يعني بالحكم الذي جاء به الملك عن الله، وعورض بأنه لم ينقل نزول الملك في ذلك بشيء، ولو نزل بشيء اتبع وترك الاجتهاد، وبأنه ورد في الصحيح: "قضيت بحكم الله". نعم، ذكر ابن إسحاق في غير رواية البكائي، أنه صلى الله عليه وسلم قال في حكم سعد بذلك طرقني الملك سحرا. "وفي رواية محمد بن صالح" بن دينار التمار المدني، مولى الأنصار: صدوق يخطئ، مات سنة ثمان وستين، ومائة، خرج له أصحاب السنن، يعني عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه. "لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات" أخرجه النسائي، وكان الأولى بالمصنف، عزوه له دون محمد بن صالح أحد رواته؛ لأنه أوهم أن الحديث معضل مع أنه موصول كما علمت، وأما صاحب الفتح، فلكونه يتكلم على الأسانيد يحسن منه ذلك؛ لأن به يتبين ممن جاء اختلاف اللفظ، أو الزيادة، أو النقص، أو نحو ذلك مع أنه أيضا عزاه لمن أخرجه وهو النسائي ففيه إفادة أن المراد بالأرقعة السموات، وأن لفظ الملك في رواية البخاري بكسر اللام. "وفي حديث جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما "عند" محمد "ابن عائذ" بتحتية وذال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 فقال: احكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: قد أمرك الله أن تحكم فيهم. وفي هذ القصة: جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه. والمختار: الجواز، سواء كان في حضرته صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن مع إمكان القطع، ولا يضر ذلك لأنه بالتقرير يصير قطعيا، وقد ثبت وقوع ذلك بحضرته عليه السلام كما في هذه القصة وغيرها. ا. هـ.   معجمة، "فقال: "احكم فيهم يا سعد"، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: "قد أمرك الله أن تحكم فيهم" فأوحى إلي إلهاما، أو على لسان جبريل بذلك، وأما قوله بذلك طرقني الملك سحرا، فيحتمل أن معناه، أنه أخبره أن يحكم بما يحكم به سعد، فليس نصا في أنه هو الذي أوحى إليه أن يأمر سعدا بذلك. "وفي هذه القصة" تحكيم الأفضل من هو مفضول، وأنه يسوغ للإمام إذا كانت له حكومة في نفسه تولية نائب يحكم بينه وبين خصمه، وينفذ على خصمه إن كان عدلا، ولا يقدح فيه أن حكم له وهو نائبة، ولزوم حكم الحكم برضا الخصمين، سواء كان في أمور الحرب، أو غيرها، فهو رد على الخوارج المنكرين التحكيم على علي، قاله ابن المنير وغيره و"جواز الاجتهاد في زمنه صلى الله عليه وسلم وهي مسألة اختلف فيها أهل أصول الفقه والمختار الجواز سواء كان في حضرته صلى الله عليه وسلم أم لا، وإنما استبعد المانع وقوع الاعتماد على الظن"، المؤدي إليه الاجتهاد، "مع إمكان القطع" بسؤاله عليه السلام، "و" لكن "لا يضر ذلك لأنه بالتقرير،" بعلمه به، والسكون عليه، أو بعدم مجيء الوحي له بخلافه، "يصير قطعيا" إذ لو كان باطلا لجاءه الوحي، "فقد ثبت وقوع ذلك بحضرته عليه السلام، كما في هذه القصة، وغيرها" كقصة قتيل أبي قتادة إذ أخذ رجل سلبه، وقال للمصطفى: أرضه منه، فأبى أبو بكر، فقال عليه السلام: "صدق فأعطه.." الحديث في البخاري "انتهى". وقال شيخنا: وهذا كله ظاهر حيث كان الفاعل بحضرته صلى الله عليه وسلم أما في غيبته ففيه شيء، وهو أنه قد يؤدي ظن المجتهد إلى خلاف الواقع، فيفعله وعلمه صلى الله عليه وسلم به بعد لا يمنع وقوع الفعل منه، وإنما يقتضي النهي عن العود لمثله، فالأولى الجواب بأنه إنما اكتفى بالظن مع القدرة على اليقين؛ لأن انتظاره قد يؤدي إلى مشقة، بل إلى فوات المطلوب ا. هـ. وفيها أيضا تصحيح القول: إن المصيب واحد، وإن المجتهد ربما أخطأ، ولا حرج عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وانصرف صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال -كما قاله الدمياطي، أو لخمس كما قاله مغلطاي- خلون من ذي الحجة. وأمر عليه الصلاة والسلام ببني قريظة فأدخلوا المدينة، وحفر لهم أخدود في السوق   ولذا قال: حكمت بحكم الله، فدل على أن حكمه في الواقعة متقرر، فمن أصابه أصاب الحق، ولولا ذلك لم يكن لسعد مزية، وأن المسألة اجتهادية ظنية، ولذا كان رأي الأنصار العفو عن اليهود خلافا لسعد، وما كان الأنصار ليتفق أكثرهم على الخطأ على سبيل القطع. "وانصرف صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لسبع ليال، كما قاله الدمياطي، أو لخمس، كما قاله مغلطاي، خلون من ذي الحجة"، ولا يتأتى واحد منهما على ما قدمه، أن مدة الحصار خمس وعشرون، أو خمس عشرة، وأنه خرج لسبع بقين من ذي القعدة. نعم يتأتى على أنه بضع عشرة، يجعله أقل من خمس عشرة. "وأمر عليه الصلاة والسلام ببني قريظة" بعد نزولهم من الحصن، فكتفوا وجعلوا ناحية، والنساء والذرية ناحية، قاله ابن سعد، وأسلم في ليلة نزولهم ثعلبة، وأسد ابنا سعية، وأسد بن عبيد، كما عند ابن إسحاق. "فأدخلوا المدينة" قال ابن إسحاق: فحبسوا في دار بنت الحارث الأنصارية النجارية. قال في الإصابة: وهي رملة بنت الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن زيد، زوجة معاذ بن الحارث بن رفاعة، تكرر ذكرها في السيرة. والواقدي يقول: رملة بنت الحارث بفتح الدال المهملة بغير ألف قبلها، ا. هـ، وكذا قال ابن هشام. قال السهيلي: الصحيح عندهم بنت الحارث، كما قال البخاري وليست هي كيسة، أي: بشد التحتية فمهملة، كما في الإصابة، بنت الحارث بن كريز التي أنزل في دارها وفد بني حنيفة، وكانت زوج مسليمة الكذاب، ثم خلف عليها عبد الله بن عامر، انتهى ملخصا. وعند أبي الأسود عن عروة: أنهم حبسوا في دار أسامة بن زيد. قال في الفتح: ويجمع بأنهم جعلوا في بيتين، كما صرح به في حديث جابر عند ابن عائذ ا. هـ. وفي السبل: سيق الرجال إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية إلى دار رملة، ويقال: حبسوا جميعا في دارها، فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بأحمال تمر، فنثرت لهم فباتوا يأكلونها. "وحفر لهم أخدود" شق في الأرض، مستطيل "في السوق" بين موضع دار أبي جهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وجلس صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وأخرجوا إليه فضربت أعناقهم، وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة، وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة، وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل.   العدوي إلى إحجار الزيت بالسوق موضع بالمدينة، "وجلس صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه" في السوق، "وأخرجوا إليه"، زاد في الرواية: إرسالا، بالفتح، أفواجا وفرقا متقطعا بعضهم عن بعض، كما في النور، وظاهره أنه حقيقة. وفي المصباح أن حقيقته القطيع من الإبل شبه به الناس. "فضربت أعناقهم"، أي: ضربها علي والزبير، وأسلم الأنصاري، كما في الطبراني، قال: فكنت أضرب عنق من أنبت، وأجعل غيره في المغانم، وجاء سعد بن عبادة والحباب بن المنذر، فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ: ما كرهه من الأوس أحد فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا يبقين دار من الأوس إلا فرقتهم فيها، فمن سخط، فلا يرغم الله إلا أنفه، فابعث إلى داري أول دورهم، ففرقهم في دور الأوس فقتلوهم، وهذا يفيد أن الذين فرقوا على الأوس من لم يكن قتله علي والزبير، لمجيء ابن عبادة والحباب أثناء القتل، وبقي عليه السلام عند الأخدود حتى فرغوا منهم عند الغروب، فرد عليهم التراب، فكان الذين أرسلوا إلى الأوس حملوا بعد القتل إلى الأخدود. "وكانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة" إلى بمعنى الواو؛ لأنها التي يقابل بها بين، ولم أجده هكذا، فالذي في ابن إسحاق وهم ستمائة أو سبعمائة، وكذا نقله عنه اليعمري بأو التي لتنويع الخلاف. ففي الفتح عند ابن إسحاق أنهم ستمائة، وبه جزم أبو عمر. وعند ابن عائذ من مرسل قتادة: كانوا سبعمائة. "وقال السهيلي: المكثر يقول إنهم ما بين الثمانمائة إلى التسعمائة" كذا عزاه له تبعا للفتح، ولا أدري لم ذلك، مع أنه في نفس كلام ابن إسحاق، بلفظ: والتسعمائة بالواو، بدل إلى، وهكذا نقله عنه اليعمري. "وفي حديث جابر عند الترمذي، والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح: أنهم كانوا أربعمائة مقاتل". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 فيحتمل في طريق الجمع: إن الباقين كانوا أتباعا. واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة فتزوجها، وقيل كان يطؤها بملك اليمين، وأمر بالغنائم فجمعت، وأخرج الخمس من المتاع والسبي ثم أمر بالباقي فبيع فيمن يريد وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاثة آلاف واثنتين وسبعين سهما، للفرس سهمان ولصاحبه سهم   قال الحافظ ابن حجر" في الفتح "فيحتمل في طريق الجمع أن الباقين كانوا أتباعا" غير مقاتلين، "واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه الكريمة ريحانة" بنت شمعون بن زيد، وقيل: زيد بن عمرو بن خنافة بالخاء المعجمة والنون، إحدى نساء بني عمرو بن قريظة. قال ابن عبد البر: قول الأكثر أنها قرظية، وقيل: كانت من بني النضير متزوجة في قريظة رجلا يقال له الحكم، "فتزوجها" بعد أن أسلمت وحاضت حيضة، وكانت جميلة وسيمة، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، أي: نصف أوقية، وأعرس بها في المحرم سنة ست في بيت سلمى بنت قيس النجارية، وضرب عليه الحجاب فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فشق عليها، وأكثرت البكاء فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت راجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنها بالبقيع، ذكر الواقدي وابن سعد وغيرهما. "وقيل: كان يطؤها بملك اليمين". قال ابن إسحاق: كان صلى الله عليه وسلم سباها، فأبت إلا اليهودية، فوجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: "هذا ثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة" فبشره وعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك، فتركها، لكن قال الواقدي بعد أن أخرج من عدة طرق: أنه تزوجها وضرب عليها الحجاب، هذا أثبت عند أهل العلم، واقتصر عليه ابن الأثير. "وأمر بالغنائم فجمعت،" وهي ألف وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفا رمح وخمسمائة ترس وجحفة وخمر جرار سكر بفتحتين أي: نبيذ تمر، فأهريق ذلك كله، ولم يخمس وجمال نواضح وماشية كثيرة، قاله ابن سعد، وجحفة بحاء مهملة فجيم ترس صغير. "وأخرج الخمس من المتاع والسبي، ثم أمر بالباقي فبيع فيمن يريد،" ظاهره أنه بيع ما عد الخمس وهو مخالف قول ابن إسحاق وغيره. بعث صلى الله عليه وسلم سعد بن يزيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من بني قريظة إلى نجد، فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا، وعند الواقدي: بعث سعد بن عبادة بطائفة إلى الشام يبيعهم ويشتري بهم خيلا وسلاحا، "وقسمه بين المسلمين، فكانت على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما، للفرس سهمان" لما مر أن الخيل كانت ستة وثلاثين فرسا "ولصاحبه سهم" وعلى هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وصار الخمس إلى محمية بن جزء الزبيدي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق به ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك صنع بما صار إليه من الرثة - وهو السقط من المتاع. وانفجر جرح سعد بن معاذ، فمات شهيدا. وفي البخاري أنه دعا: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلي أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه   مضت السنة في المغازي. وروى أنه أعطى صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليطة، وأم العلاء، وأم سعد بن معاذ، والسميراء بنت قيس حضرن القتال، ولم يسهم لهن. "وصار الخمس إلى محمية" بفتح الميم، وسكون الحاء المهملة، وكسر الميم الثانية، فتحتية مخففة مفتوحة "ابن جزء" بفتح الجيم وسكون الزاي، ثم همزة، ابن عبد يغوث "الزبيدي" بضم الزاي وفتح الموحدة ودال مهملة حليف بني سهم، قديم الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأخماس. وذكر ابن الكلبي: أنه شهد بدرا. وقال الواقدي: أول مشاهده المريسيع. قال أبو سعيد بن يونس: شهد فتح مصر، ولا أعلم له رواية. "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق منه ويهب ويخدم منه من أراد، وكذلك يصنع بما صار إليه من الرثة" بكسر الراء وشد المثلثة "وهو السقط من المتاع" أي: متاع البيت الدون، "وانفجر" لما انقضى شأن بني قريظة "جرح" بضم الجيم "سعد بن معاذ" الذي أصابه من ابن العرقة في الخندق في أكحله، "فمات شهيدا" كذا قال ابن إسحاق وغيره، ولعل مرادهم شهيد الآخرة؛ لأنه لم يمت عقب الجرح، بل عاش حتى شرف على البراء وأيضا فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وغسل، فلو كان شهيد المعركة لم يفعل به ذلك. "وفي البخاري" في الصلاة والهجرة والمغازي عن عائشة "أنه دعا،" وزاد مسلم: وتحجر كلمه للبرء، أي: تيبس، أي: أنه دعا بذلك لما كاد جرحه يبرأ، ولفظ البخاري عن عائشة أن سعدا، قال: "اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد"، أي: قوم "أحب إلي أن أجاهدهم فيك" جملة في تأويل المصدر فاعل اسم التفضيل "من قوم كذبوا رسولك، وأخرجوه" من وطنه، بيان للمفضل عليه الواقع في حيز النفي، فكان جهاده مفضل ومفضل عليه باعتبارين، كمسألة الكحل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 اللهم إني أظن أنك قد وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها، فانفجرت من لبته، فلم يرعهم -وفي المسجد خيمة لامرأة من بني غفار- إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها.   المشهورة، ثم مدلول هذه العبارة عرفا أن جهاد هؤلاء أحب إليه من جهاد غيرهم، ولو كانوا كفارا، وإن صدق لغة بالتساوي على نحو: ما ركبك خلق أكرم على الله منه، وقد أفاد المصنف بسوق هذا الحديث هنا، وبما قدمه من دعاء سعد بذلك في الخندق، أنه دعا به في الوقتين. "اللهم إني أظن أنك قد وضعت الحرب" بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب، "فافجرها" هذا كله قول سعد في البخاري، فكأن المصنف حذفه اختصارا والضمير للجراحة، والهمزة للوصل، والجيم مضمومة، "واجعل موتي فيها" لأفوز بموتة الشهادة. قال الحافظ: فيه جواز تمني الشهادة، وهو مخصوص من عموم النهي عن تمني الموت، وفيه صبر سعد "فانفجرت من لبته" بفتح اللام والموحدة المشددة، موضع القلادة من صدره، وهي رواية مسلم والإسماعيلي، وللكشميهني من ليلته وهو تصحيف. ففي رواية ابن خزيمة: فإذا لبته قد انفجرت من كلمه، أي: من جرحه، وكان موضع الجروح ورم حتى وصل إلى صدره، فانفجر من ثم قاله الحافظ، "فلم يرعهم" بفتح أوله، وضم ثانيه وتسكين العين المهملة، أي: لم يفزع أهل المسجد، "وفي المسجد خيمة" جملة حالية لرجل "من بني غفار" بكسر المعجمة وخفة الفاء، أو من خيامهم. قال الحافظ في المقدمة: هي خيمة رفيدة نزلها قوم من بني غفار، وقال في الفتح: تقدم أن ابن إسحاق ذكر أن الخيمة كانت لرفيدة الأسلمية، فيحتمل أن يكون لها زوج من بني غفار. "إلا الدم" فاعل يرعهم، أي: الخارج من سعد، "يسيل إليهم" أي: أهل المسجد، "فقالوا: يا أهل الخمية ما هذا" الدم "الذي يأتينا من قبلكم؟ " بكسر القاف وفتح الموحدة، من جهتكم. قال المصنف: وهذا يضعف قول الكرماني، وتبه البرماوي أن ضمير يرعهم لبني غفار، والسياق يدل عليه ما لا يخفى. نعم، إن كان ثم خيمة غير التي فيها سعد، فلا إشكال ا. هـ، فبحثوا عن ذلك، "فإذا سعد يغذو" بغين وذال معجمتين، يسيل، "جرحه دما". وفي رواية ابن خزيمة: فإذا الدم له هدير، "فمات منها،" أي: من تلك الجراحة ولا حمد عن عائشة، فانفجر كلمه، وقد كان برأ الأمثل الخرص، وهو بضم المعجمة، وسكون الراء ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وقد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه في هذه القصة مجابا، وذلك أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب يكون ابتداء القصد فيه من المشركين، فإنه عليه الصلاة والسلام تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة، وكاد الحرب أن يقع بينهم فلم يقع كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24] ثم وقعت الهدنة واعتمر عليه الصلاة والسلام من قابل، واستمر ذلك إلى أن نقضوا العهد فتوجه إليهم غازيا ففتحت مكة، فعلى هذا: فالمراد بقوله: أظن أنك قد وضعت الحرب، أي: أن يقصدونا محاربين، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن نغزوهم ولا يغزونا   مهملة، من حلي الأذن. وفي مسلم: فما زال الدم يسيل حتى مات، وقد زعم بعض شراح البخاري، أن سعدا لم يصب في هذا الظن لما وقع من الحروب في الغزوات، قال: فيحمل على أنه دعا بذلك فلم يجب، وله ما هو أفضل منه، كما ثبت في الحديث الآخر في دعاء المؤمن، أو أنه أراد بوضع الحرب، أي: في تلك الغزوة خاصة لا فيما بعدها. "و" رده الحافظ فقال: الذي يظهر لي أنه "قد كان ظن سعد مصيبا، ودعاؤه في هذه القصة مجابا و"، بيان "ذلك، أنه لم يقع بين المسلمين وبين قريش من بعد وقعة الخندق حرب، يكون ابتداء القصد فيه من المشركين" أي: قريش "فإنه عليه الصلاة والسلام تجهز إلى العمرة فصدوه عن دخول مكة" سنة الحديبية، "وكاد الحرب أن يقع بينهم، فلم يقع كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} بالحديبية، {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} حيث طاف ثمانون منهم بعسكركم، ليصيبوا منكم فأخذوا، وأتي بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، وخلى سبيلهم فنزلت الآية، رواه مسلم وغيره وهو الصحيح، وقبل في فتح مكة، "ثم وقعت الهدنة" الصلح بينهم على وضع الحرب عشر سنين، "واعتمر عليه الصلاة والسلام من قابل"، سنة سبع، "واستمر ذلك" المذكور من الهدنة، "إلى أن نقضوا العهد، فتوجه إليهم غازيا" قاصدا "ففتحت مكة" سنة ثمان "فعلى هذا، فالمراد بقوله أظن أنك قد وضعت الحرب، أي: أن يقصدونا محاربين" فلا ينافي وقوع الحرب بينهم في فتح مكة،؛ لأن القصد فيه إنما كان منه صلى الله عليه وسلم لهم، "وهو كقوله عليه الصلاة والسلام" حين انصرف الأحزاب: "إلا أن نغزوهم وهم لا يغزونا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 -كما تقدم- وقد بين سبب انفجار جرح سعد في مرسل حميد بن هلال -عند ابن سعد- ولفظه: أنه مرت به عنز، وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر فانفجرت حتى مات. وحضر جنازته رضي الله عنه سبعون ألف ملك، واهتز لموته عرش الرحمن. رواه الشيخان.   روى بنون واحدة وبنونين، كما قاله المصنف، "كما تقدم" في آخر غزوة الخندق انتهى كلام الفتح، واللائق بالمصنف حذف كما تقدم، لأنه لم يقدم هذا اللفظ، بل معناه "وقد بين سبب انفجار جرح سعد في مرسل حميد بن هلال" العدوي، أبي نصر البصري، الثقة التابعي الكبير العالم، احتج به الستة. "عند" محمد" بن سعد، ولفظه أنه مرت به عنز وهو مضطجع، فأصاب ظلفها موضع النحر" بنون فمهملة، من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: موضعا هو النحر، وهو موضع القلادة من الصدر، ويطلق على الصدر كله، وهذا موافق لقول عائشة السابق، فانفجرت من لبته، وفي نسخة الفجر بفاء وجيم، أي: موضع فجر الجرح، والذي في الفتح عن هذا المرسل من موضع الجرح، وتبعه المصنف في شرحه ونحوه قول اليعمري عن ابن سعد فأصابت الجرح بظلفها، وكان معناه أصابت ما انتهى إليه ورم الجرح، وسماه جرحا، وإن لم يكن موضعه؛ لأنه لما سرى الورم إليه، صار الكل أثر الجراحة، "فانفجرت" جراحته وسال الدم "حتى مات، وحضر جنازته رضي الله عنه سبعون ألف ملك" كما قال صلى الله عليه وسلم: "لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا، ما وطئوا الأرض إلا يومهم هذا" ذكره ابن عائذ وتبعه السهيلي"، "واهتز لموته عرش الرحمن"، رواه الشيخان" من حديث جابر، وثبت عن عشرة من الصحابة أو أكثر. قال ابن عبد البر: هو ثابت اللفظ من طرق متواترة، وقول البراء: اهتز سريره، لم يلتفت إليه العلماء ا. هـ. وفي العتبية: أن مالكا سئل عنه، فقال: أنهاك أن تقوله، وما يدري المرء أن يتكلم بهذا، وما يدري ما فيه من الغرور. قال ابن رشد في شرحها: إنما نهى مالك لئلا يسبق إلى وهم الجاهل أن العرش إذا تحرك يتحرك الله بحركته، كالجالس منا على كرسيه، وليس العرش بموضع استقرارا لله تبارك وتنزه عن مشابهة خلقه انتهى ملخصا، وهو حسن، وقول السهيلي العجب من إنكار مالك لهذا الحديث، وكراهته التحديث به مع صحة نقله، وكثرة روته، ولعل هذه الرواية لم تصح عنه، اعترضه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 قال النووي: اختلف العلماء في تأويله. فقالت طائفة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش تحركه فرحا بقدوم سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزا حصل به هذا، ولا مانع منه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] . وهذا القول هو ظاهر الحديث. وهو المختار. قال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وأن العرش تحرك لموته، وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم من الأجسام، يقبل الحركة والسكون. قال: لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك   اليعمري باقتضائه، أن إنكاره يرجع إلى الإسناد وليس كذلك، بل اختلف العلماء في هذا الخبر، فمنهم من يحمله على ظاهره، ومنهم من يؤوله، وما هذا سبيله من الأخبار المشكلة، فمن الناس من يكره روايته إذا لم يتعلق به حكم شرعي، فلعل الكراهة المروية عن مالك من هذا النمط ا. هـ. وبهذا يرد قول الحافظ في الفتح تعقبا على ابن رشد، الذي يظهر لي أن مالكا ما نهى عنه لهذا، إذ لو خشي ذلك لما أسند في الموطأ حديث: ينزل الله إلى سماء الدنيا؛ لأنه أصرح في الحركة من اهتزاز العرش ا. هـ؛ لأن حديث النزول، تعلق به حكم شرعي من طلب الدعاء والاستغفار والتوبة، وقوله أيضا يحتمل الفرق، بأن حديث سعد ما ثبت عنده بخلاف حديث النزول، فرواه ووكل أمره إلى فهم العلماء الذين يسمعون في القرءان استواء العرش ونحوه، لكن لا معنى لإنكاره لثبوته عجيب من مثله في حق نجم الأثر، أيظن أنه يخفى عليه حديث متواتر، فإنما أراد ما قاله ابن رشد واليعمري، وهو المتبادر من قوله وما يدري المرء إلخ، ولو أراد ما فهمه السهيلي وابن حجر لقال ليس بثابت أو لا أعرفه، أو ما سمعته، أو نحو ذلك، والله أعلم. وقد "قال" الإمام "النووي" في شرح مسلم: "اختلف العلماء في تأويله، فقالت طائة: هو على ظاهره، واهتزاز العرش، تحركه" حقيقة "فرحا بقدوم روح سعد، وجعل الله تعالى في العرش تمييزا حصل به هذا" التحرك "ولا مانع منه، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا} أي: الحجارة، {لَمَا يَهْبِطُ} ينزل من علو إلى سفل {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} وهذا القول هو ظاهر الحديث وهو المختار" وكذا رجحه السهيلي، فقال: ولا معدل عن ظاهر اللفظ ما وحد إليه سبيل. "قال المازري: قال بعضهم: هو على حقيقته، وإن العرش تحرك لموته، قال: وهذا لا ينكر من جهة العقل؛ لأن العرش جسم" مخلوق "يقبل الحركة والسكون". "قال" المازري: "لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك" أي: مجرد تحركه لجواز أنه اتفاقي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 إلا أن يقال: إن الله تعالى جعل حركته علامة للمائكة على موته. وقال آخرون: المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول: ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته، وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها. وقال الحربي: هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الشيء المعظم إلى عظم الأشياء فيقولون: أظلمت لموت فلان الأرض، وقامت له القيامة. وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة, وهو العرش   ذلك اليوم، وفيه أن علمه بموته، واهتزازه له فيه فضيلة كبيرة، كاضطراب الجبل، وتسبيح الحصى بكف المصطفى، ولا يدفع ذلك، بأنهما مرئيان للصحابة بخلاف اهتزازه؛ لأن خبر الصادق المصدوق به مثل رؤيته سواه "إلا أن يقال إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته،" فيفيد كرامته على ربه حيث تحرك العرش أسفا عليه لمحافظته على الحق. "وقال آخرون" مقابل قوله أولا، فقالت طائفة، وقوله قال بعضهم هو على حقيقته، "المراد بالاهتزاز الاستبشار والقبول" بأن أودع فيه إدراكا علم به موته، وكرامته عند ربه، ففرح واستبشر، وبهذا صدر الفتح وقال: يقال لك من فرح بقدوم قادم عليه اهتز له، ومنه اهتزت الأرض بالنبات إذا اخضرت وحسنت، ووقع ذلك في حديث ابن عمر عند الحاكم بلفظ: اهتز العرش فرحا به. "ومنه قول العرب: فلان يهتز للمكارم، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته" تفسيري، "وإنما يريدون ارتياحه إليها، وإقباله عليها" فهذا يصحح قول الآخرين. "وقال" إبراهيم بن إسحاق "الحربي" الحافظ البغدادي مر بعض ترجمته: "هو عبارة عن تعظيم شأن وفاته" من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحرك ولا فرح من العرش، "والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء فيقولون: أظلمت بموت فلان الأرض" ولم تظلم، "وقامت له القيامة" ولم تقم، ففي هذا منقبة عظيمة لسعد. "وقال جماعة: المراد اهتزاز سرير الجنازة، وهو العرش،" وسياق الحديث يأباه، إذ المراد منه فضيلته، وأي فضيلة في اهتزاز السرير، فكل سرير يهتز إذا تجابته الأيدي. قال الحافظ: إلا أن يراد اهتزاز، حملة سريره فرحا بقدومه على ربه، فيتجه. وفي الصحيح: قال رجل لجابر: فإن البراء يقول اهتز السرير، فقال: إنه كان بين هذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وهذا القول باطل يرده صريح الروايات التي ذكرها مسلم "اهتز لموته عرش الرحمن" وإنما قال هؤلاء هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي ذكرها مسلم والله أعلم. ا. هـ. وقيل المراد باهتزاز العرش حملة العرش ...............................   الحيين ضغائن، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ"، والحيان الأوس والخزرج"، فقال ذلك جابر إظهارا للحق، واعترافا بالفضل لأهله، فكأنه تعجب من البراء كيف قال ذلك مع أنه أوسي، ثم قال: أنا وإن كنت خزرجيا، وكان بين الحيين ما كان، لا أمتنع من قول الحق، والعذر للبراء أنه لم يقصد تغطية سعد، وإنما فهم ذلك، فجزم به. وقال الخطابي وغيره: لأنه سمع شيئا محتملا، فحمل الحديث عليه، ولعله لم يسمع قوله عرش الرحمن, وعذر جابر أنه ظن أن البراء أراد الغض من سعد، فانتصر له وقد وقع لابن عمر، أنه قال: العرش لا يهتز لأحد، ثم رجع وجزم بأنه اهتز له عرش الرحمن، أخرجه ابن حبان انتهى ملخصا من الفتح. "وهذا القول باطل يرده صحيح الروايات التي ذكرها" أيك رواها، "مسلم" خصه لقوله الروايات بخلاف البخاري، ففيه رواية واحدة "اهتز لموته" بدل من الروايات "عرش الرحمن،" فإن إضافته إليه تأبى أن المراد السرير، كما أفاده جابر، "وإنما قال هؤلاء: هذا التأويل لكونهم لم تبلغهم هذه الروايات التي ذكرها مسلم" ألا ترى إلى أنها لما بلغت ابن عمر، رجع عن قوله: لا يهتز لأحد، وقد قال الحاكم: الأحاديث المصرحة باهتزاز عرش الرحمن مخرجة في الصحيحين، وليس لمقابلها في الصحيح ذكر، "والله أعلم، انتهى" كلام النووي في شرح مسلم بحروفه، "وقيل: المراد باهتزاز العرش، اهتزاز حملة العرش"، فرحا بقدوم روحه، لما رأوا من كرامته وعظم منزلته، نقله النووي في التهذيب عن العلماء، أي: بعضهم بدليل كلامه في الشرح، ففيه مجاز الحذف. قال الحافظ: ويؤيده حديث الحاكم أن جبريل قال: من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واستبشر به أهلها؟ وقيل هو علامة نصبها الله لموت من يموت من أوليائه، ليعلم ملائكته بفضله. قال: ووقع عند الحاكم عن ابن عمر: اهتز العرش فرحا بلقاء الله، سعدا حتى تفسخت أعواده على عواتقنا. قال ابن عمر: يعني عرش سعد الذي حمل عليه، وفيه عطاء بن السائب فيه مقال؛ لأنه اختلط آخر عمره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وصحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حصلت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، "إن الملائكة كانت تحمله". وعن البراء قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها   "و" يعارضه أنه "صحح الترمذي من حديث أنس قال: لما حملت" بالبناء للمفعول "جنازة سعد بن معاذ، قال المنافقون" أي: بعضهم وعند ابن إسحاق من مرسل الحسن: كان سعد رجلا بادنا، فلما حمله الناس، وجدوا له خفة، فقال رجال من المنافقين: والله إن كان لبادنا وما حملنا من جنازة أخف منه، "ما أخف جنازته" كأنهم قالوه استهزاء به، وأن خفته لخفة ميزانه بزعمهم الفاسد. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" ردا عليهم: "إن الملائكة كانت تحمله". وفي المرسل أن له حملة غيركم، والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتز له العرش، وذكر ابن إسحاق وغيره أنه لما احتمل على نعشه بكت أمه وقالت: ويل أم سعد سعدا صرامة وحدا وسوددا ومجدا وفارسا معدا سد به مسدا فقال صلى الله عليه وسلم: "كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ"، وفي رواية: "لا تزيدي على هذا، وكان فيما علمت والله حازما في أمر الله قويا في أمره كل النوائح تكذب إلا أم سعد". وروي أنه قال لها: "ليرقأ دمعك، ويذهب حزنك، فإن ابنك يضحك الله عز وجل له". وروى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بين العمودين، ومشى أمام جنازته، ثم صلى عليه، وجاءت أمه، ونظرت إليه في اللحد، وقالت: احتسبتك عند الله عز وجل، وعزاها صلى الله عليه وسلم وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وف ودعا، وأم سعد بن معاذ اسمها كبشة بنت رافع بن عبيد الأنصارية الخدرية. ذكر ابن سعد أنها أول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصار. "وعن البراء" بن عازب بن حارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس، الأوسي الصحابي، ابن الصحابي، والخزرج المذكور في نسبه ليس هو مقابل الأوس، وإنما سمي على اسمه، وظنه الخطابي إياه، فزعم أن البراء خزرجي، وهو خطأ فاحش نبه عليه الحافظ. "قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم." قال الحافظ: الذي أهدى أكيدر دومة، كما في حديث أنس السابق في الهبة، "حلة حرير،" وفي حديث أنس عند البخاري: جبة من سندس، فكأنها مركبة من ظهارة وبطانة؛ لأن مسمى الحلة ثوبان فلا خلف، وفي حديث أنس عند البزار برجال الصحيح، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، "فجعل أصحابه يمسونها" بفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 ويعجبون من لينها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين". هذا لفظ رواية أبي نعيم في مستخرجه على مسلم. والمناديل: جمع منديل -بكسر الميم في المفرد- وهو معروف.   التحتية والميم، "ويعجبون" بسكون العين "من لينها, فقال صلى الله عليه وسلم" لهم: "أتعجبون من لين هذه" الحلة"؟ زاد البخاري في الهبة عن أنس: "والذي نفس محمد بيده، "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين" " بالواو، كما رواه الكشميهني، ولغيره بأو بالشك، وكما قال صلى الله عليه وسلم ذلك في حلة أكيدر، قاله أيضا في ديباج أهداه له عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي الصحابي. روى الطبراني برجال ثقات عن عطارد بن حاجب، أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج كساه إياه كسرى، فدخل أصحابه فقالوا: نزل عليك من السماء، فقال: "وما تعجبون من ذا لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا"، ثم قال: "يا غلام اذهب به إلى أبي جهم بن حذيفة، وقل له يبعث إلي بالخميصة". قال العيني: وتخصيص سعد به، قيل: لأنه كان يعجبه ذلك الجنس من الثياب، أو لأن اللامسين المتعجبين من الأنصار، فقال: مناديل سيدكم خير منها ا. هـ. ومقتضى وجود المناديل في الجنة، أنهم إذا أكلوا شيئا احتاجوا للمنديل لمسح ما تعلق بأيديهم وأفواههم، ولا يلزم أنه كوسخ الدنيا، بل جعل ذلك إكراما لهم حيث وجدوا في الجنة نظير ما ألفوه في الدنيا كذا قرره شيخنا حافظ العصر البابلي رحمه الله، "هذا لفظ أبي نعيم في مستخرجه على" صحيح "مسلم،" وجه عزوه له مع أن الحديث في الصحيحين البخاري في المناقب، ومسلم في الفضائل زيادة قوله في الجنة، وقد زادها البخاري في كتاب الهبة لكن من حديث أنس، وزاد في رواية البزار عنه: ثم أهداها إلى عمر، فقال: يا رسول الله أتكرهها وألبسها؟ فقال: "يا عمر إنما أرسلت بها إليك لتبعث بها وجها، فتصيب بها مالا"، وذلك قبل أن ينهى عن الحرير، ويعارضه ما رواه مسلم عن علي، أن أكيدر دومة أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير، فأعطاه عليا، فقال: "شققه خمرا بين الفواطم"، وفسرن في رواية غيره بفاطمة زوجه، وفاطمة أمه، وفاطمة بنت حمزة. "والمناديل جمع منديل بكسر الميم في المفرد" زاد القاموس، وفتحها، وكمنبر الذي يتمسح به، "وهو معروف". قال ابن الأعرابي وغيره: مشتق من الندل النقل؛ لأنه ينتقل من واحد إلى واحد، وقيل: من الندل الوسخ؛ لأنه يندل به. قال ابن الأنباري وغيره: مذكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 قال العلماء: وهذا إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها خير من هذه؛ لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان، فغيره أفضل. ا. هـ. وأخرج ابن سعد وأبو نعيم، من طريق محمد بن المنكدر عن محمد بن شرحبيل بن حسنة قال:   "قال العلماء: وهذ" الحديث "إشارة إلى عظم منزلة سعد في الجنة، وأن" بفتح الهمزة عطفا على المجرور "أدنى" أقل "ثيابه فيها خير من هذه" الحلة، "لأن المنديل أدنى الثياب؛ لأنه معد للوسخ والامتهان" فيمسح به الأيدي، وينفض به الغبار عن البدن، ويغطى به ما يهدى ويتخذ لفافا للثياب، "فغيره أفضل"؛ لأن سبيله سبيل الخادم، وسائر الثياب سبيل المخدوم، فإذا كان أدناها أفضل من حلة الملوك، فما ظنك بأعلاها. "وأخرج ابن سعد، وأبو نعيم من طريق محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي المدني، الفاضل الثقة، المتوفى سنة ثلاثين ومائة، أو بعدها "عن محمد بن شرحبيل" بضم أوله، وفتح الراء وسكون المهملة. قال في الإصابة في القسم الرابع، فيمن ذكر في الصحابة غلطا محمد بن شرحبيل من بني عبد الدار، ذكره ابن منده، وقال: أورده البخاري في الوحدان، ولا يعرف له صحبة، إنما روايته عن أبي هريرة. ثم روى ابن منده عن ابن المنكدر، عنه قال: أخذت قبضة من تراب قبر سعد بن معاذ، فوجدت منه ريح المسك. وقال أبو نعيم: هو محمود بن شرحبيل، قلت: ليس فيه إنه صحابي؛ لأن شم تراب القبر يتأتى لمن تراخى زمانه بعد الصحابة، ومن بعدهم. وفي التابعين محمد بن ثابت بن شرحبيل من بني عبد الدار، فلعله هذا نسب لجده ا. هـ. وفي تقريبه محمد بن ثابت، ويقال ابن عبد الرحمن بن شرحبيل العبدري، أبو مصعب الحجازي، وقد ينسب إلى جده مقبول. روى له البخاري في الأدب المفرد، وقوله "ابن حسنة" لا يصح؛ لأنها أم الصحابي الجليل شرحبيل بن عبد الله بن المطاع الكندي، التي ربته كما في التقريب، وليس أبا لمحمد هذا؛ لأنه عبدري وشرحبيل كندي، والحديث مرسل؛ لأنه تابعي، فلم يشهد ما حدث به، حيث "قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 قبض إنسان يومئذ بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك، فقثال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله"، حتى عرف ذلك في وجهه، فقال: "الحمد لله، لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد، ضم ضمة ثم فرج الله عنه".   قبض إنسان يومئذ" أي: يوم موت سعد، "بيده من تراب قبره قبضة فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك، فإذا هي مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله" مرتين، تعجبا من كون تراب قبره صار مسكا، وكونه ضمه "حتى عرف ذلك" التعجب المدلول عليه بالتسبيح "في وجهه" الشريف، "فقال: "الحمد لله" شكرا له على تفريجه عن سعد، "لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر" من الأمم، صالحهم وطالحهم، إلا الأنبياء لكونهم خصوا بأنهم لا يضغطون كما في الأنموذج، ولا ترد فاطمة أم علي رضي الله عنهما؛ لأن نجاتها لسبب اضطجاعه صلى الله عليه وسلم في قبرها، ولا قارئ الإخلاص في مرض موته؛ لأن نجاته لسبب هو القراءة، والمنفي أنه لم ينج أحد منها بلا سبب، أو هي خصوصيات لا تنقض الأمور الكلية "لنجا منها سعد" لكن لم ينج أحد، فلم ينج سعد "ضم ضمة، ثم فرج الله عنه". قال الحكيم الترمذي: سبب هذه الضمة أنه ما من أحد إلا وقد ألم بخطيئة ما، وإن كان صالحا، فجعلت هذه الضغطة جزاء له، ثم تدركه الرحمة، ولذا ضغط سعد للتقصير في البول، فأما الأنبياء فلا ضم ولا سؤال لعصمتهم ا. هـ. وهذا الحديث المرسل له شاهد. قال ابن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبد الرحمن بن عمرو بن الجموح، عن جابر قال: لما دفن سعد، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح صلى الله عليه وسلم، فسبح الناس معه، ثم كبر، فكبر الناس معه، فقالوا: يا رسول الله مم سبحت، فقال: "لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه"، ولم يقولوا كم كبرت؛ لأن الذي يقال عند التعجب إنما هو التسبيح، فسألوا عن سببه. قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة، قال صلى الله عليه وسلم: "إن للقبر لضمة، لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ". وفي رواية يونس الشيباني، عن ابن إسحاق حدثني أمية بن عبد الله قال: قلت لبعض أهل سعد: ما بلغكم في هذا؟ فقال: ذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك، فقال: "كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير"، ومعلوم أن تقصيره لم يكن على وجه يؤدي إلى فساد عبادته، ولكنه مخالف للأولى، كترك الجمع بين الحجر والماء في الاستنجاء، فضمه القبر ليعظم ثوابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وأخرج ابن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: كنت ممن حفر لسعد قبره، فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا. قال الحافظ مغلطاي وغيره: وفي هذه السنة فرض الحج. وقيل: سنة ست وصححه غير واحد، وهو قول الجمهور. وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان ورجحه جماعة من العلماء.   ولتنبيه غيره حيث أخبرهم الصادق بسبب الضمة، فيحترزون عن خلاف الأولى وإن جاز. وقد روى الحافظ أبو سعيد بن الأعرابي في معجمه, والبيهقي وابن منده، أن عائشة قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر، وصوت منكر ونكير، فقال: "يا عائشة، إن ضغطة القبر -أو قال- ضمة القبر على المؤمن كضم الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها، يشكو إليها الصداع فتغمز رأسه غمزا رفيقا، وصوت منكر ونكير، كالكحل في العين، ولكن يا عائشة " ويل للشاكين في الله، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطة البيض على الصخر" ". وزعم أن المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه من لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد لا يصح، فإنه لم يتقدم عنه شيء ينافي هذا الحديث، حتى ينفي، وقد يكون مراد المصطفى أن هذا العبد الصالح الذي شهده سبعون ألف ملك، واهتز له عرش الرحمن، لا يضمه القبر أسا، ولا كضم الأم ابنها إكراما له، وإن كان يقصر بعض التقصير في البول، فذلك مغفور في جنب بعض حسناته التي منها حكمه في مواليه بحكم الله، فتعجب من ضمه، وهذا هو الظاهر من كلام الروض، فإنه قال: وأما ضغطه في قبره، فروي عن عائشة، فذكر الحديث، وعزاه لمعجم بن الأعرابي كما ذكرته. "وأخرج ابن سعد" محمد الحافظ "عن أبي سعيد" سعد بن مالك، "الخدري" الصحابي، ابن الصحابي "قال: كنت ممن حفر لسعد قبره, فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا،" وكفى بهذا منقبة عظيمة، وهذا أيضا شاهد لما قبله. "قال الحافظ مغلطاي وغيره: وفي هذه السنة" سنة خمس "فرض الحج" فقد وقع في حديث ضمام ذكر الأمر بالحج، وقدومه سنة خمس، كما ذكره الواقدي، فيدل على فرضه فيها أو تقدم، "وقيل: سنة ست، وصححه غير واحد من الجمهور" لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، بناء على أن المراد بالإتمام الفرض لقراءة علقمة ومسروق والنخعي وأقيموا، رواه الطبراني بأسانيد صحيحة عنهم، أما على أن المراد الإكمال بعد الشروع فلا، "وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، ورجحه جماعة من العلماء" لبعثه صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى ذلك وفد عبد القيس في المقصد الثاني وفي ذكر حجه عليه الصلاة والسلام من مقصد عباداته.   أميرا على الحج تلك السنة، وهو أول أمراء الحج، وقيل: سنة تسع، وقيل: عشر، "وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في ذكر وفد عبد القيس من المقصد الثاني" والكلام الذي ذكره فيه في تعلق الحج قليل؛ لأنه قوع استطرادا، "وفي ذكر حجه عليه الصلاة والسلام من مقصد عباداته" وهو التاسع وأشبع ثم الكلام عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 " سرية القرطاء وحديث ثمامة ": ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القرمطاء، بطن من بني بكر بن كلاب وهم ينزلون بناحية ضرية بالبكرات   سرية القرطاء وحديث ثمامة: "ثم سرية محمد بن مسلمة" الأنصاري، الأشهلي أكبر من اسمه محمد من الصحابة، وكان من الفضلاء، مات بعد الأربعين "إلى القرمطاء" بضم القاف، وسكون الراء وبالطاء المهملة, أي: والمد على القياس، وهم قرط بضم فسكون، وقريط بفتح الراء، وقريط بكسرها بنو عبد بغير، إضافة كما ضبطه البرهان، وتبعه الشامي، فمن قال القرطاء بفتح القاف، كأنه اشتبه عليه، أو سبقه القلم، وكذا من ضبطه بضم القاف، وفتح الراء اشتبه عليه الجمع بالمفرد "بطن من بني بكر،" واسمه عبيد بن كلاب من قيس عيلان، بعين مهملة وسكون التحتية. ذكره أبو محمد الرشاطي، وبطن بدل من القرمطاء، وكان الأولى أن يقول بطون؛ لأنهم إخوة كما علمت، وفي القاموس: القرط بالضم من بني كلاب، وهم أخوة قرط، كقفل وقريط، كزبير وقريط كأمير، فلعل المصنف أراد طائفة، "وهم" أي: القرطاء "ينزلون بناحية ضرية". قال البرهان: بفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء، ثم تحتية مفتوحة مشددة، ثم تاء تأنيث. قال في الصحاح: قرية لبني كلاب على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، "بالبكرات" بفتح الموحدة، وسكون القاف، فراء فألف ففوقية، جمع بكرة. قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من كتب المغازي. قال الصغاني: البكرة ماء لبني ذؤيب من الضباب، وعندها جبال شمخ يقال لها البكرات والبكران، يعني بلفظ التثنية موضع بناحية ضرية، وتبعه في المرصد. قال في النور: ولعل ما في العيون بلفظ التثنية، وتصحف على الناسخ، فذكره بلفظ الجمع، ولم يذكر أبو عبيد البكري في معجمه بحي ضرية إلا بكرة بالأفراد، قلت: وهو بعيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وبين ضرية والمدينة سبع ليال, لعشر ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس تسعة وخمسين شهرا من الهجرة. بعثه في ثلاثين راكبا، فلما أغار عليهم هرب سائرهم. وعند الدمياطي: فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم, واستاق نعما وشاء، وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم ومعه ثمامة   جدا لتوارد ما وقفت عليه من كتب المغازي ا. هـ. "وبين ضرية والمدينة" الشريفة "سبع ليال لعشر" متعلق بسرية، والمعنى خرج لعشر "ليال خلون من المحرم سنة ست على رأس" أي: أول، "تسعة وخمسين شهرا من الهجرة"، من أول دخول المصطفى المدينة لا من أول المحرم حتى يوافق قوله سنة ست، وإلا فعدة الأشهر تفيد أنها سنة خمس فما بعد السنة الأولى من الهجرة معتبر بأول المحرم، والأولى من دخول المدينة والمحوج إلى هذا تلفيق المصنف بين القولين، فإن الحاكم ذكر أنها في المحرم سنة ست، ولم يعد الأشهر الماضية من الهجرة، وابن سعد عد الأشهر، ولم يقل إنها سنة ست كما في العيون. "بعثه في ثلاثين راكبا" إبلا وخيلا كما في الصحيح، أنه بعث خيلا، وقول ثمامة: إن خيلك أخرتني، منهم عباد بن بشر، وسلامة بن وقش بفتح الواو، والقاف وبالشين المعجمة، والحارث بن خزمة بفتح المعجمة وسكون الزاي، وقيل بفتحها، وقيل: خزيمة بالتصغير، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يشن الغارة عليهم بفتح الياء، وضم المعجمة، وضم الياء، وكسر الشين ونون، أي: يفرق الخيل المغيرة على العدو، ففعل ما أمره. "فلما أغار" هجم "عليهم" مسرعا "هرب سائرهم،" أي: باقيهم، بعد من قتل منهم، فلا يخالف قوله. "وعند الدمياطي" تبعا للواقدي عن شيوخه: "فقتل منهم نفرا" هم لغة ما دون العشرة، لكن عند الواقدي فقتل منهم عشرة، "وهرب سائرهم" أي: باقيهم بعد قتل النفر, ولم نر أحدا. قال: لم يقتل منهم حتى نحمل قوله أولا سائرهم على الجميع، ويجعل ما بعده مقابلا له، على أن كونه بمعنى الجميع ضعيف، و"استاق نعما"، وكانت مائة وخمسين بعيرا "وشاء" وكانت ثلاثة آلاف، فعدلوا الجزور بعشرة من الغنم، قاله ابن سعد القاموس النعم، وقد تسكن عينه الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، فعليه العطف مباين وعلى الأول من عطف الأخص على الأعم، "وقدم المدينة لليلة بقيت من المحرم" وغاب تسع عشرة ليلة، قاله ابن سعد، "ومعه ثمامة" بضم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 ابن أثال الحنفي أسيرا. فربط بأمره عليه الصلاة والسلام بسارية من سواري المسجد، ثم أطلق بأمره عليه الصلاة والسلام، فاغتسل وأسلم وقال:   المثلثة وميمين خفيفتين "ابن أثال" بضم الهمزة، وبمثلثة خفيفة ولام، مصروف ابن النعمان "الحنفي،" من فضلاء الصحابة، لم يرتد مع من ارتد من أهل اليمامة، ولا خرج عن الطاعة قط رضي الله عنه، ونفع الله به الإسلام كثيرا، وقام بعد وفاة المصطفى مقاما حميدا حين ارتدت اليمامة مع مسيلمة، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم} {حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3] أين هذا من هذيان مسيلمة فأطاعه منهم ثلاثة آلاف، وانحازوا إلى المسلمين "أسيرا". قال ابن إسحاق: بلغني عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، أن خيلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت رجلا، ولا يشعرون من هو، حتى أتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتدرون من أخذتم، هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا أساره"، ورجع فقال لأهله: " اجمعوا ما عندكم من طعام، فابعثوا به إليه"، وأمر بلقحته أن يغدى عليها، ويراح، فلا يقع من ثمامة موقعا وإساره بكسر الهمزة، أي: قيده، "فربطوه بأمره عليه الصلاة والسلام" كما في رواية ابن إسحاق "بسارية من سواري المسجد" لنيظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها ويرق قلبه، "ثم أطلق بأمره عليه الصلاة والسلام" منا عليه، أو تألفا، أو لما علم من إيمان قلبه، أو أنه سيظهره، أو أنه مر عليه فأسلم، كما رواه ابنا خزيمة وحبان من حديث أبي هريرة، كذا في شرح المصنف، "فاغتسل وأسلم" بعد اغتساله، كما في الصحيح، ففي حجة لمالك في صحة لمن أجمع على الإسلام. قال في رواية ابن إسحاق: فلما أمسى جاؤوه بالطعام، فلم ينل منه إلا قليلا، وباللقحة، فلم يصب من حلابها إلا يسيرا، فعجب المسلمون، فقال صلى الله عليه وسلم: "مم تعجبون أمن رجل أكل أول النهار في معا كافر، وأكل آخر النهار في معا مسلم، إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معا واحد". "وقال" كما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه صلى الله عليه وسلم فقال: "ماذا عندك يا ثمامة"؟، قال: عندي خير يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فترك حتى كان الغد ثم قال: "ما عندك يا ثمامة"، قال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: "ما عندك يا ثمامة"؟ قال: عندي ما قلت لك، فقال: "أطلقوا ثمامة"، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.   فانطلق إلى نجل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله "يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الأديان كلها إلي" لفظ البخاري: أحب الدين إلي، ولفظ مسلم: أحب الدين كله إلي. "والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي" فيه تعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأنه أقسم أن بغضه انقلب حبا في ساعة واحدة، لما أسداه صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن من غير مقابل، "وإن خيلك" قال المصنف: أي فرسان خيلك، وهو من ألطف المجازات وأبدعها، فهو على حذف مضاف، كقوله: يا خيل الله اركبي، "أخذتني" قبل دخول المدينة، كما هو المتبادر منه، كقول أبي هريرة أول الحديث: بعث خيلا قبل نجد، فجاءت بثمامة. قال الحافظ: وزعم سيف في كتاب الردة له أن الذي أسر ثمامة هو العباس، وفيه نظر؛ لأن العباس إنما قدم في الفتح، وقصة ثمامة قبله، بحيث اعتمر، ورجع إلى بلاده، ومنعهم أن يميروا أهل مكة حتى شكوا للمصطفى، فبعث يشفع لهم عند ثمامة ا. هـ. وروى البيهقي عن ابن إسحاق: أن ثمامة كان رسول مسيلمة للمصطفى قبل ذلك، وأراد اغتياله، فدعا ربه أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا، وهو مشرك، فتحير في أزقتها، فأخذ وهو معضل فلا يعارض حديث الصحيحين، ثم لا يعارض هذا قوله أولا في ثلاثين راكبا، بناء على الأكثر لغة من أنه وصف لراكب الإبل؛ لأنه على الإطلاق الثاني. ففي القاموس: الراكب للبعير خاصة، وقد يكون للخيل، ولا يحمل قوله: خيلك، على أنه أراد جماعته، أطلق عليهم خيلا للزومها للمقاتلين كثيرا؛ لأن فيه رد رواية الصحيحين إلى كلام أهل السيرة، مع إمكان الجمع بدون ذلك، "وأنا أريد العمرة، فماذ ترى" أأذهب إلى العمرة، أو أرجع، أو أقيم عندك، "فبشره النبي"، وفي رواية: رسول الله "صل الله عليه وسلم" قال الحافظ: أي بخير الدنيا والآخرة، أو الجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السالفة، وتبعه المصنف. وقال شيخنا: لعل المراد بشره بالسلامة، وأنه لا يصيبه من أهل مكة ضرر إذا اعتمر، "وأمره أن يعتمر" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.   "فلما قدم مكة قال له قائل:" قال المصنف: لم أعرف اسمه، "صبوت" أي: خرجت من دين إلى دين، "قال: لا" ما خرجت من دين؛ لأن عبادة الأوثان ليست دينا إذا تركته أكون خرجت من دين، "ولكن أسلمت" لله رب العالمين "مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: وافقته على دينه، فصرنا متصاحبين في الإسلام، أنا بالابتداء وهو بالاستدامة، وفي رواية ابن هشام: ولكني تبعت خير الدين دين محمد، قاله كله الفتح، وبسطه المصنف بقوله: وهذا من أسلوب الحكيم، كأنه قال: ما خرجت من الدين؛ لأنكم لستم على دين، فأخرج منه، بل استحدثت دين الله، وأسلمت مع رسول الله رب العالمين، فإن قلت مع تقتضي استحداث المصاحبة؛ لأنها معنى المعية وهي مفاعلة، وقد قيد بها الفعل، فيجب الاشتراك، كذا نص عليه الكشاف في الصافات، أجيب بأنه لا يبعد ذلك، فيكون منه صلى الله عليه وسلم استدامة ومنه استحداث ا. هـ. "ولا والله" قال الحافظ: فيه حذف تقديره، والله لا أرجع إلى دينكم، ولا أرفق بكم، فأترك المسيرة "تأتيكم من اليمامة حبة حنطة" ويقع في بض نسخ المواهب المصحفة لفظ لما قبل قوله تأتيكم، وفي بعضه لا، ولا وجود لذلك في البخاري ولا مسلم، "حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم". وعند ابن هشام: بلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبى، وكان أول من دخل مكة يلبي، فأخذته قريش، فقالوا: قد اجترأت علينا، فلما قدموه ليضربوا عنقه، قال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة فخلوه. فقال الحنفي: ومنا الذي لبى بمكة معلنا ... برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إليه صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، فكتب إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل. وأخرج النسائي والحاكم، عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم قد أكلنا العلهز، يعني الوبر والدم، فأنزل الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ، رواه البيهقي في الدلائل بلفظ: إن ابن أثال الحنفي لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أسير خلى سبيله فأسلم فلحق بمكة، ثم رجع فجال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز، فجاء أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: "بلى"، قال: قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فنزلت العلهز بكسر العين المهملة، والهاء بينهما لام ساكنة وبزاي آخره، وكأنهم كتبوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 ذكر قصته البخاري.   له أولا، ثم لم يثقوا، ولم يكتفوا بالكتابة لشدة ما هم فيه من القحط، فخرج أبو سفيان، فانظر إلى هذا الحلم العظيم، والرحمة الشاملة، والرأفة العميمة، يواجهه بهذا الخطاب الخشن، مع شدة حاجته إليه، ومحاربته له قريبا، وقومه الأحزاب، ومع ذلك لم يمتنع من قضاء حاجته إنك لعلى خلق عظيم. "ذكر قصته البخاري" ومسلم، كلاهما في المغازي تاما كما سقناه، واقتصر اليعمري على عزوه لمسلم، وكان اللائق له وللمصنف أن يقولا رواه الشيخان. قال الحافظ: وفي قصة من الفوائد ربط الكافر في المسجد، والمن على الأسير الكافر، والاغتسال عند الإسلام، وإن الإحسان يزيل البغض، ويثبت الحب، وإن الكافر إذا أراد عمل خير، ثم أسلم، شرع له أن يستمر في ذلك الخير، وملاطفة من يرجى أسلامه من الأسرى، إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه، وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخير بعد ذلك في قتله وإبقائه ا. هـ، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 " غزوة بني لحيان ": ثم غزوة بني لحيان -بكسر اللام وفتحها، لغتان- في ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وذكرها ابن إسحاق في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من قريظة. قال ابن حزم: الصحيح أنها في الخامسة. قالوا:   ثم غزوة بني لحيان: "بكسر اللام وفتحها لغتان"، نسبة إلى لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. قال الحافظ: وزعم الهمداني النسابة أن أصل بني لحيان من بقايا جرهم، دخلوا في هذيل، فنسبوا إليهم "في" غرة شهر "ربيع الأول، سنة ست من الهجرة" عند ابن سعد، "وذكرها ابن إسحاق" لا بالوضع، بل بالتصريح، بأنها "في جمادى الأولى، على رأس ستة أشهر من" فتح بني "قريظة". "قال ابن حزم" الحافظ العلامة، "الصحيح، أنها في" السنة "الخامسة" الذي هو قول ابن إسحاق، وقيل: كانت في الرابعة، وقيل: كانت في رجب، وقيل: في شعبان، "قالوا" في سببها، كما ذكر ابن سعد، ورواه ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو وعبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وجدا شديدا، فأظهر أنه يريد الشام، وعسكر في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا, واستخلف على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم. ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران -واد بين أمج وعسفان، وبينها وبين عسفان خمسة أميال- حيث كان مصاب أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة، فترحم عليهم ودعا لهم. فسمعت بنو لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين يبعث السرايا   "وجد" حزن "رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه،" وكانوا عشرة، أو سبعة على ما مر، وأراد بأصحابه ما يشمل المقتولين ببئر معونة، وهم القراء السبعون؛ لأن عاصما، وأصحابه لم يقتلوا بها، بل كانوا سرية وحدهم، "وجدا شديدا" حزنا قويا، "فأظهر أنه يريد الشام" ليصيب من القوم غرة "وعسكر،" أي: خرج، "في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم"، فيما قال ابن هشام. قال ابن إسحاق: فسلك على غراب، أي: بلفظ الطائر جبل بناحية المدينة، ثم على طريقه إلى الشام، ثم على محيص بفتح الميم، وكسر الحاء والصاد المهملتين، ثم على البتراء تأنيث أبتر، ثم صفق بشد الفاء، عدل ذات اليسار، فخرج على بين بفتح التحتية الأولى، وسكون الثانية ونون، وضبطه الصغاني بفتحهما، واد بالمدينة، ثم على صخيرات الثمام، جمع صخيرة مصغرة بمثلثة، وقيل: فوقية، ثم استقام به الطريق على المحجة من طريق مكة. "ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران" بضم المعجمة، وخفة الراء فنون، "واد" يقال له وادي الأزرق "بين أمج" بفتحتين وجيم، "وعسفان" بضم العين "وبينها" أي: بطن غران، "وبين عسفان خمسة أميال". قال ابن إسحاق: وهي منازل بني لحيان، "حيث كان مصاب" مصدر ميمي، أي: إصابة "أصحابه أهل الرجيع الذين قتلوا ببئر معونة"، مر أن بعث الرجيع غير بئر معونة، خلافا لما توهمه ترجمة البخاري، والاعتذار عنه، بأنه أدمجهما لقربهما لمجيء خبرهما للمصطفى في ليلة واحة "فترحم عليهم، ودعا لهم" بالمغفرة "فسمعت بنو لحيان، فهربوا في رءوس الجبال" رعبا وخوفا ممن نصر بالرعب، "فلم يقدر منهم على أحد، فأقام يوما أو يومين، يبعث السرايا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 في كل ناحية، ثم خرج حتى أتى عسفان فبعث أبا بكر في عشرة فوارس لتسمع به قريش فيذعرهم، فأتوا كراع الغميم، ولم يلقوا كيدا. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا وهو يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة.   في كل ناحية" من نواحيهم "ثم خرج حتى أتى عسفان، فبعث أبا بكر في" مع "عشرة فوارس لتسمع بهم قريش، فيذعرهم" بفتح الياء، وذال معجمة وفتح العين المهملة، أي: يفزعهم، "فأتوا كراع" بضم الكاف، وخفة الراء وعين مهملة، "الغميم" بفتح الغين المعجمة، وكسر الميم، فتحتية ساكنة فميم، واد أمام عسفان، بثمانية أميال يضاف إلى كراع، جبل أسود بطرف الحرة ممتد إليه، والكراع ما سال من أنف الجبل، أو الحرة، وطرف كل شيء، كما في النور، "ولم يلقوا كيدا" قاله ابن سعد. وقال ابن إسحاق: لما أخطأه من غرتهم ما أراد، قال صلى الله عليه وسلم: "لو أنا نزلنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة"، فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم، ثم كروا يمكن الجمع بأنه بعثهما، ثم بعث أبا بكر في العشرة أو عكسه، "وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق كيدا"، أي: حربا، "وهو يقول،" كما رواه ابن إسحاق وابن سعد عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول حين وجه راجعا: "آيبون" بمد الهمزة، أي: نحن راجعون إلى الله، نحن "تائبون" إن شاء الله تعالى، كما في الرواية إليه سبحانه، فيه إشارة إلى التقصير في العبادة قاله تواضعا أو تعليما لأمته، نحن "عابدون" من استحقت ذاته للعبادة "لربنا" متعلق بالصفات الثلاثة على طريق التنازع، وكذا بقوله نحن "حامدون" له تعالى. وقال الطيبي: يجوز أن يتعلق قوله لربنا بقوله عابدون؛ لأن عمل اسم الفاعل ضعيف، فيقوى به, أو بحامدون ليفيد التخصيص، أي: نحمد ربنا لا نحمد غيره، وهذا أولى؛ لأنه الخاتمة للدعاء، وبقية حديث جابر عندهما: أعوذ بالله من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال. زاد الواقدي: اللهم بلغنا بلاغا صالحا، ينظر إلى خير مغفرتك ورضوانا، قالوا: وهذا أول ما قال هذا الدعاء، ووعثاء بمثلثة مشقة وكآبة حزن، وأصل الحديث في الصحيح عن ابن عمر كان صلى الله عليه وسلم إذا قفل يقول، كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا، ثم قال: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، "وغاب عن المدينة أربع عشرة ليلة،" والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 "غزوة ذي قر" - "غزوة الغابة": وتعرف بذي قرد -بفتح القاف والراء والدال المهملة- وهو ماء على نحو بريد من المدينة، في ربيع الأول سنة ست، قبل الحديبية. وعند البخاري أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه.   غزوة ذي قرد - غزوة الغابة : بغين معجمة، فألف، فموحدة على بريد من المدينة في طريق الشام. قال البرهان: وصحف من قالها بالتحتية، وغلط القائل هي شجر لا مالك له، بل لاحتطاب الناس ومنافعهم. قال الشريف: ووهم من قال من عوالي المدينة، كيف وهو مغيض مياه أوديتها بعد مجتمع الأسيال، ثم قال: وكان بها أملاك لأهلها استولى عليها الخراب، وبيعت في تركة الزبير بألف ألف، وستمائة ألف ا. هـ، أضيفت إليها الغزوة؛ لأن اللقاح التي أغير عليها كانت بها، "وتعرف بذي قرد" لكونه صلى الله عليه وسلم وصل إليها وصلى بها، كما يأتي "بفتح القاف والراء" زاد الحافظ: وحكي الضم فيها، وحكي ضم أوله وفتح ثانيه. قال الحازمي: الأول ضبط أصحاب الحديث، والضم عن أهل اللغة. وقال البلاذري الصواب الأول، "والدال المهملة" آخره، "وهو ماء على نحو بريد من المدينة" مما يلي بلاد غطفان، وقيل: على مسافة يوم ا. هـ. قال السهيلي: القرد لغة الصوف، واختلف في وقتها، فقال ابن سعد، وشيخه الواقدي: "في ربيع الأول سنة ست"، وقيل: في جمادى الأولى. وعند ابن إسحاق في شعبان على نقل الفتح، ولعله في رواية يونس أو غيره عنه، وإلا فرواية البكائي، أنها في جمادى الأولى، وعلى الثلاثة هي "قبل الحديبية"؛ لأنها هلال القعدة سنة ست. "وعند البخاري" جزما، "أنها كانت قبل خيبر بثلاثة أيام،" وخيبر بعد الحديبية بنحو عشرين يوما. قال الحافظ: كذا جزم به، "و" مستنده في ذلك حديث سلمة بن الأكوع، "في مسلم نحوه" حيث قال في آخر الحديث الطويل، فرجعنا، أي: من الغزوة إلى المدينة، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال، حتى خرجنا إلى خيبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 قال مغلطاي: وفي ذلك نظر لإجماع أهل السير على خلافهما. ا. هـ. قال القرطبي شارح مسلم: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية. وقال الحافظ ابن حجر: ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكر أهل السير. ا. هـ. وسببها: أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة   "قال مغلطاي، وفي ذلك" الذي جزم به البخاري، وأفاده حديث سلمة في مسلم، "نظر لإجماع أهل السير على خلافهما، ا. هـ". "قال" العلامة أبو العباس، أحمد بن عمر، الفقيه المحدث، "القرطبي" شيخ صاحب التذكرة، والتفسير مر بعض ترجمته، ولذا ميزه، بأنه "شارح مسلم" في الكلام على حديث سلمة، تبعا لأبي عمر، "لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية" فما في حديث سلمة وهم من بعض الرواة. قال القرطبي: ويحتمل الجمع، بأنه صلى الله عليه وسلم كان أغزى سرية فيهم سلمة إلى خيبر قبل فتحها، فأخبر سلمة عن نفسه وعمن خرج معه، يعني حيث قال: خرجنا إلى خيبر، قال: ويؤيده أن ابن إسحاق ذكر أنه صلى الله عليه وسلم أغزى إليها ابن رواحة قبل فتحها مرتين. "وقال الحافظ ابن حجر": سياق الحديث يأبى هذا الجمع، ففيه خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عمي يرتجز بالقوم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من السائق ومبارزة عمه لمرحب"؟ وقتل عامر، وغير ذلك مما وقع في خيبر، خرج إليها صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا "ما في الصحيح من التاريخ لغزوة ذي قرد أصح مما ذكره أهل السير". وصرح ابن القيم، بأن ما ذكره وهم. قال الحافظ: ويحتمل في طريق الجمع، أن تكون إغارة عيينة على اللقاح وقعت مرتين: الأولى التي ذكرها ابن إسحاق، وهي قبل الحديبية، والثانية بعدها قبل الخروج إلى خيبر، وكان رأس الذين أغاروا عبد الرحمن بن عيينة، كما ساق سلمة عند مسلم، ويؤيده أن الحاكم ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر، ففي الأول خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها صلى الله عليه ووسلم في ربيع الآخر سنة خمس، والثالثة هذه المختلف فيها ا. هـ، فإذا ثبت هذا قوي الجمع الذي ذكرته "انتهى" كلام احافظ بما زدته كله من الفتح، "وسببها أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة"، بكسر اللام، وقد تفتح، وحاء مهملة، والجمع لقاح بالكسر فقط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 -وهي ذوات اللبن القريبة العهد بالولادة -ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن الفزاري ليلة الأربعاء، في أربعين فارسا فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر. وقال ابن إسحاق: وكان فيها رجل من بني غفار وامرأة، فقتلوا الرجل وسبوا المرأة   وخفة القاف، "وهي ذوات اللبن، القريبة العهد بالولادة"، بشهر، واثنين، وثلاثة وهو اسم لا صفة، فيقال هذه لقحة لا ناقة لقحة، فإن أريد الوصف فناقة لقوح ولاقح، وقد يقال ذلك قبل الوضع، ثم هي بعد الثلاثة لبون، وقد جاء اللقحة في البقر والغنم أيضا، كما في النور. "ترعى بالغابة" قاله ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، ومثله في حديث سلمة الطويل عند مسلم. وفي البخاري ومسلم: كانت ترعى بذي قرد. قال عياض: هو غلط. قال الشريف: ويمكن الجمع بأنها كانت ترعى هنا تارة وهناك تارة. "وكان أبو ذر فيها" وابنه وامرأته، "فأغار عليهم" على أبي ذر ومن معه، فلا حاجة لدعوى أنه غلب العاقل على غيره، وأن الأولى عليها، أي: الإبل، "عيينة بن حصن الفزاري" كما عند ابن سعد وغيره. ورواه الطبراني، عن سلمة بن الأكوع، وروى عنه أحمد، ومسلم، وابن سعد، أن الذي أغار عبد الرحمن بن عيينة بن حصن، ولا منافاة، فكل من عيينة وابنه كان في القوم، وذكر ابن عقبة وابن إسحاق أن مسعدة الفزاري كان رئيسا أيضا في فزارة، في هذه الغزوة، قاله في الفتح "ليلة الأربعاء" من ربيع الأول فقط؛ لأن هذا الذي ساقه المصنف كلام ابن سعد، القائل أنها في في ربيع، ولم يعين الليلة هل هي أول الشهر، أو غيرها "في أربعين فارسا، فاستاقوها، وقتلوا ابن أبي ذر" وأسروا المرأة، قاله ابن سعد. قال الدمياطي: والولد المقتول هو ذر، وكان راعي اللقاح، ونقله عنه في الإصابة. "وقال ابن إسحاق: وكان فيها" أي: الإبل "رجل من بني غفار" هو ابن أبي ذر، كما صرح به ابن سعد، "وامرأة" لأبي ذر نفسه، "فقتلوا الرجل" الذي هو ابن أبي ذر، "وسبوا المرأة" التي هي زوجة أبي ذر، واسمها ليلى، كما في أبي داود. وعند الواقدي: أن أبا ذر استأذنه عليه السلام إلى لقاحه، فقال: إني أخاف عليك، ونحن لا نأمن عيينة، فألح عليه فقال صلى الله عليه وسلم: "لكأني بك قد قتل ابنك، وأخذت امرأتك، وجئت توك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فركبت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ليلا على حين غفلتهم، ونذرت لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك فقال: "أنه لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك". فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها.   على عصاك". قال أبو ذر: عجبا لي يقول لي ذلك وأنا ألح عليه، فكان والله ما قال، فلما كان الليل أحدق بنا عيينة مع أصحابه، فأشرف لهم ابني فقتلوه، وكانت معه امرأته، وثلاثة نفر، فنجوا وتنحيت عنهم، وعليه فكان معهم امرأتان، فنجت امرأة ابنه الذي قتل، وأسرت امرأته هو والعلم عند الله، "فركبت" امرأة أبي ذر المذكورة بعد قفوله صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة، كما فصله ابن إسحاق "ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم" هي العضباء "ليلا على حين غفلتهم". فروى مسلم وأبو داود، وغيرهما عن عمران بن حصين: أنهم أوثقوا المرأة، وكانوا يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فإذا دنت من البعير رغا، فتتركه حتى انتهت إلى العضباء، فلم ترغ فقعدت في عجزها ثم زجرتها، فانطلقت وعلموا بها، فطلبوها، فأعجزتهم "ونذرت" بفتح النون والمعجمة، "لئن نجت لتنحرنها، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك، فقال:" في رواية ابن إسحاق من مرسل الحسن قالت: يا رسول الله إني نذرت لله أن أنحرها، إن نجاني الله عليها، فتبسم الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "بئسما جزيتيها إن حملك الله عليها، ونجاك أتنحريها" "إنه لا نذر في معصية، ولا لأحد فيما لا يملك"، إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله". وفي حديث عمران: فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمران: إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فذكروا ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال: "سبحان الله، بئسما جزتها نذرت إن نجاها الله لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم "، وكونهم أخبروه بذلك، لا ينافي أنها أخبرته أيضا، وأجاب كلا بما ذكر، كما هو مفاد الخبرين فلا خلف، "فنودي" ليس تعقيبا لقصة المرأة، حتى يفيد أن الخبر ما بلغ المصطفى إلا منها، كما يوهمه المصنف، بل هو راجع لكلام ابن سعد الذي فصله بكلام ابن إسحاق هذا، ولفظه عقب قوله: وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصريخ فنادى الفزع الفزع، ونودي: "يا خيل الله اركبي،" هو من ألطف المجازات وأبدعها. قال العسكري: هذا على المجاز والتوسع، أراد يا فرسان خيل الله، فاختصر لعلم المخاطبين بما أراد. ا. هـ، ولم يقل: اركبوا مراعاة للفظ خيل، "وكان أول ما نودي بها" قاله ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وركب صلى الله عليه وسلم في خمسمائة وقيل: سبعمائة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون المدينة. وكان قد عقد للمقداد بن عمرو لواء في رمحه، وقال له امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك، فأدرك أخريات العدو   سعد، وانتقده اليعمري بما مر عن ابن عائذ، من مرسل قتادة أنه نودي: يا خيل الله اركبي في قريظة، وهي قبل هذه، وأجيب بأن هذا مبني على أن قريظة بعدها، والمصنفون إذا بني كلامهم على قول في موضع، وفي آخر على خلافه لا يعد تناقضا، ومتى أمكن حمله عليه فعل. وفي البخاري، ومسلم عن سلمة: خرجت قبل أن يؤذن بالأولى، وكان لقاح رسول الله ترعى بذي قرد، فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة، فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه، يا صباحاه، فأسمعت ما بين لابتي المدينة الحديث. قال الحافظ: فيه إشعار أنه كان واسع الصوت جدا، ويحتمل أن يكون ذلك وقع من خوارق العادات. وللطبراني وابن إسحاق، فأشرفت من سلع، ثم صح: يا صباحاه، فانتهى صياحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس: الفزع الفزع، فترامت الخيول إليه، فكان أول من انتهى إليه فارسا المقداد، ثم عباد بن بشر وسعد بن زيد وأسيد بن حضير، وعكاشة ومحرز بن نضلة وأبو قتادة وأبو عياش، فأمر صلى الله عليه وسلم عليهم سعد بن زيد، ثم قال: "اخرج في طلب القوم حتى ألحقك في الناس"، "وركب صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وقيل: سبعمائة" حكاهما ابن سعد، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" عبد الله، أو عمرو، "وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة يحرسون الدينة، وكان قد عقد لمقداد بن عمرو" المعروف بابن الأسود؛ لأنه تبناه، وكان أول من أقبل إليه، وعليه الدرع والمغفر شاهرا سيفه، فعقد له "لواء في رمحه، وقال له: "امض حتى تلحقك الخيول، وأنا على أثرك، فأدرك أخريات العدو". ومن هنا اختلف في أنه الأمير، أو سعد بن زيد، ويجمع بأن الأمير سعد، وحامل اللواء المقداد فمن قال: إنه الأمير، نظر إلى حمله اللواء، وإن كان الواقع أنه سعد، ولذا قال ابن سعد وشيخه الواقدي الثبت عندنا أن سعدا أمير هذه السرية، ولكن الناس نسبوها للمقداد لقول حسان غداة فوارس المقداد، فعاتبه سعد، فقال اضطرني الروي والبيت هو: ولسر أولاد اللقيطة أننا ... سلم غداة فوارس المقداد ذكره إسحاق في قصيدة وأن حسان لما قالها غضب سعد، وحلف أن لا يكلمه أبدا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وقتل أبو قتادة مسعدة، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه، وقتل عكاشة بن محصن أبان بن عمرو، وقتل من المسلمين محرز بن نضلة قتله مسعدة.   وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي، فاجعلها للمقداد، فاعتذر إليه حسان، وقال: والله ما ذاك أردت، ولكن الروي وافق اسم المقداد، وقال رجزا يرضيه به، فلم يقبل به سعد، ولم يغن شيئا. ا. هـ. واللقيطة أم حصن بن حذيفة جدة عيينة. "وقتل أبو قتادة" الحارث بن ربعي "مسعدة" بن حكمة، بفتحتين الفزاري رئيس المشركين يومئذ، وسجاه ببرده، فاسترجع الناس، وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس بأبي قتادة ولكنه قتيله"، وضع عليه برده لتعرفوه، فتخلوا عن قتيله وسلبه، كذا قاله ابن عقبة. وعند ابن إسحاق وغيره: أن قتيل أبي قتادة حبيب بن عيينة، وأنه سجاه ببرده وقال فيه المصطفى ذلك القول، وكذا في حديث سلمة عند مسلم، ولكن سماه عبد الرحمن بن عيينة. قال الحافظ: فيحتمل أن له اسمين "فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه". وذكر ابن سعد أن قاتل ابن عيينة المقداد قتله هو وقرفة بن مالك بن حذيفة بن بدر، لكنه لا يعادل ما في الصحيح المسند، أن قاتله أبو قتادة خصوصا، وقد جزم به أمام المغازي، اللهم إلا أن يكونا اشتركا في قتله، "وقتل عكاشة" بشد الكاف وخفتها "بن محصن" بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة "أبان بن عمرو"، كذا في النسخ، والذي عند ابن إسحاق، فأدرك عكاشة أوبارا وابنه عمرا، وهما على بعير، فانتظمهما بالرمح، فقتلهما جميعا، واستنقذ بعض اللقاح، وضبطه البرهان بفتح الهمزة، وسكون الواو، ثم موحدة آخره راء. وعند ابن سعد، أنه أثار بضم الهمزة وبالمثلثة آخر راء. ا. هـ. "وقتل من المسلمين محرز بن نضلة" بن عبد الله الأسدي من بني أسد بن خزيمة، وشهد بدرا ونضلة بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة على المعروف، ورأيت عن الدارقطني فتحها، وحكى البغوي عن ابن إسحاق محرز بن عون بن نضلة، وبعضهم يقول: ابن ناضلة، قاله اليعمري. قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، كان أول فارس لحق بالقوم، وكان يقال له، أي: يلقب الأخرم، ويقال له: قمير، فوقف بين أيديهم، وقالوا: قفوا يا معشر بني اللكيعة، فحمل عليه رجل منهم فقتله، كذا أبهم قاتله. وفي حديث سلمة عند مسلم التقى، هو وعبد الرحمن بن عيينة، فقتله عبد الرحمن، وتحول على فرسه، فلحقه أبو قتادة، فقتله وتحول على الفرس. وعند ابن عقبة، كابن عائذ عن عروة قتله أوبار، فشد عليه عكاشة، فقتل أوبارا وابنه، وأما المصنف فقال تبعا للدمياطي "قتله مسعدة"، فإن أردت الترجيح، فما في الصحيح أصح أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وأدرك سلمة بن الأكوع القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل   الجمع، فيمكن أن الثلاثة اشتركوا في قتله. قال ابن إسحاق عن عاصم: فلم يقتل يومئذ من المسلمين غيره. وقال ابن هشام: قتل أيضا وقاص بن مجزز المدلجي، فيما حكى غير واحد من أهل العلم انتهى، وهو بميم مضمومة، فجيم فمعجمتين، الأولى مشددة مكسورة، "وأدرك سلمة" بن عمرو، أو ابن وهب "ابن الأكوع" بن سنان بن عبد الله بن بشير الأسلمي، أبو مسلم، وأبو إياس شهد بيعة الرضوان، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم عند الشجرة على الموت، رواه البخاري، وكان شجاعا راميا يسبق الفرس، وما كذب قط قيل: هو الذي كلمه الذئب، وقيل: أهبان بن صيفي أخرج له الستة وأحمد، ومات بالمدينة سنة أربع وسبعين على الصحيح، وقيل: سنة أربع وستين، وزعم الواقدي أنه عاش ثمانين سنة. قال في الإصابة: وهو باطل على القول الأول، إذ يلزم أنه في الحديبية، له نحو عشر سنين، ومن في ذلك السن لا يبايع على الموت. وعند ابن سعد والبلاذري، أنه مات في آخر خلافة معاوية "القوم" بعد صريخه، قبل أن تلحقه الخيل. فعند ابن إسحاق: صرخ واصباحاه، ثم خرج يشتد في آثار القوم، فكان مثل السبع، حتى لحق بالقوم، "وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل". وفي البخاري عنه: ثم اندفعت على وجهي، حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي، وكنت راميا وأقول: أن ابن الأكوع ... اليوم يوم الرضع وأرتجز حتى استنقذت اللقاح كلها، وأسلبت ثلاثين بردة. وفي مسلم وابن سعد: فأقبلت أرميهم بالنبل، وأرتجز، فألحق رجلا منهم، فأمكنه سهما في رجله، فخلص السهم إلى كعبه، فما زلت أرميهم وأعقرهم، فإذا رجع إلي فارس منهم، أتيت شجرة، فجلست في أصلها، ثم رميته فعرت به، إذا تضايق الجبل، فدخلوا في مضايقه، علوت الجبل، فرميتهم بالحجارة، فما زالت كذلك حتى ما خلق الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بعير، إلا خلفته وراء ظهري، ثم أتبعهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة، وثلاثين رمحا، يتخففون بها، فأتوا مضيقا، فأتاهم عيينة ممدا لهم، فجلسوا يتغدون، وجلست على رأس قرن، فقال: من هذا؟ قالوا: لقينا من هذا البرح بفتح الموحدة، وسكون الراء المشددة، والأذى ما فارقنا السحر حتى الآن، وأخذ كل شيء في أيدينا، وجعله وراء ظهره، فقال عيينة: لولا أنه يرى وراءه طلبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 ويقول: خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع يعني يوم هلاك اللئام، من قولهم: لئيم راضع، أي راضع اللؤم في بطن أمه، وقيل معناه: اليوم يعرف من ارتضعته الحرب من صغره وتدرب بها، ويعرف غيره، ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس والخيول   لترككم، ليقم إليه أربعة منكم، فصعدوا في الجبل، فقلت لهم: أتعرفونني؟ فقالوا: ومن أنت؟، قلت: ابن الأكوع، والذي أكرم وجه محمد، لا يطلبني رجل منكم فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني، فقال رجل منهم، أظن فرجعوا، فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ويقول: خذها" أي: الرمية "وأنا ابن الأكوع" المشهور في الرمي بالإصابة عن القوس، وهذا من الفخر الجائز في الحرب لاقتضائها فعله لتخويف الخصم، كما قال صلى الله عليه وسلم: " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"، "واليوم يوم الرضع" بضم الراء وشد المعجمة، جمع راضع. قال السهيلي: يجوز رفعهما، ونصب الأول، ورفع الثاني على جعل الأول ظرفا، وهو جائز إذا كان الظرف واسعا، ولم يضق عن الثاني. قال أهل اللغة: يقال في اللؤم رضع بالفتح، يرضع بالضم رضاعة لا غير، ورضع الصبي بالكسر ثدي أمه، يرضع بالفتح رضاعا، مث سمع يسمع سماعا، "يعني يوم هلاك اللئام من قولهم: لئيم راضع"، والأصل فيه أن شخصا كان شديد البخل، فكان إذا أراد حلب ناقته ارتضع من ثديها لئلا يحلبها فيسمع جيرانه، أو من يمر به صوت الحلب، فيطلبون منه اللبن، وقيل: بل صنع ذلك لئلا يتبدد من اللبن شيء إذا حلب في الإناء، أو يبى في الإناء شيء إذا شربه، فقالوا في المثل: ألأم من راضع، وقيل: "أي رضع اللؤوم في بطن أمه،" أي: هو معنى المثل، وقيل: كل لئيم يوصف بالمص والرضاع، وقيل: المراد من يمص طرف الخلال إذا خلل أسنانه، وهو دال على شدة الحرص، وقيل: هو الراعي الذي لا يستصحب محلبا، فإذا جاءه الضيف اعتذر بأن لا محلب معه، وإذا أراد أن يحلب ارتضع ثديها. وقال أبو عمرو الشيباني: هو الذي يرضع الشاة، أو الناقة عند الحلب من شدة الشره، وقيل: أصله الشاة ترضع لبن شاتين من شدة الجوع، وقيل: معناه اليوم يعرف من ارتضع كريمة فأنجيته، أو لئيمة فهجنته، "وقيل: معناه اليوم يعرف من ارتضعته الحرب من صغره، وتدرب بها ويعرف غيره". وقال الداودي: معناه هذا يوم شديد عليكم، تفارق فيه المرضعة من أرضعته، فلا يجد من يرضعه، قال جميعه في الفتح، "ولحق رسو الله صلى الله عليه وسلم الناس والخيول" بالرفع عطف على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 عشاء، قال سلمة: فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملكت فأسجح" -وهي بهمزة قطع ثم سين مهملة، ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة- أي فارفق وأحسن، والسجاحة: السهولة، أي لا تأخذ بالشدة بل أرفق، فقد حصلت النكاية في العدو ولله الحمد، ثم قال: إنهم الآن ليقرون في غطفان.   رسول الله "عشاء". قال ابن إسحاق: فنزلوا بذي قرد، وأقام عليه يوما وليلة. "قال سلمة" عن ابن سعد: "فقلت: يا رسول الله إن القوم" غطفان وفزارة "عطاش" بكسر العين المهملة، وبسبب العطش حصل لهم، وهن لا يقدرون معه على الحرب، "فلو بعثتني في مائة لاستنقذت ما في أيديهم من السرح" بفتح السين، وسكون الراء وحاء مهملات، المال السائم المرسل في المرعى، "وأخذت بأعناق القوم" أي: أسرتهم وقتلتهم. وللبخاري في الجهاد فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاش وإني أعجلتهم أن يشربوا سقيهم، فابعث في أثرهم، وله في المغازي، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، فقلت: يا نبي الله قد حميت القوم الماء، وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة. وعند مسلم: وأتاني عمي عامر بماء ولبن، فتوضأت وشربت، ثم آتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كل شيء، استنقذته منهم، ونحر له بلال ناقته، وشوى له من كبدها وسنامها، فقلت: يا رسول الله خلني أنتخب من القوم مائة رجل، فأتبعهم، فلا يبقى منهم مخبر، فضحك حتى بدت نواجذه، وقال: "أتراك كنت فاعلا"؟ قلت: نعم، والذي أكرمك "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا ابن الأكوع "ملكت" أي: قدرت عليهم، "فأسجح" وهي بهمزة قطع" مفتوحة، "ثم سين مهملة" ساكنة، "ثم جيم مكسورة، ثم حاء مهملة، أي: فارفق وأحسن، والسجاحة" بكسر السين المهملة "السهولة". وفي القاموس: النجاة، فتفسيره بها؛ لأن النجاة تلزمها، "أي: لا تأخذ بالشدة، بل أرفق"، وأحسن العفو "فقد حصلت النكاية في العدو"، فهزموا وقتل رؤساؤهم ابن عيينة وسعدة في جماعة، وسلب منهم الرماح والبرد، "ولله الحمد" على نصر الإسلام، "ثم قال" عقب قوله: فأسجح، كما رواه الشيخان في حديث سلمة مسلم، بلفظ: "إنهم الآن ليقرون" بضم التحتية، وسكون القاف وفتح الراء، وضمها وسكون الواو، من القرى، وهي الضيافة، وقيل: معنى ضم الراء، أنهم يجمعون الماء واللبن، وصحف من قال: يغزون بغين معجمة وزاي "في غطفان". والبخاري في الجهاد بلفظ: إنهم يقرون في قومهم، يعني وصولا إلى غطفان، وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد فلم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم، وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر.   يضيفونهم، ويساعدونهم، فلا فائدة في البعث في الأثر؛ لأنهم لحقوا بأصحابهم. وزاد مسلم وابن سعد: فجاء رجل من غطفان، فقال: مروا على فلان الغطفاني، فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة، فتركوها وقالوا: أتاكم القوم، وخرجوا هرابا، وفيه معجزة، حيث أخبر بذلك، فكان كما قال. وفي بعض الأصول من البخاري يقرون. قال المصنف: بفتح أوله وفتح الراء، أي: يضيفون الأضياف، فراعى ذلك لهم رجاء توبتهم وإنابتهم. ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يقرون بفتح أوله، وكسر القاف وشد الراء. ولأبي ذر من قومهم. ا. هـ. واقتصر الحافظ على الضبط الأول قائلا: ولابن إسحاق: أنهم الآن ليغبقون في غطفان، وهو بالغين المعجمة الساكنة، والموحدة المفتوحة، والقاف من الغبوق، وهو شرب أول الليل، والمراد أنهم فاتوا، ووصلوا إلى بلاد قومهم، ونزلوا عليهم، فهم الآن يذبحون لهم، ويطعمونهم انتهى، فعجب من الشامي في تقديمه رواية ابن إسحاق، ثم قوله: وفي لفظ: ليقرون مع أنه رواية الصحيحين، فيوهم أن المشهور ما قدمه ولا كذلك، فالمشهور رواية الشيخين، ولذا اقتصر عليها المصنف. وفي مسلم وابن سعد في حديث سلمة: فلما أصبحنا قال صلى الله عليه وسلم: "فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا اليوم سلمة"، فأعطاني سهم الراجل والفارس جميعا. "وذهب الصريخ" بمهملة ومعجمة الاستغاثة، "إلى بني عمرو بن عوف" من الأنصار، "فجاءت الأمداد" جمع مدد، وهم الأعوان والأنصار "فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي، وهي عشر" من اللقاح، كذا قاله الواقدي وابن سعد، وابن إسحاق، وهو مخالف لقول سلمة في الصحيحين، أنه استنقذ جميع اللاح. قال الشامي: وهو المعتمد لصحة سنده، قلت: وقد رواه ابن سعد نفسه عن سلمة، مثل رواية مسلم كما سلف، وما أسنده مقدم على ما ذكره بلا سند، فكيف وقد وافقه الشيخان، وقد تعسف من قال، يحتمل أن سلمة قاله بحسب ظنه، وهو في الواقع نصف اللقاح، فإنه مخالف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام يوما وليلة ورجع، وقد غاب خمس ليال، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها.   للمتبادر من قوله حتى ما خلق الله من بعير لرسول الله إلا خلفته وراء ظهري، وكذا قول المشركين لعيينة أخذ كل شيء في أيدينا، وجعله وراء ظهره، ثم كون اللقاح عشرين بمجرده لا ينافي أن معها زيادة عليها الجمل الذي لأبي جهل، وأما الناقة التي رجعت عليها امرأة أبي ذر، فلا ترد؛ لأنها إنما عادت بعد عوده عليه السلام إلى المدينة، كما في قصتها عند ابن إسحاق وغيره. "وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام" به "يوما وليلة" يتجسس الخبر، "ورجع وقد غاب خمس ليال" مردفا سلمة وراءه على العضباء، كما في حديثه عند مسلم، وهو مخالف لما عنده عن عمران، أن امرأة أبي ذر أخذتها من العدو، وركبته ونذرت نحرها، كذا ذكره الشامي وبيض بعده، "وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها" وكانوا خمسمائة، ويقال: سبعمائة، وبعث إليه سعد بن عبادة بأحمال تمر، وبعشر جزائر، فوافته بذي قرد، هذا بقية كلام ابن سعد، فيحتمل أن الجزائر المنحورة مما بعثه، ويحتمل أنها ما أخذوه من القوم. قال الحافظ: وفي القصة من الفوائد جواز العدو الشديد في الغزو والإنذار بالصياح العالي، وتعريف الشجاع بنفسه، ليرعب خصمه واستحباب الثناء على لاشجاع ومن فيه فضيلة، لا سيما عند الصنع الجميل ليزيد منه، ومحله حيث يؤمن الافتتان انتهى، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 " سرية الغمر ": سرية عكاشة بن محصن الأسدي إلى غمر ومرزوق -بالغين المعجمة المفتوحة- وهو ماء لبني أسد على ليلتين من فيد،   سرية الغمر: "سرية عكاشة" بضم العين المهملة وشد الكاف، وقد تخفف فشين معجمة، "ابن محصن" بكسر، فسكون ففتح كما مر "الأسدي"، وإضافة سرية إليه؛ لأنه أميرها عند ابن سعد. وقال ابن عائذ: أميرها ثابت بن أقرم، ومعه عكاشة، فيمكن أنهما اشتركا، كما قد يدل عليه قوله، ومعه أو أن أحدهما أمير في الابتداء، والآخر في الانتهاء، لأمر ما "إلى غمر ومرزوق" بلفظ اسم المفعول، وفي نسخة زياة ابن، وهو وهم، فالذي عند ابن سعد، وتبعه اليعمري وغيره بدون ابن، "بالغين المعجمة المفتوحة"، وفي نسخة المكسورة، والصواب المذكور في العيون، وغيرها المفتوحة ساكن الميم بعدها راء مهملة، "وهو ماء لبني أسد، على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، في أربعين رجلا، فخرج سريعا، فنذر به القوم -بكسر الذال المعجمة كفرح- فهربوا فنزلوا علياء بلادهم. فاستاقوا مائتي بعير، وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلقوا كيدا.   ليلتين من فيد" بفتح الفاء، وسكون التحتية ودال مهملة. قال في القاموس: قلعة بطريق مكة سميت بفيد بن فلان، "في شهر ربيع الأول، سنة ست من الهجرة" بعد الغابة، قاله ابن سعد، ولم يبين مقدار ما بينهما، ولا اليوم الذي كانت فيه "في أربعين رجلا". قال الواقدي: منهم ثابت وسباع بن وهب، حكاه الحاكم. قال اليعمري: كذا وجدته، ولعله شجاع بن وهب. وعند ابن عائذ: ولقيط بن أعصم. "فخرج سريعا" عقب أمره صلى الله عليه وسلم دون تراخ. زاد الواقدي: يغذ السير، كما في العيون. قال البرهان: بضم أوله، وكسر الغين وبالذال المعجمة، أي: يسرع في السير حتى وصل إلى بلاده، "فنذر به القوم"، فهو عطف على مقدر "بكسر الذال المعجمة"، وفائدة قوله بعده "كفرح" أي: مضارعة بفتحها، "فهربوا" من مائهم، "فنزلوا عليا" بضم المهملة وسكون اللام، مقصورا على"بلادهم" فوجدوا ديارهم خلوفا بضم المعجمة واللام وتقدير مضاف، أي أصحاب ديارهم غيبا، فبعث شجاع بن وهب طليعة، فرأى أثر النعم قريبا، فتحملوا، فأصابوا رجلا منهم، فأمنوه، فدلهم على نعم لبني عم لهم، فأغاروا عليهم، "فاستاقوا مائتي بعير،" فأرسلوا الرجل، "وقدموا" بالإبل "على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلقوا كيدا" أي حربا، ولم يصب منهم أحد، وقول ابن عائذ: أصيب فيها ثابت ليس بشيء؛ لأنه استشهد أيام الردة، قاله الشامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 " سرية ابن مسلمة إلى ذي القصة ": ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة -بالقاف والصاد المهملة المشددة المفتوحتين-   سرية ابن مسلمة إلى ذي القصة: "ثم سرية محمد بن مسلمة" الأنصاري، الصحابي، الشهير "إلى ذي القصة بالقاف، والصاد المهملة المشددة، المفتوحتين". وحكى اليعمري إعجام الضاد، وسلمة الشامي، غير ملتفت لقول البرهان، لم أر أنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا، في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، ومعه عشرة إلى بني ثعلبة. فورد عليهم ليلا فأحدق به القوم، وهم مائة   الإعجام؛ لأن من حفظ حجة، "موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا" من طريق الزبدة، قاله ابن سعد وغيره، واقتصر عليه صاحبا العيون والسبل. زاد الشريف: وقال المجد، موضع على بريد من المدينة تلقاء نجد. وقال الأسدي: على خمسة أميال من المدينة، "في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة"، الذي قاله ابن سعد، وقطع به اليعمري ربيع الآخر، وفي الشامية أول ربيع الآخر، فإن لم يكن تصحف في المصنف، أمكن الجمع، بأن الخروج في آخر الأول، والوصول إليهم في أول ربيع الآخر، "ومعه عشرة" أبو نائلة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، ونعمان بن عصر، ومحيصة، وحويصة ابنا مسعود، وأبو بردة بن نيار، ورجلان من مزينة، ورجل غطفاني، كذا سماهم الواقدي عن شيوخه، وفيه نظر. فإن في القصة أنهم قتلوا كلهم، إلا الأمير وأبو عبس بن جبر البدري، مات سنة أربع وثلاثين عن سبعين سنة. وخرج له البخاري والترمذي، والنسائي وابن عصر ذكر ابن ماكولا أنه استشهد في الردة في خلافة الصديق، وحويصة شهد أحدًا، والخندق وسائر المشاهد، وأخوه محيصة صحابي. روى له أصحاب السنن، وأبو بردة بن نيار، مات سنة إحدى وأربعين، وقيل بعدها، "إلى بني ثعلبة" وبني عوال، قاله ابن سعد. وفي الشامية إلى بني معوية بفتح الميم، والعين المهملة، وكسر الواو، وسكون التحتية وتاء تأنيث، وبني عوال بعين مهملة، مضمومة فواو مخففة، حي من العرب من بني عبد الله بن غطفان، وقوله: والعين، أي: وبالعين، وليس مراده أنها مفتوحة. ففي القاموس معوية بفتح فسكون، ابن امرئ القيس بن ثعلبة، فمقتضاه أن بني عوال ليسوا من ثعلبة، وثعلبة بطن من بني ريث بفتح الراء، وإسكان التحتية ومثلثة بن غطفان، وصريحة أن بني معاوية من ثعلبة، فاقتصر عليها المصنف للشهرة، أو العظمة بالنسبة لبني عوال. "فورد عليهم ليلا" بمن معه، فكمن لهم القوم حتى ناموا، "فأحدق به القوم، وهم مائة"، فما شعر المسلمون إلا بالنبل قد خالطهم، فوثب محمد بن مسلمة، ومع قوس، فصاح في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 رجل فتراموا بالنبل ساعة من الليل ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح، فقتلوهم إلا محمد بن سلمة فوقع جريحا، وجردوهم من ثيابهم، فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة فحمله حتى ورد به المدينة. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ربيع الآخر في أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم، فأعجزوهم هربا في الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم وتركه، وأخذ نعما من نعمهم فاستاقه، ورثة من متاعهم وقدم به المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم ما بقي عليهم. قال في القاموس: الرث: السقط من متا البيت، كالرثة بالكسر.   أصحابه: السلاح، فوثبوا "فتراموا بالنبل ساعة من الليل، ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح"، فقتلوا ثلاثة ثم انحاز أصحاب محمد إليه، فقتلوا من القوم رجلا، ثم حمل القوم، "فقتلوهم إلا محمد بن سلمة، فوقع جريحا" يضرب كعبه، فلا يتحرك "وجردوهم من ثيابهم" وانطلقوا، "فمر رجل من المسلمين بمحمد بن مسلمة"، فرآهم صرعى، فاسترجع، فتحرك له محمد، "فحمله حتى ورد به المدينة جريحا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" أمين الأمة، أحد العشرة "في ربيع الآخر، في أربعين رجلا إلى مصارعهم، فأغاروا عليهم" فلم يجدوا أحدا، ووجدوا نعما وشاء فساقه، ورجع. هكذا ذكر ابن سعد والواقدي، ومقتضاه أو صريحه، أن سبب بعث أبي عبيدة طلب ثأر المقتولين، وبذلك أفصح اليعمري، فإنه ترجم لهذه السرية، وذكر فيها كلا ابن سعد والواقدي، عقبها بقوله، ثم سرية أبي عبيدة إلى ذي القصة في شهر ربيع الآخر، وذكر أن سببها، أن بني ثعلبة وأنمارا أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة، وهي ترعى بهيفاء بهاء مفتوحة، وتحتية ساكنة وفاء موضع على سبعة أميال من المدينة، فبعث أبا عبيدة في أربعين حين صلوا المغرب، فمشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصة مع الصبح، فأغاروا عليهم، "فأعجزوهم هربا" بفتح الهاء والراء "في الجبال، وأصاب رجلا واحدا فأسلم، وتركه وأخذ نعما من نعمهم، فاستاقه. أفاد أن النعم مذكر، وبه صرح المختار، فقال: يذكر ولا يؤنث، وجمعه أنعام يذكر ويؤنث، قال تعالى: {مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] "ورثة في متاعهم، وقدم به المدينة، فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: أخذ خمسه، "وقسم ما بقي" وهو الأربعة أخماس "عليهم،" قمقتضى هذا السياق من العيون، أنه بعث أبا عبيدة مرتين إلى ذي القصة، وذكر نحوه الشامي من رواية الواقدي، عن شيوخه، فقد لفق المصنف بين القصتين، الله إلا أن يكون البعث مرة، ولكن له سببان آخذ ثأر المقتولين، ودفع من أراد الإغارة على السرح، والله أعلم. "قال في القاموس: الرث" بفتح الراء ومثلثة "السقط" الذي لا قيمة له "من متاع البيت كالرثة بالكسر" للراء، الواقع في الخبر هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 " سرية زيد إلى الجموم ": ثم سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم -ويقال: الجمح- ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال، في شهر ربيع الآخر سنة ست، فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها: حليمة،   سرية زيد إلى الجموم: "ثم سرية زيد بن حارثة" أبي أسامة البدري الحب، والد الحب الخليقين للإمارة بالنص النبوي الصحابي، ابن الصحابي، والد الصحابي. قالت عائشة: ما بعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي لاستخلفه، أخرجه ابن أبي شيبة قوي عنها. وفي البخاري عن سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة سبع غزوات، يؤمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلى بني سليم" بضم المهملة، وفتح اللام وسكون التحتية، "بالجموم" بفتح الجيم، وضم الميم مخففة، "ويقال" له: "الجموح" بحاء مهملة بدل الميم الأخيرة، حكاهما مغلطاي، "ناحية ببطن نخل من المدينة على أربعة أميال،" وفي نسخة برد، وهي الموافقة لقول ابن سعد عند اليعمري وغيره، ناحية بطن نخل عن يسارها، وبطن نخل من المدينة على أربعة برد، فأما النسخة الأولى، فبينهما تفاوت كبير، فالأربعة برد ثمانية وأربعون ميلا "في" آخر يوم من "شهر ربيع الآخر،" كما يفيده تعبير المصنف بثم مع قول الشامي: إن أبا عبيدة أمير السرية قبلها، خرج ليلة السبت لليلتين بقيتا من ربيع الآخر، وغاب ليلتين، "سنة ست، فأصابوا" وجدوا "امرأة"، فأسروها "من مزينة يقال لها: حليمة". قال البرهان: لا أعلم لها إسلاما، ولا صحبة ولا ترجمة، وليس في الصحابيات حليمة إلا المرضعة على الخلاف في إسلامها. وذكر ابن الجوزي المرضعة وحليمة بنت عروة بن مسعود، قال: ويقال: جميلة، وأنكره عليه البرهان، وليس بمنكر، فبنت عروة، ذكرها الذهبي وسلم له في الإصابة، وأفاد أنها صحابية صغيرة، وأما جميلة بالجيم، بنت أوس المزينة. ففي الإصابة أن ابن قانع وعبدان صحفاها بزاي ونون، وإنما هي المرئية براء فهمزة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 فدلتهم على محلة من منازل بني سليم، فأصابوا نعما وشاء وأسرى، فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل زيد بما أصاب، وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها.   بني امرئ القيس، وتكنى أم جميل بجمين صحابية بنت صحابي انتهى، فليست هي هذه المسبية التي لم يعلم حالها، "فدلتهم على محلة" بفتح الميم، والمهملة، واللام المشددة ثم تاء تأنيث، منزل "من منازل بني سليم، فأصابوا نعما وشاء، وأسرى" أي: وجدوا جماعة منهم، فأسروهم. فعند ابن عقبة عن ابن شهاب: فأصاب زيد نعما وشاء، وأسر جماعة من المشركين، "فكان فيهم زوج حليمة المزنية، فلما قفل" بفتح القاف والفاء، أي: رجع "زيد بما أصاب وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمزنية نفسها وزوجها". فقال بلال بن الحارث المزني في ذلك: لعمرك ما أخنى المسول ولا ونت ... حليمة حتى راح ركبهما معا ولم يبين المصنف كغيره عدة الإبل، والغنم والأسرى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 " سرية زيد إلى العيص ": ثم سرية بن حارثة أيضا إلى العيص، موضع على أربع ليال من المدينة، في جمادى الأولى سنة ست، ومعه سبعون راكبا، لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام   سرية زيد إلى العيص: "ثم سرية زيد بن حارثة أيضا"، المتلو اسمه في محاريب المسلمين، "إلى العيص" بكسر العين، وإسكان التحتية فصاد مهملتين. قال ابن الأثير: موضع قرب البحر، والصغاني عرض من أعراض المدينة، وهو بكسر العين المهلمة، وإسكان الراء وضاد معجمة، كل واد فيه شجر، كذا في النور، وكونه من أعراضها قد ينافيه قوله تبعا لابن سعد، "موضع على أربع ليال من المدينة"؛ لأن ما في هذه المسافة لا ينسب لها "في جمادى الأولى سنة ست" قاله الواقدي، وابن سعد، وجماعة "ومعه سبعون راكبا" صوابه كما قال ابن سعد وشيخه: سبعون ومائة راكب، وسلمه اليعمري، والبرهان والشامي، "لما بلغه عليه الصلاة والسلام أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام" ذكره الواقدي وابن سعد وغيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 يتعرض لها، فأخذها وما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية، وأسر منهم ناسا، منهم أبو العاصي بن الربيع، وقدم بهم المدينة، فأجارته زوجته زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونادت في الناس -حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر- إني قد أجرت أبا العاصي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما علمت بشيء من هذا، وقد أجرنا من أجرت"، ورد عليه ما أخذ منه.   قال الشامي: واقتضى كلام ابن إسحاق، أن سرية من السرايا صادفت هذه العير، لا أنه صلى الله عليه وسلم أرسل السرية لأجلها، "يتعرض لها، فأخذها ما فيها، وأخذ يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية" ابن خلف بن وهب القرشي الجمحي، أسلم بعد حنين، وكان من المؤلفة، وحسن إسلامه، وهو أحد الأشراف الفصحاء الأجواد. روى له مسلم والأربعة، مات أيام قتل عثمان: وقيل: سنة إحدى أو ثنتين وأربعين، "وأسر منهم" ممن كان في العير "ناسا منهم أبو العاصي" لقيط، أو الزبير، أو هشيم، أو مهشم، بكسر فسكون ففتح، أو بضم ففتح فتثقيل، أو ياسر. قال الحافظ: وأظنه محرفا من قاسم، ورجح البلاذري الأول والزبير الثاني، "ابن الربيع" بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه هالة أخت خديجة بنت خويلد. قال ابن إسحاق: كان من رجال مكة المعدودين تجارة ومالا وأمانة. "وقدم بهم المدينة، فأجارته زوجته" السيدة "زينب ابنة النبي صلى الله عليه وسلم" أكبر بناته لما استجار بها، فعند ابن سعد، فاستجار أبو العاصي بزينب، فأجارته "ونادت في الناس حين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر". قال الواقدي وابن إسحاق لما كبر المصطفى، وكبر الناس معه صرخت. قال ابن إسحاق: من صفة النساء. وقال الواقدي: قامت على بابها، فنادت بأعلى صوتها: أيها الناس "إني قد أجرت أبا العاصي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زاد الواقدي وابن إسحاق: لما سلم من الصلاة، أقبل على الناس، فقال: "أيها الناس هل سمعتم ما سمعت"؟، قالوا: نعم، قال: "والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من هذا" حتى سمعت ما سمعتم، المؤمنون يد واحدة، يجير عليهم أدناهم". زاد الواقدي: "وقد أجرنا من أجارت"، فهذا خطاب منه للصحابة، وقال لزينب: "وقد أجرت من أجرت، ورد عليه" بسؤال زينب "ما أخذ" بالبناء للمفعول "منه". قال ابن إسحاق والواقدي: ثم دخل صلى الله عليه وسلم إلى منزله، فدخلت عليه زينب، فسألته أن يرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وذكر ابن عقبة: أن أسره كان على يد أبي بصير بعد الحديبية.   عليه ما أخذ منه، فقبل، وقال لها: "أكرمي مثواه، ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له". وروى البيهقي بسند قوي أن زينب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا العاصي إن قرب فابن عم وإن بعد، فأبو ولد، وإني قد أجرته. قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى السرية، الذين أصابوا مال أبي العاصي، فقال لهم: "إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له، فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي فاء عليكم، فأنتم أحق به"، فقالوا: يا رسول الله، بل نرده عليه حتى أن الرجل ليأت بالدلو، والرجل بالإداوة حتى ردوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا، ثم ذهب إلى مكة فأدى إلى كل ذي مال ماله، ثم قال: هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، قال: هل أوفيت ذمتي؟ قالوا: اللهم نعم، فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ووالله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوفا أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما ردها الله تعالى إليكم، وفرغت منها أسلمت، ثم خرج فقدم المدينة. وأخرج أبو أحمد الحاكم بسند صحيح عن الشعبي أن زينب هاجرت وأبو العاصي على دينه، فخرج إلى الشام في تجارة، فلما كان قرب المدينة، أراد بعض المسلمين الخروج إليه ليأخذوا ما معه ويقتلوه، فبلغ ذلك زينب، فقالت: يا رسول الله، أليس عقد المسلمين وعهدهم واحدًا؟، قال: "نعم"، قالت: فاشهد أني قد أجرت أبا العاصي، فلما رأى ذلك الصحابة خرجوا إليه بغير سلاح، فقالوا له: إنك في شرف من قريش، وأنت ابن عم رسول الله، فهل لك أن تسلم، فتغنم ما معك من أموال أهل مكة، فقال: بئسما أمرتموني به، أن أفتتح ديني بغدرة، فمضى إلى مكة، فسلمهم أموالهم، وأسلم عندهم، ثم هاجر، والجمع بينهما عسر، وقد قال في الإصابة: يمكن الجمع بين الروايتين. "وذكر" موسى "ابن عقبة" الحافظ تبعا لشيخه الزهري كما رواه عنهما البيهقي: أن الذي أخذ هذه العير أبو جندل، وأبو بصير، و"أن أسره كان على يد أبي بصير" بفتح الموحدة، وكسر المهملة، فتحتية ساكنة فراء، ومن معه من المسلمين، لما أقاموا بالساحل، يقطعون الطريق على تجار قريش في مدة الهدنة "بعد الحديبية" وصوبه ابن القيم، واستظهره البرهان. قال الشامي: ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يخلصن إليك"، أي: لا يطأك فإنك لا تحلين له؛ لأن تحريم المؤمنات على المشركين، إنما نزل بعد الحديبية انتهى، ثم الآخذ للعير على هذا القول ليس من السرايا، فإن أبا بصير ومن معه كانوا بالساحل، يقطعون الطريق على تجار قريش، ولم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول، قيل: بعد سنتين وقيل: بعد ست سنين، وقيل: قبل انقضاء العدة.   يكن ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم، فلا يشكل بأن السرايا لم تتعرض لقريش بعد الحديبية. نعم، هو ظاهر على قول غير ابن عقبة، أنها كانت قبل الحديبية في جمادى. وحكى الحاكم أبو أحمد: أنه أسلم قبل الحديبية بخمسة أشهر. "وكانت هاجرت قبله، وتركته على شركه"، وذلك أنه لما أسر في بدر قبل أسره هذه المرة، وبعثت أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب في فدائه بمال، وبعثت فيه قلادة لها، كانت خديجة أدخلتا بها عليه حين بنى بها، فلما رآها صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها فافعلوا"، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها، وأخذ صلى الله عليه وسلم عليه، أو وعده، هو أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه، أن يخلي سبيل زينب إليه، فلما ذهب إلى مكة، بعث المصطفى زيد بن حارثة وأنصاريا، فقال: "كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فائتياني بها"، فأمرها أبو العاصي باللحوق بأبيها، فتجهزت، وهاجرت، كما أسنده ابن إسحاق عن عائشة. قال في الروض: وفيها يقول أبو العاص لما كان بالشام تاجرًا: ذكرت زينب لما يممت أضما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما بنت الأمين جزاها الله صالحة ... وكل بعل سيثني بالذي علما "وردها النبي صلى الله عليه وسلم" كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بنته زينب "بالنكاح الأول"، لم يحدث شيئا. قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، ولكن لا يعرف وجهه. "قيل: بعد سنتين" من إسلامه الواقع في السادسة، أو السابعة، "وقيل: بعد ست سنين" من الهجرة، وقد عرفت قول الترمذي لا يعرف وهذا الحديث، فكذا هذان القولان المبنيان عليه، وإلا فابتداء السنتين من أي زمن، "وقيل: قبل انقضاء العدة"؛ لأنه لما نزل، لا هن حل لهم بعد الحديبية جعل بمنزل ابتداء إسلامها، وإن كانت أسلمت هي وأخواتها كلهن عقب البعثة، كما مر فوقف أمره إلى إنقضاء العدة، فأسلم قبلها فدام النكاح، فمعنى ردها، مكنه منها بناء على النكاح الأول؛ لأن الفرقة لم تقع، ثم لا يرد على هذا القول ما رواه ابن إسحاق، منقطع أنها لما هاجرت، راعها هبار بن الأسود بالرمح في هودجها، وهي حامل، فطرحت ما في بطنها؛ لأن هجرتها بعد بدر قبل نزول آية التحريم بمدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ردها له بنكاح جديد سنة سبع.   "وفي حديث" الترمذي، وابن ماجه من طريق حجاج بن أرطأة، عن "عمرو بن شعيب،" عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم "ردها" على أبي العاص "بنكاح جديد" لفظه بمهر جديد. قال السهيلي: هذا الحديث هو الذي عليه العمل، وإن كان حديث ابن عباس أصح إسنادا ولكن لم يقل به أحد من الفقهاء فيما علمت؛ لأن الإسلام فرق بينهما، قال الله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . ا. هـ. وقد قال الترمذي: سمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن عمرو، وذكر هذين الحديثين يقول: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. قال السهيلي: ومن جمعه بين الحديثين، قال: معنى حديث ابن عباس ردها على مثل النكاح الأول في الصداق والحباء، لم يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره. "سنة سبع" أفاد انقضاء العدة؛ لأن نزول آية التحريم بعد الحديبية الواقعة في سنة ست. وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على أبي العاصي في مصاهرته خيرا، وقال: حدثني، فصدقني، ووعدني فوفاني، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب من أبي العاصي، مات سنة اثنتي عشرة في خلافة الصديق، كما قاله ابن سعد، وابن إسحاق وغيرهما، وشذ من قال: سنة ثلاث عشرة، وأغرب منه قول ابن منده مات يوم اليمامة، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 " سريته للطرف ": ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف، ماء على ستة وثلاثين ميلا من المدينة في جمادى الآخرة سنة ست.   سريته للطرف: "ثم سرية زيد بن حارثة أيضا إلى الطرف" بفتح الطاء المهملة، وكسر الراء وبالفاء. قال القاموس: ككتف "ماء،" أي: عين، كما في القاموس، "على ستة وثلاثين ميلا من المدينة". زاد ابن سعد: قريب من المراض دون النخيل، براء، وضاد معجمة كسحاب. وقال الشريف: هو بطريق العراق على خمسة وعشرين ميلا وربع من المدينة، ولا غبار على المصنف في تعبيره بثم؛ لأن التي قبلها في جمادى الأولى، وقد قال في هذه: "في جمادى الآخرة سنة ست" ولم يقل أحد أن التي قبلها كانت بعد الحديبية، إنما قال ابن عقبة ومن وافقه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب، وصبح زيد بالنعم المدينة، وهي عشرون بعيرا، ولم يلق كيدا، وغاب أربع ليال.   أن أخذ العير، وأسر أبي العاصي على يد أبي بصير بعد الحديبية، ولم يكن سرية، ولا هو بأمر المصطفى، ولا علمه على ذلك القول، فوهم من قال تعبيره بثم ظاهر على أن سرية عير قريش في جمادى الأولى، إما على أنها بعد الحديبية فلا، "فخرج إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا، فأصاب نعما وشاء وهربت الأعراب"؛ لأنهم خافوا أن يكون صلى الله عليه وسلم سار إليهم، وأن هؤلاء مقدمة له، كما قال الواقدي، "وصبح زيد بالنعم المدينة، وهي عشرون بعيرا" مثله في العيون، والسبل مع قولهم قبل، فأصاب نعما وشاء، فيحتمل أنه لم يسق شيئا من الغنم لمانع، أو ساقها أو بعضها مع الإبل، ثم تركها الطلب العدو إياه حين علموا ن المصطفى ليس معهم، فأعجزهم فترك الغنم لضعفها، وعدم قوتها على السير، واحتياجها لسائق على أن إصابة الأمرين في محل العدوة، ولا يلزم منه أخذها بالفعل، فعلى بعض المتأخرين الدرك في قوله: صبح بالنعم والشاء، فإنه بمجرده لا يفيد ذلك، "ولم يلق كيدا" حربا، و"وغاب أربع ليال"، وكان شعار المسلمين أمت أمت، وهو أمر بالموت، ومراده التفاؤل بالنصر بعد الأمر بالإماتة، مع حصول الغرض من الشعار، فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها، لأجل ظلمة الليل، ذكره الشامي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 " سريته إلى حسمي ": ثم سرية، زيد أيضا إلى حسمي -بكسر المهملة- وهي وراء القرى،   سريته إلى حسمي: "ثم سرية زيدا أيضا إلى حسمي بكسر" الحاء "المهملة" وسكون المهملة، وفتح الميم مقصورا قال اليعمري: على مثال فعلى، مكسور، الأول قيده أبو علي، موضع من أرض جذام، وذكر أن الماء في الطوفان، أقام به بعد نضوبه ثمانين سنة. وقال الجوهري: اسم أرض بالبادية، غليظة لا خير فيها، ينزلها جذام، ويقال: آخر ما نضب من ماء الطوفان حسمي، فبقيت منه بقية إلى اليوم، "وهي وراء القرى"، وفي نسخة: ذات القرى، وصوابه كما في العيون وغيرها، وراء وادي القرى، وهو بضم القاف وفتح الراء، واد كثير القرى، وليس ثم محل يقال له ذات القرى. قال شيخنا في التقرير: ويمكن تصحي المصنف، بأنه لم يقصد المعنى العلمي، بل الإضافي بتقدير مضاف، موصوف ذات هو، وراء أرض ذات القرى، وعلى النسخة الأولى وراء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وسببها أنه قالوا: أقبل دحية ابن خليفة الكلبي من عند قيصر، وقد أجازه وكساه، فلقيه الهنيد في ناس من جذام بحسمي فقطعوا عليه الطريق، فسمع بذلك نفر من بني الضبيب، فاستنقذوا لدحية متاعه، وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فبعث زيد بن حارثة   وادي القرى. "وكانت في جمادى الآخرة سنة ست،" عند ابن سعد، وقطع به اليعمري "و" غيره. لكن قال ابن القيم: إنها كانت بعد الحديبية بلا شك، أي: لأن بعث دحية بالكتاب إلى هرقل في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي، فتكون هذه السرية سنة سبع؛ لأن "سببها أنهم" كلهم. "قالوا: أقبل دحية" بفتح الدال وكسرها، "ابن خليفة الكلبي"، الصحابي الجليل، المتوفى في خلافة معاوية "من عند قيصر" لقب لكل من ملك الروم، واسمه هرقل، لما أرسله صلى الله عليه وسلم إليه بكتابه، يدعوه إلى الإسلام، "وقد أجازه" أي: أعطاه الجائزة، وهي كما في القاموس العطية، والتحفة واللطف، "وكساه"؛ لأنه قارب الإسلام، ولم يسلم خوفا على ملكه، فأكرم دحية. زاد ابن إسحاق: ومعه أي دحية، تجارة له، "فلقيه الهنيد" بضم الهاء، وفتح النون وسكون التحتية، ابن عارض، وابنه عارض بن الهنيد. وعند ابن إسحاق: عوض فيهما بدل عارض، "في ناس من جذام" بجيم مضمومة، فذال معجمة فميم، قبيلة من معد، أو اليمن، بجبال "بحسمي، فقطعوا عليه الطريق". زاد ابن إسحاق وغيره: فأصابوا كل شيء كان معه، فلم يتركوا عليه إلا سمل ثوب. قال البرهان: بفتح المهملة والميم، الخلق من الثياب. "فسمع بذلك نفر من بني الضبيب" بضم الضاد المعجمة، ثم موحدتين، أولاهما مفتوحة، بينهما تحتية ساكنة. قال ابن إسحاق: رهط رفاعة بن زيد الجذامي ممن كان أسلم، وأجاب وقدم على قومه بكتاب رسول الله يدعوهم إلى الإسلام، فاستجابوا له. "فاستنقذوا لدحية متاعه،" وعند ابن إسحاق: فنفروا إلى الهنيد وابنه، حتى لقوهم، فاقتتلو، فاستنقذوا ما كان في يد الهنيد وابنه، فردوه على دحية، "وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك،" وفي نسخة خبره زاد ابن إسحاق: واستسعاده دم الهنيد وابنه، "فبعث زيد بن حارثة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وخمسمائة رجل، ورد معه دحية، فكان زيد يسير بالليل ويكمن بالنهار، فأقبلوا بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم فأوجعوا، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم. فأخذوا من النعم ألف شاة، ومائة من النساء والصبيان. فرحل زيد بن رفاعة الجذامي في نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كان كتب له، ولقومه ليالي قدم عليه فأسلم.   في خمسمائة رجل ورد معه دحية، فكان زيد يسير بالليل، ويكمن" بضم الميم وفتحها، كما في القاموس "بالنهار" زاد ابن سعد: ومعه دليل من بني عذرة، "فأقبلوا بهم حتى هجموا مع الصبح على القوم، فأغاروا عليهم، فقتلوا فيهم، فأوجعوا،" أي: أكثروا فيهم القتل، "وقتلوا الهنيد وابنه"، زاد ابن إسحاق: ورجلا من بني خصيب، ورجلين من بني الأحنف، أي: بالنون. وقال ابن هشام: أي: بالتحتية، "وأغاروا على ماشيتهم" هي الإبل والغنم، قاله ابن السكيت وغيره، ومشى عليه المجد، زاد بعضهم والبقر، فقوله: "ونعمهم" عطف خاص على عام، أو تفسيري؛ لأن النعم كما في القاموس الإبل والشاء، أو خاص بالإبل، "ونسائهم فأخذوا من النعم ألف شاة" لا شك أن فيه سقطا من الناسخ، أو قلم المصنف سهوا، فالذي قله ابن سعد، وتبع اليعمري وغيره من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، "و" من السبي "مائة من النساء والصبيان، فرحل زيد بن رفاعة الجذامي" كذا عند ابن سعد، وهو مقلوب، فالذي عند ابن إسحاق رفاعة بن زيد. قال اليعمري: وهو الصحيح. قال البرهان: وكما هو الصحيح، ذكره ابن عبد البر، والذهبي وغيرهما، ولم أر أحدا ذكره في زيد إلا في هذا المكان. قال ابن إسحاق: وفد فأسلم في هدنة الحديبية قبل خيبر، وحسن إسلامه، وأهدى للمصطفى غلاما. وعند ابن منده: أنه قدم في عشرة من قومه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة في قصة خيبر: فأهدى رفاعة بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما أسود، يقال له: مدعم، "في نفر من قومه، فدفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كان كتبه له، ولقومه ليالي قدم عليه، فأسلم"، وذلك أنه وفد في الهدنة، فأسلم، وكتب له المصطفى كتابا هو: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من حمد رسول الله إلى رفاعة بن زيد، إني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وبعث صلى الله عليه وسلم عليا إلى زيد بن حارثة يأمره أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم،   بعثته إلى قومه عامة، ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فمن أقبل، ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين، فلما قدم على قومه أسلموا، فلم يلبث أن جاء دحية من عند قيصر، ذكره ابن إسحاق، وبسط القصة فقال: فلما سمع بنو الضبيب بما صنع زيد، ركب نفر منهم حسان بن ملة باللام، وروي بالكاف، وأنيف بن سلمة، وأبو زيد بن عمرو، فلما وقفوا على زيد بن حارثة، قال حسان: إنا قوم مسلمون، فقال: اقرأ أم الكتاب، فقرأها فقال زيد: نادوا في الجيش إن الله قد حرم علينا ثغرة القوم التي جاءوا منها إلا من ختر، وكانت أخت حسان في الأساري، فقال له زيد: خذها، فقالت امرأة: أتنطلقون ببناتكم، وتذرون أمهاتكم؟، فقال زيد لأخت حسان: اجلسي مع بنات عمك حتى يحكم الله فيكن، ونهى الجيش أن يهبطوا إلى واديهم الذي جاءوا منه، فأمسوا في أهليهم، فلما شربوا عتمتهم، ركبوا حتى صبحوا رفاعة، فقال له حسان: إنك لجالس، تحلب المعزى، ونساء جذام أسارى، قد غرها كتابك الذي جئت به، فدعا رفاعة بجمل، فشد عليه رحله، وخرج معه جماعة، فساروا ثلاث ليال، فلما دخلوا المدينة، وانتهوا إلى المسجد، دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم، آلاح لهم بيده، أن تعالوا من وراء الناس، فاستفت رفاعة المنطق، فقام رجل، فقال: يا رسول الله إن هؤلاء قوم سحرة، فرددها مرتين، أي: عندهم فصاحة لسان وبيان، فقال رفاعة: رحم الله من لم يحذنا في يومنا هذاإلا خيرا، ثم دفع كتابه إليه صلى الله علي وسلم، فقال: دونك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا غلام اقرأه وأعلن"، فلما قرأه استخبرهم، فأخبروه الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف أصنع بالقتلى"، ثلاث مرار، فقال رفاعة: أنت أعلم يا رسول الله، لا نحرم عليك حلالا، ولا نحل لك حراما، فقال أبو زيد بن عمرو: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا، ومن قتل تحت قدمي هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: "صدق أبو زيد اركب معهم يا علي"، فقال: إن زيد لن يطيعني، قال: "فخذ سيفي هذا"، فأعطاه سيفه، فقال: ليس لي راحلة، فحملوه على بعير وخرجوا، فإذا رسول لزيد على ناقة من إبلهم، فأنزلوه عنها فقال: يا علي ما شأني؟ قال: مالهم عرفوه فأخذوه ثم ساروا، فوجدوا الجيش بفيفاء، فأخذوا ما في أيديهم حتى كانوا ينزعون المرأة من تحت فخذ الرجل. "وبعث صلى الله عليه وسلم عليا إلى زيد بن حارثة، يأمره أن يخلي بينهم وبين حرمهم" بضم المهملة وفتح الراء، جمع حرمة، وهي الأهل "وأموالهم". وفي رواية، فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترد على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسير أو سبي أو مال، فقال زيد: علامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أطلب علامة، فقال علي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 فرد عليهم.   هذا سيفه، فعرفه زيد، فنزل وصاح بالناس، فاجتمعوا فقال: من كان معه شيء من سبي أو مال فليرده، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فرد عليهم" كل ما أخذ لهم ثغرة القوم بضم المثلثة، وسكون المعجمة، وفتح الراء وهاء تأنيث، طريقهم، وختر بفتح المعجمة، وسكون الفوقية وبالراء غدر أي أن الله حرم التعرض لهم لإسلامهم ما لم يحصل غدر، ويحذنا بضم التحتية، وسكون الحاء المهملة، وكسر المعجمة، من أحذاه كذا أعطاه، والمعنى رحم الله من لم يتكلم في حقنا اليوم إلا بخير هذا، وظاهره أنهم كانوا يطأون الجواري بلا استبراء؛ لأن وجوبه إنما كان في سبي هوازن، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 " سرية زيد أيضا إلى وادي القرى ": ثم سرية زيد أيضا إلى وادي القرى أيضا، في رجب سنة ست، فقتل من المسلمين قتلى، وارتث زيد، أي حمل من المعركة رثيثا، أي جريحا وبه رمق -وهو مبني للمجهول، قاله في القاموس.   ثم سرية زيد أيضا إلى وادي القرى: جمع قرية؛ لأن ذا الوادي كثير القرى. قال المصباح: موضع قريب من المدينة على طريق الحاج من جهة الشام "أيضا"، يقتضي أن التي قبلها إلى وادي القرى، وقد مر قوله: إن حسمي وراء القرى، فلعله أطلق عليها ذلك لقربها منه، "في رجب سنة ست". قال ابن إسحاق: لقي به بني فزارة، "فقتل من المسلمين قتلى" منهم رد بن مرداس، رواه ابن عائذ عن عروة، "وارتث" بضم أوله، وسكون الراء، وضم الفوقية وبمثلثة "زيد، أي حمل من المعركة، رثيثا، أي: جريح، وبه رمق وهو" أي: ارتث، "مبني للمجهول،" ففعله رث مشددا بزيادة تاء الافتعال التي هي من حروف الزيادة، فيبقى الحرف الأخير مشددا على أصله، فليس هو ارتث بكسر المثناة، وخفة المثلثة كما توهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 " سرية دومة الجندل ": ثم سرية عبد الرحمن بن عوف   سرية دومة الجندل: "ثم سرية عبد الرحمن بن عوف"، القرشي الزهري، أسلم قديما، ومناقبه شهيرة، مات سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 رضي الله عنه إلى دومة الجندل، في شعبان سنة ست. قالوا: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، فأقعده بين يديه، وعممه بيده،   اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك، أخرج له الجميع، "رضي الله عنه إلى دومة" بضم المهملة، وتفتح، فواو ساكنة، فميم فتاء تأنيث، ويقال: دوماء بالمد "الجندل" بفتح الجيم، وسكون النون، وفتح الدال وباللام، حصن، وقرى من طرق الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، وبينها وبين المدية خمس عشرة، أو ست عشرة ليلة "في شعبان سنة ست" كما أرخصها ابن سعد، "قالوا: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف،" هذا الحديث أسنده ابن إسحاق وفي أوله زيادة لا بأس بذكرها، قال: حدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: كنت عاشر عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود ومعاذ وحذيفة، وأبو سعيد، إذ أقبل فتى من الأنصار فسلم، ثم جلس، فقال: يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل؟، قال: "أحسنهم خلقا"، قال: فأي المؤمنين أكيس، قال: "أكثرهم للموت ذكرا، وأكثرهم استعداد له قبل أن ينزل به، أولئك هم الأكياس"، ثم سكت الفتى، وأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم، وأعوذ بالله أن تدركوهن، إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها الأظهر، فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا الذكاء من أموالهم إلا منعوا االقطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله عز وجل، وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فأخذوا ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله، وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم"، ثم أمر عبد الرحمن أن يتجهزوا لسرية بعثه عليها، فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء فأدناه صلى الله عليه وسلم، "فأقعده بين يديه وعممه بيده" لفظ ابن سعد. وروى الدارقطني في الأفراد عن ابن عمر: دعا النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، فقال: "تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا، أو من الغد، إن شاء الله تعالى". قال عبد الله: فسمعت ذلك، فقلت: لأصلين مع رسول الله الغداة، فلأسمعن وصيته له، وفي حديثه عند ابن إسحاق فأدناه منه ثم نقضها، ثم عممه بها، فأرسل من خلفه أربع أصابع، أو نحوا من ذلك، ثم قال: "هكذا يا ابن عوف، فاعتم فإنه أحسن وأعرف"، ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه فحمد الله وصلى على نفسه، ثم قال: "خذه يا ابن عوف، اغزوا جميعا في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وقال: "أغر، بسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر، ولا تقتل وليدا، وبعثه إلى كلب بدومة الجندل، وقال: إن استجابوا لك فتزوج، ابنة ملكهم". فسار عبد الرحمن حتى قدم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيا، وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية. وتزوج عبد الرحمن تماضر -بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة- بنت الأصبغ، وقدم بها المدينة   الله وسيرة نبيه فيكم"، فأخذ عبد الرحمن اللواء، "وقال" كما عند ابن سعد: "أغز بسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، ولا تغدر" ثلاثي، أي: تترك الوفاء "ولا تقتل وليدا" أي: صبيا، فكان اختلاف الأمر جمعا، وإفرادا من تصرف الرواة، أو خاطبه مرة، وجميع الجيش أخرى، و"بعثه في سبعمائة، كما عند الواقدي "إلى كلب بدومة الجندل، وقال: "إن استجابوا لك" أطاعوك فأسلموا، "فتزوج ابنة ملكهم"، فسار عبد الرحمن" بجيشه، "حتى قوم دومة الجندل، فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام". زاد الدارقطني: وقد كانوا أبو أول ما قدم أن لا يعطوا إلا السيف، "فأسلم" في اليوم الثالث "الأصبغ" بفتح الهمزة، وسكون الصد المهملة، وفتح الموحدة، وبالغين المعجمة "ابن عمرو" بن ثعلبة بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب "الكلبي" القضاعي، ذكره صاحب الإصابة في القسم الثالث، فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، ولذا قال البرهان: لم تثبت له صحبة، "وكان نصرانيا وكان رئيسهم، وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام على إعطاء الجزية، وتزوج عبد الرحمن تماضر". قال الواقدي: وهي أول كلبية نكحها قرشي. "بضم المثناة الفوقية، وكسر الضاد المعجمة" ومنع الصرف للعلمية، والتأنيث "بنت الأصبغ"، وقيل: بنت رباب بن الأصبغ، كما في الإصابة، "وقدم بها المدينة"، ففازت بشرف الصحبة، والمصنف تابع في هذا الذي ذكره في هذه السرية، لابن سعد، وقد أسنده عن شيخه الواقدي بسند له مرسل عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وعند الدارقطني: فكتب عبد الرحمن مع رافع بن مكيث الجهني إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره، وأنه أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنة الأصبغ، فتزوجها، وقد يمكن الجمع بين الروايتين، بأن عبد الرحمن لم يكتف بقوله أولا: "فإن استجابوا لك، فتزوج ابنة ملكهم" لاحتمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 فولدت له أبا سلمة.   أنه أراد إن أسلم الجميع، مع أنه قد بقي منه جماعة على الجزية، فكتب إليه احتياطا، "فولدت له" بعد ذلك سنة بضع وعشرين "أبا سلمة" المدني الزهري، قيل اسمه كنيته، وقيل: عبد الله، وقيل: إسماعيل التابعي الكبير الحافظ الثقة، كثير الحديث، إمام من العلماء، مات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة. روى له الجميع. قال الواقدي: ولم تلد لعبد الرحمن غير أبي سلمة، وذكر في السبل عقب هذه سرية زيد إلى مدين، وقال: روى ابن إسحاق عن فاطمة بنت الحسين، أنه صلى الله عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين، ومعه ضميرة، مولى علي بن أبي طالب وأخ له، فأصاب سبيا من أهل مينا، وهي السواحل، وفيها جماع من الناس فبيعوا، ففرق بينهم، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال: "ما لهم"؟، قيل: فرق بينهم، فقال: "لا تبيعوهم إلا جميعا". قال ابن هشام: أراد الأمهات والأولاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 " سرية علي إلى بني سعد ": ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه في شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بني سعد بن بكر، لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر.   سرية علي إلى بني سعد: "ثم سرية علي بن أبي طالب" الهاشمي، ورجع جمع أنه أول من أسلم مات في رمضان سنة أربعين، وهو يومئذ أفضل أحياء بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله ثلاث وستون سنة على الأرجح "رضي الله عنه في شعبان سنة ست من الهجرة، ومعه مائة رجل إلى بني سعد بن بكر،" أي: إلى حي منهم كما قال الواقدي، "لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن لهم جميعا" مصدر، أي: أنهم ساعون في جمع الناس وليس المراد جماعة الناس؛ لأنه لو أراده لقال: إنهم اجتمعوا "يريدون أن يمدوا" بضم أوله وكسر الميم رباعي، كما قال البرهان، وتبعه الشامي أن يقووا ويعينوا "يهود خيبر". وفي المصباح المدد بفتحتين الجيش، ومددته أعنته وقويته، وكأنما اقتصرا على الرباعي؛ لأنه أنسب بهذا المعنى دون المجرد، وإن كان متعديا أيضا كقوله: ويمدهم في طغيانهم الذي معناه يزيدهم لاستعمال الزيادة في الإمهال، وفي التقوية والإعانة، والمشترك دون المختص في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 فأغاروا عليهم بالغمج بين فدك وخيبر، فأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد، وقدم علي ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا.   الاستعمال هكذا كتبنا من تقرير الشيخ وهو أفيد مما في الحاشية، "فأغاروا عليهم بالغمج" بغين معجمة فميم مكسورة فجيم ماء "بين فدك" بفتح الفاء والدال المهملة وبالكاف. قال المجد اللغوي: على يومين من المدينة، وقال عياض: يومين، وقيل: ثلاثة. وقال ابن سعد: على ست ليال من المدينة. قال السمهودي: وأظنه الصواب لكن استبعد صحته البران وقال: إنه سأل به بعض أهل المدينة عنها، فقال بينهما يومان ذكره الشامي "وخيبر"، وفيه مسامحة فإنهم حين وصلوا المحل المذكور لم يجدوا به أحدًا منهم غير عين لهم، فعند ابن سعد وشيخه الواقدي، وسار على الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى الغمج، فوجدوا به رجلا فقالوا: ما أنت؟ قال: باغ، أي: طالب لشيء ضل مني، فقالوا: هل كل علم بما وراءك من جميع بني سعد؟ قال: لا أعلم لي فشددوا عليه فأقر أنه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرض على يهودها نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم ويقدمون عليهم، فقالوا له: فأين القوم؟ قال: تركتهم قد تجمع منهم مائتا رجل، قالوا: فسر بنا حتى تدلنا؟ قال: على أن تؤمنوني، قالوا: إن دللتنا عليهم أو على سرحهم أمناك وإلا فلا أمان لك، قال: فذاك، فخرج بهم دليلا حتى ساء ظنهم، ثم أفضى بهم إلى الأرض مستوية فإذا نعم كثيرة وشاء، فقال: هذه نعمهم وشاؤهم، فأغاروا عليها، فقال: أرسلوني، فقال: حتى نأمن الطلب وهرب الرعاء إلى جمعهم فحذرهم فتفرقوا، فقال الدليل: علام تحبسني قد تفرقت الأعراب، قال علي: حتى نبلغ معسكرهم، فانتهى بهم إليه فلم ير أحدًا فأرسلوه وساقوا النعم والشاء، "فأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة وهربت بنو سعد" بالظعن ورأسهم وبر بفتح الواو وسكون الموحدة وبالراء ابن عليم بضم العين المهملة، فعزل على صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوحا تدعى الحفدة، ثم عز ل الخمس وقسم سائر الغنائم على أصحابه قاله ابن سعد، والحفدة بفتح الحاء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة وتاء تأنيث السريعة السير، "وقدم علي ومن معه المدينة ولم يلقوا كيدا"، ورد الله كيد المشركين فلم يمدوا اليهود"، ولله الحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 " سرية زيد إلى أم قرفة ": ثم سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة   سرية زيد إلى أم قرفة: "ثم سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة" بكسر القاف، وسكون الراء وبالفاء وتأء تأنيث "فاطمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 فاطمة بن ربيعة بدر الفزارية، بناحية وادي القرى، على سبع ليال من المدينة في رمضان سنة ست من الهجرة. وكان سببها: أن زيد بن حارثة خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بوادي القرى لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه، وأخذوا ما كان معهم. وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فبعثه عليه الصلاة والسلام إليهم، فكمن هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل، ثم صحبهم زيد وأصحابه، فكبروا وأحاطوا   بنت ربيعة بن بدر الفزارية" التي جرى فيها المثل أمنع من أم قرفة؛ لأنها كان يعلق في بيتها خمسون سيفا لخمسين رجلا كلهم لها محرم، كنيت بابنها قرفة قتله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر الواقدي، وذكر أن سائر بنيها وهم تسعة قتلوا مع طليحة يوم بزاخة في الردة، وذكر أن عبد الله بن جعفر أنكر عليه ذلك، وهو الصحيح كذا في الروض، وفي الزهر الباسم أن ولدها اثنا عشر ولا منافاة، فالبنون عشرة وبنتان "بناحية وادي القرى على سبع ليال من المدينة في رمضان سنة ست من الهجرة" كما ذكر ابن سعد قائلا: "وكان سببها أن زيد بن حارثة خرج في تجارة إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بوادي القرى" لفظ ابن سعد دون وادي القرى "لقيه ناس من فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم"، وهذا ظاهر في لقيهم له في ذهابه من المدينة لا في عوده من الشام بالتجارو كما فهم الشارح، "وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره" خبره، وأما ابن إسحاق فقال: إن سببها أن زيدا لما لقي بني فزارة بوادي القرى في سريته التي قبل هذه، وأصيب ناس من أصحابه وارتث زيد من بين القتلى حلف أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة، ويجمع بتعدد السبب بأن كون لما صح ذهب للتجارة، فنهبوه فرجع وأخبره صلى الله عليه وسلم، "فبعثه عليه الصلاة والسلام إليهم" في جيش، وقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل، "فكمن" القاموس كنصر وسمع "هو وأصحابه بالنهار وساروا بالليل"، ومعهم دليل من فزارة وعلمت بهم بنو بدر، فجعلوا لهن ناظورا ينظر قدر مسافة يوم حين يصبحون على جبل مشرف وجه الطريق الذي يرون أنهم يؤتون منه، فيقول: اسرحوا لا بأس عليكم فإذا كان العشاء أشرف على ذلك الجبل، فينظر مسيرة ليلة فيقول: ناموا لا بأس عليكم، فلما كان الصحابة على نحو ليلة أخطأ دليلهم الطريق، فسار في أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعاينوا الحاضر من بني فزارة فحمدوا خطأهم، "ثم صبحهم زيد وأصحابه، وكبروا وأحاطوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 بالحاضر، وأخذوا أم قرفة -وكانت ملكة رئيسة- وأخذوا ابنتها جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر. وعمد قيس بن المحسر إلى أم قرفة -وهي عجوز كبير- فقتلهما قتلا عنيفا، وربط بين رجليها حبل، ثم ربطها بين بعيرين ثم زجرهما، فذهبا فقطعاها.   بالحاضر" أي: بمن حضر ثمة من فزارة. قال ابن إسحاق: فقتلهم وأصاب فيهم "وأخذوا أم قرفة، وكانت ملك رئيسة"، وعند ابن إسحاق وكانت في بيت شرف من قومها كانت العرب تقول: لو كنت أعز من أم قرفة ما زدت، "وأخذوا ابنتها جارية" ظاهره أنه اسمها، وتبعه الشامي ولعلهما اطلعا على أنه اسمها فلا ينافي قول البرهان هذه البنت لا أعرف اسمها، "بنت مالك بن حذيفة بن بدر وعمد" كقصد "قيس بن المحسر" الكناني الليثي الصحابي. قال اليعمري: بفتح السين المهملة، وقد تكسر، وقيل: بتقديم السين على الحاء، زاد في الإصابة، وقيل: ابن مسحل بكسر الميم وسكون السين وفتح الحاء المهملة بعدها لام، وكون قيس ابنه جزم به الأخباريون وصدر الإصابة بأنه قيس بن مالك بن المحسر، وقيل: بإسقاط مالك. ا. هـ. وفي القاموس: وبطن محسر قرب المزدلفة، وكذا قيس بن المحسر الصحابي "إلى أم قرفة وهي عجوز كبيرة" زاد ابن إسحاق في رواية يونس، فأسرها وبنتها وقتل مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر، فأمره زيد بن حارثة، "فقتلهما قتلا عنيفا". وفي رواية البكائي وأسرت أم قرفة، وبنتها وعبد الله بن مسعدة بالبناء للمجهول وهو الصواب؛ لأن الذي أسرهما سلمة بن الأكوع كما صرح به بعد، وما ذكر من قتل قيس لمسعدة يومئذ قول غير المتقدم: إن قائله أبو قتادة في غزوة الغابة، "وربط بين رجليها حبلا ثم ربطها بين بعيرين، ثم زجرهما فذهبا فقطعاها" صريحه أنه ربط رجليها بحبل ثم ربط فيه آخر، وجعله في البعيرين والذي في ابن إسحاق كما في العيون ربط رجليها بحبلين ثم ربطا إلى بعيرين حتى شقاها، وذكر الدولابي أن زيدا إنما قتلها كذلك لسبها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: ولأنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها، وقالت: اغزوا المدينة واقتلوا محمدا، لن قال بعضهم: أنه خبر منكر هذا، وقد التبس سبب السرية الذي هو السير للتجارة بالسرية نفسها على من زعم أن قول اليعمري كشيخه الدمياطي كذا ثبت عند ابن سعد لزيد سريتان بوادي القرى إحداهما في رجب، والآخرى في رمضان مشكل لاقتضائه أنه أرسل غازيا في المرتين لبني فزارة مع أنه إنما كان في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك، فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه عريانا يجر ثوبه، حتى اعتنقه وقبله، وسأله فأخبره بما أظفره الله تعالى به.   الأولى تاجرا اجتاز بهم كما دل عليه كلام ابن سعد، ففيه إطلاق السرية على الطائفة الخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للتجارة، ولا يختص ذلك بالخارجة للقتال، أو تحسس الأخبار وهو وهم فكلام ابن سعد كما علمت إنما هو في سبب غزو زيد لهم في رمضان مع أن الثلاثة مع كونهم حفاظا متقنين لم ينفردوا بأنهما سريتان لزيد بل سبقهم إلى ذلك الواقدي، وابن عائذ وابن إسحاق، وإن خالفهم في سببها ولم يذكر تاريخا، وقول الشارح لم يذكر ابن سيد الناس في رمضان إلا مجرد قدومه بالتجارة، وذكر قتل أم قرفة في رجب فيه أنه لم يذكر قدومه بالتجارة إنما نقل عن ابن سعد خروجه بالتجارة إلى قوله، فأخذوا ما كان معهم ثم قال عقبه. وذكر ابن سعد نحو ما سبق عن ابن إسحاق في خبر أم قرفة، وقال في آخره فنقل عنه ما ذكره المصنف بقوله: "وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك فقرع باب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام إليه عريانا يجر ثوبه حتى اعتنقه وقبله وسأله، فأخبره بما ظفره الله تعالى به". "وعند ابن إسحاق وغيره: وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن مسعدة وبابنة أم قرفة، وكان سلمة بن الأكوع هو الذي أصابها، فسألها صلى الله عليه وسلم فوهبها له فوهبها لخاله، حزن ابن أبي وهب فولدت له عبد الرحمن بن حزن، هكذا ذكر ابن إسحاق وابن سعد والواقدي، وابن عائذ وغيرهم هذه السرية، وأن أميرها زي بن حارثة، وفي صحي مسلم وأبي داود عن سلمة بن الأكوع بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فزارة، وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا، فشننا الغارة فوردنا الماء فقتل أبو بكر، أي: جيشه من قتل ورأيت طائفة مهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة وهي أم قرفة عليها قشع من أدم معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها فلم أكشف لها ثوبا، فقدمن المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك"، فقلت: هي لك يا رسول الله، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. وفي لفظ: فدى بها أسيرا كان في قريش. قال الإمام السهيلي في الروض: وهذه الرواية أحسن وأصح من رواية ابن إسحاق أن وهبها لخاله حزن بمكة انتهى، ويقال مثله في كون أميرها الصديق. قال الشامي: ويحتمل أنهما سريتان اتفق لسلمة فيهما ذلك، ويؤيد ذلك أن في سرية زيد أنه صلى الله عليه وسلم وهب المرأة لخاله فولدت له، وفي سرية أبي بكر أنه بعث بها إلى مكة، ففدى به أسرى ولم أر من تعرض لتحرير ذلك انتهى، واستبعد باقتضائه تعدد أم قرفة وأن كلا لها بنت جميلة، وأن سلمة أسرهما وأن المصطفى أخذهما منه إلا أن يقال: لا تعدد لأم قرفة، وتسميتها في سرية أبي بكر وهم من بعض الرواة؛ لأن ابن سعد لم يسمها، وفيه توهيم رواية الصحيح بلا حجة، فإن تسميتها فيه من زيادة الثقة، فما في الصحيح أصح كما قال السهيلي، وتبعه البرهان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 " قتل أبي رافع ": ثم سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع، عبد الله -ويقال سلام- بن أبي الحقيق اليهودي، وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق. وكانت هذه السرية في شهر رمضان سنة ست، كما ذكره ابن سعد ههنا وذكر في ترجمة عبد الله بن عتيك: أنه بعثه في ذي الحجة إلى أبي   قتل أبي رافع: "ثم سرية عبد الله بن عتيك" بفتح العين المهملة وكسر الفوقية، وسكو التحتية وبالكاف، ابن قيس بن الأسود الخزرجي من بني سلمة، قال أبو عمر: شهد أحدًا وما بعدها بلا خلاف وأظنه شهد بدرًا، وزعم ابن أبي داود أنه استشهد باليمامة، وأما ابن الكلبي: فقال: شهد صفين. وقال البغوي: بلغني أنه استشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة "لقتل أبي رافع عبد الله، ويقال: سلام" بشد اللام كما جزم به في الفتح، وتبعه المصنف "ابن أبي الحقيق" بضم المهملة، وقافين بينهما تحتية مصغر، "اليهودي". حكى البخاري القولين في اسمه ممرضا الثاني كما حكى المصنف سواء، وجزم ابن إسحاق بأن اسمه سلام وتبعه اليعمري، وأفاد في الفتح أنه اسمه الأصلي، حيث قال: الذي سماه عبد الله هو عبد الله بن أنيس كما أخرجه الحاكم في الإكليل من حديثه مطولا "وهو الذي حزب" بفتحات والزاي مشددة "الأحزاب" الطوائف على محاربة المصطفى "يوم الخندق". وفي ابن إسحاق كما فيمن حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أولى لما قدمته ثمة عن ابن إسحاق أنه خرج وهو وحيي، وكنانة وهوذة وأبو عمار، لكن المصنف حصر التخريب فيه؛ لأنه أعان المشركين بالمال الكثير كما يأتي، فكان غيره لم يحزب "وكانت هذه السرية في شهر رمضان سنة ست كما ذكره ابن سعد ههنا" وضعا وتصريحا. "وذكر في ترجمة عبد الله بن عتيك" أمير السرية "أنه بعثه في ذي الحجة إلى أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 رافع سنة خمس بعد وقعة بني قريظة، وقيل: في جمادى الآخرة سنة ثلاث. وفي البخاري: قال الزهري: بعد قتل كعب بن الأشرف. وأرسل معه أربعة: عبد الله بن عتيك، وعبد الله بن أنيس، وأبا قتادة   رافع سنة خمس بعد وقعة بني قريظة"، ومشى عليه ابن إسحاق فذكرها بعد قريظة، "وقيل: في جمادى الآخرة سنة ثلاث" لعله اطلع عليه وإلا فالذي في الفتح، وتبعه في السبل، وقيل: في رجب سنة ثلاث، وقيل: في ذي الحجة سنة أربع. "وفي البخاري قال الزهري:" مما وصله يعقوب بن سفيان في تاريخه عن حجاج بن أبي منيع، عن جده، عن الزهري هو، أي قتله، "بعد قتل كعب بن الأشرف" الواقع ليلة أربعة عشر من ربيع الأول سنة ثلاث، وهذا قد يقرب حكاية المصنف القول أنه في جمادى الآخرة سنة ثلاث. قال الحافظ: وبين ابن إسحاق أن الزهري أخذ ذلك عن ابن كعب، فقال: لما قتلت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته للنبي بعد إذنه صلى الله عليه وسلم، وتحريضه عليه استأذنته الخزرج في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر، فأذن لهم. حدثني محمد بن مسلم بن شهاب، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان مما صنع الله لرسوله أن الأوس، والخزرج كانتا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه عنه صلى الله عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله، وفي الإسلام، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك، ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته، لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا أبدا، فتذاكروا من رجل لرسول الله في العداوة كابن الأشرف، فذكروا سلام بن أبي الحقيق، فاستأذنوه صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم، فخرج إليهم من الخزرج من بني سلمة خمسة. ا. هـ. ويتصاولان بتحتية ففوقية فصاد مهملة مفتوحات يقال: تصاول الفحلان، إذا حمل كل منهما على الآخر، والمراد أن كلا من الأوس والخزرج كان يدفع عن المصطفى ويتفاخر بذلك. "وأرسل معه أربعة" فصارت الجملة خمسة "عبد الله بن عتيك" بدل من الجملة المقدرة التي دل عليها السياق، لا من أربعة؛ لأنه لا يصح بعثه مع نفسه، ولا أنه غيره شاركه في الاسم؛ لأنه خلاف المنقول، ويلزم أنهم خمسة معه لا أربعة، "وعبد الله بن أنيس" بضم أوله وفتح النون وسكون التحتية، الجهني، حليف الأنصار، وفرق المنذري تبعا لابن المديني بينه وبين عبد الله الأنصاري، وجزم بأن الأنصاري، هو الذي كان في قتل أبي رافع، وجزم غير واحد بأنهما واحد، وهو جهني حالف الأنصار، قاله في الفتح، "وأبا قتادة" الحارث أو النعمان، أو عمرو بن ربعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 والأسود بن خزاعي، ومسعود بن سنان، وأمرهم بقتله. فذهبوا إلى خيبر،   بكسر الراء وسكون الموحدة فهملة السلمي شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرا، ومات على الأصح سنة أربع وخمسين، "والأسود بن خزاعي" بضم المعجمة وبالزاي، فألف فمهملة مكسورة فتحتية مشددة اسم علم بلفظ النسب مثل مكي. قال في الإصابة: كذا سماه ابن عقبة عن ابن شهاب، وسماه ابن إسحاق خزاعي بن الأسود، فقال: حليف لهم من أسلم، وكذا معمر عن الزهري، واعتمد هذا في الفتح وقلبه بعضهم فقال: أسود بن خزاعي. وفي الإكليل للحاكم ومغازي ابن عقبة أسود بن حرام، فإن كان غيره وإلا فهو تصحيف ثم وجدته في دلائل البيهقي عن ابن عقبة أسود بن خزاعي، أو أسود بن حرام بالشك، "ومسعود بن سنان" بكسر المهملة وبالنون الأنصاري، ونسبه بعضهم أسلميا، فكان أسلمي حالف بني سلمة. قال أبو عمر: شهد أحدا، واستشهد يوم اليمامة كما في الإصابة، وقد سمي البراء بن عازب في رواية يوسف بن إسحاق عن جده عنه الأمير عبد الله بن عتيك، وقال في ناس معهم، قال الفتح: لم يذكر عبد الله بن عتبة إلا في هذا الطريق، وزعم ابن الأثير في جامع الأصول أنه ابن عنبة بكسر العين وفتح النون وهو غلط منه، فإنه خولاني لا أنصاري ومتأخر الإسلام، وهذه القصة متقدمة، والرواية بضم العين وسكون المثناة لا بالنون. ا. هـ. وجزم الجلال البلقيني في مبهماته بأنه عبد الله بن عتبة أبو قيس الذكواني، وهو خلاف ما في الإصابة، فإنه ترجم للذكواني ثم ترجم بعده عبد الله بن عتبة الأنصاري أحد من توجه لقتل ابن أبي الحقيق، وقع ذلك في حديث البراء عند البخاري، ولم يزد على هذا فجعله غيره، وزعم الدمياطي أن صوابه عبد الله بن أنيس عجيب، ولذا لما وقع مثله لمغلطاي معللا بأنه ذكواني لا أنصاري رده بأن الصحيح ما في الصحيح لصحة سنده، وكونه ذكوانيا لا يخالف من قال: إنه من الأنصار، لاحتمال أنه حليفهم، وفي الحديث: وحليفنا منا، وابن أنيس كان معهم وليس أنصاريا قطعا بل جهني حالفهم. ا. هـ. "وأمرهم بقتله" زاد ابن إسحاق: ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة، "فذهبوا إلى خيبر". قال البخاري: كان، أي أبو رافع، بخيبر، ويقال: في حصن له بأرض الحجاز. قال الحافظ: هو قول وقع في سياق الحديث الموصول في الباب، ويحتمل أن حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز، ووقع عند موسى بن عقبة فطرقوا باب أبي رافع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 فكمنوا، فلما هدأت الرجل جاؤوا إلى منزله فصعدوا درجة له، وقدموا عبد الله بن عتيك؛ لأنه كان يرطن باليهودية، فاستفتح وقال: جئت أبا رافع بهدية، ففتحت له امرأته، فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف فسكتت، فدخلوا عليه فما عرفوه إلا ببياضه، فعلوه بأسيافهم.   بخيبر، فقتلوه في بيته. ا. هـ. وقال غيره: لا منافاة؛ لأن خيبر من الحجاز، أي من قراه وهو واضح في نفسه، لكن المطلوب تعيين المحل الذي كان فيه "فكمنوا، فلما هدأت" بفتح الهمزة، أي: سكنت، "الرجل" عن الحركة. وفي البخاري: هدأت الأصوات. وقال السفاقسي: هدت بغير همز ولا ألف، ووجهه الدماميني بأنه خفف الهمزة المفتوحة بإبدالها ألفا مثل منساة، فالتقت هي والتاء الساكنة فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وهذا وإن كان على غير قياس لكنه يستأنس به دفعا للخطأ. قال المصنف: وصوب السفاقسي الهمز، ولم أر تركه في أصل من الأصول التي رأيتها "جاؤوا إلى منزله فصعدوا درجة له". وعند ابن إسحاق: أتوا داره وكان في عليه له إليها عجلة، أي: شبه الدرجة من جزع منقور ليصعد فيه، فاستندوا إليها حتى قاموا على بابه، "وقدموا عبد الله بن عتيك" الأمير؛ "لأنه كان يرطن" بضم الطاء، أي: يتكلم، "باليهودية" فيظنوه منهم فلا يفزعوا "فاستفتح، وقال:" لما قالت له امرأة أبي رافع: من أنت؟ "جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته" هكذا عند ابن سعد. وفي رواية ابن إسحاق: فاستأذنوا فخرجت امرأته فقالت: من أنتم؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس الميرة، قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه، قال: فلما دخلنا أغقلنا عليها وعليه الحجرة تخوفا أن تكون دونه محاولة تحول بيننا وبينه، "فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح، فأشار إليها بالسيف، فسكتت" هكذا عند ابن سعد أيضا. وفي ابن إسحاق: فصاحت امرأته فنوهت بنا فيمكن أنهم لما دخلوا صاحت صياحا لم يسمع، ثم أرادت رفع صوتها ومداومة الصياح ليسمع الجيران، فرفعوا عليها السلاح، فسكتت، "فدخلوا عليه، فما عرفوه إلا ببياضه فعلوه بأسيافهم". وعند ابن إسحاق: وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة بضم القاف وسكون الموحدة، وكسر الطاء المهملة، ثوب من كتان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وفي البخاري: وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له, فلما دنوا منه وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله لأصحابه: اجلسوا مكانكم، فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف البواب: يا عبد الله إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب،   رقيق يعمل بمصر. قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكره نهيه صلى الله عليه وسلم ولولا ذلك لفرغنا منها بليل. "وفي البخاري" في المغازي من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، "وكان أبو رافع يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه". ذكر ابن عائذ من طريق أبي الأسود، عن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "وكان في حصن" مكان لا يقدر عليه لارتفاعه "له" بأرض الحجاز كما في الرواية، ومر ما فيه "فلما دنوا" بفتح الدال والنون، قربوا "منه، وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم" بفتح السين وسكون الراء وحاء مهملات، أي: رجعوا بمواشيهم التي ترعى وتسرح وهي السائمة من إبل وبقر وغنم. "قال" ولغير أبي ذر فقال "عبد الله" بن عتيك "لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق" إلى حصن أبي رافع "ومتلطف للبواب" أي: متخشع، أي مظهر له صورة الخاشع "لعلي أن أدخل" إلى الحصن "فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع" تغطى "بثوبه" ليخفي شخصه كي لا يعرف "كأنه يقضي حاجته، وقد دخل الناس" ذكر البخاري أيضا في رواية يوسف عن أبي إسحاق عن البراء سبب تأخير غلق الباب فقال، قال: أي ابن عتيك، فتلطفت أن أدخل الحصن ففقدوا حمارا لهم، فخرجوا بقبس يطلبونه فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة "فهتف به البواب" قال الحافظ: أي ناداه، ولم أقف على اسمه "يا عبد الله". قال الحافظ: لم يرد اسمه العلم لأنه لو كان كذلك لعرفه، والواقع أنه كان مستخفيا منه فالذي يظهر أنه أراد معناه الحقيقي، لأن الجميع عبيد الله "إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب". وفي رواية يوسف بن عمر ثم نادى صاحب الباب: من أراد أن يدخل فليدخل قبل أن أغلقه، ومقتضاهما أن عادته أن لا يمنع الداخلين، ومقتضى قوله متلطف وتلطفت أن عادته منعهم، فيمكن أنها عادته إذا ارتاب في الداخل وابن عتيك لما تقنع وجلس على تلك الهيئة ظن أنه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 فدخلت, فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الأغاليق على وتد، قال: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب. وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علالي له، فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجلعت كلما   أهل الحصن وأنه من جملة من خرج لطلب الحمار الذي فقدوه "فدخلت فكمنت" بفتح الكاف والميم، أي: اختبأت هكذا في رواية إسرائيل عن جده عن البراء عند البخاري بإبهام موضع كونه. وفي رواية يوسف عن جده عن البراء عنده أيضا، فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، "فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق" بعين مهملة ولام مشددة "الأغاليق" بفتح الهمزة والغين المعجمة، جمع غلق بفتح أوله ما يغلق به، والمراد هنا المفاتيح لأنها يفتح بها ويغلق كذا في رواية أبي ذر، ولغيره بالعين المهملة وهو المفتاح بلا أسنان قاله في الفتح واللغة لم تنحصر في المصباح والقاموس والمختار فلا يتوقف في ألفاظ المروية في أصح الصحيح بأنهم لم يذكروا الأغاليق بالمعجمة ولا ذكر المصباح في معنى المهملة المفتاح "على وتد" بفتح الواو وكسر الفوقية، ولأبي ذر على ود بفتح الواو وشد الدال، أي: وتد. وفي رواية يوسف وضع مفتاح الحصن في كوة بالفتح وقد تضم، وقيل: بالضم النافذة، وبالفتح غيرها فكأنه وضعها على وتد داخل الكوة. "قال" ابن عتيك: "فقمت إلى الأقاليد" بالقاف جمع إقليد، أي: المفاتيح "فأخذتها ففتحت الباب". وفي رواية يوسف: ففتحت باب الحصن. "وكان أبو رافع يسمر" بضم أوله وسكون ثانية مبني للمفعول، أي: يتحدث "عنده" ليلا. وفي رواية يوسف: فتعشوا عند أبي رافع، وتحدثوا حتى ذهبت ساعة من الليل. "وكان في علالي" بفتح العين المهملة، وتخفيف اللام فألف فلام مكسورة فتحتية مشددة، جمع علية بالضم وكسر اللام مشددة، أي: غرفة "له". وفي رواية ابن إسحاق: وكان في علية له إليها عجلة. قال الحافظ: والعجلة بفتح المهملة والجيم، السلم من الخشب، وقيده ابن قتيبة بخشب النخل، "فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه" أفاد هذا أن محالهم داخل الحصن الذي أغلقه البواب، وبه صرح في رواية يوسف فقال: ثم رجعوا إلى بيوتهم داخل الحصن، "فجعلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 فتحت بابا أغلقت علي من داخل، فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت، فقلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ فقال: لأمك الويل، إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف. قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ضبيب السيف   كلما فتحت بابا أغلق علي من داخل" قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إليّ حتى أقتله، هذا أسقطه المصنف من البخاري في هذه الرواية. وفي رواية يوسف: فلما هدأت الأصوات ولا أسمع خرجت ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة فأخذته، ففتحت به باب الحصن فقلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل، ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها عليهم من ظاهر، ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم "فانتيهت إليه فإذا هو في بيت مظلم". زاد يوسف: قد طفئ سراجه، "وسط" أي: بين، "عياله" لا أنه وسطهم حقيقة فلا ينافي قوله "لا أدري أين هو من البيت" أي: خصوص المكان الذي هو فيه، "قلت" ولغير أبي ذر فقلت: "أبا رافع! " لأعرف موضعه، ولغير أبي ذر: يا أبا رافع، "قال: من هذا؟ فأهويت". قال الحافظ وغيره، أي: قصدت. "نحو" صاحب "الصوت". وفي رواية يوسف: فعمدت نحو الصوت. "فأضربه ضربة بالسيف" بلفظ المضارع مبالغة، والأصل ضربته لاستحضار صورة الحال. "وأنا" أي: الحال أني "دهش" بفتح الدال المهملة وكسر الهاء فمعجمة، صفة مشبهة، أي: حيران. ولأبي ذر: داهش، بألف بعد الدال، "فما أغنيت شيئا" أي: فلم أقتله، "وصاح" أبو رافع "فخرجت من البيت فأمكث" بهمزة قبل الميم آخره مثلثة "غير بعيد ثم دخلت عليه" كأني أغيثه وغيرت صوتي "فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع" في حديث عبد الله بن أنيس عند الحاكم فقالت امرأته: يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك، قال: ثكلتك أمك وأين عبد الله بن عتيك؟ "قال: لأمك" خبر مبتدؤه "الويل". قال المصنف: وهو دعاء عليه. وقال شيخنا: أتى بالويل للتعجب. "إن رجلا في البيت ضربني قبل بالسيف، قال: فأضربه أثخنته" بفتح الهمزة وسكون المثلثة وفتح الخاء المعجمة والنون بعدها فوقية، أي: الضربة. وفي نسخة بسكون النون، أي: بالغت في جراحته "ولم أقتله ثم" بعد أن بعدت عنه، جئت "ووضعت ضبيب السيف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 في بطنه، حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قد قتلته. وفي رواية له: ثم جئت كأني أغيثه فقلت: ما لك يا أبا رافع؟ وغيرت الصوت فقال: لأمك الويل، دخل علي رجل فضربني، فعمدت إليه أخرى فأضربه، فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله، قال: ثم جئت وغيرت صوتي، كهيئة المغيث   قال الحافظ: بضاد معجمة مفتوحة وموحدتين وزن رغيف. قال الخطابي: هكذا يروى وما أراه محفوظا، وإنما هو ظبة السيف وهو حده، ويجمع على ظبات قال: وضبيب لا معنى له هنا لأنه سيلان الدم من الفم. وقال عياض: هو في رواية أبي ذر بالصاد المهملة، وكذا ذكره الحربي، وقال: أظنه طرفه. وفي رواية غير أبي ذر بالمعجمة وهو حد السيف انتهى. وقول الخطابي لا معنى له مردود. ففي القاموس: ضبيب السيف بالمعجمة حده، وسبقه عياض لمثله كما ترى. "في بطنه" وصدر المصنف بظبة، وقال: بضم الظاء، المشالة المعجمة وفتح الموحدة المخففة فهاء تأنيث كما في الفروع وأصله. قال في المحكم: الظبة حد سيف وسنان ونصل وخنجر وما أشبه ذلك، والجمع ظبات وظُبون وظِبون، أي: بالضم والكسر، وظبي، أي: كمدي، "حتى أخذ،" أي: دخل، "في ظهره فعرفت أن قد قتلته" وهذا صريح في أن فاعل ذلك كله ابن عتيك، وهو الصواب كما يأتي. "وفي رواية له" للبخاري أيضا من طريق يوسف عن أبي إسحاق عن البراء، فذكر الحديث بنحو السابق وقد بينا زياداته إلى أن قال: ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه فلم أدر أين الرجل، فقلت: يا أبا رافع! قال: من هذا؟ قال: فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئا. قال "ثم جئت كأني أغيثه" بهمزة مضمومة فغين معجمة مكسورة ومثلثة، من الإغاثة "فقلت: ما لك" بفتح اللام، أي: ما شأنك "أبا رافع؟ وغيرت الصوت فقال: لأمك الويل دخل علي رجل فضربني" بالسيف "فعمدت" بفتحتين، قصدت "إليه أخرى فأضربه فلم تغن" تنفع الضربة "شيئا فصاح وقام أهله". وفي رواية ابن إسحاق: فصاحت امرأته فنوهت بنا فجعلنا نرفع السيف عليها ثم نذكر نهييه صلى الله عليه وسلم فنكف عنها، ولولا ذلك لفرغنا منها بليل، "ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 فإذا هو مستلق على ظهره، فأضع السيف في بطنه، ثم أنكفئ عليه، فسمعت صوت العظم. فجعلت أفتح الأبواب حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة، فلما صاح الديك قام الناعي على السور   وإذا" بالواو، وفي رواية بالفاء، "هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه، ثم أنكفئ" بفتح الهمزة وسكون النون، أي: أنقلب، "عليه حتى سمعت صوت العظم" وصريح هذه الرواية أنه لما ضربه الثانية بعد عنه ثم رجع فوضع فيه السيف، وظاهر التي قبلها أنه لما رأى ضربته الأولى لم تفد وضع السيف فيه، فيحتمل تلك على هذه جمعا بينهما، لأن الروايات يفسر بعضها بعضا، ثم عاد المؤلف لتتميم الرواية الأولى دون بيان فقال عقب قوله فيها: فعرفت أني قتلته. "فجعلت أفتح الأبواب" بابا بابا هكذا في الرواية، "حتى انتهيت إلى درجة له فوضعت رجلي" قال المصنف بالإفراد، "وأنا أرى" بضم الهمزة، أظن "أني قد انتهيت إلى الأرض" لأنه كان سيئ أي: ضعيف البصر، كما عند ابن إسحاق: "فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها" بخفة الصاد "بعمامة". وفي رواية يوسف عقب قوله: صوت العظم ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط منه فانخلعت رجلي فعصبتها. قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت الساق. وقال الداودي: هذا اختلاف، وقد يتجوز في التعبير بأحدهما عن الآخر، لأن الخلع هو زوال المفصل من غير بينونة، أي بخلاف الكسر. قال الحافظ: والجمع بينهما بالحمل على وقوعهما معا أولى، ووقع في رواية ابن إسحاق: فوثبت يده وهو وهم، والصواب رجله، وإن كان محفوظا، فوقع جميع ذلك. وذكر ابن إسحاق، أنهم كمنوا في نهر، وأن اليهود أوقدوا النيران، وذهبوا في كل وجه، يطلبون حتى إذا يئسوا رجعوا إليه، وهو يقضي انتهى، وأسقط المصنف من هذه الرواية عقب بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته، "فلما صاح الديك قام الناعي" وفي رواية يوسف: فلما كان في وجه الصبح، صعد الناعية "على السور،" فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، كما في رواية إسرائيل هذه، وكذا في رواية أخيه يوسف. قال الحافظ: كذا ثبت أنعي بفتح الين في الروايات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: "ابسط رجلك". فمسحها، فكأنما لم أشتكها قط   قال ابن التين: هي لغة، والمعروف أنعو، والنعي خبر الموت، وذكر الأصمعي أن العرب كانوا إذا مات فيهم الكبير، ركب راكب فرسا، وسار فقال: أنعي فلانا انتهى. وعند ابن إسحاق قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات، فقال: رجل منا قال الواقدي: هو الأسود بن خزاعي، أنا أذهب فأنظر حتى دخل في الناس، فوجدتها، أي امرأته، ورجال يهود حوله، وفي يده المصباح، تنظر في وجهه، وتحدثهم، وتقول: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم كذبت نفسي، وقلت: أتى ابن عتيك بهذه البلاد، ثم نظرت في وجهه، وقالت فاظ وإله يهود، فما سمعت من كلمة، كانت ألذ في نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر، وفاظ بفاء، فألف فمعجمة مشالة: مات. "فانطلقت إلى أصحابي، فقلت النجاء" قال الحافظ: بالنصب، أي أسرعوا، وقال المصنف: مهموز ممدود منصوب مفعول مطلق، والمد أشهر، إذا أفرد، فإن كرر قصر، أي: أسرعوا، "فقد قتل الله أبا رافع". وفي رواية يوسف عقب قوله: فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل، فقلت: انطلقوا، فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية، فلما كان وجه الصبح، صعد الناعية، فقال: أنعي أبا رافع، فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته، وهذ ظاهره التعرض مع قوله "فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته" بما وقع، فقال: "ابسط رجلك" , أسقط المصنف قوله: فبسطت رجلي، "فمسحها" بيده المباركة، "فكأنما" بما زائدة في رواية أبي الوقت، وأبي ذر ولغيرهما، فكأنها بالهاء، أي فكأن رجلي "لم أشتكها قط"، أي: لم أشتك منها، فحذف الجار، فهذا مخالف لقوله: ما بي قلبة بفتح القاف واللام والموحدة، أي علة أنقلب بها. قال الحافظ: فيحمل على أنه، لما سقط من الدرجة، وقع له جميع ما تقدم، لكنه من شدة ما كان فيه من الاهتمام بالأمر، ما أحس بالألم، وأعين على المشي أولا، وعليه يدل قوله: ما بي قلبة، ثم لما تمادى عليه المشي، أحس بالألم، فحمله أصحابه، كما وقع في رواية ابن إسحاق، ثم لما أتاه صلى الله عليه وسلم فزال عنه جميع الألم ببركته. وفي حديث عبد الله بن أنيس عند الحاكم: وتوجهنا من خيبر، فكنا نكمن النهار، ونسير الليل، وإذا كمنا، أقعدنا منا واحدًا يحرسنا، فإذا رأى ما يخافه، أشار إلينا، فلما قربنا من المدينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 هذا لفظ رواية البخاري. وفي رواية محمد بن سعد: أن الذي قتله عبد الله بن أنيس: والصواب: أن الذي دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما في البخاري.   كانت نوبتي، فأشرت إليهم فخرجوا سراعا، ثم لحقتهم، فدخلنا المدينة، فقالوا: ماذا رأيت؟ قلت: ما رأيت شيئا ولكن خشيت أن تكونوا عييتم أن يحملكم الفزع. وروى ابن منده عند عتيك، قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل ابن أبي الحقيق، وهو على المنبر فلما رآنا قال: "أفلحت الوجوه". وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة، وأصر، وقتل من أعان عليه صلى الله عليه وسلم، بيده أو ماله، أو لسانه، وجواز التجسس على أهل الحرب، وتطلب غرتهم والأخذ بالشدة في محاربتهم، وإيهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين لكثير من المشركين، والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته، واعتماده على صوت الناعي بموته. "هذا لفظ" مقصوده من "رواية البخاري" وإلا فقد علمت أنه أسقط منه ألفاظا، "و" وقع "في رواية محمد بن سعد"، الحافظ المشهور، "أن الذي قتل عبد الله بن أنيس" وكذا وقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، مرسلا فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس في بطنه، حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني أي حسبي حسبي الحديث, وفي فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه فقال صلى الله عليه وسلم: "هاتوا أسيافكم". فجئناه به، فنظر إليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس: "هذا قتله أرى فيه أثر الطعام"، ومعلوم أن المرسل لا يعادل الصحيح المسند. "و" لذا كان "الصواب أن الذي دخل عليه وقتله عبد الله بن عتيك وحده، كما في البخاري". وعند ابن إسحاق، فقال حسن يذكر قتله، وقتل كعب بن الأشرف: لله در عصابة لاقيتهم ... يابن الحقيق وأنت يابن الأشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين معرف حتى أتوكم في محل بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفف مستنصرين لنصر دين نبيهم ... مستصغرين لكل أمر مجحف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 " سرية ابن رواحة ": ثم سرية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى أُسَيْر بن رزام اليهودي بخيبر في شوال سنة ست. وكان سببها أنه لما قتل أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، أمرت يهود عليها أسيرا، فسار في غطفان وغيرهم   سرية ابن رواحة: "ثم سرية عبد الله بن رواحة" بن ثعلبة بن امرئ القيس، الأنصاري، الخزرجي، الشاعر، أحد السابقين, البدري، استشهد بمؤتة، وكان ثالث الأمراء بها في جمادى الأولى سنة ثمان. روى له النسائي، وابن ماجه، وأبو داود في الناسخ. "رضي الله عنه إلى أسير" بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وسكون التحتية وبالراء، كذا يقول ابن سعد وغيره، كابن إسحاق يقول: يسير بضم التحتية، وفتح السين المهملة "ابن رزام" براء مكسورة، فزاي مخففة، فألف فميم، "اليهودي بخيبر في شوال سنة ست"، كما قاله ابن سعد، وجزم به اليعمري، فاقتفاه المصنف، فهو صريح في أنه قبل فتح خيبر، لأنه إما في آخر سنة ست، أو في المحرم سنة سبع، كما يأتي. وذكر البيهقي، وتبعه في زاد المعاد هذه السرية بعد خيبر. قال البرهان: وهو الذي يظهر، فإنهم قالوا له، إنه صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر، وهذا لا يناسب أنها كانت قبل فتحها. وقال الشامي: كونها قبل خيبر أظهر لما في القصة، أنه سار في غطفان وغيرهم لحربه صلى الله عليه وسلم بموافقة يهود، وذلك قبل فتح خيبر قطعا إذ لم يصدر من يهود بعد فتحها شيء من ذلك، وقول الصحابة: بعثنا إليك ليستعملك، لا ينافي ذلك لأن مرادهم باستعماله المصالحة، وترك القتال والاتفاق على أمر يحصل به ذلك، "وكان سببها أنه لما قتل" بالبناء للمفعول، ونائبه "أبو رافع سلام بن أبي الحقيق"، بدل من أبو رافع، كما هو ظاهر "أمرت" بفتح أوله، والميم المشددة، والراء وسكون التاء "يهود عليها أسيرا" أي: جعلته أميرا عليها فقام فيهم، فقال: والله ما سار محمد إلى أحد من يهود، ولا بعث أحدًا من أصحابه إلا أصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لم يصنع أصحابي، فقالوا: وما عسيت أن تصنع؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم ونسير إلى محمد في عقر داره بفتح العين، وضمها وسكون القاف، أي: أصلها فإنه لم يغز أحد في عقر داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد، قالوا: نعم ما رأيت، "فسار في غطفان وغيرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 يجمعهم لحربه صلى الله عليه وسلم. وبلغه ذلك فوجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرا، فسأل عن خبره وغرته، فأخبر بذلك، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. فندب عليه الصلاة والسلام الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا، فبعث عليهم عبد الله بن رواحة، فقدموا عليه فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه، يستعملك على خيبر ويحسن إليك، فطمع في ذلك فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع رجل رديف من المسلمين، حتى إذا كانوا بقرقرة ضربه عبد الله بن أنيس وكان في السرية   يجمعهم لحربه صلى الله عليه وسلم وبلغه" صلى الله عليه وسلم "ذلك، فوجه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر، في شهر رمضان سرا" ليستكشف له الخبر، "فسأل عن خبره وغرته" بكسر الغين المعجمة، وشد الراء مفتوحة، الغفلة، "فأخبر بذلك"، وذلك أنه أتى ناحية خيبر، فدخل في الحوائط، وفرق الثلاثة في ثلاثة من حصونها، فوعوا ما سمعوا من أسير وغيره، ثم خرجوا بعد ثلاثة أيام، "فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم" لليال بقين من رمضان، "فأخبره" بكل ما رآه، وسمع وقدم عليه أيضا خارجه بن حسيل بمهملتين مصغر، فاستخبره صلى الله عليه وسلم ما وراءه، فقال: تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب يهود. قال الشامي: ولم أر خارجة في كتب الصحابة، "فندب عليه الصلاة والسلام الناس، فانتدب له ثلاثون رجلا فبعث عليهم عبد الله بن رواحة، فقدموا عليه". زاد ابن سعد: فقالوا: نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟ قال: نعم، ولي منكم مثل ذلك، فقالوا: نعم، "فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك، لتخرج إليه، يستعملك على خيبر، ويحسن إليك، فطمع في ذلك،" فشاور يهود، فخالفوه في الخروج، وقالوا: ما كان محمد يستعمل رجلا ن بني إسرائيل، قال: بلى قد مللنا الحرب، "وخرج" وعند ابن إسحاق: فلما قدموا عليه كلموه، وقربوا له، وقالوا: إنك إن قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم استعملك وأكرمك، فلم يزالوا به حتى خرج معهم، "وخرج معه ثلاثون رجلا من اليهود مع كل رجل رديف من المسلمين" ظاهره أن المسلمين خرجوا مشاة، حتى أردفتهم اليهود. وعند ابن إسحاق فحمله، أي أسيرا عبد الله بن أنيس على بعيره، "حتى إذا كانوا بقرقرة" بفتح القافين، بعد كل راء، الأولى، ساكنة والثانية مفتوحة فهاء تأنيث. قال ابن إسحاق على ستة أميال من خيبر، "ضربه عبد الله بن أنيس" حين فطن لغدره، "وكان في السرية" مردفا أسيرا، ولفظ ابن إسحاق: حتى إذا كانوا بالقرقرة من خيبر على ستة أميال، ندم أسير على مسيره إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 بالسيف فسقط عن بعيره ومالوا على أصحابه فقتلوهم غير رجل ولم يصب من المسلمين أحد، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قد نجاكم الهل من القوم الظالمين".   رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففطن له عبد الله بن أنيس، وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف، فقطع رجله وضربه أسير بمخرش في يده من شوحط، فأمه، وعند ابن سعد: وأهوى أسير بيده إلى سيفي، ففطنت له، فدفعت بعيري، وقلت: غدرا أي عدو الله! مرتين، فنزلت، فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير، فضربته "بالسيف" فأندرت عامة فخذه، وساقه، "فسقط عن بعيره" إضافة إليه لركوبه عليه، وإن كان لابن أنيس، وقوله: أهوى إليّ سيفي، يقتضي أنه كان رديفه، كما هو الواقع في رواية ابن أسحاق، ودفعه البعير بمعنى اقتحامه به لئلا يعينه أصحابه، كما أفاده قوله: فنزلت وسقت ... إلخ، فلا تخالف بين الروايتين كما زعم، ومخرش بكسر الميم، فسكون الخاء المعجمة، فراء مفتوحة فشين معجمة، من شوحط بمعجمة، فواو، ساكنة فحاء مفتوحة فطاء مهملتين، من شجر الجبال، يتخذ منه القسي، "ومالوا على أصحابه، فقتلوهم" لفظ ابن سعد. وعند ابن إسحاق: ومال كل واحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى صاحبه من يهود، فقتله "غير رجل،" واحد أعجزنا شدا قاله ابن سعد، أي جريا، وقال ابن إسحاق: إلا رجلا واحدًا أفلت على رجليه، "ولم يصب من المسلمين أحد" ولله الحمد، ثم بهذا الذي سقناه من عند ابن سعد وابن إسحاق علم وجه قتلهم لهم بعد التأمين، لكونهم غدروا وما كان ينبغي للمصنف إسقاطه لإيهامه "ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم". زاد في رواية: فبينا هو يحدث أصحابه إذ قالوا: تمشوا بنا إلى الثنية لنبحث عن أصحابنا، فخرجوا معه، فلما أشرفوا عليها إذا هم بسرعان أصحابنا، فجلس صلى الله عليه وسلم في أصحابه فانتهينا إليه، فحدثناه الحديث، فقال: "قد نجاكم الله من القوم الظالمين" , وعند ابن عائذ وابن إسحاق: وتفل صلى الله عليه وسلم على شجة عبد الله بن أنيس، فلم تفلح، ولم تؤذه حتى مات، زاد في رواية: وقد كان العظم نغل بنون ومعجمة مكسورة ولام، فسد ومسح وجهي، ودعا لي، وقطع لي قطعة من عصاه، فقال: "أمسك هذه معك، علامة بيني وبينك يوم القيامة، أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متحصرا"، فلما دفن عبد الله، جعلت معه على جلده دون ثيابه، ومر له مثل ذلك لما جاء برأس الهذلي، قيل: فيحتمل أن هذا وهم من بعض الرواة، وأنه لا مانع من تكرار إعطائه عصاه، وأنه جعل الصعوين بين جلده وكفنه والشارع، إذا خص بعض صحبه بشيء، لا يسأل لِمَ لَمْ يفعله مع بقية الصحابة، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 " قصة عكل وعرينة ": سرية كرز بن جابر الفهري -بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي- ابن جابر الفهري، إلى العرنيين -بضم العين وفتح الراء المهملتين- حي من قضاعة، وحي من بجيلة، والمراد هنا الثاني، كذا ذكره ابن عقبة في المغازي. وذكر ابن إسحاق في المغازي: أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها البخاري بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها. وعند الواقدي: في شوال منها   قصة عكل وعرينة: "سرية كرز بن جابر" القرشي "الفهري" بكسر الفاء نسبة إلى جده فهر بن مالك بن النضر، أحد الرؤساء من قريش، المستشهد يوم الفتح، وهو "بضم الكاف، وسكون الراء، بعدها زاي إلى العرنيين، بضم العين، وفتح الراء المهملتين" نسبة إلى عرينة، "حي من قضاعة وحي من بجيلة" بفتح الموحدة، وكسر الجيم وسكون التحتية، "والمراد هنا الثاني، كذا ذكره" أي كونهم من بجيلة، موسى "ابن عقبة في المغازي" وكذا رواه الطبراني عن أنس، ولعبد الرازق عن أبي هريرة، بإسناد ساقط، أنهم من بني فزارة، وهو غلط؛ لأن بني فزارة من مضر، لا يجتمعون مع عكل، ولا مع عرينة أصلا، ذكره الحافظ متصلا بقوله. "وذكر ابن إسحاق في المغازي" فليس كلامه مقابلا، كما قد يتوهمه غبي من المصنف، بل مستأنف لإفادة "أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت" ذو قرد عند ابن إسحاق في رواية البكائي "في جمادى الآخرة سنة ست"، فتكون هذه السرية عنده فيه لقوله فأتى بهم كرز، مرجع المصطفى من ذي قرد، وأما كون ذي قرد في ربيع، فهو قول ابن سعد، فلا يحصل عليه كلام ابن إسحاق، لأنه قائل بغيره. قال الحافظ: وأشار بعض أهل المغازي إلى أن قصة العرنيين متحدة مع غزوة ذي قرد، والراجح خلافه "وذكرها" أي: سرية العرنيين، "البخاري" وضعا "بعد الحديبية" وقبل خيبر، "وكانت" الحديبية "في" هلال "ذي القعدة منها"، أي: سنة ست، والبعدية صادقة، ببقية السنة، وبمحرم سنة سبع، لأنه سار إلى خيبر فيه. "وعند الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، "كانت" هذه السرية "في شوال منها" من سنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وتبعه ابن سعد وابن حبان. وفي البخاري -في كتاب المغازي- عن أنس أن ناسا من عكل -يعني بضم العين وسكون الكاف- وعرينة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكلموا بالإسلام، فقالوا   ست "وتبعه" تلميذه "ابن سعد وابن حبان" وغيرهما، وزعم أن ضمير كانت للحديبية خلاف المنقول عن الواقدي وتابعيه، فالحاصل أن أصحاب المغازي اتفقوا على أنها سنة ست، واختلفوا في الشهر: جمادى أو شوال، وأما البخاري، فصنيعه يقتضي أنها في آخر الحجة، أو المحرم، ولا يشكل بأن المصطفى عاد من الحديبية في أواخر ذي الحجة، فلم يكن بالمدينة والسرية، خرجت وعادت، وهو بها كما زعم، لأنه لما عاد في أواخر الحجة، بعثها لما جاءه الخبر أول النهار، وعادت إليه لما ارتفع النهار، كما في حديث أنس عند البخاري ومسلم، لأن المحل قريب، فسارت وعادت في بعض يوم. "وفي البخاري في كتاب المغازي" والطهارة، والمحاربين، والجهاد، والتفسير، والديات من طرق عديدة، لكنه اختار المغازي، لأن سعيد بن أبي عروبة راويه، عن قتادة، "عن أنس" لم يشك، بل قال: "إن ناسا من عكل بضم العين" المهملة، "وسكون الكاف" فلام قبيلة من تيم الرباب، "وعرينة" بواو العطف، وللبخاري في الزكاة من عرينة فقط، وله في الجهاد والمحاربين من عكل فقط، وله في الطهارة من عكل أو عرينة بالشك. قال الحافظ: والصواب بالواو العاطفة، ويؤيده ما رواه أبو عوانة، عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة، وثلاثة من عكل، ولا يخالفه ما للبخاري في الجهاد، والديات عن أنس، أن ناسا من عكل ثمانية، لاحتمال أن الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب. انتهى. قال شيخنا: لما قرأ البخاري، وهو جواب تام بالنسبة إلى العدو، ليس بتام بالنسبة لرواية عكل، ولم يقل: عرينة، ورواية عرينة ولم يقل: عكل، فإما أنه اكتفى بذكر إحدى القبيلتين عن الأخرى، أو تجوز بإحداهما إلى ما يشمل الأخرى، قلت: الحافظ أشار بقوله الصواب، رواية واو العطف إلى أن روايتي النقص نقص في السماع، فتقدم رواية من زاد، لأن معه زيادة علم، وهو ثقة زيادة مقبولة. "قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم" وللبخاري في المحاربين، فأسلموا، وله في الديات، فبايعوه على الإسلام، فكأنهم لم يثبتوا عليه، نزله هنا منزلة العدم، فقال: "وتكلموا بالإسلام". قال المصنف: أي تلفظوا بكلمة التوحيد، وأظهروا الإسلام. "فقالوا": بالفاء، كما رأيته في نسخ البخاري، ونقله عنه في الفتح، والمصنف في الطهارة بالفاء، وكذا في نسخ المواهب الصحيحة، فما في بعضها بالواو تحريف، وليست على فرض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 يا نبي الله، إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل رديف، واستوخموا المدينة، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وراعي   صحتها للتفسير، بل استئنافية، لأن تلفظهم بالتوحيد غير قولهم: "يا نبي الله إن كنا أهل ضرع" بفتح المعجمة وسكون الراء، ماشية وإبل، قال المصنف, "ولم نكن أهل رديف، واستوخموا المدينة" أي: كرهوا الإقامة بها، لما فيها من الوخم، أو لم يوافقهم طعامها. وفي الطهارة والجهاد: فاجتووا المدينة بجيم وواوين. قال ابن العربي: وهو بمعنى استوخموا. وقال غيره: الجواء داء يصيب الجوف. وله في الطب: أن ناسا كان بهم سقم، فقالوا: يا رسول الله آونا وأطعمنا، فلما صحوا، قالوا: إن المدينة وخمة. قال الحافظ: والظاهر أنهم قدموا سقاما، فلما صحوا من السقم، كرهوا الإقامة بالمدينة لوخمها، فأما السقم الذي كان بهم، فهو الهزال الشديد، والجهد من الجوع. فعند أبي عوانة، كان بهم هزال، مصفرة ألوانهم، وأما الوخم الذي شكا منه بعد أن صحت أجسامهم، فهو من حمى المدينة. ولمسلم عن أنس ووقع بالمدينة الموم، أي بضم الميم وسكون الواو. قال: هو البرسام، أي بكسر الموحدة سرياني معرب اختلال العقل، وورم الصدر، وهو المراد. فعند أبي عوانة: فعظمت بطونهم. "فأمرهم" ولأبي ذر لهم بزيادة لام، وكذا البخاري في المحاربين. قال الحافظ: فيحتمل أنها زائدة، أو للتعليل، أو لشبه الملك، أو الاختصاص وليست للتمليك. "رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود" بفتح الذال المعجمة، وسكون الواو ودال مهملة، من الإبل ما بين الثلاثة إلى العشرة، "وراعي" بالياء. ورواية أبي ذر ولغيره: راع كقاض، أي فأمرهم أن يلحقوا بهما. وللبخاري أيضا: فأمرهم أن يلحقوا براعيه، وله أيضا: فأمرهم بلقاح. وعند أبي عوانة: أنهم بدءوا بطلب الخروج، فقالوا: يا رسول الله قد وقع هذا الوجع، فلو أذنت لنا لخرجنا إلى الإبل. وللبخاري في الجهاد: أنهم قالوا: يا رسول الله ابغنا رسلا، أي: اطلب لنا لبنا، قال: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود". وفي الديات: هذه نعم لنا تخرج فاخرجوا فيها، وظاهر هذا أن الإبل له صلى الله عليه وسلم، وصرح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها. فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة، كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم   بذلك البخاري في المحاربين، فقال: إلا أن تلحقوا بإبل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وله فيه أيضا وفي الزكاة: فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة. قال الحافظ: والجمع بينهما أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة وصادف بعثه صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء الخروج إلى الصحراء لشرب الألبان فأمرهم بالخروج مع راعيه، فخرجوا معه إلى الإبل، ففعلوا ما فعلوا، وظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المدينة تنفي خبثها". "وأمرهم أن يخرجوا فيه،" أي مع الذود لمصادفتهم خروج راعي المصطفى بإبله، فلا تخالف بين الروايات كما علمت، "فيشربوا من ألبانها وأبوالها" أي: الإبل. وله في الديات: فاشربوا من ألبانها وأبوالها بصيغة الأمر الصريح. وفي الزكاة: فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا، أي لأنهم أبناء سبيل. وأما لقاح المصطفى فبإذنه، وفيه حجة لمالك وأحمد ومن وافقهما على طهارة بول مأكول اللحم، نصا في الإبل وقياسا وفيه حجة لمالك وأحمد ومن وافقهما على طهارة بول مأكول اللحم، نصا في الإبل وقياسا في غيرها، فإنه لو كان نجسا ما أمرهم بالتداول، به، وقد قال: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، رواه أبو داود وغيره، وخالفهم أبو حنيفة والشافعي والجمهور، فذهبوا إلى نجاسة الأبوال كلها، وحملوا الحديث على التداوي، فلا يفيد الإباحة في غير حال الضرورة، وحديث: "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". على الاختيار، وإلا فلا حرمة كالميتة للمضطر، وفيه أنه لم يتعين طريقا للدواء. وقد روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعا: "إن في أبوال الإبل شفاء للذرية بطونهم، والذرب" بمعجمة، فساد المعدة، فهذا صريح أنه حالة الاختيار وهو يمنع حمل الحديث على ما ذكروه، وبسط الجدال يطول. "فانطلقوا" زاد في الديات: فشربوا، وفي الطهارة: وصحوا، وفي الجهاد: وسمنوا، وللإسماعيلي، ورجعت ألوانهم، "حتى إذا كانوا ناحية الحرة" بفتح الحاء المهملة وشد الراء أرض ذت حجارة سود بظاهر المدينة كأنها أحرقت بالنار، كانت بها الواقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية، "كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعيه عليه السلام، وفي ذكره بالإفراد، وكذا لمسلم لكن عنده من رواية عبد العزيز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 واستاقوا الذود. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسمروا أعينهم   وعند ابن حبان من رواية يحيى بن سعيد، كلاهما عن أنس، ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم بصيغة الجمع، فيحتمل أن الإبل رعاة, فقتل بعضهم مع راعي اللقاح، فاقتصر بعض الرواة على راعيه عليه السلام، وذكر بعضهم معه غيره، ويحتمل أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوز في الإتيان بصيغة الجمع وهذا أرجح، لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار، "و" ذلك أنهم لما "استاقوا" من السوق، وهو السير العنيف "الذود" أدركهم، فقاتلهم فقتلوه، ومثلوا به "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم". وفي الجهاد: فجاء الصريخ بمعجمة فعيل بمعنى فاعل، أي: صرخ بالإعلام بما وقع منهم. قال الحافظ: ولم أقف على اسمه، والظاهر أنه راعي إبل الصدقة وهو أحد الراعيين، كما في صحيح أبي عوانة، ولفظه: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي، وذهبوا بالإبل، "فبعث الطلب في آثارهم" أي وراءهم، ويروى أنه قال: "اللهم أعم عليهم الطريق، واجعله عليهم أضيق من مسك جمل"، فعمى الله عليهم السبيل. وفي الطهارة: فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم. وعند الواقدي: فبعث في آثارهم، فغدوا فإذا هم بامرأة تحمل كتف بعير، فسألوها، فقالت: مررت بقوم قد نحروا بعيرا، فأعطوني هذا وهم بتلك المفازة، فساروا، فوجدوهم، فأسروهم، فلم يفلت منهم إنسان، فربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا المدينة، "فأمر بهم" صلى الله عليه وسلم "فسمروا أعينهم" بخفة الميم، ولأبي ذر بشدها. قال المنذري: والأول أشهر وأوجه. قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أنه بالراء، ووقع لمسلم من رواية عبد العزيز عن أنس وسمل بالتخفيف واللام. قال الخطابي: السمل فقء العين بأي شيء كان. قال أبو ذؤيب الهذلي: والعين بعدهم كان حداقها ... سملت بشوك فهي عورا تدمع قال: والسمر لغة في السمل ومخرجهما متقارب، وقد يكون من المسمار يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت. قلت: قد وقع التصريح بالمراد عند البخاري في الجهاد، وفي المحاربين، ولفظه: ثم أمر بمسامير، فأحميت فكحلهم بها، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف رواية اللام، لأنه فقء العين بأي شيء كان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وقطعوا أيديهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. وفي لفظ: وسمروا أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا. وفي لفظ: ولم يحسمهم، أي لم يكو مواضع القطع فينحسم الدم. وقال أنس: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاة رواه مسلم. فيكون ما فعل بهم قصاصا.   "وقطعوا" بتخفيف الطاء "أيديهم" زاد في الطهارة: وأرجلهم، وللترمذي والإسماعيلي من خلاف، وبها رد الحافظ على الداودي قوله: قطع يدي كل واحد، ورجليه، "وتركوا في ناحية الحرة" لكونها قرب المكان الذي فعلوا فيه ما فعلوا "حتى ماتوا على حالهم" وللبخاري في الطهارة: فيستسقون لا يسقون. "وفي لفظ" عند البخاري في الديات: "وسمروا أعينهم"، أي: كحلوها بالمسامير المحمية، "بالنار "فينحسم الدم" بل تركه ينزف. "وقال أنس: إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم، لأنهم سملوا أعين الرعاة" مر أن ذا الجمع إما مجاز عن المفرد، أو قتلوا من رعاة إبل الصدقة، "رواه مسلم". قال الحافظ: وقصر من اقتصر يعني اليعمري في عزوه للترمذي والنسائي "فيكون ما فعل بهم قصاصا"، كما مال إليه جماعة منهم ابن الجوزي تمسكا بهذا الحديث، وتعقبه ابن دقيق العيد، بأن المثلة وقعت فيهم من جهات، وليس في الحديث إلا السمل، فيحتاج إلى ثبوت القضية. قال الحافظ: كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي، أنهم مثلوا بالراعي، وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ، كما رواه البخاري عن قتادة بلاغا، وأخرجه أبو داود، عن قتادة عن الحسن البصري، هن هياج بتحتية ثقيلة وجيم، ابن عمران بن حصين عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. قال ابن شاهين: هذا الحديث ينسخ كل مثلة، وتعقبه ابن الجوزي، بأنه يحتاج إلى تاريخ. قال الحافظ: يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد، عن أبي هريرة في النهي، عن التعذيب بالنار بعد الإذن فيه. وقصة العرنيين قبل إسلامه، فقد حصل الإذن، ثم النهي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وفي رواية أنهم كانوا ثمانية. وعند البخاري أيضا -في المحاربين- أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل. وفي رواية قال أنس: فلقد رأيت أحدهم   وروى قتادة عن ابن سيرين: أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود. وقال موسى بن عقبة: ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة، وإلى هذا مال البخاري، وحكاه إمام الحرمين عن الشافعي، واستشكل عياض عدم سقيهم للماء، للإجماع على أن من وجب عليه القتل، فاستسقى لا يمنع، وأجاب بأنه لم يقع عن أمره صلى الله عليه وسلم ولا وقع منه نهي عن سقيهم. قال الحافظ: وهو ضعيف جدا، لأنه اطلع على ذلك، وسكوته كاف في ثبوت الحكم، وأجاب النووي، بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من معه ماء لطهارته لا يتيمم، بل يستعمله، ولو مات المرتد عطشا. وقال الخطابي: إنما فعل صلى الله عليه وسلم ذلك، لأنه أراد بهم الموت به، وقيل الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم الشفاء بها من الجوع والوخم، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا بالعطش على من عطش آل بيته رواه النسائي، فيحتمل أنهم تلك الليلة منعوا إرسال اللبن الذي كان يراح به من لقاحه كل ليلة، كما ذكره ابن سعد انتهى. "وفي رواية" عند البخاري في الجهاد من طريق أيوب. وفي الديات من طريق أبي رجاء، كلاهما عن أبي قلابة، عن أنس، "أنهم كانوا ثمانية"، ولفظه: أن رهطا، ولفظ الديات ناسا من عكل ثمانية، أو عرينة لرواية ابن جرير وأبي عوانة من طريق سعيد بن بشير عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، فيحتمل أن الثامن ليس من القبيلتين، بل من أتباعهم فلم ينسب، كما مر على الحافظ، ثم اعلم أنه رواية البخاري في المحلين التي صرح فيها، بأنهم ثمانية لم يقع فيها وعرينة، بل اقتصر على عكل كما ترى، وإنما هي روايته في المغازي لكن لم يعدهم. "وعند البخاري أيضا في" كتاب "المحاربين" من صحيحه من طريق أبي قلابة عن أنس: "أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل" وتقديم هذه عقب تاريخ وقتها كما صنع الفتح أنسب. "وفي رواية" للبخاري في الطب عن ثابت "قال أنس: فلقد رأيت أحدهم" وفي رواية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 يكدم الأرض بفيه حتى مات. وعند الدمياطي وابن سعد أن اللقاح كانت خمسة عشر لقحة -بكسر اللام وسكون القاف- ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر. وفي صحيح مسلم: أن السرية كانت قريبا من عشرين فارسا من الأنصار. وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مولى يقال له: يسار   الرجل منهم، "يكدم" بكسر الدال وضمها، أي: يعض "الأرض بفيه" ولأبي عوانة يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة "حتى مات". وللبخاري في الزكاة يعضون الحجارة حتى ماتوا، وزعم الواقدي أنهم صلبوا، والروايات الصحيحة ترده لكن عند أبي عوانة، فصلب اثنين، وقطع اثنين، وسمل اثنين، كذا ذكر ستة فقط، فإن كان محفوظا فعقوبتهم كانت موزعة قاله الحافظ. "وعند الدمياطي وابن سعد: أن اللقاح" التي للنبي صلى الله عليه وسلم المعبر عنها تارة بلفظ: فأمرهم بلقاح، وأخرى بذود، وهي التي اقتصر عليها المصنف، والمعنى واحدة، فالذود إناث الإبل كاللقاح "كانت خمسة عشر" الذي في الفتح، وهو الأولى عن ابن سعد خمس عشرة "لقحة" ونحروا منها واحدة يقال لها الحناء، وهو في ذلك تابع للواقدي، وقد ذكره الواقدي في المغازي بإسناد ضعيف مرسل انتهى "بكسر اللام وسكون القاف" جمعها لقاح بلام مكسورة وآخره مهملة، وهي النوق ذوات الألبان، "ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر" ثم هي لبون، قاله أبو عمرو ومر له مزيد. "وفي صحيح مسلم" من رواية معاوية بن قرة عن أنس " أن السرية" التي بعثت في طلبهم "كانت قريبا من عشرين فارسا من" شباب "الأنصار" قال: وبعث معهم قائفا يقص آثارهم. قال الحافظ: ولم أقف على اسم القائف ولا على اسم واحد من العشرين، لكن في مغازي الواقدي أنهم كانوا عشرين، ولم يقل من الأنصار، بل سمى منهم جماعة من المهاجرين منهم بريدة بن الحصيب وسلمة بن الأكوع الأسلميان، وجندب ورافع بن مكيث الجهنيان، وأبو ذر وأبو رهم الغفاريان، وبلال بن الحارث وعبد الله بن عمرو بن عوف المزنيان، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف، لكن يحتمل أن من لم يسمه الأنصار فأطلق الأنصار تغليبا، أو قيل للجمع أنصار بالمعنى الأعم انتهى. "وروى ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مولى يقال له يسار" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه، وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة، وجاءوا -وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم- وغدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك في عينيه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين، أميرهم كرز بن جابر الفهري، فلحقهم فجاء بهم إليه، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. قال ابن كثير: غريب جدا. وروى ابن جرير عن محمد بن إبراهيم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة ... الحديث. وفيه قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفرا من   بتحتية فمهملة خفيفة. زاد ابن إسحاق: أصابه في غزوة بني ثعلبة، "فنظر إليه يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة، فكان بها. قال: فأظهر قوم الإسلام من عرينة وجاءوا وهم مرضى موعوكون" اسم مفعول من وعكته الحمى صفة مبينة لمرضى، "قد عظمت بطونهم" وههنا حذف أي: فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى اللقاح، فلما صحوا ساقوها "وغدوا على يسار، فذبحوه وجعلوا الشوك في عينيه" قبل موته. فعند ابن سعد: ورواه الواقدي بسند مرسل: غدوا على اللقاح فاستاقوها، فأدركهم يسار فقاتلهم، فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه فمات، وصحف من قال: يديه ورجليه بالتثنية، لأنه خلاف الرواية بالإفراد، "فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين أميرهم كرز بن جابر" بن حسل بكسر الحاء وسكون السين المهملتين ولام، ابن الأحب بفتح المهملة وبموحدة ابن حبيب بن عمرو بن سنان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر، "الفهري" نسبة لجده فهر المذكور، "فلحقهم فجاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم" من خلاف "وسمر أعينهم". "قال ابن كثير": حديث "غريب جدا" وقد رواه الطبراني بإسناد صالح كما في الفتح، فلو عزاه له المصنف كان أولى. "وروى" محمد "بن جرير" الطبري الحافظ، "عن محمد بن إبراهيم" بن الحارث بن خالد التيمي المدني الثقة، مات سنة عشرين ومائة على الصحيح، "عن جابر بن عبد الله" بن جابر "البجلي" الصحابي المشهور، مات سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها، "قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة ... الحديث، وفيه: قال جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفرا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 المسلمين حتى أدركناهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار"، حتى هلكوا. قال: وكره الله سمر الأعين، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية. وهو حديث غريب ضعيف. وفيه: أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلي. قال مغلطاي: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه بنحو أربع سنين.   المسلمين حتى أدركناهم" فجئنا بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم "فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمر أعينهم" وإسناد الفعل فيه إليه عليه السلام مجاز بدليل رواية الصحيح، فأمر بقطع "فجعلوا يقولون: الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "النار" حتى هلكوا" فنهى عن سقيهم، لأنهم ارتدوا عن الإسلام فلا حرمة لهم كالكلب العقور، فلا ينافي الإجماع على أن من وجب قتله لا يمنع سقي الماء، وهذا الحديث لو صح لرد قول عياض لم يكن منعهم بأمره ولا نهى عن سقيهم على أنه أطلع على ذلك وسكوته كاف في ثبوت الحكم، كما مر قريبا مع زيادات حسنة. "قال" جرير: "وكره الله سمر الأعين"، أي: أراد إظهار تحريمه لاستحالة الكراهة والبغضاء عليه سبحانه، وإنما يطلقان عليه باعتبار الغاية وهي هنا إرادة التحريم، "فأنزل الله تعالى هذه اآية: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] بمحاربة المسلمين "إلى آخر الآية" وهذا كما هو بين لا ينافي ما مر في أحد من نزول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إلى آخر السورة، لما حلف المصطفى والصحابة أنهم إن قدروا على قريش ليزيدون عليهم لأنه لم يحرم فيها التمثيل كما زعم إنما قال: إن أردتموه فلا تزيدوا، وحرمة التمثيل إنما كانت بعد هذه القصة، كما في الحديث المرفوع، ومال إليه البخاري، وحكاه الإمام في النهاية عن الإمام الشافعي، كما مر قريبا مفصلا، "وهو حديث غريب ضعيف" جمع بينهما، لأن الغرابة تجامع الصحة والحسن، لأنها لتفرد الراوي فلا تستلزم الضعف، وقد اقتصر الحافظ على قوله إسناده ضعيف. انتهى. لكن له شاهد عن أبي هريرة نحوه, رواه عبد الرزاق، وعن أنس عند ابن جرير مثله. و"فيه" إفادة "أن أمير السرية جرير بن عبد الله البجلي" فيخالف ما رواه ابن إسحاق والأكثرون أن أميرها كرز، وهو المصرح به في حديث سلمة بن الأكوع على أن المعروف أن جريرا تأخر إسلامه ولذا "قال مغلطاي: وفيه نظر، لأن إسلام جرير كان بعد هذه" السرية "بنحو أربع سنين" في سنة الوفود سنة تسع على الصحيح، ووهم من قال: قبل موت المصطفى بأربعين يوما لما في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "استنصت الناس في حجة الوداع، وذلك قبل موته بأكثر من ثمانين يوما" ذكره الفتح في المناقب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وفي مغازي ابن عقبة: أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد، كذا عنده بزيادة ياء, وعند غيره: أنه سعد -بسكون العين- ابن زيد الأشهلي، وهذا أنصاري، فيحتمل أن يكون رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة. وأما قوله: فكره الله سمر الأعين فأنزل الله تعالى هذه الآية، فإنه منكر. فقد تقدم أن في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاة، فكان ما فعل بهم قصاصا والله أعلم. تنبيه: قال في فتح الباري: وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل وهو غلط، بل هما قبيلتان متغايرتان، عكل من عدنان، وعرينة من قحطان.   "وفي مغازي ابن عقبة أن أمير هذه السرية سعيد بن زيد" بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، أحد العشرة والسابقين إلى الإسلام "كذا عنده بزيادة ياء". قال الحافظ: "و" الذي "عنده غير أنه سعد بسكون العين، بن زيد" بن مالك بن عبد كعب ابن عبد الأشهل، "الأشهلي" العقبي البدري، "وهذا أنصاري" فيتقوى أنه هو لا سعيد المهاجري بما في مسلم أنهم من الأنصار، "فيحتمل أن يكون رأس الأنصار" فتجوز من أطلق أنه الأمير عن كونه عظيما فيهم، "وكان كرز أمير الجماعة" كلهم الأنصار والمهاجرين، "وأما قوله: فكره الله سمر الأعين وأنزل الله هذه الآية، فإنه منكر، فقد تقدم أن في صحيح مسلم" عن أنس "أنهم سملوا أعين الرعاة". قال في العيون: وأكثر ما في الآية مما تشعره إنما هو الاقتصار في حد الحرابة على ما فيها، أما من زاد عليها جنايات أر كهؤلاء حيث ارتدوا ومثلوا بالرعاة، فليس في الآية ما يمنع من التغليظ عليهم، أي بمثل ما فعلوه "فكان ما فعل بهم قصاصا" ليس بمثلة، فالمثلة كانت ابتداء بغير جزاء. انتهى. "والله أعلم" بما في نفس الأمر هل كان قصاصا، أو مثلة قبل النهي. "تنبيه: قال في فتح الباري" في كتاب الطهارة، "وزعم" عبد الواحد "ابن التين" السفاقسي "تبعا للداودي" أحمد بن نصر، كلاهما في شرح البخاري: "أن عرينة هم عكل،" وكأنهما حاولا الجمع بين رواية من اقتصر على عكل، ورواية من اقتصر على عرينة، "وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان عكل من عدنان، وعرينة من قحطان" لا يشكل بما مر أن عرينة حيان من قضاعة، وبجيلة هو المراد هنا لأن قحطان كما أفاده كلامه، ففي قول القاموس: بجيلة كسفينة، حي من معد نظر مع هذا، وفي هذه القصة كما قال الحافظ من الفوائد غير ما تقدم قدوم الوفود على الإمام ونظره في مصالحهم ومشروعية الطب والتداوي بألبان الإبل وأبوالها، وأن كل جسد يطب بما اعتاد وقتل الجماعة بالواحد سواء قتلوه غيلة أو حرابة، إن قلنا: إن قتلهم كان قصاصا والمماثلة في القصاص، وأنه ليس من المثلة المنهي عنها، وثبوت حكم المحاربة في الصحراء، وأما في القرى ففيه خلاف، وجواز استعمال أبناء السبيل إبل الصدقة في الشرب وفي غيره قياسا عليه بإذن الإمام والعمل بقول القائف وللعرب في ذلك المعرفة التامة، انتهى والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 بعث الضمري ليغتال أبا سفين ... "بعث الضمري ليغتال أبا سفيان": ثم سرية عمرو بن أمية الضمري إلى أبي سفيان بن حرب بمكة، لأنه أرسل للنبي صلى الله عليه وسلم من يقتله غدرا، فأقبل الرجل ومعه خنجر ليغتاله، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا يريد غدرا". فجذبه أسيد بن حضير بداخلة إزاره فإذا بالخنجر، فسقط في يده.   بعث الضمري ليغتال أبا سفيان: "ثم سرية عمرو بن أمية" بن خويلد بن عبد الله أبي أمية، "الضمري" الصحابي المشهور، أول مشاهده بئر معونة بالنون. مات بالمدينة في خلافة معاوية. قال أبو نعيم: قبل الستين "إلى أبي سفيان" صخر "بن حرب بمكة لأنه أرسل للنبي صلى الله عليه وسلم مَنْ", أي: رجلا "يقتله" قال ابن سعد: وذلك أبا سفيان قال لنفر من قريش ألا أحد يغتر محمدا فإنه يمشي في الأسواق، فأتاه رجل من الأعراب في منزله، فقال: قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدهم بطشا وأسرعهم شدا فإن أنت قويتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر فأسوره ثم آخذ في غير فأسير وأسبق القوم عدوا فإني هاد بالطريق قال: أنت صحبنا فأعطاه بعيرا ونفقة وقال: اطو أمرك فخرج ليلا، فسار على راحلته خمسا، وصبح ظهر الحرة صبح سادسة، ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دل عليه فعقل راحلته، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل "فأقبل الرجل ومعه خنجر" بفتح المعجمة، وكسرها فنون، فجيم مفتوحة فراء مثل خافية بخاء معجمة فألف ففاء مكسورة فتحتية مفتوحة فتاء تأنيث ريشة صغيرة في جناح النسر دون العشر ريشات من مقدم الجناح قال الأصمعي "ليغتاله" أي: يأخذه غفلة وهو معنى قوله: يغتر بفتح أوله وسكون المعجمة وفتح الفوقية وشد الراء وأسوره بضم الهمزة، وفتح المهملة وكسر الواو الشديدة والراء وضمير الغائب, فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا ليريد غدرا". زاد في رواية البيهقي: "والله حائل بينه وبين ما يريد". فذهب لينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم "فجذبه أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة "ابن حضير" بضم المهملة وفتح المعجمة ابن سماك الأنصاري، الأشهلي أبو يحيى، الصحابي الجليل، المتوفى سنة عشرين أو إحدى وعشرين "بداخلة إزاره" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 فقال صلى الله عليه وسلم: "اصدقني ما أنت"؟ , قال: وأنا آمن؟ قال: "نعم". فأخبره بخبره فخلى عنه صلى الله عليه وسلم. وبعث عمرو بن أمية ومعه سلمة بن أسلم، ويقال: جبار بن صخر إلى أبي سفيان، وقال: إن أصبتما منه غرة فاقتلاه، فدخلا مكة. ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان   أي طرفه وحاشيته من داخل، قاله البرهان، ثم الشامي "فإذا بالخنجر فسقط في يده" لفظ سعد فأسقط في يديه بضم الهمزة وكسر القاف أي ندم وقال: دمي دمي أي: اتركوا أو خلوا فأخذ أسيد بلببه بلام فموحدتين أولاهما مفتوحة أي: منحره فذعته بمعجمة فمهملة ففوقية أي خنقه أشد الخنق, فقال صلى الله عليه وسلم: "اصدقني" بهمزة وصل وضم الدال "ما أنت" أي: ما صفتك أو خاطبه خطاب ما لا يعقل لأن هذا فعل ما لا يعقل قاله البرهان أو استعمل ما للعاقل على اللغة القليلة لكن لا يحمل عليها كلام سيد الفصحاء مع إمكان غيرها "قال: وأنا آمن؟ " بمد الهمزة وكسر الميم، قال: "نعم" , فأخبره بخبره فخلى عنه صلى الله عليه وسلم، زاد ابن سعد وغيره فأسلم وقال: يا محمد والله ما كنت أفرق الرجال بفتح الراء أي أخافهم فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي ثم اطلعت على ما هممت به مما لم يعلمه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان فجعل صلى الله عليه وسلم يتبسم، فأقام الرجل أياما ليستأذنه صلى الله عليه وسلم فخرج ولم يسمع له بذكر. قال البرهان: وهذا الرجل لا أعرف اسمه "وبعث عمرو بن أمية ومعه" في قول ابن سعد وشيخه الواقدي "سلمة بن أسلم" بن حريس بحاء مهملة فراء مكسورة فتحتية ساكنة فسين مهملة وقد ينسب إلى جده الأنصاري الحارثي يكنى أبا سعيد ذكره ابن إسحاق فيهم شهد بدرا قال أبو حاتم: قتل يوم جسر أبي عبيد، "ويقال" بدل سلمة وهو قول ابن هشام وعزاه اليعمري لابن إسحاق لكن ابن هشام ذكر هذا البعث من زيادته، وأن ابن إسحاق لم يذكر "جبار" بفتح الجيم وشد الموحدة "ابن صخر" بن أمية الأنصاري السلمي العقببي البردي له حديث عند أحمد وغيره، وآخر عند ابن السكن وغيره, مات سنة ثلاثين عن ثنتين وستين سنة "إلى أبي سفيان، وقال: إن أصبتما منه غرة" بكسر الغين المعجمة وشد الراء وتاء تأنيث أي غفلة "فاقتلاه فدخلا مكة ومضى عمرو بن أمية يطوف بالبيت ليلا، فرآه معاوية بن أبي سفيان" كذا عند ابن سعد ومقتضاه أنه رآه حال الطواف، وعند ابن هشام وغيره فقدما مكة وجلسا بشعب ثم دخلا مكة ليلا فقال جبار لعمرو: لو أنا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين فقال عمران: القوم إذا تغشوا وجلسوا بأفنيتهم وأنهم إن رأوني عرفوني فإني أعرف بمكة من الفرس الأبلق فقال: كلا إن شاء الله. قال عمرو: فأبى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 فأخبر قريشا بمكانه، فخافوه وطلبوه، وكان فاتكا في الجاهلية، فحشد له أهل مكة وتجمعوا له. فهرب عمرو وسلمة، فلقي عمرو عبيد الله بن مالك التيمي فقتله، وقتل آخر، ولقي رسولين لقريش بعثتهما يتحسسان الخبر، فقتل أحدهما وأسر الآخر، فقدم به المدينة. فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وهو يضحك.   يطيعني فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان فوالله إنا لنمشي بمكة إذ نظر إلى الرجل من أهلها فعرفني فقال عمرو بن مية: فوالله إن قدمها إلا لشر. فصريح هذا أنه لم يره إلا بعد خروجهما من الطواف في أزقة مكة فيحمل التعقيب في الأول على التراخي وإن كان بالفاء جمعا بينهما، كما حل الرجل المبهم في الثانية على معاوية للأولى، لأن الروايات يفسر بعضها بعضا "فأخبر قريشا بمكانه" أي: بكون أي: وجود عمرو بمكة، "فخافوه وطلبوه وكان فاتكا" بفاء فألف ففوقية مكسورة جريا "في الجاهلية" والفتك مثلث الفاء القتل على غفلة، "فحشد" أي: جمع "له أهل مكة، وتجمعوا" عطف تفسير، "فهرب عمرو وسلمة" لم يقل: أو جبار؛ لأنه ناقل كلام ابن سعد لم يزد عليه إلا حكاية القول بأنه جبار، "فلقي عمرو عبيد الله بن مالك" بن عبيد الله "التيمي" نسبة إلى تيم من قريش كذا سماه ابن سعد وقال ابن إسحاق: هو عثمان بن مالك أو عبد الله، "فقتله وقتل آخر" من بني الديل سمعه يتغنى ويقول: ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولست أدين دين المسلمينا هذا أسقطه المصنف من كلام ابن سعد، "ولقي رسولين لقريش" قال البرهان: لا أعرفهما ولا الآخر "بعثتهما" عينا إلى المدينة "يتجسسان الخبر فقتل أحدهما" بسهم "وأسر الآخر فقدم به المدينة فجعل عمرو يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وهو يضحك" ثم دعا له بخير، ولم يبين في رواية ابن سعد هذه التي اقتصر عليها المصنف تبعا لليعمري محل قتل هؤلاء، وعند ابن هشام وغيره بعد قوله السابق: إن قدمها إلا لشر، فقتل لصاحبي: النجاء فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في جبل، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا، فرجعنا فدخلنا كهفا في الجبل فبتنا فيه، وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا. فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا له ويختلي عليها فغشينا ونحن في الغار فقلت: إن رآنا صاح بنا فأخذنا وقتلنا قال: ومعي خنجر قد أعددته لأبي سفيان فأخرج إليه فأضربه على ثديه ضربة، فصاح صيحة أسمع أهل مكة وأرجع فأدخل مكاني، وجاءه الناس يشتدون وهو بآخر رمق، فقالوا: من ضربك؟ فقال: عمرو بن أمية, وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا فاحتملوه. فقلت لصاحبي لما أمسينا: النجاء، فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة، فمررنا بالحرس وهم يحرسون جثة حبيب بن عدي، فقال أحدهم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 ...........................   والله ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، لولا أنه بالمدينة لقلت أنه عمرو بن أمية، فلما حاذى الخشبة شد عليها فاحتملها وخرجا شدا وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج، فرمى الجثة في الجرف فغيبه الله عنهم، فلم يقدروا عليه فقلت لصاحبي النجاء ومضيت، ثم أويت إلى جبل فأدخل كهفا، فبينا أنا فيه دخل علي شيخ من بني الديل أعور في غنيمة له، فقال: من الرجل؟ قلت: من بني بكر فمن أنت؟ قال: من بني بكر. فقلت: مرحبا فاضطجع، ثم رفع عقيرته فقال: ولست بمسلم ما دمت حيا ... ولا دان لدين المسلمينا فقلت في نفسي ستعلم ثم أمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي، فجعلت سيتها في عينه الصحيحة بكسر المهملة، وفتح التحتية ما عطف من طرفها، ثم تحاملت عليه حت بلغت العظم، ثم خرجت حتى جئت العرج، ثم سلكت حتى إذا هبطت النقيع إذا رجلان من قريش كانت بعثتهما عينا إلى المدينة. فقلت: استأسرا فأبيا فأرمي أحدهما بسهم واستأسر الآخر فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة. انتهى. وقد مر أنه صلى الله عليه وسلم بعث الزبير، والمقداد لإنزال خبيب فأنزلاه وخافا الطلب فألقياه فابتلعته الأرض, والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 "أمر الحديبية": ثم الحديبية -بتخفيف الياء وتشديدها- وهي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة، وقال المحب الطبري: قرية قريبة من مكة   أمر الحديبية: "ثم الحديبية" بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وسكون التحتية وكسر الموحدة، ولم يقل: غزوة أو عمرة لتكون الترجمة محتملة، وقد ترجم البخاري غزوة ولأبي ذر عن الكشميهني عمرة بدل غزوة "بتخفيف الياء" عند الأكثر كالشافعي، والأصمعي، حتى قال ثعلب وهو أحمد بن يحيى لا يجوز فيها غيره، وقال النحاس: لم يختلف من أثق بعلمه في أنها مخففة "وتشديدها" عند كثير من المحدثين واللغويين، قال في الفتح وأنكر كثير من أهل اللغة التخفيف. وقال أبو عبيد البكري: أهل العراق يثقلون وأهل الحجاز يخففون. انتهى. "وهي بئر" كما ثبت في الصحيح عن البراء "سمي المكان بها وقيل: شجرة" سمي المكان بها فيحتمل أن المكان واد فدفعه بقوله: "وقال المحب الطبري: قرية" ليست كبيرة "قريبة" قال المصنف: على مرحلة, والشامي: نحو مرحلة, والمصباح: دون مرحلة "من مكة" سميت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أكثرها في الحرم، وهي على تسعة أميال من مكة. خرج عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة، وأخرج معه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة. ويقال: ألف وخمسمائة وقيل: ألف وثلاثمائة. والجمع بين هذا الاختلاف: أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة   بالبئر أو الشجرة "أكثرها في الحرم" وباقيها في الحل "وهي على تسعة أميال من مكة". وقال الواقدي: من المسجد فإن حمل عليه قدر مضاف "خرج عليه الصلاة والسلام" لأنه رأى في منامه أنه دخل البيت هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، كما ذكره الواقدي. وأما ما رواه الفريابي وعبد بن حميد، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين فلما نحر الهدي بالحديبية، قال أصحابه أين رؤياك يا رسول الله؟ فنزلت: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية فهي رؤيا رآها بالحديبية تبشيرا من الله له ثانيا فلا يصلح جعلها سببا في خروجه من المدينة "يوم الاثنين هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة" عند الجمهور كالزهري، وقتادة، وموسى بن عقبة, وابن إسحاق، وابن سعد, وغيرهم. قال في الفتح وجاء عن هشام بن عروة عن أبيه أنه خرج في رمضان واعتمر في شوال وشذ في ذلك وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور ومضى في الحج قول عائشة ما اعتمر إلا في ذي القعدة. انتهى. وقال ابن القيم قول هشام وهم إنما كانت غزاة الفتح في رمضان. وقد قال أبو الأسود عن عروة في ذي القعدة على الصواب, وفي الصحيحين عن أنس اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة فذكر منها عمة الحديبية "للعمرة". قال الزهري: لا يريد قتالا، قال ابن إسحاق واستنفر العرب من البوادي ومن حوله من الأعراب ليخرجوا معه وهو يخشى من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق من العرب، وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس حربه وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له، "وأخرج معه زوجته أم سلمة في ألف وأربعمائة"، كما في الصحيحين من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب ومن طريق عمرو بن دينار عن جابر، "ويقال: ألف وخمسمائة" كما فيهما من طريق سعيد بن المسيب عن جابر وابن أبي شيبة عن مجمع بن جارية، "وقيل: ألف وثلاثمائة"، كما في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى، فليس مراد المصنف تضعيفهما، بل مجرد الحكاية، ولذا قال: "والجمع بين هذا الاختلاف" كما قال في الفتح "أنهم كانوا أكثر من ألف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر. واعتمد على هذا الجمع النووي. وأما رواية ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة مائتين لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة. وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة، فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر: نحرنا عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن   وأربعمائة. فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: ألف وأربعمائة ألغاه". "ويؤيده رواية" البخاري من طريق زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء" أنهم كانوا "ألفا وأربعمائة أو أكثر" فأو بمعنى بل فيظهر وجه الجمع، ولعل وجه من زاد عد من تبعه بعد خروجه من الأعراب أو على بابها، فالجمع على تقدير الكثرة، ويكفي في الجمع احتمال الزيادة "واعتمد على هذا الجمع النووي" لصحة الروايات كلها. ومال البيهقي إلى الترجيح وقال: رواية ألف وأربعمائة أصح لاتفاق البراء وجابر وسلمة بن الأكوع ومعقل بن يسار والمسيب بن حزن عليه ثم أسنده عنهم. قال ابن القيم: والقلب إليه أميل، "وأما رواية" ابن أبي أوفى "ألف وثلاثمائة فيمكن حملها على ما اطلع هو عليه واطلع غيره على زيادة مائتين" لو حذفها كان أولى ليشمل ألفا على ما اطلع هو عليه واطلع غيره على زيادة مائتين" لو حذفه كان أولى ليشمل ألفا وأربعمائة، لكنها تصحفت على المصنف حين نقل من الفتح، ولفظه زيادة ناس بنون فألف فسين مهملة "لم يطلع هو عليهم والزيادة من الثقة مقبولة" فلا تعارضها رواية من نقص عنها. زاد الحافظ أو العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتلة والزيادة عليها من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم. "وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر نحرنا البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة" لما تحللوا، "وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا". هكذا في النسخ الصحيحة ويقع حذف ما في نسخ من تحريف النساخ والأول الصواب الموافق لقول الفتح وأتباعه لم ينحروا "غير البدن" من بقر وغنم لمن زاد على السبعمائة التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا. وجزم موسى بن عقبة: بأنهم كانوا ألفا وستمائة. وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة. وحكى ابن سعد: ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ولم يخرج معه بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القرب.   نحروها عنها "مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلا" فيجوز أن الزائد على سبعمائة لم يحرموا فهو جواب ثان وكأن الجوابين من باب التنزل وإلا فقد قال ابن القيم: إنه غلط بين، وقول جابر لا يدل له فإنه صرح أن البدنة في هذه العمرة عن سبعة فلو كانت السبعون عن جميعهم كانوا أربعمائة وتسعين وقد قال في تمام الحديث بعينه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة انتهى. "وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وعند ابن أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع"، أنهم "ألف وسبعمائة" فهو خبر إن المقدرة بلا كان وإلا فالظاهر رسمه بالألف وهو الذي في الفتح، "وحكى" وفي نسخة وعند "ابن سعد" أنهم كانوا "ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين". قال الحافظ وهذا إن ثبت تحرير بالغ ثم وجدته موصولا عن ابن عباس عند ابن مردويه، وفيه رد على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحديد، وإنما ذكره بالحدس والتخمين، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" ويقال: أبو رهم كلثوم بن الحصين حكاهما البلاذري. قال وقوم يقولون استخلفهما جميعا. وكان ابن أم مكتوم على الصلاة. وقال ابن هشام ومن تبعه استخلف نميلة تصغير نملة، ابن عبد الله الليثي فيحتمل أنه استخلفه وكلثوما على المصالح والإمام ابن أم مكتوم. "ولم يخرج" بضم الياء وكسر الراء أي النبي صلى الله عليه وسلم "معه" أحدًا فحذف المفعول لأنه فضلة "بسلاح" وهو ما يقاتل به في الحرب، ويدافع والتذكير أغلب من التأنيث كما في المصباح، ويجوز بناؤه للمفعول لكنه قليل الإنابة الجار والمجرور مع وجود المفعول المحذوف تخفيفا. فالأول أظهر وأولى "إلا سلاح" بالجر، بدل من سلاح "المسافر السيوف"، بدل من سلاح، وصح إبداله وإن كان لفظ سلاح مفردا؛ لأنه اسم جنس شامل للواحد وغيره. وأما الجمع في خذوا حذركم وأسلحتكم، فباعتبار الأفراد ويجوز نصب سلاح المسافر على الاستثناء، فالسيوف بالنصب أيضا "في القرب" بضمتين جمع قراب ويجمع أيضا على أقربة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وفي البخاري -في المغازي- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي، وأشعر وأحرم منها. وفي رواية: أحرم منها   "وفي البخاري في" الحديث الثامن من كتاب "المغازي" في هذه الغزوة، "عن المسور" بكسر الميم وسكون المهملة "ابن مخرمة" بفتح الميم وسكون المعجمة ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، الزهري له ولأبيه صحبة مات سنة أربع وستين، "ومروان بن الحكم" بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أبو عبد الملك ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمس في رمضان وله ثلاث أو إحدى وستون سنة لا تثبت له صحبة. "قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية" قال الحافظ: هذا مرسل فمروان لا صحبة له والمسور لم يحضر القصة وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط من طريق أخرى عن الزهري عن عروة أنه سمع المسور ومروان يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بعض الحديث، وقد سمعا جمعا صحابة شهدوا هذه القصة كعمر، وعثمان، وعلي، والمغيرة، وأم سلمة، وسهل بن حنيف وغيرهم "في بضع عشرة مائة" هكذا في نسخ، وهو الثابت في البخاري، وهو واضح لأن الهاء تثبت في بضع مع المذكر وتحذف مع المؤنث كما في المصباح وهو هنا عشرة، ويقع في بعض نسخ المصنف بعض عشر بلا هاء فيهما، فإن كانت رواية فلعل حذف الهاء من بضع نظرا للفظ مائة ومن عشرة لكون المعدود رجالا لأن العشرة تجري على القياس أفردت أو ركبت "من أصحابه" وكان معهم مائتا فارس. وفي رواية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ: ويجمع أيضا يعني بين هذه الرواية والسابقات بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم، وما زاد على ذلك كانوا غائبين عنها كمن توجه مع عثمان، على أن لفظ بضع يصدق على الخمس والأربع فلا تخالف، "فلما كان بذي الحليفة"، ميقات أهل المدينة، "قلد الهدي" بأن علق في عنقه شيئا وهو نعل ليعلم أنه هدى "وأشعر" بأن ضرب صفحة السنام اليمني بحديدة فلطخها بدمها إشعارا بأنه هدى أيضا، قاله المصنف "وأحرم منها" فقلد المسلمون بدنهم وأشعروها. "وفي رواية" للبخاري أيضا في المغازي وهو الخامس والعشرون عن مسور ومروان أيضا قالا: خروج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحليف قلد الهدي وأشعره و"أحرم منها" بعدما صلى ركعتين وركب من باب مسجد ذي الحليفة، فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 بعمرة, وبعث عينا له من خزاعة. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك من مكة.   انبعثت به راحلته مستقبل القبلة أحرم "بعمرة" إعلاما بأنه لم يخرج لحرب، "وبعث عينا" أي جاسوسا "له من خزاعة" وهو بسر بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح كما قال الحافظ: هكذا جزم به ابن إسحاق وابن عبد البر وغيرهما، إلا أنه وقع لابن إسحاق بكسر الباء وإعجام الشين ورده عليه ابن هشام ووقع عند ابن أبي شيبة تسمية العين ناجية. قال الحافظ: والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدي كما جزم به ابن إسحاق وغيره انتهى. واختار بعث بسر بن سفيان، بن عمر وهذا لقرب عهده بالإسلام، لأنه أسلم في شوال فلا يظنه من رآه عينا فلا يؤذيه. "وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير" بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة "الأشطاط"، زاد أحمد قريبا من عسفان بشين معجمة وطاءين مهملتين جمع شط وهو جانب الوادي كما جزم به صاحب المشارق ووقع في بعض نسخ أبي ذر بطاءين معجمتين قاله الفتح. قال المصنف: وهو موضع تلقاء الحديبية "أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش" بحاء مهملة وموحدة آخره معجمة جمع أحبوش بضم الهمزة والباء وهم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبد مناة وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا تحالفوا مع قريش, قيل: تحت جبل يقال له: الحبشي أسفل مكة، وقيل: سموا بذلك لتحبشهم أي: تجمعهم والتحبش التجمع والحباشة الجماعة. وروى الفاكهي عن عبد العزيز بن أبي ثابت أن ابتداء حلفهم مع قريش كان على يد قصي بن كلاب، "وهم مقاتلوك وصادوك" بشد الدال "عن البيت، ومانعوك من" الدخول إلى "مكة"، وعند ابن إسحاق قال الزهري: وخرج صلى الله عليه وسلم فلقيه بعسفان بسر، فقال: هذه قريش قد سمعت بمسير فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمر، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وعند ابن سعد وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم على صده عن مكة وعسكروا ببلد بفتح الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة، ثم حاء مهملة موضع خارج مكة. وأخرج الخرائطي في الهواتف عن ابن عباس لما توجه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية قدم عليه بسر بن سفيان الكعبي، فقال: يا بسر هل عندك علم إنْ أهل مكة علموا بمسيري فقال: إني لأطوف بالبيت في ليلة كذا وكذا وقريش في أنديتها إذ صرخ صارخ من أعلى جبل أبي قبيس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 فقال: "أشيروا عليّ أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت". وفيه: قال أبو بكر: يا رسول الله! خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: "امضوا على اسم الله".   بصوت أسمع أهل مكة: هبوا لصاحبكم مثلى صحابته ... سيروا إليه وكونوا معشرا كرما بعد الطواف وبعد السعي في مهل ... وأن يحوزهم من مكة الحرما شاهت وجوههم من معشر ثكل ... لا ينصرون إذا ما حاربوا صنما فارتجت مكة وتعاقدوا أن لا تدخل عليهم عامهم هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا الهاتف سلفع شيطان الأصنام يوشك أن يقتله الله إن شاء الله". فبينما هم كذلك سمعوا من أعلى الجبل صوتا: شاهت وجوه رجال حالفوا صنما ... وخاب سعيهم ما أقصر الهمما إني قتلت عدو الله سلفعة ... شيطان أوثانكم سحقا لمن ظلما وقد أتاكم رسول الله في نفر ... وكلهم محرم لا يسفكون دما فإن ثبت هذا فكأنه لما أخبره بعثه عينا، هل اجتمعوا فذهب وعاد مخبرا له باجتماعهم, فقال: "أشيروا عليّ أيها الناس أترون" بتفح التاء "أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء" الكفار "الذين يريدون أن يصدونا عن البيت" فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين "وفيه" عقب ما ذكرته، وما كان الكتاب يزيد به ومحروبين بالواو والموحدة أي مسلوبين منهوبين الأموال والعيال. وفي رواية أحمد أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله. وفي رواية: "أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه"؟ , "قال أبو بكر" زاد أحمد: الله ورسوله أعلم "يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد، فتوجه له" للبيت، "فمن صدنا عنه قاتلناه" قال الحافظ، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه هل يخالف الذين نصورا قريشا إلى مواضعهم فيسبي أهلهم فإن جاءوا إلى نصرهم اشتغلوا بهم، وانفرد هو وأصحابه بقريش وذلك المراد بقوله يكون عنقا قطعه الله، فأشار عليه الصديق بترك القتال والاستمرار على ما خرج له من العمرة حتى يكون بدء القتال منهم فرجع إلى رأيه وقال: "امضوا على اسم الله" , ويروى أن المقداد بن عمرو الشهير بابن الأسود؛ لأنه تبناه قال نحو مقالته يوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وزاد أحمد: كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدًا قط، كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية للبخاري: حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين".   بدر بعد كلام أبي بكر إنا والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لنبيها: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. فقال صلى الله عليه وسلم: $"فسيروا على اسم الله تعالى". "وزاد أحمد" عن عبد الرزاق وساقه ابن حبان من طريقه قال: قال معمر: قال الزهري: "كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدًا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم" امتثالا لقول ربه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . قال الحافظ: وهذا القدر حذفه البخاري لإرساله لأن الزهري لم يسمع من أبي هريرة. "وفي رواية للبخاري" في كتاب الشروط: حدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: أخبرني الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور ومروان قالا: خرج صلى الله عليه وسلم ومن الحديبية "حتى إذا" هي رواية أبي ذر ولغيره بحذف إذا "كانوا ببعض الطريق" وهو عسفان، كما عند ابن إسحاق, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خالد بن الوليد" المخزومي سيف الله الذي سله بعد قريب جدا على المشركين "بالغميم" بفتح المعجمة وكسر الميم، وحكى عياض تصغيره، وكذا وقع في شعر جرير والشماخ قال محد بن حبيب موضع قريب من مكة بين رابغ والجحفة، وقول المحب الطبري يظهر أن المراد كراع الغميم وهو موضع بين مكة والمدينة، رده الحافظ بأن سياق الحديث ظاهر في أنه كان قريبا من الحديبية، فهو غير كراع الغميم فتعين قول ابن حبيب "في خيل لقريش" بين ابن سعد أنهم مائتا فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل "طليعة" وهي مقدمة الجيش قال المصنف: بالنصب حال ولأبي ذر بالرفع انتهى. وعند ابن أبي شيبة وابن إسحاق عن الزهري: فقال له عينه هذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم والجمع سهل جدا، بأنه لما أخبره عنه بذلك قال: ذلك ليسلكوا طريقا غير طريقهم، كما قال: "فخذوا ذات اليمين" وفي رواية ابن إسحاق: "من رجل يخرج بنا على غير طريقهم التي هم بها"؟ فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله! فسلك بهم طريقا وعرا فخرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى طريق سهلة فقال لهم: "قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه". فقالوا ذلك, فقال: "والله إنها اللحظة التي عرضت على بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت راحلته، فقال الناس: حل حل   إسرائيل فلم يقولوها". وسمى ابن سعد السالك بهم حمزة بن عمرو الأسلمي. وعند ابن إسحاق فقال صلى الله عليه وسلم: "واسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض" بفتح الحاء المهملة وإسكان الميم وبالضاد المعجمة اسم موضع من طريق تخرجه على ثنية المرار بكسر الميم وخفة الراء مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيس ذلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم، ركضوا راجعين إلى قريش وهو معنى قوله "فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة" أي حتى فاجأهم قترة "الجيش" بفتح القاف والفوقية قال المصنف وسكنها في الفرع أي غبار الجيش الأسود، وكذا قيد به الحافظ وتبعه المصنف، وفي القاموس القتر والقترة محركتين والقترة بالفتح الغبرة انتهى. فلم يقيد وهو صريح في أن القتر ليس جمعا وفي النورانة جمع قترة، "فانطلق" خالد حال كونه "يركض" يضرب برجله دابته استعجالا للسير حال كونه "نذيرا" منذرا "لقريش" بمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر هذا الحديث الصحيح أنه بمجرد رؤيته انطلق نذيرا. وعند ابن سعد وغيره أن خالدا دنا في خيله حتى نظر المصطفى والصحابة وصف خيله بينهم وبين القبلة فأمر صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله، فقام بإزائه فصف أصحابه وحانت الظهر فصلاها بهم صلى الله عليه وسلم فقال خالد: قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم فنزل جبرل بين الظهر والعصر بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآية, فحانت العصر فصلى صلاة الخوف، فإن أردت الترجيح فما في الصحيح أصح أو الجمع أمكن أن انطلاقه بعدما صف أصحابه، ووقف إلى العصر حتى أيس من إصابة المسلمين، "وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية" أي ثنية المرار بكسر الميم وتخفيف الراء، طريق في الجبل تشرف على الحديبية، وزعم الدوادي أنها الثنية التي بأسفل مكة وهو وهم قاله الفتح "التي يهبط" بضم أوله، وفتح ثالثه مبنيا للمفعول "عليهم" أي قريش "منها بركت" به عليه السلام "راحلته" ناقته القصواء "فقال الناس حل حل" بفتح الحاء، وسكون اللام فيهما كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. وقال الخطابي: إن قلت حل واحدة، فبالسكون وإن أعدتها تؤنث الأولى، وسكنت الثانية، وحكى غيره السكون فيهما والتنوين، كنظيره في بخ بخ. يقال: حلحلت فلانا إذا أزعجته عن موضعه, ذكره الحافظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 فألحت -يعني تمادت على عدم القيام- فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". أي حبسها الله عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام منهم خلق، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. انتهى.   قال المصنف: لكن الرواية بالسكون فيها. انتهى. "فألحت" بفتح الهمزة وتشديد الحاء المهملة من الإلحاح. قال المصنف تبعا للفتح يعني تمادت على عدم القيام"، فلم تبرح من مكانها، فليس التفسير مدرجا في الحديث. "فقالوا: خلأت" بخاء معجمة، ولام وهمزة مفتوحات، أي حرنت وبركت من غير علة "القصواء" بفتح القاف وسكون المهملة وفتح الواو مهموز اسم ناقته صلى الله عليه وسلم "خلأت القصواء" مرتين قيل كان طرف أذنها مقطوعا والقصور قطع طرف الأذن يقال بعير أقصى وناقة قصواء، وكان القياس القصر، كما في بعض نسخ أبي ذر، وزعم الداودي أنها كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء، لأنها بلغت من السبق أقصاه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما خلأت القصواء" قال الحافظ الخلاء بالمعجمة والمد للإبل كالحران للخيل، وقال ابن قتيبة لا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة، وقال ابن فارس: لا يقال للجمل خلأ لكن ألح "وما ذاك لها بخلق" بضم الخاء المعجمة واللام أي ليس إخلاؤها بعادة كما حسبتم "ولكن حبسها" أي القصواء "حابس الفيل". زاد ابن إسحاق عن مكة "أي حبسها الله" عز وجل "عن دخول مكة، كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذلك" أي التشبيه بقصة الفيل، كما قال الحافظ: "أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة، وصدتهم قريش لوقع بينهم القتال المفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل" وأصحابه "لكن سبق في علم الله" في الموضعين "أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون" وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب منهم ناس بغير عمد، كما أشار إليه في قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُون} الآية, "انتهى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها".   ما فصل به الحديث من حكمة حبس الناقة، واستبعد المهلب جواز حابس الفيل على الله، فقال المراد: حبسه أمر الله، وتعقب أنه يجوز إطلاق ذلك في حق الله. فيقال حبسها الله حابس الفيل، وإنما الذي يمكن أن يمنع تسميته سبحانه حابس الفيل ونحوه، كذا أجاب ابن المنير وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء توقيفية، وقد توسط الغزالي وطائفة فقالوا: محل المنع ما لم يرد نص بما يشتق منه بشرط أن لا يكون ذلك الاسم المشتق مشعرا بنقص فيجوز تسميته الواقي لقوله تعالى: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9] ، ولا يجوز تسميته البناء وإن ورد قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة، وإن اختلفت الجهة الخاصة لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، ولكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا. أما من أهل الباطل فواضح وأما من أهل الحق فللمعنى المتقدم وفيه رب المثل واعتبار من بقي بمن مضى، واستدل بعضهم بهذه القصة لمن قال من الصوفية علامة الإذن التيسير وعكسه وفيه نظر. قال ابن بطال وغيره وفيه جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرتهم والسفر وحده للحاجة والتنكب عن الطريق السهل إلى الوعرة للمصلحة، والحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة صحيحا، ولم يعاتبهم صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم والتصرف في ملك الغير بالمصلحة بغير إذنه الصريح إذ سبق منه ما يدل على الرضا بذلك، لأنهم زجروها بغير إذن ولم يعاتبهم انتهى. من فتح الباري "ثم قال صلى الله عليه وسلم" عقب قوله: "حابس الفيل": "والذي نفسي بيده" فيه تأكيد القول باليمين ليكون أدعى إلى القبول، وقد حفظ عنه صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا، قاله ابن القيم في الهدي "لا يسألوني" أي قريش، ولأبي ذر لا يسألونني بنونين على الأصل "خطة" بضم الخاء المعجمة وشد الطاء المهملة، أي: خصلة "يعظمون فيها حرمات الله" أي من ترك القتال في الحرم والجنوح إلى السلم والكف عن إراقة الدماء قاله الخطابي. وفي رواية ابن إسحاق لا يدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم وهي من حرمات الله "إلا أعطيتهم إياها" أي: أجبتهم إليها وإن كان فيها تحمل مشقة، وقيل المراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء -يعني حفرة فيها ماء قليل- يتربضه الناس تبرضا -أي يأخذونه قليلا قليلا- فلم يلبثه الناس   حرمة الحرم والشهر والإحرام قال الحافظ: وفي الثالث نظر لأنهم لو عظموا الإحرام لما صدره قال السهيلي: لم يقع في شيء من طرق الحديث أنه قال: إن شاء الله مع أنه مأمور بها في كل حالة، وأجاب بأنه كان أمرا واجبا حتما فلا يحتاج فيه إلى الاستثناء، وتعقب بأنه تعالى قال في هذه القصة {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] . فقال: إن شاء الله مع تحقق وقوع ذلك تعليما وإرشادا، فالأولى أن يحمل على أن الاستثناء سقط من الراوي أو كانت القصة قبل نزول الأمر بذلك، ولا يعارضه أن الكهف مكية إذ لا مانع أن يتأخر نزول بعض السورة، كذا في الفتح، والجوابان اللذان "قال إنهما الأولى مذكوران في الروض عن غيره، وسلمهما البرهان فقال: ما قاله حسن مليح "ثم زجرها" أي الناقة "فوثبت" بمثلثة آخره فوقية أي: قامت "قال فعدل عنهم" في رواية ابن سعد فولى راجعا "حتى نزل بأقصى الحديبية". وفي رواية ابن إسحاق، ثم قال للناس: "انزلوا" قالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه "على ثمد" بفتح المثلثة والميم ودال مهملة "قليل الماء"، وفسره المصنف كغيره بقوله: "يعني حفرة فيها ماء قليل" يقال ماء مثمود أي: قليل فقوله: قليل الماء تأكيد لدفع توهم أن يراد، لغة من يقول الثمد الماء الكثير، وقيل: الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف كذا في الفتح، وعورض بأنه إنما يتوجه إن ثبت لغة أن الثمد الماء الكثير، واعترض الدماميني قوله تأكيد بأنه لو اقتصر على قليل أمكن أم مع إضافته إلى الماء فيشكل، وكذلك إنا نقول هذا ماء قليل الماء نعم. قال الراوي: في الثمد العين، وقال غيره حفرة فيها ماء فإن صح فلا إشكال "يتبرضه" بتحتية ففوقية فموحدة فراء مشددة فضاد معجمة "الناس تبرضا". قال المصنف نصب على أنه مفعول مطلق من باب التفعيل للتكلف، "أي يأخذونه قليلا قليلا" قال الحافظ البرض بالفتح والسكون اليسير من العطاء، وقال صاحب العين هو جمع الماء بالكفين، وذكر أبو الأسود عن عروة وسبقت قريش إلى الماء ونزلوا عليه ونزل صلى الله عليه وسلم الحديبية في حر شديد وليس به إلا بئر واحدة، "فلم يلبثه الناس" قال الحافظ بضم أوله وسكون اللام من الإلباث، وقال ابن التين بضم أوله وكسر الموحدة المثقلة أي: لم يتركوه يلبث أي يقيم وقال المصنف: بضم أوله وفتح اللام وشد الموحدة وسكون المثلثة في الفرع، وأصله مصححا عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.   "حتى نزحوه" بنون فزاي فحاء مهملة أي لم يبقوا منه شيئا. يقال: نزحت البئر على صيغة واحدة في التعدي واللزوم قال الحافظ: ووقع في شرح ابن التين بفاء بدل الحاء ومعناهما واحد، وهو أخذ الماء شيئا بعد شيء إلى أن يبقى منه شيء، "وشكي" بضم أوله مبني للمفعول "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش" بالرفع نائب الفاعل، "فانتزع" أخرج "سهما من كنانته" بكسر الكاف جعبته التي فيها النبل، "ثم أمرهم أن يجعلوه فيه" في الثمد. قال الحافظ في المقدمة: روى ابن سعد من طريق أبي مروان حدثني أربعة عشرة رجلا من الصحابة بالأنصار أن الذي نزل البئر ناجية بن الأعجم وقيل: هو ناجية بن جندب وقيل: البراء بن عازب، وقيل: عبادة بن خالد. حكاه عن الواقدي ووقع في الاستيعاب خالد بن عبادة، وقال في الفتح: يمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره، "فوالله ما زال يجيش" بفتح أوله وكسر الجيم آخره معجمة أي يفور "بالري". قال الحافظ: بكسر الراء ويجوز فتحها "حتى صدروا عنه" أي رجعوا رواء بعد ورودهم. زاد ابن سعد حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر، وكذا في رواية أبي الأسود عن عروة وعند ابن إسحاق فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن. وفي حديث البراء عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال: " دعوها ساعة" فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا ويمكن الجمع بأن الأمرين وقعا معا، وقد روى الواقدي عن أوس بن خولي: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ في الدلو، ثم أفرغه فيها وانتزع السهم فوضعه فيها، وهكذا ذكر أبو الأسود عن عروة وهذه القصة غير القصة التي في حديث جابر عند الشيخين قال: عطش الناس يوم الحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة يتوضأ منها، فأقبل الناس نحوه، فقال: "ما لكم" قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، وجمع ابن حبان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين, وكان ذلك قبل قصة البئر وسيأتي في الأشربة يعني من كتاب البخاري بيان أن حديث جابر كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك، ويحتمل أن الماء لما تفجر من أصابعه ويده في الركوة وتوضئوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الباقي في الركوة في البئر فتكاثر الماء فيها، وقد أخرج أحمد حديث جابر وفيه: فجاءه رجل بإداوة فيها شيء من ماء ليس في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة, وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة   القوم ماء غيره فصبه صلى الله عليه وسلم في قدح، ثم توضأ فأحسن الوضوء ثم انصرف وترك القدح فتزاحم الناس عليه، فقال: "على رسلكم" فوضع كفه في القدح ثم قال: "أسبغوا الوضوء". قال: فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه. وفي حديث زيد بن خالد أنهم أصابهم مطر بالحديبية، فكان ذلك وقع بعد القصتين المذكورتين, والله أعلم, وفي هذا معجزات ظاهرة وفيه بركة سلاحه وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم. انتهى. من الفتح في موضعين وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لمزيد الكلام على ذلك في المعجزات "فبينما" بالميم الزائدة للكشميهني بإسقاطها وبين مضافة الجملة "هم كذلك" تقدير مضاف أي أوقات "إذ جاء بديل" بالموحدة والتصغير "ابن ورقاء" بفتح الواو وسكون الراء بالقاف والمد ابن عمرو بن ربيعة "الخزاعي" بضم الخاء وبالزاي نسبة إلى خزاعة قبيلة من الأزد الصحابي المشهور كان سيد قومه. قال أبو عمر: أسلم يوم الفتح بمهر الظهران. قال ابن إسحاق: وشهد بديل حنينا والطائف وتبوك وكان من كبار مسلمة الفتح وقيل: أسلم قبل الفتح. وقال ابن منده وأبو نعيم أسلم قديما "في نفر من قومه". قال الحافظ: سمى الواقدي منهم عمرو بن سالم وخراش بن أمية وفي رواية أبي الأسود عن عروة منهم خارجة بن كرز ويزيد بن أمية انتهى. فقصر البرهان في قوله لا أعرفهم أو مراده جميعهم "من خزاعة" أتى به مع علمه من إضافة قوم إلى ضميره لدفع توهم أن يراد، معاشروه ومخالطوه وإن لم يكونوا من خزاعة. "وكانوا" قال شيخنا: أي خزاعة وذكر باعتبار الحي وقال المصنف أي بديل والنفر الذين معه لكن يؤيد شيخنا أن الروايات تفسر بعضها. وقد رواه ابن إسحاق بلفظ: وكانت خزاعة "عيبة" بفتح المهملة وسكون التحتية بعدها موحدة ما يوضع فيه الثياب لحفظها أي: أنهم موضع "نصح" بضم النون. وحكى ابن التين: فتحها "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وموضع الأمانة على سره كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب. قاله الحافظ وتبعه المصنف وغيره وأصله قول النهاية تبعا للقزاز وغيره من اللغويين العرب تكنى عن الصدور والقلوب بالعياب لأنها مستودع السرائر، كما أن العياب مستودع الثياب "من أهل تهامة" لبيان الجنس، لأن خزاعة من جملة أهل تهامة بكسر الفوقية وهي مكة وما حولها وأصله من التهم وهو شدة الحرور كود الريح. وفي رواية ابن إسحاق وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئا كان بمكة. وعند الواقدي أن بديلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم غورت ولا سلاح معك فقال: "لم نجئ لقتال" فتكلم أبو بكر فقال له: بديل أنا لا آتيهم ولا قومي. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. والعوذ: بالذال المعجمة: جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن. والمطافيل: الأمهات اللاتي معها أطفالها. يريد أنهم خرجوا معهم   والأصل في موالاتهم له صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم في الجاهلية كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام، وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه جواز استنصاح بعض ملوك العدو واستظهارا على غيرهم، ولا يعد ذلك من موالاة الكفار، ولا من موادة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم، وتقليل شوكة جمعهم وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق، "فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي" إنما اقتصر على هذين لرجوع أنساب قريش الذين بمكة، أجمع إليهما وبقي من قريش بنو سامة بن لؤي وبنو عوف من لؤي وهم قريش البطاح ولم يكن بمكة منهم أحد، وكذلك قريش الظواهر الذين منهم بنو تميم بن غالب ومحارب بن فهر "نزلوا أعداد" بفتح الهمزة وسكون العين المهملة جمع عد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له، وغفل الداودي فقال: هو موضع بمكة، ذكر كله الفتح فإضافة أعداد إلى "مياه الحديبية" من إضافة الأعم إلى الأخص، وفي القاموس أن عد يطلق أيضا على الكثرة في الشيء فإن أريدت فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي مياه الحديبية الكثيرة. قال الحافظ: وهذا يشعر بأنه كان بها مياه كثيرة وأن قريشا سبقوا إلى النزول عليها، فلذا عطش المسلمون حيث نزلوا على الثمد المذكور، وقد مر قول عروة وسبقت قريش إلى الماء، ونزلوا عليه "ومعهم العوذ" بضم العين المهملة، وسكون الواو "المطافيل" بفتح الميم والطاء المهملة فألف ففاء مكسورة فتحتية ساكنة فلام، "وهم مقاتلوك وصادوك"، مانعوك "عن البيت" الحرام "والعوذ بالذال المعجمة" آخره "جمع عائذ" بالهمز، وإن رسم بصورة الياء، ولا يرد أنه اسم فاعل وصف به مؤنث، فقياسه عائذة بالتاء لاختصاصه بالمؤنث، فلا مذكر له يفرق بينه وبين مؤنثه بالتاء على أنه جعل اسما، فليست الوصفية مرادة منه كما يصرح به قوله "وهي الناقة ذات اللبن"، فعلى هذا يقال هذا عائذ لا ناقة عائذ ومر نظيره في لقحة، "والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها يريد"، كما جزم به في الروض وصدر به الفتح، فتبعه المصنف، "أنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال. والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام ليكون أدعى إلى عدم الفرار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس إن شاءوا، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمعوا -يعني استراحوا   خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها, ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو" كما قال ابن قتيبة "كنى بذلك" على سبيل الاستعارة "عن النساء معهن الأطفال والمراد أنهم خرجوا بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام" إن دعا إليه الأمر "ليكون أدعى إلى عدم الفرار". زاد الحافظ ويحتمل إرادة المعنى الأعم. قال ابن فارس كل أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام وعائذ والجمع عوذ كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلتزم الشغل به، وقال السهيلي: سميت بذلك وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها تعطف عليه بالشفقة والحنو كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها، وعند ابن سعد معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" مجيبا لبديل: "إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب" بفتح النون والهاء وكسرها في الفرع كأصله أي أبلغت فيهم حتى أضعفت قوتهم وهزلتهم وأضعفت أموالهم. كذا في شرح المصنف والذي اقتصر عليها لحافظ وغيره كسر الهاء "وأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم" أي جعلت بيني وبينهم "مدة " تترك الحرب بيننا وبينهم فيها، "ويخلوا بيني وبين الناس" من كفار العرب وغيرهم. "إن شاءوا" كذا عزاه المصنف لأبي ذر عن المستملي، والكشميهني، وسقط للباقين، فكان ذكرها مجرد تأكيد، "فإن أظهر" بالجزم بإظهار الله تعالى ديني بحيث يدخله الناس، ويتبعوني فيما جئت به "فإن شاءوا" مرتب على ظهور قال المصنف معطوف على الشرط الأول "أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس" من طاعتي "فعلوا" جواب الشرطين "وإلا" أي وإن لم أظهر، "فقد جموا" بفتح الجيم وشد الميم المضمومة، "يعني استراحوا" من القتال، ولابن عائذ فإن ظهر الناس عليّ فذاك الذي يبغون فصرح بما حذفه هنا من القسم الأول. انتهى. وقال الحافظ: هو شرط بعد شرط والتقدير، فإن ظهر غيرهم عليّ كفاهم المؤنة، وإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي -أي صفحة العنق، كنى بذلك عن القتل- ولينقذن الله أمره". فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا   أظهر أنا على غيرهم، فإن شاءوا أطاعوني وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا أي استراحوا أي قووا، وفي رواية ابن إسحاق: "وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة". وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأنه تعالى سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك على طريق التنزل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعمه ولهذه النكتة حذف القسم الأول وهو التصريح بظهور غيره عليه لكن صرح به في رواية ابن إسحاق ولفظه: "فإن أصابوني كان الذي أرادوا". ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري: "فإن ظهر الناس علي فذاك الذي يبتغون". فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدبا. انتهى. "وإن هم أبوا" امتنعوا، "فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي" بالسين المهملة، وكسر اللام، "أي صفحة العنق كنى بذلك"، كما قال السهيلي "عن القتل" لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه، وقال الداودي المراد الموت أي حتى أموت وأبقى منفردا في قبري، ويحتمل أنه أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم، وقال ابن المنير: لعله نبه بالأدنى على الأعلى، أي أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي مقاتلتهم عن دينه لو انفردت، فكيف لا أقاتل عن دينه مع كثرة المسلمين ونفاذ بصائرهم في نصر دين الله، "ولينفذن" بضم أوله وسكون النون وكسر الفاء وذال معجمة فنون مشددة الزركشي والدماميني ضبطاه بفتح النون الأولى وشد الفاء مكسورة. قاله المصنف وكلام الفتح محتمل فإنه قال بضم أوله وكسر الفاء أي: ليمضين "لله أمره" في نصر دينه وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض، وفي هذا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من القوة والثبات في تنفيذ حكم الله، وتبليغ أمره والندب إلى صلة الرحم والإبقاء على ما كان من أهلها وبذل النصيحة للقرابة، "فقال بديل سأبلغهم" بفتح الموحدة وشدة اللام "ما تقول". قال الحافظ أي فأذن له "فانطلق" بديل مع ركبه "حتى أتى قريشا". زاد الواقدي فقال ناس منهم هذا بديل وأصحابه وإنما يريدون أن يستخبروكم فلا تسألوهم عن حرف واحد، فرأى بديل أنهم لا يستخبرونه، "فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل" يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه" بفتح النون "عليكم فعلنا"، وللواقدي إنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول, قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فقام عروة بن مسعود، فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ   جئنا من عند محمد أتحبون أن نخبركم عنه؟ "فقال سفهاؤهم" قال الحافظ: سمى الواقدي منهم عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاصي "لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء" زاد الواقدي، ولكن أخبره عنا أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبدًا حتى لا يبقى منا رجل واحد، "وقال ذو الرأي منهم: هات". قال المصنف بكسر التاء أي أعطني، وقال شيخنا أي اذكر "ما سمعته يقول،" وفي رواية الواقدي فأشار عليهم عروة الثقفي بأن يسمعوا كلام بديل فإن أعجبهم قبلوه وإلا تركوه فقال صفوان والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم وسمعتم، "قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن إسحاق فرجعوا إلى قريش فقالوا: إنكم تعجلون على محمد أنه لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا، ولا تحدث بذلك عنا العرب أبدا، "فقام عروة بن مسعود" بن معتب بضم الميم وفتح المهملة وشد الفوقية المكسورة بعدها موحدة الثقفي أسلم عند منصرفه صلى الله عليه وسلم عن الطائف، ورجع إلى قومه ودعاهم إلى الإسلام فقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: "مثله في قومه كصاحب يس". ووقع في رواية أحمد عن ابن إسحاق عروة بن عمرو بن مسعود قال الحافظ: والصواب الأول وهو الذي في السيرة "فقال: أي قوم ألستم بالوالد" أي: مثله في الشفقة عل ولده، "قالوا: بلى قال: أو لست بالولد" أي مثله في النصح لوالده، "قالوا: بلى" وعند ابن إسحاق أن أم عروة سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، فأراد أنهم قد ولدوه في الجملة لكون أمه منهم ولأبي ذر ألستم بالولد وألست بالوالد، وجرى عليه بعض الشراح، فقال: أي أنتم عندي في الشفقة والنصح بمنزلة الولد، قال ولعله كان يخاطب قوما هو أسن منهم. قال الحافظ والصواب الأول وهو الذي في رواية أحمد وابن إسحاق وغيرهما "قال: فهل تتهمونني" بنونين رواية أبي ذر على الأصل، ولغيره بواحدة أي تنسبوني إلى التهمة؟ "قالوا: لا" نتهمك، وعند ابن إسحاق قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم، "قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ" بضم المهملة، وخفة الكاف وآخره طاء معجمة مصروف، ولأبي ذر بمنعه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 فلما بلحوا علي -وهو بالحاء المهملة، أي تمنعوا من الإجابة- جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد -أي خصلة خير وصلاح- اقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى   أي دعوتهم إلى نصركم، "فلما بلحوا علي وهو" بالموحدة وشد اللام المفتوحتين، و"بالمهملة" المضمومة "أي امتنعوا من الإجابة" قال الحافظ والتبلح التمنع من الإجابة وبلح الغريم إذا امتنع من أداء ما عليه "جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني، قالوا: بلى". "قال فإن هذا" -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- "قد عرض عليكم" وللكشميهني: لكم "خطة" بضم الخاء المعجمة وشد المهملة "رشد" بضم الراء وسكون المعجمة وبفتحهما، "أي خصلة خير وصلاح" وإنصاف "اقبلوها" وبين ابن إسحاق أن سبب تقديمه لهذا الكلام ما رآه من ردهم العنيف على من يجيء من عند المصطفى، ووقع عنده تقديم مجيء مكرز ثم الحليس على عروة، ولا ريب أن ما في الصحيح أصح "ودعوني" اتركوني "آته" بالمد مجزوم على جواب الأمر، وأصله آتيه أي أجيء إليه، هكذا اقتصر عليه الفتح، وعزاه المصنف لأبي ذر، وصدر بأنه آتيه بالياء على الاستئناف. "قالوا: ائته" قال الحافظ: بألف وصل بعدها همزة ساكنة ثم مثناة مكسورة، ثم هاء ويجوز كسرها. زاد المصنف أمر من أتى يأتي "فأتاه أي: فأتى عروة النبي صلى الله عليه وسلم هكذا هو ثابت في البخاري، وسقط في كثير من نسخ المصنف، فاحتاج شيخنا لتقديرها، "فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم" بنحو ما قال: بديل، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لبديل" السابق. زاد ابن إسحاق وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، "فقال عروة عند ذلك" قال الحافظ: أي عند قوله لأقاتلنهم، "أي: محمد أرأيت" أي: أخبرني "إن استأصلت أمر قومك" أي أهلكتهم بالكلية، "هل سمعت بأحد من العرب اجتاح" بجيم، ثم حاء مهملة أي أهلك "أهله قبلك" حتى يكون سلفك، فلا تلام أولا فتلام لإحداثك ما لم يسبقك إليه أحد من العرب، "وإن تكن الأخرى" قال الحافظ حذف الجزاء تأدبا معه صلى الله عليه وسلم والمعنى وإن تكن الغلبة لقريش فلا آمنهم عليك مثلا وقوله: فإني ... إلخ، كالتعليل هذا المقدر المحذوف، والحاصل أنه ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين، وهو هلاك قومه إن غَلب وذهاب أصحابه إن غُلب، لكن كل منهما مستحسن شرعا، كما قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أشوابا يعني أخلاطا من الناس خليقا أن يفروا عنك ويدعوك. فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه: امصص بظر اللات   تعالى: {تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] انتهى. ونحو تقديره للكرماني وتبعه العيني وقدر الزركشي وإن كانت الأخرى كانت الدولة للعدو، وكان الظفر لهم عليك وعلى أصحابك. ورده الدماميني باتحاد الشرط والجزاء لأن الأخرى هي انتصار العدو وظفرهم فيئول تقديره إلى أن انتصر أعداؤك وظفروا كانت الدولة لهم وظهورا. قال فالمستقيم تقدير لم ينفعك أصحابك "فإني والله لأرى" هكذا، هو في البخاري بالإثبات "وجوها" قال المصنف: أي أعيان الناس. انتهى. فيعني بهم قريشا، والمعنى أن أعداءه أعيان وأصحابه بأخلاط، ويقع في بعض نسخ المواهب مصحفا لا أرى بزيادة ألف واقتصر عليها الشارح، وتكلف شرحها بأنه كالتعليل لعدم ثباتهم، أي: لا يظهر منهم نصر ولا ثبات؛ لأنهم أخلاط ليسوا من قبيلة واحدة حتى يحرصوا على الثبات على مناصرة بعضهم بعضا، لكن حيث لم تأت بها الرواية، ولم يتكلم عليها الشرح، ولا ذكروها نسخة فلا عبرة بها. "وإني لأرى" بالإثبات أيضا "أشوابا" بتقديم المعجمة على الواو للأكثر، وعليها اقتصر صاحب المشارق. قال المصنف ولأبي ذر عن الكشميهني أوشابا بتقديم الواو المعجمة ويروى أوباشا بتقديم الواو على الموحدة "يعني أخلاطا من الناس" قال الحافظ: والأشواب الأخلاط من أنواع شتى والأوباش الأخلاط من السفلة فالأوباش أخص من الأشواب, "خليقا" بالخاء المعجمة والقاف. أي: حقيقا وزنا ومعنى ويقال للواحد والجمع، ولذا وقع صفة لأشواب "أن يفروا عنك ويدعوك" بفتح الدال أي: يتركوك. وفي رواية أبي المليح عن الهري فكأني بهم لو قد لقيت قريشا قد أسلموك فتؤخذ أسيرا، فأي شيء أشد عليك من هذا، وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كان من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار عادة، وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيمه صلى الله عليه وسلم. انتهى. "فقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه" زاد ابن إسحاق وأبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد: "امصص" بألف وصل، وصادين مهملتين الأولى مفتوحة بصيغة الأمر، وحكى ابن التين عن رواية القابسي ضم الصاد الأولى وخطأها، وأقره الحافظ والمصنف؛ لأنه خلاف الرواية، وإن جاء لغة "بظر" بباء واحدة رواية أبي ذر ولغيره ببظر بباءين "اللات" زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 أنحن نفر عنه وندعه؟ قال العلماء: وهذا مبالغة من أبي بكر في سب عروة، فإنه أقام معبود عروة، وهو صنمه مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به نسبته إلى الفرار. والبظر: بالموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة. واللات: اسم صنم. والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم. انتهى. فقال عروة: من هذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده   الزهري وهو طاغيته التي تعبد أي طاغية عروة "أنحن نفر عنه وندعه" استفهام إنكار قصد به توبيخه في نسبة الفرار لهم. قال العلماء هذا مبالغة من أبي بكر في سب عروة فإنه أقام معبود عروة وهو صنمه مقام أمه"؛ لأن عادة العرب الشتم بذلك بلفظ الأم فأبدله الصديق باللات فنزله منزلة امرأة تحقيرا لمعبوده "وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار والبظر بالموحدة المفتوحة والظاء المعجمة الساكنة" وبالراء وجمعه بظور وأبظر كفلوس وأفلس، "قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة" كما جزم به في الفتح وزاد المصنف في الشرح، وقال الداودي: هو فرج المرأة. قال السفاقسي: والذي عند أهل اللغة أنه ما يخفض من فرج المرأة، أي يقطع عند خفضها. انتهى. وفي المصباح البظر لحمة بين شفري المرأة، وهي الغلفة التي تقطع في الختان، "واللات اسم صنم" كانت ثقيف وقريش يعبدونها، "والعرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم" فيقولون: امصص بظر أمك، فاستعار ذلك أبو بكر في اللات. "انتهى". زاد الحافظ وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك، وقال ابن المنير: في قول أبي بكر تخسيس للعدو ولدينهم وتعريض بإلزامهم من قولهم اللات بنت الله تعالى عن ذلك بأنها لو كانت بنتا كان لها ما يكون للإناث، "فقال عروة: من هذا" لفظ البخاري: من ذا, "قالوا: أبو بكر، فقال" وفي رواية ابن إسحاق: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أبي قحافة"، واستفهم عنه لجلوسه خلف المصطفى، فلا ينافي أنه يعرفه، وله عليه يد، كما قال "أما" بفتح الهمزة وخفة الميم حرف استفتاح، "والذي نفسي بيده". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف عليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كانت عادة العرب   قال الحافظ هذا يدل على أن القسم به كان عادة العرب، "لولا يد" نعمة ومنة "كانت لك عندي لم أجزك" بفتح الهمزة وسكون الجيم وبالزاي لم أكافئك "بها لأجبتك". زاد ابن إسحاق ولكن هذه بها أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها وبين عبد العزيز في روايته عن الزهري، أن اليد المذكورة أن عروة كان تحمل بدية، فأعانه فيها أبو بكر بعون حسن، وفي رواية الواقدي بعشر قلائص وكان غيره يعينه بالاثنين والثلاث. "قال وجعل" عروة "يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم" زاد أبو ذر عن الحموي، والكشميهني كلمة وفي رواية فكلما كلمه "أخذ بلحيته" الشريفة، وفي رواية ابن إسحاق، فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، "والمغيرة بن شعبة" بن مسعود بن معتب الثقفي الصحابي الشهير أسلم قبل الحديبية، توفي سنة خمسين على الصحيح "قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف" قصدا لحراسته، "وعليه المغفر" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء، وفي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير أن المغيرة لما رأى عروة مقبلا لبس لأمته وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه. قال الحافظ: فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف لقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو، ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر، "فكلما أهوى" أي مد أو قصد أو أشار أو أومأ "عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده" إجلالا وتعظيما له صلى الله عليه وسلم "بنعل السيف". قال الحافظ: هو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيره وبعه المصنف وغيره فقول الجوهري وأتباعه: هو الحديدة التي في أسفل جفنه وهو غلافه ليس قيدا. "وقال: أخر" فعل أمر من التأخير "يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم". زاد ابن إسحاق: قبل أن لا تصل إليك، وزاد عروة بن الزبير: فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه، وفي رواية ابن إسحاق: فيقول عروة: ما أفظك وأغلظك "وقد كانت عادة العرب" كما قال في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، لا سيما عند الملاطفة، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كان صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة استمالة وتأليفا. والمغيرة يمنعه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما. انتهى. قال: فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم   الفتح وغيره "أن يتناول الرجل لحية من يكلمه، ولا سيما عند الملاطفة". قال البرهان: يريدون بذلك التحية والتواصل، وأكثرهم فعلا لذلك أهل اليمن، وحكي ذلك عن بعض العجم أيضا، "وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير" فربما رأى عروة لعظمته في قومه أنه نظير للمصطفى وما علم حينئذ أنه لا نظير له فاللائق منعه، "لكن كان صلى الله عليه وسلم يغضي" بغين وضاد معجمتين يتغافل ويسكت "لعروة" فلا يؤاخذه بفعله، ولا يمنعه "استمالة وتأليفا" له ولقومه، "والمغيرة يمنعه إجلالا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما" لعلمه بأن الله تعالى لم يخلق له نظيرا. "انتهى". ما فصل به بين أجزاء الحديث من حكمة تناول اللحية ومنع المغيرة له، "قال فرفع عروة رأسه فقال: "من هذا؟ " وفي رواية أبي الأسود عن عروة بن الزبير، فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب، وقال: ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أصحابك، والله لا أحسب فيكم ألأم منه، ولا أشر منزلة "قال" كذا لأبي ذر، ولغيره قالوا: "المغيرة" وفي رواية ابن إسحاق فتبسم صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: "هذا ابن أخيك "بن شعبة" وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح "فقال: أي غدر" بالمعجمة بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر، أي ترك الوفاء "ألست أسعى في" دفع شر "غدرتك" بفتح الغين أي جنايتك ببذل المال، وفي مغازي عروة: والله ما غسلت يدي من غدرتك ولقد أورثتنا العداوة في ثقيف، وفي رواية ابن إسحاق: وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس. "وكان المغيرة" قبل إسلامه "صحب قوما في الجاهلية" ثلاثة عشرة من ثقيف من بني مالك لما خرجوا للمقوقس بمصر بهدايا، فأحسن إليهم وأعطاهم وقصر بالمغيرة، لأنه ليس من القوم، بل من أحلافهم فغار منهم، ولم يواسه أحد منهم فلما كانوا ببعض الطريق شربوا الخمر وناموا فوثب المغيرة "فقتلهم" كلهم، "وأخذ أموالهم ثم جاء" إلى المدينة "فأسلم" فقال أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ قال: قتلتهم وجئت بأسلابهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء". ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه، فقال: والله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له.   ليحسن أو ليرى رأيه فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام" بالنصب على المفعولية. كذا قال المصنف "فأقبل" بلفظ المتكلم أي أقبله، "وأما المال فلست منه في شيء" أي لا أتعرض له لكونه أخذ غدرا؛ لأنه لا يحل أخذ مال الكفار غدرا حال الأمن، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة وهي تؤدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، وإنما تحل أموالهم بالمحاربة والمغالبة فلعله صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان إسلام قومه فيرد إليهم أموالهم، وفيه أن الحربي إذا أتلف مال الحربي لم يضمن وهو أحد وجهين للشافعية. كذا في الفتح فبلغ ذلك ثقيفا فتهايج الفريقان للقتال بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة عمه حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفرا واصطلحوا، وقد ساق الواقدي وابن الكلبي القصة مطولة وهذا حاصلها قال اليعمري: كذا في الخبر أن عروة عم المغيرة، وإنما هو عم أبيه. انتهى. ولا ضير في ذلك فعم الأب عم فمراده مجرد الفائدة، لا الانتقاد كيف وقد نطق به سيد الفصحاء "ثم إن عروة جعل يرمق" بضم الميم، أي يلحظ "أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه" بالتثنية، "فقال" الراوي حين حدث الحديث لمسور ومروان حكاية عن حال الصحابة مع المصطفى بحضرة عروة: "واله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة" قال المصنف بضم النون ما يخرج من الصدر إلى الفم "إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده تبركا. زاد ابن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، "وإذا أمرهم ابتدروا أمره" أي أسرعوا إلى فعله، "وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه" بفتح الواو فضلة الماء الذي توضأ به أي على ما يجتمع من القطرات وما يسيل من الماء الذي باشر أعضاءه الشريفة عند الوضوء. قاله المصنف وهو صريح في أنه الشرعي، وزعم أنه المراد غسيل يديه وأنه أبلغ لأنه يكون من الطعام ومما يستقذر، فإذا تبادروا إلى ذلك فأولى للشرعي، "وإذا تكلم" عليه الصلاة والسلام, لأبي ذر: تكلموا, أي: الصحابة "خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون" بضم أوله وكسر الحاء المهملة، أي: يديمون "النظر إليه تعظيما له". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 قال في فتح الباري: فيه إشارة إلى الرد ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال: من نحبه هذه المحبة ونعظمه هذا التعظيم كيف يظن أنه نفر عنه ونسلمه لعدوه، بل هم أشد اغتباطا به وبدينه ونصره من هذه القبائل التي تراعي بعضها بمجرد الرحم والله أعلم. انتهى. قال: فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم. والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن يتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم   "قال في فتح الباري: فيه" أي فعل الصحابة ما ذكر وليس الضمير للقول المذكور ويتعسف توجيهه بأنه قال: لأرى وجوها ... إلخ، بحسب ظنه على ما جرت به عادة الأخلاط، فتبين له خطؤه بفعل الصحابة فإن لفظ الفتح، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة، وبالغوا في ذلك "إشارة إلى الرد على ما خشيه من فرارهم، فكأنهم قالوا بلسان الحال من نحبه هذه المحبة، ونعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أن نفر عنه ونسلمه" بضم أوله وسكون السين "لعدوه" من أسلمه إذا خذله. فالمعنى من كانت هذه صفته كيف يترك نصره ويخلى بينه وبين عدوه، "بل هم أشد اغتباطا" بمعجمة، أي تعلقا وتمسكا "به وبدينه ونصره من هذه القبائل التي تراعي بعضها بمجرد الرحم" بقية كلام الفتح، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ "والله أعلم. انتهى". "قال: فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت" بفتح الفاء قدمت "على الملوك، ووفت على قيصر" غير منصرف للعجمة لقب لكل من ملك الروم "وكسرى" بكسر الكاف، وتفتح لكل من ملك الفرس "والنجاشي" بفتح النون وتكسر، وخفة الجيم وأخطأ من شددها، فألف فشين معجمة، فتحتية مشددة ومخففة لقب لمن ملك الحبشة، وهذا من عطف الخاص على العام، وخص الثلاثة بالذكر لأنهم أعظم ملوك ذلك الزمان، "والله إن" بكسر الهمزة وسكون النون نافية، أي ما "رأيت ملكا قط تعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن" بكسر فسكون أيضا, أي: ما "يتنخم" مصارع رواية أبي ذر ولغيره تنخم بلفظ الماضي "نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم" عليه الصلاة والسلام، ولأبي ذر تكلموا، أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له, وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له". فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت   الصحابة "خفضوا أصواتهم عنده" إجلالا وتوقيرا، "وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه" بكسر الهمزة "قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها" بهمزة وصل وفتح الموحدة عند ابن إسحاق. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدًا فروا رأيكم. وعند ابن أبي شيبة من مرسل علي بن زيد فقال عروة: أي قوم قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد وما هو بملك ولقد رأيت الهدي معكوفا وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة فانصرف هو ومن تبعه إلى الطائف. وفي قصة عروة من الفوائد ما يدل على جودة عقله وتفطنه، وما كان على الصحابة من المبالغة في تعظيمه صلى الله عليه وسلم وتوقيره ومراعاة أموره وردع من جفا عليه بقول أو فعل والتبرك بآثاره "فقال رجل" هو الحليس بمهملتين مصغر، وسمى ابن إسحاق والزبير بن بكار أباه علقمة وكان الحليس سيد الأحابيش يومئذ قال البرهان: لا أعلم له إسلاما والظاهر هلاكه على كفره "من بني كنانة دعوني آته" بالجزم وكسر الهاء رواية أبي ذر أي: أذهب إليه، ولغيره آتيه بتحتية قبل الهاء "فقالوا: ائته" بهمزة ساكنة وكسر الهاء فأتاه "فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن" جمع بدنة، وهي البعير ذكرا كان أو أنثى والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث. وعن مالك أنه كان يتعجب ممن يخصها بالأنثى، وقال الأزهري: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، فنقل النووي عنه أن البدنة من الإبل والبقر، والغنم خطأ نشأ عن سقط، وفي الصحاح البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك، لأنهم كانوا يسمنونها، قاله الحافظ في كتاب الجمعة "فابعثوها" أي أثيروها دفعة واحدة "له" , "فبعثوها له" ليعتبر برؤيتها، ويتحقق أنهم لم يريدوا حربا، فيعينهم على دخول مكة لنسكهم، "واستقبله الناس يلبون" بالعمرة "فلما رأى" الكناني "ذلك قال" متعجبا "سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا" بضم أوله وفتح المهملة يمنعوا "عن البيت". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته. فلما أشرف عليهم قال   وفي رواية الزبير بن بكار أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير، ويمنع ابن عبد المطلب وعند ابن إسحاق والواقدي، وابن سعد فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده، وقد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن في مغازي عروة عند الحاكم: فصاح الحليس فقال: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عمارا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أجل يا أخا بني كنانة" قال الحافظ: فيحتمل أنه خاطبه على بعد، "فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت" بضم القاف وكسر اللام مشددة "وأشعرت" بضم أوله وسكون المعجمة وكسر المهملة "فما أرى" بفتح الهمزة "أن يصدوا عن البيت". زاد ابن إسحاق فقالوا له: اجلس فإنما أنت إعرابي لا علم لك وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، فقالوا له: اكفف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. قال الحافظ: وفي هذه القصة جواز المخادعة في الحرب وإظهار إرادة الشيء والمقصود غيره، وأن كثيرا من المشركين كانوا يعظمون حرمات الإحرام والحرم وينكرون على من يصد ذلك تمسكا منهم ببقايا دين إبراهيم عليه السلام. "فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص" زاد ابن إسحاق بن الأخيف وهو بمعجمة فتحتية ففاء من بني عامر بن لؤي، قال في الإصابة والنور: لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن حبان بلفظ يقال له: صحبة ومكرز بكسر الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء بعدها زاي كما ضبطه الحافظ أبو علي الغساني وغيره. قال السهيلي في غزوة ودان، وهكذا الرواية حيث وقع قال ابن ماكولا: ووجدته بخط ابن عبدة النسابة بفتح الميم، قال الحافظ في الفتح: وبخط يوسف بن خليل الحافظ بضم الميم، وكسر الراء، والأول المعتمد، "فقال: دعوني آته" بالجزم وكسر الهاء رواية أبي ذر مضارع أتى بالقصر جاء أما بالمد فمعناه أعطى ولغيره آتيه بياء على الاستئناف، "فلما أشرف عليهم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز، وهو رجل فاجر". فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو   النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا مكرز وهو رجل فاجر" بالفاء والجيم. وفي رواية ابن إسحاق: "غادر". قال الحافظ: وهو أرجح، وما زلت متعجبا من وصفه بالفجور مع أنه لم يقع منه في قصة الحديبية فجور ظاهر، بل فيها ما يشعر بخلاف ذلك، كما سيأتي من كلامه في قصة أبي جندل، إلى أن رأيت في مغازي الواقدي في غزوة بدر أن عتبة بن ربيعة قال لقريش: كيف نخرج من مكة وبنو كنانة خلفنا لا نأمنهم على ذرارينا، وذلك أن حفص بن الأخيف كان له ولد وضيء، فقتله رجل من بني بكر بن كنانة بدم لهم كان في قريش فتكلمت قريش في ذلك، ثم اصطلحوا فعدا مكرز بعد ذلك على عامر بن يزيد سيد بني بكر غرة، فقتله فنفرت من ذلك كنانة، فجاءت وقعة بدر أثناء ذلك، فكان مكرز معروفا بالغدر. وذكر الواقدي أيضا أنه أراد أن يثبت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلا فأخذهم محمد بن مسلمة، وهو على الحرس وانفلت مكرز، فكأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ذلك. انتهى، وبه تعلم أنه لا وجه لقول الشارح: إن قوله: وهو رجل غادر بوحي؛ لأنه لو كان ناشئا عن خبر لذكروه. انتهى. فهذا خبره "فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: فقال له صلى الله عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه، "فبينما" بالميم "هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو" القرشي، العامري خطيب قريش سكن مكة، ثم المدينة أسلم في الفتح قال الإمام الشافعي: كان محمود الإسلام من حين أسلم. روى البخاري في تاريخه، والباوردي عن الحسن قال: كان من الطلقاء فنظر بعضهم إلى بعض فقال سهيل: على أنفسكم فاغضبوا دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعيتم إلى أبواب الجنة، ثم خرج إلى الجهاد. وروى ابن شاهين عن ثابت البناني قال: قال سهيل والله لا أدع موقفا وقفته مع المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت على المسلمين مثلها، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضا مات بالشام بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة عند الأكثر, ويقال: قتل باليرموك، ويقال: بمرج الصفراء وقضية هذا الحديث الصحيح أنه جاء قبل انصراف مكرز من عند المصطفى، وفي رواية ابن إسحاق: أن مكرزا رجع إلى قريش فأخبرهم بقوله صلى الله عليه وسلم وأن ذهاب الحليس، ثم عروة بعد مكرز فيجمع بأنه رجع فأخبرهم، ثم جاء مع سهيل في الصلح هو وحويطب كما رواه الواقدي، وابن عائذ، فكان مكرز سبق سهيلا في المجيء فكلم المصطفى فجاء سهيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم من أمركم". وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا". فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول   وأما ثم في رواية ابن إسحاق في قوله: ثم بعثوا الحليس ثم عروة، فإنما هي للترتيب الذكري فلا تعارض رواية الصحيح وإلا فما في الصحيح أصح. "قال معمر" بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة ابن راشد مما هو موصول إليه بالإسناد السابق، "فأخبرني" بالإفراد "أيوب" هو السختياني "عن عكرمة" بن عبد الله البربري مولى ابن عباس: أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سهل لكم" بفتح السين وضم الهاء، كما اقتصر عليه المصنف, زاد الدماميني وبضم السين وكسر الهاء مشددة: "من أمركم". قال الكرماني: فاعل سهل ومن زائدة أو تبعيضية أي سهل بعض أمركم. انتهى. أي على جعل الفاعل مضمون الجار والمجرور أو جعلهما صفة لمحذوف أي شيء من أمركم فسمي فاعلا لقيامه مقام الموصوف المحذوف فلا يرد على جعلها تبعيضية أن الفاعل لا يجر إلا بحرف الجر الزائد وهو من أو الباء قال المصنف، وهذا من باب التفاؤل وكان يعجبه الفأل الحسن وأتى بمن التبعيضية إيذانا بأن السهولة الواقعة في هذه القصة ليست عظيمة. قيل: ولعله عليه السلام أخذ ذلك من التصغير في سهيل فإن تصغيره يقتضي كونه ليس عظيما انتهى. قال في الفتح: وهذا مرسل ولم أقف على من وصله، فذكر ابن عباس فيه لكن له شاهد موصول عند ابن أبي شيبة عن سلمة بن الأكوع قال: بعثت قريش سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصالحوه، فلما رأى صلى الله عليه وسلم سهيلا قال: "قد سهل لكم من أمركم". وللطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب. "وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سهيل بن عمرو, فقالت: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه", ولا تكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا، فأتى سهيل "فقال صلى الله عليه وسلم" لما رآه مقبلا: "قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا" الرجل، "فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وبرك على ركبتيه، وتربع المصطفى، وقام عباد بن بشر وسلمة بن أسلم على رأسه مقنعان في الحديد، وجلس المسلمون حوله "جرى بينهما القول" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين وأن يؤامر بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم هذا. وقال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا, فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن الرحيم فوالله، ما أدري ما هو   وأطال سهيل الكلام وتراجعا، وقال له عباد: اخفض صوتك عند النبي صلى الله عليه وسلم "حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهم عشر سنين"، كما في رواية ابن إسحاق هذه، وبه جزم ابن سعد وأخرجه الحاكم من حديث علي، وهو المعتمد وقع في مغازي ابن عائذ عن ابن عباس وغير أنه كان سنتين، وكذا عند ابن عقبة قال الحافظ: ويجمع بأن العشر هي المدة التي وقع الصلح عليها والسنتين هي التي انتهى أمر الصلح فيها حتى نقضته قريش، كما يأتي في غزوة الفتح وما وقع في كامل ابن عدي ومستدرك الحاكم وأوسط الطبراني عن ابن عمران مدة الصلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح "وأن يؤامر بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامهم، هذا" إلى هنا نقله من رواية ابن إسحاق، "و" عاد المصنف لحديث البخاري. فقال: "قال معمر" هو موصول بالإسناد الأول إلى معمر وهو بقية الحديث، وإنما اعترض حديث عكرمة في أثنائه. قال الحافظ: "قال الزهري في حديثه" السابق بسنده عن عروة عن مسور ومروان "فجاء سهيل بن عمر، فقال: هات" بكسر التاء أي افعل معنا ما يؤكد ما اصطلحنا عليه فمفعول هات محذوف، وكأنه قيل: ماذا تريد؟ قال: "اكتب بيننا وبينكم كتابا", فهو استئناف مبين للمطلوب، فلا يراد أن أكتب للطلب، والطب لا يحسن كونه مطلوبا بالطلب الأول "فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب" هو علي بن أبي طالب، كما رواه البخاري في كتاب الصلح عن البراء بن عازب، وكذا أخرجه عمر بن شبة عن سلمة بن الأكوع وعنده أيضا عن سهيل بن عمرو. الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة ويجمع بأن أصل كتاب الصلح بخط علي كما هو في الصحيح ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل، ومن الأوهام ما وقع عند عمر بن شبة أنه هشام بن عكرمة وهو غلط فاحش، فإن الصحيفة التي كتبها هشام هي التي اتفقت عليها قريش لما حصروا بني هاشم في الشعب بمكة قبل الهجرة وبينها وبين هذه نحو عشر سنين. ونبهت على هذا لئلا يغتر من لا يعرف فيعتقده خلافا في اسم كاتب قصة الحديبية قال الحافظ: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو" ولأبي ذر عن الحموي، والمستملي ما هو بتأنيث الضمير أي كلمة الرحمن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا تكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم". ثم قال: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الحاكم: " هذا ما صالح محمد رسول الله أهل مكة" ... الحديث. فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك, ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.   وفي رواية فقال سهيل: لا أعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، "ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب" قبل ذلك في بدء الإسلام، كما كانوا يكتبونها في الجاهلية، فلما نزلت آية النمل كتب بسم الله الرحمن الرحيم، فأدركتهم حمية الجاهلية، وفي حديث أنس فقال سهيل: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن أكتب ما نعرف باسمك الله، وللحاكم عن عبد الله بن مغفل فأمسك سهيل يده، فقال: أكتب في قضيتنا ما نعرف باسمك اللهم، "فقال المسلمون: والله لا تكتبها" أي التسمية ملتبسة بصيغة ما "إلا" إذا كانت "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب باسمك اللهم" فكتب كما في رواية الحاكم، والظاهر أنهم لم يكفروا عن أيمانهم لأن نيتهم ما لم يتحتم بأمر المصطفى، "ثم قال" اكتب "هذا" إشارة إلى ما في الذهن، "ما قاضى" بوزن فاعل من قضيت الشيء، أي فصلت الحكم فيه "عليه محمد رسول الله" فيه جواز كتابة مثل ذلك في المعاقدات، والرد على من منعه معتلا بخشية أن يظن ما أنها النافية نبه عليه الخطابي، "وفي حديث عبد الله بن مغفل" بضم الميم وفتح المعجمة والفاء الثقيلة ولام ابن عبد نهم بفتح النون وسكون الهاء أبي عبد الرحمن المزني بايع تحت الشجرة ونزل البصرة، مات سنة سبع وخمسين، وقيل بعدها "عند الحاكم"، فكتب "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة" ... الحديث. والغرض منه بيان أن المراد بقاضى صالح والمفعول، وهو أهل مكة، "فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله: ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك" وللبخاري في الصلح لا نقر لك بها، أي بالنبوة وله في المغازي لا نقر لك بهذا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولبايعناك. وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فقال سهيل: ظلمناك إن أقررنا لك بها، ومنعناك وللحاكم عن عبد الله بن مغفل لقد ظلمناك إن كنت رسولا. قال المصنف عن الطيبي وعبر بالمضارع بعد لو التي للماضي ليدل على الاستمرار، أي استمر عدم علمنا برسالتك في سائر الأزمنة من الماضي والمضارع، وهذا كقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] . قال شيخنا: الأولى التعبير بالحال بدل المضارع لأنه إذا أطلق، فالمراد به لفظ الفعل، وهو لا يصلح لبيان الزمان، "ولكن اكتب محمد بن عبد الله" وفي حديث أنس: ولكن اكتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله كذبتموني". وفي رواية له -أي البخاري- ومسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "امحه" فقال ما أنا بالذي أمحاه، وهي لغة في أمحوه. قال العلماء: وهذا الذي فعله علي من باب الأدب المستحب، لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتم محو على نفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولم حتم محوه لنفسه لم يجز لعلي تركه انتهى. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانها" فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله.   اسمك واسم أبيك. وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الحاكم فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لرسول الله وإن كذبتموني" قال المصنف: بتشديد المعجمة وجزاؤه محذوف. انتهى. وتقديره لا يضرني ذلك في رسالتي أو نحوه وبعد هذا في البخاري اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك أي إجابته لسهيل في الأمرين لقوله: "لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، وللنسائي عن علي كنت كاتب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فكتبت: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال سهيل: لو علمنا أنه رسول الله ما قاتلناه. امحها قلت: هو رسول الله وإن رغم أنفك لا والله لا أمحوها أبدا. "وفي رواية له أي للبخاري" في عمرة القضاء والصلح والجزية "ومسلم" كلاهما من حديث البراء بن عازب, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "امحه"، وفي رواية: "امح رسول الله واكتب ما أرادوه". "فقال: ما أنا بالي أمحاه", وفي رواية: لا والله لا أمحوك أبدا, "وهي" أي: أمحاه بالألف "لغة في أمحوه" بالواو وفيه لغة ثالثة: أمحيه كما في المختار، ولم يذكرها المصباح، فلعله اقتصر على الواو لقلة أمحي بالياء "قال العلماء وهذا الذي فعله علي من باب الأدب المستحب" لأن العظيم إذا أمر بشيء وظن المأمور أنه لم يحتمه، فالأدب في حقه التوقف حتى يتحقق ما عند الآمر، "لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتم محو على نفسه، ولهذا لم ينكر عليه ولو حتم" النبي صلى الله عليه وسلم "محوه" أي على "لنفسه" أي على اسمه الشريف "لم يجز لعلي تركه. انتهى". وعند الواقدي أن أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد علي ومنعاه أن يكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا وبينهم وارتفعت الأصوات فجعل صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومئ بيديه إليهم اسكتوا، "ثم قال صلى الله عليه وسلم" في حديث البراء هذا لعلي "أرني مكانها". "فأراه مكانها، فمحاه" أي لفظ رسول الله "وكتب: ابن عبد الله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 وفي رواية البخاري -في المغازي- فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب -وليس يحسن يكتب- فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. وكذا أخرجه النسائي وأحمد ولفظه: فأخذ الكتاب -وليس يحسن أن يكتب- فكتب مكان رسول الله: محمد بن عبد الله. قال في فتح الباري: وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي   زاد النسائي عن علي: "أما أن لك مثلها وستأتيها وأنت مضطر". يشير إلى ما وقع لعلي يوم الحكمين فإنه لما كتب الكاتب: بهذا ما صالح عليه علي أمير المؤمنين. أرسل معاوية يقول: لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته, امحها واكتب ابن أبي طالب, فقال علي: الله أكبر مثل بمثل, امحها. "وفي رواية البخاري في" باب عمرة القضاء من كتاب "المغازي" من حديث البراء، "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب" أي، فقال لعلي: "أرني مكانها". فأراه فمحاه كما في الرواية التي فوقها، ثم أعادها لعلي "فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله،" أي: فصار جملة المكتوب ذلك، لأن الممحو لفظ رسول الله فقط، كما في الرواية فوقه قال الحافظ: وقد روى البخاري في الصلح هذا الحديث بهذا الإسناد، وليس فيه لفظة: ليس يحسن يكتب، ولذا أنكر بعض المتأخرين علي بن موسى يعني المديني نسبتها للبخاري، فقال: ليست فيه ولا في مسلم وهو كما قال عن مسلم فإنه عنده بلفظ فأراه مكانها فمحاها وكتب: ابن عبد الله، وقد عرفت ثوبتها في البخاري في مظنة الحديث، "وكذا أخرجه النسائي" بلفظ رواية البخاري سواء "وأحمد لفظه، فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب مكان رسول الله محمد بن عبد الله قال في فتح الباري" عقب هذا: "وقد تمسك بظاهر هذه الرواية" التي هي: فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب "أبو الوليد الباجي" بفتح الموحدة وبالجيم نسبة إلى باجة مدينة بالأندلس العلامة الحافظ ذو الفنون سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب، ولد سنة ثلاث وأربعمائة وأخذ بالأندلس عن جمع ج ثم رحل ولازم أبا ذر الهروي الحافظ ثلاثة أعوام بالحجاز، وتفقه بأبي الطيب وغيره، وأخذ العقليات بالموصل عن أبي جعفر السمناني، وسمع بمصر، والشام والعراق والحجاز، وحج أربع حجات وبرع في الحديث وعلله ورجاله والفقه وغوامضه والكلام ومضايقه، وفقه الناس، وروى عنه خلائق وصنف في الجرح والتعديل والتفسير والفقه والأصول. قال عياض: آجر نفسه ببغداد لحراسة دربه فكان يستعين بالأجرة على نفقته. ولما رجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب. فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرءان حتى قال قائلهم شعرا: برئت ممن شرى دنيا بآخرة وقال إن رسول الله قد كتبا فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة وقال الأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] وبعد أن تحققت أميته وتقررت لذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى.   إلى الأندلس كان يضرب ورق الذهب ويعقد الوثائق قال لي أصحابه: كان يخرج لإقرائنا وفي يده أثر المطرقة إلى أن فشا علمه واشتهرت تآليفه فعرف حقه وعظم جاهه وقرب من الرؤساء فأجزلوا صلاته حتى مات عن مال كثير تاسع عشر رجب سنة أربع وسبعين وأربعمائة، "فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس" بفتح الهمزة والدال على المشهور ويقال بضمهما، واقتصر عليه أبو الفتح الهمداني "في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن" وأطلقوا عليه العيبة وقبحوا عند العامة ما أتى به، وتكلم به خطباؤهم في الجمع "حتى قال قائلهم" فيه شعرا: برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا وشرى بمعنى اشترى ومراد هذا الشاعر الإزراء على الباجي، وأنه قاله ليتميز به على غيره ويتقرب به إلى عظماء بلده ليكرموه ويقدموه على غيره "فجمعهم الأمير فاستظهر الباجي عليهم بما لديه" عنده "من المعرفة" بأساليب الكلام التي لا تنافي القرآن، "وقال للأمير هذا" أي الأخذ من الحديث أنه كتب "لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، "وبعد أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فيكون معجزة أخرى". وصنف الباجي في ذلك رسالة فرجع بها جماعة، وذكر اليعمري أنه بعث إلى الآفاق يستفتي بمصر، والشام والعراق فجمهورهم قال: لم يكتب بيده قط، ورأوا ذلك عل المجاز أي أمر بالكتابة وقالت طائفة: كتب جرت هذه المسألة بحضرة شيخنا الإمام أبي الفتح القشيري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي على ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروي وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية. واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجالد عن عون بن عبد الله قال: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ. قال مجالد: فذكرته للشعبي فقال: صدق، قد سمعت من يذكر ذلك. وقال القاضي عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها، كقوله لكاتبه:   يعني ابن دقيق العيد فلم يعبأ يقول من قال: وقال هو قول أحوج الباجي إلى أن يستنجد بالعلماء من الآفاق، "وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء، وافقوا الباجي على ذلك منهم شيخه" العلامة الإمام الحافظ عبد -بغير إضافة- ابن أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري "أبو ذر الهروي" المالكي، شيخ الحرم، صاحب التصانيف الزاهد الورع العابد العالم كثير الشيوخ، مات في شوال سنة أربع وثلاثين وأربعمائة "وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء إفريقية" وغيرها كما في الفتح "واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة" بفتح المعجمة وتشديد الموحدة ابن عبيد بن زيد النميري بنون مصغر. أبو زيد البصري، نزيل بغداد صدوق له تصانيف مات سنة اثنتين وستين ومائتين، وقد جاور التسعين "من طريق مجالد" بضم الميم وتخفيف الجيم فألف فلام، فدال مهملة ابن سعد بن عمير الهمداني بسكون الميم، أبي عمر والكوفي ليس بالقوي وتغير في آخر عمره، مات سنة أربع وأربعين ومائة "عن عون بن عبد الله" بن عتبة بن مسعد الهذلي أبي عبد الله المكي العابد الثقة، المتوفى قبل سنة عشرين ومائة "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ قال مجالد: فذكرته للشعبي" عامر بن شراحيل التابعي المشهور، "فقال: صدق" عون "قد سمعت من يذكر ذلك". وبعد هذا في الفتح ومن طريق أي وبما أخرجه المذكوران أيضا من طريق يونس بن ميسرة، عن أبي كبشة السلولي، عن سهل ابن الحنظلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها فقال: "قد كتب لك بما أمرت لك". قال يونس: فنرى أنه صلى الله عليه وسلم كتب بعدما أنزل عليه، "وقال القاضي عياض: وردت آثار تدل على معرفته حروف الخط، وحسن تصويرها كقوله لكاتبه" فيما رواه الترمذي عن زيد بن ثابت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 "ضع القلم على أذنك فإنه أذكر لك", وقوله لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم وفرق السين ولا تعور الميم" إلى غير ذلك. قال: وهذا وإن لم يثبت أنه كتب فلا يبعد أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء. وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث. وعن قصة الحديبية: بأن القصة واحدة، والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب رضي الله   "ضع القلم على أذنك" اليمنى "فإنه أذكر لك" أي أكثر ذكرا بكسر الذال وضمها، "وقوله لمعاوية" كاتبه أيضا كثيرا بعد عام الفتح: "ألق الدواة" بفتح الهمزة وكسر اللام والقاف لالتقاء الساكنين، أي أصلح مدادها من لاق إذا لصق واشتهر فيما يجعل من حرير أو لبد ونحوه؛ لأنه يصلحها لمنعه كثرة أخذ المداد في القلم الذي قد يفسد الخط "وحرف القلم" أي اجعل قطه محرفا لأنه أعون على التصوير ويكون تحريفه من جهة اليمين "وأقم الباء" اجعلها مستقيمة أو طولها قليلا، لأنها عوض عن ألف اسم "وفرق السين" اجعل سننها منفصلا بعضها من بعض، "ولا تعور الميم" بضم الفوقية وفتح المهملة وكسر الواو الثقيلة وراء مهملة، أي لا تجعل دائرتها مطموسة كالعين العوراء، وبقية هذا الحديث في الشفاء: "وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم". ورواه الديلمي في مسند الفردوس، وأورد في الشفاء أيضا حديث: "لا تمد بسم الله الرحمن الرحيم". رواه ابن شعبان من طريق ابن عباس، وإليه أشار بقوله "إلى غير ذلك"، لكن قال السيوطي حديث ابن عباس هذا لم أجده، وللديلمي عن أنس: "إذا كتب أحدكم بسم الله الرحمن الرحيم فليمد الرحمن"، وله عن زيد: إذا كتبت فبين السين في بسم الله الرحمن الرحيم "قال" عياض: "وهذا" المذكور من هذه الآثار، "وإن لم يثبت أنه كتب" لجواز أنه عرف صورة الحروف بالسماع مثلا "فلا بعد" عقلا "أن يرزق علم وضع الكتابة، فإنه أوتي علم كل شيء وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث" فلا حجة فيها، وقد صنف أبو محمد بن مفوز كتابا رد فيه على الباجي وبين خطأه وحكي أن أبا محمد الهواري كان يرى ذلك، فرأى في النوم أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم انشق وماج فلم يستقر فاندهش لذلك وقال لعله لاعتقادي لهذه المقالة ثم عقدت التوبة مع نفسي فسكن واستقر، ثم قص الرؤيا على ابن مفوز فعبرها بذلك واستظهر بقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [مريم: 90] . "وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة والكاتب فيها هو علي بن أبي طالب رضي الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 عنه، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة بأن عليا هو الذي كتب فيحتمل أن النكتة في قوله فأخذ الكتاب، وليس يحسن يكتب لبيان أن قوله "أرني إياها" إلى أنه إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة. وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب، فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلي فكتب: أو أطلق "كتب" بمعنى: أمر بالكتابة، وهو كثير، كقوله: كتب إلى كسرى وقيصر. وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم -وهو لا يحسن الكتابة- أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك. ويحتمل أن تكون جرت يده بالكتابة حينئذ، وهو لا يحسنها، فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى في   عنه، وقد صرح في حديث المسور بن مخرمة" وغيره عند البخاري وغيره، "أن عليا هو الذي كتب" فمجرد رواية أن المصطفى كتب لا تدل على خلافه لقبولها التأويل، "فيحتمل أن النكتة في قوله، فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب لبيان أن قوله أرني إياها إنما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك فكتب فيه حذف تقديره فمحاها" إبرار القسم علي "فأعادها لعلي فكتب". وبهذا جزم ابن التين "أو أطلق كتب بمعنى أمر بالكتابة وهو كثير، كقوله كتب إلى كسرى وقيصر وعلى تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم، وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالما بالكتابة" كا ادعى الباجي ومن وافقه "ويخرج عن كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف صور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا ككثير من الملوك ويحتمل أن تكون جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج المكتوب على وفق المراد فيكون معجزة أخرى في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا, وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمة الأصول من الأشاعرة وتبعه ابن الجوزي. وتعقب ذلك السهيلي وغيره: بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب، وهي الآية التي قامت بها الحجة، وأفحم الجاحد، وانحسمت الشبهة، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة، وقال المعاند: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتب ذلك. قال السهيلي: والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا، والحق: أن معنى قوله "كتب" أمر عليا أن يكتب. انتهى. قال: وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة   ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا". "وبهذا أجاب أبو جعفر" محمد بن أحمد بن محمد بن محمود الفقيه الحنفي "السمناني" بكسر السين المهملة، وسكون الميم وفتح النون الأولى نسبة إلى سمنان العراق "أحد أئمة الأصول من الأشاعرة" سكن بغداد وسمع الدارقطني وغيره وعنه الخطيب، وقال: كان ثقة عالما فاضلا حسن الكلام والباجي، وغيرهما ولد سنة إحدى وستين وثلاثمائة، ومات بالموصل وهو قاض بها سنة أربع وأربعين وأربعمائة، "وتبعه ابن الجوزي" أبو الفرج الحافظ عبد الرحمن البكري المشهور، "وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأن هذا وإن كان ممكنا، ويكون آية أخرى لكنه يناقض كونه أميا لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وانحسمت الشبهة" التي افتراها عليه الكفار، فقالوا: أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملي عليه, ونحو ذلك، "فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة وقال المعاند" الكافر: كان يحسن يكتب لكنه كان يكتم ذلك". "قال السهيلي": تقوية لرد هذا الاحتمال "والمعجزات يستحيل أن يدفع بعضها بعضا،" فلو قلنا أن كتابته يومئذ معجزة أخرى دفعت كونه أميا "والحق أن معنى قوله: كتب، أمر عليا أن يكتب" كما قاله الجمهور. "انتهى" قول السهيلي. "قال" صاحب الفتح: لا عياض كما وهم، فإنه متقدم على السهيلي، فلا يتأتى تنظيره في كلامه، "وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة" التي هي جريان يده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير، والله أعلم. انتهى. وأما قوله: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" وقوله: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم ... إلخ. فقال العلماء: وافقهم عليه الصلاة والسلام في عدم كتابة: بسم الله الرحمن الرحيم, وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله، وترك كتابة: رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح. مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور: أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضا رسوله، وليس في ترك وصف الله تعالى   بالكتابة، وهو لا يحسنها "تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظير كبير" لأنه خارق للعادة لا اختيار له فيه، حتى لو أراد كتابة غيره اختيارا لم يقدر فهو باق على أميته، وأجاب شيخنا بأن كونه خارقا للعادة باعتبار نفس الأمر وأما الواقف عليه فإنما يحمله على أنه فعله اختيارا فتعود الشبهة التي أريد دفعها عنه صلى الله عليه وسلم "والله أعلم" بما في نفس الأمر "انتهى" كلام فتح الباري. "وأما قوله" صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم". "وقوله" أي سهيل: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم ... إلخ". "فقال العلماء وافقهم عليه الصلاة والسلام في عدم كتابة: بسم الله الرحمن الرحيم، وكتب: باسمك اللهم، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله، وترك كتابة: رسول الله للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح"؛ لأنه يترك المصلحة مع الإمكان قال أبو بكر رضي الله عنه: ما كان فتح أعظم من صلح الحديبية، ولكن قصر رأيهم عما كان بين رسول الله وبين ربه والعباد يعجلون، والله تعالى لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد رأيت سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه ورسول الله ينحرها بيده, ودعا الحلاق، فحلق رأسه، فانظر إلى سهيل يلتقط من شعره، وجعل بعضه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقر يوم الحديبية ببسم الله الرحمن الرحيم، فحمدت الله الذي هداه للإسلام. "مع أنه لا مفسدة في هذ الأمور،" ووجه نفي المفسدة بقوله: "أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله "محمد بن عبد الله" هو أيضا رسوله" كما قال عليه السلام في رواية للبخاري: "أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله" وليس من ترك وصف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما المفسدة لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك. انتهى. قال في رواية البخاري: فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به". فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة, ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا.   الله في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصفه صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه", فلذا وافقهم عليه، "وإنما المفسدة لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك" ولم يقع "انتهى" ما قاله العلماء "قال في رواية البخاري": التي في الشروط عقب ما مر قبل قوله، وفي رواية له بعدما نقلته ثمة، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال" النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به" بالتخفيف بالنصب عطف على المنصوب السابق، وفي نسخة نطوف بالرفع على الاستئناف، وفي أخرى فنطوف بتشديد الطاء والواو وأصله نتطوف بالنصب والرفع، "فقال سهيل: والله لا" نخلي بينك وبين البيت "تتحدث العرب أنا أخذنا" بضم الهمزة، وكسر الخاء "ضغطة" بضم الضاد، وسكون الغين المعجمتين، والنصب على التمييز قهرا والجملة استئنافية، وليست مدخولة لا قاله كله المصنف، "ولكن ذلك" الذي أردته من التخلية "من العام المقبل فكتب" على ذلك، "فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا". وفي رواية للبخاري أيضا في أول كتاب الشروط بلفظ، ولا يأتيك منا أحد وهي تعم الرجال والنساء، فدخلن في هذا الصلح، ثم نسخ ذلك فيهن أو لم يدخلن إلا بطريق العموم، فخصص زاد ابن إسحاق ومن جاء قريشا ممن تبع محمدا لم يردوه إليه، ولمسلم من حديث أنس أن قريشا صالحت البي صلى الله عليه وسلم على أن من جاء منكم لم نرده إليكم، ومن جاءكم منا رددتموه إلينا فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: "نعم, فإنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا". وللبخاري في أول الشروط، وكان فيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ والضغطة، بالضم، قال في القاموس: الضيق والإكراه والشدة. انتهى. فإن قلت: ما الحكمة في كونه عليه الصلاة وافق سهيلا على أنه لا يأتيه رجل منهم وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين.   اشترط سهيل على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه بعين مهملة وضاد معجمة أي غضبوا من هذا الشرط وأنفوا منه. قال: فأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك "فقال المسلمون" متعجبين: "سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء" حال كونه "مسلما". قال الحافظ: قائل ذلك يشبه أن يكون عمر لما سيأتي وسمى الواقدي ممن قال ذلك أسيد بن حضير وسعد بن عبادة وسهل بن حنيف أنكر ذلك أيضا كما في المغازي من البخاري، "والضغطة بالضم" للضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة، كما اقتصر عليه الفتح "قال في القاموس: الضيق والإكراه والشدة. انتهى". وهي ألفاظ متقاربة وفي النهاية، أي عصرا وقهرا، يقال: أخذت فلانا ضغطة إذا ضيقت عليه لتكرهه على الشيء، وفي ترتيب المطالع بفتح الضاد وضمها للأصيلي، أي قهرا واضطرارا، وفي حديث البراء عند البخاري لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب، وأن لا يخرج من أهلها بأحد إن أراد أن يتبعه، أن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها وعند ابن إسحاق: وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة أي أمورا مطوية في صدور سليمة إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها، وأنه لا إسلال ولا إغلال أي لا سرقة ولا خيانة. فالإسلال من السل وهي السرقة والإغلال الخيانة، تقول أغل الرجل أي خان أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف، والمراد أن يأمن بعضهم من بعض ونفوسهم وأموالهم سرا وجهرا، وقيل الإسلال من سل السيوف والإغلال من لبس الدروع، ووهاه أبو عبيد قال: وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه, ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة علينا, وأنه إذا كان عام قابل خرجنا فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيره، "فإن قلت ما الحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام وافق سهيلا على أن لا يأتيه رجل منهم، وإن كان على دين الإسلام إلا ويرده إلى المشركين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 فالجواب: إن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة، وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم، ودخول الناس في دين الله أفواجا. وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة، وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام، قبل فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام.   "فالجواب" كما نقله النووي عن العلماء "أن المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح" هي "ما ظهر من ثمراته الباهرة" الغالبة، "وفوائده المتظاهرة" التي علمها صلى الله عليه وسلم وخفيت على غيره، فحمله ذلك على موافقتهم لأنه لا يترك ما فيه مصلحة للمسلمين. وقد علم أن الله سيجعل للمستضعفين فرجا ومخرجا كما أخبر بذلك فكان كما قال فظهرت مصلحة هذا الفتح "التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ودخول الناس في دين الله أفواجا" جماعات، "وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر" أي تظهر "عندم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي", وعبر بالمفاعلة إشارة إلى أنه بعد الصلح صار بعض الأمور لظهوره، كأنه يعاون البعض وهو مستلزم لكمال الظهور. وفي المختار: التظاهر التعاون, "ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته" طريقته وهيئته من إضافة الصفة للموصوف "وجميل طريقته" مساو لما قبله حسنه اختلاف اللفظ. "وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت نفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة" كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاصي، وغيرهما، "وازداد الآخرون" وهم من لم يسلم حينئذ "ميلا إلى الإسلام". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم، لما كان قد تمهد لهم من الميل. وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي. قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 1, 2] فالله ورسوله أعلم. انتهى. قال في رواية البخاري: فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده   "فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش" لما يعلمونه فيهم من القوة والرأي، ولأنهم كانوا يقولون: قوم الرجل أعلم به. "فلما أسلمت قريش أسلمت العرب، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه {وَالْفَتْحُ} ، فتح مكة باتفاق كقوله: "لا هجرة بعد الفتح" {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} جماعات، جاءه العرب بعد فتح مكة من أقطار الأرض طائعين، "فالله ورسوله أعلم" بالحكمة البالغة التي منها أن صد المسلمين عن البيت كان في الظاهر هضما وفي الباطن عزا لهم وقوة، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وقهروا من حيث أرادوا الغلبة ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. "انتهى" كلام العلماء. "قال في رواية البخاري" التي في الشرط: "فبينما" بالميم "هم كذلك" وعند ابن إسحاق: فإن الصحيفة لتكتب، "إذ دخل أبو جندل" بالجيم، والنون وزن جعفر, "ابن سهيل بن عمرو" القرشي العامري، وكان اسمه العاصي فتركه لما أسلم، حبس بمكة ومنع الهجرة وعذب بسبب الإسلام، وله أخ اسمه عبد الله أسلم أيضا قديما وحضر مع المشركين بدرا ففر منهم إلى المسلمين، ثم كان معهم بالحديبية. وقد وهم من جعلهما واحدا، وقد استشهد عبد الله باليمامة قبل أبي جندل بمدة، فإنه استشهد بالشام في خلافة عمر كما ذكره ابن عقبة عن الزهري، قاله في الفتح، وفي رواية أبي الأسود عن عروة: وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرح به المسلمون وتلقوه حال كونه "يرسف" بفتح أوله وضم المهملة وبالفاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب أنه "في قيوده". هكذا ضبطه في الفتح والنور والمصنف وغيرهم فهو الرواية، وقال الحافظ في المقدمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي". قال: ما أنا بمجيز ذلك. قال: "بلى فافعل". قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى   بضم السين، ويقال بكسرها هو مشي المقيد، فقوله: يقال أي في اللفظ من حيث هو بدليل اقتصاره في الفتح على الضم، "وقد خرج" لما خرج من السجن "من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين". زاد ابن إسحاق فقام سهيل إلى أبي جندل فضرب وجهه، وأخذ يتلببه قال البرهان: أي جمع عليه ثوبه الذي هو لابسه، وقبض عليه نحره، "فقال" أبوه "سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك،" أي أول شيء أحاكمك "عليه أن ترده إليّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد". قال المصنف بنون مفتوحة، فقاف ساكنة، فضاد معجمة، أي لم نفرغ من كتابته ولأبي ذر عن المستملي والحموي: لم نفض بالفاء وتشديد المعجمة. انتهى. والمراد به أيضا الفراغ مجازا؛ لأنه بالفاء: الكسر. فض الإناء: كسره, فأطلق اللازم وأراد الملزوم، وهو عدم الفراغ من الكتاب: "قال: فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" بالجيم والزاي بصيغة فعل الأمر من الإجازة، أي أمض لي فعلي فيه ولا أرده إليك أو استثنه من القضية، ووقع في الجمع للحميدي بالراء. ورجح ابن الجوزي الزاي وفيه أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والإشهاد، ولذا أمضى صلى الله عليه وسلم لسهيل الأمر في ابنه إليه. وكان تلطف به بقوله: "لم نقض الكتاب" رجاء أن يجيبه ولا تنكره بقية قريش؛ لأنه ولده فلما أصر على الامتناع تركه له. قال الحافظ: وبه تعلم سقوط قول الشارح كأنه أشار بذلك إلى عدم انبرام الصلح بينهم، فكأنه قال لم يستقر الأمر على رد من جاءنا منكم. "قال: ما أنا بمجيز ذلك" هي رواية أبي ذر ولغيره: بمجيزه لك. قال: "بلى فافعل". "قال: ما أنا بفاعل, قال مكرز", زاد الواقدي: وحويطب: "بلى" كذا للأكثر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا. زاد ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا"   بلفظ الإضراب وللكشميهني: بلى "قد أجزناه لك" فأخذاه فأدخلاه فسطاطا وكفا أباه عنه كما في رواية الواقدي وغيره. وفي فتح الباري لم يذكر هنا من أجاب به سهيل مكرزا، فزعم بعض الشراح أنه لم يجبه؛ لأن مكرزا لم يكن ممن جعل له عقد الصلح وفيه نظر، فقد روى الواقدي وابن عائذ أنه كان ممن جاء في الصلح مع سهيل ومعهما حويطب بن عبد العزى، لكن ذكرا أن إجازته إنما هي في تأمينه من العذاب ونحو ذلك لا بأن يقرأه عند المسلمين لكن يعكر عليه رواية الصحيح. فقال مكرز: "قد أجزناه لك" يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استشكل ما وقع منه لأنه خلاف قوله عليه السلام وهو فاجر، فكان الظاهر أن يساعد سهيلا على ابنه وأجيب بأن الفجور حقيقة ولا يلزم أن لا يقع منه شيء من البر نادرا أو قال ذلك نفاقا وفي بطنه خلافه، أو سمع قوله صلى الله عليه وسلم هو رجل فاجر فأراد إظهار خلافه فهو من جملة فجوره، ولو ثبتت رواية الواقدي وابن عائذ لكانت أقوى من هذه الاحتمالات، فإنه إنما أجازه ليكف عنه العذاب ليرجع إلى طاعة أبيه فما خرج بذلك عن الفجور. انتهى ملخصا. وفي رواية ابن إسحاق: ثم قال أي سهيل: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: "صدقت". "قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد" بضم الهمزة وفتح الراء "إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ " بكسر القاف وفتحها بعضهم، "وكان قد عذب في الله عذابا شديدا". "زاد ابن إسحاق" بعد نحو، هذا وهو قوله وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني، فزاد الناس ذلك إى ما بهم، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر" وقد تم الصلح قبل أن تأتي وتلطفت بأبيك، فأبى "وإن الله جاعل لك" ولمن معك من المستضعفين، كما في نفس رواية ابن إسحاق، وأسقطها المصنف تبعا للفتح "فرجا ومخرجا" كأنه علم ذلك بالوحي. وفي رواية أبي المليح فأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أبا جندل وبقية رواية ابن إسحاق: "فإنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فوثب عمر يمشي إلى جنبه ويقول، اصبر فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب. قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما: أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم تمكن التورية، فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك، مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. والوجه الثاني: إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك, وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله تعالى يبتلي به صبر عباده المؤمنين.   قد عقنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم". قال "فوثب عمر" بن الخطاب مع أبي جندل "يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر" يا أبا جندل، "فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم الكلب" ويدني قائم السيف يقول عمر رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، قال: فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية انتهى كلام ابن إسحاق. "قال الخطابي تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم" أي ما يبقى به نفسه مما ظهره كفر، "إذ خاف الهلال ورخص له أن يتكلم بالكفر"، أو يفعل ما ظاهره كفر كسجود لصنم "مع إضمار الإيمان" بأن يصمم عليه بقلبه، فقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فالمكره غير مكلف "إن لم تمكن التورية" لعدم معرفتها أو قبولهم لها، "فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك" أي تسليطا لهم عليه وتخذيلا له "مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية". "والوجه الثاني إنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك" لما جبلت عليه النفوس من محبة الولد "وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة" بفتح الميم أي سعة وفسحة "بالتقية أيضا"، فليس رده لأبيه طريقا للهلاك، لأنه يمكن أن يوافقهم على الكفر ظاهرا، وقلبه مطمئن بالإيمان فيسلم من الهلاك والتعذيب، "وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين" أي يتحنهم ليظهر بذلك صبرهم للناس, فالابتلاء سبب لظهور الصبر لا ليعلمه إذ لا يعزب عن علمه شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 واختلف العلماء: هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا؟ فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير.   "واختلف العلماء" في جواب قول السائل "هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم، أم لا، فقيل: نعم" يجوز "على ما دلت عليه قصة أبي جندل" المذكور، "وأبي بصير" بفتح الموحدة، وكسر الصاد المهملة فتحتية ساكنة فراء عتبة بضم المهملة وسكون الفوقية وقيل عبيد بموحدة مصغر. قال الحافظ وهو وهم بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين على الصحيح ابن جارية بجيم وتحتية ابن عبد الله الثقفي حليف بني زهرة، فقوله في الصحيح رجل من قريش أي بالحلف؛ لأن بني زهرة من قريش, أسلم قديما. وقصته عند البخاري في بقية هذا الحديث الذي ساقه عنه المصنف من كتاب الشروط قال: ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين سماهما ابن سعد خنيس بمعجمة ونون وآخره مهملة مصغر ابن جابر ومولى يقال له كوثر، وقيل اسم أحدهما مرثد بن حمران بن إسحاق، وكتب الأخنس بن شريق والأزهر بن عبد عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه ببكرين. زاد الواقدي فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام، ورواية أبي المليح جاء أبو بصير مسلما، وجاء وليه خلفه على مجاز الحذف أي رسول وليه. انتهى. فقالوا: العهد الذي جعلته لنا فدفعه إلى الرجلين، زاد ابن إسحاق فقال أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني يعذبونني، قال: "اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا" زاد أبو المليح فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف انتهى. فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين في رواية ابن سعد الخنيس بن جابر. انتهى. والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به، ثم جربت وفي رواية لأضربن به في الأوس والخزرج يوما إلى الليل. انتهى. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه أبو بصير حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال صلى الله عليه وسلم لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، ولابن إسحاق قتل صاحبكم صاحبي انتهى، وإني لمقتول أي إن لم ترده عني. وعند ابن عائذ وتبعه أبو بصير حتى دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه وهو عاض على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف ذكره والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه وأبو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 .....................................   بصير يتبعه انتهى. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد ينصره". فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ولابن عقبة، وجاء أبو بصير بسلبه فقال: خمسه يا رسول الله، فقال: "إني إذا خمسته لم أوف بالعهد الذي عاهدتهم عليه, ولكن شأنك بسلب صاحبك واذهب حيث شئت". فخرج معه خمسة قدموا معه مسلمين من مكة. انتهى. فخرج حتى أتى سيف البحر بكسر المهملة، وسكون التحتية بعدها فاء أي ساحله، وعين ابن إسحاق المكان، فقال حتى نزل العيص بكسر المهملة، وسكون التحتية بعدها مهملة قال وكان طريق مكة إذا قصدوا الشام، وهو يحاذي المدينة إلى جهة الساحل انتهى. قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير، وعند ابن عقبة كأبي الأسود عن عروة انفلت في سبعين راكبا مسلمين، فلحقوا بأبي بصير قريبا من ذي المروة على طريق قريش، فقطعوا مادتهم من طريق الشام وأبو بصير يصلي بأصحابه، فلما قدم أبو جندل كان يؤمهم، أي لأنه قرشي. انتهى. فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمع منهم عصابة بكسر العين تطلق على أربعين فما دونها، ودل هذا الحديث على إطلاقها على أكثر، فلابن إسحاق بلغوا نحوا من سبعين، ولأبي المليح أربعين أو سبعين، وجزم عروة بأنهم بلغوا سبعين، وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلاثمائة رجل، كذا قال في الفتح: وفيه أن السهيلي لم يقله من عنده بل عزاه لرواية معمر عن الزهري. وهكذا جزم به ابن عقبة في مغازيه فقال: واجتمع إلى أبي جندل ناس من غفار، وأسلم وجهينة وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون. زاد عروة وكرهوا أن يقدموا المدينة في الهدنة خشية أن يعادوا إلى المشركين. انتهى. فوالله ما يسمعون بعير خرجت من مكة لقريش إلى الشام إلا اعترضو لها وأخذوا أموالهم ولابن إسحاق لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها. انتهى. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، ولأبي الأسود عن عروة، فأرسلوا أبا سفيان بن حرب إليه صلى الله عليه وسلم يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه، قالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك حلال غير حرج. انتهى. فأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم، وفي رواية ابن عقبة عن الزهري، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير، فقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 وقيل: لا، وإن الذي وقع في القصة منسوخ. وإن ناسخه حديث: "أنا بريء من مسلم بين مشركين" وهو قول الحنفية. وعند الشافعية: يفصل بين العاقل والمجنون والصبي، فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. والله أعلم. قاله في فتح الباري. قال في رواية البخاري: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم, فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: "بلى" , قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى"   كتابه وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو جندل ومن معه المدينة، فلم يزل بها حتى خرج إلى الشام مجاهدا، فاستشهد في خلافة عمر، ولابن الأسود عن عروة فعلم الذين أشاروا أن لا يسلم أبا جندل إلى أبيه أن طاعته صلى الله عليه وسلم خير مما كرهوا. انتهى. وقد بينت الزائد على رواية البخاري بعزو أوله وقول انتهى آخره. "وقيل: لا" يجوز صلح المشركين على رد من جاء مسلما منهم، "وأن الذي وقع في القصة" المذكورة لكل من أبي جندل وأبي بصير "منسوخ، وأن ناسخه حديث" أبي داود، والترمذي وصححه الضياء عن جرير مرفوعا: "أنا بريء من مسلم بين مشركين"، واختصره المصنف، ولفظه عند رواية المذكورين: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى ناراهما"، "وهو قول الحنفية" ولا شاهد فيه للنسخ، لأنه فيمن تمكن من الفرار ولا عشيرة له تحميه أو قاله بعد رضا المشركين برد من جاء مسلما. "وعند الشافعية يفصل بين العاقل و"بين "المجنون والصبي، فلا يردان" بخلاف العاقل، فيجوز شرط رده إن كان له عشيرة تحميه. "وقال بعض الشافعية ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم". "قاله في فتح الباري، قال في رواية البخاري" الذكورة، "فقال" بالفاء ولأبي ذر، قال "عمر بن الخطاب" هذا بما يقوي أنه الذي حدث المسور ومروان بالقصة، وكذا ما مر قريبا من قصته مع أبي جندل قاله الحافظ، "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت" له "ألست نبي الله" بالنصب خبر ليس والاستفهام تقريري "حقا؟ " قال: "بلى" ألسنا على الحق وعدونا على الباطل، قال: "بلى". زاد البخاري في الجزية والتفسير: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟، قال: "بلى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: "إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري". قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنا نأتيه العام"؟ قلت: لا، قال: "فإنك آتيه ومطوف به". قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في   "قلت: فلم نعطي الدنية" بفتح الدال المهملة، وكسر النون وشد التحتية والأصل فيه الهمزة، لكنه خفف وهو صفة لمحذوف أي الحالة الدنية الخسيسة، "في ديننا إذا" بالتنوين أي حين إذ كان كذلك زاد في التفسير والجزية ونرجع ولم يحكم الله بيننا، قال: "إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري" , فيه تنبيه لعمر على إزالة ما عنده من القلق، وأنه لم يفعل ذلك إلا لأمر أطلعه الله عليه، وأنه لم يفعل شيئا من ذلك إلا بوحي "قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ " قال المصنف: بالتخفيف وفي نسخة فنطوف بشد الطاء والواو وقال شيخنا: وهي أنسب بقوله بعد ومطوف به. وعند ابن إسحاق كانت الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها صلى الله عليه وسلم فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. وعند الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر هو وأصحابه دخول البيت فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم، قال: "بلى أفخبرتك أنا نأتيه العام" هذا "قلت: لا" فيه حمل الكلام على عمومه وإطلاقه حتى يظهر إرادة التخصيص والتقييد، قال: "فإنك آتية ومطوف به" بفتح الطاء وكسر الواو الثقيلتين. وروى الواقدي عن أبي سعيد، قال عمر: لقد دخلني أمر عظيم وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط. وروى البزار عن عمر اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي وما ألوت عن الحق وفيه، فرضي صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال: "يا عمر تراني رضيت وتأبى"؟. وعند البخاري في الجزية والتفسير من حديث سهل بن حنيف، فقال: "يابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله". فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، "قال" عمر: "فأتيت أبا بكر" الصديق رضي الله عنه "فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم" نعطي الخصلة "الدنية" الخسيسة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 ديننا إذا؟ قال أبو بكر: أيها الرجل، إنه رسول الله، وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال العلماء: لم يكن سؤال عمر رضي الله عنه وكلامه شكا، بل طلبا لكشف ما خفي عليه، وحثا على إذلال الكفار، وظهور الإسلام، كما عرف في خلقه وقوته في نصرة الدين، وإذلال المبطلين. وأما جواب أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله   "في ديننا إذا؟ " بالتنوين "قال أبو بكر" لعمر: "أيها الرجل أنه رسول" رواية أبي ذر ولغيره لرسول "الله" بلام "وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه" بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء بعدها زاي، وهو للإبل بمنزلة الركاب للفرس، أي تمسك بأمره ولا تخالفه كالذي يتمسك بركاب الفارس فلا يفارقه. "فوالله إنه على الحق قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف" بالفاء لأبي ذر ولغيره بالواو "به قال: بلى أفأخبرك أنا نأتيه العام، قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به" فأجابه بمثل جوابه له صلى الله عليه وسلم سواء، فدل أنه أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال المصطفى، وأعلمهم بأمور الدين، وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى ولجلالة قدر أبي بكر وسعة علمه عند عمر لم يراجع أحدًا في ذلك بعده صلى الله عليه وسلم غير الصديق، وإنما سأله بعد المصطفى وجوابه له لشدة ما حصل له من الغيظ وقوته في نصر الدين وإذلال الكافرين. كما أفصح عن ذلك سهل بن حنيف الصحابي بقوله فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر كما مر على الصحيح. ووقع في رواية ابن إسحاق تقديم سؤاله لأبي بكر على سؤال للنبي صلى الله عليه وسلم وما في الصحيح أصح. لا سيما وقد أفصح في الحديث الآخر بسبب إتيانه له بعده كما ترى. "قال العلماء: لم يكن سؤا عمر رضي الله عنه وكلامه شكا" في الدين حاشاه من ذلك، ففي رواية ابن إسحاق أنه لما قال له: الزم غرزه فإنه رسول الله قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله. "بل طلبا لكشف ما خفي عليه" من المصلحة وعدمها في هذا الصلح، "وحثا على إذلال الكفار وظهور الإسلام كما عرف في خلقه" بضمتين عادته "وقوته" شدته "في نصر الدين وإذلال المبطلين" ففيه جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، "أما جواب أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم" حرفا بحرف "فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 وبارع علمه، وزيادة عرفانه ورسوخه، وزيادته في كل ذلك على غيره. وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما في السير. وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر. ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار كانت أربع سنين. وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك   وبارع علمه وزيادة عرفانه" بأحوال المصطفى، "ورسوخه وزيادته في كل ذلك على غيره" ألا ترى أنه صرح في الحديث، أن المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر، فلم يوافقهم أبو بكر بل كان قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء. ومر في الهجرة أن ابن الدغنة وصفه بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم سواء من كونه يصل الرحم ويحمل الكل ويعين على نوائب الحق وغيره ذلك، فلما تشابهت صفاتهما من الابتداء استمر ذلك إلى الانتهاء. وفي البخاري قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. وفي ابن إسحاق ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيرا. وعند الواحدي عن ابن عباس: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا. وإنما عمل ذلك وإن كان معذورا في جميع ما صدر من، بل مأجورا لأنه مجتهد لتوقفه عن المبادرة في امتثال الأمر، حتى قال: ما شككت منذ أسلمت إلا هذه الساعة. قال السهيلي: هذا الشك هو ما لا يصر عليه وإنما هو من باب الوسوسة. التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة"، ففيه أن المؤمن قد يشك ثم يجدد النظر في دلائل الحق فيذهب شكه, قال الحافظ لكن الذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكة في القضية وتنكشف عند الشبه. انتهى. "وكان الصلح بينهم عشر سنين، كما في السير" سيرة ابن إسحاق وغيرها، "وأخرجه أبو داود من حديث ابن عمر" والحاكم حديث عليّ وجزم به ابن سعد وهو المعتمد. "ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار" العدوي مولاهم المدني التابعي الصغير ثقة كثير الحديث، مات سنة سبع وعشرين ومائة أي ما أسنده عن مولاه عبد الله بن عمر "كانت" مدة الصلح "أربع سنين". "وكذا أخرجه الحاكم في" أواخر "البيوع من المستدرك" عن ابن عمر وقال: صحيح ورده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 والأول أشهر. وكان الصلح على وضع الحرب، بحيث يأمن الناس فيها، ويكف بعضهم عن بعض. وأن لا يدخل البيت إلا العام المقبل ثلاثة أيام. ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو القراب بما فيه. والجلبان -بضم الجيم وسكون اللام- شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا. ورواه القتيبي: بضم الجيم واللام وتشديد الباء، وقال: هو أوعية السلاح بما فيها. وفي بعض الروايات: لا يدخلها إلا بجلبان السلاح: السيف والقوس. وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم   الذهبي فقال: بل ضعيف فإن عاصما أحد رجاله ضعفوه "والأول أشهر،" بل هو المعتمد الصحيح، وهذا مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح كما مر عن الحافظ مع زيادة. واختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين، فقال الشافعي والجمهور لا تجاوز عشر سنين لهذا الحديث لأن منع الصلح هو الأصل لآية القتال، فورد الحديث بعشر فالزيادة على أصل المنع، وقيل تجوز الزيادة، وقيل لا تجاوز أربع سنين وقيل ثلاثا وقيل سنتين. "وكان الصلح على وضع الحرب بحيث يأمن الناس فيها" أي مدة الصلح "ويكف بعضهم عن بعض" القتال ونهب الأموال، "وأن لا يدخل البيت إلا العام القابل" ويقيم "ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، وهو" أي السلاح "القراب بما فيه والجلبان بضم الجيم وسكون الجيم" وخفة الموحدة، فألف فنون "شبه الجراب يوضع فيه السيف مغمودا". "ورواه القتيبي" بضم القاف، وفتح الفوقية، عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبي محمد الدينوري مؤلف غريب الحديث وأدب الكاتب وغيره نسبة إلى جده قتيبة المذكور، فالصواب حذف الياء قبل الموحدة لوجوب حذفها في النسبة إلى فعيلة بالضم كجهينة وقريظة، فيقال: جهني وقرظي "بضم الجيم و" ضم "اللام وتشديد الباء" الموحدة "وقال: هو أوعية السلاح بما فيها، وفي بعض الروايات، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس" بدل من السلاح، وفي نسخة والسيف بواو عطف التفسير، "وإنما اشترطوا ذلك ليكون علما وأمارة للسلم إذ كان دخولهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 إذ كان دخولهم صلحا. وقال مكي بن أبي طالب القيرواني في تفسيره. وبعث عليه الصلاة والسلام بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان   صلحا،" فهو أبلغ في الدلالة على أنهم غير محاربين، "وقال مكي" بميم وكاف ونسخة علي من أوهام النساخ "ابن أبي طالب" حموش بفتح المهملة وشد الميم المضمومة، وسكون الواو فشين معجمة بن محمد بن مختار "القيرواني" أبو محمد القيسي المالكي، الفقيه، الأديب المقري، أخذ بالقيروان عن ابن أبي زيد والقابسي، ورحل وحج وأخذ عن جميع بالمشرق كإبراهيم المروزي وابن فارس، ودخل قرطبة فنوه بمكانه القاضي ابن ذكوان فأجلسه في الجامع فعلا ذكره ونشر علمه ورحل إليه الناس من كل قطر. وروى عنه ابن عتاب وحاتم بن محمد وابن سهل وغيرهم، وصنف كثيرا في علوم القرآن وغيره ومات صدر محرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة "في تفسيره" وهو في عشرة أجزاء، "وبعث عليه الصلة والسلام بالكتاب إليهم" ليس المراد كتاب الصلح، كما يوهمه سياق المصنف، بل هذا كتاب أرسله لأشراف قريش كما أخرجه البيهقي، والحاكم في الإكليل عن عروة، وابن إسحاق من وجه آخر وابن سعد والواقدي، قالوا: ما محصله لما نزل صلى الله عليه وسلم الحديبية أحب أن يبعث إلى قريش يعلمهم أنه إنما قدم معتمرا، فبعث خراش بن أمية الخزاعي على جمله عليه السلام، فعقره عكرمة بن أبي جهل وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش، فأتاه صلى الله عليه وسلم وأخبره فدعا عمر فاعتذر بأنه يخافهم على نفسه لما عرفوه من عداوته وغلظته عليهم ولا عشيرة له بمكة، ودله على عثمان لعزته عليهم وعشيرته فدعاه وكتب كتابا بعثه "مع عثمان بن عفان" وأمره أن يبشر المستضعفين بمكة بالفتح قريبا، وأن الله سيظهر دينه، فتوجه عثمان فوجد قريشا ببلدح قد اتفقوا على منعهم من مكة، فأجاره أبان بن سعيد بن العاصي وحمله على فرسه، وركب هو وراءه وقال له شعرا: أقبل وأدبر ولا تخف أحدا ... بنو سعيد أعزة الحرم فانطلق حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم الكتاب واحدا واحدا فما أجابوا، وصمموا أنه لا يدخلها هذا العام، وقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف فطف، فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال المسلمون: هنيئا لعثمان خلص إلى البيت فطاف به دوننا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ظني به أن لا يطوف حتى نطوف معا". وبشر عثمان المستضعفين، ولما تم الصلح وهم ينظرون نفاذ ذلك وإمضاءه رمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، فكانت معركة بالنبل والحجارة، فارتهن كل فريق من عندهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 وأمسك سهيل بن عمرو عنده، وأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون. وقال مغلطاي: فاحتبسته قريش عندها. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت، وقيل: على أن لا يفروا. انتهى.   "وأمسك" عليه السلام "سهيل بن عمرو عنده"، كما في مغازي أبي الأسود عن عروة وابن عائذ عن ابن عباس وابن عقبة، عن الزهري، وقد نقله عن صاحب العيون. فالاعتراض على المصنف بأن الذي في ابن سيد الناس والشامي صريح في أنه إنما أمسك الذين جاءوا له مع مكرز، والاثني عشر الذين أسرهم بعد ذلك, وهم قلم يقع ذلك في العيون، وما في الشامية مما يوهم ذلك، إنما تبع فيه الواقدي ولا يعادل ما قاله هؤلاء الثقات على أنه لم ينف أنه أمسك سهيلا عنده، بل صح أنه أطلق الذين جاءوا مع مكرز كلهم، ففي مسلم عن سلمة: جاء عمي برجل يقال له: مكرز في ناس من المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه". فعفا عنهم، وأنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ} الآية، "وأمسك المشركون عثمان" في عشرة دخلوا مكة بإذنه عليه السلام في أمان عثمان أو سرا "فغضب المسلمون، وقال مغلطاي" ملخصا لكلام ابن إسحاق: "فاحتبسته" أي عثمان "قريش عندها، فبلغ النبي صلى اله عليه وسلم أن عثمان قد قتل" فقال: "لا نبرح حتى نناجز القوم". "فدعا الناس إلى بيعة الرضوان" سميت بذلك لقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} سمرة أو أم غيلان كان صلى الله عليه وسلم نازلا تحتها يستظل بها، فبايعوه "على الموت" كما قاله سلمة بن الأكوع عند البخاري، والترمذي, والنسائي، وروى الشيخان عن عبد الله بن زيد لا أبايع على هذا أي الموت أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، "وقيل" لم يبايعهم على الموت، بل "على أن لا يفروا" قاله جابر بن عبد الله، ورواه مسلم عن معقل بن يسار. "انتهى". وفي الصحيح أن نافعا سئل أبايعهم على الموت، قال: لا بايعهم على الصبر. وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على الموت وبعضا على أن لا يفروا، واستدل لكل منهما بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، لأن المبايعة وقعت مطلقة فيها، وقد أخبر سلمة وهو ممن بايع أنه بايع على الموت فدل على أن المراد، وقال ابن المنير: قوله {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} والسكينة الطمأنينة في موقف الحرب يدل على أنهم أضمروا في قلوبهم أن لا يفروا فأعانهم على ذلك. قال الحافظ: على أنه لا منافاة فالمراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت، ولا بد وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله بايعهم على الصبر، أي على الثبات وعدم الفرار سواء أفضي بهم ذلك إلى الموت أم لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 ...................................................   وقال في محل آخر، وحاصل الجمع أن من أطلق أنها على الموت أراد لازمها؛ لأنه إذا بايع على أن لا يفر لزم من ذلك أن يثبت، والذي يثبت أما أن يغلب وإما أن يؤسر والذي يؤسر، إما أن القتل وإما أن يموت، ولما كان الموت لا يؤمن في مثل ذلك أطلق الراوي، وحاصله أن أحدهما حكى صورة البيعة، والآخر حكى ما تئول إليه. وفي الصحيح عن ابن عمر والمسيب بن حزن والد سعيد أن الشجرة أخفيت، والحكمة في ذلك أن لا يحصل افتتان بها لما وقع تحتها من الخبر، فلو بقيت لما أمن تعظيم الجهال لها حتى ربما اعتقدوا أن لها قوة نفع وضر كما نشاهده الآن فيما دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله: كانت رحمة من الله، أي كان إخفاؤها رحمة من الله، ويحتمل أن معناه كانت الشجرة موضع رحمة الله ومحل رضوانه لنزول الرضا عن المؤمنين عندها، لكن إنكار سعيد بن المسيب على من زعم أنه يعرفها معتمدا على قول أبيه أنهم لم يعرفوها في العام المقبل، لا يدل على رفع معرفتها أصلا، لما في البخاري عن جابر، لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة، فهذا يدل على أنه كان يعرفها بعينها، لأنها كانت قطعت قبل مقالته، كما روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع: أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة، فيصلون عندها، فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت. انتهى من الفتح وكان أول من بايع أبو سنان الأسدي، وهو وهب أو عارم أو عبد الله بن مصحن أخو عكاشة. أخرج الطبراني عن ابن عمر لما دعا صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان، فقال: ابسط يدك أبايعك, فقال صلى الله عليه وسلم: "علام تبايعني"؟، قال: على ما في نفسي، قال: "وما في نفسك"؟، قال: أضرب بسيفي حتى يظهرك الله، أو أقتل فبايعه وبايعه الناس على بيعة أبي سنان. وكذا رواه ابن منده عن زر بن حبيش، والبيهقي عن الشعبي وصححه أبو عمر قائلا أنه الأكثر والأشهر، وقيل: ابنه سنان؛ لأن أباه مات في حصار بني قريظة قبل اليوم. قاله الواقدي، وضعفه بعض الحفاظ وقيل: ابن عمر. قال ابن عبد البر: ول يصح. وفي صحيح مسلم أن سلمة بن الأكوع أول من بايع. قال البرهان: والجمع ممكن وكلهم بايع مرة إلا ابن عمر، فبايع مرتين، مرة قبل أبيه ومرة بعده، كما في الصحيح، وإلا سلمة بن الأكوع، فبايع مرتين، كما في البخاري، وثلاثا كما في مسلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه وقال: "هذه عن عثمان". وفي البخاري: فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هذه يد عثمان". فضرب بها على يده اليسرى فقال: "هذه لعثمان" ... الحديث. ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا   قال ابن المنير: الحكمة في تكراره البيعة لسلمة أنه كان مقداما في الحرب، فأكد عليه العقد احتياطا. قال الحافظ أو لأنه كان يقاتل قتال الفارس والراجل، فتعددت البيع بتعدد الصفة انتهى. قال الشامي وكأنه لم يستحضر ما في مسلم من مبايعته ثلاثا، ولو استحضره لوجهه. انتهى، وفيه شيء، فتوجيه ابن المنير يجري فيه، "ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه"، وقال: "هذه" أي شماله "عن عثمان" وهذا قد يشعر بأنه علم بأنه لم يقتل، فيكون معجزة. ويؤيده ما جاء أنه لما بايع الناس قال: "اللهم إن عثمان في حاجتك وحاجة رسولك". فضرب بإحدى يديه على الأخرى، فكانت يده لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم. "وفي البخاري" في المناقب والمغازي عن ابن عمر أن رجلا من أهل مصر سأله هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد، وتغيب عن بدر وعن بيعة الرضوان، قال: نعم. قال: الله أكبر. قال ابن عمر: تعال أبين لك أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وغفر له، وأما تغيبه عن بدر، فكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه". وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة لبعثه مكان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، "فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى" من إطلاق القول على الفعل، أي: مشيرا بها: "هذه يد عثمان" أي: بدلها "فضرب بها على يده اليسرى"، فقال: "هذه لعثمان" أي عنه ولا ريب أن يده صلى الله عليه وسلم لعثمان خير من يده لنفسه كما ثبت ذلك عن عثمان نفسه. روى البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف، فقال له: لم ترفع صوتك عليّ، فذكر الأمور الثلاثة وأجابه عثمان بمثل ما أجاب به ابن عمر، قال عثمان: في هذه فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني "الحديث" بقيته فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك. "ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا" وألقى الله في قلوبهم الرعب، فأذعنوا إلى الصلح وقال سهيل: ما كان من حبس أصحابك وقتالك لم يكن من رأي ذوي رأينا, كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت، فقال: "إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي". فقالوا: أنصفتنا. فبعث سهيل ومن معه إلى قريش فأذعنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين. وفي هذه البيعة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] . وحلق الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم   "وبعثوا عثمان وجماعة من المسلمين" قال الشامي عشرة: كرز بن جابر وعبد الله بن سهيل، وعبد الله بن حذافة، وأبو الروم بن عمير العبدري، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي، وحاطب بن عمرو، وعمير بن وهب الجمحي, وحاطب بن أبي بلتعة, وعبد الله بن أمية, وكانوا دخلوا مكة بإذنه عليه السلام، قيل: في جوار عثمان، وقيل: سرا. "وحلق الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم" بعد توقفهم. ففي البخاري في الشروط، فلما فرغ من الكتاب قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا، ثم احلقوا رءوسكم". فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس. وفي رواية ابن إسحاق فقال لها: "ألا ترين إلى الناس إني أمرتهم بالأمر فلا يفعلونه". فقالت: يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح. وفي رواية أبي المليح فاشتد ذلك عليه فدخل على أم سلمة، فقال: "هلك المسلمون أمرتهم أن يحلقوا وينحروا، فلم يفعلوا". قال: فجلا الله عنهم يومئذ بأم سلمة. انتهى. فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم منهم أحدا حتى نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا. قال ابن إسحاق بلغني أن الذي حلقه يومئذ خراش بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي وكانت ابدن سبعين. حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس كان فيها جمل لأبي جهل في رأسه برة من فضة ليغيط به المشركين، وكان غنمه منه في بدر، وحلق رجال يومئذ وقصر آخرون فقال صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين؟ قال: "يرحم الله المحلقين" قالوا: والمقصرين؟ قال: "والمقصرين". قالوا: لم ظاهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين. قال: "لم يشكوا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 ونحروا هداياهم بالحديبية، قال مغلطاي: وأرسل الله ريحا حملت شعورهم فألقتها في الحرم.   رواه ابن إسحاق أيضا عن ابن عباس قيل: كان توقف الصحابة رضي الله عنهم بعد الأمر لاحتمال أن للندب أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح أو تخصيصه بالإذن لهم في دخول مكة العام لإتمام نسكهم، وساغ ذلك لهم لأنه زمان وقوع النسخ، ويحتمل أن صورة الحال أبهتتهم، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند نفوسهم مع ظهور واعتقادهم القدرة قضاء نسكهم بالغلبة أو لأن الأمر المطلق لا يقتضي الفور. ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم أو فهموا أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل أخذا بالرخصة في حقهم، وأنه هو يستمر على الإحرام أخذا بالعزيمة في حق نفسه فأشارت عليه أم سلمة بالتحلل لينفي هذا الاحتمال وعرف صوابه ففعله، فلما رأوه بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق غاية ينتظرونها ونظيره ما وقع لهم، في غزوة الفتح من أمره لهم بالفرط في رمضان، فأبوا حتى شرب فشربوا وفيه فضل المشورة، ومشاورة المرأة الفاضلة وفضل أم سلمة ووفر عقلها، حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأت فأصابت إلا أم سلمة، واستدرك عليه بعضهم بنت شعيب في أمر موسى انتهى من الفتح، "ونحروا هداياهم" أي من كان معه هدي منهم "بالحديبية" وهي في الحرم في قول مالك وبعضها في الحل وبعضها في الحرم في قول الشافعي. وقال الماوردي: هي في طرف الحل ولأبي الأسود، عن عروة: أمر صلى الله عليه وسلم بالنحر. قال ابن عباس لما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها، فنحر صلى الله عليه وسلم بدنه حيث حبسوه وهي الحديبية أي أكثرها، فلا ينافي ما رواه ابن سعد عن جابر أنه بعث من هديه بعشرين بدنة لتنحر عنه عند المروة مع رجل من أسلم. "قال مغلطاي وأرسل الله ريحا" كما روا ابن سعد من مرسل يعقوب بن مجمع الأنصاري لما صد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحلقوا بالحديبية ونحروا بعث الله ريحا عاصفا "حملت شعورهم فألقتها في الحرم" جبرا لهم في صدهم عن البيت، وقد زاد أبو عمر فاستبشروا بقبول عمرتهم. ولعل المراد غير شعره عليه السلام، فلا ينافي ما جاء أن خراشا لما حلقه رمى شعره على شجرة إلى جنبه من سمرة خضراء فجعل الناس يأخذونه من فوقها، وأخذت أم عمارة طاقات من شعره فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ، ويحتمل أنهم أخذوا أكثره، وألقت الريح باقيه في الحرم. وفي الصحيح عن جابر قال لنا صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وأخرج مسلم وغيره عن جابر مرفوعا لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وأقام عليه الصلاة والسلام بالحديبية بضعة عشر يوما، وقيل عشرين يوما، ثم قفل وفي نفوس بعضهم شيء، فأنزل الله تعالى سورة الفتح يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] . قال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية، ووقوع   وروى أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، قال: لما كنا بالحديبية. قال صلى الله عليه وسلم: "لا توقدوا نارا بليل". فلما كان بعد ذلك، قال: "أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم". وروى مسلم من حديث أم مبشر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: يقول: "لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة" وتمسك به من فضل عليا على عثمان؛ لأنه كان ممن خوطب بذلك وبايع وعثمان بمكة، ولا حجة فيه لأنه صلى الله عليه وسلم بايع عن عثمان فاستوى معهم ولم يقصد تفضيل بعضهم على بعض، واحتج به على موت الخضر لأنه لو كان حيا مع أنه نبي بالأدلة الواضحة لزم تفضيل غير النبي على النبي وهو باطل، وأجاب من قال بحياته باحتمال حضوره معهم أو لم يكن على وجه الأرض أو كان في البحر والثاني ساقط، وأما ابن التين فاستدل به على أنه ليس بنبي وأنه دخل في عموم من فضل صلى الله عليه وسلم أهل الشجرة عليه, ورده الحافظ بالأدلة الواضحة على ثبوت نبوة الخضر، وأما قولهم العشرة المبشرة بالجنة فلورود النص عليهم بأسمائهم في حديث واحد، وقد قال أبو عمر ليس في الغزوات ما يعدل بدرا أو يقرب منها إلا الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان. لكن قال غير الراجح تقديم أحد بالحدبية وإنها التي تلي غزوة بدر في الفضل، "وأقام عليه الصلاة والسلام بالحديبية بضعة عشر يوما وقيل: عشرين يوما" حكاهما الواقدي، وابن سعد بإبهام البضع. وفي الشامي عنهما تسعة عشر يوما، وذكر ابن عائذ أنه قام في غزواته هذه شهرا ونصفا، "ثم قفل وفي نفوسهم بعض شيء" من عدم الفتح الذي كانوا لا يشكون فيه، "فأنزل الله تعالى سورة الفتح" بين مكة والمدينة، كما في حديث ابن إسحاق أي بضجنان، كما عند ابن سعد بفتح الضاد المعجمة، وسكون الجيم ونونين بينهما ألف جبل على بريد من مكة "يسليهم بها ويذكرهم نعمه، فقال تعالى:" وفي الموطأ وأخرجه البخاري من طريقه عن عمر مرفوعا: "لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب مما طلعت عليه الشمس". ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره، لأنه مغلق لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح، ثم اختلف فيه "قال ابن عباس، وأنس والبراء بن عازب: الفتح هنا فتح الحديبية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أي حسبوا أنهم لا يرجعون بل يقتلون كلهم. وأما قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] فالمراد فتح خيبر على الصحيح؛ لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين. وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال: شهدنا الحديبية   ووقوع الصلح". قال الحافظ: فإن الفتح في اللغة فتح المغلق والصلح كان مغلقا حتى فتحه الله وكان من أسباب فتحه صد المسلمين عن البيت، فكانت الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين والباطنة عزا لهم، فإن الناس للأمن الذي وقع فيهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية، فظهر من كان يخفي إسلامه، فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، "بعد أن كان المنافقون يظنون أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا" كما أخبر الله، "أي حسبوا أنهم لا يرجعون، بل يقتلون كلهم" وقيل: هو فتح مكة فنزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها، أو أتى به ماضيا لتحقق وقوعه وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ما لا يخفى. وقيل: المعنى قضينا لك قضاء بينا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك قابلا من الفتاحة وهي الحكومة. وفي الصحيح عن البراء تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان قال الحافظ: يعني أنا فتحنا لك فتحا مبينا، وقد وقع فيه اختلاف قديم والتحقيق أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات، فالمراد بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، فتح الحديبية لما ترتب على الصلح من الأمن ورفع الحرب، وتمكن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة منه، وتتابع الأنساب إلى أن كمل الفتح. قال: "وأما قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} فالمراد به فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين"، وقد قال الله تعالى: {مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} ، "وقد روى أحمد، وأبو داود والحاكم من حديث مجمع" بضم الميم وفتح الجيم وشد الميم الثانية المكسورة "بن جارية" بالجيم والراء والياء, ابن عامر الأنصاري الأوسي المدني الصحابي، المتوفى في خلافة معاوية، روى له الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه "قال: شهدنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 فلما انصرفنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم، وقد جمع الناس وقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية فقال رجل: يا رسول الله، أوفتح هو؟ قال: "إي والذي نفسي بيده إنه لفتح". وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية, صلح الحديبية   الحديبية" سفرا وإقامة وصلحا، ولا أدري ما وجه القصر عليه، "فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم" بفتح المعجمة، وكسر الميم على الصواب المشهور عند أهل الحديث واللغة والتواريخ والسير وغيرهم كما قال النووي. وحكى ابن قرقول: ضم الغين وفتح الميم واد أمام عسفان "وقد جمع الناس" دعاهم من أماكن متفرقة وأحضرهم عنده "وقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية. فقال رجل: يا رسول الله أوفتح هو؟ قال: "إي والذي نفسي بيده إنه لفتح". وعند ابن سعد: فلما نزل بها جبريل. قال: نهنيك يا رسول الله فلما هنأه جبريل هنأه الناس. وروى موسى بن عقبة في حديثه عن الزهري وأخرجه البيهقي عن عروة، قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم راجعا فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصد هدينا ورد صلى الله عليه وسلم رجلين من المؤمنين أخرجا إليه فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال: "بئس الكام بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان، ولقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح, أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم, أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"؟. فقال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا. "وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي" في قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية قال: "صلح الحديبية" الذي قال فيه الزهري، لم يكن في الإسلام فتح قبله أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضع الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة لم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا في تلك المدة لا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام، قيل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المسلمون بنصر الله. وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحِ} [النصر: 1] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح". ففتح مكة باتفاق. قال الحافظ ابن حجر: فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال والله أعلم. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.   سنتين إلى فتح مكة في عشرة آلاف. انتهى. ومما ظهر من مصلحة الصلح غير ما ذكره الزهري، أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا، فكانت قصة الحديبية مقدمة للفتح فسميت فتحا، إذ مقدمة الظهور ظهور، "وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، كناية عن العصمة أي عصمة، أي حال بينه وبين الذنوب فلا يأتيها، لأن الغفر الستر وهو إما بين العبد والذنب، وهو اللائق بالأنبياء وإما بين الذنب وعقوبته وهو اللائق بأممهم، وهذا قول في غاية الحسن. ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في محله، وقد أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر مرجعه من الحديبية، فقال صلى الله عله وسلم: "لقد نزلت عليّ آية أحب إليّ مما على الأرض". ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا لك يا رسول الله لقد بين الله ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} حتى بلغ {فَوْزًا عَظِيمًا} "وتبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم" وهم أهل كتاب "على فارس" وهم مجوس يعبدون الأوثان، أي غلبوهم لما التقوا بعدما غلبت فارس الروم وفرح بذلك كفار مكة. وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبوهم فإنكم كالروم أهل كتاب ونحن كفار نعبد الأوثان. "وفرح المؤمنون بنصر الله" الروم على فارس كما أشير إليه في قوله تعالى {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} الآية، ففسر الشعبي الفتح المبين بهذه المذكورات، ولا ينافي هذا أن غنائم خيبر أريدت بقوله: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} لأنه لا مانع من إرادتها بكل من الآيتين، فتكون مستعملة في الحاصل وقت النزول وهو الصلح وفيما لم يحصل بعد وهو غنائم خيبر. "وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحِ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا هجرة بعد الفتح". "ففتح مكة باتفاق" في الآية. والحديث "قال الحافظ ابن حجر فبهذا يرتفع الإشكال" في المراد بالفتح في هذه المواضع "وتجتمع الأقوال" لأن المراد بالفتح مختلف "والله أعلم" بمراده، "ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة". بعد نزول سورة الفتح وجمعه الصحابة وقراءتها عليهم بكراع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وفي هذه السنة كسفت الشمس. وظاهر أوس بن الصامت من امرأته خولة بنت ثعلبة.   الغميم فليس مكررا مع قوله قبل، ثم قفل لأن المراد به سار من الحديبية. "وفي هذه السنة كسفت الشمس" سنة ست بالحديبية، وكسفت أيضا بالمدينة يوم مات السيد إبراهيم وفي وقت موته خلاف حكاه المصنف في شرح الحديث تبعا للفتح، وسيأتي في المقصد الثاني، فتوهم بعضهم أنها إنما كسفت مرة اختلف في وقتها وساق كلام المصنف في شرح البخاري، وهم؛ لأن إبراهيم لم يكن ولد سنة الحديبية، بل لم تكن أمه أهديت للمصطفى، لأن بعثه للملوك إنما كان بعد العود منها في غرة لمحرم سنة سبع كما يأتي. "وظاهر أوس بن الصامت" الأنصاري الخزرجي البدري وشهد المشاهد أخو عبادة، ووقع لبعض الرواة تسمية المظاهر عبادة. قال ابن عبد البر وهو وهم. قال ابن حبان: مات أيام عثمان وله خمس وثمانون سنة "من امرأته خولة" ويقال لها: خويلة بالتصغير، ويقال: اسمها جميلة وفي اسم أبيها خلاف والأكثر أنها "بنت ثعلبة" بن أصرم الأنصارية الخزرجية، ويقال: مالك أو حكيم أو دلعج أو خويلد بالتصغير وآخره دال مهملة أو الصامت. روى الإمام أحمد عنها قالت: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله عز وجل صدر سورة المجادلة. كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وضجر فدخل عليّ يوما، فراجعته في شيء فغضب وقال: أنت علي كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني فقلت: كلا والذي نفسي بيده لا تخلص إليّ، وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا، فواثبني فامتنعت منه، فغلبته بما تغلب المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، فجعلت أشكو إلى الله ما ألقى من سوء خلقه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه". قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيّ القرآن فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سري عنه فقال: "يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك". ثم قرأ عليّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فقال صلى الله عليه وسلم: "مريه فليعتق رقبة". فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق. قال: "فليصم شهرين متتابعين". فقلت: والله إنه لشيخ كبير ما به طاقة. قال: "فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر". فقلت: ما ذاك عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإنا سنعينك بفرق من تمر". فقلت: يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: "قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا". قالت: قد فعلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 وفي هذه السنة أيضا استسقى في رمضان ومطر الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح الناس مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب".   وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة. قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهو أوس بن الصامت. قال ابن عبد البر: رويناه من وجوه عن عمر أنه خرج ومعه الناس فمر بعجوز فاستوقفته، فوقف فجعل يحدثها وتحدثه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجور. قل: ويلك تدري من هي؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} . والله لو حبستني إلى الليل ما فارقتها إلا للصلاة، ثم أرجع إليها. وعن قتادة خرج عمر من المسجد، فإذا بامرأة برزت على ظهر الطريق فسلم عليها فردت عليه، وقالت: هيها يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرا في سوق عكاظ فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله في الرعية واعلم أنه من خاف الله قرب عليه البعيد ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال الجارود العبدي: لقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها أما تعرفها؟ هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر والله أحق أن سمع لها. "وفي هذه السنة أيضا استسقى في رمضان" قبل الحديبية "ومطر الناس"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبح الناس" قسمين "مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب" , ومؤمنا بالكواكب وكافرا بالله، وقد قال هذا الحديث عن ربه عز وجل بالحديبية. أخرج الشيخان عن زيد بن خالد الجهني: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة فصلى لنا الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: "قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي، فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال: مطرنا بنوء كذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي". قال في الفتح: يحتمل أن المراد كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان. ولأحمد عن معاوية الليثي مرفوعا: "يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه فيصبحون مشركين يقولون: مطرنا بنوء كذا". ويحتمل أن المراد كفر النعمة ويرشد إليه رواية: "فأما من حمدني على سقياي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 قال مغلطاي: وجزم الدمياطي في سيرته بأن تحريم الخمر كان في سنة الحديبية. وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير، وهي بعد أحد، وذلك سنة أربع على الراجح. وفيه نظر؛ لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها، فلو كان ذلك سنة أربع، لكان أنس يصغر عن ذلك. وقال النسائي والبيهقي بسند صحيح   وأثنى عليّ فذاك آمن بي". ولمسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "قال الله ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين". وعلى الأول حمله كثير من العلماء أعلاهم الشافعي، قال في الأم: من قال مطرنا بنوء كذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطر نوء كذا فذلك كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم؛ لأن النوء وقت، وهو مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا، ومن قاله على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا وغيره أحب إليّ منه، يعني حسما للمادة وعلى هذا يحمل إطلاق الحديث. وللنسائي عن أبي سعيد مطرنا بنوء المجدج بكسر الميم، ويقال: بضمها وفتح الدال وحاء مهملتين، وهو نجم أحمر منير وفي طرح الإمام المسألة على أصحابه، وإن كانت لا تدرك إلا بدقة نظر، ويؤخذ منه أن للولي المتمكن من النظر في الإشارات أن يأخذ منها عبارات ينسبها إلى الله تعالى. كذا قال بعض شيوخنا وكأنه أخذه من استفهامه أصحابه عما قال ربهم، وحمل الاستفهام على حقيقته لكونهم فهموا خلاف ذلك، ولذا لم يجيبوا إلا بتفويض الأمر إلى الله ورسوله. "قال مغلطاي: وجزم الدمياطي في سيرته بأن تحريم الخمر كان في سنة الحديبية". "وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح وفيه نظر، لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت" كما ثبت في الصحيحين عنه: إني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا. في مسلم. وأبا دجانة, وسهيل بن بيضاء, وأبا عبيدة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا أيوب, إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ قالوا: وماذا؟ قال: حرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس. قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل. "وأنه لما سمع المنادي" قال الحافظ: لم أرَ التصريح باسمه "بتحريمها بادر، فأراقها" بأمر الصحابة الذين كان يسقيهم، "فلو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك" وهذا النظر عجيب من مثل مغلطاي، فقد ثبت أنه خدم المصطفى لما قدم المدينة وهو ابن عشر سنين، فمن عمره أربع عشرة سنة كيف يصغر عن ذلك، "وقال" أي روى "النسائي، والبيهقي بسند صحيح عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 عن ابن عباس: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثمل القوم عبث بعضهم ببعض، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر فيقول: صنع هذا أخي فلان -وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن- فيقول: والله لو كان بي رحيما ما صنع بي هذا، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى {مُنْتَهُونَ} . فقال ناس من المتكلفين: هي رجس، وهي في بطن فلان وفلان, وقد قتل يوم أحد، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}   ابن عباس إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من" قبائل "الأنصار شربوا، فلما ثمل" بكسر الميم "القوم" قال الجوهري: ثمل الرجل بالكسر إذا أخذ فيه الشراب فهو ثمل، أي نشوان. "عبث بعضهم ببعض" لعب بكسر الباء، وفتحه خلط، كما في القاموس ويصحان هنا أي فعل بعضهم ببعض لا فائدة فيه. وخلطوا على بعضهم "فلما أن صحوا" من السكر "جعل الرجل يرى في وجهه ورأسه الأثر، فيقول صنع" بي "هذا أخي فلان، وكانوا أخوة". أقارب وأصدقاء. قال: بعض جمع النسب إخوة والصديق إخوان، فكأنه نزلهم لشدة الوصلة بينهم منزلة إخوة النسب، فسماهم إخوة، وربما يشير إليه قوله: "ليس في قلوبهم ضغائن" جمع ضغينة أي حقد، كما في النهاية "فيقول: والله لو كان بي" رءوفا، كما في حديث ابن عباس عند من عزاه لهما قبل قوله: "رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . زاد في رواية أحمد عن أبي هريرة، فقالوا: انتهينا ربنا وأخرج مسلم وأحمد عن سعد بن أبي وقاص، قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى سكرنا فتفاخرنا إلى أن قال: فنزلت إلى قوله فهل أنتم منتهون، ولا تنافي "فقال ناس من المتكلفين" المبالغين في البحث الحاملين له مع المشقة "هي رجس وهي في بطن فلان"، كحمزة رضي الله عنه، "وقد قتل يوم أحد" قبل تحريمها فهل عليه مؤاخذة هذا على أن قائله من المسلمين. لكن في الفتح روى البزار من حديث جابر أن الذين قالوا ذلك كانوا من اليهود، وفي رواية أحمد عن أبي هريرة فقال: الناس يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله، وماتوا على فراشهم، وكانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان "فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} أكلوا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 إلى {الْمُحْسِنِينَ} . وآية تحريم الخمر نزلت في عام الفتح قبل الفتح.   الخمر والميسر قبل التحريم "إلى" قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} بمعنى أنه يثيبهم، وفي ختم الكلام به إشعار بأن فعل ذلك من المحسنين وأنه يستجلب المحبة الإلهية، "وآية تحريم الخمر" التحريم المؤبد المطلق وهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} ، إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فالإضافة للعهد الذكري كأنه قال: وهذه الآية "نزلت في عام الفتح قبل الفتح" سنة ثمان. كما قال الحافظ: إنه الذي يظهر لما روى أحمد عن ابن عباس كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه، فقال: "يا فلان أما علمت أن الله حرمها". فأقبل الرجل على غلامه فقال: بعها. فقال: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". وأخرج مسلم نحوه لكن ليس فيه تعيين الوقت. وروى أحمد عن نافع بن كيسان الثقفي عن أبيه أنه كان يتجر في الخمر وأنه أقبل من الشام، فقال: يا رسول الله إني جئتك بشراب جيد، فقال: "يا كيسان إنها حرمت بعدك". قال: فأبيعه. قال: "إنها قد حرمت وحرم ثمنها". وروى أحمد، وأبو يعلى عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية خمر، فلما كان عام حرمت جاء براويته فقا: "أشعرت أنها قد حرمت بعدك"؟. قال: أفلا أبيعها وأنتفع بحقها فنهاه، ويستفاد من حديث كيسان تسمية المبهم في حديث ابن عباس ومن حديث تميم تأييدا لوقت المذكور، فإن إسلام تميم كان بعد الفتح. وروى أصحاب السنن عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا, فنزلت: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ، فقرئت عليه, فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ، فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت آية المائة إلى قوله: {مُنْتَهُونَ} قال عمر: انتهينا وصححه علي بن المديني، والترمذي. انتهى. وبحديث عمر هذا قد يجمع بين هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف في وقت تحريمها وهي سنة أربع أو ست أو ثمان باحتمال أن كل مرة كانت في سنة منها وقد مر له في حمراء الأسد عن مغلطاي أنها حرمت في شوال سنة ثلاث. قال الحافظ: وزعم الواقدي أنه عقب قول حمزة إنما أنتم عبيد لأبي يعني سنة اثنتين, وحديث جابر يرد عليه يعني قوله: اصطبح ناس الخمر يوم أحد فقتلوا من يومهم جميعا شهداء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره، سمي به عصير العنب إذا اشتد وغلا كأنه يخمر العقل، كما سمي مسكرا لأنه يسكره، أي يحجره. وهي حرام مطلقا، وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء. وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون سكر. انتهى. وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندي والحيدرية والقلندرية فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف، لأنها لم تكن في زمنهم، وإنما ظهرت في أواخر المائة السادسة وأول السابعة. واختلف هل هي مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير   أخرجه البخاري في مواضع "والخمر في الأصل مصدر خمره إذا ستره سمي به عصير العنب إذا اشتد وغلا" بفتح الغين عطف تفسير، يقال للشيء إذا زاد وارتفع: قد غلا، "كأنه يخمر" بضم الياء وشد الميم يغطي ويستر "العقل، كما سمي مسكرا؛ لأنه سكره" بضم فسكون من الإسكار، "أي يحجره" بضم الجيم والراء المهملة، أي يمنعه من الإدراك "وهي حرام مطلقا" أسكرت أم لا قلت: أم لا "وكذا كل ما أسكر" أي: ما شأنه الإسكار أسكر بالفعل أم لا فلا تنافي بين ما أفاده قوله كذا من التعميم. وقوله: أسكر "عند أكثر العلماء" لقول عمر على المنبر: إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب, والتمر، والعسل, والحنطة, والشعير، والخمر ما خامر العقل. أخرجه الشيخان وغيرهما. "وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب، والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتد حل شربه ما دون السكر،" أي حل شرب القدر الذي لا يسكر، وهو ضعيف المدرك جدا بحيث قال مالك والشافعي: يحد الحنفي إذا شربه. "انتهى". "وأما الحشيشة وتسمى القنب الهندي" بضم القاف وكسرها والنون المشددة، كما في القاموس قال الهيتمي: لم أره بغير مصر يزرع في البساتين "والحيدرية والقلندرية، فلم يتكلم فيها الأئمة الأربعة ولا غيرهم من علماء السلف؛ لأنها لم تكن في زمنهم وإنما ظهرت في أواخر المائة السادسة، و" تزايدت وكثرت في "أول السابعة" حين ظهرت دولة التتار، "واختلف هل هي مسكرة فيجب فيها الحد، أو مفسدة للعقل فيجب التعزير", وهو الصحيح عند الشافعية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 والذي أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء وصرح به أبو إسحاق الشيرازي في كتاب التذكرة في الخلاف، والنووي في شرح المهذب، ولا نعرف فيه خلافا عندنا. ونقل عن ابن تيمية أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها ولذلك يتناولونها بخلاف البنج فإنه لا ينشي ولا يشتهى. قال الزركشي: ولم أر من خالف في ذلك إلا القرافي في قواعده فقال: نص العلماء بالنبات أنها مسكرة، والذي يظهر لي أنها مفسدة ... في كلام تعقبه الزركشي يطول ذكره. وقد تضافرت الأدلة على حرمتها: ففي صحيح مسلم كل مسكر حرام وقد قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وأي خبيث أعظم مما   والمالكية إن استعمل ما أفسد العقل. "والذي أجمع عليه الأطباء أنها مسكرة، وبه جزم الفقهاء" أي كثير منهم "وصرح به أبو إسحاق الشيرازي" بكسر المعجمة آخره زاي نسبة إلى شيراز قصبة فارس "في كتاب التذكرة في الخلاف، والنووي في شرح المهذب" قائلا "ولا نعرف فيه خلافا عندنا ونقل عن ابن تيمية" الحنبلي "أنه قال: الصحيح أنها مسكرة كالشراب، فإن أكلتها ينشون عنها" بفتح الشين وإسكان الواو، أي يسكرون منها، "ولذلك يتناولونها بخلاف البنج" بفتح الموحدة وسكون النون، وجيم بنت مخبط للعقل مجبن مسكن لأوجاع الأورام والبثور ووجع الآذان وأخبثه الأسود، ثم الأحمر، وأسلمه الأبيض، كما في القاموس، "فإنه لا ينشي ولا يشتهى" وكذا قال العلامة ولي الله، المتوفى من المالكية قال: لأنا رأينا من يتعاطاها يبيع أمواله لأجلها، فلولا أن لهم فيها طربا لما فعلوا ذلك. يبين ذلك أنا لا نجد أحدا يبيع داره ليأكل بها سيكرانا "قال الزركشي: ولم أرَ من خالف في ذلك إلا القرافي في قواعده" التي سماها الفروق، "فقال: نص العلماء بالنبات" أي: بأحواله نفعا وضررا على "إنها مسكرة والذي يظهر لي أنها مفسدة". وبين ذلك القرافي بما منه لأني لم أرهم يميلون إلى القتال والنصرة، بل عليهم الذلة والمسكنة، وربما عرض لهم البكاء "في كلام تعقبه الزركشي يطول ذكره وقد تضافرت الأدلة على حرمتها، ففي صحيح مسلم" مرفوعا: "كل مسكر حرام" تقول به لكن لا نسلم أنها مسكرة فلم تدخل فيه، وقد قال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} وأي خبيث أعظم مما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 يفسد العقول التي اتفقت الملل والشرائع على إيجاب حفظها. ولا ريب أن تناول الحشيشة يظهر به أثر التغير في انتظام العقل والقول المستمد كماله من نور العقل. وقد روى أبو داود -بإسناد حسن- عن ديلم الحميري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملا شديدا وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: "فهل يسكر"؟ , قلت: نعم، قال: "فاجتنبوه"، قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: "فإن لم يتركوه فقاتلوهم". وهذا منه صلى الله عليه وسلم تنبيه على العلة التي لأجلها حرم المزر فوجب أن كل شيء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه.   يفسد العقول التي اتفقت الملل والشرائع" جمع شريعة، وهي مع الملة ما صدقهما واحد "على إيجاب حفظها ولا ريب" شك "أن تناول الحشيشة يظهر به أثر التغير في انتظام العقل والقول المستمد كماله من نور العقل" وهذا غاية ما ينتج حرمة تناول ما يفسد العقل منها لا ما لا يفسده كما هو الصحيح. "وقد روى أبو داود بإسناد حسن عن ديلم الحميري" الجيشاني، بفتح الجيم فتحتية فمعجمة نسبه ابن يونس، فقال: ابن هوشع ابن أبي جناب بن مسعود، ووصل نسبه إلى جيشان، وقال: كان أول وافد على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن أرسله معاذ، ثم شهد فتح مصر ونزلها، وروى عنه أبو الخير، مرثد ووقع لجمع من أكابر الحفاظ فيه تخبيط تكفل برده في الإصابة، وقال في التقريب: أخطأ، من زعم أنه أبو وهب الجيشاني. "قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح، نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا. قال: "فهل يسكر"؟. قلت: نعم. قال: "فاجتنبوه". قلت: فإن الناس غير تاركيه. قال: "فإن لم يتركوه فقاتلوهم". وهذا منه صلى الله عليه وسلم تنبيه على العلة التي لأجلها حرم المزر" بكسر الميم، وسكون الزاي وبالراء نبيذ الذرة والشعير كما في القاموس. ومفاد هذا أنه كان تحريم المزر معلوما للسائل قبل السؤال وأنه أشار الحديث إلى أن علته إسكاره فيقاس عليه كل ما شاركه في العلة، "فوجب أن كل شيء عمل عمله يجب تحريمه، ولا شك أن الحشيشة تعمل ذلك وفوقه" فيحرم تعاطي ما عمل ذلك منها لا مطلق التعاطي، كما هو مختاره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وروى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. قال العلماء: المفتر كل ما يورث الفتور والخدر في الأطراف. وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن مسكرة كانت مفترة، مخدرة ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رءوسهم بواسطة تبخيرها في الدماغ. واختلف هل يحرم تعاطي اليسير الذي لا يسكر؟ فقال النووي في شرح المهذب: إنه لا يحرم أكل القليل الذي لا يسكر من الحشيش، بخلاف الخمر، حيث حرم قليلها الذي لا يسكر. والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة. وتعقبه الزركشي بأنه صح في الحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"   "وروى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن أم سلمة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر". "قال العلماء: المفتر كل ما يورث الفتور" وهو الانكسار والضعف "والخدر" بفتح الخاء، والدال المهملة الاسترخاء "في الأطراف" فلا يطيق الحركة فهو من عطف الأخص على الأعم "وهذا الحديث أدل دليل على تحريم الحشيشة وغيرها من المخدرات، فإنها إن لم تكن مسكرة كانت مفترة مخدرة، ولذلك يكثر النوم من متعاطيها، وتثقل رءوسهم بواسطة تبخيرها في الدماغ" أي إيصالها البخار له. والمعنى أنه ينفصل منه بخار يصعد إلى الدماغ، فتثقل الرءوس منه، "واختلف هل يحرم تعاطي اليسير الذي لا يسكر، فقال النووي في شرح المهذب: إنه لا يحرم أكل القليل الذي لا يسكر من الحشيش", وهذا هو الصحيح المعتمد عند الشافعية والمالكية "بخلاف الخمر حيث حرم قليلها الذي لا يسكر، والفرق أن الحشيش طاهر والخمر نجس فلا يجوز شرب قليله للنجاسة". وتعقبه الزركشي بأنه صح في الحديث: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". يعني والنووي قد قال في نفس شرح المهذب: إنها مسكرة بلا خلاف نعلمه عندهم، كما مر قريبا فكيف يقول ذلك، ويجوز أكل القليل مع نص الحديث على حرمة قليل المسكر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 قال: والمتجه أنه لا يجوز من الحشيش لا قليل ولا كثير. وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد، منهم القرافي وابن تيمية وقال: إن من استحلها فقد كفر. وتعقبه الزركشي: بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة، سلمنا ذلك، لكن لا بد أن يكون دليل الإجماع قطعيا على أحد الوجهين، وقد ذكر أصحابنا أن المسكر من غير عصير العنب، كعصير العنب في وجوب الحد، لكن لا يكفر مستحله لاختلاف العلماء فيه. وأما قول النووي: إنها طاهرة وليست بنجسة، فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه. قال: والأفيون وهو لبن الخشخاش، أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدا، وكذلك السيكران وجوز الطيب   وجواب المعتمد عن الحديث: إنا لا نسلم أنها مسكرة، "قال: والمتجه أنه لا يجوز تناول شيء من الحشيش لا قليل ولا كثير، وقد نقل الإجماع على تحريمها غير واحد منهم القرافي وابن تيمية. وقال: إن استحلها فقد كفر". "وتعقبه الزركشي بأن تحريمها ليس معلوما من الدين بالضرورة" فلا يلزم من الإجماع على تحريمها كفر مستحلها؛ لأنه إنما يكفر إذا أنكر مجمعا عليه معلوما من الدين بالضرورة بأن يشترك الخاص والعام في معرفته "سلما ذلك لكن" لا نسلم الكفر؛ لأنه "لا بد" لا فراق، ولا محالة "أن يكون دليل الإجماع قطعيا على أحد الوجهين". "وقد ذكر أصحابنا أن المسكر" أي ما من شأنه الإسكار "من غير عصير العنب كعصير العنب، في وجوب الحد" سكر به الشارب أم لا، "لكن لا يكفر مستحله"، ولو سكر منه "لاختلاف العلماء فيه", فأولى مستحل الحشيشة، وهذا مراد من ذكره وإن لم يقدم فيه خلافا. "وأما قول النووي أنها طاهرة وليست بنجسة" تأكيد "فقطع به ابن دقيق العيد وحكى الإجماع عليه" وغلط بعض الشافعية، فقال: بنجاسة الحشيشة. "قال" الزركشي: "والأفيون وهو لبن الخشخاش" المصري الأسود نافع من الأورام الحارة خاصة في العين مخدر وقليله نافع منوم، كذا في القاموس "أقوى فعلا من الحشيش، لأن القليل منه يسكر جدا" بعض الأمزجة، أو في ابتداء استعماله ولا خالف المشاهد، "وكذلك السيكران" بفتح السين مهملة ومعجمة، وضم الكاف: نبت دائم الخضرة يؤكل حبه. "وجوز الطيب" حرام مسكر عند ابن دقيق العيد، واعتمده كثير منهم الزركشي، كما ترى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى. وقد جمع بعضهم في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية، حتى قال بعضهم: كل ما في الخمر من المذمومات موجود في الحشيش وزيادة. فإن أكثر ضرر الخمر في الدين لا في البدن. وضررها فيهما. فمن ذلك: فساد العقل، وعدم المروءة، وكشف العورة، وترك الصلوات، والوقوع في المحرمات، وقطع النسل، والبرص والجذام والأسقام والرعشة والأبنة، ونتن الفم وسقوط شعر الأجفان، وتفتيت الأسنان وتسويدها، وتضييق النفس وتصفير الألوان، وتفتيت الكبد، وتجعل الأسد كالجعل، وتورث الكسل والفشل، وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما، والذكي أبلما، وتذهب السعادة   ولم يعتمده المالكية فقد قال الإمام العلامة أبو القاسم البرزلي: أجاز بعض أئمتنا أكل قليل جوزة الطيب لتسخين الدماغ، واشترط بعضهم خلطها مع أدوية والصواب العموم. انتهى. وقال العلامة ابن فرحون يمنع أكل عقاقير الهند إن أكلت لما تؤكل له الحشيشة لا للهضم وغيره من المنافع إلا ما أفسد العقل والجوزة وكثير الزعفران والبنج، والسيكران من المفسدات، قليلها جائز، "مع أنه طاهر بالإجماع. انتهى" كلام الزركشي. "وقد جمع بعضهم في الحشيشة مائة وعشرين مضرة دينية وبدنية حتى قال بعضهم: كل ما في الخمر من المذمومات موجود في الحشيشة، و" فيها "زيادة، فإن أكثر ضرر الخمر في الدين لا في البدن، وضررها فيهما، فمن ذلك فساد العقل، وعدم المروءة" بضم الميم كسهولة: آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف على محاسن الأخلاق وجميل العادات ما في المصباح، وأثبته في تقريب الغريب "وكشف العورة وترك الصلوات والوقوع في المحرمات" فهذه من الدينية "و" من البدنية وترجع للدينية أيضا "قطع النسل والبرص، والجذام والأسقام والرعشة، والأبنة، ونتن الفم، وسقوط شعر الأجفان، وتفتيت الأسنان، وتسويدها، وتضييق النفس، وتصفير الألوان, وتفتيت الكبد، وتجعل الأسد كالجعل" بضم الجيم وفتح العين المهملة دويبة أكبر من الخنفساء شديد السواد في بطنه لون حمرة للذكر قرنان تسميه الناس أبا جعران؛ لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته، ويموت من ريح الورد والطيب فإذا أعيد إلى الروث عاش قاله في حياة الحيوان, "وتورث الكسل، والفشل" والضعف والتراخي والجبن، "وتعيد العزيز ذليلا، والصحيح عليلا، والفصيح أبكما والذكي أبلما. وتذهب السعادة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وتنسي الشهادة، فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة، موعود من الله باللعنة إلا أن يقرع من الندم سنة ويحسن بالله ظنه. ولقد أحسن القائل: قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة دية العقل بدرة فلماذا ... يا سفيها قد بعتها بحشيشة   وتنسي الشهادة". زاد في الزواجر وتجفف الرطوبات، وتورث موت النسيان، وتصدع الرأس، وتجفف المني، وتظلم البصر، وتورث الفجأة، والدق والسل، والاستسقاء وفساد الفكر ونسيان الذكر وإفشاء السرد وذهاب الحياء وعدم الغيرة وإتلاف الكيس ومجالسة إبليس واحتراق الدم. وتذهب الفطنة وتحدث البطنة "فصاحبها بعيد عن السنة طريد عن الجنة موعود من الله باللعنة"؛ لأنه ظالم لنفسه، وقد قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} , قال السيوطي في الإكليل: استدل به على جواز لعن المسلم الظالم "إلى أن يقرع من الندم سنة" فيتوب، "ويحسن بالله ظنه" في قبول توبته، "ولقد أحسن القائل": "قل لمن يأكل الحشيشة جهلا ... يا خسيسا قد عشت شر معيشة" دية العقل بدرة فلماذا ... يا سفيها قد بعتها بحشيشة" البدرة قال في القاموس: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار, والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 أمر الحديبية ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 " غزوة خيبر ": وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام.   غزوة خيبر: بخاء معجمة وتحتانية وموحدة بوزن جعفر ذكر أبو عبيد البكري أنها سميت باسم رجل من العماليق نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا قانية بن مهلايل، واقتصر عليه الروض والفتح وغيرهما، وقيل: الخيبر بلسان اليهود الحصن ولذا سميت خيابر أيضا. ذكره الحازمي "وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع" ونخل كثير "على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام" هكذا في الفتح فتبعه المصنف هنا. وفي الإرشاد: والثمانية برد أربعة مراحل. وقال الشامي: على ثلاثة أيام من المدينة على يسار الحاج الشامي، ولعله بالسير السريع أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 قال ابن إسحاق: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بقية شهر المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها. وقيل: كانت في آخر سنة ست، وهو منقول عن مالك، وبه جزم ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر: والراجح ما ذكره ابن إسحاق، ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول. وأغرب ابن سعد وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن، لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت. وتوجيهه: بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح، وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما.   على التقريب فلا ينافي أنها أربعة بالسير المعتدل، ويؤيده قول التهذيب على نحو أربعة أيام أو هو بحسب الاختلاف في الميل أو الأربعة بالنظر إلى داخل السور، والثلاثة بالنظر إلى خارجه. "قال ابن إسحاق": أقام صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم "خرج صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم" إلى خيبر "سنة سبع"، وذكر ابن عقبة عن الزهري أنه أقام بالمدينة عشرين ليلة أو نحوها، وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أقام بعد الرجوع إلى المدينة عشر ليال. وفي مغازي التيمي أقام خمسة عشر يوما "فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة" موزعة على حصونها "إلى أن فتحها" في صفر هكذا في نقل الفتح عن ابن إسحاق. "وقيل: كانت في آخر سنة ست" حكاه ابن التين عن ابن الحصار "وهو منقول عن مالك" الإمام "وبه جزم ابن حزم". "قال الحافظ ابن حجر" وهذه الأقوال متقاربة، "والراجح" منها "ما ذكره ابن إسحاق" قال في زاد المعاد: وهو قول الجمهور، "ويمكن الجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو ربيع الأول" وهو ابن حزم، ولذا جزم أن خيبر سنة ست لكن الجمهور على أن التاريخ وقع من المحرم. قال الحافظ وأما ما ذكره الحاكم، وابن سعد عن الواقدي أنها في جمادى الأولى فالذي رأيته في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول "وأغرب ابن سعد، وابن أبي شيبة فرويا من حديث أبي سعيد الخدري" قالا: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر لثمان عشرة من رمضان، وإسناده حسن لكنه خطأ ولعلها كانت إلى حنين فتصحفت" لتقارب اللفظين، "وتوجيهه" مع أن حنينا لست خلت من شوال أو لليلتين بقيتا من رمضان "بأن غزوة حنين كانت ناشئة عن غزوة الفتح وغزوة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم فيها في رمضان جزما", فيصح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 قال: وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة: أنها كانت سنة خمس، وهو وهم، لعله انتقال من الخندق إلى خيبر. وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس، ومعه أم سلمة زوجته. وفي البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع النبي إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من   إطلاقه على غزوة حنين بجعلها من غزوة الفتح، لكونها ناشئة عنها والخروج من المدينة لهما واحد. "قال" الحافظ ابن حجر "وذكر الشيخ أبو حامد في التعليقة أنها كانت سنة خمس وهو وهم ولعله انتقال من الخندق إلى خيبر", وأجاب البرهان بأنه أسقط سنة الهجرة، أي وقطع النظر عن سنة الغزوة. قال الحافظ: وذكر ابن هشام أنه استعمل على المدينة نميلة بنون مصغر ابن عبد الله الليثي، وعند أحمد والحاكم عن أبي هريرة أنه سباع بن عرفطة وهو أصح. انتهى. ويمكن الجمع بأنه استخلف أحدهما أولا ثم عرض ما يقتضي استخلاف الآخر، كما مر نظيره "وكان معه عليه الصلاة والسلام ألف وأربعمائة راجل ومائتا فارس". هذا مخالف لما عند ابن إسحاق أن عدة الذين قسمت عليهم خيبر ألف سهم وثمانمائة سهم برجالهم وخيلهم, الرجال ألف وأربعمائة والخيل مائتا فرس لكل فرس سهمان ولفارسه سهم. انتهى. فإن لم يكن ما في المصنف مصحفا بزيادة الألف في راجل وفارس، فلا ينافي ما مر من الخلاف في عدد أهل الحديبية. أما لما تقدم من أن من ذكر القليل كألف وثلاثمائة نظر إليهم في ابتداء الخروج، ثم زادوا بعد وأما لأنه خرج لخيبر من لم يخرج في الحديبية، فقد ذكر الواقدي أنه جاء المخلفون في الحديبية ليخرجوا رجاء الغنيمة، فقال عليه السلام: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا". فلعله خرج معه جماعة لم يحضورا الحديبية ولم يأخذوا من الغنيمة، فلا ينافي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ} الآية، "ومعه أم سلمة زوجته" رضي الله عنها التي كانت معه في الحديبية. "وفي البخاري من حديث سلمة بن" عمرو بن "الأكوع" واسمه سنان فنسب لجده لشهرته به الأسلمي أبو مسلم، وأبو إياس شهد بيعة الرضوان ومات سنة أربع وسبعين, روى له الستة، "قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا، فقال رجل من القوم" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 القوم لعامر: عامر، ألا تسمعنا من هنيهاتك وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا فاغفر فداء .........   قال الحافظ لم أقف على اسمه صريحا، وعند ابن إسحاق من حديث نصر بن دهر الأسلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الأكوع. ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك. انتهى. ويمكن الجمع بأن الرجل لما قال له لم يسرع حتى أمره صلى الله عليه وسلم ولا ينافي ذلك إتيانه بالفاء، لأن الحال أزمنة من الماضي والآتي والحاكم فيها العرف، ولا قوله من هذا السائق، لاحتمال تعدد الحدأة أو بعده فلم يحقق صوته، فجوز أنه غيره "لعامر" ابن الأكوع عم سلمة، كما في حديث نصر، وفي مسلم قال سلمة لما كان خيبر قاتل أخي قتالا شديدا إلى أن قال: فقال صلى الله عليه وسلم: "من هذا"؟. قلت: أخي. قال البرهان: والصحيح أن "عامرا" عم سلمة، وقد ذكر مسلم بعد هذا من طريق آخر، فجعل عمي عامر يرتجز قال، ويمكن الجمع بأنه أخوه رضاعة عمه نسبا "ألا تسمعنا من هنيهاتك" بهاءين أولاهما مضمومة بعدها نون مفتوحة فتحتية ساكنة جمع هنيهة تصغير هنة كما قالوا: في تصغير سنة سنيهة, للكشميهني: هنياتك بحذف الهاء الثانية وشدة التحتية أي من أراجيزك. وللبخاري في الدعوات من وجه آخر من هناتك بلا تصغير قاله الحافظ والمصنف، وقال: أي من أخبارك وأمورك وأشعارك فكنى عن ذلك كله، "وكان عامر رجلا شاعرا" وللكشميهني حداء "فنزل يحدو بالقوم يقول: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" فيه زحاف الخزم بمعجمتين وهو زيادة سبب خفيف في أوله، قاله الحافظ. وفي رواية ابن إسحاق: والله لولا الله. ولا خزم فيه، "ولا تصدقنا، ولا صلينا" قال في الفتح: أكثر هذا الرجز تقدم في الجهاد عن البراء، وأنه من شعر عبد الله بن رواحة، فيحتمل أن يكون هو وعامر تواردا على ما تواردا عليه بدليل ما وقع لكل منهما مما ليس عند الآخر. واستعان عامر ببعض ما سبقه إليه ابن رواحة، "فاغفر فداء" بكسر الفاء والمد، وحكى ابن التين فتح أوله مع القصر، وزعم أنه هنا بالكسر مع القصر لضرورة الوزن فلم يصب فإنه لا يتزن إلا بالمد. قال الحافظ: وقال القاضي عياض رويناه فداء بالرفع على أنه مبتدأ، أي لك نفسي فداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 .... لك ما اتقينا وألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا وفي رواية إياس بن سلمة عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية البخاري:   وبالنصب على المصدر "لك ما اتقينا" بشدة الفوقية بعدها للأكثر، أي ما تركنا من الأوامر وما ظرفية وللأصيلي والنسفي: بهمزة قطع، ثم موحدة ساكنة أي ما خلفنا وراءنا مما اكتسبناه من الآثام أو ما أبقيناه وراءنا من الذنوب فلم نثبت منه. وللقابسي: كما لقينا بلام وكسر القاف أي ما وجدنا من الماهي، ولمسلم والبخاري في الأدب: ما اقتفينا بقاف ساكنة ففوقية مفتوحة ففاء فتحتية ساكنة أي تبعنا من الخطايا من قفوت الأثر إذا تبعته، وهي أشهر الروايات في هذا الرجز. "وألقين سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا" هكذا في البخاري فما يقع في نسخ من تقديم وثبت ... إلخ. على ما قبله خلافه, وللنسفي: وألقي بحذف النون وبزيادة ألف ولام في السكنية وليس بموزون كما قاله الحافظ وغيره. ولو أشبعت السكينة بألف بعد الفتحة مع تحريك ياء ألقي بالفتح اتزن. "إنا إذا صيح بنا أتينا" بفوقية، أي إلى القتال أو إلى الحق. وروي بموحدة كذا في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة، فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا, "وبالصياح عولوا علينا" أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي، واستعانوا علينا أي اعتمدوا. "وفي رواية إياس بن سلمة" بن الأكوع، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدني, ثقة. مات سنة تسع عشرة ومائة وهو ابن سبع وسبعين سنة، "عن أبيه عند أحمد في هذا الرجز من الزيادة: إن الذين قد بغوا علينا. إذا أرادوا فتنة أبينا" بالموحدة على الراجح لا بالفوقية، وإن صح معنى أي جئنا وأقدمنا على قتالهم؛ لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم, قاله عياض. قال الحافظ: وقع في بعض النسخ: وإن أردنا على فتنة أبينا, وهو تغير. "ونحن عن فضلك ما استغنينا" وهذا الشطر الأخير عند مسلم أيضا. "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في رواية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 "من هذا السائق"؟ فقالوا: عامر بن الأكوع: قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لولا أمتعتنا به. الحديث. وفي رواية أحمد: فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب، وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها، ويحدو في تلك الحال. وقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن: لا هم. أو: تالله، كما في الحديث الآخر. وقوله: "فداء لك" قال المازري:   البخاري" التي فصلها بزيادة إياس: "من هذا السائق"؟ للإبل "فقالوا: عامر بن الأكوع". قال: "يرحمه الله". وفي رواية إياس عند أحمد فقال: "غفر لك ربك"، قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهدوا بهذه الزيادة يظهر السرفي قوله: "قال رجل من القوم" هو عمر كما في مسلم ولفظه فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل "وجبت يا نبي الله لولا" أي هلا "أمتعتنا به" بفتح الهمزة أي أبقيته لنا لنتمتع بشجاعته "الحديث". ذكر في بقيته المحاصرة ثم الفتح والنهي عن لحم الحمر واستشهاد عامر، وزعم أنه أحبط عمله وقول المصطفى كذب من قاله أن له لأجرين بما يأتي بمعناه في كلام المصنف "وفي رواية أحمد" عن إياس بن سلمة عن أبيه. "فجعل عامر يرتجز ويسوق الركاب" بكسر الراء ما يركب من الإبل، "وهذه كانت عادتهم إذا أرادوا تنشيط الإبل في السير نزل بعضهم فيسوقها ويحدو في تلك الحال", ولذا طلبوه منه وأمره به صلى الله عليه وسلم فقال: "انزل يابن الأكوع فخذ لنا من هناتك"، كما في حديث نصر عند ابن إسحاق. "وقوله: اللهم لولا أنت ما اهتدينا، كذا الرواية" في البخاري "قالوا: وصوابه في الوزن لا هم أو تالله كما في الحديث الآخر" تبرأ منه لأن الذي فيه إنما هو الخزم بمعجمتين وهو الزيادة على أول البيت حرفا إلى أربعة، وكذا على أول النصف الثاني حرفا أو اثنين على الصحيح. وهذا أمر لا نزاع فيه بين العروضيين ولم يقل أحد بامتناعه وإن لم يستحسنوه، وما قال أحد أن الخزم يقتضي إلغاء ما هو فيه عن أن يعد شعرا. نعم لا يعتد بالزيادة في الوزن ويكون ابتداؤه ما بعدها، فكذا ما نحن فيه قاله في المصابيح، "وقوله: فداء لك قال" الإمام الفقيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه: فديتك؛ لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص، فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه. قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه، كما يقال: قاله الله، ولا يريد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدي حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر: أي أبذل نفسي في رضاك.   الأصولي، ذو الفنون في علوم عديدة محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها نسبة إلى مازر بليدة بجزيرة صقلية. مات سنة ست وثلاثين وخمسمائة وله ثلاث وثمانون سنة. في المعلم "هذه اللفظة مشكلة، فإنه لا يقال للباري سبحانه فديتك" لاستحالته إذ معناه، كما قال السهيلي: فداء لك أنفسنا فحذف المبتدأ لكثرة دوره في الكلام مع العلم به، "لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص" المفدي "فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه", ولا يتصور ذلك في حق الله, وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء أو حلول مكروه "قال" المازري مجيبا: "ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه", بل المراد المحبة والتعظيم، فجاز أن يخاطب بها من لا يجوز في حقه الفداء، ولا يجوز عليه الفناء قصدا لإظهار المحبة والتعظيم له قاله في الروض. قال: ورب كلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له، "كما يقال: قاتله الله" ما أفصحه "ولا يريد" القائل "بذلك حقيقة الدعاء عليه" بل التعجب واستعظام الأمر، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "تربت يداك". و "تربت يمينك". يخاطب عائشة وغيرها فلم يقصد أصل معناها الذي هو افتقرت حتى لصقت يداك بالتراب بل الإنكار والزجر كقوله عليه الصلاة والسلام: "ويل أمه". قال بديع الزمان في رسالته: العرب تطلق: تربت يمينه في الأمر إذا أهم، ويقولون: ويل أمه ولا يقصدون الذم، وكقوله عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات: "أفلح وأبيه إن صدق". ومحال أن يقصد القسم بغير الله لا سيما برجل مات كافرا، وإنما هو تعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم والقسم في الأصل لما يعظم فاتسع فيه وقال الشاعر: فإن تك ليلى استودعتني أمانة ... فلا وأبي أعدائها لا أحونها لم يرد القسم بوالد أعدائها بل التعجب، "وفيه كله ضرب من الاستعارة؛ لأن المفادي مبالغ في طلب رضا المفدى" بضم الميم والتشديد، أي الذي جعل المتكلم نفسه فداءه "حين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه. قال: وقد يكون المراد بقوله: "فداء لك" رجل يخاطبه، وفصل بين الكلام بذلك، ثم عاد إلى الأول فقال: ما اتقينا. وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا اضطرنا إليه تصحيح الكلام. انتهى. وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم. المعنى: لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك. وعلى هذا فقوله: "اللهم" لم يقصد بها الدعاء وإنما افتتح بها الكلام. والمخاطب بقول الشاعر: "لولا أنت" النبي، لكن يعكر عليه قوله بعد ذلك: فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا فإنه دعاء لله تعالى. ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت   بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر أي أبذل نفسي في رضاك". "وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة" كهذه الجهة المذكورة "فإطلاق اللفظ واستعارته والتجوز فيه يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه" ولم يرد فلا يحسن الجواب عنه بذلك، وقد يقال سكوت الشارع عليه وسماعه وترحمه على قائله إذن، وقد قال السهيلي: أنه أقرب الأجوبة إلى الصواب "قال" المازري جواب ثان، "وقد يكون المراد بقوله فداء لك رجل يخاطبه" المصطفى أو غيره، "وفصل بين الكلام بذلك" على سبيل الاعتراض، "ثم عاد إلى تمام الأول فقال: ما اتقينا قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفا" خروجا عن سبيل الكلام، "اضطرنا" ألجأنا "إليه تصحيح الكلام انتهى" كلام المازري، "وقيل: إنه يخاطب بهذا الشعر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى" أي معنى اغفر "لا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقك ونصرك"، حكاه في الروض والفتح، قائلا: "وعلى هذا" لا على ما قبله لقوله، ثم عاد إلى تمام الأول ... إلخ. فإنه ظاهر في أنه دعاء، "فقوله: اللهم لم يقصد بها الدعاء، وإنما افتتح بها الكلام" أما على الأول أنه خطاب لله تعالى، فهو دعاء لأن المعنى اللهم اغفر لنا، "و" على هذا أيضا "المخاطب بقول الشاعر: لولا أنت النبي" صلى الله عليه وسلم "لكن يعكر عليه قوله بعد، ذلك فأنزلن" الذي قدمه وألقين وهو الذي في البخاري هنا. نعم رواه في الخندق لكن من حديث البراء بلفظ فأنزلن "سكينة علينا وثبت الإقدام إن لاقينا" العدو "فإنه دعاء لله تعالى، ويحتمل أن يكون المعنى فاسأل ربك أن ينزل ويثبت", الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 والله أعلم. وقوله: "إذا صيح بنا أتينا" أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره أتينا ولم نتأخر عنه. وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة، أي أبينا الفرار. وقوله: "وبالصياح عولوا عليها" أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال. قيل: هو من التعويل على الشيء وهو الاعتماد عليه، وقيل: هو من العويل، وهو الصوت. وقوله: "من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت" أي: ثبتت له الشهادة وستقع قريبا، لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا   فلا عكر، "والله أعلم" بالمراد للشاعر وللمصطفى حين تمثل به في حفر الخندق، "وقوله إذا صيح بنا أتينا" بكسر الصاد المهملة وسكون التحتية، "أي إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكاره،" أي ما تكرهه النفوس "أتينا" بالفوقية. وفي الفتح أي جئنا إذا دعينا إلى القتال أو إلى الحق. "وفي رواية أبينا بالموحدة بدل المثناة" الفوقية "أي أبينا الفرار". وقال الحافظ: كذا رأيت في نسخة النسفي فإن كانت ثابتة فالمعنى إذا دعينا إلى غير الحق امتنعنا كذا في الفتح هنا وقال فيه في الخندق روي بالوجهين. قال عياض: كلاهما صحيح المعنى أما الباء فمعناه إذا صيح بنا لفزع، أو حادث أبينا الفرار وثبتنا، وأما المثناة فمعناه جئنا وأقدمنا على عدونا. قال: ورواية المثناة أوجه لأن إعادة الكلمة في قوافي الرجز عن قرب عيب معلوم عندهم، والراجح أن قوله إذا صيح بنا أتينا بالمثناة، وقوله إذا أرادوا فتنة أبينا بالموحدة. انتهى. "وقوله وبالصياح عولوا علينا، أي استعانوا بنا واستفزعونا للقتال" وفي الفتح، أي قصدونا بالدعاء بالصوت العالي واستعانوا علينا. تقول: عولت على فلان وعولت بفلان بمعنى استعنت به. "قيل: هو من التعويل على الشيء، وهو الاعتماد عليه" وهو المتبادر من عولوا بالتثقيل "وقيل: من العويل، وهو الصوت". والمعنى أجابوا علينا بالصوت. قاله الخطابي وتعقبه ابن التين بأنه لو كان من العويل لكان أعولوا وأقره الحافظ نعم حكى المصنف أن في نسخة أعولوا فلعل كلامه عليها "وقوله من هذا السائق قالوا: عامر قال: يرحمه الله قال رجل من القوم: وجبت أي ثبتت له الشهادة" تفسير لوجبت "وستقع قريبا", وكأنه لم يكتف بأن يقول وقوله وجبت أي ثبتت ... إلخ. بل أعاده من أوله وإن قدمه قريبا لأنه جعله توطئة لقوله، "لأنه كان معلوما عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 الدعاء في هذا الموطن استشهد، وقوله: لولا أمتعتنا به؟ أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة. وفي البخاري من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا -وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم   الدعاء في هذا الموطن" يعني الحرب "استشهد" كما أشار إليه رواية سلمة، بل كلامه أعم من الحرب لقوله: ما استغفر لإنسان يخصه إلا استشهد كما مر قريبا، "وقوله: لولا أمتعتنا به" ليس المراد بلولا التحضيض لأنه إن كان على ماض أفادت اللوم ومعاذ الله أن يقصده أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم، بل المراد العرض والتمني "أي وددنا أنك أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته", وشجاعته "مدة". قال الحافظ والتمتع الترفه إلى مدة ومنه أمتعني الله ببقائك. "وفي البخاري من حديث أنس" من ثلاثة طرق عنه؛ الطريق الأولى: حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن حميد الطويل عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أتى خيبر ليلا" أي قرب منها، فلا يخالف رواية ابن سيرين عن أنس في الطريق الثانية عند البخاري: صبحنا خيبر بكرة، لأنه يحمل على أنهم قدموها وناموا دونها، ثم ركبوا إليها بكرة فصبحوها بالقتال. وذكر ابن إسحاق أنه نزل بواد يقال له: الرجيع بينهم وبين غطفان لئلا يمدوهم وكانوا حلفاءهم، فبلغني أن غطفان تجهزوا وقصدوا خيبر فسمعوا حسا خلفهم، فظنوا أن المسلمين خلفوهم في ذراريهم، فرجعوا وأقاموا وخذلوا أهل خيبر. "وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم" بضم التحتية وكسر الغين المعجم أي لم يسرع في الهجوم عليهم "حتى يصبح". قال الحافظ: كذا للأكثر من الإغارة ولأبي ذر عن المستملي لم يقربهم بفتح أوله وسكون القاف وفتح الراء وسكون الموحدة، وفي الجهاد بلفظ لا يغير عليهم وهو مؤيد رواية الجمهور، وفي الأذان من وجه آخر: كان إذا غزا لم يغربنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذانا كف عنهم وإلا أغار، فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلا فلما أصبح ولم يسمع أذانا ركب. انتهى. وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه: "قفوا". ثم قال: "اللهم رب السموات وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها أقدموا بسم الله". وكان يقولها لكل قرية دخلها "فلما أصبح خرجت اليهود". زاد أحمد: إلى زروعهم "بمساحيهم" بمهملتين جمع مسحاة من آلات الحرث. قال البرهان: والميم زائدة لأنه من السحو وهو الكشف والإزالة "ومكاتلهم" بفتح الميم وكسر الفوقية جمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". وفي رواية: فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر".   مكتل بكسرها وفتح الفوقية هو القفة الكبيرة التي يحول فيها التراب وغيره. قال في الروض سميت بذلك لتكتيل الشيء فيها وهو تلاصق بعضه ببعض والكتلة من التمر ونحوه فصيحة وإن أبدلتها العامة انتهى. وحكى الواقدي إن أهل خيبر سمعوا بقصده لهم، فكانوا يخرجون في كل يوم عشرة آلاف مقاتل مسلحين مستعدين صفوفا، ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات فلا يرون أحدا، حتى إذا كان الليلة التي قدم فيها المسلمون، ناموا ولم تتحرك لهم دابة، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فخرجوا بالمساحي طالبين مزارعهم فوجدوا المسلمين "فلما رأوه قالوا": جاء أو هذا "محمد والله محمد والخميس" ضبطه القاضي عياض بالرفع عطف والنصب مفعول معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -زاد البخاري في الجهاد من هذا الطريق نفسه-: "الله أكبر خربت خيبر". أي: صارت خرابا "إنا إذا نزلنا بساحة" أي: فناء "قوم" وأصلهما الفضاء بين المنازل "فساء صباح المنذرين". وهذا الحديث أصل في جواز التمثل والاستشهاد بالقرآن والاقتباس نص عليه ابن عبد البر وابن رشيق كلاهما في شرح الموطأ وهما مالكيان، والنووي في شرح مسلم كلهم في شرح هذا الحديث وكذا صرح بجوازه القاضي عياض والباقلاني من المالكية. وحكى الشيخ داود الشاذلي اتفاق المالكية والشافعية على جوازه غير أنهم كرهوه في الشعر خاصة. وروى الخطيب البغدادي وغيره بالإسناد عن مالك أنه كان يستعمله. قال السيوطي: وهذه أكبر حجة على من زعم أن مذهب مالك تحريمه، وأما مذهبنا فأجمع أئمته على جوازه والأحاديث الصحيحة والآثار عن الصحابة والتابعين تشهد لهم، فمن نسب إلى مذهبنا تحريمه فقد فشر وأبان أنه أجهل الجاهلين. انتهى. وهذا منه قاض بغلطه فيما أورده في عقود الجمان، "وفي رواية" للبخاري في الجهاد، فرفع يديه وقال: "الله أكبر خربت خيبر". قال الحافظ: وزيادة التكبير في معظم الطرق عن أنس وعن حميد. انتهى. وفيه استحباب التكبير عند الحرب وتثليثه، ففي رواية للبخاري في الصلاة، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. قالها ثلاثا، وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 والخميس: الجيش: سمي به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب. ومحمد: خبر مبتدأ، أي هذا محمد. قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى. ويحتمل -كما قاله في فتح الباري- أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي، ويؤيده قوله بعد ذلك: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين".   التنزيل إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا والثلاثة مبدأ الكثرة "والخميس" بلفظ اليوم "الجيش" كما فسره عبد العزيز بن صهيب، أو من دونه عند البخاري في صلاة الخوف، بدليل روايته في أوائل كتاب الصلاة بلفظ يعني الجيش "سمي به، لأنه مقسوم بخمسة أقسام، المقدمة" وسماها في حديث الحراسة، "والساقة" مؤخر الجيش، "والميمنة والميسرة" ويقال لهما: الجناحان "والقلب" وقيل من تخميس الغنيمة، وتعقبه الأزهري بأن التخميس إنما ثبت بالشرع، وقد كان أهل الجاهلية يسمون الجيش خميسا فبان أن القول الأول أولى "ومحمد خبر مبتدأ أي هذا محمد" كما عليه معظم الشراح، وأعربه المصنف أيضا فاعلا بفعل فقدر جاء محمد. "قال السهيلي" في الروض: "يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رأى آلة الهدم" وهي المساحي والمكاتل مع أن لفظ المسحاة من سحوت إذا قشرت "تفاءل أن مدينتهم ستخرب. انتهى". ويحتمل كما قاله في فتح الباري أن يكون قال: "خربت خيبر" بطريق الوحي ويؤيده قوله بعد ذلك: "إن إذا نزلنا بساحة قوم فساء" بئس "صباح المنذرين" صباحهم فهو إخبار بالغيب أو على جهة الدعاء عليهم، ويجوز أن يكون أخذه من اسمها كما قال البرهان. "وفي رواية" للبخاري في هذه الغزوة من طريق ثابت وقبلها في صلاة الخوف من طريق عبد العزيز وثابت عن أنس "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح قريبا من خيبر بغلس" في أول وقتها، "ثم قال" لما أشرف على خيبر: "الله أكبر" في رواية الطبراني ثلاثا "خربت خيبر" أخبار بالغيب عن الوحي، أو تفاؤلا باسمها أو بآلات الهدم، أو دعاء "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات، ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية. قال الدمياطي: وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها. وفي البخاري: وكان علي بن أبي طالب تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان رمدا, فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحق فلما بتنا الليلة التي فتحت قال: "لأعطين الراية غدا -أو: ليأخذن   المخصوص بالذم محذوف أي صباحهم واللام للجنس والصباح مستعار من صباح الجيش المبيت لوقت نزول العذاب، ولما كثرت فيهم الهجوم والغارة في الصباح سموا الغارة صباحا، وإن وقعت في وقت آخر قاله البيضاوي. "وقال مغلطاي وغيره: وفرق عليه الصلاة والسلام الرايات" فدفع رايته العقاب إلى الحباب بن المنذر، وراية لسعد بن عبادة، ولواءه وهو أبيض إلى علي، "ولم تكن الرايات إلا بخيبر وإنما كانت الألوية" كما ذكره ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود عن عروة وقد صرح جماعة من اللغويين بترادف الراية واللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب. لكن روى أحمد، والترمذي عن ابن عباس، والطبراني عن بريدة، وابن عدي عن أبي هريرة، قالوا: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض زاد أبو هريرة مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية قاله الحافظ وفي المصباح لواء الجيش علمه وهو دون الراية. "قال الدمياطي: وكانت" مستأنف في جواب سؤال نشأ من ذكر الرايات هو مم كانت رايته؟ فقال: كانت "راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من برد لعائشة رضي الله عنها" والأولى سوداء بالتنكير، كما قاله الصحابة الثلاثة لأنه لم يتقدم ذكرها وكانت تسمى العقاب، "وفي البخاري" عن سلمة "وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" في خيبر، "وكان رمدا" بكسر الميم ولابن أبي شيبة عن علي أرمد والطبراني عن جابر أرمد شديد الرمد وأبي نعيم عن ابن عمر أرمد لا يبصر، "فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال الحافظ: كأنه أنكر على نفسه تأخره عنه فقل ذلك، "فلحق"، زاد الكشميهني به يحتمل قبل وصوله إلى خيبر ويحتمل بعد وصوله إليها. انتهى. "فلما بتنا الليلة التي فتحت" خيبر في صبحتها "قال: لأعطين الراية غدا أو" قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 الراية غدا- رجل يحبه الله ورسوله". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه".   "ليأخذن الراية غدا رجل" قال الحافظ شك من الراوي، وفي حديث سهل بعده: "لأعطين الراية غدا". بغير شك "يحبه الله ورسوله" زاد في حديث سهل بعده: "ويحب الله ورسوله". وفي رواية ابن إسحاق: "ليس بفرار". وفي حديث بريدة: "لا يرجع حتى يفتح الله له". وروى أبو نعيم والبيهقي عن بريدة كان صلى الله عليه وسلم تأخذه الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، فأرسل أبا بكر فأخذ راية رسول الله ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم أرسل عمر فأخذ الراية فقاتل أشد من الأول، ثم رجع ولم يكن فتح. وقال الحافظ: وقع في رواية البخاري اختصار وهو عند أحمد والنسائي وابن حبان، والحاكم عن بريدة. قال: لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء فرجع ولم يفتح له فلما كان من الغد أخذه عمر فرجع ولم يفتح له وقتل محمود بن مسلمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لأدفعن لوائي غدا" ... الحديث. وعند ابن إسحاق نحوه من وجه آخر أي عن سلمة وزاد. قال سلمة: فخرج علي والله يهرول وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: علوتم وما أنزل على موسى، وفي الباب عن أكثر من عشرة من الصحابة سردهم الحاكم في الإكليل وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل. انتهى. وفي هذا رد على زعم ابن كثير ضعف حديث ذهاب الشيخين ولم يفتح لهما وبقية حديث سلمة هذا عند البخاري يفتح عليه فنحن نرجوها فقيل: هذا علي فأعطاه ففتح، "وفي رواية" للبخاري في مواضع عن سهل بن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم قال: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله" خيبر "على يديه" بالتثنية زاد البخاري في المغازي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. قال الحافظ: في المناقب أراد وجود حقيقة المحبة وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فكأنه أشار إلى أن عليا تام الاتباع له صلى الله عليه وسلم حتى وصفه بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق، ففي مسلم عن علي: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وله شاهد من حديث أم سلمة عند أحمد قال: أي سهل فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. يدوكون بضم الدال المهملة أي باتوا في اختلاط واختلاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.   والدوكة بالكاف الاختلاط "فلما أصبح الناس غدوا" بمعجمة أتوا صباحا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون" بالنون رواية أبي ذر ولغيره يحذفها. قال المصنف: حذف النون بغير ناصب ولا جازم لغة. انتهى. "أن يعطاها" أي الراية وفي مسلم عن أبي هريرة أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، وفي حديث بريدة فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل حتى تطاولت أنالها، "فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: "رواية أبي ذر ولغيره، فقيل: "يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه" قال المصنف: بكسر السين أمر من الإرسال وفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا أي الصحابة إلى علي وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده "فأتي به" ولمسلم عن سلمة فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أردم قال الحافظ: فظهر منه أنه الذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم فحضر من المكان الذي نزل به أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره "فبصق صلى الله عليه وسلم في عينيه" وعند الحاكم عن علي نفسه فوضع رأسي في حجره ثم بزق في ألية راحته فدلك بها عيني، والألية اللحمة التي تحت الإبهام أو باطن الكف، "ودعا له" فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والقر". رواه الطبراني بالقاف أي البرد "فبرأ" قال الحافظ بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم. انتى. فالراية بالفتح فتسمح المصنف في قوله بفتح الراء وكسرها "حتى كأن لم يكن به وجع" زاد بريدة فما وجعهما علي حتى مضى لسبيله أي مات. رواه البيهقي وللطبراني عن علي: فما رمدت ولا صدعت مذ دفع إلي النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر، وله من وجه آخر فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: "اللهم أذهب عنه الحر، والبرد". فما اشتكيتهما حتى يومي هذا. وفي رواية يونس عن ابن إسحاق وكان علي يلبس القباء المحشو الثخين في شدة الحر فلا يبالي الحر ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد فلا يبالي البرد فسئل، فأجاب بأن ذلك بدعائه عليه الصلاة والسلام يوم خيبر "فأعطاه الراية". وفي حديث أبي سعيد عند أحمد فانطلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم". الحديث.   حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها، "فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم" بحذف همزة الاستفهام "حتى يكونوا مثلنا" مسلمين، فقال: "انفذ" بضم الفاء بعدها معجمة أي: امض "على رسلك" بكسر الراء هينتك "حتى تنزل بساحتهم" بفنائهم "ثم ادعهم" بهمزة الوصل "إلى الإسلام". وفي حديث أبي هريرة: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، واستدل بقوله: ادعهم إن الدعوة شرط في جواز القتال والخلاف فيه شهير فقيل: شرط مطلقا وهو عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أم لا قال: إلا أن يعجلوا المسلمين وقيل: لا مطلقا، وعن الشافعي مثله وعنه لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وقصة علي بعد ذلك. وعن الحنفية تجوز الإغارة مطلقا وتستحب الدعوة، "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه" أي في الإسلام فإن لم يطيعوا لك بذلك فقاتلهم، "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر" بضم المهملة وسكون الميم "النعم" بفتح النون، والعين المهملة وهو من ألوان الإبل المحمودة، قيل: المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل: تقتنيها وتملكها، وكانت مما يتفاخر العرب بها, قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا للتقريب إلى الإفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الدنيا وما فيها بأسرها ومثلها معها، وزاد مسلم من حديث إياس ابن سلمة عن أبيه، وخرج مرحب فقال: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز له علي وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره أكيلهم بالسيف كيل السندره وضرب مرحبا، ففلق رأسه وقتله وكان الفتح. قال الحافظ: وخالف في ذلك أهل السير حزم ابن إسحاق وابن عقبة والواقدي بأن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة وكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 ولما تصاف القوم، كان سيف عامر قصيرا، فتناول ساق يهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمت منه. فلما قفلوا، قال سلمة:   روى أحمد بإسناد حسن عن جابر وقيل: أن ابن مسلمة كان بارزه فقطع رجليه فأجهز علي عليه، وقيل: إن الذي قتله هو الحارث أخو مرحب فاشتبه على بعض الرواة، فإن يكن كذلك وإلا فما في الصحيح مقدم على ما سواه ولا سيما قد جاء عن بريدة أيضا عند أحمد، والنسائي، وابن حبان، والحاكم. انتهى. وقد قال ابن عبد البر: إنه الصحيح، وابن الأثير الصحيح الذي عليه أهل السير و"الحديث" أن عليا قاتله، وقال الشامي: ما في مسلم مقدم عليه من وجهين: أحدهما: أنه أصح إسنادا, الثاني: أن جابرا لم يشهد خيبر، كما ذكر ابن إسحاق، والواقدي, وغيرهما، وقد شهدها سلمة وبريدة وأبو رافع فهم أعلم ممن لم يشهدها، وما قيل: إن ابن مسلمة قطع ساقي مرحب ولم يجهز عليه ومر به علي فأجهز عليه يأباه حديث سلمة وأبي رافع. انتهى. وذكر قاسم بن ثابت في الدلائل أن اسمه في الكتب القديمة أسد وهو حيدرة, وقيل: سمته أمه أسد باسم أبيها فلما قدم أبوه سماه عليا وقيل: لقب به في صغره، لأن الحيدرة الممتلئ لحما مع عظم بطن وكان كذلك. انتهى. ويقال: إن عليا كاشفه بذلك لأن مرحبا رأى تلك الليلة مناما أن أسدا افترسه، فأشار بقوله حيدرة إلى أنه الأسد الذي يفترسه، فلما سمع ذلك ارتعد وضعفت نفسه. "و" في حديث سلمة بن الأكوع السابق أوله "لما تصاف" بتشديد الفاء " القوم" للقتال "كان سيف عامر" بن الأكوع "قصيرا، فتناول" أي قصد ساق يهودية ليضربه" به، ولأحمد عن إياس بن سلمة عن أبيه، فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز إليه عامر فقال: قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مقامر فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له بفتح التحتية وسكون المهملة وضم الفاء أي يضربه من أسفل، فرجع ذباب" بضم المعجمة، وبالموحدة "سيفه". قال الحافظ: أي طرفه الأعلى, وقيل: حده "فأصاب عين ركبة عامر" أي طرف ركبته الأعلى، وفي رواية يحيى القطان فأصيب عامر بسيف نفسه ولمسلم فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، ولابن إسحاق فكلمه كلما شديدا "فمات منه فلما قفلوا" رجعوا من خيبر "قال سلمة" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 قلت يا رسول الله، فداك أبي وأمي، زعموا أن عامرا حبط عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب من قال، وإن له أجرين -وجمع بين إصبعيه- إنه لجاهد مجاهد". رواه البخاري أيضا. وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت: ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر, فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.   رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي، وللبخاري في الأدب رآني شاحبا بمعجمة ثم مهملة وموحدة أي: متغير اللون. وفي رواية إياس فأتيته وأنا أبكي. قال: "ما لك"؟ "قلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن عامرا أحبط عمله". وفي رواية إياس: بطل عمل عامر قتل نفسه وسمي في الأدب من القاتلين أسيد من حضير وعند ابن إسحاق ونحوه لمسلم فكان المسلمين شكوا فيه، وقالوا: إنما قتله سلاحه "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب" أي أخطأ "من قاله وأن له أجرين"، وفي رواية لأجرين باللام للتأكيد أجر الجهاد في الطاعة وأجر الجهاد في سبيل الله, وجمع بين إصبعيه: "إنه لجاهد مجاهد" قال الحافظ: كذا للأكثر باسم الفاعل فيهما وكسر الهاء والتنوين والأول مرفوع والثاني اتباع للتأكيد، كما قالوا: جاد مجد ولأبي ذر عن الحموي، والمستملي لجاهد بفتح الهاء والدال وكذا ضبطه الباجي، قال ابن دريد: رجل جاهد أي: جاهد في أموره، وقال ابن التين: الجاهد من يرتكب المشقة ومجاهد أي لأعداء الله تعالى. انتهى. وقال الزركشي: وتبعه الدماميني بفتح الهاء في الأول ماض وكسر الهاء في الثاني اسما منصوبا بذلك الفعل جمعا المجهد "رواه البخاري أيضا" وبقية الحديث فيه قل عربي مشى بها مثله بالميم والقصر من المشي والضمير للأرض أو المدينة أو الحرب أو الخصلة، "وعن يزيد" من الزيادة "ابن أبي عبيد" بضم العين الأسلمي مولى سلمة, ثقة. روى له الجميع مات سنة بضع وأربعين ومائة. "قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة" بن الأكوع. "فقلت": يا أبا مسلم "ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها" أي ساقه. وفي رواية أصابتنا وأخرى أصابتني "يوم خيبر" نصب على الظرفية، فقال الناس: أصيب سلمة "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه", قال الحافظ وغيره: أي موضع الضربة "ثلاث نفثات" بمثلثة بعد الفاء المفتوحة فيهم جمع نفثة وهي فوق النفخ ودون التفل، وقد تكون بغير ريق بخلاف التفل وقد تكون بريق خفيف بخلاف النفخ "فما اشتكيتها حتى الساعة" قال المصنف: بالجر على أن حتى جارة. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 أخرجه البخاري. وعند أيضا عن أبي هريرة: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار"، فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال، حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب،   فهو الرواية وإن جاز النصب وفيه معجزة باهرة "أخرجه البخاري" ثلاثيا، فقال: حدثنا المكي بن إبراهيم حدثنا يزيد بن أبي عبيد. قال: رأيت. فذكره, "وعنده أيضا عن أبي هريرة" قال: "شهدنا خيبر" مجاز عن جنسه من المسلمين، فالثابت أنه إنما جاء بعد فتحها وعند الواقدي أنه قدم بعد فتح معظمها فحضر فتح آخرها لكن البخاري في الجهاد عن أبي هريرة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحها أو هو مجاز عن شهود الغنيمة؛ لأنه شهد قسم النبي صلى الله عليه وسلم لغنائم خيبر بها اتفاقا، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل" -اللام بمعنى عن, كقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} أو بمعنى أي في شأنه وسببه, ومنه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} - ممن معه يدعي الإسلام" نفاقا. قال الحافظ: وقع لجماعة ممن تكلم على البخاري أنه قزمان بضم القاف وسكون الزاي، الظفري بفتح المعجمة والفاء نسبة إلى بني ظفر بطن من الأنصار المكنى أبا الغيداق بمعجمة مفتوحة وتحتية ساكنة آخره قاف، ويعكر عليه ما جزم به ابن الجوزي تبعا للواقدي أن قزمان قتل بأحد وكان يتخلف عن المسلمين عيره النساء فخرج حتى صار في الصف الأول فكان أول من رمى بسهم ثم فعل العجائب، فلما انكسر المسلمون كسر جفن سيفه وجعل يقول الموت أحسن من الفرار، فمر به قتادة بن النعمان فقال: هنيئا لك الشهادة. قال: إني والله ما قاتلت على حسب قومي، ثم أقلقته الجراحة فقتل نفسه. لكن الواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف نعم عند أبي يعلى تعيين يوم أحد، لكن لم يسمل قاتل نفسه وفيه راو مختلف فيه "هذا من أهل النار" لنفاقه، أو أنه سيرتد ويستحل قتل نفسه، "فلما حضر القتال" بالرفع على الفاعلية، ويجوز النصب أي فلما حضر الرجل القتال "قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراح فكاد بعض الناس يرتاب". وفي رواية بزيادة أن في خبر كاد وهو جائز على قلة أي شك في قوله صلى الله عليه وسلم هذا من أهل النار، وفيه إشعار بأنهم ما ارتابوا، وإنما هو استفهام خوف على أنفسهم، ففي حديث سهل عند البخاري. فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار؟ وفي حديث أكثم بن أبي الجون الخزاعي عند الطبراني، قلنا: يا رسول الله إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار فأين نحن؟ قال: ذاك أخبأت النفاق فكنا نتحفظ عليه في القتال، وفي حديث سهل في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 فوجد الرجل ألم الجراحة فأهوى بيده إلى كنانته، فاستخرج منها سهما فنحر نفسه، فاشتد رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: "قم يا فلان فأذن: إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر".   البخاري، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أي: أصحبه وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار، فإن فعله في الظاهر جميل وقد أخبر الصادق المصدوق أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب، قال فخرج معه كلما وقف وقف معه "فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها سهما" بالإفراد للكشميهني ولغيره أسهما بفتح أوله وضم الهاء بلفظ الجمع، "فنحر نفسه فاشتد" أي أسرع في المشي "رجل" بالإفراد "من المسلمين" قال الحافظ: هو أكثم الخزاعي، ففي حديثه عند الطبراني، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أشهد أنك رسول الله. انتهى. ويقع في نسخ رجال بالجمع وهو من تحريف النساخ، فالذي في البخاري بالأفراد وفسره شارحه بما ترى "فقال" بالإفراد، كما هو في البخاري، ونسخة، فقالوا: خطأ "يا رسول الله صدق الله حديثك انتحر فلان فقتل نفسه". قال المهلب هذا الرجل ممن أعلمنا صلى الله عليه وسلم أنه نفذ عليه الوعيد، من النفاق ولا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، وقال ابن التين: يحتمل أن قوله من أهل النار أي إن لم يغفر الله له، ويحتمل أنه حين أصابته الجراحة ارتاب وشك في الإيمان أو استحل قتل نفسه فمات كافرا ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وبذلك جزم ابن المنير "فقال" عليه السلام: "قم يا فلان" هو بلال، كما عند البخاري في كتاب القدر بلفظ: "يا بلال قم". ولمسلم: "قم يابن الخطاب". وللبيهقي أن المنادي عبد الرحمن بن عوف ويجمع بأنهم نادوا جميعا في جهات مختلفة قاله في الفتح وقال في مقدمته: روى الطبراني والبيهقي عن العرباض أن عبد الرحمن أذن أن الجنة لا تحل إلا لمؤمن، وكان هذا في قصة أخرى أو المؤذن أكثر من واحد. انتهى. "فأذن" بشد المعجمة المكسورة أي أعلم الناس "إنه" ولأبي ذر: أن "لا يدخل الجنة إلا مؤمن" فيه إشعار بسلب الإيمان عن هذا الرجل. "إن الله يؤيد" وللكشميهني: ليؤيد التأكيد. قال النووي: يجوز في أن فتح الهمزة وكسرها "هذا الدين بالرجل الفاجر" الذي قتل نفسه، أو أل للجنس لا للعهد فيعم كل فاجر أيد الدين وساعده بوجه من الوجوه. انتهى. وليس فيه على أنها عهدية ما يقضي بكفره لأن عصيانه كاف في فجوره، وقال الحافظ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 وفي رواية: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". الحديث.   الذي يظهر أن المراد بالفاجر أعم من أن يكون كافرا أو فاسقا ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم إنا لا نستعين بمشرك لأنه محمول على من كان يظهر الكفر أو هو منسوخ. وفي الحديث أخبار صلى الله عليه وسلم بالمغيبات وذلك من معجزاته الظاهرة وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه والجهر بها، "و" عنده أي البخاري أيضا " في رواية" هنا وفي مواضع من طرق عن سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون فاقتتلوا فمال إلى عسكره ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحابه رجل لا يدع لهم شاذة ولا فادة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقيل: ما أجزى منا أحد اليوم كما أجزى فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار"، فقال رجل من القوم أنا صاحبه فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه فجرح الرجل جرحا شديدا فاستعجل الموت فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك"؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به فخرجت في طلبه, ثم جرح جرحا شديدا فاستعجل المو فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة" من الطاعات "فيما يبدو" يظهر "للناس وهو من أهل النار" فيدخلها "وأن الرجل ليعمل بعمل" الباء فيهما زائدة للتأكيد أو ضمن يعمل معنى يتلبس بعمل "أهل النار" من المعاصي "فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". زاد الطبراني في حديث أكثم تدركه الشقاوة والسعادة عند خروج نفسه فيختم له بها، وذكر في ذا الحديث أهل الخير والشر صرفا إلى الموت لا الذين خلطوا وماتوا مسلمين، فلم يقصد تعميم أحوال المكلفين، بل أورده لبيان أن الاعتبار بالخاتمة، ختم الله أعمالنا بالصالحات بمنه وكرمه أنه على ذلك قدير. قال النووي: فيه التحذير من الاغترار بالأعمال وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحل للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله "الحديث" تتمته: "وإنما الأعمال بالخواتيم". هكذا رواه البخاري في كتاب القدر من صحيحه وبوب عليه العمل بالخواتيم. ورواه في الجهاد والمغازي بطرق بإسقاط تتمته هذه، وقد صرح في حديث أبي هريرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، وقاتلوه أشد القتال، واستشهد من المسلمين خمسة عشر، وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون. وفتحها الله عليه حصنا حصنا، وهي: النطاة، وحصن أصعب وحصن ناعم،   السابق بما أبهمه في حديث سهل هذا من أن هذه القصة كانت بخيبر وهو ظاهر سياق المصنف كظاهر سياق البخاري فإنه أورد في المغازي حديث سهل ثم عقبه بحديث أبي هريرة، ثم أورد بعده حديث سهل بطريق آخر، وكذا في القدر فإنه روى حديث أبي هريرة، ثم حديث سهل لكن بين السياقين اختلاف فسياق أبي هريرة أن الرجل استخرج أسهما من كنانته فنحر بها نفسه وأنه عليه السلام قال: لما أخبروه بقصته قم ... إلخ. وسياق سهل أنه اتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره وأن المصطفى قال: حين أخبرته أن الرجل ... إلخ، ولذا جنح ابن التين إلى التعدد وأنهما قصتان متغايرتان في موطنين لرجلين. قال الحافظ: ويمكن الجمع وأنها قصة واحدة بأنه عليه السلام قال: إن الرجل ... إلخ، وأمر بالنداء بذلك وأنه نحر نفسه بأسهمه فلم تزهق روحه وأشرف على الموت فاتكأ على سيفه استعجالا له. والله أعلم. "وقاتل النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر" نسب إليه القتال لأمره به وصدوره عن رأيه وتصرفه، "قاتلوه أشد القتال واستشهد من المسلمين خمسة عشر" رجلا من ابن سعد، وزاد عليه غيره، وسردهم الشامي أربعا وثلاثين. فالله أعلم. قال ابن إسحاق: أخبرني عبد الله بن نجيح أنه ذكر له: إن الشهيد إذا أصيب نزلت زوجتاه من الحور العين عليه تنقصان التراب عن وجهه وتقولان ترب الله وجه من تربك وقتل من قتلك، "وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون" بفوقية قبل السين لعنهم الله "وفتحها الله عليه حصنا" نصب على الحال "حصنا" نصب تأكيدا عند الزجاج، وصفة للأول عند ابن جني وبالأول عند الفارسي؛ لأنه لما وقع موقع الحال جاز عليه. قال المرادي والمختار أنهما منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال ونظيره في الخبر، هذا حلو حامض، "وهي النطاة" بنون فطاء مهملة بوزن حصاة "وحصن أصعب" بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين وبالموحدة ابن معاذ. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عمن حدثه عن بعض أسلم، والواقدي عن معتب بشد الفوقية المكسورة الأسلمي أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء فلم نجد عنده شيئا، فقال: "اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليست بهم قوة وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها غنى وأكثرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 وحصن قلعة الزبير، والشق، وحصن البريء، والقموص, والوطيح, والسلالم.   طعاما وودكا"، فعدل الناس ففتح الله عليهم حصن الصعب بن معاذ وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا منه "وحصن ناعم" بنون فألف فمهملة فميم. قال ابن إسحاق وهو أول حصونهم افتتح وعنده قتل محمود بن مسلمة ألقيت عليه رحى منه. ثم ذكر بعد قليل أنه عليه السلام دفع كنانة بن ربيع بن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود، ففيه أن كنانة قتل محمودا وذكر أبو عمر أن مرحبا ألقى على محمود رحى، فأصابت رأسه فهشمت البيضة رأسه وسقطت جلدة جبينه على وجهه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد الجلدة، فعادت كما كانت وعصبها بثوبه فمكن ثلاثة أيام ومات، فلعل كنانة ومرحبا دلياها عليه فنسب إلى هذا مرة وإلى الآخر أخرى، "وحصن قلعة الزبير" بن العوام الذي صار في سهمه بعد، وكان اسمه حصن قلة لكونه على رأس جبل، ثم مفاد عطف المصنف ما ذكر عن النطاة تبعا لمغلطاي أن النطاة اسم لحصن مغاير لما بعده، والشامي جعل النطاة اسمها لحصن ناعم، والصعب والزبير فإن وفقت بينهما فقدر بعد وهي النطاة وحصونها ثلاثة، "والشق" بفتح الشين المعجمة وكسرها. قال البكري: والفتح أعرف عند أهل اللغة وبالقاف المشددة، ووقع بخط مغلطاي بزيادة نون قبل القاف وفيه نظر وما أخاله إلا تصحيفا. قاله البرهان في موضعين "و" يشتمل أيضا على حصون كثيرة منها "حصن أبي". قال الواقدي: وهو أول ما بدأ به من حصون الشق فتقاتلوا قتالا شديدا، ثم تحامل المسلمون على الحصن فدخلوه يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما هرب من فيه من المقاتلة إلى حصن النزال بالشق فغلقوه وامتنعوا به أشد الامتناع، وزحف صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلهم فكانوا أشد أهل الشق رميا بالنبل والحجارة، فأخذ صلى الله عليه وسلم كفا من حصى فحصب به حصنهم فرف بهم، ثم ساخ في الأرض حتى جاء المسلمون فأخذوا أهله باليد. "وحصن البريء" بفتح الموحدة وكسر الراء المخففة وبالمد. "والقموص" بفتح القاف وضم الميم وسكون الواو، فصاد مهملة، وقيل: بغين فضاد معجمتين وهو الذي فتحه علي، وهو أعظم حصون الكتيبة بكاف مفتوحة ففوقية وقيل: مثلثة مكسورة فتحتية ساكنة فموحدة، ويقال: بضم الكاف ومنه سبيت صفية. "والوطيح" بفتح وكسر الطاء فتحتية ساكنة فحاء مهملتين، كما ضبطه ابن الأثير وغيره. قال البرهان وسمعت من قرأه بإعجام الخاء وهو تصحيف قال البكري سمي بالوطيح بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وهو حصن بني أبي الحقيق. وأخذ كنز آل أبي الحقيق الذي كان في مسك الحمار، وكانوا قد غيبوه في خربة، فدل الله رسوله عليه فاستخرجه. وقلع   مازن رجل من ثمود. قال السهيلي: مأخوذ من الوطح وهو ما بالإظلال ومخالب الطير، من الطين "والسلالم" بضم السين المهملة وقيل: بفتحها وكسر اللام قبل الميم، ويقال: فيه السلاليم على ما تقدم أي من ضم السين وفتحها قاله ابن الأثير: قال ابن إسحاق وكانا آخر حصونها افتتاحا، "وهو حصن بني أبي الحقيق" بحاء مهملة وقافين مصغر، "وأخذ كنز آل أبي الحقيق" المشتمل على حلي وآنية وغيرهما، أي مالهم الذي غيبوه أضيف لهم لكونه في أيدي أكابرهم، وكانوا يعيرونه العرب وإلا فهو مال بني النضير الذي حمله حيي بن أخطب لما أجلي عن المدينة "الذي كان في مسك" بفتح الميم، وسكون السين المهملة جلد "الحمار" أولا، فلما كثر جعلوه في مسك ثور، ثم في مسك جمل كما قال الواقدي, ويحتمل أنهم ردوه إلى مسك الحمار لنفاد بعضه وغيبوه به قيل وخص جلد الحمار لأن الأرض لا تأكله، "وكانوا قد غيبوه في خربة فدل الله رسوله عليه" فأخبره بموضعه كما عند البيهقي عن عروة. وروى ابن سعد، والبيهقي عن ابن عمر أن أهل خيبر شرطوا له صلى الله عليه وسلم أن لا يكتموه شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم فأتى بكنانة والربيع، فقال: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير". قالا: أذهبته الحروب والنفقات، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك". وروى البيهقي، وابن سعد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دعا بكنانة وأخيه الربيع، وابن عمهما، فقال: "أين آنيتكما التي كنتم تعيرونها أهل مكة". قالا: هربنا، فلم نزل تضعنا أرض وترفعنا أخرى فذهب فأنفقنا كل شيء، فقال: "إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت به دماءكما وذراريكما". فقالا: نعم فدعا رجلا من الأنصار فقال: "اذهب إلى نخل كذا وكذا, فانظر نخلة مرفوعة فائتني بما فيها". فجاءه بالآنية والأموال فقومت بعشرة آلاف دينار فضرب عنقهما وسبى أهليهما بالنكث الذي نكثاه "فاستخرجه". وعند ابن إسحاق أن كنانة جحد أن يكون يعلم مكانه وعند البلاذري فدفع صلى الله عليه وسلم شعبة بن عمرو إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: رأيت حييا يطوف في خربة ففتشوها فوجدوا المسك فقتل ابني أبي الحقيق، وعند ابن إسحاق أنه أخرج من الخربة بعض كنزهم وسأل كنانة عما بقي فأبى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، فقال له: عذبه حتى تستأصل ما عنده فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه المصطفى إلى محمد بن مسيلمة فقتله بأخيه "وقلع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 علي باب خيبر، ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد. وفي رواية ابن إسحاق: سبعة، وأخرجه من طريق البيهقي في الدلائل، ورواه الحاكم، وعنه البيهقي من جهة ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عن جابر: أن عليا حمل الباب يوم خيبر، وأنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا, وليث ضعيف.   علي باب خيبر" الذي كان منصوبا كما هو المتبادر منه. ويوافقه الرواية الآتية اجتذب أحد أبواب الحصن وفي رواية ابن إسحاق فتناول علي بابا عند الحصن فتترس به فهذا يشعر أنه لم يكن منصوبا فيحتمل أنه لما وصل قلع الباب وألقاه بالأرض فخرجوا إليه فتقاتلوا، فتناول ذلك الباب الذي اقتلعه وجعله ترسا وقاتل والعلم عند الله "ولم يحركه سبعون رجلا إلا بعد جهد" ففيه فرط قوته وكمال شجاعته رضي الله عنه. "وفي رواية ابن إسحاق" حدثني عبد الله بن حسن عن بعض أهله عن أبي رافع قال: خرجنا مع علي حين بعثه صلى الله عليه وسلم برايته، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين فرغ فلقد رأيتني في "سبعة" معي أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فلم نقلبه. "وأخرجه من طريقه البيهقي في الدلائل" للنبوة إشارة إلى أن هذه القوة والشجاعة إنما هي علامة لنبوة من أرسله صلى الله عليه وسلم. "ورواه" الحديث من وجه آخر "الحاكم" محمد بن عبد الله المشهور "وعنه" أخرجه "البيهقي" فقال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ويقع في بعض النسخ الحاكم عن البيهقي من تحريف الجهال جعلوا الشيخ تلميذا مع أنه خلاف الواقع " من جهة" أي طريق "ليث بن أبي سليم" أيمن، وقيل: أنس وقيل: غير ذلك ابن زنيم بزاي ونون مصغر صدوق اختلط جدا ولم يتميز حديثه. مات سنة ثمان وأربعين ومائة "عن أبي جعفر" الباقر "محمد بن علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الهاشمي، الثقة الفاضل، المتوفى سنة بضع عشرة ومائة، "عن جابر، أن عليا حمل الباب يوم خيبر" حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها. هذا أسقطه المصنف من الرواية المذكورة قبل قوله: "وأنه جرب" بضم الجيم وشد الراء وفتح الموحدة، أي أريد اختباره ليستدل به على كمال شجاعته. "بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا", قال الحافظ: والجمع بينهما أن السبعة عالجوا قلبه والأربعين عالجوا حمله والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو لم يكن إلا باختلاف حال الأبطال. "وليث ضعيف" والراوي عنه شيعي، وكذا من دونه لكن لمن دونه متابع ذكره البيهقي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 وفي رواية البيهقي: أن عليا لما انتهى إلى الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب مكانه. قال شيخنا: وكلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء. انتهى. وفي البخاري: وتزوج عليه الصلاة والسلام بصفية بنت حيي بن أخطب، وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكانت عروسا،   "وفي رواية البيهقي" أيضا من جهة حرام بن عثمان عن أبي عتيق وأبي الزبير عن جابر "أن عليا لما انتهى إلى الحصن" المسمى القموص، وكان من أعظم حصونهم كما في الفتح وهو المعبر عنه بخيبر في الحديث، الذي فوقه لكونه من أعظمهما "اجتذب أحد أبوابه، فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده منا سبعون رجلا" لا يعارض رواية أربعين؛ لأنهم عالجوا حمله فما قدروا فتكاملوا سبعين، "فكان جهدهم" بالنصب خبر كان أي غاية وسعهم وطاقتهم واسمها "أن أعادوا الباب" أي إعادة الباب "مكانه". "قال شيخنا": زاد في نسخة السخاوي أي في المقاصد الحسنة "وكلها" أي الأحاديث الثلاثة المذكورة "واهية" أي شديدة الضعف، "ولذا أنكره بعض العلماء" كالحافظ الذهبي فإنه بعد أن ذكر رواية الأربعين. قال: هذا منكر "انتهى". والمنكر من قسم الضعيف، "وفي البخاري" عن أنس "وتزوج عليه الصلاة والسلام بصفية بنت حيي بن أخطب" بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة، وفتح الطاء المهملة، آخره موحدة ابن سعية بفتح المهملة وسكون العين المهملة فتحتية مفتوحة ابن عامر بن عبيد بن كعب من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون أخي موسى عليهما السلام, وأمها ضرة بفتح الضاد المعجمة بنت سموال بني قريظة وكانت تحت سلام بن شكم القرظي، ثم فارقها فتزوجها كنانة النضيري فقتل عنها يوم خيبر. ذكره ابن سعد وأسند بعضه من وجه مرسل، "وكان قد قتل زوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق" من بني النضير، وكان سبب قتله ما أخرجه البيهقي برجال ثقات. عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من نزل من أهل خيبر على أن لا يكتموه شيئا من أموالهم فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، قال: فغيبوا مسكا فيه مال حلى لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر فسئلوا عنه، فقالوا: أذهبته النفقات، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك". قال: فوجد بعد ذلك في خربة فقتل صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية "وكانت عروسا". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فذكر له جمالها، فاصطفاها لنفسه فخرج بها حتى بلغت سد الصهباء حلت له, يعني طهرت من الحيض, فبنى بها عليه الصلاة والسلام فصنع حيسا في نطع   قال الخليل رجل عروس في جرال عرس وامرأة عروس في نساء عرائس، قال: والعروس نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في تعريسهما أياما. قال العيني: وما اشتهر على ألسنة العوام أن الذكر عريس والأنثى عروسة لا أصل له لغة "فذكر له جمالها" وفي رواية للبخاري أيضا، فجاء رجل فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير؟ لا تصلح إلا لك. قال الحافظ: لم أقف على اسم الرجل "فاصطفاها" اختارها "لنفسه". روى أبو داود وأحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم عن عائشة، قالت: كانت صفية من الصفي وهو بفتح المهملة وكسر الفاء وشد التحتية فسره ابن سيرين عند أبي داود بسند صحيح عنه، قال: كان يضرب للنبي صلى الله عليه وسلم بسهم مع المسلمين والصفي يؤخذ له رأس من الخمس، قبل كل شيء، وعنده عن الشعبي كان له صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره من الخمس، وعنده عن قتادة كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاء وكانت صفية من ذلك السهم، وقيل: كان اسمها قبل السبي زينب فلما صارت من الصفي سميت صفية، "فخرج بها حتى بلغت". رواية أبي ذر: أي وصلت صفية, ولغيره: حتى بلغ "سد" بفتح المهملة وضمها "الصهباء" بفتح الصاد المهملة وسكون الهاء وبالموحدة والمد موضع أسفل خيبر، وفي رواية سد الروحاء. قال الحافظ: والأول أصوب والروحاء بالمهملة مكان قرب المينة بينهما نيف وثلاثون ميلا من جهة مكة وقيل: بقرب المدينة مكان آخر يقال له: الروحاء وعلى التقديرين فليست قرب خيبر، فالصواب ما اتفق عليه الجماعة أنها الصهباء وهي على بريد من خيبر. قاله ابن سعد وغيره. "حلت له" قال المصنف: "يعني طهرت من الحيض" فصارت بذلك حلاله وعند ابن سعد وأصله في مسلم قال أنس: ودفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصنعها وتعتد عندها. قال الحافظ: وإطلاق العدة عليها مجاز عن الاستبراء "فبنى بها" دخل عليها "عليه الصلاة والسلام فصنع" وفي رواية: ثم صنع "حيسا" بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فسين مهملة، أي تمرا مخلوطا بسمن وأقط قال الشاعر: التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط "في نطع" بكسر النون وفتح الطاء المهملة، وعليها اقتصر ثعلب في فصيحه، وكذا في الفرع وغيره من الأصول، ويجوز فتح النون وسكون الطاء وفتحهما وكسر النون وسكون الطاء، وقال الزركشي: فيه سبع لغات وجمعه أنطاع ونطوع قاله المصنف في الصلاة ولكون الرواية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 صغير، ثم قال لأنس: "آذن من حولك". فكانت تلك وليمته على صفية. قال أنس: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة. ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب. وفي رواية له: فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ قالوا إن حجبها فهي إحدى أمهات.   بالأول اقتصر عليه المصنف هنا "صغير، ثم قال: لأنس آذن" بمد الهمزة وكسر المعجمة أعلم "من حولك". وفي رواية للبخاري فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بلالا بالأنطاع، فبسطت فألقى عليها التمر والأقط، والسمن. وفي رواية له أيضا فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا. فقال: "من كان عنده شيء فليجئ به". وبسط نطعا، فجعل الرجل يجيء بالتمر والرجل يجيء بالسمن والرجل بالسويق، فحاسوا حيسا "فكانت تلك" الحيسة، وقال الكرماني: فكانت أي الثلاثة المصنوعة أو أنث باعتبار الخبر، كما ذكر في قوله تعالى، قال: {هَذَا رَبِّي} ، "وليمته" وفي روية وليمة "على صفية" ورواية الأنطاع بالجمع لا تعارض رواية الأفراد لأنه بسط أولا فلما كثر الطعام من الجائين به بسطت الأنطاع وفيه مشروعية الوليمة، وأنها بعد البناء وحصولها بغير لحم ومساعدة الأصحاب بطعام من عندهم. وروى ابن سعد عنها أنها قالت ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال أنس: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي" ضم أوله وفتح المهملة وشد الواو المكسورة: أي: يجعل "لها" حوية وهي كساء محشوة تدار حول الراكب "وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب". وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلته أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه، وركبت وفيه مزيد تواضعه وحسن خلقه ومزيد عقلها وكمال فضلها، وروي أنها قالت ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأيته ركب بي من خيبر على عجز ناقته ليلا فجعلت أنعس فيضرب رأسي مؤخر الرحل فيمسني بيده، ويقول: "يا هذه مهلا". حتى إذا جاء الصهباء, قال: "أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك أنهم قالوا لي: كذا، وكذا". ذكره في الروض. "وفي رواية له" أي للبخاري أيضا: عن أنس "فقال المسلمون" هل هي "إحدى أمهات المؤمنين" الحرائر، "أو ما ملكت يمينه" فليست إحدى أمهاتهم، ففيه أن سراريه لا يتصفن بذلك وهو ظاهر قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، "قالوا". ولأبي ذر: فقالوا. "إن حجبها فهي إحدى أمهات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها ومد الحجاب. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة وسبى الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها.   المؤمنين وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه"؛ لأن ضرب الحجاب إنما هو على الحرائر لا على ملك اليمين، "فلما ارتحل" أي أراد الرحيل بعدما أقام ثلاثة أيام حتى أعرس بها، كما قاله أنس في البخاري. قال الحافظ المرد أنه أقام في المنزل الذي أعرس بها فيه ثلاثة أيام لا أنه سار ثلاثة أيام ثم أعرس؛ لأن بين الصهباء الذي بنى بها فيه وبين خيبر ستة أميال، ثم لا معارضة بين قوله ثلاثة أيام، وقوله في الرواية التي بعدها أقام ثلاثة ليال يبني عليه بصفية؛ لأنه بين أنها ثلاثة أيام بلياليها "وطأ" أي أصلح "لها" ما تحتها للركوب "ومد الحجاب"، فعلموا أنها من أمهات المؤمنين. "وفي رواية" للبخاري أيضا عن أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم قتل المقاتلة" بكسر التاء أي الرجال "وسبى الذرية وكان في السبي صفية" الأكثر أنه اسمها الأصلي، وقيل: زينب وسميت بعد السبي والاصطفاء صفية "فصارت إلى دحية الكلبي،" وللبخاري أيضا عن أنس فجاء دحية، فقال: أعطني يا رسول الله جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية فجاء رجل، فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها". فجاء بها فلما نظر إليها صلى الله عليه وسلم، قال: "خذ جارية من السبي غيرها"، "ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فتزوجها "فجعل عتقها صداقها" أي جعل نفس العتق صداقا، ففي الصحيح أن ثابتا قال لأنس ما أمهرها قال: أمهرها نفسها. وروى أبو الشيخ والطبراني عن صفية أعتقني صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي، أو أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر، لا حالا ولا مآلا، فحل العتق محل الصداق وإن لم يكن صداقا. كقولهم: الجوع زاد من لا زاد له، وصححه ابن الصلاح، وتبعه النووي في الروضة أو أعتقها بشرط أن ينكحها بلا مهر، فلزمها الوفاء أو أعتقها بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق. وعزاه النووي في شرح مسلم للمحققين وصححه والكل من خصائصه عند الجمهور، وذهب أحمد في طائفة إلى جوازه حتى لو طلقها قبل البناء رجع عليها بنصف قيمتها، ويأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا في الخصائص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 وفي رواية: فأعتقها وتزوجها. وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: خذ جارية من السبي غيرها. وفي رواية لمسلم: أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس. وإطلاق الشراء على ذلك، على سبيل المجاز، وليس في قوله سبعة أرؤس ما ينافي قوله في رواية البخاري: خذ جارية من السبي غيرها، إذ ليس هنا دلالة على نفي الزيادة والله أعلم. وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية لأنها بنت ملك من ملوكهم   "وفي الرواية" للبخاري أيضا "فأعتقها وتزوجها، وفي رواية" له أيضا: قال صلى الله عليه وسلم لدحية: "خذ جارية من السبي غيرها". وعند ابن إسحاق أنها سبيت وسبي معها بنت عم لها وعند غيره بنت عم زوجها، فلما استرجع صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها. قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها منه قبل القسم والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل والهبة، غير أن بعض رواة الحديث في الصحيح، يقولون أنه اشتراها منه وكلهم يزيد في ذلك بعد القسم. انتهى. "و" تعقبه الحافظ بأن "في رواية لمسلم" عن أنس أن صفية وقعت في سهم دحية، و"أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس" وعند ابن سعد وأصله في مسلم صارت صفية لدحية، فجعلوا يمدحونها فبعث صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي، قال: فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه نصيبه الذي اختاره لنفسه لما أذنه في أخذ جارية، "وإطلاق الشراء على ذلك" العوض "على سبيل المجاز" لأنه لم يملكها إذ أذنه في أخذ مطلق جارية لم يرد به مثل هذه، "وليس في قوله سبعة أرؤس ما ينافي قوله في رواية البخاري خذ جارية من السبي غيرها إذ ليس هنا دلالة على نفس الزيادة". قال الحافظ ولعله لما عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها لم تطلب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك، وذكر الشافعي في الأم عن سير الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم طيب خاطره لما استرجع منه صفية فأعطاه أخت زوجها وفي الروض أعطاه ابنتي عمها "والله أعلم" بالواقع، "وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم صفية، لأنها بنت ملك من ملوكهم" فقد كان أبوها سيد بني النضير والملك يطلق على ذي السيادة والعظمة، كما في قوله وجعلكم ملوكا أي أصحاب حشم وخدم. قال الحافظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك، ثم صيرها الله لنبيه. انتهى، يعني أن في أصولها ذلك. والظاهر أنه من جهة الآباء والأمهات، كما قيل به في قول ابن الكلبي كتبت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى. قال مغلطاي وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها، فتؤول بذلك.   للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا، "وليس ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها" نسبا وجمالا، فقد قالت أم سنان الأسلمية: كانت صفية من أضوأ ما يكون من النساء. رواه ابن سعد، "فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع" رضي الله عنهم، "وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء" بناء على أنه قبل القسم فلم يوجد فيها ملك حتى تنبني عليه الهبة. "انتهى". هذا المبحث وأخذه من الفتح بتقديم وتأخير، وقال مغلطاي وغيره وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها فتؤول بذلك". قال ابن إسحاق في رواية يونس: حدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بلال بصفية وابنة عمها، فمر بهما على قتلى يهود فصكت المرأة التي مع صفية وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أغربوا هذه الشيطانة عني". وجعل صفية خلفه، وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه، وقال لبلال: "أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما"؟. وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها صلى الله عليه وسلم فسألها عنه، فأخبرته. وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت في صدرها فقصت ذلك على زوجها، فقال: ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا. وأخرج أبو حاتم، وابن حبان, والطبراني عن ابن عمر رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: "ما هذه"؟. فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق، وأنا نائمة فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك, فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب. ولا يتوهم تعارض بين هذه الأخبار فالأثر الذي وليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه، واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء. انتهى. قال مغلطاي وغيره: وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها، فتؤول بذلك.   للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا، "وليس ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها" نسبا وجمالا، فقد قالت أم سنان الأسلمية: كانت صفية من أضوأ ما يكون من النساء. رواه ابن سعد، "فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم، فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاصه عليه الصلاة والسلام بها، فإن في ذلك رضا الجميع" رضي الله عنهم، "وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شيء" بناء على أنه قبل القسم فلم يوجد فيها ملك حتى تنبني عليه الهبة. "انتهى". هذا المبحث وأخذه من الفتح بتقديم وتأخير، وقال مغلطاي وغيره وكانت صفية قبل رأت أن القمر سقط في حجرها فتؤول بذلك". قال ابن إسحاق في رواية يونس: حدثني أبي إسحاق بن يسار، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي الحقيق أتى بلال بصفية وابنة عمها، فمر بهما على قتلى يهود فصكت المرأة التي مع صفية وجهها وصاحت وحثت التراب على رأسها، فقال صلى الله عليه وسلم: $"أغروا هذه الشيطانة عني". وجعل صفية خلفه، وغطى عليها ثوبه فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه، وقال لبلال: $"أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟ ". وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها صلى الله عليه وسلم فسألها عنه، فأخبرته. وأخرج ابن أبي عاصم عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا فرأت في المنام أن الشمس نزلت حتى وقعت في صدرها فقصت ذلك على زوجها، فقال: ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا. وأخرج أبو حاتم، وابن حبان, والطبراني عن ابن عمر رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: $"ما هذه؟ ". فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق، وأنا نائمة فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك, فلطمني، وقال: تمنين ملك يثرب. ولا يتوهم تعارض بين هذه الأخبار فالأثر الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية. وفي هذ الغزوة حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية, كما في البخاري ولفظه: فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم -يعني خيبر- أوقدوا نيرانا كثيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران، على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال: "على أي لحم"؟. قالوا: لحم.   في وجهها من أبيها غير الخضرة التي بعينها من لطم ابن أبي الحقيق، ورأت الشمس وقعت في صدرها والقمر في حجرها فقصتهما معا عليه قال أبو عمر: كانت صفية عاقلة جليلة فاضلة روينا أن جارية لها قالت لعمر: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث فسألها فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلهم، ثم قالت للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة. وروى الترمذي عنها أنه بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفية نحن أزواجه وبنات عمه فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ألا قلت: وكيف تكونان خيرا مني وزجي محمد وأبي هارون وعمي موسى". وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمز بها أزواجه فأبصرهن، فقال: "مضمضن". فقلن: من أي شيء؟ فقال: "من تغامزكن بها, والله إنها الصادقة". ويأتي مزيد لذلك في الزوجات إن شاء الله تعالى. "قال الحاكم: وكذا جرى لجويرية" بنت الحارث أم المؤمنين المصطلقية، أنها قالت: رأيت قبل قدومه صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر أحدًا من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا، كما تقدم في تلك الغزوة، "وفي هذه الغزوة حرم النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر" بضمتين جمع حمار "الأهلية" أي أظهر تحريمها ونسب إليه لظهوره على يديه، وإلا فالمحرم حقيقة هو الله "كما في البخاري، ولفظه" في حديث سلمة بن الأكوع الذي قدم المصنف أوله عقب قوله: لولا أمتعتنا، فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله تعالى فتحها عليهم "فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم" قال المصنف "يعني خيبر" أي غالبها، لأن ذلك قبل فتح الوطيح والسلالم, أوقدوا نيرانا كثيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه النيران؟ على أي شيء توقدون"؟. قالوا: على لحم. قال: "على أي لحم"؟ أي: على أي أنواع اللحم توقدونها، "قالوا: لحم" بالجر في الفرع ولأبي ذر بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هو ويجوز النصب بنزع الخافض، أي: على قاله المصنف ففاده أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 الحمر الإنسية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها واكسروها". فقال رجل: يا رسول الله، أو نهريقها ونغسلها، قال: "أو ذاك". والمشهور في الإنسية: كسر الهمزة منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم. وحكي: ضم الهمزة ضد الوحشة، ويجوز فتحها والنون أيضا, مصدر أنست به، آنس أنسا وأنسة. وفي رواية: نهى يوم خيبر عن أكل الثوم، وعن لحوم الحمر الأهلية. وفي رواية: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية.   الرواية بالجر والرفع والثالث مجرد تجويز فتسمع من قال جوز المصنف الأوجه الثلاثة "الحمر الإنسية" صفة حمر وكانت الحمر التي ذبحوها عشرين أو ثلاثين, كذا رواه الواقدي بالشك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها". بهمزة مفتوحة وسكون الهاء ولأبي ذر وابن عساكر: هريقوها والهاء زائدة "واكسروها" أي القدور، "فقال رجل": قال الحافظ في المقدمة لم يسم، ويحتمل أن يكون هو عمر "يا رسول الله أو" بسكون الواو "نهريقها" بضم النون، كما ضبطه المصنف وزعم أن القياس فتحه رده شيخنا، "ونغسلها قال: أو" بسكون الواو "ذاك" أي الإراقة والغسل وبقية حديث سلمة، فلما تصاف القوم إلى آخر ما قدمه المصنف "والمشهور في الإنسية كسر الهمزة منسوبة إلى الإنس وهم بنو آدم، وحكى ضم الهمزة ضد الوحشية" لتأنسها ببني آدم "ويجوز فتحها و" فتح "النون أيضا". وفي المقدمة قاله ابن أبي أويس بفتحتين ولأنس بالفتح الناس "مصدر أنست به" مثلث النون كما في القاموس. واقتصر الجوهري على كسرها "آنس أنسا" بفتحتين من باب طرب، كما في المختار وقول المصباح من باب علم مراده الفعل لا المصدر "وأنسة" بفتحتين. "وفي رواية" للبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى يوم خيبر عن أكل الثوم" نهي تنزيه لنتن ريحه وتحريمه من الخصائص النبوية، "وعن لحوم الحمر" ولأبي ذر حمر " الأهلية" نهي تحريم، وفيه استعمال اللفظ في حقيقته، ومجازه لأن أكل الثوم مكروه والحمر حرام، وقد جمع بينهما بلفظ النهي فاستعمله في حقيقته وهو التحريم ومجازه وهو الكراهة. "وفي رواية" للبخاري، ومسلم, وغيرهما عن جابر: "نهى" صلى الله عليه وسلم "يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية". وفي البخاري عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم جاءه فقال: أكلت الحمر. فسكت, ثم أتاه الثانية، فقال: أكلت الحمر. فسكت، ثم أتاه الثالثة، فقال: أفنيت الحمر. فأمر مناديا فنادى في الناس أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 ورخص في الخيل. قال ابن أبي أوفى: فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس، وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة لأنها كانت تأكل العذرة. قال العلماء: وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها، وقيل: لأخذها قبل القسمة، وهذان التأويلان للقائلين بإباحة لحومها. والصواب.   الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فأكفئت القدور وإنها لتفور. قال الحافظ: والجائي لم أعرف اسمه والمنادي أبو طلحة "ورخص في" أكل لحوم "الخيل"، وروى البخاري أيضا عن ابن أبي أوفى أصابتنا مجاعة يوم خيبر فإن القدور لتغلي وبعضها نضجت فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا وأهريقوها. "قال ابن أبي أوفى" عبد الله راوي الحديث، "فتحدثنا" معشر الصحابة "أنه" عليه السلام "إنما نهى عنها لأنها لا تخمس" أي لم يؤخذ منها الخمس، واستبعده شيخنا بالأمر بغسل القدور فإن عدم التخميس إنما يقتضي المنع لحق الغير لا لنجاستها، "وقال بعضهم" أي الصحابة كما صرح به في رواية أخرى "نهى عنها البتة" أي تحريما لا لذلك السبب بل قصد تحريمها خمست أم لا كسائر الأعيان النجسة. قال الحافظ: معناه القطع وألفها ألف وصل، وجزم الكرماني بأنها ألف قطع على غير قياس، ولم أر ما قاله في كلام أحد من أهل اللغة قال الجوهري: الانبتات الانقطاع ورجل منبت منقطع به ولا أفعله بتة ولا أفعله البتة لكل أمر لا رجعة فيه ونصبه على المصدر ورأيته في النسخ المعتمدة بألف وصل. انتهى، "لأنها كانت تأكل العذرة" قال المصنف الذال معجمة أي النجاسة، لأن التبسط قبل القسمة في المأكولات بقدر الكفاية حلال، وأكل العذرة موجب للكراهة لا للتحريم. قال الحافظ: والحاصل أن الصحابة اختلفوا في علة النهي عن لحم الحمر هل هو لذاتها أو لعارض، وقد "قال العلماء" أي جمهورهم "وإنما أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة وقيل: إنما نهى عنها للحاجة إليها" أي كثرة احتياج الناس إليها مع قلتها بالنسبة للإبل ونحوها، "وقيل: لأخذها قبل القسمة" وكان هذا حكاية قول بعض أصحاب المذاهب فلا يتكرر مع قوله أولا عن الصحابة، لأنها لم تخمس "وهذان التأويان للقائلين بإباحة لحومها" وهم قليل جدا، حتى قيل: إنما رأيت الرخصة فيه عن ابن عباس، وحكى ابن عبد البر الإجماع الآن على تحريمها "والصواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 ما قدمناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها" فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها قال: "أو ذاك". فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده، أو أوحي إليه بغسلها. وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء في إباحتها: فذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف: إلى أنه مباح لا كراهة فيه، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر، وفي صحيح مسلم عنها قالت: نحرنا فرسا.   ما قدمناه" من قوله؛ لأنها نجسة محرمة. قال المصنف: ولا امتناع في تعدد العلل الشرعية على المرجع عند الأصوليين نعم التعليل بكونها لم تخمس فيه نظر؛ لأن أكل الطعام والعلف من الغنيمة قبل القسمة جائز لا سيما في المجاعة. انتهى. "وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها". فقال رجل: أو نهريقها ونغسلها؟ قال: "أو ذاك". فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها، ثم تغير اجتهاده" فظهر له من حيث الدليل، أنه لا يتعين الكسر بل يمنع، لأنه إضاعة مال، "أو أوحى إليه بغسلها" تقريرا لاجتهاده الثاني، فلم يتعين كون الواو بمعنى أو وليست في قوله: "أو ذاك". للتخيير حتى يشكل على المقرر في الفروع من حرمة الكسر للإضاعة بل للإضراب، كقوله أو يزيدون "وأما لحوم الخيل فاختلف العلماء في إباحتها" وحرمتها وكراهتها، "فذهب الشافعي والجمهور من السلف والخلف إلى أنه مباح لا كراهة فيه" صفة لازمة إن أريد بالمباح المستوي الطرفين. ذكرت تصريحا بخلاف قائل الحرمة والكراهة ومخصصة إن أريد به مقابل الحرام، "وبه قال عبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك وأسماء بنت أبي بكر" ذكرهم تقوية للقول بالإباحة وإن شملهم قوله من السلف والخلف، "وفي صحيح مسلم" لا وجه للقصر عليه، فقد رواه البخاري أيضا "عنها" أي أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، "قالت: نحرنا" ضمير الفاعل عائد على مباشر النحر منهم وإنما أتى بضمير الجمع لكونه عن رضاهم، وللبخاري في رواية ذبحنا "فرسا" والاختلاف على هشام فلعله كان يرويه تارة نحرنا وتارة ذبحنا، وهو يشعر باستواء اللفظين في المعنى وإطلاق كل منهما على الآخر مجازا، وبعضهم حمله على التعدد لتغاير النحر والذبح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة، وفي رواية الدارقطني: فأكلناه نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قال في فتح الباري: ويستفاد من قولها: "ونحن بالمدينة" أن ذلك بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد. ومن قولها: "وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم" الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى اله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه لشده اختلاطهم به صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له، هذا مع توفر داعية الصحابة إلى سؤال عليه السلام عن الأحكام. ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده صلى الله عليه وسلم كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر.   "على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم", أي في زمنه المعهود "فأكلناه" أي الفرس يذكر ويؤنث "ونحن بالمدينة". "وفي رواية الدارقطني فأكلناه نحن وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قال: في فتح الباري" في كتاب الذبائح، "ويستفاد من قولها ونحن بالمدينة أن ذلك وقع بعد فرض الجهاد، فيرد على من استند إلى منع" تحريم "أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد". "ومن قولها: نحن وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الرد على من زعم أنه ليس فيه" أي الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك، مع أن ذلك لو لم يرد" بفتح فكسر مبني للفاعل من الورود "لم يظن بآل أبي بكر أنهم يقدمون على فعل شيء في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه لشدة اختلاطهم به صلى الله عليه وسلم وعدم مفارقتهم له،" وليت شعري ما المانع أنهم قدموا على ذلك هم وآل بيت باجتهاد على الراجح من جواز الاجتهاد في العصر النبوي، فليس بصريح في رد من قال: إنه لم يطلع عليه المصطفى "هذا" المذكور من أنهم لا يفعلون إلا ما علموا جوازه "مع توفر داعية الصحابة إلى سؤاله عليه السلام عن الأحكام, ومن ثم كان الراجح أن الصحابي إذا قال: كنا نفعل كذا على عهده عليه الصلاة والسلام كان له حكم الرفع، لأن الظاهر اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك وتقريره، وإذا كان ذلك في مطلق الصحابي فكيف بآل أبي بكر". لكن ذلك كله لا يمنع كونه باجتهادهم خصوصا وليس فيه تصريح باطلاع المصطفى على ذلك إنما هو ظاهره فقط ولو سلم فهي قضية عين محتملة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وقال الطحاوي: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما, واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى. وقد نقل بعض التابعين: الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء بن يسار قال: لم يزل سلفك يأكلونه. قال ابن جريج: قلت له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها: فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين. وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: أكره لحوم الخيل، فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه، وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم، وليس هو عنده كالحمار الأهلي.   "وقال الطحاوي ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه" محمد بن الحسن وأبو يوسف يعقوب "وغيرهما، واحتجوا بالأخبار المتواترة في حلها. انتهى" قول الطحاوي. وقد حاد للحمية عن سواء السبيل في دعوى التواتر فلم يرد حديث بذلك ينقله جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، ولا يصح الاعتذار عنه بأنه أراد التواتر المعنوي لكثرة طرقه، فإن مدار حديث أسماء من جميع طرقه على هشام عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن أسماء فلم يخرج عن كونه خبر آحاده وإن كان صحيحا، "وقد نقل بعض التابعين الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد" منهم، "فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء بن يسار، قال: لم يزل سلفك يأكلونه قال ابن جريج" رواية عن عطاء، "قلت له": تريد "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم" وعطاء من الطبقة الوسطى من التابعين فلم يدرك جميعهم، فإنما أخبر عمن أدركه منهم ولا حجة فيه فالمسألة ذات خلاف، "وأما ما نقل عن ابن عباس من كراهتها، فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين"، فلا يرد على نقل عطاء عن الصحابة مطلقا الضعف المسندين إليه، فهذا جواب سؤال نشأ من هذا كما هو ظاهر، فلا يعترض بأن لم يتقدم له ذكر، ويعتذر بأنه لعل المراد في الخارج. "وقال أبو حنيفة في" كتاب "الجامع الصغير لمحمد بن الحسن تلميذه "أكره لحوم الخيل" ذكره وإن علم مما قدمه عن الطحاوي لبيان الكتاب الذي صرح فيه بالكراهة وتوطئة لقوله "فحمله أبو بكر الرازي على التنزيه" فخلاف ما هو عادة الإمام من أنه إذا أطلق الكراهة انصرفت للتحريم، "وقال: لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 وصحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه التحريم، وهو قول أكثرهم. وقال القرطبي في شرح مسلم: مذهب مالك الكراهة، وقال الفاكهاني: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم. وقال أبن أبي جمرة: الدليل على الجواز مطلقا واضح، لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله، ولو كثر لأفضى إلى فنائها، فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج، وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكابه محظور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى. وأما قول بعض المانعين: لو كانت حلال لجازت الأضحية بها. فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية.   "و" لكن "صحح أصحاب المحيط والهداية والذخيرة عنه" أي أبي حنيفة. "التحريم وهو قول أكثرهم" أي الحنفية، "وقال القرطبي" أبو العباس شيخ صاحب التفسير والتذكرة "في شرع مسلم مذهب مالك الكراهة" هذا ضعيف إلا أن تحمل على التحريم، "وقال الفاكهاني المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم" وهو المعتمد المشهور "وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء من المالكية "الدليل على الجواز مطلقا" اضطر إلى أكلها أم لا، "واضح" الصحة حديث أسماء وحديث رخص في الخيل، "لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالبا في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله،" أي لحم الخيل "ولو كثر لأفضى إلى فنائها فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الكفار، "فعل هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه، فإن الحيوان المتفق على إباحته", كالإبل "لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكابه محظور لامتنع، ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. انتهى" كلام ابن أبي جمرة وهو اختيار له ضعيف في المذهب، "وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لحازت الأضحية بها، فمنتقض بحيوان البر، فإنه مأكول اللحم، ولم تشرع الأضحية به" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 به, وأما حديث خالد بن الوليد عند أبي داود والنسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فضعيف، ولو سلم ثبوته، لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز، وقد وافقه حديث أسماء. وقد ضعف حديث خالد بن الوليد أحمد والبخاري والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون. وزعم بعضهم: أن حديث جابر دال على التحريم لقوله "رخص" لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التي أصابتهم بخيبر، فلا يدل ذلك على الحل المطلق. وأجيب: بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن، كما رواه مسلم، وفي رواية له: أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي, وعند الدارقطني من حديث ابن عباس: نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل.   فالملازمة ممنوعة، "وأما حديث خالد بن الوليد" المروي "عند أبي داود والنسائي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل، والبغال, والحمير"، وتقديري المروي خير من تقدير الثابت لمنافاته لقوله: "فضعيف ولو سلم ثبوته لا ينهض معارضا لحديث جابر" السابق عند الشيخين وغيرهما: نهى صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر ورخص في الخيل، "الدال على الجواز" لأنه ظاهر فيه بخلاف نهى فمحتمل للتحريم والكراهة، "وقد وافقه حديث أسماء" المروي عند الشيخين، "وقد ضعف حديث خالد بن الوليد" المذكور "أحمد، والبخاري، والدارقطني، والخطابي، وابن عبد البر، وعبد الحق، وآخرون، وزعم بعضهم أن حديث جابر دال على التحريم لقوله: رخص" في الخيل، "لأن الرخصة استباحة المحظور" الممنوع لعذر "مع قيام المانع" للحكم الأصلي. "فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة،" بمعجمة ثم مهملة المجاعة الشديدة "التي أصابتهم بخيبر فلا يدل ذلك على الحل المطلق" الذي هو محل النزاع. "وأجيب أن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن كما رواه مسلم". "وفي رواية له أكلنا زمن خيبر الخيل، وحمر الوحش ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي", ولم يذكر الخيل فدل على إباحتها، وفيه ن عدم الذكر ليس دليلا، "وعند الدارقطني من حديث ابن عباس نهانا صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل". "فدل على أن المراد بقوله رخص أذن" وهذا لا يصلح جوابا، بل في تقوية للاحتجاج على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 فدل على أن المراد بقوله: "رخص" أذن. ونوقض أيضا بالإذن في أكل الخيل، ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة. وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم: أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وقرروا ذلك بأوجه: أحدها: أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر. فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية. ثانيها: عطف البغال والحمير، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليه إلى دليل.   التحريم؛ لأن لفظ أذن دون أباح وأحل دال على ذلك, وأما قوله: وأمر بلحوم الخيل فلا يصلح دليلا للجواز المطلق، لجواز أنه في هذا الوقت للمخمصة. "ونوقض أيضا" الاحتجاج بحديث جابر على التحريم "بالإذن في أكل الخيل ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك" الإذن في أكلها "لكثرتها وعزة" قلة "الخيل حينئذ، فدل على أن الإذن في أكل الخيل إنما كان للإباحة العامة لا لخصوص الضرورة". وهذا مدفوع والملازمة ممنوعة، فإن سبب المناداة بتحريم الحمر قول الصحابي أفنيت الحمر كما مر عن الصحيح، فكأنه رخص لهم حين نهاهم عنها في الخيل لضرورة المخمصة لعلمه بعزتها عندهم، فلا يعودون إليها بعدها، فلا يدل قوله أمر على الإباحة العامة؛ لأنه يحمل على أنه أمر به زمن المخمصة، بدليل رواية رخص والأحاديث يفسر بعضها بعضا. "وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم، أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى: "و" خلق {الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} مفعول له، "وقرروا ذلك بأوجه أحدها أن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك؛ لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية" الذي هو أولى في الحجية من خبر الآحاد. ولو صح "ثانيها عطف البغال والحمير" عليها، "فدل على اشتراكها" أي: الخيل "معهما في حك التحريم، فيحتاج من أفرد حكم ما عطف عليه إلى دليل", وحديث أسماء بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 ثالثها: أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به أعظم، والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ويترك أعلاها، ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها. رابعها: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب للزينة. وأجيب: بأن آية النحل مكية اتفاقا، والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين، فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل. وأيضا: فإن آية النحل ليست نصا في منع الأكل والحديث صريح في جوازه. وأيضا: فلو سلمنا أن اللام للتعليل، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة،   تسليم اطلاع المصطفى عليه، وأنه ليس باجتهادهم قضية عين، وحديث جابر رخص أن سلم أنه لا يدل على التحريم، فلا يدل على التحليل لتقابل الاحتمالين. "ثالثها أن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل لكان الامتنان به" بالأكل "أعظم والحكيم لا يمتن بأدنى" أقل "النعم" وهو هنا الركوب والزينة، "ويترك أعلاها ولا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها" في قوله في الأنعام ومنها تأكلون. "رابعها لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع الامتنان به من الركوب و" كونها "للزينة". "وأجيب بأن آية النحل مكية اتفاقا والإذن في أكل الخيل كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين", لأنه سنة خيبر وهي في السابعة. "فلو فهم النبي صلى الله عليه وسلم من الآية المنع لما أذن في الأكل" وفيه أن محمل الإذن فيه للمخمصة، كما قال تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} في الممنوع منه نصا فإذنه في الأكل لا ينافي فهمه منها المنع، "وأيضا فإن آية النحل ليست نصا في منع الأكل" لكنه المتبادر منها، ويكفي ذلك في الاستدلال على ما علم في الأصول. "والحديث" عن أسماء "صريح في جوازه" فيقدم الصريح على المحتمل وجوابه أنه ليس صريحا في اطلاع المصطفى بل فيه احتمال أنه عن اجتهادهم والمجتهد لا يقلد مجتهدا، ولا يرد أن من أصول مالك قول الصحابي لأن محله عند عدم التعارض. "وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة، فإنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما، وفي غير الأكل اتفاقا، وإنما ذكر الركوب والزينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيل, ونظيره حديث البقرة المذكورة في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث، فإنه مع كونه أصرح في الحصر، ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا. وقال البيضاوي: واستدل بها -أي بآية النحل- على حرمة لحومها، ولا دليل فيها، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا. انتهى. وأيضا: فلو سلم الاستدلال للزم منه حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به.   ينتفع بالخيل في غيرهما وفي غير الأكل اتفاقا" كالحمل للأمتعة والاستقاء والطحن "وإنما ذكر الركوب، والزينة لكونهما أغلب ما يطلب له الخيل،" وجوابه أن معنى الحصر فيهما دون الأكل الممتن به في غير الخيل فهو إضافي فلا ينافي جواز الانتفاع بها فيما ذكر، "ونظيره حديث البقرة بالإضافة لأدنى ملابسة، كقولهم حديث الشفاعة وحديث هرقل وإلا فالحديث إنما يضاف للصحابي ونحوه أو لمن أخرجه في كتاب. "المذكورة في الصحيحين حين خاطبت راكبها، فقالت: لم أخلق لهذا" أي الركوب "وإنما خلقت للحرث". روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذ ركبها فضربها فالتفتت إليه فكلمته فقالت: لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث". فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم. فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أؤمن بذلك وأبو بكر، وعمر". "فإنه مع كونه أصرح في الحصر ما يقصد به إلا الأغلب، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا" فالحصر فيه غير مراد لقيام الإجماع على خلافه وأصله النص القرءاني، ثم المصنف لم يقصد بها الاستدلال، كما توهم بل التنظير بأن الحصر قد يقصد به أغلب الأحوال. "وقال البيضاوي: واستدل بها أي آية النحل على حرمة لحومها ولا دليل فيها إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالا أن لا يقصده منه غيره أصلا. انتهى". ذكره مجرد تأكيد وإلا فقدم معناه ومر جوابه ولو سلمنا ذلك لم نسلم أن الأكل منه الذي هو محل النزاع، "وأيضا فلو سلم الاستدلال للزم منه حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به" هذا على فهمه أن الحصر حقيقي وإلا فهو إضافي، والدليل عليه الإجماع فلا يلزم ما قاله، وهذا تقدم قريبا بمعناه في قوله سلمنا أن اللام ... إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 وأما عطف البغال والحمير، فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة. وأما أنها سيقت مساق الامتنان، فالامتنان إنما قصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم، فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم، بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كن لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضر. وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها ... إلخ. فأجيب عنه: بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى، للزم مثله في البقر وغيرها مما أبيح أكله ووقع الامتنان به. وإنما أطلت في ذلك.   وإعادة تكثير للسواد فحاصله أنه أجاب عن الوجه الأول من تقرير دليل المنع من الآية بأوجه ثلاثة، وعن الثاني بقوله "وأما عطف البغال والحمير فدلالة العطف إنما هي دلالة اقتران وهي ضعيفة" عند الأصوليين. وجوابه: إنا لم نستدل بها فقط بل مع الأخبار بأنه خلقها للركوب والزينة وامتنانه بالأكل من الأنعام دونها، "وأما" الوجه الثالث "إنها سيقت مساق الامتنان" فلو كان بالأكل لكان أعظم ... إلخ. "فالامتنان إنما يقصد به غالب ما كان يقع به انتفاعهم" سواء كان خيلا أو أنعاما، "فخوطبوا بما ألفوا وعرفوا، ولم يكونوا يعرفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم بخلاف الأنعام، فإن أكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال وللأكل، فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به، فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق لأضر", إذ الحصر في الركوب والزينة، فيه نوع مشقة وهذا ممنوع، وسنده أنه لا دليل على كون المقصود بالامتنان غالب ما ينتفع به ولا مشقة في الحصر في الركوب والزينة، فإنهما من أجل النعم الممتن بها، "وأما قولهم: لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها ... إلخ، فأجيب عنه بأنه لو لزم من الإذن في أكلها أن تفنى للزم مثله في البقر وغيرها" من الإبل، والغنم "مما أبيح أكلها ووقع الامتنان به", وجوابه أن الفرق موجود؛ لأن ما وقع التصريح بالامتنان بأكله لا يقاس عليه ما وقع فيه الامتنان بأنه للركوب والزينة فاللازم ممنوع. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل، ويقرأ: {وَالْأَنْعَامَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 لأمر اقتضاه، والله أعلم. وفي هذه الغزوة أيضا نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم، وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ.   خَلَقَهَا لَكُمْ} الآية، ويقول: هذا للأكل, والخيل والبغال والحمير يقول: هذه للركوب، "وإنما أطلت في ذلك لأمر اقتضاه, والله أعلم" بحكمه فيها فإن هذه الأمور إنما هي تشحيذ للأذهان واطلاع على مدارك الأئمة رحمهم الله, وإلا فبعد تقرر المذاهب لا يبطلها شيء من ذلك. "وفي هذه الغزوة أيضا" كما رواه إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيع عن مكحول "نهى صلى الله عليه وسلم" يومئذ أي يوم خيبر عن أربع: عن أكل الحمار الأهلي، و"عن أكل كل ذي ناب من السباع" يتقوى به ويصول على غيره ويصطاد ويعدو بطبعه غالبا والنهي للتحريم عند قوم والكراهة عند آخرين, وهذا الحديث وإن أرسله ابن إسحاق فهو صحيح فقد أخرجه مالك في الموطأ والبخاري عن عبد الله بن يوسف عنه عن الزهري عن أبي إدريس، عن أبي ثعلبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. زاد مسلم من حديث ابن عباس وكل ذي مخلب من الطير، لكن لم يبين فيه وقت النهي المبين في مرسل مكحول، وقول شيخنا: لم يبين المصنف وقت النهي كان مراده خصوص اليوم الذي وقع فيه النهي، فلا ينافي أنه بينه بقوله: وفي هذه الغزوة. والمخلب بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح اللام آخره موحدة للطبراني كالظفر لغيره لكنه أشد منه وأغلظ وأحد فهو كالناب للسبع. "و" نهى يومئذ أيضا كما في مرسل مكحول "عن بيع المغانم" جمع مغنم وهو الغنيمة بمعنى، كما في المختار "حتى تقسم"، وأطلق البيع وأراد لازمه وهو التصرف فيها بغير المحتاج إليه كما روى الشيخان وغيرهما واللفظ لمجموعهم عن عبد الله بن مغفل أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت: لا أعطي أحدا منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي، فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها فأخذ بناحيته، وقال: هلم حتى نقسمه بين المسلمين، قلت: لا والله لا أعطيكه، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا صلى الله عليه وسلم فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: "لا أبا لك خل بينه وبينه". فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه. قال الحافظ: في الفتح وصاحب المغانم الذي نازعه هو كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري، كما أخرجه ابن وهب بسند معضل. انتهى. "وأن لا توطأ جارية حتى تستبرأ" وهذا مجمل فصله ما رواه ابن إسحاق عن رويفع بن ثابت: قام فينا صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، فقال: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت الحارث، امرأة سلام بن مشكم، كما في البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لي من كان ههنا من اليهود". فجمعوا له، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:   غيره -يعني إتيان الحبالى من السبايا- ولا أن يصيب امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا أن يبيع مغنما حتى يقسم، ولا أن يركب دابة حتى إذا أعجفها ردها، ولا أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده". فكرر ذلك يوم أوطاس للتأكيد حيث قال: "ألا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض". دفعا لتوهم اختصاص النهي بيوم خيبر لقرب المحل والغيبة بخلاف يوم أوطاس، فطالت غيبتهم وبعدوا عن ديارهم, قيل: وفي غزوة خيبر أيضا نهى عن متعة النساء تمسكا بما رواه البخاري، ومسلم عن علي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحم الحمر الأنسية، وأجيب بأن فيه تقديما وتأخيرا وأصله نهى يوم خيبر عن لحوم حمر الأنسية وعن متعة النساء، وليس يوم خيبر ظرفا لمتعة النساء، فالمعنى ونه عن المتعة بعد ذلك أو في غير هذا اليوم، وإنما جمع علي بينهما لأن ابن عباس كان يبيحهما فروى له تحريمهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قال الإمام السهيلي هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، وقال أبو عمر: إنه غلط فلم يقع في غزوة خيبر تمتع النساء، "وفي هذه الغزوة أيضا سمت النبي صلى الله عليه وسلم" أطلق المسبب وأراد السبب إذ لم توصل السم لشيء من جسده، لكنها لما جعلته في الشاة فكان وسيلة إلى أكله منها نسب إليها تجوزا "زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم" كما سماها ابن إسحاق، وموسى بن عقبة. "كما في البخاري" خبر السم لا بقيد تسمية السامة لأنه ليس فيه كما ترى، فالاستدلال على أغلب مشمول الترجمة "من حديث أبي هريرة ولفظه" في الجزية والطب من طريق الليث عن سعيد عن أبي هريرة أنه قال: "لما" بشد الميم "فتحت خيبر" واطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتحها، كما عند ابن إسحاق "أهديت" بضم الهمزة مبني للمفعول "للنبي صلى الله عليه وسلم شاة" بالرفع نائب الفاعل "فيها سم" مثلث السين، ولا ترد رواية أنها أهدتها لصفية على هذا لأن إهداءها لها بعد بنائه بها، كما أفاده قول ابن إسحاق اطمأن بعد فتح خيبر؛ لأنه أقام بعد بنائها ثلاثة أيام كما مر، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد أن لاك منها مضغة ثم لفظها حين أخبره العظم أنها مسمومة وازدراد بشر لقمته، وقوله لأصحابه: "ارفعوا أيديكم". كما عند ابن إسحاق وغيره: "اجمعوا لي" بلام رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما: "إليَّ". قال الحافظ: لم أقف على تعيين المأمورين بذلك "من كان ههنا من اليهود" بالتعريف في الطب وفي الجزية من يهود بالتنكير، "فجمعوا له" بضم الجيم "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم": الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 "إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقوني عنه"؟. فقالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟. قالوا: أبونا فلان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم، بل أبوكم فلان".   لما اجتمعوا عنده "أني سائلكم" أي مريد سؤالكم "عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه"؟ بضم القاف وسكون الواو فكسر نون الوقاية، هكذا في رواية أبي ذر والوقت والأصيلي، وابن عساكر في المواضع الثلاثة, قال ابن التين: وفي نسخ: "صادقي" بشد الياء وهو الصواب عربية؛ لأن أصله: صادقون, فحذفت النون للإضافة, فاجتمع حرفا علة سبق الأول بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، ومثله: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} . وحديث بدء الوحي: "أومخرجيَّ هم". قال الحافظ: وإنكاره الرواية من جهة العربية ليس بجيد فقد وجهها غيره, قال ابن مالك: مقتضى الدليل أن تصحب نون الوقاية اسم الفاعل وأفعل التفضيل والأسماء المعربة المضافة إلى ياء المتكلم لتقيهم خفاء الإعراب، فلما منعت ذلك كانت كأصل متروك، فنبهوا عليه في بعض الأسماء المعربة المشابهة للفعل كقول الشاعر: وليس الموافيني ليرتد خائبا ... فإن له أضعاف ماكان أملا ومنه: "فهل أنتم صادقوني". والحديث الآخر: "غير الدجال أخوفني عليكم". والأصل فيه أخوف مخوفاتي عليكم, فحذف المضاف إلى الياء وأقيمت هي مقامه فاتصل أخوف بها مقرونة بالنون وذلك أن أفعل التفضيل شبيه بفعل التعجب. وحاصل كلامه: أن النون الباقية هي نون الوقاية ونون الجمع حذفت، كما تدل عليه الرواية الأخرى بلفظ صادقي، قال: ويمكن تخريجه أيضا على أن النون الباقية هي نون الجمع فإن بعض النحاة أجاز في جمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات على النون مع الواو ويحتمل أن الياء في محل نصب بناء على أن مفعول اسم الفاعل إذا كان ضميرا بارزا متصلا به كان في محل نصب وتكون النون على هذا أيضا نون الجمع. انتهى. "فقالوا: نعم يا أبا القاسم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أبوكم"؟ قالوا: أبونا فلان" قال الحافظ لم أعرفه، انتهى. فما في بعض الطرر إسماعيل، وقلدها الشارح إنما هو حدس وتخمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبتم بل أبوكم فلان". أي: إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، كما جزم به المصنف كالحافظ ولا ينافيه قوله فيمن أبهمه اليهود لم أعرفه كما لا يخفى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأما اليهود فكاذبون نعم وقع في المقدمة في الجزية: "من أبوكم"؟. قالوا: فلان، قال: "كذبتم بل أبوكم فلان". ما أدري من عنى بذلك، انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 قالوا: صدقت وبررت، فقال: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا، كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار"؟. فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤا فيها, والله لن نخلفكم فيها أبدا". ثم قال لهم: "هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه"؟. فقالوا: نعم. فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما"؟.   فظاهره أنه حتى فيمن عناه المصطفى وكان مراده عين السبط من أولاد يعقوب الذين هم من ذريته فلا ينافي أنه جزم في الطب من المقدمة والفتح، بأنه يعقوب, والله أعلم. "قالوا: صدقت وبررت" بكسر الراء الأولى وحكى فتحها قاله المصنف فالرواية بالكسر، واقتصر عليه الكرماني، فقال: "هل أنتم صادقوني". كذا للأربعة أيضا ولغيرهم: صادقي بكسر الدل والقاف وشد التحتية على الأصل "عن شيء إن سألتكم عنه". قالوا: نعم يا أبا القسم وإن كذبناك" بخفة الذال المعجمة "عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا" حين أخبرنا عنه بخلاف الواقع، "فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أهل النار". قالوا: نكون فيها" زمانا "يسيرا، ثم تخلفوننا فيها" بسكون الخاء وضم اللام مخففة وفي الجزية لغير أبي ذر تخلفونا بإسقاط النون لغير ناصب ولا جازم وهو لغة، قاله المصنف، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخسؤا فيها". أي: اسكنوا سكون ذلة وهوان وانزجروا انزجار الكلاب عن هذا القول "والله لن نخلفكم فيها أبدا". لا تخرجون منها ولا نقيم فيها بعدكم؛ لأن من دخلها من عصاة المسلمين يخرج منها فلا خلافه قط, وعند الطبري عن عكرمة, قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أياما معدودة ويستخلف إليها قوم آخرون يعنون محمدا وأصحابه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رءوسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد". فأنزل الله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} الآية. وأخرج عن ابن عباس أنهم قالوا: لن ندخل النار إلا تحلة القسم الأيام التي عبدنا فيها العجل أربعين ليلة فإذا انقضت انقطع عنا العذاب، فنزلت الآية. وروى الطبراني في الكبير وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن عباس قدم صلى الله عليه وسلم المدينة ويهود تقول: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما يعذب الناس بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة فإنما هي سبعة أيام، ثم ينقطع العذاب فنزلت الآية. ثم قال لهم: "هل" ولغير أبي ذر: فهل "أنتم صادقوني" كذا للأربعة أيضا ولغيرهم: صادقي "عن شيء إن سألتكم عنه". فقالوا -وفي رواية: قالوا. بحذف الفاء-: نعم، فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما". نسب لهم الجعل لأنهم لما علموا به حين شاورتهم وأجمعوا لها على سم معين كأنهم جعلوه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 فقالوا: نعم، فقال: "ما حملكم على ذلك"؟. قالوا: أردنا إن كنت كذابا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك. وفي حديث جابر عند أبي داود: أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم". وأرسل إلى اليهودية فقال: "سممت هذه الشاة"؟. فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي". للذراع. قالت: نعم.   ولذا أجابوا "فقالوا": وفي رواية بحذف الفاء "نعم، فقال: "ما حملكم على ذلك"؟. قالوا: أردنا إن كنت كذابا" بشد المعجمة، وفي رواية: كاذبا بألف بعد الكاف "أن تستريح", ولأبي ذر وابن عساكر بحذف أن. "منك وإن كنت نبيا لم يضرك". وهذا الحديث أخرجه البخاري بطوله في الجزية في باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يعفى عنهم؟ وفي الطب بطوله أيضا في باب ما يذكر في سم النبي صلى الله عليه وسلم واختصره في غزوة خيبر في باب الشاة التي سمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيه سم "وفي حديث جابر عند أبي داود" من طريق الزهري عنه. قال الحافظ: وهو منقطع لأن الزهري لم يسمع من جابر، لكن له شاهد عند أبي داود مرسلا ووصله البيهقي عن أبي هريرة "أن يهودية من أهل خيبر" هي زينب، وفي أبي داود أنها أخت مرحب وبه جزم السهيلي. وعند البيهقي في الدلائل بنت أخي مرحب "سمت شاة مصلية" بفتح الميم، وسكون المهملة, أي: مشوية "ثم أهدتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم". وعند الدمياطي لما صلى رسول الله صلى عليه وسلم المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله فسأل عنها، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك. وفي رواية: أنها أهدتها لصفية كما مر، فإن صح فكأنها أهدتها لصفية وجلست عند رحله حتى أخبرته أنها هدية ليأكل منها، فقدمتها له صفية "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها", أي: مضغ منها مضغة، ثم لفظها على ما عند ابن إسحاق أو ازدردها على ما عند الدمياطي، ويأتي الجمع وأيا ما كان فلا يؤول أكل بأراد, إذ لم يقل أحد: إنه لم يتناول, إنما الخلف في الازدراد، "وأكل رهط من أصحابه معه", وكانوا ثلاثة على ما في الإمتاع للمقريزي, وسمى ابن إسحاق منهم بشر بن البراء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم". وفي رواية البيهقي: "أمسكوا فإنها مسمومة". وأرسل إلى اليهودية, فقال: "سممت هذه الشاة". فقالت: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه في يدي". مشيرا "للذراع، قالت: نعم" زاد في رواية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه. فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة. وفي رواية غيره: جعلت زينب بنت الحارث امرأة ابن مشكم تسأل أي الشاة أحب إلى محمد, فيقولون: الذراع. فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يطنئ -يعني لا يلبث أن يقتل من ساعته-.   البيهقي: قال لها: "ما حملك على ذلك"؟ قالت: "قلت: إن كان نبيا فلا يضره وإن لم يكن نبيا استرحنا منه". وفي رواية البيهقي: أردت إن كنت نبيا فيطلعك الله، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك. ذكره التيمي في مغازيه وقد استبان لي أنك صادق، وأنا أشهدك، ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وعند ابن سعد عن الواقدي بأسانيد متعددة، أنها قالت: قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي -وسمى عمها يسار وكان من أجبن الناس, وهو الذي أنزل من الرف، وأخوها زبير- ونلت من قومي, فقلت: إن كان نبيا فسيخبر الذراع وإن كان ملكا استرحنا منه، "فعفا عنها صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها" عطف مسبب على سبب، "وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة،" أي جنس أصحابه إذ لم يمت منهم غير بشر، ويروى أنهم وضعوا أيديهم، وما ازدردوا شيئا وأنه أمرهم بالاحتجام، وكأنه لمخالطة ريقهم، وقد ابتلعوا، "واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله" أي بين كتفيه, حجمه أبو هند أو أبو طيبة بالقرن والشفرة، ويحتمل أنهما معا حجماه، فقد قيل: إنه احتجم بين كتفيه في ثلاثة مواضع "من أجل" الجزء "الذي أكل" بحذف العائد، أي: أكله "من الشاة" العنز المسمومة. وذكر الواقدي أنه عليه السلام أمر بلحم الشاة، فأحرق ووقع عند البراز أنه عليه السلام بعد سؤاله لها واعترافها بسط يده إلى الشاة وقال لأصحابه: "كلوا بسم الله". فأكلنا وذكرنا اسم الل فلم يضر أحدا منا. قال ابن كثير وفيه نكارة وغرابة شديدة. "وفي رواية غيره" أي غير أبي داود "جعلت زينب بنت الحارث" بن سلام "امرأة ابن مشكم تسأل: أي" أجزاء "الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون": أحبها "الذراع فعمدت إلى عنز لها". ففي هذه الرواية تعيين أن الشاة عنز وتسمية المبهمة في الروايتين قبلها "فذبحتها وصلتها" شوتها، "ثم عمدت إلى سم لا يطنئ" بضم المثناة التحتية وسكون الطاء المهملة ونون بعدها همزة "يعني لا يلبث" بفتح الموحدة "أن يقتل من ساعته" أي سريعا، وهو المعروف عند العامة بسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وقد شاورت يهود في سموم فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه، وفيهم بشر بن البراء، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس منها، وتناول بشر بن البراء عظما آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته، ازدرد بشر بن البراء ما في يده وأكل القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة". وفيه: أن بشر بن البراء مات، وفيه: أنه دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها. رواه الدمياطي. وقد اختلف: هل عاقبها صلى الله عليه وسلم؟   ساعة، "وقد شاورت يهود في" اختيار سم من جملة "سموم" عينتها بأن سألت: أيها أسرع قتلا؟ "فاجتمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة، وأكثرت في الذراعين، والكتف". وعند ابن إسحاق: وقد سألت: أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها "فوضعت بين يديه ومن حضر من أصحابه وفيهم بشر بن البراء" بن معرور -بمهملات- الأنصاري الخزرجي، الصحابي ابن الصحابي البدري، وشهد ما بعدها حتى مات. "وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهس" بسين مهملة، أي أخذ بمقدم أسنانه "منها وتناول بشر بن البراء عظما آخر، فلما ازدرد صلى الله عليه وسلم لقمته" أي: ابتلع ما انفصل منها بريقه دون اللحمة، فلا ينافي رواية ابن إسحاق: أنه عليه السلام لم يسغها ولفظها. "ازدرد بشر بن البراء ما في يده وأكل القوم". في الإمتاع: أنهم كانوا ثلاثة وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا، وأنه عليه السلام أمرهم بالحجامة، وكان معناه إن صح أنهم لم يبتلعوا لكنهم وضعوه في أفواههم فأثر قليلا، فأمرهم بالحجامة لإزالة ذلك الأثر، فقال صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع" يذكر ويؤنث، فلذا أنث ضميره "تخبرني أنها مسمومة". وهل بكلام يخلق فيها أصوات وأصوات يحدثها الله فيها وفي الحجر والشجر بلا حياة أو الحياة أولا ثم الكلام بعدها؟ قولان في الشفاء ومر له مزيد. وعند الواقدي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان بعد أكلة خيبر يأكل من شيء حتى يأكل منه صاحبه الذي يحضره، "وفيه أن بشر بن البراء مات" من أكلته بعد حول كما جزم به السهيلي، وقيل: من ساعته "وفيه أنه دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر بن البراء فقتلوها". "رواه الدمياطي" الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف له ألف وثلاثمائة شيخ، فهذا معارض لما فوقه من حديث جابر أنه عفا عنها ولم يعاقبها. لكن عند ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد متعددة أنه دفعها إلى ولاة بشر فقتلوها. قال الواقدي: وهو الثبت "وقد اختلف: هل عاقبها" أي: أمر بعقابها بقتل أو غيره "صلى الله عليه وسلم", أم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 فعند البيهقي من حديث أبي هريرة: فأعرض لها، ومن حديث أبي نضرة عن جابر نحوه قال: فلم يعاقبها. وقال الزهري: أسلمت فتركها. قال البيهقي: يحتمل أن يكون تركها أولا ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة قتلها, وبذلك أجاب السهيلي وزاد: أنه تركها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر بن البراء قصاصا. ويحتمل أن يكون تركها لكونها أسلمت, وإنما أخر قتلها حتى مات بشر؛ لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه.   لا بسبب اختلاف الأخبار، "فعند البيهقي من حديث أبي هريرة فأعرض لها" بفتح الراء مخففة أي ما تعرض لها بسوء. ونحوه عن جابر عند أبي داود كما مر، "و" عند البيهقي أيضا "من حديث أبي نضرة" بنون ومعجمة ساكنة مشهورة بكنيته واسمه المنذر بن مالك البصري الثقة. روى له مسلم والأربعة مات سنة ثمان أو تسع ومائة "عن جابر نحوه" نحو قول أبي هريرة فما عرض لها حيث "قال" جابر آخر الحديث، "فلم يعاقبها" وليس فاعل قال البيهقي: أخذا مما رواه عن أبي هريرة وجابر كما زعما لأنه خلاف المروي عند البيهقي "وقال الزهري" فيما رواه عبد الرزاق عن معمر عنه "أسلمت فتركها" قال معمر: والناس يقولون: قتلها. انتهى. قال الحافظ: ولم ينفرد الزهري بدعواه: إنها أسلمت. فقد جزم بذلك سليمان التميمي، في مغازيه وساق عبارته الآتية في المصنف. "قال البيهقي: يحتمل" في طريق الجمع "أن يكون تركها أولا، ثم لما مات بشر بن البراء من الأكلة" بضم الهمزة، أي اللقمة "قتلها، وبذلك أجاب", أي: جمع "السهيلي" في الروض، "وزاد" حيث قال: وجه الجمع بين الحديثين "أنه" صلى الله عليه وسلم "تركها" أولا؛ "لأنه كان لا ينتقم لنفسه، ثم قتلها ببشر بن البراء قصاصا", وفيه حجة لمذهب مالك في وجوب القصاص بالسم بتقديم الطعام المسموم، وقال الحنفية والشافعية: فيه الدية لا القصاص؛ لأنه مختار باشر ما هلك به بغير الجاء، والدية للتغرير وتسفوا الجواب عن حديث قتلها بأنه لنقض العهد لا القصاص، وفيه: إن هذا إنما هو على أنها لم تسلم أما على إسلامها وهو الحق؛ لأن ناقله مثبت مع مزيد إتقانه وكونه لم ينفرد به فلا يصح الجواب؛ لأن ناقض العهد إذا أسلم عصم نفسه، "ويحتمل" كما قال الحافظ: بعد ذكر هذا الخلاف في قتلها والجمع "أن يكون تركها لكونها أسلمت، وإنما أخر قتلها حتى مات بشر لأن بموته يتحقق وجوب القصاص بشرطه". قال شيخنا: فيه نظر لأن قصتها إن صحت على هذا الوجه كان فعلها قبل الإسلام وبعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 وفي مغازي سليمان التيمي: أنها قالت: إن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن أنك صادق وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت. وفيه: موافقة الزهري على إسلامها، فالله أعلم. وفي هذه الغزوة أيضا: نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر، لما وكل به بلالا كما في حديث أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر.   الإسلام لا تؤاخذ بما صدر منها، "وفي مغازي سليمان" بن طرخان البصري أبي المعتمر، "التيمي" نزل في التيم فنسب إليهم, ثقة, عابد, عاش سبعا وتسعين سنة, ومات سنة ثلاث وأربعين ومائة. روى له الستة "أنها قالت" لما قال لها: $"ما حملك على ذلك؟ ". قلت: إن كنت نبيا لم يضرك و"إن كنت كاذبا أرحت الناس منك، وقد استبان لي الآن" لما ظهرت معجزتك بنطق الذراع لك وعدم ضر السم لك "إنك صادق، وأنا أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فانصرف عنها حين أسلمت وفيه" أي حديث التيمي، هذا "موافقة الزهري على إسلامها" وكفى بهما حجة، ومن ثم جزم في الإصابة بأنها صحابية, "والله أعلم". "وفي هذه الغزوة" أطلق الغزوة مريدا السفر الذي هي فيه مجازا لانقضائها قبل النوم، أي وفي هذه السفرة وقعت غريبة "أيضا" فشاركت ما قبلها في الغرابة فلا يردان أيضا إنما تستعمل بين متشاركين ولا مشاركة بين سم الشاة والنوم. "نام صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر" أي الصبح اقتصر عليه؛ لأنه المقصود دون ناقلته وإن شاركته في الفوات "لما وكل" بالتشديد على الأكثر لتعديه بالباء في قوله "به" أي الفجر أو الرسول، والأول أقرب لأنه المأمور بمراقبته وبالتخفيف. قال الحافظ: يقال: وكله بكذا، إذا استكفاه إياه وصرف أمره إليه. "بلالا كما في حديث أبي هريرة عند مسلم" وأبي داود، وابن ماجه، من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، عنه وأخرجه مالك في الموطأ, وابن إسحاق في السيرة عن ابن شهاب عن سعيد فأرسلاه. لكن رواية الإرسال لا تضر في رواية من وصله لأن يونس من الحفاظ الثقات، حتى قال أحمد بن صالح لا تقدم عليه في الزهري أحدا واحتج به الجماعة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل" أي رجع والقفول الرجوع من السفر ولا يقال لمن سافر مبتدئا: قفل إلا القافلة تفاؤلا "من غزوة خيبر" بالخاء المعجمة آخره راء قال الباجي، وابن عبد البر وغيرهما: هذا هو الصواب وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 سار ليلة حتى أدركه الكرا عرس، وقال لبلال: "اكلأ لنا الليل". فصلى بلال ما قدر له، ونام صلى الله عليه وسلم, فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته.   الأصيلي إنما هو من حنين بمهملة ونون قال النووي: وهذا غريب ضعيف والمراد من خيبر وما اتصل بها من فتح وادي القرى، لأن النوم حين قرب من المدينة وعند الشيخين عن عمران كنا في سفر. وكذا أخرجاه عن أبي قتادة بالإبهام ولمسلم، وأبي داود، والنسائي عن أبي مسعود أقبل من الحديبية ليلا وفي الموطأ من مرسل زيد بن مسلم بطريق مكة ولعبد الرزاق من مرسل عطاء بن يسار، والبيهقي عن عقبة بن عامر بطريق تبوك. قال الحافظ: فاختلاف المواطن يدل على تعدد القصة وقد اختلف: هل كان نومهم عن الصبح أو أكثر فجزم الأصيلي أن القصة واحدة، ورده عياض بمغايرة قصة أبي قتادة قصة عمران، وهو كما قال: وحاول ابن عبد البر الجمع بأن زمان رجوعهم من خيبر قريب من زمان رجوعهم من الحديبية وطريق مكة يصدق بهما ولا يخفى تكلفه، ورواية غزوة تبوك ترد عليه. انتهى. قال النووي اختلف: هل كان النوم مرة أو مرتين؟ ورجحه القاضي عياض "سار ليلة" ليست الأولى، وفي الموطأ: أسرى, وفي رواية أبي مصعب عنه: أسرع, ولأحمد من حديث ذي مخبر، وكان يفعل ذلك لقلة الزاد، فقال له قائل: يا نبي الله انقطع الناس وراءك فحبس وحبس الناس معه حتى تكاملوا إليه، فقال: "هل لكم أن نهجع هجعة"؟. فنزل ونزلوا "حتى أدركه الكرا" كعصا أي: النعاس, وقيل: هو أن يكون الإنسان بين النوم واليقظة، وفي الموطأ: حتى إذا كان آخر من الليل. وي حديث ابن عمر وعند الطبراني حتى إذا كان مع السحر "عرس" بتشديد الراء, قال الخليل والجمهور: التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة ولا يسمى نزول أول الليل تعريسا, ويقال: لا يختص بزمن بل مطلق نزول المسافر للراحة ثم يرتحل ليلا كان أو نهارا. وفي حديث عمران: حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا قعة أحلى عند المسافر منها. وفي حديث أبي قتادة: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة". فقال بلال: أنا أوقظكم. وقال لبلال: "اكلأ" بالهمز. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ} أي: يحفظكم. أي: احفظ وارقب "لنا الليل" بحيث إذا طلع الفجر توقظنا، "فصلى بلال ما قدر" بالبناء للمفعول، أي: ما يسره الله "له، ونام صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما قارب" أي قرب "الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر" أي مستقبل الجهة التي يطلع منها، "فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا، فقال: "أي بلال"!. فقال بلال: إنه أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله-.   فلم يستيقظ رسول الله ولا بلال ولا أحد من أصحابه" عليه السلام "حتى ضربتهم الشمس" قال عياض: أي أصابهم شعاعها وحرها "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا" أسقط من رواية مسلم، وهو في الموطأ: ففزع, قال النووي: أي أنتبه وقام. وقال الأصيلي: ففزع لأجل عدوهم خوفا أن يكون اتبعهم فيجدهم بتلك الحال من النوم، وقال ابن عبد البر: يحتمل أن يكون تأسفا على ما فاتهم من وقت الصلاة. قال: وفيه دليل على أن ذلك لم يكن من عادته منذ بعث. قال: ولا معنى لقول الأصيلي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدو في انصرافه من خيبر ولا من حنين ولا ذكر ذلك أحد من أهل المغازي بل انصرف من كلا الغزوتين ظافرا غانما. انتهى. ففي حديث أبي هريرة هذا: أن المصطفى أول من استيقظ وأن الذي كلأ الفجر بلال، ومثله في حديث أبي قتادة عند الشيخين ولهما من حديث عمران بن حصين: أن أول من استيقظ أبو بكر ثم فلان، ثم فلان، ثم عمر بن الخطاب الرابع فكبر حتى استيقظ صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي قتادة أن العمرين لم يكونا معه صلى الله عليه وسلم لما نام وفي قصة عمران أنهما معه. وروى الطبراني شبيها بقصة عمران وفيه أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحدة، وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أنه كلأ لهم الفجر. قال الحافظ: فهذا كله يدل على تعدد القصة، ومع ذلك فالجمع ممكن ولا سيما مع ما وقع عند مسلم وغيره: أن عبد الله بن رباح راوي الحديث عن أبي قتادة ذكر أن عمران سمعه وهو يحدث الحديث بطوله، فقال: انظر كيف تحدث فإني كنت شاهدا القصة، فما أنكر عليه من الحديث شيئا، فهذا يدل على اتحادهما. لكن لمدعي التعدد أن يقول: يحتمل أن عمران حضر القصتين، فحدث بإحداهما وصدق ابن رباح لما حدث عن أبي قتادة بالأخرى, والله أعلم. انتهى. فيتأمل الجمع بماذا مع هذا التغاير في الذي كلأ وأول من استيقظ، وأن العمرين معه في خبر عمران ولم يكونا في خبر أبي قتادة، وسبق اختلاف أيضا في محل اليوم فالمتجه ما رجحه عياض أن النوم وقع مرتين عن صلاة الصبح وإليه أومأ الحافظ قبلُ كما مر، "فقال: أي: بلال" مناديا, وفي رواية ابن إسحاق: فقال: "ماذا صنعت بنا يا بلال". "فقال بلال: إنه أخذ بنفسي الذي أخذ -بأبي أنت وأمي يا رسول الله-". هكذا ثبت في رواية مسلم وغيره، كما ترى وسقط في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 بنفسك. قال: "اقتادوا".   رواية ابن إسحاق، الواقدي لكنها زيادة ثقة، فتقبل, وعجيب قول القائل: لعله ثبت في رواية غيره، أفلا تنبه لكون المتن عزاه لمسلم "بنفسك" صلة أخذ وما بينهما اعتراض. قال ابن رشيق: أي أن الله استولى بقدرته عليَّ، كما استولى عليك مع منزلتك قال: ويحتمل أن المراد غلبني النوم كما غلبك، وقال ابن عبد البر: معناه قبض نفسي الذي قبض نفسك، فالباء زائدة أي توفاها متوفي نفسك, قال: وهذا قول من جعل النفس والروح شيئا واحدا؛ لأنه قال في الحديث الآخر: "إن الله قبض أرواحنا". فنص على أن المقبوض هو الروح وفي القرءان: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} الآية. ومن قال: النفس غير الروح تأول: أخذ بنفسي من النوم الذي أخذ بنفسك منه. زاد في رواية ابن إسحاق قال: "صدقت". وفي الموطأ من وجه آخر: ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر، فقال: "إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه، فلم يزل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام". ثم دعا بلالا فأخبر بلال رسول الله مثل الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله. قال ابن عبد البر: أهل الحديث يروون: يهديه بترك الهمز وأصلها عند أهل اللغة الهمز، وقال في المطالع هو بالهمز أي يسكنه وينومه من هدأت الصبي، إذا وضعت يدك عليه لينام، وفي رواية بغير همز على التسهيل, ويقال فيه أيضا: يهدنه بالنون، وروي يتهدهده, هدهدت الأم ولدها لينام أي حركته. انتهى. وفي هذا اعتذار عن بلال وأنه ليس باختياره وفيه تأنيس له، كما آنسهم لما عرض لهم من الأسف على خروج الصلاة عن وقتها بأنه لا حرج عليهم إذ لم يتعمدوا ذلك، ففي حديث عمران شكوا إليه الذي أصابهم قال: "لا ضير". أو: "لا يضيره". في مستخرج أبي نعيم: "لا يسوء ولا يضير". ولأحمد عن ابن مسعود مرفوعا: "وإن الله أراد أن لا تناموا عنها لم تناموا، ولكن أراد أن تكون لمن بعدكم فهكذا لمن نام أو نسي". وفي الموطأ وأبي داود: "إن الله قبض أرواحنا، ثم ردها إلينا فصلينا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا". قال: "اقتادوا" بالقاف، أي ارتحلوا كما قال في حديث عمران زاد مسلم في رواية أبي حازم عن أبي هريرة: "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". قال ابن رشيق: قد علله صلى الله عليه وسلم بهذا ولا يعلمه إلا هو. وقال القاضي عياض: هذا أظهر الأقوال في تعليله. قال الحافظ: وقيل لاشتغالهم بأحوال الصلاة، أو تحرزا من العدو، أو ليستيقظ النائم وينشط الكسلان، أو لأن الوقت وقت كراهة, يرده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".   قول الحديث: حتى ضربتهم الشمس، وفي حديث عمران: حتى وجدوا حر الشمس، وذلك لا يكون حتى يذهب وقت الكراهة. وقال القرطبي: أخذ بهذا بعض العلماء فقال: من انتبه من نوم عن فائتة في حضر فليتحول عن موضعه، وإن كان واديا فليخرج عنه. وقيل: إنما يلزم في ذلك الوادي بعينه. وقيل: هو خاص به صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم ذلك من حال ذلك الوادي ولا غيره إلا هو. وقال غيره: يؤخذ منه إن من حصلت له غفلة في مكان عن عبادة استحب له التحول منه ومنه أمر الناعس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكان إلى مكان آخر، "فاقتادوا رواحلهم شيئا" يسيرا. وفي حديث عمران: فسار غير بعيد، ثم نزل وهذا يدل على أن هذا الارتحال وقع على خلاف سيرهم المعتاد، "ثم توضأ صلى الله عليه وسلم" زاد ابن إسحاق: وتوضأ الناس "وأمر بلالا فأقام الصلاة". قال عياض: أكثر رواة الموطأ في هذا الحديث على: فأقام, وبعضهم قال: فأذن أو أقام على الشك. ولأحمد من حديث ذي مخبر: فأمر بلالا فأذن، ثم قام صلى الله عليه وسلم فصلى الركعتين قبل لصبح وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة "فصلى بهم الصبح" زاد الطبراني من حديث عمران: فقلنا يا رسول الله أنعيدها من الغد لوقتها؟ قال: "نهانا الله عن الربا ويقبله منا"؟. وعند ابن عبد البر: "لا ينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم". فلما قضى الصلاة، قال: "من نسي الصلاة". زاد القعنبي في روايته في الموطأ: "أو نام عنها". "فليصلها إذا ذكرها". وعند أبي يعلى والطبراني، وابن عبد البر من حديث أبي جحيفة: ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم فمن نام عن الصلاة فليصلها إذا استيقظ، ومن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". فعلم أن في الحديث اختصارا من بعض الرواة فزعم أنه أراد بالنسيان مطلق الغفلة عن الصلاة لنوم أو غيره، وأنه لم يذكر النوم أصلا لأنه أظهر في العموم الذي أراده فاسد نشأ من عدم الوقوف على الروايات, "فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} " [طه: 14] . قال القاضي عياض: قال بعضهم فيه تنبيه على ثبوت هذا الحكم وأخذه من الآية التي تضمنت الأمر لموسى عليه السلام وأنه مما يلزمنا اتباعه، وقال غيره: استشكال وجه أخذ الحكم من الآية فإن معنى: {لِذِكْرِي} ، إما لذكري فيها وإما لأذكرك عليها على اختلاف القولين في تأويلها وعلى كل فلا يعطى ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 وفيها قدم جعفر ومن معه من الحبشة.   قال ابن جرير: ولو كان المراد حين تذكرها لكان التنزيل لذكرها، وأصح ما أجيب به أن الحديث فيه تغيير من الراوي، وإنما هو للذكرى بلام التعريف وألف القصر كما في سنن أبي داود وفيه وفي مسلم زيادة. وكان ابن شهاب يقرأها: "للذكرى" فبان بهذا أن استدلاله صلى الله عليه وسلم إنما كان بهذه القراءة فإن معناها للتذكر أي لوقت التذكر. قال عياض: وذلك هو المناسب لسياق الحديث. قال الجوهري: الذكرى نقيض النسيان. انتهى. وقد جمع العلماء بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". بأن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والألم ونحوهما، ولا يدرك ما يتعلق بالعين لأنها نائمة والقلب يقظان. قال النووي: هذا هو الصحيح المعتمد. قال الحافظ: ولا يقال القلب وإن لم يدرك ما يتعلق بالعين من رؤية الفجر مثلا لكنه يدرك إذا كان يقظانا مرور الوقت الطويل، فإن من ابتداء الفجر إلى أن حميت الشمس مدة لا تخفى على من لم يستغرق، لأنا نقول يحتمل أن قلبه كان مستغرقا بالوحي ولا يلزم وصفه بالنوم، كما كان يستغرق حالة إلقاء الوحي يقظة. والحكمة في ذلك بيان التشريع بالفعل؛ لأنه أوقع في النفس كما في سهوه في الصلاة، وقريب من هذا جواب ابن المنير بأن القلب قد يحصل له السهو في اليقظة لمصلحة التشريع، ففي النوم أولى أو على السواء وقيل: غير ذلك. "وفيها قدم جعفر" بن أبي طالب الهاشمي الأمير المستشهد بمؤتة. روى البيهقي عن جابر أن جعفرا لما قدم عليه صلى الله عليه وسلم تلقاه فقبل بهته. ثم قال: "ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر"؟. وعنده أيضا بسند فيه من لا يعرف حاله عن جابر لما قدم جعفر تلقاه صلى الله عليه وسلم فلما نظر جعفر إليه حجل. قال أحد رواته: يعني مشى على رجل واحدة إعظاما منه له فقبل صلى الله عليه وسلم بين عينيه "ومن معه" وهم ستة عشر رجلا، جعفر ومعه امرأته أسماء بنت عميس وابنه عبد الله ولدته بالحبشة، وخالد بن سعيد الأموي، مع امرأته أمينة بنت خلف وولداه سعيد وأمية ولدتهما بالحبشة وأخوه عمرو بن سعيد, ومعيقيب بن أبي فاطمة، وأبو موسى الأشعري، والأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد، وجهم بن قيس معه ابنه عمرو وبنته خزيمة, وعامر بن أبي وقاص، وأبو حاطب ابن عمرو، ومالك بن ربيعة معه امرأته, والحارث بن عبد قيس، هكذا سماهم ابن إسحاق "من الحبشة" قال ابن إسحاق: بعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فجعلهم في سفينتين فقدم بهم عليه وهو بخيبر ومعهم نساء من مات هناك من المسلمين. وفي البخاري، ومسلم عن أبي موسى: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 واختلف في فتح خيبر هل كان عنوة أو صلحا؟ وفي حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس التصريح بأنه كان عنوة، وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال: فتحت صلحا. قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لتحقن دماؤهما، وهو ضرب من الصلح، لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.   مهاجرين أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال: في بضع وإما قال: في ثلاثة أو اثنتين وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة فألقتنا إلى النجاشي فوافقنا جعفر بن أبي طالب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا ولم يسهم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهدها معه إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه فإنه قسم لهم معنا. وعند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم لهم كلم المسلمين فأشركوهم. الحديث في الصحيح مطولا وفيه: أن عمر قال لأسماء بنت عميس: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم. فغضبت وذكرته له صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس بأحق بي منكم له ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان". وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل". "واختلف في فتح خيبر: هل كان عنوة؟ " كما قال أنس في الصحيح وابن شهاب عند ابن إسحاق وغيره "أو صلحا؟ " أو بعضها صلحا والباقي عنوة؟ كما رواه مالك عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عند أبي داود، "وفي حديث عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة وفتح الهاء مصغرا, البناني بموحدة ونونين البصري, الثقة. المتوفى سنة ثلاثين ومائة. روى له الجميع "عن أنس" عند البخاري، وأبي داود، والنسائي "التصريح بأنه كان عنوة" ولفظه فأصبناها عنوة، "وبه جزم ابن عبد البر ورد على من قال: فتحت صلحا، قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال: فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما" وهما الوطيح والسلالم "لتحقن دماؤهما وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى". قال الحافظ: والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمران: النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها وله الصفراء والبيضاء، والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا ... الحديث وفي آخره: فسبى ذراريهم ونساءهم وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم، فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها ... الحديث. أخرجه أبو داود، والبيهقي وغيرهما ما فعل هذا كان قد وقع الصلح ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم من عليهم بترك القتل وأبقاهم عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، لذلك أجلاهم عمر، فلو كانوا صولحوا على أرضهم لم يجلوا منها، وقد احتج الطحاوي على أن بعضها صلحا بما أخرجه هو وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه وقسم نصفها بين المسلمين، وهو حديث اختلف في وصله وإرساله وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا. انتهى. لكن قال أبو عمر: هذا لو صح لكان معناه أن النصف له من سائر من وقع في ذلك النصف معه لأنها قسمت على ستة وثلاثين سهما، فوقع سهمه عليه السلام وطائفة معه في ثمانية عشر وسائر الناس في باقيها، وانتقده اليعمري بأن هذا تأويل ممكن لو احتمل الحديث هذ التفسير, والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 " فتح وادي القرى ": ثم فتح وادي القرى، في جمادى الآخرة .....................................   فتح وادي القرى: "ثم فتح وادي القرى" بضم القاف وفتح الراء مقصور موضع بقرب المدينة "في جمادى الآخرة" سنة سبع، كما اقتصر عليه اليعمري، ومغلطاي فتبعهما المصنف وكأنه, والله أعلم مبني على ما ذكره الحاكم، وابن سعد عن الواقدي أن خيبر كانت في جمادى الأولى، وقد تعقب ذلك الحافظ كما مر عنه بأن الذي في مغازي الواقدي أنها كانت في صفر، وقيل: في ربيع الأول، والذي قاله ابن إسحاق، والواقدي والبلاذري بأسانيده لما انصرف صلى الله عليه وسلم عن خيبر أتى الصهباء، سلك على برمة حتى انتهى إلى وادي القرى يريد من بها من يهود. وقد روى مالك ومن طريقه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة: افتتحنا خيبر ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى، وأخرجه البيهقي من وجه آخر بلفظ: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى وبين هذا وكونها في جمادى تباين ظاهر؛ لأن خيبر كانت في المحرم سنة سبع أو في آخر سنة ست وحاصرها بضع عشرة ليلة حتى فتحها في صفر، ثم خرج إلى الصهباء وأقام حين بنى بصفية ثلاثة أيام بلياليها ومدة الذهاب والإياب ثمانية أيام فغاية المدة نحو شهر، فلا يكون وادي القرى في جمادى الآخرة غاية ما يفيده كلام الجماعة المعتضد بحديث أبي هريرة أنها في آخر صفر أو أول ربيع الأول. نعم روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أقام بخيبر ستة أشهر يجمع الصلاة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 بعد أن قام أربعا يحاصرهم، ويقال: أكثر من ذلك. وأصاب "مدعما" مولاه سهم   وهذا لو صح لرفع الإشكال يحمل قوله ستة على التقريب سيما على أنها في آخر سنة ست، أو على أن المراد بها وبما يتعلق بها من وادي القرى لكن سنده ضعيف، وعارضه رواية البيهقي بسند ضعيف عن ابن عباس أنه أقام بها أربعين يوما. روى ابن إسحاق عن أبي هريرة: لما انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيبر إلى وادي القرى نزلناها أصيلا مع غروب الشمس "بعد ما أقام بها أربعا" من الأيام "يحاصرهم ويقال: أكثر من ذلك". قال الواقدي: عبَّى صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، وراية إلى الحباب بن المنذر وراية إلى سهل بن حنيف وراية إلى عباد بن بشر، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحصنوا دماءهم وحسابهم على الله فبرز رجل منهم فقتله الزبير، ثم آخر فقتله الزبير، ثم آخر فقتله علي، ثم آخر فقتله أبو دجانة، ثم آخر فقتله أبو دجانة، حتى قتل منهم أحد عشر، كلما قتل رجلا دعا من بقي إلى الإسلام ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذ فيصلي بأصحابه، ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله, فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس حتى أعطوا ما بأيديهم وفتحها صلى الله عليه وسلم عنوة، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا وأقام بها أربعة أيام وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك الأرض والنخيل بأيدي يهود وعاملهم عليها. قال البلاذري: وولاها صلى الله عليه وسلم عمرو بن سعيد بن العاصي وأقطع جمرة بجيم ابن هوذة بفتح الهاء والمعجمة العذري رمية سوط من وادي القرى "وأصاب مدعما" بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين آخره ميم عبد أسود، كما في رواية الموطأ صحابي رضي الله عنه "مولاه" صلى الله عليه وسلم أهداه له رفاعة بن زيد أحد بني الضبيب كما في مسلم وهو بضم المعجة بصيغة التصغير. وفي رواية ابن إسحاق رفاعة بن زيد الجذامي، ثم الضبني بضم المعجمة وفتح الموحدة بعدها نون وقيل: بفتح المعجمة، وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام. قال الواقدي: كان رفاعة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه جاءه "سهم" فقتله. روى مالك والشيخان من طريقه عن أبي هريرة: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة إنما غنمنا البقر، والإبل, والمتاع, والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشملة التي غلها من خيبر تشتعل عليه نارا". وصالحه أهل تيماء على الجزية، قاله الحافظ مغلطاي.   له أسود يقال له: مدعم أهداه له أحد بني الضباب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر حتى أصاب ذلك البعد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا". هكذا في الموطأ، ومسلم, وفي البخاري: "بل". وللكشميهني: "بل" وهو تصحيف، والذي نفسي بيده "إن الشملة" كساء يلتف فيه وقيل إنما تسمى شملة إذا كان لها هدب وتقييد بعض بالغلظ إن ثبت أنه الواقع هنا وإلا فاللغة الإطلاق "التي غلها من خيبر". وفي رواية التي أصابها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم "تشتعل عليه نارا" قال الحافظ: يحتمل أن ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها ويحتمل أن المراد أنها سبب لعذاب النار وكذا القول في الشراك، يعني المذكور في بقية الحديث وهو: فجاء رجل حين سمع ذلك بشراك أو شراكين، فقال صلى الله عليه وسلم: "شراك -أو شراكان- من نار". وفيه تعظيم أمر الغلول، ونقل النووي الإجماع على حرمته وفي الصحيح عن عبد الله بن عمر، وقال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة. فقال صلى الله عليه وسلم: "هو في النار في عباءة غلها"، وكلام عياض يشعر باتحاد قصته مع قصة مدعم والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهم فإن قصة مدعم كانت بوادي القرى ومات بسهم وغل شملة، والذي أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم رفاعة بخلاف كركرة، فأهداه هوذة بن علي أي: وغل عباءة ولم يمت بسهم فافترقا. نعم روى مسلم عن عمر لما كان يوم خيبر. قالوا: فلان شهيد, فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها -أو عباءة-". فهذا يمكن تفسيره بكركرة "وصالحه" صلى الله عليه وسلم كما عند البيهقي في حديث أبي هريرة "أهل تيماء" لما بلغهم فتح وادي القرى "على الجزية". زاد البلاذري فأقاموا ببلادهم وأرضهم في أيديهم وولاها صلى الله عليه وسلم يزيد بن أبي سفيان وكان إسلامه يوم فتحها، وروي أن عمر أجلى أهل فدك وخيبر، وتيماء وهو بفتح الفوقية وإسكان التحتية، والمد بلدة معروفة بين الشام والمدينة على نحو سبع مراحل أو ثمان من المدينة، قال: في المطالع من أمهات القرى على البحر من بلاط طيئ ومنها يخرج إلى الشام. "قاله الحافظ مغلطاي" تلخيصا للروايات كما ترى وصالحه أهل فدك حين أوقع بأهل خيبر على أن لهم نصفها وله صلى الله عليه وسلم نصفها فأقرهم على ذلك ولم يأتهم. قال ابن إسحاق: فكانت له خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. وقيل: صالحوه على حقن دمائهم والجلاء ويخلو بينه وبين الأموال ففعل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 .........................   قال الواقدي: والأول أثبت القولين، وقول الشارح قصة فدك في شعبان وهم, فالتي في شعبان إنما هي سرية بشير إلى بني مرة بفدك أي بقربها كما يأتي لا لنفس أهل فدك، وقد ذكر الشامي مصالحة أهل فدك عقب فتح خيبر قبل قصة وادي القرى وترجم ابن إسحاق أمر فدك في خيبر، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصورا مؤيدا. روى الشيخان وأصحاب السنن عن أبي موسى: قال أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فقال صلى الله عليه وسلم: "أربعوا على أنفسكم, إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا, إنكم لتدعون سميعا قريبا وهو معكم". وأنا خلف دابته فسمعني أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال: "يا عبد الله بن قيس". قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة". قلت: بلى. قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". أربعوا بكسر الهمزة وفتح الموحدة أي: أرفقوا وأمسكوا عن الجهر واعطفوا على أنفسكم بالرفق وكفوا عن الشدة, والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 " ذكر خمس سرايا بين خيبر والعمرة ": "الأولى: سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة": ثم سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة في شعبان سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فخرج معه دليل من بني هلال، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق منهم أحدًا، فانصرف راجعا إلى المدينة.   ذكر خمس سرايا بين خيبر والعمرة: "ثم سرية عمر بن الخطاب" الفاروق "رضي الله عنه إلى تربة" بضم الفوقية وفتح الراء، وبالموحدة، وتاء التأنيث. قال الحازمي: واد بقرب مكة على يومين منها. قال ابن سعد: وتربة ناحية العبلاء، أي بفتح المهملة وسكون الموحدة والمد على أربع ليال من مكة طريق صنعاء ونجران، "في شعبان سنة سبع ومعه ثلاثون رجلا، فخرج" الأولى الواو إذ لا يتفرع على ما قبله فمر بهم حال كونه "معهه دليل من بني هلال" لم يسم، "فكان يسير الليل ويكمن" بضم الميم وفتحها يختفي "النهار، فأتى الخبر إلى هوازن،" أي: إلى الطائفة التي كانت منهم بتربة الذين قصدوا بالبعث "فهربوا وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق منهم أحدا" بل وجدهم ترفعوا وأخذوا سائر مالهم من نعم وغيرها، "فانصرف راجعا إلى المدينة". زاد ابن سعد وشيخه فلما كان بذي الجدر بفتح الجيم وسكون الدال، المهملة بالراء مسرح الغنم على ستة أميال من المدينة قال الهلالي لعمر: هل لك في جمع آخر تركته من خثعم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 "الثانية: سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى بني كلاب": ثم سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى بني كلاب بنجد بناحية ضرية، سنة سبع، ويقال: إلى فزارة، فسبى منهم جماعة وقتل آخرين. وفي صحيح مسلم: إلى فزارة، وهو الصحيح الصواب. "الثالثة: سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة": ثم سرية بشير بن سعد   سائرين، قد أجدبت بلادهم، فقال عمر: لم يأمرني صلى الله عليه وسلم بهم إنما أمرني أعمد لقتال هوازن بتربة. "الثانية: ثم سرية أبي بكر الصديق" أفضل الصحب بلا نزاع كما قام عليه من أهل السنة الإجماع وغيرهم محجوجون بما صح عن علي كرم الله وجهه أنه خير منه "رضي الله عنه إلى بني كلاب" بكسر الكاف وخفة اللام قبيلة "بنجد بناحية ضرية" بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء فتحتية مشددة مفتوحة فتاء تأنيث. يقال: إنه اسم امرأة سمي به الموضع. قال في الصحاح قرية لبني كلاب على طريق البصرة إلى مكة أقرب في شعبان "سنة سبع، ويقال: إلى" بني "فزارة فسبي منهم جماعة وقتل آخرين" هكذا رواه ابن سعد، والواقدي بإسنادين لهما عن سلمة، "وفي صحيح مسلم" عن سلمة بن الأكوع بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر "إلى فزارة" وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة فوردنا الماء فقتل أبو بكر أي جيشه من قتل ورأيت طائفة منهم الذراري فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة وهي أم قرفة عليها قشع من أدم معها ابنتها من أحسن العرب. فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر, فنفلني أبو بكر، ابنتها فلم أكشف لها ثوبا فقدمنا المدينة فلقيني صلى الله عليه وسلم فقال: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك". فقلت: هي لك. فبعث بها إلى كة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين. ورواه ابن سعد أيضا مسندا ولم يلتفت المصنف إلى زعم من زعم أنه وهم، فقال: "وهو الصحيح الصواب" لصحة إسناده، نعم قيل: تسمية المرأة أم قرفة وهم من بعض الرواة لأن ابن سعد لم يسمها في روايته، بل قال: فإذا امرأة من فزارة لأن أم قرفة إنما كانت في السرية المختلف في أن أميرها الصديق أو زيد بن حارثة كما مر ذلك مبسوطا. لكن قد تعقبت معارضة المصنف بحديث مسلم لما قبله هنا بأنهما سريتان مختلفتان سرية إلى فزارة بوادي القرى، وهي المختلف في أميرها وسرية إلى ضرية وهذا أميرها الصديق، فجمع بينهما تقليدا لليعمري وشيخه الدمياطي فوهم, والله أعلم. "الثالثة: ثم سرية بشير" بفتح الموحدة، وكسر المعجمة وتحتية ساكنة "ابن سعد" بن ثعلبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 الأنصاري إلى بني مرة بفدك، سنة سبع، ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا، وقاتل بشير حتى ارتث وضرب كعبه، وقيل: قد مات. وقدم علبة بن زيد الحارثي بخبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قدم بعده بشير بن سعد. "السرية الرابعة: غالب بن عبد الله إلى الميفعة": ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي.   "الأنصاري" الخزرجي، البدري، والد النعمان له ذكر في مسلم وغيره في قصة الهبة لولده وحديثه في النسائي استشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة، ويقال: إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار. "إلى بني مرة" بضم الميم وشد الراء "بفدك" بفتح الفاء والدال المهملة، وبالكاف موضع بخيبر بينه وبين المدينة -كما قال ابن سعد- ستة أميال جمع ميل فصحف من قال: ليال. "في شعبان سنة سبع ومعه ثلاثون رجلا، فقتلوا،" أي وقع القتل فيهم وهو لا يستلزم استئصالهم، فلا ينافي ما عند الواقدي وتلميذه ابن سبع لما وصلوا إليهم لقوا رعاء الشاء، فسألوا عن الناس، فقالوا: هم في نواديهم والناس يومئذ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وانحدر إلى المدينة فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركه العدد الكثير منهم عند الليل، فباتوا يرامونه بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير فأصابوا أصحابه، وولى منهم من ولى "وقاتل بشير حتى ارتث" بضم أوله وسكون الراء وضم الفوقية ومثلثة مشددة أي جرح وصار به رمق، "وضرب كعبه" اختبار الحالة أهو ميت أم حي؟ "وقيل" لما لم يتحرك: "قد مات" ورجعوا بنعمهم وشائهم "وقدم علبة" بضم العين المهملة وإسكان اللام وفتح الموحدة فتاء تأنيث "ابن زيد" بن حارثة الأنصاري "الحارثي" الأوسي أحد البكائين في غزوة تبوك. روي أنه تصدق بعرضه على كل مسلم ناله. "بخبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدم بعده بشير بن سعد" وذلك أنه استمر في القتلى, فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهود بها أياما حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة فعلم من هذا أن بني مرة لم يكونوا بفدك فتسمحوا في قولهم إلى بني مرة بفدك لمجاورتها وكونها من أعمالها. "السرية الرابعة: ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي" الكناني، الكلبي كان على مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وله ذكر في فتح القادسية. وهو الذي قتل هرمز ملك الباب وولي خراسان زمن معاوية سنة ثمان وأربعين، واسم جده مسعر بن جعفر، كما عند ابن الكلبي، لا فضالة بن عبد الله، كما في تاريخ الحاكم فابن الكلبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 إلى الميفعة بناحية نجد من المدينة، على ثمانية برد، في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة، في مائتين وثلاثين راجلا، فهجموا عليهم في وسط محالهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة. قالوا: وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد نهيك بن مرداس.   أعرف بالنسب من غيره، كما أن غيره أعرف منه بالأخبار، إنما جاء اللبس من ذكر فضالة في نسبه وليس هو فيه، بل هو صحابي آخر اسمه غالب بن فضالة، كما في الإصابة "إلى" أهل "الميفعة" بكسر الميم وسكون التحتية وفتح الفاء والعين المهملة فتاء تأنيث والقياس فتح الميم، لأنه اسم لموضع أحد اليفاع وهو المرتفع من الأرض، كما في النور، أي لأنها في الأصل اسم موضع اليفع وهو الارتفاع سمي به ذلك الموضع، كما هو مفاد كلامه "بناحية نجد" وراء بطن نخل، كما نقله الفتح والعيون عن أهل المغازي فهي "من" أعمال "المدينة على ثمانية برد" وأهل الميفعة، كما في العيون بنو عول بضم العين وبنو عبد بن ثعلبة "في شهر رمضان سنة سبع من الهجرة" وسببها، كما في بعض الروايات عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عقبة أنه صلى الله عليه وسلم قال له مولاه يسار: يا نبي الله إني قد علمت غرة من بني عبد ابن ثعلبة فأرسل معي إليهم، فأرسل غالبا في مائة وثلاثين راجلا وكان يسار دليلهم، واستشكل ذلك البرهان بأن يسار قتله العرنيون في شوال سنة ست، فلعل هذا غيره ولم أر له ذكرا في الموالي إلا أن يكون مولى لأحد من أقاربه عليه الصلاة والسلام نسب إليه، قلت: كلاهما مولاه والذي قتله العرنيون هو النوبي وهذا حبشي أصابه في غزوة بني ثعلبة، وقد فرق بينهما في الإصابة ورجح أنهما اثنان "في مائتين"، كذا في النسخ والذي عند ابن إسحاق كما ترى، وهو المنقول في العيون وغيرها في مائة بالأفراد "وثلاثين راجلا فهجموا عليهم" جميعا "في وسط محالهم" بشد اللام جمع محلة بفتح الحاء وهي المكان ينزله القوم، "فقتلوا مَن" بفتح الميم "أشرف لهم" بصيغة الماضي، كما هو المحفوظ ووقع في العيون من أشراف ورده البرهان "واستاقوا نعما وشاء إلى المدينة قالوا" أي أهل المغازي كابن إسحاق، والواقدي وابن سعد وتبرأ منه لأنه خلاف ظاهر حديث البخاري وما جزم به في الإكليل كما يأتي. "وفي هذه السرية قتل أسامة بن زيد" الحب ابن الحب "نهيك" بفتح النون وكسر الهاء وسكون التحتية وبالكاف "ابن مرداس", كذا وقع عند الواقدي فاستدركه ابن فتحون على أبي عمر. قال في الإصابة: وهو خطأ فإنه مقلوب قلبه بعض الرواة. وإنما هو مرداس بن نهيك الضمري وقيل: ابن عمرو، وقيل: إنه أسلمي، وقيل: غطفاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 بعد أن قال: لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب"؟. فقال أسامة: لا أقاتل أحدًا يشهد أن لا إله إلا الله. وفي الإكليل: فعل أسامة ذلك في سرية كان هو أميرا عليها سنة ثمان. وفي البخاري.   والأول أرجح ذكره ابن عبد البر وغيره في حرف الميم، "بعد أن قال لا إله إلا الله" زاد في رواية الثعلبي: محمد رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة من لك بلا إله إلا الله". فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل. قال: "ألا". وللواقدي: هلا. "شققت عن قلبه" زاد السدي فنظرت إليه "فتعلم أصادق هو أم كاذب". "فقال أسامة: لا أقاتل أحدا" فضلا عن قتله "يشهد أن لا إله إلا الله" قال في الاستيعاب في تفسير السدي وابن جريج عن عكرمة وتفسير سعيد بن أبي عروبة عن أبي قتادة. وقاله غيرهم أيضا لم يختلفوا في أن المقتول الذي ألقى السلم. وقال: إنه مؤمن إنه مرداس واختلفوا في قاتله وفي أمير تلك السرية اختلافا كثيرا. انتهى. ومراده لم يختلف من عزى لهم وإلا فعند أحمد، والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد وابن جرير عن ابن عمران، المقتول عامر بن الأضبط، الأشجعي والقاتل محلم بن جثامة وأن الآية نزلت في ذلك وعند الدارقطني، والبزار والطبراني، وصححه الضياء عن ابن عباس أن القاتل المقداد بن الأسود وأبهم اسم المقتول وأن فيه نزلت الآية. وروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن المقتول مرداس والقاتل أسامة، وأمير السرية غالب كما هنا، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده وكان ألجأ غنمه لجبل فلما لحقوه. قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم. فقتله أسامة بن زيد لما رجعوا نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ} الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر، وأبو نعيم عن أبي سعيد، نحوه. قال في الإصابة: فإن ثبت الاختلاف في تسمية القاتل مع الاختلاف في المقتول احتمل تعدد القصة. انتهى. أي واحتمل أيضا تكرر نزول الآية تذكيرا بما سبق. "وفي الإكليل" للحاكم أبي عبد الله "فعل أسامة ذلك" المذكور من قتل الرجل "في سرية كان هو أميرا عليها في سنة ثمان" لا في هذه السرية التي في سنة سبع، كما قال أهل المغازي. "وفي البخاري" ما يوافقه فإنه قال: بعد غزوة مؤتة باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات. قال الحافظ: بضم الحاء المهملة وفتح الراء بعدها قاف نسبة إلى الحرقة وهو جهش بن عامر بن جهينة سمي الحرقة لأنه أحرق قوما بالقتل فبالغ في ذلك ذكره ابن الكلبي, ثم روى في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 عن أبي ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه، وطعنته.   الباب وفي كتاب الديات ومسلم في الإيمان، وأبو داود في الجهاد، والنسائي في السير "عن أبي ظبيان" بفتح الظاء المعجمة وكسرها وسكون الموحدة فتحتية فألف فنون حصين بمهملتين مصغر بن جندب بن الحارث الجنبي بفتح الجيم وسكون النون، ثم موحدة نسبة إلى الجنب بلفظ شق الإنسان قبيلة من اليمن الكوفي الثقة التابعي الكبير روى له الستة وتوفي سنة تسعين وقيل: غير ذلك. قال النووي: أهل العربية يفتحون الظاء من ظبيان وأهل الحديث يكسرونها، وكان منشأ الخلاف أن أهل العربية بنوا على مقتضى الاشتقاق في مثل هذه الصيغة، وأهل الحديث على أن ما ثبت وضعه وضع الأعلام لا يجب جريه على اللغة، "قال سمعت أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة" بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف، وتاء تأنيث زاد في الديات من جهينة، قال المصنف: والجمع في الترجمة باعتبار بطون تلك القبيلة. انتهى. قال في الفتح ليس في هذا الحديث ما يدل على أنه كان أمير الجيش كما هو ظاهر الترجمة، وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى الميفعة في رمضان سنة سبع وقالا: إن أسامة قتل الرجل فيها، فإن ثبت أن أسامة كان أميرها فما صنعه البخاري هو الصواب لأنه ما أمر إلا بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة، وذلك في رجب سنة ثمان وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجح ما قال أهل المغازي. انتهى. وذكر بعض شراح البخاري أن ما ذكره أهل المغازي مخالف لظاهر تجمة البخاري، ولعل المصير إلى ما في البخاري هو الراجح بل الصواب. انتهى. وليس الترجي، من وجوه الترجيح نعم روى ابن جرير عن السدي: بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد فذكر القصة. وروى ابن سعد عن جعفر بن برقان قال: حدثني الحضرمي، قال: بلغني أنه صلى الله عليه وسلم بعث أسامة بن زيد على جيش فذكر القصة، فإن ثبتا ترجح صنيع البخاري "فصبحنا القوم" أتيناهم صباحا بغتة قبل أن يشعروا بنا فقاتلناهم "فهزمناهم ولحقت" بالواو ولأبي ذر الفاء "أنا ورجل من الأنصار" قال الحافظ: في مقدمة الفتح لم أعرف اسم الأنصاري ويحتمل أنه أبو الدرداء، ففي تفسير عبد الرحمن بن زيد ما يرشد إليه "رجلا منهم" هو مرداس كما مر "فلما غشيناه" بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين "قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري عنه وطعنته" وفي رواية بالفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 برمحي حتى قتلته. فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إلا إلا الله"؟. قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. "الخامسة: سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجبار": ثم سرية بشير بن سعد الأنصاري أيضا إلى يمن وجبار -بفتح الجيم- وهي أرض لغطفان، ويقال لفزارة وعذرة، في شوال سنة سبع من الهجرة، وبعث معه ثلاثمائة   بدل الواو "برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا" المدينة، "بلغ النبي صلى الله عليه وسلم" قتلي له بعد كلمة التوحيد، فقال: "يا أسامة! أقتلته" بهمزة الاستفهام الإنكاري "بعد ما" وفي رواية: "بعد أن". "قال: لا إله إلا الله"، وقد علمت قولي: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". "قلت" زاد في الديات: يا رسول الله! إنما "كان متعوذا" بكسر الواو المشددة بعدها معجمة، أي لم يكن قاصدا للإيمان بل كان غرضه التعوذ من القتل "فما زال يكررها" أي: قوله: "أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله"؟. زاد في الديات: على شد الياء، وفي مسلم من حديث جندب: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة". "حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم" لآمن جريرة هذه الفعلة، ولم يتمن أن لا يكون مسلما قبل ذلك وإنما تمنى أن يكون إسلامه ذلك اليوم، لأن الإسلام يجب ما قبله. قال القرطبي: وفيه إشعار بأنه استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمعه من الإنكار الشديد وإنما قال أسامة ذلك على سبيل المبالغة لا الحقيقة قال الكرماني: أو عني إسلاما لا ذنب فيه. وقال الخطابي: يشبه أنه تأول قوله، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم ألزم أسامة دية ولا غيرها وفيه نظر فقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أمر صلى الله عليه وسلم لأهل مرداس بديته ورد ماله إليهم وقيل: قال له: "أعتق رقبة". والله أعلم. "الخامسة: ثم سرية بشير" كأمير "ابن سعد الأنصاري أيضا إلى يمن" قال اليعمري: بفتح الياء آخر الحروف وقيل: بضمها وقيل: بالهمزة، مفتوحة ساكنة الميم أي مع فتح أوله وضمه كما في الشامي، ووقع في بعض نسخه الفوقية وهو تحريف، والذي في نسخه الصحيحة التحتية "وجبار بفتح الجيم" وبموحدة مخففة وبعدها ألف وراء "وهي أرض لغطفان" كما عند ابن سعد، "ويقال لفزارة" كما قال الحازمي: "وعذرة في شوال سنة سبع من الهجرة وبعث مع ثلاثمائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 رجل لجمع تجمعوا للإغارة على المدينة، فساروا الليل وكمنوا النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا. وأصاب لهم نعما فغنمها، وأسر رجلين وقدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما.   رجل", وعقد له لواء "لجمع" من غطفان "تجمعوا" بالجناب بكسر الجيم من أرض غطفان، قد واعدهم عيينة بن حصن الفزاري "للإغارة على المدينة فساروا الليل وكمنوا" بفتح الميم، وكسرها "النهار، فلما بلغهم مسير بشير هربوا" فجاء الصحابة بمن وحبار، وهو نحو الجناب، والجناب معارض سلاح بسين وحاء مهملتين وخيبر ووادي القرى فنزلوا بسلاح, "وأصاب لهم نعما كثيرة فغنمها" ونفروا الرعاء فحذروا، وتفرقوا ونجعوا به عليا بلادهم بضم المهملة وسكون اللام والقصر نقيض السفلى. وخرج بشير بن سعد في أصحابه حتى أتى محالهم، فلم يجد فيها أحدًا فلقوا عينا لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة وهو لا يشعر بهم فناوشوهم ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم المسلمون، "وأسر" منهم "رجلين وقدم بهما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما", فأرسلهما ولم يسميا رضي الله عنهما، والمناوشة تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 " باب عمرة القضاء ": ثم عمرة القضية، وتسمى عمرة القضاء   باب عمرة القضاء: كذا ترجم به البخاري عند الأكثر وللمستملي وحده غزوة القضاء، والأول أولى ووجهوا كونها غزوة بأن موسى بن عقبة ذكر في المغازي عن ابن شهاب أنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح والمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، فبلغهم ذلك ففزعوا فلقيه مكرز، فأخبره أنه باق على شرطه وأن لا يدخل مكة بسلاح إلا السيوف في أغمادها، وإنما خرج في تلك الهيئة احتياطا فتوثق بذلك وأخر صلى الله عليه وسلم السلاح مع طائفة من أصحابه خارج الحرم حتى رجع ولا يلزم من إطلاق الغزوة وقوع المقاتلة. وقال ابن الأثير أدخل البخاري عمرة القضاء في المغازي لكونها مسببة عن غزوة الحديبية. انتهى من الفتح. ولذا ترجمها المصنف بقوله: "ثم عمرة القضية، وتسمى" أيضا "عمرة القضاء", وتسمى أيضا عمرة القصاص ذكره ابن إسحاق, وعمرة الصلح ذكره الحاكم, فهي أربعة كما قال الحافظ. وقدم المصنف الأول؛ لأنه أبعد من إيهام كونه قضاء حقيقيا لا لأنه أشهر كما زعم. كيف وقد ترجم البخاري, وابن إسحاق، واليعمري, ومن لا يحصى بعمرة القضاء واختلف في سبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 لأنه قاضى فيها قريشا؛ لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها, بل كانت عمرة تامة، لذا عدوا عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت قضاء عن العمرة الأولى. وعدوا عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها، لا لأنها كملت. وهذا الخلاف مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت.   تسميتها بهما، فقال السهيلي: "لأنه قاضى" أي عاهد "فيها" أي: عليها أو بسببها أو في شأنها "قريشا" سنة الحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذا يقال لها: عمرة القضية. قال أهل اللغة: قاضى فلانا عاهده وقاضاه عاوضه فيحتمل تسميتها بذلك للأمرين قاله عياض. قال الحافظ: ويرجح الثاني تسميتها قصاصا قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . قال السهيلي: تسميتها عمرة القصاص أولى بها لأن هذه الآية نزلت فيها. قال الحافظ: كذا رواه عبد بن حميد وابن جرير بإسناد صحيح عن مجاهد، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وقال ابن إسحاق: بلغنا عن ابن عباس، فذكره ووصله الحاكم في الإكليل عن ابن عباس، فذكره لكن في إسناده الواقدي "لا لأنها قضاء عن العمرة التي صد عنها؛ لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها" عند مالك والشافعي، وإن كانت نفلا لوجوب قضاء فاسد الحج والعمرة، ولو نفلا حتى عند الشافعي وإن لم يقل بوجوب قضاء النفل، "بل كانت عمرة تامة" أي في حكمها لثبوت الأجر فيها، وكونها لم يجب قضاؤها وإلا فلم يأتوا فيها بشيء من أعمالها سوى الإحرام، "لذا عدوا" أي الصحابة كأنس، وابن عمر في الصحيح "عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعا" عمرة الحديبية وعمرة القضاء وعمرة من الجعرانة وكلهن في ذي القعدة وعمرة مع حجته، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في مقصد عبادته. "وقال آخرون: بل كانت هذه "قضاء عن العمرة الأولى" التي صد عنها, ولذا سميت عمرة القضاء "و" إنما "عدوا عمرة الحديبية في العمر لثبوت الأجر فيها" وقبولها "لا لأنها كملت". "وهذا الخلاف" في سبب التسمية "مبني على الاختلاف في وجوب القضاء على من اعتمر فصد عن البيت" سواء كان الصد عاما أو خاصا، وسواء عمرة الإسلام أو غيرها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 فقال الجمهور: يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه. عن أبي حنيفة: عكسه. وعن أحمد رواية: أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء. وأخرى: يلزمه الهدي والقضاء. فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . وحجة أبي حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها، ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء. وحجة من أوجبهما: ما وقع للصحابة، فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا من قابل وساقوا الهدي. وحجة من لم يوجبهما: أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحر، ومن ليس معه هدي أن يحلق. انتهى.   "فقال الجمهور" من العلماء: "يجب عليه الهدي ولا قضاء عليه. وعن أبي حنيفة عكسه" القضاء ولا هدي، "وعن أحمد رواية أنه لا يلزمه هدي ولا قضاء وأخرى يلزمه الهدي والقضاء, فحجة الجمهور قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم من إتمام الحج أو العمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ} تيسر {مِنَ الْهَدْيِ} عليكم شاة فأعلى, ففيه دليل على جواز التحلل بالإحصار، وأن فيه دما ولا قضاء لعدم ذكره في جواب الشرط. "وحجة أبي حنيفة: أن العمرة تلزم بالشروع، فإذا أحصر جاز له تأخيرها، فإذا زال الحصر أتى بها ولا يلزم من التحلل بين الإحرامين سقوط القضاء", وهو دليل عقلي "وحجة من أوجبهما" التثنية أي الهدي، والقضاء "ما وقع للصحابة فإنهم نحروا الهدي حيث صدوا واعتمروا، من قابل وساقوا الهدي". وقد روى أبو داود عن أبي حاضر بحاء مهملة وضاد معجمة الأزدي، قال: اعتمرت، فأحصرت، فنحرت الهدي، وتحللت، ثم رجعت العام المقبل، فقال لي ابن عباس: أبدل الهدي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك. "وحجة من لم يوجبهما" بالتنثية "أن تحللهم بالحصر لم يتوقف على نحر الهدي، بل أمر من معه هدي أن ينحره ومن ليس معه هدي أن يحلق" زاد الحافظ: وأسعد الكل بظاهر الأحاديث من أوجبهما. انتهى. ويقع في نسخ: حجة من أوجبها، ثم حجة من لم يوجبها بالإفراد فيهما، ويمكن توجيهها بأن الضمير للخصلة المروية عن أحمد وهي وجوبهما أو عدمه. "انتهى". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 قال الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهلّ ذو القعدة -يعني سنة سبع- أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية، وأن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفاري، وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة   هذا المبحث وهو في فتح الباري "قال الحاكم في الإكليل: تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم لما أهل ذو القعدة يعني سنة سبع". روى يعقوب ابن سفيان، في تاريخه بإسناد حسن عن ابن عمر قال: كانت عمرة القضية في ذي القعدة سنة سبع "أمر أصحابه أن يعتمروا لعمرتهم التي صدهم المشركون عنها بالحديبية" هذا ظاهر فيما قاله أبو حنيفة، ويجيب الجمهور عنه بأن معنى قضاء عوض عنها لا قضاء واجب "و" أمر "أن لا يتخلف أحد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف منهم" أحد "إلا رجال استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا". وعند الواقدي: فقال رجال من حاضري المدينة من العرب: يا رسول الله! والله ما لنا من زاد وما لنا من يطعمنا, فأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن يكفوا أيديهم فلا يهلكوا فقالوا: يا رسول الله بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما كان ولو بشق تمرة". وروى البخاري والبيهقي وغيرهما عن حذيفة ووكيع، والبيهقي عن ابن عباس، وابن جرير عن عكرمة ووكيع عن مجاهد، قالوا في قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . إن التهلكة ترك النفقة في سبيل الله وليس التهلكة أن يقتل ارجل في سبيل الله، ولكن الإمساك في سبيل الله أنفق ولو شقصا. "وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين ألفان" سوى النساء والصبيان "واستخلف على المدينة" فيما قال الواقدي، وابن سعد "أبا رهم" بضم الراء، وسكون الهاء كلثوم بن الحصين "الغفاري" الصحابي المشهور، وقال ابن هشام: عويف بن الأضبط الديلمي بضاد معجمة وطاء مهملة. وقال البلاذري: أبا ذر، ويقال: عويفا وهو مصغر عوف، ويقال فيه: عويث بمثلثة بدل الفاء "وساق عليه الصلاة والسلام ستين بدنة" كما للواقدي عن محمد بن إبراهيم التيمي وعن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قلد هديه بيده وعن عبد الله بن دينار أنه جعل عليها ناجية بن جندب الأسلمي يسير بها أمامه يطلب الرعي في الشجر معه أربعة فتيان من أسلم رواهما الواقدي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 وحمل السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، عليها محمد بن مسلمة، وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد. وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم ولبى، والمسلمون يلبون معه، ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران، فوجد بها نفرا من قريش، فسألوه فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى. فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا.   "و" عند الواقدي عن عاصم بن عمر أنه عليه السلام "حمل السلاح والبيض" بكسر الموحدة جمع بيضة وهي الواحدة من الحديد "والدروع" جمع درع، وفي نسخة الدرع بالأفراد على إرادة الجنس وضبطه بضمتين خلاف قول القاموس جمعه أدرع ودروع وأدراع "والرماح" وعطف الثلاثة على السلاح مباين إن أريد ما عداه كالسيوف، وخاص على عام إن أريد به ما ينفع في الحرب بمنع أو دفع، "وقاد مائة فرس" من الخيل يقع على الذكر والأنثى، والظاهر أنها كانت منهما، "فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه عليها محمد بن مسلمة" الأنصاري "وقدم السلاح" المذكور "واستعمل عليه بشير" كأمير "ابن سعد" والد النعمان، وبقية رواية عاصم فقيل: يا رسول الله حملت السلاح، وقد شرطوا أن لا تدخلها إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال عليه السلام: "إنا لا ندخله عليهم الحرم ولكن يكون قريبا منا فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا". "وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم" من باب المسجد؛ لأنه سلك طريق الفرع ولولا ذلك لأهل من البيداء. رواه الواقدي عن جابر وذكره المحب الطبري عن جابر ولم يعزه لكتاب ومر أن الفرع بضم الفاء وسكون الراء أو ضمهما، "ولبى والمسلمون يلبون معه ومضى محمد بن مسلمة في الخيل إلى مر الظهران" واد قرب مكة يضاف إليه مر كما في القاموس، فظاهره أنه اسم لنفس الوادي. وفي المصباح الظهران بلفظ التثنية واد قرب مكة نسب إليه قرية هناك فقيل: مر الظهران ويوافقه تأنيث الضمير العائد عليها من قوله "فوجد بها نفرا من قيش فسألوه" عن سبب مجيئه بالخيل، "فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح" بفتح الصاد وكسر الموحدة مشددة، أي يأتي "هذا المنزل غدا إن شاء الله تعالى"، وأما يصبح بسكون الصاد وخفة الموحدة فمعناه يدخل في الصباح، كما في اللغة وليس مرادا "فأتوا قريشا فأخبروهم ففزعوا" وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج -كيسمع وينصر ويضرب- موضع بمكة، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وخلف عليه أوس بن خولى الأنصاري في مائتي رجل. وخرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال. وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس بذي طوى، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، والمسلمون متوشحون السيوف   وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه وبعثوا مكرزا في نفر من قريش حتى لقوه ببطن يأجج وهو في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحق، فقالوا: والله ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر، فقال: "إني لا أدخل عليهم بسلاح". فقال مكرز: هو الذي تعرف به البر والوفاء، ثم رجع بأصحابه إلى مكة، فقال: إن محمدًا على الشرط الذي شرط لكم. رواه الواقدي "ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقدم السلاح إلى بطن يأجج" بتحتية فهمزة ساكنة فجيمين بتثليث الجيم "كيسمع وينصر ويضرب" هذا لفظ القاموس في فصل الهمزة من باب الجيم، وهو الذي سمعه شيخنا واقتصر في فصل الياء على أنه كيمنع. وهو الذي رآه صاحب النور، وقد ذكره المجد أيضا في كتاب المثلث له. واقتصر ابن الأثير على كسر الجيم "موضع" بالجر بدل والرفع خبر محذوف، "بمكة" أي قربها أو نواحيها فلا ينافي قول ابن الأثير على ثمانية أميال من مكة، وأفاده قوله: "حيث" ظرف مكان "ينظر" من به "إلى أنصاب الحرم" أي أعلام حدوده "وخلف" بشد اللام أي أخر "عليه" حافظا له "أوس بن خولى" بفتح المعجمة وفتح الواو ضبطه العسكري في كتاب التصحيف. واقتصر عليه في التبصير "الأنصاري" الخرجي البدري المتوفى في أواخر خلافة عثمان "في مائتي رجل،" قال ابن سعد، ثم خلفهم مثلهم حتى قضى الكل مناسك عمرتهم رضي الله عنهم، "وخرجت قريش" أي أكابرهم وأشرافهم، كما في العيون وغيرها "من مكة إلى رءوس الجبال" عداوة الله ولرسوله، ولم يقدروا على الصبر على رؤيته يطوف البيت هو وأصحابه. وفي رواية خرجوا استنكافا أن ينظروا إليه صلى الله عليه وسلم وحنقا بفتح المهملة والنون وقاف أي: غيظا, فهو مساو, ونفاسة أي: حسدا يقال: نفس بالشيء بالكسر حسده عليه ولم يره أهلا له. "وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي أمامه، فحبس" أي ترك "بذي طوى" بتثليث الطاء واد بقرب مكة يصرف ولا يصرف إليه، كما في الشامية حتى يفرغ من عمرته ويحضره للنحر. "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم" راكبا "على راحلته" ناقته "القصواء" كحمراء "والمسلمون متوشحون السيوف". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون، فدخل من الثنية التي تطلعه على الحجون، وابن رواحة آخذ بزمام راحلته. وفي رواية الترمذي في الشمائل، من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله ... .........................   قال الشامي: توشح السيف ألقى طرف علاقته على منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على منكبه الأيسر تحت يده اليمنى، ثم يعقدهما على صدره "محدقون" محيطون "برسول الله صلى الله عليه وسلم يلبون". وفي الصحيح عن ابن أبي أوفى لما اعتمر صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم مخافة أن يؤذوه "فدخل من الثنية" وهي كل عقبة مسلوكة "التي تطلعه على الحجون" بفتح المهملة وضم الجيم وبالواو، والنون جبل بمكة. "وابن رواحة آخذ" بمد الهمزة وكسر الخاء المعجمة "بزمام راحلته" كما في رواية ابن إسحاق وغيره. وفي رواية بغرزه أي ركابه فيحتمل أخذه تارة بالزمام وأخرى بالركاب وتارة يمشي بين يديه كما في الرواية الآتية. "وفي رواية الترمذي في الشمائل" النبوية ولا داعي للتقييد، وكذا في سننه والنسائي, والبزار كلهم "من حديث" عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن "أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وابن رواحة" الخزرجي "يمشي" بالميم من المشي وفي نسخ ينشئ بالنون من الإنشاء أي يحدث نظم الشعر "بين يديه وهو يقول: خلوا" تنحوا يا "بني الكفار عن سبيله" طريقه، واغتر بعضهم بقوله السابق خرجت قريش من مكة إلى رءوس الجبال فأول قوله: خلوا باثبتوا على التخلية ولا حاجة إليه فلم يخرجوا كلهم، بل أشرافهم كما مر. "اليوم نضربكم" بسكون الباء للتخفيف كقراءة أبي عمر: "وأن الله يأمركم". وقوله: اليوم أشرب غير مستحقب. "على تنزيله" أي النبي مكة إن عارضتم، ولا نرجع كما رجعنا عام الحديبية أو على تنزيل القرآن، وإن لم يتقدم ذكره نحو: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . وأبعد من قال على تنزيل النبي أي إرسال الله له إليكم فهو كالأمر النازل من السماء. "ضربا يزيل الهام" جمع هامة بالتخفيف وهي الرأس. "عن مقيله" أي: محل نومه نصف النهار مستعار من موضع القائلة، فهو كناية عن محل الراحة إذ النوم أعظم راحة أو شبه به العنق بجمع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 ..................... ... ويذهل الخليل عن خليله فقال عمر: يابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول شعرا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضج النبل". ورواه عبد الرزاق من حديث أنس أيضا من وجهين بلفظ. خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد أنزل الرحمن في تنزيله بأن خير القتل في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله   أنه محل الاستراحة، أي يزيل الرأس عند العنق، وذكر الضمير نظر إلى أن الهام اسم جمع يفرق بينه وبين واحده بالتاء ولا ينافيه إطلاق النور وغيره أنه جمع لجواز أن المراد اللغوي "ويذهل الخليل عن خليله" لكونه يهلك أحد الخليلين فيذهل الهالك عن الحي والحي عن الهالك. "فقال عمر: يابن رواحة بين" استفهام محذوف الأداة، وفي رواية بإثباتها: أبين "يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول شعرا". وفي رواية: الشعر وذلك قد يحرك غضب الأعداء فيلتحم القتال في الحرم أو وهو مناف لما اعتدناه من رعاية كمال الأدب خصوصا في حال العبادة التي منها ما نحن فيه من العمرة بالحرم. "فقال له صلى الله عليه وسلم" تسلية وإخبارا بأن الله عصمه ومن معه وأن ذلك لا يخل بالأدب: "خل عنه يا عمر" أي: لا محل بينه وبين ما سلكه من قول الشعر حينئذ "فلهى" أي: هذه الجملة أو الأبيات أو الكلمات واللام جواب قسم مقدر، أي لتأثيرها "فيهم" أي: في إيذائهم ونكايتهم وقهرهم "أسرع" وصولا وأبلغ نكاية "من" تأثير "نضح النبل" رمي السهام إليهم، فكما يبعدون منها يبعدون من سماع هذا، ومحال لهم أن يقربونا بعون الله وإلقاء الرعب، ثم هو من إضافة الصفة للموصوف أي النبل الذي يرمى به. قال البزار: لم يروه عن ثابت إلا جعفر بن سليمان، وقال الترمذي: حديث صحيح غريب. "ورواه عبد الرزاق من حديث أنس من وجهين" أي طريقين أحدهما روايته عن جعفر عن ثابت عنه وهي المتقدمة، والثاني روايته عن معمر عن الزهري عن أنس "بلفظ" أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة ينشد بين يديه "خلوا" يا "بني الكفار عن سبيله". "قد نزل الرحمن في تنزيله" القرآن "بأن" الباء زائدة "خير القتل في سبيله" أي جهاد أعدائه وفي السياق بمعنى الطريق المحسوس، فلا إبطاء "نحن قتلناكم على تأويله، أي على إنكاركم ما أول به، كما فهمنا منه، والمعنى نحن نقاتلكم على إنكار تأويله "كما قتلناكم على" إنكار "تنزيله". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وأخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل وفيه: اليوم نضربكم على تنزيله ... ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ... يا رب إني مؤمن بقيله وعند بن عقبة في المغازي بعد قوله: قد أنزل الرحمن في تنزيله ... في صحف تتلى على رسوله لكنه لم يذكر أنسا، وزاد ابن إسحاق بعد قوله: يا رب إني مؤمن بقيله ... إني رأيت الحق في قبوله وقال ابن هشام: إن قوله: نحن ضربناكم على تأويله إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله   مصدر بمعنى اسم المفعول، أي ما نزل عليه الدال على رسالته وصدقه في كل ما جاء به، أخرجه أبو يعلى من طريق عبد الرزاق، "وأخرجه الطبراني" عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن عبد الرزاق. قال الحافظ: وما وجدته في مسند أحمد. قال: وقد أخرجه الطبراني أيضا عاليا عن إبراهيم بن أبي سويد عن عبد الرزاق. "و" من هذا الوجه أخرجه "البيهقي في الدلائل" النبوية. قال الحافظ: وأخرجه البيهقي أيضا من طريق أبي الأزهر فذكر القسم الأول من الرز "وفيه" بعده "اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله" مستعار من موضع القائلة لموضع الرأس في الجسد استعارة تصريحية لذكره فيه الشبه به "ويذهل الخليل عن خليله. يا رب إني مؤمن بقيله" أي بقوله بمعنى مقوله تعالى {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] . قال الدارقطني تفرد به معمر عن الزهري، وتفرد به عبد الرزاق عن معمر "و" رده الحافظ، بأنه "عند ابن عقبة في المغازي" عن شيخه الزهري. وفيه "بعد قوله قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله لكنه لم يذكر أنسا" أي فيكون عبد الرزاق تفرد بوصله. قال الحافظ: وقد صححه ابن حبان من الوجهين، وعجبت من الحاكم كيف لم يستدركه فإنه من الوجه الأول على شرط مسلم لأجل جعفر ومن الوجه الثاني على شرط الشيخين. "وزاد ابن إسحاق" في روايته عن شيخه عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: بلغني فذكره وزاد "بعد قوله: يا رب إني مؤمن بقيله، إني رأيت الحق في قوله" أي قبول قوله صلى الله عليه وسلم. "وقال ابن هشام" عبد الملك: "أن قوله: نحن ضربناكم على تأويله إلى آخر الشعر من قول عمار بن ياسر قاله" في غير هذا اليوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 يوم صفين. قالوا: ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن بمحجنه.   قال السهيلي يعني "يوم صفين" فتسمح المصنف في العز، وقال ابن هشام والدليل على ذلك أن المشركين لم يقروا بالتنزيل وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل. قال ابن كثير وفيه نظر فلم ينفرد به ابن إسحاق بل تابعه ابن عقبة وغيره وجاء من غير وجه عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس، وقال الحافظ في الفتح: إذا ثبتت الرواية فلا مانع من إطلاق ذلك، فإن التقدير على رأي ابن هشام: نحن ضربناكم على تأويله أي حتى تذعنوا إلى ذلك التأويل، ويجوز أن التقدير نحن ضربناكم على تأويل ما فهمنا منه حتى تدخلوا فيما دخلنا فيه وإذا كان ذلك محتملا وثبتت الرواية سقط الاعتراض, نعم الرواية التي جاء فيها، فاليوم نضربكم على تأويله يظهر أنها قول عمار، ويبعد أن تكون قول ابن رواحة؛ لأنه لم يقع في عمرة القضاء ضرب ولا قتال، وصحيح الرواية نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله، يشير بكل منهما إلى ما مضى، ولا مانع أن يتمثل عمار بهذا الرجز ويقول هذه اللفظة ومعنى قوله: نحن ضربناكم على تنزيله أي في عهد الرسول فيما مضى واليوم نضربكم على تأويله أي الآن. هذا وقد وقع للترمذي أنه قال: وفي غير هذا الحديث إن هذه القصة لكعب بن مالك وهو أصح لأن عبد الله بن رواحة قتل بمؤنة وكانت عمرة القضاء بعد ذلك. قال الحافظ وهو ذهول شديد وغلط مردود وما أدري كيف وقع الترمذي في ذلك مع وفور معرفته، ومع أن في قصة عمرة القضاء اختصام جعفر, وأخيه علي، وزيد بن حارثة في بنت حمزة كما يأتي، وجعفر وزيد وابن رواحة قتلوا في موطن واحد. فكيف يخفى على الترمذي مثل هذا؟ ثم وجدت عن بعضهم أن الذي عند الترمذي من حديث أنس أن ذلك كان في فتح مكة، فإن كان كذلك اتجه إعراضه لكن الموجود بخط الكروخي، راوي الترمذي هو ما تقدم, والله أعلم. انتهى. وفيه جواز بل ندب إنشاد واستماع الشعر الذي فيه مدح الإسلام، والحث على صدق اللقاء ومبايعة النفس لله سبحانه، وعدم المبالاة بالعدو، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لما أنكر عمر، على ابن رواحة: "يا عمر إني أسمع". فسكت عمر. وقال عليه السلام: "يابن رواحة قل: لا إله إلا الله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ". فقالها ابن رواحة, فقالها الناس، كما قالها وفي أمره بذلك زيادة إغاظة الكفار لتأذيهم بها أكثر من الشعر المذكور، لا سيما وقد قالوها كلهم معلنين بها "قالوا" ابن سعد وغيره: "ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى استلم الركن" الحجر الأسود "بمحجنه" بكسر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 مضطبعا بثوبه وطاف على راحلته، والمسلمون يطوفون معه وقد اضطبعوا بثيابهم. وفي البخاري، عن ابن عباس: قال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد   الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم، عصا معوجة الرأس يلتقط بها الراكب ما سقط منه "مضطبعا بثوبه" أي جعل وسطه تحت الإبط اليمين وطرفه على الكتف اليسرى "وطاف على راحلته", كما ذكر ابن سعد، والواقدي وغيرهما وزادوا من غير علة. وروى يونس بن بكير عن زيد بن أسلم أنه صلى الله عليه وسلم طاف على ناقته وعند ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس أنه طاف ماشيا وهرول ثلاثة أشواط ومشى سائرها "والمسلمون يطوفون معه" مكة طاف، فطفنا معه وأتى الصفا والمروة وأتيناهما معه، قال: وكنا نستره من أهل مكة أن يرميه أحد. وفي رواية سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوه. رواهما البخاري وفي رواية الإسماعيلي لما قدم صلى الله عليه وسلم مكة وطاف بالبيت في عمرة القضية كنا نستره من السفهاء والصبيان مخافة أن يؤذوه. وروى البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد أن رجلا سأل ابن أبي أوفى أدخل صلى الله عليه وسلم عام القضية الكعبة قال: لا. وروى الواقدي عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية وقد أرسل إليهم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك. ووقع للبيهقي من طريق الواقدي عن ابن المسيب أنه عليه السلام لما قضى طوافه في عمرة القضاء دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة بأمره صلى الله عليه وسلم ... الحديث وفيه: أن عكرمة وصفوان وخالد بن أسيد, كأمير, حمدوا الله على موت آبائهم ولم يروا هذا العبد ينهق فوق الكعبة وهو وهم، فالذي رواه أبو يعلى، وابن أبي شيبة، وابن هشام، والبيهقي نفسه من وجه آخر. وغيرهم من عدة طرق: أن دخول المصطفى الكعبة وأذان بلال على ظهرها إنما كان في فتح مكة كما يأتي. وصرح بعضهم بأنه المشهور والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف لا سيما ما في البخاري؟ وقد صرح الواقدي نفسه بأن القول بأنه لم يدخلها هو الثبت، والشامي رحمه الله أار إلى الترجيح بالعزو والتبري بقوله: كذا في هذه الرواية أنه دخل البيت وعقبه برواية البخاري أنه لم يدخله، وهذا مع ظهوره لم يتنبه له من زعم أنه لم يرجح شيئا. "في البخاري" ومسلم "عن ابن عباس" قدم صلى الله عليه وسلم، وأصحابه "فقال المشركون: إنه" أي: الشأن "يقدم عليكم وفد" أي قوم وزنا ومعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 وهنتهم حمى يثرب. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.   وفي رواية ابن السكن، بفتح القاف، وسكون الدال، وهو خطأ قاله الحافظ وصدر المصنف بأنه بالفاء الساكنة والرفع فاعل يقدم أي جماعة وعز الثانية لأبي الوقت، وتكلف توجيهها بأن ضمير أنه للنبي صلى الله عليه وسلم أي: يقدم والحال أنه قد "وهنتهم" أي الصحابة. قال الحافظ: بتخفيف الهاء وتشديدها، أي: أضعفتهم قال المصنف: ولابن عساكر وهنهم بحذف الفوقية "حمى" فعلى غير منصرف لألف التأنيث كما في المصباح "يثرب" اسم المدينة النبوية في الجاهلية، ونهى صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بذلك وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية لكلام المشركين. وروى أحمد عن ابن عباس لما نزل صلى الله عليه وسلم مر الظهران في عمرته بلغ أصحابه أن قريشا يصفونهم بالضعف، فقالوا: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة وهو بفتح الجيم أي راحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم". فجمعوا وبسطوا الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحشا كل واحد منهم في جرابه. وفي رواية الإسماعيلي فأطلعه الله على ما قالوا "فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا" بضم الميم مضارع رمل بفتح الراء، والميم وهو الإسراع، وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة وأصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته. قال الحافظ: وهو في موضع مفعول أمرهم تقول: أمرته كذا، وبكذا. "الأشواط" بفتح الهمزة بعدها معجمة، جمع شوط بفتح الشين وهو الجري إلى الغاية. والمراد الطواف حول الكعبة وفيه جواز تسمية الطوافة شوطا، ونقل عن مجاهد والشافعي كراهته. انتهى. "الثلاثة" ليرى المشركون قوتهم بهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم، ولذا قالوا كما في مسلم: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم لهؤلاء أجلد من كذا، وكذا. قال الحافظ: وفيه جواز المعاريض بالفعل، كما تجوز بالقول وربما كانت بالفعل أقوى، ولا يعد ذلك من الرياء المذموم. وأمرهم "أن يمشوا ما بين الركنين" اليمانيين حيث لا تراهم قريش إذ كانوا من قبل قعيقعان وهو لا يشرف عليهما إنما شرف على الركنين الشاميين. وعند أبي داود فكانوا إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا وإذا اطلعوا عليهم رملوا "ولم يمنعه" بالإفراد، وفي نسخ ولم يمنعهم بالجمع والأولى هي الصحيحة للعز، وللبخاري فإن روايته بالإفراد وأما بالجمع فرواية مسلم "أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" بكسر الهمزة وسكون الموحدة، بعدها قاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 وفي رواية، قال: "ارملوا" ليرى المشركون قوتهم, والمشركون من قبل قعيقعان. ومعنى قوله: "إلا الإبقاء عليهم" أي لم يمنعه من أمرهم بالرمل في جميع الطوفات إلا الرفق بهم، والإشفاق عليهم. ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه -وقد وقف الهدي عن المروة- قال: "هذا المنحر، وكل فجاج   قال: القرطبي رويناه بالرفع على أنه فاعل يمنعهم وبالنصب على أنه مفعول من أجله. وفي يمنعهم ضمير عائد على رسول الله وهو فاعله ذكره الحافظ واقتصر المصنف هنا على الرفع. وقال: في كتاب الحج أن العيني تبع ابن حجر وسبقهما الزركشي، وتعقبه الدماميني، بأن تجويز النصب مبني على أن لفظ البخاري لم يمنعهم وليس كذلك إنما فيه لم يمنعه فرفع الإبقاء متعين لأنه الفاعل، وكلام القرطبي إنما هو ظاهر في حديث مسلم لم يمنعهم فنقله إلى ما في البخاري غير متأت. "وفي رواية" للبخاري أيضا عن ابن عباس لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن "قال" لأصحابه: "ارملوا". "ليرى المشركون قوتهم" وفي رواية ابن إسحاق: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة". "والمشركون من قبل" بكسر ففتح جهة "قعيقعان" بضم القاف الأولى وكسر الثانية فعين في هذه الرواية مكانهم. وزاد الإسماعيلي فلما رملوا قال المشركون: ما وهنتهم. "ومعنى قوله: إلا الإبقاء عليهم أي لم يمنعه" عليه الصلاة والسلام "من أمرهم بالرمل في جميع الطوافات إلا الرفق بهم والإشفاق" الخوف "عليهم" من النصب هكذا قاله الحافظ، والمحوج لهذا التأويل أن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعه من ذلك إذ الإبقاء معناه الرفق كما في الصحاح فلا بد من تأويله بالإرادة ونحوها. قاله المصنف في الحج: "ثم" كما روى الواقدي عن ابن عباس "طاف" سعى "رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على راحلته" وسماه: طوافا اقتداء بقوله تعالى: {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وفيه الإشعار بأن السعي وإن لم يكن صورة عبادة لكنها مقصودة منه فليس الغرض منه مجرد الذهاب والعود وإن وقع مثله في سعي الناس، ثم إلى حوائجهم، "فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدي عند المروة" بعد أمره عليه الصلاة والسلام بإحضاره كما مر، أنه حبس بذي طوى. قال: "هذا المنحر" المستحب، "وكل فجاج" بكسر الفاء جمع فج بفتحها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 مكة منحر". فنحر عند المروة. وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج، فيقيمون على السلاح، ويأتي الآخرون يقضوا نسكهم ففعلوا. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا. وفي البخاري من حديث البراء. فلما دخلها -يعني مكة- ومضى الأجل، أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل.   وهو في الأصل الطريق الواسع فتجوز به عن بقاع "مكة منحر" كما تجوز بها عن جميع الحرم، "فنحر عند المروة وحلق هناك" ذكر صاحب الامتاع أنه حلقه معمر بن عبد الله العدوي "وكذلك فعل المسلمون". قال الواقدي وكان قد اعتمر معه قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا فأما من شهدها وخرج في القضية فاشتركوا في الهدي، وقال: "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا منهم،" أي: مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت وسعوا كما قال الواقدي: "أن يذهبوا إلى أصحابه ببطن يأجج فيقيمون على السلاح ويأتي الآخرون يقضوا نسكهم،" أي يفعلوه وإن لم يكن قضاه. يقال: قضى الدين أداه لصاحبه. "ففعلوا وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثا" كما اشترطه مع قريش في الهدنة، ولا ينافي هذا ما رواه الواقدي من مرسل عمر بن علي بن أبي طالب, وأبو الأسود عن عروة لما كان اليوم الرابع. لفظ عروة: وقال عمر لما كان عند الظهر يوم الرابع جاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، فقالا: ننشدك الله والعهد إلا ما خرجت من أرضنا فرد عليه سعد بن عبادة فأسكته صلى الله عليه وسلم وأذن بالرحيل لقول الحافظ في الفتح: كأنه دخل في أوائل النهار فلم يكمل الثلاث إلا في مثل ذلك الوقت من النهار الرابع الذي دخل فيه بالتلفيق وكان مجيئهما قرب مجيء ذلك الوقت. انتهى. وكأنه لم يصح عنده مرسل الواقدي، فلم يذكره ولم يعول عليه في جمعه. "وفي البخاري من حديث البراء" بن عازب الذي قدم المصنف صدره في الحديبية "فلما دخلها يعني مكة ومضى الأجل" أي الأيام الثلاثة، قال الكرماني: أي قرب مضيه ويتعين الحمل عليه لئلا يلزم الخلف. "أتوا" كفار قريش "عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل". وفي رواية للبخاري، أيضا فقالوا: قل لصاحبك فليرتح فذكر ذلك علي له، فقال: نعم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم, فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فحملتها.   فارتحل "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة", أمامة أو عمارة، أو سلمى، أو فاطمة، أو أمة الله، أو عائشة، أو يعلى؛ أقوال سبعة. قال الحافظ: وأمامة هو المشهور وترجم به في الإصابة وعزاه لأبي جعفر بن حبيب وابن الكلبي، والخطيب في المبهمات. قال: وصرح به في شعر لحسان، وسماها الواقدي: عمارة، وابن السكن: فاطمة فهذا كله صريح في أن المشهور أمامة كما في الفتح ومقدمته، وقول المصنف: عمارة أشهر فيه نظر. وقد قال الخطيب: انفرد الواقدي بهذا القول وإنما عمارة ابن حمزة لابنته، وكذا القول بأن اسمها: يعلى وهم فإنه ابنه ولم يعقب حمزة إلا منه أعقب خمس بنين ثم ماتوا بلا عقب كما ذكره الزبير بن بكار، ولابن عساكر، بنت حمزة "تنادي: يا عم يا عم" مرتين، قال الحافظ: كأنها خاطبته بذلك إجلالا له، وإلا فهو ابن عمها، أو بالنسبة إلى أن حمزة وإن كان عمه من النسب فهو أخوه من الرضاعة "فتناولها علي فأخذ بيدها، وقال لفاطمة" زوجه: "دونك" أي خذي. قال الحافظ: دون من أسماء الأفعال تدل على الأمر بأخذ الشيء المشار إليه "ابنة" ولابن عساكر بنت "عمك". وعند الحاكم من مرسل الحسن: فقال علي لفاطمة وهي في هودجها: أمسكيها عندك، وعند ابن سعد من مرسل محمد الباقر بإسناد صحيح بينما بنت حمزة تطوف في الرجال إذ أخذ علي بيدها فألقاها إلى فاطمة في هودجها. وفي رواية أبي سعيد السكري أن فاطمة قالت لعلي: إنه صلى الله عليه وسلم شرط أن لا يصيب منهم أحدا إلا رده عليهم. فقال لها علي: إنها ليست منهم إنما هي منا "فحملتها" كذا في نسخ المصنف، والذي في البخاري: حملتها. قال الحافظ: كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي، وكأن الفاء سقطت وقد ثبتت في رواية النسائي من الوجه الذي أخرجه منه البخاري، وكذا لأبي داود من طريق آخر، وكذا لأحمد من حديث علي ولأبي ذر عن السرخسي، والكشميهني: حمِّليها بتشديد الميم المكسورة، وبالتحتانية بصيغة الأمر، وللكشميهني في الصلح: احمليها بألف بدل التشديد. انتهى. ونسبها المصنف للأصيلي هنا، ثم ظاهر حديث الصحيح أنها خرجت بنفسها، وفي مغازي سليمان التيمي أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى رحله وجد بنت حمزة، فقال لها: ما أخرجك؟ قالت: رجل من أهلك ولم يكن صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجها، وفي حديث علي عند أبي داود أن زيد بن حارثة أخرجها من مكة، وفي حديث ابن عباس عند الواقدي أن بنت حمزة وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدمها صلى الله عليه وسلم كلمه علي، فقال: علام تترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، قال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم". الحديث.   المشركين، فلم ينهه فخرج بها فيحتمل في طريق الجمع, والله أعلم, أنه صلى الله عليه وسلم لما لم ينهه خرج بها من البيت الذي كانت فيه بمكة، ثم دفعها إلى زيد، خوفا من أذى الكفار لمزيد قربه من المصطفى ومنها أو منهم ولذا جاءوه في طلب خروج النبي عنهم، فأتى بها زيد من مكة إلى الرحال فطافت فيها فأبصرت النبي صلى الله عليه وسلم فنادته: يا عم يا عم! فألقاها علي في هودج فاطمة، وهذا لم أره لغيري لكنه مقتضى الأحاديث "فاختصم فيها" بنت حمزة "علي، وزيد، وجعفر" رضي الله عنهم أي في أيهم تكون عنده، وكان ذلك بعد أن قدموا المدينة كما في حديث علي عند أحمد، والحاكم وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فلما دنوا من المدينة كلمه فيها زيد وكان وصي حمزة وأخاه، وهذا لا ينفي أن المخاصمة وقعت بالمدينة فلعل زيدا سأله صلى الله عليه وسلم في ذلك ووقفت المنازعة بعد. ولأبي سعيد السكري في ديوان حسان أن مخاصمتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانت بعد أن وصلوا مر الظهران ذكره الحافظ، فإن صح فلعلهم اختصموا عنده مرتين وفي رواية أبي سعيد السكري اختصموا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فأيقظوا النبي صلى الله عليه وسلم من نومه "قال" ولابن عساكر: فقال "علي: أنا أخذتها" وفي رواية: أنا أخرجتها من بين أظهر المشركين "وهي ابنة عمي" زاد أبو داود: وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أحق به، "وقال جعفر": هي "ابنة" ولأبي ذر: بنت "عمي وخالتها" أسماء بنت عميس كما في حديث علي عند أحمد "تحتي" أي زوجتي. وفي رواية الحاكم: عندي "وقال" بالواو ولأبي ذر: فقال "زيد: ابنة" ولأبي ذر، وابن عساكر: بنت "أخي" وكان صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين حمزة حين آخى بين المهاجرين، كما ذكره الحاكم في الإكليل وأبو سعد في شرف المصطفى. وزاد في حديث علي عند أبي داود: أنا خرجت إليها. قال الحافظ: وكان لهؤلاء الثلاثة فيها شبهة أما زيد فللأخوة التي ذكرها ولكونه بدأ بإخراجها من مكة، وأما علي فلأنه ابن عمها وحملها مع زوجته، وأما جعفر فلكونه ابن عمها وخالتها عنده فترجح جانبه باجتماع قرابة الرجل والمرأة منها دونهما، "فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها". وفي حديث ابن عباس: فقال: "جعفر أولى بها". ولأبي داود، وأحمد: "أما الجارية فأقضي بها لجعفر". ولأبي سعيد السكري: "ادفعاها إلى جعفر فإنه أوسعكم". قال الحافظ: وهذا سبب ثالث، وقال: "الخالة بمنزلة الأم". أي: تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذه مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج، لأنهم لم يطلبوها. وقوله: "الخالة بمنزلة الأم". أي في هذا الحكم الخاص؛ لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد. ويؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة، مع كونها أقرب العصبات من النساء، فهي مقدمة على غيرها، ويؤخذ منه تقديم أقارب.   "الحديث" بقيته، وقال لعلي: "أنت مني، وأنا منك". وقال لجعفر: "أشبهت خَلقي وخُلقي". وقال لزيد: "أنت أخونا ومولانا". وقال علي: ألا تتزوج بنت حمزة؟ قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة". قال الحافظ: فطيب خواطر الجميع وإن كان قضى لجعفر، فقد بين وجهه وحاصله أن المقضي له في الحقيقة الخالة وجعفر تبع لأنه كان القائم في الطلب، وفي حديث علي عند أحمد، وكذا في مرسل الباقر، فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم دار عليه، فقال صلى عليه وسلم: "ما هذا"؟. قال: شيء رأيت الحبشة يصنعونه بملوكهم، وفي حديث ابن عباس فقال: إن النجاشي كان إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله. وهو بفتح المهملة وكسر الجيم، أي: وقف على رجل واحدة، وهو الرقص بهيئة مخصوصة. وفي حديث علي المذكور: أن الثلاثة فعلوا ذلك. "وإنما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أخذها مع اشتراط المشركين أن لا يخرج بأحد من أهلها أراد الخروج لأنهم لم يطلبوها". قاله الحافظ، وزاد أيضا فالنساء المؤمنات لم يدخلن في ذلك, لكن إنما نزل القرآن في ذلك بعد رجوعهم إلى المدينة. انتهى. وهو أظهر لاقتضاء الأول أنهم لو طلبوها ردها وهو ممتنع حيث لم يدخلن في الشرط، وقوله: "الخالة بمنزلة الأم". "أي: في هذا الحكم الخاص", وهو الحضانة "لأنها تقرب منها في الحنو والشفقة والاهتداء إلى ما يصلح الولد" كما دل عليه السياق, فلا حجة فيه لمن زعم أن الخالة ترث؛ لأن الأم ترث في حديث علي وفي مرسل الباقر، الخالة والدة، وإنما الخالة أم، وهي بمعنى قوله بمنزلة الأم لا أنها أم حقيقة "يؤخذ منه أن الخالة في الحضانة مقدمة على العمة؛ لأن صفية بنت عبد المطلب كانت موجودة حينئذ، وإذا قدمت على العمة مع كونها أقرب العصبات من النساء فهي" الخالة، "مقدمة على غيرها" العمة بالأولى "ويؤخذ منه تقديم أقارب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 الأم على أقارب الأب. انتهى. قال ابن عباس: وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم   الأم على أقارب الأب. انتهى". ما نقله من الفتح وزاد وعن أحمد رواية أن العمة مقدمة في الحضانة على الخالة، وأجيب له عن هذه القصة بأن العمة لم تطلب فإن قيل: والخالة لم تطلب. قيل: قد طلب لها زوجها، فكما أن لقريب المحضون أن يمنع الحاضنة إذا تزوجت فللزوج أيضا، أن يمنعها من أخذه فإذا وقع الرضا سقط الحرج، وفيه من الفوائد أيضا تعظيم صلة الرحم بحيث تقع المخاصمة بين الكبار في التوصل، إليها وأن الحاكم يبين دليل الحكم للخصم، وأن الخصم يدلي بحجته، وأن الحاضنة إذا تزوجت بقريب المحضون لا تسقط حضانتها إذا كانت المحضونة أنثى أخذا بظاهر هذا الحديث، قاله أحمد وعنه: لا فرق بين الأنثى والذكر ولا يشترط كونه محرما لكن مأمونا وأن الصغير لا يشتهى، ولا تسقط إلا إذا تزوجت بأجنبي وكل من طلبت حضانتها لها كانت متزوجة فرجح جانب جعفر بكونه زوج الخالة. انتهى. لكن الحق في هذه الصورة عند مالك كان للعمة لأن من شرط عدم سقوط الحضانة بالتزويج أن لا يكون هناك حاضنة خلية من الزوج، عن هذه القصة بأنها لما لم تطلب، لم يكلفها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك خصوصا وقد علمت بقدومها إذ الاختصام كان بالمدينة كما مر فلا يقال: لو كان الحق لها لأرسل لها، وإن لم تطلب. وفي رواية أبي سعيد السكري فدفعناها إلى جعفر فلم تزل عنده حتى قتل فأوصى بها جعفر إلى علي فمكثت عنده، حتى بلغت فعرضها علي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة". وذكر الخطيب في المهمات أنه صلى الله عليه وسلم، زوجها من سلمة ابن أم سلمة، وقال حين زوجها منه: "هل جزيت سلمة"؟. وذلك أنه هو الذي كان زوج أمه أم سلمة منه صلى الله عليه وسلم، وذكر أبو جعفر بن حبيب في كتاب المخبر أنها لما قدمت المدينة طفقت تسأل عن قبر أبيها، فبلغ حسان فقال: تسائل عن قرم هجان سميذع ... لدى الناس مغوار الصباح جسور فقلت لها إن الشهادة راحة ... ورضوان رب يا أمام غفور دعاه إله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة فيها رضا وسرور "قال ابن عباس": عند البخاري في مواضع "وتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة" ولابن حبان، والنسائي والطبراني عن ابن عباس: تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك يعني عمرة القضاء، وكان الذي زوجها العباس "وهو محرم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وبنى بها وهو حلال. وقد استدرك ذلك على ابن عباس وعد من وهمه، قال سعيد بن المسيب: وَهِلَ ابن عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعد ما حل. ذكره البخاري "وهل" بكسر الهاء أي: غلط.   ولأبي الأسود عن عروة بعث صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة ليخطبها له فجعلت أمرها إلى العباس وكانت أختها أم الفضل تحته فزوجه إياها. زاد ابن هشام وأصدقها العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم "وبنى" دخل "بها وهو حلال". قال ابن إسحاق: وكانت قريش وكلت حويطبا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة، فقالوا: اخرج عنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه". فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا. وعند الواقدي: وكان صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتا إنما ضربت له قبة من أديم بالأبطح فكان فيها حتى خرج من مكة ولم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها، فغضب سعد بن عبادة لما رأى من غلظ كلامهم، وقال سهيل بن عمرو: كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض أبيك والله لا يبرح منها إلا طائعا راضيا، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "يا سعد، لا تؤذ قومنا، زارونا في رحالنا". وخرج وخلف أبا رافع على ميمونة، فأقام حتى أمسى فخرج بها ومن معها ولقيت من سفهاء مكة عناء فأتاه بها بسرف، ثم بقية حديث ابن عباس هذا عند البخاري وماتت بسرف أي بعد ذلك سنة إحدى وخمسين على الصحيح، وقيل: سنة ثلاث وستين وقيل: ست وستين. "وقد استدرك ذلك" أي تزوجها وهو محرم "على ابن عباس وعد من وهمه", وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه. "قال سعيد بن المسيب" أحد كبار التابعين المشهور: "وهل ابن عباس وإن كانت خالته ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعدما حل، ذكره" أي رواه يعني قول ابن عباس وسعيد "البخاري ووهل بكسر الهاء، أي غلط" لمخالفته المروي عنها نفسها، وعن أبي رافع وكان الرسول بينهما وعن سليمان بن يسار، وهو مولاها فقد اتفقوا كلهم على أنه كان حلالا فتترجح روايتهم على رواية واحد، وأيضا فرواية من باشر الوقعة أرجح ممن لم يباشرها، ثم هذا المشهور عن ابن عباس. وعند البزار عن عائشة نحوه وكذا للدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة. وأخرج الدارقطني من طريق أبي الأسود ومطر الوراق عن عكرمة عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال قال السهيلي، وهي غريبة جدا قلت: إن ثبت ذلك عنه، فكأنه رجع وإلا فالثابت عنه في الموطأ والصحيحين والسنن أنه تزوجها وهو محرم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. رواه مسلم. وسيأتي في.   قال السهيلي: وتأول بعض شيوخنا قوله: وهو محرم بمعنى في الشهر الحرام والبلد الحرام وذلك أن ابن عباس عربي فصيح يتكلم بكلام العرب ولم يرد الإحرام بالحج، وقد قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... فدعا فلم أر مثله مجدولا فالله أعلم أراد ذلك ابن عباس أم لا؟ انتهى. "وقال يزيد بن الأصم" واسمه عروة بن عبيد بن معاوية البكائي بفتح الموحدة والتشديد، أبو عون الكوفي, نزيل الرقة, ثقة، يقال له رؤية. قال الحافظ: ولم تثبت مات سنة ثلاث ومائة، روى له مسلم والأربعة وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين "عن" خالته "ميمونة: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف" بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالفاء، ما بين التنعيم وبطن مرو وهو إلى التنعيم أقرب. "رواه مسلم" وزاد عن يزيد: وكانت خالتي، وخالة ابن عباس، وأخرج الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان عن أبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول بينهما. وروى مالك في الموطأ عن ربيعة عن سليمان بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة وهو بالمدينة قبل أن يخرج. قال البيهقي في المعرفة: وبهذا رد الشافعي رواية ابن عباس التي احتج بها الحنفية وأهل العراق على جواز نكاح المحرم وإنكاحه، وخالفهم الجمهور وأهل الحجاز محتجين بحديث مسلم عن عثمان رفعه: " المحرم لا يَنكِح ولا يُنكِح". وأما خبر ابن عباس وإن صح إسناده إليه فوهم كما قال سعيد. قال الشافعي: لأن ابن أختها يزيد يقول: نكحها حلالا ومعه سليمان بن يسار عتيقها أو ابن عتيقها وخبر اثنين أكثر من خبر واحد مع رواية عثمان التي هي أثبت من هذا كله، قال: ولئن سلمنا أن الخبرين تكافآ نظرنا فيما فعل الصحابة بعد وقد رأينا عمر، وزيد بن ثابت يردان نكاح المحرم، ولا أعلم من الصحابة مخالفا لذلك وقد روينا عن الحسن أن عليا قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولم نجز نكاحه. انتهى. "و" على تقدير أن يكون حديث ابن عباس محفوظا، فلا حجة فيه لما "سيأتي في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 الخصائص من مقصد معجزاته إن شاء الله تعالى: أن له -النبي صلى الله عليه وسلم- النكاح في حال الإحرام على أصح الوجهين عن الشافعية.   الخصائص من مقصد معجزاته إن شاء الله تعالى أن له صلى الله عليه وسلم النكاح في حال الإحرام على أصح الوجهين عند الشافعية" وهو المعتمد وقول الجمهور من غيرهم، فلا حجة فيه للكوفيين، وقولهم أنه عقد معاوضة لا يمنع المحرم منه كشراء الجارية للتسري قياس في معرض النص فلا يعتبر به، وتأويلهم لا ينكح المحرم بلا يطأ تخصيص للعام بلا دليل, والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 " ذكر خمس سرايا قبل مؤتة ": ثم سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم، في ذي الحجة سنة سبع، في خمسين رجلا، فأحدق بهم الكفار من كل ناحية، وقاتل القوم قتالا شديدا، حتى قتل عامتهم وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى.   ذكر خمس سرايا قبل مؤتة: "ثم سرية" الأخرم بخاء معجمة وراء مفتوحة وميم "ابن أبي العوجاء السلمي", هكذا قال الزهري: وتلميذه ابن إسحاق، وابن سعد بإثبات لفظ ابن، وهو الذي عزاه في الإصابة والتجريد للزهري. قال الشامي: وأغرب الذهبي في الكنى فقال أبو العوجاء: ونقله عن الزهري. انتهى. قال في الإصابة ويحتمل أن يكون هو أي الأخرم محرز بن نضلة، فارس المصطفى. انتهى. وفيه نظر لأن محرز قتل في غزوة ذي قرد كما في مسلم، وهي قبل هذه قطعا لأن أقصى ما قيل: إن ذي قرد قبل خيبر بثلاثة أيام "إلى بني سليم" بضم السين المهملة وفتح اللام "في ذي الحجة سنة سبع"، كما عند ابن سعد "في خمسين رجلا". قال ابن سعد فخرج إليهم وتقدمه عين لهم كان معهم فحذرهم فجمعوا له جمعا كثيرا فأتاهم ابن أبي العوجاء وهم معدون له فدعاهم إلى الإسلام فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا إليه فتراموا بالنبل ساعة وأتتهم الأمداد، "فأحدق" أحاط "بهم الكفار من كل ناحية وقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم" هذا لفظ ابن سعد، وأما الزهري فقال: بعث صلى الله عليه وسلم سرية عليها ابن أبي العوجاء السلمي فقتلوا جميعا وأما ابن إسحاق، فقال: غزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أصيب بها هو وأصحابه جميعا، فهذا نص في أن الأمير قتل معهم هو ظاهر قول ابن شهاب. وأما ابن سعد فيخالف ذلك فهذا الذي منعنا من تأويل قول عامتهم بجميعهم ولأن الأمير عند ابن سعد لم يقتل لقوله: "وأصيب" أي وجد "ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى" فظنوه قتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول صفر سنة ثمان. ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح -بالحاء المهملة- بالكديد -بفتح الكاف- قال في القاموس: الكديد بفتح الكاف ما بين الحرمين شرفهما الله. والبطن الواسع من الأرض, والأرض الغليظة، كالكدة بالكسر، ويوم الكديد معروف. في صفر سنة ثمان من مهاجره، فغنم.   فتركوه "ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقدموا المدينة "في أول" يوم من "صفر سنة ثمان", وقول ابن سعد فقدموا بالجمع يوهم أنه نجا منهم غير الأمير، فإما أنه اطلع على ذلك، وإما أن القادم معه اثنان أو أكثر رأوه جريحا، فعاونوه في الذهاب للمدينة والله أعلم. "ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي" الكناني، الكلبي كلب عوف بن ليث تقدم بعض ترجمته وأنه ولي إمرة خراسان زمن معاوية سنة ثمان وأربعين، واسم جده مسعر على الصحيح، ولغالب حديث أخرجه البخاري في تاريخه والبغوي عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح بين يديه لأسهل له الطريق ولأكون له عينا، فلقيني على الطريق لقاح بني كنانة وكانت نحوا من ستة آلاف لقحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فحلبت له فجعل يدعو الناس إلى الشراب فمن قال: إني صائم؟ قال: هؤلاء العاصون "إلى بني الملوح" بضم الميم وفتح اللام وكسر الواو المشددة و"بالحاء المهملة" آخره. قال ابن سعد وهم من بني ليث "بالكديد بفتح الكاف" وكسر الدال المهملة وسكون التحتية آخره دال مهملة. "قال في القاموس: الكديد بفتح الكاف ما بين الحرمين شرفهما الله" لكنه أقرب إلى مكة فإنه على اثنين وأربعين ميلا منها, وفي الصحيح هو ماء بين عسفان وقديد، "والبطن الواسع من الأرض، والأرض الغليظة كالكدة بالكسر ويوم الكديد معروف" إلى هنا كلام القاموس. ولم يثبت في جميع النسخ "في صفر سنة ثمان", كما أرخها ابن سعد "من مهاجره" بضم الميم، وفتح الجيم، مصدر ميمي بمعنى الهجرة أو اسم زمان الهجرة، لأن اسم المفعول من المزيد يستعمل بمعنى المصدر, واسم الزمان، واسم المكان. "فغنم" غالب بن عبد الله نعما. روى الواقدي عن حمزة بن عمر الأسلمي قال: كنت معهم وكنا بضعة عشر رجلا وكان شعارنا: أمت أمت. ونقل ابن كثير عن الواقدي، أنهم كانوا مائة وثلاثين. رده الشامي بأن ذاك في سرية لغالب غير هذه يعني التي تقدمت قبل عمرة القضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 ...............................................   روى ابن إسحاق ومن طريقه أحمد، وأبو داود، وابن سعد كلهم عن جندب بن مكيث الجهني، قال: بعث صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي على سرية كنت فيها وأمره بشن الغارة على بني الملوح بالكديد، فخرجنا حتى إذا كنا بقديد لقينا الحارث بن مالك الليثي فأخذناه، فقال: إني جئت أريد الإسلام وما خرجت إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا له: إن تك مسلما فلن يضرك رباط يوم وليلة وإن تك على غير ذلك كنا قد استوثقنا منك فشددناه وثاقا. ثم خلفنا عليه رجلا من أصحابنا أسود، فقلنا له: إن غارك فاحتز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكنا في ناحية الوادي وبعثني أصحابي ربيئة لهم، فخرجت حتى آتي تلا مشرفا على الحاضر، فاستندت فيه فعلوت على رأسه فنظرت إلى الحاضر، فوالله إني لمنبطح على التل إذ خرج رجل من خبائه، فقال لامرأته: إني لأرى على التل سوادا ما رأيته في أول يومي، فانظري إلى أوعيتك هل تفقدين شيئا لا تكون الكلاب جرت بعضها، قال: فنظرت، فقالت: لا والله لا أفقد شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين فناولته فأرسل سهما فما أخطأ جنبي. لفظ ابن إسحاق: وقال ابن سعد: عنه فوالله ما أخطأ بين عيني فأنزعه وثبت مكاني، فأرسل الآخر فوضعه في منكبي فأنزعه فأضعه وثبت مكاني، فقال لامرأته: لو كنا ربيئة لقوم لقد تحرك لقد خالطه سهماي لا أبا لك إذا أصبحت فابتغيهما فخذيهما لا تمضغهما الكلاب، ثم دخل وأمهلناهم حتى إذا اطمأنوا وناموا وكان في وجه السحر شننا عليهم الغارة فقتلنا منهم واستقنا النعم وخرج صريخ القوم وجاءنا دهم لا قبل لنا به ومضينا بالنعم ومررنا بابن البرصاء وصحبه فاحتملناهما معنا وأدركنا القوم حتى قربوا منا فما بيننا وبينهم إلا وادي قديد، فأرسل الله الوادي بالسيل من حيث شاء تبارك وتعالى من غير سحابة نراها ولا مطر فجاء بشيء ليس لأحد به قوة، ولا يقدر أحد أن يجاوزه فوقفوا ينظرون إلينا وإن لنسوق نعمهم ما يستطيع رجل منهم أن يجيز إلينا ونحن نحدوها سراعا حتى فتناهم فلم يقدروا على طلبنا، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم عن رجل منهم أن شعار الصحابة تلك الليلة: أمت أمت. فقال راجز من المسلمين يحدوها: أبى أبو القاسم أن تعربي ... في خضل نباتة مغلولب صفر أعاليه كلون المذهب انتهى. وربيئة بفتح الراء وكسر الموحدة بعدها تحتية فهمزة أي طليعة، والحارث بن مالك هو المعروف بابن البرصاء وهي أمه وقيل: أم أبيه, صحابي سكن مكة، ثم المدينة وله حديث واحد وهو قوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يقول: "لا تغزى مكة بعد اليوم، إلى يوم القيامة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 وفي هذا الشهر قدم خالد بن الوليد وعثمان بن أبي طلحة وعمرو بن العاصي المدينة, فأسلموا.   رواه الترمذي، وابن حبان، وصححاه والدارقطني، وعاش إلى أواخر خلافة معاوية "وفي هذا الشهر" صفر سنة ثمان "قدم خالد بن الوليد" بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أحد الأشراف كانت إليه أعنة الخيل في الجاهلية، وشهد مع قريش الحروب إلى عمرة الحديبية، كما في الصحيح أنه كان على خيل قريش طليعة، ثم صار سيف الله. روى أبو يعلى مرفوعا: "لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار". وأخرج الترمذي برجال ثقات، مرفوعا: "نعم عبد الله هذا سيف من سيوف الله". وروى أبو زرعة الدمشقي رفعه: "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكفار". وروى سعيد بن منصور عن خالد قال: اعتمر صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة, فلم أشهد قتالا وهي معي إلا تبين لي النصر. ورواه أبو يعلى بلفظ: فما وجهت في وجه إلا فتح. والأكثر أنه مات بحمص سنة إحدى وعشرين, وقيل: توفي بالمدينة النبوية. روى ابن المبارك عنه أنه قال لما حضرته الوفاة: لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي. "وعثمان بن أبي طلحة" واسمه عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار العبدري حاجب البيت، ووقع في تفسير الثعلبي، بلا سند أنه أسلم يوم الفتح، بعد أن دفع له المفتاح. قال في الإصابة: وهو منكر والمعروف أنه أسلم وهاجر مع عمرو وخالد وبه جزم غير واحد، ثم سكن المدينة وبها مات سنة ثنتين وأربعين. قال الواقدي، وابن البرقي: وقيل: استشهد بأجنادين. قال العسكري: وهو باطل. "وعمرو بن العاصي" بن وائل بن هاشم بن سعيد بالتصغير ابن سهم القرشي، السهمي أمير مصر أحد دهاة العرب في الإسلام الأربعة. ذكر الزبير بن بكار أن رجا قال له: ما أبطأ بك عن الإسلام وأنت أنت في عقلك؟ قال: كنا مع قوم لهم علينا تقدم وكانوا ممن يوازي حلومهم الجبال فلذنا بهم، فلما ذهبوا صار الأمر إلينا، نظرنا وتدبرنا فإذا حق بين, فوقع في قلبي الإسلام. مات سنة ثلاث وأربعين على الصحيح عن نحو تسعين سنة. وروى الخطيب مرفوعا: "يقدم عليكم الليلة رجل حكيم". فقدم عمرو مهاجرا "المدينة"، فأسلموا". ذكر الزبير بن بكار أنهم لما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 وقال ابن أبي خيثمة: كان ذلك سنة خمس، وقال الحاكم: سنة سبع.   قال عمرو: كنت أسن منهما فأردت أن أكيدهما فقدمتهما قبلي للبيعة فبايعا واشترطا أن يغفر لهما ما تقدم من ذنبهما فأضمرت في نفسي أن أبايع على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فلما بايعت ذكرت ما تقدم من ذنبي وأنسيت أن أقول وما تأخر. "وقال" أحمد "ابن أبي خيثمة" زهير بن حرب الحافظ ابن الحافظ، أبو بكر النسائي، ثم البغدادي. قال الخطيب: ثقة, عالم, متقن, بصير بأيام الناس, راوية للأدب, لا أعرف أغزر من فوائد تاريخه, بلغ أربعا وتسعين سنة ومات سنة تسع وثمانين ومائتين: "كان ذلك سنة خمس" قال الحافظ: هو وهم، ففي الصحيح أن خالدا كان على خيل قريش بالحديبية. "وقال الحاكم: سنة سبع" بعد خيبر، أخرج ابن إسحاق عن عمرو بن العاصي قال: لما انصرفنا عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إن أمر محمد يعلو الأمور علوا منكرا, وقد رأيت أن تلحق بالنجاشي، فإن ظهر محمد فكوننا تحت يده أحب إلينا من يد محمد وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلا يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي قلت: فاجمعوا ما يهدى وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن جعفر وأصحابه فدخل عليه، ثم خرج، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، لو دخلت على النجاشي فأعطانيه فضربت عنقه لرأت قريش أني أجمأت عنها بقتل رسول محمد فدخلت فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي أهديت إليَّ من بلادك يئا قلت له: نعم أدما كثيرا وقربته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: إني رأيت رسول عدونا خرج من عندك فأعطنيه لأقتله فإنه أصاب من أشرافنا وخيارنا، فغضب ثم ضرب أنفه بيده ضربة ظننت أنه كسره فتمنيت أن لو انشقت بي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك! والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألته قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟ قلت: أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فإنه والله لعلى الحق وليظهرن على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرج إلى أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح وهو مقبل من مكة، فقلت: أين يا أبا سليمان! فقال: والله لقد استقام الميسم, وإن الرجل لنبي, أذهب والله أسلم فحتى متى؟ فقلت: والله لقد جئت لأسلم, فقدمنا المدينة فتقدم خالد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 ثم سرية غالب أيضا إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك في صفر سنة ثمان، ومعه مائتا رجل، فأغاروا عليهم مع الصبح.   فأسلم، وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله! إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عمرو! بايع فإن الإسلام يجب ما قبله وإن الهجرة تجب ما قبلها". قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما أسلم حين أسلما. قال في الروض: من رواه الميسم بالياء فهو العلامة أي قد تبين الأمر ومن رواه المنسم بفتح الميم وبالنون فمعناه استقام الطريق ووجبت الهجرة والمنسم مقدم خف البعير كنى به عن الطريق للتوجه به فيه. انتهى. وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة هي صحابي أسلم على يد تابعي ولا يعرف مثله, والله أعلم. "ثم سرية غالب أيضا" لما رجع مؤيدا منصورا "إلى" موضع "مصاب أصحاب بشير" كأمير "ابن سعد" وكانوا ثلاثين "بفدك في صفر سنة ثمان". وروى ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم هيأ الزبير، وقال له: "سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم". وهيأ معه مائتي رجل وعقد له لواء, فقدم غالب من سرية الكديد قد ظفره الله عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: "اجلس". وبعث غالبا "ومعه مائتا رجل", سمى الواقدي، وابن سعد منهم علبة بن زيد الحارثي وأبا مسعود وكعب بن عجرة وأسامة وحويصة، وأبا سعيد الخدري "فأغاروا عليهم مع الصبح" وذلك أنه لما دنا منهم بعث الطلائع ومنهم علبة بضم المهملة وسكون اللام وفتح الموحدة في عشرة ينظرون إلى محالهم فأشرف على جماعة منهم، ثم رجع وأخبره الخبر. وروى ابن سعد: عن حويصة: بعثني صلى الله عليه وسلم في سرية مع غالب إلى بني مرة فأغرنا عليهم مع الصبح وقد أوعز إلينا أميرنا أن لا نفترق وآخى بيننا وقال: لا تعصوني فإنه صلى الل عليه وسلم قال: "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، وإنكم متى ما تعصوني فإنكم تعصون نبيكم". فآخى بيني وبين أبي سعيد الخدري فأصبنا القوم. وروي أنه لما دنا من القوم حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمرا فإنه لا رأي لمن لا يطاع ثم ألف بين كل اثنين، وقال لهم: لا يفارق أحد منكم زميله، وإذا كبرت فكبروا فلما أحاطوا بالقوم كبر غالب فكبروا معه وجردوا السيوف، فخرج الرجال فقاتلوا ساعة ووضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما. ثم سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر، بالسيء، ماء من ذات عرق إلى وجرة على ثلاثة مراحل من مكة إلى البصرة، وخمس من المدينة. في شهر ربيع الأول سنة ثمان، ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم، فأصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم. ثم سرية كعب بن عمير الغفاري.   المسلمون فيهم السيف وكان شعارهم: أمت أمت. "وقتلوا منهم قتلى وأصابوا نعما" وشاء وذرية فساقوها وكانت سهامهم عشرة أبعرة لكل رجل أو عدلها من الغنم لكل بعير عشرة. "ثم سرية شجاع" بمعجمة مضمومة وجيم "ابن وهب" بن ربيعة بن أسد "الأسدي" أبو وهب البدري من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة واستشهد باليمامة "إلى بني عامر بالسيء" بكسر السين المهملة ثم همزة ممدودة، كذا ضبطه البرهان، وتبعه الشامي والذي في الصحاح القاموس والمراصد أنه بالكسر وتشديد الياء وكذا ضبطه أبو عبيد البكري، وقال: هو "ماء" بالرفع أو الجر بدل مما قبله "من ذات عرق إلى وجره" بفتح الواو وسكون الجيم وبالراء فهاء تأنيث موضع بين مكة والبصرة أربعون ميلا، كما في القاموس "على ثلاثة مراحل من مكة إلى البصرة وخمس من المدينة". قال البكري: وزعم أن وجرة ماء لبني سليم على ثلاثة مراحل من مكة "في شهر ربيع الأول سنة ثمان ومعه أربعة وعشرون رجلا إلى جمع من هوازن" يقال لهم: بنو عامر "وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن" بضم الميم وفتحها "النهار حتى صبحهم" وهم غافلون، ونهى أصحابه أن يمنعوا في الطلب "فأصابوا نعما" كثيرا كما في الرواية "وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، وكانت غيبتهم خمس عشرة ليلة، واقتسموا الغنيمة وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا وعدلوا البعير بعشر من الغنم". رواه كله ابن سعد من مرسل عمرو بن الحكم. "ثم سرية كعب بن عمير" بضم المهملة وفتح الميم وسكون التحتية فراء "الغفاري" بكسر المعجمة وخفة الفاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 إلى ذات أطلاح، وراء ذات القرى، في ربيع الأول سنة ثمان في خمسة عشر رجلا، فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت رجل جريح في القتلى. قال مغلطاي: قيل: هو الأمير. فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك عليه، وهم بالبعث إليهم فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم.   قال أبو عمر من كبار الصحابة "إلى ذات أطلاح" بفتح الهمزة وسكون الطاء، وبالحاء المهملتين من أرض الشام "وراء ذات القرى" الذي عند غيره: وراء وادي القرى، وقد مر له نظير ذلك في سرية حسمي والانتقاد عليه بأنه ليس ثم محل يقال له: ذات القرى، وأنه يمكن تأويله أنه لم يرد المعنى العلمي بل الإضافي بتقدير مضاف موصوف ذات هو وراء أرض ذات القرى "في ربيع الأول سنة ثمان" كما أرخها ابن سعد. قال: حدثنا محمد بن عمر حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري قال: بعث صلى الله عليه وسلم كعبا "في خمسة عشر رجلا فساروا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح، فوجدوا جمعا كثيرا" وذلك أنه كان يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة الصحابة فجاءوا على الخيل، وفي حديث الزهري فدعوهم إلى الإسلام، فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل "فقاتلهم الصحابة أشد القتال حتى قتلوا". قال أبو عمر: قتلوهم ببضاعة "وأفلت" أي تخلص ونجا "منهم رجل جريح في القتلى". "قال مغلطاي: قيل: هو الأمير" قائله ابن سعد ونسبه الشامي للواقدي وفيه نظر. ففي الإصابة أن ابن سعد ذكر أن أصحابه قتلوا جميعا وتحامل هو حتى بلغ المدينة كذا قال، وقد ساق شيخه الواقدي القصة وأبهم الرجل الذي تحامل، وهكذا ذكره ابن إسحاق عن عبد الله ابن أبي بكر، وأن كعب بن عمير قتل يومئذ، وكذا ذكر ابن عقبة عن الزهري, وأبو الأسود عن عروة، وبه جزم أبو عمر. انتهى. ولذا مرضه مغلطاي، وقال البرهان: هذا الرجل لا أعرف اسمه "فلما برد" بفتح الراء وضمها "عليه الليل تحامل حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر فشق ذلك عليه وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر فتركهم". قال بعض ولم أقف على سبب هذه السرية والله سبحانه أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 " باب غزوة مؤتة ": ثم سرية مؤتة -بضم الميم وسكون الواو- بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم المبرد، وجزم ثعلب والجوهري وابن فارس بالهمز، وحكى غيرهم الوجهين. وهي من عمل البلقاء بالشام، دون دمشق.   باب غزوة مؤتة: "ثم سرية مؤتة" ترجمها البخاري وابن إسحاق في طائفة غزوة مؤتة وفي بعض الروايات تسميتها غزوة جيش الأمراء وذلك لكثرة جيش المسلمين فيها وما لاقوه من الحرب الشديد مع الكفار، وسماها المصنف وغيره سرية لأنها طائفة من جيشه صلى الله عليه وسلم بعثها ولم يخرج معها، وموتة قال الحافظ: في الفتح "بضم الميم وسكون الواو بغير همز لأكثر الرواة، وبه جزم" من أهل اللغة "المبرد" أبو العباس محمد بن يزيد عبد الأكبر إمام العربية المشهور. ولد سنة عشر ومائتين ومات سنة اثنتين، وقيل: خمس وثمانين. قال السيرافي: لما صنف المازني كتاب الألف واللام، سأل المبرد عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له: قم فأنت المبرد بكسر الراء المثبت للحق فغيره الكوفيون وفتحوا الراء. انتهى. ومن الرواة من همزها "وجزم ثعلب" العلامة المحدث شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم البغدادي المقدم في نحو الكوفيين ولد سنة مائتين. قال الخطيب: كان ثقة دينا حجة صالحا مشهورا بالحفظ مات في جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين ومائتين المعدود في الحفاظ لقوله سمعت من عبيد الله القواريري مائة ألف حديث "والجوهري" الإمام أبو نصر إسماعيل بن حماد مات في حدود الأربعمائة "و" أحمد بن زكريا "ابن فارس" أبو الحسين الرازي اللغوي الفقيه المالكي الإمام في علوم شتى صاحب التصانيف، المتوفى سنة تسع وقيل: خمس وسبعين وثلاثمائة "بالهمز". "وحكى غيرهم" وهو صاحب الوافي كما في الفتح "الوجهين وهي من عمل البلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف والمد مدينة معروفة "بالشام،" هكذا ضبطها البرهان بالمد وهو ظاهر القاموس، وفي الشامي أنها مقصورة "دون دمشق"، وفي الفتح قال ابن إسحاق: هي بالقرب من البلقاء، وقال غيره على مرحلتين من بيت المقدس. قال: وأما المؤتة التي وردت الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز. انتهى. وفي الروض مؤتة مهموزة الواو قرية من أرض البلقاء بالشام، وأما الموتة بلا همز فضرب من الجنون وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 في جمادى الأولى سنة ثمان. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى ملك بصرى، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله، ولم يقتل لرسول صلى الله عليه وسلم رسول غيره. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة.   ونفخه ونفثه". وفسره الراوي، فقال: نفثه: الشعر, ونفخه: الكبر, وهمزه: الموتة. انتهى. "في جمادى الأولى سنة ثمان" كما في مغازي أبي الأسود عن عروة، وكذا قال ابن إسحاق، وموسى بن عقبة وأهل المغازي لا يختلفون في ذلك إلا ما ذكر خليفة في تاريخه أنها كانت سنة سبع. قاله الحافظ: ووقع في جامع الترمذي أنها كانت قبل عمرة القضاء. قال البرهان وهو غلط بلا شك "و" سبب "ذلك" كما جزم به اليعمري ومرضه الحافظ، فقال: يقال: سببها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أرسل الحارث بن عمير الأزدي"، ثم اللهبي بكسر اللام وسكون الهاء الصحابي "بكتاب إلى ملك بصرى،" أي أميرها من جهة هرقل وهو الحارث بن أبي شمر الغساني وعلى هذا اقتصر الفتح، وصدر العيون بأنه أرسله بالكتاب إلى ملك الروم، "فلما نزل موتة عرض" تصدى "له" ومنعه من الذهاب "شرحبيل" بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء وكسر الموحدة اسم أعجمي لا ينصرف "ابن عمرو الغساني" بفتح المعجمة ومهملة مشددة كافر معروف من أمراء قيصر على الشام. قال البرهان: والظاهر هلاكه على شركه، "فقتله" صبرا وذلك أنه قال أين تريد؟ فقال: الشام. قال: فلعلك من رسل محمد؟ قال: نعم. فأمر به فأوثق رباطه ثم قدمه فضرب عنقه "ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره فأمَّر" بشد الميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة" بمهملة ومثلثة مولاه وحبه أبا أسامة البدري. قال سلمة بن الأكوع: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات وغزوت مع زيد بن حارثة سبع غزوات يؤمره علينا. أخرجه أبو مسلم الكجي، والإسماعيلي، وأبو نعيم والطبراني بهذا اللفظ وهو في الصحيح بإبهام عدد غزوه مع زيد. قال الحافظ: وقد تتبعت ما ذكره أهل المغازي من سرايا زيد فبلغت سبعا كما قال سلمة: أولها في جمادى الآخرة سنة خمس، قبل نجد في مائة راكب، والثانية في ربيع الآخر سنة ست الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 على ثلاثة آلاف وقال: "إن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة فإن قتل فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم". وفي حديث عبد الله بن جعفر عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: "إن قتل زيد فأميركم جعفر". الحديث.   إلى بني سليم، والثالثة في جمادى الأولى منها في مائة وسبعين يلقى عيرا لقريش، والرابعة في جمادى الآخرة منها إلى بني ثعلبة, والخامسة إلى حسمى بكسر الحاء وسكون السين المهملتين مقصور في خمسمائة إلى جذام بطريق الشام كانوا قطعوا الطريق على دحية وهو راجع من عند هرقل، والسادسة إلى وادي القرى، والسابعة إلى ناس من بني فزارة وكان خرج قبلها في تجارة فخرج عليه ناس منهم فضربوه وأخذوا ما معه فجهزه إليهم فأوقع بهم. انتهى. وهذه الثامنة التي استشهد فيها أميراه كما رواه ابن إسحاق عن عروة "على ثلاثة آلاف" وذلك لأنه لما بلغه قتل رسوله اشتد عليه الأمر وندب الناس، "وقال" كما في الصحيح عن ابن عمر: "إن قتل فجعفر بن أبي طالب" أميرهم، كما ثبت بهذا اللفظ عند ابن عقبة عن الزهري، "فإن قتل فعبد الله بن رواحة" الأمير، "فإن قتل فليرض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم" أميرا، وفي نسخة: يجعلوه بحذف النون للتخفيف إذ ليس ثم ناصب ولا جازم. وروى الواقدي أنه كان ثم يهودي اسمه النعمان، قال: يا أبا القاسم إن كنت نبيا فسميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا لأن أنبياء بني إسرائيل، كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم، ثم قالوا: إن أصيب فلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا، ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع إلى محمد إن كان نبيا، قال زيد: فأشهد أنه رسول صادق بار، "وفي حديث عبد الله بن جعفر" بن أبي طالب الهاشمي أحد الأجواد ولد بأرض الحبشة ومات سنة ثمانين وهو ابن ثمانين. روى له الستة صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما "عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: "إن قتل زيد فأميركم جعفر". الحديث. والغرض منه بيان المحذوف في الرواية الأولى، فأفاد هذا أن قوله فيها: فجعفر خبر مبتدأ محذوف للعمل به, وأفادت رواية الزهري التي أسلفناها أنه مبتدأ حذف خبره فأفادت الروايتان جواز الأمرين. وروى أحمد، والنسائي وصححه ابن حبان من حديث أبي قتادة، قال: بعث صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء، وقال: "عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد، فجعفر". الحديث، وفيه: فوثب جعفر وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ زيدا، قال: "امض فإنك لا تدري أي ذلك خير". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 قالوا: وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله وقاتلوهم. وخرج مشيعا لهم، حتى بلغ ثنية الوداع فوقف وودعهم.   قال الحافظ: وفيه جواز تعليق الإمارة بشرط وتولية عدة أمراء بالترتيب، واختلف هل تنعقد ولاية الثاني في الحال أم لا والذي يظهر انعقادها في الحال لكن بشرط الترتيب وقيل: تنعقد لواحد لا بعينه وتتعين لمن عينه الإمام على الترتيب وقيل تنعقد للأول فقط، وأما الثاني فبطريق الاختيار واختيار الإمام يقدم على غيره لأنه أعرف بالمصلحة العامة وفيه جواز التآمر في الحرب بغير تأمير الإمام. قال الطحاوي: وهذا أصل يؤخذ منه أن على المسلمين تقديم رجل إذا غاب الإمام يقوم مقامه إلى أن يحضر وجواز الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم ظاهر من أعلام النبوة. انتهى. "قالوا: وعقد لهم صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه إلى زيد وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير" وهو مؤتة كما مر، وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يأتوا مؤتة فركبتهم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا عليها، فإن صح احتمل أن المراد بمقتل الحارث الأرض التي قتل فيها لا خصوص المكان الذي قتل به، فلا ينافي النهي أوان موضع قتله ليس في خصوص مؤتة بل في جهتها "وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا" فأقول لكم "استعينوا" بصيغة الأمر فلا يرد وجوب الفاء في جواب الشرط الطلبي، وفي لفظ استعانوا "عليهم بالله وقاتلوهم" فأسرع الناس بالخروج وعسكروا بالجرف بضم الجيم والراء، وسكونها. وروي بمعجمتين على ثلاثة أميال من المدينة لجهة الشام "وخرج" صلى الله عليه وسلم "مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع" بفتح الواو. سميت بذلك لتوديع المصطفى هذه السرية عندها، أو لأن المسافر كان يودع عندها قديما، وصححه عياض "فوقف وودعهم" وهذا أصل في الخروج مع المسافر إلى خارج البلد. وروى الواقدي عن زيد بن أرقم رفعه: "أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا بسم الله في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء". وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، ودع الناس الأمراء فلما ودع ابن رواحة بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 فلما ساروا نادى المسلمون: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم، وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف، وقدم الطلائع أمامه. وقد نزل المسلمون معان.   {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، قال: "فلما ساروا نادى المسلمون دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة": "لكنني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا" أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنقذ الحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا وذات فرغ بفتح الفاء وسكون الراء وغين معجمة، أي واسعة يسيل دمها كما في العيون، والزبد فتح الزاي والموحدة وبمهملة رغوة الدم. قال ابن إسحاق وأتى ابن رواحة رسول الله فودعه، ثم قال: فثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصر كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفت فيك الذي نظروا أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر وروى غيره أنه صلى الله عليه وسلم قال له: قل شعرا تقتضبه اقتضابا وأنا أنظر إليك من غير روية، فقال: إني تفرست الأبيات حتى انتهى إلى قوله: فثبت الله. قال صلى الله عليه وسلم: "وأنت فثبتك الله يابن رواحة". وعند أحمد، والترمذي عن ابن عباس أن ابن رواحة تخلف حتى صلى الجمعة معه صلى الله عليه وسلم فلما صلى رآه، فقال: "ما منعك أن تغدو مع أصحابك". قال: أردت أن أصلي معك الجمعة، ثم ألحقهم. فقال صلى الله عليه وسلم: "لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم". وفي رواية: "لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها". "فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا لهم وقام شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف وقدم الطلائع أمامه" فلما نزل المسلمون وادي القرى بعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين من المشركين، فاقتتلوا وانكشف أصحاب سدوس وقد قتل، "وقد نزل المسلمون معان" لما ساروا من وادي القرى نزلوا بغار فبلغهم كثرة العدو فأقاموا على معان ليلتين "بفتح الميم" على ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 بفتح الميم موضع من أرض الشام، وبلغ الناس كثرة العدو وتجمعهم، وأن هرقل نزل بأرض البلقاء في مائة ألف من المشركين, فأقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي، فمضوا إلى مؤتة. ووافاهم المشركون فجاء منهم من لا قبل لأحد به من العَدد والعُدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب.   صوبه الوقشي وغيره، وقال البكري: بضمها نقله عنه الروض وغيره ونقل عنه مغلطاي فتحها. قال الشامي: فكان نسخ معجمة مختلفة والعين مهملة فألف فنون "موضع من أرض الشام" وفي الروض، قال البكري: هو اسم جبل والمعان أيضا حيث تحبس الخيل والركاب، ويجوز أنه من أمعنت النظر أو من الماء المعين فوزنه فعال أو من أمعنت النظر فوزنه مفعل، وقد جنس المعري به فقال: معان من أحبثنا معان تجيب الصاهلات بها القيان "وبلغ الناس" الصحابة كثرة العدو وتجمعهم وأن هرقل نزل بأرض البلقاء في مائة ألف من المشركين" أي الروم كما عبر به ابن إسحاق، وزادوا تضم إليهم من لخم وجذم والقيس وبهراء وبلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى، يقال له مالك بن رافلة. انتهى. ولعل هؤلاء الذين جمعهم شرحبيل، "فأقاموا ليلتين" على معان "لينظروا في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر". زاد ابن إسحاق: فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له "فشجعهم عبد الله بن رواحة على المضي" قال ابن إسحاق: وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم إياها تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، "فمضوا إلى مؤتة ووافاهم" أتاهم "المشركون فجاء منهم من لا قبل" طاقة "لأحد به من العَدد" الكثير الزائد على مائتي ألف "والعُدد" بضم العين "والسلاح والكراع" بضم الكاف جماعة الخيل خاصة "والديباج، والحرير، والذهب" إظهارا للشدة والقوة بكثرة أموالهم وآلات حروبهم، وفي هذا فرط شجاعة الصحابة وقوة قلوبهم وتوكلهم على ربهم وعدم مبالاتهم بأنفسهم، لأنهم باعوها لله سبحانه إذا قدم ثلاثة آلاف على أكثر من مائتي ألف أصحاب حروب وشدة إنما هو لما وقر في قلوبهم واطمأنت عليه نفوسهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 والتقى المسلمون والمشركون. فقاتل الأمراء يومئذ على أرجلهم، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم حتى قتل طعنا بالرماح. ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل، ضربه رجل من الروم فقطعه نصفين، فوجد في أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون ضربة بسيف وطعنة برمح. قال في رواية البخاري: ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة ورمية.   إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا وإن جندنا لهم الغالبون، وكان حقا علينا نصر المؤمنين، "والتقى المسلمون والمشركون فقاتل الأمراء" الثلاثة "يومئذ على أرجلهم" قد يشعر تخصيصهم إن من عداهم قاتلوا على حالهم التي كانوا عليها من كونهم مشاة أو ركبانا، "فأخذ اللواء زيد بن حارثة" أي حمله على العادة من أن الحامل له أمير الجيش كما مر، وقد يدفعه لمقدم العسكر وإلا فهو معه من حين دفعه له صلى الله عليه وسلم، "فقاتل وقاتل المسلمون معه على صفوفهم". ذكر ابن إسحاق أنهم جعلوا على الميمنة قطبة بن قتادة العذري وعلى ميسرتهم عباية بن مالك الأنصاري "حتى قتل طعنا بالرماح، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب". قال ابن إسحاق: وأتباعه فقاتل به على فرس فألحمه القتال أي أحاط به ولم يجد له مخلصا "فنزل عن فرس له شقراء وقاتل حتى قتل" قال بن هشام وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. قال اليعمري: أو أربع وثلاثين وفي الإصابة كان أسن من علي بعشر سنين، فاستوفى أربعين سنة وزاد عليها على الصحيح، وجزم ابن عبد البر بأن سنه كان إحدى وأربعين سنة "ضربه رجل من الروم" ضربة "فقطعه نصفين فوجد في أحد نصفيه بضعة وثمانون جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنتان وسبعون" ليس فيه أنها زائدة على ما في أحد نصفيه فيجوز أنها من جملة ما كان فيه "ضربة بسيف وطعنة برمح" تمييز للعدد أي بعض جراحه بسيف وبعضها برمح. "قال في رواية البخاري" من طريق عبد الله بن سعد عن نافع عن ابن عمر. قال: كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى "ووجدنا ما في جسده بضعا وتسعين من طعنة" برمح "ورمية" بسهم، وكذا أخرجه ابن سعد من طريق اليعمري عن نافع عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 وفي رواية: أن ابن عمر قال وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل قال: فعددت به خمسين بين ضربة وطعنة ليس منها شيء في دبره. وذكر ابن إسحاق بإسناد حسن، وهو عند أبي داود من طريقه عن رجل من بني مرة قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب، حتى اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها.   "وفي رواية" للبخاري أيضا من طريق سعيد بن هلال عن نافع "أن ابن عمر" أخبره "قال: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، قال: فعددت به خمسين بين ضربة" بسيف "وطعنة" برمح "ليس منها" وللكشميهني فيها "شيء في دبره" بضم الموحدة بيان لفرط شجاعته وإقدامه. زاد بعض الرواة في البخاري يعني في ظهره، أي لم يكن منها شيء في حال الإدبار، بل كلها في حال الإقبال لمزيد شجاعته. وكذا رواه سعيد بن منصور عن أبي معشر عن نافع مثله خمسين. قال الحافظ: وظاهرهما التخالف ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم أو بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، فإن ذلك لم يذكر في الرواية الأخرى أو الخمسين مقيدة بأنها ليس فيها شيء في دبره، أي ظهره وقد يكون الباقي في بقية جسده ولا يستلزم ذلك أنه ولى دبره وإنما هو محمول على أن الرمي جاءه من جهة قفاه أو طنبه لكن يؤيد الأول أن في رواية اليعمري عن نافع فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده بعد أن ذكر أن العدد بضع وتسعون. ووقع للبيهقي في الدلائل بضع وسبعون أي بسين فموحدة وأشار إلى أن بضعا وتسعين أي فوقية فسين أثبت, وللإسماعيلي عن الهيثم بن خلف عن البخاري بضعا وتسعين أو بضعا وسبعين بالشك ولم أر ذلك في شيء من نسخ البخاري. انتهى. "وذكر" أي روى "ابن إسحاق بإسناد حسن" قال حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد. قال: حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف "وهو عند أبي داود من طريقه", فقال: حدثنا النفيلي قال: حدثنا محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق، فذكره "عن رجل من بني مرة" وإبهام الصحابي لا يضر لعدالة جميعهم "قال والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب حين اقتحم" أي رمى بنفسه في هذا الأمر العظيم "عن فرس له شقراء فعقرها". هكذا الرواية في السيرة وسنن أبي داود بفتح المهملة والقاف، وبالراء أي ضرب قوائمها وهي قائمة بالسيف وفي رواية لابن عقبة، والواقدي، وابن إسحاق أيضا فعرقبها أي قطع عرقوبها وهو الوتر الذي بين مفصل الساق والقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 ثم قاتل حتى قتل. قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل. فأخذ اللواء ابن أقرم.   قال ابن إسحاق: فكان جعفر أول مسلم عقر في الإسلام. قال في الروض: ولم يعب ذلك عليه أحد فدل على جوازه إذا خيف أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين، فلم يدخل هذا في النهي عن تعذيب البهائم وقتلها عبثا غير أن أبا داود قال: ليس هذا الحديث بالقوي، وقد جاء فيه نهي كثير عن الصحابة. انتهى, وكأنه يريد ليس بصحيح وإلا فهو حسن كما جزم به الحافظ وتبعه المصنف، "ثم قاتل حتى قتل" وهو يقول كما في بقية ذا الحديث الحسن: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردا شرابها والروم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها علي إذ لاقيتها ضرابها "قالوا: ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فقاتل حتى قتل" قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد عن أبيه قال: حدثني أبي الذي أرضعني أحد بني مرة بن عوف، فلما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية, ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. ثم قال: أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه أن أجلب الناس وشدوا الرنه ... ما لي أراك تكرهين الجنه قد طالما قد كنت مطمئنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه وقال: يا نفس ألا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت قد أعطيتي ... أن تفعلي فعلهما هديت يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، فلما نزل أتاه ابن عمه بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت أيامك هذه، ما لقيت فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في الناس، فقال: وأنت في الدنيا ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل. وروى سعيد بن منصور عن سعيد بن أبي هلال قال: بلغني أنهم دفنوا يومئذ زيدا, وابن رواحة، وجعفرا في حفرة واحدة، وفي الصحيح وما يسرهم أنهم عندنا أي لما رأوا من فضل الشهادة "فأخذ اللواء" ثابت "بن أقرم" بفتح أوله وسكون القاف وبالراء، والميم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 العجلاني، إلى أن اصطلح الناس على خالد بن الوليد، فأخذ اللواء، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين. وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة.   ابن ثعلبة بن عدي بن العجلان "العجلاني" بفتح المهملة وسكون الجيم بطن من الأنصار. قال في الإصابة البلوى حليف الأنصار. ذكره ابن عقبة في أهل بدر. قال في رواية ابن إسحاق: فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلحوا على خالد وعند بن سعد أن ثابتا مشى باللواء إلى خالد، فقال: لا آخذه منك أنت أحق به، فقال الأنصاري: والله ما أخذته إلا لك. وروى الطبراني عن أبي اليسر قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب ابن رواحة، فدفعها إلى خالد وقال: أنت أعلم بالقتال مني فحاصل هذه الروايات أن أبا اليسر أخذها ودفعها إلى ثابت فذهب بها لخالد فلم يقبلها فنادى يا معشر المسلمين فجاءوا "إلى أن اصطلح" اجتمع "الناس على خالد بن الوليد" وسلموها له "فأخذ اللواء". وفي الصحيح حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم، وفي رواية ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه. ثم قال: قال صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره فمن يومئذ سمي سيف الله، وفي رواية فأخذها خالد من غير إمرة، والمراد نفي كونه منصوصا عليه وإلا، فقد ثبت أنهم اتفقوا عليه "وانكشف الناس، فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون، فقتل من قتل من المسلمين" وهم اثنا عشر رجلا جعفر, وزيد، ومسعود بن أوس، ووهب بن سعد، وعبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس، والحارث بن النعمان، وسراقة بن عمر ذكرهم ابن إسحاق. زاد ابن هشام عن الزهري أبا كليب، وجابر بن عمر بن زيد، وعمرا وعامرا ابني سعد بن الحارث وزاد ابن الكلبي، والبلاذري، هو بجة بفتح الهاء وسكون الواو، وفتح الموحدة والجيم وتاء تأنيث الضبي، وأنه لما قتل فقد جده وفي هذا عناية من الله بالإسلام وأهله ومزيد إعزاز ونصر لهم إذ جيش عدته ثلاثة آلاف يلقون أكثر من مائتي ألف فلا يقتل منهم إلا ثلاثة عشر مع أنهم اقتتلوا مع المشركين سبعة أيام، كما رواه القراب في تاريخه عن بردع بن زيد. كذا ذكر ابن سعد وغيره أن الهزيمة كانت على المسلمين، "وقال الحاكم: قاتلهم خالد بن الوليد، فقتل منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة"، فإنما كانت الهزيمة على المشركين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 وقال ابن سعد: إنما انهزم المسلمون. وقال ابن إسحاق: انحازت كل طائفة من غير هزيمة.   وهذا ظاهر حديث الصحيح كما أسلفته قريبا وفيه أيضا عن خالد لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية بتخفيف الياء وحكي شدها، وهذا يقتضي أن المسلمين قتلوا من المشركين كثيرا. وقد روى أحمد ومسلم وأبو داود عن عوف بن مالك أن رجلا من أهل اليمن رافقه فقتل روميا وأخذ سلبه فاستكثره خالد فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على أن ذلك كان بعد قيام خالد بالإمرة، وهو يرجح أنه لم يقتصر على حوز المسلمين والنجاة بهم بل باشر القتال. "وقال ابن سعد إنما انهزم المسلمون" هو الذي قدمه قبل قول الحاكم. فلو قال عقب قوله من المسلمين. قاله ابن سعد لكفى. "وقال ابن إسحاق انحازت كل طائفة" عن الأخرى "من غير هزيمة". قال: أعني ابن إسحاق وقد وقع كذلك في شعر القيس بن المسحر فذكره، ثم قال فبين ما اختلل فيه الناس أن القوم تحاجزوا وكرهوا الموت وحقق انحياز خالد بمن معه، قال اليعمري: وهو المختار. لكن قال الشامي وافق ابن إسحاق شرذمة فسمي فتحا ونصرا باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو وتكاثرهم عليهم وكان مقتضى العادة أن يقتلوا بالكلية وهو محتمل لكنه خلاف ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "يفتح على يديه". والأكثرون على أن خالدا والمسلمين قاتلوا المشركين حتى هزموهم، ففي حديث أبي عامر عند ابن سعد أن خالدا لما حمل اللواء حمل على القوم فهزمهم أسوأ هزيمة ما رأيتها قط حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا ونحوه عن الزهري وعروة، وابن عقبة، وعطاف بن خالد، وابن عائذ وغيرهم، وهو ظاهر الحديث. انتهى ملخصا، وقال في فتح الباري: اختلف أهل النقل في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى فتح الله عليهم". هل كان هناك قتلا فيه هزيمة للمشركين، أو المراد بالفتح انحيازه بالمسلمين حتى رجعوا سالمين. ففي رواية ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن عروة: فجاش خالد الناس ودافع وانحاز وانحيز عنه، ثم انصرف بالناس، وهذا يدل على الثاني ويؤيده ما عند سعيد بن منصور عن سعيد ابن أبي هلال بلاغا، قال: فأخذ خالد الراية فرجع بالمسلمين على جهة، ورمى واقد بن عبد الله التميمي المشركين حتى ردهم الله. وذكر ابن سعد عن أبي عامر أن المسلمين انهزموا لما قتل ابن رواحة حتى لم أر اثنين جميعا، ثم اجتمعوا على خالد وعند الواقدي من طريق عبيد الله بن الحارث بن فضيل عن أبيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 ورفعت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم. وعن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني, وكان أحد بني مرة قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل، أخرجه البغوي في معجمه.   قال: لما أصبح خالد بن الوليد جعل مقدمته ساقة وميمنته ميسرة فأنكر العدو حالهم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا وانكشفوا منهزمين وعنده من حديث جابر قال: أصيب بمؤتة ناس من المشركين وغنم المسلمون بعض أمتعتهم، وفي مغازي أبي الأسود عن عروة فحمل خالد على الروم فهزمهم، وهذا يدل على الأول وهو وإن كان ضعيفا من جهة الواقدي وابن لهيعة الراوي عن أبي الأسود، ففي مغازي موسى بن عقبة وهي أصح المغازي ما نصه: ثم اصطلح المسلمون على خالد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين ويمكن الجمع بأنهم هزموا جانبا من المشركين، وخشي خالد أن تتكاثر الكفار عليهم فانحاز بهم عنهم حتى رجع بهم إلى المدينة. وقال العماد بن كثير يمكن أن خالدا لما حاز المسلمين وبات، ثم أصبح وقد غير تعبية العسكر، كما تقدم وتوهم العدو أنهم جاءهم مدد، حمل عليهم خالد حينئذ فولوا ولم يتبعهم ورأى الرجوع بالمسلمين هي الغنيمة الكبرى، ثم وجدت في مغازي ابن عائذ بسند منقطع أن خالدا لما أخذ الراية قاتلهم قتالا شديدا حتى انحاز الفريقان عن غير هزيمة، وقفل المسلمون فمروا على طريقهم بقرية بها حصن كانوا في ذهابهم قتلوا من المسلمين رجلا، فحاصروهم حتى فتحه الله عليهم عنوة وقتل خالد مقاتلتهم، فسمي ذلك المكان نقع الدم إلى الآن، انتهى. "ورفعت الأرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظر إلى معترك القوم" كما في مغازي ابن عقبة، "وعن عباد" بفتح المهملة وشد الموحدة "ابن عبد الله بن الزبير" بن العوام كان قاضي مكة زمن أبيه وخليفته إذا حج, ثقة أخرج له الستة، "قال: حدثني أبي الذي أرضعني" يعني أنه أبوه من الرضاعة "وكان أحد بني مرة" بن عوف، "قال: شهدت مؤتة مع جعفر بن أبي طالب وأصحابه فرأيت جعفرا حين التحم القتال اقتحم" نزل "عن فرس له شقراء" قيل هذا يفعله الفارس من العرب إذا أرهق أي غشيه العدو وعرف أنه مقتول فينزل ويجادل العدو راجلا، "ثم عقرها وقاتل القوم حتى قتل". "أخرجه البغوي" الحافظ الكبير الثقة مسند العالم أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغدادي طال عمره، وتفرد في الدنيا حتى توفي ليلة عيد الفطر سنة سبع عشرة وثلاثمائة عن مائة وثلاث سنين "في معجمه" في الصحابة وهو متقدم على محيي السنة صاحب المصابيح، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 وقطعت في تلك الوقعة يداه جميعا ثم قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء". خرجه أبو عمر. وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها: لما قتل ابن رواحة وابن حارثة وجعفر بن أبي طالب جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن ... الحديث.   وكان المصنف أعاد الحديث مع أنه قدمه قريبا عن ابن إسحاق, وأبو داود لأجل عزوه له لقول ابن أبي حاتم: أبو القاسم يدخل في الصحيح ومراده بذلك دفع قول أبي داود: إسناده ليس بالقوي ويقع في نسخ، وعن عبد الله بإسقاط عباد وهو خطأ، فالحديث في الروايتين إنما هو له عن رجل من بني مرة لا لأبيه عن الرجل، "وقطعت في تلك الواقعة يداه جميعا"، وذلك أنه أخذ اللواء بيمينه، فقطعت, فأخذه بشماله, فقطعت, فاحتضنه بعضديه. رواه ابن هشام عمن يثق به من أهل العلم، "ثم قتل"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبدله بيديه" أي أعطاه بدلهما "جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء" والمقصود أن الله أكرمه بذلك في مقابلة قطعهما فلا يستلزم عدم رد يديه بل بعد ردهما أعطاه الجناحين. "أخرجه أبو عمر" بن عبد البر. "وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها لما قتل ابن رواحة، وابن حارثة، وجعفر بن أبي طالب" هذه رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما لما جاء قتل ابن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة. قال الحافظ: يحتمل أن المراد مجيء الخبر على لسان القاصد الذي حضر من عند الجيش، ويحتمل أن المراد مجيئه على لسان جبريل كما يدل عليه حديث أنس الذي قبله يعني في البخاري وهو أنه صلى الله عليه وسلم، نعاهم للناس قبل أن يأتيهم خبرهم. "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد البيهقي في المسجد "يعرف فيه الحزن" بضم الحاء وسكون الزاي وضبطه أبو ذر بفتحهما. قال الحافظ: أي لما جعل الله فيه من الرحمة ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء ويؤخذ منه أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا تخرجه عن كونه صابرا راضيا، إذا كان قلبه مطمئنا، بل قد يقال: إن من كان ينزعج بالمصيبة ويعالج نفسه على الصبر والرضا أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلا. أشار إلى ذلك الطبري وأطال في تقريره "الحديث" بقيته فجاء رجل فقال: إن نساء جعفر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة". أخرجه الترمذي والحاكم، وفي إسناده ضعف، لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد. وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم".   فذكر بكاءهن فأمره أن ينهاهن. فذهب ثم أتى فقال: قد نهيتهن وذكر أنهن لم يطعنه فأمر أيضا فذهب، ثم أتى، فقال: الله ولقد غلبنا قال: فأحث في أفواههن من التراب. قالت: عائشة فقلت: أرغم الله أنفك فوالله ما أنت تفعل وما تركت رسول الله من العناء. وعند ابن إسحاق: قالت عائشة: وعرفت أنه لا يقدر أن يحثي في أفواههن التراب قالت: ربما ضر التكلف أهله. "وأخرج الطبراني بإسناد حسن عن عبد الله بن جعفر" الشبيه خَلقا وخُلقا كأبيه روى أحمد، والنسائي بسند صحيح عنه، ثم أمهل صلى الله عليه وسلم آل جعفر ثلاثا، ثم أتاهم، فقال لهم: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم". ثم قال: "ائتوني ببني أخي". فجيء بنا كأنا أفرخ، فدعا الحلاق فحلق رءوسنا، ثم قال: "أما محدم فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خَلقي وخُلقي". ثم دعا لهم "قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم" تسلية لي وإعلاما بمقام أبيه: "هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء". وما وصل إليه الأب فهو من مناقب الابن. ألم تر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ولذا قال: "هنيئا لك". ولم يقل: لأبيك، ولذا كان ابن عمر إذا سلم على عبد الله قال: السلام عليك يابن ذي الجناحين. كما في الصحيح. "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة". يحتمل أنها منامية ويحتمل يقظة ويؤيده ما رواه الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، فقال الناسك يا رسول الله ما كنت تصنع هذا؟ قال: مر بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم علي "أخرج الترمذي، والحاكم، وفي إسناده ضعف لكن له شاهد من حديث علي" أمير المؤمنين "عند ابن سعد" محمد الحافظ المشهور، "وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد على شرط مسلم. وأخرج أيضا هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعا: "دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة". وفي طريق أخرى عنه: "إن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان، عوضه الله من يديه". وإسناد هذا جيد. فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه في هذه الوقعة، حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل.   وفي الطبراني عن سالم بن أبي الجعد قال: رأى صلى الله عليه وسلم جعفرا ملكا ذا جناحين مضرجين بالدماء وذلك أنه قاتل حتى قطعت يداه "أخرجه الترمذي، والحاكم بإسناد على شرط مسلم" فهو من السادسة من مراتب الصحيح. "وأخرج" أي الحاكم كما في الفتح وكان المصنف اعتمد على عود الضمير لأقرب مذكور في أخرج "أيضا هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعا" لفظة يستعملها المحدثون بدل قال صلى الله عليه وسلم: "دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة" وفي شعر علي كرم الله وجهه: وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي "وفي طريق أخرى" عن المذكورين عن ابه عباس: "أن جعفرا يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه" أي بدلهما، وفي فوائد أبي سهل بن زياد القطان عن سعد بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس وأسماء بنت عميس قريب منه إذ قال: "يا أسماء هذا جعفر بن أبي طالب قد مر مع جبريل وميكائيل". فرد عليه السلام ... الحديث. وفيه: فعوضه الله من يديه جناحين يطير بهما حيث شاء، "وإسناد هذا" أي حديث ابن عباس "جيد" أي مقبول وهذه منقبة عظيمة له، وقد كان أبو هريرة يقول: إنه أفضل الناس بعد المصطفى. روى الترمذي، والنسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب وفي البخاري عنه قال: كان جعفر خير الناس للمساكين "فقد عوضه الله تعالى عن قطع يديه في هذه الواقعة حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت، ثم احتضنه فقتل"، كما رواه ابن هشام قال: أخبرني من أثق به من أهل العلم، فذكره, واختلف في أن الجناحين حقيقيان, وهو المختار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 قال السهيلي: له جناحان، ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحي الطائر وريشه؛ لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها، فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر. وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا في قوله: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} [طه: 22] وقال العلماء في أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح، ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وهذا الذي جزم به في مقام المنع، والذي حكاه عن العلماء ليس صريحا في الدلالة لما ادعاه. ولا مانع من الحمل على الظاهر، إلا من.   وروى النسفي عن البخاري أنه قال: يقال لكل ذي ناحيتين جناحان. قال الحافظ: لعله أراد بهذا حمل الجناحين على المعنوي دون الحسي. وجرى عليه في الروض حيث "قال السهيلي: له جناحان ليسا كما يسبق إلى الوهم كجناحي الطائر وريشه؛ لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها" قال: وفي قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته تشريف لها عظيم، وحاشا لله من التشبيه والتمثيل يعني فلو كانا حقيقيين كانت صورته ناقصة عن صورة البشر. "فالمراد بالجناحين صفة ملكية وقوة روحانية أعطيها جعفر، وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا في قوله واضمم يدك" اليمنى بمعنى الكف "إلى جناحك" أي جنبك الأيسر تحت العضد فعبر عنه بالجناح لأنه للإنسان كالجناح للطائر. قال أعني السهيلي: وليس ثم طيران فكيف بمن أعطي القوة عليه مع الملائكة أخلق به إذن أن يوصف بالجناح مع كمال الصورة الآدمية وتمام الجوارح البشرية، "و" "قال العلماء في أجنحة الملائكة إنها صفات ملكية لا تفهم إلا بالمعاينة، فقد ثبت أن لجبريل عليه السلام ستمائة جناح ولا يعهد للطير ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك". قال: فدل على أنها صفات لا تنضبط كيفيتها للفكر ولا ورد في بيانها أيضا خبر فيجب علينا الإيمان به "وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها فنؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها. انتهى" قول السهيلي ملخصا. "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح: "وهذا الذي جزم به في مقام المنع والذي حكاه عن العلماء ليس صريحا في الدلالة لما ادعاه ولا مانع من الحمل على الظاهر" الحقيقة "إلا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 جهة ما ذكره من المعهود، وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف. وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره، لأن الصورة باقية. وقد روى البيهقي في الدلائل من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة: أن جناحي جعفر من ياقوت. وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ. أخرجه ابن منده في ترجمة ورقة. وذكر موسى بن عقبة في المغازي، أن يعلى بن أمية قدم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني.   جهة ما ذكره من المعهود، وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف" لعدم الجامع "وكون الصورة البشرية أشرف الصور" الذي استدل به "لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره لأن الصورة باقية" كما هي، وإعطاء الجناحين له إكراما لتألمه من قطعهما حتى يطير بهما حيث شاء من الجنة والسماء كما في الأحاديث المارة مضموما إلى عود يديه وكمال خلقته يصيره في المنظر أتم من حال بقية نوع الإنسان. فالأجنحة له كالزينة والحلي لمن تحلى وتزين. "وقد روى البيهقي في الدلائل" النبوية "من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة" الأنصاري الثقة العالم بالمغازي من رجال الستة مات بعد العشرين ومائة "أن جناحي جعفر من ياقوت" فهو صريح في ثبوتهما له حقيقة، وأنه ليس من نوع أجنحة الطير التي هي من ريش، فهذا يرد قوله إنها صفة ملكية وقوة روحانية. "وجاء في جناحي جبريل أنهما من لؤلؤ أخرجه ابن مندة في ترجمة ورقة" بن نوفل من كتاب المعرفة له. فهذا يرد دعواه أن الملائكة لا أجنحة لهم التي لم يستدل عليها إلا بكون المعهود للطير جناحين فقط وذلك بمجرده لا يمنع الزيادة لهم فكمال صورهم الأصلية مخالفة لصور غيرهم، كذلك زيادة الأجنحة من جملة المخالفة، وقد قال بعض العلماء هذا التأويل لا يليق مثله بالإمام السهيلي بل هو أشبه بكلام الفلاسفة والحشوية، ولا ينكر الحقيقة إلا من ينكر وجود الملائكة. وقال تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} . [فاطر: 1] . "وذكر موسى بن عقبة في المغازي أن يعلى بن أمية" بن أبي عبيدة بن همام بن الحارث، التميمي الحنظلي حليف قريش صحابي روى له الستة. مات سنة بضع وأربعين وأمه منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتية الخفيفة وبها اشتهر وبأبيه معا، وقيل: هي أم أبي جزم به الدارقطني، ونسبها منية بنت الحارث بن جابر وأنها أيضا أم العوام والد الزبير، فهي جدة الزبير، ويعلى كما في الإصابة وغيرها "قدم بخبر أهل مؤتة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فأخبرني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 وإن شئت أخبرتك". قال: أخبرني فأخبره خبرهم فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره. وعند الطبراني من حديث أبي اليسر الأنصاري: أن أبا عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم.   وإن شئت أخبرتك". قال: أخبرني" لأزداد يقينا "فأخبره خبرهم" كله ووصف له، "فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره" وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم". هذا بقية ما ذكره ابن عقبة. "وعند الطبراني من حديث أبي اليسر" بفتح التحتية والمهملة كعب بن عمرو "الأنصاري" السلمي بفتحتين البدري المتوفى بالمدينة سنة خمس وخمسين وقد زاد على المائة. روى له مسلم والأربعة "أن أبا عامر" عبد الله وقيل: عبيد الله بن هانئ أو ابن وهب "الأشعري" صحابي عاش إلى خلافة عبد الملك. روى له الترمذي وهو غير أبي عامر الأشعري عم أبي موسى المستشهد بخيبر واسمه عبيد "هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم" ولا مانع من أن كل منهم أخبره وأخبار الثاني لأنه لم يبلغه أن أحدًا أخبره بذلك ولم يمنعه صلى الله عليه وسلم لئلا يخجله وليرى أعنده زيادة على خبر الأول أم لا؟ وإن كان هو عالما بالواقعة وشاهدها عليه السلام ليطلع على حفظ الناقل، وهذا كله إن كان أبو عامر أخبره، وإن كان قال له كما قال ليعلى فلا وكما أخبر به عليه السلام من جاءه بالخبر أخبر أصحابه قبل ذلك يوم الواقعة. روى ابن إسحاق عن أسماء بنت عميس. قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليّ صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا وعجنت عجيني وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم فقال لي صلى الله عليه وسلم: "ائتيني ببني جعفر". فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت: بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: "نعم، أصيبوا هذا اليوم". فقمت أصيح واجتمع إليّ النساء وخرج صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فقال: "لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم". وعند الزبير بن بكار عن عبد الله بن جعفر فعمدت سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى شعير فطحنته ثم آدمته بزيت وجعلت عليه فلفلا, قال عبد الله: فأكلت منه وحبسني صلى الله عليه وسلم مع إخوتي في بيته ثلاثة أيام. قال ابن إسحاق: فلما انصرف خالد بالناس أقبل بهم قافلا، فحدثني محمد بن جعفر عن عروة قال: لما دنوا من المدينة تلقاهم صلى الله عليه وسلم على دابة والمسلمون والصبيان يشتدون، فقال: "خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر". فأتي بعبد الله فحمله بين يديه، وقال حسان يبكيهم: تأوبني ليل بيثرب أعسر ... وهم إذا ما نوم الناس مسهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 .........................................   لذكرى حبيب هيجت لي لوعة ... سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان الحبيب بلية ... وكم من كريم يبتلى ثم يصبر رأيت خيار المسلمين تواردوا ... شعوب وخلفا بعدهم يتأخر فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا ... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبد الله حين تتابعوا ... جميعا وأسباب المنية تخطر غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم ... أبي إذا سيم الظلامة يجسر فطاعن حتى مال غير موسد ... بمعترك فيه فتى متكسر فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد ... وفاء وأمرا حازما حين يأمر وقد زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عزلا يزلن ومفخر فهم جبل الإسلام والناس حولهم ... رضام إلى طود يروق ويقهر بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر بهم تفرج اللأواء في كل مارق ... عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب امطهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 " ذات السلاسل ": ثم سرية عمرو بن العاصي رضي الله عنه إلى ذات السلاسل.   ذات السلاسل: "ثم سرية عمرو بن العاصي" بالياء على الصحيح الذي عليه الجمهور كما مر أول الكتاب "رضي الله عنه إلى ذات السلاسل" بمهملتين الأولى مفتوحة على المشهور، وبه جزم البكري على لفظ جمع السلسلة قيل سمي المكان بذلك، لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة، وضبطها ابن الأثير بالضم. قال: وهو بمعنى السلسال أي السهل، قاله: في الفتح في المناقب، ولذا قال ابن القيم بضم السين وفتحها لغتان، وتبرأ الشامي منه وقوله وصاحب القاموس مع سعة اطلاعه لم يحك إلا الفتح غير قادح فمن حفظ حجة، كيف وقد صرح البرهان بأن غير ذكر اللغتين الضم والفتح وهو المشهور والمجد، وإن اتسع اطلاعه فلم يحط باللغة ولم يستوعبها، وقدمت عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 وسميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا. وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل، وراء ذات القرى، من المدينة على عشرة أيام. وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ. ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة، إلا ابن إسحاق فقال: قبلها. وسببها: أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة.   الفتح وجه تسميتها بذلك في المناقب وهو صريح في قدم التسمية قبل السرية. "و" قال هنا ما حكاه المصنف إلا أنه أسقط منه قوله أوله: قيل: "سميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يفروا", وهذا ظاهر في حدوثه بعدها. ولعل المراد انضموا والتصقوا أخذا من تعبيره بإلى دون الباء لا أنهم ارتبطوا بالفعل؛ لأنه يكون سببا في الظفر بهم، ولعل هذا وجه قول الشامي أغرب من قال هذا القول أو لمنافاته لما في القصة من أنه أتاهم على غفلة وهربوا وتفرقوا إلا أن يقال: تجمعوا أولا خوف الفرار. ثم لما قرب المسلمون منهم ألقي الرعب في قلوبهم فهربوا. "وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل" وبه جزم ابن إسحاق وغيره. وفي القاموس السلسل كجعفر وخلخال الماء العذب أو البارد كالسلاسل بالضم "وراء ذات القرى" مر له نظيره مرتين وتقدم تأويله والذي عند ابن سعد، كما في الفتح: وراء وادي القرى "من المدينة على عشرة" أي بينها وبين المدينة عشرة "أيام وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان" كما قاله ابن سعد والجمهور فيكون تأمير عمرو عقب إسلامه بنحو أربعة أشهر على ما صدر به المصنف فيما مر أنه كان في صفر سنة ثمان. وفي الشامية أن بعثه كان بعد سنة من إسلامه وهو إنما يأتي على قول الحاكم أسلم سنة سبع، وقيل كانت سنة سبع" حكاهما ابن سعد، "وبه جزم ابن أبي خالد في كتاب صحيح التاريخ، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة إلا ابن إسحاق فقال: قبلها", وهو قضية ما ذكر عن ابن سعد، وابن أبي خالد قاله الحافظ وتعقبه الشامي بأنه غير واضح إن ابن سعد قال: كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان وإن مؤتة في جمادى الأولى منها، وأما ابن إسحاق فالذي في رواية البكائي عنه تأخيرها عن مؤتة بعد غزوات وسرايا ولم يذكر أنها قبلها فيحتمل أنه نص على ما ذكره ابن عساكر في رواية غير زياد البكائي، "وسببها" كما قال ابن سعد: "أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة" هم كما قال ابن إسحاق عن يزيد عن عروة، هي أي ذات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 قد تجمعوا للإغارة فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار. ومعهم ثلاثون فرسا. فسار الليل وكمن النهار، فلما قرب منهم بلغه أن لهم جمعا كثيرا، فبعث رافع بن مكيث -بفتح الميم- الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح، وعقد له لواء.   السلاسل بلاد بلى وعذرة وبني القين نقله عنه البخاري. قال الحافظ: الثلاثة بطون من قضاعة وبلى بفتح الموحدة وكسر اللام الخفيفة بعدها ياء النسب قبيلة كبيرة ينسبون إلى بلى بن عمرو بن الحارث بن قضاعة، وعذرة بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة قبيلة كبيرة ينسبون إلى عذرة بن سعد ونسبه إلى قضاعة وبنو القين بفتح القاف وسكون التحتية قبيلة كبيرة ينسبون إلى القين ونسبه إلى قضاعة، قال: ووهم ابن التين. فقال: بنو القين قبيلة من تميم "قد تجمعوا للإغارة" وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة، كما هو المنقول عن ابن سعد، وذكر ابن إسحاق أن أم أبيه العاصي بن وائل كانت من بلى فبعث صلى الله عليه وسلم عمرا يستفز العرب إلى الشام ويستألفهم. قال في الروض: واسمها سلمى فيما ذكر الزبير، وأما أم عمرو فهي ليلى تلقب بالنابغة. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين السببين. انتهى. وروى أحمد والبخاري في الأدب صححه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم عن عمرو بن العاصي. قال بعث إليّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي، وسلاحي، فقال: "يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك". قلت: إني لم أسلم رغبة في المال، قال: "نعم المال الصالح للمرء الصالح". "فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والنصار" بفتح المهملة، وقد تضم جمع سري بفتح فكسر وهو النفيس الشرف وقيل السخي ذو مروءة، قاله ابن الأثير. قال الجوهري: وهو جمع عزيز أن يجمع فعيل على فعلة ولا يعرف غيره، وفي القاموس أنه اسم جمع "ومعهم ثلاثون فرسا" قال ابن سعد وأمره أن يستعين بمن مر به من بلى وعذرة وبلقين "فسار الليل وكمن النهار فلما قرب منهم" بأن وصل إلى الماء المسمى بالسلاسل "بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع" براء وفاء "ابن مكيث بفتح الميم" وكسر الكاف وسكون التحتية وبمثلثة "الجهني" بضم الجيم وفتح الهاء والنون صحابي شهد الحديبية والفتح ومعه لواء جهينة "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده"، أي: يطلب منه مددا أي جيشا يعينونه "فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح" القرشي أمين هذه الأمة، "وعقد له لواء" لم نر من عين لونه إلا قوله في بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا. فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا، وأنا الأمير، فأطاع له بذلك أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. وسار حتى وصل إلى العدو: بلى وعذرة، فحمل عليهم المسلمون غافلين، فهربوا في البلاد وتفرقوا.   النسخ أبيض ولا أخال صحتها، "وبعث معه مائتين من سراة المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا" الظاهر أنها ناقصة خبرها "جميعا" أي مجتمعين، ويجوز أنها تامة وجميعا حال وهو قيد في عاملها لكن الأول أتم فائدة لجعله جزء الكلام "ولا يختلفا" بيان للمراد من الاجتماع، كأنه قال: كونا متفقين غير مختلفين "فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو: إنما قدمت عليّ مددا" معينا ومقويا "وأنا الأمير" ولا إمارة لك حتى تؤم. وعند ابن إسحاق: قال أبو عبيدة: لا ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا هينا عليه أمر الدنيا. فقال له عمرو: بل أنت مدد لي، فقال أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: "لا تختلفا". وإنك إن عصيتني أطعتك. قال: فإني الأمير عليك وأنت مدد لي. قال: فدونك "فأطاع له بذلك أبو عبيدة فكان عمرو يصلي بالناس وسار حتى وصل إلى العدو بلى" بالجر بدل قبيلة كبيرة من قضاعة "وعذرة" قبيلة كبيرة أيضا تنسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بضم اللام ابن الحارث بن قضاعة، "فحمل عليهم المسلمون غافلين، فهربوا في البلاد وتفرقوا". والمصنف اختصر كلام ابن سعد وما وفى به فأوهم أنه لم يقع بينهم حرب ولفظه بعد قوله يصلي بالناس وسار حتى وجأ بلاد بلى ودوخها حتى أتى إلى أقصى بلادهم وبلاد عذرة وبلقين ولقي في آخر ذلك جمعا، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا، وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بقفولهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم. وذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة وبلقين أي بني القين كقولهم بلحارث في بني الحارث ودوخها بفتح المهملة وشد الواو وخاء معجمة استولى عليها وقهرها وعند الواقدي أنهم لما لقوا ذلك الجمع وليسوا بالكثير اقتتلوا ساعة وحمل المسلمون عليهم، فهزموهم وتفرقوا وأقام هناك أياما، وكان يبعث الخيل فيأتون بالشاء والنعم فينحرون ويأكلون، ولم يكن في ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 ...............................   غنائم تقسم وقال البلاذري: فلقي العدو من قضاعة وغيرهم وكانوا مجتمعين ففضهم أي فرقهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم وهذا يعضده قوله صلى الله عليه وسلم: "فيغنمك الله ويسلمك". كما مر. وروى ابن راهويه والحاكم عن بريدة أن عمرو بن العاصي أمرهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارا فأنكر عمر ذلك، فقال له أبو بكر: دعه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلا لعلمه بالحرب، فسكت عنه. وروى ابن حبان عن عمرو بن العاصي أنهم سألوه أن يوقدوا نارا فمنعهم، فكلموا أبا بكر فكلمه في ذلك، فقال: لا يوقد أحد نارا إلا قذفته فيها. قال: فلقوا العدو فهزموهم فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فحمد أمره، فقال: يا رسول الله! من أحب الناس إليك. قال الحافظ: فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد ويجمع بينه وبين حديث بريدة بأن أبا بكر سأله فلم يجبه فسلم له أمره أو ألحوا على أبي بكر حتى سأله فلم يجبه. أخرج الشيخان والترمذي، والنسائي وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض عن عمرو أنه قال: قدمت من جيش ذات السلاسل فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر، وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته حتى قعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال. فقال: "أبوها". فقلت: ثم من؟ قال. "ثم عمر بن الخطاب". فعد رجالا فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم وقلت في نفسي لا أعود أسأله عن هذا، وفي الحديث جواز تأمير المفضول على الفاضل، إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية وفضل أبي بكر على الرجال وبنته على النساء ومنقبة لعمرو بن العاصي لتأميره على جيش فيهم أبو بكر وعمر, وإن لم يقتض ذلك أفضليته عليهم لكن يقتضي أن له فضلا في الجملة، وقد قال رافع الطائي: هذه الغزوة هي التي يفتخر بها أهل الشام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 " سرية الخبط ": ثم سرية أبي عبيدة بن الجراح.   سرية الخبط: "ثم سرية أبي عبيدة" عامر بن عبد الله "بن الجراح" بن هلال القرشي الفهري أحد العشرة البدري من السابقين مات شهيدا بطاون عمواس سنة ثمان عشرة، أميرا على الشام من قبل عمر، ثم كونه أميرها هو الذي في الكتب الستة عن جابر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وسماها البخاري: غزوة سيف البحر، وتعرف بسرية الخبط. وبعث معه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة، كما في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور، لكن في رواية للنسائي: بضع عشرة وثلاثمائة، فإن صحت هذه الرواية فلعله اقتصر في الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر، والأخذ بالزيادة مع صحتها واجب. وكان فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم. ليلقى عيرا لقريش. رواه مسلم، وعنده أيضا: إلى أرض جهينة. ولا منافاة بينهما: فالجهة.   وعند ابن أبي عاصم عن جابر أن أميرها قيس بن سعد. قال الحافظ والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة وكأن أحد رواته ظن من صنع قيس ما صنع من نحر الإبل التي اشتراها أنه أمير السرية وليس كذلك. انتهى. "وسماها البخاري غزوة سيف" قال الحافظ وغيره: بكسر المهملة وسكون التحتية ففاء أي ساحل "البحر" وكذا ترجمها ابن إسحاق، فقال: غزوة أبي عبيدة إلى سيف البحر وهو جري على غير الغالب من اصطلاح أهل السير أن ما لم يحضره المصطفى يسمى سرية أو بعثا وما حضره غزوة لكن الأقدمين لا يراعون ذلك غالبا "وتعرف بسرية الخبط" وبه ترجمها اليعمري لأكلهم فيها الخبط ولاشتهارها بذلك. قال: تعرف دون تسمي "وبعث معه صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة، كما في الصحيحين وغيرهما"، كأصحاب السنن الأربعة بطرق عن جابر "وهو المشهور" الذي جزم به أهل السير كابن سعد قائلا من المهاجرين والأنصار. "وفي رواية النسائي" أيضا "بضع عشرة وثلاثمائة" وأشعر تنكيره رواية، ووصفها بما ذكر بأن المعروف رواية النسائي الأولى التي وافق فيها بقية الأئمة الستة وما في ذلك ريب. ولذا أتى بأن التي للشك إشارة لتوقفه في صحتها بقوله "فإن صحت هذه الرواية، فلعله اقتصر في الرواية المشهورة على الثلاثمائة استسهالا لأمر الكسر" لقلته، "و" لكن "الأخذ بالزيادة مع صحتها واجب،" لأنها زيادة من الثقة غير منافية "وكان فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم" أجمعين خصه بالذكر لعظمته "ليلقى عيرا لقريش، رواه" أي جملة المذكور من قوله وكان فيهم ... إلخ. "مسلم" فلا ينافي أن قوله: ليلقى في البخاري أيضا بلفظ: نرصد عيرا لقريش ولقوله: "وعنده أيضا" عن جابر قال: بعث صلى الله ليه وسلم بعثا "إلى أرض جهينة ولا منافاة بينهما فالجهة" التي أمرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 أرض جهينة، والقصد تلقي عير قريش -وهي الإبل المحملة طعاما وغيره. لكن في كتب السير: أن البعث إلى حي من جهينة بالقبلية -بفتح القاف والمحدة- مما يلي ساحل البحر، وبينه وبين المدينة خمس ليال. ولعل البعث لمقصدين: رصد عير قريش، ومحاربة حي من جهينة. قال ابن سعد: وكانت في رجب سنة ثمان. وفيه نظر، فإن تلقي عير قريش ما يتصور أن يكون في هذه المدة، لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة، فالصحيح أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها، قبل هدنة الحديبية. نعم يحتمل أن يكون تلقيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا. بل فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد. والله أعلم.   بانتظار العير فيها "أرض جهينة والقصد" بالبعث "تلقى عير قريش وهي" أي العير بكسر العين "الإبل المحملة طعاما وغيره" من التجارات وهو تفسير لها باعتبار الاستعمال المشتهر، فلا ينافي أنها في الأصل التي تحمل الميرة بالكسر، أي الطعام وحمل لجهة على ما ذكر ليفارق استدراكه عليه بقوله. "لكن في كتب السير أن البعث لحي من جهينة، بالقبلية بفتح القاف والموحدة" وكسر اللام وشد التحتية "مما يلي ساحل البحر وبينها وبين المدينة خمس ليال ولعل البعث للمقصدين رصد عير قريش ومحاربة حي من جهينة" فلا منافاة والحي الواحد من أحياء العرب يقع على بني أب واحد كثروا أم قلوا وعلى شعب يجمع القبائل. من ذلك "قال ابن سعد: وكانت في رجب سنة ثمان وفيه نظر فإن تلقي عير قريش ما يتصور أن يكون في هذه المدة لأنهم كانوا حينئذ في الهدنة" بضم الهاء وسكون المهملة وبضمهما الصلح، "والصحيح" لفظ الحافظ بل مقتضى ما في الصحيح، "أن تكون هذه السرية سنة ست أو قبلها هدنة الحديبية". "نعم يحتمل أن تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم، بل لحفظهم" أي العير ومن معها "من جهينة، ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدًا فيه أنهم أقاموا نصف شهر أو أكثر في مكان واحد والله أعلم". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 قاله الحافظ ابن حجر. لكن قال شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب، قالوا: وكانت هذه السرية في شهر رجب سنة ثمان من الهجرة وذلك بعد نكث قريش العهد وقبل الفتح، فإنه كان في رمضان من السنة المذكورة. انتهى. قالوا: وزودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابا من التمر، فلما فني أكلوا الخبط -وهو بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة- ورق السلم. وفي رواية أبي الزبير:.   "قاله الحافظ ابن حجر" في الفتح "لكن قال شيخ الإسلام" العلامة أحمد ولي الدين "ابن" عبد الرحيم "العراقي" الحافظ ابن الحافظ صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة "في شرح التقريب" أي تقريب الأسانيد لوالده، "قالوا: وكانت هذه السرية في شهر رجب سنة ثمان من الهجرة، وذلك بعد نكث" نقض "قريش العهد وقبل الفتح، فإنه" أي الفتح "كان في رمضان من السنة المذكورة. انتهى". وبه يسقط النظر ولم يعتبر قول ابن القيم في الهدى كون السرية في رجب وهم غير محفوظ إذ لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية. انتهى. لقول البرهان في النورانة كلام حسن مليح لكنه على مختاره من عدم نسخ القتال في الشهر الحرام كشيخه ابن تيمية تبعا لأهل الظاهر وعطاء، وهو خلاف ما عليه المعظم. انتهى. وعلى تسليم ظاهره أنه لم يتفق ذلك لا قبل نسخ القتال في الأشهر الحرم ولا بعده يحتمل أن يكون البعث في أواخر رجب بحيث لا يصلون إلى جهينة ويلقون العير إلا في شعبان، "قالوا" أي: أصحاب المغازي: "وزودهم" أي أعطاهم "رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابا" بكسر الجيم، وقد تفتح كما مر مرارا عن عياض وغيره "من التمر" يأكلونه في السفر، وفي المصباح: زودته: أعطيته زادا. انتهى. فليس من الزيادة كما توهم إذ لو كان كذلك لقيل: زادهم ثم ليس مراد المصنف التبري فقد صح في مسلم عن جابر، وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره "فلما فني" بكسر النون، أي: فرغ "أكلوا الخبط وهو بفتح" الخاء "المعجمة" وفتح "الموحدة بعدها" طاء "مهملة ورق السلم", كما قاله الفتح وهو بفتحتين شجر عظيم له شوك كالعوسج والطلع، قيل: وهو الذي أكلوه فهذا بيان للشجر الذي أخذ ورقه وإلا فالخبط لغة ما سقط من ورق الشجر إذا خبط بالعصى. "وفي رواية" مسلم عن "أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي صدوق من رجال الجميع التابعي عن جابر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وكنا نضرب بعصينا الخبط ونبله بالماء فنأكله، وهذا يدل على أنه كان يابسا، خلافا لمن زعم أنه كان أخضر رطبا. وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوي، ويدل عليه حديث البخاري في الجهاد: خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا، حتى كان الرجل منا يأكل تمرة تمرة.   قال: "وكنا نضرب بعصينا الخبط" بضم العين وكسر الصاد المهملتين جمع عصا بالقصر والتأنيث كذا ضبطه الشامي وغيره وهو مخالف لقوله تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء: 44] فقد اتفق القراء على أنه بكسر العين. قال شيخنا: إلا أن يقال أصله بضمها فتصرف فيه، فالأصل عصوو بواوين قلبت الأخيرة ياء لوقوعها رابعة ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء لأن الواو والياء متى اجتمعتا، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت، فلما فعل ذلك قلبت الضمة كسرة لتسلم الياء "ونبله" بفتح النون وضم الموحدة ننديه "بالماء فنأكله". "وهذا" كما قال الحافظ "يدل على أنه يابسا خلافا لمن زعم"، وهو الداودي شارح البخاري "أنه كان أخضر رطبا، وقد كان معهم تمر غير الجراب النبوي" خلافا لقول عياض: يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور، "ويدل عليه حديث البخاري في الجهاد" في باب حمل الزاد على الرقاب عن جابر "خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا" جوز العيني أن معناه أشرف على الفناء "حتى كان الرجل منا يأكل،" زاد الكشميهني: في كل يوم "تمرة تمرة". بقية هذا الحديث: قال رجل أي لجابر: وأين كانت التمرة تقع من الرجل؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فقدناها. وفي رواية مسلم عن أبي الزبير، فقلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نضرب عليها من الماء فيكفينا يومنا إلى الليل، وفي البخاري حدثنا إسماعيل حدثنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر: بعث صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة وهم ثلاثمائة فخرجنا فكنا ببعض الطريق، فني الاد فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان مزود تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت أي مؤثرا وصريحه أن قائل ما تغني وهب، ولا مانع من أن كلا من وهب وأبي الزبير سأل جابرا عن ذلك حين حدثه استغرابا. قال الحافظ: ظاهر هذا السياق أنهم كان لهم زاد بطريق العموم وأزواد بطريق الخصوص، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 وابتاع قيس بن سعد جزورا ونحرها لهم.   فلما فني الذي بطريق العموم اقتضى رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المساواة بينهم في ذلك ففعل، فكان جميعه مزودا بكسر الميم وسكون الزاي ما يجعل فيه الزاد. وعند مسلم عن أبي الزبير عن جابر بعثنا صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة وظاهره مخالف لرواية وهب ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب، فلما نفذ وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه أيضا قدر جراب ويكون كل من الراويين ذكر ما لم يذكر الآخر، وأما تفرقته تمرة تمرة فكان في ثاني الحال، وقول عياض يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور مردود بأن حديث وهب صريح في المجتمع من أزوادهم مزود تمر رواية، ورواية أبي الزبير صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم زودهم جرابا من تمر فصح أن التمر كان معهم من غير الجراب، وقول غيره يحتمل أن تفرقته عليهن تمرة تمرة كان من الجراب النبوي قصدا لبركته، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي جمعت أكثر من ذلك بعيد من ظاهر السياق، بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر، فقلت: أزوادنا حتى ما يصيب الرجل منا إلا تمرة. انتهى. "وابتاع قيس بن سعد" بن عبادة الصحابي ابن الصحابي الجواد ابن الجواد "جزورا ونحرها لهم"، كذا في النسخ لأفراد، أما على أن المراد به الجنس أو أن الواو زادت من الكاتب وأصله جزرا بضم الجيم والزاي جمع جزور كقوله: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر ويجمع أيضا على جزائر وهو البعير ذكرا كان أو أنثى فلا ينافي ما رواه الواقدي بأسانيده أنهم أصابهم جوع شديد، فقال قيس: من يشتري مني تمرا بالمدينة بجزر هنا؟ فقال له رجل من جهينة من أنت؟ فانتسب. فقال: عرفت نسبك. فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرا من الصحابة، وامتنع عمر لكون قيس لا مال له، فقال الأعرابي: ما كان سعد ليخنى بابنه في أوسق تمر بفتح التحتية وسكون الخاء وبالنون يقصر. قال: وأرى وجها حسنا، وفعلا شريفا فأخذ قيس الجزر فنحر لهم ثلاثة كل يوم جزورا، فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره، فقال: عزمت عليك أن لا تنحر أتريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك؟ قال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة لا يقضي عني تمر القوم مجاهدين في سبيل الله؟ فكاد أبو عبيدة يلين وجعل عمر يقول: اعزم فعزم عليه فبقيت جزوران، فقدم بهما قيس المدينة ظهرا يتعاقبون عليهما. وبلغ سعدا مجاعة القوم، فقال: إن يك قيس كما أعرف فسينحر لهم. فلما لقيه قال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وأخرج الله لهم من البحر دابة تسمى العنبر فأكلوا منها، وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا. وفي رواية جابر عند الأئمة الستة: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب، أميرنا   قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك؟ فقال: لك أربع حوائط أدناها تجد منه خمسين وسقا وقدم البدوي مع قيس فأوفاه أوسقه وحمله وكساه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فعل قيس، فقال: "إنه في قلب جود". وفي رواية ابن خزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الجود من سمة أهل ذلك البيت". قال في الفتح: اختلف في سبب نهي أبي عبيدة قيسا أن يستمر على إطعام الجيش، فقيل: خيفة أن تفنى حمولتهم, وفيه نظر؛ لأن القصة أنه اشترى من غير العسكر، وقيل: لأنه كان يستدين على ذمته ولا مال له فأريد الرفق به، وهذا أظهر. انتهى. بقي أن البخاري روى هنا عن جابر قال: كان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر بالتكرار ثلاث مرات كما قال المصنف. قال في المقدمة: هو قيس بن سعد كما عند المصنف. انتهى. ولم يتكلم الفتح ولا المصنف هنا على الجمع بينه وبين رواية أنه اشترى خمسا نحر منها ثلاثا، ثم منع مع ذكرهما لها في شرح هذا الحديث، ويمكن الجمع بأنه نحر أولا ستا مما معه من الظهر، ثم اشترى خمسا نحر منها ثلاثا، ثم نهي، فاقتصر من قال: ثلاثا على ما نحره مما اشتراه، ومن قال: تسعا ذكر جملة ما نحره، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح, والله أعلم. "وأخرج الله لهم من البحر دابة" بمهملة وشد الموحدة حيوان الأرض الذكر، والأنثى "تسمى العنبر" قال أهل اللغة: العنبر سمكة كبيرة يتخذ من جلدها الترسة، ويقال: إن العنبر المشموم رجيعها. وقال ابن سينا بل المشموم يخرج من الشجر وإنما يوجد في أجواف السمك الذي يبتلعه, ونقل الماوردي عن الشافعي قال: سمعت من يقول رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من بطنها، وقال الأزهري العنبر سمكة بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها: بالة وليست بعربية. انتهى. من الفتح "فأكلوا منها وتزودوا ورجعوا ولم يلقوا كيدا" أي حربا. "وفي رواية جابر عند الأئمة الستة": البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة راكب أميرنا" جملة حالية بلا واو، ولأبي ذر: وأميرنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 أبو عبيدة بن الجراح، فأقمنا على الساحل حتى فني زادنا، حتى أكلنا الخبط ثم إن البحر ألقى لنا دابة يقال لها: العنبر، فأكلنا منها نصف شهر، حتى صحت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعها فنصبه ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته. الحديث.   بالواو "أبو عبيدة بن الجراح". وفي رواية البخاري: نرصد عيرا لقريش "فأقمنا على الساحل حتى فني زادنا"، زاد في رواية البخاري فأصابنا جوع شديد "حتى أكلنا الخبط، ثم إن البحر ألقى لنا دابة" من السمك. وفي رواية للبخاري فإذا حوت مثل الظرب والحوت اسم جنس لجميع السمك وقيل: مخصوص بما عظم منها، والظرب بفتح المعجمة المشالة وفي بعض النسخ المعجمة الساقطة حكاها ابن التين، والأول أصوب وبكسر الراء بعدها موحدة الجبل الصغير. وقال القزاز: هو بسكون الراء إذا كان منبسطا ليس بالعالي، وفي رواية أبي الزبير عند مسلم فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة "يقال لها: العنبر", وفي رواية للبخاري: فألقى لنا البحر حوتا ميتا لم نر مثله. وفي رواية ابن أبي عاصم: فإذا نحن بأعظم حوت ففي هذا جواز أكل الحوت الطافي "فأكلنا منها نصف شهر". وفي رواية وهب عند البخاري: ثمان عشرة ليلة. وفي رواية أبي الزبير عند مسلم: فأقمنا عليه شهرا قال الحافظ: ويجمع بأن قائل ثمان عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره وقائل نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام، ومن قال: شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها. ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة وقال ابن التين: إحدى الروايتين وهم، ووقع في رواية الحاكم: اثني عشر يوما وهي شاذة منها شذوذا رواية الخولاني عن جابر عند ابن أبي عاصم، فأقمنا قبلها ثلاثا، ولعل الجمع الذي ذكرته أولى. انتهى. "حتى صحت أجسامنا" وفي رواية البخاري: وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا بمثلثة، أي رجعت وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هزال من الجوع "فأخذ أبو عبيدة ضلعا" بكسر الضاد وفتح اللام "من أضلاعه فنصبه". قال الحافظ واستشكل بأن الضلع مؤنثة، ويجاب بأنه غير حقيقي فيجوز تذكيره، وفي رواية وهب عند البخاري، ثم أمر عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا "ونظر إلى أطول بعير فجاز تحته" براكبه، وفي رواية وهب عند البخاري ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتهما فلم تصبهما، وفي رواية له أيضا فعمد إلى أطول رجل معه وفي حديث عبادة عند ابن إسحاق ثم أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 زاد الشيخان في رواية: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا"؟. قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل.   بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتها وما مست رأسه. وجزم الحافظ في المقدمة بأن الرجل قيس بن سعد فتبعه المصنف في الشرح، وقال في الفتح لم أقف على اسمه وأظنه قيسا فإنه كان مشهورا بالطول، وقصته مع معاوية معروفة لما أرسل إليه ملك الروم أطول رجل منهم ونزع له قيس سراويله، فكانت طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها بالأرض، وعوتب قيس في نزع سراويله فأنشد: أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوجوه شهود وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي فمنه ثمود وفي رواية مسلم عن جابر: فلقد رأيتنا، نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ونقطتع منه الفدر كالثور، فأخذ أبو عبيدة، ثلاثة عشر رجلا، فأقعدهم في وقب عينه بفتح الواو وسكون القاف، وموحدة: النقرة التي فيها الحدقة، والفدر بكسر الفاء وفتح الدال، جمع فدرة بفتح، فسكون القطعة من اللحم وغيره، ولمسم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال جابر: فدخلت أنا وفلان، قعد خمسة في فجاج عينها، ما يرانا أحد حتى خرجنا، وأخذنا ضلعا من أضلاعها، فقومناه وعدونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم جمل، وأعظم كفل، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه. انتهى، فسبحان القوي القادر، وكفل بكسر الكاف، وإسكان الفاء، وباللام، أي الكساء الذي يجعله راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، "الحديث" ذكر في بقيته نحر التسع جزائر، ثم النهي، "زاد الشيخان في رواية" عن أبي الزبير عن جابر، "فلما قدما المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له"، فقال: "هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شيء من لحمه فتطعمونا"؟ زاد في رواية أحمد، فكان معنا منه شيء "قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكل" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري فقال: "كلوا رزقا أخرجه الله أطعمونا إن كان معكم". فأتاه بعضهم، فأكله. ولابن السكن، فأتاه بعضهم بعضو منه، فأكله، قال عياض: وهو الوجه، وفي رواية أبي حمزة الخولاني، عن جابر عند ابن أبي عاصم، فلما قدموا ذكروا له صلى الله عليه وسلم فقال: "لو نعلم أنا ندركه، لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه". قال الحافظ: وهذا لا يخالف رواية أبي الزبير، لأنه يحمل على أنه قال ذلك، ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر، أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه، وكان الذي أحضروه معهم، لم يروح فأكل منه, والله أعلم. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 " سرية أبي قتادة إلى نجد ": ثم سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة، وهي أرض محارب بنجد، في شعبان سنة ثمان، وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان، فقتل من أشرف منهم، وسبى سبيا كثيرا، واستاق النعم، فكانت الإبل مائتي بعير، والغنم ألفي شاة.   سرية أبي قتادة إلى نجد: "ثم سرية أبي قتادة" الحارث، ويقال عمرو أو النعمان "ابن ربعي" بكسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها مهملة "الأنصاري" السلمي، بفتحتين، المدني شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرا مات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر، "إلى خضرة" ضبطه الشامي، بفتح الخاء، وكسر الضاد، المعجمتين مخالفا قول البرهان، بضم الخاء، وإسكان المعجمة، هذا الظاهر، ثم راء، ثم تاء تأنيث، "وهي أرض محارب بنجد" أشار إلى أنه لا تنافي بين من ترجمها كالبخاري، بقوله السرية التي قبل نجد، وبين من قال سرية محارب؛ لأن الأرض نجد، والمقصودين بالسرية من أهلها محارب، "في شعبان سنة ثمان" عند ابن سعد، وذكر غيره: أنها قبل مؤتة، وهي في جمادى كما مر، وقيل: كانت في رمضان، ذكره الحافظ، "وبعث معه خمسة عشر رجلا إلى غطفان" بأرض محارب. قال ابن سعد: وأمره أن يشن عليهم الغارة، فسار الليل وكمن النهار، فهجم على حاضر منهم عظيم، فأحاط به، فصرخ رجل منهم يا خضرة، وقاتل منهم رجال، "فقتل من أشرف" ظهر "منهم وسبى سبيا كثيرا واستاق النعم، فكانت الإبل مائتي بعير والغنم ألفي شاة" زاد ابن سعد وشيخه، وجمعوا الغنائم فأخرجوا الخمس فعزلوه، فأصاب كل رجل اثنا عشر بعيرا فعدل البعير بعشر من الغنم، ونفلنا أميرنا بعيرا بعيرا ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم علينا غنيمتنا، وروى الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر بعث صلى الله عليه وسلم سرية قبل نجد، فكنت فيها فغنموا إبلا كثيرة وغنما، فكانت سهامنا اثني عشر بعيرا، ونفلنا بعيرا بعيرا، فرجعنا بثلاثة عشر بعيرا، قال في الفتح: اختلف الرواة في القسم والتنفيل هل كانا جميعا من أمير ذلك الجيش، أو من النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحدهما من أحدهما؟ فرواية أبي داود صريحة، أن التنفيل من الأمير والقسم منه، صلى الله عليه وسلم ولفظه فخرجت فيها فأصبنا نعما كثيرا وأعطانا أميرنا بعيرا لكل إنسان ثم قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل اثني عشر بعيرا بعد الخمس، وظاهر رواية مسلم، أن ذلك صدر من الأمير، وأنه صلى الله عليه وسلم كان مقررا له، ومجيزا لأنه قال فيه ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم، ولمسلم أيضا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وكان غيبته خمس عشرة ليلة.   في رواية ونفل صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وهذا يمكن حمله على التقرير، فتجتمع الروايات، قال النووي: معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه، صلى الله عليه وسلم, فجازت نسبته لكل منهما، والنفل زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نفل الصلاة، وهو ما عدا الفريضة. انتهى. "وكانت غيبته خمس عشرة ليلة"، قال ابن سعد وشيخه: وكان في السبي، وهو أربع نسوة، وأطفال وجوار جارية وضيئة كأنها ظبي، وقعت في سهم أبي قتادة، فجاء محمية بن جزء الزبيدي، فقال: يا رسول الله! إن أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جارية وضيئة وقد كنت وعدتني جارية، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أبي قتادة، فقال: هب لي الجارية فوهبها له، فدفعها إلى محمية، بفتح الميم وسكون المهملة، وكسر الميم الثانية، وتخفيف التحتية المفتوحة ابن جزء بفتح الجيم، وسكون الزاي، بعدها همزة الزبيدي، بضم الزاي. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 " سريته أيضا إلى إضم ": ثم سرية أبي قتادة أيضا إلى بطن إضم -فيما بين ذي خشب وذي المروة- على ثلاثة برد من المدينة، في أول شهر رمضان سنة ثمان. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما هم أن يغزو أهل مكة، بعث أبا قتادة في ثمانية نفر، سرية إلى بطن إضم، ليظن ظان أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية.   سريته أيضا إلى إضم: "ثم سرية أبي قتادة أيضا إلى بطن إضم", بكسر الهمزة وفتح الضاد المعجمة، وبالميم واد، "فيما بين ذي خشب" بضم المعجمتين وبموحدة، واد على ليلة من المدينة له ذكر كثير في الحديث، والمغازي كما في النهاية، "وذي المروة" بلفظ أخت الصفا من أعمال المدينة، على ثمانية برد منها، وأضم المذكور أنه بين هذين، "على ثلاثة برد من المدينة في أول شهر رمضان سنة ثمان" أي في أول يوم منه على المتبادر، ويحتمل ما يصدق بغير الأول، لإطلاقه على نحو النصف، "وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما هم أن يغزو أهل مكة, بعث أبا قتادة في ثمانية نفر سرية" على قول القاموس السرية، خمسة إلى ثلاثمائة أو أربعمائة، ومر نقل المصنف عن الحافظ أن مبدأها مائة، "إلى بطن إضم" وتعبيره ببطن تبعا لابن سعد وغيره ظاهر في أنه واد لأنهم يضيفون بطن، إلى الوادي دون الجبل، وفي السبل أن إضما واد أو جبل، لكن في القاموس إضم كعنب، وجبل الوادي الذي به المدينة. انتهى. فلا يفسر ما هنا بالجبل، "ليظن ظان أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية" التي هي بطن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 ولأن تذهب بذلك الأخبار. فلقوا عامر بن الأضبط، فسلم عليهم بتحية الإسلام، فقتله محلم بن جثامة، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] إلى آخر الآية, رواه أحمد.   إضم، "ولأن تذهب بذلك" أي بتوجهه إليها، "الأخبار" فلا تستعد قريش لحربه، ويدخل عليهم على حين غفلة، وكيف توهم أن اسم الإشارة يعود على مكة، ويتعسف توجيهه بتجويز العقل المخالف للنقل، وهو صلى الله عليه وسلم، تجهز إلى مكة كما يأتي سرا، وأطلعه الله على كتاب حاطب، فبعث من أتاه به، وقال كما عند ابن إسحاق: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش، حتى نبغتها في بلادها". واستجيب له، فعميت الأخبار عنهم، فلم يأتهم خبر عنه، ولا علموا بذلك إلا ليلة دخوله صلى الله عليه وسلم، "لقوا عامر بن الأضبط" بفتح الهمزة وسكون الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، ثم طاء مهملة, الأشجعي المعدود في الصحابة، والذي ينبغي كما قال البرهان: عده في التابعين؛ لأنه أسلم ولم يلق النبي مسلما. وقد ذكره صاحب الإصابة في القسم الأول تسليما لمن قبله، ثم أورده في القسم الثالث، وهو أدرك النبي ولم يرده لهذ المعنى "فسلم عليه بتحية الإسلام" بأن قال: السلام عليكم، قال ابن هشام: ولذا قرأ أبو عمر والسلام، أو المعنى عظمهم بالانقياد، كلمة الشهادة التي هي أمارة على السلامة، "فقتله محلم" بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر اللام المشددة، ثم ميم "ابن جثامة" بفتح الجيم وشد المثلثة، فألف، فميم، فتاء تأنيث، واسمه زيد بن قيس بن ربيعة صحابي أخو الصعب بن جثامة، قال ابن عبد البر: قيل: إن محلما غير الذي قتل، وأنه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه هو ومات في حياته صلى الله عليه وسلم، فلفظته الأرض مرة بعد أخرى. قال في الإصابة: وبالأول جزم ابن السكن، "فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ} بألف ودونها أي التحية، أو الانقياد بكلمة الشهادة، {لَسْتَ مُؤْمِنًا} ", وإنما قلت هذا تقية لنفسك ومالك، "إلى آخر الآية, رواه أحمد", والطبراني وابن إسحاق وغيرهم عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين فيهم: أبو قتادة ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، ومعه متيع له ووطب من لبن، فسلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم، فقتله لشيء كان بينه وبينه، وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه الخبر نزل فينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 94] إلى آخر الآية, الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 وهو عند ابن حرير من حديث ابن عمر بنحوه وزاد: فجاء محلم بن جثامة في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا غفر الله لك". فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة حتى مات فلفظته الأرض. وعند غيره: ثم عادوا به فلفظته الأرض، فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين فسطحوه ثم رضموا عليه الحجارة حتى واروه.   ولا ينافي قوله لشيء كان بينه وبينه. قوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور: 33] ؛ لأن الحقد من عرضها المبتغى، مع أنه أخذ متاعه وبعيره أيضا "وهو عند ابن جرير، من حديث ابن عمر بنحوه", وقد مر في سرية غالب الليثي: أن الآية نزلت في قتل أسامة بن زيد مرداس بن نهيك، وأنه يحتمل تعدد القصة، وتكرير نزول الآية، "وزاد" ابن عمر في حديث: "فجاء ملحم بن جثامة في بردين" معهم حين رجعوا ولم يلقوا جمعا، فلما وصلوا إلى ذي خشب بلغهم أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى مكة، فلحقوه بالسقيا، كما عند ابن سعد وغيره، فأخبروه الخبر، فقال لمحلم: "أقتلته بعدما قال: آمنت بالله". "فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليستغفر له"، فقال صلى الله عليه وسلم: "قتلته بعدما قال: إني مسلم"؟. قال: إنما قالها متعوذا. قال: "أفلا شققت عن قلبه لتعلم أصادق هو أم كاذب"؟. قال: وهل قلبه إلا مضغة من لحم. قال صلى الله عليه وسلم: "إنما كان ينبئ عنه لسانه هذا". من جملة حديث ابن عمر عند ابن جرير، وفي رواية: فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ما في قلبه تعلم، ولا لسانه صدقت". فقال: استغفر لي يا رسول الله، قال: "لا غفر الله لك". زجرا وتهويلا، "فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت له سابعة" من الليالي يؤرخون بها ويريدون الأيام، "حتى مات، فلفظته" طرحته "الأرض وعند غيره" كابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن الحسن البصري: قال صلى الله عليه وسلم حين جلس بين يديه: "أمنته بالله ثم قتلته". فما مكث إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض، "ثم عادوا به، فلفظته الأرض،" ثم عادوا به، فلفظته الأرض، "فلما غلب قومه عمدوا إلى صدين" بضم الصاد وفتحها، ودال مهملتين تثنية صد أي: جبلين، "فسطحوه" بينهما "ثم رضموا" بفتح الراء، والضاد المعجمة، أي جعلوا "عليه الحجارة" بعضها فوق بعض، "حتى واروه" وظاهره أن ذلك كله يوم الدفن، وفي رواية: أنهم حفروا له فأصبح، وقد لفظته الأرض، ثم عادوا، فحفروا له فأصبح, وقد لفظته الأرض إلى جنب قبره، قال الحسن: لا أدري كم قال أصحاب رسول الله، مرتين أو ثلاثا؟ وفي حديث جندب عند الطبراني وقتادة عن ابن جرير أن ذلك وقع ثلاث مرات، فإن صح، فيحتمل أنه لفظ يوم الدفن مرتين أو ثلاثا، ثم استقر به حتى أصبح، وقد لفظ أيضا حتى واروه بعد ثلاث أيضا بين الجبلين، فحفظ كل من الرواة ما لم يحفظ الآخر، ولا يخفى بعده، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وفي رواية ابن جرير: فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن يريد الله أن يعظكم". ونسب ابن إسحاق هذه السرية لابن أبي حدرد.   "وفي رواية ابن جرير" عن ابن عمر وكذا في مرسل الحسن عند ابن إسحاق، "فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال: "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم". إذ هي تقبل من ادعوا الألوهية، وجميع الكفار، "ولكن يريد الله أن يعظكم" وفي مرسل الحسن: ولكن الله أراد أن يعظمكم، فيحرم ما بينكم بما أراكم منه، وظاهر هذا أنهم ألقوا عليه الحجارة، قبل إخبارهم له عليه السلام، بلفظ الأرض. وفي رواية: أنها لما لفظته جاءوا، فذكروا ذلك له، فقال: "إن الأرض" ... إلخ، ثم ألقوها عليه هذا وبين ما ذكر من موته بعد سابعة من لقي المصطفى، بالسقيا وبين ما رواه ابن إسحاق، عن عروة بن الزبير عن أبيه وجده, شهدا حنينا، قالا: صلى بنا صلى الله عليه وسلم الظهر وهو بحنين. ثم جلس تحت ظل شجرة، فقام عيينة يطلب بدم عامر بن الأضبط وهو يومئذ رئيس غطفان، والأقرع بن حابس يدفع عن محلم لمكانه من خندف فتداولا الخصومة عنده، صلى الله عليه وسلم، ونحن نسمع ثم قبلوا الدية. ثم قالوا: أين صاحبكم هذا يستغفر له صلى الله عليه وسلم، فقام رجل آدم ضرب طويل عليه حلة قد كان تهيأ للقتل فيها حتى جلس بين يديه، فقال: "ما اسمك". قال: محلم بن جثامة، فرفع صلى الله عليه وسلم يده، ثم قال: "اللهم لا تغفر لمحلم بن جثامة". ثلاثا، فقام وهو يتلقى دموعه بفضل ردائه، فأما نحن، فنقول فيما بيننا: نرجو أنه صلى الله عليه وسلم استغفر له، وأما اظهر منه عليه السلام، فهذا انتهى بون بعيد لكن يحتمل الجمع، بأنه اجتمع به بالسقيا حين عادوا من السرية. ثم سارو معه في الفتح حتى غزاها وغزا حنينا، ثم اختصم عنده عيينة والأقرع. فلما قبلوا الدية جاءوا به ليستغفر له، فقال: "اللهم" ... إلخ. فمات بعد سبع، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر ويؤيد ذلك أنه لم يقع في حديث ابن أبي حدرد ولا ابن عمر تعيين المحل الذي أتوا به فيه، ووقع ذلك في حديث عروة عن أبويه، فوجب قبوله لأنه زيادة ثقة, والله أعلم. ونسب ابن إسحاق هذه السرية" التي نسبها ابن سعد وغيره لأبي قتادة "لابن أبي حدرد"، بمهملات بوزن جعفر, عبد الله بن سلامة بن عمير الأسلمي، الصحابي ابن الصحابي، المتوفى سنة إحدى وسبعين، وله إحدى وثمانون سنة، قال الحافظ: ووهم من أرخ موت أبيه فيها، فقال أعني ابن إسحاق: غزوة ابن أبي حدرد ببطن إضم وساق فيها حديثه، في قتل عامر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 ومعه رجلان إلى الغابة، لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه، فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة، حكاه مغلطاي, والله أعلم.   ونزول الآية، ثم حديث عروة الذي ذكرته مطولا، ثم حديث الحسن، ثم حديثا آخر بين الأقرع وعيينة، ثم ترجم عقبها غزوة ابن أبي حدرد الأسلمي الغابة فوهم المصنف في قوله، "ومعه رجلان", لم يسميا، "إلى الغابة لما بلغه صلى الله عليه وسلم، أن رفاعة بن قيس يجمع لحربه" قيسا قومه بالغابة "فقتلوا رفاعة وهزموا عسكره، وغنموا غنيمة عظيمة" من إبل وغنم، "حكاه مغلطاي،" لإدخاله قصة في أخرى، وأيضا فلم يقل أحد أنهم في سريتهم إلى إضم حاربوا أحدًا ولا غنموا بل صرح ابن سعد وشيخه كما مر بأنهم رجعوا ولم يلقوا جمعا. وأما سرية الغابة فقال ابن إسحاق: كان من حديثها فيما بلغني، عمن لا أتهم عن ابن أبي حدرد، قال: تزوجت امرأة من قومي، وأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أستعينه فقال: "وكم أصدقت". قلت: مائتي درهم، قال: "سبحان الله لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به". فلبثت أياما. وأقبل رفاعة بن قيس، أو قيس بن رفاعة، في بطن عظيم من بني جشم، فنزل بمن معه بالغابة، يريد جمع قيس على حربه صلى الله عليه وسلم، فدعاني صلى الله عليه وسلم، ورجلين، فقال: "اخرجوا إلى هذا الرجل، حتى تأتونا منه بخبر وعلم". فخرجنا ومنا النبل، والسيوف حتى جئنا قريبا من الحاضر مع غروب الشمس. فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمن في ناحية، وقلت لهما إذا سمعتماني قد كبرت، وشددت على العسكر، فكبرا وشدا معي فوالله إنا لننتظر غرة القوم وأن نصيب منهم شيئا، وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء، وقد كان لهم راع، قد سرح فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه، فقام رفاعة بن قيس، فجعل سيفه في عنقه، ثم قال: لأتبعن أثر راعينا هذا، لقد أصابه شر، فقال له نفر ممن معه: نحن نكفيك، قال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا فنحن معك، قال: والله لا يتبعني أحد منكم، فخرج حتى يمر بي فرميته بسهمي، فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم، ووثبت إليه فاحترزت رأسه وشددت في ناحية العسكر، وكبرت وشد صاحباي، وكبرا فوالله ما كان إلا النجاء ممن فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم، وما خف من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة، وغنما كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجئت برأسه أحمله معي، فأعانني صلى الله عليه وسلم، من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا فجمع إلى أهلي، وأما الواقدي وهو محمد بن عمر، فجعل هذه القصة مع قصة أبي قتادة إلى خضرة التي قبل هذه واحدة، وساق بسند له عن ابن أبي حدرد، قال: تزوجت ابنة سراقة بن حارثة النجاري، وقد قتل ببدر، فلم أصب شيئا من الدنيا كان أحب إليَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 .................................   من نكاحها، وأصدقتها مائتي درهم، فلم أجد شيئا أسوقه إليها، فقلت على الله ورسوله المعول، فجئت رسول الله، فأخبرته، فقال: كم سقت إليها، فقلت: مائتي درهم، فقال: "سبحان الله لو كنتم تغترفون من ناحية بطحان ما زدتم". فقلت: يا رسول الله! أعني على صداقها. فقال: "ما وافقت عندنا ما أعينك به، ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية، فهل لك في أن تخرج فيها؟ فإني أرجو أن يغنمك الله مهر زوجتك". فقلت: نعم، فخرجنا حتى جئنا الحاضر، فذكر القصة، وأن أبا قتادة ألف بين كل رجلين، وقاتل رجالا من القوم. فإذا فيهم رجل من طويل أقبل على ابن حدرد، وقال: يا مسلم هلم إلى الجنة يتهكم به، قال: فملت عليه، فقتلته وأخذت سيفه، فلما أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي، تكثر الالتفات خلفها وتبكي، فقلت: أي شيء تنظرين، قالت: أنظر والله إلى رجل إن كان حيا استنقذنا منكم، فقلت: لها، قد قتلته وهذا سيفه معلق بالقتب، قالت: فألق إليّ غمده، فلما رأته بكت ولبثت، ولا يخفى أن سياق كل من القصتين يبعد أو يمنع كونهما واحدة والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 " باب غزوة الفتح الأعظم ": ثم فتح مكة زادها الله شرفا. وهو كما قال في زاد المعاد: "الفتح الأعظم، الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين.   باب غزوة الفتح الأعظم: "ثم فتح مكة زادها الله شرفا", يحتمل أنه دعاء من المصنف، وأنه إخبار بأن الفتح النبوي زادها الله به شرفا على شرفها السابق، "وهو كما قال" العلامة ابن القيم، "في زاد المعاد" في هدي خير العباد: "الفتح الأعظم" من بقية الفتوحات قبله، كخيبر وفدك والحديبية، وعد فتحا لأمور تقدمت منها أن مقدمة الظهور ظهور، وهو قد كان مقدمة لهذا الفتح الأعظم، "الذي أعز الله به دينه", قواه وأظهره على جميع الأديان، إذ ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، "ورسوله وجنده" أنصاره المسلمون الذين بذلوا نفوسهم في نصرة دينه، وجعلوا أنصارا وجندا، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} لإخلاصهم في إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، "وحرمه الأمين" الآمن فيه من دخله، "واستنقذ" خلص "به بلده وبيته"، والإضافة للتشريف ولتمييزه لهما على غيرهما من البقاع، "الذي جعله الله هدى للعالمين" هاديا لهم لأنه قبلتهم ومتعبدهم، كما قال تعالى: {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} "من أيدي الكفار والمشركين" عبدة الأوثان، فهو عطف أخص على أعم، بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجا". خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية فإنه كان قد وقع الشرط: أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.   طول استيلائهم عليه، وعبادتهم لغير الله فيه، فجعله مثابة لعامة من قصده من المسلمين. "وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء وضربت أطناب" جمع طنب بضمتين وهو حبل الخباء الخمية، "عزه" استعارة بالكناية شبه العز بخباء متين، وأثبت الإطناب تخييلا، "على مناكب الجوزاء" بفتح الجيم وسكون الواو، وبالزاي والمد، يقال: إنها تعرض في جوز السماء، أي وسطها ولا استعارة فيها، ولا في مناكب أيضا لأنها اسم لنجوم متصلة بها، "ودخل الناس في دين الله أفواجا" جماعات جمع فوج، جاءوا بعد الفتح من أقطار الأرض طائعين، "وأشرق به وجه الأرض" وفي نسخة الدهر، "ضياء وابتهاجا" سرورا "خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب" بالفوقية جمع كتيبة، وهي القطعة من الجيش، "الإسلام وجنود الرحمن" أي الملائكة لما ورد أنها تحضر مواضع قتال المسلمين، مع الكفار وإن لم تقاتل، فالعطف مباين أو عام على خاص، إن أريد بجنوده ما يشمل الملائكة وغيرهم، وهذا أحسن من أنه مساو، "لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية" في شعبان سنة ثمان على رأس اثنين وعشرين شهرا، من صلح الحديبية. روى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم ال لعائشة صبيحة وقعة خزاعة: "لقد حدث يا عائشة في خزاعة أمر". فقالت: أترى قريشا تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم وقد أفناهم السيف؟ فقال: "ينقضون العهد لأمر يريده الله". قالت: يا رسول الله خير. قال: "خير". "فإنه كان قد وقع الشرط". كما رواه ابن إسحاق. حدثني الزهري عن المسور ومروان: "أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده", وكانت حلفاء عبد المطلب، وكان عليه الصلاة والسلام بذلك عارفا، ولقد جاءته خزاعة يومئذ بكتاب عبد المطلب، فقرأه عليه أبي بن كعب وهو: باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سراتهم وأهل الرأي غائبهم يقر بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية، فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام، فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الديلي من بني بكر في بني الديل.   عهود الله وعقوده وما لا ينسى أبدا. اليد واحدة والنصر واحد ما أشرف ثبير وثبت حراء وما بل بحر صوفة ولا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجددا أبد الدهر سرمدا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما أعرفني بحلفكم وأنتم على ما أسلمتم عليه من الحلف، وكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام". انتهى. من الشامية والحلف المنهي عنه ما كان على الفتن والقتال والغارات والذي قواه الإسلام ما كان على نصر المظلوم وصلة الأرحام والخير ونصرة الحق، كما في النهاية. قال ابن إسحاق: "وكان بيني بني بكر" بن عبد مناة بن كنانة "وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية" وذلك أن مالك بن عباد من بني الحضرمي خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه وقتلوه وأخذوا ماله وكان حليفا للأسود بن رزن بفتح الراء وكسرها، كما في الروض والمحكم فزاي ساكنة وتفتح كما في الإملاء فنون فعدت بنو بكر على خزاعي فقتلوه حمية للأسود فعدت خزاعة على بني الأسود وهم ذؤيب تصغير ذئب وسلمى بفتح السين وكلثوم فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم وكان قوم الأسود يؤدون ديتين لفضلهم في بني بكر وباقيهم دية دية، فبينما هم كذلك بعث صلى الله عليه وسلم "فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام" وإن لم يسلموا، "فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية" بن عروة بن يعمر بن نفاثة بضم الون وخفة الفاء فألف فمثلثة ابن عدي بن الديل "الديلمي" بكسر المهملة وسكون التحتية كما ضبطه الحافظ وغيره أبو معاوية صحابي من مسلمة الفتح وعاش إلى أول إمارة يزيد وعمر مائة وعشرين سنة. روى له البخاري ومسلم والنسائي "من بني بكر في بني الديل" بكسر الدال المهملة وسكون الياء كما قاله الكسائي وأبو عبيد وغيرهما، وقال الأصمعي وسيبويه وأبو حاتم وغيرهم هو بضم الدال وكسر الهمزة وإنما فتحت في النس كما فتحت ميم النمر في النمري، ولام سلمة في السلمي فرارا من توالي الكسرات وكان عيسى بن عمر ويونس وغيرهما يكسرانها في النسب تبقية على الأصل. قال الأصمعي: وهو شاذ في القياس وهو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة كما في مقدمة الفتح ونحوه في التبصير له، ففي قول الشامي بكسر الدال وسكون الهمزة وتسهل نظر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 حتى بين خزاعة وهم على ماء لهم يقال له: الوتير, فأصاب منهم رجلا يقال له: منبه، واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال. وأمدت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية.   لأن الذين قالوا بكسر الدال، إنما قالوا بعدها تحتية لا همزة، والذين قالوا همزة إنما قالوا بكسرها والدال مضمومة قال ابن إسحاق ونوفل يومئذ قائدهم وليس كل بني بكر تابعه "حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم" بأسفل مكة "يقال له: الوتير" بفتح الواو وكسر الفوقية وسكون التحتية آخره راء. قال السهيلي: وهو في كلام العرب الورد الأبيض سمي به الماء "فأصاب منهم رجلا" أبهمه ابن إسحاق في أول عبارته ثم بعد قليل قال: "يقال له: منبه" بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة. قال ابن إسحاق وكان رجلا مفئودا أي ضعيف الفؤاد، خرج هو ورجل من قومه يقال له: تميم فقال له منبه: يا تميم انج بنفسك فوالله إني لميت قتلوني أو تركوني لقد أنبت فؤادي فأفلت تميم وأدركوا منبها فقتلوه فليسا برجلين كما اقتضاه قول البرهان قوله رجلا لا أعرف اسمه ثم ضبط منبها بلفظ اسم الفاعل، قال ولا أعلم ترجمته إلا أنه كافر إلا أن يقال مراده لا أعرف له اسما عند من ذكر أسماء الرجال، وإنما وقفت عليه في السيرة فيحتمل أنه اسم كما هو الظاهر المتبادر وأنه صفة وله اسم آخر، وهذا مع ما فيه من التعسف أحوج إليه التماس المخرج لمثل هذا الحافظ حتى لا يتناقض في أسطر يسيرة، "واستيقظت" تنبهت "لهم خزاعة" لما علموا بهم "فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال" فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل: إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك، فقال كلمة عظيمة لا إله له يا بني بكور أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبوا ثأركم فيه؟ "وأمدت قريش" حلفاءهم "بني بكر بالسلاح وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية" منهم: صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو قاله موسى بن عقبة. وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص قاله ابن سعد. فلما دخلوا مكة لجأت خزاعة إلى دار بجديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم، يقال له: رافع فانتهوا بهم في عماية الصبح ودخلت رؤساء قريش منازلهم وهم يظنون أنهم لا يعرفون، وأن هذا لا يبلغه عليه الصلاة والسلام وأصبحت خزاعة مقتولين على باب بديل ورافع فقال سهيل لنوفل: قد رأيت الذي صنعنا بك وبأصحابك وبمن قتلت من القوم وأنت قد حصرتهم تريد قتل من بقي وهذا ما لا نطاوعك عليه فاتركهم فتركهم فخرجوا وندمت قريش على ما صنعوا وعرفوا أنه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين المصطفى وجاء الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى صفوان, ومن سمي، فلاماهم بما صنعوا، وقالا: إن بينكم وبين محمد مدة، وهذا نقض لها أخرج مسدد في مسنده، والواقدي أن قريشا ندمت، فقالت: إن محمدا غازينا، فقال ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 ولما خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه. فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: "لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسي". وفي المعجم الصغير، من حديث ميمونة أنها سمعته صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه   أبي سرح: لا يغزوكم حتى يخيركم في خصال كلها أهون من غزوه، يرسل إليكم أن دوا قتلى خزاعة وهم ثلاثة وعشرون قتيلا أو تبرءوا من حلف بني نفاثة أو ننبذ إليكم على سواء، فقال سهيل: نبرأ من حلفهم أسهل وقال شيبة: ندي القتلى أهون. وقال قرطة بن عبد عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء. وقال أبو سفيان ليس هذا بشيء وما الرأي الأصوب إلا جحد هذا الأمر أن تكون قريش دخلت في نقض عهد أو قطع مدة وأنه قطع قوم بغير رضا منا ولا مشورة فما علينا. قالوا: هذا الرأي لا رأي غيره، "ولما" انقضى القتال "خرج" كما رواه ابن إسحاق وغيره "عمرو" بفتح العين وقيل بضمها وصححه الذهبي "ابن سالم" بن كلثوم "الخزاعي" أحد بني كعب الصحابي. ذكر ابن الكلبي، وأبو عبيد، والطبري أنه أحد من عمل ألوية خزاعة يوم الفتح. زاد ابن سعد وشيخه "في أربعين راكبا من خزاعة" ترجى اليعمري أن يكونوا هم النفر الذين قدموا مع بديل وفيه أن الأربعين لا يقال لهم: نفر، "فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه فقام صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه", وهو يقول: "لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر" ضمن معنى أمنع فعدي بمن في قوله "منه" وفي نسخة به "نفسي" فلا تضمين. وروى عبد الرزاق وغيره عن ابن عباس، مرفوعا: "والذي نفسي بيده لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي وأهل بيتي". وروى أبو يعلى بسند جيد عن عائشة: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب ما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان، وقال: "لا نصرني الله تعالى إن لم أنصر بني كعب". "وفي المعجم الصغير" قيد به، لأنه ساق الحديث بتمامه إلى آخر الشعر. وروى في الكبير بعض الحديث، وأما من عزاه لهما كالشامي فلذكره عنه ما اتفقت عليه روايته في الكبير والصغير "من حديث ميمونة" بنت الحارث، أم المؤمنين "أنها" قالت: بات عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام ليتوضأ إلى الصلاة "سمعته" لفظها فسمعته "صلى الله عليه وسلم يقول في متوضئه" بميم مضمومة ففوقية مفتوحة فواو فضاد معجمة مشددة مفتوحتين فهمزة مكسورة أي مكان وضوئه، كما قال الشامي؛ لأنه أنسب من زمانه ومن نفسه وإن أطلق عليهما أيضا، فإن مزيد الثلاثي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 ليلا: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر". ثم خرج عليه الصلاة والسلام فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا. قالت: فدخل عليها أبو بكر فقال: يا بنية، ما هذا الجهاز؟ فقالت: والله ما أدري، فقال: والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر.   يستوي فيه اسم الفاعل، واسم المفعول، واسم الزمان، والمكان، والمصدر في لفظ واحد، ليلا: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت". بفتح التاء، فيها خطابا للذي سمعه "ثلاثا، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول في متوضئك: "لبيك لبيك لبيك -ثلاثا- نصرت نصرت نصرت -ثلاثا". كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك أحد؟ " فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا راجز" بجيم وزاي، قائل الرجز نوع من الشعر معروف وصحف من قال، راجل "بني كعب" بطن من خزاعة "يستصرخني" يستغيث بي "ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر" ففي إخباره به قبل قدومه علم من أعلام النبوة باهر، فأما أنه أعلم بذلك بالوحي وعلم ما يصوره الراجز في نفسه، أو يكلمه به أصحابه فأجابه بذلك، وأنه كان يرتجز في سفره، وأسمعه الله كلامه قبل قدومه بثلاث، ولا يعد في ذلك، فقد روى أبو نعيم مرفوعا: "إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط". الحديث. قال ميمونة: "ثم خرج عليه الصلاة والسلام" بعد قدوم الوفد، وبديل ثم أبي سفيان كما عند أصحاب المغازي لا قبل مجيئهم كما يوهمه السياق ففيه اختصار، "فأمر عائشة أن تجهزه" بالتثقيل أي: تهيئ له أهبة السفر وما يحتاج إليه في قطع المسافة "ولا تعلم أحدا" وعند ابن إسحاق وابن عقبة، والواقدي، أنه قال: "جهزينا وأخفي أمرك". وقال: "اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فلتة" وأمر جماعة أن تقيم بالأنقاب وكان عمر يطوف على الأنقاب فيقول لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه وكانت، الأنقاب مسلمة إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ منه ويسأل عنه. "قالت" ميمونة، راوية الحديث: "فدخل عليها" أي على عائشة "أبو بكر، فقال: يا بنية ما هذا الجهاز" بفتح الجيم والكسر لغة قليلة كما في المصباح "فقالت: والله ما أدري، فقال" أبو بكر: "والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر", وهم الروم؛ لأن جدهم روم بن عيص بكسر العين ابن إسحاق بن إبراهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر أو لأن جدته سارة، حلته بالذهب، وقيل غير ذلك وكأنه خصهم لتوقعهم الغزو إليهم لما فعلوا، مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله لا علم لي. قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح في الناس فسمعت الراجز ينشده: يا رب إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وزعموا أن لست تدعو أحدا ... .........................   أهل مؤتة "فأين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت" عائشة: "والله لا علم لي" وعند ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة أنها أعلمته، فقال: والله ما انتقضت الهدنة بيننا، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر له أنهم أول من غدر ثم أمر بالطرق فحبست فعمي على أهل مكة لا يأتيهم خبر ويحتمل الجمع بأنه دخل عليها مرتين الأولى قالت له: لا علم لي، حتى أخبرته صلى الله عليه وسلم وأذن لها في إخبار أبيها لكونه غيبة سره فدخل عليها ثانيا فأخبرته وكأنه لم يبلغه نقضهم العهد أو تأول أنه غير ناقض لكونه لم يصدر من جميعهم، فقال: ما انتقضت الهدنة، وأخبر النبي والله أعلم. "قالت" ميمونة: كما هو رواية الطبراني "فأقمنا ثلاثا" لفظ الطبراني بالناس، صبح اليوم الثالث، "فسمعت الراجز ينشده" وعند الواقدي، وغيره فلما فرغوا من قصتهم قام عمرو بن سالم، فقال وهو جالس بالمسجد: ظهري الناس "يا رب إني ناشد" طاب ومذكر "محمدا". "حلف" بكسر المهملة وإسكان اللام مناصرة "أبينا وأبيه" عبد المطلب إشارة إلى ما مر "الأتلدا" بفتح أوله وسكون والفوقية وفتح اللام، وبالدال المهملة، أي الأقدم مما بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم وقول الشامي أي القديم لا يناسب، أفعل التفضيل إنما هو تفسير للتليد وزاد في رواية ابن إسحاق وغيره: قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا فلم نزغ سدى ولد بضم الواو وسكون اللام، لغة في ولد، وذلك أن ولد بني عبد مناف أمهم من خزاعة وكذا أم قصي فاطمة الخزاعية، كما في الروض وثمت حرف عطف أدخل عليه تاء التأنيث، "إن" بكسر الهمزة، وتقديره أقول: "قريشا أخلفوك" أو هو التفات وإلا فمقتضى الظاهر أخلفوه، "الموعدا". "ونقضوا" عطف تفسير لأخلفوك "ميثاقك" عهدك "المؤكدا" بالكتب والإشهاد "وزعموا أن لست" بفتح التاء على الخطاب "تدعو أحدًا" لنصرتنا، وبضم التاء على رواية إسحاق، وجماعة بعد قوله، المؤكد أقوله جماعة: وجعلوا لي في كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 .......................... ... فانصر هداك الله نصرا أبدا وادع عباد الله يأتوا مددا ... فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا قال في القاموس: وتربد -يعني بالراء- تغير. انتهى. وزاد ابن إسحاق: هم بيتونا بالوتير هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا وزعموا أن لست أدعوا أحدا ... وهم أذل وأقل عددا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم".   "فانصر هداك الله نصرا أبدا" مستمرا لا ينقطع أثره من التأبيد وهذه رواية الطبراني، ورواه ابن إسحاق، وطائفة نصرا اعتدا بفتح العين المهملة وكسر الفوقية، بعدها مهملة، أي حاضرا مهيئا أو قويا. "وادع عباد الله يأتوا مددا" بفتحتين جيوشا ينصرونا، ويقوونا "فيهم رسول الله" أتى به لدفع توهم أنه يبعث سرية وإنما القصد أنه فيهم حالة كونه "قد تجردا" روي بحاء مهملة أي غضب وبجيم أي شمر وتهيأ لحربهم "إن سيم" بكسر المهملة وسكون التحتية، وبالميم، مبني للمفعول، "خسفا" بفتح المعجمة وضمها وسكون المهملة وبالفاء، أي أولى ذلا "وجهه تربدا،" بفتح لفوقية فراء فموحدة فمهملة "قال في القاموس وتربد يعني بالراء تغير. انتهى". والمعنى هنا أنه صلى الله عليه وسلم إن قصد بذل له أو لأحد من أهل عهده تغير وجهه حتى ينتقم ممن أراد ذلك لله وهذه رواية الطبراني في الصغير، "وزاد ابن إسحاق" عليه في الرجز "هم بيتونا" أي قصدونا ليلا من غير علم "بالوتير هجدا" بضم الهاء، وفتح الجيم مشددة جمع هاجد، وهو النائم "وقتلونا ركعا وسجدا" هذا يدل على أنه كان فيهم من صلى لله فقتل. قال السهيلي متعقبا قول نفسه، في قوله: ثمت أسلمنا من السلم لأنهم لم يكونوا آمنوا بعد، قال في الإصابة وتأوله بعضهم، بأنهم حلفاء الذين يركعون ويسجدون ولا يخفى بعده، قال: وقد رواه ابن إسحاق أي: في رواية، غير زياد هم قتلونا بصعيد هجدا، نتلو القرآن ركعا وسجدا. انتهى. يعني فهذا يبطل التأويل "وزعموا أن لست"، بضم التاء، أنا "أدعو أحدا، وهم أذل وأقل، عددا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" جوز البرهان، ضم عمرو، وفتح ابن وفتحهما وضمهما، قال: وذكر الثالث في التسهيل. انتهى. في شرح التسهيل للدماميني رواه الأخفش عن بعض العرب، وكان قائله، راعى أن التابع ينبغي أن يتأخر عن المتبوع ولم يراع أن الأصل الحامل على الاتباع قصد التخفيف. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 فكان ذلك ما هاج فتح مكة. وقد ذكر البزار من حديث أبي هريرة بعض الأبيات المذكورة.   "فكان ذلك ما" الذي "هاج" حرك "فتح مكة" زاد ابن إسحاق ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: "إن هذه السحاب، لتستهل بنصر بني كعب". والعنان بفتح المهملة، ونونين بينهما ألف السحاب، "وقد ذكر"، أي روى "البزار من حديث أبي هريرة، بعض الأبيات المذكورة" بإسناد حسن، موصول. ورواه ابن أبي شيبة عن أبي سلمة، وعكرمة، مرسلا كما في الفتح، قال في الإصابة: ورويت هذه الأبيات لعمر بن كلثوم، أخرجه ابن منده، ويحتمل أن يكون هو عمرو بن سالم ونسب في هذه الرواية إلى جد جده. انتهى. وعند الواقدي، أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سالم وأصحابه: "ارجعوا وتفرقوا في الأودية". فرجعوا وتفرقوا وذهبت فرقة إلى الساحل بعرض الطريق وعند ابن إسحاق وغيره، ثم قدم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فأخبروه صلى الله عليه وسلم الخبر، ورجعوا، قال ابن عقبة: ولزم بديل الطريق في نفر من قومه وروى الواقدي عن محجن بن وهب أن بديلا لم يفارق مكة من الحديبية حتى لقيه في الفتح بمر الظهران قال الواقدي: وهذا أثبت. انتهى. وليس بشيء والمثبت مقدم على النافي. وروى ابن عائذ، عن ابن عمران، ركب خزاعة لما قدموا وأخبروه خبرهم، قال صلى الله عليه وسلم: "فمن تهمتكم وظنتكم"؟ قالوا بني بكر: قال: "أكلها"؟ قالوا: لا ولكن بنو نفاثة ورأسهم نوفل، قال: "هذا بطن من بني بكر، وأنا باعث إلى أهل مكة، فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال ثلاث"، فبعث إليهم ضمرة يخبرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرءوا من حلف بني نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة، فأخبرهم، فقال قرطة بن عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء، فرجع بذلك فندمت قريش على ما ردوا وبعثت أبا سفيان، قال: في الفتح، وكذا، أخرجه مسدد من مرسل محمد بن عباد بن جعفر، وأنكره الواقدي وزعم أن أبا سفيان إنما توجه مبادرا قبل أن يبلغ المسلمين الخبر, والله أعلم. انتهى. وروى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كأنكم بأبي سفيان، قد جاء يقول جدد العهد، وزد في المدة وهو راجع بسخطة". ومشى الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة إلى أبي سفيان، فقالا: لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه، فقال أبو سفيان: قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وخفت من شرها، قالوا: وما هي؟ قال: رأت دما أقبل من الحجون يسيل، حتى وقف بالخندمة مليا، ثم كان ذلك الدم كأن لم يكن فكرهوا الرؤيا، وقال أبو سفيان: هذا أمر لم أشهده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة. فأبى عليه.   ولم أغب عنه لا يحمل إلا علي ولا والله ما شوورت فيه ولا هويته، حين بلغني ليغزوننا محمد إن صدقني ظني وهو صادقي، وما بد في أن آتي محمدا فأكلمه، فقالت قريش: أصبت فخرج ومعن مولى له على راحلتين، "وقدم" كما رواه ابن إسحاق، وابن عائذ عن عروة "أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة" فدخل على بنته أم حبيبة، فذهب ليجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم فطوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني. قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك، نجس ولم أحب أن تجلس على فراشه صلى الله عليه وسلم. قال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر, فقالت: بل هداني الله تعالى للإسلام، فأنت يا أبت سيد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدخول في الإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع، ولا يبصر فقام؟ من عندها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، "يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة فأبى عليه" قال ابن إسحاق: فكلمه فلم يرد عليه شيء, وعند الواقدي: فقال: يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية، أجدد العهد وزدنا في المدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "فلذلك جئت". قال: نعم. فقال: "هل كان من حدث"؟. فقال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا لا نغير ولا نبدل، فقال صلى الله عليه وسلم: "فنحن على ذلك". فأعاد أبو سفيان القول فلم يرد عليه شيئا، فذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل، وعند الواقدي، فقال: تكلم محمدًا وتجير أنت بين الناس، فقال: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عمر. فقال: أنا أشفع لكم والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. زاد الواقدي ما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله وما كان منه متينا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله فقال: أبو سفيان جوزيت من ذي رحم شر إثم. دخل عليٌّ عليَّ، وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديه، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما وإني جئت في حاجة فلا أرجع كما جئت خائبا فاشفع لي، فقال عليٌّ: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة وقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما كان يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الواقدي، أنه أتى عثمان قبل، علي، فقال: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى عليا، ثم سعد بن عبادة، فقال: يا أبا ثابت إنك سيد هذه البحيرة، فأجر بين الناس وزد في المدة، فقال سعد: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجير أحد عليه صلى الله عليه وسلم، فأتى أشراف قريش والأنصار فكلهم يقول: جواري في جوار رسول الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 وانصرف إلى مكة. فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد بذلك.   ما يجير أحد عليه، فلما أيس منهم دخل على فاطمة، فقال: هل لك أن تجيري بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة وأبت عليه فقال: مري ابنك، فقالت: ما بلغ أن يجير، فقال لعلي: يا أبا حسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك قال: أوترى ذلك مغنيا عني شيئا، قال: لا والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني قد أجرت بين الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة"؟. ثم ركب بعيره "وانصرف إلى مكة". وعند الواقدي: وطالت غيبته واتهمته قريش أشد التهمة وقالوا: قد صبأ واتبع محمدًا سرا وكتم إسلامه، فلما دخل على هند امرأته ليلا، قالت: لقد غبت حتى اتهمك قومك، فإن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح، فأنت الرجل، ثم جلس منها مجلس الرجل من امرأته فقالت: ما صنعت؟ فأخبرها الخبر وقال: لم أجد إلا ما قال لي علي فضربت برجلها في صدره، وقالت: قبحت من رسول قوم فما جئت بخير فلما أصبح حلق رأسه عند إساف ونائلة وذبح لهما ومسح بالدم رأسيهما وقال: لا أفارق عبادتكما حتى أموت إبراء لقريش مما اتهموه به، فقالوا له: ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد أو زيادة في مدة ما نأمن به أن يغزونا فقال: والله لقد أبى عليّ. ولابن إسحاق كلمته فوالله ما رد عليّ شيئا ثم جئت أبا بكر، فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو وفي لفظ أعدى العدو وكلمت عليه أصحابه فما قدرت على شيء منهم إلا أنهم يرمونني بكلمة واحدة وما رأيت قوما يوما، أطوع لملك عليهم منهم له. إلا أن عليا، لما ضاقت بي الأمور، قال: أنت سيد بني كنانة، فأجر بين الناس فناديت بالجوار. قالوا: هل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: رضيت بغير رضا وجئتنا بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ولعمر الله ما جوارك بجائز وإن إخفارك عليهم لهين والله إن زاد على عليٍّ أن لعب بك تلعبا، فقال: والله ما وجدت غير ذلك. وفي مرسل عكرمة عند ابن أبي شيبة، فقالوا: ما جئتنا بحرب فنحذر ولا بصلح فنأمن "فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير إعلام أحد بذلك" لعامة الناس أولا فلا ينافي عند ابن إسحاق وغيره ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها". فتجهز الناس، وقال حسان يحرضهم ويذكر مصاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 فكتب حاطب كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك. فأطلع الله نبيه على ذلك.   رجال خزاعة: عناني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رحال بني كعب تحز رقابها بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم ... وقتلى كثير لم تجس ثيابها ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي ... سهيل بن عمرو حرها وعقابها فلا تأمننا يابن أم مجالد ... إذا احتلبت صرفا واعضل نابها فلا تجزعوا منها فإن سيوفنا ... لها وقعة بالموت يفتح بابها قال ابن إسحاق: بأيدي رجال يعني، قريشا وابن أم مجالد: عكرمة بن أبي جهل وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي مالك الأشجعي قال: خرج صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجلس عند بابها، وكان إذا جلس وحده لم يأته أحد، حتى يدعوه، فقال: "ادع لي أبا بكر". فجاء، فجلس بين يديه فناجاه طويلا ثم أمره فجلس عن يمينه، ثم قال: "ادع لي عمر". فجلس فناجاه طويلا فرفع عمر صوته، فقال: يا رسول الله هم رأس الكفر هم الذين زعموا أنك ساحر وأنك كاهن وأنك كذاب وأنك مفتر، ولم يدع شيئا مما كانوا يقولونه إلا ذكره فأمره فجلس، عن شماله ثم دعا الناس، فقال: "ألا أحدثكم بمثل صاحبيكم هذين". قالوا: نعم يا رسول الله فأقبل بوجهه الكريم عل أبي بكر، فقال: "إن إبراهيم كان ألين في الله تعال من الدهن بالليل، ثم أقبل على عمر، فقال: إن نوحا كان أشد في الله تعالى من الحجر وإن الأمر أمر عمر فتجهزوا وتعاونوا". فتبعوا أبا بكر فقالوا: إنا كرهنا أن نسأل عمر عما ناجاك به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قال لي: "كيف تأمرني في غزو مكة". قلت: يا رسول الله هم قومك، حتى رأيت أنه سيطيعني، ثم دعا عمر، فقال عمر: هم رأس الكفر حتى ذكر له كل شيء كانوا يقولونه وايم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة, وقد أمركم بالجهاز لتغزوا مكة، "فكتب حاطب" بن أبي بلتعة بموحدة مفتوحة ولام ساكنة، ففوقية فعين مهملة مفتوحتين عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد اتفقوا على شهوده بدرا مات في سنة ثلاثين، وله خمس وستون سنة. قال ابن عبد البر: لا أعلم له غير حديث واحد: "من رآني بعد موتي" ... الحديث. ورده في الإصابة بأن له خمسة أحاديث به وذكرها "كتابا وأرسله إلى مكة يخبر بذلك" مع امرأة استأجرها بدينار وقيل: بعشرة دنانير، وقال لها: أخفيه ما استطعتي، ولا تمري على الطريق، فإن عليه حرسا ذكره الواقدي، "فأطلع الله نبيه على ذلك" وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، وغيره وأتاه الخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 فقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب والزبير والمقداد: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها". قال: فانطلقنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب.   من السماء "فقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب، والزبير، والمقداد" كما أخرجه الشيخان وغيرهما من طريق عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: بعثني صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد فقال: "انطلقوا". وللبخاري في غزوة بدر من رواية عبد الرحمن السلمي عن علي بعثني وأبا مرثد الغنوي، والزبير وكلنا فارس، قال الحافظ: فيحتمل أن الثلاثة كانوا معه، فذكر أحد الراويين عنه ما لم يذكر الآخر ولم يذكر ابن إسحاق مع علي والزبير أحدا وساق الخبر بالتثنية. قال: انطلقا فخرجا حتى أدركاها فاستنزلاها. فالذي يظهر أنه كان مع كل منهما آخر تبعا له. انتهى. ووقع في البيضاوي زيادة عمار وطلحة، والله أعلم بصحته "حتى تأتوا روضة خاخ" بخاءين معجمتين بينهما ألف على بريد من المدينة. قال السهيلي: وصحفه أبو عوانة، وهشيم بحاء وجيم "فإن بها ظعينة" بفتح الظاء المعجمة وكسر العين المهملة فتحتية فنون مفتوحة امرأة في هودج سماها ابن إسحاق سارة، والواقدي، كنود، وفي رواية: أم سارة، وقيل: كانت مولاة العباس ذكره الحافظ وذكر المصنف في الجهاد أن اسمها سارة على المشهور، وتكنى أم سارة. انتهى. وفي الإصابة سارة مولاة عمرو بن هاشم بن المطلب كان معها كتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، كذا في التجريد، "معها كتاب" وزاد في غزوة بدر من حاطب بن أبي بلتعة إلى المركين "فخذوه منها". "قال: فانطلقنا" تعادي بنا خيلنا كما في الرواية، بحذف إحدى التاءين تجري "حتى أتينا الروضة" المذكورة "فإذا نحن بالظعينة". وعند ابن إسحاق من مرسل عروة، فخرجا حتى أدركاها بالخليقة خليقة بني أبي أحمد، بقاف وخاء معجمة كسفينة، منزل على اثني عشر ميلا من المدينة، وعند ابن عقبة، أدركاها ببطن ريم بكسر الراء وسكون التحتية والهمز وتركه واد بالمدينة، فيحتمل أن روضة اسم لمكان يشتمل على بطن رئم والخليقة، وإلا فما في الصحيح أصح. وللبخاري في غزوة بدر فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فقلنا" لها: "أخرجي" بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء "الكتاب. قالت: ما معي كتاب". زاد البخاري في بدر: فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قالت: فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر.   المصنف بفتحتين وللأصيلي بضم الكاف، وكسر المعجمة مخففة "قلنا: لتخرجن" بضم الفوقية وكسر الراء والجيم "الكتاب أو لنلقين" بضم النون، وكسر القاف، وفتح التحتية ونون التأكيد الثقيلة نحن "الثياب". وللأصيلي وأبي الوقت بضم الفوقية وحذف التحتية، وفي بعض الأصول أو لنلقي بتحتية مكسورة أو مفتوحة، بعد القاف والصواب في العربية أو لتلقن بدون باء لأن النون الثقيلة إذا اجتمعت مع الياء الساكنة حذفت الياء لالتقاء الساكنين، لكن أجاب الكرماني وتبعه البرماوي، وغيره بأن الرواية إذا صحت تؤول الكسرة بأنها لمشاكلة لتخرجن، وباب المشاكلة واسع والفتح بالحمل على المؤنث الغائب على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة قاله المصنف في الجهاد، وفي رواية ابن إسحاق، فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا لتخرجن لنا هذا الكتاب، أو لنكشفنك "قالت": كذا بالتأنيث في الفرع وفي غيره. قال: أفاده المصنف ويوجه التأنيث بأن فيه حذفا، ففي رواية ابن إسحاق فلما رأت الجد منه قالت: أعرض فأعرض فحلت قرونها "فأخرجته من عقاصها" بكسر المهملة وبالقاف والصاد المهملة الخيط الذي تعتقص به أطراف الذوائب أو الشعر المضفور. وقال المنذري: هو لي الشعر بعضه على بعض على الرأس وتدخل أطرافه في أصوله. وقيل: هو السير الذي تجمع به شعرها على رأسها. وللبخاري في بدر فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته الحجزة بضم المهملة وسكون الجيم وفتح الزاي معقد الإزار، قال في النور: والظاهر أن الكتاب كان ف ضفائرها وجعلت الضفائر في حجزتها. انتهى. وذكر في الفتح هنا أنه قدم في الجهاد وجه الجمع بين كونه في عقاصها أو في حجزتها وراجعته فلم أجده فيه ولا في بدر، "فأتينا به" بالكتاب "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وللمستملي في الجهاد فأتينا بها، وللبخاري في بدر فانطلقنا بها، قال المصنف: أي بالصحيفة المكتوب فيها قول الكرماني أو بالمرأة معارض بما رواه الواقدي بلفظ: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى المشركين فخذوه وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها". انتهى. "فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة" وهي التظرف في اللغة واسمه عمر، وقاله السهيلي: "إلى ناس من المشركين بمكة": سهيل, وصفوان، وعكرمة كما يأتي "يخبرهم ببعض أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا حاطب، ما هذا"؟. قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقا في قريش -يقول: كنت حليف ولم أكن من أنفسها- وكان من معكم من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذا فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه قد صدقكم". فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا.   رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي مرسل عروة يخبرهم بالذي أجمع عليه صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم فقال: "يا حاطب ما هذا"؟. وفي مرسل عروة، فدعاه. فقال: "ما حملك على هذا؟ " وللبخاري في بدر: "ما حملك على ما صنعت"؟، "قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ" بالمؤاخذة على ما صنعت. ولابن إسحاق: أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت، "إني كنت امرأ ملصقا" بضم الميم وفتح الصاد، "في قريش" أي مضافا لهم من إلصاق الشيء بغيره وليس منه وقد فسره بقوله: "يقول: كنت حليفا" لها "ولم أكن من أنفسها" بضم الفاء، قال في الإصابة: يقال: إنه حالف الزبير وقيل: كان مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى فكاتبه، فأدى كتابته وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق: ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه، "وكان من معك من المهاجرين" ممن له أهل أو مال بمكة "لهم قرابات" بالجمع "يحمون بها أهليهم وأموالهم" فليس المراد جميع المهاجرين لأن كثيرا منهم ليس له بمكة مال ولا أهل، "فأحببت إذ" أي حين "فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخد"، مصدرية في محل نصب مفعول أحببت "عندهم يدا" أي نعمة ومنة عليهم "يحمون بها قرابتي"، وروى ابن شاهين، والطبراني وغيرهما، فقال حاطب: والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكنني، كنت امرأ غريبا ولي بمكة بنون وأخوة وعند ابن مردويه، من حديث ابن عباس، عن عمر، فكتبت كتابا لا يضر الله ولا رسوله "ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما" بفتح الهمزة، وخفة الميم "إنه قد صدقكم" بتخفيف الدال، أي قال الصدق، فيما أخبركم به زاد البخاري في بدر: "ولا تقولوا له إلا خيرا". "فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال: "إنه قد شهد بدر" وكأنه قال: وهل شهودها يسقط عنه هذا الذنب الكبير، فقال: "وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا". وللبخاري في الجهاد: "وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر". قال المصنف: استعمل لعل استعمال عسى، فأتى, فإن قال النووي: الترجي هذا راجع إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] رواه البخاري. قال في فتح الباري: وإنما قال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق مع تصديق.   عمر لأن وقوع هذا الأمر محقق عند الرسول. انتهى. وفي الفتح هي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم. وقد قال العلماء: الترجي في كلام الله وكلام الرسول للوقوع وعند أحمد، وأبي داود، وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة، بالجزم، ولفظه: "إن الله اطلع على أهل بدر". "فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" , زاد البخاري في بدر: فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. قال الحافظ اتفقوا على أن هذه البشارة فيما يتعلق، بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها. "فأنزل الله تعالى" السورة كما في لفظ البخاري: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فيه أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} أي كفار مكة {أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} حال من ضمير لا تتخذوا أي لا تتخذوهم أولياء ملقين {إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تبذلونها لهم ودخول الباء وعدمه سواء عند الفراء، وقال سيبويه: لا تزاد في الواجب فمفعول تلقون عند طائفة من البصريين محذوف أي النصيحة. وقال النحاس: أي تخبرونهم بما يخبر به الرجل أهل مودته وهذا التقدير إن نفع هنا لم ينفع في مثل قول العرب: ألقى إليه بوسادة أو ثوب، فيقال: إن ألقى قسمان وضع الشيء بالأرض وفي الآية إنما هو إلقاء بكتاب وإرسال به فعبر عنه بالمودة؛ لأنه من أفعال أهلها فمن ثم حسنت الباء؛ لأنه إرسال بشيء، كذا في الروض "إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} " أخطأ طريق الهدى والصواب، والسواء في الأصل السوط ودل هذا الأغياء على أن قوله فأنزل الله السورة مجاز من تسمية الجزء باسم الكل، أو من مجاز الحذف أي بعض السورة التي أولها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . وفي مرسل عروة، عند ابن إسحاق: فأنزل الله في حاطب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} "رواه البخاري"، هنا وقبله في بدر وفي الجهاد وبعده في التفسير "قال في فتح الباري" دفعا لإشكال مشهور علم من قوله: "وإنما قال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق" زاد البخاري في بدر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين "مع تصديق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به، لما كان عند عمر من القوة في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم استحق القتل. لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله. وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر. وعذر حاطب ما ذكره، فإنه فعل ذلك متأولا أن لا ضرر فيه. وعند الطبراني من طريق الحارث عن علي في هذه القصة فقال: "أليس قد شهد بدرا -أو: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فأرشد إلى علة ترك قتله. وعند الطبراني أيضا عن عروة: "فإني غافر لكم".   رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاطب فيما اعتذر به", ونهيه أن يقال له إلا خيرا. "لما كان عند عمر من القوة" الشدة "في الدين وبغض المنافقين، فظن أن من خالف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم" من إخفاء مسيره عن قريش وحرصه على عدم وصول خبره إليهم، وبعثه جماعة على الطريق حتى لا يبلغهم الخبر، كما مر وظهور هذا بين الصحابة، لا يخفى على حاطب رضي الله عنهم أجمعين، فلذا ظن أنه "استحق القتل لكنه لم يجزم بذلك، فلذلك استأذن في قتله" ولو جزم به لما استأذن، "وأطلق عليه منافقا لكونه أبطن خلاف ما أظهر", فلم يرد عمر أنه أظهر الإسلام وأخفى الكفر، فلا يشكل بتصديقه له عليه السلام، بأنه ما فعل ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فإن هذه الشهادة نافية للنفاق قطعا "وعذر حاطب ما ذكره" من خوفه على أهله بمكة "فإنه فعل ذلك متأولا أن لا ضرر فيه", كما صرح بذلك في قوله: فكتبت كتابا لا يضر الله ولا رسوله، وفي كتابه لقريش: فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وقد يكون تأول أن مع سلامة قرابته بذلك يلقي الله الرعب في قلوبهم فيسلموا مكة طائعين بلا قتال، خصوصا وقد وصف الجيش بأنه كالسي، "وعند الطبراني، من طريق الحارث" بن عبد الله الأعور الهمداني، بسكون الميم، الكوفي صاحب علي في حديثه ضعف ورمي بالرفض مات في خلافة ابن الزبير "عن علي في هذه القصة"، فقال: "أليس قد شهد بدرا -أو: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". "فأرشد" صلى الله عليه وسلم "إلى علة ترك قتله" أي تركه أمر عمر بقتله. وفي نسخة تركه قتله. قال السهيلي: ففيه دليل على قتل الجاسوس لتعليقه حكم المنع من قتله بشهوده بدرا فدل على أن من فعل مثله، وليس بدريا أنه يقتل. وعند الطبراني أيضا عن عروة: "فإني غافر لكم" ما سيقع منكم، وفي المغازي، وابن عائذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 وهذا يدل على أن المراد: بقوله "غفرت" أغفر، على طريق التعبير عن الآتي بالماضي مبالغة في تحققه. قال: والذي يظهر أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف، تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة. وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا عن أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة.   عن عروة: "فسأغفر لكم". "وهذا يدل على أن المراد بقوله: غفرت: أغفر على طريق التعبير عن الآتي" في المستقبل "بالماضي مبالغة في تحققه", كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} ، فقصر من أجاب عن إشكال قوله: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". من أن ظاهره الإباحة، وهو خلاف عقد الشرع بأنه إخبار عن الماضي، أي كل عمل كان لكم فهو مغفور، وأيده بأنه لو كان للمستقبل لم يقع بلفظ الماضي ولقال: فسأغفر لكم، وقد تعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكرا عليه ما قاله في أمر حاطب، فدل على أن المراد ما سيقع، وأورد ماضيا مبالغة في تحققه "قال" الحافظ في الفتح: "والذي يظهر" في الجواب عن الإشكال المذكور "أن هذا الخطاب" والأمر في قوله: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". "خطاب إكرام وتشريف تضمن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة" قبل بدر "وتأهلوا" أي: صاروا أهلا "أن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة" إن وقعت، أي كل ما عملوه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور خصوصية لهم. قاله الحافظ في بدر وما أحسن قوله: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع قال المصنف: وليس المراد أنه نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل له صلاحية أن يغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء وجود ذلك الشيء، "وقد أظهر الله تعالى صدق رسوله" الصادق والمصدوق صلوات الله وسلامه عليه "في كل من أخبر عنه بشيء من ذلك، فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، ولو قدر صدور شيء من أحدهم لبادر إلى التوبة", امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية، وهي تمحو آثار الذنب: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، ومن أولى بها من أهل بدر، ولذا لما شرب قدامة بن مظعون من أهلها أيام عمر وحده رأى عمر في المنام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 ولازم الطريقة المثلى، يعلم ذلك من أحوالهم، بالقطع من اطلع على سيرهم. قاله القرطبي. وذكر بعض أهل المغازي -وهو في تفسير يحيى بن سلام- أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب: أما بعد: يا معشر قريش، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام. هكذا حكاه السهيلي. لكن وقد ذكر وروى الواقدي بسند له مرسل: أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد.   من يأمره بمصالحة قدامة "ولازم الطريق المثلى يعلم ذلك من أحوالهم بالقطع" وفاعل يعلم "من اطلع على سيرهم، قاله القرطبي". قال الحافظ: في بدر، وهذا هو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي، التابعي الكبير حيث قال لحسان بن عطية: قد علمت الذي جرأ صاحبك على الماء، وذكر له هذا الحديث وقيل في الجواب أيضا: المراد أن ذنوبهم تقع إذ وقعت مغفورة، وقيل: بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم وفيه نظر لقصة قدامة. انتهى. "وذكر بعض أهل المغازي وهو في تفسير يحيى بن سلام أن لفظ الكتاب الذي كتبه حاطب" لأهل مكة "أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش عظيم يسير كالسيل" وجه الشبه امتلاء الوادي بجيشه وكثرة انتشارهم، "فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله، وأنجز له وعده" بنصره عليكم "فانظروا لأنفسكم والسلام", وفي هذا مزيد إرهاب لهم وكسر لقلوبهم، ولذا قال: لا يضر الله ولا رسوله "كذا حكاه السهيلي، لكن" قوله وهو في تفسير يحيى بن سلام لم يحكه كذلك فلفظ الروض وقد قيل: إن لفظ الكتاب فذكر ما نقل عنا هنا وعقبه بقوله وفي تفسير ابن سلام أنه كان في الكتاب أن محمدًا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم، فعليكم الحذر. انتهى، وقد نقله الشامي بلفظ الروض كما ذكرته وعزاه له. "وقد ذكر" أي "وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة" بن أبي جهل، وأسلم الثلاثة رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن", أعلم "في الناس بالغزو ولا أراه" أظنه أو اعتقده "يريد غيركم" لنقضكم عهد الحديبية، "وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد" نعمة ومنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 انتهى. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفار وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق. فكان المسلمون في غزوة الفتح: عشرة آلاف. وفي "الإكليل" و"شرف المصطفى" اثني عشر ألفا. ويجمع بينهما أن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به الألفان. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل: أبا رهم الغفاري.   "انتهى" كلام فتح الباري، وقد جمع باحتمال أن جميع ما ذكر في الكتاب بأن يكون كتب أولا أنه نفر ... إلخ. وأنه أذن في الناس ... إلخ. قبل علمه بأن السير إلى مكة، فلما علم ألحق فيه أما بعد ... إلخ. "وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله، من العرب فجلبهم" طلب حضورهم إليه، "أسلم" سالمها الله "وغفار" غفر الله لها "وأشجع وسليم" مصغر، وعند الواقدي وغيره أنه أرسل يقول لهم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة". وبعث رسلا في كل ناحية فقدموا "فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق، فكان المسلمون في غزوة الفتح" كما في الصحيح عن ابن عباس "عشرة آلاف" قال في الفتح: أي من سائر القبائل، وفي مرسل عروة عند ابن إسحاق، وابن عائذ: خرج صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، وأسلم, وغفار، ومزينة، وجهينة، وسليم "و" كذا، وقع "في الإكليل" للحاكم "و" كتاب "شرف المصطفى" للنيسابوري "اثني عشر ألفا ويجمع بينهما"، كما قال الحافظ "بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة، ثم تلاحق به ألفان" ولعل ما عزاه الحافظ لابن إسحاق رواية لغير زياد، وإلا فلفظه: ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة الآف، ثم صرح آخر الغزوة، بأن جميع من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف. انتهى. وكذا نسبه له اليعمري، "واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم" قاله ابن سعد، والبلاذري "وقيل: أبا رهم" بضم الراء وسكون الهاء، كلثوم بضم الكاف وسكون اللام، ابن الحصين، بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين "الغفاري" وهو الصحيح، فقد رواه ابن إسحاق: حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. قال: ثم مضى صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن صين بن عتبة بن خلف الغفاري. وأخرجه أحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 وخرج عليه الصلاة والسلام يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من رمضان، بعد العصر، سنة ثمان من الهجرة، قاله الواقدي. وعن أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان. فما قاله الواقدي ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه. وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر منها عند مسلم: لست عشرة، ولأحمد: لثماني عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة. والذي في المغازي: لسبع عشرة مضت, وهو.   والطبراني، وسنده حسن فكان اللائق بالمصنف تقديمه كما فعل اليعمري وغيره أو الاقتصار عليه كما فعل صاحب الفتح ويحتمل أنه استخلف أبا رهم على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة بها كما تقدم نظيره مرارا. "وخرج عليه الصلاة والسلام" من المدينة "لعشر ليال خلون من رمضان بعد العصر سنة ثمان من الهجرة، قاله الواقدي" ولم ينفرد به كما يوهمه سياق المصنف تبعا للحافظ ففي بقية حديث ابن عباس المذكور عند ابن إسحاق: وخرج لعشر مضين من رمضان، وإسناده حسن كما علمت وفوق الحسن، وقد أخرجه ابن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس. "وعند أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد" الخدري "قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان", وهذا يعين يوم الخروج فيدفع تردد الزهري عند البيهقي حيث قال: لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان أو خرج في رمضان بعد ما دخل؟ "فما قال الواقدي" من أنه خرج لعشر "ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه" كذا قال تبعا للفتح وهو كما علمت واضح لو انفرد به الواقدي, أما حيث رواه ابن راهويه، وإسحاق عن ابن عباس بسند صحيح فهو قوي. "وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر" ظاهره أنها في تاريخ الخروج ولا كذلك وإنما هي في تاريخ دخول مكة ففي الفتح أخرج البيهقي عن الزهري: صبح صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان قال الحافظ: فهذا يعين يوم الدخول ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما. وما قاله الواقدي ليس بقوي لمخالفته ما هو أصح منه. وفي تعيين هذا التاريخ أقوال أخر "منها عند مسلم": أنه دخل مكة "لست عشرة. ولأحمد: لثمان عشرة، وفي أخرى: لثنتي عشرة". قال أعني الحاظ: والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، "والذي في المغازي: دخل" مكة "لسبع عشرة مضت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 محمول على الاختلاف في أول الشهر، ووقع في أخرى: لتسع عشرة أو سبع عشرة على الشك. ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد -بفتح الكاف- الماء الذي بين قديد وعسفان أفطر   وهو محمول على الاختلاف في أول الشهر،" فالكلام كله في الاختلاف في دخول مكة، وبه يصح الحمل المذكور من زيادة يوم ونقصه، وأما الخروج من المدينة فإنما فيه روايتان عشر وليلتان, والمصنف أراد تلخيص كلام الفتح فسقط عليه منه ما ذكرته فوهم حتى تحير شيخنا رحمه الله تعالى وبرد مضجعه في صحة هذا الحمل؛ لأنه لم يقف على كلام الفتح وقت التأليف. "ووقع في" رواية "أخرى" دخل مكة "لتسع عشرة أو سبع عشرة على الشك" وروى يعقوب بن سفيان من طريق إسحاق عن جماعة من مشايخه أن الفتح كان في عشر بقين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل العشر الأخير. هذا بقية كلام الحافظ رحمه الله, ثم اعلم أنه لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان كما في الصحيح وغيره عن ابن عباس. "ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد بفتح الكاف" وكسر الدال المهملة الأولى فتحتية فمهملة "الماء الذي بيد قديد" بضم القاف وفتح الدال بلفظ التصغير، قرية جامعة قرب مكة "وعسفان" بضم العين وسكون السين المهملتين وبفاء ونون، قرية جامعة على ثلاثة مراحل من مكة، والكديد أقرب إليها من عسفان، وهو على اثنين وسبعين ميلا من مكة، وهذا تعيين للمسافة. وقول ابن عباس: ماء. تعيين للمحل فلا تنافي. وفي رواية ابن إسحاق بين عسفان وأمج بفتح الهمزة، والميم، وجيم خفيفة اسم واد "أفطر" لأنه بلغه أن الناس شق عليهم الصيام، وقيل له: إنما ينظرون فيما فعلت، فلما استوى على راحلته بعد العصر دعا بإناء من ماء، فوضعه على راحلته ليراه الناس فشرب فأفطر فناوله رجلا إلى جنبه فشرب. رواه مسلم والترمذي عن جابر، وفي الصحيحين من طريق طاوس عن ابن عباس: ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه. ولأبي داود: إلى فِيهِ فأفطر، وللبخاري وحده من طريق عكرمة عن ابن عباس بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته بالشك فيهما. قل الداودي: يحتمل أن يكون دعا بهذا مرة، وبهذا مرة. قال الحافظ: ولا دليل على التعدد، فإن الحديث واحد، والقصة واحدة، وإنما وقع الشك من الراوي فيقدم عليه رواية من جزم، وأبعد الداودي فقال: كانتا قصتين: إحداهما في الفتح والأخرى في حنين. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 فلم يزل مفطرا حتى انسلخ الشهر. رواه البخاري، وفي أخرى له: أفطر وأفطروا. الحديث.   وروى مالك وغيره عن رجل من الصحابة: لما دخل صلى الله عليه وسلم العرج وهو صائم صب الماء على رأسه ووجهه من العطش. وللحاكم في الإكليل، بسند صحيح عن أبي هريرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب الماء على رأسه من الحر وهو صائم، فقد حصلت له المشقة لزيادة رفعة الدرجات, والعرج بفتح العين، وسكون الراء المهملتين, وبالجيم: قرية على نحو ثلاث مراحل من المدينة، فتحمل المشقة لأنه لا يبالي بها في عبادته. ألا ترى إلى قيامه حتى تورمت قدماه، حتى بلغ الكديد، فأفطر "فلم يزل مفطرا" رفقا بالمسلمين "حتى انسلخ الشهر"؛ لأنه وإن قدم مكة قبل تمام العشر الأوسط على ما مر، لكنه كان في أهبة القتال وبعث السرايا ولم ينو الإقامة، بل كان يقصر الصلاة على ما يأتي مفصلا. "رواه البخاري" هنا وقبله في الجهاد والصوم، ومسلم، والنسائي، في الصوم عن ابن عباس، قال الحافظ أبو الحسن القابسي: وهو من مرسلات الصحابة؛ لأن ابن عباس كان في هذه السفرة مقيما مع أبويه بمكة، فلم يشاهد هذه القصة، فكأنه سمعها من الصحابة. "وفي" رواية "أخرى له" للبخاري، هنا وفي الصوم من طريق آخر عن ابن عباس: فسار هو ومن معه من المسلمين إلى مكة يصوم ويصومون, حتى بلغ الكديد وهو ماء بين عسفان وقديد "أفطر وأفطروا" كلهم بعد حثه لهم على الفطر. ففي حديث جابر عند مسلم، والترمذي: أنه لما أفطر قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام. فقال: "أولئك العصاة". وعبر بذلك مبالغة في حثهم على الفطر رفقا بهم. وقد روى الشيخان: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر. وعينه الترمذي، فقال: في غزوة الفتح رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا"؟. فقالوا: صائم، فقال: "لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ". وروايته على لغة حمير في مسند أحمد لا في الصحيح، وإلا ففطره لا يوجب فطرهم فقد يكون احتمل عندهم، اختصاصه بمن شق عليه الصوم جدا والذين صاموا لم يكونوا كذلك. وروى مسلم عن أبي سعيد. قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صيام، فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: "إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا". فكانت عزيمة فأفطرنا فهذا ظاهر في فطر الجميع بعد أمره، فإن كان هذا السفر سفر الفتح كما هو ظاهر سوقهم الحديث هنا فلعل هاتين المقالتين كانتا بعد فطر المصطفى، والغرض بهما حث من صام على الفطر بصريح الأمر هذا ولا يعارض ما في "الحديث" أنه أفطر بالكديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 وكان العباس قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما مهاجرا، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض. وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان بن الحارث، ابن عمه، عليه الصلاة   رواية جابر أنه أفطر بكراع الغميم ولا رواية بقديد ولا بعسفان لما جمع به المحب الطبري وغيره بجواز أنه أفطر في واحد من الأربعة حقيقة لكن لتقاربها عبر بعض الرواة، باسم ذلك الموضع، والباقي باسم غيره مجاز القربة منه، أو أفطر في واحد منها حقيقة لكن لم يره جميع الناس لكثرتهم فكرره ليتساوى الناس في رؤية الفعل، فأخبر كل عن رؤية عين وبمحل رؤيته والله أعلم. "وكان العباس" بن عبد المطلب أبو الفضل الهاشمي، أجود قريش كفا وأوصلها، كما قال صلى الله عليه وسلم، أخرجه النسائي "قد خرج قبل ذلك بأهله وعياله مسلما" أي مظهرا للإسلام، فإنه أسلم قديما وكان يكتمه، قال ابن عبد البر، وذلك بين في حديث الحجاج بن علاظ: أن العباس كان مسلما يسره ما يفتح الله على المسلمين، ثم أظهره يوم الفتح، وقيل: كان إسلامه قبل فتح خيبر وتقدم مزيد لذلك في بدر "مهاجرا فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة" فيما قال ابن هشام، وقال غيره: بذي الحليفة فيحتمل أنه انفرد عن أهله وعياله فلقيه بها ثم رجع معه إلى الجحفة فاجتمع معه بأهله وعياله فيها، فسار معه في الفتح وبعث ثقله إلى المدينة. قال البلاذري: وقال له صلى الله عليه وسلم: "هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة". وروى أبو يعلى والطبراني بسند ضعيف عن سهل بن سعد قال: استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه: "يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة". "وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض" كما ذكر الزهري، عند ابن هشام لعلمه بإسلامه باطنا وأن إقامته بها لخوفه على ماله وعياله؛ ولأنه كان يكتب بأخبار المشركين إليه صلى الله عليه وسلم وكان يثق به، وكان ينفع المستضعفين بمكة وبه يثقون، "وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان" الهاشمي اسمه كنيته، وقال جماعة المغيرة لكن جزم ابن قتيبة وابن عبد البر بأن المغيرة أخوه "ابن الحارث" بن عبد المطلب الهاشمي، المتوفى سنة خمس عشرة أو عشرين وصلى عليه عمر. روى أبو أحمد الحاكم عن عروة رفعه: "أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة". قال فحلقه الحلاق بمنى وفي رأسه ثؤلول فمات فيرون أنه مات شهيدا. قال الحافظ: مرسل رجاله ثقات، وفي الروض مات من ثؤلول حلقه الحلاق في حج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 والسلام وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان. وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث عاداه وهجاه. وكان لقاؤهما له عليه الصلاة والسلام بالأبواء وأسلما قبل دخوله مكة. وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبي أمية، ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيا والعرج، فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الأذى والهجو   فقطعه مع الشعر فنزف منه الدم، وقال عند موته: لا تبكن عليّ فإني لم أنطق بخطيئة منذ أسلمت "ابن عمه" بالرفع، بيان لأبي سفيان بعد وصفه بأنه الحارث عمه "عليه الصلاة والسلام" ذكره لبيان قربه منه ليميزه من أبي سفيان بن حرب الذي تقدم ذكره كثيرا، وليعطف عليه قوله "وأخوه من رضاع حليمة السعدية، ومعه ولده جعفر بن أبي سفيان" الصحابي ابن الصحابي، شهد حنينا هو وأبوه وكان غلاما مدركا، كما ذكره ابن شاهين، وابن سعد، وابن حبان، وزاد أنه مات بدمشق سنة خمسين، ولا عقب له كما في الإصابة وكأنه جمع بين ولده وابن ... إلخ. إشارة إلى أنه اشتهر بين الصحابة بهذا الاسم "وكان أبو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا يفارقه قبل النبوة "فلما بعث عاداه وهجاه" وأجابه حسان عنه كثيرا، "وكان لقاؤهما" هو وابنه "له عليه الصلاة والسلام بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد، قرية بين مكة والمدينة، "وأسلما قبل دخوله مكة" عليه الصلاة والسلام "وقيل: بل لقيه هو" أي أبو سفيان "وعبد الله بن أبي أمية" واسمه حذيفة وقيل: سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي أخو أم سلمة لأبيها. قال البخاري: له صحبة شهد الفتح وحنينا والطائف وبها استشهد "ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب" وأم سلمة أمها عاتكة بنت عامر بن قيس، وكان عند أبي أمية أربع عواتك. قال الزبير بن بكار: كان يدعى زاد الراكب، وكان ابنه عبد الله شديد الخلاف على المسلمين. قال: خرج مهاجرا فلقي النبي صلى الله عليه وسلم "بين السقيا" بضم السين المهملة وسكون القاف قرية جامعة بطريق مكة "والعرج" بفتح فسكون قرية جامعة على ثلاثة أميال من المدينة بطريق مكة، وبهذا القول جزم ابن إسحاق وعين المحل فقال لقياه بنقب العقاب بين مكة والمدينة، "فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهم من شدة الأذى والهجو", وعند ابن إسحاق فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما، فقالت: يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك. قال: "لا حاجة لي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري، فهو الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي لأبي سفيان -فيما حكاه أبو عمر وصاحب ذخائر العقبى: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال أخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ   قال لي بمكة ما قال". قال في الروض يعني قوله له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون أن الله أرسلك. "فقالت له أم سلمة" هند أم المؤمنين آخر الزوجات موتا سنة اثنتين وستين, وقيل: إحدى. وقيل: قبلها. والأول أصح تأتي في الزوجات: "لا يكن ابن عمك، وابن عمتك، أشقى الناس بك" نهى لهما ظاهرا وهو في الحقيقة سؤال له صلى الله عليه وسلم في الإقبال عليهما حتى لا يكونا أشقى الناس، وتلطفت في التعبير تعظيما لمقامه العظيم وأدبا عن أن تخاطبه بصورة نهي. لكن في رواية ابن بكار كما في الإصابة: لا تجعل، فيحتمل أنه بالمعنى وعند ابن إسحاق: فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبو سفيان بني له، فقال: والله ليأذن لي، أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وأنشده أبو سفيان في إسلامه، واعتذر مما مضى فقال: لعمرك إني يوم أحمل راية ... لتغلب خيل اللات خيل محمد لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... لهذا أواني حين أهدى وأهتدي هداني هاد غير نفسي ونالني ... مع الله من طردته كل مطرد أصد وأنأى جانبا عن محمد ... وأدعى وإن لم أنتسب من محمد هم ما هم من لم يقل بهواهم ... وإن كان ذي رأي يلام ويفند أريد لأرضيهم ولست بلائط ... مع القوم ما لم أهد في كل مقعد قال ابن إسحاق: فزعموا أنه لما قال: ونالني مع الله من طردته كل مطرد. ضرب صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: "أنت طردتني كل مطرد". قال ابن هشام: ويروى: ودلني على الحق من طردته كل مطرد، "وقال علي لأبي سفيان" مرشدا لابن عمه إلى ما يكون، سببا لإقباله صلى الله عليه وسلم عليه بعد إذنه لهما في الدخول عليه، "فيما حكاه أبو عمر" بن عبد البر الحافظ الشهير "وصاحب ذخائر العقبي" في مناقب ذوي القرى، وهو المحب الطبري: "ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قِبَل" جهة "وجهه" الوجيه؛ لأن عادة الكرماء الاستحياء من المواجهة ولا أكرم منه، "فقل له ما قال أخوة يوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ} فضلك {اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا، ففعل ذلك أبو سفيان, فقال له صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} . ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه. قالوا: ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما كان بقديد عقد الألوية والرايات ودفعها إلى القبائل.   مخففة أي، وإنا {كُنَّا لَخَاطِئِينَ} آثمين في أمرك فأذلنا لك، "فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا،" بل أن يكون هو الأحسن على مفاد هذا التركيب عرفا؛ لأن النفي إذا دخل على اسم التفضيل، فالقصد تفضيل من نسب إليه الفعل على غيره، وإن صدق النفي بالمساواة لغة ولا يرد أنه أجابهم بجواب يوسف, لإمكان أن حسن القول بما اقترن به من الإقبال بعد أن بالغوا في الأذى واقتراح الآيات والتصميم على قتله، ومحاربته المرة بع المرة يجعله فائقا على جواب يوسف وإن ساواه لفظا؛ لأن أخوته ما بالغوا في أذاه مبلغهم من النبي صلى الله عليه وسلم عليهما وما صمموا على قتله بل لما علموا حياته باعوه، وهذا التعسف أحوج إليه القاعدة ولك أن تقول: ما المانع هنا من جريه على أصل اللغة كما هو الظاهر والقاعدة أغلبية، "ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له صلى الله عليه وسلم: {لَا تَثْرِيبَ} عتب {عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} خصه بالذكر لأنه مظنة التثريب فغيره أولى {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فأسلم أبو سفيان فكان -كما في الروض وغيره- من أصح الناس إيمانا، وألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه في حنين، "ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه", وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، ويشهد له بالجنة ويقول: "أرجو أن يكون خلفا من حمزة"، كما في العيون وقال له: "كل الصيد في جوف الفراء". وقيل: بل قالها لابن حرب، قال السهيلي: والأول أصح، ووقع عند البغوي أنه أول من بايع تحت الشجرة، قال في الإصابة ولم يصب في ذلك فقد أخرجه غيره من الوجه الذي أخرجه هو منه، فقال أبو سنان بن وهب وهو الصواب والمستفيض عند أهل المغازي كلهم وأسند أبو سفيان بن الحارث حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقدس الله أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه من القوي". أخرجه الدارقطني, وابن نافع، وسنده صحيح، لكن فيه راو لم يسم. انتهى. "قالوا: ثم سار صلى الله عليه وسلم" والترتيب ذكرى، فإن قديدا قبل الماء الذي أفطر به فعقد الألوية قبله، "فلما كان بقديد" ولقيته سليم هناك "عقد الأولية والرايات، ودفعها إلى القبائل" لبني سليم لواء وراية، وبني غفار راية وأسلم لواءين وبني كعب راية، ومزينة ثلاثة ألوية، وجهينة أربعة ألوية، وبني بكر لواء، وأشجع لواءين، كذا ذكره الواقدي. هذا وادعى الشارح أن أبا بكر رأى مناما قبل عقد الألوية، ولا أدري من أين أخذه فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 ثم نزل مر الظهران، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون خائفون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم. وفي البخاري.   الشامي إنما ذكره بعد نزوله عليه السلام مر الظهران، فقال: روى البيهقي عن ابن شهاب أن أبا بكر قال: يا رسول الله أراني في المنام وأراك دنونا من مكة فخرجت إلينا كلبة تهر، فلما دنونا منها، استلقت على ظهرها فإذا هي تشخب لبنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذهب كلبهم وأقبل درهم وهم سيأوون بأرحامهم وأنكم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه". تشخب: تدر وتسيل. كلبهم بفتح الكاف واللام: شدتهم. درهم بفتح المهملة: لبنهم, والمراد هنا خيرهم وهو انقيادهم، وإسلامهم. "ثم نزل مر الظهران" قال الحافظ: بفتح الميم وتشديد الراء، مكان معروف, والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو. الظهران، بفتح المعجمة وسكون الهاء، بلفظ تثنية ظهر. "فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نارا" لتراها قريش فترعب من كثرتها، ولم يأمر باقي من معه وهم ألفان بالإيقاد تخفيفا، فليس في أمره بذلك أن الذين معه عشرة آلاف فقط, واستجاب الله لرسوله فغم على أهل مكة الأمر, "ولم يبلغ قريشا مسيره وهم مغتمون" محزونون، متحيرون "خائفون". وفي نسخة لما يخافون بما المصدرية أي: لخوفهم "من غزوه إياهم فبعثوا أبا سفيان" صخر "بن حرب" الأموي "وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا فخرج أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام" بالزاي, الأسدي, ابن أخي خديجة أم المؤمنين, قيل: ولد في جوف الكعبة، قبل الفتح بأربع وسبعين سنة، ثم عمر إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها "وبديل" بموحدة ومهملة مصغر "ابن ورقاء" الخزاعي، أسلموا في الفتح رضوان الله عليهم أجمعين. وعند ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالطرق فحبست ثم خرج فغم على أهل مكة الأمر، فقال أبو سفيان لحكيم: هل لك أن نركب إلى مر لعلنا أن نلقى خبرا, فقال بديل: وأنا معكم. قالا: وأنت إن شئت, فركبوا "حتى أتوا مر الظهران فلما رأوا العسكر أفزعهم", وعند ابن أبي شيبة: حتى إذا دنوا من ثنية مر أظلموا أي دخلوا في الليل فأشرفوا فإذا النيران قد أخذت الوادي كله. "وفي البخاري" من مرسل عروة ابن الزبير، قال الحافظ: ولم أره في شيء من الطرق، عن عروة موصولا، قال: لما سافر صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان، وحكيم وبديل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة، فقال أبو سفيان: ما هذه النيران؟ لكأنها نيران عرفة، فقال له بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو، فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم.   يلتمسون الخبر، قال الحافظ: ظاهر أنه بلغهم مسيره قبل خروج الثلاثة، والذي عند ابن إسحاق، وابن عائذ، من مغازي عروة: ثم خرجوا وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، ولم تعلم بهم قريش، وكذا في رواية أبي سلمة عند ابن أبي شيبة، فيحتمل أن قوله بلغ قريشا، أي: غلب على ظنهم ذلك لا أن مبلغا بلغهم ذلك حقيقة. انتهى. قال: فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران "فإذا هم بنيران" جمع نار ويجمع أيضا على نور، مثل ساحة وسوح كما في المصباح وغيره فهو مشترك بينها وبين الضوء، ويميز بالقرائن اللفظية ونحوها، "كأنها نيران عرفة" التي كانوا يوقدونها فيها، ويكثرون منها، "فقال أبو سفيان، ما هذه النيران؟ " والله "لكأنها نيران عرفة" قال الحافظ: جواب قسم محذوف أشار إلى ما جرت به عادتهم من إيقاد النيران الكثيرة ليلة عرفة، "فقال له بديل بن ورقاء،" هذه "نيران بني عمرو" بفتح العين، وفي رواية نيران بني كعب، ويعني بهما خزاعة، وعمرو وهو ابن لحي، كما في الفتح وغيره، "فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك" وفي نسخة: بنو عمرو. لكن الذي في البخاري، هو الأولى فإن صحت فهي بيان المراد، وأنه بتقدير مضاف، قال الحافظ: ومثل هذا في مرسل أبي سلمة وفي مغازي عروة عند ابن عائذ، عكس ذلك وأنهم لما رأوا الفساطيط، وسمعوا صهيل الخيل، راعهم ذلك، فقالوا: هؤلاء بنو كعب يعني خزاعة وكعب، أكبر بطون خزاعة جاشت بهم العرب، فقال بديل: هؤلا أكثر من بني كعب ما بلغ تألبها هذا. قالوا: فانتجعت هوازن أرضنا والله ما نعرف هذا إن هذا المثل حاج الناس "فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم". وعند ابن عقبة: فأخذوا بخطم أبعرتهم، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ وروى الطبراني عن أبي ليلى: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فقال: إن أبا سفيان بالأراك، فخذوه فدخلنا فأخذناه, وفي رواية ابن عائذ: وكان صلى الله عليه وسلم بعث بين يديه خيلا تقنص العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدًا يمضي فلما دخل أبو سفيان، وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل، تحت الليل وفي مرسل أبي سلمة: وكان حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من الأنصار، وكان عمر بن الخطاب عليهم تلك الليلة فجاءوا بهم إليه، فقالوا: جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان بن حرب. فلما سار قال للعباس: "احبس أبا سفيان عند خطم الجبل". فحبسه العباس،   فقال عمر: وهو يضحك إليهم والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم. قالوا والله قد أتيناك بأبي سفيان، فقال: احبسوه فحبسوه، حتى أصبح فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند ابن إسحاق أن العباس خرج ليلا فلقيهم فحمل أبا سفيان معه على البغلة ورجع صاحباه، وجمع الحافظ بإمكان أن الحرس، لما أخذوهم استنقذ العباس أبا سفيان ويأتي ما فيه "فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان بن حرب" أي انقاد وأظهر الذل له عليه الصلاة والسلام فلا ينافي ما يأتي عن ابن إسحاق وغيره أنه لم يسلم حتى أصبح. وفي مغازي ابن عقبة فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. "فلما سار" أبو سفيان "قال" صلى الله عليه وسلم للعباس: "احبس أبا سفيان" وعند موسى ابن عقبة، أن العباس قال له صلى الله عليه وسلم: لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر فأحبسه حتى يرى جنود الله ففعل. فقال أبو سفيان: أغدر يا بني هاشم قال: لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله وما أعد الله للمشركين. وعند الواقدي، فقال: إن أهل النبوة، لا يغدرون. وروى ابن أبي شيبة من مرسل أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن أن أبا بكر لما ولي أبو سفيان، قال: لو أمرت بأبي سفيان فحبس على الطريق ولا منافاة لجواز أنه بعد سؤال الصديق والعباس ذلك قال العباس احبسه "عند خطم الجبل" قال الحافظ: بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة، أي أنفع، كذا في رواية النسفي، والقابسي، وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي. وفي رواية الأكثر بفتح المهملة، من اللفظة الأولى، وبالخاء المعجمة، وسكون التحتية، أي ازدحامها "فحبسه العباس" هناك لكونه مضيقا ليرى الجميع ولا تفوته رؤية أحد منهم، وفي رواية ابن عقبة فحبسه بالمضيق دون الأراك حتى أصبحوا فلما أذن الصبح أذن العسكر كلهم أي أجابوا المؤذن ففزع أبو سفيان، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قال العباس: الصلاة. وعند ابن أبي شيبة ثار المسلمون إلى ظهورهم فقال: يا أبا الفضل ما للناس أمروا بشيء، قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فذهب العباس به فلما رأى اقتداءهم به في الصلاة، قال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من ههنا، وههنا، ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له يا أبا الفضل. أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك ولكنها النبوة، قال: أو ذاك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم: تمر كتيبة كتيبة على أبي سفيان: فمرت كتيبة فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار؟ قال: ما لي ولغفار؟ ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك.   وعند ابن عقبة وأمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي: لتصبح كل قبيلة عند راية صاحبها وتظهر ما معها من الأداة والعدة. فأصبح الناس على ظهر وقدم، بين يديه الكتائب، ومرت القبائل على قاداتها والكتائب على راياتها "فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة" بمثناة ووزن عظيمة، وهي القطعة من الجيش فعيلة من الكتب بفتح فسكون، وهو الجمع "على أبي سفيان" قال الواقدي: وأول من قدم صلى الله عليه وسلم خالد في بني سليم، وهو ألف، ويقال تسعمائة معهم لواءان يحملهما العباس بن مرداس وخفاف، بضم المعجمة ابن ندبة، بضم النون، وراية مع الحجاج ابن علاط فمروا بأبي سفيان فكبروا ثلاثا فقال: من هؤلاء؟ فقال خالد بن الوليد. قال: الغلام. قال: نعم. قال: ومن معه، قال: بنو سليم، قال: ما لي وبني سليم، ثم مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة من المهاجرين، وأفتاء العرب فكبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أختك. قال: نعم "فمرت" بعدهما "كتيبة" في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر ويقال: غيره. فلما حاذوه كبروا ثلاثا، "فقال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار" بكسر الغين المعجمة "قال: ما لي ولغفار" قال المصنف بغير صرف ولأبي ذر بالتنوين مصروفا، أي: ما كان بيني وبينهم حرب. وعند الواقدي: ثم مرت أسلم في أربعمائة فيها لواءان يحملهما بريدة بن لحصيب وناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا، فقال: من هؤلاء؟ قال: أسلم. قال: ما لي ولأسلم، قال: مرت بنو كعب بن عمرو في خمسمائة يحمل رايتهم بسر بن سفيان فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء، قال: بنو كعب أخوة أسلم، قال: هؤلاء حلفاء محمد، ثم مرت مزينة فيها مائة فرس وثلاثة ألوية يحمله النعمان، وعبد بن عمرو بن عوف وبلال بن الحارث، فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: ما لي ولمزينة، قد جاءتني تقعقع من شواهقها. "ثم مرت جهينة" بضم الجيم، وفتح الهاء، وسكون التحتية وبالنون، في ثمانمائة فيها أربعة ألوية يحملها معبد بن خالد، وسويد بن صخر ورافع بن مكيث، وعبد الله بن بدر فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: جهينة، قال: ما لي ولجهينة، وعند ابن أبي شيبة والله ما كان بيني وبينهم حرب قط "فقال" كل من أبي سفيان والعباس "مثل ذلك" لقول الأول ففيه تجوز إذ الحاصل من أبي سفيان السؤال، والعباس الجواب، ثم من أبي سفيان الإخبار بأنه لا حرب بينه وبينها. وأسقط المصنف من رواية عروة هذه التي في البخاري قوله: ثم مرت سعد بن هذيم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل.   فقال: مثل ذلك، ومرت سليم، فقال: مثل ذلك. قال في الفتح: ذكر عروة من القبائل أربعا، وفي مرسل أبي سلمة زيادة أسلم ومزينة، والواقدي: أشجع، وتميم, وفزارة، ولم يذكرا سعد بن هذيم وهم من قضاعة، وقد ذكر قضاعة موسى بن عقبة، والمعروف فيها سعد بن هذيم بالإضافة، ويصح الآخر على المجاز وهو سعد بن زيد بن ليث بن سود بضم المهملة ابن أسلم بضم اللام ابن الحاف بمهملة وفاء بن قضاعة. انتهى. وقول عروة ومرت سليم لا يقتضي أنها مرت بعد سعد بن هذيم؛ لأنه لما عدل عن حرف الترتيب علم أنه لم يضبط مرورها، فلا ينافي أنها أول من مر مع خالد، كما مر عن أن ثم في ثم مرت سعد للترتيب الذكرى، فإنهم كما علمت من قضاعة، وقد قال ابن عقبة: بعث خالدا في قبائل قضاعة وسليم، وغيرهم كما يأتي في المتن، وقد كان خالد أول من مر وعند الواقدي، بعد جهينة ثم مرت كنانة بكسر الكاف بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد بالقاف الليثي فلما حاذوه كبروا ثلاثا، قال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر، قال: نعم أهل شؤم والله هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم، ثم مرت أشجع وهم آخر من مر, وهم ثلاثمائة معهم لواءان يحملهما معقل بن سنان ونعيم بن مسعود، فكبروا ثلاثا قال: من هؤلاء؟ قال: أشجع. قال: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد. قال: أدخل الله تعالى الإسلام في قلوبهم فهذا فضل الله. ثم قال أبو سفيان: أبعد ما مضى محمد، فقال العباس: لا لو أتت الكتيبة التي هو فيها رأيت الخيل، والحديد، والرجال وما ليس لأحد به طاقة، قال: ومن له بهؤلاء طاقة؟ وجعل الناس يمرون, كل ذلك يقول: ما مر محمد؟ فيقول العباس: لا "حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها" إذ في كل بطن منها لواء وراية وهم في الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق "قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية" أي: راية الأنصار وراية المهاجرين مع الزبير، كما يأتي، ومر "فقال سعد بن عبادة" لما مر بالراية النبوية: "يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة" قال الحافظ: بالحاء المهملة، أي يوم حرب، لا يوجد منه مخلص أو يوم القتل. يقال: لحم فلانا إذا قتله. قال الشامي: برفعهما أو نصب الأول ورفع الثاني. انتهى. ولا يرد على الثاني من ظرفية الزمان لنفسه إذ يوم الملحمة مظروف في اليوم لأنه من ظرفية الكل لجزئه إذ المراد به وقت الحرب. "اليوم" قال المصنف: نصب على الظرفية "تستحل" بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس، حبذا يوم الذمار بالمعجمة المكسورة: أي الهلاك. قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم. وقيل: هذا يوم الغضب للحريم والأهل والانتصار لهم لمن قدر عليه، وقيل: هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني مكروه. وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، فسمعها رجل من المهاجرين فقال: يا رسول الله! ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة. فقال لعلي: "أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها".   والحاء المهملة مبنيا للمفعول "الكعبة" بقتل من أهدر دمه ولو تعلق بأستارها، وقتال من عارض من أهل مكة وإباحة خضراء قريش وبإزالة ما يزعمون أنه تعظيم لها من نحو أصنام وصور وهو باطل وقد وقع جميع ذلك، كما يأتي "فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا" بفتح الحاء والموحدة، فعل ماض، وذا فاعل على مذهب سيبويه، وجزم به في الخاصة وفيه أقوال أخر محلها كتب النحو "يوم الذمار" وفصل المصنف حديث البخاري بشيء من الفتح فقال: "بالمعجمة المكسورة" وتخفيف الميم، "أي: الهلاك, قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد" قوة في هذا اليوم "فيحمي قومه ويدفع عنهم" قاله عجزا "وقيل": معناه "هذا يوم الغضب للحريم والأهل، والانتصار لهم، لمن قدر عليه" قاله غلبة وعجزا ومخالفته للأول. وبالمفهوم فإن كلا من الهلاك والغضب صالح لتمنيه لشرفه وعزه في قومه فإن غضبه لهم يستلزم تمنيه قدرة لتحميهم "وقيل" معناه "هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي" لقربك، للمصطفى، وحبه لك وإقباله عليك "من أن ينالني مكروه، وقال ابن إسحاق: زعم بعض أهل العلم: أن سعدا قال: اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة" أي حرمة الكعبة "فسمعها رجل من المهاجرين" قال ابن هشام: هو عمر، قال الحافظ: وفيه بعد؛ لأن عمر كان معروفا بشدة البأس عليهم. انتهى. وفي مغازي الواقدي والأموي أن عثمان وعبد الرحمن قالا ذلك جميعا، فالأولى أن يفسر المبهم بأحدهما أو بهما على إرادة الجنس، "فقال: يا رسول الله ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة" بفتح المهملة وسكون الواو: حملة. فقال لعلي: "أدركه فخذ الراية منه فكن أنت تدخل بها". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 وقد روى الأموي في المغازي: أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه: أمرت بقتل قومك؟ قال: "لا". فذكر له ما قاله سعد بن عبادة ثم ناشده الله والرحم، فقال: "يا أبا سفيان! اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله تعالى قريشا". وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس. وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك عارضت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الهدى إليك لجا ... حي قريش ولات حين لجائي حين ضاقت عليهم سعة الأر ... ض وعاداهم إله السماء   "وقد روى الأموي" يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي أبو أيوب الكوفي نزيل بغداد لقبه الجمل بجيم صدوق روى له الستة مات سنة أربع وتسعين ومائتين "في المغازي أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما حاذاه" وهو مار في جنود الله: "أمرت" بحذف همزة الاستفهام "بقتل قومك، قال: "لا". فذكر له ما قال سعد بن عبادة، ثم ناشده الله تعالى والرحم" نقل بالمعنى ولفظ مغازي الأموي: أنشدك الله في قومك فإنك أبر الناس وأرحمهم وأوصلهم "فقال: "يا أبا سفيان! اليوم يوم المرحمة" بالراء الرأفة والشفقة على الخلق "اليوم يع الله تعالى قريشا" بالإسلام والدين وإنقاذهم من الضلال المبين بهذا الرسول الرءوف الرحيم الذي من أنفسهم وأنفسهم فعزه عزهم وكم تحمل أذاهم ولم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهدى وحجزهم من الوقوع في مهالك الردى "وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس" ورأى صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عنه إذ صار إلى ابنه هذا بقية رواية الأموي. "وعند ابن عساكر من طريق أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي "عن جابر قال: لما قال سعد بن عبادة ذلك" القول "عارضت" تعرضت له، كأن وقفت في طريقه. "امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند الواقدي، والأموي، أن هذا الشعر لضرار بن الخطاب الفهري، قال أبو الربيع وهو من أجود شعر قاله. قال الحافظ: فكأن ضرار أرسل به المرأة ليكون أبلغ في انعطافه صلى الله عليه وسلم على قريش "فقال: يا نبي الهدى إليك لجا" بالهمز وتركه للوزن "حي قريش ولا حين" أي ليس الوقت وقت "لجاء" بإثبات الألف للضرورة وإلا فلجاء مهموز من بأبي نفع وتعب كما في المصباح، قال البرهان وأنشده في الاستيعاب في ترجمة ضرار، وأنت خير لجاء وفي ترجمة سعد كما هنا. انتهى. فكأنهما روايتان "حين ضاقت" ظرف لجا "عليهم سعة الأرض" بفتح السين كناية عن شدة كربهم حتى كأن الأرض لم تسعهم "وعاداهم إله السماء" أي فعل معهم فعل المعادي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 إن سعدا يريد قاصمة الظهـ ... ـر بأهل الحجون والبطحاء   فسلط عليهم من لا طاقة لهم به لكفرهم وبعد هذا في مغازي الأموي والواقدي: والتقت حلقتا البطان عل القو ... م ونودوا بالصيلم الصلعاء تثنية حلقة البطان بكسر الموحدة حزام يجعل تحت بطن البعير، يقال ذلك إذا اشتد الأمر. الصيلم بفتح المهملة وسكون التحتية، وفتح اللام وميم الداهية الصلعاء بفتح المهملة، وسكون اللام فعين مهملة مد، كأنه عطفها على الصيلم وحذف حرف العطف للنظم وهو جائز في غيره أيضا كما في النور: "إن سعدا يريد قاصمة الظهـ ... ـر بأهل الحجون والبطحاء" قاصمة الظهر، كأسرته، يعني أنه يريد الخصلة لمانعة لهم من كل الأمور حتى كأنها كسرت ظهورهم بحيث صار وإلا حركة لهم وبقية ضرار، كما في رواية الأموي والواقدي: خزرجي لو يستطيع من ... الغيظ رمانا بالنسر والعوا وغر الصدر لا يهم بشيء ... غير سفك الدما وسبي النساء قد تلظى على البطاح وجاءت ... عنه هند بالسوأة السوآء إذ ينادي بذل حي قريش ... وأين حرب بذا من الشهداء فلئن أقحم اللواء ونادى ... يا حماة الأدبار أهل اللواء ثم ثابت إليه من بهم الخز ... رج والأوس انجم الهيجاء لتكونن بالبطاح قريش ... فقعة القاع في أكف الإماء أنهينه فإنه أسد الأسد ... لدى الغاب والغ في الدماء إنه مطرق يريد لنا الأمر ... سكوتا كالحية الصماء النسر بفتح النون نجم. والعواء بفتح العين المهملة، وشد الواو، والمد وقصره لغة، وهي خمسة أنجم، قال القالي: من مدها فهي، فعال من عويت الشيء إذ لويت طرفه. وقال السهيلي الأصح أن العواء من العوة وهي الدبر، كأنها سميت بذلك لأنها دبر الأسد من البروج والوغر بفتح الواو وكسر المعجمة وبالراء، اسم فاعل، والوغرة شدة توقد الحريهم بفتح فضم تلظى تلهب هند بنت عتبة بالسوأة السوآء بالخلة القبيحة. أقحم اللواء أرسله في عجلة. الأدبار جمع دبر والمراد الظهر ثابت بمثلثة فألف فموحدة بفوقية رجعت بهم بضم الموحدة، وفتح الهاء جمع بهمة بالضم الفارس الذي لا يدري من أين يؤتى من شدة بأسه. ويقال: أيضا للجيش بهم، قال أبو عبيدة الهيجاء، بالمد وفيها القصر، إيضاء الحرب. الفقعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة لهم ورحمة. فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس. وعند أبي يعلى من حديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه فدخل مكة بلواءين، وإسناد ضعيف جدا. لكن جزم موسى بن عقبة في المغازي عن الزهري أنه دفعها إلى الزبير بن العوام. فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد. والذي يظهر في الجمع أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير. قال في رواية البخاري: ثم جاءت كتيبة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه،   بكسر الفاء، فقاف فعين مفتوحة جمع فقع بكسر، الفاء وفتحها، وسكون القاف، ضرب من الكمالة، وهي البيضاء الرخوة، يشبه به الرجل الذليل لأن الدواب تنحله بأرجلها. القاع المكان المستوي الواسع الأسد بضم فسكون. الغاب أجم الأسد والغ بغين معجمة، "فلما سمع هذا الشعر دخلته رأفة ورحمة فأمر بالراية فأخذت من سعد ودفعت إلى ابنه قيس" وعند الواقدي، فأبى أن يسلمها إلا بإنارة منه صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه بعمامته. "وعند أبي يعلى من حديث الزبير" بن العوام "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها إليه فدخل" الزبير "مكة بلواءين" لواء المهاجرين الذي كان معه أولا وهذا "وإسناده ضعيف جدا لكن حزم موسى بن عقبة في المعازي، عن الزهري، أنه دفعها إلى الزبير بن العوام" فاعتضد به وإن كان مرسلا ضعف حديث الزبير المسند، "فهذه ثلاثة أقوال فيمن دفعت إليه الراية التي نزعت من سعد، والذي يظهر في الجمع", كما قال الحافظ، "أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها ثم خشي، تغير خاطر في الجمع" كما قال الحافظ: "أن عليا أرسل لينزعها ويدخل بها ثم خشي، تغير خاطر سعد فأمر بدفعها إلى ابنه قيس, ثم إن سعدا خشى أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه فحينئذ أخذها الزبير". ويؤيد ذلك ما رواه البزار، بسند على شرط البخاري عن أنس قال: كان قيس في مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة فكلم سعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن الموضع الذي هو فيه مخافة أن يقدم على شيء فصرفه عن ذلك انتهى. ملام فتح الباري بجميع ما ساقه المصنف. "قال في رواية البخاري" المذكورة من مرسل عروة تلو قوله حبذا يوم الذمار، "ثم جاءت كتيبة" خضراء يقال فيها ألف دارع، "فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه" المهاجرون والأنصار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: "ما قال"؟ قال: قال كذا وكذا. فقال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة. قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون".   وفيها الرايات والألوية مع كل بطن من بطون الأنصار لواء وراية وهم في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر فيها زجل بصوت عال وهو يقول رويدا يلحق أولكم آخركم كذا عند الواقدي. وأسقط المصنف من البخاري قبل قوله فيهم ما لفظه وهي أقل الكتائب قال الحافظ: أي أقلها عددا، قال عياض، وقع للجميع بالقاف ووقع في الجمع للحميدي، أجل بالجيم، وهي أظهر، ولا يبعد، صحة الأولى؛ لأن عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم، من القبائل. انتهى. وقال البدر في مصابيحه كل منهما ظاهر لا خفاء فيه، ولا ريب أن المراد قلة العدد، لا الاحتقار هذا ما لا يظن بمسلم اعتقاده ولا توهمه، فهو وجه لا محيد عنه ولا ضير فيه بهذا الاعتبار، والتصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم فيها قاض بجلالة قدرها وعظم شأنها ورجحانها على كل شيء سواها، ولو كان ملء الأرض، بل وأضعاف ذلك فما هذا الذي يشم من نفس القاضي، في هذا المحل، قد تجر أعلى، القاضي، بما لم يحط بعلمه وفهم منه غير مراده، فإن الكتيبة النبوية موصوفة في السير بالكثرة، وأن فيها ألفي دارع فضلا ن غيرهم وليس في الكتائب ما وصل إلى هذا العدد، ولذا احتاج الحافظ لتأويل قلتها باعتبار المهاجرين الذين كانوا فيها لا مطلقا، وقد قال عروة في كتيبة الأنصار: لم ير مثلها وهي من جملة كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم على أن القاضي قال: أظهر فأفاد أن رواية أقل ظاهرة، فلم هذا التشدق عليه من ذا النحوي الغافل عن أفعل التفضيل "وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير" بن العوام "فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان، قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة" لم يكتف، بما دار بينه وبين العباس حتى شكا للنبي صلى الله عليه وسلم, قال: "ما قال" سعد؟ "قال" أبو سفيان: "قال: كذا، وكذا" أي: اليوم يوم الملحمة، "فقال" عليه السلام: "كذب سعد". قال الحافظ: فيه إطلاق الكذب على الأخبار بغير ما سيقع لو بناه قائله على لبة ظنه وقوة القرينة "ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة" بإظهار الإسلام، وأذان بلال على ظهرها وإزالة ما كان فيه من الأصنام، ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك، "ويوم تكسى فيه الكعبة" قيل: إن قريشا كانت تكسوها في رمضان فصادف ذلك اليوم أو المراد باليوم الزمان كما قال يوم الفتح، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام، ووقع. ذلك "قال" عروة: "وأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 قال: وقال عروة: أخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله، ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية؟ قال: نعم. قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء -بالفتح والمد- ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى -بالضم والقصر- فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان: حبيش بن الأشعر وكرز بن جابر الفهري.   رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز" بضم أوله وفتح الكاف مبني للمفعول "رايته بالحجون" بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة، مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة "قال: وقال عروة" بن الزبير، راوي الحديث المذكور: "وأخبرني" بالإفراد "نافع بن جبير بن مطعم" القرشي النوفلي أبو محمد وأبو عبد الله المدني الثقة الفاضل روى له الستة مات سنة تسع وتسعين. "قال سمعت العباس يقول: الزبير بن العوام" قال الحافظ: أي في حجة اجتمعوا فيها في خلافة عمر أو عثمان لا أن نافعا حضر المقالة، كما يوهمه السياق، فإنه لا صحبة له أو التقدير سمعت العباس يقول: قلت للزبير فحذف قلت: "يا أبا عبد الله ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز" بفتح التاء وضم الكاف "الراية قال: نعم، قال" عروة: وهو ظاهر الإرسال في الجميع إلا ما صرح بسماعه من نافع وأما باقيه فيحتمل أن عروة تلقاه عن أبيه أو عن العباس، فإنه أدركه وهو صغير أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة وهو الراجح. ذكره الحافظ "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل" مكة "من أعلى مكة، من كداء". قال المصنف "بالفتح والمد ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كدى" أي "بالضم والقصر فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان حبيش" بمهملة ثم موحدة، ثم تحتية، ثم معجمة كما رواه الأكثر ع ابن إسحاق. وروى عنه إبراهيم بن سعد وسلمة بن الفضل أنه بمعجمة ونون، ثم مهملة والصواب الأول كما في الإصابة مصغر على الضبطين "ابن الأشعر" بشين معجمة، وعين مهملة وهو لقب واسمه خالد بن سعد بن منقذ بن ربيعة الخزاعي أخو أم معبد التي مر بها صلى الله عليه وسلم مهاجرا. وروى أحمد، عن حزام بن هشام ابن حبيش قال: شهد جدي الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "وكرز" بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي، "ابن جابر" بن حسل بمهملتين بكسر ثم سكون ابن الأحب بمهملة مفتوحة وموحدة، مشددة ابن حبيب "الفهري" وكان من رؤساء المشركين، وهو الذي أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم في غزة بدر الأولى، ثم أسلم قديما، وبعثه صلى الله عليه وسلم في طلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 قال الحافظ ابن حجر: وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة في البخاري أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم من أعلاها. يعني حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد، وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة وغيرهما.   العرنيين ووقع عند الواقدي أنهما من خيل الزبير بن العوام وكأنه وهم، ولذا لم يعرج عليه صاحب الفتح، لأن عروة لم ينفرد به، بل وافقه عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عند ابن إسحاق فقالا: إنهما من خيل خالد شذا فسلكا طريقا غير طريقه فقتلا جميعا حبيش أولا فجعله كرز بين رجليه ثم قاتل عنه حتى قتل "قال الحافظ ابن حجر وهذا" أي مرسل عروة "مخالف للأحاديث الصحيحة" المسندة "في البخاري أن خالدا دخل من أسفل مكة" الذي هو كدى بالقصر "والنبي صلى الله عليه وسلم" دخل "من أعلاها" الذي هو بالمد وبه جزم ابن إسحاق، وموسى بن عقبة وغيرهما فلا شك في رجحانه على المرسل لكونه موصولا وإخبارا من صحابي شاهد القصة واعتضد بموافقة أصحاب المغازي الذين هم أهل الخبرة بذلك، فيجب تقديمه على مرسل عروة، ويحتمل الجمع بتأويل قول عروة دخل هم بالدخول من السفلى وأمر خالدا بالدخول من العليا، ثم بدا له خلاف ذلك لما ظهر له أن بالسفلى مقاتلين ليبعد عن محل القتال، ما أمكن رعاية للرحم ناشدوه بها وحرمة الحرم فدخل هو من العليا، وخالد من السفلى، والله أعلم. "يعني" الحافظ بالأحاديث الصحيحة "حديث ابن عم" الذي رواه البخاري، في مواضع منها هنا وترجم عليه في باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة "أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته" حال كونه، "مردفا أسامة بن زيد" وفي هذا مزيد تواضعه وكريم أخلاقه حيث أردف في هذا الموكب العظيم خادمه وابن خادمه رضي الله عنهما، والمتكبر يعد إرداف ابنه إذا ركب في السوق عارا عليه ما ذاك إلا تكبر برأ صلى الله عليه وسلم منه ونزه من خلقه على خلق عظيم. "وحديث عائشة" المروي عنده من رواية عروة نفسه أن عائشة أخبرته "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح من كداء التي بأعلى مكة" فما وصله عروة نفسه مقدم على ما أرسله قال في الروض: وبكداء وقف إبراهيم حين دعا لذريته، فقال: واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، كما روي عن ابن عباس فمن ثم، استحب صلى الله عليه وسلم الدخول منها لأنها المواضع الذي دعا فيه إبراهيم. انتهى. وعند البيهقي بإسناد حسن عن ابن عمر، قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم عام الفتح رأى النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر، وقال: " يا أبا بكر! كيف قال حسان"؟ فأنشده قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 وغيرها قال: وقد ساق ذلك موسى بن عقبة سياقا واضحا فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء بأعلى مكة، وأمره أن يركز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه. وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عنه أدنى البيوت. وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتهلم.   عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء ينازعن الأعنة مسرحات ... يلطمهن بالخمر النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "أدخلوها من حيث قال حسان"، "و" يعني حديث "غيرها" كالعباس، فقد روى الطبراني، عن العباس لما بعث صلى الله عليه وسلم قلت لأبي سفيان بن حرب: أسلم بنا قال: لا والله حتى أرى الخيل تطلع من كداء، قال العباس: قلت: ما هذا قال: شيء طلع بقلبي، لأن الله لا يطلع هناك خيلا أبدا، قال العباس فلما طلع صلى الله عليه وسلم من هناك ذكرت أبا سفيان به، فذكره. "قال" الحافظ ابن حجر "وقد ساق ذلك" أي دخول خالد والزبير "موسى بن عقبة سياقا واضحا" موافقا للأحاديث الصحيحة، "فقال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كداء" بالفتح والمد "بأعلى مكة وأمره أن يركز" بفتح الياء وضم الكاف "رايته بالحجون" وأن يمكث عند الراية "ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل" أبدل منها "قضاعة وسليم" بالتصغير "وغيرهم" جمع باعتبار أفراد القبائل فلم يقل وغيرهما كأسلم وغفار ومزينة وجهينة، "وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت" أقربها إلى الثنية التي دخل منها، وهو أول بيوت مكة من الجهة التي دخل منها. روى أصحاب السنن الأربعة عن جابر كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة أبيض. وروى ابن إسحاق عن عائشة: كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أبيض، ورايته سوداء تسمى العقاب، وكانت قطعة مرط مرجل "وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار" ومعه الراية، حتى نزعت منه لابنه أو غيره، واستمر هو بلا راية "في مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم". وروى ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح وعبد الله بن أبي بكر أن أصحاب خالد لقوا ناسا من قريش منهم صفوان وعكرمة وسهيل تجمعوا بالخندمة بخاء معجمة ونون مكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة، وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف، وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش، فقاتلوا خالدا فانهزموا، وقتل من بني بكر نحو من عشرين رجلا، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة، حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة حتى دخلوا الدور، وارتفعت طائفة منهم على الجبال.   أسفل مكة ليقاتلوا المسلمين، فناوشوهم شيئا من القتال، فقتل من خيل خالد مسلمة بن الميلاء الجهني، قتل من المشركين اثنا عشر أو ثلاثة عشر، ثم انهزموا وفي ذلك يقول جماش بن قيس بجيم مكسورة وميم مخففة ومعجمة يخاطب امرأته حين لامته على الفرار، وقد كان يصلح سلاحه ويعدها أن يخدمها بعض المسلمين: إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذ فر صفوان وفر عكرمه وأبو يزيد قائم كالموتمه ... واستقبلتهم بالسيوف المسلمه يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضربا فلا تسمع إلا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمه ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه قال ابن هشام: ويروى هذا الشعر للمرعاش الهذلي وكان شاعر المهاجرين يوم الفتح وحنين، والطائف يا بني عبد الرحمن وشاعر الخزرج يا بني عبد الله والأوس يا بني عبيد الله "واندفع خالد بن الوليد حتى دخل من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش" وظاهر كلام ابن عقبة هذا أن بني بكر اجتمعوا كلهم. وعند لواقدي، ناس من بني بكر فيحتمل كثرة بني بكر فأطلق عليهم اسم القبيلة وقلة هذيل بالنسبة لهم فعبر عنهم بناس "فقاتلوا خالدا". وعند الواقدي، فمنعوه الدخول، وشهروا له بالسلاح، ورموه بالنبل وقالوا: لا تدخلها عنوة فصاح خالد في أصحابه "فقاتلهم فانهزموا" أقبح الانهزام، "وقتل من بني بكر نحوا من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة" وعند ابن سعد، وشيخه الواقدي، فقتل أربعة وعشرين رجلا من قريش وأربعة من هذيل، ويحتمل الجمع بأنه من مجاز الحذف أي، من حزب قريش لأن بني بكر دخلوا في عقدهم عام الهدنة ونحو العشرين شامل للأربعة والعشرين، فيفسر بها وأما رواية، ابن إسحاق، اثنا عشر وثلاثة عشر، فالأقل لا ينفي الأكثر بل هو داخل فيه "حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة" بفتح المهملة والواو بينهما زاي ساكنة، ثم راء، وهاء تأنيث كانت سوقا بمكة ثم أدخلت في المسجد "حتى دخلوا الدور وارتفعت طائفة منهم على الجبال" هربا وتبعهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 وصاح أبو سفيان: من أغلق بابه وكف يده فهو آمن. قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة فقال: "ما هذه؟ وقد نهيت عن القتال". فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من أن يقاتلهم. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن اطمأن- لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟. فقال: هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعت. قال: "قضاء الله خير".   المسلمون "وصاح أبو سفيان، من أغلق بابه وكف يده" عن القتال، "فهو آمن". وعند الواقدي، وصاح حكيم، وأبو سفيان، يا معشر قريش، علام تقتلون أنفسكم من دخل داره فهو آمن، ومن وضع السلاح فهو آمن، فجعلوا يقتحمون الدور، ويغلقون أبوابها، ويطرحون السلاح في الطرق فيأخذه المسلمون "قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البارقة" اللامعة صفة لمحذوف أي السيوف بثنية قرب مكة، يقال لها: أذاخر بفتح الهمزة، وذال معجمة فألف فمعجمة مكسورة، فراء وفي السبل البارقة لمعان السيوف وفيه أن اللمعان مصدر فلا يفسر به اسم الفاعل إلا نحو العافية والعاقبة ولا أحفظ الآن أن البارقة منها. شيخنا فقال: "ما هذه"؟ البارقة "وقد نهيت عن القتال"، "فقالوا: نظن أن خالدا قوتل وبدئ بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتلهم". "قال" ابن عقبة: "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن لخالد بن الوليد: "لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال"؟، فقال: هم بدؤنا بالقتال، وقد كففت يدي ما استطعت. فقال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير". زاد في الفتح. وروى الطبراني عن ابن عباس قال: خطب صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله حرم مكة" ... الحديث. فقيل له هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: "قم يا فلان فقل له فليرفع يديه من القتل". فأتاه الرجل، فقال له: إن نبي الله يقول لك اقتل من قدرت عليه فقتل سبعين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل إلى خالد: "ألم أنهك عن القتل". فقال: جاءني فلان فأمرني أن أقتل من قدرت عليه, فأرسل إليه: "آمرك أن تنذر خالدا"، قال: أردت أمرا فأراد الله أمرا، فكان أمر الله فوق أمرك وما استطعت إلا الذي كان، فسكت صلى الله عليه وسلم وما رد عليه. انتهى. قيل: وهذا الرجل أنصاري فيحتمل أنه تأول، ويحتمل أنه سبق إلى سمعه ما أمر به خالدا، كما قد يرشد إلى كل من الاحتمالين قوله وأراد الله أمر ... إلخ. ثم في قوله فقل سبعين مباينة زائدة لما قبله بكثير إذ غاية الأول ثمانية وعشرون لكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 وعند ابن إسحاق: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، رقت نفس العباس لأهل مكة، فخرج ليلا راكبا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يجد أحدًا فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنوه، فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلفه وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وانصرف الآخران ليعلما أهل مكة.   زيادة الثقات، مقبولة والأقل داخل فيها. "وعند ابن إسحاق" بمعناه وأخرجه ابن راهويه بسند صحيح من حديث ابن عباس بلفظ "فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران رقت نفس العباس لأهل مكة", فقال: واصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قبل، أن يأتوه فيستأمنوه أنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، "فخرج ليلا راكبا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم"الشهباء، كما في رواية ابن راهويه وهو بمعنى رواية ابن إسحاق البيضاء "لكي يجد أحدًا فيعلم أهل مكة بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم ليستأمنوه", ولفظ ابن إسحاق عقب قوله إلى آخر الدهر، فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقتل لعلي أجد بعض الخطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، "فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلقه وأتي بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم" نقل بالمعنى أيضا ولفظ ابن إسحاق قال: فوالله إني لأسير ليها ألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل وهما يتراجعان فذكر مراجعتهما في النيران لمن هي؟ قال: فعرفت صوته فقتل: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل، قلت: نعم. قال مالك: فداك أبي وأمي. قلت: ويحكم هذا رسول الله في الناس واصباح قريش والله قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة فركب خلفي "وانصرف الآخران ليعلم أهل مكة " كذا في رواية ابن إسحاق بلا سند وابن راهويه، والواقدي، عن ابن عباس أنهما رجعا وعند ابن عقبة، وابن عائذ، والواقدي في موضع آخر أنهما لم يرجعا. وأن العباس قدم بهم عليه صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم. قال الحافظ: فيحمل قوله ورجع صاحباه أي، بعد أن أسلما، واستمر أبو سفيان عند العباس لأمره صلى الله عليه وسلم بحبسه حتى يرى العساكر ويحتلم أنهما رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا. وفي مغازي ابن عقبة، ما يؤيد ذلك ففيه فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم عليه صلى الله عليه وسلم فأسلم بديل وحكيم، وتأخر أبو سفيان بإسلامه حتى أصبح. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 ويمكن الجمع: بأن الحرس لما أخذوه استنقذه العباس. وروي أن عمر رضي الله عنه لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذا أبو سفيان، دعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا عباس به إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به".   "ويمكن الجمع" كما قال في الفتح بين هذا وبين ما مر عن البخاري من مرسل عروة أن الحرس أخذوا الثلاثة فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه في مرسل أبي سلمة عند ابن أبي شيبة "بأن الحرس لما أخذوه" أي أبا سفيان" استنقذه العباس" وأردفه خلفه وأتى به المصطفى، ويؤيده ما رأيته عن ابن عقبة قريبا، وقد روى ابن أبي شيبة عن عكرمة أن أبا سفيان لما أخذه الحرس، قال دلوني على العباس فأتى العباس وأخبره الخبر وذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان العباس سمع صوت أبي سفيان وهو مع الحرس فأجاره مع صاحبيه وأتى بهم المصطفى، فمن نسب إليه أنه أتى بهم فلإجارته لهم وتخليصه إياهم من الحرس، واستئذانه لهم في الدخول على المصطفى، ومن نسبه للحرس فلكنهم السبب فيه إذ وقفوا به حتى أدركه العباس واستنقذ منهم غير أنه يعكر على ذا الجمع قول عمر احبسوا أبا سفيان فحبسوه حتى أصبح فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر من مرسل أبي سلمة، وقد لا يعكر بحمله على ضرب من المجاز أي كان مرادهم ذلك حتى أجازه العباس وأخذه وذهب به وبالجملة فحقيقة الجمع بين هذا التباين لم تنقدح. "وروي" عن ابن إسحاق وغيره "أن عمر رضي الله عنه لما رأى سفيان رديف العباس" قال: عدو الله الحمد له الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال العباس: وركضت البغلة فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "ودخل" عمر "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان دعني أضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته", ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: لا يناجيه الليلة دوني رجل, فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا عباس به إلى رحلك فإذا أصبحت فائتني به". كذا في رواية ابن إسحاق وغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 فذهب فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله"؟. فقال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا. ثم قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله"؟.   وذكر ابن عقبة وغيره قال العباس: فقلت: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم وبديل قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، قال: أدخلهم فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم، فدعاهم إلى الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلا الله. فقال: "واشهدوا أني رسول الله". فشهد بديل وحكيم، وقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا بعد فأرجئها. وفي رواية ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة قال عليه الصلاة والسلام: "يا أبا سفيان أسلم، تسلم". قال: كيف أصنع باللات والعزى؟ فسمعه عمر وهو خارج القبة، فقال: اخرأ عليهما أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها, وفي رواية عبد بن حميد، فقال: يا أبا سفيان، ويحكم يا عمر إنك رجل فاحش دعني مع ابن عمي، فإياه أكلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس"، "فذهب فلما أصبح غدا" أي أتى "به" أول النهار قبل الشمس كما أفاده تعبيره بغدا "على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى عبد بن حميد وغيره أنه لما أصبح رأى الناس بادروا إلى الوضوء، فقال: ما للناس أأمروا فيَّ بشيء قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة فأمره العباس فتوضأ وانطلق به، فلما كبر صلى الله عليه وسلم كبر الناس، ثم ركع فركعوا، ثم رفع فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، فقال: ما رأيت كاليوم طاعة قوم جمعهم من ههنا، وههنا ولا فارس الأكارم ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم لا يا أبا الفضل أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك، فقال العباس: إنه ليس بملك ولكنها النبوة فقال: أو ذاك "فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال" بعد فراغه من الصلاة: "ويحك يا أبا سفيان! توقع نفسك في الهلاك مع مزيد عقلك؟ فإنك لو نظرت بعين البصيرة لبادرت إلى الإسلام". وفي هذا التعبير مزيد رفق في الدعاء للإسلام "ألم يأن" يحن "لك أن تعلم أن لا إله إلا الله". "فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك" حيث خاطبتني بهذا الخطاب اللين العذب وأغضيت، وضرب صفحا عما جرى مني في عداوتك ومحاربتك. "لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى" ما زائدة ولفظ ابن إسحاق لقد أغنى "عني شيئا" بعد, زاد في رواية الواقدي: لقد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك فوالله ما لقيتك من مرة إلا نصرت عليّ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك، ثم قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله". ولم يختصر ويقل له أن تسلم لأنه ليلا شهد أن لا إله إلا الله وتوقف في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. فأسلم وشهد شهادة الحق. فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: "نعم".   الشهادة له، "فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء" لفظ ابن إسحاق: والله إن في النفس منها شيئا حتى الآن، "فقال له العباس:" خوفا عليه لئلا يبادر أحد بقتله فإنه ليس وقت مجادلة في الكلام لا سيما مع شدة حنق المسلمين عليه "ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة الحق" رضي الله عنه، وعند بن عقبة والواقدي، قال أبو سفيان، وحكيم: يا رسول الله جئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم أظلم وأفجر، فقد غدرتم بعد الحديبية وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه". فقالا: صدقت يا رسول الله، ثم قالا: لو كنت جعلت جدك ومكيدتك لهوازن فهم أبعد رحما وأشد عداوة لك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله فتح مكة وإعزاز الإسلام بها وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم وذراريهم فإني أرغب إلى الله تعالى في ذلك". انتهى. ثم أراد العباس تثبيت إسلام أبي سفيان لئلا يدخل عليه الشيطان أنه كان متبوعا فأصبح تابعا ليس له من الأمر شيء "فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا" قال: "نعم" وعند ابن أبي شيبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب السماع يعني الشرف، فقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فقال: وما تسع داري؟ زاد ابن عقبة: "ومن دخل دار حكيم فهو آمن". وهي من أسفل مكة ودار أبي سفيان بأعلاها, "ومن دخل المسجد فهو آمن". قال: وما يسع المسجد؟ قال: " ومن أغلق بابه فهو آمن". قال أبو سفيان: هذه واسعة، ثم لما أراد الانصراف أمر بحبسه حتى مرت عليه جنود الله، كما مر، ثم قال له العباس النجاء إلى قومك حتى إذ جاءهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. زاد الواقدي: أسلموا تسلموا من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، فقامت إليه هند زوجته فأخذت بشاربه وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس قبح من طليعة قوم. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فقد جاءكم بما لا قبل لكم به، فتفرقوا إلى دوركم وإلى المسجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى مناديه: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن إلا المستثنين. وهم كما قال مغلطاي وغيره: عبد الله بن سعد بن أبي سرح.   كما أورده ابن إسحاق وغيره مفصلا فلخصه المصنف بقوله: "وأمر رسول الله فنادى مناديه" هو أبو سفيان كما علم: "من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن, ومن أغلق عليه بابه فهو آمن", فليس المراد أنه أمر المنادي بذلك حين سأله العباس والصديق كما قد يوهمه السياق، والحميت بفتح المهملة وكسر الميم وسكون التحتية وبالفوقية، قال: في الروض الزق نسبته إلى الضخم والسمن والدسم، بدال فسين مكسورة مهملتين الكثير الودك، والأحمس بحاء وسين مهملتين، قال في الروض: أي الذي لا خير عنده من قولهم عام أحمس إذا لم يكن فيه مطر. انتهى. وفي النهاية الدسم الأحمس أي الأسود الدنيء، وفي حديث عبد بن حميد، أنها قالت: يا آل غالب اقتلوا الأحمس فقال لها أبو سفيان: والله لتسلمن أو لأضربن عنقك "إلا المستثنين" بوزن المصطفين فاصله متثنيين بياءين تحركت الأولى وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، "وهم كما قاله مغلطاي وغيره" كالحافظ قال في الفتح: قد جمعت أسماءهم من متفرقات الأخبار "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" بفتح السين وسكون الراء، وبالحاء المهملات. ابن الحارث القرشي العامري، أول من كتب بمكة له صلى الله عليه وسلم روى أبو داود، والحاكم عن ابن عباس، قال: كان عبد الله بن سعد يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله يعني يوم الفتح فاستجار له عثمان فأجاره أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، إنها أنزلت فيها، كان يكتب للنبي فيملي عليه عزيز حكيم فيكتب غفور رحيم، ثم يقرأ عليه فيقول نعم سواء فرجع عن الإسلام ولحق بقريش. ورواه عن السدي بزيادة، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله قال محمد: سميعا عليما فقلت أنا: عليما حكيما. وروى الحاكم عن سعد بن أبي وقاص أنه اختبأ عند عثمان فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن مبايعته فيقتله"؟، فقال رجل: هلا أومأت إليّ، فقال: "إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين"، وأفاد سبط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 أسلم. وابن خطل قتله أبو برزة, وقينتاه وهما: فرتنى بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون. وقريبة بالقاف والراء والموحدة مصغرا, أسلمت إحداهما وقتلت الأخرى. وذكر غير ابن إسحاق أن التي أسلمت فرتنى وأن قريبة قتلت. وسارة مولاة لبني المطلب.   ابن الجوزي في مرآة الزمان أن الرجل عباد بن بشر الأنصاري وقيل: عمر. انتهى. ثم أدركته العناية الأزلية وأتته السعادة الأبدية حتى "أسلم" وحسن إسلامه وعرف فضله وجهاده، وكان على ميمنة عمرو بن العاصي في فتح مصر، وكان له المواقف المحمودة في الفتوح، وهو الذي افتتح إفريقية زمن عثمان سنة ثمان أو سبع وعشرين وكان من أعظم الفتوح، بلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وغزا الأساود من النوبة سنة إحدى وثلاثين وهادن باقي النوبة الهدنة الباقية بعد وغزا ذات الصواري سنة أربع وثلاثين وولاه عمر صعيد مصر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودا في ولايته واعتزل الفتنة حتى مات سنة سبع أو تسع وخمسين. روى البغوي بإسناد صحيح عن يزيد بن أبي حبيب، قال: لما كان عند الصبح، قال ابن أبي سرح: اللهم اجعل آخر عملي الصبح فتوضأ، ثم صلى فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره، فقبض الله روحه رضي الله عنه. "وابن خطل" بفتح المعجمة والمهملة كما يأتي قريبا, ثم بعد قليل يأتي الخلاف في اسمه وقاتله، وأن الأرجح أنه "قتله أبو برزة" بفتح الموحدة وسكون الراء وفتح الزاي، آخره هاء، اسمه نضلة بن عبيد على الأصح بنون مفتوحة ومعجمة ساكنة. الأسلمي أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات ثم نزل البصرة وغزا خراسان وبها مات سنة خمس وستين على الصحيح "وقينتاه" بفتح القاف وسكون التحتية فنون ففوقية تثنية قينة الأمة غنت أم لم تغن كثيرا ما يطلق على المغنية، وقد كانتا تغنيانه بهجوه صلى الله عليه وسلم، "وهما فرتنى بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية" وتليها "النون" والقصر "وقريبة بالقاف والراء والموحدة، مصغرا" وضبطه الصغاني بفت القاف وكسر الراء، وأيده البرهان بقول الذهبي في المشتبه لم أجد أحدا بالضم لكن، قال في التقصير فيه نظر "أسلمت إحداهما" بعد أن هربت حتى استؤمن لها صلى الله عليه وسلم. "وقتلت الأخرى" كذا وقع مبهما عند ابن إسحاق "وذكر غير ابن إسحاق أن التي أسلمت فرتنى" فلم تقتل "وأن قريبة قتلت وسارة مولاة لبعض بني المطلب" بن هاشم بن عبد مناف كذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 أسلمت، ويقال: كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم. وأرنب -علم امرأة- وقريبة قتلت, وعكرمة بن أبي جهل: أسلم.   وقع بإبهام البعض عند ابن إسحاق، "ويقال" في تعيين هذا البعض "كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هاشم" بن المطلب بن عبد مناف وهي التي وجد معها كتاب حاطب ومر عند الفتح قيل: كانت مولاة العباس. وفي السبل كانت نواحة مغنية بمكة فقدمت قبل الفتح وطلبت الصلة وشكت الحاجة، فقال صلى الله عليه وسلم لها $"ما كان في غنائك ما يغنيك"، فقالت: إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر تركوا الغناء فوصلها وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وكان ابن خطل يلقي عليها هجاء رسول الله فتغني به، فأسلمت قال ابن إسحاق، ثم تعبت حتى أوطأها رجل فرسا بالأبطح فقتلها في زمن عمر "وأرنب علم امرأة" ذكرها الحاكم، وأنها مولاة ابن خطل أيضا، قتلت، وأم سعد قتلت فيما ذكره ابن إسحاق ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد هما القينتان، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب، قاله في الفتح. "وقريبة قتلت" كما تراه قريبا. وتكلف شيخنا دفع التكرار فترجى أنه ذكره لضرورة أنه في ضمن من نقل عنه بقوله ويقال: وفيه وقفة "وعكرمة بن أبي جهل" بن هشام المخزومي، "أسلم" وحسن إسلامه واستشهد بالشام في خلافة أبي بكر على الصحيح. روى الواقدي: أنه هرب ليلقي نفسه في البحر أو يموت تائها في البلاد وكانت امرأته أم حكيم، بنت عمه الحارث أسلمت قبله، فاستأمنت له رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود، والنسائي، أنه ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف فنادى عكرمة: اللات، والعزى، فقال أهل السفينة، أخلصوا فآلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره اللهم لك عهد إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن أتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا غفورا كريما فجاء فأسلم. وروى البيهقي، عن الزهري، والواقدي، عن شيوخه أن امرأته، قالت: يا رسول الله قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه فقال: هو آمن فخرجت في طلبه فأدركته وقد ركب سفينة ونؤتى بقول له أخلص أخلص قال: ما أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله قال: ما هربت إلا من هذا وإن هذا أمر تعرفه العرب والعجم حتى النواتي ما الدين إلا ما جاء به محمد، وغير الله قلبي وجاءت أم حكيم تقول ابن عم جئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس وخير الناس لا تهلك نفسك إني قد استأمنت لك رسول الله فرجع وجعل يطلب جماعها فتأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة، فقال: إن أمرًا منعك مني لأمر كبير فلما وافى مكة، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 والحويرث بن نقيد: قتله علي. ومقيس بن صبابة -بمهملة وموحدتين الأولى خفيفة- قتله نميلة الليثي. وهبار بن الأسود وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها.   "يأتيكم عكرمة مؤمنا، فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي". قال الزهري: وابن عقبة فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحا به فوقف بين يديه ومعه زوجته متنقبة فقال: إن هذه أخبرتني إنك أمنتني فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت فأنت آمن"، قال: إلام تدعو قال: "أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة"، وكذا حتى عد خصال الإسلام، قال: ما دعوت إلا إلى خير وأمر حسن جميل, قد كنت فينا يا رسول الله قبل أن تدعونا، وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا. ثم قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله علمني خير شيء أقول. قال: "تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "تقول أشهد الله وأشهد من حضرني أني مسلم مجاهد مهاجر"، فقال عكرمة ذلك. رواه البيهقي "والحويرث" بالتصغير "ابن نقيد" بنون وقاف مصغر بن وهب بن عبد بن قصي، قال البلاذري: كان يعظم القول فيه صلى الله عليه وسلم وينشد الهجاء فيه ويكثر أذاه وهو بمكة، وقال ابن هشام وكان العباس حمل فاطمة وأم كلثوم، بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة، فنخس الحويرث بهما الجمل فرمى بهما الأرض, وشارك هبارا في نخس جمل زينب لما هاجرت فأهدر دمه "قتله علي" وذلك أنه سأل عنه، وهو في بيته، قد أغلق عليه بابه فقيل: هو في البادية فتنحى علي عن بابه فخرج يريد أن يهرب من بيت إلى آخر فتلقاه علي فضرب عنقه، "ومقيس" بميم فقاف فسين مهملة "ابن صبابة بمهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة" كان أسلم، ثم أتى على أنصاري فقتله، وكان الأنصاري قتل أخاه هشاما خطأ في غزوة ذي قرد ظنه من العدو, فجاء مقيس فأخذ الدية، ثم قتل الأنصاري، ثم ارتد ورجع إلى قريش فأهدر دمه "قتله نميلة" تصغير نملة ابن عبد الله "الليثي" ويقال له: الكلبي نسبة لجده الأعلى كلب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث وحيث يطلق الكلبي فإنما يراد به من كان من بني كلب بن وبرة كما في الإصابة. "وهبار" بفتح الهاء وشد الموحدة "ابن الأسود" بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي، الأسدي "أسلم" رضي الله عنه بالجعرانة بعد الفتح وكان شديد الأذى للمسلمين، "وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فنخس بها حتى سقطت على صخرة، وأسقطت جنينها", ولم تزل مريضة حتى ماتت فأهدر دمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وكعب بن زهير أسلم, وهند بنت عتبة أسلمت, ووحشي بن حرب, أسلم   أخرج الواقدي عن جبير بن مطعم، قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من الجعرانة فطلع هبار, فقالوا: يا رسول الله هبار بن الأسود، قال: قد رأيته فأراد رجل القيام إليه فأشار إليه أن اجلس فوقف هبار، وقال: السلام عليك يا نبي الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله, وقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحاق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك وكنا يا رسول الله أهل شرك، فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عنك وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما قبله". وروى ابن شاهين من مرسل الزهري، أن هبارا لما قدم المدينة جعلوا يسبونه فشكا ذلك له صلى الله عليه وسلم فقال: "سب من سبك". فكفوا عنه. "وكعب بن زهير" ذكره الحاكم "أسلم" بعد ذلك ومدح وتأتي قصته، "وهند بنت عتبة" بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية زوجة أبي سفيان، ذكره الحاكم فيمن أهدر دمه. "أسلمت" فأتته صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وقالت: الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه لتمسني رحمتك يا محمد. إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة به ثم كشفت نقابها، فقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك ثم أرسلت إليه بهدية جديين مشويين، وقديد مع جارية لها فقالت: إنها تعتذر إليك وتقول لك: إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكم في غنمكم وأكثر والدته". فلقد رأينا من كثرتها ما لم نره قبل ولا قريبا فتقول هند: هذا بدعائه صلى الله عليه وسلم ثم تقول: لقد كنت أرى في النوم أني في الشمس أبدا قائمة، والظل قريب مني لا أقدر عليه، فلما دنا صلى الله عليه وسلم رأيت كأني دخلت الظل. أورده الواقدي بأسانيده. وروى الشيخان عن عائشة: قالت هند بن عتبة: يا رسول الله ما كان لي على ظهر الأرض من أهل خباء أريد أن يذلوا من أهل خبائك، ثم ما أصبح اليوم على وجه الأرض أحب إليّ من أن يعزوا من أهل خبائك. "ووحشي بن حرب أسلم" قاتل حمزة رضي الله عنهما صح عنه أنه لما قتله بأحد قال: أقمت بمكة حتى فتحت فهربت إلى الطائف، فكنت به فلما خرج وفد الطائف ليسلموا، ضاقت عليّ المذاهب فقلت: ألحق بالشام أو باليمن أو ببعض البلاد, فوالله إني لفي ذلك من همي، إذ قال لي رجل: ويحك والله إنه ما يقتل أحدا دخل في دينه، فخرجت حتى قدمت عليه فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: "وحشي". قلت: نعم يا رسول الله. قال: "اقعد فحدثني كيف حمزة". فحدثته فلما فرغت, قال: "ويحك غيب وجهك عني"، فكنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 انتهى. وابن خطل بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة. وابن نقيد بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا. ومقيس: بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية آخره مهملة. وقد جمع الواقدي عن شيوخه أسماء من لم يؤمن يوم الفتح وأمر بقتله عشرة أنفس، ستة رجال، وأربع نسوة.   أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله "انتهى" ما قاله مغلطاي وغيره. وقال الحافظ في الفتح قد جمعت أسماءهم من مفرقات الأخبار فذكر هؤلاء وزاد وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي قتله علي وأم سعد قتلت، ثم قال: فكملت العدة تسعة رجال، وست نسوة، ويحتمل أن أرنب، وأم سعد هما القينتان، اختلف في اسمهما باعتبار الكنية واللقب أي فيكون النساء أربعا "وابن خطل بفتح الخاء المعجمة" وفتح "الطاء المهملة" وباللام، واسم خطل عبد مناف من بني تيم بن فهر بن غالب "وابن نقيد بضم النون وفتح القاف وسكون المثناة التحتية آخره دال مهملة مصغرا ومقيس بكسر الميم، وسكون القاف، وفتح المثناة التحتية آخره مهملة". "وقد جمع الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي أبو عبد الله المدني "عن شيوخه أسماء من لم يؤمن" بضم الياء وشد الميم مبني للمفعول أي الذين لم يؤمنهم صلى الله عليه وسلم "وأمر بقتله عشرة أنفس ستة رجال" هم: ابن سعد، وابن خطل, وعكرمة، والحويرث، ومقيس, وهبار "وأربع نسوة" قينتا ابن خطل، وسارة، وأرنب. وعد صاحب إنسان العيون ممن لم يؤمن: الحارث بن هشام، وزهير بن أبي أمية، وصفوان أسلموا، وزهير بن أبي سلمى، فأما الأخير فغلط قطعا لأنه والد كعب بن زهير ولم يدرك الإسلام، كما أخرجه ابن إسحاق وغيره، ويأتي في قصة ابنه كعب. وأما الثلاثة قبله فيتوقف على رواية، أنه صلى الله عليه وسلم أهدر دماءهم، فإن كانت شبهته في الأولين أن أم هانئ أجارتهما، وقد كان شقيقها علي أراد قتلهما، فقال صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت، فهذا ليس فيه أنه كان أهدر دمهما, وإرادة علي قتلهما، لكونهما كانا ممن قاتل خالدا، ولم يقبلا الأمان وفي صفوان خوفه وهروبه من النبي صلى الله عليه وسلم حين استأمنه له ابن عمه عمير بن وهب، فهذا ليس فيه ذلك أيضا فهروبه لعلمه بشدة ما فعل، ومن جملته أنه ممن جمع، وقاتل خالدا وبغضا في الإسلام حتى هداهم الله. وقد هرب ابن الزبعرى وطائفة لم تهدر دماؤهم خوفا وبغضا، وبالجملة فزيادة لم يوجد في كلام الحفاظ النص عليها مع قول خاتمتهم جمعها من مفرقات الأخبار، مع تكلمه على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 وروى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بعث على أحد المجنبتين خالد بن الوليد، وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر -بضم المهملة وتشديد السين المهملة، أي الذي بغير سلاح- فقال لي: "يا أبا هريرة اهتف بالأنصار"، فهتف بهم فجاءوا فطافوا به، فقال: "أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم"، ثم قال بإحدى يديه على الأخرى: "احصدوهم حصدا، حتى توافوني بالصفا". قال أبو هريرة: فانطلقنا، فما نشاء أن نقتل أحدا منهم   حديث أم هانئ في شرح الصحيح غير مرة لا تقبل إلا بثبت والله أعلم. "وروى أحمد والنسائي عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم" فدخل مكة "وقد بعث على إحدى المجنبتين" بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر النون المشددة، قال في النهاية، مجنبة الجيش هي التي في الميمنة والميسرة، وقيل الكتيبة، تأخذ إحدى ناحيتي الطريق، والأول أصح "خالد بن الوليد". وفي رواية ابن إسحاق من مرسل ابن أبي نجيح أن خالدا كان على المجنبة اليمنى، "وبعث الزبير على الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة" فراء "أي الذين بغير سلاح", كما قاله في الفتح، وقال في النور: وهم الذين لا دروع لهم. انتهى. فيحتمل أنها المراد بالسلاح المنفي لا مطلقا إذ الذاهب للقتال لا يخرج بلا سلاح البتة. وفي مسلم أيضا أن أبا عبيدة كان على البياذقة بتفح الموحدة وخفة التحتية فألف فذال معجمة، فقاف فتاء تأنيث أي: الرجالة فارسية معربة وكلاهما في العيون، خلافا لما أوهمه الشارح وفي مسلم وغيره أن قريشا وبشت أوباشها وأتباعها، فقالوا: تقدم هؤلاء، فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا فرآني صلى الله عليه وسلم, فقال لي: "يا أبا هريرة" قلت: لبيك قال: "اهتف" صح "بالأنصار" ولا يأتيني إلا أنصاري، "فهتف بهم، فجاءوا، فطافوا به" داروا حوله وحكمة تخصيصهم عدم قرابتهم لقريش، فلا تأخذهم بهم رأفة، فقال: "أترون إلى أوباش قريش" بفتح الهمزة، وسكون الواو، وبموحدة، فألف فمعجمة الجموع من قبائل شتى "وأتباعهم"، ثم قال: بإحدى يديه على الأخرى: "احصدوهم" بهمزة وصل فإن ابتدأت ضممت وبالحاء والصاد، المهملتين "حصدا" أي اقتلوهم وبالغوا في استئصالهم "حتى توافوني الصفا" قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين ما مر من تأمينه لهم أن التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما جاهروا به واستعدوا للحرب انتفى التأمين "قال أبو هريرة، فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدًا منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 إلا قتلناه، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم. فقال صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن". قال في فتح الباري: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة، وهو قول الأكثر. وعن الشافعي، وهو رواية عن أحمد: أنها فتحت صلحا، لما وقع في هذا من التأمين، ولإضافة الدور إلى أهلها؛ لأنها لم تقسم؛ ولأن الغانمين لم يملكوا دورها. وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها. وحجة الأولين: ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال، ووقوعه من خالد بن الوليد، وبتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها أحلت له ساعة، من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك. وأجابوا عن ترك القسمة: بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن   إلا قتلناه, فجاء أبو سفيان، فقال: يا رسول الله أبيحت" بالبناء، للمفعول أي انتهبت وتم هلاكها. وفي رواية لمسلم أيضا أبيدت ببنائه للمفعول أي أهلكت "خضراء قريش" بخاء مفتوحة وضاد ساكنة معجمتين وبالمد جماعتهم وأشخاصهم والعرب تكنى بالسواد عن الخضرة وبها عن السواد "لا قريش بعد اليوم" وهذا صريح في أنهم أثخنوا فيهم القتل بكثرة فهو مؤيد لرواية الطبراني، أن خالدا قتل منهم سبعين, فقال صلى الله عليه وسلم: "من أغلق بابه فهو آمن" زاد في رواية: "ومن ألقى سلاحه فهو آمن". فألقى الناس سلاحهم، وغلقوا أبوابهم، "قال في فتح الباري: وقد تمسك بهذه القصة من قال: إن مكة فتحت عنوة" أي بالقهر والغلبة "وهو قول الأكثر" من العلماء. "وعن الشافعي: وهو رواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما وقع في هذا من التأمين" ويأتي الجواب عنه، بأنه إنما يكون صلحا إذا كف المؤمن عن القتال وقريش لم تلتزم ذلك، بل استعدوا للحرب وقاتلوا "ولإضافة الدور إلى أهلها ولأنها لم تقسم ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها". "وحجة الأولين ما وقع التصريح به" في الأحاديث الصحيحة "من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد، وتصريحه عليه الصلاة والسلام بأنها حلت له ساعة من نهار ونهيه عن التأسي به في ذلك"؛ لأنه من خصائصه، فهذه أرع حجج قوية كل منها بانفراده كاف في الحجية, "وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 عن أهلها، ويترك لهم دورهم.   عن أهلها ويترك لهم دورهم" وغنائمهم، ولأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة، فمن بعدهم وقد فتحت أكثر البلاد عنوة، فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود الصحابة. وقد زادت مكة، بأمر يمكن أن يدعى اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي دار النسك ومتعبد الخلق وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والبادي، هذا أسقطه المصنف من كلام الفتح، وسلم له تلامذته وغيرهم. هذه الأدلة والأجوبة لأنها كالشمس في رابعة النهار، حتى جاء سميه الشهاب الهيثمي، فأجاب عن احتجاج الجمهور الأول بأن قوله حتى توافوني بالصفا إنما كان لخالد ومن معه الداخلين من أسفلها، فقوله احصدوهم أي إن قاتلوكم، وهذا الحصر منه عجيب. فالحديث الصحيح بعين الأنصار فحصر في غيرهم نظرا لمذهبه يعين الانتصار مع أن خالد لم يكن معه من الأنصار أحد إنما كان في قبائل قضاعة وسليم، ومزينة، وجهينة، وغيرهم من قبائل العرب كما قاله ابن إسحاق وغيره من أئمة السير، وقوله أي إن قاتلوكم برده قول أبي هريرة، في صحيح مسلم وغيره، فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا فصرح بخلاف تأويله على أن كون المراد إن قاتلوكم ينتج المدعي، وأن قريشا لم تلتزم التأمين فقاتلوهم حتى دخلوه عنوة وبهذا بطل جوابه عن الثاني بأن قتال خالد إنما كان لمن قاتله، كما أمره عليه الصلاة والسلام, قال: وبفرض، أنه باجتهاده فلا عبرة به مع رأيه صلى الله علي وسلم وفيه نظر فإنه بفرض ذلك قد أقره عليه سيد الخلق ولم يعنفه بل قال: "قضاء الله خير"، وأجاب عن الثالث، بأن حلها لا يستلزم وقوع القتال لمن لم يقاتله، وكم أحل له أشياء لم يفعلها وليس بشيء فهو عقلي مدفوع بالنقل كيف، وفي حديث مسلم كما نرى: أن الأنصار قاتلوا من لم يقاتلهم بأمره عليه الصلاة والسلام وقواه: "احصدوهم حصدا". وفي الصحيحين، والترمذي، والنسائي، قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فيها، فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم". فقد صرح الدليل الصحيح بأن هذا من الأشياء التي أحلت له وفعلها، وأجاب عن الرابع بأن عدم القسمة ليس دليلا مستقلا بل مقويا يقال عليه لا تلازم فلا تقوية فيه وزعمه إمكان أنه دليل لأنه الأصل في عدم القسمة مدفوع بقيام الدليل على خلافه وهو أمره بالقتال وأنه من خصائصه فتعين حمله على أنه منّ عليهم بالأرض والأنفس، كما قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". زعمه أن معناه الذين أطلقوا واسطة تركهم للقتال من أن يؤسروا أو يسترقوا فهو دليل الصلح لا العنوة، تعسف, إذ الطليق كما قاله في النهاية وتبعه في الفتح وغيره الأسير إذا أطلق، فتفسيره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 قال: وأما قول النووي: واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر؛ لأن الذي أشار إليه، إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". كما تقدم وكذا: "من دخل المسجد". كما عند ابن إسحاق, فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال.   بما زعمه خلاف مدلوله بل يأباه الحديث، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "ماذا تقولون, ماذا تظنون ". قالوا: نقول خيرا ونظن خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} اذهبوا، فأنتم الطلقاء". رواه البخاري، وأحمد وغيرهما، يدل على العنوة إذ لو كان ثم صلح ما كان لقوله ذلك لهم معنى ولا لقولهم له: قد قدرت؛ لأنه لو وقع ذلك لم يكن عندهم خوف أصلا، وقد قال في الحديث بعد قوله: "فأنتم الطلقاء". فخرجوا كأنما نشروا من لقبور فدخلوا في الإسلام. "قال" في فتح الباري عقب ما قدمت أن المصنف أسقطه من كلامه. "وأما قول النووي: واحتج الشافعي، بالأحاديث المشهورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة، ففيه نظر لأن الذي أشار له إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". "كما تقدم" والأمان في معنى الصلح "وكذا": "من دخل المسجد فهو آمن". "كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير به بذلك الكف عن القتال". "والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب" أجاب سميه بأن أكابرهم كفوا عن القتال، ولم يقع إلا من أخلاطهم في غير الجهة التي دخل منها صلى الله عليه وسلم ولا عبرة بها ولا بمن بها لأنهم كانوا أخلاطا لا يعبأ بهم، كما أطبق عليه أئمة السير، كذا قال. وليت شعري من أئمة السير الذين زعمهم وأئمتهم ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، وغيرهم يقولون: إن صفوان بن أمية, وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو دعوا إلى قتاله صلى الله عليه وسلم وجمعوا ناسا من قريش وغيرهم بالخندمة، وقاتلوا حتى هزمم الله أفما هؤلاء من أكابر قريش؟ أما سهيل كان صاحب الهدنة يوم الحديبية، ألم يأب من كتب البسملة ورسول الله ألم يمتنع من إجازة ابنه المسلم للمصطفى مع قوله: "أجزه لي". غير مرة. أما عكرمة وصفوان من أجلاء يوم أحد والأحزاب، وقتال جيشه صلى الله عليه وسلم، وأن في غير الجهة التي دخل منها هو قتال له، ألم تر أن سبب الفتح هو نقضهم عهد الحديبية بقتال حلفائه خزاعة، وإنما دخل عليه من قوله: "انظروا إلى أوباش قريش وأتباعهم"، فظن أنه لم يكن فيهم أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب. وإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل، ولا أظنه عني إلا لاحتمال الأول وفيه ما ذكرته. انتهى. ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة في كتيبته الخضراء.   من أكابرهم، "وإن كان مراده" أي النووي رحمه الله "بالصلح، وقوع عقده فهذا لم ينقل", فلا ينبغي أن يكون مراد مثل النووي، "ولا أظنه عني إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته" من أنهم لم يلتزموا الأمان واستعدوا للحرب، وقد علمت أنه المنقول عند أصحاب السير وغيرهم وزعم سميه أنه بفرض تأهبهم للقتال فلا يقتضي رد الصلح؛ لأنه الخوف بادرة تقع من شواذ ذلك الجيش الحافل لا سيما قد سمعوا قول سعد: اليوم يوم الملحمة، كذا قال وإنه لعجيب قوله بفرض مع قول الأئمة، دعوا إلى القتال، ونفيه اقتضاءه لعلته الباردة مردود بما صرحوا به من أن الذين اجتمعوا بالخندمة أقسموا بالله لا يدخلها محمد عليهم عنوة أبدا، فقاتلوا حتى هزموا "انتهى" كلام فتح الباري، ثم قال بعد كلام طويل وجنحت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة، وقد رد ذلك الحاكم في الإكليل، والحق أن صورة فتحها عنوة، وعومل أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع جمع منهم السهيلي، ترتب عدم قسمتها، وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا. أما الأول فالإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار وبين إبقائها وقفا على المسلمين، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها. وأما ثانيا فقال بعضهم: لا تدخل الأرض في حكم الأموال؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار، لم يغنموا الأموال، وتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض لهم عموما كما قال تعالى: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةً} الآية، وقال: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} الآية. انتهى. "ثم" كما قال ابن إسحاق وغيره لما ذهب أبو سفيان إلى مكة بعدما عاين جنود الله, وانتهى المسلمون إلى ذي طوى، فوقفوا ينتظرونه صلى الله عليه وسلم حتى تلاحق الناس، فأقبل معتجرا بشقة برد حبرة حمراء "دخل صلى الله عليه وسلم" بهم "مكة" وهو يقرأ سورة الفتح يرجع صوته بالقراءة، كما أخرجه الشيخان "في كتيبته الخضراء" قال ابن هشاك: إنما قيل الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها قال حسان: لما رأى بدرا تسير جلاهه ... بكتيبة خضراء من بالخزرج والعرب تكني بالخضرة عن السواد، وبه عنها كما مر، ولعله إيثار للون المحبوب لنفرة النفس من السواد, ولا يرد قول جابر أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام, وقول عمرو بن حريث: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء حرقانية، قد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 وهو على ناقته القصواء بين أبي بكر وأسيد بن حضير، فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به، فقال العباس: يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما. فقال العباس: ويحك، إنه ليس بملك ولكنها نبوة. قال: نعم.   أرخى طرفها بين كتفيه. رواهما مسلم لأن ذلك إشارة إلى أن هذا الدين لا يغير، كما أن السواد لا يقبل التغير بل جميع الألوان ترجع إليه ولا يرجع هو إلى لون منها، "وهو على ناقته القصواء" مردفا أسامة "بين أبي بكر" الصديق، "وأسيد بن حضير" بتصغيرهما، وفي كتيبته المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. قاله ابن إسحاق، والواقدي وغيرهما، وتبعهم ابن سيد الناس، والشامي، الذين في يد الشارح فعجيب قوله: ذكر أبي بكر هنا لا ينافي أن كتيبته صلى الله عليه وسلم كانت من الأنصار؛ لأن المراد: أن معظمها كان من الأنصار، وكان ذلك دخل عليه من العبارة الثانية التي في ابن سيد الناس، وهي: فأقبل صلى الله عليه وسلم في كتيبة الأنصار، وغفل عن الأولى فوهم. وأما ما رواه الطبراني، عن علي أنه صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح بين عتبة ومعتب ابني أبي لهب، يقول للناس: "هذان أخواي، وابنا عمي". فرحا بإسلامهما، "استوهبتهما من الله فوهبهما لي". فهذا لما دخل المسجد بعد ذلك في أيام إقامته بعد أن أسلما. وقد روى ابن سعد عن العباس لما قدم صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح قال لي: "يا عباس أين ابنا أخيك عتبة ومعتب لا أراهما"؟. قلت: تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش. قال: "اذهب فائتني بهما". فركبت إلى عرفة فأتيتهما، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوكما فركبا معي مسرعين، فدعاهما فأسلما، وبايعا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي". قال في الإصابة: ويجمع بينه وبين حديث علي بأنه دخل المسجد بينهما بعد أن أحضرهما العباس "فرأى أبو سفيان ما لا قبل" بكسر ففتح: طاقة "له به، فقال للعباس: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا" لفظ ابن إسحاق الغداة بدل ملكا "عظيما، فقال العباس: ويحك" نصب وجوبا لإضافته، فإن لم يضف كويح لزيد جاز رفعه على الابتداء ونصبه بإضمار فعل. وحكى ابن عصفور أنه استعمل من ويح فعل واح ويحا. "إنه ليس بملك ولكنه نبوة. قال: نعم". قال السهيلي: قال شيخنا أبو بكر يعني ابن العربي إنما أنكر ذكر الملك مجردا عن النبوة، مع أنه كان أول دخوله في الإسلام، وإلا فجائز أن يسمى مثل هذا ملكا وإن كان لنبي، فقد قال الله تعالى لداود: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ، وقال سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} غير أن الكراهة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 وروي أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.   أظهر في تسمية حاله صلى الله عليه وسلم ملكا لأنه خير بين أن يكون نبيا عبدا أو نبيا ملكا، فالتفت إلى جبريل فأشار إليه، أن تواضع، فقال: "بل نبيا عبدا أشبع يوما وأجوع يوما". وإنكار العباس يقوي هذا المعنى، وأمر الخلفاء الأربعة بعده يكره أيضا أن يسمى ملكا لقوله صلى الله عليه وسلم: "تكون بعدي خلفاء، ثم تكون أمراء, ثم تكون ملوك، ثم جبابرة"، ويروى: "ثم تكون بزيزيا" وهو تصحيف. قال الخطابي: إنما هو فريرا أي: قتل وسلب. انتهى. وروى الحافظ محمد بن يحيى الدهلي، بالذال واللام من مرسل سعيد بن المسيب، لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ ثم أصبح فقال له عليه السلام: "قلت لهند أترين هذا من الله؟ ". قال: "نعم هذا من الله". فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله والذي يحلف به ما سمع قولي هذا إلا الله وهند. "وروي" عن ابن إسحاق من مرسل شيخه عبد الله بن أبي بكر "أنه صلى الله عليه وسلم" وقف على راحلته معتجرا بشقة برد حبرة أحمر، "وضع رأس تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن رأسه" لفظ ابن إسحاق عثنونه، وهو بضم المهملة والنون بينهما مثلثة ساكنة، أي لحيته "لتكاد تمس رحله" لفظه أيضا واسطة الرحل فكان المصنف عبر بالرأس، لأنه الظاهر للرائي غالبا عند الخفض وهو الذي يرفعه المتكبرون عادة دون بقية الأجزاء، وقد روى الحاكم، بسند جيد قوي عن أنس قال: لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح استشرفه الناس فوضع رأسه على رحله متخشعا. وروى الواقدي عن أبي هريرة دخل صلى الله عليه وسلم يومئذ حتى وقف بذي طوى وتوسط الناس، وأن عثنونه ليمس واسطة رحله أو يقرب منها تواضعا لله حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال: "اللهم إن العيش عيش الآخرة"، وجعلت الخيل تجمع بذي طوى في كل وجه، ثم ثابت وسكنت، حتى توسطهم صلى الله عليه وسلم فأفاد أن ابتداء فعله ذلك من ذي طوى واستمر حتى دخل مكة "شكرا وخضوعا لعظمته" أي لذاته المتصفة بالعظمة. فالعظمة هي المجموع من الذات والصفات، فلا يرد أن الخضوع إنما هو للذات "أن أحل له بلده" أي القتال فيه ومع ذلك، فلا خلاف أنه لم يجر فيها قسمة غنيمة، ولا سبى من أهلها أحدا بل منّ عليهم بأموالهم وأنفسهم، كما في الروض وغيره وعند أبي داود، بإسناد حسن عن جابر، أنه سئل هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا "ولا يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده", كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 وفي البخاري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر -وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفي الحكم: هو ما يجعل من فضل درع الحديد الرأس مثل القلنسوة- فلما نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه". وفي حديث سعيد بن يربوع.   أخبر عليه السلام. وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري، قال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "هذا ما وعدني ربي"، ثم قرأ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} . "وفي البخاري" في الحج، والجهاد والمغازي، واللباس، ومسلم، والسنن الأربعة كلهم. "من حديث" مالك عن ابن شهاب عن "أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه المغفر" وفي رواية عن مالك خارج الموطأ: مغفر من حديد. رواه الدارقطني من رواية عشرة عن مالك كذلك، وفي بعضها أنه قال: "من رأى منكم ابن خطل فليقتله". وفي بعضها: كان يهجوه بالشعر "وهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة" وفتح الفاء بعدها "راء "زرد ينسج من" زرد "الدروع" المتصل بها جمع درع وهو ما يلبس من الحديد، كالثوب "على قدر الرأس وفي الحكم" لابن سيده "وهو ما يجعل من فضل" زيادة "درع الحديد" المتصل به "على الرأس مثل القلنسوة" والعبارتان بمعنى وإنما أتى بعبارة المحكم لزيادته فيها على الرأس لأن قوله في الأولى على قدر لا يلزم منه كونها عليه وأما مثل القلنسوة، فمفاد قول الأولى على قدره زاد المصنف في الحج أو رفرف البيضة، أو ما غطى الرأس من السلاح، كالبيضة "فلما نزعه جاء رجل" قال الحافظ: لم يسم، وتبعه المصنف في المغازي، وقال في الحج: هو أبو برزة الأسلمي كما جزم به الفاكهاني في شرح العمدة، والكرماني. قال البراوي: وكذا ذكره ابن طاهر، وغيره وقيل: سعيد بن حريث. انتهى. "فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" وذلك أنه خرج، كما ذكر الواقدي إلى الخندمة ليقاتل على فرس وبيده قناة، فلما رأى خيل الله والقتال دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة فرجع حتى انتهى إلى الكعبة، فنزل عن فرسه وطرح سلاحه، ودخل تحت أستار الببيت فأخذ رجل من بني كعب سلاحه وفرسه فاستوى عليه وأخبر المصطفى. فقال: "اقتلوه ". زاد الوليد بن مسلم عن مالك فقتل، أخرجه ابن عائذ، وصححه ابن حبان "وفي حديث سعيد بن يربوع" القرشي، المخزومي، صحابي كان اسمه الصرم، ويقال: أصرم فغيره عليه السلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 عند الدارقطني والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا أؤمنهم في حل ولا حرم: الحويرث وهلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح". قال: فأما هلال بن خطل قتله الزبير. الحديث. وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزاز والحاكم والبيهقي في الدلائل نحوه، لكن قال: أربعة نفر وامرأتان وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة". فذكره. لكن قال: عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين. وقال: فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث. وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان.   مات سنة أربع وخمسين وله مائة وعشرون سنة أو أزيد. "عند الدارقطني والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا أؤمنهم في حل، ولا" في "حرم" إن استمروا على كفرهم فلا ينافي أنه أمن ابن أبي سرح، لإسلامه أو هو من سلب العموم لا عموم السلب أي لا أؤمن جملتهم والأول أظهر هنا "الحويرث وهلال بن خطل، ومقيس بن صبابة وعبد الله بن أبي سرح" وكأنه خصهم بالذكر لشدة ما وقع منهم، من أذى الإسلام وأهله فلا ينافي أنه أهدر دم غيرهم وهي نكتة للتخصيص وإلا فمعلوم أن مفهوم العدد لا يفيد الحصر ولا يصح أن معناه حتم قتلهم لعفوه عن ابن أبي سرح "قال: فأما هلال بن خطل فقتله الزبير. الحديث" والغرض منه تسمية ابن خطل وقاتله. "وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار، والحاكم، والبيهقي في الدلائل نحوه لكن" فيه مخالفات بينها بقوله "قال أربعة نفر" إضافة بيانية أي: هم نفر أي رجال "وامرأتان"، وقال: "اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" بدل قوله: "لا أؤمنهم في حل ولا حرم"، "فذكره لكن قال" سعد: في حديثه لي بيان الأربعة عن المصطفى "عبد الله بن خطل بدل هلال، وقال عكرمة" بن أبي جهل "بدل الحويرث، ولم يسم المرأتين" وهما من الست أو الأربع السابقات. "وقال" سعد "فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث" ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي، المخزومي، الصحابي، "وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله. الحديث". "وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان" عبد الرحمن بن مل بميم مثلثة، ولام ثقيلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 النهدي: أن أبا برزة الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله. ورواه أحمد من وجه آخر، وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل الأخبار. وتحمل بقية الروايات على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام في السيرة: بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله. وإنما أمر بقتل ابن خطل، لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار.   "النهدي" بفتح النون، وسكون الهاء، المخضرم الثقة، الثبت العابد، "أن أبا برزة" بفتح الباء، والزاي بينهما راء ساكنة، نضلة بن عبيد "الأسلمي قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله" وله شاهد عند ابن المبارك في كتاب البر والصلة من حديث أبي برزة نفسه. "ورواه أحمد من وجه آخر وهو أصح ما ورد في تعيين قاتله" وقد رجحه الواقدي "وبه جزم" أحمد بن يحيى الحافظ الأخباري، العلامة "البلاذري" صاحب التاريخ "وغيره من أهل" العلم بـ"الأخبار وتحمل بقية الروايات" المخالفة له "على أنهم ابتدروا قتله فكان المباشر" بالنصب خبر كان "له منهم" واسمهما "أبو برزة ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه فقد جزم ابن هشام في" تهذيب "السيرة" لابن إسحاق عنه "بأن سعيد بن حريث، وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله" هكذا في الفتح هنا وزاد في المقدمة. وروى الحاكم: أن قاتله سعيد بن زيد, وروى البزار: أنه سعد بن أبي وقاص, وقيل: عمار بن ياسر، قال: ويجمع بينه بأنهم ابتدروا, أي: قتله, والذي باشر قتله منهم هو سعيد بن حريث. انتهى. وما جمع به في الفتح أحسن, وقيل: قتله شريك بن عبدة العجلاني، حكاه الواقدي، وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال: "لا يقتل قرشي، بعد هذا صبرا". قال الحافظ: رجال ثقات، إلا أن في أبي معشر مقالا "وإنما أمر بقتل ابن خطل" كما قاله ابن إسحاق وغيره "لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا" بضم الميم وفتح الصاد، وكسر الدال مشددة, ويجوز إسكان الصاد، وتخفيف الدال المكسورة كما قاله البرهان، وتبعه الشامي، أي: آخذا لصدقات النعم "وبعث معه رجلا من الأنصار" كذا في رواية ابن إسحاق ونقله اليعمري، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 وكان معه مولى يخدمه -وكان مسلما- فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام، فاستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدى عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكانت له فتاتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه، فإنه كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، وأما من قال: هلال، فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال. وفي أبي داود من حديث مصعب: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم   وغيره. قال البرهان: ولا أعرف اسمه. ووقع عند الواقدي، وتبعه الشامي، من خزاعة، ولا شك في تقديم ابن إسحاق على الواقدي، فلا يتم لنا تجويز العقل أنه أطلق عليه أنصاريا لكونه حليفا لهم "وكان معه مولى يخدمه" قال البرهان هذا المولى لا أعرف اسمه أيضا "وكان مسلما" فرواية ابن إسحاق هذه ظاهرها أنهما اثنان، وعليه جرى كما ترى البرهان. وأما الواقدي فلم يذكر إلا الرجل الخزاعي وتبعه الشامي واعتمده الشارح فجعل ضمير كان للأنصاري أي: وكان الأنصاري مع ابن خطل خادما له فسمي مولى تجوزا، ومن ثم عبر الكلاعي بأنه كان معه رجل مسلم يخدمه. انتهى. وهو واضح لو كان الذي اقتصر على واحد نفي الثاني وأيضا، فالذي ذكر الاثنين أوثق ممن ذكر الواحد بل هو متروك فلا يرد له كلام الثقة، فإن زيادة الثقة مقبولة وابن إسحاق صدوق، وقد أقر كلامه اليعمري والعسقلاني وغيرهما غير معرجين على غيره "فنزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع له طعاما ونام" نصف النهار، "فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فعدا" بعين مهملة من العدوان "عليه فقتله ثم ارتد مشركا" أتى به؛ لأن الردة تكون بغير الشرك الذي هو عبادة الأوثان كالتهود، "و" لأنه "كانت له فتاتان" أمتان "تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فهذا سبب إهدار دمه، واختلاف الروايات في قتله فأما الجمع بينه فهو ما علمته "وأما الجمع بين ما اختلف فيه من اسمه" فهو عطف على مقدر وما موصولة، صفة لمحذوف أي الروايات التي اختلفت، في تعيين اسمه "فإنه" بالفاء جواب أما وفي نسخة بحذفها على تقدير فأقول: إنه "كان يسمى عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله" المسمي له النبي صلى الله عليه وسلم كما في المقدمة وغيرها. "وأما من قال هلال فالتبس عليه بأخ له اسمه هلال وفي أبي داود" والحاكم "من حديث مصعب" بن سعد بن أبي وقاص، الزهري المدني الثقة، أي عن أبيه لأنه الواقع في أبي داود، لا أنه من مرسل مصعب كما أوهمه المصنف "لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 الناس إلا أربعة نفر فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه مليا ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت عن بيعته فيقتله"؟. فقالوا: يا رسول الله ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا؟ فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". الحديث.   الناس إلا أربعة نفر فذكرهم" فقال: عكرمة وابن خطل ومقيس وابن أبي سرح، "ثم قال وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه" وكان أخاه من الرضاعة كما عند ابن إسحاق. "فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به" عثمان "حتى أوقفه" لغة قليلة والكثير وقفه "على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال" عثمان: "يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه مليا" طويلا "ثلاثا كل ذلك يأبى" أن يبايعه، "فبايعه بعد ثلاث ثم" لما انصرف عثمان به كما عند ابن إسحاق "أقبل على أصحابه"، فقال: "أما" فهمزة الاستفهام مقدرة "كان فيكم رجل رشيد" يفهم مرادي "يقوم إلى هذا حين كففت عن بيعته فيقتله" فالاستفهام للوم على عدم قتله وعند ابن إسحاق لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه "قالوا": وعند ابن إسحاق: ورواه الدراقطني عن أنس وعن سعيد بن يربوع، وابن عساكر عن عثمان فقال رجل من الأنصار. قال في الإصابة وأفاد سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان: أنه عباد بن بشر الأنصاري وقيل: عمر. انتهى. وتسمي عمر أنصاريا بالمعنى الأعم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ} "يا رسول الله ما ندري ما في نفسك ألا أومأت إلينا" أشرت بحاجب أو بيد أو غيرهما، فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" هي الإيماء إلى مباح من نحو ضرب أو قتل على خلاف ما يظهر. سمي بذلك لشبهه بالخيانة لإخفائه كما لو أومأ لقتله حين طلب عثمان مبايعته فإنه خلاف الظاهر من سكوته وتجوز لغيره إلا في محظور، وعليه قوله: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} ، فإن فيه ذم النظر إلى ما لا يجوز كما فسره به ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وفسره السدي والضحاك، بالرمز بالعين "الحديث" وعند ابن إسحاق، قال: فهلا أومأت إليّ، قال: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 قال مالك -كما رواية البخاري: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى يومئذ محرما. انتهى. وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي عن مالك جازما به. أخرجه الدارقطني في الغرائب. ويشهد له ما رواه مسلم من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة. وقد اختلف العلماء: هل يجب على من دخل مكة الإحرام أم لا؟   النبي لا يقتل بالإشارة وكان عبد الله بعد ذلك ممن حسن إسلامه ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وكانت له المواقف المحمودة في الفتوح، والولاية المحمودة، وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان فارس بني عامر بن لؤي المقدم فيهم. وولاه عمر ثم عثمان وتقدم مزيد لذلك "قال مالك" الإمام الأعظم "كما في رواية البخاري، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نرى" بضم النون، وفتح الراء أي: نظن, والله أعلم. "يومئذ محرما" أي لم يرو أحد أنه تحلل يومئذ من إحرامه "انتهى، وقول مالك هذا رواه عبد الرحمن بن مهدي" بن حسان العنبري، مولاهم البصري الثقة الثبت الحافظ العارف بالرجال والحديث. روى له الستة "عن مالك جازما به" فأسقط قوله فيما نرى, والله أعلم. "أخرجه الدارقطني في الغرائب" أي غرائب الرواة، عن مالك "ويشهد له ما رواه مسلم" والإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة "من حديث جابر: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام" فصرح بما جزم به مالك أو ظنه، "و" ما "روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن طاوس" بن كيسان اليماني الثقة الفقيه، المتوفى سنة ستين ومائة أو بعدها، روى له الجماعة "قال: لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة إلا محرما إلا يوم فتح مكة" وستر الرأس بالمغفر يدل على ذلك أيضا. وقول ابن دقيق العيد يحتمل أنه محرم وغطاه لعذر تعقب بتصريح جابر وغيره بأنه لم يكن محرما. "وقد اختلف العلماء، هل يجب على من دخل مكة" ولم يقصد النسك "الإحرام أم لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا. وفي قول: يجب مطلقا، وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب، وهو أولى بعدم الوجوب. والمشهور عند الأئمة الثلاثة: الوجوب. وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات, والله أعلم. وقد زعم الحاكم في الإكليل: أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء معارضة. وتعقبوه باحتمال أن يكون أول دخوله كان على رأسه المغفر ثم أزاله ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه. ويؤيده: أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء. أخرج مسلم أيضا: وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول. وهذا الجمع للقاضي عياض.   فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا" سواء تكرر دخوله أم لا، "وفي قول" للشافعي: "يجب مطلقا وفيمن يتكرر دخوله خلاف مرتب" مفرع على القولين "وهو أولى بعدم الوجوب، والمشهور عند الأئمة الثلاثة الوجوب" ودخوله بلا إحرام من خصائصه. "وفي رواية عن كل منهم لا يجب وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة" كحطاب وصياد "واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات, والله أعلم" بحكمه. "وقد زعم الحاكم في الإكليل أن بين حديث أنس في المغفر وبين حديث جابر في العمامة السوداء، معارضة وتعقبوه" بأن التعارض إنما يتحقق إذا لم يمكن الجمع، وهنا يمكن "باحتمال أن يكون دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله ولبس العمامة، بعد ذلك، فحكى كل منهما، ما رآه ويؤيده" أي: التعقب "أن في حديث عمرو بن حريث أنه خطب الناس وعليه عمامة سوداء". "أخرجه مسلم أيضا وكانت الخطبة عند باب الكعبة وذلك بعد تمام الدخول وهذا الجمع للقاضي عياض" ولا يرد عليه ما ذكره ابن إسحاق والواقدي، أنه لما وصل لذي طوى كان معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، وعند الثاني وعليه عمامة سوداء لأنه بفرض صحته يحتمل أنه لما وصل لذي طوى نزعها ولبس المغفر، ثم دخل به مكة ثم بعد أن استقر نزع المغفر ولبس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 وقال غيره: يجمع بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر، أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم. وفي البخاري عن أسامة بن زيد أنه قال زمن الفتح: يا رسول الله! أين تنزل غدا؟   العمامة السوداء، "وقال غيره يجمع بأن العمامة السوداء، كانت ملفوفة فوق المغفر" إشارة للسؤدد وثبات دينه وأنه لا يغير، "أو كانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد" بالهمز، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متأهبا للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم،" وهذا أوفق بما مر من أنه وصل إلى ذي طوى وعلى رأسه العمامة وقد زعم ابن الصلاح وغيره، تفرد مالك عن الزهري بذكر المغفر وتعقبه الحافظ العراقي بأنه ورد من عدة طرق عن ابن شهاب غير طريق مالك، فذكر أربعة تابعوا مالكا، ثم قال: وروى ابن مسدي، أن أبا بكر بن العربي، قال لأبي جعفر بن المرخي حين ذكر أن مالكا تفرد به قد رويته من ثلاثة عشر طريقا غير طريق مالك، فقالوا له: أفدنا هذه الفوائد فوعدهم ولم يخرج لهم شيئا، وقال الحافظ بن حجر في نكته: استبعد أهل إشبيلية قول ابن العرجي حتى قال قائلهم: يا أهل حمص ومن بها أوصيكم ... بالبر والتقوى وصية مشفق فخذوا عن العربي أسمار الدجى ... وخذوا الرواية عن إمام متقي إن الفتى ذرب اللسان مهذب ... إن ل يجد خبرا صحيحا يخلق وأراد بأهل حمص أهل إشبيلية، قال الحافظ: وقد تتبعت طرقه فوجدته، كما قال ابن العربي، بل أزيد فعد ستة عشر نفسا غير مالك رووه عن الزهري، وعزاها لمخرجيها، قال: ولم ينفرد الزهري به بل تابعه سعد بن أبي وقاص، وأبو برزة الأسلمي في سنن الدارقطني وعلي بن أبي طالب في المشيخة الكبرى لأبي محمد الجوهري، وسعيد بن يربوع، والسائب بن يزيد في مستدرك الحاكم. قال: فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري، عن أنس فكيف يحل لأحد أن يتهم إماما من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع. انتهى. ونحوه في الفتح وزاد لكن ليس في شيء من طرقه على شرط الصحيح إلا طريق مالك، وأقربها طريق ابن أخي الزهري عند البزار ويليها رواية أبي أويس عند ابن سعد، وابن عدي فيحمل قول من قال تفرد به مالك أي بشرط الصحة وقول من قال توبع أي في الجملة. "وفي البخاري" في الحج والجهاد، والمغازي ومسلم في الحج "عن أسامة بن زيد" الحب بن الحب، "أنه قال زمن الفتح" قبل أن يدخلها بيوم "يا رسول الله أين تنزل غدا؟ " زاد في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من منزل"؟. وفي رواية: "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور"؟. وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين، فكان.   الحج: في دارك بمكة. قال الحافظ: حذفت أداة الاستفهام من قوله في دارك بدليل رواية ابن خزيمة والطحاوي، والجوزي بلفظ: أتنزل في دارك؟ فكأنه استفهمه أولا عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهم عن ذلك "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل" بفتح العين وكسر القاف "من منزل" هذا لفظ رواية المغازي. "وفي رواية" للبخاري في الحج، عن أسامة: "وهل ترك لنا عقيل من رباع" جمع ربع بفتح الراء، وسكون الموحدة، وهو المنزل المشتمل على أبيات وقيل: الدار فعليه قوله: "أو دور" إما للتأكيد أو من شك الراوي، قاله الحافظ, وجمع النكرة، وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري تفيد العموم، للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة، شيئا ومن للتبعيض قاله الكرماني. قال الحافظ: وأخرج هذا الحديث الفاكهي، وقال في آخره: ويقال: إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم، ثم صارت لابنه عبد المطلب، فقسمها بين ولده حين عمي، ثم صار للنبي صلى الله عليه وسلم حظ أبيه, قال المصنف: وظاهره أنها كانت ملكه، فأضافها إلى نفسه، فيحتمل أن عقيلا تصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين، ويحتمل غير ذلك، وقد فسر الراوي ولعله أسامة، المراد بما أدرجه هنا حيث قال: "وكان عقيل، ورث أبا طالب هو و" أخوه "طالب" المكنى به "ولم يرث جعفر ولا علي شيئا لأنهما كانا مسلمين". قال الحافظ: هذا يدل على تقدم هذا الحكم من أوائل الإسلام لموت أبي طالب قبل الهجرة، فلما هجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه، وباعتبار تركه صلى الله عليه وسلم لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر، فباع عقيل الدار كلها، واختلف في تقريره عليه الصلاة والسلام عقيلا على ما يخصه، فقيل: ترك له ذلك تفضلا عليه وقيل: استمالة وتأليفا وقيل: تصحيحا لتصرفات الجاهلية كما تصحح أنكحتهم قال الخطابي: إنما لم ينزل فيها لأنها دور هجروها لله فلم يرجعوا فيما تركوه, وتعقب بأن سياق الحديث يقتضي أن عقيلا باعها ومفهومه أنه لو تكرها بغير بيع لنزلها. وحكى الفاكهي: أن الدار لم تزل بيد أولاد عقيل حتى باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار وكان علي بن الحسين يقول من أجل ذلك تركنا نصيبنا من الشعب، أي: حصة جدهم علي من أبيه أبي طالب "فكان". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 عمر بن الخطاب يقول: لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر. وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: "منزلنا إن شاء الله تعالى -إذا فتح الله- الخيف حيث تقاسموا على الكفر". يعني به المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة.   وعند الإسماعيلي فمن أجل ذلك كان "عمر بن الخطاب، يقول: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر", قال الحافظ: هذا القدر الموقوف على عمر قد ثبت مرفوعا بهذا الإسناد عند البخاري في المغازي، من طريق ابن جريج عنه، ويختلج في خاطري أن قائل: فكان عمر ... إلخ، هو ابن شهاب، فيكون منقطعا عن عمر. انتهى. وقد رفعه البخاري، هنا في نفس حديث أسامة، هذا ولفظه فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل من منزل" ثم قال: "لا يرث المؤمن الكافر، ولا يرث الكافر المؤمن". وروى الواقدي عن أبي رافع قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزل منزلك من الشعب فقال: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"؟، وكان عقيل قد باع منزله صلى الله عليه وسلم ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة، فقيل له: فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك فأبى، وقال: "لا أدخل البيوت". ولم يزل بالحجون لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون وكان أبو رافع ضرب له به قبة من أدم ومعه أم سلمة، وميمونة. "وفي رواية أخرى" للبخاري، في مواضع من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة, قال عليه الصلاة والسلام: "منزلنا إن شاء الله تعالى". أتى بها تبركا وامتثالا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، ولعلامات الفتح الظاهرة عبر بقوله: "إذا فتح الله" مكة "الخيف" بفتح المعجمة وسكون التحتية وبالفاء. قال الحافظ: والرفع مبتدأ خبره منزلنا، وليس هو مفعول فتح، والخيف ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء. انتهى. واقتصر على هذا الإعراب لأنه المشهور، في المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين فإن المعلوم للمخاطب، هو المبتدأ، وهو هنا الخيف ومنزلنا خبر لأنه المجهول فما صدر به المصنف من أن منزلنا والخيف خبره خلاف المشهور وهو جواز الابتداء منهما. وفي رواية للبخاري: "بخيف بني كنانة". "حيث تقاسموا" تحالفوا "على الكفر" حال من فاعل تقاسموا أي في حال كفرهم أن لا يبايعوا بني هاشم، ولا يناكحوهم وحصروهم في الشعب "يعني به المحصب" بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددة المهملتين, "وذلك" أي تقاسمهم على الكفر "أن قريشا وكنانة". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، كما تقدم. وفي رواية أخرى له: أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بيت أم هانئ .....   قال الحافظ: فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيا إذ العطف يقتضي المغايرة فيترجح القول بأن قريشا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة نعم، لم يعقب النضر غير مالك، ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر فلذا وقعت المغايرة "تحالفت" بحاء مهملة والقياس تحالفوا لكن أتى بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة "على بني هاشم، وبني المطلب أن لا يناكحوهم" فلا تتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم، "ولا يبايعوهم" لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم, ولأحمد: ولا يخالطوهم. وللإسماعيلي: ولا يكون بينهم وبينهم شيء وهي أعم "حتى يسلموا" بضم أوله وإسكان المهملة وكسر اللام الخفيفة "إليهم النبي صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ: يختلج في خاطري، أن من قوله يغني المحصب إلى هنا من قول الزهري، أدرجه في الخبر، فقد رواه البخاري في الحج أيضا وفي السيرة والتوحيد، مقتصرا على الموصول منه إلى قوله: على الكفر. ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك، قيل: إنما اختار صلى الله عليه وسلم النزول في ذلك الموضع ليتذكر ما كانوا فيه فيشكر الله تعالى على ما أنعم به عليه من الفتح العظيم وتمكنه من دخول مكة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصفح عن الذين أساءوا، ومقابلتهم بالمن والإحسان ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "كما تقدم" زيادة من المصنف على ما في البخاري لإفادة أنه ذكر القصة أول الكتاب "وفي رواية أخرى له" أي للبخاري، في مواضع عن أم هانئ، "أنه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة اغتسل في بت أم هانئ" بنت أبي طالب الهاشمية، فاختة وقيل: هند، وقيل: فاطمة، أسلمت عام الفتح، وصحبت ولها أحاديث. ماتت في خلافة معاوية. روى لها الستة وفي حديثها عند مسلم: أنها ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل وفاطمة تستره، وجمع بأن ذلك تكرر منه بدليل أن في رواية ابن خزيمة عنها أن أبا ذر ستره لما اغتسل ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة، وكانت هي في بيت آخر بها فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان، وأما الستر فيحتمل أن يكون أحدهما، ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه. وروى الحاكم في الإكليل عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان نازلا عليها يوم الفتح ولا يغاير حديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 ثم صلى الضحى ثمان ركعات، قالت: لم أره صلى صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وأجارت أم هانئ حموين لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"، والرجلان: الحارث بن هشام، وزهير بن أمية بن المغيرة.   نزوله بالخيف لأنه لم يقم في بيتها، وإنما نزل به حتى اغتسل، "ثم صلى الضحى ثمان ركعات" ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته. "قالت" أم هانئ: "لم أره صلى الله عليه وسلم صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود" وصريح الحديث، أن الصلاة هي صلاة الضحى المشروعة المعهودة، وقال السهيلي: هذه الصلاة تعرف عند العلماء بصلاة الفتح، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا. قال ابن جرير الطبري: صلاها سعد بن أبي وقاص حين افتتح المدائن ثمان ركعات في إيوان كسرى، قال وهي ثمان ركعات لا يفصل بينها ولا تصلى بإمام. قال السهيلي: ومن سنتها أيضا أن لا يجهر فيها بالقراءة والأصل فيها صلاته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. انتهى. وروى الطبراني عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم هانئ يوم الفتح: "هل عندك من طعام نأكله"؟. قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة وإني لأستحي أن أقدمها إليك. فقال: "هلمي بهن". فكسرهن في ماء وجاءت بملح، فقال: "هل من أدم"؟. قالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: "هلميه". فصبه على الطعام وأكل منه، ثم حمد الله تعالى، ثم قال: "نعم الأدم الخل، يا أم هانئ لا يقفر بيت فيه خل". "وأجارت أم هانئ" بهمزة منونة "حموين لها" أي رجلين من أقارب زوجها، كما رواه أحمد، ومسلم، وابن إسحاق ويرهم. عن أم هانئ قالت: لما كان يوم الفتح فر إلي رجلان من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي، قالت: فدخل عليَّ عليٌّ فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما بيتي، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلما رآني، قال: "مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك"؟. فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" زاد في رواية ابن إسحاق: "وأمنا من أمنت فلا يقتلهما"، "والرجلان الحارث بن هشام" بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي، أبو عبد الرحمن المكي، شقيق أبي جهل من مسلمة الفتح استشهد في خلافة عمر. روى له ابن ماجه وله ذكر في الصحيحين أنه سأل عن كيفية الوحي، "وزهير بن أبي أمية بن المغيرة" بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزومي، أخو أم سلمة، أم المؤمنين ذكره هشام الكلبي في المؤلفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 كما قاله ابن هشام، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولما كان الغد من يوم الفتح قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال: "أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض   قال ابن إسحاق: كان ممن قام في نقض الصحيفة وأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه "كما قاله ابن هشام" عبد الملك، وقيل: الثاني عبد الله بن أبي ربيعة. روى الأزرقي، بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما الحارث وهبيرة بن أبي وهب. قال الحافظ: وليس بشيء لأن هبيرة هرب عند الفتح إلى نحران فلم يزل بها مشركا حتى مات كما جزم به ابن إسحاق وغيره، فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم هانئ، وقيل: إن الثاني جعدة بن هبيرة وفيه أنه كان صغير السن، فلا يكون مقاتلا عام الفتح حتى يحتاج إلى الأمان، ولا يهم علي بقتله, وجوز ابن عبد البر أن جعدة ابن لهبيرة من غير أم هانئ مع نقله عن أهل النسب أنهم لم يذكروا له ولدا من غيرها، "وقد كان أخوها علي بن أبي طالب" شقيقها "أراد أن يقتلهما". قال الحافظ: لأنهما كانا فيمن قاتل خالد بن الوليد، ولم يقبلا الأمان فأجارتهما أم هانئ. انتهى. فليس لكونهما ممن أهدر دمه كما ظنه من وهم وقد تقدم، "فأغلقت عليهما باب بيتها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فرحب بها وأمضى جوارها. قال السهيلي: وتأمين المرأة جائز عند جماعة الفقهاء إلا سحنونا وابن الماجشون، فقالا: موقوف على إجازة الإمام. انتهى. "ولما كان الغد من يوم الفتح" أي ثاني يوم فتح مكة في العشرين من رمضان "قام النبي صلى الله عليه وسلم" على باب البيت، بعدما خرج منه "خطيبا في الناس،" بخطبة طويلة مشتملة على أحكام وحكم ومواعظ "فحمد الله" تعالى فقال كما في رواية أحمد والواقدي: "الحمد لله الذي صدق وعده". "وأثنى عليه ومجده" عطف عام على خاص لأن الثناء والتمجيد أعم من لفظ الحمد لله "بما هو أهله". وفي رواية: أنه قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم قال: "أيها الناس إن الله حرم مكة" ابتدأ تحريمها بأن أظهره للملائكة "يوم خلق السموات والأرض" وذاتها وإن لم توجد حينئذ لكن أرضها موجودة إذ هي أول ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها الآن كحرمتها بالأمس   وجد من الأرض. ودحيت الأرض من تحتها كما مر أول الكتاب "فهي حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة" يعني أن تحريمها أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة ليس مما أحدثه أو اختص بشرعه، ولا ينافيه قوله في حديث جابر عند مسلم أن إبراهيم حرم مكة لأن إسناد التحريم إليه حيث أنه بلغه، فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إليه تعالى من حيث إنه الحاكم بها تضاف إلى رسوله لأنها تسمع منهم وتظهر على لسانهم والحاصل أنه أظهر تحريمها بعد أن كان مهجورا، لا أنه ابتدأه أو أنه حرمها بإذن الله يعني أن الله كتب في اللوح المحفوظ يومئذ أن إبراهيم سيحرم مكة بإذنه تعالى. وفي رواية للشيخين، أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، "فلا يحل لامرئ" بكسر الهمزة والراء "يؤمن بالله واليوم الآخر" القيامة إشارة للمبدأ والمعاد، وقيد به لأنه الذي ينقاد للأحكام وينزجر فلا ينافي خطاب الكافر أيضا بفروع الشريعة "أن يسفك بها دما" بكسر الفاء وقد تضم، وهما لغتان حكاهما الصغاني وغيره. والسفك صب الدم، وأن مصدرية أي: فلا يحل سفك دم بها "أو يعضد" بفتح التحتية، وسكون المهملة، وكسر المعجمة فدال مهملة، أي قطع بالمعضد وهو آلة كالفأس "بها شجرة" ذات ساق، "فإن أحد ترخص فيها" برفع أحد بفعل مقدر يفسره ما بعده لا بالابتداء، لأن إن من عوامل الفعل وحذف الفعل وجوبا لئلا يجتمع المفسر والمفسر والمعنى إن قال أحد ترك القتال عزيمة والقتال رخصة يتعاطى عند الحاجة "لقتال" أي: لأجل قتال "رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيها مستدلا بذلك "فقولوا" له: ليس الأمر كما ذكرت. "إن الله قد أذن لرسوله" تخصيصا له "ولم يأذن لكم" ففيه إثبات خصائص لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستواء المسلمين معه في الحكم إلا ما ثبت تخصيصه به، "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" فكانت في حقه تلك الساعة، بمنزلة الحل، قال الحافظ: والمأذون له فيه القتال لا قطع الشجر. وفي رواية ابن إسحاق ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها "وقد عادت حرمتها الآن". وفي رواية اليوم أي: الذي هو ثاني يوم الفتح "كحرمتها بالأمس" الذي قبل يوم الفتح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 فليبلغ الشاهد الغائب". ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟. قالوا: خيرا, أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". أي: الذي أطلقوا، فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق: الأسير إذا أطلق. والمراد بالساعة التي أحلت له -عليه الصلاة والسلام- ما بين أول النهار ودخول وقت العصر، كذا قاله في فتح الباري. وقد أجاد العلامة أبو محمد الشقراطسي حيث يقول في قصيدته المشهورة:   كما قاله المصنف، تبعا لغيره فلا حاجة للتعسف "فليبلغ" بكسر اللام وسكونها "الشاهد" الحاضر "الغائب" بالنصب مفعول فالتبليغ عنه صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، ثم قال: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟، وعند ابن إسحاق وغيره ماذا تقولون ماذا تظنون؟ "قالوا: خيرا أخ كريم، وابن أخ كريم" وقد قدرت، "قال" صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} , اذهبوا فأنتم الطلقاء"، بضم الطاء المهملة وفتح اللام وقاف جمع طليق، "أي الذين أطلقوا" منا عليهم "لم يسترقوا ولم يؤسروا والطليق الأسير إذا أطلق، والمراد بالساعة التي أحلت له عليه الصلاة والسلام ما بين أول النهار", أي من طلوع الشمس "ودخول وقت العصر، كذا قاله في فتح الباري" بمعناه ولفظه في كتاب العلم وفي مسند أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن ذلك كان من طلوع الشمس إلى العصر ونحوه قوله هنا عند أحمد من حديث عمرو، عن أبيه عن جده إنها استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر. انتهى. وحديث الخطبة رواه الشيخان، وغيرهما، وعند كل ما ليس عند الآخر وهي طويلة اقتصر المصنف على ما ذكره فتبعته قال الزهري، ثم نزل صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح فجلس عند السقاية، وذكر الواقدي عن شيوخه أنه كان قد قبض مفتاح السقاية من العباس ومفتاح البيت عن عثمان. وروى ابن أبي شيبة أنه أتى بدلو من زمزم فغسل منها وجهه ما تقع منه قطرة إلا في يد إنسان إن كانت قدر ما يحسوها حساها وإلا مسح جلده، والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكا قط أعظم من اليوم ولا قوما أحمق من القوم، "وقد أجاد العلامة أبو محمد" عبد الله بن أبي زكريا يحيى بن علي "الشقراطسي" نسبة إلى شقراطسة ذكر لي أنها بلدة من بلاد الجريد بإفريقية، قاله أبو شامة "حيث يقول في قصيدته المشهورة" بعدما ساق قصة بدر أتبعها بثمانية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 ويوم مكة إذ أشرفت في أمم ... تضيق عنها فجاج الوعث والسهل خوافق ضاق ذراع الخافقين بها ... في ...........................   وعشرين بيتا في قصة الفتح، لأنهما كانتا عظيمتين فبدر أول مشهد نصر الله رسوله فيه وهذه يوم استيلائه على مكة التي هي من أشرف البقاع وعزه في بلاده التي أوذي فيها، ودخل الناس في دين الله أفواجا "ويوم مكة" مبتدأ حذف خبره أي كان عظيما والنصب مفعول به ذكرا أمرا أو مضارعا أو ظرف لهما أو لنصرت، أو قوله الآتي خشعت والخفض عطفا على لفظ بدر السابق "إذ" ظرف زمان بدل بعض من كل من يوم "أشرفت" علوت عليها، وظهرت على أخذها "في أمم" طوائف وجماعات كثيرة "تضيق عنها" بالتاء والياء؛ لأن تأنيث "فجاج" غير حقيقي جمع فج طريق واسع بين جبلين "الوعث" بفتح الواو، وسكون المهملة، ومثلثة، المكان الواسع الدهش بمهملة فهاء، مفتوحتين فمهملة، تغيب فيه الأقدام ويشق المشي فيه كما في القاموس وغيره. وفي المصباح الطريق الشاق المسلك ويقال: رمل رقيق تغيب فيه الأقدام ثم استعير لكل أمر شاق من تعب وإثم غير ذلك منه وعثاء السفر وكآبة المنقلب أي شدة النصب والتعب، وسوء الانقلاب. "والسهل" بسكون الهاء، وفتحها ضرورة وفي بعض النسخ، بضمتين جمع سهل ما لأن من الأرض ولم يبلغ، أن يكون وعثا. والمعنى أن جميع الطرق تضيق عن ذلك الجيش، فالإضافة بيانية وخصا بالذكر لأنهما الغالب في الطرق المسلوكة لا للاحتراز "خوافق" بالجر بدل من أمم بدل بعض من كل بتقدير الضمير، أي منها وصرف للضرورة، أو هو لغة حكاها الخفش قائلا كأنها لغة الشعراء، لأنهم اضطروا إليه في الشعر فجرى، على ألسنتهم في غيره جمع خافق أو خافقة من خفقت الراية تحقق بكسر الفاء وضمها أو صفة لأمم بالمفرد يعد الجملة من خفق الأرض بنعله وهو صوت النعل وخفق في البلاد ذهب، والبرق لمع والريح جرى، والطائر طار فوصفها بسرعة السير ولمعان الحديد، وصوت وقع حوافر الخيل ونحوه. وبالرع مبتدأ قال الشامي: على تقدير لها خوافق، أي رايات أو خبر أي: هي خوافق، يعني الأمم، ويجوز أن التقدير على جر خوافق ذوي خوافق فمهما قدرنا حذف مضاف أو قلنا هي مبتدأ أو جررنا على البدل فالمراد الرايات، وإن خفضنا صفة لأمم أو قلنا هي خوافق فالخوافق الأمم لا الرايات. انتهى. وفي نسخ حوافر بالراء قال أبو شامة، وهو تصحيف "ضاق" ضعف "ذراع" أي وسع "الخافقين" المشرق، والمغرب؛ لأن الليل والنهار يخفقان فيهما "بها" الرايات أو الأمم "في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 ........................ ... ... قاتم من عجاج الخيل والإبل وجحفل قذف الأرجاء ذي لجب ... عرمرم كزهاء الليل منسحل وأنت صلى عليك الله تقدمهم ... في بهو إشراق نور منك مكتمل ينير فوق أغر الوجه منتجب ... متوج بعزيز النصر مقتبل يسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل خشعت تحت بهاء العز حين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل   قاتم" مغبر "من عجاج" بمهملة وجيمين غبار "الخيل والإبل" لكثرتهما في ذلك الجيش، "وجعفل" بالجر على أمم أو خوافق أو قاتم "قذف" بفتح القاف والذال المعجمة، وبضمهما أي متباعد "الأرجاء" بالفتح النواحي والأطراف. "ذي لجب" صوت "عرمرم" كثير "كزهاء" بضم الزاي "السيل" أي قدره وعلى صفته كثرة وسرعة، وفي نسخة كزهاء الليل وأخرى كجناح الليل شبهه بالليل، في سده الأفق وتطبيقه الأرض واسوداده بكثرة السلاح "منسحل" بضم الميم وسكون النون وفتح السين وكسر الحاء المهملتين اسم فاعل أي ماض في سيره ومسرع فيه، كأنه جار "وأنت" مبتدأ "صلى عليك الله" جملة معترضة للاهتمام والخبر "تقدمهم" التقدم المعنوي أي المتقدم عليهم الآمر المطاع فيهم لا الحسنى لأنه قدم الكتائب إمامة ولا يصح ولا باعتبار كتيبته صلى الله عليه وسلم لأن الأنصار، كانوا في مقدمة كتيبته، كما مر "في بهو" حال من فاعل تقدمهم "إشراق نور منك مكتمل" بضم الميم الأولى وكسر الثانية، أي تام "ينير" بضم التحتية أي يضيء النور المذكور "فوق أغر الوجه" أبيضه "منتجب" مختار من أصل نجيب كريم. "متوج" لابس التاج، وهو الإكليل الذي تلبسه الملوك شبه عصابة تزين بالجوهر، والمعنى أنه مجمل "بعزيز النصر" أي النصر العزيز الذي وعده به ربه. "مقتبل" بكسر الموحدة أي مستأنف للخير مستقبل له وفتحها أي مقابل بذلك "يسمو" بتحتية يعلو "أمام" قدام "جنود الله" جمع جند "مرتديا" حال من ضمير يسمو "ثوب الوقار" العظمة مفعول بإسقاط الخافض، والإضافة بيانية أي تجمل بالوقار بحيث أحاط به كما يشمل الثوب لابسه أو من إضافة المشبه به للمشبه أي مرتديا بالوقار الذي هو كالثوب في ستر ما تحته والإحاطة به "لأمر الله" متعلق بقوله "متمثل" أي عامل به جار في فعله، "على مثاله "خشعت" خضعت حسا ومعنى "تحت بهاء" حسن "العز حين سمت" ارتفعت "بك المهابة" الهيبة أي الإجلال والمخافة، "فعل الخاضع" نصب يخشع على أنه مفعول مطلق، والعامل فيه من معناه "الوجل" الخائف تواضعا لربك وشكرا لنعمائه، فقابلت تلك المهابة بما يفعل الخاشع الخائف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 وقد تباشر أملاك السماء بما ... ملكت إذ نلت منه غاية الأمل والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجو يزهو إشراقا من الجذل والخيل تختال زهوا في أعنتها ... والعيس تنثال رهوا في ثنى الجدل لولا الذي خطت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذي حول أهل ثهلان بالتهليل من طرب ... ..........................   وفي نسخة الخائف الوجل جمع بينهما لاختلاف اللفظ تأكيدا للمعنى قال أبو شامة: وهي أحسن، أي: فعلت في زمان نهاية عزك ما يفعله الخائف الوجل، وأما الخضوع فبمعنى الخشوع فالمعنى عليه خشعت خشوعا كخشوع الخاشع ولا يخفى ما فيه "وقد تباشر أملاك السماء" جمع ملك بشر بعضهم بعضا "بما ملكت" بضم الميم، وكسر اللام مشددة، وبفتحهما وخفة اللام "إذا نلت" حيت أعطيت "منه" العز أو الفتح أو الله "غاية الأمل" نهاية المطلوب. "والأرض ترجف" بضم الجيم تهتز "من زهو" سرور بهذا الجيش، لإزالته ما كان بها من الفساد، "ومن فرق" فزع من صولته ""والجو" ما تحت السماء من الهواء "يزهر" بفتح الهاء يضيء "إشراقا" مصدر، مؤكد من معنى يزهر أو حال من ضميره فمعناه ذا إشراق "من الجذل" بفتح الجيم، والذال المعجمة السرور والفرح متعلق بإشراقا أو بيزهر. "والخيل تختال" تتبختر في مشيها "زهوا" كبرا وإعجابا فهو غير معنى الزهو في سابقه، فلا تكرار "في أعنتها" جمع عنان بالكسر سير اللجام. "والعيس" بكسر فسكون الإبل البيض يخالط بياضها شقرة "تنثال" بفتح الفوقية وسكون النون فمثلثة، فلام تنصب من كل جهة "رهوا" بالراء، كما قال أبو شامة والشامي، في النسخ الصحيحة، أي ذات رهو وهو السير السهل كما فسراه، وقال الطرابلسي أي ساكنة أو متتابعة أو سريعة. انتهى. وكان المراد بسكونها أنها انصبرت مطمئنة بلا فزع وهو بمعنى السير السهل "في ثنى" بكسر المثلثة وفتح النون كأنه جمع ثني بكسر المثلثة وسكون النون، لأن كل جديل له ثني، إلا أنه جمع لم يسمع فكأنه أجرى المذكر مجرى المؤنث. وفي بعض النسخ بضم المثلثة وكسرها كحلية وحلي "الجدل" بضمتين جمع جديل وهو الزمام المجدول أي المغفور. ثني الجدل ما انثنى منها على أعناق الإبل أي انعطف والتوى "لولا الذي خطت" أي خطته "الأقلام" فالعائد محذوف كخبر المبتدأ "من قدر" بيان لها "و" من "ساق من قضاء" بيان لسابق "غير ذي حول" بكسر ففتح انتقال، وتغير لقضاء "أهل" بفتحات واللام ثقيلة أي رفع صوته "ثهلان" بمثلثة "بالتهليل" مصدر هلل إذا قال لا إله إلا الله "من طرب" خفة لشدة سروره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 ........................ ... وذاب يذبل تهليلا من الذبل الملك لله هذا عز من عقدت ... له النبوة فوق العرش في الأزل شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السهل والقلل قالوا محمد قد زادت كتائبه ... كالأسد تزأر في أنيابها العصل فويل ...................... ... ..........................   "وذاب" سال "يذبل" بفتح التحتية وسكون المعجمة وضم الموحدة واللام "تهليلا" جبنا "من الذبل" بضم المعجمة والموحدة الرماح والمعنى لولا ما سبق من قضاء الله وقدره أن الجماد لا ينطق إلا خرقا للعادة، كتسبيح الحصى في يد المصطفى لرفع ثهلان صوته فهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل جزعا وفرقا من الذوابل "الملك لله" ابتداء كلام من الناظم أو منصوب بقول مقدر، حال من ثهلان "أي قائلا الملك لله "هذا" النصر" المبين. "عز من عقدت" بالبناء للمفعول أي أظهرت "له النبوة" وأفرغت عليه بالفعل "فوق العرش في الأزل" بفتحتين. القدم متعلق بعقدت وفوق العرش حال منه والمراد به مجرد التعظيم لحديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعا: "لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي". لا أن النبوة موجودة حقيقة فوقه فلا يرد أن الجمع بين وجودها في الأزل الذي هو القدم قبل وجود الأشياء فلا عرش، ثم وبين كونها فوقه تناقض "شعبت" بفتح المعجمة والمهملة وسكون الموحدة، جمعت وأصلحت "صدع" شق "قريش بعدما قذفت" رمت "بهم شعوب" بفتح المعجمة وضم المهملة علم للمنية لا ينصرف من شعب إذا تفرق، لأنها تفرق الجماعات فشعب من الأضداد بمعنى جمع وفرق "شعاب" بالنصب جمع شعب بالكسر الطريق في الجبل ظرف لقذفت، على أن الباء في بهم زائدة أي قذفهم خوف المنية في الشعاب أو مفعول به على معنى أن شعوب قذفت الشعاب بهم كأنهم في يدها كالحجارة في يد القاذف، فرمت بهم شعاب "السهل والقلل،" أي رءوس الجبال جمع قلة، وهي من كل شيء أعلاه إشارة إلى ما حصل لهم بمنه صلى الله عليه وسلم عليهم وعفوه عنهم من الأمن والاجتماع بعدما تفرق بعضهم من بعض، وانهزموا إلى رءوس الجبال وبطون الدور وكثر القتل فيهم بحيث قال أبو سفيان أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم "قالوا" أهل مكة وغيرهم. "محمد" بترك التنوين للضرورة "قد زادت" كثرت كتائبه". "كالأسد تزأر" بالهمز تصوت "في أنيابها" حال من فاعل تزأر "العصل" بضم العين والصاد المهملتين جمع أعصل كحمر وأحمر فحركت الصاد اتباعا أو ضرورة وهو الناب الشديد المعوج، فشبه الصحابة في الشدة والصولة بالأسد في حال تصويتها "فويل" يعبر بها عن المكروه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 ..... مكة من آثار وطأته ... وويل أم قريش من جوى الهبل فجدت عفو بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللوم والعذل أضربت بالصفح صفحا عن طوائلهم ... طولا أطال مقيل النوم في المقل رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الروع والوجل   ويدعي بها فيه "مكة" أي فيا ويل أهلها "من آثار وطأته" أرضهم ونكايته فيهم بالقتل والإثخان. "وويل أم قريش من جوى" بفتح الجيم والواو حرقة وحزن "الهبل" بفتح الهاء، والموحدة، الثكل، أي فقدهم "فجدت عفوا" أي سهلا من غير عناء ولا كد في السؤال "بفضل العفو" أي ترك العقوبة والتجاوز عن الذنب مع قدرتك عليها تركا تاما صدر "منك" بسهولة من غير إكراه ولا مشير به، فمعنى العفو فيهما مختلف "ولم تلمم" من ألممت بالشيء إذا دنوت منه أو نلت منه يسيرا، "ولا بأليم" موجع "اللوم والعذل" بفتح المعجمة وسكونها متقاربان فلما اختلف اللفظ حسم التكرير. يعني أنه صلى الله عليه وسلم لم يقابل أهل مكة ولا باللوم بل عفا عنهم وصفح. "أضربت" أعرضت. وتركت "بالصفح" هو ترك المؤاخذة بالذنب مع القدرة عليها، فهو بمعنى العفو "صفحا" مصدر مؤكد لأعرضت معناه أي إعراضا أو حال من فاعل أعرضت بمعنى صافحا "عن" نتائج "طوائلهم" جمع طائلة أي عداوة، ونتائجها الجايات الصادرة منهم "طولا" بفتح الطاء منا وإنعاما وتفضلا. "أطال" هو أي الطول أو الصفح أو الإضراب الدال عليه أضربت "مقيل النوم في المقل" جمع مقلة وهي شحمة العين التي تجمع السواد والبياض استعار المقيل وهو النوم أو الاستراحة في الظهيرة للنوم، فشبه حصوله في أعينهم واستقراره بالمقيل بمعنى الاستراحة، وكنى بذلك عن لبثه واستقراره بسبب الصفح والعفو عنهم، وكان قبل ذلك نافرا عنهم بسبب الخوف من القتل والغم من الطرد. "رحمت واشج" بمعجمة وجيم مختلط "أرحام" من أضافة الصفة للموصوف أي: أرحاما مختلطة ومتصلا بعضها ببعض. "أتيح" بضم أوله وكسر الفوقية وسكون التحتية وبالمهملة قدر وقيض "لها تحت الوشيج" بفتح الواو وكسر المعجمة وبالجيم، ما نبت من القنا والقصب ملتفا. قيل: سميت بذلك؛ لأن عروقها تنبت تحت الأرض وقيل: هي عامة الرماح. "نشيج" بفتح النون وكسر المعجمة وسكون التحتية وبالجيم بكاء يخالطه شهيق "الروع" الفزع "والوجل" الخوف وهما متقاربان، أو مترادفان، فعطف لاختلاف اللفظ والمعنى أن الذين رحمتهم فأمنتهم قرابتهم شديدة الاتصال بك فراعيت القرابة وأزلت عنهم البكاء والحزن لخوفهم من سطوة جيشك الذي نزل بهم فاشتد روعهم ووجلهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 عاذوا بظل كريم العفو ذي لطف ... مبارك الوجه بالتوفيق مشتمل أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها ... وأكرم الناس صفحا عن ذوي الزلل وطفت بالبيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح في شغل والجحفل: الجيش العظيم. وقذف الأرجاء: أي متباعدها. واللجب: بالجيم المفتوحة: الضجة من كثرة الأصوات.   "عاذوا" بمعجمة لجئوا "بظل" ستر نبي "كريم العفو ذي لطف" بفتح اللام، والطاء المهملة، وبالفاء اسم لما يبر به "مبارك الوجه" الذات "بالتوفيق مشتمل" أي حاصل له من جميع جوانبه أي حركاته كلها موفقة. "أزكى" أكثر وأوسع، وأطهر "الخليقة" الخلائق "أخلاقا" جمع خلق السجية "وأطهرها" عطف مساو وسوغه اختلاف اللفظ، أو هو من زكا الزرع نما أو الرجل تنعم فالعطف مغاير "وأكرم الناس صفحا عن ذوي الزلل" بفتحتين التنحي عن الحق، وفي هذا الوصف زيادة على ما فهم من قوله قبل كريم العفو، لأن هذا اسم تفضيل وبعد هذا البيت في القصيد. زان الخشوع وقار منه في خفر ... أرق من خفر العذراء في الكلل زان من الزينة، والخفر بفتح المعجمة والفاء شدة الحياء والكلل بكسر الكاف جمع كلة بالكسر هي ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقى فيه من البق "وطفت بالبيت" عطف على شعبت "محبورا" مسرورا منعما، "وطاف به من كان عنه قبيل الفتح في شغل" بضم المعجمتين ممنوع من الوصول إليه, وبعد هذا البيت مما يتعلق بالفتح في القصيدة: والكفر في ظلمات الرجس مرتكس ... ثاو بمنزلة البهموت من زحل حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل وحل أمن ويمن منك في يمن ... لما أجابت إلى الإيمان عن عجل وأصبح الدين قد حفت جوانبه ... بعزة النصر واستولى على الملل قد طاع منحرف منهم لمعترف ... وانقاد منعدل منهم لمعتدل أحبب بخلة أهل الحق في الخلل ... وعز دولته الغراء في الدول "والجحفل الجيش العظيم" الزائد على أربعة آلاف قال في المحكم إن كان فيه خيل، "وقذف الأرجاء أي متباعدها" جمع رجا بالقصر كسبب وأسباب "واللجب بالجيم المفتوحة", كما في القاموس وغيره فما في نسخة المضمومة خطأ "الضجة من كثرة الأصوات". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 والعرمرم: الضخم الكثير العدد. وقوله: كزهاء الليل: شبهه بالليل في سده الأفق، واسوداده بالسلاح. والمنسحل: بالحاء المهملة الماضي في سيره يتبع بعضه بعضا. وقوله: في بهو إشراق: شبه النور الذي يغشاه -عليه الصلاة والسلام- ببهو أحاط به. والبهو: البناء العالي كالإيوان ونحوه. والمنتجب: المتخير من أصل نجيب، أي كريم. والمقتبل: المستقبل الخير.   ولفظ القاموس اللجب محركة الجلبة والصياح "والعرمرم" بفتح العين، والراء المهملتين، وسكون الميم الأولى، والراء المفتوحة "الضخم الكثير العدد، وقوله كزهاء الليل شبهه بالليل في سده الأفق واسوداده بالسلاح" الكثير، "والمنسحل بالحاء المهملة" المكسورة اسم فاعل "الماضي في سيره يتبع بعضه بعضا" يقال انسحلت الناقة انسحالا، أسرعت في سيرها وفي نسخة بدله منسدل ومنسحل أجود في المعنى قاله أبو شامة، "وقوله في بهو إشراق" نور منك مكتمل "شبه النور الذي يغشاه عليه الصلاة والسلام ببهو أحاط به، والبهو البناء العالي كالإيوان ونحوه" فيه أن النور أضيف إليه الإشراق، وللإشراق البهو والمضاف إليه لا يصح أن يشبه بالمضاف مرادا به معناه. فالمناسب أن يقل شبه جسده الشريف بالبناء المرتفع واستعار له اسمه وأضافه إلى إشراق النور المحيط به ويمكن أنه شبه المحيط به ببناء مرتفع واستعار له اسمه، وأضافه إلى إشراق نور أصحابه الذين حوله، فنوره كالقمر، ونور أصحابه كالنجوم المشرقة مع القمر ويجوز أنه استعار البهو للجيش، وأراد بالنون ما علا ما علاه من البهاء، وإضافة الإشراق إليه من إضافة الصفة للموصوف، والمعنى على هذا وأنت تقدمهم في جيش عظيم كالبناء المرتفع في عدم الوصول إليه وذلك البناء ذو نور مشرق، قاله شيخنا: "والمنتخب المتخير من أصل نجيب أي كريم" والنجيب الكريم ذو الحسب إذا خرج كأبيه في الكرم، ونسبه صلى الله عليه وسلم أزكى الأنساب وأشرفها وفاق هو صلوات الله وسلامه عليه أصوله وغيرهم فوصل إلى ما لا يدانيه غيره فيه. "والمقتبل المستقبل الخير" على كسر الباء من اقتبل أمره استأنفه واستقبله وبفتحها المقابل بالخير من قولهم رجل قبل الشباب، أي مستأنفه لم ير فيه أثر أكبر لأنه مقابل بالتوجه إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 وترجف: تهتز. والزهو: الخفة من الطرب، يعني: أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش، وفرقا من صولته، أي كادت تهتز، قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] أي كادت تبلغ. والجدل: جمع جديل، وهو الزمام المضفور. وثني الجدل: ما انثنى على أعناق الإبل، أي انعطف. وثهلان: اسم جبل معروف. وأهل: رفع صوته. ويذبل: اسم جبل أيضا. والذبل: الرماح والذوابل وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست. وتهليلا: أي صياحا، جبنا وفزعا. يعني: لولا ما سبق من تقدير الله تعالى أن الجبال لا تنطق لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق.   لم يتكامل وجوده بعد. "وترجف تهتز" هز طرب وفرح، "والزهو" في قوله والأرض ترجف من زهو ومن فرق "الخفة من الطرب". قال الجوهري: الطرب خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور، والمراد هنا الثاني "يعني أن الأرض اهتزت فرحا بهذا الجيش وفرقا" خوفا وفزعا "من صولته" حملته، وليس المراد اهتزت بالفعل، بل قاربت، "أي كادت تهتز" ولا يعد المتكلم بالمجاز مبالغة كاذبا لوروده في أفصح الكلام "قال الله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي كادت تبلغ لشدة الخوف إذ لو بلغت الفعل لماتوا. "والجدل" بضم الجيم، والدال المهملة، "جمع جديل وهو الزمام المضفور" الذي أحكم فتله، والزمام ما كان في الأنف والخطام وغيره، "وثني الجدل، ما انثنى على أعناق الإبل، أي انعطف وثهلان" بمثلثة مفتوحة وهاء ساكنة "اسم جبل معروف وأهل رفع صوته" إذ الإهلال رافع الصوت ومنه الإهلال بالحج واستهلال الصبي. "ويذبل" بوزن ينصر "اسم جبل أيضا والذبل الرماح الذوابل وهي التي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت" بفتحات من باب قعد، "أي جفت ويبست" وإذا قطعت كذلك كانت أجود وأصلب، "وتهليلا أي صياحا جبنا وفزعا يعني لولا ما سبق من تقدير الله تعالى أن الجبال لا تنطق" ولا تعقل، "لرفع ثهلان صوته وهلل الله من الطرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 وقوله: شعبت أي جمعت وأصلحت. وقذفت بهم: أي فرقت بهم مخافة شعوب. وشعوب: اسم للمنية لأنها تفرق الجماعات، من شعبت أي فرقت، وهو من الأضداد. والشعاب: الطرق في الجبال. والسهل: خلاف الجبل. والقلل: رءوس الجبال. يعني أنه صلى الله عليه وسلم أعفا عنهم بعدما تصدعوا، وتفرقوا وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل. وقوله: كالأسد تزأر في أنيابها العصل: أي المعوجة. ولما فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ وكان عليه الصلاة والسلام يدعو على الصفا رافعا يديه، فلما فرغ من دعائه قال:   وقوله شعبت جمعت وأصلحت وقذفت بهم أي فرقتهم مخافة وشعوب" بوزن رسول "اسم للمنية، لأنها تفرق الجماعات من شعبت أي فرقت، وهو من الأضداد" حيث يستعمل في الجمع والتفريق. والشعاب" جمع شعب بالكسر فيهما "الطرق في الجبل" وقيل الطريق مطلقا وقدمه المصباح. "والسهل خلاف الجبل" وهو ما سهل ولان من الأرض. "والقلل" جمع قلة "رءوس الجبال" أي أعاليها وقلة كل شيء أعلاه "يعني" الناظم بهذا البيت "أنه صلى الله عليه وسلم أغضى عنهم" لأن دأب الحليم الإغضاء "بعدما تصدعوا وتفرقوا، وهربوا من خوفه إلى كل سهل وجبل, وقوله كالأسد تزأر في أنيابها العصل أي المعوجة" تفسير للعصل. "ولما فتح الله مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأنصار" كما ذكر ابن هشام من مرسل يحيى بن سعيد أنه قام على الصفا يدعو الله وقد أحدقت به الأنصار، فقالوا: "فيما بينهم أترون بهمزة الاستفهام وضم التاء، أي تظنون "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده" إذ ظرفية أو تعليلة أي لفتحها عليه "يقيم بها" أم يرجع إلينا؟ "وكان عليه الصلاة والسلام يدعو" جملة حالية، أي: قالت ذلك في حال دعائه "على الصفا رافعا يديه فلما فرغ من دعائه قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 "ماذا قلتم"؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله، المحيا محياكم والممات مماتكم". وهم فضالة بن عمير.   "ماذا قلتم" , وكأنه علم أنهم قالوا: بالوحي. "قالوا: لا شيء" قلنا: يؤذيك "يا رسول الله" فإنا لم نلمك على فعل شيء ولا نقصنا قومك "فلم يزل" يتلطف "بهم حتى أخبروه" بما قالوا, فقال صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله" " نصب على المصدر حذف فعل وأضيف إلى المفعول أي أعوذ بالله أن أفعل غير ما وعدتكم به من الإقامة عندكم. "المحيا محياكم"، أي حياتي حياتكم "والممات مماتكم" والإضافة لأدنى ملابسة أي حياتي وموتي لا يكون إلا عندكم، فكلاهما مصدر ميمي، ويجوز جعلهما زمانين أو مكانين، أي مكان حياتي، ومماتي أو زمانهما عندكم، وهذا أوفق بالسياق وهذا المرسل صح بأتم منه في مسلم، وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه، أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت فرفع يديه وجعل يحمد الله ويذكره ويدعو بما شاء الله أن يدعو والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إليه فلما قضي الوحي قال: "يا معشر الأنصار"، قالوا: لبيك يا رسول الله. قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته". قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله. قال: "فما اسمي إذًا كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم, المحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون يقولون: والله يا رسول الله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: "فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم". الضن: بكسر الضاد المعجمة، وشد النون أي البخل والشح به أن يشركنا فيه أحد غيرنا كما ضبطه الشامي. ولعله الرواية وإلا ففتحها لغة أيضا، وكان ذلك وقع لطائفتين فبادر بإخبار إحداهما لجزمها وتلطف في سؤال الأخرى لكونها لم تجزم، بل قالت: أترى إلخ. ويعذرانكم بكسر الذال المعجمة يقبلان عذركم "وهم" بالفتح والتشديد، كما رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم "فضالة" بفتح الفاء "ابن عمير بن الملوح" بضم الميم وفتح اللام والواو المشددة، ثم حاء مهملة، الليثي، الصحابي. ذكره ابن عبد البر في كتاب الدرر في السير له بهذه القصة ولم يذكره في الاستيعاب وهو على شرطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة"، قال: نعم يا رسول الله! قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك"؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه. وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت.   وذكر عياض في الشفاء بنحوه كما في الإصابة "أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت" عام الفتح، "فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة" قال: نعم" فضالة "يا رسول الله" هكذا ثبت فضالة بن نعم عند ابن هشام راوي هذا الخبر، وهو يفيد أن الهمز للاستفهام لا النداء هكذا نقله عنه اليعمري. وأما الشامي فنقله عنه بلفظ: يا فضالة وهو الذي قوى الشارح على جعلها للنداء. "قال: "ماذا كنت تحدث به نفسك". قال: لا شيء" أكرهه "كنت أذكر الله فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: "استغفر الله" مما حدثت نفسك به وقولك لا شيء، "ثم وضع يده" المباركة الميمونة "على صدره فسكن قلبه" اطمأن، وثبت فيه الإسلام وحب خير الأنام، "فكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري، حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه" هكذا لفظه عند ابن هشام، ونقله عنه كذلك اليعمري، والشامي في نسخة صحيحة يقع في بضع نسخه حتى ما خلق شيء وهو بمعناه إلا أن الكلام في العزو وبقية الخبر عند ابن هشام. قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت: هلم إلى الحديث، فقلت: لا وانبعث فضالة يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ... يأبى على الله والإسلم لو ما رأيت محمدا وقبيله ... بالفتح يوم تكسر الأصنام لرأيت دين الله أضحى بينا ... والشرك يغشى وجهه الأظلام وأنشده بعضهم كما في الإصابة لو ما شهدت بدل رأيت وجنوده بدل قبيله وساطعا بدل بينا، "وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت" بعد أن استقر في خيمته ساعة، واغتسل وعاد للبس السلاح، والمغفر ودعا بالقصواء فأدنيت إلى باب الخيمة، وقد حف به الناس فركبها وسار وأبو بكر معه يحادثه فمر ببنات أبي أحيحة بالبطحاء، وقد نشرن شعورهن يلطمن وجوه الخيب بالخمر، فتبسم إلى أبي بكر واستنشده قول حسان الماضي يلطمهن بالخمر النساء إلى أن انتهى إلى الكعبة ومعه المسلمون، فاستلم الركن بمحجنه، وكبر فكبر المسلمون لتكبيره، ورجعوا التكبير حتى ارتجت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيب وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا"، فيقع الصنم لوجهه. رواه البيهقي. وفي رواية أبي نعيم: قد ألزقها الشياطين بالرصاص والنحاس.   مكة تكبيرا حتى جعل صلى الله عليه وسلم يشير إليهم أن اسكتوا، والمشركون فوق الجبال ينظرون، فطاف بالبيت ومحمد بن مسلمة آخذ بزمام الناقة سبعا يستلم الحجر الأسود كل طرف "يوم الجمعة" على المعروف خلافا لما قدمه المصنف في المولد النبوي أنه يوم الاثنين، وإن جزم به بعض المتأخرين هنا فلا عاضد له "لعشر بقين من رمضان، وكان حول البيت" أي في الجهات المحيطة به وحرف من قال وعلى الكعبة لاقتضائه أنها على سطحها ولفظ الصحيحين وغيرهما وحول البيت "ثلاثمائة وستون صنما". وفي رواية البخاري، نصب قال الحافظ: بضم النون والمهملة، وقد تسكن فموحدة ما نصب للعادة من دون الله، ويطلق ويراد به الحجارة التي كانوا يذبحون عليها للأصنام، وليست مرادة هنا، وعلى أعلام الطريق وليست مرادة هنا ولا في الآية، "فكلما مر بصنم أشار إليه بقضيبه" فعيل بمعنى مفعول وهو الغصن المقضوب أي المقطوع. وفي البخاري بعود في يده وفي مسلم بسية القوس بكسر المهملة وفتح التحتية المخففة ما عطف من طرفه، وهو يقول: "جاء الحق" الإسلام "وزهق الباطل" بطل الكفر "إن الباطل كان زهوقا" مضمحلا زائلا من زهق روحه إذا خرج وفيه استحباب هذا القول عند إزالة المنكر، كما قال السيوطي "فيقع الصنم لوجهه" أي عليه. وعند الفاكهي، وصححه ابن حبان، في حديث ابن عمر فيسقط الصنم، ولا يمسه وللفاكهي والطبراني، من حديث ابن عباس لم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة بالأرض قد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص. "رواه البيهقي" عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت فذكره، "و" كذا هو "في رواية أبي نعيم" عنه وزاد "قد ألزقها الشيطان بالرصاص" بفتح الراء. "والنحاس" بضم النون أي حملهم على ذلك فنسب إليه لكونه سببا فيه، وإلا فمعلوم أن الشيطان لم يفعل ذلك، كذا قال شيخنا, وحمله على الحقيقة أولى وإنما أبعد المصنف النجعة لقوله فيقع الصنم لوجهه. ولزيادة أبي نعيم هذه وإلا فقد روى الشيخان عن ابن مسعود، قال: دخل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل، وما يعيد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 وفي تفسير العلامة ابن النقيب المقدسي: إن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه، وفتحه مكة وإعلاء كلمة دينه، أمره إذ دخل مكة أن يقول: "وقل جاء الحق وزهق الباطل"، فصار صلى الله عليه وسلم يطعن الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل"، فيخر الصنم ساقطا، مع أنها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة. قال: وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال:   "وفي تفسير العلامة" الإمام المفسر "ابن النقيب" جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم "المقدسي" الحنفي قدم مصر وأقام مدة بالجامع الأزهر وصنف بها تفسيرا كبيرا إلى الغاية وكان عابدا زاهدًا أمارا بالمعروف ويتبرك بدعائه وبزيارته. مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة ذكره في العبر "أن الله تعالى لما أعلمه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أنجز له وعده بالنصر على أعدائه وفتحه مكة وإعلاء كلمة دينه أمره إذا دخل مكة أن يقول: "وقل جاء الحق" الإسلام أو القرآن "وزهق" اضمحل وتلاشى "الباطل" الكفر، أو الأصنام، أو إبليس "فصار صلى الله عليه وسلم يطعن". قال الحافظ: بضم العين وفتحها، والأول أشهر "الأصنام التي حول الكعبة بمحجنه" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الجيم، فنون عصا محنية الرأس وهذا موافق لرواية الصحيحين، فجعل يطعنها بعود في يده. وظاهر قوله في رواية البيهقي، وأبي نعيم السابقة أشار إليه بقضيبه أنه مجرد إشارة بلا طعن حقيقي، فيمكن التجوز في قوله أشار عن الطعن بالعود دون أن يمسها بيده الشريفة بأن سمى الطعن إشارة لخفته حتى كأنه ليس بطعن حقيقي، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" , ولم يأت بلفظ وقل مع أنها من جملة ما أمر بقوله على صلة أما، لأن المراد أن يتلو وقل ... إلخ. بدليل ما سيتلى عليك قريبا أنها نزلت يومئذ، وأما لأنها معطوفة على شيء قبله في كلام جبريل كأن يقال أمره أن يقول كذا وكذا ولم يسمعه، وعطف عليه قوله وقل ففهم أن المأمور به جاء الحق دون لفظ، وقل "فيخر" بكسر الخاء يسقط فقوله "ساقطا" تأكيدا أو لدفع توهم أن يراد غير السقوط، لأن خر يستعل لصوت الماء والنائم والمخنق كما في اللغة، "مع أنها كلها كانت مثبتة بالحديد والرصاص، وكانت ثلاثمائة وستين صنما بعدد أيام السنة". قال الحافظ وغيره: وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لإذلال الأصنام وعابديها ولإظهار أنها لا تنفع ولا تضر ولا تدفع عن نفسها شيئا. "قال" ابن النقيب: "وفي معنى الحق والباطل لعلماء التفسير أقوال" في المراد بهما في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 قال قتادة: جاء القرآن وذهب الشيطان. وقال ابن جريج: جاء الجهاد وذهب الشرك وقال مقاتل: جاءت عبادة الله وذهبت عبادة الشيطان. وقال ابن عباس: وجد صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، كانت لقبائل العرب يحجون إليها، وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله تعالى فقال: أي رب! حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إليه إني سأحدث لك نوبة جديدة، يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية. قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح قال جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ.   الآية، وإلا فالحق كما قال التفتازاني هو الحكم المطابق للواقع يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك، ويقابله الباطل "قال قتادة: جاء" الحق، أي "القرآن" وزهق "ذهب" الباطل "الشيطان" إبليس اللعين؛ لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك، "وقال ابن جريج" عبد الملك "جاء الجهاد" أي الأمر به، أو حصل من المسلمين امتثالا للأمر به. "وذهب الشرك" الكفر وتسويلات الشيطان. "وقال مقاتل: جاءت عبادة الله" في البلد الحرم بإسلام غالب أهله في الفتح، ثم لم يبق قرشي بعد حجة الوداع إلا أسلم كما في الإصابة "وذهبت عبادة الشيطان" وقد روى أبو يعلى، وأبو نعيم، عن ابن عباس لما فتح صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة فجمعت إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم، ولكن افشوا فيها يعني مكة النوح والشعر. "وقال ابن عباس وجد "صلى الله عليه وسلم" يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنما كانت لقبائل العرب يحجون" يقصدون أي يأتون "إليها وينحرون لها" لتعظيمها. وعند ابن إسحاق في غير هذا الموضع مع اعترافهم بفضل الكعبة عليها، "فشكا البيت" بلسان القال على المتبادر الظاهر بأن خلقت له قوة النطق بالشكاية، كنطق الجذع وغيره "إلى الله تعالى، فقال: أي رب حتى متى" إلى أي وقت "تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى الله تعالى إليه" وحي إلهام، كما أوحى إلى النحل "إني سأحدث لك نوبة جديدة" بالنون جماعة، أي دولة من الناس، "يدفون" بضم الدال، يسرعون "إليك دفيف النسور" أي مثل إسراعها فشبه قدوم الناس له بدفيفها بفاءين وهو تحريك جناحيها للطيران، "ويحنون" بكسر الحاء، يشتاقون "إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج" رفع صوت "حولك بالتلبية" الخالصة إلى الله تعالى. "قال" ابن عباس: "ولما نزلت الآية يوم الفتح، قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 بمخصرتك ثم ألقها، فجعل يأتي لها صنما صنما ويطعن في عينه أو بطنه بمخصرته ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل"، فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا, وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر. فقال يا علي: "ارم به". فحمله عليه الصلاة والسلام حتى صعد ورمى به وكسره, فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى.   بمخصرتك" بكسر الميم قضيبك، كما عبر به في رواية البيهقي المارة، وهو المراد من المحجن والعود "ثم ألقها" أي الأصنام، ولعله أشار إليها حين قال له ذلك إذ هي غير مذكورة في ذي الرواية، "فجعل يأتي لها صنما صنما" أي بعد صنم "ويطعن في عينه أو بطنه" تنويع لا شك وهو حقيقي. وأما قوله في حديث ابن عمر فيسقط الصنم ولا يمسه فالضمير للمصطفى بدليل رواية من غير أن يمسه بيده لا للعود إذ لا يدله "بمخصرته، ويقول: "جاء الحق وزهق الباطل" فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا". وفي رواية ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس، فما أشار إلى صنم في وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع حتى ما بقي منها صنم إلا وقع، فقال تميم بن أسد الخزاعي: وفي الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا وأفاد في روايته أن ذلك كان وهو طائف، فلما فرغ من طوافه نزل عن راحلته، وعند ابن أبي شيبة عن عمر فما وجدنا مناخا في المسجد حتى أنزل على أيدي الرجال، فأخرج الراحلة فأناخها بالوادي، ثم انتهى صلى الله عليه وسلم إلى المقام وهو لاصق بالكعبة، فصلى ركعتين ثم انصرف إلى زمزم، وقال: "لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوا". فنزع له العباس دلوا، فشرب منه، وتوضأ والمسلمون يبتدرون وضوءه يصبونه على وجوههم والمشركون ينظرون ويعجبون ويقولون: ما رأينا ملكا قط أبلغ من هذا، ولا سمعنا به وأمر بهبل فكسر وهو واقف عليه، فقال الزبير لأبي سفيان: قد كسر هبل أما إنك قد كنت يوم أحد في غرور حين تزعم أنه أنعم، فقال أبو سفيان: دع عنك هذا يابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان، ثم جلس صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد والناس حوله. وروى البزار عن أبي هريرة كان صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قاعد وأبو بكر قائم على رأسه بالسيف "وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر" بضم الصاد وكسرها لغة نحاس على شكل القوارير جمع بعضها إلى بعض. وفي حديث علي وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض, فقال: "يا علي ارم به"، "فحمله عليه الصلاة والسلام حتى صعد ورمى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون. انتهى" كلام ابن النقيب وفي سياقه في هذه القصة الأخيرة اختصار، فقد رواه ابن أبي شيبة، والحاكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 وعن ابن عباس: لما قدم صلى الله عليه وسلم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام، يعني: الأقداح التي كانوا يستقسمون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله، أما والله   عن علي قال: انطلق صلى الله عليه وسلم حتى أتى بي الكعبة، فقال: "اجلس". فجلست إلى جنب الكعبة فصعد على منكبي، ثم قال: "انهض". فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال: "اجلس". فجلست ثم قال: "يا علي اصعد على منكبي". ففعلت، فلما نهض بي خيل لي لو شئت نلت أفق السماء فصعدت فوق الكعبة وتنحى صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألق صنمهم الأكبر"، وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض فقال عليه السلام: "عالجه". ويقول لي: "إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا". فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه، وقد أجاد القائل: يا رب بالقدم التي أوطأتها ... من قاب قوسين المحل الأعظما وبحرمة القدم التي جعلت لها ... كتف المؤيد بالرسالة سلما ثبت على متن الصراط تكرما ... قدمي وكن لي منقذا ومسلما واجعلهما ذخري فمن كانا له ... ذخرا فليس يخاف قط جهنما "وعن ابن عباس: لما قدم صلى الله عليه وسلم" مكة "أبى" امتنع "أن يدخل البيت" الحرام "وفيه الآلهة،" أي الأصنام، وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، وفي جواز إطلاق ذلك وقفة، والذي يظهر كراهته وكانت تماثيل على صور شتى فامتنع من دخول البيت وهي فيه؛ لأنه لا يقر على باطل، ولأنه لا يحب فراق الملائكة، وهي لا تدخل بيتا فيه صورة "فأمر بها فأخرجت". في حديث جابر عند ابن سعد وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلا حتى محيت الصور، فكان عمر هو الذي أخرجها والذي يظهر أنه محا ما كان من الصور مدهونا مثلا وأخرج ما كان مخروطا ذكره في الفتح، "فأخرجوا صورة إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام في أيديهما الأزلام" جمع زلم بضم الزاي، ويقال: بفتحها واللام مفتوحة فيهما وهو السهم، "يعني الأقداح" جمع قدح بالكسر سهم صغير لا ريش له ولا نصل "التي كانوا يستقسمون" يطلبون القسم والحكم "بها" في الخير والشر مكتوب عليها افعل لا تفعل، فإذا أراد أحدهم فعل شيء أخرج واحدا منها، فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قاتلهم الله" أي لعنهم، كما في القاموس وغيره. "أما" بفتح الهمزة، وخفة الميم بعدها ألف حرف استفتاح. قال الحافظ: كذا رواية بعضهم وللأكثر أم "والله" قال المصنف بحذف الألف للتخفيف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط". فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل. رواه الترمذي.   "لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما قط" قال الحافظ: قيل وجه ذلك أنهم كانوا يعلمون أول من أحدث الاستقسام بها وهو عمرو بن لحي، فكانت نسبتهم إلى إبراهيم وولده ذلك افتراء عليهما. انتهى. قال الزركشي معنى قط هنا أبدا، ورده الدماميني بأن قط مخصوص باستغراق الماضي من الزمان، وأما أبدا، فيستعمل في المستقبل نحو، لا أفعل أبدًا, {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} "فدخل البيت" وظاهر هذا أنها أخرجت قبل دخوله كظاهر قول جابر لم يدخلها حتى محيت الصور. ووقع عند الواقدي في حديث جابر، وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم، فقال: "امسحوا ما فيها من الصور، قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". قال في الفتح وفي حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فرأى صورا فدعا بماء فجعل يمحوها وهو محمول على أنه بقيت بقية خفيت على من محاها أولا. وقد حكى ابن عائذ عن سعيد بن عبد العزيز أن صورة عيسى وأمه بقيتا حتى رآهما بعض من أسلم من نصارى غسان، فقال: إنكما لبلاد عربية، فلما هدم ابن الزبير البيت ذهبا فلم يبق لهما أثر، وقال عمر بن شبة حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج سأل سليمان بن موسى عطاء أدركت في الكعبة تماثيل؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم في حجرها ابنها عيسى مزوقا وكان ذلك في العمود الأوسط الذي يلي الباب، قال: متى ذهب ذلك، قال: في الحريق، وبه عن ابن جريج أخبرني ابن دينار أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطلس الصورة التي كانت في لبيت، وهذا سند صحيح ومن طريق عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، فأمرني فأتيته بماء في دلو، فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصورة، ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". انتهى. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أن المسلمون تجردوا في الأزر وأخذوا الدلاء، وانجروا على زمزم يغسلون الكعبة ظهرها وبطنها فلم يدعو أثرا من المشركين إلا محوه وغسلوه. انتهى، فلعل صورة مريم كان لا يذهبها الغسل "وكبر في نواحيه ولم يصل" وفي حديث بلال أنه صلى ويأتي قريبا الجمع بوجهين في كلام المصنف. "رواه الترمذي" كذا في النسخ، وما أظنه إلا سبق قلم أراد أن يكتب البخاري فطغى عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 وعن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقته القصواء، وهو مردف أسامة حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح"، فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه فقال: والله لتعطينه، أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، فأعطته إياه، فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه، ففتح الباب. رواه مسلم. وروى الفاكهي من طريق ضعيفة، عن ابن عمر أيضا قال: كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده.   القلم. فإن البخاري في يد المصنف وقد رواه في مواضع منها وهنا وفي الحج "و" صح "عن ابن عمر قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح" وللبخاري في الجهاد يوم الفتح من أعلى مكة "على ناقته القصواء" وهو يقرأ سورة الفتح يرجع صوته بالقراءة كما عند الشيخين، وهو مردف أسامة" بن زيد، وللبخاري في الجهاد والمغازي، ومعه بلال وعثمان بن طلحة، "حتى أناخ بفناء الكعبة ثم" بعدما دخل هو والثلاثة الكعبة وخرجوا كما في رواية الشيخين "دعا عثمان بن طلحة، فقال: "ائتني بالمفتاح". "فذهب إلى أمه" وهي سلافة كما يأتي. وعند الواقدي أن عثمان أخبر المصطفى أنه عند أمه فبعث إليها فأبت. فقال عثمان: أرسلني أخلصه لك منها فقال: يا أمه ادفعي إليّ المفتاح فإنه صلى الله عليه وسلم أمرني أن آتيه به "فأبت أن تعطيه". وعند الواقدي، قالت: لا واللات والعزى، لا أدفعه إليك أبدا "فقال": لا لات ولا عزى قد جاء أمر غير ما كنا فيه "والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي". وفي رواية الواقدي: وإنك إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي فأنت قتلتينا ووالله لتدفعنه أو ليأتين غيري فيأخذه منك؟ فأدخلته في حجزتها وقالت: أي رجل يدخل يده هنا؟ وروى عبد الرزاق، والطبراني من جهته من مرسل الزهري فأبطأ عثمان ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق ويقول: "ما يحبسه فيسعى إليه رجل"، أي: أفيسعى, وجعلت تقول: إن أخذه منكم لا يعطيكموه أبدا، فلم يزل بها، "فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه ففتح الباب، رواه مسلم" والبخاري، بنحوه لكن قوله فذهب إلى أمه ... إلخ. من زيادة مسلم فلذا لم يعزه لهما. قال الحافظ: وظهر من رواية البخاري في المغازي بلفظ: وقال لعثمان ائتنا بالمفتاح فجاءه بالمفتاح ففتح له الباب فدخل أن فاعل فتح في رواية في مسلم هو عثمان المذكور. "و" لكن "روى الفاكهي من طريق ضعيفة عن ابن عمر أيضا، قال: كانت بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح باب الكعبة غيرهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 وعثمان المذكور: هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى، ويقال له: الحجبي، بفتح الحاء المهملة والجيم، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة ورواية. واسم أم عثمان: سلافة -بضم السين المهملة والتخفيف والفاء. وفي الطبقات لابن سعد:   ويحتمل الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم لما فتح الضبة بالمفتاح عاونه عثمان، فدفع الباب ففتحه له "وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة" واسمه عبد الله قتل طلحة كافرا يوم أحد. قاله ابن إسحاق وغيره "ابن عبد العزى" ابن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب العبدري ومن قال كالبيضاوي عثمان بن طلحة ابن عبد الدار نسبه لجده الأعلى للتمييز بين أولاد قصي على عادة أهل النسب فلا يفهم منه أن اسم أبي طلحة عبد الدار كما ظنه من وهم فإنه لم يقله أحد. وفي التقريب تبعا لغيره واسم جده أي عثمان عبد الله "ويقال له الحجبي بفتح الحاء المهملة والجيم" زاد في الفتح ولآل بيته الحجبة لحجبهم الكعبة. "ويعرفون الآن بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة" المكي من مسلمة الفتح له صحبة وأحاديث. روى له البخاري، وأبو داود، وابن ماجه ومات سنة تسع وخمسين "وهو" أي شيبة "ابن عم عثمان، وعثمان هذا لا ولد له وله صحبة" وهجرة. "ورواية" في مسلم وأبي داود وغيرهما مات سنة اثنتين وأربعين "واسم أم عثمان سلافة بضم السين المهملة والتخفيف" للام "والفاء". قال في الإصابة: وقال ابن الأثير بالميم، وإنما هي بالفاء بنت سعيد الأنصارية الأوسية، أسلمت بعده ثم هذه العبارة جزم بها المصنف تبعا للفتح في كتاب الحج من أول قوله وعثمان المذكور إلى هنا بلفظه وكأه لم يصح عنده ما حكي أن ولد عثمان لما قدموا من المدينة منعهم ولد شيبة، فشكوا إلى الخليفة المنصور ببغداد فكتب إلى ابن جريج يسأله، فكتب إليه أنه عليه الصلاة والسلام دفع المفتاح إلى عثمان فأدفعه إلى ولده فدفعه فمنعوا ولد شيبة عن الحجابة، فركبوا إلى منصور وأعلموه أن ابن جريج يشهد أنه عليه السلام قال: "خذوها يا بني طلحة". فكتب إلى عامله أن شهد ابن جريج بذلك فأدخلهم، فشهد عند العامل بذلك فجعلها إليهم كلهم. "وفي الطبقات لابن سعد" الحافظ محمد المشهور قال الخطيب: كان من أهل العلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس, فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له ونلت منه، فحلم عني ثم قال: "يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". فقلت لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، قال: "بل عمرت وعزت يومئذ"، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال, فلما كان يوم الفتح قال: "يا عثمان ائتني بالمفتاح". فأتيته به فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ.   والفضل صنف كتابا كبيرا في طبقات الصحابة والتابعين، ومن بعدهم إلى وقته فأجاد فيه وأحسن. مات سنة ثلاثين ومائتين، فروى فيها من طريق إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه "عن عثمان بن طلحة" الصحابي المذكور "قال" زاد في رواية الواقدي: لقيني صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الإسلام, فقلت: يا محمد العجب لك حيث تطمع أن أتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث، "وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية" أراد بها قبل الفتح لأنه أفاد أن ذلك بعد البعثة وقبل الهجرة، كقول ابن عباس في الصحيح سمعت أبي يقول في الجاهلية: اسقنا كأسا دهاقا. وابن عباس إنما ولد في الشعب. "يوم الاثنين، والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس" وذلك بعد بعثته لقوله: "فأغلظت له" عنفته بالكلام. وفي نقل العيون عن ابن سعد المذكور فغلظت عليه وهو مستعار من التغليظ في اليمين أي شددت عليه القول "ونلت منه فحلم" بضم اللام صفح "عني، ثم قال: "يا عثمان لعل سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". فقلت: لقد هلكت قريش، يومئذ وذلت" يعني أن هذا محال، فإن قريشا ما دامت لا تقدر عليه، قال: "بل عمرت" بفتح الميم وكسرها، ففي القاموس عمر كفرح ونصر وضرب، عمرا وعمارة بقي زمانا، المعنى أن هذا الأمر يحصل وبه حياة قريش في الدارين الحياة الطيبة، "وعزت يومئذ" بدخولها في دين الله، ومجاهدتها في سبيله الملوك الأكاسرة، وتلقيها كتاب الله وأحاديث رسوله بعد ذلها بمزيد الجهل وعبادة حجارة تنحتها بأيديها إذا خلي المرء وعقله لا يرتضيها وفيه علم من أعلام النبوة باهر. "ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال"؛ لأنه كان معروفا بينهم بالصدق والأمانة، فإنهم لا يكذبونه, وأسقط من هذا الخبر ما لفظه: فأردت الإسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا "قال فلما كان يوم الفتح"، قال: "يا عثمان ائتني بالمفتاح". فأتيته به من عند أمي بعد امتناعها، على ما مر "فأخذه مني، ثم دفعه إليَّ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وقال: "خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا ما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف". قال: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه فقال: "ألم يكن الذي قلت لك"؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". قلت:.   وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: "غيبه". قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح وفي هذه الأحاديث كلها أن الذي طلب منه المفتاح، وأتى به عثمان ودفع إليه ووقع عند ابن أبي شيبة بسند جيد عن أبي السفر لما دخل صلى الله عليه وسلم مكة دعا شيبة بن عثمان بالمفتاح مفتاح الكعبة فتلكأ، فقال لعمر: "قم فاذهب معه فإن جاء به وإلا فأخله رأسه". فجاء به فوضعه في حجره، ويمكن الجمع بأن أم عثمان لما امتنعت من دفعه حين أرسل يطلبه المصطفى منها فذهب لها ابنها عثمان وأبطأت عليه دعا شيبة فطلبه منه حتى لا يساعد المرأة في المنع فأرسله مع عمرو، قال له هذه المقالة لتذهب عنه حمية الجاهلية فسلمته لعثمان وهو الذي أتى به، ثم دفع إليه ونسب إليه المجيء به في هذه الرواية، لمجيئه مع ابن عمه، وسكوته على ذلك وإلا فما في الصحيح من أن عثمان هو الآتي به أصح، وقال: "خذوها" أي سدنة الكعبة "خالدة تالدة" معنى كل منها مقيمة، كما في القاموس وغيره فالثاني تأكيد للأول حسنه اختلافا للفظ، وقال المحب الطبري لعل تالدة من التالد وهو المال القديم، أي هي لكم من أول الأمر وآخره، واتباعها لخالدة بمعناها "لا ينزعها منكم إلا ظالم". وفي رواية: "لا يظلمكموها إلا كافر". أي كافر نعمة الفتح العظيم عليه ويحتمل الحقيقة، أي إن استحل. "يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت" , أي: بسبب خدمته على سبيل التبرع والبر "بالمعروف". قال المحب الطبري: ربما تعلق به الجهال في جواز أخذ الأجر على دخول الكعبة، ولا خلاف في تحريمه وأنه من أشنع البدع، وهذا إن صح احتمل أن معناه ما يأخذونه من بيت المال على خدمته والقيام بمصالحه ولا يحل لهم إلا قدر ما يستحقونه أو ما يقصدون به من البر والصلة، على وجه التبرر فلهم أخذه وذلك أكل بالمعروف, قال الشمس الحطاب المالكي: والمحرم إنما هو نزع المفتاح منهم لا منعهم من انتهاك حرمة البيت وما فيه قلة أدب. فهذا واجب لا خلاف فيه، لا كما يعتقده الجهلة أنه لا ولاية لأحد عليهم وأنهم يفعلون في البيت ما شاءوا فهذا لا يقوله أحد من المسلمين "قال" عثمان: "فلما وليت نادناني فرجعت إليه، فقال: "ألم يكن الذي قلت لك". فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت". قلت: بلى" جواب للنفي أي قد كان ذلك ولم يقل له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 بلى أشهد أنك رسول الله. وفي التفسير: أن هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي. أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة فأبى عليه، وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية   ذلك ابتداء تأنيسا له وخشية أن يفهم عنه أنه يعنفه، فلما اطمأن بدفعه له وذهابه عاوده فقال: ذلك ليعلمه بالمعجزة الظاهرة ليزداد إيمانا إلى إيمانه، ومن ثم قال: "أشهد أنك رسول الله" فليس ابتداء إيمانه؛ لأنه أسلم وهاجر قبل الفتح كما أسلفه المصنف. "وفي التفسير" للثعالبي بلا سند "إن هذه الآية" وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} ما ائتمن عليه {إِلَى أَهْلِهَا} خطاب يعم المكلفين، كما قاله ابن عباس عند ابن أبي حاتم وجميع الأمانات، ومن ثم استدل به المالكية على أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان فأودع وديعة ثم مات أو قتل وجب رد وديعته وماله إلى أهله. وأن المسلم إذا استدان من الحربي بدار الحرب، ثم خرج يجب وفاؤه وعلى حرمة خيانة أسير ائتمن طائعا, واختار ابن جرير ما رواه عن علي وغيره أنها خطاب لولاة المسلمين أمروا بأداء الأمانة لمن ولوا عليه، فهي عامة وإن "نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي" نسبة إلى الحجابة، وهي سدانة البيت بسين مكسورة ودال مهملتين فألف فنون فتاء تأنيث خدمته وتولي أمره وفتح بابه وإغلاقه. "أمره عليه الصلاة والسلام أن يأتيه بمفتاح الكعبة، فأبى عليه، وأغلق باب البيت، وصعد إلى السطح، وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه،" وهذا وهم كما يأتي، ولعله بفرض صحته وقع من ابن عمه شيبة؛ لأنه لم يكن أسلم بعد، لكن بعده لا يخفى؛ لأنه لم يمكن من هو أجل منه منع شيء ولا قول شيء يومئذ. "فلوى علي يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب". وفي هذا السياق نكارة ومخالفة لما يفهم من حديث الصحيح، أن الذي فتحه عثمان، أو النبي صلى الله عليه وسلم على ما رواه الفاكهي وهو ظاهر رواية مسلم كما مر. "فدخل صلى الله عليه وسلم البيت، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له بين السقاية" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 والسدانة، فأنزل الله هذه الآية. فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه، فقال: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق؟ فقال علي: لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية. فقال عثمان: أشهد أن محمدا رسول الله. فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام فقال: ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة، فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان.   وهي أحواض من أدم، ويوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، وقد يطرح فيه التمر والزبيب. فعل ذلك عبد المطلب لما حفر زمزم، وقام بها بعد العباس، فلما كان يوم الفتح، قال الواقدي عن شيوخه. قبض الله صلى الله عليه وسلم السقاية منه، ومفتاح البيت من عثمان، فسأله العباس أن يجمع له بين السقاية. "والسدانة فأنزل الله هذه الآية". وهكذا روى عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة، أن السائل العباس، وفي رواية ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، أنه علي ولفظه: ثم جلس، أي بعد الخطبة، صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي ومفتاح البيت في يده فقال: اجمع لنا الحجابة مع السقاية، والجمع بينهما أنه سأل لعمه لا لنفسه، "فأمر صلى الله عليه وسلم عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان، ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه". واعتذر صلى الله عليه وسلم كما روى عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة، أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي: "يومئذ إنما أعطيكم ما ترزءون، ولم أعطكم ما ترزءون" يقول: أعطيكم السقاية لأنكم تغرمون فيها، ولم أعطكم البيت. قال عبد الرزاق أي أنهم يأخذون من هديته. "فقال" عثمان لعلي "أكرهت وآذيت، ثم جئت ترفق؟ فقال علي: لقد أنزل اله تعالى في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن محمدًا رسول الله". قال في الإصابة كذا وقع في تفسير الثعلبي بلا سند، أنه أسلم يوم الفتح بعد أن دفع له المفتاح، وهو منكر، والمعروف أنه أسلم وهاجر مع عمرو بن العاصي وخالد بن الوليد، وبه جزم غير واحد. انتهى، وفيه نكارة أيضا من جهة أن الذي دفع له المفتاح علي، والذي تظافرت به الآثار أن الذي دفعه له المصطفى، وأصرحها حديث جبير بن مطعم، أنه صلى الله عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له: "غيبه". وحديث الواقدي عن شيوخه، أنه أعطاه المفتاح ورسول الله مطبع بثوبه عليه، وقال: "غيبوه، إن الله تعالى رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام". "فجاء جبريل عليه السلام، فقال ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان" بن أبي طلحة: لا عثمان بن طلحة، لما قدمه المصنف قريبا تبعا للفتح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح والسدانة في أولاده إلى يوم القيامة. قال ابن ظفر في "ينبوع الحياة" قوله: "لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه" هذا وهم؛ لأنه كان ممن أسلم. فلو قال هذا كان مرتدا. وعن الكلبي: لما طلب عليه الصلاة والسلام المفتاح من عثمان مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال: هاكه بالأمانة، فأعطاه إياه فنزلت الآية.   أن عثمان هذا لا ولد له، "فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة،" مر أيضا أنه ابن عمه ويحتمل تصحيحه بما مر أنه قال لأمه: إن لم تدفعي المفتاح قتلت أنا وأخي. لكن لم يسم، فيكون اسمه شيبة على ما يفيده هذا الخبر ويكون أعطاه له أخوه فمات ولم يعقب أيضا فأخذه ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، "فالمفتاح والسدانة في أولاده إلى يوم القيامة". ولذا عرفوا بالشيبيين، ويحتمل أنه المراد الأخوة في سدانة البيت، وبالجملة فهذا الحديث منكر من جهات عديدة، ومن ثم "قال" محمد "بن ظفر"، بفتح الظاء المعجمة والفاء وبالراء " في ينبوع الحياة" اسم تفسيره، "قوله لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه، هذا وهم لأنه كان ممن أسلم" وهاجر قبل الفتح في صفر سنة ثمان، وقيل سنة سبع، وقيل سنة خمس، كما قدم المصنف وقدمت عن الإصابة أن الثالث وهم. "فلو قال هذا كان مرتدا" إلا أن يقال: هذا وقع من غيره ممن لم يسلم حينئذ من أهله، فنسب إليه مجازا، وبعده لا يخفى. "وعن الكلبي" محمد بن السائب، فيما رواه ابن مردويه عنه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "لما طلب عليه الصلاة والسلام المفتاح من عثمان، مد يده إليه، فقال العباس: يا رسول الله، اجعلها مع السقاية، فقبض عثمان يده بالمفتاح، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كنت يا عثمان تؤمن بالله واليوم الآخر فهاته". بكسر التاء فعل أمر وهذا صريح في أنه كان آمن كما هو المعروف؛ لأنه لو كان لم يؤمن لم يقل له ذلك. "فقال: هاكه" اسم فعل بمعنى خذه "بالأمانة" أي ملتبسا بها، أي خذه أمانة على أن ترده إليّ، لأن كل شيء اليوم بعدك، وتحت قدمك، ولفظ ابن مردويه فقال: هاكه بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة "فأعطاه إياه فنزلت الآية". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 قال بن ظفر: وهذا أولى بالقبول.   ولفظ ابن مردويه ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، حتى فرغ من الآية. "قال ابن ظفر: وهذا أولى بالقبول" من الخبر السابق. وروى الأزرقي وغيره عن مجاهد: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ عليه الصلاة والسلام منه مفتاح الكعبة ودخلها يوم الفتح، فخرج وهو يتلوها، فدعا عثمان، فدفعه إليه، وقال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينزعها منكم إلا ظالم". قال: وقال عمر: لما خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة، خرج وهو يتلو هذه الآية، ما سمعته يتلوها قبل ذلك، قال السيوطي: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة. انتهى. وروى الأزرقي أيضا نحوه من مرسل بن المسيب وقال: في آخره: "خذوها خالدة تالدة، لا يظلمكموها إلا كافر". وروى ابن عائذ وابن أبي شيبة من مرسل عبد الرحمن بن سابط، أنه صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إلى عثمان، فقال: "خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم ولا ينزعها منكم إلا ظالم". وروى عبد الرزاق والطبراني من طريقه من مرسل الزهري: أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من البيت قال علي: إنا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة ما قوم بأعظم نصيبا منا، فكره صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه. وعند ابن إسحاق عن بعض أهل العلم فقال: "هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء". وفي هذه الأخبار كلها دليل على بقاء عقبهم إلى الآن. قال العلامة الشمس الحطاب المالكي: ولا التفات إلى قول بعض المؤرخين أن عقبهم انقطع في خلافة هشام بن عبد الملك، فإنه غلط لقول مالك: لا يشرك مع الحجبة في الخزانة أحد لأنها ولاية منه صلى الله عليه وسلم ومالك ولد بعد هشام بنحو عشرين سنة. وذكر ابن حزم وابن عبد البر جماعة منهم في زمانهم، وعاشا إلى بعد نصف المائة الخامسة. وكذا ذكر العلامة القلقشندي، وعاش إلى إحدى وعشرين وثمانمائة، ولا دلالة لزاعم انقراضه، في إخدام معاوية الكعبة عبيدا لأن إخدامها غير ولاية فتحها، كما هو معلوم، وكثيرا ما يقع في كلام المؤرخين كالأزرقي والفاكهي ذكر الحجبة، ثم الخدمة، بما يدل على التغاير بينهم. انتهى ملخصا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 وفي رواية لمسلم: دخل عليه الصلاة والسلام هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي فأغلقوا عليهم الباب. قال ابن عمر فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، بين العمودين اليمانيين، وذهب عني أسأله: كم صلى؟   "وفي رواية لمسلم" وكذا للبخاري، ولا وجه لقصر العز وكلاهما من حديث ابن عمر: "دخل عليه الصلاة والسلام" الكعبة عام الفتح، "هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي" زاد مسلم من طريق أخرى ولم يدخلها معهم أحد، ووقع عند النسائي وأحمد زيادة، والفضل بن عباس، "فأغلقوا عليهم الباب". زاد أبو عوانة من داخل، وفي الموطأ فأغلقاها عليه، الضمير لعثمان وبلال ولمسلم، فأجاف عليهم الباب. والجمع أن عثمان هو المباشر لذلك، لأنه من وظيفته، ولعل بلالا ساعده في ذلك، ورواية الجمع يدخل في الآمر بذلك والراضي به، وفي رواية فمكث نهارا طويلا، وأخرى زمانا بدل نهارا، وأخرى فأطال، وكلها في البخاري ولمسلم فمكث فيها مليا، وله أيضا فأجافوا عليهم الباب، وله أيضا فمكث فيها ساعة، "قال ابن عمر" راوي الحديث: "فلما فتحوا كنت أول من ولج". "دخل" وفي رواية، ثم خرج فابتدر الناس الدخول، فسبقتهم. وفي أخرى: وكنت رجلا شابا قويا فبادرت الناس، فبدرتهم. وأخرى: كنت أول الناس ولج على أثره. وأخرى وأجد بلالا قائما بين البابين. وكلها في البخاري. "فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم بين العمودين اليمانيين" بخفة الياء، لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النسب. وجوز سيبويه التشديد، والمحفوظ أنه سأل بلالا كما رواه الجمهور، ولمسلم في رواية أنه سأل بلالا أو عثمان بالشك، ولأبي عوانة والبزار أنه سأل بلالا وأسامة، ولأحمد والطبراني عن ابن عمر أخبرني أسامة أنه صلى فيه ههنا، ولمسلم والطبراني فقلت: أين صلى؟ فقالوا, فإن كان محفوظا، حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل عثمان وأسامة أيضا. ويؤيده رواية مسلم أيضا: ونسيت أن أسألهم كم صلى بصيغة الجمع، وهذا أولى من جزم عياض بوهم رواية مسلم. وكأنه لم يقف على بقية الروايات، "وذهب" غاب "عني أسأله: كم صلى؟ " أي نسيت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 وفي إحدى روايات البخاري:   سؤاله عن عدد صلاته. وللبخاري: فنسيت أن أسأله كم صلى من سجدة أي ركعة، ولذا استشكل الإسماعيلي وغيره ما وقع في الصحيح، من رواية مجاهد عن ابن عمر، فسألت بلالا: أصلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين عن يسارك إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين؛ لأن المشهور عن ابن عمر من رواية نافع وغيره: أنه نسي أن يسأل عن كمية الصلاة، والجواب باحتمال أن ابن عمر اعتمد على القدر المحقق؛ لأن بلالا أثبت له الصلاة، ولم ينقل تنفله عليه الصلاة والسلام نهارا بأقل من ركعتين، فتحقق فعل الركعتين لما استقرئ من عادته، فعلى هذا قوله ركعتين من كلام ابن عمر لا بلال، وقوله: نسيت أن أسأله كم صلى؟ أي لم يتحقق أزاد على الركعتين أم لا؟ ويؤيد هذا ويستفاد منه جمع آخر ما رواه عمر بن شبة من طريق آخر، عن ابن عمر بلفظ: فاستقبلني بلال، فقلت: ما صنع صلى الله عليه وسلم ههنا؟ فأشار بيده أن صلى ركعتين بالسبابة والوسطى، فعلى هذا يحمل على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا، وإنما استفاد منه صلاة ركعتين بإشارته، لا بنطقه. ونقل عياض أن قوله: ركعتين غلط من يحيى بن سعيد لقول ابن عمر: نسيت إلى آخره, وإنما دخل الوهم عليه من ذكر الركعتين مردود، والمغلط هو الغالط، فإنه ذكر الركعتين قبل وبعد، فلم يهم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بذلك حتى يغلط، بل تابعه أربعة من الحفاظ عن شيخه، وتابع شيخه اثنان عن مجاهد، ثم قد ورد ذلك عن عثمان بن طلحة عند أحمد والطبراني، بإسناد قوي، وعن أبي هريرة عند البزار، وعبد الرحمن بن صفوان في الطباني بإسناد صحيح، وعن شيبة بن عثمان عند الطبراني بإسناد جيد، قال: لقد صلى ركعتين عند العمودين. وفي هذا الحديث من الفوائد رواية الصحابي عن الصحابي وسؤال المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء، به والحجة بخبر الواحد، ولا يقال هو أيضا خبر واحد، فكيف يحتج للشيء بنفسه، لأنا نقول: هو فرد ينضم إلى نظائر مثله توجب العلم بذلك، وفيه اختصاص السابق بالبقعة الفاضلة، والسؤال عن العلم والحرص فيه، وفضل ابن عمر لشدة حرصه على تتبع آثاره صلى الله عليه وسلم، ليعمل بها، وأن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عنه صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد الفاضلة، ويحضره من هو دونه، فيطلع على ما لم يطلع عليه؛ لأن أبا بكر وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من بلال ومن ذكر معه لم يشاركوهم في ذلك. انتهى من فتح الباري كله ملخصا. "وفي إحدى روايات البخاري" في كتاب الصلاة حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر، فذكر الحديث، وفيه فسألت بلالا حين خرج: ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه. وليس بين الروايتين مخالفة، لكن قوله في الرواية الأخرى: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل؛ لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ولهذا عقبه البخاري برواية إسماعيل بن أبي أويس التي قال فيها: عمودين عن يمينه. ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه: حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار بعد ذلك، ويرشد إليه قوله: وكان البيت يومئذ. لأن فيه إشعارا بأنه تغير عن هيئته الأولى. ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث.   قال: "وجعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه" بإفراد عمود. فيهما كما هو الثابت في البخاري، "وثلاثة أعمدة وراءه، وليس بين الروايتين" رواية مالك هذه ورواية جويرية عن نافع المروية في البخاري قبلها بلفظ: صلى بين العمودين المقدمين، وبمعناها الرواية التي ساقها المصنف فوقها: بين العمودين اليمانيين، وهي في البخاري من رواية الزهري عن سالم عن أبيه، "مخالفة" فإن معنى البينية جعل واحدا عن يساره وآخر عن يمينه. "لكن قوله في الرواية الأخرى" التي هي رواية مالك، كان اللائق للمصنف أن يقول في بقية هذه الرواية: "وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره، كان اثنين" فينافي قوله: في أولها عمود عن يساره وعمود عن يمينه بإفراد عمود فيهما، "ولهذا عقبه البخاري برواية" شيخه "إسماعيل بن أبي أويس" عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك الأصبحي المدني الصدوق، المتوفى سنة ست وعشرين مائتين، "التي قال فيها" البخاري ما لفظه، وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك فقال: "عمودين عن يمينه" وعمودا عن يساره. "ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه حيث ثنى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمنه صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك" حيث هدم وبني في زمن ابن الزبير، "ويرشد إليه" أي الجمع المذكور "قوله: وكان البيت يومئذ، لأن فيه إشعارًا بأنه تغير عن هيئته الأولى". وقال الكرماني لفظ العمود جنس يحتمل الواحد الاثنين، فهو مجمل بينته رواية عمودين، "ويحتمل أن يقال لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت والثالث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 على غير سمتهما، ولفظ "المقدمين" في إحدى روايات البخاري مشعر به. وفي رواية لمسلم: جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه، عكس رواية إسماعيل، وكذلك قال الشافعي، وبشر بن عمر في إحدى الروايتين عنهما. وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث.   على غير سمتهما". "ولفظ" رواية جويرية عن نافع عن ابن عمر، فسألت بلالا: أين صلى؟ قال: صلى بين العمودين "المقدمين". وللكشميهني: المتقدمين بتاء قبل القاف، وأيا ما كان فهو مثنى، صفة للعمودين لا جمع صفة للرجال كما توهم، "في إحدى روايات البخاري" التي علمتها "مشعر به", قال الحافظ ويؤيده أيضا رواية مجاهد عن ابن عمر، عند البخاري أيضا بلفظ بين الساريتين اللتين عن يسار الداخل، وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه ثم عمود آخر على اليمين، لكنه بعيد، أو على غير سمت العمودين، فيصح قول من قال: جعل عن يمينه عمودين. وقول من قال: جعل عمودا عن يمينه. وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة، فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه. ومن قال عمودين اعتبره "في رواية لمسلم" عن يحيى بن يحيى النيسابوري عن مالك به، وقال "جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه عكس رواية إسماعيل" المذكور. "وكذلك قال" الإمام "الشافعي" في روايته عن مالك "وبشر بن عمر" بن الحكم الزهراني الأزدي، أبو محمد البصري، الثقة، الصدوق، الحافظ، أحد الرواة عن مالك, مات أول سنة سبع ومائتين "في إحدى الروايتين عنهما" عن مالك "وجمع بعض المتأخرين بين هاتين الروايتين باحتمال تعدد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج" بفتح الميم وسكون المعجمة، أي موضع خروج "الحديث" وهو ابن عمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وجزم البيهقي بترجيح روية إسماعيل، ووافقه عليها ابن القاسم والقعنبي وأبو مصعب ومحمد بن الحسن وأبو حذافة وكذلك الشافعي وابن مهدي في إحدى الروايتين عنهما. انتهى ملخصا من فتح الباري.   قال الحافظ: "و" قد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه، فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، "وجزم البيهقي بترجيح رواية إسماعيل، ووافقه عليها" عبد الرحمن "بن القاسم" بن خالد بن جفادة العتقي، أبو عبد الله المصري، الثقة، الفقيه، المشهور. "و" عبد الله بن مسلمة، بن قعنب "القعنبي"، بفتح القاف والنون بينهما مهملة ساكنة آخره موحدة، نسبة إلى جده المذكور البصري، المدني الأصل، وسكنها مدة, الثقة, العابد, كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحدًا، أسمعه مالك نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي، مات بمكة سنة إحدى وعشرين ومائتين، "وأبو مصعب" أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي المدني، الحافظ، الصدوق، الفقيه، شيخ الجماعة، سوى النسائي، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وقد زاد على التسعين. "ومحمد بن الحسن" الشيباني، مولاهم الكوفي، صاحب أبي حنيفة أحد رواة الموطأ وكان من بحور العلم والفقه، وسمع الثوري والأوزاعي ومالكا وغيرهم، ومات سنة تسع وثمانين ومائة. "وأبو حذافة" أحمد بن إسماعيل بن محمد السهمي، سماعه للموطأ صحيح، وخلط في غيره، مات سنة تسع وخمسين ومائتين. "وكذلك الشافعي" الإمام المعروف، حفظ الموطأ وهو ابن عشر، بمكة في تسع ليال، وقيل: في ثلاث، ثم رحل، فأخذه عن مالك، كما في ديباج ابن فرحون "و" عبد الرحمن "بن مهدي" بن حبان، أبو سعيد البصري، اللؤلؤي، الحافظ, روى عن شعبة ومالك والسفيانين والحمادين وخلق, وعنه خلائق منهم: ابن وهب وابن المبارك وابن المديني، وقال: كان أعلم الناس. والإمام أحمد قال: إذا حدث ابن مهدي عن رجل، فهو حجة مات بالبصرة سنة ثمان وتسعين ومائة عن ثلاث وستين سنة. "في إحدى الروايتين عنهما"، عن مالك "انتهى ملخصا من فتح الباري" في باب الصلاة، بين السواري من كتاب الصلاة "و" قال فيه: في كتاب الحج وقع في رواية للبخاري في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 وقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع أن بين موقفه صلى الله عليه وسلم وبين الجدار الذي استقبله قريبا من ثلاثة أذرع، وجزم برفع هذه الزيادة مالك عن نافع فيما أخرجه الدارقطني في الغرائب. ولفظه: وصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع. وفي كتاب مكة للأزرقي، والفاكهي: أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه.   المغازي، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره، وقال: في آخره وعند المكان الذي صلى فيه مرمرة حمراء، وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبنى في زمن ابن الزبير، فأما الآن فإنه، "قد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع" عن ابن عمر، عند البخاري "أن بين موقفه، صلى الله عليه وسلم، وبين الجدار الذي استقبله، قريبا من ثلاثة أذرع". ولفظ البخاري عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا دخل الكعبة، مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر يمشي حتى يكون ما بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه، قريبا من ثلاثة أذرع، فيصلي متوخيا المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، "وجزم برفع هذه الزيادة" التي وقفها موسى بن عقبة، "مالك عن نافع" عن ابن عمر، "فيما أخرجه الدارقطني في الغرائب" من طريق ابن مهدي، وابن وهب وغيرهما، وأبو داود من طريق ابن مهدي كلهم عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، "ولفظه صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع", وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق هشام بن سعد، عن نافع، وهذا فيه الجزم بثلاثة أذرع، لكن رواه النسائي من طريق ابن القاسم عن مالك، بلفظ نحو من ثلاثة أذرع وهي موافقة لرواية ابن عقبة، "وفي كتاب" تاريخ "مكة للأزرقي" نسبة إلى جده الأعلى، فهو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو الغساني أبو الوليد, "والفاكهي" من وجه آخر، "أن معاوية سأل ابن عمر: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: اجعل بينك وبين الجدار ذراعين أو ثلاثة، فعلى هذا ينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك" أي: موضع صلاة المصطفى في البيت، "أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع، فإنه تقع قدماه في مكان قدميه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 صلى الله عليه وسلم إن كانت ثلاثة سواء، أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من ثلاثة أذرع, والله أعلم. وفي رواية عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت دعا في نواحيه كله ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين وقال: "هذه القبلة".   صلى الله عليه وسلم، إن كانت ثلاثة" أذرع، "سواء أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه، إن كان" المحل "أقل من ثلاثة أذرع, والله أعلم" بحقيقة الموضع الذي صلى فيه، وفيه استحباب الصلاة في الكعبة، وهو ظاهر في النفل وألحق الجمهور به الفرض إذ لا فرق وعن ابن عباس: لا تصح الصلاة داخله مطلقا، وعلله بلزوم واستدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها، وقال به بعض المالكية والظاهرية وابن جرير، وقال المازري والمشهور في المذهب منع صلاة الفرض داخلها ووجوب الإعادة. وعن ابن عبد الحكم الإجزاء، وصححه ابن عبد البر وابن العربي، وأطلق الترمذي عن مالك جواز النقل وقيده بعض أصحابه بغير الرواتب، ومن المشكل ما نقله النووي في زوائد الروضة، أن صلاة الفرض داخل الكعبة، إن لم يرج جماعة أفضل منها خارجها. ووجه الإشكال أن الصلاة خارجها متفق على صحتها بين العلماء فكيف يكون المختلف في صحته أفضل من المتفق عليه. انتهى من الفتح جميعه بما ساقه المصنف، فلله در مالك ما أدق نظره حيث استحب النفل داخلها؛ لأنه الواقع منه، صلى الله عليه وسلم، ومنع الفرض لورود الأمر باستقبالها، فخص منه النفل بالسنة فلا يقاس عليه، "وفي رواية عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة، أنه عليه الصلاة والسلام، لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها" جمع ناحية وهي الجهة "ولم يصل فيه حتى خرج" منه، "فلما خرج ركع في قبل البيت". قال الحافظ بضم القاف والموحدة وقد تسن أي مقابله أو ما استقبلك منه، وهو وجهه، وهذا موافق لقول ابن عمر عند الشيخين، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة "ركعتين، وقال: هذه القبلة" الإشارة إلى الكعبة، قيل: المراد بذلك تقرير حكم الانتقال عن بيت المقدس، وقيل: المراد أن حكم من شاهد البيت وجوب مواجهة عينه جزما بخلاف الغائب، وقيل: المراد أن الذي أمرتكم باستقباله، ليس هو الحرم كله ولا مكة ولا المسجد الذي حول الكعبة، بل الكعبة نفسها، أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي هذا موقف الإمام ويؤيده ما رواه البزار من حديث عبد الله بن حبشي الخثعمي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى باب الكعبة وهو يقول: "أيها الناس إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 رواه مسلم. والجمع بينه وبين حديث ابن عمر، أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة كما رواه أحمد والطبراني. بأن أسامة حيث أثبتها اعتمد في ذلك على غيره وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره حين صلى، ويكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسؤال ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا. قال النووي: وقد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال لأنه مثبت فمعه زيادة علم، فوجب ترجيحه. وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فاشتغل أسامة في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء.   الباب قبلة البيت، وهو محمول على البيت لقيام الإجماع على جواز استقبال البيت من جميع جهاته" انتهى. "رواه مسلم" ورواه البخاري عن ابن عباس، لما دخل البيت، ولم يقل: أخبرني أسامة، فلذا عزاه لمسلم، "والجمع بينه" أي بين حديث ابن عباس عن أسامة نفي الصلاة، "وبين حديث ابن عمر أن أسامة أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، كما رواه أحمد والطبراني", وخبر الجمع قوله: "بأن أسامة حيث أثبتها" كما في رواية ابن عمر عنه، "اعتمد في ذلك على غيره" لا على رؤيته، وحيث نفاها أراد ما في علمه لكونه لم يره حين صلى، و"الجمع بين رواية: أنه سأل بلالا، ورواية: أنه سأل أسامة، "بكون ابن عمر ابتدأ بلالا بالسؤل", فأخبره، "ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة، فسأل أسامة أيضا", فلا معارضة بين الروايات. "قال النووي: قد أجمع أهل الحديث على الأخذ برواية بلال" الصلاة في الكعبة، "لأنه مثبت فمعه زيادة علم" لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى "فوجب ترجيحه" لهذين الوجهين على القاعدة، "وأما نفي أسامة فيشبه أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب واشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، فاشتغل أسامة" بالداء "في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه، ثم صلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده واشتغاله بالدعاء". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 وكانت صلاته -عليه الصلاة والسلام- خفيفة فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى. وتعقبوه بما يطول ذكره, وأقرب ما قيل في الجمع: أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة من الكعبة لأمر ندبه إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبت الصلاة بلال لرؤيته لها ونفاها أسامة لعدم رؤيته، ويؤيده ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". ورجاله ثقات.   زاد الحافظ، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة، مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة، "وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام خفيفة" جواب عما يقال اشتغاله لا يمنع "فلم يرها أسامة لإغلاق الباب مع بعده واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها وأخبر بها. انتهى" كلام النووي. "وتعقبوه بما يطول ذكره" لكن قد أقره الحافظ وغيره، "وأقرب ما قيل في الجمع" قول المحب الطبري، يحتمل "أنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة لما غاب عنه أسامة لأمر ندبه" حثه ووجه "إليه، وهو أن يأتي بماء يمحو به الصور التي كانت في الكعبة، فأثبت بلال الصلاة لرؤيته لها، ونفاها أسامة لعدم رؤيته لها، ويؤيده" كما قال الحافظ: "ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة بن زيد، قال: دخلت على رسول الله، في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به", فظاهر هذا أنه حين دخوله، رآه غير مصل، فأرسله ليأتي بالماء فصلى إذ ذاك فلم يره، فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون". وظاهر هذا أنه محاها بيده، وعند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس، ثم أمر بثوب فبل ومحا به صورهما، أي إبراهيم وإسماعيل، ثم دعا بزعفران فلطخ تلك التماثيل، وقد مر عن الفتح حمل حديث أسامة هذا ونحوه على أنه بقيت منه بقية، خفيت عمن محاها أولا، فلا ينافي ما رواه أبو داود وغيره أنه، صلى الله عليه وسلم أمر عمر وهو بالبطحاء، أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها حتى محيت الصور ومر مزيد حسن لذلك قريبا، "ورجاله ثقات" نحوه، قول الحافظ: هذا إسناد جيد. قال القرطبي: فلعل أسامة استصحب النفي بسرعة عوده، قال الحافظ: وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر ومنهم من جمع بين الحديثين من غير ترجيح أحدهما على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 وأفاد الأزرقي -في تاريخ مكة- أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه صلى الله عليه وسلم الناس.   الآخر، إما بحمل الصلاة المثتبة على اللغوية، والمنفية على الشرعية ويرده أن تعيين قدر الصلاة في بعض طرقه، يعين الشرعية، لا الدعاء، وإما بحمل الإثبات على التطوع، والنفي على الفرض، قال القرطبي على طريقه المشهور من مذهب مالك، أو أنه دخل البيت مرتين، صلى في إحداهما، ولم يصل في الأخرى، قاله المهلب. وقال ابن حبان الأشبه أنه، لما دخل في الفتح صلى، ولما حج دخلها ولم يصل، ورده النووي بأنه لا خلاف أنه دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان، عن غير واحد من أهل العلم، أنه، صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حج فلم يدخلها، وإذا كان كذلك فلا يمتنع أنه دخلها عام الفتح مرتين، ويكون المراد، بالوحدة التي في خبر ابن عيينة، وحدة السفر لا الدخول، وعند الدارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. انتهى ملخصا. "وأفاد الأزرقي في تاريخ مكة، أن خالد بن الوليد كان على باب الكعبة يذب" بضم المعجمة يمنع "عنه، صلى الله عليه وسلم الناس" وهو في داخل الكعبة، قال الحافظ: وكأن خالدا جاء بعدما دخل، صلى الله عليه وسلم انتهى. قال الواقدي: ثم خرج والمفتاح في يده، ثم جعله في كمه، وخالد يذب الناس حتى خرج، فقال على باب البيت، فخطب. وروى أبو يعلى عن ابن عباس، والبيهقي عن ابن إسحاق، وعروة وابن أبي شيبة عن أبي سلمة، وغيرهم أنه، صلى الله عليه وسلم لما حانت الظهر أمر بلالا أن يؤذن فوق الكعبة، ليغيظ المشركين وقريش فوق رؤوس الجبال، وقد فر جماعة من وجوههم وتغيبوا، وأبو سفيان وعتاب وخالد ابنا أسيد، والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة، وأسلموا بعد. فقال عتاب وخالد: لقد كرم الله أسيدا أن لا يسمع هذا فيغيظه، وقال الحرث: أما والله لو أعلم أنه محق، لاتبعته، إن يكن الله يكره هذا، فسيغيره. وقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. وقال بعض بني سعيد بن العاصي: لقد أكرم الله سعيدا أن قبضه، قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاصي: هذا والل الحدث العظيم، أن يصيح عبد بني جمح على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمسة عشرة ليلة، وفي رواية: تسع عشرة. وفي رواية أبي داود: سبع عشرة. وعند الترمذي: ثمان عشرة.   بنية أبي طلحة، فأتى جبريل فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم فخرج عليهم وقال: قد علمت الذي قلتم وأخبرهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول: أخبرك. وروى ابن سعد والحارث بن أبي أسامة وابن عساكر، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم: خرج صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال في نفسه: ما أدري بم يغلبنا محمد؟ فأتاه صلى الله عليه وسلم، فضرب صدره, وقال: "بالله نغلبك". فقال: أشهد أنك رسول الله. وروى الحاكم وتلميذه البيهقي عن ابن عباس، وابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي قالا: رأى أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطئون عقبه، فقال في نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، وجمعت له جمعا، فجاء عليه السلام حتى ضرب في صدره فقال: "إذن يخزيك". فقال: أتوب إلى الله وأستغفر الله ما أيقنت أنك نبي إلا الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك. "وفي البخاري: أنه صلى الله عليه وسلم أقام خمس عشرة ليلة" هذا غلط فإنما وقع هذا في رواية لأبي داود، وضعفه النووي كما يأتي، فلو كانت في البخاري، ما وسعه تضعيفها والذي في البخاري هنا وقبله في أبواب التقصير من طريق عاصم عن عكرمة، عن ابن عباس: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يصلي ركعتين، قال المصنف: بتقديم الفوقية على السين. "وفي رواية" له أيضا هنا عن ابن عباس: أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في سفره "تسع عشرة ليلة" نقصر الصلاة فأفادت أن الأيام في الرواية التي فوقها بلياليها، كما قاله في الفتح، "وفي رواية أبي داود" من هذا الوجه وغيره بلفظ "سبع عشرة" بتقديم السين قال أبو داود وقال عباد بن منصور عن عكرمة تسع عشرة كذا عقله وقد وصلها البيهقي. "وعند الترمذي ثمان عشرة" ورواه أبو داود من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري، عن عبيد الله، عن ابن عباس: أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسع عشرة، عد يومي الدخول والخروج، ومن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 وفي الإكليل: أصحها بضع عشرة يقصر الصلاة. وقال الفاسي.   قال: سبع عشرة، حذفهما ومن قال: ثماني عشرة عد أحدهما، وأما رواية خمس عشرة، فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك، عن عبيد الله كذلك وإذا ثبت أنها صحيحة، فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى من فتح الباري. "وفي الإكليل" للحاكم "أصحها بضع عشرة" لعله من حيث صدقها بالجميع، وإلا فأصحها إسنادا تسع عشرة، كما علم. "يقصر الصلاة" بضم الصاد، وضبطه المنذري بضم الياء وشد الصاد من التقصير؛ لأنه عليه السلام لم ينو الإقامة، بل قصده متى تهيأ له فراغ حاجته رحل، وروى البخاري هنا في باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح قبل هذا الحديث عن أنس، أقمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرا نقصر الصلاة، وكذا رواه في أبواب التقصير, قال الحافظ: ولا معارضة بينهما، فحديث ابن عباس في فتح مكة، وحديث أنس في حجة الوداع، وقول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس؛ لأن عشرة داخلة في تسع عشرة، فيه نظر لأنه إنما يجيء على اتحاد القصتين، الحق أنهما مختلفتان. انتهى باختصار منه في التقصير. وقال في هذا الباب: ظاهر الحديثين التعارض، والذي أعتقده أن حديث أنس إنما هو في حجة الوداع؛ لأنها السفرة التي أقام فيها بمكة عشرا، لدخوله يوم الرابع وخروجه يوم الرابع عشر، ولعل البخاري أدخله في هذا الباب، إشارة إلى ما ذكرت، ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان، ويؤيده رواية الإسماعيلي والبخاري في باب قصر الصلاة بلفظ: فأقام بها عشرا يقصر الصلاة حتى رجع إلى المدينة، فإن مدة إقامتهم في سفرة الفتح حتى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يوما. انتهى. "وقال الفاسي" القاضي تقي الدين محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرحمن المكي الشريف، أبو الطيب الحافظ، ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة، ورحل وبرع ودرس وأفتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 في تاريخ مكة: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان.   وصنف وولي قضاء المالكية بمكة، وأذن له الحافظ العراقي بإقراء الحديث، مات في شوال سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة، قال الحافظ ابن حجر: لم يخلف في الحجاز مثله "في تاريخ مكة" المسمى شفاء الغرام، "كان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان" سنة ثمان، فبعض مدة القصر فيه وبعضها في شوال، وقد أبعد المصنف النجعة، فهذا لفظ ابن إسحاق في السيرة، وروى الإمام أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح عن الحارث بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: "لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة". قال العلماء: يعني بقوله: "لا تغزى على الكفر" قالوا: ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يدع في بيته صنما إلا كسره، والكلام في هذه الغزوة الشريفة يطول، ومرام المصنف، رحمة الله عليه، الاختصار فلنتبعه والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 " هدم العزى ": ثم سرية خالد بن الوليد عقب فتح مكة إلى العزى بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني.   هدم العزى: "ثم سرية" خالد بن الوليد" سيف الله الذي صبه الله على الكفار، "عقب فتح مكة" بخمس ليال لا متصلا به، لكن لما قصرت المدة لا سيما مع شغلهم بتعلقات الفتح، أطلق أنه عقبه "إلى العزى" بضم المهملة وفتح الزاي، قال البغوي: اشتقوها من اسم الله تعالى العزيز، وقيل: العزى تأنيث الأعز. قال مجاهد: هي شجرة. وقال الضحاك: صنم وضعه سعد بن ظالم الغطفاني لما قدم مكة، ورأى أهلها يطوفون بين الصفا والمروة، فأخذ من كل حجر أو نقلهما إلى نخلة، وسماهم الصفا والمروة، ثم أخذ ثلاثة أحجار فأسندها إلى شجرة فقال: هذا ربكم. فجعلوا يطوفون بين الحجرين، ويعبدون الحجارة "بنخلةَ" غير مصروف للعلمية والتأنيث. قال المصنف: وهو موضع على ليلة من مكة، "وكانت" العزى "لقريش وجميع بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 كنانة، وكانت أعظم أصنامهم. لخمس ليال بقين من رمضان، سنة ثمان، ومعه ثلاثون فارسا لهدمها، فلما انتهوا إليها هدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأخبره. فقال: "هل رأيت شيئا"؟ قال: لا. قال: "فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها". فرجع فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس، فجعل السادن.   كنانة", قال ابن إسحاق وابن سعد: وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، قال ابن هشام: حلفاء أبي طالب خاصة، "وكانت أعظم أصنامهم" أجلها بزعمهم الفاسد، لا أنها أعظم جسما من غيرها، وذلك أن عمرو بن لحي أخبرهم أن الرب يشتي عند اللات، ويصيف عند العزى، فعظموها وبنوا لها بيتا، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة، ويعظمونها كتعظيمها، ويطوفون وينحرون عندها، وهم يعرفون فضل الكعبة عليها؛ لأنها بيت إبراهيم ومسجده، "لخمس ليال بقين من رمضان سنة ثمان" كما قاله ابن سعد وغيره، وذكر ابن إسحاق: أنها كانت بعد سرية خالد إلى بني جذيمة، ونظر فيه مغلطاي بأنه صلى الله عليه وسلم كان قد وجد على خالد في أمر بني جذيمة، ولا يتجه إرساله في بعث، وأجاب الشامي بأنه إن صح فوجهه أنه صلى الله عليه وسلم رضي عليه وعذره في اجتهاده. "ومعه ثلاثون فارسا لهدمها". قال ابن إسحاق: فلما سمع سادنها السلمي بسير خالد إليها، علق سيفه وأسند في الجبل الذي هو فيه، وهو يقول: يا عز شدي شدة لا سوى لها ... على خالد ألقي القناع وشمري يا عز إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري "فلما انتهوا إليها هدمها", أي: دم البيت التي هي فيه، وكان على ثلاث سمرات كما رواه البيهقي عن أبي الطفيل، بفتح المهملة وضم الميم فقطعها وهدم البيت وكسر الصنم، "ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأخبره"، فقال: "هل رأيت شيئا" خرج منها حين هدمتها؟ "قال: لا". قال: "فإنك لم تهدمها" الهدم الأبدي المزيل لها حقيقة، فإن الذي فعلته هو إزالة الصورة الظاهرة، وبقي أمر خفي لا تزول إلا بزواله، "فارجع إليها فاهدمها". "فرجع" خالد. قال ابن سعد وهو متغيظ، "فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عجوز عريانة سوداء ثائرة الرأس" بمثلثة، أي منتشرة الشعر. زاد في حديث أبي الطفيل تحثو التراب على رأسها ووجهها "فجعل السادن" بفتح السين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 يصيح بها، فضربها خالد فجزلها اثنتين، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "نعم تلك العزى، وقد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا".   وكسر الدال المهملتين وبالنون الخادم "يصيح بها"، وفي نسخة فيها أي في شأنها وبها، أظهر وهو يقول: يا عزى خبليه يا عزى عوريه ولا تموتي برغم، "فضربها خالد" وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك. وفي تفسير البغوي عن مجاهد وغيره: فضربها بالفاس فقلعها، واجتث أصلها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها "فجزلها" بفتح الجيم وشد الزاي قطعها "اثنتين" قطعتين وفي نسخة باثنتين بباء زائدة للتأكيد، كما قال النووي وغيره في نحوه. واختار الدماميني أنها للمصاحبة وهي ومدخولها ظرف مستقر منصوب المحل على الحال أي فقطعها ملتبسة بقطعتين، ولا مانع من جمع القطع وكونها اثنتين، في حالة واحدة وليس المراد أن انقسامها إلى اثنتين كان ثابتا قبل القطع، وإنما هو معه وبسببه، "ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره"، فقال: "نعم تلك العزى وقد يئست" بفتح التحتية وكسر الهمزة وسكون السين وضم التاء "أن تعبد ببلادكم أبدا"، وقد علمت من نقل البغوي، أنها كانت شيطانة خرجت من أصل الشجرة، وفيه علم من أعلام النبوة، حيث أعلمه أنه لم يهدمها أولا، لأنه لم يزل ما هو الداعي إلى تجديدها، ولعل تلك الشيطانة كانت تكلمهم، أو تظهر لهم، فربما أمرتهم بتجديدها، أو تخبرهم أنها ولو قطعت شجراتها أو كسرت حجارتها، لم تزل عظمتها، وفي خروجها لخالد ثانيا آية أخرى لأنها لم تكن مشاهدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 " هدم سواع ": ثم سرية عمرو بن العاصي إلى سواع   هدم سواع: "ثم سرية عمرو بن العاصي" رضي الله عنه "إلى سواع" بضم السين وفتحها، كما في القاموس قال ابن جرير: سواع ابن شيث بن آدم، لما مات، صورت صورته وعظمت لموضعه من الدين، ولما عهدوا في دعائه من الإجابة، وأولاده يغوث ويعوق ونسر، فلما مات صورت صورهم، فلما خلفت الخلوف، قالوا ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا لأنها ترزق وتنفع وتضر، فاتخذوها آلهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 صنم هذيل على ثلاثة أميال من مكة في شهر رمضان سنة ثمان. قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟ قال: تمنع، فقلت: ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته, ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله.   قال السهيلي: وكان بدء عبادتها في عهد مهلائيل بن قينان قبل نوح، وهي الجاهلية الأولى في أحد القولين، وفي البخاري عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح، في العرب بعد، وهي أسماء قوم صالحين، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسونها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى هلك أولئك، ونسخ العلم، عبدت. "صنم هذيل" بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية وباللام ابن مدركة بن إلياس بن مضر، روي عن ابن عباس: أن الطوفان دفنه، فأخرجه إبليس فعبد وصار لهذيل، وحج إليه. وذكر ابن إسحاق: أنهم أول من اتخذه برهاط بضم الراء قرية جامعة بساحل البحر، "على ثلاثة أميال من مكة في شهر رمضان سنة ثمان" بعد سرية خالد على مفاد التعبير بثم، ولم نر خصوص يوم خروجه، ولا عدة من خرج معه. "قال عمرو" بن العاصي "فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك. فقلت: لم؟ قال: تمنع. فقلت" زاد ابن سعد وغيره حتى الآن أنت على الباطل، "ويحك وهل يسمع أو يبصر" حتى يمنعني، "قال: فدنوت منه فكسرته" زاد ابن سعد وغيره وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته، فلم نجد فيه شيئا، "ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمت لله،" فهداه رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 " هدم مناة ": ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة،   هدم مناة: "ثم سرية" الترتيب ذكرى، لأنها لست بقين من رمضان، وسرية خالد لخمس، وكأنه قدمها للاهتمام، لأنها كانت لقريش "سعد" بسكون العين "ابن زيد الأشهلي إلى مناة" قرأ ابن كثير بالمد والهمزة والعامة بالقصر غير مهموز؛ لأن العرب سمت زيد مناة، وعبد مناة، ولم يسمع فيها المد ووقف عليها بالهاء، وبعضهم بالتاء، وقال بعضهم: ما كتب في المصحف بالتاء، يوقف عليه بالتاء، وما كتب بالهاء، يوقف عليه بالهاء، وأما قوله عز وجل: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} = الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 صنم للأوس والخزرج بالمشلل، في شهر رمضان، حين فتح مكة، فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها، قال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك. فأقبل سعد يمشي إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصنم ومعه أصحابه فهدموه وانصرف راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك لست بقين من رمضان.   فالثالثة نعت لمناة، أي الثالثة للصنمين في الذكر، والأخرى نعت للثالثة، وإن كانت العرب لا تقول للثالثة الأخرى، قال الخليل لو فاق رءوس الآي، كقوله: {مَآرِبُ أُخْرَى} ولم يقل أخر، وقيل: في الآية تقديم وتأخير مجازها: أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، قاله في معالم التنزيل، "صنم للأوس والخزرج" ومن دان بدينهم من أهل يثرب، قاله ابن إسحاق. زاد ابن سعد وغسان أي صنمهم قبل الهجرة، وكذا قول عائشة، كان الأنصار يهلون لمناة، وقال قتادة صنم لخزاعة، وقال الضحاك لها ولهذيل، وقال ابن زيد لبني كعب "بالمشلل" جبل على ساحل البحر يهبط منه إلى قديد، وقالت عائشة: كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد، ومن الغريب ما وقع في معالم التنزيل عن بعضهم، أن اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها، ولو كانت كذلك لأزالها في جملة ما أزاله من الأصنام، وما بعث إليها "في شهر رمضان حين فتح مكة، فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها، وعليها سادن. "قال السادن: ما تريد؟ قال": أريد, أو مرادي "هدم مناة، قال: أنت وذاك" تهكما لظنه أنه لا يقدر عليها، "فأقبل سعد يمشي إليها، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس" بمثلثة منتشرة الشعر، "تدعو بالويل وتضرب صدرها", فقال السادن: مناة دونك بعض عصاتك، "فضربها سعد بن زيد فقتلها، وأقبل إلى الصم ومعه أصحابه فهدموه" ولم يجدوا في خزانته شيئا. "وانصرف راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك لست بقين من رمضان" فكان اللائق تقديمها على العزى، لكنه قدمها عليها تبعا للعيون, وغيرها لتقديمها في الذكر العزيز، وللاهتمام بشأن ذكر هدمها؛ لأنها كانت من أصنام قريش، كما قال أبو سفيان ليلة أسلم: كيف أصنع بالعزى، فقال له عمر: تخرأ عليها كما مر، ثم كون سعد هو المبعوث إليها، هو ما ذكره ابن سعد في طائفة. وقال ابن إسحاق بعث صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب فهدمها، قال ابن هشام: ويقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه وعن بقية الصحابة والتابعين آمين والحمد لله رب العالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، قبيلة من عبد القيس، أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم، في شوال سنة ثمان. وهو يوم الغميصاء. بعثه عليه الصلاة والسلام لما رجع من هدم العزى، وهو صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا، داعيا إلى الإسلام لا مقاتلا، فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحاتنا.   = "ثم سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة" قال الحافظ: بفتح الجيم، وكسر المعجمة، وسكون التحتية، ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، ووهم الكرماني، فظن أنهم من بني جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف، "قبيلة من عبد القيس". انتهى، فعجب من المصنف كيف جزم بما حكم شيخ الحافظ أنه وهم. وكذا قال إمام المغازي ابن إسحاق الجويني: جذيمة من كنانة، وتبعه الإمام اليعمري وغيره، وتحرفت في بعض النسخ الشامية من بالواو، وكانوا كما قال ابن سعد: أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم" الميقات المعروف "في شوال سنة ثمان". قال الحافظ: قبل الخروج إلى حنين، عند جميع أهل المغازي "وهو يوم الغميصاء" بضم الغين المعجمة، وفتح الميم، وسكون التحتية، فصاد مهملة ممدودة، قال في الروض: وتعرف بغزوة الغميصاء وهو اسم ماء لبني جذيمة، وفي القاموس الغميصاء موضع أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة "بعثه عليه الصلاة والسلام لما رجع من هدم العزى وهو صلى الله عليه وسلم مقيم بمكة وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا" من المهاجرين والأنصار وبني سليم، قاله ابن سعد، وقال ابن إسحاق: حدثني حكيم بن حكيم بن عباد عن أبي جعفر يعني الباقر، قال: بعث صلى الله عليه وسلم خالدا، حين افتتح كة داعيا ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب سليم بن منصور ومدلج بن مرة، فوطئوا بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رأوا القوم أخذو السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، وفي هذا الحديث رد على من زعم أنهم من عبد القيس، "داعيا إلى الإسلام له مقاتلا فلما انتهى إليهم قال: ما أنتم" قال البرهان الظاهر: أنه سألهم عن صفتهم، أي أمسلمون أنتم أم كفار؟ ولذا أتى بما دون من أو استعمل ما في العاقل، وهو شائع كمن لغيره وإن كان الأكثر أن من للعاقل وما لغيره، "قالوا": نحن "مسلمين" فنصب بتقدير فعل أو بتقدير الجار، أي نحن من قوم مسلمين كذا الرواية، بالياء في ابن سعد، كما في العيون وفي الشامي مسلمون بالواو، وهي ظاهرة "قد صلينا وصدقنا بمحمد" برسالته وبما جاء به، "وبنينا المساجد في ساحاتنا،" زاد ابن سعد: وأذنا فيها، قال: فما بال السلاح عليكم، قالوا: بيننا وبين قوم من العرب عداوة، فخفنا أن تكونوا هم. قال: فضعوا السلاح، فوضعوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 وفي البخاري: لم يحسنوا أن يقولوا فقالوا: صبأنا. فقال لهم: استأسروا فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضا، وفرقهم في أصحابه، فلما كان السحر، نادى منادي خالد: من كان معه أسير فليقتله، فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أسراهم. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من رجل فقال: "اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد". وبعث عليا فودى لهم قتلاهم.   "وفي البخاري" عن ابن عمر بعث صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، "فلم يحسنوا أن يقولوا ذلك، فقالوا: صبأنا" لفظ البخاري أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا ... الحديث، وعاد المصنف لرواية ابن سعد دون بيان، فيوهم أنها من جملة عزوه للبخاري، وليس كذلك لكنه اتكل على شهرة ذلك، "فقال لهم: استأسروا فاستأسر القوم"، كذا في نسخ العيون برفع القوم فاعل استأسر اللازم، وفي نسخة فاستأسروا بزيادة واو ونصب القوم، وكأنها تحريف إذ يأباها قوله: "فأمر بعضهم فكتف" بفتح التاء مخففة "بعضا" لأنه بيان لقوله استأسروا "وفرقهم في أصحابه"، وفي البخاري: فجعل خالد يقتل منهم، ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيرا، قال الحافظ: فيجمع بينه وبين كلام ابن سعد هذا، بأنهم أعطوا ما بأيديهم بغير محاربة، "فلما كان السحر، نادى منادي خالد: من كان معه أسير فليقتله،" لفظ الرواية فليذافه، والمذافة الإجهاز "بالسيف، فنقلها بالمعنى لأنه لم يقيد بها، "فقتلت بنو سليم من كان بأيديهم، أما المهاجرون والأنصار فأرسلوا" أطلقوا "أسراهم" ولم يذكر أسرى بني مدلج لأن هذا كلام ابن سعد، ولم يذكروا في روايته فأما أنهم لم يثبتوا عنده، أو أراد ببني سليم ما يشملهم. وفي البخاري حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، وكان تامة ويوم بالتنوين، أي زمن لرواية ابن سعد، فلما كان السحر. وأصاب ابن عمر: هم المهجارون والأنصار، وفيه الخلف على نفي فعل الغير، إذ أوثق بطواعيته، كما في الفتح والمصنف، "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من رجل" انفلت منهم، ذكر ابن هشام في زيادته عن بعض أهل العلم، أنه انفلت رجل من القوم، فأتاه صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: "هل أنكر عليه أحد"، قال: نعم رجل أبيض ربعة، فنبهه خالد فسكت، وأنكر عليه آخر طويل مضطرب فراجعه، فاشتدت مراجعتهما، فقال عمر: أما الأول فابني عبد الله، وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد" وبقية حديث ابن عمر عند البخاري، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرناه له، فرفع يديه، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". مرتين، "وبعث عليا فودى لهم قتلاهم" ما ذهب منهم وعند ابن إسحاق من مرسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 قال الخطابي: يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام؛ لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا، وأنكر صلى الله عليه وسلم العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا.   الباقر، ثم دعا عليا، فقال: "يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك"، فخرج حتى جاءهم ومعه مال بعثه به النبي عليه الصلاة والسلام، فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال، حتى إنه ليدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي: فرغ فرغ هل بقي لكم دم أو مال لم يود لكم، قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم بقية هذا المال، احتياطا لرسول الله بما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "أصبت وأحسنت" ثم استقبل صلى الله عليه وسلم القبلة قائما شاهرا يديه، حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". ثلاث مرات. قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه حدث عن إبراهيم بن جعفر المحمودي، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني لقمت لقمة من حيس، فالتذذت بطعمها، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها، فأدخل علي يده فنزعه ". فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله هذه سرية من سراياك تبعثها، فيأتيك منها بعض ما تحب، ويكون في بعضها اعتراض، فتبعث عليا فيسهله. "قال الخطابي: يحتمل أن يكون خالد نقم" بفتح القاف وكسرها لغة، كما في المصباح، أي عاب "عليهم العدول عن لفظ الإسلام لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة ولم ينقادوا إلى الدين، فقتلهم متأولا وأنكر عليه صلى الله عليه وسلم العجلة، وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم: صبأنا" فظن أن مرادهم خرجنا إلى الدين الباطل، مع أن مرادهم من دين إلى دين. قال المصنف: ولم ير عليه قودا؛ لأنه تأول أنه كان مأمورا بقتالهم إلى أن يسلموا انتهى، وقال ابن إسحاق: قال بعض من عذر خالدًا: إنه قال: ما قاتلت حتى أمرني عبد الله بن حذافة السهمي، وقال: إن رسول الله قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعم من الإسلام، قال الحافظ قول ابن عمر راوي الحديث: فلم يحسنوا ... إلخ، يدل على أنه فهم أنهم أرادوا الإسلام حقيقة، ويؤيد فهمه أن قريشا كانوا يقولون لمن أسلم صبا، حتى اشتهرت هذه اللفظة، وصاروا يطلقونها في مقام الذم، ومن ثم لما أسلم ثمامة، وقدم معتمرا قالوا: أصبأت؟ قال: لا, بل أسلمت. فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم في موضع أسلمت، استعملها هؤلاء، وأما خالد، فحمل اللفظة على ظاهرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 ....................................   لأن قولهم: صبأنا، أي خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام، وقال الحافظ: فذكره انتهى وأنت خبير بأن هذا كله إنما هو على رواية الصحيح. وأما على ما في ابن سعد قالوا: مسلمين قد صلينا وصدقنا بمحمد، وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذنا فيها، فلعل خالدا رضي الله عنه تأول أن هذا القول منهم تقية، كما تأول أسامة في السرية المتقدمة، وذكر أهل السير: أن عبد الرحمن بن عوف قال لخالد: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، أخذت بثأر أبيك، قال: كذبت، أنا قتلت قاتل أبي وإنما أخذت بثأر عمك، وكانت بنو جزيمة قتلوا في الجاهلية عوفا والفاكه عم خالد وأخاه الفاكه أيضا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا خالد دع عنك أصحابي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل الله، ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته". وفي مسلم عن أبي سعيد قال: كان بين خالد وبين عبد الرحمن شيء، فسبه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدًا من أصحابي". قال الحافظ: ما حاصله فهذا صريح في أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". رواه الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد: السابقون إلى الإسلام لأن خالدا كان من الصحابة حينئذ، باتفاق. ونهي بعضهم عن سبه من سبقه، يقتضي زجر من لم ير المصطفى ولم يخاطبه بالأولى، فلا حاجة لجواب الكرماني بأن الخطاب لغير الصحابة المفروضين في العقل، تنزيلا لمن سيوجد كالموجود الحاضر. انتهى. ونقل العلامة السبكي عن التاج بن عطاء الله: أنه صلى الله عليه وسلم كان له تجليات، فرأى في بعضها سائر أمته الآتين بعده فخاطبهم بقوله: "لا تسبوا أصحابي" لطيفة وعبرة. روى ابن إسحاق عن أبي حدرد قال: كنت يومئذ في خيل خالد، فقال لي فتى من جذيمة قد جمعت يداه إلى عنقه برمة: يا فتى هل أنت آخذ بهذه الرمة، فعائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردني فتصنع بي ما بدا لكم، فقدمته حتى وقف عليهن، فقال: أسلمي يا حبيش قبل نفاد العيش. أريتك إن طالبتكم فوجدتم ... بحلية أو أدركتم بالخوانق ألم يك أهلا أن ينول عاشق ... تكلف ادلاج السرى والودائق فلا ذنب لي قد قلت إذا أتاها هنا ... أثيبي بود قبل إحدى الصعائق أثيبي بود قبل أن يشحط النوى ... وينأى لأمر بالحبيب المفارق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 ...........................................   فقالت له امرأة منهن: وأنت نجيت عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترا، قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس الأسلمي عن أشياخ منهم عمن حضرها، قالوا: فقامت إليه المرأة حين ضرب عنقه، فأكبت عليه، فما زالت تقبله حتى ماتت عنده. وروى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال: إني لست منهم عشقت امرأة فلحقتها، فدعوني أنظر إليها، ثم اصنعوا بي ما بدا لكم، فإذا امرأة طويلة أدماء، فقال لها: أسلمي حبيش قبل نفاد العيش، وذكر البيتين الأولين، وقال بعدهما، قالت: نعم فديتك، فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة، فوقعت عليه، فشهقت شهقة أو شهقتين، ثم ماتت، فلما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم أخبروه، فقال: "أما كان فيكم رجل رحيم". وأخرجه البيهقي من وجه آخر نحو هذه القصة، وقال في آخرها: فانحدرت إليه من هودجها، فحنت عليه حتى ماتت. قال السهيلي: وحبيش مرخم حبيشة، وحلية بفتح المهملة، وسكون اللام، فتحتية فتاء تأنيث، والخوانق بفتح المعجمة، ونون وقاف موضعان، والودائق جمع وديقة، وهي شدة الحر في الظهيرة. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 " غزوة حنين ": ثم غزا صلى الله عليه وسلم حنينا -بالتصغير- وهو واد قرب ذي المجاز، وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال، قرب الطائف، وتسمى غزوة هوازن.   غزوة حنين: "ثم غزا", أي: قصد "صلى الله عليه وسلم حنينا" أي: أهلها، بالسير لقتالهم "بالتصغير" كما نطق به التنزيل، "وهو واد قرب" نحوه قول الفتح وغيره إلى جنب "ذي المجاز" وهو سوق كان للعرب على فرسخ من عرفة بناحية كبكب، كجعفر جبل وراء الخطيب إذا وقف، كما في القاموس، وبقية هذا القول، كما في الفتح وغيره، قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات، "وقيل: ماء بينه وبين مكة ثلاث ليال قرب الطائف", حكاه في المراصد، قال أبو عبيد البكري: سمي باسم حنين بن قاين بن مهلاييل. قال الشامي: والأغلب عليه التذكير؛ لأنه اسم ماء، وربما أنثته العرب؛ لأن اسم البقعة، فسميت الغزوة باسم مكانها، وفي المصباح مذكر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة، "وتسمى غزوة هوازن، بفتح الهاء وكسر الزاي قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون، ينسبون إلى هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة، بمعجمة ثم مهملة ثم هاء مفتوحات, ابن قيس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض، وحشدوا وقصدوا محاربة المسلمين، وكان رئيسهم مالك بن عوف النصري.   عيلان بعين مهملة ابن إلياس بن مضر، كما في الفتح وغيره سميت بذلك؛ لأنهم الذين أتوا لقتاله صلى الله عليه وسلم. روى الواقدي عن أبي الزناد: أن هوازن أقامت سنة تجمع الجموع، وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم، وغاير المصنف الأسلوب؛ لأن الحاصل منه صلى الله عليه وسلم، لما خرج من مكة مجرد السير، والمناسب له الفعل، والمشار إليه بالتسمية، هو ما حصل للمسلمين مع هوازن ومن معهم، والمناسب له الغزوة، وتسمى أيضا كما في الروض وغيره أوطاس باسم الموضع الذي كانت فيه الوقعة أخيرا، "و" سبب "ذلك" الغزوة "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من فتح مكة وتمهيدها، وأسلم عامة أهلها" أي غالبهم لما يأتي أنه خرج معه ثمانون من المشركين، "مشت أشراف هوازن وثقيف بعضهم إلى بعض" بدل من أشراف، "وحشدوا" بمهملة فمعجمة: اجتمعوا "وقصدوا محاربة المسلمين". قال أهل المغازي: وأشفقوا أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم، وقالوا: قد فرغ لنا، فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا، وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال، فأجمعوا أمركم، فسيروا في الناس، وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فأجمعت هوازن أمرها، "وكان رئيسهم مالك بن عوف", وهو ابن ثلاثين سنة، ويقال: مالك بن عبد الله، والمشهور ابن عوف بن سعد بن يربوع بن واثلة، بمثلثة عند أبي عمر وتحتية عند ابن سعد, ابن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن "النصري،" بالصاد المهملة نسبة إلى جده الأعلى نصر المذكور، أسلم بعد غزوة الطائف، وصحب، وشهد القادسية، وفتح دمشق. ذكر ابن إسحاق: أنه لما انهزم المشركون لحق مالك بالطائف، فلما جاءه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن سألهم عنه، فقالوا: هو مع ثقيف، فقال: "أخبروه أنه إن أتاني مسلما، رددت إليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل" , فأتى مالك بذلك فركب مستخفيا، فأدركه صلى الله عليه وسلم بالجعرانة أو بمكة، فرد عليه أهله وماله وأعطاه المائة وأسلم، وحسن إسلامه، وقال حين أسلم هذا الشعر: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد وإذا الكتيبة عودت أنيابها ... بالسمهري وضرب كل مهند فكأنه ليث على أشباله ... وسط الهباة جاء ذر في مرصد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست خلون من شوال، في اثني عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من أهل المدينة وألفان ممن أسلم من أهل مكة. وهم الطلقاء، يعني: الذين خلى عنهم يوم فتح مكة وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق -فعيل بمعنى مفعول- وهو الأسير إذا أطلق سبيله. واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب بن أسيد.   فاستعمله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وتلك القبائل، فكان يقاتل بهم ثقيفا، لا يخرج لهم سرح، إلا أغار عليه، حتى ضيق عليهم، "فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم السبت لست خلون من شوال", قاله الواقدي وغيره، وقال ابن إسحاق وعروة: لخمس منه واختاره ابن جرير وروي عن ابن مسعود, فأما إنه للاختلاف في هلال الشهر، أو من قال لست عد ليلة الخروج، ومن قال لخمس لم يعدها؛ لأنه لما خرج في صبيحتها، كأنه خرج فيها وقيل: خرج لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم، كما في الفتح وغيره: بأنه بدأ بالخروج في أواخر رمضان، وسار سادس شوال، ووصل إليها في عاشره، "في اثني عشر ألفا من المسلمين عشرة آلاف" الذين خرج بهم "من أهل المدينة" أربعة آلاف من الأنصار، وألف من جهينة، وألف من مزينة، وألف من أسلم، وألف من غفار، وألف من أشجع، وألف من المهاجرين وغيرهم. رواه أبو الشيخ عن محمد بن عبيد بن عمير الليثي، "وألفان ممن أسلم من أهل مكة" قاله ابن إسحاق، ومن وافقه في أن جميع من حضر الفتح عشرة آلاف، فزادوا ألفين، "وهم الطلقاء" الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، "يعني الذين خلى عنهم يوم فتح مكة، وأطلقهم، فلم يسترقهم", بل منَّ عليهم بعدما كانوا مظنة لأن يسترقهم، "وأحدهم طليق فعيل بمعنى مفعول وهو الأسير إذا أطلق سبيله"، فكأنه جعلهم أسرى، مع أنه لم يأسر أحدًا منهم بالفعل، تنزيلا لهم منزلة الأسرى، لقدرته عليهم ومنِّه. قال الشامي: وعلى قول عروة، والزهري, وابن عقبة: يكون جميع الجيش الذين سار بهم أربعة عشر ألفا؛ لأنهم قالوا: قدم مكة باثني عشر ألفا، وأضيف إليهم ألفان من الطلقاء، قال شيخنا: ولا يتعين، بل يجوز أن الألفين الذين لحقوه بعد خروجه من المدينة رجعوا إلى أماكنهم بعد الفتح، وبقي من خرج معه من المدينة خاصة، وانضم إليهم الطلقاء، "واستعمل صلى الله عليه وسلم على مكة عتاب" بفتح المهملة والفوقية المشددة وبالموحدة, "ابن أسيد" بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وسكون التحتية فمهملة, ابن أبي العيص، بكسر المهملة, ابن أمية الأموي المكي، أمير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين، منهم صفوان بن أمية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع بأداتها.   مكة في العهد النبوي، وسنه قريب من عشرين سنة، ومعه معاذ بن جبل، يعلمهم السنن والفقه. وفي الروض قال أهل التعبير: رأى صلى الله عليه وسلم في المنام أسيدا واليا على مكة مسلما، فمات كافرا، فكانت الرؤيا لولده عتاب، حين أسلم ولاه، وهو ابن إحدى وعشرين سن، ورزقه كل يوم درهما، فكان يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم، وقال عند موته: والله ما اكتسبت في ولايتي كلها قميصا معقدا كسوته غلامي كيسان. قال الحافظ: مات عتاب يوم مات الصديق، فيما ذكر الواقدي، لكن ذكر الطبري أنه كان عاملا على مكة لعمر سنة إحدى وعشرين، "وخرج معه صلى الله عليه وسلم ثمانون من المشركين", وابن عقبة والواقدي: خرج معه أهل مكة، لم يغادر منهم أحدا ركبانا ومشاة، حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين، نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم "منهم صفوان بن أمية", وهو يومئذ في المدة التي جعل له عليه السلام الخيار فيها، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه مائة درع", كما رواه أحمد، وأبو داود والنسائي، وابن إسحاق في رواية يونس عنه، عن جابر وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم لما أجمع السير إلى هوازن، ذكر له أن عند صفوان أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه، وهو يومئذ مشرك، فقال: "يا أبا أمية أعرنا سلاحك نلقى فيه عدونا". فقال صفوان: أغصبا يا محمد، فقال: "بل عارية مضمونة حتى نردها إليك". قال: ليس بهذا بأس فأعطى له مائة درع بما فيها من السلاح، فسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها، فحملها إلى أوطاس "بأداتها" الأنسب قول غيره بآلاتها، أي التروس والخوذ ويقال: إنه استعار منه أربعمائة درع بما يصلها، فإن صح، فالمائة داخلة في الأربعمائة، قال في النور: واختلفوا في قوله عارية مضمونة، هل هو صفة موضحة أو مقيدة، فإن قال بالأول كالشافعي، قال: تضمن إذا تلفت، ومن قال: مقيدة، قال: لا إلا الشرط. قال السهيلي: واستعار صلى الله عليه وسلم من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فقال صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين". روى ابن إسحاق والترمذي وصححه، والنسائي عن الحارث بن مالك: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثو عهد بالجاهلية، فسرنا معه، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة يقال لها: ذات أنواط، يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، فرأينا ونحن نسير سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 فوصل إلى حنين ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال. فبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر يأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إليه وقد تفرقت أوصالهم من الرعب. ووجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، فدخل عسكرهم، فطاف به وجاء بخبرهم.   ثلاثا، "قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم". "فوصل إلى حنين" كما رواه أبو نعيم والبيهقي من طريق ابن إسحاق. قال: حدثني أمية بن عبد الله، أنه حدث أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى حنين مساء "ليلة الثلاثاء" كأنه جعلها مضت مع إتيانهم فيها، فقال: "لعشر ليال خلون من شوال" ولم يحسب ليلة السبت مما مضى، فتكون سابعة وإلا فتكون ليلة الثلاثاء تاسعة؛ لأنه إذا حسبه ماضية، فالماضي بعدها ثلاث ليال، "فبعث مالك بن عوف" رئيس المشركين "ثلاثة نفر" من هوزان "يأتونه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. لفظ رواية أمية المذكور ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأمرهم أن يتفرقوا في العسكر، "فرجعوا إليه، وقد تفرقت أوصالهم" أي مفاصلهم جمع وصل بالكسر "من الرعب" بقية الرواية المذكورة، فقال، أي مالك: ويلكم ما شأنكم، فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، والله ما نقاتل أهل الأرض إن نقاتل إلا أهل السماء، وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل الذي رأينا، أصابهم مثل ما أصابنا. فقال: أف لكم بل أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج، ثم رجع إليه، قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله، قال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيض على خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فوالله ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثن ذلك مالكا عن وجهه، "ووجه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حدرد" بمهملات وزان جعفر، واسمه سلامة، وقيل: عبيد بن عمير بن أبي سلامة بن سعد بن سنان بن الحارث بن قيس بن هوازن بن أسلم "الأسلمي" الصحابي ابن الصحابي، المتوفى سنة إحدى وسبعين، وله إحدى وثمانون سنة، وما في نسخ ابن حدرد بإسقاط أبي غلط، "فدخل عسكرهم" كما أمره عليه السلام، "فطاف بهم، وجاء بخبرهم". أخرج ابن إسحاق في رواية الشيباني، عن جابر وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم، أمر عبد الله بن أبي حدرد، فيقيم فيهم، وقال له: اعلم لنا من علمهم، فأتاهم، فدخل فيهم، فأقام فيهم يوما أو يومين، حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 وفي حديث سهل بن الحنظلية -عند أبي داود بإسناد حسن- أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطنبوا السير، فجاء رجل فارس فقال: إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، وإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم، بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدا، إن شاء الله تعالى".   سمع، وعلم ما قد أجمعوا، عليه من حربه صلى الله عليه وسلم وسمع من مالك وأمر هوازن، وما هم عليه. وعند الواقدي أنه انتهى إلى خباء مالك، فيجد عنده رؤساء هوازن، فسمعه يقول لأصحابه: إن محمدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب، فيظهر عليهم، فإذا كان السحر، فصفوا مواشيكم، ونساءكم، وأبناءكم من ورائكم، ثم صفوا، ثم تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم، فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون، واحملوا حملة رجل واحد، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا، فأقبل حتى أتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، فقال لعمر: "ألا تسمع ما يقول"، فقال: كذب، فقال ابن حدرد: لئن كذبتني يا عمر ربما كذبت بالحق، فقال عمر: ألا تسمع ما يقول، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد كنت ضالا فهداك الله" وقوله بعشرين ألف سيف صواب، ويأتي تحقيقه قريبا. "وفي حديث سهل ابن الحنظلية،" هي أمه، أو جدته، أو أم جده، واسم أبيه الربيع، أو عبيد، أو عمر بن عدي، وهو الأشهر, بن زيد بن جشم الأنصاري الأوسي. قال البخاري: صحابي بايع تحت الشجرة، وكان عقيما، لا يولد له، وقال غيره: شهد المشاهد إلا بدرا، توفي في صدر خلافة معاوية، قاله في الإصابة ملخصا، ووقع في نسخ سعد ابن الحنظلية، وهو خطأ، فالذي في الفتح وغيره سهل، وهو الذي "عند أبي داود بإسناد حسن، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" يوم حنين، "فأطنبوا السير" بالغوا فيه حتى كان عشيته، حضرت صلاة الظهر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فجاء رجل فارس" قال الحافظ: هو عبد الله بن أبي حدرد، كما دل عليه حديث جابر عند ابن إسحاق، يعني الحديث المتقدم، "فقال إني انطلقت من بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، وإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم" بفتح الموحدة وسكون الكاف، قاله ابن الأثير، وتبعه غيره، فهو الرواية هنا، وإن كان فتح الكاف لغة، "بظعنهم، ونعمهم، وشائهم" جمع شاة "اجتمعوا إلى حنين، فتبسم صلى الله عليه وسلم"، وقال: "تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى"، وهذا صنعه الله لرسوله، وإن كان قد غيب ذلك على مالك بن عوف، فعند ابن إسحاق وغيره، أن هوازن لما اجتمعت على حرب المصطفى، سألت دريد بن الصمة الرياسة عليها، فقال: وما ذاك، وقد عمي بصري، وما أستمسك على ظهر الفرس، أي لأنه بلغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 وقوله: عن بكرة أبيهم. كلمة للعرب، يريدون بها الكثرة وتوفر العدد، وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا.   مائة وعشرين، أو خمسين، أو وسبعين سنة، أو قارب المائتين، قال: ولكن أحضر معكم لأشير عليكم رأيي، بشرط أن لا أخالف، فإن ظننتم أني مخالف أقمت ولم أخرج، فقالوا: لا نخالفك، وجاءه مالك، وكان جماع أمرهم إليه فقال له: لا نخالفك فيما تراه فقال: تريد أنك تقاتل رجلا كريما، قد أوطأ العرب، وخافته العجم ومن بالشام، وأجلى يهود الحجاز، إما قتلا وإما خروجا عن ذلك وصغار، ويومك هذا الذي تلقى فيه محمدا، ما بعده يوم، قال مالك: إني لأطمع أن ترى ما يسرك، قال دريد: منزلي حيث ترى، فإذا جمعت الناس رست إليك. فلما خرج مالك بالظعن والأموال، وأقبل دريد، قال لمالك: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، وخوار البقر، قال: أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله، يقاتل عنهم، فانتقص به دريد، وقال: راعي ضأن والله ما له وللحرب وصفق بإحدى يديه على الأخرى تعجبا، وقال: هل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك، فضحت في أهلك ومالك، إنك إن لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل، فارتفع الأموال، والنساء، والذراري إلى ممتنع بلادهم، ثم الق القوم على متون الخيل، والرجال بين أصناف الخيل, فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك، وقد أحرزت أهلك ومالك. فقال مالك: والله لا أفعل، ولا أغير أمرا فعلته، إنك قد كبرت، وكبر عقلك، فغضب دريد، وقال: يا معشر هوازن ما هذا برأي، إن هذا فاضحكم في عورتكم، وممكن منكم عدوكم، ولاحق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا وتركوه، فسل مالك سيفه، وقال: إن لم تطيعوني لأقتلن نفسي، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، فمشى بعضهم إلى بعض، فقالوا: لئن عصيناه ليقتلن نفسه وهو شاب، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه، فاجمعوا رأيكم مع مالك، فلما رأى دريد أنهم خالفوه قال: يا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع أقود وطفاء الزمع ... كأنها شاة صدع وطفاء بفتح الواو وسكون المهملة وبالفاء وبالمد، والزمع بفتح الزاي والميم ومهملة، صفة محمودة في الخيل، "وقوله: عن بكرة أبيهم. كلمة العرب يريدون بها الكثرة، وتوفر العدد", وأنهم جاءوا جميعا، لم يتخلف منهم أحد، "وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي التي يستقى عليها الماء، فاستعيرت هنا" أي: استعملت، لا المعنى الاصطلاحي، وكان المراد أن اجتماع بني أب على بكرة أبيهم التي يستقى بها، يلزمها الكثرة عرفا، فأطلق العبارة مريدا لازمها، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 وقوله: بظعنهم. أي: بنسائهم، واحدها ظعينة، وأصل الظعينة الراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: ظعينة لأنها تظعن مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل الظعينة: المرأة التي في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة ظعينة. انتهى. وروى يونس بن بكير في زيادة المغازي عن الربيع قال: قال رجل يوم حنين.   مطلق الكثرة، "وقوله بظعنهم" بضم الظاء المعجمة، والعين المهملة، "أي: بنسائهم واحدها ظعينة، وأصل الظعينة" يقال: "للراحلة التي ترحل ويظعن عليها، أي يسار، وقيل للمرأة،" أي سميت "لأنها تظعن" ترحل "مع زوجها حيثما ظعن، ولأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت", فهي من تسمية المحمول باسم الحامل، "وقيل: الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج، وللهودج بلا امرأة: ظعينة. انتهى". وبقية حديث سهل ابن الحنظلية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "من يحرسنا الليلة"؟. قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، قال: "فاركب". فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة". فلما أصبحنا خرج صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: "هل أحسستم فارسكم" قالوا ما أحسسناه، فوثب بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم يصلي، وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم، قال: "أبشروا، فقد جاءكم فارسكم". فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء حتى وقف عليه، فقال: إني انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كلاهما، فنظرت، فلم أر أحدا فقال صلى الله عليه وسلم: "هل نزلت الليلة" قال: لا إلا مصيبا أو قاضي حاجة، فقال له: "قد أوجبت، فلا عليك أن تعمل بعدها". رواه أبو داود، والنسائي، ونغرن بضم النون، وفتح المعجمة، وشد الراء. "وروى يونس بن بكير" بن واصل الشيباني، أبو بكر الكوفي، الصدوق، الحافظ، عن ابن إسحاق وهشام وخلف، وعنه ابن معين، وغيره مات سنة تسع وتسعين ومائة، "في زيادة المغازي،"لشيخه ابن إسحاق أي فيما زاده على ما رواه عنه، "عن الربيع" بن أنس البكري أو الحنفي البصري، صدوق له أوهام. روى له الأربعة, مات سنة أربعين ومائة أو قبلها، "قال: قال رجل يوم حنين" هو غلام من الأنصار، كما في حديث أنس عن البزار، وقيل: هو مسلمة بن وقش، وقيل: هو رجل من بني بكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء "دلدل" لطيفة.   حكاه ابن إسحاق: "لن نغلب اليوم من قلة، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم" لأن ظاهره الافتخار بكثرتهم والإخبار بنفي الغلبة لانتفاء القلة، فكأنه قال: سبب الغلبة القلة، ونحن كثير فلا نغلب، كما روى الحاكم وصححه، وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم عن أنس، لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم، فقال القوم: اليوم والله نقاتل حين اجتمعنا، فكره صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبهم من كثرتهم، ووقع عند ابن إسحاق: حدثني بعض أهل مكة أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال حين رأى كثرة من معه من جنود الله تعالى: "لن نغلب اليوم من قلة" قال الشامي: والصحيح أن قائل ذلك غيره صلى الله عليه وسلم. وروى الواقدي عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وبه جزم ابن عبد البر. انتهى، وعلى فرض صحة أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله أو الصديق، فليس المراد الافتخار، بل التسليم لله، فالمقصود نفي القلة لا نفي الغلبة، أي إن غلبنا فليس لأجل القلة، بل من الله الذي بيده النصر والخذلان، كما أفاد ذلك الطيبي في حواشي الكشاف، فقال: هذا مثل قوله تعالى: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73] الآية، في أن قوله لم يخروا ليس نفيا للخرور، إنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى، كذلك لن نغلب ليس نفيا للمغلوبية، وإنا هو إثبات ونفي القلة، يعني متى غلبنا، كان سببه عن القلة، هذا من حيث الظاهر، ليس كلمة إعجاب، لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا، "ثم ركب صلى الله عليه وسلم بغلته البيضاء دلدل". قال الحافظ في الفتح: كذا عند ابن سعد، وتبعه جماعة ممن صنف في السير، وفيه نظر لأن دلدل أهداها له المقوقس، وقد روى مسلم عن العباس: أنه صلى الله عليه وسلم كان على بغلة له بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، وله عن سلمة: وكان على بغلته الشهباء. قال القطب الحلبي: يحتمل أن يكون يومئذ ركب كلا من البلغتين، إن ثبت أنها كانت صحبته، وإلا فما في الصحيح أصح، وأغرب النووي، فقال: البيضاء والشهباء واحدة، ولا يعرف به بغلة غيرها، وتعقبوه بدلدل، فقد ذكرها غير واحد، لكن قيل: إن الاسمين لواحدة. انتهى. وهذا القيل زعمه ابن الصلاح وهو مردود بأن البيضاء التي هي الشهباء أهداها له فروة بن نفاثة، بضم النون وخفة الفاء ومثلثة، ودلدل أهداها المقوقس، "لطيفة" قال القطب الحلبي: استشكلت عند الدمياطي ما ذكره ابن سعد، فقال لي: كنت تبعته فذكرت ذلك في السيرة، وكنت حينئذ سيريا محضا، وكان ينبغي لنا أن نذكر الخلاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 ولبس درعين والمغفر والبيضة. فاستقبلهم من هوازن ما لم يروا مثله قط من السواد والكثرة، وذلك في غبش الصبح.   قال الحافظ: ودل هذا على أنه كان يعتقد الرجوع عن كثير مما وافق فيه أهل السير، وخالف الأحاديث الصحيحة، وأن ذلك كان منه قبل تضلعه منها، ولخروج نسخ كتابه، وانتشاره لم يتمكن من تغييره. انتهى. ووقع في رواية لأحمد، وأبي داود وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان يومئذ على فرس، قال الشامي: وهي شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة. قال الواقدي عن شيوخه: لما كان ثلث الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه، فعبأهم في وادي حنين، وهو واد أجوف خطوط ذو شعاب ومضايق، وفرق الناس فيها، وأوعز إليهم أن يحملوا على المسلمين حملة واحدة، وعبأ صلى الله عليه وسلم أصحابه، وصفهم صفوفا في الشجر، ووضع الألوية والرايات في أهلها، "ولبس درعين، والمغفر، والبيضة", واستقبل الصفوف، وطاف عليهم بعضا خلف بعض ينحدرون، فحضهم على القتال، وبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدم خالد بن الوليد في بني سليم، وأهل مكة، وجعل ميمنة، وميسرة وقلبا كان صلى الله عليه وسلم فيه. قال ابن القيم: من تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله لمسبباتها قدرا، وشرعا، فإنه صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق توكلا، وقد دخل مكة، والبيضة على رأسه، ولبس يوم حنين درعين، وقد أنزل الله عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] . وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب تارة بأنه فعله تعليما لأمته، وتارة بأنه قبل نزول الآية، ولو تأمل أن ضمان الله العصمة، لا ينافيه تعاطيه لأسبابها، فإن ضمان ربه لا ينافي احتراسه من الناس، كما أن إخباره تعالى بأنه يظهره على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال، وإعداده العدة، والقوة، ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب والتورية، فكان إذا أراد غزوة وارى بغيرها، وذلك لأنه إخبار من الله عن عاقبة حاله وما له بما يتعاطاه من الأسباب، التي جعلها بحكمته موجبة لما وعده من النصر والظفر، وإظهار دينه وغلبة عدوه. انتهى. "فاستقبلهم من هوازن ما لم يرو مثله قط من السواد والكثرة" لأنهم أزيد من عشرين ألفا، "وذلك في غبش" بفتح المعجمة والموحدة وبالمعجمة قال في القاموس: بقية الليل أو ظلمة آخر، فإضافته إلى "الصبح" الذي هو أول النهار إشارة إلى شدة قربه من الليل حتى كأن ظلمته باقية، وفي حديث جابر عند ابن إسحاق وغيره في عماية الصبح، بفتح المهملة وخفة الميم بقية ظلمته، ولا ينافي هذا ما عند أبي داود وغيره بسند جيد عن أبي عبد الرحمن بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 وخرجت الكتائب من مضيق الوادي، فحملوا حملة واحدة فانكشفت خيل بني سليم مولية وتبعهم أهل مكة والناس. ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب،   يزيد: أنه أتاه صلى الله عليه وسلم حين زالت الشمس قال: "ثم سرنا يومنا فلقينا العدو"؛ لأنه يجمع بأنهم ساروا بقية اليوم، ونزلوا بحنين ليلا، والتقوا بغبش الصبح، "وخرجت الكتائب من مضيق الوادي،" وكانوا فيه كامنين، "فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية" لتقدم كثير ممن لا خبرة له بالحرب، وغالبهم من شبان مكة، "وتبعهم أهل مكة" مؤلفة وغيرهم ممن إسلامه مدخول، قيل: فقالوا: اخذلوه هذا وقته، فانهزموا "والناس" المسلمون. قال الحافظ: والعذر لمن انهزم من غير المؤلفة، أن العدو كانوا ضعفهم في العدد، وأكثر من ذلك. انتهى، بل في النور أنهم كانوا أضعاف المسلمين، وما وقع في البيضاوي والبغوي ونحوهما: أن ثقيف وهوازن كانوا أربعة آلاف إن صح، فلا ينافيه لأنهم انضم إليهم من العرب ما بلغوا به ذلك، فقد مر أنهم أقاموا حولا يجمعون لحربه عليه السلام، لا أنهم باعتبار ما معهم من نساء ودواب يرون ضعفا وأضعاف المسلمين وإن كانوا في نفس الأمر أربعة آلاف، لأن بعده لا يخفى، كما كتبناه عن شيخنا في التقرير، أي لأن فيه رد كلام الحفاظ الثقات الأثبات بلا دليل، فإن أربعة داخلة في الزائد، فلا يصح رد الزائد إليها، بهذا الحمل المتعسف الذي يأباه قول مالك بن عوف تلقونه بعشرين ألف سيف، فإن البهائم لا سيوف معها، ثم كون هذا سبب انكشافم، وأنهم بمجرد التلاقي ولوا مدبرين، هو ما وقع عند ابن سعد وغيره، ورواه ابن إسحاق وأحمد وابن حبان عن جابر: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعوب، وإنما ننحدر فيه انحدارا، وفي عماية الصبح: وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي، فكمنوا في شعابه، وأجنابه، ومضايقه وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن محيطون إلا الكتائب قد شدو علينا شدة رجل واحد، وكانوا رمة، وانحاز صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال: "أيها الناس هلم إلي، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله"، قال: فلأي شيء حملت الإبل بعضه على بعض، فانطلق الناس. وفي حديث البراء عند البخاري، كما يأتي: أن هوازن كانوا رماة، ولما حمل المسلمون عليهم كشفوهم فأكبوا على المغانم، فاستقبلوهم بالسهام، فهذا صريح في أنهم لم يفروا بمجرد التلاقي، بل قاتلوا المشركين حتى كشفوهم، واشتغلوا بالغنيمة وذكر الحافظ السببين ولم يجمع بينهما، "ولم يثبت معه صلى الله عليه وسلم يومئذ إلا العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب". قال أنس: وكان يومئذ أشد الناس قتالا بين يديه، رواه أبو يعلى والطبراني لرجال ثقات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو بكر وعمر وأسامة بن زيد، في أناس من أهل بيته وأصحابه. قال العباس: وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، وفعل ذلك العباس لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه.   "والفضل بن العباس" أكبر ولده، وبه كان يكنى استشهد في خلافة عمر "وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب"، زاد ابن إسحاق في حديث جابر: وأخوه ربيعة وابنه، قال ابن هشام واسمه جعفر، قال: وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ولا يعد ابن أبي سفيان، ويأتي فيه نظر لأن قثما كان صغيرا يومئذ، "وأبو بكر، وعمر، وأسامة بن زيد في أناس من أهل بيته وأصحابه" منهم أيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ. قال الحافظ: وأكثر ما وقفت عليه قول ابن عمر وما معه عليه السلام مائة رجل. وللبخاري عن أنس فأدبروا عنه حتى بقي وحده، ويجمع بينهما بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو والذين ثبتوا معه، كانوا وراءه أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره، كانوا يخدمونه في إمساك البغلة وغير ذلك، ولأبي نعيم في الدلائل تفصيل المائة: بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار. ومن الأنصار من النساء أم سلم وأم حارثة. انتهى، ويأتي مزيد لذلك حيث أعاد الكلام فيه المصنف، "قال العباس" في رواية مسلم وغيره: شهدت يوم حنين، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث، فلم نفارقه ... الحديث, وفيه تولي المسلمين مدبرين، فطفق صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، "وأنا آخذ بلجام بغلته أكفها مخافة أن تصل إلى العدو، فعل ذلك العباس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في نحر العدو", أي: صدره، أي: أوله، "وأبو سفيان بن الحارث آخد بركابه". وفي حديث البراء عند البخاري وغيره وأبو سفيان بن الحارث: آخذ برأس بغلته البيضاء وفي رواية له وابن عمه يقود به. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمامها، فلما ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين، خشي العباس فأخذ بلجامها يكفها، وأخذ أبو سفيان بالركاب، وترك اللجام للعباس، إجلالا له، لأنه عمه. انتهى. قال ابن عقبة: فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو على البغلة يدعو: "اللهم إني أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا". وروى أحمد برجال الصحيح عن أنس كان من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "اللهم إنك إن تشأ لا تعبد بعد اليوم". وعند الواقدي كان من دعائه حين انكشف الناس ولم يبق معه إلا المائة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 وجعل عليه الصلاة والسلام يقول للعباس: "ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة". يعني: شجرة بيعة الرضوان التي بايعوا تحتها، أن لا يفروا عنه. فجعل ينادي تارة يا أصحاب السمرة، وتارة أيا أصحاب سورة البقرة.   الصابرة: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان". فقال له جريل: لقد لقنت الكلمات التي لقن الله تعالى موسى يوم فلق البحر، وكان البحر أمامه وفرعون خلفه. وروى البيهقي عن الضحاك قال: فدعا موسى حين توجه إلى فرعون، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "كنت وتكون، وأنت حي لا تموت، تنام العيون، وتنكدر النجوم، وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، يا حي يا قيوم". والجمع أنه دعا بجميع ذلك، وقوله: "لا تعبد بعد اليوم"؛ لأنه أول يوم لقي فيه المشركين بعد الفتح الأعظم، ومعه المشركون والمؤلفة قلوبهم، والعرب في البوادي كانت تنتظر بإسلامها قريشا، فلو وقع والعياذ بالله تعالى خلاف ذلك، لما عبد الله. وقد روى الواقدي عن قتادة قال: مضى سرعان المنهزمين إلى مكة يخبرون أهلها بالهزيمة، فسر بذلك قوم من أهلها وأظهروا الشماتة، وقال قائلهم: ترجع العرب إلى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه، فقال عتاب بن أسيد، إن قتل محمد فإن دين الله قائم، والذي يعبده محمد حي لا يموت، فما أمسوا حتى جاءهم الخبر بنصره صلى الله عليه وسلم فسر عتاب ومعاذ، وكبت الله من كان يسر خلاف ذلك. وعند اب إسحاق لما رأى من كان معه صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة ما وقع، تكلم رجال بما في أنفسهم، فقال أبو سفيان بن حرب وكان إسلامه بعد مدخولا: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن الأزلام لمعه في كنانته. وصرخ جبلة بن الحنبل، وقال ابن هشام كلدة بن الحنبل: وأسلم بعد ألا بطل السحر اليوم، فقال له أخوه لأمه صفوان بن أمية، هو حينئذ مشرك: اسكت فض الله فاك، لأن يريني رجل من قريش أحب إلي من أن يريني رجل من هوازن، وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة: اليوم أدرك ثأري، أقتل محمدا فأقبل شيء حتى غشي فؤادي فعلمت أنه ممنوع مني، وعند ابن أبي خثيمة، لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار، وسور من حديد فالتفت إليّ صلى الله عليه سلم وتبسم وعرف ما أردت فمسح صدري وذهب عني الشك، "وجعل عليه الصلاة والسلام يقول للعباس: "ناد يا معشر الأنصار ". لأنهم بايعوه ليلة العقبة على عدم الفرار "يا أصحاب السمرة". "يعني: شجرة الرضوان التي بايعوا تحتها على أن لا يفروا عنه", كما في مسلم، بل في البخاري أنهم بايعوه على الموت. وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على هذا وبعضا بايع على هذا وبعضا على ذاك، كما مر مفصلا "فجعل ينادي تارة يا أصحاب السمرة، وتارة يا أصحاب سورة البقرة" خصت بالذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 وكان العباس رجل صيتا, فلما سمع المسلمون نداء العباس أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها. وفي رواية مسلم: قال العباس: فوالله لكأن عطفتهم -حين سمعوا صوتي- عطفة البقر على أولادها. يقولون: يا لبيك، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع انحدر عنه وأرسله، ورجع بنفسه.   حين الفرار لتضمنها {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} ، أو لتضمنها: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} ، أو {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} ، وليس النداء بها اجتهادا من العباس، بل بأمره صلى الله عليه وسلم ففي مسلم وغيره قال العباس: فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس! ناد: يا معشر الأنصار! يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! " , "وكان العباس رجلا صيتا ولذا خصه بالنداء". قيل: كان يسمع صوته من ثمانية أميال، "فلما سمع المسلمون نداء العباس، أقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت على أولادها" حتى نزل صلى الله عليه وسلم كأنه في حرجة، بفتح المهملة والراء وبالجيم، شجر ملتف كالفيضة. قال العباس: فلرماح الأنصار كانت أخوف عندي على رسول الله من رماح الكفار. أخرج البيهقي وغيره، أي لعلمه بحفظ الله له من رماح الكفار، وبعدهم عنه بخلاف رماح الأنصار، خاف أن يصيبه شيء منها بغير قصدهم، لشدة عطفهم عليه ومجيئهم لديه. "وفي رواية مسلم" أيضا: أن الذي قبلها روايته عن العباس: شهدت مع رسول الله يوم حنين ... الحديث, وفيه: وكنت رجلا صيتا، فناديت بأعلى صوتي أين الأنصار أين أصحاب السمرة أين أصحاب سورة البقرة، "قال العباس: فوالله لكان عطفهم" أي إقبالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم "حين سمعوا صوتي عطفة"، أي: حنو "البقر على أولادها" وفي السابقة الإبل فتارة شبههم بها، وتارة بالبقر، والمعنى صحيح، لأنه كان حنوا زائدا، وفيه دليل على أنهم لم يبعدوا حين تولوا، "يقولون: يا" عباس "لبيك يا" عباس "لبيك" فالمنادى محذوف نحو: ألا يا اسلمي, "ألا يا اسجدوا" في قراءة، أي إجابة لك بعد إجابة، ولزوما بطاعتك بعد لزوم، "فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وازدحموا "حتى أن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع" أي لكثرة الأحزاب المنهزمين، كما ذكره ابن عبد البر، "انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه". وفي رواية ابن إسحاق: فأجابوا لبيك لبيك، فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، فيؤم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة، فاقتتلوا مع الكفار، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم فقال: "الآن حمي الوطيس". وهو كما قال جماعة التنور يخبز فيه، يضرب مثلا لشدة الحرب الذي يشبه حرها حره. وهذا من فصيح الكلام الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم. وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض ثم قال: "شاهت الوجوه" أي قبحت.   الصوت حتى ينتهي "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يصدقوا الحملة" على المشركين، فامتثلوا أمره، "فاقتتلوا مع الكفار". وفي رواية ابن إسحاق حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا، فكانت الدعوى أولا للأنصار، ثم خلصت أخيرا للخزرج وكانوا صبرا عند الحرب، "فأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى قتالهم", أسقط من مسلم قوله: وهو على بغلته كالمتطاولة، فقال: "الآن" وفي رواية: "هذا حين". "حمي الوطيس". قال في الروض: من وطست الشيء إذا كدرته، وأثرت فيه، "وهو كما قال جماعة التنور يخبز فيه" وقال ابن هشام: حجارة توقد العرب تحتها النار، ويشوون فيها اللحم وفي الروض الوطيس نقرة في حجر يوقد حوله النار فيطبخ فيه اللحم والوطيس التنور. "يضرب مثلا" بعد نطقه عليه السلام به لأنه أول من قاله، "لشدة الحرب الذي يشبه حرها" ألمها الحاصل منها، "حره" التنور الحاصل من ملاقاته إذ ليس فيها حرارة حسية تشبه بحره، وفي السبل الوطيس شيء كالتنور يخبر فيه شبه شدة الحر به، وقيل: حجارة مدورة إذا حميت منعت الوط عليها، فضرب مثلا للأمر يشتد، "وهذا من فصيح الكلام الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم" كما قاله في الروض وغيره، وتناول صلى الله عليه وسلم حصيات من الأرض" بنفسه، كما روى أبو القاسم البغوي والبيهقي وغيرهما عن شبيه، قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباس ناولني من الحصباء" فأقعد الله تعالى البغلة، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول من البطحاء، فحثى به في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه حم لا ينصرون". ووقع عند أبي نعيم بسند ضعيف عن أنس، أنه كان على بغلته الشهباء دلدل، فقال لها: "دلدل البدي" فألزقت بطنها في بالأرض، فأخذ حفنة من تراب، كذا في هذه الرواية الضعيفة اسمها دلدل، والصحيح أنه كان على فضة، كما مر، ثم قال: "شاهت الوجوه". "أي قبحت" خبر بمعنى الدعاء أي اللهم قبح وجوههم وقال: "شاهت الوجوه" وجوههم ويحتمل أنه خبر، لوثوقه بذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 ورمى بها في وجوه المشركين فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه من تلك القبضة. وفي رواية لمسلم: ثم قبض من تراب الأرض. فيحتمل أنه رمى بذا مرة وبذا مرة أخرى. ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب. ولأحمد وأبي داود والدارمي، من حديث أبي عبد الرحمن الفهري في قصة حنين.   "ورمى بها في وجوه المشركين" زاد مسلم، ثم قال: "انهزموا ورب محمد". ففيه معجزتان: فعلية خبرية، فإنه رماهم بالحصيات وأخبر بهزيمتهم فانهزموا، "فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه" الثنتين "من تلك القبضة". قال البرهان: بضم القاف الشيء المقبوض، ويجوز فتحها انتهى، لكن المناسب هنا الضم اسم للقبض باليد، وفي بقية رواية مسلم هذه عن العباس فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى جدهم كليلا وأمرهم مدبرا فوالله ما رجع الناس، إلا والأسارى عنده صلى الله عليه وسلم مكتفون. "وفي رواية لمسلم" أيضا من حديث سلمة بن الأكوع: فما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، نزل عن البغلة، "ثم قبض قبضة من تراب الأرض" ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأت عينه ترابا تلك القبضة، فولوا منهزمين، "فيحتمل" في الجمع بين روايتي العباس وسلمة، "أنه رمى بذا" الحصى "مرة وبذا" التراب "أخرى، ويحتمل أن يكون أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب". لكن بقي أن في الرواية الأولى أنه لم ينزل عن البغلة، وقد بينا كيف أخذه وهو عليها وفي الثانية أنه نزل وأخذه، ويأتي قريبا أن ابن مسعود ناوله كفا من تراب، وللبزار من حديث ابن عباس أن عليا ناوله التراب يومئذ. قال الحافظ ويجمع بين هذه الأحاديث: بأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحبه: ناولني, فرماهم ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا، فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين، وفي الأخرى التراب. انتهى. أي وأن كلا من ابن مسعود وعلي ناوله، "ولأحمد وأبي داود والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، الحافظ, الثقة، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي، وكذا رواه ابن سعد وابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه والبيهقي رجاله ثقات كلهم "من حديث أبي عبد الرحمن الفهري"، بكسر الفاء الصحابي قيل: اسمه يزيد بن إياس, وقيل: الحارث بن هشام وقيل: عبيد، وقيل: كرز بن ثعلبة شهد حنينا، ثم فتح مصر، كما في الإصابة وغيرها "في قصة حنين" ولفظة: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 قال: فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله أنا عبد الله ورسوله". ثم اقتحم عن فرسه، فأخذ كفا من تراب. قال: فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم الله تعالى.   كنت معه صلى الله عليه وسلم في حنين في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس، لبست لأمتي، وركبت فرسي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في فسطاطه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، قد حان الرواح، قال: "أجل" ثم قال: "يا بلال". فثار من تحت شجرة كأن ظله ظل طائر، فقال: لبيك وسعديك، وأنا فداؤك. قال: "اسرج لي فرسي". فأتى بسرج وقفاه من ليف، ليس فيهما أشر ولا بطر فركب فرسه، ثم سرنا يومنا، فلقينا العدو، وتشاءمت الخيلان فقاتلناهم، "قال: فولى المسلمون" أي أكثرهم، كما مر، ويأتي أنه ثبت معه جماعة نحو المائة. "مدبرين" ذاهبين إلى خلف ضد الإقبال، "كما قال الله تعالى، فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا عبد الله ورسوله أنا عبد الله وسوله". وفي مرسل عكرمة عند أبي الشيخ، فقال: "أنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثلاث مرات. وفي حديث أنس عند أحمد والحاكم وغيرهما قال: جاءت هوازن بالنساء والصبيان، والإبل والغنم فجعلوهم صفوفا ليكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتقى المسلمون والمشركون، فولى المسلمون مدبرين، كما قال تعالى، وبقي صلى الله عليه وسلم وحده، فقال: "يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله"، ونادى صلى الله عليه وسلم نداءين لم يخلط بينهما كلام فالتفت عن يمينه، فقال: "يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله"، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، ثم التفت عن يساره، فقال: "يا معشر الأنصار، أنا عبد الله ورسوله"، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك، فهزم الله المشركين، ولم يضرب بسيف، ولم يطعن برمح، "ثم اقتحم عن فرسه". قال الشامي: هي رواية شاذة، والصحيح أنه كان على بغلة انتهى، ويحتمل أنه عبر عنها بالفرس مجازا لشبهها بها في الإقدام بحيث كان العباس يكفها، ونزوله بعد انخفاضها به وأخذه الحصى ورميهم به، كما مر فلا تنافي. قال العلماء: وفي نزوله عن البغلة، حين غشوه مبالغة في الشجاعة والثبات والصبر، وقيل فعله موأساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين. انتهى، فزعم أن الراوي لم يتأمله تحقيقا لكثرة الناس، وظن بانخفاضها نزوله عنها توهيم للرواة الأثبات بلا داعية، فقد أمكن الجمع بدون توهيم فنزوله عنها ثبات في الصحيحين وغيرهما، "فأخذ كفا من تراب. قال" أبو عبد الرحمن المذكور: "فأخبرني الذي كان أدنى" أقرب "إليه مني أنه ضرب به وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه". فهزمهم الله تعالى". ولأبي يعلى، والطبراني برجال ثقات عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يوم حنين كفا من حصباء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 قال يعلى بن عطاء راويه عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق هنا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد بالجيم. قال في النهاية: وصف الطست وهي مؤنثة بالجديد وهو مذكر، إما لأن تأنيثها غير حقيقي فأوله على الإناء والظرف، أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث كما توصف به المرأة نحو: امرأة قتيل. انتهى. ولأحمد والحاكم من حديث ابن مسعود: فحادت به صلى الله عليه وسلم بغلته، فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله.   أبيض فرمى به، وقال: "هزموا ورب الكعبة" "قال يعلى" بتحتية أوله "ابن عطاء" العامري، ويقال: الليثي الطائفي, الثقة، المتوفى سنة عشرين ومائة أو بعدها، روى له مسلم والأربعة "راويه عن أبي همام" الكوفي عبد الله بن يسار، ويقال: عبد الله بن رافع مجهول من الثالثة، كما في التقريب روى له أبو داود "عن أبي عبد الرحمن الفهري" الصحابي المذكور، ومقول يعلى الموصوف بذلك هو قوله: "فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا", فزاد الفم "وسمعنا صلصلة" صوتا له دوي "من السماء كإمرار الحديد على الطست الجديد بالجيم" تنبيها على قوة الصوت الذي سمعوه، فإن صوت الجديد أقوى من العتيق. "قال في النهاية: وصف الطست، وهي مؤنثة بالجديد، وهو مذكر إما لأن تأنيثها غير حقيقي، فأوله على الإناء والظرف" الواو بمعنى أو، وهذا قد يفهم أن المؤنث الحقيقي لا يصح مع أنه يصح بالتأويل على إرادة الشخص، كما صرحوا به كثيرا إلا أن غير الحقيقي أسهل "أو لأن فعيلا يوصف به المؤنث بلا علامة تأنيث، كما يوصف به المرأة حو: امرأة قتيل. انتهى", وفيه أن الذي يستوى فيه المذكر والمؤنث هو فعيل بمعنى مفعول كقتيل وجريح لا بمعنى فاعل، كقوله: جديد إذ معناه قامت به الجدة، ولذا اعترض من قال ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ، بأنه بمعنى فاعل؛ لأن معناه قام به القرب، "ولأحمد، والحاكم" والطبراني، وأبي نعيم, والبيهقي برجال ثقات "من حديث ابن مسعود" قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، فقمنا على أقدامنا ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله تعالى عليهم السكينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته لم يمض قدما، "فحادت" مالت "به صلى الله عليه وسلم بغلته،" ولعل معناه خرجت عن الاستقامة لأمر أصابها، "فمال السرج" لخروجها عنها في نفسها، "فقلت: ارتفع رفعك الله" خطاب له ودعاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 فقال: ناولني كفا من تراب، فضرب وجوههم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب فولى المشركون الأدبار. وروى أبو جعفر بن جرير بسنده عن عبد الرحمن بن مولى عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة، فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. قال: فانهزمنا وركبوا أكتافنا.   تأدبا، والمراد صاحبه صلى الله عليه وسلم، فقال: "ناولني كفا من تراب" زاد في رواية فناولته، "فضرب" به "وجوهم وامتلأت أعينهم ترابا، وجاء المهاجرون والأنصار سيوفهم بأيمانهم، كأنها الشهب" جمع شهاب، "فولى المشركون الأدبار". روى البخاري في التاريخ والبيهقي عن عمرو بن سفيان قال: قبض صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الحصى، فرمى بها وجوهنا، فما خيل إلينا إلا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا، وعند ابن عساكر عن الحارث بن زيد مثله، ليس في هذا كله ما ينفي قتال الصحابة، فإنهم حين صرخ بهم العباس عادوا فقاتلوا بأمره عليه السلام، وأشرف عليهم، وقال: "الآن حمي الوطيس"، فأخذ القبضة، ورمى بها، فانهزموا، ولا ينافيه ما وقع عند أبي نعيم بسند ضعيف عن أنس بلفظ: فأخ حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: "حم لا ينصرون"، فانهزم القوم وما رمينا بسهم، ولا طعنا برمح؛ لأن نفيهما لا ينفي اجتلادهم بالسيوف، وقد ثبت في حديث شيبة فأقبل المسلمون والنبي يقول: "أنا النبي لا كذب" فجالدوهم بالسيوف، فقال: "الآن حمي الوطيس". "وروى أبو جعفر" محمد "بن جرير" الطبري الحافظ المجتهد "بسنده", وكذا رواه البيهقي وابن عساكر ومسدد كلهم "عن عبد الرحمن بن مولى"، كذا في النسخ وصوابه، كما في رواية المذكور ابن مولى أم برثن، وفي التقريب عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن، بضم الموحدة وسكون الراء بعدها مثلثة مضمومة ثم نون, صدوق من الثالثة، روى له مسلم وأبو داود، "عن رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا" لم يصبروا لقتالنا، "حلب شاة" أي مقدار حلبها، بل ولو أمن رشق النبل ونيتهم العود، "فلما لقيناهم جعلنا نسوقهم" ونحن متبعوهم "في آثارهم". وفي رواية فبينا نحن نسوقهم في أدبارهم، "حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا، فانهزمنا وركبوا أكتافنا" أي تمكنوا منا تمكنا تاما، واتصلوا بنا حتى كأنهم ركبوا أكتافنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 وفي سيرة الدمياطي: كان سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين أكتافهم. وفي حديث جبير بن مطعم: نظرت والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء. والبجاد: بالموحدة والجيم آخره دال مهملة: الكساء، وجمعه: بجد، أراد الملائكة الذين أيدهم الله تعالى بهم،   وفي رواية، وكانت إياها، أي الهزيمة، ولم يعلم هل أسلم بعد هذا الرجل الذي حدث عبد الرحمن أم لا؟ إلا أن ظاهر سياق الحديث إسلامه، ثم كون الرائي للملائكة مشركا؛ لأنه لا يراها على صورة المقاتلة إلا المشرك؛ لأن القصد إرهابهم، فقد أخرج ابن مردويه، والبيهقي وابن عساكر، عن شيبة بن عثمان قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما خرجت إسلاما، ولكن خرجت إتقاء أن تظهر هوازن على قريش، فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت: يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا، قال: "يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر" فضرب بيده في صدري، وقال: "اللهم اهد شيبة". فعل ذلك ثلاث مرات، فوالله ما رفع صلى الله عليه وسلم الثالثة حتى ما أجد من خلق الله تعالى أحب إلي منه، فالتقى المسلمون، فقتل من قتل، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ باللجام، والعباس آخذ بالثغر ... الحديث، فإن صح، فلعل عمر تناوب مع العباس في أخذ اللجام، ولعل حكمة عدم رؤية المسلمين لهم، لئلا يعتمدوا عليهم أو يشتغلوا بالنظر إليهم لكون قتالهم خارقا للعادة، فيفوتهم الاجتهاد في الحرب والثواب المرتب عليه، "وفي سيرة الدمياطي كان سيما" خبر مقدم، أي علامات "الملائكة يوم حنين عمائم أرخوها بين أكتافهم،" كما روى عند الواقدي عن مالك بن أوس بن الحدثان، وقال ابن عباس: كانت عمائم خضرا أخرجه ابن إسحاق والطبراني، فيحتمل أن بعضها خضر، وبعضها حمر. "وفي حديث جبير بن مطعم" عند ابن إسحاق وابن مردويه، وابيهقي وأبي نعيم: "نظرت" قبل هزيمة القوم، أي: المشركين "والناس يقتتلون يوم حنين إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء" نقل بالمعنى، ولفظه رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشك أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم "والبجاد بالموحدة" المكسورة "والجيم" الخفيفة "آخره دال مهملة الكساء، وجمعه بجد أراد الملائكة الذين أيدهم الله تعالى بهم،" لأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض صاروا في ذلك كالبجاد المتصل أجزاؤه بنسجه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 قاله ابن الأثير. وفي البخاري: عن البراء وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم.   وروى الواقدي عن شيوخ من الأنصار قالوا: رأينا يومئذ كالبجاد السود هوت من السماء ركاما، فنظرنا فإذا نمل مبثوث، فإن كان ننفضه عن ثيابنا، فكان نصر الله أيدنا به، قال شيخنا: ولعل نزولهم في صورة النمل ليظهروا للمسلمين فيسألوا عنه، ويتوصلوا بذلك للعلم بهم، فيعلموا أن ذلك من معجزاته، فقوى بذلك إيمانهم. "قاله ابن الأثير". وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: في يوم حنين أيد الله تعالى رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، ويومئذ سمى الله الأنصار مؤمنين، قال الله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] ، وأخرج أيضا عن السدي الكبير في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] ، قال: هم الملائكة, {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، قال: قتلهم بالسيف، "وفي البخاري" في مواضع بطرق "عن" أبي إسحاق السبيعي سمع "البراء" بن عازب، "وسأله رجل من قيس". قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين" وفي رواية له أيضا: أفررتم م النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن الجمع بينهما بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى إخراجه، "فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر" قال النووي: هذا الجواب من بديع الأدب؛ لأن تقديره أفررتم كلكم، فيدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال البراء: لا والله ما فر صلى الله عليه وسلم ولكن جرى كيت وكيت، فأوضح أن فرار من فر لم يكن على نية الاستمرار، وكأنه لم يستحضر الرواية الثانية، ويحتمل أن السائل أخذ التعميم من قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] فبين له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص. انتهى. وفي رواية: أما أنا فأشهد على النبي أنه لم يزل، وفي أخرى: ولا والله ما ولى يوم حنين دبره. وبين سبب التولي بقوله: "كانت" بالتأنيث، كما هو الثابت في البخاري، فما في نسخ: كان بالتذكير تصحيف "هوازن رماة", وللبخاري في الجهاد تكملة لهذا السبب، قال: خرج شبان أصحابه وأخفارهم حسرا، بضم الحاء وشد السين المهملتين، ليس عليهم سلاح، فاستقبلهم جمع هوازن وبنو نصر ما يكادون يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقا ما يكادون يخطئون، "وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا" أي: انهزموا، كما هو روايته في الجهاد، "فأكببنا" بفتح الموحدة الأولى وسكون الثانية بعدها نون، أي وقعنا "على الغنائم" وفي الجهاد فأقبل الناس على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان بن الحارث أخذ بزمامها، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب".   الغنائم "فاستقبلنا" بضم التاء وكسر الموحدة، وفي الجهاد فاستقبلونا "بالسهام" وفي مسلم فرموهم برشق من نبل كأنها رجل جراد، وعنده أيضا عن أنس جاء المشركون بأحسن صفوف رأيت صف الخيل، ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم الإبل، ونحن بشر كثير وعلى خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا وفرت الأعراب، ومن تعلم من الناس، "ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء" التي أهداها له فروة بن نفاثة، كما في مسلم وعند ابن سعد وغيره، على بغلته دلدل وفيه نظر؛ لأن دلدل أهداها له المقوقس، وجمع القطب الحلبي باحتمال أنه ركب كلا منهما يومئذ كما مر، "وأن أبا سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "أخذ بزمامها" أولا، فلما ركضها صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشركين، خشي العباس، فأخذه، وأخذ أبو سفيان بالركاب، كما مر جمعا بينه وبين ما في مسلم، أن العباس كان آخذا بزمامها، وللبخاري في الجهاد فنزل، أي عن البغلة، فاستنصر. وفي مسلم فقال: "اللهم أنزل نصرك". وهو يقول: "أنا النبي لا كذب" قال ابن التين: كان بعض العلماء يفتح الباء ليخرجه عن الوزن، قال الدماميني: وهذا تغيير للرواية بمجرد خيال يقوم في النفس ولا حاجة للعدول عن الرواية؛ لأن هذا لا يسمى شعرا، أي: لما سيذكره المصنف، "أنا ابن عبد المطلب". قال الحافظ: اتفقت الطرق التي أخرجها البخاري لهذا الحديث على سياقه إلى هنا، إلا رواية زهير بن معاوية فزاد في آخرها: ثم صف أصحابه، وفي مسلم قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يحاذيه يعني النبي صلى الله عليه وسلم, قال: وفي الحديث من الفوائد حسن الأدب في الخطاب، والإرشاد إلى حسن السؤال بحسن الجواب، وذم الإعجاب، وفيه الانتساب إلى الآباء ولو ماتوا في الجاهلية، والنهي عنه محمول على ما هو خارج الحرب، ومثله الرخصة في الخيلاء في الحرب دون غيرها، وجواز التعرض إلى الهلاك في سبيل الله تعالى، ولا يقال كان صلى الله عليه وسلم متيقنا بالنصر بوعد الله تعالى له به، وهو حق لأن أبا سفيان بن الحارث قد ثبت معه آخذا بلجام بغلته، وليس هو في اليقين، وقد استشهد في تلك الحالة ابن أم أيمن، كما مر وفي ركوب البغلة إشارة إلى مزيد الثبات؛ لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي، وإذا كان رئيس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار وأخذ أسباب ذلك، كان ذلك أدعى لاتباعه على الثبات، وفيه شهرة الرئيس نفسه في الحرب مبالغة في الشجاعة، وعدم المبالاة بالعدو. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 وهذا فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق، فلا يجوز عليّ الفرار. وأما ما في مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله: "فأرجع منهزما" إلى قوله: "ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما فقال: "لقد رأى ابن الأكوع فزعا" فقال العلماء: قوله منهزما حال من ابن الأكوع, لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح أولا بانهزامه، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم: إنه عليه الصلاة والسلام ما انهزم ولم ينقل أحد قط أنه انهزم في موطن من المواطن. وقد نقلوا إجماع   "وهذا" أي قوله لا كذب "فيه إشارة إلى أن صفة النبوة يستحيل معها الكذب", أي قوله لا كذب، لأنها صفة شريفة، والكذب ذميمة، فهما ضدان لا يجتمعان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه عليه". أخرجه الديلمي عن أبي هريرة، "فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، بل أنا متيقن أن الذي وعدني الله به من النصر حق"؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، "فلا يجوز عليّ الفرار", وقد قال له تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} "وأما ما في رواية مسلم عن سلمة بن الأكوع من قوله": غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلوا ثنية، فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه، بسهم وتوارى عني، فما دريت ما صنع، ثم نظرت إلى القوم، فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى فالتقوا هم والصحابة، فولى الصحابة، "فأرجع" أنا "منهزما" وعلي بردتان مؤتزر بإحداهما مرتد بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعا. وهذا ما أشار إلى أنه حذفه "إلى قوله: ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، فقال: "لقد رأى ابن الأكوع فزعا"، خوفا "فقال العلماء: قوله: منهزما حال من ابن الأكوع، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،" ونسبه للعلماء تنبيها على أنه مجمع عليه، "كما صرح أولا بانهزامه" في قوله: فأرجع منهزما. قال الحافظ: ولقوله من طريق أخرى مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما، وهو على بغلته "ولم يرد" سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم", فلا يرد على إقسام البراء أنه ما ولى، "وقد قالت الصحابة كلهم: إنه عليه الصلاة والسلام ما انهزم", فلا يجوز أن ينقل عن سلمة ما يخالفهم بمجرد لفظ محتمل, دفعته الرواية الأخرى عنه، فهذا من جملة ما استند إليه العلماء في أنه حال من ابن الأكوع، "ولم ينقل أحد قط أنه انهزم في موطن من المواطن، وقد نقلوا إجماع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك عليه، بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو. وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط من المالكية، فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء: أن من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وأن العلامة البساطي تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف في أصل المسألة يعني: حكم الساب، فله وجه، وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته فمشكل. انتهى. وقال بعضهم: وقد كان ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في هذا المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا للنبوة، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة، وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا يصلح لمواطن الحرب في العادة إلا الخيل.   المسلمين", وهو حجة "على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذلك عليه، بل" انتقال مؤكد لما قبله، "كان العباس وأبو سفيان بن الحارث" الهاشميان "آخذين ببغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو" لما ركضها في نحورهم، فنزل عنها، واستنصر، وتقدم ورمى العدو بالتراب، مبالغة في الشجاعة والثبات والصبر، "وقد تقدم في غزوة أحد ما نسب لابن المرابط" محمد بن خلف الإفريقي "من المالكية، فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء، أن من قال أن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل" مبالغة في الرد على توهم نسبة ذلك إليه، حيث جعله ردة على رأي قوم، "وأن العلامة البساطي" محمد بن أحمد بن عثمان، "تعقبه بما لفظه: هذا القائل إن كان يخالف" المالكية "في أصل المسألة، يعني حكم الساب فله وجه"؛ لأنه خرج عن مذهبه لغيره، "وإن وافق على أن الساب لا تقبل توبته" بالنسبة إلى أحكام الدني، بمعنى أنها لا تفيده في نفي قتله؛ لأن حده كالزاني والشارب، "فمشكل" لمخالفته نص مالك وأصحابه أنه يقتل بلا استتابة "انتهى", فكيف يجوز عليه نسبة شيء يرتد ناسبه أو يقتل، ولو تاب على اختلاف العلماء. "وقال بعضهم وقد كان ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في هذا المحل الذي هو موضع الحرب والطعن والضرب تحقيقا للنبوة، لما كان الله تعالى خصه به من مزيد الشجاعة وتمام القوة" وفي الفتح قال العلماء: في ركوبه البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات انتهى، فنسبه المصنف إلى البعض لما فيه من زيادة الإيضاح، لا سيما قوله: "وإلا فالبغال عادة من مراكب الطمأنينة، ولا تصلح لمواطن الحرب في العادة، إلا الخيل" لأنها أشد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 فبين عليه الصلاة والسلام أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس وثقة وتوكلا على الله تعالى، وقد ركبت الملائكة في الحرب معه عليه الصلاة والسلام على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك القتال عرفا دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم في الحرب إلا الخيل، والسر في ذلك أنها المخلوقة للكر والفر بخلاف الإبل. انتهى. وعند ابن أبي شيبة، من مرسل الحكم بن عتيبة لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا أربعة.   الدواب عدوا وفي طبعها الخيلاء في مشيها، والسرور بنفسها ومحبة صاحبها، "فبين عليه الصلاة والسلام" بركوب البغلة "أن الحرب عنده، كالسلم قوة قلب" مفعول لأجله، أي لقوة قلب، "وشجاعة نفس، وثقة" بوعد الذي لا يخلف الميعاد، "وتوكلا على الله تعالى", ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وكفى بالله وكيلا. "وقد ركبت الملائكة في الحرب" شمل إطلاقه هذه الغزوة وغيرها مما ركبت فيه الملائكة "معه عليه الصلاة والسلام على الخيل" البلق، كما مر في حديث شيبة بن عثمان، ومر قول النفر الثلاثة: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فوالله ما نقاتل إلا أهل السماء، وقول سعيد بن جبير: يوم حنين أعز الله رسوله بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وعند الواقدي عن مالك بن أوس بن الحدثان: ولقد رأينا يومئذ رجالا بلقا على خيل بلق، عليها عمائم حمر قد أرخوها على أكتافهم بين السماء والأرض، كتائب كتائب ما يليقون شيئا، ولا نستطيع أن نقاتلهم من الرعب منهم، ويليقون بتحتانيتين بينهما لام مكسورة فقاف "لا غير؛ لأنها بصدد ذلك القتال،" والصالح له الخيل "عرفا، دون غيرها من المركوبات، ولهذا لا يسهم في الحرب إلا للخيل" فيسهم للفرس مثلا فارسه عند الأئمة الثلاثة، لخبر الصحيحين عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم جعل للفرس سهمين، ولصاحبه سهما، وقال أبو حنيفة: له سهم واحد كصاحبه، وأكره أن أفضل بهيمة على مسلم، وأيا ما كان فاتفقوا على أنه لا يسهم إلا للخيل, "والسر في ذلك أنها مخلوقة للكر" على القتال، "والفر" منه عند الاجة، "بخلاف الإبل" والبغال والحمير والفيلة إن قوتل عليها "انتهى". قول بعضهم: "وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة" بفوقية ثم موحدة مصغر, الكندي، أبي محمد الكوفي التابعي، الوسط, الثقة، الثبت, الفقيه, الحافظ، مات سنة ثلاث عشرة، أو أربع عشرة، أو خمس عشرة ومائة. روى له الستة قال: لما ولى الناس يوم حنين، "لم يبق معه عليه الصلاة والسلام إلا أربعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 نفر، ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم: عليّ والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من الجانب الأيسر، وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل. وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل. وفي شرح مسلم للنووي: أنه ثبت معه عليه الصلاة والسلام اثنا عشر رجلا، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق.   نفر، ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي، والعباس بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان" وهؤلاء الهاشميون "وابن مسعود من الجانب الأيسر" كما في نفس هذا المرسل، كما في الفتح وغيره، وكأنه سقط من قلم المصنف، قال: "وليس يقبل نحوه أحد إلا قتل" بقتل الملائكة، على المتبادر من أنه لم يبق إلا هؤلاء الأربعة وبين ما اشتغلوا، وتقدم في حديث أبي عبد الرحمن، فتلقانا عند صاحب البغلة رجال بيض الوجوه حسان. "وفي الترمذي بإسناد حسن من حديث ابن عمر لقد رأيتنا" مفعول أول "يوم حنين" ظرف، "وإن الناس لمولون" جملة، في موضع نصب مفعول رأى الثاني، فاندفع إيراد أنه لا يصح أنها علمية لعدم المفعول الثاني، ولا بصرية لأن شرط مفعولها أن لا يتحد الفاعل والمفعول، بأن يكونا لمتكلم، "وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل". قال الحافظ: هذا أكثر ما وقفت عليه في عدد من ثبت يومئذ، ولأبي نعيم في الدلائل تفصيل المائة بضعة وثلاثون من المهاجرين، والبقية من الأنصار. وروى أحمد والحاكم عن ابن مسعود: أنه ثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار، فكنا على أقدامنا، ولم نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، وهذا لا يخالف حديث ابن عمر، لأنه نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين. انتهى. وروى البيهقي عن حارثة بن النعمان: لقد حرزت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: مائة واحدة. وحكى الواقدي عنه: فما علمت أنهم مائة حتى مررت يوما عليه صلى الله عليه وسلم، وهو ينادي جبريل عند باب المسجد فقال جبريل: من هذا؟ فقال: حارثة بن النعمان، فقال جبريل: هو أحد المائة الصابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه، فأخبرني عليه السلام، فقلت ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك. "وفي شرح مسلم للنووي أنه ثبت معه عليه الصلاة والسلام اثنا عشر رجلا، وكأنه أخذه من قول ابن إسحاق" الذي لم يذكره المصنف، وهو ما رواه عن جابر قال: ثبت معه أبو بكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط وذلك لقوله: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر عنه فاقشعوا وعاشرنا ..................   وعمر, وعلي، والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان وربيعة ابنا الحارث، وابن أبي سفيان، قال ابن هشام: واسمه جعفر، وأسامة وأيمن بن عبيد استشهد، فهؤلاء عشرة، وتقدم في مرسل الحاكم، ذكر ابن مسعود، والثاني عشر يمكن تفسيره بعثمان، فقد روى البزار عن أنس: أن أبا بكر، وعمر، وعثمان وعليا ضرب كل منهم بضعة عشر ضربة، وممن ذكر الزبير بن بكار وغيره: أنه ثبت يومئذ عتبة ومعتب ابنا أبي لهب، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، ونوفل وابن الحارث بن عبد المطلب، وعقيل بن أبي طالب، وشيبة بن عثمان الحجبي، فقد ثبت عنه أنه لما رأى الناس ولوا استدبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله، فأقبل عليه فضربه في صدره وقال له: "قاتل الكفار". فقاتلهم حتى انهزموا، وقثم بن العباس. قال مغلطاي: وفيه نظر لأن المؤرخين قاطبة فيما أعلم عدوه فيمن توفي وهو صغير، فكيف شهد حنينا؟ وعند الواقدي وغيره: من الأنصار أبو دجانة، وأبو طلحة، وحارثة بن النعمان، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير وأبو بشر المازني، ومن نسائهم أم سليم، وأم عمارة، وأم الحارث، وأم سليط. قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه صلى الله عليه وسلم رأى أم سليم، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حامل منه بعبد الله، وقد خشيت أن يضربها الجمل، فأدنت رأسه منها، وأدخلت يدها في خزامه مع الخطام، فقال صلى الله عليه وسلم: "أم سليم"؟. قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل المنهزمين عنك، كما يقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو يكفي الله يا أم سليم". وروى مسلم وغيره عن أنس قال: اتخذت أم سليم خنجرا عام حنين، وكان معها، فقال أبو طلحة: ما هذا؟ قالت: إن دنا مني بعض المشركين، أبج بطنه. فقال أبو طلحة: ألا تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم، فضحك صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله أقتل الطلقاء انهزموا عنك، فقال: "إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم". "ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب أن الذين ثبتوا كانوا عشرة فقط". قال الحافظ: ولعل هذا هو المثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع، فعد فيمن لم ينهزم، "وذلك لقوله نصرنا رسول الله في الحرب تسعة، وقد فر من قد فر عنه" راعى لفظ من فأفرد ومعناها فجمع في قوله "فاقشعوا" أي انكشفوا مطاوع قشع متعديا "وعاشرنا" الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 .... لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع وقد قال الطبراني: الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود، وأما الاستطراد للكثرة فهو كالتحيز إلى فئة.   يعني أيمن بن عبيد، كما في الاستيعاب وغيره "لاقى الحمام" الموت "بنفسه، لما مسه في الله لا يتوجع" حال من مفعول مسه، يعني أنه أصيب في الحرب، ولم يظهر جزعا، ولا تألما، ومحصل ما ذكره المصنف فيمن ثبت أربعة أقوال أربعة دون مائة: اثنا عشر, عشرة، ومر خامس وهو ثمانون, وسادس وهو مائة. رواه البيهقي، وغيره عن حارثة بن النعمان إلا أنه يمكن ترجيع دون مائة إلى الثمانين، كما أشار له الحافظ فلا يعد قولا، فهي خمسة فقط، وجمع شيخنا بحمل الأربعة على ما بقي معه آخذا بركابه، والاثني عشر، والعشرة على المتلاحقين بسرعة، فمن قال: اثنا عشر عد من كان معه أولا فيهم، ومن قال: عشرة أراد الأربعة، وستة ممن أسرع وحمل الثمانين على الذين نكصوا على أعقابهم، ولم يولوا الدبر، والمائة عليهم وعلى من انضم إليهم حين تقدموا إليه عليه السلام، هذا وقد تقدم الاعتذار عمن تولى من غير المؤلفة، بأن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، كما جزم به في الفتح، وكذا حزم في النور بأنهم كانوا أضعاف المسلمين، ولذا تبرأ الشامي في تفسيره للآية مما جزم به غير واحد أنهم كانوا أربعة آلاف، وسبق الاعتذار عنهم باحتمال أن الأربعة آلاف من نفس هوازن، والزائد ممن انضم إليهم من غيرهم، لأنهم أقاموا حولا يجمعون الناس. "وقد قال الطبري" الإمام ابن جرير في الاعتذار عنهم، "الانهزام المنهي عنه هو ما وقع على غير نية العود" بلا عذر، "وأما الاستطراد" أي الفرار في الحرب، "للكثرة فهو كالمتحيز إلى فئة" أي جماعة من المسلمين يستنجد بها فليس انهزاما منهيا عنه، واستعمل الاستطراد بمعنى الفرار مجاز؛ لأنه كما في المصباح الفرار كيدا، ثم يكر عليه وتقدير بلا عذر المدلول عليه بمقابلته بعذر الكثرة ليظهر وجه مقابلته لما قبله، وإلا فلا يخفى أنه من أفراده لشموله، لما إذا نوى أن يعود أو لا نية له والفرار للكثرة، لا يخرج عنهما، وفي العيون فرارهم يوم حنين، قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة وقتالهم معه حتى كان الفتح، ففي ذلك نزل قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] كما قال فيمن تولى يوم أحد: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] وإن اختلف الحال في الوقعتين، وفي الروض لم يجمع العلماء على أنه الكبائر إلا في يوم بدر، وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، ثم أنزل التخفيف في الفارين يوم أحد، وهو قوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} وكذا أنزل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 انتهى. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". فقد قال العلماء: إنه ليس بشعر؛ لأن الشاعر إنما سمي شاعر الوجوه، منها: أنه شعر القول وقصده واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا, والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده، فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا ابن عبد المطلب". ولم يقل: أنا ابن عبد الله، فأجيب: بأن شهرته كانت بجده أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفي في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده عليه الصلاة والسلام.   أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] وفي تفسير ابن سلام كان الفرار يوم بدر من الكبائر، وكذا يكون في ملحمة الروم الكبرى وعند الدجال، وأيضا فقد رجعوا لجيشهم وقاتلوا معه حتى فتح الله عليهم. "انتهى". وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي" حقا، "لا كذب" في ذلك، أو: والنبي لا يكذب، فلست بكاذب حتى أنهزم، "أنا ابن عبد المطلب" مع قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] "فقد قال العلماء" في الجواب عنه: "إنه ليس بشعر؛ لأن الشعر إنما سمي شاعر الوجوه منها أنه شعر القول، وقصده، واهتدى إليه، وأتى به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف" الستة، "أو" من "بعضها لم يكن شعرا، ولا يكون قائله شاعرا والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر، ولا أراده فلا يعد شعرا، وإن كان موزونا" الوا للحال؛ لأن هذا موزون، واقتصر على هذا القول الحافظ، لأنه أعدل الأجوبة، ومنها أن لا يكون شعرا حتى تتم قطعة، وهذه كلمات يسيرة لا تسمى شعرا، وقيل: إنه نظم غيره وكان أنت النبي لا كذب، أنت ابن عبد المطلب، فذكره بلفظ أنا في الموضعين، والممتنع عليه إنشاء الشعر، لا إنشاده، وقيل: هو رجز، وليس من أقسام الشعر، وهذا مردود لأن الجمهور على أن الرجز شعر: "وأما قوله عليه الصلاة والسلام أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل: أنا ابن عبد لله" فانتسب إلى جده دون أبيه، "فأجيب بأن شهرته كانت بجده أكثر من شهرته بأبيه، لأن أباه توفي" شابا، "في حياة أبيه عبد المطلب قبل مولده عليه الصلاة والسلام" على أصح الأقوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد قريش وكان كثير من الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب ينسبونه إلى جده لشهرته، ومنه حديث ضمام بن ثعلبة في قوله: أيكم ابن عبد المطلب، وقيل: غير هذا. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه، وأفضى الناس في القتل إلى الذرية، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك.   "وكان عبد المطلب مشهورا شهرة ظاهرة شائعة", ورزقه الله طول العمر، ونباهة الذكر "وكان سيد قريش، وكان كثير من الناس يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب، ينسبونه إلى جده لشهرته به، ومنه حديث ضمام" بكسر الضاد المعجمة وخفة الميم، "ابن ثعلبة" الصحابي، في قوله" لما قدم المدينة، وأناخ بعيره في المسجد قال: "أيكم ابن عبد المطلب", ولم يقل: ابن عبد الله لشهرته به، وتأتي القصة في الوفود. "وقيل غير هذا" في حكمة انتسابه له دون أبيه، فقيل: لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب رجل يدعو إلى الله، ويهدي الله الخلق على يديه، ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب إليه ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكر سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة، فأراد صلى الله عليه وسلم تنبيه أصحابه، لأنه لا بد من ظهوره، وأن العاقبة لهم لتقوى نفوسهم، إذا عرفوا أنه ثابت غير منهزم. ذكره في الفتح، وفي الروض قال الخطابي: خص عبد المطلب بالذكر في هذا المقام تثتبيتا لنبوته، وإزالة للشك لما اشتهر وعرف من رؤيا عبد المطلب المبشرة به صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت، ولما انبأت به الأحبار والكها، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بد مما وعدت به لئلا ينهزموا عنه، ويظنوا أنه مغلوب، أو مقتول، فالله أعلم، أراد ذلك رسوله أم لا انتهى، فليس من الافتخار بالآباء في شيء وبفرق تسليمه، فهو جائز في الحرب لإرهاب العدو. وقد روى الطبراني: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "أنا ابن العواتك"، ثم لما أقبل المسلمون سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا، قتل الله من قتل من الكفار، وانهزم الأعداء من كل ناحية، وأفاء الله تعالى على رسوله أموالهم، ونساءهم وأبناءهم، وفر مالك بن عوف في ناس من أشراف قومه حتى بلغ حصن الطائف، وأسلم عند ذلك ناس كثير من مكة حين رأوا نصر الله لرسوله، وإعزاز دينه، "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه" من الكفار المنهزمين، فقال: "اجزروهم جزرا" وأومأ بيده إلى الحلق. أخرجه البزار برجال ثقات عن أنس، فامتثلوا أمره، فتبعوهم يقتلونهم، "وأفضى الناس على القتل إلى الذرية، فنهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 وقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. واستلب أبو طلحة.   روى الواقدي: أن سعد بن عبادة جعل يصيح يومئذ بالخزرج ثلاثا، وأسيد بن حضير بالأوس ثلاثا، فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل تأوي إلى يعسوبها. قال أهل المغازي: فحنق المسلمون على المشركين، فقتلوهم حتى أسرع القتل في ذراري المشركين، فبلغه ذلك صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية لا لا تقتل الذرية". ثلاثا, فقال أسيد: يا رسول الله! أليس إنما هم أولاد المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: "أوليس خياركم أولاد المشركين، كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها". وروى أحمد، وأبو داود عن رباح بن ربيع: أنه مر هو والصحابة على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويعجبون من خلقها حتى لحقهم صلى الله عليه وسلم على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها، فقال: "ما كانت هذه لتقاتل"، فقال لأحدهم: "الحق خالدا فقل له: لا تقتل ذرية ولا عسيفا"، وعند ابن إسحاق: "فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا" والعسيف الأجير لفظا ومعنى، وذكر الواقدي عن شيوخ ثقيف: ما زال صلى الله عليه وسلم في طلبنا ونحن مولون، حتى أن الرجل منا ليدخل حصن الطائف، وأنه ليظن أنه على أثره من رعب الهزيمة. وروى البيهقي وغيره عن يزيد بن عامر السوائي، وكان حضر يومئذ فسئل عن الرعب، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فتطن، فيقول: إن كنا نجد في أجوافنا مثل هذا. وروى الواقدي عن مالك بن أوس: حدثني عدة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية من الحصى فما منا أحد إلا يشكو القذى في عينيه ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطساس، ما يهدأ ذلك الخفقان "وقال" صلى الله عليه وسلم يومئذ بعد انقضاء القتال، كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي قتادة: "من قتل قتيلا" أوقع القتل على المقتول، باعتبار ما له كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، "له عليه بينة فله سلبه". قال الحافظ: بفتح المهملة، واللام بعدها موحدة، ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور، وعن أحمد لا تدخل الدابة، وعن الشافعي تختص بأداة الحرب، واتفق الجمهور على أنه لا يقبل قول مدعيه إلا ببينة تشهد له أنه قتله، لمفهوم قوله: "له عليه بينة"، وعن الأوزاعي يقبل بلا بينة، ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفى به. انتهى. "واستلب أبو طلحة" زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاري، الخزرجي من كبار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 وحده ذلك اليوم عشرين رجلا. وقال ابن القيم في الهدى النبوي: كان الله تعالى وعد رسوله إذا فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام، وأن يجمعوا ويتأهبوا لحربه عليه الصلاة والسلام، ليظهر أمره تعالى، وتمام إعزازه لرسوله ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين، وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها، ولا يقاومهم بعد أحد من العرب، فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة.   الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، مات سنة أربع وثلاثين، وقال أبو زرعة الدمشقي: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة "وحده ذلك اليوم" كما رواه أحمد وابن حبان عن أنس: قتل أبو طلحة يومئذ "عشرين رجلا" وأخذ أسلابهم "وقال ابن القيم في الهدي النبوي" في بيان حكمة ما جرى يومئذ: "كان الله قد وعد رسوله" وهو الصادق الوعد "إذا فتح مكة، دخل الناس في دين الله أفواجا، ودانت" طاعت وانقادت "له العرب بأسرها، فلما تم له الفتح المبين اقتضت حكمته تعالى أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام" مديدة "وأن يجمعوا" من قدروا على جمعه، "ويتأهبوا" يجتمعوا بعد ذلك، فهو مغاير "لحربه عليه الصلاة والسلام، ليظهر أمره تعالى وإتمام إعزازه لرسوله، ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرانا" مصدر شكر ككفر، أي اعترافا بنعمه "لأهل الفتح، وليظهر الله تعالى رسوله وعباده المؤمنين، وقهره لهذه الشوكة" شدة البأس، والقوة "العظيمة التي لم يلق المسلمون قبلها مثلها" في الكثرة وشدة البأس. وغاية ما لقوا في أحد ثلاثة آلاف، وكان لهم الظفر ابتداء، لكن لما خالف الرماة موقفهم الذي أمرهم عليه السلام بعدم مفارقته استشه من استشهد إظهارا لأنه لا ينبغي مخالفته في أمر ما، وغاية ما لقوا في الخندق عشرة آلاف، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا. وأما هؤلاء فكانوا أضعاف المسلمين، كما قال البرهان وغيره، وفي كلام ابن القيم: هذا رد على من زعم أنهم كانوا أربعة آلاف، "ولا يقاومهم بعد أحد من العرب" قيد بهم؛ لأنه قاومهم من فارس والروم بعد العهد النبوي أضعاف ونصرهم الله ببركته صلى الله عليه وسلم. قال في الهدى، ولغير ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين "فاقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكسرة" بسين مهملة، عطف مرادف، سوغه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 مع كثرة عَددهم وعُددهم وقوة شوكتهم، ليطأ رءوسا رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخل عليه الصلاة والسلام واضعا رأسه منحنيا على مركوبه تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده، وليبين سبحانه لمن قال: لن نغلب اليوم من قلة، أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأنه من ينصره فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتم بها، فإنه لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر مع بريد أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها. وقد اقتضت حكمته تعالى: أن خلع النصر وجوائزه إنما تفاض على أهل الانكسار، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] .   اختلاف اللفظ "مع كثرة عَددهم" بفتح العين، "وعُددهم" بضمها، "وقوة شوكتهم ليطأ رءوسا رفعت بالفتح" لمكة، والنصر على أهلها، "ولم تدخل بلده وحرمه، كما دخل عليه الصلاة والسلام" فابتلوا بقصة حنين منعا لهم من إظهار الترفع وتنبيها لهم على أن المطلوب منهم التواضع وإظهار الشكر، كما فعل صلى الله عليه وسلم في دخوله "واضعا رأسه منحنيا على مركوبه،" حتى أن ذقنه يكاد يمس سرجه "تواضعا لربه، وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده، ولم يحله لأحد قبله، ولا لأحد بعده", كما قال: "ولو قدر أن يغلبوا الكفار ابتداء لرجع من رجع منهم شامخ الرأس متعاظما" وليبين سبحانه لمن قال لن نغلب اليوم من قلة" بناء عى أن قائلها غيره صلى الله عليه وسلم، كما هو الصحيح وغير الصديق رضي الله عنه، "أن النصر إنما هو من عند الله تعالى، وأن من ينصره" يعينه على عدوه، "فلا غالب له، ومن يخذله" بترك نصره، "فلا ناصر له" بعد خذلانه، كما أنزل الله قبل ذلك في الكتاب العزيز: "وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتم بها، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين، فلما انكسرت قلوبهم أرسلت خلع الجبر", أي بينت لهم علامات النصر الشبيهة بالخلع في إدخال السرور والعز لمن قامت به "مع بريد" أي: رسوله وعلى المؤمنين" فردوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ناداهم العباس بإذنه، {وَأَنْزَلَ جُنُودًا} ملائكة {لَمْ تَرَوْهَا} ، وقد اقتضت حكمته تعالى أن خلع النصر وجوائزه", أي عطاياه جمع جائزة, والمراد ما يترتب على النصر من الفوائد، "إنما تفاض على أهل الانكسار، قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 قال: وبهاتين الغزاتين, أعني: حنينا وبدرا, وقاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين بالحصى فيهما. وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم.   وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5] . قال أعني ابن القيم عقب هذا: وافتتح الله تعالى غزو العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزاة حنين، ولهذا يجمع بين هاتين الغزاتين بالذكر: بدر وحنين وإن كان بينهما سبع سنين، "قال" بعد هذا "وبهاتين الغزاتين" قال المصنف: أعني حنينا وبدرا", وكان اللائق أن يقول: يعني لأن قصده بيان مراد ابن القيم، لحذفه من كلامه ما يرجع اسم الإشارة له، وهو ما ذكرته، ولم يقع في كلامه أعني "قاتلت الملائكة بأنفسها مع المسلمين،" كما هو ظاهر الأحاديث السالفة، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين، كما قدمه المصنف في بدر؛ لأن الله تعالى قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] ولا دلالة فيه على قتال. وفي تفسير ابن كثير المعروف من قتال الملائكة: إنما كان يوم بدر، وقال ابن مرزوق وهو المختار من الأقوال. اتهى، وثالث الأقوال: أنها لم تقاتل في بدر، ولا في غيرها، وإنما كانوا يكثرون السواد، ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك أهل الدنيا، وهذه شبهة دفعها الكفار بريشة من جناحه، سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة معه صلى الله عليه وسلم مع قدرة جبريل على دفع الكفار بريشة من جناحه، فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وتكون الملائكة مددا على عادة الجيوش، رعاية لصورة الأسباب، وسننها التي أجراها الله في عباده، والله فاعل الجميع. انتهى، وقول أبو الحسن الهروي في أرجوزته: كذا لجنس الأنس فضل بادي ... بالعلم والفطنة والجهاد على كرام الملا العباد ... من ساكني السبع العلي الفراد لا يعارضه، لأن قتالهم ليس كقتال الإنس لأن الحاصل منهم القتل لا القتال. وقدم المصنف في بدر أنهم كانوا يعرفون قتل الملائكة بآثار سود في الأعناق والبنان، "ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين بالحصى فيهما،" فانكشفوا ورماهم بالحصى أيضا يوم أحد، لما ولي الناس عنه، فرجعوا القهقري حتى أتوا الجبل، رواه الحاكم بإسناد صحيح عن سعد، وبعد هذا في كلام ابن القيم، "وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم" والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من حرهم، والثانية استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم وأذلت جمعهم حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله، وجبر الله أهل مكة بهذه الغزوة، وفرحهم بما نالوا من النصر والمغنم، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 انتهى. وأمر رسوله الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو، فانتهى بعضهم إلى الطائف، وبعضهم نحو نخلة، وقوم منم إلى أوطاس. واستشهد من المسلمين أربعة: منهم أيمن ابن أم أيمن.   وتمام نعمته تعالى عليهم بما صرفه عنهم من شر من كان مجاورهم من أشرار العرب من هوازن وثقيف بما أوقع بهم من الكسرة، وبما قبض لهم من دخولهم في الإسلام. ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها. "انتهى". كلام ابن القيم "وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو" بعد انهزامهم "فانتهى بعضهم إلى الطائف" كمالك بن عوف في جماعة من أشراف قومه، فإنهم لما انهزموا، وقف على ثنية في شبان أصحابه، فقال: قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم وينتام آخركم، فبصر بهم الزبير، فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنية، وهرب مالك إلى الطائف، ويقال: تحصن في قصر بلية، بلام مكسورة وتحتية خفيفة, على أميال من الطائف، فغزاهم صلى الله عليه وسلم بنفسه، كما يأتي وهدم القصر، "وبعضهم نحو نخلة" فتبعهم خيل المسلمين، ولم تتبع من سلك في الثنايا، فأدرك ربيعة بن رفيع بفاء مصغرا دريد بن الصمة في ستمائة نفس، فقتله فيما جزم به ابن إسحاق، وقال ابن هشام: يقال: إن قاتله عبد الله بن قبيع. وروى البزار بإسناد حسن ما يشعر بأن قاتل دريد هو الزبير، ولفظه عن أنس لما انهزم المشركون انحاز دريد بن الصمة في ستمائة نفس على أكمة، فرأوا كتيبة، فقال: خلوهم لي فخلوهم، فقال: هذه قضاعة ولا بأس عليكم منهم، ثم رأوا كتيبة مثل ذلك، فقال: هذه سليم، ثم رأوا فارسا وحده، فقال: خلوه لي، فقالوا: هذا الزبير بن العوام، وهو قاتلكم، ومخرجكم عن مكانكم هذا، فالتفت الزبير، فرآهم، فقال: علام هؤلاء هنا، فمضى إليهم وتبعه جماعة، فقتلوا ثلاثمائة، وخر رأس دريد بن الصمة، فجفلوا بين يديه، ويحتمل أن ربيعة أو عبد الله كان في جماعة الزبير، فباشر قتله، فنسب إلى الزبير مجازا، وكان دريد من الشعراء المشهورين في الجاهلية، ويقال: إنه كان لما قتل ابن عشرين ومائة سنة، ويقال: ابن ستين ومائة. انتهى من الفتح ملخصا. "وقوم منهم إلى أوطاس" فبعث إليهم أبا عامر، كما يأتي، "واستشهد من المسلمين أربعة منهم أيمن" بن عبيد بن زيد بن عمرو بن خلال الخزرجي، كذا نسبه ابن سعد وابن منده، وأما أبو عمر، فقال الحبشي: وقد فرق ابن أبي خيثمة بين الحبشي وبين ابن أم أيمن وهو الصواب، فإن أيمن الحبشي أحد من جاء مع جعفر بن أبي طالب، قاله في الإصابة، والخزرجي أحد الثابتين، كما مر، وقول ابن إسحاق الهاشمي: يريد بالولاء، وهو المعروف بأنه "ابن أم أيمن" بركة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا.   الحبشية، وكانت تزوجت في الجاهلية بمكة عبيد المذكور لما قدمها، وأقام بها، ثم نقلها إلى المدينة، فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة فتزوجها زيد بن حارثة، قاله البلاذري وغيره، والثاني يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، جمح به فرس له يقال له: الجناح بلفظ جناح الطائر، فقتل، وسراقة بن الحارث الأنصاري وأبو عامر الأشعري، كما عند ابن إسحاق وعند ابن سعد، بدل يزيد بن زمعة رقيم بضم الراء وفتح القاف ابن ثعلبة بن زيد بن لوذان بضم اللام، وسكون الواو وذال معجمة. لكن ابن إسحاق ذكره فيمن استشهد في الطائف، وذكر الواقدي أنه ذكر له صلى الله عليه وسلم: أن رجلا كان بحنين قاتل قتالا شديدا حتى اشتدت به الجراح، فقال: إنه من أهل النار، فارتاب بعض الناس من ذلك، فلما آذته الجراح نحر نفسه بسهم, فأمر صلى الله عليه وسلم بلالا ينادي: "ألا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". والثابت في الصحيح أن ذلك يوم خيبر، كما مر في غزوتها، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف خصوصا ما في الصحيح، فإن كان محفوظا فيمكن أنه وقع ذلك في كلتا الغزاتين لرجلين، وقد تقدم نقل كلام العلماء في قوله: "إنه من أهل النار". بأنه لنفاقه، أو إن لم يغفر الله له، أو إنه استحل قتل نفسه، أو شك في الإيمان لما جرح. فلا يلزم منه أن كل من قتل نفسه يقضى عليه بالنار، أو أنه يدخلها للتطهير، ولا يرد بقوله: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن" لأن المراد لا يدخلها مع السابقين، أو بلا عذاب إلا من كمل إيمانه، ولا بالرجل الفاجر، لأنه يكفي في فجوره عصيانه، "وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا" وقت الحرب، فلا ينافيه حديث أنس عند البزار السابق قريبا: أن الزبير ومن معه قتلوا ثلاثمائة لأنه بعد انهزام الكفار ولا يخالف قوله أكثر قول ابن إسحاق وغيره: "واستحر"1 القتل وهو "بحاء" وراء من الحر، أي: اشتدت الحرب، وكثر من بني مالك من ثقيف، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم. وما رواه البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه: قال: قتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر، لأن الزائد على السبعين ممن اجتمع معهم من الأخلاط. قال ابن إسحاق: وكان راية ثقيف مع ذي الخمار، فقتل فأخذها عثمان بن عبد الله، فقاتل حتى قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبعده الله، فإنه كان يبغض قريشا" , وأسند ابن إسحاق أحمد، وصححه ابن حبان عن جابر قال: ورجل من هوازن أمامهم على جمل له أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه، فاتبعوه فأهوى له علي، ورجل من الأنصار، فضرب علي عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، فضرب الأنصاري الرجل   1 في الأصل: استجر القتل وهو بجيم. وما أثبتناه فيما بين الحاصرتين هو الصواب كما في النهاية 1/ 364. ضربة أطن قدمه بنصف ساقه، فوقع عن رحله، وفيه جواز عقر مركوب العدو إذا كان عونا على قتله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 " غزاة أوطاس ": ثم سرية أبي عامر الأشعري، وهو عم أبي موسى الأشعري، وقال ابن إسحاق: ابن عمه والأول أشهر. بعثه صلى الله عليه وسلم حين فرغ من حنين في طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس -وهو واد في ديار هوازن- وكان معه سلمة بن الأكوع، فانتهى إليهم، فإذا هم مجتمعون فقتل منهم أبو عامر تسع إخوة.   غزوة أوطاس: "ثم سرية أبي عامر" عبيد بن سليم، بتصغيرهما ابن حضار، بفتح المهملة وشد المعجمة فألف فراء, "الأشعري" ذكر ابن قتيبة أنه عمي، ثم أبصر وأنه هاجر إلى الحبشة, قال في الإصابة: فكأنه قدم قديما فأسلم "وهو عم أبي موسى" عبد بن قيس بن سليم "الأشعري" الصحابي المشهور، "وقال ابن إسحاق": هو "ابن عمه، والأول أشهر" كما قاله في الفتح، وقال في النور: هو غلط إنما أبو موسى ابن أخيه. انتهى. لكن في الفتح قول أبي عامر في الصحيح: ابن أخي يرد قول ابن إسحاق، ويحتمل إن كان ضبطه أنه قال له ذلك لكونه أسن منه. انتهى. "بعثه صلى الله عليه وسلم حين فرغ من حنين في طلب الفارين من هوازن يوم حنين إلى أوطاس" صلة الفارين، أي بعثه إلى من فر إلى أوطاس بفتح الهمزة، وسكون الواو، وطاء وسين مهملتين، "وهو" كما قال أبو عبيد البكري: "واد في ديار هوازن" قال: وهناك عسكروا هم وثقيف، ثم التقوا بحنين، وقال عياض: هو موضع حرب حنين، قال الحافظ: هذا الذي قاله، ذهب إليه بعض أهل السير، والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين، ويوضحه ما ذكره ابن إسحاق: أن الوقعة كانت في وادي حنين، وأن هوازن لما انصرفوا صارت طائفة إلى الطائف, وطائفة إلى نخلة، وطائفة إلى أوطاس. هكذا في الفتح عن عياض: حرب بالحاء المهملة، وكذا يأتي اعتراضه عليه، وتصحف على من قرأه قرب بقاف، وأجاب أنه لا يخالف الراجح؛ لأن غاية ما فيه أنه مع مغايرته لحنين قريب منها، "وكان معه سلمة بن الأكوع" الفارس المشهور "فانتهى إليهم، فإذا هم مجتمعون". قال ابن إسحاق: فأدرك بعض من انهزم، فناوشوه القتال، "فقتل منهم أبو عامر تسعة إخوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام، ويقول: اللهم اشهد عليه، ثم برز له العاشر فدعاه إلى الإسلام وقال اللهم اشهد عليه، فقال اللهم لا تشهد عليّ فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم فأفلت, ثم أسلم بعد فحسن إسلامه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: "هذا شريد أبي عامر". ورمى أبا عامر ابنا الحارث: العلاء وأوفى, فقتلاه.   مبارزة بعد أن يدعو كل واحد منهم إلى الإسلام، ويقول: اللهم اشهد عليه" بأني دعوته إلى الإسلام، فلم يجب، كأنه أراد إظهار العذر في قتله، "ثم برز له العاشر". قال ابن سعد: معمما بعمامة صفراء، "فدعاه إلى الإسلام وقال: اللهم اشهد عليه، فقال: اللهم لا تشهد عليّ، فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم فأفلت، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال: "هذا شريد" بالراء، ووقع في خط الحافظ بالهاء بدلها، وهو سبق قلم، فالذي في سيرة ابن إسحاق التي هو ناقل عنها بالراء، وهو الوجيه، وبالهاء لا وجه له، "أبي عامر". هكذا ذكره ابن هشام عمن يثق به، وجزم الواقدي وابن سعد، بأن العاشر المذكور لم يسلم، وأنه قتل أبا عامر، "و" اختلف في قاتل أبي عامر، فقال ابن هشام: حدثني من أثق به، قال: "رمى أبا عامر ابنا الحارث" بن جشم بن معاوية، وهما "العلاء" بفتح العين، "وأوفى" قال الحافظ: وفي نسخة ووافى بدل أوفى، فأصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته، "فقتلاه" فقتلهما أبو موسى، فرثاهما بعضهم بأبيات منها: هما القاتلان أبا عامر وقال ابن إسحاق: زعموا أن سلمة بن دريد بن الصمة هو الذي رمى أبا عامر بسهم، فأصاب ركبته، فقتله قل الحافظ ويؤيده ما روه الطبراني، وابن عائذ بإسناد حسن عن أبي موسى: لما هزم الله المشركين يوم حنين بعث صلى الله عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر وأنا معه، فقتل ابن دريد أبا عامر، فعدلت إليه فقتلته وأخذت اللواء. وعند ابن إسحاق أيضا أنه قتله عاشر الإخوة الذي أسلم بعد، وهذا يخالف الحديث الصحيح في أن أبا موسى قتل قاتل أبي عامر، وهو أولى بالقبول، ولعل الذي ذكره ابن إسحاق شارك في قتله. انتهى، وانتقده الشامي: بأن ما نسبه لابن إسحاق ليس في رواية البكائي، وإنما زاده ابن هشام عن بعض من يثق به، ولم يذكر أن العاشر قتل أبا عامر أصلا، بل قال: رماه أخوان، والحافظ قلد القطب الحلبي دون مراجعة السير، كذا قال: وفيه أن اتفاق مثل هذين الحافظين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 فخلفه أبو موسى الأشعري فقاتلهم حتى فتح الله عليه. وكان في السبي الشيماء أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة.   على نقله لا يتجه رده بما قال، فإن رواة سيرة ابن هشام متعددون، فهو قطعا في رواية يونس الشيباني وإبراهيم بن سعد أو غيرهما عنه، "فخلفه أبو موسى الأشعري" باستخلافه، كما في الصحيح، وبه جزم ابن سعد، فقول ابن هشام: وولى الناس أبا موسى، أي أقروه على استخلاف عمه، "فقاتلهم حتى فتح الله عليه" بأن هزم المشركين، وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا. "وكان في السبي الشيماء" بفتح المعجمة وسكون التحتية، ويقال فيها: الشماء بلا ياء ابنة الحارث بن عبد العزى السعدية، ذكرها أبو نعيم وغيره في الصحابة، وقدمت الخلاف في أن اسمها جدامة بضم الجيم ودال مهملة وميم, أو حذافة بحاء مهملة مضمومة وذال معجمة مفتوحة وفاء, أو خذامة بخاء مكسورة وذال معجمتين, "أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة" من جهة أنه عليه الصلاة والسلام رضع أمها بلبان أبيها. ذكر ابن إسحاق والواقدي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "إن قدرتم على بجاد". رجل من بني سعد "فلا يفلتنكم" وكان أحدث حدثا عظيما: أتاه مسلم فقطعه عضوا عضوا، ثم أحرقه بالنار، فظفروا به، فساقوه وأهله، وساقوا معه الشيماء، وأتعبوها في السير، فقالت: تعلموا والله إني أخت صاحبكم من الرضاعة، فلم يصدقوها، فلما انتهوا بها إليه صلى الله عليه وسلم، قالت: يا رسول الله إني أختك، قال: "وما علامة ذلك" قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك، فعرف العلامة فبسط لها رداءه، فأجلسها عليه، ورحب بها، ودمعت عيناه، وقال لها: "إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك، وترجعي إلى قومك فعلت". فقالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي، فأسلمت, قال ابن إسحاق: فأعطاها جارية، وغلاما اسمه مكحول، فزوجته بها، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، ومكحول صحابي، كما في الإصابة, وعند الواقدي فأعطاها ثلاثة أعبد، وجارية، وأمر لها ببعير أو بعيرين، وقال لها: "ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى الطائف"، فرجعت إليها ووافاها بها، فأعطاها نعما وشاء ولمن بقي من أهل بيتها، وكلمته في بجاد أن يهبه لها، ويعفو عنه، ففعل صلى الله عليه وسلم. هذا وما وقع عند الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم سألها عن أبويها، فأخبرته أنهما ماتا لا يصح, فقد روى أبو داود، وأبو يعلى وغيرهما، عن أبي الطفيل أنه صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة يقسم لحما، فأقبلت امرأة بدوية، فلما دنت منه بسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ قالوا: أمه التي أرضعته، وذكر ابن إسحاق أن زوجها الحارث عاش بعده عليه السلام، والواقدي لا يحتج به إذا انفرد، فكيف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 وقتل قاتل أبي عامر, فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة". وفي البخاري قال -يعني: أبا عامر لأبي موسى الأشعري، لما رمي بالسهم: يابن أخي! أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: يستغفر لي, ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم.   إذا خالف، "وقتل" بالبناء للفاعل عطفا على خلف، أي أبو موسى "قاتل أبي عامر، فقال صلى الله عليه وسلم" لما بلغه: "اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة". ذكره ابن سعد "وفي البخاري" عن أبي موسى الأشعري: لما فرغ صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمي أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، قال أبو موسى: فانتهيت إليه، فقلت: يا عم من رماك؟ فأشار إليّ, فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فلحقته، فلما رآني ولى، فأتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحيي؟ ألا تثبت؟ فكف، فاختلفنا ضربتين بالسيف، فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله قاتلك، قال: فانزع مني السهم، فنزعته فنزا منه الماء "قال: يعني أبا عامر لأبي موسى الأشعري لما رمي بالسهم" هذا كله من المصنف بيان للقائل والمقول له، لحذفه صدر الحديث المذكور "يابن أخي أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام" عني، "وقل له: يستغفر لي". قال المصنف كذا بالياء مصححا عليه: وفي الفرع، فليستغفر بلفظ الطلب والمعنى أن أبا عامر سأل أبا موسى أن يسأل له النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، وأسقط المصنف هنا من البخاري ما لفظه: واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا، "ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم". زاد في رواية ابن عائذ: فلما رآني صلى الله عليه وسلم معي اللواء قال: "يا أبا موسى قتل أبو عامر" , وحذف المصنف من البخاري ما لفظه في بيته على سرير مرمل، وعليه فراش قد أثر، ورمال السرير بظهره وجنبه. قال المصنف: مرمل بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما راء ساكنة، ولأبي ذر: بفتح الراء والميم الثانية مشددة منسوج بحبل ونحوه. انتهى. وجزم الحافظ بضبط أبي ذر، فقال: مرمل براء مهملة، ثم ميم ثقيلة، أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي يضفر بها الأسرة قال ابن التين: أنكره الشيخ أبو الحسن، وقال: الصواب ما عليه فراش، فسقطت ما. انتهى، وهو إنكار عجيب، فلا يلزم من كونه رقد على غير فراش في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر". ورأيت بياض إبطيه, ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك". فقلت: ولي فاستغفر. قال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما". قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى.   قصة عمر أنه لا يكون على سريره دائما فراش. انتهى. من الفتح لكن قال الشامي يؤيد أبا الحسن: وأظنه ابن بطال أو القابسي قول أبي موسى: قد أثر رمال السرير بظهره وجنبه. انتهى، وقد لا يؤيده لرقة الفراش، فلا يمنع تأثير الرمال، فالحاصل على هذا دفع دعوى الخطأ عن الرواية، "فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وأنه قال: قل له استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه" فيه استحباب الوضوء لإرادة الدعاء، ورفع اليدين فيه خلافا لمن خصه بالاستسقاء، وقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر". بدل من عبيد، جمع بين اسمه وكنيته، وفي نسخ لعبيدك بزيادة كاف من تحريف الجهال، فالثابت في البخاري بدون كاف وهو اسمه كما مر، "ورأيت بياض إبطيه", ثم قال: "اللهم اجعله يوم القيامة في الجنة فوق كثير". في المرتبة "من خلقك" من الناس حذفها البخاري، وقال في شرحها بيان للسابقة؛ لأن الخلق أعم، ولأبي ذر: ومن الناس, قال أبو موسى: "فقلت: ولي فاستغفر" يا رسول الله! قال: "اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا" بضم الميم، ويجوز فتحها وكلاهما بمعنى المكان والمصدر "كريما" حسنا "قال أب بردة" عامر أو الحارث بن أبي موسى راوي الحديث المذكور عن أبيه ثقة مات سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين: "إحداهما" أي الدعوتين "لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى" أي الأخيرة وهذا ظاهر جدا. وسيذكر المصنف قريبا بعد الطائف قسم غنائم حنين بعد استثنائه عليه السلام رجاء قدوم هوازن، ثم يذكر في الوفود قدومهم عليه صلى الله عليه وسلم مسلمين في شوال بعد انصرافه من الطائف، وقسم غنائمهم، وأنه خيرهم بين رد المال، وبين السبايا، فاختاروا السبايا، فشفع لهم صلى الله عليه وسلم عند أصحابه في ذلك، فطابت نفوسهم، وقالوا كلهم: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، فرد عليهم سباياهم، ويأتي ذكر قصيدة خطيبهم زهير بن صرد: امتن علينا رسول الله في كرم بتمامها فلم يستوف المصنف هنا تعلقات الغزوة، وللناس فيما يعشقون مذاهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 فهرس الجزء الثالث من المواهب اللدنية : الفهرس : 3 غزوة المريسيع 17 غزوة الخندق وهي الأحزاب 65 غزوة بني قريظة 101 سرية القرطاء وحديث ثمامة 106 غزوة بني لحيان 109 غزوة ذي قرد, غزوة الغابة 119 سرية الغمر 120 سرية ابن مسلمة إلى ذي القصة 123 سرية زيد إلى الجموم 124 سرية زيد إلى العيص 128 سريته للطرف 129 سريته إلى حسمى 133 سرية زيد أيضا إلى وادي القرى 133 سرية دومة الجندل 136 سرية علي إلى بني سعد 137 سرية زيد إلى أم قرفة 141 قتل أبي رافع 152 سرية ابن رواحة 155 قصة عكل وعرينة 166 بعث الضمري ليغتال أبا سفيان 169 أمر الحديبية 243 غزوة خيبر 301 فتح وادي القرى 304 ذكر خمس سرايا بني خيبر والعمرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 المجلد الرابع تابع كتاب المغازي حرق ذي الكفين ... تابع كتاب المغازي: بسم الله الرحمن الرحيم [حرق ذي الكفين] : ثم سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، صنم من خشب، كان لعمر بن حممة في شوال -لما أراد عليه الصلاة والسلام السير إلى الطائف- ليهدمه ويوافيه بالطائف. فخرج سريعا فهدمه وجعل يحش النار في وجهه ويحرقه يقول: يا ذا الكفين.   حرق ذي الكفين "ثم سرية الطفيل"، بضم الطاء المهملة، وفتح الفاء وسكون التحتية، "ابن عمرو" بن طريف بن العاصي بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس، "الدوسي،" وقيل: هو ابن عبد عمرو بن عبد الله بن ملك بن عمرو بن فهم المذكور، وقيل: هو الطفيل بن عمرو بن حممة. قال ابن سعد وابن حبان: أسلم بمكة، ورجع إلى بلاد ثم وافاه صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وشهد فتح مكة، وقال ابن أبي حاتم: قدم عليه مع أبي هريرة بخيبر، لقبه ذو النور، براء في آخره؛ لأنه لما وفد ودعا صلى الله عليه وسلم لقومه، فقال له: ابعثني إليهم، واجعل لي آية، فقال: "اللهم نور له"، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مثله، فتحول إلى طرف سوطه، فكان يضيء له في الليلة المظلمة. ذكره هشام بن الكلبي في قصة طويلة فيها أنه: دعا قومه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده. قال الحافظ: وهذا يدل على قدم إسلامه، وجزم ابن أبي حاتم، بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر وكأنها قدمته الثانية، وقال ابن سعد وابن الكلبي: استشهد باليمامة، وقال ابن حبان: باليرموك، وقيل: بأجنادين في خلافة أبي بكر، ذكره ابن عقبة عن الزهري وأبو الأسود، عن عروة "إلى ذي الكفين" بلفظ تثنية كف، "صنم من خشب كان لعمر بن حممة،" بضم المهملة وفتح الميمين، كان حاكما على دوس ثلثمائة سنة، فيما ذكر ابن الكلبي "في شوال لما" حين "أراد عليه الصلاة والسلام السير إلى الطائف ليهدمه،" وعند ابن إسحاق أنه قال: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين حتى أحرقه، وعند ابن سعد وأمره أن يستمد قومه، "ويوافيه بالطائف، فخرج سريعا، فهدمه، وجعل يحش" بفتح الياء وضم المهملة، وشد المعجمة "النار في وجهه،" أي يلقيها عليه، "ويحرقه،" أي يوصل النار إلى بقيته، "ويقول: "يا ذا الكفين" ". قال السهيلي: بالتشديد، فخفف للضرورة، وقيل: هو مخفف، فإن صح فهو محذوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا، فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه بأربعة أيام، وعند مغلطاي: وقدم معه أربعة مسلمون.   اللام، كأنه تثنية كفء، من كفأت الإناء أو كف بمعنى كفء، ثم سهلت الهمزة، وألقيت حركتها على الفاء، كما يقال: الخب والخبء انتهى. "لست من عبادكا" بألف الإطلاق فيه، وفيما بعده "ميلادنا" زمان ولادتنا أيها النوع الإنساني "أقدم من ميلادكا" زمان ولادتك، فكيف تصلح لعبادتنا إياك مع أن وجودك بفعلنا "إني حشوت النار في فؤادكا" جوفك تشبيها له بقلب الحيوان، وإن كان جمادا لا قلب له لكونه مصورا، "وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا" وكان الطفيل مطاعا في قومه، شريفا شاعرا لبيبا، كما عند ابن إسحاق، "فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد مقدمه" الطائف "بأربعة أيام". هكذا ذكر ابن سعد "وعند مغلطاي، وقدم معه أربعة مسلمون"، فهذا تباين زائد إلا أن يقال: أن الباقي أسلموا بعد القدوم، وذكر ابن سعد أنه قدم بدبابة، ومنجنيق، وقال: يا معشر الأزد من يحمل رايتكم، فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية، النعمان بن الرازية اللهبي، قال: أصبتم دبابة بمهملة مفتوحة، فموحدة مشددة، فألف، فموحدة، فتاء تأنيث، آلة يدخل فيها الرجال، فيدبون فيها النقب الأسوار الرازية، براء، فألف، فزاي مكسورة، فتحتية، وتأتي قصة دوس في الوفود، والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 [ غزوة الطائف ] : ثم غزوة الطائف، وهي بلد كبير، على ثلاث مراحل أو اثنتين من مكة، من جهة المشرق، كثيرة الأعناب والفواكه.   غزوة الطائف: "ثم غزوة الطائف، وهي" كذا في النسخ بالتأنيث، والذي في الفتح، وهو "بلد كبير على ثلاث مراحل، أو اثنتين من مكة من جهة المشرق،" متعلق بكل من ثلاث، أو اثنتين ولك الجمع بأن الثلاث من عمران مكة والاثنتين من آخر ما ينتهي إليها من توابعها المنسوبة إليها، وكأنه تقريب على كلا القولين، "كثيرة الأعناب" جمع عنب واحدة عنبة، "والفواكة،" وهي ما يتفكه، أي يتنعم بأكله رطبا كان أو يابسا، كتين وعنب وبطيخ وزبيب ورطب ورمان، فهو عطف عام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وقيل: إن أصلها أن جبريل -عليه السلام- اقتلع الجنة التي كانت لأصحاب الصريم، فسار بها إلى مكة، فطاف بها حول البيت ثم أنزلها حيث الطائف، فسمي الموضع، وكانت أولا بنواحي صنعاء.   على خاص، غير أن الذي في الفتح، وتبعه الشامي كثير الأعناب والنخيل. قال في القاموس: سمي بذلك؛ لأنه طاف على الماء في الطوفان، أو؛ لأن جبريل طاف بها على البيت، أو؛ لأنها كانت بالشام، فنقلها الله إلى الحجاز بدعوة إبراهيم، أو؛ لأن رجلا من الصدف أصاب دما بحضرموت، ففر إلى وج، وحالف مسعود بن معتب، وكان له مال عظيم، فقال: هل لكم أن أبني لكم طوفا عليكم يكون لكم ردأ من العرب، فقالوا: نعم، فبناه وهو الحائط المطيف به. ا. هـ. فهذه أربعة أقوال في سبب التسمية، "وقيل" خامس هو: "إن أصلها، أي تسمية البلدة بذلك "أن جبريل عليه السلام اقتلع الجنة التي كانت،" أي البستان الذي كان بصوران على فرسخ من صنعاء، كما في الروض وفي الأنوار أنها دون صنعاء بفرسخين "لأصحاب الصريم" البستان المقطوع ثمره سماه صريما؛ لأنه لما حل به البلاء صار لا ثمر له، والإضافة لأدنى ملابسة لشبه جنتهم به، فجعلوا أصحابه تجوزا، وإلا فهم ليسوا أصحابا له، بل هو مشبه به، كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} , [القلم: 17] قال البيضاوي: البستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء، فعيل بمعنى مفعول، أو كالليل باحتراقها وإسودادها، أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس سميا بالصريم؛ لأن كلا منهما ينصرف عن صاحبه أو كالرماد. ا. هـ. وفي النهر قال ابن عباس: كالرماد الأسود والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة. ا. هـ. "فسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حيث الطائف" أي في المكان الذي فيه هذا البلد، لا يقال: على أنها احترقت وصدر به ابن عطية، واقتصر عليه الجلال كيف نقلها جبريل؛ لأنه يحتمل أنه لما أراد اقتلاعها، وطاف بها، عادت كما كانت أو أعظم، أو أنه لما اقتلعها حرق موضعها، وقد يدل له تسفير الصريم بالرماد الأسود، والعلم عند الله، "فسمي الموضع" الذي هو البلد الكبير، وما تبعه من القرى، وبهذا وافق قول القاموس الطائف بلاد ثقيف في واد أول قراها لقيم وآخرها الوهط، "وكانت أولا" قبل النقل "بنواحي صنعاء" على فراسخ منها بصوران، ومن ثم كان الشجر والماء بالطائف دون ما حولها، وكانت قصة أصحاب الجنة بعد عيسى ابن مريم بيسير، ذكر هذا الخبر كله النقاش وغيره، كما في الأرض، فلا يعترض بأن القاموس لم يذكره، وذكر أبو عبيدة البكري: أن أصل أعنابها أن قيس بن منبه، وهو ثقيف أصاب دما في قومه إياد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 واسم الأرض: وج، بتشديد النجم المضمومة. سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة ثمان، حين خرج من حنين. وحبس الغنائم بالجعرانة. وقدم خالد بن الوليد على مقدمته، وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم.   ففر إلى الحجاز، فمر بيهودية، فآوته واقام عندها زمانا، ثم انتقل، فأعطته قصبا من الحبلة وأمرته بغرسها، فأتى بلاد عدوان، وهم سكان الطائف حينئذ، فمر بسخيلة جارية عامر بن الظرب، وهي ترعى غنما، فأراد سباءها، وأخذ الغنم، فقالت: ألا أدلك على خير من ذلك، أقصد سيدي وجاوره، فإنه أكرم الناس، فأتاه، فزوجه ابنته زينب، فلما جلت عدوان عن الطائف بالحروب التي كانت بينها أقام ثقيف، فتناسل أهل الطائف منه، وسمى قيسا لقساوة قلبه حين قتل أخاه، أو ابن عمه، وسمي ثقيفا لقولهم فيه: "ما أثقفه حين ثقف عامرا حتى آمنه وزوجه بنته، "واسم الأرض وج بتشديد الجيم" قبلها واو مفتوحة، سميت برجل، وهو ابن عبد الحي من العمالقة، وهو أول من نزلها، قاله في فتح اللباب، كجميع ما ذكره المصنف، من أوله، وفي الروض قيل: وج هو الطائف، وقيل: اسم لواد بها، ويشهد له قول أمية بن الأشكر حيث قال: إذا يبكي الحمام ببطن وج ... على بيضاته بكيا كلانا وقول الآخر: أتهدي لي الوعيد ببطن وج ... كأني لا أراك ولا تراني ويقال: بتخفيف الجيم والصواب تشديدها، ويقال: وج وأج بالهمزة بدل الواو، قاله يعقوب في كتاب الأبدال. ا. هـ. "سار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة ثمان،" قاله موسى بن عقبة، وجمهور أهل المغازي، وقيل: بل وصل ليها في أول ذي القعدة، كما في الفتح "حين خرج من حنين، وحبس الغنائم بالجعرانة" بكسر الجيم، وسكون العين المهملة، وقد تكسر، وتشديد الراء، قاله ابن إسحاق: وجعل صلى الله عليه وسلم على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري، وقال البلاذري: بديل بن ورقاء الخزاعي. وروى عبد الرزاق من مرسل بن المسيب: جعل عليها أبا سفيان بن حرب وفيه نظر، فإنه شهد الطائف، كما يأتي فإن صح، فكأنه جعله عليها أولا، ثم بدا له فجعل غيره وسار هو معه. "وقدم خالد بن الوليد على مقدمته" في ألف من أصحابه، وقيل: مائة من بني سليم، فإنه صح، فباقي الألف من غيرهم، "وكانت ثقيف لما انهزموا من أوطاس دخلوا حصنهم بالطائف، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 ورموه بالطائف، وأغلقوه عليهم بعد أن أدخلوا فيه ما يصلحهم لسنة، وتهيئوا للقتال. وسار صلى الله عليه وسلم فمر في طريقة بقبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف -فيما يقال- فاستخرج منه غصنا من ذهب.   ورموه "بشد الميم، "وأغلقوه عليهم بعد أن أدخلوا فيه ما يصلحهم من القوت لسنة، وتهيئوا للقتال" فأعدوا سككا من حديد، وجمعوا حجارة كبيرة، وأدخلوا معهم عقيلا وغيرهم من العرب، وأمروا سرحهم أن يرتع في موضع يأمنون فيه، وقاموا على حصنهم بالسلاح والرجال فدنا خالد، فدار بالصحن، ونظر إلى نواحيه، ثم وقف في ناحية، فنادى بأعلى صوته، ينزل إلى أحدكم أكلمه، وهو آمن حتى يرجع أو اجعلوا لي مثل ذلك، وأدخل عليكم أعلمكم، فقالوا: لا ينزل إليك رجل منا ولا تصل إلينا يا خالد، إن صاحبكم لم يلق قوما يحسنون قتاله غيرنا. قال خالد فاسمعوا من قولي: نزل صلى الله عليه وسلم بأهل الحصون والقوة بيثرب وخيبر، وبعث رجلا واحدا إلى فدك، فنزلوا على حكمه، وأنا أحذركم مثل يوم قريظة حصرهم أيامًا، ثم نزلوا على حكمه فقتل مقاتلهم في صعيد واحد، وسبى الذرية، ثم فتح مكة، وأوطا هوازن في جمعها وإنما أنتم في حصن في ناحية من الأرض لو ترككم لقتلكم من حولكم ممن أسلم، قالوا: لا نفارق ديننا فرجع خالد إلى المقدمة، كذا ذكر الواقدي ومن تبعه "وسار صلى الله عليه وسلم فمر في طريقه بقبر أبي رغال،" بكسر الراء وغين معجمة، ولام "وهو أبو ثقيف فيما يقال" في تمريضه شيء، فقد ثبت مرفوعا. أخرج ابن إسحاق وأبو داود البيهقي عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال: "هذا قبر أبي رغال"، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود كان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه "وآية ذلك أن دف معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه" فابتدره الناس، فاستخرجوا منه الغصن، وأخطأ من قال: أن أبا رغال هذا هو دليل أبرهة حين مر على الطائف إلى مكة، فإن بين مولده صلى الله عليه وسلم وبين هلاك ثمود ألوفا من السنين، وإنما دليل أبرهة شاركه في الاسم، "فاستخرج منه غصنا،" بضم المعجمة، وأحد الأغصان، وهي أطراف الشجر، والمراد به هنا قضيب "من ذهب" كان يتوكأ عليه، وكان نحو نيف وعشرين رطلا فيما قيل، ونسب الاستخراج إليه؛ لأنه الذي نبه عليه، وخيرهم في إخراجه لا أنه أخرجه بنفسه ولا بأمره، ومر في طريقه بحصن ملك النصري قائد هوازن، وكان يليه بكسر اللام، وخفة التحتية على أميال من الطائف، فأمر بهدمه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 ونزل قريبا من الحصن وعسكر هناك، فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم: عبد الله بن أبي أمية.   فهدم، ثم سار حتى نزل تحت سدرة قريبا من مال رجل من ثقيف قد تمنع، فأرسل إليه إما أن تخرج، وإما أن يحرق عليك حائطك، فأبى أن يخرج، فأمر بإحراقه ذكره ابن إسحاق. قال: "و" سار بعد ذلك حتى "نزل قريبا من الحصن"، ولا مثل له في حصون العرب، "وعسكر هناك"، وأشرفت ثقيف، وأقاموا رماتهم، وهم مائة، "فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا، كأنه رجل" بكسر الراء وسكون الجيم "جراد" يعني أن السهام لكثرتها صارت كجماعة الجراد المنتشر، والإضافة بيانية، أي رجل هو الجراد وجرد رجل عن معناه، فأضيف إذ هو الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة. وذكر أهل المغازي أنهم رموا بالنبل والمقاليع من بعده من الحصن، ومن دخل تحته دلوا عليه سكك الحديد محماة بالنار يطير منها الشرر، وقال عمرو بن أمية الثقفي وأسلم بعد ذلك، ولم يكن عند العرب أدهى منه: لا يخرج إلى محمد أحد إذا دعا أحد من أصحابه إلى البراز، ودعوه يقيم ما أقام، فنادى خالد من يبارز مرتين، فلم يجب، ونادى عبد يا ليل لا ينزل إليك أحد، ولكنا نقيم في حصننا، خبأنا فيه ما يصلحنا لسنين، فإن أقمت حتى يذهب ذلك الطعام خرجنا إليك جميعا بأسيافنا حتى نموت من آخرنا، فقاتلهم صلى الله عليه وسلم بالرمي عليهم، وهم يقاتلونه بالرمي من وراء الحصن، ولم يخرج إليه أحد، وكثرت الجراحات "حتى أصيب قوم من المسلمين بجراحة، وقتل منهم اثنا عشر رجلا منهم" كما قال ابن إسحاق، والبخاري وغيرهما "عبد الله بن أبي أمية" المخزومي أخو أم سلمة لأبيها المسلم في الفتح، وهو ابن عمته عاتكة. وحكمة النص عليه بيان ما أراد الله به من الخير بحيث صحب، وصار في زمرة الشهداء بعدما كان منه ما كان من شدة الأذى للمصطفى صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فسبقت له السعادة، وتمت له السيادة، وسعيد بن سعيد بن العاصي الأموي، وعرفطة، بضم المهملة، وسكون الراء، وضم الفاء، وطاء مهملة، ابن حباب بضم المهملة، وخفة الموحدة عند موسى بن عقبة وابن هشام. وقال ابن إسحاق: ابن جناب بجيم ونون الأزدي، وعبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني مخزوم، والسائب وعبد الله ابنا الحارث بن قيس السهمي، وجليحة بضم الجيم، وفتح اللام، وسكون التحتية، وحاء مهملة ابن عبد الله، ومن الأنصار ثابت بن الجزع، بفتح الجيم، والمعجمة، وبالمهملة، واسمه ثعلبة السلمي والحارث بن سهل، والمنذر بن عبد الله، ورقيم بن ثابت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 ورمي عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ بجرح فاندمل، ثم نقض بعد ذلك فمات منه في خلافة أبيه. وارتفع صلى الله عليه وسلم إلى موضع مسجد الطائف اليوم، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبتين، وكان يصلي بين القبتين حصار الطائف كله. فحاصرهم ثمانية عشر يوما،   ذكره ابن إسحاق هنا، وتبعه اليعمري مع من ذكره في شهداء حنين تبعا لابن سعد لما جرت به عادة العلماء، أنهم إذا مشوا في محل على قول، وفي محل على آخر لا يعد تناقضا، وقول الشامي تبع هناك ابن إسحاق، وهنا ابن سعد سبق قلم، فإن ابن إسحاق إنما ذكر رقيما هنا، لا هناك، ويزيد بن زمعة بفتح الزاي وسكون الميم ابن الأسود جمح به فرسه إلى حصن الطائف فقتله، ذكره ابن سعد وأما ابن إسحاق فعده في شهداء حنين وعبد الله بن أبي بكر عده ابن إسحاق وأتباعه في الاثني عشر، لكنه ليس بشهيد عند جماعة كالشافعية والمالكية لبقائه بعد الحرب مدة طويلة، ومن ثم غير المصنف الأسلوب، فلم يقل ومنهم بل أخبر بما جرى له فقال: "ورمى عبد الله بن أبي بكر الصديق يومئذ" بسهم "فجرح فاندمل" جرحه، "ثم نقض بعض ذلك فمات منه في خلافة أبيه" رضي الله عنهم أجمعين فهؤلاء ثلاثة عشر لكن في واحد خلاف فابن إسحاق يعد رقيما هنا، ويسقط يزيد وابن سعد بعده ويسقط رقيما، واتفقا على عد ابن الصديق. "وارتفع صلى الله عليه وسلم" بعد قتل هؤلاء "إلى موضع مسجد الطائف اليوم" الذي بناه عمرو بن أمية بن وهب بن متعب بن مالك لما أسلمت ثقيف، وكان فيه سارية فيما يزعمون لا تطلع عليها الشمس يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض أكثر من عشر مرات، وكانوا يرون أن ذلك نبيح ذكره ابن إسحاق، وغيره نقيض بنون، وقاف وتحتية، ومعجمة صوت، "وكان معه من نسأله أم سلمة وزينب" اللتان خرج بهما من المدينة لما سار للفتح، "فضرب لهما قبتين خيمتين، ونص عليهما هنا لئلا يتوهم أنه تركهما بمكة حين فتحت، "وكان يصلي بين القبتين حصار، أي مدة حصار "الطائف كله" فبنت ثقيف لما أسلمت ذلك المسجد في موضع مصلاه، كما عنده ابن إسحاق، فحاصرهم ثمانية عشر يوما، ويقال: خمسة عشر يوما" حكاهما ابن سعد، وقال ابن إسحاق في رواية زياد: بضعا وعشرين ليلة، وقال في رواية يونس: حدثني عبد الله بن أبي بكر وعبد الله بن المكرم عمن أدركوا من العلماء أنه حاصرهم ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك قال ابن هشام: ويقال: سبع عشرة ليلة، وقيل: عشرين يوما، وقيل: بضع عشرة ليلة. قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك، وروى أحمد ومسلم في حديث أنس: أنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 ويقال: خمسة عشر يوما، ونصب عليهم المنجنيق وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام، وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من سرية ذي الكفين، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتل منهم رجال، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم وتحريقها، فقطع المسلمون قطعا ذريعا، ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم، فقال عليه الصلاة والسلام   حاصروا الطائف أربعين ليلة، ورواه ابن مسعود عن مكحول: أنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أربعين يوما، قال ابن كثير: وهذا غريب. ا. هـ. "ونصب عليهم المنجنيق" بفتح الميم، وتكسر مؤثر عند الأكثر، ويذكر معرب، والميم أصلية عند سيبويه، والنون زائدة، ولذا سقطت في الجمع قال كراع: كل كلمة فيها جيم، وقاف، أو جيم وقاف، أو جيم وكاف مثل كيلجة فهي أعجمية. ذكره في الروض "وهو" كما ذكره ابن هشام عمن يثق به "أول منجنيق رمي به في الإسلام"، وأما أول منجنيق رمي به فإبراهيم الخليل عمله إبليس لما أرادوا رميه صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه. وأما في الجاهلية فيذكر أن جذيمة بضم الجيم، وفتح المعجمة مصغرا ابن مالك المعروف بالأبرش أول من رمى به، وهو من ملوك الطوائف، "وكان قدم به الطفيل الدوسي معه لما رجع من سرية ذي الكفين"، ويقال: يزيد بن زمعة حكاهما ابن سعد بناء على قوله: أن يزيد لم يستشهد بحنين. وقال الواقدي: قالوا: شاور صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال له سليمان: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فإنا كنا بأرضنا ننصب المنجنيقات على الحصون، وتنصب علينا فنصيب من عدونا، ويصيب منا، وإن لم يكن منجنيق طال الثواء بفتح المثلثة، أي الإقامة، فأمره صلى الله عليه وسلم فعمل منجنيقا بيده، فنصبه على حصنهم، "فرمتهم ثقيف بالنبل، فقتل منهم رجال" هم الإثنا عشر السابقة. ذكر ابن إسحاق والواقدي: أن المسلمين دخلوا تحت دبابة، وهي من جلود البقر يوم الشدخة لما شدح فيه من الناس، ثم زحفوا بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت ثقيف سكك الحديد المحماة بالنار، فأحرقن الدبابة، فخرج المسلمون من تحتها، وقد أصيب منهم من أصيب، "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم" ونخيلهم "وتحريقها". قال عروة: أمر كل مسلم أن يقطع خمس نخلات، وخمس حبلات، "فقطع المسلمون قطعا ذريعا" بمعجمة، أي سريعا، "ثم سألوه أن يدعها لله وللرحم"، فقالوا: لم تقطع أموالنا، إما أن تأخذها إن ظفرتم علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم، "فقال عليه الصلاة والسلام: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 إني أدعها لله وللرحم. ثم نادى مناديه عليه الصلاة والسلام: أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر. قال الدمياطي: فخرج منهم بضعة عشر رجلا فيهم أبو بكرة، وعند مغلطاي: ثلاثة وعشرون عبدا. وفي البخاري.   "إني أدعها" أتركها "لله وللرحم" التي بيني وبينهم؛ لأن أمه آمنة، أمها برة بنت عبد العزى بن قصي، وأم برة هذه أم حبيب بنت أسعد، وأمها برة بنت عوف، وأمها قلابة بنت الحارث وأم قلابة بنت الحارث، وأم قلابة هند، بنت يربوع من ثقيف، كما قاله ابن قتيبة، "ثم نادى مناديه عليه الصلاة والسلام". قال في النور: لا أعرف اسمه، "أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر". رواه ابن إسحاق في رواية يونس من مرسل شيخه عبد الله بن المكرم الثقفي، والواقدي عن شيوخه "قال الدمياطي: فخرج منهم بضعة عشر رجلا"، كما رواه ابن إسحاق عن شيخه المذكور الواقدي عن شيوخه المنبعث واسمه المضطجع، فسماه عليه السلام لما أسلم المنبعث عبد عثمان بن عامر والأزرق عبد كلدة بفتح فسكون. وورد أنه كان عبد الله بن ربيعة ويحنس، بضم التحتية، وفتح المهملة، والنون المشددة، وسين مهملة النبال عبد يسار بن مالك وأسلم سيده بعد فرد صلى الله عليه وسلم إليه ولاءه وإبراهيم بن جابر عبد خرشة بفتح المعجمتين، والراء بينهما، ويسار عبد عثمان بن عبد الله، ونافع أبو السائب عبد غيلان بن سلمة، فلما أسلم غيلان رد عليه الصلاة والسلام إليه ولاءه ونافع بن مسروح ومرزوق غلام لعثمان بن عبد الله والأزرق أبو عتبة وأبو بكرة عبد الحارث بن كلدة بفتحتين. قال في الفتح: ويقال كان معهم زياد ابن سمية والصحيح أنه لم يخرج حينئذ لصغره "فيهم أبو بكرة" نفيع بضم النون، وفتح الفاء، وسكون التحتية ابن الحارث، ويقال: مسروح، وبه جزم ابن سعد، وأخرج أبو أحمد والحاكم عنه أنه قال: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبى الناس إلا أن يسموني فأنا نفيع بن مسروح، وقيل: اسمه هو مسروح، وبه جزم ابن إسحاق، كان من فضلاء الصحابة، وسكن البصرة، وأنجب أولادا لهم شهرة، تدلى من حصن الطائف ببكرة، فكي لذلك أبا بكرة، أخرجه الطبراني من حديث بإسناد لا بأس به، "وعند مغلطاي ثلاثة وعشرون عبدا" كما هو نص حديث الصحيح الذي بعده قال الحافظ: بعد عد هؤلاء ولم أعرف أسماء الباقين. "وفي البخاري" من طريق شعبة عن عاصم سمعت أبا عثمان سمعت سعدا، وهو أول من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .... قال عاصم: قلت لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما قال: أجل .... أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف الحديث. وأعتق صلى الله عليه وسلم من نزل منهم، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين   رمى بسهم في سبيل الله، وأبا بكرة، وكان تسور حصن الطائف في أناس، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالا: سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم فالجنة عليه حرام". وقال هشام: أخبرنا معمر عن عاصم عن أبي العالية، أو"عن أبي عثمان" وعبد الرحمن بن مل "النهدي" هكذا فيه بالشك، لكن عن أبي عثمان وحده عن أبي بكرة وحده، كما أفاده في الفتح فتسمح المصنف في عزوه للبخاري "قال: سمعت سعدا" وهو ابن أبي وقاص أحد العشرة، "وأبا بكرة" يرويان "عن النبي صلى الله عليه وسلم" الحديث المذكور، من ادعى إلى غير أبيه إلخ "قال عاصم" بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري الثقة مات سنة أربعين ومائة. وروى له الجميع "قلت": لأبي عثمان، أو لأبي العالية "لقد شهد عندك" بكاف الخطاب، كما في رواية البخاري لأبي عثمان أو لأبي العالية، ونسخة عندي تصحيف "رجلان حسبك بهما قال: أجل" بالجيم واللام. "أما أحدهما فأول من رمى" بفتح الراء والميم "بسهم في سبيل الله" حين كان في سرية عبيدة المطلبي، إلى رابغ، كما مر في أوائل المغازي. "وأما الآخر، فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف" بنصب ثالث. قال الحافظ: ولم يقع لي هذا التعليق موصولا إلى هشام وهو ابن يوسف الصنعاني، وغرض البخاري منه ما فيه بيان عدد من أبهم في الرواية الأولى التي قام فيها في أناس، وقوله: تسور، إلى صعد إلى أعلاه، وهذا لا يخالف قوله: تدلى؛ لأنه تسور من أسفله إلى أعلاه، ثم تدلى منه، وفيه رد على ن زعم أنه لم ينزل من سور الطائف غير أبي بكرة، وممن قاله موسى بن عقبة، وتبعه الحاكم، وجمع بعضهم بأن أبا بكرة نزل وحده أولا، ونزل الباقون بعده وهو جمع حسن. ا. هـ. "الحديث " كذا في النسخ وهو وهم، فإن آخر هذا الحديث في البخاري ليس بعده شيء، "وأعتق صلى الله عليه وسلم من نزل منهم،" كما رواه ابن أبي شيبة، وأحمد عن ابن عباس قال: أعتق صلى الله عليه وسلم يوم الطائف كل من خرج إليه من رقيق المشركين، "ودفع كل رجل منهم إلى رجل من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 يمونه، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة. ولم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، وأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك، فقالوا: نرحل ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "فاغدوا على القتال"   المسلمين يمونه"، فكان أبو بكرة إلى عمرو بن سعيد والأزرق إلى خالد بن سعيد، وورد أن إلى أبان بن سعيد والنبال إلى عثمان بن عفان، ويسار إلى سعد بن عبادة وإبراهيم إلى أسيد بن حضير، وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقرؤهم القرآن، ويعلموهم السنين، كذا عند الواقدي، ولم يعين البقية لمن، "فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة"، ولما أسلمت ثقيف، تكلمت أشرافهم في أولئك العبيد أن يردوهم إلى الرق منهم الحارث بن كلدة، فقال صلى الله عليه وسلم لأولئك: "عتقاء الله لا سبيل إليهم". رواه ابن إسحاق والواقدي وزاد، لكنه رد ولاء بعضهم إلى ساداتهم، قال ابن إسحاق: وبلغني أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق: "إني رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبدا، فنقرها ديك فهراق ما فيها"، فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال صلى الله عليه وسلم: "وأنا لا أرى ذلك "، ولم يؤذن له صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف" ذلك العام لئلا يستأصلوا أهله قتلا؛ لأنه لما خرج إليهم بعد موت أبي طالب دعاهم إلى الله، وأن يؤوه حتى يبلغ رسالة ربه، فردوا عليه ردا عنيفا، وكذبوه ورموه بالحجارة حتى أدموا رجليه، فرجع مهموما فلم يفق إلا عند قرن الثعالب، فناداه ملك الجبال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال: "بل استأني لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، فناسب قوله، بل استأني أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم، وأن يؤخر الفتح ليقدموا مسلمين في العام المقبل، كما سيأتي في الوفود قاله الشامي، "وأمر عمر بن الخطاب، فأذن في الناس بالرحيل". روى الواقدي عن أبي هريرة: لما مضت خمس عشرة من حصار الطائف استشار النبي صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلمي، فقال: "يا نوفل ما ترى في المقام عليهم" قال: يا رسول الله ثعلب في حجر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك. قال ابن إسحاق: ثم إن خولة بنت حكيم السلمية قالت: يا رسول الله أعطنى إن فتح الله عليك الطائف حلى بادية بنت غيلان، أو حلى القارعة بنت عقيل، وكانتا من أحلى نساء ثقيف، فقال صلى الله عليه وسلم: "وإن كان يؤذن لنا في ثقيف يا خولة"، فذكرته لعمر، فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلته، قال: "قلته" قال: أو ما أذنت فيهم فقال: "لا": أفلا أؤذن الناس بالرحيل؟ فقال: "بلى" فأذن عمر بالرحيل، "فضج الناس من ذلك، فقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف، فقال عليه الصلاة والسلام: "فاغدوا على القتال"، أي سيروا أول النهار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 فغدوا فأصاب المسلمين جراحات، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون إن شاء الله تعالى" فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. قال النووي: قصد صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه، وتقويهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم أولا علم، أو رجا أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد أقام، وجد في القتال فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقة الظاهرة، ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم تعجبا من تغير رأيهم. وفقئت عين أبي سفيان صخر بن حرب يومئذ،   لأجله "فغدوا فأصاب المسلمين جراحات" ولم يفتح لهم. وروى الترمذي وحسنه عن جابر قال: قالوا: يا رسول الله أخرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد ثقيف وائت بهم"، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا قافلون" راجعون إلى المدينة "إن شاء الله تعالى" فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك" تعجبا من تغير رأيهم. قال عروة: وأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن لا يسرحوا ظهورهم، فلما أصبحوا ارتحل هو وأصحابه، ودعا حين ركب قافلا، فقال: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم". رواه البيهقي وما ساقه المصنف لفظ ابن سعد، وقد رواه الشيخان عن ابن عمر وعمرو لما حاصر صلى الله عليه وسلم الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: "إنا قافلون إن شاء الله تعالى"، فثقل عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتحه، فقال: "اغدوا على القتال" فغدوا فأصابهم جراح، فقال: "إنا قافلون غدا إن شاء الله تعالى"، فأعجبهم فضحك، وفي لفظ فتبسم صلى الله عليه وسلم: "قال النووي: قصد صلى الله عليه وسلم الشفقة عليهم والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره، وشدة الكفار الذين هم فيه وتقويهم بحصنهم"، مع أن عدم فتحه لا يضر، "مع أنه صلى الله عليه وسلم أولا علم" بالوحي، "أو رجا" ورجاؤه محقق الوقوع، كما قال العلماء "أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة، فلما حرص الصحابة على المقام والجهاد، أقام وجد في القتال، فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولا من الرفق بهم، ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقة". وفي نسخة الشقة "الظاهرة ووافقوا على الرحيل، فضحك صلى الله عليه وسلم تعجبا من تغير رأيهم وفقئت عين أبي سفيان صخر بن حرب" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، "يومئذ" روى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 فذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهي في يده: "أيما أحب إليك عين في الجنة، أو أدعوا الله أن يردها عليك" قال: بل عين في الجنة ورمى بها. وشهد اليرموك فقاتل وفقئت عينه الأخرى يومئذ ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب. وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قولوا: "لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".   الزبير بن بكار عن سعيد بن عبيد الثقفي، قال: رميت أبا سفيان يوم الطائف فأصيبت عينه، "فذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وهي في يده:" وفي رواية الزبير عن سعيد المذكور، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه عيني أصيبت في سبيل الله، فقال: "أيما أحب إليك عين في الجنة"، أي عين ماء لا الباصرة؛ لأنه لا يختص بها في الجنة، "أو أدعو الله أن يردها عليك"، قال: بل عين في الجنة ورمى بها" وفي هذا قوة إيمانه وثبات يقينه بعدما كان من المؤلفة. روى القزويني في تاريخ قزوين عن ابن عباس قال: لطم أبو جهل فاطمة، فشكت إلى أبيها صلى الله عليه وسلم فقال: "ائت أبا سفيان" فأتته فأخبرته فأخذ بيدها حتى وقف على أبي جهل، وقال: إلطميه كما لطمك، ففعلت، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فرفع يده وقال: "اللهم لا تنسها لأبي سفيان". قال ابن عباس: ما شككت أن إسلامه إلا لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره السيوطي في تحفة الأدب، "وشهد اليرموك" عند مقاتلة الروم في آخر خلافة الصديق تحت راية ابنه يزيد، وهو يقول: الله الله عباد الله انصروا الله ينصركم، اللهم هذا يوم من أيامك، اللهم أنزل نصرك على عبادك، "فقاتل" الروم، وكان أمير الجيش خالد بن الوليد، "وقفئت عينه الأخرى يومئذ، ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح التقريب". وروى يعقوب بن سفيان وابن سعد بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب عن أبيه، فقال: فقدت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت علي يقول: يا نصر الله أقرب، فنظرت، فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد. وروى البغوي بإسناد صحيح عن أنس أن أبا سفيان دخل على عثمان بعدما عمي وغلامه يقوده، "و" ذكر الواقدي وابن سعد أنه "قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:" حين أرادوا أن يرتحلوا "قولوا: "لا إله إلا الله، وحده صدق وعده" "، الذي وعد به من إظهار دينه، "ونصر عبده" محمدا صلى الله عليه وسلم، "وهزم الأحزاب" الذين تحزبوا في غزوة الخندق، فاللام عهدية، أو المراد كل من تحزب من الكفار لحربه، فتكون جنسية "وحده" فهزيمتهم والنصر عليهم إنما هو مضاف إليه وهو خير الناصرين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 فلما ارتحلوا قال: قولوا: آبيون، تائبون عابدون، لربنا حامدون. فانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه، واتخاذ الخيل والسلاح، وما يحتاج إليه من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع عليه الصلاة والسلام يتعرى من ذلك، ويرد الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره بقوله: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده". وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "وهزم الأحزاب وحده"، فنفى صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره، وهذا هو معنى الحقيقة؛ لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل، فهو لله سبحانه وتعالى الذي خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء، ومن   "فلما ارتحلوا قال: "قولوا: آيبون" بمد الهمزة، أي نحن راجعون إلى الله، نحن "تائبون" إليه تعالى، إشارة إلى التقصير في عبادته والتوبة من توليهم يوم حنين، نحن "عابدون" الذي استحقت ذته العبادة "لربنا" نحن "حامدون" على ما أولانا من الفتح المبين، والنصر المتين، والجار والمجرور متعلق بالأربعة على طريق التنازع، "فانظر" تأمل بعين البصيرة، وأجل فكرك "كيف كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج للجهاد يعتد لذلك بجمع أصحابه، واتخاذ الخيل والسلاح وما يحتاج لذلك من آلات الجهاد والسفر، ثم إذا رجع عليه الصلاة والسلام يتعرى" يتباعد "من ذلك ويرد" يفوض "الأمر كله لمولاه عز وجل لا لغيره"، ويبين لصحبه أن النصر من عنده إلا بقوة ولا بعدد "بقوله" كما في البخاري وغيره: إذا رجع من الغزو بعد التكبير ثلاثا: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، "آيبون تائبون عابدون"، زاد البخاري "ساجدون"، "لربنا حامدون، صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". وكلام المصنف هذا وارد في ارتحاله عن الطائف، بل وعن غيرها، فإنه أخبر عن حالتيه في كل غزواته أنه في الخروج يعتد، وفي الرجوع يرد الأمر لله، كما هو ظاهر جدالًا في ارتحاله إلى الطائف، كما ظن، فاعترض بأنه قصد غزوهم، فلا يحسن قوله، ثم إذا رجع وتعسف الجواب، بأنه سماه رجوعا لفراغه من حنين وارتحاله، إلى الطائف بعد نصره، فعده رجوعا وإن اشتغل بغيره، فإن هذا الشيء أمر عجاب ولا وجه له، "وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "وهزم الأحزاب وحده"، فنفى صلى الله عليه وسلم ما تقدم ذكره" في قوله بجمع أصحابه إلى آخره، ونسب كل ذلك لله عز وجل "وهذا" أي نفي الأمور عن غيره، ونسبتها إليه "هو معنى الحقيقة" أي ما يكون الشيء عليه في نفس الأمر، وقال أرباب السلوك الحقيقة، العلوم المدركة بتصفية الباطن: "لأن الإنسان وفعله خلق لربه عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} ، "فهو لله سبحانه وتعالى الذي خلق ودبر، وأعان وأجرى الأمور على يد من شاء ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 اختار من خلقه، فكل منه، ولو شاء أن يبيد أهل الكفر من غير قتال لفعل، قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} ، فيثيب سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل الثواب للشاكرين، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] . فعلى المكلف الامتثال في الحالتين، أي: امتثال تعاطي الأسباب، والرجوع إلى المولى والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان صلى الله عليه وسلم يأتي الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية وتشريعا لأمته، ثم يظهر الله تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التي ادخرها له عليه الصلاة والسلام. قال ابن الحاج في المدخل:.   اختار من خلقه، فكل منه وإليه، ولو شاء الله أن يبيد"، بضم الياء يهلك، "أهل الكفر من غير قتال لفعل" كما "قال تعالى: {ذَلِكَ} خبر مبتدأ، أي الأمر فيهم، أو افعلوا بهم ذلك، {وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ} انتقم "منهم" باستئصال بغير قتال، {وَلَكِنْ} أمركم به {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض} ، فيصير من قتل منكم إلى الجنة ومنهم إلى النار "فيثيب سبحانه وتعالى الصابرين ويجزل" بضم الياء، يوسع "الثواب للشاكرين"، واعتبر في الصابرين أصل الثواب وفي الشاكرين أجزاء له، كأنه لحظ قوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ، وفي حق الصابرين من محبته لهم ونصرهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} [البقرة: 153] . قال البيضاوي: بالنصر وإجابة الدعوة، والله يحب الصابرين، فينصرهم ويعظهم قدرهم "قال تعالى: {ولنبلونكم} " [محمد: 31] نختبرنكم بالجهاد وغيره: {حتى نعلم} علم ظهور: {الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] الآية في الجهاد وغيره، {وَنَبْلُوَ} نظهر {أَخْبَارَكُمْ} من طاعتكم، وعصيانكم في الجهاد وغيره، "فعلى المكلف الامتثال في" تحصيل "الحالتين"، كما يعلم من قوله: "أي امتثال تعاطي الأسباب والرجوع إلى المولى، والسكون إليه بساحة كرمه، كما كان صلى الله عليه وسلم يأتي الأسباب أولا تأدبا مع الربوبية" بامتثال أمرها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، "وتشريعا لأمته"، وإن علم أن النصر إنما هو من عند الله، "ثم يظهر الله تعالى على يديه ما يشاء من قدرته الغامضة التي ادخرها له عليه الصلاة والسلام، قاله" محمد بن محمد أبو عبد الله "ابن الحجاج" العبدري الفارسي، الفقيه الورع، الزاهد، صحب جماعة من أرباب القلوب، وتخلق بأخلاقهم، مات سنة سبع وثلاثين وسبعمائة "في" كتاب "المدخل" إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات، والتنبيه على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ولما قيل له: يا رسول الله، ادع على ثقيف، قال: اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين.   كثير من البدع المحدثة والفوائد المنتحلة، كتاب حفل، جمع فيه علما غزيرا يتعين الوقوف عليه، "ولما قيل له: يا رسول الله ادع على ثقيف قال: "اللهم اهد ثقيفا وائت بهم مسلمين" ذكره ابن سعد ومر أنه قاله: لما قالوا له: أحرقتنا نبال ثقيف، وتحرفت ائت من الإتيان بلفظ اهد بهم على من قال لعله قاله في وقت آخر، والذي قاله في الشامية كغيرها ائت، وهو الذي في الترمذي، وتقدم أنه دعا حين ركب: "اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم"، وقد استجاب له ربه، فأتى بهم مسلمين في رمضان سنة تسع، كما يأتي في الوفود إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 [ نبذة من قسم الغنائم وعتب الأنصار ] : وكان صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يجمع السبي، والغنائم مما أفاء الله على رسوله يوم حنين، فجمع ذلك كله إلى الجعرانة،   نبذة من قسم الغنائم وعتب الأنصار: "وكان صلى الله عليه وسلم قد أمر" وهو بحنين "أن يجمع السبي والغنائم مما أفاء الله على رسوله،" قال الحافظ: "أي أعطاه غنائم الذين قاتلهم "يوم حنين" وأصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيأ؛ لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيأً؛ لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذ الإيمان هو الأصل والكفر طار عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من مال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم، فكأن رجع إليهم بعدما كان لهم انتهى، "فجمع ذلك كله" وأحضر "إلى الجعرانة"، ونادى مناديه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغل. وروى أحمد، وابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن عبادة، وابن إسحاق عن ابن عمر: أخذ صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من سنام بعير من الغنائم، فجعلها بين أصبعه، ثم قال: "يا أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، وإياكم والغلول، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله في الدنيا والآخرة"، فجاء أنصاري بكبة خيط من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله أخذت هذه الوبرة لأخيط بها برذعة بعير لي دبر، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما حقي منها". وفي رواية: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك"، فقال الرجل: أما إذا بلغ الأمر فيها ذلك، فلا حاجة لي بها، فرمى بها من يده، وروى عبد الرزاق، عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عقيل بن أبي طالب دخل على امرأته فاطمة بنت شيبة يوم حنين، وسيفه ملطخ دما، فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 فكان بها إلى أن انصرف عليه الصلاة والسلام من الطائف. وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، الغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة ألاف أوقية فضة. واستأنى صلى الله عليه وسلم -أي انتظر وتربص- بهوازن أن يقدموا عليه مسلمين بضع عشرة، ثم بدأ يقسم الأموال، فقسمها.   دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها، فسمع المنادي يقول: من أخذ شيئا فليرده حتى الخياط والمخيط، فرجع عقيل، فأخذها، فألقاها في الغنائم "فكان بها إلى أن انصرف" بها "عليه الصلاة والسلام من الطائف"، وعليها مسعود بن عمر والغفاري عند ابن إسحاق، أو بديل بن ورقاء الخزاعي عند البلاذري، كما مر. وروى الطبراني عن بديل: أمر صلى الله عليه وسلم أن نحبس السبايا والأموال بالجعرانة حتى يقدم، فحبست "وكان" كما قال ابن سعد وتبعه اليعمري، السبي ستة آلاف رأس" من النساء والأطفال. روى عبد الرزاق عن ابن المسيب: سبى صلى الله عليه وسلم يومئذ ستة آلاف بين امرأة وغلام "والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، الغنم أكثر من أربعين ألف شاة وأربعة آلاف أوقية فضة"، وإطلاق السبي على الإبل والغنم، والفضة تغليب، ولم يذكر عدة البقر والحمير مع أنهما كانت معهم أيضا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره أن دريد بن الصمة قال لمالك بن عوف: ما لي أسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، ونعار الشاء وخوار البقر، إما لقلتهما بالنسبة لما ذكر، أو؛ لأنه لم يتحرر عدتهما لابن سعد، "واستأنى" بفوقية مفتوحة فهمزة، ساكنة "صلى الله عليه وسلم" أي انتظر،" أي أخر قسم الغنيمة، "وتربص بهوازن أن يقدموا عليه هوازن مسلمين، فسألوه أن يرد عليهم سبيهم وأموالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون، وقد استأنينا بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي فاختاروا إما السبي وإما المال"، فاختاروا السبي، فكلم صلى الله عليه وسلم في رد سبيهم عليهم، فردوه كلهم إلا عيينة بن حصن، فإنه أبى أن يرد عجوزا كبيرة. قال: هذه أم الحي لعلهم أن يغلوا فداءها، ثم ردها بست قلائص، فيما ذكره ابن إسحاق. وذكر الواقدي ورواه البيهقي عن الإمام الشافعي: أنه ردها بلا شيء فالله أعلم، أي ذلك كان وذكر الواقدي وابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم كسا كل واحد من السبي قبطية، وقال ابن عقبة: كساهم ثياب المعقد، بضم الميم، وفتح العين، وشد القاف ضرب من برود هجر، وتأتي أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وفي البخاري: وطفق صلى الله عليه وسلم يعطي رجالا المائة من الإبل   شاء الله تعالى قصتهم في الوفود. قال ابن القيم ما ملخصه: لما منع الله تعالى الجيش غنائم مكة، وكانوا كثيرا، وفيهم حاجة حرك الله تعالى قلوب هوازن لحربهم، وقذف في قلب قائدهم مالك بن عوف إخراج أموالهم، ونسائهم وذراريهم معهم نزلا وكرامة، وضيافة لحزب الله وجنده، وتمم تقديره بأن أطعمهم في الظفر وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولو لم يقذف الله ذلك في قلبه لكان الرأي ما أشار به دريد، فخالفه فكان سببا لتصييرهم غنيمة للمسلمين، فلما أنزل الله نصره على رسوله وأوليائه ردت الغنائم لأهلها، وجرت فيها سهام الله ورسوله، وقيل: لا حاجة لنا في دمائكم ولا نسائكم ولا ذراريكم، فأوحى الله إلى قلوبهم التوبة، فجاءوا مسلمين فقيل: من شكر إسلامكم، أي يرد عليكم سبيكم، {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70] . "وفي البخاري" ومسلم عن أنس قال ناس من الأنصار: حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن "وطفق صلى الله عليه وسلم" يعطي رجالا" نحو العشرين ستعلمهم "المائة من الإبل"، زاد في رواية ولم يعط الأنصار شيئا، وفي أخرى قسم في الناس على المؤلفة قلوبهم، قال الحافظ: والمراد بهم ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا ليتمكن الإسلام في قلوبهم، وكان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان. ا. هـ. وقد سردهم ابن الجوزي في التلقيح، وابن طاهر في مبهماته، والحافظ في الفتح، والبرهان في النور وهو أحسنهم سياقا، وأكثرهم عددا، فزادوا على الخمسين، وعند كل ما ليس عند الآخر وهم أبي بضم الهمزة، وشد التحتية، وهو الأخنس بن شريق أحيحة بمهملتين مصغرا ابن أمية أسيد بفتح فكسر ابن جارية بجيم وتحتية الثقفي أعطاه مائة، الأقرع بن حابس التميمي أعطاه مائة، جبير بن مطعم الجد بن قيس السهمي أورده في التلقيح الحارث بن الحارث أعطاه مائة، ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها، ثم وعظه فأخذ المائة الأولى فقط، حكيم بن طليق حويطب بن عبد العزى أعطاه مائة، خالد بن أسيد بفتح فكسر خالد بن هوزة العامري خلف بن هشام، قال الصغاني، قال في النور: ولا أعرفه في الصحابةن ولم يذكره في التجريد قلت: لا في الإصابة وعد في العيون رقيم بن ثابت، وكأنه وهم؛ لأنه استشهد إما بحنين أو الطائف وكلاهما قبل القسم، زهير بن أسيد زيد الخيل عزاه الحافظ لتلقيح ابن الجوزي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 ..................................................   قال الشامي: ولم أجده في نسختين قلت: سقط من النسختين معا، والحافظ ثقة لا يجازف في النقل السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ سعيد بن يربوع أعطاه خمسين، سفيان بن عبد الأسد المخزومي سهيل بن عمرو أعطاه مائة، أخوه سهل شيبة بن عثمان صخر بن حرب أبو سفيان أعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة صفوان بن أمية أعطاه مائة، وفي البخاري ومسلم عنه: ما زال صلى الله عليه وسلم يعطيني من غنائم حنين، وهو أبغض الخلق إلي حتى ما خلق الله تعالى شيئا أحب إلي منه، وفي مسلم أعطاه مائة من النعم ثم مائة. قال الواقدي: يقال: إن صفوان طاف معه صلى الله عليه وسلم يتصفح الغنائم إذا مر بشعب مملوءا إبلا وغنما، فأعجبه وجعل ينظر إليه فقال صلى الله عليه وسلم: "أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب"، قال: نعم، قال: "هو لك بما فيه" فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي طليق بن سفيان العباس بن مرداس أعطاه دون مائة، فقال: أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع وقد كنت في الحرب ذا تدرا ... فلم أعط شيئا ولم أمنع وما كنت دون امرئ منهم ... ومن تضع اليو لا يرفع فأتم له المائة. رواه مسلم وغيره عبد الرحمن بن يعقوب الثقفي عثمان بن وهب المخزومي أعطاه خمسين، عدي بن قيس السهمي أعطاه خمسين، عكرمة بن عامر العبدري عكرمة بن أبي جهل، قال ابن التيم علقمة بن علاثة بضم المهملة وخفة اللام، ومثلثة عمرو بن الأهتم بفوقية عمرو بن بعكك بموحدة، فمهملة، فكافين وزن جعفر، وهو أبو السنابل جمع سنبلة. عمرو بن مرداس أخو عباس عمير بالتصغير ابن ودقة، بفتح الواو والدال المهملة عمير بن وهب أعطاه خمسين، العلاء بن جارية، بجيم وتحتية الثقفي أعطاه خمسين عند الواقدي، وقال ابن إسحاق: مائة عيينة بن حصن الفزاري، مائة قيس بن عدي السهمي، مائة ذكره ابن إسحاق والواقدي وقال بعضهم: صوابه عدي بن قيس، وقال الحافظ: لا أدري أهما وأحد أم اثنان. قال الشامي: والظاهر اثنان لاتفاق ابن إسحاق والواقدي على ذلك. قيس بن مخرمة كعب بن الأخنس نقله البرهان عن بعض شيوخه، وقال: لا أعرفه أنا، ولا ذكرته في كتاب التجريد قلت: ولا الإصابة لبيد بن ربيعة العامري مالك بن عوف النصري رئيس هوازن أعطاه مائة، مخرمة بن نوفل الزهري أعطاه خمسين، مطيع بن الأسود القرشي معاوية بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟!   أبي سفيان أعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة، أبو سفيان بن الحارث الهاشمي النضير، بمعجمة مصغرا ابن الحارث أعطاه مائة، نوفل بن معاوية الكناني هشام بن عمرو العامري خمسين، هشام بن الوليد المخزومي يزيد بن أبي سفيان الأموي أعطاه مائة بعير وأربعين أوقية، أبو الجهم بن حذيفة بن غنم العدوي فهؤلاء سبع وخمسون نفسا. قال الحافظ: وفي عد العلاء بن جارية ومالك بن عوف نظر، وقد قيل أنهما أتيا طائعين من الطائف إلى الجعرانة، "فقال ناس من الأنصار: يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم" قالوه توطئة وتمهيدا لما بعده من العتاب، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، وفي رواية: والله إن هذا لهو العجب "يعطي قريشا، ويتركنا وسيفونا تقطر من دمائهم،" حال مقررة لجهة الأشكال، أي ودماؤهم تقطر من سيوفنا فهو من القلب كقوله: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما هكذا مشاه غير واحد، قال البدر العيني: ويجوز أنه على الأصل والمعنى أن سيوفنا من كثرة ما أصابها من دمائهم تقطر. ا. هـ. وفي رواية وغنائمها ترد علينا والله إن هذا لهو العجب إذا كانت شديدة، فنحن ندعى وتعطي الغنيمة لغيرنا، ووددنا أن نعلم ممن كان هذا، فإن كان من الله صبرنا، وإن كان من رأيه صلى الله عليه وسلم استعتبناه. وفي حديث أبي سعيد عند أحمد بن إسحاق، فقال رجل من الأنصار: لقد كنت أحدثكم أنه لو استقامت الأمور لقد آثر عليكم غيركم، فردوا عليه ردا عنيفا، وقال حسان يعاتبه في ذلك: زاد الهموم فماء العين منحدر ... سحا إذا حفلته عبرة درر وجدا بشماء إذ شاء بهكنة ... هيفاء لا نتن فيها ولا خور دع عنك شماء إذ كانت مودتها ... نزرا وشر وصال الواصل النزر وائت الرسول وقل: يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدد البشر علام تدعى سليم وهي ما برحت ... تأت قدام هم آووا وهم نصروا سماهم الله أنصارا لنصرتهم ... دين الهدى وجحيم الحرب تستعر وسارعوا في سبيل الله واعترضوا ... للنائبات وما خاروا وما ضجروا والناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القناوزر نجالد الناس لا نبقي على أحد ... ولا نضيع ما توحي به السور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ثم قال لهم: "أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال   ولا تهر جنات الحرب نادينا ... ونحن حين تلظى نارها سعر كما وردنا ببدر دون ما طلبوا ... أهل النفاق ففينا ينزل الظفر ونحن جندك يوم النصف من أحد ... إذ حزبت بطرا أحزابها مضر فما ونينا وما خبنا وما خبروا ... منا عثارا وكل الناس قد عثروا أورده ابن إسحاق وغيره، "قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم". روى الإمام أحمد وابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري: أن الذي حدثه سعد بن عبادة، ولفظه لما أطى صلى الله عليه وسلم من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت المقالة، فدخل عليه سعد بن عبادة، فذكر له ذلك، فقال: "فأين أنت من ذلك يا سعد" قال: ما أنا إلا من قومي، قال الحافظ: وهذا يعكر عليه رواية الصحيح، ففيها أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا فإن سعدا من رؤسائهم بلا ريب، إلا أن يحمل على الأغلب الأكثر، وإن المخاطب سعد، ولم يرد إدخال نفسه في النفي، أو أنه لم يقل ذلك في اللفظ، وإن رضي بالقول المذكور، فقال: ما أنا إلا من قومي وهذا أوجه. وفي مغازي التيمي أن سبب حزنهم، أنهم خافوا أن يكون صلى الله عليه وسلم يريد الإقامة بمكة، وما في الصحيح أصح على أنه لا يمنع الجمع وهو أولى، واختلف في أن العطاء من الغنيمة وهو المعتمد، وظاهر الروايات الماضية، وهو المخصوص بهذه الواقعة، وقد ذكر السبب في رواية البخاري حيث قال: "إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة وإني أردت أن أخبرهم، وأتألفهم أو من الخمس"، ورجحه القرطبي في المفهم، واختاره أبو عبيدة، وجزم له الواقدي، لكنه ليس بحجة إذا انفرد فكيف إذا خالف، وقيل: إنما تصرف في الغنيمة؛ لأن الأنصار كانوا انهزموا، فلم يراجعوا حتى هزم الكفار، فرد الله أمر الغنيمة لنبيه، وهذا معنى القول الأول أنه خاص بهذه الوقعة، ا. هـ ملخصا "فأرسل إلى الأنصار" سعد بن عبادة، ففي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق وأحمد قال صلى الله عليه وسلم: "فاجمع لي قومك" فخرج "فجمعهم في قبة" خيمة "من آدم"، بفتح الهمزة المقصورة، والدال جلد مدبوغ، قال في رواية البخاري: ولم يدع معهم، غيرهم فلما اجتمعوا قام صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما حديث بلغني عنكم" فقال فقهاء الأنصار: أما فقهاؤنا، فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم، فقالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم"، ثم قال لهم: "تلو هذا "أما" بخفة الميم "ترضون أن يذهب الناس بالأموال"، وفي رواية: "ألا ترضون أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وتذهبون بالنبي إلى رجالكم؟! لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوأ: يا رسول الله قد رضينا".   "يذهب الناس بالشاة والبعير " وتذهبون بالنبي إلى رحالكم " " بالمهملة، أي بيوتكم، وفي رواية: "أولا ترضون أن يذهب الناس بالغنائم إلى بلدانهم، وترجعون برسول الله إلى بيوتكم"؟، "فوالله لما" بفتح لام التأكيد، أي للذي "تنقلبون" ترجعون "به خير مما ينقلبون به" فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه بالنسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من عرض الدنيا الفانية، ومن ثم "قالوا: يا رسول الله قد رضينا". وذكر الواقدي أنه حين دعاهم ليكتب لهم بالبحرين تكون لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأرض، فأبوا وقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا وبقية حديث الصحيح، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "ستجدون إثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض". وفي حديث أنس عند الشيخين: أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم، فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا، فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وكنتم عالة فأغناكم الله بي" كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن، قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا". وفي حديث أبي سعيد عند أبن إسحاق وأحمد من طريقه: "أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتهم وصدقتهم أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك". وأخرجه أحمد من وجه آخر عن أنس بلفظ آخر، فلا تقولون: جئتنا خائفا فآمناك، وطريدا فآويناك ومخذولا فنصرناك، قالوا: بل المن علينا لله ورسوله، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم تواضعا منه وإنصافا، وإلا فالحجة البالغة والمنة الطاهرة في جميع ذلك له عليهم، فلولا هجرته إليهم وسكناه عندهم لما كان بينهم وبين غيرهم فرق، وفي هذا إقامة الحجة على الخصم، وإفحامه بالحق عند الحاجة، وتنبيه الكبير الصغير على ما غفل عنه، وإيضاح وجه شبهته ليرجع إلى الحق وحسن أدب الأنصار، ومناقب عظيمة لهم لثناء الرسول البالغ عليهم، والمعاتبة واستعطاف المعاتب وإغنائه عن عتبه إقامة حجة من عتب عليه، والاعتذار بالاعتراف. قال ابن القيم ما حاصله: اقتضت حكمة الله أن الغنائم لما حصلت قسمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه، لما بقي فيه من طبع البشر من حب المال فقسم فيهم لتجتمع قلوبهم على محبته؛ لأنها جبلت على حب من أحسن إليها، ومنع أهل الجهاد من أكابر المهاجرين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها؛ لأنه لو قسم فيهم لقصر عليهم بخلاف قسمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وعن جبير بن مطعم قال: بينما أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه الناس مقفلة من حنين، علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه.   على المؤلفة؛ لأنه فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسيهم، فيكون سببا لإسلامهم، ولتقوية قلب من دخل فيه قبل، فتبعهم من دونهم في الدخول، فكان فيه مصلحة عظيمة، ولذا لم يقسم من أموال مكة عند فتحها شيء مع احتياج الجيوش إلى المال الذي يعينهم على ما هم فيه انتهى، ووكل أولئك إلى قوة إيمانهم، كما قال صلى الله عليه وسلم، لمن قال له: أعطيت عيينة والأقرع، وتركت جعيل بن سراقة، فقال: "أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلها مثل عيينة والأقرع، ولكني أتألفها ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة لإسلامه". أخرجه ابن إسحاق رواية يونس، وقد روى البخاري عن سعد مرفوعا: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" وروي أيضا عن عمرو بن ثعلب مرفوعا: "إني لأعطى أقواما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن ثعلب"، قال عمرو: فما أحب أن لي بها حمر النعم، "و" في البخاري، أيضا في الجهاد وفرض الخمس "عن جبير بن مطعم" بن عدي القرشي النوفلي": "بينما" بالميم أنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه" أي والحال أن معه "الناس مقفله". قال الحافظ: بفتح الميم وسكون القاف، وفتح الفاء واللام: يعني زمان رجوعه "من حنين" وتبعه المصنف، فالهاء للضمير في مقفله عائد على المصطفى لا تاء تأنيث، كما ظنه من ضبطه، بضم الميم وسكون القاف، وكسر الفاء؛ لأنه خلاف الرواية. وفي رواية الخمس بدل مقفلة مقفلان، بالنصب على الحال، "علقت" بفتح العين، وكسر الخفيفة، بعدها قاف لزمت "برسول الله صلى الله عليه وسلم" الأعرب" رواية أبي ذر ولغيره، فعلق الناس ولأبي ذر عن الكشميهني فطفقت الناس الأعراب يسألونه أن يعطيهم من الغنيمة، وعند ابن إسحاق رواية يونس من حديث ابن عمر يقولون: يا رسول الله أقسم علينا فيأنا "حتى اضطروه" ألجأوه "إلى سمرة". قال الحافظ: بفتح المهملة وضم الميم: شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل، صغيرة الورق والشوك صلبة الخشب، قاله ابن التين، وقال الداودي هي العضاه، وقال الخطابي: ورق السمرة أثبت وظلها أكنف، ويقال: هي شجر الطلح، "فخطفت" بكسر الطاء الشجرة "رداءة"، أي علق شوكها به فجبذه، فهو مجاز أو المراد خطفته الأعراب. قاله المصنف: وفي مرسل عمرو بن سعيد عند عمرو بن شيبة حتى عدلوا ناحية عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 فوقف صلى الله عليه وسلم: فقال: "أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا"، ورواه مسلم.   الطريق، فمر بسمرات فانتهشن ظهره، وانتزعن رداءه، "فوقف صلى الله عليه وسلم" وقال: "أعطوني" بهمزة قطع "ردائي"، أي خلصوه من السمرة، وناولوه لي. وفي حديث ابن عمر عند ابن إسحاق: "يا أيها الناس ردوا علي ردائي" "فلو كان لي عدد هذه العضاه" بكسر المهملة، وفتح المعجمة الخفيفة آخره هاء وصلا، ووقفا قال القزاز: شجر الشوك كالطلح، والعوسج والسدر، قيل: واحدة عضة بفتحتين، والأصل عضهة فحذفت الهاء، وقيل: واحدة عضاهة، وفي حديث ابن عمر: "فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة "نعما" بفتح النون والعين نصب على التمييز، والخبر لي أو على الخبر، والاسم عدد ولأبي ذر نعم بالرفع اسم كان، ونصب عدد خبر مقدم "لقسمته بينكم". زاد أبو ذر في نسخة عليكم، "ثم لا تجدوني"، بنون واحدة، ولأبي ذر بنونين "بخيلا، ولا كذوبا ولا جبانا"، أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذا جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله، لا نفي المبالغة التي دل عليها الثلاثة؛ لأن كذوبا من صيغ المبالغة، وجبانا صفة مشبهة، وبخيلا يحتمل الأمرين. قال ابن المنير: وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه الصفات لطيفة؛ لأنها متلازمة، وكذا أضدادها الصدق والكرم والشجاعة، وأصل المعنى هنا الشجاعة، فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه، فبالضرورة لا يبخل، وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد؛ لأن الخلف إنما ينشأ من البخل، وقوله: "لو كان لي مثل هذه العضاة" تنبيه بطريق الأولى؛ لأنه إذا سمح بمال نفسه، فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى، واستعمال ثم هنا بعدما تقدم ذكره ليس مخالفا لمقتضاها، وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم الكريم، إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد بثم الدلالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء، وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف، كأنه قال: وأعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم، كعطاء البخيل ونحو ذلك. ا. هـ. "ورواه مسلم" أيضا وعبد الرزاق، ويقع في نسخ رواه بلا واو، وهي خطأ لإبهامها انفراده به عن البخاري مع أنه رواه في محلين كما علمت وفيه ذم الخصال المذكورة، وأن الإمام لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق، وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب، وجواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف، ظن أهل الجهل به خلاف ذلك، ولا يكون من الفخر المذموم، ورضا السائل للحق بالوعد إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وذكره محمد بن سعد كاتب الواقدي عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة، فقسم بها الغنائم ثم اعتمر منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال. قال ابن سيد الناس: وهذا ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاثة عشر ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم بعمرة ودخل مكة. وفي تاريخ الأزرقي عند مجاهد أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من وراء الوادي، حيث الحجارة المنصوبة.   تحقق من الواعد التنجيز، وأن الإمام مخير في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب، وإن شاء قبل ذلك. "وذكر محمد بن سعد": بن منيع، الثقة الحافظ، المشهور بأنه "كاتب الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، المدني الحافظ، المتروك مع سعة علمه، "عن ابن عباس أنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف، نزل الجعرانة، فقسم بها الغنائم". قال أهل المغازي: أمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحضار الناس والغنائم، ثم فضها على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربعة من الإبل وأربعين شاة، فإن كان فارسا أخذ اثني عشر من الإبل ومائة وعشرين شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له، قالوا: ولما جمعت الغنائم بين يديه صلى الله عليه وسلم جاءه أبو سفيان بن حربش قال: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، "ثم اعتمر منها"، أي الجعرانة، "وذلك لليلتين بقيتا من شوال، قال ابن سيد الناس: وهذا ضعيف، والمعروف عند أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلًا، وأحرم بعمرة ودخل مكة، فطاف وسعى، وحلق ورجع إلى الجعرانة من ليلته، فكأنه كان بائتا بها، "وفي تاريخ" مكة للإمام "اأزرقي" نسبة إلى جده الأزرق، إذ هو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن عتبة بن الأزرق بن عمرو الغساني، وجده الأدني أحمد من شيوخ البخاري. "عن مجاهد" مرسلا "أنه صلى الله عليه وسلم" أحرم من وراء الوادي حيث" ظرف مكان "الحجارة المنصوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وعند الواقدي: من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان صلاته عليه الصلاة والسلام إذ كان بالجعرانة به. والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد، كما قاله الفاكهي، وقال الباجي: ثمانية عشر ميلًا، وسمي بامرأة تلقب بالجعرانة، كما ذكره السهيلي. قالوا: وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يومًا.   "وعند الواقدي من المسجد الأقصى" إلا بعد الذي تحت الوادي العدوة القصوى من الجعرانة، وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام إذ كان بالجعرانة به" بذلك المسجد. والجعرانة موضع بينه وبين مكة بريد كما قاله الفاكهي". قال عياض: وهي بين مكة والطائف وإلى مكة أقرب، "وقال الباجي: ثمانية عشر ميلًا"، ووقع في الصحيح أنها بين مكة والمدينة. قال الداودي وغيره وهو وهم: إنما هي بين مكة والطائف، وكذا جزم به السيوري، "وسمي الموضع "بامرأة تلقب بالجعرانة"، واسمها ريطة وهي التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا "كما ذكره السهيلي" في الروض، "قالوا: وقدم صلى الله عليه وسلم المدينة" بعدما استخلف على مكة عتاب بن أسيد ومعه معاذ بن جبل، زاد الواقدي والحاكم وأبا موسى الأشعري يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين. قال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه لما استعمل صلى الله عليه وسلم عتابا على مكة رزقه كل يوم درهمًا، فقام فخطب، فقال: أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم، فقد رزقني صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد، "وقد غاب عنها شهرين وستة عشر يوما"، فقدم المدينة لثلاث بقين من ذي القعدة، وقال ابن هشام: لست بقين منها، فيما زعمه أبو عمرو المدني ومر عن الفتح أن مدة الغيبة أكثر من ثمانين يوما والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 [ بعث قيس إلى صداء ] : وبعث صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن.   بعث قيس إلى صداء: "وبعث صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد بن عبادة،" الخزرجي الصحابي، ابن الصحابي، الجواد ابن الجواد "إلى ناحية اليمن"؛ لأنه كما قال ابن سعد: لما انصرف من الجعرانة بعث بعوثا إلى اليمن، فبعث المهاجرين أبي أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، وهيأ بعثا استعمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 في أربعمائة فارس، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء، حين مروره عليهم في الطريق فقدم زياد بن الحارث الصدائي، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، فقال: يا رسول الله أنا وافدهم فاردد الجيش، وأنا لك بقومي، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم من قناة. وقدم الصدائيون بعد خمسة عشر يوما فأسلموا، وتأتي قصة وفدهم في الفصل العاشر من المقصد الثاني إن شاء الله تعالى.   عليهما قيسا، وعقد له لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وعسكر بناحية قناة "في أربعمائة فارس"، من المسلمين، وأمره أن يقاتل قبيلة صداء"، بضم الصاد وفتح الدال المهملتين، والمد قال البخاري وغيره: حي من اليمن قيل أنه صداء بن حرب بن علة "حين مروره عليهم"، وسياق المصنف يوهم أن صداء غير مقصود بالبعث، وينافيه رد الجيش من قناة لما تكفل زياد بهم. وقد ذكر الواقدي وغيره أنه بعثه إلى ناحية من اليمن فيها صداء، فهذا صريح أنهم المقصودون بالبعث، وأجاب شيخنا: بأن اليمن لما كان متسعا ولم يعلم المحل الذي فيه الصدائيون بخصوصه عين لهم الجهود دون المحل، بقوله: "في الطريق" أي في أي محل وجدتموهم فقاتلوهم "فقدم زياد بن الحارث"، ويقال ابن حارثة، قال البخاري والحارث: أصح "الصدائي" قال ابن يونس: صحابي معروف نزل مصر، فسأل عن ذلك البعث فأخبر، فقال: يا رسول الله أنا وافدهم، يعني قومه وفي رواية جئتك وافدًا على من ورائي، "فأردد الجيش، وأنا" أتكفل "لك بقومي"، أن بمجيئهم مسلمين. وفي رواية وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم، فقال لي: "اذهب فردهم" فقلت: إن راحلتي قد كانت فبعث رجلا "فردهم النبي صلى الله عليه وسلم من قناة". بفتح القاف والنون واد بالمدينة. قال الواقدي: ورجع الصدائي إلى قومه، "وقدم الصدائيون" أي وفدهم وهم خمسة عشر رجلا، كما يأتي في الوفود "بعد خمسة عشر يوما فأسلموا،" فقال صلى الله عليه وسلم: "إنك مطاع في قومك يا أخا صداء"، فقال: بل الله هداهم، ورجعوا إلى قومهم، ففشا فيهم الإسلام، ثم وافاه زياد في حجة الوداع بمائة منهم، كما ذكره الواقدي عن بعض بني المصطلق، "وتأتي قصة وفودهم في الفصل في الفصل العاشر من المقصد الثاني إن شاء الله تعالى". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 [ البعث إلى بني تميم ] : وبعث عيينة بن حصن.   البعث إلى بني تميم: "وبعث عينية بن حصن" بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوير، بالجيم مصغرا بن لوذان بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الفزاري إلى بني تميم بالسقيا، وهي أرض بني تميم -في المحرم سنة تسع في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري. فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء، فدخلوا.   ثعلبة بن عدي بن فزارة "الفزاري" يقال: كان اسمه حذيفة، فلقب عيينة، لشجة أصابته، فجحظت عيناه، أسلم قبل الفتح وشهدها وحنينا والطائف، وارتد في عهد أبي بكر، ثم عاد إلى الإسلام، وكان فيه جفاء الأعراب، وقع للشافعي في الأم في كتاب الركاز، أن عمر قتله على الردة. قال في الإصابة ولم أرد من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظًا فلا يذكر في الصحابة، لكن يحتمل أنه أمر بقتله فبادر إلى الإسلام فترك فعاش إلى خلافة عثمان، وقد ذكر ابن عبد البر أنه دخل على عثمان، فأغلظ له فقال عثمان: لو كان عمر ما أقدمت عليه. ا. هـ، وقال فيه أيضا في ترجمة طليحة بن خويلد، وقع في الأم أن عمر قتل طليحة وعيينة، وراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني، فاستغربه جدا، ولعله قبل بالباء الموحدة، أي قبل منهما الإسلام. .اهـ. "إلى بني تميم" وفي البخاري عن ابن إسحاق إلى بني العنبر من بني تميم، قال ابن هشام: والعنبر هو عمرو بن تميم "بالسقيا" بضم السين المهملة وإسكان القاف، فتحتية مقصور قرية جامعة من عمل الفرع، بينهما مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلا، "وهي أرض بني تميم" فيه تسمح فالذي في العيون وغيرها، وكانوا فيما بين السقيا وأرض بني تميم، فلعله أطلق عليها أرضهم لقربها منها. ذكر الواقدي: أن سبب البعث إليهم أنهم غاروا على ناس من خزاعة لما بعث صلى الله عليه وسلم إليهم بشر بن أبي سفيان العدوي الكلبي يأخذ منهم الصدقات، ونهاه عن كرائم أموالهم، فجمعوا له ما طلبه، فاستكثره بنو تميم، وقالوا: ما لهذا يأخذ أموالكم منكم بالباطل، فشهروا السيو، فقال الخزاعيون: نحن مسلمون وهذا أمر ديننا، فقال التميميون: لا يص إلى بعير منها أبدا، فهرب الرسول ورجع فأخبره صلى الله عليه وسلم الخبر، فوثب خزاعة على التميميين، فأخرجوهم وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم، ليدخلن علينا بلاء من محمد صلى الله عليه وسلم حيث تعرضتم لرسوله تردونه عن صدقات أموالنا، فخرجوا راجعين إلى بلادهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لهؤلاء القوم، فانتدب أول الناس عيينة"، قال ابن سعد: كان ذلك "في المحرم سنة تسع" بعثه "في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري، ولا أنصاري" من مزيد حذقه صلى الله عليه وسلم خافهم عليهم، فلم يبعث منهم أحدا، "فكان يسير الليل، ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء" حال كونهم "فدخلوا" بالقاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وسرحوا مواشيهم فلما رأوا الجمع ولوا فأخذ عيينة منهم أحد عشر رجلا، ووجدوا في المحلة إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا. فقدم منه عشرة من رؤسائهم، منهم: عطارد والزبرقان،   وفتح الحاء وشد اللام، ما ضبطه بالقلم من الحلول، أي نزلوا بها وإن قرئ بالفاء والخاء المعجمة من الدخول صح، أي دخلوا محل دوابهم "وسرحوا مواشيهم، فلما رأوا الجمع ولوا، فأخذ عيينة،" وفي نسخة فأخذوا أي عيينة ومن معه "منهم أحد عشر رجلا". قال البرهان: لا أعرفهم "ووجدوا في المحلة" بفتح الميم، المهملة واللام المشددة مكان نزولهم "إحدى عشرة امرأة" كما قال الواقدي وابن سعد، وتبعهما مغلطاي وغيره، وفي العيون إحدى وعشري امرأة قال البرهان: لا أعرفهن، وثلاثين صبيا لا أعرف أسمائهم. ا. هـ. زاد في العيون فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم صلى الله عليه وسلم، فحبسوا في دار رملة بنت الحارث، "فقدم" في شأن الأسرى "منهم عشرة من رؤسائهم" ليسوا جمل القادمين، كما يوهمه المصنف، فقد قال ابن إسحاق: لما قدم سبيهم عليه صلى الله عليه وسلم، ركب فيهم وفد من بني تميم حتى قدموا عليه منهم ربيعة بن رفيع، وسبرة بن عمرو، والقعقاع بن معبد، وردان بن محرز، ومالك بن عمرو، وفراس بن حابس، وذكر باقي العشرة الذين عدهم بقوله: "منهم عطارد" بن حاجب بن زرارة التميمي استعمله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني تميم. روى الطبراني عنه: أنه أهدي إليه صلى الله عليه وسلم ثوب ديباج، كساه لأبيه كسرى، فدخل أصحابه، فقالوا: ما نزل عليك من السماء، فقال: وما تعجبون من ذا المناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا. قال في الإصابة وارتد عطارد بعده صلى الله عليه وسلم مع من ارتد من تميم ومع سجاح، ثم أسلم وهو القائل فيها: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا فلعنة الله رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالكفر أغوانا "والزبرقان" بكسر الزاي، وسكون الموحدة، وراء مكسورة ابن بدر التميمي السعدي. قال في الإصابة: كان اسمه الحصين، ولقب الزبرقان لحسن وجهه، وهو من أسماء القمر. ا. هـ قال الشاعر: تضيء به المنابر حين يرقى ... عليها مثل ضوء الزبرقان وقال ابن السكيت وغيره: إنما قيل له ذلك لتصغيره عمامته، يقال: زبرقت الثوب إذا صغرته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وقيس بن عاصم، والأقرع بن حابس،   قال في الروض: وكان يرفع له بيت من عمائم وثياب، ويضمخ بالزعرفان والطيب وتحجه بنو تميم قال الشاعر: وأشهد من عوف حلولا كثيرة ... يحجون بيت الزبرقان المزعفرا قال: وله أسماء الزبرقان، والمعمر والحصين، وكنى ثلاثة أبو العباس، وأبو سدرة وأبو عياش. ا. هـ أسلم وصحب. قال ابن عبد البر: ولاه صلى الله عليه وسلم صدقات قومه، فأداها إلى أبي بكر، فأقره، ثم إلى عمر وعمي، وعاش إلى خلافة معاوية. وقيل: بعدها وأنه وفد على عبد الملك، وقاد إليه خمسة وعشرين فرسا، ونسب كل فرس إلى آبائه وأمهاته، وحلف على كل فرس يمينا غير التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك: عجبي من اختلاف أيمانه أشد من عجبي بمعرفته أنساب الخيل. "وقيس بن عاصم" بن سنان بن منقر التميمي المنقري، بكسر الميم وسكون النون، وفتح القاف نسبة إلى جده المذكور، كان عاقلا حليما يقتدى به، حرم الخمر في الجاهلية. روى ابن سعد بسن حسن عنه: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دنوت منه قال: هذا سيد أهل الوبر قال عمر للأحنف: ممن تعلمت الحلم، قال: من قيس بن عاصم رأيته أتى برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل: هذا ابن أخيك قتل ابنك، فالتفت إلى أبن أخيه، فقال: يا ابن أخي بئيس ما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك وسق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها، فإنها غريبة. قال ابن حبان: كان له ثلاثة وثلاثون ولدا، ونزل البصرة، وبها مات، ورثاه عبدة بن الطيب بقوله: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما "والأقرع بن حابس" التميمي، المجاشعي الدارمي، قال ابن إسحاق: وفد وشهد الفتح وحنينا والطائف، وهو من المؤلفة، وقد حسن إسلامه حضر اليمامة، وغيرها وحرب أهل العراق، وفتح الأنبار مع خالد. قال ابن دريد: اسمه فراس، وإنما قيل له: الأقرع لقرع كان برأسه، وكان شريفا في الجاهلية، والإسلام استشهد بخراسان في زمن عثمان. قال الحافظ: وقرأت بخط الرضى الشاطبي، أنه قتل باليرموك في عشرة من بنيه والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا: يا محمد اخرج إلينا، فخرج صلى الله عليه وسلم، وأقام بلال الصلاة وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه، فوقف معهم ثم مضى فصلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد. فقدموا عطارد بن حاجب فتكلم وخطب، فأمر صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس فأجابهم.   وذكر ابن الكلبي أنه كان مجوسيا قبل إسلامه. ا. هـ، ولا يشكل عليه حضوره في وفد تميم، بأنه أسلم قبل، وحضر مع النبي الغزوات المذكورة لقول ابن إسحاق قد كان الأقرع وعيينة شهدا معه صلى الله عليه وسلم، الغزوات الثلاث فلما قدم وفد تميم كانا معهم، "فجاءوا" لما رآهم النساء والذراري، وبكوا، فعجلوا "إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم"، ولا يرد عليه قوله من وراء الحجرات؛ لأن النداء، وقع عند الباب، وسمع من ورائها "فنادوه: يا محمد اخرج إلينا" زاد في رواية تفاخرنا، ونفاخرك، وتشاعرنا، ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين، فلم يزد صلى الله عليه وسلم على أنه قال: "ذاك الله إذا مدح زان وإذا ذم شان إني لم أبعث بالشعر، ولم أؤمر بالفخر ولكن هاتوا". وعند ابن إسحاق: فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم. وروى ابن جرير وغيره عن الأقرع: أنه ناداه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فلم يجبه فقال: يا محمد والله إن حمدي ليزين، وإن ذمي ليشين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك الله" فخرج صلى الله عليه وسلم" وأقام بلال الصلاة" للظهر، "وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه" في فداء عيالهم، "فوقف معهم، ثم مضى فصلى الهر، ثم جلس في صحن المسجد". قال ابن إسحاق: فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك فائذن لشاعرنا وخطيبنا، فليقل، فقال: "أذنت لخطيبكم"، "فقدموا عطارد بن حاجب" فقام، "فتكلم وخطب". قال ابن إسحاق: فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل، وهو أهله الذي جعلنا ملوكا، ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثر عددا وعدة، فمن مثلنا في الناس، ألسنا برءوس الناس وأفضلهم؟ فمن فاخرنا، فليعدد مثل ما عددنا وإنا لو شئنا لأكثرنا الكلام، ولكنا نستحيي من الإكثار، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، "فأمر صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس"، بمعجمة، وشد الميم، فألف، فمهملة، الخزرجي الخطيب، من كبار الصحابة بشره صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد باليمامة، فأجابهم". قال ابن إسحاق: فقال صلى الله عليه وسلم لثابت: "قم فأجب الرجل في خطبته"، فقام ثابت، فقال الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه، ولم يكن شيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 ونزل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الآية، [الحجرات: 4] ورد عليهم صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي.   قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى خير خلقه رسولا أكرمه نشبا وأصدقه حديثا، وأفضله حسبا، وأنزل عليه كتابا، وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كنا أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعا رسول الله، فنحن أنصار الله وزراء رسول الله، نقاتل الناس حتي يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسير. أقول قولي هذا واستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم، فقام الزبرقان، فقال قصيدة، وكان حسان غائبا، فبعث إليه صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قال: "يا حسان قم فأجب الرجل"، فقام فأجابه والقصيدتان في ابن إسحاق، وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لذكرهما، حيث ذكر المصنف بعض القصيدة في ترجمة حسان. قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل المؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلما فرغ القوم أسلموا وجوزهم، فأحسن جوائزهم، قال: "ونزل فيهم": من القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} من خارجها، خلفها أو قدامها؛ لأن وراء في الأصل مصدر جعل ظرفا فيضاف للفاعل، ويراد به ما يتوارى به وهو خلفه، وللمفعول ويراد به ما يواريه وهو قدامه، ولذا عد من الأضداد، والمراد حجرات نسائه ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة، حجرة، فنادوه، أو تفرقوا عليها متطلبين له؛ لأنهم لم يعلموه بأيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، إذ العقل يقتضي حسن الأدب، وفيه تسلية الرسول وتلميح بالصفح عنهم، "ورد عليهم صلى الله عليه وسلم الأسرى والسبي"، بفداء النصف، والمن على النصف، كما روي عن ابن عباس أو من على الكل تفضلًا بعد إسلامهم ترغيبا لهم فيه، وإن وافقهم قبل على فداء النصف، وهذا هو الظاهر من مزيد كرمه صلى الله عليه وسلم، وإن جزم ابن إسحاق بأنه أعتق بعضا، وفادى بعضًا. وقد روى ابن شاهين وغيره من طريق المدائني، عن رجاله قالوا: لما أصاب عيينة بن حصن بني العنبر من بني تميم، قدم وفدهم، فذكر القصة وفيها فكلم الأقرع بن حابس رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي، وكان بالمدينة قبل قدوم السبي، فنازعه عيينة بن حصن، وفي ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وفي البخاري: عن عبد الله بن الزبير: أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت   يقول الفرزدق يفخر بعمه الأقراع: وعند رسول الله قام ابن حابس ... بخطة سوار إلى المجد حازم له أطلق الأسرى التي في قيودها ... مغللة أعناقها في الشكائم كفى أمهات الخائفين عليهم ... غلاء المفادي أو سهام المقاسم وهذا قد يرد على من زعم أن المنادي عيينة والأقرع، وأسند إلى الكل، لرضاعهم أو أمرهم به أو وجوده بينهم، ويحتمل التوفيق بأن كلا ناداه لمراده، فمراد عيينة الفداء ونحوه، ومراد الأقرع المن بلا شيء وعدا من الوفد، تجوزا؛ لأنهما من القبيلة، وإن كانا أسلما قبل وكانا بالمدينة. "وفي البخاري" هنا، وفي التفسير "عن عبد الله بن الزبير" أمير المؤمنين الصحابي ابن الصحابي "أنه" قال: "قدم ركب من بني تميم" قيل: كانوا سبعين من رؤسائهم العشرة الذين ذكر المصنف منهم أربعة "على النبي صلى الله عليه وسلم" فأسلموا وسألوه أن يؤمر عليهم أحدا، "فقال أبو بكر" الصديق "أمر" عليهم "القعقاع" بفتح القافين بينهما عين مهملة، فألف مهملة "ابن معبد، بفتح الميم، والموحدة بينهما عين ساكنة مهملة، وآخره دال مهملة. "ابن زرارة" بن عدي بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي الصحابي. قال هشام بن الكلبي: كان يقال له تيار الفرات لسخائه، وعند البغوي قال أبو بكر: استعمل القعقاع بن زرارة، فنسبه لجده. قال ابن التين: كانت فيه رقة، فلذا اختاره أبو بكر "وقال عمر" الفروق: "بل أمر" عليهم "الأقرع بن حابس" لشرفه فيهم، وصلابته وحسن إسلامه، وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه من خندف، ثم من بني تميم، كما أفاده السهيلي. "قال أبو بكر" لعمر رضي الله عنهما: "ما أردت إلا خلافي،" بكسر الهمزة وشد اللام، أي ليس مقصودك إلا مخالفة قولي، وفي رواية إلى خلافي بإلى الجارة، فما استفهامية، أي أي شيء قصدت منتهيا إلى خلافي "فقال عمر: ما أردت خلافك" تعنتا، وإنما أردت أن تولية الأقرع عليهم أصلح، ولم يظهر لك أنت ذلك، فأشرت بتولية غيره، "فتماريا" تجادلا وتخاصما "حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 أصواتهما، فنزل في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] حتى انقضت، أي لا تقدموا القضاء في الأمر قبل أن يحكم الله ورسوله فيه. ولما نزل: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدي رسول الله إلا كما يسارر الرجل صاحبه،   ارتفعت أصواتهما" في ذلك فنزلت في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] حتى انقضت أي الآية، كما هو رواية البخاري في التفسير، "أي لا تقدمو القضاء" فالمفعول محذوف ليذهب الوهم إلا كل ما يمكن أو تركه؛ لأن القصد نفي التقديم رأسا "في الأمر قبل أن يحكم الله ورسوله فيه". وفي البخاري قال مجاهد: لا تقدموا لا تقتاتوا على رسول الله حتى يقضي الله على لسانه، قال الزركشي: الظاهر أن هذا التفسير على قراءة ابن عباس ويعقوب، بفتح التاء، والدال، والأصل لا تتقدموا، فحذف إحدى التاءين. قال الدماميني: بل هو متأت على القراءة المشهورة أيضا فإن قدم بمعنى تقدم قال الجوهري: وقدم بين يديه أي تقدم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] . ا. هـ. وروى ابن المنذر عن الحسن: أن ناسا ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم أن يعيدوا، وزلت الآية، وأخرج الطبراني عن عائشة أن ناسا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون قبله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وروى ابن جرير عن قتادة: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فنزلت ولا شك أن الأصح الأول لكونه مروي البخاري ويحتمل تعدد الأسباب، وقد قال الفخر الرازي: الأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل، ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات، وتقدم واستبداد بالأمر، وإقدام على فعل غير ضروري بلا مشاورة، "ولما نزل" بسبب المماراة أيضا: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] . قال المصنف: أي إذا كلمتموه؛ لأنه يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، ومن خشي قلبه ارتجف، وضعفت حركته الدافعة، فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف بالعكس، وليس المراد بنهي الصحابة عن ذلك أنهم كانوا مباشرين ما يلزم منه الاستخفاف والاستهانة، فكيف وهم خير الناس، بل المراد أن التصويت بحضرته مباين لتوقيره وتعزيره. ا. هـ. "أقسم أبو بكر لا يتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كما يسارر الرجل صاحبه"، وفي البخاري: من وجه آخر عن أبن أبي ملكية كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 ونزل فيه وفي أمثاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] الآية.   النبي صلى عليه حين قدم عليه ركب بني تميم، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] . قال ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر وعنده في الاعتصام، فكان عمر بعد ذلك إذا حدثه صلى الله عليه وسلم بحديث يحدثه كأخي السرار لا يسمعه حتى يستفهمه، والحاصل أنهما رضي الله عنهما كانا يفعلان ذلك، وزاد أبو بكر الحلف، "ونزل فيه وفي أمثاله،" كعمر وثابت بن قيس خطيبه فإنه، كان من أرفع الصحابة صوتًا، ولما نزلت جلس في بيته منكسا رأسه، فافتقده صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل: "قل إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"، {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 [ بعث الوليد إلى بني المصطلق ] : ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق بن خزاعة يصدقهم،   بعث الوليد إلى بني المصطلق: "ثم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط" إبان بن أبي عمرو، وذكوان بن أبي أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، أخا عثمان لأمه يكنى أبا وهب، كان شجاعا، شاعرا من رجال قريش وسرواتهم، أسلم في الفتح ونشأ في كنف عثمان إلى أن استخلف فولاه الكوفه، ثم عزله للشرب وحده، كما في الصحيحين، ولما مات عثمان اعتزل الوليد الفتنة، فلم يشهد مع علي ولا غيره، وأقام بالرقة إلى أن مات في خلافة معاوية "إلى بني المصطلق" بضم الميم، وسكون الصاد، وفتح الطاء المهملتين، وكسر اللام آخره قاف لقب لجذيمة بجيم ومعجمة مصغرا ابن سعد بن عمرو بطن "بن خزاعة" بضم الميم وفتح الزاي مخففة. قال المحدحي: من الأزد سمو بذلك؛ لأنهم تخزعوا، أي تخلفوا عن قومهم، وأقاموا بمكة "يصدقهم" أي: يأخذ الصدقة منهم؟ وسبب ذلك كما أخرجه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام فأسلمت، وإلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وكان بينهم وبينه عداوة في الجاهلية، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنو الوليد خرج منهم عشرون بالجزر والغنم، فرحا به وتعظيما لله ولرسوله، فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لقوه بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة. فهم صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك القوم، فقدم عليه الركب الذي لقوا الوليد، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية   استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي لوقت كذا، فجمعت من الزكاة، فلما جاء الوقت لم يأته رسول، فظن، أنه حدث فيه شيء فدعا سروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد وقت وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما عندي من الزكاة وليس الخلف منه، ولا أرى منع رسوله إلا مني فتعالوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث صلى الله عليه وسلم: الوليد بن عقبة "وكان بينهم وبينه عداوة في الجاهلية، وكانوا قد أسلموا وبنوا المساجد، فلما سمعوا بدنوا" بقرب "الوليد، خرج منهم عشرون رجلا بالجزر" جمع جزور "والغنم" أي يؤدونها عن زكاتهم، كذا جزم به شيخنا "فرحًا به" أي لكونه رسول الله المصطفى، كما يدل عليه "وتعظيما لله ولرسوله". وعند ابن عبد البر ومعهم السلاح "فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله" لرية السلاح، مع أنهم إنما خرجوا به تجملا على عادة العساكر، فخاف "فرجع من الطريق قبل أن يصلوا إليه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم مستندا لظنه "أنهم لقوه بالسلاح يحولون بينه وبين الصدقة"، ولعبد الرزاق وغيره عن قتادة: فقال: ارتدوا "فهم صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، وبلغ ذلك، أي همه بغزوهم "القوم" أي وبعث بالفعل: ففي حديث الحارث عند أحمد تلو ما مر فلما سار الوليد فرق، أي خاف فرجع فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه إذ استقبل البعث، فقال لهم: إلى أين بعثتم؟ فقالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدا ما رأتيه ولا أتاني فلما دخل عليه عليه الصلاة والسلام قال له صلى الله عليه وسلم: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي" قال: قال: والذي بعثك بالحق فنزلت الآية: "فقدم عليه الركب الذين لقوا الوليد" من بعد ولم يصلوا إليه، "فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم الخبر على وجهه، فنزلت هذه الآية"، كما رواه أحمد وغيره من حديث الحارث والطبراني بنحوه من حديث جابر، وعلقمة بن ناجية، وأم سلمة وابن جرير عن أنس، ووردت من مرسل قتادة وعكرمة، ومجاهد قال ابن عبد البر: خلاف بين أهل التأويل، أنها نزلت في الوليد، ويعارضه ما أخرجه أبو داود، عن أبي موسى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] إلى آخر الآية، فقرأ عليهم القرآن، وبعث معهم عباد بن بشر يأخذ صدقات أموالهم، ويعلمهم شرائع الإسلام ويقرئهم القرآن.   عبد الله الهمداني، عن الوليد بن عقبة قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهلها يأتونه بصبيانهم، فيمسح على رءوسهم فأتى به إليه، وأنا مخلق، فلم يمسني من أجل الخلوق لكن ضعفه ابن عبد البر بأن أبا موسى مجهول، قال: ومن يكون صبيا يوم الفتح لا يبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا بعد الفتح بقليل، وقد ذكر الزبير بن بكار وغيره من علماء السير، أن أم كلثوم بنت عقبة لما هاجرت في الهدنة خرج أخواها الوليد، وعمارة ليرداها قال: فمن يكون صبيا يوم الفتح كيف يخرج ليرد أخته قبله. قال الحافظ: وما يؤيد أنه كان في الفتح رجلا أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن أبي وجرة لما أسر يوم بدر، فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أهل المغازي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] يعني جنسها. ففي حديث الحارث عند أحمد وغيره، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] إلى قوله {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8] ولا يشكل تسميته فاسقا بإخباره عنهم بذلك على ظنه للعداوة ورؤية السيوف، وذلك لا يقتضي الفسق؛ لأن المراد الفسق اللغوي، وهو الخروج عن الطاعة، وسماه فاسقا لإخباره بخلاف الواقع على المبعوث إليهم لا الشرعي الذي هو من ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة العدالة الصحابة، وقد صرح بعضم: بأن كون ذلك مدلول الفسق لا يعرف لغة إنما هو مدلول شرعي، "فقرأ عليهم صلى الله عليه وسلم القرآن، وبعث معهم عباد بن بشر" الأنصاري البدري، من قدماء الصحابة، أسلم قبل الهجرة، وأبلى يوم اليمامة، فاستشهد بها، يأخذ صقدات أموالهم، ويعلمهم شرائع الإسلام، ويقرئهم القرآن" بعد أن كان بعد خالد بن الوليد لاستكشاف الخبر، فروى عبد الرزاق وغيره، عن قتادة وعكرمة ومجاهد: أنه صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد في عسكر، وأمره أن يخفي عنهم قدومه، فلما دنا منهم بعث عيونا ليلا، فإذا هم ينادون بالصلاة ويصلون، فأتاهم خالد، فلم ير منهم إلا طاعة وخيرًا، فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية، فبعث معهم عبادا الجمل الثلاث التي ذكرها المصنف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 [ سرية ابن عوسجة ] : وفي "شرف المصطفى" للنيسابوري مما ذكره مغلطاي أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن عوسجة إلى بني عمرو بن حارثة، وقيل: حارثة بن عمرو، قال: -وهو الأصح- في مستهل صفر ويدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا واستخفوا بالصحيفة، فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم بذهاب العقل، فهم إلى اليوم أهل رعدة وعجلة، وكلام مختلط.   سرية ابن عوسجة: "وفي شرف المصطفى للنيسابوري" عبد الرحمن، الحافظ أبي سعد "مما ذكره مغلطاي"، وأصله في مغازي الواقدي بلا إسناد، وتبعه جماعة "أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن عوسجة" بفتح العين والسين المهملتين، بينهما واو ساكنة، وبالجيم العوفي الصحابي "إلى بني عمرو بن حارثة، وقيل: حارثة بن عمرو قال: وهو الأصح"؛ لأنه المذكور في المغازي للواقدي التي هي سلف من ذكر هذه القصة "في مستهل صفر". وقال الطبري: كما في الإصابة في مستهل ربيع الأول، سنة تسع من الهجرة، "يدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا واستخفوا بالصحيفة". قال الواقدي: فغسلوها، ورقعوا بها أسفل دلوهم، فرفع ذلك له عليه السلام، "فدعا عليهم صلى الله عليه وسلم بذهاب العقل"، فقال: ما لهم ذهب الله بعقولهم "فهم إلى اليوم أهل رعدة" بكسر الراء اضطراب في أجسادهم" "وعجلة" في كلامهم، "وكلام مختلط" لا يفهم، وأهل سفه. قال الواقدي: قد رأيت بعضهم عيالا يحسن يعني الكلام. ا. هـ ... والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 [ سرية قطبة إلى خثعم ] : ثم سرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم، قريبا من تربة -بفتح الراء- من أعمال مكة سة تسع، وبعث معه عشرين رجلًا، وأمره أن يشن الغارة عليهم.   سرية قطبة إلى خثعم: "ثم سرية قطبة" بضم القاف، وسكون الطاء المهملة وبالموحدة "ابن عامر بن حديدة" بن عمرو الخزرجي العقبي، شهد بدرًا والمشاهد، وحمل راية بني سلمة يوم الفتح. قال البغوي: لا أعلم له حديثا مات في خلافة عمر، قال أبو حاتم، وقال ابن حبان: في خلافة عثمان "إلى خثعم" بفتح المعجمة، وسكون المثلثة، وفتح المهملة "قريبا من تربة" بضم الفوقية، و"بفتح الراء،" والموحدة الخفيفة، وتاء التأنيث "من أعمال مكة" على يومين منها في صفر "سنة تسع، وبعث معه عشرين رجلا وأمره أن يشن الغارة عليهم"، أي يفرقهم من كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة، وكانت سهامهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس.   وجه، قال ابن سعد: فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، فأخذوا رجلًا فسألوه، فاستعجم عليهم، أي سكت، ولم يعلمهم بالأمر فجعل يصيح بالحاضر، ويحذرهم، فضربوا عنقه، ثم أقاموا حتى نام الحاضر فشنوا عليهم الغارة، "فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعا" المسلمين والمشركين، "وقتل قطبة من قتل، وساقوا النعم والشاء والنساء إلى المدينة". قال ابن سعد: فجاء سيل، فحال بينهم وبينه، فما يجدون إليه سبيلًا، "وكانت سهامهم أربعة أبعرة، والبعير يعدل بعشرة من الغنم بعد أن أخرج الخمس" الذي لله سبحانه وتعالى، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 [ سرية الضحاك إلى القرطاء ] : ثم سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب، في ربيع الأول سنة تسع، إلى القرطاء، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فقاتلوا فهزموا وغنموا.   سرية الضحاك إلى القرطاء: "ثم سرية الضحاك بن سفيان" بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب "الكلابي"، أبي سعيد الصحابي أحد، عمال المصطفى صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وكان شجاعا بعد بمائة فارس، قاله الواقدي، وقال ابن سعد: كان ينزل نجدا، وكان واليا على من أسلم هناك من قومه. وروى البغوي: أنه كان شيئًا قاله صلى الله عليه وسلم قائمًا على رأسه متوشحا، نسبة "إلى بني كلاب" جده المذكور، فهو صلة للمحذوف المقدر، ووجد كذلك في نسخة، وذكره دفعا لتوهم نسبته على غير قياس إلى كلب، أو بني كلبة، أو بني أكلب، أو بني كلب قبائل، كما في القاموس "في ربيع الأول" عند ابن سعد، وتبعه مغلطاي واليعمري وغيرهما، وقد علم من المصنف أنه لا يعد عنه، وقال شيخه الواقدي: في صفرة، واتفقا على كونها "سنة تسع،" وقال الحاكم: في آخر سنة ثمان بجيش "إلى القرطاء" بضم القاف، وفتح الراء، والطاء المهملة والمد، بطن من بني بكر، واسمه عبيد بن كلاب، وهم أخوة قرط، كقفل وقريط، كزبير وقريط، كأمير، كما تقدم مبسوطا، "فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا فقاتلهم" الضحاك والجيش الذين معه، "فهزموا وغنموا". قال ابن سعد: فلحق الأصيد بن سلمة بن قرط أباه سلمة على فرس له في غدير، فدعاه إلى الإسلام، فسبه وسب دينه، فضرب عرقوبي فرسه، فوقع على عرقوبيه، فارتكز سلمة على رمحه في الماء، ثم استمسك حتى جاءه أحدهم، فقتله ولم يقتله ابنه. قال الواقدي: وفيه يقول العباس بن مرداس: إن الذين وفوا بما عاهدتهم ... جيش بعثت عليهم الضحاكا طورا يعانق باليدين وتارة ... يفري الجماجم صارما فتاكا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 [ سرية علقمة إلى طائفة من الحبشة ] : ثم سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى طائفة من الحبشة، في ربيع الآخر، وقال الحاكم في صفر سنة تسع. وذكر ابن سعد أن سبب ذلك: أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم أهل حدة،   سرية علقمة إلى طائفة من الحبشة: "ثم سرية علقمة بن مجزز" بضم الميم، وفتح الجيم ومعجمتين، الأولى مكسورة ثقيلة، وحكى فتحها والأول أصوب، وقال عياض، وقع لأكثر الرواة بسكون المهملة وكسر الراء المهملة، وعن القابسي بجيم، ومعجمتين وهو الصواب، وأغرب الكرماني، فحكى فيه بالحاء المهملة، وشد الراء فتحا وكسرا، وهو خطأ ظاهر، قاله في الفتح "المدلجي" بضم الميم وسكون المهملة، وكسر اللام والجيم، نسبة إلى جده الأعلى مدلج قبيلة من كنانة، ويقال أيضا: الكناني الصحابي ابن الصحابي، كما جزم أبو عمر في الاستيعاب بعد أبيه في الصحابة، وهو القائف المذكور في حديث أسامة، ووافقه جماعة وأغفله كثير ممن صنف في الصحابة. وذكر الواقدي وابن سعد أن عمر بعث علقمة في سنة عشرين في جيش إلى الحبشة في البحر فأصيبوا، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحدا ورثاه خراش الهذلي بقوله: إن السلام وحسن كل تحية ... تغدو على ابن مجزز وتروح "إلى طائفة من الحبشة،" لا إلى نفس البلد، الآتي "في ربيع الآخر" عند ابن سعد، "وقال الحاكم" والواقدي: "في صفر سنة تسع،" ويحتمل الجمع بأن التهيئ، وإرادة البعث كان في آخر صفر، والذهاب أول ربيع والتأخر تلك المدة حتى يحقق أمرهم. "وذكر ابن سعد" وشيخه الواقدي: "أن سبب ذلك"، أي بعث السرية "أنه بلغه صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراآهم"، أي نظروهم ورأوهم، كما قال الشامي، فالمراد أصل الفعل، لا التفاعل "أهل جدة" بضم الجيم وشدة المهملة وفيه تجوز، فعند الواقدي تراآهم أهل الشعيبة في ساحل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرة في البحر، فلما خاض البحر إليهم هربوا. فلما رجع علقمة، تعجل بعض القوم إلى أهليهم، فأمر عبد الله بن حذاقة على من تعجل، وكانت فيه دعابة،   جدة بضم الشين المعجمة، وفتح المهملة، وسكون التحتية، وفتح الوحدة، فتاء تأنيث، "فبعث إليهم علقمة بن مجزز" لجزه نواصي إساري من العرب، ولذا صوب كونه بمعجمتين جماعة من الحفاظ. ووقع في رواية الحافظ أبي ذر في الصحيح، كأكثر الرواة، كما مر عن عياض أنه بالحاء المهملة والراء المكسورة، ويحتمل الجمع بأن المهملة اسمه الأصلي، وبالمعجمة لقبه لجزه النواصي "في ثلاثمائة فانتهى". قرب "إلى جزيرة في البحر،" فأراد الوصول إليها، "فلما خاض البحر" مشى فيه ليصل "إليهم هربوا". وذكر ابن إسحاق: أن سبب ذلك أن وقاص بن مجزز قتل يوم ذي قرد، فأراد علقمة أن يأخذ بثأر أخيه، فأرسله صلى الله عليه وسلم في هذه السرية. قال الحافظ: فهذا يخالف ما ذكره ابن سعد إلا أن يجمع بأن يكون أمره بالأمرين. "فلما رجع علقمة" هو وأصحابه، ولم يلقوا كيدا، "تعجل بعض القوم" أرادوا الرجوع قبل بقية الجيش "إلى أهليهم". وعند ابن إسحاق، فتعجل عبد الله بن خذافة، فيهم، "فأمر عبد الله بن حذافة،" بضم الحاء المهملة، فذال معجمة، فألف، ففاء. ابن قيس بن عدي بن سعيد، بالتصغير ابن سهم القرشي السهمي، من قدماء المهاجرين، يقال: شهد بدرا، مات بمصر في خلافة عثمان، ومن منافيه ما أخرجه البيهقي عن أبي رافع قال: وجه عمر جيشا إلى الروم، وفيهم عبد الله بن حذافة فأسروه، فقال له ملك الروم: تنصر وأشركك في ملكي فأبى فأمر به فصلب، فأمر بإلقائه إن لم يتنصر، فلما ذهبوا به بكى، فقال: ردوه، فقال له: لم بكيت؟، قال: تمنيت أن لي مائة نفس تلقى هذا في الله فعجب، فقال: قبل رأسي وأنا أخلي، عنك فقال: وعن جميع أسارى المسلمين، قال: نعم، فقبل رأسه، فخلى سبيلهم، فقدم بهم على عمر، فقام عمر، فقبل رأسه، وله شاهد عند ابن عساكر، عن ابن عباس "على من تعجل، وكانت فيه دعابة" بضم الدال، وبالعين المهملتين فألف فموحدة ما يستملح من المزاح، كما في المصباح وفي القاموس أنها اللعب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها، فقال: عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار، فلما هم بعضهم بذلك قال: اجلسوا، فإنما كنت أمزح. فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"، ورواه الحاكم وابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري. وبوب عليه البخاري فقال: سرية عبد الله بن حذافة السهمي، وعلقمة بن مجزز المدلجي، ويقال: إنها سرية الأنصاري، ثم روي عن على قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل عليها رجلا من الأنصار،   وفي السبل المزاح، "فنزلوا ببعض الطريق، وأوقدوا نارا يصطلون عليها" يستدفئون بها. وفي حديث أبي سعيد ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون، "فقال: عزمت عليكم،" أي أمرتكم أمرا جدا، "إلا تواثبتم في هذه النار فلما هم" قصد "بعضهم بذلك قال: اجلسوا" امنعوا أنفسكم من التواثب، "فإنما كنت أمزح فذكروا ذلك" لما قدموا "للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أمركم بمعصية، فلا تطيعوه"" لحرمة طاعته فيها. و هذا الذي ذكره ابن سعد "رواه" أحمد، و"الحاكم وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وابن حبان" كلهم "من حديث أبي سعيد الخدري،" قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا، أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش، وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة، فلما كان ببعض الطريق أوقد القوم نارًا ليصنعوا عليها صنيعًا، لهم أو يصطلون فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟، قالوا: بلى، قال: أفما أنا آمركم بشيء إلا فعلتموه، قالوا: نعم، قال: فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار، فقام بعض القوم يحتجز حتى ظن أنهم واثبون عنها، فقال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنتم أضحك معكم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدمنا عليه، فقال: "من أمركم منهم بمعصية، فلا تطيعوه"، "وبوب عليه، البخاري" في الصحيح، "فقال" باب "سرية عبد الله بن حذافة السهمي" نسبة إلى جده سهم "وعلقمة بن مجزز المدلجي ويقال: إنها"، أي هذه السرية "سرية الأنصاري" لقول الحديث من الأنصار "ثم روي" في الباب في الأحكام، وفي خبر الواحد ومسلم في المغازي، عن "علي قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، فاستعمل عليها،" ولأبي ذر بالواو "رجلا من الأنصار" قال في المقدمة: كذا في هذه الرواية، وهي سرية علقمة، والذي وقع له ذلك هو عبد الله بن حذافة السهمي، فلعل من أطلق عليه أنصاريًّا أطلقه باعتبار حلف، أو غير ذلك من أنواع المجاز. ا. هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم فقال: أليس قد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوا، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها".   وهذا حسن، وأما قول المصنف هو ابن حذافة، فيما قاله، ابن سعد، ففيه نظر؛ لأن ابن سعد لم يقل أن المصطفى استعمله، إنما قال: استعمله علقمة حين تعجل، فيمن تعجل، ولذا قال البرماوي: لعل تأمير علقمة لابن حذافة عذر البخاري، حيث جمع بينهما في الترجمة، مع أنه في الحديث يسم واحدا منهما، والترجمة لعلها تفسير للمبهم في الحديث، "وأمرهم أن يطيعوه، فغضب" زاد في الأحكام "عليهم" ولمسلم فأغضبوه في شيء "فقال: أليس قد أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، قالوا: بلى، قال: فاجمعوا" لي "حبطا، فجمعوا" له حطبا، "فقال: أوقدوا" بفتح الهمزة، وكسر القاف "نارا". هكذا في البخاري، وسقطت من بعض من نسخ المواهب "فأوقدوها"، ثبت هذا في البخاري، وسقط من النسخة التي وقف عليها شيخنا غلطا من المكاتب، فبنى، عليها ونفى كونها في البخاري، وأنها من المصنف بيان للمحذوف، "فقال: ادخلوا" وفي الأحكام: فقال: عزمت عليكم لما جمعتم حطبا، وأوقدتم نارا، ثم دخلتم فيها. وجزم الحافظ بأن هذا مخالف لحديث أبي سعيد أنهم أوقدوها ليصنعوا عليها صنيعا لهم، أو يصطلوا "فهموا" بفتح الهاء وضم الميم مشددة، أي قصدوا، كما ارتضاه العيني، رد القول الكرماني، حزنوا وأيده المصنف برواية الأحكام، فلما هموا بالدخول فيها، قالوا: ينظر بعضهم إلى بعض، "وجعل بعضهم يمسك بعضا،" أي يمنعه من الوقوع في النار. وفي رواية ابن جرير، فقال لهم شاب منهم: لا تعجلوا بالدخول فيهم، "ويقولوا: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار،" وفي خبر الواحد، فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون، إنما فررنا منها، أي اتبعناه صلى الله عليه وسلم خوفا من نار جهنم، فكيف ندخل هذه، "فما زالوا حتى خمدت النار". قال الحافظ: بفتح الميم وحكى المطرزي، كسرها، أي طفئ لهبها "فسكن غضبه،" هذا أيضا يخالف حديث أبي سعيد أنه كانت فيه دعاية، وأنهم تحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها، فقال: احبسوا أنفسكم فإنما كنت أضحك معكم. "فبلغ النبي" وفي الأحكام فذكر للنبي ولمسلم، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال: "ولو دخلوها" " أي النار التي أوقدوها ظانين أنها بسبب طاعة أميرهم لا تضرهم "ما خرجوا منها"، لاحتراقهم فيها فيموتوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: في قوله: "ويقال: إنها سرية الأنصاري" إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما واسم أميرهما.   وبقية الحديث إلى يوم القيامة الطاعة في المعروف، وفي الأحكام ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف، ولابن جرير لم يزالوا فيها يوم القيامة يعني أن دخولها معصية، والعاصي يستحق النار، ويحتمل أن المراد لو دخلوها مستحلين لما خرجوا منها أبدا، وعلى هذا ففيه استخدام؛ لأن ضمير دخولها للتي أوقدها، وخرجوا النار الآخرة، لارتكابهم ما نهوا عنه من قتل أنفسهم، والظاهر الأول انتهى من الفتح، وصح رجوع الضمير لنار الآخرة مع قوله: إلى يوم القيامة بضرب من التجوز، أي طول الأمد، قال الكرماني، وغيره: المراد بيوم القيامة التأبيد، يعني لو دخلوها مستحلين. قال الداودي فيه: أن التأويل الفاسد لا يعذر به صاحبه. ا. هـ. ولا ضير في قولهم: مستحلين في الصحابة؛ لأنه مدخول الشرط الذي لم يقع، ووجه فساده قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فإنه ظاهر على أن ما فهمه الموافقون على الدخول غير المراد، وإنما يعذر إذا كان ثم شبهة قوية، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للآخرين أي الذين امتنعوا قولا حسنا راه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية الله تعالى، إنما الطاعة في المعروف". رواه الشيخان قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد أن الحكم في حال الغضب ينفذ منه ما لا يخالف الشرع، وأن الغضب يغطي على ذوي العقول عقولهم، وأن الإيمان بالله ينجي من النار لقولهم: إنما فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرارًا إلى الله يطلق على الإيمان. قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] ، وأن الأمر المطلق لا يعلم الأحوال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بطاعة الأمير فحملوه على عموم الأحوال، حتى في حالتي الغضب والأمر بالمعصية، فبين لهم أنه مقصود على ما كان منه في غير معصية، واستنبط منه ابن أبي جمرة أن الجمع من هذه الأمة لا يجتمعون على خطأ لانقسام السرية قسمين منهم من هان عليه دخول النار وظنه طاعة، ومنهم من فهم حقيقة الأمر، وأنه مقصور على ما ليس بمعصية، فكان اختلافهم سببا لراحة الجميع، قال: وفيه أن من كان صادق النية لا يقع إلا في خير، ولو قصد الشر فإن الله يصرفه عنه، ولذا قال أهل المعرفة، من صدق مع الله وقاه الله، ومن توكل على الله كفاه الله. اهـ. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر في قوله: ويقال أنها سرية الأنصار، إشارة إلى احتمال تعدد القصة، وهو الظاهر لاختلاف سياقهما،" كما مر بيانه "واسم أميرهما" والسبب في أمره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 ويحتمل الجمع بينهما بضرب من التأويل، ويبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القريشي المهاجري بكونه أنصاريا، ويحتمل الحمل على المعنى الأعم، أي أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة، وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزي فقال: قوله: "من الأنصار" وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمي. قال في فتح الباري: ويؤيده حديث ابن عباس عند أحمد، في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية.   بدخولهم النار. هذا أسقطه المصنف من الفتح، كأنه للاستغناء عنه باختلاف سياقهما، فإنه من جملته، "ويحتمل الجمع بينهما بضرب من التأويل،" مثل أن يقال: لما كان تأمير علقمة لعبد الله ناشئا عن إذنه صلى الله عليه وسلم له أن يؤمر إن احتاج نسب للمصطفى تارة ولعلقمة أخرى، "و" لكن "يبعده وصف عبد الله بن حذافة السهمي القريش، المهاجري بكونه أنصاريا"؛ لأنهم الأوس والخزرج وهم مدنيون، فيحتمل أنه نسب إليهم بالحلف ونحوه، كما عن المقدمة، ويحتمل الحمل على المعنى الأعم،" الشامل لكل مؤمن نصر الله ورسوله لقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] "أي أنه نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجملة"، أي قاتل معه فعد من أنصاره، وإن كان قرشيا مهاجريا. "وإلى التعدد جنح ابن القيم، وأما ابن الجوزي، فقال قوله" في الحديث، فاستعمل رجلا "من الأنصار، وهم من بعض الرواة، وإنما هو سهمي" بدليل أبعضا منهم لم يذكرها، "قال في فتح الباري" تلو هذا "ويؤيده" أي الوهم إن لم يحمل على المعنى الأعم أو الحلف "حديث ابن عباس عند أحمد" والبخاري في قوله تعالى: {إيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، "نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي بن قيس بن عدي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية"، وكذا أخرجه البخاري مختصرا في تفسير سورة النساء، كما هو بقية كلام الحافظ هنا، وما كان ينبغي للمصنف حذفه؛ لأنه أوهم انفراد أحمد به. قال الداودي: هذا وهم على ابن عباس، فإن ابن حذافة خرج على جيش، فغضب فأوقد نارا، وقال: اقتحموا فامتنع بعض وهم بعض أن يفعل، فإن كانت الآية نزلت قبل فكيف يخص عبد الله بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهما: إنما الطاعة في المعروف، وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 ا. هـ. وقال النووي: وهذا الذي فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم، وقيل: كان مازحًا، وقيل: إن هذا الرجل عبد الله بن حذافة السهمي، قال: وهذا ضعيف: لأنه قال في الرواية التي بعدها في مسلم إنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. ا. هـ.   قيل لهم: لم يطيعوه وأجاب الحافظ بأن المقصود في قصته، فإن تنازعتم في شيء؛ لأنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة، والتوقف فرارًا من النار، فناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول. وقد أخرج ابن جرير أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرا، فأجار عمار رجلا بغير أمره فتخاصما، فنزلت "انتهى" كلام الفتح "وقال النووي" في شرح مسلم: "وهذا الذي فعله هذا الأمير، قيل: أراد امتحانهم" وقيل: كان مازحا" وينافي القولين معا قوله في الحديث فأغضبوه في شيء، وتكلف شيخنا الجواب في التقريب باحتمال أنه أظهر الغضب، والواقع أنه ممتحن، أو مازح "وقيل": ليس مقابلا لما قبله، بل المراد بيان "أن هذا الرجل" المبهم في قول: استعمل رجلا عند مسلم كالبخاري في خبر الواحد، ولم يقل: من الأنصار هو "عبد الله بن حذافة السهمي". قال: وهذا" القول "ضعيف؛ لأنه قال في الرواية التي بعدها في مسلم"، ولم ينفرد بها، بل وافقه البخاري كما رأيت "أنه رجل من الأنصار، فدل على أنه غيره. ا. هـ" إلا أن يئول بالحلف، أو الأعم، كما مر والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 [ هدم صنم طيء ] : "ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الفلس بضم الفاء، وسكون اللام" -وهو صنم طيء ليهدمه، في ربيع الآخر سنة تسع، وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسا-   هدم صنم طيء: "ثم سرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى الفلس بضم الفاء، وسكون اللام" آخره سين مهملة، كما ضبطه جمع منهم اليعمري، وقال في المراصد بضم أوله وثانيه، وضبطه بعضهم بالفتح وسكون اللام، "وهو صنم طيء"، ومن يليها قاله ابن إسحاق "ليهدمه" أي محله الذي هو فيه "في ربيع الآخر سنة تسع". "وبعث معه مائة وخمسين رجلا من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا" عند الواقدي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وعند ابن سعد: مائتي رجل -فهدمه وغنم سبيا ونعما وشاء. وكان في السبي سفانة بنت حاتم، أخت عدي بن حاتم، فأطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب إسلام أخيها عدي.   "وعند ابن سعد مائتي رجل" من الأنصار، فالخلاف في عددهم لا في كونهم منهم، أو بعضهم منهم وبعضهم من غيرهم، قال ابن سعد وشيخه: ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فغاروا على أحياء من العرب، وشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر، "فهدمه" وحرقه وجد في خزانته ثلاثة أسياف، رسوب بفتح الراء، وضم المهملة وسكون الواو وموحدة، والمخذم بكسر الميم، وسكون الخاء، وذال معجمتين، وميم كان الحارث قلده إياهما، وسيف يقال له اليماني وثلاثة أدرع، "وغنم سبيا"، فاستعمل عليه أبا قتادة، و"نعما وشاء" وفضة، فجعل عليها عبد الله بن عتيك، فلما كان بركك، بفتح الراء والكاف الأولى موضع ببلاد طيء لا يصرف عزل له صلى الله عليه وسلم صفيا رسوبا والمخذم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس وآل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة. وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم: أنه صلى الله عليه وسلم وهب رسوبا والمخذم لعلى قال: وهما سيفا على رضي الله عنه، "وكان في السبي سفانة"، بفتح السين المهملة، والفاء المشددة، فألف فنون مفتوحة فتاء تأنيث، "بنت حاتم" الطائي الجواد المشهور، قال في الروض: وبها كان يكنى، وهي في الأصل الدرة. ا. هـ، فأسلمت، وحسن إسلامها ومن عليها صلى الله عليه وسلم قيل: فدعت له، فقالت: شكرتك يد افتقرت بعد غنى ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا لردها عليه، أخت "عدي بن حاتم" بن بد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة، وآخره جيم الصحابي الشهير أبي طريف، بفتح المهملة آخره فاء كان ممن ثبت في الردة وأتى بصدقة قومه إلى الصديق، وحضر فتوح العراق وحروب علي، مات سنة ثمان وستين وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل: ثمانين. روى له الستة "فأطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب إسلام أخيها عدي،" كما ذكر ابن إسحاق، قال: أصابت خيلة صلى الله عليه وسلم ابنة حاتم في سبايا طيء، فجعلت في حظيرة في المسجد، فمر بها صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه وكانت جزلة، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فقال: "ومن وافدك"، فقالت: عدي بن حاتم، قال: "الفار من الله ورسوله" فمضى حتى كان الغد، مر بي فقلت له وقال لي مثل ذلك، حتى كان بعد الغد، مر بي ويئست، فأشار إلى علي وهو خلفه أن قومي إليه فكلميه، فقمت فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد فأمنن علي من الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وعند ابن سعد أيضا: أن الذي كان سباها خالد بن الوليد رضي الله عنه. ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الجباب -موضع بالحجاز- أرض عذرة وبلي، وقيل: أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة. قصة كعب بن زهير   عليك، قال: قد فعلت فلا تعجلي حتى تجدي ثقة يبلغك بلادك ثم آذنيني، فقدم رهط من طيء، فأخبرته أن لي فيهم ثقة، وبلاغا فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت حتى قدمت الشام على أخي، فقال: ما ترين في هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يك نبيا فللسابق إليه فضيلة، وإن يك ملكا فلن تزال في عز اليمن وأنت أنت، فقلت: والله إن هذا هو الرأي، وقدم فأسلم والقصة طويلة، وروى ابن المبارك في الزهد عندما دخل وقت صلاة قط: ألا وأنا أشتاق إليها، وفي رواية ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء وكان جوادا. وقد روى أحمد أن رجلا سأله مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم والله لا أعطيك. "وعند ابن سعد أيضا أن الذي كان سباها خالد بن الوليد رضي الله عنه" لا علي كرم الله وجهه، ولا يمكن الجمع بأنه كان في جيش علي؛ لأن جيشه كانوا كلهم من الأنصار فالله أعلم، "ثم سرية عكاشة" بضم العين، وشد الكاف وتخفيفها، وشين معجمة "ابن محصن" بكسر فسكون الأسدي من السابقين الأولين البدري ممن يدخل الجنة بغير حساب، كما في الصحيحين، استشهد في قتال الردة. "إلى الحجاب" بكسر الجيم وموحدتين، بينهما ألف "أرض عذرة" بضم العين المهملة، وسكون الذال المعجمة "وبلى" بفتح الموحدة، وكسر اللام، وشد التحتية "وهي اسم قبيلتين" كلاهما من قضاعة بضم القاف ومعجمة فألف فمهملة، "وقيل: أرض فزارة وكلب ولعذرة فيها شركة". قال ابن سعد: كانت هذه السرية في شهر ربيع الآخر سنة تسع، كذا ذكره ولم يزد وتبعه اليعمري وغيره ولم يبينوا سببها، ولا عدد من ذهب فيها، ولا ما جرى والله أعلم. "قصة كعب بن زهير" بن أبي سلمى بضم أوله، واسمه ربيعة بن رياح بكسر الراء، وتحتانية المزني الشاعر ابن الشاعر، أخو الشاعر، وكان ولدا كعب عقبة، والعوام شاعرين قال الحطيئة، لكعب: أنتم أهل بيت ينظر إليكم في الشعر، فاذكرني في شعرك ففعل، وروى ابن أبي الدنيا عن الشعبي قال: أنشد النابغة الذبياني النعمان بن المنذر: تزال الأرض أما مت خفا ... وتحيا ما حييت بها ثقيلا فقال النعمان: إن لم تأت ببيت بعده يوضح معناه، وإلا كان إلى الهجاء أقرب، فتعسر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فيما بين رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف وغزوة تبوك. وكان من خبر كعب وأخيه بجير ما ذكره ابن إسحاق، وعبد الملك بن هشام وأبو بكر محمد بن القسم بن يسار الأنباري، دخل حديث بعضهم في بعض: أن بجيرا قال لكعب: اثبت حتى آتي هذه الرجل -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- فأسمع كلامه وأعرف ما عنده،   عليه، فأجله ثلاثا، فإن قال: فله مائة من الإبل وإلا ضربه بالسيف، فخرج النابغة وجلا، فلقي زهيرا، فذكر له ذلك، وخرجا إلى البرية فتبعهما، كعب فرده، زهير، فقال النابغة: دعه يخرج وأردفه، فلم يحضرهما شيء، فقال كعب للنابغة يا عم ما يمنعك أن تقول: وذلك إن ثللت الغي عنها ... فتمنع جانبيها أن تميلا فأعجب النابغة، وغدا على النعمان، فأنشده فأعطاه المائة، فوهبها لكعب، فأبى أن يقبلها، ورويت هذه القصة على غير هذا الوجه "مع النبي صلى الله عليه وسلم" لم يقل وأخيه بجير وإن ذكر في القصة؛ لأن كعبا هو المقصود؛ لأنه الذي هرب، وأهدر دمه، وإنما ذكر أخوه لكونه سببا في مجيئه وإيمانه، "وكانت فيما بين رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف وغزوة تبوك" تبع اليعمري لفظا ووضعا، ومقتضى التزامهما الترتيب على السنين أن تكون في التاسعة في آخر ربيع الثاني، أو في الجماديين. وجزم الشامي في الحوادث بأنها في السنة الثامنة، وهو مقتضى ما يأتي عن ابن إسحاق، "وكان من خبر كعب وأخيه بجير"، بضم الموحدة، وفتح الجيم، وإسكان التحتية، ثم راء صحابي شهير أسلم قبل أخيه، ثم كان سببا في إسلامه، "ما ذكره ابن إسحاق" محمد في المغازي بلا إسناد "وعبد الملك بن هشام" الحميري المغافري أبو محمد البصري، ثم المصري المتوفى بها سنة ثلاث عشرة ومائتين كان مشهورا بحمل العلم مقدما في علم النسب والنحو. روى سيرة ابن إسحاق عن زياد البكائي عنه وهذبها، وزاد فيها بعض أشياء بينها، وهو المراد بكونه ذكر هذا الخبر، "وأبو بكر" العلامة الحافظ الصدوق الدين "محمد بن القاسم بن يسار" ضد يمين "الأنباري" بفتح الهمزة والموحدة، بينهما نون ساكنة بلدة قديمة على الفرات، "دخل حديث بعضهم في بعض" يعني أن اللفظ لمجموعهم، فعند كل ما انفرد به عن الآخر "أن بجيرا" بفتح الهمزة، بدل من قوله ما ذكره، "قال لكعب: اثبت" روى ابن أبي عاصم عن كعب أنه لما فتحت مكة خرج وهو وبجير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: اثبت في غنمنا هنا "حتى آتي هذا الرجل، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فأسمع كلامه، وأعرف ما عنده" هل هو مما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 فأقام كعب ومضى بجير، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع كلامه وآمن به. وذلك أن زهيرا فيما زعموا كان يجالس أهل الكتاب فسمع منهم أنه قد آن مبعثه عليه الصلاة والسلام، ورأى زهير في منامه أنه قد مد سبب من السماء، وأنه قد مد يده ليتناوله ففاته، فأوله بالنبي الذي يبعث في آخر الزمان، وأنه لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك وأمرهم، وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا. قال ابن إسحاق: ولما قدم صلى الله عليه وسلم من الطائف، كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه، وإن من بقي من شعراء قريش ابن الزبعري   يستحسن، ويلوح صدقه فاتبعه أم لا فأتركه "فأقام كعب" بابرق العزاف بفتح المهملة، والزاي المشددة آخر فاء ماء لبني أسد بين المدينة، والربذة؛ لأنه كان يسمع بن عزيف الجن، أي صوتهم، كما قال الشريف، "ومضى بجير فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع كلامه وآمن به و" سبب "ذلك" أي قول بجير لأخيه ما سبق، وإتيانه للمصطفى "أن زهيرا" أباهما "فيما زعموا" عبر به لعدم صحته عنده كالأحاديث الصحيحة والحسنة. "كان يجالس أهل الكتاب، فسمع منهم أنه قد آن" قرب "مبعثه عليه الصلاة والسلام، ورأي زهير في منامه أنه قد مد سبب،" حبل "من السماء وأنه قد مد يده ليتناوله ففاته فأوله،" أي الحبل الذي مد "بالنبي الذي يبعث في آخر الزمان، وأنه" أي وأول فوته بأنه "لا يدركه، وأخبر بنيه بذلك" المذكور من المنام، وما سمعه من أهل الكتاب "وأمرهم" أي بنيه كعبا وبجيرا وأختهما الخنساء شاعرة أيضًا، ذكرها ابن ماكولا غير الخنساء أخت صخر الشاعرة الصحابية المشهورة، ولم يذكر بنت زهير في الإصابة، فلا صحبة لها، ويحتمل أنه أراد ببنيه ما يشملهم وأولادهم، "وأوصاهم إن أدركوه أن يسلموا". قال العسكري: ومات زهير قبل المبعث قال خلف الأحمر: ولولا قصائد له ما فضلته على ابنه كعب، أي في الشعر، ثم ما ساقه المصنف هو مما انفرد به ابن الأنباري عن المذكورين معه. "قال ابن إسحاق:" عقب غزوة الطائف، "ولما قدم صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجر بن زهير إلى أخيه كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه" ويؤذيه، "وأن من بقي من شعراء قريش" عبد الله بن "الزبعري"، بزاي فموحدة مسكورتين، وسكون المهملة بعدها راء مقصورة، كما في الإصابة والصحاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك، وكان كعب قد قال: ألا بلغا   وقال الأسنوي في شرح منهاج البيضاوي، والمجد بفتح الباء، وبعضهم حكى الوجهين، ولك ترجيح الأول لجزم الجوهري به. وصحاحه في كتب اللغة نظير البخاري في الحديث، كما في المزهر، وجزم الإصابة الكسر، يرجحه أيضا فأهل كل فن أدرى به. ابن قيس بن عدي بن سعيد بالتصغير ابن سهم القرشي السهمي. قال المرزباني يكنى أبا سعيد: كان شاعر قريش، ثم أسلم ومدحه صلى الله عليه وسلم، فأمر له بحلة "وهبيرة" بضم الهاء وفتح الموحدة. "ابن أبي وهب" المخزومي زوج أم هانئ، "قد هربوا في كل وجه" لما فتحت مكة، فهرب إلى نجران فأما هبيرة فهلك على كفره، وأما ابن الزبعري فروى ابن إسحاق أن حسان رماه ببيت واحد لم يرد عليه. لا تعد من رجلا أحلك بغضه ... نجران في عيش أجد لئيم فخرج إليه صلى الله عليه وسلم، فقال حين أسلم: يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور إذا بارى الشيطان في سنن الغي ... ومن مال ميله مثبور آمن اللحم والعظام لربي ... ثم قلبي الشهيد أنت النذير إنني عنك زاجر ثم حيا ... من لؤي وكلهم مغرور "فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر،" أي أقبل مسرعا "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا". وعند ابن عاصم فإنه لا يأتيه أح مسلما إلا قبل منه، وأسقط ما كان قبل ذلك، "وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك،" من الأرض، كما عند ابن إسحاق، أي إلى محل ينجيك منه بزعمك ونجائك، بالهمز أو هو نجاتك بفوقية بعد الألف، وكلاهما مصدر نجا كما في القاموس، "وكان كعب قد قال" لما بلغه إسلام أخيه "ألا بلغا" بألف لفظا، وخطا على أنه مؤكد وصل بنية الوقف أو خطاب للاثنين والواحد وكثيرا ما يخاطب الواحد بخطابهما، أو بنون توكيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا فبين لنا إن كنت لست بفاعل ... على أي شيء غير ذلك دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه ولا تلقي عليه أخا لكا فإن كنت لم تفعل فلست بآسف ... ولا قائل إما عثرت لعالكا سقاك بها المأمون كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا   خفيفة لفظا وألف خطا للوقف "عنى بجيرا رسالة، فهل لك" الفاء عاطفة والمعطوف محذوف، أي فقولا له هل لا زائدة؛ لأنه خلاف الأصل؛ ولأن في زيادة الفاء خلافًا "فيما قلت" رأي أو إرادة أو قلته بلا قصد، ويحك" وقعت في هلكة بما قلته لا تستحقها "هل لكا" توكيد وتكميل، "فبين لنا إن كنت لست بفاعل" مرادنا من بقائك على دينك جملة معترضة، ومفعول بين "على أي شيء غير ذلك دلكا"، أي الطريق الذي دلك عليه المالف لدين آبائك، كما أشار إليه بقوله: دلك على خلق بضمتين سجية أي أفعال ناشئة عن طبيعة "لم تلف" عليها "أما ولا أبا، عليه" قال في الروض: إنما قال ذلك؛ لأن أمهما واحدة، وهي كبشة بنت عمار الشحيمية، كما ذكره ابن الكلبي، "و" كما لم تجد فيما مضى أحدا من إسلافك عليه كذلك "لا تلفي عليه أخا لك" يواتيك عليه في المستقبل، فلذا عبر بلا وفيما قبله بلم، وفي رواية ولم تدرك، والظاهر أن المراد بالأخ الصديق، أو ما يشمله وفي رواية: على خلق لم تلف يوما أخا له ... عليه وما تلفي عليه أبا لكا "فإن كنت" بفتح التاء خطابا، وفي رواية فإن أنت "لم تفعل فلست" بضمها أنا "بآسف" بمد الهمزة، وكسر السين، حزين عليك لخلافك لي، "ولا قائل إما" بكسر الهمزة وشد الميم "عثرت لعالكا" بفتح اللام، والعين منونة "سقاك بها" بالمقالة المفهومة من قلت: أو من ما قلت بجعل ما مصدرية، أو هو عائد على نفس ما بجعلها موصولا اسميا حذف عائده، أي في التي قلتها، أو على كلمة الشهادة، فالباء زائدة أو بمعنى من التبعيضية، أو على الكأس "المأمون" يعني النبي صلى الله عليه وسلم كانت قريش تسميه به وبالأمين قبل النبوة. وفي رواية غير ابن إسحاق المحمود، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم قال في الروض قال عبد الملك: ويروي المأمور "كأسا" حال موطئة، كما تقول: لقيت زيدا رجلا صالحا، أو بدل من الضمير على الموضع، كمررت به زيدا هذا على زيادة الباء، وعلى أنها بمعنى من أو تمييز على عود الضمير على الكأس، وعود الضمير على تمييزه متفق عليه في نعم ورب نحو بئس للظالمين، بدلا وربه عطبا، ولم يخصه الزمخشري بذلك، بل قال به في: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} ، وما هنا مثله "روية" فعلية بمعنى مفعلة بضم الميم وكسر العين أي مروية "فانهلك" سقاك أولا "المأمون منها، وعلكا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 قال السهيلي: "لعا" كلمة تقال للعاثر دعاء له. ا. هـ. قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سقاك بها المأمون، صدق وإنه لكذوب، وأنا المأمون" .... ولما سمع: على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: "أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه"، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله"، فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات. من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم   سقاك ثانيا، والمعنى سقاك بها مرة بعد أخرى قال عبد الملك عن بعض علماء الشعر بعد هذا: ففارقت أسباب الهدى واتبعته ... على أي شيء ويب غيرك دلكا قال الجمال ويب كويج. "قال السهيلي: "لعا" كلمة تقال للعاثر دعا له" بالإقالة قال الأعشى: فالنفس أدنى لها من أن يقال لعا فإذا دعى عليه قيل: لا لعا وأنشد أبو عبيدة: فلا لعا لبني ثعلان إذ عثروا ". ا. هـ" كلام السهيلي بما زدته. قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما آت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي يخفيها عنه، وكتم يتعدى بنفسه وبمن وعن كما في المصباح، "فأنشده إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" لما سمع "سقاك بها المأمون". هكذا ثبت لما سمع عند ابن إسحاق، فكأنها سقطت من قلم المؤلف، وحذف المفعول للعلم به، أي قوله وأما مقولة عليه الصلاة والسلام، فهو "صدق" لمطابقة الواقع، و "إنه لكذوب" في أقواله، بل قوله هذا لكن بزعمه، أي هو يزعم، ويعتقد أنه كذوب فيه لا بحسب الواقع على نحو ما قيل في والله يشهد أن المنافقين لكاذبون "وأنا المأمون ولما سمع على خلق لم تلف أما ولا أبا عليه، قال: أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه" لهلا كهما قبله، "ثم قال عليه الصلاة والسلام: من "لقي منكم كعب بن زهير فليقتله"، وهذا مما انفرد به ابن الأنباري عنهما. وقد ثبت في رواية ابن أبي عاصم من حديث كعب، "فكتب إليه أخوه بهذه الأبيات من مبلغ" بضم فسكون فكسر من أبلغ، وفيه خرم بالراء وأصله فمن مبلغ، أي موصل "كعبا فهل لك" انقياد ودخول "في" الخصلة "التي تلوم" أخاك "عليها" لوما "باطلا، و" الحال أنها "هي أحزم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إذا كان النجاء وتسلم لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت ... من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شيء دينه ... ودين أبي سلمى علي محرم فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأشفق على نفسه، وأرجف به من كان من حاضره من عدوه، فقال: هو مقتول، فلما لم يجده من شيء بدا، قال قصيدته، التي يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه. ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رحل   أتقن وأصوب، فترجح "إلى الله لا العزى، ولا اللات وحده" حال من الله، أي منفردا لا تشرك معه أحدا "فتنجو" تخلص من العذاب "إذا كان النجاء" الأكبر حاصلا لأهله، "وتسلم" من النار وأهوال يوم الفزع الأكبر، وذلك النجاء "لدى" عند "يوم لا ينجو" فيه، "وليس بمفلت" بفتح اللام المخففة أحسن من كسرها اسم فاعل، كما في النور "من الناس" أحد من العذاب "إلا طاهر القلب مسلم،" أي سليم منقاد للحق خالص من الشك والشرك، لا الذنوب، فإنه لا يسلم منها إلا المعصوم، "فدين زهير وهو لا شيء دينه". قال السهيلي رواية مستقيمة، ورواه القالي فقال: لا شيء غيره وفسره على التقديم والتأخير، أي دين زهير وهو غيره لا شيء ورواية ابن إسحاق أبعد من الإشكال وأصح، وهذا كما قال الجمال اعتراض حسن بديع بين المبتدأ الذي عطف عليه "ودين أبي سلمى"، وبين الخبر وهو "علي محرم"، ويحتمل أنه إفراد الخبر؛ لأن المعنى فاتباع فحذف المضاف، كحديث أن هذين حرام على ذكور أمتي، أي استعمال الذهب والحرير، أو؛ لأن دينهما واحد، وأعيد المضاف توكيدا كقول قيس بن عاصم: أيا بنت عبد الله وابنه مالك ... ويا بنت ذي البودين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فأني لست آكله وحدي "فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت بن الأرض، وأشفق" خاف "على نفسه، وأرجف به" خوفه "من كان في حاضره،" أي حية "من عدوه فقال:" أفرد باعتبار لفظ من لكن في ابن إسحاق، فقالوا: "هو مقتول فلما لم يجد من شيء بد" مخلصا يلتجئ إليه إلا الإسلام، والمجيء إلى خير الأنام، كما في رواية ابن أبي عاصم أنه لما جاءه الكتاب أسلم كعب، وقدم "قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر" فيها "خوفه وإرجافه الوشاة به" أي المزخرفين للأقوال الكاذبة عليه حالة كونهم "من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل" قال البرهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 كانت بينه وبين معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع يده في يده -وكان صلى الله عليه وسلم لا يعرف- فقال: يا رسول الله، إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أنه وثب عليه رجل من الأنصار، وقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: "دعه عنك فقد جاء تائبا نازعا"، قال: فغضب كعب على هذا الحي من   لا أعرفه "كانت بينه وبينه معرفة من جهينة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" حين صلى الصبح فصلى معه كما في ابن إسحاق، قال: ثم أشار إليه "فقال: هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه، فقام حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده". وفي رواية ابن أبي عاصم فأسلم كعب، وقدم المدينة حتى أناخ بباب المسجد قال: فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة، فتخطيت حتى جلست إليه فأسلمت، ثم قلت: الأمان يا رسول الله أنا كعب بن زهير، "وكان صلى الله عليه وسلم" لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاءك ليستأمنك" حال كونه "تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به،" أي بخبره، وأظهرته لك إذ هو حاضر "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم"، قال:" إذا "أنا يا رسول الله كعب بن زهير". وروى ابن قانع عن سعيد بن المسيب أن كعبا لما قدم المدينة سأل عن أرق الصحابة، فدل على أبي بكر، فأخبره بخبره، فمشى أبو بكر وكعب على أثره حتى صار بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: رجل يبايعك فمد يده فبايعه، والجمع ممكن بأنه لما قدم نزل على الجهني، فأخبره بأن أبا بكر أرق الصحابة، وأتى به إليه فسارا معا معه، فصلوا الصبح، ثم تقدم الصديق وكعب على أثره، فجلس كعب، وقال ما قال فلما آمن عرفه بنفسه، "قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة" بن النعمان الأنصاري الأوسي، أبو عمر المدني التابعي الثقة الذي روى له الستة العلامة بالمغازي، المتوفى بعد العشرين ومائة "أنه وثب عليه رجل،" قال البرهان: لا أعرفه "من الأنصار، فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله" بالنصب "أضرب عنقه" بالجزم جواب دعني، ويجوز رفعه. ا. هـ. "فقال صلى الله عليه وسلم "دعه" اتركه "عنك، فقد جاء تائبا نازعا" بالنون، أي مائلا مشتاقا إلى الإسلام، أو كافا عن الشرك تاركا له: "قال" عاصم: "فغضب كعب على الحي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الأنصار لما صنع صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. ثم قال قصيدته اللامية التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول وفيها: أنبئت أن رسول الله أوعدني   الأنصار،" الظاهر أنه أراد بالحي جميع الأنصار فمن بيانية "لما" بكسر اللام وخفة الميم "صنع" به "صاحبهم"، هكذا الرواية في ابن إسحاق فنسخة لما فعل بالمعنى، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير، ثم قال قصيدته اللامية،" شرحها ابن هشام الجمال النحوي شرحا كبيرا، وقفت عليه أكثر فيه من فئة وكل وعاء "التي أولها بانت" فارقت فراقا بعيدا "سعاد". قال الروياني: في البحر: هي امرأته وبنت عمه، ذكرها في هذه القصيدة لطول غيبته عنها، لهروبه من النبي صلى الله عليه وسلم. ا. هـ. وبه جزم البرهان فقولوا: الجمال علم مرتجل يريد به امرأة يهواها الشاعر حقيقة، أو الدعاء تقصير، ولذا قال الشامي: حقيقة لا ادعاء، "فقلبي" الفاء عاطفة سببية، كقوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] قال الجمال: والقلب الفؤاد أو أخص منه ومثله في القاموس، وتوقف فيه شيخنا في التقرير بأنه لم يرد المادة التي ينفرد فيها الفؤاد حتى يكون أخص، وقد صرح غيرهما بأن الفؤاد غشاء القلب "اليوم" أراد به مطلقا الزمن كيوم حصاده، متبول" أسقمه الحب "متيم" ذليل مستعبد خبر ثان عند مجيز تعدده، أو خبر عن هو محذوفا عند المانع، أو صفة لمتبول عند مجوز وصف الصفة "إثرها" بكسر فسكون فقط للوزن، وإن كان فيه لغة بفتحتين ظرف لمتيم أو حال من ضمير. ويروي عندها وهي عندية معنوية؛ لأن المراد القلب حال كونه "لم يفد" لم يعط فداءه، ويروى لم يجز ولم يشف "مكبول" مقيد مطلقا أو بقيد ضخم، أو أعظم قيد ومر الناظم في غرضه من الغزل في سعاد، ثم في وصف الإبل الموصلة إليها، وقطعها للأراضي الصعبة في ثلاثة وثلاثين بيتا، ثم ذكر الأرجاف به وبعد أصدقائه عنه في قوله: تمشي الوشاة بجنبيها وقولهم ... إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول وقال: كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك أنى عنك مشغول فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوما على آلة حدباء محمول "وفيها" عقب هذه الأربعة "أنبئت" ويروى نبئت، ومعناهما أخبرت "أن رسول الله أودعني" بشر وهو القتل، وبناؤه للمجهول؛ لأن مقام الاستعطاف يناسبه أن لا يحقق الخبر بالوعيد، بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 ........... ... والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ... القرآن فيه مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة و ... لم أذنب وإن كثرت في الأقاويل إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول   يمرضه؛ ولأنه لم يتعلق غرضه بالفاعل "والعفو عند رسول الله مأمول" مطموع فيه مرجو حصوله لما تواتر أن العفو من أخلاقه. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا البيت قال: "إن العفو عند الله"، "مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن" الكتاب المنزل عليك لا القراءة من إضافة الصفة للموصوف، أو ظرفية بتقدير مضاف، أي نافلة فوائد القرآن، أي نافلة هي الفوائد المشتمل عليها، أو نافلة مقحم، أو القرآن منصوب وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، كقوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا "فيه مواعيظ" مرفوع منون للضرورة؛ لأنه لا ينصرف، "وتفصيل" تبيين ما يحتاج إليه من أمر المعاش والمعاد، وهذا البيت ومن بعده تتميم للاستعطاف؛ لأنه اشتمل على طلب الرفق به والأناة في أمره، ولما في قوله: نافلة القرآن من الإشارة إلى أنعام الله على رسوله بعلوم عظيمة، وزاده عليها القرءان والإقرار بالتنزيل، والتذير بما جاء به: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} "لا تأخذني" سؤال وتضرع وإظهار للذل، أي لا تقتلني "بأقوال الوشاة" الذين يزوقون الكلام للإفساد، "و" الحال أني "لم أذنب" أي لا تأخذني غير مذنب لا عاطفة؛ لأنه خلاف قصده؛ ولأن الخبر لا يعطف على الإنشاء عند قوم، "وإن كثرت في الأقاويل" جمع أقوال جمع قول فهو جمع الجمع، وكأن المعنى أنك عرفت بالصفح ومن جاءك تائبا لا تعده مذنبا، وإن أذنب قبل الإسلام، فالإسلام يجب ما قبله وبعده هذا البيت تسعة أبيات في خوفه منه عليه السلام، وأنه أخوف عنده من ضيغم يفترس وتنفر منه الوحوش، وحاصلها الاعتذار، فأسقطها المصنف؛ لأن غرضه إنما تعلق بمدحه صلى الله عليه وسلم صريحا "أن الرسول لسيف". وفي رواية ابن إسحاق وغيره لنور، وهو أنسب بقوله: "يستضاء به" والأخرى مناسبة، فالمعنى كيف يطلب ضياؤه في ظلمات الحروب، فيكشفها. وقال التبريزي: جعله سيفا استعارة على قول جماعة لا يشترطون فيها طي المشبه ومنهم من قال: أصله قاطع كسيف، فحذف المشبه وأداة التشبيه، واستعمل سيف بدل قاطع، فانطبق على حد الاستعارة من أنها ذكر المشبه به، وإرادة المشبه "مهند" بفتح النون المشددة، صفة أو خبر محذوف، أي مطبوع من حديد الهند، أي أنه مبيد للكفار أقوى من السيوف الهندية "من سيوف الله مسلول" على أعدائه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 في عصبة من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل   قال في الروض: يروي أنه لما قال هذا البيت نظر صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه كالمعجب لهم من حسن القول وجودة الشعر. ا. هـ. وروى الحاكم: أن كعبا أنشده من سيوف الهند، فقال صلى الله عليه وسلم من سيوف الله. ا. هـ. أي أنه معدود من سيوف الهند لنفاسته، كما يقال: زيد من الرجال، فليس تكرار مع قوله: مهند "في عصبة" خبر آخر؛ لأن أو متعلق بمسلول، أي جماعة. وهذه رواية ابن إسحاق، ويروى في فتية "من قريش قال قائلهم" عمر رضي الله عنه "ببطن مكة لما أسلموا زولوا" انتقلوا من مكة إلى المدينة، أي هاجروا، وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق بيت هو: زالوا فما زال أنكاس ولا كشف ... عند اللقاء ولا ميل معازيل وتلوه قوله: "يمشون" صفة لعصبة أو فتية، "مشي الجمال" فوصفهم بامتداد القامة وعظم الخلق، بفتح فسكون، والبياض حيث قال: "الزهر" بضم وسكون جمع أزهر، وهو الأبيض والرفق في المشي؛ لأنه حال الجمال دون غيرها كالخيل، وذلك دليل على الوقار والتؤدة، "يعصمهم" يمنعهم، أي يحميهم من أعدائهم ويكفهم عنهم، وفاعه "ضرب إذا عرد" بمهملة، وشد الراء فمهملة فر وأعرض "السود" "التنابيل" بفتح الفوقية، والنون فألف فموحدة مكسورة فتحتية فلام جمع تنبال، أي القصار. قال التبريزي ومن روى: غرد بغين معجمة أراد طرب. ا. هـ. لا معنى لها هنا؛ لأن المراد فر وبقي فيها أربعة أبيات في وصفهم تركها المصنف؛ لأنها ليست مدحا عليه الصلاة والسلام صريحا، وإن لزم منها تعظيمه، فإن تعظيم صحبه تعظيم له وهي هذه: شم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل لطيفة" قال السيوطي: ذكر الزبيدي في طبقات النحاة أن بندار الأصفهاني كان يحفظ تسعمائة قصيدة أول كل منها بانت سعاد على قوله: ما اطلعت عليه من ذلك. قال زهير والد كعب: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وفي رواية أبي بكر بن الأنباري أنه لما وصل إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول رمى عليه الصلاة والسلام إليه بردة كانت عليه ..............................   بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... وليت وصلا لنا من حبلها رجعا وقال ربيعة بن معرور الضبي: بانت سعاد فأمسى القلب معمودا ... وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا وقال قعنب بن ضمرة: بانت سعاد وأمسى دونها عدن ... وغلقت عندها من قلبك الرهن وقال النابغة الذبياني: بانت سعاد وأمسى حبلها انخرما ... واحتلت الفرع والأجداع من أضما وقال الأعشى ميمون: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا ... واحتلت العرفا لجدين فالفرعا وقال أيضا: بانت سعاد وأمسى حبلها رابا ... وأحدث النأي لي شوقا وأوصابا وقال الأخطل: بانت سعاد ففي العينين مهلول ... من حبها وصحيح الجسم مخبول وقال أيضا: بانت سعاد ففي العينين تسهيد ... وأسخفت لبه فالقلب معمود وقال عدي بن الرقاع: بانت سعاد وأخلفت ميعادها ... وتباعدت عنا لتمنع زادها وقال قيس بن الحرادية: بانت سعاد فأمسى القلب إعلالا ... وأسلبتها بي الأرباع إقلالا ا. هـ. "وفي رواية أبي بكر بن الأنباري" وابن قانع من مرسل ابن المسيب "أنه لما وصل إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول، رمى عليه الصلاة والسلام إليه بردة كانت عليه". نقل المصنف في المقصد الثالث عن محمد بن هلال قال: رأيت على هشام بن عبد الملك برد النبي صلى الله عليه وسلم من حبرة له حاشيتنا رواه الدمياطي. ا. هـ. وهشام هذا من سلاطين بني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 وأن معوية بذل فيها عشرة آلاف فقال: ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم، قال: وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم. وقال ابن إسحاق: قال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب: "إذا عرد السود التنابيل" وإنما عني معشر الأنصار، لما كان صاحبهم صنع به، وخص المهاجرين بمدحته غضب عليه الأنصار، فقال بعد أن أسلم -يمدح الأنصار.   أمية، ففيه تعيين البردة التي دفعت لكعب؛ لأنها آلت للملوك كما قال: "وأن معاوية بذل فيها عشرة آلاف" درهم، كما في الرواية، "فقال: ما كنت لأوثر" أفضل وأميز على نفسي "بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم" الذي أعطانيه، وهو البردة واسم الثوب يشملها "أحدا"؛ لأن الإيثار المحمود إنما هو في أمور الدنيا، كما في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، وما مس جسده الشريف من أجل القرب، فهو من الأمور الأخروية وما إيثار الغير فيها بمحمود، "فلما مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفا فأخذها منهم". قال" ابن الأنباري: "وهي البردة التي عند السلاطين إلى اليوم،" وعند ابن قانع عن ابن المسيب فهي التي يلبسها الخلفاء في الأعياد. قال الشامي: ولا وجود لها الآن والظاهر أنها فقدت في وقعة التتار "وقال ابن إسحاق:" بعد ذكر القصيدة كلها "قال عاصم بن عمر" بضم العين "ابن قتادة" بن النعمان التابعي حفيد الصحابي الأنصاري، "فلما قال كعب: إذا عرد السود التنابيل وإنما عني معشر الأنصار،" قال في الروض، جعلهم سودا لما خالط أهل اليمن من السودان عند غلبة الحبشة على بلادهم، ولذا قال حسان في آل جفنة: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... بيض الوجوه من الطراز الأول يعني أنهم كانوا من اليمن، ثم استوطنوا الشام، فلم تخالطهم السودان، كما خالطوا من باليمن فهم من الطراز الأول الذي كانوا عليه من ألوانهم، وأخلاقهم. ا. هـ. "لما كان أصحابهم صنع به" حيث وثب، وقال: دعني وعدو الله أضرب عنقه، "وخص المهاجرين بمدحته"؛ لأنهم لم يتمكنوا فيه إلا بخير، "غضبت عليه الأنصار" قال عبد الملك بن هشام: ويقال أنه صلى الله عليه وسلم لما أنشده بانت سعاد، قال له: "لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل"، "فقال بعد أن أسلم يمدح الأنصار" لغضبهم عليه، وتحضيضه عليه الصلاة والسلام له على ذلك إذ هم عصابة الإسلام، وأول ما رفع لمناره من الأعلام، فذكر بلاءهم معه صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار المكرهين السمهري بأدرع ... كسوالف الهندي غير قصار والناظرين بأعين محمرة ... كالجمر غير كليلة الأبصار والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار يتطهرون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار   وموضعهم من اليمن، فقال: "من سره كرم الحياة فلا يزال، في مقنب" بكسر الميم، وإسكان القاف، وفتح النون ثم موحدة جماعة الخيل والفرسان، قيل: هي دون المائة وفي القاموس ومن الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين، أو زهاء ثلاثمائة. ذكره في النور "من صالحي الأنصار ورثوا المكارم كابرا عن كابر،" أي عن آبائهم وأجدادهم كبيرا عن كبير في العز والشرف، "إن الخيار همو بنو الأخيار المكرهين" اسم فاعل مفعوه "السمهري" القناة الصلبة يقال: نسبة إلى سمهر اسم رجل كان يقوم الرماح، أي ردوها عنهم ومنعوها من التأثير فيهم "بأدرع" لبسوها، فكأنهم أكرهوها على عدم الوصول إليهم، وهكذا الرواية عند ابن إسحاق المكرهين بالهاء، ويقع في نسخة المكرمين بالميم، فإن صحت فمعناه أنهم ضموا أدرعهم لرماحهم، فأكرموا بذلك الضم، "كسوالف الهندي غير قصار"، قال أبو ذر في الإملاء: السوالف السيوف، وقد يراد بها الرماح أيضا؛ لأنها قد تنسب إلى الهند، "والناظرين بأعين محمرة" صفة مدح؛ لأن الشجاع إذا غضب احمرت عيناه "كالجمر غير كليلة الأبصار، والبائعين نفوسهم" بالنصب مفعول اسم الفاعل "لنبيهم" أي لأجله، "للموت" صلة البائعين "يوم تعانق وكرار،" أي التحام الحرب وكر بعضهم على بعض "يتطهرون يرونه" يعتقدونه "نسكا" بضم النون، وإسكان السين المضمومة للوزن عبادة "لهم بدماء" متعلق بيتطهرون أي يسيلون دماء "من علقوا" به "من الكفار" على أبدانهم كإسالة المغتسل الماء على بدنه، ويرونه عبادة، وسماه طهارة؛ لأنه سبب لإزالة الذنوب عنهم ورفع الدرجات، فأشبه الطهارة الحسية المزيلة للأقذار المحسنة للبدن، وبعد هذا البيت عند ابن إسحاق. دربوا كما دربت ببطن خفية ... علب الرقاب من الأسود ضواري وإذا حللت ليمنعوك إليهم ... أصبحت عند معاقل الأغفار ضربوا عليا يوم بدر ضربة ... دانت لوقتها جميع تزار لو يعلم الأقوام علمي كله ... فيهم لصدقني الذين أماري ومراده علي بن أمية بن خلف، كما مر في بدر "قوم إذا خوت النجوم" بفتح الخاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقاري وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء، وأبوه.   المعجمة والواو فتاء تأنيث. قال الجوهري: أي سقطت ولم تمطر في نوئها وأخوت مثله. ا. هـ. أي على زعمهم، وكان ذلك في بدء إسلام كعب قيل أن يتفقه في الدين، "فإنهم للطارقين النازلين مقاري" بفتح الميم، والقاف جمع مقراة، وهي الحفنة التي يوضع فيها الطعام للأضياف قاله أبو ذر، وقال الجوهري: إناء يقري فيه الضيف وبعد هذا البيت. في الغر من غسان في جرثومة ... أعيت بحافرها على النقار وقد كان كعب بن زهير من فحول الشعراء بحيث قال خلف الأحمر: لولا قصائد لأبيه ما فضلته عليه، وقال له الحطيئة، اذكرني في شعرك وقد مر أنه أتم للنابغة ما لولاه لهلك وقد رواها ابن جني بسند له عن عاصم بن الحدثان قال: دخل النابغة على النعمان فقال: تخف الأرض أن تفقدك يوما ... وتبقى ما بقيت بها ثقيلا فنظر إليه النعمان نظر غضبان، وكان كعب بن زهير حاضرا فقال: أصلح الله الملك أن مع هذا بيتا ضل عنه وهو: لأنك موضع القسطاس منها ... فتمنع جانبيها أن تميلا فضحك وأمر لهما بجائزتين، ورويت على وجه ثالث أيضا. قال ابن عبد البر من جيد شعر كعب: لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واجدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر قال السهيلي: ومن جيده قوله يمدحه صلى الله عليه وسلم: تخدي به الناقة الأدماء معتجرا ... بالبرد كالبدر جلي ليلة الظلم ففي عطافيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم "وأبوه" زهير من فحول الشعراء، بحيث قال يونس بن حبيب النحوي: أهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحدا، وقد روى أبو عبيد القسم بن سلام عن ابن عباس قال لي عمر بن الخطاب: أنشدني لأشعر شعرائكم، قلت: ومن قال زهير، قلت: وكان كذلك، قال: كان يعاطل بين الكلام، ولا يتبع حوشيه، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه. قال ابن سلام: قال أهل النظر: كان زهير أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخفه، وأجمعهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وابنه عقبة وابن ابنه العوام بن عقبة.   لكثير من المعاني في قليل من المنطق "وابنه عقبة" المعروف بالظرب، كما في الروض، "وابن ابنه العوام بن عقبة،" وهو الذي يقول: ألا ليت شعري هل تغير بعدنا ... ملاحة عيني أم عمرو وجيدها وهل بليت أثوابها بعد جدة ... ألا حبذا أخلاقها وجديدها ذكره في الروض، كجميع ما ساقه المصنف من أول قوله، وقد كان كعب إلى هنا، وكان لكعب ابن أيضا اسمه العوام، كما نقله في الإصابة، فسمي ابن ابنه باسم عمه، ولم يقف عليه البرهان، فأبداه احتمالا بعد توقفه في كون العوام ابن ابنه، وهو من مثله عجيب، والروض في يده والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 [ ثم غزوة تبوك ] : مكان معروف وهي نصف طريق المدينة إلى دمشق.   ثم غزوة تبوك: بفتح الفوقية وضم الموحدة مخففة لا ينصرف على المشهور. قال النووي: وتبعه الحافظ: للتأنيث والعلمية ورد بأن علة منعه كونه على مثال الفعل، كتفول والمذكور والمؤنث في ذلك سواء. وتصرف على إرادة الموضع في حديث كعب، ولم يذكرني صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك. قال الحافظ: بغير صرف للأكثر، وفي رواية تبوكا على إرادة المكان. ا. هـ. وبه يرد قول البرهان أنه بالصرف في جميع نسخ البخاري، وأكثر نسخ مسلم "مكان معروف" قال الحافظ: بينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينه وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، وكذا قال غيره، وتوقف فيه البرهان بأنه سارها مع الحجيج في اثنتي عشرة مرحلة ولا وقفة؛ لأنهم جدوا في السير "وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق" كما في الفتح ومراده على التقريب بدليل ما تراه من ضبطه ما بينهما بالمراحل، وصريحه قدم تسمية المكان بذلك، ويوافقه قول الفتح وقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة منها في مسلم أنكم ستأتون غدا عين تبوك، وكذا أخرجه أحمد والبزار من حديث حذيفة، وقيل: سميت بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقاه إلى العين ما زلتما تبوكانها منذ اليوم. قال ابن قتيبة: فبذلك سميت العين تبوك والبوك كالنقش، والحفر والحديث المذكور رواه مالك ومسلم بغير هذا اللفظ عن معاذ أنهم خرجوا معه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم ستأتون غدا إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وهي غزوة العسرة، وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها. وكانت يوم الخميس في رجب سنة تسع من الهجرة بلا خلاف، وذكر البخاري لها بعد حجة الوداع لعله خطأ من النساخ.   شاء الله تعالى عن تبوك فمن جارها فلا يمس من مائها، فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فذكر الحديث في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه بشيء من مائها، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس انتهى كلام الفتح. قال الشامي: دل صريح هذا الحديث على أن تبوك اسم لذلك الموضع الذي فيه العين المذكورة النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول قبل أن يصلها بيوم "وهي غزوة العسرة" كما قاله البخاري وغيره. قال الحافظ: بمهملتين الأولى مضمومة، بعدها سكون مأخوذ من قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وفي حديث الشيخين قول أبي موسى في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك. عن ابن خزيمة عن ابن عباس قيل لعمر حدثنا عن شأن ساعة العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فأصابنا عطش الحديث، "وتعرف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها، بما نزل فيهم من الآيات الدالة على كذبهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِمَانِكُمْ} [التوبة: 66] . وتفصيل ذلك بطول "وكانت يوم الخمسين، " كما رواه البخاري والنسائي عن كعب بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس. وفي رواية للبخاري أيضا عنه قلما كان يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس، زاد النسائي جهاد أو غيره في رجب سنة تسع مع الهجرة، قبل حجة الوداع بلا خلاف، زاد الحافظ وعند ابن عائذ عن ابن عباس: أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة. "وذكر البخاري لها" وضعا "بعد حجة الوداع" قال الحافظ: خطأ "لعله خطأ من النساخ، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم، كما رواه أحمد في حديث كعب ويونس في زيادات المغازي من مرسل الحسن، وابن عقبة من مرسل الزهري، فلعل البخاري تعمد تأخيرها إشارة إلى ذلك، ولم يفصح به لكونه ليس على شرطه، كما هو دأبه فيما هو كذلك، فختم بها كتاب المغازي الذي ترجم به أولا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وكان حرا شديدا، وجدبا كثيرا فلذلك لم يور عنها كعادته في سائر الغزوات. وفي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن ابن عقيل قال: خرجوا في قلة من الظهر وفي حر شديد، حتى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه، من الماء، فكان ذلك عسرة في الماء وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة. وسببها أنه بلغة عليه الصلاة.   وذكر غير المغازي إنما هو تتميم، فاتكل على المعلوم من أنها قبلها، مع أنه لم يلتزم ترتيبا هذا ما ظهر لي، فإن انقدح وإلا فما البخاري بأولى بالخطأ مني، "وكان" زمن خروجه حرا شديدا، وعند ابن عقبة عن الزهري جدبا قيظا شديدا في ليالي الخريف "وجدبا" بفتح الجيم، وإسكان المهملة وموحدة قحطا "كثيرا، فلذلك لم يور" بشد الراء لم يستر ويكن "عنها"، والتورية ذكر لفظ يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر، فيتوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد، والمتكلم صادق، لكن الخلل وقع من فهم السامع، خاصة وأصله من ورى الإنسان، كأنه ألقى البيان وراء ظهره "كعادته في سائر" باقي "الغزوات" التي قبل هذه لئلا يتفطن العدو، فيستعد للدفع كما رواه البخاري ومسلم في حديث كعب بن مالك قال: لم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا، وغزا عدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوتهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، وللبخاري في الجهاد عنه: كان صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها، ولا خلف بينهما بحمل القلة على النفي المطلق، المنتهى، إلى العدم للرواية الأولى خصوصا، والمخرج متحد وجلي بشد اللام، كما قال الزركشي، والحافظ والدماميني أي أظهر، وجوز الأخيران تخفيفها. وزعم العيني أنه خطأ، وفي تفسير عبد الرزاق" ابن همام الحافظ الثقة، الصنعاني المشهور "عند شيخه معمر" بن راشد الأزدي مولاهم البصري، نيل اليمن الحافظ، الثقة الثبت، كلاهما من رجال الكتب الستة، "عن" عبد الله بن محمد "بن عقيل" بتفح العين وكسر القاف، فنسبه لجده ابن أبي طالب الهاشمي أبي محمد المدني أمه زينب بنت على صدوق، مات بعد الأربعين ومائة "قال: خرجوا في قلة من الظهر" مع كثرتهم "وفي حر شديد حتى كانوا ينحرون البعير، فيشربون ما في كرشه من الماء" حتى أغاثهم الله ببركته صلى الله عليه وسلم، كما يأتي، "فكان ذلك عسرة" شدة "في الماء، وفي الظهر وفي النفقة، فسميت غزوة العسرة" أي الشدة والضيق. "و" اختلف في سببها فقال ابن سعد وشيخه الواقدي وغيرهما: "سببها أنه بلغه عليه الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 والسلام من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم تجمعت بالشام مع هرقل. فندب صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج وأعلمهم بالمكان الذي يريد؛ ليتأهبوا لذلك. وروى الطبراني من حديث عمران بن الحصين قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل: إن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك، وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للناس قوة. وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها،   والسلام من الأنباط" قال الحافظ: نسبة إلى استنباط الماء واستخراجه ويقال: إن النبط ينسبون إلى نبيط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح، "الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة، أن الروم" جمع رومي، نسبة إلى جدهم روم بن عيص بن إسحاق، وغلب عليهم اسم أبيهم، فصار كاسم القبيلة، كما في النور، "تجمعت بالشام مع هرقل" بكسر الهاء، وفتح الراء، وسكون القاف على المشهور، ويقال: بكسر الهاء، والقاف وسكون الراء علم على قيصر أعجمي، لا ينصرف للعلمية والعجمة، وبقية هذا القول، وأن هرقل رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسان وغيرهم من منتصرة العرب، وجاءت مقدمتهم إلى البلقاء، ولم يكن لذلك حقيقة، "فندب صلى الله عليه وسلم" لما بلغه ذلك "الناس إلى الخروج، وأعلمهم بالمكان الذي يريد؛ ليتأهبوا لذلك" أي يكونوا على أهبة وإعداد لما يحتاجونه في السفر والحرب. "وروى الطبراني" بسند ضعيف في سببها "من حديث عمران بن حصين" الخزاعي الصحابي ابن الصحابي "قال كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدعي النبوة هلك وأصابتهم سنون" جمع سنة بالفتح قحط "فهلكت أموالهم" أسقط كالفتح من رواية الطبراني، فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن، "فبعث" هرقل "رجلا من عظمائهم" يقال له قباذ، كما في نفس رواية الطبراني، كما في الفتح "وجهز معه أربعين ألفا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للناس قوة" قدرة على الذهاب لتلك الأرض، لفقد الظهر والنفقة، لا الضعف كما هو ظاهر. "وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام، فقال:" لما علم بذلك, وبحثه صلى الله عليه وسلم على النفقة والحملان "يا رسول الله هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها" جمع حلس بكسر فسكون كساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 ومائتا أوقية -يعني من ذهب- قال: فسمعته يقول: يقول: "لا يضر عثمان ما عمل بعدها" وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا.   تحت البرذعة "ومائتا أوقية، قال" عمران: "فسمعته" صلى الله عليه وسلم "يقول: "ولا يضر عثمان ما عمل بعدها". يحتمل أن نفي الضرر لعدم وقوع زلة فهو إشارة إلى أن الله منعه منها ببركة إنفاقه في سبيل الله وأنه صلح أن يغفر له ما عساه يكون ذنبا إن وقع ولا يلزم من الصلاحية وجوده وقد أظهر الله صدق رسوله، فإن لم يزل على أعمال أهل الجنة حتى فارق الدنيا. قال الحافظ وحديث عمران أخرجه الترمذي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن خباب بنحوه، وقيل سببها ما رواه أبو سعد في الشرف والبيهقي في الدلائل وابن أبي حاتم ويونس في زيادات المغازي من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بني غنم أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء: 76] . قال الحافظ: إسناده حسن مع أنه مرسل انتهى. وقيل سببها أن لله تعالى لما منع المشركين من قرب المسجد الحرام في الحج وغيره، قالت قريش: لتقطعن عنا المتاجر والأسواق وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله بالأمر بقتال أهل الكتاب، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] إلى قوله: {وَهُمْ صَاغِرُون} [التوبة: 29] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] فعزم صلى الله عليه وسلم على قتال الروم؛ لأنهم أقرب الناس إليه وأولاهم بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام. ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير ويحتمل أن السبب جملة الأربعة، فليس بينها تناف. ذكر الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم حض على النفقة والحملان في سبيل الله، فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصديق بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل أبقيت لأهلك شيئا" قال: أبقيت لهم الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ماله فسأله: "هل أبقيت لهم شيئا" قال: نعم، نصف مالي، وحمل العباس وطلحة وسعد بن عبادة، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية إليه صلى الله عليه وسلم، وتصدق عاصم بن عدي بسبعين وسقا من تمر، وجهز عثمان ثلث الجيش حتى كان يقال: ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم انتهى. وأقل ما قيل أنه ثلاثون ألفا فيكون جهز عشرة آلاف، وقال ابن إسحاق أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها. "وروى عن قتادة أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة في حجرة صلى الله عليه وسلم، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم". خرجه الترمذي وقال: حسن غريب. وعند الفضائلي والملاء في سيرته، كما ذكره الطبري في الرياض النضرة من حديث حذيفة: بعث عثمان -يعني في جيش العسرة- بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم   وعن عبد الرحمن بن سمرة" بن حبيب بن عبد شمس القرشي العبشمي أبي سعيد صحابي من مسلمة الفتح، يقال: كان اسمه عبد كلال، افتتح سجستان، ثم سكن البصرة وبها مات سنة خمسين، أو بعدها، روى له الستة "قال جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة" بالبناء للمفعول. وفي رواية أحمد حين جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة "فنثرها" وفي رواية فصبها "في حجرة صلى الله عليه وسلم". قال عبد الرحمن "فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم". "أخرجه الترمذي: وقال حسن غريب" ورواه الإمام أحمد والبيهقي أيضا، "وعند الفضائلي والملاء"، قال الشامي في جماع فضائل أهل البيت بفتح الميم وشد اللام: عمر الموصلي كان يملأ من بئر في جامع الموصل احتسابا وكان إماما عظيما، ناسكا، زاهدا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يشهر قوله ويقبل شفاعته، انتهى. فوهم من ظنه الملائي فزاده ياء تعلقا بأن في اللب وغيره الملائي، بضم الميم وخفة اللام والمد، نسبة إلى بيع الملاءة التي يلتحف بها النساء، فإن هذا من الرواة لا سيرة له، وقد قال المصنف "في سيرته، كما ذكره الطبري في الرياض النضرة" في فضائل العشرة: وقد أبعد النجعة بالعز، ولغير المشاهير فقد أخرجه ابن عدي أيضا كلهم "من حديث حذيفة" بن اليمان قال: "بعث عثمان" ولفظ ابن عدي جاء عثمان "يعني في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ في المناقب بعد عزوه لابن عدي: سنده واه، ولعلها كانت بعشرة آلاف درهم، فتوافق رواية ألف دينار انتهى. ولو صح أمكن أن الألف جاء بها والعشرة بعث بها لكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيده ويقلبها ظهرا لبطن ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة، ما يبالي ما عمل بعدها". ولما تأهب رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج قال قوم من المنافقين: لا تنفروا في الحر، فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ   يمنع ذلك رواية ابن عدي بلفظ جاء المفيدة أن بعث من تعبير الرواة لاتحاد المخرج، "فصبت بين يديه، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيده" أي يفعل بها، فقوله "ويقلبها" بيان للقول المذكور، والضمير عائد للدنانير بدليل قوله في الرواية التي فوقها يقلبها في حجره والحديث يفسر بعضه بعضا ظهرا لبطن، أي ما ظهر منها لما بطن تعجبا من كثرتها وسماحته بها في سبيل الله. هذا هو المتبادر، وقال شيخنا: أي يجعل بطن يده تارة إلى السماء، وظهرها إليها أخرى، ولعله كان تارة يدعو برفع البلاء، فيجعل ظهرها إلى السماء، وتارة بطلب النصر، ونحوه فيجعل بطنها ولك الترجيح، "ويقول: "غفر الله لك يا عثمان ما أسررت، وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة ما يبالي ما عمل بعدها"، بشارة عظيمة بأن الله غفر له الذنوب، أي سترها عنه، فمنعه منها ببركة دعائه له، ونفقته في سبيل الله، فليس يبالي بما عمل إذ لا يقع منه إلا الخير. وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن عثمان أنفق ألف دينار غير الإبل، والزاد وما يتعلق بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض" ومعلوم أن الألف دينار غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك. وقد روى الطيالسي، وأحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس: سمعت عثمان يقول لسعد بن أبي وقاص، وعلى، والزبير وطلحة: أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز العسرة غفر الله له فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا". قالوا: اللهم نعم. وروى عبد الله في زوائد المسند والترمذي والبيهقي عن عبد الرحمن بن خباب بمعجمة وموحدتين الأولى ثقيلة. قال: خطب صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان: عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم نزل مرقاة أخرى من المنبر ثم حث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها ثم نزل مرقاة أخرى من المنبر ثم حث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتبابها ثم نزل مرقاة أخرى فحث فقال عثمان: عليَّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتباها قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده، هكذا يحركها كالمتعجب "ما على عثمان بعد هذا اليوم" أو قال "بعدها " ولما تأهب صلى الله عليه وسلم للخروج قال" كما رواه ابن إسحاق عن شيوخه "قوم من المنافقين" بعضهم لبعض "لا تنفروا" تخرجوا إلى الجهاد "في الحر" زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول، "فنزل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون} [التوبة: 81] . وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وقبائل العرب يستفزهم. وجاء البكاءون يستحملونه، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أجد ما أحملكم عليه". وهم   أَشَدُّ حَرًّا} من تبوك فالأولى أن تتقوها بترك التخلف {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون} ، يعلمون ذلك ما تخلفوا، فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون، فأخبر عن حالهم بالضحك القليل في الدنيا، ومقابله في الآخرة بصيغة الأمر. وعند ابن عقبة والواقدي وغيرهما: أن قائل ذلك الجد، بفتح الجيم، وشد المهملة ابن قيس لمن معه من بني سلمة وأنه القائل ائذن لي ولا تفتني. وقد روى الطبراني، وأبو نعيم، وابن مردويه، عن ابن عباس، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر: لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى تبوك قال لجد بن قيس: "ما تقول في مجاهدة بني الأصفر"، فقال: إني امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساءهم، أفتتن فائذن لي، ولا تفتني، فأعرض عنه، وقال: "قد أذنا لك" فأنزل الله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] . قال ابن إسحاق: أي إن كان إنما خشي منهن، وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر بتخلفه عن رسول الله، والرغبة بنفسه عن نفسه يقول وإن جهنم لمن ورائه، زاد الواقدي عن شيوخه فجاءه ابنه عبد الله وكان بدريا فلامه فقال: ما لي وللخروج في الريح والحر الشديد والعسرة إلى بني الأصفر وأنا أخالفهم في منزلي، أفأغزوهم وإني عالم بالدوائر، فألظ له ابنه وقال: لا والله ولكنه النفاق والله لينزلن فيك قرآن، فضرب بنعله وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فنزلت الآية. وروى ابن هشام عن عبد الله بن حارثة عن أبيه قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسًا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن تبوك، فبعث صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله في نفر وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم ففعل، واقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، "وأرسل عليه الصلاة والسلام إلى مكة وقبائل العرب يستفزهم، وجاء البكاءون يستحملونه" يطلبون منه ما يركبون عليه، ويحملهم وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن الغزو معه "فقال عليه الصلاة والسلام: "لا أجد ما أحملكم عليه" وهم" كما قال ابن عباس عند ابن جرير، وابن مردويه، وأبي نعيم، وابن إسحاق، عن شيوخه الزهري، وعاصم، ويزيد، وغيرهم، وابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي وعند كل ما ليس عند الآخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرم بن عبد الله، وعمرو بن عنمة، وعبد الله بن مغفل، وعبد الله بن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام،   وصرح ابن إسحاق وطائفة بأنهم سبعة والمتحصل من الجميع ما سرده المصنف تبعا لمغلطاي وحسن منه تقديم خمسة اتفق عليهم من ذكر وهم: "سالم بن عمير" ويقال: ابن عمرو ويقال: ابن عبد الله، ويقال: ابن ثابت بن النعمان الأوسي، يقال في نسبه العمري؛ لأنه من بني عمرو بن عوف، شهد العقبة وبدرا وما بعدهما ومات في خلافة معاوية. ووقع عند ابن جرير، عن محمد بن كعب، وغيره في تسمية البكائين سالم بن عمير من بني واقف، قال في الإصابة: فيحتمل أن يكون غير الأول انتهى. "وعلبة"، بضم المهملة، وسكون اللام، وفتح الموحدة وتاء تأنيث. "ابن زيد" بن عمرو بن عوف الأنصاري، "وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب" بن عمرو بن عوف الأنصاري، الأوسي، "المازني" من بني مازن بن الهنجار، شهد أحدا وما بعدها، ومات في خلافة عمر. "والعرباض" بكسر المهملة، وسكون الراء وموحدة فألف، فمعجمة. "ابن سارية" السلمي قديم الإسلام ومن أهل الصفة، مات بعد السبعين، وهو من البكائين باتفاق من ذكرت، وعليه الواقدي وابن سعد، وحزم، وأبو عمرو "وهرم" بفتح الهاء، وكسر الراء وميم آخره، ويقال: هرمي بياء بعد الميم وقدمه جماعة "ابن عبد الله" بن رفاعة الأنصاري الواقفي، بقاف مكسورة، ثم فاء المدني، "وعمرو بن عنمة" بفتح المهملة والنون والميم وتاء تأنيث ابن عدي الأنصاري، ذكره ابن عقبة وغيره في البكائين وأهل بدر وقول الإصابة، وكذا ذكره ابن إسحاق، أي في رواية عن زياد، فلا يخالف نقله في الفتح عنه من عدم عده في البكائين، "وعبد الله بن مغفل"، بضم الميم وفتح المعجمة والفاء المشددة ابن عبد نهم، بفتح النون، وسكون الهاء وميم. المزني من مشاهير الصحابة شهد بيعة الرضوان، مات سنة تسع وخمسين، أو ستين، أو إحدى وستين بالبصر، عده في البكائين ابن عباس وابن عقبة وابن إسحاق والقرظي. وروى ابن سعد وغيره عنه قال: إني لأحد الرهط الذين ذكر الله {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْك} [التوبة: 92] . "وعبد الله بن عمرو" بن هلال "المزني" حكاه ابن إسحاق قولا بدل ابن مغفل. ورواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي، وابن مردويه عن مجمع بن جارية. "وعمرو" بفتح العين "ابن الحمام"، بضم الحاء المهملة، والتخفيف ابن الجموح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 ومعقل المزني، وحرمي بن مازن، والنعمان وسويد ومعقل وعقيل وسنان وعبد الرحمن وهند.   الأنصاري من بني سلمة، ذكره فيهم ابن إسحاق والطبري والدولابي. "ومعقل بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر القاف، ولام، ابن يسار "المزني" بايع تحت الشجرة، وهو الذي ينسب إليه نهر معقل بالبصرة حكى كونه منهم ابن سعد عن بعض الروايات. "وحرمي" بفتح المهملة، فراء، فميم اسم بلفظ النسب "ابن" عمر، ومن بني "مازن" انفرد بعده في البكائين محمد بن كعب القرظي، كما انفرد بذكر عبد الرحمن بن زيد أبي عبلة. رواه عنه ابن جرير، قال ابن سعد: وبعضهم يقول البكاءون بنو مقرن السبعة، وهم من مزينة، فسردهم المصنف، فقال: "والنعمان" بن مقرن بن عائذ، صحابي مشهور روى له الستة، استشهد بنهاوند سنة إحدى وعشرين، وهم من زعم أنه النعمان بن عمرو بن مقرن، فذاك تابعي وهو ابن أخي هذا. "وسويد" مقرن صحابي مشهور نزل الكوفة روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ويقع في النسخ والنعمان بن سويد، وهو خطأ، فالذي في نفس مغلطاي الذي هو ناقل عنه بواو العطف. "ومعقل" بن مقرن المزني قال ابن حبان: له صحبة وقال البغوي: سكن الكوفة: وروى عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث. "وعقيل بفتح أوله ابن مقرن المزني ذكره البخاري في الصحابة، والواقدي فيمن نزل الكوفة منهم. "وسنان" بن مقرن أحد الأخوة، وقال ابن سعد له صحبة وذكره غير واحد في الصحابة. "وعبد الرحمن" بن مقرن بن عائذ المزني قال ابن سعد: له صحبة، ويقال: كان اسمه عبد عمرو، فغيره صلى الله عليه وسلم، وهذا سقط من الشامي لما عذبني مقرن سهوا، أو من الناسخ. "وهند" لم أر له ذكرا في الصحابة نعم فيها عبد الله بن مقرن المزني أحد الأخوة. روى عنه مجد بن سيرين وعبد الملك بن عمير، كذا قال ابن منده: ولم يخرج له شيئا، وله ذكر في الفتوح. قال سيف في كتاب الردة: خرج أبو بكر يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن، وميسرته عبد الله بن مقرن، وعلى الساقة سويد بن مقرن، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فذكر قصة قتال أهل الردة انتهى. وقد صرح في الشامية بأن السابع لم يسم فقيل: اسمه عبد الله، وقيل النعمان، وقيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 بنو مقرن، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] قال مغلطاي. وفي البخاري، عن أبي موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم، فقلت يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء" فرجعت.   ضرار "بنو مقرن" بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء الثقيلة. قال الواقدي وابن نمير: كان بنو مقرن سبعة كلهم صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر: ليس ذلك لأحد من العرب غيرهم. قال الحافظ: وقد ذكر هو في ترجمة هند بن حارثة الأسلمي ما ينقض ذلك، وأخرج الطبري من طريق عبد الرحمن بن معقل بن مقرن أن ولد مقرن كانوا عشرة، نزل فيهم: {مِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} "وهم الذين قال الله تعالى فيهم": {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] ، قلت: $"لا أجد ما أحملكم عليه"، " {تَوَلَّوْا} " انصرفوا جواب إذا، " {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيض} " تسيل: " {مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} " لأجل " {أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون} " في الجهاد، "قاله مغلطاي" جامعا ما تفرق في الأخبار، قال الشامي: وذكر الحاكم أن فيهم حرمي بن المبارك بن النجار، وابن عائذ مهدي بن عبد الرحمن ولم أر لهما ذكرا في كتب الصحابة. قال ابن إسحاق والواقدي: لما خرج البكاءون من عنده صلى الله عليه وسلم، وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه لقي يامين بن عمر، والنضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل، وهما يبكيان فقال: ما يبكيكما قالا: جئناه صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونكره أن تفوتنا غزوة معه، فأعطاهما ناضحا له، وزود كل واحد منهما صاعين من تمر. زاد الواقدي: وحمل العباس منهم رجلين وعثمان ثلاثة بعدما جهز من الجيش. "وفي البخاري" ومسلم، "عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري "قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم" بضم الحاء المهملة وسكون الميم، أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم، قاله الحافظ وغيره، "فقلت: يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: "والله لا أحملكم على شيء". زاد مسلم والبخاري في رواية: "وما عندي ما أحملكم عليه"، وأسقط من البخاري ومسلم ما لفظه ووافقتهه وهو غضبان، ولا أشعر من شيء آخر قبل مجيئه لقوله: وافقته وقوله: لا أشعر فكأن غضبه حمله على القسم، وفيه انعقاد اليمين في الغضب، "فرجعت" إلى أصحابي" حال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه على فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم. فلم ألبث إلا سويعة إذا سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فلما أتيته قال: "خذ هاتين القرينتين وهاتين القرينتين" لستة أبعرة أبتاعهن حينئذ من سعد   كوني "حزينا من منع النبي صلى الله عليه وسلم" أن يحملنا "ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم" غضب "في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث" بفتح الهمزة والموحدة، بينها لام ساكنة آخره مثلثة "إلا سويعة" بضم السين المهملة، وفتح الواو مصغر ساعة، وهي جزء من الزمان، أو من أربعة وعشرين جزأ من اليوم والليلة. قال المصنف وجزم الشام بالأول "إذ سمعت بلالا ينادي أين عبد الله" رواية أبي ذر ولغيره، أي عبد الله "بن قيس، فأجبته فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك" خبر رسول، أو حال، فرسول منصوب بأجب، "فلما أتيته قال: "خذ هذين القرينين" تثنية قرين. قال الحافظ: أي الحملين المشدودين أحدهما إلى الآخر وقيل: النظيرين المتساويين "وهذين القرينين"، ولأبي ذر عن غير المستملي وهاتين القرينتين أي الناقتين فذكر، ثم أنث، فالأولى على أرادة البعير والثانية على إرادة الاختصاص لا الوصفية انتهى. وقال المصنف والشامي: ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هاتين القرينتين، وهاتين القرينتين أي الناقتين. قال الحافظ: وهو إما اختصار من الراوي، أو كانت الأولى اثنين والثانية أربعة؛ لأن القرين بصدق على الواحد وعلى الأكثر فلا يخالف قوله "لستة أبعرة". وتقدم، أي في البخاري في قدوم الأشعريين أنه صلى الله عليه وسلم أمر لهم بخمس ذود، فأما تعددت القصة، أو زادهم على الخمس واحدا انتهى. وللبخاري أيضا بثلاثة ذود وجمع بأنها باعتبار ثلاثة أزواج والأبعرة جمع بعير يقع على الذكر والأنثى، فهو جار على كل من رواية التذكير والتأنيث "ابتاعهن". قال الحافظ في رواية الكشميهني: ابتاعهم، وكذا انطلق بهن في روايته بهم، والصواب ما عند الجماعة؛ لأنه جمع ما لا يعقل "حينئذ من سعد" لم يتعين لي من هو سعد إلى الآن، إلا أنه يهجس في خاطري أنه سعد بن عبادة انتهى. ففي قول المصنف قيل: هو ابن عبادة وقفة، وفي قدوم الأشعريين، فحلف أن لا يحملنا، ثم لم يلبث صلى الله عليه وسلم أن أتى بنهب إبل، فأمر لنا بخمس ذود، ولم ينبه الحافظ على الجمع بين الروايتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 "فانطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن" الحديث. وقام علبة بن زيد، فصلى من الليل وبكى وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها، مال أو جسد أو عرض. ثم أصبح مع الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد،   قال الشامي: فيحتمل أن يكون ما جاء من النهب أعطاه لسعد، ثم اشتراه منه لأجل الأشعريين، أو يحمل على التعدد "فانطلق" بكسر اللام، والجزم على الأمر، قاله المصنف بناء على قول الكوفيين الأمر مجزوم، أو مسامحة، ومراده على صورة المجزوم بناء على قول البصرة مبني "بهن". وللكشميهني بهم بالميم والصواب الأولى، كما علم "إلى أصحابك، فقل إن الله، أو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء" الأبعرة "فاركبوهن" الحديث". بقيته فانطلقت إليهم بهن، فقلت إن النبي صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء الأبعرة، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تظنوا أني أحدثتكم شيئا لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنك عندنا بالمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم أعطاهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى، "وقام علبة بن زيد" أحد البكائيين المذكورين، "فصلى من الليل" ما شاء الله "وبكى" لفظ الرواية ثم بكى "وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني" المسلم "فيها" في المظلمة "مال" بالجر بدل من مظلمة، ولفظ الروض أصابني بها في مال، "أو جسد، أو عرض" بأن أعفو عنه والغالب أن لا يخلو أحد من ظلم غيره له في شيء ما وبفرض أن لا ظلامة فهو مثاب على قصده الرأفة بالمسلمين. وفي حديث أبي عيس: ولكني أتصدق بعرضي من آذاني، أو شتمني، أو لمزين فهو له حل "ثم أصبح مع الناس فقال صلى الله عليه وسلم" وفي حديث عمرو بن عوف فأمر صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد ثم قال: "أين المتصدق" فلم يقم أحد" وكأنه لو علم بالوحي لم يبين له خصوصه، كأنه قيل له: إن رجلا من أصحابك تصدق الليلة بكذا، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 ثم قال: "أين المتصدق بهذه الليلة"؟ فلم يقم أحد، ثم قال: "أين المتصدق فليقم"، فقام إليه فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتبت في الزكاة المقبلة". رواه يونس كما ذكره السهيلي في الروض له، والبيهقي في الدلائل. وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم في التخلف، فأذن لهم، وهم اثنان وثمانون رجلا. وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة،   علم وأراد إذاعة فضله، ثم قال: "أين المتصدق فليقم" زاد في الروض ولا يتزاهد ما صنع هذه الليلة انتهى. وكان علبة أراد خفاء عمله، فلم يقم في المرتين حتى أمره فلم يسمعه إلا امتثاله "فقام إليه، فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: "أبشر فوالذي نفس محمد بيده"، أقسم له ليزيد مسرته، ويدع كربته "لقد كتبت" بالبناء للمفعول، أي صدقتك "في" عداد "الزكاة المتقبلة" فثوابها كثوابها. "رواه يونس" عن ابن إسحاق "كما ذكره السهيلي في الروض" بلا سند، "والبيهقي في الدلائل له" قال في الإصابة: وقد ورد موصولا من حديث مجمع بن جارية، ومن حديث عمرو بن عوف عند ابن أبي الدنيا وابن شاهين. ومن حديث علبة نفسه عند البزار قال: حث صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فذكره قال البزار: علبة هذا مشهور من الأنصار ولم نعلم له غير هذا الحديث. ومن حديث أبي عبس، بفتح فسكون ابن جبير عند الخطيب انتهى ملخصا. "وجاء المعذرون" جمع معذر بشد الذال. قال البيضاوي: أما من عذر في الأمر إذا اقصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له، أو من اعتذر إذا شهد العذر بإدغام في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز كسر العين لالتقاء الساكنين، وضمها للإتباع لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب المعذرون من أعذر إذا اجتهد في العذر "من الأعراب" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "ليؤذن لهم في التخلف" وتعللوا بالجهد وكثرة العيال، "فأذن لهم" في التخلف، ولكن لم يعذرهم كما قال ابن إسحاق وغيره، أي لم يقبل عذرهم لكذبهم فيه "وهم" كما قال ابن سعد وشيخه: "اثنان وثمانون رجلا"، من بني غفار، وفي البيضاوي يعني أسد وغطفان، وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك اغارت طيء على أهالينا ومواشينا. "وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر" في نفس الأمر، "و" بغير "إظهار علة" للنبي صلى الله عليه وسلم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 جرأة على الله ورسوله وهو قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] . واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة. قال الدمياطي: وهو عندنا أثبت ممن قال استخلف غيره. انتهى. وقال الحافظ زين الدين العراقي، في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب، لم يتخلف عن المشاهد إلا تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة، وعلى عياله، وقال يومئذ: "أنت منى بمنزلة هارون من موسى   "جراءة" بفتح الجيم والراء، كضخامة "على الله ورسوله" لعدم مبالاتهم بهما لكفرهم" وهو قوله تعالى: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] في إدعاء الإيمان من منافقي الأعراب عن المجيء للاعتذار. "واستخلف على المدينة" فيما قال ابن هشام "محمد بن مسلمة" الأنصاري. "قال الدمياطي" تبعا للواقدي، "وهو عندنا أثبت ممن" أي من قول من قال: أو قائل استخلافه أثبت ممن قال استخلف غيره" عليًّا، أو سباعًا، أو ابن أم مكتوم "انتهى" كلام الدمياطي وهو في هذا الترجيح تابع لقول الواقدي الثبت عندنا محمد بن مسلمة، "و" لكن قال الحافظ زين الدين العراقي في ترجمة علي بن أبي طالب من شرح التقريب، لم يتخلف" علي "عن المشاهد" كلها، بل حضرها معه صلى الله عليه وسلم وخيبر، وإن تخلف في ابتدائها العذرة فقد حضر معظمها بحيث كان الفتح على يديه "إلا تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة"، كما رواه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب "و" خلفه أيضا على عياله" فقال: "يا علي اخلفني في أهلي وأضرب وخذ وعظ"، ثم دعا نساءه فقال: "اسمعن لعلي وأطعن". رواه الحاكم في الأكليل من مرسل عطاء بن أبي رباح، وأخرج ابن إسحاق عن سعد ابن أبي وقاص خلف صلى الله عليه وسلم عليًّا على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالًا له وتخففًا فأخذ علي سلاحه، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل بالجرف، فقال: يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني؛ لأنك استثقلتني وتخففت مني، فقال: "كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فأرجع في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" فرجع إلى المدينة ومضى صلى الله عليه وسلم على سفره، "وقال يومئذ"، أي زمن استخلافه لما تراه أن قوله له لما لحقه بالجرف، فأراد باليوم القطعة من الزمن "أنت مني" وفي رواية لهما أيضا، "أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 إلا أنه لا نبي بعدي". وهو في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص. انتهى. ورجحه ابن عبد البر.   قال الطيب: "مني" خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] ، أي فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم يعني أنت متصل ونازل مني منزلة هارون من موسى وفيه تشبيه، ووجه الشبه مبهم بينه بقوله، "إلا أنه لا نبي بعدي" فعرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها وهي الخلافة، ولما كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى، دل ذلك على تخصيص خلافة علي له صلى الله عليه وسلم بحياته انتهى. يعني فلا حجة فيه للشيعة في أن الخلافة لعلي، وأنه أوصى له بها، وكفرت الروافض جميع الصحابة، بتقديم غيره، وزاد بعضهم فكفر عليًّا لكونه لم يقم بطلب حقه، ولا حجة لهم في الحديث، ولا متمسك لهم به؛ لأنه إنما قال هذا حين استخلفه بالمدينة في هذه الغزوة. قال المصنف وغيره: ويؤيده أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى، لوفاته قبله بنحو أربعين سنة انتهى. ومر في أحد قولي البيضاوي: الأكثر أن موسى مات قبله بسنة، وقول النور: بنحو خمسة أشهر، "وهو" أي كونه خلفه على المدينة وعلى عياله معا ظاهر ما في الصحيحين البخاري هنا، وفي المناقب ومسلم في الفضائل، والنسائي وابن ماجه كلهم "من حديث سعد بن أبي وقاص" ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا فقال: اتخلفني في الصبيان والنساء قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي". زاد أحمد فقال علي: رَضيت ثم رضيت، فقوله: استخلف عليًّا ظاهر في أنه على المدينة، وتأيد هذا الظاهر بورود هذه اللفظة في نفس حديث سعد في مصنف عبد الرزاق، والروايات يفسر بعضها بعضا، لا سيما والمخرج متحد، ومن ثم جزم الحافظ العراقي الذي "انتهى". كلامه بعزوه لهما استخلافه على المدينة، "ورجحه" الإمام الحافظ "ابن عبد البر" وتبعه الحافظ ابن دحية، وقطع به المصنف في شرح البخاري؛ لأن ما في أرفع الصحيح لا معدل عنه، وأما الدمياطي فقد مر عنه أنه كان لما ألف السيرة سيريًا محضًا، يتبعهم ولو خالف الأحاديث الصحيحة، فتبع هنا الواقدي في ترجيحه، ثم العجب من الشارح أخذ ترجمة الشامي من استخلفه على أهله، ومن استخلفه على المدينة، وأتى بصدر كلامه فقط، وزعم أنه ظاهر حديث البخاري. وقضى على المصنف بالتسمح، فإنه خلفه على أهله لكن لقربه منه وعظم أمره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 وقيل: استخلف سباع بن عرفطة. وتخلف نفر من المسلمين من غير شك ولا ارتياب منهم، كعب بن مالك.   إذا عرض للمدينة شيء عاون ابن مسلمة في دفعه، ولو استكمل عبارة الشامي لعلم أن الحق مع المصنف، وأنه لا تسمح في كلامه فإنه لما حكى عن الواقدي القول بأنه علي قال ما نصه. قال أبو عمرو تبعه ابن دية، وهو الأثبت قلت ورواه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص، ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى تبوك، استخلف على المدينة علي بن أبي طالب انتهى. فهذا صريح في ترجيحه، وأن ترجمته إنما هي توفية بتأدية كلام أهل المغازي ويهجس في خاطري أنه لم يقرأ له بقية كلامه أو سقط من النسخة التي كانت عنده؛ لأنه كان يشكو كثرة تحريفها وسقطها "وقيل: استخلف سباع" بكسر المهملة وخفة الموحدة "ابن عرفطة" بضم المهملة، وسكون الراء وضم الفاء فطاء مهملة حكى هذا القول ابن هشام عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ويقال: إنه استخلف ابن أم مكتوم. حكى الأقوال الأربعة الواقدين وقد علمت أن أرجحها علي لصحة الحديث به وترجيح جهابذة الحفاظ له، فناهيك بابن عبد البر، وابن دحية، والعراقي ويليه محمد بن مسلمة لترجيح الواقدي والدمياطي، وأما الأخيران فلم يرجحا وقال شيخنا يجمع بتقدير صحة جميعها، بأن عليًّا على أهله، وابن مسلمة على المدينة، وابن أم مكتوم على الصلاة وسباع أولا، ثم عرض ما منعه، فاستخلف ابن مسلمة انتهى. وملحظه فيه ما أصله، كما علمت من ترجيح أنه ابن مسلمة، "وتخلف نفر من المسلمين من غير شك" في أمره صلى الله عليه وسلم، "ولا أرتياب" بل كانوا جازمين متيقنين أنه خاتم النبيين. "منهم كعب بن مالك" الأنصاري السلمي، بالفتح المدني، الصحابي المشهور، مات في خلافة علي. روى له الجميع قال في حديث تخلفه عند الشيخين: تجهز صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقص شيئًا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجند، فأصبح صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا فقلت: أتجهز بعده بيوم، أو يومين، ثم ألحقهم فرجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئًا لم يزل حتى أسرعوا وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وفيهم نزل {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] وأبو ذر، وأبو خثيمة، ثم لحقاه بعد ذلك. ولما رأى عليه.   "ومرارة" قال في الفتح بضم الميم وراءين الأولى خفيفة. "ابن الربيع" الأنصاري العمري، بفتح المهملة، وسكون الميم، نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ووقع لبعضهم العامري، وهو خطأ، وكونه ابن الربيع هو المشهور، ووقع في مسلم ابن ربيعة وعند ابن مردويه من حديث مجمع بن جارية مرارة بن ربعي، وهو خطأ، وكذا ما عند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن من تسميته ربيع بن مرارة وهو مقلوب، وذكر في هذا المرسل: أن سبب تخلفه أنه كان له حائط حين زها، فقال في نفسه، قد غزوت قبلها، فلو أقمت عامي هذا، فلما تذكر ذنبه قال: اللهم أني أشهدك أن قد تصدقت به في سبيلك. "وهلال بن أمية" الأنصاري الواقفي بقاف، ثم فاء نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن ملك بن الأوس. ذكر في مرسل الحسن: أن سبب تخلفه، أنه كان له أهل تفرقوا، ثم اجتمعوا، فقال: لو أقمت هذا العام عندهم، فلما تذكر قال: اللهم لك على أن لا أرجع إلى أهل ولا مال، وفيهم نزل {عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] على التوبة عليهم بقرينة بقية الآية، ويأتي له مزيد "وأبو ذر". ذكر الواقدي: أن سبب إبطائه عن السير أن بعيره كان أعجف، فقال: أعلفه أياما، ثم ألحقه عليه الصلاة والسلام، فعلفه أياما، ثم خرج فلم ير به حركة، فحمل متاعه على ظهره وسار. "وأبو خيثمة" قال في الفتح اسمه سعد بن خيثمة، كذا أخرجه الطبراني من حديثه ولفظه تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت حائطا، فرأيت عريشا قد رش بالماء، ورأيت زوجتي، فقلت: ما هذا بإنصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في السموم والحر وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي وتمرات وخرجت فلما طلعت على العسكر فرآني الناس قال صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة"، فجئت فدعا لي. وذكره ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم مرسلًا، وذكر الواقدي: أن اسمه عبد الله بن خيثمة وقال ابن هشام: اسمه مالك بن قيس انتهى. "ثم لحقاه بعد ذلك" روى ابن إسحاق عن ابن مسعود لما سار صلى الله عليه وسلم إلى تبوك جعلوا يقولون تخلف فلان، فيقول: "دعوه فإن يكن فيه خير، فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"، وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه على ظهره، ثم خرج يتبع أثره صلى الله عليه وسلم ماشيا، "ولما رأى عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الصلاة والسلام أبا ذر الغفاري -وكان صلى الله عليه وسلم نزل في بعض الطريق- فقال: "يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده"، فكان كذلك. وأمر صلى الله عليه وسلم لكن بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية.   الصلاة والسلام أبا ذر الغفاري وكان عليه الصلاة والسلام نزل في بعض الطريق" قال أبو ذر: فطلعت عليه نصف النهار وقد أخذ مني العطش. رواه الواقدي قال في حديث ابن إسحاق: فنظر ناظر من المسلمين، فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر" فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر "فقال" "رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده ويبعث وحده". هكذا الرواية عن ابن مسعود عند ابن إسحاق وأتباعه فما يقع في نسخ يعيش بدل يبعث تحريف من النساخ، وعند الواقدي، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره قال: "لقد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن لقيتني"، ووضع متاعه عن ظهره، ثم استسقى فأتي بإناء من ماء فشربه، وقوله: "كن أبا ذر"، "كن أبا خيثمة" بلفظ الأمر قيل: معناه الدعاء، كما تقول أسلم، أي سلمك الله، أي اللهم اجعله أبا ذر، وقيل: معناه أنت أبو ذر، ثم إنه يقع في نسخ حذف، "ويبعث وحده"؛ لأنه لم يتقيد بالرواية، بل اقتطف منها ما يدل على الآية الباهرة التي شوهدت والبعث لم يشاهد بعد، فهي أنسب بقوله "فكان كذلك". روى ابن إسحاق عن ابن مسعود: لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن غسلان وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمر بكم، فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلا ذلك به، وأقبل ابن مسعود في رهط من أهل العراق عمار، فلم يرعهم إلا والجنازة على ظهر الطريق، وقد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام، فقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي وحدك، وتموت وحدك وتبعث وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم ابن مسعود بالحديث، وعسكر عليه السلام بثنية الوداع، كما قال ابن إسحاق. زاد الواقدي: ولما رحل منها، عقد الألوية والرايات، "وأمر صلى الله عليه وسلم لكل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية". قال الواقدي: فدفع لواءه الأعظم إلى الصديق ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال إلى الحباب بن منذر. قال: ورأى براس الثنية عبدًا لامرأة متسلحًا فقال: أقاتل معك، فقال: ارجع إلى سيدتك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وكان معه عليه الصلاة والسلام ثلاثون ألفًا: وعند أبي زرعة سبعون ألفًا، وفي رواية عنه أيضًا أربعون ألفًا. وكانت الخيل عشرة آلاف فرس.   لا تقتل معي فتدخل النار، ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم لا يخرج معنا إلا مقو، فخرج رجل على بكر صعب، فصرعه بالسويداء مصغر سوداء موضع على ليلتين من المدينة، فقال الناس: الشهيد الشهيد، فبعث صلى الله عليه وسلم مناديًا لا يدخل الجنة عاص، قال: وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي وأبوه بفتح الفاء، وسكون الغين المعجمة وبالواو. وروى عبد الرزاق وابن سعد عن كعب بن مالك: خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك يوم الخميس، وعسكر عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب فأقام مدة إقامته، فلما سار عليه السلام نحو تبوك تخلف ابن أبي راجعًا إلى المدينة فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به يحسب أن قتالهم معه اللعب، والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين بالحبال إرجافا به وبأصحابه. قال ابن إسحاق والواقدي وابن سعد: وكان عسكر ابن أبي فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين. قال ابن حزم هذا باطل لم يتخلف عنه إلا ما بين السبعين إلى الثمانين فقط، "وكان معه عليه الصلاة والسلام ثلاثون ألفًا" الذي جزم به ابن إسحاق والواقدي، وابن سعد ورواه الحاكم في الإكليل عن معاذ بن جبل والواقدي عن زيد بن ثابت، قالا: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفًا، فكأن المصنف ألغى الزائد في حكاية هذا القول. "وعند أبي زرعة" عبيد الله بن عبد الكريم الحافظ، الثقة، الرازي، الإمام، المهور أنه كان معه "سبعون ألفًا" نقله الحاكم عنه في الإكليل قال الشامي: وجمع بين الكلامين بأن من قال ثلاثين ألفًا لم يعد التابع، ومن قال سبعين عند التابع والمتبوع. "وفي رواية عنه أيضًا أربعون ألفًا" وهي التي نقلها عنه في الفتح قائلًا، ولا تخالف حديث معاذ أكثر من ثلاثين لاحتمال أن من قال أربعين ألفًا جبر الكسر، انتهى. لكن تعقبه تلميذه السخاوي بأن المروي عن أبي زرعة أنهم كانوا سبعين، نعم الحصر بالأربعين في حجة الوداع فكأنه سبق قلم، أو انتقال نظر، نقله عنه تلميذه المصنف في شرح البخاري، وأقره، وهو عجيب مع جزمه هنا بأنهما روايتان عن أبي زرعة، وتأليفه للشرح متأخر عن المواهب لإحالته فيه كثيرا عليها وعلى تسليم النقل، فقد جمع شيخنا على قياس السابق بينهما وبين من قال أربعين بأنه عند المتبوعين ومن يقرب منهم من التابعين. "وكانت الخيل عشرة آلاف فرس" رواه الواقدي من حديث زيد، وقيل: زيادة ألفين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 ولما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر -بكسر الحاء وسكون الجيم- بديار ثمود قال: "لا تشربوا من مائها شيئا،   وعليه حمل في الفتح ما وقع في بعض طرق حديث كعب عند مسلم، والمسلمون يزيدون على عشرة آلاف قال: تحمل على إرادة عدد الفرسان، "ولما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر بكسر الحاء وسكون الجيم بديار ثمود" بدل من الحجر بإعادة الجار، وفي الفتح، وهو منزل ثمود، وفي الأنوار هو واد بين المدينة والشام، كانوا يسكنونه بمنع الصرف على إرادة القبيلة للعلمية والتأنيث المعنوي وبالصرف على إرادة اسم الأب وكلاهما في القرءآن وإلى ثمود وعاد، أو ثمودًا "قال: "لا تشربوا" ظاهر سياقه أنه لم ينزل به، وعند ابن إسحاق أنه لما نزل وقال: "لا تشربوا"، وترجم البخاري نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر. قال الحافظ: وزعم بعضهم أنه مر ولم ينزل، ويرده تصريح ابن عمر بأنه، لما نزل الحجر أمرهم أن لا يشربوا "من مائها شيئا"؛ خوفا أن يورثهم شربه قسوة في قلوبهم، أو ضررا في أبدانهم. قاله المصنف: زاد ابن إسحاق "ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه، فاعلفوا الإبل، ولا تأكلوا منه شيئا"، وكأن من زعم أنه لم ينزل به تمسك بما أخرجه البخاري عقب الترجمة عن ابن عمر لما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين" ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاز الوادي، وغفل عما أخرجه في أحاديث الأنبياء عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وأخرج الشيخان عن ابن عمر أن الناس نزلوا معه صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر، فاستقوا من بئرها واعتجنوا به، فأمرهم أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة، وروى أحمد والحاكم بإسناد جيد عن جابر قال: لما مر صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: " لا تسالوا الآيات فقد سالها قوم صالح" وكانت الناقة ترد هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، وهو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه، قال الحافظ: سئل شيخنا البلقيني من أين علمت بئر الناقة، فقال: بالتواتر إذ لا يشترط فيه الإسلام، انتهى. والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم علمها بالوحي، ويحمل كلام الشيخ على من سيجيء بعده، وفيه كراهة الاستقاء من آبار ثمود، ويلحق بها نظائرها من الآبار والعيون التي كانت لمن هلك بعذاب الله على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له"، ففعل الناس، إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فخنق على مذهبه وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء. فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألم أنهكم"؟ ثم دعا للذي خنق على مذهبه فشفي، وأما الآخر فأهدته طيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.   كفره واختلف هل الكراهة للتنزيه، أو للتحريم، وعليه هل يمنع صحة التطهر من ذلك الماء أم لا، انتهى. "ولا يخرجن أحد منكم" الليلة، كما عند ابن إسحاق "إلا ومعه صاحب له" لحكمة علمها صلى الله عليه وسلم لعلمها أن الجن لا تقدم على اثنين. وقد روى الإمام في الموطأ مرفوعا: "أن الشيطان بهم بالواحد"، قال الباجي: يحتمل أن يريد، أنه يهم باغتياله والتسلط عليه وأنه يهم بغيه وصرفه عن الحق وإغرائه بالباطل، انتهى. وأخرج أصحاب السنن بإسناد حسن، وصححه ابن خزيمة والحاكم مرفوعا، "الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب"، "ففعل الناس" ما أمرهم به صلى الله عليه وسلم "إلا رجلين من بني ساعدة من الأنصار. قال البرهان: لا أعرفهما، "خرج أحدهما لحاجته" التغوط، "والآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فخنق، بنون ومعجمة مبني للمفعول، أي صرع "على مذهبه" بفتح الميم، والهاء بينهما معجمة ساكنة، وهو الموضع الذي يتغوط فيه. "وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء". قال في الروض وتبعه في النور: هما أجا وسلمى عرف أجا بفتح الهمزة والجيم آخره همزة مقصورة بأجا بن عبد الجن بجيم ونون، كما سيأتي كان صلب وفيه سلمى بفتح المهملة وإسكان اللام والقصر بسلمى بنت حام صلبت فيه فيما ذكر "فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألم أنهكم" أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه، "ثم دعا للذي" وفي نسخة دعا الذي، أي طلبه فحضر فدعا له، والأولى أظهر، وهي التي عند ابن إسحاق للذي بلام الجر "خنق على مذهب فشفي، وأما الآخر فأهدته طيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، كذا وروى ابن إسحاق حديث الرجلين عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عباس بن سهل الساعدي، قال: وقد حدثني عبد الله أن العباس سماهما له، ولكنه استودعه إياهما، فأبى أن يسميهما لي، وعارضه البرهان بأن الذي في مسلم أن ذلك كان بتبوك لا الحجر، وهو متعقب بأنهما قصتان إحداهما بالحجر، وهي التي ذكرها ابن إسحاق وتبعه اليعمري، والثانية بتبوك ويؤيد التعدد أن في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وفي صحيح مسلم من حديث أبي حميد: انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة" فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء. وروى الزهري: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: "لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون؛ خوفا أن يصيبكم ما أصابهم".   الأولى رجلين، وفي الثانية رجل، ولوح لذلك المصنف، فقال "وفي صحيح مسلم" والبخاري بنحوه، فالأولى عزوه لهما كلاهما "من حديث أبي حميد" الساعدي اسمه المنذر، أو عبد الرحمن، أو عمر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك شهد أحدا وما بعدها وعاش إلى سنة ستين "انطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم فمن كان له بعير فليشد عقاله". وفي رواية البخاري فليعقله، "فهبت ريح شديدة، فقام رجل، فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء، ولم يبين ما حصل لذلك الرجل بعد على تعدد القصة ويحتمل الاتحاد، وأن قصة الذي خرج لحاجته كانت بالحجر، والذي ألقته الريح كانت بتبوك فجمع بينهما في الذكر في مرسل ابن إسحاق، ولم يتنزل في الفتح للجمع مع ذكره رواية ابن إسحاق في شرح الحديث. "وروى الزهري" محمد بن مسلم عن سالم عن أبيه قال: "لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى" غطى "ثوبه" وضمنه معنى وضع فقال: "على وجهه واستحث راحلته" أي حضها على السير "ثم قال: "لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم". قال الحافظ: شامل لثمود وغيرهم ممن هو كصفتهم، وإن كان السبب ورد فيهم، قال: ليس المراد الاقتصار في ذلك على ابتداء الدخول، بل دائما عند كل جزء من الدخول، وأولى في حال الاستقرار "إلا وأنتم باكون" بأن تستحضروا ما أصابهم بذنوبهم، فترق قلوبهم، فتبكوا "خوفا أن يصيبكم" بفتح الهمزة مثل "ما أصابهم". قال المصنف: لا ينافيه قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] الآية، لحمل الآية على عذاب يوم القيامة، انتهى. وثبوت خوفا في هذه الرواية يؤيد البصريين في رواية "إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم" بالفتح مفعول له، أي كراهة الإصابة حيث قدروا كراهة، أو خشية الإصابة، وقدر الكوفيون لئلا يصيبكم. قال الحافظ: ويؤيد الأول أن في رواية لأحمد "إلا أن تكونوا باكين، وإن لم تكونوا باكين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 رواه الشيخان.   فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم"، ووجه الخوف أن البكاء يبعث على التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله على أولئك بالكفر، مع تمكنهم من الإتيان بالإيمان، وتمكينه لهم في الأرض، وإمهالهم مدة طويلة، ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب، فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، والتفكر أيضا في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان والطاعة، فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتبارا بأحوالهم، فقد شابههم في الإهمال ودل على قساوة قلبه وعدم خشوعه، فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم، وفيه الحث على المراقبة، والزجر على السكني في ديار المعذبين، انتهى. من الفتح في موضعين "رواه الشيخان" في مواضع قال ابن إسحاق فلما أصبح الناس ولا ماء معهم، شكوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فدعا، فأرسل الله سحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، وحملوا حاجتهم من الماء. حدثني عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد عن رجال من قومه قال: كان رجل معروف نفاقه يسير معه صلى الله عليه وسلم حيثما سار، فلما كان من أمر الحجر ما كان، ودعا صلى الله عليه وسلم فأرسل الله السحابة، فأمطرت حتى ارتوى الناس، أقبلنا عليه نقول: ويحك هل بعد هذا شيء قال: سحابة مارة. وروى الإمام أحمد وابنا خزيمة وحبان والحاكم عن عمر: خرجنا إلى تبوك في يوم قيظ شديد فنزلنا منزلا، وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا قال: "أتحب ذلك" قال: نعم، فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر. فعند ابن إسحاق أن هذه القصة كان بالحجر، كما ترى. لكن روى ابن أبي حاتم عن أبي حرزة قال: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، ونزلوا الحجر، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائها شيئا، ثم ارتحل ونزل منزلا آخر وليس معهم ماء، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم فقام فصلى ركعتين ثم دعا فأرسل الله سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال أنصارى لآخر من قومه يتهم بالنفاق: ويحك قد ترى ما دعا صلى الله عليه وسلم، فأمطر الله علينا السماء، فقال: إنما مطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 ولما كان عليه الصلاة والسلام ببعض الطريق ضلت ناقته، فقال زيد بن اللصيت -وكان منافقا- أليس محمد يزعم أنه نبي ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا يقول كذا" وذكر مقالته، "وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في الوادي في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها". فانطلقوا فجاءوا بها. رواه البيهقي وأبو نعيم.   ويحتمل الجمع بأن قول ابن إسحاق فلما أصبح، أي بعد أن سار ونزل منزلا بعد الحجر، وأنه لما طلب منه أبو بكر الدعاء صلى، ثم مد يديه ودعا والله أعلم. "ولما كان عليه الصلاة والسلام ببعض الطريق" بعد ما سار من الحجر، كما عند الواقدي، وابن إسحاق "ضلت ناقته"، غابت وخفيت فلم يهتد إليها، قال الواقدي: وهي القصواء، "فقال زيد بن اللصيت" قال في الإصابة: بلام ومهملة، وتحتية مصغر، وقيل: بنون أوله وآخره موحدة القينقاعي، انتهى. وفي النور آخره فوقية، تصغير لصت، بفتح اللام في الكثير وهو اللص بغلة طيء. وحكى شيخنا في القاموس تثليث اللام في المكبر والجمع لصوت، انتهى. وهو في القاموس في باب الفوقية، فقول الإصابة وآخره موحدة، يعني على أن أوله نون "وكان منافقا". قال الواقدي: كان يهوديًّا من بني قينقاع فأسلم فنافق، وكان فيه خبث اليهود وغشهم، وكان مظاهرا لأهل النفاق، "أليس يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته"، وعند ابن إسحاق وكان زيد ي رحل عمارة بن حزم العقبي البدري، وكان عنده عليه السلام "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعمارة عنده "أن رجلا" وعند الواقدي أن منافقا "يقول كذا" , وذكر مقالته" التي أعلمها الله له بالوحي إلهاما، أو غيره "وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله"، فإخباري بأمر السماء إنما هو بتعليم الله والنبي لا يعلم كل غيب. قال ذلك رد الزعم المنافق، أنه لو كان نبيًّا لعلم مكان ناقته "وقد دلني الله عليها وهي في الوادي في شعب كذا وكذا"، لشعب عينه وأشار لهم إليه "قد حسبتها"، منعتها "شجرة بزمامها فانطلقوا" فعل أمر "حتى تأتوني بها" فانطلقوا" ماض "فجاءوا بها". قال الواقدي: الذي جاء بها الحارث بن خزمة الأشهلي لكن الجمع كما قال البرهان يدل على أنه كان معه غيره وخزمة بفتح المعجمة، وإسكان الرازي وفتحها، وقيل: خزيمة بالتصغير بدري أحدي له حديث "رواه البيهقي وأبو نعيم" وابن إسحاق والواقدي، وزاد فرجع عمارة إلى رحله، فقال: والله لعجب لشيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا عن مقالة قائل أخبره الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 وفي مسلم من حديث معاذ بن جبل: أنهم وردوا عين تبوك، وهي تبض بشيء من ماء، وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا حتى اجتمع في شن ثم غسل صلى الله عليه وسلم به وجهه ويديه ثم أعاده فيها فجرت بماء كثير، فاستقى الناس، الحديث، ويأتي إن شاء الله في مقصد المعجزات. ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة.   بكذا وكذا للذي قال زيد، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة. قال الواقدي: هو أخوه عمرو بن حزم زيد والله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا، فأقبل عمارة على زيد يطعنه، في عنقه، ويقول: يا عباد الله إن في رحلي لداهية، وما أشعر فأخرج يا عدو الله من رحلي، ولا تصحبني، قال ابن إسحاق: فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس: لم يزل متهما بشر حتى هلك وقد ذكره في الإصابة في القسم الأول، وأورد فيه القصة المذكورة عازا لابن إسحاق، ونقل الاختلاف في توبته، ولم يزد عليه شيئا، فكأنه اعتمد قول من زعم توبته، أو كتبه على الاحتمال. "وفي مسلم" والموطأ "من حديث معاذ بن جبل، أنهم وردوا عين تبوك، وهي تبض" بفتح الفوقية، وكسر الموحدة وضاد معجمة، أي تقطر وتسيل هكذا رواه ابن مسلمة وابن القاسم في الموطأ بالمعجمة، ورواه يحيى وطائفة بالمهملة، أي تبرق، قاله الباجي "بشيء من ماء" يشير إلى تقليله، "وأنهم غرفوا منها قليلا قليلا" لفظ مالك ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدا عين تبوك وأنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فما جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي". فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فسألهما صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئا" قال: نعم، فسبهما وقال لهما: "ما شاء الله أن يقول"، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا "حتى اجتمع في شن" بفتح المعجمة، ونون قربة خلقة فصريحة أن ماءها كان يخرج بنفسه وأن الذي جمعوه كان بعد سبه للرجلين اللذين مساها أي بسهمين ليكثر ماؤها، كما في الروض عن رواية ابن قتيبة "ثم غسل صلى الله عليه وسلم به وجهه ويديه" ومضمض "ثم أعاده فيها، فجرت بماء كثير، فاستقي الناس الحديث" بقيته، ثم قال عليه السلام: "يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا مليء" جنانا، "ويأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات" بتمامه" وإنما ذكرت لفظه هنا؛ لأن من الناس من توهم من ذكره المصنف بمعناه: أن الرجلين السابقين للعين رواية أخرى فجعلها معارضة، وجوز لها جمعا، "ولما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه صاحب أيلة" بفتح الهمزة، وسكون التحتية مدينة بين مصر ومكة على ساحل البحر من بلاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 فصالحه وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء بالجيم -واذرح- بالذال المعجمة والراء والحاء المهملتين بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال، فأعطوه الجزية، وكتب لهم صلى الله عليه وسلم كتابا.   الشام، قاله أبو عبيدة، وهو يحنة بضم التحتية، وفتح المهملة، والنون المشددة، ثم تاء تأنيث ابن رؤبة بضم الراء فهمزة ساكنة، فموحدة، النصراني قال البرهان: لا أعرف له ترجمة والظاهر هلاكه على دينه. وذكر الواقدي: أن سبب إتيانه أنه لما بعث صلى الله عليه وسلم خالدا إلى أكيدر، أشفق أن يبعث إليه، فقدم "فصالحه وأعطاه الجزية"، أي التزمها وإنقاد لإعطائها قالوا: وقطع صلى الله عليه وسلم الجزية جزية معلومة ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل. روى ابن أبي شيبة والبخاري عن أبي حميد الساعدي: قدم ملك أيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدى إليه بلغة بيضاء، فكساه صلى الله عليه وسلم بردا، وكتب إليه بيحرهم وأسند الواقدي عن جابر رأيت يحنة بن رؤبة يوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صليب من ذهب، وهو معقود فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كفى وأومأ برأسه، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم بيده أن ارفع رأسك وصالحه، يومئذ وكساه بردا بمنية، وأمر له بمنزل عند بلال. وذكر أن أبا العباس عبد الله بن محمد السفاح اشترى ذلك البرد بعد ذلك بثلاثمائة دينار، "وأتاه أهل جربا، بالجيم" المفتوحة، فالراء الساكنة فموحدة تقصر وتمد، "و" أهل "أذرج" بالهمزة المفتوحة، "وبالذال المعجمة" الساكنة، "والراء المهملة" المضمومة "والحاء المهملة"، قيل هي فلسطين "بلدين بالشام بينهما ثلاثة أميال" جمع ميل، قال في القاموس: وغلط من قال بينهما ثلاثة أيام، وإنما الوهم من رواة الحديث من إسقاط زيادة، ذكرها الدارقطني، وهي ما بين ناحيتي حوض، كما بين المدينة وجربا وأذرح، انتهى. "فأعطوه الجزية" قال الواقدي: أتوه مع صاحب أيلة بجزيتهم، فأخذها "وكتب لهم صلى الله عليه وسلم" أي أمركما هو معلوم، وقد عين الواقدي أن الكاتب لصاحب أيلة جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة "كتابا" أراد جنس الكتاب؛ لأنه كتب لصاحب أيلة كتابا ولأهل جربا وأذرح معا كتابا، كما أفاده في المقصد الثاني، مع ذكر لفظ الكتابين، وما أفاده المصنف من أنه وقت انتهائه إلى تبوك أتوه تبع فيه لفظ ابن إسحاق فإنه كله لفظه، كما تبعه اليعمري، وكأنه لم يثبت عندهم السبب الذي ذكره الواقدي في مجيء يحنة، لا سيما وابن إسحاق بعد أن ذكر ذلك، قال: ثم بعث خالدا إلى أكيدر إلا أن تكون، ثم للترتيب الذكري والعلم عند الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 ووجد هرقل بحمص، فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك النصراني، وكان ملكا عظيما بدومة الجندل، في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سرية، وقال له عليه الصلاة والسلام لخالد: "إنك ستجده ليلا يصيد البقر"،   "ووجد هرقل بحمص" دار ملكه لم يتحرك ولم يرجف فكان الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم من تعبية أصحابه ودنوه إلى الشام باطلا لم يرد ذلك، ولا هم به. ذكره الواقدي: فكتب له كتابا، كما سيذكره ولو ذكره هنا كان أنسب إذ لا يتفرع عليه قوله، "فأرسل خالد بن الوليد إلى أكيدر" بضم الهمزة وفتح الكاف، وسكون التحتية، وفتح المهملة آخره راء، لا يصرف للعلمية، ووزن الفعل "ابن عبد الملك" بن عبد الجن، بجيم ونون، كما في الفتح "النصراني" المختلف في إسلامه والأكثر على أنه قتل كافرا، وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم الصحابة. ورده ابن الأثير بأنه خطأ ظاهر، فأنه إنما أهدى للنبي وصالحه، ولم يسلم باتفاق أهل السير، أسره خالد في زمن أبي بكر، فقتله كفرا، وقال أخوه أبو السعادات من الناس من يقول: إنه أسلم وليس بصحيح، وممن وقع في كلامه ما يدل على ذلك الواقدي، فإنه قال في المغازي حدثني شيخ من دومة، أنه صلى الله عليه وسلم كتب لأكيدر هذا الكتاب "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لأكيدر" حين جاء إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام إلى أن قال: "فيه تقيمون الصلاة، وتؤدون الزكاة عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، ولكم الصدق والوفاء". قال في الإصابة: فالذي يظهر أنه صالح على الجزية، كما قال ابن إسحاق ويحتمل أنه أسلم بعد ذلك، كما قال الواقدي، ثم ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ومنع ما عليه فقتله خالد، كما قال البلاذري، انتهى. وسيذكر المصنف لفظ الكتاب في المقصد الثاني، وما استظهره الحافظ، لا محيد عنه إذ هو جمع بين كلامهم وعلى كل حال فعده صحابيا غلط؛ لأن آخر أمره قتله كافرا، ولذا ذكره في القسم الرابع من الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا. "وكان ملكا عظيما" من قبل هرقل "بدومة" بضم الدال وفتحها والواو ساكنة. "الجندل" بفتح فسكون حصن وقرى من طرف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال، يقال: عرفت بدومة بن إسماعيل "في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سرية، وقال عليه الصلاة والسلام لخالد" وقد، قال له: كيف لي به، وهو وسط بلاد كلب، وإنما أنا في أناس يسيرين "إنك ستجده ليلا يصيد البقر" "فتأخذه فيفتح الله لك دومة فإن ظفرت به، فلا تقتله وائت به إلى فإن أبى فاقتله". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 فانتهى إليه خالد، وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها، هو وأخوه حسان، فشدت عليه خيل خالد، فاستأسر أكيدر وقتل أخاه حسانا، وهرب من كان معهما فدخل الحصن، ثم أجار خالد.   وروى يونس في زيادات المغازي عن بلال بن يحيى، قال: بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المهاجرين، وبعث خالدا على الأعراب معه، وقال: "انطلقوا أنكم ستجدون أكيدر دومة يقتنص الوحش فخذوه أخذا فابعثوا به إلي، ولا تقتلونه" ومن طريقه أخرجه البيهقي، ورواه ابن منده عن بلال بن يحيى، عن حذيفة موصولا، قال الشامي: وذكر أبي بكر في هذه السرية غريب جدا لم يتعرض أحدا من أئمة المغازي التي وقفت عليها، انتهى. فمضوا "فانتهى إليه خالد وقد خرج من حصنه في ليلة مقمرة إلى بقر يطاردها" أي يريد ذلك فعند ابن إسحاق وابن سعد، فخرج خالد حتى كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة، وهو على سطح له ومعه امرأته الرباب بكسر الراء وموحدتين وقينة تقنيه، وقد شرب فباتت البقر تحك بقرونها باب الحصن، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط، قال: لا والله. قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد، وعند ابن عائذ: والله ما رأيتها قط جاءتنا إلا البارحة، ولقد كنت أضمر لها الخيل اليومين والثلاثة، وفي لفظ شهر ولكن قدر الله ونزل، فأسرج له فرسه، وخرج "هو وأخوه حسان" في نفر من أهل بيته ومملوكين له، فتلقتهم الخيل "فشدت عليه خيل خالد فاستأسر أكيدر" ولم يقتله، كما أمره صلى الله عليه وسلم أعطى بيده ولم يقاتل، "وقتل أخاه حسانا" لأنه قاتل. قال إبن إسحاق: وقد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب، فاستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه فحدثني عاصم بن عمر، عن أنس رأيت قباء أكيدر دومة حين قدم به، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم يتعجبون منه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من هذا، فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" وحديثه الذي رواه، لا يدل لمدعاه إلا بتقدير مضاف، أي قباء أخي أكيدر. لكن، قد روى حديث أنس في البخاري في الهبة بلفظ أهدى أكيدر دومة الحديث والهداية غير السلب، فإن كان ما قاله محفوظا، وقد وافقه الواقدي، وذكر أن المرسل به عمرو بن أميلا الضمري حين أرسله بشيرا، فيكون هذا غير الذي أهداه بعد؛ لأن هذا سلب أخيه المقتول، وهو مأسور، فلا ينسب إليه أنه أهداه، ويكون التعجب وقع من كليهما، وقال المصطفى: ذلك في كل منهما والعلم عند الله. "وهرب من كان معهما" وهم النفر والملوكان، "فدخل الحصن" وأغلقوه، "ثم أجار خالد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل، ففعل وصالحه على ألفي بعير وثمانمائة فرس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح. وفي هذه الغزوة كتب صلى الله عليه وسلم كتابا في تبوك إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب   أكيدر من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على "صلة أجار "أن يفتح له" لخالد دومة الجندل ففعل" ذكر ابن سعد وشيخه أن خالدا قال له، لما أسره هل لك أن أجير من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تفتح لي دومة الجندل قال: نعم فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن، فنادى أكيدر أهله أن افتحوا باب الحصن، فأرادوا ذلك فأبى عليهم مضاد أخو أكيدر، فقال أكيد لخالد: تعلم والله أنهم لا يفتحون ما رأوني في وثاقك فحل عني فلك الله والأمانة أن أفتحه لك إن أنت صالحتني على أهلي، قال خالد: فأنى أصالحك، فقال: إن شئت حكمتك، وإن شئت حكمتني، قال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت "صالحه على ألفي بعير وثمانمائة فرس"، كذا في النسخ، والذي لابن سعد وشيخه، وهو المنقول في العيون رأس "وأربعمائة درع وأربعمائة رمح" على أن ينطلق به وبأخيه إلى رسول الله فيحكم فيهما حكمه، فلما قاضاه على ذلك خلى سبيله، ففتح الحصن، فدخله خالد، وأوثق مضادا وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح، فعزل خالد صفية له صلى الله عليه وسلم قبل أن يقسم، ثم خمسها، ثم قسم ما بقي في أصحابه، فصار لكل واحد منهم خمس قلائص، ثم قدم خالد بأكيدر عليه صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه وصالحه على الجزية، وخلى سبيله، فرجع إلى قريته، فقال بجير الطائي: تبارك سائق البقرات أني ... رأيت الله يهدي كل هاد فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد وعند ابن منده وأبي نعيم وابن السكن، فقال صلى الله عليه وسلم لبجير: "لا يف الله فاك فاتت عليه تسعون سنة، وما تحركت له سن". "وفي هذه الغزوة كتب صلى الله عليه وسلم كتابا في تبوك إلى هرقل" غير الكتاب الذي كان أرسله مع دحية في مدة الهدنة المذكورة في الصحيح، فإنه بعثه في آخر سنة ست ووصل في المحرم سنة سبع، قاله الواقدي، واعتمده في الفتح، وكان المبعوث بهذا أيضا دحية، كما في رواية أحمد "يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب" خوفا على ملكه. ذكر في الروض أنه أمر مناديا إلا أن هرقل، قد آمن بمحمد واتبعه فدخلت الأجناد في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أنس. وفي مسند أحمد أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب هو على نصرانيته".   سلاحها وأطافت بقصره تريد قتله فأرسل إليهم إني أردت أن اختبر صلابتكم في دينكم قد رضيت عنكم، فرضوا عنه، ثم كتب كتابا، وأرسله مع دحية يقول: إني مسلم ولكني مغلوب على أمري، وأرسل إليه هدية، فلما قرأ صلى الله عليه وسلم كتابه، قال: "كذب عدو الله ليس بمسلم هو على نصرانيته"، وقبل هديته وقسمها بين المسلمين وكان لا يقبل هدية مشرك محارب، فقبل هذا؛ لأنها فيء، ولذا قسمها عليهم، ولو أتته في بيته كانت له خاصة، انتهى. "رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أنس" وروى الحارث بن أبي أسامة عن بكر بن عبد الله، قال صلى الله عليه وسلم: "من يذهب بهذا الكتاب إلى قيصر وله الجنة" فقال رجل: وإن لم يقبل، قال: "وإن لم يقبل" فانطلق الرجل، فأتاه بالكتاب فقرأه، فقال: اذهب إلى نبيكم فأخبروه أني متبعه، ولكن، لا أريد أن أدع ملكي، وبعث معه بدنانير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب" وقسم الدنانير. "وفي مسند أحمد" من طريق سعيد بن أبي راشد، عن التنوخي رسول هرقل إليه صلى الله عليه وسلم قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك، فبعث دحية إلى هرقل بكتاب، فدعا قسيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار، فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم وأرسل يدعوني إلا ثلاث خصال أن أتبعه على دينه، أو الجزية، أو الحرب، وقد عرفتم فيما تقرءون من الكتب ليأخذن أرضنا، فهلم فلنتبعه، أو نعطه مالا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم، وقالوا: تدعون إلى أن نذر النصرانية، أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز فلما رأى ذلك قال: إنما أردت أن أعلم صلابتكم على دينكم، ثم دفع إليَّ كتابا، فقال: اذهب إليه، فاحفظ من حديثه ثلاثا هل يذكر كتابه الذي كتب إليَّ، وإذا قرأ كتابي هل يذكر الليل وهل في ظهره شيء؟ قال: فناولته الكتاب فدعاني إلى الإسلام، فأبيت فضحك، وقال: إنك لا تهدي من أحببت، إني كتبت إلى كسرى، فمزقه والله ممزقه، وإلى صاحبك صحيفة، فأمسكها لن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير، فقلت هذا إحدى الثلاث فكتبتها في جفن سيفي، ثم ناول الكتاب إلى معاوية فقرأ فيه: تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله أين النهار إذا جاء الليل" فكتبته في جفن سيفي، فذكر الحديث بطوله، وفيها "أن هرقل كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب هو على نصرانيته" وأنه ود أن يعطيه جائزة، فأتاه عثمان بحلة، وأمر أنصاريًّا بإنزاله، فقام معه فناداه عليه السلام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 وفي كتاب الأموال لأبي عبيد، بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله نحو، ولفظه: فقال: "كذب عدو الله ليس بمسلم". ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك، بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة. وقال الدمياطي -ومن قبله ابن سعد- عشرين ليلة، يصلي ركعتين ولم يلق كيدا،   فكشف له ظهره فرأى خاتم النبوة. "وفي كتاب الأموال لأبي عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغداوي الإمام المشهور، الثقة الفاضل المصنف، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين "بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله، المزني، البصري الثقة الثبت من رجال الستة مات سنة ست ومائة "نحوه ولفظه، فقال: "كذب عدو الله ليس بمسلم". قال في الفتح فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن أي أظهر التصديق لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه بل شح بملكه، وآثر القانية، على الباقة، "ثم انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد أن أقام بها بضع عشرة ليلة" قال ابن عقبة وابن إسحاق، واقتصر عليه اليعمري، "وقال الدمياطي ومن قبله ابن سعد، والواقد، ابن حزم: عشرين ليلة يصلي بها ركعتين" وأخرجه أحمد عن جابر وابن سعد، عن يحيى بن أبي كثير، قالا: أقام صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة ويحتمل الجمع بأنه حسب يوم القدوم ويوم الارتحال فيصدق البضع بما عداهما، "ولم يلق كيدا" أي حربا فكان من الحكمة فيها ما حصل من إغاظة الكفار، وظهور عز المسلمين وفضيحة المنافقين وإذلالهم. وذكر الواقدي أنه شاور أصحابه في التقدم، فقال عمران: كنت أمرت بالمسير فسر، فقال: "لو أمرت بامسير لم أستشركم فيه"، فقال: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها مسلم، وقد دنونا وأفزعهم دنوك، فلو رجعنا هذه السنة حتى ترى، أو يحدث الله أمرا وأخرج يونس في زيادات المغازي، وأبو سعد في الشرف وابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود، قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فصدق ما قالوا، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ} [الإسراء: 76] ، فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث، فرجع صلى الله عليه وسلم، فقال جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، وكان جبريل له ناصحا، والنبي صلى الله عليه وسلم مطيعا، قال: "فما تأمرني أن أسأل" فقال جبريل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] فهؤلاء الآيات نزلنا عليه في رجعته من تبوك، قال في الفتح: إسناده حسن مع كونه مرسلا، انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وبنى في طريقه مساجد. وأقبل عليه الصلاة والسلام حتى نزل بذي أوان -بفتح الهمزة بلفظ الأوان: الحين وبينها وبين المدينة ساعة جاءه خبر مسجد الضرار من السماء. فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي العجلاني فقال:   وأغرب السيوطي، فقال في الباب: هذا مرسل ضعيف الإسناد، وله شاهد عن ابن أبي حاتم، وآخر عند ابن جرير انتهى. وفيه نظر فإنه من رواية عبد الحميد بن بهرام، وهو صدوق، كما في التقريب عن شهر بن حوشب، وهو صدوق أيضا. روى له مسلم وأصحاب السنن عن عبد الرحمن بن غنم، بفتح المعجمة، وسكون النون ذكره العجلي في كبار التابعين الثقات، واختلف في صحبته، فالحق قول الفتح حسن، وروى أحمد وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك: "إذا وقع الطاعون بأرض، وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإن كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها" قال الحافظ: في بذل الطاعون يشبه والله أعلم أن السبب في ذلك أن الشام كانت قديما ولم تزل معرفة بكثرة ذلك، فلما قدم صلى الله عليه وسلم تبوك غازيا الشام بلغه أن الطاعون كان في الجهة التي كان قاصدها، فكان ذلك من أسباب رجوعه، من غير قتال "وبنى في طريقه مساجد" عشرين، أي كان سببا في بنائها لصلاته في تلك الأماكن، وأعلم عليها فبنيت بعده، كما يعلم من كلام الشريف السمهودي، ويجوز بناؤه للمفعول، أي أنها بنيت في طريقه التي صلى فيها، وعند ابن إسحاق مساجده في طريقه إلى تبوك مسماة معلومة مسجد بتبوك ومسجد بكذا فعدها سبعة عشر مسجدا، "وأقبل عليه الصلاة والسلام حتى نزل بذي، أوان بفتح الهمزة". قال البرهان والخشني: يرويه بضم الهمزة حيث وقع، انتهى. وقال البكري: أظن الراء سقطت من بين الهمزة والواو، أي أروان منسوب إلى البئر المشهورة، وعلى الأول هو بلفظ الأوان بفتح الهمزة وكسرها لغة "لحين" بالجر بدل والرفع خير هو "وبينها" أي ذي أوان، وهي بلد "وبين المدينة ساعة" من نهار، قاله ابن إسحاق وأتباعه، وفي القاموس وأوان عين بالمدينة، انتهى. فلعل البلد كانت بها عين جاءه خبر مسجد الضرار" المضارة لأهل مسجد قباء "من السماء" فنزلت هذه الآية، "فدعا مالك بن الدخشم" بضم المهملة والمعجمة بينهما خاء معجمة ساكنة آخره ميم، ويقال: الدخشيم بالتصغير، ويقال: بنون بدل الميم مكبرا مصغرا الأوسي البدري باتفاق، قال أبو عمر: لا يصح عنه باتفاق "ومعن بن عدي" بن الجد بن العجلان "العجلاني" نسبة إلى جده هذا البلوي حليف الأنصاري شهد أحدا أو استشهد يوم اليمامة، ثم الرواية عند ابن إسحاق بالشك، قال: فدعا مالكا ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، "فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه، فخرجا فحرقاه وهدماه. وذلك بعد أن أنزل الله فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] الآية. قال الواحدي: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: الذين اتخذوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلا،   "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله" بالكفر والتفريق بين المؤمنين "فاهدماه وحرقاه" وعند غيره: فدعا مالكا ومعناه وأخاه. زاد البغوي وعامر بن السكن ووحشيا قاتل حمزة وزاد في التجريد سويد بن عباس الأنصاري، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه واحرقوه، فيحتمل أنه أرسلهما أولا، وخاطبهما بلفظ التثنية، ثم عززهما بالأربعة، وخاطبهم بالجمع، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر "فخرجا" قال ابن إسحاق سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف رهط مالك بن الدخشم، فقال: مالك لمعن: انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي، فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، "فحرقاه وهدماه". وفي رواية: فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم، فأخذ مالك سعفا وأشعله، ثم خرجوا يشتدون حتى أتوه بين المغرب والعشاء وفيه أهله، فحرقوه وهدموه حتى وضعوه بالأرض وتفرق عنه أصحابه، فلما قدم عليه السلام المدينة عرضه على عاصم بن عدي ليتخذه دارا، فقال: ما كنت أتخذه، وقد أنزل الله فيه ما أنزل، ولكن أعطه ثابت بن أقرن فإنه، لا منزل له فأعطاه. فلم يولد في ذلك البيت مولود قط، ولا حمام، ولا دجاج. وروى ابن المنذر عن ابن جبير وابن جريج وقتادة، قالوا: ذكر لنا أنه حفر في موضعه بقعة، فأبصروا الدخان منها "وذلك بعد أن أنزل الله فيه" لما نزل بذي أوان، وأتاه المنافقون، وسألوه أن يأتي مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه على ما روى، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] لأنهم بنوه ليكون معقلا للكفار "الآية. "قال" علي بن أحمد بن محمد بن علي "الواحدي" أستاذ عصره نحوا وتفسيرا، تلميذ للثعلبي وأخذ عنه علم التفسير وزاد عليه ورزق السعادة في تصانيفه. توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة. "قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: الذين اتخذوا مسجدا ضرارا كانوا اثني عشر رجلا" سرد ابن إسحاق، وتبعه اليعمري وغيره أسماءهم فقال خذام هو بخاء مكسورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 يضارون به مسجد قباء، وذلك أنهم قالوا في طائفة من المنافقين، نبني مسجدا فنقيل فيه فلا نحضر خلف محمد. قال المفسرون: ولما بنوا ذلك لأغراضهم الفاسدة عند ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، قالوا: يا رسول الله، بنينا مسجدا لذي العلة، والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة،   وذال معجمتين، ابن خالد، ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب، ومتعب ين قشير، وأبو حبيبة بن الأذعر، وعباد بن حنيف أخو سهل وجارية، وهو بجيم وتحتية وابناه مجمع وزيد بن جارية بن عامر، ونبتل، وهو بفتح النون، وسكون الموحدة وفتح الفوقية، ولام ابن الحارث، ويخزج بموحدة مفتوحة، فمهملة ساكنة، فزاي مفتوحة فجيم وبجاد، بفتح الموحدة، وخفة الجيم فألف فمهملة، ابن عثمان ووديعة بن ثابت، وأشار السهيلي إلى انتقاده في مجمع بن جارية، فقال: وذكر فيهم مجمعا، وكان إذ ذاك غلاما حدثا، قد جمع القرآن، فقدموه إماما لهم، وهو لا يعلم بشيء من شأنهم، وقد ذكر: إن عمر أراد عزله عن الإمامة، وقال: أليس بإمام مسجد الضرار، فأقسم له مجمع أنه ما علم بشيء من أمرهم، وما ظن إلا الخير، فصدقه عمر، وأقره ومعتب بن قشير، بقاف ومعجمة مصغر ترجم له في القسم الأول من الإصابة، ثم قال: وقيل كان منافقا، وقيل إنه تاب، وذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا "يضارون به مسجد قباء، و" بيان "ذلك أنهم قالوا في" مع "طائفة من المنافقين" لما بنى بنو عمرو بن عوف مسجد قباء الذي أسسه صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة وصلى فيه بعثوا إليه عليه السلام أن أتيهم فيصلي فيه فرأى ذلك ناس من بني بفتح المعجمة، وسكون النون ابن عوف، فقالوا: "نبني" نحن أيضا "مسجدا" كما بنوا "فنقيل فيه، فلا نحضر خلف محمد" فقال لهم أبو عامر الفاسق قبل خروجه إلى الشام، ابنوا مسجدكم واستمدوا فيه بما استطعتم من سلاح وقوة فإني ذاهب إلى قيصر، فآتي بجند الروم فأخرج محمدا وأصحابه فكانوا يرصدون قدومه، وقد خرج محاربا لله ورسوله، ورواه ابن جرير وجماعة عن ابن عباس وغيره. "قال المفسرون" المذكورون وغيرهم "ولما بنو ذلك" المسجد "لأغراضهم الفاسدة" من المضارة والكفر والإرصاد "عند ذهاب رسول الله"، أي عند إرادته "صلى الله عليه وسلم" الذهاب "إلى غزوة تبوك". وفي حديث ابن عباس عند ابن مردويه والبيهقي: فلما فرغوا من بناء مسجدهم أرادوا أن يصلي فيه صلى الله عليه وسلم ليروح لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد، فأتاه جماعة منهم، وهو يتجهز إلى تبوك، "قالوا: يا رسول الله بنينا مسجدا لذي العلة"، المرض، والحاجة، "والليلة المطيرة، ونحن نحب أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة" كما، قال تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 فقال عليه الصلاة والسلام، "إني على جناح سفر، وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه" فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت هذه الآية. ولما دنا صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس لتلقيه وخرج النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع   الْحُسْنَى} [التوبة: 107] أي هذه الأمور التي أظهروها، والله يشهد أنهم لكاذبون. روى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس: لما بنى مسجد الضرار، قال صلى الله عليه وسلم: "ليخرج ويلك ما أردت" قال والله ما أردت إلا الحسنى، فنزلت الآية، "فقال عليه الصلاة والسلام: "إني على جناح سفر" أي مفارقة الأوطان، "وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه" فنزلت هذه الآية" يريد الجنس، ففي حديث أبي رهم الغفاري، فلما نزل بذي أوان على ساعة من المدينة أنزل الله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] إلى آخر القصة، أخرجه ابن مردويه، وفي حديث ابن عباس عند البيهقي: فأنزل الله تعالى: {لَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه} [التوبة: 84] ، إلى قوله {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} الآية، وقدمنا في الهجرة الخلاف في المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى وأن الصحيح أنه مسجد قباء. وعند مسلم أنه المسجد النبوي وأنه لا منافاة فكل أسس عليها، غير أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْم} و {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} يقتضي مسجد قباء، والله تعالى أعلم. "ولما دنا" قرب "صلى الله عليه وسلم من المدينة خرج الناس" الرجال الكاملون؛ لأنهم الذين جرت العادة بخروجهم للقاء الأمير "لتلقيه" تعظيما له وإكراما، ولطول غيبته وتحدث المنافقين عليه بالسوء. روى ابن أبي حاتم عن جابر. قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار السوء يقولون: إن محمدا وأصحابه، قد جهدوا في سفرهم، وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك فأنزل الله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: 50] "وخرج النساء والصبيان والولائد" الإماء، فالعطف مباين وإن أريد بالناس ما يشمل الرجال وغيرهم، فأفرد هؤلاء بالذكر لبيان خروجهم حال كونهم "يقلن" غلب النساء والولائد على ذكور الصبيان لكثرتهن، ولأن الغناء عادتهن بخلاف الصبيان وإنما خرج الجميع فرحا وسرورا بضد ما أرجف به المنافقون، ولأنهن ألفنه صلى الله عليه وسلم بخلاف الهجرة، فصعدت المخدرات على الأسطحة؛ لأنهن لم يكن رأينه، وإن فشا فيهم الإسلام: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع وقد وهم بعض الرواة -كما قدمته- وقال: إنما كان هذا عند مقدمة المدينة. وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام -كما قدمت ذلك.   "وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع" وبعدها فيما يروى: أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع "وقد وهم بعض الرواة" وهو عبيد الله بن محمد، المعروف بابن عائشة، "كما قدمته" في الهجرة، "وقال إنما كان هذا" الشعر "عند مقدمه المدينة" لما هاجر من مكة، بمعنى أنه روى ذلك في الهجرة كما مر عن رواية البيهقي وغيره، ولا أنه حصر، كما أفهمه، "وهو وهم ظاهر؛ لأن ثنيات الوداع إنما هي من ناحية الشام، لا يراها القادم من مكة إلى المدينة، ولا يراها إلا إذا توجه إلى الشام، كما قدمت ذلك"، في الهجرة وقدم ثمة أن الوالي العراقي، قال: يحتمل أن الثنية التي من كل جهة يصل إليها المشيعون يسمونها ثنية الوداع وقدمت أن هذا يؤيده جمع الثنيات إذ لو كان المراد التي من جهة الشام لم تجمع، ولا مانع من تعدد وقوع هذا الشعر مرة عند الهجرة، ومرة عند قدومه من تبوك فلا يحكم بغلط ابن عائشة لأنه ثقة، وتقدم جمع آخر، وفي البخاري وغيره عن السائب بن يزيد: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمة من غزوة تبوك، ووقع هنا في فتح الباري ما لفظه. أنكر الوادي هذا، وتبعه ابن القيم، وقال: ثنية الوداع من جهة مكة، لا من جهة تبوك بل هي مقابلها كالمشرق والمغرب، قال: إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة، والثنية ما ارتفع من الأرض، وقيل الطريق في الجبل، قلت: لا يمنع كونها من جهة الحجاز أن يكون خروج المسافر من جهتها وهذا واضح، كما في دخول مكة من ثنية والخروج منها من أخرى، وينتهي كلاهما إلى طريق واحدة، وقد روينا بسند منقطع في الخلعيات قول النسوة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع فقيل ذلك عند قدومه من غزوة تبوك، انتهى. فليتأمل فإن هذا عكس النقل عن ابن القيم السابق في المصنف الذي بنى عليه هنا، وقد قال في الفتح نفسه في الهجرة ما لفظه أخرج أبو سعد في شرف المصطفى، ورويناه في فوائد الخلعي من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وفي البخاري لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك فدنا من المدينة، قال: "إن بالمدينة أقوما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر" وهذا يؤيد معنى ما ورد: "نية المؤمن خير من عمله"، فإن نية هؤلاء خير،   لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن: طلع البدر علينا، البيتين، وهو سند معضل، ولعل ذلك في قدومه من غزوة تبوك، انتهى. "وفي البخاري" هنا وقبله في الجهاد عن أنس "لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، فدنا" قرب "من المدينة"، عطف على رجع وجواب لما، "قال: "إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا". مصدر ميمي، بمعنى السير، أي الذهاب، "ولا قطعتم واديا"، قال البيضاوي: هو كل منفرج ينفرج فيه السيل اسم فاعل من ودى إذا سال، فشاع بمعنى الأرض "إلا كانوا معكم" بالقلوب والنيات، وللإسماعيلي إلا وهم معكم فيه بالنية، ولأحمد وأبي داود "لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه"، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة، قال: "حبسهم العذر" ولابن حبان وأبي عوانة من حديث جابر "إلا شركوكم في الأجر"، بدل قوله: "إلا كانوا معكم"، وأسقط من البخاري، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة، قال: "وهم بالمدينة" "حبسهم العذر" عن الغزو معكم. قال الحافظ: هو الوصف الطارئ على المكلف المناسب للتسهيل عليه، والمراد به ما هو أعم من المرض، وعدم القدرة على السفر، وفي مسلم عن جابر بلفظ حبسهم المرض، وكأنه محمول على الأغلب، انتهى. قولهم: وهم بالمدينة استفهام تعجبي لرواية كيف، أي أيكونون معنا ثوابا، وكأن المصنف أسقطها لأن الفائدة وهي التحريض على النيات الصالحة حاصل بدونها. قال المهلب: يشهد لهذا الحديث قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] فإنه فاضل بين المجاهدين والقاعدين ثم استثنى أولي الضرر من القاعدين فكأنه ألحقهم بالفاضلين. "وهذا" الحديث الصحيح "يؤيد معنى ما روى" عند الطبراني، عن سهل بن سعد والعسكري عن النواس بن سمعان والديلمي عن أبي موسى، كلهم مرفوعا بلفظ "نية المؤمن خير من عمله". ورواه البيهقي وغيره عن أنس بلفظ أبلغ وكلها ضعيفة ولذا مرضه لكن بمجموعها يتقوى الحديث، كما أفاده شيخ السخاوي، ويأتي بسطه إن شاء الله تعالى في المقصد الثالث، حيث ذكره المصنف ثمة في الكلام الموجز لم يسبق إليه وبين وجه التأييد بقوله: "فإن نية هؤلاء خير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 من أعمالهم، فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم وهم على فرشهم في بيوتهم والمسابقة إلى الله تعالى وإلى الدرجات العلا بالنيات والهمم لا بمجرد الأعمال. ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على المدينة، قال: "هذه طابة وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه".   من أعمالهم فإنها بلغت بهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهم على فرشهم في بيوتهم"، فشاركوهم في الثواب، وزادوا راحة الأبدان والمعية والصحبة الحقيقية، إنما هي بالسير بالروح، لا بمجرد البدن، وقصد المصنف بهذا دفع ما عساه، يقال: غاية ما أفاده الحديث المشاركة، أما الزيادة المستفادة من أفعل التفضيل، فلائم لضعفه جعله مؤيدا اسم مفعول بحديث الصحيح، لا مؤيدا اسم فاعل، فلم يقل هذا يؤيده "والمسابقة إلى الله تعالى" وفسر معناها، فقال: "وإلى الدرجات العلا بالنيات والهمم، لا بمجرد الأعمال". قال شيخنا: استئناف بياني في جواب سؤال تقديره، وكيف نالوا ذلك مع راحة أبدانهم، وعدم المجاهدة، وكان الظاهر أن، يقال: إن عذرهم أسقط مؤاخذتهم بالتخلف، وكيف يحصل الثواب على شيء ما فعلوه، والجواب ظاهر مما ذكره، انتهى. "ولما أشرف صلى الله عليه وسلم" كما رواه الشيخان وغيرهما، عن أبي حميد الساعدي، قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا "على المدينة، قال: "هذه طابة" بألف بعد الطاء، وفتح الموحدة سماها الله به، كما رواه مسلم مرفوعا مشتق من الطيب، كطيبة لطيب هوائها وترابها، وساكنها وطيب العيش بها. قال ابن بطال: من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة، لا توجد في غيرها. زاد بن أبي شيبة أسكننيها ربي تنفي خبث أهلها، كما ينفي الكير خبث الحديد، بفتح المعجمة، والموحدة، فمثلثة وسخه الذي يخرجه، والمراد أنها، لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تخرجه، كما يميز الحداد رديء الحديد من جيده، ونسب للكير، لكونه السبب الأكبر في إشعال النار التي يقع بها، ذلك. وروى خبث، بضم فسكون ورجح الأول لمناسبة الكير، وقيل غير ذلك، وقد بلغت أسماؤها خمسا وتسعين، وكثرة الأسماء آية شرف المسمى، "وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه" حقيقة على الصحيح، ولا مانع منه بأن يخلق له المحبة في بعض الجمادات، كتسبيح الحصا وحنين الجذع، وقيل: هو مجاز، والمراد أهله نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} [يوسف: 82] وقال الشاعر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 ولما دخل قال العباس يا رسول الله ائدن لي أمتدحك قال: "قل لا يف الله فاك"، فقال: من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا ..............   وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا ومن له مزيد في غزوة أحد "ولما دخل" المدينة في رمضان عند ابن سعد، وتبعه مغلطاي، وقال بعضهم في شعبان: وبدا بالمسجد، فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس، كما في حديث كعب بن مالك في الصحيح. "قال العباس: بن عبد المطلب، كما رواه الطبراني وغيره: "يا رسول الله" إني أريد أن أمتدحك، "أتأذن لي" في أن "أمتدحك، قال: "قل لا يف الله فاك" لا للدعاء، فالفعل مجزوم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، أو نافية خبر بمعنى الدعاء، فهو مرفوع، والمراد الدعاء له بصيانة فيه عن كل خلل، لا عن نثر الأسنان فقط، "فقال من قبلها" أي الأرض، أو الدنيا أو الولادة "طبت" كنت طيبا، "في الظلال" أي، لا ظلال الجنة في صلب آدم "وفي مستودع" بفتح الدال، الموضع الذي كا آدم وحواء به في الجنة، أو صلب آدم، أو الرحم وليس بشيء؛ لأنه لم ينتقل للرحم حتى حملت بجده شيث بعد هبوطها بمدة مديدة، "حيث يخصف،" يلزق "الورق" فبنى للمفعول للعلم به، وطفقا يخصفان، "ثم هبطت" نزلت في صلب آدم "البلاد" الأرض سماها بلادا باعتبار الأول إذ لم يكن حينئذ بلاد، ولا قرى، "لا بشر أنت ولا مضغة" قطعة لحم قدر المضغ، "ولا علق" دم جامد لو صب عليه الماء الحار لم يذب، والمراد نفي جنس العلق على نحو قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] ، فلا يراد أن أصل الآدمي علقة واحدة، أو أطلق على كل جزء من الدم الذي هو أصل الإنسان علقة مجازا، فجمع، أو هو مرخم علقة، وإن كان في غير النداء قليلا، لا للتعظيم، كما زعم؛ لأنه منفي، "بل نطفة" مستقرة في صلب سام بن نوح بعد انتقالها من نوح فمن ولده إلى آدم، ولذا صح إطلاقها عليه وإلا فلم تكن تكونت حينئذ. وفي رواية بل حجة، وفيه ما فيه من التعظيم والهروب من لفظ نطفة "تركب السفين" اسم جنس لسفينة، أي سفينة نوح، وجمع لضرورة الشعر، أو هو مفرد مرخم "وقد ألجم نسرا" أحد الأصنام التي عبدها قوم نوح. ذكر ابن جرير الطبري أن نسرا وودا ويعوق ويغوث كانوا أبناء سواع بن شيث بن آدم، فلما هلك صورت صورته لدينه وما عهدوه في دعائه من الإجابة، فلما مات أولاده صورت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 ....... ... وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي الـ ... ـنور وسبل الرشاد نخترق   صورهم كذلك لتذكيرأفعالهم الصالحة فلم يزالوا حتى خلفت الخلوف، وقالوا: ما عظم هؤلاء آباؤنا إلا؛ لأنها وتنفع وتضر، واتخذوها آلهة وعبدوها، نقله في الروض: فما وقع في بعض العبارات أنها أسماء خمسة بنين لآدم، أي بواسطة، لا لصلبه، "وأهله" عباده سماهم لذلك أهله "الغرق" الذي عم الكفار زمن نوح "تنقل من صالب" أي صلب بضم فسكون وتضم لامه اتباعا، كما في المصباح، وهو ظهر الرجل "إلى رحم" بفتح الراء، وكسر الحاء موضع تكوين الولد "إذا مضى عالم" أنت فيه بواسطة من كنت في صلبه، "بدا" ظهر "طبق" عالم آخر تكون فيه بانتقالك من أصل إلى فرع، أو إذا مضى قرن ظهر آخر، سمي القرن طبقا؛ لأنهم طبق للأرض، أي يغطونها، ثم ينقرضون. قال أبو عبيد، يقال: مضى طبق، وجاء طبق، أي مضى عالم، وجاء عالم "وردت" بلغت ودخلت "نار الخليل" إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أضافها إليها لكونها أوقدت لأجله، حال كونك، "مكتتما" مخفيا "في صلبه" ظهره "أنت" توكيد للضمير في وردت "كيف يحترق" استفهام بمعنى النفي، أي، لا يحترق ببركتك، وأنت في صلبه وعبر بالورود، مع أنه لغة الوصول، بلا دخول إشارة إلى أنه لم يصبه منها شيء، وإن دخلها فكأنه لم يدخلها "حتى احتوى بيتك المهيمن" اسم فاعل من هيمن، أي المحفوظ من كل نقص، "من خندف علياء تحتها النطق" يأتي شرحه "وأنت لما ولدت". ويروي لما ظهرت "أشرقت وضاءت بنورك الأفق" بضم الهمزة والفاء وتسكن الناحية جمعة آفاق مذكر أنثه على تأويله بالناحية، فراعى معناه، لا لفظه "فنحن" الآن "في ذلك الضياء" نهتدي به إلى ما فيه السعادة الأبدية. "وفي النور وسبل الرشاد نخترق" هكذا في النسخ الصحيحة، وهي الرواية، وكذا أنشده المصنف في المولد، ويقع في نسخة: فنحن في ذلك الضياء وفي ... مستودع حيث يخصف الورق وفصاحة العباس تأبى هذا، وإن أمن توجيهه، بأن المراد بمنزلة الكائنين فيها لقوة إيماننا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وقوله: من قبلها طبت إلخ: أي ظلال الجنة، أي كنت طيبا في صلب آدم حيث كان في الجنة. وقوله: من قبلها: أي قبل نزولك إلى الأرض فكنى عنها ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى. وقوله: ثم هبطت البلاد لا بشر، أي لما أهبط الله آدم إلى الدنيا، كنت في صلبه غير بالغ هذه الأشياء. وقوله: وقد ألجم نسرا وأهله الغرق، يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح وهو المذكور في قوله تعالى: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] .   بواسطة ما أفيض علينا، وبأن المراد، ونحن نكون في الجنة يوم القيامة، جزاء لأتباعك، ويقع في بعض النسخ زيادة أبيات هي: وعاليا قدرك الرفيع وفي ... معناك حسنا يميله النسق فذا تثنيك والقوام إذا ... غصنا رطيبا قوامك الرشق ووجهك البدر أن يضيء ومن ... شعر لك الليل يحلك الغسق أضاء منك الوجود نور سنا ... وفاح مسكا ونشرك العبق وكأنها مصنوعة وليس عليها رونق شعره، "وقوله: من قبلها طبت إلى آخره، أي طلال الجنة" فأل عوض عن المضاف إليه، أو للعهد الذهني، وظلالها ليست كظلام الدنيا. قال الزمخشري: هي مثل ما بين طلوع الفجر إلى الشمس وقال غيره: مثل ما بين الأسفار والطلوع، ولا يلزم على الأول أن تكون مظلمة؛ لأن التمثيل في عدم التغير فقط، "أي كنت طيبا في صلب آدم حيث كان في الجنة، وقوله: من قبلها، أي من قبل نزولك إلى الأرض"، وأنت لتأويل النزول بالحالة التي قامت به، والأوضح عود الضمير إلى الأرض بتقدير من قبل نزولك إليها، "فكني عنها، ولم يتقدم لها ذكر لبيان المعنى، "كقوله: حتى توارت بالحجاب ولأبويه "وقوله: ثم هبطت البلاد، لا بشر، أي لما أهبط الله تعالى آدم عليه السلام إلى الدنيا، كنت في صلبه غير بالغ هذه الأشياء" البشر، والمضغة والعلق، أي لم يك شيئا منها "وقوله: وقد ألجم نسرا، وأهله الغرق يريد الصنم الذي كان يعبده قوم نوح، وهو المذكور في قوله تعالى:" {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] قيل: ثم بعد الطوفان انتقلت تلك الأصنام بأعيانها، وقيل: بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب قصار ود لكلب بدومة الجندل، وسواع لهذيل، ويغوث لمراد، ويعوق لهمدان ونسر لحمير، قال ابن عطية وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وقوله: حتى احتوى بيتك المهيمن إلخ. النطق: جمع نطاق. وهي أعراض من جبال بعضها فوق بعض أي: نواح وأوساط منها شبهت بالنطق التي تشد بها أوساط الناس. ضربه مثلا في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال، وأراد ببيته: شرفه، والمهيمن، نعته، أي احتوى شرفه الشاهد إلى فضلك أعلى مكان من نسب خندف -وهو بكسر الخاء المعجمة والدال المهملة- انتهى. وجاءه صلى الله عليه وسلم من كان تخلف عنه، فحلفوا له فعذرهم واستغفر لهم، وأرجأ   "وقوله: حتى احتوى بيتك المهيمن إلخ النطق جمع نطاق، وهي أعراض من جبال" بجيم فموحدة "بعضها فوق بعض" وفسرها: فقال: أي "نواح وأوساط، منها شبهت بالنطق التي تشد بها أوساط الناس، ضربه مثلا في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته، وجعلهم تحته بمنزلة أوساط الجبال" بجيم فموحدة جمع جبل، وقراءته بالمهملة تصحيف، "وأراد ببيته شرفه المهيمن نعته" فهو اسم فاعل، كقوله تعالى ومهيمنا عليه في القراءة المتواترة، "أي احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان" مفعول مطلق صفة لفضلا محذوف "من نسب خندف، وهو" أي هذا اللفظ "بكسر الخاء المعجمة، و" كسر "الدال المهملة" آخره فاء في الأصل المشي بهرولة، ثم جعل علما على امرأة إلياس بن مضر، وهي ليلى القضاعية لما خرجت تهرول خلف بنيها الثلاثة عمرو وعامر وعمر حين ندلهم إبل، فطلبوها، فأبطئوا عليها، ثم ضرب مثلا للنسب العالي في كل شيء؛ لأنها كانت ذات نسب "انتهى". "وجاءه صلى الله عليه وسلم من كان تخلف عنه" قال كعب بن مالك في حديثه الصحيح، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، وذكر الواقدي: أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذرين من الأعراب كانوا أيضا اثنين وثمانين رجلا من بني غفار وغيرهم، وأن عبد الله بن أبي ومن أطاعه من قومه كانوا من غير هؤلاء وكانوا عددا كثيرا، "فحلفوا له فعذرهم" قبل عذرهم بأن رفع عنهم اللوم، "واستغفر لهم". وفي حديث كعب، فقيل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، وعند ابن عقبه، لما دنا صلى الله عليه وسلم من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا فقال لأصحابه: "لا تكلموا رجلا منهم ولا تجالسوه حتى آذن لكم" فأعرض عنهم هو والمؤمنون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه، وأخيه، وإن المرأة لتعرض عن زوجها، فمكثوا كذلك أياما حتى كرب الذين تخلفوا وجعلوا يعتذرون بالجهد والأسقام، ويحلفون له فرحمهم وبايعهم واستغفر لهم "وأرجأ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 أمر كعب وصاحبيه حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا   قال الحافظ: مهموز، أي أخر وزنا ومعنى "أمر كعب وصاحبيه" قال كعب في الصحيح: فجئته فلما سلمت عليه تبسم، تبسم المغضب، ثم قال: "تعال" فجلست بين يديه، فقال لي: "ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك" فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك حديث كذب ترضى به عني، لوشكن الله أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد على إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما هذا، فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك". فقمت وثار رجال من بني سلمة، فقالوا: ما علمناك أذنبت قبل هذا، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك، فما زالوا حتى أردت أن أرجع، فأكذب نفسي، فقلت لهم: هل لقي هذا معي أحد، قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فذكر الحديث بطوله "حتى نزلت توبتهم في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} أدام توبته عليه وهذا أولى من قول من قال تجاوز عنه إذنه للمنافقين في التخلف وقيل: هو حث للمؤمنين على التوبة على سبيل التعريض؛ لأنه إذا وصف بها المستغني عنها صلى الله عليه وسلم كان باعثا للمؤمنين عليها وإبانة لفضلها "و" تاب على {َالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار} حقيقة إذ، لا ينفك الإنسان عن زلة، أو عن وساوس تقع في قلوبهم {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} حقيقة بأن خرج أولا وتبعوه، مجازا عن اتباعهم أمره ونهيه {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي وقت الشدة والضيق كان الرجلان يقتسمان تمرة، والعشرة يتعقبون البعير الواحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ} بالتاء والياء تمثل {قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} عن اتباعه إلى التخلف، لما هم فيه من الشدة، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} بالثبات {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} حين تاب عليهم {و} تاب {َعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} عن التوبة. قال كعب: ليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن خلف له واعتذر إليه فقبل منه، وكذا قال قتادة وعكرمة: خلفوا عن التوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117، 118] ، والثلاثة هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة.   قال ابن جرير: فالمعنى تاب على من أخر توبتهم ويؤيده قوله: " {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} " أي مع رحبها، أي سعتها، فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه قلقا، وجزعا تمثيل لحيرتهم في أمرهم " {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} " قلوبهم للغم والوحشة بتأخير توبتهم، فلا يسعها سرور، ولا أنس. وفي حديث كعب: حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف، وفي رواية وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وهذا يجده الحزين والمهموم في كل شيء حتى، قد يجده في نفسه. وعند ابن عائد حتى وجلوا أشد الوجل، وصاروا مثل الرهبان "وظنوا" أيقنوا " {أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} " أي، لا مفر من عذابه لأحد " {إِلَّا إِلَيْه} " بالتوبة والاستغفار. روى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري، قال: ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما، ولا سفكوا دما حراما، ولا أفسدوا في الأرض، وأصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يوافع الفواحش، والكبائر {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} وفقهم للتوبة " {لِيَتُوبُوا} " ليستقيموا على توبتهم، ويثبتوا، أو ليتوبوا في المستقبل، كلما فرطت منهم زلة لعلمهم بالنصوص أن طريان الخطيئة يستدعي تجدد التوبة " {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّاب} " على من تاب ولو عاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة". رواه أبو داود والترمذي والبزار وضعفاه من حديث أبي بكر وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني " {الرَّحِيمُ} " به، ومن جملتها توفيقه للتوبة، "والثلاثة هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية ومرارة"، بضم الميم، وتخفيف الراءين ومن تظرف، فقال: يجمع أسماءهم مكة مراده مجرد الحروف، لا الضبط "ابن ربيعة" كذا في رواية لمسلم، والمشهور ابن الربيع، كما في البخاري وعند ابن مردويه مرارة بن ربعي، وهو خطأ، وعند ابن أبي حاتم: ربيع بن مرارة، وهو مقلوب، قاله الحافظ، وقد مر، قال ابن بطال: إنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية؛ لأنه في حق الأنصار خاصة فرض عين؛ لأنهم بايعوا على ذلك، ومصداقه قولهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وعند البيهقي في الدلائل، من مرسل سعيد بن المسيب: أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما أشار لبني قريظة بيده إلى حلقه: أنه الذبح وأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسبت أن الله قد غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك"، فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه، ثم غزا تبوكا فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها جاءه أبو لبابة يسلم عليه فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع أبو لبابة، فارتبط بسارية التوبة سبعا وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا، أو يتوب الله عليَّ، الحديث.   وهم يحفرون الخندق: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرا لأنها كالنكث لبيعتهم. قال السهيلي: ولا أعرف لها وجها غيره، وقال الحافظ وإنما غلظ الأمر على الثلاثة وهجروا لأنهم تركوا الواجب بلا عذر؛ لأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما، لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد، فرد أن لو تخلف، فهذا وجه ثان غير الذي ذكر، ولعله أقعد، ويؤيده قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم} [التوبة: 120] وللشافعية وجه: أن الجهاد كان فرض عين في زمنه صلى الله عليه وسلم فعليه يتوجه العتاب على من تخالف مطلقا، وعند البيهقي في الدلائل النبوية "من مرسل سعيد بن المسيب" بن حزن، التابعي الجليل، ابن الصحابي، حفيد الصحابي، "أن أبا لبابة" رفاعة بن عبد المنذر، الأنصاري "لما أشار لبني قريظة بيده إلى حلقه" حين قالوا له: أترى أن ننزل على حكم محمد "أن الذبح، فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسبت أن الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك" فلبث حينا" زمنا "ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه، ثم غزا تبوكا" بالصرف إلى إرادة الموضع، "فتخلف عنه أبو لبابة في " جملة "من تخلف، فلما قفل" بفتح القاف، والفاء، ولام رجع "رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها جاء أبو لبابة، يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع أبو لبابه فارتبط بسارية التوبة", وهي العمود المخلق، أي المطلق بالخلوق بوزن رسول، وهو ما يخلق به من الطيب "سبعا" من الليالي، وقيل ستا، وقيل بضع عشرة كما مر، "وقال: لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا" بالموت، "أو يتوب الله على الحديث" بقيته فأنزل الله تعالى، {وَآخَرُونَ} ، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى أبي لبابة ليطلقه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله، فجاء صلى الله عليه وسلم فأطلقه بيده قال البيهقي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وعنده أيضا من حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} [التوبة/ 102] قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممره النبي صلى الله عليه وسلم إذ رجع في المسجد عليهم، فقال: من هؤلاء؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله، حتى تطلقهم وتعذرهم، فقال: أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو، فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} فلما نزلت   وترجم ابن إسحاق أن ارتباطه كان في بني قريظة، ورويناه عن ابن عباس وغيره: أنه بتخلفه عن تبوك انتهى، ويحتمل تكرر ربطه نفسه، "وعنده" أي البيهقي في الدلائل "أيضا" وعند ابن مردويه وابن جرير وغيرهم "من حديث ابن عباس في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ} مبتدأ {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} من التخلف نعته والخبر {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا} وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك. "قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما رجع صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وثلاثة لم يوثقوا، وهم كعب، ومرارة وهلال، والذين أوثقوا أبو لبابة وأوس بن جذام وثعلبة بن وديعة رواه ابن منده وأبو الشيخ عن جابر بإسناد قوي وجد بن قيس وجذام بن أوس ومرداس رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم بن مرسل قنادة والسابع وداعة بن حرام الأنصاري. رواه المستغفري عن ابن عباس، "وكان ممره صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم، فقال" لما رآهم: "من هؤلاء" الموثقون أنفسهم؟ " قالوا هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله". زاد في رواية عاهدوا الله لا يطلقون أنفسهم "حتى تطلقهم" زاد في رواية وترضي عنهم، وتعذرهم" ترفع اللوم عنهم، زاد في رواية، وقد اعترفوا بذنوبهم "قال صلى الله عليه وسلم": "وانا "أقسم بالله لا أطلقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم". "رغبوا عني" صانوا نفوسهم عما رضيته لنفسي من الشدائد، "وتخلفوا عن الغزو" مع المسلمين وقد استنفرت عموم الجيش فتركوا الواجب. زاد في رواية: فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقنا، "فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} إلى آخر الآية، "فلما نزلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، الحديث. قالوا: ولما قدم عليه الصلاة والسلام من تبوك وجد عويمر العجلاني امرأته حبلى، فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما.   أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم" إلا أن أبا لبابة لم يرض أن يطلقه إلا النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ففعل كما مر "الحديث" بقيته، فجاء أبو لبابة وأصحابه بأموالهم حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: "ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا" فأنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ، يقول: رحمة لهم، فأخذ منهم الصدقة، واستغفر لهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم، لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّه} [التوبة: 106] فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون عسى الله أن يتوب عليهم حتى نزلت {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ويقع في بعض الروايات: أنهم أخروا سنة، وهو ضعيف، فالثابت في الصحيح خمسين ليلة والله أعلم. واعلم أنه من أول قوله، وعند البيهقي إلى هنا سقط في كثير من النسخ، وإثباتها أتم فائدة والعزو صحيح مذكور في دلائل البيهقي إلى هنا سقط في كثير من النسخ، وإثباتها أتم فائدة والغزو صحيح مذكور في دلائل البيهقي وغيره "قالوا: ولما قدم عليه الصلاة والسلام من تبوك وجد عويمر" بضم المهملة آخره راء مصغر ابن أبيض، وقال الطبراني ابن الحارث بن زيد بن جابر بن الجد بن العجلان "العجلاني" قال: وأبيض لقب لأحد آبائه، وأيد بأن في الموطأ رواية القعنبي عويمر بن أشقر، فقيل إنه خطأ لأن ابن أشقر آخر مازني، وقيل: لا خطأ، فإن أحد آباء العجلاني يلقب أبيض، فأطلق عليه الراوي أشقر، "امرأته" خولة بنت قيس عن المشهور أو بنت عاصم بن عدي أو بنت أخيه "حبلى" وعند ابن مردويه مرسلا أن عويمر رماها بشريك بن سحماء، وهو ابن عمه، وعند ابن أبي حاتم فقال لعاصم: يابن عم أقسم بالله لقد رأيت شريك بن سحماء على بطنها، وأنها لحبلى وما قربتها منذ أربعة أشهر، وسحماء بفتح السين، وسكون الحاء المهملتين، والمد اسم أمه، وهي حبشية أو يمانية، واسم أبيه عبده، ولا مانع من أن يتهم شريك بكل من امرأتي عويمر وهلال جمعا بين هذا وبين حديث البخاري الآتي، فلا يحسن قول ابن الصباغ في شامله أن قول الإمام المزني قذف العجلاني زوجته بشريك سهو في النقل، إنما هو هلال انتهى، وقد علم سند المزني، وإمكان الجمع فتعين المصير إليه، "فلاعن عليه الصلاة والسلام بينهما"، وكأن المصنف ساقه بصيغة التبري؛ لأنه صريح في أن اللعان لنفي الحمل وصريح الأحاديث أنه لرؤية الزنا. وقد روى الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 ...................................   أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع، فسأله عاصم فعاب صلى الله عليه وسلم المسائل فلقيه عويمر، فقال: ما صنعت، قال: إنك لم تأمرني بخير سألت رسول الله، فعاب المسائل، فقال عويمر: فوالله لآتين رسول الله، فلأسألنه، فأتاه، فقال: يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبتك". فأمرهما، فتلاعنا الحديث، وفيه أن الولد جاء على الصفة التي تصدق عويمرا، فكان ينسب إلى أمه. وروى البخاري عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "البنية وإلا حد في ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إي لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل الله، {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] حتى بلغ إن كان من الصادقين، الحديث. وفيه أنهما تلاعنا، وأن الولد جاء على صفة شريك، فقال صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن". قال الحافظ: اختلف الأئمة في هذا الموضع، فمنهم من رجح نزولها في شأن عويمر، ومنهم من رجح نزولها في شأن هلال، ومنهم من جمع بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجيء عويمر أيضا، فنزلت في شأنهما معا، وإليه جنح النووي، وسبقه الخطيب، فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد، ولا مانع أن تتعدد القصص، ويتحد النزول. وروى البزار عن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به". قال: كنت فاعلا به شرا قال: "فأنت يا عمر" قال: كنت أقول لعن الله الأبعد، فنزلت، ويحتمل أن النزول سبق هلال، فلما جاء عويمر، ولم يكن علم بما وقع لهلال أعلمه صلى الله عليه وسلم بالحكم، ولذا قال في قصة هلال: فنزل جبريل وفي قصة عويمر: "قد أنزل الله فيك"، وبهذا أجاب ابن الصباغ، قال: نزلت في هلال، وأما قوله لعويمر: "قد أنزل الله فيك"، فمعناه ما أنزل في قصة هلال، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى أول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بإمرأته، وجنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين قال: وهذه الاحتمالات وإن بعدت أولى من تغليظ الرواة الحفاظ، انتهى، ولم يذكر المصنف هنا بعثه صلى الله عليه والسلام أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم اللات بالطائف لما أتاه وفدهم مسلمين، فذهبا في بضعة عشر رجلا، فهدموها حتى سووها بالأرض، ثم خرب المغيرة أساسها، وأخذوا حليتها وكسوتها وما فيها من طيب وذهب وفضة، وأقبلوا حتى دخلوا عليه صلى الله عليه وسلم، فحمد الله على نصره واعزاز دينه، وقسم المال من يومه اكتفاء بأنه أشار إلى ذلك في الوفود والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 [ حج الصديق بالناس ] : ثم حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس، سنة تسع في ذي القعدة، كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد، ووافقه عكرمة بن خالد، فيما أخرجه الحاكم في الإكليل. وقال قوم في ذي الحجة، وبه قال الداودي والثعلبي والماوردي، والمعتمد ما قاله   حج الصديق بالناس: "ثم حجة أبي بكر الصديق" عبد الله بن عثمان "رضي الله عنه"، وعن أبيه "بالناس" أميرا عليه "سنة تسع، كما جزم به البخاري وابن إسحاق قال الحافظ في التفسير اتفقت عليه الروايات، وقال هنا: والحق أنه لم يختلف في ذلك، وإنما وقع الاختلاف في أي شهر حج أبو بكر، فقيل: "في ذي القعدة" على طريقة العرب من عدم تقييده بالحجة، ولا يرد أن الله صان أفعاله عليه الصلاة والسلام عن الجاهلية، لجواز أن المراد الأوثان والسفاح ونحوهما "كما ذكره ابن سعد وغيره بسند صحيح عن مجاهد" التابعي، الإمام المشهور، "ووافقه عكرمة بن خالد" بن العاصي بن هشام المخزومي، التابعي الثقة "فيما أخرجه الحاكم في الإكليل". قال الحافظ: ومن عدا هذين، أي عكرمة ومجاهد، إما ساكت، وإما مصرح بأنه في الحجة، وقال "قوم في ذي الحجة، وبه قال الداودي" أحمد بن نصر شارح البخاري "و" من المفسرين "الثعلبي، والماوردي" والرماني وجماعة، واحتج له بحديث الصحيحين الآتي من قوله: يوم النحر قال الحافظ: ولا حجة فيه لأن قول مجاهد وعكرمة إن ثبت، فالمراد بيوم النحر صبيحة يوم الوقوف سواء وقع الوقوف في القعدة أو الحجة، لكن الحجة له حديث ابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كانوا يجعلون عاما شهرا، وعاما شهرين، يعني يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ثم يحجون في شهر آخر غيره، فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمس وعشرين سنة، فلما كان حج أبي بكر، وافق ذلك العام شهر الحج فسماه الله الحج الأكبر، وهذا يرد القول، بأنه في ذي القعدة ويضعفه، "والمعتمد ما قاله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 مجاهد وبه جزم الأزرقي، ويؤيده أن ابن إسحاق صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك رمضان وشوالا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج، فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة، فيكون حجة في ذي الحجة على هذا والله أعلم. وكان مع أبي بكر ثلاثمائة رجل من المدينة، وعشرون بدنة. وفي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة: أنا أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.   مجاهد، وبه جزم الأزرقي" كذا في نسخ تقليدا لسبق قلم وقع في الفتح، وقد كتبوا عليه قديما صوابه المعتمد، خلاف ما قاله مجاهد، وسقط قوله والمعتمد إلخ، في كثير من النسخ، وهو ظاهر حتى يتأتى قوله، "ويؤيده" أي القول، بأنه في ذي الحجة "أن ابن إسحاق صرح" في السيرة، "بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بعدما رجع من تبوك" بقية شهر "رمضان" على أنه قدم فيه أو كله، على أنه قدم في شعبان "وشوالا وذي القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج" من سنة تسع ليقيم للمسلمين حجهم، والناس من أهل الشرك على منازلهم، من حجهم انتهى كلام ابن إسحاق. "فهو ظاهر في أن بعث أبي بكر كان بعد انسلاخ ذي القعدة" لأن التقدير ثم بعد إقامة تلك المدة بعث، "فيكون حجه في ذي الحجة على هذا" الظاهر، ولم يجعله صريحا لاحتمال إرادة الترتيب الذكري، وإن كان بعيدا "والله أعلم" ويحتمل أن قوله المعتمد ما قاله مجاهد من مجاز الحذف، أي خلاف ما قاله، ارتكبه للقرينة الظاهرة تشحيذا للأذهان إذ لا يتوهم عاقل أنه يقول يؤيده بما ينافيه، "وكان مع أبي بكر ثلاثمائة رجل من المدينة" لفظ ابن سعد والمصنف لا يعدل عنه غالبا كاليعمري، ولفظ شيخه الواقدي أنه خرج معه ثلاثمائة من الصحابة، واقتصر عليه الفتح وي وإن صرحت بأن الكل صحابة، لكنها محتملة؛ لأن يكون فيهم إناث بخلاف لفظ تلميذه قال رجل: فلا تغني إحدى العبارتين عن الأخرى، "وعشرون بدنة" بعثها صلى الله عليه وسلم قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي، وساق أبو بكر خمس بدنات. ذكره ابن سعد وشيخه، فهذا من المصنف اختصار موهم ثم استأنف فذكر حديث أبي هريرة لما فيه من الفوائد التي ليست فيما قدمه، ومن جملتها أن الحجة كانت في ذي الحجة على ظاهر قوله يوم النحر، فقال: "وفي البخاري" في الصلاة، والحج، والجزية، المغازي والتفسير "ومسلم" في الحج، وكذا أبو داود والنسائي بطرق كلها عن "أبي هريرة، أن أبا بكر بعثه"، أي أبا هريرة، وفي رواية التفسير بعثني أبو بكر "في الحجة التي أمره" بشد الميم، أي جعله "رسول الله صلى الله وسلم" أميرا عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر، أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.   وللطبراني عن ابن عباس بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم، وأمره أن يقيم للناس حجهم، فخرج أبو بكر "قبل حجة الوداع" أفاد أنها كانت سنة تسع؛ لأن حجة الوداع كانت سنة عشر اتفاقا، قاله ابن القيم "في رهط" وفي رواية في مؤذنين، أي في جماعة معلمين، وسمى منهم سعد بن أبي وقاص وجابرا، كلاهما عند الطبري كما في الفتح "يؤذن" بفتح الهمزة، وشد المعجمة المكسورة، يعلم الرهط وأبو هريرة على الالتفات، قاله المصنف، أي على رأي بعضهم لا الجمهور إذا كان مقتضى الظاهر أن يقول أؤذن "في الناس يوم النحر". زاد في رواية بمعنى وهذا اقتباس من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} كما في الفتح وفي البخاري، فكان حميد يقول يوم النحر يوم الحج الأكبر من أجل حديث أبي هريرة "أن لا يحج". قال المصنف في التفسير: بفتح الهمزة، وشد اللام ونصب يحج بأن ولا نافية، وقال الحافظ: بفتح الهمزة وإدغام النون في اللام "بعد العام" أي الزمان الذي وقع فيه الإعلام بذلك "مشرك" لقوله تعالى: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ووقع للحافظ في الصلاة أن لا ناهية، فرده العيني وغيره بأن بعده، ولا يطوف، وقال بعضهم: هو اعتراض سهل، أي لأنها وإن كانت نافية لفظا، فهي ناهية معنى، فعليه يحمل قوله ناهية، وكون لا يطوف بعده ليس بمانع؛ لأنه من عطف الخبر على الإنشاء "ولا يطو بالبيت عريان" بنصب يطوف عطف على يحج، قاله الحافظ وغيره ذكر ابن عائذ أنه كان رجال يطوفون منهم عراة ليلا، يعظمون بذلك البيت. ويقول بعضهم: أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس على شيء من الدنيا، خالطه الظلم، فكره صلى الله عليه وسلم أن يحج ذلك العام، قال في الفتح قال الطحاوي في كشف الآثار: هذا مشكل لأن الأخبار في هذه القصة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا بكر بذلك، ثم أتبعه عليًّا، فأمره أن يؤذن، فكيف يبعث أبو بكر أبا هريرة ومن معه بالتأذين مع صرف الأمر عنه في ذلك إلى علي، ثم أجاب مما حاصله أن أبا بكر كان الأمير على الناس في تلك الحجة، وكان علي هو المأمور بالتأذين بذلك، وكأن عليًّا لم يطق التأذين بذلك وحده، واحتاج إلى معين، فأرسل أبو بكر أبا هريرة وغيره ليساعدوه، ثم ساق من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه صلى الله عليه وسلم ببراءة أهل مكة، فكنت أنادي معه بذلك حتى يصحل صوتي، وكان هو ينادي قبلي حتى يعبأ، فالحاصل أن مباشرة أبي هريرة لذلك كانت بأمر أبي بكر، وكان ينادي بما يلقيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذن ببراءة،   إليه علي، مما مر بتبليغه، انتهى. "ثم أردف" أي أرسل "النبي صلى الله عليه وسلم" أبا بكر "بعلي بن أبي طالب" وفي نسخة من البخاري علي بإسقاط الحرف، وهذا من جملة ما رواه البخاري في الصلاة والتفسير، ولم يروه في هذا الباب وهو ما وقف عليه شيخنا، فتجرأ وقال ليس هو من رواية البخاري، وقد علمت أنه من روايته في موضعين نعم على المؤلف مأخذة لإبهامه أنه من حديث أبي هريرة، والبخاري ومسلم قالا في سياقه، قال حميد بن عبد الرحمن ثم أردف قال الحافظ: هذا القدر من الحديث مرسل؛ لأن حميدا لم يدرك ذلك، ولا صرح بسماعه له من أبي هريرة، لكن ثبت إرسال علي من عدة طرق، فروى الطبري من طريق أبي صالح عن علي: بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى أهل مكة على الموسم، ثم بعثني في أثره، فأدركته الحديث، وكذا رواه عن أبي سعيد، وابن عمر مثله، والترمذي عن ابن عباس مطولا، والطبراني عن أبي رافع وأحمد والترمذي، وحسنه عن أنس انتهى بحروفه. وذكر ابن سعد وهو في حديث جابر أنه أدركه بالعرج، وقال ابن عائذ: بضجنان بفتح المعجمة، وسكون الجيم ونونين بينهما ألف. ورواه الطبري عن سعد بعث صلى الله عليه وسلم أبا بكر، فلما انتهينا إلى ضجنان أتبعه عليًّا، "وأمره أن يؤذن ببراءة". قال الحافظ: مجرور بالفتحة وهو الثابت في الروايات، ويجوز رفعه منونا على الحكاية، وفيه تجوز لأنه أمره أن يؤذن ببضع وثلاثين آية، منتهاها ولو كره المشركون، كما رواه الطبري عن محمد بن كعب وغيره، وعنده عن علي بأربعين آية من أول براءة. وروى أحمد والترمذي وحسنه عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الخليفة قال: "يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي" فبعث بها مع علي، وروى أحمد والطبري عن علي أنه صلى الله عليه وسلم بعث به مع أبي بكر ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني فقال: "أدرك أبا بكر، فحيثما لقيته فخذ منه الكتاب" فأدركته فأخذته منه، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله نزل في شيء. قال: "لا أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، ولكن جبريل قال لي لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك". قال ابن كثير: ليس المراد أنه رجع من فوره بل لما رجع من حجه قلت، ولا مانع من حمله على ظاهره لقرب المسافة انتهى من الفتح في التفسير ملخصا. وذكر هنا أن ابن إسحاق روى بسند مرسل قال: نزلت براءة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 فأذن معنا في أهل منى ببراءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.   على الحج فقيل: لو بعثت بها إليه فقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي"، ثم دعا عليًّا وقال: "أخرج بصدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى" انتهى، ولم يتنزل في المحلين لجمع ولا ترجيح، كأنه لظهور الترجيح، فإنه رواية نزولها قبل خروج أبي بكر وبعثه بها مسنده مع أن إسنادها حسن بخلاف رواية نزولها بعد خروجه، فمرسله، "فأذن معنا". قال المصنف في الصلاة: بفتح العين وإسكانها وهذا من الموصول، ففي الصحيح قال أبو هريرة: فأذن معنا علي. قال الحافظ: وكان حميد بن عبد الرحمن حمل قصة توجه على من المدينة عن غير أبي هريرة وحمل القصة كلها عن أبي هريرة "في أهل منى"، أسقط من رواية الصحيح ما لفظه يوم النحر "ببراءة" بالفتحة نيابة عن الكسرة، كما علمت أنه الرواية والرفع على الحكاية تجويز وجوز الكرماني الكسر مع التنوين، أي بسورة براءة وانتقده شيخنا البابلي، بأن فيه حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه وهو قليل قال: ولا يراد أن الإضافة تنافي العلمية؛ لأنه قصد تنكيره، ثم أضيف كقوله: علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يماني "وأن لا يحج بعد العام مشرك" قال الكرماني: أي بعد خروج هذا العام لا بعد دخوله. لكن قال العيني: ينبغي دخول هذا العام أيضا نظرا إلى التقليل، ورد بأن الباقي منه عشرون يوما وأعمال الحج كانت انقضت، وهو سهو؛ لأنه بقي طواف الإفاضة، لمن أخرج إلى قية العشرين، وطواف الوداع "ولا يطوف بالبيت عريان" احتج به الأئمة الثلاثة على وجوب ستر العورة في الطواف خلافا لأبي حنيفة حيث جوز طواف العريان. قال الكرماني: فيه إشكال لأن عليا مأمور أن يؤذن ببراءة فكيف يؤذن بذلك، ثم أجاب بأنه أذن ببراءة ومن جملة ما اشتملت عليه أن لا يحج بعد العام مشرك من قوله تعالى فيها: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ويحتمل أن يكون مر بأن يؤذن ببراء، وبما أمر أبو بكر أن يؤذن به أيضا، ولأحمد من حديث أبي هريرة، وله وللترمذي وصححه من حديث علي أنه سئل بأي شيء بعث في الحجة، قال: بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته. زاد الطبري من حديث علي ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر، واستدل به على أن قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 قال: فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك: فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا}   تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] خاص بمن لا عهد له مؤقت، أو لا عهد له أصلا، وعند الطبري عن ابن عباس أن الأربعة أشهر أجل من كان له عهد مؤقت بقدرها أو يزيد عليها، ومن لا عهد له فانقضاؤه سلخ المحرم لقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . ومن طريق معمر عن الزهري كان أول الأربعة أشهر شوال عند نزول براءة، وآخرها آخر المحرم، وبه يجمع بين ذكر الأربعة وبين قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ} [التوبة: 5] . لكن استبعده الطبري من حيث إن بلوغهم الخبر إنما هو عند وقوع النداء به يوم النحر، فكيف: يقال سيحوا أربعة أشهر ولم يبق منها إلا دون شهرين، ثم أسند عن السدي وغير واحد التصريح بأن تمام الأربعة أشهر في ربيع الآخر. قال العلماء: والحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بأن لا ينقض العهد إلا من عقده، أو من هو من أهل بيته، فأجراهم في ذلك على عادتهم، وقيل لأن براءة تضمنت مدح أبي بكر، فأراد أن يسمعوه من غيره، وهذا غفلة من قائله حمله عليها ظنه أن المراد تبليغها كلها، وليس كذلك إنما أمر بتبليغ أوائلها فقط كما مر. انتهى من الفتح، ثم انتهت رواية البخاري هنا في التفسير والصلاة، وزاد في الجزية قوله، "فنبذ" قال الحافظ وغيره: أي طرح "أبو بكر إلى الناس" عقدهم "في ذلك العام، فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك ..... " قال الحافظ: وقوله: فنبذ إلخ. هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك قال المهلب: خشي صلى الله عليه وسلم غدر المشركين، فلذا بعث من ينادي بذلك، وقد قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] أي اطرح إليهم عهدهم، وذلك بأن يرسل إليهم من يعلمهم بأن العهد انقضى. قال ابن عباس: أي على مثل، وقيل على عدل، وقيل أعلمهم أنك قد جازيتهم حتى يصيروا مثلك في العلم بذلك، وقال الأزهري: المعنى إذا عاهدت قوما فخشيت منهم النقض، فلا توقع بهم بمجرد ذلك حتى تعلمهم، انتهى. "فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين" عقدهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] {فَلَا يَقْرَبُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] الآية. وقد دلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما في الصحيح "المؤمن لا ينجس" وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وهذا ضعيف؛ لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولاستوى في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد   الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] أي لا يدخلوا الحرم كله؛ لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله، كما قاله ابن عباس، وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم. رواه ابن أبي حاتم {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وهو صريح في منعهم دخوله ولو لم يقصدوا الحج لكن لما كان الحج هو المقصود الأعظم، صرح لهم في الحديث بالمنع منه فقال: أن لا يحج بعد العام مشرك، فيكون ما وراءه أولى بالمنع، كما في الفتح "الآية". روى ابن جرير وغيره عن سعيد بن جبير وعكرمة وغيرهما، لما نزلت {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا شق ذلك على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بالطعام وبالمتاع فنزل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] ، "وقد دلت هذه الآية الكريمة" بالمنطوق "على نجاسة المشرك، كما" دل مفهوم قوله صلى الله عليه وسل في الحديث "الصحيح" الذي خرج الشيخان وأصحاب السنن "المؤمن لا ينجس" في حد ذاته حيا ولا ميتا عند الأكثر، ولذا يغسل إذا مات نعم يتنجس من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار، وقد علمت أن التشبيه في مطلق الدلالة وإن اختلفت، والمراد نجاسة اعتقادهم عند الجمهور، "وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات" عطف تفسير، بل طاهر وحجتهم أن الله تعالى أباح الكتابيات، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابية الأمثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدل على الطهارة إذ لا فرق بين النساء والرجال، "وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم" تمسكا بظاهر الآية والحديث، حتى أفرط بعضهم فقال: ينجس الماء بملاقاتهم ويجب الوضوء على كل من صافحهم، "وهذا ضعيف لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير" عند من قال بنجاستهما "لما طهرهم الإسلام" وهو خلاف الإجماع "ولاستوى في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام" بالرفع فاعل "استوى وغيره من المساجد" مع أن في ذلك خلافا بين الأئمة، فاستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد إن أذن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 فالمراد: الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر استوى وخبث الباطن بالعداوة قاله مقاتل. وروى النسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من عمرة الجعرانة بعث أبا بكر على الحج، فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب بالصبح، فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره فوقف على التكبير فقال: هذه رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم الجدعاء، لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي معه، فإذا.   مسلم لحاجة أو اقتضته مصلحة كقاض ونحوه بالمسجد، وأما غيره فقاس عليه سائر المساجد، وقال أبو حنيفة: لا يمنع الكتابي لتخصيصه بالمشرك فيها وعنه إجازة دخوله للمشرك أيضا، وأن المراد به النهي عن الحج والعمرة ولا الدخول، وحيث كان كذلك، "فالمراد" بقوله نجس "الأخباث لما فيهم من خبث الظاهر بالكفر، وخبث الباطن بالعداوة" للمسلمين، "قاله مقاتل" المفسر المشهور، وقيل: لوجوب اجتناب كما يجتنب عن الأنجاس، وقيل لأنهم لا يتطهرون ولا يجتنبون النجاسة فهم ملابسون لها غالبا. "وروى النسائي،" والدارمي، والطبري، وابن راهويه وصححه ابنا خزيمة، وحبان كلهم "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع" إلى المدينة "من عمرة الجعرانة" التي اعتمرها سنة الفتح "بعث أبا بكر" أميرا على الحج" من قابل، وطوى ذكر من ولي الحج سنة ثمان، فيزول الإشكال الآتي، كما أفاده الفتح "فأقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج" بفتح المهملة، وإسكان الراء، فجيم قرية على نحو ثمانية وسبعين ميلا من المدينة، وبهذا جزم ابن سعد وعند الطبري عن ابن أبي وقاص أنه بضجنان" ولا منافاة "ثوب" أبو بكر "بالصبح" أي دعا إليها كما في المقدمة، "فلما استوى" قائما "للتكبير" ليحرم بالصبح "سمع الرغوة" بفتح الراء وضمها، وحكى كسرها أيضا صوت بعير "خلف ظهره" وإن لم يصرح القاموس والمصباح بإطلاق الرغوة على صوته لكن القياس يقتضيه؛ لأن اسم المرة من الثلاثي المجرد على فعله، "فوقف على التكبير، فقال: هذه رغوة ناقة النبي صلى الله عليه وسلم الجدعاء" بالدال المهملة، وعند ابن إسحاق من مرسل الباقر القصواء، وروى أيضا العضباء قال المصنف في الجهاد فهذا يصرح أن الثلاثة صفة ناقة واحدة لاتحاد القصة، وبه جزم الحربي، انتهى. ورواه ابن سعد عن الواقدي: وقال غيره: إنهما اثنتان القصواء، وهي العضباء، والثانية الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي غيرها، كما في الفتح، "لقد بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، فلعله" أي القادم "أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلى معه، فإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له أبو بكر رضي الله عنه أمير أم رسول، قال: لا بل رسول، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج، فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم، حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، ثم خرجنا معه، حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها،.   علي بن أبي طالب رضي الله عنه عليها" على الناقة "فقال له أبو بكر رضي الله عنه:" أنت "أمير أم رسول قال: لا" ردا لما توهم، وهو المعطوف عليه فقط، أي لست أميرا، "بل" أنا رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة أقرؤها على الناس في مواقف الحج" ولم يكتف بأبي بكر لأمر الله له بذلك، كما سلف معاملة للعرب بسنتهم المألوفة أنه لا يحل العقد، إلا من عقده أو واحد من أهل بيته، فاختار منهم عليًّا؛ لأنه أفضلهم، "فقدمنا مكة، فلما كان قبل التروية" بفتح الفوقية، وسكون الراء، وكسر الواو وخفة التحتية؛ لأنهم كانوا يروون فيهم إبلهم، ويتروون من الماء؛ لأن تلك الأماكن لم يكن فيها آبار ولا عيون، وأما الآن فكثر جدا واستغنوا عن حمل الماء، أو لأن آدم رأى فيه حواء واجتمع بها، أو لأن إبراهيم رأى ليلة ذبح ابنه فأصبح يتروى، أو لأن جبريل أرى إبراهيم فيه المناسك، أو لأن الإمام يعلم الناس فيه المناسك وهي شاذة؛ إذ لو كان من الثاني لكان يوم الرؤية، أو الثالث لكان يوم التروي بشد الواو، أو الرابع لكان من الرؤيا، أو الخامس لكان من الرواية، كما في الفتح. "بيوم قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي" بعد الخطبة ليتم اجتماع الناس، وتعظيما لأبي بكر لكونه الأمير، "فقرأ على الناس براءة حتى ختمها" ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام أبو بكر فخطب الناس، فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها، "ثم كان يوم النحر فأفضنا، فلما رجع أبو بكر خطب الناس، فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها". وعند الطبري عن أبي الصهباء قال: سألت عليًّا عن يوم الحج الأكبر، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يقيم للناس الحج، وبعثني بعده بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفه، فخطب، ثم التفت إليَّ فقال: يا عليَّ قم فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقمت فقرأت أربعين آية من أول براءة، ثم صدرنا حتى رمينا الجمرة، فطفقت أتتبع الفساطيط أقرؤها عليهم؛ لأن الجميع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فهذا معارض لقول جابر حتى ختمها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 ثم كان يوم النحر، فأفضنا فلما رجع أبو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام عي فقرأ على الناس براءة حتى ختمها. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد، أما أبو بكر رضي الله عنه فإنما كان سنة تسع.   قال الحافظ: فيجمع بأن عليًّا قرأها كلها في المواطن المذكورة وأما في سائر الأوقات، فكان يؤذن لا يحج بعد العام، إلخ ويستعين بأبي هريرة وغيره. ا. هـ. فليتأمل فإن جملة المواطن عرفة، وقد صرح علي كما ترى بأنه قرأ فيها أربعين آية، فاللائق تأويل قول جابر حتى ختمها، أي المقصود منها تجوزا، وهو أربعون، فيوافق قول علي؛ لأنه أدرى بما قرأ "فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر فخطب الناس، فحدثهم كيف ينفرون، وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم، فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس" أوائل "براءة حتى ختمها". وحكمة تكريره أربع مرات ما صرح به علي كما سمعت، أن الجميع لم يحضروا خطبة عرفة، ولم يكتف بانتشار الخبر وتنبيهًا على الاعتناء بشأن هذا الأمر حتى كرره بعد الخطب، "وهذا السياق" كما قال الحافظ عماد الدين بن كثير "فيه غرابة من جهة أن أمير الحج سنة عمرة الجعرانة، إنما هو عتاب بن أسيد، فأما أبو بكر رضي الله عنه فإنما كان" أمير الحج "سنة تسع" وقال المحب الطبري نحوه، وقال الحافظ في كتاب التفسير: يمكن رفع الإشكال في قوله: بعث أبا بكر، وقول أبي هريرة: لما قفل النبي صلى الله عليه وسلم من حنين اعتمر من الجعرانة، ثم أمر أبا بكر على تلك الحجة. أخرجه عبد الرزاق، وصححه ابن حبان، بأن المراد بعد أن رجع إلى المدينة وطوى ذكر من ولى الحج سنة ثمان، فإنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من العمرة إلى الجعرانة فأصبح بها توجه هو ومن معه إلى المدينة إلى أن جاء أوان الحج، فأمر أبا بكر سنة تسع، وليس المراد أنه بعثه، أو أمره أن يحج سنة عمرة الجعرانة، وقوله: على تلك الحجة يريد الآتية بعد رجوعهم إلى المدينة انتهى، وهو حسن أولى من قوله هنا كان الطبري تبع الماوردي في قوله: أمر صلى الله عليه وسلم عتابا أن يحج بالناس عام الفتح، والذي جزم به الأزرقي خلافه قال: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدا، وإنما ولى عتابا أمرة مكة وحج المسلمون والمشركون جميعا، وكان المسلمون مع عتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 واستدل بهذه القصة على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع والأحاديث في ذلك شهيرة كثيرة. وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه.   لكونه الأمير انتهى لأن الأزرقي إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، وقد جزم الماوردي وابن كثير والمحب الطبري وغيرهم: بأنه صلى الله عليه وسلم ولى عتابا مكة والحجة سنة ثمان، وتبعهم المصنف في المقصد الثاني: "واستدل بهذه القصة" التي هي حديث أبي هريرة في أرفع الصحيح وحديث جابر وهو صحيح "على أن فرض الحج كان قبل حجة الوداع" إذ لو لم يكن فرضا لما اعتنى ببعث أمير يقيمه للناس وإنما تخلف هو لما ذكر ابن عائذ أن المشركين كانوا يحجون مع المسلمين، ويعلون أصواتهم ليغلطوهم، يقولون: لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، ويطوف رجال منهم عراة، فكره صلى الله عليه وسلم الحج ذلك العام، فلما دنا علي بذلك قالوا: نبرأ منك ومن ابن عمك إلا من الضرب والطعن، فلما رجعوا أرعبهم الله، فأسلموا طوعا وكرها، "والأحاديث في ذلك شهيرة كثيرة، وذهب جماعة إلى أن حج أبي بكر هذا لم يسقط عنه الفرض" حيث خوطب به بعد، فلم يعتد به فيما وجب عليه، فلا يرد أن السقوط فرع الوجوب وهو لم يجب، فكيف عبر بالسقوط، "بل كان تطوعا قبل فرض الحج ولا يخفى ضعفه" لكثرة الأحاديث الدالة على خلافه والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 [ هلاك رأس المنافقين ] : وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي بن سلول،   هلاك رأس المنافقين: "وفي هذه السنة" سنة تسع في ذي القعدة بعد الانصراف من تبوك "مات عبد الله بن أبي بن سلول" بفتح المهملة، وضم اللام وسكون الواو، ثم لام ورفع ابن صفة لعبد الله؛ لأنها أمه، وهي خزاعية، وهو خزرجي بعد مرضه عشرين ليلة ابتداؤها من ليال بقيت من شوال. ذكره الواقدى، ثم الحاكم في الإكليل، ومال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلامه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ولم يقف على جواب شاف فيه، فأقدم على دعوى ذلك، وذهل عن الآيات والأحاديث المصرحة بما ينافي ذلك وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض قوله، وإطباقهم على ترك ذكره في الصحابة مع شهرته وذكرهم من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي عليه، فقام عمر رضي الله عنه فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه،   "فجاء ابنه" عبد الله بن عبد الله الخزرجي من فضلاء الصحابة، وشهد بدرا وما بعدها، واستشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر، ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه في النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء ليستأذنه في قتله، فقال: بل أحسن صحبته. أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة بإسناد حسن قال ابن عمر: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعند الطبري من طريق الشعبي لما احتضر جاء ابنه، فقال: يا رسول الله إن أبي احتضر، فأحب أن تشهده وتصلي عليه قال: "ما اسمك"؟ قال: الحباب، فقال: "بل أنت عبد الله الحباب" اسم شيطان وهو بضم المهملة، وموحدتين مخففا، وكأنه كان يحمل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، "فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه" وأخرج عبد الرزاق والطبري عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه قال: "أهلكك حب يهود" فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أنه يعطيه قميصه يكفن فيه فأجابه، وهذا مرسل مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس لما مرض ابن أبي جاءه صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: قد فهمت ما تقول فأمنن عليَّ فكفني في قميصك وصل عليَّ، ففعل "فأعطاه، ثم سأله أن يصلي، فقام ليصلي عليه". وفي حديث ابن عباس عن عمر في الصحيح: فلما قام وثبت إليه، فقلت يا رسول الله أتصلي عليه، وقد قال يوم كذا، كذا، وكذا أعدد عليه قوله يشير إلى مثل قوله لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقوله ليخرجن الأعز منها الأذل، "فقام عمر رضي الله عنه، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي" وفي رواية أتصلي بإثبات همزة الاستفهام الإنكاري "عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه" استشكل جدا إطلاق النهي عن الصلاة؛ إذ لم يتقدم نهي عنها، كما دل عليه قوله آخر الحديث، فأنزل الله حتى قال بعضهم هو وهم من بعض رواته وعاكسه غيره، فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك، وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر من قبل الإلهام، ويحتمل أنه فهمه من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] انتهى. والثاني أقرب؛ لأنه لم يتقدم نهي، والذي يظهر أن في هذا الحديث تجوزا بينته رواية البخاري من وجه آخر بلفظ، فقال: تصلي عليه وهو منافق وقد نهاك الله أن تستغفر لهم، وعند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله عز وجل قال": {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] .   الطبري وعبد بن حميد عن عمر، فقلت: والله ما أمرك الله بهذا لقد قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ، وكأنه فهم من الآية ما هو الأكثر الأغلب في لسان العرب أن أو ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف، أي أن الاستغفار وعدمه، سواء كقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، لكن الثانية أصرح، وأن سبعين مبالغة، والمراد نفي المغفرة، ولو كثر لاستغفار فلا مفهوم للعدد، وأن المقصود الأعظم من الصلاة طلب المغفرة للميت والشفاعة. هذا تقرير ما صدر من عمر مع شدة صلابته في الدين، وكثرة بغضه للمنافقين، فلذا أقدم على ما قال ولم يلتفت إلى احتمال إجرائه على ظاهر لما غلب عليه من الصلابة المذكورة، قال ابن المنير: إنما قاله عمر عرضا ومشورة، لا إلزاما وله بذلك عوائد، ولا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم كان أذن له في مثل ذلك، فليس باجتهاد مع وجود النص، كما زعم، بل أشار بما ظهر له فقط، ولذا احتمل منه أخذه بثوبه ومخاطبته له في مثل المقام حتى التفت إليه مبتسما، "فقال صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله عز وجل" بين الاستغفار وتركه، "فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} " [التوبة: 80] واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح عن صحته، وذلك ينادي على منكري صحته، كالباقلاني، وإمام الحرمين والغزالي والداودي بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه. وأجيب بأن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان فجوز حصول المغفرة بالزيادة على السبعين لا أنه جازم بذلك ولا يخفى ما فيه، وبأن المنهي عنه استغفار ترجي إجابته بخلافه لمثل ابن أبي، فإنه تطييب لقلوب من بقي وليس بمضي كقول، الزمخشري: إن قلت كيف خفي على أفصح الخلق، وأخبرهم بأساليب الكلام، وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولا سيما وقد تلاه قوله ذلك: {بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80] فبين الصارف عن المغفرة لهم، قلت: لم يخف عليه ذلك لكنه فعل ما فعل، وقال ما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كقول إبراهيم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] . وفي إظهاراه الرأفة المذكورة لطف بأمته وباعث على رحمة بعضهم بعضا، وتعقبه ابن المنير، فقال: لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول لأخبار الله أنه لا يغفر له، فطلبها لهم مستحيل، ولا يقع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وسأزيد على السبعين قال: إنه منافق: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم   منه عليه الصلاة والسلام، والجواب الجيد أن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عنه لمن مات مظهرا للإسلام لاحتمال أن يكون صحيحا، ولا ينافيه بقية الآية لجواز أن الذي نزل أولا إلى قوله تعالى: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم} [التوبة: 80] الآية، بدليل تمسكه صلى الله عليه وسلم به وقوله إنما خيرني تمسكا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام، إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك، فلما وقعت هذه القصة، كشف الله الغطاء، ونادى عليهم بعد ذلك بأنهم كفروا بالله، وبهذا يرتفع الإشكال، "وسأزيد على السبعين". ولعبد بن حميدة، عن قتادة والطبري، عن مجاهد وهو ابن أبي حاتم عن عروة: فوالله لأزيدن على السبعين. وعند الطبراني من مرسل الشعبي فأنا استغفر سبعين وسبعين وسبعين، وهي وإن كانت مراسيل يعضد بعضها بعضا، فلا يصح جواب من أجاب عن الإشكال بأنه قاله استمالة لقلوب عشيرته لا أنه إن زاد يغفر له، ولا أنه زاد لثبوت الرواية بأنه سيزيد ووعده صادق ولا سيما وقد قال: لأزيدن بصيغة المبالغة في التأكيد "قال" عمر: "إنه منافق" لما كان يطلع عليه من أحواله، "فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم يأخذ بقول عمر إجراء له على ظاهر حكم الإسلام واستصحبا لظاهر الحكم والإكرام ولده الذي تحقق صلاحه، واستئلافا لقومه، ودفعا للمفسدة، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين. وفي رواية للبخاري فصلينا معه، ففيه كما قال الحافظ أبو نعيم: أن عمر ترك رأي نفسه، وتابعه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما يدل على أنه أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له، فذكر الواقدي: أن مجمع بن جارية قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قط ما أطال على جنازة عبد الله بن أبي من الوقوف، وفي حديث ابن عباس عن عمر عند ابن إسحاق، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه. قال الخطابي، وتبعه ابن بطال: إنما فعل ذلك لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين ولتطييب قلب ولده الرجل الصالح، ولتألف الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه، وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبة على ابنه وعارا على قومه فاستعمل صلى الله عليه وسلم أحسن الأمرين في السياسة إلى أن كشف الله الغطاء، "فأنزل الله تعالى" وفي حديث ابن عباس في الصحيح، فصلى عليه ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت: " {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} " [التوبة: 84] . قال البيضاوي: المراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] رواه الشيخان والنسائي.   ممنوع في حق الكافر، ولذا رتب النهي على قوله: " {مَاتَ أَبَدًا} " [التوبة: 84] ، يعني على الكفر، فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع، فكأنه لم يحي " {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} " [التوبة: 84] . قال قتادة: فذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وما يغني عنه قميصي من الله وأنه لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه". أخرجه الطبراني زاد مسدد، فترك الصلاة عليهم وفي رواية ابن إسحاق عن عمر فما صلى على منافق بعده حتى قبضه الله، زاد ابن جرير ولا قام على قبره، وظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم. قال الواقدي: أخبرنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسر إليك سرا فلا تذكره لأحد إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان" رهط ذوي عدد من المنافقين، قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه وإلا لم يصل عليه. ومن طريق آخر عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلا ولعل حكمة اختصاصهم علم الله أنهم يموتون على الكفر بخلاف من سواهم فأنهم تابوا. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6] ورجاله ثقات مع إرساله، ويحتمل أن كون الآيتان معا نزلتا في ذلك، انتهى جميعه ملخصا من فتح الباري خلا ما نقلته عن البيضاوي. وفي شرح المصنف قد روى: أن ألفا من الخزرج أسلموا لما رأوه يستشفع بثوبه، ويتوقع اندفاع العذاب عن هذا، وعجيب من الشارح مع زيادة فطنته، وشدة حذقه كيف كتب على قول المصنف، فصلى عليه. هذا حكاه البيضاوي بقيل وصدر بأنه ذهب ليصلي عليه، فنزلت فإذا كان لهم يقف على غيره أفما كان يتنبه لقول المصنف. "رواه الشيخان والنسائي" بطرق عن ابن عمرو وبنحوه من حديث ابن عباس عن عمر، فأين يقع ما صدر به من مرويهما. قال البيضاوي: وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه؛ لأن الضنة به تخل بالكرم ولأنه كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 وفي هذه السنة آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا. وجحش شقه -أي خدش- وجلس في مشربة له درجها من جذوع،   مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر، زاد المصنف لئلا يكون لمنافق عليه منة، وقد أطلت وما تركته أطول. "وفي هذه السنة" سنة تسع فيما قال بعضهم، وجزم به اليعمري في الحوادث، فتبعه المصنف هنا والذي اقتصر عليه في الفتح لفظه أفاد ابن حبان أن هذه القصة كانت في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة انتهى، وبه جزم شيخه ابن الملقن والمصنف في شرح البخاري "آلي" بمدة الهمزة "صلى الله عليه وسلم من نسائه" أي حلف أن لا يدخل عليهن، ففي مسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه "شهرا" وليس المراد به الإيلاء المتعارف بين الفقهاء. قاله الحافظ وغيره لحرمته، فلا يغفله وإنما المراد اللغوي كقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ} [النور: 22] أي يحلف "وجحش". قال الحافظ بضم الجيم وكسر المهملة فشين معجمة "شقه" الأيمن، كما في رواية الزهري عن أنس في الصحيحين وفي رواية حميد عن أنس: فجحشت ساقه أو كتفه، وللإسماعيلي انفكت قدمه، وكذا رواه أبو داود، وابن خزيمة عن جابر، ولا منافاة لجواز وقوع الأمرين، وحاصله أن عائشة أبهمت الشكوى، فقالت وهو شاك وبين جابر وأنس السبب، وهو السقوط عن الفرس وعين جابر العلة في الصلاة قاعدا، وهو انفكاك القدم فليس كما قال عياض يحتمل أنه أصابه من السقطة رض منعه من القيام، "أي خدش" وفي الفتح الجحش الخدش أو أشد منه قليلا، والخدش قشر الجلد. روى الشيخان وغيرهما عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحشت ساقه أو كتفه، وآلى من نسائه شهرا، فليس سببه أنه نام على حصير على السرير، فأثر في جسده الخدش، كما توهم من مجرد رواية قوله: فأثر في جسده وإلا فلم يقله أحد، وجلس في مشربة. قال الحافظ: بفتح الميم، وسكون المعجمة، وضم الراء، ويجوز فتحها أي غرفة عالية "له" في حجرة عائشة كما في حديث جابر، وهو دال على أن الصلاة لم تكن في المسجد، وكأنه عجز عن الصلاة بالناس فيه، فكان يصلي فيها بمن حضر، لكن لم ينقل أنه استخلف، ولذا قال عياض: الظاهر أنه صلى في حجرة عائشة وائتم به من حضر عنده ومن بالمسجد وما قاله محتمل وإن لزم عليه صلاة الإمام أعلى من المأمومين، ومذهب عياض خلافه؛ لأن محله ما لم يكن معه الإمام العالي أحد، وهنا كان معه بعض الصحابة، ويحتمل أيضا أن يكون استخلف، وإن لم ينقل "درجها من جذوع" كذا للأكثر بالتنوين بغير إضافة وللكشميهني من جذوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 فأتاه أصحابه يعودونه فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا، ولا تركعوا حتى يركع، ولا ترفعوا حتى يرفع".   النخل، "فأتاه أصحابه يعودونه" سمي منهم أنس وجابر وأبو بكر وعمر، "فصلى بهم" زاد في رواية الزهري صلاة من الصلوات. قال القرطبي اللام للعهد ظاهرا، والمراد الفرض؛ لأنها التي عرف من عاداتهم الاجتماع لها بخلاف النافلة. وحكى عياض عن ابن القسم: أنها كانت نفلا، وتعقب بأن في رواية جابر عن ابن خزيمة وأبي داود الجزم بأنها فرض ولم أقف على تعيينها إلا في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ، فكأنها نهارية الظهر أو العصر، ولأبي داود عن جابر: أنهم عادوه مرتين، فصلى بهم فيهما لكن بين أن الأولى كانت نافلة، وأقرهم على القيام وهو جالس، والثانية فريضة وابتدءوا قياما فأشار إليهم بالجلوس ونحوه للإسماعيلي عن أنس انتهى حال كونه "جالسا وهم قيام" جملة اسمية حالية، كذا في رواية حميد عن أنس. وفي حديث عائشة في الصحيح: فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا وظاهرهما التعارض. قال الحافظ: فيجمع بينهما بأن أنسا انتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس، وفي رواية الزهري عن أنس، فصلينا وراءه قعودا، والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قياما فأومأ إليهم بالقعود، فقعدوا فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جابر عند مسلم "فلما سلم قال: "إنما جعل الإمام" إماما "ليؤتم" ليفتدى "به" ويتبع، ومن شأن التابع أن يأتي بمثل متبوعه على أثره، فلا يسبقه ولا يساويه "فإذا صلى قائما، فصلوا قياما وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" في جميع الصلاة لا أن المراد جلوس التشهد وبين السجدتين إذ لو كان مراد لقال: وإن جلس فاجلسوا كما قال ابن دقيق العيد وغره. وهو محمول على العجز، أي إذا كنتم عاجزين عن القيام كالإمام، أو منسوخ "ولا تركعوا حتى يركع". قال ابن المنير: مقتضاه أن ركوع المأموم بعد ركوع الإمام إما بعد انحنائه، وإما بأن يسبقه الإمام بأوله، فيشرع فيه بعد أن يشرع، "ولا ترفعوا" رءوسكم من الركوع والسجود "حتى يرفع" رأسه في حديث عائشة والزهري عن أنس "وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 ونزل لتسع وعشرين فقالوا: يا رسول الله إنك آليت شهرا، فقال: "إن الشهر يكون تسعا وعشرين".   الحمد". "ونزل" صلى الله عليه وسلم "لتسع عشرين" يوما مضت من الشهر، ولمسلم عن عائشة، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليَّ أي بأيامها؛ لأن العرب تؤرخ بالليالي، فالأيام تابعة لها، فلا يعارض حديث أم سلمة في الصحيحين فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا أو راح، "فقالوا:" وفي حديث أم سلمة فقل وفي مسلم عن عائشة بدأ بي. فقلت: "يا رسول الله إنك آليت" حلفت لا تدخل على نسائك "شهرا، فقال: "إن الشهر يكون تسعا وعشرين". وهذا كان كذلك لرواية أن الشهر تسع وعشرون. قال الخطابي: أل للعهد، أي الشهر المحلوف عليه، وسبب الحلف ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلا عند زينب، ويمكث عندها، فتوطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلت مغافير وهو بفتح الميم والمعجمة فألف ففاء صمغ له رائحة كريهة فدخل على إحداهما فقالت: إني أجد منك ريح مغافير قال: "لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا". وفي الصحيح أيضا من وجه آخر عن عائشة: أن التي شرب عندها حفصة بنت عمر من عكة أهدتها لها امرأة من قومها بمكة، قالت عائشة: ففرت فقلت لسودة إذا دنا منك، فقولي له: ما هذه الريح التي أجد منك وقولي أنت يا صفية ذاك. وعند ابن مردويه عن ابن عباس أن شربه العسل كان عند سودة، وأن عائشة وحفصة هما اللتان تظاهرتا، فوافق الرواية الأولى، وإن اختلف في صاحبة العسل، فيحمل على التعدد، أو أن كون صاحبة العسل زينب أثبت كما صوبه عياض وغيره لموافقة ابن عباس لها على المتظاهرين، فلو كان حفصة صاحبة العسل لم تقترن بعائشة في المظاهرة، ورجح أيضا بقول عائشة: كنت أنا وسودة، وصفية وحفصة في خرب، وزينب وأم سلمة والباقيات في خرب، فلذا غارت من زينب لكونها من غير خربها. قال ابن كثير وغيره: وفي ذلك نزل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} [التحريم: 1] على الصحيح وقال الخطابي الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية على نفسه، ورجحه الحافظ بما رواه سعيد بن منصور، والضياء في المختارة، والطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه والنسائي، ولفظه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطأها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ، على الصحيح وقال الخطابي الأكثر على أن الآية نزلت في تحريم مارية على نفسه، ورجحه الحافظ بما رواه سعيد بن منصور، والضياء في المختارة والطبراني في عشرة النساء، وابن مردويه والنسائي، ولفظه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطأها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] . وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبي هريرة دخل صلى الله عليه وسلم بمارية بيت حفصة، فجاءت فوجدتها. معه فقالت: يا رسول الله في بيتي دون بيوت نسائك، قال: "فإنها عليَّ حرام أن أمسها يا حفصة واكتمي هذا عليَّ" فأتت عائشة، فأخبرتها فنزلت الآية قال: ويحتمل أنها نزلت في السببين معا. قال في اللباب: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في التي وهبت نفسها، وهو غريب وسنده ضعيف والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 العبث إلى اليمن ... [البعث إلى اليمن] : ثم بعث أبا موسى ومعاذا إلى اليمن قبل حجة الوداع. كل واحد منهما على مخلاف. قالوا: واليمن مخلافان،   البعث إلى اليمن: "ثم بعث" صلى الله عليه وسلم "أبا موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "ومعاذا" هو ابن جبل "إلى اليمن قبل حجة الوداع" هذه ترجمة البخاري، إلا أن المصنف زاد أولها نظرا إلى أنه مقتضى القبلية، ولذا قال الحافظ في كتاب الزكاة، كان البعث إلى اليمن سنة عشر قبل حجه عليه السلام، كما ذكر البخاري في آخر المغازي، وقيل في آخر سنة تسع عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك. رواه الواقدي وابن سعد عن كعب بن مالك وحكى ابن سعد أيضا: أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر، وقيل عام الفتح سنة ثمان، انتهى. وقال هناك كأنه أشار بالتقييد بالقبلية إلى ما وقع في بعض أحاديث الباب، أنه رجع من اليمن فلقي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في حجة الوداع، لكن القبلية نسبية، وعند أهل المغازي أنها كانت في ربيع الآخر سنة تسع، انتهى. فعلى ما نسبه لأهل المغازي، فثم في المصنف للترتيب الذكري، وأما على غيره، فالترتيب حقيقي. قال الحافظ وبين البخاري في استتابة المرتدين عن أبي موسى سبب بعثه إلى اليمن ولفظه قال: أقبلت ومعي رجلان من الأشعريين وكلاهما سأل يعني أن يستعمله. فقال: "لن نستعمل على عملنا من أراد ولكن اذهب أنت يا أبا موسى إلى اليمن" ثم أتبعه معاذ بن جبل، انتهى. وكأنه تراحى قليلا فعبر بثم، وإلا فروايات الباب كلها بالواو في البخاري، وهو ظاهر قوله يسرا إلخ .... بخطاب المثنى. روى البخاري تلو الترجمة عن أبي بردة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، وبعث "كل واحد منهما على مخلاف، فكل بالنصب مفعول بعث الثابتة في الرواية التي استعنى المصنف عنها يبعث التي ذكرها أولا لا مرفوع مبتدأ وخبر لأنه وإن جاز لكنه خلاف الرواية "قالوا" كذا في النسخ وهو تصحيف صوابه كما في البخاري قال بالأفراد أي أبو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 ثم قال: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا". وقال لمعاذ: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله   بردة "واليمن مخلافان" وهو بموحدة وراء واسمه عامر بن أبي موسى، وهو تابعي، فالحديث مرسل، ولذا عقبه البخاري بطريق أخرى موصولة، ثم قواها بأحاديث "ثم قال" صلى الله عليه وسلم لهما: "يسرا" بتحتية ومهملة من اليسر، أي سهلا "ولا تعسرا" لا تشددا أي عاملا بالرفق في الأمور، فأقيما الأحكام مطابقة للأمر، فأقيما الحدود وأوصلا إلى كل ذي حق حقه، لكن برفق كأنظار معسر، ولا تعملا بالشدة، كالقتل قبل تكرير الدعاء إلى الإسلام، "وبشرا" بموحدة ومعجمة "ولا تنفرا" بالفاء زاد بالبخاري في رواية وتطاوعا، وهذا ظاهر جدا في بعثهما معا. قال الطبيبي: هو من باب المقابلة المعنوية؛ لأن الحقيقة أن يقال: بشرا، ولا تنذرا وآنسا، ولا تنفرا فجمع بينهما ليعم البشارة، والنذارة والتأنيس والتنفير. قال الحافظ: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة، وهو الأصل، وبلفظ التنفير وهو اللازم وأتى بالذي عده على العكس للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفي مطلقا بخلاف التنفير، فاكتفى بما يلزم عن الإنذار وهو التنفير فكأنه قيل إن أنذرتم فليكن بغير تنفير: كقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] قال شيخنا: ولعل قول الطيبي فجمع بينهما أنه لما قابل البشارة بالنهي عن التنفير. علم منه طلب التأنيس ولزم منه عدم التنفير، فلما ذكر النهي عنه كأنه أريد به النهي عن الإنذار، فشملت عبارته الأمر بالتأنيس، والنهي عن الإنذار، انتهى. وبقية هذا الحديث في البخاري فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، الحديث. وفي البخاري عن ابن عباس قال: "قال" صلى الله عليه وسلم "لمعاذ:" وعند أحمد وأبي يعلى برجال ثقات عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت ظل راحلته. فلما فرغ قال: "يا معاذ إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري" فبكى معاذ لفراقه. وروى ابن عساكر عنه: أنه صلى الله عليه وسلم مشى معه ميلا، ومعاذ راكب لأمره صلى الله عليه وسلم له بذلك ولأحمد عنه: لما بعثني صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: "قد بعثتك إلى قوم رقيقة قلوبهم، فقاتل بمن أطاعك من عصاك" "إنك ستأتي قوما أهل كتاب". قال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية ليستجمع عليها؛ لأن أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان، ليس فيه أن جميع من يقدم عليهم أهل كتاب، بل يجوز أن فيهم غيرهم، وخصهم بالذكر تفضيلا لهم على غيرهم، "فإذا جئتهم" قيل عبر بإذا تفاؤلا بحصول الوصول إليهم، $"فادعهم إلى يشهدوا أن لا إله إلا الله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 فإذا هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم   وأن محمدا رسول الله" وفي رواية وأني رسول الله، وفي أخرى فأول ما تدعوهم إليه عبادة الله، ويجمع بينهما بأن المراد بها توحيده وبه الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، وبدأ بهما لأنهما أصل الدين لا يصح شيء إلا بهما، فمن كان غيره موحد طولب بكل من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحدا طولب بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة، وإن اعتقدوا ما يقتضي الاشتراك أو يستلزمه كالقائل: بأن عزيرا ابن الله أو اعتقدوا التشبيه وطلبوا بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائهم. وذكر ابن إسحاق في أوئل السيرة: أن أصل دخول اليهودية في اليمن زمن أسعد وهو تبع الأصغر، "فإن هم أطاعوا لك" أي شهدوا وانقادوا وعدي أطاع باللام، وإن تعدى بنفسه لتضمينه معنى انقاد "بذلك". وفي رواية ابن خزيمة: فإن هم أجابوا لذلك، وفي رواية فإذا عرفوا ذلك، وفيه أن أهل الكتاب ليسوا بعارفين، وإن عبدوا الله وأظهروا معرفته، لكن قال حذاق المتكلمين ما عرف الله من شبهه بخلقه أو أضاف إليه اليد او الولد، "فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" وفيه أن الوتر ليس بفرض، "فإن هم أطاعوا لك" بأن التزموا فرضها، ويؤيده الأخبار بالفرضية، فتعود الإشارة "بذلك" إليها، أو المراد أطاعوا بفعل الصلاة ورجع بأنهم لو بادروا إلى الامتثال بالفعل كفى ولم يشترط التلفظ بخلاف الشهادتين، فالشرط عدم الإنكار والإذعان للوجوب قاله ابن دقيق العيد، والذي يظهر أن المراد القدر المشترك بينهما، فمن امتثل بالإقرار وبالفعل كفاه أو بهما فأولى. وفي رواية فإذا صلوا، وفي رواية طاعوا بغير ألف، حكاها ابن التين قائلا إذا امتثل أمره فقد أطاعه، وإذا وافقه فقد طاعه. قال الأزهري: طاع له انقاد، فإذا مضى لأمره فقد أطاعه، ومنهم من قال: طاع وأطاع بمعنى وحاصله أنه استعمل كل منهما لازما ومتعديا إما بمعنى واحد مثل بدأ الخلق وأبدأه أو دخلت الهمزة للتعدية وفي اللازم للصيرورة، أو ضمن المتعدي معنى فعل لازم؛ لأن كثيرا من اللغويين فسروا أطاع بمعنى لأن. وانقاد وهو اللائق هنا وإن غلب التعدي في الرباعي واللزوم في الثلاثي، وهذا أولى من دعوى أنهما بمعنى لقلته، ومن دعوى أن اللام في الحديث زائدة "فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة" وفي رواية افترض عليهم زكاة في أموالهم "تؤخذ من أغنيائهم" احتج به على أن الإمام يتولى قبض الزكاة وصرفها بنفسه، أو نائبه، فمن امتنع أخذت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإنك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".   منه قهرا، "فترد على فقرائهم" استدل به لقول مالك وغيره: بإخراج الزكاة في نصف واحد، وبحث فيه ابن دقيق العيد لاحتمال أن ذكر الفقراء لكونهم الغالب، وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء. قال الخطابي: آخر الصدقة عن الصلاة لأنها إنما تجب على قوم دون قوم، ولأنها لا تكرر تكرر الصلاة، وهو حسن وتمامه أن يقال بدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب؛ لأنه لو طالبهم بالجميع في أول مرة لم يأمن النفرة. وقال بعضهم: هو استدلال ضعيف لأن الترتيب في الدعوة لا يستلزم الترتيب في الوجوب، وقد قدمت إحداهما على الأخرى ورتبت الأخرى عليها بالفاء لئلا يلزم من عدم الإتيان بالصلاة إسقاط الزكاة "فإنهم أطاعوا لك بذلك". وفي رواية فإذا أقروا بذلك "فإياك وكرائم" جمع كريمة، أي نفائس "أموالهم" لأن الزكاة لمواساة الفقراء فلا يناسب ذلك الإجحاف بمال الأغنياء، وكرائم منصوب بفعل مضمر، لا يجوز اظهاره. قال ابن قتيبة: ولا يجوز حذف الواو، " واتق دعوة المظلوم" أي تجنب الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم، وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم، فالنكتة في ذكره عقب منع أخذ الكرائم الإشارة إلى أن أخذها ظلم. وقال بعضهم: عطف واتق على عامل إياك المحذوف وجوبا، فالتقدير اتق نفسك أن تتعرض للكرائم، إشارة إلى أنه ظلم لكنه عمم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقا، "فإنه ليس بينها" وفي رواية بينه، أي الدعاء "وبين الله حجاب" أي صارف يصرفها، ولا مانع، أي أنها مقبولة وإن كان عاصيا، كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا، دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرا، ففجوره على نفسه، وإسناده حسن، وليس المراد أن لله حجابا يحجبه عن الناس، وقال الطيبي: "اتق دعوة المظلوم" تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره، وقوله: "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" تعليل للاتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 رواه البخاري. والمخلاف: -بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء- بلغة أهل اليمن الكورة والإقليم والرستاق. وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان.   السلطان متظلما، فلا يحجب. قال ابن العربي: إلا أنه وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي إما أن يعجل له ما طلب، وإما أن يدخل له أفضل منه، وإما أن يدفع عنه من السوء مثله، كما قيد مطلق قوله: أمن يجيب المضطر إذا دعاه، بقوله فيكشف ما تدعون إليه إن شاء هذا، ولم يذكر الصوم والحج مع أن البعث كان في أواخر الأمر، وأجاب ابن الصلاح بأنه تقصير من بعض الرواة، وتعقب بأنه يقضي إلى ارتفاع الوثوق بكثير من الأحاديث لاحتمال الزيادة والنقصان، وقال شيخنا شيخ الإسلام: يعني البلقيني إذا كان الكلام في بيان الأركان لم يخل الشارع منها بشيء كحديث بني الإسلام على خمس، وإذا كان في الدعاء الإسلام اكتفى بالأركان الثلاثة ولو بعد فرض الصوم والحج قطعا؛ لأن الأركان الخمسة اعتقادي وهو الشهادة، وبدني وهو الصلاة، ومالي وهو الزكاة فاقتصر عليها التفرع الركنين الأخيرين عليها، فإن الصوم بدني محض، والحج بدني ومالي، وأيضا فكلمة الإسلام هي الأصل، وهي شاقة على الكفار، والصلوات شاقة لتكررها، والزكاة شاقة لما في جبلة الإنسان من حب المال، فإذا أذعن لهذه الثلاثة كان ما سواها أسهل عليه بالنسبة إليها، انتهى من فتح الباري جميعه ملخصا. "رواه" أي المذكور من حديثي أبي بردة وابن عباس "البخاري" وكذا رواهما مسلم وغيره، ويقع في بعض نسخ المصنف إسقاط الصلاة، وهو خطأ نشأ عن سقط لغزوه للبخاري، وهي ثابتة فيه، فيسقط زعم أنها لم تذكر لأنها بدنية قد لا يشح بها، ومألوفة لأهل الكتاب لأنهم يصلون غايته أنهم يغيرونها على صفة أخرى، وهو سهل لأنه يوهم أن الشارع لم يذكرها وهو خطأ؛ لأنه ذكرها عليه السلام، "والمخلاف" كما في الفتح "بكسر الميم، وسكون" الخاء، "المعجمة وآخره فاء" هو "بلغة أهل اليمن الكورة"، بضم الكاف الناحية ويطلق على المدينة، كما في المصباح "والإقليم والرستاق". قال الحافظ: بضم الراء، وسكون المهملة بعدها فوقية وآخره قاف، انتهى. قال في المصباح معرب يستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم والرزداق، بالزاي والدال مثله، والجمع رساتيق ورزاديق، "وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب" جهة "عدن، وكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 من عمله الجند -بفتح الجيم والنون- وله بها مسجد مشهور. وكانت جهة أبي موسى السفلى.   من عمله" أي معاذ "الجند، بفتح الجيم، و" فتح "النون" آخره دال مهملة، بلد باليمن ويقع في نسخة من عمل بإسقاط الضمير، وهي خطأ مخالفة للفتح لاقتضائها أن عدن من أعمال الجند، وهو خلاف الواقع، وأيضا المصنف نفسه حيث جعل محل معاذ صوب عدن، فهي مشهورة قصد بها التعريف، قرره شيخنا "وله بها" لمعاذ بالجندي "مسجد مشهور" إلى اليوم، كما قال الحافظ قال: واتفقوا على أن معاذا لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر، ثم توجه إلى الشام، فمات بها، واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا، فجزم ابن عبد البر بالثاني، والغساني بالأول، وقد دل حديث ابن عباس على أنه: كان أميرا على المال، وحديث عمرو بن ميمون أنه كان أميرا على الصلاة، انتهى. وكأنه عنى ترجيح أنه كان واليا، "وكانت جهة أبي موسى موسى السفلي"، واستدل به على أن أبا موسى كان عالما فطنا حاذقا، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج، والروافض فنسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين. قال ابن العربي وغيره: والحق أنه لم يصدر منه ما يقتضي وصفة بذلك، وغاية ما وقع منه أنه أداه اجتهاده إلى أن يجعل الأمر شورى بين من بقي من الصحابة من أهل بدر ونحوهم لما شاهد من الاختلاف الشديد بين الطائفتين بصفين، فآل الأمر إلى ما آل إليه ذكره في الفتح والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 [ بعث خالد إلى نجران ] : ثم أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه قبل حجة الوداع أيضا، في ربيع الأول سنة عشر -وفي الإكيل: في ربيع الآخر، وقيل: في جمادي الأولى-   بعث خالد إلى نجران: "ثم أرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه قبل حجة الوداع أيضا في ربيع الأول سنة عشر، وفي الإكليل" للحاكم "في ربيع الآخر، وقيل في جمادى الأولى" سنة عشر، وهو الذي في ابن إسحاق في الوفود، ولفظه في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر، وتبعه اليعمري والمصنف في الوفود وغيرهما، وأو يحتمل أنها للشك، أو إشارة إلى قولين متساويين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 إلى بني عبد الدان قبيلة بنجران فأسلموا.   إلى بني عبد المدان" بوزن سحاب اسم صنم. قال في الروض: واسم عبد المدان عمرو بن الديان، واسم الديان يزيد بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب "قبيلة" يقال لها: بنو الحارث "بنجران" موضع باليمن سمي بنجران بن زيد بن سبأ، "فأسلموا" قال ابن إسحاق: أمر صلى الله عليه وسلم خالدا أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتلهم، فخرج حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام، ويقولون أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلموا ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام خالد يعلمهم الإسلام والكتاب والسنة، وبذلك كان أمره إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، ثم كتب إليه السلام بذلك، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم أن يقدم ومعه وفدهم، فقدموا فأمر عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم في بقية شوال أو صدر ذي القعدة ويأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في الوفود بعون الله. زاد الشامي هنا سرية المقداد بن الأسود إلى أناس من العرب، وقال: روى البزار، والطبراني والدارقطني والضياء عن ابن عباس: بعث صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له فقتله المقداد فلامه رجل من الصحابة، ثم أخبره صلى الله عليه وسلم لما قدموا فقال: "أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله، فكيف لك بها غدا"، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، إلى قوله {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} انتهى. وليس في قوله بعث سرية فيها المقداد أنه أميرها، بل ظاهره أنه ليس الأمير، فلا تعد سرية مستقلة، فيحمل على أن المقداد كان في أحد السرايا السابقة مع غيره، ثم نزول الآية في مخالف لما سبق من نزولها في غيره والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 [بعث علي إلى اليمن] : ثم أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن في شهر رمضان، سنة عشر.   بعث علي إلى اليمن: "ثم أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن" قال ابن سعد: يقال مرتين إحداهما "في شهر رمضان سنة عشر" من الهجرة، وهي الثانية كما جزم به الشامي. وأفاد أن الأولى بعثه إلى همدان، وبه صرح في فتح الباري، كما يأتي، فوهم من ترجى أنها سريته إلى الفلس المتقدمة؛ لأن تلك إلى بلاد طيء لهدم صنمهم والغارة عليهم، كما مر لا إلى جهة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 من الهجرة، وعقد له لواء وعممه بيده. وأخرج أبو داود وأحمد والترمذي من حديث علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث السن لا أبصر القضاء. قال: فوضع يده في صدري وقال: "اللهم ثبت لسانه واهد قلبه"، وقال: "يا علي إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر" الحديث. فخرج في ثلاثمائة، ففرق أصحاب فأتوا بنهب   اليمن، "وعقد له لواء". قال الواقدي: أخذ عمامته، فلفها مثنية مربعة، فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه، "وعممه بيده" عمامة ثلاثة أكوار، وجعل له ذراعا بين يديه، وشبرا من ورائه، وقال له: "امض ولا تلتفت"، فقال علي: يا رسول الله ما أصنع، قال: "إذا نزلت بساحتهم، فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك وادعهم إلى قول لا إله إلا الله، فإن قالوا نعم، فمرهم بالصلاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك، والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت". ذكره الواقدي: "وأخرج أبو داود وأحمد والترمذي من حديث علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حديث السن لا أبصر" يجوز فتح الهمزة وضم الصاد، أي لا أعلم "القضاء" وضم الهمزة وكسر الصاد، أي لا أراه بتنزيل المعقول منزلة المحسوس "قال" علي: "فوضع يده" المباركة "في صدري" أي عليه، "وقال: "اللهم ثبت لسانه" بشد الباء، أي اجعله مستقرا دائما على النطق بالحق "واهد قلبه" بهمزة وصل، أضاف الثبات للسان لتحركه عند النطق، فناسب الثبات بمعنى القرار والهداية للقلب؛ لأن المراد بها خلق الاهتداء فيه، "وقال" صلى الله عليه وسلم: "يا علي" النسخ الصحيحة بإثبات ياء النداء، ومثلها في الفتح، وفي نسخة بحذف أداة النداء، لكن الرواية بإثباتها "إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما" وفي رواية "فلا تقض لأحدهما" " حتى تسمع من الآخر" كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، هذا تمام "الحديث" عند المذكورين. وفي رواية لأبي داود وغيره قال علي: والله ما شككت في قضاء بين اثنين، "فخرج" كما قال ابن سعد وشيخه علي وعسكر بقناة بفتح القاف والنون الخفيفة، كما أمره حتى تمام أصحابه "في ثلاثمائة فارس"، قالا: وكانت أول خيل دخلت تلك البلاد، وهي بلاد مذحج، "ففرق" لما انتهى إلى تلك الناحية "أصحابه فأتوا بنهب" قال البرهان: بفتح النون بلا خلاف نص عليه غير واحد، وسمعت بعض الطلبة، بكسرها ولا أعرفه، ولا سمعته انتهى. وهو الغلبة والقهر، كما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وغنائم ونساء وأطفال ونعم وشاء وغير ذلك، ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا. ورموا بالنبل، ثم حمل عليهم علي بأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا وانهزموا فكف عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله.   المصباح فهو هنا بمعنى المنهوب؛ لأنه الذي يؤتى به لا نفس الغلبة، كما هو ظاهر "وغنائم" تفسير للمنهوب لقول ابن سعد بنهب غنائم. قال في النور: بدل مما قبله وساقه الشامي بالواو كالمصنف، ثم قال: إنه يدل مما قبله، ولا يصح لوجود الواو فكأنه كتب كلام النور أو زادت عليه الواو سهوا، "ونساء، وأطفال، ونعم وشاء وغير ذلك" بيان الغنائم قال ابن سعد: وجعل علي على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا "ثم لقي جمعهم، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا" المسلمين "بالنبل" والحجارة، "ثم" بعد أن خرج رجل من مذحج يدعو إلى البراز فبرز إليه الأسود بن خزاعي، فقتله الأسود وأخذ سلبه "حمل عليهم علي بأصحابه" بعد أن صفهم ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان الأسلمي، "فقتل منهم عشرين رجلا فتفرقوا، وانهزموا فكف عن طلبهم" قليلا، "ثم" لحقهم حتى "دعاهم إلى الإسلام" فلا يرد أنه كيف يدعوهم بعد تفرقهم وكفه عن طلبهم أو لعلهم اجتمعوا بعد التفرق، وأتوا إليه فدعاهم، "فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله"، وجمع على الغنائم فجزأها على خمسة أجزاء فكتب في سهم منها لله، وأقرع عليها فخرج أول السام سهم الخمس، وقسم على أصحابه بقية الغنم. ذكره ابن سعد وشيخه قال اليعمري: ويشبه أن هذه السرية هي الثانية والأولى هي ما ذكر شاط، قال وفي حديث أنه: صلى الله عليه وسلم بعث علينا إلى اليمن وذلك في رمضان سنة عشر فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إليه صلى الله عليه وسلم، فخر لله ساجدا، ثم جلس فقال: السلام على همدان، وتتابع أهل اليمن على الإسلام، انتهى. وهو واضح لكن التاريخ وهم لاتحاده مع ما قال إنه الثانية كما ترى، فالأولى قول الحافظ لما شرح ما أخرجه البخاري عن البراء: بعثنا صلى الله عليه وسلم مع خالد إلى اليمن، ثم بعث عليًّا بعد ذلك مكانه، فقال: "مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معلك، فليعقب ومن شاء فليقبل"، فكنت فيمن عقب معه فغنمت أواقي ذوات عدد. زاد الإسماعيلي: فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلى بنا علي، وصفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 ثم قفل فوافى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج سنة عشر.   رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه وقال: "السلام على همدان"، وكان البعث بعد رجوعهم من الطائف، وقسمه الغنائم بالجعرانة انتهى. فهو صريح في أن البعث الأول كان في أواخر سنة ثمان، وأنه إلى همدان، والثاني كان في رمضان سنة عشر إلى مذحج، كما ذكر ابن سعد وغيره، وأنها أول خيل أغارت عليهم لاختلاف الجهة، وأن جمع الكل اسم اليمن، ويؤيده أن في رواية البيهقي عن البراء: فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، ثم بعث عليًّا مكان خالد، فذكر الحديث قالوا: ثم أقام علي فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بخبره مع عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، فأتاه فأمره صلى الله عليه وسلم أن يوافيه الموسم، فانصرف عبد الله، فأخبر عليًّا بذلك، "ثم قفل" علي، "قوافي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج سنة عشر" وتعجل وخلف على أصحابه، والخمس أبا رافع، وكان في الخمس من ثياب اليمن أحمال معكومة، ونعم وشاء مما غنموا، ومن صدقات أموالهم، فسأل أصحاب علي أبا رافع أن يكسوهم ثيابا يحرمون فيها، فكساهم ثوبين ثوبين، فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي ليتلقاهم ليقدم بهم فرأى الثياب على أصحابه، فنزعها فشكوه للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما لأصحابك يشكونك"؟ قال قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس، حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك، فسكت صلى الله عليه وسلم والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 [ حجة الوداع ] : ثم حج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع،   حجة الوداع: "ثم حج صلى الله عليه وسلم حجة" قال الحافظ: بكسر المهملة، وفتحها. "الوداع" بكسر الواو وفتحها قال المصنف: سميت بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها وبعدها انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع الحديث. قال الحافظ: كأنه شيء ذكره صلى الله عليه وسلم، فتحدثوا به وما فهموا أن المراد به وداعه، حتى توفي بعدها بقليل، فعرفوا المراد وأنه ودع الناس بالوصية التي أوصاهم بها أن لا يرجعوا بعده كفارا، وأكد التوديع بإشهاد الله عليهم بأنهم شهدوا أنه قد بلغ ما أرسل إليهم به، فعرفوا حينئذ المراد بقولهم حجة الوداع: وفي رواية للبخاري عن ابن عمر: فودع الناس وروى البيهقي: أن سورة "إذا جاء نصر الله والفتح" نزلت في وسط أيام التشريق، فعرف صلى الله عليه وسلم أنه الوداع فركب واجتمع الناس، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وتسمى حجة الإسلام، وحجة البلاغ، وكره ابن عباس أن يقال: حجة الوداع. وكان صلى الله عليه وسلم قد أقام بالمدينة يضحي كل عام ويغزو المغازي، فلما كان في ذي القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج فتجهز وأمر الناس بالجهاز له. قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله تعالى.   فذكر الخطبة، "وتسمى حجة الإسلام" لأنه لم يحج من المدينة بعد فرض الحج غيرها، كما في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أنه حاج، فقدم المدينة بشر كثير كل يلتمس أن يأتم به. أخرجه مسلم وغيره "وحجة البلاغ" لأنه بلغ الناس الشرع في الحج قولا وفعلا. قال المصنف: وتسمى أيضا حجة التمام والكمال انتهى. أي بمجموعهما، لا بكل واحد لنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة، كما في الصحيح عن عمر جوابا لمن قال له من اليهود: لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، وفي الترمذي عن ابن عباس أن يهوديا سأله عن ذلك، فقال: فإنها نزلت في يوم عيدين يوم الجمعة ويوم عرفة، "وكره ابن عباس أن يقال حجة الوداع" لإشعاره بكراهة المودع وأسفه على من ودعه، وذلك لا يليق به صلى الله عليه وسلم، ولم يكرهه غيره، بل أطلقوا ذلك عليها فقالت عائشة: خرجنا في حجة الوداع، وقال ابن عمر: أمر صلى الله عليه وسلم أزواجه عام حجة الوداع، وقال سعد بن أبي وقاص: عادني صلى الله عليه وسلم ف حجة الوداع وقال أبو أيوب: أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صلى المغرب والعشاء جميعا، وقال جرير: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: في حجة الوداع: "استنصت الناس" وكلها في الصحيح، بل فيه أيضا عن ابن عباس نفسه: أن امرأة استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فكأنه رجع عن الكراهة؛ لأنه لا يلزم من الوصية بتلك الوصايا، والحث عليها المشعر بأنهم لا يجدون من يذكرهم بها بعده أسفه على مفارقتهم، "وكان صلى الله عليه وسلم قد أقام بالمدينة يضحى كل عام" من السنة الثانية من الهجرة قال اليعمري: وفيها ضحى بكبشين أحدهما عن أمته، والآخر عن محمد وآله، "ويغزو المغازي" من حين أذن في القتال: وأراد بها ما يشمل البعوث والسرايا أيضا، "فلما كان في ذي القعدة سنة عشر من الهجرة أجمع على الخروج إلى الحج، فتجهز وأمر الناس بالجهاز له". قال ابن إسحاق: "قال ابن سعد: ولم يحج غيرها منذ تنبأ إلى أن توفاه الله" كذا أطلق النفي وليس كما قال: ففي فتح الباري حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذي لا ارتياب فيه أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وفي البخاري عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها، حجة الوداع. قال: قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى، وقيل: حج بمكة حجتين.   لم يترك الحج، وهو بمكة قط، "وفي البخاري" حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، "عن زيد بن أرقم" بن زيد بن قيس الأنصاري، الخزرجي، الصحابي المشهور: "أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة" مراده التي خرج فيها بنفسه، وتقدم أن جابرا قال: إنها إحدى وعشرون، فخفي على زيد لصغره اثنتان، وعند أصحابه المغازي أنها سبع وعشرون، وجمع بأن من عدها دون ذلك نظر إلى شدة قرب بعض الغزوات لبعض، فيضم واحدة لأخرى، كما تقدم بسط ذلك في أول المغازي. والمقصود من الحديث هنا قوله: "وأنه حج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج بعدها". قال الحافظ: يعني ولا حج قبلها، يعني بقيد الظرف إلا أن يريد نفي الحج الأصغر، وهو العمرة، فلا لأنه اعتمر قبلها قطعا "حجة الوداع". قال المصنف: بنصب حجة بدل من الأولى، ويجوز الرفع بتقدير هي. "قال" زهير بن معاوية، "قال أبو إسحاق" عمرو بن عبد الله السبيعي: بفتح المهملة وكثر الموحدة مكثر ثقة عابد، مات سنة تسع وعشرين ومائة. روى له الستة قال الحافظ: هو موصول بالإسناد المذكور انتهى. فما وقع في نسخ المواهب ابن إسحاق خطأ؛ لأن البخاري لم يرو لصاحب السيرة محمد "وبمكة أخرى" قال الحافظ: غرض أبي إسحاق أن لقومه بعدما هاجر مفهوما، وأنه قبله حج، لكن قوله أخرى يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة، وليس كذلك، بل حج قبلها مرارا، بل الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف. وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج، ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يظن به صلى الله عليه وسلم أنه يتركه، وقد ثبت حديث جبير بن مطعم أنه: رآه عليه السلام في الجاهلية واقفا بعرفة، وأنه من توفيق الله له. وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية، كما بينته في الهجرة انتهى. فلا يقبل نفي ابن سعد أنه لم يحج بعد النوبة إلا حجة الوداع؛ لأن المثبت مقدم على النافي، خصوصا وقد صحبه دليل إثبات، ولم يصحب النافي دليل نفيه. "وقيل: حج بمكة حجتين" قبل الهجرة، وحجة بعدها. أخرجه الترمذي عن جابر وقال ابن عباس: من حج صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر ثلاث حجج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله. فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس. وفيه نظر؛ لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس، قطعا، لما ثبت وتواتر وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل هو ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة. لكن ثبت في الصحيحين عن أنس: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، فدل على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة.   أخرجه ابن ماجه والحاكم. قال الحافظ: وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم ثالثا فبايعوا الثانية، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك، "فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه"، أي عدد حجه "إلا الله" وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثورى أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يهاجر حججا. وقال ابن الجوزي: حج حججا، لا يعرف عددها، وقال ابن الأثير في النهاية: كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر انتهى. كلام الفتح، ولخص ذلك كله المصنف في قوله المروي أنه لم يترك وهو بمكة الحج قط انتهى. فقول الشارح أنه مخالف لكلام الفتح فيه نظر ظاهر فأين المخالفة، وأما قوله وقد نقل قول الفتح حج قبل أن يهاجر مرارا ليس فيس تصريح برواية عن حاله بعد الهجرة فعجيب من مثله إذ ليس بعده إلا حجة الإسلام باتفاق، "فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت". قال ابن هشام: واستعمل عليها أبا دجانة الساعدي: ويقال: سباع بن عرفطة الغفاري "لخمس ليال بقين من ذي القعدة" كما أخرجه البخاري عن ابن عباس، والشيخان عن عائشة، "وجزم ابن حزم بأن خروجه كان يوم الخميس، وفيه نظر لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعا لما ثبت، وتواتر أن وقوفه" صلى الله عليه وسلم "بعرفة كان يوم الجمعة، فتعين أن أول الشهر كان يوم الخميس، فلا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس، بل ظاهر الخبر" الصحيح عن ابن عباس وعائشة: "أن يكون يوم الجمعة" لقولهما لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فيبقى من ليلة السبت حتى ليلة الأربعاء خمس ليال، "لكن" يدفع هذا الظاهر، أنه "ثبت في الصحيحين عن أنس صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين فدل" قوله الظهر بالمدينة أربعا "على أن خروجهم لم يكن يوم الجمعة" فما بقي إلا أن يكون خروجهم يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ويحمل قول من قال: لخمس بقين، أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبها تتفق الأخبار. هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات، وقوى هذا الجمع بقول جابر: إنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع. وصرح الواقدي بأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة. وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر. وكان دخوله مكة صبح رابعة، كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها وذلك يوم الأحد. وذلك يؤيد أن خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكث في الطريق ثمان ليال،   السبت، "و" لا يشكل قولهما أن الباقي خمس ليال بأن الباقي أربع؛ لأنه "يحمل قول من قال: لخمس بقين، أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعا وعشرين، فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس، وبها" أي بهذه المقالة، وفي الفتح وبهذا، أي المذكور من الحمل "تتفق الأخبار". "هكذا جمع الحافظ عماد الدين بن كثير بين الروايات وقوى" ابن كثير "هذا الجمع بقول جابر:" وهو أحسن الصحابة سياقا لحديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حيث خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها، فهو أحفظ لها من غيره "أنه خرج لخمس بقين من ذي القعدة أو أربع" فتردده فيما بقي يؤيد ذلك الجمع. "وصرح الواقدي بأن خروج عليه الصلاة والسلام كان يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة" وهو مما يقوي الجمع أيضا، "وكان خروجه من المدينة بين الظهر والعصر" فنزل بذي الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر. وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن كلهن تلك الليلة، ثم اغتسل غسلا ثانيا لا حرامة غير غسل الجماع الأول. ذكره المصنف في الحجة، "وكان دخوله مكة صبح رابعة" من ذي الحجة، "كما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها، وذلك يوم الأحد، وذلك يؤيد أن خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة كان يوم السبت، كما تقدم، فيكون مكث في الطريق ثمان ليال، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 وهي المسافة الوسطى. وخرج معه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا، ويقال مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقي. ويأتي الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث في مقصد العبادات إن شاء الله تعالى تكميل.   وهي المسافة الوسطى" المتوسطة بين السير الحثيث والسير البطيء، إلى هنا جلبه المصنف من الفتح من أول قوله: فخرج صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم السبت، "وخرج معه عليه الصلاة والسلام تسعون ألفا، ويقال: مائة ألف وأربعة عشر ألفا، ويقال: أكثر من ذلك، كما حكاه البيهقي، وهذا كما ترى في عدة من خرج معه، وأما الذين حجوا فأكثر كالمقيمين بمكة، والذين أتوا من اليمن مع علي وأبي موسى. وفي حديث أن الله وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف إنسان، فإن نقصوا كملهم الله بالملائكة. قال الحافظ في تسديد القوس: هذا الحديث ذكره الغزالي ولم يخرجه شيخنا العراقي، "ويأتي الكلام على حجة الوداع وما فيها من المباحث" بحسب ما أراد "في مقصد العبادات إن شاء الله تعالى" وهو السابع إنما ذكر هنا تاريخها ضرورة التزامه الترتيب على السنين واستطرد لعدم حجه قبلها وعده من حج معه والله أعلم. تكميل: ذكر ابن سعد في الوفود أن بني سعد وفدوا وهم تسعة، فبعثهم سرية لعير قريش، وذكر ابن الأثير أن فيهم ميسرة بن مسروق، وأنه لقيه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ولعل المراد لحفظ عير قريش؛ لأنها إن كانت في ذا التاريخ فقد أسلموا، فلا يبعث لأخذ عيرهم، وعند أحمد عن رعية السحيمي، بكسر الراء، وسكون المهملة وتحتية: أنه صلى الله عليه وسلم بعث إليه كتابا، فرقع به دلوه، فبعث سرية، فلم يدعوا له سارحة، ولا رائحة ولا أهلا، ولا مالا إلا أخذوه وانفلت عريانا على فرس له، ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم مسلما وقال: يا رسول الله أهلي ومالي، قال: "أما مالك فقد قسم وأما أهلك فمن قدرت عليه منهم فخذه". وأهمل المصنف أيضا كاليعمري سرية جرير بن عبد الله البجلي قبل فاته صلى الله عليه وسلم بنحو شهرين إلى ذي الخلصة بفتح المعجمة واللام بعدها مهملة. وحكى ابن دريد فتح أوله، وإسكان ثانيه، وحكى ابن هشام: ضمهما، وقيل بفتح أوله وضم ثانيه، والأول أشهر والخلصة نبات له حب أحمر كخرز العقيق، وذو الخلصة اسم البيت الذي كان فيه الصنم، وقيل: اسم البيت الخلصة واسم الصنم ذو الخلصة، عن جرير رضي الله عنه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 ...........................   قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تريحني من ذي الخلصة" فقلت: بلى فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب في صدري، وقال: "اللهم ثبته واجعله هاديا مهذبا"، فما وقعت عن فرس بعد، وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة، فانطلق إليها فكسرها وحرقها، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول جرير، والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، فبارك في خيل أحمس ورجالها خمس مرات، رواه الشيخان، وسمي في رواية مسلم رسول جرير حصين بن ربيعة الأحمسي، ولبعض رواته بين بدل الصاد، وهو تصحيف، وعند الطبراني عن جرير بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أقاتلهم وأدعوهم أن يقولوا لا إله إلا الله، والذي يظهر كما قال الحافظ: أنه غير بعثه إلى هدم الصنم ويحتمل أنه بعثه إلى الجهتين على الترتيب ويؤيده ما وقع عند ابن حبان في حديث جرير أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "يا جرير أنه لم يبق من طواغيت الجاهلية إلا بيت ذي الخلصة" فإنه يشعر بتأخير هذه القصة جدا، وقد شهد جرير حجة الوداع، فكأن إرساله كان بعدها فهدمها ثم توجه إلى اليمن ولما رجع بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وحكى المبرد: أن موضع ذي الخلصة صار مسجدا جامعا لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم ووهم من قال في بلاد فارس وأن تعجب فعجب إيراد الشامي هنا سرية عمرو بن مرة الجهني إلى أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب في مزينة وجهينة، فساروا إلى أبي سفيان، فهزم وكثر القتل في أصحابه. رواه ابن عساكر، فإن هذا إن صح، فكانت قبل فتح مكة قطعا؛ لأنه أسلم في الفتح، كما مر، فكيف يورد في سنة إحدى عشرة، ولا أعلم كيف خفي عليه ذلك والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 [ آخر البعوث النبوية ] : ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أهل أبني بالشراة ناحية   آخر البعوث النبوية: "ثم سرية أسامة بن زيد بن حارثة" الكلبي "رضي الله عنه" وعن أبيه وجده، وثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أسامة والحسن، فيقول: "اللهم أحبهما فإني أحبهما"، وفي حديث المخزومية فلم يجسر أحد أن يكلمه صلى الله عليه وسلم فكلمة أسامة. سكن المزة من أعمال دمشق ومات بالمدينة أو بوادي القرى سنة خمس أو أربع وخمسين وهو ابن خمس وسبعين سنة "إلى أهل أبني" بضم الهمزة وسكون الموحدة، وفتح النون فألف مقصورة ويقال بميم بدل الموحدة "بالشراة" بفتح المعجمة والراء "ناحية" أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 بالبلقاء، وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر، سنة إحدى عشرة. وهي آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم وأول شيء جهزه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لغزو الروم مكان مقتل أبيه زيد. فلما كان يوم الأربعاء بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فحم وصدع، فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده، فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة الأسلمي، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا انتدب.   جبل "بالبلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام بالقاف والمد ويقصر، "وكانت يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة" من الهجرة، أي ابتداء الأمر بها. ففي العيون قالوا: لما كان يوم الاثنين لأربع بقين من صفر سنة إحدى عشرة، أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم، فلما كان من الغد دعا أسامة، فقال: "سر إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحا على أهل أبني، وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفرك الله، فأقل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون والطلائع معك" ونحوه في الفتح، وزاد "وهي آخر سرية جهزها النبي صلى الله عليه وسلم، وأول شيء جهزه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بمعنى أنفذ تجهيزه لأنه لما بويع بعد الوفاة النبوية كلم في جيش أسامة، فأبى إلا إنفاذه "لغزو الروم مكان مقتل أبيه زيد" أول الأمراء بسرية مؤتة، وهي بالهمز، وتركه من عمل البلقاء بالشام، كما مر فلا تخالف، "فلما كان يوم الأربعاء" كما عند أهل السير، وبه جزم الحاكم أبو أحمد. وقال الخطابي: يوم الاثنين وقيل: يوم السبت "بدئ بالبناء للمفعول مهموز الآخر، أي ابتدأ "برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه" نائب الفعل. قال الحافظ: ابتداؤه في بيت ميمونة على المعتمد، وعند أبي معشر في بيت زينب بنت جحش، وعند اليمي في بيت ريحانة، "فحم" بشد الميم، والبناء للمفعول، "وصدع" بضم الصاد، وكسر الدال المشددة وبالعين المهملات، أي حصل له صداع أي وجع في رأسه وأما المخفف من صدع فليس مرادا هنا كأصدع بما تؤمر "فلما أصبح يوم الخميس" يجوز نصبه ظرفا رفعه فاعل أصبح كما في الشامي "عقد لأسامة لواء بيده" الشريفة ثم قال: أغز بسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله" "فخرج" أسامة "بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة" بن الحصيب، بمهملتين مصغر "الأسلمي" الصحابي المسلم قبل بدر المتوفى سنة ثلاث وستين، "وعسكر بالجرف" بضمتين وبضم فسكون، "فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 فيهم أبو بكر وعمر. فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين؟ فخرج صلى الله عليه وسلم وقد عصب رأسه وعليه قطيفة، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: $"أما بعد، أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إماراتي أسامة فقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله،   انتدب" أي قام بسرعة والمراد سرعة الخروج "فيهم أبو بكر، وعمر" وأبو عبيدة، وسعد، وسعيد، وسلمة بن أسلم وقتادة بن النعمان، كما ذكره الواقدي وأخرجه ابن عساكر من طريقه وابن سعد، وأنكر ابن تيمية كون الصديق في السرية واستبعده بأنه استخلف أبا بكر على الصلاة، فكيف يأمره الخروج مع السرية ولا بعد فيه، فإنه أمره قبل مرضه، فلما اشتد مرضه استثناه واستخلفه على الصلاة، ثم الإنكار مكابرة فقد أتته أئمة المغازي وهم المرجوع إليهم في هذا. ومن ثم جزم به الحفاظ كاليعمري ومغلطاي والحافظ في المناقب، وقال هنا وقد ذكر إنكار ابن تيمية مستند من ذكره ما أخرجه الواقدي بأسانيده في المغازي وذكره ابن سعد في أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في آخر السيرة المشهورة ولفظه: فلم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة، فمنهم أبو بكر وعمر ذكر ذلك كله ابن الجوزي في المنتظم جازما به انتهى. "فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين" الأولين، وعند ابن إسحاق، من مرسل عروة وغيره أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار. قال الحافظ: والذي باشر القول ممن نسب إليهم الطعن في إمارته عياش بن أبي ربيعة المخزومي فكثرت فغضب غضبا شديدا، "فخرج صلى الله عليه وسلم وقد عصب" بالتشديد، كما اقتصر عليه البرهان وتبعه الشامي، فإن كان رواية وإلا فيخفف أيضا "رأسه وعليه قطيفة" كساء له خمل. "فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه" بما هو أهله، "ثم قال: "أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة". وفي رواية في الصحيح "قد بلغني أنكم قلتم في أسامة وأنه أحب الناس إليَّ"، أي الذين طعنوا فيه أو "من أحب" للرواية الأخرى "ولئن طعنتم في إمارتي أسامة فقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله". قال الطيبي: هذا الجزاء إنما يترتب على الشرط بتأويل السببية والتوبيخ، أي طعنكم الآن فيه سبب،؛ لأن أخبركم أن ذلك من عادة الجاهلية وهجراهم، ومن ذلك طعنكم في أبيه من قبل نحو قوله: أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. وقال التوربشتي: إنما طعن من طعن في إمارتهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وايم الله إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم"، ثم نزل عن المنبر فدخل بيته. وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون   لأنهما من الموالي والعرب لا ترى تأميرهم وتستنكف عن اتباعهم كل الاستنكاف. فلما جاء الله بالإسلام ورفع قدر من لم يكن عندهم له قدر بالسابقة، والهجرة والعلم والتقى عرف حقهم أهل الدين، فأما المرتهنون بالعادة، والممتحنون بحب الرياسة من الأعراب ورؤساء القبائل، فلم يختلج في صدورهم شيء من ذلك لا سيما أهل النفاق، فكانوا يسارعون إلى الطعن وشدة النكير، وكان صلى الله عليه وسلم قد بعث زيدا على عدة سرايا ومؤتة أعظمها وتحت رايته نجباء الصحابة، "وايم الله" بهمزة وصل "إن كان" زيد "للإمارة لخليقا" بخاء معجمة مفتوحة وقاف، أي أهلا وحقيقا، فاللام في للإمارة على بابها، لكن الرواية عن أهل المغازي لخليقا للإمارة بتأخيرها كما في العيون، وهو الذي في الصحيح لسوابقه وقربه منه صلى الله عليه وسلم وقد روى النسائي عن عائشة: ما بعث صلى الله عليه وسم زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمره عليهم، "وإن ابنه ن بعده لخليق" جدير وحقيق، وضمنه معنى أهل، فعداه باللام في "للإمارة" فلا يرد أن خليق يتعدى بالباء، ولذا أمره في مرضه على مشيخة الصحابة وفضلائهم، وكأنه رأى في ذلك سوى ما توسم أنه من النجابة، أي يمهد الأرض، ويوطئه لمن يلي الأمر بعده لئلا ينزع أحد يدا من طاعته، وليعلم كل أن العادات الجاهلية قد عميت مسالكها وخفيت معالمها. قال التوربشتي "وإن" مخففة من الثقيلة "كان" زيد "لمن أحب الناس إليَّ". زاد في رواية الصحيح "وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده" فكان حذفها هنا من تصرف الرواة وفي العيون وأنهما لمخيلان لكل خير، بفتح الميم، وكسر المعجمة وسكون التحتية أي لمظنة وهذه القطعة مما أورده أهل المغازي صحيحة. روى الإمام مالك ومن طريقه البخاري عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وايم الله إن كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده" "فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم" فيه منقبة ظاهرة لأسامة وأبيه حيث أذاع فضائلهما على المنبر مع تلبسه بالمرض وكونه عاصبا رأسا وأمره بالوصية لأسامة ونصه لي أنه من الخيار "ثم نزل عن المنبر، فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخرجون إلى العسكر بالجرف. فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فدخل أسامة من معسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور، وهو اليوم الذي لدوه فيه، فطأطأ أسامة فقبله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة. قال أسامة. فعرفت أنه يدعو لي. ورجع أسامة إلى معسكره. ثم دخل يوم.   رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخرجون إلى العسكر، وهو ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة من قريش، كما عند الواقدي، وعنده أيضا عن أبي هريرة كانت عدة الجيش سبعمائة ولا تنافي، فلعله اقتصر على القرشيين "بالجرف" موضع على فرسخ من المدينة، كما عند ابن إسحاق، "فلما كان يوم الأحد اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه". قال أهل المغازي فجعل يقول: "أنفذوا بعث أسامة"، "فدخل أسامة من معسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه" بدال مهملة قال الحافظ: أي جعلوا في جانب فمه دواء بغير اختياره، وعند الطبراني عن العباس: أنهم أذابوا القسط، أي العود الهندي بزيت فلدوه به؛ لأنهم ظنوا أنه به ذات الجنب، فلما أفاق قال: كنتم ترون أن الله يسلط على ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها عليَّ سلطانًا والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد، فما بقي أحد إلا لد حتى ميمونة وهي صائمة. أخرجه ابن سعد عن عائشة وعبد الرزاق بسند صحيح عن أسماء بنت عميس نحوه وفيه ضعف ما رواه أبو يعلي بسند فيه ابن لهيعة عن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم مات من ذات الجنب لكن يمكن الجمع بأنها تطلق على ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن وهو المنفي هنا وفي المستدرك ذات الجنب من الشيطان وعلى ريح بين الأضلاع وهو المثبت ولا محذور فيه وإنما لدهم تأديبا لئلا يعودوا لا قصاصا ولا انتقاما، وأنكر التداوي مع أنه كان يتداوى لأنه غير ملائم له إذ هو ملائم لذات الجنب وليست به انتهى ملخصا، وفي الصحيح عن عائشة لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني" قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا" انظر إلا العباس لم يشهدكم "فطأطأ" بهمزة ساكنة بعد الطاء الأولى، وهمزة مفتوحة بعد الثانية "أسامة فقبله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة قال أسامة: فعرفت أنه يدعو لي ورجع أسامة إلى معسكره، ثم دخل" أسامة "يوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 الاثنين وأصبح صلى الله عليه وسلم مفيقا، فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت. فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة فتوفي عليه الصلاة والسلام حين زاغت الشمس. لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. واستشكله السهيلي ومن تبعه، وذلك: أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس فمهما فرضت الشهور الثلاثة: توام أو نواقص، أو بعضها، لم يصح. قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر لمن تأمله.   الاثنين وأصبح صلى الله عليه وسلم مفيقا، فقال لأسامة: "اغد على بركة الله" فودعه أسامة وخرج إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق إلى العسكر، "فأمر الناس بالرحيل، فبينما هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن". قال البرهان: لا أعرف اسمه "قد جاءه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت، فأقبل هو وعمر وأبو عبيدة" فانتهوا إليه وهو يموت "فتوفي عليه الصلاة والسلام حين زاغت" مالت "الشمس" وذلك عند الزوال. وفي الصحيح: وتوفي في آخر ذلك اليوم. قال الحافظ: وهو يخدش في جزام ابن إسحاق، بأنه مات حين اشتد الضحى، ويجمع بأن إطلاق الآخر بمعنى ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار، وذلك عند الزوال، واشتداد الضحى يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس. وقد جزم ابن عقبة، عن الزهري وأبو الأسود، عن عروة بأنه مات حين زاغت الشمس، فهذا يؤيد الجمع، ثم الذي عند ابن إسحاق والجمهور وأبو الأسود، عن عروة بأنه مات حين زاغت الشمس، فهذا يؤيد الجمع، ثم الذي عند ابن إسحاق والجمهور أنه مات "لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول" وعند ابن عقبة والليث والخوارزمي وابن زير مات لهلال ربيع الأول، وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه، ورجحه في الروض "واستشكله" أي قوله: لاثنتي عشرة ليلة "السهيلي ومن تبعه. و" قال في بيان "ذلك" ما حاصله: "أنهم انفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس" للإجما أن وقفة عرفة كانت الجمعة، "فمهما فرضت الشهور الثلاثة" الحجة ومحرم وصفر "توام أو نواقص" كلها "أو" فرضت بعضها تاما وبعضها ناقصا "لم يصح" أن الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين. "قال الحافظ ابن حجر: وهو" إشكال "ظاهر لمن تأمله" ولفظ السهيلي فكان المحرم إما الجمعة وإما السبت فإن كان الجمعة فكان صفر إما السبت، وإما الأحد، فإن كان السبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 وأجاب البازري ثم ابن كثير، باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة، فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة، فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها، وكان أول ذي الحجة الجمعة وآخره السبت، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء وآخره الأربعاء، وأول ربيع الأول الخميس، فيكون ثاني عشرة يوم الاثنين. قال: وهذا الجواب بعيد، من حيث إنه يلزم منه توالي أربعة أشهر كوامل، وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات، بأن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. فعلى هذا يكون صفر ناقصا ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا إن كان ذو الحجة والمحرم ناقصين. فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية.   فأول ربيع الأحد أو الاثنين، وكيفما دارت الحال على هذا الحساب فلم يكن ثاني عشر ربيع يوم الاثنين بوجه ولم أر أحدا تفطن له. "وأجاب البارزي ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل فكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة فرآه أهل مكة ليلة الخميس، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة فحصلت" وفي نسخة فجعلت "الوقفة برؤية أهل مكة، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها" المدينة، "فكان أول ذي الحجة، الجمعة" على رؤية المدينة، وآخره السبت وأول المحرم الأحد، وآخره الاثنين وأول صفر الثلاثاء، وآخره الأربعاء وأول ربيع الأول الخميس فيكون ثاني عشرة يوم الاثنين. "قال" الحافظ: "وهذا الجواب بعيد من حيث" وفي نسخة من جهة "أنه يلزم منه توالي أربعة أشهر"، بعد ذي القعدة أولها كوامل وهو ممتنع عند جماعة من علماء الميقات، وصوب آخرون أن الممتنع توالي خمسة "وقد جزم سليمان التيمي أحد الثقات بأن ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، فعلى هذا يكون صفر ناقصا، ولا يمكن أن يكون أول صفر السبت إلا أن يكون ذو الحجة والمحرم ناقصين، فيلزم منه نقص ثلاثة أشهر متوالية" وهي غاية ما يتوالى. قال الحافظ عقب هذا: وأما من قال مات أول يوم من ربيع الأول، فيكون اثنان ناقصان، وواحد كاملا، ولذا رجحه السهيلي، وفي مغازي أبي معشر عن محمد بن قيس: اشتكى صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر، وهو موافق لقول سليمان التيمي المتقدم بأن أول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 قال: والمعتمد ما قاله أبو مخنف: أنه توفي في ثاني ربيع الأول. وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا: مات في ثاني شهر ربيع الأول، فغيرت فصار: ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل. انتهى. ثم إن وفاته عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين من ربيع الأول بلا خلاف، بل كاد يكون إجماعا لكن في حديث ابن مسعود: في حادي عشر رمضان رواه البزار. والمعتمد ما تقدم، والله أعلم. انتهى. وسيأتي حديث الوفاة الشريفة إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير.   صفر كان السبت. وما عند ابن سعد من طريق عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه قال: اشتكى صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، فيرد عليه الإشكال المتقدم، وكيف يصح أن أول صفر الأربعاء، ليكون تاسع عشريه الأربعاء والفرض أن ذا الحجة أوله الخميس، فلو فرض هو والمحرم كاملين لكان أول صفر الاثنين، فكيف يتأخر إلى يوم الأربعاء. "قال" الحافظ تلو هذا "والمعتمد ما قاله أبو مخنف" بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة وفتح النون، ثم فاء لوط بن يحيى الإخباري الشيعي، قال في الميزان وغيره. كذاب تالف متروك وفي القاموس وكمنبر أبو مخنف، وسقطت أداة الكنية من الشيخ، فتوقف في أنه المراد، وظنهما رجلين ولا كذلك، وقد وافقه ابن الكلبي على "أنه توفي في ثاني ربيع الأول، وكان سبب غلط غيره أنهم قالوا مات في ثاني شهر ربيع الأول، فغيرت فصار ثاني عشر، واستمر الوهم بذلك" للناقل عمن غيرها "يتبع بعضهم بعضا من غير تأمل" وأجاب البدر بن جماعة بحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت، أي بأيامها، فيكون موته في الثالث عشر، وتفرض الشهور كوامل، فيصح ويعكر عليه ما عكر على الذي قبله مع زيادة مخالفة، أهل اللسان في الاثنتي شرة فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي، ويكون ما أرخ بذلك واقعا في اليوم الثاني عشر "انتهى" كلام الفتح. وقال قبله "ثم إن وفاته عليه الصلاة والسلام في يوم الاثنين" كما ثبت في الصحيح عن أنس ورواه ابن سعد بأسانيده عن عائشة، وعلي وسعد وعروة وابن المسيب وابن شهاب وغيرهم، "من ربيع الأول بلا خلاف" كما قال ابن عبد البر: "بل كاد يكون إجماعا، لكن في حديث ابن مسعود في حادي عشر رمضان رواه البزار والمعتمد ما تقدم" أنه في ربيع الأول "والله أعلم انتهى" ودفن ليلة الأربعاء على المشهور عند الجمهور، وقيل يوم الثلاثاء، وهو غريب، قاله ابن كثير، "وسيأتي حديث الوفاة الشريفة إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 ولما توفي صلى الله عليه وسلم دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عند بابه. فلما بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول، وخرج أسامة هلال بن ربيع الآخر سنة إحدى عشرة إلى أهل أبنى، فشن عليهم الغارة، فقتل من أشرف له، وسبي من قدر عليه، وحرق منازلهم ونخلهم، وقتل قاتل أبيه في الغارة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يصب أحد من المسلمين.   وإنما ذكر هنا تاريخه، "ولما توفي صلى الله عليه وسلم دخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة. ودخل بريدة بلواء أسامة معقودا حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عند بابه فلما بويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه، فمضى به إلى معسكرهم الأول" وأمر أبو بكر مناديا لا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لن أوتي بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشيا، فلم يتخلف عنه أحد. ومشى أبو بكر إلى بيت أسامة، فكلمه. أن يأذن لعمر في التخلف ففعل. "وخرج أسامة هلال ربيع الأخر سنة إحدى عشرة" في جيشه ثلاثة آلاف، كما مر وفيهم ألف فارس. وخرج أبو بكر يشيعه، فركب من الجرف، وسار أبو بكر إلى جنبه ساعة، وقال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيك فانفذ لأمره، فأسرع "إلى أهل ابنى" فقدم عينا له من عذرة يدعى حريثا فانتهى إلى أبنى ثم عاد، فلقي أسامة على ليلتين منها، فأخبره أنهم غارون، ولا جموع لهم، وحثه لى سرعة السير قبل اجتماعهم، فسار إلى أبنى وعبى اصحابه، "فشن عليهم الغارة فقتل من أشرف له، وسبي من قدر عليه وحرق منازهم ونخلهم". زاد اليعمري وحرثهم وأجال الخيل في عرصاتهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبية ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة على فرس أبيه سبحة، أي بفتح المهملة وسكون الموحدة، "وقتل قاتل أبيه" ظاهر السياق بناؤه للفاعل، لكن قرأه البرهان بالمفعول، فقال: لا أعرف اسم قاتله، وكأنه لقوله "في الغارة" وأيضا لو قرئ بالفاعل لا يعين أن قاتله أسامة لما علم أن الإسناد إلى الأمير مجاز. زاد اليعمري وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما وأخذ لنفسه مثل ذلك، فلما أمسى أمر الناس بالرحيل، "ثم" أسرع السير فورد وادي القرى في تسع ليال فبعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم، ثم قصد في السير ستا حتى "رجع إلى المدينة. ولم يصب أحد من المسلمين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا. والله أعلم. فجمع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه نحو سبع وعشرين. المقصد الثاني: في ذكر أسمائه الشريفه المنبئة عن كمال صفاته المنيفة. وذكر أولاده الكرام الطاهرين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وأعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته، وخدمه ومواليه وحرسه، وكتابه وكتب إلى أهل الإسلام بالشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام، ومؤذنيه. وخطبائه وحداته وشعرائه وآلات حروبه ودوابه. والوافدين إليه صلى الله عليه وسلم. وفيه عشرة فصول.   "خرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونه سرورا" بسلامتهم. زاد اليعمري: ودخل على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة حتى انتهى إلى باب المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء، فلم يزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر، "والله أعلم، فجمع سراياه وبعوثه نحو ستين ومغازيه سبع وعشرون" وفي الفتح أن السرايا، أي وأراد بها ما يشمل البعوث تقرب من سبعين، وقرأت بخط مغلطاي أن مجموع الغزوات والسرايا مائة، وهو كما قال، انتهى. والله أعلم. "المقصد الثاني في ذكر أسمائه الشريفة" وشرح بعضها "المنبئة" المخبرة "عن كمال صفاته المنيفة" الزائدة في الكمال على غيرها من أنافت الدراهم على مائة زادت، "وذكر أولاده الكرام الطاهرين" صفتان كاشفتان وأولاد شامل للإناث، فالطاهرين تغليب وهذان فصلان، "و" الثالث في "أزواجه الطاهرات" صفة لازمة "أمهات المؤمنين" ويأتي فيه: هل يقال لهن أمهات المؤمنات في نفس المتن وفيه ذكر سراريه "و" الرابع في أعمامه وعماته وإخوته" فيه تغليب كقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} ؛ إذ المراد ما يشمل الإناث "من الرضاعة" قيد به؛ لأنه لا إخوة له من النسب، وقد صرح العلماء بأن أبوابه لم يلدا غيره "وجداته" من قبل أبويه. "و" الخامس في "خدمه" جمع خادم غلاما كان أو جارية، وبالهاء فيها لغة قليلة "وموالية وحرسه. و" السادس في "كتابه" جمع كاتب، "وكتبه" جمع كتاب "إلى أهل الإسلام" في الشرائع والأحكام "ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام" وفيه ذكر أمرائه ورسله. "و" السابع في "مؤذنيه" وخطبائه وحداته" جمع حاد "وشعرائه. و" الثامن في "آلات حروبه. و" التاسع في "دوابه. و" العاشر في ذكر "الوافدين عليه صلى الله عليه وسلم وفيه عشرة فصول". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 الفصل الأول: في ذكر أسمائه الشريفة المنبئة على كمال صفاته المنيفة اعلم أن الأسماء جمع اسم، وهو كلمة وضعتها العرب بإزاء مسمى، متى أطلقت فهم منها لك المسمى، فعلى هذا لا بد من مراعاة أربعة أشياء: الاسم والمسمى -بفتح الميم والمسمي بكسرها- .....   "الفصل الأول في ذكر أسمائه الشريفة" أي التي وقف عليها، وهي أكثر من أربعمائة، فلا يرد عليه أن الجمع المضاف يفيد العموم، وقد نقل ابن العربي: أنها ألف؛ لأن مراده عموما مقيد بما رآه بقرينة كلامه بعد "المنبئة" صفة لازمة إذ هي كلها دالة "على كمال صفاته المنيفة" الزائدة شرفا على غيرها، فليس المراد أنه يذكر ما دل على الكمال دون غيره، وإنما دلت على ذلك لأن مفاهيمها كلها تدل على معان شريفة، ولذا قال ابن القيم: إن محمد علم وصفة في حقه صلى الله عليه وسلم وإن كان علما محضا في حق غيره. وهذا شأن أسمائه كأسماء الله أعلام دالة على معان هي أوصاف مدح، فلا تضاد فيها العلمية الوصفية، ولما كانت الأسماء قوالب المعاني ودالة عليها اقتضت المحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب وأن لا تكون معها بمنزلة الأجنبي المحض الذي لا تعلق له بها، فإن حكمة الحكيم تأبي ذلك والواقع يشهد بخلافه بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثير في أسمائها في الحسن والقبح، والثقل، واللطافة والكثافة كما قيل: وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه "اعلم أن الأسماء جمع اسم، وهو" لغة "كلمة وضعتها العرب بإزاء" مقابل "مسمى متى أطلقت فهم منها ذلك المسمى" فشمل الأفعال لفهم معانيها إذا أطلقت وإن كانت الأسماء الشريفة كلها اصطلاحية وفيه مسامحة؛ لأن أسماء الله تعالى هو الواضع لها اتفاقا كأسماء الأجناس على الراجح، وقيل العرب. وأسماء الأشخاص من وضعها عربيا كان أو غيره فهو قاصر على أسماء الأجناس مع المشي على الضعيف، "فعلى هذا لا بد في تحقق الاسم ووجوده "من مراعاة أربعة أشياء الاسم والمسمى، بفتح الميم، والمسمي بكسرها" مخففة ومثقلة فيهما من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 والتسمية فالاسم: هو اللفظ الموضوع على الذات لتعريفها أو تخصيصها عن غيرها كلفظ: زيد. والمسمى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم، كشخص زيد. والمسمي: هو الواضع لذلك اللفظ. والتسمية: هي اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات. والواضع: تخصيص لفظ بمعنى إذا أطلق أو أحس فهم منه ذلك المعنى. واختلفوا هل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا. فذهب قوم إلى أن الاسم عين المسمى.   اسميته وسميته وهما بمعنى كما في القاموس: "والتسمية فالاسم هو اللفظ الموضوع على الذات" أراد بها ما دل عليه اللفظ فلا ينافي ما فوقه في تعريف الاسم لتعريفها كأسمائه سبحانه فإن مدلولها وهو الذات لا يلتبس بغيره حتى يراد تمييزه فالمراد منها تعريف عباده به تعالى "أو تخصيصها" أي تمييزها "عن غيرها كلفظ زيد" وغيره من أسماء المخلوقات، فإن المقصود تمييزها عن مشاركها في الوجود قال شيخنا: ويحتمل أنه أراد بالتعريف الإشارة إلى الإعلام الشخصية فإنها تشخص مسمياتها وبالتخصيص الإشارة إلى النكرات، فيكون قوله كلفظ زيد مثالا للأول ولا الثاني، "والمسمى هو الذات المقصود تمييزها بالاسم كشخص زيد" أراد بالذات المسمى جوهرا كمسمى زيد أو عرضا كمسمى البياض وفي القاموس: الاسم اللفظ الموضوع على الجوهر والعرض للتمييز "والمسمى هو الواضع لذلك اللفظ، فالواضع لأسماء الله وأسماء الأجناس هو الله تعالى ولإعلام الأشخاص البشر كما مر، "والتسمية هي اختصاص ذلك اللفظ بتلك الذات" مصدر اختصصته بكذا إذا خصصته به، فهي عبارة عن جعل الواضع الاسم دالا على المسمى، "والواضع تخصيص لفظ، بمعنى إذا أطلق" كالألفاظ الموضوعة "أو أحس" كالنقوش الدالة عليها، فإذا تصورت انتقل منها إلى الألفاظ ثم منها إلى معانيها فهم منه ذلك المعنى" للعالم، بالوضع فلا يرد أنه غير جامع لأن كثيرا ما تطلق الألفاظ، ولا يفهم الواقف عليها معناها؛ لأنه لعدم علمه بالوضع فهو شرط للفهم لا للدلالة لأنها دالة في نفسها، "واختلفوا" في جواب قول السائل: "هل الاسم عين المسمى أو غيره، وهي مسألة طويلة تكلم الناس فيها قديما وحديثا، فذهب قوم إلى أن الاسم عين المسمى". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 واستدلوا عليه بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، [الأعلى: 1] ، والتسبيح إنما هو للرب جل وعلا، فدل على أن اسمه هو هو. وأجيب، بأنه أشرب معنى سبح "اذكر" فكأنه قال: اذكر اسم ربك الأعلى، كقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25] وقد أشرت معنى اذكر "سبح" عكس الأول. قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّك} [آل عمران: 41] أي سبح ربك، والإشراب جار في لغتهم، يشربون معنى فعل فعلا. واستشكل.   قال القرطبي وهو قول أبي عبيدة وسيبويه وعزاه الباقلاني لأهل الحق وارتضاه ابن فورك، فإذا قيل: الله عالم، فالله علم على الذات الموصوفة بالعلم، فالاسم بكونه عالما هو المسمى، ولذلك صحت الاستعاذة والاستعانة، يظهر ذلك في قوله "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه" فأضاف الوضع إلى الاسم والرفع إلى الذات فدل على أن الاسم هو الذات وقد استعان وضعا ورفعا لا باللفظ، انتهى. واستدلوا عليه بقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] الآية: "والتسبيح إنما هو للرب جل وعلا، فدل على أن اسمه هو، "أي الاسم "هو" أي المسمى، أي على أن الاسم هو الذات "وأجيب بأنه اشرب" بالبناء للمجهول معنى سبح اذكر، أي استعمل بمعناه كما يفهمه قوله، "فكأنه قال اذكر اسم ربك الأعلى كقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} " [الإنسان: 25] والمشهور في مثله أنه تضمين وهو أنه يؤخذ اسم فاعل من معنى اللفظ الذي أريد ويجعل حالا من فاعل الفعل المذكور فيقدر هنا مثلا سبح ذاكرا اسم ربك، وقد أشرب معنى اذكر سبح عكس الأول "كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} " [آل عمران: 41] "أي سبح ربك" فهو مثال لاستعمال اذكر بمعنى سبح فالأوضح أن يقول كقوله تعالى، يعني أنهما تقارضا فاستعمل كل منهما موضع الآخر. "والإشراب جار في لغتهم يشربون معنى فعل فعلا" ومنه الآية ويرد بأنه مجاز بلا قرينة، والاستدلال إنما هو على الحقيقة التي هي الأصل، ولا يعدل عنها بلا قرينة "واستشكل" ضمن معنى أورد؛ لأنه يتعدى بعلى فعداه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 على معنى كونه هو المسمى إضافته إليه، فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه. وأجيب: بأن الاسم هنا بمعنى التسمية، والتسمية غير الاسم؛ لأن التسمية هي اللفظ بالاسم، والاسم هو اللازم للمسمى فتغايرا. واحتج من قال: إن الاسم عين المسمى أيضا بقوله تعالى: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} [مريم: 7] ثم قال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] ، فنادى الاسم فدل على أنه المسمى. وجوابه أن المعنى: يا أيها الغلام الذي اسمه يحيى، ولو كان الاسم عين المسمى لكان من قال: النار احترق لسانه، ومن قال: العسل ذاق حلاوته.   بها في قوله: "على معنى كونه" أي الاسم هو المسمى" أي عينه ونائب الفاعل "إضافته إليه، فإنه يلزم منه إضافة الشيء إلى نفسه" في سبح اسم ربك أولا تضمين فمعناه عد ملتبسا إذ الإشكال الالتباس، كما في القاموس فكأنه قال: عدت إضافة الاسم إلى المسمى مشكلة بناء على أنه عين المسمى وفيه تعسف، "وأجيب بأن الاسم هنا بمعنى التسمية والتسمية غير الاسم؛ لأن التسمية هي اللفظ" أي التلفظ بدليل قوله: "بالاسم والاسم هو اللازم للمسمى فتغايرا" قال شيخنا فيه: إن التسمية بهذا المعنى مصدر، فهي عبارة عن النطق بالاسم والنطق لا يتعلق به الذكر فالأولى في الجواب أن يراد بالتسمية نفسه اللفظ فيكون معنى سبح ربك اذكر المعنى الذي هو الذات باللفظ، الدال عليه والإضافة بيانية، انتهى. وقد أجيب أيضا كما في شرح المقاصد بأن معنى تسبيح الاسم تقديسه وتنزيهه عن أن يسمى به الغير، أو عن أن يفسر بما لا يليق أو يذكر على غير وجه التعظيم، أو هو كناية عن تسبيح الذات، كقوله سلام على المجلس الشريف والجانب المنيف، وفيه من التعظيم ما لا يخفى أو لفظ اسم مقحم كقوله إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما "واحتج من قال: إن الاسم عين المسمى أيضا بقوله تعالى: {بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ثم قال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} فنادى الاسم فدل على أنه المسمى لأن النداء هو طلب الإقبال من المنادى والإقبال لا يكون من اللفظ وإنما يكون من مسماه وجوابه أن المعنى يا أيها الغلام الذي اسمه يحيى و"ذهب المتأخرون إلى أن الاسم مغاير للمسمى وبعضهم صححه، واحتجوا بأن "لو كان الاسم عين المسمى لكان من قال النار احترق لسانه، ومن قال العسل ذاق حلاوته" والواقع خلافه. ورد بأن الاسم هنا لفظ ولا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يطلق، ويراد به غيره، فلا يلزم ما ذكره قال بعض المحققين: ليس مراد القائل أن الاسم عين المسمى أن اللفظ الذي هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، وقد سمى الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأسماء كثيرة في القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. ثم إن أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم: محمد، وبه سماه جده عبد المطلب وذلك أنه لما قيل له: ما سميت ولدك؟ قال: محمدا فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك؟ فقال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم ... وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب -كما ذكر حديثها على القيرواني العابر   الصوت عين المعنى الذي وضع له اللفظ إذ لا يقوله عاقل، وإنما مراده أنه يطلق اسم الشيء مرادا به مسماه، وهو كثير شائع. والمسألة مفردة بالتأليف، وقد قيل لا طائل تحت هذا الخلاف، فلا حاجة لنا ببسط القول فيه، والذي صححه ابن السبكي وغيره أن الاسم هو المسمى، "وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى" للعناية به وبشأنه، ولذا ترى المسميات في كلام العرب أكثر محاولة وإعناء كما في الشامية، يعني أنهم أكثر ما يحاولون في المسميات تمييزها بالأسماء الكثيرة المميزة لها، والدالة على شرفها، لا سيما إذ لوحظت المناسبة بين كل اسم ومسماه، وهذه توطئة لقوله: "وقد سمى الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأسماء كثيرة في القرآن العظيم وغيره من الكتب السماوية، وعلى ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام"، فهي كالعلة المتقدمة على معلولها، وذكرها بعدها أوضح، وأكثرها فات قال ابن عبد البر: الأسماء والصفات هنا سواء، "ثم إن أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم" زاد الشامي وأجلها "محمد" ويليه في الشهرة أحمد، كما في الفتح قال: محمد منقول من صفة الحمد، وفيه المبالغة والمحمد الذي حمد مرة بعد مرة، كالممدح قال الأعشى: إليك أبيت اللعن كأن وجيفها ... إلى الماجد القرم الجواد المحمد أي الذي حمد مرة بعد مرة، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة انتهى. "وبه سماه جده عبد المطلب، وذلك" كما في الروض، "أنه لما قيل له: ما سميت ولدك قال: محمدا، فقيل له. كيف سميته باسم ليس لأحد من آبائك وقومك" وعادت العرب الغالبة تسمية المولود باسم أحد آبائه، "فقال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم". وفي رواية أردت أن يكون محمودا في السماء لله وفي الأرض لخلقه، وقيل: بل سمته أمه بذلك لما رأته وقيل لها في شأنه بأن أمه لما نقلت ما رأته لجده سماه فوقع التسمية منه بسببها وإذا كان بسببها، صح أنها سمته "وذلك لرؤيا كان رآها عبد المطلب" قبل المولد النبوي بزمان، "كما ذكر حديثها على القيرواني العابر" اسم فاعل من عبر الرؤيا مخففا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 في كتابه "البستان"- قال: كان عبد المطلب قد رأى في المنام كأن سلسلة من فضة قد خرجت من ظهره، لها طرف في السماء، وطرف في الأرض، وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها. فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه محمدا، مع ما حدثته به أمه آمنة حين قيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمدا.   فسرها "في كتابه البستان قال: كان عبد المطلب قد رأى في المنام كأن سلسلة من فضة خرجة من ظهره لها طرف في السماء وطرف في الأرض". هكذا ثبت في النسخ الصحيحة، وسقط في بعضها سهوا، فإنه ثابت في الروض عن الكتاب المذكور "وطرف في المشرق وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة منها نور" وعند أبي نعيم وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس بسبعين ضعفا وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، وعند أبي نعيم ورأيت العرب والعجم لها ساجدين وناسا من قريش تعلقوا بها وقوما منهم يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخذهم شاب لم أر أحسن منه وجها، ولا أطيب ريحا فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها، فلم أنل وقيل لي: النصيب للذين تعلقوا بها، "فقصها" على كاهنة قريش، كما لأبي نعيم "فعبرت" بكسر الموحدة مخففة في لغة القرءن {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُون} ، ومثقلة فيما أثبته في الكشاف اعتمادا على بيت أنشده المبرد في الكامل حيث قال: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا "له بمولود يكون من صلبه" بواسطة ذكر ولذا لم يقل من ذريته، لئلا يتوهم أنه من أولاد البنات "يتبعه أهل المشرق وأهل المغرب" تعبير لتعليقهم بالشجرة، "ويحمده أهل السماء والأرض" كأنه أخذ من التعلق إذ من تعلق بشخص حمده، ولا يراد أنه غير لازم لاحتمال أن التعلق للخوف منه؛ لأنه لا يخاف من الشجرة لا سيما وقد أعجبهم نورها المؤدي لمزيد الحمد وعمم الحمد بأهل السماء والأرض، وخص التبعية بالأرض؛ لأنهم كانوا على الضلال، فأنقذهم منه بخلاف السماء، فإيمانهم سابق على البعثة، فالمناسب لهم الحمد دون التبعية ولأن ظهور آثارها من التكاليف إنما هو لأهل الأرض، وأما أهل السماء ولو قلنا بالراجح من بعثه إليهم فغير مكلفين بتفاصيل الأحكام "فلذلك سماه محمدا مع ما حدثته به أمه آمنة حين قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وضعتيه فسميه محمدا"، إلى هنا كلام السهيلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وعن ابن عباس قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه عبد المطلب وسماه محمدا فقيل له: يا أبا الحارث ما حملك على أن سميته محمدا ولم تسمه باسم آبائه، قال: أردت أن يحمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض. وعن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد وأنا الماحي الي يمحو الله بي الكفر،   "و" أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب "عن ابن عباس قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم" هو لم يدرك ذلك، فكأنه حمله على أبيه أو غيره "عق عنه عبد المطلب" بجزور يوم سابعه، كما في الخميس، وقيل بكبش "وسماه محمدا فقيل له: يا أبا الحارث" كنية عبد المطب باسم أكبر بنية "ما حملك على أن سميته محمدا، ولم تسمه باسم آبائه، قال: أردت أن يحمده الله في السماء، و" "أن يحمده الناس في الأرض". "و" روى ابن شهاب "عن محمد بن جبير بن مطعم" بن عدي بن نوفل القرشي النوفلي، الثقة العالم بالأنساب من رجال الجميع مات على رأس المائة "عن أبيه" جبير بجيم، وموحدة مصغر الصحابي العالم بالأنساب أسلم بين الحديبية والفتح وقيل في الفتح، وتوفى سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء" كذا رواه الأكثر عن الزهري، عن شعيب، عند الشيخين ومعمر ويونس وعقيل وسفيان بن عيية عند مسلم والترمذي. ورواه مالك في الموطأ عن الزهري، ومن طريقه أخرجه البخاري أيضا بلفظ "لي خمسة أسماء" ولم ينفرد بها مالك بل تابعه محمد بن ميسرة عن الزهري، أخرجه البيهقي وأشار إليه عياض فخمسة زيادة ثقة غير منافية فيجب قبولها. ولذا تعقب الحافظ وغيره من زعم أنها من الراوي كما يأتي وزعم أن الشامي قال: رواية مالك ومحمد بدون خمسة وسفيان بإثباتها وهم، فلفظ الشامي وإنما وقعت هذه اللفظة في رواية مالك ومحمد بن ميسرة ثم ساق رواية كل منهما وذكر فيها لفظ خمسة وسبب دخول الوهم على من نسب له ذلك، أن الشامي لما ذكر رواية سفيان قال: "إن لي خمسة أسماء"، فوقعت لفظة خمسة سبق قلم، أو من النساخ بدليل حصره بعد قليل جدا في مالك ومحمد، كما هو الواقع، فلما رأى الأولى ظن تحريف الثانية فنقلها على ما تخيله صوابا، وهو خطأ مخالف لما في الموطأ والصحيحين "أنا محمد وأنا أحمد" أفعل من الحمد قطع متعلقة للمبالغة، وبدأ بهما لأنهما أشهر أسمائه، وقدم محمد لأن أشهرهما "وأنا الماحي" بحاء مهملة "الذي يمحو الله بي الكفر" يزيله لأنه بعث والدنيا مظلمة بغياهب الكفر، فأتى صلى الله عليه وسلم بالنور الساطع حتى محاه. قال عياض: أي من مكة وبلاد العرب وما روى له من الأرض، ووعد أنه يبلغه ملك أمته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" رواه الشيخان. وقد روى على قدمي بتخفيف الياء وبالإفراد وبالتشديد على التثنية.   قال: أو يكون المحو عاما بمعنى الظهور والغلبة ليظهره على الدين كله. وفي الفتح استشكل بأنه ما أنمحى من جميع البلاد وأجيب بحمله على الأغلب أو على جزيرة العرب أو أنه يمحي بسببه أولا فأولا إلى أن يضمحل في زمان عيسى فإنه يرفع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وتعقب بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، ويجلب بجواز أن يرتد بعضهم بعد موت عيسى، وترسل الريح فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة فحينئذ فلا يبقى إلا الشرار، "وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي"، أي على أثري، أي أنه يحشر قبل الناس، ويرجحه رواية نافع بن جبير بعثت مع الساعة أو المراد بالقدم الزمان، أي وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر إشارة إلى أنه لا نبي بعده ولا شريعة واستشكل التفسير باقتضائه أنه محشور، فكيف يفسر به حاشر اسم فاعل وأجيب بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافة، وهي تصح بأدنى ملابسة. فلما كان لا أمة بعد أمته؛ لأنه لا نبي بعده نسب الحشر إليه لوقوعه عقبه أو معناه أول من يحشر كحديث: "أنا أول من تنشق الأرض عنه أو على مشاهدتي قائما لله شاهدا على الأمم" وقيل: معنى القدم السبب "وأنا العاقب". زاد يونس في روايته عن الزهري الذي ليس بعده نبي، وقد سماه الله رءوفا رحيما. قال البيهقي: وقد سماه مدرج من قول الزهري قال الحافظ: وهو كما قال وكأنه أشار إلى ما في آخر سورة براءة وأما قوله: "الذي ليس بعده نبي" فظاهره الإدراج أيضا. لكن في رواية ابن عيينة عند الترمذي وغيره بلفظ "الذي ليس بعدي نبي" انتهى. وجزم السيوطي على الموطأ، بأنه مدرج من تفسير الزهري لرواية الطبراني، الحديث من طريق معمر إلى قوله: "وأنا العاقب" قال معمر: قلت للزهري: ما العاقب، قال: الذي ليس بعده نبي وقال أبو عبيدة قال سفيان: العاقب آخر الأنبياء انتهى. ولا ينافيه رواية بعدي بياء المتكلم؛ لأنها قد ترد على لسان المفسر حكاية عن لسان من فسر كلامه، إذا قوى تفسيره عنده عنده حتى كأنه نطق به وفي رواية نافع بن جبير فإنه عقب الأنبياء. قال الحافظ: وهو محتمل للرفع والوقف انتهى. وما يقع في نسخ وأنا العاقب فلا نبي بعدي وهم إذ ليس في رواية من عزي له بقوة "رواه الشيخان البخاري بهذا اللفظ في التفسير وبلفظ "لي خمسة أسماء" إلخ في المناقب ومسلم في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم. "وقد روى على قدمي" بكسر الميم، وبتخفيف الياء بالإفراد وبالتشديد للياء مع فتح الميم "على التثنية". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 قال النووي في شرح مسلم: معنى الروايتين: يحشرون على أثري وزماني ورسالتي. وفي رواية نافع بن جبير عند البخاري في تاريخه الأوسط والصغير، والحاكم في مستدركه وصححه، وأبي نعيم في الدلائل وابن سعد: أنه دخل على مطعم بعدها قال: نعم، هي ستة، فذكر الخمسة التي ذكرها محمد بن جبير، وزاد الحاتم.   "قال النووي في شرح مسلم: معنى الروايتين يحشرون على أثري"، وهو موافق لقوله في الرواية الأخرى يحشر الناس على عقبي بكسر الموحدة مخففا على الإفراد، ولبعضهم بالتشديد على التثنية والموحدة مفتوحة، كما في الفتح "وزماني ورسالتي" كلاهما عطف على الياء من أثري، يعني أنهم يحشرون بعد الزمان الذي بعث فيه، إشارة إلى أنه لا نبي بعده ولا شريعة كما مر. وعيسى إذا نزل إنما يحكم بشرعه وهو واحد من أمته، وقد علم ما رأيت من الفتح أنهما قولان في معنى القدم الأثر أو الزمان، فكان النووي رأى أن تنافي بينهما فأتى، الواو، وقال ابن عبد البر، أي: قدامي وأمامي، أي أنهم يجتمعون إليه، وينضمون حوله، ويكونون أمامه يوم القيامة، ووراءه قال الخليل: حشرتهم السنة إذا ضمتهم من البوادي. "وفي رواية نافع بن جبير" بن مطعم النوفلي الثقة الفاضل، روى له الجماعة ومات سنة تسع وتسعين قبل أخيه محمد بسنة، "عند البخاري في تاريخه الأوسط والصغير، والحاكم في مستدركه وصححه وأبي نعيم في الدلائل وابن سعد" وكذا الإمام أحمد "أنه" أي نافعا "دخل على عبد الملك بن مروان" بن الحكم الأموي المدني، ثم الدمشقي. كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها، فتغير حاله مات في شوال سنة ست وثمانين، وقد جاوز الستين، "فقال" له: "أتحضى أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم عدها" كأنه لم يقل أبوك لاشتهاره بينهم باسمه واسم أبيه، "قال: نعم هي ستة، فذكر الخمسة التي ذكرها" أخوه "محمد بن جبير، وزاد الخاتم" بالخاء المعجمة. قال الحافظ لكن روى البيهقي في الدلائل من طريق ابن أبي حفصة عن الزهري في حديث محمد بن جبير: "وأنا العاقب" قال: يعني الخاتم، انتهى. فهذا صريح أنه بالمعجمة؛ لأن معناه بالمهملة أحسن الأنبياء، كما يأتي وليس من معنى العاقب فتعين أنه رواية نافع بالمعجمة، ومراد الحافظ بهذا الاستدراك أن زيادة الخاتم وهم من بعض الرواة في حديث جبير؛ لأنه إنما جاء تفسيرا للعاقب لا اسما برأسه، فلا ينافي قوله في خمسة أسماء، وليس النزاع في أنه من أسمائه، فلا نزاع فيه وخاتم النبيين، بل في وروده في حديث جبير، فزعم أن اختلاف الأخوين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وفي حديث حذيفة أحمد ومحمد والحاشر، والمقفي ونبي الرحمة ولفظ رواية أبي نعيم هي ستة: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح. فأما الحاشر، فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد، وأما العاقب: فإنه أعقب الأنبياء، وأما ماح: فإن الله عز وجل محا به سيئات من اتبعه. وذكر بعضهم: أن العدد ليس من قوله النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره الراوي بالمعنى.   باعتبار سماعهما من أبيهما إذ ذكرها مرة خمسة وأخرى ستة، فذكر كل ما سمع لا يصح؛ لأنه عقلي دفعته رواية البيهقي. "وفي حديث حذيفة" بن اليمان عند البخاري في التاريخ، والترمذي وابن سعد "أحمد ومحمد والحاشر والمقفي" بفتح القاف وكسر الفاء المشددة أي المتبع للأنبياء فكان آخرهم. قال ابن الأعرابي، وقال غيره: هو بمعنى العاقب "ونبي الرحمة" وكذا في حديث أبي موسى عند مسلم وغيره، لكنه لم يذكر الحاشر، "ولفظ رواية أبي نعيم" من طريق عقبة بن مسلم عن نافع بن جبير "هي ستة محمد وأحمد وخاتم" بمعجمة "وحاشر وعاقب وماح. فأما الحاشر فبعث مع الساعة نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد" أي قدامه لأنه مبعوث في نسيم الساعة، أي في البشر الذين تقوم عليهم الساعة وهم أمته، "وأما عاقب فإنه أعقب الأنبياء" أي جاء عقبهم فلا نبي بعده. قال أبو عبيد قال سفيان: العاقب آخر الأنبياء "وأما ماح فإن الله عز وجل محا به سيئات من اتبعه" بمغفرتها له بلا سبب أو بإلهام التوبة النصوح لمن صدرت منه وقبولها فيغفر له، إن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، وهذا لا يعارضه رواية الشيخين: وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر؛ لأن محو أحدهما لا يمنع محو الآخر، وعجيب ترجى أن أبا نعيم لم تثبت عنده رواية الشيخين، فإن هذا لا يقال على مثل الحافظ أبي نعيم، وقد صنف على كل من الصحيحين مستخرجا. وفي الفتح في رواية نافع بن جبير عند البخاري في التاريخ وغيره، وأما الماحي فإن الله محا به سيئات من اتبعه وهذا يشبه أن يكون من قول الراوي انتهى. ويؤيده رواية أبي نعيم هذه فإنها ظاهرة في أن تفسير الثلاثة كلها من قول الراوي وعلى هذا فليس تفسيرا للماحي بخلاف ما فسره به الشارع؛ لأنه لا ينافيه كما علمت، فكأنه صلى الله عليه وسلم خص الكفر لظهور محوه برسالته، "وذكر بعضهم" وهو ابن عساكر، فقال: يحتمل "أن العدد ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره الراوي بالمعنى" ويحتمل أنه من لفظه صلى الله عليه وسلم، ولا يقتضي الحصر انتهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وفيه نظر: لتصريحه في الحديث: "إن لي خمسة أسماء". والذي يظهر أنه أراد إن لي خمسة أسماء أختص بها لم يتسم بها أحد قبلي، أو مشهورة في الأمم الماضية لا أنه أراد الحصر فيها، وبهذا يجاب عن الاستشكال الوارد، وهو أن المقرر في علم المعاني أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، لكن ورود الروايات بما هو أكثر يدل على أنه ليس حصرا مطلقا، فالطريق في ذلك أن يحمل على حصر مقيد كما ذكر   كلام ابن عساكر، "وفيه نظر" كما قال ابن دحية قال الحافظ: "لتصريحه في الحديث" أي حديث جبير المتقدم لكن من طريق مالك ومحمد بن ميسرة عن الزهري بقوله: "إني لي خمسة أسماء" فقوله لي، ونصه على عدتها قبل ذكرها صريح في أنه من قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي يظهر أنه أراد "إن لي خمسة أسماء اختص بها لم يتسم بها أحد قبلي" كما استظهره ابن دحية وصدر به في الفتح معبرا بقوله قبله بالهاء وهو أولى؛ لأنه تأويل لا حديث ورد بذلك "أو مشهورة في الأمم الماضية" والكتب المتقدمة، كما قال عياض والقرطبي، وجزم به النووي وحكاه عن العلماء لكن تعقب بأن أسماءه في الكتب المتقدمة وعند علماء الأمم الماضية أكثر من خمسة ويدفع بقوله مشهورة؛ لأنها وإن كانت أكثر لكن المشهور منها خمسة، "لا أنه أراد الحصر فيها" بدليل نصه في روايات أخرى على أكثر ومن أسمائه بالقرآن، باتفاق الشاهد المبشر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير، وفيه أيضا الذكر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر. ذكره الحافظ فلا يتوهم وقد نزل عليه ذلك في القرآن أنه أراد الحصر، "وبهذا يجاب عن الاستشكال الوارد" على الحديث، "وهو أن المقرر في علم المعاني أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر، لكن ورود الروايات بما هو أكثر" من خمسة "يدل على أنه ليس حصرا مطلقا، فالطريق في ذلك أن يحمل على حصر مفيد، كما ذكر" من حملها على خمسة اختص بها، أو مشهورة في الكتب، وعند علماء الأمم الماضية. وأجاب أبو العباس العزفي، بفتح المهملة، والزاي المعجمة، وبالفاء بأنه قبل أن يطلعه الله على بقية أسمائه، وقال العكبري: خصت لعلم السامع بما سواها، أو لغير ذلك، وقيل: المراد معظمة فحذف الصفة للعلم بها، ووجه عظمتها اختصاصه بها وكونها في الكتب السالفة. وأجاب السيوطي بأن قواعد الأصول أن مفهوم العدد لا يخصص، وكم ورد في الأحاديث أعداد لم يقصد فيها الحصر، كسبعة يظلهم الله في ظل عرشه، ووردت أحاديث بزيادة عليها ويحضرني الآن منها سبعون وغير ذلك مما هو مشهور انتهى. ومراده لا يخصص بالنسبة إلى عدم النقصان لا الزيادة حتى يوافق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 الله أعلم. وروى النقاش عنه عليه الصلاة والسلام: "لي في القرآن سبعة أسماء: محمد، وأحمد، ويس، وطه، والمزمل، والمدثر، وعبد الله". وقد جاءت من ألقابه صلى الله عليه وسلم وسماته في القرآن عدة كثيرة، تعرض جماعة لتعدادها وبلغوا بها عددا مخصوصا فمنهم من بلغ تسعا وتسعين، موافقة لعدد أسماء الله الحسنى الواردة في الحديث.   القول: بحجية مفهوم العدد بالنسبة إلى ذلك، أو بناه على قول الحنفية لا يحتج به مطلقا "والله أعلم" بما أراد رسوله. "وروى النقاش" الحافظ أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي، ثم البغدادي المقري المفسر، أحد الأعلام، صاحب التصانيف منها التفسير، ومع جلالته هو متروك في الحديث، وحاله في القراءات أمثل. قال البرقاني: كل حديثه منكر، وقال غيره: تفسيره ملآن بالموضوعات، مات سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، "عنه عليه الصلاة والسلام "لي في القرآن سبعة أسماء محمد" وما محمد إلا رسول، محمد رسول الله، ما كان محمد "وأحمد" ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، "ويس وطه والمزمل والمدثر وعبد الله" وأنه لما قام عبد الله يدعوه، وهذا إن صح حجة لمن جعل الأربعاء نداء له بأسمائه، والغرض منه قوله سبعة المفيد أن خمسة في حديث جبير من الحصر المقيد لا المطلق. وقد روى ابن عدي في الكامل عن جابر وغيره مرفوعا: "إن لي عند ربي عشرة أسماء" فذكر الخمسة التي في حديث جبير وزاد: "وأنا رسول الرحمة، ورسوله التوبة، ورسول الملاحم، وأنا المقفي، قفيت النبيين عامة، وأنا قثم، والقثم الكامل الجامع". وروى ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي الطفيل رفعه: "لي عشرة أسماء عند ربي أنا محمد، وأحمد، والفاتح، والخاتم، وأبو القاسم، والحاشر، والعاقب، والماحي، ويس، وطه"، "وقد جاءت من ألقابه صلى الله عليه وسلم وسماته" لغة في الأسماء "في القرآن عدة كثية، وتعرض جماعة لتعدادها، وبلغوا بها عددا مخصوصا، فمنهم من بلغ تسعا وتسعين موافقة" بكسر الفاء "لعدد أسماء الله الحسنى الواردة في الحديث" المشهور، يعني أنه اتفق أنه عد الأسماء التي اطلع عليها، فجاءت كذلك لا أنه اقتصر عليها لموافقتها للأسماء الحسنى في العدد وإن اطلع على غيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 قال القاضي عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى بنحو ثلاثين اسمًا. وقال ابن دحية في كتابه "المتسوفى": إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن والحديث وفي الثلاثمائة. ورأيت في كتاب "أحكام القرآن" للقاضي أبي بكر بن العربي: قال بعض الصوفية: لله تعالى ألف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، انتهى. والمراد الأوصاف: فكل الأسماء التي وردت أوصاف مدح، وإذا كان كذلك، فله صلى الله عليه وسلم من كل وصف اسم،   "قال القاضي عياض: وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسنى بنحو ثلاثين اسما" ثم عدها في فصل عده لها بأدلتها من الكتاب والسنة ثمانيا وعشرين، ثم قال في آخره وصف الله نفسه بالبشارة والنذارة ويبشرهم ربهم وسماه مبشرا ونذيرا. وذكر بعض المفسرين أن طه ويس من أسماء الله، وبعضهم من أسمائه صلى الله عليه وسلم انتهى: فهذه نكته قوله بنحو ثلاثين، أي تزيد عنها اسمين أو تنقص اثنين بالاعتبار، وزادوا على ما ذكره أزيد من ضعفه، وقد قال المصنف في المقصد السادس، أن الله سماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين، كما بينت ذلك في أسمائه انتهى. وسترى بيان ذلك قريبا. "وقال ابن دحية في كتابه المستوفى" اسم كتاب أفرده في الأسماء الشريفة: "إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن والحديث، وفي الثلاثمائة" قال في الفتح وذكر ابن دحية في تصنيفه المذكور أماكنها من القرآن والأخبار، وضبط ألفاظها، وشرح معانيها، واستطرد كعادته إلى فوائد كثيرة، وغالبها صفات له صلى الله عليه وسلم "ورأيت في كتاب أحكام القرآن" وكذا في شرح الترمذي كلاهما "للقاضي أبي بكر بن العربي" الحافظ العلامة محمد الملكي المشهور. "قال بعض الصوفية: لله تعالى ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم انتهى". قال الشامي: والذي وقفت عليه من ذلك خمسمائة اسم، مع أن في كثير منها نظرا، "والمراد الأوصاف" لا إنها كلها أعلام وضعت له، "فكل الأسماء التي وردت أوصاف مدح" وكثيرا ما يطلق الاسم على الصفة للتغليب، أو لاشتراكهما في تعريف الذات، وتمييزها عن غيرها، "وإذا كان كذلك فله صلى الله عليه وسلم من كل وصف اسم". قال ابن عساكر: وإذا اشتقت أسماؤه من صفاته كثرت جدا انتهى. ويمكن أن هذا مستند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 ثم إن منها ما هو مختص به أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك، وكل ذلك بين في المشاهدة كما لا يخفى، وإذا جعلنا له من كل وصف من أوصافه اسما بلغت أسماؤه ما ذكر، بل أكثر، والذي رأيته في كلام شيخنا في "القول البديع"، والقاضي عياض في "الشفا" وابن العربي في "القبس"، و"الأحكام" له، وابن سيد الناس، وغيرهم، يزيد على أربعمائة، وقد سردتها مرتبة على حروف المعجم، وهي:   من قال من الصوفية أنها ألف، "ثم إن منها ما مختص به، أو الغالب عليه، ومنها ما هو مشترك" بينه وبين غيره، "وكل ذلك بين في المشاهدة، كما لا يخفى" وقال ابن القيم: ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به، أو الغالب عليه فيشتق له منه اسم، وبين المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه. قال شيخنا: ولا منافاة لجواز أن مراده إذا ورد مصدر، أو فعل معناه مشترك بينه وبين غيره، ثم اشتق له منه الاسم لا يكون مختصا به، بل هو باق على اشتراكه، ولكنه يحمل عليه بقرينة، "وإذا جعلنا له من كل وصف من أوصافه اسما بلغت أسماؤه ما ذكر" ابن دحية من الثلاثمائة "بل" بلغت "أكثر" وبل انتقالية، "والذي رأيته في كلام شيخنا" الحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي "في القول البديع" في الصلاة على النبي الشفيع، "والقاضي عياض في الشفاء وابن العربي في القبس" على موطأ مالك بن أنس "والأحكام له و". في كلام "ابن سيد الناس وغيرهم يزيد على أربعمائة". قال السيوطي: وكثير منها لم يرد بلفظ الاسم، بل بصيغة المصدر أو الفعل، وقد اعتبر ذلك عياض وابن دحية، وهو خلاف ما اعتبره الجمهور خصوصا أهل الحديث في أسمائه تعالى انتهى. ونقل الغزالي الاتفاق، وأقره في الفتح على أنه لا يجوز لنا أن يسميه صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمه به أبوه، ولا سمى به نفسه انتهى. أي لا يجوز أن نخترع له علما، وإن دل على صفة كمال، ولا يرد على الاتفاق وجود الخلاف في أسمائه تعالى؛ لأن صفات الكمال كلها ثابتة له عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يطلق عليه صفات الكمال اللائقة بالبشر، فلو جوز ما لم يرد به سماع، لربما وصف بأوصاف تليق بالله دونه على سبيل الغفلة، فيقع الواصف في محظور وهو لا يشعر. "وقد سردتها" الأسماء التي وقفت عليها "مرتبة على حروف" الخط "المعجم" اسم مفعول من أعجمت الكتاب بالألف أزلت عجمته بما يميزه عن غير بنقط، وشكل كما في المصباح، وكأنه أراد لإزالة الكاملة، وإلا فهي حاصلة بالنقط فيما ينقط، كجيم وباء، فلا حاجة للزيادة والإهمال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 "حرف أ": الأبر بالله، الأبطحي، أتقى الناس، الأجود، أجود الناس،   حرف الألف: "وهي أ" استغنى المصنف بكتبها عن الترجمة لها، أو كتابتها بصورة النطق بها، وكذا بقية الحروف روما للاختصار، "الأبر" الأكثر برا ممن عداه "بالله". قال الشامي هذا مما سماه الله به من أسمائه الحسنى، أي المحسن أو الصادق الوعد أفعل تفضيل من بررت فلانا بالكسر أبره برا فأنا بر وبار، أي محسن. ويطلق على الصدق لحديث: "لا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله بارا" وهو صلى الله عليه وسلم حري أن يكون أبر الناس، وأصدقهم، وأكثرهم إحسانا. قال أبو علي الحاتمي: اتفق أهل الأدب على أن أصدق بيت قالته العرب قول أبي إياس الدؤلي: فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمد "الأبطحي" نسبة إلى أبطح مكة وهو مسيل واديها، وهو ما بين مكة ومنى ومبدؤه المحصب. سمي بذلك لأنه من قريش البطاح، أي النازلين بالبطاح دون الظواهر التي هي خارج الحرم حول مكة، وكان يقال لعبد المطلب سيد الأبطح والأباطح، وقال حسان في مدحه صلى الله عليه وسلم: وأكرم بيت في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جد أبطحي يسود "أتقى الناس" أفعل تفضيل، أي أكثرهم تقى. روى مسلم عن جابر مرفوعا: "قد علمتم أني أتقاكم وأبركم وأصدقكم حديثا" وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} أمر بالدوام على التقوى، وهي لغة قلة الكلام قاله ابن فاس، وقال غيره الخوف والحذر وأصلها اتقاء الشرك، ثم المعاصي، ثم الشبهات، ثم ترك الفضلات، أي ما كان من الحلال المحقق لكنه زائد على الحاجة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا باس به حذرا لما به بأس". رواه أحمد وحسنه الترمذي وحقيقتها التحرز بطاعة الله عن مخالفته، وإضافته إلى الله في قوله: هو أهل التقوى معناه أهل لأن يتقي عقابه ويحذر عذابه، وسئل علي عنها، فقال: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل. "الأجود" أفعل من الجود الكرم. قال النحاس: الجواد الذي يتفضل على من لا يستحق، ويعطي من لا يسأل ويعطي الكثير ولا يخاف الفقر. قيل: هو مرادف للسخاء، والأصح أن السخاء أدنى منه، وهو اللين عند الحاجات "أجود الناس" بمعنى ما قبله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 الأحد، الأحسن وأحسن الناس، أحمد، أحيد -بضم أوله وكسر المهملة ثم ياء تحتانية- الآخذ بالحجزات، آخذ الصدقات، الآخر،   روى الشيخان عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: "ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود وأنا أجود بني آدم". "الأحد" المنفرد بصفات الكمال عن الخلق أو بالقرب من الحق من الأسماء الحسنى، كما في رواية ابن ماجه، فهو مما سماه الله به منها فلا يشكل قول بعض اللغويين لا ينعت به غير الله تعالى لأنه لم يستعمل صفة بل اسما. "الأحسن" مما سماه الله تعالى به من أسمائه، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] . قاله النسفي وهو أفعل من الحسن تناسب الأعضاء على ما ينبغي، والمراد المستجمع صفات الكمال قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 33] . روى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري: أنه تلا هذه الآية، فقال: هذا حبيب الله صفوة لله. هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، "و" دعا الناس إلى ما أجاب الله فيه: "أحسن الناس" قال أنس: كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. رواه عبد بن حميد "أحمد" يأتي شرحه "أحيد، بضم أوله وكسر المهملة، ثم ياء تحتانية"، كما ضبطه الشمني، وضبطه البرهان بفتحها وسكون المهملة وفتح التحتية قال المصنف: وهو المشهور كما يأتي لأنه يحيد أمته على النار "الآخذ بالحجزات" كذا في النسخ بالباء، والذي في الشامي الآخذ الحجزات، بالإضافة اسم فاعل من الأخذ وهو التناول. روى الشيخان عن أبي هريرة رفعه: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها الحجزات" بضم المهملة وفتح الجيم، ثم زاي جمع حجزة، وهو حيث يثني طرف الإزار، وهو اليفق من السراويل ومحلها الوسط، كأنه قال: آخذ بأوساطكم لأنجيكم من النار فعبر عنها بالحجزات استعارة بعد استعارة "آخذ الصدقات" لأنه كان يأخذها من أربابها ويفرقها على مستحقها قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وإن نزلت في المخلفين عن تبوك وفي صدقة التطوع التي هي من تمام توبتهم لكنها عامة لغيرهم، وفي الزكاة المفروضة، ولذا قال مانعوها: لا ندفعها إلا لمن صلاته سكن لنا. "الأخرى" أي آخر الأنبياء كما يأتي للمصنف، وقول الشارح: هو اسمه في الإنجيل، فيه أن الذي في الشامي اسم غير هذا، وهو أخرايا بزيادة ألف وياء فألف، وقال: هو اسمه في الإنجيل معناه آخر الأنبياء، روى ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد عن كعب أول من يأخذ حلقة باب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 الأخشى لله، أذن خير، أرجح الناس عقلا، أرحم الناس بالعباد، الأزهر: وهو النير المشرق الوجه، أشجع الناس،   الجنة فيفتح له محمد صلى الله عليه وسلم ثم قرأ آية من التوراة أخريا قدمايا الأولون والآخرون انتهى. وقوله في الإنجيل مخالف لقوله في التوراة "الأخشى" أفعل تفضيل أي الأشد خشية أي خوفا لله من غيره. قال السيوطي: هو مأخوذ من حديث أبي داود "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله"، واستشكله العز بن عبد السلام بأن الخشية والخوف حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دل الدليل القاطع على أنه غير معذب قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} [التحريم: 8] فكيف يتصور منه الخوف. قال: والجواب أن النسيان جائز عليه صلى الله عليه وسلم فإذا حصل النسيان عن موجبات نفي العقاب، حصل له الخوف ولا يقال إخباره بشدة الخوف وعظم الخشية عظيم بالنوع لا بكثرة العدد، أي إذا صدر منه الخوف ولو في زمن فرد كان أشد من خوف غيره والخشية الخوف، وقيل: أعظمه والهيبة أعظم منها وعلى قدر علمه بالله كان خوفه انتهى. "أذن خير" سمي بآلة السمع كان جملته أذن، كما يقال للربيئة عين قال تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] قال ابن عطية: أي سماع خير وحق لا غيره والمشهور إضافته، وقرأ عاصم برفع خير وتنوين أذن قال: وهو يوافق تفسير الحسن، أي من يقبل معاذيركم خير لكم. قال العزفي: وأما اسمه أذن خير فهو مما أعطاه من فضيلة الإدراك لبيان الأصوات، فلا يبقى من ذلك خير ولا يسمع من القول إلا أحسنه. "أرجح الناس عقلا" روى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: قرأت في أحد وسبعين كتابا، فوجدت في جميعها أن الله لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلا كحبة رمل من بين جميع رمال الدنيا، وأن محمدا أرجح الناس عقلا، وقال زهير بن صرد في مدحه: إن لم تداركهمو نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر "أرحم الناس" أفعل من الرحمة، أي أكثرهم رحمة "بالعباد" مؤمنهم وكافرهم. ووقع في الشامي بالعيال بياء ولام والأول أعم "الأزهر" من الزهارة "وهو النير المشرق الوجه" يقال: زهر الشيء يزهر بفتحتين صفا لونه وأضاء. وروى مسلم عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم أزهر اللون قال النووي: معناه أبيض مستنير، فهو بمعنى حديث عكاشة كان أبيض "أشجع الناس" من الشجاعة وهي شدة القلب عند البأس. ومر حديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الأصدق في الله، أطيب الناس ريحا، الأعز، الأعلى، الأعلم بالله، أكثر الناس تبعا، الأكرم، أكرم الناس، أكرم ولد آدم، ألمص، إمام الخير،   كان أشجع الناس "الأصدق في الله" أي الأثبت والأقوى، فلا أحد أثبت ولا أقوى على الحق منه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] . "أطيب الناس ريحا" اي أذكاهم وأشدهم لأن عرقه كان أطيب من المسك ومن أسمائه الأطيب بلا إضافة فقيل بمعناه وقيل: معناه الأفضل والأشرف. "الأعز" بمهملة فمعجمة أفعل من العز أي الكثير العزة وهي الغلبة والقوة "الأعلى" أي الأكثر علوا أي رفعة على غيره. قال النسفي: هو مما سماه الله من أسمائه قال تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} قال السيوطي: لم يظهر لي وجه الأخذ منه لأنا وإن جعلنا الضمائر في فاستوى وفي وهو ودنا وتدلى للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول مرجوح في التفسير لم يصح جعل الأعلى صفة له لأن الضمير لا يوصف إلا على رأي ضعيف، وكأنه جعله حالا من ضمير استوى وجملة، وهو بالأفق مبتدأ وخبر حالا أيضا، والتقدير فاستوى الأعلى، أي عليًّا حال كونه بالأفق، وهو بعيد جدا، ولم يظهر لي فيه غير ذلك انتهى. "الأعلم بالله" وبصفاته وما يجب له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم وأعلمكم بالله". رواه البخاري. وقال: "أنا أتقاكم لله وأعلمكم بحدود الله" رواه أحمد "أكثر الناس" الذي في الشامي الأنبياء "تبعا" بفتح الفوقية، والموحدة جمع تابع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة"، وقال: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه مصدق وغير واحد" أخرجهما مسلم عن أنس "الأكرم" المتصف بزيادة الكرم على غيره مما سماه الله به من أسمائه {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم الأولين والآخرين على الله، ولا فخر""أكرم الناس أكرم ولد آدم" يأتي شرح الثلاثة للمصنف "المص" وألم والمر ذكر الثلاثة ابن دحية. قال الشامي: والمشهور أنها من أسماء الله تعالى، فإن صح ما قاله كانت مما سماه به من أسمائه. "إمام الخير إمام المتقين" أي الذين يقتدون به ويتبعون هديه جمع متق وهو من اتقى الشرك والمخالفات. وروى ابن ماجه عن ابن مسعود تسميته بهما في حديث موقوف ولفظه: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا له: علمنا، قال: "قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة. اللهم ابعثه المقام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 إمام الرسل، إمام المتقين، إمام النبيين، الإمام، الآمر والناهي، الآمن، أمنة أصحابه، الأمين،   المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون". "إمام الرسل إمام النبيين" روى الترمذي عن أبي بن كعب رفعه: إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر. "الإمام" المقتدى به، سمي به لاقتداء الخلق به ورجوعهم إلى قوله وفعله قال حسان يمدحه صلى الله عليه وسلم: إمام لهم يهديهم الحق جاهدا ... معلم صدق إن يطيعوه يهتدوا ويطلق لغة على المقتدى به في الخير وغيره، والوحداني جاعلك للناس إماما، والجمع وجعلنا للمتقين إماما "الآمر والناهي" اسما فاعل من الأمر والنهي. قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر} [الأعراف: 157] وهو في حقه فرض عين، وفي حق غيره فرض كفاية. قال العزفي: وهذا الوصف على الحقيقة لله لكنه لما كان الواسطة بينه وبين عبيده أضيف ذلك إليه؛ إذ هو يشاهد آمرا وناهيا، ويعلم بالدليل أن ذلك واسطة، ونقل من الذي له ذلك الوصف حقيقة انتهى. وفي التنزيل {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . "الآمن" بالمد وكسر الميم بوزن صاحب الخالص التقي والشريف سمي به؛ لأن الله آمنه في الدنيا والآخرة، والله يعصمك من الناس يوم لا يخزي الله النبي "أمنة أصحابه" أي سبب لأمنهم وطمأنينتهم من أمن البل أطمأن به أهله. روى البيهقي عن أبي موسى قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السماء، فقال: "النجوم أمنة، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". قال الشامي: أمنة، بضم الهمزة وفتحها وبفتح الميم الوافر الأمانة الذي يؤتمن على كل شيء سمي بذلك لأن الله ائتمنه على وحيه، أو الحافظ أي حافظ لأصحابه قيل من البدع، وقيل من الاختلاف والفتن، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها" لاحتمال أن يكون المراد أمنهم من المسخ والخسف، ونحو ذلك من أنواع العذاب، وبإتيان ما يوعدون من الفتن بينهم بعد أن كان بابها منسدا عنهم بوجوده. "الأمين" ذكر ابن فارس سمي بذلك لأنه حافظ الوحي قوي على الطاعة، فقيل بمعنى فاعل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 الأمي أنعم الله، الأول، أول شافع، أو المسلمين، أول المؤمنين، أول تنشق عنه الأرض.   روى مسلم عن أبي سعيد رفعه: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من السماء صباحا ومساء" قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير/ 19، 20، 21] ذي قوة عند ذي العرش، مكين مطاع، ثم أمين، نسب عياض لأكثر المفسرين، أن الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد كان يدعى بذلك في صغره لوقاره وصدق لهجته، واجتنابه القاذورات والأدناس، وقد مر قول قريش عند إرادة بناء البيت هذا الأمين رضينا، وقال كعب بن مالك فيه: أمين محب للعباد مسوم ... بخاتم رب قاهر للخواتم أو بمعنى مأمون فعيل بمعنى مفعول من الائتمان، وهو الاستحفاظ والوثوق بالأمانة. سمي بذلك لأن الله ائتمنه على وحيه، وجعله واسطة بينه وبين خلقه، وكساه من الأمانة التي هي ضد الخيانة حلة وافرة، وتوجه بتاج الصدق المرصع بدررها الفاخرة. "الأمي" قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] وهو الذي لا يكتب كما في الحديث: "إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب"، نسبة إلى الأم، كأنه على الحالة التي ولدته، أمه وهي في حقه معجزة، وفي غيره معجزة، قال عياض: من وصفه بالأمية ونحوها مما جرى عليه من الأذى، فإن قصد بذلك مقصده من التعظيم والدلالة على نبوته كان حسنًا، ومن أراد ذلك على غير وجهه، وعلم منه سوء قصده لحق بما تقدم، أي بالساب. وسماه بعضهم أيضا الأمي بفتح الهمزة، وقرئ به، قال ابن عطية: منسوب إلى الأم بمعنى القصد، أي أن هذا النبي مقصود للناس، وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وشرعهم فعلى هذا يكون اسما آخر، وقال ابن جني: يحتمل أنه بمعنى الأمي غير تغيير النسب، فيكون لغة أخرى لا اسما. "أنعم الله" بفتح الهمزة، وضم المهملة جمع نعمة في الأصل وهي الإحسان، سمي بذلك لأنه نعمة من الله على عباده وبعثه رحمة لهم، وحصل بوجوده للخلق نعم كثيرة، منها: الإسلام والإنقاذ من الكفر والأمن من الخسف. "الأول" يأتي شرحه للمصنف ويقع في نسخ هنا زيادة الآخر وهي سهو؛ لأنه قدمه قريبا. "أول شافع" أي طالب للشفاعة، "أول المسلمين" المقتدي به في الإسلام، ذكره العزفي، أي أول مسلمي هذه الأمة مأخوذ من قوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} "أول مشفع" بفتح الفاء الذي يشفع فتقبل شفاعته، وهي السؤال في التجاوز عن المذنبين وفصل القضاء ونحوه، "أول المؤمنين" أي المقتدى به في الإيمان "أول من تنشق عنه الأرض" أي أول من يبعث من الخلق، فذكر في ذا الحرف خمسة وأربعين اسما منها خمسة من أسماء الله، وزاد الشامي أسماء هي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 .....................................   الأبلج بموحدة، وجيم الأبيض الأنقى، الأجل أجير بجيم؛ لأنه يجير أمته من النار. ذكره العزفي عن بعض الصحف المنزلة، قال الشيخ: يعني السيوطي ولم أره لغيره وأخشى أنه تصحف باحيد أحاد بضم الهمزة اسم عدد معدول عن واحد واحد؛ لأنه واحد في أمور متعددة كسيادته على من سواه، وأنه ختام الأنبياء وأن شريعته أكمل الشرائع، وأنه واحد في خصائص ليست لغيره. الأحشم بمهملة ومعجمة، أي أكثر الناس وقارا آخرايا، ولم يضبطه إلا أن رسمه هكذا، وقد قدمت كلامه فيه أخوناخ، أي صحيح الإسلام، الأدعج الأدوم بفتح فسكون أفعل من المداومة على الشيء لملازمته طاعة ربه الأرجح، أي الزائد على غيره علما وفضلا الأرحم بلا إضافة، الأزج بفتح الزاي وشد الجيم، أي المقوس الحاجب، الأزكى بالزاي من الطهارة، أي أطهر العالمين، الأسد بفتح الهمزة والسين وشد الدال المهملتين من السداد وهو استقامة الأشد حياء من العذراء في خدرها، الأشنب، بسكون المعجمة، وفتح النون فموحدة من الشنب، وهو رونق الأسنان ورقة مائها، وقيل رقتها وعذوبتها. أصدق الناس لهجة الأطيب الأعظم الأغر بمعجمة وراء، أي الشريف الكريم. أفصح العرب، كذا ورد في حديث ذكره أصحاب الغريب بهذا اللفظ قال ابن كثير والشيخ: ولم نقف على سنده الإكليل، أي التاج؛ لأنه تاج الأنبياء ورأس الأصفياء فسمي به لشرفه وعلوه أو لإحاطة رسالته وشمولها، كما سمي الإكليل، لإحاطته بالرأس. الأمجد أفعل من المجد، وهو الشرف إمام العالمين بفتح اللام إمام العالمين جمع عالم أي العباد إمام الناس الأمان الأمنة الأمة، أي الجامع للخير المقتدى به، أو المعلم للخير ألم المر الألمعي الأمي بالفتح بناء على أنه الاسم لا لغة في المضموم أنفس العرب أو في الناس ذماما بكسر المعجمة، أي أكثرهم حرمة وأسدهم الأنور المتجرد أي المشرق وراء المتجرد مفتوحة كل ما تجرد عنه من بدنه، فيرى الأواه بشد الواو الأوسط" أي العادل أو الخيار من كل شيء قال: يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم ... وأكرم الناس أما برة وأبا الأولى، أي بالمؤمنين من أنفسهم، أي أحرى وأجدر، في كل شيء من أمور الدنيا والدين أول الرسل آية الله. روى ابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت: 53] قال محمد صلى الله عليه وسلم لأن العلامة الظاهرة انتهى باختصار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 "حرف ب": البر، البار قليط، الباطن، البرهان، بشر، بشري عيسى، البشير، البصير،   حرف ب: "البر" بفتح الموحدة اسم فاعل من البر بالكسر، وهو الإحسان والطاعة أو الصدق: وقال صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق" وعن إدريس عليه السلام: "من أفضل البر ثلاثة الصدق في الغضب، والجود في العسرة والعفو عند المقدرة". سمي برا لأنه من ذلك بمكان، وهو من أسماء الله تعالى، ومعناه البالغ في الإحسان والصادق فيما وعد. "البارقليط الباطن" يأتي شرحهما في المصنف. "البرهان" روى ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة في {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم وجزم به ابن عطية والنسفي، ولم يحكيا غيره وهو لغة الحجة، وقيل الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، وهو صلى الله عليه وسلم برهان بالمعنيين؛ لأنه حجة الله على خلقه وحجة نيرة واضحة لما معه من الآيات والمعجزات الدالة على صدقه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه، فإنه منها كما عند ابن ماجه. "بشر" الذي في الشامي البشر معرفا، وقال بمعجمة محركة الإنسان لظهور بشرته، وهي ظاهر الجلد من الشعر بخلاف سائر الحيوان؛ لأنها مستترة بالشعر والصوف والوبر سمي به صلى الله عليه وسلم لأنه أعظم البشر وأفضلهم، كما سمي بالناس من تسمية الخاص باسم العام. قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] نبه تعالى بذلك على أن الناس متساوون في البشرية غير متفاضلين في الإنسانية، وإنما يتفاضلون بما يتخصصون به من المعارف الجليلة، ولذا قال بعده: يوحى إليَّ تنبيهًا على الجهة التي حصل بها الفضل عليهم، أي تميزت عليكم وخصصت من بينكم بالوحي والرسالة "بشرى عيسى" بضم الموحدة، وسكون المعجمة فعلى من البشارة، وهي الخبر السار، أي المبشر به في قوله ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وفي المستدرك مرفوعا: "أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى". "فائدة" الأنبياء المبشر بهم خمسة محمد وعيسى وإسحاق ويعقوب ويحيى "البشير" اسم فاعل من بشر كفرح وزنا ومعنى قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا} [البقرة: 119] . "البصير" أي العليم حكى السبكي في تفسير أنه هو السميع البصير. إن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ومعنى وصفه بهما أنه الكامل في السمع والبصر اللذين ندرك بها الآيات التي يريه إياها فوصفه بذلك. وهو نذير والإنذار بالعقل وهما أعظم الحواس الموصلة إليه لأنه لأكمل منه في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 البليغ، البالغ البيان، البينة.   الإنذار والاستدلال انتهى. يعني أن وصفه بهما بالحصر المستفاد من تعريف الطرفين، وسيق للمدح ففسره بما يخصصه به ويصيره مدحا له، وهو كما قيل مع بعده لا حاجة إليه، فالأظهر أن المعنى السميع لكلام الله بلا واسطة البصير، أي الناظر إلى نور جماله بعين بصره، وهذا مما اختص به انتهى. "البليغ" الفصيح الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره. "البالغ البيان" اسمان كأن الشامي لم يقف عليهما لغير المصنف فقال ذكرهما شيخنا أبو الفضل القسطلاني انتهى. ولم يزد لكنه ذكر آخر الحرف ما نصه البيان الكشف والإظهار، أي الفصاحة أو اجتماعها مع البلاغة أو إظهار المقصود بأبلغ لفظ أو هو بمعنى المبين، أي المظهر للناس ما أمروا به ونهوا عنه، والموضح لهم ما خفي عليهم من أمر ديهم انتهى. وهذا يقتضي قراءة البيان بالجر بالإضافة إلى البالغ، فيكون اسما واحدا مركبا تركيبا إضافيا، فيخالف قوله ذكرهما بالتثنية الظاهر في أنهما اسماه "البينة" الحجة الواضحة، قال تعالى: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة} [البينة: 1] ، رسول من الله، أي محمد صلى الله عليه وسلم فرسول بدل أو عطف بيان. قال ابن عطية والهاء في البينة للمبالغة، كهاء علامة، ونسابة فذكر اثني عشر منها اسمان من أسماء الله. وزاد الشامي البارع، أي الفائق أقرانه علما وفضلا. الراجح عليهم علما وحكما، الباهر بموحدة آخره راء في قصص الكسائي أن الله قال لموسى إن محدا هو البدر الباهر، أي لأنه بهر بنوره نور الأنبياء، أي غلبة في الإضاءة لكثرة الانتفاع به والاقتناس منه، أو لأنه غلب بحسنه جميع الخلق، أو لأنه ظاهر الحجة الباهي آخره تحتية، أي الحسن الجميل البحر بلفظ خلاف البر، لعموم نفعه لأنه طاهر في نفسه مطهر لغيره ممن اتبعه، لسعة كرمه البدء بدال مهملة مهموز السيد الذي يبدأ به إذا عدت السادات البديع، أي المستقل بالحسن والجمال، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه موحد الشيء بلا آلة ولا مادة. البدر أي القمر الكامل لتمام كماله وعلو شرفه، وفي قصص الكسائي أن الله قال لموسى إن محمدا هو البدر الباهر، والنجم الزاهر والبحر الزاخر، والبرقيطس. قال ابن إسحاق وغيره هو محمد بالرومية، قال السيوطي: بفتح الموحدة، وكسرها، وفتح القاف، وكسر الطاء، بمؤذ ماذ بكسر الباء، وسكون الميم وضم الهمزة وسكون المعجمة. عزاه ابن دحية للتوراة قال الشيخ: وأخشى أنه مؤذ ماذ بميم أوله، فتحرف قلت: ونقله ابن القيم عن نص التوراة، ونص بعض شراحها من مؤمني أهل الكتاب فصح ما قال الشيخ البهاء بالمد العز والشرف؛ لأنه شرف هذه الأمة وعزها البهي بالموحدة، كالعلي الحسن العاقل انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 "حرف ت": التالي، التذكرة، التقي، التنزيل، التهامي. "حرف ث": ثاني اثنين.   وأسقط مما ذكره المصنف البشير والبصير وما وقع في الشرح أن الشامي زاد البر سهوا؛ لأنه أول اسم ذكره المصنف في الحرف وتكلم عليه الشارح: حرف ت: "التالي": المتبع لمن تقدمه. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، أو من التلاوة وهي القراءة. قال تعالى: {رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} ، أي القرآن: "التذكرة" ما يتذكر به الناسي، ويتنبه به الغافل. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} قيل المراد سيدنا محمد "التقي" فعيل من التقوى. قال عياض وجد على الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح سيد أمين. "التنزيل" بمعنى المنزل، أي المرسل، أو المنزل إليه، أي الموحى إليه القرآن. قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَن} قيل محمد فهو بمعنى رسول من الله، وقيل القرآن "التهامي" بكسر التاء نسبة إلى تهامة من أسماء مكة، وتهامة ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز سميت بذلك لتغير هوائها. قال ابن فارس من تهم بفتحتين، وهي شدة الحر، وركود الريح، فذكر خمسة أسماء، وزاد الشامي التلقيط ذكره العزفي، وقال هو اسمه في كتب الروم. حرف ث: "ثاني اثنين" أي أحد اثنين وهما المصطفى والصديق أخذا من الآية، وذكر ابن دحية الثمال، ولم يتكلم عليه. قال الشامي وهو بكسر المثلثة، وخفة الميم العماد والملجأ، والمغيث والمعين، والكافي قال جده يمدحه: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل أي يمنعهم مما يضرهم قال ذلك جده وهو صلى الله عليه وسلم في حال الطفولية لما توسمه فيه من الخير وتنسمة من البركة، وقد يستدل بالظاهر على الباطن كما قال: وقل من ضمنت يوما سريرته ... إلا وفي وجهه للخير عنوان أو بضمها ومعناه المنقطع إلى الله الواثق بكفايته انتهى. وصوابه عمه في المحلين، فقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 "حرف ج": الجبار الجد، الجواد الجامع. "حرف ح": حاتم،   صرح صلى الله عليه وسلم أن منشئ البيت أبو طالب في حديث رواه البيهقي، وهو من قصيدته المشهورة، وقوله لما توسمه يقتضي أنه لم يشاهد الاستسقاء به، مع أنه إنما قاله عن مشاهدة، فإنه استسقى به فسقوا، كما رواه ابن عساكر، وقد مر بسط ذلك في أوائل المقصد الأول. حرف ج: "الجبار" قال عياض وابن دحية سماه الله به في كتاب داود فقال تقلد سيفك أيها الجبار، فإن ناموسك وشريعتك مقرونة بهيئة يمينك، ومعناه في حقه تعالى المصلح للشيء، أو المصلح بضرب من القهر، أو العلي العظيم الشأن، وقيل المتكبر، ومعناه في حقه صلى الله عليه وسلم أما لإصلاحه للأمة بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على البشر وعظم خطره ونفى عنه تعالى جبرية التكبر التي لا تليق به، فقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّار} ، ويأتي نحوه للمصنف "الجد" بفتح الجيم وضمها العظيم الجليل القدر، أو بكسرها وفتحها أيضا بمعنى الحظ والحظوة، أي صاحب الحظ العظيم عند الحق والحظوة عند الخلق، أو بكسرها فقط بمعنى الاجتهاد في العبادة ودأب النفس في طلب السيادة. "الجواد" يحتمل شد الواو وخفتها وهما اسمان له ذكرهما الشامي، فقال الجواد بالتشديد مبالغة في الجواد بالتخفيف، ثم قال الجواد بالتخفيف الكريم السخي الطائع الملي، صفة مشبهة من الجود وهي سعة الكرم والطاعة. "الجامع" لجميع الخصال الحميدة اللائقة به، أو للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة؛ لأنه أوتي جوامع الكلم، أو لحمده لله تعالى بكلمات جامعة لأنواع الحمد والثناء عليه، فذكر أربعا منها ثلاث من أسماء الله، وأسقط الشامي الجامع، وزاد الجليل صفة مشبهة، أي العظيم، أو من كملت صفاته. الجهضم بجيم ومعجمة ساقطة كجعفر العظيم الهامة المستدر الوجه الرحب الجبين الواسع الصدر هذه الأوصاف مجتمعة فيه صلى الله عليه وسلم. حرف ح: "حاتم" وفي الشفاء الحاتم بزيادة أل، وقال هو من أسمائه في الكتب السالفة، حكاه الأحبار قال ثعلب، ومعناه أحسن الأنبياء خَلقا وخُلقا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 حزب الله، الحاشر، الحافظ، الحاكم بما أراه الله، الحامد، حامل لواء الحمد،   روى عن عياض وانتقد بأنه ليس بمعروف لغة، وإنما هو القاضي، كما هو في الصحاح وليته استحيا من تفسير ثعلب، فإنه من أئمة اللغة على أن الذي في الصحاح بمعنى القاضي بكسر الفوقية، والاسم الشريف بفتحها، كما ضبط في نسخ معتمدة من الشفاء فلم يتواردا على محل واحد. "حزب الله" الحزب الطائفة من الناس، وقيل جماعة فيها غلظ وحزب الله عبيده المتقون وأنصار دينه. قاله الشامي بلفظه "الحاشر" يأتي للمصنف شرحه "الحافظ" من أسمائه تعالى، ومعناه في حقه صيانة جميع الموجودات عن العدم وصيانة المضادة بعضها عن بعض. قال الغزالي: الحافظ من العباد من يحفظ جوارحه وقلبه ويحفظ دينه عن سطوة الغضب، وصلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان، وهو اسم فاعل من الحفظ، وسمي به؛ لأنه الحافظ للوحي والأمة، ولا يقدح في وصفه بالحفظ وقوع النسيان منه، كما روى مسلم عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يسمع قراءة رجل في المسجد، فقال رحمه الله تعالى لقد أذكرني آية كنت أنسيتها لندرة ذلك منه، والحكم إنما هو للأغلب قاله كله الشامي، وقد يمنع كون ذلك نسيانا حقيقة، بل هو عدم تذكر يحصل الرجوع إليه بأدنى التفات وعبر عنه بالنسيان مجازا، ثم كأنه جعل وجه التسمية أعظم الأمور، وإلا فكلام الغزالي يصلح وجها أيضا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقوى الناس حفظا لما ذكر بلا ريب ولا سبيل للشيطان عليه بوجه. فهو الحافظ على الحقيقة من العباد. "الحاكم بما أراه" علمه "الله" أخذه ابن دحية من قوله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله لكنه ذكر أن الاسم لفظ الحاكم فقط. "الحامد" اسم فاعل من الحمد وهو الثناء عى الله بما هو أهله. قال ابن دحية ذكره ابن كعب، وقال ابن إسحاق: رأت أمه صلى الله عليه وسلم قائلا يقول إنك حملت بخير البرية وسيد العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمدا، فإن اسمه في التوراة حامد وفي الإنجيل أحمد "حامل لواء الحمد" روى الترمذي عن ابن عباس رفعه "أنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر" واختلف في أنه حقيقي مسمى بذلك وعند الله علم حقيقته ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان أحمد الخلق في الدارين أعطيه ليأوي إليه الألوان والآخرون، ولذا قال في حديث أنس: آدم فمن دونه تحت لوائي، كما قاله المحب الطبري والتوربشتي، أو معنوي وهو انفراده بالحمد يوم القيامة وشهرته به على رءوس الخلائق كما جزم به الطيبي وتبعه السيوطي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 الحائد لأمته على النار، الحبيبن حبيب الرحمن، حبيب الله، الحجازي، الحجة البالغة، حجة الله على الخلائق حرز الأميين، الحرمي، حريص الحريص على الإيمان، الحسيب،.   "الحائد لأمته عن النار" اسم فاعل من حاد عنه يحيد مال، أي المبعد لهم عنها فإن حاد إذا عدي بهمزة، أو باء وبانت اللام، هنا عنها كان معناه أبعد غيره، وإلا فمعناه بعد عن الشيء. "الحبيب" فعيل من المحبة بمعنى مفعول؛ لأنه محبوب لله، أو بمعنى فاعل، لأنه محب له تعالى. "حبيب الرحمن" ورد تسميته به في حديث المعراج عن أبي هريرة عند البزار وغيره. "حبيب الله" ورد في عدة أحاديث قال عياض: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب لكن في حق المخلوق، فأما الخالق فمحبته لعبده تمكينه من سعادته وعصمته وتوفيقه وتهيئة أسباب القرب له وإفاضة رحمته عليه، وقصواها كشف الحجب عن قلبه حتى يراه بقلبه وينظر إليه ببصيرته، فيكون كما ورد الحديث، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به. "الحجازي" نسبة إلى الحجاز، وهو مكة واليمامة وقراهما سمي حجاز؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد. "الحجة البالغة" أي الدلالة الكاملة التي لا نقصان فيها ولا انفصام لها. "حجة الله على الخلائق" في الفردوس بلا إسناد أنا حجة الله، وهو بمعنى البرهان "حرز الأميين" العرب، أي حافظهم ومانعهم من السوء، وخصوا بالذكر؛ لأنه لما كان منهم قصد زيادة الاعتناء بهم، وتنبيها لبني إسرائيل على عظم شأنهم ورفعتهم بهذا النبي الذي يخرج منهم وأن غيرهم كالتابع لهم. روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص والله أنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح: 8] وحرزا للأميين الحديث. "الحرمي" نسبة إلى الحرم المكي. "حريص" فعيل بمعنى فاعل من الحرص وهو شدة الإرادة للمطلوب "الحريص على الإيمان" قال تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم} [التوبة: 128] أي على إيمانكم وهدايتكم. "الحسيب" فعيل بمعنى مفعل من أحسبني الشيء كفاني ومنه عطاء حسابا، أو الشريف، أو الكريم من الحسب محركا، وهو ما يعد من مفاخر الآباء، أو الدين، أو الكرم، أو الشرف في الفعل، أو الآباء، وهو صلى الله عليه وسلم متصف بجميع ذلك، وهو من أسمائه تعالى. قال الغزالي وليس للعبد مدخل فيه إلا بنوع مجاز بأن يكون كافيا لطفله بتعهده، أو لتلميذه بتعليمه حتى لا يفتقر إلى غيره انتهى. وهو صحيح في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كاف لأمته جميع ما تحتاج إليه في الدارين بحيث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الحفيظ، الحق، الحكيم، الحليم، حماد، حمطايا أو قال حمياطا، حمعسق،   لا تحتاج إلى غيره. "الحفيظ" فعيل من الحفظ وهو صون الشيء عن الزوال، فإن كان في الذهن فضده النسيان، أو في الخارج فضده التضييع، وهو من أسمائه تعالى، وكلا المعنيين يصح إطلاقه عليه لأن الأشياء محفوظة في علمه لا يطرأ عليه نسيان ويحفظ الموجودات من الزوال. وقيل معناه الذي يحفظ سرك من الأغيار، ويصون ظاهرك عن موافقة الفجار. وأما قوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [النساء: 80] فمعناه لست أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها. وقوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] أي لتحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي، أو لتحصى مساويهم حفيظ بالمعنى الأول بمعنى أنه يردهم عنه ويقاتلهم عليه، وبالمعنى الثاني؛ لأنه يشهد عليهم يوم القيامة وهو أبلغ من الحافظ. "الحق" يأتي في المتن وهو من أسمائه تعالى. "الحكيم" لأنه علم وعمل وأذعن لربه قاله العزفي فعيل من الحكمة قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] ، {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} والمتصف بالحكمة علما وتعليما حكيم. وفي أنها النبوة، أو معرفة القرءان والفهم فيه، أو الإصابة في القول، أو العلم المؤدي إلى العمل، أو السنة، أو خشية الله أقوا وهو عليه السلام حكيم بكل ذي المعاني. وقيل بمعنى مفعل من الأحكام وهو الإتقان أو بمعنى فاعل من الحكم، وهو المنع للإصلاح وهو أعم من الحكمة وهو عليه السلام متقن للأمور ومانع لأمته. "الحليم" قال ابن دحية موصوف به في التوراة اسم فاعل للمبالغة من حلم بضم اللام إذا صار الحلم طبعا له، وسجية من سجاياه. قال أبو طالب يمدحه: حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي الها ليس عنه بغافل وكان أحلم الناس، وكل حليم قد عرفت منه زلة، وحفظت عنه هفوة وهو صلى الله عليه وسلم لا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهلية إلا حلما وهو من أسمائه تعالى، ومعناه في حقه الذي لا يعجل بالعقوبة. "حماد" في الشامي الحماد بشد الميم صيغة مبالغة من الحمد، أي الحامد الكثير الحمد، "حمطايا" بفتح الحاء، وكسرها وسكون الميم، أو فتحها مشددة وبالطاء المهملة، فألف فتحتية، "أو قال" شك "حمياطا" بتقديم الياء، والألف على الطاء ومعناه حامي الحرم. ويأتي في المصنف "حمعسق" ذكره ابن دحية ونقله الماوردي عن جعفر بن محمد، ونقل عن ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 حفي، الحمد، الحنيف، الحي. "حرف خ": الخبير، خاتم النبيين، خاتم المرسلين،   أنه من أسماء الله. "حفي" ذكره شيخه السخاوي الحفي بالتعريف، وتبعه الشامي، وقال البر اللطيف يقال: حفيت بفلان، وتحفيت به إذا أعنته في كرامته. "الحمد" ذكره شيخه السخاوي، وتبعه الشامي وبيض لشرحه، ولم يتنبه شيخنا لذلك، فظنهما اسما واحدا وإن حفي مضاف للحمد وليس كذلك، فإن الشامي ترجم أولا الحفي، ثم ذكر بعده سبعة أسماء، ثم ترجم الحمد وكتب عليه علامة السخاوي. "الحنيف" يأتي للمصنف، فذكر ثمانيا وعشرين منها خمسة من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي حاط حاط. قال العزفي هو اسمه في الزبور الحامي، أي المانع لأمته من العدا والحافظ لهم من الردى، أو حامي البيت والحرم ببعده من أيدي ذي الجرم، أو لأنه كان له أن يحمي نفسه وإن لم يقع منه ذلك حبنطا. قال العزفي: من أسمائه في الإنجيل وتفسيره، يفرق، بين الحق والباطل، الحكم بفتحتين، أي الحاكم، أو المناع، وهو من أسماء الله تعالى ومعناه الذي لا راد لحكمه قال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} أي مانعا. الحلاحل بمهملتين الأولى مضمومة والثانية مكسورة السيد الشجاع، أو كبير المروءة، أو الرئيس الرزين، كأنه مأخوذ من الحلول والاستقرار؛ لأن القلق وقلة الثبات في مجلس ليس من عادة السادات. الحميد فعيل بمعنى حامد ومحمود صيغة مبالغة من الحمد وهو الثناء، أي الذي حمدت أخلاقه ورضيت أفعاله، أو الحامد لله بما لم يحمده به حامد، والكثير المحامد وهو من أسمائه تعالى ومعناه الذي حمد نفسه أبدا وحمده عباده أبدا، أو المستحق للحمد؛ لأن موصوف بكل كمال ومول لكل نوال. الحنان بالتخفيف الرحمة الحيي بمهملة وتحتيتين الكثير الحياء. روى الدارمي عن سهل بن سعد كان صلى الله عليه وسلم حييا لا يسأل شيئا إلا أعطى. "الحي" أي الباقي المتلذذ المنعم في قبره انتهى. حرف خ: "الخبير" يأتي للمصنف من أسماء الله تعالى "خاتم النبيين" كما في التنزيل ولكن رسول الله وخاتم النبيين "خاتم المرسلين" ذكر العلماء في حكمه كونه خاتم النبيين والمرسلين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 الخاتم، الخازن لمال الله، الخاشع، الخاضع، الخالص، خطيب الأنبياء، خطيب الأمم، خطيب الوافدين على الله، خليل الرحمن، خليل الله،   أوجها منها أن يكون الختم بالرحمة وإرادة الله أن لا يطول مكث أمته تحت الأرض إكراما له وإن لا ينسخ شريعته، بل من شرفه نسخها لجميع الشرائع، ولهذا إذا نزل عيسى إنما يحكم بها. "الخاتم" يأتي للمصنف وذكر ابن دحية الخاتم بكسر التاء والخاتم بفتحها، ونقل ذلك عن ضبط ثعلب وابن عساكر. "الخازن لمال الله" أخذه ابن دحية من حديث أبي هريرة رفعه "والله ما آتيتكم من شيء ولا أمنعكم من شيء منه إن أنا إلا خازن أضع حيث أمرت" رواه أحمد وغيره. قال النووي معناه خازن ما عندي أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به والأمور كلها بمشيئة الله. "الخاشع" الخشوع لغة السكون والتخشع التذلل قاله الأزهري، وقال ابن سيده خشع رمى ببصره، وعند الصوفية الانقياد للحق، وقيل قيام القلب بين يدي الرب بهم مجموع. وقال الحسن، الخوف الدائم الملازم للقلب والجنيد تذلل القلوب لعلام الغيوب والحكيم الترمذي الخاشع من خمدت نيران شهوته وسكن دخان صدره، وأشرق نور التعظيم من قلبه فماتت شهواته وحيي قلبه فخشعت جوارحه. قال القشيري على أن محل الخشوع القلب وهو قريب من التواضع. "الخاضع" ذكره ابن دحية. قال الجوهري الخضوع التطامن والتواضع، وقال الأزهري الخضوع قريب من الخشوع إلا أن الخشوع للقلب وهو قريب من التواضع. "الخالص" أي النقي من الدنس "خطيب الأنبياء" في حديث الشفاعة كنت إمام النبيين وخطيبهم، أي مقدمهم وصاحب الكلام ودونهم، والخطيب الحسن الخطبة، وهي الكلام المنثور المسجع مشتقة من الخطب وهو اللسان؛ لأن العرب إذا دهمهم أمر اجتمعوا له، وخطبت ألسنتهم فيه، أو من المخاطبة؛ لأنه يخاطب بالأمر والنهي، أو من الخطيب وهو ذو الألوان من كل شيء لاشتمالها على فنون الكلام. "خطيب الأمم" جمع أمة "خطيب الوافدين على الله" جمع وافد ذكرهما السخاوي. "الخليل" فعيل بمعنى فاعل من الخلة الصداقة والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله، أو من الخلة بمعنى الاصطفاء لأنه يوالي ويعادي في الله، أو بمعنى الحاجة لانقطاعه إلى ربه وقصر حاجته عليه. "خليل الله" روى أحمد وغيره عن ابن مسعود رفعه "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 الخليفة، خير الأنبياء خير البرية، خير خلق الله، خير العالمين طرا، خير الناس، خير هذه الأمة، خير الله.   بكر وإن صاحبكم خليل الله". وروى أبو يعلى في حديث المعراج إن الله قال له صلى الله عليه وسلم: "وإني اتخذتك خليلا" واطلاق الخلقة على الله للمقابلة، ولأنها نصره إياه وجعله خير خلقه لا بمعنى الحاجة إذ لا يجوز أن يقال الله خليل محمد من الخلة التي هي الحاجة، كما أفاده الإمام الواحدي. "الخليفة" أي الذي يخلف غيره وينوب عنه والهاء للمبالغة، سمي بذلك، وكذا آدم وغيره؛ لأن الله استخلفهم على عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أوامره منهم لا لحاجة منه تعالى إلى ذلك بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير واسطة. "خير الأنبياء" ذكره السخاوي وغيره، أي أفضلهم. "خير البرية" الخلق "خير خلق الله خير العالمين طرا" ذكرهما معا ابن دحية وذلك من الأحاديث والآثار المشهورة ومعناهما واحد. والخلق مصدر بمعنى مخلوق وهو المبتدع المخترع بفتح الدال والراء. "خير الناس" ذكره السخاوي، قال الجوهري يقال رجل خير، أي فاضل ولا يقال أخير؛ لأن فيه معنى التفضيل، وحذفت منه الهمزة كما حذفت من أشر غالبا لكثرة الاستعمال ورفضوا أخير وأشر فيما ندر كقوله: بلال خير الناس وابن الأخير. "خير هذه الأمة" أخذه ابن حية مما رواه البخاري عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج فخير هذه الأمة أكثرها نساء يعني النبي صلى الله عليه وسلم. "خيرة الله" بكسر الخاء وسكون التحتية المختار. وقال الجوهري يقال محمد خيرة الله من خلقه وخيرة بالتسكين أيضا، أي مختاره ومصطفاه، أو بفتح الخاء مع سكون التحتية، وعناه أفضل الناس وأكثرهم خيرا فعد أحد وعشرين منها واحد من أسمائه تعالى. وزاد الشامي الخافض، أي خافض الجناح من الخفض والتواضع ولين الجانب {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي تواضع لفقرائهم وضعفائهم وطب نفسا عن أغنيائهم، أو الذي يخفض الجبابرة بسوطه ويكسر الأكاسرة ببأسه وهو من أسمائه تعالى. خليل الرحمن ذكره السخاوي خليفة الله. ذكره ابن دحية من قوله في حديث الإسراء ونعم الخليفة حياه الله من أخ ومن خليفة وجاء إطلاقه على الله في حديث "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" فهو مما سماه به من أسمائه الخير بتحتية الفضل والنفع؛ لأنه حصل بوجوده خير كثير، أو الفاضل يقال رجل خير كعدل وخير ككيس، أي فاصنع خير الخلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 "حرف د": دار الحكمة، الداعي إلى الله، دعوة إبراهيم، دعوة النبيين، دليل الخيرات. "حرف ذ": الذاكر،   ذكره ابن دحية. حرف د: "دار الحكمة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلى بابها". رواه الحاكم في المستدرك وصححه، وزعم ابن الجوزي والذهبي أنه موضوع ورد بما يطول. قال الحافظان العلائي وابن حجر الصواب أنه حسن لا صحيح ولا موضوع. "الداعي إلى الله" كما في التنزيل وداعيا إلى الله بإذنه سمي به لدعائه إلى طاعته والحث عليها، وقد وصف الله تعالى نفسه بالدعاء والله يدعو إلى دار السلام فهو مما سماه من أسمائه. "دعوة إبراهيم" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا دعوة أبي إبراهيم" يعني {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُم} [البقرة: 129] الآية "دعوة النبيين" ذكره السخاوي. "دليل الخيرات" فعد خمسا وزاد الشامي الدامغ بمعجمة آخر؛ لأنه دمغ الباطل بالحق وكسر جيوش الشرك بسيف حجته الداني اسم فاعل من الدنو القرب، ثم دنا فتدلى دعوة التوحيد، أي صاحب قول لا إله إلا الله، أو الأعلام سمي به؛ لأنه أعلم الناس، أي دلهم على طريق الهداية، أو بمعنى المدعو به على إطلاق المصدر على اسم المفعول الدليل، أي الهادي دهتم بفوقية وزن جعفر السهل الخلق والحسن الخلق انتهى. حرف ذ: "الذاكر" اسم فاعل من الذكر وهو تمجيد الله وتقديسه وتسبيحه. قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] . قال الرازي: المعنى أنه يحب حصول الذكر كل وقت وإدامة القلبي لقوله: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِين} وأنه لا ينبغي أن يغفل عن استحضار جلال الله وكبريائه لحظة واحدة حسبما تطيقه القوى الإنسانية وتحمله الطاقة البشرية. ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أمس الخلق بذلك وأولاهم به وأحقهم بالاختصاص بدرجات الكمال والاستغراق في مشاهده الحلال، فلذا سمي به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 الذكر، ذكر الله ذو الحوض المورود، ذو الخلق العظيم، ذو الصراط المستقيم، ذو القوة، ذو مكانة، ذو عزة، ذو فضل، ذو المعجزات، ذو المقام المحمود، ذو الوسيلة.   "الذكر" بسكون الكاف القوي الشجاع الأبي، أو الثناء والشرف قال العزفي وابن دحية؛ لأنه شريف في نفسه مشرف غيره مخبر عنه به، فاجتمعت له وجوه الذكر الثلاثة قال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَسُولًا} [الطلاق: 10] قال جماعة هو محمد صلى الله عليه وسلم فرسولا حال "ذكر الله". ذكره السخاوي، وقال مجاهد في {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] أنه محمد وأصحابه. "ذو الحوض المورود" ذكره السخاوي أيضا ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه في محله. "ذو الخلق العظيم" قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، ويأتي أيضا في محله. "ذو الصراط المستقيم" كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] صراط الله. "ذو القوة" نقل عياض عن الجمهور في ذي قوة أنه محمد صلى الله عليه وسلم قال: وهو مما سماه به من أسمائه تعالى. "ذو مكانة" منزلة عليه عند ربه ليست لغيره. "ذو عزة" ذكره السخاوي. "ذو فضل" وفي الشامي الفضل، أي الإحسان. "ذو المعجزات الكثيرة الباهرة. "ذو المقام المحمود" وهو الشفاعة على المشهور، وبالغ الواحدي فحكى عليه إجماع المفسرين، ويأتي إن شاء الله تعالى في محله بسطه. "ذو الوسيلة" هي أعلى درجة في الجنة. فعيلة، من وسل إليه إذا تقرب، وتطلق على المنزلة العلية كما في مسلم: "ثم سلوا الله ليَّ الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغي إلا لبعد وأرجو أن أكون هو" "لطيفة". قال السهيلي: الإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب؛ لأنه يضاف بها إلى التابع مثل ذي مال وصاحب يضاف بها إلى المتبوع مثل أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقال النبي صاحب أبي هريرة إلا على وجه ما، ومن ثم لما ذكر يونس في موضع الثناء والمدح. قال تعالى: {وَذَا النُّونِ} فاتي بذا الدالة على التشريف وأضيفت إلى لفظ النون الذي هو أشرف من لفظ الحوت؛ لأنه وإن كان بمعناه لكنه ذكر دونه في حروف التهجي وأوائل السور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 "حرف ر": الراضع، الراضي، الراغب،   على جهة القسم زيادة في التشريف ومبالغة في التعظيم، ولما كان المقصود من ذكره في سورة [القلم] قال: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوت} فذكر ثلاثة عشر وزاد الشامي: "الذخر" بضم الذال وسكون المعجمة، أي الذخيرة الذكار أي كثير الذكر. روى ابن ماجه عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه. الذكر بفتحتين، الجليل الخطر. ومنه الحديث "القرآن ذكر فذكروه". قال في النهاية، أي جليل خطير فاجلوه ذو التاج أي، العمامة؛ لأنها تاج العرب ذو الجهاد ذو الحطيم بفتح الحاء، وهو الحجر المخرج من البيت على الأصح أو ما بين الركن والباب، سمي بذلك في الكتب السابقة؛ لأنه أنقذه من أيدي المشركين، وأخرج ما كان فيه من الأصنام، وجعله محل عبادة. ذو السيف من أسمائه في الكتب السالفة ذو السكينة بالفتح والتخفيف الوقار والتأتي في الحركة، وقال الصفاني بكسر السين وشد الكاف وهي الرحمة وطيبة، أي المدينة. ذو العطايا جمع عطية وهي الموهبة. ذو الفتح جمع فتح وهو النصر على الأعداء. ذو المدينة وهي طيبة ذو القضيب، أي السيف الرقيق. ذو الميسم بكسر الميم وسكون التحتية، أي العلامة، أو الجمال، أو الحسن، أي ذو حسن وجمال. ذو الهراوة بكسر الهاء العصا انتهى. حرف ر: "الراضع" ذكره السخاوي قال الشامي: وفي ذكر مثله نظر، أي لأنه ليس صفة تعظيم مع إشعاره باحتياجه، وقد يدفع بأن المراد الراضع على صفة لم تقع لغيره من الهامه العدل وأن له شريكا وظهور آيات في رضاعه حتى كأنه الراضع الذي لم يرضع أحد سواه. "الراضي"، وهو القانع بما أعطى أخذه ابن دحية من قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} . روى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم تلا قوله في إبراهيم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: "اللهم أمتي"، وبكى فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. قال ابن دحية: هذا الحديث هو تفسير الآية "الراغب" اسم فاعل من رغب إليه كسمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 الرافع، راكب البراق، راكب البعير، راكب الجمل، راكب الناقة، راكب النجيب، الرحمة، رحمة الأمة، رحمة العالمين، رحمة مهداة، الرحيم، الرسول رسول الراحة،   ابتهل وتضرع، أو سأل قال تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} [الشرح: 8] قال ابن مسعود، أي فاجعل رغبتك إليه دون من سواه من خلقه، وقال غيره ارغب إليه وسله حاجتك. وقيل تضرع إليه راهبا من النار راغبا في الجنة، "الرافع" الذي رفع به قدر أمته وشرفوا باتباع ملته، وهو من أسمائه تعالى, معناه الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد ويخفض الكافرين بالإبعاد. "راكب البراق" ذكره ابن دحية ويأتي الكلام عليه في المعراج. "راكب البعير" وهو من أسمائه في الكتب السالفة. "راكب الجمل" ورد في كتاب نبوة شعيا، وهو ذو الكفل أنه قال: قيل لي قم فانظر ما ترى فأخبر عنه، فقلت رأيت راكبين أحدهما على حمار والآخر على جمل. فقال أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها قال ابن دحية: فراكب الحمار عيسى وراكب الجمل محمد؛ لأن ملك بابل إنما ذهب بنبوته. قال السيوطي: ولذا قال النجاشي لما جاءه كتابه صلى الله عليه وسلم وآمن به أشهد أن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل. قال ابن عساكر: إن قيل لِمَ خص براكب الجمل وقد كان يركب الفرس والحمار فالجواب أن المعنى به أنه من العرب لا من غيرهم؛ لأن الجمل مركب للعرب يختص بهم لا ينسب إلى غيرهم. "راكب الناقة" هو من أسمائه في الكتب السالفة. "راكب النجيب" ذكره في الاصطفاء. "الرحمة" قال أبو بكر بن طاهر زين الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكونه وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، وحياته رحمة وموته رحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وكما قال: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا". "رحمة الأمة" ذكره السخاوي. "رحمة العالمين" قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107] فهو رحمة لجميع الخلق المؤمن بالهداية والمنافق بالأمان من القتل والكافر بتأخير العذاب عنه "رحمة مهداة" بضم الميم روى الحاكم عن أبي هريرة رفعه "إنما أنا رحمة مهداة" وللطبراني "بعثت رحمة مهداة" قال ابن دحية، معناه إن الله بعثني رحمة للعباد لا يريد لها عوضا لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة لا يريد لها عوضا. "الرحيم الرسول" يأتي للمصنف الكلام عليهما: "رسول الراحة" لما في رسالته من الراحة لعامة الناس وهي لغة زوال المشقة والتعب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 رسول الله، رسول الملاحم الرشيد، الرفيع الذكر، رفيع الدرجات الرقيب، روح الحق، روح القدس.   "رسول الرحمة" وردت تسميته بذلك في حديث موقوف على ابن مسعود عند ابن ماجه ومعناه واضح؛ لأنه أرسل رحمة. "رسول الله" ذكره الشامي وبيض بعده وكأنه مأخوذ من قوله محمد رسول الله. "رسول الملامح" جمع ملحمة بفتح الميم، وهو موضوع القتال؛ لأنه أرسل بالجهاد والسيف. "الرشيد" من الرشد بضم فسكون، أو بفتحتين وهو الاستقامة في الأمور بمعنى أشد، أي مستقيم، أو بمعنى مرشد، أي هاد قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] أي ترشد إلى الدين القيم، وهو من أسمائه تعالى، وهو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سنن السداد من غير استشارة والإرشاد، أو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم. "الرفيع الذكر" قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الشرح: 4] . روى ابن حبان عن أبي سعيد رفعه "أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقول تدري كيف رفعت ذكرك قلت: الله أعلم قال: إذا ذكرت ذكرت معي" قال في الوفاء، ومعناه العلي، أو رفيع الدرجات على غيره، أو رفيع الذكر بمعنى مرفوعه، أو رافع هذه الأمة بالإيمان بعد انخفاضهم بذل الكفر والعصيان، فهو بمعنى الرفيع ومن أسمائه تعالى الرفيع. "رفيع الدرجات" أخذه السيوطي من قوله: ورفع بعضهم درجات، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال مجاهد: قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه والمتميز الذي لا يلتبس انتهى. وقد أجاد القائل: وأقول بعض الناس عنك كناية ... خوف الوشاة وأنت كل الناس ورفعه بما خصه به من بدائع الفضل الذي لم يؤته نبيا قبله. "الرقيب" الذي يراقب الأشياء ويحفظها من المراقبة، وهي الحفظ قال بعض السادة: المراقبة علم العبد باطلاع الرب، وهو من أسمائه تعالى ومعناه المطلع على الضمائر العالم بما في السرائر. "روح الحق روح القدس" قال ابن دحية: وردا في الإنجيل ومعنى القدس المقدسة، أي الطاهرة من الأدناس من إضافة الموصوف إلى الصفة والحق إما أن يراد به الله تعالى وإضافة الروح إليه تشريف، كما سمي عيسى روح الله، أو يراد به النبي صلى الله عليه وسلم وتكون الإضافة للبيان، أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 الرءوف ركن المتواضعين. "حرف ز": الزاهد، زعيم الأنبياء، الزكي، الزمزمي،   روح هو الحق. "الرءوف" مما سماه به من أسمائه ويأتي للمصنف. "ركن المتواضعين" وقع في كتاب شعيا فعد سبعا وعشرين منها ستة من أسماء الله تعالى. وزاد الشامي الراجي من الرجاء ضد الخوف الرجل بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها، أي رجل الشعر كأنه مشط الرجيح، أي الزائد على غيره في الفضل، الرحب الكف، أي واسعة، أو كثير العطاء وكان عليه السلام موصوفا بهما. الرضي، أي ذو الرضا، أو هو رضا الله على عباده رضوان الله بكسر الراء، أي رضاه على عباده وقيل في قوله يهدي به الله من اتبع رضوانه، أي اتبع رسوله. الرفيق من الرفق، وهو اللطف وكان صلى الله عليه وسلم منه بمكان الرهاب يقال للمبالغة من الرهب بضم فسكون أو بفتحتين، وهو الخوف لا من الترهيب؛ لأن أمثلة المبالغة لا تبنى غالبا إلا من ثلاثي مجرد ولنهيه عن الرهبانية فلا يصف بها نفسه. وفي الحديث "واجعلني لك شكارا رهابا" رواه ابن ماجه. الروح في الأصل ما يقوم به الجسد سمي به؛ لأنه حياة الخلق بالهداية بعد موتهم بالضلال، وقيل في تفسير {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوح} أي محمد وقيل جبريل وقيل غيره. حرف ز: "الزاهد" من أسمائه في الكتب القديمة. روى عن أبي ذر رفعه الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق بما في يدي الله وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها بقيت لك. "زعيم الأنبياء" هو الكفيل المتحمل للأمور، أو الضامن لأمته بالفوز يوم النشور. سمي بذلك لكفالته للأنبياء بالشفاعة العظمى. "الزكي" أي الطاهر المبارك من الزكاة النمو والطهارة أخذه ابن دحية من قوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة: 151] ورده السيوطي بأن الوصف في زكى مزكى لا زكى نعم الاسم الصحيح في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حديث سطيح: نبي زكي. "الزمزمي" قال ابن دحية نسبة إلى زمزم وهي سقيا الله لجده اسماعيل فهو أولى من نسب إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 زين من وافي القيامة "حرف س": السابق من السبق، السابق بالخيرات، سابق العرب، الساجد، سبيل الله.   "زين من وافى القيامة" ذكره عياض وفي حديث الضب قوله السلام عليك يا زين من وافى القيامة، فذكر خمسا وزاد الشامي الزاجر من الزجر المنع والكف؛ لأنه يزجر عن المعاصي الزاهر، أي المشرق اللون المستنير الوجه الزاهي، أي الحسن المشرق، أو الظاهر أمره الواضح برهانه المترفع بسمات الهداية والفتوة المنزه عما لا يليق بمنصب النبوة زلف بفتح الزاي ككتف، أي الزيف بتحتية بعد اللام من الزلف، وهو القرب والتقدم. الزين، أي الحسن الكامل خَلقا وخُلقا، وهو لغة ضد الشين وزعم أنه زاد الربض غلط إنما قال الشامي في اسم زعيم الأنبياء: روى أبو داود بسند صحيح عن أبي أمامة مرفوعا "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء"، وهو محق الربض بفتح الراء والباء وآخره ضاد معجمة، أي أرض الجنة تشبيه بربط المدينة، وهو ما حولها انتهى. بلفظ فصحفه بالزاي، ثم ظنه اسما، وعارضه بأن الذي في المصباح بالراء مع أن الشامي، كما ترى إنما ذكره ضبطا للحديث الذي ذكره دليلا على تسميته بالزعيم وضبطه بالراء. حرف س: "السابق من السبق" وهو التقدم وقد يستعار السبق لإحراز الفضيلة، ومنه والسابقون السابقون، ومعناه المخلص الذي سارع إلى طاعة مولاه وشق الفيافي في طلب رضاه، أو السابق لفتح باب الجنة قبل الخلق. "السابق بالخيرات" الدينية والدنيوية في الدنيا والآخرة. "سابق العرب" كما في حديث أنس مرفوعا "السباق أربعة أنا سابق العرب وصهيب سابق الروم وسلمان سابق الفرس وبلال سابق الحبش". "الساجد" أخذه السيوطي من قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَه} [الإنسان: 26] وقوله: {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِين} [الحجرات: 98] أي: دوام على عبادتك وخضوعك معهم. "سبيل الله" أي طريقه الموصل إليه؛ لأنه الموصل إلى رضا الله {الَّذِينَ َفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [النساء: 167] أي كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وأخذه ابن دحية من قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} [الأنفال: 47] في أحد القولين، أنه رسول الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 السراح المنير، السراط المستقيم، السعيد، سعد الله، سعد الخلائق، السميع، السلام، السيد، سيد ولد آدم، سيد المرسلين، سيد الناس،   قال السادي: ورواه ابن أبي حاتم "السراج المنير" يأتي المصنف "السراط المستقيم" القيم الواضح الذي لا عوج فيه. سمي به؛ لأنه الموصل إليه والصاد لغة فيه قال ابن عباس في الآية: هو رسول الله رواه الحاكم وصححه وكذا قاله أبو العالية عند ابن جرير وغيره. "السعيد" فعيل بمعنى فاعل سمي به؛ لأن الله أوجب له السعادة من القدم وحقق له السيادة على سائر الأمم. "سعد الله سعد الخلائق" ذكر الثلاثة السخاوي؛ لأن الله أسعد الخلائق بأتباعه. "السميع" فعيل بمعنى فاعل من السمع الذي هو أحد الحواس الظاهر قال تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] ، قيل الضمير له عليه السلام، سمي بذلك لما شرف به في مسراه من سماع كلام مولاه، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه الذي يسمع السر وأخفى وسمعه تعالى صفة تتعلق بالمسموعات. "السلام" السالم من العيب المنزه عن الريب، وهو في الأصل السلامة سمي به لسلامة هذه الأمة بل وغيرها بوجوده من العضاب، وأمنها من العقاب، أو لسلامته من النقص والعيب، وبراءته من الزيغ والريب، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي سلمت من الشين ذاته وجلت عن النقص صفاته أو مالك تسليم العباد من المهالك أو ذو السلام على المؤمنين في الجنة، أو الذي سلم خلقه من ظلمه، أو سلم المؤمنين من العذاب، أو المسلم على المصطفين لقوه {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وهو في حقه صلى الله عليه وسلم صحيح بالمعنى الأول والرابع والخامس واضح وليس الثالث والسادس ببعيد في حقه أيضا. "السيد" الرئيس الذي يتبع وينتهي إلى قوله: أو الذي يلجأ إليه في الحوائج أو المطيع، أو الفقيه العالم، أو الذي ساد في العلم والعبادة والورع، أو فائق أقرانه في كل شيء، وهو صلى الله عليه وسلم سيد بالصفات المذكورة، وهو من أسمائه تعالى قال النحاس، ولا يقال لغيره إلا بلا تعريف. قال النووي الأظهر جوازه باللام وغيرها للمشهور بعلم، أو صلاح ويكره لغيره وعند الحاكم مرفوعا إذا قال الرجل للفاسق سيد، غضب ربه عز وجل. "سيد ولد آدم" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" رواه مسلم. "سيد المرسلين" بالنص الجلي، "سيد الناس" لقوله في حديث الشفاعة "أنا سيد الناس يوم القيامة"، وإنما قيد به لظهور سؤدده فيه الكل واحد بلا منازع ولا معاند، بخلاف الدنيا فنازعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 سيد الكونين، سيد الثقلين، سيف الله المسلول. "حرف ش": الشارع، الشافع، الشاكر،   الكفار. وقال النووي وإنما قال ذلك امتثالا لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11] ولأنه من البيان الذي يجب تبليغه لأمته ليعرفوه ويعتقدوه "سيد الكونين" الدنيا والآخرة. "سيد الثقلين" الإنس والجن؛ لأنهما كالثقل للأرض وعليها، أو لفضلهما بالتمييز الذي فيهما على سائر الحيوان، وكل شيء له وزن وقدر يتنافس فيه. "سيف الله المسلول" ذكره الشامي أيضا غايته أنه حذف لفظ المسلول، وزاد السيف بلا إضافة. وقال روى الحاكم أن كعب بن زهير أنشده بانت سعاد حتى انتهى إلى قوله: إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الهند مسلول فقال صلى الله عليه وسلم من سيوف الله فذلك تسعة عشر فيها ثلاثة من أسماء الله. وزاد الشامي السابط بفتح المهملة وكسر الموحدة، أي سبط الشعر السخي، أي الكريم السديد بمهملات بمعنى فاعل من السداد، وهو الاستقامة، أو بمعنى مفعل، أي المسدد ثلم أمته بإصلاح أمورهم في الدنيا ورفع خللهم بالشفاعة في الآخرة. سرخليطس قال العزفي: هو اسمه بالسريانية ومعناه معنى البرقيطس السريع المبادر إلى طاعة ربه، أو الشديد السلطان، أي الحجة والبرهان؛ لأنه حجة الله على عباده في الدنيا والآخرة وبرهانه في الدنيا السمي، أي السامي، أي العالي من السمو العلو السنايا بالقصر الضوء الساطع، أو النور اللامع، أو بالمد، وهو الشرف والعلو؛ لأنه شرف هذه الأمة وفخرها، أو هو صاحب الشرف السند بمهملتين بينهما نون محركة الكبير الجليل الذي يعتمد عليه، ويقصد ويلجأ إليه السيف المخذم بمعجمتين كمعظم القاطع الماضي. سيف الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة" رواه الديلمي السيف. حرف ش: "الشارع" العالم الرباني العامل المعلم، أو المظهر المبين للدين القيم اسم فاعل من الشارع، وهو الإظهار والتبيين. وقد اشتهر إطلاقه عليه؛ لأنه شرع الدين والأحكام، والشرع الدين كالشريعة، وقد وصف تعالى نفسه الكريمة بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين} [الشورى: 13] فهو مما سماه به من أسمائه. "الشافع" الطالب الشفاعة. "الشاكر" اسم فاعل من الشكر، وهو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، أو تصور النعمة وإظهارها، أو الامتلاء من ذكر المنعم، وهو من أسمائه تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 الشاهد، الشكور، الشكار، الشمس، الشهيد.   ويأتي للمصنف. "الشاهد" العالم، أو المطلع الحاضر من الشهود الحضور، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} ، أي على من بعثت إليهم، مقبول القول عليهم عند الله، كما يقبل الشاهد العدل، ويأتي له تتمة في المصنف. "الشكور" كثير الشكر صيغة مبالغة فعول بمعنى فاعل، أو الذي يثيب الكثير على القليل. وكان هذا من خصوصياته حتى لا يصير لأحد عليه منة، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي يعطي الجزيل على العمل القليل، أو المثني على عباده إذا أطاعوه، أو المجازي على الشكر. قال عياض الشكر من الخلق للحق معرفة إحسانه وشكره لهم مجازاتهم على أفعالهم، فسمي جزاء الشكر شكرا مجازا، والعلاقة المشاكلة، كما سمي جزاء السيئة سيئة. "الشكار" يأتي مع ما قبله للمصنف، "الشمس" يأتي أيضا. وكذا "الشهيد" وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يغيب عنه شيء فذكر ثمانيا نصفها من أسماء الله تعالى. وزاد الشامي المشفع بفتح الفاء الذي يشفع فيقبل الشفيع ورد في مسلم. الشافي، أي المبرئ من السقم والألم والكاشف عن الأمة كل خطب يهم ألم الشثن بفتح أوله وسكون المثلثة ونون، أي عظيم الكفين والقدمين والعرب تمدح به. وقال عياض: نحيفها، أو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، وهو محمود في الرجال؛ لأنه أمكن للقبض الشديد وأحد الأشداء صفة مشبهة، وهو البين الشدة، أي القوة. الشذقم بالفتح وسكون المعجمة وفتح القاف البليغ المفوه وأصله كبير الشذق، وهو جانب الفم وميمه زائدة. روى مسلم عن سمرة كان صلى الله عليه وسلم ضليع الفم. الشريف من الشرف العلو، أي العالي، أو المشرف على غيره، أي المفضل الشفاء بالكسر والمد البرء من السقم والسلامة؛ لأن الله أذهب ببركته الوصب وأزال بسماحة ملته النصب قال تعالى: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُور} قيل المراد محمد صلى لله عليه وسلم، الشهاب بالكسر السيد الماضي في الأمر، أو النجم المضيء لأن الله حمى به الدين من كل معاند، كما حمى بالشهب سماء الدنيا من كل شيطان ما رد قال كعب: إن الرسول شهاب ثم يتبعه ... نور مضيء له فضل على الشهب الشهم بفتح الكسر السيد النافذ الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 "حرف ص": الصابر، الصاحب، صاحب الآيات، صاحب المعجزات، صاحب البرهان، صاحب البيان، صاحب التاج، صاحب الجهاد، صاحب الحجة، صاحب الحطيم، صاحب الحوض المورود، صاحب الخاتم، صاحب الخير، صاحب الدرجة العالية الرفيعة،   حرف ص: "الصابر" اسم فاعل من الصبر، حبس النفس عن الجزع وإمساكها في الضيق والفزع. وفيه تعاريف كثيرة قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] ، وقال {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُك} {صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] قال ابن دحية: وهو بمعنى العالم والحافظ بالمعجمة قال: كان صلى الله عليه وسلم أصبر الناس على أقذار الناس. "الصاحب" اسم فاعل من الصحبة وهي المعاشرة والملازمة قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} ، قال ابن دحية: وهو بمعنى العالم والحافظ واللطيف. وقال العزفي: سمي بذلك لما كان عليه لمن اتبعه من حسن الصحبة، وجميل المعاملة، وعظم المروءة، والوقار، والبر، والكرامة وقد ورد إطلاق الصاحب على الله "اللهم أنت الصاحب في السفر". "صاحب الآيات"، أي المعجزات "صاحب المعجزات" الكثيرة. "صاحب البرهان" الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين. "صاحب البيان" أي الكشف والإظهار، كما مر. قيل الفرق بينه وبين التبيان أنه الإظهار بالحجة، والبيان إظهار بلا حجة. "صاحب التاج" اسم له في الإنجيل، أي العمامة ويأتي للمصنف. "صاحب الجهاد" أي القتال. "صاحب الحجة" البرهان، أي المعجزات التي جاء بها، وهو من أوصافه في الكتب القديمة. "صاحب الحطيم" وهو حجر البيت على الأصح، كما قال البرماوي. "صاحب الحوض المورود" يوم القيامة "صاحب الخاتم"، أي خاتم النبوة ومر أو الذي كان يلبسه. "صاحب الخير" ضد الشر؛ لأنه لا يصدر منه شر حتى إن غزوه وقتله الكفار خير محض لإظهار الدين. "صاحب الدرجة العالية الرفيعة" ذكره السخاوي ولا ينافيه قوله في المقاصد الحسنة إنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 صاحب الرداء، صاحب الأزواج الطاهرات، صاحب السجود للرب المحمود، صاحب السرايا، صاحب السلطان، صاحب السيف، لطيفة صاحب الشرع، صاحب الشفاعة الكبرى، صاحب العطايا، صاحب العلامات الباهرات، صاحب العلو والدرجات، صاحب الفضيلة، صاحب الفرج، صاحب القضيب الأصغر   لم يره في شيء من الروايات؛ لأن مراده فيما يقال عقب الآذان، كما أفصح به فلا ينافي وروده أسما. "صاحب الرداء" وطوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان ونصف رواه أبو الشيخ من مرسل عروة. "صاحب الأزواج الطاهرات" ذكره السخاوي "صاحب السجود للرب المحمود" وفي نسخة المعبود وأخرى المعبود المحمود بالمجمع لكن الذي ذكره السخاوي الأول "صاحب السرايا" الكثيرة. "صاحب السلطان" أي النبوة. قال عياض: هو من أسمائه في الكتب المتقدمة وفي كتاب نبوة سعيا أثر سلطانه على كتفه قال ابن ظفر وفي رواية العبرانيين بدل هذه على كتفه خاتم النبوة فهو المراد بالأثر. "صاحب السيف" هو من أوصافه في الكتب المتقدمة، أي صاحب القتال والجهاد وفيها سيفه على عاتقه يجاهد به في سبيل الله. روى أحمد عن ابن عمر رفعه بعثت بالسيف حتى يعبد الله لا شريك له. "لطيفة" أنشأ العلامة الجمال بن نبانة مفاخرة بين السيف والقلم ذكر فيها من مزايا السيف أن اليد النبوية حملته دونه. "صاحب الشرع" الباقي الذي لم ينسخ، أي مظهره ومبينه أضيف إليه لعدم ظهوره قبله "صاحب الشفاعة الكبرى" في فصل القضاء. "صاحب العطايا" التي لا تحصر بلا من ولا أذى ولا مقابل. "صاحب العلامات الباهرات" التي أذعن لها حتى الأعادي، ولكن من يضلل الله فما له من هاد. "صاحب العلو والدرجات" في الدنيا والآخرة. "صاحب الفضيلة" التي لم ينلها غيره. "صاحب الفرج" بفتح الراء ضد الشدة؛ لأنه ما حزبه أمر إلا توسل إلى ربه ففرج عنه وقرأه شيخنا بسكون الراء حيث قال لعله سمي بذلك لحصانه فرجه مع تمام الشهوة فلا تميل نفسه إلى النساء على وجه يمنعه عن كمال إقباله على الله. "صاحب القضيب"، أي السيف، كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 صاحب قول لا إله إلا الله، صاحب القدم، صاحب الكوثر، صاحب اللواء، صاحب المحشر، صاحب المدينة، صاحب المغفر، صاحب المغنم، صاحب المعراج، صاحب المظهر المشهود، صاحب المقام المحمود، صاحب المئزر، صاحب المنبر، صاحب النعلين، صاحب الهراوة، صاحب الوسيلة، الصادع بما أمر الله،   يأتي للمصنف. "صاحب قول لا إله إلا الله" من صفته في التوراة، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله. "صاحب القدم" ذكره السخاوي. "صاحب الكوثر" كما في التنزيل {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ويأتي الكلام عليه، وروى الدارقطني بسند جيد عن عائشة مرفوعا "من أراد أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه"،. قال الحافظ جمال الدين المزي، أي من أراد أن يسمع مثل خريره. "صاحب اللواء" أي لواء الحمد وقد يحمل على اللواء الذي كان يعقده للحرب فيكون كناية عن القتال. "صاحب المحشر" بكسر الشين موضع الحشر، وهو يوم القيامة، كما قال الجوهري، أي صاحب الكلمة فيه والشفاعة واللواء والمقام المحمود والكوثر ويظهر له خصائص جمة ليست لغيره. "صاحب المدينة" لاختصاصه بتطهيرها من اليهود قتلا وإجلاء وإظهار الحق فيها وفتحها بالقرآن وتحريم صيدها وشجرها ومقامه بها حتى يحشر منها. "صاحب المغفر" يأتي للمصنف. "صاحب المغنم" ذكره السخاوي؛ لأن الغنائم لم تحل لنبي قبله. "صاحب المعراج" يأتي في مقصده "صاحب المظهر المشهود"، أي المقام "صاحب المقام المحمود" وهو الشفاعة العظمى على الصحيح المشهور وبالغ الواحدي فحكى إجماع المفسرين عليه وتبعه ابن دحية هنا، وزاد المبالغة فلم يقيد بالمفسرين، وقد بسط المصنف في المقصد الأخير الكلام فيه. "صاحب المئزر"، أي الإزار، وهو ما يشد به الوسط. "صاحب المنبر" بكسر الميم من النبر، وهو الارتفاع. "صاحب النعلين" في الإنجيل وصفه بذلك "صاحب الهراوة" بكسر الهاء العصا، ويأتي للمصنف "صاحب الوسيلة" درجة في الجنة، كما في مسلم وقد مر "الصادع بما أمر الله" اسم فاعل من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا. أخذه السيوطي من قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} ، أي ابن الأمر إبانة لا تخفى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 الصادق، الصبور، الصدق، صراط الله، صراط الذين أنعمت عليهم، الصراط المستقيم، الصفوح، الصفوح عن الزلات، الصفوة، الصفي، الصالح.   كما لا يلتئم صدع الزجاجة المستعار منه ذلك التبليغ بجامع التأثير، وقيل اظهره، أو امضه، أو فرق بالقرآن والدعاء إلى الله وأوضح الحق وبينه من الباطل. "الصادق" اسم فاعل من الصدق. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود حدثنا رسول الله، وهو الصادق المصدوق. قال ابن دحية كان الصادق المصدوق علما له إذ جرى مجرى الأسماء، وهو من أسمائه تعالى. قال ومن أصدق من الله حديثا، ويأتي في المصنف "الصبور"، صيغة مبالغة من الصبر فعول، بمعنى فاعل، وهو الذي لا تحمله العجلة على المؤاخذة، وكان شديد الصبر على أذى قومه مع حلمه عليهم امتثالا لقوله تسلية له، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل} ، وهو من أسمائه تعالى. "الصدق" ذكره بعضهم أخذا من قوله: {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} "صراط الله صرط الذين أنعمت عليهم" حكاه الماوردي عن عبد الرحمن بن زيد في تفسير الآية. "الصراط المستقيم" قاله الحسن وأبو العالية في تفسيرها، كما يأتي للمصنف؛ لأنه الطريق الموصل إليه وبالسين لغة فيه، كما مر. "الصفوح" هو من صفائه في القرآن والتوراة والإنجيل، كما يأتي في المتن، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل} [الحجر: 85] ، فاعف عنهم واصفح. وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري في بيان صفته في التوراة ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح "الصفوح عن الزلات"، بالإعراض ترك التئريب والتجاوز قيل هو أبلغ من العفو؛ لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، وقيل العفو ألغ؛ لأنه إعراض عن المؤاخذة والعفو محو الذنب ومن لازمه الإعراض ولا عكس. "الصفوة" بتثليث الصاد الخيار والخلاصة، وعند ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت نبي الله وصفوته. "الصفي" فيعل بمعنى مفعول، وهو الذي يختاره الكبير من الغنيمة سمي به؛ لأن الله اصطفاه من خير خلقه، كما مر أول الكتاب. "الصالح" القيم بما يلزمه من الحقوق، كما في المطالع، وفي حديث الإسراء قول الملائكة له مرحبا بالأخ الصالح والنبي صالح، وهي كلمة جامعة لمعاني الخير كله فعد خمسة وخمسين منها اثنان من أسماء الله. زاد الشامي صاحب التوحيد مصدر وحدته، إذا وصفته بالوحدانية قال بعضهم: التوحيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 "حرف ض": الضارب بالحسام الملثوم، الضحاك، الضحوك.   الحكم بأن الله واحد والعلم بذلك صاحب زمزم. ذكره ابن دحية وابن خلويه صاحب المدرعة. ورد في الإنجيل، أي القتال والملاحم. صاحب المشعر بفتح الميم، وحكى الجوهري كسرها لغة، وقال ابن قرقول لم يرد، أي رواية قال النووي: المعروف أنه مزدلفة كلها لما فيها من الشعائر وهي معالم الدين. صاعد المعراج اسم فاعل من الصعود، وهو الرقي. الصبيح، أي الجميل صفة مشبهة من الصباحة وهي الحسن والجمال؛ لأنه أصبح الناس وأحسنهم. الصدوق الذي يتكرر منه الصدق، وهو الإخلاص وأول مراتبه استواء السر والعلانية. الصديق بشد الدال، أي المؤتمن صيغة مبالغة من الصدق الصنديد بمهملات بوزن عفريت السيد المطاع والبطل الشجاع، أو الحليم، أو الجواد والشريف. الصين بالفتح وشد التحتية وخفة النون من الصيانة حفظ الأمور وإحرازها؛ لأنه صان نفسه عن الدنس وحفظها عن طوارق الشك والهوس. حرف ض: "الضارب بالحسام الملثوم" بيض الشامي للتكلم عن معناه. "الضحاك" الذي يسيل دماء العدو في الحرب لشجاعته، كما يأتي للمصنف. "الضحوك" روى ابن فارس عن ابن عباس، قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة الضحوك القتال يركب البعير ويلبس الشملة ويجتزي بالكسرة سيفه على عاتقه. قال ابن فارس سمي بذلك؛ لأنه كان طيب النفس فكها على كثرة من يفد عليه من جفاة العرب وأهل البوادي، لا يراه أحد ذا ضجر، ولا قلق ولكن لطيفا في النطق رفيقا في المسألة ذكر ثلاثة وزاد الشامي. الضابط، أي الحازم فهو راجع إلى معنى الحفيظ والحافظ؛ لأنه يضبط ما يوحى إليه، أي يحفظه عن التغيير والتبديل. الضارع الخاضع المتذلل المبتهل إلى الله لكثرة تضرعه وابتهاله وخضوعه واستكانته لعظمته، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] ، الضمين فعيل بمعنى فاعل، إلا في الأصل الكفالة والمراد الحفظ والرعاية لتكفله بالشفاعة لأمته حفظا ورعاية لهم. الضيغم بفتح المعجمتين بينهما تحتية ساكنة البطل الشجاع والسيد المطاع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 "حرف ط": طاب طاب، الطاهر، الطبيب، طسم، طس، طه، الطيب. "حرف ظ": الظاهر، الظفور، من الظفر وهو الفوز   الضياء بالمد أشد النور وأعظمه سمي به، كالقرآن لأنه يهتدي بكل منهما أصحاب العقول، كما يهتدي بالضوء في الظلمات، قال عمرو بن معديكرب يمدحه: حكمة بعد حكمة وضياء ... قد هدينا بنورها من عماها حرف ط: "طاب طاب" بالتكرير، قال العزفي من أسمائه في التوراة ومعناه طيب، وقيل معناه ما ذكر بين القوم إلا طاب ذكره بينهم. "الطاهر" المنزه عن الأدناس سيأتي للمصنف. "الطبيب" فعيل بمعنى فاعل من الطب، وهو علاج الجسم والنفس بما يزيل السقم، أي الذي يبرئ الأسقام وتذهب ببركته جميع الآلام. "طسم طس" ذكرهما ابن دحية والنسفي من أسمائه وجماعة في أسماء الله. "طه" ذكره خلائق في أسمائه وورد في حديث رواه ابن مروديه بسند ضعيف ويأتي للمصنف تفسيره وأن المعتمد أنه من أسماء الحروف. "الطيب" بوزن سيد الطاهر، أو الزكي؛ لأنه لا أطيب منه ويأتي للمصنف. وورد إطلاقه على الله. روى مسلم مرفوعا: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" فذكر سبعا، وزاد الشامي الطراز المعلم، أي العلم المشهور الذي يهتدي به. سمي به، لتشريف هذه الأمة، كما يشرف الثوب بالطراز المعلم بالبناء للمفعول المرسوم من العلامة، وهي ما يميز به، الشيء عن غيره. الطهور كصبور أي الطاهر في نفسه المطهر لغيره؛ لأنه سالم من الذنوب والعيوب مطهر لأمته. حرف ظ: "الظاهر" الجلي الواضح، أو القاهر من ظهر فلان على فلان إذا قهره، وهو من أسمائه تعالى ومعناه المجلي الموجودات بالآيات والقدرات ويأتي للمصنف. "الظفور" فعول بمعنى فاعل صيغة مبالغة من الظفر" بالتحريك، "وهو الفوز" مجازا وأصله لغة من ظفر إذا نشب ظفره بالشيء على ما يفيده الشامي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 "حرف ع": العابد، العادل، العظيم، العافي، العالم، علم الإيمان، علم اليقين، العالم بالحق، العامل، عبد الله، العبد، العدل، العربي، العروة الوثقى،   لكن مقتضى المختار أن غمز الظفر إنما يقال فيه التظفير من ظفر مشدد، لا الظفر الذي هو مصدر ظفر مخففا، ثم هذا الاسم ثابت في كثير من نسخ المصنف، كما ذكرت وسقط في بعضها، فذكر اسمين واحد من أسماء الله تعالى. حرف ع: "العابد" اسم فاعل من عبد إذا أطاع، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} ومواظبته على العبادة تواترت بها الأحاديث. "العادل" المستقيم الذي لا جور في حكمه، ولا يميل من العدل ضد الجور. "العظيم" الجليل الكبير، وقيل عظمة الشيء كونه كاملا في نفسه مستغنيا عن غيره، وهو من أسماء الله تعالى. "العافي" المتجاوز عن السيئات الماحي للزلات والخطيئات. "العاقب" أي آخر الأنبياء ويأتي للمصنف وكذا. "العالم" اسم فاعل، أي المدرك للحقائق الدنيوية والآخروية، وهو من أسمائه تعالى. "علم الإيمان" بفتحتين علامته التي يهتدي بها، إليه علم اليقين، أي علامته ودليله والسبيل الموصل إليه واليقين بمعنى العلم الحقيقي والتحقيق، وقد يكون مجرد علم، وقد يكون مع كشف وشهود، ثم يختلف قوة وضعفا، بحسب الشعور بالغير وعدمه، فلذا انقسم إلى علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين وهذا الاختلاف في اليقين من حيث هو إما يقينه صلى الله عليه وسلم فهو الأقوى الأعلى. "العالم بالحق" أي الله سبحانه حق العلم، أو بأحكامه ووحيه كذلك. "العامل" قال السيوطي: لعله مأخوذ من قوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامٌِ} [الأنعام: 135] ، وروى الترمذي في الشمائل عن عائشة كان عمله ديمة، وأيكم يطيق ما كان يطيق "عبد الله" يأتي للمصنف مبسوطا. "العبد" مأخوذ من نحو {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} سمي به لأنه الكامل في العبودية. "العدل" ذكره ابن دحية، أي الدين الكافي في الشهادة والمستقيم مصدر في الأصل، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه بالغ في العدل ضد الجور، أو في الاستقامة أقصى غاياته، أو الفاعل، لما يريد الماضي حكمه في العبد. "العربي" روى الحسن بن عرفة في حديث الإسراء: إن موسى قال مرحبا بالنبي العربي نسبه إلى العرب خلاف العجم. "العروة الوثقى" العقد الوثيق المحكم في الدين، أو السبب الموصل إلى الله يأتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 العزيز، العفو، العطوف، العليم، العلي، العلامة، عين العز، عبد الكريم، عبد الجبار، عبد الحميد، عبد المجيد، عبد الوهاب، عبد القهار، عبد الرحيم، عبد الخالق، عبد القادر،   للمصنف: أن السلمي حكى أنه صلى الله عليه وسلم المراد بالآية. "العزيز" جليل القدر، أو الذي لا نظير له، أو المعز لغيره، كما يأتي للمصنف، أو الممتنع الغالب، وهو من أسمائه تعالى. "العفو" مثل العافي لكنه أبلغ منه لدلالته على الكثرة والتكرير والعافي على أصل العفو سمي به؛ لأنه أكثر الناس عفوا وتجاوزا، وهو من صفاته في القرآن والإنجيل، كما يأتي للمصنف، وقال حسان يمدحه في مرثيته: عفو عن الزلات يقبل عذرهم ... فإن أحسنوا فالله بالخير أجود "العطوف" الشفوق لكثرة شفقته على أمته ورأفته بهم، كما يأتي للمصنف، قال حسان: عطوف عليهم، لا يثني جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم ويمهد "العليم" الذي له كمال العلم، وثباته سمي به، لما حازه من العلم وحواه من الاطلاع على ملكوت السماوات والأرض والكشف عن المغيبات، وأوتي علم الأولين والآخرين، وأحاط بما في الكتب المنزلة، وحكم الحكماء وسير الأمم الماضيين مع احتوائه على لغة العرب، وغريب ألفاظها وضروب فصاحتها، وحفظ أيامها، وأمثالها، وأحكامها، ومعاني شعارها من كلماته في فنون العلوم صلى الله عليه وسلم وهو من أسمائه تعالى. "العلي" من أسماء الله فعيل من العلو وهو البالغ في علو المرتبة إلى حيث لا رتبة إلا وهي منحطة عنه، وهو في حقه لله كذلك لكن تحمل الرتبة على اللائقة بالبشر. "العلامة" بالتخفيف الشاهد والعلم الذي يهتدي به، ويستدل به على الطريق سمي بذلك؛ لأنه دليل على طريق الهدي. "عين العز" بمهملة مكسورة وزاي منقوطة، أي العز كله مجموع فيه، فلا عز إلا بعزه، وجوز أنه الغر بضم المعجمة وراء، بلا نقط جمع أغر من الغرة، أي خيار الخلق وأكرمهم من الأنبياء والمرسلين والملائكة إذ آدم فمن دونه تحت لوائه، أو المراد بالغر أمته لبعثهم غرا محجلين، أي أنه أشرفهم ورئيسهم والأولى أبلغ وأولى. "عبد الكريم" اسمه عند أهل الجنة، "عبد الجبار" عند أهل النار، ولا تخفى المناسبة "عبد الحميد" عند أهل العرش، عبد المجيد" عند سائر الملائكة، "عبد الوهاب" عند الأنبياء، "عبد القهار" عند الشياطين، "عبد الرحيم" عند الجن، "عبد الخالق" اسمه في الجبال، "عبد القادر" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 عبد المهيمن، عبد القدوس، عبد الغياث، عبد الرزاق، عبد السلام، عبد المؤمن، عبد الغفار. "حرف غ":   اسمه في البر، "عبد المهيمن" في البحر، "عبد القدوس" عند الحيتان، "عبد الغياث" عند الهوام، "عبد الرزاق" عند الوحوش، "عبد السلام" عند السباع، "عبد المؤمن" عند البهائم، "عبد الغفار" عند الطيور. كذا روى عن كعب الأحبار، كما يأتي في المتن، وهو من الإسرائيليات، فذكر ثمانيا وثلاثين فيها ستة من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي العارف أي الصبور، كما في الصحاح أو العالم العاضد، أي المعين، اسم فاعل من عضده إذا أعانه وأصله الأخذ بالعضد ثم استعير للمعين، يقال عضدته، أي أخذت بعضده وقويته. العائل الفقير، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} أي بما أفاء عليك من الغنائم، أو أغنى قلبك، وفي تسميته بالعائل بعد الغنى نظر، أي لنصه فيها على أنه أغناه بعد ذلك فزال عنه ذلك الوصف، فلا يجوز وصفه به بعد العدة بالضم الذخيرة المعد لكشف الشدائد والبلايا المرصد لإماطة المحن والرزايا، سمي بذلك لأنه ذخر أمته في القيامة والمتكفل لها بالنجاة. العزيز أي القوي الذي لا يغلب ولا يقهر، أو الغالب العصمة بكسر فسكون الذي يستمسك الأولياء بحبله وتلوذ العصاة بحماه، فهي بمعنى عاصم كرجل عدل، أي عادل، أو بمعنى معصوم اسم مفعول من العصمة كاللقمة بمعنى الملقوم وحقيقتها، كما في المواقف في حق الأنبياء كلهم صلوات الله عليهم وسلامه أن لا يخلق الله فيهم ذنبا، عصمة الله في الفردوس، بلا سند عن أنس مرفوعا: "أنا عصمة الله أنا حجة الله". العفيف الكاف عن المكروه والشبهة، وهو أعف الناس وموصوف به، في الكتب القديمة. العلم بفتحتين المهتدى به. العماد السيد المعتمد عليه العمدة، أي الشجاع البطل المطاع. العين تطلق بالاشتراك على الباصرة، سمي به لأنه أبصر أمته بطرق الهدى، أو لشرفها به على الأمم، كما شرف الرأس بالعين على الجسد وعلى الذهب، وخيار كل شيء؛ لأنه أشرف الأنبياء وأفضلهم ومنه فلان عين الناس، أي خيارهم، وعلى السيد؛ لأنه سيد الناس والكبير في قومه؛ لأنه أجل الخلق وأعظمهم وعلى الإنسان، كقولهم ما بها عين، أي أحد من تسمية الخاص باسم العام؛ لأنه عليه السلام أشرفهم، وعلى الماء الجاري؛ لأنه طاهر في نفسه مطهر لغيره وعلى الجماعة من الناس لمهابته وشدة جلالته صلى الله عليه وسلم وعلى ينبوع الماء لعلوه وشرفه وكثرة نفعه عليه السلام، انتهى ملخصا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 الغالب، الغفور، الغني، الغني بالله، الغوث، الغيث، الغياث. "حرف ف": الفاتح، الفارقليط -وقيل بالباء، وتقدم- الفارق، الفتح،   "الغالب" القاهر اسم فاعل من الغلبة القهر، وهو من أسمائه تعالى، وهو بمعنى الغفار، أي الستار لذنوب من أراد من المؤمنين، فلا يظهرها بالعقاب عليها قال الغزالي الغفور ينبئ عن نوع مبالغة ليست في الغفار، فإنه ينبئ عن تكرار المغفرة وكثرتها والغفور عن وجودها، وكمالها فمعناه كامل الغفران، حتى يبلغ أقصى الدرجات. قال ابن طلحة النحوي صيغ المبالغة تتفاوت، فغفور لمن كثر منه الفعل، وفعال لمن صار له كالطبيعة. "الغني" قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} من الغنى بالقصر، وهو ارتفاع الحاجات، وليس الإله سبحانه وقلتها كقوله صلى الله عليه وسلم: "الغنى غنى النفس" وكثرة المال كقوله: "ومن كان غنيا فليستعفف"، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء، قال الغزالي ومعناه في الخلق الذي لا حاجة له إلا الله تعالى، وكذلك كان نبينا لله. "الغني بالله" عن كل ما سواه. "الغوث" النصير الذي يستغاث به، في الشدائد والملمات، ويستعان به في النوازل والمهمات. "الغيث الغياث" ذكرهما ابن دحية والغيث المطر الكثير؛ لأنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة وكم استسقى، فأمطروا في الحين، فذكر سبعا منها ثلاث من أسمائه تعالى، وزاد الشامي الغطمطم بطاءين بوزن زبرجد الواسع الأخلاق الحليم. حرف ف: "الفاتح" يأتي للمصنف، وهو من أسمائه تعالى لقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين} [الأعراف: 89] ، وقال: {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاح} [سبأ: 26] قاله عياض وغيره. "الفارقليط، وقيل بالباء" الموحدة أوله "وتقدم" ويأتي للمصنف. "الفارق" قال العزفي هو اسمه في الزبور معناه يفرق بين الحق والباطل، وقال عبد الباسط البلقيني هو صيغة مبالغة والفارق اسم فاعل من الفرق، وهو الفصل والإبانة. "الفتاح" بمعنى الفاتح إلا أنه أبلغ منه، أو الناصر ومنه {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} أي النصر، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يغلق وجوه النعم بالعصيان، ولا يترك إيصال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 الفاروق، الفجر، الفرط، الفصيح، فضل الله، فواتح النور.   الرحمن بالنسيان، أو الذي يفتح على النفوس باب توفيقه وعلى القلوب باب تحقيقه، أو الذي يفتح بعنايته كل معضل ويكشف بهدايته كل مشكل. "الفاروق" كثير الفرق بين الحق والباطل. "الفجر" لتفجر الإيمان منه، كما يأتي للمصنف. "الفرط" بفتح الراء لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرط لكم وأنا شهيد عليكم" رواه البخاري، وهو السابق إلى الماء يهيئ للواردين الحوض ويسقي لهم فضرب لله مثلا لمن تقدم أصحابه يهيئ لهم ما يحتاجون إليه، كذا فسره أبو عبيدة، ويوافقه رواية مسلم "أنا الفرط على الحوض"، وقال معناه أنا أمامكم وأنتم ورائي، وهو يتقدم أمته شافعا. "الفصيح" فعيل من الفصاحة، وهي لغة البيان واصطلاحا خلوص الكلام من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، وهذا باعتبار المعنى، وأما باعتبار اللفظ فهو كونه على ألسنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم. "فضل الله" المعني بقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} في قول حكام الماوردي. "فواتح النور" أي المظهر للعلوم الكثيرة، فكأن إظهار كل علم فتح، فعبر بالجمع، فعد عشرا في قول حكام الماوردي "فواتح النور" أي المظهر للعلوم الكثيرة، فكأن إظهار كل علم فتح، فعبر بالجمع، فعد عشرا منها اثنان من أسماء الله تعالى. وزاد الشامي الفاضل، أي الحسن الكامل العالم إذ الفضل يرد بمعنى العلم، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} [سبا: 10] أي علما. الفائق بالهمز الخيار من كل شيء؛ لأنه خيار الخلق الفخر بالخاء المعجمة العظيم الجليل. الفدعم بمهملتين بوزن جعفر الحسن الجميل الفرد، أي المنفرد بصفاته الجميلة الفضل الإحسان؛ لأنه فضل الله ومنته على هذه الأمة، بل وعلى غيرها، أو الفاضل أي الشريف الكامل. الفطن بكسر المهملة الحاذق من الفطنة الفهم بطريق الفيض، أو بدون اكتساب. الفلاح، قال العزفي: هو اسمه في الزبور، وتفسيره يمحق الله به الباطل، قال السيوطي، وكأنه غير عربي إذ الفلاح لغة الفوز والنجاح. قال النووي ليس في كلام العرب أجمع للخير من لفظ الفلاح، ولا يبعد أن يكون هو اللفظ العربي، وسمي به لما جمع فيه من خصال الخير التي لم تجتمع في غيره، أو لأنه سبب الفلاح الفهم ككتف السريع الفهم، وهو لغة علم الشيء وعرفانه بالقلب فئة المسلمين. ذكره السيوطي وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فئة المسلمين" رواه أبو داود والترمذي وحسنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 "حرف ق": القاسم، القاضي، القانت، قائد الخير، قائد الغر المحجلين، القائل، القائم، القتال، القتول، قثم، القثوم، قدم صدق، القرشي،   حرف ق: "القاسم" أي الذي يقسم الأمور في جهاتها، والمعطي اسم فاعل من القسم، وهو العطاء روى البخاري مرفوعا، "إنما أنا قاسم، والله معطي" "القاضي" الحاكم اسم فاعل من القضاء، وهو فصل الأمر وبثه سمي به؛ لأنه من خصائصه أنه يقضي، بلا دعوى، ولا بينة. قاله ابن دحية مستدلا بحديث مسلم وأن يحكم لنفسه وولده وتقبل شهادة من شهد له، كما في قصة خزيمة، ولا يكره له القضاء، ولا الإفتاء في حال غضبه لعصمته. "القانت" الطالع اسم فاعل من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع، أو الخاشع، أو طويل القيام في صلاته. "قائد الخير" بالهمز جالبه إلى أمته، أو جالبهم إليه ودالهم عليه. أخذه السيوطي من قول ابن مسعود قائد الخير في حديث تعليمه الصلاة عليه المروي في ابن ماجه، وقد سبق لفظه. "قائد الغر" جمع أغر من الخيل ماله غرة، أي بياض في الجبهة "المحجلين" بيض القوائم والمراد أمته إلى الجنة. روى الشيخان أن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء. "القائل" الحاكم؛ لأنه ينفذ قوله أو المحب بمهملة وموحدة من قال بالشيء، أي أحبه واختص به. "القائم" هو بمعنى القيم الآتي. "القتال" روى ابن فارس عن ابن عباس. قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة أحمد الضحوك. القتال: قال ابن فارس سمي به، لحرصه على الجهاد ومسارعته إلى القتال. "القتول" بمعنى ما قبله، فإنهما من صيغ المبالغة فما صلح توجيها لأحدهما صلح للآخر. "قثم" بضم ففتح المثلثة، أي جامع الخبر، كما، قال عياض، أو من القثم الإعطاء لجوده وعطائه كما قال الجوزي، كما يأتي للمصنف، وكذا "القثوم" وروى الحربي مرفوعا: "أتاني ملك، فقال أنت قثم وخلقك قيم ونفسك مطمئنة". "قدم صدق" قال زيد بن أسلم وغيره في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} هو محمد صلى الله عليه وسلم. "القرشي" نسبة إلى قريش. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 القريب، القمر، القيم: ومعناه الجامع الكامل، وصوابه بالمثلثة بدل الياء، القوي. "حرف ك": كافة الناس،   "القريب" الداني من الله تعالى، قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ، أو من الناس لتواضعه من أسمائه تعالى، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} ، أي بالعلم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم. "القمر" الكوكب المعروف؛ لأنه جلا ظلمة الكفر بنور الهداية. "القيم" بالتحتية، كما روى في حديث عند الديلمي "ومعناه الجامع" لمكارم الأخلاق "الكامل" فيها، أو الجامع لشمل الناس بتأليفه بينهم، وجمع شتاتهم؛ لأن القيم يكون بمعنى السيد، لقيامه بأمر الناس وأمر الدين، كما، قال جريبة، بضم الجيم، وفتح الراء وسكون التحتية فموحدة مصغر الأسدي، لما قدم عليه صلى الله عليه وسلم. بدلت دينا بعد دين قد يذم ... كنت من الذنب كأني في ظلم يا قيم الدين أقمنا نستقم ... فإن أصادف ما ثما فلن أثم فهذا وجه الرواية إن صحت. "ولكن قال عياض في الشفاء "صوابه" فثم "بالمثلثة بدل الياء" فيما أرى، وهو أشبه بالتفسير، لكن في كتب الأنبياء أن داود، قال: اللهم ابعث لنا محمدا يقيم السنة بعد الفترة، فقد يكون القيم بمعناه انتهى. أي بمعنى المقيم السنة إلخ، فيكون اسما آخ غير قثم، فعلى المصنف مؤاخذة؛ لأن المصوب لم يجزم بالتصويب بل قال فيما أرى، أي أظن ولم يستمر عليه، بل استدرك والقيم من أسمائه تعالى، كما في حديث أنت قيم السماوات والأرض. قال ابن دحية: وهو بمعنى القائم وأبلغ منه والفرق بينه وبين القيوم، والقيام أنهما يختصان به تعالى، لما فيهما من الأبلغية ولا يستعملان في غير المد بخلاف القيم. "القوي" صفة مشبهة، أي الشديد المتمكن، وهو من أسمائه تعالى، ويأتي للمصنف فعد ثمانية عشر فيها اثنان من أسمائه تعالى، زاد الشامي. القاري، أي الكريم الجواد اسم فاعل من القرى بالكسر مع القصر، وبالفتح مع المد، وهو البذل للأضياف القائد بالهمز الذي يقود الناس أي يقدمهم، فسيلك بهم، طريق الهدى، ويعدل بهم، عن سبيل الردى، وفي الترمذي مرفوعا. "وأنا قائدهم إذا فزعوا قدمايا" هو اسمه في التوراة، ومعناه الأول السابق القسم القطب. حرف ك:"كافة الناس"، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] قال الزمخشري: إلا إرساله عامة محيطهم بهم؛ لأنها إذا شملتهم، فقد كفتهم أن يخرج منها أحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 الكفيل، الكامل في جميع أموره، الكريم، كهيعص. "حرف ل": اللسان.   "الكفيل" السيد المتكفل بأمور قومه وإصلاح شأنهم، فعيل من الكفالة الضمان لتكفله لأمته بالفوز والنجاة بما ادخر لهم من الشفاعة، أو بمعنى مفعول كجريح وكحيل؛ لأن الله تكفل له بالنصر والظفر، أو بمعنى الكفل وزن طفل، وهو الرحمة والنعمة؛ لأنه رحمة للخلق ونعمة لهم من الحق "الكامل في جميع أموره" خَلقا وخُلقا ومنه العبادات وغيرها، وقد كان خُلقه القرآن. "الكريم" الجواد المعطي، أو الجامع لأنواع الخير والشرف، أو الذي أكرم نفسه، أي طهرها عن التدنس بشيء من المخالفة ومر أن أحد القولين في أنه لقول رسول كريم محمد صلى الله عليه وسلم، ورجحه المصنف فيما يأتي قريبا، وهو من أسماء الله، أي المتفضل أو العفو أو العلي أو الكبير وكلها صحيحة في حقه لله. "كهيعص" ذكره ابن دحية في أسمائه وغيره في أسماء الله تعالى، فهي خمس واحد من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي الكاف بشد الفاء، أي الذي كف الناس عن المعاصي، وليس معناه المرسل إلى الناس كافة؛ لأن كافة لا يتصرف منه فعل، فيكون اسم فاعل، قال ابن دحية الكافة، أي الجامع المحيط والهاء للمبالغة اسم فعل من الكف المنع، أو مصدر كالعافية. الكافي اسم فاعل من الكفاية سد الخلة وبلوغ المراد في الأمر؛ لأنه سد خلل أمته بالشفاعة يوم الحساب، وبلغهم مرادهم، أو لأنه كفى شر أعدائه، فيكون المراد المكفي بفتح الميم، وهو سائغ كعيشة راضية الكثير الصمت أي القليل الكلام فيما لا يجدي نفعا كنديدة. قال ابن دحية هو اسمه في الزبور. الكنز في الأصل المال، أو الشيء النفيس، سمي به لنفاسته، أو لأنه حصل لنا به سعادة الدارين. الكوكب سيد القوم، وفارسهم، أو النجم المعروف، سمي به لوضوح شريعته وسمو ملته. حرف ل: "اللسان" المراد هنا المتكلم عن القوم، سمي به لأنه لشدة بلاغته وفصاحته، كأن مجموعه لسان، وحكي أن المراد بقول الخليل {وَاجْعَلْ لِي لسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته من يقوم مقامه بالحق ويدل عليه، فاجيب دعوته بالمصطفى وزاد الشامي. اللبيب أي الفطن العاقل، الزكي اللسن بوزن كتف الفصيح البليغ اللوذعي، أي الذكي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 "حرف م": الماجد، ماذماذ، المؤمل، الماحي، المأمون، المانح، الماء المعين، المبارك، المبتهل، المبرأ المبشر،   الفصيح الحديد الذهن، كأنه يلذع بالنار من توقد ذكائه. الليث بمثلثة الشديد القوي، أو السيد الشجاع، أو اللسان البليغ. حرف م: "الماجد" المفاضل الكثير الجود، أو الحسن الخلق السمح، أو الشريف اسم فاعل من المجد، وهو سعة الشرف وكثرة العوائد، قال إياس بن سلمة بن الأكوع. سمع الخليفة ماجد وكلامه ... حق وفيه رحمة ونكال وهو من أسمائه تعالى: قال الغزالي الماجد والمجيد هو الشريف لذاته الحميد فعاله الجزيل عطاؤه. فجمع معنى الجليل والوهاب والكريم. "ماذماذ" فألف فذال معجمة منونة، ثم ميم، فألف فمعجمة، أي طيب طيب، كما يأتي للمصنف. قال الشمني والميم مفتوحة وهو غير مهموز. "المؤمل" بفتح الميم، أي المرجو خيره. "الماجي" فقدم معناه ويأتي للمصنف. "المأمون" بالهمز اسم مفعول من الائتمان، وهو الاستحفاظ، أي الذي يوثق بأمانته وديانته سمي بذلك؛ لأنه لا يخاف من جهته. "المانح" المعطي اسم فاعل من منح إذا أعطى الجزيل وأولى الجميل. "الماء المعين" بفتح الميم، وهو الظاهر الجاري على وجه الأرض فعيل بمعنى فاعل. "المبارك" العظيم البركة وهي لفظ جامع لأنواع الخير، ومنه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة} [الدخان: 3] ، ويأتي للمصنف، وقال حسان: صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد سمي بذلك، لما جعل الله في حاله من البركة والثواب، وفي أصحابه من الفضائل وفي أمته من زيادة القدر على الأمم. "المبتهل" المتضرع المتذلل من الابتهال التضرع، وقيل في قوله تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِل} [آل عمران: 61] أي نخلص في الدعاء. "المبرأ" المنزه المبعد عن كل وصف ذميم. المبشر اسم فاعل من البشارة الخبر السار، وأما {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فبمعنى أنذرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 مبشر اليائسين، المبعوث بالحق، المبعوث، المبلغ، المبيح، المبين، المتبتل، المتبسم، المتربص، المترجم، المتضرع، المتقي، المتلو عليه، المتهجد، المتوسط،   استعيرت البشارة للإنذار بإدخاله في جنسها تهكما واستهزاء. "مبشر اليائسين" بمعنى ما قبله. "المبعوث بالحق،" أي المرسل به، "المبعوث" اسم مفعول من البعث والإرسال. "المبلغ" المؤدي الرسالة، كما أمر {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك} ، كما أشار له المصنف فيما يأتي. "المبيح" لأمته ما حرم على الأمم السابقة، كما يأتي بيانه في الخصائص. "المبين" بكسر الباء وخفة الياء الساكنة من أبان الشيء إذا أظهره، كما قال تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] ، و {قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] وبشد التحتية اسم فاعل من التبيين، وهو الإظهار، قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية، أفادهما المصنف فيما يجيء تبعا لعياض، فقصر الشامي في الاقتصار على الثاني. "المتين" القوي الشديد، ومنه حبل متين، وهو من أسمائه تعالى، أي القوي السلطان البالغ أقصى مراتب القدرة والإمكان. "المتبتل" المخلص المنقطع إلى الله بعبادته، قال تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] . "المتبسم" من التبسم، وو البشاشة؛ لأنه كان يلقى الناس بالبشر وطلاقة الوجه مع حسن العشرة، ويرحم الله القائل: بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف الذي يأتي به، وهو ضاحك "المتربص" ذكره الشمس البرماوي في رجال العمدة، أخذا من قوله تعالى، آمرا له أن يقول للكفار: {تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] ، أي انتظروا حصول ما تتمنونه لي، فإني منتظر وعد ربي من النصر عليكم والظفر بكم. "المترحم" اسم فاعل من ترحم. "المتضرع" في الدعاء الخاضع لله. "المتقي" اسم فاعل من اتقى. "المتلو عليه" من التلاوة لأن جبريل كان يتلو عليه القرآن، أي يدارسه به، "المتهجد" قال تعالى: {مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِه} [الإسراء: 79] "المتوسط" المتردد في الشفاعة بين الله وبين الأمة "المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله فإذا أمره بشيء نهض، بلا جزع، قاله ابن دحية، وهو من أسمائه في التوراة كما في البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاصي بلفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 المتثبت، مجاب، مجيب، المجتبي، المجير، المحرض، المحرم، المحفوظ، المحلل، محمد، المحمود، المخبر، المختار، المخصوص   أنت عبدي ورسولي، سميت المتوكل وفي التنزيل {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} [النساء: 81] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوت} [الفرقان: 58] . "المتثبت" بكسر الباء مبنيا للفاعل، أي لمن اتبعه على الدين، أو بفتحها مبنيا للمفعول من الثبات، وهو التمكن والاستقرار، قال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاك} [الإسراء: 74] سمي بذلك؛ لأن الله ثبت قلبه على دينه وهما اسمان له، كما في الشامية، "مجاب" وفي الشامي بزيادة أل، أي والمعطي سؤاله. "مجيب" اسم فاعل من أجاب، وزاده الشامي. أل. "المجتبى" اسم مفعول من الاجتباء، وهو الاصطفاء، كما في الصحاح. "المجير" من أجار، أي أنقذ من استجار به وأغاث من استغاث به. "المحرض" بكسر الراء المشددة فضاد معجمة على القتال والجهاد، أو العبادة، أي المحث على ذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] "المحرم" المتولى عن الله، التحريم كما قال السيوطي أو للظلم وهو مجاوزة الحد، كما، قال غيره. "المحفوظ" من الحفظ؛ لأنه محفوظ من الشيطان. روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة، فقال: "إن الشيطان عرض لي فشد علي بقطع الصلاة علي، فأمكنني الله منه" وفيه دليل على حفظه منه وسئل لِمَ لَمْ يفر منه، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر: "ما لقيك الشيطان ساكا فجا إلا سلك فجا غيره" رواه الشيخان وأجيب بأنه لما عصم صلى الله عليه وسلم منه ومن مكره، وحفظ من كيده وغدره وأمن من وسواسه وشره، كان اجتماعه به وهروبه منه سببين في حقه، ولما لم يبلغ عمر هذه الرتبة العلية، كان هروبه منه أولى في حقه، وأتقن لزيادة حفظه، وأمكن لدفع شره على أنه يجوز حمل الهارب من عمر على غير قرينه. أما هو فلا يهرب منه، بل لا يفارقه؛ لأنه وكل به كغيره انتهى. "المحلل" شارع الحلال، وهو ما أذن في تناوله شرعا. "محمد" الاسم الأول كما يأتي، "المحمود" المستحق؛ لأن يحمد لكثرة خصاله الحميدة، ويأتي "المخبر" بكسر الباء المبلغ عن الله ما أوحى إليه. "المختار" اسم مفعول من الاختيار، وهو الاصطفاء كما في الصحاح. روى الدارمي عن كعب الأحبار، قال في السطر الأول من التوراة محمد رسول الله عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة. "المخصوص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 بالشرف، المخصوص بالعز، المخصوص بالمجد، المخلص، المدثر، المدني، مدينة العلم، المذكر، المذكور، المرتضى المرتل، المرسل، المرتجى،   بالشرف" الكامل "المخصوص بالعز" الكامل. "المخصوص بالمجد" الكامل الذي لم يصل غيره إلى كل من الثلاثة، فلا ينافي أن كل الأنبياء لهم شرف وعز ومجد. "المخلص" الصادق في عبادته الذي ترك الرياء في طاعة الله، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر: 14] . قال القشيري الإخلاص إفراد الحق بالطاعة بالقصد، أو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، والفرق بينه وبين الصدق أنه التنقي عن مطالعة النفس، والإخلاص التوقي عن ملاحظة الخلق، والمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له. "المدثر المدني" يأتيان للمصنف. "مدينة العلم" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". رواه الترمذي والحاكم وصححه وغيرهما، عن علي والحاكم أيضا، والطبراني وأبو الشيخ وغيرهم عن ابن عباس. والصواب أنه حديث حسن، كما قاله الحافظان العلائي وابن حجر، لا موضوع، كما زعم ابن الجوزي، ولا صحيح كما قال الحاكم لكن من المحدثين من يسمى الحسن صحيحا. "المذكر" المبلغ الواعظ اسم فاعل من التذكرة الموعظة والتبليغ، ويأتي استدلال المصنف له بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21] . "المذكور" في الكتب السالفة. "المرتضى" الذي رضيه مولاه، أي أحبه واصطفاه. "المرتل" بكسر الفوقية اسم فاعل من رتل مضاعفا، وهو الذي يقرأ القرآن على مهل وتؤدة مع تبيين للحروف والحركات، قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] . روى الترمذي عن حفصة كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة ويرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. "المرسل" ذكره ابن دحية وغيره من قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الرعد: 43] . الفرق بينه وبين الرسول أن الأول لا يقتضي التتابع في الإرسال، بل قد يكون مرة واحدة والرسول يقتضيه. "المرتجى" بفتح الجيم من الرجاء، أي الأمل؛ لأن الذي يرجوه الناس لكشف كروبهم وجلاء مصائبهم وأعظمها يوم القيامة في فصل القضاء، قاله السيوطي، قال عبد الباسط، أو بكسر الجيم اسم فاعل، أي المؤمل من الله قبول شفاعته في أمته. روى الشيخان مرفوعا: "لكل نبي دعوة مستجابة وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 المرحوم، المرتفع الدرجات، المرء -وهو الرجل الكامل المروءة- المزكي، المزمل، المسبح، المستغفر، المستغني، المستقيم، المسري به، المسعود،   نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئا". "المرحوم" اسم مفعول من رحم بالبناء للمفعول. "المرتفع الدرجات" معناه ظاهر "المرء" مثلث الميم، "وهو الرجل الكامل المروءة" بالهمزة وتركه الإنسانية، قاله الجوهري، وهو اسم جامع لكل المحاسن قيل هي صون النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس، وقيل إن لا تعمل سرا ما تستحيي منه علانية، وقال جعفر الصادق، هي أن تطمع فتذل وتسأل فتثقل، ولا تبخل فتشتم، ولا تجهل فتخصم، وعن عمر بن الخطاب المروءة مروءتان، مروءة ظاهرة وهي الرياسة، ومروءة باطنة وهي العفاف، وهذا ليس بخلاف محقق، بل كل عبر بما سنح له. سمى صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه منها بمكان، قال زهير بن صرد: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر "المزكي" أخذه السيوطي من قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِم} ، أي يطهرهم من الشرك والآثام، "المزمل" يأتي للمصنف. "المسبح" بمهملتين بينهما موحدة المهلل الممجد اسم فاعل من التسبيح، وهو تنزيه الحق عن أوصاف الخلق، وفرق بينه وبين التقديس والتنزيه، بأن التقديس تبعيد الرب عما لا تليق به الربوبية، والتنزيه تبعيده عن أوصاف البشرية، والتسبيح تبعده عن أوصاف جميع البرية. "المستغفر" من غير تأثم هذا بقية الاسم كما في الشامي، قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} [النصر: 3] ، فالاستغفار ليس لذنب، كما أفاده، بل لإظهار العبودية لله، والشكر لما أولاه، ويأتي بسطه في الخصائص إن شاء الله تعالى، وقد روى ابن السني عن ابن عمر كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقولها قبل أن يقول شيئا: "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم". "المستغني" مر في الغنى معناه. "المستقيم" اسم فاعل من الاستقامة، قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} أي استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها، أي داوم على ذلك. قال القشيري: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وببلوغها حصول الخيرات، ونظامها وأول مدارجها التقويم، وهو تأدب النفس، ثم الاستقامة وهي تقريب الأسرار، وقيل الخروج من المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الحق على قدم الصدق. "المسرى به" بضم فسكون اسم مفعول من الإسراء لاختصاصه به، كما يأتي. "المسعود" اسم مفعول من أسعده الله، أي أغناه وأذهب تعبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 المسلِّم، المسلَّم، المشاور، المشفع، المشفوع، المشفح، المشهود، المشير، المصباح، المصارع، المصافح، مصحح الحسنات، المصدوق، المصطفى،   قال ابن دحية: ويجوز أنه بمعنى فاعل كالمحجوب بمعنى محب من سعد كعلم، وعنى سعادة، فهو سعيد ومسعود، أي حصل له اليمن والبركة. "المسلم" بكسر اللام الثقيلة المفوض إلى الله بلا اعتراض المتوكل عليه في جميع الأغراض. "المسلم" بفتح الللام المشددة من القتل والاغتيال والله يعصمك من الناس. "المشاور" اسم فاعل من المشاورة، وهي استخراج الآراء ليعلم ما عند أهلها، قال تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} الآية، روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ما رأيت أحدا أكثر مشورة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. "المشفع" بفتح الفاء الذي يشفع فيقبل. "المشفوع" ذكره ابن دحية، قال السيوطي: ولم يظهر لي معناه؛ لأنه لا يصح أن يكون من الشفاعة لأن اسم المفعول منها مشفع من شفع. "المشفح" بضم الميم وفتح المعجمة والفاء المشددة فمهملة، وروي بقاف بدل الفاء الحمد بالسريانية، كما يأتي للمصنف. "المشهود" اسم مفعول الذي تشهد أوامره ونواهيه، وتحضر، قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود} حكى القرطبي: إن الشاهد الأنبياء والمشهود النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 81] . "المشير" اسم فاعل من أشار عليه إذ نصح له وبين له الصواب سمي بذلك؛ لأنه الناصح المخلص في نصحه. "المصباح" السراج وأحد أعلام الكواكب سمي به لأنه أضاء به الآفاق. "المصارع" الذي يصرع الناس بقوته، أي يطرحهم، أو أصله بالسين فابدلت صادا، أي المبادر للشيء المقبل عليه لكن يؤيد الأول ما رواه البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم صارع أبا الأسيد كلدة الجمحي فصرعه وبلغ من شدة أبي الأسيد أنه كان يقف على جلد البقرة، ويجاذبه عشرة من تحت قدميه، فيتمزق الجلد من تحته ولا يتزحزح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن نقله المصنف في المقصد الثالث. "المصافح" اسم فاعل من المصافحة الآخذ باليد، قال النووي، هي عند التلاقي سنة مجمع عليها ويستحب معها البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة. "مصحح الحسنات" لأن شرط صحتها الإيمان، به "المصدوق" يأتي للمصنف "المصطفى" من أشهر أسمائه، ومر في المقصد الأول أحاديث فيها أن الله اصطفاه على خلقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 المصلح، المصلى عليه، المطاع، المطهر، المظهر، المطلع، المطيع، المظفر، المعزر، المعصوم، المعطي، المعقب، المعلِّم، معلم أمته، المعلَّم، المعلن،   "المصلح" اسم فاعل من أصح، أزال الفساد وأوضح سبيل الرشاد وهو مصلح للدين بإزالة الشرك وللخلق بالهداية. "المصلى عليه" بفتح اللام من الله وملائكته. "المطاع" المتبع الذي ينقاد له قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} الآية، وأحد القولين في قوله مطاع، ثم أمين أنه النبي صلى الله عليه وسلم. "المطهر" نقله ابن دحية عن كعب، قال السيوطي: يحتمل أنه بكسر الهاء اسم فاعل؛ لأنه طهر غيره من دنس الشرك وبفتحها اسم مفعول؛ لأنه طهر ذاتا ومعنى ظاهرا وباطنا، ويأتي بمعناه للمصنف "المظهر" بالمعجمة وكسر الهاء شرائع الأحكام ودين الإسلام والآيات البينات. "المطلع" المشرف على المغيبات العالم بها. "المطيع" المنقاد لربه اسم فاعل من الطوع الانقياد، وقد ورد به حديث ابن ماجه عن ابن عباس كان صلى الله عليه وسلم يقول: "رب اجعلني شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا إليك أواها منيبا". "المظفر" المنصور على من عداه. "المعزر" ذكره ابن دحية من قوله {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوه} [الأعراف: 157] فأوجب الله تعزيره وتوقيره وإكرامه. ومعنى يعزروه يجلوه، أو يبالغوه في تعظيمه، أو يعينوه وقريء بزاءين من العز. "المعصوم" قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} [المائدة: 67] . "المعطي" الواهب المتفضل اسم فاعل من العطاء وهو الإنالة وهو من أسمائه تعالى. "المعقب" قال السيوطي كأنه بفتح العين وكسر القاف المشددة بمعنى العاقب؛ لأنه قب الأنبياء، أي جاء بعدهم قال غيره أو من أعقب إذا أخلف عقبا لبقاء عقبه من فاطمة إلى يوم القيامة. "المعلم" بكسر اللام المرشد للخير والدال عليه، قال حسان: معلم صدق إن يطيعوه يهتدوا. "معلم أمته" ما لم يكونوا يعلمون. "المعلم" اسم مفعول، قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ، كما يأتي للمصنف. "المعلن" المظهر بدعوته في حديث علي في صفة الصلاة عليه المعلن الحق بالحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 المعلى، المفضال، المفضل، المفتاح، مفتاح الجنة، المقتصد، المقتضي: يعني قفا النبيين، المقدس، المقري، المقسط، المقسم، المقصوص عليه، المقفى، وقيل بزيادة تاء بعد القاف كما تقدم، مقيل العثرات،   "المعلى" الذي رفع على غيره اسم مفعول من التعلية الرفعة. "المفضال" صيغة مبالغة من الأفضال وهو الجود والكرم. "المفضل" قال السيوطي: يحتمل أنه يوزن المكرم فيكون بمعنى الذي قبله وأنه بوزن المقدس، أي المفضل على جميع العالمين، وقال غيره، أي المشرف على غيره اسم مفعول من التفضيل وهو الشريف والتكريم، سمي بذلك؛ لأن الله فضله على جميع الخلائق وخصه بالرتب. "المفتاح" الذي يفتح به المغلاق. "مفتاح الجنة" لأن أول من يفتح له صلى الله عليه وسلم. "المقتصد" بكسر المهملة المستقيم اسم فاعل من الاقتصاد افتعال من القصد، وهو استقامة الطريق أو العدل. "المقتفي" كما في حديث عند ابن عدي وأنا المقتفي قفيت النبيين عامة، ولذا قال "يعني قفا النبيين" أي جاء على أثرهم فوقف على أحوالهم وشرائعهم، فاختار الله له من كل شيء أحسنه، وكان في قصصهم له ولامته عبر وفوائد، أو المراد أنه آخرهم وخاتمهم وعليه المصنف فيما يأتي. "المقدس" بفتح المهملة سماه الله به في الكتب السابقة، أي المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب، أو المطهر من الأخلاق السيئة والأوصاف الذميمة ويأتي للمصنف. "المقرئ" بالهمز الذي يقرئ غيره القرآن، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن" أي أعلمك، كما يقرأ الشيخ على الطالب ليفيده، لا ليستفيد منه وفيه منقبه لأبي "المقسط" اسم فاعل أقسط إذا عدل هو من أسمائه تعالى أي العادل في حكمه المنصف المظلوم من الظالم. "المقسم" اسم فاعل من اقسم حلف؛ لأنه كان ل يقسم إلا فيما يرضي ربه، ولا يكون إلا صادقا بارا فسمي به إشعارا بأنه الحقيق بذلك الوصف دون غيره، "المقصوص عليه" قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} . "المقفى" بضم الميم وفتح القاف وكسر الفاء المشددة ورد في حديث حذيفة عند أحمد وغيره برجال ثقات مرفوعا، "وقيل بزيادة تاء" فوقية "بعد القاف كما تقدم" قريبا، وقاله بعض شراح الشفاء عن الطيبي. وكان الشامي لم يقف عليه بزيادة التاء لغير المصنف فعزاه له حيث قال ذكره شيخنا أبو الفضل بن الخطيب. "مقيل العثرات" أي عارف الزلات لمن صدرت منه، فلا ينتقم لنفسه، وإنما يغضب إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 مقيم السنة بعد الفترة، المكرم، المكتفي، المكين، المكي، الملاحمي، ملقي القرآن، الممنوح المنادي، المنتصر، المنجين المنذر،   انتهكت حرمات الله، ويقال للزلة عثرة؛ لأنها سقوط في الإثم، وقد روى أحمد وأبو داود عن عائشة مرفوعا: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود"، ورواه الشافعي، وابن حبان بلفظ: "أقيلوا ذوي الهيئات زلاتهم". قال الشافعي نقلا عن أهل العلم: هم الذين لا يعرفون بالشر فتزل بأحدهم الزلة، وقال الماوردي في عثراتهم وجهان أحدهما الصغائر والثاني أول معصية زل فيها مطيع. "مقيم السنة بعد الفترة"، كما هو نص الزبور، كما يأتي للمصنف ومعناه في التوراة. "المكرم" بشد الراء وخفتها؛ لأنه أكرم الخلق على الله. "المكتفي" بالله، أي الذي أسلم أموره إليه وتوكل عليه. "المكفي" اسم مفعول، أي الذي كفاه الله مهماته، أي أغناه عن التعب في دفعها بنصره وقيامه بأمره، وكفى الله المؤمنين القتال أغناهم عنه. "المكين" فعيل من المكانة ويأتي للمصنف، وكذا "المكي الملاحمي" نسبة إلى الملاحم جمع ملحمة، وهو القتال؛ لأنه بعث بالسيف والجهاد، "ملقي القرآن" على أمته أي مبلغة إليهم، أو بمعنى المتلقي، أي المتصدي لسماعه حين ينزل، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] ، وتخصيص القرآن بالذكر؛ لأنه المعجزة العظمى، فلا ينافي مشاركة غيره له في الإلقاء. "الممنوح" المعطى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] . قال البيضاوي وعد شامل، لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخره له مما، لا يعلم كنه سواه. "المنادي" بكسر الدال الداعي إلى الله وتوحيده، قال ابن جريح في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} هو محمد صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم، أو بفتح الدال، أي المدعو إلى الله ليلة الإسراء على لسان جبريل، وهما اسمان له، كما في الشامي. "المنتصر" من ربي على أعدائه وفي نسخة المنتظر بالظاء المعجمة، أي لجميع الأمم لأخذ الله الميثاق على الأنبياء وأممهم أن من أدركه يؤمن به وينصره، فكل نبي مع أمته كانوا ينتظرون زمانه. "المنجي" من اتبعه من النار. "المنذر" من الإنذار، وهو الإبلاغ مع تخويف، قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} حصر خاص، أي لست بقادر على هداية الكفار لا عام؛ لأن له أوصافا أخرى كالبشارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 المنزل عليه، المنحمنا، المنصف، المنصور، المنيب، المنير، المهاجر، المهتدي، المهدي، المهداة، المهيمن، المؤتمن، المؤتي جوامع الكلم، الموحي إليه، الموصل، الموقر، المولي، المؤمن   "المنزل عليه" ظاهر المعنى. "المنحمنا" بضم فسكون ففتح فكسر فشد، وقيل بفتح الميمين، أي محمد بالسرياني، كما يأتي للمصنف. "المنصف" بضم أوله وسكون النون وكسر المهملة العادل، وكان أشد الناس إنصافا. "المنصور" المؤيد اسم مفعول من النصر التأييد. "المنيب" المقبل على الطاعة. "المنير" اسم فاعل من أنار إذا أضاء، أي المنور قلوب المؤمنين بما جاء به. "المهاجر" لأنه هاجر من مكة إلى المدينة. "المهتدي" معناه واضح. "المهدي" بكسر الدال اسم فاعل من أهدى بمعنى هدى وهو المرشد والدال على طريق الخير، قال تعالى: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] وقال حسان يرثيه: جزعا على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الثري، لا تبعد أو بفتح الدال اسم مفعول من أهدى الشيء يهديه، فهو مهدي وهما اسمان له، كما في الشامي "المهداة" بضم أوله وفتح الدال، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة مهداة" رواه البيهقي. "المهيمن" يأتي للمصنف، وهو من أسمائه تعالى، أي الشاهد الحافظ، أو المؤمن أو الأمين أو القريب أو القائم على خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم مهيمن، بما عدا الأخير على أنه يصح عليه أيضا أنه القائم على خلق الله. "المؤتمن" بفتح الميم الثانية الذي يؤتمن أمانته ويرغب في ديانته؛ لأنه حافظ للوحي مؤتمن عليه، أو على هذه الأمة، أي شاهد عليها. "المؤتي جوامع الكلم" يأتي الكلام عليه في الخصائص "الموحى إليه" على صفات عديدة، كما مر أوائل الكتاب. "الموصل" اسمه في التوراة، ومعناه مرحوم "الموقر" ذو الحلم والرزانة، وقد كان أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه. "المولى" أي السيد المنعم الناصر المحب، وهو من أسمائه تعالى، ويأتي استدلال المصنف له بقوله أنا ولي كل مؤمن. "المؤمن" بهمزة وتبدل واوا تخفيفا لسكونها بعد ضمة، وهي لغة الحجاز المتصف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 المؤيد، الميسر.   بالإيمان ويأتي للمصنف "المؤيد" بفتح التحتية. المنصور، أي المقوي المعان هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين، أو بكسرها أي الناصر، أو القوي، أو الشديد، وهما اسمان له، كما في الشامي. "الميسر" المسهل للدين اسم فاعل روى مسلم عن جابر مرفوعا إن الله بعثني ميسرا فعد مائة واثنين وأربعين فيها من أسماء الله تعالى ستة، وزاد الشامي أسماء هي المؤمم بالهمز، أي المقصود الذي يؤم كل راج حماه لغة في الميم بالياء المؤيد بالكسر المتبع الذي يتبعه غيره، أي يقتدي به المتلو اسم مفعول من التلو، وهو المتابعة، المتمكن، أي المتمكن في الأرض الذي أطاعه الناس واتبعوه. المتمم لمكارم الأخلاق المتمم بالبناء للمفعول خلقا المثبت بفتح الموحدة؛ لأن الله ثبته على دينه. المجادل، أي المحكم المتقن للأمور، أو المحاجج المجيد الرفيع القدر أو الكريم، وهو من أسمائه تعالى. المحجة جادة الطريق من الحج القصد والميم زائدة المحكم بفتح الكاف المشددة، أي الحاكم، وهو القاضي المحيد من حاد عن الشيء إذا عدل عنه؛ لأنه حاد عن الباطل واتبع الحق، أو من أحاد؛ لأنه عدل بأمته إلى الطريق المستقيم. المخبت الخاشع المختص اسم مفعول؛ لأن الله اختصه لنفسه واستأثر به على خلقه، أو اسم فاعل لاختصاصه بملازمة العبادة واستئثاره بزيادة حب الله وقربه المختص بالقرآن المختص بآي، لا تنقطع. المختم اسم مفعول من تختم اتخذ خاتما. المخضم بضاد معجمة وزن منبر السيد الشريف العظيم المنيف مرحمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت مرحمة وملحمة". رواه أبو نعيم المزمزم بضم الميم الأولى وفتح الثاني أي المغسول قلبه بماء زمزم. المرشد الهادي الدال على طريق الهدي مرغمة وقع في الصحاح بعثت مرغمة، أي مذلا للكفر حتى يلصق بالرغام بالفتح التراب، ثم استعمل في الذل والعجز. المرغب اسم فاعل؛ لأنه يحث على الطاعة مزيل الغمة الكرب والمشدة. المستجيب، أي المطيع أو بمعنى مستجاب فعيل بمعنى مفعول لوجوب طاعته وإجابته ولو في الصلاة، ولا تبطل المستعيذ من العوذ الالتجاء إلى الله. المسدد أخاه السيوطي من قوله تعالى لسعيا أسدده لكل جميل. المسيح المبارك باليونانية، أو الذي يمسح العاهات فيبرئها، المشذب بمعجمتين آخره موحدة الطويل المعتدل القامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 ...............................................   المشرد اسم فاعل بالعدو، وهو التنكيل وتعجم داله، وبه قرأ ابن مسعود فشرذبهم المشيح بضم الميم وكسر المعجمة وسكون التحتية فمهملة، أي بادي الصدر من غير تطامن، بل بطنه وصدره سواء. قال عياض ولعله بفتح الميم بمعنى عريض الصدر، كما في الرواية الأخرى المصدق اسم فاعل المذعن المنقاد، لما أمر به لتصديقه جبريل فيما أخبره به عن ربه المصدق بالبناء للمفعول؛ لأن أمته صدقته المصون المضخم بمعجمتين، وزن منبر السيد الشريف المضري بمعجمة نسبة إلى مضر جده المضيء، أي المنير المعروف، أي معروف الله، أي بره وإحسانه، أو صاحب المعروف المعمم بالبناء للمفعول، أي صاحب العمامة، وهو من أسمائه في الكتب السابقة. المعين الناصر أو كثير المعونة المعاضدة والمساعدة المغرم بالضم وسكون المعجمة، أي المحب لله من الغرام، وهو الولوع بالشيء والاهتمام به. المغنم بمعجمة ونونة وزن جعفر الخيار من كل شيء. المغني المحسن المتفضل، قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِه} الآية، وفيه تشريفه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، والتنبيه على علو مقامه هو عظم شأنه حيث ذكره معه في إيصال الصنيع إلى عباده، وجعله مغنيا لهم بما فتح الله على يديه وأفاء من الغنائم. المفخم بشد المعجمة المفتوحة الموقر المعظم في الصدور المهاب في العيون. المفلج بجيم كمعظم، أي الثنايا، وهو تباعد ما بين الأسنان. المفلح اسم فاعل من الفلاح الفوز. المقدم بالفتح؛ لأن الله قدمه على الأنبياء خلقه ورتبة وشرفا. المقدم بالكسر؛ لأن أمته قدمته بسببه، أي فضلت على غيرها المقوم بفتح الواو، أي المستقيم أو بمعنى القيم. المكلم بفتح اللام المشددة؛ لأنه كلمة ليلة المعراج. الملاذ بمعجمة الملبي بضم الميم وفتح اللام وموحدة المطيع، أو المخلص، أو المجيب أو المحب. الملجأ بالجيم مهموز، أي الملاذ. المليك فعيل، وهو من أسمائه تعالى، أي القادر على الإيجاد والاختراع، أو ضابط الأمور. المتصرف الملك بكسر اللام الذي يسوس الناسد ويدير أمرهم، أو ذو العز والسلطان، وهو من أسماء الله تعالى. أي المستغني في ذاته وصفاته عن الكون والموجودات، ولا غنى لأحد عنه، أو القادر على الاختراع والإبداع، المليء باللام مهموز، أي الغني بالله عما سواه، أو الحسن حكمه وقضاؤه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 "حرف ن": النابذ، الناجز، الناس لقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] ، المفسر به عليه الصلاة والسلام، الناسخ، الناشر،   الممنوع الذي له منعة، أي قوة تمنعه من الشيطان والأعداء، أو الذي منعه الله العدا والردى، المنتجب بالجيم، المنتخب بالخاء المعجمة كلاهما بمعنى المختار. المنجد المعين الناصر، أو مرتفع القدر. المنقذ بنون فقاف فمعجمة، المخلص من الشدائد؛ لأنه ينقذنا بالشفاعة يوم القيامة قال حسان: يدل على الرحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد منة الله. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِين} ، وخصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بمبعثه. المهاب بالضم الذي يخافه الناس لعظم بأسه وسلطانه، المهذب بالمعجمة المطهر الأخلاق الخالص من الأكدار، المورود حوضه، أي يوم القيامة. موذموذ اسمه في صحف إبراهيم. الموعظة ما يتعظ به ويتذكر. الموقن من أيقن الأمر فهمه وثبت في ذهنه. ميذميذ، قال العزفي هو اسمه في التوراة. الميزان حكى محمود الكرماني في قوله تعالى: {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَان} أنه محمد صلى الله عليه وسلم الميم بفتح التحتية كمعظم المقصود؛ لأن الخلق تؤم حماه يوم القيامة وتقصد جاهه لنيل السلامة. ا. هـ. باختصار. حرف ن: "النابذ" اسم فاعل من النبذ بسكون الباء وفتحها طرح الشيء لقلة الاعتداد به، قال تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} ، أي اطرح عهدهم على طريق مستو بأن تظهر إليهم نبذة بحيث يعلمون أنه قطع ما بينك وبينهم، لا تناجزهم بالحرب وهم يتوهمون بقاء العهد. "الناجز" المنجز، لما وعد وكان من ذلك بمكان "الناس لقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس} . "المفسر" عند عكرمة ومجاهد "به عليه الصلاة والسلام" رواه عنهما ابن جرير. سمي به من تسمية الخاص بالعام؛ لأنه أعظمهم وأجلهم، أو لجمعه ما فيهم من الخصال الحميدة. "الناسخ" اسم فاعل من النسخ لغة إزالة شيء يعقبه واصطلاحا رفع الحكم الشرعي بخطاب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نسخ بشريعته كل الشرائع وقد وصف الله نفسه في قوله ما ننسخ من آية. "الناشر" لأنه نشر الإسلام، وأظهر الشرائع كما يأتي للمصنف، قال غيره، أو هو بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 الناصح، الناضر، الناطق بالحق، الناهي، نبي الأحمر، نبي الأسود، نبي التوبة، نبي الحرمين، نبي الراحة، نبي الرحمة، النبي الصالح، نبي الله، نبي المرحمة، نبي الملحمة، نبي الملاحم، النبي، النجم النجم الثاقب، نجي الله، النذير، النسيب، نصيح، ناصح، النعمة، نعمة الله، النقيب، النقي، النور،   الحاشر "الناصح" مأخوذ من قوله الأنبياء ليلة الإسراء مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته "الناضر" بضاد معجمة. الحسن من النضارة الحسن والرونق. "الناطق بالحق" بالقرءان على أحد الأقوال في الحق خص؛ لأنه أعظم ما نطق به. "الناهي" اسم فاعل من النهي والزجر عن الشيء والآمر به تقدم في الآمر "نبي الأحمر نبي الأسود" أي الإنس والجن، أو العجم والعرب لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الأحمر والأسود" "نبي التوبة" وهي الرجوع والإنابة لرجوع الأمم بهدايته، بعد التفرق إلى الصراط المستقيم، كما يأتي للمصنف. "نبي الحرمين" مكة والمدينة، "نبي الراحة" بمهملتين رجوع النفس بعد الإعياء والتعب وسكونها، أو السهولة؛ لأنه أراح أمته من نصب الشرك، أو لأنه خفف بشرعه ما كان مشددا في شرع غيره من التكاليف الشاقة كقتل النفس في التوبة. "نبي الرحمة" يأتي المصنف. "النبي الصالح" كما قال له الأنبياء ليلة الإسراء مرحبا بالنبي الصالح. "نبي الله" ومر أنه يسمى أيضا رسول الله، فلا تتعسف. "نبي المرحمة نبي الملحمة" الحرب والقتال. "نبي الملاحم" جمع الملحمة وتأتي الثلاثة للمصنف وفي مسلم، وأحمد وغيرهما "أنا نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة"، وفي رواية "نبي المرحمة". "النبي النجم" يأتيان للمصنف، وأنه سمي به؛ لأنه يهتدى به، كما يهتدى بالنجم. "النجم الثاقب" المضيء الذي يثقب بنوره وإصاءته ما يقع عليه حكى السلمي أنه صلى الله عليه وسلم المراد في الآية. قال المصنف فيما يأتي والصحيح أنه النجم على ظاهره للاهتداء به كالنجم. "نجي الله" مناجيه، يقال للواحد والجمع، قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] وخلصوا نجيا ولم يأخذه أحد من ذلك، كما زعم إذ ضمير قربناه لموسى فكيف يؤخذ منه اسم لمحمد، وإنما ذكروه دليلا على أنه يقال للواحد، "النذير" المخوف من عواقب الأمور ويأتي للمصنف. "النسيب" ذو النسب العريق ومعلوم أن نسبه أشرف الأنساب من جهة أبويه معا وتقدم ذلك "نصبح" فعيل بمعنى فاعل من النصح، "ناصح" اسم فاعل بمعناه "النعمة" بالكسر الحالة الحسنة "نعمة الله" يأتي للمصنف" وكذا النقيب النقي الخالص من الأدناس المنزه عن الأرجاس "النور" يأتي أنه أحد القولين في: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُور} [المائدة: 15] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 نور الأمم أي الهادي لها الذي أوصلها نور الله الذي لا يطفأ. "حرف هـ": الهادي، هدى هدية الله، الهاشمي.   "نور الأمم، أي الهادي لها الذي أوصلها"، إلى الحق، كما يوصل النور إلى المطلوب. قال عياض سمي صلى الله عليه وسلم بالنور لوضوح أمره وبيانه وبيان نبوته وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به انتهى. وهو من أسمائه تعالى، أي خالق النور ومنور قلوب المؤمنين بالهداية والسماوات والأرض بالأنوار، "نور الله الذي، لا يطفأ،" أي حجته الدالة للحق على ما فيه صلاحهم من توحيده وتقديسه عن الولد والشريك ونحوهما، واتباع أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك، وقيل في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّه} أنه محمد صلى الله عليه وسلم فعد أربعا وثلاثين فيها واحد من أسماء الله تعالى، وزاد الشامي الناسك العابد اسم فاعل الناصب، ذكره ابن دحية، قال السيوطي: يحتمل أنه مأخوذ من قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} أي اتعب في الدعاء والتضرع، وأن معناه المبين لأحكام الدين من النصب بضم ففتح العلامات في الطريق يهتدي بها، أو المقيم لدين الإسلام من نصبته إذا أقمته قال غيره: أو الناصب المرتفع، أو للحرب، أي المقيم لها والمجتهد في الطاعة ناصر الدين بالإضافة أي مانعه من طعن الكفرة. الناظر من خلفه بفتح الميم على أن من موصولة، أي الذين وراءه، أو بكسرها على أنها جادة، أي يبصر من ورائه كأمامه. نبي زمزم النبأ بنون فموحدة مهموز، الشأن العظيم والخطب الجسيم، وقيل إنه المراد بقوله عن النبأ العظيم، وقيل القرآن. لنجيب الكريم، أو المختار النجيد بدال مهملة الدليل الماهر، أو الشجاع الماضي فيما يعجز عنه غيره، الندب بالفتح وسكون المهملة فموحدة، أي النجيب الظريف ذكر ابن عساكر عن بعضهم في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَم} ، إنه اسم له صلى الله عليه وسلم، وقيل من أسماء الله تعالى. حرف هـ: "الهادي" بمعنى الهداية والدعاء، كما يأتي للمصنف، وهو من أسمائه تعالى أي الذي بصر عباده طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته، أو هادي كل أحد إلى ما لا بد له منه، "هدى" وأدخل الشامي عليه أل، أي الرشاد والدلالة، ولقد جاءهم من ربهم الهدى، مصدر سمي به مبالغة. "هدية الله" التي أوصلها لعباده فضلا عليهم، وروى أحمد مرفوعا "إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للعالمين". "الهاشمي" نسبة إلى جد أبيه، فهي أربع واحد من أسمائه تعالى، وزاد الشامي الهجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 "حرف و": الوجيه، الواسط، الواسع، الواصل، الواضع، الواعد، الواعظ، الورع، الوسيلة، الوفي، ولي الفضل، الولي.   كصبور كثير التهجد الهمام بالضم الملك العظيم الهمة بالكسر وتفتح واحدة الهمم. الهين بفتح فسكون مخفف الساكن المتئد. حرف و: "الوجيه" ذو الوجاهة والجاه عند الله. "الواسط" ذكره ابن دحية، قال الجوهري: فلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا، وأرفعهم محلا، والواسط الجوهر الذي وسط القلادة. "الواسع" الجواد الكثير العطاء من الوسع مثلثة الواو كالسعة، وهي الجدة والطاقة وهو من أسمائه تعالى، أي المحيط بكل شيء، أو الذي وسع رزقه جميع خلقه، أو وسعت رحمته كل شيء، أو المعطي عن غنى، أو العالم، أو الغني. "الواصل" البالغ في النهاية والشرف ما لا يعلمه إلا الله. "الواضع" المزيل والقاطع اسم فاعل من الوضع أعم من الحط قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} أي يزيله، ويقطعه والإصر الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه عن الحركة، وهو مثل لثقل تكليف بني إسرائيل وصعوبته كقتل النفس في صحة التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة. "الواعد" اسم فاعل من الوعد إذا أطلق ففي الخير والوعيد في الشر إلا لقرينة كالبشارة والنذارة "الواعظ" قال تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة} ابن فارس الوعظ التخويف، الخليل التذكير بالخير وما ترق له القلوب. الجوهري النصح والتذكير بالعواقب. "الورع" بكسر الراء التقي اسم فاعل من الورع اتقاء الشبهات. "الوسيلة" ما يتقرب ويتوسل به إلى ذي قدر، وهو وسيلة الخلق إلى ربهم. "الوفي" الكامل الخلق التام الخلق من الوفاء، وهو أوفى الناس بالعهد، وأوفاهم ذمة، وهو من أسمائه تعالى. "الوافي" بمعنى الوفي لكماله خَلقا وخُلقا ورجحانه على غيره عقلا، قال حسان: واف وماض شهاب يستضاء به ... بدر أنار على كل الأناجيل "ولي الفضل" أي مولى" الإحسان والبر. "الولي" الناصر، أو الوالي، أو المتولي مصالح الأمة القائد بها، قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إلا المحب لله، أو المتصف بالولاية، وهي كشف الحقائق وقطع العلائق والتصرف في باطن الخلائق. قال القشيري: للولي معنيان فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى الله أمره، ولا يكله إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 "حرف ي": اليثربي، يس. وكنيته   نفسه لحظة. وبمعنى فاعل، وهو الذي يتولى عباد الله وطاعته فيجريها على التوالي، ولا يتخلل بينها عصيان، وهو من أسمائه تعالى، وهو الولي الحميد {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي يتولى نصرهم ومعونتهم وكفايتهم ومصالحهم، فهي ثلاثة عشر فيها اثنان من أسماء الله، وزاد الشامي الواحد بالجيم العالم، أو الغني من الجدة الاستغناء، وهو من أسمائه تعالى أي العالم، أو الغني الذي لا يفتقر. الوالي المالك، أو الملك، أو الحاكم، أو الشريف القريب، وهو من أسمائه تعالى. الوسيم بمهملة وتحتية كأمير الحسن الوجه الجميل. الوصي بالمهملة الخليفة القائم بالأمر بعد غيره لقيامه بالتبليغ والرسالة بعد عيسى الذي بشر به، وأخبر برسالته، وحض على اتباعه، الوهاب من الهبة بذل المال، بلا عوض، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي يعطي على قدر الاستحقاق، ولا يقبض ما في يمينه من كثرة الإنفاق انتهى. وهو بيان لمعناه في حقه تعالى وإلا فهو لغة كثير الهبة لمستحق، أو غيره. حرف ي: "اليثربي" نسبة إلى يثرب اسم المدينة الشريفة في الجاهلية، وقد ورد النهي عن تسميتها بذلك، كما مر غير مرة. "يس" يأتي للمصنف بسطه، وقد استبان من العد أن فيها من الأسماء الحسنى ستة وخمسين اسما أعني الواردة في حديثي الترمذي وابن ماجه، وإن نظرت إلى غيرها مما اختلف كيس وطه والم، وما يصح إطلاقه عليه على رأي من قال به كانت نحو سبعين، وهو مراد المصنف بقوله في المقصد السادس، أنه ذكر هنا نحو سبعين من أسماء الله الحسنى انتهى. يعني بالمعنى اللغوي إذ أسماؤه جل وعلا كلها حسنى، لا بالنظر إلى الوارد في الحديث من عدها، وزاد الشامي اليتيم من اليتم موت الأب قبل بلوغ الولد، أو من الانفراد كدرة يتيمية، كما قيل في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} ، أي واحدا في قريش عديم النظير انتهى. ومذهب مالك، لا يجوز عليه هذا الاسم. "وكنيته" قال الحافظ بضم الكاف وسكون النون من الكناية تقول كنيت عن الأمر إذا ذكرته بغير ما يستدل به عليه صريحا، واشتهرت الكنى للعرب حتى ربما غلبت على الأسماء كأبي طالب، وقد يكون للواحد كنية، فأكثر، وقد يشتهر باسمه وكنيته جميعا، فالاسم، والكنية، واللقب يجمعها العلم بفتحتين وتتغاير بأن اللقب ما أشعر بمدح، أو ذم، والكنية ما صدر بأب، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 المشهورة أبو القاسم، كما جاء في عدة أحاديث صحيحة. ويكني بأبي إبراهيم، كما جاء في حديث أنس في مجيء جبريل إليه عليهما الصلاة والسلام، وقوله السلام عليك يا أبا إبراهيم.   أم وما عدا ذلك، فالاسم انتهى، وقال ابن الأثير في كتابه المرصع الكنية من الكناية، وهي أن تتكلم بالشيء وتريد غيره جيء بها الاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه كيلا يصرح في الخطاب باسمه ومنه قول الشاعر: أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقبه والسوأة اللقبا ولقد بلغني أن سبب الكنى في العرب أنه كان لهم ملك من الأول ولد له ولد توسم فيه النجابة فشغف به، فلما نشأ وصلح لأدب الملوك أحب أن يفرد له موضعا بعيدا عن العمارة يقيم فيه ويتخلق بأخلاق مؤدبيه، ولا يعاشر من يضيع عليه بعض زمانه، فبنى له في البرية منزلا، ونقله إليه ورتب له من يؤدبه بأنواع الآداب العلمية والملكية وأقام له حاجته من الدنيا، وأضاف له من أقرانه بني عمه وغيرهم ليؤنسوه ويحببوا له الأدب بالموافقة، وكان الملك كل سنة يمضي له ومعه من له عنده ولد، فيسأل عنهم ابن الملك، فيقال له هذا، أبو فلان وهذا أبو فلان للصبيان الذين عنده فيعرفهم بإضافتهم إلى أبنائه فظهرت الكني في العرب انتهى. "المشهورة" ولذا بدأ بهما "أبو القاسم" باسم أكبر أولاده عند الجمهور. وقال العزفي وغيره؛ لأنه يقسم الجنة بين أهلها يوم القيامة، وقيل لقوله عليه السلام: "إني جعلت قاسما أقسم بينكم". "كما جاء" تكنيته بأبي القاسم "في عدة أحاديث صحيحة" كقول أبي هريرة في الصحيح: قال أبو القاسم: وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم في السواق، فقال رجل يا أبا القاسم، فالتفت صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لم أعنك إنما دعوت فلانا، فقال: "سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي" رواه الشيخان، وظاهره المنع، وهو المشهور عن الشافعي مطلقا، وقيل يختص بمن اسمه محمد لحديث نهى أن يجمع بين اسمه وكنيته، ومذهب مالك، وأكثر العلماء، كما قال عياض في شرح مسلم. الجواز مطلقا والنهي مختص بزمانه لإذنه صلى الله عليه وسلم لجماعة أن يسموا من يولد لهم بعده محمدا ويكنوه بأبي القاسم وبسط ذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى. "ويكني بأبي إبراهيم" باسم آخر أولاده، "كما جاء في حديث أنس" عند البيهقي "في مجيء جبريل إليه عليهما الصلاة والسلام" لما وقع في نفسه من تردد "مابور" الغلام الذي أهدي مع مارية عليها، فبعث عليًّا ليقتله فوجده ممسوحا، فرجع، فأخبره صلى الله عليه وسلم، فقال: "الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت"، "وقوله السلام عليك يا أبا إبراهيم" لفظ البيهقي وابن الجوزي عن أنس، لما ولد إبراهيم من مارية كاد يقع في نفس النبي منه حتى أتاه جبريل، فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم وعند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وبأبي الأرامل، فيما ذكره ابن دحية. وبأبي المؤمنين، فيما ذكره غيره. واعلم أنه لا سبيل لنا أن نستوعب شرح جميع هذه الأسماء الشريفة؛ لأن في ذلك تطويلا يفضي بنا إلى العدول عن غرض الاختصار، فلنذكر من ذلك ما يفتح الله تعالى به مما يدل على ما سواه وبالله أستعين. فأول ذلك ما له عليه الصلاة والسلام من معنى الحمد الذي هو اسمه   الطبراني من حديث ابن عمر وابن العاصي في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعمر بن الخطاب: "ألا أخبرك يا عمر أن جبريل أتاني، فأخبرني أن الله برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الناس بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم وكناني بأبي إبراهيم. ولولا أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها لتكنيت بأبي إبراهيم، كما به كناني جبريل". "وبأبي الأرامل" جمع أرملة لشدة احتياجهن، والأرملة العزباء ولو غنية خلافا للأزهري، ويحتمل أن المراد الفقراء لإطلاق الأرمل على الفقير، وهي كنيته في التوراة. "فيما ذكره ابن دحية" عن أبي الحسن سلام بن عبد الله الباهلي في كتاب الذخائر والإغلاق في آداب النفوس ومكارم الأخلاق، "وبأبي المؤمنين فيما ذكره غيره" قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] . وقرأ أبي بن كعب، وهو أب لهم، أي كأبيهم في الشفقة والرأفة والحنو، "واعلم أنه لا سبيل" طريق لائق "لنا أن نستوعب شرح جميع هذه الأسماء الشريفة" ولا يقدر الخبر ممكن؛ لأنها كلها مشروحة ولقوله "لأن في ذلك تطويلا يفضي بنا إلى العدول عن غرض الاختصار" الذي هو قصدنا في ذا الكتاب، "فلنذكر" بلام الطلب المراد بها مجرد الإخبار مجازا نحو {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ} [مريم: 75] {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] "من ذلك ما يفتح الله تعالى به" يسوقه ويرسله، أي يلهمنا إياه من إطلاق السبب وإرادة المسبب إذ فتح الباب سبب الخروج ما حفظ به "مما يدل على ما سواه" ولو بالإشارة "وبالله أستعين" أطلب المعونة، وهي تحصيل ماء، لا يتأتى الفعل دونه، كاقتداء الفاعل وتصوره، لما يريد فعله، وحصول آلة ومادة يفعل بها، أي الآلة في المادة وتحصيل ما تيسر به الفعل، ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي، "فـ" أقول "أول ذلك ما" وصف "له عليه الصلاة والسلام من معنى الحمد الذي هو اسمه" صفة مخصصة لمعنى الحمد الذي هو كالجنس؛ لأنه الوصف بالجميل فيشمل سائر أسمائه وصفاته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 المنبئ عن ذاته الشريفة، الذي سائر أسماء أوصافه راجعة إليه، وهو في المعنى واحد، وله في الاشتقاق صيغتان: الاسم المبني صيغته على صيغة "أفعل" المنبئة عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، وهو اسمه "أحمد". والاسم المبني على صيغة "التفعل" المنبئة على التضعيف والتكثير إلى عدد لا ينتهي له الإحصاء وهو اسمه "محمد". قال السهيلي: "محمد" منقول من الصفة، فالمحمد في اللغة هو الذي يحمد حمدا بعد حمد، ولا يكون "مفعل" مثل: مضرب، وممدح،   دون أولية شيء منها بخلاف اسمه "المنبئ عن ذاته الشريفة" المشتملة على جميع الصفات "الذي سائر أسماء أوصافه" جمع صفة بمعنى الأثر القائم به كالعلم والحلم والأسماء الدالة عليها، كالعاقب "راجعة إليه، وهو في المعنى واحد وله في الاشتقاق صيغتان" لفظان دالان على ذاته، لا الصيغة الاصطلاحية التي هي تقديم بعض الحروف والحركات على بعض، كما أفاده قوله إحداهما "الاسم المبني صيغته على صيغة أفعل" حال من صيغته "المنبئة" المخبرة والكاشفة "عن الانتهاء إلى غاية ليس وراءها منتهى، وهو اسمه أحمد" لأنه أفعل تفضيل حذف المفضل عليه قصدا للتعظيم نحو الله أكبر، أي من كل شيء، ثم نقل ولحظ أصله، فلا يرد عليه أنه علم فكيف يفيد ما ذكره وزعم أنه للتفضيل، لا المبالغة؛ لأن لها صيغا مخصوصا رد بأنه وهم، ومن قال ليس بمنقول من المضارع، ولا من أفعل التفضيل، فهو كأحمر، وأصفر، ففيه نظر، لا يخفى "و" ثانيتهما "الاسم المبني على صيغة التفعل المنبئة" المخبرة الدالة "على التضعيف والتكثير" عطف تفسير "إلى عدد، لا ينتهى له الإحصاء" أي لا يصل إليه الضبط بالعد، بحيث، لا يبقى من أوصافه التي تعد شيء "وهو اسمه محمد" لأن زنة مفعل بشدة العين كمعظم ومبجل موضوعة للتكثير، فإن اشتق منه اسم فاع فمعناه من كثر صدور الفعل منه كمعلم، أو اسم مفعول فمعناه من تكرر وقوع الفعل عليه، ولذا، "قال السهيلي" في الروض "محمد" منقول من الصفة" وغلط من قال مرتجل ووجه بأنه لم يستعمل إلا علما ورد بقول الأعشى: إلى الماجد القرم الجواد المحمد "فالمحمد" أي الوصف الذي هو محمد، فلا يرد أنه علم، ولا تدخل عليه اللام، "في اللغة هو الذي يحمد حمدا بعد حمد" إلى ما لا نهاية له، فلا يقف حمده على حد، "ولا يكون "مفعل" بشد العين المفتوحة "مثل مضرب" لمن كثر عليه الضرب "وممدح" لمن كثر المدح له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 إلا لمن تكرر منه الفعل مرة بعد أخرى. وأما "أحمد" وهو اسمه عليه الصلاة والسلام الذي سمي به على لسان عيسى وموسى، فإنه منقول أيضا من الصفة التي معناها التفضيل، فمعنى "أحمد" أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو في المعنى؛ لأنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم تفتح على أحد قبله، فيحمد ربه بها، وكذلك يعقد له لواء الحمد. قال: وأما "محمد" فمنقول من صفة أيضا، وهو في معنى "محمود"، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فالمحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة، كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك. فاسم "محمد" مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمى به، علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدى   "إلا لمن تكرر منه" من للتعليل أي من أجله "الفعل" وهو الضرب والمدح في المثالين "مرة بعد أخرى" فلا يرد أن المناسب له بدل منه، أو معناه تكرر منه الفعل، أي الخصال المحمودة التي حمد بسببها، "وأما أحمد، وهو اسمه عليه الصلاة والسلام الذي سمي به على لسان عيسى وموسى" خصهما لشهرته في كتبهما، وإلا ففي الشفاء أن أحمد أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء، "فإنه منقول أيضا من الصفة التي معناها التفضيل، فمعنى "أحمد" أحمد الحامدين لربه، وكذلك هو في المعنى، فاسمه مطابق لمعناه "لأنه يفتح عليه في المقام المحمود" وهو مقام الشفاعة العظمى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون "بمحامد" جمع محمدة بمعنى حمد "لم تفتح على أحد قبله" أي يلهمه الله محامد عظيمة لم يلهمها لغيره، وأصل الفتح ضد الغلق، فاستعير للإلهام "فيحمد ربه بها، كما قال صلى الله عليه وسلم "وكذلك يعقد له لواء الحمد" الحقيقي وعلم حقيقته عند الله أي لواء يتبعه كل حامد ومحمود وأصحاب الحمد من لهم الشفاعة يومئذ كالأنبياء، أو هو تمثيل لشهرته في الموقف وعدم التأويل أسد، كما قيل، "قال" السهيلي "وأما محمد فمنقول من صفة أيضا، وهو في معنى محمود ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار" لدلالة فعل على ذلك، "فالحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة" إلى غير نهاية، أو الذي تكاملت فيه الخصال الحميدة، "كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة وكذلك الممدح ونحو ذلك" من كل ما هو علي صيغة مفعل. "فاسم محمد مطابق لمعناه والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمى به" عند الناس، ولفظ الروض قبل أن يسمى به نفسه، فهذا "علم" بفتحتين دليل "من أعلام" أدلة "نبوته عليه الصلاة والسلام إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدى له ونفع به من العلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 له ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضيه اللفظ. ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد، فذكره عيسى فقال اسمه أحمد، وذكره موسى حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل، وكذلك في الشفاعة، يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه، فيكون أحمد الحامدين لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته. فانظر كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر في الذكر والوجود، وفي الدنيا والآخرة، تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين. انتهى. وقال القاضي عياض: كان عليه الصلاة والسلام أحمد قبل أن يكون   والحكمة" بيان، لما هدى ونفع، "وهو محمود في الآخرة بالشفاعة" العظمى حين أباها رؤساء الأنبياء، "فقد تكرر معنى الحمد، كما يقتضيه اللفظ" بالوضع العربي، "ثم إنه لم يكن محمدا" أي لم يثبت له ذلك الوصف "حتى كان أحمد" لأنه "حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال" ومبشرا برسول يأتي من بعدي "اسمه أحمد" وقال الراغب خصه عيسى به ولم يصفه بغيره تنبيها على أن أحمد منه وممن قبله، لما اشتمل عليه من الخصال الجميلة والأخلاق الحميدة التي لم تكمل لغيره، "وذكره موسى" في حديث مناجاته الطويل "حين: قال له ربه تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بمحمد؛ لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له" تعالى؛ لأنه أول من أجاب يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} بقوله بلى، "فلما وجد وبعث كان محمدا، بالفعل وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه" يلهمها له "فيكون أحمد الحامدين لربه" آجلهم حمدا، "ثم يشفع فيحمد على شفاعته" من الأولين والآخرين، "فانظر كيف ترتب" وجد "هذا ااسم" أحمد "قبل الاسم الآخر" محمد "في الذكر والوجود وفي الدنيا والآخر، تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين" وهي أنه خصه بهما لقيامه بمرتبة الحمد قبل الناس، وحمدهم له على ذلك "انتهى" كلام السهيلي. "وقال القاضي عياض: كان عليه الصلاة والسلام أحمد قبل أن يكون محمدا، كما وقع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 محمدا كما وقع في الوجود؛ لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدا، وقعت في القرآن، وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس، انتهى. وهذا موافق لما قاله السهيلي، وذكره في فتح الباري وأقره عليه، وهو يقتضي سبقية أحمد، خلافا لما ادعاه ابن القيم. وذكر ابن القيم في اسمه "أحمد" أنه قيل فيه إنه بمعنى "مفعول" ويكون التقدير: أحمد الناس، أي أحق الناس وأولاهم أن يحمد، فيكون كمحمد، في المعنى، لكن الفرق بينهما: أن محمدا هو الكثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد: هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد في   في الوجود لأن تسمية أحمد وقعت في الكتب السالفة" المراد غالبها، فلا ينافي أن في بعضها اسمه محمد وفي بعضها الجمع بين محمد وأحمد، "وتسميته محمدا وقعت في القرآن وذلك أنه حمد ربه قبل أن يحمده الناس" وكذلك في الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس، وقد خص بصورة الحمد ولواء الحمد والمقام المحمود، وشرع له الحمد بعد الأكل والشرب وبعد الدعاء وبعد القدوم من السفر وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه صلى الله عليه وسلم "انتهى" كلام عياض بما زدته مما لخصه منه في الفتح، "وهذا موافق، لما قاله السهيلي وذكره في فتح الباري وأقره عليه، وهو يقتضي" صراحة "سبقية أحمد خلافا لما أدعاه العلامة محمد بن أبي بكر "بن القيم" في كتابيه جلاء الإفهام والهدى من سبقية محمد ونسبة القائل بسبقية أحمد إلى الغلط، واستدل بأن في التوراة تسميته ماذماذ، وصرح بعض شروحها من مؤمني أهل الكتاب بأن معناه محمد، وإنما سماه عيسى أحمد؛ لأن تسميته به وقعت متأخرة عن تسميته بمحمد في التوراة ومتقدمة على تسميته في القرآن، فوقعت بين التسميتين محفوفة بهما، وقد مر أن هذين الاسمين صفتان في حقه والوصفية فيهما لا تنافي العلمية وإن معناهما مقصود فعرف عند كل أمة بأعرف الوصفين عندها انتهى، ملخصا. قال الشامي ووردت آثار كثيرة تشهد، لما قاله ابن القيم وفي حديث أنس عند أبي نعيم إن الله سماه محمدا قبل الخلق بألفي عام، كما يأتي للمصنف، فهذا مما يشهد له، "وذكر ابن القيم في اسمه أحمد أنه" اختلف فيها فقيل هو بمعنى فاعل، أي حمد الله أكثر من حمد غيره فمعناه أحمد الحامدين، "وقيل فيه أنه بمعنى مفعول ويكون التقدير أحمد الناس، أي أحق الناس وأولاهم أن يحمد فيكون كمحمد في المعنى، لكن الفرق بينهما أن محمدا هو الكثير الخصال التي يحمد عليها، وأحمد هو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره، فمحمد في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية فيستحق من الحمد أكثر مما يستحقه غيره، أي أفضل حمد حمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول. قال: وهذا أبلغ في مدحه وأكمل معنى، فلو أريد معنى الفاعل لسمي "الحماد" أي الكثير الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس حمدا لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى الحماد، كما سميت بذلك أمته، وأيضا فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقة وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا وأحمد. وقال القاضي عياض -في باب تشريفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بما سماه به من أسماءه الحسنى- أحمد بمعنى أكبر، من حمد، وأجل: من حمد. ثم إن في اسمه "محمد" خصائص:   الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحقه غيره، أي أفضل حمد حمده البشر، فالاسمان واقعان على المفعول". "قال وهذا" القول "أبلغ في مدحه وأكمل معنى" قال: أعني ابن القيم، وهو الراجح المختار "فلو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد" بدل أحمد، فلا ينافي أنه من أسمائه، كما مر، أو لم يصح عنده تسميته بالحماد، "أي كثير الحمد فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس حمدا لربه. فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه"، كما قال من قال: إنه بمعنى فاعل "لكان الأولى الحماد، كما سميت بذلك أمته" أي بالحمادين "وأيضا، فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائله المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا، وأحمد" لا من كثرة حمده لربه، وقد تعقب بأنه تخصيص، بلا مخصص، وبأن بناء اسم التفضيل من المفعول شاذ كأشغل من ذات النحيين، وكون حماد أبلغ من أحمد، كما اقتضاه كلامه، لا وجه له، وأجيب بأنه سلك ذلك لسلامته من التكرار والترادف الذي هو خلاف الأصل، وترجيحه على أحمد ليس لأبلغيته، بل لأنه أكثر وأقيس، وأما شذوذه فوارد لكه سمع من العرب، وأول من قال العود أحمد خداش بن حابس، "وقال القاضي عياض" في الشفاء "في باب تشريفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بما سماه به من أسمائه الحسنى" وقبله أيضا في الباب الذي قبله وهو باب في أسمائه وما تضمنته من فضيلته، "أحمد بمعنى أكبر" بالموحدة، أي أجل، كما عبر به في الباب الأول "من حمد" بفتح فكسر مبني للفاعل، "وأجل" أعظم، وعبر في الباب الأول بأفضل "من حمد" بالبناء للمفعول فيه لف ونشر مرتب، فالأول راجع إلى اسم أحمد والثاني لمحمد، "ثم إن في اسمه" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 منها: كونه على أربعة أحرف ليوافق اسم الله تعالى اسم محمد، فإن عدة الجلالة على أربعة أحرف كمحمد. ومنها: أنه قيل: إن مما أكرم الله به الآدمي أنه كانت صورته على شكل كتب هذا اللفظ، فالميم الأولى رأسه، والحاء جناحاه، والميم سرته والدال رجلاه. قيل: ولا يدخل النار من يستحق دخولها -أعاذنا الله منها- إلا ممسوخ الصورة إكراما لصورة اللفظ.   مستأنف ليس من كلام عياض "محمد" بالجر بدل وفي نسخة محمدا بالنصب بتقدير أعني على جواز قطع البدل، أو جعل الاسم بمعنى التسمية فنصبه به "خصائص" اسم إن مؤخر "منها كونه" جاء على أربعة ليوافق اسم الله تعالى" بالنصب مفعول مقدم وفاعله "اسم محمد" لأن نسبة الموافقة للطارئ على غيره أوفق من نسبتها إلى الأصل. وقدم المفعول هنا؛ لأن ذاته تعالى مقدمة على سائر الأشياء، فلا أول لوجوده فقدمت في اللفظ، "فإن عدة الجلالة على أربعة أحرف كمحمد ومنها أنه قيل إن مما أكرم الله به الآدمي أن كانت صورته" تصويره "على شكل كتب هذا اللفظ" فلا يرد أن كتب مصدر الذي هو فعل الفاعل، أي تحريك يده، فلا يصح جعله صورة الإنسان؛ لأنه بمعنى تصويره، كما علم والإضافة حقيقية، أو كتب بمعنى مكتوب بدليل لفظ شكل، فالإضافة بيانية، أو من إضافة الأعم إلى الأخص، "فالميم الأولى رأسه" أي بمنزلته، كما عبر به الشامي، "والحاء جناحاه" أي يداه وبه عبر الشامي وفي القاموس الجناح اليد والجمع أجنحة، وأجنح، وظاهره أنه حقيقي، "والميم سرته والدال رجلاه". زاد الشامي وباطن الحاء كالبطن وظاهرها كالظهر ومجمع الإليتين، والمخرج كالميم وطرف الدال كالرجلين وفي ذلك أشد: له اسم صور الرحمن ربي ... خلائقه عليه كما تراه له رجل وفوق الرجل ظهر ... وتحت الرأس قد خلقت يداه قال: وفيه تكلف، "قيل: ولا يدخل ممن يستحق دخولها أعاذنا الله منها إلا ممسوخ الصورة إكراما لصورة اللفظ" وفي نسخة من يستحق، والأولى أولى لأنه إنما يدخلها بعض المستحقين، لا كلهم لمغفرة الله سبحانه لأكثر المذنبين، كما أخبر عن أصلها بقوله ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولا ينافيه قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} لأنه لو بعد تعذيب، كما في البيضاوي، قال: وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر، ويدل على إطلاقه فيما عدا الشرك {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 حكاهما ابن مرزوق، والأول، ابن العماد في كتابه كشف الأسرار. ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه "المحمود" كما قال حسان بن ثابت: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وأخر البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد   "حكاهما" أي قوله، قيل إنه مما أكرم وقوله قيل، ولا يدخل "ابن مرزوق والأول" أي قوله مما أكرم "ابن العماد في كتابه كشف الأسرار" وفيه أيضا أن الشياطين سخرت لسليمان بذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: "ومنها أنه تعالى اشتقه من اسمه المحمود" أي سماه في الأزل ليدل على المناسبة بين الاسمين، ثم ألهمه عند وجوده لجده، "كما، قال حسان بن ثابت" الأنصاري شاعره المؤيد بروح القدس. يأتي ذكره في شعرائه "أغر عليه للنبوة خاتم" كائن "من الله" أي موجود له وكائن "من نور" صفتان لخاتم، فلم يتحد حرفا جر بمجرور واحد "يلوح" يظهر "ويشهد" يشاهد. "وضم الإله اسم النبي إلى اسمه، إذا قال في الخمس المؤذن أشهد"، وهذا من خواص هذا الاسم أيضا وهو أن الله قرنه مع اسمه "وشق" مبني للفاعل من شق الشيء إذا جعله قطعتين، أي اشتق "له من اسمه" بقطع الهمزة للضرورة اسما "لجله" بعظمه "فذو العرش محمود وهذا محمد" وذكر الشمس التتائي عن بعض أهل العلم أن من كتب هذا البيت بورقة وعلقه من تعسرت ولادتها وضعت في الحال وهذه صفة كتابته. انتهى. "وأخرج البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد" بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي البصري ضعيف، وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان ينسب أبوه إلى جده، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل قبلها "قال كان أبو طالب يقول: "وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد" فتوارد حسان معه، أو ضمنه شعره، وبه جزم في الخميس، ومن خواصه أيضا له لا يصح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي ألف عام، كما ورد من حديث أنس بن مالك، عن طريق أبي نعيم في مناجاة موسى. وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: أنزل الله على آدم عصيا بعدد الأنبياء، والمرسلين. ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أي بني، أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى، والعروة الوثقى، فكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش، وأنا بين الروح والطين،   إسلام كافر إلا به، وتعين الإتيان به في التشهد عند قوم فيهما، وإن سفينة نوح جرت به، وإن آدم تكنى به في الجنة دون سائر بنيه، وأنه يخرج منه بالضرب، والبسط عدد المرسلين ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ لأن الميم إذا كسرت فهي م ي م، والحرف المشدد بحرفين، فهي ثلاث ميمات بمائتين وسبعين ودال بخمسة وثلاثين، والحاء بثمانية، بلا تكسير، "وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم قبل الخلق بألفي ألف عام"، أي بمدة لو قدرت بالزمان كان مقدارها ذلك وإلا فقبل الخلق لا ليل ولا نهار، وقد مر بسط ذلك أول الكتاب "كما ورد في حديث أنس بن مالك من طريق أي نعيم" متعلق بورد يعني الذي رواه أبو نعيم الحافظ أحمد بن عبد الله "في مناجاة موسى" عليه السلام، وهو حديث طويل يأتي إن شاء الله تعالى الإلمام به في خصائص الأمة، وروى ابن أبي عاصم في السنة وأبو نعيم عن أنس: إن الله، قال: يا موسى إنه من لقيني، وهو جاهل بمحمد أدخلته النار، فقال موسى: ومن محمد؟ قال: يا موسى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم عليَّ منه كتبت اسمه مع اسمي على العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، والشمس، والقمر بألفي ألف سنة. "وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار، قال: أنزل الله على آدم عصيا بعدد الأنبياء، والمرسلين" خاص على عام، على أن الرسول، لا يكون إلا من الناس ومن عطف أحد الأمرين اللذين بينهما عموم وخصوص من وجه بناء على أنه قد يكون ملكا لظاهر قوله {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} ، "ثم أقبل على ابنه شيث، فقال: أي" بفتح الهمزة وحرف نداء للقريب "بني أنت خليفتي من بعدي فخذها" أي الخلافة "بعمارة التقوى" أي بعمارتك إياها بالتقوى فيها بأن تقوم بحق الخلافة، "والعروة الوثقى"، العقد المحكم تأنيث الأوثق مأخوذ من الوثاق بالفتح، وهو حبل، أو قيد يشد به الأسير، والدابة مستعارة للتمسك بالحق، "فكلما ذكرت الله تعالى، فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش" أي قوائمه "وأنا بين الروح والطين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 ثم إني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الحنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة فأكثر ذكره فإن الملائكة من قبل تذكره في كل ساعاتها بيت مفرد. بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فأسماؤه في العرش من قبل تكتب وروينا في جزء الحسن بن عرفة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت   قال بعضهم، أي بين العلم، والجسم، "ثم إني طفت السماوات، فلم أر في السماوات" لم يقل فيها تشوقا "موضعا إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة، فلم أر في الجنة" كذلك لم يقل فيها تشوقا وتلذذا بذكرها؛ لأنه ألفها وشاهد فيها النعيم العظيم. سعاد التي أضناك حب سعادا، "قصرا ولا غرفة إلا وجدت اسم محمد مكتوبا عليه" أي المذكور، "ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا بأعلى نحور" جمع نحر موضع القلادة من الصدر ويطلق على الصدر، أي على صدور "الحور العين" ضخام العيون كسرت عينه بدل ضمها لمجانسة الياء ومفرده عيناء كحمراء. "وعلى ورق قصب آجام" جمع أجمة الشجر الملتف، أي على أغصان شجر "الحنة"، والقصب كل نبات لساقه أنابيب وكعوب، كما في مختصر العين، "وعلى ورق شجرة طوبى" تأنيث الأطيب شجرة في الجنة، "وعلى أطراف الحجب" الأستار التي في الجنة، أو المحلات التي لا يتجاوزها الرائي إلا ما وراءها إن صح ما يروى من أن ثم سبعين ألف حجاب مسيرة كل حجاب خمسمائة عام؛ لأنها في حق المخلوق، أما الخالق فمنزه عن أن يحجبه شيء، ولم يصح في ذلك غير ما في مسلم حجابه النور، كما بسطه المصنف في مقصد المعراج "وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره، فإن الملائكة من قبل" أي من قبل رؤياي لذلك "تذكره في كل ساعاتها بيت مفرد" لا أذكر قبله ولا بعده شيئا "بدا" ظهر "مجده من قبل نشاة آدم" أي ظهوره "فأسماؤه في العرش من قبل تكتب" خص العرش؛ لأنه أعظم ما كتبت عليه، "وروينا في جزء الحسن بن عرفة" بن يزيد العبدي أبي علي البغدادي الصدوق، المتوفى سنة سبع وخمسين ومائتين، وقد جاوز المائة "من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما عرج بي إلى السماء ما مررت بسماء إلا وجدت". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 -أي علمت- اسمي فيها مكتوبا: محمد رسول الله، وأبو بكر من خلفي". ووجد على الحجارة القديمة مكتوب: محمد تقي مصلح أمين. ذكره في الشفاء. وعلى الحجر بالخط العبراني: باسمك اللهم، جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكتبه موسى بن عمران. ذكره ابن ظفر في "البشر" في معمر عن الزهري. وشواهد -كما ذكره في الشفاء- في بعض بلاد خراسان مولود ولد على أحد جبينيه مكتوب: لا إله إلا الله، وعلى الآخر محمد رسول الله. وببلاد الهند ورد أحمد مكتوب عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله. وذكر العلامة ابن مرزوق عن عبد الله بن صوحان.   قال المصنف: تفسيرا له، "-أي علمت- اسمي فيها مكتوبا". زاد أبو يعلي، والطبراني، لا إله إلا الله قبل قوله "محمد رسول الله وأبو بكر من خلفي" وقد أبعد المصنف النجعة فحديث أبي هريرة هذا رواه أبو يعلى، والطبراني، وأخرجه البزار من حديث ابن عمر بأسانيد ضعيفة، لكن قال السيوطي أنه حديث حسن لكثرة طرقه "ووجد على الحجارة القديمة مكتوب محمد تقي مصلح أمين ذكره في الشفاء وعلى حجر بالخط العبراني" بكسر العين أتبرك "باسمك اللهم"، أي يا الله "جاء الحق من ربك " أي جائني هذا اللفظ "بلسان عربي مبين" بين، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فباسمك متعلق بمقدر، لا يقول جاء الحق لإيهامه أن الكاف في ربك راجع لقوله باسمك، "وكتبه موسى بن عمران" عليه الصلاة والسلام "ذكره" محمد "بن ظفر" بفتح المعجمة والفاء "في" كتاب "البشر" بخير البشر "عن معمر" بن راشد "عن الزهري" محمد بن مسلم العلم المشهور، "وشواهد، كما ذكره في الشفاء في بعض بلاد خراسان مولود ولد على أحد جبينيه" تثنية جبين "مكتوب، لا إله إلا الله وعلى الآخر محمد رسول الله، و" شوهد "ببلاد الهند" بنواحي مالكين، وهي قصبة الهند شجرة عظيمة لها "ورد أحمر مكتوب عليه بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله". ذكره صاحب مسالك الأمصار عن أبي سعيد المغربي إنه أخبره بذلك من دخل الهند، "وذكره العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" في شرح البردة "عن عبد الله بن صوحان" قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 عصفت بنا ريح، ونحن في لجج بحر الهند، فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر زكي الرائحة، طيب الشم وفيه مكتوب بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وورد أبيض مكتوبا عليه بالأصفر: براءة من الرحمن الرحيم إلى جنات نعيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي تاريخ ابن العديم عن علي بن عبد الله الهاشمي الرقي: أنه وجد ببعض قرى الهند وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء، عليها مكتوب بخط أبيض: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، قال فشككت في ذلك وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح فكان فيها مثل ذلك، وفي البلد منه شيء كثير وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله تعالى. وقال أبو عبد الله بن مالك: دخلت بلاد الهند، فسرت.   "عصفت" بفتحات، أي اشتدت "بنا ريح ونحن في لجج" جمع لجة معظم ماء "بحر الهند، فأرسينا في جزيرة، فرأينا فيها وردا أحمر، ذكي الرائحة، طيب الشم، وفيه مكتوب بالأبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وورد أبيض مكتوبا عليه بالأصفر براءة من الرحمن الرحيم" توصل "إلى جنات النعيم" فهو صلة محذوف، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله". "و" روى "في تاريخ" الكمال "ابن العديم" لحلب، وهو عمر بن أحمد الصاحب كمال الدين الحلبي، وبها ولد وبرع وصار أوحد عصره فضلا ونيلا ورياسة، وألف في فقه الحنفية، والحديث، والأدب، وتاريخ حلب، ومات بمصر، وكذا رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كلاهما "عن" أبي الحسين "علي بن عبد الله". "الهاشمي الرقي"، بفتح الراء وشد القاف نسبة إلى الرقة مدينة على الفرات "أنه وجد" بالبناء للفاعل "ببعض قرى الهند وردة كبيرة" فلفظه في التاريخين دخلت بلاد الهند، فرأيت في بعض قراها شجرة ورد أسود تنفتح عن وردة كبيرة "طيبة الرائحة سوداء عليها مكتوب بخط أبيض، لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق، قال فشككت في ذلك وقلت إنه معمول، فعمدت" قصدت "إلى وردة ولم تفتح، فكان فيها مثل ذلك وفي البلد منه شيء كثير، وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله تعالى". قاله تعجبا منهم حيث جعل الله بعض حجته عليهم في شجرهم {وَلا يَذْكُرُونَ} {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، "وقال أبو عبد الله بن مالك دخلت بلاد الهند، فسرت" حتى وصلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 إلى مدينة يقال لها: نميلة -أو ثميلة- فرأيت شجرة كبيرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر، فإذا كسرت ثمرته خرج منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأهل الهند يتبركون بها ويستسقون بها إذا منعوا الغيث. حكاه القاضي أبو البقاء بن الضياء في منسكه. وفي كتاب روض الرياحين، لليافعي عن بعضهم أنه وجد ببلاد الهند شجرة تحمل ثمرا كاللوز، له قشر إذا كسر خرجت منه ورقة خضراء طرية مكتوب فيها بالحمرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله. كتابة جلية وهم يتبركون بها. قال: فحدثت بذلك أبو يعقوب الصياد، فقال: ما استعظم هذا، كنت أصطاد على نهر الأبلة فاصطدت سمكة، على جنبها الأيمن: لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر: محمد رسول الله،   "إلى مدينة، يقال لها نميلة" بنون أوله، "أو ثميلة" بمثلثة، كذا بهامش، "فرأيت شجرة كبيرة تحمل ثمرا كاللوز له قشر، فإذا كسرت ثمرته خرج منها ورقة خضراء مطوية مكتوب عليها بالحمرة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأهل الهند يتبركون بها، ويستسقون بها إذا منعوا الغيث" المطر. "حكاه القاضي أبو البقاء بن الضياء في منسكه، و" نحوه مع زيادة "في كتاب روض الرياحين" مؤلف حسن، قال فيه: بلغنا أن المؤمنين، لا يعذبون في قبورهم ليلة الجمعة ويومها رحمة من الله وشرفا للوقت. "لليافعي" بكسر الفاء ومهملة، نسبة إلى يافع بطن من حمير الإمام القدوة عبد الله بن أسعد عفيف الدين اليمني، ثم المكي ولد بعدن قبيل السبعمائة، ونشأ بها تاركا للعب الأطفال، ثم اشتغل بالعلم حتى برع، ثم حج وحببت له الخلوة والسياحة، مات بمكة سنة ثمان وستين وسبعمائة. "عن بعضهم أنه وجد ببلاد الهند شجرة تحمل ثمرا كاللوز له قشر إذا كسر يخرج منه ورقة خضراء طرية مكتوبة فيها بالحمرة، لا إله إلا الله، محمد رسول الله كتابة جلية وهم يتبركون بها" ويستسقون. "قال فحدثت بذلك أبا يعقوب الصياد، فقال: ما استعظم هذا،" لا أعده عظيما؛ لأني شاهدت أعظم منه، وهو أني "كنت أصطاد على نهر الأبلة" بضم الهمزة، والموحدة، وشد اللم، بلد قرب البصرة، "فاصطدت سمكة" فرأيت مكتوبا "على جنبها الأيمن، لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله" ووجه كون هذا أعظم أن الورق يكتب عليه عادة بخلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما لها. وعن بعضهم -مما ذكره ابن مرزوق في شرح بردة الأبوصيري- أنه أتى بسمكة فرأى في إحدى شحمتي أذنيها لا إله إلا الله وفي الأخرى: محمد رسول الله. وعن جماعة: أنهم وجدوا بطيخة صفراء فيها خطوط شتى بالأبيض خلقة، ومن جملة الخطوط بالعربي في أحد جنبيها: الله، وفي الآخر: عز أحمد، بخط بين لا يشك فيه عالم بالخط. وأنه وجد في سنة تسع أو قال: سنة سبع -بالموحدة- وثمانمائة حبة عنب مكتوب فيها بخط بارع بلون أسود: محمد. وفي كتاب "النطق المفهوم" لابن طغربك السياف، عن بعضهم أنه رأى في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب فيه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله بقدرته،   السمك الذي في الماء، "فلما رأيتها قذفتها في الماء احتراما بها". وفي تاريخ الخطيب عن عبد الرحمن بن هارون المغربي، قال: ركبت بحر المغرب، فوصلنا إلى موضع، يقال له البرطون ومعنا غلام، فصاد بصنارة سمكة قدر شبر، فإذا مكتوب على أذنها الواحد، لا إله إلا الله، وفي قفاها وخلف أذنها الأخرى محمد رسول الله، وكان أبين من نقش على حجر، والسمكة بيضاء، والكتابة سوداء كأنها كتبت بحبر فقذفناها في البحر، "وعن بعضهم مما ذكره ابن مرزوق في شرح بردة الأبوصيري، تقدم أن صوابه البوصيري؛ لأنه منسوب إلى بوصير "أنه أتي بسمكة فرأى في إحدى شحمتي أذنيها، لا إله إلا الله، وفي الأخرى محمد رسول الله، وعن جماعة أنهم وجدوا بطيخة صفراء فيها خطوط شتى بالأبيض خلقة، ومن جملة الخطوط بالعربي في أحد جنبيها الله، وفي الآخر عز" غلب "أحمد بخط بين، لا يشك فيه عالم بالخط، وأنه وجد في سنة تسع" بفوقية فسين، "أو، قال سبع بالموحدة" بعد السنين، "وثمانمائة حبة عنب مكتوب فيها بخط بارع" زائد في الحسن "بلون أسود محمد". "وفي كتاب "النطق المفهوم" لابن طغربك السياف عن بعضهم أنه رأى في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كثير طيب الرائحة مكتوب فيه بالحمرة والبياض في الخضرة" خضرة الورق، "كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعها الله تعالى بقدرته" دفع لتوهم أن أحدا نقشها بنحو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 في الورقة ثلاثة أسطر، الأول: لا إله إلا الله، والثاني: محمد رسول الله، والثالث: إن الدين عند الله الإسلام. قال ابن قتيبة: ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد قبله باسمه "محمد" صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى عليه السلام إذ لم يجعل له من قبل سميا وذلك أنه تعالى سماه به في الكتب المتقدمة، وبشر به الأنبياء فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك رجاء أن يكون هو هو، والله أعلم حيث يجعل رسالته: ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر   عود "في الورقة ثلاث أسطر الأول، لا إله إلا اله، والثاني محمد رسول الله، والثالث إن الدين عند الله الإسلام". "قال" عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوروي، البغدادي صاحب التصانيف، "ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسم أحد قبله باسمه محمد صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بيحيى عليه السلام إذ لم يجعل له من قبل سميا" مسمى باسمه وعد من أعلام النبوة؛ لأنه بعد الإعلام باسمه مع أنها أعلام منقولة، فلا يرد أن كثيرا من الأعلام للأنبياء وغيرهم لم يسبق تسمية غيرهم بها كآدم وشيث ونوح، "و" سر "ذلك أنه تعالى سماه به في الكتب المتقدمة، وبشر به الأنبياء" أممهم، "فلو جعل اسمه مشتركا فيه لوقعت الشبهة". وهكذا جزم عياض بأن أحمد لم يتسم به غيره قبله انتهى، وهو قول الأكثر والصواب، والقول بأن الخضر اسمه أحمد مردود واه، كما قال ابن دحية وأحمد بن غجيان بضم المعجمة وسكون الجيم، لا أصل له، وقيل سمي قبل الإسلام بزمان طويل أحمد بن ثمامة الطائي، وأحمد بن دومان، وأحمد بن زيد، ومن القبائل بنو أحمد في همدان وطيء وكليل، ولكن لم يكن قريبا من عهده من سمي به صيانة له، "إلا أنه، لما قرب زمنه، وبشر أهل الكتاب بقربه سمى قوم أولادهم بذلك" بمحمد "رجاء أن يكون هو" المسمى به، "هو" أي النبي المبشر به، فهو الأولى اسم يكون، والثانية خبرها، "والله أعلم حيث يجعل رسالته" اقتباس لبيان أنه لم يفدهم ذلك؛ إذ ليس كل محمد رسول، ولا كل فاطمة بتول وأنشد لغيره: "ما كل من زار الحمى سمع الندا ... من أهله أهلا بذاك الزائر "أي، ما كل من زار مكانا محميا تلقاه أهله بالقبول، وقالوا له أهلا، فأهلا مفعول سمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وذكر عددهم القاضي عياض: ستة، ثم قال: لا سابع لهم. وذكر أبو عبد الله بن خاوية في كتاب "ليس" والسهيلي في "الروض" أنه لم يعرف في العرب من تسمى محمدا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله: وهو حصر مردود، والعجب أن السهيلي متأخر الطبقة عن عياض، ولعله لم يقف على كلامه. قال: ولقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرر في بعضهم، ووهم في بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا: وأشهرهم: محمد بن.   ومن أهله متعلق بالندا، قال عياض: ثم حمى الله كل من تسمى به أن يدعي النبوة، أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشك أحدا في أمره حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه وسلم "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" اقتباس ثان مؤكد للأول، فإنها موهبة من فضله تعالى ليس إلا، "وذكر عددهم القاضي عياض" في الشفاء "ستة" محمد بن أحيحة، وابن مسلمة الأنصاري، وابن البراء، وابن مجاشع، وابن حمران، وابن خزاعي، "ثم قال لا سابع لهم" بناء على ما وقف عليه. "وذكر أبو عبد الله" الحسين بن أحمد "بن خاويه" الإمام المشهور أحد أفراد الدهر صاحب التصانيف المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة في كتاب "ليس" وهو ثلاث مجلدات موضوعة ليس في كذا إلا كذا وتعقب عليه الحافظ مغلطاي بعضه في مجلد سماه الميس على كتاب ليس، كما في المزهر "و" بعده "السهيلي في "الروض" أنه لم يعرف في العرب من تسمى محمدا قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة" ابن مجاشع، وابن أحيحة وابن حمران. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر رحمه الله" في فتح الباري، "وهو حصر مردود" من عياض في ستة، ومن السهيلي ومتبوعه في ثلاثة، "والعجب أن السهيلي متأخر الطبقة عن عياض" لوفاته سنة أربع وأربعين وخمسمائة، والسهيلي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، "ولعله لم يقف على كلامه" لفظ الفتح، وعجب من السهيلي كيف لم يقف على ما ذكره عياض مع كونه قبله، "قال: ولقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد، فبلغوا نحو العشرين، لكن مع تكرر في بعضهم ووهم في بعض، فيتلخص منهم خمسة عشر نفسا وأشهرهم محمد بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي. ومنهم: محمد بن أحيحة -بضم الهمزة وفتح المهملة- ابن الجلاح -بضم الجيم وتخفيف اللام آخره مهملة- الأوسي. ومحمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر. ومحمد بن البراء -ويقال: البر-   عدي" بالدال "ابن ربيعة بن سواءة" بمهملة كحذافة "ابن جشم" بضم الجيم، وفتح المعجمة "ابن سعد بن زيد مناة" وفي نسخة عبد مناة وهي تصحيف فالذي في الفتح زيد مناة "بن تميم" التميمي "السعدي" نسبة إلى جده سعد المذكور. قال الحافظ: روى حديثه البغوي، وابن سعد، وابن شاهين، وابن السكن، وغيرهم عن خليفة بن عبدة النصري، قال: سألت محمد بن عدي كيف سماك أبوك في الجاهلية محمدا، قال: سألت أبي عما سألتني، فقال: خرجت رابع أربعة من تميم أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع ويزيد بن عمرو وأسامة بن مالك نريد الشام فنزلنا على غدير عند دير، فأشرف علينا الديراني، فقال لنا إنه يبعث منكم وشيكا نبي، فسارعوا إليه فقلنا ما اسمه، قال محمد، فلما انصرفنا ولد لكل منا ولد فسماه محمدا لذلك، "ومنهم محمد بن أحيحة بضم الهمزة وفتح المهملة" أي جنسها فشمل الحاءين، بينهما تحتية ساكنة "ابن الجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام آخره" حاء "مهملة الأوسي" ذكره عبدان المروزي في الصحابة، وقال: بلغني أنه أول من سمي محمدا في الجاهلية، ووهمه في الإصابة وعده فيمن ذكر في الصحابة غلطا، وقال في الفتح وكأنه أي عبدان تلقى ذلك في قصة تبع، لما حاصر المدينة، وخرج إليه أحيحة المذكور هو، والحبر الذي كان عندهم، فأخبره أن هذا بلد نبي يبعث يسمى محمدا، فسمى ابنه محمدا. قال: وذكر البلاذري محمد بن عقبة بن أحيحة، فلا أدري أهما واحد ينسب مرة إلى جده أم هما اثنان، زاد في الإصابة، ثم رأيت في رجال الموطأ لأبي عبد الله محمد بن يحيى الحذاء لأحيحة ابن يسمى عقبة، ولعقبة ابن يسمى محمدا، ولمحمد بنت هي أم فضالة بن عبيد الصحابي المهور، وابن يسمى المنذر، استشهد يوم بئر معونة فالظاهر أن محمد بن عقبة مات قبل الإسلام، انتهى. "ومحمد بن أسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر" بن تميم العنبري، التميمي، قال في الإصابة: لا صحبة له لأنه مات قبل البعثة بدهر، وغلط أبو نعيم فعده صحابيا، "ومحمد بن البراء" بفتح الموحدة، والراء تليها مدة، قال في المقتفى، كذا رأيته مصححا، "ويقال البر" بشدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 ابن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري العتواري. ومحمد بن الحارث بن حديج بن حويص. ومحمد بن حرمان بن مالك اليعمري. ومحمد بن حران بن أبي حمران، ربيعة بن أبي ربيعة مالك الجعفي المعروف بالشويعر. ومحمد بن خزاعي   الراء ليس بعدها ألف، كما ضبطه البلاذري "ابن طريف" بمهملتين بوزن رغيف "ابن عتوارة" بضم المهملة وكسرها ففوقية ساكنة، فواو مفتوحة، فألف، فراء، فهاء. "ابن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة البكري"، نسبة إلى جده بكر المذكور. "العتواري" نسبة إلى جده المذكور أيضا، وغفل ابن دحية، فعد فيهم محمد بن عتوارة، وهو نسب لجده الأعلى، كما في الفتح وعده في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا، وإن أبا موسى المديني ذكره في الذيل، أي فغلط، "ومحمد بن الحارث بن حديج" بمهملتين، فتحتية فجيم مصغر. "ابن حويص" ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين، وقال إنه أحد من سمي محمدا في الجاهلية وله قصة مع عمر ذكر في الإصابة في القسم الثالث فيمن أدرك النبي ولم يره، فلا صحبة له "ومحمد بن حرماز" بكسر المهملة وسكون الراء وآخره زاي، كما رأيته بخط مغلطاي في الزهر، والحافظ ابن حجر والعيني في شرحيهما على البخاري خلافا لما في نسخ سقيمة من الإشارة، وتبعها الحلبي في حاشية الشفاء من أنه ابن خرمان، ذكره الشامي، قال: واسم الحرماز الحارث "بن مالك" بن عمرو بن تميم اليعمري" ذكره أبو موسى في الذيل، وأنه أحد من سمي محمدا في الجاهلية ورده في الإصابة بأنه لا يلزم من ذلك إدراكه الإسلام. قال: وقد استدركه ابن دحية على شيخه السهيلي لكن، قال بدل التميمي اليعمري "ومحمد بن حمران بن أبي حمران" واسمه "ربيعة بن أبي ربيعة" واسمه "مالك الجعفي المعروف بالشويعر" مصغر شاعر، ذكره المرزباني، فقال هو أحد من سمي محمدا في الجاهلية وله قصة مع امرئ القيس، "و" أنه لقبه الشويعر ببيت قال وعده في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا "محمد بن خزاعي" بضم الخاء وفتح الزاي المعجمتين، فألف فمهملة فتحتية اسم بلفظ النسب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 بن علقمة بن حرابة السلمي، من بني ذكوان. ومحمد بن خولى الهمداني. ومحمد بن سفيان بن مجاشع. ومحمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة. ومحمد بن الأسيدي. ومحمد الفقيمي.   "ابن علقمة بن حرابة السلمي من بني ذكوان" بطن من سليم ذكره ابن سعد عن علي بن محمد عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق، قال: سمي محمد بن خزاعة طمعا في النبوة، وذكر الطبري أن أبرهة الحبشي توجه وأمره أن يغزو بني كنانة، فقتلوه فكان ذلك من أسباب قصة الفيل، وذكر ابن سعد لأخيه قيس بن خزاعي أبياتا فيه يقول فيها: فذلكم ذو التاج منا محمد ... ورايته في حومة الموت تخفق وغلط من عده في الصحابة، كما في الإصابة، "ومحمد بن خولى" بالخاء المعجمة وسكون الواو. "الهمداني" ذكره ابن دريد وليس بصحابي، كما في الإصابة. "ومحمد بن سفيان بن مجاشع" التميمي، قال عياض: يقال إنه أول من سمي محمدا، قال في الإصابة: ليس بصحابي لموته قبل البعثة بدهر؛ لأن من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم من ذريته بينه وبين عدة آباء منهم الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان، كما بينه ابن الأثير. "ومحمد بن اليحمد" بضم التحتية وسكون المهملة وكسر الميم، كما ضبطه أبو علي الغساني وابن ماكولا، وزاد أن أصحاب الحديث يضمون الميم، وحكى القاموس أنه منقول من المضارع قال بعضهم: وأل مقارنة لنقله لأدلة بعد العلمية فإنه شاذ قبلها، كقوله بالحكم الترضي حكومته "الأزدي" نسبة إلى الأزد من اليمن، قال عياض ونساب اليمن تقول إنه أول من سمي بذلك، وغلط من عده صحابيا، كما في الإصابة، "ومحمد بن يزيد بن عمرو بن ربيعة" التميمي عده في الإصابة فيمن ذكره غلطا في الصحابة، "ومحمد بن الأسيدي" بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، وكسر التحتية الثقيلة، "ومحمد الفقيمي" بضم الفاء، وفتح القاف، وسكون التحتية، ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك، وعدهما في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا، وسقط من قلم المصنف الخامس عشر، وهو في الفتح، ولفظه ومحمد بن عمرو بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 ولم يدركوا الإسلام إلا الأول ففي سياق خبره ما يشعر بذلك، وإلا الرابع فهو صحابي جزما. وفيمن ذكره عياض: محمد بن مسلمة الأنصاري، وليس ذكره بجيد، فإنه ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأزيد من عشرين سنة، لكنه ذكر تلو كلامه المتقدم، محمد بن اليحمد، الماضي فصار من عند ستة لا سابع لهم، انتهى. وأما اسمه عليه الصلاة "محمود" فاعلم أنه   مغفل، بضم أوله، وسكون المعجمة، وكسر الفاء، ثم لام والد هبيب بموحدتين مصغر، وهو على شرط المذكورين، فإن لولده صحبة ومات في الجاهلية انتهى، "ولم يدركوا الإسلام إلا الأول" وهو محمد بن عدي، "ففي سياق خبره" الذي قدمته فيه من سؤاله أباه لم سماه محمدا "ما يشعر بذلك" بإدراكه الإسلام، وقد ذكره ابن سعد والبغوي والباوردي وغيرهم في الصحابة، وأنكره ابن الأثير على ابن منده وتبعه الذهبي، فقال: لا وجه لذكره فيهم، قال في الإصابة: ولا إنكار عليه؛ لأن سياقه يقتضي أن له صحبة، "وإلا الرابع" هو، كما ترى محمد بن البراء، وقد عده في الإصابة فيمن ذكره غلطا في الصحابة، وأنا أبا موسى المديني ذكره في الذيل، أي فغلط، قال: وذكره محمد بن حبيب فيمن سمي محمدا قبل الإسلام انتهى، فلا يصح قوله، "فهو صحابي جزما" ولم أر هذا في الفتح الذي المصنف ناقل عنه، "وفيمن ذكره عياض" من الستة "محمد بن مسلمة الأنصاري" الأوسي، الصحابي الشهير، "وليس ذكره بجيد فإنه ولد بعد" ميلاد "النبي صلى الله عليه وسلم بأزيد من عشرين سنة" والكلامة فيمن تسمى قبل ولادته، فلا يصح ذكره، وهكذا تعقبه مغلطاي، لكنه قال بأزيد من خمس عشرة سنة، وهو أنسب بقول الإصابة. ولد قبل البعثة باثنتين وعشرين سنة في قول الواقدي، وهو ممن سمي محمدا في الجاهلية انتهى، فتكون ولادته بعد المولد النبوي بثمان عشرة سنة، فهي أزيد من خمسة عشر، لا عشرون، وأجيب بأن مراد عياض من ولد في الجاهلية وسمي محمدا انتهى. وابن مسلمة منهم، وهو جواب لين يأباه قول عياض إلى أن أشاع قبل ميلاده صلى الله عليه وسلم أن نبيا سيبعث فعلى هذا فالذي خلص للقاضي خمسة فقط "لكنه ذكر تلو كلامه المتقدم" أي قوله: لا سابع لهم، ويقال أول من سمي به محمد بن سفيان واليمن تقول: بل "محمد بن اليحمد" الأزدي "الماضي" في كلام المصنف لا القاضي، "فصار من عنده ستة، لا سابع لهم" كما قال: وقد انتقد عياض أيضا بأن هذا زائد على الستة، فهو سابع فكيف يقول: لا سابع لهم "انتهى" كلام الحافظ ابن حجر باختصار، "وأما اسمه عليه الصلاة والسلام "محمود" بالرفع بدل من اسمه، "فاعلم أنه" أي الشأن والحال. وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 من أسماء الله تعالى الحميد، ومعناه: المحمود؛ لأنه تعالى حمد نفسه، وحمده عباده، وقد سمي الرسول صلى الله عليه وسلم بمحمود، وكذا وقع اسمه في زبور داود. وأما "الماحي" ففسر في الحديث بمحود الكفر، ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه بعث والأرض كلهم كفارا، ما من عباد أوثان ويهود.   نسخة، بلا ضمير، وليس ثم رابط يربط الخبر بالمبتدأ، فينبغي تقديره "من أسماء الله تعالى الحميد ومعناه المحمود"، فهو فعيل بمعنى مفعول لاستحقاقه الحمد، "لأنه تعالى حمد نفسه وحمد عباده" ببناء الفعل للفاعل فيهما وذكر الأول توطئة للثاني، وبيانا؛ لأنه المحمود الحقيقي وحمد غيره له إنما هو بأقداره عليه وخلقه، في الحالين حمد نفسه، "وقد سمي الرسول صلى الله عليه وسلم بمحمود" لأن كلا منهما اسم مفعول دال على مبالغة في كونه محمودا، "و" كما أفاد هذا الاستنباط تسميته بمحمود "كذا وقع اسمع" أي تسميته بمحمود "في زبور داود" عليه السلام، وهذا يقتضي أنه ليس من أسماء الله، وجزم المصنف فيما سبق بأنه من أسمائه منشدا قول حسان: فذو العرش محمود وهذا محمد ولا يرد هذا على عياض متبوع المصنف هنا؛ لأنه أورد هذا الكلام دليلا على ما سماه الله به من أسمائه الحسنى، ومحمود، ليس منها فاحتاج إلى أخذه من الحميد قائلا وإلى نحو هذا أشار حسان، فذكر البيت على أن بيته ليس بقاطع، لاحتمال أن معناه مسمى بمحمود أو موصوف بالحمد، وأما "الماحي" ففسر في الحديث" المتقدم أوائل المقصد "بمحو الكفر"، ولفظه، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وعجيب نقله عن غير المصنف، وما بالعهد من قدم. ومر أن في رواية أخرى، فإن الله محا به سيئات من اتبعه، وأنه لا تعارض لأن محمود أحدهما لا يمنع محو الآخر، وسلف أيضا دفع استشكاله بأنه ما محي من كل البلاد بأجوبة، "ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي"، أي محوا كمحواه به "صلى الله عليه وسلم، فإنه" أنقد الناس من الضلال إلى الهدي؛ لأنه "بعث والأرض" أي أهلها "كلهم كفار" لا يرد الخضر وإلياس على حياتهما لأنهما لما لم يخالطا أهل الأرض لم يعدا من أهلها، ولا المتمسكون بما لم يبدل من الشرائع لقلتهم جدا، فكأنه لا وجود لهم ولنسخ جميع الشرائع بالمحمدية، ولا يراد أن نوحا عليه السلام محا الكفر بدعوته التي أغرقت الكفار؛ لأنه بإهلاكهم وهدى بهداهم، وقد كانوا "ما بين عباد أوثان" وخرجت بين هنا عن معناها، وهو الوسط إلى الانتهاء مجازا علاقته المشابهة؛ إذ المتوسط بين شيئين ينتهي إلى كل منهما، والمعنى وهم منقسمون إلى هذه الأقسام، "ويهود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 ونصارى ضالين وصابئة ودهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء ولا يقرون بها، فمحاها برسوله، حتى أظهر دينه على كل دين، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، ولما كانت البحار هي الماحية للأدران كان اسمه عليه الصلاة والسلام فيها الماحي. وأما "الحاشر" ففسر أيضا في الحديث بأنه الذي يحشر الناس على قدمي، أي يقدمهم وهم خلفه،   ونصارى صالين" صفة لنصارى فقط؛ لأن شريعتهم كانت باقية قبل بعثته، لكنهم لما حرفوا وبدلوا صاروا ضالين، فكأنهم ليسوا على شريعة، لا صفة لمن قبلها؛ لأن عباد الأوثان، لا يتوهم فيهم سوى الضلال حتى ينص عليه، وكذا اليهود لنسخ شريعتهم بعيسى، "وصابئة" قال في الكشاف قوم خرجوا من اليهودية والنصرانية، وعبدوا الملائكة، وقال غيره، طائفة تميل إلى النصارى واعتقدوا تأثير الأفلاك وقدم العالم والهيئة الشمس، وغير ذلك وأنكروا الرسالة في البشر عن الله ولم ينكروها في الكواكب. "ودهرية" بفتح الدال ملحدين، "لا يعرفون ربا، ولا معادا" على الوجه الواجب على الموحد معرفته به الذي منه امتناع الشركة، فلا يزد أن أهل الكتابين والوثنيين يعترفون بالرب، ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله. "وبين عباد الكواكب وعباد النار"، كالمانوية والمجوس "وفلاسفة، لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يقرون بها، فمحاها" الله "برسوله حتى أظهر دينه على كل دين" كما قال ليظهره على الدين كله بعلوه وغلبته على الأديان، بنسخها وبيان ما غير وبدل منها، وعلو أهله على من عداهم بتسليطهم عليهم وقهرهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، كما هو مشاهد، "وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار" يعني عم جميع الدنيا، كما عماها وذلك مع مزيد الظهور البين، كما أشار له بقوله: "وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار" فهو مع ما فيه من عذوبة اللفظ بيان لأن البلوغ لم يكن مع خفاء، بل مع شدة الظهور الغالب الذي لا يمكن إمكانه، ولا دفعه، "ولما كانت البحار هي الماحية للأدران" الأوساخ "كان اسمه عليه الصلاة والسلام فيها الماحي" ويأتي أن اسمه فيها عبد المهيمن، فاستفيد منهما أن له فيها اسمين، "وأما "الحاشر" ففسر أيضا في الحديث" المتقدم "بأنه الذي يحشر الناس على قدمي" بالإفراد والتثنية روايتان، كما مر "أي يقدمهم وهو خلفه" كما قاله الخطابي وابن دحية، ثم تجيء كل نفس فتتبعه، ويرجحه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 وقيل على سابقته، وقيل: قدامه وحوله، أي يجتمعون إليه في القيامة، وقد كان حشرة لأهل الكتاب، إخراجه لهم من حصونهم وبلادهم من دار هجرته إلى حيث أذاقهم الله من شدة الحشر ما شاء في دار الدنيا إلى ما اتصل لهم بذلك في برزخهم. وهو أول من تنشق عنه الأرض فيحشر الناس على أثره، وإليه يلجئون في محشرهم، وقيل: على سببه. وأما "العاقب" فهو الذي جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبي؛ لأن العاقب هو الآخر، أي: عقب الأنبياء، وقيل: وهو اسمه في النار، فإذا جاء -لحرمة شفاعته-   رواية يحشر الناس على عقبي، وحديث "أنا أول من تنشق عنه الأرض"، "وقيل على سابقته" بأن يتقدمهم، أي أنه يحشر قبل الناس، ويرجحه رواية نافع بن جبير، "وأنا حاشر بعثت مع الساعة"، قال في القاموس: يقال له سابقة في هذا الأمر أي سبق للناس فيه، "وقيل قدامه وحوله، أي يجتمعون إليه في القيامة" قاله ابن عبد البر ناقلا قول الخليل حشرتهم السنة إذا ضمتهم من البوادي، "وقد كان حشره" في الدنيا "لأهل الكتاب إخراجه لهم من حصونهم وبلادهم من دار هجرته إلى حيث أذاقهم الله من شدة الحشر ما شاء في دار الدنيا". واستمر ذلك قائما لهم "إلى ما اتصل لهم بذلك في برزخهم" قيل فلذا سمي الحاشر. قال بعضهم، وهو ضعيف دراية ورواية، "وهو أول من تنشق عنه الأرض، فيحشر الناس على أثره وإليه يلجئون في محشرهم" هذا يشبه أنه أورده تقوية للأقوال الثلاثة التي قدمها، وهي متقاربة في الحقيقة، "وقيل على سببه" أي كونه السبب فيه لتقدمه عليهم، فنسب له لكونه السبب فيه، ثم يقفون في المحشر حتى يشفع لهم، فهو حاشرهم في ذا الحشر الثاني إلى مقرهم من جنة أو نار، ومر لهذا مزيد في شرح الحديث، وذكر السيوطي وغيره أن الله وصف نفسه بالحشر في قوله {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} وقوله {وَحَشَرْنَاهُمْ} ، قال فيكون هذا الاسم مما سماه الله به من أسمائه، "وأما العاقب" في حديث جبير المتقدم في المتن عن الصحيحين، فلا تبعد النجعة، "فهو الذي جاء عقب الأنبياء فليس بعده نبي؛ لأن العاقب" لغة "هو الآخر أي عقب الأنبياء" وقد أسلفت أن في بعض روايات الصحيح، "وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي"، وأنه مدرج من تفسير الزهري، كما بينه الطبراني في روايته، وأيا ما كان فلتفسيره مزية؛ لأنه أدرى بما روى مع مزيد إتقانه، وقيل العاقب عند العرب من يخلف سيد القوم، فمعناه خليفة الله؛ لأنه أحق بخلافته من جميع الخلق، "وقيل، وهو اسمه في النار" بين أهلها، "فإذا جاء" إلى النار "لحرمة شفاعته" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 خمدت النار وسكنت، كما روي أن قوما من حملة القرآن يدخلونها فينسيهم الله ذكر محمد صلى الله عليه وسلم حتى يذكرهم جبريل عليه السلام، فيذكرونه فتخمد النار وتنزوي عنهم. وأما "المقفي" فكذلك، أي: قفي آثار من سبقه من الرسل، وهي لفظة مشتقة من "القفو" يقال: قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفي: أي قفى من قبله من الرسل فكان خاتمهم وآخرهم. وأما "الأول" فلأنه أول الأنبياء خلقا -كما مر- وكما أنه أول في البدء فهو أول في العود، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وهو أول شافع وأول مشفع، كما   تعليل قدم على معلوله، وهو "خمدت النار" بفتح الميم "وسكنت" وكأن وجه المناسبة أنه لما سكنت عقب مجيئه انتهى عذاب من شفع فيه وكأنه آخر عذابهم فسمي عاقبا، والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، لكن قال بعضهم هذا غريب ضعيف، "كما روي أن قوما من حملة القرآن يدخلونها، فينسيهم الله ذكر محمد صلى الله عليه وسلم"، لما أراده من تعذيبهم "حتى يذكرهم جبريل عليه السلام" إكراما لهم، لحملهم القرآن بالمبادرة إلى تخفيف عذابهم، "فيذكرونه" صلى الله عليه وسلم بأي اسم كان، لا بخصوص العاقب وإن سمي به فيها على ما فيه فقط خلاف الظاهر؛ لأنه يصير معنى جاء ذكر، "فيذكرونه فتخمد النار" بضم الميم، "وتنزوي عنهم" تنجمع وتبعد، "وأما المقفى" بكسر الفاء المشددة "فكذلك" أي تسميته بالعاقب، أي هو بمعناه، كما قاله شمر، "أي قفي آثار من سبقه من الرسل" بشد الفاء أيضا، ثم قفينا على آثارهم "وهي لفظة مشتقة من القفو" بفتح القاف، وسكون الفاء، لا بضمهما وشد الواو وإن كان مصدرين؛ لأن الاشتقاق إنما هو من المجرد، لا المزيد، "يقال قفاه يقفوه إذا تأخر عنه، ومنه قافية الرأس" لمؤخره، "وقافية البيت" لآخره، والقافية من كل شيء آخره، "فالمقفي، أي قفي من قبله من الرسل" أعاده وإن علم من أول كلامه توطئة لقوله "فكان خاتمهم وآخرهم". وقال ابن الأعرابي، أي المتبع للأنبياء؛ لأن معنى قفي تبع انتهى. وفيه من الفضل له صلى الله عليه وسلم أنه وقف على أحوالهم وشرائعهم، فاختار الله له من كل شيء أحسنه، وكان في قصصهم له ولامته عبر وفوائد، "وأما الأول، فلأنه أول الأنبياء خلقا، كما مر" أول الكتاب، "وكما أنه أول في البدء، فهو أول في العود، فهو أول من تنشق عنه الأرض" في الخروج من القبور للحشر، "وأول من يدخل الجنة، وهو أول شافع وأول مشفع، أي مأذون له في الشفاعة المقبولة، "كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 كان في أول البدء في عالم الذر أول مجيب، إذ هو أول من قال: بلى، إذ أخذ ربه الميثاق على الذرية الآدمية، فأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم. فهو صلى الله عليه وسلم الأول في ذلك كله على الإطلاق. وأما "الآخر" فلأنه آخر الأنبياء في البعث كما في الحديث. وأما "الظاهر" فلأنه ظهر على جميع الظاهرات ظهوره، وظهر على الأديان دينه، فهو الظاهر في وجود الظهور كلها. أما "الباطن" فهو المطلع على بواطن الأمور بواسطة ما يوحيه الله تعالى إليه.   كان في أول البدء في عالم الذر أول مجيب إذ هو أول من، قال: بلى" أنت ربنا "إذ أخذ ربه الميثاق على الذرية الآدمية" كما هو نص الآية، لا الملائكة وغيرهم من الحيوانات؛ لأنهم ليسوا محلا للمخالفة، ولا الجن، "فاشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فهو صلى الله عليه وسلم الأول" السابق "في ذلك كله على الإطلاق" لم يتقدمه أحد في شيء منه، "وأما "الآخر" فلأنه آخر الأنبياء في البعث، كما في الحديث، عند ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة كتب أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا. وروى ابن سعد من مرسل قتادة كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث، وهذان الاسمان مما سماه الله به من أسمائه الحسنى، وإن كان معنى الأول في حقه تعالى السابق للأشياء قبل وجودها بلا بداية، والآخر للأشياء بعد فنائها، بلا نهاية. قال عياض وتحقيقه أنه ليس له أول، ولا آخر، وقد غفل وجمد من اعتراض على عياض بأنه لا مناسبة بينهما، فإنهما في حقه تعالى غيرهما في حقه صلى الله عليه وسلم، فكفاه شرفا تسميته بأسماء ربه ومشاركته في اللفظ وإن اختلف المعنى، ومثل هذا لا يخفى حتى يعترض له، "وأما "الظاهر" فلأنه ظهر" غلب "على جميع الظاهرات ظهوره" فاعل ظهر "وظهر على الأديان دينه فهو الظاهر في وجوه الظهور كلها"، والظهور العلو والغلبة وقيل معناه الجلي الواضح الذي لا يخفى على عاقل ظهوره، "وأما الباطن، فهو المطلع على بواطن الأمور بواسطة ما يوحيه الله تعالى إليه" وقال الشامي كأن معناه في حقه صلى الله عليه وسلم الذي لا تدرك غاية مقامه وعظم شأنه الذي خصه الله به لقصور العقول عن ذلك وهما أيضا مما سماه الله به من أسمائه ومعنى الظاهر في حقه المجلي الوجود بالآيات والقدرة والباطن المنزة عن الابصار، فلا تراه، أو المطلع على بواطن الأمور، فلا يعتريه فيها اشتباه أو الباطن بذاته الظاهر بآياته، وقيل الذي لا تدرك كنهه العقول، ولا تدركه الحواس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وأما "الفاتح الخاتم" ففي حديث الإسراء عن أبي هريرة من طريق الربيع بن أنس قول الله تعالى له: "وجعلتك فاتحا وخاتما، وفي حديث أبي هريرة أيضا في الإسراء: قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلني فاتحا وخاتما"، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا، وفتح أمصار الكفر، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح والدنيا   "وأما "الفاتح الخاتم" بفتح التاء، وكسرها ذكرهما ابن دحية عن ضبط ثعلب وابن عساكر، فأما بفتحها فمعناه أحسن الأنبياء خَلقا وخُلقا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جمال الأنبياء كالخاتم الذي يتجمل به، وأما بالكسر، فهو اسم فاعل من ختمت الشيء أتممته وبلغت آخره، فمعناه آخر الأنبياء، وهو الذي شرح عليه المصنف واستدل بقوله. "ففي حديث الإسراء عن أبي هريرة" مرفوعا "من طريق الربيع بن أنس" البكري البصري نزيل خراسان صدوق له أوهام، ورمي بالتشيع مات سنة أربعين ومائة، أو قبلها روى له أصحاب السنن الأربعة "قول الله تعالى له" فيما خاطبه به ليلة المعراج "وجعلتك فاتحا وخاتما" أي أول الأنبياء وآخرهم، "وفي حديث أبي هريرة أيضا في الإسراء قوله صلى الله عليه وسلم" حيث أثنى على ربه "وجعلني فاتحا وخاتما"، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا" بضم الميم، وسكون الراء، وفتح الفوقية، وجيم خفيفة، ولا تشدد عند الجوهري وغيره، وحكى بعضهم تشديدها أي مقفلا، "وفتح أمصار الكفر" مكة وخيبر والمدينة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، ثم فتح أيام الصديق بصري ودمشق بلاد حوران وما والاها، ثم في أيام عمر فتح البلاد الشامية كلها ومصر، وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى، وفر إلى أقصى مملكته. وفر هرقل إلى القسطنطينية ثم في زمن عثمان فتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز وبلاد المغرب بتمامها ومن المشرق إلى اقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، ثم امتدت الفتوحات بعده إلى الروم وغيرها ولم تزل الفتوحات تتجدد إلى الآن. "وفتح به أبواب الجنة" مجازا في الدنيا وحقيقة يوم القيامة، "وفتح به أعينا عميا" الكفر عن طريق الهدى، فلا تراه حتى رأت آيات الله الباهرة، و"آذانا صما" عن سماع الحق، فلا تسمعه سماع قول فسمعته وانقادت له، "وقلوبا غلفا" جمع أغلف أي مغشاة بأغطية، فلا تعي الحق حتى استنارت لقبوله ووعته، "وفتح به طرق العلم النافع و" طرق "العمل الصالح" فسلكها المؤمنون بعد أن غلقا، كما قال علي رضي الله عنه الفاتح، لما استغلق "و" فتح به "الدنيا"، فحكمه فيها، وحمل أهلها على المحجة البيضاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 والآخرة، والقلوب والأسماع والأبصار والإبصار. وقد يكون المراد: المبدأ المقدم في الأنبياء، والخاتم لهم، كما قال عليه الصلاة والسلام: كنت أول النبيين في الخق وآخرهم في البعث. وأما "الرءوف الرحيم" ففي القرءان {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] .   ومنعهم من التعدي والظلم "والآخرة" فإنه فتح به البعث وباب الجنة والشفاعة والجواز على الصراط، "والقلوب والأسماع والأبصار" بفتح الهمزة جمع بصر نور العيون، "والإبصار" بكسرها مفرد بصائر نور القلوب، أي النظر في الأمور بالمعرفة التامة والمقام مقام خطابه، فلا يعاب فيها الإطناب، أو أراد بفتح الأعين والآذان أولا ما يمنع المشاهدة، ووصول الصوت، وبفتح القلوب إزالة الغلاف عنها، وكني بذلك عن زوال الكفر، وأراد بفتح الثلاثة ثانيا خلق قوة فيها بعد زوال الكفر بحيث صاروا يشاهدون المعقولات، كأنها صور محسوسة، ثم هذا كله بيان للفاتح، "وقد يكون المراد" به "المبدأ" بضم الميم وفتح الموحدة، وشد الدال المهملة، وهمزة، كما ضبطه البرهان في المقتفى، فيكون "المقدم" تفسيرا له. وقال غيره إن كان رواية وإلا فيجوز فتح الميم وسكون الموحدة وخفة الدار بمعنى أول "في الأنبياء والخاتم لهم كما، قال عليه الصلاة والسلام" فيما رواه ابن سعد وغيره "كنت أول النبيين في الخلق" لخلق نوره قبلهم، "وآخرهم في البعث" باعتبار الزمان، ثم لا يشكل عليه أنه لا اختصاص لما ذكره غير الأخير به؛ لأن وقوعه منه على أتم وجه، لا يشاركون فيه غيره على أنه لم يقل، لا بد في أسمائه من اختصاص معانيها به وذكر عياض أن الفاتح هنا الحاكم، أو لأبواب الرحمة على أمته، أو لبصائرهم لمعرفة الحق والإيمان، أو المبتدئ بهداية الأمة، أو المبدأ المقدم في الأنبياء. قال السيوطي، أو لأنه فتح الرسل؛ لأنه أولهم خلقا، أو فاتح الشفعاء بقرينة اقترانه باسم الخاتم انتهى، وهذه المعاني كلها مجتمعة فيه صلى الله عليه وسلم ولذا ساق غالبها المصنف بالواو والمشركة، "وأما الرءوف الرحيم ففي القرآن" العظيم "لقد جاءكم رسول من أنفسكم" أي منك، وروى ابن مردويه عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قرأها بفتح الفاء، وقال: "أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا"، "عزيز" شديد "عليه ما عنتم" عنتكم، أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه "حريص عليكم" أن تهتدوا "بالمؤمنين رءوف" شديد الرحمة "رحيم" يريد لهم الخير، وهو "فعول من الرأفة، وهي" لغة "أرق من الرحمة" إذ هي رقة القلب والرأفة شدة الرحمة، وأبلغها، "قاله أبو عبيدة" معمر بن المثنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 والرحيم فعيل من الرحمة وقيل رءوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين. وأما "الحق المبين" فقال الله تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] ، وقال تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِين} [الحجر: 89] . وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 108] ، وقال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام: 5] ، قيل المراد: محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل القرآن، ومعناه هنا ضد الباطل، والمتحقق صدقه وأمره،   الإمام اللغوي. قال ابن دحية وخاصتها أنها لدفع المكاره والشدائد والرحمة لطلب المحاب، ولهذا قدمت الرأفة عليها، وقال غيره الفرق بينهما أن الرأفة إحسان مبدأه شفقة المحسن، والرحمة إحسان مبدأه فاقه المحسن إليه "والرحيم فعيل من الرحمة" وهي في الكلام العرب العطف والإشفاق، وهو صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق، وأعطفهم وأشفقهم وأرقهم قلبا، "وقيل" في معنى الآية "رءوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين" يستغفر لهم ويتجاوز عن سيئاتهم إلا في الحدود ومع إقامتها عليهم يمنع من أذاهم، ثم هو في قبره تعرض عليه أعمال أمته ويستغفر لهم، ثم هو يوم القيامة همه كله أمته فيشفع فيهم حتى لا يبقى منهم أحد في النار، وهذان مما سماه الله به من أسمائه الحسنى، لكنها بهذا المعنى محال عليه فيؤول باللازم، وهو إرادة الخير لأهله وإعطاء ما لا يستحقه العبد من الثواب ودفع ما يستوجبه من العقاب، "وأما الحق المبين فقال الله تعالى: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} مظهر لهم الأحكام الشرعية، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِير} ، المحذر من عذاب الله أن ينزل عليكم {الْمُبِين} لكم أمور دينكم أو البين الإنذار، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} من الله. "قيل المراد" بالحق في الآيات "محمد عليه الصلاة والسلام" كما قال تعالى {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} وفي حديث الشفاعة ومحمد حق وتكذيبه بتكذيب رسالته وما جاءته "وقيل" المراد به القرآن بدليل التكذيب، "ومعناه هنا ضد الباطل"، من حق بمعنى ثبت "والمتحقق" بفتح القاف وكسرها كما في النسيم أي الثابت "صدقه، وأمره" شأنه وما يجب ثبوته له وما يستحيل عليه مما هو معلوم في صفات النبوة تفسير، لما قبله أو معنى آخر. وفي البيضاوي الحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره فعم الأعيان والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم حق الأمر إذا ثبت ومنه ثوب محقق محكم النسج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 والمبين البين أمره ورسالته، أو المبين عن الله ما بعثه به، كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وأما "المؤمن" فقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] ، أي يصدق، وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أمنة لأصحابي" فهذا بمعنى المؤمن. وأما "المهيمن"   "والمبين" بكسر الموحدة، وسكون التحتية، "البين" الظاهر الذي لا يخفى "أمره ورسالته" من بان اللازم والوصف به على هذا مجاز، "أو" هو "المبين" بشد التحتية مكسورة "عن الله ما بعثه به" للخلق كافة وعداه لتضمينه معنى المبلغ، أو هو حال بتقدير ناقلا "كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} " من شرائعه وأحكامه وهذا على أنه من أبان المتعدي، وقد أفاد المصنف تبعا للقاضي بسوق الآيات أنه يطلق عليه المين بالتخفيف والتشديد، وهو بالتخفيف كالحق مما سماه الله به من أسمائه كما قال عياض وغيره أي الموجود المتحقق أمره والهيته، أو الموجد للشيء على حسب مقتضى حكمته والمبين البين أمره والهيته، أو المبين لعباده أمر دينهم ومعادهم "وأما المؤمن" وهو من أسمائه تعالى التي سماه بها، ومعناه في حقه المصدق وعده وقوله ولعباده المؤمنين ورسله، أو الموحد نفسه شهد الله أنه لا إله إلا هو، أو المؤمن عباده في الدنيا الظلم والمؤمنين في الآخرة من العذاب، وفي حقه صلى الله عليه وسلم المتصف بالإيمان والمصدق وعدا وقولا والمؤمن أمته الظلم "فقال تعالى: {وَمِنْهُم} ، أي المنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بعيبه ونقل حديثه {وَيَقُولُونَ} ، إذا نهو عن ذلك لئلا يبلغه {هُوَ أُذُنٌ} أي سمع كل، قيل ويقبله، فإذا خلفنا له إنا لم نقل صدقنا {قُلْ هُوَ أَذًى} هو مستمع {خَيْرٍ لَكُمْ} ، لا مستمع شر {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} فيما أخبروه به، لا لغيرهم، "أي يصدق" لعلمه بخلوصهم، واللام لتضمينه معنى يذعن، أو مزيدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره، "وقال عليه الصلاة والسلام" في حديث عند البيهقي "أنا منة" بفتح الهمزة وضمها مصدر بمعنى الأمان، أو بزنة المبالغة كرجل عدل، فيقع على الواحد وغيره "لأصحابي"، أي مؤمن لهم ومحصل لهم الطمأنينة، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، ومر الكلام على هذا الحديث، "فهذا بمعنى المؤمن" أشار إلى أنه يكفي في صحة إطلاق الأسماء عليه ورود ما يدل عليها، ولو بلفظ الفعل، "وأما المهيمن" وهو من الأسماء الحسنى أيضا بمعنى المؤمن أو الشاهد أو الشهيد، أو الحافظ، أو المتعالي، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] قال ابن الجوزي -في زاد المنير- إن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد ومهيمنا عليه قال: محمد مؤتمن على القرآن، قال: فعلى قوله في الكلام تقدير محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه، وسماه العباس بن عبد المطلب في شعره مهيمنا في قوله: حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق وروى: ثم اغتدى بيتك المهيمن، قيل أراد: يا أيها المهيمن، قاله القتبي والإمام أبو القاسم القشيري.   الشريف أو المصدق، أو الوالي، أو القاضي، أو الرقيب فتلك عشرة "فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} القرآن "بالحق" متعلق بأنزلنا "مصدقا لما بين يديه" قبله "من الكتاب" بمعنى الكتب "ومهيمنا عليه، قال ابن الجوزي" عبد الرحمن بن علي أبو الفرج الحافظ المشهور "في زاد المنير" في علم التفسير "إن ابن أبي نجيح" عبد الله بن يسار المكي الثقفي مولاهم الثقة "روى عن مجاهد" كما أخرجه ابن جرير في قوله تعالى: " {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْه} قال" مجاهد، وقد قرأها بفتح الميم الثانية مبني للمفعول "محمد" صلى الله عليه وسلم "مؤتمن على القرآن قال" ابن الجوزي: "فعلى قوله" أي مجاهد "في الكلام تقدير محذوف كأنه قال وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه" بناء على أن المصدر وهو مصدقا حال من الكتاب، لا من المجرور بالحرف في إليك وإلا لقيل لما بين يديك وزعم أنه التفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد من نظم القرآن كما قال أبو حيان: لكن جوز ابن عطية أن يكون مصدقا ومهيمنا حالين من الكاف فلا حاجة للتقدير؛ لأن الحال إذا تعددت لمتعدد عطفت بالواو، بلا تقدير محذوف، ولا يختص هذا بقراءة مجاهد كما ادعى ابن الجوزي تبعا لابن جرير بل يأتي على قراءة الجمهور بكسر الميم الثانية، "وسماه" عمه "العباس بن عبد المطلب في شعره" المتقدم في غزوة تبوك "مهيمنا في قوله: "حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق وروى ثم اغتدى بيتك المهيمن، قيل أراد" العباس "يا أيها المهيمن" ولولا هذا لم يكن اسما "قاله" عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، البغدادي الإمام المشهور "القتبي" بضم القاف وفتح الفوقية، بعدها موحدة نسبة إلى جده قتيبة المذكور، "والإمام أبو القاسم" عبد الكريم بن هوازن "القشيري" نسبة لقشير قبيلة مرضه المصنف، وتبرأ منه فعزاه لقائليه تبعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 وأما "العزيز" فمعناه: جلالة القدر، أو الذي لا نظير له، أو المعز لغيره، وقد استدل القاضي عياض لهذا الاسم بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] أي فجائز أن يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعزيز والمعز، لحصول العز به. ولقائل أن يقول: هذا الوصف للمؤمنين أيضا لشمول العطف إياهم، فلا اختصاص للنبي صلى الله عليه وسلم، والغرض اختصاصه، قال اليمني: وعجيب من القاضي عياض كيف خفي عليه مثل هذا. ويجاب: باختصاصه عليه الصلاة والسلام برتبة من العز ليست لغيره والله أعلم. وأما "العالم"   لعياض؛ لأنه تكلف ضعيف لأن المعرف بال، لا ينادى، وتقدير، أيها مع تقدير حرف النداء، لا يرتضيه نحوي، ومر للمصنف في تبوك أنه أراد ببيته شرفه، والمهيمن نعته، أي احتوى شرفك الشاهد على فضلك أعلى مكان انتهى، ولا ثقل في هذا، كما ادعاه من زعم أنه أثقل من جعله منادى، فقد استعمل الفصحاء البيت بمعنى العز، والشرف كقوله: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز، وأطول "وأما العزيز" وهو مما سماه الله به من أسمائه، "فمعناه" في حقه تعالى الممتنع الي لا يدرك، ولا ينال، أو الغالب، وفي حقه وحق عبده ورسوله "جلالة القدر" كان الظاهر جليل، لكنه لاحظ أنه مأخوذ من جلالة وحرف الجر يحذف إذا لوحظ ذكره "أو الذي لا نظير" لا مثل "له" ولا يعادله شيء "أو المعز لغيره" فعيل بمعنى مفعل، وهو عزيز عربية، ولذا أخره المصنف، "وقد استدل القاضي عياض" في الشفاء "لهذا الاسم بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} ، وفسره بقوله، أي الامتناع وجلالة القدر، ومن هنا دخل لفظ جلالة على المصنف، فجعلها تفسيرا بقوله، أي الامتناع وجلالة القدر، ومن هنا دخل لفظ جلالة على المصنف، فجعلها تفسيرا للعزيز مع أن عياضا، كما ترى جعلها للعزة، "أي فجائز" بمعنى يجوز "أن يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعزيز والمعز لحصول العز به" لغيره ولم يقل وله؛ لأن هذا هو الذي يخفى أخذه من الآية، وأما وصفه بالعزيز فظاهر فيه فهذه أظهر من نسخة له "ولقائل أن يقول هذا الوصف للمؤمنين أيضا لشمول العطف إياهم، تصريحا بقوله وللمؤمنين، "فلا اختصاص للنبي صلى الله عليه وسلم" بهذا الوصف، "والغرض اختصاصه". "قال اليمني" محشي الشفاء "وعجيب من القاضي عياض كيف خفي عليه مثل هذا" مع ظهوره، "ويجاب باختصاصه عليه الصلاة والسلام برتبة من العز ليست لغيره" وأيضا فإن المؤمنين ذكروا بطريق التبع، فعزتهم ليست إلا من عزته، "والله أعلم" على أنه لم يقل، لا بد في أسمائه من اختصاص معانيها به، "وأما العالم" اسم فاعل من علم أي المدرك للحقائق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 و"العليم" و"المعلم" و"معلم أمته" فقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] ، وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] . وأما "الخبير" فمعناه: المطلع على كنه الشيء، العالم بحقيقته، وقيل: المخبر، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] . قال القاضي بكر بن العلاء -فيما ذكره في الشفاء: المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم، والمسئول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: بل السائل النبي صلى الله عليه وسلم   الدنيوية والأخروية، "والعليم" اسم فاعل للمبالغة الذي له كمال العلم وثباته، وهما مما سماه به تعالى من أسمائه، "والمعلم" اسم مفعول من التعليم، أو اسم فاعل، وهما اسمان، كما مر في السرد "ومعلم أمته" بكسر اللام المرشد لهم للخير، والدال عليه، واستدل للأولين ولثالث على أنه اسم مفعول بقوله: "فقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم} " أرشدك وهداك إلى ما لم يكن لك به علم، ولا سبق لك فيه معرفة من حوادث الأمور وضمائر القلوب وأسرار الغيوب، وأمر الدين، والأحكام وشرائع الإسلام، وعلى الأخيرين، أو الأخير بقوله، "وقال تعالى: {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} الآية القراءن، {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون} من المواعظ، وأخبار من مضى، وأحوال القيامة ومقدماتها، وغير ذلك مما لا طريق له سوى الوحي غير المتلو ولذا أعيد الفعل لتغايرهما، "وأما الخبير" وهو مما سماه الله تعالى به من أسمائه، "فمعناه" في حق الله ورسوله "المطلع" الواقف على كنه" بضم فسكون، أي حقيقة "الشيء العالم بحقيقته" وهي ذاته، لا غايته، كما قيل، وهو في حق الله واضح وفي حق رسوله كذلك، باطلاع الله تعالى له بوحيه، "وقيل" بمعناه "المخبر" بكسر الباء، أي أنبياءه ورسله بكلامه المنزل عليهم وعباده يوم القيامة بأعمالهم فإنه لا يغرب عن علمه شيء وفي حق رسوله بما نزل عليه من القرآن وغيره "فقال" الفاء للتعليل، أي لقوله "تعالى:" {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، عالما أي عنه، والضمير، لما قبله من خلق السماوات والأرض والاستواء، "قال القاضي بكر" بفتح الموحدة ابن محمد "بن العلاء" بن زياد القشيري، وأمه من ولد عمران بن حصين أبو الفضل البصري، ثم المصري أحد كبار الفقهاء المالكية وعلماء الحديث صاحب التصانيف مات بمصر سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وقد جاوز الثمانين بأشهر. "فيما ذكره في الشفاء" عياض "المأمور بالسؤال" في الآية "غير النبي صلى الله عليه وسلم" من كل من يتأتى منه السؤال، لا النبي؛ لأنه المخاطب، "والمسئول الخبير هو النبي صلى الله عليه وسلم" لأنه العالم بحقيقة ما ذكره دون غيره فدل على تسميته خبيرا. "وقال غيره" غير القاضي بكر، "بل السائل النبي صلى الله عليه وسلم" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 والمسئول الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم خبير بالوجهين المذكورين، قيل لأنه صلى الله عليه وسلم على غاية من العلم بما علمه الله من مكنون علمه، وعظيم معرفته، مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به. وأما "العظيم" فقال الله تعالى في شأنه. {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] ووقع في أول سفر من التوراة عن إسماعيل: وسيلد عظيما لأمه عظيمة.   لأنه المخاطب به، "والمسئول الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم خبير بالوجهين المذكورين"، أي على التفسيرين فالباء بمعنى على، أو ظرفية أما الأول فظاهر لإطلاقه عليه، ولأنه لو لم يكن خبيرا لم يؤمر بسؤاله، وأما الثاني، فأذن له في السؤال دال على إعلامه به. "قيل" في تعليل تسميته خبيرا على تفسيره بالعالم بالحقيقة، أو بالمخبر؛ "لأنه صلى الله عليه وسلم على غاية من العلم بما علمه الله من مكنون علمه وعظيم معرفته" أي سمي بذلك لما أعلمه به من الخفيات، والمغيبات التي أطلعه عليها بوحيه وما جبله عليه من المعرفة العظيمة، "مخبر لأمته بما أذن له في إعلامهم به" دون ما لم يأذن من الأسرار الإلهية، وهذا باعتبار أنه عالم قبل السؤال وما قبله باعتبار ما أجاب به بعد سؤاله، فافترقا، "وأما العظيم" وهو من أسمائه تعالى، أي الجليل الشأن، أو الذي كل شيء دونه، أو البالغ أقصى مراتب العظمة، فلا تتصوره الأفهام، ولا تحيط بعظمته الأوهام، أو الذي ليس لعظمته غاية، ولا لكبريائه نهاية سبحانه، "فقال الله تعالى في شأنه" بهمزة وإبدالها ألفا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} فجمع الله تعالى له من محاسن الأخلاق ما لا يتصور في سواه وإذا وصف خلقه بالعظيم فقد وصفه به، فهو من أسمائه، فلا يرد أنه صفة للخلق، لا له، وإن العظمة مختصة بالله، أو هو توطئة لقومه، "ووقع في أول سفر" بكسر، فسكون كتاب "من التوراة عن إسماعيل" نبي الله ابن خليله، وكان الظاهر أن يقال في حق إسماعيل فكأنه صفة سفر، أي فيه ما يصدر عن إسماعيل، "وسيلد عظيما" من الولادة، وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه العظيم الذي ولده إسماعيل "لأمه عظيمة" وفيه مبالغة في وصفه بالعظمة؛ إذ جعل أتباعه عظماء فيما بالك به، وهذا هو الذي في الشفاء، والنسخ الصحيحة من الشامية نقلا عنها وعن ابن دحية بلام بعدها دال من الولادة، وعظيما مفعول، فلا عليك مما يقع في نسخ سيدا وعظيما، أو وسيلة عظيمة، أو سيرد براء بدل اللام عظيما فإنه كله من تحريف النساخ، وإن تكلف توجيه الأولتين بأن المعنى بعثناه سيدا فإنه فاسد؛ لأن الضمير لإسماعيل ولي القصدي الإخبار عنه، وإلا كان لا معنى لذكره احتجاجا على تسمية المصطفى بعظيم، والثالثة بأن المعنى سيرد على الحوض فإنه فاسد كذلك فإنما هو مجرد خيالات تقوم في العقول دون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 فهو صلى الله عليه وسلم عظيم وعلى خلق عظيم. وأما "الشاكر" و"المشكور" فقد وصف صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" أي: أترك تهجدي فلا أكون عبدا شكورا؟! والمعنى: أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟ وعلى هذا فتكون "الفاء" للسببية، وقال القاضي عياض: شكورا أي: معترفا بنعم ربي، عالما بقدر ذلك مثنيا عليه، مجهدا نفسي في الزيادة من ذلك، لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . وأما "الشكار" فهو أبلغ من شاكر، وفي حديث ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "رب اجعلني لك شكارا".   مراجعة النقول، "فهو صلى الله عليه وسلم عظيم" كما وصف به في التوراة أي جليل شأنه كامل في ذاته وصفاته، وعلى خلق عظيم" كما وصف به في القرآن، "وأما "الشاكر" اسم فاعل، "والشكور" كثير الشكر، وهو من أسمائه تعالى إن ربنا لغفور شكور، أي المعطي الثواب الجزيل على العمل القليل، أو المثني على المطيعين، "فقد وصف صلى الله عليه وسلم نفسه بذلك"، لما صلى حتى تورمت قدماه فقيل له، أتتكلف هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ "فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا"؟ رواه الشيخان، "أي أأترك تهجدي فلا أكون عبدا شكورا" فالاستفهام الإنكاري يدل على أنه وصف ثابت له، "والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا فكيف أتركه، وعلى هذا فتكون الفاء للسببية، وقال القاضي عياض في الشفاء تفسيرا لقوله "شكورا، أي معترفا" مقرا "بنعم ربي عالما بقدر ذلك"، أي قدر عظمها، لا عددها لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} الآية، "مثنيا عليه" بلساني، وأركاني، "مجهدا" بزنة متعبا، أي باذلا جهدي وطاقاتي ومتعبا "نفسي في الزيادة من ذلك"، الاعتراف والثناء "لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} " من النعم التي شكرتموها وعدا ممن لا يخلف الميعاد، "وأما "الشكار" فهو أبلغ من شاكر" ومن شكور؛ لأنه ينبيء عن وجود الشكر وكماله. وشكار ينبئ عن تكرار الشكر وكثرته وصيرورته كالطبيعة له، وصرح أبو بكر بن طلحة النحوي بتفاوت صيغ المبالغة، كما مر، "وفي حديث ابن ماجه" عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان من دعائه "رب اجعلني لك شكارا" قيل الشاكر الذي يشكر على العطاء، أو على الموجود والشكور الذي يشكر على البلاء، أو على المفقود، وحكي أن شقيقا البلخي سأل جعفر الصادق عن الفتوة، فقال: ما تقول أنت، فقال: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، فقال جعفر: هكذا تفعل كلاب المدينة، فقال شقيق: يابن رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وأما "الكريم" و"الأكرم" و"أكرم ولد آدم" فسماه الله به في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [سورة الحاقة: 40] أي محمد صلى الله عليه وسلم، وليس المراد به جبريل عليه السلام؛ لأنه تعالى لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن، والمشركون لم يكونوا يصفوا جبريل عليه السلام بذلك، فتعين أن يكون المراد بالرسول الكريم هنا محمدا صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في مقصد أي التنزيل. وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أكرم ولد آدم". وأما "الولي" و"المولى".   فما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أعطينا شكرنا وإن منعنا صبرنا، "وأما الكريم" وهو من أسمائه تعالى، أي الكثير الخير، أو المتفضل، أو العفو، أو العلي، وهي صحيحة في حقه صلى الله عليه وسلم، "والأكرم" من الأسماء الحسنى. كما في رواية ابن ماجه وفي التنزيل {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي الزائد في صفة الكرم على غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر". رواه الدرامي، "وأكرم ولد آدم فسماه الله به" بالكريم في قوله تعالى في سورة الحاقة: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38، 39] أنه، أي القرآن "لقول رسول كريم، أي محمد صلى الله عليه وسلم أضيف إليه لنزوله عليه وتلقي الأمة له عنه، "وليس المراد به جبريل عليه السلام؛ لأنه تعالى، لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر، ولا كاهن"؛ إذ قال سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} ، ولا بقول كاهن، ولو قال المصنف لأنه تعالى قال بعده، وذكر اللفظ إلى هنا لأغناه عن التكرار وحكاية القرآن بالمعنى، "والمشركون لم يكونوا يصفوا" بحذف النون للتخفيف، وفي نسخ بالنون، وهو أولى [أي:] "جبريل عليه السلام بذلك" الشعر، والكهانة "فتعين أن يكون المراد بالرسول الكريم هنا محمدا صلى الله عليه وسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه في مقصد أي التنزيل" السادس، وأما في سورة التكوير، فذكر المصنف في المقصد المذكور ترجيح أنه جبريل، ونسب عياض لأكثر المفسرين أنه محمد صلى الله عليه وسلم. قيل ولا حاجة لإثباته بهاتين الآيتين المختلف فيهما لاتصافه صلى الله عليه وسلم بالكريم وبمعناه في الأحاديث الصحيحة، "وقال عليه الصلاة والسلام: "أنا أكرم ولد آدم" أي أشرف من الأنبياء وغيرهم دليل تسميته بهذا الاسم وبالأكرم وقدمت له دليلا آخر، "وأما الوالي، والمولى" بفتح الميم، واللام وهما من أسمائه تعالى، وهو الولي الحميد، الله ولي الذين آمنوا ذلك بأن الله مولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 فقال عليه الصلاة والسلام: "أنا ولي كل مؤمن". وأما "الأمين" فقد كان عليه الصلاة والسلام يعرف به، وشهر به قبل النبوة وبعدها، وأحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمين من في السماء والأرض. وأما "الصادق" و"المصدوق" فقد ورد في الحديث تسميته بهما، ومعناهما غير خفي،.   الذين آمنوا ومعناهما الناصر، أي الذي ينصرهم على أعدائهم. قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] ، أي ناصركم ولم يقل أولياؤكم؛ لأن نصرتهم واحدة، أو لأن الناصر إنما هو الله وغيره بتبعيته وإعانته، كما قال: وما النصر إلا من عند الله، "فقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه البخاري عن أبي هريرة "أنا ولي كل مؤمن"، ناصره ومتوليه، والقائم بمصالحه. وفي البخاري أيضا مرفوعا "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا، والآخرة، فمن ترك مالا فلعصبته من كانوا، فإن ترك دينا، أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه"، رواه الترمذي وحسنه "وأما الأمين" فعيل بمعنى مفعول مبالغة، أو بمعنى فاعل من أمن ككرم، فهو أمين "فقد كان عليه الصلاة والسلام يعرف به" من صغره، "وشهر به قبل النبوة وبعدها" فكانت توضع عنده الودائع، والأمانات، ومن ثم لما هاجر خلف عليا ليؤدي عنه الودائع وبه سماه الله في قوله مطاع، ثم أمين في أحد القولين. وسماه به كعب بن مالك في شعره، "وهو أحق العالمين بهذا الاسم" لوقاره وصدق لهجته، واجتنابه الأدناس، والقاذورات، وقوته على الطاعات، ولأنه الحافظ للوحي، كما قال: "فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمين من في السماء والأرض" أمره وحكمه، وقد مر شرح هذا الاسم مبسوطا، "وأما الصادق" اسم فاعل من الصادق، "والمصدوق" اسم مفعول من صدق المتعدي كقوله صادق وعده، "فقد ورد في الحديث" الصحيح "تسميته بهما" فقال ابن مسعود، حدثنا رسول الله، وهو الصادق المصدوق أخرجه البخاري وغيره، وكذا ورد في عدة أحاديث، ولا يضر كونها موقوفة؛ لأن الموقوف يقال له حديث. قال ابن دحية: كان الصادق المصدوق علما، واضحا له إذ جرى مجرى الأسماء، "ومعناهما غير خفي" وهو أنه صادق في نفسه وصدق الأنبياء، والكتب التي قبله، وليس بمكذب عند الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 وكذلك "الأصدق". وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما كذبه قومه حزن فقال له جبريل: إنهم يعلمون أنه صادق. وأما "الطيب" و "ماذ ماذ" -بميم ثم ألف ثم ذال معجمة منونة، ثم ميم ثم ألف ثم ذال معجمة- كذا رأيته لبعض العلماء، ونقل العلامة الحجازي في حاشيته على الشفاء عن السهيلي: ضم الميم وإشمام الهمزة ضمة بين الواو والألف ممدود، وقال: نقلت عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال معناه: طيب طيب،   وقد روى الترمذي، والحاكم عن علي أن أبا جهل، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا، لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، فأنزل الله {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، "وكذلك الأصدق"، ورد في الحديث، ومعناه غير خفي، وهو أفعل تفضيل للمبالغة إذ لا أحد أقوى ولا أثبت على الحق منه، فهو الأصدق، "وروى" على ما ذكره عياض في أوائل الشفاء، وقال السيوطي في تخريجه لم أجده "إنه عليه الصلاة والسلام، لما كذبه قومه حزن، فقال له جبريل عليه السلام إنهم يعلمون أنك صادق"، والفضل ما شهدت به الأعداء أتى به دليلا على أنه يسمى الصادق، كما قال جبريل، وأنه كان معروفا به عند أعدائه، كما هو ظاهر. "وأما الطيب" بوزن سيد الطاهر، أو الزكي؛ لأنه لا أطيب منه قلبا وقالبا، وقد روى الترمذي في الشمائل عن أنس ما شممت مسكا قط، ولا عطرا كان أطيب عن عرقه وريحه صلى الله عليه وسلم "وماذ ماذ بميم" مفتوحة "ثم ألف" غير مهموز فيهما، كما اقتصر عليه عياض، فتبعه المصنف وروى موذموذ بواو وبدلها عزاه العزفي لصحف إبراهيم وميذميذ بتحتية فيهما عزاه أيضا العزفي للتوراة، "ثم ذال معجمة منونة" وقال البرهان في المقتفى ساكنة، "ثم ميم، ثم ألف، ثم ذال معجمة" كذلك منونة، أو ساكنة "كذا رأيته لبعض العلماء" وبه ضبطه الحافظ برهان الدين الحلبي في شرح الشفاء، إلا أنه أبدل منونة بساكنة، وقال عقب ضبطه بذلك المفيد إنه الرواية ما نصه لكن ينبغي ضم ذاله؛ لأنه اسم غير منصرف للعلمية والعجمة، وتقديره أنت ماذ ماذ، أو يا ماذ، "ونقل العلامة" أحمد بن محمد بن علي بن حسن بن إبراهيم الشهاب، "الحجازي" الأنصاري، الخزرجي، الفاضل، الأديب، الشاعر، البارع، صاحب التصانيف، أجاز له العراقي، والهيثمي مات في رمضان سنة خمس وسبعين وثمانمائة "في حاشيته على الشفاء عن السهيلي ضم الميم وإشمام الهمزة ضمة بين الواو، والألف ممدودة، وقال" السهيلي: "نقلته عن رجل أسلم من علماء بني إسرائيل، وقال" هذا المسلم العالم: "معناه طيب طيب" والتكرار للتأكيد، أو المراد طيب في نفسه، أو دنياه وطيب في صفاته وآخرته، وكونه اسما واحدا مثل مرمر، أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 ولا ريب أنه صلى الله عليه وسلم طيب الطيبين، وحسبك أنه كان يؤخذ من عرفه ليتطيب به، فهو صلى الله عليه وسلم طيب الله الذي نفحه في الوجود فتعطرت به الكائنات وسمت، واعتذت به القلوب فطابت، وتنسمت به الأرواح فنمت. وأما "الطاهر" و"المطهر" و"المقدس" أي المطهر من الذنوب، كما قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] أو الذي يتطهر به من الذنوب، ويتنزه بأتباعه عنها، كما قال الله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] وقال: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة والأوصاف الدنية. وأما "العفو".   مركب خلاف الأصل، وزعم أن داله مهملة لم يقله أحد، وقول التلمساني يحتمل أنه مأخوذ من الماذ وهو العسل الأبيض لحلاوته في ذاته وصفاته، أو من الماذ بمعنى الدرع اللينة السهلة؛ لأنه حصن حصين للعالمين رد بأنه يقتضي أنه عربي، ولم يقل أحد ط، "ولا ريب" لا شك "أنه صلى الله عليه وسلم طيب الطيبين وحسبك" كافيك "إنه كان يؤخذ من عرقه ليتطيب به، فهو صلى الله عليه وسلم طيب الله الذي نفحه" بالفاء، والحاء المهملة، نشره "في الوجود فتعطرت به الكائنات" أي الموجودات "وسمت" علت، وارتفعت "واغتذت" بذال معجمة، "به القلوب فطابت وتنسمت" بسين مهملة من النسيم ومعجمة من النشم، وهو كما في القاموس طيب الرائحة "به الأرواح فنمت" زادت "وأما الطاهر" بالطاء المهملة النقي من النقائص، والأدناس الحسية، والمعنوية حتى قال قوم بطهارة فضلاته، وهو المعتمد، "والمطهر" بفتح الهاء وكسرها على ما يأتي، "والمقدس" بفتح الدال وكسرها فسره تبعا لعياض بقوله، "أي المطهر من الذنوب" تفسيرا للأسماء الثلاثة بناء على أن الأخيرين بفتح الهاء والدال: "كما قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] منه، ويأتي الكلام على هذه الآية، "أو الذي يتطهر به" بالبناء للمفعول من الذنوب ويتنزه بأتباعه" يتباعد بسببه "عنها" بناء على أنهما بكسر الهاء، والدال، أي الطهر من اتبعه وهما احتمالان، كما قال السيوطي ومر كلامه ونحوه تفسير المصنف هذا، كما قال تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] يطهرهم من الذنوب، "وقال" تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} الكفر، والمعاصي {إِلَى النُّورِ} الإيمان والتقوى والطاعة، بإرشادهم وتوفيق الله ببركته صلى الله عليه وسلم، "أو يكون مقدسا بمعنى مطهرا من الأخلاق الذميمة" بالمعجمة، أي المذمومة، "والأوصاف الدنية" الحقيرة التي لا تليق بجنابه صلى الله عليه وسلم من التقديس، وهو التطهير، وقيل: معناه المفضل على غيره وقيل تقديسه الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، "وأما العفو" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 و"الصفوح" فمعناهما واحد، وقد وصفه الله بهما في القرآن والتوراة والإنجيل، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وأمره تعالى بالعفو كما قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] . وأما "العطوف".   المبالغ في العفو عن السئيات وهو محوها وإزالتها، ولذا قيل إنه أبلغ من الغفور؛ لأنه من الغفر، وهو الستر، ولا يلزم منه الإزالة، "والصفوح" صيغة مبالغة من الصفح، وهو الإعراض عن الذنب، كما في الصحيح، "فمعناهما واحد" كما قال عياض: من حيث إن حاصل معنى كل الإعراض عن السيئات، وإن قيل الصفوح أبلغ؛ لأن الإنسان، قد يعفو، ولا يصفح، وقيل العفو أبلغ؛ لأن الصفح إعراض عن المؤاخذة، والعفو محو الذنب ومن لازمه الإعراض، ولا عكس، "وقد وصفه الله بهما في القرآن" إذ أمره بهما فيه فقال: فاعف عنهم واصفح، كما سيقول، فامتثل صلى الله عليه وسلم للأمر وتخلق به، فيقتضي الاتصاف به على أبلغ وجه، وأتمه إذ كان جبلة له؛ لأنه لا يعصي له أمرا، فلا يرد أنه لم يصفه في القرآن إنما أمر ولو سلم اتصافه به، لا يقتضي كونه على وجه المبالغة التي دل عليها فعول، والأمر لا يقتضي التكرار على الأصح "والتوراة ولإنجيل، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي" الصحابي ابن الصحابي. "عند البخاري" عن عطاء بن يسار، قال لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن الحديث وفيه، "ولا يجزي بالسيئة السيئة" فلا يسيء لمن أساء إليه "ولكن يعفو ويصفح" فقد وصفه بهما في الكتابين، "و" أما في القرآن، فقط "أمره تعالى بالعفو، كما قال تعالى خذ العفو" بناء على أن المراد به الصفح، لما روي أنه سأل جبريل: "ما هذا"؟ قال: لا أدرى حتى أسأل ربي فسأله، ثم رجع، فقال: إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك. ذكره البغوي، والقرطبي، والذي عليه الأكثر أن العفو المال الفاضل عن نفقة العيال، كما في قوله: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ، ثم نسخت بآية الزكاة فلا شاهد فيها، ولذا أتى بدليل ثان بقوله: وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] ، فامتثل الأمر حتى صار جبلة له، فأفاد الوصف بهما، ومواطن العفو، والصفح منه، لا تحصى، والمصنف تابع لعياض، ولم يذكر شيئا عن الإنجيل؛ لأن الراوي الصحابي صرح بأن ذلك في التوراة، "وأما العطوف، فهو الشفوق" حقيقة على مقتضى المصباح، والقاموس لكن صرح الشامي بأنه مجاز، فقال صفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 فهو الشفوق، وسمي به عليه الصلاة والسلام لكثرة شفقته على أمته، ورأفته بهم. وأما "النور" فقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] قيل: محمد صلى الله عليه وسلم وقيل القرآن، فهو نور الله الذي لا يطفأ. وأما "السراج" فسماه تعالى به في قوله: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] لوضوح أمره، وبيان نبوته، وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به، فهو نير في ذاته.   مشبهة من العطف، وهو الإنشاء، يقال عطف الغصن إذا أماله، ثم استعير للميل، والشفقة إذا عدي بعلى، وإذا عدي بعن كان على الضد من ذلك "وسمي به عليه الصلاة والسلام لكثرة شفقته على أمته ورأفته بهم" كما قال حسان: عطوف عليهم لا يثني جناحه ... إلى كنف يحنو عليهم وبمهد "وأما النور" وهو من أسمائه تعالى، أي ذو النور وخالقه، أو منور السماوات والأرض بالأنوار، أو قلوب المؤمنين بالهداية، قاله عياض كغيره، وهو المشهور، وذهب الغزالي، والحكماء إلى أنه حقيقة في ذات الله؛ لأن معناه الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وقال الأشعري نور ليس كالأنوار، "فقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} الآية، "قيل النور هنا محمد صلى الله عليه وسلم لظهور آياته، وقيل القرآن لإزالته ظلمة الكفر، والجهل "فهو" أي المذكور من كل منهما "نور الله الذي لا يطفأ" حكاهما عياض وغيره على حد سواء، فتبعهم المصنف، ولكن الأصح الأول، فقد انتصر عليه الجلال، وقد التزم الاقتصار على الأصح، ولا يشكل عليه إفراد الضمير في قوله يهدي به الله من اتبع رضوانه مع تغايرهما وعطفهما بالواو لرجوعه إليهما معا باعتبار المذكور، أو لأنهما معا كالشيء الواحد، وهداية أحدهما عين هداية الآخر، وقد صرح الفراء بجواز مثله جوزا مطردا، وبه وردت آيات كثيرة، وأنشد عليه: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريا ومن هول الطوى رماني وقال ابن عباس عند ابن مردويه، وابن عمر عند الطبري وسعيد بن جبير وكعب الأحبار في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة} ، المراد بالنور هنا محمد صلى الله عليه وسلم، "وأما السراج" المنير، "فسماه تعالى به في قوله وسراجا منيرا"، مفعلا من أنار إنارة، وهو راجع إلى النور. سمي بذلك على نهج الاستعارة، أو التشبيه البليغ، كما قال "لوضوح أمره" كالسراج المنير الذي لا يخفى "وبيان نبوته" أي كونها ظاهرة تضيء ضوء السراج في الليلة الظلماء، "وتنوير قلوب المؤمنين" والعارفين" به "بما جاء به" فاستضاءوا به من ظلمات الجهالة، واقتبسوا من نوره أنوار البصائر؛ لأن الله أمدها بنور نبوته، كما أمد بنور السراج أنوار الأبصار، "فهو نير في ذاته" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 منير لغيره، فهو السراج الكامل في الإضاءة، ولم يوصف بالوهاج كالشمس؛ لأن المنير الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج. وأما "الهادي" فبمعنى الدلالة والدعاء، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [الشورى: 52] وقال تعالى فيه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الأحزاب: 46] .   ناظر لاسمه النور "منير لغيره" ناظر للسراج، "فهو السراج الكامل في الإضاءة" الذي أضاءت الدنيا بنوره ومحا ظلام الكفر بظهوره، "ولم يوصف بالوهاج كالشمس" حيث وصفت به في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} لأن المنير هو الذي ينير من غير إحراق بخلاف الوهاج، أي الوقاد فقد يكون مع إحراق أو لأن المراد بالسراج الشمس؛ لأن الغاية في النيرات أو لأنه بعث في زمان يشبه الليل من ظلمات الكفر، والجهل، فكشفه بنور اليقين والهداية. وقال القاضي أبو بكر بن العربي، قال علماؤنا: سمي سراجا؛ لأن السراج الواحد يؤخذ منه السرج الكثيرة، ولا ينقص من ضوئه شيء، وكذلك سرج الطاعات أخذت من سراجه صلى الله عليه وسلم ولم ينقص من أجره شيء وفسر السراج أيضا بالحجة، والهادي؛ لأنه حجة الله الظاهرة، كالسراج على الخلائق وهاديهم إلى الدين القويم، "وأما الهادي" وهو من أسمائه تعالى كما مر فبمعنى الدلالة، أي ذو الدلالة؛ لأنه اسم فاعل من هدى هداية، وهي الدلالة إن تعدت بحرف الجر، والوصول إن تعدت بنفسها. قال الراغب: أصل معنى الهداية الدلالة بلطف، لما يوصف، أو الموصلة على الخلاف المشهور، وهي أنواع ما يعم كل مكلف من العقل والعلوم الضرورية، ودعاؤه إياهم على ألسنة رسله، والتوفيق الذي يختص به من اهتدى. والتي في الآخرة في قوله الحمد لله الذي هدانا لهذا، ولا يقدر الإنسان بهدى إلا بالدعاء، ولذا بقيت تارة، وأثبتت أخرى انتهى، "والدعاء" أي الدعوة، ومنه قوله: ولكل قوم هاد، أي داع، وتطلق على خلق الاهتداء، وهو التوفيق وذلك مختص بالله، ولذا، قال: لا تهدي من أحببت وبمعنى الدلالة والدعاء على غيره، كما "قال الله تعالى له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52] ، تدل وتدعو {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] لا عوج فيه، طريق الإسلام الموصلة إلى سعادة الدارين على القراءة المشهورة بالبناء للفاعل، وقرئ شاذا للمفعول، فهو الله، وقال تعالى فيه: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِه} أي إرادته وتيسيره، والإذن يستعمل مجازا مشهورا في ذلك، وعبر أولا بله؛ لأنه خطاب، يقال: قال له كذا إذا خاطبه، وثانيا بفيه لعدم الخطاب؛ لأنه في حقه ووصفه فسقط زعم أنه لا وجه لتغاير المتعلقين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 وأما "البرهان" فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] قيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معجزاته وقيل القرآن. وأما "النقيب" فروي أنه صلى الله عليه وسلم لما مات نقيب بني النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة وجد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يجعل عليهم نقيبا بعده، وقال: "أنا نقيبكم" فكانت من مفاخرهم، والنقيب هو شاهد القوم وناظرهم وضمينهم. وأما "الجبار" فسمي به في مزامير داود، في قوله من مزمور أربعة وأربعين. تقلد أيها الجبار سيفك، فإن ناموسك وشرائعك.   "وأما البرهان" الحجة الواضحة النيرة التي تعطي اليقين، وهو من أسمائه تعالى، كما في رواية ابن ماجه، "فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] "قيل محمد صلى الله عليه وسلم" كما فسره به سفيان بن عيينة، وجزم به ابن عطية، والنسفي، والجلال، فهو المعتمد، "وقيل معجزاته، وقيل القرآن" وهو أجل معجزاته وعلى كل منها يصح تسميته بالبرهان، كما لا يخفى، "وأما النقيب فروي" عند الحاكم في المستدرك من طريق الواقدي عن ابن أبي الرجال، "أنه صلى الله عليه وسلم" لما مات نقيب بني النجار أبو أمامة أسعد بن زرارة،، الخزرجي النجاري، شهد العقبتين، ويقال إنه أول من بايع ليلة العقبة، مات على رأس تسعة أشهر من الهجرة في شوال، كما في نفس هذه الرواية المذكورة "وجد" بفتح الجيم، والمهملة حزن "عليه صلى الله عليه وسلم" فجاء بنور النجار، فقالوا: يا رسول الله مات نقيبا فنقب علينا، فقال: "أنتم أخوالي" "ولم يجعل عليهم نقيبا بعده، وقال: "أنا نقيبكم"، فكانت من مفاخرهم" الجليلة، "والنقيب هو شاهد القوم وناظرهم وضمينهم" وأمينهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته، وناظر، لما عملوا وضمين لهم الجزاء الأوفى على العمل الصالح والتجاوز عن السيئات والشفاعة حتى يدخلهم الجنة، ولو بعد تعذيب، وفي الشامية أصله لغة النقب الواسع، فنقيب القوم هو الذي ينقب عن أحوالهم، فيعلم ما خفي منها. "وأما الجبار" وهو من أسمائه تعالى، كما مر بمعناه، "فسمي به" بالبناء للمجهول، أي سماه الله في "مزامير داود" أي الصحف الإلهية المنزلة عليه "في قوله من مزمور أربعة وأربعين" مخاطبا له صلى الله عليه وسلم لتنزيله منزلة الموجود لتحققه عنده، "تقلد" أمر "أيها الجبار سيفك" أي اجعل حمائله على عاتقك، واحمله كالقلادة، وفيه إشارة إلى أنه سيؤمر بالجهاد، "فإن ناموسك" الوحي النازل عليك، أو عظمتك في قلوب الناس، "وشرائعك" جمع شريعة، ونسخة سراياك تحريف، فالذي ذكره عياض، وابن دحية شرائعك وقال في شرح الشفاء يحتمل أنه عطف تفسير، ولذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 مقرونة بهيبه يمينك؛ لأنه الجبار الذي جبر الخلق بالسيف على الحق، وصرفهم عن الكفر جبرا، قال القاضي عياض: وقد نفي الله عنه في القرآن جبرية التكبر التي لا تليق به فقال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] . وأما "الشاهد" و"الشهيد" فسماه الله تعالى بهما في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] أي على من بعث إليهم بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم. وفي قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ أنبيائهم،   وحد الخبر في قوله: "مقرونة بهيبة يمينك" أي بالخوف من سيفك فكني بما ذكر عنه، أو تجوز باليمين عما فيه. سمي بذلك "لأنه الجبار"، أي المجاهد القتال "الذي جبر الخلق بالسيف على الحق وصرفهم عن الكفر جبرا" أو لإصلاحه أمته بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على الخلق، وعظم خطره، وهو من أسمائه تعالى. بهذه المعاني الثلاثة، كما في الشفاء وبمعنى المتكبر. "قال القاضي عياض: وقد نفى الله عنه في القرآن جبرية" بفتح الباء وسكونها وصوب. قال أبو عبيد أنه مولد، وأضافها إلى "التكبر" احترازا عن الجبرية بمعنى الجبر خلاف القدرية التي لا تليق به؛ لأنها من صفات الله التي لا تناسب غيره، "فقال وما أنت عليهم بجبار" لا بمتكبر، ولا متعاظم، بل أنت لين هين، تدعوهم بفق وتهديهم بناء على أن الآية محكمة، وقيل معناها بمسلط، وبه فسرها ابن عباس وغيره، وهي منسوخة آية القتال؛ لأنها مكية وآيته مدنية. قال السيوطي فيكون حينئذ جبارا، بمعنى المسلط بعد أمره بالقتال، وهو المناسب لسياق الزور، "وأما الشاهد" العالم، أو المطلع الحاضر، "والشهيد" العليم، أو العدل المزكي، وهو من أسمائه تعالى، أي الذي لا يغيب عنه شيء أو الشهيد يوم القيامة بما علم. قال ابن الأثير فعيل من أبنية المبالغة، في فاعل، فإذا اعتبر العلم مطلقا، فهو العليم، فإذا أضيف إلى الأمور الباطنة، فهو الخبير، أو إلى الظاهر، فهو الشهيد انتهى. "فسماه الله تعالى بهما" فسماه بالشاهد في قوله {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} حال مقدرة، أي مقبولا شهادتك "على من بعثت إليهم" ولهم "بتصديقهم وتكذيبهم ونجاتهم وضلالهم، و" بالشهيد في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} معدلا مزكيا. قال البيضاوي "روى" عند مسلم بمعناه "إن الأمم يوم القيامة يجحدون" ينكرون "تبليغ أنبيائهم" لعل المراد أكثر الأمم، وقد روى الشيخان عن أبي سعيد رفعه يدعى نوح يوم القيامة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 فيطالبهم الله ببينة التبليغ -وهو أعلم بهم- إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتي بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون، فتقول الأمم، بم عرفتم؟ فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتي محمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته، فيشهد بعدالتهم، وهذه الشهادة وإن كانت لهم لكن لما كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمته عدي بعلي" وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم. قاله البيضاوي. وأما "الناشر" فسمي بذلك لأنه نشر الإسلام وأظهر شرائع الأحكام. وأما "المزمل" فأصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي وسمي به، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يفرق من جبريل عليه السلام ويتزمل بالثياب أو ما جاءه،   فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيقال لأمته هل بلغكم فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقال: من يشهد لك فيقول: محمد وأمته فيشهدون أنه قد بلغ، ولأحمد والنسائي، يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك فيقال لهم هل بلغتم الحديث "فيطالبهم الله ببينة التبليغ، وهو أعلم بهم" إذ لا يغيب عنه شيء "إقامة للحجة على المنكرين، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون" للأنبياء أنهم قد بلغوا "فتقول الأمم بم عرفتم" فإنكم لا تدركوا عصرنا، "فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته" أهم عدول فتقبل شهادتهم، "فيشهد بعدالتهم" وفي فضيلة له صلى الله عليه وسلم لأن الأنبياء يسألون ولا يسأل، هو ولا أمته؛ إذ لم ينكروا تبليغه، بل شهدوا للأنبياء، "وهذه الشهادة وإن كانت لهم" للأمة المحمدية بالعدالة، "لكن، لما كان الرسول كالرقيب" الحافظ "المهيمن" المراقب، كذا في النسخ، والذي عند البيضاوي المؤتمن "على أمته عدي بعلي" لتضمينه معنى رقيبا، كما قال بعضهم، لكن ظاهر الكلام أن مجرد كون اللفظ بمعنى آخر يعدى بما يعدى به ما هو بمعناه وليس من التضمين، "وقدمت الصلة" أي قوله عليكم "للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم". "قال البيضاوي" في سورة البقرة، "وأما الناشر" المظهر للشيء بعد طيه اسم فاعل من النشر، وهو البسط ومنه نشر الصحيفة، والحديث، والسحاب، "فسمي به؛ لأنه نشر الإسلام، وأظهر شرائع الأحكام" وقيل إنه بمعنى الحاشر، "وأما المزمل، فأصله المتزمل" لأنه من تزمل، "فأدغمت التاء" بعد قلبها "في الزاي وسمي به لما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يفرق" بفتح الراء، يخاف من جبريل عليه السلام، ويتزمل بالثياب أول ما جاءه" لأنه خشي الموت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 وقيل: أتاه وهو في قطيفة، وقال السدي، معناه: يا أيها النائم، وكان متلففا في ثياب نومه، وعن ابن عباس: يعني المتزمل بالقرآن وعن عكرمة بالنبوة. وقيل من الزمل، بمعنى الحمل، ومنه الزاملة، أي: المتحمل بأعباء النبوة، وعلى هذا يكون التزمل مجازا. قال السهيل: ليس "المزمل" باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب بترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه -وقد نام ولصق جنبه بالتراب: "قم أبا   من شدة الرعب، أو تعيير الكفار له، أو أن يقتلوه، أو عدم الصبر على أذاهم، أو تكذيبهم إياه، أو المرض، أو دوامه، أو العجز عن رؤية الملك، أو مفارقة الوطن، كما تقدم مبسوطا في بدء الوحي، وقيل سمي به؛ لأن جبريل "أتاه، وهو" صلى الله عليه وسلم متزمل "في قطيفة" كساء له خمل، "وقال السدي" بالضم وشد الدال إسماعيل بن عبد الرحمن، والمفسر المشهور "معناه" أي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} الآية، "يا أيها النائم وكان متلففا في ثياب نومه" لما جاءه. "وعن ابن عباس، يعني المتزمل بالقرآن" على الاستعارة، "وعن عكرمة بالنبوة وقيل" أنه "من الزمل بفتح الزاي وسكون الميم، "بمعنى الحمل" مصدر زمل الشيء حمله "ومنه" قيل للبعير "لزاملة" لأنه يحمل متاع المسافر، والهاء للمبالغة، كما في المصباح، "أي المتحمل بأعباء" بالفتح أثقال "لنبوة. وعلى هذا" المذكور من تفسير ابن عباس وعكرمة وما بعده "يكون التزمل مجازا" لأن حقيقته التلفف بالثياب. "قال السهيلي" الإمام الحافظ الشهير عبد الرحمن "ليس المزمل باسم من أسمائه" صلى الله عليه وسلم "يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان التلبس" حاصلا "بها حالة الخطاب، والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب" بالفتح "بترك المعاتبة، نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها" حال النداء، "كقول النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاء بيت فاطمة فلم يجد عليا، فقال: "أين ابن عمك"؟، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل عندي، فقال صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو"، فقال هو في المسجد راقد، فجاء صلى الله عليه وسلم، فقال "لعلي رضي الله عنه، وقد نام ولصق" بكسر الصاد "جنبه بالتراب". وفي رواية فخلص ظهره إلى التراب قال الحافظ وكأنه نام أولا على مكان، لا تراب فيه، ثم انقلب فصار ظهره على التراب، أو سفي عليه التراب، فجعل صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول "قم" يا "أبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 تراب" إشعارا بأنه ملاطف له، فقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] فيه تأنيس وملاطفة. وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان متزملا مرطا طوله أربعة عشرة ذراعا، نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه، فكذب صراح؛ لأن نزول يا أيها المزمل بمكة في أول مبعثه، ودخوله بعائشة كان بالمدينة. وأما "المدثر" فأصله: المتدثر، فأدغمت التاء في الدال. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني وشمالي. فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء والأرض -يعني الملك الذي ناداه- فرعبت   تراب" وفي رواية "اجلس يا أبا تراب" مرتين والحديث في الصحيحين وغيرهما عن سهل بن سعد. قال سهل: وما كان لعلي اسم أحب إليه منه "إشعارا بأنه ملاطف له، لما كان بينه وبين الزهراء من المغاضبة "فقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فيه تأنيس وملاطفة، وأما ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان متزملا مرطا" بكسر فسكون، كساء "طوله أربعة عشر ذراعا نصفه علي، وأنا نائمة ونصفه عليه فكذب صراح" خالص "لأن نزول يا أيها المزمل" كان "بمكة في أول مبعثه ودخوله بعائشة كان بالمدينة" وإنما الوارد عن عائشة لما نزلت يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، قاموا نة حتى ورمت أقدامهم فنزلت: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . أخرجه الحاكم، وروى ابن جرير مثله عن ابن عباس وغيره، وهو مرسل؛ لأنهما لما يدركا ذلك، لكنه موصول حكما. "وأما المدثر، فأصله المتدثر" لأنه من تداثر إذا تلفف في الدثار، وهو الثياب، "فأدغمت التاء في الدال" بعد القلب، "وروي" في الصحيحين من حديث جابر، ولا يقال في مثله. روى "أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "كنت بحراء" بكسر الحاء وخفة الراء، والمد، والتذكير والصرف على الصحيح جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال، ولفظ الشيخين "جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري هبطت" "فنوديت فنظرت، عن يميني" فلم أر شيئا، "و" نظرت عن "شمالي فلم أر شيئا" ونظرت خلفي فلم أر شيئا "فنظرت فوقي فإذا هو" أي المنادي المستفاد من نوديت ولفظ الصحيحين "فإذا الملك الذي جاءني بحراء" "على عرش" أي سرير كرواية على كرسي "بين السماء والأرض" وأتى بقوله "يعني الملك الذي ناداه" لذكره الرواية بالمعنى "فرعبت" منه، بضم الراء، وكسر العين مبني للمفعول، واقتصر عليه النووي، وللأصيلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني، فنزل جبريل وقال: يا أيها المدثر". وعن عكرمة: يا أيها المدثر بالنبوة وأثقالها قد تدثرت هذا الأمر فقم به. وقيل: ناداه بالمزمل والمدثر في أول أمره، فلما شرع خاطبه الله تعالى بالنبوة والرسالة. وأما "طه" فروى النقاش عنه عليه الصلاة والسلام: "لي في القرآن سبعة أسماء" فذكر.   بفتح الراء وضم العين، أي نزعت. قال الحافظ: وهذا يدل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج، "ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني" مرتين، هكذا في الصحيحين في التفسير وللبخاري "زملوني زملوني"، ورجحت الأولى باتفاقهما، وبأنها كما قال الزركشي أنسب بقوله، "فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر"، إيناسا له وتلطفا والمعنى يا أيها المدثر بثيابه على الصواب الذي عليه الجمهور، كما قال النووي، وعن عكرمة يا أيها المدثر بالنبوة، وأثقالها، وقد تدثرت هذا الأمر" كالمدثر بالثياب "فقم به" مقام تصميم، فهو مجاز، وروى الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة صنع طعاما لقريش، فلما أكلوا، قال: ما تقولون في هذا الرجل، فقال بعضهم ساحر، وبعضهم كاهن، وبعضهم شاعر، وبعضهم سحر يؤثر فحزن صلى الله عليه وسلم وقنع رأسه، وتدثر، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الْمُدثر} إلى قوله {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، "وقيل ناداه بالزمل، والمدثر في أول أمره" بالتبليغ بعد ثلاث سنين، لا في أول ما أوحى إليه كما توهمه من جعلها أول ما نزل، كما مر بسطه، "فلما شرع" في الإنذار والتبليغ "خاطبه الله تعالى بالنبوة والرسالة" أي يا أيها النبي، يا أيها الرسول، إجلالا له وتبجيلا ولم يناده باسمه في القرآن ويرحم الله القائل: ودعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي وذكر السهيلي أيضا نحو ما مر في المزمل من أنه ملاطفة وتأنيس على عادة العرب، كقوله عليه السلام لحذيفة: "قم يا نومان"، فلو ناداه تعالى باسمه، أو بالأمر المجرد من الملاطفة وهو في تلك الحالة لهاله ذلك، فلما بدأه بالمدثر علم رضاه عليه وهو مطلوبه وبه كانت تهون عليه الشدائد، فإن قيل كيف ينتظم يا أيها المدثر مع قم فانذر، وما الرابط بينهما في البلاغة، قلنا من صفته ما قاله صلى الله عليه وسلم: "أنا النذير العريان والنذير المجد بجرد ثوبه"، والتدثر ضده، ففيه أطباق بين والتئام بديع وسمانة في المعنى، وجزالة في اللفظ انتهى. "وأماطه فروي النقاش عنه عليه الصلاة والسلام لي في القرآن سبعة أسماء، فذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 منها طه: قيل: هو اسم الله تعالى، وقيل معناه: يا رجل، وقيل: يا إنسان، وقيل: يا طاهر يا هادي يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مروي عن الواسطي، وقيل معناه: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة، وقيل: الطاء في الحساب بتسعة والهاء بخمسة وذلك أربعة عشر فكأنه قال: يا بدر، وهذا من محاسن التأويل، لكن المعتمد أنهما من أسماء الحروف. وأما "يس" فحكى أبو محمد مكي.   منها طه، كما تقدم لفظه قبل سرد الأسماء، "قيل هو اسم الله تعالى" حكاه عياض وغيره ونقل عن ابن عباس، فيكون ما سمي به من أسمائه تعالى، وقيل "معناه يا رجل" أي رجل وحرف النداء مقدر معه. ورواه البيهقي عن ابن عباس: وقال به جماعة وهل بالنبطية، وهي لغة سواد العراق أو السريانية أو الحبشية أو عك أو عكل خلاف بسطه المصنف في المقصد السادس، وقال فيه إن الزمخشري، قال: كان أصله يا هذا فقلبوا الياء طاء واقتصروا عليه وإن أبا حيان رده بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب ياء النداء طاء، ولا حذف اسم الإشارة وإبقائها التنبيه "وقيل" معناه " يا إنسان نقله البغوي عن الكلبي وقال إنه لغة عك وغاير يا رجل من حيث شموله لغة للأنثى لفظا وإن كان المراد الذكر صلى الله عليه وسلم، "وقيل" معناه "يا طاهر" من كل ذنب وعيب و"يا هادي" إلى كل خير، فكل حرف منه بعض اسم فهو اسم مركب من أسمى حرفين، كما قيل في الم "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" وهو مروي عن الواسطي" أبي بكر محمد بن موسى، الإمام العارف من كبار أتباع الجنيد له، تكلم في أصول التصوف حسن وكرامات، توفي بمرو بعد العشرين وثلاثمائة، وهذا المروي عنه نقله عياض في الباب الأول ولفظه. قال الواسطي أراد يا طاهر يا هادي، فقول الشامي بعد أن حكاه بقيل ذكره الواسطي، أي القيل استنباطا من عند نفسه، لا حكاية عن بعضهم بلفظ، قيل، كما توهم، "وقيل معناه" يا مطمع" بضم الميم، وسكون الطاء اسم فاعل من أطمع "الشفاعة للأمة" ويا هادي الخلق إلى الملة" وهذا من نمط ما قبله من أن كل حرف بعض اسم، "وقيل الطاء في الحساب بتسعة، والهاء بخمسة وذلك أربعة عشر فكأنه، قال يا بدر"، فإن الباء باثنين والدال بأربعة، والراء بثمانية، وهذه الأقوال الثلاثة التي بعد يا إنسان "من محاسن التأويل" وصرح في المقصد السادس، وقد ذكر الأقوال الثلاثة بأن هذه الأقوال، لا يعتمد عليها؛ إذ هي كما قال المحققون من بدع التفسير، ويحتمل هنا عود اسم الإشارة، لما قبل الثلاثة أيضا لقوله "لكن المعتمد أنها من أسماء الحروف" التي رجح جماعة أنها مما استأثر الله بعلمه. "وأما يس، فحكى أبو محمد مكي" بن أبي طالب بن محمد القيسي، الفقيه المالكي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 أنه روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لي عند ربي عشرة أسماء" ذكر منها "يس" وقد قيل معناه" يا إنسان بلغة طيء، وقيل بالحبشية، وقيل بالسريانية، وأصله كما قاله البيضاوي، وابن الخطيب وغيرهما: يا أنيسين: فاقتصر على شطره لكثرة النداء به وقيل يس. لكن تعقب بأنه لا يعلم أن العرب قالوا في تصغيره أنيسين، وأن الذي نقل عنهم في تصغيره أنيسيان، بياء بعدها ألف،.   الأديب المقرئ غلب عليه علم القرآن وكان راسخا فيه، أخذ عن ابن أبي زيد والقابسي بالقيروان ورحل وحج، فأخذ عن ابن فارس وإبراهيم المروزي وجماعة، ثم عاد إلى قرطبة فعلا ذكره، ورحل الناس إليه من كل قطر، وله تصانيف كثيرة روى عنه ابن عتاب وغيره مات سنة سبع وثلاثين وأربعمائة "أنه روى" بالبناء للمفعول "عنه عليه الصلاة والسلام أنه، قال: "لي عند ربي" أي في علمه يعني أن الذي سماه اعتناء وتكريما "عشرة أسماء" ذكر منها يس" ولفظه أنا محمد وأحمد، والفاتح والخاتم، وأبو القاسم والحاشر والعاقب والماحي ويس وطه، أخرجه ابن مردويه، وأبو نعيم عن أبي الطفيل، وضعفه ابن دحية، وتبعه السيوطي بأن فيه أبا يحيى وضاع، وسيف بن وهب ضعيف. قال الشامي: وليس كذلك، فإن أبا يحيى التيمي اثنان إسماعيل بن يحيى الوضاع المجمع على تركه وليس هو الذي في سند هذا الحديث. وإسماعيل بن إبراهيم التيمي، كذا سمي هو، وأبوه، في رواية ابن عساكر، وهو كما قال الحافظ في التقريب ضعيف انتهى، أي لا وضاع فيكون في سنده ضعيفان، فهو ضعيف فقط، ورواه البيهقي عن محمد بن الحنفية مرسلا فيعتضد وقول السهيلي لو كان من أسمائه، لقيل يس بالضم رده تلميذه ابن دحية بأنه غير لازم مع أنه قرئ بالضم أيضا "وقد قيل معناه" يا "إنسان" بلغة طيء" قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، "وقيل بـ" اللغة "الحبشية" قاله مقاتل، "وقيل بالسريانية" حكاه الكلبي، وقيل بلغة كلب، "وأصله، كما قال البيضاوي وابن الخطيب"، الإمام فخر الدين الرازي "وغيرهما" كالزمخشري "يا أنيسين فاقتصر على شطره" بعضه "لكثرة النداء به"، كما، قيل م الله في ايمن الله، "وقيل" حين اقتصر "يس" وهذا لفظ الزمخشري وتبعه البيضاوي بادئا له بلفظ، قيل ولفظ الرازي وتقريره أن تصغير إنسان أنيسين وكأنه أخذ الصدر وحذف العجز، وقيل يس فعلى هذا يكون الخطاب معه صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه إنك لمن المرسلين، "لكن تعقب" المتعقب أبو حيان، "بأنه لا يعلم" بالبناء للمفعول "أن العرب، قالوا في تصغيره أنيسين" كما ادعاه الزمخشري وموافقوه "وأن الذي نقل عنهم في تصغيره أنيسيان بياء بعدها ألف" قال أعني أبا حيان، فدل على أن أصله أنسيان؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ونحوه في المصباح وظاهرهما أنه لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 وبأن التصغير من التحقير الممتنع في حق النبوة لنصهم على أن التصغير لا يدخل في الأسماء العظيمة شرعا، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع من النوع الخامس من أنواع المقصد السادس. وعن ابن الحنفية: معناه يا محمد، وعن أبي العالية: يا رجل، وعن أبي بكر الوراق: يا سيد البشر، وعن جعفر الصادق: يا سيد مخاطبة له عليه الصلاة والسلام وفيه من تعظيم على تفسير أنه يا سيد ما فيه.   يسمع في تصغيره إلا هذا. لكن قال شيخنا في التقرير هو معارض بنقل الرازي والزمخشري وغيرهما؛ لأنهم مثبتون، وأبو حيان ناف فيقدم المثبت؛ لأن النافي لم يصحبه دليل نفيه، وأما قوله الذي نقل عنهم فباعتبار ما بلغه، "وبأن التصغير من التحقير الممتنع في حق النبوة لنصهم" أي العلماء، "على أن التصغير، لا يدخل في الأسماء العظيمة شرعا" كأسماء الله، وأنبيائه لإبهامه التحقير، وإن جاء للتعظيم في قوله دويهة؛ لأنه إنما جاء فيما يجوز تصغيره، فصغروه تلطفا منهم، كما قيل: ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير وأجاب شيخنا في التقرير باحتمال جواز دخوله فيها، لا بقصد التحقير، لكنه مجرد احتمال صادمه النص. قال المصنف في المقصد السادس نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعا، ولذا حكي أن ابن قتيبة، لما قال المهيمن مصغره مؤمن، وأصله مؤيمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له هذا يقرب من الكفر فليتق الله قائله انتهى، وهذا صريح في صحة قوله هنا لنصهم من النص، ويقع في بعض النسخ لنصبهم بزيادة ميم وموحدة على أنه تعليل لامتناعه في حق النبوة، أي لمنصبهم العظيم، ثم ما بعده علاوة مفيدة للترقي، والمعنى فإذا كان كذلك في حق كل عظيم فالمصطفى أولى، "ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع من النوع الخامس من أنواع المقصد السادس، وعن ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، الثقة العالم المدني، المتوفى بعد الثمانين من رجال الستة اشتهر بأمه، "معناه يا محمد وعن أبي العالية" رفيع براء، ففاء مصغر ابن مهران بكسر الميم الرياحي، بكسر الراء، وتحتية التابعي الثقة معناه "يا رجل" والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، "وعن أبي بكر الوراق" معناه "يا سيد البشر" ويلزم منه سيادته على غيرهم لشرف نوع الإنسان حتى على الملك على الأصح المرتضى، وعن جعفر الصادق، لصدقه في مقاله ابن محمد الباقر بن علي بن الحسين، "يا سيد مخاطبة له عليه الصلاة والسلام" بفتح الطاء، والنصب بفعل مقدر، أي خاطبه به مخاطبة مخصوصة به، والتوجيه من جعفر، كما في الشفاء قائلا، "وفيه من تعظيمه" وتمجيده "على تفسير يا سيد ما فيه" قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 وأما "الفجر" فقال ابن عطاء في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2] ، الفجر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن منه تفجر الإيمان. وهو تأويل غريب   شارحه فيه إيجاز ومبالغة، أي فيه أمر عظيم، لا يمكن الوقوف عليه، كقوله الحاقة، ما الحاقة لوصفه بالسيادة المطلقة المفيدة للعموم في المقام الخطابي فيفيد تفوقه على من سواه؛ لأنه واسطة كل خير، وهو اكتفاء ببعض الكلمة عن باقيها، وسمع من العرب حكاه سيبويه وغيره فيقولون: ألاتا، بمعنى ألا تفعل، فيقول: بلى، فا أي أفعل وفي الحديث كفى بالسيف شا أي شاهدا وقال التجاني التحقيق إنهم يكتفون ببعض حروف الكلمة معبرين باسم بعض حروفها كقوله: قلت لها قفي فقالت قاف أي وقفت، فيحتمل أن يس عبر عنه باسمين من أسماء حروفه، لا بمسماه، كما، قاله الرازي، وإن كانت العرب قد تكتفي ببعض الكلمة كقوله: كانت مناها بأرض لا يبلغها أي منايها وقوله: درس المنا بمتالع فابان أي المنازل ونظائره كثيرة، وليس من ترخيم غير المنادى، بل من ذكر حرف من كلمة إشارة إلى بقيتها انتهى ملخصا. "وأما الفجر، فقال" الإمام أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل "بن عطاء" الزاهد البغدادي المعروف بالآدمي، قيل: كان يختم كل ليلة ختمة، وصحب الجنيد، مات سنة تسع، أو إحدى عشرة وثلاثمائة فـ "في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} الفجر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه منه تفجر الإيمان" بفتح التاء وضم الجيم الثقيلة مصدر، وبفتح الجيم فعل، فالإيمان بالجر والرفع من تفجر الصبح طلع، قاله ابن رسلان أما على تشبيه الإيمان بالنور المشرف من أفق الوحي الماحي لظلمة الكفر، أو استعارة مكنية لتشبيهه بالماء، وإثبات التفجر له تخييل، قاله الدلجي، وقال غيره الأحسن أن يشبه الصبح، وأنواره بماء تفجر، ثم يستعار ذلك لشهرته، لما ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الدين والتوحيد كما قال ابن تميم: انظر إلى الصبح المنير، وقد بدا ... يغشى الظلام بمائه المتدفق غرقت به زهر النجوم، وإنما ... سلم الهلال لأنه كالزورق "وهو تأويل غريب" لأنه خلاف الظاهر، والقرآن والأحاديث لا يعدل عن ظاهرها إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 لم ير لغيره، والصواب أنه الفجر المفسر بالصبح في قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير: 18] . وأما "القوي" فقال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] قيل محمد، وقيل جبريل عليهما الصلاة والسلام، وسيأتي في المقصد الثالث ما في ذلك. وأما ما قاله ابن عطاء في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم حيث حمل الخطاب والمشاهدة ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله،   بدليل "لم ير لغيره" وقد اعترضوه بأنه مع غرابته بعيد مخل بالانتظام، فإن عطف ليال عشر عليه بالواو، ومن غير جهة جامعة، كقولك الشمس ومرارة الأرنب والبازنجان محدثة مخل بالبلاغة، وأجيب بأن من فسر الفجر به يفسر الليالي بعشر رمضان، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها في العبادة والخيرات التي لا تحصى، فيصير المعنى على هذا أقسم بمحمد صلى الله عليه وسلم في حالته التي جد في عبادتي والتقرب إلي فيها، وأي مناسبة أتم من هذه "و" لكن "الصواب" وهو قول المحققين من المفسرين "أنه" على حقيقته، وهو الفجر المفسر بالصبح"، أو فلقه "في قوله تعالى {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} امتد حتى يصير نهارا بينا، أو هو بتقدير مضاف، أي صلاة الفجر والليالي العشر عشر ذي الحجة فلا شاهد في الآية على أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم "وأما القوي" من الصفات المشبهة، أي الشديد المتمكن، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه القادر، كما قال الخطابي وعياض، "فقال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ} على تبليغ ما حمله من الوحي، أي القرآن {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي مكين رفيع المحل عند ربه. "قيل محمد، وقيل جبريل عليهما الصلاة والسلام، وسيأتي في المقصد الثالث ما في ذلك" وهو ترجيح أنه جبريل" وأما ما قاله ابن عطاء" نسبه إلى جده، كما علم في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ، أقسم بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فق بمعنى قوة على نهج الأكتفاء كقوله: قلت لها قفي، فقالت قاف "حيث حمل" تجمل وأطاق "الخطاب" من الله، "والمشاهدة" له سبحانه ليلة الإسراء، أو مشاهدة الملكوت ومهابته مما تنهد له الجبال، أو مشاهدة التجليات القلبية، "ولم يؤثر ذلك فيه" أي لم يصعب ويشق عليه حتى يمنعه من تحمل مثله "لعلو حاله" تعليل لما قبله، أي إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 فلا يخفى ما فيه. وأما "النجم" فعن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] أنه محمد صلى الله عليه وسلم {إِذَا هَوَى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج، وحكى السلمي قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1-3] أن النجم هنا محمد صلى الله عليه.   له حالا في ثبات الجنان ورفعة الشأن، لما رسخ في قلبه من اليقين، "فلا يخفى ما فيه" إذ لا إشعار له بذلك، بل صرح فيه أنه أقسم بالقرآن ولفظ ق يحتمل أن أقسم به أيضا، وأنه اسم للسورة، أو الجبل، أو الأمر، أو غير ذلك فاستنباط مثل ذلك من مجرد لفظ، لا يدل عليه، لا ينبغي في القرآن، وقد عورض بالمثل، فقيل: لم لا يجوز أن يكون من قدرة الله؟، "وأما النجم فعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "بن علي" زين العابدين "بن الحسين" السبط ابن علي رضي الله عنهم أن جعفرا قال "في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ} أنه محمد صلى الله عليه وسلم" وإن معنى قوله: " {إِذَا هَوَى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج" من الهوى بفتح الهاء وشد الياء وهو الذهاب في انحدار، لا بضمها؛ لأنه الذهاب في ارتفاع، وقال جعفر أيضا النجم قلب محمد هوى انشرح من الأنوار. وقال أيضا في هوى انقطع عن غير الله، كما في الشفاء. "وحكى" أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين الأزدي "السلمي" بضم، ففتح نسبة إلى جد له اسمه سليم النيسابوري، الحافظ، المحدث، الورع، الزاهد، الصوفي، صاحب التصانيف نحو المائة سمع الأصم وغيره، وعنه الحاكم وغيره، وهو ثقة، كما قال الخطيب. قال السبكي، وهو الصحيح، ولا عبرة بقول القطان أنه كان يضع للصوفية، وله كرامات وتوفي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة "في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ، أعلمك "ما الطارق" مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري وما بعد ما الأولى خبرها، وفيه تفخيم لشأن الطارق، هو "النجم الثاقب" المضيء كأنه يثقب الظلام لشدة إضاءته أبهمة ثم فسره للتعظيم. "إن النجم هنا محمد صلى الله عليه وسلم" فسماه النجم، وأقسم به قال النعماني في الآية الأولى: ويعجبني هذا التفسير لوجوه فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصا لما هدى إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلتها من الدين، ولأنه أضاء في السماء والأرض، وللتشبيه بسرعة السير، ولأنه كان ليلا، وهو وقت ظهور النجم، فلا يخفى على ذي بصر، وأما أرباب البصائر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 والصحيح: أن المراد به النجم على ظاهره، وسمي به لأنه يهتدى به في طرق الهدى كما يهتدي بالنجم. وأما "الشمس" فسمي بها عليه الصلاة والسلام لكثرة نفعه، وعلو رفعته، وظهور شريعته، وجلالة قدره وعظم منزلته؛ لأنه لا يحاط بكماله، حتى لا يسع الرائي له أن ينظر إليه ملء عينيه إجلالا له، كما أن الشمس في الرتبة أرفع من غالب الكواكب لأنها في السماء السادسة، والانتفاع بها أكثر من غيرها كما لا يخفى، ولا يدركها البصر لكبر جرمها،   فلا يمترون كالصديق، "و" لكن "الصحيح" في الآيتين "إن المراد به النجم على ظاهره" أي الثريا، كما اختاره ابن جرير والزمخشري، وصححه السمين؛ لأنه علم لها بالغلبة، قال عمر بن أبي ربيعة: أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الارض زين السماء أو الزهرة أو كل نجم، وقيل غير ذلك في الآية الأولى، وفي الثانية أيضا الثريا، أو كل نجم، أو زحل "و" إنما "سمي به" صلى الله عليه وسلم على التشبيه البليغ، أو الاستعارة من مطلق النجم، أو من نجم مخصوص "لأنه يهتدى به في طريق الهدى، كما يهتدى بالنجم" أو لأنه استنارت به ظلمات الجهل، فإن خص بزحل فوجه الشبه الإضاءة مع الرفعة، وأما الشمس، وهي في الأصل كوكب النهاري، "فسمي بها عليه الصلاة واللام" لما لم ير في الكاتب، ولا السنة تسميته بها وجه التسمية، بقوله: "لكثرة نفعه وعلو رفعته وظهور شريعته" كالشمس، فإنها ظاهرة مرتفعة كثيرة النفع، "وجلالة" قدره وعظم منزلته لأنه لا يحاط بكماله" تعليل للذين قبله، "حتى، لا يسع الرائي له أن ينظر إليه ملء عينيه إجلالا له، كما أن الشمس في الرتبة أرفع من غالب الكواكب" أتى بغالب لأن زحل أرفع منها لأنه في السابعة، وعليه قول الطغرائي: فإن علاني من دوني، فلا أسف ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل "لأنها في السماء السادسة" عند المحققين من متأخري أهل الهيئة، وقيل في الرابعة. حكاه القرطبي، وجزم به ابن كثير وصحح ابن العماد أنها في السماء الدنيا، "والانتفاع بها أكثر من غيرها، كما لا يخفى" لأنها تنضج الزرع وتشد الحب وترطب البدن، ولا يدركها البصر، بل تكاد تخطفه وتعميه "لكبر جرمها" حتى قيل إنها قدر الأرض مائة وستين مرة، وقيل وخمسين، وقيل وعشرين أو لأن نور الأنبياء مستمد من نوره، كما قال البوصيري: وكل آي آتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 فلما كان سائر الكواكب يستمد من نورها ناسب تسميته عليه الصلاة والسلام بها. وأما "النبي" والرسول فمن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه خاطبه تعالى بهما من القرآن دون سائر أنبيائه. ثم إن النبوءة بالهمزة مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وقد لا تهمز تسهيلا. أي أن الله أطلعه على غيبه وأعلمه أنه نبيه، فيكون نبيا منبأ، أو يكون مخبرا عما بعثه الله به ومنبأ بما أطلعه الله تعالى عليه. وبغير الهمز يكون مشتقا من النبوة   كما أن سائر الكواكب مستمد من نور الشمس، وعلى هذا يتفرع قوله: "فلما كان سائر الكواكب يستمد من نورها". قال الشامي بمعنى أن نورها، لما كان مغمرا في نور الشمس فكأنه مستمد منه، وإلا فهي جوهر شفاف، لا لون لها مضيئة بذواتها، أو بكواكب أخرى مستترة عنا، لا نشاهدها إلا القمر، فإنه كمل في نفسه انتهى. "ناسب تسميته عليه الصلاة والسلام بها" وقال أبو بكر بن العربي في وجه الشبه بالشمس أوجه منها: "إنها لا تطلع حتى يتقدمها الفجر الأول، والثاني مبشرين بها، وكذلك لم يبعث صلى الله عليه وسلم حتى بشر به الأنبياء، والمرسلون ووصفته الكتب المنزلة، ومنها إن للشمس إحراقا وإشراقا، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم لبعثته نور يشرق في قلوب أوليائه ولسيوفه نار تحرق قلوب أعدائه، ومنها أن فيها هداية ودلالة، وكذلك صلى الله عليه وسلم هدى من الضلالة، ودل على الرشاد، ومنها أنها سيدة الأنوار الفلكية، وهو صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء، "وأما النبي، والرسول فمن" أي وجه تسميته بهما. إن من "خصائصه صلى الله عليه وسلم" كا جزم به عياض وغيره "أنه خاطبه تعالى بهما في القرآن" ولم يخاطبه فيه باسمه في النداء، وذكر في الخبر لأنه ورد مورد التعيين، كقوله محمد رسول الله، وما محمد إلا رسول؛ لأن صاحب هذا الاسم هو الرسول، ونحو قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} لما لم يرد هذا المورد لم يذكر اسمه "دون سائر أنبيائه"، فإنه خاطبهم بأسمائهم يا آدم يا نوح يا إبراهيم يا داود يا زكريا يا عيسى يا يحيى، "ثم إن النبوءة بالهمز مأخوذة من النبأ، وهو الخبر، وقد لا تهمز تسهيلا" بإبدال الهمزة واو وإدغامها فيما بعدها، أي" سمي بالنبي المأخوذ من النبا لأجل "إن الله أطلعه على غيبه، واعلمه أنه نبيه، فيكون" معنى "نبيا منبأ" بفتح الباء، فهو فعيل بمعنى مفعول، "أو يكون" بمعنى "مخبرا عما بعثه الله به، ومنبأ بكسر الباء للناس "بما أطلعه تعالى عليه" فهو فيعل بمعنى فاعل "وبغير الهمز" وهو الأكثر قيل مخفف المهموز بقلب همزته وقيل إنه الأصل، فـ"يكون مشتقا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 وهو ما ارتفع من الأرض، أي أنه لا له رتبة شريفة ومكانة عند الله منيفة. قال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح البردة: وكان نافع يقرأ، النبيء -بالهمزة- في جميع القرآن والاختيار تركه. وهو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الحديث أن رجلا قال: يا نبيء الله -يعني بالهمزة- فقال: "لست نبيء الله، ولكني نبي الله"، فأنكر الهمز لأنه لم يكن من لغته عليه الصلاة والسلام. وقال الجوهري والصغاني: إنما أنكره لأن الأعرابي أراد: يا من خرج من مكة إلى المدينة، يقال: نبأت من أرض إلى أرض، إذا خرجت منها إلى أخرى. وتكلم جماعة.   النبوة" بفتح النون وسكون الباء، "وهو ما ارتفع من الأرض" لأن رتبته مرفوعة على سائر الخلق، كما قال: "أي إن له رتبة شريفة ومكانة عند الله منيفة" زائدة في الارتفاع عطف تفسير لرتبة. "قال الشيخ بدر الدين الزركشي في شرح البردة، وكان نافع" بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، القاري، المدني، الأصبهاني الأصل، صدوق، ثبت في القراءة، توفي سنة تسع وتسعين ومائة، "يقرأ النبي بالهمزة في جمع القرآن، والاختيار" من حيث اللغة، أو العربية، لا النقل لتواتره، "تركه" للحديث الآتي، "وهو لغة" عطف علة على معلولها، أي أنه لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي سجية له، فلا ينافي نطقه بغيرها لتواتر الهمز عنه أيضا "وقد جاء في الحديث أن رجلا، قال: يا نبيء الله يعني بالهمزة، فقال" صلى الله عليه وسلم "لست نبيء الله" بالهمزة، "ولكن نبي الله" بلا همز. قال الزركشي: "فأنكر الهمز لأنه لم يكن من لغته عليه الصلاة والسلام، وقال الجوهري" الإمام المشهور أبو نصر إسماعيل بن حماد "والصغاني" الحسن بن محمد العلامة الشهير، ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة ومات سنة خمسين وستمائة، وفي اللب الصغاني بمهملة ومعجمة نسبة إلى الصغانيات بلاد وراء نهر جيحون، وإلى صاغان قرية بمرو "إنما أنكره لأن الأعرابي أراد يا من خرج من مكة إلى المدينة" فيحتمل إنه أراد يا طريدا من بلده إلى غيرها لأنه "يقال" كما حكاه أبو زيد عن العرب "نبأت" بالهمز "من أرض إلى أرض إذا خرجت منها إلى أخرى". فلذا نهاه، لا لكونه ليس من لغته، وهذا هو الأحسن، فإنه صلى الله صلى عليه وسلم كان يخاطب كل ذي لغة بليغة بلغته اتساعا في الفصاحة، كما يأتي للمصنف، ولم ينكر على أحد لغته، ولا نهاه عنها، فكيف ينكر الهمز الذي نزل عليه بمجرد كونه ليس لغته السجية له، "وتكلم جماعة من القراء في هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 من القراء في هذا الحديث: وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي الأسود عن أبي ذر، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفيما قاله نظر، فإن فيه الحسين الجعفي، كذا قاله بعضهم وليس من شرطهما، ورواه أبو عبيد: حدثنا أبو محمد بن سعد عن حمزة الزيات عن حمران بن أعين الكوفي أن رجلا .... الحديث، وهذا منقطع، انتهى. والرسول: إنسان بعثه الله إلى الخلق بشريعة مجددة يدعو الناس إليها. واختلف هل هما بمعنى أو بمعنيين؟   الحديث، وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي الأسود، عن أبي ذر، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفيما قاله" الحاكم "نظر، فإن فيه الحسين" بن علي بن الوليد "الجعفي، كذا قاله بعضهم" تبرأ منه لأنه ثقة عابد أخرج له الستة، كما في التقريب، فلا يصح قوله "وليس من شرطهما" ولعله تصحف عليه، فإن الإمام الذهبي، قال: إنه حديث منكر وفي سنده حمران بن أعين وليس بثقة، "ورواه أبو عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي، الإمام المشهور الحافظ، الثقة، الفاضل، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين، فقال: "حدثنا أبو محمد بن سعد" الأنصاري، الأشهلي، أبو سعد المدني، نزيل بغداد صدوق مات على رأس المائتين. روى له النسائي عن حمزة بن حبيب الزيات" القارئ الكوفي التميمي، مولاهم صدوق زاهد. روى له مسلم والأربعة، ولد سنة ثمانية، ومات سنة ست، أو ثمان وخمسين ومائة، "عن حمران" بضم الحاء المهملة "ابن أعين الكوفي" مولى بين شيبان ضعيف رمي بالرفض، "أن رجلا الحديث، وهذا منقطع" وقد وصله الحاكم، عنه عن أبي الأسود عن أبي ذر "انتهى" كلام الزركشي، وعطف على قوله، ثم إن النبوءة على سبيل اللف، والنشر المرتب قوله: "والرسول إنسان" ذكر حر أكمل معاصريه إلا الأنبياء "بعثه الله إلى الخلق بشريعة مجددة يدعو الناس إليها" فخرج من دعا إلى شريعة من قبله كأنبياء بني إسرائيل، فإنهم كانوا يدعون إلى شريعة موسى، فهم أنبياء لا رسل لكن نوقض بإسماعيل فإنه أرسل بشريعة أبيه، وقد قال تعالى {وَكَانَ رَسُولًا} فإن صح إرساله بشرع أبيه، ففي الآية مجاز، "اختلف هل هما" النبي والرسول، "بمعنى، أبو بمعنيين" ذكره بعد التعيف بوهم جريانه على كل قول وليس بمراد، فالأولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 فقال بالأول قوم مستدلين بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِي} [الحج: 52] فأثبت لهما معا الإرسال. وعلى هذا فلا يكون النبي إلا رسولا، ولا يكون الرسول إلا نبيا. وقال آخرون بالثاني، وأنهما يجتمعان في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب والإعلام بخواص النبوة أو الرفعة بمعرفة ذلك وحوز درجتها، وافترقا في زيادة الإرسال. وحجتهم من الآية نفسها التفريق بين الاسمين؛ إذ لو كان شيئا واحدا لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ، ويكون المعنى: ما أرسلنا من نبي إلى أمة، أو نبي ليس بمرسل إلى أحد. وذهب آخرون: إلى أن الرسول: من جاء بشرع مبتدأ، ومن لم يأت به نبي غير رسول وإن أمر.   تأخيره عن الأقوال، وأن يقول يعرف على الأول، "فقال بالأول قوم مستدلين، بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فاثبت لهما معا الإرسال" بقوله أرسلنا، "وعلى هذا، فلا يكون النبي إلا رسولا، ولا يكون الرسول إلا نبيا"، فيشترط في النبي على هذا أن يؤمر بتبليغ ما أوحى إليه، "وقال آخرون بالثاني" وهو التغاير، وأن الرسول أخص من النبي، "وأنهما يجتمعان في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب" بناء على أنها من النبا، فهو منبئ بالكسر "والإعلام بخواص النبوة" على أنه منبأ بالفتح على ما مر، "أو الرفعة بمعرفة ذلك" عطف على الاطلاع بناء على أن النبوة أصل مستقل، "وحوز درجتها" وفي نسخة مدحتها، "وافترقا" الأنسب بسابقة ويفترقان "في زيادة الإرسال، وحجتهم من الآية نفسها"، وهي "التفريق بين الاسمين؛ إذ لو كان شيئا واحدا" كما ادعى الأولون "لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ" إذ التكرار، بلا فائدة مخل بالبلاغة، "ويكون المعنى" على رأي الآخرين، "وما أرسلنا من نبي إلى أمة، أو نبي ليس بمرسل إلى أحد"، لا ينافي قوله أرسلنا لجواز أنه بمعنى أوحينا أعم من كونه أمر بالتبليغ أم لا ومن رسول، ولا نبي بيان لقدر هو وما أوحينا إلى أحد، وهذا في غاية القلاقة ومثله، لا يعبأ به الخصم في المناظرة، والذي قال غيره في هذا المقام، أن في الآية اضمارا، أي ولا نبانا من نبي كقوله: ورأيت روحك في الوغي ... متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا، "وذهب أخرون إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدأ" بأن كان له كتاب، أو نسخ لبعض شرع من قبله، "ومن لم يأت به" بأن لم يكن له ذلك "نبي غير رسول، وإن أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 بالإبلاغ والإنذار. والصحيح: أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا. نعم نوزع في هذا بأنه كلام يطلقه، من لا تحقيق عنده، فإن جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة المكرمين بالإرسال رسل لا أنبياء. فالانفصال عنه: بأن يقيد الفرق بين الرسول والنبي، بالرسول البشري. ثم إن النبوة والرسالة ليستا ذاتا للنبي، ولا وصف ذات بل تخصيص الله إياه بذلك خلافا للكرامية.   بالبلاغ" لشرع من قبله "والإنذار" به وقيل لرسول من يأتيه الملك بالوحي، والنبي، يقال له ولمن يوحى إليه في المنام، والنسبة بينهما على هذا كهي على الثاني، لكن اختلفا في جهة الافتراق، فهي على هذا عدم مجيء الملك وكون الوحي مناما وعلى الثاني عدم الأمر بالتبليغ، "والصحيح" القول الثاني "أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا"، فهو اخص. "نعم نوزع في هذا بأنه كلام يطلقه من لا تحقيق عنده، فإن جبريل عليه السلام وغيره من الملائكة المكرمين بالإرسال رسل" لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيم} {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّك} الآية، الله يصطفي من الملائكة رسلا "لا أنبياء" لأنه لم يرد إطلاق الأنبياء عليهم فلا يصح أن الرسول أخص "فالانفصال" أي التخلص "عنه" عن هذا الذي نوزع به "بأن يقيد الفرق بين الرسول والنبي بالرسول البشري" لا الملكي إذ ليس الكلام فيه وجزم بهذا أي أنه لا يسمى الملك نبيا عياض والنووي والحافظ وغيرهم ولا يرد أنهم مخبرون عن الله، ولهم عنده رتبة فيصح تسميتهم أنبياء لأن علة التسمية، لا تطرد، والإلزام أن تسمى الصحابة أنبياء لأنهم أخبروا بالقرآن والأحكام ولهم عند الله شرف ومكانة وهذا باطل أجماعا، والعلماء إنما أخذوا وجه التسمية لوروده: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} وكان صديقا نبيا، وفي إسماعيل وموسى، وكان رسولا نبيا، ولم يرد تسمية الملائكة إلا بالرسل، فلا يقاس عليه ما لم يرد لمجرد صحة المعنى؛ إذ المسألة نقلية لا عقلية، وإما استدلال بعضهم بأن الله أوحى إليهم، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وهذه حقيقة النبوة البشرية يوحى إلى الواحد منهم بشرع يخصه، لا يتعداه إلى غيره، فمدفوع بأن النبوة ليست مجرد الوحي، كما يأتي عن القرافي، "ثم إن النبوة، والرسالة ليستا ذاتا للنبي" أي لازما لماهيته، لا ينفك عنه "ولا وصف ذات" أي، وصفا لازما للذات، لا ينفك عنها حتى كان الماهية مركبة منه ومن غيره من الذاتيات. زاد الآمدي وليستا عرضا من الأعراض المكتسبة له، "بل" كل منهما "تخصيص الله إياه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 وقال القرافي، كما نقله عنه ابن مرزوق، يعتقد كثير أن النبوة مجرد الوحي، وهو باطل، لحصوله لمن ليس بنبي كمريم وليست نبية على الصحيح، مع أن الله تعالى يقول: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} الآية [مريم: 17] و {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 45] . وفي مسلم: بعث الله ملكا لرجل على مدرجته وكان قد خرج في زيارة أخ له في الله، وقال له: إن الله يعلمك أنه يحبك لحبك لأخيك في الله، وليست بنبوة؛ لأنها عند المحققين، إيحاء الله لبعض بحكم إنساني يخص به كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فهذا تكليف يختص به في الوقت، فهذه نبوة لا رسالة، فلما نزل: {قُمْ فَأَنْذِر} [المدثر: 2] كانت رسالة لتعلق هذا التكليف بغيره أيضا،.   بذلك" موهبة منه، وحاصلها يرجع إلى قول الله لمن اصطفاه، أرسلتك، أو بعثتك فبلغ عني، فهي من الصفات الاعتبارية، كالولاية للوالي، والإمامة للسلطان "خلافا للكرامية" إذ القول، لا يوجب لمتعلقه صفة، كما صرح به القاضي عضد الدين. "قال القرافي" الشهاب العلامة أحمد بن داود "كما نقله عنه ابن مرزوق" محمد يعتقد كثيرا أن النبوة مجرد الوحي دون اطلاع وإعلام أنه نبي، وهو باطل لحصوله لمن ليس بنبي كمريم بنة عمران، وليبست نبية على الصحيح لاشتراط الذكورة وغيرها حتى بالغ صاحب الأنوار، فحكى الإجماع على أنه لم ينبأ أمرأة "مع أن الله تعالى يقول: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} جبريل "الآية" وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} وقبله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} فلو كانت النبوة مجرد الوحي ما توقف أحد من نبوتها، "وفي مسلم" عن أبي هريرة رفعه "بعث الله ملكا لرجل على مدرجته" بفتح الميم، وسكون الدال، وفتح الراء والجيم أي طريقه التي يمر عليها "وكان قد خرج في زياة أخ له في الله، وقال له إن الله يعلمك أنه يحبك لحبك لأخيك في الله" ولفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية، قال هل لك عليه من نعمة تربها، قال: لا غير أني أحبه في الله تعالى: قال: فإني رسول الله إليك، إن الله قد أحبك كما أحببته فيه"، وقوله تربها أي تسعى في إصلاحها فهذه المذكورات وحي مجرد وليست بنبوة لأنها عند المحققين إيحاء الله لبعض بحكم إنساني يخص به كقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك} فهذا تكليف يختص به في الوقت، أي وقت الإيحاء، "فهذه نبوة لا رسالة" لأنه لم يؤمر بتبليغ الغير حينئذ "فلما نزل {قُمْ فَأَنْذِر} كانت رسالة لتعلق هذا التلكيف بغيره أيضا" والتمثيل بنبينا صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 فالنبي1 كلف بما يخصه، والرسول بذلك، وتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقا، انتهى. وهل نبينا صلى الله عليه وسلم رسول الآن؟ قال أبو الحسن الأشعري: هو صلى الله عليه وسلم في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح، ويأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى. وأما "المذكر" فقال تعالى:   مبني على تأخر رسالته عن نبوته، وهو ما عليه ابن عبد البر وغيره، وقيل هما متقارنان، وصحح، كما مر في الأوائل، "فالنبي كلف بما يخصه، والرسول بذلك، وبتبليغ غيره، فالرسول أخص مطلقا انتهى" كلام القرفي، وعلى هذا اختلف في أن الرسالة أفضل من النبوة، وهو رأي الأكثر لأنها تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي، كالعلم، والعبادة، وقال العز بن عبد السلام النبوة أفضل لأنها الوحي بمعرفته تعالى وصفاته، فهي متعلقة به من طرفيها، والرسالة الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة به من أحد الطرفين، وأجيب بأنها تستلزم النبوة، فهي مشتملة عليها؛ لأنها كالرسول، وأخص من النبوة التي هي أعم كالنبي "وهل نبينا صلى الله عليه وسلم رسول الآن" أي بعد وفاته. "قال الشيخ أبو الحسن" علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن إسحاق بن أبي سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى "الأشعري" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أهل السنة، وكان مالكي المذهب "هو صلى الله عليه وسلم في حكم الرسالة" لأنه اتصف بها وولم تسلب عنه كبقاء وصف الإيمان للمؤمن بعد الموت، وإن لم يكن مأمورا بالبلاغة بعد موته عليه السلام، "وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح؟ ويأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى" في المقصد السادس، ومن جملته قول ابن فورك أنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة، لا المجاز، وقول القشيري هو صلى الله عليه وسلم رسول قبل أن يوجد، وفي حالة وجوده وإلى الأبد لاستحالة البطلان على الإرسال الذي هو قول الله أرسلتك، أو بلغ عني، "وأما المذكر" المبلغ الواعظ اسم فاعل من التذكرة الموعظة، والتبليغ، كما في الشامي، ولم يقل من التذكير مع أنه المصدر الذي يؤخذ منه الوصف لأنها أظهر في الوعظ من التذكير، فإنه يستعمل للتنبيه، "فقال تعالى" أي فدليله ما،   1 تنبيه وقع خطأ عند كثير من المؤلفين قولهم: إن النبي إنسان أوحي إليه بشرع، وإن لم يؤمر بتبليغه، فإن أمر بتليغه فرسول. والصحيح: أنه يجتمع النبي والرسول في أن كلا منهما أوحي إليه بشرع، ويفترق الرسول عن النبي بأنه أوحي إليه بشرع جديد، والنبي يتبع شرع الرسول الذي قبله وكلاهما مأموران بالتبليغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21] . وأما "البشير" و"المبشر" و"النذير" و"المنذر" فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] أي مبشرا لأهل طاعته بالثواب، وقيل بالمغفرة، ونذيرا لأهل معصيته بالعذاب، وقيل: محذرا من الضلالات. وأما "المبلغ" فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] . وأما "الحنيف".   قال تعالى، وكذا نظائره رأي الكوفيين من إجازة حذف الموصول الاسمي، ولا يجعل مصدر العدم سابك للفعل، "فذكر" عبادي بآياتي، وعظهم بحجتي، وبلغهم رسالاتي {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر} [الغاشية: 21] . ليس عليهم بمصيطر} ، أي مسلط، وهذا قبل الأمر بالجهاد، كما، قال الجلال، "وأما البشر" اسم فاعل، "والمبشر" اسم فاعل من البشارة الخبر السار، و"النذير" فعيل بمعنى فاعل المخوف، "والمنذر" المبلغ مع التخويف، "فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على من أرسلت إليهم {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، أحوال مقدرة، فدل مبشرا على اسمين وكذ نذير، واقتصر المصنف المسافة، فاكتفى بهذه الآية لأنها دلت على المادة، وإلا ففي سورة البقرة وفاطر {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر: 24] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} ، "أي مبشرا لأهل طاعته بالثواب" ومنه الجنة ونعيمها، "وقيل" مبشرا "بالمغفرة" وهي عدم المؤاخذة بالذنب، ففارقت الثواب لأنه مقدار من جزاء العمل يعلمه الله، "ونذيرا لأهل معصيته بالعذاب"، ومنه النار، "وقيل محذرا من الضلالات"، جمع ضلالة وهي عدم الاهتداء أي محذرا، لما هو سبب لعدم معرفة الحق من الباطل، ففارق الأول لأنه تخويف بالعذاب المستحق على المعصية، فمعناها مختلف وإن كان مقصودهما واحدا؛ لأن قصد الثاني التباعد عن العصيان الحاصل بسبب الضلال. "وأما المبلغ" الذي أدى الرسالة كما أمر اسم فاعل، "فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ولا تكتم منه شيئا خوفا أن تنال بمكروه، والاستدلال بها من الاكتفاء بصيغة الفعل، واعرض بأن وصفه بأنه مبلغ يستدعي وقوعه لأن اسم الفاعل حقيقة في المتلبس به، والأمر لا يستدعي وقوع المأمور به، وأجيب بأنه لما علم من حال صلى الله عليه وسلم امتثال ما أمر به، وقد تحقق تبليغه على أبلغ وجه صح وصفه به، وقد ثبت قوله في آخر عمره: "ألا قد بلغت". "وأما الحنيف" المائل إلى دين الإسلام الثابت عليه من الحنف محركا، أو المائل عما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30] . وأما "نبي التوبة" فإن الأمم رجعت بهدايته عليه الصلاة والسلام بعدما تفرقت بها الطرق إلى الصراط المستقيم. وأما "رسول الرحمة" و"نبي الرحمة" و"نبي الرحمة" فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين} [الأنبياء: 17] .   عليه العامة إلى طريق الحق والاستقامة، أو المستقيم، فقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} مائلا إليه، أي اخلص دينك لله. ذكر هذه الآية لكونها نصافي المصطفى، بخلاف قم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، فاختلف في أنه حال من إبراهيم، أو من الضمير العائد عليه صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر، وأظل الحنف مطلق الميل، كما في مقدمة الفتح، ومثله قول القاموس الحنف محركة الميل، ثم يطلق على الأعوجاج في الرجل وعلى غيره بحسب المقام، وفي الحديث: "بعثت بالحنيفية السمحة"، وفي النهاية حديث خلق وأما بادي حنفاء، أي طاهرين من المعاصي، لا أنهم كلهم مسلمون لقوله: فمنكم كافر ومنكم مؤمن، "وأنا نبي التوبة" الوارد في مسلم عن أبي موسى. قال سمى لنا صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظناه، ومنها ما لم نحفظ. قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفى، والحاشر ونبي التوبة ونبي الملحمة"، "فإن الأمم رجعت بهدايته عليه الصلاة والسلام بعد ما تفرقت بها الطرق"، أي طرق الضلال الكثية المتنوعة "إلى الصراط المستقيم" صلة رجعت والتوبة الرجوع، والإنابة، فلكونه سببا في توبتهم أضيف إليها، وقيل لإخباره عن الله لقبول التوبة، أو لأمره بها، أو لأنه كثير التوبة، وقال سهل هي ترك التسويف وإمام الحرمين إذا أضيفت إلى العباد أريد بها الرجوع عن الزلات إلى الندم عليها، وإذا أضيفت إلى الرب أريد بها رجوع نعمه وآلائه انتهى، جمع نعمة بعين مهملة فعطف آلائه للتفسير وتصحف على من قرأه بالقاف، وتكلف توجيهها بأنها، لما لم يؤاخذ بها كأنها رجعت على المتلبس بمقتضيها. "وأما رسول الرحمة" الوارد عند ابن عدي من حديث عائشة وغيرها، "ونبي الرحمة" المروي عند أحمد وغيره في حديث حذيفة، وأبي نعيم في حديث أبي موسى، "ونبي المرحمة" بالميم المروي في مسلم، وهي الراحة فيما، قال عياض، أي لأن من رحمة الله تعالى، فقد أراحه من العقاب، وإذا علمه بذلك أراحه من القلق والضجر، "فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} دليل للثلاثة لأنه لما وصف بكونه رحمة وجعل عينها وعمم بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 وقال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم} [التوبة: 128] فبعثه الله تعالى رحمة لأمته، ورحمة للعالمين وروى البيهقي مرفوعا: "إنما أنا رحمة مهداة" فرحم الله به الخلق مؤمنهم وكافرهم، وهذا الاسم من أخص أسمائه. وقد كان حظ آدم من رحمته سجود الملائكة له تعظيما له إذ كان في صلبه، ونوح: خروجه من السفينة سالما، وإبراهيم: كانت النار عليه بردا وسلاما إذ   العالمين صحت إضافته إلى كل من الرحمة والمرحمة سواء وصف برسول، أو نبي، "وقال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم} . قدم متعلقة للتخصيص، أو للاهتمام، والتشريف مع رعاية الفاصلة، وقدم الرءوف لأنه الشفقة، والتلطف بالمنعم عليه، "فبعثه الله تعالى رحمة لأمته" مفعول له، أو حال من الله، أو من ضمير النبي بمعنى راحما لهم "ورحمة للعالمين" عام على خاص، أي جعله الله عين الرحمة لإرشاده لهم ولطفه بهم، وحمله لهم على ذلك. "وروى البيهقي" وشيخه الحاكم، وقال على شرطهما، وأقره الذهبي عن أبي هريرة "مرفوعا" بمعنى، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا رحمة" أي ذو رحمة أو بالغ في الرحمة حتى كأني عينها لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه وذاته، كذلك فصفاته التابعة لها كذلك "مهداة" بضم الميم وللطبراني بعثت رحمة مهداة، قال ابن دحية معناه أن الله بعثني رحمة للعباد، لا يريد لها عوضا؛ لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة، لا يريد لها عوضا، وقال غيره: أي ما أنا إلا رحمة أهداها الله للعالمين، فمن قبلها أفلح ونجا، ومن أبي خاب وخسر، ولا يشكل الحصر بوقوع الغضب منه كثيرا لأنه لم يقصد من بعثته، بل المقصود بالذات الرحمة، والغضب بالتبعية، بل في حكم العدم، فالحصر فيها مبالغة، والمعنى أنه رحمة على كل فرد لأن غضبه الله كانتقامه كقوله ولكم في القصاص حياة، أو أنه رحمة في الجملة، فلا ينافي الغضب في الجملة، "فرحم الله به الخلق مؤمنهم" بالهداية، "وكافرهم" بالأمن من الخسف، والمسخ وعذاب الاستئصال، والمنافقين بالأمن من القتل، وتأخير عذابهم، "وهذا الاسم من أخص أسمائه". قال أبو بكر بن طاهر زين الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة، وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق، وحياته رحمة وموته رحمة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا"، "وقد كان حظ آدم من رحمته سجود الملائكة له تعظيما له إذا كان في صلبه" وقبول توبته إذ توسل به "و" حظ "نوح خروجه من السفينة سالما" إذ كان في صلب ابنه سام، "وإبراهيم كانت النار عليه بردا وسلاما؛ إذ كان في صلبه" كما أفاده العباس بقوله: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 كان في صلبه، فرحمته عليه الصلاة والسلام في البدء والختام والدوام لما أبقى الله له من دعوة الشفاعة، ولما كانت نبوته رحمة دائمة مكررة مضاعفة اشتق له من الرحمة اسم الرحمة. وأما "نبي الملحمة والملاحم" وهي الحروب، فإشارة إلى ما بعث به من القتال والسيف، ولما يجاهد نبي قط وأمته ما جاهد صلى الله عليه وسلم وأمته، والملاحم التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقاتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار حتى يقاتلون الأعور الدجال.   وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق "فرحمته عليه الصلاة والسلام" لا تخص بوجوده، بل عمت من قبله، فكانت "في البدء والختام والدوام، لما أبقى الله له من دعوة الشفاعة، التي ادخرها لأمته في القيامة، ومن جملة ذلك في الدنيا أن جعل أمته مرحومة، ووصفها بالرحمة، وأمرهم بالتراحم وأثني عليه فقال إن الله يحب من عباده الرحماء، وقال الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، "ولما كانت نبوءته رحمة دائمة مكررة مضاعفة اشتق له من" لفظ "الرحمة اسم الرحمة" أي اسما دالا على معناها الذي هو الرأفة، والانقاذ من الضلال، والشفاعة، نحو بالمؤمنين رءوف رحيم، أما تسميته بنحو نبي الرحمة، فإنما فيه إضافته إليها وليست اشتقاقا، اللهم إلا أن تكفي الإضاة في صحة التسمية، وأطلق الاشتقاق على ما يشملها تسمحا. "وأما نبي الملحمة" باللام عند مسلم عن أبي موسى، "و" نبي "الملاحم" الجمع للكثرة إشارة إلى أنه اختص بكثرتها الذي في أحمد، وشمائل الترمذي برجال ثقات في حديث حذيفة، وهي الحروب، سميت بذلك لاشتباك الناس فيها واختلاطهم، كاشتباك لحمة الثوب بالسدي، أو لكثرة لحوم القتلى فيها "فإشارة إلى ما بعث به من القتال، والسيف" فالمعنى نبي القتال كقوله في الحديث الآخر بعثت بالسيف، "ولم يجاهد نبي قط، وأمته ما جاهد صلى الله عليه وسلم وأمته" ونصر بالرعب، وأحلت له الغنائم، واستشعر نقض هذا النفي بنحو قتال يوشع الجبارين، وقتال داود جالوت وحمل الإسرائيلي السلاح ألف شهر في سبيل الله، فأشار للجواب بقوله "والملاحم التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقاتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار حتى يقاتلون الأعور والدجال" فاستمراره منهم ودوامه لم يوجد لغيرهم، فإن قتال من قبلهم، وإن حصل فيه شدة لكنه مضى وانقطع، وفي نسخة بحذف نون يقاتلون، والذي وجه به حتى يقول الرسول بالرفع، والنصب يأتي هنا، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 وأما "صاحب القضيب" فهو السيف، كما وقع مفسرا به في الإنجيل قال: معه قضيب من حديد يقاتل به، وأمته كذلك، وقد يحمل على أنه القضيب الممشوق الذي كان يمسكه. وأما "صاحب الهراوة" فهي في اللغة: العصا، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمسك في يده القضيب كثيرا،   قتال الدجال مستقبل بالنظر لوقت كلام المصنف بذلك ونفسه الأمر بقتال وقع قبل ذكر المصنف له، وقد انتقد بأن نبي التوبة، والرحمة، والملحمة، والمرحمة في مسلم، فالأولى له ذكره، كما قال زين الحافظ: وهو المسمى بنبي الرحمة ... في مسلم وبنبي التوبة وفيه أيضا بنبي الملحمة ... وفي رواية نبي المرحمة وليس بشيء فإن الدليل إنما يحتاج إليه، فيما يمكن إنكاره، وما صح لا ينكر، فبقي وجه التسمية هو الأولى بالذكر، نعم الجمع بينهما، كما فعل عياض أكثر فائدة. "وأما صاحب القضيب، فهو" صاحب "السيف" أو التقدير القضيب الذي أضيف إليه صاحب حتى يصح الإخبار، "كما وقع مفسرا به في الإنجيل، قال" الله فيه وكون الفاعل ضمير الإنجيل تجوزا تكلف "معه قضيب من حديد". قال القاموس القضيب السيف القاطع كالقاضب سمي به من القضب، وهو القطع؛ لأنه اقتطع من الحديد، "يقاتل به" أي كان معه معدا للقتال، فلا يرد أنه لم يقاتل بيده إن سلم، "وأمته كذلك" تقاتل بالسيف الأعداء، وهو كناية عن شجاعته وكثرة جهاده، وغزاوته، وفتوحاته هو وأمته صلى الله عليه وسلم، "وقد يحمل" كما قال عياض "على أنه القضيب الممشوق" الطويل الرقيق من المشق، وهو جذب الشيء ليطول، كما في القاموس "الذي كان يمسكه". زاد ابن الجوزي وكان يستلم به الركن، فهو بمعنى مفعول؛ لأنه مقطوع من الشجر، فهو عبارة عن كونه من صميم العرب وخطبائهم؛ لأن عادة عظمائه وخطبائهم اتخاذ العصا، وقد للتقليل لقلة تفسيره به بالنسبة، لما قبله؛ لأنه الظاهر من نص الإنجيل وتكلف من فسره بالقضيب الذي أعطاه لبعض الصحابة، فانقلب سيفا. "وأما صاحب الهراوة" بكسر الهاء، ثم راء، فألف، فواو فتاء تأنيث، "فهي في اللغة العصا" مطلقا، كما أطلقه جماعة، وقال الجوهري: العصا الضخمة، "وقد كان عليه الصلاة والسلام يمسك في يده القضيب كثيرا" الغصن المقطوع ووجه الدليل منه على كونه صاحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 وقد كان يمشي بين يديه بالعصا، وتغرز له في الأرض فيصلي إليها، قال القاضي عياض: وأراها العصا المذكورة في حديث الحوض: ذود الناس عنه بعصاي لأهل اليمن. أي لأجلهم ليتقدموا، فلما كان صلى الله عليه وسلم راعيا للخلق سائقا لجميعهم إلى مواردهم كان صاحب الهراوة يرعى بها أهل الطواعية، وصاحب السيف يقد به من لا تزيده الحياة إلا شرا. وأما "الضحاك" بالمعجمة فهو الذي يسيل دماء العدو في الحرب لشجاعته.   العصا أنها العود، كما في القاموس، وهو شامل للقضيب ولغيره، "وقد كان يمشي بين يديه بالعصا وتغرز له في الأرض، فيصلي إليها، وهي العنزة فتحقق وصفه في الكتب الإلهية بأنه صاحب الهراوة. "قال القاضي عياض، وأراها" والله أعلم بضم الهمزة أظنها، وفتحها أعتقدها "العصا المذكورة في حديث الحوض" الذي رواه مسلم في المناقب. "ذود" بمعجمة أوله مهملة آخره طرد، وأمنع "الناس عنه بعصاي" بالإضافة إلى ياء المتكلم ولفظها مقصور مؤنث. قال الفراء: أول لحن سمع بالعراق هذه عصاتي "لأهل اليمن، أي لأجلهم ليتقدموا" لأنهم على بعد شقتهم أجابوا دعوته صلى الله عليه وسلم، بلا تردد، ولا قتال، فأوردهم الحوض قبل غيرهم ليريحهم، كما أراحوه جزاء من جنس العمل. قال النووي: وهذا الذي قاله القاضي ضعيف؛ لأن المراد تعريفه بصفة يراها الناس معه يستدلون بها على صدقه، وأنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة، فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الآخرة انتهى، وكأن المصنف لم يرتضه، فأقره وزاد عليه قوله، "فلما كان صلى الله عليه وسلم راعيا للخلق، سائقا لجميعهم" في الدنيا، والآخرة "إلى مواردهم" في الدارين. ولعل استفادة هذا من الحديث أن ذوده مشعر بسوق الكل لكنه يقدم اليمن. "كان صاحب الهراوة يرعى بها أهل الطواعية وصاحب السيف يقد به" بضم القاف "من لا تزيده الحياة إلا شرا" فلا ينافي كونه صاحبه كونه رحمة للعالمين، فإزالة مثل هذا من جملة الرحمة، "وأما الضحاك بالمعجمة، فهو الذي يسيل دماء العدو في الحرب لشجاعته" لأن شجاعته صلى الله عليه وسلم محققة، فقد كان كالمسلمين كلهم نصرة وشجاعة وقتل الكفار في غزواته وإن لم يكن منه لكن نسب إليه؛ لأنه الآمر به، والحامل عليه، ثم تفسيره بهذا من ضحكت المرأة، والأرنب حاضت ومنه، وامرأته قائمة، فضحكت في قول، لا من كثير الضحك؛ إذ لا يأتي هنا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وأما "صاحب التاج" فالمراد به العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب، والعمائم تيجانها. وأما "صاحب المغفر" فهو بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، كان صلى الله عليه وسلم يلبسه في حروبه. وأما "قدم صدق" فقال قتادة والحسن وزيد بن أسلم في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] هو محمد صلى الله عليه وسلم   وأيضا فضحكه إنما هو التبسم، لكنه فيه مجاز بمرتبتين؛ لأنه استعمل بمعنى ظهور الدم، وهو أثر ناشئ عن الإظهار من تسمية التأثير باسم الأثر، ثم جرد عن بعض معناه، وهو كونه من الفرج وخص بإسالة دم العدو في الحرب. "وأما صاحب التاج" الموصوف به في الإنجيل، "فالمراد به العمامة" على نهج الاستعارة شبه العمامة بالتاج الذي هو الإكليل في أن العرب تتزين بها كتزين العجم بالتاج، واستعار لها اسمه، وفيه التقدير على نحو ما مر ليصح الحمل، أما في المبتدأ، أي التاج في قولنا صاحب التاج، وأما في الخبر، أي المراد صاحب العمامة، "ولم تكن حينئذ، العمامة "إلا للعرب" دون غيرهم، فكني به عن أنه من صميمهم، وأشرفهم حسبا ونسبا، "والعمائم تيجانها" تتزين بها، كما تتزين العجم بالتيجان، كما روى مرفوعا العمائم تيجان العرب، والاحتباء حيطانها، وجلوس المؤمن في المسجد رباطه. أخرجه الديلمي عن ابن عباس، والقضاعي عن علي، وللديلمي عن بن عباس أيضا العمائم تيجان العرب، فإذا وضعوها وضعوا عزهم، وعنده أيضا العمائم وقار المؤمن وعز العرب، فإذا وضعت العرب عمائمها، فقد قلعت عزها، وأسانيدها ضعيفة. "وأما صاحب المغفر، فهو" أي المغفر "بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الفاء" آخره راء "زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس" وقيل ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة، وقيل رفرف البيضة أضيف إليه؛ لأنه "كان صلى الله عليه وسلم يلبسه في حروبه" والأساس لو قال فسمي به، لأنه إلخ، ثم يضبطه، "وأما قدم صدق، فقال قتادة" بن دعامة، "والحسن" البصري، كما نقله عياض عنهما، "وزيد بن أسلم" كما في الصحيح عنه "في" تفسير "قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] أي تقدم ورتبة رفيعة عبر عنها بالقدم؛ لأن السبق بها، قال ذو الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العالي طمت على الفجر وأضيف إلى صدق لبيان فضله ومزيته، قال أبو عبيد: كان سابق خير قدم "هو محمد صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 يشفع لهم، وعن أبي سعيد الخدري، هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم هو شفيع صدق عند ربهم، قال سهل بن عبد الله: هي سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم. وأما "نعمة الله" فقال سهل في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] قال: نعمته محمد صلى الله عليه وسلم،.   يشفع" وروى ليشفع، وروى شفيع "لهم"، فسمي قدما لتقدمه، والشفاعة طلب نفع الغير، لا توصف بالصدق، والكذب، فأما أنه تجوز بالصدق عن القبول لمشابهته لتحقق ما شفع فيه، فهو كالخبر المطابق للواقع، وأما أن المراد شفاعة يقدم صاحبها على رجائها، كما في قولهم حمل حملة صادقة، وقيل المراد أن الشفيع صادق في خبره ومن هو كذلك تقبل شفاعته، "وعن أبي سعيد الخدري، وعلي رضي الله عنهما" كما أخرجه ابن مردويه أنهما قالا في تفسير الآية "هي شفاعة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم" جعلت قدما، أي سابقة لتقدمها، أو تقدم صاحبها، أو لقيامها به عليه السلام، فأطلق عليه اسمها "هو شفيع صدق"، بالإضافة، أي شفاعته قوية تامة مقبولة "عند ربهم" قيل هو إشارة إلى أن صدق صفة مضاف مقدر بمعنى الصاد، أو بمعناه المصدري، وقيل إشارة إلى تفسير القدم به صلى الله عليه وسلم باعتبار الشفاعة أيضا، كما مر، أو إلى المسامحة في تفسيره بالشفاعة، فيوافق الأول. "وقال سهل بن عبد الله" الإمام الورع، الزاهد العالم، الشهير "هي سابقة رحمة"، من إضافة الصفة للموصوف، أي رحمة سابقة، وقيل الإضافة بيانية "أودعها الله في محمد صلى الله عليه وسلم" أي جعله متصفا بها لينتفع الناس بها عند الحاجة، أو عهد له بها في الأزل، فلقيامها به صح أن يطلق عليها اسمها للمناسبة، "وأما نعمة الله، فقال سهل" التستري "في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّه} أي تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعم الله، {لا تُحْصُوهَا} ، لا تطيقوا عدها، وأتى أن عدم العد مقطوع به نظرا إلى توهم أن يطاق، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى، وكانت العرب تفعله، كما قال الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر ثم صار حقيقة في العد مطلقا أو المراد أن تريدوا عدها. "قال" سهل إعادة تأكيدا للأول، وللفصل بين كلام الله وتفسيره "نعمته محمد صلى الله عليه وسلم" إذ هو النعمة العظمى لكونه رحمة للعالمين، وفي نسخة نعمته بمحمد بالباء السببية، أو على أن النعمة بمعنى إنعام؛ لأنها تكون بمعناه وبمعنى المنعم به، واعترض هذا التفسير بأن النعمة به من أعرف المعارف المعلومة، والإحصاء إنما يكون في المعدود، كقوله: وأحصى كل شيء عددا، وتعقب بأن فيه صلى الله عليه وسلم، فوائد ومنافع، لا تحصى، فلا منافاة بين عدم الإحصاء وكونه المنعم به، والإضافة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 وقال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] يعني يعرفون أن محمدا نبي ثم يكذبونه، وهذا مروي عن مجاهد والسدي وقال به الزجاج. وأما "الصراط المستقيم" فقال أبو العالية والحسن البصري في تفسير سورة الفاتحة: هو رسول الله وخيار أهل بيته وأصحابه: وحكى الماوردي ذلك في تفسير: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] عن عبد الرحمن بن زيد.   للعهد، أو الاستغراق؛ لأنها تأتي، لما تأتي له اللام، فعدم الإحصاء لها، أو لما يترتب عليها، "وقال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} يعني يعرفون أن محمدا نبي" بالمعجزات الظاهرات، "ثم يكذبونه" عنادا، وافتراء، "وهذا" التفسير "مروي عن مجاهد" بن جبير، "والسدي" عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، "وقال به الزجاج" أبو إسحاق إبراهيم بن السري، الإمام الشهير، المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وسبقهم إلى التفسير بهذا ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] الآية، قال: هم والله كفار قريش، ومحمد نعمة الله تعالى، أخرجه البخاري وغيره، "وأما الصراط المستقيم فقال أبو العالية" رفيع بن مهران التابعي، فيما أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه، "والحسن البصري" فيما نقله في الشفاء، ورواه الحاكم وصححه عن ابن عباس، كلهم "في تفسير سورة الفاتحة" صرح به مع ظهوره، وكونه خلاف عادته في نقل الآيات، لما فيه من تعظيم له، واعتنائه بشأنه، حيث ذكره في أول كتابه، ومبدأ خطابه "هو رسول الله، وخيار أهل بيته، وأصحابه" بالجر عطف على أهل، كما جزم به في المقتفي، والإضافة فيهما بيانية إذ جميعهم خيار، أو لامية لتفاوت مراتبهم في الخيرية، ووجه التسمية أن كلا منهم طريق يهتدى به، فشبههم بالطريق طريقا تسمية للدال باسم المدلول، فهو مجاز مرسل، فلا يرد أنه لا معنى لقولك اهدنا النبي وصحبه إلا بتقدير طريق وركته، لا تخفى. وحكى البغوي هذا التفسير بلفظ طريق رسول الله، فهو إما رواية، أو إشارة إلى المضاف أورد السهيل أن المراد بالطريق المستقيم ما بعده من قوله صراط الذين إلى آخره، وأجيب بأنه غير متفق عليه، "و" قد "حكى الماوردي ذلك" التفسير المذكور "في تفسير {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فهو بدل مما قبله، أو عطف بيان، فهو عين الأول، "عن عبد الرحمن بن زيد" بن أسلم العدوي مولاهم وفي الشفاء. وحكى السمرقندي مثله عن أبي العالية في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فبلغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 وأما "العروة" الوثقى" فحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن بعضهم في تفسير قوله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] أنه محمد صلى الله عليه وسلم. وأما "ركن المتواضعين" فلأنه عمادهم، وقد ظهر عليه عليه الصلاة والسلام من التواضع ما لم يظهر على غيره، فكان يرقع القميص، ويخصف النعل، ويقم البيت. ووقع فيما ترجموه من كتاب سعياء مما يدل صريحا في البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا يميل إلى الهوى، ولا يدل الصالحين، بل يقوي الصديقين الذين هم كالقصبة الضعيفة، وهو ركن المتواضعين،   ذلك الحسن، فقال صدق والله ونصح، "وأما العروة الوثقى، فحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن بعضهم في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، أنه محمد صلى الله عليه وسلم" لأنه العقد الوثيق المحكم في الدين، والسبب الموصل لرب العالمين، ففيه استعارة تصريحية تمثيلية؛ لأن من اتبعه، لا يقع في هوة الضلال، كما أن من مسك حبلا متينا صعد به من حضيض المهالك، والاستمساك ترشيح، "وأما ركن المتواضعين فلأنه عمادهم" الذين يعتمدون عليه في أمورهم لرجوع الأمر إليه يوم القيامة، "وقد ظهر عليه، عليه الصلاة والسلام من التواضع" إظهار أنه وضيع، وهو أشرف الخلق، "ما لم يظهر على غيره، فكان" كما في الصحيح تعليقا، وهو موصول عند ابن ماجه عن عائشة وأبي سعيد وغيرهما كان صلى الله عليه وسلم في بيته في مهنة أهله، يفلي ثوبه ويحلب شاته، و"يرقع القميص" بفتح الياء، وسكون الراء، وفتح القاف مخففة، أي يجعل فيما انخرق منه رقعة من غيره يسده بها، ويجوز الضم، والتشديد إلا أن الأول أنسب بما معه، "ويخصف النعل" أي يخرزها وفي العمدة أنه تطبيق بعض جلود النعل على بعض، ويخصفان عليهما استعارة من هذا، "ويقم" بضم القاف، بكنس "البيت" كل ذلك تواضعا لربه ورأفة على خدمه، لا عن حاجة فقد كان له نساء وخدم بكثرة، "ووقع فيما ترجموه" نقلوه من العبرانية إلى اللغة العربية "من كتاب سعياء" بسين مهملة ومعجمة ابن أمصيا نبي بشر بعيسى، كما في القاموس، أي سفره من التوراة، كما يفيده الشامي وغيره، أضيف إليه لاختصاصه به وتعلمه ما فيه "مما يدل صريحا في البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم" بيان، لما ترجموه، وهو قوله: "ولا يميل إلى الهوى" هو النفس، بل إنما يتبع بما يوحى إليه، "ولا يدل الصالحين" المسلمين، والأولياء، "بل يقوي الصديقين" المبالغين في الصدق "الذين هم كالقصبة الضعيفة، وهو ركن المتواضعين" هذا المقصود بذكره، فعلم أنه مما سمي به في الكتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 وهو نور الله الذي لا يطفأ. وأما "قثم" و"قثوم" -بالقاف والمثلثة- ففسره القاضي عياض بالجامع للخبر، وقال ابن الجوزي مشتق من القثم، وهو الإعطاء، يقال: قثم له من العطاء، يقثم، إذا أعطاه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق ندى وأسخاهم يدا. وأما "البارقليط" و"الفارقليط" بالوحدة، وبالفاء بدلها، وفتح الراء والقاف. وبسكون الراء مع فتح القاف. ويفتح الراء مع سكون القاف. وبكسر الراء وسكون القاف فوقع في إنجيل يوحنا،   السابقة، "وهو نور الله الذي، لا يطفأ" بل يظهر وينتشر، وهذا يؤيد من قال في يريدون أن يطفئوا نور الله، إنه محمد عليه السلام، "وأما قثم" بضم القاف وفتح المثلثة، "وقثوم" المروي عند أبي نعيم، والحربي مرفوعا $"أتاني ملك، فقال: أنت قثم" "بالقاف، والمثلثة، ففسره القاضي عياض" نقلا عن الحربي "بالجامع للخير" كله في ذاته ولغيره، قال: وهذا اسم هو في أهل بيته معلوم. قال ابن دحية: مشتق من القثم، وهو الجمع يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم، وكان صلى الله عليه وسلم جامعا لخصال الخير والفضائل كلها، "وقال ابن الجوزي مشتق من القثم، وهو الإعطاء يقال قثم له من العطاء، يقثم" بضم المثلثة على مفاد القاموس "إذا أعطاه" منه قطعة جيدة، واسم الفاعل قثم، كعمر على غير قياس، وبه سمي الرجل، فهو معدول على قاثم تقديرا، فلا ينصرف للعدل، والعلمية، كما في المصباح "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق ندى" بالنون جودا وعطاء، "وأسخاهم يدا" بالتحتية، والمراد منهما واحدا، يقال فلان ندى الكف، أي سخي. "وأما البارقليط، والفارقليط بالموحدة، وبالفاء بدلها، وفتح الراء، والقاف" بعدها لام مكسورة، فتحتية ساكنة، فطاء مهملة، "وبسكون الراء مع فتح القاف" بعدها اللام مكسورة إلخ، "وبفتح الراء مع سكون القاف وبكسر الراء وسكون القاف". قال في المقتفى: وهو الصحيح وحزم به الشامي، "فوقع" التسمية به "في إنجيل يوحنا" من اتباع عيسى، وليس نبيا إذ ليس بين عيسى ونبينا نبي، كما قال صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح، ويأتي بسطه في محله. قال صاحب الخميس عن المنتقي إنما قال في إنجيل يوحنا؛ لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين متى ويوحنا وقيسر ولوقا، فتكلم كل واحد من هؤلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 ومعناه: روح الحق. وقال ثعلب: الذي يفرق بين الحق والباطل، وفي نهاية ابن الاثير، في صفته عليه الصلاة والسلام، أن اسمه في الكتب السالفة "بارقليط" أي يفرق بين الحق والباطل، قال: ومنه الحديث: محمد فرق بين الناس، أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه. وأما "حمطايا" بفتح الحاء المهملة وسكون الميم قال الهروي: أي حامي الحرم، وقال ابن الأثير في حديث كعب أنه قال في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب   بعبارة لملاءمة الذين تبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافا شديدا، "ومعناه روح الحق"، لأنه صلى الله عليه وسلم قائم بالحق كقيام الروح بالحيوان، فإن فارقته مات، "وقال ثعلب" أحمد بن يحيى البغدادي الإمام المشهور: معناه "الذي يفرق بين الحق والباطل"، وقيل الحامل وقيل الحماد، قال التقي الشمني وأكثر أهل الإنجيل على أن معناه المخلص، وقد ذكر المصنف لفظ الإنجيل وبسط الكلام عليه في المقصد السادس، "وفي نهاية ابن الأثير" أبي السعادات، واسمه المبارك "في صفته عليه الصلاة والسلام أن اسمه في الكتب السالفة بارقليطا" بباء مشوبة، بفاء وآخره ألف مقصورة، ثم عرب بالباء، أو الفاء، وحذفت الألف من آخره، كما قال الدواني، وهو بمعنى قول أبي عبيد البكري بالباء الموحدة غير صافية، "أي يفرق بين الحق والباطل" ففسره بما قال ثعلب، قيل، وهو بيان لحاصل المعنى. قال الدواني: والمراد مظهر الولاية التي هي باطن النبوة. "قال" ابن الأثير "ومنه الحديث محمد فرق بين الناس، أي يفرق بين المؤمنين، والكافرين بتصديقه" من المؤمنين "وتكذيبه" من الكافرين. "وأما حمطايا، فبفتح الحاء المهملة، وسكون الميم" وطاء مهملة خفيفة، وألفين بينهما تحتية، وضبطه الشمني بفتح الحاء، وفتح الميم المشددة. "قال الهروي" بعد أن ضبطه بكسر الحاء وسكون الميم وتقديم الياء، وألف بعدها طاء، فهو عنده حمياطا، لا كما أوهمه المصنف، فمراده منه مجرد التفسير بقوله، "أي حامي الحرم" بفتحتين. قال ابن دحية: ومعناه أنه حمى الحرم مما كان فيه من النصب التي تعبد من دون الله والزنا، والفجور، "وقال ابن الأثير في حديث كعب أنه قال في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 السالفة: محمد وأحمد وحمياطا. يعني بالحاء المهملة ثم ميم ساكنة فمثناة تحتية فألف فطاء. مهملة فألف. قال أبو عمرو: سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال: معناه يحمي الحرم من الحرام، ويوطئ الحلال. وأما "أحيد" وهو بهمزة مضمومة ثم حاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة ثم دال مهملة. كذا وجدته في بعض نسخ الشفاء المعتمدة. والمشهور ضبطه بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح المثناة التحتية، وفي نسخة بفتحها وكسر الحاء وسكون المثناة التحتية، فقال النووي في كتابه تهذيب الأسماء واللغات: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمي في القرآن محمد، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوراة أحيد، وإنما سميت   السالفة" وقد رواه أبو نعيم عن ابن عباس، قال: "كان صلى الله عليه وسلم يسمى في الكتب القديمة "محمدا، وأحمد وحمياطا" زاد ابن عباس وفارقليطا وماذماذ "يعني بالحاء المهملة" المكسورة كما قال الهروي، "ثم ميم ساكنة، فمثناة تحتية، فألف فطاء مهملة، فألف قال أبو عمرو" بن العلاء؛ لأنه المراد عند الإطلاق اختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا أصحها زبان بزاي معجمة ابن العلاء بن عمار، المازني، النحوي، الثقة في الحديث المتوفى سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ست وثمانين سنة، وسبب الخلاف فيه أنه كان لجلالته، لا يسأل عن اسمه، "سألت بعض من أسلم من اليهود عنه، فقال: معناه يحمي الحرم" بضم ففتح جمع حرمة، كما جزم به في شرح الشفاء، أي يمنع النساء "من" الأنكحة "الحرام" من سفاح وغيره "ويوطئ الحلال" أي يزوج النكاح الصحيح، فالوطء المترتب عليه حلال، "وأما أحيد، وهو بهمزة مضمومة، ثم حاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة، ثم دال مهملة، كذا وجدته في بعض نسخ الشفاء المعتمدة" ي قولها، واسمه في التوراة أحيد، والمشهور عندهم، قال الشمني، وهو المحفوظ: "ضبطه بفتح الهمزة" وسكون الحاء المهملة، وفتح المثناة التحتية" وبه ضبطه البرهان في المقتفى، قال الشمني، وهو غير عربي "وفي نسخة بفتحها" أي الهمزة "وكسر الحاء وسكون المثناة التحتية" من حاد يحيد إذا عدل ومال، فهو عربي إن لم يكن من توافق اللغات وضبطه الماوردي في تفسيره بمد الألف وكسر الحاء "فقال النووي في كتابه تهذيب الأسماء، واللغات عن ابن عباس مما أخرجه ابن عدي، وابن عساكر بسند رواه عنه "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسمي في القرآن محمد، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوراة أحيد، وإنما سميت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 أحيد لأني أحيد عن أمتي نار جهنم". وأما "المنحمنا" وهو بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم وتشديد النون الثانية المفتوحة، مقصور، وضبطه بعضهم بفتح الميمين، فمعناه بالسريانية محمد. وأما "المشفح" وهو بضم الميم وبالشين المعجمة وبالفاء المشددة المفتوحتين ثم حاء مهملة، وروي بالقاف بدل الفاء، ففي كتاب: سعيا في البشارة به عليه الصلاة والسلام، يفتح العيون العور، والآذان الصم ويحيى القلوب.   أحيد؛ لأني أحيد عن أمتي نار جهنم"، أي أدفعها عنهم بشفاعتي، أو لأنه يحيد أمته عن النار، أو لأنه حاد عن الطريق الباطل، وعدل بأمته إلى سبيل الحق، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية، أو وزن الفعل مع العلمية، نقله الشامي عن البلقيني. "وأما المنحمنا" اسمه في الإنجيل، كما، قال ابن إسحاق، "وهو بضم الميم وسكون النون، وفتح الحاء المهملة، وكسر الميم" الثانية، "وتشديد النون الثانية المفتوحة مقصور" كما ضبطه البرهان في المقتفى، والشمني، "وضبطه بعضهم" هو ابن دحية "بفتح الميمين". وقال التلمساني الميم الثانية مثلثة "فمعناه" روح القدس، وهو "بالسريانية محمد". وقال ابن سيد الناس، هو محتمل؛ لأنه اسم له ولكونه بمعناه، "وأما المشفح، فهو بضم الميم وبالشين المعجمة، وبالفاء المشددة المفتوحتين ثم حاء مهملة"، كما ضبطه ابن دحية قائلا بوزن محمد ومعناه، فإن الشفع في اللغة الحمد، "وروي بالقاف بدل الفاء" وبه ضبطه الشمني والدلجي، وزاد أن القاف مفتوحة، أو مكسورة غير منصرف للعلمية، والعجمة انتهى. قال الحافظ: البرهان لا أعلم صحته، ولا معناه، وكأنه لم ير كلام ابن دحية، أو لم يرتضه، "ففي كتاب سعيا" بالمهملة والمعجمة على ما مر "في البشارة به عليه الصلاة والسلام" كما نقله ابن ظفر في البشر ونصه عبدي الذي سرت به نفسي أنزل عليه وحي، فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم الوصايا، ولا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق. "يفتح العيون العور، والآذان الصم"، بالضم وشد الميم جمع صماء، "ويحيي القلوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 الغلف، وما أعطيه لا أعطي أحدا، مشفح يحمد الله حمدا جديدا وهو بالسريانية الحمد. وأما "مقيم السنة" ففي كتاب الشفاء: قال داود عليه السلام: اللهم أبعث لنا محمدا يقيم السنة بعد الفترة. وأما "المبارك".   الغلف" جمع أغلف المغطاة بما كانت محجوبة به عن الهدى، فأزال حجابها وكشف غطاءها حتى اهتدت. "وما أعطيه، لا أعطي أحدا" مثله "مشفح يحمد الله حمدا جديدا" قال الشامي: راجعت عدة نسح من خير البشر لابن ظفر، فلم أره ضبطه بالفاء، وإنما فوقها نقطتان، وذلك مما يؤيد ضبط الشمني انتهى. ومثل هذا، لا تأييد فيه حتى يرجع على ضبط الحافظ ابن دحية بالفاء، وإليه يومئ قول المصنف، "وهو بالسريانية الحمد" لأنهم يقولون شفحا لها إذا أرادوا أن يقولوا الحمد لله، فإذا كان الحمد شفحا فمشفح محمد، قاله المصنف في المقصد السادس، وكان وجه الملازمة أن الحمد مصدر، واسم المفعول المأخوذ منه محمد، فمحمد مشفح، وبقية ما في الكتاب بعد قوله جديدا يأتي من أقصى المدينة يفرح البرية وسكانها، يهللون الله ويكبرونه على كل رابية، ولا يضعف، ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصة الضعيفة بل يقوي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ أثر سلطانه على كتفه انتهى. "وأما مقيم السنة" اسمه في الزبور بلفظه، وبمعناه قول التوراة لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، كما في الحديث الصحيح، فتجوز من قاله: إنه اسمه في الكتاب "ففي كتاب الشفاء" لعياض ما نصه، ووقع في كتب الأنبياء، "قال داود عليه السلام" أي إن هذا اللفظ بخصوصه نزل في الزبور عليه حكاية لما صدر منه قبل النزول، أو بمعنى الأمر كقراءة قال ربي يعلم القول، قال: رب احكم بالحق كأنه قيل له قل يا داود "اللهم" أي يا الله أتى بالميم إيذانا بأنه يدعوه بأسمائه وصفاته كلها؛ لأنها بمنزلة واو الجمع كأنه يقال: يا الذي اجتمعت له الأسماء الحسنى، والصفات العلي، "ابعث لنا" أي للناس "محمدا يقيم السنة" الطريقة الشرعية، والدين "بعد الفترة" انقطاع الوحي، والرسل، ومعنى إقامتها إظهار الإسلام، "وأما المبارك" عظيم البركة، الجامع لأنواع الخير، النفاع للناس، قال حسان: صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد وقال عباس ابن مرداس في قصيدة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 فمبدأ الكون ونماؤه كائن من بركته المستمدة من بركة الله، ومن كمال بركته نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته حتى أشبع الجيش الكثير وغير ذلك مما لمسه أو باشره، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات. وأما "المكين" فهو صلى الله عليه وسلم المكين تعلو مكانته عند ربه تعالى، ومن ذلك أن قرن سبحانه ذكره بذكره فما أذن باسم أحد سواه، ولا قرن اسم أحد مع اسمه إلا إياه، فأعلن له في السابقة على ساق العرش وأذن به في اللاحقة على منار الإيمان. وأما "الأمي"   فامنت بالله الذي أنا عبده ... وخالفت من أمسي يريد المهالكا ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... وبايعت بين الأخشبين المباركا نبي أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحق فيه الفضل منه كذلكا "فمبدأ" يعني وجه تسميته به أن مبدأ "الكون وتمامه كائن من بركته المستمدة من بركة الله"، ومن كان مدده فلا يستطاع إحصاء بركته "و" لكن "من كمال بركته نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل ببركته حتى أشبع"، وأروى "الجيش الكثير، وغير ذلك مما لمسه، أو باشره، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات". وقال الشامي سمي بذلك لما جعل الله في حاله من البركة، والثواب، وفي أصحابه من فضائل العمال، وفي أمته من زيادة القدر على الأمم. "وأما المكين" فعيل من المكانة أخذه جماعة من قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} الآية، على أحد القولين إنما المراد صلى الله عليه وسلم "فهو" أي فموجه تسميته به أنه "صلى الله عليه وسلم المكين تعلموا مكانته" العظيمة "عند ربه تعالى، ومن ذلك أن قرن" ضم وجمع "سبحانه ذكره بذكره فما أذن" بالبناء للمفعول "باسم أحد سواه" لأنه ما شرع ذكر غيره في الأذان، "ولا قرن اسم أحد مع اسمه" تعالى "إلا إياه" كما قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} الآية، أي لا أذكر إلا وتذكر معي، كما ورد مفسرا عن جبريل عن الله، "فأعلن له في السابقة على ساق العرش" حيث كتب اسمه على ساقه وعلى نحور الحور وغير ذلك مما مر "وآذن" اعلم "به في اللاحقة على منار الإيمان" حيث أمر المؤذنين بذكر اسمه في كل آذان والمراد بها الآخرة؛ لأنه أعلم به فيها بلواء الحمد، والشفاعة والمقام المحمود وغير لك مما لم يؤذن به لغيره فيها. "وأما الأمي" الذي، لا يكتب، ولا يقرأ، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا أمية لا نحسب ولا نكتب"، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 فهو من أخص أسمائه، وقال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] فهو تعالى يقرئه ما كتبه بيده، وما خطته أقلامه العلمية في ألواح قدسه الأقدسية، فيغنيه بذلك عن أن يقرأ ما تكتب الخلق. وأما "المكي" فهو صلى الله عليه وسلم قد كان بداية ظهوره في الأرض في مكة، التي هي حرم الله، وهي مدد البركة ومنشأ الهدى، فهو صلى الله عليه وسلم مكي الإقامة ومبدأ النبوة، ومكي الإعادة، وكان من آية ذلك توجهه لها حيث ما توجه فهو عليه الصلاة والسلام المكي الذي لا يبرح وجود أو قصد،   وصفه تعالى به تنبيها على أن كمال علمه معها أحد معجزاته، "فهو من أخص أسمائه" أي الأسماء التي اختصاصها به أظهر من غيرها، فإن الأمية، وإن كثرت في الناس لكنها فيهم معجزة وفيه معجزة، "وقال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي} تعرف قبل الوحي إليك "ما الكتاب" القرآن، ولا الإيمان، أي شرائعه، ومعالمه، والنفي معلق للفعل عن العمل، وما بعده وسد مسد المفعولين "ولكن جعلناه" أي الروح أو الكتاب {نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} استدل بها على أميته لاستغنائه عن الكناية، والقراءة بالوحي إذا المطلوب منهما التوصل إلى المعارف، والعلوم، كما أشار له بقوله: "فهو تعالى يقرئه ما كتبه بيده" أي أمر بكتبه، وأضافه إلى ذاته معبرا عنها شعارا بكمال حقيقته حيث أضيف إليه تعالى: "وما خطته أقلامه العلمية في ألواح قدسه الأقدسية فيغنيه بذلك عن أن يقرأ ما تكتب الخلق". قال القاضي عياض إذ المطلوب من القراءة، والكتابة المعرفة، وإنما هما آلة وواسطة موصلة إليها، فإذا حصلت الثمرة، والمطلوب استغنى عن الواسطة. قال ومعجزته العظمى القرآن إنما هي متعلقة بطريقة المعارف، والعلوم من ما منح وفضل به من ذلك صلى الله عليه وسلم ووجود مثل ذلك ممن لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس، ولا لقن مقتضى العجب، ومنتهى العبر ومعجزة البشر. "وأما المكي فهو" أي وجه تسميته به "صلى الله عليه وسم قد كان بداية ظهوره في الأرض في مكة التي هي حرم الله، وهي مدد البركة ومنشأ الهدى" لأن أول نزول الوحي عليه في غارها، "فهو عليه الصلاة والسلام مكي الإقامة، و" مكي "مبدأ النبوة، ومكي الإعادة" فوصفه لهذه الثلاثة، لا لكون بدئه مطلقا بها؛ لأنه كان قبل خلق السماوات والأرض "وكان من آية ذلك" علامة أنه المكي "توجهه لها" أمره باستقبالها في الصلاة "حيثما توجه" أي في، أي محل كان به وتوجهه إليه "فهو عليه الصلاة والسلام المكي الذي لا يبرح وجود أو قصد"، أي إنهما لمكة وإن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 والمرء حيث قصده لا حيث جسمه حتى كان من شرعه أن يوجه الميت إليها، ومن أومأ لشيء فهو لما أومأ ولذلك صحت الصلاة إيماء. وأما "المدني" فلأن المدينة دار هجرته وإقامته لا رحلة له عنها، وخصت تربتها بأن ضمت أعضاءه المقدسة. وأما "عبد الكريم" فذكر الحسين بن محمد الدامغاني في كتابه "شوق العروس وأنس النفوس" نقلا عن كعب الأحبار أنه قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الجبار وعند أهل العرش عبد الحميد،   كان جسده بغيرها، كما أشار إليه بقوله، "والمرء حيث قصده" أي في المكان الذي قصده، "لا حيث جسمه" أي المكان الذي هو به "حتى كان من شرعه أن يوجه الميت إليها ومن أومأ" بفتح أوله والهمز آخره أشار "لشيء" إشارة قلبية، بأن تعلق غرضه به تعلقا تاما، "فهو لما أومأ" أي ففعله، مصروف إلى ما تعلق به قلبه، فحذف المضاف من قوله، فهو فانفصل الضمير، فلم يتحد الشرط والجزاء، "ولذلك صحت الصلاة إيماء" لذي العذر، ومقصوده من هذا تأكيد كونه ما برح عنها وجود، أو للصدا، "وأما المدني، فلأن المدينة دار هجرته" أي الدار التي هاجر إليها في الله بإذنه "وإقامته" حيا، وفي البرزخ حتى يبعث منها، "لا رحلة له عنها" كما قال صلى الله عليه وسلم يوم خطب الأنصار "المحيا محياكم، والممات مماتكم"، "وخصت تربتها بأن ضمت أعضاء النبي صلى الله عليه وسلم المقدسة" فحازت ما لم تحزه بقعة، فقام الإجماع بفضلها على كل البقاع. "وأما عبد الكريم فذكر" الإمام "الحسين بن محمد الدامغاني" بفتح الميم، والمعجمة، نسبة إلى دامغان مدينة من بلاد قومس، كما في اللب "في كتابه شوق العروس، وأنس النفوس" وكذا ذكره ابن الجوزي في التبصرة كلاهما "نقلا عن كعب الأحبار، أنه قال" مما تلقاه من الكتب السابقة؛ لأنه حبرها "اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل الجنة عبد الكريم" لأنه الذي أوصلهم إليها فتكرم الله عليهم فيها بما، لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هو المصطفى بشفاعته، في فضل القضاء الذي تنصل منه الرؤساء، ولأنه الذي ابتدأ فتح بابها لهم، ولأن تكرم الله عليه فيها لا يضارعه شيء. "وعند أهل النار عبد الجبار" لأنه جبرهم وقهرهم بالخلود فيها لمخالفته صلى الله عليه وسلم ومخالفة من قبله؛ لأن تكذيب واحد تكذيب للجميع كذبت قوم نوح المرسلين: "وعن أهل العرش عبد الحميد" لحمده على إسرائه إليه وحمدهم على رؤيته صلى الله عليه وسلم عنده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهار، وعند الجن عبد الرحيم، وفي الجبال عبد الخالق، وفي البر عبد القادر وفي البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وعند السباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وفي التوراة موذ موذ، وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف عاقب،   "وعند سائر الملائكة عبد المجيد" لأن كلا منهم يمجد الله ويعبده بنوع وجمعها الله كلها له صلى الله عليه وسلم. "وعن الأنبياء عبد الوهاب" لأن الله وهبهم النبوة، والآيات البينات، ثم وهبه ما وهبهم ورفعه عليهم درجات "وعند الشياطين عبد القهار؛ لأنه قهرهم، وأذلهم ببعثته ومنعهم من استراق السمع وغير ذلك. "وعند الجن عبد الرحيم" لأنه رحمهم برسالته فلم يكلفهم الأعمال الشاقة، كالمحاريب، والتماثيل وعادت بركته على كثير منهم فآمنوا به. "وفي الجبال عبد الخالق" الذي خلقه بشرا ليس كالأبشار، كما أنه خلقها أرضا، لا كالأرض. "وفي البرد عبد القادر" الذي من قدرته أن خلق منه سيد الأولين والآخرين. "وفي البحر عبد المهيمن" لأنه أجل من يؤمن به بأنه لا يحصى قطراته، ولا يحفظه إلا الله، "وعند الحيتان عبد القدوس" لأنها، وإن قدست الله كثيرا حتى قيل ما صيدت سمكة حتى ينقطع تسبيحها، فهو في جنب تقديسه صلى الله عليه وسلم لا شيء. "وعند الهوام عبد الغياث" الذي أغاث الناس من أذاها ببركته ثم أغاثها هي بأن سخر لها رزقها ببركته. "وعند الوحوش عبد الرزاق" الذي يرزقها ببركة هذا الذي كله رحمة للعالمين، "وعند السباع عبد السلام" الذي سلم الناس من عدائها. "وعند البهائم عبد المؤمن" لأنه أجل من يؤمن بأن تسخيرها منه تعالى: "وعند الطيور عبد الغفار" الذي يغفر الذنوب ويسترها أقوى من سترها بيضها وفراخها بجناحها "وفي التوراة موذ موذ" بالتكرير، ويوري بألف بدل الواو وبياء كما مر. "وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف"، التي نزلت على موسى قبل التوراة وصحف إبراهيم "عاقب". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 وفي الزبور فاروق، وعند الله طه ويس، وعند المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم، قال وكنيته أبو القاسم لأنه يقسم الجنة بين أهلها. وأما "عبد الله" فسماه الله تعالى به في أشرف مقاماته فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] ، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه والتحدي بأن يأتوا بمثله. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] فذكره في مقام الدعوة إليه، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] ، وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} [النجم: 10] ، ولو كان له اسم أشرف منه لسماه به في تلك الحالات العلية.   "وفي الزبور فاروق، وعند الله طه ويس، وعند المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم". "قال" كعب "وكنيته أبو القاسم؛ لأنه يقسم الجنة بين أهلها، يوم القيامة، وهو أحمد الأقوال، وخالفه الجمهور، كما مر. "وأما عبد الله فسماه الله تعالى به في أشرف مقاماته" صريحا في وإنه لمقام عبد الله، أو معنى كبقية الآيات لإضافة عبد إلى ضميره تعالى، فساوى في المعنى عبد الله، فلا يرد أنه لم يسمه به إلا في آية واحدة، فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك "مما نزلنا على عبدنا" محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه من عند الله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} أي المنزل ومن للبيان، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم، والأخبار عن الغيب. "وقال: {تَبَارَكَ} وتكاثر خيره {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} محمد {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الأنس، والجن، واتفاقا، والملائكة على الصحيح {نَذِيرًا} مخوفا من عذاب الله، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} القرآن، "فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه" في آيتي الكهف، والفرقان، "و" في مقام "التحدي بأن يأتوا بمثله وقال تعالى: {وَأَنَّهُ} " بالفتح بالكسر استئناف، والضمير للشأن، " {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} ، فذكره في مقام الدعوة إليه بالعبودية، وقال تعالى: {سُبْحَانَ} تنزيه {الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} " نصب على الظرف، والإسراء سير الليل نكر للإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته. "وقال: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم على أحد القولين والآخر جبريل، فأفاد أن هذا الاسم أشرف أسمائه "ولو كان له اسم أشرف منه، لسماه به في تلك الحالات العلمية"، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 ولما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، ورقاه إلى أعلى المعالي العلوية، ألزمه -تشريفا له- اسم العبودية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يجلس للأكل جلوس العبد، وكان يتخلى عن وجوه الترفعات كلها في ملبسه ومأكله ومبيته ومسكنه إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان صدقا عما في باطنه من تحقق العبودية لربه تحقيقا لمعنى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] . ولما خير بين أن يكون نبيا ملكا.   فهذا مبني على المقدمة المقدرة، فلا يرد أنه لم يدع أنه أشرف أسمائه حتى يحتاج لهذا "ولما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنية، ورقاه إلى أعلى المعالي العلوية ألزمه تشريفا له اسم العبودية، وقد" جمع بين صفتها ظاهرا وباطنا، لأنه "كان صلى الله عليه وسلم يجلس للأكل جلوس العبد" فتسميته بذلك مطابقا لما كان عليه في الوجود الظاهر المدرك بالحواس، "و" لذا "كان يتخلى" بخاء معجمة "عن وجوه الترفعات كلها، في ملبسه ومأكله" فيجلس على الأرض، ولا يأكل على خوان، "ومبيته ومسكنه" كما يأتي تفصيل ذلك كله في شمائله وعلل ذلك بقوله "إظهارا لظاهر العبودية فيما يناله العيان" المشاهدة "صدقا" حال من مفعول يناله، أي دالا وكاشفا "عما في باطنه من تحقق العبودية لربه"، وإنما ظهر ذلك "تحقيقا لمعنى" قوله تعالى: " {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} "، فإن أكثر المفسرين على أنه الذي جاء صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: وهو الذي صدق به، وقيل الذي صدق به المؤمنون وقيل أبو بكر وقيل علي، وقيل غير هذا كما في الشفاء. قال شارحه، ولا يرد على هذا، ولا على ما قبله أنه يلزمه حذف الموصول بدون الصلة، أو أن يراد بموصول مع الصلة شيء ومنه مع صلة أخرى آخر؛ لأن الموصول هنا واحد لفظا جمع معنى بتقدير موصوف، كذلك كفريق ونحوه، والصلة له على التوزيع، أي جمع بعضه جاء به وبعضه صدقه، فلا محذور فيه، كما ذكر الطيبي، وهذا جار في الوجه الأخير؛ إذ لا مانع منه، فلا وجه لقوله البيضاوي ومن تبعه إذا كان الجائي النبي صلى الله عليه وسلم، المصدق أبو بكر يلزم عليه إضمار الذي وهو غير جائز مع أنه ذكر هذا في الوجه السابق، وليس بينهما فارق والفرق بأنهما فردان مشخصان، لا يجدي، ولا حاجة إلى أن الذي أصله الذين، فخفف بحذف النون لطوله بالصلة، والذي غر هؤلاء أن الذي لا يراد به متعددا إلا إذا كان غير متخصص بمعنى، قال في التسهيل يغني عن الذين في غير تخصيص كثيرا، وفيه للضرورة قليلا انتهى، "ولما خير بين أن يكون نبيا ملكا" بكسر اللام سلطانا تكون شئون كالملوك في اتخاذ الجنود، والخيول، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 أو نبيا عبدا، اختار أن يكون عبدا، فاختار ما هو الأتم، فكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله"، فأثبت ما هو ثابت له، وأسلم لله ما هو له لا لسواه وليس للعبد إلا اسم العبد، ولذلك كان "عبد الله" أحب الأسماء إلى الله تعالى.   والخدم، والقصور، والحجاب، "أو نبيا عبدا اختار أن يكون نبيا عبدا"، تواضعا منه، وزهدا في الدنيا خضوعا لله، مع أن النبوة معطاة في الحالين، ولو كان ملكا ما صره الملك. وفي الحديث، فقال له إسرافيل عند ذلك، فإن الله، قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، "فاختار ما هو الأتم، فكان صلى الله عليه وسلم يقول، كما في الصحيح" من حديث عمر، "لا تطروني" بضم أوله وسكون الطاء، لا تتجاوزوا الحد في مدحي بأن تقولوا ما لا يليق بي، "كما أطرت النصارى عيسى" حيث كذبوا، وقالوا فيه ابن الله، وإله وغيره من إفكهم، "ولكن قولوا عبد الله ورسوله" ولا تقولوا ما قالته النصارى، "فاثبت ما هو ثبت له" من العبودية، والرسالة، "وأسلم لله ما هو له، لا لسواه" فالنهي إنما هو عن ذلك وإلا فمدحه صلى الله عليه وسلم مطلوب من كل أحد، وقد سمعه وأجاز عليه مع أن أحدا لا يبلغه كما قال: لا يبلغ الواصف المطري مدائحه ... وإن يكن محسنا في كل ما وصفا ويرحم الله الشرف البوصيري حيث، قا: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم ومنه أخذ الصفي الحلى قوله في بديعته. دع ما تقول النصارى في نبيهم ... من التغالي وقل ما شئت واحتكم "وليس للعبد إلا اسم العبد، ولذلك كان عبد الله أحب الأسماء إلى الله"، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن". رواه مسلم وللطبراني بسند ضعيف مرفوعا أحب الأسماء إلى الله ما تعبد له وللطبراني وغيره إذا سميتم، فعبدوا. قال السخاوي، وأما ما يذكر على الألسنة من خير الأسماء ما حمد وما عبد، فما علمته انتهى ولله الحمد على ما أنعم، والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الفصل الثاني: في ذكر أولاده الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام اعلم أن جملة ما اتفق عليه منهم ستة: القاسم وإبراهيم، وأربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وكلهن أدركهن الإسلام وهاجرن معه. واختلف فيما سوى هؤلاء: فعند ابن إسحاق: الطاهر والطيب أيضا فتكون على هذا ثمانية، أربعة ذكور وأربعة إناث. وقال الزبير بن بكار:   "الفصل الثاني: في ذكر أولاده الكرام" صفة لازمة ولم يقل، وأولاد أولاده، وإن ذكر في ترجمة زينب ولديها، وفي فاطمة أولادها؛ لأن ذكرهم وقع تبعا، والمقصود بالترجمة الأولاد، أو استعمل الأولاد في حقيقته ومجازه، فأراد ما يشمل أولادهم، ولكن الأول أولى؛ لأنه لم يذكر ابن رقية، فيلزم أنه نقص عما ترجم له "عليه وعليهم الصلاة والسلام". ذكرها عليهم تبعا، فلا كراهة؛ لأن محلها حيث أفردت من غير الله وملائكته ورسله عند الجمهور، ويأتي إن شاء الله تفصيل ذلك في مقصدها. "اعلم أن جملة ما اتفق عليه منهم ستة: القاسم" أولهم "وإبراهيم" آخرهم، "وأربع بنات: زينب" أكبرهن "ورقية، وأم كلثوم وفاطمة" أصغرهن على الأصح، كما قال السهيلي. قال أبو عمر هو الذي تركن إليه النفس "وكلهن" أي البنات الأربع "أدركن الإسلام، وهاجرن معه" بمعنى أنهن اجتمعن معه في المدينة بعد الهجرة، أو المعية مجازية لقرب زمان هجرتهن من هجرته صلى الله عليه وسلم، فلا يرد أنهن لم يخرجن معه وقت الهجرة، وإن زينب تأخرت هجرتها حتى كانت بدر، وأسر زوجها، وبعثت هي في فدائه، فمن عليه صلى الله عليه وسلم وشرط عليه، أو طاع له أن يبعث زينب، ففعل، كما قدمت ذلك. "واختلف فيما سوى هؤلاء، فعند ابن إسحاق" من أولاده "الطاهر، والطيب أيضا فتكون" أولاده "على هذا ثمانية أربعة ذكور، وأربعة إناث" زيادة إيضاح، لما علم مما قبله، "وقال الزبير بن بكار" بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير الأسدي المدني، قاضيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 كان له عليه الصلاة والسلام سوى إبراهيم القاسم وعبد الله، مات صغيرا بمكة، ويقال له: الطيب والطاهر، ثلاثة أسماء. وهو قول أكثر أهل النسب قاله أبو عمر، وقال الدارقطني: هو الأثبت. ويسمى عبد الله بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة، فعلى هذا تكون جملتهم سبعة، ثلاثة ذكور. وقيل: عبد الله غير الطيب والطاهر، حكاه الدارقطني وغيره. فعلى هذا تكون جملتهم على هذا تسعة، خمسة ذكور. وقيل: كان له الطيب والمطيب، ولدا في بطن، والطاهر والمطهر، ولدا في بطن، ذكره صاحب الصفوة،   أبو عبد الله بن أبي بكر، ثقة حافظ علامة بالنسب مات سنة ست وخمسين ومائتين. "كان له عليه الصلاة والسلام سوى إبراهيم" ولدان "القاسم وعبد الله" حال كونه "مات صغيرا" لم تعلم مدة حياته لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك "بمكة" أو هي مستأنفة، "ويقال له الطيب، والطاهر" فله "ثلاثة أسماء" فهو مبتدأ حذف خبره، "وهو" أي ما، قاله ابن بكار "قول أكثر أهل النسب، قاله أبو عمر"، بضم العين يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر، الحافظ العلامة، الإمام، الذي ساد أهل الزمان بالحفظ، والاتقان الشهير بكنيته والنسبة إلى جد أبيه. "وقال الدارقطني: هو الأثبت"، ولذا اقتصر يزيد بن عياض عن الزهري على القاسم وعبد الله، كما أخرجه الزبير بن بكار قائلا "ويسمى عبد الله بالطيب، والطاهر" هذه أولى من نسخة حذف الواو؛ لأنه سمي بكل منهما، كما علم ولفظ الزبير حدثني عمي عن مصعب، قال ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم القاسم والطاهر، وكان يقال له الطيب، واسمه عبد الله، "لأنه ولد بعد النبوة" فصلح له الاسمان، ونقل الزبير أيضا عن جده مصعب أنه كان للزبير بن عبد المطلب ابن يسمى الطاهر، كان من أظرف الفتيان بمكة، وبه سمى رسول الله ابنه، "فعلى هذا تكون جملتهم سبعة ثلاثة ذكور" القاسم وعبد الله وإبراهيم، والأربع بنات "وقيل: عبد الله غير الطيب وغير "الطاهر حكاه الدارقطني وغيره" كأبي بكر بن عثمان وأبي الأسود يتيم عروة قالا ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة ذكور القاسم، والطيب، والطاهر، وعبد الله، وأربع بنات وسماهن أخرجه الزبير، "فعلى هذا تكون جملتهم تسعة خمسة ذكور" بإبراهيم، وأربع بنات، "وقيل: كان له الطيب والمطيب"، بضم الميم، وفتح الطاء المهملة، والياء الثقيلة، وموحدة "ولدا في بطن" أي توءمين، "والطاهر والمطهر" بضم الميم اسم مفعول "ولدا في بطن ذكره صاحب الصفوة" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 فتكون على أحد عشر. وقيل: ولد له صلى الله عليه وسلم ولد قبل المبعث يقال له عبد مناف، فتكون على هذا اثني عشر، وكلهم سوى هذا ولد في الإسلام بعد البعث. وقال ابن إسحاق: كلهم غير إبراهيم قبل الإسلام. ومات البنون قبل الإسلام وهم يرتضعون، وقد تقدم من قول غيره أن عبد الله ولد بعد النبوة ولذلك.   ابن الجوزي وكذا ابن البر في تاريخه ولما عد ابن ظفر أولاده لله من خديجة ذكر المطهر، قال وبعض الناس يسميه الطاهر، وهو سهو، فإن الطاهر هو ابن أبي هالة من خديجة، قال في الإصابة ولم يذكر مستنده فيما زعم، وما المانع أن خديجة سمت أحد أولادها منه صلى الله عليه وسلم باسم ولدها من غيره، وذلك موجود في العرب كثيرا وقد سبقه إلى ذكر المطهر غيره انتهى، "فتكون" الأولاد الكرام "على هذا أحد عشر" سبعة ذكور وأربع بنات، "وقيل ولد له صلى الله عليه وسلم ولد قبل المبعث، يقال له عبد مناف". رواه الهيثم بن عدي عن هشام عن عروة عن أبيه، قال ولدت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم عبد العزى، وعبد مناف، والقاسم، قال في الميزان، واللسان هذا من افتراء الهيثم على هشام، والهيثم، كذبه البخاري، وأبو داود وآخرون، وقد قال الطحاوي، والبيهقي وابن الجوزي وغيرهم لم ينقل أحد من الثقات ما نقله الهيثم عن هشام قال ابن الجوزي قال لنا شيخنا ابن ناصر لم يسم صلى الله عليه وسلم عبد مناف ولا عبد العزى قط. وقال الحافظ قطب الدين الحلبي في المورد العذب: لا يجوز لأحد أن يقول هذه التسمية، أي بالاسمين اللذين زعمهما الهيثم وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم ولئن قيل، أي على فرض الورود أنها وقعت فتكون من بعض أهل خديجة وغيرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد، أو لم تبلغه لكونه كان مشغولا بعبادة ربه وعدم طول حياة من سمي بذلك، أو اختلق ذلك أحد الشياطين الأنس، أو الجن ليدخل اللبس على ضعيف الإيمان انتهى. "فتكون على هذا اثني عشر" وعلى تمام ذلك الافتراء ثلاثة عشر وعلى المؤلف مؤاخذة، فإن مثل هذا، لا يذكر مع السكوت عليه، "وكلهم سوى هذا ولد في الإسلام بعد البعث" عند جماعة منهم الزبير بن بكار. "وقال ابن إسحاق" في السيرة عند ذكر تزوج المصطفى خديجة: "كلهم غير إبراهيم" ولد قبل الإسلام، ومات البنون قبل الإسلام، وهم يرتضعون" ورجح السهيلي قول الجماعة بأن الزبير أعلم بهذا الشأن، "و" يؤيده أنه "قد تقدم من قول غيره أن عبد الله ولد بعد النبوة، ولذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 سمي بالطيب الطاهر. فتحصل من جميع الأقوال ثمانية ذكور: اثنان متفق عليها: القاسم وإبراهيم، وستة مختلف فيهم، عبد مناف، وعبد الله، والطيب، والمطيب، والطاهر، والمطهر. والأصح أنهم ثلاثة ذكور وأربع بنات متفق عليهن وكلهن من خديجة بنت خويلد إلا إبراهيم. فأما القاسم فهو أول ولد ولد له عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، وبه كان يكنى. وعاش حتى مشى، وقيل: عاش سنتين، وقال مجاهد: مكث سبع ليال، وخطأه الغلابي في ذلك وقال: الصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا. وقال ابن فارس: بلغ ركوب الدابة.   سمي بالطيب، والطاهر" ويأتي أيضا أن القاسم مات بعد الإسلام في قول غير ابن إسحاق، "فتحصل من جميع الأقوال ثمانية ذكور اثنان متفق عليهما القاسم، وإبراهيم وستة مختلف فيهم عبد مناف وعبد الله، والطيب والمطيب والطاهر والمطهر" وسلك المصنف طريق الإيضاح، فإن هذا علم من كلامه، كما قال: "والأصح أنهم ثلاثة ذكور:" القاسم وعبد الله صاحب اللقبين وإبراهيم، "وأربع بنات متفق عليهن وكلهم" وفي نسخة كلهن تغليبا للإناث لفضلهن أو نظرا إلى أن أولاد جمع كثرة، فلا يضر عوده على الذكور نحو قامت الرجال، بمعنى الطائفة، "من خديجة بنت خويلد إلا إبراهيم" فمن مارية، كما يأتي قريبا، فهذا ذكرهم مجملا، فإن أردت تفصيله فصلناه لك على القول الأصح "فأما القاسم فهو أول ولد ولد له عليه الصلاة والسلام" على الأصح الذي جزم به الزبير بن بكار وصاحب الإصابة، فقال: هو بكره، وولد "قبل النبوة، وبه كان يكنى" في قول الجمهور "وعاش حتى مشى" كما رواه ابن بكار عن بعض المشيخة قائلا، غير إن رضاعته لم تكن كملت، أي لم يبلغ حولين على ذا القول: "وقيل عاش سنتين" رواه ابن سعد عن محمد بن جبير بن مطعام، وعن قتادة، "وقال مجاهد مكث سبع ليال" بأيامها فعند ابن سعد عنه عاش سبعة أيام، "وخطأه المفضل بن غسان "الغلابي" بغين معجمة، وتخفيف اللام، وموحدة شيخ ابن أبي الدنيا كما في التبصير نسبة إلى جده، "في ذلك، وقال الصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا" وفي الإصابة قال المفضل الغلابي عاش سبعة أشهر بعد البعثة انتهى، ولا منافاة لأن عشرة قبلها، "وقال ابن فارس" اللغوي "بلغ ركوب الدابة" ولعله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 ومات قبل المبعث. وفي مسند الفريابي ما يدل على أنه توفي في الإسلام. وهو أول من مات من ولده عليه الصلاة والسلام.   مراد من قال بلغ سن التمييز، "ومات قبل المبعث"، النبوي، "وفي مسند" العلامة الحافظ أبي بكر جعفر بن محمد "الفريابي" بكسر الفاء وسكون الراء بعدها تحتانية، فألف فموحدة نسبة إلى بلدة بيلخ التركي، قاضي الدينور، صاحب التصانيف، الثقة المأمون قال الخطيب: كان أوعية العلم، وأهل المعرفة، والفهم طوف شرقا وغربا ولد سنة سبع ومائتين، ومات في محرم سنة إحدى وثلاثمائة "ما يدل على أنه توفي في الإسلام" فإنه أخرج هو، والطيالسي والحربي وابن ماجه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها، لما مات القاسم، قالت خديجة: يا رسول الله درت لبينة القاسم فلو كان الله أبقاه حتى يتم رضاعه، قال: "كان تمام رضاعه في الجنة". قالت فلو أعلم ذلك يا رسول الله لهون علي أمره، فقال: "إن شئت دعوت الله، فاسمعك صوته". فقالت: بل أصدق الله ورسوله. قال الحربي: أراد أنها حزنت عليه حتى در لبناه، قال في الإصابة وهذا ظاهر جدا في أنه مات في الإسلام، ولكن في السند ضعف انتهى, وفي الروض لبينة تصغير لبنة، وهي قطعة من اللبن كالعسيلة تصغير عسلة، قال وهذا من فقهها كرهت أن ترى هذا الأمر، فلا يكون لها أجر الإيمان بالغيب، وإنما أثنى الله على الدين يؤمنون بالغيب انتهى. وأخرج يونس بن بكير في زيادة المغازي من طريق جابر الجعفي عن محمد بن علي بن الحسين، كان القاسم، قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة، فلما قبض، قال العاصي بن وائل: لقد أصبح محمد أبتر، فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، عوضا عن مصيبتك بالقاسم. قال في الإصابة: فهذا أيضا يدل على أنه مات في الإسلام، وأما قول أبي نعيم: لا أعلم أحدا من متقدمينا ذكره في الصحابة، وقد ذكر البخاري في التاريخ الأوسط من طريق سليمان بن بلال عن هشام بن عروة أن القاسم مات قبل الإسلام، فيعارضه حديث ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد. قيل: ولا القاسم قال: ولا القاسم، ولا إبراهيم فهذا وحديث الحسين الذين قبله يدل على خلاف رواية هشام بن عروة انتهى. "وهو أول من مات من ولده عليه الصلاة والسلام" فإن قلنا بعد البعثة ترجح القول بأن زينب قبله لولادتها قبل البعثة بعشر سنين، كما يأتي، وقد صححه ابن الكلبي، وقال إن غيره تخليط، قال ابن سعد وغيره: وكانت سلمى مولاة صفية بنت عبد المطلب قابلة خديجة في أولادها، وكانت تعق عن كل غلام بشاتين وعن الجارية بشاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 وأما زينب فهي أكبر بناته فلا خلاف إلا ما لا يصح، وإنما الخلاف فيها وفي القاسم أيهما ولد أولا. وعن ابن إسحاق أنها ولدت في سنة ثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام. وأدركت الإسلام وهاجرت وماتت سنة ثمان من الهجرة.   وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادتها، "وأما زينب" التي من فضائلها ما خرج الطحاوي، والحاكم بسند جيد، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم، قال في حق زينب ابنته، لما أوذيت عند خروجها من مكة هي أفضل بناتي أصيبت في، وهو على تقدير ما أفضل، "فهي أكبر بناته، بلا خلافا إلا ما لا يصح" قال في الإصابة: وأول من تزوج منهن "وإنما الخلاف فيها وفي القاسم أيهما ولد أولا" فقال الزبير بن بكار في طائفة ولد القاسم، ثم زينب، ثم عبد اله، وقال ابن الكلبي زينب، ثم القسم، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، ثم عبد الله وكان، يقال له الطيب، والطاهر. قال: وهذا هو الصحيح وغيره تخليط، "وعن ابن إسحاق أنها ولدت في سنة ثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام" قبل البعثة بعشر سنين، "وأدركت الإسلام" وأسلمت رضي الله عنها "وهاجرت" بعد بدر، كما رواه ابن إسحاق، عن عائشة، وعند ابن سعد بسند صحيح من مرسل الشعبي، أنها هاجرت مع أبيها، ويجمع بينهما بأن المعية مجازية، كما مر، "وماتت" أول "سنة ثمان من الهجرة"، كما رواه الواقدي عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وجزم به في الإصابة والعيون وغيرهما. وروى مسلم عن أم عطية، قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال: "اغسلنها وترا ثلاثا، أو خمسا واجعلن في الآخرة كافورا" الحديث، وهو في الصحيحين بدون تسمية زينب، وروى أن التي غسلتها أم أيمن وسودة بنت زمعة، وأم سلمة. قال ابن عبد البر: والتي شهدت أم عطية غسلها وتكفينها إنما هي أم كلثوم، ورده الحافظ المحفوظ أن قصة أم عطية إنما هي زينب كما في مسلم ويحتمل أن تكون شهدتهما جميعا انتهى وصلى عليها صلى الله عليه وسلم ونزل في قبرها، ومعه أبو العاصي وجعل لها نعش قيل وكانت أول من اتخذ لها ذلك، ولا يعارضه ما يأتي أن فاطمة أول من غطى نعشها كما لا يخفى ذكر ابن إسحاق وغيره: أن أبا العاصي لما من عليه صلى الله عليه وسم حين أسر ببدر ورجع إلى مكة أمرها باللحوق بأبيها، وذلك بعد بدر بشهر أو أكثر، فتجهزت فحملها في هودج على بعير ساقه بها أخوه كنانة بن الربيع، ومعه قوسه وكنانته، فخرج رجال من قريش، فادركوها بذي طوى، فسبق إليها هبار بن الأسود، وأسلم بعد ذلك فراعها بالرمح، وكانت حاملا فوقعت وأسقطت، فقام حموها كنانة ونثر كنانته، والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما فتكركر الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 عند زواجها -ابن خالتها- أبي العاصي لقيط وقيل مقسم بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس.   عنه وجاء أبو سفيان في جلة قريش كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف فقال: قد عرفت مصيبتنا ونكبتنا من محمد فيظن الناس أنك إذا خرجت ببنته علانية أنه عن ذل من مصيبتنا وضعف وما لنا بحبسها عن أبيها حاجة لكن ارجع حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث أن قد رددناها سلها سرا وألحقها بأبيها ففعل فأقامت ليالي حتى خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زبد بن حارثة وصاحبه الأنصاري، وكان بعثهما صلى الله عليه وسلم فقال كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب، فأصحباها حتى تاتياني بها، فقدما بها عليه، وللطبراني برجال الصحيح عن ابن الزبير أن رجلا أقبل بزينب فلحقه قرشيان فغلباه عليها، فدفعاها فوقعت على صخرة، فاسقطت، واهريقت دما فذهبوا بها إلى أبي سفيان فجاءته نساء بني هاشم فدفعها إليهن، ثم هاجرت فلم تزل وجعة من ذلك الوجع حتى ماتت فكانوا يرون إنها شهيدة وكأنه لما ردها حموها تلطف به أبو سفيان، فأخذها عنده ليشتهر أنه ردها، حتى جاءته نساء بني هاشم فدفعها إليهن؛ لأنه كان يحب الفخر، وقوله، فذهبوا بها إلى أبي سفيان تحديث عن منتهى ما وقع، فلا تعارض رواية ابن إسحاق "عند زوجها ابن خالتها" هالة بنت خويلد، صحابية، استأذنت عليه صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع وقال اللهم هالة، كما في البخاري عن عائشة "أبي العاصي لقيط" بفتح اللام وكسر القاف وسكون التحتية، وبالطاء اسمه في قول مصعب الزبيري، وعمرو بن علي، والغلابي، وأبي أحمد الحاكم، وآخرين، ورجحه البلاذري، "وقيل مقسم" بكسر الميم وسكون القاف، وفتح السين المهملة. حكاه السهيلي وابن الأثير وجماعة وفي نسخة مهشم وهو قول في اسمه حكاه في الإصابة وغيرها وضبطوه بكسر الميم، وسكون الهاء وفتح الشين المعجمة، وقيل بضم أوله، وفتح ثانيه، وكسر الشين الثقيلة. حكاه البغوي والزبير بن بكار وحكى أيضا عن عثمان بن الضحاك أن اسمه الزبير، وقال إنه الثبت في اسمه ويقال هشيم حكاه ابن عبد الله البر، يقال قسم حكاه السهيلي والحافظ في الفتح وغيرهما. وحكى ابن منده وتبعه أبو نعيم أن اسمه ياسر بتحتية وسين مهملة، قال في الإصابة وأظنها محرفة من قاسم انتهى، وفيه شيء وقد حكى القولين معا في الفتح "ابن الربيع" على الصواب، ورواه يحيى بن بكير ومعن بن عيسى وأبو مصعب وغيرهم عن مالك وروى الجمهور عنه أنه ابن ربيعة وادعى الأصيلي أنه ابن الربيع بن ربيعة فنسبه مالك مرة إلى جده، ورده عياض والقرطبي وغيرهما لاطباق النسابين على خلافة "ابن عبد العزي بن عبد شمس" بن عبد مناف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه، وردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه بالنكاح الأول بعد سنتين، وقيل بعد ست سنين وقيل بعد انقضاء العدة، فيما ذكره ابن عقبة. وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ردها له بنكاح جديد سنة سبع.   القرشي العبشمي، وكون الربيع بن عبد العزي هو ما أطبق عليه النسابون، ونسبه مالك إلى جده، فأسقط عبد العزى ما في الفتح، "وكانت هاجرت قبله وتركته على شركة" فاسر في سرية تقدمت، فأجارته زينب، فذهب إلى مكة ورد الأمانات إلى أهلها، ثم أسلم وهاجر، وأثنى عليه صلى الله عليه وسلم في مصاهرته، وقال: "حدثني فصدقني ووعدني فوفاني"، كما في الصحيحين. "وردها" زينب "النبي صلى الله عليه وسلم له بالنكاح الأول" كما أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن ابن عباس، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس ولكن لا يعرف وجهه "بعد سنتين" من إسلامه الواقع في السادسة، أو السابعة، "وقيل بعد ست سنين" من الهجرة، وقد علمت قول الترمذي، لا يعرف وجهه، فكذا هذان القولان المبنيان عليه وإلا، فابتداء السنتين، أو الست مشكل، كما لا يخفى، "وقيل بعد انقضاء العدة فيما ذكره" موسى "بن عقبة" وهو من المشكل أيضا الذي لا يعرف وجهه، ثم هو حاصل القولين قبله غايته أنه لم يعين قدرا، وقد ذكر المصنف هذا القول فيما مر، لكن بدون عزو بلفظ قبل، لا بعد ومر وجهه، "وفي حديث عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، الصدوق، "عن أبيه" شعيب بن محمد، صدوق، ثبت سماعه "عن جده" عبد الله بن مرو بن العاص، المروي عن الترمذي، وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم "ردها له بنكاح جديد". قال الترمذي سمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن عمرو، وذكر هذين الحديثين. يقول حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب، قال السهيلي، وإن كان أصح إسنادا لم يقل به أحد من الفقهاء؛ لأن الإسلام فرق بينهما. قال تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، قال: ومن جمع بينهما؟ قال: معنى حديث ابن عباس على مثل النكاح الأول في الصداق، والحباء لم يزد عليه شرطا، ولا غيره "سنة سبع" يفيد انقضاء العدة؛ لأن نزول آية التحريم بعد الحديبية الواقعة في سنة ست وبهذا وبما ذكرته عن ابن إسحاق في قصة هجرتها علمت أن زعم أنها لم تبن بانقضاء العدة لتأخر نزول التحريم، بل عزلت عنه إلى الهجرة، واستمرت كذلك حتى نزلت آية التحريم، فتوقف انفساخ النكاح على انقضاء العدة، فلم يلبث حتى جاء، وأسلم فردها بالنكاح الأول؛ إذ ليس بينهما إلا اليسير كله، تقول: جاءت الروايات بخلافه وليته إذ أبداه جوابا جعله احتمالا، بل جزم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وولدت له عليًّا، مات صغيرا وقد ناهز الحلم، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح، وولدت له أيضا أمامه التي حملها صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح على عاتقه، وكان إذا ركع وضعها وإذا رفع رأسه من السجود أعادها، وتزوجها علي بن   ونحن في غنية عنه، فقد كفانا الأئمة مئونة ذلك، فقد علمت قول الترمذي وجهه، لا يعرف، ونقله أن العمل على حديث عمرو بن شعيب، ونقل السهيلي التوفيق بما هو محتمل، "وولدت له عليًّا" الصحابي ابن الصحابي، أحد الأسباط النبوية استرضع في بني غاضرة، فافتصله صلى الله عليه وسلم منهم، وأبو العاصي مشرك بمكة، وقال: "لئن شاركني في شيء، فأنا أحق به منه". ذكره في الإصابة. "مات صغيرا، وقد ناهز الحلم" بعد أمه في حياة أبيه، فيما رواه الزبير عن عمر بن أبي بكر الموصلي، وقال ابن عساكر ذكر بعض أهل العلم بالنسب أنه قتل يوم اليرموك، "وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته يوم الفتح" لمكة الشريفة، "وولدت له أيضا أمامه، بضم الهمزة، وتخفيف الميمين "التي حملها صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح على عاتقه"، كما في رواية الزبير بن بكار، وعند أبي داود عن أبي قتادة بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر، أو العصر إذ خرج إلينا وأمامه على رقبته، فقام في الصلاة، وقمنا خلفه، والحديث في الموطأ، ومن طريقه أخرجه الشيخان عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهو حامل أمامه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. "وكان إذا ركع وضعها" كما عند مسلم، والنسائي من غير طريق مالك، "وإذا رفع رأسه من السجود أعادها" كما لأبي داود من طريق آخر، فهذا صريح في أن فعل الحمل، والوضع كان منه صلى الله عليه وسلم، لا منها بخلاف ما أوله الخطابي في حديث مالك، حيث، قال يشبه أن الصبية كانت ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده، فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع، فيرسلها، وبسط هذا يأتي إن شاء الله تعالى في مقصد عباداته، فإن المقصود منه هنا أنه كان يلاطفها ويحبها، وقد روى أحمد عن عائشة أن النجاشي اهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حلة فيها خاتم من ذهب فصه حبشي، فأعطاه أمامة. وأخرج ابن سعد، وأحمد، وأبو يعلى بسند حسن عن عائشة أهديت له هدية فيها قلادة، جزع معلمات بالذهب ونساؤه كلهن مجتمعات في بيت، وأمامة تلعب في جانب البيت بالتراب، فقال: "كيف ترين هذه"؟ فنظرنا إليها فقلنا: ما رأينا أحسن منها، ولا أعجب، فقال: "لأدفعنها إلى أحب أهلي إليَّ" فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة، فدعا صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعقدها بيده في عنقها وكان على عينها عمص، فمسحه بيده، وفي رواية، فأقبل بها حتى وضعها في رقبة أمامة، فسري عنا، ولا تعارض، فقد يكون أقبل بها، ثم دعاها "وتزوجها علي بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 أبي طالب بعد فاطمة. وأما رقية فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام. وذكر الزبير بن بكار وغيره أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم وصححه الجرجاني النسابة. والأصح الذي عليه الأكثرون كما تقدم، أن زينب أكبرهن. وكانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب، وأختها أم كلثوم تحت أخيه عتيبة، فلما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] .   أبي طالب" أمير المؤمنين "بعد فاطمة" خالتها بوصية من فاطمة بذلك، زوجها منه الزبير بن العوام، وكان أبوها قد أوصى بها إلى الزبير، فلما تأيمت من علي، قالت أم الهيثم النخعية: أشاب ذوائبي وأذل ركني ... أمامة حين فارقت القرينا تطيف به لحاجتها إليه ... فلما استيأست رفعت رنينا وكان علي، قد أمر المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أن يتزوجها، فتزوجها بعده فولدت له يحيى وبه كان يكنى، وماتت عند المغيرة، وقيل لم تلد لعلي، ولا للمغيرة. قال الزبير: ليس لزينب عقب ذكره ابن عبد البر، وقيل الذي تزوجها بعد علي أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حكاه الدارقطني، "وأما رقية، فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولده عليه الصلاة والسلام" فيما قيل. "وذكر الزبير بن بكا وغيره أنها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم" الذي نسبه اليعمري عن ابن عبد البر للزبير بن بكار أن زينب أكبرهن ورقية أصغرهن، "وصححه" علي بن عبد العزيز "الجرجاني النسابة" الذي في العيون والإصابة عن أبي عمر، صحح الجرجاني أن رقية أصغرهن، "والأصح الذي عليه الأكثرون، كما تقدم أن زينب أكبرهن" بل قال أبو عمر: لا أعلم فيه خلافا، واختلف في رقية، وفاطمة، وأم كلثوم، والأكثر أنهن على هذا الترتيب، وصحح الجرجاني أن رقية أصغرهن، وقيل فاطمة. هذا ما في الإصابة وإن تكرر ونحوه في العيون، "وكانت رقية تحت عتبة" بالتكبير أسلم في الفتح هو، وأخوه معتب "بن أبي لهب" لأن النبي صلى الله عليه وسلم استوهبهما من ربه، فوهبهما له، كما مر في غزوتها، "وأختها أم كلثوم تحت أخيه عتيبة" بالتصغير الميت كافرا، كما يأتي. قال ابن سعد: وكان تزوجها قبل النبوة، وتبعه ابن عبد البر، ونظر فيه الحافظ، بأن عبد البر نفسه، نقل الاتفاق على أن زينب أكبرهن، وقد ولدت قبل البعثة بعشر سنين، فإذا كانت أكبرهن بهذا السن، فكيف يتزوج من هي أصغر منها؟ نعم إن ثبت يكون عقد نكاح فقط حتى يحصل التأهل فوقع الفراق قبل ذلك انتهى "فلما نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} بعدما أنذر صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 قال لهما أبوهما -أبو لهب- رأسي من رءوسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما. فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة، وهاجر بها الهجرتين إلى أرض الحبشة، وكانت ذات جمال رائع   عشيرته لما نزل عليه، وأنذر عشيرتك الأقربين، فقال أبو لهب تبا لك ألهذا جمعتنا؟، "قال لهما أبوهما أبو لهب: رأسي" أي قربه "من رءوسكما حرام" ممنوع لأن شأن المتحابين وضع رءوسهما على وسادة واحدة، وعبر بالجمع في موضع التثنية لقلة استعمالها في مثله لكراهتهم اجتماع تثنيتين، وفي نسخة من رأسكما بالإفراد، وهو جائز أيضا كقطعت رأس الكبشين، قال ابن مالك: والجمع أجود نحو، فقد صغت قلوبكما، وقد اجتمعت التثنية، والإفراد في قوله ظهراهما مثل ظهر الترسين، وفي نسخة بالتثنية على القليل، "إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقاهما ولم يكونا دخلا بهما" تبعا لأمره المشئوم، "فتزوج عثمان بن عفان" أمير المؤمنين "رقية بمكة" وكانت بارعة الجمال، وكذا كان عثمان جميلا، فكان يقال أحسن زوجين، رآهما إنسان رقية وزوجها عثمان، وفيه تقول خالته سعدى بنت كرز الصحابية العبشمية: هدى الله عثمان الصفي بقوله ... فارشده والله يهدي إلى الحق فبايع بالرأي السديد محمدا ... وكان ابن أروى لا يصد عن الحق وأنكحه المبعوث إحدى بناته ... فكان كبدر مازج الشمس في الأفق فداؤك يابن الهاشميين مهجتي ... فأنت أمين الله أرسلت في الخلق ذكره أبو سعد في الشرف، "وهاجر بها الهجرتين إلى أرض الحبشة،" واحتبس خبرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتته امرأة، فأخبرته أنها رأتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط". رواه ابن المبارك وغيره، قال ابن هشام: فولدت له هناك عبد الله، فكان يكنى به وعاش، كما في الفتح ست سنين ومات كما قال ابن سعد سنة أربع من الهجرة نقره ديك، فتوفي بعد أمه قال: ولم تلد له غيره إلا أنها أسقطت قبله سقطا، وقال قتادة: لم تلد له، قال ابن عبد البر: وهو غلط لم يقله غيره. وذكر البلاذري أنه، لما توفي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجر، وقال: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، "وكانت ذات جمال رائع" ذكر ابن قدامة أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون إليها، ويعجبون من جمالها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 عن الدولابي أن تزويجه بها كان في الجاهلية، وذكر غيره ما يدل على أنه كان بعد إسلامه. وتوفيت والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر. وعن ابن عباس: لما عزي صلى الله عليه وسلم برقية قال: "الحمد لله، دفن البنات من المكرمات" أخرجه الدولابي.   "عن الدولابي" بفتح الدال، وضمها الحافظ أبي بشر "أن تزويجه بها كان في الجاهلية" أي قبل البعثة، "و" لكن "ذكر غيره ما يدل على أنه كان بعد إسلامه" فأخرج أبو سعد في الشرف عن عثمان كنت بفناء الكعبة، فقيل أنكح محمد عتبة رقية ابنته، فدخلتني حسرة أن لا أكون سبقت إليها، فانصرفت إلى منزلي، فوجدت خالتي، فأخبرتني بأن الله أرسل محمدا، وذكر حثها له على اتباعه، قال: وكان لي مجلس من الصديق، فأصبته فيه وحده فسألني عن تفكري، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فذكر حثه له على الإسلام، قال فما كان بأسرع من أن مر صلى الله عليه وسلم ومعه علي يحمل له ثوبا، فقال أبو بكر فساره فقعد صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل علي، فقال: "أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى جميع خلقه"، فوالله ما تمالكت حين سمعته أن أسلمت، ثم لم ألبث أن تزوجت رقية، "وتوفيت، والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر" حين وصل زيد بن حارثة بالبشارة يقتل المشركين، وهي ابنة عشرين سنة، كما في الفتح، وروى ابن المبارك عن يونس عن الزهري تخلف عثمان عن بدر على امرأته رقية، وكانت قد أصابها الحصبة فماتت. وجاء زيد بشيرا وعثمان على قبرها، وفي المستدرك وغيره أنه صلى الله عليه وسلم خلف عثمان، وأسامة على رقية في مرضها، لما خرج إلى بدر، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس، لما ماتت رقية، قال صلى الله عليه وسلم: "الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون"، وبكت النساء، فجاء عثمان يضربهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "مهما يكن من العين، والقلب، فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد، واللسان، فمن الشيطان "، فقعدت فاطمة على شفير القبر تبكي، فجعل يمسح عينيها بطرف ثوبه الواقدي، هذا وهم ولعلها غيرها من بناته لأن المثبت أن رقية ماتت، وهو ببدر، أو يحمل على أنه أتى قبرها بعد أن جاء من بدر. "وعن ابن عباس، لما عزي صلى الله عليه وسلم برقية، قال: "الحمد لله دفن" ورواية البزار موت "البنات من المكرمات" آبائهن؛ لأنهن عورة ولضعفهن بالأنوثة، وعدم استقلالهن وكثرة مئونتهن، وأثقالهن. قال بعض العلماء: هذا ورد مورد التسلية عن المصيبة وحاشاه أن يقوله كراهة للبنات، كما يظنه الجهلة. "خرجه الدولابي" الحافظ محمد بن أحمد بن حماد، وقد أبعد المصنف النجعة، فقد رواه الطبراني في الكبير، والأوسط والبزار، وابن عدي، والقضاعي كلهن بسند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 وأما أم كلثوم ولا يعرف لها اسم، إنما تعرف بكنيتها، وكانت عند عتيبة بن أبي لهب -كما قدمته- ففارقها قبل الدخول. ويروى أن عتيبة لما فارق أم كلثوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كفرت بدينك، وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك، ثم سطا عليه وشق قميصه وهو خارج نحو الشام تاجرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلبه" وفي رواية: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" وأبو طالب حاضر فوجم لها وقال: ما كان أغناك عن دعوة ابن أخي، فخرج في تجر من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمي،   ضعيف، "وأما أم كلثوم، ولا يعرف لها اسم" لعدم وجوده كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر فليس المراد أن لها اسما أبهم، فلم يعرف، ففي النور، لا أعلم أحد أسماها، والظاهر أن اسمها كنيتها، ولذا قال: "إنما تعرف بكنيتها، وكانت عند عتيبة" المصغر "ابن أبي لهب" بمعنى أنه عقد عليها لقوله: "كما قدمته، ففارقها قبل الدخول" لأمر أبيه المشئوم، وقول أمهما حمالة الحطب أن رقية، وأم كلثوم صبتا، فطقاهما، "ويروى" عند ابن أبي خيثمة عن قتادة مرسلا "أن عتيبة" بالتصغير على الصواب، وبعضهم بجعله بالتكبير، وأن المصغر صحب، قال ابن سيد الناس وغيره والمشهورالأول، "لما فارق أم كلثوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: كفرت بدينك" أي دام على الكفر به لأنه لم يكن آمن، "وفارقت ابنتك، لا تحبني" لذلك، "ولا أحبك" كفرا وعنادا، "ثم سطا عليه وشق قميصه" أي قميص النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو المروي عن قتادة، "وهو خارج نحو الشام تاجرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إني أسأل الله أن يسلط عليك كلبه" يقتلك". "وفي رواية" عند الحاكم، وقال: صحيح الإسناد من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم على عتيبة بن أبي لهب، فقال: "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" وأضاف فيهما الكلاب إلى الله لأن المقصود منها تحقير المضاف، وتعظيم الرب بأنه لكمال قدرته ينتقم من أعظم الجبابرة بأحقر خلقه، وليس هذا من وصفه بكونه خالقها الممتنع، وإن طابق الواقع؛ لأنه سوء أدب مع إمكان الوصف بغيره من الأوصاف الجليلة، "وأبو طالب حاضر، فوجم" بجيم مفتوحة اشتد حزنه "لها" للدعوة، "وقال: ما كان أغناك" يا عتيبة "عن دعوة ابن أخي" لأنها مستجابة "فخرج في تجر" بفتح فسكون من جموع تاجر "من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء" بفتح الزاي، وسكون الراء، فقاف، فألف تأنيث "ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة فجعل عتيبة يقول يا ويل أمي" من فقدي، وعبر بويل دون ويح؛ لأنها لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 هو والله آكلي، كما دعا علي محمد، أقاتلي، ابن أبي كبشة وهو بمكة وأنا بالشام، فعدا عليه الأسد من بين القوم فأخذ برأسه ففدغه، وفي رواية فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه، فقال: قتلني ومات. وفي رواية: أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه، رواه الدولابي. ولما توفيت رقية خطب عثمان ابنة عمر حفصة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عمر، أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك"؟ قال: نعم يا نبي الله، قال: "تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي".   حملته على ذلك، وأمرته به استحقت الوقوع في مهلكة فقده "هو والله آكلي، كما دعا علي محمد" وغلبت عليه الشقوة فلم يؤمن "أقاتلني ابن أبي كبشة، وهو بمكة، وأنا بالشام" استفهام تعجبي لا إنكاري لمنافاته اعتقاده أنه قاتله، ولا بد "فعدا عليه الأسد من بين القوم، فأخذ برأسه ففدغه" بفتح المهملة والغين المعجمة شدخه، أي كسره. "وفي رواية فجاء الأسد، فجعل" الأسد "يتشمم وجوههم، ثم ثنى ذنبه" رد بعضه على بعض، "فوثب فضربه ضربة واحدة فخدشه فقال قتلني ومات" على كفره. "وفي رواية أن الأسد أقبل يتخطاهم حتى أخذ برأس عتيبة ففدغه". "رواه الدولابي" الحافظ أبو بشر وسمي الأسد كلبا لأنه يشبهه في رفع رجله عند البول، قاله الدميري، وروى أبو نعيم عن الأسد بن هبار، قال: تجهز أبو لهب، وابنة عتيبة نحو الشام، فخرجت معهما، فنزلت قريبا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما أنزلكم ههنا هنا سباع، فقال أبو لهب: أنتم عرفتم سني وحقي قلنا: أجل، قال: إن محمدا دعا على ابني، فاجمعوا متاعكم على هذه الصومعة، ثم أفرشوا له عليها وناموا حوله، ففعلنا وبات عتيبة فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا، ثم وثب فإذا هو فوق المتاع، فقطع رأسه فمات لساعته فطلبنا الأسد، فلم نجده "ولما توفيت رقية خطب عثمان ابنة عمر حفصة، فرده" أدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون بنته بدل بنته لما جرت به العادة من كراهة أهل الميتة لمن يأتي بعدها، لكن هذا معارض بما في البخاري، قال عمر: لقيت عثمان، فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر، فلبث ليالي، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا الحديث، "فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا عمر أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك"، قال: نعم يا نبي الله قال: "تزوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي" وبه استدل على فضل بناته على زوجاته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 أخرجه الخجندي: وكان تزوج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة، زوجتك أخرى بعد أخرى" هذا جبريل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجكها. ورواه الفضائلي. وماتت أم كلثوم سنة تسع من الهجرة، وصلى عليها عليه الصلاة والسلام ونزل في حفرتها علي والفضل وأسامة بن زيد. وفي البخاري، جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وعيناه تذوقان فقال: "هل فيكم من أحد لم يفارق الليلة".   "أخرجه الخجندي" بضم الخاء المعجمة، وفتح الجيم، وسكون النون، ومهملة نسبة إلى خجندة مدينة بطرف سيحون، كما في اللب، وأخرجه ابن منده بنحوه ولكن ليس فيه مخالفة، لما في الصحيح، ولفظه في بعض طرقه عرضها عمر على أبي بكر، فسكت فعرضها على عثمان حين ماتت رقية، فقال: ما أريد أن أتزوج اليوم، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "فتزوج حفصة من هو خير من عثمان ويتزوج عثمان ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة"، "وكان تزوج عثمان بأم كلثوم سنة ثلاث من الهجرة" في ربيع الأول ولم تلد له. قاله ابن سعد "وروى أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت يمتن واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى"، وفيه منقبة جليلة لعثمان، وأكدها بقوله "هذا جبريل أخبرني أن الله يأمرني أن أزوجكها، يعني أم كلثوم "رواه الفضائلي" وعن أم عياش مولاة رقية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما زوجت عثمان أم كلثوم إلا بوحي من السماء". وعن أبي هريرة رفعه أتاني جبريل، فقال: "إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها" رواهما ابن منده، وقال: إنهما قريبان، "وماتت أم كلثوم"، عند عثمان "سنة تسع من الهجرة"، في شعبان، كما قال ابن سعد، "وصلى عليها عليه الصلاة والسلام". روى الواقدي بسند له "ونزل في حفرتها علي، والفضل" بن عباس، "وأسامة بن زيد" رضي الله عنهم "وفي البخاري" عن أنس شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، "جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر، وعيناه تذرفان" بذال معجمة، وراء مكسورة وفاء، أي يجري دمعهما، والذي في البخاري في موضعين من الجنائز فرأيت عينيه تدمعان بفتح الميم "فقال: "هل فيكم من أحد لم يفارق الليلة"؟ بقاف وفاء، أي يجامع وفي البخاري عن فليح بن سليمان أحد رواته أراه يعني الذنب، وبالأول جزم ابن حزم، وقال: معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 فقال أبو طلحة: أنا، فقال: "انزل قبرها" فنزل. وقد روي نحو ذلك في رقية، وهو وهم، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن حال دفنها حاضرا، بل كان في غزوة بدر كما قدمته. وغسلتها أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب،   بأنه لم يذنب تلك الليلة وقال السهيلي: هو خطأ من فليح لأنه صلى الله عليه وسلم كان أولى بهذا. قال الحافظ: ويقويه أن البخاري في التاريخ، والحاكم روياه بلفظ، "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة" فتنحى عثمان وزعم الطحاوي أن يقارف تصحيف، والصواب لم يقاول، أي ينازع غيره في الكلام لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء، وتعقب بأنه تغليط للثقة، بلا مستند، وكأنه استبعد أن يقع من عثمان ذلك لحرصه على مراعاة الخاطر الشريف، ويجاب باحتمال أن مرض المرأة طال، واحتاج إلى الوقاع ولم يظن موتها تلك الليلة، وليس في الحديث ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، ولا حين احتضارها انتهى، "فقال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "أنا" لم أقارف الليل "فقال" صلى الله عليه وسلم "انزل قبرها" فنزل" زاد في رواية، فقبرها، ففيه إيثار البعيد العهد عن الملاد بمواراة الميت ولو امرأة على الزوج، وعلل بأنه حينئذ يأمن أن يذكره الشيطان ما كان منه تلك الليلة. وحكى ابن حبيب أن عثمان جامع بعض جواريه ليلتئذ فتلطف صلى الله عليه وسلم في منعه من قبرها بغير تصريح. وفي تاريخ البخاري، فلم يدخل عثمان القبر، "وقد روى نحو ذلك في رقية" عند البخاري في التاريخ الأوسط، والحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس، أنه صلى الله عليه وسلم شهد دفن بنته رقية، فذكر الحديث. قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية ماتت والنبي ببدر لم يشهدها، "وهو وهم". قال الحافظ: من حماد في تسميتها فقط، "فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن حال دفنها حاضرا، بل كان في غزوة بدر كما قدمته" قريبا مجملا وقبله مفصلا في بدر، وقد روى الطبري، والطحاوي، والواقدي، وابن سعد، والدولابي من حديث فليح عن هلال بن علي التصريح بأنها أم كلثوم، أي فوقع في روايتهم النبيين، وأن قول حماد رقية وهم، "وغسلتها" أي أم كلثوم "أسماء بنت عميس" بضم المهملة مصغر وآخره سين مهملة الخثعمية زوج جعفر بن أبي طالب، ثم أبي بكر، ثم علي وولدت لهم "وصفية بنت عبد المطلب" كما رواه ابن سعد عن أسماء المذكورة وعنده من وجه آخر غسلها نسوة منهن أم عطية ولأبي داود عن ليلى بنت قانف بقاف ونون وفاء، قالت كنت فيمن غسلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وشهدت أم عطية غسلها، وروت قوله عليه الصلاة والسلام: "اغسلنها، ثلاثا أو خمسا أو سبعا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك،   وللطبراني عن أم سليم شيئا يوميء إلى أنها حضرت ذلك أيضا، "وشهدت أم عطية غسلها وروت" فيه "قوله عليه الصلاة والسلام" كما جزم به ابن عبد البر، والداودي، وأخرجه ابن ماجه عن أم عطية بسند صحيح، وابن بشكوال من طريق آخر عنها، فعزوه النووي تبعا لعياض لبعض أهل السير قصور شديد، لكن المشهور أنها زينب، كما في مسلم، فيمكن ترجيح الأول بتعدد طرقه، ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما معا، فقد جزم ابن عبد البر في ترجمتها بأنها كانت غاسلة الميتات، قاله الحافظ، والحديث في الموطأ، والصحيحين بإبهام الميتة عن أم عطية، قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: "اغسلنها" زاد البخاري في رواية "وترا" "ثلاثا، أو خمسا، أو سبعا" أو للترتيب، لا للتخيير، قال النووي: المراد اغسلنها وترا، وليكن ثلاثا، فإن احتجتن إلى زيادة فخمسا، وحاصله أن الإيتار مطلوب، والثلاث مستحبة، وإن حصل الإنقاء بها لم يشرع ما فوقها وإلا زيد وترا حتى يحصل الإنقاء، وقال ابن العربي في قوله، أو خمسا، أن المشروع الإيتار؛ لأنه نقلهن من الثلاث إلى الخمس، وسكت عن الأربع، "أو أكثر من ذلك" بكسر الكاف؛ لأنه خطاب للمؤنث، ولم أر في شيء من الروايات بعد وسبعا التعبير، بأو أكثر من ذلك إلا في رواية لأبي ذر، وأما سواها، فأما، أو سبعا، وأما أو أكثر من ذلك، فيحتمل تفسيره بالسبع وبه، قال أحمد، وكره الزيادة على سبع، وقال ابن عبد البر، لا أعلم أحدا، قال: بمجاوزة السبع، وساق عن قتادة أن ابن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية ثلاثا، ولا خمسا إلا، فأكثر. قال: فرأينا أن أكثر من ذلك سبع، "إن رأيتن ذلك" بكسر الكاف تفويض إلى اجتهادهن بحسب الحاجة، لا التشهي، وقال ابن المنذر إنما فوض إليهن بشرط الإيتار، واستدل بالأمر على وجوب الغسل، وهو ينبني على رجوع قوله أن رأيتن إلى الغسل، أو العدد، والثاني أرجح فيثبت المدعي، قاله ابن بزيزة، قال ابن دقيق العيد، لكن قوله ثلاثا ليس للوجوب على المشهور من مذاهب العلماء، فيتوقف الاستدلال به على تجويزه إرادة المعنيين المختلفين بلفظ واحد؛ لأن قوله ثلاثا غير مستقل بنفسه فلا بد أن تكون داخله تحت صيغة الأمر، فيراد به الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والسنية بالنسبة إلى الإيتار انتهى. وقواعد الشافعية، لا تأبى، وذهب الكوفيون، وأهل الظاهر، والمزني إلى إيجاب الثلاث انتهى ملخصا من فتح الباري، والخطاب في المحلين لأم عطية ومن معها من النسوة التي علمت أسماءهن، وخصت مع الجمع قبل وبعد، فلم يقل ذلك لأنها رئيستهن وفضلها في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا، فإذا فرغتن فآذنني"، فلما فرغنا آذناه فألقى علينا حقوه وقال: "أشعرنها إياه"، قالت ومشطناها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها. و"الحقو": الإزار، و "أشعرنها" أي اجعلنه شعارها الذي يلي جسدها، وذلك هو الشعار وما   الصحابيات "بماء وسدر" متعلق بقوله: "اغسلنها" لأن السدر أمسك للبدن، "واجعلن في الآخرة كافورا"، أي شيئا منه لأنه يطيب ريح الموضع لأجل من يحضره من الملائكة وغيرهم، ولأنه فيه تجفيفا وتبريدا وقوة نفوذ وخاصية في تصليب بدن الميت، وطرد الهوام عنه، وردع ما يتجلل من الفضلات، ومنع إسراع الفساد إليه. وهذا هو سر جعله في الأخيرة إذ لو كان فيما قبلها لأذهبه الغسل، وظاهره جعله في الماء، قال الجمهور. وقال النخعي، والكوفيون: إنما يجعل في الحنوط بعد الغسل والتجفيف، "فإذا فرغتن فآذنني" بمد الهمزة، وكسر المعجمة، وشد النون الأولى مفتوحة، وكسر الثانية، أي أعلمنني، "فلما فرغنا" كذا للأكثر بصيغة الخطاب للحاضر وللأصيلي، فلما فرغن بصيغة الغائب "آذناه" أعلمناه "فألقي علينا" وفي رواية، فأعطانا "حقوه". قال الحافظ: بفتح المهملة، ويجوز كسرها، وهي لغة هذيل بعدها قاف ساكنة، "وقال: "أشعرنها" بقطع الهمزة "إياه" قيل حكمة تأخيره معه إلى أن يفرغن من الغسل، ولم يناولهن إياه أولا ليكون قريب العهد من جسده الكريم، حتى لا يكون بين انتقاله من جسده إلى جسدها فاصل، وهو أصل في التبرك بآثار الصالحين انتهى. "قالت" أم عطية في رواية حفصة عنها في البخاري "ومشطناها" بالتخفيف أي سرحنا شعرنا "ثلاثة قرون" أي ضفائر بعد أن حللناه بالمشط، فضفرنا ناصيتها وقرنيها، أي جانبي رأسها لينضم ويجتمع، ولا ينتشر، "وألقيناها" أي الضفائر "خلفها" امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم "واجعلن لها ثلاثة قرون". أخرجه ابن حبان عن أم عطية، ورواه سعيد بن منصور بلفظ، "واجعلن شعرها ضفائر"، فلم تفعله أم عطية من تلقاء نفسها. "والحقو الإزار" كما وقع مفسرا في بعض روايات البخاري مجازا، وهو في الأصل معقد الإزار، وفي رواية، فنزع من حقوه إزاره، وهو في هذا حقيقة، قاله الحافظ. فإطلاق القاموس. ومتبوعه على الحقو الإزار على عادتهم من إدخال المجازات في الحقائق اللغوية، "و" "أشعرنها"، أي" الففنها فيه، و"اجعلنه شعارها الذي يلي جسدها" تبركا بأثره الشريف، كما فسره به أيوب السختياني عند البخاري، وهو ظاهر اللفظ، "وذلك هو الشعار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 فوقه الدثار: وأما فاطمة الزهراء البتول فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله أبو عمر، وهو مغاير لما رواه ابن إسحاق: أن أولاده عليه الصلاة والسلام كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم، وقال ابن الجوزي، ولدت قبل النبوة بخمس سنين، أيام بناء البيت.   وما فوقه الدثار" وهو التلقف بشيء فوق ما يلي الجسد، "وأما فاطمة الزهراء البتول" خير نساء هذه الأمة ذات المناقب الجمة، وحسبك قول عائشة: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها. أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن أبي عاصم عن علي أنه صلى الله عليه وسلم، قال لفاطمة: "إن الله يغضب لغضبك ويرضي لرضاك"، قال في الإصابة: كانت تكنى أم أبيها بكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة ونقل ابن فتحون عن بعضهم سكون الموحدة بعدها نون، وهو تصحيف. روت عن أبيها صلى الله عليه وسلم وروى عنها ابناها وأبوهما وعائشة، وأم سلمة وسلمى أم رافع، وأنس، وأرسلت عنها فاطمة بنت الحسين وغيرها، "فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم قاله أبو عمر" بن عبد البر نقلا عن عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي، ولم يبين في أولها، أو آخرها، "وهو" يفيد أن ولادتها بعد النبوة؛ لأنها على رأس الأربعين، فهو "مغاير، لما رواه ابن إسحاق أن أولاده عليه الصلاة والسلام كلهم ولدوا قبل النبوة إلا إبراهيم" ودفعها شيخنا باحتمال أنها ولدت في أول جزء من سنة إحدى وأربعين، والنبوة على رأس الأربعين، عرفا الصادق بتأخرها عنه قليلا، فلا تنافي بين كون الولادة قبلها، وكونها سنة إحدى وأربعين، لكنه نظر إلى مجرد هذا اللفظ، وكلام ابن إسحاق يأباه، فإنه ذكر أن خديجة ولدت له ولده كلهم إلا إبراهيم، وعدهم، ثم قال: فأما الذكور، فماتوا في الجاهلية، وأما بناته، فكلهن أدركن الإسلام، فأسلمن وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم انتهى. "وقال ابن الجوزي ولدت قبل النبوة بخمس سنين أيام بناء البيت" الكعبة، وهذا رواه الواقدي عن أبي جعفر الباقر، قال: قال العباس، فذكره وبه جزم المدائني، ويؤيده ما ذكره أبو عمر، قال: ذكر الزبير بن بكار أن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله: يا أبا محمد كم بلغت فاطمة من السن قال: ثلاثين سنة، فقال الكلبي خمسا وثلاثين، فقال هشام: اسمع ما يقول، وقد عني بهذا الشأن، فقال يا أمير المؤمنين سلني عن أمي وسل الكلبي عن أمه، قال: في الإصابة، وقيل: ولدت قبل البعثة بقليل نحو سنة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وروي: إنما سميت فاطمة؛ لأن الله قد فطمها وذريتها عن النار يوم القيامة، أخرجه الحافظ الدمشقي، وروى الغساني والخطيب مرفوعا: لأن الله فطمها ومحبيها عن النار.   أو أكثر وهي أسن من عائشة بنحو خمس سنين. "وروي" عن ابن مسعود رفعه "إنما سميت فاطمة" بإلهاء من الله لرسوله إن كانت ولادتها قبل النبوة وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي؛ "لأن الله قد فطمها" من الفطم، وهو المنع، ومنه فطم الصبي "وذريتها عن النار يوم القيامة"، أي منعهم منها، فأما هي، وابناها، فالمنع مطلق، وأما من عداهم، فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير، ففيه بشرى لآله صلى الله عليه وسلم بالموت على الإسلام، وإنه لا يختم لأحد منهم بالكفر نظيره ما، قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنه يشفع لكل من مات مسلما، أو إن الله يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراما لفاطمة، وأبيها صلى الله عليه وسلم، أو يوفقهم للتوبة النصوح، ولو عند الموت ويقبلها منهم "أخرجه الحافظ الدمشقي" هو ابن عساكر، "وروى الغساني، والخطيب" وقال: فيه مجاهيل "مرفوعا" إنما سميت فاطمة، "لأنه الله فطمها ومحبيها عن النار" ففيه بشرى عميمة لكل مسلم أحبها، وفيه التأويلات المذكورة، وأما رواه أبو نعيم، والخطيب، أن عليا الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سئل عن حديث أن فاطمة أحصنت فرجها، فحرمها الله وذريتها على النار، فقال: خاص بالحسن والحسين، وما نقله الإخباريون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج على المأمون، وقوله ما أنت قائل لرسول الله أغرك قوله أن فاطمة أحصنت الحديث، أن هذا لمن خرج من بطنها، لا لي، ولا لك، والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة الله، فإن أردت أن تنال بمعصيته ما نالوه بطاعته إنك إذا لأكرم على الله منهم، فهذا من باب التواضع، والحث على الطاعات وعدم الاغترار بالمناقب، وإن كثرت، كما كان الصحابة المقطوع لهم بالجنة على غاية من الخوف، والمراقبة وإلا فلفظ ذرية، لا يخص بمن خرج من بطنها في لسان العرب {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] وبينهم وبينه قرون كثيرة فلا يرد بذلك مثل على الرضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب، على أن التقييد بالطائع يبطل خصوصية ذريتها ومحبيها إلا أن يقال صلى الله عليه وسلم تعذيب الطائع، فالخصوصية أن لا يعذبه إكراما لها، والله أعلم، والحديث الذي سئل عنه أخرجه أبو يعلي، والطبراني، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود وله شواهد، وترتيب التحريم على الإحصان، من باب إظهار مزية شأنها في ذلك الوصف مع الإلماح ببنت عمران ولمدح وصف الإحصان وإلا، فهي محرمة على النار بنص روايات آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 وسميت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى، قاله ابن الأثير. وتزوجت بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما في السنة الثانية، وقيل بعد أحد، وقيل بعد بنائه عليه الصلاة والسلام بعائشة بأربعة أشهر ونصف، وبنى بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف، وقيل في صفر في السنة الثانية، وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا. وكان تزويجها بأمر الله ووحيه. وتزوجت ولها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف ولعلي إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر، وقيل غير ذلك. وتقدم مزيد لذلك في المغازي   "وسميت بتولا، لانقطاعها" انفرادها "عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا"، فبعد موت إخوتها لم تشاركها امرأة في الحسب، "وقيل لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى، قاله ابن الأثير، وتزوجت بعلي بن أبي طالب،" أي عقد له عليها "رضي الله عنهما في السنة الثانية" من الهجرة، وهل في أوائل المحرم، أو في صفر، أو رجب، أو رمضان أقوال: "وقيل" سنة ثلاث "بعد أحد" قاله ابن عبد البر، ورده في الإصابة بأن حمزة استشهد بأحد، وقد ثبت في الصحيحين قصة الشارفين، لما ذبحهما حمزة، وكان علي أراد البناء بفاطمة، "وقيل بعد بنائه عليه الصلاة والسلام بعائشة" الواقع في شوال سنة اثنتين، أو بعد سبعة أشهر من الهجرة، كما يأتي "بأربعة أشهر ونصف" فيكون العقد في نصف صفر، "وبنى" دخل علي "بها بعد تزويجها بسبعة أشهر ونصف" فيكون في شوال سنة ثلاث، "وقيل في صفر في السنة الثانية، وبنى بها في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهرا"، من الهجرة وهي أقوال متباينة، لا يتأتى الجمع بينها. وعند ابن سعد تزوج بها في رجب سنة مقدمهم المدينة، وبنى بها بعد رجوعهم من بدر، "وكان تزويجها بأمر الله" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي"، رواه الطبراني برجال ثقات "ووحيه" عطف سبب على مسبب إذ الأمر مسبب عن الوحي، "وتزوجت ولها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ونصف" بناء على نقل أبي عمر، أنها ولدت سنة إحدى من النبوة، أما على أنها قبل النبوة بخمس سنين، فيكون لها تسع عشرة سنة وشهر ونصف، "ولعلي إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر" بناء على قول عروة الذي رواه أبو عمر، أنه أسلم وله ثمان سنين أما على الراجح أنه أسلم وله عشر سنين، فسنه يوم التزويج أربع وعشرون سنة وشهر ونصف، "وقيل غير ذلك وتقدم مزيد لذلك في المغازي" بعد تمام غزوة السويق، فذكر سيرتهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 والسير من المقصد الأول. قال أبو عمر: وفاطمة وأم كلثوم أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة أحب أهله إليه صلى الله عليه وسلم، وكان يقبلها في فيها ويمصها لسانه، وإذا أراد سفرا يكون آخر عهده بها، وإذا قدم أول ما يدخل عليها.   تاريخا خطبة وخطبة، وجهازا، ودخولا ووليمة، ولذا قال: "والسير من المقصد الأول". "قال أبو عمر" بن عبد البر، وفاطمة، وأم كلثوم أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم" وليس في هذا أن فاطمة أفضل، فصرح به في قوله، "وكانت فاطمة أحب أهله إليه صلى الله عليه وسلم" كما قال: "أحب أهلي إلي فاطمة". أخرجه الترمذي، وحسنه، الحاكم عن أسامة، فهي أفضل من أم كلثوم، قال الحافظ، وأقوى ما يستدل به على تقديمه فاطمة على غيرها قوله صلى الله عليه وسلم "إنها سيدة نساء العالمين، إلا مريم"، وإنها رزئت بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها من بناته، فإنهن متن في حياته، فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها، ولا يقدر قدره إلا الله، وكنت أقول ذلك استنباطا إلى أن وجدته مصرحا به. روى أبو جعفر الطبري في تفسيره عن فاطمة أنه صلى الله عليه وسلم ناجاني، فبكيت، ثم ناحاني فضحكت فسألتني عائشة فقلت أأخبرك بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفي سألتني، فقالت: قال: "أحسب أني ميت في عامي هذا، وأنه لم ترزأ امرأة من نساء المسلمين مثل ما رزئت، فلا تكوني مثل امرأة منهن صبرا" فبكيت، فقال: "أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم" فضحكت، وأصل الحديث في الصحيح بدون هذه الزيادة كذا في فتح الباري، وهو تقصير شديد عجيب من مثله، ففي روض السهيلي تكلم الناس في المعنى الذي سادت به فاطمة إخوتها، فقيل؛ لأنها ولدت الحسن الذي قال فيه جده إن ابني هذا سيد، وهو خليفة، وبعلها خليفة، وأحسن من هذا قول من قال: سادت أخوتها وأمها؛ لأنهن متن في حياته صلى الله عليه وسلم، فكن في صحيفته ومات في حياتها، فكان في صحيفتها وميزانها، وقد روى البزار عن عائشة أنه عليه السلام، قال لفاطمة: "هي خير بناتي، لأنها أصيبت في"، وهذا قول حسن أنتهى، "وكان يقبلها في فيها، ويمصها" بضم الياء "لسانه" ليختلط ريقه بريقها، فيصل جوفها فتعود بركته عليها، "وإذا أراد سفرا يكون آخر عهده بها" من أهله، فلا ينافي أن آخر عهده مطلقا صلاة ركعتين وإذا قدم أول ما يدخل عليها" بعد صلاة ركعتين بالمسجد، روى أبو عمر كان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من غزو "أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم أتى فاطمة، ثم أتى أزواجه، وروى أحمد عن ثوبان كان صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وقال عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني"، رواه الشيخان. وقال لها: "أوما ترضين أن تكوني سيدة نساء   إذا سافر آخر عهده إتيان فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، "وقال عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة". قال الحافظ: بفتح الموحدة وحكى ضمها، وكسرها أيضا، وسكون المعجمة، أي قطعة لحم "مني" والتخصيص بذلك للمبالغة في رضاها، لما قالت له: زعم قومك أنك، لا تغضب لبناتك، وهذا على ناكح بنت أبي جهل، فقام صلى الله عليه وسلم فتشهد وقال: "إني أنكحت أبا العاصي، فحدثني فصدقني ووعدني فوفى لى وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد" فترك علي الخطبة، كما في بعض طرق الحديث في الصحيحين، فقد خرج على سبب فلا مفهوم له، فلا يرد أن أولاده كلهم بضعة منه، أو لأنه حينئذ لم يكن بقي منهم غيرها، كما أفاده الحافظ بقوله: "كان صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدا مما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة، وكانت هذه الواقعة، أي خطبة علي بنت أبي جهل بعد فتح مكة ولم يكن حينئذ تأخر من بناته صلى الله عليه وسلم غيرها، وأصيبت بعد أمها بإخوتها، فإدخال الغيرة عليها مما يزيدها حزنا، "فمن أغبها أغضبني"، استدل به السهيلي على أن من سبها يكفر وتوجيهه أنها تغضب ممن سبها، وقد سوى بين غضبها وغضبه، ومن أغضبه كفر. قال الحافظ: وفي هذا التوجيه نظر لا يخفى، "رواه الشيخان" مختصرا بهذا اللفظ البخاري في مواضع، ومسلم في الفضائل من حديث المسور بن مخرمة، ومطولا بذكر السبب المذكور من حديثه أيضا، وزعم الشريف المرتضى أنه موضوع؛ لأنه من رواية المسور وفيه انحراف على علي، وجاء من رواية ابن الزبير، وهو أشد في ذلك ورد كلامه بإطباق أصحاب الصحيح على تخريجه، وصرح الترمذي بصحة حديث ابن الزبير. قال الحافظ: وفيه أنه أفضل بناته صلى الله عليه وسلم، وما أخرجه الطحاوي وغيره: زينب أفضل بناتي، أصيبت في، فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثبوته، بأن ذلك كان متقدما ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشركها فيه أحد من نساء هذه الأمة مطلقا انتهى، بل روى ابن عبد البر عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم عاد فاطمة، وهي وجعة، فقال: "كيف تجدينك يا بنية"؟ فقالت: إني لوجعة وإنه ليزيد ما بي ما لي طعام آكله، فقال: "يا بنية ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين" قالت: يا أبت، فأين مريم بنت عمران؟ قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، "وقال لها" لما أخبرها، بأنه ميت في عامه، فبكت، وقال "أوما ترضين أن تكوني سيدة نساء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 المؤمنين"؟ رواه مسلم، وفي رواية أحمد: "أفضل نساء أهل الجنة". وتوفيت بعده عليه الصلاة والسلام بستة أشهر،   المؤمنين"؟، رواه مسلم" وروى هو، والبخاري عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا يا بنتي" ثم أجلسها عن يمينه، ثم أسر إليها حديثا، فبكت، ثم أسر إليها حديثا، فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره، فلما قبض سألتها، فأخبرتني أنه قال: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين، وما أراه إلا قد حضر أجلي، وأنك أول أهل بيتي لحوقا بي ونعم السلف أنا لك" فبكيت، فقال: "ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين"؟ فضحكت. "وفي رواية أحمد أفضل نساء أهل الجنة" فصرح بأفضل الذي قد لا تستلزمه السيادة، فعرف أنه المراد بها، لكنه استثنى مريم في حديثها عند الطبري، كما مر وكذا في حديث أم سلمة عنها في هذه القصة، قالت: جاءت فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها عنه فقالت: أخبرني أنه مقبوض في هذه السنة، فبكيت، فقال: "ما يسرك أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم" فضحكت أخرجه أبو يعلى فلا يصح ما وقع في التقرير أنه لم يواجهها بذلك جبرا لها حال خطابها، وروى البخاري مرفوعا "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة"، وجزم القربطي أنها تلي مريم في الفضل للاختلاف في نبوتها ولظاهر الاستثناء بقوله إلا مريم، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] واختار الزركشي في الخادم والقطب الخيضري، والمقريزي في الإمتاع أن فاطمة أفضل؛ لأنه لا يعدل ببضعته صلى الله عليه وسلم أحد، وقال السيوطي: في شرح نظمه لجمع الجوامع الذي نختاره بمقتضى الأدلة تفضيل فاطمة، ففي مسند الحارث بسند صحيح، لكنه مرسل مريم خير نساء عالمها، وفاطمة، خير نساء عالمها، وأخرجه الترمذي موصولا من حديث علي بلفظ "خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة". قال الحافظ ابن حجر، والمرسل يعضد المتصل، وروى النسائي والحاكم بسند جيد، عن حذيفة رفعه "هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم عليَّ، وبشرني أن حسنا وحسينا سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة"، وقال في كتابه إتمام الدراية في هذين الحديثين دلالة على تفضيلها على مريم، خصوصا إذا قلنا بالأصح أنها ليست نبية، وقد تقرر أن هذه الأمة أفضل من غيرها انتهى، والجمهور على أنها لم تكن نبية، كما قال عياض، بل حكى عليه الإجماع، وإن صحح القرطبي نبوتها، "وتوفيت بعده عليه الصلاة والسلام بستة أشهر"، كما في الصحيح عن عائشة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وهي ابنة تسع وعشرين سنة، قاله المدائني. وقيل توفيت بعده بثمانية أشهر وقيل غير ذلك، والأول أصح كذا قالوه فيما رأيته، وهو غير منتظم مع السابق فليتأمل. وروي أنها قالت لأسماء بنت عميس: إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة، فحنتها ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا، تعرف به المرأة من الرجل، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي، ولا يدخل علي أحد،   قال الواقدي: وهو الثبت، قال: وذلك "لثلاثون خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهي ابنة تسع وعشرين سنة". "قاله" أي كونها بنت هذا السن، لا ما قبله، لما علمت أن موتها بعد أبيها بستة أشهر في الصحيح، وكونه لثلاث إلخ للواقدي، فزاد قدر عمرها "المدائني" أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله الإخباري صاحب التصانيف وثقه ابن معين. وقال ابن عدي ليس بالقوي مات سنة أربع وخمسين ومائتين، وقيل وهي ابنة أربع وعشرين سنة وصدر به في الفتح، وقيل إحدى، وقيل خمس وعشرين، وقيل ثلاثين، "وقيل توفيت بعده بثمانية أشهر". قاله عبد الله بن الحارث، "وقيل غير ذلك" فروى الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار أنها بقيت بعد ثلاثة أيام، وقال غيره أربعة أشهر، وقيل: شهرين، وقيل: خمسة وتسعين يوما وقيل: ثلاثة أشهر، وقيل: شهرا واحدا، "والأول أصح، كذا قالوه فيما رأيته، وهو غير منتظم مع السابق" في وقت ولادتها وذلك ظاهر على أنه سنة إحدى وأربعين، "فليتأمل" أما على أنه قبل النبوة فمنتظمة لصدق القبلية، وكذا على أنه بخمس قبل النبوة لكن على التقريب، ثم عدم انتظام الأول إنما هو على قول المدائني في سنها، أما على ما صدر به الفتح من أنه أربع وعشرون فمنتظم. "وروي أنها قالت لأسماء بنت عميس: إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء يطرح على المرأة الثوب" على نعشها، "فيصفها" جسمها من غلظ وضده، "فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا رأيته بأرض الحبشة" حين كانت مهاجرة بها مع زوجها جعفر بن أبي طالب، "فدعت بجرائد رطبة، فحنتها" بنون، ثم فوقية، أي أمالتها، "ثم طرحت عليها ثوبا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا تعرف به المرأة من الرجل، أي ولا يعرف للمرأة تحته حجم "فإذا أنا مت، فاغسليني أنت، وعلي" زوجي، "ولا يدخل علي أحد". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 الحديث أخرجه أبو عمر. وفي حديث أم رافع سلمى أنها لما اشتكت اغتسلت ولبست ثيابا جددا واضطجعت في وسط البيت، ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، ثم استقبلت القبلة وقالت: إني مقبوضة الآن فلا يكشفني أحد، ولا يغسلني، ثم قبضت مكانها، ودخل علي فأخبر بالذي قالت، فاحتملها فدفنها بغسلها ذلك، ولم يكشفها ولا غسلها أحد، رواه أحمد في المناقب والدولابي وهذا لفظه مختصرا، وهو مضاد لخبر أسماء المتقدم. قال أبو عمر: وفاطمة أول من غطي نعشها على الصفة المذكورة في خبر أسماء   "الحديث أخرجه أبو عمر" بن عبد البر، واستبعده ابن فتحون بأن أسماء كانت حينئذ زوج الصديق، فكيف تنكشف بحضرة علي في غسل فاطمة، وهو محل الاستبعاد، كذا في الإصابة، ولا يلزم من التغسيل انكشافها، فلا استبعاد، فتغسل، وهي مستورة، أو تصب وعلي يغسل، فعند ابن سعد عن محمد بن موسى أن عليًّا غسل فاطمة، "وفي حديث أم رافع سلمى" مولاة صفية، ويقال لها أيضا مولاة النبي وخادم النبي صلى الله عليه وسلم لها صحبة وأحاديث، ويقع في النسخ أم سلمى، وهو خطأ، فالذي في مسند أحمد وغيره أم رافع، واسمها سلمى، وهي مشهورة باسمها، وكنيتها، كما في الإصابة فصحف من قال أم سلمة "أنها لما اشتكت اغتسلت" ولفظ أحمد، وابن سعد عن أم رافع، قالت: مرضت فاطمة، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه، قالت لي: يا أمه أسكبي لي غسلا، فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، "ولبست ثيابا" لها "جددا" ثم قالت: اجعلي فراشي وسط البيت، فجعلته "واضطجعت" عليه في "وسط البيت ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، ثم استقبلت القبلة، وقالت: إني مقبوضة الآن" وفي رواية الساعة، وقد اغتسلت، "فلا يكشفني أحد، ولا يغسلني ثم قبضت مكانها، ودخل علي، فأخبر" من أم رافع، ففي رواية ابن سعد فجاء علي، فأخبرته "بالذي، قالت: فاحتملها فدفنها بغسلها ذلك، ولم يكشفها، ولا غسلها". "رواه أحمد في المناقب" بسند ضعيف، وكذا ابن سعد، "والدولابي" بفتح الدال، وضمها، كما تقدم مرارا "وهذا لفظه مختصرا، وهو مضاد" مخالف "لخبر أسماء" بنت عميس "المتقدم" فوقه، ولا يمكن الجمع بينهما، كما تعسفه من سود به وجه الطرس، بلا فائدة، فإن وجه المخالفة كونها دفنت بتغسيل نفسها، بلا غسل بعد الموت، وكون علي وأسماء غسلاها، بعده "قاله أبو عمر" بن عبد البر "وفاطمة أول من غطى نعشها على الصفة المذكورة في خبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش صنع بها ذلك أيضا. وولدت لعلي: حسنا وحسينا ومحسنا، فمات صغيرا، وأم كلثوم وزينب. ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنه وانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط، ويقال للمنسوب لأولهما:   أسماء المتقدم، ثم بعدها زينب بنت جحش، أم المؤمنين "صنع بها ذلك أيضا" فقول من قال إنها أول من غطي نعشها أي من أمهات المؤمنين. وفي البخاري عن عائشة أن عليًّا صلى عليها، وكذا رواه الواقدي عن ابن عباس. وروى ابن سعد عن عمرة، قالت: صلى العباس على فاطمة، ونزل هو وابن الفضل وعلي في حفرتها ولا خلف فكل صلى عليها، والإمام العباس، لأنه عمه فقدمه، وللواقدي عن الشعبي صلى أبو بكر على فاطمة، وهذا فيه ضعف. وانقطاع. وروى بعض المتروكين عن مالك عن جعفر بن محمد نحوه ووهاه الدارقطني، وابن عدي، وقد روى البخاري عن عائشة لما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وقال الواقدي، قلت لعبد الرحمن بن أبي الموالي إن الناس يقولون قبر فاطمة بالبقيع فقال: ما دفنت إلا في زاوية في دار عقيل وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع "وولدت لعلي حسنا وحسينا" ريحانتي جدهما روى ابن منده، وأبو نعيم أن فاطمة أتت بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شكواه الذي قبض فيه، فقالت: يا رسول الله هذان ابناك، فورثهما، فقال: "أما حسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما حسين فإن له جودي وجرأتي" ومحنا" بضم الميم وفتح الحاء المهملة، وكسر السين المشددة "فمات صغيرا". روى أحمد عن علي، لما ولد الحسن سميته حربا، فجاء صلى الله عليه وسلم، فقال: "أروني ابني ما سميتموه" قلنا، حربا، قال: "بل هو حسن" فلما ولد الحسين فذكر مثله، قال: "بل هو حسين"، فلما ولد الثالث فذكر مثله، قال: "بل هو محسن" ثم قال: "سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر" إسناده صحيح. "وأم كلثوم" قال ابن عبد البر ولدت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم "وزينب" قال ابن الأثير ولدت في حياة جدها، وكانت لبيبة جزلة عاقلة لها قوة جنان، "ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنها" وذلك دال على شرف الإناث وبركتهن. وروى مرفوعا "من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى"، وأخرج الترمذي عن زيد بن أرقم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي، وفاطمة والحسن والحسين: "أنا حرب لمن حاربتهم وسلم لمن سالمتم"، "وانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين الحسن والحسين فقط ويقال للمنسوب لأولهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 حسنى ولثانيهما: حسيني. وقد يضم للحسيني من يكون من ذرية إسحاق بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الإسحاقي، فيقال: الحسيني الإسحاقي. فإسحاق هذا، هو زوج السيدة نفيسة ابنة الحسن بن زيد بن الحسين بن علي، وله منها: القاسم وأم كلثوم ولم يعقبا. وتزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت فاطمة،   حسني ولثانيهما حسيني، وقد يضم" في النسبة "للحسيني من يكون من ذرية إسحاق"، المؤتمن "بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" وإسحاق هذا صدوق. روى له الترمذي، وابن ماجه وينسب إلى أبيه، فيقال: الجعفري، ويقال: لمن هو من ذريته "الإسحاقي" بدل من نائب فاعل يضم، وهو من يكون "فيقال الحسيني الإسحاقي" نسبة إلى إسحاق المذكور، "فإسحاق هذا هو زوج السيدة نفسية" العابدة الزاهدة ذات الكرامات الباهرة ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة، ونشأت بالمدينة في العبادة، والزهادة تصوم النهار وتقوم الليل، ثم قدمت مصر مع زوجها فصار لها القبول التام حتى ماتت بها في رمضان سنة ثمان ومائتين فصلى عليها في مشهد لم ير مثله، بحيث امتلأت الفلوات، والقيعان، وأراد زوجها نقلها ودفنها بالبقيع، فسأله أهل مصر في تركها للتبرك، ويقال، بل رأى المصطفى في المنام، فقال له: "يا إسحاق، لا تعارض أهل مصر في نفيسة فإن الرحمة تنزل عليهم ببركتها". "ابنة الحسن" الأنور. كان من سروات العلويين، وأشرافهم، وأجوادهم ولي أمرة المدينة للمنصور خمس سنين، ثم حبسه، حتى مات المنصور، فأخرجه المهدي، وأكرمه ولم يزل معه، وهو صدوق في الحديث فاضل روى له النسائي، توفي سنة ثمان وستين ومائة وهو ابن خمس وثمانين سنة. "ابن زيد" المدني الثقة الجليل المتوفى سنة عشرين ومائة "ابن الحسن بن علي" بن أبي طالب، "و" ولد "له منها" لإسحاق من نفيسة "القسم وأم كلثوم" ولم يعقبا" فلا عقب لإسحاق منها، وله عقب من غيرا الذين ينسبون إليه، فيقال الإسحاقي، "وتزوج عمر بن الخطاب" في خلافته "أم كلثوم بنت فاطمة". روى محمد بن أبي عمر العربي شيخ مسلم في مسنده، أن عمر خطب إلى علي بنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقيل له، إنه ردك، فعاوده، فقال علي: أبعث بها إليك، فإن رضيت، فهي امرأتك، فارسلها إليه فكشف عن ساقها، فقالت: مه لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 فولدت له: زيدا ورقية، ولم يعقبا، ثم تزوجت أم كلثوم بعد موت عمر بعون بن جعفر، ثم تزوجت بعد وفاته بأخيه محمد بن جعفر ثم مات عنها فتزوجت بأخيهما عبد الله بن جعفر   وذكر ابن سعد، أنه خطبها من علي، فقال: إنما حبست بناتي على بني جعفر فقال: زوجنيها، فوالله ما على ظهر الأرض رجل، يرصد من كراستها، ما أرصد، فقال: فعلت، فجاء عمر إلى المهاجرين، فقال: رفئوني، فرفأوه، وقالوا: بمن تزوجت، قال بنت علي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي". وكنت قد صاهرته، فأحببت هذا أيضا وأمهرها أربعين ألفا، "فولدت له زيدا ورقية ولم يعقبا" فأصيب زيد في حرب كانت بين بني عدي فخرج ليصلح بينهم، فشجه رجل وهو لا يعرفه في الظلمة، فعاش أياما، وكانت أمه مريضة فماتا في يوم واحد. ذكره الزبير بن بكار. وروى ابن سعد بسند صحيح، أن ابن عمر صلى عليهما، وساق بسند آخر أن سعيد بن العاصي هو الذي أمهم عليهما، "ثم تزوجت أم كلثوم بعد موت عمر". روى الدولابي عن الحسن بن الحسن بن علي قال: لما تأيمت، دخل عليها أخواها فقالا: ها إن أردت أن تصيبي بنفسك مالا عظيما لقيتيه، فدخل علي فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أي بنية إن الله قد جعل أمرك بيدك، فإن أحببت أن تجعليه بيدي، فقالت: يا أبت إني امرأة أرغب فيما ترغب فيه النساء، وأحب أن أصيب من الدنيا، فقال: هذا من عمل هذين، ثم قام يقول: والله لا أكلم واحدا منهما أو تفعلين، ففعلت، فزوجها "بعون بن جعفر" بن أبي طالب، ولد بأرض الحبشة، وقدم به أبواه في خيبر وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسم، وزوجه بها بعد عمر، رواه الدولابي، ونقله الإصابة في ترجمتها عنه، وهو منابذ لقوله في ترجمة عون، استشهد بتستر في خلافة عمر ولا عقب له، "ثم تزوجت بعد وفاته بأخيه محمد بن جعفر" ولد بأرض الحبشة، وذكره البغوي وابن حبان وغيرهما في الصحابة، وقال محمد بن حبيب هو أول من سمي محمدا في الإسلام من المهاجرين. وذكر ابن عبد البر عن الواقدي، أنه يكنى أبا القاسم. قال: واستشهد بتستر، وقيل عاش إلى أن شهد صفين مع علي فقتل بها، وذكر المرزباني أنه كان مع أخيه لأمه محمد بن الصديق بمصر، فلما قتل اختفى ابن جعفر، ثم ذهب إلى فلسطين. قال في الإصابة: وهذا يرد قول الواقدي استشهد بتستر، "ثم مات عنها فتزوجت بأخيهما عبد الله بن جعفر" أسن من أخويه، أحد الأجواد الصحابي ابن الصحابي، ولد بأرض الحبشة، مات سنة ثمانين، وهو ابن ثمانين. روى النسائي بإسناد صحيح عنه لما قتل جعفر قال صلى الله عليه وسلم: "ادعو إليَّ بني أخي" فجيء بنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 ثم ماتت عنده ولم تلد لواحد من الثلاثة سوى الثاني ابنة توفيت صغيرة فليس لها عقب. ثم تزوج عبد الله بن جعفر بأختها زينب بنت فاطمة، فولدت له عدة من الأولاد، منهم، علي وأم كلثوم. وتزوج أم كلثوم -هذه- ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب فولد له عدة أولاد منهم فاطمة زوج حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، وله منها عقب. وبالجملة: فعقب عبد الله بن جعفر انتشر من علي وأخته أم كلثوم ابني زينب بنت الزهراء. ويقال لكل من ينسب لهؤلاء جعفري، ولا ريب أن لهؤلاء شرفا.   كأنا أفرخ، فأمر الحلاق، فحلق رءوسنا، ثم قال: "أما محمد فيشبه عمنا أبا طالب، وأما عبد الله فيشبه خَلقي وخُلقي، وأما عون فيشبه خَلقي وخُلقي"، ثم أخذ بيدي، فأمالها وقال: "اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه". قال ابن سعد: فكانت تقول: إنى لأستحي من أسماء بنت عميس، مات ولداها عندي، فتخوف على الثالث، "ثم ماتت عنده، ولم تلد لواحد من الثلاثة سوى الثاني" محمد "ابنه، توفيت صغيرة فليس لها" لأمه كلثوم بنت فاطمة "عقب، ثم تزوج عبد الله بن جعفر أختها زينب بنت فاطمة، فولدت له عدة من الأولاد" خمسة "منهم علي وأم كلثوم" وعون وعباس ومحمد، كما في العجاجة الزرنبية، "وتزوج أم كلثوم هذه ابن عمها القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب، فولدت له عدة أولاد، منهم فاطمة زوج حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي، الأسدي، يكني أبا عمار. روى عن أبيه وعائشة وعنه جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: ولاه أبوه البصرة، وذكر الزبير بن بكار أن حمزة وضع الركن حين بنى أبوه الكعبة، وأبوه يصلي بالناس في المسجد، اغتنم شغل الناس عنه لما أحسن منهم التنافس، وخاف الخلاف، فأقره أبوه "وله منها عقب، وبالجملة فعقب عبد الله بن جعفر انتشر من علي وأخته أم كلثوم ابني زينب بنت الزهراء" ومن ثم اقتصر عليهما أولا، ولم يذكر باقي أولادها، "ويقال لكل من ينسب لهولاء جعفري" نسبة إلى جدهم جعفر، ولا ريب أن لهؤلاء شرفا" لكنه ليس كشرف من ينسب للحسنين، وكم أطلق الذهبي في تاريخه في كثير من التراجم قوله الشريف الزينبي، ولا ريب أنهم تحرم عليهم الصدقة إجماعا؛ لأن بني جعفر من الآل، وأنهم يستحقون سهم ذوي القربي بالإجماع، وأنهم من ذرية النبي وأولاده إجماعا، ويدخلون في وقف بركة الحبش؛ لأن واقفها وقف نصفها على أولاد الحسن والحسين، والنصف الثاني على الطالبين، وهم ذرية علي من محمد بن الحنفية وإخوته، وذرية جعفر وعقيل، كما ذكره ابن المتوج في إيقاظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 وأما الجعافرة المنسوبون لعبد الله بن جعفر فلهم أيضا شرف، لكنه يتفاوت، فمن كان من ولده من زينب بنت الزهراء فهم أشرف من غيرهم، مع كونهم لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين لمزيد شرفهما، وكذا يوصف العباسيون بالشرف لشرف بني هاشم. قال الحافظ ابن حجر في الألقاب: وقد لقب به -يعني   المتأمل قائلا: وثبت هذا الوقف على هذا الوجه، عند قاضي القضاة بدر الدين يوسف البخاري في ثاني عشر ربيع الآخر، سنة أربعين وستمائة، ثم اتصل ثبوته على شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام تاسع عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم اتصل ثبوته على قاضي القضاة ابن جماعة ذكره في العجاجة، "وأما الجعافرة المنسوبون" لعبد الله بن جعفر" من غير زينب، "فلهم أيضا شرف" لأنهم من بني هاشم ومن أولاد عمه صلى الله عليه وسلم، وتحرم عليهم الزكاة ويستحقون في سهم ذوي القربى وبركة الحبش، "لكنه يتفاوت، فمن كان من ولده من زينب بنت الزهراء فهم أشرف من غيرهم من ولده من غيرهم، وسلك المصنف الإطناب إذ كان يكفيه أن يقول وأما ولده من غير زينب، فلهم شرف دون شرف أولادها منها، "مع كونهم لا يوازون شرف المنسوبين للحسن والحسين" نسبة حق. قال الحافظ: ولا التفات إلى من يدعي أنه منهم بغير برهان "لمزيد شرفهما" الذي خصهما به جدهما، فينسبون إليه صلى الله عليه وسلم دون غيرهما. قال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي أم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما" أخرجه الحاكم عن ابر وأبو يعلى عن فاطمة فخص الانتساب والتعصيب بهما دون أختهما لأن أولاد أختهما، إنما ينسبون إلى آبائهم، ولهذا جرى السلف والخلف على أن ابن الشريفة لا يكون شريفا ولو كانت الخصوصية عامة في أولاد بناته، وإن سفلن لكان كل ابن شريفة شريفا تحرم عليه الصدقة وإن لم يكن أبوه كذلك، وليس كذلك كما هو معلوم ذكره السيوطي في السلالة الزينبية. وهذا هو الحق وهو ما عليه ابن عرفة في قوله لابن الشريفة شرف ما ولا عليك من الهذيان في رده بما يشبه كلام العوام. "وكذا يوصف العباسيون" والعقيليون ذرية عقيل بن أبي طالب والعلويون ذرية ابن الحنفية وغيره من أولاد علي "بالشرف لشرف بني هاشم" وقد كان اسم الشريف يطلق في الصدر الأول على من كان من آل البيت سواء كان حسنيا، أو حسينيا، أم علويا، أم عباسيا، أم جعفريا أم عقيليا، ولهذا نجد تاريخ الحافظ الذهبي مشحونا في التراجم، بذلك يقول الشريف العباسي، الشريف العقيلي، الشريف الجعفري، الشريف الزينبي، فلما ولى الفاطميون مصر قصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين فقط، فاستمر ذلك بمصر إلى الآن. "قال الحافظ ابن حجر في" كتاب نزهة الألباب في معرفة "الألقاب: وقد لقب به، يعني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 بالشريف- كل عباسي ببغداد وعلوي بمصر. وفي شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له الشريف العباسي. وأما عبد الله ابن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل مات صغيرا بمكة، فقال العاصي بن وائل: قد انقطع ولده فهو أبتر، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] . واختلف: هل ولد قبل النبوة أو بعدها؟ وهل هو الطيب والطاهر؟ والصحيح: أنهما لقبان له، كما تقدم.   بالشريف كل عباسي ببغداد"؛ لأن الخلفاء به كانوا من بني العباس، "و" كل "علوي بمصر" لأن الفاطميين الذين كانوا بها من ولد علي من فاطمة بزعمهم، "وفي شيوخ ابن الرفعة شخص يقال له الشريف العباسي". قال في العجاجة: ولا شك أن المصطلح القديم أولى وهو إطلاقه على كل علوي وجعفري وعقيلي وعباسي، كما صنعه الذهبي، وكما أشار إليه الماوردي من الشافعية والقاضي أبو يعلى من الحنابلة، ونحوه قول ابن مالك وآله المستكملين الشرفا انتهى. "وأما عبد الله ابن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل" كما رواه ابن سعد بسند واه عن ابن عباس، "مات صغيرا بمكة"، لم تعلم مدة حياته لقلة الاعتناء بالتاريخ حينئذ، "فقال العاصي بن وائل" السهمي أبو عمرو "قد انقطع ولده فهو أبتر منقطع العقب" "فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ} " مبغضك " {هُوَ الْأَبْتَرُ} " المنقطع عن كل خير، والمنقطع عقبه، ولا يرد أن له عقبا؛ لأن ابنيه عمرا وهشاما لما أسلما انقطع بينه وبينهما، فليسوا بأتباع له؛ لأن الإسلام حجزهم عنهم، فلا يرثهم، ولا يرثونه، وهم من أتباع النبي وأزواجه أمهاتهم. وهذا يعارضه ما مر أن العاصي قال ذلك، فنزلت الآية لما مات ولده القاسم، كما أخرجه يونس في زيادات المغازي والبيهقي من مرسل محمد بن علي، والقاسم الأول من مات ولد، فيحتمل تعدد القول والنزول، وأخرج ابن جرير عن شمر بن عطية قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول: لا يبقى لمحمد ولد وهو أبتر، فأنزل الله فيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} وعليه فنزلت في العاصي وعقبة معا. وروى الطبراني بسند ضعيف عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصاني قد بتر الليلة فأنزل الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخر السورة. وروى ابن المنذر عن ابن جريج قال: بلغني فذكر نحوه، فإن صح فقد تعدد نزولها بمكة والمدينة، "واختلف هل ولد قبل النبوة أو بعدها، وهل هو الطيب والطاهر والصحيح أنهما لقبان له كما تقدم" لأنه ولد بعد النبوة، وجرى المصنف في ذكره بعد فاطمة على القول بأنه أصغر أولاده من خديجة الذي صححه ابن الكلبي ولم يراع موته، كما صنعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وأما إبراهيم فمن مارية القبطية، وسيأتي ذكرها في سراريه عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى في الفصل التالي لهذا في أمهات المؤمنين. وولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وقيل ولد بالعالية، ذكره "الزبير بن بكار"، وكانت سلمى زوج أبي رافع "مولدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قابلته فبشر أبو رافع" به النبي صلى الله عليه وسلم فوهب له عبدا، وعق عنه يوم سابعه بكبشين، وحلق رأسه أبو هند، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وتصدق بزنة شعره ورقا على المساكين، ودفنوا شعره بالأرض.   فيمن قبله. "وأما إبراهيم" آخر أولاده صلى الله عليه وسلم "فمن مارية" بتخفيف الياء "القبطية" وكانت بيضاء جميلة، "وسيأتي ذكرها في سراريه عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى في الفصل التالي لهذا في أمهات المؤمنين" وسرارية، كما هو في الترجمة الآتية، لكنه أسقطه هنا لئلا يتكرر مع قوله أولا في سراريه، "وولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة"، باتفاق كما في الفتح، "وقيل ولد بالعالية"، المحل الذي أنزل صلى الله عليه وسلم فيه مارية، وصار يقال لها مشرية أم إبراهيم، وهذا مستأنف لا معطوف إذ ليس مقابلا لمغايرة المكان للزمان. "ذكره الزبير بن بكار" وفصله عما قبله إشعارا بأنه لا يساويه للاتفاق عليه، وكأنه ظفر في المكان بخلاف "وكانت سلمى" أم رافع تقدم ذكرها "زوج أبي رافع" أسلم أو إبراهيم أو ثابت أو همز أو صالح أو سنان أو يسار أو عبد الرحمن أو قزمان أو يزيد، فتلك عشرة، أشهرها كما قال أبو عمر الأول: "مولدة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ويقال: مولاة صفية، كما في الإصابة ولا تنافي؛ لأن مولاة عمة الشخص مولاته، كما قال البرهان "قابلته" التي تلقته عند الولادة "فبشر أبو رافع" زوجها "به النبي صلى الله عليه وسلم فوهب له عبدا" إذ هو سيد الكرماء. قال البرهان: هذا العبد لا أعرف اسمه، "وعق عنه يوم سابعه بكبشين" وفي العيون بكبش، فيحتمل أنه تعدد الذبح فأخبر من حضر التعدد به ومن لم يحضره بخلافه "وحلق رأسه أبو هند" البياضي مولى فروة بن عمرو البياضي من الأنصار قاله ابن إسحاق. قال ابن السكين: يقال اسمه عبد الله، وقال ابن منده: يقال اسمه يسار، ويقال سالم، وفي موطأ ابن وهب حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هند يسار، وأخرج ابن السكن والطبراني عن عائشة أنه صلى الله عليه وسم قال: "من سره أن ينظر إلى من صور الله الإيمان في قلبه، فلينظر إلى أبي هند" شهد المشاهد بعد بدر. وروى عنه ابن عباس وجابر وأبو هريرة، "وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ" أي يوم سابعه، وتصدق صلى الله عليه وسلم "بزنة شعره ورقا" فضة "على المساكين". قال البرهان: لا أعلم زنة الشعر، "ودفنوا شعره بالأرض" بأمره عليه السلام، "وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 وفي البخاري: من حديث أنس بن مالك، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ولد لي الليلة غلام سميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبو سيف"،لحديث، وفيه: أنه بقي عندها إلى أن مات، والقين: الحداد. ويجمع بينهما: بأن التسمية كانت قبل السابع، كما في حديث أنس هذا ثم ظهرت فيه، وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.   البخاري" ومسلم واللفظ له كما بينه في الإصابة في ترجمة أبي سيف، وكذا في الفتح في شرح هذا الحديث، فاللائق بالمصنف العز ولهما معا أو لمسلم خاصة "من حديث" ثابت عن "أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال": وفي رواية ابن سعد خرج علينا صلى الله عليه وسلم حين أصبح، فقال: "ولد لي الليلة غلام سميته" إبراهيم "باسم أبي إبراهيم، ثم دفعته إلى أم سيف" بفتح السين صحابية لم يذكر لها اسما في الإصابة فكأنه كنيتها "امرأة قين" بفتح القاف وسكون التحتية بعدها نون حداد "بالمدينة يقال له أبو سيف". قال عياض: هو البراء بن أوس وزوجته أم سيف هي أم بردة واسمها خولة بنت المنذر، وتعقبه الحافظ بأنه لم يصرح أحد من الأئمة بأن البراء بن أوس يكني ابا سيف ولا أن أبا سيف يسمى البراء. انتهى. وأسقط تمام التعقب اكتفاء، أي ولا أن أم سيف تسمى خولة ولا إن خولة تكنى أم سيف إنما تكنى أم بردة "الحدث" تتمته، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتبعته فانتهى إلى أبي سيف وهو ينفخ بكير، وقد امتلأ البيت دخانا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك، فذكر الحديث هذا لفظ مسلم ولفظ البخاري عن أنس دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين وكان ظئرا لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله؟ فقال يابن عوف إنها رحمة، ثم اتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون". "وفيه أنه بقي عندها إلى أن مات"، كما ترى "والقين الحداد" ويطلق على كل صانع يقال قان الشيء إذا أصلحه كما في الفتح، ففي هذا الحديث الصحيح أنه سماه صبيحة الولادة فيعارض ما ذكره أهل السير أنه سماه يوم سابعه، "ويجمع بينهما بأن التسمية كانت قبل السابع، كما في حديث أنس هذا، ثم ظهرت فيه" في يوم السابع، "وأما حديث عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي الصدوق، المتوفى سنة ثمان عشرة ومائة، "عن أبيه" شعيب بن محمد صدوق، ثبت سماعه "عن جده" عبد الله بن عمرو بن العاصي، فضمير جده لشعيب عند الجمهور، فالحديث موصول لا لعمرو وإلا كان مرسلا أوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 عند الترمذي مرفوعا أنه أمر بتسمية المولود يوم سابعه، فيحمل على أنها لا تؤخر عن السابع، لا أنها لا تكون إلا فيه، بل هي مشروعة من الولادة إلى السابع. قال الزبير بن بكار: وتنافست الأنصار فيمن ترضع إبراهيم فإنهم أحبوا أن يفرغوا مارية له عليه الصلاة والسلام فأعطاه لأم بردة بنت المنذر بن زيد الأنصاري، زوجة البراء بن أوس، فكانت ترضعه بلبن ابنها في بني مازن بن النجار وترجع به إلى أمه. وأعطى صلى الله عليه وسلم أم بردة قطعة نخل. وقد تقدم أنه أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن مات فيحتمل أن يكون أعطاه أولا أم بردة ثم أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن توفي لكن قد روي أنه توفي عند أم بردة، فيرجع في الترجيح إلى الصحيح.   ويحمل على الجد الأعلى كما في الألفية "عند الترمذي مرفوعا أنه" صلى الله عليه وسلم "أمر بتسمية المولود يوم سابعه، فيحمل" كما قال المحب الطبري "على أنها لا تؤخر عن السابع لا إنها لا تكون إلا فيه، بل هي مشروعة من الولادة إلى السابع"، فلا يعارض فعله، أو على من يعق ويحلق ويتصدق، وتسمية إبراهيم قبله مع أنه فعل به ذلك لبيان الجواز وأن ذلك مندوب فقط. "قال الزبير بن بكار" فيما أخرجه هو وابن سعد من طريق شيخه الواقدي عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: "و" لما ولد إبراهيم "تنافست الأنصار" رغبت "فيمن ترضع" منهن "إبراهيم" فكل واحدة منهن أرادته، ويستعمل التنافس في العرف في المشاحة؛ لأن الرغبة في الشيء تستلزمه المشاحة عليه ولو باللب "فإنهم أحبوا أن يفرغوا ماريه له"، أي يزيلوا عنها ما يشغلها عنه "عليه الصلاة والسلام" لما يعلمن من ميله إليها كما في الرواية، "فأعطاه لأم بردة" خولة "بنت المنذر بن زيد الأنصاري" من بني النجارة "زوجة البراء بن أوس" بن خالد من بني النجار أيضا، "فكانت ترضعه بلبن ابنها في بني مازن بن النجار وترجع به إلى أمه،" وفي رواية ابن سعد وكان صلى الله عليه وسلم يأتيه في بني النجار، "وأعطى صلى الله عليه وسلم أم بردة قطعة نخل" لرضاعها، "وقد تقدم" في الحديث الصحيح "أنه أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن مات". قال الحافظ: فجمع عياض بينهما، فسمي أبا سيف البراء، وزوجته أم بردة خولة أم سيف قال: وما جمع به غير مستبعد إلا إنه لم يصرح أحد من الأئمة بأن البراء يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء، "فيحتمل" إن ثبت ما ذكره الواقدي "أن يكون أعطاه أولا أم بردة، ثم أعطاه أم سيف وبقي عندها إلى أن توفي" فتكونان جميعا أرضعتاه، "لكن قد روى" كما ذكر ابن عبد البر وغيره "أنه توفي عند أم بردة، فيرجع في الترجيح إلى الصحيح" لصحة سنده. وقد قال أبو موسى المديني المشهور أن التي أرضعته أم سيف، وحاصل ما ذكره هنا تبعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إبراهيم مسترضعا في عوالي المدينة فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت وكان ظئره قينا، فيأخذه ويقبله ثم يرجع. الحديث رواه أبو حاتم. وفي حديث جابر: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فأخذه صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم ذرفت عيناه،   للحافظ في الفتح والإصابة أنهما امرأتان على الصحيح المشهور، وجعلهما القاضي عياض امرأة واحدة لها كنيتان وهو متعقب كما علمت. فحزم المصنف في شرح البخاري بما لعياض فيه نظر، وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه رحمة كله. "كان إبراهيم مسترضعا" أي رضيعنا، فالسين زائدا "في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت" زاد مسلم وإنه ليدخل، "وكان ظئره" بكسر المعجمة وسكون التحتية المهموزة بعدها راء، أي مرضعة، وأطلق عليه ذلك لأنه زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها فقيل ذلك للتي ترضع غير ولدها، وأطلق على زوجها؛ لأنه لا يشاركها في تربيته، كما في الفتح "قينا" بالقاف حدادا بيان لسبب دخان البيت، وقد تسقط نقطة القاف من الكاتب، فتوهمت فاء، فجعلت نسخة، والرواية بالقاف في مسلم وغيره "فيأخذه ويقبله". زاد البخاري وشمه، ففيه مشروعية تقبيل الولد وشمه "ثم يرجع الحديث" ذكر في بقيته قصة موته "رواه أبو حاتم" وابن حبان ومسلم في الصحيح، فالعزولة هو اصطلاح أهل الفن، "وفي حديث جابر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحن بن عوف، فأتى به النخل فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه". قال الحافظ: أي يخرجها ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله يجود به. وفي حديث أنس عند البيهقي يكيد قال صاحب العين: أي يسوق بها، وقيل معناه يقارب بها الموت، وقال أبو مروان بن سراج: قد يكون من الكيد وهو القيء يقال منه كاد يكيد شبه قلع نفسه عند الموت بذلك، "فأخذه صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره، ثم ذرفت عيناه" بفتح المعجمة والراء والفاء جرى دمعهما. زاد أنس في الصحيح، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله! قال الطيبي: فيه معنى التعجب والواو تستدعي معطوفا عليه، أي الناس لا يصبرون وأنت تفعل كفعلهم، كأنه تعجب منه مع عهده منه الحث على الصبر والنهي عن الجزع، فأجابه بقوله: "إنها رحمة"، أي الحالة التي شاهدتها مني هي رقة على الولد لا ما توهمت من الجزع انتهى. وفي حديث ابن عوف نفسه عند ابن سعد والطبراني، فقلت: يا رسول الله تبكي أولم تنه عن البكار، فقال: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 ثم قال: "إنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب ولا تقول ما يسخط الرب". خرجه بهذا السياق أبو عمرو بن السماك، ومعناه في الصحيح. وتوفي وله سبعون يوما -فيما ذكره أبو داود- في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه، وقيل: بلغ ستة عشر شهرا   الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذا رحمة، ومن لا يَرحم لا يُرحم"، "ثم قال: "إنا بك" بفراقك، كما هو رواية الصحيح "يا إبراهيم لمحزونون". قال ابن المنير عبر بصيغة المفعول لا الفاعل إشارة إلى أن الحزن ليس من فعله، بل من غيره ولا يكلف الإنسان بفعل غيره وهو العين والقلب، كما قال: "تبكي العين ويحزن القلب" لرفته، "ولا نقول ما يسخط الرب" وفي الصحيح: "ولا نقول إلا ما يرضي ربنا". قال ابن المنير: أضاف الفعل إلى الجارحة تنبيها على أن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة العبد، ولا يكلف الانكفاف عنه، وكأن الجارحة امتنعت فصارت هي الفاعلة لا هو، وأما نطق اللسان فيملك انتهى. زاد في حديث عبد الرحمن بن عوف، لولا أنه أمر حق ووعد صدق وسبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، "خرجه بهذا السياق" أي اللفظ "أبو عمرو بن السماك ومعناه في الصحيح"، من حديث أنس وقد قدمنا لفظه وليس في هذه الرواية زيادة شيء عليه حتى يعدل عن الصحيح إليه. قال ابن بطال: فسر هذا الحديث البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين ورقة القلب من غير سخط أمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه والرضاع وعبادة الصغير والحضور عند المحتضر ورحمة العيال وجواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أولى وفيه وقوع الخطاب للغير وإرادة غيره بذلك، وكلاهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن يفهم الخطاب لصغره وكونه في النزع، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق، وجواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق، قيل وفيه تقبيل الميت وشمه، ورده ابن التين بأن القصة إنما وقعت قبل الموت، وهو كما قال انتهى من فتح الباري، "وتوفي وله سبعون يوما فيما ذكره أبو داود" وحكاه البيهقي. قال في الإصابة فعليه يكون مات سنة تسع انتهى، وتبرأ منه لنقل صاحب النور أن رواية سبعين يوما وهم، وجزم الواقدي بأنه مات سنة عشر "في ربيع الأول يوم الثلاثاء لعشر خلون منه" فهذا إنما هو على موته سنة عشر، "وقيل بلغ ستة عشر شهرا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام. وحمل على سرير، صغير، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع وقال: "ندفنه عند فرطناه عثمان بن مظعون"، وروي أن عائشة قالت: دفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه، فيحتمل أن يكون لم يصلوا عليه بنفسه وأمر أصحابه أن يصلوا عليه، أو لم يصل عليه في جماعة.   حكاه اليعمري لكن لم يقل "وثمانية أيام" نعم حكى في الإصابة وغيرها عن محمد بن المؤمل سبعة عشر شهرا وثمانية أيام، "وقيل" بلغ "سنة وعشرة أشهر وستة أيام". وفي البخاري عن عائشة عاش سبعة عشر أو ثمانية عشر شهر على الشك، وعند أحمد بسند حسن عنها ثمانية عشر شهرا بالجزم، وكذا عنده عن جابر فهو أرجح الأقوال موافقته ما في الصحيح عنها وإن كان بالشك. وقال ابن حزم مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، وقيل مات في رمضان وقيل في ذي الحجة. قال في الإصابة وهو باطل على القول بأنه سنة عشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع إلا أن كان مات في آخر ذي الحجة انتهى، "وحمل على سرير صغير" من بيت مرضعته إلى البقيع، "وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالبقيع" وكبر أربعا. أخرجه أبو يعلى وابن سعد عن أنس والبزار عن أبي سعيد وأحمد عن البراء وابن أبي شيبة عن الشعبي مرسلا، والبيهقي في الدلائل من مرسل جعفر بن محمد وهي وإن كان في أسانيدا ضعف فبعضها يعضد بعضا، ومن ثم قال النووي، الذي ذهب إليه الجمهور أنه صلى عليه وكبر أربعا، "وقال: "ندفنه عند فرطنا" بفتحتين متقدمنا "عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة. "وروي" عند أحمد والبزار وأبي يعلي، "أن عائشة قالت دفنه عليه الصلاة والسلام ولم يصل عليه" لاستغنائه بنبوة أبية عن الصلاة عليه التي هي شفاعة له، كما استغنى الشهيد بشهادته عنها أو لموته يوم كسوف الشمس، فاستغنى بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه، أو لأنه لا يصلي على نبي، وقد جاء لو عاش كان نبيا، ورد بأنه قد صح أن الطفل يصلى عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا على أطفالكم فإنهم من أفراطكم" , وصح أن الصحابة صلوا عليه صلى الله عليه وسلم، ثم حديث عائشة هذا قال في الإصابة إسناده حسن وصححه ابن حزم، لكن قال أحمد في رواية حنبل عنه حديث منكر، وقال الخطابي حديث عائشة أحسن اتصالا من رواية أنه صلى الله عليه وسلم ولكن هي أولى. وقال ابن عبد البر حديث عائشة لا يصح، ثم قال أعني ابن عبد البر "فيحتمل أن يكون" معناه "لم يصل عليه بنفسه وأمر أصحابه أن يصلوا عليه" ولم يحضرهم "أو لم يصل عليه في جماعة، بل صلى عليه منفردا" فلا يكون مخالفا لما عليه العلماء، وهو أولى ما حمل عليه حديثها، فلا يخالف ما أجمع عليه العلماء من الصلاة على الأطفال إذا استهلوا وهو عمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 وروي أن الذي غسله أبو بردة، وروى الفضل بن العباس، ولعلهما اجتمعا عليه. ونزل قبره الفضل وأسامة، والنبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر، ورش قبره وعلم بعلامة قال الزبير: وهو أول قبر رش. وانكسفت الشمس يوم موته فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله،   مستفيض في السلف والخلف ولا أعلم من جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب، انتهى كلام أبي عمر، "وروي أن الذي غسله أبو بردة" اسمه هانئ على الأشهر الأنصاري، "وروي" أنه "الفضل بن العباس ولعلهما اجتمعا عليه" فلا تنافي بين الروايتين. وروى ابن ماجه عن أنس لما قبض إبراهيم قال صلى الله عليه وسلم: "لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه" فأتاه فانكب عليه وبكى "ونزل قبره الفضل وأسامة" بن زيد "والنبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر" فرأى فرجة في اللحد فناول الحفار مدرة، وقال: "إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي". رواه ابن سعد "ورش قبره" بماء عليه بعد تمام دفنه. روى ابن سعد عن رجل من آل علي أنه صلى الله عليه وسلم حين دفن إبراهيم قال: "هل من أحد يأتي بقربة" فأتى رجل من الأنصار بقربة فقال: "رشها على قبر إبراهيم" "وعلم بعلاة" ليعرف بها "قال الزبير" بن بكار، "وهو أول قبر رش" وما روي أنه لقنه لما دفن فقال قل الله ربي، ورسول الله أبي والإسلام ديني، فبكت الصحابة وقالوا من يلقننا وبكي عمر حتى ارتفع صوته، فقال عليه السلام: ما لك، فقال: هذا ابنك وما بلغ ولا جرى عليه قلم ولقنه مثلك فما حال عمر، فبكى صلى الله عليه وسلم وبكت الصحابة معه، فنزل جبريل فسأله عن سبب بكائهم فأخبره فصعد جبريل ونزل بقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} والقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يريد وقت الموت وعند السؤال فطابت الأنفس وسكنت القلوب فمنكر جدا. بل لا أصل له قاله الشامي، "و" عن المغيرة بن شعبة قال: "انكسفت" بوزن انفعلت، وهذا يرد على القزاز حيث أنكره، وكذا الجوهري حيث نسبه للعامة "الشمس يوم موته" أي إبراهيم كما هو الرواية فأبدلها المصنف بالضمير اختصارا "فقال الناس: إنما كسفت" بفتح الكاف والسين والفاء وحكى ضم الكاف. قال الحافظ: وهو نادر "لموت إبراهيم" على ما كانوا يزعمون أنها لا تنكسف إلا لموت عظيم "فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشمس والقمر آيتان" علامتان "من آيات الله" الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته أو على تخويف العباد من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] . وزاد في رواية في الصحيح يخوف الله بهما عباده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 لا ينكسفان لموت أحد" رواه الشيخان. قيل: والغالب أن الكسوف يكون يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، فكسفت يوم موت إبراهيم في العاشر، فلذلك قالوا: كسفت لموته. وقال عليه الصلاة والسلام: "إن له مرضعا في الجنة"، رواه ابن ماجه.   ذكره الحافظ وقال المصنف: المراد كسوفهما لأن التخويف إنما هو به لا بذاتهما وإن كان كل شيء من خلقه آية من آياته "لا ينكسفان" بفتح التحتية وسكون النون وكسر السين "لموت أحد" إذ هما خلقان مسخران ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما، وفيه ما كان عليه من الشفقة على أمته وإبطال ذلك الاعتقاد، وبقية ذا الحديث ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله. "رواه" بتمامه "الشيخان" قال الحافظ: واستشكلت زيادة ولا لحياته؛ لأن السياق إنما ورد في حق من ظن أن ذلك لموت إبراهيم، ولم يذكروا الحياة، والجواب أن فائدة ذكرها دفع توهم من يقول لا يلزم من نفي كونه سببا للفقد أن لا يكون سببا للإيجاد، فعمم الشارع لدفع هذا التوهم انتهى. قال المصنف: أو تتميم للتقسيم، "قيل" في الاعتذار عمن قال ذلك، "والغالب أن الكسوف يكون يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، فكسفت يوم موت إبراهيم في العاشر" من الشهر عند الأكثر، وقيل في رابعه، وقيل في رابع عشرة وفي أنه ربيع أو رمضان أو ذو الحجة أقوال، "فلذلك قالوا كسفت لموته" فبين صلى الله عليه وسلم بطلان ذلك الاعتقاد ولأحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابنا خزيمة وحبان أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك" "وقال عليه الصلاة والسلام" لما توفي إبراهيم "إن له مرضعا" قال الحافظ بضم الميم في رواية الجمهور، زاد الإسماعيلي ترضعه "في الجنة". قال ابن التين يقال امرأة مرضع بلا هاء مثل حائض، وقد أرضعت فهي مرضعة إذا بني من الفعل، قال تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] ، قال تبعا للخطابي، وروى مرضعا بفتح الميم، أي إرضاعا انتهى. والمراد الجنس، فلا ينافي رواية مسلم وإن له ظئرين يكملان رضاعه في الجنة، وأكده بأن تنزيلا للمخاطب منزلة المنكر والشاك لمخالفة العادة وقدم الخبر إشارة إلى اختصاص هذا الحكم به لا كان، ولا يكون لغيره رضاع في الجنة بجسمه وروحه معا باثنين على صورة الآدميات من الحور العين أو غيرهن والتعدد لكمال العناية به، والأقوم أن رضاعه في النشأة الجنانية بأن أعقب موته دخوله الجنة، وزعم أنه في البرزخ وأنه أعطى هيئة يقتدر بها على الارتفاع فيه فاسد لقوله في الجنة والذي أوقعه فيه قياس الغائب على الشاهد حتى إن بعضهم جعل هذا من المتشابه الذي اختص الله بعلمه. "رواه ابن ماجه" من حديث ابن عباس وهو بعض الحديث الآتي قريبا نعم رواه البخاري عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 وقد روي من حديث أنس بن مالك أنه قال: لو بقي يعني إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان نبيا ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء. أخرجه أبو عمر. قال الطبري: وهذا إنما يقوله أنس عن توقيف يخص إبراهيم، وإلا فلا يلزم أن يكون ابن النبي نبيا، بدليل ابن نوح عليه الصلاة والسلام. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روي عن بعض المتقدمين: لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم، انتهى. قال شيخنا في "المقاصد الحسنة": ونحوه قول ابن عبد البر في تمهيده: لا أدري ما هذا، فقد ولد نوح غير نبي، ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا؛ لأنهم من ولد نوح، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يلزم من الحديث المذكور ما.   البراء بهذا اللفظ مختصرا، فاللائق عزوه له لقاعدة المحدثين أنه إذا كان في أحد الصحيحين لا يعزى لغيرهما إلا لزيادة، كما قاله مغلطاي، ولأنه سيذكر رواة ابن ماجه بتمامها قريبا جدا، فكان يحصل تقويته بعزوه هذه القطعة منه للبخاري، "وقد روي من حديث أنس بن مالك" موقوفا عليه "أنه قال لو بقي يعني إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم لكان نبيا، ولكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء". "أخرجه أبو عمر" بن عبد البر. "قال الطبري" الحافظ محب الدين: "وهذا إنما يقوله أنس عن توقيف" نص من الشارع "يخص إبراهيم وإلا فلا يلزم أن يكون ابن النبي نبيا بدليل ابن نوح عليه الصلاة والسلام" وكذا أولاد آدم فإنه لم ينبأ منهم غير شيث، "وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات" الواقعة في الشرح الكبير للرافعي على الوجيز. "وأما ما روي عن بعض المتقدمين" أبهمه أدبا لحكمه عليه بالبطلان "لو عاش إبراهيم لكان نبيا، فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات، ومجازفة وهجوم على عظيم انتهى". وإن هذا لهو المجازفة في الكلام، فالبطلان إنما يأتي ن جهة السند الذي هو المرقاة، لا من هذه العلل العقلية. "قال شيخنا في المقاصد الحسنة ونحوه قول ابن عبد البر في تمهيده" شرح الكبير على الموطأ "لا أدري ما هذا فقد ولد نوح غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من ولد نوح" كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] "انتهى". "قال الحافظ ابن حجر، ولا يلزم من الحديث المذكور" لو عاش إبراهيم لكان نبيا "ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 ذكره لما لا يخفى، وكأنه سلف النووي، وقال أيضا عقب كلام النووي: إنه عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، قال: وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال في إنكاره ما قال. وجوابه: أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، ولا يظن بالصحابي الهجوم على مثل هذا بالظن. قال شيخنا: والطرق الثلاثة. أحدها: ما أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى عليه وقال: "إن له مرضعا في الجنة، لو عاش لكان صديقا نبيا، لو عاش لأعتقت أخواله من القبط، وما   ذكره" ابن عبد البر" لما لا يخفى من أن الشرطية لا تستلزم الوقوع، "وكأنه سلف النووي" مستنده فيما قال، "وقال الحافظ أيضا" في الإصابة "عقب كلام النووي إنه عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة" ابن عباس مرفوعا وأنس وأبن أبي أوفى موقوفا لفظا، وحكمه الرفع؛ لأنه لا يقال رأيا "قال وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، فقال في إنكاره ما قال" وأطنب في المقال، "وجوابه أن القضية الشرطية" كالحديث المذكور "لا تستلزم الوقوع" ففي التنزيل {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، وإنما الله إله واحد، "ولا يظن بالصحابي الهجوم على مثل هذا بالظن"؛ لأنه إساءة ظن بمن عدله الله في كتابه ورسوله في أحاديثه. "قال شيخنا" السخاوي في المقاصد تبعا لشيخه في الإصابة فإنه ذكر فيها الأحاديث الثلاثة قبل رده على ابن عبد البر والنووي. "والطرق الثلاثة أحدها ما أخرجه ابن ماجه وغيره" كالبيهقي "من حديث ابن عباس" قال: "لما مات إبراهيم ابن النبي صى الله عليه وسلم صلى عليه، وقال: "إن له مرضعا في الجنة" اثنين على صفة الآدميات، فيرضعهما بجسده وروحه معا، بخلاف سائر أطفال المؤمنين، فيرضعون من شجرة طوبى، وحاضنهم إبراهيم، كما أخرجه ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم من مرسل خالد بن معدان، وعبيد بن عمير أحد كبار المتابعين، ويؤيده حديث ابن عمر رفعه "كل مولود في الإسلام فهو في الجنة شبعان ريان يقول يا رب أورد علي أبوي"، ومعلوم أن رضاعهم إنما هو بأرواحهم لا بأجسادهم. قال ابن القيم وغيره: وفيه أنه سبحانه يكمل لأهل السعادة بعد موتهم النقص الكائن في الدنيا حتى إن طالب العلم أو القارئ إذا مات كمل له حصوله بعد موته انتهى. "ولو عاش لكان صديقا نبيا" فهذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم يدفع إنكار من أنكره وإن كان في سنده مقال، فقد انجبر بالطريقين الآخرين "لو عاش لاعتقت أخواله من القبط" إكراما له "وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 استرق قبطي". وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي، وهو ضعيف ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال: إنه غريب. ثانيهما: ما رواه إسماعيل السدي عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو عاش لكان نبيا، الحديث. ثالثها: ما عند البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفي: "رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات صغيرا، ولو قضي بعد محمد نبي عاش ابنه إبراهيم، ولكن لا نبي بعده".   استرق قبطي"، وفي رواية لوضعت الجزية عن كل قبطي ومارق له خال. قال البرهان: الظاهر أن معناه لو عاش فيراه أخواله لأسلموا فرحا به وتكرمة له، فوضعت الجزية عنهم؛ لأنها لا توضع على مسلم، فإذا أسلموا وهم أحرار لم يسترقوا لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق، كذا قال وهو صنو ما قالاه في: لكان نبيا، فلا حاجة إلى هذا التكلف لأنه مدخول القضية الشرطية على أن من الخصائص أنه يخص عليه السلام من شاء بما شاء. "وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان" العبسي بالموحدة الكوفي "الواسطي" قاضيها اشتهر بكنيته، "وهو ضعيف" مات سنة تسع وستين ومائة، "ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة" أي في كتاب معرفة الصحابة، "وقال إنه غريب" لكن له شواهد كما علمت، ومنها ما عند ابن عساكر عن جابر رفعه "لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا". "ثانيها ما رواه إسماعيل" بن عبد الرحمن "السدي" بضم السين وشد الدال المهملتين أبو محمد الكوفي صدوق يهم، روى له مسلم والأربعة "عن أنس قال: كان إبراهيم قد ملأ المهد، ولو عاش لكان نبيا الحديث" بقيته لكن لم يكن ليبقى، فإن نبيكم آخر الأنبياء. "ثالثها ما عند البخاري من طريق" شيخه "محمد بن بشر" العبدي أبي عبد الله الكوفي، الثقة الحافظ المتوفى سنة ثلاث ومائتين، "عن إسماعيل بن أبي خالد" الأحمسي مولاهم البجلي ثقة ثبت من رجال الجميع، توفي سنة ست وأربعين ومائة، "قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة، كما ضبطه الكرماني في مواضع منها في شرح هذا الحديث واسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي الصحابي، ابن الصحابي آخر من مات بالكوفة من الصحابة سنة سبع وثمانين، "رأيت" لحذف أداة الاستفهام، وفي رواية ابن منده من طريق إبراهيم بن حميد عن إسماعيل قلت لابن أبي أوفى: هل رأيت "إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال" زاد ابن منده نعم كان أشبه الناس به "مات صغيرا، ولو قضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي. عاش ابنه إبراهيم ولكنه لا نبي بعده" فلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 وأخرجه أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي ما مات ابنه إبراهيم، انتهى.   يقض ذلك، "وأخرجه أحمد عن شيخه "وكيع" بن الجراح الكوفي، الثقة، الحافظ، العابد. قال أحمد ما رأيت أوعى للعلم منه، ولا أحفظ، ولا رأيت معه كتابا قط، ولا رقعة، مات سنة ست وتسعين ومائة، "عن إسماعيل" المذكور قال: "سمعت ابن أبي أوفى" عبد الله بن علقمة "يقول لو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي ما مات ابنه إبراهيم انتهى" فهذا حديث صحيح تعددت طرقه، فكيف ينكر مع أن وجهه ظاهر، والله تعالى أعلم بالصواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 الفصل الثالث: في ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرا مدخل ... الفصل الثالث: في ذكر أزواجه الطاهرات وسراريه المطهرات قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} [الأحزاب: 6] أي أزواجه عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين، سواء من مات عنها أو ماتت عنه وهي تحته   الفصل الثالث: في ذكر أزواجه أي أسمائهن وبعض ما تعلق بهن من فضل ونسب وغيرهما "الطاهرات" من الإثم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] . والمراد بهن ما يشمل من خطبها أو عرضت عليه ولم ينكحها لأنه سيذكرهن في ذا الفضل، فاطلق عليهن في الترجمة أزواجه حكما أو أراد الحقيقة، وذكر غيرهن تبع، "وسراريه المطهرات" عن الابتذال بالبيع والشراء بتسريه بهن وصونه لهن، حتى يمتزن عن كثير من الحرائر وغاير لمسهن بالسبي والرق بخلاف الحرائر، فطاهرات أصالة لعراقة أنسابهن والصيانة في أهاليهن، ومنهن خديجة وكانت تدعى في الجاهلية بالطاهرة، وإن حزن به غاية الشرف والطهارة، ولا يرد أن صفية مسها السبي؛ لأنه لما أعتقها وتزوجها نزلت منزلة الحرائر الأصليات، فكأنها لم ترق لا سيما وهي من ذرية هارون، وهو شرف لها، ولما أراد بالذكر الأعم عن معناه اللغوي، وهو ذكر الاسم حسن منه تعقيب الترجمة بذكر آية في فضائلهن، فقال: "قال الله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم} فيما دعاهم إليه ودعتهم أنفسهم إلى خلافه {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} استدل به من قال بتحريم نكاح الكافرة عليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو تزوجها كانت أما للمؤمنين، وقرئ وهو أب لهم، واستدل به من جوز أن يقال له أبو المؤمنين، "أي أزواجه عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين سواء من مات عليها أو ماتت عنه، وهي تحته" إشارة لمحل الاتفاق إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 وذلك في تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا في نظر وخلوة. ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات. قال البغوي: كن أمهات المؤمنين دون النساء، روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها ولفظها -كما في البيضاوي: لسنا أمهات النساء وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول: إن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال.   من فارقها أو استعاذت منه لا تحرم إن لم يدخل، فإن دخل فقولان ذكرهما المصنف في الخصائص، وفي الروضة أن الأصح الحرمة، وذلك في تحريم نكاحهن على التأييد، كما قال تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] ، "ووجوب احترامهن" فهن كالأمهات في ذلك "لا في نظر وخلوة" بهن، فحرام كالأجانب قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] ، ولا غيرهما كعدم نقض الوضوء بمسهن وتوارث هذا ونحو أخبار بفضلهن لأجله صلى الله عليه وسلم، فلا يقال لا فائدة في ذكره بعد موتهن، "ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين" إذ لا يحرم نكاحهن على أحد، "ولا آباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخواتهن وأخواتهن أخوال وخالات" للمؤمنين، فقد تزوج الزبير أسماء، وهي أخت عائشة والعباس أم الفضل أخت ميمونة، ولم يقل هما خالتا المؤمنين. "قال البغوي" محمد بن الحسين بن مسعود، الحافظ، الفقيه، الإمام محيي السنة، صاحب التصانيف، المبارك له فيها لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين ذا عبادة ونسك وقناعة باليسير مات في شوال سنة ستة عشر وخمسمائة عن ثمانين سنة "كن أمهات المؤمنين" الذكور "دون النساء" الممنات. "روي ذلك عن عائشة رضي الله عنها" ولفظ البغوي في معالم التنزيل، واختلفوا في أنهن كن أمهات المؤمنين فقيل كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعا، وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء. روي عن الشعبي عن مسروق أن أمرأة قالت لعائشة: يا أمه، فقالت: لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم انتهى. فحكى القولين على حد سواء خلاف إيهام المصنف أنه جزم بأحدهما "ولفظها كما في البيضاوي" ورواه البيهقي في سننه عنها "لسنا" معاشر الأزواج الطاهرات "أمهات النساء"، بل أمهات الرجال أي مشبهات بأمهات النسب في حرمة النكاح والتعظيم وذلك لا يتأتى بينهن وبين النساء، وإن وجب عليهن احترامهن، لكن مجموع الأمرين لم يثبت للنساء "وهو جار على الصحيح عند أصحابنا وغيرهم من أهل الأصول إن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال" إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 قال: وكان صلى الله عليه وسلم أبا الرجال والنساء. ويجوز أن يقال أبو المؤمنين في الحرمة. وفضلت زوجاته عليه الصلاة والسلام على النساء، وثوابهن وعقابهن مضاعفان، ولا يحل سؤالهن إلا من وراء حجاب وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي   لقرينة، كالخطاب وغيره من الأحكام التي قامت القرائن على أنها ليست خاصة بالرجال، وفي فتح الباري وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب، ولا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات على الراجح انتهى. قال المصنف: وحاصله أن النساء يدخلن في جميع المذكر السالم تغليبا، لكن صح عن عائشة أنها قالت أنا أم رجالكم لا أم نسائكم. قال ابن كثير: وهذا أصح الوجهين انتهى، فعلم من هذا إنهما قولان مرجحان. "قال" البغوي: "وكان صلى الله عليه وسلم أبا الرجال والنساء" أي كالأب في الشفقة عليهم واحترامهم له، فلا ينافي قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ، كما بين ذلك بقوله: "ويجوز أن يقال أبو المؤمنين في الحرمة" وفي حرف أبي، وهو أب لهم، وخص المؤمنين بالذكر لئلا يرد أنه كالأب للنساء، لجواز نكاحه منهن، ولو قال أبا للرجال والنساء في الاحترام والتعظيم كان أوضح، "وفضلت زوجاته عليه الصلاة والسلام على" سائر "النساء". قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} الآية، وهذه عبارة الروضة وعبارة القاضي حسين نساؤه أفضل نساء العالمين، وعبارة المتولي خير نساء هذه الأمة وعبارة الروضة تحتملهما، ويلزم من كونهن خير نساء هذه الأمة أن يكن خير نساء الأمم؛ لأن هذه الأمة خير الأمم، والتفضيل على الأفضل تفضيل على من هو دونه إلا أنه لا يلزم من تفضيل الجملة على الجملة تفضيل كل فرد على كل فرد، وقد قيل بنبوة مريم وآسية وأم موسى، فإن ثبت خصت من العموم. ذكره التقي السبكي في الحلبيات زاد غيره وحواء وهاجر، "وثوابهن وعقابهن مضاعفان" كما أنزل الله في القرآن، أي مثلي ثواب غيرهن من النساء ومثلي عذابه، كما جزم به البغوي وغيره، وهو ظاهر اللفظ وعمومه شامل لجميع الطاعات والمعاصي، فثوابهن على نحو الصلاة مضاعف بالنسبة لغيرهن، وعقابهن على المعاصي، وإن قلت كذلك خلافا لا يوهمه البيضاوي، "ولا يحل سؤالهن إلا من وراء حجاب،" أي ستر. قال عياض فلا يجوز إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ورده الحافظ بأنهن كن بعده صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن، وسمع الصحابة ومن بعدهم الحديث: منهن مستترات الأبدان لا الأشخاص انتهى. ويمكن أن ذلك من جملة الضرورة، وأن قوله من براز أي مثلا فلا يرد عليه ذلك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 أفضلهما خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى قريبا. واختلف في عدة أزواجه عليه الصلاة والسلام وترتيبهن، وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عنهن ومن دخل بها ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه. والمتفق عليه: أنهن إحدى عشرة امرأة، ستة من قريش: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وعائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة بن كعب بن لؤي. وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن عبد الله بن قرط.   "وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى قريبا" والصواب كما قال السيوطي القطع بتفضيل فاطمة عليها، وصححه السبكي وقال: وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه الرتبة وإن كن خير نساء الأمة بعد هؤلاء الثلاث، وهن متقاربان في الفضل لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله، لكنا نعلم لحفصة بنت عمر من الفضائل كثيرا فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة. "واختلف في عدة أزواجه عليه الصلاة والسلام وترتيبهن" أي ترتيب تزويجهن "وعدة من مات منهن قبله، ومن مات عليهن، ومن دخل بها، ومن لم يدخل بها، ومن خطبها ولم ينكحها، ومن عرضت نفسها عليه" هذه ترجمة سيفصلها بعد ذلك "والمتفق عليه أنهن إحدى عشرة" قال الشامي لم يختلف فيهن اثنان "ستة من قريش خديجة بنت خويلد" بضم الخاء المعجمة، وفتح الواو، وسكون التحتية، وكسر اللام، وبالدال المهملة "ابن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي"، فتجتمع معه صلى الله عليه وسلم في جده قصي. "وعائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان "بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم"، بفوقية مفتوحة، فتحتية "ابن مرة بن كعب بن لؤي"، فاجتمعت معه في جده مرة. "وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل" بضم النون "ابن عبد العزيز بن رباح" بكسر الراء، وفتح التحتية، فألف، فحاء مهملة، قال العسكري: ولا يعرف في العرب في الجاهلية رباح بموحدة "ابن عبد الله بن قرط" بضم القاف وفتح الراء، وبالطاء المهملتين، كما في الجامع وغيره، ويقع في بعض النسخ تأخير رباح عنه وهو غلط، فالذي عليه أهل النسب وهو الذي في الفتح، وشرح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي. وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبدودبن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي. وأربع عربيات: زينب بنت جحش   المصنف والشامي وغيرهم، أن رباحا والد عبد العزي وأن أباه عبد الله بن قرط "بن رزاح" بفتح الراء والزاي، فألف، فمهملة "ابن عدي" بالدال المهملة "ابن كعب بن لؤي" فاجتمعت معه في كعب وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت، فبينة صلى الله عليه وسلم وبين كعب سبعة آباء، وبين حفصة وبينه تسعة. "وأم حبيبة بنت أبي سفيان" صخر "بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي" فاجتمعت معه في عبد مناف. "وأم سلمة بنت أبي أمية" واسمه حذيفة أو زهير أو سهل ويعرف بزاد الراكب، كان إذا سافر لم يحمل أحد من رفقته، زاد بل يكفيهم، وهو أحد أجود العرب المشهورين بالكرم، "ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وبالزاي "ابن يقظة" بفتح التحتية والقاف والظاء المعجمة، "ابن مرة بن كعب بن لؤي" فاجتمعت معه في مرة. "وسودة بنت زمعة،" بفتح الزاي، وسكون الميم، وتفتح على ما في القاموس، وبه يرد قول المصباح لم أظفر بسكونها في كلام لغوي، "ابن قيس" بفتح القاف، وسكون التحتية، "ابن عبد شمس بن عبدود" بفتح الواو وشد الدال، كذا اقتصر عليه الشامي لأنه الأكثر كما في القاموس، وإلا ففيه بضم الواو أيضا، وبهما قرئ "ابن نصر بن مالك بن حسل" بكسر الحاء، وسكون السين المهملتين، وباللام "ابن عامر بن لؤي" بن غالب، فاجتمعت معه في لؤي "وأربع عربيات" من غير قريش من خلفاء قريش، كما في الشامي، فأراد بعربيات المغايرات للقرشيات، وإلا فمعلوم أن قريشا صميم العرب. "زينب بنت جحش" قال في الروض: كان اسمه بره بضم الباء، أي وشد الراء، فقالت زينب يا رسول الله لو غيرت اسم أبي فإن البرة صغيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان أبوه مسلما لسميته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. وميمونة بنت الحارث الهلالية. وزينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين. وجويرية بنت الحارث الخزاعية المصطلقية. وواحدة غير عربية من بني إسرائيل وهى صفية بنت حيي من بني النضير. فمات عنده صلى الله عليه وسلم منهن اثنتان: خديجة   باسم من أسمائنا أهل البيت، ولكني قد سميته جحشا، والجحش أكبر من البرة" رواه الدارقطني في كتاب المؤلف والمختلف انتهى. "ابن رياب" بكسر الراء وخفة التحتية وتبدل همزة فألف فموحدة. "ابن يعمر" بفتح الصاد المهملة، وكسر الموحدة. "ابن مرة بن كبير" ضد صغير "ابن غنم" بفتح الغين المعجمة وسكون النون. "ابن دودان" بضم الدال المهملة، وسكون الواو، فدال أخرى، فألف فنون. "ابن أسد بن خزيمة" بن مدركة بن إلياس بن مضر، فاجتمعت معه في جده الأعلى خزيمة، فهي عربية وتلتقي معه فيما فوق قريش. "وميمونة بنت الحارث" بن حزن بن بجير بموحدة وجيم وتحتية مصغر ابن هزم بضم الهاء، وفتح الزاي ابن رؤبة، بضم الراء بعدها همزة مفتوحة تبدل واوا ابن عبد الله بن هلال بن عامر "الهلالية" نسبة إلى جدها الأعلى هلال المذكور، فهي قريبة ميمونة وعامر هو ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح المعجمة والمهملة والفاء ابن قيس عيلان بفتح المهملة وسكون التحتية "أم المساكين". "وجويرية بنت الحارث" بن أبي ضرار بن حبيب بن أبي عائذ بهمزة فذال معجمة بن مالك بن جذيمة بفتح الجيم وكسر المعجمة، وهو المصطلق بن سعد بن كعب بن عمرو، وهو خزاعة "الخزاعية نسبة إلى جدها هذا "المصطلقية" بضم الميم، وسكون الصاد، وفتح الطاء المهملتين، وكسر اللام، وبالقاف إلى جدها المذكور. "وواحدة غير عربية من بني إسرائيل" يعقوب، فهي من بنات عمه إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، "وهي صفة بنت حيي" بن أخطب "من بني النضير، فمات عنده صلى الله عليه وسلم منهن اثنتان خديجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وزينب أم المساكين، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع، ذكر أسماؤهن الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسي نظما فقال: توفي رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب ولا خلاف في أن أول امرأة تزوج بها منهن خديجة بنت خويلد، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها حتى ماتت. وهذا حين الشروع في ذكرهن على الترتيب:   وزينب أم المساكين" احترازا عن زينب بنت جحش، "ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع ذكر أسماءهن الحافظ أبو الحسن" علي "بن الفضل" بن علي العلامة شرف الدين بن العاصي أبا المكارم "المقدسي" ثم السكندري المالكي ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وسمع السلفي فأكثر عنه وانقطع إليه، وتخرج به وكان من أئمة المذهب العارفين به، وحفاظ الحديث مع ورع ودين وأخلاق رضية ومشاركة في الفضائل. أخذ عنه المنذري وخلائق، وله تصانيف مفيدة، مات بالقاهرة، في مستهل شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة "نظما، فقال: "توفي رسول الله عن تسع نسوة ... إليهن تعزى المكرمات وتنسب" "عطف تفسير لتعزى": "فعائشة ميمونة وصفية ... وحفصة تتلوهن هند وزينب" هند هي أم سلمة، وهو أحد قولين والثاني رملة كما يأتي: "جويرية مع رملة ثم سودة ... ثلاث وست ذكرهن مهذب" رملة هي أم حبيبة على أصح قولين والآخر هند كما يأتي، "ولا خلاف في أن أول امرأة تزوج بها منهن خديجة بنت خويلد وأنه" كما رواه مسلم من طريق الزهري، عن عروة عن عائشة قالت: أنه "صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها" واستمر ذلك "حتى ماتت" بمكة رضي الله عنها "وهذا حين،" أي أوان "الشروع في ذكرهن على الترتيب" في تزوجه بهن لا باعتبار الفضل لأنه قدم سودة على عائشة وهي أفضل منها بلا خلاف. وجرى المصنف في ترتيبهن على ما رواه يونس عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بعد خديجة سودة، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم أم سلمة، ثم أم حبيبة، ثم زينب بنت جحش، ثم أم المساكين، ثم ميمونة، ثم جويرية، ثم صفية، وفي رواية عقيل عنه خديجة، ثم سودة، ثم عائشة، ثم أم حبيبة ثم حفصة، ثم أم سلمة، ثم ابنة جحش، ثم جويرية ثم ميمونة، ثم صفية، ثم أم المساكين، وقيل في ترتيبهن غير ذلك. أخرج ابن أبي خيثمة عن هند بن أبي هالة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أبى لي أن أزوج أو أتزوج إلا أهل الجنة" وأخرج عبد الملك بن محمد النيسابوري عن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: "ما تزوجت شيئا من نسائي ولا زوجت شيئا من بناتي إلا بوحي جاءني به جبريل عن ربي عز وجل". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 " خديجة أم المؤمنين ": فأما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم فكانت تدعى في الجاهلية "الطاهرة" وكانت تحت أبي هالة النباش بن زرارة، فولدت له هندا   خديجة أم المؤمنين: "فأما أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها" أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة. قاله الحافظ أبو الحسن عز الدين بن الأثير، وأقره الإمام الذهبي، وسبقهما لحكاية الإجماع الثعلبي، وابن عبد البر، فسنت أحسن السنن، فلها أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، "وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم" لقب لجندب بن حجر بن بغيض بن عامر بن لؤي، وفي نسخة بنت زائدة، بنت أبن الأصم، وهي وصف ثان لفاطمة لا لزائدة لئلا يوهم أن زائدة اسم لأمها مع أنه أبو هالة وأمها هالة بنت عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن بغيض بن عامر بن لؤي، وأم هالة قلابة بنت سعيد من بني كعب بن لؤي فكيفما دار نسبها دار في قريش، "فكانت تدعى" توصف أو تنادى "في الجاهلية الطاهرة" لتركها ما كانت تفعله نساء الجاهلية، "وكان تحت أبي هالة" واسمه فيما جزم به أبو عبيد، وقدمه مغلطاي "النباش"، بفتح النون، فموحدة ثقيلة، فألف فشين معجمة، وقيل مالك. حكاه الزبير بن بكار والدارقطني وصدر به في الفتح، وقيل زرارة حكاه ابن منده والسهيلي، وقيل هند جزم به العسكري، وتبعه اليعمري "ابن زرارة" بن النباش بن عدي التميمي بميمين من بني تميم "فولدت له هندا" الصحابي، راوي حديث الصفة النبوية، البدري الفصيح البليغ الوصاف، وله ولد اسمه أيضا هند، فعلى قول العسكري أن اسم أبي هالة هند يكون ممن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 وهالة وهما ذكران. ثم تزوجها عتيق ابن عابد المخزومي، فولدت له جارية اسمها هند، وبعضهم يقدم عتيقا على أبي هالة. ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها يومئذ أربعون سنة وبعض أخرى، وكان سنه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين، وعليه الأكثر، وقيل ثلاثين. وكانت قد عرضت نفسها عليه،   اشترك مع أبيه وجده في الاسم، "وهالة" التميمي قال أبو عمر له صحبة. وروى المستغفري عن عائشة قدم ابن لخديجة يقال له هالة والنبي صلى الله عليه وسلم فسمعه فقال: هالة هالة هالة، وروى الطبراني عن هالة بن أبي هالة أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو راقد، فاستيقظ، فضم هالة إلى صدره، وقال هالة ثلاثة، "وهما ذكران" خلافا لمن وهم، فزعم هالة أنثى وإن مشى عليه الشامي هنا، ويرده قول عائشة ابن لخديجة، ومن ثم أورده في الإصابة في الرجال لا في النساء "ثم" بعد موت أبي هالة في الجاهلية "تزوجها عتيق بن عابد" بالموحدة والدال المهملة ابن عبد البر بن عمر بن مخزوم "المخزومي" القرشي، "فولدت له جارية اسمها هند" أسلمت وصحبت ولم ترو شيئا، قاله الدارقطني. وقال الزهري: وهي أم محمد بن صيفي المخزومي، وهو ابن عمها. قال ابن سعد: ويقال لولد محمد بنو الطاهرة لمكان خديجة، وقال بعضهم ولدت لعتيق عبد الله، وقيل عبد مناف وهندا، ثم كونه بعد أبي هالة هو قول الأكثر، وصححه ابن عبد البر، "وبعضهم يقدم عتيقا"، في تزويج خديجة "على أبي هالة" وهو قتادة وابن شهاب وابن إسحاق في رواية يونس قالوا: تزوجها وهي بكر عتيق، ثم هلك عنها، فتزوجها أبو هالة واقتصر عليه في معيون والفتح وحكى القولين في الإصابة "ثم" بعد موتهما معا عنها "تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولها يومئذ أربعون سنة" كما رواه ابن سعيد، واقتصر عليه اليعمري، وقدمه مغلطاي والبرهان وصحح، وقيل خمس وأربعون، وقيل ثلاثون وقيل ثمانية وعشرون. حكاها مغلطاي وغيره: أما قوله "وبعض أخرى" فينظر قائله وبها قدر البعض، "وكان سنه عليه الصلاة والسلام إحدى وعشرين سنة" في قول الزهري، "وقيل خمسا وعشرين" سنة "وعليه الأكثر" من العلماء، "وقيل ثلاثين" حكاه ابن عبد البر، وقيل غير ذلك، "وكانت قد عرضت نفسها عليه" بلا واسطة، كما عند ابن إسحاق أو بواسطة نفيسة بنت منية، كما رواه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة،   الواقدي عنها، وقد قدمت ذلك ولا تنافي فإنها أرسلت له نفيسة أولا، فلما حضر كلمته بنفسها، وسبب العرض ما حدثها به غلامها ميسرة حين سافر معه في تجارتها وما رأته هي أيضا فيه من الآيات، وما رواه المدائني، عن ابن عباس أن نساء مكة اجتمعن في عيد لهن، فجاء رجل، فنادى بأعلى صوته أنه سيكون في بلدكن نبي يقال له أحمد، فمن استطاعت منكن أن تكون زوجا له فلتفعل فحصبنه إلا خديجة فأعرضت عن قوله ولم تعرض عنه "فذكر ذلك لأعمامه" فيه أن الله جبله على الاستشارة من قبل النبوة، "فخرج معه منهم حمزة"، كما عند ابن إسحاق، ونقل السهيلي عن المبرد أن أبا طالب هو الذي نهض معه، وهو الذي خطب، وجمع بأنهما خرجا معا، والخاطب أبو طالب؛ لأنه أسن من حمزة. وروى أحمد والطبراني برجال الصحيح عن ابن عباس والبزار والطبراني برجال ثقات عن جابر بن سمرة أو رجل من الصحابة والطبراني بسند ضعيف عن عمران، وهو والبزار بسند ضعيف عن عمار دخل حديث بعضهم في بعض أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى وهو شريك له إبلا لأخت خديجة مدة، فلما انقضت جعل شريكه يأتي يتقاضاها ما بقي لهما عليها فقالت له مرة أين محمد، قال قلت له فزعم أنه يستحيي، فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء منه، لا أعف، ولا ولا فوقع في نفس خديجة، فبعثت إليه، فقالت: ائت أبي فاخطبني، قال: "إن أباك رجل كثير المال وهو لا يفعل". وفي حديث عمار مررت معه صلى الله عليه وسلم على أخت خديجة، فنادتني فانصرفت إليها ووقف عليه السلام، فقالت: أما لصاحبك في تزويج خديجة حاجة فأخبرته فقال: "بلى لعمري"، فرجعت إليها، فأخبرتها انتهى، فقالت له صلى الله عليه وسلم: كلم أبي وأنا أكفيك، وائت عند سكره، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فكلمه، وكان أبوها يرغب أن يزوجه، فذبحت خديجة بقرة، وصنعت طعاما وشرابا، ودعت أباها ونفرا من قريش فطعموا وشربوا حتى ثملوا، فقالت: إن محمد بن عبد الله يخطبني، فزوجني إياه، ففعل فخلفته وألبسته حلة وضربت عليه قبة، وكذا كانوا يفعلون بالآباء، فلما سرى عنه سكره نظر ذلك، فقال ما شأني ما هذا، قالت: زوجتني محمد بن عبد الله، فلما أصبح قيل له أحسنت زوجت محمدا، قال أو قد فعلت؟ قالوا: نعم فدخل عليها، فقال: إن الناس يقولون إني زوجت محمدا وما فعلت، قالت: بلى، قال: أنا أزوج يتيم أبي طالب لا لعمري، قالت: ألا تستحيي تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران، فإن محمدا كذا وكذا، فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إليه صلى الله عليه وسلم بوقيتين فضة أو ذهب، وقالت اشتر حلة واهدها لي وكساء، وكذا وكذا، ففعل، ولا تعارض بين هذه الأسباب لعرضها نفسها عليه، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بكرة. وزاد ابن إسحاق من طريق آخر: وحضر أبو طالب ورؤساء مضر: فخطب أبو طالب وقد قدمت خطبته في المقصد الأول عند ذكر تزويجها له صلى الله عليه وسلم. وذكر الدولابي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشرة أوقية ذهبا. وكانت خديجة -كما قدمته- أول من آمن من الناس،   من جملة أسبابة وصف أختها له، وهي تسمع بشدة الحياء والعفة وغيرهما، فأرسلت له أولا نفيسة لتعلم أله فيها رغبة، فلما علمت ذلك كلمته بنفسها، فكأنه أبطأ عليها بعض أيام، فذكرته لأختها فمر عليها مع عمار، فقالت لعمار ذلك، فوافق صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكلم أعمامه، فذهب معه اثنان "حتى دخل عليه" أبيها "خويلد بن أسد، فخطبها إليه" أي من خويلد لنفسه صلى الله عليه وسلم، "فتزوجها صلى الله عليه وسلم" بعدما تحيلت على أبيها بما ذكر؛ لأنه كان يرغب عن أن يزوجه والله هداها ووفقها، وكون أبيها هو الذي زوجها هو ما جزم به ابن إسحاق أولا، ثم صدر به هنا وهو ظاهر أحاديث المذكورين، وقيل أخوها عمرو بن خويلد، وقيل مها عمرو بن أسد، ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه؛ لأن أباها مات قبل ذلك. قال السهيلي وهو الأصح وبالغ المؤملي، فحكى عليه الاتفاق "وأصدقها عشرين بكرة" كما قاله المحب الطبري قائلا ولا تخالف بينه وبين ما يقال أصدقها عنه أبو طالب، لجواز أنه صلى الله عليه وسلم زاد في صداقها فكان الكل صداقا. "وزاد ابن إسحاق من طريق آخر، وحضر أبو طالب ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب، وقد قدمت خطبته في المقصد الأول عند ذكر تزويجها له" مصدر مضاف لمفعوله، أي تزويج أبيها له "صلى الله عليه وسلم" فسقط زعم أن الصواب تزوجها، نعم هو أولى فقط ويكون مضافا لفاعله، "وذكر الدولابي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم أصدق خديجة اثنتي عشرة أوقية ذهبا" ونشا، كما هو بقية كلام من نقل عنه، كما أسلفه في المقصد الأول، وقال: إن النش نصف أوقية، وكل أوقية أربعون درهما انتهى، وهو بفتح النون والشين المعجمة، وفي مسلم عن عائشة كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ذهبا ونشا، أتدري ما النش؟ قلت لا، قالت: نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم، فذلك صداقه لأزواجه، وهذا لصحته أولى ما ذكره ابن إسحاق أن صداقه لأكثر أزواجه أربعمائة درهم، ولزيادته فإن من ذكر الزيادة معه زيادة علم، فلعل ما وقع لبعضهم أنه أصدق خديجة أربعمائة دينار أصله درهم، ويكون بناء على كلام ابن إسحاق. "وكانت خديجة، كما قدمته أول من آمن من الناس" على الإطلاق، كما حكى عليه الثعلبي وابن عبد البر وابن الأثير الاتفاق، وإنما الخلاف في أول من آمن بعدها، وتقدم الجمع ثمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام -أو إدام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني،   قال في الإصابة: وأصرح ما وقفت عليه في سبقها إلى الإسلام ما رواه أبو نعيم في الدلائل بسند ضعيف عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم جالسا مع خديجة إذ رأى شخصا بين السماء والأرض فقالت له خديجة: ادن فدنا منها، فقالت: تراه قال: "نعم"، قالت: أدخل رأسك تحت درعي ففعل فقالت: تراه قال: "لا"، قالت: أبشر هذا ملك لو كان شيطانا لما استحي ثم رآه بأجياد فنزل إليه وبسط له بساطا، وبحث في الأرض، فنبع الماء، فعلمه جبريل كيف يتوضأ فتوضأ، وصلى ركعتين نحو الكعبة، وبشره بنبوته، وعلمه اقرأ باسم ربك ثم انصرف فلم يمر على شجر ولا حجر إلا قال: سلام عليك يا رسول الله، فجاء إلى خديجة فأخبرها، فقالت: أرني كيف أراك فأراها، فتوضأت كما توضأ ثم صلت معه، وقالت: أشهد أنك رسول الله انتهى. "وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم" لفظ الرواية، وفي الصحيحين أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، زاد الطبراني بحراء "يا محمد " لفظ البخاري في باب تزويجها وفضلها، فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك هو لفظ مسلم. قال الحافظ: أي توجهت إليك، وقوله ثانيا، فإذا هي أتتك، أي وصلت إليك، ولفظ البخاري قد أتت بلا كاف "بإناء فيه طعام" أو" قال "إدام" بكسر الهمزة "أو" قال "شراب" كذا رواية الصحيحين بالشك من الراوي ثلاثا وللإسماعيلي فيه إدام أو طعام وشراب بالشك مرتين. وفي رواية الطبراني أنه كان حيسا، "فإذا هي أتتك" أي وصلت إليك، "فاقرأ" بهمزة وصل وفتح الراء "عليها السلام من ربها" إضافة تشريف لها "ومني". قال المصنف، وهذه لعمر الله خاصة لم تكن لسواها، وسبقه إلى هذا ابن القيم في الهدى، فقال: وهذه فضيلة لا تعرف لامرأة سواها انتهى. زاد الطبراني، فقالت: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، وللنسائي عن أنس قال: قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام يعني فأخبرها، فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، زاد ابن السني وعلى من سمع السلام إلا الشيطان. قال في فتح الباري: قال العلماء في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل وعليه السلام كما وقع لبعض الصحابة حيث كانوا يقولون في التشهد السلام على الله، فنهاهم صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله"، فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب" والقصب: اللؤلؤ المجوف.   يرد عليه السلام، كما يرد على المخلوقين لأن السلام من أسمائه، وهو أيضا دعاء بالسلامة، وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله، فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام، والسلام اسمه، ومنه يطلب، ومنه يحصل فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه، فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه، ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: وعلى جبريل السلام ثم قالت: وعليك السلام، ويستفاد منه رد السلام على من أرسله وعلى من بلغه، والذي يظهر أن جبريل كان حاضرا عند جوابها فردت عليه وعلى النبي مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، ثم أخرجت الشيطان ممن سمع؛ لأنه لا يستحق الدعاء بذلك، وإنما بلغها جبريل بواسطة المصطفى، ولم يواجهها بالخطاب، كمريم قيل أنها نبية، وقيل لأنها لم يكن معها زوج محترم، فخاطبها. "وبشرها ببيت في الجنة من قصب" بفتح القاف والصاد المهملة وبالموحدة "لا صخب فيه" بفتح المهملة والمعجمة بعدها موحدة الصياح والمنازعة برفع الصوت "ولا نصب" بفتح النون والمهملة فموحدة التعب فبشرها صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتخلف عن امتثال ما أمر به. وقد روى أحمد والطبراني وأبو يعلى برجال ثقات وابن حبان عن عبد الله بن جعفر رفعه أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. وروى الشيخان عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة الحديث. وروى الطبراني برجال الصحيح عن جابر سئل صلى الله عليه وسلم عن خديجة، فقال: أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت قصب لا لغو فيه ولا نصب. قال السهيلي: مناسبة نفي هاتين الصفتين أعنى المنازعة والتعب أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإيمان أجابت خديجة وعا فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عنه كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها، "والقصب اللؤلؤ المجوف" كما ورد مفسرا في كبير الطبراني، من حديث أبي هريرة، ولفظه بيت من لؤلؤة مجوفة، وأصله في مسلم وعنده في الأوسط، عن فاطمة قلت: يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال: "في بيت من قصب"، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت". قال السهيلي: النكتة في قوله من قصب ولم يقل من لؤلؤ إن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، وكذا وقعت في هذه المناسبة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 قال ابن إسحاق: كان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت رضي الله عنها. وعن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم عليه السلام: إني لسيد البشر يوم القيامة،   جميع ألفاظ هذا الحديث انتهى. قال الحافظ: وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم تغضبه قط كما وقع لغيرها. والمراد بالبيت، كما قال أبو بكر الإسكاف في فؤائد الأخبار بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها، ولذا قال لا نصب، أي لم تتعب بسببه، وقال السهيلي: لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت في الإسلام منفردة به، فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث صلى الله عليه وسلم ببيت إسلام إلا بيتها، وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضا غيرها، قال: وجزاء الفعل يذكر غالبا بلفظه وإن كان غيره أشرف منه، فلهذا جاء الحديث بلفظ بيت دون قصر انتهى. قال الحافظ وفيه معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] . قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليا والحسن والحسين، فجللهم بكساء فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي الحديث أخرجه الترمذي وغيره، ويرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها، وعلى نشأ في بيتها وهو صغير، ثم تزوج بنتها بعدها، فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها انتهى "قال ابن إسحاق" في إسلام خديجة فآمنت بما جاء به من الله ووازرته على أمره فكانت أول من آمن بالله ورسوله، فخفف الله بذلك عن رسوله، "فكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة، إذا رجع" إليها "تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس"، تسهل عليه أذاهم، كأن تقول هم وإن قالوا فيك ما لا يليق، فهم يعلمون أنك بريء منه، وإنما قالوه حسدا، واستمر ذلك "حتى ماتت رضي الله عنها،" ومر حديث الصحيح في تقويتها له لتلقي ما نزل عليه، وذكرها خصاله الحميدة وذهابها به إلى ورقة. "وعن عبد الرحمن بن زيد" بن أسلم العدوي، مولاهم المدني "قال: قال آدم عليه السلام إني لسيد البشر يوم القيامة" من حيث الأبوة أو السيادة، لا تقتضي الأفضلية، فقد قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 إلا رجلا من ذريتي نبيا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل على باثنتين، زوجته عاونته فكانت له عونا، وكانت زوجتي على عونا، وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطاني، خرجه الدولابي، كما ذكره الطبري. وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنة محمد، ومريم بنة عمران، وآسية امرأة فرعون".   ابن عمر ما رأيت أسود من معاوية، وقد رأى العمرين "إلا رجلا من ذريتي، نبيا من الأنبياء، يقال له أحمد، فضل علي باثنتين، زوجته عاونته، فكانت له عونا" قبل البعثة وبعدها، "وكانت زوجتي علي عونا" حيث زينت له الأكل من الشجرة، "وأعانه الله على شيطانه" قرينه الموكل به، "فأسلم" آمن بالله ورسوله، "وكفر شيطاني" إبليس لعنه الله. "خرجه الدولابي، كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين في السمط الثمين في أزواج الأمين هذا الحديث وإن كان مقطوعا فلبعضه شواهد، فعند البزار عن ابن عباس، رفعه "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه، فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى. وروى مسلم مرفوعا "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن"، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: "وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير". روى بفتح الميم، ورجحه عياض والنووي، وهو المختار وبضمها، وصححه الخطابي، "وخرج الإمام أحمد" وأبو داود والنسائي، والحاكم، وصححاه "من حديث ابن عبس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل نساء أهل الجنة" في ذكرها الإيذان بأنهن أفضل حتى من الحور العين، ولو قال النساء لتوهم أن المراد نساء الدنيا فقط "خديجة بنت خويلد" لسبقها إلى الإسلام ومواساتها وتعظيمها خير الأنام، وقال: "إني رزقت حبها" رواه مسلم، فتأمل قوله: "رزقت"، ولم يقل أحبها نجد فيه ما فيه من غاية التعظيم ونهاية التفخيم. "وفاطمة بنة محمد" قال السهيلي: تكلم الناس في المعنى الذي سادت به فاطمة أخواتها فقيل لأنها ولدت الحسن الذي قال فيه جده: إن ابني هذا سيد، وهو خليفة، وبعلها خليفة، وأحسن من هذا قول من قال: سادت أخوتها وأمها؛ لأنهن متن في حياته صلى الله عليه وسلم فكن في صحيفته، ومات هو في حياتها، فكان في صحيفتها وميزاتها، وقد روى البزار عن عائشة أنه عليه السلام قال لفاطمة: "هي خير بناتي لأنها أصيبت في"، وهذا قول حسن انتهى. "ومريم بنة عمران" لأن الله ذكرها في القرآن وشهد بصديقتيها، وأخبر أنه طهرها واصطفاها على نساء العالمين، وقيل بنبوتها. "وآسية" بنت مزاحم "امرأة فرعون" المذكورة في القرآن، وهما من زوجاته صلى الله عليه وسلم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 قال الشيخ ولي الدين العراقي: خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار، وقيل: عائشة، انتهى. وقال شيخ الإسلام، زكريا الأنصاري في شرح بهجة الحاوي، عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم: وأفضلهن خديجة وعائشة وفي أفضلهما خلاف، صحح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت.   الجنة، كما عند ابن عساكر بسند ضعيف. "قال الشيخ ولي الدين العراقي، خديجة أفضل أمهات المؤمنين على الصحيح المختار" عند العلماء بدليل هذا الحديث، والذي قبله من إقراء السلام عليها من الله تعالى، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة". رواه البخاري، أي مريم خير نساء الأمة الماضية، وخديجة خير نساء هذه الأمة، كما قال الحافظ جاء ما يفسر المراد صريحا، فروى البزار والطبراني عن عمار رفعه: "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين" إسناده حسن انتهى، وقال في الإصابة: يفسره ما أخرجه ابن عبد البر عن عمران أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين" قالت: يا أبت فأين مريم، قال: "تلك سيدة نساء عالمها" انتهى، ولأنه صلى الله عليه وسلم اثنى على خديجة ما لم يثن على غيرها، قالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها. رواه الدولابي وابن عبد البر وللطبراني، وكان إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها، واستغفار لها، "وقيل عائشة" وضعف بحيث بالغ ابن العربي فقال: لا خلاف أن خديجة أفضل من عائشة، قالت في الفتح: ورد بأن الخلاف ثابت قديما، وإن كان الراجح أفضلية خديجة بما تقدم "انتهى" كلام الوليد. "وقال شيخ الإسلام زكريا" بن أحمد "الأنصاري" العلامة، المحدث، الفقيه، الإمام الصوفي، مجاب الدعوة، صاحب التصانيف شهرته تغني عن تعريفه، وعمر نحو مائة حتى انقرض جميع أقرانه، وألحق الأصاغر بالأكابر، وصار كل من بمصر من أتباعه أو أتباع أتباعه، وتوفي سنة نيف وعشرين وتسعمائة "في شرح بهجة الحاوي" الذي قرئ عليه سبعا وخمسين مرة حتى كان تلميذه الشمس الرملي يقول: هذا شرح أهل بلد لا شرح بل واحد "عند ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف" زاد في الروضة، ثالثها الوقف، "صحح ابن العماد والسبكي وغيرهما "تفضيل خديجة لما ثبت" عند الطبراني بسند جيد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 أنه صلى الله عليه وسلم لقال لعائشة رضي الله عنها، حين قالت له: قد رزقك الله خيرا منها فقال: "لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس". وسئل ابن داود أيهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل عليه السلام من ربها على لسان محمد، فهي أفضل قيل له: فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني" فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا. ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم   والدولابي "أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين قالت له" لما غارت من كثرة ثنائه عليها واستغفاره لها قالت: فاحتملتني الغيرة، فقلت: "قد رزقك الله خيرا منها" ولأحمد والطبراني، فقلت: قد أبدلك الله بكبيرة السن، حديثه السن، فغضب غضبا شديدا، وسقطت في جلدي، وقلت: اللهم أذهب غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت، ولأحمد أيضا، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير، "فقال: "لا والله ما رزقني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأعطتني مالها حين حرمني الناس". زاد الطبري: "وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت مني الولد إذ حرمتوه"، ولأحمد " ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد النساء"، وأصل الحديث في الصحيحين مختصرا، فخلفه صلى الله عليه وسلم على ذلك مع أنه صادق مصدوق بلا قسم، وتعديده مآثرها الحميدة أدل دليل على أنها أفضل من عائشة رضي الله عنهما. "وسئل" الإمام أبو بكر "ابن" الإمام المجتهد الحافظ "داود" بن علي الظاهري: "أيهما أفضل" بالتذكير، كقوله تعالى: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت} [لقمان: 34] وتؤنث أيضا وقرئ بأية أرض، "فقال: عائشة أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل" من قبل نفسه، "وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها على لسان محمد، فهي" أي خديجة "أفضل، قيل له فمن أفضل خديجة أم فاطمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة" بفتح الموحدة، كما هو الرواية وحكى ضمها وكسرها أي قطعة لحم "مني" فلا أعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا". قال السهيلي وهذا استقراء حسن، ويشهد له أن أبا لبابة حين ربط نفسه، وحلف أن لا يحله إلا رسول الله جاءت فاطمة لتحله فأبى لقسمه، فقال صلى الله عليه وسلم: "بضعة مني"، فحلته قال: أعني السهيلي: "ويشهد لهذا" أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة في مرض موته لما أخبرها أنه مقبوض، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم". واحتج من فضل عائشة رضي الله عنها بما احتجت به من أنها في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة رضي الله عنها مع علي. وسئل السبكي فقال: والذي نختاره وندين الله به، أن فاطمة بنت محمد أفضل، ثم أمها خديجة ثم عائشة،   فبكت فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم"، فضحكت، فهذا دليل على فضلها على أمها، وبهذا استدل السبكي. قال في الفتح والذي يظهر أن الجمع بين الحديثين أولى، وأن لا نفضل إحداهما على الآخرى انتهى، يعني هذا الحديث وحديث أفضل نساء. أهل الجنة خديجة وفاطمة، وقال في الإصابة وقد ذكر حديث خير نسائها خديجة، وقوله لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"، يحمل على التفرقة بين السيادة والخيرية، أو على أن ذلك بالنسبة إلى من وجد من النساء حين قاله لفاطمة انتهى، وفيه نظر فإن المراد بالسيادة الخيرية، وهي الفضل كما صرح به في رواية أحمد وغيره وحمله على الموجودات حين الخطاب يأباه قوله: "نساء العالمين"، وهو في الصحيح، كما مر في ترجمتها؛ لأنه تخصيص للعام بلا مخصص، فقد ساوت أمها، وزادت عليها، كونها بضعة المختار، فهي أفضل منها، وقد صرح هو في الفتح في المناقب بما لفظه، قيل انعقد على الإجماع أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة انتهى، بل توسع بعض المتأخرين، فقال: فاطمة وأخوها إبراهيم أفضل من سائر الصحابة حتى من الخلفاء الأربعة، فإن أراد من حيث المبضعة، فمحتمل وإن كان الخلفاء أفضل من حيث العلوم الجمة، وكثرة المعارف ونصر الدين والأمة، "واحتج من فضل عائشة ضي الله عنها" على فاطمة، وهو أبو محمد بن حزم "بما احتجت" هي "به من أنها في الأخرة" في الجنة "مع النبي صلى الله عليه وسلم" التي هي أعلى الدرجات، "وفاطمة رضي الله عنها مع علي" ولا حجة في هذا وإلا لزم أنها وبقية أزواجه أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلى درجة في الجنة من الجميع، وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة، ومن ثم قال في الفتح وفساده ظاهر، "و" قد "سئل السبكي" الكبير، والسائل له الإمام الأذرعي نزيل حلب ومفتيها عن جملة مسائل منها، هل قال أحد أن أحدا من نسائه صلى الله عليه وسلم غير خديجة وعائشة أفضل من فاطمة؟ "فقال" في الجواب قاله من لا يعتد بقوله، وهو من فضل نسائه على جميع الصحابة؛ لأنهن في درجته في الجنة، وهو قول ساقط مردود ضعيف لا مستند له من نظر ولا نقل، "والذي نختاره وندين الله به أن فاطمة بنت محمد أفضل، ثم أمها خديجة، ثم عائشة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه. وأما خبر الطبراني: "خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون". فأجاب عنه ابن العماد: بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة. واختار السبكي: أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف في نبوتها، انتهى. وقال أبو أمامة بن النقاش: إن سبق خديجة، وتأثيرها في أول الإسلام ومؤازرتها   قال: والخلاف شهير ولكن الحق أحق أن يتبع، "ثم استدل لذلك بما تقدم بعضه" فقال والحجة في ذلك حديث الصحيح: أما ترضين، فذكره وما رواه النسائي مرفوعا "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة". "وأما خبر الطبراني" عن ابن عباس رفعه: "خبر نساء العالمين مريم بنت عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم آسية امرأة فرعون"، فأتى بثم المرتبة، فقدم خديجة المقتضى لفضلها على ابنتها، "فأجاب عنه ابن العماد، بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة" فلا شاهد فيه على أنها أفضل منها، على أن ابن عبد البر قد روى هذا الحديث عن ابن عباس سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة ثم آسية. قال ابن عبد البر: وهذا حديث حسن يرفع الإشكال، ونقله الفتح، وأقره، فقدم فاطمة، "واختار السبكي" أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر وللاختلاف في نبوتها انتهى" ولم يتعرض للتفضيل بين مريم وفاطمة، واختار السيوطي تفضيل فاطمة على مريم بمقتضى الأدلة ففي مسند الحارث بسند صحيح لكنه مرسل مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها، وأخرجه الترمذي موصولا من حديث علي بلفظ خير نسائها مريم وخير نسائها فاطمة. قال الحافظ بن حجر والمرسل يعتضد بالمتصل، وسبقه إلى اختيار ذلك الزركشي والخيضري والمقريزي كما مر، لكن يرد عليهم هذا الحديث المرتب بثم، وقوله في حديث الصحيح لفاطمة في مرض وفاته: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم"، نعم يعارضه حديث عمران أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين"، قالت: يا أبت فأين مريم، قال: "تلك سيدة نساء عالمها"، أخرجه ابن عبد البر، ولم ينقدح لي وجه الجمع. "وقاله أبو أمامة بن النقاش أن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام وموازرتها" مستعار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 ونصرها وقيامها في الدين بنفسها ومالها لم يشركها فيه أحد، لا عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين. وتأثيرها عائشة رضي الله عنها في آخر الإسلام، وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث ما لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها، مما تميزت به عن غيرها، انتهى.   من الجبل واشتقاقه من الوزر وهو الثقل، "ونصرها" عطف تفسير، "وقيامها في الدين بنفسها ومالها، لم يشركها فيه أحد، لا عائشة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين" فقد تكون أفضل من هذه الحيثية، "وتأثير عائشة رضي الله عنها في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من الأحاديث" وفي نسخة من الأدلة "ما لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها" فقد تكون أفضل منها بهذا الاعتبار "انتهى" كلام أبي أمامة، وكأنه أشار إلى أن جهات الفضل بينهما متفاوتة، كما قاله ابن تيمية. قال في الفتح: وكأنه رأى التوقف، وقال ابن القيم: إن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله، فذلك أمر لا يطلع عليه، فإن عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإن أريد كثرة العلم، فعائشة لا محالة أو شرف الأصل، ففاطمة لا محالة، وهي فضيلة لا يشاركها فيها غير أخواتها أو شرف السيادة، فقد ثبت النص لفاطمة وحدها، قلت: أمتازت فاطمة عن أخواتها، بأنه متن في حياته صلى الله عليه وسلم، ومات هو في حياتها، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم، فإن لخديجة ما يقابله، وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام، ودعا إليه، وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله تعالى انتهى. وقال في الإصابة: ومن طواعيتها له قبل البعثة، أنها رأت ميله إلى زيد بن حارثة بعد أن صار في ملكها فوهبته له صلى الله عليه وسلم فكانت هي السبب فيما امتاز به زيد من السبق إلى الإسلام حتى قيل إنه أول من أسلم مطلقا انتهى. وفي الصحيح عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم إذ ذبح الشاة يقول: أرسلوا إلى اصدقاء خديجة، قالت عائشة: فأغضبته يوما، فقلت: خديجة، فقال إني رزقت حبها. وروى الشيخان عن عائشة ما غرت على أحد ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له، كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد. وروى ابن حبان عن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالشيء يقول اذهبوا به إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، ولنمسك عنان القلم رغبة عن التطويل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 وماتت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل بأربع، وقيل خمس، ودفنت بالحجون، وهي ابنة خمس وستين سنة، ولم يكن يومئذ يصلي على الجنازة، وكانت مدة مقامها مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، وقيل أربعا وعشرين سنة.   "وماتت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين" على الصحيح، كما في الفتح والإصابة، زاد عن الواقدي لعشر خلون من شهر رمضان. "وقيل" قبلها "بأربع" سنين، "وقيل خمس" حكاهما في الإصابة، وقيل بست سنين. حكاه في الفتح، وروى ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت، فقال: يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فاقرئيهن، مني السلام، فقالت: يا رسول الله وهل تزوجت قبلي؟ قال لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى، ورواه الزبير بن بكار بلفظ أنه دخل على خديجة وهي في الموت، فقال: تكرهين ما أرى منك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا، أشعرت أن الله أعلمني أنه سيزوجني معك في الجنة مريم وآسية وكلثم، فقالت: الله أعلمك بهذا يا رسول الله؟ قال: نعم. وروى هو والطبراني بسند فيه من لا يعرف عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة. أورده السهيلي بعد حديث الأخبار بالضرائر، فظاهره أنه أطعمها حينئذ، فكأنه لما أخبرها بهن والمقصود منها إخبارها في هذه الحالة بأنها زوجته في الجنة من جملة الزوجات الفاضلات، أكد الله إخباره، الصادق، وآتاه من عنب الجنة، فأطعمها إكراما لها وله صلى الله عليه وسلم. "ودفنت" كما أسنده الواقدي عن حكيم بن حزام "بالحجون" قال: ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها، "وهي ابنة خمس وستين سنة" كما في رواية الواقدي هذه وفي السمط أربع وستين وستة أشهر "ولم يكن يومئذ يصلي على الجنازة" لأنها لم تكن شرعت، "وكانت مدة مقامها مع النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة" على الصحيح، كما في الفتح، وهو المطابق الصحيح، وقول الأكثر أنه تزوجها، وهو ابن خمس وعشرين سنة، "وقيل أربعا وعشرين سنة" وأربعة أشهر قاله ابن عبد البر، وهو مطابق له أيضا بإلغاء الكسر في عامي الزواج والوفاة. أما على أن سنة إحدى وعشرون، أو ثلاثون فلا يتأتى أن قالا إن موتها سنة عشر من البعثة، وفي مسلم عن عائشة إنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج على خديجة حتى ماتت. قال الحافظ: ولا خلاف فيه بين أهل الأخبار، وفيه دليل على عظيم قدرها عنده، وعلى مزيد من فضلها؛ لأنها أغنته عن غيره، واختصت به بقدر ما اشتراك فيه غيرها مرتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 ...............................   بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاما، انفردت منها خديجة بخمسة وعشرين وهي نحو الثلاثين ومع طول المدة، فصان الله قلبها فيها من الغيرة، ومن نكد الضرائر الذي ربما حصل منه ما يشوش عليه بذلك، وهو فضيلة لم يشركها فيها غيرها. وروى ابن سعد بسند قوي مرسل جاءت خولة بنت حكيم، فقالت: يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة، قال: "أجل كانت أم العيال وربة البيت" وعنده أيضا من مرسل عبيد بن عمير قال: وجد صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى خشي عليه حتى زوج عائشة. قال ابن إسحاق: وكانت خديجة له وزيرة صدق، وكان يسكن إليها، وماتت هي وأبو طالب في عام واحد، قيل فسماه عام الحزن والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 [ سودة أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين سودة بنت زمعة -وأمها الشموس بنت قيس- فأسلمت قديما وبايعت، وكانت تحت ابن عم يقال له السكران بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو، أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها،   سودة أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين سودة" بفتح السين المهملة، علم منقول من صفة دالة على المدح، وهو السفح المستقيم تفاؤلا أن تكون بعد كبرها بهذه الصفة وقد كانت رضي الله عنها طويلة جسيمة، "بنت زمعة" بزاي، فميم، فمهملة مفتوحات قال ابن الأثير: وأكثر ما سمعنا أهل الحديث والفقهاء يقولونه بسكون الميم، وقول المصباح لم أظفر بالسكون في كتب اللغة قصور، فقد قدمه القاموس، ثم حكى الفتح، فظاهره أن السكون أكثر لغة، وتقدم إنهاء نسبها إلى عامر بن لؤي بن غالب، "وأمها الشمول" بشين معجمة، وميم، فواو، فمهملة "بنت قيس" بن عمرو بن زيد الأنصارية من بني عدي بن النجار بنت أخي سلمي بنت عمرو بن زيد أم عبد المطلب، "فأسلمت قديما، وبايعت" على الإسلام قديما، "وكانت تحت ابن عم" لأبيها "يقال له السكران بن عمرو" بن عبد شمس بن عبدود وأبوها زمعة بن قيس بن عبد شمس المذكور، فعمرو وقيس أخوان، فالسكران ابن عم أبيها، "أخو سهيل" بالتصغير "ابن عمرو" وسهيل بالتكبير، وسليط، وحاطب بنو عمرو، وكلهم صحابة رضي الله عنهم، وإنما اقتصر تبعا للإصابة على سهيل لشهرته "أسلم معها قديما، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها" وولدت له ابنا اسمه عبد الرحمن، قتل في حرب جلولاء قرية من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 وقيل إنه مات بالحبشة. وتزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة قبل أن يعقد على عائشة، هذا قول قتادة وأبي عبيدة، ولم يذكر ابن قتيبة غيره، ويقال تزوجها بعد عائشة، ويجمع بين القولين: بأنه صلى الله عليه وسلم على عائشة قبل سودة، ودخل بسودة قبل عائشة، والتزويج يطلق على كل منهما، وإن كان المتبادر إلى الفهم العقد دون الدخول.   قرى فارس، "وقيل إنه مات بالحبشة"، وعن ابن عباس أنها رأت في المنام كأن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل يمشي حتى وطئ عنقها فأخبرت زوجها بذلك فقال: إن صدقت رؤياك لأموتن وليتزوجنك، ثم رأت في المنام ليلة أخرى إن قمرا انقض عليها، وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها، فقال: لئن صدقت رؤياك لم ألبث إلا يسيرا حتى أموت وتتزوجين من بعدي، فاشتكى السكران من يومه ذلك، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات، "وتزوجها صلى الله عليه وسلم" عقد، ودخل عليها "بمكة" ويروى بالمدينة. قال الشامي: وهي رواية شاذة وقع فيها، وهم "بعد موت خديجة" سنة عشر من النبوة، وقيل سنة ثمان بناء على المشهور، ومقابلة في وفاة خديجة "قبل أن يعقد على عائشة" على الصحيح، وأصدقها أربعمائة درهم في قول ابن إسحاق. وأخرج ابن سعد برجال ثقات وابن أبي عاصم وغيرهما، أن خولة بنت حكيم قالت: ألا أخطب عليك؟ قال: بلى، فإنكن معشر النساء أرفق بذلك، فخطبت عليه سودة وعائشة، فتزوجهما، فبنى بسودة بمكة وعائشة بعد الهجرة. "هذا قول قتادة وأبي عبيدة" معمر بن المثنى، "ولم يذكر ابن قتيبة غيره" وبه جزم الجمهور. قال في الإصابة: ورواه ابن إسحاق، فقال: كانت سودة أول امرأة تزوجها بعد خديجة. قال اليعمري وهو الصحيح، "ويقال تزوجها بعد عائشة". قال عبد الله بن محمد بن عقيل "ويجمع بين القولين" كما نقله في الفتح عن المارودي، "بأنه صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة قبل سودة، أي قبل الدخول بسودة لا قبل العقد عليها، كما توهمه من استشكله، بدليل بقية كلام المصنف، فلا ينافي أنه عقد عليها قبل عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة" بعد عقده على عائشة، "والتزويج يطلق على كل منهما" من العقد والدخول فيحمل الأول على العقد، والثاني على الدخول، لكونه سببا فيه، فيتفق القولان "وإن كان المتبادر للفهم العقد دون الدخول" وهو الذي جاء منه تباين القولين، وبهذا الجمع سقط قول الخيضري كيف يكون الأول أصح، ومقابله في مسلم، فهو من باب صحيح وأصح، وكلاهما صحيح، فتقدم رواية الأكثر انتهى؛ لأنه بناه على العقد فيهما، وأما ابن كثير، فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 ولما كبرت سودة أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، فسألته أن لا يفعل وجعلت يومها لعائشة فأمسكها.   الصحيح أنه عقد على عائشة قبل سودة، ولم يدخل بها إلا في ثانية الهجرة، ودخل بسودة بمكة وسقه إلى ذلك أبو نعيم، وفيه نظر، فإن جزمه بدخوله في الثانية يخالف ما ثبت أنه دخل بعائشة بعد خديجة بثلاث سنين، كما في فتح الباري، وتصحيحه أنه عقد عليها قبل سودة معارض بتصحيح اليعمري، وجزم الدمياطي أنه عقد على عائشة بعد عقده على سودة. روى الإمام أحمد بسند جيد والطبراني برجال ثقات، عن عائشة وابن سعد والبيهقي بسند حسن من مرسل أبي سلمة بن عبد الرحمن بن حاطب، ووصله ابن أبي عاصم أن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألا تتزوج؟ قال: "من"؟، قالت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، أما البكر فابنة أحب الخلق إليك عائشة وأما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك، قال: "اذهبي فاذكريهما علي" الحديث، وفيه فذهبت إلى سودة، فقلت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قلت: "إن رسول الله أرسلني إليك لأخطبك عليه"، قالت: وددت ذلك لكن ادخلي على أبي فاذكري له ذلك، وكان شيخا كبيرا قد جلس على المواسم، فحييه بتحية الجاهلية، فقلت: أنعم صباحا، فقال: ومن أنت؟ فقلت: خولة، فرحب بي، وقال ما شاء أن يقول: فقلت: إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يذكر ابنتك، قال: هو كفء كريم، فما تقول صاحبتك؟ قلت: تحب ذلك، قال: فقولي له فليأت، فجاء صلى الله عليه وسلم فملكها وقدم عبد الله بن زمعة، فوجد أخته قد تزوجها رسول الله فحثا التراب على رأسه، فلما أسلم كان يجد في نفسه من ذلك شيئا ويقول: إني لسفيه يوم أحثوا التراب على رأسي أن تزوج صلى الله عليه وسلم أختي، وأفاد الحديث أن أباها هو الذي زوجها للمصطفى، وقال ابن إسحاق: زوجه إياها سليط بن عمرو، ويقال أبو حاطب بن عمرو، وتعقبه ابن هشام، بأن ابن إسحاق نفسه يخالف هذا؛ لأنه ذكر أنهما كانا غائبين بالحبشة في هذا الوقت، "ولما كبرت سودة" بكسر الباء مضارعه بالفتح لا غير، أي أسنت وبضمها فيهما في الأجسام والمعاني، وكلاهما في القرآن أنشدنا شيخنا بالمجلس عن شيخه العلامة عبد الله الدنوشري لنفسه: كبرت بكسر الباء في السن وارد ... مضارعه بالفتح لا غير يا صاح وفي الجسم والمعنى كبرت بضمها ... مضارعه بالضم جاء بإيضاح قال: وقوله وارد هو المناسب لقوله جاء بإيضاح، وهو الذي سمعته من لفظه "أراد النبي صلى الله عليه وسلم طلاقها، فسألته أن لا يفعل، وجعلت يومها لعائشة فأمسكها" كما رواه ابن عبد البر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. وروى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبي هلال.   عن عائشة لما أسنت سودة هم صلى الله عليه وسلم بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وأنت في حل مني، فأنا أريد أن أحشر في أزواجك، وإني قد وهبت يومي لعائشة، وإني لا أريد ما تريد النساء، فأمسكها حتى توفي. وأخرج الترمذي بسند حسن عن ابن عباس، وأبو داود والحاكم عن عائشة أن سودة خشيت أن يطلقها صلى الله عليه وسلم، فقالت: لا تطلقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ففعلت، فأنزل الله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} [النساء: 128] . قال في الإصابة: وأخرجه ابن سعد عن عائشة من طرق في بعضها، أنه بعث إليها بطلاقها، وفي بعضها أنه قال لها: "اعتدي" والطريقان مرسلان، وفيهما أنها قعدت له على طريقه، فناشدته أن يراجعها، وجعلت يومها وليلتها لعائشة، ففعل، ومن طريق معمر بلغي أنها قالت ما بي على الأزواج من حرص ولكني أحب أن يبعثني الله يوم القيامة زوجا لك انتهى. ولو صحا لأمكن الجمع لكن صحح الدمياطي وتلميذه اليعمري، أنه لم يطلقها، وكانت شديدة الإتباع لأمره صلى الله عليه وسلم. روى أحمد عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع هذا ثم ظهور الحصر، قال: فكن كلهن يحججن إلا زينب وسودة، فقالتا: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، وصح عن عائشة عند أبي يعلى وغيره، أنها قالت: ما من الناس أحد أحب إلي أن أكون في مسلاخه من سودة بها الأحدة فيها كانت تسرع منها الفيئة، مسلاخ بكسر الميم، وسكون المهملة، وخفة اللام والخاء المعجمة هديها وطريقتها. وفي الصحيح عن عائشة: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبل الناس، وكانت امرأة بطيئة يعني ثقيلة، فأذن لها، ولأن أكون استأذنته أحب إلي من مفروح به, وعن إبراهيم النخعي قال: قالت سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم صليت خلفك الليل، فركعت بي حتى أمسكن ما بقي مخافة أن يقطر الدم فضحك وكانت تضحكه بالشيء أحيانا. رواه ابن سعد برجال الصحيح وعنده أيضا عن محمد بن سيرين أن عمر بعث إلى سودة بغرارة من دراهم، فقالت: ما هذه؟ قالوا: دراهم، قالت: في غرارة مثل التمر ففرقتها، "وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين" في خلافة معاوية، كما رجحه الواقدي. وقال الحافظ في تقريبه سنة خمس وخمسين على الصحيح. "وروى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح إلى سعيد بن أبي هلال" الليثي، مولاهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 أنها ماتت في خلافة عمر، وجزم الذهبي في التاريخ الكبير بأنها ماتت في آخر خلافة عمر، وقال ابن سيد الناس: إنه المشهور.   أبي العلاء المصري صدوق. روى له الجماعة "إنها ماتت في خلافة عمر" بن الخطاب "و" لذا "جزم الذهبي في التاريخ الكبير، بأنها ماتت في آخر خلافة عمر" وهو قد توفي في آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين "وقال ابن سيد الناس أنه المشهور" وتبعه الشامي، وقال الخميس أنه الأصح فهذا تباين كبير، وروى عنها ابن عباس، ويحيى بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وروت عنه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتداولة خمس أحاديث للبخاري منها حديث واحد والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 [ عائشة أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس، من بني مالك بن كنانة- فكانت مسماة على جبير بن مطعم، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم   عائشة أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها" قال المصنف: بالهمز وعوام المحدثين يبدلونها ياء وقال البرهان في لغة عيشة، حكاها علي بن حمزة وغيره وهي فصيحة، وعائشة أفصح، وكانت بيضاء وزاعم أنها سوداء كذبه ابن معين وغيره، "وأمها أم رومان" بضم الراء وفتحها، واسمها زينب، وقيل دعد "ابنة عامر بن عويمر" بالتصغير "ابن عبد شمس". هكذا نسبها مصعب قال في الإصابة، وخالفه غيره، فذكر ابن إسحاق أنها بنت عبد بن دهمان أحد بني فراس، والخلاف في نسبها من عامر إلى كنانة لكن اتفقوا على أنها "من بني غنم بن "مالك بن كنانة" أسلمت، وبايعت وهاجرت، ماتت في حياته صلى الله عليه وسلم. روى ابن سعد والبخاري في تاريخه، وابن منده، وأبو نعيم، عن القاسم بن محمد، قال: لما دليت أم رومان في قبرها، قال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين، فلينظر إلى أم رومان" ولكن في موتها في حياته صلى الله عليه وسلم نزاع طويل ليس هذا موضعه، "فكانت مسماة على جبير" الصحابي "ابن مطعم" أي أنه كان خطبها لأبنه من أبيها، "فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم" لأنه لم يعلم بالخطبة أو كان قبل النهي. روى أحمد بن أبي عاصم، والطبراني وغيرهم عن عائشة لما ماتت خديجة، جاءت خولة بنت حكيم، فقالت: يا رسول الله ألا تتزوج، قال: "من"؟ قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، فأما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 وأصدقها فيما قاله ابن إسحاق أربعمائة درهم، وتزوجها بمكة في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها ست سنين، وأعرس بها بالمدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا، ولها تسع سنين. وقيل بعد سبعة أشهر من مقدمه عليه الصلاة والسلام.   البكر فابنه أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر وأما الثيب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك، قال: "فاذكريهما علي" فأتيت أم رومان، فقلت: ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذلك؟ قلت: رسول الله يذكر عائشة، قالت: وددت انتظري أبا بكر، فجاء فذكرت ذلك له، فقال: أوتصلح له، وهي ابنة أخيه، فرجعت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قولي له أنت أخي، وأنا أخوك في الإسلام، وابنتك تصلح لي"، فرجعت وأخبرته بذلك، فقال أبو بكر لأم رومان: إن المطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه والله ما أخلف أبو بكر وعدا قط، فأتى لمطعم وعنده امرأته أم الفتى، فقال: ما تقول في أمر هذه الجارية، فأقبل على امرأته فقال: ما تقولين: فأقبلت على أبي بكر فقالت: لعلنا إن أنكحنا هذا الصبي إليك تصبئه وتدخله في دينك والذي أنت عليه فقال أبو بكر: ما تقول أنت؟ فقال: إنها تقول ما تسمع فقام أبو بكر ليس في نفسه شيء من الموعد، فقال لخولة: قولي لرسول الله فليأت، فدعته فجاء، فملكها، أي تزوجها "وأصدقها فيما قاله ابن إسحاق أربعمائة درهم" تبرأ منه؛ لأنه خلاف ما في مسلم عنها أن صداقه صلى الله عليه وسلم لأزواجه كان خمسمائة درهم، وهي زيادة صحيحة، فيجب قبولها وتزوجها بمكة في شوال سنة عشر من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين" زيادة إيضاح لسنة عشر، "ولها ست سنين" لأنها ولدت في الإسلام سنة أربع من النبوة، كما في العيون والإصابة، "وأعرس بها بالمدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة على رأس ثمانية عشر شهرا" فيما قاله بعضهم، وآخره في الإصابة والفتح، وصدر بأنه بني بها في السنة الأولى، وهو الذي يأتي عليه قوله، "ولها تسع سنين" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنها. أما على هذا القول الضعيف الذي قدمه المصنف وما كان ينبغي تقديمه فيكون لها عشر سنين ونصف سنة والظاهر أنه مقدم عن محله وأنه بعد قوله، "وقيل بعد سبعة أشهر من مقدمه، عليه الصلاة والسلام". وروى ابن سعد وغيره، عنها قالت: أعرس بي على رأس ثمانية أشهر، وبهذا صدر في الإصابة، والعيون وفي مسلم، عنها تزوجني صلى الله عليه وسلم في شوال وبني بي في شوال. قال في الفتح: وإذا ثبت أنه بنى بها في شوال من السنة الأولى قوى قول من قال: دخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وخرج الشيخان عن عائشة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين فقدمنا المدينة، فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج، فوعكت فتمزق شعري، فأتتني أمي -أم رومان- وإني لفي أرجوحة مع صواحب لي فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي فأوقفتني على باب الدار، وأنا أنهج،   بها بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقد وهاه النووي في تهذيبه، وليس بواه إذا عددنا من ربيع وجزمه بأن دخوله بها كان في الثانية يخالف ما ثبت أنه دخل بها بعد خديجة بثلاث سنين، وقال الدمياطي في سيرته، ماتت خديجة في رمضان، وعقد على سودة في شوال ثم على عائشة، ودخل بسودة قبل عائشة انتهى. وكان المصنف قلد النووي دون مراجعة الفتح وهو عجيب مع كثرة اعترافه في ذا الكتاب منه بعزو ودونه، "وخرج الشيخان" عن عروة، "عن عائشة" الصديقة صاحبة الترجمة بنت الصديق، "إنها قالت تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة ست سنين" وفي رواية الأسود عنها: وأنا بنت سبع سنين، رواه مسلم والنسائي، وجمع الإصابة بأنها أكملت السادسة، ودخلت في السابعة، "فقدمنا المدينة"، وذلك كما رواه الطبراني من وجه آخر عنها بعد استقر بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وبعث عبد الله بن أريقط، وكتب إلى عبد الله بن أبي بكر أن يحمل معه أم رومان، وأم أبي بكر، وأنا وأسماء، وبعث صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وأبا رافع، فخرجا بفاطمة وأم كلثوم وسودة وأما أيمن وأسامة وأيمن، فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة، فنزل آل النبي عنده وهو يومئذ يبني مسجده وبيوته، فادخل سودة أحد تلك البيوت، وكان يكون عندها، ونزلنا في عيال أبي بكر "فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج فوعكت" بضم الواو، وسكون الكاف، أحممت "فتمزق" بزاي مشددة تقطع شعري، للكشميهني فتمرق بالراء أي انتتف وأسقط المصنف من الحديث قولها: فوفى جميمه بتخفيف الفاء كثر وفيه حذف تقديره ثم نصلت من الوعك فتربى شعري فكثرت جميمه بالجيم مصغر جمة بالضم مجمع شعر الناصية، كما في الفتح وللطبراني فقال أبو بكر: يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ وعند أحمد: فجاء صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا "فأنتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة". قال المصنف: بضم الهمزة وسكون الراء وضم الجيم فواو فمهملة، حبل يشد في كل من طرفيه خشبه فيجلس واحد على طرف وآخر على آخر ويحركان، فيميل أحدهما بالآخر نوع من لعب الصغار "مع صواحب لي" بغير تنوين "فصرخت بي" نادتني، "فأتيتها ما" وفي رواية لا "أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي، فاوقفتني على باب الدار وأنا أنهج: بالنون، أي النفس نفسا عاليا، كما في الفتح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلت على الخير والبركة، فأسلمتني إليها فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأسلمتني إليه، وأنا يومئذ بنت تسع سنين.   وقال المصنف بالنون والجيم مع فتح الهمزة، والهاء بضم الهمزة وكسر الهاء، أي أتنفس نفسا عليا من الإعياء "حتى سكن بعض نفسي" بفتح الفاء، "ثم أخذت شيئا من ماء، فمسحت به وجهي ورأسي". زادت في رواية أحمد وفرقت جميمتي، "ثم أدخلتني الدار، فإذا نسوة من الأنصار في البيت". قال المصنف: لم أعرف أسماءهن، "فقلت على الخير والبركة" وعلى خير طائر، هذا أسقطه من رواية الشيخين. قال الحافظ وغيره، أي على خير حظ ونصيب، "فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني، فلم يرعني" بضم الراء وسكون العين، أي لم يفزعني شيء "إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قد دخل علي "ضحى" وكنت بذلك عن المفاجأة بالدخول على غير علم، فإنه يفزع غالبا. قال الحافظ: وتبعه المصنف وهو صريح في أنه ضحى بالضم منونا اسم للوقت، لا بالفتح فعل ماض بمعنى ظهر؛ لأنه خلاف الرواية، وقد ترجم البخاري في النكاح باب البناء في النهار، ثم روى الحديث مختصرا عن عائشة بلفظ تزوجني صلى الله عليه وسلم فأتتني أمي، فأدخلتني الدار، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى. قال المصنف: كغيره أي وقت الضحى، ففيه ما ترجم له أن دخوله كان نهارا انتهى. فليت من لم يقف على شيء لا يتجاسر على ضبط الحديث برأيه، "فأسلمتني" أمي "إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين". زاد في رواية لمسلم ولعبتها معها، وروى أحمد من وجه آخر هذه القصة مطولة، وفيها بعد مجيء المصطفى ودخوله بيتهم، وصراخ أمها بها ومسحها بالماء، ثم أقبلت بي تقودني، ثم دخلت بي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير عنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك يا رسول الله، بارك الله لك فيهن، وبارك لهن فيك، فوثب الرجال والنساء وبنى بي صلى الله عليه وسلم. ذكره في الفتح، ولم ينزل للجمع بينه وبين حديث الشيخين الصريح في أنه لم يرعها إلا دخوله عليها، وحديث أحمد المصرح بأن أمها أدخلتها، عليه فاجلستها في حجره فوق السرير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 وأخرجه أبو حاتم بتغيير بعض ألفاظه. قال ابو عمر: كان نكاحه عليه الصلاة والسلام في شوال، وابتنى بها في شوال، وكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن، وكانت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه،   فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم استبطأهن لاشتغالهن بتسكين نفسها وإصلاح شأنها فجاء من البيت الذي كان جالسا فيه مع الأنصار، فدخل عليها جبرا لهن، فأعظمن مجيئه صلى الله عليه وسلم، وقلن هي تأتي إليك، فعاد إلى مجلسه، فأتت بها أمها في النسوة وأسلمتها من بينهن إليه، ودعت لهما، وأما كون قضيته أنه كان الرجال والنساء، في البيت مع النبي حين دخلت بها أمها، وقضية رواية الصحيحين خلافه، فهذا سهل، فغايته أن في الرواية اختصارا، وحاصله أنه لما جاء صلى الله عليه وسلم حين قال له أبو بكر: ألا تبني بأهلك؟ كانت عائشة تلعب، فنادتها أمها ثم أصلحت من شأنها، ثم أسلمتها للنسوة، كذلك هو صلى الله عليه وسلم في بيت آخر على سرير في جماعة من الأنصار رجال ونساء، "وأخرجه أبو حاتم" بن حبان "بتغيير بعض ألفاظه". وفي رواية أحمد وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا، ولا والله ما نحرت علي جزور ولا ذبحت من شاة، ولكن جفنه كان يبعث بها سعد بن عبادة إليه صلى الله عليه وسلم وعنده عن أسماء بنت يزيد بن السكن كانت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها عليه صلى الله عليه وسلم، ومعي نسوة فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحا من لبن، فشرب منه ثم ناوله عائشة، فاستحيت، فقلت: لا تردي يد رسول الله خذي منه، فأخذته على حياء، فشربت، ثم قال: "ناولي صواحبك" فقلن: لا نشتهيه، فقال: "لا تجمعن جوعا وكذبا"، فقلت: يا رسول الله إنا إذا قلنا لشيء نشتهيه لا نشتهيه يعد ذلك كذبا، قال: "إن الكذب يكتب كذبا حتى تكتب الكذيبة كذبة". قال أبو عمر كان نكاحه عليه الصلاة والسلام لها "في شوال وابنتى بها في شوال" كما في مسلم وغيره. عنها قال الجوهري: تقول العامة بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بنى على أهله والأصل فيه أن الداخل على أهله يضرب عليه قبة ليلة الدخول ثم قيل لكل داخل بأهله بأن قال الحافظ: ولا معنى لهذا التغليط لكثرة استعمال الفصحاء له وحسبك بقول عائشة: بنى بي وبقول عروة بنى بها، "وكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها وأحبتها في شوال على أزواجهن"، لذلك قال أبو عاصم: إنما كره الناس الدخول في شوال لطاعون وقع فيه قديما، "وكانت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم" اللاتي أجتمعن معها "إليه" كما قال صلى الله عليه وسلم حين سأله عمرو بن العاص أي الناس أحب إليك؟، قال: "عائشة"، قال: من الرجال، قال: "أبوها"، وقال عمر لحفصة: لا يغرنك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وكانت إذا هويت الشيء تابعها عليه، وفقدها في بعض أسفاره فقال: "واعروساه" خرجه أحمد. وقال لها عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين: "رأيتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه   هذه التي أعجبها حسنها وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وقص ذلك عمر عليه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، ومن حبه لها إنه كان يدور على نسائه ويختم بها وأمر السيدة فاطمة بحبها، ولما نزلت عليه آية التخيير بدأ بها، واختياره الإقامة عندها أيام مرضه، وكلها في الصحيح، وقام لها ووضعت خدها على منكبه حتى تنظر إلى لعب الحبشة بحرابهم في المسجد. رواه الترمذي وغيره، وأصله في الصحيح وأنه كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها. رواه ابن عدي وقوله لها: "إني لأعلم إذا كنت عليَّ راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى"، قالت: بم؟ قال: "إذا كنت راضية، قلت: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم" قال: صدقت ما أهجر إلا اسمك. رواه البخاري ومسلم والنسائي ومسابقته لها في سفر فسبقته، فلما حصلت من اللحم سابقته، فسبقها، فقال: "يا عائشة هذه بتلك"، رواه أبو داود والنسائي، ودعاه جار له فارسي لطعام، فقال: "وهذا معي لعائشة" فقال الرجل: لا وأشار له، فقال: "وهذه معي"، فقال: لا، فأشار إليه الثالثة، فقال: "وهذه معيط"، قال: نعم، رواه مسلم، ومن حبه لها أن الله أنزل في براءتها وحيا يتلى في محاريب المسلمين إلى يوم الدين وإنه كان يعذرها ويبدي عذرها كقوله لما كسرت الصحف: "غارت أمكم" إلى غير ذلك مما يطول ذكره، وأخرجه الترمذي وصححه وابن سعد أن رجلا نال من عائشة عند عمار بن ياسر، فقال: غرب مقبوحا منبوحا أنؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن سعد أن عمر زادها على الأزواج ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله، "و" من حبه لها أنها "كانت إذا هويت الشيء" بفتح الهاء وكسر الواو أحببته، "تابعها عليه" وافقها "وفقدها في بعض أسفاره، فقال: "واعروساه". "خرجه أحمد" عن النعمان بن بشير، "وقال لها عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين"، من حديثها "رأيتك". وفي رواية "أريتك" بضم الهمزة مقدمة على الراء "في المنام ثلاث ليال جاءني بك" أي بصورتك "الملك" جبريل "في سرقه" بفتح المهملة والراء، والقاف قطعة "من حرير يقول هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 امرأتك فأكشف عن وجهك فأقول: إن بك من عند الله يمضه والسرقة شقة الحرير البيضاء". وفي الترمذي أن جبريل جاءه عليه الصلاة والسلام بصورتها في خرقة حرير خضراء وقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة وفي رواية عنده. قال جبريل إن الله قد زوجك بابنة أبي بكر، ومعه صورتها.   امرأتك، فأكشف عن وجهك". زاد في رواية "فإذا هي أنت" وفي لفظ، "فإذا أنت هي"، "فأقول إن بك" هذا "من عند الله يمضه" بضم أوله. قال الطيبي: هذا الشرط مما يقوله المتحقق لثبوت الأمر، المدلى بصحته تقريرا لوقوع الجزاء وتحققه قول السلطان لمن يجب قهره، إن كنت سلطانا انتقمت منك، أي أن السلطنة مقتضية للانتقام. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون قال ذلك قبل البعثة، فلا إشكال فيه، وإن كان بعدها، ففيه احتمالات التردد هل هي زوجته في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط، أو أنه لفظ شك لا يراد به ظاهره، وهو نوع من البديع عند أهل البلاغة يسمونه تجاهل العارف، وسماه بعضهم مزج الشك باليقين، أو وجه التردد هل هي رؤيا وحي على ظاهرها وحقيقتها، أو رؤيا وحي لها تعبير، كلا الأمرين جائز في حق الأنبياء انتهى. قال الحافظ: الأخير هو المعتمد، وبه جزم السهيلي عن ابن العربي، قال: وتعبيره باحتمال غيره لا أرضاه والأول يرده أن السياق يقتضي أنها كانت قد وجدت، فإن ظاهر قوله فإذا هي أنت يشعر بأنه كان قد رآها وعرفها قبل ذلك، والواقع أنها ولدت بعد البعثة، ويرد الاحتمالات رواية ابن حبان، في آخر الحديث هي زوجتك في الدنيا والآخرة، والثاني بعيد. "والسرقة" بفتحات "شقة الحرير البيضاء" في أحد القولين لغة، والآخر أنه الحرير عامة والجمع سرق بفتحات، كما في القاموس، والمراد هنا الثاني؛ لأنها خضراء، ومن ثم لم يقيدها المصنف في الشرح تبعا للفتح بالبيضاء، "وفي الترمذي" وحسنه من حديثها "إن جبريل جاءه عليه الصلاة والسلام بصورتها في خرقة حرير خضراء، وقال هذه زوجتك في الدنيا والآخرة"، فبينت هذه الرواية لون الشقة، وأن الزوجية في الدارين. "وفي رواية عنده" عن ابن عمر قال: "قال" رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني "جبريل" فقال: "إن الله" عز وجل "قد زوجك بابن أبي بكر ومعه صورتها" لفظ الرواية صورة عائشة وعند ابن حبان أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وكانت مدة مقامه معها عليه الصلاة والسلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة، ولم يتزوج بكرا غيرها،   لما سار فاطمة في مرضه تكلمت عائشة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة"، وأنها قالت: من أزواجك في الجنة، قال: "أما إنك منهن". وروى أبو الحسن الخلعي منها رفعته: "يا عائشة إنه ليهون علي الموت، أني قد رأيتك زوجتي في الجنة". ورواه ابن عساكر بلفظ "ما أبالي بالموت مذ علمت أنك زوجتي في الجنة"، والسلفي بلفظ "هون علي الموت أني رأيت عائشة في الجنة". وروى أحمد عنها رفعته "لقد رأيت عائشة في الجنة، كأني أنظر إلى بياض كفيها ليهون بذلك علي عند موتي"، ومن ثم خطب عمار بن ياسر، فقال: والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، رواه البخاري. وروى ابن سعد عنها فضلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعشر لم ينكح بكرا قط غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي من السماء، وجاء جبريل بصورتي من السماء في حريرة، وكنت أغتسل أنا، وهو في إناء واحد، ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه غيري، وكان يصلي وأنا معترضه بين يديه دون غيري، وكان ينزل عليه الوحي، وهو معي، ولم ينزل وهو مع غيري، وقبض وهو بين نحري وسحري، وفي الليلة التي كان يدور علي فيها، ودفن في بيتي وفيه عيسى بن ميمون واهي الحديث، كما في الإصابة، لكن شواهده كثيرة، وقد رواه ابن سعد أيضا والطبراني، برجال الصحيح، وابن أبي شيبة أنها قالت أعطيت تسع خلال ما أعطيتها امرأة، ولله ما أقول هذا فخر، أنزل الملك بصورتي، وتزوجني لسبع واهديت إليه لتسع، وتزوجني بكرا، وكان الوحي يأتيه، وأنا هو في لحاف واحد، وكنت أحب الناس إليه، وبنت أحب الناس إليه، ولقد نزلت في آيات من القرآن، وقد كادت الأمة تهلك في، ورأيت جبريل ولم يره أحد من نسائه غيري، وقبض في بيتي، لم يله أحد غيره وغير الملك. وفي رواية أبي يعلى، لقد اعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة إلا مريم. نزل جبريل بصورتي في راحته، وتزوجني بكرا، وقبض ورأسه في حجري، وقبرته في بيتي، وحفت الملائكة بيتي، ونزل عليه الوحي في لحافي، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخلقت طيبة، وعند طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما، ومن مجموع هذا ينتظم أكثر من عشر خلال، "وكانت مدة مقامه معها عليه الصلاة والسلام تسع سنين، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة" كما في مسلم وغيره عنها، "ولم يتزوج بكرا غيرها" كما في الصحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 وكانت فقيهة عالمة فصيحة، كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارفة بأيام العرب وأشعارها،   قال الحافظ: وهو متفق عليه بين أهل النقل، "وكانت فقيهة" جدا حتى قيل إن ربع الأحكام الشرعية منقول عنها كما في الفتح، وأما حديث خذوا شطر دينكم عن الحميراء المذكور في النهاية بلا عزو، وحديث خذوا ثلث دينكم من بين الحميراء المذكور في الفردوس بلا إسناد وبيض ولده لسنده، فذكر الحافظ ابن كثير أنه سأل عنه المزي والذهبي، فلا يعرفاه، وكذا قال الحافظ في تخريج ابن الحاجب: لا أعرف له سندا "عالمة" بكل العلوم. قال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط، فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علما رواه الترمذي وصححه، وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بالقرآن ولا بفريضة، ولا بحرام، ولا بحلال، ولا بفقه، ولا بشعر، ولا بطب، ولا بحديث العرب، ولا نسب من عائشة، رواه الحاكم والطبراني وغيرهما بسند حسن. وقال مسروق: والله لقد رأيت الأكابر من الصحابة، وفي لفظ مشيخة أصحاب رسول الله: الأكابر يسألون عائشة عن الفرائض، رواه الطبراني والحاكم، وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة رواه الحاكم وغيره، "فصيحة" قال معاوية: والله ما رأيت خطيبا قط أبلغ، ولا أفصح، ولا أفطن من عائشة. رواه الطبراني وعنده برجال الصحيح عن موسى بن طلحة: ما رأيت أحدا كان أفصح من عائشة. وروى أحمد في الزهد والحاكم عن الأحنف بن قيس قال: سمعت خطبة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي والخلفاء هلم جرا، فما سمعت من فم أحد منهم كلاما أفخم، ولا أحسن منه من في عائشة. "كثيرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" روي لها ألفان بالتثنية، ومائتا حديث وعشرة، اتفق الشيخان على مائة وأربعة وسبعين، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين ومسلم بثماني وستين. "عارفة بأيام العرب" وقائعها "وأشعارها" فما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا، أسند الزبير بن بكار عن أبي الزناد قال: ما رأيت أحدا أروى لشعر من عروة، فقلت له: ما أرواك؟ فقال: ما روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا. وروى أحمد عن عروة أنه قال لها: يا أمتاه لا أعجب من فقهك، أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر، وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم أو من أعلم الناس به، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو، وأين هو فضربت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لها ليلتين، ليلتها وليلة سودة بنت زمعة؛ لأنها وهبت ليلتها لما كبرت لها -كما تقدم- ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور على كل نسائه ويختم بعائشة.   على منكبه، وقالت أي عرية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم، وفي لفظ كثرت أسقامه عند آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب، من كل وجه، فتنعت له الأنعات، وفي لفظ: وكانت أطباء العرب والعجم ينعتونه، وكنت أعالجها، فمن ثم وروى أنها مدحت النبي صلى الله عليه وسلم بقولها: فلو سمعوا في مصر أوصاف خده ... لما بذلوا في سوم يوسف من نقد لواحي زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي وكانت زاهدة، كثيرة الكرم والصدقة. روى ابن سعد عن أم درة قالت: أتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها، وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه؟ فقالت: لو أدركتيني لفعلت. روت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، وروت أيضا عن أبيها، وعن عمر وفاطمة، وسعد بن أبي وقاص، وأسيد بن حضير وحذامة بن وهب وضمرة بن عمرو. و"روى عنها جماعة كثيرة من الصحابة" كعمر وابنة عبد الله وأبي هريرة وأبي موسى، وزيد بن خالد وابن عباس، وربيعة بن عمرو، والسائب بن يزيد، وصفية بنت شيبة، وعبد الله بن عامر بن ربيعة بن الحارث بن نوفل، "والتابعين"، فمن كبارهم ابن المسيب، وعمرو بن ميمون، وعلقمة بن قيس، ومسروق وعبد الله بن عليم، والأسود بن يزيد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو وائل، ومن آل بيتها أختها أم كلثوم، وبنتها عائشة بنت طلحة، وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث وابنا أخيها محمد القاسم، وعبد الله وبنتا آخيها الآخر عبد الرحمن حفصة، وأسماء، وحفيده عبد الله بن أبي عتيق محمد بن عبد الرحمن، وابنا أختها أسماء عبد الله، وعروة، وحفيد عبد الله عباد بن حمزة وآخرون كثيرون. "وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لها ليلتين ليلتها وليلة سودة بنت زمعة؛ لأنها وهبت ليلتها لما كبرت" وأرد المصطفى طلاقها "لها، كما تقدم" وهو في الصحيحين عن عائشة: أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة، فالتي كان لا يقسم لها سودة على الصواب، وفي مسلم عن ابن جريج قال عطاء: التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب. قال الطحاوي وعياض وغيرهما وهو غلط من ابن جريج، وهو أن سودة إذ وهبت يومها لعائشة "ولنسائه ليلة ليلة" أي كل واحدة ليلة واحدة، "وكان يدور على كل نسائه، ويختم بعائشة" احتج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 ...........................................   به من قال لم يكن القسم واجبا عليه، وإنما كان يفعله تفضلا، والأكثر وجوبه عليه، وأجابوا باحتمال أنه قبل وجوب القسم عليه، أو كان يرضى صابحة النوبة، كما استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة، أو كان يقع ذلك عند استيفاء القسمة، ثم يستأنفها، أو عند إقباله من سفر، أو بغير ذلك مما فيه لين. قال الحافظ: وأغرب ابن العربي، فقال: خص الله نبيه فأعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لإزواجه فيها حق يدخل فيها على جميعهن، فيفعل ما يريد، ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. قال أعني الحافظ: ويحتاج إلى ثبوت ما ذكر مفصلا انتهى. ففي ختمه بها مزيد حبه لها، لجعلها المنتهى فلا تتأذى بأنه يذهب لغيرها بعدها، وليكون آخر عهده بها، ولا سيما إن كانت الليلة لها، فلا يكون بينها وبين ساعة الدوران فاصل بأحد من النساء، وكفى بذلك حبا وحسبها فضلا قول صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على الطعام"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام"، فقلت: عليه السلام ورحمة الله وبركاته، وقوله: "لله يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليَّ الوحي، وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها"، وكلها في الصحيح قال في الفتح: مما يسأل عنه اختصاصها بذلك فقيل لمكان أبيها، وأنه لم يكن يفارقه صلى الله عليه وسلم في أغلب أحواله فسرى سره لابنته مع ما كان لها من مزيد حبه صلى الله عليه وسلم، وقيل كانت تبالغ في تنظيف ثيابها التي تنام فيها معه صلى الله عليه وسلم، واستدل به على فضلها على خديجة، وليس ذلك بلازم لاحتمال أن لا يكون أراد إدخال خديجة في ذلك، والمراد بقوله "منكن" المخاطبة، وهي أم سلمة ومن أرسلها، أو من كان موجودا حينئذ من النساء، وعلى تقدير إرادة الدخول، فلا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق، كحديث أقرأكم أبي وأفرضكم زيد، ونحوهما، كما أن قوله "فضل عائشة على النساء" لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وقد أشار ابن حبان إلى أن فضلها الذي دل عليه هذا الحديث وغيره مقيد بنسائه حتى لا يدخل مثل فاطمة جمعا بينه وبين حديث "أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة" انتهى. وروى الطبراني والبزار برجال ثقات وابن حبان عنها: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب النفس، فقلت: يا رسول الله ادع لي، قال: "اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، وما أسرت، وما أعلنت" فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أسرك دعائي"، فقالت: ما لي لا يسرني دعاؤك، قال: "فوالله إنها لدعوتي لأمتي في كل صلاة". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين. وقال الواقدي: ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثمان وخمسين، وهي ابنة ست وستين سنة، وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنها، وكان يومئذ خليفة مروان على المدينة في أيام معاوية بن أبي سفيان. وكانت عائشة تكنى أم عبد الله، يروى أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطا، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بعبد الله بن الزبير، ابن أختها، فإنه عليه الصلاة والسلام تفل في فيه لما ولد،   وفي الصحيح عن القاسم بن محمد، أن عائشة مرضت، فعادها ابن عباس، فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر، "وماتت بالمدينة سنة سبع وخمسين" فيما ذكره علي بن المديني عن سفيان عن هشام بن عروة، قال في التقريب وهو الصحيح، "وقال الواقدي ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان سنة ثمان وخمسين، وعليه اقتصر المصنف في الشرح، وصدر به في الفتح كالإصابة وعزاه فيها للأكثرين وتبعه الشامي، وزاد أنه الصحيح، وقيل سنة ست وخمسين، حكاه في العيون، وقيل تسع وخمسين، حكاه في الفتح "وهي ابنة ست وستين سنة" على القول الأول؛ لأنها ولدت سنة أربع من النبوة، فتضم تسع لسبع وخمسين تبلغ ذلك، وعلى الثاني بإسقاط عام الولادة أو الموت، وعلى الثالث بإسقاطهما معا فعاشت بعده صلى الله عليه وسلم، كما في فتح الباري قريبا من خمسين سنة انتهى؛ لأنه توفي ولها ثمان عشرة، فنفع الله بها الأمة في نشر العلوم وقد روى البلاذري عن القاسم بن محمد قال: استفعلت عائشة بالفتوى زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وهلم جرا إلى أن ماتت, "وأوصت" ابن أختها عروة "أن تدفن بالبقيع"، فقال له: إذا أنا مت فادفني مع صواحبي بالبقيع رواه ابن أبي خيثمة، فدفنت به "ليلا" ونزل في قبرها القاسم بن محمد وابن عمه عبد الله بن عبد الرحمن، وعبد الله بن أبي عتيق، وعروة، وعبد الله بن الزبير، كما في العيون، وحضر جنازتها أكثر أهل المدنية، "وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، وكان يومئذ خليفة مروان" بن الحكم أمير المدينة حينئذ من جهة معاوية "على المدينة" لأنه حج، فاستخلف أبو هريرة كذا في الشامية "في أيام معاوية بن أبي سفيان" رضي الله عنهما "وكانت عائشة تكنى أم عبد الله"، فقيل إن ذلك لما يروى عند ابن الأعرابي في معجمه "أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطا فسماه عبد الله ولم يثبت ذلك. قال السهيلي لأنه يدور على داود بن المحبر، وهو ضعيف "والصحيح أنها كانت تكنى بعبد الله بن الزبير ابن أختها" أسماء، "فإنه عليه الصلاة والسلام تفل في فيه لما ولد" وأتته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 وقال لعائشة: هو عبد الله وأنت أم عبد الله، قالت: فما زلت أكنى بها وما ولدت قط. خرجه أبو حاتم.   به، قالت عائشة: فكان أول شيء دخل جوفة، "وقال لعائشة: هو عبد الله وأنت أم عبد الله، قالت: فما زلت أكنى بها وما ولدت قط". "خرجه أبو حاتم" بن حبان في صحيحه وابن سعد، وله طرق كثيرة عنها، وروى ابن أبي خيثمة عنها، قلت: يا رسول الله ألا تكنيني إن لكل صواحبي كنى، فلو كنيتني، قال: "اكتني بابنك عبد الله بن الزبير"، فكانت تكنى بأم عبد الله حتى ماتت فكأنه لما قال لها أنت أم عبد الله لما حنك ابن الزبير، احتمل عندها أنه أراد أنه من المؤمنين التي هي من أمهاتهم، فسألته أن يكنيها، فقال لها ذلك، وفي الروض بعد تضعيف حديث السقط، وأصح منه حديث أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "تكني بابن أختك عبد الله بن الزبير"، ويروى "بابنك عبد الله"، لأنها كانت قد استوهبته من أبويه، فكان في حجرها يدعوها، أما ذكره ابن إسحاق وغيره انتهى. والله تعالى أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 [ حفصة أم المؤمنين ] : أما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما -وأمها زينب بنت مظعون- فأسلمت وهاجرت. وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت خنيس -بضم المعجمة وفتح النون وبالسين المهملة- ابن حذافة السهي، هاجرت معه، ومات عنها بعد غزوة بدر.   حفصة أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما" التالية لعائشة في الفضل على ما استقر به الإمام السبكي، الكبير، المولودة قبل البعثة بخمس سنين، وقريش تبني الكعبة، وأمها زينب بنت مظعون، بالظاء المعجمة، وهذا ظاهر عند أهله، لكني سمعت بعض طلبة الفقه يهملها، فقلت له ذلك. قاله البرهان الجمحية، الصحابية، أم عبد الله أيضا من المهاجرات، كما ذكر الزبير، والقول بموتها قبل الهجرة، وهم لما في البخاري أن عمر قال في ولده عبد الله، هاجر به أبواه، وقول العيون، وأمها قدامة بنت مظعون وهم؛ لأن قدامة خالها لا أمها، نبه عليه البرهان، "فأسلمت وهاجرت، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت" الصحابي، الجليل، البدري، "خنيس بضم" الخاء "المعجمة، وفتح النون" وسكون التحتية، "وبالسين المهملة ابن حذافة" بضم المهملة، وبالذال المعجمة، فألف ففاء القرشي "السهمي هاجرت معه ومات عنها بعد غزوة بدر" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 فلما تأيمت ذكرها عمر على أبي بكر وعثمان فلم يجبه واحد منهما إلى زواجها، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحه إياها في سنة ثلاث من الهجرة،   من جراحات أصابته ببدر، وقيل بأحد. قال اليعمري والأول أشهر، وفي الإصابة، الراجح أنه قتل بأحد سنة ثلاث، وفي الشامية رجح كلام جحون، والأول أشهر، "فلما تأيمت" تعزبت، والأيم يقال للعزب ذكرا كان أو أنثى، بكرا أو ثيبا قال الشاعر: فإن تنكحي انكح وإن تتايمي ... وإن كنت أفتى منكم أتايم "ذكرها" عرضها "عمر على أبي بكر" الصديق وعثمان" بن عفان قبله "فلم يحبه واحد منهما إلى زواجها"، وهذا أصح مما قدمه المصنف في ترجمة السيدة رقية، أن عثمان خطب ابنة عمر، فرده، فبلغ النبي، فذكر الحديث، وعزاه لتخريج الخجندي؛ لأن ما هنا رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة، السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا وتوفي بالمدينة. قال عمر: فلقيت عثمان، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، قال: سأنظر في أمري فلبث ليالي، ثم لقيني، فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج في يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فصمت، فلم يرجع إلي شيئا فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي، ثم خطبها صلى الله عليه وسلم فانكحتها إياه، فلقيني أبو بكر، فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفة، فلم أرجع إليك شيئا فقلت نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سره ولو تركها لقبلتها، وهذا أيضا أصح مما في العيون أنه عرضها على الصديق قبل عثمان لكونه في أرفع الصحيح، ولأبي يعلى أن عمر قال: يا رسول الله ألا تعجب من عثمان، عرضت عليه حفصة فاعرض عني، فقال صلى الله عليه وسلم: "قد زوج الله عثمان خيرا، من حفصة، وزوج حفصة خيرا من عثمان"، "فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكحه" عمر "إياها في سنة ثلاث من الهجرة" كما رواه ابن أبي خيثمة، عن الزهري، عن رجل من بني سهم، وعنده أيضا عن أبي عبيدة أنه تزوجها سنة اثنتين من الهجرة، وبه جزم ابن عبد البر قال في الإصابة، والراجح الأول لأن زوجها قتل بأحد سنة ثلاث، لكن قال في الفتح: الثاني أولى لأنهم قالوا تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خمسة وعشرين شهرا من الهجرة، وفي رواية بعد ثلاثين، وفي أخرى بعد عشرين، وكانت أحد بعد الهجرة بأكثر من ثلاثين شهرا، أو قد جزم ابن سعد بأن زوجها مات بعد قدومه صلى الله عليه وسلم من بدر انتهى. وقال ابن سيد الناس تزوجها في شعبان على رأس ثلاثين شهرا من مهاجره على القول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها، نزل عليه الوحي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة. وروى عنها جماعة من الصحابة والتابعين. وماتت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وقيل.   الأول، أي موت زوجها بعد بدر وبعد أحد على الثاني، "وطلقها تطليقة واحدة، ثم راجعها" رحمة لأبيها، ولأنه "نزل" جبريل "عليه" فقال له: "راجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وأنها زوجتك في الجنة". أخرجه ابن سعد والطبراني برجال الصحيح من مرسل قيس بن سعد، أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فدخل عليها خالاها قدامة، وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شيء فجاء صلى الله عليه وسلم، فتخليت فقال: قال لي: جبريل راجع حفصة فذكره. وروى ابن أبي خيثمة عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة، فأتاه جبريل، فقال: طلقت حفصة وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة. وعن عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة، فبلغ ذلك عمر، فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها، فنزل جبريل من الغد، وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر، ثم أراد أن يطلقها ثانية، فقال له جبريل: لا تطلقها فإنها صوامة قوامة، أخرجه. وروى أبو يعلى عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة، وهي تبكي: فقال: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقك أنه كان قد طلقك، ثم راجعك من أجلي، فإن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا، وفي هذه الأحاديث تنبيه من الله على فضلها، والثناء عليها بكثرة الصيام والقيام، والإخبار بأنها زوجة في الجنة للمختار، وقالت عائشة في حقها: إنها ابنت أبيها تنبيها على فضلها، رواه أبو داود عن الزهري، واسترضاها صلى الله عليه وسلم لما عتبت عليه بوطء مارية في بيتها، فحرمها وشهد بدرا من أهلها سبعة: أبوها، وعمها زيد، وزوجها وأخوالها: عثمان، وعبد الله، وقدامة، والسائب بن عثمان خالها، وروى لها عنه صلى الله عليه وسلم ستون حديثا في البخاري منها خمسة. و"روى عنها جماعة من الصحابة والتابعين" كأخيها عبد الله، وابنه حمزة، وزوجته صفية بنت أبي عبيد، وحارثة بن وهب، والمطلب بن أبي وادعة، وأم مبشر الأنصارية، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن صفوان بن أمية وغيرهم "وماتت في شعبان سنة خمسة وأربعين" بالمدينة "في خلافة معاوية" وبه جزم في التقريب، وصلى عليها مروان بن الحكم أمير المدينة وحمل سريرها بعض الطريق، ثم حمله أبو هريرة إلى قبرها، ونزل فيها أخوها عبد الله، وعاصم، وسالم، وعبد الله، وحمزة بنو عبد الله بن عمر، كما ذكر ابن سعد، "وقيل" ماتت في جمادى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 سنة إحدى وأربعين وهي ابنة ستين سنة، وقيل إنها ماتت في خلافة عثمان.   الأولى "سنة إحدى وأربعين"، حين بايع الحسن معاوية، "وهي ابنة ستين سنة"، على القول الثاني؛ لأنها ولدت قبل النبوة بخمس سنين، فتضم إلى ثلاث عشرة قبل الهجرة، ثم إلى إحدى وأربعين بعدها تبلغ ذلك، أما على الأول فتكون ابنة ثلاث وستين، وقد أحسن اليعمري حيث قال بعد الأول، وقد بلغت ثلاثا وستين سنة، "وقيل إنها ماتت في خلافة عثمان" سنة سبع وعشرين، قال في الإصابة حكاه الدولابي، وهو غلط، وكان قائله استند إلى ما رواه ابن وهب عن مالك أنه قال: ماتت حفصة عام فتحت أفريقية، ومراده فتحها الثاني الذي كان على يد معاوية بن خديج، وهو في سنة خمسين، وأما الأول الذي كان في عهد عثمان سنة سبع وعشرين فلا، انتهى، وقيل ماتت سنة خمسين، وقيل سنة سبع وأربعين، حكاها البرهان، وأوصت إلى أخيها عبد الله بما أوصى إليها عمرو بصدقة تصدقت بها، بمال وقفته بالغاية، ذكره أبو عمر والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 [ أم سلمة أم المؤمنين ] : أما أم المؤمنين أم سلمة هند، وقيل رملة الأول أصح -وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة، وليست عاتكة بنت عبد المطلب- فكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت أبي سلمة بن عبد الأسد، وكانت هي وزوجها أول من هاجر إلى أرض الحبشة، فولدت له بها زينب،   أم سلمة أم المؤمنين: "وأما المؤمنين أم سلمة" الموصوفة بالجمال البارع، والعقل البالغ والرأي الصائب، وإشارتها عليه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها، حتى قال إمام الحرمين لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة "هند، وقيل رملة الأول أصح" بل قال أبو عمرو: يقال رملة وليس بشيء وتقدم اسم أبيها ونسبه، "وأمها عاتكة بنت عامر بن ربيعة" بن مالك، لكنانية، وليست عاتكة بنت عبد المطلب" خلافا لمن أخطأ فظنها بنت عمته صلى الله عليه وسلم وإنما هي بنت زوجها، وأخواها عبد الله وزهير ابنا عمته عليه السلام، "فكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت" ابن عمها عبد الله "أبي سلمة بن عبد الأسد" بن المغيرة المخزومي "وكانت هي وزوجها" ممن أسلم قديما، و"أول من هاجر إلى أرض الحبشة"، في أحد الأقوال، وقيل عثمان، وقيل سليط وقيل حاطب كما مر "فولدت له بها زينب" فيما يقال، لكن في مسند البزار ما يدل على أنها وضعتها بعد موت أبي سلمة، فحلت، فخطبها صلى الله فتزوجها، وكان اسمها برة، فغيره صلى الله عليه وسلم زينب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 وولدت له بعد ذلك سلمة وعمر ودرة وقيل هي أولى ظعينة دخلت المدينة مهاجرة،   أسنده ابن أبي خيثمة عنها، حفظت عنه صلى الله عليه وسلم، وروت عنه وعن أزواجه، ذكره في الإصابة في ترجمة زينب، "وولدت له بعد ذلك سلمة" الذي زوجه صلى الله عليه وسلم أمامه بنت حمزة عمه، وعاش إلى خلافة عبد الملك ولم يحفظ له رواية. "وعمر" الصحابي الصغير، وله رواية في الكتب الستة، واستعمله على فارس والبحرين، ومات بالمدينة سنة ثلاث وثمانين على الصحيح، "ودرة" التي قالت أم حبيبة: يا رسول الله إنا قد تحدثنا أنك ناكح درة بنت أبي سلمة، فقال: إنها لو لم تكن ربيبة في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة رواه البخاري، وقد علمت أن كون زينب أكبر أولادها إنما هو قول ضعيف، ولذا جزم في الإصابة في ترجمة أم سلمة بقوله، فولدت له سلمة بالحبشة، ثم قدما مكة، وهاجر إلى المدينة، فولدت له عمر ودرة وزينب، وأما الشامي، فتناقض كلامه، فقال: أولا سلمة أكبرهم، وعمر، وزينب أصغرهم، ثم بعده بقليل جزم بأن عمر ولد بالحبشة في السنة الثمانية من الهجرة ولدت زينب بأرض الحبشة، وتركة ذكرة درة رأسا، وكأنه أراد أن يحكي ذلك قولا مقابلا لما صدر به فنسي، لكن الشفاء في الإصابة، فإنه قال في زينب ما علمت، وفي عمر ولد في الحبشة في السنة الثانية، وقيل قبل ذلك وقبل الهجرة، ويدل عليه قول ابن الزبير كان أكبر مني بسنتين، "وقيل هي أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة" كما رواه البغوي عن قبيصة بن ذؤيب. وروى ابن إسحاق عنها: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل بعيرا له، وحملني، وحمل معي ابن سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه بنو المغيرة قالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، ونزعوا خطام البعير ن يدي وأخذوني، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابنتنا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا، فتجاذبوا سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به عبد الأسد ورهط أبي سلمة، وحبسني بنو المغيرة عندهم، فكنت أنطلق غداة، وأجلس أبكي بالأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي سبعا، أو قربها حتى مر بي رجل من بني عمي، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وابنها فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت. ورد على عبد الأسد عند ذلك ابني، فرحلت بعيري، ووضعت ابني في حجري، ثم خرجت أريد المدينة وما معي أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة، فقال: أين يا بنت أبي أمية، قلت: أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد، قلت: لا والله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 وقيل غيرها، ومات أبو سلمة سنة أربع وقيل سنة ثلاث من الهجرة. وكانت أم سلمة سمعته عليه الصلاة والسلام يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" قالت: فلما مات أبو سلمة   إلا الله وبني هذا، فقال: والله ما مثلك يترك فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني، فوالله ما صحبت رجلا من العرب كان أكرم منه، إذا نزل المنزل أناخ بي، ثم تنحى إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح، قام إلى بعيري، فقدمه ورحله، ثم تأخر عني وقال: اركبي فإذا استويت أتى فأخذ بخطامه فقادني، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها، "وقيل غيرها" قال في الإصابة، ويقال: إن ليلى امراة عامر بن ربيعة شاركتها في هذه الأولية، وقال الشامي: ويقال بل ليلى، "ومات أبو سلمة" البدري المسلم بعد عشرة أنفس، كما قال ابن إسحاق: بجرح أصابه بأحد، فعالجه شهرا حتى برئ، ثم بعثه صلى الله عليه وسلم في سرية، فغاب شهرا ثم عاد فانتقض جرحه، فمات لثمان خلون من جمادى الآخرة "سنة أربع" عند الجمهور، منهم ابن جرير، ويعقوب بن سفيان، وابن البرقي، وابن أبي خيثمة، "وقيل" في جمادى الآخرة أيضا، لكن "سنة ثلاث من الهجرة" قاله ابن عبد البر، قال في الإصابة، والراجح الأول انتهى، "وكانت أم سلمة سمعته عليه الصلاة والسلام" وفي رواية أن زوجها حدثها عنه بذلك ولا منافاة فحدثها أولا، ثم سمعته صلى الله عليه وسلم "يقول" كما في أبي داود والنسائي عن أم سلمة، ولم يذكوا عن أبي سلمة "ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول: اللهم أجرني". قال السيوطي: بهمزة قطع ممدودة، وكسر الجيم بوزن أكرمني، وبسكون الهمزة، وضم الجيم بوزن انصرني، أي أثبني وأعطني "في مصيبتي وأخلفني" بضم اللام "خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها" ولمسلم والنسائي، وغيرهما أن أبا سلمة جاء إلى أم سلمة، فقال: سمعت من رسول الله صلى الله حديثا هو أعجب إلي من كذا، وكذا، ما أدري ما أعدل به، سمعته يقول: "لا تصيب أحدا مصيبة، فيسترجع عند ذلك ثم يقول: اللهم عندك احتسب مصيبتي هذه، اللهم اخلفني فيها بخير منها إلا أعطاه الله ذلك" والترمذي. وقال حسن غريب، والنسائي، وابن ماجه، عن أم سلمة، عن أبي سلمة مرفوعا "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسب مصيبتي" الحديث. "قالت: فلما مات أبو سلمة" استرجعت، وقلت: اللهم عندك احتسب مصيبتي، هذه كما في رواية الجماعة عنها زاد في رواية البغوي وغيره ولم تطب نفسي أن أقول اللهم اخلفني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له. وفي رواية: فخطبها أبو بكر فأبت، وخطبها عمر فأبت، ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: مرحبا برسول الله، إن فيَّ خلالا ثلاثا: أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية وأنا امرأة ليس لي هنا أحد من أوليائي فيزوجني. فغضب عمر رضي الله عنه أشد مما غضب لنفسه حين ردته، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أما ما ذكرت   خيرا منها و"قلت أي المسلمين خير من أبي سلمة" في قيامه بأمري على الوجه الذي أريده وبعيد أن يكون غيره مثله في حقي، فلم ترد إنكار خيرية أحد من المسلمين على الإطلاق، وهذا أولى من قول صاحب فتح الإله، كأنها أرادت غير نحو العشرة ممن لم تعرف لهم أفضلية على غيرهم حينئذ، وظنها أفضلية أبي سلمة على الكل بعيد من كمال عقلها وفقهها انتهى. وفي رواية فكنت إذا أردت أن أقول وأبدلني خيرا منها، أقول ومن خير من أي سلمة، وفي رواية لابن ماجه، فلما أردت أن أقول: اللهم عضني خيرا منها، قلت في نفسي: أعاض خيرا من أبي سلمة، "ثم إني قلتها" أي المقالة التي هي "اللهم ... إلخ" "فاخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد انقضاء عدتها بوضع زينب، كما في رواية النسائي "حاطب بن أبي بلتعة يخطبني" بضم الطاء "له" كما في مسلم وغيره، والنسائي وغيره أنه أرسل عمر بن الخطاب يخطبها له، وللطبراني برجل الصحيح والنسائي أيضا من وجه آخر، والدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم خطبها بنفسه، وجمع بأنه بعثهما أولا، ثم خطب بنفسه ثانيا، "وفي رواية عند النسائي وغيره بسند صحيح من حديثهما "فخطبها أبو بكر" وفي رواية، فلما انقضت عدتها، أرسل أبو بكر يخطبها، "فأبت وخطبها عمر" وفي رواية فأرسل إليها عمر يخطبها "فأبت ثم أرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها فقالت: مرحبا برسول الله، إن فيَّ خلالا ثلاثا" أخافهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، "أنا امرأة شديدة الغيرة، وأنا امرأة مصبية"، بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الموحدة، وخفة التحتية، أي ذات صبية ذكور وأناث "وأنا امرأة ليس لي هنا أحد من أوليائي فيزوجني" وللنسائي فقالت: ما مثلي ينكح أنا لا يولد لي وغيور، وذات عيال، "فغضب عمر رضي الله عنه أشد مما غضب لنفسه حين ردته". زاد في رواية، فقال: أنت التي تردين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يابن الخطاب إن في كذا وكذا، "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها" زاد في رواية النسائي أنا أكبر منك و "أما ما ذكرت" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 من غيرتك فإني أرجو الله أن يذهبها عنك، وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم، وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني". فقالت لابنها: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه. قال صاحب "السمط الثمين" رواه بهذا السياق هدبة بن خالد و"صاحب الصفوة" وخرج أحمد والنسائي طرفا منه، ومعناه في الصحيح. ومنه دلالة على أن الابن يلي العقد على أمه، وعندنا أنه إنما زوجها بالعصوبة لأنه ابن عمها؛ لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله، وأم سلمة هند بنت سهيل بن المغيرة بن عبد الله، ولم يكن من عصبتها   من غيرتك فإني أرجو الله أن يذهبها عنك". وفي رواية "فسأدعو الله، فيذهب غيرتك"، فدعا صلى الله عليه وسلم فكانت في النساء كأنها ليست منهن، لا تجد من الغيرة شيئا، "وأما ما ذكرت من صبيتك فإن الله سيكفيهم". وفي رواية النسائي: "وأما العيال فإلى الله ورسوله"، "وأما ما ذكرت من أوليائك فليس أحد من أوليائك يكرهني". وفي رواية "شاهد ولا غائب إلا سيرضاني" "فقالت لابنها" عمر، كما في رواية أحمد والنسائي. وروى ابن إسحاق أنه سلمة أخوه، وعليه الأكثر، قال البلاذري، وهو أثبت، وأقره في الإصابة "زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم" أمك، "فزوجه" إياها. "قال" المحب الطبري "صاحب السمط" بكسر السين العقد "الثمين" أي الغالي في أزواج الأمين "رواه بهذا السياق هدبة" بضم الهاء، وسكون الدال، بعدها موحدة "ابن خالد" بن الأسود العنسي أبو خالد البصري، ويقال له هداب، بفتح الهاء والتثقيل، ثقة عابد، لقيه البخاري، ومسلم، وأبو داود، ورووا عنه، ومات سنة بضع وثلاثين ومائتين، "وصاحب الصفوة" ابن الجوزي، "وخرج أحمد والنسائي طرفا منه، ومعناه في الصحيح" لمسلم، "وفيه دلالة على أن الابن يلي العقد على أمه"، كما ذهب إليه أبو حنيفة، ومالك، وجماعة، "وعندنا" يعني الشافعية "أن إنما زوجها بالعصوبة لأنه اب عمها؛ لأن أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد" بسين ودال مهملتين "ابن هلال بن عبد الله" بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي. "وأم سلمة هند بنت" أبي أمية، واسمه "سهيل" في أحد الأقوال، وقيل هشام وقيل حذافة، وصدوا في الإصابة "ابن المغيرة بن عبد الله" بن عمر بن مخزوم المذكور، "ولم يكن من عصبتها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 أحد حاضرا غيره. وكانت أم سلمة من   أحد حاضرا غيره" من المستوين في الدرجة، لا إنه إذا غاب أقرب العصبة زوج الأبعد؛ لأنه إنما يزوجها حينئذ القاضي، كما هو مذهب الشافعية، ثم استشكل استدلال كل من الفريقين بصغر سن ابنيها سلمة وعمر عن أن يتولى واحد منهما النكاح؛ إذ لم يبلغ واحد منهما حتى أقدم بعضهم على الرواية، فقال: هي وهم أو هو عمر بن الخطاب، وقالت له زوج أمك مجازا باعتبار الأول؛ لأنها تصير أم المؤمنين وبعض أقدم بالظن، وتكلم بلا علم، فظن الأنثى ذكرا، فقال قد كان لها ابن سلمة ودرة ولم ينقل أن واحدا منهما زوجها وقد علمت أن درة أنثى، وإن قول الأكثر أن المزوج لها سلمة، وأنه أثبت والحق أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها من نفسه بلا ولي، كما هو من خصوصياته، وقبله من ابنها صورة تطييبا لخاطرهما، وبذلك جزم السيوطي في خصائصه، فقال: وقال لأم سلمة "مري ابنك أن يزوجك"، فزوجها وهو يومئذ صغير لم يبلغ انتهى. وروى الطبراني برجال الصحيح عنها: أنه صلى الله عليه وسلم أتاها فلف رداءه، ووضعه على أسكفة الباب، واتكأ عليه، وقال: "هل لك يا أم سلمة"؟ قلت: إني امرأة شديدة الغيرة، وأخاف أن يبدو للنبي صلى الله عليه وسلم ما يكره، فانصرف، ثم عاد، فقال: "هل لك يا أم سلمة؟ إن كان لزيادة في صداقك زدنا"، فعادت لقولهها، فقالت أم عبد: يا أم سلمة تدرين ما يتحدث به نساء قريش، يقلن إنما ردت محمدا لأنها تريد من قريش أحدث منه وأكثر مالا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها. وروى ابن سعد عنها قالت: قلت لأبي سلمة بلغني أنه ليس امرأة يموت زوها، وهما من أهل الجنة، ثم لم تتزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة، وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها فتعال أعاهدك أن لا تتزوج بعد، ولا أتزوج بعدك، قال: أتعطيني؟ قالت: ما سألتك إلا لأعطيك، قال: فإذا أنا مت فتزوجي، ثم قال: "اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلا خيرا مني، لا يحزنها ولا يؤذيها" فلما مات قلت: من هذا الذي هو خير لي من أبي سلمة؟ فلبثت ما لبثت، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف على الباب، فذكر نحو ما سبق. قال ابن إسحاق: وأصدقها فراشا حشوة ليف، وقدحا، وصحفة ومجشة انتهى. قال في الروض: وهي الرحى، ومنه سمي الحشيش، وذكر معها أشياء لا تعرف قيمتها، منها جفنة وفراش. وفي مسند البزار قال أنس: أصدقها متاعا قيمته عشرة دراهم قال البزار، ويروى أربعون درهما انتهى. وفي الحديث أنه بنى بها، فبات، فلما أصبح قال: "إن لك على أهلك كرامة، فإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي، وإن شئت ثلثت ودرت"، فقالت: بل ثلث، "وكانت أم سلمة من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 أجمل الناس، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة. وماتت سنة تسع وخمسين وقيل سنة اثنتين وستين، والأول أصح،   أجمل الناس" قالت عائشة: لما تزوجها حزنت حزنا شديدا لما ذكر لنا من جمالها، فذكرت ذلك لحفصة، فقالت: ما هي، كما يقال، فتلطفت حتى رأيتها، فرأيت والله أضعاف ما وصفت، فذكرت لحفصة، فقالت: نعم ولكني كنت غيرى. رواه ابن سعد وروى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قال: "يا أم سلمة إني أهديت إلى النجاشي حلة، وأواقي مسك، ولا أراه إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة فهي لك فكان كما" قال، فأعطى كل واحدة من نسائه أوقية، وأعطى أم سلمة المسك والحلة. وروى أبو الحسن الخلعي عن زينب بنت أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم كان عند أمها، فجعل حسنا في شق، وحسينا في شق وفاطمة في حجره، وقال: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد"، فبكت أم سلمة، فقال: "ما يبكيك"؟ قالت: يا رسول الله خصصتهم، وتركتني وابنتي، فقال: "إنك من أهل البيت". وروى عمر الملاء عن عائشة، كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر، دخل على نسائه واحدة واحدة، يبدأ بأم سلمة؛ لأنها أكبرهن ويختم بي. وروى الشيخان عن أم سلمة قلت: يا رسول الله هل لي أجر في بني أبي سلمة، أنفق عليه، ولست بتاركتهم هكذا وهكذا إنما همي بني؟ فقال: "نعم لك أجر ما أنفقت عليه"، "وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال من السنة التي مات فيها أبو سلمة" وهي الرابعة على الصحيح أو الثالثة، وأما قول أبي عبيدة وابن عبد البر تزوجها بعد وقعة بدر في شوال سنة اثنتين، فقال اليعمري، ليس بشيء؛ لأن أبا عمر قال في وفاة أبي سلمة، أنها في جمادى الآخرة سنة ثلاث، وهو لم يتزوجها لا بعد انقضاء عدتها من وفاته انتهى، "وماتت سنة تسع وخمسين، في شوال، قاله الواقدي وتبعه ابن عساكر، وقيل سنة اثنتين وستين، قاله إبراهيم الحربي، قال في التقريب وهو الأصح. وقال البخاري في التاريخ الكبير سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة إحدى وستين بعدما جاءها خبر قتل الحسين. قال ابن عبد البر هذا هو الصحيح، وقيل سنة ستين، قال اليعمري وهو الصحيح، فقول المصنف، "والأول أصح" فيما قاله بعضهم معارض بهذه التصحيحات، قال في الإصابة: وهي آخر أمهات المؤمنين موتا، فقد ثبت في مسلم أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبد الله بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 ودفنت بالبقيع وصلى عليها أبو هريرة، وقيل سعيد بن زيد، وكان عمرها أربعا وثمانين سنة   صفوان دخلا على أم سلمة في خلافة يزيد بن معاوية، فسألاها عن الجيش، وكان ذلك حين جهز يزيد مسلم بن عقبة بعسكر الشام إلى المدينة، فكانت وقعة الحرة سنة ثلاث وستين، وهذا كله يدفع قول الواقدي. وحكاه ابن عبد البر: أن أم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد فإن سعيدا مات سنة خمسة أو إحدى أو اثنتين وخمسين، فيلزم منه أن تكون ماتت قبل ذلك، "ودفنت بالبقيع" وليس كذلك اتفاقا، ويمكن تأويله بأنها مرضت، فأوصت بذلك، ثم عوفيت، فمات سعيد قبلها انتهى، وهو تأويل حسن، ويؤيده أن الواقدي نفسه قال: "وصلى عليها أبو هريرة" إذ لو كان من أوصت له حيا ما صلى أبو هريرة، وقيل سعيد بن زيد، حكاه عبد الغني في الكمال وابن الأثير، وهو مشكل؛ لأنه مات قبلها باتفاق كما ترى، "وكان عمرها أربعا وثمانين سنة" على الصواب، وروت عنه صلى الله عليه وسلم وعن أبي سلمة، وفاطمة الزهراء، وعنها ابناها عمر وزينب وابن أخيها مصعب بن عبد الله، ومكاتبها نبهان ومواليها عبد الله بن رافع، ونافع وشعبة، وابنه، وأبو بكير، وخيرة والدة الحسن وممن يعد في الصحابة صفية بنت شيبة، وهند بنت الحارث الفراسية، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومن كبار التابعين أبو عثمان النهدي، وأبو وائل، وابن المسيب وأبو سلمة، وحميد، ولدا عبد الرحمن بن عوف، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وآخرون كما في الإصابة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 [ أم حبيبة أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقيل اسمها هند، والأول أصح -وأمها صفية بنت أبي العاصي بن أمية عمة عثمان بن عفان-   أم حبيبة أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين أم حبيبة" بفتح الحاء المهملة "رضي الله عنها رملة" بفتح الراء "بنت أبي سفيان صخر بن حرب، وقيل اسمها هند والأول أصح" وبه جزم الزهري وابن إسحاق وخلق. اشتهرت بكنيتها بابنتها من عبيد الله حبيبة ولدت بمكة وهاجرت معها إلى الحبشة، ورجعت معها إلى المدينة، قاله ابن إسحاق، وابن عقبة، وحكى ابن إسحاق قولا أنها ولدت بالحبشة صحابية ربيبة المصطفى، وأمها صفية بنت أبي العاصي بن أمية عمة عثمان بن عفان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 فكانت تحت عبيد الله بن جحش، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام ومات هناك، وثبتت أم حبيبة على الإسلام. واختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وموضع العقد، فقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، فروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها عليه، فزوجها إياه، وأصدقها عنه أربعمائة دينار، وبعث بها إليه مع.   فكانت تحت عبيد الله" بتصغير العبد "ابن جحش" فأما أخوه عبد الله بالتكبير، فاستشهد بأحد، ووهم، زاعم أنه زوجها؛ لأنه لم يتنصر، "وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم تنصر وارتد عن الإسلام" عطف تفسير؛ إذ التنصر بعد الإسلام ردة، "ومات هناك وثبتت أم حبيبة على الإسلام" فأتم لها الله الإسلام والهجرة. وروى ابن سعد عنها، رأيت في المنام كأن زوجي عبيد الله بأسوأ صورة، ففزعت، فأصبحت، فإذا به قد تنصر، فأخبرته بالمنام، فلم يحفل به، وأكب على الخمر حتى مات، فأتاني آت في نومي، فقال: يا أم المؤمنين، ففزعت، فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا برسول النجاشي يستأذن، فإذا هي جارية يقال لها أبرهة، فقالت: إن الملك يقول لك وكلي من يزوجك الحديث. "واختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وموضع العقد" وفي العاقد، "فقيل إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست". قال أبو عبيدة، قال اليعمري: وليس بشيء. وفي الإصابة روى ابن سعد أنه سنة سبع، وقيل ست والأول أشهر، "فروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري" بفتح، فسكون الصحابي المشهور، المتوفى في خلافة معاوية نسبة إلى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة "إلى النجاشي ليخطبها" النجاشي لا عمر، ولأنه رسول فقط، وضمنه معنى حبس ومنع، فقال "عليه" دون إليه أوله المتبادر من تعدية خطب، أي ليلتمس له نكاحها ويقبله له، "فزوجها إياه" النجاشي، أي تول عقدها على ظاهر هذه الرواية، وهو أحد الأقوال المحكية، في العيون وغيرها، "وأصدقها عنه أربعمائة دينار" كما في المستدرك وغيره. قال في العيون وهو أثبت، وفي نسخة من العيون تسعمائة دينار، قال في النور وهو غلط، وفي المستدرك أيضا وأمهرها عنه أربعة آلاف دينار، وسكت عليه الذهبي في تلخيصه. وفي أبي داود أربعة آلاف درهم، وعند ابن أبي خيثمة عن الزهري، زعموا أنه ساق عنه أربعين أوقية، فإن كانت من الفضة، فيكون ألفا وستمائة درهم، "وبعث بها إليه" صلى الله عليه وسلم "مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 شرحيبل بن حسنة. وروي أن النجاشي أرسل إليها جاريته "أبرهة" فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك منه، وأنها أرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاصي فوكلته وأعطت أبرهة سوارين خواتم من فضة سرورا بما بشرتها بها، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فإني أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ذهبا،   شرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء وسكون المهملة، "ابن حسنة" هي أمه التي ربته، وأبوه عبد الله بن المطاع الكندي كان أميرا في فتح الشام، وبها مات سنة ثماني عشرة. "وروي" عن ابن سعيد من طريق إسماعيل بن عمرو بن سعيد الأموي، عن أم حبيبة رأيت في النوم، فذكرت الحديث، كما مر، وفيه "أن النجاشي أرسل إليها جاريته أبرهة" التي قدمت معها وصحبت، "فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك منه" فوكلي من يزوجك "وإنها أرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاصي" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف من السابقين الأولين، قيل كان رابعا أو خامسا استشهد بمرج الصفراء أو بأجنادين "فوكلته وأعطت أبرهة سوارين وخواتم من فضة سرورا بما بشرتها به، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب"، الأمير المستشهد بمؤتة، "ومن هناك من المسلمين فحضروا، فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس" الطاهر عما لا يليق به "السلام" ذي السلامة من النقائص، "المؤمن" المصدق رسله بخلق المعجزة لهم "المهيمن" الشهيد على عباده بأعمالهم، "العزيز" القوي "الجبار" الذي جبر خلقه على ما أراد "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره" يعليه "على الدين كله"، جميع الأديان المالفة له، "ولو كره المشركون" ذلك، "أما بعد، فإني أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية ابن سعد، فإن رسول الله كتب إلى أن أزوجه أم حبيبة، فأجبت، "وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار ذهبا". قال الحاكم: إنما أصدقها ذلك استعمالا لأخلاق الملوك في المبالغة في الصنائع، لاستعانة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فيها. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: "اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج"، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. خرجه صاحب الصفوة كما قاله الطبري. وكان ذلك سنة سبع من الهجرة. قال أبو عمر: واختلف فيمن زوجها فروي أنه سعيد بن العاصي،   النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك انتهى، وعند ابن أبي خيثمة عن أم حبيبة وما بعث إليه صلى الله عليه وسلم بشيء، "ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله لرسول الله صل الله عليه وسلم فيها، ودفع" النجاشي "الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاصي فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا". وفي رواية أراد بالإفراد، أي هو ومن معه، وخصه بالإرادة لأنه لما كان أمر العقد منوطا به، وثم أراد الانصراف لانتهاء الحاجة، "فقال: "اجلسوا فإن سنة الأنبياء"، طريقتهم وسيرتهم الحميدة، "إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج، فدعا بطعام، فأكلوا ثم تفرقوا". زاد ابن سعد قالت أم حبيبة: فلما وصل إلى المال أعطيت أبرهة منه خمسين دينارا، فردتها علي، وردت على ما كنت أعطيتها أولا، وقالت: إن الملك عزم على بذلك، ثم جاءتني من العد بعود، وورس، وعنبر وزباد كثير، فقدمت به معي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. "خرجه صاحب الصفوة" ابن جوزي "كما قاله الطبري" الحافظ محب الدين وأخرجه ابن سعد بأبسط منه، كما علم، "وكان ذلك في سنة سبع من الهجرة" كما رواه ابن سعد، وقيل سنة ست، والأول أشهر، كما في الإصابة، بل في العيون أن الثاني ليس بشيء كما مر، وعلى فرض ثبوته يحتمل أن البعث سنة ست, والعقد سنة سبع، فلا منافاة بينهما. "قال أبو عمر" بن عبد البر، "واختلف فيمن زوجها، فروي أنه سعيد بن العاصي" أخو خالد، كما في الإصابة، فنسب لجده، وفيه نظر، فقد ذكر ابن شاهين أن إسلامه كان قبل الفتح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 وروي عثمان بن عفان وهي ابن عمته. وذكره البيهقي أن الذي زوجها خالد بن سعيد بن العاصي وهو ابن عم أبيها، لكن إن صح التاريخ المذكور فلا يصح أن يكون عثمان هو الذي زوجها، فإنه كان مقدمه من الحبشة قبل وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة. وكان أبو سفيان أبوها حال نكاحها بمكة مشركا محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.   بيسير، كما نقله في الإصابة فلم يكن من مهاجرة الحبشة. "وروي" عن الطبراني عن الزهري: "عثمان بن عفان، وهي ابنة عمته" لأن أمها صفية أخت عفان لأمه وأبيه، وذكر البيهقي" وهو الذي رواه ابن سعد عنها، "إن الذي زوجها خالد بن سعد بن العاصي" وبه جزم ابن القيم. قال اليعمري: وهو أثبت انتهى، "وهو ابن عم أبيها" لأن العاصي ابن أمية وأبو سفيان بن حرب ابن أمية، وقيل عقد عليها النجاشي، وكان قد أسلم، حكاه اليعمري وغيره وفيه نظر؛ لأنه وكيل عنه صلى الله عليه وسلم فهو الذي قبل له. قال الشامي: ويحتمل أن يكون النجاشي هو الخاطب والعاقد أما عثمان أو خالد على ما تضمنه الحديث، "لكن إن صاح التاريخ المذكور" من القولين في وقته، "فلا يصح أن يكون عثمان هو الذي زوجها فإنه كان مقدمه من الحبشة قبل وقعدة بدر في السنة الثانية من الهجرة" وأما سعيد أو خالد، فكلاهما محتمل على ما يعطيه ظاهر المصنف، وقد علمت ما في سعيد من نظر، "وكان أبو سفيان أبوها حال نكاحها بمكة، مشركا، محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقيل له: إن محمدا قد نكح ابنتك فقال: هو الفحل لا يقدع أنفه. رواه أبو سعد وغيره وهو بضم التحتية، وسكون القاف، وفتح الدال وبالعين المهملتين، قال الجوهري: أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما، وليس ذكره مجرد فائدة لا تعلق لها بالتزويج، بل لرد القول بأن أباها هو الذي زوجها عملا بما في مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل عن ابن عباس: أن أبا سفيان قال للنبي صلى لله عليه وسلم: أسألك ثلاثا، فأعطاه إياهن الحديث، وفيه عندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها، فقيل: الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح لهذا الحديث، ولا يرد بنقل المؤرخين، وهذه طريقة باطلة عند أدنى من لم علم بالسير والتواريخ، وما قد كان وقيل هو غلط لا خفاء به. قال ابن حزم: هو موضوع بلا شك كذبه عكرمة بن عمار، وقال ابن الجوزي: فيه وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد، اتهموا به عكرمة للإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وقد قيل إن عقد النكاح عليها كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة   بالحبشة وإن أباها جاء زمن الهدنة، فدخل عليها فثنت فراشه صلى الله عليه وسلم حتى لا يجلس عليه، وتبعه على ذلك جماعة آخرهم أبو الحسن بن الأثير في أسد الغابة، وتعقب بالقول بأنه تزوجها بالمدينة، كما يأتي نعم لا خلاف أنه دخل عليها قبل إسلام أبي سفيان، وأنكر ابن الصلاح هذا على ابن حزم، وبالغ في الشناعة عليه، وقال: لا نعلم أحدا من أئمة الحديث نسب عكرمة إلى الوضع، وقد وثقه وكيع وابن معين وغيرهما، وقالت طائفة: بل سأله أن يجدد العقد تطييبا لقلبه، فإنه كان تزوجها بغير اختياره، وخفي علية صحح العقد بغير رضاه في تلك الحالة. قال بعض الحفاظ: وهذا أيضا باطل لا يظن به صلى الله عليه وسلم ولا يعقل أبي سفيان، ولم يكن شيء من ذلك، وقالت طائفة، منهم البيهقي والمنذر، يحتمل أن هذه المسألة وقعت من أبي سفيان في بعض خرجاته إلى المدينة، وهو كافر حين سمع نعي زوج بنته بالحبشة والتعسف والتكلف الذي في هذا الكلام يغني عنه رده، وقالت طائفة، للحديث محمل صحيح، وهو أن المعنى أرضى الآن أن تكون زوجك، فإني لم أكن قبل ذلك راضيا به، وهذا من زبد الصدور، لا من زبدها، وقيل لما سمعه أبو سفيان أنه صلى الله عليه وسلم طلق نساءه حين حلف لا يدخل عليهن شهرا قدم المدينة، وقال ذلك ظنا منها أنه طلقها وهذا من جنس ما قبله، وقالت طائفة: الحديث صحيح، لكن الغلط والوهم من أحد رواته في تسمية أم حبيبة، وإنما سأله أن يزوجه أختها عزة وخفاءالتحريم عليه غير مستبعد، فقد حفي على ابنته وهي أفقه منه، واعلم حيث قالت له صلى الله عليه وسلم هل لك في أختي فهذه التي عرضها أبو سفيان، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة وهما، وقيل كانت كنيتها أيضا أم حبيبة، وهذا جواب حسن لولا قوله، فأعطاه ما سأل فيقال حينئذ هذه اللفظة من الراوي، وإنما أعطاه بعض ما سأل أو أطلق اتكالا على فهم المخاطب أنه أعطاه ما يجوز إعطاؤه مما سأل. وقال المنذري أيضا ظن أبو سفيان بإسلامة تجدد ولايته عليها، فأراد تجديد العقد يوم ذلك لا غير، قال اليعمري: وهذا جواب يتساوك هزلا انتهى، بضم الهاء مفعول له، أي يتمايل لأجل الضعف والهزل، وقد ظهر لي الجواب، بأن المعنى يديم التزويج ولا يطلق كما فعل بغيرها، ولا ينافيه قوله عندي؛ لأن الإضافة لأدنى ملابسة، ولا بأس به فإنه قريب. "وقد قيل إن عقد النكاح عليها كان بالمدينة بعد رجوعها من أرض الحبشة"، وعمل له عثمان وليمة لحم. روي ذلك عن قتادة والزهري، وهو يرد دعوى ابن حزم وغيره الإجماع على أنه إنما تزوجها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 والمشهور الأول: وماتت بالمدينة سنة أربع وقيل: سنة اثنتين وأربعين.   وهي بالحبشة، ويحمل على أن عثمان جدد له العقد بعد قدومها، كذا في الإصابة "والمشهور الأول" ولشهرته حكى عليه غير واحد الإجماع، وقضوا بالوهم على ما في الصحيح كما رأيت، وفي الإصابة قيل نزل في ذلك عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، وهذا بعيد انتهى. وفي الروض قال مجاهد في الآية: هي مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان، وروى ابن أبي خيثمة، والزبير بن بكار بإسناد يرفعه إلى من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أبا سفيان في بيت أم حبيبة، وأبو سفيان يقول له: تركتك فتركتك العرب، ولم ينتطح بعدها جماء، ولا قرناء، وهو صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: "أنت تقول هذا يا أبا حنظلة"؟ وماتت بالمدينة سنة أربع وأربعين، جزم به ابن سعد وأبو عبيد، ورجحه البلاذري، وقيل سنة اثنتين وأربعين، قال ابن حبان، وابن قانع، وابن منده. وقال ابن أبي خيثمة، سنة تسع وخمسين قال في الإصابة، وهو بعيد وقال في النور: هو غريب ضعيف، قيل قبرت بدمشق والصحيح بالمدينة انتهى، وقيل مات سنة خمسين، وقيل سنة خمس وخمسين، وأخرج ابن سعد، عن عائشة: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت، قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فحلليني من ذلك فحللتها، واستغفرت لي، واستغفرت لها، فقالت لي: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة بمثل ذلك، روت أم حبيبة عنه صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث في الكتب الستة، وعن ضرتها زينب بنت جحش، وعنها بنتها حبيبة وأخواها معاوية، وعتبة وابن عبد الله، وأبو سفيان بن سعيد بن المغيرة الثقفي، وهو ابن أختها ومولياها سالم، وأبو الجراح، وصفية بنت شيبة، وزينب بنت أم سلمة، وعروة بن الزبير، وأبو صالح السمان، وآخرون والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 [ زينب بنت جحش أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين زينبت بنت جحش -وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم-   زينب بنت جحش أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين زينب بنت جحش" الأسدية، تقدم نسب أبيها "وأمها أميمة" بالتصغير "بنت عبد المطلب بن هاشم" عمته صلى الله عليه وسلم، المختلف في إسلامها، واثبته ابن سعد، وقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجها من زيد بن حارثة، فمكثت عنده مدة ثم طلقها -كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الخصائص- فلما انقضت عدتها منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرني لها"، قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهري إلى الباب فقلت يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أوامر ربي عز وجل، فقامت إلى مسجد لها، فأنزل الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] .   أطعمها صلى الله عليه وسلم أربعين وسقا من خيبر، فعليه، كانت موجودة لما تزوج بنتها، "فكان رسول الله صلى الله عليه زوجها من" حبه، ومولاه "زيد بن حارثة"، باشر تزويجها له لأن من خصائصه أن يزوج من شاء ممن شاء، أو سعى له في ذلك. وقد روى الطبراني بسند صحيح، عن قتادة وابن جرير، عن ابن عباس، قالا: خطب النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت واستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبا، فأنزل الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} كلها، فرضيت، وسلمت "فمكثت عنده مدة" ألقى الله في قلبه كراهتها، فجاء يشكوها إليه صلى الله عليه وسلم، فقال له: "أمسك عليك زوجك، واتق الله"، فنزلت {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] ، أي علمك بالوحي بأنه سيطلقها وأنك تتزوجها، كما قاله علي بن الحسين والزهري وغيرهما، وعليه أهل التحقيق، "ثم طلقها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الخصائص" لكراهته لها، لتعاظمها عليه بشرفها، لا لرغبة المصطفى في نكاحها، كما زعمه من وهم، "فلما انقضت عدتها منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة" إظهارا لمزيد حبه له وقوة إيمانه، حيث اطمأنت نفسه إلى خطبة من فارقها عليه السلام. قال البيضاوي: وذلك ابتلاء عظيم، وشاهد بين على قوة إيمانه، "اذهب فاذكرني لها" ويروى أنه قال له: "ما أجد في نفسي أوثق منك، فاخطب زينب عليَّ". "قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهري إلى الباب" من مزيد ورعه حتى لا يراها، وإلا فهو كان قبل زوال الحجاب "فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك" يخطبك "فقالت: ما كنت لأحدث شيئا حتى أوامر"، بضم الهمزة وفتح الواو أو بهمزتين مضارع آمر، أي استخير "ربي عز وجل فقامت إلى مسجد لها فأنزل الله" تعالى على رسوله " {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} "، أي جعلناها لك زوجة بلا واسطة، عقد على الصواب الذي لا يجوز غيره، فإنها كانت تفخر بأن الله هو الذي زوجها، وقال ابن إسحاق زوجها أخوها أبو أحمد يمكن تأويله، بأنه لما رآه أتى في منزلها، رضيه وفرح به؛ إذ لا كلام له ولا لغيره مع الله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن. أخرجه مسلم. وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] الآية. وكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات،   "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن". "أخرجه مسلم" وأحمد، والنسائي من حديث أنس قال: لما انقضت عدة زينب، فذكره، وعند ابن سعد بسند مرسل بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عند عائشة إذ أخذته عشبة فسري عنه. وهو يتبسم ويقول: "من يذهب إلى زينب فيبشرها" وتلا {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لها يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم وأشرف ما صنع لها زوجها الله من السماء، وعنده بسند ضعيف، عن ابن عباس لما أخبرت زينب بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سجدت، "وقال المنافقون: حرم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه" لأنه كان تبناه، "فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] الآية". قال ابن عطية اذهب الله سبحانه بهذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم من تزوجه زوجة دعيه فنفى تلك البنوة، واعلم أنه في حقيقة أمره لم يكن أبا أحد من المعاصرين له، ولم يقصد بالآي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فيحتاج في أمر بنيه، أنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين، بأنهما ابنا بنته، ومن قال ذلك تأول معنى البنوة على غير ما قصد بها انتهى، وهو حسن نفيس، وقد صرح بأن القول ليس من المنافقين فقط، وأخرج الترمذي عن عائشة لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب، قالوا: تزوج حليلة ابنه فنزل {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ} الآية، "وكانت زينب تفخر" بفتح المعجمة، وفي نسخة تفتخر "على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات". "رواه الترمذي وصححه" من حديث أنس، وفي رواية غيره أنها كانت تقول: إن آباءكن أنكحوكن، وإن الله أنكحني إياه من فوق إلخ ..... وليس هذا من الفخر المنهي عنه، بل من التحدث بالنعمة، وقد سمعها صلى الله عليه وسلم وأقرها، فروى ابن سعد عن عبد الواحد بن أبي عون، قالت زينب: يا رسول الله إني والله ما أنا كأحد من نسائك ليس امرأة من نسائك إلا زوجها أبوها، أو أخوها أو أهلها غيري زوجنيك الله من السماء، وعن الشعبي كانت زينب تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 رواه الترمذي وصححه. وكان اسمها "برة" فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب. وعن أنس: لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فإذا هو صلى الله عليه كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام وقام من قام، وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس،   لأني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن، إن جدي وجدك واحد، وإن الله أنكحك إياي من السماء، وإن الساعي في ذلك جبريل تريد عبد المطلب؛ لأنه أبو أمها فهو نحو رواية أنا بنت عمتك: "وكان اسمها برة" بفتح الموحدة، والراء المشددة كما في النور أما أبوها جحش، فكان اسمه برة بضم الموحدة كما في التبصير والروض "فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب" لما دخلت عليه. ذكره ابن عبد البر، أي كراهة أن يقال خرج من عند برة، أو ما هنا برة مثلا لحبه الفال الحسن، لا لأنها كانت تزكي نفسها، كما زعم لأنه سوء ظن. "و" روى البخاري ومسلم "عن أنس لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم، فطعموا" الخبز واللحم، كما في الرواية وفي الصحيح أيضا ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أولم على أحد من نسائه ما أولم على زينب بنت جحش. أولم عليها بشاة، أي شكر الله حيث زوجه إياها بالوحي، كما قال الكرماني أو وقع اتفاقا لا قصدا، كما قال ابن بطال أو لبيان الجواز، كما قال غيرهما، وفي الصحيح أيضا بنى بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت داعيا، فيجيء قوم، فيأكلون ويخرجون، ثم قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا، قلت يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه، قال: "ارفعوا طعامكم" "ثم جلسوا يتحدثون" فأطالوا الجلوس، "فإذا هو صلى الله علي وسلم كأنه يتهيأ للقيام" ليتفطنوا لمراده فيقوموا لقيامه، "فلم يقوموا" وكان يستحيي أن يقول لهم قوموا "فلما رأى ذلك قام"، لكن يقوموا ويخرجوا، "وقام من قام، وقعد ثلاثة نفر" لم يسموا، والإضافة بيانية، أي ثلاثة هم نفر لا حقيقة، وإلا لكان المعنى أنهم تسعة، أو أكثر إذ أقل النفر ثلاثة وليس بمراد وفي رواية للبخاري رجلان وأجاب الكرماني بأن مفهوم العدد لا اعتبار له، أو المحادثة كانت بينهما، والثالث ساكت، وقال الحافظ: كأن أحد الثلاثة فطن لمراد الرسول، فخرج وبقي الاثنان "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل" على زينب، "فإذا القوم جلوس" في بيتها فرجع زاد في رواية أخرى في الصحيح، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله"، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك يا رسول الله وبعض حجر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 ثم إنهم قاموا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء صلى الله عليه وسلم حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآية. وكان تزويجها له صلى الله عليه وسلم في سنة خمس من الهجرة، وقيل سنة ثلاث.   نسائه يقول لهن، كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت: "ثم إنهم قاموا، فخرجوا، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء" صلى الله عليه وسلم "حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب"، أي الستر "بيني وبينه، فأنزل الله تعالى" بعد خروج القوم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، إلى قوله: {عَظِيمًا} . وفي البخاري عن أنس أيضا، أنا أعلم الناس بآية الحجاب لما أهديت زينب بنت جحش إلى رسول الله كانت معه في البيت فدعا القوم فذكر نحوه، وروى البخاري أيضا عن أنس قال عمر: قلت: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قعب، فمر عمر، فدعاه، فأكل، فأصاب أصبعه، فقال: أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فأطال الجلوس، فخرج صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه، فقال عمر: لعلك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد قمت ثلاثا لكي يتبعني، فلم يفعل"، فقال عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجابا فإن نساءك لسن كسائر النساء وذلك أطهر لقولهم، فنزلت آية الحجاب. قال الحافظ يمكن الجمع بأن ذلك وقع قبيل قصة زينب فلقربه منها أطلق نزول آية الحجاب بهذا السبب ولا مانع من تعدد الأسباب انتهى. "وكان تزويجها له صلى الله عليه وسلم في سنة خمس من الهجرة" كلامه صريح في ترجيحه ولم أجده، "وقيل سنة ثلاث" ذكره ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة، وصدر به في الإصابة والسبل وقيل سنة أربع وقدمه في العيون، قالت أم سلمة كانت زينب معجبة لرسول الله، وكان يستكثر منها، وكانت صالحة صوامة قوامه صنعاء تصدق بذلك كله على المساكين، رواه ابن سعد، وقالت عائشة، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح، أي تضاهيني وتفاخرني بجمالها ومكانتها عنده عليه السلام. وعن راشد بن سعد قال: دخل صلى الله عليه وسلم منزله ومعه عمر، فإذا هو بزينب تصلي، وهي تدعو في صلاتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها لأواهة"، رواه الطبراني، وعن ميمونة كان صلى الله عليه وسلم يقسم ما أفاء الله على رهط من المهاجرين، فتكلمت زينب بنت جحش، فانتهرها عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "خل عنها يا عمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 وهي أول من مات من أزواجه بعده. وقالت عائشة في شأنها: ولم تكن امرأة خيرا منها في الدين، وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة.   فإنها أواهة"، فقال رجل: يا رسول الله ما الأواه، قال: الخاشع المتضرع، وإن إبراهيم لحليم أواه، منيب، رواه ابن عبد البر وغيره، وتفسيرة صلى الله عليه وسلم لا معدل عنه، فمن فسره بكثير التأوه والتأسف على الناس من ذنوبهم فقد فسره باللازم، وفي حديث الإفك قالت عائشة: وكان صلى الله عليه وسلم يسأل زينب عن أمري، فقال: "ماذا علمت أو رأيت"، فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، "وهي أول من مات من أزواجه بعده". روى الشيخان واللفظ لمسلم عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعكن لحاقا بي، أطولكن يدا، فكن يتطاولن أيهن أطول يدا، قالت: وكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيديها وتتصدق. وفي رواية قالت عائشة، فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار، نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة ولم تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب صناع اليدين، فكانت تدبع وتخرز وتتصدق به في سبل الله، وصناع بفتح الصاد المهملة، أي لها صنعة تعملها بيديها، "وقالت عائشة في شأنها" كانت زينب هي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة عنده، "ولم تكن امرأة" وفي رواية وما رأيت امرأة قط "خيرا منها في الدين" فعلى الرواية الثانية تحمل الأولى، فلا ترد خديجة، لأنها لم ترها، وعائشة؛ لأنها لا تزكي نفسها في مقام الثناء على غيرها وإن ذكرت فضائلها تحدثا بالنعمة كما مر في ترجمتها ثم المراد من أمهات المؤمنين فلا ترد السيدة فاطمة فإن عائشة نفسها صح عنها قولها: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها، كما مر "وأتقى الله وأصدق حديثا" ومن ذلك حلفها في حديث الإفك بأنها ما علمت إلا خيرا مع كونها ضرتها وعلمها بأنها أحب إليه منها، فلم تأخذها الغيرة على السكوت وعلى الإخبار بنفي العلم فقط، بل حصرت العلم في الخيرة ثم لم تكتف بذلك حتى أقسمت عليه قبل ذكره "وأوصل للرحم وأعظم صدقه". روى ابن سعد وابن الجوزي عن برزة بنت رافع قالت: لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها فلما أدخل عليها، قالت: غفر الله لعمر غيري من إخواني كان أقوى على قسم هذا مني قالوا: هذا كله لك، قالت: سبحان الله، واستترت منه بثوب، وقالت: صبوه واطرحوه عليه ثوبا، ثم قالت: أدخلي يدك وأقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به يقرب إلى الله، رواه مسلم وماتت بالمدينة سنة عشرين وقيل إحدى وعشرين ولها ثلاث وخمسون سنة، وصلى عليها عمر بن الخطاب، وهي أول من جعل على جنازتها نعش.   وبني فلان من أهل رحمها، وأيتامها ففرقته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة غفر الله لك يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا حق، قالت: فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهما ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فماتت وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب، كان عطاء زينب اثني عشر ألفا، لم تأخذه إلا عاما واحدا، فجعلت تقول: اللهم لا يدركني هذا المال قابل، فإنه فتنة، ثم قسمته في أهل رحمها في أهل الحاجة، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف عليها وأرسل بالسلام، وقال: بلغني ما فرقت فأرسل بألف درهم تستبقيها فسلكت به ذلك المسلك, "وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تتصدق به ويقرب إلى الله"، ومر قريبا قول عائشة في الصحيح: كانت تدبغ وتخرز وتتصدق به في سبيل الله، "ورواه مسلم" وأوله فيه:كانت زينب، كما ذكرته وروى ابن سعد عن القاسم بن محمد، قالت زينب: حين حضرتها الوفاة أني قد أعددت كفني وإن عمر سيبعث إلي بكفن، فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم أن تتصدقوا بحقوي فافعلوا وماتت بالمدينة سنة عشرين، جزم به الواقدي، وابن إسحاق "وقيل سنة إحدى وعشرين" حكاه اليعمري وغيره، "ولها ثلاث وخمسون سنة". وفي الإصابة قال الواقدي: تزوجها صلى الله عليه وسلم وهي بنت خمس وثلاثين سنة، واتت سنة عشرين، وهي بنت خمسين، ونقل عن عمر بن عثمان الحجبي، أنها عاشت ثلاثا وخمسين انتهى. وروى ابن سعد عن عمرة أن عمر بعث بخمسة أثواب، فكفنت فيها، وتصدقت عنها أختها حمنة بكفنها الذي كانت أعدته، قال عمرة: فسمعت عائشة تقول: لقد ذهبت حميدة سعيدة مفزع اليتامي والأرامل "وصلى عليها عمر بن الخطاب" روى البزار برجال ثقات، عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزي، أنه صلى مع عمر على زينب، فكبر أربع تكبيرات، وكانت أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم موتا، وكان يعجب عمر أن يدخلها قبرها فأرسل إلى أزواجه صلى الله عليه وسلم من يدخل هذه قبرها، فقلن من كان يدخل عليها في حياتها، "وهي أول من جعل على جنازتها نعش"، أي من الأزواج وأما الأولية الحقيقية، فالسيدة فاطمة، كما قدمه عن ابن عبد البر، حيث قال: فاطمة أول من غطى نعشها، ثم زينب بعدها. روت زينب عنه صلى الله عليه وسلم في الكتاب السنة أحاديث وعنها ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وزينب بنت أبي سلمة، وهي صحابة، وكلثوم بن المصطلق، ومذكور مولاها وغيرهم والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 [ زينب أم المساكين والمؤمنين ] : وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، وكانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم فكانت تحت عبد الله بن جحش في قول ابن شهاب، قتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، ولم تلبث عنده إلا شهرين، أو ثلاثة وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلي. وقيل   زينب أم المساكين والمؤمنين: "وأما أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث" بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن بكر بن هوازن "الهلالية" نسبة إلى جدها هلال المذكور، فهي قريبة ميمونة، تجتمع معها في هلال، ولم يذكروا أمها إلا أن علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة ذكر أنها أخت ميمونة لأمها، فتكون أمها هند بنت عوف. لكن قال ابن عبد البر: لم أر ذلك لغيره، وأقره اليعمري هنا، وحكاه في ميمونة عن بعضهم، ولم يتعقبهم اتكالا على ما قدمه، "وكانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم". قال الزهري: سميت بذلك لكثرة إطعامها المساكين رواه الطبراني، وقال ابن إسحاق لرحمتها إياهم ورقتها عليهم، ولم يقيداه بالجاهلية، وكذا في الإصابة والعيون لكن ذكره ابن أبي خيثمة أي وأولى في الإسلام "فكانت تحت عبد الله بن جحش في قول ابن شهاب قتل عنها يوم أحد فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث" كذا حكاه أبو عمر عن الزهري، ورواه عنه ابن أبي خيثمة، ولعلها كانت حاملا منه، فأسقطت بعد موته، فانقضت عدتها في السنة المذكورة، وهذا متعين، وإن لم يذكروه؛ إذ وقعة أحد كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق، فلا يمكن انقضاء عدتها بالأشهر في السنة المذكورة "ولم تلبث عنده إلا شهرين أو ثلاثة، وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم وقيل مكثت عنده ثمانية أشهر، ذكره الفضائلي" "وقيل" قائله قتادة بن دعامة رواه ابن أبي خيثمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 كانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت الطفيل بن الحارث، ثم خلف عليها أخواه عبيدة بن الحارث وقتل عنها يوم أحد شهيدا فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأول أصح. وتوفيت في ربيع الآخر سنة أربع ودفنت بالبقيع، على الطريق، قال الطبري: كذا ذكره الفضائلي، وإنما يكون هذا على ما حكاه من أنها مكثت عنده، عليه الصلاة والسلام ثمانية أشهر،   "كانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت الطفيل بن الحارث" بن المطلب بن عبد مناف القرشي، المطلبي. ذكره ابن عقبة وابن إسحاق في البدريين، وقال أبو عمر: شهد أحدا وما بعدها، ومات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثلاثين انتهى، وبهذا جزم ابن الكلبي، وزاد فطلقها، "ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث" المطلبي، "وقتل عنها يوم أحد" سبق قلم صوابه بدر "شهيدا" في المبارزة، كما مر تفصيله، وقال ابن إسحاق: كانت أولا عند ابن عمها جهنم بن عمرو بن الحارث، ثم بعده عند عبيدة، فاستشهد، "فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم" في شهر رمضان سنة ثلاث. هذا بقية قول ابن الكلبي، "والأول أصح" وهو كونها كانت تحت عبد الله بن جحش. قال إبن إسحاق: زوجه إياها قبيصة بن عمر والهلالي، وأصدقها أربعمائة درهم وفي العيون اثنتي عشرة أوقية ونشا أي نصف أوقية. وقال ابن الكلبي خطبها صلى الله عليه وسلم إلى نفسها، فجعلت أمرها إليه فتزوجها، وهذا ذكره ابن سعد بسند منقطع عن أم سلمة، وأخرج ابن سعد في ترجمة زينب هذه عن عطاء بن يسار عن الهلالية التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت لها خادمة سوداء، فقالت: يا رسول الله أردت أن أعتق هذه، فقال لها: "ألا تفيدين بها بني أخيك أو بني أختك من رعاية الغنم" قال في الإصابة: وهذا خطأ، فإن صاحبة هذه القصة هي ميمونة بنت الحارث، وهي هلالية، وفي الصحيح نحو هذا من حديثها، وقد ذكر ابن سعد نحوه في ترجمة ميمونة من وجه آخر، وأورد ابن منده في ترجمتها حديث "أولكن لحوقا بي أطولكن يدا"، وتعقبه ابن الأثير وغيره، بأن المراد بها زينب بنت جحش؛ لأن المراد بلحوقهن به موتهن بعده، وهذه ماتت في حياته، وهو تعقب قوي انتهى، "وتوفيت" وهي ابنة ثلاثين سنة، كما ذكره الواقدي "في ربيع الآخر سنة أربع ودفنت" وفي العيون، وصلى عليها صلى الله عليه وسلم، ودفنها "بالبقيع على الطريق". "قال" المحب "الطبري، كذا ذكره الفضائلي: وإنما يكون هذا على ما حكاه"، هو "من أنها مكثت عنده عليه الصلاة والسلام ثمانية أشهر" وأنه تزوجها في رمضان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 أما على ما حكاه أبو عمر فلا يصح؛ إذ العقد كان في سنة ثلاث، ومدتها عنده صلى الله عليه وسلم شهران أو ثلاثة فلا يصح أن تكون وفاتها في ربيع الآخر، انتهى، فليتأمل.   "أما على ما حكاه أبو عمر" بن عبد البر، "فلا يصح إذ العقد كان في سنة ثلاث" بعد شوال، "ومدتها عنده صلى الله عليه وسلم شهران، أو ثلاثة، فلا يصح أن تكون وفاتها في ربيع الآخر، والذي أوقعه في ذلك التلفيق بين القولين وعدم حكايتهما على وجههما، وإلا فالمحكي عند ابن عبد البر أنها لم تقم عنده إلا شهرين أو ثلاثة بدون ذكر شهر الوفاة، وقول ابن الكلبي: تزوجها في رمضان سنة ثلاث، فأقامت عنده ثمانية أشهر، وماتت في ربيع الآخر سنة أربع "انتهى" كلام الطبري، "فليتأمل" كان وجه أنه يمكن إجراؤه على قول أبي عمر أيضا بأن يكون التزوج في آخر سنة ثلاث، ومكثت ثلاثة أشهر وماتت في أول ربيع الآخر، فلم يحسب شهر النكاح والوفاة، وهذا تعسفه لا يخفى، وفي الشامية مكثت عنده ثمانية أشهر، وقيل شهرين، وقيل ثلاثة، والصحيح أنها ماتت في ربيع الأول، وقيل الآخر سنة أربع، وقد بلغت ثلاثين سنة أو نحوها انتهى، ولم يمت عنده إلا هي وخديجة على القول بأن ريحانة كانت سرية ولا زوجة والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 [ ميمونة أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها بنت الحارث الهلالية -وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير- فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة معتمرا سنة سبع بعد غزوة خيبر،   ميمونة أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، بنت الحارث" بن حزن، بفتح المهملة، وإسكان الزاي، ونون ابن بجير بموحدة، وجيم وراء مصغر ابن هزم، بضم الهاء، وفتح الزاي، وميم ابن رؤبة، بضم الراء، وفتح الهمزة، وتبدل واوا ابن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة "الهلالية" نسبة إلى جدها هلال المذكور، "وأمها هند". قال البرهان: لا أعلم لها إسلاما، وفي الإصابة أمها خولة، ووقع عند أبي عمر هند بدل خولة "بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة بن حمير" الحميرية، "فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة معتمرا" عمرة القضية في ذي القعدة "سنة سبع بعد غزوة خيبر" فيقال أرسل جعفر بن أبي طالب يخطبها، فأذنت للعباس فزوجها منه، ويقال إن العباس وصفها له، وقال: قد تأيمت من أبي رهم، فتزوجها وعند ابن سعد بسند له أنه تزوجها في شوال سنة سبع، فإن ثبت صح أنه تزوجها وهو حلال؛ لأنه إنما أحرم في ذي القعدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 وكانت أختها أم الفضل لبابة الكبرى تحت العباس بن عبد المطلب، وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر، وسلمى بنت عميس تحت حمزة، وكانت جعلت أمرها إلى العباس.   ذكره في الإصابة ولا منافاة بحمله شوال على الخطبة والقعدة على العقد. وقد روى مالك في الموطأ، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار، فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن يخرج مرسل، وصله الترمذي وحسنه، والنسائي عن سليمان عن أبي رافع، ورواه ابن سعد بسند الواقدي، وسمي الأنصاري أوس بن خولى، وعلى هذا، فيكون وكلهما في قبول النكاح له على ظاهر قوله فزوجاه، وحكى أنه وكل عمرو بن أمية الضمري، لكن سيأتي التصريح بأن العباس زوجها له بمكة بعدما حل، فيحمل قوله فزوجاه على معنى خطباها له فقط مجازا، "وكانت أختها أم الفضل لبابة" بضم اللام، وخفة الموحدتين "الكبرى" من السابقين الأولين حتى قال ابن سعد، إنها أول من أسلم بعد خديجة، لكن تعقب بأنه سبقتها سمية أم عمار وغيرها. كان صلى الله عليه وسلم يزورها وماتت في خلافة عثمان "تحت العباس بن عبد المطلب" وأنجبت له الستة النجباء، وهم: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، ومعبد، وقثم وعبد الرحمن، وأختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، تلقب عصماء صحابية، كما في الإصابة وعزة صحابية أيضا، وهزيلة بزاي مصغرة أم حفيد بالفاء مصغر صحابية أيضا، كا في الإصابة، وذكر اليعمري: أن عصماء غير لبابة الصغرى، وتبعه الشامي وزاد أنها كانت تحت أبي بن خلف وجرى عليه البرهان، فقال: لم يعرف لعصماء إسلام، لكن جزم في الإصابة بأنها لبابة الصغرى، ونقله في حرف العين عن ابن الكلبي، وهو مقدم على غيره في علم النسب، كما أن غيره مقدم عليه في الحديث، وكونها زوجة أبي بن خلف لا يمنع كونها كانت تحت الوليد، وأنجبت منه سيف الله، فما المانع من أنه طلقها، فنكحها أبي، وهؤلاء إخوة ميمونة لأبويها "وأختها لأمها أسماء بنت عميس تحت جعفر" فولدت له عبد الله ومحمدا وعونا، ثم مات فخلف عليها الصديق، فولدت له محمدا، ثم مات فخلف عليها علي، فولدت له يحيى وعونا، "و" أختها لأمها أيضا "سلمى بنت عميس" الصحابية "تحت حمزة" سيد الشهداء، فولدت له أمة الله، ثم خلف عليها شداد بن الهاد الليثي، فولدت له عبد الله وعبد الرحمن، ومن أخواتها لأمها سلامة بالتخفيف بنت عميس، ولم يعرف لها إسلام كما قال البرهان: ومر أن الجرجاني النسابة حكى أن أم المساكين أختها لأمها أيضا، ولذا كان يقال أكرم عجوز في الأرض أصهارا ابنة عوف، أصهارها: رسول الله، والصديق، وحمزة، والعباس، وعلي، وجعفر وشداد بن الهاد، "وكانت" كما رواه أحمد والنسائي عن ابن عباس لما خطبها صلى الله عليه وسلم "جعلت أمرها إلى العباس". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فلما رجع بنى بها بسرف، ذكره أبو عمر. وفي الصحيح من أفراد مسلم، عنها   وفي رواية ابن أبي خيثمة عن ابن عباس أنها جعلته إلى أم الفضل، فردته أم الفضل إلى العباس، "فأنكحها النبي صلى الله عليه وسلم" واقتصر ابن إسحاق على الرواية الأولى، ولم يحفظها ابن هشام، وحفظ الثانية، فتعقبه بها، مع أنهما روايتان مسندتان عن ابن عباس، كما رأيت ولا معارضة بينهما؛ لأنها جعلته لأختها، لتفوضه لزوجها، فنسبه ابن عباس لأمه، باعتبار الابتداء، ولأبيه لانتهاء الأمر إليه، ويقربه أن المخدرات يستحين من ذكر النكاح، ففوضته لأختها، لتفوضه لزوجها، "وهو محرم" جزم به ابن عباس في هذه الرواية، وقد رواه عنه مالك والأئمة الستة أيضا، وزاد في رواية للبخاري في عمرة القضاء، وبه احتج الحنفية وموافقوهم على جواز نكاح المحرم، وإنكاحه غيره، وأجاب الجمهور بأن قول ابن عباس وهم وإن كانت خالته، كما قاله ابن المسيب. قال ابن عبد البر: الرواية أنه تزوجها وهو حلال، متواترة عن ميمونة نفسها، وعن أبي رافع وسليمان بن يسار مولاها، ويزيد بن الأصم ابن أختها، وهو قول جمهور علماء المدينة، وما أعلم أحدا من الصحابة، روى أنه تزوجها وهو محرم سوى ابن عباس، والقلب إلى رواية الجماعة أميل؛ لأن الواحد إلى الغلط أقرب انتهى، وسبقه إلى نحوه الإمام الشافعي، كما سلف ي عمرة القضية لكن في دعوى انفراد ابن عباس به تقصير، فقد روى البزار عن عائشة نحوه، وكذا الدارقطني بسند ضعيف عن أبي هريرة: اللهم إلا أن يكون نفي العلم بقيد الصحة، وعلى أنه ليس بوهم، فمن خصائصه عند الجمهور النكاح حال الإحرام، فلا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم المحرم: "لا يَنْكِح ولا يُنْكَح"، رواه مسلم، وقيل هو مؤول كما يأتي، "فلما رجع بنى بها بسرف" بفتح المهملة، وكسر الراء، وبالفاء بعد ما أقام بمكة ثلاثا، فأتاه حويطب بن عبد العزى، وسهيل بن عمرو، وأسلما بعد في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا له: قد انقضى أجلك فاخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فاعرست بين أظهركم، وصنعت لكم طعاما، فحضرتموه، فقالوا: لا حاجة لنا بك ولا بطعامك، فغضب سعد بن عبادة، وقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك، ولا أرض أبيك، والله لا يبرح إلا طائعا راضيا، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا سعد لا تؤذ قومنا، زارونا في رحالنا" فخرج وخلف أبا رافع على ميمونة، فأقام حتى أمسى، فخرج بها، فلقيت من سفهاء مكة عناء، فأتاه بها بسرف، كما أورده ابن إسحاق والواقدي. وروى بعضه ابن أبي خيثمة عن ابن عباس، "ذكره أبو عمر" بن عبد البر، الحافظ الشهير تلخيصا للمروي عن ابن عباس، وإن لم يقل أبو عمر به كما رأيت. "وفي" الحديث "الصحيح من أفراد مسلم" أي مما انفرد به عن البخاري "عنها" أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال، زاد البرقاني بعد قوله تزوجها حلالا: وبنى بها حلالا وماتت بسرف. فيحمل قوله: وهو محرم، أي داخل الحرم،   ميمونة صاحبة الترجمة "أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال" ولفظ مسلم من طريق يزيد بن الأصم عن ميمونة: تزوجني صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف. قال يزيد: وكانت خالتي وخالة ابن عباس، "زاد" الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن غالب، "البرقاني" بفتح الموحدة، نسبة إلى برقان من قرى خوارزم، سمع الإسماعيلي وغيره، وصنف، وخرج على الصحيحين، وروى عنه البيهقي والخطيب، وقال: كان ثقة ثبتا ورعا لم نر في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه، كثير الحديث، حريصا على العلم، له حظ من العربية، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات في رجب سنة خمس وعشرين وأربعمائة "بعد قوله تزوجها حلالا وبنى بها حلالا، فأفادت هذه الزيادة، أنه عقد عليها حلالا أيضا فسقط جمع بعضهم، بأنه لا تنافي بين رواية ابن عباس، لحملها على العقد، وبين روايتها لحملها على البناء، "وماتت بسرف" من قول يزيد لا من قولها، كما هو واضح، وقد رجحت روايتها على رواية ابن عباس، بأنها أعلم بنفسها وامرأة كاملة، وهو ابن عشر سنين وأشهر، فبين الضبطين فرق لا يخفى، وقد تواتر عن أبي رافع موافقتها، وكان السفير بينهما وبأن رواية من باشر الوقعة أرجح ممن لم يباشرها، وقد أخرج الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان عن أبي رافع قال: تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال، وبنى بها، وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. وأخرج ابن سعد عن ميمون بن مهران: دخلت على صفية بنت شيبة، وهي عجوز كبيرة، فسألتها أتزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، فقالت: لا والله لقد تزوجها وإنهما لحلالان. وروى يونس بن بكير وغيره عن يزيد بن الأصم: تزوج رسول الله ميمونة، وهو حلال، وبنى بها بسرف في قبة لها، وماتت بعد ذلك فيها. وروى ابن سعد عن ابن المسيب: أنه صلى الله عليه وسلم قدم وهو محرم، فلما دخل تزوجها، وعلى هذا، "فيحمل قوله،" أي ابن عباس "وهو محرم، أي داخل الحرم" أو في الشهر الحرام؛ لأنه عربي فصيح يتكلم بكلام العرب، وهم يقولون: أحرم إذا دخل الحرم، وأنجد إذا دخل نجدا كما قال الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... قدعا فلم أر مثله مجدولا وهذا ذكره الباجي في شرح الموطأ، ونقله السهيلي عن بعض شيوخه، وقال: فالله أعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 ويكون العقد وقع بعد انقضاء العمرة، ثم خرج بها إلى سرف وابتنى بها فيه، وهو على عشرة أميال من مكة، كذا قاله الطبري. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في مقصد المعجزات في ذكر الخصائص مزيد بيان لذلك. وكانت ميمونة قبل عند أبي رهم بن عبد العزيز، ويقال: بل عبد الله بن أبي رهم، وقيل: بل عند حويطب بن عبد العزي، وقيل: عند فروة بن عبد العزى.   أراد ذلك ابن عباس أم لا، "ويكون العقد وقع" في الحرم "بعد انقضاء العمرة. ثم خرج منه" أي الحرم "إلى سرف وابتنى بها فيه، وهو على عشرة أميال من مكة،" وقيل ستة أو سبعة أو تسعة أو اثني عشر، وهو ما بين التنعيم وبطن مرو، وإلى التنعيم أقرب، "كذا قاله" المحب "الطبري" تبرأ منه لأنه خلاف المتبادر، ومن ثم توقف الإمام السهيلي، في كونه مراد لابن عباس قال: الباجي أيضا: ويحتمل أن ابن عباس أخذ في ذلك بمذهبه، أن من قلد هديه فقد صار محرما بالتقليد، فلعله علم بنكاحه بعد أن قلده، "وسيأتي إن شاء الله تعالى في مقصد المعجزات في ذكر الخصائص مزيد بيان" قليل "لذلك". وقد أسلف في عمرة القضية من ذلك شيئا، وفي الإصابة قيل عقد له عليها قبل أن يحرم، وانتشر أمر تزويجها بعد أن أحرم، واشتبه الأمر. قال ابن سعد: كانت آخر امرأة تزوجها يعني ممن دخل بها، "وكانت ميمونة قبل" أي قبله صلى الله عليه وسلم بلا واسطة "عند أبي رهم" بضم الراء، وسكون الهاء "ابن عبد العزى" بن أبي قيس بن عبدود من بني عامر بن لؤي. قال البرهان: لا أعلم له إسلاما فمات عنها، وكانت قبل أبي رهم عند مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي، ففارقها. قال البرهان: لا أعرف له إسلاما، وفي الصحابة من هو مسمى بهذا الاسم، قلت: ما هذا التشكيك، وفي الإصابة مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي. ذكر الثعلبي عن مقاتل أنه نزل فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] ، "ويقال: بل عبد الله" الذي في النور والإصابة، وقيل عند سخبرة "ابن أبي رهم" المذكور، وضبطه في التبصير، بفتح السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموحدة والراء، ولم يذكره في الإصابة، فليس بصحابي، "وقيل: بل عند" أخي أبي رهم، كما قال ابن حزم: "حويطب بن عبد العزى" الصحابي، القرشي، العامري أسلم يوم الفتح، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين، "وقيل عند فروة بن عبد العزى" أخي حويطب، كما في الإصابة ولم يترجم له فيها، فليس بصحابي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 قال ابن إسحاق: ويقال: إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها وقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله. وقيل: الواهبة نفسها غيرها. وتوفيت ميمونة بسرف في الموضع الذي بنى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك سنة إحدى وخمسين،   وذكر ابن أبي خيثمة عن قتادة أنها كانت عند فروة بن عبد العزى بن أسد بن غثم بن دودان، وهذا ليس بأخ لحويطب. "قال ابن إسحاق" بعد قوله تزوج صلى الله عليه وسلم ميمونة، زوجه إياها العباس، وأصدقها عنه أربعمائة درهم، "ويقال إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم" وقد رواه ابن أبي خيثمة عن الزهري وقتادة فنزلت فيها الآية. ورواه ابن سعد عن عكرمة، "وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت" وصلت "إليها وهي على بعيرها" لم يبين ذلك المحل الذي بلغتها فيه الخطبة. وذكر السهيلي أنها رمت بنفسها من على البعير، "وقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله"، ذكرت الله تبركا، والمراد أن البعير، وما عليه هبة لله صلى الله عليه وسلم، "وقيل: الواهبة نفسها غيرها" فقيل: زينب بنت جحش، وقيل أم شريك، وقيل امرأة من بني أسامة بن لؤي، حكاها ابن إسحاق هنا، ويأتي بسطه للمصنف قريبا، وقيل إنهن تعددن. قال في الإصابة وهو الأقرب: روى ابن سعد عن عمرة، أنه قيل لها، أن ميمونة وهبت نفسها، فقالت: تزوجها صلى الله عليه وسلم على مهر خمسمائة درهم وأنكحه إياها العباس، وعنده أيضا عن علي بن عبد الله بن عباس لما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة للعمرة، بعث أوس بن خولي، وأبا رافع إلى العباس، ليزوجه ميمونة فاضلا بعيريهما، فأقاما أياما ببطن رابغ إلى أن قدم صلى الله عليه وسلم، فوجدا بعيريهما فسارا معه حتى قدم مكة، فأرسل إلى العباس يذكر ذلك له، فجعلت أمرها إليه، فجاء صلى الله عليه وسلم إلى منزل العباس فخطها إلى العباس، فزوجه إياها، ويقال: إن الذي زوجها عبد الله بن عباس، حكاه في النور، وهو غريب ضعيف، فعبد الله يومئذ غلام ابن عشر وأشهر، كما مر. "وتوفيت ميمونة بسرف في الموضع الذي بنى بها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم" باتفاق، ودفنت في موضع قبتها، "وذلك سنة إحدى وخمسين" على الصحيح، كما في التقريب، وقال في الإصابة: إنه الأثبت، ونقل ابن سعد عن الواقدي أنها ماتت سنة إحدى وستين، قال: وهي آخر من مات من أزواجه صلى الله عليه وسلم، ولولا كلامه الأخير لاحتمل أن قوله وستين، وهم من بعض الرواة، وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 وقيل ست وستين وقيل ثلاث وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها.   أخرج ابن سعد عن يزيد بن الأصم، قال: تلقيت عائشة من مكة أنا وابن لطلحة من أختها، وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة، فأصبنا منه، فبلغها ذلك فلامت ابن أختها، ثم وعظتني موعظة بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله ساقك حتى جعلك في بيت من بيوت نبيه. ذهبت والله ميمونة، ورمى بحبلك على غاربك، أما أنها كانت من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم فدل هذا الأثر أن عائشة عاشت بعدها، وعائشة ماتت قبل الستين، بلا خلاف، وسنده صحيح، فهو أولى من قول الواقدي وقد جزم يعقوب بن سفيان، بأنها ماتت سنة تسع وأربعين انتهى، "وقيل" ماتت سنة "ست وستين" حكاه السهيلي وغيره، قال في الإصابة: وليس بثابت، وقال البرهان: هو شاذ باطل، "وقيل ثلاث وستين". قاله ابن إسحاق فيما أسنده عنه الطبراني في الأوسط برجال ثقات، قال في الإصابة: ولا يثبت، أي لما صح أنها ماتت في حياة عائشة، وقول بعضهم للاتفاق على أنها ماتت قبلها فاسد؛ إذ أصحاب هذه الأقوال لا يقولون بذلك، فأين الاتفاق. "وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها". وروى الشيخان عن عطاء قال: حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف، فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها، ولا تزلزلوها وارفقوا. وروى ابن سعد عن يزيد الأصم، قال: دفنا ميمونة بسرف في الظلة التي بنى فيها صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 [ جويرية أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها بنت الحارث بن أبي ضرار -بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء- فكانت تحت مسافع -بالسين المهملة والفاء- ابن صفوان المصطلقى، وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس   جويرية أم المؤمنين: "وأما أم المؤمنين جويرية" بضم الجيم مصغر "رضي الله عنها بنت الحارث بن أبي ضرار، بكسر الضاد المعجمة، وتخفيف الراء" فألف، فراء ابن حبيب بن عائذ بن مالك بن جذيمة، بجيم ومعجمة، مصغر، وهو المصطلق بطن من خزاعة الخزاعية، ثم المصطلقية، "فكانت تحت مسافع" بضم الميم، و"بالسين المهملة، والفاء" المكسورة "ابن صفوان المصطلقي"، المقتول كافرا يوم المريسيع، كما جزم به ابن أبي خيثمة والواقدي، فقصر البرهان في قوله لا أعلم له إسلاما، والظاهر هلاكه على شركه، "وكانت" كما أخرجه ابن إسحاق عن عائشة "قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس" بمعجمة مفتوحة وميم مشددة، فألف فمهملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 الأنصاري، في سنة خمس وقيل سنة ست، فكاتبته على نفسها، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا يخفى عليك، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وإني كاتبت نفسي، وجئت أسألك في كتابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك إلى ما هو خير"؟ فقالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". قالت: قد فعلت   "الأنصاري" الخزرجي خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد. قالت عائشة في حديثها، أو لابن عم له بأو التي للشك، وذكره الواقدي بالواو المشركة وأنه خلصها من ابن عمه بنخلات له بالمدينة، زاد المصنف على الحديث، أن ذلك "في سنة خمس" على الراجح، "وقيل سنة ست" ومر الكلام فيه في غزوتها لبيان سنة الترويج، "فكاتبته على نفسها"، بتسع أواق من ذهب، كما ذكره الواقدي في الغزوة. قالت عائشة: وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه وملاحة، بفتح الميم، مصدر ملح، بضم اللام، أي ذات بهجة وحسن منظر، "ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم" تستفتيه في كتابتها. قال عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي، فكرهتها، وعرفت أنه سيري منها ما رأيت، فدخلت عليه، "فقالت: يا رسول الله" زاد الواقدي أني امرأة مسلمة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، و"أنا جويرية بنت الحارث" سيد قومه، "وكان من أمري ما لا يخفى عليك"، وفي رواية قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، "ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس" أو لابن عم له، كما في الرواية، "وإني كاتبت نفسي" والواقدي، ووقعت في سهم ثابت وابن عم له، فخلصني منه بنخلات له بالمدينة، فكاتبني على ما لا طاقة لي به، ولا يدان لي، ولا قدرة عليه، وهو تسع أواق من الذهب، وما أكرهني على ذلك إلا أني رجوتك صلى الله عليك، "وجئت أسألك في كتابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهل لك" ميل "إلى ما هو خير" ولا يقدر رغبة؛ لأن تعديتها بفي، "فقالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك". قال الشامي: نظرها صلى الله عليه وسلم حتي عرف حسنها؛ لأنها كانت أمه، ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها؛ لأنه لا يكره النظر إلى الإماء، أو لأن مراده نكاحها، أو قبل نزول الحجاب عليه انتهى، وفي الثالث نظر لنزوله سنة ثلاث أو أربع كما مر. "قالت" نعم يا رسول الله "قد فعلت" زاد الواقدي: فأرسل إلى ثابت بن قيس، فطلبها منه، فقال ثابت: هي لك يا رسول الله، بأبي وأمي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 فتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية فأرسلوا ما في أيديهم من السبي وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها، أعتق في سببها مائة أهل بيت من بني المصطلق، خرجه أبو داود من حديث عائشة. وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس وأعتقها وأصدقها أربعمائة درهم.   فادى صلى الله عليه وسلم ما كان من كتابتها وأعتقها وتزوجها، "فتسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية، فأرسلوا ما في أيديهم من السبي" الباقي بأيديهم فداء على ما ذكره الواقدي، أنهم فدوهم ورجعوا بهم إلى بلادهم، فيكون معناه فدوا جملة منهم، وأعتق المسلمون الباقي لما تزوج جويرية، "وقالوا" هم "أصهار" أو بالنصب بتقدير أرسلوا أو أعتقوا أصهار "رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروي أنها طلبتهم منه ليلة دخوله بها، فوهبهم لها، فإن صح فطلبها، وكونه وهبهم لا ينافي أن المسلمين أطلقوهم، بل ذلك زيادة إكرام من الله لرسوله حتى لا يسأل أحدا منهم بشيء أو مجانا. "قالت عائشة" رضي الله عنها: "فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها أعتق في سببها" أي بسببها، وفي رواية فلقد أعتق الله تعالى بها "مائة أهل بيت" بالإضافة أي مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت من بني المصطلق، ولم تقل مائة هم أهل بيت لإبهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مرادا وقد روى أنهم كانوا أكثر من سبعمائة. "خرجه أبو داود" وأحمد "من حديث" ابن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عمه عروة، عن خالته "عائشة" جزاها الله خيرا ما أنصفها، تذكر فضائل ضراتها، وما هو منها بعجيب، فهي الصديقة ابنة الصديق. وروى البيهقي عن جويرية قالت: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبر أحدا، فلما سبينا رجوت الرؤيا، فأعتقني وتزوجني، وظاهرا هذا أو صريحة أنه جعل نفس اعتق صداقا، وبه جزم الشعبي التابعي المشهور، فقال: كانت جويرية ملكه صلى الله عليه وسلم، فأعتقها وجعل عتقها صداقها، وأعتق كل أسير من بني المصطلق. "وقال ابن هشام: ويقال اشتراها صلى الله عليه وسلم من ثابت بن قيس، وأعتقها، وأصدقها أربعمائة "درهم"، وقال: جاء أبوها بفدائها بإبل، فرغب في بعيرين منها، فغيبهما بالعقيق، ثم أتاه، فقال: يا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 وعن ابن شهاب: سبى صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث يوم المريسيع فحجبها وقسم لها، وكانت ابنة عشرين سنة، وكان اسمها "برة" فحوله النبي صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية. وقد تقدم مثل ذلك في زينب بنت جحش.   محمد هذا فداء ابنتي فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين البعيران اللذان غيبتهما في العقيق في شعب كذا وكذا"، فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فوالله، ما اطلع على ذلك إلا الله، فأسلم الحارث، وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إلى البعيرين، فجاء بهما، ودفع الإبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودفع إليه ابنته جويرية، وأسلمت، وحسن إسلامهم، وخطبها صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم، حكاهن ابن هشام أيضا. "و" روى الطبراني بسند حسن "عن ابن شهاب" الزهري، قال: "سبى صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث" رضي الله عنهما "يوم المريسيع" بضم الميم، وفتح الراء، وسكون التحتيتين، بينهما مهملة مكسورة، آخره عين مهملة ماء لبني خزاعة كانت به الغزوة "فحجبها" ضرب عليها الحجاب، "وقسم لها" مع زوجاته فدل ذلك على أنها زوجة، ومراد ابن شهاب رد القول بأنه كان يطأها بملك اليمين والراجح الأول. وقد روى الطبراني برجال الصحيح من مرسل مجاهد قال: قالت جويرية يا رسول الله إن أزواجك يفخرن علي، ويقلن لم يتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أولم أعظم صداقك، ألم أعتق أربعين من قومك"؟. وروى ابن سعد من مرسل أبي قلابة قال: سبى صلى الله عليه وسلم جويرية، يعني وتزوجها، فجاء أبوها، فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها، فخل سبيلها، فقال: "رأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت"؟ قال: بلى، فأتاها أبوها، فقال: إن هذا الرجل قد خيرك، فلا تفضحينا، قالت: فإني أختار الله ورسوله، وسنده صحيح، "وكانت ابنة عشرين سنة" فهداها الله مع صغر السن، وشرفها بصحبة رسوله في الدارين. "و" روى ابن سعد، وابن أبي خيثمة، وأبو عمر عن ابن عباس قال: "كان اسمها برة، فحوله النبي صلى الله عليه وسلم وسماها جويرية" كره أن يقال خرج من عند برة، ولا يشكل بقولها السابق أنا جويرية لاحتمال أنها لم ترد العلم، بل تحقير نفسها، بأنها جويرية، أي امرأة حقيرة في نفسها، وأرادت بذكر الحارث، وقوله سيد قومه بيان نسبها وشرفها فيهم ليرق لها صلى الله عليه وسلم "وقد تقدم مثل ذلك في زينب بنت جحش" فعلم أنه غير اسمهما معا، وأخرج الترمذي بسند صحيح، عن ابن عباس، عن جويرية، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليها، وهي في مسجدها أول النهار، ثم مر عليها قريبا من نصف النهار، فقال: "ما زلت على حالك"، قالت: نعم، قال: "ألا أعلمك كلمات تقوليهن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 وتوفيت وعمرها خمس وستون سنة في ربيع الأول سنة خمسين، وقيل سنة ست وخمسين. [صفية أم المؤمنين:] وأما أم المؤمنين صفية رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب بن سعد -بفتح السين وسكون العين المهملتين وبالياء المثناة التحتية- ابن ثعلبة بن عبيد من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام   سبحان الله عدد خلقه ثلاث مرات، سبحان الله رضا نفسه ثلاث مرات، سبحان الله زنة عرشه ثلاث مرات، سبحان الله مداد كلماته ثلاث مرات". وروى مسلم وأبو داود، عنها: أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته". "وتوفيت وعمرها خمس وستون سنة" لأن تزوجها سنة خمس وهي ابنة عشرين، وقد ماتت في ربيع الأول سنة خمسين" على الصحيح، كما في التقريب، وتبعه في السبل، "وقيل ماتت في ربيع الأول أيضا "سنة ست وخمسين" من الهجرة وقد بلغت سبعين سنة، والقولان حكاهما الواقدي قال: وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، وتبعه في الإصابة بلا ترجيح، وكذا في العيون إلا أنه قدم الثاني، ومن هذا علم أنها دفنت بالمدينة، ومعلوم أن مقبرتها البقيع. روت جويرية عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث، وعنها ابن عباس، وجابر، وابن عمرو عبيد بن السباق، والطفيل ابن أخيها وغيرهم انتهى. صفية أم المؤمنين: "وأما المؤمنين صفية رضي الله عنها" اسمها الأصلي، وقيل كل اسمها قبل السبي زينب، فلما صارت من الصفي سميت صفية "بنت حيي" بضم الحاء، وتكسر، وتحتيتين الأولى مخففة، والثانية مشددة، "ابن أخطب" بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح المهملة، وموحدة "ابن سعد، وفتح السين، وسكون العين المهملتين، وبالياء المثناة التحتية ابن ثعلبة بن عبيد، من بني إسرائيل، من سبط" لاوى بن يعقوب، ثم من سبط "هارون بن عمران عليه السلام" أخي موسى صلى الله عليه وسلم. قال الجاحظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك ثم صيرها الله أمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكان أبوها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 [ صفية أم المؤمنين ] : وأما أم المؤمنين صفية رضي الله عنها بنت حيي بن أخطب بن سعد -بفتح السين وسكون العين المهملتين وبالياء المثناة التحتية- ابن ثعلبة بن عبيد من بني إسرائيل من سبط هارون بن عمران عليه السلام.   صفية أم المؤمنين: "وأما المؤمنين صفية رضي الله عنها" اسمها الأصلي، وقيل كل اسمها قبل السبي زينب، فلما صارت من الصفي سميت صفية "بنت حيي" بضم الحاء، وتكسر، وتحتيتين الأولى مخففة، والثانية مشددة، "ابن أخطب" بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح المهملة، وموحدة "ابن سعد، وفتح السين، وسكون العين المهملتين، وبالياء المثناة التحتية ابن ثعلبة بن عبيد، من بني إسرائيل، من سبط" لاوى بن يعقوب، ثم من سبط "هارون بن عمران عليه السلام" أخي موسى صلى الله عليه وسلم. قال الجاحظ: ولد صفية مائة نبي ومائة ملك ثم صيرها الله أمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكان أبوها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 وأمها ضرة -بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء- بنت سموءل -بفتح السين المهملة والميم وسكون الواو وفتح الهمزة وباللام- فكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق -بضم الحاء المهملة وفتح القاف الأولى وسكون المثناة التحتية- فقتل يوم خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة. قال أنس: لما افتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي، جاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، فقال: "اذهب فخذ جارية"، فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك، قال: "ادعوه بها"، فجاء بها، قال: فلما نظر.   سيد بني النضير، قتل مع بني قريظة, "وأمها ضرة، بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الراء" فتاء تأنيث، "بنت سموءل، بفتح السين المهملة والميم، وسكون الواو، وفتح الهمزة، وباللام". قال البرهان: لا أعلم لها إسلاما، والظاهر هلاكها على كفرها، نعم أخوها رفاعة صحابي، "فكانت" أولا كما ذكر ابن سعد، وأسند بعضه من وجه مرسل تحت سلام بن مشكم القرظي، ثم فارقها، فكانت "تحت كنانة" بكسر الكاف ونونين "ابن أبي الحقيق، بضم الحاء المهملة، وفتح القاف الأولى، وسكون المثناة التحتية، فقتل" عنها وهو عروس "يوم خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة" كما مر. "قال أنس" بن مالك "لما افتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي، جاء دحية" بن خليفة الكلبي، بكسر الدال، وفتحها ومعناه بلغة اليمن الشريف أو رئيس الجند، "فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي، فقال: "اذهب فخذ جارية" منه فذهب، "فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل". قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ونحوه قول البرهان: لا أعرفه "إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة" بضم القاف، وفتح الراء، والظاء المعجمة؛ لأن أمها كانت بنت سيدهم، "والنضير" لأن أباها كان له فيهم سيادة وعظمة "ما تصلح إلا لك" لأنها من بيت رياسة ومن بيت النبوة من ولد هارون مع الجمال العظيم، فإنها كانت من أضوأ ما يكون من النساء، وأنت صلى عليك الله أكمل الخلق في هذه الأوصاف، بل في كل خلق حميد، "قال: "ادعوه بها" أي دحية بصفية، فدعوه "فجاء بها" وعند أبي يعلى بسند جيد عنها قالت: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من الناس أحد أكره إليَّ منه، "فقال": "إن قومك صنعوا كذا وكذا" قالت: فما قمت من مقعدي، وما من الناس أحد أحب إليَّ منه، "فلما نظر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها"، قال: وأعتقها وتزوجها. فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها. حتى إذا كان بالطريق   إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" لأنه إنما أذن له في جارية من حشو السبي لا من أفضلهن، فلما رآه أخذ أنفسهن نسبا وشرفا وجمالا استرجعها لئلا يتميز دحية بها على سائر الجيش مع أن فيهم من هو أفضل منه، وأيضا لما فيه من انتهاكها مع علو قدرها، وربما ترتب عليه شقاق وغيره مما لا يخفى فكان صفاؤه صلى الله عليه وسلم لها قاطعا لهذه المفسدة. ونقل الإمام الشافعي في الأم عن سير الواقدي أنه أعطى دحية أخت كنانة بن الربيع زوج صفية تطييبا لخاطره، وعند ابن إسحاق أعطاه بنت عمها. وفي الروض أعطاه ابنتي عمها، ولا تنافي فأعطاه الجميع، ففي مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اشترى صفية منه بسبعة أرؤس، وسماه شراء مجازا، وليس في قوله سبعة منافاة لقوله هنا "خذ جارية" إذ لا دلالة فيه على نفي الزيادة، كما مر مبسوطا في الغزوة، "قال" أنس: "وأعتقها وتزوجها، فقال له ثابت" البناني: "يا أبا حمزة" بمهملة وزاي كنية أنس "ما أصدقها؟، قال: نفسها أعتقها وتزوجها" بأن جعل نفس العتق صداقا، ففي الصحيح أيضا أن ثابتا، قال لأنس: ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، وللطبراني وأبي الشيخ عن صفية أعتقني صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي، أو أعتقها لا عوض، وتزوجها بلا مهر لا حالا ولا مالا، فحل العتق محل الصداق، كقولهم الجوع زاد من لا زاد له، أو أعتقها بشرط أن ينكحها بلا مهر، فلزمها الوفاء أو أعتقها بلا عوض ولا شرط، ثم تزوجها برضاها بلا صداق، وكلها من خصائصه عند الأكثر. وذهب أحمد والحسن وابن المسيب وغيرهم إلى جوازه لغيره، وروى أبو يعلى عن رزينة أنه صلى الله عليه وسلم أمهر صفية رزينة. قال الحافظ الهيثمي: وهو مخالف لما في الصحيح انتهى، وهي بفتح الراء، وكسر الزاي، وقيل بالتصغير. وروى أبو يعلى أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج صفية أمر بشراء خادم لها وهي رزينة، كما في الإصابة، فيحتمل أنه لما أخدمها إياها توهمت أنه جعلها مهرها، وإلا فالمروي عن صفية نفسها، كما رأيت بل وعنه صلى الله عليه وسلم كما يأتي جعل عتقها صداقها، وبه رد الحافظ وغيره على ابن المرابط المالكي، والطبري، والشافعي ومن وافقهما زعمهم أن أنشأ قاله ظنا من قبل نفسه، ولم يرفعه "حتى إذا كان بالطريق"، بسند الصهباء، كما في رواية في الصحيح، فخرج بها حتى بلغ سد الصهباء حلت له بفتح السين، وضمها والصهباء، بفتح الصاد المهملة، وسكون الهاء، وبالموحدة، ومد، وفي رواية سد الروحاء بالمهملة، قال الحافظ: والصواب ما اتفق عليه الجماعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل، فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا، فقال له: "من كان عنده شيء فليجئ به"، قال: فبسط نطعا، قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط، وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.   أنها الصهباء، وهي على بريد من خيبر، قاله ابن سعد وغيره "جهزتها له أم سليم" بضم السين، والدة أنس، راوي الحديث، وعند ابن سعد وأصله في مسلم، ودفعها إلى أمي أم سليم حتى تهيئها وتصنعها، فمشطتها أم سليم وعطرتها، "فأهدتها" زفتها "له من الليل". قال الكرماني: وفي بعضها، أي النسخ أو الروايات، فهدتها بغير همز، وصوب لقول الجوهري: هديت أنا المرأة إلى زوجها. قال الحافظ: لكن تواردت النسخ على إثباتها، ولا مانع من استعمال الهدية في هذا استعارة "فأصبح صلى الله عليه وسلم عروسا" بوزن فعول نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما دام في تعريسهما أياما، وجمعه عرس بضمتين، وجمعها عرائس، كما قاله الخليل وغيره. قال العيني: وقول العوام للذكر عريس، والأنثى عروسة لا أصل له لغة، "فقال له": لأنس "من كان عنده شيء"، وفي رواية "من كان عنده فضلة"، زاد "فليجئ به"، أمر بتقدير أنه للوجوب فهو يدفع ما عندهم للمولم عليه السلام فجعله يقتضي وجوب الوليمة غفلة. "قال أنس: "فبسط" بفتحات "نطعا" بكسر النون، وفتح المهملة على الرواية، واقتصر عليها ثعلب في الفصيح، وفيها لغات مرت في خيبر، "قال: فجعل الرجل يجيء بالأقط" بفتح الهمزة وكسر القاف. قال عياض: هو جبن اللبن المستخرج زبده، وقيل لبن مجفف مستحجر يطبخ به، "وجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن" وفي رواية وجعل الرجل يجيء بالسويق، "فحاسوا" بمهملتين، أخلطوا أو اتخذوا "حيسا" بفتح فسكون، وهو خلط السمن والتمر والأقط قال الشاعر: التمر والسمن جميعا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط وقد يختلط مع الثلاثة غيرها، كالسويق قاله في الفتح ونحوه في القاموس وقول الشاعر لم يختلط يريد فيما حصره من الثلاثة فهي حيس بالقوة لوجود مادته، وإن لم يحصل خلط فيما عناه، "فكانت" قال الكرماني، أي الصلاة المصنوعة أو أنث باعتبار الخبر كما ذكر باعتباره في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا رَبِّي} "وليمة رسول الله صلى الله عليه وسلم" على صفية أي طعام عرسه من الولم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 وفي رواية: قال الناس لا ندري أتزوجها أم جعلها أم ولد، قالوا: إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها. وفي رواية: فانطلقنا حتى إذا رأينا جدار المدينة هششنا إليها، فدفعنا مطايانا، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال: وصفية خلفه قد أردفها، قال: فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرع وصرعت،   وهو الجمع، سمي به لاجتماع الزوجين. وفي رواية للشيخين أيضا عن أنس: أقام صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثا، يبني عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته فما كان فيها من خبز ولا لحم أمر بالأنطاع، فألقي فيها من التمر والأقط والسمن، فكانت وليمته، ولأبي يعلى عن أنس، أنه جعل الوليمة ثلاثة أيام، وللطبراني بسند جيد عن حسن بن حرب، أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "ما تقولون في هذه الجارية"؟ قالوا: نقول إنك أولى الناس بها، وأحقهم قال: "فإني أعتقها واستنكحها، وجعلت عتقها مهرها"، فقال رجل: الوليمة يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "الوليمة أول يوم حق، والثانية معروف، والثالثة فخر"، وأحمد برجال الصحيح، وأبو يعلى برجال ثقات عن جابر لما دخلت صفية على رسول الله فسطاطة حضر ناس وحضرت معهم ليكون فيها قسم، فخرج صلى الله عليه وسلم، فقال: "قوموا عن أمكم"، فلما كان العشي خرج إلينا في طرف ردائه بنحو مد ونصف من تمر عجوة، فقال: "كلوا من وليمة أمكم". "وفي رواية" عن أنس أيضا، "قال الناس: لا ندري أتزوجها أم جعلها أم ولد" أي سرية، وفي رواية فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه، "قالوا إن حجبها فهي امرأته"، وفي رواية فهي إحدى أمهات المؤمنين، "وإن لم يحجبها فهي أم ولد" سرية. وفي رواية فهي مما ملكت يمينه، أي لأن ضرب الحجاب إنما هو على الحرائر لا على الإماء، "فلما أراد أن يركب حجبها" سترها، وفي رواية وطأ لها ومد الحجاب بينها وبين الناس. وفي رواية فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب وكلها في الصحيح. وفي مغازي أبي الأسود عن عروة، فوضع صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلته أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه وركبت. "وفي رواية" عن أنس أيضا "فانطلقنا حتى إذا رأينا جدار المدينة هششنا" ارتحنا "إليها، فدفعنا مطايانا" أي أسرعنا بها، "ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيته، قال وصفية خلفه قد أردفها، قال" أنس: "فعثرت مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرع" بالبناء للمفعول، "وصرعت،" أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترها. قال: فدخلنا المدينة، فخرج جواري نسائه يتراءينها ويشمتن بصرعها رواه الشيخان وهذا لفظ مسلم. وروي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتي بصفية يوم خيبر، وأنه قتل أباها وأخاها، وأن بلالا مر بها بين المقتولين، وأنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله، خرجه في الصفوة. وأخرج تمام في فوائده من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "هل لك فيَّ"؟ قالت: يا رسول الله لقد كنت أتمنى ذلك في الشرك، فكيف إذ أمكنني الله منه في الإسلام.   وقعت، "فليس أحد من الناس ينظر إليه ولا إليها" إجلالا واحتراما، "حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسترها" قال أنس: فأتيناه، فقال: "لم نضر"، "قال: فدخلنا المدينة، فخرج جواري نسائه يتراءينها"، ينظرن إليها، "ويشمتن" بفتح الميم يفرحن "بصرعها" سقوطها. "رواه" أي المذكور من الروايات الثلاث "الشيخان، وهذا لفظ مسلم" عن أنس "وروي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى بصفية" بالبناء للمفعول، والآتي دحية، كما مر، وعند ابن إسحاق: أن الآتي بلال ولا منافاة لاحتمال أنه أرسل بلالا إلى دحية ليأتي بصفية فجاءا بها معا "يوم خيبر، وأنه قتل أباها وأخاها، وأن بلالا مر بها بين المقتولين". وعند ابن إسحاق، ومعها بنت عمها، فصاحت ابنة عمها، وصكت وجهها، وحثت التراب على رأها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أعزبوا هذه الشيطانة عني"، وقال لبلال: "أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين عن قتلاهما"، "وأنه صلى الله عليه وسلم خيرها بين أن يعتقها، فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم" قسيم قوله يعتقها، وبين لا تقع إلا على متعدد فكان المتعين الواو، وكأنه نظر في أو إلى جانب المعنى، وهو أن القصد ابتداء أحد الأمرين، لا الأمران معا، "فيتخذها لنفسه". وعند الطبراني عن ابن عمر أنها قالت: وما كان أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أبي وزوجي، فما زال يعتذر إلي وقال: "يا صفية إن أباك ألب العرب، وفعل وفعل حتى ذهب ذلك من نفسي" "فقالت: أختار الله ورسوله" فاصطفاها الله. "خرجه" ابن الجوزي "في الصفوة" كتاب له، "وأخرج تمام" الإمام الحافظ محمد بن عبد الله بن جعفر المروزي، ثم الدمشقي الثقة، المتوفى ثالث محرم سنة ست عشرة وأربعمائة "في فوائده من حديث أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "هل لك" رغبة "في"، قالت: يا رسول الله لقد كنت أتمنى ذلك في الشرك فكيف إذا أمكنني الله منه في الإسلام" ولعل سبب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 وأخرج أبو حاتم في حديث ابن عمر: رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة فقال: "ما هذه الخضرة"؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت قمرا وقع في حجري فأخبرته بذلك فلطمني وقال: تمنين ملك يثرب. وبنى بها صلى الله عليه وسلم بالصهباء.   تمنيها ذلك رؤيتها منام دل عليه، ولذا حسن من المصنف تعقيب هذا الحديث، به فقال: "وأخرج أبو حاتم" بن حبان في صحيح والطبراني برجال كلاهما "من حديث ابن عمر" قال: "رأى صلى الله عليه وسلم بعين صفية خضرة، فقال: "ما هذه الخضرة"؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق وأنا نائمة، فرأيت قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تمنين" بحذف إحدى التاءين "ملك يثرب" أوله بخصوصه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الظاهر عندهم ظهور القمر الباهر، وإن جحدوه في الظاهر ظلما وعلوا؛ لأنهم مستبقون نبوته، وعند ابن إسحاق: وكانت صفية رأت قبل ذلك أن القمر وقع في حجرها، فذكرت ذلك لأبيها، فلطم وجهها وقال: إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب، فلم يزل الأثر في وجهها حتى سألها صلى الله عليه وسم، فأخبرته. قال البرهان: فلعلهما فعلا بها ذلك، وأخرج ابن أبي عاصم والطبراني عن أبي برزة لما نزل صلى الله عليه وسلم خيبر كانت صفية عروسا، فرأت في المنام أن الشمس وقعت على صدرها فقصتها على زوجها، فقال: والله ما تمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا، الحديث. قال الشامي: ولا مخالفة بينهما باعتبار التعدد، فقصت ذلك على أبيها أولا، ثم على زوجها ثانيا، ولهذا اختلف العبارة في التعيين انتهى، وانت خبير بأن لا يتخيل تعارض، فإن رؤيتها وقوع الشمس على صدرها غير رؤيتها وقوع القمر في حجرها وقصتهما معا على زوجها، فلطمها في قصة القمر على عينها فاخضرت ووبخها في الشمس، ورأت قبل ذلك القمر وقصته على أبيها فالأثر الذي في وجهها من لطم أبيها غير خضرة عينها من لطم زوجها، "وبنى بها صلى الله عليه وسلم بالصهباء" بفتح الصاد المهملة، وسكون الهاء وبموحدة، ومد موضع أسفل خيبر. وفي رواية بالروحاء بالمهملة، مكان قرب بالمدينة، بينهما نيف وثلاثون ميلا من جهة مكة، وقيل بقرب المدينة مكانا آخر يقال له الروحاء، وعلى التقديرين، فليست قرب خيبر، فالصواب ما اتفق عليه الجماعة إنها الصهباء، وهي على بريد من خيبر، قاله ابن سعد وغيره، كما في الفتح، وأخرج ابن سعد بأسانيده، قال: لم يخرج من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها، فحملها وراءه، فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه، فلما كان بالصهباء، وهي على بريد من خيبر، نزل بها هناك فمشطتها أم سليم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 ...................................   وعطرتها. قالت أم سنان الأسلمية: وكانت من أضوأ ما يكون من النساء، فدخل بأهله، فلما أصبح سألتها عما قال لها، فقالت: قال لي ما حملك على الامتناع من النزول أولا قلت: خشيت عليك من قرب اليهود فزادها ذلك عنده، وذكرت أنه سر بها، ولم ينم تلك الليلة، لم يزل يتحدث معها، وعن عطاء بن يسار لما قدمت صفية من خيبر أنزلت في بيت لحارثة بن النعمان، فسمع نساء الأنصار، فجئن ينظرن إلى جمالها، وجاءت عائشة متنقبة فلما خرجت خرج صلى الله عليه وسلم على أثرها، فقال: "كيف رأيت يا عائشة"، قالت: رأيت يهودية قال: "لا تقولي ذلك، فإنها أسلمت وحسن إسلامها" وبسند صحيح عن ابن المسيب قدمت صفية وفي أذنها خوصة من ذهب، فوهبت منه لفاطمة ولنساء معها، وعن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فاعتل بعير صفية، وفي إبل زينب بنت جحش فضل، فقال لها: "إن بعير صفية اعتل، فلو أعطيتها بعيرا"، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية، فتركها صلى الله عليه وسلم ذا الحجة، والمحرم شهرين أو ثلاثة لا يأتيها، قالت زينب: حتى يئست منه. رواها كلها ابن سعد، وأخرج الترمذي عن صفية، قالت: دخل عليَّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، وقد بغلني أن عائشة وحفصة قالتا: نحن أكرم على رسول الله منها، نحن أزواجه وبنات عمه، فقال: "ما يبكيك"؟ فذكرت له ذلك، فقال: "ألا قلت وكيف تكونان خيرا مني وأبي هارون وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم". وروى عمر الملاء عن صفية حج صلى الله عليه وسلم بنسائه، فلما كان ببعض الطريق برك جملي، وكنت من آخرهم ظهرا فبكيت فجاء صلى الله عليه وسلم وجعل يمسح دموعي بردائه وبيده، وجعلت لا أزداد إلا بكاء وهو ينهاني فلما أكثرت زبرني، قال أبو عمر: كانت صفية عاقلة حليمة فاضلة، روينا أن جارية لها أتت عمر، فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود فبعث عمر فسألها، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحما، فأنا أصلهم، ثم قالت للجارية، ما حملك على هذا، قالت: الشيطان، قالت: اذهبي فأنت حرة. وأخرج ابن سعد بسند حسن عن زيد بن أسلم قال: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم عنده في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية: إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي، فغمز بها أزواجه، فبصربهن، فقال: "مضمضن"، قلن: من أي شيء؟ قال: "من تغامزكن بها والله إنها لصادقة"، وروى أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني قصيرة، قال: "قد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته"، روت صفية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 وماتت في رمضان سنة خمسين في زمن معاوية، وقيل غير ذلك. فهؤلاء أزواجه اللاتي دخل بهن لا خلاف في ذلك بين أهل السير والعلم بالأثر. وقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوج نسوة غير من ذكر، وجملتهن اثنتا عشرة امرأة. الأولى: الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم،   ابن أخيها ومولياها كنانة، ويزيد بن معتب، وزين العابدين بن الحسين وإسحاق بن عبد الله بن الحارث، ومسلم بن صفوان، "وماتت في رمضان سنة خمسين". قاله الواقدي وصححه في التقريب، وقال في الإصابة أنه أقرب، وقال ابن سعد: سنة اثنتين وخمسين، وهو على كلا القولين "في زمن معاوية". قال ابن أبي خيثمة: وورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعرض، وأوصت لابن أختها بالثلث، وكان يهوديا، "وقيل غير ذلك" فقيل سنة ست وثلاثين. حكاه ابن حبان، وجزم به ابن منده قال في الإصابة: وهو غلط فإن علي بن الحسين لم يكن ولد، وقد ثبت سماعه منها في الصحيحين، ودفنت بالبقيع وسنها نحو ستين؛ لأنها قالت: ما بلغت سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد "فهؤلاء أزواجه اللاتي دخل بهن لا خلاف في ذلك" أي دخوله بهن وإن اختلف في أن جويرية سرية، والراجح أنها زوجة كما مر "بين أهل السير والعلم بالأثر"، ولا شك أنهن زوجاته في الآخرة بنصه صلى الله عليه وسلم، كما مر، وهو أحد التعاليل في حرمتهن على غيره، وأما اللاتي فارقهن في الحياة دخل بهن أم لا، ففي فتاوى النجم يحتمل أنهم كذلك، ويؤيده أن الراجح حرمتهن على غيره المعلل بما ذكر، ويحتمل خلافة خصوصا في المستعيذة ومن لم يردها أو اختارت الحياة الدنيا، ويؤيده ما روي أن المستعيذة تزوجت بعده لكنه ضعيف، وأما نساء غيره من الأنبياء، فيحتمل أن يكن كذلك، لكن قال القضاعي: إن حرمة زوجاته صلى الله عليه وسلم بعده مما خص به دون الأنبياء، وكذا السيوطي في الأنموذج، ثم توقف النجم في ذلك، وأنه لم يقف على نقل فيه بخصوصه، ولعله أراد أثرا أو حديثا، وإلا فالسيوطي، والقضاعي نل، "وقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوج نسوة غير من ذكر، وجملتهن اثنتا عشرة امرأة" على ما ارتضاه المصنف، وإلا فقد قال الدمياطي: وأما من لم يدخل بها ومن وهبت نفسها له ومن خطبها ولم يتفق تزويجها له، فثلاثون امرأة على خلاف في بعضهن، "الأولى الواهبة نفسها له صلى الله عليه وسلم" أي التي اشتهرت بذلك، فلا ينافي ما يأتي له من ذكر قول في بعضهن أنها وهبت نفسها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 واختلف من هي، فقيل أم شريك القرشية العامرية، واسمها: غزية -بضم الغين المعجمة وفتح الزاي وتشديد المثناة التحتية- بنت جابر بن عوف، من بني عامر بن لؤي وقيل بنت دودان بن عوف وطلقها النبي واختلف في دخوله بها. وقيل هي أم شريك غزية الأنصارية من بني النجار، وفي الصفوة، هي أم شريك غزية بنت جابر الدوسية، قال: والأكثرون على أنها وهبت   "واختلف" في جواب قول السائل "من هي" فلا ينافي أن الاستفهام لا يسأل عنه، "فقيل" هي "أم شريك القرشية العامرية" نسبة إلى عامر بن لؤي، "واسمها غزية بضم الغين المعجمة، وفتح الزاي، وتشديد المثناة التحتية". زاد في الإصابة: وقيل بفتح أولها، وقيل اسمها غزيلة بالتصغير، ولام بعد الياء "بنت جابر بن عوف من بني عامر بن لؤي" بن غالب، "وقيل" غزية بنت دودان" بدالين مهملتين مكررتين، الأولى مضمومة وبعد الثانية ألف، ثم نون، كما ضبطه البرهان، فما يقع في النسخ داود من تحريف النساخ، لشهرة هذا دون ذاك "ابن عوف" بن عمرو بن خالد بن ضباب بن حجير بن بغيض بن عامر بن لؤي، هكذا نسبها ابن الكلبي. روى أبو نعيم وأبو موسى بسند ضعيف عن ابن عباس قال: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرا، فتدعوهن إلى الإسلام حتى ظهر أمرها بمكة، فقالوا: لولا قومك لفعلنا بك، وفعلنا لكن سنردك إليهم، فحملوها على بعير عرى، وتركوها ثلاثا بلا أكل ولا شرب، ثم نزلوا منزلا وأوقفوها في الشمس، واستظلوا وحبسوا عنها الطعام والشراب، فدلي لها من السماء دلو من ماء فشربت حتى رويت، ثم صبته على جسدها وثيابها، فلما استيقظوا رأوا أثر الماء وحسن الهيئة، فسألوها فأخبرتهم فنظروا إلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا بعد ذلك، وأقبلت هي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت نفسها له بغير مهر، قبلها، ودخل عليها، "وطلقها النبي صلى الله عليه وسلم" لأنه رآها كبيرة، "واختلف في دخوله بها" فقال ابن عباس: كما ترى أنه دخل، وقال غيره: لم يدخل، ويحتمل الجمع بأن المنفي الجماع، والمثبت مجرد الدخول إن صحا، "وقيل" إن الواهبة ليست القرشية، بل "هي أم شريك غزية الأنصارية من بني النجار" فوافقتها في الكنية والاسم، واختلفا في النسبة. روى ابن سعد برجال ثقات عن الشعبي، قال: المرأة التي عزل صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية، وروى ابن أبي خيثمة عن قتادة قال: تزوج صلى الله عليه وسلم أم شريك الأنصارية النجارية، وقال: إني أحب أن أتزوج في الأنصار، ثم قال: إني أكره غيرة الأنصار، فلم يدخل بها، "وفي الصفوة" لابن الجوزي "هي أم شريك غزية بنت جابر الدوسية" الأزدية "قال: والأكثرون على أنها التي وهبت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 نفسها له صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت. وذكر ابن قتيبة في المعارف عن أبي اليقظان، أن الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي، ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد. وقال عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم، من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة:   نفسها له صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلها" لكبر سنها، "فلم تتزوج حتى ماتت" ورجحه الواقدي، ورواه ابن سعد عن عكرمة وعلي بن الحسين، وأخرج ابن سعد أيضا عن منير بن عبد الله الدوسي: أن أم شريك غزية بن جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فقبلها، فقالت عائشة: ما في المرأة حين تهب نفسها لرجل خير، فقالت أم شريك: فأنا تلك فسماها الله مؤمنة، فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} [الأحزاب: 50] ، فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة إن الله ليسرع لك في هواك، ويمكن الجمع بين القبول ونفيه، بأنه عقد عليها ولم يدخل. قال في الإصابة: والذي ظهر في الجمع أن أم شريك واحدة اختلف في نسبها أنصارية أو عامرية من قريش، أو أزدية من دوس، واجتماع هذه النسب الثلاثة ممكن، كأن تكون قرشية تزوجت في دوس، فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار، فنسبت إليهم أو لم تتزوج، بل نسبت أنصارية بالمعنى الأعم انتهى منه في ترجمة العامرية، وأما أم شريك بنت جابر الغفارية، التي ذكرها أحمد بن صالح المضري في الزوجات اللاتي لم يدخل بهن، فلا تذكر هنا؛ لأنها لم تهب نفسها. "وذكر ابن قتيبة في المعارف عن أبي اليقظان أن الواهبة نفسها خولة" بفتح المعجمة وسكون الواو، فلام، فتاء تأنيث، ويقال لها خويلة بالتصغير "بنت حكيم" بن أمية "السلمي" بضم السين، نسبة إلى جده سليم، صحابية، صالحة، فاضلة، لها أحاديث يقال كنيتها أم شريك. قال أبو عمر، "ويجوز أن يكونا وهبتا أنفسهما من غير تضاد بين الروايات. "وقال عروة بن الزبير" ابن العوام: "كانت خولة بنت حكيم من اللائي" بالهمز "وهبن أنفسهم للنبي صلى الله عليه وسلم" فهذا يؤيد الجمع المذكور لقوله من، وقد قال الحافظ: في شرحه سمي منهن أم شريك، وخولة، وليلى بنت الخطيم. ذكره ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة معمر بن المثني، ولم يدخل بهؤلاء. وروي عن قتادة وغيره أن ميمونة بنت الحارث ممن وهبت نفسها، فتزوجها، وكذا قيل في زينب بنت خزيمة أم المساكين، "فقالت عائشة:" فيه إشعار بأن عروة حمل الحديث عنها، فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاء} [الأحزاب: 51] قالت عائشة: يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك، رواه الشيخان. وهذه خولة هي زوجة عثمان بن مظعون، ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان. الثانية: خولة بنت الهذيل بن هبيرة. تزوجها صلى الله عليه وسلم فهلكت قبل أن تصل إليه.   يكون مرسلا "أما" بتخفيف الميم "تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل"، زاد في رواية بغير صدق، فلما نزلت {تُرْجِي} تؤخر {مَنْ تَشَاءُ مِنْهُن} . وفي مسلم وابن ماجه "فأنزل الله ترجي من تشاء، وهي أظهر في أن نزول هذه الآية بهذا السبب وروى ابن سعد عن أبي زين قال: هم صلى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه، فلما رأين ذلك جعلنه في حل من أنفسهن يؤثر من يشاء على من يشاء فأنزل الله {تُرْجِي مَنْ تَشَاء} [الأحزاب: 51] ولا مانع من تعدد السبب وإلا فما في الصحيحين أصح. "قالت عائشة: يا رسول الله ما أرى" بفتح الهمزة "ربك إلا يسارع لك في هواك"، أي في رضاك. قال القرطبي: هذا قول أبرزه الدلال والغيرة، وإلا فلا يجوز إضافة الهوى إليه صلى الله عليه وسلم، لكن الغيرة مغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك "رواه الشيخان" واللفظ للبخاري في النكاح، "وهذه خولة هي زوجة عثمان بن مظعون" بالظاء المعجمة، "ولعل ذلك وقع منها قبل عثمان" أي قبل تزوجه بها، وبه جزم ابن الجوزي في التلقيح، وزاد، فأرجأها، فتزوجها عثمان بن مظعون، وقال هشام بن الكلبي: كانت ممن وهبت نفسها، وكان عثمان بن مظعوت مات عنها "الثانية" ممن ذكر أنه تزوج بهن، ولم يقل الثالثة مع أنه قدم أم شريك وخولة؛ لأنه جعل الواهبة واحدة على اختلاف الأقوال في تعيينها، وإلا فلو جرى على ظاهر ما قدمه لقال الخامسة "خولة بنت الهذيل" بذال معجمة مصغرا "ابن هبيرة" بالتصغير ابن قبيصة بن الحارث بن حبيب بن حرفة، بضم الحاء المهملة، وسكون الراء، وبالفاء الثعلبية "تزوجها صلى الله عليه وسلم فهلكت" في الطريق "قبل أن تصل إليه". قال أبو عمر عن الجرجاني النسابة قال في الإصابة: وقد ذكرها المفضل بن غسان الغلابي في تاريخه عن علي بن صالح عن علي بن مجاهد قال: وتزوج خولة بن الهذيب وأمها خرنق بنت خليفة أخت دحية الكلبي، فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق انتهى. وذكرهم لها في الصحابة مع أنهم لم يذكروا أنها اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا صحبة لها، اتفاقا لقربها لطبقة الصحابة كغيرها من المخضرمين، لا لأنهم صحابة، كما أفصح به ابن عبد البر وابن شاهين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 الثالثة: عمرة بنت يزيد بن الجون -بفتح الجيم- الكلابية، وقيل: عمرة بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب الكلابية. قال أبو عمر: وهذا أصح. تزوجها صلى الله عليه وسلم فتعوذت منه حين أدخلت عليه، فقال لها: "لقد عذت بمعاذ"، فطلقها وأمر أسامة بن زيد فمتعها بثلاثة أثواب، فقال أبو عمر: هكذا روى عن عائشة. وقال قتادة: كان ذلك من امرأة من بني سليم، وقال أبو عبيدة: إنما ذلك لأسماء بنت النعمان بن الجون، وهكذا ذكره ابن قتيبة، وسيأتي وقال في عمرة هذه: إن أباها وصفها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: وأزيدك أنها لم تمرض قط قال عليه الصلاة والسلام: "ما لهذه عند الله من خير" فطلقها. الرابعة: أسماء بنت النعمان بن الجون -بفتح الجيم- ابن الحارث   وغلط من جزم بأن ابن عبد البر يقول: إن المخضرمين صحابة نبه عليه في ديباجة الإصابة. "الثالثة عمرة" بفتح العين "بنت يزيد بن الجون بفتح الجيم الكلابية، وقيل عمرة بنت يزيد بن عبيد بن أوس بن كلاب الكلابية". "قال أبو عمر" بن عبد البر "وهذا" الثاني "أصح" في نسبها "تزوجها صلى الله عليه وسلم، فتعوذت منه" فقالت: أعوذ بالله منك "حين أدخلت عليه، فقال لها: "لقد عذت بمعاذ" بفتح الميم، أي بالذي يستعاذ به وهو الله. قال المصنف في شرح البخاري، "فطلقها" وصدر في الإصابة بأنه بلغه أنه بها برصا، فطلقها ولم يدخل بها، فيحتمل أن سبب الطلاق كلا الأمرين، ونفى الدخول المراد به الوقاع، "وأمر أسامة بن زيد، فمتعها بثلاثة أثواب". "فقال أبو عمر" النمري: "هكذا روي عن عائشة" أنها المستعيذة، رواه هشام بن عروة عن أبيه عنها، "وقال قتادة كان ذلك" المذكور من الاستعاذة "من امرأة من" بني "سليم" بالضم "وقال أبو عبيدة" معمر بن المثنى "إنما ذلك لأسماء بنت النعمان بن الجون، وهكذا ذكر ابن قتيبة، وسيأتي" قريبا" "وقال" ابن قتيبة "في عمرة هذه، أن أباها وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم" بالجمال، "ثم قال: وأزيدك" في أوصافها الحسنة "أنها لم تمرض قط". قال عليه الصلاة والسلام: "ما لهذه عند الله من خير" لأن العبد لا يخلو من ذنب، والمرض مكفر له أو رافع لدرجاته وكاسر لشماخة نفسه، "فطلقها" لذلك لا لأنها استعاذت منه. "الرابعة أسماء بنت النعمان بن الجون، بفتح الجيم" وسكون الواو، ونون "ابن الحارث". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 الكندية وهي الجونية. قال أبو عمر: أجمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة وأبو عبيدة: إنه صلى الله عليه وسلم لما دعاها قالت: تعال أنت وأبت أن تجيء وقال بعضهم: قالت أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ ولقد أعاذك الله مني" وقيل: إن نساءه صلى الله عليه وسلم علمنها ذلك.   قيل بنت النعمان بن الأسود بن الحارث بن شراحيل "الكندية"، بكسر الكاف، نسبة إلى كندة قبيلة من اليمن، وعد في العيون أسماء بنت النعمان هذه، وأسماء بنت كعب الجونية، وقال: ولا أراها والتي قبلها إلا واحدة، وقال الشامي: الظاهر أن ابنة كعب غير ابنة النعمان، وإن كان كل منهما من بني الجون، ولم يذكر الحافظ في الإصابة أسماء بنت كعب، ولا ذكر ذلك في نسب أبيها في ترجمته، "وهي الجونية" نسبة لجدها المذكور، وروى البخاري عن عائشة: أن ابنة الجون لما أدخلت عليه صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: "لقد عذت بعظيم الحقي بأهلك". "قال أبو عمر" بن عبد البر "أجمعوا" "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها" واختلفوا في سبب فراقه لها، فقال قتادة" بن دعامة، فيما أسنده عنه ابن أبي خيثمة "وأبو عبيدة" معمر بن المثني، فيما أسنده عنه أبو عمر، "أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاها قالت: تعال أنت، وأبت تجيء" لسوء حظها، وعدم معرفتها بجلالة قدره الرفيع، "وقال بعضهم: قالت أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ" بفتح الميم، "وقد أعاذك الله مني". قال ابن عبد البر: وهذا باطل إنما قال هذا لامرأة أخرى من بني سليم، وقال أبو عبيدة: كلتاهما عاذتا بالله منه انتهى. ولا يشكل على حكمه بالبطلان أنه مسند في الصحيح؛ لأن فيه أن اسمها أميمة، وكلامه في أسماء بناء على أنها غيرها، كما يأتي إيضاحه، "وقيل إن نساءه صلى الله عليه وسلم علمنها ذلك". أخرجه ابن سعد من طرق عن أبي أسيد وفي بعضها، فقالت حفصة لعائشة، أو عائشة لحفصة: خضبيها وأنا أمشطها ففعلتا، ثم قالت إحداهما للأخرى: إنه يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك الحديث. وأخرجه من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه أنها كانت من أجمل أهل زمانها وأشبه، فقالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب يوشك أن يصرفن وجهه عنا وكان خطبها حين وفد أبوها عليه في وفد كنده، فلما رآها نساؤه حسدنها، فقلن لها: إن أردت أن تحظين عنده الحديث وهي إن كانت مفرداتها ضعيفة، فبمجموعها تتقوى، والغيرة التي طبعت النساء عليها يغتفر لها مثل ذلك، وأقوى منه، ألا ترى أنه اغتفر قول عائشة: إن ربك يسارع لك في هواك مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 فإنها كانت أجمل النساء فخفن أن تغلبهن عليه، فقلن لها إنه يحب إذا دنا منك أن تقولي: أعوذ بالله منك، فقال: "قد عذت بمعاذ" فطلقها، ثم سرحها إلى أهلها وكانت تسمي نفسها الشقية.   علمها إن الله قد أباح ذلك لنبيه، وأن الله لو ملكه جميع النساء لكان قليلا في حقه، على أنه يحتمل أنهن رضي الله عنهن اجتهدن فظنن جواز ذلك لدفع ما يلحقهن من الضرر من غلبتها لهن عليه صلى الله عليه وسلم بحسب ظنهن، وذلك بين من قول عائشة يوشك أن يصرفن وجهه عنا، وبهذا سقط قول الجلال البلقيني حاشا عائشة أن تقع في ذلك، وفيه إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وللزوجة، وأما احتمال أن ذلك وقع من بعض جواريهن غيرة على سيداتهن، فظن أنه منهن، فنسب إليهن، فعقلي جاءت الروايات بخلافه، "فإنها كانت من أجمل النساء، فخفن أن تغلبهن عليه" فيفوتهن، ما ينلنه من الخير الذي لا مزيد عليه الذي من أعظمه مشاهدة ذلك الوجه الأزهر، والاطلاع على وظائف عباداته الليلية، وما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، ولما جبلن عليه من حبهن له صلى الله عليه وسلم، والمحب لا يرضى أن حبه يذهب لغيره. وفي الصحيحين عن عائشة أنه كان يستأذن في يوم المرأة منا، فكنت أقول له: إن كان ذاك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر بك أحدا، "فقلن" متأولات "لها إنه يحب إذا دنا" قرب "منك أن تقولي أعوذ بالله منك". وعند ابن سعد عن أبي أسيد: فلما أدخلت عليه، وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فمال بكمه على وجهه، وقال: "عذت بمعاذ" ثلاث مرات. وعنده من طريق آخر عن أبي أسيد قلت: يا رسول الله قد جئتك بأهلك، فخرج يمشي، وأنا معه فلما أتاها أهوى ليقبلها، وكان يفعل ذلك إذا خلا بالنساء، فقالت: أعوذ بالله منك، "فقال: "قد عذت بمعاذ"، فطلقها، ثم سرحها، بعثها إلى أهلها" لا طلقها وإن كان صريحا فيه لتقدمه في قوله، فطلقها فلا يفسر به، "وكانت تسمي نفسها الشقية". وعن ابن عباس، فكانت تقول: ادعوني الشقية، وعن أم مناح بشد النون ومهملة، قالت: كانت التي استعاذت قد ولهت، وذهب عقلها، وكانت تقول إذا استأذنت على أمهات المؤمنين: أنا الشقية أنا خدعت. وعن ابن اسيد: لما طلعت بها على قومها تصابحوا، وقالوا: إنك لغير مباركة، لقد جعلتينا في العرب شهرة فما دهاك؟ قالت: خدعت، فقالت لأبي أسيد: ما أصنع، قال: أقيمي في بيتك واحتجبي مع رحم محرم، ولا يطمع فيك أحد، فأقامت كذلك حتى ماتت في خلافة عثمان. وعن ابن عباس أنه خلف عليها المهاجر بن أبي أمية، فأراد عمر أن يعاقبها، فقالت: والله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 وقال الجرجاني: قلن لها إن أردت أن تحظي عنده فتعوذي بالله منه، فقالت ذلك فولى وجهه عنها، وقيل المتعوذة غيرها، وقال أبو عبيدة: ويجوز أن تكونا تعوذتا، وقال آخرون: كان بأسماء وضح فقال لها الحقي بأهلك، وقيل في اسمها أميمة، وقيل: إمامة.   ما ضرب عليَّ حجاب، ولا سميت بأم المؤمنين فكف عنها رواها كلها ابن سعد، ويذكر أن عكرمة بن جهل تزوجها في زمن الصديق. قال الواقدي: ولم يثبت "وقال" علي بن عبد العزيز "الجرجاني" النسابة: "قلن لها إن أردت أن تحظي" أي تصيري ذات منزلة ومحبة "عنده فتعوذي بالله منه، فقالت ذلك: فولى وجهه عنها" وقال: قد عذت بمعاذ، وهذا رواه ابن سعد عن ابن عباس "وقيل المتعوذة غيرها" غير أسماء، فقيل عمرة، كما سبق، وقيل أميمة أو مليكة أو سنى أو فاطمة بنت الضحاك أو العالية فهي سبعة أقوال. "وقال أبو عبيدة" معمر بن المثنى: "ويجوز أن تكونا تعوذتا" أي أسماء هذه والمرأة التي من بني سليم، كما نقله عنه أبو عمر، فهذان قولان في سبب فراق أسماء امتناعها من المجيء إليه أو تعوذها منه. "وقال آخرون" في سببه: "كان بأسماء وضح" بفتحتين برص بدليل قول ابن عبد البر، كوضح العامرية، "فقال لها: "الحقي بأهلك" بكسر الهمزة، وفتح الحاء وقيل بالعكس كناية عن الطلاق بشرط النية إجماعا، والمعنى طلقتك سواء كان لها أهل أم لا، قاله المصنف. وذكر ابن سعد: أن ذلك كان في ربيع الأول سنة تسع من الهجرة، "وقيل في اسمها أميمة" بالتصغير، "وقيل إمامة" بضم الهمزة هكذا حكاه في الإصابة عن أبي عمر في ترجمة أسماء، فهي واحدة اختلف في اسمها، ثم ترجم في الإصابة أميمة بنت النعمان بن شراحيل الكندية، ذكرها البخاري في كتاب النكاح تعليقا عن أبي أسيد، وسهل بن سعد، قالا: تزوج صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، لما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين، وأخرجه موصولا قبله. من وجه آخر عن أبي أسيد قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "اجلسوا ههنا"، ودخل وقد أتى بالجونية، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها صلى الله عليه وسلم قال: "هبي لي نفسك"، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فاهوى بيده يضعها عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: "عذت بمعاذ"، ثم خرج علينا، فقال: "يا أبا أسيد أكسها ثوبين وألحقها بأهلها"، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 الخامسة: ملكية بنت كعب الليثية، قال بعضهم: هي التي استعاذت منه صلى الله عليه وسلم، وقيل دخل بها، وماتت عنده، والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا.   وقد رجح البيهقي إنها المستعيذة لهذا الحديث الصحيح، وتقدم في أسماء بنت النعمان بن الجون شبيه بقصتها فالله أعلم، انتهى. ولا خلاف بين روايتي البخاري، فإنه نسبها في الأولى إلى جدها، وفي الثانية إلى أبيها نبه على ذلك في فتح الباري، وقال: إن قوله في بيت بالتنوين وأميمة بالرفع بدل من ضمير، فأنزلت أو عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة فقال في رواية أميمة بنت شراحيل لعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها، وهو مردود فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ في بيت، وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه، فقال: فأنزلت في بيت في النخل أميمة إلى آخره، انتهى. ولم يتنبه لذلك الشامي، فظنهما امرأتين لهاتين الروايتين وادعى أنه أغرب في الإصابة، فزعم أنهما واحدة، ولم يذكر لذلك مستندا، وحديث أبي أسيد، يرد عليه، فكيف يكونان واحدة انتهى، وقد علمت أنه ذكر مستنده في الفتح نصا، وفي الإصابة إشارة بجعله حديثا واحد الاتحاد، مخرج طريقيه بقوله، وأخرجه موصولا قبله من وجه آخر، وعذر الشامي أنه لم يراجع الفتح هنا، ولم يتنبه لإشارته في الإصابة لخفائها عليه، فأخذ كلا من الحديثين على ظاهره، فخرج له منهما امرأتان، وما هو بأبي عذرة، ذلك فقد سبقه إليه بعض شراح البخاري، فوهم كما رأيت، والعيني مع كثرة تعسفه على ابن حجر سلم له هنا وتبعه. "الخامسة مليكة بنت كعب الليثية" الكنانية، "قال بعضهم هي التي استعاذت منه" رواه الواقدي عن أبي معشر، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج بها، وكانت تذكر بجمال بارع فدخلت عليها عائشة، فقالت لها: أما تستحيي أن تنكحي قاتل أبيك، وكان أبوها قتل يوم فتح، قتله خالد ن الوليد، فاستعاذت منه صلى الله عليه وسلم فطلقها، فجاء قومها فسألوه أن يرتجعها، واعتذروا عنها بالصغر، وضعف الرأي وأنها خدعت فأبى، فاستأذنوه أن يزوجوها قريبا لها من بني عذرة، فأذن لهم، "وقيل دخل بها" في شهر رمضان أي وطئها "وماتت عنده" رواه الواقدي عن عطاء بن يزيد الجندعي، "والأول أصح، ومنهم من ينكر تزويجه بها أصلا". قال الواقدي: بعدما ذكر هذين القولين أصحابنا ينكرون هذا، ويقولون لم يتزوج كنانية قط انتهى. وذكر ابن حبيب في أزواجه اللاتي لم يبن بهن مليكة بنت داود، نقله ابن الأثير، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 والسادسة: فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي، تزوجها بعد وفاة ابنته زينب وخيرها حين نزلت آية التخيير، فاختارت الدنيا ففارقها عليه الصلاة والسلام فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول هي الشقية اخترت الدنيا، هكذا رواه ابن إسحاق. لكن قال أبو عمر: هذا عندنا غير صحيح لأن ابن شهاب يروي عن عروة عن عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه بدأ بها فاختارت الله ورسوله،   واليعمري، والقطب الحلبي وأقروه، وقال في الإصابة ذكره ابن بشكوال في الزوجات، ولا يصح، وستأتي مليكة بنت كعب، فيحرر ذلك. "السادسة فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي تزوجها بعد وفاه ابنته زينب، وخيرها"، بين الدنيا والآخرة أو بين الإقامة والطلاق. قال الماوردي: وهو الصحيح، وقال القرطبي النافع: الجمع بين القولين لأن أحد الأمرين ملزوم بالآخر، وكأنهن خيرن بين الدنيا فيطلقهن، وبين الآخرة، فيمسكهن "حين نزلت آية التخيير {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] ، إلى تمام الآيتين، "فاختارت الدنيا، ففارقها عليه الصلاة والسلام، فكانت بعد ذلك تلقط"، بضم القاف، تأخذ "البعر" من الأرض، ولعل ذلك لتبيعه من ضيق عيشها، "وتقول هي الشقية" لفظها عند ابن إسحاق وغيره أنا، فغيره المصنف بقوله: هي كراهية لذلك "اخترت الدنيا هكذا، رواه ابن إسحاق، لكن قال أبو عمر" بن عبد البر: "هذا عندنا غير صحيح؛ لأن ابن شهاب يروى" في الصحيح "عن عروة عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم حين خير أزواجه" لما سألته الدنيا وزينتها، "بدأ بها" بعائشة وغلط من توهم أن الضمير لفاطمة، وقال ما لم يقله أحد، "فاختارت الله ورسوله"، وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، فبدأ بي رسول الله، فقال: "إني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك"، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم قال: "إن الله قال": {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إلى تمام الآيتين فقلت له: ففي أي هذا استأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. زاد أحمد والطبراني ولا أوامر أبي بكر وأم رومان فضحك وأي اسم معرب يستفهم بها نحو، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [الأعراف: 185] وبدأ بعائشة لفضلها، كما قال النووي أو لأنها كانت السبب في التخيير لأنها طلبت منه ثوابا، فأمره الله بالتخيير. رواه ابن مردويه عن الحسن عن عائشة لكنه لم يسمع منها، فهو منقطع، وفي تفسير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 وتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على ذلك. وقال قتادة وعكرمة: كان عنده صلى الله عليه وسلم عند التخيير تسع نسوة وهن اللاتي توفي عنهن. وقيل إنه صلى الله عليه وسلم تزوجها سنة ثمان، وقيل إن أباها قال: إنها لم تصدع قط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا حاجة لي بها". السابعة: عالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف، تزوجها عليه الصلاة والسلام وكانت عنده ما شاء الله، ثم طلقها وقل من ذكرها، وقال أبو سعد: طلقها حين أدخلت عليه الصلاة والسلام.   النقاش أن كل واحدة سألته شيئا إلا عائشة، "وتابع" عائشة "أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن على ذلك" وفي الصحيحين أيضا قالت عائشة: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت، ففي هذا دليل على أن فاطمة بنت الضحاك لم تكن عنده وقت نزول آية التخيير، ولذا قال الذهبي: يقال إنه تزوجها وليس بشيء. "وقال قتادة وعكرمة، كان عنده صلى الله عليه وسم عند التخيير تسع نسوة، وهن اللاتي توفي عنهن" فيه نظر؛ لأن آية التخيير، كانت سنة تسع وتزوج بعد ذلك، كذا قال في الإصابة وفيه ما لا يخفى، فإنه وإن تزوج بعد، لكن لم يمت إلا عن التسع فأين النظر، "وقيل إنه صلى الله عليه وسلم تزوجها" أي فاطمة بنت الضحاك "سنة ثمان". قال في الإصابة: مقتضاه أنه تقدم قول يخالفه، ولم يتقدم إلا قوله أول الترجمة إنه بعد وفاة ابنته زينب، وقد أسند ابن سعد عن أبي وجرة قال: تزوج صلى الله عليه وسلم الكلابية في ذي القعدة سنة ثمان منصرفه من الجعرانة، وعن إسماعيل بن مصعب عن شيخ من رهطها أنها ماتت سنة ستين. ا. هـ. ووفاة السيدة زينب كان أول سنة ثمان، كما مر، "وقيل إن أباها قال إنها لم تصدع قط فقال عليه الصلاة والسلام: "لا حاجة لي بها" إلى هنا ما ذكره من كلام أبي عمر. "السابعة عالية" بعين مهملة، وكسر اللام، وتحتية بنت ظبيان، بكسر الظاء المعجمة، ويقال بفتحها، فموحدة ساكنة، فتحتية، فألف، فنون "ابن عمرو بن عوف" بن عبد بن أبي بكر بن كلاب الكلابية، "تزوجها عليه الصلاة والسلام، وكانت عنده ما شاء لله، ثم طلقها". رواه ابن سعد عن هشام الكلبي عن رجل من بني بكر قال ابن عبد البر: وهذا يقتضي أنه دخل بها "وقل من ذكرها" ورواه يعقوب بن سفيان عن الزهري، وزاد فيه ودخل بها، "وقال أبو سعد: طلقها حين أدخلت عليه صلى الله عليه وسلم". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 الثامنة: قتيلة بضم القاف وفتح المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي، زوجه إياها أخوها في سنة عشر، ثم انصرف إلى حضرموت فحملها فقبض صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة قبل قدومها عليه، وقيل تزوجها عليه الصلاة والسلام قبل وفاته بشهرين، وقال قائلون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب عليها الحجاب، وكانت من أمهات المؤمنين، وإن شاءت الفراق فلتنكح من شاءت.   أخرجه أبو نعيم عن يحيى بن أبي كثير، وأخرجه الطبراني، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف حديثا طويلا فيه، وطلق صلى الله عليه وسلم العالية بنت ظبيان، وفارق الكندية من أجل بياض كان بهما وللبيهقي عن الزهري أنه لم يدخل بها وابن أبي خيثمة عن قتادة وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أرسل أبا أسيد يخطبها عليه، ولم يكن رآها، فأنكحها إياه أبو أسيد، ثم جهزها فقدم بها فلما اهتدى بها رأى بياضا فطلقها. وروى عبد الرزاق عن الزهري أنها تزوجت قبل أن يحرم على الناس نكاح أزواجه صلى الله عليه وسلم ابن عم لها وولدت فيهم. "الثامنة قتيلة بضم القاف، وفتح المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية" ولام، فتاء تأنيث "بنت قيس أخت الأشعث بن قيس الكندي". ذكرها ابن عبد البر وغيره في الصحابة لقربها من طبقتهم لا لصحبتها، كما مر؛ لأن ابن عبد البر نفسه قال: لم تقدم عليه، ولا رآها، ولا دخل بها، "زوجه إياها أخوها في سنة عشر" حين قدم عليه وفد كندة ليومين مضيا من شهر ربيع الأول. قاله أبو عبيدة وابن حبيب: "ثم انصرف إلى حضرموت" بفتح المهملة وسكون المعجمة بلد بأقصى اليمن. "فحملها فقبض صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة قبل قدومها عليه، وقيل تزوجها عليه الصلاة والسلام قبل وفاته بشهرين" وقيل تزوجها في مرض موته، "وقال قائلون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بأن تخير، فإن شاءت ضرب" بالبناء لمفعول "عليها الحجاب" نائب الفاعل، "وكانت من أمهات المؤمنين"، فتحرم عليهم "وإن شاءت الفراق"، عن أمومة المؤمنين وضرب الحجاب، "فلتنكح من شاءت". وفي العيون وإن شاءت طلقت ونكحت من شاءت وإطلاق الطلاق على من توفي عنها مجاز، ولم يقع لفظ الفراق ولا الطلاق في الإصابة إنما فيها عن ابن عبد البر وإن شاءت فلتنكح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت فبلغ ذلك أبا بكر فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر رضي الله عنهما، ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب. وقال بعضهم لم يوص فيها عليه الصلاة والسلام بشيء، ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها. وبذلك احتج عمر على أبي بكر رضي الله عنهما، أنها ليست من أمهات المؤمنين لارتدادها. التاسعة: سنى.   من شاءت "فاختارت النكاح، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت". قال ابن عبد البر: ولم تلد له، "فبلغ ذلك أبا بكر" الصديق" لقد هممت أن أحرق عليها بيتها" تعزيزا لها بإهلاك مالها، ولا يلزم منه إحراقها هي، ولعله كان يرى التعزيز بإهلاك المال، أو أراد مجرد إيقاع النار فيه إظهارا لشناعة فعلها بينهم تحقيرا لها, ولا يلزم منه إحراقها ولا شيء من مالها فلا يرد أن إحراقها لا يجوز؛ لأن تزوجها بتقدير حرمته إنما يوجب التعزيز أو الحد "فقال له عمر رضي الله عنهما: ما هي من أمهات المؤمنين" لأنه "ما دخل بها صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب" فهو بيان للنفي، وهذا رواه أبو نعيم من مرسل الشعبي، وزاد في آخره فاطمأن أبو بكر وسكن "وقال بعضهم لم يوص فيها عليه الصلاة والسلام بشيء ولكنها ارتدت حين ارتد أخوها"، ثم عادا إلى الإسلام، ولذا ذكروهما في الصحابة، ومن ثم لم يقتلا، ونكحها عكرمة، "وبذلك احتج عمر على أبي بكر رضي الله عنهما أنها ليست من أمهات المؤمنين لارتدادها" كما رواه أبو نعيم عن الشعبي مرسلا، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة بنت قيس، ومات، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، فأراد أبو بكر أن يضرب عنقه، فقال له عمر: إنه صلى الله عليه وسلم لم يفرض لها، ولم يدخل بها، وارتدت مع أخيها فبرئت من الله ورسوله، فلم يزل حتى كف عنه. وأخرج ابن عساكر وأبو نعيم بإسناد قوي عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها. قال الشامي: ومن الغريب ما رواه ابن سعد بسند ضعيف جدا عن عروة أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوجها ويحتمل أن مراده نفي الدخول وإلا فقد ورد من طرق كثيرة لا يمكن ردها أنه تزوجها والله أعلم. "التاسعة سنى" بتح السين، وتخفيف النون، قاله ابن إسحاق وغيره، ورجحه ابن عبد البر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 بنت أسماء بن الصامت السلمية، تزوجها عليه الصلاة والسلام وماتت قبل أن يدخل بها، وعند ابن إسحاق: طلقها قبل أن يدخل بها. العاشرة: شراف -بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء- بنت خليفة الكلبية، أخت الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم فماتت قبل دخوله بها.   وقيل بموحدة، حكاه ابن سعد، وقيل وسنى بواو أولها، وبالنون، وسماها قتادة أسماء بالميم، وكذا قال أحمد بن صالح المصري "بنت أسماء بن الصامت" ونسبها ابن حبيب إلى جدها، فقال سني بنت الصلت بن حبيب بن حازم بن هلال بن حرام بن سماك بن عفيف بن امرئ القيس بن بهية بن سليم "السلمية"، وزعم ابن حبيب أن أسماء أخوها لا أبوها، قاله كله في الإصابة ملخصا. "تزوجها عليه الصلاة والسلام، وماتت قبل أن يدخل بها" فيما قاله الكلبي وابن حبيب وغيرهما، وحكى الرشاطي عن بعضهم، أن سبب موتها أنها لما بلغها أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها سرت بذلك حتى ماتت من الفرح. "وعند ابن إسحاق" وأبي عبيدة "طلقها قبل أن يدخل بها" وروى ابن أبي خيثمة عن أبي عبيدة معمر قال: زعم حفص وعبد القاهر السليماني، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج سنى بنت أسماء بن الصلت، فماتت قبل أن يدخل بها، وخالفهما قتادة، فقال: تزوج أسماء بالميم بنت الصلت، فلم يدخل بها. قال الشامي: فإن صح ما قالاه، وما قاله، فالتي بالنون بنت أخي التي بالميم، وفي الأكليل، أنه تزوج أسماء بنت الصلت، ولم يدخل بها، وجزم به في الإشارة وقول الإصابة انفرد قتادة بتسميتها أسماء، وإنما اسمها سنى بنت أسماء فيه نظر؛ لأن قتادة ذكر أسماء وسنى رواه عنه ابن عساكر، وتابعه على أسماء أحمد بن صالح، وناهيك به اتفانًا. ا. هـ. "العاشرة شراف بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء وبالفاء" المضمومة، بخط ابن الأمين في الاستيعاب، ومكسورة في نسخة صحيحة من العيون، كما في النور "بنت خليفة الكلبية أخت" دحية "الكلبي، تزوجها صلى الله عليه وسلم، فماتت قبل دخوله بها". رواه المفضل بن غسان عن علي بن مجاهد، وابن سعد عن سري بن قطامي، بفتح القاف والطاء المهملة، فألف، فميم، فتحتية خفيفة قالا، لما هلكت خولة بنت الهذيل تزوج صلى الله عليه وسلم شراف بنت خليفة، فماتت في الطريق قبل وصولها إليه ولم يدخل بها، وبهذا جزم ابن عبد البر، وأخرج أبو نعيم والطبراني، وابن سعد، وأبو موسى المدبني في ترجمة شراف عن ابن أبي مليكة قال: خطب صلى الله عليه وسلم امرأة من بني كلب، فبعث عائشة تنظر إليها، فذهبت، ثم رجعت، فقال: "ما رأيت"؟ قالت: ما رأيت طائلا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت جمالا اقشعرت كل شعرة منك"، فقالت: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 الحادية عشر: ليلى بنت الخطيم -بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة- أخت قيس تزوجها صلى الله عليه وسلم وكانت غيورا فاستقالته فأقالها فأكلها الذئب، وقيل هي التي وهبت نفسها له عليه الصلاة والسلام.   ما دونك سر. "الحادية عشرة ليلى بنت الخطيم، بفتح الخاء المعجمة، وكسر الطاء المهملة، ابن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر بفتح الظاء المعجمة والفاء، الأنصارية الأوسية الصحابية، قال ابن سعد: هي أول من بايعه صلى الله عليه وسلم من نساء الأنصاري، "أخت قيس" بن الخطيم، الشاعر المشهور. ذكره علي بن سعيد في الصحابة فوهم، فقد ذكر أهل المغازي أنه قدم مكة، فدعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليه القرآن، فقال: إني لأسمع كلاما عجبا، فدعني أنظر في أمري هذه السنة، ثم أعود إليك، فمات قبل الحول. قاله في الإصابة "تزوجها صلى الله عليه وسلم، وكانت غيورا فاستقالته" فقالت كما عند الواقدي بسند له مرسل: إنك نبي الله، وقد أحل لك النساء، وأنا امرأة طويلة اللسان، لا صبر لي على الضرائر، "فأقالها" بأن قال: "قد أقلتك"، كما في الرواية "فأكلها الذئب". روى ابن سعد وابن أبي خينمة بسند ضعيف عن ابن عباس قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مول ظهره إلى الشمس، فضربت على منكبه، فقال: "من هذا أكله الأسود" وكان كثيرا ما يقولها، فقالت: أنا بنت مطعم الطير ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي، فتزوجني فقد فعلت، فرجعت إلى قومها، فقالت: قد تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: بئس ما صنعت أنت امرأة غيرى، والنبي صلى الله عليه وسلم صاحب نساء تغارين عليه، فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك، فرجعت فقالت: يا رسول الله أقلني، قال: "قد أقلتك" فبينا هي في حائط تغتسل إذ وثب عليا ذئب، فأكل بعضها، فأدركت، فماتت، "وقيل هي التي وهبت نفسها له صلى الله عليه وسلم"، فقبلها. رواه الواقدي عن صالح بن عمر بن قتادة، وروى أيضا عن ابن أبي عون أن ليلى وهبت نفسها، ووهبن نساء أنفسهن، فلم يسمع أنه صلى الله عليه وسلم قبل منهن أحدا. وذكر ابن سعد أن مسعود بن أوس تزوجها في الجاهلية، فولدت له عمرة وعميرة، وكانت أول امرأة بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنتها، وابنتان لابنتها، ووهبت له نفسها، ثم استقاله بنو ظفر فأقالها، ويحتمل الجمع بأن نسبة الاستقالة لقومها بني ظفر لإشارتهم عليها بذلك، وهي التي باشرت طلب ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 الثانية عشرة: امرأة من غفار تزوجها صلى الله عليه وسلم فأمر بها فنزعت ثيابها فرأى بكشحها بياضا فقال: "الحقي بأهلك"، ولم يأخذ مما آتاها شيئا، خرجه أحمد. فهؤلاء جملة من ذكر من أزواجه صلى الله عليه وسلم،   "الثانية عشر امرأة من غفار" يحتمل أن تفسر بأم شريك بنت جابر الغفارية، فقد ذكرها أحمد بن صالح المصري في الزوجات اللاتي لم يدخل بهن، كما نقله أبو عمر وأتباعه: "تزوجها صلى الله عليه وسلم فأمر بها" لما اختلى بها، "فنزعت ثيابها، فرأي بكشحها بياضا" أبرصا، "فقال: "الحقي بأهلك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا". "خرجه أحمد" عن كعب بن عجرة، وللطبراني بسند ضعيف عن سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من أهل البادية، فوجد بكشحها بياضا، ففارقها قبل أن يدخل بها، وكان يقال لها آمنة بنت الضحاك الكلابي، وهذا إن صح فهي أخرى لا تفسر بها الغفارية؛ لأنهما متغايران. وأغرب مغلطاي في الزهر فقال: آمنة بنت الضحاك الغفارية وجد بكشحها بياضا، ويقال هي آمنة بنت الضحاك الكلابية، فزاد، أي صاحب هذا القول آمنة ثانية، ولا ذكر لهما في كتاب الصحابة. قال الشامي: هذا كلام غير محرر، فإن بني كلاب وبني غفار غيران، أي متغايران، ولم أر لآمنة بنت الضحاك ذكرا فيما وقفت عليه من كتب الصحابة انتهى. "فهؤلاء جملة من ذكر من أزواجه صلى الله عليه وسلم" عند المصنف، وإلا فقد زاد عليه غيره، فعدوا أم حرام عند الطبراني وسلمى بنت نجدة، بنون، وجيم الليثية، نكحها عليه السلام، فتوفي عنها، وأبت أن تتزوج بعده. ذكره أبو سعد في الشرف ومغلطاي وغيرهما، وسبا بموحدة بنت سفيان الكلابية، ذكرها ابن سعد وشاة بنت رفاعة، ذكرها المفضل في تاريخه عن قتادة والشنباء، بفتح المعجمة، ونون ساكنة، فموحدة، فألف تأنيث بنت عمرو الغفارية أو الكنانية دخل بها ومات ابنه إبراهيم، فقالت: لو كان نبيا ما مات أحب الناس إليه، فطلقها. ذكره ابن جرير، وابن عساكر، والمفضل وابن رشد في آخر كتابه المقدمات، وعمرة بنت معاوية الكندية ذكرها أبو نعيم، وليلى بنت الحكم بالكاف الأوسية ذكرها أحمد بن صالح المصري، ولم يذكرها غيره، وجوز أبو الحسن بن الأثير أنها بنت الخطيم بالطاء السابقة؛ لأنه يلتبس به، وأقره في التجريد والإصابة، ومليكة بنت داود ذكرها ابن حبيب، وهند بنت يزيد المعروفة بابنة البرصاء، سماها أبو عبيدة في أزواجه، وقال أحمد بن صالح: هي عمرة بنت يزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 وفارقهن في حياته بعضهن قبل الدخول وبعضهن بعده -كما ذكرناه- فيكون جملة من عقد عليهن ثلاثا وعشرين امرأة دخل ببعضهن دون بعض ومات منهن عنده بعد الدخول خديجة وزينب بنت خزيمة، ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية، وبنت الهذيل باتفاق. واختلف في مليكة وسنى، هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بهما. وفارق بعد الدخول باتفاق بنت الضحاك، وبنت ظبيان، وقبله باتفاق: عمرة وأسماء والغفارية. واختلف في أم شريك هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة، والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات بالاتفاق سبع، واثنتان على خلاف والميتات في حياته باتفاق أربع ومات صلى الله عليه وسلم عن عشر، واحدة لم يدخل بها.   المتقدمة، وأسماء بنت كعب، ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس وتبعه مغلطاي وغيره، وأميمة بنت النعمان بن شراحيل، ذكرها البخاري بناء على أنها غير أسماء المتقدمة، وآمنة بنت الضحاك الكلابية على مر عن الطبراني، "وفارقهن في حياته، بعضهن قبل الدخول، وبعضهن بعده كما ذكرناه، فيكون" على ما ذكره "جملة من عقد عليهن ثلاثا وعشرين امرأة، دخل ببعضهن دون بعض، ومات منهن عنده بعد الدخول: خديجة وزينب بنت خزيمة" أم المساكين، "ومات منهن قبل الدخول اثنتان: أخت دحية و" خولة "بنت الهذيل باتفاق، واختلف في ملكية وسنى هل ماتتا أو طلقهما، مع الاتفاق على أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بهما، وفارق بعد الدخول باتفاق" ممن قال أنه تزوج فاطمة "بنت الضحاك" فلا يشكل بقول الذهبي، يقال إنه تزوجها، وليس بشيء إن سلم له ذلك، وإلا فالمنازعة إنما هي في كونها اختارت الدنيا، لا في أنه تزوجها وطلقها، "وبنت ظبيان" أي باتفاق من قال إنه بنى بها، وإلا فقد قيل لم يدخل بها كما مر، "وقبله باتفاق عمره" الجونية، "وأسماء" بنت النعمان الجونية، "والغفارية" ومن هنا علم أن المراد بعدم الدخول عدم الوطء، لا مجرد الخلوة وإرخاء الستر؛ لأن من هؤلاء من اختلى بها، ثم فارقها بلا وطء. "واختلف في أم شريك هل دخل بها؟ مع الاتفاق على الفرقة والمستقيلة التي جهل حالها، فالمفارقات باتفاق سبع، واثنتان على خلف، والمتات في حياته باتفاق أربع، ومات صلى الله عليه وسلم عن عشر" التسع المشهورة و"واحدة لم يدخل بها" هي أخت الأشعث قتيلة بنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عدة نسوة: الأولى منهن: امرأة من بني مرة بن عوف بن سعد، خطبها صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فقال: إن بها برصا، وهو كاذب فرجع فوجد البرص بها، ويقال: إن ابنها شبيب بن البرصاء بنت الحارث بن عوف. ذكره ابن قتيبة، كما قاله الطبري، وعند ابن الأثير في جامع الأصول. جمرة بنت الحارث بن عوف.   قيس، وهذا كله ذكره المصنف زيادة إيضاح، "وروي أنه صلى الله عليه وسلم خطب عدة نسوة" غير من ذكرن، ولم يعقد عليهن ومرضه، وإن كان أصل الخطبة لا ضعف فيه نظرا إلى تعيين المعدودات، وعدتهن بأعيانهن لا لأصل الخطبة، ثم مراده بها ما يشمل من عرضت عليه، وهما إمامة وغرة أما من عرضت نفسها عليه، فهي الواهبة قدم الكلام فيها، فإدخالها هنا سهو، والاستظهار على ذلك، بترجمة الشامي، بكل ذلك سهو آخر؛ لأن الشامي آخر الكلام على الواهبة، فذكرها مع من خطبهن، فبلغ من ذكره ستة عشر منهن: أمر شريك الأنصارية، والدوسية، والعامرية، وخولة بنت حكيم، وهؤلاء تقدمن والمصنف وأم شريك الغفارية، وقال: وإنه لم يتحرر له هل عقد عليها، فتذكر فيمن سبق أو خطبها فقطن فتذكر هنا. والجندعية وفيها وهم يأتي التنبية عليه للمصنف، فصار جملة من زاده الشامي على المصنف فيمن خطبها امرأتين فقط، سأذكرهما إن شاء الله تعالى، فأما إن المصنف اقتصر على ثمانية؛ لأن الزائدتين لم يثبتا عنده، أو لم تطلع عليهما، أو لم يرد الحصر إنما قال "الأولى منهن" بمن البيانية، فيقدر مثله بعد كل من الثانية والثالثة، فلا يفيد الحصر في الثمانية، ونقل الشارح عن زاد المعاد، أنهن نحو أربع وخمين وهم نشأ من تحريف وقع له في الشامية، والمذكور في نسخها الصحيحة، كزاد المعاد، وأما من خطبها ولم يتزوج فنحو أربع أو خمس، ثم عدهن، فلم يتنبه للعد، ووقف مع التصحيف "امرأة من بني مرة" بضم الميم، وشد الراء ابن عوف بن سعد، اختلف في اسمها كما يأتي: قال قتادة وأبو عبيدة "خطبها صلى الله عليه وسلم" منتهيا "إلى أبيها" في الخطبة أو ضمنه معنى رفع، فعداه بإلى أي رفع أمر تزويجها إليه، فلا يرد أن خطب يتعدى بمن، "فقال: إن بها برصا وهو كاذب" فقال صلى الله عليه وسلم فلتكن كذلك، "فرجع فوجد البرص بها، ويقال إن ابنها شبيب بن البرصاء، بنت الحارث بن عوف" وجزم به الرشاطي وقال: إن شبيبا عرف بابن البرصاء، "ذكره ابن قتيبة، كما قاله الطبري" الحافظ محب الدين. "وعند ابن الأثير في جامع الأصول" في حرف الجيم "جمرة" بفتح الجيم، وسكون الميم والراء، كما في التبصير، نقلا عن أبي بكر محمد بن أحمد المفيد في تسمية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: بل اسمها قرصافة زاد في الإصابة، ويقال اسمها أمامة "بنت الحارث بن عوف". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 خطبها صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءا، ولم يكن بها شيء، فرجع إليها أبوها وقد برصت، قال: وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر. الثانية: امرأة قرشية يقال لها سودة، خطبها صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية، فقالت: أخاف أن يضغوا صبيتي -أي يضجوا يصيحوا ويبكوا- عند رأسك، فدعا لها وتركها. الثالثة: صفية بنت بشامة -بفتح الموحدة وتخفيف الشين المعجمة- كان أصابها في سبي فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها، فاختارت زوجها.   ابن أبي حارثة المري الصحابي. "خطبها صلى الله عليه وسلم" من والدها "فقال أبوها" لا أرضاها لك "إن بها سوءا، ولم يكن بها شيء فرجع إليها أبوها، وقد برصت" بكسر الراء فتزوجها ابن عمها يزيد بن جمرة المري، فولدت له شبيبا، فعرف بابن البرصاء، "وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر" فعلم من كلام الجامع تسميتها، والجزم بأنها أم شبيب الذى حكاه ابن قتيبة بلفظ يقال وسبقه إلى الجزم بذلك الرشاطي، وغيره ونسب عبد الملك النيسابوري أباها إلى جده، فقال جمرة بنت الحارث بن أبي حارثة المروية، فظنهما القطب الحلبي امرأتين. قال الشامي: وليس بجيد فإنهما واحد بلا شك، "الثانية امرأة قرشية يقال لها سودة، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية" أي لها خمسة أو ستة من البنين، كما في العيون، "فقالت: أخاف أن يضغوا" بضاد وغين معجمتين "صبيتي، أي يضجوا يصيحوا ويبكوا عند رأسك، فدعا لها وتركها" إخراج ابن منده وغيره من طريقة عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس قال: أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج سودة القرشية، وكانت لها أولاد، فقالت: إنك أحب البرية إليَّ وإن لي صبية وأكره أن يتضاغوا عند رأسك، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه لبغل في ذات يده"، وأصله في البخاري من وجه آخر، لكن لم يسمها. "الثالثة صفية بنت بشامة، بفتح الموحدة، وتخفيف الشين المعجمة". تبعه على هذا تلميذه الشامي؛ لأنه مقتضى كلام الحافظ، كما في التبصير، خلال قول البرهان بشد المعجمة، ولم أره منصوصا، إلا أنه مقتضى كلام ابن ماكولا، وهو ابن نضلة، بفتح النون وسكون المعجمة من بني العنبر بن تميم. روى ابن سعد بسند ضعيف، عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم خطبها، وكان أصابها في سبي فخيرها بين نفسه الكريمة وبين زوجها" فقال: "إن شئت أنا وإن شئت زوجك"، "فاختارت زوجها" فقالت: بل زوجي، فأرسلها فلعنها بنو تميم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 الرابعة: ولم يذكر اسمها، قيل إنه صلى الله عليه وسلم خطبها، فقالت: أستأمر أبي، فلقيت أباها فأذن لها، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد التحفنا لحافا غيرك". الخامسة: أم هانئ فاختة بنت أبي طالب أخت علي، خطبها صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة مصبية واعتذرت إليه، فعذرها.   "الرابعة ولم يذكر اسمها، قيل إنه صلى الله عليه وسلم خطبها، فقالت: أستأمر أبي، فلقيت أباها، فأذن لها، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: "قد التحفنا لحافا" أي اتخذنا امرأة "غيرك" إما بأن تزوج غيرها، أو استغنى بواحدة ممن عنده، كني باللحاف، وهو كل ثوب يتغطى به على المرأة، لشدة اتصالها بالرجل كاتصال الثوب به، أو لأنها تستره بمنعها له من الفواحش، كما يستر الثوب صاحبه. "الخامسة أم هانئ" بنون، فهمزة منونة، "فاختة" على الأشهر، وقيل فاطمة، وقيل هند، وقيل رملة، وقيل حمانة وقيل عاتكة "بنت أبي طالب، أخت علي" أمير المؤمنين، شقيقته روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الكتب الستة، ولها في البخاري حديثان، قال الترمذي وغيره: وعاشت بعد علي "خطبها صلى الله عليه وسلم" من نفسها، "فقالت: إني امرأة مصبية، واعتذرت إليه" وعند ابن سعد بسند صحيح عن الشعبي، فقالت: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من سمعى وبصري، وحق الزوج عظيم فأخشى أن أضيع حق الزوج "فعذرها" وروى الطبراني برجال ثقات عن ام هانئ قالت: خطبني صلى الله عليه وسلم فقلت: ما لي عنك رغبة يا رسول الله، ولكن لا أحب أن أتزوج وبني صغار، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده"، وذكر ابن الكلبي، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: خطب صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب أم هانئ، وخطبها هبيرة، فزوج هبيرة، فعاتبه صلى الله عليه وسلم، فقال: "يابن أخي إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم"، ثم فرق الإسلام بين أم هانئ وهبيرة، فخطبها صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله إني كنت أحبك في الجاهلية، فكيف في الإسلام، ولكني امرأة مصبية، فأكره أن يؤذوك، فقال: "خير نساء ركبن الإبل" الحديث. وذكر ابن سعد عن أبي صالح مولاها أنه صلى الله عليه وسلم خطبها، فقلت: إني امرأة مؤتمة، فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه، فقال: أما الآن فلا؛ لأن الله أنزل عليه وبنات عمك اللاتي هاجرن معك، ولم تكن من المهاجرات. وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ: خطبني صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذرني، فأنزل الله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] ، إلى قوله {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] فلم أكن أحل له؛ لأني لم أهاجر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 السادسة: ضباعة -بضم الضاد المعجمة وتخفيف الموحدة وبالعين المهملة- بنت عامر بن قرط -بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة- خطبها صلى الله عليه وسلم إلى ابنها سلمة بن هشام فقال: حتى أستأمرها، فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها قد كبرت، فلما عاد ابنها -وقد أذنت له- سكت.   وأخرج ابن أبي حاتم عنها قالت: نزلت في هذه الآية {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، أراد صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهى عني إذ لم أهاجر. "السادسة ضباعة، بضم الضاد المعجمة، وتخفيف الموحدة، وبالعين المهملة بنت عامر بن قرط، بضم القاف، وسكون الراء وبالطاء المهملة" ابن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أسلمت قديما بمكة، وهاجرت، وكانت من أجمل نساء العرب، وأعظمهن خلقا، وإذا جلست أخذت من الأرض شيئا كثيرا، وتغطي جسدها مع عظمه بشعرها، وأسند ابن الكلبي في الأنساب عن ابن عباس: أنها كانت تحت هوذة بن علي الحنفي، فمات عنها، فتزوجها عبد الله بن جدعان، فلم يلق بخاطرها، فسألته، طلاقها، ففعل بعد أن حلفها أنها إن تزوجت هشام بن المغيرة، المخزومي، تنحر مائة ناقة سود الحدق، وتغزل خيطا يمد بين أخشبي مكة، وتطوف بالبيت عريانة، فتزوجها هشام، ونحر عنها المائة ناقة، وأمر نساء بني المغيرة بغزل خيط ومده بين الأخشبين، وأمر قريشا فأخلوا له البيت. قال المطلب بن أبي وداعة السهمي: وكان لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت أنا ومحمد، ونحن غلامان واستصغرونا، فلم نمنع، فنظرنا إليها، فخلعت ثوبا ثوبا، وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله حتى نزعت ثيابها، ثم نشرت شعرها على ظهرها وبطنها، فما ظهر من جسدها شيء، وطافت وهي تقول العشر، وولدت له سلمة، وكان من خيار المسلمين، فلما مات هشام، وأسلمت هي، وهاجرت "خطبها صلى الله عليه وسلم إلى ابنها سلمة بن هشام" بن المغيرة المخزومي من السابقين، استشهد بمزج الصفراء سنة أربع عشرة عند ابن سعد أو بإجنادين عند غيره، وصوب، "فقال: حتى استأمرها" في حديث ابن عباس المذكور، فقال سلمة: يا رسول الله ما عنك مدفع، أفاستأمرها قال: "نعم"، فأتاها فقالت: الله أفي رسول الله تستأمرني، إني أبتغي أن أحشر مع أزواجه، ارجع إليه فقل له نعم قبل أن يبدو له، "فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها قد كبرت" في حديث ابن عباس، وكان قد قيل له، وقد ولى سلمة، أن ضباعة ليست كما عهدت قد كثرت غضون وجهها وسقطت أسنانها من فيها، "فلما عاد ابنها وقد أذنت له" وأخبره سلمة بما قالت، "سكت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 عنها صلى الله عليه وسلم فلم ينكحها. السابعة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب، عرضت عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة". الثامنة: عزة بنت أبي سفيان، عرضتها أختها أم حبيبة عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها لا تحل لي" لمكان أختها أم حبيبة تحت النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: تزوج عليه الصلاة والسلام الجندعية -بضم الجيم وسكون النون وضم   عنها صلى الله عليه وسلم فلم ينكحها" رضي الله عنها. "السابعة: أمامة بنت حمزة بن عبد المطلب" في اسمها سبعة أقوال أمامة، وعمارة، وسلمى، وعائشة، وفاطمة، وأمة الله، ويعلى، وكنيتها أم الفضل، حكاها في التوشيح "عرضت عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "هي ابنة أخي من الرضاعة" روى الشيخان، واللفظ لمسلم عن ابن عباس: أن علي بن أبي طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تتزوج ابن حمزة، قال: "إنها ابنة أخي من الرضاعة"، ولسعيد بن منصور فإنها من أحسن فتاة في قريش، قال العلماء: ولعل عليا لم يكن علم أن حمزة رضيعة صلى الله عليه وسلم أو جوز الخصوصية. "الثامنة: عزة" بفتح المهملة، والزاي المشددة، وهاء تأنيث "بنت أبي سفيان" صخر بن حرب، سميت عزة في رواية مسلم والنسائي، وصوبه أبو موسى المديني، وقال ابن عبد البر: إنه الأشهر، وفي رواية للحميدي، وأبي موسى المديني درة، بضم المهملة، وشد الراء، قال الحافظ: ولعل أحد الاسمين كان لقبا لها، والمحفوظ أن درة بنت أبي سلمة، وفي رواية الطبراني تسمية بنت أبي سفيان حمنة، وجزم به المنذري، "عرضتها أختها أم حبيبة عليه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنها لا تحل لي". روى الشيخان: أن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله انكح اختي، زاد مسلم عزة بنت أبي سفيان فقال: "أوتحبين ذلك"، فقلت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحل لي"، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجرة ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن، فقوله: "لمكان أختها أم حبيبة تحت النبي صلى الله عليه وسلم" تعليل من المصنف، لقوله: "لا تحل لي"، أي لما فيه من الجمع بين الأختين، لا من لفظ النبوة، كما ظنه من تعسف توجيه كونه لم يقل تحتي. وقد أفاد حديث الصحيح: أن أم حبيبة ظنت أن ذلك من خصائصه بدليل إيرادها ربيبته، "وقيل تزوج عليه الصلاة والسلام الجندعية، بضم الجيم، وسكون النون، وضم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 الدال وبالعين المهملة- امرأة من جندع، وهي ابنة جندب بن ضمرة، ولم يدخل بها. وأنكره بعض الرواة. فهؤلاء النساء اللاتي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوجهن أو دخل بهن، أو لم يدخل بهن أو عرضن عليه.   الدال" المهملة، "وبالعين المهملة امرأة من جندع" بطن من ليث، "وهي ابنة جندب بن ضمرة ولم يدخل بها" فإن صح فتذكر فيما تقدم قبل لا فيمن خطبهن، "و" لكن "أنكره بعض الرواة" وقد زيد فيمن خطبها حبيبة بنت سهل بن ثعلبة الأنصارية، هم أن يتزوجها، ثم تركها رواه ابن سعد عن عمرة ونعامة، ولم يسم أبوها من سبى بني العنبر، كانت جميلة عرض عليها صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، فلم تلبث أن جاء زوجها، ذكره الدباغ في ذيل الاستيعاب. هذا ما زاده الشامي على المصنف في المخطوبات، وتردد في أمر شريك الغفارية، هل هي مخطوبة فقط، فتذكر هنا أو عقد عليها فتذكر فيما قبله. وأما خولة بنت حكيم التي قيل إنها الواهبة نفسها، فتقدمت في المصنف، فلا تذكر في المخطوبات، فقول الشارح إنه زادها سهو؛ لأن الشامي عمم الترجمة فيمن خطبها، ومن عرضت نفسها ومن عرضت عليه، وقد تقدم التنبيه على هذا، "فهؤلاء النسوة اللاتي ذكر أنه صلى الله عليه وسلم تزوجهن أو خطبهن أو دخل بها أو لم يدخل بهن أو عرضن عليه" وهذا ظاهر في أنه أراد الحصر فيمن ذكرهن، وهو باعتبار ما وقف عليه، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 [ ذكر سراريه صلى الله عليه وسلم ] : وأما سراريه فقيل إنهن أربعة:   ذكر سراريه صلى الله عليه وسلم: "وأما سراريه" بخفة الياء وشدها جمع سرية، بضم السين وكسر الراء المشددة، ثم تحتية مشددة مشتقة من التسرر، وأصله من السر، وهو من أسماء الجماع، سميت بذلك لأنها يكتم أمرها عن الزوجة غالبا، وضمت سينها جريا على المعتاد من تغيير النسب للفرق بينها وبين الحرة إذا نكحت سرا، وقال الأصمعي: مشتقة من السرور؛ لأن مالكها يسر بها فضمها قياسي. روى أبو داود في مراسيله مرفوعا "عليكم بأمهات الأولاد"، وفي رواية "بالسراري فإنهن مباركات الأرحام"، وفي كامل أبي العباس عن عمر من قوله ليس قوم أكيس من أولاد السراري؛ لأنهم يجمعون عن العرب ودهاء العجم، يريد إذا كن من العجم، "فقيل: إنهن أربعة" وبه جزم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 مارية القبطية بنت شمعون -بفتح الشين المعجمة- أهداها له المقوقس القبطي صاحب مصر والإسكندرية، وأهدى معها أختها سيرين -بكسر السين المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر الراء- وخصيا يقال له: مأبور،   أبو عبيدة، وقال قتادة: ثنتان "مارية القبطية" نسبة إلى القبط نصارى مصر. قال الواقدي: كانت من حفن من كورة أنصنا من صعيد مصر، وكانت بيضاء جميلة وحفن بفتح المهملة وسكون الفاء ونون. قال اليعقوبي: كانت مدينة، قال في الفتح: وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد في مقابلة الأشمونين وفيها آثار عظيمة باقية انتهى. قال البلاذري: وأمها من الروم ابن سعد عن عائشة ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها جعدة جميلة، فأعجب بها صلى الله عليه وسلم وكان أنزلها أولا بجوارنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، ثم حولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا "بنت شمعون بفتح الشين المعجمة" وسكون الميم وبالعين المهملة، وقيل بإهمالهما، وقيل بإعجامهما، واقتصر عليه الحافظ في التبصير، ولم يرجح في الإصابة شيئا. كذا قال الشامي: والذي في التبصير إنما هو إعجام الشين وإهمال العين. وأما الذي ذكره بإعجامهما، فإنما هو والد ريحانة الصحابي، ونصه في حرف الشين المعجمة شمعون الصفا معروف ومارية بنت شمعون أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: وبمعجمتين أبو ريحانة الصحابي شمعون قال ابن يونس: بغين معجمة أصح انتهى. هذا ولم أجده في الإصابة تعرض لضبط لا في ترجمتها ولا ابنها ولا أختها ولا مابور. "أهداها له" كما رواه ابن سعد عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال بعض "المقوقس" لقب واسمه جريج بن مينا "القبطي" في سنة سبع من الهجرة، كما في نفس رواية ابن سعد "صاحب مصر والإسكندرية" مات على نصرانيته، وذكره ابن منده وأبو نعيم وابن قانع في الصحابة فغلطوهم، "وأهدى معها أختها سيرين بكسر السين المهملة، وسكون المثناة التحتية، وكسر الراء"، فياء فنون. روى ابن عبد الحكم أن المقوقس لما وصله كتاب المصطفى، قال: إنا نجد من نعته أن لا يجمع بين أختين ويقبل الهدية لا الصدقة، وجلساؤه المساكين فلم يجد في مصر أحسن ولا أجمل من مارية وأختها فاهداهما "وخصيا يقال له مأبور" بميم، فألف فموحدة خفيفة مضمومة، فواو ساكنة، فراء ويقال هابو بهاء بدل الميم وبغير راء في آخره، كما في الإصابة. زاد بن سعد في هذه الرواية، وكان شيخا كبيرا أخا مارية، وروى ابن شاهين عن عائشة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 وألف مثقال ذهبا وعشرين ثوبا لينا من قباطي مصر، وبغلة شهباء وهي دلدل، وحمارا أشهب وهو غفير ويقال: يعفور، وعسلا من عسل بنها، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل ودعا في عسل بنها بالبركة، قال ابن الأثير: وبنها -بالكسر الباء وسكون النون- قرية من قرى مصر، بارك النبي صلى الله عليه وسلم في عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء، انتهى. فوهب النبي صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت وهي أم عبد الرحمن بن حسان،   والبزار عن علي أنه ابن عم مارية، وللطبراني عن أنس كان نسيبا لها، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل على أم إبراهيم، فرضي لمكانه منها أن يجب نفسه، فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق له قليل ولا كثير ولا منافاة، فقد تكون الإخوة لام أو أطلقت مجازا عن القرابة فلا ينافي أنه ابن عمها، كما أنه لا تنافي بين كونه أهداه خصيا، وبين كونه جب نفسه لاحتمال أنه أهدى فاقد الخصيتين مع بقاء الذكر، وهو الذي قطعه، "وألف مثقال ذهبا، وعشرين ثوبا لينا من قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي دلدل" بدالين مهملتين، ولامين "وحمارا أشهب، وهو عفير" بعين مهملة، "ويقال يعفور" ويقال الذي أهدى يعفور فروة بن عمرو، ويقال هما واحد، ويحتمله المصنف، "وعسلا من عسل بنها" وعند ابن سعد، وبعث بذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة، فعرض حاطب على مارية الإسلام، ورغبها فيه، فأسلمت، وأسلمت أختها، وأقام الخصي على دينة حتى أسلم بالمدينة في عهده صلى الله عليه وسلم. "فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل، ودعا في عسل بنها بالبركة"، فلم تزل كثيرة العسل حتى الآن. "قال ابن الأثير وبنها بكسر الباء" الموحدة، "وسكون النون قرية من قرى مصر بارك النبي صلى الله عليه وسلم في عسلها، والناس اليوم يفتحون الباء انتهى" وعلى الفتح اقتصر البهان مع القصر، في حواشي الصحاح لابن بري أن الكسر والفتح لغتان مسموعتان، ومثله في لسان العرب وعند أبي القاسم بن عبد الحكم أن المقوقس بعث إليه أيضا بمال صدقه، ودعا رجلا عاقلا وأمره أن ينظر من جلساؤه وإلى ظهره، هل فيه شامة كبيرة ذات شعر، ففعل ذلك، وقدم الهدية، وأعلمه أنها هدية، والصدقة، وأعلمه، فقبل صلى الله عليه وسلم الهدية، ورد الصدقة، ولما نظر إلى مارية وأختها أعجبتاه وكره أن يجمع بينهما، "فوهب النبي صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن بن حسان" يقال إنه ولد في عهد النبوة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال مات سنة أربع ومائة، وقاله خليفة والطبري، واستبعده ابن عساكر، وعند ابن سعد، وكانت مارية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 ومارية هي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وماتت مارية في خلافة عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة ودفنت بالبقيع.   بيضاء جميلة، فأنزلها صلى الله عليه وسلم في العالية، وكان يطأها بملك اليمين، وضرب عليها مع ذلك الحجاب، فحملت منه، ووضعت في ذي الحجة سنة ثمان، "ومارية هي أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم". وذكر الواقدي أن أبا بكر كان ينفق عليها حتى توفي، ثم عمر حتى توفيت، "وماتت مارية في خلافة عمر رضي الله عنه سنة ست عشرة، ودفنت". قال الواقدي: فكان عمر يحشر الناس لشهودها، ثم صلى عليها ودفنها "بالبقيع" وقال ابن منده: ماتت سنة خمس عشرة ومن مناقبها الشريفة، أن الله برأها وقريبها، وأنزل في شأنها جبريل. روى الطبراني عن ابن عمر قال: دخل صلى الله عليه وسلم على مارية، وهي حامل بإبراهيم، فوجد عندها نسيبا لها، فوقع في نفسه شيء، فخرج، فلقيه عمر، فعرف ذلك في وجهه، فسأله، فأخبره، فأخذ عمر السيف، ثم دخل على مارية وقريبها عندها، فأهوى إليه بالسيف فكشف عن نفسه، فرآه مجبوبا ليس بين رجليه شيء، فرجع عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: $"إن جبريل أتاني فأخبرني أن الله تعالى قد برأها وقريبها مما وقع في نفسه، وإن في بطنها غلاما مني، وأنه أشبه الناس بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني أبا إبراهيم. وأخرج البزار والضيا المقدسي في صحيحه عن علي قال: كثر الكلام على مارية في قبطي ابن عم لها كان يزورها، فقال صلى الله عليه وسلم: "خذ هذا السيف، فإن وجدته عندها، فاقتله" فقلت: يا رسول الله أكون في أمرك كالسكة المحماتي لا يشفيني شيء حتى أمضي لما، أمرتني به أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، قال: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فأقبلت متوشحا السيف، فوجدته عندها، فاخترطت السيف، وأقبلت نحوه، فعرف أني أريده فرقي نخلة، ثم رمى بنفسه ومال على قفاه ثم رفع رجله، فإذا هو أجب أمسح، ما له قليل ولا كثير، فغمدت السيف، ثم أتيته صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال: "الحمد لله الذي يصرف عنا أهل البيت"، ورواه مسلم عن أنس أن رجلا كان يتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم، فقال لعلي: "اذهب فاضرب عنقه"، فأتاه، فإذا هو في ركية يتبرد فيها، فقال له: اخرج فخرج، فناوله يده، فإذا هو مجبوب ليس له ذكره، فكف عنه، ثم أخبره صلى الله عليه وسلم قال في الإصابة، ويجمع بين قصتي عمر وعلي باحتمال أن عمر مضى إليها سابقا عقب خروجه صلى الله عليه وسلم فلما رآه مجبوبا اطمأن قلبه وتشاغل بأمر ما، وتراخى إرسال علي قليلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى مكان ولم يسمع بعد بقصة عمر، فلما جاء علي وجد الخصي قد خرج من عندها إلى النخيل يتبرد في الماء، فوجده ويكون إخبار عمر وعلى معا، أو أحدهما بعد الآخر، ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 وريحانة بنت شمغون من بني قريظة، وقيل من بني النضير، والأول أظهر، وماتت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام مرجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان عليه الصلاة والسلام يطؤها بملك اليمين، وقيل أعتقها وتزوجها ولم يذكر ابن الأثير غيره.   نزل جبريل بما هو آكد من ذلك انتهى. "و" الثانية "ريحانة" وقيل اسمها ربيعة بالتصغير، كما في الإصابة "بنت شمغون" بمعجمتين ابن زيد بن عمرو بن قنافة بالقاف أو خنافة بالخاء المعجمة "من بني" عمرو بن "قريظة" في قول ابن إسحاق، وقيل من بني النضير" وبه جزم ابن سعد قائلا: وكانت متزوجة رجلا من بني قريظة له الحكم، وصدر به في الإصابة، واقتصر عليه في العيون: فقوله: "والأول أظهر" فيه نظر، لكونها كانت متزوجة فيهم، فسبيت معهم وإن كانت نضرية نسبا، وبهذا يجمع بين القولين، لكن قول ابن إسحاق من بني عمرو بن قريظة يأبى ذلك لظهوره في أنها منهم نسبا، وقد قال ابن عبد البر: قول الأكثر أنها قرظية، وقيل نضرية قال ابن إسحاق: سباها صلى الله عليه وسلم فأبت إلا اليهودية، فعزلها، ووجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: "إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة"، فبشره فسره ذلك، وعرض عليها أن يعتقها، ويتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك، فتركها، واصطفاها لنفسه، "وماتت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام مرجعة من حجة الوداع سنة عشر، ودفنت بالبقيع، وكان عليه الصلاة والسلام يطؤها بملك اليمين"، جزم به ابن إسحاق، ورواه ابن سعد عن أيوب بن بشر، "وقيل أعتقها وتزوجها". أخرجه ابن سعد عن الواقدي من عدة طرق، "ولم يذكر ابن الأثير غيره، لقول الواقدي، إنه الأثبت عند أهل العلم، أخرج ابن سعد عن الواقدي بسند له عن عمر بن الحكم، قال: كانت ريحانة عند زوج لها يحبها، وكانت ذات جمال، فلما سبيت بنو قريظة، عرض السبي عليه صلى الله عليه وسلم، فعزلها، ثم أرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قيس حتى قتل الأسرى، وفرق السبي، فدخل عليها، قالت: فاختبأت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه، وخيرني، فاخترت الله ورسوله، فأعتقني وتزوج بي، فلم تزل عنده حتى ماتت، وكان يستكثر منها، ويعطيها ما سألته. وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني صالح بن جعفر عن محمد بن كعب: كانت ريحانة مما أفاء الله على رسوله، وكانت جميلة وسيمة، فلما قتل زوجها، وقعت في السبي، فخيرها صلى الله عليه وسلم، فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوجها، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة فطلقها، فشق عليها ذلك، وأكثرت البكاء فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت قبله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 تنبيه: وأخرى: وهبتها له زينب بنت جحش. الرابعة: أصابها في بعض السبي.   "تنبيه" وقع في العيون أن ريحانة هذه ابنة شمغون، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قال الحافظ السخاوي في كتابه الفخر المتوالي، بمن انتسب للنبي من الخدم والموالي شمعون والد سرية النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الدميري تبعا لغيره. قال الشامي: وهو وهم بلا شك، فإنها من قريظة، أو النضير، وأبو ريحانة المذكور في الخدم أزدي، أو أنصاري، أو قرشي، وجمع بين الأقوال بأن الأنصار من الأزد، ولعله حالف بعض قريش، وأما والد ريحانة السرية، فلم يقل أحد أنه أزدي أو أنصاري أو قرشي، وهو من بني إسرائيل، ولا قال أحد أنه أسلم، ولا أنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم فهو غير الذي ذكروه قطعا انتهى، وهو تعقب جيد، "و" الثالثة أمة "أخرى". قال في النور: لا أعرف اسمها، وفيه تقصير، ففي الإصابة نفيسة جارية زينب بنت جحش، وهبتها للنبي صلى الله عليه وسلم لما رضي عليها بعد الهجرة، سماها أحمد بن يوسف في كتاب أخبار النساء انتهى، "وهبتها له زينب بنت جحش" لما هجرها، لقولها في صفية اليهودية ذا الحجة والمحرم وصفر، ثم رضي عن زينب، ودخل عليها في شهر ربيع الأول الذي قبض فيه، فقالت: ما أدري ما أجزيك به، فوهبتها له. ذكره أبو عبيدة معمر. "الرابعة" قال البرهان أيضا: لا أعرف اسمها "أصابها في بعض السبي"، قال أبو عبيدة: وكانت جميلة، فكادها نساؤه، وخفن أن تغلبهن عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 الفصل الرابع: في أعمامه وعماته واخوته من الرضاعة وجداته مدخل ... الفصل الرابع: في أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة وجداته قال صاحب "ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي": .....................   الفصل الرابع: في أعمامه وعماته وإخوته من الرضاعة صفة كاشفة، لا للاحتراز إذ ليس له إخوة من النسب. قال الواقدي المعروف عندنا وعند أهل العلم أن عبد الله وآمنة لم يلدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجداته: من قبل أبويه، قال صاحب "ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي" هو الحافظ، المحب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 كان له صلى الله عليه وسلم اثنا عشر عما بنو عبد المطلب، أبوه -عبد الله- ثالث عشرهم: الحارث: وأبو طالب واسمه عبد مناف، والزبير ويكنى أبا الحارث، وحمزة والعباس، وأبو لهب واسمه عبد العزى،   الطبري، كثير التصانيف، "كان له صلى الله عليه وسلم اثنا عشر عما بنو عبد المطلب" قيد به دفعا لتوهم المجاز، وهو إطلاق العم على عم الأب، وعم الجد، "أبوه عبد الله ثالث عشرهم" بفتح الثاء المثلثة؛ لأنه مركب مع عشر، ولا يجوز ضمه على الإعراب كما قاله الدماميني، وأطال في بيانه، وأمهاتهم شتى، كما ستراه "الحارث" أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنى، وشهد معه حفر زمزم ومات في حياة أبيه ولم يدرك الإسلام، وأمه صفية بنت جنب، قال في الإصابة: زعم ابن أبي حاتم أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله على بعض أعمال مكة، وولاه الشيخان وعثمان مكة، ثم انتقل إلى البصرة، فوهم فيه وهما شنيعا، فهذه الترجمة لحفيدة الحارث بن نوفل بن الحارث. أما هو فمات في الجاهلية وأولاده أبو سفيان، ونوفل وربيعة، والمغيرة وعبد الله كلهم صحابة، و"أبو طالب" كني باسم أكبر ولده وهم: طالب، فعقيل، فجعفر، فعلي، وكل أكبر ممن يليه بعشر سنين، وأختهم أم هانئ، قيل وحمانة أخت لهم ثانية، وأسلموا كلهم إلا طالبا، فمات كافرا، والصحيح أن أبا طالب وأمه فاطمة بنت عمرو لم يسلم وذكر جمع من الرافضة أنه مات مسلما وتمسكوا بأشعار وأخبار واهية تكفل بردها في الإصابة "واسمه عبد المناف" قال في الإصابة على المشهور، وقال في الفتح عند الجميع، وشذ من قال عمران، بل هو قول باطل نقله ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض، فقال إنهم زعموا أنه المراد بقوله تعالى وآل عمران، وقال الحاكم أكثر المتقدمين على أن اسمه كنيته انتهى. أي فسمى ولده حين ولد بما يوافق اسم أبيه على ذا القول، "والزبير" بفتح الزاي، وكسر الباء عند البلاذري وحده، والباقون على ضم الزاي، وفتح الباء قاله في الزهر الباسم، ونقله الشامي هنا وفي حفر زمزم، فعجب ما في الشرح، "ويكنى أبا الحارث"، وهو أسن من شقيقه عبد الله وأبي طالب، كان شاعرا شريفا رئيس بني هاشم وبني المطلب وأحد حكام قريش، وكان ذا عقل ونظر ولم يدرك الإسلام، وبناته ضباعة وصفية وأم الحكم وأم الزبير لهن صحبة وابنه عبد الله ثبت يوم حنين واستشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة بعدما بلى بها بلاء حسنا، "وحمزة والعباس" السيدان الآتي، ذكرهما، "وأبو لهب" وأمه لنبى بنت هاجر بكسر الجيم، كما جزم به في الروض قبيل المولد بيسير، ولم يذكره الأمير، ولا من تبعه "واسمه عبد العزى" كناه أبوه بذلك لحسن وجهه. قال السهيلي: مقدمة لما يصير إليه من اللهب، وكان بعد نزول السورة فيه لا يشك مؤمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 والغيداق والمقوم وضرار والعباس وقثم، وعبد الكعبة وجحل بتقديم الجيم، وهو السقاء الضخم وقال الدارقطني بتقديم الحاء وهو القيد والخلخال ويسمى المغيرة. وقيل كانوا أحد عشر فأسقط المقوم، وقال هو عبد الكعبة، وقيل عشرة، فأسقط الغيداق وجحلا،   أنه من أهل النار بخلاف غيره من الكفار، فإن الأطماع لم تنقطع من إسلامهم وصحب ولداه عتبة ومعتب، وثبتا في حنين ولأختهما درة صحبة وعتيبة قتله الأسد، كما مر وبعضهم يجعله الصحابي والمكبر عقير الأسد. قال اليعمري: وغيره، والمشهور الأول، "والغيداق" بغين معجمة مفتوحة، فتحتية، فدال مهملة، فألف، فقاف لقب بذلك لجوده، وكان أكثر قريش مالا. قال ابن سعد: اسمه مصعب، وقال الدمياطي نوفل وأمه ممنعة بنت عمرو بن مالك الخزاعية، "والمقوم" بضم الميم، وفتح القاف، وشد الواو مفتوحة ومكسورة، يكنى أبا بكر ولد له، وانقطع عقبه، وهو شقيق حمزة، "وضرار" كان من فتيان قريش جمالا وسخاء، ومات أيام أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسلم ولا عقب له، وهو شقيق العباس، "وقثم" بضم القاف وفتح المثلثة وميم غير منصرف للعدل والعلمية؛ لأنه معدول عن قائم من القثم وهو العطاء مات صغيرا وهو شقيق الحارث. "وعبد الكعبة" قال البلاذري: درج صغيرا ولم يعقب وهو شقيق عبد الله. "وجعل بتقديم الجيم" على الحاء المهملة في رواية بن إسحاق، "وهو" في الأصل "السقاء الضخم". قال صاحب العين: ونوع من اليعاسيب، وقال أبو حنيفة الدينوري: كل شيء ضخم فهو جحل، "وقال الدارقطني بتقديم الحاء" المهملة المفتوحة على الجيم الساكنة. ذكره كله السهيلي قبيل المولد، وبضبط الدارقطني جزم النووي في تهذيبه، والحافظ في التبصير، "وهو" في الأصل "القيد والخلخال" عطف تفسير، ففي المختار الحجل بفتح الحاء وكسرها القيد، وهو الخلخال، فلعل اقتصارهم على الفتح؛ لأنه الذي لقب به، "ويسمى المغيرة" عند بعض. وقال ابن دريد مصعب، كذا قال السهيلي، وعليه الذهبي، وتعقبه في التبصير، فقال: الذي اسمه مغيرة ابن أخيه جهل بن الزبير بن عبد المطلب انتهى، وأمه هالة بنت وهيب وولد له، وانقطع عقبه، "وقيل كانوا أحد عشر، فاسقط المقوم، قال هو عبد الكعبة"، وكذا ذكرهم عبد الغني الحافظ أحد عشر، لكنه أسقط قثم "وقيل" كانوا "عشرة" فقط، "فاسقط الغيداق وجحلا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وقيل تسعة فأسقط قثم.   لأنهما لا وجود لهما عند هذا القائل هذا ظاهره، وفي العيون فاسقط عبد الكعبة، وقال هو المقوم، وجعل الغيداق وجحلا أو تبعه في السبيل، "وقيل" الأعمام "تسعة، فاسقط قثم" كما أسقط الغيداق وجحلا، ولم يذكر ابن إسحاق وابن قتيبة غيره وبعضهم، كما في العيون زاد العوام شقيق حمزة، فيكونون ثلاثة عشر، هذا وجملة أولادهم خمسة وعشرون أسلموا كلهم، وصحبوا إلا طالبا وعتيبة المصغر، والله يهدي من يشاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 [ ذكر بعض مناقب حمزة ] : فأما حمزة، فأمه هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى، كنيتان له بابنيه عمارة ويعلى،   ذكر بعض مناقب حمزة: "فأما حمزة فأمه هالة بنت وهيب" أخي آمنة بنت وهب وهي أم النبي صلى الله عليه وسلم فأم كل منهما بنت عم أم الآخر فوهب ووهيب "ابن عبد مناف بن زهرة" بن كلاب، فهو قريبه من أمه أيضا أو أخوه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، كما ثبت في الصحيح، "ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى كنيتان له بابنيه عمارة" وأمه خولة بنت قيس من بنى مالك بن النجار، "ويعلى" وأمه أوسية من الأنصار، وله أيضا من الذكور عامر وروح، وأمه يعلى ذكره ابن سعد وعمرو بن حمزة، ذكره ابن الكلبي، وقال إنه مات صغيرا. قال الزبير بن بكار: لم يعقب حمزة إلا من يعلى، فولد خمسة رجال من صلبه، لكنهم ماتوا، ولم يعقبوا فانقطع نسل حمزة وسمي ابن سعد أولا يعلى، وهم: عمارة، والفضل، والزبير، وعقيل، ومحمد، وله من الإناث أمامة، وقيل في اسمها عمارة، لكن الخطيب قال: انفرد الواقدي بهذا القول، وإنما عمارة ابنه لابنته. وفي العيون، وله أيضا ابنة تسمى أم الفضل وابنة تسمى فاطمة ومن الناس من يعدهما واحدة. وفي الإصابة فاطمة بنت حمزة أمها سلمى بنت عميس، قال ابن السكن: تكنى أم الفضل. وقال الدارقطني: يقال لها أم أبيها، ثم ترجم في الكنى أم الفضل بنت حمزة. روى عنها عبد الله بن شداد، فعجيب قول الشامي، كان له ذكر أن عمارة ويعلى وأنثى وهي أمامة، وولد حمزة قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل أربع، كما في الإصابة، وبالثاني جزم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 في معجم البغوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده إنه لمكتوب عند الله عز وجل في السماء السابعة، حمزة أسد الله وأسد رسوله". وكان إسلامه في السنة الثانية من المبعث، وقيل في السادسة بعد دخوله عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، وقيل قبل إسلام عمر بثلاثة أيام. وشهدا بدرا، وقتل بها عتبة بن ربيعة مبارزة، قاله موسى بن عقبة، وقيل: بل قتل شيبة بن ربيعة، قاله ابن إسحاق. وأول راية عقدها عليه الصلاة والسلام لأحد من المسلمين كانت لحمزة، وأول سرية بعثها، وقال عليه الصلاة   الحاكم، ولا يرد بأن ثوبية أرضعتهما؛ لأنه في زمانين، كما ذكره البلاذري. "وفي معجم البغوي" الإمام أبي القاسم الكبير، الحافظ المتقدم على محيي السنة، أي كتابه المؤلف في الصحابة، وكذا في معجم الطبراني "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده أنه لمكتوب". أكده بالقسم وإن واللام إيذانا بتحقيق كونه مكتوبا "عند الله عز وجل في السماء السابعة حمزة أسد الله وأسد رسوله" أي شجاعا بالغا في الشجاعة، الغاية القصوى، ينتصر لله ولرسوله، وأضيف لله؛ لأن العادة إضافة الخارق للعادة له سبحانه على نحو لله دره. وروى الحاكم وابن هشام: أتاني جبريل، فأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السماوات السبع أسد الله وأسد رسوله، "وكان إسلامه في السنة الثانية من المبعث" كما صدر به في الاستيعاب وبه جزم في الإصابة، "وقيل في السادسة بعد دخوله عليه الصلاة والسلام دار الأرقم". قاله العتقي وابن الجوزي، "وقيل قبل إسلام عمر بثلاثة أيام" قاله أبو نعيم وغيره، وإسلام عمر في السادسة أو الخامسة، فإن قالوا به غاير ما قبله، وإلا وافقه وتقدم قصة إسلام حمزة في المقصد الأول، وكان أعزفتي في قريش، وأشد شكيمة، فكفت قريش عنه صلى الله عليه وسلم بعض ما كانوا ينالون منه خوفا من حمزة وعلما منهما أنه يمنعه ولازم نصر المصطفى، وهاجر معه، "وشهد بدرا، وقتل بها عتبة بن بيعة مبارزة، قاله موسى بن عقبة، وقيل: بل قتل" أخاه "شيبة بن ربيعة، قاله ابن إسحاق"، وتقدمت القصة في الغزوة، وقتل أيضا طعيمة بن عدي، "وأول راية عقدها عليه الصلاة والسلام لأحد من المسلمين كانت لحمزة وأول سرية بعثها" كانت له، كما جزم ابن عقبة وأبو معشر والواقدي، وابن سعد في آخرين، وصححه ابن عبد البر، وقال عليه الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 والسلام: "خير أعمامي حمزة"، رواه الحافظ الدمشقي. وروى ابن السري مرفوعا: "سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب". وذكر السلفي عن بريدة في قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] قال: حمزة بن عبد المطلب، وعن ابن عباس {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}   والسلام: "خير أعمامي حمزة" لا سلامه مع السابقين الأولين، ومبالغته في نصر الدين. وعند الطبراني من مرسل عمر بن إسحاق، أن حمزة كان يقاتل بين يديه صلى الله عليه وسلم بسيفين، ويقول: أنا أسد الله وأسد رسوله، ويقال إنه قتل بأحد قبل أن يقتل أكثر من ثلاثين نفسا، وهذا إن صح لا يعارضه أن قتلى أحد من الكفار ثلاثة وعشرون رجلا؛ لأنه لا يلزم من معرفة أسماء المقتولين على التعيين أن يكونوا جميع القتلى. "رواه الحافظ" أبو القاسم بن عساكر "الدمشقي" وكذا أبو نعيم من حديث عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة عن أبيه، ورواه الديلمي عنه بلفظ خير إخوتي علي، وخير أعمامي حمزة "وروى ابن السري" بفتح المهملة، وكسر الراء "مرفوعا سيد" وفي رواية خير "الشهداء" زاد الديلمي عن جابر عند الله "يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب" وأبعد المصنف النجعة في العز ولغير المشاهير، فقد رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس، والخلعي عن ابن مسعود، والحاكم، والخطيب، والضياء المقدسي والديلمي عن جابر، وزادوا ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله. ورواه الطبراني في الكبير عن علي بدون الزيادة والقول بأن سيد الشهداء: هابيل أو حبيب النار إن صحا لا يعارض هذا؛ لأن المراد من غير هذه الأمة، ومعلوم فضلها فحمزة سيد الشهداء مطلقا. "وذكر" أي روى الحافظ العلامة أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني "السلفي" بكسر السين المهملة، وفتح اللام فاء، كما ضبطه في التبصير، وغيره نسبة إلى جده أحمد، الملقب سلفة، ومعناه الغليظ الشفة، قاله الذهبي وغيره: كان أوحد زمانه في الحديث، وأعلمهم بقوانين الرواية ناقدا، حافظا، متقنا، ثبتا، دينا، خيرا، مات يوم الجمعة خامس ربيع الآخر، سنة ست وسبعين وخمسمائة "عن بريدة في" تفسير "قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} قال حمزة بن عبد المطلب، وأخرجه ابن أبي حاتم عن بريدة بلفظ، قال: نزلت في حمزة، وأخرج عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان لما جعل بئر رومة سقاية للناس، ولا منافاة، فقد يكونان معا سبب نزولها، "وعن ابن عباس في" قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 [الأحزاب: 23] قال: حمزة. واستشهد في وقعة أحد، قتله وحشي. وعن سعيد بن المسيب كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو، حتى إنه مات غريقا في الخمر. رواه الدارقطني على شرط الشيخين. وقال ابن هشام: بلغني أن وحشيا لم يزل يجد في الخمر حى خلع من الديوان، فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق   قتل في سبيل الله "قال حمزة" أي منهم، ومنهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك، كما في مسلم "واستشهد في وقعة أحد قتله وحشي" كما في البخاري في حديثه، ومرت القصة في الغزوة، "وعن سعيد بن المسيبب" أنه "كان يقول: كنت أعجب لقاتل حمزة كيف ينجو" من شيء يعاقب عليه، مع أنه، ولو سلم، وهو يحب ما قبله قد قال له صلى الله عليه وسلم لما أسلم: "غيب وجهك عني"، وذلك مؤذن بأنه لا يصان عما يعاقب عليه "حتى إنه مات غريقا في الخمر، رواه الدارقطني"، بسند "على شرط الشيخين" فلا شك في صحته عن سعيد. "وقال" عبد الملك "بن هشام" في السيرة في غزوة أحد "بلغني أن وحشيا لم يزل يجد في الخمر" مرة بعد مرة "حتى خلع من الديوان" ديوان الجند المعدين للقتال، مع أن له قوة ومعرفة بالحرب؛ لأنه لما كثر شربه المنافي للمتقين، عوقب بخلعه من الديوان "فكان عمر يقول: لقد علمت أن الله لم يكن ليدع قاتل حمزة" بلا عقوبة، فابتلاه بشرب الخمر وإقامة حدوده عليه، فإن قبل الإسلام يجب ما قبله، كما في الحديث، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، فكيف يعاقب بما فعله قبله، ويتعجب سعيد من نجاته، ويقول عمر ذلك. أجاب شيخنا بأن الإسلام يكفر الذنوب السابقة عليه، ثم يحسن لصاحبه، فيحفظ به عن الذنوب بعده، وقد يكون فيه شيء ولو بسبب ما سبق في الكفر، فيقع معه في ذنوب تقتضي ترتب عقوبة عليها في الدارين، وهذا لما كان جرمه، ولم ير بعد إسلامه ما يستدعى أنه حصل له ما يوجب عقوبة، فيوهم أنه عفى ما حصل له قبل الإسلام، وحفظ فيما بعده، فتعجب من ذلك انتهى. "ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قتيلا بكى، فلما رأى ما مثل به شهق" بفتح المعجمة، وكسر الهاء وفتحها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 وعن أبي هريرة وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة وقد قتل ومثل به فلم ير منظرا كان أوجع لقلبه منه. رواه أبو عمر، والمخلص، وصاحب الصفوة. وعند ابن هشام أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لن أصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا". وعند ابن شاذان من حديث ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشغ من البكاء يقول: "يا حمزة يا عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابا عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم". والنشغ: الشهيق حتى يبلغ به الغشي.   قال القاموس، كمنع وضرب وسمع، تردد البكاء في صدره، "وعن أبي هريرة: وقف عليه الصلاة والسلام على حمزة، وقد قتل، ومثل به" بضم الميم، وكسر المثلثة مخففة، وتشدد لإرادة التكثير، أي جدع أنفه وأذناه وبقر عن كبده، كما مر، "فلم ير منظرا كان أوجع لقلبه منه". "رواه أبو عمر" بن عبد البر "والمخلص" بضم الميم وفتح المعجمة، وكسر اللام الثقيلة. ومهملة محمد بن عبد الرحمن بن العباس أبو طاهر الذهبي البغدادي، الثقة، المكثر الصالح، "وصاحب الصفوة" ابن الجوزي، "وعند ابن هشام" بلا سند "أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لن أصاب بمثلك أبدا ما وقفت موقفا قط أغيظ لي من هذا" وأثنى عليه وترحم، كما مر في أحد. "وعند ابن شاذان من حديث ابن مسعود، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا قط أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازة، وانتحب حتى نشغ" بفتح النون، والشين، والغين المعجمتين "من البكاء" يقول: "يا حمزة يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابا عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم". زاد في رواية: "رحمة عليك لقد كنت ما علمتك فعولا للخير وصولا للرحم"، والنشغ الشهيق حتى يبلغ به الغشي، وفي النهاية ومقدمة الفتح أنه الشهيق، وعلو النفس الصعداء حتى يكاد يبلغ به الغشي وهي أولى لأن الواقع أن صلى الله عليه وسلم ما بلغ ذلك، بل قارب، إلا أن يكون تفسير مراد، وتفسير المصنف لأصل المادة، قيل: وهذا كان قبل تحريم الصياح، بدليل أن نساء الأنصار أخذن ينحن عليه من الليلة، فنهاهن صلى الله عليه وسلم عن ذلك أخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عباس، قال: أصيب حمزة وحنظلة بن الراهب، وهما جنب، فقال صلى الله عليه وسلم: "رأيت الملائكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا وكبر على حمزة سبعين تكبيرة، رواه البغوي في معجمة. وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم. خرجه أحمد وأبو داود. فيحمل أمر حمزة على التخصيص، ومن صلى عليه غيره على أنه جرح حال الحرب ولم يمت حتى انقضت الحرب. وكان سن حمزة يوم قتل تسعا وخمسين سنة، ودفن هو وابن أخته عبد الله بن جحش في قبر واحد.   تغسلهما، وروى ابن عبد البر عن ابن عباس رفعه: "دخلت البارحة الجنة، فإذا حمزة مع أصحابه"، "وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة كبر عليها أربعا، وكبر على حمزة سبعين تكبيرة". "رواه" الحافظ أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، "البغوي" الكبير "في معجمه" في الصحابة، "وقد روى أنس بن مالك أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم" وهذا خلاف فيه، "ولم يصل عليهم، خرجه أحمد وأبو داود" وكذا رواه البخاري عن جابر بنحوه، فهذا معارض لما روى في حمزة، ولحديث أنه صلى عليهم صلاته على الميت، "فيحمل أمر حمزة على التخصيص" أي أنه خصه بذلك فيخص من قول أنس وجابر أنه لم يصل على قتلى أحد "و" يحمل أمر "من صلى عليه غيره على أنه جرح حال الحرب، ولم يمت حتى انقضت الحرب" فلا منافاة، وحمل أيضا على أنه دعا لهم، كدعائه للميت جمعا بين الأدلة، "وكان سن حمزة يوم قتل تسعا وخمسين سنة" بناء على القول، بأنه ولد قبل المصطفى بأربع سنين، بإلغاء عام الولادة أو الموت، وإلا كانت ستين؛ لأنه هاجر وهو ابن سبع وخمسين، ومات في شوال سنة ثلاث، وعلى أنه ولد قبله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكان سنة ثمانيا وخمسين، وقول صاحب الإصابة، فعاش دون الستين، وعلى أنه ولد قبله صلى الله عليه وسلم بسنتين، فكان سنة ثمانيا وخمسين، وقول صاحب الإصابة، فعاش دون الستين، أي على هذا القول الذي صدر وهو به، "ودفن هو وابن أخته" أميمة "عبد الله" بالتكبير "ابن جحش في قبر واحد" كما في البخاري عن جابر، وقال كعب بن مالك يرثيه: بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل على أسد الإله غداة قالوا ... لحمزة ذا كم الرجل القتيل أصيب المسلمون به جميعا ... هناك وقد أصيب به الرسول أبا يعلى لك الأركان هدت ... وأنت الماجد البر الوصول عليك سلام ربك في جنان ... يخالطها نعيم لا يزول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 ................................   ألا يا هاشم الأخيار صبرا ... فكل فعالكم حسن جميل رسول الله مصطبر كريم ... بأمر الله ينطق إذ يقول في أبيات، وقال أيضا في قصيدة: ولقد هددت لفقد حمزة هدة ... ظلت بنات الجوف منها ترعد ولو أنه فجعت حراء بمثله ... لرأيت رأسي صخرها يتبدد قوم تمكن في ذؤابة هاشم ... حيث النبوة والندى السودد والعاقر الكوم الجلاد إذا غدت ... ريح يكاد الماء منها يجمد والتارك القرن الكمي مجدلا ... يوم الكريهة والقنا يتقصد وتراه يرفل في الحديد كأنه ... ذو لبدة شثن البراثن أربد عم النبي محمد وصفيه ... ورد الحمام فطاب ذالك المورد وأتى المنية معلما في أسرة ... نصروا النبي ومنهم المستشهد ورثاه حسان أيضا بأبيات حسان والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 [ ذكر بعض مناقب العباس ] : وأما العباس وكنيته أبو الفضل، فأمه نتله، ويقال نتيله بنت جناب بن كلب بن النمر بن قاسط، ويقال: إنها أول عربية كست البيت الحرام الديباج وأصناف الكسوة؛ لأن العباس ضل وهو صبي، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت. وكان العباس جميلا وسيما   ذكر بعض مناقب العباس: "وأما العباس، وكنيته أبو الفضل" باسم أكبر أولاده، "فأمه نتلة" بفتح النون وسكون الفوقية، "ويقال نتيلة" بضم النون والفتح المثناة، وسكون التحتية، وهو الذي قاله ابن دريد، وجزم به في الروض والإصابة والتبصير. قال السهيلي: تصغير نتلة واحدة النتل، وهي بيض النعام، وصفحها بعضهم بثاء، مثلثة "بنت جناب" بفتح الجيم، وخفة النون، فألف فموحدة، كما في الأكمال "ابن كلب"، كذا في النسخ، ومثله في العيون والإصابة والتبصير، وقال البرهان صوابه كليب بالتصغير، كما في الاستيعاب والإكمال، ولبعضهم خبيب بالخاء المعجمة والموحدة "ابن النمر" بالنون "ابن قاسط، ويقال إنها أول عربية كست البيت الحرام الديباج وأصناف الكسوة؛ لأن العباس ضل، وهو صبي، فنذرت إن وجدته أن تكسو البيت" فوجدته، فكست الكعبة، "وكان العباس جميلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 أبيض، له ضفيرتان معتدلا، وقيل كان طوالا، وولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أو ثلاث، وكان رأسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام. وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة يعقد له البيعة على الأنصاري،   وسيما" حسن الوجه، فهو صفة لازمة "أبيض له ضفيرتان" بالمعجمة عقيصتان "معتدلا" في القامة لا بالطول، ولا بالقصير "وقيل كان طوالا" بضم الطاء، أي طويلا. روى ابن أبي عاصم، وأبو عمر عن جابر أن الأنصار لما أرادوا أن يكسوا العباس حين أسر يوم بدر، لم يصلح إلا قميص عبد الله بن أبي، فكساه إياه، فلما مات عبد الله ألبسه صلى الله عليه وسلم ثوبه، وتفل عليه من ريقه. قال سفيان: فظني أنه مكافأة للعباس، أي لإلباسه العباس، فكأنه توفية حق دنيوي، ثبت له، فلا يرد أنه كيف يفعل ذلك معه مع علمه بكفره ونفاقه، ولعله أراد تخفيف عذاب غير الكفر جزاء لذلك ما دام عليه القميص، وتقدم مزيد لذلك في هلاكه، "وولد" العباس "قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين" وبه جزم في الإصابة، "أو ثلاث" هذا الموافق لولادته قبل الفيل بثلاثة، ومن لطائف الأدب ما رواه ابن أبي عاصم، عن أبي رزين والبغوي في معجمه عن ابن عمر، أنه قيل للعباس: أنت أكبر، أو النبي صلى الله عليه وسلم، قال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله، "وكان رأس في قريش" مقدما فيهم؛ لأنه كان ذا رأي حسن جوادا مطعما، وصولا للرحم، "و" كان موكلا "إليه عمارة المسجد الحرام" فكان لا يدع أحدا يسب فيه، ولا يقول فيه هجرا، وكانت قريش قد اجتمعت وتعاقدت على ذلك فكانوا له هونا، وأسلموا ذلك إليه، كما في الشامية ووقع في الإصابة، وكان إليه في الجاهلية السفارة والعمارة، فإن لم يكن مصحفا من السقاية، فلينظر ما هو، "وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة" الثالثة قبل إسلامة، "يعقد له البيعة على الأنصاري" السبعين الذي اجتمعوا رضي الله عنهم، فأخذ المصطفى العباس معه، "وكان عليه الصلاة والسلام يثق به في أمره كله" فكان أول من تكلم العباس، وهو أخذ بيده صلى الله عليه وسلم، فقال: إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعاه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو وفي عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له، ومانعوه وممن خالفه، فأنتم وما تحملتم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد الخروج، فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده، فقالوا: قد سمعنا ما قلت، أما والله لو كان في أنفسنا غير ما تنطق به لقلنا فتكلم يا رسول الله فجذ لنفسك ولربك ما أحببت الحديث، رواه ابن إسحاق وغيره، ولذا دعا له صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم إن عمي العباس حاطني بمكة من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 وكان عليه السلام يثق به في أمره كله. ولما شدوا وثاقه في أسري بدر سهر عليه الصلاة والسلام تلك الليلة، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله؟ قال: "لأنين العباس"، فقام رجل فأرخى من وثاقه، وفعل ذلك بالأسري كلهم، رواه أبو عمر، وصاحب الصفوة. وقيل: كان يكتم إسلامه وخرجمع المشركين يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها"، فأسره كعب بن عمرو، ففادى نفسه ورجع إلى مكة. وقيل: إنه أسلم يوم بدر   أهل الشرك، وأخذ لي على الأنصار، وأجارني في الإسلام مؤمنا بالله مصدقا بي، اللهم احفظه وحطه واحفظه ذريته من كل مكروه" رواه ابن عساكر من مرسل محمد بن إبراهيم التيمي، وكان المراد بإجارته في الإسلام ثباته يوم حنين ومسكه البغلة، فهذا الدعاء وقع يومئذ أو بعده "ولما شدوا وثاقه في أسرى بدر" شده عمر رجاء إسلامه، "سهر عليه الصلاة والسلام تلك الليلة، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله، قال: "سهرت لانين العباس" فهو بكسر اللام والجر، ولكن المذكور في رواية من عزا له المصنف، قال: "أنين العباس" فالواجب حذف اللام لأنه فاعل لفعل مقدر، أي أسهرني "فقام رجل، فأرخى من وثاقه" وفي رواية ابن عائذ لما ولي عمر وثاق الأسرى شد وثاق العباس، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يئن فلم يأخذه النوم فبلغ الأنصار، فأطلقوه، فيحتمل أن الرجل لما أرخى بعض وثاقه لم يرك الأنين، فأطلقه الأنصار بالمرة طلبا لرضاه صلى الله عليه وسلم، و" فعل ذلك بالأسرى كلهم" رعاية للعدل ومحافظة على الإحسان المأمور به في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] وذلك بأمر المصطفى ففي نفس رواية من عزا له المصنف، فأرخى من وثاقه شيئا، قال صلى الله عليه وسلم: "فافعل ذلك بالأسرى كلهم"، "رواه أبو عمر" ابن عبد البر، "وصاحب الصفوة" أبو الفرج بن الجوزي من مرسل وسويد بن الأصم، ففي هذه القصة أنه حضر بدرا على دين قومه لأسره، وأخذ الفداء منه، "وقيل" بل أسلم قبل بدر، ولكنه "كان يكتم إسلامه" لأنه كان يهاب قومه، ويكره خلافهم، وكان ذا مال قاله مولاه أبو رافع، كما رواه ابن إسحاق، ولم يذكر مبدأه، "وخرج مع المشركين يوم بدر، فقال صلى الله عليه وسلم: "من لقي العباس فلا يقتله، فإنه خرج مستكرها"، بسين التأكيد أو زائدة، "فاسره كعب بن عمرو" بفتح العين أبو اليسر بفتحتين الأنصاري، "ففادى نفسه" وابني أخويه عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بأمره صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن إسحاق بسند حسن "ورجع إلى مكة" فأقام بها على سقايته والمصطفى عنه راض، "وقيل إنه أسلم يوم بدر" لما قال للمصطفى حين أمره بالفداء تتركني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء وكان معه في فتح مكة وبه ختمت الهجرة. وقال أبو عمر: أسلم قبل فتح خيبر، وكان يكتم إسلامه ويسره ما يفتح الله على المسلمين وأظهر إسلامه يوم فتح مكة، وشهد حنينا والطائف وتبوك. ويقال: إن إسلامه كان قبل بدر، وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون بمكة يثقون به، وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكتب إليه صلى الله عليه وسلم "إن مقامك بمكة خير لك". وقال أبو مصعب إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت حدثنا أبو حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: استأذن العباس   فقير قريش ما بقيت، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل"؟ فقال وما يدريك؟ قال: "أخبرني ربي"، فأسلم وظاهره أنه لم يخف إسلامه، فلعله إن صح أظهره للمصطفى وأخفاه عن قومه، "ثم أقبل إلى المدينة مهاجرا فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بالأبواء" بفتح الهمزة وسكون الموحدة، "وكان معه في فتح مكة وبه ختمت الهجرة" كما قال صلى الله عليه وسلم. "وقال أبو عمر" بن عبد البر "أسلم قبل فتح خيبر وبعد بدر حتى يغاير ما قبله، وإلا فالقبيلة صادقة، فأي فائدة ذكره. وفي الإصابة، يقال: أسلم بعد بدر، "وكان يكتم إسلامه" من قومه "ويسره ما يفتح على المسلمين" من ظفرهم بأعدائهم وغير ذلك مما يغيظ الكفار، "وأظهر إسلامه يوم فتح مكة وشهد حنينا والطائف وتبوك ويقال إن إسلامه كان قبل بدر" أعاده وإن علم مما أسلفه؛ لأنه من كلام أبي عمرو مراده نقله كله، "وكان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون بمكة يثقون به" بفتح الفوقية المشددة من الوقاية ويؤيده قول تهذيب النووي، وكان عونا للمسلمين المستضعفين ونقله الشامي عن أبي عمر نفسه بلفظ يتقون بواوين، أو بمثلثة مكسورة من الوثوق، أي فيلجئون له في مهماته، "وكان يحب القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم" فاستأذنه فيه، "فكتب إليه صلى الله عليه وسلم "إن مقامك بمكة خير لك" صونا لمالك وأهلك، فالعطف على مقدر كما علم إذ لا يصح تفرعه على محبة القدوم ويدل على التقدير ما في قوله. "وقال أبو مصعب إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت"، الأنصاري "حدثنا أبو حازم" بمهملة، وزاي "سلمة بن دينار" المدني الثقة العابد. روى له الجميع "عن سهل بن سعد" الساعدي "رضي الله عنه قال استأذن العباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه: "يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة". رواه أبو يعلى والهيثم بن كليب في مسنديهما والطبراني في الكبير. وأبو مصعب متروك لكن يعتضد بقول عروة بن الزبير: كان العباس قد أسلم وأقام على سقايته ولم يهاجر، رواه الحاكم في مستدركه. وذكر السهمي في الفضائل أن أبا رافع لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه. وكان عليه الصلاة والسلام يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه، ووصفه عليه الصلاة والسلام فقال: "أجود الناس كفا، وأحناه   رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فكتب إليه يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة، كما ختم بي النبوة" فكان كذلك؛ لأنه آخر من هاجر. "رواه أبو يعلى" أحمد بن علي الحافظ المشهور، "والهيثم بن كليب" بن شرح بن معقل العقيلي أبو سعيد الشاشي الحافظ الثقة محدث ما وراء النهر، ومصنف المسند الكبير سمع الترمذي، وعباسا الدوري ومنه ابن منده. مات سنة خمس وثلاثين وثلائمائة "في مسنديهما والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، أحد الأعلام "في" معجمه "الكبير، وأبو مصعب متروك". فالحديث ضعيف، "لكن يعتضد بقول عروة بن الزبير"، بن العوام، أحد الثقات الأثبات، "كان العباس قد أسلم وأقام على سقايته ولم يهاجر". "رواه الحاكم في مستدركه" فهو عاضد في الجملة "وذكر" أي روى الإمام الثبت الحافظ حمزة بن يوسف بن إبراهيم بن موسى أبو القاسم السهمي "من ذرية هشام بن العاصي القرشي الجرجاني جال البلاد وسمع ابن عدي والإسماعيلي وخلائق وصنف وجرح، وعدل وصحح وعلل ومات سنة سبع وعشرين وأربعمائة في "الفضائل" عن شرحبيل بن سعد مرسلا، "أن أبا رافع" اسمه أسلم على المشهور، كان مولى العباس، فوهبه للمصطفى "لما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه" جزاء لسروره بالبشرى، "كان عليه الصلاة والسلام يكرم العباس بعد إسلامه ويعظمه غاية التعظيم حتى قالت عائشة لعروة: يابن أختي لقد رأيت من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس أمرا عجبا. وقال أبو سفيان بن الحارث: كان العباس أعظم الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رواهما أبو القاسم البغوي، ووصفه عليه الصلاة والسلام فقال: "أجود الناس كفا وأحناه" بفتح الهمزة وسكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 عليهم". رواه الفضائلي، وفي معجم البغوي: "العباس عمي وصنو أبي، من آذاه فقد آذاني"، وفي الترمذي نحوه، وقال: حسن صحيح. وذكر السهمي في الفضائل: أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قام إليه، وقبل ما بين عينيه ثم أقعده عن يمينه ثم قال: "هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمه"، فقال العباس: نعم القول يا رسول الله،   المهملة وبالنون أي أشد الناس عطفا "عليهم" وأفرد ضميرا أحناه لأن أل في الناس للجنس فتبطل معنى الجمعية، وهو مطرد في أفعل التفضيل، وفي كثير من النسخ أحناهم بالجمع، وهو ظاهر، وكلاهما جائز مراعاة للفظه ومعناه. "رواه الفضائلي" وأخرجه النسائي عن سعد: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل العباس، فقال: "هذا العباس أجود قريش كفا وأوصلها". "وفي" كتاب "معجم" الصحابة للحافظ أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز "البغوي" ثم البغدادي من مرسل عطاء الخراساني قال: قال صلى الله عليه وسلم "العباس عمي وصنو أبي" بكسر الصاد المهملة، أي مثله وقريبه، كما قال في التهذيب ومقدمة الفتح، أي في الشفقة عليه وهو أحد معانيه في القاموس ومنها الشقيق لكنه حمله عليه خطا فاضح فإنهما ليسا شقيقين "من آذاه فقد أذاني" وعند أبي نعيم وغيره في حديث "ومن آذاني فقد آذى الله، فعليه لعنة الله ملء السماء وملء الأرض". "وفي الترمذي نحوه" من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى العباس فقد آذاني إنما عم الرجل صنو أبيه". "وقال حسن صحيح" وأخرجه أيضا وحسنه عن علي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه" وهو أيضا وابن أبي الدنيا والخراطي والخطيب من حديث المطلب بن ربيعة بن الحارث وابن عساكر وغيره من عمر والترمذي، وحسنه عن أبي هريرة وابن عساكر عن ابن مسعود، ومن ثم قال ابن منده إسناده متصل مشهور، وهو ثابت على رسم الجماعة "وذكر" أي روى "السهمي في الفضائل" وكذا روى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس عن أمه أم الفضل: "أن العباس أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قام إليه، وقبل ما بين عينيه، ثم أقعده عن يمينه، ثم قال: "هذا عمي" إرادة لتشريفه بالقول، كما شرفه بالفعل، وإلا فمعلوم إنه عمه، أي هذا عمي الذي أباهي به من حيث فرحي بإسلامه وهداه، "فمن شاء فليباه" يفاخر "بعمه" والفخر المذموم محله إذا كان على وجه الاحتقار للغير، "فقال العباس: نعم القول" قولك يا رسول الله" وهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 قال: "ولم لا أقول هذا، أنت عمي وصنو أبي وبقية آبائي وارثي وخير من أخلف من أهلي". وقال له عليه الصلاة والسلام: "يا عم لا ترم منزل أنت وبنوك غدا حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة"، فلما أتاهم اشتمل عليهم بملاءة ثم قال: "يا رب، هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه" قال: فأمنت أسكفه الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين. رواه ابن غيلان،   بمجرد لا يترتب عليه قوله، "قال: ولم لا أقول هذا؟ " فلعله قدر سائلا العباس، أو غيره عن سبب المدح بما ذكر، فأجابه: "أنت عمي وصنو أبي" شريكه في خروجكما من أصل واحد، وهو الجد، وأصله النخلتان تخرجان عن أصل واحد، ومنه صنوان "وبقية آبائي" والعم والد، هكذا زاده في رواية الطبراني، وقال شيخنا: أي بقية الشفوقين علي من أعمامي كشفقة الأب وفيه إشارة إلى أن منهم من كان له زيادة شفقة بحيث استحق جعله أبا، "ووارثي" في القيام بتعلقاتي بعد موتي، كولاية غسلي، وفي تعظيم الناس لك واستسقائهم بك، كما كانوا يستسقون بي نحو ذلك، وإلا فالأنبياء لا يورثون، وقد كان العباس رضي الله عنه حمله على ظاهره حتى كشف له الصديق القناع، وروى له الحديث، كما في الصحيح مختصرا أو مطولا "وخير من أخف من أهلي" بتقدير من خير، أو في شيء خاص، كقيامه بتعلقات أهله، أو كون الخلفاء من ولده، أو باعتبار السن، وقرب المنزلة، فلا يرد أن عليا أفضل منه بإجماع أو المراد غير علي "وقال له عليه الصلاة والسلام: "يا عم لا ترم" لا تفارق "منزلك أنت وبنوك غدا حتى أتيكم، فإن لي فيكم حاجة" منفعة أوصلها لكم، وجعلها له لشدة رأفته بهم أو أوحى إليه بذلك فهي له "فلما أتاهم" زاد في رواية البيهقي بعدما أضحى فدخل عليهم فقال: "السلام عليكم"، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: "كيف أصبحتم"؟ قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله تعالى، فقال لهم: "تقاربوا" فتقاربوا يزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوه "اشتمل عليهم" سترهم "بملاءة" بميم مضمومة ولام وهمز ومد الإزار والملحفة وقيل الملاءة الإزار له شقتان، فإن كان واحدة فريطة براء وطاء مهملتين، "ثم قال: "يا رب هذا عمى وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي" أي منهم ولبسطه موضع آخر يأتي إن شاء الله، "فاسترهم من النار كستري إياهم بملائتي هذه" قال: فأمنت أسكفة الباب"، بضم الهمزة عتبته العليا وقد تطلق على السفلى "وحوائط البيت، فقالت: آمين آمين آمين" ثلاث مرات وفي نسخ مرتين فيحتمل إن واحدة من الأسكفة والأخرى من الحوائط ويحتمل أن المراد الجميع. "رواه ابن غيلان" بالغين المعجمة أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 وأبو القاسم حمزة، والسهمي، رواه ابن السري وفيه: فما بقي في البيت مدرة ولا باب إلا أمن. ورواه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ فألبسناه كساء ثم قال: "اللهم اغفر للعباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنبا، اللهم احفظه في ولده". وقال حسن غريب. وعند ابن عبد الباقي من حديث أبي هريرة: "اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمن أحبهم".   بمعجمتين "والسهمي" والبيهقي من حديث أبي أسيد الساعدي. "ورواه ابن السري، و" راد "فيه فما بقي في البيت مدرة ولا باب إلا أمن" أي قال آمين معجزة له صلى الله عليه وسلم. "ورواه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: "إذا كان غداة الاثنين فائتني أنت وولدك" حتى أدعو لكم بدعوة ينفعك الله بها وولدك، فغدا وغدونا معه "فألبسنا كساء" وفي حديث واثلة وأم سلمة عند أحمد أن أصحاب الكساء علي وفاطمة وابناهما وجمع بالتعدد وبسط القول فيه يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد السابع، "ثم قال: "اللهم اغفر للعباس وولده" ذكورهم وإناثهم وقوله السابق أنت وبنوك تغليب، ويحتمل أنه أراد بالولد ما يشمل ولد الوالد للرواية الآتية وأبناء أبناء العباس، والجزم به لا يليق فهذه الدعوة حين سترهم ظاهرة في تخصيص الصلبية والآتية مع ضعفها لم يذكر فيها قصة الستر، فهي ظاهرة في كونها دعوة مستقلة فغاية دخولها فيما هنا إنما هو بالاحتمال "مغفرة ظاهرة" بضبط جوارحهم عن المعاصي، وتجليلها بما يجملهم من انور المشاهد "وباطنة" بأن تصون أسرارهم عن نحو الكبر والحسد والغل، "ولا تغادر" بمعجمة ومهملة تترك "ذنبا اللهم احفظه في ولده". "وقال حسن غريب" وظاهر سياقه أنها قصة غير قصة ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى منزل العباس، ولا مانع من التعدد، وعند الحاكم وابن عساكر، وغيرهما، عن سهل بن سعد، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان القيظ، فنزل منزلا فقام يغتسل فقام العباس فستره بكساء من صوف، قال سهل: فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب الكساء، وهو رافع رأسه إلى السماء يقول: "اللهم استر العباس وولده من النار"، وهذه دعوة أخرى غير يوم الكساء، كما هو ظاهر. "وعند" أبي بكر محمد بن أحمد "ابن عبد الباقي" بن منصور البغدادي الإمام، القدوة الحافظ، الورع، الثبت، الزاهد، الثقة، العلامة في الأدب المتوفى سنة تسع وثمانين وأربعمائة "من حديث أبي هريرة" مرفوعا، "اللهم اغفر للعباس، ولولد العباس، ولمن أحبهم" فيه بشرى عظيمة للمحبين ولله الحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 وفي تاريخ دمشق من حديث ابن عباس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في فتح مكة "اللهم انصر العباس وولد العباس" قالها ثلاثا ثم قال: يا عم أما علمت أن المهدي من ولدك. وروى الحاكم في مستدركه والبغوي في معجمه عن سعيد بن المسيب أنه قال: العباس خير هذه الأمة، ووارث النبي صلى الله عليه وسلم وعمه. قال الذهبي وسنده صحيح. قال: ويتكلف لتأويله إن كان قوله خير -بالمعجمة والتحتية-.   "وفي تاريخ دمشق" لابن عساكر برجال ثقات "من حديث ابن عباس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له في فتح مكة: "اللهم انصر العباس وولد العباس"، قالها ثلاثا، ثم قال" إيماء إلى وجه الدعاء لهم بالنصر: "يا عم أما علمت أن المهدي من ولدك" موقوفا، رضيا، مرضيا. هذا بقية حديث ابن عباس، والمراد بالمهدي محمد بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وقد وجد، وهو ثالث الخلفاء العباسيين وليس المراد به الموعود به آخر الزمان لقوله صلى الله عليه وسلم، "المهدي من ولد فاطمة"، رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما. وعند أبي نعيم مرفوعا إنه من ولد الحسن، وفي رواية إنه من ولد الحسن والحسين، وجمع بأن حسني أبا، حسيني أما، "وروى الحاكم في مستدركه والبغوي في معجمه عن سعيد بن المسيب" بكسر الياء وفتحها، "أنه قال" من عند نفسه، "العباس خير هذه الأمة ووارث النبي صلى الله عليه وسلم وعمه". "قال" الحافظ "الذهبي وسنده صحيح، قال: ويتكلف لتأويله، يعني إن كان قوله خير بالمعجمة والتحتية" بأن المراد من حيث قربه من النبي وشفقته عليه صلى الله عليه وسلم ومزيد كرمه. قال الزبير بن بكار: كان العباس ثوبا لعاري بني هاشم، وجفنة لجائعهم ويمنع الجار، ويبذل المال ويعطي في النوائب. قال ابن المسيب: كانت جفنته تدور على فقراء بني هاشم، ويطعم الجائع، ويؤدب السفيه. قال الزهري: هذا والله هو السؤدد، وكذا يتكلف لتأويله إن كان بالمهملة والموحدة، بأن المراد في شيء خاص، كشدة فراسته، وحسن سياسته، كقوله لعلي في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم: وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا، إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. رواه البخاري، وقوله لعبد الله: يا بني إن أمير المؤمنين -يعني عمر- يدعوك، ويقربك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 وفي الأفراد للدارقطني عن جابر الأنصاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يحب العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برئ من الله ورسوله"، وفي سنده عمرو بن راشد الحارثي. وهو ضعيف جدا، لكن يشهد له ما رواه محمد بن الحسين الأشناني ثم أبو بكر بن عبد الباقي في أماليه ومن طريقهما المنذري من طريق منصور عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحب عمي هذا -وأخذ بيد العباس فرفعها- لله عز وجل ولقرابته مني فليس بمؤمن". وللترمذي وقال: حسن، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب   ويستشيرك فاحفظ عني ثلاث خصال: لا يجربن عليك كذبة، ولا تفش له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا. رواه أبو محمد بن السقاء وإلا فخير هذه الأمة وحبرها على الإطلاق الصديق، فمن بعده على الترتيب المعلوم، فلا ينبغي أن يفهم عن ابن المسيب مع جلالته خلافه، "وفي الأفراد" بفتح الهمزة "للدراقطني عن جابر الأنصاري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من لم يحب العباس بن عبد المطلب وأهل بيته فقد برئ من الله ورسوله" إن كان عدم الحب من حيث القرب، "وفي سنده عمرو بن راشد الحارثي، وهو ضعيف جدا، لكنه يشهد له ما رواه محمد بن الحسين الأشناني" بضم الهمزة، "ثم أبو بكر" محمد بن أحمد "بن عبد الباقي في أماليه، ومن طريقهما المنذري من طريق منصور" ابن المعتمر بن عبد الله الكوفي، الثقة الثبت، المتوفى سنة اثنتين وثلاثين ومائة، "عن مسلم بن صبيح" بالتصغير الهمداني "أبي الضحى" الكوفي، الثقة، الفاضل، المشهور بكنيته مات سنة مائة. "عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحب عمي هذا -أخذ بيد العباس، فرفعها" بأن يحبه "لله عز وجل ولقرابته مني فليس بمؤمن" حقيقة إن كان عدم المحبة لأجل قرابته، أو كامل الإيمان إن كان لذاته، "وللترمذي، وقال حسن" والنسائي وأحمد، والحاكم "عند عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب" بن هاشم الصحابي ابن الصحابي، سكن الشام ومات سنة اثنتين وستين، ويقال اسمه المطلب، قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، وأنا عنده، فقال: "ما أغضبك"؟ قال: يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم، تلاقوا الوجوه ببشر، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله" ثم قال: "يا أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه". وروى البغوي أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "لك يا عم من الله حتى ترضي". وروى السهمي في الفضائل أن عليه الصلاة والسلام قال: "يا عباس إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحد من ولدك". وفي المعجم الكبير   "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال للعباس: "والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله". خطاب للعباس، والميم للتعظيم أو لجميع أهل البيت فهي للجميع، "ثم قال: "يا أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني، فإنما عم الرجل صنو أبيه" وعن علي رفعه "استوصوا بالعباس خيرا، فإنه عمي وصنو أبي" رواه ابنا عدي وعساكر، وعن ابن عباس رفعه "استوصوا بالعباس خيرا، فإنه بقية آبائي، فإنما عم الرجل صنو أبيه" رواه الطبراني، وعن حنظلة الكاتب مرفوعا: "يا أيها الناس إنما أنا ابن العباس، فاعرفوا ذاك له صار لي والدا وصرت له فرطا". رواه ابن قانع، قال ابن شهاب: كان الصحابة يعرفون للعباس فضله، فيقدمونه، ويشاورونه، ويأخذون برأيه، وقال أبو الزناد لم يمر العباس بعمر وعثمان، وهما راكبان إلا نزلا حتى يجوز العباس إجلالا له، ويقال لأنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم رواهما ابن عبد البر. وروى السلفي عن ابن عباس: اعتل أبي، فعاده علي، فوجدني أضبط رجليه، فأخذهما من يدي وجلس موضعي، وقال: أنا أحق بعمي منك إن كان الله عز وجل قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمي حمزة فقد أبقى لي العباس عم الرجل صنو أبيه وبره بأبيه، اللهم هب لعمي عافيتك، وارفع له درجتك، واجعله عندك في عليين. "وروى البغوي" عن أبي رافع "أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: "لك يا عم" البر، أو الير الكثير "من الله حتى ترضى". "وروى السهمي في الفضائل أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا عباس إن الله عز وجل غير معذبك ولا أحد من ولدك". بأن يحفظهم مما يوجب العقوبة، ويغفر لهم ما دون ذلك، والظاهر أن المراد أولاده بلا واسطة، ويحتمل العموم وفضل الله واسع، "وفي المعجم الكبير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 للطبراني عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للعباس، وأبناء العباس وأبناء أبناء العباس. وفي سنده عبد الرحمن بن حاتم المرادي المصري وهو متروك. وفي تاريخ دمشق ما هو شديد الوهي عن أبي هريرة مرفوعا: اللهم اغفر للعباس ولولد العباس ولمحبي ولد العباس وشيعتهم. وفي المناقب للإمام أحمد بسند لا بأس به، أن العباس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: "انظر هل ترى في السماء نجما"، قلت: نعم، قال: "ما ترى"؟ قلت: الثريا، قال: "أما إنه يلي هذه الأمة بعددها من صلبك". وروى السهمي من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "ألا أبشرك يا عم"؟، قال: بلى بأبي أنت وأمي فقال عليه الصلاة والسلام: "إن من ذريتك الأصفياء ومن عترتك الخلفاء". ومن حديث أبي هريرة: "فيكم النبوة والمملكة".   للطبراني عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للعباس، وأبناء العباس" يحتمل أنه أراد بهم ما يشمل الإناث تغليبا للرواية السابقة، اغفر للعباس وولده، والولد شامل، "وأبناء أبناء العباس، وفي سنده عبد الرحمن بن حاتم المرادي" بضم الميم نسبة إلى مراد بطن من مذحج، ثم "المصري، وهو متروك" لكن له شاهد تقدم، "وفي تاريخ دمشق" لابن عساكر "مما هو شديد الوهي" الضعف من وهى الحائط إذا مال، "عن أبي هريرة مرفوعا: اللهم اغفر للعباس، ولولد العباس ولمحبي ولد العباس وشيعتهم" بكسر الشين. "وفي المناقب للإمام أحمد بسند لا بأس به أن العباس، قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: "انظر هل ترى في السماء نجما"، قلت: نعم، قال: "ما ترى"؟ أي نجم ترى، "قلت: الثريا، قال: "أما" بالفتح والتخفيف "إنه يلي هذه الأمة بعددها" مرارا "من صلبك" لأن الواقع إنه تولى منهم جم غفير، وبقية الحديث في المسند اثنين في فتنة، أي بعددها مرتين والمراد التكثير، وفي فتنة صلة محذوف، أي وتحصل تلك الولاية في زمن فتنة وتزول بولايتهم. "وروى السهمي" ثلاثة أحاديث: أحدهما "من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام، قال له: "ألا أبشرك يا عم"؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك" بكسر المهملة، وسكون الفوقية "الخلفاء" وغاير تفننا، فالمراد أن بعضهم أصفياء، وبعضهم خلفاء، "و" ثانيها من حديث أبي هريرة "فيكم النبوة والمملكة"، إن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 ومن حديث ابن عباس عن أبيه: "هذا عمي أبو الخلفاء أجود قريش كفا وأجملها وإن من ولده السفاح والمنصور والمهدي". وذكر ابن حبان والملاء من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل وعليه ثياب بيض وسيلبس ولده من بعده السواد". وعن جابر بن عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن في ولده -يعني العباس- ملوك يكونون أمراء أمتي، يعز الله بهم الدين".   كان المراد يا بني هاشم فهو ظاهر، والنبوة له صلى الله عليه وسلم والمملكة لذرية عمه، وإن كان المراد يا بني العباس، كما هو ظاهر السياق فلعل المراد أن فيهم شيما من أخلاق النبوة، أو قرابة أكيدة للنبوة "و" ثالثها "من حديث ابن عباس عن أبيه" رفعه "هذا عمي أبو الخلفاء أجود قريش كفا وأجملها". والمراد من إخباره هو بذلك، حثه على مزيد الجود، لعلمه أن ذلك يزيده جودا، فإن شأن العرب لا سيما قريش إذا وصفوا بالجود زادوا فيه. وقد روى ابن حبان عن سعد: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز بعثا إذ طلع العباس، فقال صلى الله عليه وسلم: "العباس عم نبيكم أجود قريش كفا وأوصلها وإن من ولده السفاح" لقب أول خلفائهم، يكنى أبا العباس، واسمه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولي الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر، "والمنصور" أخاه أبا جعفر، واسمه يضا عبد الله بن محمد استخلفه أخوه، ولي الخلافة اثنتين وعشرين سنة، ومات سنة ثمان وخمسين ومائة بقرب مكة، محرما بالحج عن ثلاث وستين سنة، وكان محدثا فقيها بليغا حافظا للقرآن والسنة، جماعا للأموال، فلذا لقب أبا الدوانيق، "والمهدي" بن المنصور، وليها عشر سنين حتى مات سنة تسع وستين ومائة، وخصوا بالذكر لما وقع في ولايتهم من تسكين الفتن ودفع المظالم، حتى قيل في المهدي إنه في بني العباس كعمر بن عبد العزيز في بني أمية. "وذكر ابن حبان والملاء" بفتح الميم وشد اللام عمر الموصلي كان يملأ من بئر بجامع الموصل احتسابا، كان إماما عظيما، ناسكا زاهدا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يشهد قوله، ويقبل شفاعته لجلالته. ذكره الشامي في أول فضائل الآل "من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام، قال: "يا أبا بكر هذا العباس قد أقبل، وعليه ثياب بيض، وسيلبس ولده من بعده السواد" أخبار بأنهم يصيرون خلفاء، وأن السواد يكون شعارا لهم، واختاروه اقتداء بلبسه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأعظم العمامة السوداء، "وعن جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما، قال "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن في ولده -يعني العباس- ملوك يكونون أمراء أمتي يعز الله بهم الدين" وقد فعل، فزال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عمرو بن دينار عن جابر، خرجه الأصفهاني. وتوفي العباس رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه قبل مقتله بسنتين بالمدينة، يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث وثلاثين،   بهم ما أسسه بنو مروان من مزيد الظلم. وقد روى الطبراني عن ثوبان رفعه: "رأيت بني مروان يتعاورون على منبري، فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون على منبري، فسرني ذلك"، "قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: هذا حديث غريب من حديث عمرو" بفتح العين "ابن دينار" الثقة، الثبت، التابعي من رحال الجميع. "عن جابر خرجه الأصفهاني" وعن أبي هريرة قال: خرج صلى الله عليه وسلم فتلقاه العباس، فقال: "ألا أبشرك يا أبا الفضل"؟ قال: بلى، قال: "إن الله افتتح بي هذا الأمر وبذريتك يختمه"، رواه أبو نعيم، وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصاني الله بذي القربى وأمرني أن أبدأ بالعباس" رواه الحاكم، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين، والعباس بيننا مؤمن بين خليلين". رواه ابن ماجه والحاكم في الكنى، وأبو نعيم وابن شاهين، وقال: هذه فضيلة تفرد بها العباس ليست لغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن له -يعني العباس- في الجنة غرفة، كما تكون الغرف يظل عليَّ يكلمني وأكلمه" رواه ابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم هذا عمي، وصنو أبي، وخير عمومة العرب، اللهم أسكنه معي في السناء الأعلى" رواه الديلمي. وروى البخاري عن أنس: أن عمر كان إذا أقحطوا استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا العباس فاسقنا فيسقون. وروى الحاكم عن ابن عمر: استسقى عمر عام الرمان بالعباس، فقال: اللهم هذا عم نبيك نتوجه إليك، فاسقنا، فما برحوا حتى سقوا، فخطب عمر، فقال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده يعظمه، ويفخمه، ويبر قسمه، فاقتدوا برسول الله في عمه العباس، واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم. "وتوفي العباس رضي الله عنه في خلافة عثمان رضي الله عنه قبل مقتله بسنتين بالمدينة يوم الجمعة لاثنتى عشرة" ليلة "خلت من رجب، وقيل من رمضان سنة اثنتين وثلاثين" وبه جزم في الإصابة، "وقيل سنة ثلاث وثلاثين، وهذا الملائم لقوله قبل مقتل عثمان بسنتين؛ لأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل سبع وثمانين سنة، أدرك منها في الإسلام اثنتين وثلاثين سنة ودفن بالبقيع، ودخل قبره ابن عبد الله. وكان عظيما جليلا، وكان يسمى ترجمان القرآن،   قتل في الحجة سنة خمس وثلاثين، "وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وقيل سبع وثمانين سنة"، ومع ذلك مات معتدل القامة، وكان شديد الصوت. قال النووي: ذكر الحازمي أنه كان يقف على سلع، فينادي، غلمانه آخر الليل وهم بالغابة، فيسمعهم، وبين سلع والغابة ثمانية أميال، "أدرك منها في الإسلام اثنتين وثلاثين سنة" بناء على أنه أسلم في بدر، أو قبلها. قال مجاهد: أعتق العباس سبعين عبدا، رواه ابن أبي عاصم، وقال كعب تصدق بداره، فوسع به مسجد المدينة، وصلى عليه عثمان، "ودفن بالبقيع ودخل قبره ابنه عبد الله" الحبر البحر لكثرة علمه. قال القاسم بن محمد: كان الصحابة يسمونه البحر، ويسمونه الحبر، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه، رواه أبو عمر، "وكان عظيما" في الخَلق والخُلق، "جليلا" واسع العلم حديثًا وفقهًا، وعربية وأنسابًا، وشعرا وتفسيرا، "و" لذا "كان يسمى ترجمان القرآن" وقد روى الطبراني في الكبير، وأبو نعيم عنه دعاني صلى الله عليه وسلم، فقال: "نعم ترجمان القرآن أنت" دعا لي جبريل مرتين، وعنه وضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفي أو منكبي، ثم قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" رواه أحمد والطبراني برجال الصحيح، وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فوجد بردها في صدره، ثم قال: "اللهم احش جوفه علما وحلما" وعنه ضمني صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال: "اللهم علمه الحكمة". وفي رواية الكتاب رواهما البخاري، وعن أبي وائل قرأ ابن عباس سورة النور، وفي رواية البقرة، ثم جعل يفسرها، فقال رجل: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت، واه يعقوب بن سفيان وأبو نعيم. وروى أبو زرعة الرازي في العلل عن ابن عباس أتيت خالتي ميمونة، فقلت إني أريد أن أبيت عندكم، فقالت: كيف تبيت وإنما الفراش واحد، فقلت: لا حاجة لي بفراشكم أفرش نصف إزاري، وأما الوسادة، فإني أضع رأسي مع رأسكما من وراء الوسادة، فجاء صلى الله عليه وسلم فحدثته ميمونة بما قلت، فقال: "هذا شيخ قريش"، وهو أعلم إخوته الفضل، وهو أكبرهم وعبيد الله، وكان شيخا جوادا، وللثلاثة سماع ورواية ومعبد وقثم وعبد الرحمن وأم حبيب شقيقتهم، وكثير، وتمام لأم ولد، والحارث وأمه من هذيل وعون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 وهو أبو الخلفاء. ويروى أن أمه أم الفضل لما وضعته أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فأذن في أذنه اليمني، وأقام في أذانه اليسري، وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، رواه ابن حبان وغيره. وقد ملأ عقبه الأرض حتى قيل إنهم بلغوا في زمن المأمون.   قال أبو عمر: لم أقف على اسم أمه وآمنة وصفية ولكلهم رؤية. قال أبو عمر: كان تمام أصغرهم، وكان العباس يحمله ويقول: تموا بتمام فصاروا عشرة ... يا رب فاجعلهم كراما بررة واجعل لهم ذكرا وأنم الثمرة قال اليعمري: يقال ما رؤيت قبور أشد تباعدا من قبور بني العباس، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بأفريقيا، وعبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند، وكثير بالبقيع، وقد يقع في ذلك خلاف ليس هذا موضعه، "وهو أبو الخلفاء، ويروى أن أمه أم الفضل" لبابة بخفة الموحدتين بنت الحارث الهلالية. قال ابن حبان: ماتت في خلافة عثمان قبل زوجها العباس "لما وضعته" قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب قبل خروج بني هاشم منه، "أتت به النبي صلى الله عليه وسلم" كما كان أمرها وهي حامل به، "فأذن في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى" وهذا مشكل؛ لأن الآذان إنما كان بالمدينة، اللهم إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلمات الآذان ولإقامة، ولكن لم يوح إليه حينئذ أنه يدعو بهما إلى الصلاة حتى استشار أصحابه، وكانت الرؤيا والعلم عند الله، "وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، رواه ابن حبان وغيره" كأبي نعيم في الدلائل والسهمي في الفضائل من حديث ابن عباس، قال: حدثتني أم الفضل، قالت: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في الحجر، فقال: "يا أم الفضل"، قلت: لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إنك حامل بغلام" قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يولدون النساء، قال: "هو ما أقول فإذا وضعتيه فائتيني به" فلما وضعته أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرته. ورواه الطبراني بسند حسن، ولكن ليس فيه ما يشكل من أنه أذن وأقام، إنما قالت: فلما وضعته أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسماه عبد الله وألبأه من ريقه، وقال: اذهبي فلتجديه كيسا، قالت: فأتيت العباس فأخبرته فتبسم. وروى البيهقي وأبو نعيم عن ابن عباس، قال: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا معه جبريل، وأنا أظنه دحية الكلبي وعليَّ ثياب بيض، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه لوضح الثياب وإن ولده يلبسون السواد، "وقد ملأ عقبه الأرض حتى قيل إنهم بلغوا في زمن المأمون" عبد الله بن هارون الرشيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 ستمائة ألف. واستبعد، فالله أعلم. وكان العباس أصغر أعمامه عليه الصلاة والسلام ولم يسلم منهم إلا هو وحمزة، وأسنهم الحارث. وأما عماته عليه الصلاة والسلام بنات عبد المطلب، فجملتهن ست: عاتكة، وأميمة، والبيضاء وهي أمي حكيم، وبرة، وصفية، وأروى، ولم يسلم منهن إلا صفية أم الزبير بلا خلاف. واختلف في أروى وعاتكة،   "ستمائة ألف، واستبعد فالله أعلم" هل كان ذلك أم لا، "وكان العباس أصغر أعمامه عليه الصلاة والسلام، ولم يسلم منهم إلا هو وحمزة" والقول بإسلام أبي طالب لا يصح. قال ابن عساكر وغيره "وأسنهم الحارث" ولم يدرك الإسلام، قال في فتح الباري: من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من الأعمام أربعة لم يسلم منه اثنان وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما: أبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزى بخلاف من أسلم، وهما حمزة والعباس انتهى، وحدث العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث، وعنه أولاده وعامر بن سعد والأحنف بن قيس وعبد الله بن الحارث وغيرهم، "وأما عماته عليه الصلاة والسلام"، قسيم أعمامه "بنات عبد المطلب" صفة، أو بدل لتعميم الشقائق وغيرهم، دفعا لتوهم أن المراد الشقائق، ولتوهم إرادة العمة المجازية كأخت الجد، كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، فإنه شامل لعمة الأب مجازا، "فجملتهن" بلا خلاف "ست" حذف التاء؛ لأن المعدود مؤنث "عاتكة وأميمة" بضم الهمزة وفتح الميمين بينهما تحتية ساكنة، ثم تاء تأنيث. اختلف في إسلامها فنفاه ابن إسحاق ولم يذكرها غير ابن سعد، فقال: أمها فاطمة بنت عمرو وأطعم صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب أربعين وسقا من خيبر، قلت: فعلى هذا لما تزوج صلى الله عليه وسلم بنتها زينب، كانت موجودة انتهى من الإصابة في القسم الأول، ففيه اختيار القول باسمها، وحاصله أن المثبت واحد، والنافي واحد، وسكت الباقون "والبيضاء وهي أم حكيم" يقال إنها توءمة عبد الله والد المصطفى، "وبرة" بفتح الباء، "وصفية وأروى، ولم يسلم منهمن إلا صفية أم الزبير" ابن العوام مجرد إيضا؛ لأن صفية في العمام لم تتعد "بلا خلاف" متعلق بيسلم، "واختلف في أروى وعاتكة" وكذا في أميمة كما علمت وممن حكى الخلاف المصنف نفسه في المقصد السابع، فقال: وأميمة وأروى وعاتكة وصفية أسلمت صفية، وصحبت، وفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 فذهب أبو جعفر العقيلي إلى إسلامهما، وعدهما في الصحابة، وذكر الدارقطني: عاتكة في جملة الإخوة والأخوات، ولم يذكر أروى. وأما ابن إسحاق فذكر أنه لم يسلم منهن غير صفية.   الباقيات خلاف، "فذهب أبو جعفر" محمد بن عمرو بن موسى بن حماد "العقيلي" بضم العين، نسبة إلى عقيل بن كعب بن ربيعة الحافظ الكبير، كثير التصانيف، الثقة العالم بالحديث، المتوفى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة "إلى إسلامهما، وعدهما في الصحابة" ذكره؛ لأنه لا يلزم من الإسلام الصحبة. "وذكر الدارقطني عاتكة في جملة الإخوة والأخوات" فقال لها شعر تذكر فيه تصديقها ولا رواية لها. وقال ابن سعد: أسلمت عاتكة بمكة، وهاجرت إلى المدينة. قال ابن عبد البر: وأبى ذلك الأكثرون، وقال اليعمري المشهور عندهم: أن عاتكة لم تسلم انتهى، وذكرها ابن فتحون في ذيل الاستيعاب، واستدل على إسلامها بشعر لها تمدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتصفه بالنبوة وذكرها ابن منده في الصحابة، وقال: روت عنها أم كلثوم بنت عقبة قصة رؤياها المشهورة في وقعة بدر، قالت: رأيت في المنام قبل قدوم خبر العير بثلاث ليال رجلا أقبل على بعير، فوقف بالأبطح، فقال: انفروا يا آل غالب لمصارعكم في ثلاث، ثم أخذ صخرة، فأرسلها من رأس الجبل، فأقبلت تهوي حتى ما بقي دار ولا بيت إلا دخل فيها بعضها، فقصتها، فشاع الخبر، فقال أبو جهل للعباس: متى حدثت فيكم هذه البنية؟ فصدق الله رؤياها، والقصة مطولة عند ابن إسحاق وأوردها في القسم الأول من الإصابة، وحكى الخلاف، فكأنه اختار القول بإسلامها، "ولم يذكر" الدارقطني "أروى، وأما ابن إسحاق، فذكر أنه لم يسلم منهن غير صفية"، وتعقبه ابن عبد البر بأن العقيلي ذكرها ف الصحابة، وأسند عند الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه لما أسلم طليب بن عمير دخل على أمه أروى، فقال: قد أسلمت، فقالت: وأزرت وعضدت ابن خالك، والله لو قدرنا على ما تقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه، فقال لها طليب: ما يمنعك أن تسلمي؟ فقد أسلم أخوك حمزة، فقالت: انظر ما يصنع أخواتي فقال: إني أسألك بالله إلا أتيته، فسلمت عليه وصدقتيه، قالت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم كانت بعد تعضد النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها، وتحض ابنها على نصرته والقيام بأمره، وجزم ابن سعد بأنها أسلمت وهاجرت إلى المدينة، ورثت النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات منها: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برا ولم تك جافيا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 فأما صفية فأسلمت باتفاق، كما ذكرته، وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، وضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم، وأمها هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، شقيقة حمزة والمقوم وحجل، وكانت في الجاهلية تحت الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس، ثم هلك فخلف عليها العوام بن خويلد أخو خديجة أم المؤمنين، فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة وتوفيت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين، ولها ثلاثة وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع. وأما عاتكة المختلفة في إسلامها فأمها فاطمة بنت عمرو بن عائذ، فتكون شقيقة.   كان على قلبي لذكر محمد ... وما جمعت بعد النبي المجاريا قال في الهدى: وصحح بعضهم إسلامها وأوردها في الإصابة في القسم الأول، "فأما صفية فأسلمت باتفاق، كما ذكرته" وأعاده ليصدر به بعض مناقبها إذ هو أجلها، "وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود" وهو الذي طاف بالحصن الذي كانت فيه مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول امرأة قتلت رجلا من المشركين، وقدمت القصة، ثم "وضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم" من غنائم قريظة وله أن يخص من شاء بما شاء فلا يقال المرأة إنما يرضخ لها، ويروى أيضا أنها جاءت يوم أحد، وقد ولى الناس، وبيدها رمح تضرب في وجوههم، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا زبير المرأة"، "وأمها هالة بنت وهيب" ويقال فيه أهيب بألف بدل الواو ومصغر فيهما "ابن عبد مناف بن زهرة"، فهي "شقيقة حمزة والمقوم وحجل، وكانت في الجاهلية تحت الحارث"، أخي أبي سفيان "بن حرب بن أمية بن عبد شمس" بن عبد مناف، "ثم هلك" عنها، "فخلف" بالتخفيف "عليها العوام بن خويلد أخو خديجة أم المؤمنين، فولدت له الزبير" أحد العشرة. "والسائب" صحابي شهد بدرا والخندق وغيرهما، واستشهد باليمامة، ولا عقب له، كما في الإصابة، "وعبد الكعبة" لم يذكره في الإصابة ولا ذكروه بإسلام، وهاجرت مع ولدها الزبير وروت "وتوفيت بالمدينة في خلافة عمر رضي الله عنه سنة عشرين ولها ثلاث وسبعون سنة، ودفنت بالبقيع" رضي الله عنها، "وأما عاتكة المختلف في إسلامها" كما علمت فهو مجرد إيضاح، "فأمها فاطمة بنت عمرو بن عائذ" بتحتية ودال معجمة؛ لأنه ابن عمران مخزوم، وقد صرح الزبير بن بكار بأن من كان من ولد عمران، فعائذ بتحتية ومعجمة، ومن كان من ولد أخيه عمر، فعابد بموحدة ومهملة نقله الأمير في إكماله، والحافظ في تبصيره، وأقره فسها من ضبطه بموحدة لحفظه ذلك في عتيق بن عابد بن زوج خديجة قبل المصطفى، "فتكون شقيقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 عبد الله بن أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي طالب والزبير وعبد الكعبة، وهي صاحبة الرؤية في قصة بدر. وأما أروى المختلف في إسلامها أيضا، فأمها صفية بنت جندب، فهي شقيقة الحارث بن عبد المطلب، وكانت تحت عمير بن وهب بن عبد الدارين قصي، فولدت له طليبا ثم خلفه عليها كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وأسلم طليب وكان سببا في إسلام أمه، كما ذكره الواقدي.   عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي طالب والزبير"، بضم الزاي عند الجميع إلا البلاذري، فقال: بفتحها، كما مر، "وعبد الكعبة" وكانت تحت أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فولدت له عبد الله وزهيرا أسلما وصحبا، وقريبة بفتح القاف، وقيل بالتصغير أسلمت وصحبت، كما في الإصابة، وقال في العيون: مختلف في صحبتها، وهم إخوة أم سلمة أم المؤمنين لأبيها، "وهي صاحبة الرؤيا في قصة بدر" أوردها ابن إسحاق مطولة، وقد لخصت المراد منها قريبا، "وأما أروى المختلفة في إسلامها أيضا، فأمها صفية بنت جندب فهي شقيقة الحارث" وقثم "بن عبد المطلب" ووقع في العيون أنها شقيقة عبد الله وفيه نظر، "وكانت تحت عمير" بالتصغير، وقيل عمرو بفتح العين "ابن وهب بن عبد الدار بن قصي" القرشي. قال البرهان: لا أعرف لعمير إسلاما، والظاهر هلاكه على دين قومه، "فولدت له طليبا" بالتصغير، "ثم خلف عليها كلدة" بفتح الكاف واللام "ابن عبد مناف" قال اليعمري: كذا في كتاب أبي عمر، والصحيح كلدة بن هاشم بن عبد مناف "بن عبد الدار بن قصي"، فولدت له أروى. قاله أبو عمرو ليس بشيء إنما ولدت له فاطمة انتهى، "وأسلم طليب،" وكان من فضلاء الصحابة، وهاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا، واستشهد بأجنادين ولا عقب له، "وكان سببا في إسلام أمه"، عند من قال إسلامها، "كما ذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد بسند له معضل أن طليبا أسلم في دار الأرقم، ثم خرج، فدخل على أمه، فذكر ما تقدم قريبا، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر، ومال للقول به ورد به نف ابن إسحاق إسلامها. وقد أخرجه الحاكم من طريق موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فذكره قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، قال في الإصابة: وليس كما، قال: فموسى ضعيف، ورواية أبي سلمة مرسلة انتهى. وذكر الواقدي أيضا بسند له أن أبا جهل وعدة معه عرضوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فآذوه فعمد طليب بن عمير إلى أبي جهل، فضربه، فشجه، فأخذوه فقام أبو لهب في نصره، وبلغ أروى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 وأما أم حكيم، فهي شقيقة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم. وأما برة فأمها فاطمة أيضا، وكانت عند أبي رهم بن عبد العزى العامري، ثم خلف عليها عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد الذي كانت عنده أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم. وأما أميمة فأمها فاطمة أيضا، وكانت تحت جحش بن رياب، فولدت له عبد الله وعبيد الله وأبا أحمد.   فقالت: إن خير أيامه يوم نصر ابن خاله، فقال لأبي لهب: إن أروى صبت فعابها، فقالت: قم دون ابن أخيك فإنه أن يظهر كنت بالخيار، وإلا كنت أعذرت في ابن أخيك، فقال: ولنا طاقة بالعرب قاطبة أنه جاء بدين محدث. قال ابن سعد: ويقال إنها قالت: إن طليبا نصر ابن خاله ... وأساه في ذي دمه وماله "وأما أم حكيم" بفتح المهملة وكسر الكاف، "فهي شقيقة عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم" وتوءمته على خلاف فيه، وكانت تقول إني لحصان فما أكلم وصناع فما أعلم، وهي التي وضعت جفنة الطيب للمطيبين، وكانت تحت كريز بالتصغير ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له عامرا وبنات منهن أروى أم عثمان بن عفان أسلما وصحبا، وولد عامر عبد الله على عهده صلى الله عليه وسلم فعوذه وتفل في فيه، فجعل يتسوغ ريقه صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنه لمسقي"، فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر له الماء، وعمل السقايات بعرفة وشق نهر البصرة، وجمع له عثمان بين ولاية البصرة وفارس، وهو ابن أربع وعشرين سنة، وكان سخيا جوادا، كما في العيون "وأما برة فأمها فاطمة" فهي شقيقة عبد الله "أيضا، وكانت عند أبي رهم" بضم الراء "ابن عبد العزى العامي" من بني عامر بن لؤي، فولدت له أبا سبرة، صحابي شهد بدرا والمشاهد معه صلى الله عليه وسلم كما في العيون، "ثم خلف عليها عبد الأسد بن هلال المخزومي، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد"، الصحابي الشهير، "الذي كانت عنده أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم" وقيل كانت عند عبد الأسد قبل أبي رهم، كما في العيون، "وأما أميمة" المختلف في إسلامها أيضا، كما سبق "فأمها فاطمة" المخزومية، فهي شقيقة عبد الله "أيضا، وكانت تحت جحش بن رياب" بكسر الراء فتحتية مخففة فألف فموحدة، "فولدت له عبد الله" المجدع في الله بدعائه المستشهد يوم أحد "وعبيد الله" بتصغير العبد أسلم، وهاجر إلى الحبشة فتنصر هناك ومات، "وأبا أحمد" اسمه عبد بلا إضافة، وقيل عبد الله، وهو وهم من السابقين، وكان ضريرا يطوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 وزينب وأم حبيبة وحمنة، أولاد جحش بن رياب. وأما جداته عليه الصلاة والسلام من أبيه: فأم عبد الله -أبيه- فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وأم عبد المطلب، سلمى ابنة عمرو من بني النجار، وكانت قبل هاشم تحت أحيحة بن الجلاح فولدت له عمرا بن أحيحة،   مكة أعلاها وأسفلها بلا قائد، وهاجر إلى المدينة مع أخيه عبد الله وشهد بدرا، والمشاهد، قيل وهاجر إلى الحبشة قبل المدينة، وأنكره البلاذري، كما في الإصابة، "وزينب" أم المؤمنين "وأم حبيبة" بهاء آخرها كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، فاستحيضت فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في مسلم، ولبعض الرواة أم حبيب بلا هاء "وحمنة" كانت زوج مصعب بن عمير فقتل عنها يوم أحد، فتزوجها طلحة بن عبيد الله، فولدت له محمدا وعمران، قال أبو عمر: كانت من المبايعات، وشهدت أحدا، فكانت تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت تستحاض، كما أخرجه أبو داود والترمذي عنها، وقد قيل: إن بنات جحش كلهن ابتلين بالاستحاضة "أولاد جحش بن رياب" الأسدي من بني أسد بن خزيمة، "وأما جداته عليه الصلاة والسلام من" جهة "أبيه، فأم عبد الله أبيه، فهي فاطمة بنت عمرو بن عائذ" بتحتية ومعجمة؛ لأنه "ابن عمران" بألف ونون بعد الراء، كما في ابن إسحاق اليعمري وغيرهما. ويقع في بعض نسخ المصنف بحذف أن، وهو تصحيف وسها من ضبطه بمهملة وموحدة؛ لأن ذاك لمن كان من ولد أخيه عمرو بن مخزوم، كعتيق بن عابد زوج خديجة قبل المصطفى، كما صرح به علامة النسب الزبير بن بكار وأقره في الاكمال والتبصير، كما تقدم قريبا "ابن مخزوم" ابن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي. قال في الروض، وزاد ابن إسحاق بين عائذ وعمران عبد، فقال عائذ بن عبد بن عمران وخالفه ابن هشام، وقال عائذ بن عمران "بلا واسطة، وهو الصحيح؛ لأن أهل النسب ذكروا أن عبدا أخو عائذ وأنه أب لصخرة زوجة عمرو بن عائذ، وهي أم فاطمة جدته صلى الله عليه وسلم "وأم بد المطلب سلمى ابنة عمرو من بني النجار" وذلك أن هاشما أباه نزل على أبيها، فلمحها، فأعجبته فخطبها إليه، فأنكحه إياها وشرط عليه أنها لا تلد ولدا إلا في أهلها، فوفى لها، فولد عبد المطلب عندها، ومات هاشم، فبقي عندها حتى جاء عمه عبد المطلب، فأخذه، كما مر، "وكانت" كما جزم به ابن إسحاق في السيرة "قبل هاشم تحت أحيحة" بمهملتين مصغر "ابن الجلاح"، بضم الجيم وآخره مهملة، كما في الإصابة، "فولدت له عمرا" بفتح العين "ابن أحيحة" الأنصاري الأوسي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 وهو أخو عبد المطلب لأمه. وأم هاشم هي عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بني سليم. وأم عبد مناف عاتكة بنت فالج بن ذكوان من بني سليم. وأم قصي فاطمة بنت سعد من أزد السراة.   وقال ابن عبد البر: تزوجها أحيحة بعد موت هاشم، "وهو أخو عبد المطلب لأمه". ذكره ابن أبي حاتم فيمن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن خزيمة بن ثابت، قال أبو عمر: لا أدري ما هذا فمحال أن يروي عن خزيمة من كان في هذا السن، وعساه أن يكون حفيد العمر وسمي باسمه. قال الحافظ: ويحتمل أن لا يكون بينه وبين زوج سلمى نسب بل وافق اسمه واسم أمه، واشتركا في التسمية بعمرو، وليت شعري ما المانع من ذلك مع كثرة وقوع مثله انتهى، فليتأمل والغرض من هذا أن سلمى تزوجت أحيحة اتفاقا، إنما الخلاف هل تزوجته قبل هاشم أو بعده، "وأم هاشم هي عاتكة بنت مرة" بضم الميم وشد الراء "ابن هلال بن فالج" بالفاء والجيم "ابن ذكوان" بذال معجمة "من بني سليم" بالتصغير، "وأم عبد مناف" قمر بالبطحاء "عاتكة بنت فالج" عمه أم هاشم، كما في الروض "ابن ذكوان من بني سليم". وذكر ابن إسحاق أن أمه حبى بضم المهملة وشد الموحدة الممالة بنت حليل بضم الحاء، وفتح اللام الخزاعية، وعارضه السهيلي في الروض بأن غيره، قال أمه عاتكة هذه السليمية، وأنه صلى الله عليه وسلم قال لولادتهما وولادة عاتكة الآتية في نسب أمه: "أنا ابن العواتك من سليم" على الأصح خلافا لمن قال إنه أراد ثلاث مراضع أرضعنه كل تسمى عاتكة من سليم انتهى، "وأم قصي فاطمة بنت سعد" بن سيل بفتح المهملة والتحتية ولام، وهو السنبل إذا أخذ الحب لقب به، واسمه خير بن حبالة بموحدة، كما في الروض وفيه يقول الشاعر: ما ترى في الناس شخصا واحدا ... من علمناه كسعد بن سيل فارسا أضبط فيه عسره ... وإذا ما وافق القرن نزل فارسا يستدرج الخيل كما اسـ ... ـتدرج الحر القطامي الحجل "من أزد السراة" بفتح الهمزة وسكون الزاي والدال نسبة إلى الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد كهلان بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان، وقيل اسم الأزدري بتقديم الدال على الراء، وإليه جماع الأنصار، ويقال الأسد لقرب السين من الزاي، والأزدي أيضا من أزدشنوأة ومن أزد الحجر، ولكنهما مندرجان في الأول؛ لأنهما من ولده والنسبة ترجع إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 وأم كلاب، نعم بنت سرير بن ثعلبة بن مالك بن كنانة. وأم مرة وحشية بنت شيبان بن محارب من فهم. وأم كعب، سلمى بنت محارب من فهم. وأم لؤي وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة. وأم غالب، سلمى بنت سعد بن هذيل. وأم فهر، جندلة بنة الحارث الجرهمي. وأم مالك، هند بنت عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان.   قاله الحازمي ذكره في التبصير "وأم كلاب نعم" بضم النون، وسكون المهملة، وميم، وجزم ابن إسحاق بأن اسمها هند، ورجحه البلاذري "بنت سرير" بمهملات مصغر "ابن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة" بن خزيمة، "وأم مرة وحشية" بفتح الواو ويقال بميم عوضها بالأول جزم ابن إسحاق، وسكون الخاء، وكسر الشين المعجمتين فتحتية مشددة "بنت شيبان بن محارب" بن فهر بن مالك بن النضر. هكذا نسبها ابن إسحاق وتبعه الشامي وغيره، وهذا صريح في أنها قرشية، وأما ابن قتيبة، فقال: "من فهم" بفتح الفاء وسكون الهاء، وبالميم فهم ثلاثة قبائل، فلم يعين هي من أيها، "وأم كعب سلمى بنت محارب من فهم" فهي عمة التي قبلها عنده، والذي قاله ابن إسحاق وأتباعه أن أمه ماوية بكسر الواو وشد التحتية بنت كعب بن القين من قضاعة، فخالف في الاسم والنسبة، كما خالف فيها في التي قبلها في النسبة. قال شيخنا: وقد يقال على بعد كلاهما اسم لها غايته أن أحدهما اسم والآخر لقب، وأما النسبة فلعلها تنسب إلى إحدى القبيلتين من جهة الأب والأخرى من جهة الأم، واشتهرت بكل منهما "وأم لؤي وحشية بنت مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة" في قول ابن قتيبة. وقال ابن إسحاق: أمه سلمى بنت عمرو الخزاعي، وقال غيره عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة. "وأم غالب سلمى بنت سعد بن هذيل" بن مدركة وسماها ابن إسحاق ليلى، ووافق في نسبها، وقال غيره ليلى بنت الحارث بن تميم بن هذيل بن مدركه، "وأم فهر جندلة" بجيم، فنون، فدال مهملة "ابنة الحارث" ابن مضاض بميم مكسورة ومعجمتين "الجرهمي". قال ابن هشام وليس بابن مضاض الأكبر، "وأم مالك هند" وقيل عاتكة، ولقبها عكرشة "بنت عدوان"، بفتح العين، وسكون الدال المهملتين "ابن عمرو بن قيس بن عيلان" بفتح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 وأم النضر، برة بنت مرة أخت تميم بن مرة. ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف كما حكاه الطبري عنه وقال: فالجدة الأولى قرشية مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سليمية، والرابعة سليمية أيضا، وقيل خزاعية والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية والثامنة أيضا أو فهرية -الخط في الأصل يوهم- والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشر جرهمية، والثانية عشر قيسية، والثالثة عشر مرية. وأما جداته عليه الصلاة والسلام من أمه: فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن   المهملة، وسكون التحتية من خزاعة، وقيل هي عرابة بنت سعد القيسية بفتح المهملة وخفة الراء "وأم النضر برة بنت مرة أخت تميم بن مرة" بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر وهي بنت أخي برة بنت أد زوجة أبيه التي خلف عليها بعد موته ولم تلد له ذكرا ولا أنثى، فلما ماتت عنده تزوج بنت أختها هذه، فولدت له النضر، كما ذكره أبو عثمان الجاحظ، وبه تعقب الحافظ عبد الكريم القطب الحلبي كلام السهيلي، وقال: إنه غلط نشأ من اشتباه لاتفاق اسمهما وتقارب نسبهما، وقال مغلطاي هو الصواب وخلافه غلط ظاهر، كما مر بسطه في النسب الشريف المصون، عن كل دنس ومنه نكاح المقت مع الكلام على الآباء. هذا وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، وأم خزيمة امرأة من قضاعة وأم مدركة خندف بنت عمران القضاعية، وأم إلياس جرهمية وأم مضرة سودة بنت عك بن عدنان وأم نزار وأم معد امرأة من قومه اسمها الأمينة هكذا أورده ابن إسحاق وغيره. وأما المصنف فاقتصر على جماع قريش؛ لأنه الذي "ذكره ابن قتيبة في كتاب المعارف، كما حكاه الطبري" أحمد بن عبد الله المكي "عنه، وقال: فالجدة الأولى قرشية مخزومية، والثانية نجارية، والثالثة سليمية، والرابعة سليمية أيضا، وقيل خزاعية"، واسمها حبى، كما مر خلافا لمن اقتضاه من أن الخلاف في النسبة مع الاتفاق على الاسم، فحاصل الخلاف أنها حبى الخزاعية، أو عاتكة السلمية، "والخامسة أزدية، والسادسة كنانية، والسابعة فهمية، والثامنة" فهمية "أيضا" بالميم، "أو فهرية" بالراء "الخط في الأصل يوهم، والتاسعة كنانية، والعاشرة هذلية، والحادية عشر جرهمية، والثانية عشر قيسية، والثالثة عشر مرية" فذلك لما أسلفه للإيضاح. "وأما جداته عليه الصلاة والسلام من" قبل "أمه، فأم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 زهرة بن كلاب، برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة، وأم أبيها وهب: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان من بني سليم، ذكره ابن قتيبة. وقال أبو عمر: ويعرف أبوها بأبي كبشة الذي كان ينسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: ابن أبي كبشة، ونسب إليه لأنه كان يعبد "الشعرى" ولم يكن أحد من العرب يعبدها، فلما جاءهم عليه الصلاة والسلام بخلاف ما كانت عليه العرب قالوا: هذا ابن أبي كبشة، ولم يقصدوا ذمة عليه والصلاة والسلام. وقيل: بل نسب إلى وهب أخي أمه كان يدعى بها، وقيل كان يدعى بها أبوه من الرضاع، الحارث بن عبد العزى زوج حليمة فنسب إليه.   زهرة بن كلاب" بن مرة بن كعب. "برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب بن مرة" بن كعب بن لؤي، هكذا نسبها ابن إسحاق وغيره، ويقع في بعض نسخ المصنف عبد العزى بن قصي نسبة إلى الجد الأعلى "وأم أبيها وهب" جده آمنة "عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج" بفاء وجيم "ابن ذكوان من بني سليم ذكره ابن قتيبة". "وقال أبو عمر" ابن عبد البر: "ويعرف أبوها" أي عاتكة، وهو الأوقص "بأبي كبشة الذي كان ينسب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال ابن أبي كبشة" كقول أبي جهل لقريش يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، رواه ابن جرير، وكقول أبي سفيان: لقد أمر ابن أبي كبشة أصبح بخافة ملك بني الأصفر، قال في الفتح: كذا قال أبو الحسن الجرحاني النسابة، وفيه نظر، فلم يذكر أحد من أهل النسب أن الأوقص يكنى أبا كبشة، "ونسب إليه؛ لأنه" خالف العرب، "فكان يعبد الشعرى، ولم يكن أحد من العرب يعبدها" غيره، "فلما جاءهم عليه الصلاة والسلام بخلاف ما كانت عليه العرب" من عبادة الأصنام، "قالوا: هذا ابن أبي كبشة"، فنسبوه إليه في مطلق المخالفة لهم فيما يعبدون، "ولم يقصدوا ذمة عليه الصلاة والسام" وقيل: بل، قالوه عداوة وتحقيرا له بنسبته إلى غير نسبه المشهور؛ لأن عادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض، كما في الفتح والكرماني، وقيل الذي خالفهم وعبد الشعرى رجل من خزاعة اسمه وجز بفتح الواو وسكون الجيم، وزاي ابن قالب، فنسبوه إليه في مطلق المخالفة، "وقيل: بل نسب إلى وهب أخي أمه كان يدعى بها" بأبي كبشة تحقيرا وعداوة بنسبته إلى خاله، "وقيل: كان يدعى بها أبوه من الرضاع الحارث بن عبد العزى زوج حليمة" وكانت له بنت تسمى كبشة، "فنسب إليه" عداوة بنسبته إلى زوج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 وأم برة هي أم حبيب، قاله ابن قتيبة وقال أبو سعيد: أم سفيان بنت أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب. وأم أم حبيب هي برة بنت عوف بن عبيد بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. وأم برة بنت عوف، قلابة بنت الحارث بن صعصعة بن عائذ بن لحيان بن هذيل. وأم قلابة، هند بنت يربوع من ثقيف. قاله ابن قتيبة، وقال ابن سعد إنها بنت مالك بن عثمان من بني لحيان. فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه عليه الصلاة والسلام قرشيات، وأم أبي أمه سليمة.   المرضعة، وقيل: هو والد حليمة، وقيل نسبة لجد جده عبد المطلب لأمه، "وأم برة" والدة آمنة "هي أم حبيب، قال ابن قتيبة" وابن إسحاق، "وقال أبو سعيد" هي "أم سفيان" ويمكن التوفيق بأن أحدهما اسم بلفظ الكنية، والآخر كنية "بنت أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب، وأم أم حبيبة هي برة بنت عوف بن عبيد" بن عويج، كما في ابن إسحاق "بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب" بن فهر بن مالك بن النضر، قال ابن هشام: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف ولد آدم حسبا، وأفضلهم نسبا من قبل أبيه وأمه، وأم برة بنت عوف قلابة" بكسر القاف وخف اللام، فألف فموحدة "بنت الحارث" بن طابخة، كما في الروض عن محمد بن حبيب قبل قوله "ابن صعصعة بن عائذ بن عادية بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل" كذا في النسخ، والذي في الروض عن محمد بن حبيب بعد صعصعة بن عادية بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل، قال: وزعم الزبير أن الحارث كان يكنى أبا قلابة وأنه أقدم شعراء هذيل، وذكر من شعره قوله: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني فالخير والشر مقرونان في قرن ... بكل ذلك يأتيه الجديدان "وأم قلابة هند بنت يربوع من ثقيف، قاله ابن قتيبة، وقال ابن سعد إنها" أي هند "بنت مالك بن عثمان من بني لحيان"، وقال محمد بن حبيب أم قلابة أمية بنت مالك بن غنم بن لحيان بن غادية وأمها بنت كهف الظلم من ثقيف، كما في الروض "فالجدة الأولى والثانية والثالثة من أمهات أمه عليه الصلاة والسلام قرشيات وأم أب أم سليمة" ولذا قال: أنا ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 والرابعة لحيانية هذلية، والخامسة ثقفية، ففي كل قبيلة من قبائل العرب له عليه الصلاة والسلام عقلة نسب. وإما إخوته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة. فحمزة وهو عمه وأبو سلمة بن عبد الأسد، أرضعتهما معا معه صلى الله عليه وسلم ثوبية جارية أبي لهب بلبن ابنها مسروح بن ثويبة.   العواتك من سليم. "والرابعة لحيانية" بكسر اللام وسكون الحاء "هذلية" نسبة إلى لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. "والخامسة ثقفية ففي كل قبيلة من قبائل العرب له عليه الصلاة والسلام عقلة نسب" وقدم المصنف في المقصد الأول عن محمد بن السائب الكلبي، قال: كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان من أمر الجاهلية. وقدمت الجواب عن استشكاله بأن أمهاته لا تبلغ ذلك، بأن مراده الجدات وجدات الجدات من قبل الأبوين، أو بالنظر إلى أن له في كل قبيلة عقلة نسب، فجميع نسائهم جدات، أو عمات، أو خالات فعد قرابتهم له ولادة. والمراد أن نسبه صلى الله عليه وسلم بحواشيه وأطرافه جميل لم يسمه دنس. "وأما أخوته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة" أراد بهم ما يشمل الإناث كقوله وإن كان له إخوة. وأخرهم مع تقديمهم في الترجمة على الجدات لكونهم من الأصول. "فحمزة وهو عمه" سيد الشهداء "وأبو سلمة" عبد الله بن عبد الأسد" بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي من السابقين الأولين، قال ابن إسحاق: أسلم بعد عشرة أنفس. وروى ابن أبي عاصم في الأوائل من حديث ابن عباس أول من يعطي كتابه بيمينه أبو سلمة بن عبد الأسد، وأول من يعطي كتابه بشماله أخوه سفيان بن عبد الأسد هاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وشهد بدرا قال ابن منده: ومات بالمدينة بعد أن رجعوا منها، وقال ابن إسحاق بعد أحد، وهو الصحيح، وهو ابن برة عمة النبي صلى الله عليه وسلم "أرضعتهما معا معه صلى الله عليه وسلم ثويبة" بضم المثلثة وفتح الواو وسكون التحتية فموحدة فهاء تأنيث، كما في الصحيحين. "جارية أبي لهب بلبن ابنها مسروح" بفتح الميم وسكون المهملة وضم الراء وسكون الواو وحاء مهملة، قال في الإصابة: لم أقف في شيء من الطرق على إسلامه، وهو محتلم "بن ثويبة" قال البلاذري أرضعته صلى الله عليه وسلم أياما قلائل قبل أن تأخذه حليمة وأرضعت قبله حمزة وبعده أبا سلمة وبهذا ينحل إشكال أن حمزة أسن منه فكيف يكون أخاه، كما مر هكذا ذكر غير واحد أن حمزة رضيعه صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فقط، وهو الذي في الصحيحين، وذكر ابن القيم أن حمزة كان مسترضعا في بني سعد، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وهو عند حليمة، فكان رضيعه من جهتين جهة السعدية وجهة ثوبية انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أرضعته ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية، وعبد الله وآسية وجدامة -وتعرف بالشيماء- الثلاثة أولاد حليمة. وقد روي أن خيلا له أغارت على هوازن فأخذوها في جملة السبي،   "وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" الهاشمي الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم، أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة. أخرجه الحاكم وغيره، وقال: أبو سفيان خير أهلي رواه أبو عمر بن عبد البر والحاكم والطبراني بسند جيد "أرضعته ورسول الله صلى الله عليه وسلم حليمة السعدية وعبد الله" بفتح العين ابن الحارث بن عبد العزى السعدي الصحابي ذكره في الإصابة في القسم الأول في العبادلة المكبرين، ولم يدركه فيمن اسمه عبيد الله، بضم العين فيما يقع في بعض النسخ عبيد تصحيف من النساخ زادوها ياء، ثم أورده في المخضرمين، وقال فيه: أخرج ابن سعد بسند صحيح من مرسل إسحاق بن عبد الله، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم أخ من الرضاعة، فجعل يقول له: أترى أن يكون بعث بعد الموت، فيقول صلى الله عليه وسلم: "أي والذي نفسي بيده لآخذن بيدك يوم القيامة ولأعرفنك"، قال: فلما آمن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم جعل يبكي، ويقول: أنا أرجو أن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي يوم القيامة فأنجو انتهى. وحاصل ذكره في الموضعين أنه لا نزاع في إسلامه بل في أنه صحابي، "وآسية" بالمد فسين مهملة فتحتية، قال في الإصابة: بنت الحارث السعدية أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة. ذكره أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى انتهى، ويقع في بعض النسخ أنيسة بنون، وتقديم التحتية على السين، وهو تصحيف، فلم يذكرها في الإصابة فيمن اسمه أنيسة، إنما ذكر ما نقلت عنه بلفظ آسية، وهي أول امرأة بدأ بها من الصحابيات "وجدامة" بضم الجيم ودال مهملة ميم، كما جزم به ابن سعد، وقيل بخاء مكسورة، وذال معجمتين ذكره ابن إسحاق في رواية زياد، وقيل حذافة بضم الحاء المهملة، وفتح الذال المعجمة، فألف ففاء، ذكره ابن إسحاق في رواية يونس، وجزم به ابن عبد البر، وصوبه الخشبي، واقتصر في الإصابة على الأول والثالث، وفي الروض على الأخيرين، "وتعرف بالشيماء" بفتح الشين المعجمة وسكون الياء، ويقال: الشماء بلا ياء، قال ابن إسحاق، غلب على اسمها، فلا تعرف في قومها إلا به، وذكرها أبو نعيم وغيره في الصحابة "الثلاثة أولاد حليمة" من زوجها الحارث قاله ابن إسحاق. "وقد روي" عند ابن سعد "أن خيلا له أغارت على هوازن" لما بعث أبا عامر الأشعري في طلب الفارين منهم يوم حنين، فهزموهم وسبوا النساء والذرية، "فأخذوها في جملة السبي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 فقالت: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت له: يا محمد، أنا أختك، فرحب بها وبسط لها رداءه وأجلسها عليه ودمعت عيناه، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أحببت فأقيمي عندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك". قالت: بل أرجع إلى قومي، فأسلمت، وأعطاها صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء. ذكره أبو عمر وابن قتيبة. وأما أمه من الرضاعة، فحليمة بنت أبي ذؤيب من هوازن، وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه، وجاءته عليه الصلاة والسلام يوم حنين.   فقالت: أنا أخت صاحبكم" من جهة أنه صلى الله عليه وسلم رضع أمها بلبان أختها. قال ابن إسحاق: فلم يصدقوها، "فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت له: يا محمد أنا أختك" زاد ابن إسحاق، قال: "وما علامة ذلك"؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري، وأنا متوركتك، فعرف صلى الله عليه وسلم العلامة، "فرحب بها، وبسط لها رداءه، وأجلسها عليه، ودمعت" بفتح الميم "عيناه" رقة عليها، "وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أحببت فأقيمي عندي مكرمة محببة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك"، قالت: بل" تصلي "وأرجع إلى قومي، فأسلمت"، رضي الله عنها، "وأعطاها صلى الله عليه وسلم ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء". "ذكره أبو عمر" بن عبد البر، "وابن قتيبة" وأسنده ابن إسحاق عن يزيد بن عبيد السعدي بنحوه، وفيه فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاما، يقال له مكحول وجارية، فزوجت أحدهما الأخرى، فلم يزل فيهم من نسلهما بقية، وذكر في الإصابة حفص بن الحارث من حليمة السعدية، ووصفه بأنه أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وقفت له عل رواية، عن أمه من طريق محمد بن عثمان اللخمي، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر، عن حفص بن حليمة، عن أمه، عن آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ميلاده انتهى. وذكر بعضهم في إخوته من الرضاع عبد الله بن جحش، ولم يصفه بذلك في الإصابة، وسنه يقصر عن ذلك، فإنه استشهد بأحد، وهو ابن بضع وأربعين سنة، وسنه صلى الله عليه وسلم يومئذ ست وخمسون "وأما أمه من الرضاعة فحليمة بنت أبي ذؤيب" بذال معجمة واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة، بكسر المعجمة، وسكون الجيم بعدها نون ابن جابر بن رزام بكسر المهملة، ثم زاي منقوطة ابن ناضرة بن قصية بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة "من" بني "هوازن" كما علمت "وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه" ورأت فيه آيات بينات مر بعضها في المقصد الأول، "وجاءته عليه الصلاة والسلام يوم حنين" بعد انصرافه من الغزو، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 فقال إليها وبسط رداءه إليها، فجلست عليه، وكذا ثوبية جارية أبي لهب أيضا، واختلف في إسلامها كما اختلف في إسلام حليمة وزوجها،   بالجعرانية، "فقام إليها، وبسط رداءه إليها، فجلست عليه" وروت عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنها عبد الله بن جعفر، كما في الاستيعاب، قال في الإصابة: وحديثه عنها بقصة إرضاعها أخرجه أبو يعلي وابن حبان في صحيحه، وصرح فيه بالتحديث بين عبد الله وحليمة، وأخرج أبو داود وأبو يعلى وغيرهما، عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة يقسم لحما، فأقبلت امرأة بدوية، فلما دنت من النبي صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه، فجلست عليه، فقلت: من هذه؟، قالوا: أمة أرضعته انتهى، وفي هذه القصة رد على ما وقع عند الواقدي أنه سأل بنتها الشماء لما جاءته عن أبويه، فأخبرته أنهما ماتا، والواقدي ما يحتج به إذا انفرد، فكيف إذا خالف، "وكذا ثوبية جارية أبي لهب" أمة رضاعة "أيضا". "واختلف في إسلامها" حكاه ابن منده وقال أبو نعيم: لا أعلم أحدا أثبته، وفي طبقات ابن سعد ما يدل على أنها لم تسلم: قال في الإصابة لكنه لا يدفع نقل ابن منده، "كما اختلف في إسلام حليمة" السعدية، فالأكثرون، وهو الصحيح على أنها أسلمت وصحبت، وزعم الدمياطي وأبو حيان النحوي أنها لم تسلم، وقال ابن كثير: لم تدرك البعثة، ورده الحافظ بأن عبد الله بن جعفر حدث عنها، عند أبي يعلى، والطبراني، وابن حبان، وهو إنما ولد بعد البعثة انتهى، وحسبك في الرد على الدمياطي قوله، وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة؛ لأنهم أثبتوا ذلك، فمن أين ل الحكم عليهم بالغلط، وأما أبو حبان فليس من فرسان ذا الميدان يذهب إلى زيده وعمره، وقد ألف الحافظ مغلطاي جزءا حافلا، سماه التحفة الجسمية في إثبات إسلام حليمة. وذكرها في الصحابة ابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عبد البر، وابن الجوزي في الحداء، والمنذري في مختصر السنن، وخاتمهم في الإصابة وحسبك بهم حجة، "وزوجها" الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن قصية بن نضر بن سعد بن بكر بن هوازن السعدي، فلم يذكره كثير ممن ألف في الصحابة، ولا ذكره البكائي في روايته عن ابن إسحاق، وذكره في الصحابة جماعة منهم صاحب الإصابة لما أخرجه ابن إسحاق في رواية يونس، عنه قال: حدثني والدي إسحاق بن يسار عن رجال من بني سعد بن بكر، قالوا: قدم الحارث أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة عليه بمكة حين أنزل عليه القرآن، فقالت له قريش ألا تسمع يا حار ما يقول ابنك، قال: وما يقول، قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيها من عصاه، ويكرم فيها من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني مالك، ولقومك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 والله أعلم. وكانت ثوبية تدخل عليه صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج خديجة فكانت تكرمها. وأعتقها أبو لهب، وكان عليه الصلاة والسلام يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر، ذكره أبو عمر. وكانت حاضنته عليه الصلاة والسلام أم أيمن، بركة بنت ثعلبة بن حصن بن مالك، غلبت عليها كنيتها، وكنيت باسم ابنها أيمن الحبشي، وهي أم أسامة بن زيد، تزوجها زيد بعد عبيدة،   يشكونك، ويزعمون أنك تقول إن الناس يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم"، فأسلم الحارث بعد ذلك، فحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني إن شاء الله حتى الجنة، قال ابن إسحاق: وبلغني أنه إنما أسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن سعد نحو هذه القصة لابنه، كما تقدم قريبا، قال في الإصابة: فيحتمل أن يكون ذلك وقع للابن والأب "والله أعلم" بما في نفس الأمر. "و" ذكر ابن سعد عن الواقدي، عن غير واحد من أهل العلم، أنه "كانت ثوبية تدخل عليه صلى الله عليه وسلم بعد أن تزوج خديجة، فكانت تكرمها" زاد ابن سعد، وهي ملك أبي لهب، وسألته خديجة أن يبيعها لها، فامتنع "وأعتقها أبو لهب" بعد الهجرة عند ابن سعد في هذه الرواية، والصحيح أنه أعتقها حين بشرته بولادته صلى الله عليه وسلم، كما مر، وقيل أعتقها قبل الولادة بدهر طويل، "وكان عليه الصلاة والسلام" لما هاجر "يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر" سنة سبع "ذكره أبو عمر". زاد ابن سعد ومات ابنها مسروح قبلها، "وكانت حاضنته عليه الصلاة والسلام أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن حصن بن مالك" بن سلمة بن عمرو بن النعمان، "غلبت عليها كنيتها"، فاشتهرت بها، "وكنيت باسم ابنها أيمن الحبشي" كذا، قال ابن عبد البر، والصواب أن الحبشي غير ابن أم أيمن، فإنه خزرجي، أما الحبشي فجاء مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، كما في الإصابة، "وهي أم أسامة بن زيد" الحب ابن الحب، "تزوجها زيد" الأمير، المستشهد بموته "بعد" موت "عبيدة" بن زيد، الذي كان تزوجها في الجاهلية بمكة، وكان قدمها وأقام بها، ثم نقلها إلى يثرب، فولدت له أيمن، ثم مات عنها، فرجعت إلى مكة. ذكر البلاذري، وأخرج ابن السكن مرفوعا "من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 فولدت له أسامة، ويقال: إنها كانت مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة. وكانت لعبد الله بن عبد المطلب. فورثها النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل كانت لأمه عليه الصلاة والسلام. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "أم أيمن أمي بعد أمي".   أم أيمن"، فتزوجها زيد بن حارثة، "فولدت له أسامة، ويقال له إنها كانت مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبتها له أخت خديجة، حكاه أبو نعيم، أسلمت قديما و"هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة" وساق الله لها في هجرتها إليها كرامة باهرة. قال ابن سعد: أخبرنا أبو أسامة عن جرير بن حازم سمعت عثمان بن القاسم يقول لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الروحاء، فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته، حتى رويت، فكانت تقول ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للصوم في الهواجر فما عطشت، وأخرجه ابن السكن من طريق هشام بن حسان عن عثمان بنحوه، وقال في روايته: خرجت مهاجرة من مكة إلى المدينة، وهي ماشية ليس معها زاد وفيه، فلما غابت الشمس إذا أنا بحقيق تحت رأسي، وفيه فلقد كنت بعد ذلك أصوم في اليوم الحار، ثم أطوف في الشمس، فما عطشت بعد، "و" قيل "كانت لعبد الله بن عبد المطلب فورثها النبي صلى الله عليه وسلم" من أبيه، وأعتقها لما تزوج خديجة، حكاه ابن سعد، "وقيل كانت لأمه عليه الصلاة والسلام"، حكاه ابن أبي خيثمة، "وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "أم أيمن أمي بعد أمي" في الشفقة والحنو علي ورعايتي وتعظيمي، أو في رعايتي لها واحترامها وتعظيمها. وعند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم أيمن: "يا أمه" وكانت تدل عليه ويزورها. وقد روى أحمد والبخاري وابن سعد عن أنس أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل يرد بعد ذلك فكلمني أهلي أن أسأله الذي كانوا أعطوه، أو بعضه، وكان أعطاه أم أيمن، فسألته، فأعطانيه، فجاءت أم أيمن، فجعلت تقول كلا والله لا يعطيكهن وقد أعطانيهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "لك كذا وكذا"، وتقول: كلا ويقول: "لك كذا وكذا"، وتقول: كلا، حتى أعطاها حسبته، قال عشرة أمثاله، أو قريبا من عشرة أمثاله، وأخرج مسلم، وأحمد وابن السكن وأبو يعلى، عن أنس كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أم أيمن فقدمت إليه لبنا، فإما كان صائما، وإما قال: "لا أريده"، فأقبلت تضاحكه، فلما كان بعد وفاته، قال أبو بكر لعمر: انطلق بنا نزور أم أيمن، كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها فلما دخلا عليها بكت، فقالا: ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: أبكي على الوحي الذي رفع عنا فهيجتهما على البكاء، فجعلت تبكي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 وكانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا مع أمها حليمة السعدية. خاتمة.   ويبكيان معها. قال الواقدي: ماتت في خلافة عثمان، وعند مسلم وابن السكن، عن الزهري أنها توفيت بعده صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر. قال الحافظ: وهذا مرسل، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن طارق بن شهاب لما قتل عمر بكت أم أيمن، وقالت: اليوم وهي الإسلام، وهو موصول، فهو أقوى، واعتمده ابن منده وغيره، وزاد ابن منده أنها ماتت بعد عمر بعشرين يوما، وجمع ابن السكن بين القولين، بأن التي ذكرها الزهري هي مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي ذكرها طارق هي مولاة أم حبيبة، وأن كلا منهما اسمها بركة، وتكنى أم أيمن، وهو محتمل على بعده انتهى، وكانت الشيماء بنت حليمة السعدية تحضنه أيضا مع أمها حليمة السعدية، فهي أخت وحاضنة ومر أنها كانت ترقصه وتقول: يا ربنا أبق أخي محمدا ... حتى أراه افعا وأمردا ثم أراه سيدا مسودا ... وأكتب أعاديه معا والحسدا واعطه عزا يدوم أبدا فكان أبو عروة الأزدي إذا أنشده يقول: ما أحسن ما أجاب الله تعالى دعاءها. "خاتمة" لم يذكر المصنف أخواله، وقد روى ابن شاهين عن عائشة أن الأسود بن وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم أستأذن عليه، فقال: "يا خال أدخل"، فدخل، فبسط له رداءه. وروى ابن الأعرابي في معجمه عن عبد الله بن عمرو، قال صلى الله عليه وسلم لخاله الأسود بن وهب: "ألا أعلمك كلمات من يرد الله به خيرا يعلمهن إياه، ثم لا ينسيه أبدا"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل اللهم إني ضعيف، فقو في رضاك ضعفي، وخذ إلى الخير بناصيتي، واجعل الإسلام منتهى رضاي". وروى ابن منده عن الأسود بن وهب خاله صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به"، قال: بلى: قال: "إن الربا أبواب الباب منه عدله بسبعين حوبا أدناها فجرة، كاضطجاع الرجل مع أمه، وإن أربى الربا باستطالة المرء في عرض أخيه بغير حق". وروى الخرائطي بسند ضعيف عن عمير بن وهب خال النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم عليه فبسط له رداءه، وقال: "الخال والد". قال في الإصابة: وهذه القصة للأسود بن وهب، فلعلها وقعت له ولأخيه عمير انتهى، وخاله أيضا عبد يغوث بن وهب والد الأسود الذي كان من المستهزئين، وذكر أبو موسى المديني في الصحابة فريعة بنت وهب الزهرية، فقال رفعها صلى الله عليه وسلم، وقال: "من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله، فلينظر إلى هذه" وروى أبو يعلى عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم أعطى خالته غلاما، فقال: "لا تجعليه قصابا ولا حجاما ولا صائغا". وروى الطبراني عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وهبت خالتي فاخته بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما" والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 الفصل الخامس: في خدمه وحرسه ومواليه، ومن كان على نفقاته، وخاتمه ونعله وسواكه ومن يأذن عليه ومن كان يضرب الأعناق بين يديه أما خدمه: فمنهم أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا حمزة، خدم النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين أو عشر سنين،   الفصل الخامس: في خدمه جمع خادم غلاما كان، أو جارية، والخادمة بالهاء في المؤنث قيل ويجمع على خدام أيضا، كما في المصباح "وحرسه" بفتحتين أيضا جمع حارس، ويجمع أيضا على حراس، "ومواليه" جمع موالي، أي عتقائه، وهذا صفات متداخلة، كما يعلم من كلامه الآتي: فمنهم من هو من الخدم والموالي، ومنهم خادم لا مولى، وعكسه "ومن كان على نفقاته" أمينا، و"خاتمه" الذي كان يلبسه "ونعله وسواكه" أي من كان يتولاها إذا قلعها، فيحفظها ويعيدها إليه إذا أرادها، "ومن يأذن عليه" بالدخول لمن أراده فيعلمه به، فإذا رضي صلى الله عليه وسلم أذن له، "ومن كان يضرب الأعناق بين يديه، أما خدمه فمنهم" أي بعضهم إشارة إلى أنه لم يستوفهم، وهو كذلك "أنس بن مالك بن النضر" بالضاد المعجمة، "ابن ضمضم بن زيد" بن حرام من جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، "الأنصاري، الخزرجي" النجاري بالنون، أحمد المكثرين من الرواة وفي الصحابة أنس بن مالك الكعبي القشيري، فلذا قيد بالأنصاري "يكنى أبا حمزة" بالمهملة، والزاي ببقلة كان يحبها، والمكنى له النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الإصابة "خدم النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، أو عشر سنين" وهو الذي صح عنه أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين، وأن أمه أم سليم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم، فقالت له: هذا أنس غلام يخدمك، فقبله وكناه أبا حمزة ببقلة كان يحبها ومازحه، فقال له: يا ذا الأذنين وقال محمد بن عبد الله الأنصاري خرج أنس معه صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة". وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم منه. وتوفي سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة اثنين وقيل إحدى وتسعين وقد جاوز المائة. ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي، صاحب وضوئه،   إلى بدر، وهو غلام يخدمه، أخبرني أبي عن مولى لأنس أنه، قال له: أشهدتا بدرا، قال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك، وإنما لم يذكروه في البدريين؛ لأنه لم يكن في سن من يقاتل. وروى البخاري عن موسى بن أنس أن أنسا غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان غزوات، ذكره في الإصابة، "ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم" كما أخرجه. عنه قال جاءت بي أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام فقالت: يا رسول الله أنيس ادع الله له، "فقال: "اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة" قال أنس: قد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة. وروى الطبراني عنه، قال: قالت أم سليم يا رسول الله ادع الله لأنس، فقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه، قال: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين، وإن أرضي لتثمر في السنة مرتين. وفي الترمذي عن أبي العالية أن أنسا خدمه صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ودعا له وكان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرتين، وكان في ريحان يجيء منه ريح المسك. "وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم منه" لأنه لما خدمه تقيد بضبط فعله وكيفيته، فكان يحاكيه في صلاته بحسب الطاقة، ولعل أبا هريرة قال: هذا بعد موت الخلفاء ونحوهم، وعن أبي هريرة أخبرني عن أنس غير هذا الحديث ومناقب أنس وفضائله كثيرة جدا، "وتوفي" بالبصرة، وهو آخر الصحابة موتا بها، كما قال علي بن المديني "سنة ثلاث وتسعين" في قول أبي نعيم والمدائني وخليفة "وقيل سنة اثنتين" وتسعين حكاه الواقدي "وقيل سنة إحدى وتسعين" رواه ابن شاهين عن حميد، وقاله معتمر سليمان، والهيثم بن عدي، وسعيد بن غفيرة، وقيل سنة تسعين، "وقد جاوز المائة" بسنة واحدة، قاله يحيي بن بكير، وقيل بسبع سنين، حكاهما ابن شاهين، وقيل بثلاث سنين، قاله خليفة. وروى ابن شاهين عن حميد، قال: كان عمر أنس مائة سنة إلا سنة. وروى ابن السكن عن ثابت قال لي أنس: هذه شعرة من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضعها تحت لساني، قال: فوضعتها تحت لسانه، فدفن وهي تحت لسانه، "ومنهم ربيعة بن كعب"، بن مالك بن يعمر أبو فراس "الأسلمي" بالفتح نسبة إلى أسلم قبيلة من الأزد "صاحب وضوئه" بضم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 وتوفي سنة ثلاث وستين. ومنهم: أيمن ابن أم أيمن، صاحب مطهرته عليه الصلاة والسلام، استشهد يوم حنين. ومنهم عبد الله بن مسعود بن غافل -بالمعجمة والفاء- ابن حبيب الهذلي، أحد السابقين الأولين وشهدا بدرا والمشاهد،   الواو، أي الذي يباشره فيه بنحو صب الماء، فغايرت خدمته صاحب المطهرة. روى حديثه مسلم وغيره من طريق أبي سلمة عن ربيعة بن كعب، قال: كنت أبيت على باب النبي صلى الله عليه وسلم وأعطيه الوضوء، فأسمعه الهوى من الليل يقول: "سمع الله لمن حمده"، وكان من أهل الصفة. قال الوافدي: ولم يزل مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض، فخرج من المدينة فنزل في بلاد أسلم على بريد من المدينة وبقي إلى أيام الحرة، "وتوفي" بعدها "سنة ثلاث وستين" في ذي الحجة انتهى، وأقره في الإصابة، وجزم به في التقريب فما في نسخة ثلاث وتسعين تحريف "ومنهم أيمن ابن أم أيمن" وهو أيمن بن عبيد بن زيد بن عمرو بن بلال الأنصاري والخزرجي، كما نسبه ابن سعد وابن منده وأما أبو عمر، فقال: أيمن بن عبيد الحبشي، وهو ابن أم أيمن أخو أسامة لأمه، وقد فرق ابن أبي خيثمة بين الحبشي وبين ابن أم أيمن، وهو الصواب، فإن الحبشي أحد من جاء مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، كما في الإصابة، وقد تقدم صاحب مطهرته عليه الصلاة والسلام، بكسر الميم آلة الطهر، كما في النور، وقال في المصباح والفتح لغة، ومنه السواك مطهرة للفم مرضاة للرب بالفتح انتهى، فهو بالفتح مصدر ميمي مرادا به اسم الفاعل، وعبر عنه بامصدر مبالغة، كزيد عدل، والحديث يروى بالوجهين، كما في التحفة: "استشهد يوم حنين" بين يديه صلى الله عليه وسلم لأنه كان ممن ثبت معه، كما في الغزوة وفيه يقول العباس: وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع "ومنهم عبد الله بن مسعود بن غافل بالمعجمة والفاء ابن حبيب" بن شمخ بفتح المعجمة وسكون الميم، فمعجمة ابن فار بفاء، فألف، فراء ابن مخزوم بن صاهلة بن كامل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة "الهذلي" نسبة إلى جده هذيل المذكور حليف بني زهرة. وأمه أم عبد بن عبدود، أسلمت، وصحبت "أحد السابقين الأولين" إلى الإسلام. روى أبو القاسم البغوي عنه بسند صحيح لقد رأيتني سادس سنة، وما على الأرض غيرنا، وهاجر الهجرتين، "وشهد بدرا والمشاهد" كلها مع المصطفى، ولازمه، وقال له صلى الله عليه وسلم: "أذنتك أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 وكان صاحب الوسادة والسواك والنعلين والطهور، وكان يلي ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ألبسه نعليه، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم، وتوفي بالمدينة وقيل بالكوفة سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث.   ترفع الحجاب وتسمع سوادي حتى أنهاك أخرجه أصحاب الصحيح. وقال أبو موسى: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينا ما نرى ابن مسعود إلا أنه من أهل البيت لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري، ومسلم والنسائي والترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يقرأ القرآن غضا، كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"، رواه أحمد وأبو يعلى، "وكان صاحب الوسادة" بكسر الواو المخدة، ورواية الصحيح الوساد بلا هاء، وهي المخدة أيضا، كما في شرح المصنف، كغيره "والسواك والنعلين والطهور"، وفي الصحيح والمطهرة بالهاء، وفي رواية بلا هاء "كان يلي ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم" يباشره ويقوم به "وكان" كما رواه الحارث وابن أبي عمر من مرسل القاسم بن عبد الرحمن، "إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم ألبسه نعليه"، ثم يأخذ العصا، فيمشي بها بين يديه، "وإذا جلس جعلهما في ذراعيه" كل فردة في ذراع "حتى يقوم" وكان حكمة ذلك تخلية يديه لخدمة المصطفى إن احتاج، أو شغلهما بالطاعة إذا أرادها، بهما وبقية هذه المرسل، فإذا قام ألبسه نعليه في رجليه، ومشى حتى يدخل الحجرة قبله، وقال علقمة: قال لي أبو الدرداء أليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوساد والمطهرة والسواك، أخرجه أصحاب الصحيح، ومراد الثناء عليه بخدمته صلى الله عليه وسلم، وأنه لشدة ملازمته، لما ذكر يكون عنده من العلم ما يستغني به الطالب عن غيره، وعن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه، فقال: ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد. أخرجه البخاري والترمذي: وزاد: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد من أقربهم إلى الله زلفى، وقال علي: أمر صلى الله عليه وسلم ابن مسعود أن يصعد شجرة، فيأتيه بشيء منها، فنظر أصحابه إلى خموشة ساقيه، فضحكوا منهما، فقال صلى الله عليه وسلم: "مم تضحكون؟ لرِجل عبد الله أثقل في الميزان من أحد"، رواه أحمد بسند حسن، وفضائله كثيرة شهيرة، "وتوفي بالمدينة" كما قاله أبو نعيم وغيره، "وقيل بالكوفة" قال في الإصابة: والأول أثبت "سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث" وثلاثين، وقد جاوز الستين وصلى عليه عثمان، ودفن بالبقيع. وفي تاريخ البخاري بسند صحيح، جاء نعي ابن مسعود إلى أبي الدرداء أي بالشام، فقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 ومنهم عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو الجهني، وكان صاحب بغلته يقود به في الأسفار، روينا عنه أن قال: بينما أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب يا عقبة"، فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أركب مركبه ثم أشفقت أن يكون معصية قال: فركبت هنيهة ثم نزلت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم وقدت به، فقال لي: "يا عقبة ألا أعلمك من خير سورتين قرأتهما الناس" فقلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقال: "قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس" الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي. ولأحمد: قال: "يا عقبة، ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم،   ما ترك بعده مثله، "ومنهم عقبة" بالقاف "ابن عامر بن عبس" بفتح المهملة، وسكون الموحدة، فمهملة "ابن عمرو" بفتح العين ابن عدي بن عمرو بن رفاعة "الجهني" نسبة إلى جده الأعلى جهينة وفي الصحابة عقبة بن عامر الأنصاري، وعقبة بن لسلمي، بضم السين، فلذا قيد بالجهني الصحابي المشهور. روى عنه صلى الله عليه وسلم كثيرا، وعنه جماعة من الصحابة والتابعين، وفي مسلم عنه، قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا في غنم لي أرعاها، فتركها، ثم ذهبت إليه، فقلت: بايعني، فبايعني على الهجرة، "وكان صاحب بغلته ويقود به في الأسفار" رفقا به صلى الله عليه وسلم في صعود الدابة لمرتفع وهبوطها منه، أو خروجها عن طريق، أو أنه كان في سيره مشغولا بالعبادة، كصلاة النافلة واشتغاله بالدابة يشغله عن ذلك، "روينا عنه أنه، قال: بينما أن أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب" بفتح النون، وسكون القاف طريق "من تلك النقاب" جمع نقب، ويجمع أيضا على أنقاب، "إذ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اركب يا عقبة" وحدك بدليل قوله، "فاجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه، ثم أشفقت" خفت "أن يكون معصية، مخالفة لأمره، "قال: فركبت هنيهة" تصغير هنة، بزيادة الهاء، أي شيئا يسيرا، كما في مقدمة الفتح، وفي القاموس بإبدال الياء هاء "ثم نزلت، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم وقدت به، فقال لي: "يا عقبة ألا علمك من" بيانية "خير سورتين قرأتهما الناس" من حيث النفع العائد عليهم، كالحفظ من الشيطان فلا ينافي أن ثواب قراءة غيرهما أكبر من قراءتهما؛ لأن الكلام ليس في الثواب، "فقلت: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقال: "قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس". "الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي رواية "لأحمد" أيضا، "قال صلى الله عليه وسلم: "يا عقبة ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور" بمعانيها، "والقرآن العظيم" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 قال: قلت بلى، يا رسول الله قال: فأقراني "قل هو الله أحد" و"قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس". وكان عالما بكتاب الله وبالفرائض فصيحا شاعرا مفوها، ولي مصر لمعاوية سنة أربع وأربعين ثم صرفه بمسلمة بن مخلد، وتوفي بها سنة ثمان وخمسين. ومنهم أسلع بن شريك صاحب راحلته، وفي الطبراني عن الربيع بن بدر   بألفاظها، أو المراد خير ثلاث أنزلت في الكتب المذكورة واختص بها القرآن، "قال: قلت بلى يا رسول الله قال فأقرأني" سورة "قل هو الله أحد" سورة "قل أعوذ برب الفلق" سورة "قل أعوذ برب الناس" فليس المراد ما ذكر فقط، كما هو ظاهر جدا، "وكان عالما بكتاب الله"، وهو أحد من جمع القرآن، ورأيت مصحفه بمصر على غير تأليف مصحف عثمان. قاله الحافظ أبو سعيد بن يونس، قال: وبالفقه "وبالفرائض فصيحا شاعرا مفوها" بضم الميم، وفتح الفاء وشد الواو، اسم مفعول من فوهه الله إذا أقدره على النطق ووسع فمه، "ولي مصر لمعاوية سنة أربع وأربعين، ثم صرفه"، عزله "بمسلمة"، بفتح الميم "ابن مخلد" بضم الميم، وفتح المعجمة، وشد اللام الصحابي الخزرجي، كما في الإصابة، قال الكندي: جمع معاوية لعقبة في إمارة مصر بين الخارج والصلاة، فلما أراد عزله كتب إليه أن يغزو رودس، فلما سار استولى مسلمة، فبلغ عقبة، فقال: أغربة وعزلا، وذلك في سنة سبع وأربعين، وفي أخبار مصر للسيوطي، وولى معاوية عقبة سنة أربع وأربعين، فأقام إلى سنة سبع وأربعين، فعزله وولى معاوية بن خديج، فأقام إلى سنة خمسين فعزله، وولى مسلمة بن مخلد، وجمعت له مصر والمغرب، وهو أول وال جمع له ذلك انتهى. وروى أبو نعيم عن مكحول ركب عقبة بن عامر إلى مسلمة وهو أمير على مصر، فقال: أتذكر يوم قال صلى الله عليه وسلم: "من علم من أيه سيئة فسترها ستره الله بها من النار يوم القيامة"، قال: نعم، قال: فلهذا جئتك، "وتوفي" عقبه "بها" بمصر "سنة ثمان وخمسين" في آخرها كما أرخه الواقدي وغيره، وهو الصحيح كما في الإصابة. قال السخاوي: والمكان المنسوب له بقرافة مصر إنما هو بمنام رآه بعضهم بعد مدة متطاولة "ومنهم أسلع" بفتح الهمزة، وسكون المهملة، فلام فمهملة "ابن شريك" بن عوف الأعرجي بالراء، وصحف من إبدالها بالواو، "صاحب راحلته" الذي كان ينزل الرحل عنها ويضعه عليها. "وفي الطبراني" نعته بالأشجع، ثم ساق حديثه من طريقه، إحداهما "عن الربيع بن بدر". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 قال: حدثني أبي عن أبيه عن رجل يقال له أسلع قال كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحل له، فقال لي ذات يوم: "يا أسلع قم فارحل" فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه جبريل بآية الصعيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا أسلع فتيمم"، قال: فقمت فتيممت ثم رحلت له ثم سار حتى مر بماء ثم قال لي: "يا أسلع، مس أو أمس هذا جلدك" قال: فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، انتهى.   التميمي السعدي أبي عللاء البصري متروك، "قال: حدثني أبي" بدر بن عمرو بن جراد الكوفي، مجهول "عن أبيه" عمرو بن جراد التميمي، مجهول أيضا، كما في التقريب، "عن رجل، يقال له أسلع، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحل له، فقال لي ذات يوم" أي ساعة صاحبة يوم والمراد في يوم "يا أسلع قم، فارحل" فقلت يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتاه جبريل بآية الصعيد" التي في النساء، كما في الطريق الثانية، وظاهر هذا وصريح الرواية الثانية أنه سبب النزول، لكن هذا ضعيف فلا يعارض حديث عائشة في الصحيحين أن سبب نزول الآية إقامته صلى الله عليه وسلم على التماس قلادتها التي سقطت منها في بعض أسفاره، فأصبحوا ولا ماء معهم وليسوا على ماء، فشكوا إلى أبي بكر فعاتبها، فأنزل الله آية التيمم، وعلى تقدير الصحة، فلا مانع من تعدد السبب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا أسلع فتيمم"، قال: فقمت فتيممت، ثم رحلت له، ثم سار حتى مر بماء، فقال لي: "يا أسلع مس أو أمس" شك في اللفظ الذي، قاله من الراوي "هذا جلدك" أي اغتسل "قال" أسلع: "فأراني التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" آخره عن قوله فتيممت؛ لأنه أراد ذكر مقاله صلى الله عليه وسلم متصلا، ثم بيان ما فهمه عنه بغير القول "انتهى". الطريق الثاني ساقه الطبراني أيضا من طريق الهيتم بن زريق، عن أبيه، عن الأسلع بن شريك، قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جناية في ليلة باردة، فأراد صلى الله عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقته، وأنا جنب وخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت، أو أمرض، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ووضعت أحجارا فأسخنت بها ماء، فاغتسلت، ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: "يا أسلع ما لي أرى راحلتك تغيرت"؟ فقلت: يا رسول الله لم أرحلها رحلها رجل من الأنصار، قال: "ولم"؟ فقلت: إني أصابتني جنابة، فخشيت القر على نفسي، فأمرته فرحلها، ووضعت أحجارا فأسخنت ماء فاغتسلت به، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] إلى قوله {عَفُوًّا غَفُورًا} . قال في الإصابة: وهذه القصة فيها شبه يسير بالأولى، وبينهما مغايرة ظاهرة، فحمل الطبراني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 ومنهم: سعد مولى أبي بكر، وقيل سعيد، ولم يثبت، وروى عنه ابن ماجه. ومنهم: أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، أسلم قديما،   وجماعة الأمر على أن ذلك كله وقع لأسلع، ويؤيده أن ابن منده، قال في ترجمته أسلع بن شريك بن عوف الأعرجي، ثم روى ذلك عن بعض بني عم أسلع، وكذا، قال: خليفة في تاريخه: ولم أر في شيء من الطرق أنه أشجعي ولا يلتئم ذلك مع كونه من بني الأعرج بن كعب، كما قال خليفة، فلعله وقع فيه تصحيف أراد أن يقول الأعرجي، فقال الأشجعي. وأما ابن عبد البر، ففرق بين القصتين، وجعلهما الرجلين، كل منهما اسمه أسلع، فالأول، قال إنه ابن الأسقع روى حديثه الربيع بن بدر، والثاني أسلع بن شريك الأعرجي التميمي، ونسبة الثاني إلى الأعرج تدل على أنه الأول، فإن الأول ثبت أنه أعرجي وما أدري من أين له أن اسم أبيه الأسقع، فإن ثبت، فلعله كان يسمى شريكا، ويلقب بالأسقع، ووقع في أصله بخطه الأعوجي بالواو، وكذا وقع التميمي، وتعقبهما الرشاطي، فقال: إنما هو بالراء، وقد قال ابن السكن، في الأعرجي أيضا، يقال له ابن شريك فهذا يدل على الوحدة انتهى، "ومنهم سعد" بسكون العين، "مولى أبي بكر" الصديق، ويقال فيه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه كان يخدمه، "وقيل" اسمه "سعيد" بكسر العين وتحتية، "ولم يثبت" والأول أشهر وأصح، قال: ابن عبد البر "وروى عنه" النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث في قران التمر، وأشار إليه الترمذي، وله حديث آخر من هذا الوجه عند البغوي، قال فيه، عن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن ابن فتحون لهذا أنه مولاه الآتي، وليس كما ظن؛ لأنه إنما قيل في هذا مولاه، لكونه كان يخدمه، وأما الآتي، فاختلف في اسمه، كما في الإصابة، وقال في التقريب: قيل تفرد الحسن البصري بالرواية عنه، "ومنهم أبو ذر" الزاهد المشهور الصادق اللهجة، مختلف في اسمه واسم أبيه، والأصح المشهور أنه "جندب" بضم الجيم والدال، وفتحها "ابن جنادة" بضم الجيم ابن سكن، ولابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذريا جنيدب بالتصغير، وقيل اسمه برير بموحدة مصغرا ومكبرا، وقيل سكن بن جنادة بن قيس، وقيل في اسم أبيه عبد الله وعروة ويزيد، وسكن وفي اسم جدة سفيان "الغفاري" بمعجمة مكسورة وفاء نسبة إلى جده الأعلى غفار أبي القبيلة، "أسلم قديما" بمكة، وأعلن بإسلامه بين ظهرانيهم فضربوه، فأجاره العباس، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه، فأنقذه العباس وقصة إسلامة في الصحيحين مطولة على صفتين بينهما اختلاف ظاهر يطول جلبه، ويقال: أسلم بعد أربعة وانصرف إلى بلاد قومه، فأقامه بها حتى هاجر صلى الله عليه وسلم ومضت بدر وأحد، ولم تتهيأ له الهجرة إلا بعد ذلك، وكان طويلا أسمر اللون نحيفا، روى أحمد وغيره عنه إني لأقربكم مجلسا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 وتوفي بالربذة سنة إحدى وثلاثين، وصلى عليه عبد الله بن مسعود ثم مات بعده في ذلك اليوم، قاله ابن الأثير في "معرفة الصحابة" وفي التقريب للحافظ ابن حجر سنة اثنتين وثلاثين. ومنهم مهاجر مولى أم سلمة. ومنهم: حنين   رسول الله يوم القيامة، وذلك أني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "أقربكم مني مجلسا يوم القيامة من خرج من الدنيا كهيئته يوم تركته فيها، وأنه ما فيكم من أحد إلا وقد تسبب فيها بشيء غيري"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر". أخرجه أحمد وأبو داود وقال علي أبو ذر وعاء مليء علما، ثم أوكئ عليه، رواه أبو داود، ومناقبه كثيرة روى عن المصطفى، وعنه أنس وابن عباس وآخرون، "وتوفي بالربذة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة بقرب المدينة "سنة إحدى وثلاثين" في قول الأقل، "وصلى عليه عبد الله بن مسعود" في قصة رويت بسند لا بأس به، وتقدمت في غزوة تبوك، "ثم مات بعده". قال المدائني: صلى عليه، ثم قدم المدينة، فمات بعده بقليل، وقال ابن الأثير، "في ذلك اليوم" بناء على القول الأصح أن ابن مسعود مات بالمدينة. "قاله" الحافظ عز الدين أبو الحسن علي "بن الأثير" محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، الجزري، المحدث، اللغوي، النسابة، المكمل العارف بالرجال وأسمائهم لا سيما الصحابة، وكانت داره مجمع الفضلاء، مات في شعبان سنة ثلاث وستمائة "في" كتابه أسد الغابة في "معرفة الصحابة" وهو أخو صاحب النهاية، وجامع الأصول. "وفي التقريب" أي تقريب التهذيب في رجال الكتب الستة "للحافظ ابن حجر" مات أبو ذر "سنة اثنتين وثلاثين" قال في الإصابة، وعليه الأكثر، "ومنهم مهاجر مولى أم سلمة،" يكنى أبا حذيفة صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وخدمه، وشهد فتح مصر، واختطبها دارا، ثم تحول إلى طحا، فسكنها إلى أن مات. ذكره أبو سعيد بن يونس وأخرج الحسن بن سفيان، وابن السكن، ومحمد بن الربيع الجيزي، والطبري وابن منده من طريق بكير مولى عمرة، سمعت المهاجر يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته، لم تركته، ورواه أبو عمر عنه بلفظ خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس سنين فذكره، "ومنهم حنين" بمهملة ونونين مصغر، قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 والد عبد الله، مولى عباس، كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وهبه لعمه العباس. ومنهم: نعيم بن ربيعة الأسلمي. ومنهم: أبو الحمراء مولاه صلى الله عليه وسلم وخادمه، واسمه هلال بن الحارث، أو ابن ظفر، نزل حمص وتوفي بها. ومنهم: أبو السمح خادمه عليه الصلاة والسلام واسمه إياد.   البخاري وأبو حاتم وابن حبان له صحبة، وهو "والد عبد الله" بن حنين الهاشمي، مولاهم المدني، الثقة المشهور من رجال الجميع، وحنين "مولى عباس" بن عبد المطلب، "كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وهبه لعمه العباس". روى سمويه والبخاري في التاريخ أن حنينا كان غلاما للنبي صلى الله عليه وسلم، فوهبه للعباس عمه، فأعتقه، فكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا توضأ خرج بوضوئه إلى أصحابه، فحبسه حنين، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حبسته لأشربه، وروى يعقوب بن شيبة عن حنين كنا يوم خيبر، فجعل صلى الله عليه وسلم على الغنائم سعد بن أبي وقاص، وسعد بن عابدة، "ومنهم نعيم بن ربيعة" بن كعب "الأسلمي". ذكره ابن منده في الصحابة، وقال: روى حديثه إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن نعيم بن ربيعة كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وتعقبه أبو نعيم بأن الصواب عن نعيم عن ربيعة وهو كما قال، وإنما وقع فيه تصحيف عن فصارت ابن، وقد أخرج الحديث المذكور أحمد في المسند من طريق محمد بن عمرو بن عطاء عن نعيم وهو المجمر عن ربيعة بن كعب الأسلمي، والحديث حديث ربيعة وهو مشهو عنه ويتعجب من خفاء ذلك على ابن منده مع شدة حفظه، وأصله في صحيح مسلم من وجه آخر عن ربيعة ذكره في الإصابة في القسم الرابع فيمن ذكره في الصحابة غلطا، ومنهم "أبو الحمراء" بحاء مهملة بلفط تأنيث أحمر "مولاه صلى الله عليه وسلم وخادمه، واسمه هلال بن الحارث، أو" هلال "ابن ظفر"، كذا ساوى بين القولين في التقريب، وصدر بالأول في الإصابة قائلا، ويقال ابن ظفر "نزل حمص وتوفي بها" وروى ابن المنذر وابن جرير عنه، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة إلا أتى باب علي، فرفع يده على جنبتي الباب، ثم قال: "الصلاة الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". ورواه الطبراني بلفظ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فذكره، وقد ورد أيضا من حديث أنس، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم، "ومنهم أبو السمح" بفتح المهملة، وسكون الميم، فمهملة "خادمه" ومولاه "عليه الصلاة والسلام، واسمه إياد" كذا جزم به مع أن الإصابة قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 ومن النساء: بركة أم أيمن الحبشية، وهي والدة   يقال: اسمه إياد. وقال أبو زرعة: لا أعرف اسمه، ولا أعرف له غير حديث واحد، وأخرجه ابن خزيمة، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه والبغوي من طريق محل بن خليفة، حدثني أبو السمح، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أراد أن يغتسل، قال: "ولني قفاك"، قال أبو عمر يقال: إنه قتل فلا ندري أين مات انتهى. هذا وأسقط المصنف من الخدم أريد ذكره ابن منده في تاريخه، وأبو موسى المديني، وأسماء وأخاه هندا ابني حارثة الأسلمي، قال أبو هريرة: ما كنت أرى هندا وأسماء ابني حارثة إلا خادمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول لزومهما بابه وخدمتهما إياه. رواه ابن سعد، والحاكم، والأسود والحدرجان بن مالك الأسدي اليماني خدماه صلى الله عليه وسلم وصحباه. رواه ابن منده والبراء بن مالك بن النضر أخاه أنس لأبيه كان يرحل له صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، رواه الحاكم، وبكرا مكبر، ويقال بكير بن الشداخ الليثي، كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، وهو غلام، فلما احتلم أعلمه، فدعا له. رواه ابن منده وثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري، كان يخدمه صلى الله عليه وسلم، فبعثه في حاجة، فمر بباب أنصاري، فرأى امرأته تغتسل فكرر النظر إليها، ثم خاف أن ينزل الوحي، فهرب على وجهه، فأتى جبالا بين مكة والمدينة، فدخلها، ففقده صلى الله عليه وسلم أربعين يوما، فنزل جبريل، فقال: إن الهارب بين الجبال يتعوذ بالله من النار، فأرسل عمر وسلمان فأتياه به، فمرض، ومات خوفا من الله. رواه ابن منده وابن شاهين وأبو نعيم، وجديعا بجيم مصغر ابن بدير تصغير بدر المرادي، ثم الكعبي ذكره ابن يونس، وحبة بمهملة وموحدة ابن خالد الخزاعي، حديثه في ابن ماجه وحسان الأسلمي. ذكر الطبري أنه كان يسوق به صلى الله عليه وسلم هو وخالد بن يسار الغفاري ذو مخمر بالميم، ويقال بموحدة ابن أخي النجاشي، أو ابن أخته بعثه، ليخدم النبي صلى الله عليه وسلم نيابة عنه، وحديثه في أبي داود وغيره، وسابقا خادم النبي صلى الله عليه وسلم ذكره خليفة، وكناه أبا سلام، وهو وهم إنما لحديث عن ساق بن ناجية عن أبي سلام خادم النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عبد البر وغيره، وهو بفتح المهملة وشد اللام، وسالما الهاشمي ذكره العسكري، ويمكن أن يعد غير هؤلاء، فقد خدمه الصديق بنفسه في سفر الهجرة، وقاد به ابن رواحة ناقته في العمرة، "ومن النساء بركة أم أيمن الحبشية، وهي والدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 أسامة بن زيد مات في خلافة عثمان رضي الله عنه. وخولة جدة حفص. وسلمى أم رافع، زوج أبي رافع.   أسامة بن زيد" رضي الله عنهم أجمعين "ماتت في" أول "خلافة عثمان رضي الله عنه" بعد عمر بعشرين يوما، قاله ابن منده وغيره وتقدمت قريبا. "وخولة جدة حفص" بن سعيد الذي روى عن أمه عنها، وكانت خادم النبي صلى الله عليه وسلم أن جروا دخل البيت، فدخل تحت السرير، ومكث ثلاثا لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل لا يأتيني"، فقلت: والله ما علمت فأخذ برده، فلبسه وخرج، فقلت: لو هيأت البيت، فكنسته، فإذا بجرو ميت، فأخذته، فألقيته، فجاء صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا أتاه الوحي أخذته الرعدة، فقال: "يا خولة دثريني"، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} الآية، أخرجه ابن أبي شيبة والطبراني، قال أبو عمر: ليس إسناده يحتج به، قال الحافظ: قصة إبطاء الوحي بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيحين، وغيرهما، أنه اشتكى صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أري شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله والضحى السورة. "وسلمى" بفتح فسكون "أم رافع زوج أبي رافع" يقال إنها مولاة صفية، ويقال لها أيضا مولاة النبي، وخادم النبي صلى الله عليه وسلم. روى الترمذي عن علي بن عبد الله بن رافع عن جدته، وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ما كان يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء. وروى أحمد عن عائشة، جاءت سلمى امرأة أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه تستأذنه على أبي رافع وقالت: إنه يضربني، فقال: "ما لك ولها"؟، قال: إنها تؤذيني يا رسول الله، قال: "بماذا آذيتيه يا سلمى"؟، قالت: ما آذيته بشيء، ولكنه أحدث، وهو يصلي، فقلت: يا أبا رافع إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم ريح أن يتوضأ، فقام يضربني، فجعل صلى الله عليه وسلم، يضحك، ويقول: "يا أبا رافع لم تأمرك إلا بخير". قال في الإصابة وفي طبقات ابن سعد في قصة تزويج زينب بنت جحش، فقال: "من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله زوجنيها"، فخرجت سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم تشتد، فحدثتها بذلك، وأظنها أم رافع هذه. قال: وروى ابن شاهين عن سلمى خادم النبي صلى الله عليه وسلم أن أزواجه كن يجعلن رءوسهن أربعة قرون، فإذا اغتسلن جمعنها، وسلمى هي أم رافع ظنها ابن شاهين رجلا، وذكر أن الراوي، قال مرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 وميمونة بنت سعد. وأم عياش مولاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يضرب الأعناق بين يديه، علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح،   عن سالم خادم النبي، فكأنه تغير من سلمى. "وميمونة بنت سعد" بسكون العين ويقال سعيد بكسرها، وياء، كانت تخدمه صلى الله عليه وسلم، وروى عنه، وروى لها أصحاب السنن الأربعة. "وأم عياش" بعين مهملة، ثم تحتية، ثم شين معجمة، كما اقتصر عليه في التبصير والنور زاد الشامي، وقيل بموحدة ومهملة، "مولاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم" روى حديثها حفيدها عنبسة بن سعيد بن أبي عياش عن جدته أم أبيه أم عياش، وكانت أمه لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنت أوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائمة، وهو قاعد. أخرجه ابن ماجه، وروى ابن منده عن حفيدها، عنها: رأيت رسول الله حتى شاربه، وما رأيته يخضب حتى مات، ومن الخادمات أيضا رزينة براء، ثم زاي خادمه ومولاة زوجه صفية، كما في الإصابة، وصفية خادم رسول الله، روت عنها أمة الله بنت رزينة، خبرا، مرفوعا، في الكسوف، قاله أبو عمر ومارية جدة المثني بن صالح لها حديث عند أهل الكوفة، قالت صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أر كفا ألين من كفه، ومارية أم الرباب حديثها عند أهل البصرة، قالت: طأطأت للنبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين. أخرجهما ابن منده وغيره، قال أبو عمر تبعا لابن السكن: لا أدري أهي التي قبلها، أم لا، وقال أبو نعيم: أفردهما ابن منده، وهما عنده واحدة، وتوقف فيه الحافظ، ومال إلى أنهما اثنتان، وذكر اليعمري أمة الله وعزاه الشامي للإصابة، ولم أره فيها، فالله أعلم نعم فيها أميمة، قال أبو عمر: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم وحديثها عند أهل الشام، أنها كانت توضئ النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إني أريد اللحوق بأهلي فأوصني، قال: "لا تشركي بالله شيئا وإن قطعت وحرقت". الحديث أخرجه ابن السكن والحسن بن سفيان وغيرهما، "وكان" كما أخرجه الطبراني برجال الصحيح، عن أنس "يضرب الأعناق بين يديه على بن أبي طالب" أبو الحسن أمير المؤمنين الهاشمي، "والزبير بن العوام" الحواري "والمقداد بن عمرو" المعروف بابن الأسود الكندي، "ومحمد بن مسلمة"، الأنصاري، "وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح"، بالقاف والمهملة، الأنصاري المستشهد في بعث الرجيع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 والضحاك بن سفيان. وكان قيس بن سعد بن عبادة بين يديه عليه الصلاة والسلام بمنزلة صاحب الشرطة. وكان بلال رضي الله عنه على نفقاته. ومعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي على خاتمه. وابن مسعود على سواكه ونعله، كما تقدم. وأبو رافع واسمه أسلم -وقيل غير ذلك- قبطي، كان على ثقله. وأذن عليه في المشربة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه رباح النوبي. وأما حراسه: فمنهم سعد بن معاذ بن النعمان بن   زاد في رواية الطبراني وأبو سعيد والمغيرة بن شعبة وقيس، قال "و" كان "الضحاك بن سفيان" بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلابي سياف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي: كان شجاعا بعد بمائة فارس، "وكان قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي "بين يديه عليه الصلاة والسلام بمنزلة صاحب الشرطة"، بضم المعجمة والراء، وقد تفتح الراء الواحد شرطي، أي بمنزلة كبيرهم وهم أعوان الولاة، سموا بذلك؛ لأنهم الأشداء الأقوياء من الجند، وقيل لأنهم نخبة الجند وشرطة كل شيء خياره، وقيل لأن لهم علامات يعرفان بها. وهذا الحديث كله رواه الطبراني، كما علمت، وروى القطعة الأخيرة منه البخاري عن أنس، قال: إن قيس بن سعد كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، "وكان بلال رضي الله عنه على نفقاته" عليه السلام، قال في الشامية: كان يلي أمر النفقة على العيال، ومعه حاصل ما يكون من المال، "ومعيقيب" بكسر القاف، فتحتية، فموحدة مصغر، ويقال معيقب بلا ياء ثانية "ابن أبي فاطمة الدوسي" أسلم قديما وشهد المشاهد، وهاجر الهجرتين يأتي في كتابه "على خاتمه وابن مسعود على سواكه ونعله" وغيرهما، "كما تقدم" قريبا، "وأبو رافع واسمه أسلم" على المشهور، "وقيل غير ذلك" فقيل إبراهيم، وسنان، ويسار، وصالح، وعبد الرحمن، وقزمان، ويزيد، وثابت، وهرمز فتلك عشرة كاملة "قبطي" بالقاف، "كان على ثقله" بفتح المثلثة، وكسرها، وتح القاف، أي أمتعته، "وأذن عليه" صلى الله عليه وسلم "في المشربة" بضم الراء، ويجوز فتحها الغرفة العالية التي جلس فيها حين اعتزل نساءه شهرا. ومرت القصة "لعمر بن الخطاب رضي الله عنه" حين استأذن في الدخول "رباح النوبي،" كما سماه مسلم في روايته، وهو فاعل إذن، "وأما حراسه، فمنهم سعد بن معاذ بن النعمان بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 امرئ القيس، سيد الأوس، أسلم بين العقبتين على يد مصعب بن عمير، وشهد بدرا واحدا والخندق، فرمى فيه بسهم عاش شهرا ثم انتقض جرحه فمات. حرس النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين نام في العريش. ومنهم: محمد بن مسلمة الأنصاري، حرسه يوم أحد. ومنهم: الزبير بن العوام حرسه يوم الخندق. ومنهم: بلال، المؤذن، مولى أبي بكر رضي الله عنه، أسلم قديما، وعذب في الله، وسكن الشام أخيرا،   امرئ القيس" بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن المسيب بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي الأشهلي، "سيد الأوس، أسلم بين العقبتين" الثانية والثالثة "على يد مصعب بن عمير" حين بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم، ليعلمهم القرآن، فأسلم على يده خلق كثير من الأنصار، منهم هذا السيد، وأسيد بن حضير في يوم واحد، ثم ذهب سعد ومعه أسيد إلى بني عبد الأشهل قومه، فقال سعد: كيف تعلمون أمري فيكم، قالوا: سيدنا وأفضلنا، قال فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فوالله ما أمسى فيهم رجل، ولا امرأة إلا مسلم ومسلمة. ذكره ابن إسحاق "وشهد بدرا وأحدا والخندق" باتفاق في الثلاثة، "فرمى فيه بسهم" أصاب أكحله "عاش" بعده "شهرا" حتى حكم في قريظة، وأجيبت دعوته في ذلك، وأشرف جرحه على البرء، "ثم انتقض" بقاف وبمعجمة تغير "جرحه" بسبب عنز مرت به، فأصاب ظلفها موضعه، "فمات" رضي الله عنه، ومر شيء من فضائله في غزوة قريظة وقبلها في الهجرة "حرس النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين نام في العريش" كما جزم به اليعمري تبعا لغيره، وكان على باب العريش متوشحا سيفه في نفر من الأنصار والصديق مع المصطفى في داخل العريش، كما مر في الغزوة، "ومنهم محمد بن مسلمة الأنصاري حرسه يوم أحد". زاد في بعض نسخ الشامية يوما واحدا، وكان مراده يوم أحد كله إذ هو يوم واحد. "ومنهم الزبير بن العوام حرسه يوم الخندق" يحتمل حقيقة اليوم، ويحتمل زمن الخندق لبقائه أياما، "ومنهم بلال المؤذن مولى أبي بكر رضي الله عنه، أسلم قديما وعذب في الله" كان لبعض بني جمح، وكان أمية بن خلفة يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بصخرة عظيمة، فتلقى على صدره، ثم يقول: لا تزال كذلك حتى تموت، أو تكفر بمحمد، فيقول: أحد أحد فمر به أبو بكر، فاشتراه، قيل بخمس أواق فضة، وقيل بعبد أسود، ويحتمل أنه اشتراه بها، فأعتقه فلزم النبي صلى الله عليه وسلم وشهد معه جميع المشاهد، "وسكن الشام أخيرا". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 ولا عقب له، وتأتي وفاته إن شاء الله تعالى، وكان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم بوادي القرى. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر في العريش شاهرا سيفه على رأسه صلى الله عليه وسلم لئلا يصل إليه أحد من المشركين. رواه ابن السمان في الموافقة. ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية. وكان يحرسه عليه الصلاة والسلام أيضا عباد بن بشر. فلما نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] ترك ذلك.   لقوله لأبي بكر، وقد منعه من الخروج لا أريد المدينة بغير رسول الله صلى الله عليه وإني رأيت أفضل عمل المؤمن الجهاد، فأردت أن أرابط في سبيل الله، فقال أبو بكر: أنشدك الله وحقي، فأقام معه بلال حتى توفي، فأذن له عمر، فتوجه إلى الشام مجاهدا حتى مات، كما في طبقات ابن سعد، "ولا عقب له" على المنصوص لا، كما يزعم بعض أن له عقبا، "وتأتي وفاته إن شاء الله تعالى" في المؤذنين، "وكان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم بوادي القرى" هو وسعد بن أبي وقاص وذكوان بن عبد قيس، كما في العيون، "وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم بدر في العريش شاهرا سيفه على رأسه صلى الله عليه وسلم لئلا يصل إليه أحد من المشركين" كأنه لم يعده من الحرس؛ لأن فعله من نفسه خوفا وشفقة عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقصده منه، ولأنه تقيد فيه بلفظ الرواية المفادة بقوله: "رواه ابن السمان في الموافقة". قال البرهان: ورأيت في سيرة مطولة جدا أنه حرسه في ليلة من ليالي الخندق أبو بكر وعمر، "ووقف المغيرة بن شعبة على رأسه بالسيف يوم الحديبية" كما في الصحيح، وعدل عن نسق ما قبله لفعله من نفسه أيضا، وكان يحرسه عليه الصلاة والسلام أيضا عباد بن بشر" عبر بكان، مع المضارع المفيد التكرار إشارة إلى تكرر حراسته، "فلما نزلت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، ترك ذلك صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية، {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، فأخرج رأسه من القبة. فقال: "يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله". رواه الترمذي والحاكم وعن أبي سعيد كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه، فلما نزلت ترك الحرس وعن عصمة بن مالك الخطمي، كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فلما نزلت ترك الحرس رواهما الطبراني، وورد أيضا من حديث أبي ذر عند أبي نعيم، ولم يرد من حديث أنس، كما زعم البيضاوي تبعا للكشاف، وقد نبه عليه الطيبي والشيخ سعد الدين والسيوطي، وممن حرسه أيضا الأدرع السلمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 وأما مواليه صلى الله عليه وسلم: فمنهم أسامة وأبوه زيد بن حارثة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم،   روى ابن ماجه عنه، قال: جئت أحرس النبي صلى الله عليه وسلم فإذا رجل ميت، فخرج صلى الله عليه وسلم، فقيل: هذا عبد الله ذو البجادين الحديث، وقد رويت هذه القصة من طريق زيد بن أسلم عن ابن الأدرع فالله أعلم. ذكره في الإصابة في حرف الألف، وقال: في حرف السين سلمة بن الأدرع، هو ابن ذكوان بن الأدرع روى ابن منده وغيره عن زيد بن أسلم عن سلمة بن ذكوان، قال: كنت أحرس رسول الله ذات ليلة، فخرج لحاجته، فانطلقت معه، فمر برجل في المسجد يصلي رافعا صوته الحديث. وأخرجه من وجه آخر عن زيد، قال: قال ابن الأدرع فذكره انتهى، وأبو قتادة الحارث بن ربعي على الأشهر، روى الطبراني في الصغير عنه أنه حرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلة بدر، فقال: اللهم احفظ أبا قتادة، كما حفظ نبيك هذه الليلة، قال في الإصابة: وهو غلط فإنه لم يشهد بدرا، والذي في مسلم عنه كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إذ مال عن راحلته، فدعمته، فاستيقظ، فقال: "حفظك الله، كما حفظت نبيه" انتهى، وأبو ريحانة الأنصاري حرسه في سفر. رواه أحمد وأبو أيوب ليلة دخوله على صفية، وابن مسعود ومرثد بن أبي مرثد الغنوي، وحذيفة، وحشرم بن الحباب، ومحجن بن الأدرع الأسلمي على ما ذكره الشامي والبرهان، وقال: إن الباب قابل للزيادة فاكشف عنه. "وأما مواليه صلى الله عليه وسلم" قال النووي: اعلم أن هؤلاء الموالي لم يكونوا موجودين في وقت واحد للنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان شخص منهم في وقت، "فمنهم أسامة" أبو محمد، ويقال أبو زيد الحب بن الحب، قال ابن سعد: ولد في الإسلام ومات صلى صلى الله عليه وسلم وله عشرون سنة، وقال ابن أبي خيثمة ثمان عشرة، وفي البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ أسامة والحسن، فيقول: "اللهم أحبهما فإني أحبهما"، وفيه أيضا من وجه آخر عن أسامة أن كان صلى الله عليه وسلم ليأخذني فيضعني على فخذه ويضع على الفخذ الأخرى الحسن، ثم يضمهما، ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما"، وفضائله كثيرة، وأحاديثه شهيرة. روى عنه أبو هريرة وابن عباس ومن كبار التابعين أبو عثمان النهدي وأبو وائل وآخرون وعد من الموالي؛ لأن أبويه معا منهم، "وأبوه زيد بن حارثة" بن شراحيل بن كعب الكلبي "حب" بكسر المهملة، أي محبوب "رسول الله صلى الله عليه وسلم" أحد السابقين حتى قيل: إنه أول من أسلم، وليس في القرآن تسمية أحد باسمه إلا هو باتفاق، ثم السجل إن ثبت، وقال صلى الله عليه وسلم فيه: "وايم الله إن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة فولدت له أسامة. وكان زيد قد أسر في الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها، ذكر قصته محمد بن إسحاق في السيرة، وأن أباه وعمه..   لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا -يعني ابنه- لمن أحب الناس إلي بعد". رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا زيدنا مولاي ومني وإلي وأحب الناس إلي"، رواه ابن سعد بإسناد حسن. وعن ابن عمر فرض عمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فسألته، فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه أحب إليه من أبيك صحيح، ولزيد رواية في الصحيح قصة زينب روى عنه أنس والبراء وابن عباس، وأسامة ابنه، وأرسل عنه جماعة من التابعين "أعتقه وزوجه مولاته أم أيمن". روى ابن الكلبي عن ابن عباس، لما تبنى صلى الله عليه وسلم زيدا زوجه أم أيمن، ثم زوجه زينب بنت جحش، فلما طلقها زوجه أم كلثوم بنت عقبة، كما في الإصابة، فلم يصب من، قال بالحدس، أنه تزوج بركة بعد طلاقه زينب، "واسمها بركة" بفتح الموحدة والراء، "فولدت له أسامة" بمكة بعد البعثة بثلاث على قول ابن سعد، أو بخمس على قول ابن أبي خيثمة، "وكان زيد قد أسر في الجاهلية". قال ابن الكلبي: وذلك لما خرجت به أمه سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيء لتزيره أهلها، فأصابته خيل بني القين، لما أغارت على بني معن، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، وهو غلام يفع، وفي الروض ابن ثمانية أعوام، "فاشتراه حكيم بن حزام" بالزاي بأربعمائة درهم "لعمته خديجة بن خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها" فوهبته له فأعتقه. "ذكر قصته محمد بن إسحاق في السيرة" بنحو ذلك عند أول من أسلم، فقال: كان حكيم قدم من الشام برقيق فيهم زيد، فدخلت عليه عمته خديجة، وهي يومئذ عند رسول الله، فقال لها: اختاري يا عمة، أي هؤلاء الغلمان شئت، فهو لك، فاختارت زيدا، فأخذته فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستوهبه، فوهبته له فأعتقه، وتبناه، وذلك قبل أن يوحى إليه، وهذا بظاهره مخالف لما قبله، فيحتمل أنه أتى من الشام برقيق، فمر على سوق عكاظ بالحجاز قبل أن يدخل مكة، فرأى زيدا، فاشتراه، ودخل بالجميع، فعرضهم عليها، "و" ذكر في القصة "أن أباه وعمه" كعباء بعد جزع أبيه شديدا وقوله: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 أتيا مكة فوجداه، فطلبا أن يفدياه، فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفعه لهما أو يبقي عنده فاختاره أن يبقي عنده عليه الصلاة والسلام،   في أبيات ذكرها، وذكر ابن الكلبي أن ناسا من كلب حجوا، فرأوا زيدا، فعرفوه وعرفهم، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات: أحسن إلى أهلي وإن كنت نائيا ... فإني قعيد البيت بين المشاعر فكفوا عن الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر فإني بحمد الله في خير أسرة ... كرام معد كابرا بعد كابر فلما بلغوه "أتيا مكة، فوجداه فطلبا أن يفدياه"، وعند الكلبي، فقدما مكة فسألا عنه صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد فدخلا عليه، فقالا: يابن عبد المطلب يابن سيد قومه أنتم أهل حرم الله تفكون العاني، وتطعمون الأسير جئنا في ولدنا عبدك، فآمنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك، فقال: "أوغير ذلك ادعوه، فخيروه، فإن اختاركم، فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي اختار على من اختارني فداء"، قالوا: زدتنا على النصف، فدعاه "فخيره النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يدفعه لهما، أو يبقي عنده، فاختار أن يبقى عنده عليه الصلاة والسلام". وعند الكلبي، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك، قال: نعم إني قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك قام إلى الحجر، فقال: "اشهدوا أن زيدا ابني، أرثه ويرثني"، فطابت نفس أبيه وعمه، وانصرفا فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، وعند ابن إسحاق، فلم يزل عنده حتى بعثه الله، فصدقه وأسلم، فاتفق ابن الكلبي، وابن إسحاق على أن هذه القصة كانت قبل البعثة، وبه جزم في الروض. وروى ابن منده في المعرفة وتمام في فوائده عن زيد، عن أبيه حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام، فأسلم، قال ابن منده، غريب لا نعرفه إلا من هذه الوجه. قال في الإصابة: والمحفوظ أن حارثة قدم مكة في طلبه، فخيره صلى الله عليه وسلم، فاختاره ولم أر لحارثة ذكرا بإسلام إلا من هذا الوجه انتهى، قلت: إن صح الخبر، فهذه قدمة ثانية قدمها حارثة بعد البعثة لتفقد ولده، فهداه الله، فأسلم بدليل ذكرهم كلهم له في الصحابة بهذا الخبر، وإن استغربوه وسلمة ختامهم في الإصابة، فأورده في القسم الأول دون الرابع، وأما قوله رحمه الله في فتح الباري تلو ما ساقه المصنف بحروفه ما لفظه، وقد أخرج ابن منده وتمام بإسناد مستغرب على آل زيد بن حارثة، أن حارثة أسلم يومئذ انتهى، يعني يوم قدما في فدائه في الجاهلية، ففيه أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 وفي رواية الترمذي فقال: يا رسول الله، لا أختار عليك أحدا. واستشهد زيد في غزوة مؤته، ومات ابنه أسامة بالمدينة أو بوادي القرى سنة أربع وخمسين. ومنهم: ثوبان، لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بحمص سنة أربع وخمسين. وأبو كبشة.   ليس في الحديث يومئذ لا لفظا، ولا معنى، كما ذكره، وهو بلفظه في الإصابة، كما رأيت، فكأنه كتبه في الفتح دون مراجعة على عجل. "وفي رواية الترمذي" وأبي يعلى من حديث جبلة، بفتح الجيم والموحدة، ابن حارثة، الصحابي، وهو أخو زيد وأكبر منه سنا، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أرسل معي أخي زيدا، فقال: "ها هو ذا بين يديك إن ذهب، فلست أمنعه"، "فقال زيد: يا رسول الله لا أختار أقدم وأفضل "عليك أحدا" قال جبلة: فوجدت قول أخي خيرا من قولي، وهذا كما هو ظاهر، قاله أخوه في قدمة قدمها بعد الإسلام، وهو صغير كيف يختار فراقه بعدهما، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت أدعوهم لآبائهم أخرجه البخاري، ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم سماه زيدا لمحبة قريش في هذا الاسم، وهو اسم قصي، "واستشهد زيد" وقد شهد بدرا وما بعدها "في غزوة مؤتة" وهو أمير سنة ثمان، كما مر، "ومات ابنه أسامة بالمدينة" وقد كان اعتزل الفتن بعد عثمان، فسكن المزة من أعمال دمشق، ثم رجع، فسكن وادي القرى ثم نزل المدينة فمات بالجرف بها، "أو بوادي القرى" بقربها "سنة أربع وخمسين" كما صححه ابن عبد البر، وقيل بعدها "ومنهم ثوبان" بن بجدد بضم الموحدة، وسكون الجيم ومهملتين، أولاهما مضمومة يقال: إنه من العرب من سعد بن حمير اشتراه، ثم أعتقه صلى الله عليه وسلم وخيره إن شاء أن يرجع إلى قومه، وإن شاء يقيم عنده، فأقام على ولائه، ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يفارقه حضرا، ولا سفرا إلى أن مات فتحول ثوبان إلى الرملة، ثم حمص، "ومات بحمص سنة أربع وخمسين" قاله ابن سعد وغيره. وروى ابن السكن عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأهله فقلت: أنا من أهل البيت، فقال في الثالثة: "نعم، ما لم تقم على باب سدة، أو تأتي أميرا فتسأله". وروى أبو داود عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لي أن لا يسأل الناس، وأتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا، "و" منهم "أبو كبشة" فموحدة، فمعجمة اختلف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 أوس، ويقال سليم من مولدي مكة وشهد بدرا. وشقران -بضم الشين المعجمة وسكون القاف- واسمه صالح الحبشي، ويقال: فارسي، شهد بدرا وهو مملوك، ثم عتق، قاله الحافظ ابن حجر وقال: أظنه مات في خلافة عثمان. ورباح -وهو بفتح الراء والموحدة- الأسود، وكان يأذن عليه أحيانا إذا انفرد وهو الذي أذن لعمر بن الخطاب في المشربة، كما تقدم. ويسار، الراعي، وهو الذي قتله العرنيون.   في اسمه، فقال: ابن حبان "أوس، ويقال سليم" بالتصغير، قاله خليفة، وقيل سلمة، حكاه ابن حبان أيضا "من مولدي مكة" الذي في الإصابة. قال أبو أحمد الحاكم: من مولدي أرض دوس، ومات أول يوم استخلف عمر، وكذا ذكر ابن سعد وفاته، وقال: كانت يوم الثلاثاء ثامن جمادى الآخر سنة ثلاث عشرة، "وشهد بدرا" كما ذكره في البدريين ابن عقبة، وابن إسحاق، "وشقران بضم الشين المعجمة، وسكون القاف" فراء، فألف، فنون، "واسمه صالح" بن عدي "الحبشي" في قول مصعب، "ويقال فارسي" يقال أهداه عبد الرحمن بن عوف له صلى الله الله وسلم، ويقال: اشتراه منه، فأعتقه بعد بدر، ويقال ورثه صلى الله عليه وسلم من أبيه هو وأم أيمن. ذكره البغوي عن زيد بن أخرم سمعت ابن داود، يعني عبد الله الحريثي يقول ذلك، وهو يرد القولين قبله، كذا في الإصابة "شهد بدرا، وهو مملوك"، فلم يسهم له لكن كان على الأسرى، فكل من افتدى أسيرا وهب له شيئا، فحصل له أكثر مما حصل لمن شهد القسم، قاله ابن سعد، "ثم عتق" بعد بدر، "قاله الحافظ ابن حجر" في التقريب، "وقال" فيه "أظنه مات في خلافة عثمان" لكنه لم يجزم بأن اسمه صالح، كما صنع المصنف، بل قال: قيل وكذا في الإصابة. وروى الترمذي عنه أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر. قال البغوي: سكن المدينة، ويقال كانت له دار بالبصرة. "ورباح، وهو بفتح الراء والموحدة" الخفيفة "الأسود" النوبي، "وكان يأذن عليه أحيانا إذا انفرد، وهو الذي أذن لعمر بن الخطاب" بالدخول "في المشربة، كما تقدم" قريبا. قال البلاذري: كان يستأذن عليه، ثم صيره بلقاحه بعد قتل يسار، وذكر عمر بن شبة: اتخذ رباح مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم دارا على زاوية الدار اليمانية، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا رباح أدن منزلك، فإني أخاف عليك السبع"، "ويسار" بتحتية، ثم مهملة خفيفة النوبي "الراعي، وهو الذي قتله العرنيون" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 وزيد وهو أبو يسار -وليس زيد بن حارثة والد أسامة- ذكر ابن الأثير. ومدعم -بكسر الميم وفتح العين المهملة- عبد أسود، كان لرفاعة بن زيد الضبيبي -بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة الأولى- فأهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبو رافع، واسمه: أسلم.   ومثلوا به سنة ست اتفاقا، وفي الشهر خلاف تقدم مع القصة، وقع ذكره في الصحيحين غير مسمى عن أنس، وسماه سلمة بن الأكوع، قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام، يقال له يسار، فنظر إليه يحسن الصلاة، فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة، فذكر الحديث. أخرجه الطبراني قال في الإصابة: ويحتمل أن يكون هو الذي أصابه في غزوة بني ثعلبة، لكنهم قالوا في ذاك حبشي، وفي هذا نوبي انتهى، أي فهما اثنان، كما ترجم هو بهما، وفصل بينهما بشخص آخر، "وزيد" النوبي ذكر أبو موسى المديني اسم أبيه بولا بموحدة. وقال غيره اسمه زيد، قال ابن شاهين، أصابه في غزوة فأعتقه، "وهو أبو يسار" بن زيد التابعي المقبول رواية. روى عنه ابنه بلال بن يسار بن زيد، قال: حدثني أبي عن جدي عند أبي داود والترمذي، وليس هو يسارا الذي قبله، "وليس" أبوه "زيد بن حارثة والد أسامة"، بل غيره "ذكره ابن الأثير" في المعرفة، "ومدعم بكسر الميم، وسكون الدال المهملة، "وفتح العين المهملة" آخره ميم "عبد أسود كان لرفاعة بن زيد" الجذامي، ثم "الضبيبي، بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة الأولى" بعدها تحتية ساكنة، فياء ثانية مكسورة، فياء نسب إلى بني ضبيب بالتصغير، كما في رواية مسلم وله للبخاري أهداه أحد بني الضباب بكسر وموحدتين بينهما ألف، وفي رواية ابن إسحاق الضبني بضم المعجمة، وفتح الموحدة، بعدها نون وقيل بفتح المعجمة وكسر الموحدة نسبة إلى بطن من جذام أسلم وحسن إسلامه، "فأهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، كما في الصحيحين والموطأ، ويقال: إنما أهداه فروة بن عمرو الجذامي، حكاه البلاذري، واختلف هل أعتقه صلى الله عليه وسلم، أو مات رقيقا، قتل رضي الله عنه بعد انصرافهم من خيبر ووادي القرى، وقدمنا ثمة أن الحافظ استظهر أنه غير كركرة لعدة أوجه ذكرها، وكذا جزم في الإصابة بأنهما اثنان، قال: وحكى البخاري الخلاف في كافة هل هي بالفتح، أو الكسر، ونقل ابن قرقول أنه يقال بفتح الكافين وبكسرهما، ومقتضاه أن فيه أربع لغات. وقال النووي: إنما الخلاف في الكاف الأولى، وأما الثانية فمكسورة جزما انتهى. قال في النور: وفي كلام النووي نظر، "وأبو رافع واسمه اسلم" على أشهر الأقوال العشرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 القبطي، وكان العباس فوهبه النبي صلى الله عليه وسلم فلما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه، توفي قبل قتل عثمان بيسير. ورفاعة بن زيد الجذامي. وسفينة، واختلف في اسمه، فقيل: طهمان، وقيل: كيسان، وقيل: مهران، وقيل غير ذلك، وسماه برسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة لأنهم   "القبطي، وكان للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس أعتقه" وكان إسلام أبي رافع قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد أحدا وما بعدها. وروى عنه صلى الله عليه وسلم وعن ابن مسعود، وعنه أولاده رافع، والحسن، وعبيد الله، والمغيرة، وأحفاده الحسن، وصالح، وعبيد الله أولاد ابن علي، والفضل بن عبيد الله ابنه، وآخرون "توفي" بالمدينة "قبل قتل عثمان بيسير"، أو بعده قاله الواقدي هكذا بالشك. وقال ابن حبان مات في خلافة علي، كما في الإصابة وقال في التقريب: مات في أول خلافة علي على الصحيح، ومن الموالي أيضا آخر، يقال له أبو رافع والد البهي، قيل اسمه رافع، كان لسعيد بن العاصي، فلما مات أعتق كل من بنيه نصيبه منه إلا خالد بن سعيد، فوهب نصيبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وزعم جماعة أنه هو الأول. قال في الإصابة: وهو غلط بين، فإن الأول كان للعباس، فالصواب أنهما ثنان. "ورفاعة بن زيد الجذامي"، كذا أورده المصنف، وتبعه تلميذه الشامي ولم يزد شيئا، ولم أره في الإصابة إنما فيها رفاعة بن زيد الجزامي الذي أهدى مدعما فقط وهذا حر، وفد وأسلم وحسن إسلامه كما مر، "وسفينة" بفتح المهملة، وكسر الفاء، "واختلف في اسمه، فقيل طهمان، وقيل كيسان، وقيل مهران". قال النووي وهو قول الأكثر، "وقيل غير ذلك" مروان، ونجران ورومان وذكوان وسنبة بمهملة، ونون وشنبة بمعجمة، ونون، فموحدة مفتوحة فتاء تأنيث وأحمر، وأحمد، ورباح، ومفلح، وعمير، ومنقب، وعبس، وعيسى، وأيمن، وقيس، ومرقبة، وصالح فهذه أحد وعشرون قولا، كما في الإصابة، واقتصر الشامي منها على سبعة، وما في الشرح أن الشامي حكى فيه، بإذام أو سيحون، أو هرمز غلط من الكاتب، ونقل لشيء في غير موضعه، فإن الشامي إنما ذكر ذلك في مولى آخر بعد سفينة بخمسة أنفس؛ لأنه راعي في وضعه، فإن الشامي إنما ذكر ذلك في مولى آخر بعد سفينة بخمسة أنفس؛ لأنه راعى في وضعه حروف المعجم، فقال طهمان: أو باذام إلى آخر ما ذكر، قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: اشترى صلى الله عليه وسلم سفينة، فأعتقه، وقال آخرون: أعتقته أم سلمة، واشترطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال له مولى رسول الله ومولى أم سلمة، وكان من أبناء فارس، وقيل من مولدي العرب، "وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفينة؛ لأنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 كانوا حملوه شيئا كثيرا في السفر. ومأبور القبطي، وهو من جملة من أهداه المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وواقد، أو أبو واقد. وأنجشة الحادي، ويأتي ذكره في حداته عليه الصلاة والسلام إن شاء الله تعالى.   كانوا حملوه شيئا كثيرا في السفر" كما رواه الإمام أحمد عنه، قال: كنا في سفر، وكان كلما أعيا رجل ألقى على ثيابه ترسا، أو سيفا حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: "احمل فإنما أنت سفينة"، فلو حملت يومئذ وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة، أو خمسة، أو ستة، أو سبعة ما ثقل على إلا أن يخففوا. وروي أنه كان إذا قيل له ما اسمك يقول سماني صلى الله عليه وسلم سفينة، فلا أريد غيره، وكان يسكن بطن نخلة. وروى عن صلى الله عليه وسلم وعن علي وأم سلمة، وعنه جماعة "ومأبور" بموحدة خفيفة مضمومة، وواو ساكنة، ثم راء مهملة، ويقال هابو بهاء بدل الميم، وبغير راء في آخره، كما في الإصابة "القبطي" الخصي قريب مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم "وهو من جملة من أهداه المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وتقدمت قصته. قال البرهان: ولا أعرف في الصحابة خصيا إلا هو وسندر، بفتح المهملة، وإسكان النون، ثم دال مفتوحة، ثم راء مهملتين، "وواقد" ذكره الحسن بن سفيان والطبراني، وأخرجا من طريق زاذان عن واقد مولى رسول الله رفعه من أطاع الله، فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه، "أو أبو واقد" ذكره ابن منده فقال مولى النبي صلى الله عليه وسلم: روى عنه زاذان، رفعه من أطاع الله، فقد ذكره، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن، كذا ذكره في الإصابة في الأسماء وفي الكنى مع أن الحديث واحد، والراوي واحد غايته أنه عبر فيه أولا بالاسم، وثانيا بالكنية، وهذا لا يقتضي أنهما اثنان ولذا أحسن المصنف في التعبير بأو إشارة إلى أنه عبر عنه مرة بلفظ الاسم، وأخرى بلفظ الاسم وأخرى بلفظ الكنية، وهو واحد والعلم لله. "وأنشجه" بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح الجيم بالشين المعجمة، كما ضبطه المصنف فيما يأتي. "الحادي" العبد الأسود، ويقال الحبشي "ويأتي ذكره في حداته" جمع حادي "عليه الصلاة والسلام، إن شاء الله تعالى" آخر الفصل السابع من ذا المقصد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 وسلمان الفارسي، أبو عبد الله، ويقال له سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل من رام هرمز، أول مشاهدة الخندق، ومات سنة أربع وثلاثين، ويقال بلغ ثلاثمائة سنة.   "وسلمان" بن عبد الله "الفارسي، أبو عبد الله" العالم الزاهد، كان ينسج الخوص، ويأكل من كسب يده، ويتصدق بعطائه "ويقال له" سلمان ابن الإسلام، و"سلمان الخير" قال ابن حبان: ومن زعم أن سلمان الخير غيره فقد وهم، "أصله من أصبهان" بكسر الهمزة، وفتحها وفتح الموحدة، ويقال بالفاء، وهذا رواه أحمد وغيره عن ابن عباس، "وقيل من رام هرمز" بفتح الراء والميم بينهما ألف وضم الهاء والميم بينهما راء ساكنة، وآخره زاي مدينة معروفة بأرض فارس بقرب عراق العرب، كما في الفتح، قال المصنف: مركبة تركيب مزج كمعديكرب، فينبغي كتابة رام منفصلة عن هرمز، وهذا رواه البخاري عن أبي عثمان، قال: سمعت سلمان يقول أنا من رام هرمز، فعلى المصنف مؤاخذة لا تخفى، حيث جزم بالأول ومرض الثاني، وقد قال في الفتح: يمكن الجمع باعتبارين. وروى الحاكم وابن حبان عن سلمان في قصته أنه كان ابن ملك، وأنه خرج في طلب الدين هاربا، وانتقل من عابد إلى عابد، وسمع به صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه، فأسر وبيع بالمدينة، وتداوله بضعة عشر، فاشتغل بالرق حتى كان "أول مشاهده الخندق". قال ابن عبد البر: ويقال إنه شهد بدرا ومناقبه كثيرة، وروى أحاديث وعنه أنس وكعب بن عجرة وابن عباس وأبو سعيد وغيرهم من لصحابة وآخرون من التابعين وفي قصة إسلامه طول واختلاف يتعسر معه الجمع، "ومات سنة أربع وثلاثين" كما جزم به في التقريب وقال في الإصابة: مات سنة ست وثلاثين في قوله أبي عبيد، أو سبع في قول خليفة. وروى عبد الرزاق عن أنس: دخل ابن مسعود على سلمان عند الموت، فهذا يدل على أنه مات قبله، ومات ابن مسعود سنة أربع وثلاثين، فكان سلمان مات سنة ثلاث، أو ثنتين، وعمر طويلا حتى قيل إنه أدرك عيسى بن مريم، وقيل بل أدرك وصي عيسى، "ويقال بلغ ثلاثمائة سنة" وقال الذهبي: وجدت الأقوال في سنه كلها دالة على أنه جاوز مائتين وخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد، ثم رجعت عن ذلك وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين، قال في الإصابة: لم يذكر مستنده في ذلك، وأظنه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعده صلى الله عليه وسلم، وتزوجه امرأة من كندة، وغير ذلك مما يدل على بقاء بعض النشاط، لكن إن ثبت ما ذكروه يكون ذلك من خوارق العادات في حقه، وما المانع من ذلك، فقد روى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين عن العباس بن بريدة. قال أهل العلم: يقولون عاش سلمان ثلاثمائة وخمسين سنة، فأما مائتين وخمسين، فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 وشمغون بن زيد، أبو ريحانة: قال الحافظ ابن حجر: حليف الأنصار، ويقال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد فتح دمشق وقدم مصر، وسكن بيت المقدس.   يشكون فيها انتهى. هذا وفي عدهم سلمان في الموالي نظر، ففي قصته أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه سلمان، ورأى علامات النبوة، فأسلم، فقال له: كاتب عن نفسك، فكاتب على أن تغرس ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من ذهب، فغرس صلى الله عليه وسلم بيده الكل، وقال: "أعينوا أخاكم"، فأعانوه حتى أدى ذلك كله، وعتق، ولذا لما زعم أحمد بن نصر الداودي، أن ولاء سلمان كان لأهل البيت؛ لأنه أسلم على يد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ولاؤه له تعقبه ابن التين، بأنه ليس مذهب مالك، قال: والذي كاتب سلمان كان مستحقا لولائه، إن كان مسلما، وإن كافرا، فولاؤه للمسلمين. قال في الفتح وفاته من وجوه الرد عليه أنه صلى الله عليه وسلم لا يورث، فلا يورث عنه، الولاء أيضا أن قلنا بولاء الإسلام على تقدير التنزل انتهى. "وشمغون" قال في الإصابة، بمعجمتين، ويقال بمهملتين، ويقال بمعجمة وعين مهملة، واقتصر في التبصير على أنه بمعجمتين. قال ابن يونس: بغين معجمة أصح انتهى، "ابن زيد أبو ريحانة" مشهور بكنيته، وقيل اسمه عبد الله بن النضر. قال ابن حبان: والأول أصح الأزدي بزاي وسين بدلها، ويقال الأنصاري، ويقال القرشي، قال ابن عساكر، الأول أصح، قال في الإصابة، الأنصار كلهم من الأزد، ويجوز أن يكون حالف بعض قريش. فتجتمع الأقوال، "قال الحافظ ابن حجر" في التقريب الأزدي "حليف الأنصار" ففيه نوع مخالفة لكلامه في الإصابة، "ويقال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد فتح دمشق" ونزل دارا كان ولده يسكنها، ومنهم محمد بن حكيم بن أبي ريحانة من كتاب أهل دمشق، ذكره ابن السك، "وقدم مصر" قال الحافظ أبو سعيد بن يونس وما عرفنا وقت قدومه. وروى عنه من أهل مصر كريب بن أبرهة وعمرو بن مالك وأبو عامر الحجري، "وسكن بيت المقدس" قاله البرقي وابن حبان، وروى أحمد والنسائي عنه أنه كان معه صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا برد شديد، فقال صلى الله عليه وسلم: "من يحرسنا الليلة، فأدعو له بدعاء يصيب فضله"، فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا، فدعا له، فقلت: وأنا، فدعا لي دون ما دعا له، ثم قال: "حرمت النار على عين حرست في سبيل الله". وروى ابن المبارك في الزهد عنه أنه قفل من غزوة له فتعشى، ثم توضأ وقام إلى مسجده، فقرأ سورة فلم يزل حتى أذن الصبح، فقالت امرأته: غزوت فغبت، ثم قدمت، أفما كان لنا فيك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 وأبو بكرة، نفيع بن الحارث بن كلدة، جلد القاضي الجليل بكار بن قتيبة الحنفي قاضي مصر المدفون بها. ومن النساء: أم أيمن الحبشية وسلمى أم رافع زوج أبي رافع ومارية وريحانة وقيصر أخت مارية   نصيب قال: بلى والله ولو ذكرتك لكان لك علي حق، قالت: فما الذي شغلك، قال: التفكر فيما وصف الله في جنته ولذاتها حتى سمعت المؤذن "أبو بكرة" بفتح الموحدة "نفيع" بضم النون "ابن الحارث بن كلدة" بفتح الكاف واللام ابن عمرو الثقفي، قال في الإصابة: ويقال نفيع بن مسروح، وبه جزم ابن سعد، وأخرج أحمد عن أبي بكرة أنه قال: أنا مولى رسول الله صلى الله الله عليه وسلم فإن أبى الناس إلا أن ينسبوني، فأنا نفيع بن مسروح، وقيل اسمه هو مسروح بمهملات، وبه جزم ابن إسحاق مشهور بكنيته، وكان من فضلاء الصحابة، وسكن البصرة، وأنجب أولادا لهم شهرة، وكان تدلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة، فاشتهر بأبي بكرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه أولاده انتهى، ومات بالبصرة سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين، كما في التقريب، وهو "جد القاضي الجليل بكار بن قتيبة" المصري، "الحنفي"، الفقيه سمع أبا داود الطيالسي وأقرانه وعنه أبو عوانة وابن خزيمة "قاضي مصر" ولاه المتوكل الخليفة سنة ست وأربعين ومائتين، وله أخبار في العدل، والعفة، والنزاهة، والورع وتصانيف في الشروط والوثائق والرد على الشافعي، فيما نقضه على أبي حنيفة ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومات في ذي الحجة على الشافعة فيما نقضه على أبي حنيفة ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، ومات في ذي الحجة سنة سبعين ومائتين "المدفون بها" بالقرافة وقبره يزار، وترك المصنف من الرجال أضعاف ما ذكر، "ومن النساء أم أيمن الحبشية" بركة، والدة أسامة التي تقدمت، "وسلمى أم رافع زوج أبي رافع ومارية" أم السيد إبراهيم، "وريحانة بنت شمعون القرظية، أو النضرية التي تسري بها تقدما أيضا، "وقيصر" بفتح القاف، وسكون التحتية، فصاد مهملة عند مغلطاي وغيره، وعند اليعمري وابن القيم، وغيرهما بسين مهملة، فراء "أخت مارية". قال اليعمري: أهداها له المقوقس مع مارية وسيرين، فقيل وهبها صلى الله عليه وسلم لأبي جهم بن حذيفة وقيل لجهم بن قيس العبدري، وتوقف فيه محشية الحافظ البرهان، بأنه لم يذكرها ابن الجوزي، ولا أبو عمر، ولا الذهبي، لا مولاة ولا صحابية، قلت: لا يلزم من عدم ذكرهم كغيرهم لها في الصحابة توقف أصلا، فقد أخرج ابن عبد الحكم في تاريخ مصر، والبيهقي في الدلائل عن حاطب بن أبي بلتعة أن المقوقس أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جواز، فيهن مارية أم إبراهيم واحدة وهبها صلى الله عليه وسلم لابن جهم بن حذيفة العبدري، وواحدة وهبها لحسان بن ثابت، ووقع في بعض الطرق تسميتها سيرين وقيصر، فيحتمل أنها لم تسلم حين جاءته، فوهبها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 وغير ذلك. قال ابن الجوزي: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة. انتهى.   لأبي الجهم، وأما كونها أمته، فلا شك فيه؛ لأنه ملكها ووهبها، كما رأيت، وكأن من تركها لكونها لم تحز شرف الخدمة النبوية ولا الصحبة، لكنه لا يقضي على من ذكرها بعد وروده مسندا عن حاطب الذي هو رسول المصطفى إلى المقوقس، "وغير ذلك" من الذكور والإناث. "قال ابن الجوزي: مواليه ثلاث وأربعون" ذكرا "وإماؤه إحدى عشرة انتهى". وزاد غيره عليه كثيرا فيهما، وأفرد ذلك بالتصنيف، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام أما كتابه فجمع كثير وجم غفير ذكرهم بعض المحدثين في تأليف له بديعة استوعب فيه جملا من أخبارهم ونبذا من سيرهم وآثارهم وصدر فيه بالخلفاء الأربعة بالكرام خواص حضرته عليه الصلاة والسلام فأولهم في   "الفصل السادس: في أمرائه" ولاته الذين ولاهم على البلاد والقضاء والصدقات على ما يأتي بيانه "ورسله" جمع رسول، وهو المبعوث برسالة يؤديها "وكتابه" جمع كاتب، أي من كتب له لازم الكتابة أم لا "وكتبه" جمع كتاب لا بالفتح مصدر لاحتياجه لتقدير أمره بالكناية "إلى أهل الإسلام في" تعلقات "الشرائع" جمع شريعة "والأحكام" مساو، فالمراد، بهما الدين، "ومكاتباته" جمع مكاتبة "إلى الملوك وغيرهم من الأنام"، الإنس فقط وإن شمل الجن، أو كل ذي روح فليس مرادا وعبر بالمفاعلة؛ لأنه غالبهم كان يكتب له في مقابلة كتبه لهم، وأضافها له لكونه البادئ بها، أو المفاعلة غير مرادة والمراد الكتب. "أما كتابه فجمع كثير وجم غفير" قدمهم في التفصيل مع أنه قدم في الترجمة الأمراء والرسل اهتماما بشأنهم، لكون الخلفاء منهم، "ذكرهم بعض المحدثين في تأليف له بديع استوعب فيه جملا من أخبارهم ونبذا" بضم النون ومعجمة "من سيرهم" أحوالهم الحميدة وآثارهم وصدر فيه بالخلفاء الأربعة الكرام خواص حضرته عليه الصلاة والسلام فأولهم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 التقدم أبو بكر الصديق رضي الله عنه،   التقدم" في كل خير ومنه الإسلام ودخول الجنة "أبو بكر". قال سالم بن أبي الجعد: قلت لمحمد ابن الحنفية لأي شيء قدم أبو بكر حتى لا يذكر فيهم غيره قال: لأنه كان أفضلهم إسلاما حين أسلم فلم يزل كذلك إلى أن قبضه الله تعالى. أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة "الصديق رضي الله عنه". روى الطبراني عن علي أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق رجاله ثقات، وقال أبو يحيى: لا أحصي كم سمعت عليا يقول على المنبر أن الله عز وجل سمى أبا بكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صديقا. أخرجه الدارقطني، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر إن الله سماك الصديق"، رواه الديلمي، وقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي" رواه أبو داود والحاكم. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما طلعت الشمس، ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر". رواه أبو نعيم وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "تأتي الملائكة بأبي بكر مع النبيين والصديقين تزفه إلى الجنة زفا". رواه الديلمي، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن إخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد بابا إلا سد إلا باب أبي بكر" رواه البخاري وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إليَّ عائشة ومن الرجال أبوها" رواه الشيخان. وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من الناس أمن عليَّ في نفسه وماله من أبي بكر" وقال صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة" رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر زوجني ابنته وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالا أبو بكر، أعتق منه بلالا، وحملني إلى دار الهجرة" رواه ابن عساكر، وقالت عائشة: أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم، رواه ابن حبان وعنها، لما مات أبو بكر ما ترك دينارا ولا درهما رواه الزبير بن بكار. وقال صلى الله عليه وسلم: "الناس كلهم يحاسبون إلا أبا بكر" رواه الخطب. قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة" رواه أبو نعيم، وقالت حفصة: يا رسول الله إذا اعتللت قدمت أبا بكر، قال: "لست أنا الذي قدمته ولكن الله قدمه" رواه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وفي الإسلام عبد الله، وسمي بالصديق لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم،   الطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فقال: إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر" رواه تمام. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يكره فوق سمائه أن يخطأ أبو بكر" رواه الطبراني، ولنمسك عنان القلم، فضائله لا تحصى، ومناقبه لا تستقصى، وقد أفردها العلماء بالتأليف. قال في الإصابة: وهي في تاريخ ابن عساكر مجلد من ثمانين مجلدا، فهي قدر عشر ثمنه، قال: ولا نزاع في أنه المراد بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} وهو من أعظم مناقبه، ولا يعترض بأنه لم يتعين؛ لأنه كان معه صلى الله عليه وسلم في الهجرة عامر بن فهيرة وعبد الله بن أبي بكر. والدليل لأنه لم يصحبه في الغار سوى الصديق وأما ابنه وابن فهيرة فكانا يترددان مدة لبثهما في الغار ابنه ليخبرهما بما وقع بعدهما، وابن فهيرة بسبب ما يقوم بهما من لبن الشاة، قال: ومن أعظمها أيضا توارد ابن الدغنة على وصفة بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث، فتواردا فيها على نعت واحد من غير أن يتواطأا على ذلك، وهذا غاية في مدحه؛ لأن صفاته صلى الله عليه وسلم منذ نشأ كانت أكمل الصفات، "وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وفي الإسلام عبد الله" فيما قيل، قال في الفتح، والمشهور ما جزم به البخاري أن اسمه عبد الله بن عثمان، ويقال كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة انتهى. وقد روى ابن عساكر عن عائشة: قال: اسم أبي بكر الذي سماه أهله عبد الله، ولكن غلب عليه اسم عتيق، "وسمي" من الله تعالى "الصديق لتصديقه" أول الناس "النبي صلى الله عليه وسلم" ولازم الصدق، فلم تقع منه هفوة ما، ولا وقفة في حال من الأحوال وقيل كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء، كما في الفتح. وقال ابن إسحاق عن الحسن البصري وقتادة أول ما اشتهر به صبيحة الإسراء. وروى الحاكم بإسناد جيد قلنا لعلي يا أمير المؤمنين أخبرنا عن أبي بكر، قال: ذاك امرؤ سماه الله تعالى الصديق على لسان جبريل وعلى لسان محمد، كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا، وقوله امرؤ، أي رجل، وتصحفت الهمزة في عبارة، فظنت هاء، فأحوجت من صحفت عليه إلى تقدير خبر، أي ظاهر معلوم، ثم لا منافاة بين الأحاديث المصرحة، بأن الله سماه الصديق وبين ما ذكره ابن مسدي إن صح أنه كان يلقب به في الجاهلية، لما عرف منه من الصدق؛ لأن الملهم لهم بذلك هو الله، ثم أنزله على لسان رسوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 وقيل إن الله صدقه، ويلقب عتيقا لجماله، أو لأنه ليس في نسبه ما يعب به، وقيل لأنه عتيق من النار. ولي الخلافة سنتين ونصفا، وسنه سن المصطفى عليه الصلاة والسلام.   بعد الإسلام، "وقيل" سمي بذلك لأجل "أن الله صدقه" نسبه للصدق قولا وفعلا في نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5، 6] الآيات الدالة على الثناء عليه، فإنها نزلت فيه، لما اشترى سبعة من المعذبين في الله وأعتقهم، وروى ابن مردويه عن ابن عباس، قال نزلت: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل: 19] الآية في أبي بكر فاستجاب الله له، فأسلم والداه جميعا، وإخوته وولده كلهم، ثم كأن المصنف مرضه بقيل؛ لأنه لم يرد صريحا، قال الله صدق أبو بكر، "ويلقب عتيقا" واختلف في أنه اسم له أصلي، كما في الفتح، وقيل سمي به أولا، ثم بعبد الله، كما في السبل. قال النووي: والصواب الذي عليه كافة العلماء أنه لقب له "لجماله" من العتاقة، وهي الحسن والجمال، "أو لأنه ليس في نسبه ما يعاب به" أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به البيت، فقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت، "وقيل لأنه عتيق من النار" كما روى الترمذي والحاكم عن عائشة أن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت عتيق الله من النار"، فسمي يومئذ عتيقا. وروى البزار والطبراني، وصححه ابن حبان عن أبي الزبير، كان اسم أبي بكر عبد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت عتيق والله من النار". وروى أبو يعلى وابن سعد، وصححه الحاكم عن عائشة والله إني لفي بيتي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الفناء والستر بيني وبينهم إذ أقبل أبو بكر، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر"، وإن اسمه الذي سماه أهله عبد الله، فغلب عليه اسم عتيق، فقد علم أن هذا القول كان أولى بالتقديم، لا أن يحكى ممرضا، كما فعل المصنف، "ولي الخلافة" بعده صلى الله عليه وسلم فشيد الله به دعائم الدين، وخفض ما ارتفع من رءوس المنافقين، وجاهد المرتدين، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنا سيف الإسلام، وأبو بكر سيف الردة"، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله، وقيل له يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد "سنتين ونصفا". وفي فتح الباري سنتين وثلاثة أشهر وأياما، وقيل غير ذلك، ولم يختلفوا أنه استكمل عمر النبي صلى الله عليه وسلم فمات، وهو ابن ثلاث وستين انتهى، وهذا مراد المصنف بقوله: "وسنه سن المصطفى عليه الصلاة والسلام" على المشهور المعروف، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: أنا أكبر، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 وتوفي مسموما: وأسلم أبوه أبو قحافة يوم الفتح،   أو أنت، قال: أنت أكبر وأنا أسن فوهم، كما قال: ابن عبد البر وغيره وإنما صح ذلك عن العباس. وقد قالت: عائشة: تذاكر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان صلى الله عليه وسلم أكبر أخرجه ابن البرقي، "وتوفي مسموما". روى ابن سعد عن الزهري أن أبا بكر والحارث بن كلدة أكلا خزيرة أهديت لأبي بكر، وكان الحارث طبيبا، فقال: ارفع يدك، فوالله إن فيها لسم سنة، فلم يزالا عليلين حتى ماتا عند انقضاء السنة في يوم واحد. وروى الحاكم عن الشعبي: ماذا يتوقع من هذا الدنيا الدنية، وقد سم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسم أبو بكر. وفي فتح الباري سمته يهودية في خزيرة، أو غيرها، وعند الزبير بن بكار أنه مات بمرض السل، وعن الواقدي اغتسل في يوم بارد، فحم خمسة عشر يوما انتهى، يشير إلى ما رواه الواقدي، والحاكم عن عائشة قالت: كان أول بدء مرض أبي بكر أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوما باردا، فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وتوفي ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وله ثلاثة وستون سنة، وكان أكل السم، وتعلل، ولكن لم ينقطع وحصل له منه السل، ثم في شهر وفاته اغتسل، فحم حتى مات، فجمع الله له هذه الأمراض زيادة في الزلفى ورفع الدرجات، وقالوا له: ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك، قال: قد نظر إليَّ، فقالوا ما، قال لك، قال: إني فعال، لما أريد رواه ابن سعد، وقالت عائشة: دخلت عليه، وهو في الموت، فقال: في أي يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: يوم الاثنين، قال: أرجو ما بيني وبين الليل، فمات ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح. رواه أبو يعلى برجال الصحيح، وأحمد عنها، قال: إن مت من ليلتي، فلا تنظروا بي الغد، فإن أحب الأيام إلي، وأقربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغلط من قال: مات في جمادى الأولى أو لليلة خلت من ربيع الأول، كما في الإصابة، والصحيح ما تقدم عن عائشة، كما في الفتح، "وأسلم أبوه أبو قحافة" بضم القاف ومهملة، فألف ففاء، فهاء تأنيث عثمان بن عامر، قال في الفتح: لم يختلف في اسمه، كما لم يختلف في كنية الصديق "يوم الفتح" لما دخل صلى الله عليه وسلم المسجد خرج أبو بكر، فجاء به يقوده، وقد كف بصره، فقال صلى الله عليه وسلم: "هلا تركت الشيخ في بيته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 وتوفي بعد ولده في خلافة عمر، وأسلمت أمه أم الخير سلمى بنت صخر قديما في دار الأرقم. وعمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى،   حتى آتيه"، فقال: هو يمشي إليك يا رسول الله أحق أن تمشي إليه، وأجلسه بين يديه، ثم مسح على رأسه، فقال: "اسلم تسلم" فاسلم. رواه ابن إسحاق، وصححه ابن حبان من حديث أسماء، وروى أحمد عن أنس جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو أقررت الشيخ في بيته لآتيناه تكرمة لأبي بكر"، فأسلم، فيحتمل أنه قاده، ثم حمله لعجزه، أو كثرة الزحام، وهو أول من ورث خليفة في الإسلام، "وتوفي بعد ولده في خلافه عمر" سنة أربع عشرة وله سبع وتسعون سنة، "وأسلمت أمه أم الخير سلمى بنت صخر" ابن مالك بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي فهي بنت عم أبيه "قديما في دار الأرقم" بن أبي الأرقم، المخزومي المسلم بعد عشرة، أو سبعة البدري، كانت داره على الصفا يجلس فيها صلى الله عليه وسلم أوائل الإسلام قالت عائشة: لما أسلم أبو بكر قام خطيبا، فدعا إلى الله ورسوله، فثار المشركون، فضربوه. الحديث وفيه قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذه أمي، فادع لها: وادعها إلى الإسلام، فدعا لها ودعاها فأسلمت، رواه ابن أبي عاصم، وهاجرت وماتت في خلافة عمر قبل أبي قحافة. قال في الفتح: وذلك معدود في مناقب الصديق؛ لأنه انتظم له إسلام أبويه وجمع أولاده انتهى، وهذا وجه المصنف لأبويه رضي الله عنهم "وعمر بن الخطاب بن نفيل" بنون وفاء مصغر "ابن عبد العزى" بن رياح بكسر الراء بعدها تحتية، فألف فمهملة ابن عبد الله بن قرط بضم القاف ابن رزاح براء مفتوحة، فزاي، فألف، فمهملة ابن عدي بن كعب بن لؤي أبو حفص القرشي العدوي، لقبه الفاروق باتفاق، قيل أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي شيبة عنه، وأبو سعد عن عائشة، وقيل جبريل، رواه البغوي، وقيل أهل الكتاب. رواه ابن سعد: ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان عند البعث شديدا على المسلمين، ثم أسلم بدعائه صلى الله عليه وسلم، فكان إسلامه فتحا على المؤمنين، وفرجا لهم من الضيق. قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا غضب عمر، فإن الله يغضب إذا غضب"، وقال صلى الله عليه وسلم: "أصاب الله بك يابن الخطاب" رواهما أبو داود والحاكم، وغيرهما. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه " رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: "يابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك" رواه الشيخان، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان لم يلق عمر منذ أسلم الآخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 استخلفه أبو بكر فأقام عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وقتله أبو لؤلؤه، فيروز غلام المغيرة بن شعبة.   على وجهه" رواه الطبراني وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما في السماء ملك إلا وهو يوقر عمر، ولا في الأرض شيطان إلا وهو يفرق من عمر" رواه ابن عدي وأبو نعيم، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أبغض عمر، فقد أبغضني، ومن أحب عمر، فقد أحبني، وإن الله باهى عشية عرفة بالناس عامة، وباهى بعمر خاصة" رواه ابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، وابن حبان والحاكم من حديث عقبة بن عامر، والطبراني في الكبير من حديث عصمة بن مالك، وفي الأوسط من حديث أبي سعيد، وقال صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر، فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك، فوليت مدبرا"، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله، رواه الشيخان وغيرهما، وعنه استأذنت رسول الله في العمرة، فأذن، وقال: "لا تنسنا يا أخي من دعائك". وفي رواية "أشركنا في دعائك"، فقال: كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا، رواه أبو داود والترمذي. وقال: حسن صحيح، وفضائله كثيرة وصلابته في الدين، وموافقاته شهيرة، "استخلفه أبو بكر، فأقام عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال"، وفتح الأمصار العظيمة، وحج بالناس عشر حج متواليات واستجاب الله قوله، اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك، فساق له الشهادة بالمدينة المنورة، "وقتله" بعد أن أحرم بالصبح "أبو لؤلؤة فيروز" المجوسي "غلام المغيرة بن شعبة" الصحابي، كان استأذن عمر في إدخاله المدينة، وقال: إن عنده أعمالا ينتفع الناس به حداد نقاش نجار، فأذن له، فضرب عليه المغيرة، كل شهر مائة فشكا إلى عمر شدة الخراج، فقال: ما هو بكثير، في جنب ما تعمل، فانصرف ساخطا، وقال: وسع الناس عدله غيري، وأضمر على قتله، فصنع له خنجرا له رأسان وسمه فلما أحرم عمر بالصبح يغلس طعنه ثلاث طعنات، إحداهن تحت السرة، وهي التي قتلته ثم طار العلج لا يمر على أحد إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة فطرح عليه رجل من المسلمين برنسا، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، صلى بالناس صلاة خفيفة بـ"إنا أعطيناك الكوثر" و"إذ جاء نصر الله" فقال عمر: يابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء فأخبره، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعى الإسلام وكان ذلك لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين فعاش حتى انسلخ الشهر، فمات وغسله ابنه عبد الله، وحمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه صهيب، ودفن هلال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 وعثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أميمة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، ثم قتل يوم الدار شهيدا.   المحرم وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور، وهو قول الجمهور، "وعثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية" بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أمير المؤمنين ذو النورين لتزوجه بنتي المصطفى. قال المهلب بن أبي صفرة: لم يعلم أحد تزوج ابنتي نبي غيره، وقيل لأنه كان يختم القرآن في الوتر، فالقرآن نور، وقيام الليل نور، وقيل لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين. وروى خيثمة في الفضائل والدارقطني في الأفراد أن عليا ذكر له عثمان، فقال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة عثمان" رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: "من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان". وقال صلى الله عليه وسلم: "من جهر جيش العسرة، فله الجنة، فجهزه عثمان". رواهما البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس رسول الله بيده إن الملائكة لتستحيي من عثمان، كما تستحيي من الله ورسوله" رواه مسلم وأبو يعلى والطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس حياء عثمان بن عفان" رواه أبو نعيم. وقال صلى الله عليه وسلم: "مر بي وعندي جبل من الملائكة، فقالوا: شهيد من الآدميين يقتله قومه إنا لنستحيي منه"، رواه الطبراني وابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "والله ليشفعن عثمان بن عفان في سبعين ألفا من أمتي، قد استوجبوا النار حتى يدخلهم الله الجنة"، رواه ابن عساكر، ومناقبه جمة، وفتح الله في خلافته أمصارا كثيرة على الأمة "وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا، وثلاثة عشر يوما" وعند ابن إسحاق واثنين وعشرين يوما، "ثم قتل يوم الدار" أي الزمن الذي حاصروه فيه في داره "شهيدا" مقتولا ظلما، كما قال صلى الله عليه وسلم وذكر فتنة، فقال: "يقتل فيها هذا مظلوما" لعثمان، رواه الترمذي. قال في الإصابة: وسبب قتله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاصي، وبمصر ابن أبي سرح، وبخراسان عبد الله بن عامر، وكان من حج منهم يشكو من أميره، وكان عثمان لين العريكة، كثير الإحسان والحلم إلى أن رحل أهل مصر يشكون ابن أبي سرح، فعزله وكتب لهم كتابا بتولية محمد بن الصديق فرضوا، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبا على راحلة، فأخبرهم أنه من عند عثمان بكتاب، بإقرار ابن أبي سرح ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب ورجعوا وواجهوه، فحلف أنه ما كتب، ولا أذن، فقالوا: سلمنا كتابك، وهو مروان بن الحكم ابن عمه، فخشي عليه منهم القتل، فلم يسلمه لهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 وروي عن عائشة رضي الله عنها، مما ذكره الطبرى في فضائله من كتابه "الرياض" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسند ظهره إليَّ، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: "اكتب يا عثيم"، رواه أحمد. وروى البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه،   فغضبوا وحصروه في داره، واجتمع جماعة يحمونه منهم، فنهاهم عن القتال إلى أن تسوروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه، فقتلوه يوم الجمعة بعد العصر لثمان عشرة، وقيل لسبع عشرة، وقيل لاثنين وعشرين خلت من ذي الحجة، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء بالبقيع سنة خمس وثلاثين، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور، وقيل دون ذلك، وزعم ابن حزم أنه لم يبلغ ثمانين، فعظم ذلك على الصحابة، وغيرهم من أهل الخير، وفتح باب الفتنة، فكان ما كان، والله المستعان انتهى. والقصة طويلة جدا، وقد روى أحمد وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إن الله عز وجل يقمصك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعة فلا تخلعه"، ولا كرامة يقولها مرتين، أو ثلاثا، ولابن عدي "يا عثمان إنك سترى الخلافة وسيريدك المنافقون على خعلها فلا تخلعها وصم في ذلك اليوم تفطر عندي"، وللترمذي عن أبي سلمة مولى عثمان، قال: قال عثمان يوم الدار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه، ولم يلبس السراويل في جاهلية، ولا إسلام إلا يوم قتل، "وروي عن عائشة رضي الله عنها مما ذكره" المحب "الطبري في فضائله من كتابه الرياض النضرة" في فضائل العشرة أنها، قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسند ظهره إليَّ وإن جبريل ليوحي إليه القرآن وإنه" صلى الله عليه وسلم "ليقول له" لعثمان "اكتب يا عثيم" بالضم مصغر للتحبب والملاطفة، ففيه منزلة رفيعة له عند المصطفى، وأنه من كتاب الوحي "رواه أحمد" بن حنبل. "وروى البيهقي عن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "عن أبيه" محمد بن علي بن الحسين، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أي الأمور التي يريد إخفاءها عن الناس. "وعلي بن أبي طالب" أبو الحسن الهاشمي "رضي الله عنه" غزير العلم وافر الزهد، أمير المؤمنين خاتم خلافة النبوة، قال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، "يا علي إن الله أمرني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 ....................................   أن أدنيك ولا أقصيك، وأن يعلمك، وأن تعي وحق لك أن تعي، سألت ربي أن يجعلها أذنك". رواه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وله طرق عديدة، وقال صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما". رواه أحمد والطبراني، وله في رواية أول المسلمين إسلاما، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم علي وأبو ذر والمقداد وسلمان". رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وصححه الحاكم والضياء، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "الله ورسوله وجبريل عنك راضون" رواه الطبراني، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أذى عليا فقد آذاني" رواه أحمد والترمذي وأبو يعلى وصححه الضياء. وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب عليا فقد أحبني، ومن أحبني أحبه الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله" رواه الطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عادة وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه" رواه الترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم، وطرقه كثيرة جدا، وهو صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" رواه مسلم والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: "علي مني وأنا منه، وعلي ولي كل مؤمن من بعدي" رواه ابن أبي شيبة، وهو صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: "علي أخي في الدنيا والآخرة"، رواه الطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: "علي مني بمنزلة رأسي من بدني"، رواه ابن مردويه والديلمي. وقال صلى الله عليه وسلم: "علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا على الحوض" رواه الحاكم. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني وأنا منك" وقال صلى الله عليه وسلم: "إنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" رواهما البخاري، وأخرجه الترمذي وحسنه. عن علي قال لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى دينار"، قلت: لا يطيقونه، قال: "فنصف دينار"، قلت: لا يطيقونه، قال: "فكم"؟ قلت: شعيرة، قال: "إنك لزهيد"، فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ} فبي خفف الله عن هذه الأمة، وفضائله كثيرة جدا حتى قال الإمام أحمد وإسماعيل القاضي، والنسائي وأبو علي النيسابوري، لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 وأقام في الخلافة أربع سنين وتسعة أشهر وثمانية أيام، وتوفي شهيدا على يد عبد الرحمن بن ملجم،   الجياد أكثر مما جاء في حق علي. قال العلماء: وكان سبب ذلك تنقيص بني أمية له، فكان كل من كان عنده شيء من مناقبه من الصحابة، يبثه، وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حديث من حدث بمناقبه لا تزاد إلا انتشارا، "وأقام في الخلافة" لما بايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر، وكتب ببيعته إلى الآفاق، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام، وكان بينهم بعدما كان "أربع سنين وتسعة عشر أشهر وثمانية أيام" وقاتل فيها البغاة والخوارج، كما عهد إليه صلى الله عليه وسلم فروى أبو يعلى بسند جيد عنه: عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله" فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا، قال عمر: أنا هو يا رسول الله، قال: لا ولكنه خاصف النعل، وكان أعطى على نعله يخصفها. رواه أبو يعلى برجال الصحيح، قال في الإصابة وكان رأي علي أنهم يدخلون في الطاعة، ثم يقوم ولي دم عثمان فيدعى به عنده ثم يعمل معهم ما يوجبه حكم الشرع، وكان من خالفه يقول له: تتبعهم وأقتلهم، فيرى علي أن القصاص بغير دعوى، ولا إقامة بينة لا يتجه، وكل من الفريقين مجتهد، ومن الصحابة فريق لم يدخلوا في القتال وظهر بقتل عمار أن الصواب كان مع علي، واتفق على ذلك أهل السنة بعد اختلاف كان في القديم انتهى، "وتوفي" ولم يكن يومئذ على وجه الأرض أفضل منه "شهيدا" مقتولا ظلما "على يد" أشقى الآخرين "عبد الرحمن بن ملجم" بضم الميم، وإسكان اللام وفتح الجيم، كما قيده غير واحد منهم النووي والإسنوي، وعن الإقناع كسرها وذلك أن ثلاثة من الخوارج تعاهدوا بمكة على قتل علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص في ليلة واحدة ليلة سبع عشرة من رمضان وقيل ليلة عشر، وقيل إحدى وعشرين، فقال ابن ملجم: المرادي أنا لكم سبع عشرة، من رمضان وقيل ليلة عشرة، وقيل إحدى وعشرين، فقال ابن ملجم: المرادي أنا لكم بعلي، وقال البراك بن عبد الله التميمي: أنا لكم بمعاوية، وقال عمرو بن بكير التميمي: أنا لكم بعمرو ثم توجه كل إلى المصر الذي فيه صاحبه، فأتى ابن ملجم الكوفة، واختفى وتزوج امرأة من الخوارج كان علي قتل أباها، فشرطت عليه في صداقها، ثلاث آلاف درهم وعبدا وقينة، وقتل علي، فلما كانت ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين من الهجرة، خرج علي للصبح إلى المسجد فضربه ابن ملجم بسيف مسموم في جبهته، فأوصله إلى دماغه، فقال علي: فزت ورب الكعبة، وعند أبي داود أنه رأى تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: يا رسول الله ماذا لقيت من أمتك، فقال صلى الله عليه وسلم: ادع عليهم، فقال: اللهم أبدلني بهم من هو خير منهم، وأبدلهم بي من هو شر مني، فمسكوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 واختص علي بكتابة الصلح يوم الحديبية. وطلحة بن عبد الله التيمي، أحد العشرة،   ابن ملجم، وحبسوه حتى مات علي كرم الله وجهه ليلة الأحد، وقد أوصى بوصية عظيمة فيها مواعظ، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله وجعل يكثرها، لما احتضر حتى قبض، وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح المشهور، وغسله الحسنان وعبد الله بن جعفر، وصلى عليه الحسن، فقطعت أطراف ابن ملجم، وجعل في مقصورة وأحرق بالنار، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من أشقى الأولين"؟ قال: عاقر الناقة قال: "فمن أشقى الآخرين"؟، قال: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك". رواه الخطيب والطبراني عن جابر بن سمرة وأحمد عن عمار، وأبو يعلى بإسناد لين عن علي والبزار عنه بإسناد جيد، والطبراني عن صهيب. وقال صلى الله عليه وسلم: "يا علي ستقتلك الفئة الباغية وأنت على الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني" رواه ابن عساكر. وقال صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن لك لكنزا في الجنة" رواه أحمد وغيره. هذا والذي سار إلى معاوية ضربه، فداووه، فصح، لكنه صار لا يلد، وقطعت أطراف قاتله، فذهب إلى الكوفة، وولد له فقال زياد: أيولد له ومعاوية لا يولد له فقتله، وأما عمرو فاشتكى بطنه تلك الليلة، فأمر خارجة بالصلاة بالناس، فطعنه فقتله، فأصبحوا يقصون على عمرو، فقال: أوما قتلت عمرًا؟ فقيل: إنما قتلت خارجة فقال: أردت عمرا، وأراد الله خارجة فقتلوه. قال ابن زيدون في قصيدته: وليتها إذ فدت عمرا بخارجة ... فدت عليا بما شاءت من البشر ولكن ما عند الله خير وأبقى غالب العشرة، سيقت لهم الشهادة زيادة في الزلفى ورفع الدرجات، "واختص علي بكتابة الصلح يوم الحديبية" وقد تتبع النسائي ما خص به دون الصحابة، فجمع شيئا كثيرا بأسانيد أكثرها جيد، كما في الإصابة. "وطلحة بن عبد الله" بضم العين ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي، "التيمي أحد العشرة" وأحد اليمانية السابقين إلى الإسلام، وأحد الستة، أصحاب الشورى، وأمه الصعبة أخت العلاء من الحضرمي، أسلمت وهاجرت وعاشت بعده قليلا. قال صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة هذا جبريل يقرئك السلام، ويقول لك أنا معك في أهوال القيامة حتى أنجيك منها" رواه الديلمي وابن عساكر، وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم ألق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه" رواه الطبراني وأبو نعيم والضياء، وقال صلى الله عليه وسلم: "طلحة والزبير جاراي في الجنة" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. والزبير بن العوام بن خويلد الأسدي ابن عمته وحواريه، أحد العشرة أيضا،   رواه الترمذي وغيره، وقال صلى الله عليه وسلم: "طلحة خير شهيد يمشي على وجه الأرض" رواه ابن ماجه والحاكم، ومر صلى الله عليه وسلم في غزوة ذي قرد على ماء، يقال له غسان مالح، فقال: "هو نعمان، وهو طيب"، فغير اسمه، فاشتراه طلحة، ثم تصدق به، فقال صلى الله عليه وسلم: $"ما أنت يا طلحة إلا فياض" فبذلك قيل له طلحة الفياض رواه الزبير بن بكار، وروى أنه سماه أيضا طلحة الخير، وطلحة الجود، وطلحة الطلحات، وليس هو الخزاعي الذي قيل فيه: نضر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات ومناقبه كثيرة شهيرة، "استشهد يوم الجمل" بقرب البصرة في الوقعة التي كانت بينهم وبين علي حين خرجوا متاولين الطلب بدم عثمان، ومعهم عائشة الصديقة على جمل عظيم اشتراه يعلى بن أمية الصحابي المشهور بمائة دينار، وقيل مائتين وقيل بأكثر من ذلك فوقفت به في الصف، فلم يزل الذين معها يقاتلون حول الجمل حتى عقر الجمل، فهزموا فأضيفت الوقعة إليه، وجاء من طرق كثيرة أن مروان بن الحكم رمى طلحة، مع أنه كان من حزبه بسهم فأصاب ركبته، فلم يزل ينزف منها الدم حتى مات، وكان يؤمئذ أول قتيل، وذلك يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة "سنة ست وثلاثين وهو ابن ثلاث وستين سنة" كما جزم به في التقريب، وجزم في الإصابة بأنه ابن أربع وستين، وقال في الفتح: اختلف في سنه على أقوال أكثرها أنه خمس وسبعون، أقلها ثمان وخمسون انتهى، "والزبير بن العوام بن خويلد" بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي "الأسدي ابن عمته" صفية، "وحواريه" ناصره الخالص له، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير" رواه الشيخان: أحد العشرة أيضا، وأحد الستة، وأحد من أسلم وهو صغير ابن ثمان سنين فيما قاله عروة، والأكثر أنه أسلم وله ثنتا عشرة سنة وقيل خمس عشرة، وكان عمه يعلقه في حصير، ويدخن عليه بالنار، ويقول: ارجع فيقول الزبير: لا أكفر أبدا، وقال عثمان: لما قيل له استخلف الزبير، أما إنه لخيرهم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري. ومناقبه كثيرة، وعن عروة وابن المسيب أول من سل سيفه في الله الزبير، وذلك أن الشيطان نفخ نفخة قال: أخذ رسول الله، فأخذ الزبير يشق الناس بسيفه، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلقيه، فقال: "مالك يا زبير"؟ فقال: أخبرت إنك أخذت، فصلى عليه ودعا له ولسيفه، رواه الزبير بن بكار. وروى يعقوب بن سفيان أن الزبير كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فيتصدق به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 545 قتل سنة ست وثلاثين، يوم الجمل، قتله عمرو بن جرموز، بوادي السباع غيلة وهو نائم. وسعيد بن العاص، أخو خالد وأبان. وسعد بن أبي وقاص.   كله ولا يدخل بيته من شيئا، "قتل سنة ست وثلاثين يوم الجمل، بعد انصرافه من الحرب، تاركا للقتال لما قال له علي: أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك تقاتل عليا وأنت ظالم له" قال: نعم ولم أذكر ذلك إلى الآن فانصرف، رواه أبو يعلى، "قتله عمرو بن جرموز". بضم الجيم والميم بينهما راء ساكنة، وآخره زاي التميمي "بوادي السباع غيلة، وهو نائم" وجاء إلى علي متقربا بذلك، فبشره بالنار. أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وصححه الحاكم من طريق بعضها مرفوع، كما في الفتح ونحوه في الإصابة وفيها أيضا. وروى يعقوب بن سفيان في تاريخه، لما التقوا كان طلحة أول قتيل، فانطلق الزبير على فرس له، فتبعه عمرو بن جرموز فأتاه من خلفه، وأعانه فضالة بن جابر ونفيع، فقتلوه انتهى، فظاهر هذا أنهم قتلوه على فرسه، اللهم إلا أن يكونوا أرادوا ذلك، فلم يقدروا لشدة شجاعته، فتركوه حتى نام، فأتاه ابن جرموز فقتله، وقد صحح ابن بدرون الأول قال وفيه تقول زوجته عاتكة: يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمك إن قتلت لمسلما ... حلت عليك عقوبة المتعمد "وسعيد بن العاصي" بن أمية "أخو خالد وأبان" أولاد أبي أحيحة أسلموا كلهم. وذكر ابن إسحاق سعيدا فيمن استشهد بالطائف، وابن شاهين أنه أسلم قبل الفتح بيسير، وسيذكر المصنف أخويه أيضا من الكتاب، "وسعد بن أبي وقاص" وسمه مالك بن وهيب، ويقال أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري أحد العشرة، والستة والفرسان والسابقين الأولين بعد ستة هو سابعهم، وهو ابن تسع عشرة سنة، كما قاله ابن عبد البر. وأما قوله: لقد رأيتني وأنا ثالث الإسلام رواه البخاري، فحمل على ما اطلع عليه، وكان مجاب الدعوة مشهورا بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" فكان لا يدعو إلا استجيب له رواه الترمذي وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله، وتوفي سنة خمس وعشرين على المشهور، وهو آخر العشرة موتا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 546 وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه. وعبد الله بن الأرقم القرشي الزهري، كان يكتب الرسائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم، وكتب بعده لأبي بكر، ثم لعمر من بعده، رضي الله عنهم، واستعمله عمر على بيت المال مدة ولايته، ثم عثمان من بعده إلى أن استعفى عثمان من الولاية وبقي عاطلا،   وروى الترمذي عن جابر أقبل سعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي فليرني امرؤ خاله" ومناقبه كثيرة شهيرة. "وعامر بن فهيرة" بضم الفاء مصغر التيمي، "مولى أبي بكر رضي الله عنه" أحد السابقين وكان ممن يعذب في الله، فاشتراه الصديق، فأعتقه استشهد يوم بئر معونة باتفاق أصحاب المغازي. وفي البخاري وغيره: أن عامر بن الطفيل سأل من رجل منكم لما قتل رأيته رفع بين السماء والارض، قالوا: عامر بن فهيرة، وأما ما رواه ابن منده عنه، قال: تزود أبو بكر مع رسول الله في جيش العسرة بنحي من سمن وعكة من عسل على ما كنا عليه من الجهد فمنكر، فإن جيش العسرة، وهو غزوة تبوك باتفاق، وعامر قتل قبلها بست سنين، وقد عاب أبو نعيم على ابن منده إخراجه هذا الحديث ونسبه إلى الغفلة والجهالة، فبالغ وإنما اللوم عليه في سكوته عليه، ففي إسناده عمر بن إبراهيم الكردي، وهو متهم بالكذب فالآفة منه كما في الإصابة. "وعبد الله بن الأرقم" بن أبي الأرقم واسمه عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، "القرشي، الزهري" وجده عبد يغوث خاله صلى الله عليه وسلم أسلم عبد الله يوم الفتح، "كان يكتب الرسائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم" كما رواه البغوي وزاد، وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك، فيكتب، ويختم، ولا يقرأ لأمانته عنده. وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه: قال عمر: كتب إلى رسول الله كتاب، فقال لعبد الله بن الأرقم الزهري: "أجب هؤلاء عني"، فأخذ الكتاب فأجابهم ثم جاء به فعرضه عليه صلى الله عليه وسلم فقال: "أصبت بما كتبت"، قال عمر: فما زالت في نفسي حتى جعلته يعني على بيت المال، رواه أبو القاسم البغوي أيضا، "وكتب بعده لأبي بكر ثم لعمر من بعده رضي الله عنهم، واستعمله عمر على بيت المال مدة ولايته" حتى أن حفصة روت عن عمر أنه قال لها: لولا أن ينكر علي قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم "ثم عثمان من بعده إلى أن استعفى عثمان من الولاية"، فأعفاه "وبقي عاطلا" أي تاركا للولاية، قال مالك: بلغني أن عثمان أجازه بثلاثين ألفا، فأبى أن يقبلها، وقال: إنما عملت لله، وأخرج البغوي عن عمر بن دينار أنه أعطاه ثلاثمائة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 547 وكان أمير المؤمنين عمر يقول في حقه: ما رأيت رجلا أخشى لله منه، مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما. وأبي بن كعب بضم الهمزة وفتح الموخحدة من سباق الأنصار، كان يكتب الوحي له صلى الله عليه وسلم وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم .....   ألف درهم، فأبى أن يقبلها، وقال: إنما عملت لله، وإنما أجري على الله، وكان أمير المؤمنين عمر يقول في حقه: ما رأيت رجلا، ممن أسلم في الفتح وتلبس بالولايات "أخشى لله منه" وحسبه هذا الثناء من مثل عمر، "مات في خلافة عثمان رضي الله عنهما". قال ابن السكين قال في الإصابة وهو مقتضى صنيع البخاري في تاريخه الصغير، ووقع في ثقات ابن حبان أنه توفي سنة أربع وستين، وهو وهم، وروى عنه صلى الله عليه وسلم، وعنه عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأسلم مولى عمر ويزيد بن قتادة وعروة انتهى "وأبي بن كعب" ابن قيس الأنصاري النجاري، "بضم الهمزة، وفتح الموحدة من سباق الأنصار، إلى الإسلام كان من أصحاب العقبة الثانية، وشهد بدرا والمشاهد. روى مسلم وأحمد عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم"؟، قال أبي: آية الكرسي، قال صلى الله عليه وسلم: "ليهنك العلم يا أبا المنذر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك لم يكن الذين كفروا" قال: وسماني؟ قال: "نعم"، فبكى رواه الشيخان، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا المنذر أمرت أن أعرض عليك القرآن" فقال: بالله آمنت وعلى يديك أسلمت ومنك تعلمت، فرد صلى الله عليه وسلم القول، فقال: يا رسول الله ذكرت هناك، قال: "نعم باسمك ونسبك في الملإ الأعلى"، قال: فاقرأ إذا يا رسول الله، رواه الطبراني برجال ثقات. "كان يكتب الوحي له صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد صلى الله عليه وسلم" من الأنصار، وزيد بن ثابت وأبو زيد ومعاذ، وأبو الدرداء وسعد بن عبادة. رواه الطبراني والبيهقي من مرسل الشعبي مقيدا بالأنصار، كما ذكر فلا يرد أنه حفظه كثيرون، وأما ما أخرجه الشيخان عن قتادة عن أنس جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، كلهم من الأنصار أبي ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت، قلت لأنس، من أبو زيد، قال: أحد عمومتي وفي رواية ثابت عن أنس: مات صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة فذكرهم إلا أنه ذكر أبا الدرداء بدل أبي بن كعب فقال الإمام المازري: لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 548 وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده عليه الصلاة والسلام، وتوفي بالمدينة سنة تسع عشرة. وقيل سنة عشرين، وقيل غير ذلك،   وقال القرطبي: إنما خص الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم، وقال الباقلاني: الجواب عنه من أوجه، إما لا مفهوم له أو لم يجمعه على جميع الوجوه، والقراءات أو ما نسخ منه بعد تلاوته، أو لا مراد بجمعه كتابته، أو تلقيه من فم الرسول بلا واسطة، أو تصدوا لإلقائه وتعليمه، فاشتهروا به، أو إكمال حفظه، أو السمع والطاعة له والعمل بموجبه. قال في فتح الباري: وفي غالب هذه الاحتمالات الثمانية تكلف، ولا سيما الأخير، وقد ظهر لي احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين، قال: والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياته صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح أنه بنى مسجدا بفناء داره، فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وقد صح حديث يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وقد قدمه صلى الله عليه وسلم في مرضه، أما ما للمهاجرين والأنصار، فدل على أنه كان أقرأهم، وقد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه ابن أبي داود انتهى. "وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده عليه الصلاة والسلام". روى ابن سعد من حديث سهل بن أبي خيثمة أن الذين كانوا يفتون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من المهاجرين عمر وعلي وعثمان، وثلاثة من الأنصار أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، ومن حديث ابن عمر، قال: كان أبو بكر، وعمر يفتيان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حديث خراشي الأسلمي كان عبد الرحمن بن عوف ممن يفتي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ونظمهم الجلال السيوطي في قلائد الفرائد وآداب الفتوى، فقال: وقد كان في عصر النبي جماعة ... يقومون بالإفتاء قومه ثابت فأربعة أهل الخلافة معهم ... معاذ أبي وابن عوف ابن ثابت وابن ثابت بالرفع بحذف العاطف، أي وزيد بن ثابت، وذكرهم ابن الجوزي في المدهش أحد عشر، فذكر من عدا أبي بن كعب، وزاد حذيفة وعمارا وأبا الدرداء وأبا موسى، وكان عمر يسمي أبيًّا سيد المسلمين، ويقول اقرأ يا أبي، ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات، "وتوفي بالمدينة" وفي سنة موته اختلاف كثير، فقيل "سنة تسع عشرة، وقيل سنة عشرين" ذكرهما ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين، "وقيل غير ذلك" فقال الواقدي: رأيت أل أبي وأصحابنا يقولون مات سنة اثنتين وعشرين، فقال عمر: اليوم مات سيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 549 وهو الذي كتب الكتاب إلى ملكي عمان "جيفر" و"عبد" ابني الجلندي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وثابت بن قيس بن شماس،   المسلمين وبهذا صدر ابن حبان، قال ابن عبد البر: الأكثر على أنه مات في خلافة عمر انتهى، وصحح أبو نعيم أنه مات في خلافة عثمان سنة ثلاثين. قال الواقدي: وهو أثبت الأقاويل، وروى البغوي عن الحسن أنه مات قبل عثمان بجمعة، "وهو الذي كتب الكتاب إلى ملكي عمان" بضم المهملة، وخفة الميم من اليمن "جيفر،" بفتح الجيم، فتحتية ساكنة، ففاء مفتوحة، فراء مصروف الأزدي أسلم، "وعبد" بالموحدة بلا إضافة، وقيل بتحتية، وقيل عباد كذلك بلا إضافة أسلم أيضا، قال العسكري، لم ير هو ولا أخوه النبي صلى الله عليه وسلم فهما تابعيان. "ابني الجلندى"، بضم الجيم وفتح اللام وسكون النون، وفتح الدال المهملة والقصر، كما في الفتح والصحاح، ووهمه القاموس، فزعم أن القصر مع ضم اللام، وأما بفتحها فبالمد أسلم أيضا لما بعث صلى الله عليه وسلم إليه عمرو بن العاصي، وقال فيه أبياتا: أتاني عمرو بالتي ليس بعدها ... من الحق شيء والنصيح نصيح فقلت له ما زدت إن جئت بالتي ... جلندا عمان في عمان يصيح فيا عمرو قد أسلمت لله جهرة ... ينادي بها في الواديين فصح ذكره وبيمة عن ابن إسحاق، وذكر غيره أنه بعث عمرا إلى ولديه، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى". قال في الإصابة، فيحتمل أنه أرسل إليهم جميعا، ولا مانع من أن الجلندى قد ساح وفوض الأمر إلى ولديه. "وثابت بن قيس بن شماس" بفتح المعجمة والميم المشددة، فألف فمهملة ابن زهير بن مالك الأنصاري الخزرجي خطيب الأنصار. قال صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل ثابت بن قيس" رواه الترمذي بإسناد حسن، وأخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس قال: لما نزلت {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} ، قعد ثابت في الطريق يبكي، فمر به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك؟ قال: هذه الآية، أتخوف أن تكون نزلت في، وأنا صيت رفيع الصوت، فرفع عاصم ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فدعا به، فقال: "أما ترضى أن تعيش حميدا، وتقتل شهيدا، وتدخل الجنة"، قال: رضيت، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} [الحجرات: 3] وأخرج أصل الحديث مسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 550 استشهد باليمامة، وهو الذي كتب كتاب قطن بن حارثة العليمي، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وحنظلة بن الربيع الأسيد الذي غسلته الملائكة حين استشهد.   وروى ابن السكن عن أنس، خطب ثابت بن قيس مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا، فما لنا قال: "الجنة"، قال: رضينا ولم يذكره أصحاب المغازي في البدريين، وقالوا: شهد أحدا وما بعدها، "واستشهد باليمامة"، سنة إحدى عشرة ولا يعلم من أجيزت وصيته بعد موته غيره. روى البخاري مختصرا، والطبراني مطولا عن أنس لما انكشف الناس يوم اليمامة، قلت لثابت ألا ترى يا عم، ووجدته متحنطا، قال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئسما عودتم أقرانكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قتل، وكان عليه درع، فمر به رجل مسلم، فأخذها. فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول هذه حلم فتضيعه، إني لما قتلت أخذ درعي فلان ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه، فرس، وقد كفأ على الدرع برمة وفوقها رجل، فائت خالدا فمره فليأخذها، وليقل لأبي بكر أن علي من الدين كذا وكذا، وفلان عتيق، فاسيتقظ الرجل، فأتى خالدا، فأخبره فبعث إلى الدرع فأتى بها، وحدث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته، "وهو الذي كتب كتاب قطن" بفتح القاف، والطاء المهملة، ونون "بن حارثة العليمي" بضم العين، وفتح اللام مصغر نسبة لبني عليم من كلب، أسلم وصحب، "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في المقصد الثالث. "وحنظلة بن الربيع" بن صيفي بفتح المهملة وسكون التحتية ابن الحارث التميمي "الأسيد" بضم الهمزة مصغر بشد الياء وسكونها نسبة إلى جده الأعلى أسيد بن عمرو بن تميم، واقتصر في النور والتبصير على التثقيل، وقال بعض من ألف في الصحابة جوز بعض أهل اللغة تخفيفه مع أن المنسوب إليه المشدد، وهو أسيد "الذي غسلته الملائكة حين استشهد" كذا في النسخ، وهو غلط فاضح، فإن غسيل الملائكة هو حنظلة بن أبي عامر واسمه عمرو بن صيفي بن زيد الأنصاري الأوسي، عرف أبوه في الجاهلية بالراهب، وسماه المصطفى الفاسق، ولعله كان في الأصل غير الذي غسلته، فسقط لفظ غير، وقد فرق بينهما المؤلفون في الصحابة، وهو واضح، فالغسيل أوسي أنصاري، وهذا تميم، قال في الإصابة: ويقال له حنظلة الكاتب، وهو ابن أخي أكثم بن صيفي. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له، وأرسله إلى أهل الطائف فيما ذكر ابن إسحاق وشهد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 551 وأبو سفيان صخر بن حرب بن أميمة بن عبد شمس بن مناف القرشي الأموي. وابنه معاوية، ولي لعمر الشام، وأقره عثمان. قال ابن إ سحاق: وكان أميرا عشرين سنة، وخليفة أمير المؤمنين بعد نزول الحسن بن علي سبط سيد المرسلين عشرين سنة. وروينا في مسند الإمام أحمد من حديث العرباض قال: سمعت   القادسية، ونزل الكوفة، ومات في خلافة معاوية، ويقال رثته الجن، وفيه تقول امرأة من أبيات: إن سواد العين أودى به ... حزني على حنظلة الكاتب "وأبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي" بضم الهمزة على القياس، وبفتحها على غير القياس، وهو الأشهر عندهم، كما في المصباح، وقال الجوهري بالضم، وربما فتحوا، أسلم في الفتح، وكان من المؤلفة، ثم حسن إسلامه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه ابن معاوية وابن عباس وقيس بن أبي حازم، مات سنة اثنتين أو إحدى أو أربع وثلاثين، قيل عاش ثلاثا وتسعين، وقيل ثمانيا وثمانين، وقيل غير ذلك. "وابنه معاوية" المولود قبل البعثة بخمس سنين أو سبع أو ثلاث عشرة والأول أشهر. قال أبو نعيم: كان من الكتبة الحسبة الفصحاء حليما وقورا وصحبه صلى الله عليه وسلم وكتب له، "ولي لعمر" بن الخطاب "الشام" بعد موت أخيه سنة تسع عشرة، "وأقره عثمان" مدة خلافته. "قال ان إسحاق: وكان أميرا" من قبل عمر، ثم عثمان "عشرين سنة، وخليفة" بالتنوين "أمير المؤمنين" بالنصب بدل من خليف أو خبر ثان، "بعد نزول الحسن بن علي سبط سيد المرسلين" له عن الخلافة صونا لدماء المسلمين لا ضعفا ولا عجزا "عشرين سنة". قال في الإصابة فيه تجوز لأن المدة بعد تسليم الحسن تسع عشرة سنة إلا يسيرا، وقال في الفتح: كانت ولايته بين إمارة ومحاربة ومملكة أكثر من أربعين سنة متوالية. ا. هـ. روى أبو يعلى والبيهقي عن معاوية قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فلما توضأ نظر إلي، فقال: "يا معاوية إن وليت أمرا فاتق الله وأعدل" فما زلت أظن أني مبتلى بعمل. قال ابن عباس: إنه فقيه رواه البخاري: وقال أيضا ما رأيت أحدا أحلى للملك من معاوية رواه البخاري في تاريخه، وكان عمر إذا نظر إلى معاوية قال هذا كسري العرب. رواه البغوي، ونظر إليه أبوه وهو غلام، فقال إن ابني هذا لعظيم الرأس وإنه لخليق أن يسود قومه، فقالت: هند قومه فقط؟ ثكلته إن لم يسد العرب قاطبة ذكره ابن سعد، "وروينا في مسند الإمام أحمد من حديث العرباض" بكسر العين ابن سارية السلمي، "قال: سمعت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 552 رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب، وقه العذاب". وهو مشهور بكتابة الوحي. أسلم يوم فتح مكة ومات في العشر الأخير من رجب سنة تسع وخمسين، وقيل سنة ستين وقد قارب الثمانين، وقال ابن عبد البر عن اثنتين وثمانين سنة، والله أعلم.   رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب". زاد في رواية للطبراني، ومكن له في البلاد. قال في فتح الباري: وقد ورد في فضائله أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه، والنسائي، وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب وأبو بكر النقاش. وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق قول ابن راهويه لم يصح في فضائل معاوية شيء، وأخرج أيضا عن عبد الله بن أحمد سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية، فأطرق، ثم قال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيبا فلم يجدوا فعمدوا إلى رجل قد حاربه، فاظروه كيدا منهم لعلي، فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. ا. هـ. "وهو مشهور بكتابة الوحي" وقال المدائني كان زيد بن ثابت يكتب الوحي ومعاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين العرب، وعن ابن عباس، قال لي صلى الله عليه وسلم: "ادع لي معاوية"، وكان كاتبه، رواه أحمد وأصله في مسلم، "أسلم يوم الفتح فتح مكة" وكان من المؤلفة قلوبهم، ومن الطبقة الأولى، وهي من أعطيت مائة في غنائم حنين، كما ذكر غير واحد، وحكى الواقدي أنه أسلم بعد الحديبية، وكتم إسلامه حتى أظهره عام الفتح، وأنه كان في عمرة القضاء مسلما. قال في الإصابة: ويعارضه ما في الصحيح عن سعد بن بي وقاص، أنه قال في العمرة في أشهر الحج فعلناها، وهذا يومئذ كافر، يعني معاوية، فيحتمل إن ثبت الأول أن سعدا أطلق ذلك بحسب ما استصحب من حاله، ولم يطلع على أنه كان أسلم لإخفائه لإسلامه، "ومات في العشر الأخير من رجب سنة تسع وخمسين" كذا صدر به، "وقيل" في رجب "سنة ستين، وقد قارب الثمانين" وبهذا جزم في التقريب، وقال في الإصابة، مات في رجب سنة ستين على الصحيح، "وقال ابن عبد البر عن اثنتين وثمانين سنة"، ورجحه النووي وقيل عن ست وثمانين سنة، "والله أعلم"، بما في نفس الأمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 553 وأخوه يزيد بن أبي سفيان بن حرب وأمره عمر على دمشق حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون، فوليها بعدها أخوه معاوية حتى رقي منها إلى الخلافة، وكان يزيد من سروات الصحابة وساداتهم أسلم يوم الفتح أيضا وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال رضي الله عنه. وزيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري النجاري،   وروي عنه صلى الله عليه وسلم، وعنه ابن عباس، وجرير، وابن الزبير ومعاوية بن خديج، والنعمان بن بشير، وغيرهم من الصحابة والتابعين، "أخوه" لأبيه "يزيد بن أبي سفيان بن حرب" وأمه في الحكم زينب بنت نوفل بن خلف من بني كنانة، كان يقال له يزيد الخير، ويكنى أبا الحكم، وهو أفضل بني أبي سفيان، قاله ابن عبد البر، واستعمله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني فراس أخواله. ذكره الزبير بن بكار، وأمره الصديق لما قفل من الحج سنة اثنتي عشرة أحد أمراء الأجناد، "وأمره عمر على" فلسطين، ثم على "دمشق" لما مات أميرها معاذ بن جبل، وكان استخلفه، فأقره عمر "حتى مات بها سنة تسع عشرة بالطاعون" كذا في التقرب، والذي في الإصابة، يقال مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. وقال الوليد بن مسلم: بل تأخر موته إلى سنة تسع عشرة بعد أن افتتح قيسارية، "فوليها بعده أخوه معاوية" واستمر "حتى رقي منها إلى الخلافة" سنة إحدى وأربعين واجتمع عليه الناس فسمي بذلك العام عام الجماعة "وكان يزيد من سروات الصحابة وساداتهم" عطف تفسير، "أسلم يوم الفتح أيضا" كأبي وأخيه، وكان من المؤلفة أيضا، "و" لذا "أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين مائة بعير وأربعين أوقية وزنها له بلال رضي الله عنه" وحسن إسلامه، وكان من فضلاء الصحابة. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصديق. وروى عنه أبو عبد الله، وعياض الأشعريان، وجنادة بن أبي أمية، "وزيد بن ثابت بن الضحاك" بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار "الأنصاري" الخزرجي، "النجاري" بنون وجيم إلى جده المذكور أبو سعيد، وقيل أبو ثابت، وقيل غير ذلك استصغر يوم بدر، ويقال شهد أحدا، ويقال أول مشاهده الخندق، وكان معه راية بني النجار، يوم تبوك قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وله إحدى عشرة سنة، وروى البخاري تعليقا، والبغوي، وأبو يعلى موصولا عنه، قال: أتى بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة، فقيل هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ سبعة عشر سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك، فقال: "تعلم كتاب يهود، فإني ما آمنهم على كتابي" فتعلمت، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 554 مشهور، بكتب الوحي، مات سنة خمسين أو ثمان وأربعين، وقيل بعد الخمسين. وكان أحد فقهاء الصحابة، وأحد من جمع القرآن في خلافة أبي بكر، ونقله إلى المصحف في خلافة عثمان. وشرحبيل ابن حسنة، وهي أمة، وهو أول كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.   فما مضى لي نصف شهر حى حذفته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له، "مشهور بكتب الوحي" وكان يكتب له أيضا المرسلات، وكتب للعمرين في خلافتهما، وتولى قسم غنائم اليرموك، وكان عمر يستخلفه إذا سافر للحج، فقلما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل رواه البغوي، وكان عثمان يستخلفه أيضا إذا حج، "مات سنة خمسين أو ثمان وأربعين، وقيل بعد الخمسين" وفي الإصابة، مات سنة اثنتين أو ثلاث أو خمس وأربعين، وهو قول الأكثر سنة إحدى واثنتين أو خمس وخمسين. قال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا، "وكان أحد فقهاء الصحابة" رأسا بالمدينة في القضاء والفتوى والفرائض. قال صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد"، رواه أحمد بإسناد صحيح، وقيل إنه معلول. وقال ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم رواه البغوي، وعن الشعبي ذهب زيد ليركب، فأمسك ابن عباس بالركاب، فقال: تنح يابن عم رسول الله: قال: لا هكذا نفعل بالعلماء والكبراء، رواه يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح، "وأحد من جمع القرآن في خلافة أبي بكر، ونقله إلى المصحف في خلافة عثمان، وفي الإصابة، وهو الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر ثبت ذلك في الصحيح. وقال له أبو بكر: إنك شاب عاقل لا انهمك، وروى عنه جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة، وأبو سعيد، وابن عمر، وأنس، وسهل بن سعد، وسهل بن حنيف، وعبد الله بن يزيد الخطمي، ومن التابعين ولداه خارجة، وسليمان وابن المسيب، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار وآخرون. "وشرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء وسكون المهملة، فموحدة، فتحتية، فلام "ابن حسنة" الصحابية، وهاجرت مع ابنها إلى الحبشة، "وهي أمه" على ما جزم به غير واحد. وقال ابن عبد البر: بل تبنته وأبوه عبد الله بن المطاع بن عبد الله الكندي، ويقال التميمي، أسلم قديما هو وأخواه لأمه جنادة، وجابر ابنا سفيان بن معمر بن حبيب الجمحي، وهاجروا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة "وهو أول كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وسيره أبو بكر في فتوح الشام، وولاه عمر على ربع من أرباعها، وبها مات سنة ثمان عشرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 555 والعلاء بن الحضرمي. وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي، سيف الله، أسلم بين الحديبية والفتح، مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين. وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، فاتح مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أسلم عام الحديبية ولي إمرة مصر مرتين، ومات بها سنة نيف وأربعين وقيل بعد الخمسين.   والعلاء بن الحضرمي، واسم أبيه عبد الله بن عمار، سكن أبوه مكة، وحالف حرب بن أمية والعلاء صحابي جليل استعمله صلى الله عليه وسلم على البحرين فأقره أبو بكر، ثم عمر حتى مات سنة أربع عشرة أو إحدى وعشرين، وكان يقال له إنه مجاب الدعوة، وخاض البحر بكلمات قالها. وروى عنه من الصحابة السائب وأبو هريرة، "وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي سيف الله"، كما قال صلى الله عليه وسلم "أسلم بين الحديبية والفتح" وتقدم مفصلا، "مات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين، بحمص عند الأكثر وقيل بالمدينة، وذكر أنه من الكتاب ابن عبد البر، وابن الأثير، وغيرهما. "وعمرو بن العاص بن وائل" القرشي "السهمي، فاتح مصر في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أي عمر وعمرو، كما هو ظاهر لا عمرو أبوه؛ لأن الخطاب لم يسلم، "أسلم عام الحديبية" وفي الإصابة أسلم قبل الفتح في صفر سنة ثمان، وقيل بين الحديبية وخيبر، ومر لذلك مزيد عند ذكر المصنف وقت إسلامه في المقصد الأول، وكان صلى الله عليه وسلم يقربه ويدنيه لشجاعته، وولاه ذات السلاسل وأمده بالعمرين، وأبي عبيدة، ثم استعمله على عمان، فمات وهو أميرها، ثم كان من الأمراء الأجناد في الجهاد بالشام في زمن عمر، ففتح قنسرين وصالح أهل حلب وإنطاكية، وولاه عمر فلسطين، وقال في حقه، ما ينبغي له أن يمشي على الأرض إلا أميرا، وقال صلى الله عليه وسلم: "عمرو بن العاص من صالحي قريش"، رواه أبو يعلى وغيره، "ولي إمرة مصر مرتين" الأولى، ولاه عمر لما فتحها إلى أن مات، فأبقاه عثمان قليلا ثم عزله وولى ابن أبي سرح فآل أمر عثمان بسببه إلى ما اشتهر ثم لما كانت الفتنة بين علي ومعاوية، لحق عمرو بمعاوية فكان يدبر أمره في الحرب إلى أن جرى أمر الحكمين فجهزه معاوية إلى مصر، وهي المرة الثانية، فوليها لمعاوية من صفر سنة ثمان وثلاثين إلى أن توفي، "ومات بها سنة نيف وأربعين، وقيل بعد الخمسين" وفي الإصابة مات سنة ثلاث وأربعين على الصحيح الذي جزم به ابن يونس وغيره من المتقين، وقيل قبلها بسنة، وقيل بعدها، ثم اختلفوا، فقيل بست، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 556 والمغيرة بن شعبة الثقفي، أسلم قبل الحديبية، وولي إمرة البصرة ثم الكوفة، مات سنة خمسين على الصحيح. وعبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري أحد السابقين، شهد بدرا واستشهد بمؤتة. ومعيقيب -بقاف وآخره موحدة مصغر- ابن أبي فاطمة الدوسي، من السابقين الأولين، وشهد المشاهد ومات في خلافة عثمان أو علي. وحذيفة بن اليمان،   وقيل بثمان، وقيل بأكثر. قال الليث: وهو ابن تسعين سنة، وقال العجلي: تسع وتسعين رضي الله عنه. "والمغيرة" بضم الميم على الأشهر، وحكى ابن قتيبة وغيره كسرها، والهاء فيه في الأصل للمبالغة، كعلامة "ابن شعبة الثقفي أسلم قبل الحديبية" وشهدها وبيعة الرضوان وله فيه ذكر، وكان يقال له مغيرة الرأي، وكان من دهاة العرب، وشهد اليمامة، وفتوح الشام، والعراق "وولي إمرة البصرة" لعمر، ففتح همذان وعدة بلاد، ثم عزله عمر، "ثم" ولاه "الكوفة" وأقره عثمان، ثم عزله، فلما قتل عثمان اعتزل القتال، ثم بايع معاوية بعد اجتماع الناس عليه، فولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على إمرتها حتى مات سنة خمسين على الصحيح، الذي عليه الأكثر، وقيل قبلها بسنة، وقيل بعدها بسنة. "وعبد الله بن رواحة، الخزرجي، الأنصاري، أحد السابقين" إلى الإسلام من الأنصار، وأحد النقباء ليلة العقبة، "شهد بدرا" وما بعدها، "واستشهد بمؤتة" من الشام رضي الله عنه. "ومعيقيب" بضم الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، و"بقاف" مكسورة بعدها تحتية، "وآخره موحدة مصغر". قال ابن شاهين: ويقال معيقب بغير الياء الثانية "ابن أبي فاطمة الدوسي" ويقال إنه من ذي أصبح، وهو حليف بني أمية "من السابقين الأولين" إلى الإسلام بمكة، "وشهد المشاهد" وكان به داء الجذام، وقيل البرص، فعولج بأمر عمر حتى وقف. قاله أبو عمر: ويقال هاجر إلى الحبشة، وكان على بيت المال لعمر، ثم كان على خاتم عثمان. وروى أحاديث وعنه ابناه محمد والحارث، وحفيده إياس بن الحارث وأبو سلمة بن عبد الرحمن، "مات في خلافة عثمان أو علي" وقيل عاش إلى بعد الأربعين، كما في الإصابة، "وحذيفة بن اليمان" واسه حسيل بالتصغير، ويقال حسل بكسر، فسكون المهملتين ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 557 من السابقين، صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان ومما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابي أيضا استشهد بأحد، ومات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين. وحويطب بن عبد العزى العامر، أسلم يوم الفتح، عاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة أربع وخمسين. وله كتاب آخر سوى هؤلاء، وذكروا في الكتاب الذي تقدم ذكره.   جابر بن ربيعة بن فروة بن الحارث بن قطيفة بن عبس العبسي، بسكون الموحدة أصاب أبوه دما، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان، لكونه حالف اليمانية، وتزوج أم حذيفة، فولد له بالمدينة "من السابقين" أسلم هو وأبوه، وأرادا شهود بدر، فصدهما المشركون. وفي الصحيحين أن أبا الدرداء قال لعلقمة: أليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره يعني حذيفة، وذلك لأنه "صح في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه" لفظ مسلم عن حذيفة: لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم "بما كان، وبما يكون إلى أن تقوم الساعة" ولذا سأله عمر عن الفتنة، كما في الصحيحين، وشهد أحدا والخندق وله بها ذكر حسن، وما بعدهما، وفتوح العراق، وله بها آثار شهيرة، "وأبوه صحابي أيضا استشهد بأحد"، قتله المسلمون خطأ يظنونه من المشركين، "ومات حذيفة" أميرا على المدائن من عمر، فلم يزل بها حتى مات "في أول خلافه علي" بعد أن بويع له بأربعين يوما "سنة ست وثلاثين". وروى عنه صلى الله عليه وسلم وعن عمر، وروى عنه جابر، وجندب، وأبو الطفيل، وعبد الله بن يزيد، وغيرهم من الصحابة والتابعين، "وحويطب بن عبد العزى" بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل، بكسر الحاء، وسكون السين المهملتين، ولا ابن عامر بن لؤي القرشي، "العامر أسلم يوم الفتح" وشهد حنينا، وكان من المؤلفة، وجدد أنصاب الحرم في عهد عمر، ثم قدم المدينة، فنزلها إلى أن مات وباع داره بمكة من معاوية بأربعين ألف دينار، فاستكثرها بعض الناس، فقال حويطب: وما هي لمن عنده العيال. ذكره ابن سعد "عاش مائة وعشرين سنة" قاله البخاري، "ومات سنة أربع وخمسين" قاله الواقدي، "وله كتاب آخر سوى هؤلاء ذكروا في الكتاب الذي تقدم ذكره" ومن كتابه السجل روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] ، السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم. زاد ابن منده: والسجل هو الرجل بالحبشة، وروى ابن مردويه وابن منده عن ابن عمر قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 558 وكان معاوية وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك وأخصهم به، كما قاله الحافظ الشرف الدمياطي وغيره، ونبهت عليه. قال الحافظ ابن حجر: وقد كتب له قبل زيد بن ثابت، أبي بن كعب، وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له بمكة من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح، وممن كتب له في الجملة أكثر من غيره الخلفاء الأربعة وأبان وخالد ابنا سعيد بن العاصي بن أمية.   كان للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب، يقال له السجل، فأنزل يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب، والسجل هو الرجل بالحبشة، وأخرجه أبو نعيم والخطيب، فهذا الحديث صحيح لهذه الطرق، وغفل من زعم أنه موضوع نعم ورد ما يخالفه، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي جعفر، البقار أن السجل ملك كان له في أم الكتاب كل يوم ثلاث طيات، وزاد النقاش أنه في السماء الثالثة، ونقل الثعلبي، وغيره عن ابن عباس، ومجاهد السجل الصحيفة، قاله في الإصابة باختصار، ومراده الرد على قول ابن كثير، عرضت حديث ابن عباس على المزي، فأنكره جدا، وأخبرته أن ابن تيمية قاله: إنه موضوع، وإن كان في سنن أبي داود فقال المزي: وأنا أقوله. ا. هـ. قال الحافظ في غير الإصابة: وهذه مكابرة، "وكان معاوية، وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك، وأخصهم به، كما قاله الحافظ الشرف" أي شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف "الدمياطي وغيره ونبهت عليه". "قال الحافظ ابن حجر: وقد كتب له قبل زيد بن ثابت" وقبل معاوية بالأولى لتأخر إسلامه، عن زيد "أبي بن كعب: وهو أول من كتب له بالمدينة" قبل زيد وغيره، "وأول من كتب له بمكة من قريش" خرج شرحبيل بن حسنة؛ لأنه كندي، فلا يرد على قوله أنه أول كاتب "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" العامري، "ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام يوم الفتح" فحسن إسلامه، ولم يظهر منه بعده إلا الخير. ولاه عثمان مصر، ففتح الله على يديه أفريقية، فكان فتحا عظيما، بلغ سهم الفارس فيه ثلاثة آلاف مثقال، واعتزل الفتنة بعد قتل عثمان، فسكن عسقلان، وقيل الرملة، ودعا أن يختم عمله بالصلاة، فسلم من الصبح التسليمة الأولى، ثم هم بالثانية، فقبض، "وممن كتب له في الجملة أكثر من غيره الخلفاء الأربعة، وأبان" بن سعيد أسلم أيام خيبر وشهدها، كما ذكره الواقدي، ووافقه عليه علماء الأخبار، وهو المشهور، وخالفهم ابن إسحاق، فعده فيمن هاجر إلى الحبشة، ومات صلى الله عليه وسلم وإبان على البحرين، ثم قدم على أبي بكر، وسار إلى الشام، فقتل يوم أجنادين سنة ثلاثة عشرة، قاله الأكثر، وقيل غير ذلك. "وخالد ابنا سعيد بن العاصي بن أمية" القرشي، الأموي، من السابقين قيل كان رابعا أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 559 وقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى أهل الإسلام كتبا في الشرائع والأحكام: منها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر، فكتبه أبو بكر لأنس لما وجهه إلى البحرين ولفظه كما عند البخاري، وأبي داود والنسائي: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين،   خامسا، فعاقبه أبوه ومنعه القوت، فهاجر إلى الحبشة حتى قدم مع جعفر، فشهد عمرة القضية وما بعدها، واستشهد بمرج الصفراء، وقيل بأجنادين، وقد اختلف في أيهما كانت قبل والله أعلم "وقد كتب صلى الله عليه وسلم" أي أمر بالكتابة، كما هو معلوم أنه لم يكتب، وهو في حقه معجزة، كما في الحديبية كتابة منتهية "إلى أهل الإسلام" تبقى عندهم يرجعون إليها عند الحاجة، "كتبا" نقوشا دالة على ألفاظ ذات معان تسمى كتبا "في الشرائع والأحكام" تفسيري، "منها كتابه في الصدقات الذي كان عند أبي بكر" الصديق، "فكتبه أبو بكر" بيده المباركة؛ لأنه كاتب أو بأمره لاشتغاله بأمور الخلافة "لأنس" ابن مالك "لما وجهه إلى البحرين" بلفظ التثنية عاملا عليها، وهي اسم لإقليم مشهور يشتمل على مدن معروفة قاعدتها هجر، والنسبة إليها بحراني، كما في الفتح، "ولفظه، كما عند البخاري" في مواضع عشرة منها ستة في كتاب الزكاة ثلاثة أبواب متوالية، ثم فصل بباب، ثم ثلاثة متوالية أيضا. وفي الخمس والشركة واللباس وترك الخيل بإسناد واحد في العشرة مقطعا بحسب حاجته منه، "وأبي داود والنسائي" وابن ماجه الثلاثة في الزكاة، وكلهم من رواية ثمامة بن عبد الله أن جده أنسا حدثه أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين، وفي رواية لأبي داود أن أبا بكر كتبه لأنس، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم "بسم الله الرحمن الرحيم". قال الماوردي فيه إثبات البسملة أول الكتب، وإن الحمد ليس بشرط "هذه فريضة" قال الحافظ: أي نسخة فريضة، فحذف المضاف للعلم به "الصدقة" فيه أن اسمها يقع على الزكاة، خلافا لمن منع ذلك من الحنفية "التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهر في رفع الخبر إلى المصطفى وأنه ليس موقوفا على أبي بكر، وقد صرح برفعه إسحاق بن راهويه، أي أوجبها أو شرعها بأمر الله تعالى "على المسلمين" وقيل: معناه قدر؛ لأن إيجابها ثابت بالكتاب، ففرضه صلى الله عليه وسلم لها بيان لمجمله بتقدير الأنواع والأجناس، وأصل الفرض قطع الشيء الصلب، ثم استعمل في التقدير، لكونه مقتطعا من الشيء الذي يقدر منه، وقد يرد بمعنى البيان نحو قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، والإنزال إن الذي فرض عليك القرءان والحل ما كان على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 560 والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربعة وعشرين من الإبل فما دونها، من الغنم   النبي صلى الله عليه وسلم من حرج فيما فرض الله له، وكله لا يخرج عن معنى التقدير، وبمعنى اللزوم حتى كاد يغلب عليه، وهو لا يخرج أيضا عن معنى التقدير، وقد قال الراغب، كل شيء ورد في القرآن فرض على فلان، فهو بمعنى الإنزال، وكل شيء ورد فرض له، فهو بمعنى لم يحرم عليه، وذكر أن معنى أن الذي فرض عليك القرآن، أي أوجب عليك العمل به، وهذا يؤيد قول الجمهور أن الفرض مرادف للوجوب، وتفريق الحنيفية بينهما باعتبار ما يلقبان به لا مشاحة فيه، وإنما النزاع في حمل ما ورد في الأحاديث الصحيحة على ذلك؛ لأن اللفظ السابق لا يحمل على الاصطلاح الحادث، واستدل به على أن الكافر لا يخاطب بالزكاة، وتعقب بأن المراد كونها لا تصح منه، لا أنه لا يعاقب عليها، وهو محل النزاع. ا. هـ. "والتي أمر الله بها رسوله" أي بتبليغها، كما قال المصنف وغيره. فلا يرد أن الأنبياء لا زكاة عليهم، كما ذكره ابن عطاء الله بناء على قول الإمام مالك، أن الأنبياء لا يملكون. قال السيوطي: وعند الشافعي وغيره يملكون، ثم الجلالة ثابتة في مواضع من البخاري، فما في بعض نسخ المواهب من حذفها تحريف، وأما لفظ بها، فقال الحافظ: كذا في كثير من نسخ البخاري ووقع في كثير منها بحذف بها، وأنكره النووي في شرح المهذب، ولأبي داود التي أمر بلا واو على أنها بدل من الأولى، "فمن سئلها" بضم السين "من المسلمين على وجهها" أي الكيفية المبنية في هذا الحديث، "فليعطها" وفيه دلالة على دفع الأموال الظاهرة للإمام، "ومن سئل فوقها" أي زائدا على ذلك في سن أو عدد، "فلا يعط" الزائد على الواجب، كما نقل الرافعي الاتفاق على ترجيحه، وقيل معناه: فليمنع الساعي، وليتول هو إخراجه بنفسه أو لساع آخر فإن الساعي طالب الزيادة متعد، وشرطه أن يكون أمينا، لكن محله إذا طلب الزيادة بغير تأويل، هكذا في الفتح ونسخته فلا يعطه بالهاء، وكذا في أبي داود المتبادر أنها ضمير عائد على فوق بمعنى الزائد، ويحتمل أنها للسكت. وفي متون البخاري، وعليها شرح المصنف بدونها، وهل الموجود في نسخ المواهب الصحيحة، ويقع في بعضها بزيادة ياء من تحريف النساخ، وإن كانت لغة قليلة لعدم مجيء الرواية هنا بها، ثم شرح في بيان الفريضة، وأخذها وبدأ بالإبل؛ لأنها غالب أموالهم، فقال: "في أربعة وعشرين من الإبل" زكاة، "فما دونها" الفاء، بمعنى أو "من الغنم" متعلق بالمبتدأ المقدر. قال الحافظ: كذا للأكثر، وفي رواية ابن السكن بإسقاط من، وصوبها بعضهم، وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 561 في كل خمس شاة. فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر. فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى. فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة طروقة الجمل.   عياض من أثبتها، فمعناه زكاتها، أي الإبل من الغنم، ومن للبيان لا للتبعيض، ومن حذفها فالغنم مبتدأ، والخبر مضمر في قوله أربعة وعشرين وما بعده، وإنما قدم الخير؛ لأن الغرض بيان المقادير التي تجب فيها الزكاة، وإنما تجب بعد وجوب النصاب، فحسن التقديم "في كل خمس شاة" مبتدأ وخبر، واستدل به على تعين إخراج الغنم، وهو قول مالك وأحمد، فلو أخرج بعيرا عن الأربعة والعشرين لم يجزه. وقال الشافعي والجمهور يجزيه لأنه يجزي عن خمس وعشرين، فأولى ما دونها، ولأن الأصل أن تجب من جنس المال، وإنما عدل عنه رفقا، فإذا رجع باختياره إلى الأصل أجزأه، فإن كانت قيمة البعير دون قيمة أربع شياه، ففيه خلاف وإلا قيس أنه لا يجزي. ا. هـ. ويرد ما تمسكوا به لأنه قياس في معرض النص، فهو فاسد الاعتبار على أنه لا دخل له في هذا الباب. نعم صحح المالكية أجزاء بعير عن شاة تفي قيمته بقيمته، "فإذا بلغت خمسا وعشرين" منتهية "إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض" بفتح الميم والمعجمة الخفيفة، وآخر معجمة، أتى عليها حول، ودخلت في الثاني، وحملت أمها والمخاض الحامل، أي دخل وقت حملها، وإن لم تحمل "أنثى، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون" وهو ما دخل في الثالثة فصارت أمه لبونا، بوضع الحمل "ذكر" أتى به، وبأنثى للتأكيد أو لينبه رب المال ليطيب نفسا بزيادة، وقيل احترز بذلك عن الخنثى وفيه بعد، كما في الفتح، وفي شرح الموطأ للباجي قال ذكر وإن كان ابن لا يكون إلا ذكرا زيادة في البيان؛ لأن من الحيوان ما يطلق على الذكر والأنثى، منه لفظ ابن كابن عروس وابن آوى، فرفع به هذا الاحتمال. قال: ويحتمل أن يريد به مجرد التأكيد كقوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} "فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى" إلى للغاية، وهي تقتضي أن ما بعدها يشتمل عليه الحكم المقصود بيانه بخلاف ما قبلها، فلا يدخل إلا بدليل وقد دخل هنا بدليل، قوله: "فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين، ففيها حقة" بكسر المهملة، وشد القاف، والجمع حقاق بالكسر، والتخفيف "طروقة الجمل" لفتح الطاء أي مطروقة فعولة، بمعنى مفعولة كحكومة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 562 فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة. فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين، ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل. فإذا زادت عن عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. ومن لم يكن إلا أربع من الإبل، فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة. ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له،   بمعنى محكومة، أي بلغت أنها يطرقها الفحل، وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، "فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين، ففيها جذعة" بفتح الجيم والمعجمة، وهي التي دخلت في الخامسة، سميت بذلك لأنها أجذعت مقدم أسنانها، أي أسقطته وهي غاية أسنان الزكاة "فإذا بلغت" يعني "ستا وسبعين، ففيها بنتا لبون". قال الحافظ: كذا في الأصل بزيادة يعني، وكان العدد حذف من الأصل اكتفاء بدلالة الكلام، عليه فذكره بعض رواته بلفظ يعني لينبه على أنه مزيدا وشك أحد رواته فيه، وقد ثبت بغير لفظ يعني في رواية الإسماعيلي من طريق أخرى عن شيخ البخاري فيه، فيحتمل أن الشك فيه من البخاري، وقد وقع في رواية لأبي داود بإثباته أيضا، "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإن زادت عن عشرين ومائة" واحدة، فصاعدا عند الجمهور "ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة" فواجب مائة وثلاثين بنتا لبون، وحقه واجب مائة وأربعين بنت لبون وحقتان وهكذا، "ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها" أن يتبرع ويتطوع. وأتى به للإيضاح وبيان الواقع، "فإذا بلغت خمسا من الإبل، ففيها شاة" زيادة في البيان والإيضاح إذ هو أول الكلام، "ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة"، بالإضافة البيانية، ورفع صدقة فاعل بلغت ومن الإبل متعلق به فلم تتعين زيادة من داخلة على الفاعل، كما ظن لأنه تخريج لكلام سيد الفصحاء على قول ضعيف مع عدم الحاجة إليه. "و" الحال أنه "ليست عنده جذعة، وعنده حقه، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين" بصفة الشاة المخرجة عن خمس من الإبل يدفعها للمصدق "إن استيسرتا له" أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 563 أو عشرين درهما. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنه لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي المصدق شاتين أو عشرين درهما. ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده الحقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون، وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين.   وجدتا في ماله. قاله المصنف: "أو عشرين درهما" فضة وكل منهما أصل بنفسه لا بدل؛ لأنه قد خير فيهما، وكان ذلك معلوما لا يجري مجرى تعديل القيمة لاختلاف ذلك في الأزمنة والأمكنة، فهو تعويض قدره الشارع كالشاة في المصراة. "ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة" وخبر المبتدأ قوله: "فإنها تقبل منه" أي المالك "الجذعة ويعطيه المصدق"، بضم الميم، وخفة المهملة، وكسر الدال، وهو الساعي الذي يأخذ الزكاة إما بشد الصاد، فدافع الصدقة، كما في الفتح وغيره "عشرين درهما" فضة خالصة، "أو شاتين". "ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي المصدق" بالتشديد المالك "شاتين، أو عشرين درهما". "ومن بلغت صدقته" عن إبله "بنت لبون" بالنصب على المفعولية، كما أعربه المصنف؛ لأن لفظ البخاري، كما هنا صدقته بالرفع فاعل بلغت مضافا لهاء الضمير، "وعنده الحقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق" بالتخفيف، أي الساعي "عشرين درهما أو شاتين". "ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون" بالإضافة البيانية، وإن نصب صدقة مفعول بلغت وبنت بدل منه، وقدر الفاعل إبله جاز. لكن الذي في البخاري، ومن بلغت صدقته بنت لبون بإضافة صدقة إلى الضمير، ونصب بنت، "وليست عنده وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت المخاض، ويعطي" المالك "معها عشرين درهما، أو شاتين". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 564 ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت ليون فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء. وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا بلغت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ. فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان. فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه. فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة. فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها   "ومن بلغت صدقته بنت مخاض" بنصب بنت على المفعولية، وفي نسخة بإضافة صدقة إلى بنت، قاله المصنف، "وليست عنده و" الحال أن الموجود "عنده بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" المفروض، "وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه" وإن كان أقل قيمة منها، ولا يكلف تحصيلها، "وليس معه شيء" زيادة عليه، وهذا الحكم متفق عليه، ولو لم يجد واحدا منهما، فالأصح عند الشافعية أن له أن يشتري أيهما شاء، وقال مالك وأحمد وغيرهما: يتعين شراء بنت المخاض. "وفي صدقة الغنم في سائمتها" بدل من الغنم بإعادة الجار، أي في الغنم السائمة، أي الراعية "إذا بلغت" رواية الكشميهني، ولغيره إذا كانت "أربعين إلى عشرين ومائة شاة" بالإضافة "شاة" بالرفع خبر مبتدأ مضمرا ومبتدأ، وفي صدقة الغنم خبره، قاله المصنف، "فإذا زادت على عشرين ومائة" واحدة فصاعدا "إلى مائتين"، فزكاتها "شاتان" مرفوع على الخبرية والابتدائية، كما مر "فإذا زادت على مائتين" ولو واحدة "إلى ثلاثمائة، ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة" مائة أخرى لا دونها، "ففي كل مائة شاة" ومقتضاه أن لا تجب الرابعة حتى توفي أربعمائة، وهو قول الجمهور، قالوا: وفائدة ذكر ثلاثمائة لبيان النصاب الذي بعده لكون ما قبله مختلفا، وعن بعض الكوفيين، كالحسن بن صالح، ورواية عن أحمد، إذا زادت على الثلاثمائة واحدة وجب أربع، "فإذا كانت سائمة الرجل، ناقصة عن أربعين شاة" تمييز "شاة" معمول ناقصة "واحدة" أعربه الزركشي صفة شاة الذي هو تمييز أربعين، ورده الدماميني بأنه لا فائدة في هذا الوصف مع كون شاة تمييز، وإنما واحدة منصوب على أنه مفعول ناقصة، أي صفة لمفعوله "فليس فيها" أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 565 صدقة إلا أن يشاء ربها. ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا أن يشاء المصدق.   الناقصة واحدة، فأولى ما فوقها "صدقة إلا أن يشاء ربها" أن يطوع "ولا يجمع" بضم أوله وفتح ثالثة "بين متفرق" بتقديم التاء على الفاء، كما قال الحافظ وغيره "ولا يفرق" بضم أوله وفتح ثالثه مشددا "بين مجتمع خشية الصدقة" نصب مفعول لأجله تنازع فيه الفعلان. قال الدماميني: ويحتمل أن التقدير لا يفعل شيء من ذلك خشية الصدقة، فيحصل المراد بلا تنازع انتهى. قال مالك في الموطأ معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا يجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقوها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة، والساعي من جهة، فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة، فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل الصدقة، فيجمع أو يفرق لتكثير، فمعنى قوله خشية الصدقة، أي خشية أن تكثر الصدقة أو أن تقل الصدقة، فلما كان محتملا للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر، فحمل عليهما معا. قال الحافظ: لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر، "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" يأتي بيانه في المصنف، "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة". قال الحافظ: بفتح الهاء وكسر الراء، كبيرة سقطت أسنانها، "ولا ذات عوار" بفتح العين المهملة وبضمها، وقيل بالفتح أي معيبة، وبالضم العور، واختلف في ضبطها، فالأكثر على أنه ما ثبت به الرد في البيع، وقيل ما يمنع الإجزاء في الأضحية، ويدخل في المعيب المريض، والصغير سنا بالنسبة إلى سن أكبر منه، "ولا تيس إلا أن يشاء المصدق". قال الحافظ: اختلف في ضبطه، فالأكثر على أنه بالتشديد والمراد المالك، وهذا اختيار أبي عبيدة وتقديره لا يؤخذ هرمة. ولا ذات عيب أصلا، ولا يؤخذ التيس، وهو فحل الغنم، إلا برضا المالك لاحتياجه إليه، ففي أخذه بغير رضاه إضرار به، فالاستثناء مختص بالثالث، ومنهم من ضبطه بتخفيف الصاد، وهو الساعي، وكأنه أشير إلى التفويض إليه؛ لأنه كالوكيل، فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 566 وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. قوله وفي الرقة: الدراهم المضروبة، والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة من الورق. قاله ابن الأثير في الجامع. وقال في فتح الباري: هي بكسر الراء وتخفيف القاف: الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة. ومنها كتاب الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه،   يتصرف بغير مصلحة. وهذا قول الشافعي في كتاب البويطي، وهو أشبه بقاعدته في تناول الاستثناء جميع ما قبله. وعن الماليكة يلزم المالك أن يشتري شاة مجزئة تمسكا بظاهر هذا الحديث، وفي رواية أخرى عندهم كالأول انتهى، "وفي" مائتي درهم من "الرقة ربع العشرة" خمسة دراهم، وما زاد على المائتين فبحسابه فيجب ربع عشرة، وقال أبو حنيفة لا شيء على ما زاد عليها حتى يبلغ أربعين درهما فضة، ففيه درهم واحد، وكذا في كل أربعين، "فإن لم تكن" الرقة "إلا تسعين ومائة، فليس فيها صدقة" لعدم النصاب، وهذا يوهم أنهم إذا زادت ولم تبلغ مائتين أن فيها صدقة وليس كذلك، وإنما ذكر التسعين؛ لأنه آخر عقد قبل المائة، والحساب إذا جاوز الآحاد كان تركيبه بالعقود، كالعشرات والمئين والألوف، فذكر التسعين ليدل على أن لا صدقة فيما نقص عن المائتين، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة". رواه الشيخان، ذكره الحافظ وغيره "إلا أن يشاء ربها" أن يتطوع متبرعا "قوله، وفي الرقة" هي الدراهم المضروبة، والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة في الورق" نحو العدة والوعد. "قاله ابن الأثير في الجامع" للأصول، فقيدها بالمضروبة، وهو أحد القولين في اللغة، لكنه ليس مراد الحديث، "و" لذا، "قال في فتح الباري، وهي بكسر الراء، وتخفيف القاف الفضة الخالصة سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة" كما هو أحد القولين لغة، وهو المراد هنا، وبقية كلام الفتح، قيل أصلها الورق فحذفت الواو، وعوضت الهاء، وقيل تطلق على الفضة بخلاف الورق، فعلى هذا قيل الأصل في زكاة النقدين نصاب الفضة، فإذا بلغ الذهب ما قيمته مائتا درهم فضة خالصة، وجبت فيه الزكاة، وهو ربع العشر. وهذا قول الزهري، وخالفه الجمهور انتهى، والله أعلم، "ومنها كتابه الذي كان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه" صريح في أنه غير الذي كتبه أبو بكر لأنس، وهو مقتضى تغاير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 567 في نصب الزكاة وغيرها، كما رواه أبو داود والترمذي عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كتب صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عمله وقرنه بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض وكان فيه: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان وفي خمس عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس   ألفاظهما أيضا، ولا يرد أن الصديق عمل به حتى قبض؛ لأنه لا يقتضي اتحادا مع الأول "في نصب" بضمتين جمع نصاب، أي القدر المعتبر لوجوب "الزكاة وغيرها" وأل للجنس لا الاستغراق إذ لم يستوعب فيه جميع أنواع الزكاة، "كما رواه أبو داود والترمذي" وأحمد والحاكم، وغيرهم من طريق سفيان بن حسين، عن الزهري "عن سالم" بن عبد الله بن عمر القرشي العدو المدني، أحد الفقهاء السبعة أشبه إخوته بأبيه، كان من أفضل أهل زمانه أواسط التابعين "عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال" ابن عمر وتسمح من قال: سالم لا يخفي "كتب صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة" فيه أن اسم الصدقة يقع على الزكاة خلافا لمن منع ذلك من الحنفية، وقد قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وتعسف من أجاب عنهم باحتمال أن الزكاة لا تسمى صدقة حقيقة بل مجازا، فإن الأصل الحقيقة، "ولم يخرجه إلى عمله" لئلا يستغنوا بأخذ الأحكام منه عن مشافهته صلى الله عليه وسلم، وأخذها من لفظه اذي هو أرقى من الكتاب، وأما بعده فالرجوع إلى ما في الكتاب أولى من سؤال بعضهم لبعض، "وقرنه بسيفه"، أي وضعه في مرض في قراب سيفه. قال ابن رسلان وحكمة ذلك الإشارة إلى أنها تؤخذ كرها وإن بقتال، ومن ثم أبو بكر، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق، كما في الصحيح، واستمر مقرونا بالسيف "حتى قبض" فأخذه الصديق بعده هذا هو المتبادر، ويحتمل كما قال ابن رسلان أن يراد حتى شارف أن يقبض، وقارب وفاته، كما في قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] أي أشرفن على انقضاء العدة، وقربن منها "فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض" ففي عملهما به أنه شرع باق لم ينسخ منه شيء إذ العمل بما نسخ حرام، "وكان فيه في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس" بفتح السين "عشرة" بالفتح أيضا؛ لأن الاسمين يتركبان تركيب بناء، قاله ابن رسلان فنسخة، وفي خمسة عشر تصحيف "ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه" إلى أربع وعشرين بدليل قوله، "وفي خمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 568 وعشرين بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها بنت لبون، إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنه لبون. وفي الغنم في كل أربعين شاة إلى عشرين ومائة.. فإن زادت واحدة   وعشرين بنت مخاض" وإلى هذا ذهب الجمهور، وجاء عن علي أنه في خمس وعشرين شاة، فإذا صارت ستا وعشرين كان فيها بنت مخاض. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه موقوفا ومرفوعا، وإسناد مرفوع ضعيف "إلى خمس وثلاثين" فيه أنه لا يجب فيما بين العددين شيء غير بنت مخاض، خلافا لمن قال: كالحنفية تستأنف الفريضة، فيجب في كل خمس من الإبل شاة مضافة إلى بنت المخاص، "فإن زادت واحدة" بالرفع، قاله ابن رسلان، أي على العدد المذكور، فإن كان الرواية تعين، وإلا فيجوز نصبه على معنى زادت الإبل واحدة "ففيها بنت لبون" وفي نسخة ابنه، وهي أفصح من بنت لأنها مؤنث الابن، كما في المصباح "إلى خمس وأربعين" الغاية فيه، وفي نظائره داخلة في المغيا، فلا يتغير الواجب إلا بما زاد عليها بدليل قوله، "فإن زادت واحدة" بالرفع، كما ضبطه ابن رسلان. أما رواية، أو جريا على أن زاد لازم، كما هو أحد الأقوال، وثانيها متعد لواحد، وثالثها لاثنين، فإيمانا في قوله تعالى: {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ، حال على الثاني، ومفعول ثان على الثالث، "ففيها حقة إلى ستين فإن زادت واحدة، ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة، ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة، ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإن كانت الإبل أكثر من ذلك"، بواحدة فصاعدا عند الجمهور، "ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون" وقال الإصطخري من الشافعية، إن زادت بعض واحدة على العشرين ومائة، فثلاث بنات لبون، وتتصور المسألة في الشركة. قال الحافظ: ويرده ما في أبي داود وغيره في كتاب عمر المذكور، فإذا كانت الإبل إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، مقتضاه أن ما زاد على ذلك فزكاته بالإبل، خاصة وعن أبي حنيفة إذا زادت على عشرين ومائة رجعت إلى فريضة الغنم، فتكون في خمس وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون وشاة، "وفي الغنم" لم يقيدها في هذا الحديث بالسائمة، ففيه إشارة إلى أنه جرى في الحديث السابق على الغالب، فلم يعتبر مفهومه، ولأنه مفهوم صفة "في كل أربعين شاة" تمييز "شاة" خبر "إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 569 فشاتان، إلى مائتين فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففيها كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة. ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب. قال الزهري: وإذا جاء المصدق قسم الشاء أثلاثا، ثلث خيار،   فشاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك" بمائة رابعة، "ففي كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة" ففي الخمسمائة خمس، وهكذا وفيه أن ما بين النصب عفو لا زكاة فيه، وإليه ذهب الجمهور، وقال الشافعي في البويطي: الأربع شياه مثلا المأخوذة في أربع وعشرين من الإبل، مأخوذة عن الجميع، وإن كانت الأربع الزائدة وقصا، قال في الفتح، ويظهر أثر الخلاف فيمن له مثلا تسع من الإبل، فتلف منها أربعة بعد الحول، وقبل التمكن، فإن قلنا إنه شرط في الوجوب وجبت عليه شاة بلا خلاف، وكذا إن قلنا إنه شرط في الضمان، وإن قلنا يتعلق به الفرض، وجبت خمسة اتساع شاة، والأول قول الجمهور، كما نقله ابن المنذر، وعن مالك رواية كقول الشافعي، ولا يفرق بضم أوله وفتح ثالثه المثقل "بين مجتمع" بضم الميم الأولى وكسر الثانية، ولا يجمع بين متفرق، بتقديم التاء، وشد الراء وفي رواية مفترق بتأخير التاء، وخفة الراء، كما في الفتح وغيره، "مخالفة" بالنصب مفعول لأجله، بمعنى الرواية السابقة خشية "الصدقة" أي كثرتها أو تقليلها أو سقوطها، وإن قدر تغيير شمل الجميع، "وما كان من الخليطين" تثنية خليط، بمعنى مخالط، كنديم وجليس، بمعنى منادم وجالس، "فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يؤخذ في الصدقة هرمة"، بفتح فكسر، وهي التي أضر بها الكبر، "ولا ذات عيب" عام على خاص، ومر بيانه. "قال الزهي" محمد بن شهاب من عند نفسه بعد روايته: الحديث بيانا لمجمله في النهي عما يؤخذ فليس فصله للاختلاف في رفعه كما ظن تشبثا بقوله الآتي: ورواه يونس؛ لأن الآتي عائد لأصل الحديث، هل هو موصول أو مرسل، وهو مرفوع على كل حل، بخلاف قول الزهري: "وإذا جاء المصدق قسم الشاه أثلاثا" منها "ثلث خيار" صفة، لثلث أو خبر عنه بتقدير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 570 وثلث أوساط، وثلث شرار، وأخذ من الوسط، رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، قال: ورواه يونس وغير واحد عن الزهري عن سالم ولم يرفعه، انتهى. قال ابن الأثير في النهاية: والخليط: المخالط، يريد به الشريك الذي يخلط ماله بمال شريكه، والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة وللآخر ثلاثون بقرة ومالهما مختلط، فيأخذ الساعي عن الأربعين مسنة وعن الثلاثين تبيعا، فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه؛ لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع وكأن المال ملك واحد، انتهى.   ثلث منها، "وثلث أوساط وثلث شرار" وهذا لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود ثلثا شرار أو ثلثا خيار، أو ثلثا أوساطا، "وأخذ من الوسط" رفقا بالفريقين لقوله في حديث آخر، "وإياك وكرائم أموالهم". "رواه أبو داود، والترمذي" أعاد عزوه لزيادته قوله، "وقال: حديث حسن، قال" الترمذي: "ورواه يونس" بن يزيد الأيلي أحد الحفاظ، "وغير واحد، عن الزهري، عن سالم، ولم يرفعه" وإنما رفعه سفيان بن حسين "انتهى" كلام الترمذي، ومراده بالرفع الوصل. قال في الفتح: وسفيان بن حسين ضعيف في الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري، فأرسله، أخرجه الحاكم من طريق يونس بن يزيد عن الزهري، وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين؛ لأنه قال عن الزهري: أقرأنيها سالم بن عبد الله، فوعيتها على وجهها، فذكر الحديث، ولم يقل إن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، بل قال: ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى، فتحسين الترمذي له باعتبار شاهده، وهو حديث أنس عن أبي بكر الذي قبله، فإنه بمعناه "قال ابن الأثير في النهاية، والخليط المخالط" فعيل بمعنى اسم الفاعل، كنديم وجليس بمعنى منادم ومجالس "يريد به الشريك الذي يخلط ماله بمال شريكه" فهي شركة مجاورة لا شيوع. "والتراجع بينهما هو أن يكون لأحدهما مثلا أربعون بقرة، وللآخر ثلاثون بقرة، وما لهما مختلط، فيأخذ الساعي عن الأربعين مسنة، وعن الثلاثين تبيعا" فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، وباذل التبيع بأربعة أسباعه على شريكه؛ لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع، كأن المال ملك واحد، انتهى" كلام ابن الأثير وسبقه إلى نحوه الخطابي، فقال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 571 وقال في فتح الباري: اختلف في المراد بالخليط، فعند أبي حنيفة أنه الشريك، واعترض عليه بأن الشريك لا يعرف عين ماله. وقد قال: إنهما يتراجعان بالسوية، ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بينه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] . واعتذر بعضهم عن الحنفية: بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث، أو رأوا أن الأصل قوله: ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وحكم الخلطة يغاير هذا الأصيل، فلم يقولوا به، وقال أبو حنيفة: لا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خلطة.   قوله يتراجعان معناه أن يكون بينهما أربعون شاة مثلا، لكل واحد منهما عشرون قد عرف كل منهما عين ماله، فيأخذ الساعي من أحدهما شاة، فيرجع المأخوذ من ماله على خليطه بقيمة نصف شاة، وهذه تسمى خلطة الجوار انتهى، لكنه بنى مثاله على قول من لم يشترط أن يكون لكل نصاب. "وقال في فتح الباري: اختلف في المراد بالخليط، فعند أبي حنيفة أنه الشريك، واعترض عليه بأن الشريك لا يعرف عين ماله"، لعدم تميزه عن مال شريكه حتى يرجع بحصة ما أخذ منه، "وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية" فلو كان كما قال لم يكن لتراجعهما بالسوية معنى اللهم إلا أن يجيب بأن التراجع بحسب الحساب، "ومما يدل على أن الخليط لا يستلزم أن يكون شريكا، قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بينه قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فأفاده أن المراد بالخلطة مطلق الاجتماع لا الشركة، "واعتذر بعضهم عن الحنفية، بأنهم لم يبلغهم هذا الحديث" الذي هو قوله، وما كان من المخلطين إلخ، "أو" بلغة، ولكن "رأوا أن الأصل" في الزكاة "قوله" صلى الله عليه وسلم في الموطأ والصحيحين من طريقة "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" بفتح المعجمة، وسكون الواو بعدها مهملة، تقع على المذكر والمؤنث والجمع والمفرد، فلذا أضاف إليه خمس، "وحكم الخلطة يغاير هذا الأصل فلم يقولوا به" تقديما للأصل عليه. "وقال أبو حنيفة: لا يجب على أحد منهم فيما يملك إلا مثل الذي يجب عليه لو لم يكن خلط" وتعقبه ابن جرير بأنه لو كان تفريقها مثل جمعها في الحكم لبطلت فائدة الحديث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 572 وقال سفيان الثوري: لا يجب حتى يتم لهذا أربعون شاة ولهذا أربعون شاة. وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا، والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منها. ومنها كتابة عليه الصلاة والسلام إلى أهل اليمن، وهو كتاب جليل، فيه من أنواع الفقه في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الكبائر والطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك. واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات، رواه النسائي وقال: قد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا، وأبو حاتم في صحيحه وغيرهما متصلا عن   "وقال سفيان الثوري" كما نقله عند عبد الرزاق والبخاري "لا تجب حتى يتم لهذا أربعون شاة، ولهذا أربعون شاة". قال الحافظ: وبهذا قال مالك انتهى، فظاهره أن الشرط عند سفيان إنما هو أن يكون لكل نصاب، ثم يزكي على ما اقتضته الخلطة من تخفيف وتثقيل ومساواة، كما هو قول مالك. وأما المصنف فقال: فيجب على كل شاة وهذا مذهب أبي حنيفة. "وقال الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث: إذا بلغت ماشيتهما النصاب زكيا" وإن لم يكن لكل نصاب عملا بظاهر هذا الحديث، لكن قول مالك أرجح؛ لأن فيه الجمع بينه "و" بين حديثه ليس فيما دون خمس ذود صدقة، كما لا يخفى "الخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل والشركة أخص منها" أي الخلطة؛ لأنها الاشتراك في المال على وجه الشيوع والخلطة شاملة لذلك وللمجاورة، "ومنها كتابه عليه الصلاة والسلام إلى أهل اليمن، وهو كتاب جليل، فيه من أنواع الفقه" أنواع كثيرة منها "في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الكبائر والطلاق والعتاق" بفتح العين مصدر عتق، كما في المصباح. "وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه ومس المصحف، وغير ذلك، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات" وهي التي ساقها المصنف من الكتاب للاختصار. "رواه النسائي" متصلا، "وقال" بعده "قد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا، و" رواه "أبو حاتم" بن حبان تلميذ النسائي فهو عطف على النسائي لا من مقولة "في صحيحه" المسمى بالأنواع والتقاسيم، "و" رواه "غيرهما" أي النسائي وأبي حاتم "متصلا" يتنازع فيه الثلاثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 573 أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وكان في كتابه: إن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وفيه: أن الرجل يقتل بالمرأة، وفيه: في النفس الدية مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينا، وفي الأنف إذا أوعب جدعة الدية مائة من الإبل، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة.   "عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" الأنصاري النجاري بنون وجيم المدني القاضي اسمه وكنيته واحد، وقيل يكنى أبا محمد ثقة روى له الجميع عابد مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وقيل غير ذلك "عن أبيه" محمد بن عمرو بن حزم، أبي عبد الملك المدني، له رؤية وليس له سماع إلا من الصحابة، قتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين "عن جده" عمرو بن حزم بن زيد بن لوزان الأنصاري الصحابي الشهير، شهد الخندق فما بعدها، وكان عمل النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، مات بعد الخمسين، وقيل في خلافة عمر، وغلط قائله "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن" بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم، فقدم به على أهل اليمن، وهذه نسخته بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، قيل ذي رعين ومعافير وهمدان، أما بعد فذكر الحديث بطوله "وكان في كتابه أن من اعتبط" بعين مهملة، أي ذبح "مؤمنا" بلا جنابة "قتلا" مفعول مطلق؛ لأنه نوع منه "عن بينة، فإنه قود" جواب الشرط، وكان الظاهر أن يقال يقتص منه؛ لأنه سبب، فأقيم السبب وهو القود، أي الانقياد مقام المسبب، أي القصاص، كما قال الطيبي قال: والاستثناء في الحقيقة من المسبب، أي في قوله "إلا أن يرضى أولياء المقتول" وفي النهاية أي قتله بلا جناية منه، ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يقاد به ويقتل، وكل من مات بلا علة، فقد اعتبط ومات فلان عبطة، أي شابا صحيحا، "وفيه أن الرجل يقتل بالمرأة" إذ هي نفس بنفس بشرط المساواة في الإسلام والحرية، "وفيه في" قتل "النفس" خطأ "الدية مائة من الإبل" على أهل الإبل، "وعلى أهل الذهب" كمصر "ألف دينار، وفي الأنف إذا أوعب"، أي استوعب "جدعه" بدال مهملة، أي استؤصل بحيث لم يبق منه شيء "الدية مائة من الإبل" على أهلها، "وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 574 ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل. وفي رواية مالك: وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون وفي الموضحة خمس من الإبل. ومنها كتابه إلى بني زهير.   ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد، أو الرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس من الإبل" وتفاصيل هذا كله معلومة، وفي بعضها اختلاف بين الأئمة بحسب الفهم، كاللسان، ولولا أخرس أولا لأخرس، فقوله أولا احتج الفقهاء كلهم بما فيه، أي في الجملة، "وفي رواية مالك، وفي العين خمسون" من الإبل، وظاهره ولو لأعور، "وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون" يعني من الإبل في الثلاثة، "وفي الموضحة خمس من الإبل" وإنما ذكر المصنف هذه القطعة من الحديث تبركا، وللاتفاق على الأحكام التي فيه في الجملة، والله أعلم، "ومنها كتابه إلى بني زهير" بيض له المصنف، وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي من طريق الجريري عن أبي العلاء، وهو يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: كنت في سوق الإبل، فجاء أعرابي أشعث الرأس معه قطعة أديم أحمر، أو جراب، فقال: أفيكم من يقرأ؟ قلت: نعم، فأخذته، فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش حي من عكل أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأقروا بالخمس من غنائمهم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه، فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله، فقلنا من كتب لك هذا الكتاب، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض القوم: هل سمعت منه شيئا تحدثناه؟ قال: سمعته يقول: $"من سره أن يذهب عنه كثير من وحر الصدر فليصم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر"، فقال له القوم، أو بعضهم: أنت سمعت هذا منه صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أراكم تتهموني أني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدثنكم سائر اليوم، ثم انصرف. وأخرجه ابن قانع والطبراني، وفيه فسألناه عنه، فقيل هذا النمر بن تولب، قال المرزباني: كان شاعرا فصيحا، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له كتابا، ونزل البصرة، وكان جوادا، وعمر طويلا حتى أنكر عقله، فيقال إنه عاش مائتي سنة وأقيش بضم الهمزة وفتح القاف وسكون التحتية وشين معجمة قبيلة من عكل وهم أولاد عوف بن عبد مناف بن أد العكلي، حضنتهم أمهم فنسبوا إليها وحر الصدر غشه ووساوسه وقيل الحقد والغيظ والعداوة وقيل أشد الغضب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 575 الفهرس ... No pages الجزء: 4 المجلد الخامس تايع الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام وأما مكاتبته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم ... تايع الفصل السادس: في أمرائه ورسله وكتابه وكتبه إلى أهل الإسلام في الشرائع والأحكام، ومكاتباته إلى الملوك وغيرهم من الأنام بسم الله الرحمن الرحيم [وأما مكاتبته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم] : فروي أنه لما رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية كتب إلى الروم، فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة ونقش فيه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، و"الله" سطر، وختم به الكتاب. وإنما كانوا لا يقرءون الكتاب إلا مختوما   وفي القاموس النمر ككتف, ابن تولب، ويقال: النمر -بالفتح- شاعر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وسيذكر المصنف كتابه إلى بني نهد في المقصد الثالث، فذكره هنا في قوله: إلى بني زهير لا فائدة فيه؛ لأنهما غيران، والله أعلم. "وأما مكاتباته عليه الصلاة والسلام" أي: بيان كتابته "إلى الملوك وغيرهم، فروي" عند ابن سعد وغيره عن ابن عباس "أنه لما رجع عليه الصلاة والسلام من الحديبية" في ذي الحجة سنة ست، "كتب إلى الروم" يدعوهم إلى الإسلام، أي: أمر بالكتب، فكتب وأراد إرساله، "فقيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا أن يكون مختوما، فأخذ خاتما من فضة"، هكذا في رواية ابن سعد وغيره، وروى ابن عدي في هذه القصة، أنه عمل له خاتما من حديد، فجاء جبريل، فقال: انبذه من أصبعك فنبذه، فعمل له خاتما من نحاس، فأمره جبريل، فنبذه، فعمل له خاتما من فضة، فأقره جبريل، فإن صحا، فاقتصر من اقتصر على الفضة؛ لأنه الذي استقر عليه أمره، "ونقش فيه ثلاثة أسطر من محمد سطر ورسول" بالتنوين وعدمه على الحكاية "سطر والله" بالرفع والجر على الحكاية "سطر" ولابن سعد من مرسل ابن سيرين باسم الله محمد رسول الله. قال الحافظ: ولم يتابع على هذه الزيادة، وقول بعض الشيوخ -يعني الإسنوي: إن كتابته كانت من فوق، يعني الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك في شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال: محمد سطر، والسطر الثاني رسول، والسطر الثالث الله "وختم به الكتاب". قال الحافظ: ولم تكن كتابة الخاتم على الترتيب العادي، فإن ضرورة الختم به تقتضي أن الأحرف المنقوشة مقلوبة ليخرج الختم مستويا انتهى. وهو تعويل على العادة وأحواله -صلى الله عليه وسلم- خارجة عن طورها، بل في تاريخ ابن كثير عن بعضهم أن كتابته كانت مستقيمة، وكانت تطبع كتابة مستقيمة، وفي رواية ابن سعد وغيره، فخرج ستة نفر في يوم واحد، وأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، "وإنما كانوا لا يقرءون الكتاب" إذا ورد عليهم، "إلا مختوما" بأن يطوى، ويجعل عليه ما يمنع فكه، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم. وعن أنس: إن ختم كتاب السلطان والقضاة سنة متبعة، وقال بعضهم: هو سنة لفعله -صلى الله عليه وسلم. فكتب إلى قيصر، المدعو "هرقل" ملك الروم يوم ذاك، ثم قال بعد تمام الكتابة: "من ينطلق بكتابي هذا إلى هرقل وله الجنة"؟، فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله؟ قال: "وإن لم يصل"   يختم عليه, "خوفا من كشف أسرارهم، وللإشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم"، صونا لسورة الملك عن مشاركة العامة في أخبارهم. "وعن أنس أن ختم كتاب السلطان"، أي: من له سلطنة، فيشمل الأمراء، "والقضاة سنة متبعة"، وقول الصحابي: من السنة، كذا له حكم الرفع، كما في الألفية وغيرها، فأفاد أنس أنه مطلوب، "و" لذا، "قال بعضهم: هو سنة لفعله -صلى الله عليه وسلم"، فمؤدى العبارتين واحد، لا أن قول أنس إخبار عن مجرد الاعتياد، وأن كلام بعضهم مقابل له كما توهم، ثم عطف على قوله: كتب إلى الروم من عطف المفصل على المجمل لبيان المكتوب له، منهم قوله: "فكتب إلى قيصر المدعو"، أي المسمى، "هرقل" بكسر الهاء، وفتح الراء، وسكون القاف على المشهور في الروايات، وحكى الجوهري وغيره سكون الراء، وكسر القاف، وجزم به القزاز وغيره، علم له غير منصرف للعلمية والعجمة ما في الفتح لقب قيصر بالقاف غير صافية في لغتهم من القصر، وهو القطع في لغتهم؛ لأن أحشاء أمه قطعت حتى خرج منها؛ لأنها لما طلقت به ماتت، فبقر بطنها عنه، فخرج حيا وكان يفخر بذلك، لأنه لم يخرج من فرج، وكان شجاعا جبارا مقداما في الحروب، كذا ذكره العيني وغيره، ولا يشكل بقولهم: قيصر اسما لكل ملك الروم؛ لأن المراد من هرقل فمن بعده، ولا يشكل بقوله: لله إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، لأن المراد في إقليمه الذي كان فيه، أو يملك مثله، أو غير ذلك مما أجابوا به "ملك الروم يوم ذاك" الكتب، وليس المراد خصوص يوم معين؛ لأن العرب تريد باليوم مطلق الزمن، وقد ذكروا أنه ملك الروم إحدى وثلاثين سنة، وفي ملكه مات -صلى الله عليه وسلم، "ثم قال بعد تمام الكتابة: "من ينطلق بكتابي هذا إلى هرقل، وله الجنة" " مع السابقين، أو بلا حساب، "فقالوا: وإن لم يصل يا رسول الله" بأن منعه مانع من موت، أو غيره عن الوصول، "قال: وإن لم يصل"؛ لأن نيته الوصول، وهو خير من العمل، وفي رواية الحارث بن أبي أسامة بلفظ يقتل في الموضعين، ثم يحتمل أنه بفوقية من القتل، أو بموحدة من القبول، كأنهم استعظموا هذا الجزاء العظيم، وإن عاد الذاهب سالما، أو لم يقبل هرقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 فأخذه دحية بن خليفة الكلبي، وتوجه إلى مكان فيه هرقل، ولفظه: باسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   الكتاب بأن لم يعمل به، فأخبرهم بذلك؛ لأنه رتب الجزاء على مجرد الانطلاق والقتل، أو القبول شيء آخر, "فأخذه دحية". قال الحافظ: بكسر الدال وفتحها لغتان، ويقال: إنه الرئيس بلغة اليمن "ابن خليفة الكلبي" الصحابي الجليل، كان من أحسن الناس وجها، وأسلم قديما، "وتوجه به إلى مكان فيه هرقل"، وهو بيت المقدس، كما في الصحيح، وعنده في الجهاد أن الله لما كشف عن هرقل جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله. زاد ابن إسحاق: فكان يبسط له البسط، وتوضع عليها الرياحين، فيمشي عليها. وعند الطبري، وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل، فخربوا كثيرا منها، ثم استبطأ كسرى أميره، فأراد قتله وتولية غيره، فاطلع أميره على ذلك، فباطن هرقل، واصطلح معه على كسرى، وانهزم عنه بجنوده، فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا، وعند ابن إسحاق عن أبي سفيان: لما كانت الهدنة, خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط قريش، فقال هرقل لصاحب شرطته: قلب الشام ظهر البطن حتى تأتي برجل من قوم هذا الرجل أسأله عن شأنه، فوالله إني وأصحابي بغزة إذ هجم علينا، فساقنا جميعا، فذكر الحديث بنحو ما في الصحيح أنهم أتوه، وهو بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، وعليه التاج الحديث في الأسئلة والأجوبة، وفيه: ثم دعا بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه. قال في الفتح: بصرى -بضم الموحدة والصر- مدينة بين المدينة ودمشق، وقيل: هي حوران وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل مع عدي بن حاتم، وكان عدي إذ ذاك نصرانيا، فوصل به هو ودحية معا. وروى البزار أن دحية نفسه ناول الكتاب لقيصر، ولفظه: بعثني -صلى الله عليه وسلم- بكتاب إلى قيصر، فقدمت عليه، وأعطيته الكتاب، "ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم"، فيه استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرا، وأجيب عن تقديم سليمان اسمه بأنه إنما ابتدأه بالبسملة، وكتب اسمه عنوانا بعد ختمه؛ لأن بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه، ولذا قالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فالتقديم واقع في حكاية الحال "من محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، فيه أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو قول الجمهور، بل حكى فيه النحاس إجماع الصحابة. قال الحافظ: والحق إثبات الخلاف، وفيه أن من التي لابتداء الغاية تأتي في غير الزمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وفي رواية البخاري: عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم, وفي رواية غير البخاري: إلى قيصر صاحب الروم, سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين.   والمكان، كذا قال أبو حيان، والظاهر أنها هنا لم تخرج عن ذلك, لكن بارتكاب مجاز, انتهى. ثم هذا لفظ رواية البخاري في التفسير، "وفي رواية البخاري" في بدء الوحي وفي الجهاد من محمد "عبد الله ورسوله"، وفيه إشارة إلى أن رسل الله وإن كانوا أكرم الخلق عليه، فهم مع ذلك مقرون بأنهم عبيده، وإلى بطلان ما تدعيه النصارى في عيسى عليه السلام، وفي رواية له أيضا من محمد بن عبد الله رسول الله "إلى هرقل عظيم الروم"، أي: المعظم عندهم بالخفض على البدل، ويجوز الرفع على القطع، والنصب على الاختصاص، "وفي رواية غير البخاري" كأبي نعيم وابن عساكر، وغيرهما من حديث دحية "إلى قيصر صاحب الروم"، ويحتمل الجمع بأنها بالمعنى، ورواية البخاري باللفظ لموافقة مسلم له، وهو يحافظ على اللفظ، ثم اتفق البخاري وغيره على قوله: "سلام"، وللبخاري في كتاب الاستئذان: السلام "على من اتبع الهدى"، أي: الرشاد. قال الحافظ: وقد ذكرت هذه الجملة في قصة موسى وهارون مع فرعون، وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أُمرا به أن يقولاه، فإن قيل: كيف يبدأ الكافر بالسلام؟ فالجواب أن المفسرين قالوا: ليس هذا من التحتية، إنما المراد سلم من عذاب الله من أسلم، ولذا جاء بعد أن العذاب على من كذب وتولى، وكذا في بقية هذا الكتاب، فإن توليت ... إلخ، فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا، وإن كان اللفظ يشعر به، ولكنه لم يدخل في المراد؛ لأنه ليس ممن اتبع الهدى، فلم يسلم عليه، "أما بعد, فإني أدعوك بدعاية الإسلام" بكسر الدال من قولك: دعا يدعو دعاية نحو: شكا يشكو شكاية، ولمسلم بداعية الإسلام، أي: بالكلمة الداعية إليه، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والباء موضع إلى، كما في الفتح، وتبعه المصنف وغيره، قال شيخنا: ولا يتعين، بل يجوز بقاؤها على ظاهرها، والمعنى: أدعوك بالكلمة الدالة على طلب الإسلام منك، وحملك عليه، وما بعده بيان للكلمة التي دعا بها، وهو قوله: "أسلم" بكسر اللام "تسلم" بفتحها فيه غاية الاختصار، ونهاية الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني، مع ما فيه من البديع، وهو الجناس الاشتقاقي، وهو رجوع اللفظين في الاشتقاق إلى أصل واحد "يؤتك الله أجرك مرتين" لإيمانه بنبيه، ثم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] أو من جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه. وللبخاري في الجهاد: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك, بتكرار أسلم مع زيادة الواو في الثانية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 فإن توليت فإن عليك إثم الأريسين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله.   فيحتمل التأكيد، ويحتمل أن الأمر الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 136] . قاله الحافظ بناء على قول جماعة من أهل التفسير: إنها خطاب للمؤمنين، أو على قول ابن عباس: إنها لمؤمني أهل الكتاب، فلا يعترض عليه بقول مجاهد: إن الآية في المنافقين، "فإن توليت" أعرضت عن الإجابة إلى الإسلام، وحقيقة التولي إنما هو بالوجه، ثم استعمل مجازا في الإعراض عن الشيء، وهو استعارة تبعية، "فإن عليك إثم الأريسين" جمع أريس، بوزن فعيل، وقد تقلب همزته ياء، وجاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما. قال ابن سيده: الأريس: الأكار، أي: الفلاح عند ثعلب، وعند كراع: الأريس الأمير، وقال الجوهري: هي لغة شامية، وأنكر ابن فارس أن تكون عربية، وقيل في تفسيره غير ذلك، لكن هذا هو الصحيح هنا، فقد صرح به في رواية ابن إسحاق بلفظ: فإن عليك إثم الأكارين. زاد البرقاني: يعني الحراثين، وعند المدائني: فإن عليك إثم الفلاحين، وعند أبي عبيد: وإن لم تدخل في الإسلام، فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام. قال أبو عبيد: المراد بهم أهل مملكته؛ لأن كل من كان يزرع، فهو عند العرب فلاح، سواء كان يلي ذلك بنفسه، أو بغيره، وقال الليث بن سعد عن يونس: الأريسون العشارون، يعني: أهل المكس، رواه الطبراني والأول أظهر، وهذا إن صح أنه المراد، فالمعنى المبالغة في الإثم، ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنى: لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل، "ويا أهل الكتاب"، هكذا رواية النسفي، والقابسي، وعبدوس بالواو داخلة على مقدر معطوف على أدعوك، أي: أدعوك بدعاية الإسلام، وأقول لك ولأتباعك امتثالا لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] ، فليس بزيادة في التلاوة، إذ الواو إنما دخلت على محذوف، ولا يردان حذف المعطوف، وبقاء العاطف ممتنع؛ لأن محله إذا حذف المعطوف وجميع تعلقاته، أما إذا بقي شيء هو معمول للمحذوف، فيجوز نحو: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} . قال الحافظ: ويحتمل أنها من كلام أبي سفيان، كأنه لم يحفظ جميع الألفاظ، فاستحضر منها صدر الكتاب، فذكره، فكأنه قال: كان فيه كذا، وكان فيه يا أهل الكتاب، قالوا: ومن كلامه لا من نفس الكتاب. وذكر عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي، وأبي ذر: "تعالوا إلى كلمة سواء" سوية, "بيننا وبينكم" لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، هي "ألا نعبد إلا الله"، أي: نوحده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 ولا نشرك به شيئا, ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون, رواه البخاري. وكان -صلى الله عليه وسلم- أرسل هذا الكتاب مع دحية في آخر سنة ست، بعد أن رجع من الحديبية، كما قاله الواقدي. ووقع في تاريخ خليفة أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة   بالعبادة، ونخلص له فيها، "لا نشرك به شيئا"، لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة، ولا نراه أهلا لأن يعبد، "ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله"، فلا نقول: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله, ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوه من التحريم والتحليل؛ لأن كلا منهم بشر مثلنا، "فإن تولوا" عن التوحيد، "فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون"، أي: لزمتكم الحجة، فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم، أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب، وتطابقت عليه الرسل. قال الحافظ: وقد اشتملت هذه الجملة القليلة التي تضمنها بعض هذا الكتاب على الأمر بقوله: أسلم والترغيب بقوله: تسلم ويؤتك، والزجر بقوله: فإن توليت، والترهيب بقوله: فإن عليك، والدلالة بقوله: يا أهل الكتاب، وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى، وكيف لا وهو كلام من أوتي جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم- قال: واستنبط منه شيخنا، شيخ الإسلام، يعني البلقيني أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح، لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل، بل ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، وقد قال لهم: يا أهل الكتاب، فدل على أن لهم حكمهم، خلافا لمن خص ذلك بالإسرائيليين، أو بمن علم أن سلفه دخل اليهودية، أو النصرانية قبل التبديل. "رواه البخاري" في مواضع كثيرة، وأخرجه مسلم في المغازي، وهو من جملة حديث طويل مشهور. وعندي ابن أبي شيبة من مرسل ابن المسيب: أن هرقل لما قرأه، قال: هذا كتاب لم أسمعه بعد سليمان، كأنه يريد الابتداء بالبسملة، "وكان -صلى الله عليه وسلم- أرسل هذا الكتاب مع دحية في آخر سنة ست, بعد أن رجع من الحديبية"، وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع، "كما قاله الواقدي" بما زدته، كما في الفتح قائلا: "ووقع في تاريخ خليفة" بن خياط بن خليفة العصفري البصري الحافظ, أحد شيوخ البخاري. قال ابن عدي: له حديث وتاريخ حسن، وكتاب في طبقات الرواة، وهو مستقيم الحديث، صدوق متيقظ، مات سنة أربعين ومائتين، "أن إرساله كان سنة خمس، والأول أثبت، بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان" بن حرب، راوي الحديث، "بأن ذلك كان في مدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 صلح الحديبية كما في حديث البخاري، في المدة التي كان -عليه الصلاة والسلام- مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، يعني: مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا. ولم يقل -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم؛ لأنه معزول بحكم الإسلام، ولم يخله من الإكرام لمصلحة التأليف. وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أي: لكونه مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم. وقوله: فإن عليك إثم الأريسين أي: فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع, بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر.   صلح الحديبية، كما في حديث البخاري" عن أبي سفيان: إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام "في المدة التي كان عليه الصلاة والسلام مادّ" بشد الدال من مادد، فأدغم الأول في الثاني من المثلين، "فيها أبا سفيان، وكفار قريش"، بالنصب مفعولا معه، أو عطفا على المفعول به، أعني أبا سفيان، "يعني مدة صلح الحديبية، وكانت سنة ست اتفاقا"، فكيف يتأتى قول خليفة سنة خمس؟ "ولم يقل -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل ملك الروم؛ لأنه معزول" عن الملك "بحكم الإسلام"، ولا سلطنة لأحد إلا من قبله -صلى الله عليه وسلم، "و" لكنه "لم يخله من الإكرام"، ويذكر اسمه مجردا، بل قال: عظيم، أو صاحب "لمصلحة التأليف"، فلاطفه بالقول اللين، كما قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] ، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125] ، "وقوله: يؤتك الله أجرك مرتين، أي: لكونه مؤمنا بنبيه" عيسى عليه السلام، "ثم آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم"، وهو موافق لقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ، ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه، وصرح بذلك في حديث الشعبي، كما في الفتح، "وقوله: فإن عليك إثم الأريسين" بالهمزة، وفي رواية: اليريسين، بقلبها ياء، جمع يريس، بوزن كريم، وفي أخرى: اليريسيين بشد الياء بعد السين، جمع يريسيّ، وفي أخرى حكاها صاحب المشارق وغيره: الأرّيسين بشد الراء. قال ابن الأعرابي: أرس يارس بالتخفيف فهو أريس, وأرّس بالتشديد يؤرس فهو أريس، وفي أخرى: الأرسين بتحتانية واحدة، وفي الكلام حذف دل عليه المعنى، "أي: فإن عليك مع إثمك إثم الأتباع, بسبب أنهم اتبعوك على استمرار الكفر"، فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى, وهذا يعد من مفهوم الموافقة، ولا يعارض هذا قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 وقيل: إنه -عليه الصلاة والسلام- كتب هذه الآية: يعني {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت؛ لأن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران، وكانت قصتهم سنة.   لأن وزر الآثم لا يتحمله عليه، ولكن الفاعل المتسبب، والمتلبس للسيئات يتحمل من وجهين؛ جهة فعله وجهة تسببه. قال الخطابي: المراد: أن عليه إثم الضعفاء، والأتباع إذ لم يسلموا تقليدا له؛ لأن الأصاغر أتباع الأكابر. وقال الأزهري: الأريس بالتخفيف والتشديد الأكابر لغة شامية، وكان أهل السواد أهل فلاحة، وكانوا مجوسا، وأهل الروم أهل صناعة، فأعلموا بأنهم، وإن كانوا أهل كتاب، فإن عليهم من الإثم إن لم يؤمنوا مثل إثم المجوس, انتهى. وحكى غيره أن الأريسين ينسبون إلى عبد الله بن أريس، رجل كانت النصارى تعظمه، ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى، وقيل: إنه من قوم بعث إليهم نبي فقتلوه، والتقدير على هذا: فإن عليك مثل إثم الأريسين. وذكر ابن حزم أن أتباع عبد الله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل، ورده بعضهم بأنهم كانوا قليلا وما كانوا يظهرون، وكانوا ينكرون التثليث، وما أظن قول ابن حزم إلا عن أصل، فإنه لا يجازف في النقل انتهى، من فتح الباري في موضعين, وفيه زيادات حسان تركتها خوف الإطالة، وأيضا لما قدمته عنه أن الصحيح تفسيره بالفلاحين؛ لوروده في رواية أخرى كذلك، وبلفظ الأكارين، وهو بمعناه. قال النووي: نبه بهم على بقية الرعية؛ لأنهم الأغلب، ولأنهم أسرع انقيادا. قال الحافظ: ومراده أنه نبه بذكر طائفة من الطوائف على بقية الطوائف، كأن يقول: إذا امتنعت، فإن عليك إثم كل ممتنع بامتناعك، وكأن يطيع لو أطعت كالفلاحين، فلا يرد تعقب شيخنا البلقيني بأن من الرعايا غير الفلاحين من له قوة وعشيرة، فلا يلزم من دخول الفلاحين دخول بقية الرعايا حتى صح أنه نبه بذكرهم على الباقين. نعم, قول أبي عبيدة: ليس المراد بالفلاحين الزارعين فقط، بل جميع أهل المملكة إن أراد على ما قررت به كلام النووي فمسلم وإلا فمعترض، "وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كتب هذه الآية، يعني: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} قبل نزولها، فوافق لفظه لفظها لما نزلت"، كما نزل بموافقة عمر في الحجاب، وأسرى بدر, وعدم الصلاة على المنافقين, وغير ذلك، "لأن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران" بفتح النون وسكون الجيم: بلد قريب من اليمن، "وكانت قصتهم" وستأتي "سنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الوفود سنة تسع، وقصة أبي سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست. وقيل: نزلت في اليهود، وجوز بعضهم نزولها مرتين، وهو بعيد والله أعلم. ولما قرئ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم.   الوفود سنة تسع"، كما جزم به ابن سعد وغيره، "وقصة أبي سفيان هذه كانت قبل ذلك سنة ست" كما علم، وقيل: بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة، وإليه يومئ كلام ابن إسحاق هكذا في الفتح قبل قوله: "وقيل: نزلت في اليهود"، فالقول الثالث عين مراد الثاني؛ ولذا قال: "وجوز بعضهم نزولها مرتين" مرة في أوائل الهجرة، وأخرى في سنة تسع, "وهو بعيد"؛ لأن الأصل عدم تكرار النزول، "والله أعلم" بما في نفس الأمر. وهذا كلام الحافظ في الفتح، وقال ابن كثير: هذه القصة كانت بعد الحديبية وقبل الفتح، كما صرح به في هذا الحديث. وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, نزلت في وفد نجران. وقال الزهري: هم أول من بذل الجزية, ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح، فما الجمع بين كتابة هذه الآية إلى هرقل، وبين ما ذكره ابن إسحاق والزهري، أجيب بأن قدوم وفد نجران كان قبل الفتح وبعد الحديبية. وما بذلوه كان مصالحة على المباهلة لا عن الجزية، ووافق نزول الجزية بعد ذلك على وفقه، وباحتمال تعدد النزول، واحتمال كتبها قبل نزولها, انتهى. "ولما قرئ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم" بالبناء للمفعول، وعند الواقدي من مرسل محمد بن كعب القرظي، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية، فقرأه. وعند البخاري في بدء الوحي والتفسير: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه، فظاهره أن هرقل هو الذي قرأه إلا أن تكون نسبة قراءته إليه مجازا لكونه الأمر به، والقارئ الترجمان، وللبخاري في الجهاد ما ظاهره أن قراءة الكتاب وقعت مرتين، ففي أوله، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال حين قرأه: التمسوا لي ههنا أحدا من قوه لأسألهم عنه، فذكر القصة إلى أن قال: ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرئ. قال في الفتح: والذي يظهر لي أن هرقل قرأه بنفسه أولا، ثم لما جمع قومه وأحضر أبا سفيان ومن معه، وسأله وأجابه, أمر بقراءة الكتاب على الجمع، ويحتمل أن المراد بقوله: أو لا حين قرأه، أي عنوانه؛ لأنه كان مختوما بختمه: محمد رسول الله، ولذا قال: إنه يسأل عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، ويؤيده أن من جملة الأسئلة قول هرقل: بم يأمركم؟ فقال أبو سفيان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 غضب ابن أخي قيصر غضبا شديدا, وقال: أرني الكتاب، فقال له: وما تصنع به؟ قال: إنه بدأ بنفسه، وسماك صاحب الروم، فقال له عمه: والله إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، أو كلاما هذا معناه، أو قال: أن أرمي بكتاب لم أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله, إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق, أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه.   يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وهذا بعينه في الكتاب، فلو كان قرأه ما احتاج إلى السؤال عنه إلا أن يكون مبالغة في تقريره, "غضب ابن أخي قيصر"، كما أخرجه الحسن بن سفيان، وسعيد بن منصور، عن دحية قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل، فقدمت عليه، فأعطيته الكتاب، وعنده ابن أخ له, أحمر, أزرق, سبط الرأس، فلما قرئ الكتاب نخر ابن أخيه نخرة، فقال: لا تقرأه، فقال قيصر: لم؟ قال: لأنه بدأ بنفسه، وكتب صاحب الروم، ولم يقل: ملك الروم، قال: اقرأ فقرئ الكتاب. وذكر المدائني أن القارئ لما قرأ من محمد رسول الله إلى عظيم الروم غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال له هرقل: ما لك؟ قال: بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم، قال: إنك لضعيف الرأي, أتريد أن أرمي الكتاب قبل أن أعلم ما فيه؟ لئن كان رسول الله لهو أحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق، أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم، ذكره في فتح الباري في التفسير، وعند ابن سعد في كتاب ملكي عثمان تسمية أخي قيصر يناق. قال البرهان: بفتح التحتية، وشد النون، فألف، فقاف, لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه, انتهى. فيحتمل أن الأخ وابن الأخ وقع من كل منهما ما ذكر، ولفق المصنف من كل منهما ناسبا لابن الأخ ما ذكره بقوله: "غضبا شديدا، وقال: أرني الكتاب، قال: وما تصنع به؟ قال: إنه بدأ بنفسه"، وعادة العجم إذا كتبوا إلى ملوكهم بدءوا باسم ملوكهم، وهذا خلاف العادة، فلا يقرأ كتابه، "وسماك صاحب الروم"، ولم يقل: ملك الروم، "فقال له عمه: والله إنك لضعيف الرأي"، قليل العقل، "أتريد أن أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر" جبريل عليه السلام بالوحي من الله، "أو كلاما هذا معناه"، والحاصل أنه لا يرمي به خوفا من تعجيل العقوبة لو فعل، "أو قال: أن أرمي بكتاب لم أعلم ما فيه"، ولا يليق هذا بعقل الملوك، ثم تنزل معه زيادة في توبيخه على ضعيف رأيه؛ لأن الخبر من حيث هو يحتمل الصدق، فقال: "لئن كان رسول الله, إنه لأحق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكه"، أي: الروم، وكأنه أفرد الضمير باعتبار لفظ الروم, ومر أن الرواية: مالكهم بالجمع، زاد في رواية: ولكن الله سخرهم لي، ولو شاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه, إلى أن كان من أمره ما ذكره البخاري في حديثه، انتهى.   لسلَّطهم علي، كما سلط فارس على كسرى فقتلوه، ثم أخذ كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه على رأسه، ثم قبله وطواه في الديباج والحرير، وجعله في سفط، "ثم أمر بإنزال دحية وإكرامه". قال دحية: ثم بعث إلي من الغد سرا، فأدخلني بيتا عظيما فيه ثلاثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، فقال: انظر أين صاحبك من هؤلاء؟ فرأيت صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه ينطق، قلت: هذا, قال: صدقت. رواه أبو نعيم وغيره "إلى أن كان من أمره ما ذكره البخاري في حديثه" من أنه رجع إلى حمص، وجمع عظماء الروم في دار له، وقال: يا معشر الروم, هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وإن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فقال: علي بهم، فقال: إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل "انتهى". أي: فيما يتعلق بهذه القصة، خاصة المتعلقة بدعائه الإيمان؛ لأنه انقضى أمره حينئذ، ومات أو أطلق الآخرية بالنسبة إلى ما في علمه وهذا أوجه؛ لأنه قد وقعت له قصص أخرى من تجهيز الجيش إلى مؤتة، ومكاتبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثانيا وهو بتبوك، وبعث به دحية أيضا، وإرساله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بذهب قسمه بين أصحابه، كما رواه ابن حبان. وروى أحمد وأبو يعلى: قدم -صلى الله عليه وسلم- تبوك، فبعث دحية إلى هرقل، فلما جاءه الكتاب دعا القسيسين والبطارقة، وأغلق عليهم وعليه، فقال: إن هذا الرجل يدعوني، ووالله لقد قرأتم فيما تقرءون من الكتب، ليأخذن ما تحت قدمي، فهلم إلى أن نتبعه، فنخروا نخرة رجل واحد حتى إن بعضهم خرج عن برنسه، فلما ظن أنهم أن خرجوا من عنده، أفسدوا عليه الروم، قال: إنما قلت لأعلم صلابتكم على أمركم الحديث، وقد تقدم بعضه في غزوة تبوك، وأن إرسال الهدية وكتابته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعثه رسوله التنوخي، إنما كان لما أرسل إليه، وهو عليه السلام بتبوك، كما في الحديث، وبه جزم السهيلي. قال في الفتح: روى ابن حبان أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه بتبوك يدعوه إلى الإسلام، فقارب الإجابة ولم يجب، فدل على استمراره على الكفر، لكن يحتمل مع ذلك أنه كان يضمر الإيمان، ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه، وخوفا من أن يقتله قومه، إلا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: إني مسلم، فقال: كذب، بل هو على نصرانيته، ولأبي عبيد: كذب عدو الله ليس بمسلم، فإطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن، أي: أظهر التصديق، لكن لم يستمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وكتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ملك فارس: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله.   عليه، ويعمل بمقتضاه، بل شح بملكه، وآثر الفانية على الباقية، ولو تفطن لقوله -صلى الله عليه وسلم: أسلم تسلم، وحمل الخبر على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم، أو أسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله، واختلف الأخباريون: هل هو الذي حاربه المسلمون في زمن أبي بكر وعمر، أو ابنه، والأظهر أنه هو "انتهى". "وكتب صلى الله عليه وسلم إلى كسرى" بكسر الكاف وتفتح, لقب لكل من ملك الفرس، قال ابن الأعرابي: الكسر أفصح، واختاره أبو حاتم، وأنكره الزجاج، واحتج بأن النسبة كسروي بالفتح، ورده ابن فارس بأن النسبة قد يفتح فيها ما الأصل كسره أو ضمه، كما قالوا في بني تغلب بكسر اللام: تغلبي بفتحها، وفي سلمة كذلك، فلا حجة فيه على تخطئة الكسر. قال في الفتح: ومعناه بالعربية المظفر "أبرويز"، بفتح الواو، وكسرها، ويقال له: أبرواز وآخره زاي معجمة كما في القاموس, ومقتضى قاعدته فتح همزته. قال السهيلي في أوائل الروض: ومعنى أبرويز بالعربية المظفر، وهو الذي غلب على الروم حين أنزل الله: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] انتهى, فعلى هذا، فكل من لفظ كسرى وأبرويز معناه المظفر "بن هرمز بن أنوشروان"، وهو كسرى الكبير المشهور، الذي بنى الإيوان، وملك ثمانيا وأربعين سنة، وقيل: إنه الذي كتب إليه -صلى لله عليه وسلم. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنذر بأن ابنه يقتله، والذي قتله ابنه هو كسرى أبرويز بن هرمز, "ملك فارس"، ولفظه فيما أخرجه الواقدي من حديث الشفاء بنت عبد الله "بسم الله الرحمن الرحيم"، قال في فتح الباري: لم تجر العادة الشرعية، ولا العرفية بابتداء المراسلات بالحمد، وقد جمعت كتبه -صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك وغيرهم، فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد، بل بالبسملة, "من محمد رسول الله" فيه البداءة باسم الكاتب قبل المكتوب إليه، وقد أخرج أحمد وأبو داود أن العلاء بن الحضرمي كتب إليه -صلى الله عليه وسلم- وكان عامله على البحرين: من العلاء إلى محمد رسول الله، فبدأ بنفسه، وعند البزار أنه -صلى الله عليه وسلم- وجه عليا وخالد بن الوليد, فكتب إليه خالد, فبدأ بنفسه, وكتب إليه علي, فبدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يعب على واحد منهما، وكتب ابن عمر إلى معاوية وعبد الملك، فبدأ بهما، وكذا جاء عن زيد بن ثابت إلى معاوية "إلى كسرى عظيم فارس، سلام" من عذاب الله "على من اتبع الهدى" الرشاد، "وآمن بالله ورسوله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية الله عز وجل، فإني رسول الله إلى الناس كلهم؛ لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن توليت فعليك إثم المجوس. فلما قرئ عليه الكتاب مزقه، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: مزق ملكه.   وشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله"، أكد في هذا الكتاب، وأوضح البيان؛ لأنهم مجوس، لا يقرءون الكتب، ولا يعرفون مدلولات الألفاظ بسرعة، بخلاف قيصر، فإنه كتابي قد قرأ الكتب، فلم يصح بدعائه إلى الشهادة له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة؛ لكونه منطويا في قوله على من اتبع الهدى وأسلم، ودعاية الإسلام، فإن جميعه يتضمن الإقرار بالشهادتين، "أدعوك بدعاية الله عز وجل" بكسر الدال، كما مر "فإني رسول الله إلى الناس كلهم"، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] ، "لينذر" الرسول وراعى نظم القرآن مع مراعاة لفظ رسول الله. وفي نسخة: لأنذر، وهو الذي في العيون عن رواية الواقدي المذكورة على الاقتباس "من كان حيا" عاقلا فهما، فإن الغافل كالميت، أو مؤمنا في علم الله، فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، "ويحق القول" يجب كلمة العذاب "على الكافرين" المصرين عل الكفر، وجعلهم في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم أموات في الحقيقة، كما قال البيضاوي: "أسلم تسلم"، لم يقل: يؤتك الله أجرك مرتين، لأنه مجوسي، عابد لنا, لا كتاب له ولا دين، "فإن توليت، فعليك" مع إثمك "إثم المجوس" يعني أتباعه عبدة النار، واختلف هل كان لهم كتاب أم لا، فيروى عن علي: أنهم كان لهم كتاب فبدلوه، فأصبحوا وقد أسرى به. رواه الإمام الشافعي، وقال: متصل، وبه نأخذ, ورد بأن في إسناده سعيد بن المرزبان ضعفه يحيى بن سعيد الأنصاري وابن معين، وقال الفلاس: بالفاء متروك الحديث، وقال أبو أسامة: كان ثقة، وقال أبو زرعة: صدوق مدلس. وقال ابن القيم: الأثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب، فرفع ورفعت شريعتهم، لما وقع ملكهم على بنته لا يصح البتة. وعند الواقدي، قال عبد الله بن حذافة: فانتهيت إلى بابه، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه، فدفعت إليه الكتاب، "فلما قرئ عليه الكتاب مزقه"، أي: خرقه، "فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "مزق ملكه" " دعاء، أو إخبار بالغيب، ويؤيد الأول قوله الآتي: فدعا عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 وفي البخاري من حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة السهمي، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق.   "وفي البخاري" في العلم والجهاد والمغازي وغيرها من أفراده عن مسلم "من حديث" الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن "ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة" القرشي "السهمي"، أسلم قديما، وكان من المهاجرين الأولين، قيل: واختاره لتردده عليه كثيرا، "فأمره"، أي: أمر المصطفى عبد الله "أن يدفعه إلى عظيم البحرين" المنذر بن ساوى -بالمهملة وفتح الواو الممالة- العبدي نائب كسرى على البحرين، "فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى". قال الحافظ: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: فتوجه إليه، فأعطاه الكتاب، فأعطاه لقاصده عنده، فتوجه به، فدفعه إلى كسرى، ويحتمل أن المنذر توجه بنفسه، فلا يحتاج إلى القاصد، ويحتمل أن القاصد لم يباشر إعطاء كسرى بنفسه، كما هو الأغلب من حال الملوك، فيزداد التقدير ا. هـ، ولم يتنزل للجميع بينه وبين ما ذكره الواقدي أن عبد الله بن حذافة دفع الكتاب إلى كسرى؛ لأن مثله لا يعارض به ما في الصحيح، فإن كان محفوظا، فيحتمل أن عبد الله لما وصل إلى عظيم البحرين، أرسله أو ذهب به إلى كسرى، فاستأذن حتى دخل عليه، "فلما قرأه" رواية الكشميهني، وللأكثر، فلما قرأ بحذف المفعول، وفيه مجاز، فإنه لم يقرأه بنفسه، وإنما قرئ عليه، كما ذكر ابن سعد من حديث عبد الله بن حذافة، هكذا في الفتح، فقول المصنف: قرأه بنفسه، أو قرأه غيره عليه, فيه نظر, "مزقه" بزاي وقاف، أي: قطعه، وهذا لفظ البخاري هنا. وفي كتاب العلم، وله في الجهاد خرقه بخاء معجمة، وشد الراء بدل مزقه، وهو قريب منه في المعنى، "فحسبت أن ابن المسيب"، قال الحافظ: قائله الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور، ووقع في جميع الطرق مرسلا، ويحتمل أن ابن المسيب سمعه من عبد الله بن حذافة صاحب القصة، "قال: فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمزقوا كل ممزق" بفتح الزاي فيهما، أي: يتفرقوا ويتقطعوا، فاستجاب الله لرسوله، فسلط الله على أبرويز ابنه شيرويه، فقتله، ثم قتل إخوته، وكان أبوه لما علم أن ابنه يقتله, احتال على قتل ابنه بعد موته، فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقا مسموما، وكتب عليه حق الجماع من تناول منه، كذا جامع، كذا, فقرأه شيرويه، فتناول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 وقيل: بعثه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي في البخاري هو الصحيح. وفي كتاب "الأموال" لأبي عبيد من مرسل عمير بن إسحاق, قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر فلما قرأ الكتاب طواه ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية".   منه، فهلك بعد أبيه بستة أشهر، ولم يخلف ذكرا، فملكوا أخته بوران بضم الموحدة, ذكره ابن قتيبة في المعارف، ثم ملكوا أختها أزدميدخت، كما ذكره الطبري, فجر ذلك إلى ذهاب ملكهم ومزقوا، كما دعا به -صلى الله عليه وسلم- هكذا في الفتح، ونقل غيره عن كتاب المعارف لابن قتيبة المذكور أنه تولى بعد شيرويه ابن عمه كسرى بن قياذ بن هرمز وأردشير بن شيرويه وجرهان، ثم ملك بعدهم بوران بنت كسرى، فبلغه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، "وقيل: بعثه"، أي الكتاب "مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه"، أخرجه ابن عدي بسند ضعيف عن ابن عباس. قال الحافظ: فإن ثبت, فلعله كتب إلى ملك فارس مرتين، "والذي في البخاري هو الصحيح"، وفي رواية عمر بن شبة أنه بعثه مع خنيس بن حذافة أخي عبد الله، وهو غلط، فإنه مات بأحد، فتأيمت منه حفصة، وبعث الرسل كان سنة سبع انتهى. وقيل: مع خارجة بن حذافة، ولا يصح لأن خارجة كما في الإصابة, من مسلمة الفتح والبعث كان قبله، وقيل: مع شجاع بن وهب وفيه نظر، فالمروي عند الطبراني وغيره أنه بعث شجاعا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وبعثهم كان في آن واحد، "وفي كتاب الأموال لأبي عبيد من مرسل عمير" بضم العين مصغرا "ابن إسحاق" أبي محمد، مولى بني هاشم, مقبول من الثالثة، كما في التقريب: قال: كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى، فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر, فلما قرأ الكتاب طواه، ثم رفعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما هؤلاء -أي كسرى وقومه- فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية"، فكان كذلك، فعاش قيصر إلى زمان عمر سنة عشرين على الصحيح، وقيل: مات في زمنه -صلى الله عليه وسلم- والذي حارب المسلمين بالشام ولده ولقبه أيضا قيصر. وفي حديث التنوخي رسول هرقل أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أخا تنوخ, إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه, والله ممزقه وملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة، فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 وروي أنه لما جاءه جواب كسرى قال: "مزق ملكه"، ولما جاءه جواب هرقل قال: "ثبت ملكه". وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر رحمه الله في فتح الباري عن سيف الدين قلج المنصوري، أحد أمراء الدولة القلاوونية، أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة، وأنه قبله وأكرمه، وقال: لأتحفنّك بتحفة سنية، فأخرج له صندوقا   "وروي أنه لما جاءه جواب كسرى، قال: "مزق ملكه"، ولما جاءه جواب هرقل، قال: "ثبت ملكه" "، فذهب ملك كسرى أصلا، وبقي ملك قيصر، وإنما ارتفع من الشام وما والاها، وعبر بالملك نظرا للظاهر، فلا ينافي أنهما معزولان عن الملك بحكم الإسلام، ولا يرد على هذا حديث الصحيح: إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده؛ لأن المراد: لا يبقى قيصر بالشام، ولا كسرى بالعراق، كما نقل عن الشافعي، وقيل غير ذلك. وفي حديث عبد الله بن حذافة: فلما بلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم مزق ملكه" وكتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فليأتيا بخبره, فبعث باذان رجلين بكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدما المدينة بكتابه، فتبسم -صلى الله عليه وسلم- ودعاهما إلى الإسلام، وفرائصهما ترعد، ثم قال: "ارجعا عني حتى تأتياني الغد" , فجاآه الغد, فقال لهما: "أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه في هذه الليلة لتسع ساعات مضت منها"، قال: وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع، وإن الله سلط عليه ابنه شيرويه، فقتله، فانطلقا، فأخبراه، فقال باذان: إن يكن كما قال, فوالله إنه لنبي، ويأتي الخبر إلي بذلك يوم كذا، فأتاه الخبر كذلك، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. عن الزهري: بلغني أن كسرى كتب إلى باذان أن رجلا من قريش يزعم أنه نبي فسر إليه، فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه، فذكر القصة، قال: فلما بلغ باذان أسلم هو ومن معه. "وذكر شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري" في حديث هرقل من بدء الوحي، قال: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي، "عن سيف الدين قلج" بقاف ولام وجيم معناه سيف بالتركي "المنصوري، أحد أمراء الدولة القلاوونية أنه قدم على ملك المغرب بهدية من الملك المنصور قلاوون، فأرسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة، وأنه قبله وأكرمه"، وعرض عليه الإقامة عنده فأبى، كما في الفتح، "وقال: لأتحفنك بتحفة" بضم التاء وفتح الحاء. وحكى الصغاني سكونها "سنية، فأخرج له صندوقا" بضم الصاد، وقد تفتح، وبالزاي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 مصفحا بالذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب, فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر، أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا، انتهى. وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي: بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك.   والسين لغات وجمعه: صناديق، كما في القاموس "مصفحا بالذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب"، بكسر الميم: وعاء الأقلام، كذا في المصباح، وانتقده شيخنا بأن المناسب لتفسيرها بالوعاء أن يكون بالفتح اسم مكان, أما بكسرها فيقتضي أنها اسم آلة, وهي الواسطة بين الفاعل ومن فعله القريب، "فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر, ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا عن آبائهم إلى قيصر أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال"، أي: يدوم "الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى، ليدوم الملك فينا"، وسماه تحفة؛ لأنه من آثاره -صلى الله عليه وسلم- فهو أعظم شيء يتحفه به, "انتهى". قال في الفتح: ويؤيد هذا مرسل عمير بن إسحاق، فذكره، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "إني كتبت إلى صاحبكم بصحيفة، فأمسكها، فما يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير"، فانظر تفاوت الناس، وكونهم معادن حتى في الكفر. وقد روي أن كسرى أهدى له بغلة، وأعل بأنه مزق الكتاب، كما يأتي للمصنف في الفصل التاسع من ذا المقصد، وأجيب بجواز أن المهدي شيرويه ابنه أو غيره ممن تولى بعده، على أنه لا يلزم من التمزيق عدم الإهداء؛ لأنه مزقه لما جاءه للشقاوة التي كتبت عليه، ثم يحتمل أنه لما خلا بنفسه خاف لاستيقانه نبوته، فأهدى له البغلة والعلم لله، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي". قال في الإصابة: بفتح النون على المشهور، وقيل: تكسر عن ثعلب، وتخفيف الجيم، وأخطأ من شددها عن المطرزي وتشديد آخره. وحكى المطري التخفيف، ورجحه الصغاني انتهى. وذكره الواقدي، ورواه البيهقي عن ابن إسحاق أن لفظه "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 الحبشة، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه, ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني.   الحبشة"، لم يقل: عظيم، كما قال في غيره، لما رأى فيه من العلامات الدالة على أنه يسلم، لما صنعه مع المسلمين الذين هاجروا إليه من الإحسان، ومنع الأذى ممن أراده بهم، ويحتمل أنه علم بالوحي أنه يسلم؛ فلذا وصفه بالملك. وفي رواية الواقدي: سلم أنت بكسر فسكون، أي: مسالم أو مصالح، أو بمعنى الدعاء له أو البشارة بأن يكون ذا سلامة؛ لما علمه من صدقه ومحبته وحسن حاله، وللبيهقي عن ابن إسحاق سلام عليك، ولم يذكر هو، ولا الواقدي "أما بعد" بل عقب الواقدي قوله: سلم أنت، وابن إسحاق: سلام عليك بقوله: "فإني أحمد إليك الله" أي: أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن"، هكذا ذكرهما في الكتاب ابن إسحاق والواقدي، فكأنهما سقطا من قلم المؤلف، "وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله"، أي: ذو روح أضيف إليه تعالى تشريفا له؛ لأنه أوجده بلا أب، أو لأنه يحيي الأموات أو القلوب، "وكلمته" هي قوله تعالى: {كُنْ} [آل عمران: 59] ، فكان بشرا بلا أب، ولا واسطة، وقول البيضاوي: لعل جبريل تمثل لها بشرا سويا، خلقه شابا أمرد تستأنس بكلامه، لتهيج شهوتها، فتنحدر نطفتها إلى رحمها. قال السيوطي: كان في غنية عن هذا الكلام الفاسد، ولكن هذا ثمرة التوغل في الفلسفة انتهى، "ألقاها" أوصلها "إلى مريم البتول"، المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم، وسميت فاطمة الزهراء بذلك؛ لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى "الطيبة الحصينة" بفتح الحاء، وكسر الصاد المهملتين، العفيفة فعيلة بمعنى مفعلة، "فحملت بعيسى، فخلقه من روحه"، وسقط من نسخة: فخلقه، لكنها ثابتة عند ابن إسحاق والواقدي، "ونفخه" أي: الله تعالى، أي: نفخ رسوله جبريل، كما قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91] ، فأرسلنا إليها روحنا، فهو عطف تفسير للروح. وفي القاموس: من جملة معانيها النفخ، "كما خلق آدم بيده"، بقدرته وقوته, إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم, خلقه من تراب, من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس، "وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له"، لا كما تزعمه النصارى من التثليث وغيره، "والموالاة" المتابعة والمناصرة "على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 "فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، وقد بلَّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى". وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضمري، فقال النجاشي له عندما قرأ الكتاب: أشهد بالله أنه النبي الأميّ الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار، كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر عنه،   "فإني رسول الله" إلى الناس كافة، "وإني أدعوك" و " أدعو " جنودك إلى الله تعالى"، أي: طاعته وعبادته، "وقد بلغت ونصحت" بضم التاءين على التكلم، "فاقبلوا" بهمزة وصل وفتح الموحدة "نصيحتي"، ففيها سعادة الدارين، "وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفرًا"، قيل هذا في الهجرة الثانية إلى الحبشة في السنة السادسة من النبوة، وبعث الكتاب، كما يأتي كان في سنة ست من الهجرة، واستمرَّ جعفر مقيمًا بالحبشة حتى قدم في خيبر، "ومعه نفر من المسلمين"، وسقط قوله، وقد بعثت إلى هنا من رواية الواقدي، وثبت للبيهقي عن ابن إسحاق "والسلام على من اتبع الهدى" الرشاد، وبعث الكتاب مع عمرو بن أمية الضميري" الصحابي المشهور. قال ابن سعد: أسلم حين انصرف المشركون من أحد، كذا ذكر ابن عبد البر. قال النووي: والمشهور أنه أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. ذكر ابن إسحاق أن عمرًا قال له: يا أصحمة إن عليّ القول وعليك الاستماع، إنك كأنَّك في الرقة علينا منّا، وكأنَّا في الثقة بك منك؛ لأنا لم نظن بك خيرًا قط إلا نلناه منك، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك, الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد, وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلّا فأنت في هذا النبي الأمي، كاليهود في عيسى ابن مريم، وقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم له، وأمَّنك على ما خافهم عليه، لخير سالف، وأجر ينتظر، "فقال النجاشي له: عندما قرأ الكتاب، أشهد بالله إنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب, وأن بشارة موسى براكب الحمار" عيسى -عليه السلام، "كبشارة عيسى براكب الجمل" أحمد -صلى الله عليه وسلم، "وأن العيان" بكسر العين المشاهدة له "ليس بأشفى من الخبر عنه"، لأن ما أعلمه من صفاته وأخباره بحقيقة الإسلام, وغير ذلك ثبت عندي، وتيقنته؛ بحيث لو عاينته لا أزداد من حيث العلم بتحققه شيئًا، فلا تعارض بين هذا، وبين قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمعاينة، إن الله عز وجل أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني حتى أكثر الأعوان وألين القلوب". ثم كتب النجاشي جواب الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله, من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام، أما بعد: فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لا يزيد على ما ذكرت ثفروفا،   الألواح، فلمَّا عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت"، رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس؛ لأن معناه أن الخبر يفيد العلم بصفة إجمالية، والمعاينة تفيد حصولها وتصورها عند الرائي، وذلك لا يفيده الإخبار، أو الحديث حكم على المجموع، ومنه فعل موسى، وقول النجاشي، أي: عندي حق لو رأيته ما زدت على اليقين؛ كقوله: لو كشف الغطاء ما زددت يقينًا، "ولكن أعواني من الحبش قليل، فأنظرني" أخرني "حتى أكثر الأعوان وألين القلوب" إلى الإسلام. قال ابن سعد: فأخذ الكتاب، ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته، "ثم كتب النجاشي جواب الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، ابتدأ بها اقتداءً بكتاب المصطفى، لكنه تأدَّب، فلم يبدأ باسم نفسه، بل بالاسم الشريف، فقال: "إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة" بوزن أربعة وحاؤه مهملة، وقيل معجمة، وقيل: إنه بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بغير ألف، وقيل: كذلك، لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بزيادة ميم في أول بدل الألف. نقله عن ابن إسحاق الحاكم في المستدرك، والمعروف عن ابن إسحاق الأوّل، ويتحصّل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة، قاله في الإصابة، وصوَّب النووي أولها، وقيل: اسمه سليم بضم السين، وقيل: حازم, "سلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو الذي هداني للإسلام"، ذكر الله بالاسم الظاهر دون الضمير لقصد الالتذاذ بذكر الله وعظم شأنه، والثناء عليه تعالى: أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع "أما بعد, فقد بلغني كتابك يا رسول الله، فما ذكرت" فيه "من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لا يزيد على ما ذكرت ثفروقًا"، بضم المثلثة، وسكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 إنه كما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك, وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني، وإن شئت أتيتك بنفسي فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ثم إنه أرسل ابنه.   الفاء، وضم الراء، وسكون الواو، ثم قاف يأتي تفسيره بعلاقة ما بين النواة والقشر؛ "إنه كما ذكرت"، وأتى بهذا إعلامًا بأنه آمن إيمانًا صحيحًا، وأن ما أخبر به المصطفى عن عيسى موافق لما عندهم في الكتب، وتلقَّوه من الأحبار الذين لم يبدِّلوا؛ وأنه ليس كما زعم من ضلَّ من النصارى ابن الله، وليس إلهًا معه، ولا ثالث ثلاثة، فأقسامه على ذلك إذاعة الآية محمدية، وهي موافقة خبره لكتب الله المنزلة التي لم تبدّل "وقد عرفنا ما بعثت به إلينا"، وقد قرَّبنا ابن عمك وأصحابه، كما في الرواية، "فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين". وروى أحمد بسند حسن عن ابن مسعود قصة بعث قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى النجاشي, ليرد أهل الهجرة إليهم, وفيها قول النجاشي: أنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه، وأوضئه، وإن ابن مسعود تعجّل، فشهد بدرًا، وقد أسلفت لفظ الحديث ثمة، فهو صريح في إسلامه قبل بعث الكتاب سنة ست، فيحتمل أنه أسلم، وكتمه عن قومه حتى بعث إليه الكتاب، فأعلن بالإيمان والعلم لله، "وقد بعثت إليك بابني" اسمه أرخى، كما في مغازي التيمي، أو أريخا، كما في دلائل البيهقي عن ابن إسحاق ذكره الإصابة, ودخول الباء على ما يصل بنفسه قليل, وأكثر اللغيين على تعدية بعث فيما يصل بنفسه، كزيد, وبالباء فيما لا يصل كالكتاب، كما قال أبو حيان، "وإن شئت أتيتك بنفسي" في موضع المفعول لشئت، أي: إتياني وجواب الشرط قوله، "فعلت، فإني أشهد أن ما تقوله حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"، كرر السلام، وجعله ختام الكتاب زيادةً في الشوق والتماس الثواب. وذكر ابن سعد أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إليه مع عمرو بن أمية بكتابين, يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني أن يزوّجه أم حبيبة، وأن يبعث إليه مَن عنده من أصحابه، ويحملهم، فأسلم، وفعل ما أمر به، ودعا بحق عاج، فجعل فيه الكتابين، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرها، وجهَّزهم في سفينتين, في إحداهما جعفر ومن معه، "ثم إنه أرسل ابنه" في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 في أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله، فلمَّا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وكانوا سبعين رجلًا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة, وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن, سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى -عليه الصلاة والسلام، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] إلى آخر الآية؛ لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع.   ستين نفسًا في سفينة "في أثر من أرسله من عنده مع جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلمَّا كانوا في وسط البحر غرقوا"، يعني: ابنه والستين الذين معه، كما عند التيمي والبيهقي عن ابن إسحاق، ونجا أصحاب السفينة الأخرى، كما قال، "ووافى جعفر وأصحابه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين رجل, عليهم ثياب الصوف, منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام" كانوا عنده بالحبشة، وسمَّاهم قتادة، فقال: أبرهة، وإدريس، وأشرف، وأيمن، وبحيرًا، وتمام، وتميم، ونافع، وظن العز بن الأثير أن بحيرًا هو الراهب المشهور، والظاهر أنه غيره؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما رآه في أرض الشام، وهذا إنما هو بالحبشة, وابن الجنوب من الشمال، ولا مانع أن يسمى اثنان باسم واحد. قاله في الإصابة, "فقرأ عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن, سورة يس إلى آخرها"، بدل كل من كل, بناءً على المختار أن القرآن باللام للقدر المشترك بين جميعه وبعضه، وقيل: المعرَّف لجميعه، فهو بدل بعض من كل، "فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقالوا: ما أشبه" ما أشد شبه "هذا بما كان ينزل على عيسى -عليه الصلاة والسلام"، لما علموه حين سمعوا القرآن من الأخبار عن عيسى ورسله والبعث, وغير ذلك من الآيات العجيبة، "وفيهم"، كما رواه ابن أبي حاتم وغيره، "أنزل الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ} أي الناس {مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إلى آخر الآية؛ لأنهم كانوا من أصحاب الصوامع، والتي بعدها ثناء عليهم أيضًا، ولنزولها فيمن أسلم منهم غير الأسلوب، فلم يقل النصارى، كما قال: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} ، فمن بقي على نصرانيته لا يوصف بأنه قريب للمؤمنين، فضلًا عن كونه أقرب، لا كما يتوهم الجهلة من الآية، وليس قول قتادة نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة الحق مما جاء به عيسى، فلمَّا بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- آمنوا به، وصدَّقوه مقابلًا لهذا، بل هو بمعناه غايته أنه أبهم أهل الكتاب، فيحمل على بيان ابن الزبير عند النسائي، وابن عباس عند الطبراني، وسعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم؛ أنها نزلت في أصحاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 والثفروق: علاقة ما بين النواة والقمح. وهذا هو أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمري سنة ست من الهجرة، فآمن به وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة, ونعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم توفي, وصلى عليه بالمدينة. وأمَّا النجاشي الذي ولي بعده، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام   النجاشي. وقيل كما حكاه الخازن: نزلت في أربعين من بحران, واثنين وثلاثين من الحبشة, وثمانية من أهل الشام، ومحصله: أنها نزلت في أصحاب النجاشي، وشاركهم غيرهم، والاختلاف في عدة الحبشيين غير ضار، فالأقل داخل في الأكثر، "والثفروق علاقة ما بين النواة والقمح" من التمرة، وفي القاموس أنه قمع التمر، أو ما يلتزق به قمعها, ونحوه في الصحاح، فتفسير المصنف لا يوافق قولًا منهما إلا بجعل الإضافة بيانية، أي: علاقة هي شيء إلخ ... ، فيوافق الأول. "وهذا" النجاشي "هو أصحمة الذي هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة" الهجرة الأولى، ثم هاجروا إليه بعد ذلك بقليل الهجرة الثانية، كما مَرَّ تفصيله، "وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم، كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام"، وكتابًا آخر بأن يزوّجه أم حبيبة، ويحمل إليه من عنده من أصحابه، وبعثهما "مع عمرو بن أمية" الضمري "سنة ست من الهجرة، فآمن به وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة" عند الأكثر. وقيل: سنة ثمان قبل فتح مكة، كما ذكره البيهقي في الدلائل، "ونعاه"، أي: أخبر بموته "النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم توفي, وصلى عليه بالمدينة"، وأخرج أصحاب الصحيح قصة صلاته عليه صلاة الغائب من طرق عن جابر: لما مات النجاشي قال -صلى الله عليه وسلم: "قد مات اليوم عبد صالح، يقال له أصحمة، فقوموا فصلوا" فصفنا خلفه. وعند ابن شاهين والدارقطني عن أنس، قال -صلى الله عليه وسلم: "قوموا فصلوا على أخيكم النجاشي، فقال بعضهم: يأمرنا أن نصلي على علج من الحبشة، فأنزل الله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} " آل عمران: 199] إلى آخر السورة، وللدارقطني وغيره عن أبي هريرة، فوثب -صلى الله عليه وسلم، ووثبنا معه حتى جاء المصلَّى، فقام، فصففنا وراءه، فكبَّر أربع تكبيرات. وروى ابن إسحاق عن عائشة، لما مات النجاشي، كما نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور. أخرجه أبو داود، وترجم عليه النور يرى على قبر الشهداء. "وأما النجاشي الذي ولي بعده، وكتب له النبي -صلى الله عليه وسلم" كتابًا "يدعوه إلى الإسلام"، روى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 فكان كافرًا، لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما. وفي صحيح مسلم عن قتادة: أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي, وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه.   البيهقي عن ابن إسحاق، قال: "هذا كتاب من النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى النجاشي الأصحم، عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة، ولا ولدًا، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك". قال الحافظ ابن كثير: الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي ولي بعد المسلم صاحب جعفر، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله قبل الفتح. قال الزهري: كانت كتبه -صلى الله عليه وسلم- واحدة، يعني: نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية، وهي مدنية بلا خلاف. انتهى. ومراد الزهري: كتبه إلى أهل الكتاب، وهم النجاشيان، وهرقل، والمقوقس، وإلّا فكتاب كسرى وغيره ليس فيه الآية، كما يتلى عليك "فكان كافرًا لم يعرف إسلامه ولا اسمه"؛ لأن النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، وأما قوله في الكتاب: الأصحم، فقال ابن كثير: لعله مقحم من الراوي بحسب ما فهمه، "وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما"، فظنهما واحدًا، "وفي صحيح مسلم" ما يرد عليه، ويصرّح بأنهما اثنان؛ فإنه أخرج "عن قتادة" بن دعامة عن أنس "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار" عنيد، كما هو رواية مسلم، "يدعوهم إلى الله، وليس النجاشي الذي صلى عليه"، فصرَّح أنس بأنه غيره، كما هو الواقع عند مسلم لا قتادة، كما أوهمه المصنف، وقد كتب لكلٍّ منهما، كما بيّنَه البيهقي عن ابن إسحاق. وروى الطبراني عن المسور، قال: خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه، فقال: "إن الله بعثني للناس كافَّة، فأدوا عني، ولا تخلقوا علي"، فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليطًا إلى هوذة واليمامة، والعلاء بن المنذر بهجر، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعبَّاد ابني الجلندي بعمّان، ودحية إلى قيصر، وشجاع بن وهب إلى ابن أبي شمر، وعمر بن أمية إلى النجاشي، فرجعوا جميعًا قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- غير عمرو بن العاص. قال في الفتح: وراد أصحاب السير أنه بعث المهاجر إلى الحارث بن عبد كلال، وجرير إلى ذي الكلاع، والسائب إلى مسيلمة، وحاطبًا إلى المقوقس، وبَيِّنَ أنس عند مسلم أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية, واسمه: جريج بن مينا. "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك   النجاشي الذي بعث إليه مع هؤلاء غير النجاشي الذي أسلم. انتهى، والله أعلم. "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المقوقس" بضم الميم، وفتح القاف، وسكون الواو، وكسر القاف الثانية، آخره مهملة. قال البرهان: معناه: المطوّل البنّاء، وفي القاموس وحياة الحيوان: أنه لقب له، ولطائر مطوق طوقًا سواده في بياض، كالحمام، وليس فيهما ما يشعر بالوصف الذي ذكره البرهان، "ملك مصر والإسكندرية" بكسر الهمزة، وتفتح وسكون السين، والنون، وفتح الكاف، والدال المهملة، وبالراء, بلد على طرف بحر المغرب من آخر حدّ مصر, نسبت إلى بانيها الإسكندر الروميّ "واسمه جريج" بضم الجيم الأولى "ابن مينا" بن قرقوب أمير القبط بمصر, من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: حدثني المقوقس، قال: أهديت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قدح قوارير، فكان يشرب فيه، وأنكر ابن الأثير ذكره، فقال: لا وجه لذكره في الصحابة، فإنه لم يزل نصرانيًّا، ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر، ولم يصب من ذكره في الصحابة, انتهى. "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد عبد الله ورسوله"، وفي رواية: "من محمد رسول الله إلى المقوقس" لقبه، كما علم قبل، وهو لقب لكل من ملك مصر والإسكندرية، وقيل: ملك مصر والشام فرعون، فإن إضيف إليهما الإسكندرية، فالعزيز كما في سيرة مغلطاي، "عظيم القبط" بالكسر اسم لنصارى مصر, الواحد قبطي على القياس، كما في القاموس، "سلام على من اتبع الهدى" الرشاد، "أما بعد"، أي: مهما يكن من شيء، كما قال سيبويه، قال الكرماني: إن قلت أمَّا للتفصيل، فأين القسيم؟ قلت: التقدير، أمَّا الابتداء فاسم الله، وأما المكتوب، فهو من محمد إلخ ... ، وأما المكتوب به، فهو ما ذكر في الحديث. قال الحافظ: وهو توجيه مقبول، لكنه لا يطَّرد في كل موضع، ومعناه: الفصل بين الكلامين، وقال العيني: هذا تعسّف وذهول، فإنَّ أمالها استعمالًا؛ لأن التفصيل، وهو الذي يطلب له القسيم، والآخر الاستئناف من غير أن يتقدَّمها كلام، كما هنا، ولم يقل أحد إنها في مثل هذا الموضع تقتضي القسيم، والتحقيق ما قلنا، كذا قال: فليتأمل، "فإني أدعوك بدعاية" بكسر الدال, كلمة التوحيد، وفي لفظ بداعية، أي دعوة "الإسلام, أسلم تسلم يؤتك" مجزوم جواب ثان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم القبط، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون". وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة، فتوجه إليه   للأمر، أو بدل اشتمال منه، أو معطوف عليه بحذف العاطف، فلا يرد أن جواب الأمر حصل بقوله تسلم، أو جواب لأمر محذوف هو: وأسلم يؤتك، كما في رواية أخرى، فكرَّر الأمر للتأكيد، أو الأول للدخول في الإسلام، والثاني للدوام عليه "الله أجرك مرتين". قال ابن المنير: مؤمن أهل الكتاب لا بد أن يكون مؤمنًا بنبينا -صلى الله عليه وسلم، لما أخذ الله عليهم من العهد والميثاق، فإذا بعث فإيمانه مستمر، فكيف يتعدّد إيمانه حتى يتعدّد أجره، ثم أجاب بأن إيمانه الأول، بأن الموصوف بكذا رسول، والثاني بأن محمدًا هو الموصوف، فظهر التغاير فثبت التعدد. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون تعدد أجره؛ لكونه لم يعاند كما عاند غيره ممن أضله الله على علم، فحصل له الأجر الثاني؛ لمجاهدته نفسه على مخالفة أنظاره، "فإن توليت فعليك" مع إثمك "إثم القبط"، والمراد: رعاياه الذين ينقادون له، سواء كانوا من القبط أو غيرهم، فنَبَّه بذكر طائفة على بقية الطوائف "يا أهل الكتاب" بواو وبدونها، كما أفاده البرهان، وقد صرَّح في الإصابة بأنَّ هذا الكتاب مثل الكتاب إلى هرقل, "تعالوا إلى كلمة سواء"، أي: عدل ونصف "بينا وبينكم"، نستوي نحن وأنتم فيها, صفة لكلمة مرادًا بها الجمل المفيدة، وفسرت بقوله: "أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنَّا مسلمون"، وختم الكتاب كما في الرواية، وحكمة كتب هذه الآية أنَّ القبط وعظيمهم نصارى، وقد جمع النصارى الثلاثة الأشياء المذكورة في الآية، فعبدوا غير الله، وهم اليعقوبية, فرقة منهم الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وأشركوا به في العبادة غيره؛ كالذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} ، و {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فاتبعوهم في تحليل ما حرم، وتحريم ما أحل "وبعث به مع حاطب ابن أبي بلتعة"، بفتح الموحدة، وسكون اللام، ففوقية، فمهملة مفتوحتين القرشي، مولاهم اللخمي، المتَّفق على شهوده بدرًا، "فتوجه إليه" وحده. ذكر السهيلي؛ أنه -صلى الله عليه وسلم، بعث معه جبرًا -بجيم وموحدة- مكبَّر, مولى أبي رهم الغفاري، وهو وَهْمٌ, فالذي في الاستيعاب والإصابة وغيرهما أن جبرًا كان من القبط، وأنه رسول المقوقس بمارية إليه -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 إلى مصر، فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فوجده في مجلس مشرف على البحر، فركب سفينة إليه وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه، فلمَّا رآه أمر بإحضاره بين يديه، فلمَّا جيء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر إلى الكتاب فضَّه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيًّا أن يدعو عليَّ فيسلط علي؟ فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه؟ فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك   قال سعيد بن عفير: فالقبط تفتخر بأنه منهم, "إلى مصر" بدل الاشتمال من إليه على نية تكرار العامل، فلا يرد أن الفعل لا يتعدَّى بجر في جر، متحدين لفظًا ومعنًى, فلا يقال: مررت بزيد بعمر، وبخلاف مررت بزيد بالبرية، "فوجده بالإسكندرية، فذهب إليها، فوجده في مجلس مشرف" صفة، أي مطّلع "على البحر، فركب سفينة" وقصد بها "إليه، وحاذى مجلسه" مكان جلوسه، "وأشار بالكتاب إليه"؛ بأن جعله بين أصبعيه، وأشار به، "فلما رآه أمر بإحضاره بين يديه"، هكذا في رواية ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ووقع في العيون: خرج حاطب إلى الإسكندرية، فانتهى إلى حاجبه، فلم يلبثه أن أوصل إليه الكتاب، ويحتمل الجمع بأنه لما خرج من السفينة لقيه الحاجب، فأوصله سريعًا إلى المقوقس؛ لعلمه بأمره بإحضاره، "فلمَّا جيء به إليه، ووقف بين يديه، ونظر في الكتاب فضَّه"، فك ختمه، كذا في كثير من النسخ بلا واو، وفي بعضها بها، وهي زائدة؛ لأنه جواب لما, "وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيًّا أن يدعو علي فيسلط علي، فقال له حاطب: وما منع عيسى أن يدعو على من خالفه أن يسلط عليه". زاد ابن عبد الحكم، فوج له المقوقس، "فاستعاد منه الكلام مرتين" لينظر هل يتلعثم، وكأنَّه جوز أن جوابه أولًا اتفاقي، "ثم سكت" لما أفحمه بالحجة، وعند البيهقي عن حاطب، قال: بعثني -صلى الله عليه وسلم- بكتاب إلى المقوقس، فجئته، فأنزلني في منزل، وأقمت عنده، ثم بعث إلي، وقد جمع بطارقته، وقال: إني سأكلمك بكلام، وأحب أن تفهمه مني، قلت: هلمّ، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ فقلت: بلى هو رسول الله، قال: فما له لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده، فقلت له: أتشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله، فما له حيث أخذه قومه، فأرادوا أن يصلبوه، أن لا يكون دعا عليهم، بأن يهلكهم الله حتى رفعه الله، فقال له: أحسنت, أنت حكيم جئت من عند حكيم، ولا يتوهم منافاة بين هاتين الروايتين، فإنه سأله بما ذكره المصنف حين جاء بالكتاب، ثم أنزله وأكرمه، ثم أحضره بعد مع بطارقته، فسأله عن هذا السؤال الثاني، ووعظه حاطب أوّل قدومه عليه لما سكت، "فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك" بمصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. قال: إن دينًا لن ندعه إلا لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله وهو الإسلام الكافي به الله فَقْد ما سواه، إن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلّا كبشارة عيسى بمحمد -صلى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا   "رجل يزعم أنه الرب الأعلى" على من يلي أمركم، وهو فرعون، "فأخذه الله" أهلكه بالغرق "نكال"، أي: عقوبة، أي: جعله نكالًا، وعبرة لغيره "الآخرة"، أي: هذه الكلمة, "والأولى"، أي: قوله قبلها {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} ، وكان بينهما أربعون سنة، وقيل: الأولى الدنيا بالإغراق، والآخرة يوم القيامة بالإحراق، "فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك, ولا يعتبر غيرك بك"، بأن تفعل ما يوجب النقمة، فتصير عبرة لغيرك. فالمراد نهيه عن كونه هذه الصفة، لا نهي غيره من الاعتبار به, إن لو وقع فيما يوجب النقمة، وسقط غيرك من العيون، فقال البرهان: بالبناء للمفعول على الأحسن، ويجوز بناؤه للفاعل، "قال: إن لنا دينًا لن ندعه إلّا لما هو خير منه، فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله، وهو الإسلام" التوحيد المبعوث به الرسل من قبل، "الكافي به الله، فقد" بفتح الفاء، وإسكان القاف، ودال مهملة مفعول به "ما سواه"، أي المغني به عن غيره, الذي فقد بحيث لا يجوز التمسك به، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} ، "إن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس، فكان أشدهم عليه قريش" قومه حسدًا، وتكذيبًا بالحق مع اعترافهم به، "وأعداهم له يهود" بالرفع بلا تنوين، لأنه لا ينصرف للعلمية والتأنيث، مع تيقنهم أنه النبي المبشَّر به في كتبهم، "وأقربهم منه النصارى" الذين آمنوا به، "ولعمري ما بشارة موسى بعيسى" التي تحققتها أنت "إلّا كبشارة عيسى بمحمد -صلى الله عليه وسلم"، فيجب عليك اتباعه، "وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلّا كدعائك أهل التوراة" بالنصب مفعول المصدر "إلى الإنجيل"، فكما تعتقد أن ذلك حق، يجب عليك أن تعتقد حقيقة الإسلام، وأن رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثابتة يجب اتباعها، "وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق" الثابت الواجب "عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدرك هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح, ولكننا نأمرك به. فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي, فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى وسأنظر.   النبي"، فالحق عليك اتباعه، "ولسنا ننهاك عن دين المسيح" عيسى، ولكنَّا نأمرك به"؛ لأن من دينه الأمر باتباع المصطفى، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "فقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه"، بل يأمر بما تفرح وترغب فيه القلوب النيرة، والعقول السليمة، وإنما يجحد بعضهم بطرًا وكبرًا، "ولا ينهى عن مرغوب فيه" عند أولي الألباب. وفي الروض: ولا ينهى إلّا عن مرغوب عنه، "ولم أجده بالساحر الضال" لنفسه، ولغيره، "ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة"، كذا في العيون، أي: علامتها, عَبَّرَ عنها بالآلة؛ لأنها سبب في تحقيقها وإظهارها، فأشبهت الآلة. وفي الروض: آية مفرد آي, وهي العلامة بلا تكلف, "بإخراج الخبء" بفتح الخاء المعجمة تليها موحدة فهمزة الغائب المستور، كأنه يشير إلى الإخبار بالمغيبيات، "والإخبار بالنجوى"، أي: يعلم ما يتناجون به حقيقة، وهو من جملة الأخبار بالغيب. قال البيضاوي: والنجوى مصدر، أو جمع نجى، وفي المصباح ناجيته ساررته، والاسم النجوى، "وسأنظر"، وهذا علمه المقوقس من الأخبار الواردة عليه بذلك قبل كتابة المصطفى إليه, فقد ذكر الواقدي بإسناد له عن المغيرة بن شعبة في قصة خروجهم من الطائف إليه قبل إسلام المغيرة، قال: لما دخلنا عليه قال: ما صنعتم فيما دعاكم إليه محمد؟ قالوا: ما تبعه منّا رجل واحد، قال: كيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة، قال: فإلى ماذا يدعو؟ قالوا: إلى أن نعبد الله وحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة، والزكاة، وصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا والربا والخمر، فقال المقوقس: هذا نبي مرسَل إلى الناس كافّة، ولو أصاب القبط والروم لاتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر، فقالوا: لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا معه، فهزَّ المقوقس رأسه، وقال: أنتم في اللعب، ثم سألهم عن نحو ما وقع في قصة هرقل من سؤاله لأبي سفيان، وفي آخره: فما فعلت يهود يثرب، قلنا: خالفوه، فأوقع بهم، قال: هم قوم حسد، أما أنهم يعرفون من أمره مثل ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وأخذ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعله في حق من عاج ودفعه لجارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم. بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أن يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك وبعثته إليك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام.   نعرف، "وأخذ كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم" وضمَّه إلى صدره، وقال: هذا زمان النبي الذي نجد نعته في كتاب الله، رواه ابن عبد الحكم، "فجعله في حق من عاج"، ثم ختم عليه -كما في الرواية، "ودفعه لجارية له" لتحفظه، قال البرهان: لا أعرف اسمها، "ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية"، قال البرهان: لا أعرف اسمه، "فكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" كتابًا صورته: "بسم الله الرحمن الرحيم, لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط, سلام عليك" كما في الرواية، فتأدَّب فقدَّم اسم المصطفى، ولم يصف نفسه بالملك، بل كتب مثل ما كتب له، "أما بعد, فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي" خاتم النبيين "وكنت أظن أن يخرج من الشام"؛ لأنه مخرج الأنبياء من قبله، "وقد أكرمت رسولك" بالضيافة، وقلة المكث عندي، وسرعة إذني في دخوله علي. قال حاطب: وقد كان مكرمًا لي في الضيافة، وقلة اللبث ببابه, ما أقمت عنده إلّا خمسة أيام، وإن وفود العجم ببابه منذ شهرين وأكثر، وأمر لي بمائة دينار وخمسة أثواب، ذكره الواقدي وغيره، "وبعثته إليك بجاريتين" مارية وأختها سيرين، ولم يذكر الثالثة، وهي أختهما، فيصير بالصاد عند مغلطاي، والسين عند اليعمري وغيره، بل اقتصر عليهما لحسنهما وجمالهما، كما قال "لهما مكان من القبط عظيم, وكسوة" هي عشرون ثوبًا لينًا من قباطي مصر، كما أسلفه المصنّف في ترجمة مارية. وروى ابن عبد الحكم مرسلًا؛ أنها بقيت حتى كفِّن -صلى الله عليه وسلم- في بعضها، والصحيح ما في الصحيح عن عائشة: أنه كُفِّنَ في ثياب يمانية، "وأهديت إليك بغلة"، ذكرها في الكتاب؛ لأنها كانت من مراكبه، وهي دلدل، ولذا قال: "لتركبها", ولم يذكر فيه الحمار، وهو يعفور، ولا الألف مثقال ذهبًا، ولا العسل الذي من بنها -بكسر الموحدة وفتحها، كما تقدَّم في مارية، لحقارة ذلك عند الملوك، فلا يذكر في الكتب، وللطبراني عن عائشة أنه أهدى له مكحلة عيدانٍ شامية ومرآة ومشطًا "والسلام". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 ولم يزد على هذا، ولم يسلم. وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى:   وذكر الواقدي وابن عبد الحكم من طريق أبان بن صالح، قال: أرسل المقوقس إلى حاطب، فقال: أسألك عن ثلاث، فقال: لا تسألني عن شيء إلّا صدقتك، قال: إلام يدعو محمد، قلت: إلى أن يعبد الله وحده، ويأمر بخمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم, إلى أن قال: صفه لي، فوصفته، فأوجزت، قال: قد بقيت أشياء لم تذكرها: في عينيه حمرة، قلت: ما تفارقه, وبين كتفيه خاتم النبوة, يركب الحمار، ويلبس الشملة، ويجتزئ بالتمرات والكسر, لا يبالي من لاقى من عم ولا ابن عم، قلت: هذه صفته، قال: قد كنت أعلم أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أن مخرجه من الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب في أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعني على اتباعه، وأنا أضنّ بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ههنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفًا، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك أحدًا. قال حاطب: فذكرت قوله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: ضنَّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه اهـ. فكان كما قال، "ولم يزد" المقوقس "على هذا، ولم يُسْلِم"، بل استمرَّ على نصرانيته حتى فتح المسلمون منه مصر في خلافة عمر، وغلط ابن الأثير وغيره من الحفَّاظ ابن منده وأبا نعيم وابن قانع في ذكرهم له في الصحابة تشبثًا بما أخرجوه من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله، قال: حدثني المقوقس، قال: أهديت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قدح قوارير، فكان يشرب فيه، ولا أدري ما وجه إثباتهم الصحبة له من هذا الخبر، فإنه بفرض أن التصلية منه لا يلزم إسلامه؛ لأن النصارى تعترف بنبوته فيصلون عليه، ويزعمون أنها إلى العرب، ولم يقل أحد أنه سافر واجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم, حتى يكون صحابيًّا، فما هذا إلّا غلط على غلط، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى" بن الأخنس بن بيان بن عمرو بن عبد الله بن زيد بن عبد الله بن دارم التميمي الدارمي العبدي؛ لأنه من ولد عبد الله بن دارم المذكور لا من عبد القيس، كما ظنَّه بعض الناس، أفاد ذلك الرشاطي. روى إسحاق بن راهويه، ومن طريق الطبراني وابن قانع من سليمان بن نافع العبدي عن أبيه، قال: وفد المنذر بن ساوى من البحرين ومعه أناس، وأنا غليم أمسك جمالهم، فذهبوا بسلاحهم، فسلَّموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، ووضع المنذر سلاحه، ولبس ثيابًا كانت معه، ومسح لحيته بدهن، فأتى نبي الله، وأنا مع الجمال أنظر إلى نبي الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 ذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة قال: وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته، فنسخته فإذا فيه: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى, وكتب إليه كتابًا يدعوه فيه الإسلام. فكتب المنذر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما بعد، يا رسول الله, فإني قد قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي يهود ومجوس، فأحدث إلي في ذلك أمرك. فكتب إليه في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من   قال المنذر: قال لي -صلى الله عليه وسلم: رأيت منك ما لم أر من أصحابك، فقلت: أشيء جبلت عليه أو أحدثته، قال: لا، بل جبلت عليه، فأسلموا، قال سليمان: وعاش أبي مائة وعشرين سنة، قال في الإصابة: ولم يثبت ذلك الأكثر، بل قالوا: لم يكن في الوفد، وإنما كتب معهم بإسلامه، وسليمان ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه، ولم يذكر فيه جرحًا، والقصة معروفة للأشج، واسمه المنذر بن عائذ، وأظنّ سليمان وَهِمَ في ذكر سن أبيه؛ لأنه لو كان غلامًا سنة الوفود، وعاش هذا القدر لبقي إلى سنة عشرين ومائة، وهو باطل، فلعلّه قال مائة وعشر؛ لأن أبا الطفيل آخر الصحابة موتًا، وأكثر ما قيل في عام موته سنة عشر ومائة, انتهى. ومع هذا، فذكر المنذر بن ساوى في القسم الأول موافقة للأقل، ثم في القسم الثالث موافقة للأكثر. و"ذكر الواقدي بإسناده عن عكرمة، قال: وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته" نقلته, "فإذا فيه بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى، وكتب إليه كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام"، لم نر من ذكر لفظ هذا الكتاب، فإنما هذا إخبار بشيء مما اشتمل عليه الكتاب، كما تقول: قرأت القرآن، فوجدت فيه أمر الساعة، وبَعْث من في القبور, وغير ذلك, مع أنك لم تذكر شيئًا من القرآن، "فكتب المنذر" لما وصل إليه الكتاب وآمن, "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أما بعد يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين" كتثنية بحر في حال النصب والجر، قاعدة من قواعد اليمن، وعمل من أعمالها، كذا في النور، ولا يخالفه قول المصنف كغيره إن البحرين اسم لإقليم مشهور، مشتمل على مدن معروفة, قاعدتها هجر؛ لأن المراد بالقاعدة الجانب الكبير، كالإقليم، فلا ينافي أن هجر قاعدة من قواعده، "فمنهم من أحبَّ الإسلام وأعجبه ودخل فيه"، أي: آمن, "ومنهم من كرهه" فلم يدخل فيه, "وبأرضي يهود ومجوس" باقين على كفرهم، "فأحدث" بهمزة قطع وكسر الدال: ابعث "إليَّ في ذلك أمرك" أفعل فيهم، "فكتب إليه في ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله. أما بعد، فإني أذكِّرك الله -عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وأنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا،   محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى, سلام عليك" خاطبه بالسلام؛ لأن هذا الكتاب كما ترى بعد إسلامه، "فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، لعله قصد بكتب الشهادتين تعليمهم إياهما، "أما بعد". قال في فتح الباري: اختلف في أول من قالها، فقيل: داود -عليه السلام، وقيل: يعرب بن قطحان، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: سحبان. وفي غرائب مالك للدارقطني: أن يعقوب -عليه السلام قالها، فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل، فيعقوب أوّل من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم، فيعرب أوّل من قالها، وفي الفتح أيضًا في كتاب الجمعة، قيل: أول من قالها داود. رواه الطبراني مرفوعًا عن أبي موسى، وفي إسناده ضعف، وروى عبد بن حميد، والطبري عن الشعبي مقوفًا: إنها فصل الخطاب الذي أعطيه. وروى الدارقطني بسندٍ رواه في غرائب مالك: أوّل من قالها يعقوب. وروى الفاكهي كعب بن لؤي بسند ضعيف، وقيل: يعرب بن قطحان، وقيل: سحبان وائل، وقيل: قسّ بن ساعدة، والأول أشبه، ويجمع بينه وبين غيره بأنه بالنسبة إلى الأولية المحضة، والبقية بالنسبة إلى العرب خاصّة، ثم يجمع بينها بالنسبة إلى القبائل, انتهى. "فإني أذكِّرك الله"، أي: أوامره ونواهيه, إشارة إلى أنه لا ينبغي عبادة غيره "عز وجل"، ولا الخروج عن أحكامه لأحد؛ لأنها معلومة على لسان الرسل، فكأنها من المعلوم الحاصل للجاهل بها مجرد غفلة، "فإنه من ينصح، فإنما ينصح لنفسه" لعود ثواب نصحه عليها، "وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم" عطف تفسير "فقد أطاعني"، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، "ومن نصح لهم فقد نصح لي" والدين النصيحة، "وإن رسلي" لا يعارض هذا قوله أولًا إنه بعث له العلاء بن الحضرمي لاحتمال أنه اجتمع معه عند المنذر أحد من المسلمين، فسماهم كلهم رسلًا، أو أطلق الجمع على ما فوق الواحد، فقد ذكر الشامي أنه بعث أبا هريرة مع العلاء، وأوصاه به خيرًا، "قد أثنوا عليك خيرًا" من قبولك الحق، وانقيادك إلى الإيمان. ذكر السهيلي في الروض: إن العلاء لما قدم عليه قال له: يا منذر, إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرنَّ عن الآخرة، إن هذه المجوسية شَرُّ دينٍ، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية".   الكتاب ينكحون ما يستحيا من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن يكذب في الدنيا أن لا تصدقه، ولمن لا يخون أن لا تأمنه، ولمن لا يخلف أن لا تثق به, فإن كان هذا هكذا، فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به, أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر، فقال: المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ورأيت في دينكم، فرأيته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر. انتهى. أي: فيما أصنع من الذهاب إليه، أو مكاتبته, أو غير ذلك، لا في أنه يسلم أو لا, فإن قوله: وعجبت اليوم ممن يرده, اعتراف منه بأنه دين حق، والأمنية في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر، والعاقل لا يقدر إلا ما فيه فلاحه، "وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه" من مال وزوجات أربع يحل نكاحهن، "وعفوت عن أهل الذنوب" المتقدمة منهم في الكفر, من زنا وشرب ونكاح محارم وسب وغير ذلك؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، "فاقبل منهم" الإسلام، ولا تؤاخذهم بما مضى، فإن الله يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، "وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك"، بل نقيمك فيه نائبا عنا، "ومن أقام على يهوديته أومجوسيته فعليه الجزية". وأخرج ابن منده عن زيد بن أسلم عن المنذر بن ساوى: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه أن افرض على كل رجل ليس له أرض أربعة دراهم وعباءة. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية بأن لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم. وأخرج الطبراني عن ابن مسعود, كتب -صلى الله عليه وسلم- إلى المنذر بن ساوى: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم له ذمة الله ورسوله". وذكر أبو جعفر الطبري: أن المنذر هذا مات بالقرب من وفاته -صلى الله عليه وسلم، وحضره عمرو بن العاص، فقال له: كم جعل -صلى الله عليه وسلم- للميت من ماله عند الموت، فقال: الثلث، قال: فما ترى أن أصنع في ثلثي، قال: إن شئت قسمته في سبل الخير، وإن شئت جعلت غلته بعدك على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 وكتب -عليه الصلاة والسلام- إلى ملكي عمان، وبعثه مع عمرو بن العاص: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى جيفر -بفتح الجيم- وعبد ابني الجلندي   من شئت، قال: ما أحب أن أجعل شيئًا من مالي كالسائبة، ولكني أقسمه، "وكتب -عليه الصلاة والسلام- إلى ملكي عمان". قال الحافظ: بضم المهملة وخفة الميم، قال الرشاطي باليمن: سميت بعمان بن سبأ, ينسب إليها الجلندي رئيس أهلها. روى مسلم عن أبي برزة, بعث -صلى الله عليه وسلم- رجلًا إلى قوم، فسبوه وضربوه، فجاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو أهل عمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك". وروى أحمد عن عمر, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إني لأعلم أرضًا يقال لها عمان, ينضح بناحيتها البحر، لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر" , وبعمل الشام بلدة يقال لها عمان، لكنها بفتح المهملة، وشد الميم، وهي التي أرادها القائل: في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتونًا بعَمَّان وليست مرادة هنا قطعًا، وإنما وقع اختلاف للرواة فيما جاء في بعض طرق حديث صفة الحوض النبوي من ذكر عمان, انتهى من فتح الباري, "وبعثه" في ذي القعدة سنة ثمان، ووقع عند ابن عبد البر، أنه بعد خيبر، قال في الفتح: فلعلها كانت بعد حنين، فتصحَّفت "مع عمرو بن العاص"، ولفظه كما رواه ابن سعد مع القصة كلها من طريق عمرو بن شعيب عن مولى لعمرو بن العاص عنه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى جيفر" بفتح الجيم مصروف بوزن جعفر, إلّا أن بدل العين تحتانية، "وعبد" بموحدة، وقيل: تحتيه لا إضافة فيهما، وصوَّب الخشني أنه عياد، وهو الذي في رواية الطبراني, وضبطه في الفتح -بفتح المهملة وشد التحتانية وآخره معجمة, "ابني الجلندي" بضم الجيم، وفتح اللام، وسكون النون والقصر، كما في الفتح, غير مبالٍ بقول شيخه في القاموس: جلنداء -بضم أوله، وفتح ثانيه ممدودة، وبضم ثانية مقصورة- اسم ملك عمان، ووَهِمَ الجوهري، فقصر مع فتح ثانيه، قال الأعشى: وجلنداء في عمان مقيمًا ... ثم قيًسا في حضرموت المنيف وذكر وثيمة في كتاب الردة عن ابن إسحاق, أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الجلندي عمرًا يدعوه إلى الإسلام، فقال: لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه: لا يأمر بخير إلّا كان أوّل آخذ به، ولا ينهى عن شر إلّا كان أوّل تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر، وإنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي، وأنشد أبياتًا منها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة، لأنذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زال عنكما، وخيلي تحلّ بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما". وكتب أُبَيّ بن كعب، وختم الكتاب. قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد -وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقًا, فقلت: إني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليك وإلى أخيك, فقال: أخي المقدَّم علي بالسنّ والملك، وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه. ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عُبِدَ من دونه، وتشهد أن   فيا عمرو، قد أسلمت لله جهرة ... ينادي بها في الواديين فصيح قال في الإصابة، فيحتمل أن عمرًا أرسل إليهم جميعًا "سلام على من اتبع الهدى، أمَّا بعد, فإني أدعوكما بدعاية الإسلام, أسلما" بهمزة قطع، وكسر اللام، أمر من الرباعي, "تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافَّة, لأنذر من كان حيًّا، ويحقّ القول على الكافرين، وإنكما أن أقررتما بالإسلام ولَّيتكما" بشدِّ اللام من التولية، "وإن أبيتما أن تُقِرَّا" هكذا في نسخ صحيحة، كالعيون وغيرها، ويوجد في بعض النسخ: أن لا تقرا, بالزيادة لا، وبتقدير صحتها رواية، فالمعنى: إن أبيتما الإسلام وأردتما أن لا تقرَّا "بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحلّ" بضم المهملة تنزل "بساحتكما" فناء دوركما "وتظهر نبوتي"، أي أرها "على ملككما" فتزيله، "وكتب" الكتاب أُبَيّ بن كعب، وختم" -صلى الله عليه وسلم "الكتاب" بنفسه، أو بأمره. "قال عمرو: فخرجت" وسرت "حتى انتهيت إلى عمان، فلمَّا قدمتها عمدت" بفتح الميم على المشهور بوزن قصدت ومعناه, وفي لغة بكسر الميم، وقد مرَّ مرارًا "إلى عبد، وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقًا" بضمتين، "فقلت: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليك وإلى أخيك" بهذا الكتاب، وبالدعاء إلى ما تضمَّنه من الإيمان، "فقال" عبد: "أخي" جيفر "المقدَّم علي بالسن والملك" بضم الميم، "وأنا أوصلك إليه حتى تقرأ كتابك عليه، ثم قال: وما تدعو إليه؟، قلت: أدعوك إلى" عبادة "الله وحده، لا شريك له، و" إلى أن "تخلع ما عُبِدَ من دونه, و" أن "تشهد أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 محمدًا عبده ورسوله. قال: يا عمرو, إنك كنت ابن سيد قومك، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا فيه قدوة. قلت: مات ولم يؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدّق به، وقد كنت على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام. قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني: أين كان إسلامك؟ قلت: عند النجاشي, وأخبرته أنَّ النجاشيّ قد أسلم. قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقرّوه واتَّبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من كذب. قلت: ما كذبت وما   محمد عبده ورسوله". "قال: يا عمرو, إنك كنت" أي: وجدت "ابن سيد قومك"، والذي في العيون وغيرها: إنك ابن بدون كنت، "فكيف صنع أبوك" العاص بن وائل السهمي، أحد الكفار المستهزئين، "فإن لنا فيه قدوة، قلت: مات ولم يؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم، ووددت" بكسر الدال الأولى "أنه كان أسلم، وصدَّق به، وقد كنت" أنا "على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تبعته؟ قلت: قريبًا، فسألني: أين كان إسلامك، قلت: عند النجاشي" على يده، وهو من اللطائف، صحابي أسلم عن يد تابعي، "وأخبرته أن النجاشي قد أسلم". "قال: كيف صنع قومه بملكه؟ قلت: أقرّوه واتبعوه. قال: والأساقفة" بفتح الهمزة، فسين مهملة، فألف، فقاف مكسورة، ثم فاء، ثم تاء تأنيث, جمع أسقف، وهو السقف -بضم السين، والقاف- لفظ أعجمي، ومعناه: رئيس دين النصارى، وقيل: عربيّ، وهو الطويل في انحناء، وقيل: ذلك للرئيس؛ لأنه يتخاشع، كما في الفتح "والرهبان تبعوه؟ قلت: نعم، قال: انظر يا عمرو ما تقول"، استعظم وقوع ذلك، واتَّهمه في صحة الخبر، واحتمل عنده أنه قصد ترويج ما أرسل به، فقال له ذلك، واستشهد عليه بالعلوم من شدة قبح الكذب ليتجنبه، فقال: "إنه ليس من خصلة" بالفتح خلة "في رجل أفضح"، أي أكثر فضيحة "له من كذب، قلت" أنا صادق في خبري، "وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 نستحله في ديننا. ثم قال: أخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه. قلت: يأمر بطاعة الله -عز وجل, وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان, وعن الزنا وشرب الخمر, وعن عبادة الحجر والوثن والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدّق به، ولكن أخي أضنَّ بملكه من أن يدعه ويصير ذَنَبًا. قلت: إن أسلم ملَّكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه, يأخذ الصدقات من غنيهم ويردها   كذبت، وما نستحله في ديننا" زيادة عن كونه أفضح خصلة، "ثم قال": أشار إلى أنه حذف بعض الحديث، وهو كذلك، فعند ابن سعد ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي، قلت: بلى، قال: شيء علمت ذلك؟ قلت: كان النجاشي يخرج خرجًا, فلما أسلم وصدَّق بمحمد -صلى الله عليه وسلم قال: لا والله، ولو سألني درهمًا واحدًا ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، قال: يناق أخوه, أتدع عبدك لا يخرج لك خرجًا، ويدين دينًا محدثًا؟ قال هرقل: رجل رغب في دين واختاره لنفسه, ما أصنع به؟ والله لولا الضنّ بملكي لصنعت كما صنع، قال: انظر ما تقول يا عمرو, قلت: والله صدقتك، قال عبد: "فأخبرني ما الذي يأمر به، وينهى عنه"، ويناق بفتح التحتية، وشد النون، فألف، فقاف غير مصروف للعملية، والعجمة، لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه، قاله البرهان. "قلت: يأمر بطاعة الله -عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم" هما من أفراد الطاعة، "وينهى عن الظلم، والعدوان، وعن الزنا، وشرب الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن", هو كل ما له جثة معمولة من جواهر الأرض، أو من الخشب والحجارة، كصورة الآدمي يعمل وينصب ويعبد، والصنم: الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بين الصنم والوثن، ويطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن عل غير الصورة, ذكره البرهان. "والصليب" للنصارى، والجمع: صلب وصلبان، قاله الجوهري. واستعمل عمرو مقام الإطناب زيادة في البيان؛ لأنه مقام خطابة، وإلا فكل هذه من أفراد معصية الله، فأجمل أولًا، ثم فَصَّل بعض التفصيل ليكون أوقع في النفس. "قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، ولو كان أخي يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد، ونصدّق به، ولكن أخي" جيفر "أضنّ" بمعجمة وشد النون: أبخل "بملكه من أن يدعه، ويصير ذَنَبًا" بفتح المعجمة، والنون وموحدة، أي: طرفًا وتابعًا بعد أن كان رأسًا ومتبوعًا. "قلت: إن أسلم ملَّكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه, يأخذ الصدقات من غنيهم، ويردّها على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 على فقرائهم. قال: إن هذا لخلق حسن. وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو، يؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ قلت: نعم. قال: والله ما أرى قومي في بعد دراهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال: فمكثت ببابه أيامًا وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يومًا فدخلت عليه, فأخذ أعوانه بضبعي فقال: دعوه، فأرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس, فنظرت إليه فقال: تكلّم بحاجتك, فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففضَّ ختمه وقرأه حتى انتهى إلى آخره, ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلّا أني رأيت أخاه أرقّ منه، فقال: ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟   فقرائهم". قال: "إن هذا خلق حسن"، لما فيه من مواساة الفقراء, "وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصدقات في الأموال, حتى انتهيت إلى الإبل، فقال: يا عمرو, يؤخذ من سوائم" جمع سائمة، وهي الراعية "مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه؟ قلت: نعم، قال: والله ما أرى" بضم الهمزة: أظن "قومي في"، أي مع "بعد دراهم" عنه -صلى الله عليه وسلم، فيأمنون مجيء خيله إليهم لذلك، "وكثرة عددهم"، فبتقدير مجيئه إليهم لا يخافون منه لكثرتهم, "يطيعون" ضمنه معنى يقرون، فعدَّاه بالباء، فقال "بهذا" الذي ذكرته. "قال: فمكثت ببابه أيامه، وهو يصل إلى أخيه، فيخبره كل خبري, ثم إنه دعاني يومًا" لأدخل معه على أخيه، "فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي" بفتح المعجمة، وإسكان الموحدة ومهملة, تثنية ضبع, حذفت نونه للإضافة لياء المتكلم، وهو العضد، أو وسطه، أو ما بين الإبط إلى نصف العضد، والجمع أضباع, مثل: فرخ وأفراخ -كما في النور. "فقال: دعوه فأرسلت" بضم الهمزة، والتاء مبني للمفعول، "فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني" بفتح الدال: يتركوني "أجلس" على عادة ملوك العجم, في أن نحو رسول شخص ولو ملكًا لا يجلس عند الملك، "فنظرت إليه، فقال: تكلّم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففضَّ ختمه، وقرأه حتى انتهى إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه عبد، "فقره مثل قراءته"، فاستوفاه إلى آخره. "إلّا أني رأيت أخاه" عبدًا "أرقَّ منه، فقال" جيفر: "ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 فقلت: تبعوه إما راغب في الدين وإما مقهور بالسيف، قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره, وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا في ضلال. فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة، وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل، فأسلم تسلم، ويستعمك على قومك، ولا تدخل عليكم الخيل والرجال. قال: دعني يومي هذا وارجع إلي غدًا. فرجعت إلى أخيه، فقال: يا عمرو, إني لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه, فإذا أنا أضعف العرب إن ملَّكت رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا، وإن بلغت خيله ههنا ألفت   فقلت: تبعوه إمَّا" بكسر الهمزة، وشد الميم "راغب في الدين"، فدخل فيه طوعًا، "وإمَّا مقهور يالسيف"، فدخل كرهًا إلى أن هداه الله وحسن إسلامه، كالمؤلَّفة، "قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة" بفتح الحاء المهملة، والراء، ثم جيم، ثم تاء تأنيث، كذا في النسخ، فإن صحَّ، فهي شجر ملتف -كذا في النور، والمراد: التجوز, "وإن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل" زاد في رواية، كما في العيون: ويبيد خضراءك، أي: جماعتك -بفتح الخاء وإسكان الضاد المعجمتين والمد، "فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك"، فتبق على ملكك مع الإسلام، "ولا تدخل عليكم الخيل والرجال"، وفي هذا مع سعادة الدارين راحة من القتال، وفيه قوة نفس عمرو -رضي الله عنه، وشدة شكيمته, خاطبه بهذا الخطاب، وأنذره بالحرب والهلاك في محل ملكه بحضرة أعوانه، مع أنه واقف بين يديه لم يتمكّن من الجلوس، ومع ذلك حمى الله رسول نبيه ببركته -صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذه ولا بكلمة، بل خاطبه باللين؛ حيث "قال: دعني يومي هذا، وارجع إلي غدًا, فرجعت إلى أخيه، فقل: يا عمرو, إني لأرجو أن يسلم" أخي "إن لم يضنّ" بفتح المعجمة وكسرها: يبخل "بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملّكت رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ههنا" لبعد الدار، "وإن بلغت خيله ههنا ألفت" بالفاء: وجدت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 قتالًا ليس كقتال من لاقى. قلت: وأنا خارج غدًا، فلمَّا أيقن بمخرجي خلا به أخوه, فأصبح فأرسل إليّ, فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي -صلى الله عليه وسلم، وخلَّيَا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني. وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب اليمامة هوذة بن علي، وأرسل به مع سليط بن عمرو العامري:   "قتالًا ليس كقتال من لاقى". قال عمرو: "قلت: وأنا خارج غدًا، فلمَّا أيقن بمخرجي خلا به أخوه"، فقال: ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه أجابه، كما في الرواية، "فأصبح، فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي -صلى الله عليه وسلم، وخلَّيَا بيني وبين الصدقة, وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني"، فلم يزل عمرو بعمان عندهم حتى مات النبي -صلى الله عليه وسلم، كما في بقية الرواية عند ابن سعد، ولعلَّ إقامته كانت بأمر المصطفى حين بعثه، أو إشارة فهم منها ذلك، أو باجتهاده حتى يجمع الصدقة, وروى عبدان بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبَّاد ابني الجلندي أميري عمان، فأسلما وأسلم معهما بشر كثير، ووضع الجزية على من لم يسلم، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى صاحب اليمامة" بلاد بالبادية. قال الجوهري: كان اسمها الجو، فسميت باسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، لكثرة ما أضيف إليها، وقيل: جوّ اليمامة, زاد المجد، وهي أكثر نخيلًا من سائر الحجاز، وهي دون المدينة في وسط الشرق عن مكة, على ست عشرة مرحلة من البصرة، وعن الكوفة نحوها "هوذة بن علي" الحنفي -بفتح الحاء، كما قال البرهان تبعًا للجوهري، وقال الدميري: بضم الهاء، وإسكان الواو، وبالذال المعجمة، كما في الصحاح وغيره, ونقل بعضهم عن القطب إهماهما. قال البرهان: وما أظنّه إلا سبق قلم، "وأرسل به" الباء زائدة لتعدي أرسل بنفسه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ، أو ضُمِّنَ معنى بعث، وهو فيما لا يصل بنفسه كالكتاب يعدَّى بالباء، كما مَرَّ "مع سليط" بفتح السين وكسر اللام ثم تحتية ساكنة ثم طاء مهملتين, "ابن عمرو" بفتح العين, ابن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل -بكسر الحاء، واسكان السين المهملتين, ابن عامر بن لؤي القرشي "العامري"، أسلم قديمًا وهاجر إلى الحبشة في قول ابن إسحاق، وشهد بدرًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك". فلمَّا قدم عليه سليط بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مختومًا، أنزله وحباه واقترأ عليه الكتاب، فردَّ ردًّا دون رد، وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني, فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك   في قول الواقدي، وأبي معشر، واستشهد باليمامة. وفي الصحابة سليط بن عمر، والأنصاري، وسليط بن عمرو بن زيد، فلذا قيّد بالعامري واختاره للإرسال؛ لأنه كان يختلف إلى اليمامة قبل ذلك، "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هوزة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر" وينتهي "إلى منتهى"، فهو متعلق بمحذوف، أو ضُمِّنَ معناه، أي: يظهر منتهيًا إلى "الخف" الإبل، "والحافر" الخيل، والبغال وغيرها، والمراد: إنه يصل إلى أقصى ما يصلان إليه فيؤمنون به. وفي المصباح: انتهى الأمر بلغ النهاية، وهي أقصى ما يمكن أن يبلغه، "فأسلم تسلم، وأجعل" بالجزم معطوف على جواب الأمر "لك" ولاية "ما تحت يديك"، "فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله -صلى الله عيه وسلم- مختومًا، أنزله، وحباه" بفتح المهملة، وموحدة خفيفة، أي: أعطاه، كما في النور، ولا يتكرَّر مع قوله بعد أجازه؛ لأنها عند السفر، وهذا الحباء عند القدوم، فلا حاجة إلى أن قراءته بتحتية ثقيلة أظهر، "واقترأ عليه الكتاب"، أي: قرأ، وبه عبَّر اليعمري، وهو لغة، ففي القاموس: قرأه، وبه: كنصره، ومنعه، كاقترأه: تلاه، قال السهيلي: وقال سليط: يا هوذة, إنَّك سوَّدتك أعظم حائلة، أي بالية، وأرواح في النار، وإنما السيد من متع بالإيمان، ثم زود بالتقوى, إن قومًا سعدوا برأيك فلا تشقين به، وإني آمرك بخير مأمور به، وأنهاك عن شر منهي عنه، آمرك بعبادة الله، وأنهاك عن عبادة الشيطان، فإن في عبادة الله الجنة, وفي عبادة الشيطان النار، فإن قبلت نلت ما رجوت، وأمنت ما خفت، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء، وهو المطلع، فقال هوزة: يا سليط, سودني من لو سودك شرفت به، وقد كان لي رأي أختبر به الأمور، ففقدته، فموضعه من قلبي هواء، فاجعل لي فسحة يرجع إلى رأي، فأجيبك به إن شاء الله، "فردَّ ردًّا" فيه لطف "دون رد" بعنف، كما وقع لغيره من الجبارين، "وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله"، زاد في الرواية: وأنا شاعر قومي، وخطيبهم، "والعرب تهاب مكاني" تجلّه وتعظمه لشدة بأسي، "فاجعل لي بعض الأمر أتبعك"، كأنه أراد شركته في النبوة، أو الخلافة بعده، كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 وأجاز سليطًا بجائزة, وكساه أثوابًا من نسج هجر. فقدم بذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، وقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابه وقال: "لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت. باد، وباد ما في يديه". فلما انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتح جاءه جبريل -عليه الصلاة والسلام- بأن هوذة مات، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما إن اليمامة سيظهر بها كذاب يتنبأ، يقتل بعدي" فكان كذلك.   سأله ابن الطفيل فيها، ولم يرض بكونه تحت ولايته التي ذكرها في قوله: "وأجعل لك ما تحت يديك"، "وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر" بفتحتين, بلد باليمن مذكَّر مصروف، وقد يؤنَّث ويمنع، واسم لجميع أرض البحرين، كما في القاموس، وهو المراد هنا، لا التي بقرب المدينة، "فقدم بذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخبره" بخبره، "وقرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- كتابه، وقال: "لو سألني سيابة" بفتح المهملة وخفة التحتية فألف فموحدة مفتوحة، فتاء تأنيث- أي: ناحية، أي: قطعة، "من الأرض ما فعلت" هكذا فسَّره ابن حديدة، وأما البرهان ففسره بالبلح، أو البسر تبعًا للقاموس، وهو أبلغ، لكن بتقدير مضاف، أي: فدر بلحة، أو بسرة من الأرض أو المراد نفسه: البلحة، أو البسرة بتقدير ناشئة. "باد" بموحدة، فألف، فمهملة: هلك، "وباد ما في يديه"، أي: هلك، بمعنى ذهب عنه وتفرَّق، وهو خبر أو دعاء، "فلمَّا انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتح جاءه جبريل -عليه الصلاة والسلام"، فأخبره "بأن هوذة" قد "مات" على كفره؛ لأنه لم يجب إلّا بشرط لم يعطه، ولفظًا: فأخبره، وقد ثبت في الرواية، فكأنهما سقطا من قلم المصنف، أو تعمد حذفهما لفهم المعنى، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما أن اليمامة سيظهر بها كذَّاب يتنبأ, يقتل بعدي"، فكان كذلك"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحي يوحى، فظهر بها مسيلمة -لعنه الله- وقتل. وفي الرواية: فقال قائل: يا رسول الله, من يقتله، فقال: أنت وأصحابك، قال البرهان، لا أعرف هذا القائل بعينه، والظاهر أنه من الذين اشتركوا في قتله، أو خالد بن الوليد. وذكر الواقدي أن أركون دمشق -عظيم من عظماء النصارى، كان عند هوذة، فسأله عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام، فلم أجبه، قال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بديني وأنا ملك قومي، ولئن تبعته لن أملك، قال: بلى, والله لئن اتبعته ليملِّكَنَّك، وإن الخير لك في اتباعه، وإنه للنبي العربي الذي بشَّر به عيسى ابن مريم، وأنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأركون -بفتح الهمزة، والراء، وضم الكاف- الرومي، قال في الإصابة: أدرك الجاهلية، وأسلم على يدي خالد في عهد أبي بكر، ذكره ابن عساكر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان بدمشق، بغوطتها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله, إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدّق، فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقى لك ملكك". وأرسله مع شجاع بن وهب.   ترجمة حفيده إبراهيم بن محمد بن صالح بن سنان بن يحيى بن أركون, انتهى. فقول البرهان: لا أعلم له ترجمة، والظاهر هلاكه على كفره, فيه قصور ومنع، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث ابن أبي شمر" بكسر الشين المعجمة، وإسكان الميم، وبالراء "الغساني" هلك عام الفتح، قال في النور: الظاهر على كفره، "وكان" أميرًا "بدمشق" من جهة قيصر "بغوطتها"، بدل من دمشق -بضم الغين المعجمة، وسكون الواو، وطاء مهملة، وتاء تأنيث. قال الجوهري: موضع بالشام كثير الماء والشجر، وهي غوطة دمشق. وفي القاموس: الغوطة -بالضم- مدينة دمشق، أو كورتها، لكنه لا يوافق ما ذكر المصنف, "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث ابن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله، وصدق" كذا في نسخ كالعيون، وآمن بواو عطف التفسير، وفي نسخة بالفاء عطف مفصَّل على مجمل "على من اتبع الهدى فآمن وصدق" بصيغة الماضي، "فإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له"، فإنك إذا فعلت ذلك "يبقى لك ملكك"، فختم الكاتب، "وأرسله مع شجاع بن وهب" بن ربيعة بن أسد بن صهيب بن مالك بن كثير بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي من السابقين الأولين، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرًا والمشاهد كلها، واستشهد باليمامة، وكونه الذي أرسله بالكتاب للحارث, ذكره الواقدي، وابن إسحاق وابن حزم. وقال ابن هشام: إنما توجه لجبلة بن الأيهم، وقال أبو عمر: لهما معًا، وقيل: لهرقل مع دحية، ولم يتمم المصنف القصة، وعند الواقدي وابن عائذ، قال شجاع: فانتهيت، فوجدته مشغولًا بتهيئة الضيافة لقيصر، وهو جاءٍ من حمص إلى إيلياء؛ حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرًا لله تعالى، فأقمن على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليه، فقال حاجبه: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه -وكان روميًّا اسمه مرى -بكسر الميم مخففًا- كما في الإصابة يسألني عنه -صلى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فكنت أحدثه، فيرقّ حتى يغلبه البكاء، فيقول: إني قرأت في الإنجيل، وأجد صفة هذا النبي بعينه، وكنت أظنّه يخرج بالشام، فأراه خرج بأرض القرظ، فأنا أومن به وأصدقه، وأنا أخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني. قال شجاع: وكان يكرمني، ويحسن ضيافتي، ويخبرني باليأس من الحارث، ويقول: هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وقال صاحب "باعث النفوس": روي عن أبي هند الداري قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الداري، وأخوه نعيم، ويزيد بن قيس،   يخاف قيصر، قال: فخرج الحارث يومًا، فوضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه الكتاب، فقرأه ثم رمى به، وقال: من ينتزع مني ملكي, أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته, عليّ بالناس، فلم يزل جالسًا حتى الليل، وأمر بالخيل أن تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية، وقد بعثه -صلى الله عليه وسلم- إليه، فلمّا قرأ قيصر كتاب الحارث، كتب إليه أن: لا تسر إليه، واله عنه، ووافني بإيلياء، قال: ورجع الكتاب وأنا مقيم فدعاني، وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك، قلت: غدًا، فأمر لي بمائة، ووصلني مرى بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، وأخبره بأني متتبع دينه، فقدمت فأخبرته -صلى الله عليه وسلم، فقال: بادٍ ملكه، واقرأته من مرى السلام، وأخبرته بما قال, فقال -صلى الله عليه وسلم: صدق، انتهى. "وقال صاحب باعث النفوس" إلى زيارة القدس المحروس، وهو ركن الشام، شيخ الإسلام، برهان الدين إبراهيم الفزاري، وذكر المصنف هذه القصة هنا، وإن كان ذكرها في الوفود أنسب، كما فعل غيره دفعًا لتوهُّ أنه لا يقطع أحدًا من الأرض شيئًا من قوله في قصة هوذة: "لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت"، فكأنه قال: فمن سأله شيئًا من النبوة ونحوها منعه, ومن الملك أو الأرض أعطاه لقصة الدرايين، ولذا كان الأَوْلَى ذكرها قبل الكتاب إلى الحارث، كما هو في بعض النسخ، وفي كثير منها إسقاطها. "روي" عند أبي نعيم من طريق سعيد بن زياد -بفتح الزاء المنقوطة، وشد التحتانية ابن فائد بالفاء ابن زياد، بضبط حفيده ابن أبي هند عن آبائه إلى أبي هند وفائد، وابنه ضعيفان، ولذا مرضه يروى "عن أبي هند الداري" من بني الدار بن هانئ بن حبيب، مشهور بكنيته، واختلف في اسمه، فقيل: بر بن عبد الله، ويقال: بر بن عبد الله، وقال ابن حبان: الصحيح أن اسمه بر بن برو، وقيل: برير، وقيل: ابن برسن، قال أبو عمر: كان يقال: إنه أخو تميم لأمه وابن عمه, يعد في أهل الشام، ومخرج حديثه عن ولده، كما في الإصابة، "قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم" سنة تسع, وقت انصرافه من تبوك، "ونحن ستة نفر: تميم بن أوس الداري" مشهور في الصحابة كان نصرانيًّا، فقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- خبر الجساسة والدجال، فحدَّث -صلى الله عليه وسلم- عنه بذلك على المنبر، فعدَّ من مناقبه، وهو أوّل من أسرج السراج في المسجد, رواه الطبراني، وأوّل من قصَّ, وذلك في عهد عمر، رواه ابن رواهويه. وكان كثير التهجد، "وأخوه نعيم" بن أوس، قال أبو عمر: يقال: وفد مع أخيه، "ويزيد بن قيس" بن خارجة الداري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 وأبو عبد الله بن عبد الله -وهو صاحب الحديث, وأخوه الطيب بن عبد الله, فسمَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان، فأسلمنا, وسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعنا أرضًا من أرض الشام، فقال: سلوا حيث شئتم. قال أبو هند: فنهضنا من عنده -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع نتشاور فيه: أين نسأل. فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورتها، فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون في ملك العرب، وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا. قال تميم: نسأله بيت جيرون، فقال أبو هند: أكبر وأكبر، فقال تميم: فأين ترى أن   ذكره ابن إسحاق فيمن أوصى له -صلى الله عليه وسلم- بمائة وسق من تمر خيبر، "وأبو عبد الله" الذي في رواية أبي نعيم المذكورة، وأبو هند "بن عبد الله، وهو صاحب الحديث"، أي: راوية، وعلى فرض صحة نقل المصنف، فيكون له كنيتان، ولم يذكر ذلك في الإصابة، "وأخوه الطيب بن عبد الله" الداري، ويقال: ابن بر، ويقال: ابن البراء أخو أبي هند، كما في الإصابة، "فسمَّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن" كما لأبي نعيم ولابن أبي حاتم، والواقدي، فسماه: عبد الله، ولعلَّ ذلك للتشاؤم بنفي الطيب، أو كراهة إيهام التزكية لو سئل من أنت، فيقول الطيب، "وفاكه" بفاء، فألف، فكاف مكسورة، فهاء أصلية "ابن النعمان" بن جبلة -بجيم، فموحدة، فلام مفتوحات- الداري, ممن أوصى له النبي -صلى الله عليه وسلم، وسماه أبو نعيم في روايته رفاعة بن النعمان، وكذا الواقدي من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: قدم وفد الداريين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منصرفه من تبوك، وهم عشرة: هانئ بن حبيب وعروة بن مالك بن شداد، وقيس بن مالك، وأخوه مرة، وذكر الستة باقي العشرة، قال: فسمى الطيب عبد الله، وسمى عروة عبد الرحمن, وذكر الرشاطي أن هانئًا أهدى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء مخوصًا بالذهب، فأعطاه العباس، فباعه من يهودي بثمانية آلاف، "فأسلمنا، وسألنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقطعنا أرضًا من أرض الشام، فقال: "سلوا" أرضا "حيث"، أي: في أي مكان "شئتم" أقطعها لكم، "قال أبو هند: فنهضنا" قمنا "من عنده -صلى الله عليه وسلم"، وذهبنا "إلى موضع نتشاور فيه أين نسأل، فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورتها" بضمّ الكاف: ناحيتها، "فقال أبو هند: رأيت ملك العجم اليوم، أليس هو بيت المقدس، قال تميم: نعم، فقال أبو هند: فكذلك يكون فيه ملك العرب, وأخاف أن لا يتمّ لنا هذا"، فيفوت مرادنا، "قال تميم: نسأله بيت جيرون" بفتح الجيم، وإسكان التحتية موضع بدمشق، أو بابهها الذي بقرب الجامع عن المطرزي، أو منسوب إلى الملك جيرون؛ لأنه كان حصنًا له، وباب الحصن باقٍ هائل، قاله في القاموس، "فقال أبو هند: أكبر وأكبر" من بيت المقدس؛ لأنه محل الملك، "فقال تميم: فأين ترى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 نسأله؟ قال: أرى أن نسأله القرى التي نصنع فيها حصونًا مع ما فيها من آثار إبراهيم -عليه السلام، فقال تميم: أصبت ووافقت. قال: فنهضنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا تميم, أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه، أو أخبركم"؟ فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله فنزداد إيمانًا، فقال -عليه الصلاة والسلام: "أردت يا تميم أمرًا، وأراد أبو هند غيره، ونعم الرأي رأي أبي هند"، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطعة من أدم، وكتب فيها كتابًا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للداريين إذا أعطاه الله الأرض، وهب لهم بيت عينون وحبرون والمرطوم   نسأله، قال: أرى أن نسأله القرى التي نصنع فيها حصونًا مع ما فيها من آثار إبراهيم -عليه السلام، فقال تميم: أصبت"، فيما رأيت، "ووافقت" ما نطلبه، وفي نسخة وفقت، أي: في رأيك، "قال: فنهضنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا تميم, أتحب أن تخبرني بما كنتم فيه" تتشاورون، "أو أخبركم"، فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله، فنزداد إيمانًا" فيه، إن الإيمان يزيد وينقص، وهو قول الجمهور، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "أردت يا تميم أمرًا، وأراد أبو هند غيره, ونعم الرأي رأي أبي هند"، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطعة من أدم" جلد، "وكتب فيها كتابًا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، يحتمل أن الصلاة من جملة الكتاب، أو من الراوي, "للداريين" بدال مهملة، فألف، فراء، فتحتيتين، فنون, نسبة للدار بن هانئ جدّهم، "إذا أعطاه الله الأرض" عبَّرَ بإذا؛ لأنه متحقق لذلك بوعد الله, "وهب لهم بيت عينون" بفتح المهملة، فتحتية ساكنة، فنونين بينهما واو، "وحبرون" بفتح الحاء المهملة، بوزن زيتون، كما في القاموس وغيره، ويقال فيه أيضًا: حبرى -بكسر أوله، وإسكان ثانيه وفتح الراء على وزن، فِعلى, كما في معجم الكبرى، وقال غيره: بفتح الحاء، قال الكبرى: وهما بين وادي القرى والشام, وليس له -صلى الله عليه وسلم- بالشام قطيعة غيرهما، وفي المراصد حبرون اسم القرية التي بها إبراهيم الخليل قرب بيت المقدس, غلب على اسمها الخليل، ويقال حبرى "والمرطوم". "وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد"، عبَّر بميم جمع الذكور العقلاء، فلم يقل من فيها تنزيلًا لها منزلة العقلاء تجوزًا، ثم هذا من خصائصه -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ملَّكه الأرض كلها، وأفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم فيما أقطعهم، وقال: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقطع أرض الجنة, فأرض الدنيا أَوْلَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 وبيت إبراهيم ومن فيهم إلى أبد الأبد" شهد عباس بن عبد المطلب وخزيمة بن قيس، وشرحبيل بن حسنه وكتب. قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله, فعالج في زواية الرقعة بشيء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويًا وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] ثم قال: انصرفوا حتى تسمعوا أني هاجرت. قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابًا آخر، فكتب لنا كتابًا نسخته. "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عين وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم برمتهم, وجميع ما فيهم نطية بت ونفذت, وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد   ذكر المصنف في الخصائص تبعًا لغيره "شهد عباس بن عبد المطلب" أبو الفضل الهاشمي، "وخزيمة ابن قيس" "وشرحيل" بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة "ابن حسنة" هي أمّه, وأبوه عبد الله بن المطاع الكندي، كما تقدَّم كثيرًا، "وكتب" الكتاب شرحبيل، "قال" أبو هند راوي الحديث، "ثم دخل" -صلى الله عليه وسلم- "بالكتاب إلى منزله، فعالج في زاوية الرقعة بشيء لا يعرف، وعقد من خارج الرقعة بسير عقدتين، وخرج به إلينا مطويًا، وهو يقول: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ} أحقهم {ِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} " في زمانه {وَهَذَا النَّبِيُّ} محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لموافقته له في أكثر شرعه {وَالَّذِينَ آمَنُوا} من أمته, فهم الذين ينبغي لهم أن يقولوا نحن على دينه, {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ناصرهم وحافظهم، وحكمة تلاوتها في ذا المقام لا تخفى؛ لأنه لما كانت المحلات من آثاره، فلا أولى بها من هذا النبي والذين آمنوا, فإذا خص النبي بها بعضهم كانت له، "ثم قال: "انصرفوا حتى تسمعوا أني هاجرت" أي: رجعت إلى المدينة, سماه هجرة مجازًا؛ لأنَّ قدومهم كان عند انصرافه من تبوك، كما مَرَّ فائتوني، "قال أبو هند: فانصرفنا، فلمَّا هاجر -صلى الله عليه وسلم" رجع "إلى المدينة قدمنا عليه، وسألناه أن يجدد لنا كتابًا آخر، فكتب لنا كتابا نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى" بالنون، أي أعطى، وقرأ: "إنا أنطيناك الكوثر" بالنون، "محمد رسول الله, لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عين" اسم للقرية المسمَّاة عينون، كما قال النجم: فهما اسمان لمحل واحد، "وحبرون، والمرطوم، وبيت إبراهيم برمتهم، وجميع ما فيهم نطية" عطية "بت ونفذت" النطية "وسلمت" أنا "ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله" شهد أبو بكر بن أبي قحافة, وعمر بن الخطاب, وعثمان بن عفان, وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب علي. فلما قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستُخْلِفَ أبو بكر وجنَّد الجنود إلى الشام, كتب كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم, من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو, أما بعد: فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين، وإن كان أهلها قد جعلوا عنها وأراد الداريون يزرعونها فليزرعونها بلا خراج, وإذا رجع إليها أهلها فهي لهم وأحق بهم, والسلام عليك. نقل من كتاب إسعاف الأخصا بتفضيل المسجد الأقصى. وكتب -صلى الله عليه وسلم- ليوحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة لما أتاه بتبوك، وصالح   الأبد، فمن آذاهم فيه آذاه الله"، لمخالفته أمر رسوله، "شهد أبو بكر بن أبي قحافة" عبد الله بن عثمان، " وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب علي"، وفي رواية: معاوية, وأخرى غيرهما، "فلمَّا قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، وجنَّد الجنود إلى الشام, كتب كتابًا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة" عامر "بن الجراح، سلام عليك, فإني أحمد الله إليك"، أنهي إليك حمد الله "الذي لا إله إلا هو، أمَّا بعد، فامنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين"، أضافها إليهم؛ لأنها بمجرد الفتح صارت ملكًا لهم بعطيته -صلى الله عليه وسلم، "وإن كان أهلها قد جعلوا"، أخرجوا "عنها، وأراد الداريون يزرعونها، فليزرعونها بلا خراج، وإذا رجع إليها أهلها، فهي لهم، و" هم بها "أحق، والسلام عليك, نقل من كتاب إسعاف الأخصا بتفضيل المسجد الأقصى" مؤلفه، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- ليوحنَّة" بضم التحتية، وفتح المهملة، وفتح النون الثقيلة، ثم تاء تأنيث، ويقال فيه: يوحنَّا، وهو كذلك في نسخة، "ابن رؤبة" بضم الراء، فهمزة ساكنة فموحدة- النصراني. قال البرهان: لا أعرف له ترجمة، والظاهر هلاكه على دينه, "صاحب أيلة" بفتح الهمزة، وإسكان التحتية: مدينة بالشام على النصف ما بين مصر ومكة, على ساحل البحر من بلاد الشام، قاله أبو عبيدة، ويقال: سميت أيلة باسم بنت مدين بن إبراهيم، وروي أنها القرية التي كانت حاضرة البحر، "لما أتاه بتبوك" حين خاف أن يبعث إليه، كما بعث إلى أكيدر "وصالح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه الجزية. "بسم الله الرحمن الرحيم, هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنَّا بن رؤبة وأهل أيلة: أساقفتهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي, ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يريدونه، ولا طريقًا يريدونه من بر أو بحر". هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل ابن حسنة بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وأهدى إليه بغلة بيضاء، فكساه المصطفى بردًا، كما في الصحيح، "فأعطاه الجزية"، أي: التزمها وانقاد لإعطائها عنه وعن أهل مدينته، وكانوا ثلاثمائة رجل، فوضع -صلى الله عليه وسلم- الجزية ثلاثمائة دينار كل سنة، كما ذكر ابن سعد وغيره، ولفظ الكتاب كما عند ابن إسحاق وغيره: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة" بفتح الهمزة والميم والنون وتاء تأنيث أمان "من الله, ومحمد النبي رسول الله"، وذكر الله تبركًا. والمعنى: أمان لكم من رسول الله بوحي من الله "ليوحنَّا بن رؤبة وأهل أيلة: أساقفتهم" بالجر بدل "وسائرهم"، أي: باقيهم؛ إذ الأساقفة بعض منهم، لكن لفظ ابن إسحاق، وتبعه اليعمري: "سفنهم وسيارتهم"، أي: قافلتهم "في البر والبحر"، يعني: إن الأمان عام لهم في جميع الأماكن التي يكونون بها، "لهم ذمَّة الله" أمانه، "وذمَّة النبي" لفظ ابن إسحاق أيضًا: ومحمد النبي "ومن كان معه" عطف على يوحنّا، أي: أمنه له ولمن كان معه "من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر". وحاصله أن في أيلة أهلها الأصليين، وجماعة من هذه البلاد توطنوها، فعمَّ الجميع بالأمنة، "فمن أحدث" جدَّد "منهم حدثًا" أمر لم يكن في شريعتنا، "فإنه" انتقض عهده، فلذا "لا يحول ماله دون نفسه"، بل يحلّ ماله ونفسه جميعًا بدليل قوله: "وإنه طيب" حلال "لمن أخذه من الناس" لنقض العهد، فصار حربيًّا، "وإنه"، أي الشأن "لا يحلّ أن يمنعوا" بالبناء للمفعول، ونائبه الضمير العائد لأهل أيلة ومن معهم "ماء" بالنصب والتنوين مفعول ثان "يريدون, ولا طريقًا يريدونه" يقصدونه فيهما، لكن لفظ ابن إسحاق وتابعه: يردونه فيهما من الورود, "من بر أو بحر"، زاد الواقدي كابن إسحاق في رواية غير زياد, تعيين اسم الكاتب، فقال: "هذا كتاب جهيم" بضم الجيم مصغر "ابن الصلت" بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف المطلبي. قال ابن سعد: أسلم عام خيبر, وأطعمه -صلى الله عليه وسلم- منها ثلاثين وسقًا، "وشرحبيل" بضم المعجمة، وفتح الراء، وسكون المهملة، وكسر الموحدة, غير مصروف للعجمة والعلمية "ابن حسنة بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لهما في كتابة -كل, بعض- الكتاب، ولعلَّ حكمته أن تعدد الكاتب بمنزلة تعدد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 وكتب -صلى الله عليه وسلم- لأهل جربا وأذرح لما أتوه بتبوك أيضًا وأعطوه الجزية: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لأهل أذرح وجربا أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد. وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة،   الشاهد، أو أنَّ كلًّا كتب نسخة، أو كتبه أحدهما بحضور الآخر، فنسب إليهما، ثم هذا الكتاب بهذا اللفظ أورده ابن إسحاق، وتابعه اليعمري في غزوة تبوك -كما علم، وكذا ذكره ابن سعد عن الواقدي، وذكره ابن سعد أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى يوحنَّة بن رؤبة، وسروات أهل أيلة سلم أنتم: "فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب إليكم، فأسلم، أو أعط الجزية، وأطع الله ورسوله ورسل رسوله، وأكرمهم، وأكسهم كسوة حسنة، فمهما رضيت رسلي، فإني قد رضيت، وقد علم الجزية، فإن أردتم أن يأمن البحر والبر، فأطع الله ورسوله، ويمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم إلا حق الله وحق رسوله، وإنك إن رددتم ولم ترضهم لا آخذ منك شيئًا حتى أقاتلكم، فأسبي الصغير، وأقتل الكبير، وإني رسول الله بالحق، أؤمن بالله وكتبه ورسله، والمسيح ابن مريم أنه كلمة الله، وإني أؤمن به أنه رسول الله، وائت قبل أن يمسَّكم الشر, فإني قد أوصيت رسلي بكم، وأعط حرملة ثلاثة أوسق من شعير، وإن حرملة شفع لكم، وإني لولا الله وذلك لم أراسلكم شيئًا حتى ترى الجيش، وإنكم إن أطعتم رسلي، فإن الله لكم جار ومحمد ومن كان معه، ورسلي شرحبيل وأبو حرملة وحريث بن زيد الطائي، فإنهم مهما فاوضوك عليه فقد رضيته، وإن لكم ذمة الله وذمة محمد رسول الله، والسلام عليكم إن أطعتم"، ولعل هذا الكتاب، كما ترى أرسل ليوحنة قبل إتيانه إليه، فلم يقنع بضرب الرسل الجزية حتى أتى هو للمصطفى، وأهدى له وصالحه، فكتب له الكتاب المذكور أولًا فلا منافاة بينهما. وروى البخاري عن أبي حميد الساعدي: قدم ملك أيلة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأهدى إليه بغلة بيضاء، فكساه -صلى الله عليه وسلم- بردًا وكتب له بجرهم، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- لأهل جربا" بالجيم، قال في المطالع: مقصورة, من بلد الشام، وجاءت في البخاري ممدودة اهـ، وكذا ذكرها القاموس ممدودة، "وأذرح" بفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء وحاء مهملة, بلد بالشام، قيل: هي فلسطين, بينها وبين جربا ثلاثة أميال -بميم, وغلط من قال: أيام "لما أتوه بتبوك أيضًا وأعطوه الجزية". قال الواقدي: أتوه مع صاحب أيلة بجزيتهم، فأخذها فكأنَّهم عجلوها، فلا يقدر هنا، أي: التزموها، وصورته كما ذكر الواقدي "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي رسول الله"، وفي لفظ: "هذا كتاب محمد النبي لأهل أذرح وجربا؛ أنهم آمنون بأمان الله وأمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين في المخافة والتعزيز". وعن حسين بن عبد الله بن ضميرة, عن أبيه, عن جده ضميرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بأمّ ضميرة وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك؟ أجائعة أم عارية أنت"؟ فقالت: يا رسول الله, فرق بيني وبين ابني, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يفرَّق بين الوالدة وولدها"، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة فدعاه, فابتاعه من ببكر, قال ابن أبي ذؤيب: ثم أقرأني كتابًا عنده: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته، أن   محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة" لا يؤخذ منه، إن رجال البلدين مائة بالقياس على رجال أيلة؛ لأن هذه جزية صلحية، وللصلحي ما شرط، وأما العنوية فأربعة دنانير على كل رجل كما تقرَّر، "والله كفيل عليهم"، أي: أخذ عليهم العهد، أي: آمرهم "بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين في المخافة والتعزيز" إذا خشوا على المسلمين، فهم آمنون حتى يحدث إليهم حمد -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من قتلٍ أو خروج. هذا بقية الكتاب عند الواقدي، كما ذكره الشامي في تبوك. "و" روى البخاري في تاريخه، والحسن ابن سفيان، وابن منده من طريق ابن أبي ذئب، "عن حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن جده ضميرة" بالتصغير, ابن أبي ضميرة الضميري الليثي، قاله ابن حبَّان، وقيل: إنه ضمير بن سعد الحميري "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ بأمِّ ضميرة" صحابية ذكرها في الإصابة في الكُنَى ولم يسمّها، "وهي تبكى، فقال: "ما يبكيك؟ أجائعة أنت أم عارية أنت" فأطعمك وأكسوك, "فقالت: يا رسول الله, فرق بيني وبين ابني"، وكانوا أهل بيت من العرب مما أفاء الله على رسوله، كما رواه ابن منده في القصة، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يفرَّق بين الوالدة وولدها، ثم أرسل إلى الذي عنده ضميرة، فدعاه فابتاعه" اشتراه "منه ببكر"، وأعطاه لأمّه، "قال ابن أبي ذؤيب" محمد بن عبد الله بن المغيرة القرشي، العامري، الثقة، الفقيه، الحافظ، أحد الأعلام, راوي هذا الحديث: زعم ابن صاعد أنه تفرَّد به عن حسين، وردَّ بأن ابن منده ذكر أن زيد بن الحباب تابعه, فرواه عن حسين، وكذا رواه إسماعيل بن أبي أويس: أخبرني حسين، "ثم أقرأني" حسين "كتابًا عنده" صورته "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة" الحميري، الصحابي، قيل: اسمه سعد، وقيل: روَّج ذكره البغوي، وابن منده، وابن سعد في الكنى، ووصفوه بأنه مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال مصعب: وكان له دار بالعقيق، وقال ابن الكلبي: هو غير أبي ضميرة مولى عليّ، كما في الإصابة, "وأهل بيته أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 رسول الله أعتقهم, وأنهم أهل بيتهم من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله, وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم, فلا يعرض لهم إلّا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرًا". وكتب أُبَيّ بن كعب. وكتب -صلى الله عليه وسلم- كتابًا إلى أهل وج، سيأتي في وفد ثقيف في الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى. وكذا كتابه -عليه الصلاة والسلام- إلى مسيلمة الكذاب في وفد بني حنيفة. وكتب -صلى الله عليه وسلم- لأكيدر ولأهل دومة الجندل لما صالحه:   رسول الله أعتقهم، وأنهم أهل بيت من العرب" مما أفاء الله على رسوله "إن أحبوا أقاموا عند رسول الله" صلى الله عليه وسلم، "وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم, فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرًا"، وكتب" الكتاب "أُبَيّ بن كعب"، وفي رواية: فاختار أبو ضمرة الله ورسوله، ودخل في الإسلام، وقال ابن سعيد والبلاذري: وفد حسين بن عبد الله بن ضميرة على المهدي بهذا الكتاب، فوضعه على عينيه، وأعطاه ثلاثمائة دينار، وكان خرج في سفر ومعه قومه، ومعهم هذا الكتاب، فعرض لهم اللصوص، فأخذوا ما معهم، فأخرجوا الكتاب وأعلموهم بما فيه، فقرأوه عليهم، فردوا عليهم ما أخذوا منهم ولم يعترضوا لهم، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- كتابًا إلى أهل وج" بفتح الواو وشد الجيم- وادٍ بالطائف "سيأتي في وفد ثقيف في الفصل العاشر من هذا المقصد إن شاء الله تعالى، وكذا" يأتي "كتابه -عليه الصلاة والسلام- إلى مسيلمة الكذاب في وفد بني حنيفة"، فأخرهما؛ لأنهما مرتَّان على الوفود بخلاف ما هنا، فإنه كتب لمن لم يفد, ولا يرد أن منهم من قدم عليه أيضًا؛ لأن القدوم والوفد إنما هما لمن قدم مسلمًا، وهؤلاء قدموا لإعطاء الجزية، وأبو ضميرة وأهل بيته كانوا أسرى, فأعتقهم وكتب لهم الكتاب، فهذا موضعه، "وكتب -صلى الله عليه وسلم- إلى أكيدر" بضم الهمزة، وفتح الكاف، وسكون التحتية، وفتح المهملة، وبالراء, لا يصرف للعلمية ووزن الفعل, ابن عبد الملك, النصراني المختلف في إسلامه، والأكثر على أنه قتل كافرًا، كما في الإصابة، "ولأهل دومة" بضم الدال، وفتحها، وسكون الواو فيهما, "الجندل" بفتح الجيم والمهملة، بينهما نون ساكنة, حصن وقرى من طرف الشام "لمن صالحه" حين أرسل إليه، وهو بتبوك, سرية عليها خالد بن الوليد، فأسره وجاء به، فصالحه على الجزية، وخلَّى سبيله. قال أبو السعادات بن الأثير: ومن الناس من يقول أنه أسلم وليس بصحيح، وممن وقع في كلامه ذلك الواقدي، قال في المغازي: حدثني شيخ من دومة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب لأكيدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر ولأهل دومة الجندل، إن لنا الضاحية من الضحل، والبور والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة والسلاح والحافر والحصن، ولكم الضامنة من النخل، والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم النبات، تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين".   هذا الكتاب: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر، ولأهل دومة الجندل" حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام, مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها. هكذا أسقطه المصنِّف من لفظ الكتاب عند الواقدي قبل قوله: " إن لنا الضاحية من الضحل" بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وباللام, "والبور والمعامي" بمهملة فألف فميم، "وأغفال الأرض" بغين معجمة ففاء, "والحلقة" بسكون اللام: الدروع, "والسلاح" بما يمتنع به من العدو، "والحافر" الخيل والبغال ونحوهما، "والحصن، ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور ولا تعدل سارحتكم". قال الواقدي: أي لا تنحى عن الرعي، وقال في الروض: أي: لا تحشر إلى المصدق، "ولا تعد فاردتكم" بالفاء، وهي ما لا تجب فيه الصدقة، "ولا يحظر" بالظاء المعجمة "عليكم النبات". قال السهيلي": أي: لا تمنعون من الرعي حيث شئتم، قال ابن حديدة: والنبات النخل القديم الذي ضرب عروقه في الأرض ونبت. أهـ. وفي نسخة: "لا تحصر" بصاد مهملة "عليكم البيات" بموحدة وتحتيه، أي: لا يضيق عليكم في البيات بأرض تزروعون بها, "تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك حق الله والميثاق، ولكم به" منا "الصدق والوفاء" على ما عاهدناكم، "شهد الله ومن حضر من المسلمين" بذلك. هكذا ذكر هذا الكتاب الواقدي، ونقله السهيلي في الروض عن أبي عبيد، قال: أتاني به شيخ، فقرأته فإذا فيه، فذكره وهو صريح في إسلامه، وبهذا وبنحوه اغترَّ ابن منده وأبو نعيم فذكراه في الصحابة، وشنَّع عليهما أبو الحسن بن الأثير، فقال: إنما أهدى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وصالحه ولم يسلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السِّيَر، ومن قال أنه أسلم فقد أخطأ خطأً ظاهرًا، بل كان نصرانيًّا، وقتله خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر كافرًا، كما ذكره البلاذري، قال في الإصابة: يظهر أن أكيدر صالح على الجزية، كما قال ابن إسحاق: ويحتمل أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 والضاحي: البارز الظاهر. والضحل: الماء القليل. والبور: الأرض التي تستخرج. والمعامي: أغفال الأرض. والحصن: دومة الجندل. والضامنة: النخل الذي معهم في الحصن. والمعين: الظاهر من الماء الدائم. وباع -صلى الله عليه وسلم- للعداء عبدًا وكتب: "بسم الله   أسلم بعد ذلك، كما قال الواقدي، ثم ارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مَنْ ارتدَّ، كما قال البلاذري, ومات على ذلك، "والضاحي: البارز الظاهر" من الأرض، وفي الروض: الضاحية أطراف الأرض، "والضحل: الماء القليل، والبور: الأرض التي تستخرج"، أي يؤخذ خراجها، والمعامي: أغفال الأرض"، فعطفه عليه, قوله: وأغفال الأرض تفسيريّ، لكن في الروض: المعامي مجهولها، أي: الأرض وأغفال الأرض ما لا أثر لهم فيه من عمارة، أو نحوها، وهو يقتضي تغايرهما, إلّا أن يقال أنه بحسب المفهوم, وما صدقهما واحد بأن يراد المجهول ما لا أثر فيه. وفي القاموس: الأعماء الجهال جمع أعمى، وأغفال الأرض التي لا عمارة بها كالمعامي، "والحصن دومة الجندل"، يقال: عرفت بدومة ابن إسماعيل, كان نزلها، "والضامنة" بضاد معجمة "النخل الذي معهم في الحصن, والمعين الظاهر من الماء الدائم"، قال في الروض: قال أبو عبيد: وإنما أخذ منهم بعض هذين الأرضين مع الحلقة والسلاح، ولم يفعل ذلك مع أهل الطائف حين جاءوا تائبين؛ لأن هؤلاء ظهر عليهم وأخذ ملكهم أسيرًا، ولكنه أبقى لهم من أموالهم ما تضمنه الكتاب؛ لأنه لم يقاتلهم حتى يأخذهم عنوة، كما أخذ خيبر، فلو كان الأمر كذلك لكانت أموالهم كلها للمسلمين، وكان لهم الخيار في رقابهم، كما تقدَّم، ولو جاءوا إليه تائبين أيضًا قبل الخروج إليهم, كما فعلت ثقيف, ما أخذ من أموالهم شئًا. أهـ، "وباع -صلى الله عليه وسلم- للعداء". قال في التقريب: بفتح المهملة والتشديد وآخره همزة، وقال في الإصابة: العداء بوزن العطاء, ابن خالد بن هوذة بن خالد بن عمرو بن عامر بن صعصعة العامري، أسلم بعد حنين مع أبيه وأخيه حرملة، وذكره ابن الكلبي هو ووالده في المؤلفة, وعَمَّر، فإن أحمد ذكر أنه عاش إلى زمن خروج يزيد بن المهلب، وكان ذلك سنة إحدى، أو اثنتين ومائة. أ. هـ "عبدً، وكتب: "بسم الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى عبدًا أو أمة -شك الراوي- لا داء ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم". رواه أبو داود والدارقطني. والغائلة: الإباق والسرقة والزنا. والخبثة: قال ابن أبي عروبة: بيع غير أهل المسلمين. وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر، وهذا يدل على مشروعية الإشهاد في المعاملات, قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] والأمر هنا ليس للوجوب. فقد باع -عليه الصلاة والسلام- ولم يشهد، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا لوجب مع الرهن خوف المنازعة, والله أعلم.   الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة" بفتح الهاء، وسكون الواو، وذال معجمة، "من محمد رسول الله، اشترى عبدًا أو أمة، -شك الراوي- لا داء" به، "ولا غائلة" فيه، " ولا خبثة" بكسر الخاء المعجمة وسكون الموحدة ومثلثة، "بيع المسلم للمسلم"، رواه أبو داود والدارقطني. "والغائلة" بغين معجمة "الإباق والسرقة والزنا, والخبثة، قال ابن أبي عروبة" سعيد بن مهران اليشكري، مولاهم البصري، الثقة الحافظ، صاحب التصانيف من رجال الجميع, "بيع غير أهل المسلمين". وفي القاموس: الخبثة -بالكسر في الرقيق أن لا يكون طيبة، أي: سبى من قوم لا يحل سبيهم ولا استرقاهم أهـ، وهذا مما شمله تفسير سعيد, "وكان إسلام العداء بعد فتح خيبر"، لعله مكة، ليوافق قول الإصابة بعد حنين، وكان من المؤلفة, أو لفظة فتح مقحمة، والأصل بعد حنين وخيبر تصحيف، "وهذا يدل على مشروعية الإشهاد في المعاملات". "قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، والأمر هنا ليس للوجوب"، كما ال به طائفة، بل للندب عند الجمهور؛ لأنه أدفع للخلاف، "فقد باع -عليه الصلاة والسلام- ولم يشهد"، فدلَّ على أنه للندب، "واشترى و" تسلّف، و"رهن درعه عند يهودي ولم يشهد، ولو كان الإشهاد أمرًا واجبًا" ما تركه، و"لوجب مع الرهن خوف المنازعة، والله أعلم" بالحق، وترك المصنف هنا من الكتب كتابه إلى بني نهد -بالنون، وكتابه بين قريش والأنصار، وكتابه لأهل همدان، وكتابه لقطن بن حارثة، وكتابه لوائل بن حجر؛ لأنه سيذكرها في فصاحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وأما أمراؤه -عليه الصلاة والسلام: فمنهم: باذان بن ساسان من ولد بهرام، أمَّره -صلى الله عليه وسلم- على اليمن، وهو أوّل أمير في الإسلام على اليمن، وأوّل من أسلم من ملوك العجم. وأمَّر -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء خالد بن سعيد. وولَّى زياد بن لبيد الأنصاري حضرموت   لسانه -صلى الله عليه وسلم- من المقصد الثالث لما فيها من مزيد الفصاحة، "وأمَّا أمراؤه -عليه الصلاة والسلام" أخَّرهم عن الكتاب مع قوله أول الفصل: في أمرائه ورسله وكتابه؛ لإحتمال أن ولايتهم كانت بعد المكاتبات، فقدَّمهم في الترجمة لشرف الولاية، لا لشرفهم، فالكتاب أشرف منهم؛ لأن فيهم الخلفاء، وأخَّرهم في الذكر نظرًا لزمن الولاية، "فمنهم باذان" بفتح الموحدة، والذال المعجمة بعدها ألف وآخره نون، ويقال: ميم "ابن ساسان من ولد بهرام" بن سابور بن أردشير بن بابك بن ساسان الأصغر، أحد الملوك الساسانية من الفرس، وأسلم باذان لما هلك كِسَرى، وكان نائبه على اليمن، وأرسل بإسلامه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فـ"أمَّره -صلى الله عليه وسلم- على اليمن" وفاءً بقوله -صلى الله عليه وسلم- لرسوليه اللذين بعثهما للمصطفى، بأمر كسرى ليأتياه به، فأخبرهما أن الله قتله، قالا: فنكتب بذلك عنك إلى باذان، قال: "نعم" , وقولا له: "إن أسلمت أقرَّك على ملكك"، فأسلم لما شاهد الآية الباهرة من الإخبار بالغيب في الساعة التي عينها من الليلة، كما تقدَّم، "وهو أوّل أمير في الإسلام على اليمن، وأوّل من أسلم من ملوك العجم"، كما قاله الثعلب، ثم مات, فاستعمل ابنه شهر بن باذان على بعض عمله. ذكره الواقدي، وابن إسحاق، والطبري، وعند الفاكهي من مرسل الشعبي أن باذان خرج إلى النبي --صلى الله عليه وسلم، فلحقه العنسي الكذّاب فقتله. قاله في الإصابة في القسم الثالث فيمن أدرك النبي ولم يره، وقال في ترجمة شهر: استعمله -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء بعد موت أبيه، روى ذلك سيف بسنده، وقال الطبري: لما غلب الأسود الكذاب على صنعاء، وقتل شهر بن باذان تزوَّج زوجته، فكانت هي التي أعانت على قتل الأسود بغضًا له، "وأمَّره -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء" وأعمالها بعد قتل شهر "خالد بن سعيد" بن العاص القرشي، "وولَّى" لم يقل أمر تفننًا لترادفها لغة "زياد بن لبيد" بفتح اللام, ابن ثعلبة بن سنان بن عامر "الأنصاري" البياضي، شهد العقبة وبدرًا "حضرموت"، كما ذكره الواقدي وغيره، قال في المراصد: بالفتح، ثم السكون وفتح الراء والميم: اسمان مركَّبان, ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر, حولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وقيل: هو مخلاف باليمن، وفي القاموس قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وولى أبا موسى الأشعري زبيد وعدن, وولَّى معاذ بن جبل الجند, وولَّى أبا سفيان بن حرب نجران. وولَّى ابنه يزيد تيماء. وولَّى عتاب -فتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية- ابن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة- مكة، وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان.   تضم الميم، "وولَّى أبا موسى الأشعري" عبد الله بن قيس "زبيد"، بفتح الزاي وكسر الموحدة وسكون التحتية ودال مهملة, مدينة باليمن, "وعدن" بفتحتين, مدينة أيضًا باليمن، "وولَّى معاذ بن جبل" الخزرجي البدري، أعلم الأمة بالحلال والحرام "الجند"، بفتح الجيم والنون، فدال مهملة مدينة باليمن. قال في المراصد: واليمن ثلاث ولايات: الجند ومخاليفها، وصنعاء ومخاليفها، وحضرموت ومخاليفها، "وولَّى أبا سفيان بن حرب نجران" بفتح النون، وسكون الجيم, موضع باليمن فُتِحَ سنة عشر، سمي بنجران بن زيد بن سبأ، كما في القاموس، قال في الإصابة: يقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمله على نجران ولا يثبت، قال الواقدي: أصحابنا ينكرون ذلك ويقولون: كان أبو سفيان بمكة وقت وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم, وكان عاملها -أي: نجران- حينئذٍ عمرو بن حزم. انتهى. "وولَّى ابنه يزيد تيماء" بفتح الفوقية، وسكون التحتية، والمد, بلد في بادية تبوك على نحو سبع أو ثمان مراحل من المدينة، قال بعضهم: هي فعلاء من التيم، وهو العبد، ومنه: تيم الله، أي: عبده, وقد تيَّمه الحب، أي: استعبده، فكانت هذه الأرض، قيل لهما: تيماء؛ لأنها مذللة معبَّدة، "وولَّى عتاب فتح المهملة وتشديد المثناة الفوقية, ابن أسيد -بفتح الهمزة وكسر السين المهملة وبعد الألف موحدة, ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أسلم يوم الفتح، وكان صالحًا فاضلًا "مكة", حين سار إلى حنين، وقيل: بعد أن رجع من الطائف. حكاهما الواقدي، "وإقامة الموسم والحج بالمسلمين سنة ثمان" التي هي سنة الفتح, فهو أول أمراء الحج، كما جزم به الماوردي وابن كثير والمحب الطبري وغيرهم. وأما قول الأزرقي: لم يبلغنا أنه استعمل في تلك السنة على الحج أحدًا، وإنما ولَّى عتابًا إمرة مكة، وحجَّ المسلمون والمشركون جميعًا، فكان المسلمون مع عتاب لكونه الأمير، فهو إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، قال في الإصابة: وأقرَّه أبو بكر على مكَّة إلى أن مات يوم مات الصديق، ذكره الواقدي وغيره، لكن ذكره الطبري في عمّال عمر إلى سنة اثنتين وعشرين، فهذا يشعر بأنَّه مات في أواخر خلافة عمر، وروى الطيالسي والبخاري في تاريخه عن عمرو بن أبي عقرب: سمعت عتاب بن أسيد، وهو مسند ظهره إلى بيت الله يقول: ما أصبت في عملي هذا الذي ولّاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلّا ثوبين معقدين كسوتهما مولاي كيسان, وإسناده حسن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 وولى علي بن أبي طالب القضاء باليمن. وولى عمرو بن العاص عمان وأهلها. وولى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره عليًّا، فقرأ على الناس براءة، فقيل: لأنَّ أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج،.   ومقتضاه أنه عاش بعد أبي بكر. وروى المحاملي، عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- استعمل عتابًا على مكة، وكان شديدًا على المنافقين لينًا على المؤمنين، وكان يقول: والله لا أعلم متخلفًا عن الصلاة في جماعة إلّا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلّف عنها إلا منافق، فقال أهل مكة: يا رسول الله, استعملت على أهل الله أعرابيًّا جافيًا، فقال: "إني رأيت فيما يرى النائم؛ أنه أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب، فقعقها حتى فُتِحَ له ودخل" رجاله ثقات إلا محمد بن إسماعيل بن حذافة السهمي، ضعفوه في غير الموطأ، "وولّى علي بن أبي طالب القضاء باليمن"، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عنه: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اليمن قاضيًا، وأنا حديث السن، قلت: يا رسول الله, تبعثني وأنا شاب أقضي ولا أدري ما القضاء، فضرب بيده في صدري، فقال: "اللهم اهد قلبه، وثبّت لسانه"، وقال: "إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك"، قال: فما شككت في قضء بين اثنين، وجمع بين هذا ونحوه، وبين قول ابن عمر ما اتخذ -صلى الله عليه وسلم- قاضيًا، ولا أبو بكر، ولا عمر حتى كان في آخر زمانه، قال ليزيد -ابن أخت نمير: اكفني بعض الأمور. رواه أبو يعلى برجال الصحيح. وقال السائب بن يزد: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر لم يتخذا قاضيًا، وأوّل من استقضى عمر، قال: ردّ عني الناس في الدرهم والدرهمين. رواه الطبراني بسند جيد، بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يستقض شخصًا معينًا للقضاء بين الناس دائمًا، وإنما استقضى جماعة في أشياء خاصّة؛ كقول معقل بن يسار: أمرني -صلى الله عليه وسلم- أن أقضي بين قوم، فقلت: ما أحسن أن أقضي، قال: "إن الله مع القاضي ما لم يحف عمدًا"، وجاءه -صلى الله عليه وسلم- خصمان، فقال لعمر: "اقض بينهما"، رواهما أحمد والحاكم، وكذا قال لعقبة في خصمين جاءاه: "اقض بينهما"، رواه أحمد وغيره، "وولى عمرو بن العاص عمان"، كغراب "وأهلها، وولَّى أبا بكر الصديق إقامة الحج سنة تسع" في ذي الحجة على المعتمد، وقال مجاهد وعكرمة بن خالد: في ذي القعدة، "وبعث في أثره عليًّا، فقرأ على الناس براءة". قال الحافظ: فيه تجوّز؛ لأنه أمره أن يؤذن ببضع وثلاثين آية، منتهاها ولو كره المشركون، كما رواه ابن جرير عن محمد بن كعب, وعنده عن علي: بأربعين آية من أول براءة، "فقيل" في حكمة إرساله وكونه لم يأمر الصديق بقراءتها مع أنه الأمير؛ "لأن أولها نزل بعد أن خرج أبو بكر إلى الحج"، كما رواه ابن إسحاق من مرسل أبي جعفر الباقر: لما نزلت براءة، وكان قد بعث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 وقيل: أردفه به عونًا له ومساعدًا، ولهذا لما قال له الصديق: أمير أو مأمور؟ قال: بل مأمور، وأمَّا الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم وافترائهم. وقد ولّى -صلى الله عليه وسلم- على الصدقات جماعة كثيرة. "رسله -صلى الله عليه وسلم": وأما رسله -صلى الله عليه وسلم، فقد روي أنه -عليه الصلاة والسلام- بعث ستة نفر في يوم واحد، في المحرم سنة سبع. وذكر القاضي عياض في الشفاء مما عزاه للواقدي: إنه أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.   الصديق ليقيم للناس الحج، قيل: يا رسول الله, لو بعث بها إلى أبي بكر، قال: "لا يؤدي عني إلّا رجل من أهل بيتي"، دعا عليًّا، فقال: "اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر" الحديث. لكن روى أحمد والترمذي، وحسَّنه عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث ببراءة مع أبي بكر، فلمَّا بلغ الحليفة قال: "لا يبلغها إلّا أنا، أو رجل من أهل بيتي"، فبعث بها مع علي. رواه أحمد والطبري من حديث عليّ بنحوه، وفيه: إن أبا بكر رجع، وقال: نزل فيّ شيء يا رسول الله؟ قال: "لا, أنت صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض، ولكن جبريل قال لي: لا يؤدي عنك إلّا أنت، أو رجل منك"، ولم يتعرض الحافظ لجمع، ولا ترجيح، كأنه لظهور الترجيح؛ لأن رواية نزولها بعد خروج أبي بكر مرسلة، ورواية نزولها قبل خروجه مسندة وإسناده حسن، "وقيل: أردفه به عونًا له ومساعدًا" عطف تفسير، "ولهذا لما قال له الصديق" أنت "أمير أو مأمور" بالمساعدة لي، فتكون تحت أمري، "قال: بل مأمور. وأمَّا الرافضة فقالوا: بل عزله، وهذا لا يبعد من بهتهم" تقول: "وافترائهم" كذبهم على المصطفى فيما يوافق أغراضهم، "وقد ولَّى -صلى الله عليه وسلم- على" جمع "الصدقات" الزكوات والقيام بأمرها "جماعة كثيرة", سيذكر بعضهم قريبًا. قال ابن القيم: لأنه كان على كل قبيلة والٍ يقبض صدقاتها، فمن هنا كثر عمَّال الصدقات، "وأمَّا رسله -صلى الله عليه وسلم، فقد روي" عن ابن سعد "أنه -عليه الصلاة والسلام" لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست، أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب إليهم كتبًا، و"بعث ستة نفر في يوم واحد في المحرم سنة سبع"، فأفادت هذه الرواية بما زدته منها أنَّ العزم على الإرسال والكتب في ذي الحجة، وتأخَّر البعث إلى أوّل المحرم، فخرجوا في يوم واحد، وهي رواية واحدة, فلا ينافي بعضها بعضًا، كما هو ظاهر. "وذكر القاضي عياض في الشفاء، مما عزاه للواقدي, أنه أصبح كل رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين بعثه إليهم"، من غير مضيّ زمان يمكن فيه التعلّم، معجزة له -صلى الله عليه وسلم, حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وكان أوّل رسول بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمري، إلى النجاشي ملك الحبشة، وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذه النجاشي ووضعه على عينيه, ونزل عن سريره، فجلس على الأرض, ثم أسلم وشهد شهادة الحق, وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته   يفهموا ما يقال، ولا ينافي هذا دعاء بعض الملوك الترجمان؛ لأنه من تعاظم العجم، وما ذكره الواقدي له شواهد، فأخرج ابن سعد عن بريدة الزهري، ويزيد بن رومان، والشعبي, أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث عدة إلى عدة، وأمرهم بنصح عباد الله، فأصبح الرسل كل رجل منهم يتكلّم بلسان القوم الذين أرسل إليهم، فذكر ذلك -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هذا أعظم ما كان من حق الله في أمر عباده". وروى ابن أبي شيبة من مرسل جعفر بن عمرو, بعث -صلى الله عليه وسلم- أربعة: رجلًا إلى كسرى، ورجلًا إلى قيصر، ورجلًا إلى المقوقس، وعمرو بن أمية إلى النجاشي، فأصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعث إليهم، وكان جعفرًا لم يحفظ بقية الستة. وقد روى الطبراني عن المسور بن مخرمة الصحابي، قال: خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه، فقال: "إن الله بعثني للناس كافّة، فأدوا عني وا تختلفوا علي"، فبعث عبد الله بن حذافة إلى كسرى، وسليطًا إلى هوذة، والعلاء إلى المنذر، وابن العاص إلى ملكي عمان، ودحية إلى قيصر، وشجاعًا إلى الحارث، وعمرو بن أمية إلى النجاشي. فعدَّهم سبعة، وزاد أصحاب السير جماعة غيرهم، ففي هذا موازاة الصحابة للحواريين، فقد روى ابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن إسحاق في السيرة, أنه -صلى الله عليه وسلم- قام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وتشهَّد ثم قال: "أما بعد، فإني أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى، وذلك أن الله بعث إليه أن أبعث إلى ملوك الأرض، فبعث الحواريين، فأمَّا القريب مكانًا فرضي، وأما البعيد مكانًا فكره، وقال: لا أحسن كلام من تبعثني إليه، فقال عيسى: اللهمَّ أمرت الحواريين بالذي أمرت، فاختلفوا علي، فأوحى الله إليه أني سأكفيك، فأصبح كل إنسان يتكلّم بلسان الذين أرسل إليهم"، فقال المهاجرون: يا رسول الله، والله لا نختلف عليك أبدًا في شيء, فمرنا وابعثنا, "وكان أول رسول بعثه -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن أمية الضمري" نسبة إلى جدِّه ضمرة -بفتح فسكون كما تقدَّم مرارًا, "إلى النجاشي ملك الحبشة, وكتب إليه كتابين, يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، ويتلو عليه القرآن"، أي: بعضه، "فأخذه النجاشي، ووضعه على عينيه" تبركًا وتعظيمًا، "ونزل عن سريره، وجلس على الأرض" تواضعًا لله على هذه النعمة التي ساقها إليه، "ثم أسلم وشهد وشهادة الحق"، إضافة بيانية، أي: هي الحق. "وقال: لو كنت أستطيع أن آتيه لأتيته"، لكنِّي لا أستطيع ذلك خوفًا من خروج الحبشة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وفي الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فزوَّجه إياها كما تقدَّم في الأزواج، ودعا بحق من عاج فجعل فيه كتابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم، وصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحبشة, كذا قاله الواقدي وغيره. وليس كذلك، فإن النجاشي الذي صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي كتب كما تقدَّم. وبعث -عليه الصلاة والسلام- دحية بن خليفة الكلبي -وهو أحد الستة- إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل, يدعوه إلى الإسلام، فهمَّ بالإسلام فلم توافقه الروم, فخافهم على ملكه فأمسك. وبعث عبد الله.   وتلاشى أمرهم مع ما أؤمله من إسلامه ببقائي بينهم، "وفي الكتاب الآخر أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان", وأن يبعث إليه من هاجر إليه من الصحابة، "فزوجه إياها كما تقدَّم في الأزواج"، وجهَّز إليه أصحابه كما تقدَّم، "ودعا بحق من عاج، فجعل فيه كتابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال: لن تزال الحبشة بخير ما كان هذان الكتابان بين أظهرهم"، ومات -رحمه الله- سنة تسع أو ثمان، "وصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم" بالمدينة يوم موته، "وهو بالحبشة، كما قاله"، أي: كل ما ذكره "الواقدي وغيره"، لا خصوص الصلاة؛ لأنها في الصحيحين، "وليس كذلك، فإن النجاشي الذي صلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي كتب إليه كما تقدَّم"، هذا وَهْم، فالذي تقدَّم إنه كتب إليهما جميعًا؛ أصحمة الذي صلى عليه، والذي ولي بعده، وكان كافرًا لم يعرف إسلامه، ولا اسمه، وخلط بعضهم، ولم يميز بينهما. هذا كلام المصنف في كتابه إلى النجاشي، وما بالعهد من قدم، وقد روى البيهقي وغيره أنه كتب إلى كلٍّ منهما، كما قدَّمته، فمن نفى الكتابة عن الأول فقد وَهمَ، والله أعلم. "وبعث -عليه الصلاة والسلام- دحية بن خليفة الكلبي، وهو أحد الستة"، أي: الثاني منها, والأنسب بما بعده أن يقول: وهو الثاني, والمراد في العدو الذكر، لما مَرَّ أنهم خرجوا في يوم واحد "إلى قيصر ملك الروم واسمه هرقل" بكسر، ففتح، فسكون على المشهور في الروايات "يدعوه إلى الإسلام, فهَمَّ بالإسلام فلم توافقه الروم، فخافهم على ملكه فأمسك" على نصرانيته حتى مات عليها، "وبعث عبد الله" بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد -بضم السين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 السهمي إلى كسرى وهو الثالث. وبعث الرابع وهو حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس فأكرمه، وبعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بجاريتين وكسوة وبغلة ولم يسلم. وبعث الخامس وهو شجاع بن وهب الأسدي إلى ملك البلقاء الحارث بن أبي شمر الغساني. وبعث السادس وهو سليط بن عمرو العامري إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفي, فأسلم ثمامة. وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر وعبد ابني   ابن سهم القرشي، "السهمي" نسبة إلى جدِّه سهم المذكور "إلى كسرى، وهو الثالث، وبعث الرابع، وهو حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، فأكرمه وبعث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بجاريتين" على ما في روايات، وفي رواية بثلاث، فالاقتصار على اثنتين لجمالهما ومكانهما من القبط، كما مَرَّ "وكسوة" عشرين ثوبًا من قباطي مصر, "وبغلة" هي دلدل, وحمار, وغير ذلك، كما مَرَّ، "ولم يسلم على الصواب، ووَهِمَ من عده في الصحابة، "وبعث الخامس، وهو شجاع بن وهب الأسدي" نسبة إلى جده أسد بن حزيمة "إلى ملك البلقاء" بفتح الموحدة، وإسكان اللام وقاف والمد، وتقصر مدينة من عمل دمشق, فيها قرى كثيرة ومزارع واسعة "الحارث بن أبي شمر الغساني" فلم يسلم، "وبعث السادس، وهو سليط بن عمرو العامري"، نسبة إلى جده عامر بن لؤي القرشي "إلى هوذة" صاحب اليمامة، "وإلى ثمامة" بضم المثلثة، وخفة الميمين "ابن أثال" بضم الهمزة، وبمثلثة خفيفة، ولام, مصروف, ابن النعمان، "الحنفي" من فضلاء الصحابة، "فأسلم ثمامة" ولم يسلم هوذة، كذا قال ابن إسحاق: إنه بعث إليهما، وهو منابذ لما في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت بثمامة بن أثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية المسجد. الحديث، وفيه: فقال -صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة"، فانطلق, فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. الحديث، وأخرجه بنحوه ابن إسحاق نفسه في المغازي، وذكر المصنف في المغازي كغيره: إن ذلك في المحرم سنة ست، فإن صحَّ أنه أرسل إليه أيضًا، فالمراد به أنه يكون عونًا لسليط على هوذة، ويئول قوله: فأسلم ثمامة، أي: استمرَّ على إسلامه، لا أنه أسلم حين الإرسال؛ لأنه أسلم قبل ذلك بسنة, بالمدينة لما أُسِرَ ومنَّ عليه المصطفى، كما في الصحيحين، "وبعث عمرو بن العاص في ذي القعدة سنة ثمان إلى جيفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 الجلندي بعمان فأسلما وصدَّقا. وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة -وقيل قبل الفتح- فأسلم وصدَّق. وبعث أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن عند انصرافه من تبوك, وقيل: بل سنة عشر في ربيع أول داعيين إلى الإسلام، فأسلم غالب أهلها من غير قتال, ثم بعث عليّ بن أبي طالب بعد ذلك إليهم, ووافاه بمكة في حجَّة الوداع. وبعث المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال   وعبد ابني الجلندي بعمان، فأسلما وصدقا"، كما تقدَّم بسطه، "وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي" نسبة إلى جدِّه عبد الله بن دارم التميمي، لا إلى عبد القيس, كما ظنَّه بعض الناس، أفاده الرشاطي، كما في الإصابة "ملك البحرين قبل منصرفه من الجعرانة"، لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة ثمان، فهو سنة الفتح، "وقيل: قبل الفتح" لمكة، وجزم به في الإصابة، وعزاه لابن إسحاق، وغير واحد, ونحو قول العيون بعد إنصرافه من الحديبية، "فأسلم وصدَّق". زاد الواقدي: ثم استقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- العلاء الحضرمي، فاستخلف المنذر مكانه، "وبعث أبو موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى اليمن, عند انصرافه من تبوك" رواه الواقدي، وابن سعد، عن كعب بن مالك، وكان انصرافه منها في رمضان، أو شعبان سنة تسع، "وقيل: بل سنة عشر في ربيع أوَّل" حكاه ابن سعد، وقيل: عام الفتح سنة ثمان. حكى الثلاثة في فتح الباري، فما يوجد في بعض نسخ المصنف من تبوك سنة عشر بإسقاط، وقيل: بل خطأ نشأ عن سقط، وإن أمكن توجيهه بأن سنة عشر معمول لبعث لا لتبوك، لكنه مع إيهامه يكون قاصرا على قول "داعيين إلى الإسلام, فأسلم غالب أهلها من غير قتال، ثم بعث علي بن أبي طالب بعد ذلك إليهم" في رمضان سنة عشر، كما قال ابن سعد، فقاتل من لم يسلم، فهزموا، وقتل منهم فكفَّ، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا الإجابة، فأقام فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يوافيه بالموسم، فقفل "ووافاه بمكة في حجة الوداع، وبعث المهاجر بن أبي أمية" بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، "المخزومي" شقيق أم سلمة أم المؤمنين, له في قتال أهل الردة أثر كبير, "إلى الحارث بن عبد كلال" الأصغر ابن نصر بن سهل بن غريب بن عبد كلال الأوسط بن عبيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 الحميري باليمن. وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع وذي عمرو يدعوهم إلى الإسلام، فأسلما   "الحميري" أحدًا قبال اليمن. قال الهمداني في الأنساب: كتب -صلى الله عليه وسلم- إلى الحارث وأخيه، وأمر رسوله أن يقرأ عليهما لم يكن، فوفد عليه الحارث فأسلم، فاعتنقه، وأفرشه رداءه، وقال قبل أن يدخل عليه: "يدخل عليكم من هذا الفج رجل كريم الجدين، صبيح الخدين"، فكان هو، قال في الإصابة: والذي تظاهرت به الروايات أنه أرسل بإسلامه، وأقام "باليمن", وقال ابن إسحاق: قدم على المصطفى مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير بإسلامهم, منهم الحارث بن عبد كلال، وكان -صلى الله عليه وسلم- أرسل إليه المهاجر فأسلم، وكتب إلى المصطفى شعرًا يقول: ودينك دين الحق فيه طهارة ... وأنت بما فيه من الحق آمر "وبعث جرير" بفتح الجيم "ابن عبد الله" بن جابر بن مالك بن نصر "البجلي" بفتح الموحدة والجيم، نسبة إلى بجيلة بفتح فكسر, بنت صعب بن سعد العشيرة، تنسب إليها القبيلة، الصحابي الشهير، القائل: ما حجبني -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم. رواه الشيخان، وقال -صلى الله عليه وسلم: "جرير منَّا أهل البيت" رواه الطبراني، المتوفَّى سنة إحدى أو أربع وخمسين، قال عمر: هو يوسف هذه الأمة؛ لأنه كان جميلًا, "إلى ذي الكلاع"، قال المصنف وغيره: بفتح الكاف واللام الخفيفة، فألف فعين مهملة, اسمه: أسميفع، بفتح الهمزة، والميم، والفاء، وسكون السين المهملة والتحتية، وآخره عين مهملة، ويقال: أيفع بن باكور، أو يقال: ابن حوشب، "وذي عمرو" الحميري "يدعوهم"، أي هما وقومهما "إلى الإسلام، فأسلما". قال الهمداني: وعتق ذو الكلاع لذلك أربعة آلاف، ثم قدم المدينة زمن عمر ومعه أربعة آلاف، فسأله عمر في بيعهم فأعتقهم، فسأله عمر عن ذلك، فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا، فعسى أن يكون ذلك كفّارة، وذلك أني تواريت مرة، يعني: قبل إسلامه، ثم أشرفت، فسجد لي مائة ألف. وروى يعقوب بن شيبة عن الجراح بن منهال قال: كان عند ذي الكلاع اثنا عشر ألف بيت من المسلمين، فبعث إليه عمر، فقال: هؤلاء نستعين بهم على عدو المسلمين، فقال: لا هم أحرار، فأعتقهم كلهم في ساعة واحدة. قال أبو عمر: لا أعلم له صحبة إلّا أنه أسلم في حياته -صلى الله عليه وسلم, وقدم في زمن عمر، فروى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجرير عندهم. وبعث عمرو بن أمية الضميري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب. وبعث إلى فروة بن عمرو الجذامي -وكان عاملًا لقيصر- فأسلم، وكتب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بإسلامه، وبعث إليه بهديه مع مسعود بن سعد، وهي: بغلة شهباء يقال لها فضة، وفرس يقال له الظرب، وحمار يقال له يعفور، وبعث إليه أثوابًا وقباء سندسيًّا مذهَّبًا، فقبل هديته, ووهب لمسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية   عنه، وقُتِلَ بصفين مع معاوية، "وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجرير عندهم"، ذكره الحاكم وغيره، ورجع جرير بعد الوفاة النبوية إلى المدينة، "وبعث عمرو بن أمية الضميري إلى مسيلمة الكذاب بكتاب" يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب إليه مسيلمة جوابًا لكتابه, يذكر فيه أنه رسول الله مثله، وأنه أشرك مع المصطفى بالنصف في الأرض، وإن قريشًا لا يعدلون، فكتب إليه: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد, فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين، بلغني كتابك الكذب والإفك والافتراء على الله، والسلام على من اتبع الهدى"، وبعثه إليه مع السائب أخي الزبير بن العوام. ذكره ابن سعد وغيره، "وبعث إلى فروة بن عمرو" على الأشهر، ويقال: ابن عامر "الجذامي، وكان عاملًا لقيصر" على من يليه من العرب، وكان منزله معان وما حولها من الشام، كما ذكر ابن إسحاق، "فأسلم وكتب إلى النبي -صلى لله عليه وسلم- بإسلامه", ولم ينقل أنه اجتمع به، كما في الإصابة. قال ابن إسحاق: فبلغ الروم إسلامه، فطلبوه فحبسوه، ثم قتلوه، فقال في ذلك: أبلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي وثيابي "وبعث إليه بهدية مع مسعود بن سعد" الجذامي، أسلم وصحب، "وهي بغلة شهباء، يقال لها فضة" بلفظ أحد النقدين، "وفرس، يقال له الظرب" بالظاء المعجمة؛ لكبره وسمنه، أو لقوته وصلابة حافرة، "وحمار يقال له يعفور" بناء على أنه غير عفير الذي أهداه المقوقس، "وبعث إليه أثوابًا وقباء" بفتح القاف وخفة الموحدة والمد والقصر، قيل: فارسي معرب، وقيل: عربي مشتق من قبوت الشيء إذا ضممت أصاعبك عليه, سمي به لانضمام أطرافه. وروي عن كعب أن أوَّل من لبسه سليمان، قاله الحافظ وغيره, "سندسيًّا" نسبة إلى السندس، وهو مارق من الديباج، معرَّب اتفاقًا, من نسبة الجزئي إلى كليه؛ لأن البقاء جزء من جزئيات مطلق السندس، فلم يتحد المنسوب والمنسوب إليه "مذهَّبًا، فقبل هديته, ووهب لمسعود بن سعد" رسوله بالهدية، والإسلام "اثنتي عشرة أوقية"، وفي الإصابة عن الواقدي: وأجازه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وبعث المصدقين لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع: فبعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم. وبعث بريدة -ويقال: كعب بن مالك- إلى أسلم وغفار. وبعث عباد بن بشر إلى سليم ومزينة. وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة. وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة. وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب. وبعث بشر.   بخمسمائة درهم، "وبعث المصدقين" بضم الميم وخفة المهملة, السعاة، "لأخذ الصدقات هلال المحرم سنة تسع" كما قال ابن سعد، "فبعث عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم"، وتقدَّمت القصة في المغازي، "وبعث بريدة" بضم الموحدة مصغَّر, بن الحصيب الأسلمي، "ويقال: كعب بن مالك" الأنصاري "إلى أسلم" بفتح فسكون، قبيلة من الأزد, "وغفار" بكسر المعجمة وخفة الفاء, قبيلة من كنانة، وسبق إلى الإسلام منهم أبو ذر الغفاري وأخوه أنيس، ورجع أبو ذر إلى قومه، فأسلم الكثير منهم، وفي القبيلتين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها" وفيه من جناس الاشتقاق ما يلذ على السمع لسهولته وانسجامه، وهو من الاتفاقات اللطيفة، وحكي أن بني غفار كانوا يسرقون الحاج في الجاهلية، فدعا لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أسلموا ليمحوا عنهم ذلك العار، "وبعث عباد بن بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة, الأنصاري "إلى سليم" بالتصغير, قبيلة "ومزينة" بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتانية بعدها نون، وهو اسم امرأة عمرو بن طابخة -بموحدة ومعجمة, ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أم أوس وعثمان ابني عمرو, فولد هذين، يقال لهم مزينة والمزنيون، ومن قدماء الصحابة, منهم: عبد الله بن مغفل وعمه خزاعي، وإياس بن هلال وابنه قرة وآخرون، كما في الفتح، "وبعث رافع بن مكيث" بميم وكاف. قال في الإصابة: بوزن عظيم وآخره مثلثة, الجهني, شهد بيعة الرضوان، وكان أحد من يحمل ألوية جهينة يوم الفتح، وشهد الجابية مع عمر "إلى" قومه "جهينة" بالتصغير، قبيلة من قضاعة، من مشهوري الصحابة، منهم عقبة بن عامر الجهني وغيره، "وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة" بفتح الفاء والزاي ثم راء, قبيلة من قيس عيان، "وبعث الضحَّاك بن سفيان" الكلابي "إلى" قومه "بني كلاب, وبعث بشر"، قال في الإصابة: ضبطه ابن ماكولا وغيره بضم الموحدة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 ابن سفيان الكعبي -ويقال: النحام العدوي- إلى بني كعب. وبعث عبد الله بن اللتبية إلى ذبيان. وبعث رجلًا من سعد هذيم إلى قومه.   وسكون السين المهملة "ابن سفيان" الخزاعي الكعبي" نسبة إلى كعب بن عمرو, بطن من خزاعة. قال أبو عمر: أسلم سنة ست وشهد الحديبية، "ويقال: النحام" بفح النون وشد الحاء المهملة، قال ابن ماكولا: كذا يقوله أصحاب الحديث. وقال ابن الكلبي: هو -بضم النون وخفة الحاء، واسمه كما قال البخاري وغيره: نعيم بن عبد الله القرشي "العدوي"، قديم الإسلام بعد عشرة أنفس، ويقال: بعد ثمانية وثلاثين، لقب بالنحام لقوله -صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعت نحمة من نعيم فيها"، والنحمة السعلة، قال في التبصير ونحوه في الإصابة، واسمه في الأصل: صالح. ذكره ابن أبي حاتم "إلى بني كعب, وبعث عبد الله بن اللتبية" قال في التبصير بضم اللام وفتحها معًا، ثم فوقية مفتوحة ثم موحدة مكسورة ثم ياء مشددة, الأزديّ, له صحبة وقصة, وفي الكواكب -بضم اللام، وسكون الفوقية أو فتحها وكسر الموحدة وشد التحتية، وقيل: بضم الهمزة بدل اللام، فهي أربعة أوجه، والأصحّ أنه باللام وسكون الفوقية, نسبة إلى بني لتب، قبيلة معروفة "إلى ذبيان" بضم الذال المعجمة وكسرها. قال ابن الأعرابي: رأيت الفصحاء يختارون الكسر بعدها موحدة فتحتيه خفيفة, قبيلة من الأزد، "وبعث رجلًا من سعد هذيم" كزبير, أبو قبيلة، وهو ابن زيد، لكن حضنه عبد أسود هذيم، فغلب عليه، كما في القاموس "إلى قومه" هذيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 الفصل السابع: في مؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه أما مؤذنوه فأربعة: اثنان بالمدينة: بلال بن رباح،   "الفصل السابع: في مؤذنيه وخطبائه": لا محل للجمع في هذا؛ إذ لم يذكر إلّا واحدًا، إلا أن تكون الإضافة في الجميع للجنس الصادق بالواحد، وهو الخطب والمعتد وهم من عداه. "وحداته" جمع حادي, "وشعرائه" الذين ناضلوا عنه وهجوا كفار قريش، "أما مؤذنوه" أي: بيانهم "فأربعة، اثنان بالمدينة: بلال بن رباح" بفتح الراء وخفة الموحدة فألف فمهملة، "وأمه حمامة" بفتح المهملة وخفة الميم, الصحابية، وبها اشتُهر, ذكرها أبو عمر فيمن كان يعذَّب في الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وأمه حمامة، مولى أبي بكر الصديق، وهو أوّل من أذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء، إلّا أنَّ عمر لما قدم الشام حين فتحها أذَّن بلال، فتذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أسلم -مولى عمر بن الخطاب: فلم أر باكيًا أكثر من يومئذ،   فاشتراها أبو بكر، فأعتقها "مولى أبي بكر الصديق" ولاء عتاقة. وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره أنه حبشي، وهو المشهور, وقيل: نوبيّ. ذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، "وهو أوّل من أذَّن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم" حين شرع الآذان، ورآه عبد الله بن زيد الأنصاري في المنام، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى منك صوتًا" , "ولم يؤذن بعده لأحد من الخلفاء, إلّا أنَّ عمر لما قدم الشام حين فتحها، أذَّن بلال"، استثناء متصل، أي لم يوجد منه أذان لأحد إلّا لعمر, أو منقطع، أي: لم يتخذه أحد من الخلفاء مؤذنًا، لكنه أذّن عند عمر بلا اتخاذ، "فتذكَّر النبي -صلى الله عليه وسلم، قال أسلم مولى عمر بن الخطاب" الثقة المخضرم، المتوفَّى سنة ثمانين، وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة: "فلم أر باكيًا أكثر من يومئذ"، وفي نسخة: من ذلك اليوم، أي: لم أر إنسانًا يبكي أكثر من بكاء كل واحد يومئذ، أو لم أر قومًا يبكون أكث من الباكين يومئذ؛ لأنَّ باكيًا نكرة في سياق النفي فتعمّ، فلا يراد أن باكيًا مفعول رأى, وأكثر حال إن كانت بصرية، ومفعول ثانٍ إن كان علمية، وعليهما لا يصح وصف الباكي بأنه أكثر من الباكين، ولا يراد أن دلالة العام كلية، أي: محكوم فيها على كل فرد؛ لأن هذه قاعدة أكثرية على أن النظر في نحو هذا إنما هو لمذهب النحاة، أو يقال: إن باكيًا صفة لمتعدد في المعنى، أي: فريقًا باكيًا, على أنه يمكن التخلص من أصل الإيراد بأنه ليس المراد الكثرة في نفس الأفراد التي نشأ الإشكال منها, بأن يقدَّر أن أكثر صفة لموصوف محذوف هو بكاء، أي: لم أر باكيًا بكاءً أكثر من بكاء الباكين يومئذ. وروى البخاري أن بلالًا قال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله. زاد ابن سعد، قال أبو بكر: أنشدك الله وحقي، فأقام معه حتى توفي، فتوجَّه إلى الشام مجاهدًا بإذن عمر. وروى ابن عساكر بسند جيد عن بلال، أنه لما نزل بداريا رأى النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال، أما آن لك أن تزورني، فانتبه حزينًا خائفًا، فركب راحلته وقصد المدينة، فأتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما, فقالا: نتمنَّى، نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فعَلَا سطح المسجد، ووقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلمَّا قال: الله أكبر, ارتجت المدينة، فلمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وتوفي سنة سبع عشرة، أو ثمان عشرة أو عشرين بداريا بباب كيسان، وله بضع وستون سنة، وقيل: دفن بحلب، وقيل: بدمشق. وعمرو بن أم مكتوم القرشي الأعمى، وهاجر إلى المدينة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم. وأذَّن له -عليه   قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجَّتها، فلمَّا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، خرجت العواتق من خدورهنّ، وقالوا: بُعِثَ رسول الله، فما رؤي يوم أكثر باكيًا ولا باكية بالمدينة بعده -صلى الله عليه وسلم- أكثر من ذلك اليوم، "توفي سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة"، بفتح النون، وحذف الياء على قلة، "أو عشرين". هكذا ساوى بين الأقوال الثلاثة في التقريب، لكن قال: وقيل: سنة عشرين، وصدر في الفتح بالثاني، "بداريا" بفتح الدال والراء والياء الثقيلة, قرية بدمشق "بباب كيسان" بفتح فسكون, محل معروف بها، "وله بضع وستون سنة، وقيل: دفن بحلب"، ذكره ابن منده وردَّه المنذري وقال: الذي دفن بحلب أخوه خالد، "وقيل: بدمشق", وصحَّحه الذهبي فقال: مات على الصحيح بدمشق سنة عشرين، وفي فتح الباري كانت وفاته بدمشق, ودفن بباب الصغير، وبهذا جزم النووي، وقيل: دفن بباب كيسان، وقيل بداريا، وقيل: بحلب. وردَّه المنذري، وزعم ابن السمعاني أن بلالًا مات بالمدينة وغلَّطوه. انتهى. "وعمرو" على الأكثر، وقيل عبد الله، وقيل: كان اسمه الحصين, فسماه -صلى الله عليه وسلم- عبد الله، قال في الفتح: ولا يمتنع أنه كان له اسمان "ابن أم مكتوم" نُسِبَ لأمّه وهي عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وزعم بعضهم أنه ولد أعمى، فكنِّيت أمه به لاكتتام نور بصره، والمعروف أنه عمي بعد بدر بسنتين، كذا وقع في الفتح، وتعقب أن نزول عبس بمكة قبل الهجرة، فلعلَّ أصله بعد البعثة. وقد روى ابن سعد والبيهقي عن أنس أن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وعنده ابن أم مكتوم، فقال: متى ذهب بصرك، قال: وأنا غلام، ولفظ البيهقي: وأنا صغير، فقال: قال الله -تبارك وتعالى: "إذا ما أخذت كريمة عبدي، لم أجد له بها جزاء إلا الجنة"، والأشهر في اسم أبيه: قيس بن زائدة "القرشي" العامري "الأعمى"، المذكور في سورة عبس، ونزلت فيه غير أولي الضرر، كما في البخاري، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، أسلم قديمًا بمكة، "وهاجر إلى المدينة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم"، وقيل: بعده وبعد بدر بيسير. قال الواقدي والأول أصح، وكان -صلى الله عليه وسلم- يكرمه، واستخلفه ثلاث عشرة مرة، قاله ابن عبد البر: شهد القادسية في خلافة عمر ومعه اللواء، فاستشهد بها، قاله الزبير بن بكار، وقال الواقدي: بل شهدها ورجع إلى المدينة فمات بها, ولم يسمع له بذكر بعد عمر، "وأذَّن له -عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 الصلاة والسلام- بقباء، سعد بن عائد أو ابن عبد الرحمن, المعروف بسعد القرظ وبالقرظي، مولى عمَّار، بقي إلى ولاية الحجَّاج على الحجاز، وذلك سنة أربع وسبعين. وبمكة أبو محذورة، واسمه: أوس الجمحي المكي، أبوه: معير -بكسر الميم وسكون وفتح التحتانية, مات بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل: تأخَّر بعد ذلك.   الصلاة والسلام- بقباء بعد بن عائد، أو ابن عبد الرحمن, المعروف بسعد القرظ" بالتنوين بلا إضافة صفة له؛ لأنه كان يتَّجِر فيه, حتى كأنه صار جزء علم "وبالقرظي" بفتحتين وظاء معجمة نسبة للقرظ أيضًا, وغلط من ضمها؛ لأنه نسبة إلى بني قريظة، وليس هو منهم، إنما هو "مولى عمَّار" بن ياسر، وقيل: مولى الأنصار. روى البغوي عن القاسم الحسن بن محمد بن عمرو بن حفص بن عمر بن سعد القرظ, عن آبائه, أن سعدًا شكا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قلة ذات يده، فأمره بالتجارة، فخرج إلى السوق، فاشترى شيئًا من قرظٍ فباعه، فربح فيه، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فأمره بلزوم ذلك. روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه عمّار وعمر، قال أبو عمر: نقله أبو بكر من قباء إلى المسجد النبوي، فأذَّن فيه بعد بلال، وتوارثت عنه بنوه الأذان، قال خليفة: أذَّن لأبي بكر ولعمر بعده. وروى يونس عن الزهري: أن الذي نقله عن قباء عمر "بقي إلى ولاية الحجاج على الحجاز، وذلك سنة أربع وسبعين"، كما في التقريب وغيره. "وبمكة أبو محذورة واسمه: أوس"، وقيل: سمرة، وقيل: سلمة، وقيل: سلمان، وقيل: معير، وقيل: عبد العزيز. قال البلاذري: لا يثبت أنه أوس، لكن، قال ابن عبد البر: اتفق الزبير وعمّه وابن إسحاق والسمعي على أن اسمه أوس، وهم أعلم بأنساب قريش، ومن قال اسمه سلمة، فقد أخطأ, "الجمحي" القرشي "المكي أبوه" اسمه "معير -بكسر الميم وسكون العين وفتح التحتانية" هذا هو المشهور، وحكى ابن عبد البر أن بعضهم ضبطه بفتح العين وتشديد التحتانية عدها نون، وقيل: اسمه سمرة، وقيل: محيريز، وقيل: عمر. روى أبو محذورة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه علمه الأذان، وقصته في مسلم وغيره، وفي رواية أن تعليمه إياه كان بالجعرانة. قال ابن الكلبي: ولم يهاجر، بل أقام حتى "مات بمكة سنة تسع وخمسين، وقيل: تأخَّر بعد ذلك" حتى مات سنة تسع وسبعين، كما في الإصابة, وفي الروض: لما سمع أبو محذورة الأذان سنة الفتح، وهو مع فتية من قريش خارج مكة أقبلوا يستهزؤن، ويحكون صوت المؤذن غيظًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 وكان منهم من يرجِّع الأذان ويثنِّي الإقامة، وبلال لا يرجِّع ويفرد الإقامة، فأخذ الشافعي بإقامة بلال، وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة وإقامة بلال. وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة.   فكان أبو محذورة من أحسنهم صوتًا، فرفع صوته مستهزئًا بالأذان، فسمعه -صلى الله عليه وسلم، فأمر به، فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح -صلى الله عليه وسلم- ناصيته وصدره قال: فامتلأ قلبي نورًا وإيمانًا ويقينًا، وعلمت أنه رسول الله، فألقى عليه الأذان وعلَّمه إياه، وأمره أن يؤذّن لأهل مكة وهو ابن ست عشرة سنة، فكان يؤذنهم حتى مات، ثم عقبه بعده يتوارثون الأذان كابرًا عن كابر، "وكان منهم" أي: بعضهم، وهي فائدة الاستطرادية، أو نشأت عن سؤال هو معلوم اختلاف المذاهب في الأذان والإقامة، فما كان يفعله مؤذنوا المصطفى الذين ذكرتهم، فأجاب بأنه كان منهم "من يرجِّع الأذان، ويثنِّي الإقامة"، وهو أبو محذورة، "وبلال لا يرجِّع، ويفرد الإقامة"، أي: كلماتها إلا لفظ ق قامت الصلاة, بدليل قوله: "فأخذ الشافعي بإقامة بلال"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- سمعه وأقرَّه, فليس استدلالًا بفعل الصحابي, والشافعي لا يقول به لا بأذانه بل بأذان أبي محذورة، "وأهل مكة أخذوا بأذان أبي محذورة" وهو ترجيع الأذان وتثنية الإقامة، "وإقامة بلال"، وهذا تطويل بلا طائل، فلو قال: وأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة، وإقامة بلال لدفع ما يوهمه لفظه، "وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة"، فقالوا: بترجيع الأذان وتثنية الإقامة، "وأخذ أحمد وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته، وخالفهم مالك في موضعين: إعادة التكبير"، أي: تربيعه، فقال: بعدمها "وتثنية لفظ الإقامة"، فقال بإفرادها عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم: "الأذان والإقامة واحدة"، رواه ابن حبان. وروى الدارقطني وحسَّنه في حديث لأبي محذورة، وأمر أن يقيم واحدة واحدة، ثم المصنف في عهدة أنه خالف أهل المدينة، كما زعمه كابن القيم، فمالك بعملهم أدرى، ونصب الجدل يطول، وقد علم مما قررته أن إعادة بدل من موضعين بيان للمفعول في خالفهم، فهو بيان للمخالف اسم مفعول لا اسم فاعل، لأن الأولى بالذكر من القولين ما نسب لمن خالفه من جعل فاعلًا، وترك المصنف ممن أذن زياد بن الحارث الصدائي -بضم المهملة- أذن مرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من أذن فهو يقيم"، أخرجه أحمد وأصحاب السنن؛ لأنه لم يتكرر, ونظم الخمسة البرماوي، فقال: لخير الورى خمس من الغر أذَّنوا ... بلال ندي الصوت بدأ يعين وعمر والذي أم لمكتوم أمه ... وبالقرظ أذكر سعدهم إذ يبين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وأما شعراؤه -عليه الصلاة والسلام- الذين يذبّون عن الإسلام: فكعب بن مالك. وعبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري.   وأوس أبو محذورة وبمكة ... زياد الصدائي نجل حارس يعلن وعبد العزيز بن الأصم، ذكره أبو نعيم في الصحابة في بعض النسخ، وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن عمر: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- مؤذنان: أحدهما بلال، والآخر عبد العزيز بن الأصم. قال في الإصابة: وهو غريب جدًّا، وفيه موسى بن عبيدة ضعيف، ثم ظهرت لي علته، وهو أن أبا قرة موسى بن طارق أخرج مثله، وزاد: وكان بلال يؤذن بليل يقوظ النائم، وكان ابن أم مكتوم يتوخَّى الفجر، فلا يخطئه. فظهر من هذه الرواية أن عبد العزيز اسم ابن أم مكتوم، والمشهور في اسمه عمرو، وقيل عبد الله بن قيس بن زائدة ابن الأصم، فالأصم اسم جد أبيه, نسب إليه في هذه الرواية. انتهى، "وأما شعراؤه -عليه الصلاة والسلام- الذين يذبّون" بضم الذال، يدفعون "عن الإسلام"، ويحمون, لا الذين مدحوه بالشعر من رجال الصحابة ونساهم، فإن اليعمري جمعهم في مؤلف، فقارب بهم مائتين، "فكعب بن مالك" الأنصاري السلمي -بفتحتين, شهد العقبة، وبايع بها، وتخلّف عن بدر، وشهد أحدًا وما بعدها، وتخلّف عن تبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تيبت عليهم, قال ابن سيرين: له بيتان كانا سبب إسلام دوس: قضينا من تهامة كلب وبر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا تخبرنا ولو نطقت لقالت ... قواطعن دوسًا أو ثقيفًا فلمَّا بلغ ذلك دوسًا، قالوا: خذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف. مات في خلافة علي، وقيل معاوية. روى أحمد عن كعب المذكور، قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اهجوا المشركين بالشعر، فإن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده، كأنما ينضحونهما بالنبل" , "وعبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري"، أحد النقباء ليلة العقبة، وشهد بدرًا وما بعدها, إلى أن استشهد في مؤتة, ومناقبه كثيرة. قال المرزباني في معجم الشعراء: كان عظيم القدر في الجاهلية والإسلام، وكان يناقض قيس بن الحطيم في حروبهم، ومن أحسن ما مدح به النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر وأخرج ابن سعد، وابن عساكر عن عروة، لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ، قال ابن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وحسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام الأنصاري، دعا له -عليه الصلاة والسلام- فقال: "اللهم أيده بروح القدس"، فيقال: أعانه جبريل بسبعين بيتًا، وفي الحديث: "إن جبريل مع حسان ما نافح عني"، وهو بالحاء المهملة, أي: دافع، والمراد هجاء المشركين ومجاوبتهم على أشعارهم.   وعند ابن عساكر عن هشام بن حسان أن عبد الله لما قال للمصطفى: فثبت الله ما آتاك من حصن ... كالمرسلين ونصرًا كالذي نصروا قال له -صلى الله عليه وسلم: "وإياك يا سيد الشعراء"، "وحسان بن ثابت بن المنذر بن عمرو بن حرام" بالمهملتين، "الأنصاري" الخزرجي، وأمه الفريعة -بالفاء والعين المهملة, مصغر, بنت خالد, خزرجية أيضًا, أسلمت وبايعت, وإليها كان ينسب، فيقال: قال ابن الفريعة: ونسب هو نفسه إليها في قوله: أمسى الحلائب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أضحى بيضة البلد "دعا له -عليه الصلاة والسلام- فقال كما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب، قال: مر عمر بحسان في المسجد وهو ينشد، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله, أسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أجب عني"، "اللهم أيده"، أي: قوّه "بروح القدس". قال أبو هريرة: نعم، والمراد: جبريل؛ لحديث الشيخين عن البراء أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحسان: "اهجم، أو هاجهم وجبريل معك" , "فيقال: أعانه جبريل بسبعين بيتًا" كما أخرجه ابن عساكر، وأبو الفرج الأصبهاني في الأغاني عن بريدة، قال: أعان جبريل حسان بن ثابت عن مدحه النبي -صلى الله عليه وسلم- بسبعين بيتًا، "وفي الحديث: "إن جبريل مع حسان ما" مصدرية "نافح عني"، وفي مسلم عن عائشة, سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان: "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله"، قالت: وسمعته يقول: "هجاهم حسان فشفى وأشفى" وهو بالحاء المهملة" قبلها فاء، "أي: دافع، والمراد" بذلك "هجاء المشركين ومجاوبتهم" بجيم ثم واو فموحدة "على أشعارهم" التي كانوا يلمزون بها الإسلام وأهله، كقوله يوم بدر مجيبًا لابن الزبعري المسلم في الفتح, لما رثى أصحاب القليب بأبيات، فقال حسان: ابك بكت عيناك ثم تبادرت ... بدم تعل عروقها بسجام وإذا بكيت به الذين تبايعوا ... هلا ذكرت مكارم الأقوام وذكرت منا ماجدًا ذا همة ... سمح الخلائق صادق الأقدام فلمثله ولمثل ما يدعو له ... كان الممدح ثم غير كهام ومجاوباته لهم كثيرة، فكم يقول ابن إسحاق في السيرة، قال فلان من الكفار: كذا، فأجابه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وعاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام، وكذا عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وجد أبيه حرام، كل واحد منهم عاش مائة وعشرين سنة، وتوفي حسان سنة أربع وخمسين. ولما جاءه -عليه الصلاة والسلام- بنو تميم، وشارعهم الأقرع بن حابس، فنادوه يا محمد اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين وذمنا شين.   حسان بكذا. وفي نسخة ومحاربتهم بمهملة, أي: مغالبتهم ومدافعتهم بالشعر, سماه حربًا مجازًا. وقد روى أبو داود عن عائشة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائمًا، يهجو الذين كانوا يهجونه -صلى الله عليه وسلم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله". وروى أبو نعيم، وابن عساكر عن عروة: أن حسان ذكر عند عائشة، فقالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ذاك حاجز بيننا وبين المنافقين, لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق" , وعاش مائة وعشرين سنة: ستين في الجاهلية وستين في الإسلام" كما قاله ابن سعد، "وكذا عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وجد أبيه" بواسطة "حرام, كل واحد منهم عاش مائة وعشرين سنة"، إيضاح لما أفاده التشبيه, لا بقيد الجاهلية والإسلام، فإنها كلها في الجاهلية، كما هو بَيِّن، ثم المصنف في عهده أن حرام عاش كذلك، ولعل أصله وجد أبيه عمرو بن حرام، فالذي قاله ابن منده وابن سعد: وكذلك عاش أبوه وجده وأبو جده, لا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد اتفقت مدة تعميرهم مائة وعشرين سنة غيرهم، قال في ريح النسرين: ويشبه هذا أن لسانه كان يصل لجبهته ونحره، وكذا كان أبوه وجده وابنه عبد الرحمن، قال أبو عبيدة: فضل حسان الشعراء بثلاث، كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر المصطفى في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام، "وتوفي حسان سنة أربع وخمسين" قال في الإصابة: وذكر ابن إسحاق أنه سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، فقال: قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ولحسان ستون سنة، فعلى هذا يلزم من قال: مات سنة أربع وخمسين أنه بلغ مائة وأربع عشرة، أو سنة خمسين مائة وعشرة، أو سنة أربعين مائة أو دونها، والجمهور أنه عاش مائة وعشرين، قيل مائة وأربع سنين، جزم به ابن أبي خيثمة عن المدائني، "ولما جاءه -عليه الصلاة والسلام" سنع تسع "بنو تميم"، وكانوا سبعين فيما قيل، "وشاعرهم الأقرع بن حابس" الصحابي الشهير، "فنادوه" من وراء الحجرات، "يا محمد, اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك، فإن مدحنا زين, وذمَّنا شين"، وعند ابن إسحاق، فآذى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 فلم يزد -عليه الصلاة والسلام- على أن قال: "ذلك الله, إذا مدح زان, وإذا ذمَّ شان، إني لم أبعث بالشعر، ولم أؤمر بالفخر، ولكن هاتوا"، فأمر -عليه الصلاة والسلام- ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم فخطب فغلبهم، فقام الأقرع بن حابس شاعرهم وقال: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا خالفونا عند ذكر   ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صياحهم، وخرج إليهم، "فلم يزد -عليه الصلاة والسلام- على أن قال ذلك" الموصوف بما قلتموه، "الله إذا مدح زان" من مدحه، "وإذا ذمَّ شأن" من ذمه، وصلى -صلى الله عليه وسلم- الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، وقال: "إني لم أبعث بالشعر، ولم أؤمر بالفخر، ولكن هاتوا"، وعند ابن إسحاق، فقالوا: ائذن لخطيبنا وشاعرنا، فقال: "أذنت لخطيبكم فليقل"، فقام عطارد بن حاجب، فقال: الحمد لله الذي له علينا الفضل، وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا, نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا وعدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا الكلام، ولكن نستحي من الإكثار فيما أعطانا وإنا نعرف بذلك، أقول هذا، لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا، ثم جلس، "فأمر -عليه الصلاة والسلام" خطيبه "ثابت بن قيس أن يجيب خطيبهم" عطارد بن حاجب، كما رأيت، وتجويز أنه الأقرع من عدم الاطلاع، وخطيب القوم لغة من يتكلّم عنهم، "فخطب فغلبهم"، وعن ابن إسحاق، فقال -صلى الله عليه وسلم- لثابت: "قم فأجب الرجل في خطبته"، فقام، فقال: الحمد الله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، ووسّع كرسه علمه، ولم يكن شيء قط إلّا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى خير خلقه رسولًا، أكرمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، وأنزل عليه كتابًا, وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- المهاجرون من قومه، وذوي رحمه أكرم الناس أحسابًا، وأحسن الناس وجوهًا، وخير الناس فعالًا، ثم كنَّا أول الخلق إجابة واستجابة لله حين دعانا رسول الله، ووزراء رسول الله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، منع ماله ودمه ومن فكر جاهدناه في الله، وكان قتله علينا يسيرًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم. "فقام الأقرع بن حابس شاعرهم، فقال" الذي ذكره ابن هشام عن بعض علماء الشعر، فقام الزبرقان بن بدر، فقال: "أتيناك كما يعرف"، وفي لفظ يعلم، وما زائده "الناس فضلنا، إذا خالفونا" أي: جاءوا بعدنا، وفي نسخة إذا خالفونا، والظاهر الأولى لإفادتها أن قصدهم معرفة فضلهم لمن يخلفهم إذا بلغهم ما فاخروا به، أما معرفة فضلهم لمعارضهم، فهي عندهم لا تخفى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 ........................... ... ..................... المكارم وأنا رءوس الناس في كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدار فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حسانًا يجيبهم, فقام فقال: بني دارم ل تفخروا إن فخركم ... يعود وبالًا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخروه وأنتم ... لنا خول ما بين قن وخادم   "عند ذكر المكارم" ظرف ليعرف. وفي رواية: إذا اختلفوا عند احتضار المواسم، "و" يعرفون "أنا" بفتح الهمزة "رءوس الناس" عظماؤهم وأشرافهم, شبه الواحد منهم بالرأس مجازًا؛ لأنه أشرف ما فيه لموته بإزالته، أو المراد أصولهم، وفي المصباح: رأس المال أصله, "في كل معشر" طائفة، وفي لفظ: في كل موطن، "وأن ليس في أرض الحجاز كدارم" بكسر الراء, بطن من تميم, وبعد هذين عند ابن هشام: وأنا نذود المعلمين إذا انتحوا ... ونضرب رأس إلّا صيدًا المتفاقم وأنا لنا المرباع في كل غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم "فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حسانًا" بالصرف على أنه من الحسن، ومنعه على أنه من الحسن، كذا جوَّزه الجوهري وغيره، قال ابن مالك: والمسموع فيه منع الصرف "يجيبهم، فقال قال": هل المجد إلا السود والعود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا وآوينا النبي محمدًا ... على أنف راض من معد وراغم زكي جريد أصله وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم نصرناه لما حلَّ وسط ديارنا ... بأسيافنا من كل باغٍ وظالم جعلناه بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسًا بفيء المغانم ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا ... على دينه بالمرهقات الصوارم ونحن ولدنا في قريش عظيمها ... ولدنا نبي الخير من آل هاشم بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالًا عند ذكر المحارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول ما بين قن وخادم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيًّا كزي الأعاجم هكذا أنشدنا كلها ابن هشام في السيرة، وهبلتم، أي: تعاظمتم علينا حال كونكم تفخرون، والحال أنكم خول لنا دائرين بين قن وخادم، في القاموس، هبلته أمه كفرح: ثكلته، لكنه لا يظهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 ..........................................................................   هنا لنسبة الفعل إلى المخاطبين، ولم يجعلوهم مفعولين، فلم يقل: هبلناكم إلّا أن يكون استعير لذلك، أي ثكلتم، ثم استأنف استفهامًا إنكاريًّا، فقال: تفخرون بحذف أداة الاستفهام، فعلينا متعلق بالفعل بعده، غير أن هذا بعيدًا، ولذا لم يذكره شيخنا، وإن قرَّره، وتفسيره بأقبلتم، وإن ظهر معناه، لكن لا تساعد عليه اللغة، وعند ابن إسحاق، فقام الزبرقان بن بدر، فقال: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... منا الملوك وفينا تنصيب البيع وكم قسرنا من الأحياء كلهم ... عند النهاب وفضل الغر يتبع ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشواء إذا لم يؤنس الفزع فما ترى الناس تأتينا سراتهم ... من كل أرض هويًا ثم نصطنع فننحر الكوم عبطًا في أرومتنا ... للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا فلا ترانا إلى حي نفاخرهم ... إلّا استكانوا وكاد الرأس يقتطع فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد ... إنا كذلك عند الفخر نرتفع وكان حسان غائبًا، فبعث إليه -صلى الله عليه وسلم، فقال: "قم فأجبه"، فقام, فقال: إن الذوائب من فهر وإخوته ... قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رفعوا إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالندى فنعوا أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسسهم من مطمع طبع إذا نصبنا لحي لم ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزعانف من أظفارها خشعوا لا يفخرون إذا نالوا عدوهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع كأنهم في الوعي والموت مكتنع ... أسد بجلبة في أرساغها فدع خذ منهم ما أتى عفوًا إذا غضبوا ... ولا يكن همك الأمر الذي منعوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 وكان أوّل من أسلم شاعرهم. وكان أشد شعرائه -عليه الصلاة والسلام- على الكفار حسان وكعب. ولما رجع -عليه الصلاة والسلام- من تبوك, وفد عليه همدان، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية، جعل مالك النمط يرتجز بين يديه   فإنَّ في حربهم فاترك عداوتهم ... شرًّا يخاض عليه السم والسلع أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشيع أهدى لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحب لسان حائك صنع فإنهم أفضل الأحياء كلهم ... إن جد بالناس جد القول، أو سمعوا قال: فقال الأقرع بن حابس، وأبى أن هذا الرجل المؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلمَّا فرغ القوم أسلموا، "وكان أوَّل من أسلم شاعرهم" الزبرقان بن بدر، لا الأقرع بن حابس، فإنه وفد قبلهم، وأسلم وشهد الفتح وحنينًا والطائف، وكان من المؤلَّفة، وحسن إسلامه، ولما حضر وفد قومه بني تميم كان معهم، كما ذكره بن إسحاق، قال: وجوزهم -صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، "وكان أشد شعرائه -عليه الصلاة والسلام- على الكفار حسَّان"؛ لأنه كان يقبل بالهجو على أنسابهم فيألمون، ويزيّف آراءهم، ويلزمهم الحجة التي لا يستطيعون لها ردًّا. "وكعب" بن مالك كان كثير المناقضة، ويخوّفهم بالحرب، وابن رواحة يعيرِّهم بالكفر، وكانوا لا يبالوا بأهاجيه، فلمَّا أسلم من أسلم منهم وجدوا أهاجيه أشد وأشق، وفي مسلم عن عائشة، قال -صلى الله عليه وسلم: "اهجوا المشركين، فإنه أشد عليهم من رشق النبل"، فأرسل إلى ابن رواحة، فقال: "اهجهم"، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلى كعب بن مالك، ثم أرسل إلى حسان، فقال: "قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه"، ثم أدلع لسانه، فجعل يحركه، ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينّهم بلساني فري الأديم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تعجل، فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابهم، وإن لي فيهم نسبًا حتى يلخّص لك نسبي"، فأتاه حسان ثم رجع، فقال: يا رسول الله، لقد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق نبيًّا لأسلنك، كما تسلّ الشعرة من العجين. الحديث، "ولما رجع -عليه الصلاة والسلام- من تبوك وفد عليه" من جملة الوفود سنة تسع "همدان" بفتح فسكون، "وعليهم مقطعات" ثياب قصار؛ لأنها قطعت عن لوث القمام، أو كلّ ما يفصّل ويخيط من قميص وغيره، كما في النهاية, "الحبرات" بكسر المهملة وفتح الموحدة, جمع حبرة, برود تصنع باليمن، "والعمائم العدنية" بفتحتين، نسبة إلى مدينة باليمن معروفة "جعل مالك النمط"، كذا في النسخ، وصوابه: ابن النمط بن قيس الهمداني، الصحابي "يرتجز بين يديه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 عليه الصلاة والسلام. وكان خطيبه -عليه الصلاة والسلام- ثابت بن قيس بن شمّاس -بمعجمة وميم مشددة وآخره مهملة- وهو خزرجي، شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة، وكان خطيبه وخطيب الأنصار، واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة. وكان يحدو بين يديه -عليه الصلاة والسلام- في السفر عبد الله بن رواحة، وفي رواية الترمذي في الشمائيل عن أنس أنه -عليه الصلاة والسلام- دخل مكة في عمرة القضية, وابن رواحة يمشي بين يديه ويقول: خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم ............   عليه الصلاة والسلام" يقول: إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف مخطمات بخطام الليف كما عند ابن هشام وتأتي القصة إن شاء الله تعالى، وكان المصنف أراد بذكر هذه القطعة في الشعراء تجويز عد مالك بن النمط من شعراء المصطفى، ولا يخفى ما فيه، فغاية ما ذكره أنه مادح، لا من الذابين الذين الكلام فيهم. "وكان خطيبه -عليه الصلاة والسلام- ثابت بن قيس بن شمّاش بمعجمة" مفتوحة "وميم مشددة، وآخره مهملة، وهو خزرجي، شهد له النبي -صلى الله عليه وسلم، بالجنة" في قصة شهيرة، رواها موسى بن أنس عن أبيه. أخرج أصل الحديث مسلم، "وكان خطيبه وخطيب الأنصار" روى ابن السكن عن أنس، قال: خطب ثابت بن قيس مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فقال: نمنَّعك مما نمنع منه أنفسنا، وأولادنا، فما لنا، قال: "الجنة"، قال: رضينا، "واستشهد يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة"، ونفذت وصيته بمنام، كما تقدَّم في الكتاب، ولا يعلم من أجيزت وصيته بعد موته غيره، "وكان يحدو بين يديه -عليه الصلاة والسلام- في السفر عبد الله بن رواحة"، الأمير المستشهد بمؤتة، أي: يقول الحداء -بضم المهملة، وهو الغناء للإبل. "وفي رواية الترمذي في الشمائل"، ولا داعية للتقييد، فكذا في سننه "عن أنس" بن مالك "أنه -عليه الصلاة والسلام والسلام- دخل مكة في عمرة القضية, وابن رواحة يمشي بين يديه، ويقول: خلو" تنحوا يا "بني الكفار عن سبيله" طريقه "اليوم نضربكم" بسكون الباء تخفيف، كقراءة أبي عمر، وإن الله يأمركم وقوله: اليوم أشرب غير مستحقب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 ....................... ... ............. على تنزيله ضربًا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله وقد تقدَّم مزيد لهذا في عمرة القضية والله أعلم. وعامر بن الأكوع -بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الواو وبالعين المهملة- وهو عمّ سلمة بن الأكوع، واستشهد يوم خيبر، ومرَّت قصته في غزوتها. وأنجشة: العبد الأسود -وهو بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة, وكان حسن الحداء. قال أنس: كان البراء بن مالك.   "على تنزيله"، أي: النبي مكة إن عارضتم، ولا نرجع كما رجعنا عام الحديبية، أو على تنزيل القرآن، وإن لم يتقدّم؛ كقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} , "ضربًا يزيل الهام" جمع هامة بالتخفيف: الرأس, "عن مقيله" أي: محل نومه وقت القائلة, كناية عن محل الراحة؛ إذ النوم أعظمها، ويذهل الخليل عن خليله"، لكونه يهلك أحدهما، فيذهب الهالك عن الحي، وعكسه، وبقية الحديث: فقال عمر: يا ابن رواحة, بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تقول الشعر، فقال -صلى الله عليه وسلم: "خلّ عنه يا عمر، فلهي فيهم أسرع من نضح النبل"، "وقد تقدَّم مزيد لهذا في عمرة القضية، والله أعلم". وفي رواية: أنه لما أنكر عمر علي، قال -صلى الله عليه وسلم: "يا عمر إني أسمع، فاسكت يا عمر". "وعامر بن الأكوع"، كان يحدو بين يديه, "بفتح الهمزة، وسكون الكاف، وفتح الواو، وبالعين المهملة" لقبه، واسم الأكوع: سنان بن عبد الله الأسلمي، الجاهد، والمجاهد بالنص النبوي "وهو عم سلمة" ابن عمرو "بن الأكوع"، كما عند ابن إسحاق وغيره، ووقع في رواية لمسلم أنه أخوه، قال في الإصابة: فيمكن التوفيق بأن يكون أخان على ما كانت الجاهلية تفعله، أو من الرضاعة، ففي رواية أخرى عند مسلم نفسه أنه عمّه، "واستشهد يوم خيبر" بعد أن قاتل بها قتالًا شديدًا، "ومرت قصته في غزوتها"، ومن جملتها حداؤه بقوله: "اللهم لولا أنت ما اهتدينا" إلى آخره، "وأنجشة: العبد الأسود"، كما في الصحيح، وقال البلاذري: كان حبشيًّا يكنَّى أبا مارية، "وهو بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح الجيم، وبالشين المعجمة، وكان حسن الحداء"، وفي الصحيح عن أنس: كان حسن الصوت. "قال أنس" في الصحيحين: "كان البراء بن مالك" الأنصاري أخو أنس لأبيه، وقيل: شقيقه, شهد المشاهد إلا بدرًا، قال -صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر، لا يؤبه له, لو أقسم على الله لأبره, منهم البراء بن مالك"، قال أنس: فلمَّا كان يوم تستر من بلاد فارس انكشف الناس، فقال المسلمون: يا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 يحدو بالرجال وأنجشة بالنساء، وقد كان يحدو وينشد القريض والرجز، فقال -عليه الصلاة والسلام -كما في رواية للبراء بن مالك: "عبد رويدك رفقًا بالقوارير" أي: النساء. فشبههن بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليها الكسر، فلم يأمن -عليه الصلاة والسلام- أن يصيبهنَّ أو يقع في قلوبهنَّ حداؤه, فأمره بالكف عن ذلك. وفي المثل: الغناء رقية الزنا. وقيل: أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت فأزعجت الراكب وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة.   براء, أقسم على ربك, فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك، فحمل وحمل الناس معه، فقتل هرمزان من عظماء الفرس، وأخذ سلبة، فانهزم الفرس، وقُتِلَ البراء. رواه الترمذي والحاكم، وذلك في خلافة عمر سنة عشرين، وقيل: قبلها، وقيل: سنة ثلاث وعشرين, "يحدو بالرجال"، وكان حسن الصوت، كما قاله أنس في المستدرك، "وأنجشة بالنساء". زاد الطيالسي: فإذا اعتقب الإبل، قال -صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير"، وقد كان" أنجشة "يحدو وينشد القريض والرجز" الشعر، قال الجوهري: قرض الرجل الشعر، أي: قاله، والشعر قريض، فإن جعل منه فعطف خاصٍّ على عام، وإن جعل غيره فمباين، وفيه خلاف عند العروضيين، "فقال -عليه الصلاة والسلام- كما في رواية للبراء بن مالك" بن النضر: يا "عبد"، فهو منادى بحذف الأداة, "رويدك"، قال ابن مالك: هو اسم فعل بمعنى: أرود، أي: أمهل مصدرًا مضافًا للكاف, "رفقًا بالقوارير". وفي الصحيحين عن أنس: أن أنجشة حدا بالنساء في حجة الوداع، فأسرعت الإبل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رفقًا بالقوارير"، "أي: النساء، فشبههن بالقوارير من الزجاج؛ لأنه يسرع إليها الكسر"، كما يسرع الكسر المعنوي إلى النساء، "فلم يأمن -عليه الصلاة والسلام- أن يصيبهنَّ، أو يقع في قلوبهم حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك" خوفًا على دينهنَّ، "وفي المثل: الغناء رقية الزنا"، أي: طريقه الموصِّل إليه، "وقيل: أراد أنَّ الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واشتدت، فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عن شدة الحركة"، لا خوفًا من وقوعه في قلوبهنَّ. قال الدماميني: وحمله على هذا قرب إلى ظاهر لفظه من الحمل على الأوّل. انتهى، ويؤيده ما في مسلم عن أنس، كان لرسول الله حادّ حسن الصوت، فقال -صلى الله عليه وسلم- له: "رويدك يا أنجشة، لا تكسر القوارير"، يعني: ضعفة النساء، والتأييد بهذا ليس بالقوي، بل هو محتمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 الفصل الثامن: في آلات حروبه -عليه الصلاة والسلام, كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه أما أسيافه -عليه الصلاة والسلام, فكان له تسعة أسياف: مأثور، وهو أوّل سيف ملكه -عليه الصلاة والسلام   "الفصل الثامن: في آلات حروبه" التي يُسْتَعان بها فيه, سواء كانت للقتل كالسيف، أو للمنع كالدرع، وفي القاموس: الآلة ما اعتملت به من أداة تكون واحدًا وجمعًا، أو هي جمع، بلا واحد، أو واحد جمعه آلات، فمشى المصنف على الثالث؛ إذ عَبَّرَ بالجمع، والإضافة جنسية؛ لأنه لم يقاتل بها دفعة واحدة، ولا في حرب واحد "عليه الصلاة والسلام؛ كدروعه، وأقواسه، ومنطقته، وأتراسه". روى أحمد وابن أبي شيبة عنه -صلى الله عليه وسلم: "بعثت بين يدي الساعة مع السيف، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تَشَبَّه بقوم فهو منهم" فيه إشارة إلى فضل الرمح، وحِلّ الغنائم، وأنَّ رزقه -صلى الله عليه وسلم- جُعِلَ فيها، لا في غيرها من المكاسب، ولذا قيل: إنها أفضل المكاسب. والمراد بالصغار -بفتح المهملة، وبالمعجمة: بذل الجزية، وفي قوله: "تحت ظلّ رمحي" إشارة إلى أن ظله ممدود إلى أبد الأبد، وحكمة الاقتصار على الرمح دون غيره من آلات الحرب كالسيف, أن عادتهم جرت بجعل الرايات في أطراف الرماح، فلمَّا كان ظل الرمح أسبغ, كان نسبة الرزق إليه أليق، ونسبت الجنة إلى ظل السيف في قوله -صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال السيوف"؛ لأن الشهادة تقع به غالبًا؛ ولأن ظل السيف يكثر ظهوره بكثرة حركة السيف في يد المقاتل، ولأنَّ ظله لا يظهر إلا بعد الضرب؛ لأنه قبل ذلك يكون مغمدًا معلقًا. أفاده في فتح الباري. "أمَّا أسيافه -عليه الصلاة والسلام" قدَّمَها على غيرها؛ لأنها أهم آلات الحرب، وإن لم تذكر في الأمثلة، فالترجمة شملتها، وآثر جمع القلة، فلم يقل: سيوفه, لمناسبته لكونها تسعة، كا قال، "فكان له تسعة أسياف: مأثور" بهمزة ساكنة ومثلثة، "وهو أول سيف ملكه -عليه الصلاة والسلام", ورثه من أبيه. ذكره اليعمري، وهي مسألة نزاع, حتى قال بعضهم: ليس في كون الأنبياء يرثون نقل، وبعضهم قال: لا يرثون، كما لا يورَثون، وإنما ورث أبويه قبل الوحي، وصرَّح شيخ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وهو الذي يقال: إنه قدم به إلى المدينة في الهجرة. والعضب: أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر. وذو الفقار: لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، ويجوز في "فائه" الفتح والكسر، وصار إليه يوم بدر، وكان للعاص بن منبه،   الإسلام في شرح الفصول بأنهم يرثون، وبه جزم الفرضيون. وذكر الواقدي: أنه -صلى الله عليه وسلم- ورث من أبيه أم أيمن وخمسة أجمال وقطعة من غنم، ومولاه شقران وابنه صالحًا، وقد شهد بدرًا, ومن أمِّه دارها بالشعب، ومن زوجته خديجة دارها بمكة بين الصفا والمروة وأموالًا، "وهو الذي يقال: إنه قدم به المدينة في الهجرة"، وبه جزم اليعمري، "والعضب" بفتح المهملة، وإسكان المعجمة، فموحدة في الأصل: السيف القاطع، ثم جُعِلَ علمًا لأحد الأسياف النبوية، أرسله إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وذو الفقار" أشهر أسيافه -صلى الله عليه وسلم، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وهو غير العضب، وحكى مغلطاي أنهما واحد، وسمي بذلك؛ "لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر"، وقيل: سمي بذلك لأنه كان فيه حفر صغار، والفقرة الحفرة التي فيها الودية. وقال أبو عبيد: الفقر من السيوف ما فيه خروز. قال الأصمعي: دخلت على الرشيد فقال: أريكم سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا الفقار, قلنا: نعم, فجاء به، فما رأيت سيفًا قط أحسن منه, إذا نُصِبَ لم ير فيه شيء، وإذا بطح عُدَّ فيه سَبُع فقر، وإذا صفيحة يمانية يحار الطرف فيه من حسنه. وكذا قال قاسم في الدلائل: إن ذلك يرى في رونقه شبيهًا بفقار الحية، فإذا التمس لم يوجد، وفي رواية عن الأصمعي أحضر الرشيد يومًا ذا الفقار، فأذن لي في تقليبه فقلَّبته، واختلفت أنا ومن حضر في عدة فقاره، هل هي سبع عشرة، أو ثماني عشرة؟ "ويجوز في فائه الفتح، والكسر"، كما قال اليعمري: هو بكسر الفاء، وقيل أيضًا: بفتحها، ومن حفظ حجة فلا عليك ممن زعم أنه لا يقال: بالكسر، بل بالفتح، وفقر كعنب، وقد قال في النور في غزوة بني قينقاع: حكى غير واحد فيه الفتح والكسر أ. هـ، وقول الخطابي: بفتح الفاء، والعامة تكسره, إن أراد الأكثر فصحيح، وإن أراد الجهلة فلا، "وصار إليه يوم بدر" من الغنيمة، كما أخرجه أحمد والترمذي وقال: حسن غريب، والحاكم، وصحَّحه عن ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- تنفل ذا الفقار يوم بدر، قال الحاكم: والأخبار في أنه من خيبر واهية، "وكان للعاص بن منبه" المقتول كافرًا ببدر، وقيل: كان لمنبه بن وهب، وقيل: لمنبه أو نبيه بن الحجاج، وفي كبير الطبراني بسند ضعيف، عن ابن عباس: أن الحجاج بن علاط أهداه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم كان عند الخلفاء العباسيين، ويقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وكان هذا السيف لا يفارقه -صلى الله عليه وسلم, يكون معه في كل حرب يشهدها، وكانت قائمته وقبيعته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة. والقلعي: بضم القاف وفتح اللام، وهو الذي أصابه من قلع، موضع بالبادية. والبتار: أي: القاطع. والحتف: وهو الموت. والمخذم: وهو القاطع. والرسوب: أي يمضي في الضريبة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب إذا ذهب إلى أسفل وإذا ثبت. أصابهما من الفلس -بضم الفاء وإسكان اللام- صنم كان لطيء.   أصله من حديدة وُجِدَت مدفونة عند الكعبة فصُنِعَ منها، "وكان هذا السيف لا يفارقه -صلى الله عليه وسلم" بعد أن ملكه, "يكون معه في كل حرب يشهدها"؛ لأنه نادى مَلَك من السماء يوم بدر -يقال له رضوان: لا سيف إلّا ذو الفقار، ولا فتى إلّا علي. رواه الحسن بن عرفة في جزئه عن أبي جعفر الباقر، فإن صحَّ القول بأنه -عليه السلام- أعطاه لعلي، وانتقل في أولاده، فكأنَّه كان يأخذه منه في الحروب، أو أنه أعطاه له عند موته، "وكانت قائمته" أي: مقبضه، "وقبيعته" بالقاف ما على طرف مقبضه، "وحلقته" بإسكان اللام وفتحها لغة في السكون، وهي ما في أعلاه تجعل فيه العلاقة، "وذؤابته" بمعجمة، أي: علاقته -كما في العيون، "وبكراته" حلقه التي في حليته، وهي ما يكون في وسطه، "ونعله" حديدته التي في أسفل غمده "من فضة"، قال مرزوق الصقال: أنا صقلته، فكانت قبعته من فضة، وحلق في قيده، وبكر في وسطه من فضة. وجاء بسند حسن أن قبيعة سيفه، ونعله، وحلقًا بينهما كانت من فضة، "والقلعي -بضم القاف" الذي في النهاية، والدر، واللب غيرها أنه بفتح القاف، "وفتح اللام، وهو الذي أصابه من قلع"، بفتحتين، فعين مهملة "موضع" هو قلعة "بالبادية"، يقال لها مرج بالجيم، وشدّ الفوقية، ثم راء، "أي: القاطع الحتف" بفتح المهملة، وسكون الفوقية ففاء، "وهو الموت" ومن قال: التحتية، فهو سبق قلم؛ إذ هو الحور، ولا معنى له هنا. "والمخذم" بكسر الميم، وإسكان الخاء، وفتح الذال المعجمتين، ثم ميم، "وهو القاطع والرسوب، بفتح الراء، وضم المهملة، وسكون الواو، فموحدة, قيل: إنه من السيوف السبعة التي أهدت بلقيس بسليمان، كما في النور، "أي: يمضي في الضريبة ويغيب فيها، وهو فعول من رسب يرسب" بضمّ السين "إذا ذهب إلى أسفل، وإذا ثبت" استقرَّ؛ لأن ضربته تغوص في المضروب به، وتثبت فيه "أصابهما"، أي: المخذم والرسوب "من الفلس -بضم الفاء، وإسكان اللام، وقيل: بضمهما، وقيل: بفتح الفاء، وسكون اللام، وآخره سين مهملة "صنم كان لطيئ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 والقضيب. وأمَّا أدراعه فسبعة: ذات الفضول -بالضاد المعجمة، لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهي التي رهنها عند أبي الشحم اليهودي على شعير، وكان ثلاثين صاعًا، وكان الدَّيْن إلى سنة.   كان الحارث قلَّده إياهما، فبعث المصطفى عليًّا سنة تسع، فهدمه، وغنم سبيًا، وشاءً، ونعمًا، وفضة، فعزل علي له -صلى الله عليه وسلم- صفيا السيفين، وذكر ابن هشام عن بعض أهل العلم: إنه -عليه الصلاة والسلام- وهبهما لعلي. وذكر أبو الحسن المدائني: إن زيد الخيل أهداهما للمصطفى لما وفد عليه، "والقضيب" بفتح القاف، وكسر المعجمة، وسكون التحتية، وموحدة, يطلق بمعنى: اللطيف من السيوف، وبمعنى: السيف القاطع، كما في النور، وقيل: إنه ليس بسيف، بل هو قضيبه الممشوق، قال العراقي: وقيل ذا قضيبه الممشوق ... كان بأيدي الخلفا يشوق وزاد اليعمري وغيره: الصمصامة، ويقال له: الصمصام -بفتح المهملة، وإسكان الميم فيهما، السيف الصارم الذي لا ينثني، كان سيف عمرو بن معديكرب، وكان مشهورًا، فوهبه -صلى الله عليه وسلم- لخالد بن سعيد بن العاص، واللحيف: سيف مشهور، فهذه أحد عشر، أو عشرة إن حذف منها القضيب، "وأمَّا أدراعه" جمع درع، وهو القميص المتَّخَذ من الزرد، وآثر جمع القلة لمناسبته لقوله: "فسبعة"، وعبَّرَ في الترجمة بجمع كثرة؛ لأنه لم يذكر ثَمَّة عددًا، فحسن تعبيره بدروعه؛ ليفيد أن له جمعين، وذكر ابن الأثير في النهاية في س ب غ ما لفظه، ومنه الحديث. كان اسم درع النبي -صلى الله عليه وسلم- إذًا السبوغ لتمامها، وسبغها، قال البرهان: فيحتمل أنها واحدة من أدراعه، لها اسمان، وأن تكون ثامنة "ذات الفضول -بالضاد المعجمة"، قبلها فاء مضمومتين، سميت بذلك "لطولها" من الفضل: الزيادة، "أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت" كما في الصحيح عن عائشة "من حديد، وهي التي رهنها" بالتأنيث؛ لأن الدرع يُذَكَّر ويؤنَّث "عند أبي الشحم" -بفتح الشين المعجمة، وسكون الحاء المهملة "اليهودي"، المسمَّى بذلك في رواية البيهقي "على" ثمن "شعير" اشتراه لأهله، ولابن حبان عن أنس أن قيمته كانت دينارًا، "وكان ثلاثين صاعًا"، وفي نسخة: ثلثي صاع، وهو تحريف، فالذي في الصحيح عن عائشة: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير. وعند النسائي والبيهقي أن الشعير عشرون صاعًا. قال الحافظ: ولعلَّه كان دون الثلاثين، فجبر الكسر تارة، وألغاه أخرى، "وكان الدَّيْن إلى سنة"، كما عند ابن حبان عن أنس، ولأحمد عنه، فما وجد ما يفتكها به، وذكر ابن الطلاع في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وذات الوشاح. وذات الحواشي. والسعدية، ويقال بالغين، وهي درع عكبر القيقاعي، قيل: وهي درع داود التي لبسها حين قتل جالوت. وفضة وكان قد أصابهما من بني قينقاع. والبتراء لقصرها، والخرنق -باسم ولد الأرنب. وكان عليه -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد درعان، ذات الفضول وفضة. وكان عليه يوم حنين درعان: ذات الفضول والسعدية. وأما أقواسه -عليه الصلاة والسلام, فكانت ستة:   الأقضية النبوية: إن أبا بكر افتكَّ الدرع بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، "وذات الوشاح" بكسر الواو، وخفة الشين المعجمة فألف فمهملة، "وذات الحواشي" جمع حاشية، وهي في الأصل: جانب الثوب، "والسعدية" بفتح السين، وجوَّز بعض ضمَّها، وإسكان العين، ودال مهملات. قال بعضهم: منسوبة للسعد، وهي جبال معروفة، وفي معرب الجواليقي أنه بالسين والصاد؛ لأنه قياس في كل سين معها حرف استعلاء, قال الشاعر: وخافت من جبال السعد نفسي "ويقال بـ"ضم السين، و"الغين" المعجمة الساكنة. قال البرهان: وهو الذي أحفظه، قال ابن القطاع: موضع يصنع به الدروع، أي: ناحية بسمرقند، كما في اللب، وفي القاموس, وسغدان، أي: بمعجمة كسلطان, قرية ببخارى، فجوَّز شيخنا نسبتها إليها لكونها تعمل فيها، وفيه أنه كان يقال: سغدانية؛ لأن تغيير النسب يحتاج لنقل، ولا يكفي فيه التجويز، "وهي درع عكبر القينقاعي" نسبة إلى بني قينقاع -بتثليث النون والضم أشهر، "قيل: وهي درع داود التي لبسها حين قتل جالوت"، كما حكاه اليعمري ومغلطاي، "وفضة" بكسر الفاء، "وكان قد أصابهما من بني قينقاع" بطن من يهود المدينة، "والبتراء" بفتح الموحدة، وسكون الفوقية، والمد "لقصرها" سميت بذلك، "والخرنق" بكسر المعجمة، وإسكان الراء، وكسر النون، وقاف, "باسم ولد الأرنب"، كما في العيون وغيرها، وهو أحد إطلاقين في القاموس, ثانيهما: أنه الفتي من الأرانب، "وكان عليه -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحدٍ درعان: ذات الفضول وفضة، وكان عليه يوم حنين" بضم المهملة آخره نون "درعان: ذات الفضول، والسعدية"، نقله عبد الغني في السيرة عن محمد بن مسلمة الصحابي، أنه رأى ذلك على المصطفى في اليومين، وأفاد البرهان وغيره: أنه لم يظاهر بين درعين إلّا في اليومين، وهذه فائدة استطرادية لا دخل لها في أسماء دروعه، "وأما أقواسه -عليه الصلاة والسلام، فكانت ستة" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 الزوراء، وثلاث من سلاح بني قينقاع: قوس يدعى الروحاء، وقوس يدعى الصفراء، وشوحط، والكتوم كسرت يوم أُحد, فأخذها قتادة، والسداد. وكانت له جعبة تدعى الكافور، وكانت له منطقة من أديم فيها ثلاث حِلَق من فضة، والإبزيم من فضة، والطرف من فضة. وأما أتراسه: فكان له -عليه الصلاة والسلام- ترس اسمه: الزلوق، يزلق عنه السلاح، وترس يقال له: الفتق،   وعدَّها اليعمري خمسة، فأسقط السداد، وذكر البيضاء، وأنها من شوحط، وعليه: فهما واحدة، فليست سبعة ولا خمسة كما يظن، وإنما هي كما قال المصنِّف ستة: "الزوراء" اسم منقول عن الجنس؛ لأن الزوراء اسم للقوس، كما في القاموس، وهي بالرفع خبر لمحذوف، لا بالنصب بدل من ستة؛ لقوله: "وثلاث من سلاح بني قينقاع، قوس" بدل من ثلاث "يدعى الروحاء، وقوس يدعى الصفراء" من نبع بفتح النون، وإسكان الموحدة، ومهملة، شجر يُتَّخَذُ منه القسي، ومن أغصانها السهام، "وشوحط" بفتح المعجمة وإسكان الواو فحاء مفتوحة فطاء مهملتين, ضرب من شجر الجبال تُتَّخَذُ منه القسي، كما في النور، ويقال لها كما في العيون: البيضاء، فإنما ذكر المصنف مما هي دون اسمها، "والكتوم" بكاف مفتوحة ففوقية, سميت بذلك، قال في العيون: لانخفاض صوتها إذا رمي عنها. "كسرت يوم أحد" حتى صارت شظايا من كثرة رميه عنها -صلى الله عليه وسلم, حتى انحاز عنه العدو، "فأخذها قتادة" بن النعمان الأنصاري الذي أصيبت عينه يومئذ، فردَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرد. "والسداد" بفتح السين, علم منقول؛ لأنه الصواب من قول وعمل، "وكانت له جعبة" بفتح الجيم، والموحَّدة بينهما مهملة ساكنة، وهي الكنانة يجمع فيها نبله, "تدعى: الكافور، وكانت له منطقة" بكسر الميم, اسم لما يسميه الناس الحياصة, "من أديم" جلد "فيها ثلاث حلق من فضة". "والإبزيم" بالكسر, الذي في رأس المنطقة، وما أشبهه، وهو ذو لسان يدخل فيه الطرف الآخر، كما في القاموس "من فضة، والطرف" الذي يدخل في الإبزيم "من فضة". وقد ذكر ابن سعد، وغيره: أنه -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد حزم وسطه بمنطقة، وأقرّه اليعمري وغيره، فقول ابن تيمية: لم يبلغنا أنه شدَّ على وسطه منطقة, تقصير، فابن سعد ثقة حافظ، فهو حجة على النافي، ولا سيما إنما نفى أنه بلغه، ولم يطلق النفي، فدع عنك قيل وقال. "وأمَّا أتراسه: فكان له -عليه الصلاة والسلام- ترس اسمه الزلوق" بفتح الزاي، وضم اللام المخففة، وسكون الواو، وقاف، سمي بذلك لأنه "يزلق" بفتح اللام "عنه السلام، وترس يقال له: الفتق" بضم الفاء وفتح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 وترس أهدي إليه، فيه تمثال عقاب أو كبش، فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال. وأمَّا أرماحه -عليه الصلاة والسلام، فالمثوي: قال ابن الأثير: سمي به لأنه يثبت المطعون به، من الثواء وهو الإقامة. انتهى. والمثْنَى، ورمحان آخران. وكانت له -صلى الله عليه وسلم- حربة كبيرة تسمَّى البيضاء، وكانت له -عليه الصلاة والسلام- حربة أخرى صغيرة دون الرمح, شبه العكاز، يقال لها: العنزة,   الفوقية، وقاف، "وترس أهدي إليه" بالبناء للمفعول. قال البرهان: والذي أهداه لا أعرفه، "فيه تمثال" صورة "عقاب أو كبش، فوضع يده عليه، فأذهب الله ذلك"، كما في العيون. وروى البيهقي عن عائشة أنها قالت: أهدي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترس فيه "تمثال" عقاب أو كبش، فكرهه، فأصبح وقد أذهبه الله، فيحتمل أنه لما كرهه وضع يده، فأصبح وقد أذهبه الله، "وأما أرماحه -عليه الصلاة والسلام، فالمثوي" بضم الميم وإسكان المثلثة وكسر الواو ثم ياء، أي: القاتل. "قال ابن الأثير: سمي به؛ لأنه يثبت المطعون به"، فبينه وبين المعنى اللغوي مناسبة "من الثواء وهو الإقامة أ. هـ، والمثْنَى" بضم الميم وإسكان المثلثة وفتح النون وكسرها, اسم فاعل من تثنى إذا انعطف، كما في النور، ولعل وجه التسمية أنه كان لينًا، "ورمحان آخران"، كذا عدَّها مغلطاي أربعة، فتبعه المصنف على عادته، وقد عدَّها صاحب العيون، والهدى، والسبل, والعراقي: خمسة، فقال: كان له من الرماح خمسة ... من قينقاع جاءه ثلاثة ورابع له يسمَّى المثويا ... والخامس المثنى بذاك سميا "وكان له -صلى الله عليه وسلم- حربة كبيرة" بالنسبة للتي بعدها، وإن كانت دون الرمح أيضًا "تسمَّى البيضاء، وكانت له -عليه الصلاة والسلام- حربة أخرى صغيرة دون الرمح" بنصفه، عريضة النصل، لكن سنانها في أسفلها بخلاف الرمح، فإنه في أعلاه. قال المصنف: "شبه العكّاز" بضمّ العين وشد الكاف: عصا ذات زج، "يقال له: العنزة" بفتح المهملة، والنون والزاي. قال الحافظ: عصا أقصر من الرمح، يقال لها: سنان، وقيل: هي الحربة القصيرة، وفي رواية: كريمة العنزة عصا عليها زج -بزاي مضمومة ثم جيم مشددة، أي: سنان، وفي طبقات ابن سعد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وكانت تركّز أمامه فيصلي إليها. وكان له -عليه الصلاة والسلام- مغفر من حديد يسمَّى السبوغ، أو ذا السبوغ، وآخر يسمى: الموشح.   إن النجاشي أهداها للنبي -صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤيد أنها كانت على صفة الحربة؛ لأنها من آلات الحبشة. وقد روى عمر بن شبة في أخبار المدينة, من حديث سعد القرظ: إن النجاشي أهدى له -صلى الله عليه وسلم- حربة، فأمسكها لنفسه، فهي التي يمشي بها مع الإمام يوم العيد، ومن طريق الليث بن سعد بلاغًا أنها كانت لرجل من المشركين، قتله الزبير بن العوام يوم أُحد، فأخذها منه -صلى الله عليه وسلم، فكان ينصبها بين يديه إذا صلى، ويحتمل الجمع بأن عنزة الزبير كانت أولًا قبل حربة النجاشي. انتهى، لكن هذا البلاغ مخالف لما في الصحيح، أنَّ الزبير لقي يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص، قال: فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه فمات، ولقد وضعت رجلي على عينه، ثم تمطأت، فكأن الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفها، قال عروة: فسأله إياها -صلى الله عليه وسلم، فأعطاه، فلما قُبِضَ أخذها، ثم طلبها أبو بكر، فأعطاه إياها، فلمَّا قُبِضَ أخذها، فسألها عمر، فلمَّا قُبِضَ أخذها، ثم طلبها عثمان، فأعطاه، فلمَّا قُتِلَ وقعت عند علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قُتِلَ، فإن هذا ظاهر أنها كانت للزبير، لا للمشرك الذي قتله، وقد نقل ابن سيد الناس وغيره: أن الزبير قدم بها من الحبشة، "وكانت" كما في الصحيح عن ابن عمر "تركز" بفوقية مضمومة وكاف مفتوحة فزاي، أي: تغرز له الحربة، "فيصلي إليها"، أي: إلى جهتها. وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج إلى العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، فمن ثَمَّ اتخذها الأمراء، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- مغفر" بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح الفاء ثم راء "من حديد"، صفة لازمة على أنه ما نسج من زرد الدرع، أو مخصصة على أنه ما يلبس على الرأس مثل القلنسوة، وقد مَرَّ الكلام فيه غير مرة، منها في فتح مكة، "يسمَّى: السبوغ" بفتح السين المهملة وضمها فموحدة، فواو فغين معجمة، كما في النور، بمعنى: السابغ، أي: الطويل، "أو ذا السبوغ" بالفتح والضم أيضًا على ما في النور، وفي القاموس: ضمهما، أي: ذا الطول، وهو ظاهر, قول الخلاصة: وفعل اللازم مثل قعدا ... له فعول باطراد كغدا فكأنه على الفتح استعمل بمعنى الفعل الذي هو المصدر، وهو الستر اللازم للطول، وإن كان ذلك الاستعمال قليلًا، "وآخر يسمَّى الموشح" بضم الميم وفتح الواو والشين المعجمة المشددة والمهملة, وترك المصنّف هنا من آلات الحرب اللواء والراية؛ لأنه قدَّم الكلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 تكميل: وكان له -عليه الصلاة والسلام- فسطاط يسمَّى الكن. وكان له محجن قدر ذراع أو أكثر يمشي ويركب به, ويعلقه بين يديه على بعيرة. وكانت له مخصرة تسمَّى العرجون، وقضيب من الشوحط يسمَّى الممشوق. وكان له قدح يسمَّى الريان، وآخر يسمَّى مغيثًا، وآخر مضبب بسلسلة من فضة في ثلاث مواضع،   عليهما أوائل المغازي. وفي العيون هنا: كان له راية سوداء تسمَّى العقاب, وراية بيضاء تسمَّى الزينة، وربما جعل فيها الأسود، وروى أبو داود عن رجل, رأيت راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صفراء، وروي أن لواءه أبيض مكتوب عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. تكميل: لما كان يستعمله -صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن من آلات الحرب، تشتاق إلى معرفتها أنفس الطالبين، وترتاتح بالمذاكرة فيها قلوب المتأدبين، وكل ما كان من باب المعرفة به، ومتصلًا بأخبار سيرته، فهو مما يؤنق الأسماع، ويهز بأرواح المحبة الطباع، وآثر آلات الحروب بالترجمة أولًا؛ لأنها الأهمّ عنده، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- فسطاط" بضم الفاء وكسرها وبالطاء والتاء مكانها، والسين بدونهما: الخباء، كما في المطالع "يسمَّى الكِن" بكسر الكاف؛ لأنه يستر من الحرِّ والبرد، كما أشار اليعمري، "وكان له محجن" بكسر الميم وإسكان المهملة وفتح الجيم ونون, عصا معوجة "قدر ذراع أو أكثر, يمشي ويركب به، ويعلقه بين يديه على بعيره" للاحتياج إليه، "وكانت له مخصرة" بكسر الميم وإسكان المعجمة وفتح المهملة, ما يختصره بيده فيمسكه من عصا، أو عجازة، أو مقرعة، أو قضيب، وقد يتكئ عليه, كذا في النور, "تسمَّى العرجون"، كما قال اليعمري وغيره. "وروى الطبراني عن ابن عباس، قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم "قضيب من الشوحط", مَرَّ أنه من شجر الجبال "يسمَّى الممشوق"، وقال ابن عباس: التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، وكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عصا يتوكأ عليها. رواه أبو الشيخ، "وكان له قدح يسمَّى الريَّان"، بفتح الراء وشد التحتية، "وآخر يسمَّى مغيثًا"، بمعجمة ومثلثة؛ لأنه كن يغيث الناس إذا مستهم الحاجة، فيشربون، كما رواه أبو يعلى وغيره، "وآخر مضبَّب بسلسلة من فضة في ثلاث مواضع"، والذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وآخر من عيدان، وآخر من زجاج. وتور من حجارة يسمَّى المخضب، وركوة تسمَّى الصادرة، ومخضب من نحاس، ومغتسل من صفر، ومدهن.   ضبَّبه أنس، قال: إنه انشعب، فجعلت في مكان الشعب سلسلة، وفي بعض الروايات ما يوهم أن المصطفى هو الذي ضبَّبه، وليس كذلك، كما أفاده ابن الصلاح والبيهقي. ذكره النووي، "وآخر من عيدان" بفتح المهملة وسكون الياء آخر الحروف، والعيدانة: النخلة السحوق، كما في العيون والقاموس، وحكى بعضهم كسر العين أيضًا، "وآخر من زجاج" مثلث الزاي، كما في النور. قال ابن حبان: بعثه إليه النجاشي، فكان يشرب منه, زاد الشامي: وآخر من فخار، فيحتمل أنه من جملة ما تقدَّم، أو زائد عليها، "وتور" بالفوقية, إناء "من حجارة" كان يتوضأ فيه، قال في الفتح: شبه الطست، وقيل: هو الطست، ووقع في رواية شريك عن أنس في المعراج: أتي بطست من ذهب فيه تور، وظاهره المغايرة بينهما، ويحتمل الترادف، فكأنَّ الطست أكبر من التور "يسمَّى المخضب" بكسر الميم، وسكون الخاء وفتح الضاد المعجتمين آخره موحدة، إجانة لغسل الثياب، أو المركن، أو إناء يغسل فيه، كذا قاله المصنف، وصريحه أن المركن غير الإجانة، والذي في الكرماني، وغيره المخضب المركن، وهو بالكسر: الإجانة التي تغسل فيها الثياب. انتهى. وهو يقع على الكبير والصغير، وهو الواقع هنا، ففي الصحيحين: حضرت الصلاة، فأتي -صلى الله عليه وسلم- بمخضب من حجارة فيه ماء، فصغَّر المخضب أن يبسط فيه كفه، "وركوة" بفتح الراء وتكسر، قاله ابن قرقول، وحكى ابن دحية تثليثها "تسمَّى الصادرة"؛ لأنه يصدر عنها الريّ، "ومخضب من نحاس" كأنه عبَّرَ بالتور؛ لأنهم كانوا يطلقونه على ما كان من حجارة، وما هو نحاس مخضب، وإن كان كلٌّ يسمَّى المخضب، لكن في شرحه للبخاري: التور إناء من صفر، أو حجارة، "ومغتسل من صفر" بضم المهملة, وكسرها أبو عبيدة، وإسكان الفاء، وبالراء: صنف من جيِّد النحاس يعمل منه الأواني، "ومدهن" بضم الميم والهاء، كما قال ابن مالك في شرح لامية أبيه، قال: وهو ما يجعل فيه الدهن الذي يدهن به, مختصة به, حتى لو جعل في إناء آخر لم يسمّ مدهنًا، فعدلت العرب به عن مِفعل -بكسر الميم وفتح العين إلى مُفعل -بضم الميم والعين، إشعارًا بأنه إناء لا آلة، وكذا مدق، ومسعط، ومكحلة ومنخل. والمقصل وهو السيف، والمحرضة وهي كالمدهن، فهذه سبعة جاءت بضم الميم والعين. قال ابن مالك: لكن لو قصد بها مقصد العمل بالآلات ساغ كسر الميم وفتح العين، وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وربعة إسكندرانية يجعل فيها المرآة، ومشطًا من عاج -وهو الذبل، والمكحلة يكتحل منها عند النوم ثلاثًا في كل عين، وكان له في الربعة أيضًا المقراض والسواك. وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الأسكندرية مع مارية أم إبراهيم -عليه السلام. وكانت له قصعة تسمَّى الغراء، بأربع حلق وصاع ومد. وقطيفة وسرير قوائمه من ساج،   سمع ذلك من بعض العرب في المدق أ. هـ بحروفه. "وربعة" بفتح الراء وإسكان الموحدة وعين مهملة، كجونة العطَّار -بإسكان الواو، وربما همزت، وهي جلد يجعل فيه العطار الطيب، "إسكندرانية" نسبة إلى إسكندرية، "يجعل فيها المرآة" التي كان ينظر فيها، فلم تبد أوسم من وجهه -صلى الله عليه وسلم، "و" يجعل فيها "مشطًا" بضم الميم مع إسكان الشين، وضمها, وكسر الميم مع إسكان الشين، ويقال: ممشط -بميمين: الأولى مكسورة "من عاج"، وهو ظهر السلحفاة البحرية، كما في المصباح قائلًا: وعليه يحمل أنه كان لفاطمة سوار من عاج، ولا يجوز حمله على أنياب الفيلة؛ لأن أنيابها ميتة بخلاف السلحفاة. انتهى. وعليه يحمل المشط النبوي بالأولى ومن ثَمَّ قال المصنف: "وهو الذبل" بفتح المعجمة وإسكان الموحدة، وباللام. قال المصباح: شيء كالعاج، وفي القاموس: عظام دابة بحرية يتَّخَذُ منها الأسورة والأمشاط، "و" يجعل فيها "المكحلة"، وكان "يكتحل منها عند النوم ثلاث في كل عين، وكان له في الربعة أيضًا المقراض" بكسر الميم، والجمع: المقاريض، "والسواك" بكسر السين على الأفصح، كما قاله الحافظ والكرماني, يطلق على الفعل والآلة، وهو المراد هنا، "وهذه الربعة أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية مع مارية أم إبراهيم -عليه السلام" في جملة ما أهداه, وفي الألفية: كانت له ربعة أي مربعه ... كجونة يجعل فيها أمتعه "وكانت له قصعة" بفتح القاف ولا تكسرها, "تسمَّى: الغراء" كبيرة، "بأربع حلق"، يحملها أربعة رجال، كما رواه أحمد وأبو داود. قال ابن رسلان في شرحه تأنيث الأغر: مشتق من الغرة، وهي بياض الوجه وإضاءته، ويجوز أن يراد أنها من الغرة، وهي الشيء النفيس والمرغوب فيه، فتكون سميت بذلك لرغبة الناس فيها؛ لنفاسة ما فيها، أو لكثرة ما تشبعه. وقال المنذري: سميت غراء لبياضها بالألية والشحم، "وصاع ومد" ربع الصاع، وهو رطل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وفراش من أدم حشوة ليف. وخاتم من حديد ملوي بفضة، وخاتم فضة فصه منه، يجعله في يمينه، وقيل: كان أولًا في يمينه, ثم حول إلى يساره، منقوش عليه: محمد رسول الله. وأهدى له النجاشي خفَّين ساذجين فلبسهما. وكان له ثلاث جباب يلبسهن في الحرب، جبة   وثلث، "وقطيفة" كساء له خمل، "وسرير قوائمه من ساج" أهداه إليه أسعد بن زرارة, فكان ينام عليه، ثم وضع عليه لما مات، ثم الصديق، ثم الفاروق، ثم صار الناس يحملون عليه موتاهم تبركًا به، ثم بيع في زمن بني أمية في ميراث عائشة، فاشترى ألواحه عبد الله بن إسحاق بأربعة آلاف درهم، ذكره ابن العماد. وفي الروض: إنه كان خشبات مشدودة بالليف، "وفراش من أدم حشوه ليف"، زاد في العيون: وكساء من شعر، وكساء أسود، ومنديل يمسح به وجهه، وسُئِلَت حفصة: ما كان فراشه -صلى الله عليه وسلم، قالت: مسح نثنيه ثنيتين، فينام عليه، فلمَّا كان ليلة ثنيته بأربع ثنيات ليكون أوطأ، فلما أصبح، قال: "ما فرشتم لي"؟ قلنا: هو فراشك ثنيناه أربعًا، قال: "ردوه لحاله الأولى، فإنه منعتني وطأته صلاة الليل"، رواه الترمذي في الشمائل، "وخاتم من حديد ملوي بفضة"، وخاتم من ذهب لبسه ثم طرحه، "وخاتم فضة" وكان كما في البخاري وغيره "فصه منه" بتثليث الفاء، ووَهِمَ الجوهري في جعله الكسر لحنًا، كما في القاموس. نعم، قال الفارابي، وابن السكيت: إنه رديء، وإطلاقه على ما كان منه مجاز، فإنه لغةً: ما يركب فيه من غيره، وفي مسلم: كان فصه حبشيًّا, يعني: حجرًا حبشيًّا من جذع أو عقيق، وجمع ابن العربي والبيهقي والقرطبي بأنَّ الذي فصه منه هو الفضة، والذي فصه حبشي هو الذي اتخذه من ذهب، ثم طرحه، وقيل: غير ذلك، كما يأتي إن شاء الله تعالى في اللباس، وكان "يجعله في يمينه"، كما أخرجه البخاري، والترمذي عن ابن عمرو الترمذي عن جابر بسند ضعيف. وفي أبي داود عن ابن عمر أنَّه كان يتختَّم في يساره، وفي مسلم عن أنس: كان خاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه، وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى، "وقيل: كان أولًا في يمينه، ثم حوله إلى يساره"، كما جاء عن ابن عمر، وبه يحصل الجمع بين الحديثين، "منقوش عليه: محمد رسول الله، وأهدى له النجاشي خفَّين ساذجين" بفتح الذال المعجمة, معرَّب شاذة، وقال المحب الطبري: بالدال المهملة والمعجمة بكسرهما وفتحهما، كما في النور، "فلبسهما", زاد العراقي: كذا له أربعة منها أخر ... أصابها من سهمه من خيبر "وكان له ثلاث جباب" بكسر الجيم, جمع جبة، "يلبسهنَّ في الحرب"، إحداهنَّ "جبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 سندس أخضر، وجبة طيالسة. وعمامة يقال لها: السحاب، وأخرى سوداء، ورداء -صلوات الله وسلامه عليه.   سندس أخضر، وجبة طيالسة"، بالإضافة، وهي الثانية، ولم يذكروا لثالثة، وفي الألفية: له ثلاث من جبات تلبس ... في الحرب إحداهنَّ منها سندس أخضر ثم جبة طيالسة ... تغسل للمرضى وكانت ملبسة "وعمامة يقال لها: السحاب" وهبها لعلي، كما في العيون، "وأخرى سوداء" دخل بها مكة يوم الفتح، كما في حديث جابر عند الترمذي، وكانت فوق المِغْفَر، أو تحته, وقايةً من صدأ الحديد، فلا يخالف حديث أنس في الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل عام الفتح وعلى رأسه المِغْفَر، "ورداء" مربع، طوله أربعة أذرع، وإنما اختُلِفَ في عرضه، فقيل: ذراع وشبر، وقيل: ذراعان وشبر، كما في العيون. وقال الواقدي: كان رداؤه بردة, طوله ستة أذرع في ثلاثة وشبر "صلوات الله وسلامه عليه"، ويأتي إن شاء الله تعالى مباحث جليلة في لباسه في المقصد الثالث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 الفصل التاسع: في ذكر خيله ولقاحه ودوابه   "الفصل التاسع: في ذكر خيله" مؤنَّث سماعي، لكنه استعمل في المذكر والمؤنث، "ولقاحه" بكسر اللام وخفة القاف, جمع لِقحة -بكسر اللام وقد تفتح، وسكون القاف، وهي النوق ذوات الألبان إلى ثلاثة أشهر، ثم هي لبون، فلم يدخل في الترجمة الجمال ولا النوق غير قريبة الولادة، فلذا قال "ودوابه"، عطف عام على خاص؛ لأنها لغة ما دبَّ على الأرض، وعرفًا اسم لذوات القوائم الأربع، كما قال المحلي، فشمل الغنم أيضًا؛ لأنه ذكرها آخر الفصل، وقدَّم الخاص على العام اعتناءً بذكر الخيل؛ لأن في نواصيها الخير، واللقاح؛ لأنها كرائم أموال العرب، وقد روى النسائي عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد النساء من الخيل. وروى مالك، والشيخان من طريقه عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". قال ابن عبد البر: فيه تفضيل الخيل على سائر الدوابّ؛ لأنه لم يأت عنه في غيرها مثل هذا القول. وقال عياض: فيه مع وجيز لفظه من البلاغة والعذوبة، ما لا مزيد عليه في الحسن مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 أما خيله -عليه الصلاة والسلام: فالسكب، يقال: فرس سكب, أي: كثير الجري, كأنما يصب جريه صبًّا، وأصله من سكب الماء يسكب، وهو أوّل فرس ملكه، اشتراه -عليه الصلام والسلام- بعشرة أواق، وكان أغرّ محجلًا، طلق اليمين، كميتًا، وقال ابن الأثير: كان أدهم. والمرتجز -بضم الميم وسكون الراء وفتح التاء وكسر الجيم بعدها زاي, سمي به لحسن صهيله، مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر، وكان أبيض، وهو الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت، فجعل شهادته بشهادة رجلين.   الجناس الذي بين الخيل، والخير، "أمَّا خيله -عليه الصلاة والسلام: فالسكب" بفتح السين المهملة وإسكان الكاف وبالموحدة، "ويقال: فرس سكب، أي: كثير الجري, كأنما يصب جريه صبًّا". قال الثعلبي: إذا كان الفرس شديد الجري فهو فيض وسكب, تشبيهًا بفيض الماء وانسكابه، "وأصله من سكب الماء يسكب" بضم الكاف، "وهو أوّل فرس ملكه, اشتراه -عليه الصلاة والسلام- بعشرة أواق" بالتخفيف والتشديد، جمع أوقية بالتشديد، وهي أربعون درهمًا، "وكان أغَرّ" في وجهه بياض فوق الدرهم "محجلًا" أبيض القوائم، وجاوز بياضه الأرساغ إلى نصف الوظيف، أو نحوه، وذلك موضع التحجيل، كما في المصباح "طلق اليمين" بفتح فسكون. وحكى القاموس: ضم الطاء واللام سمحها’ "كميتًا" بضم الكاف، قال سيبويه عن الخليل: صغر؛ لأنه بين السواد والحمرة، كأنه لم يخلص له واحد منهما، فأرادوا بالتصغير أنه منهما قريب. "وقال ابن الأثير: كان أدهم"، أي: أسود، كما أخرجه الطبراني عن ابن عباس، قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرس أدهم يسمَّى السكب، "والمرتجز -بضم الميم وسكون الراء وفتح التاء" الفوقية، "وكسر الجيم بعدها زاي، سُمِّيَ به لحسن صهيله" صوته. قال في العيون: كأنَّه ينشد رجزًا، "مأخوذ من الرجز الذي هو ضرب من الشعر" عند الجمهور، "وكان أبيض وهو" كما قال ابن سعد وجزم به اليعمري وغيره، "الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت"، الأنصاري الأوسي، وقيل: الذي شهد فه الملاوح، وقيل: الطرف، وقيل: النجيب، كما يأتي، "فجعل شهادته بشهادة رجلين"؛ لأن له -صلى الله عليه وسلم- أن يخصَّ من شاء بما شاء. وفي البخاري عن زيد بن ثابت، فوجدتها -أي: الآية- مع خزيمة الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 والظرب -بالظاء المعجمة- واحد الظراب، سمي به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته وصلابة حافره، أهداها له فروة بن عمرو الجزامي.   أخرج ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني، وغيرهم من حديث خزيمة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى فرسًا من سواء بن الحارث، فجحده، فشهد له خزيمة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا"، فقال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلّا حقًّا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه". ورواه أبو داود والنسائي بدون تسمية البائع، وفي مسند الحارث بن أبي أسامة من حديث النعمان بن بشير, فردَّ -صلى الله عليه وسلم- الفرس على الأعرابي، وقال: "لا بارك الله لك فيها"، فأصبحت من الغد شائلة برجلها، أي: ماتت، وهذه ترد على تعيين كونه من أفراسه المعلومة المعينة بأسمائها. قال الخطابي: هذا الحديث حمله كثير على غير محمله، وإنما وجهه أنه -صلى الله عليه وسلم- حكم على الأعرابي بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله, والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا، كذا قال, وفيه نظر، فإن قوله: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه" يأبى ذلك. وفي رواية ابن أبي عمر العدني، شيخ مسلم في مسنده، فأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادته بشهادة رجلين حتى ات خزيمة، وفي مسند الحارث: فلم يكن في الإسلام من تجوز شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة، فهذا كله ظاهر في تخصيصه بذلك دائمًا، لا لمجرد الحكم بعلمه، وسواء هذا صحابي من وفد محارب، وقد أخرج ابن منده، وابن شاهين عن المطلب بن عبد الله، قال: قلت لبني الحارث بن سواء: أبوكم الذي جحد بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا تقل ذلك، فلقد أعطاه بكرة، وقال له: إن الله سيبارك لك فيها، فلمَّا أصبحنا نسوق سارحًا، ولا بارحًا إلا منها، "والظرب بالظاء المعجمة" المفتوحة وكسر الراء وبالموحدة، كما اقتصر عليها البرهان، ويقال: بكسر أوله، وسكون الراء، وقدَّمه الشامي "واحد الظراب"، وهي الجبال الصغار، "سُمِّيَ به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته، وصلابة حافره"، ووجه التسمية ظاهر على القولين، "أهداها له" أنَّثه بعد أن ذكَّره؛ لأن الفرس يجوز تذكيره وتأنيثه، وكأنَّه جمع بينهما لاحتمال كَوْن كلٍّ منهما مذكرًا ومؤنثًا. "فروة بن عمرو" على الأشهر، كما في الإصابة، ويقال: ابن عامر، ويقال: ابن نفاثة -بضم النون وخفة الفاء فألف فمثلثة، وصحَّحه بعضهم لثبوته في مسلم. وقيل: نعامة -بفتح النون، وعين، وميم، وقيل: نباتة بموحدة، وبعد الألف فوقية، "الجزامي" عامل قيصر على من يليه من العرب، وكان منزله معان وما حولها من الشام، أسلم لما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 واللحيف -بالمهملة, أهداها له ربيعة بن أبي البراء، سُمِّيَ به لسمنه   بعث -صلى الله عليه وسلم- إليه يدعوه, وكتب إليه بإسلامه، ولم ينقل أنه اجتمع به، فلمَّا بلغ الروم إسلامه قتلوه. ذكره ابن إسحاق، وجزم به في الإصابة، وقال عياض: اختلف في إسلامه، فقال الطبري: أسلم وعمَّر طويلًا، وقال غيره: لم يسلم، ويقال: الذي أهدى الظرب ربيعة بن أبي البراء، ويقال: جنادة بن المعلي، "واللحيف" رواه البخاري من طريق أُبَيّ بن عباس بن سهل عن أبيه عن جدّه سهل بن سعد، قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- في حائطنا فرس يقال له: اللحيف. وقد انتقد الحافظ أبو الحسن الدارقطني على البخاري إخراج هذا الحديث في الصحيح بأن أبيًّا ضعَّفَه أحمد وابن معين، وقال النسائي: ليس بالقويّ، وغاية ما أجاب به الحافظ في مقدمة الفتح أن قال: تابعه عليه أخوه عبد المهيمن بن العباس، "بالمهملة"، والتصغير، قال ابن قرقول: وضبطوه عن ابن سراح بوزن رغيف. قال الحافظ: ورجَّحه الدمياطي، وبه جزم الهروي "أهداها له ربيعة بن أبي البراء"، واسمه: عامر بن مالك العامري، يعرف عامر بملاعب الأسنة، ذكره ابن سعد عن الواقدي، وقال في الإصابة: ربيعة بن ملاعب الأسنة عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب الكلابي، ثم الجعفري, لم أر من ذكره في الصحابة إلّا ما قرأت في ديوان حسّان, تصنيف أبي سعيد السكري، وروايته عن أبي جفر بن حبيب، وقال حسان لربيعة بن عامر: وهو ملاعب الأسنة, يحرض ربيعة بعامر بن الطفيل بإخفاره ذمَّة أبي براء: ألا من مبلغ عني ربيعًا ... فما أحدثت في الحدثان بعدي أبوك أبو الفعال أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد تحكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد فلمَّا بلغ ربيعة هذا الشعر جاء النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أيغسل عن أبي هذه العذرة أن أضرب عامرًا ضربة، أو طعنة، قال: "نعم"، فرجع فضرب عامرًا ضربة أشواه بها، فوثب عليه قومه، فقالوا لعامر: اقتص، فقال: قد عفوت, ورأيت له رواية عن أبي الدرداء، فكأنَّه عمَّر في الإسلام. انتهى، فقول البرهان: لا أعلم لربيعة إسلامًا ولا ترجمة، ويقع في مكان آخر ربيعة بن البراء، فليحرر تقصير، وقد تحرر أن الصواب إثبات أبي لنقل ابن سعد وغيره، أنَّ اسمه عامر, فمن قال ابن البراء سقطت عليه أداة الكنية، وأبوه أبو براء هذا من مشاهير العرب، اختُلِفَ في إسلامه وصحبته، كما قدمته في بئر معونة، ويروى أنه -عليه السلام- أثاب ربيعة عليه فرائض. وعند ابن سعد أن الذي أهداها له فروة بن عمر والجذامي المتقدم قريبًا "سُمِّيَ به لسمنه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 وكبره، كأنه يلحف الأرض, أي: يغطيها بذنبه لطوله، فعيل بمعنى فاعل، يقال: لحفت الرجل باللحاف: طرحته عليه، ويروى بالجيم وبالخاء المعجمة، رواه البخاري ولم يتحققه، والمعروف بالحاء المهملة، قاله في النهاية. واللزاز: سُمِّيَ به لشدة تلززه، أو لاجتماع خلقه, ولزبه الشيء أي: لزق به، كأنه يلتزق بالمطلوب لسرعته، وهذه أهداها له المقوقس. والورد:   وكبره". وقال الهروي لطول ذنبه، وهو الأنسب بقوله: "كأنه يلحف الأرض، أي: يغطيها بذنبه لطوله, فعيل بمعنى فاعل، يقال: ألحفت الرجل باللحاف طرحته عليه، ويروى بالجيم". قال في الفتح: سبق ابن الأثير إلى ذلك صاحب المغيث، وقال: فإن صحَّ فهو سهم عريض النصل، كأنه سمي بذلك لسرعته، "وبالخاء المعجمة. رواه البخاري" تعليقًا "ولم يتحققه، فقال بعد أن روى حديث سهل بإسناده السابق: وقال بعضهم: اللخيف، قال الحافظ: يعني بالخاء المعجمة, وحكوا فيه الوجهين، يعني: التصغير والتكبير، وهي رواية عبد المهيمن أخي أُبَيّ. وحكى سبط ابن الجوزي أن البخاري قَيَّدَه بالتصغير والمعجمة، قال: وكذا حكاه ابن سعد عن الواقدي، "والمعروف بالحاء المهملة" حتى قيل: لا وجه لضبطه بالمعجمة، "قاله" المبارك أبو السعادات بن الأثير "في النهاية". وحكى البلاذري: الخليف بتقديم الخاء على اللام، وقال عياض بالأول، يعني: المهملة, ضبطناه عن عامة شيوخنا، وبالثاني عن أبي الحسين اللغوي. وحكى ابن الجوزي أنه روي بالنون بدل اللام من النحافة، "واللزاز" بكسر اللام وزاءين معجمتين خفيفتين، رواه ابن منده من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده، قال: كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند سعد والد سهل ثلاثة أفراس، فسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسميهنّ: لزاز والظرب واللخيف، أي: بالخاء المعجمة، وهي التي حكاها البخاري عن بعضهم، كما في الفتح: "سمي به لشدة تلززه، أو" يعني، وقيل: "لاجتماع خلقه", والملزز المجتمع الخلق، كما في العيون، "ولزبه الشيء، أي: لزق به" بكسر الزاي؛ "كأنَّه يلتزق بالمطلوب لسرعته". قال السهيلي: معناه: لا يسابق شيئًا إلّا لزه، أي: أثبته، "هذه أهداها له المقوقس" جريح بن مينا القبطي في جملة ما أهدى قبل، وكان -صلى الله عليه وسلم- معجبًا به، وكان تحته يوم بدر ورد، بأن بدرًا في العام الثاني، وبعثه للملوك كان في غرة سنة سبع، "والورود" بفتح الواو، وسكون الراء لون بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 قال ابن سعد: أهداها له تميم الداري، فأعطاه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه, فحمل عليه في سبيل الله تعالى، ثم وجده يباع برخص فقال: "لا تشتره". وسبحة: بالموحدة، من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مَدّ اليدين في الجري. قال ابن سيرين: هي فرس شقراء اشتراها من أعرابي. فهذه سبعة متفق عليها. وذكر ابن بنين فيما حكاه الحافظ الدمياطي: البحر في خيله -عليه الصلاة والسلام، قال: وكان اشتراه من تجارٍ قدموا به من اليمن، فسبق عليه مرات،   الكميت والأشقر شبه بالورد المشموم. "قال ابن سعد" عن الواقدي بسنده عن سهل بن سعد "أهداها له تميم الداري، فأعطاه" صلى الله عليه وسلم "عمر بن الخطاب -رضي الله عنه, فحمل" عمر "عليه في سبيل الله تعالى، ثم وجده يباع برخص" فأراد شراءه، "فقال" صلى الله عليه وسلم: "لا تشتره". وفي الموطأ والصحيحين عن عمر, حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تشتره، وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن العائد في صدقته كالكلب يرجع في قيئه". قال الحافظ: لا, ويعارضه ما أخرجه مسلم، ولم يسق لفظه، وساقه أبو عوانه في مستخرجه أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلًا؛ لأنه يحمل على أن عمر لما أراد أن يتصدَّق به فوّض إلى رسول الله اختيار من يتصدق به عليه، أو استشاره من يحمله عليه، فنسبت إليه العطية لكونه أمر بها، "وسبحة" بفتح المهملة و"بالموحدة" الساكنة، وحاء مهملة مفتوحة، ثم تاء تأنيث, "من قولهم: فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين في الجري" وسَبْح الفرس جريه، كما قال اليعمري، وزاد غيره: أو من سبح إذا علا علوًّا في اتساع مده، ومنه: سبحان الله عظمته وعلوّه، "قال ابن سيرين: هي فرس شقراء اشتراها من أعرابي، فهذه سبعة متَّفَقٌ عليها" جمعها البدر بن جماعة في بيت هو: والخيل سكيب لحيف سبحة ظرب ... لزاز مرتجز ورد لها أسرار "وذكر" عبد الغني بن سليمان "بن بنين" بفتح الموحدة وكسر النون, المصري، وإليه انتهى علوّ الإسناد بها، قال الحافظ في التبصير: محدّث مشهور, حدثونا عن أصحابه، مات سنة إحدى وستين وستمائة، "فيما حكاه الحافظ الدمياطي: البحر في خيله -عليه الصلاة والسلام، قال: وكان اشتراه من تجار قدموا به من اليمن، فسبق عليه مرات" لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسابق بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 فجثنا -صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه ومسح وجهه وقال: ما أنت إلّا بحر، فسُمِّي بحرًا. قال ابن الأثير: وكان كميتًا وكان سرجه دفتان من ليف. والسجل: بكسر السين المهملة وسكون الجيم، ذكره علي بن محمد بن حنين بن عبدوس الكوفي، ولعله مأخوذ من قولك: سجلت الماء فانسجل، أي: صببته فانصبَّ. وذو اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم, ذكره ابن حبيب. وذو العقال: بضم العين المهملة وتشديد القاف، وحكى بعضهم تخفيفًا.   الخيل، كما في الصحيح، "فجثا -صلى الله عليه وسلم- على ركبتيه، ومسح وجهه" الفرس، "وقال: "ما أنت إلا بحر"، فسمي بحرًا لسرعة جريه, شُبِّهَ بالبحر الذي لا ينقطع ماؤه، وهذا إن صحَّ غير ما أخرجه الشيخان عن أنس، قال: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركبه، ثم خرج يركض وحده، فركب الناس يركضون خلفه، فلمَّا رجع قال: ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحر، أو جاء الحديث بألفاظ أخر بنحوه؛ لأن هذا لأبي طلحة، واسمه المندوب بخلاف ذاك اشتراه من تجار، واسمه البحر. "قال ابن الأثير: وكان كميتًا، وكان سرجه دفتان من ليف" بالألف على لغة من يلزمه المثنى، أو سرجه بالنصب، ودفتان اسمه، والإخبار بالمعرفة عن النكرة جائز في أخبار الناسخ كقوله: يكون مزاجها عسل وماء الأَوْلَى أن اسم كان ضمير الشأن، والجملة بعده خبرية في محل النصب، "والسجل -بكسر السين المهملة وسكون الجيم" بعدها لام، "ذكره علي بن محمد بن حنين" اسم بلفظ الوادي المذكور في القرآن "ابن عبدوس الكوفي، ولعلَّه مأخوذ من قولك: سجلت الماء، فانسجل، أي: صببته فانصبَّ" وبه جزم بعضهم، "وذو اللمة: بكسر اللام وتشديد الميم, ذكره" أبو جعفر محمد "بن حبيب" الإخباريّ النسَّابة، حبيب قيل: إنه اسم أمه، فلا يصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، وردَّ ذلك بأنه اسم أبيه، وهو حبيب بن المحبر, معروف، فهو مصروف كما في الروض، قال في العيون: واللمة بين الوفرة والجمة، فإذا وصل شعر الرأس إلى شحمة الأذن فهو وفرة، فإن زادت حتى ألَمَّت بالمنكبين فهي لمة، فإن زادت فهي جمة. "وذو العقال: بضم العين المهملة وتشديد القاف، وحكى بعضهم تخفيفًا،" وساوى بينهما في العيون، فقال: وبعضهم يشدِّد قافه، وبعضهم يخففها، وهو ظلع في قوائم الدواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 والسرحان: بكسر السين المهملة وسكون الراء, ذكره ابن خالويه. والطرف: بكسر الطاء المهملة وسكون الراء بعدها فاء, ذكره ابن قتيبة في المعارف، وذكر في رواية أنه الذي اشتراه من الأعرابي, وشهد له خزيمة بن ثابت. والمرتجل: بكسر الجيم, ذكره ابن خالويه، من قولهم: ارتجل الفرس ارتجالًا، إذا خلط العنق بشيء من الهملجة. والمرواح: بكسر الميم, من أبنية المفاعلة -كالمطعام, مشتق من الريح، أو من الرواح؛ لتوسعه في الجري، أهداه له قوم من مذحج، ذكره ابن سعد. وملاوح: بضم الميم وكسر الواو, ذكره ابن خالويه. والمندوب: ذكره بعضهم في خيله -صلى الله عليه وسلم.   "والسرحان -بكسر السين المهملة وسكون الراء" والسرحان: الذئب, وهذيل تسمي الأسد سرحانًا، قاله اليعمري، "ذكره ابن خالويه" الحسين بن أحمد, الإمام المشهور, المتوفَّى سنة سبعين وثلاثمائة، "والطرف -بكسر الطاء المهملة وسكون الراء بعدها فاء" وهو الكريم الآباء والأمهات, كلا طرفيه كريم. "ذكره" عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري، المتوفَّى سنة سبع وستين ومائتين "في المعارف" ووقع في القاموس: وككتف فرس للنبي -صلى الله عليه وسلم, "وذكر في رواية أنه الذي اشتراه من الأعرابي" ثم جحده، "وشهد له خزيمة بن ثابت" بأنه باعه، "والمرتجل" بضم الميم وسكون الراء وفتح الفوقية و"بكسر الجيم" وباللام "ذكره ابن خالويه من قولهم: ارتجل الفرس ارتجالًا إذا خلط العنق" بفتح المهملة والنون, أن يباعد بين خطاه ويتوسّع في جريه "بشيء من الهملجة" وهي مقاربة الخطا مع الإسراع، "والمرواح بكسر الميم" وإسكان الراء, فواو، فألف، فحاء مهملة "من أبنية المفاعلة" للمبالغة "كالمطعام, مشتق من الريح" وأصله الواو, سُمِّيَ به "لسرعته" كالريح، "أو من الرواح لتوسعه في الجري" أو من الراحة؛ لأنه يستراح به. "أهداه له قوم من مذحج" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وكسر المهملة، وجيم، "ذكره ابن سعد" محمد الحافظ الشهير. "وملاوح -بضم الميم، وكسر الواو،" فحاء مهملة، "ذكره ابن خالويه. والمندوب" من ندبه فانتدب، أي: دعاه فأجاب، "ذكره بعضهم،" وهو ابن عساكر في خيله -صلى الله عليه وسلم" قال ابن الأثير: أي: المطلوب, سُمِّيَ بذلك من الندب، وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 والنجيب، ذكره ابن قتيبة، وأن في رواية: أنه الذي اشتراه من الأعرابي, وشهد له خزيمة. واليعبوب واليعسوب: ذكرهما قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل، وكان سرجه دفتاه من ليف.   وقال عياض: يحتمل أنه لقب، أو اسم لغير معنى كسائر الأسماء، "والنجيب" بوزن كريم, ومعناه "ذكره ابن قتيبة، وأن في رواية أنه الذي اشتراه من الأعرابي، وشهد له خزيمة" بن ثابت، "واليعبوب" بفتح التحتية، وسكون المهملة، وموحدتين بينهما واو, الفرس الجواد، وجدول يعبوب: شديد الجري، "واليعسوب" وهو طائر أطول من الجرادة، لا يضم جناحيه إذا وقع، كما في الشامية، قال اليعمري: وهو أيضًا أمير النحل، والسيد: يعسوب قومه، واليعسوب: غرة تسطيل في وجه الفرس, انتهى. "ذكرهما قاسم بن ثابت" بن حزم الأندلسي الفقيه المالكي المحدث, المقدَّم في المعرفة بالغريب والنحو والشعر، المشارك لأبيه في رحلته وشيوخه, الورِع الناسك، مجاب الدعوة، المتوفَّى سنة اثنتين وثلاثمائة "في كتاب الدلائل" فيما أغفل أبو عبيد وابن قتيبة من غريب الحديث، مات قاسم ولم يكمله، فتمَّه أبوه ثابت الحافظ الشهير، "وكان سرجه دفتاه" بفتح الدال: جانباه "من ليف" مبتدأ وخبر، والجملة في محل نصب خبر كان، وفي نسخة: دفتان بنون بدل الضمير، وفيه ما مَرَّ, واعلم أنه سقط في غالب النسخ من قوله، والسجل حتى هنا، وذكره أتم فائدة، وهو ثابت عند غير المصنف، وما أظنه إلّا سقط من أحد الكتبة سهوًا، فتبعه الناسخون منه؛ إذ الترجمة في ذكر خيله، وهذه ظاهرها العموم، وذكر السهيلي الضريس -بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وتحتية وسين مهملة، وتبعه اليعمري والعراقي، وزاد: الشحا -بفتح المعجمة وشد المهملة والقصر. قال اليعمري: من قولهم: فرس بعيد الشحوة، أي: بعيد الخطوة، والأبلق: وهو الذي فيه بياض وسواد, حمل عليه بعض أصحابه. والأدهم، أي: الأسود، وزاد بعضهم: اليعسوب -بتقديم العين على الياء. قال ابن بطال: معلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا جملة أصحاب أنهم ركبوا غير الفحول إلّا ما ذكر عن سعد بن أبي وقاص، قال في الفتح: كذا قال: وهو محل توقّف، وقد روى الدارقطني أن فرس المقداد كان أنثى، وفي البخاري عن راشد بن سعد الدمشقي، التابعي الوسط قال: كان السلف يستحبون الفحولة؛ لأنها أجرى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 وكان له عليه الصلاة والسلام من البغال: دلدل: بدالين مهملتين، وكانت شهباء, أهداها له المقوقس. وفضة: أهداها له فروة بن عمرو الجذامي. وأخرى: أهداها له ابن العلماء،   وأجسر. وروى الوليد بن مسلم في الجهاد عن عبادة بن نسي -بنون ومهملة, مصغَّر، وعن ابن محيرير, أنهم كانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات، ولما خفي من أمور الحرب، ويستحبون الفحول في الصفوف والحصون، ولما ظهر من أمور الحرب. وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يقاتل إلَّا على أنثى؛ لأنها تدفع البول، وهي أقل صهيلًا، والفحل يحبسه في جريه حتى ينفتق، ويؤذي بصهيله، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- من البغال دلدل بدالين مهملتين" مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة، "وكانت شهباء" بياضها غالب على سوادها، ومن ثَمَّ أطلق عليها عمرو بن الحارث الصحابي أنّها بيضاء، كما في الصحيح وغيره، وقال بعضهم: كانت بيضاء، وقيل: شهباء. قال في التحفة: وزعم بعض اللغويين في نحو الحمار، والجمل، والبغل، أنه يطلق على الذكر والأنثى شاذ، أو خفي, وإن بنى على ذلك أنه لو حلف لا يركب بغلًا أو بغلة حنَثَ في كلٍّ بهما، وأن بلغته -صلى الله عليه وسلم- دلدل الباقية إلى زمن معاوية أنثى، كما أجاب به ابن صلاح، أو ذكر، كما نقل عن إجماع أهل الحديث، ويدل له قوله -عليه الصلاة والسلام: "ابرك دلدل"، ولم يقل: ابركي، "أهداها له المقوقس،" قيل: وهي أول بغلة رؤيت في الإسلام، وكان -صلى الله عليه وسلم- يركبها في السفر، وعاشت بعده حتى كبرت وسقطت أسنانها، وكان يجش لها الشعير، وعميت وماتت بينبع. وفي تاريخ ابن عساكر من طرق, أنها بقيت حتى قاتل علي عليها الخوارج في خلافته، وفي البخاري، وغيره، عن عمرو بن الحارث: ما ترك -صلى الله عليه وسلم- إلّا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضًا تركها صدقة. قال شراحه: هي دلدل؛ لأن أهل السِّيَر لم يذكروا بغلة بقيت بعده سواها، "وفضة" بمنع الصرف للعلمية والتأنيث "أهداها له فروة بن عمرو الجذامي،" فوهبها لأبي بكر, رواه ابن سعد، وكانت بيضاء، وهي التي كان عليها يوم حنين، كما في مسلم عن العباس، وعنده عن سلمة, كانت شهباء، ولا منافاة، وقيل: كان على دلدل, ذكره ابن سعد وغيره، وجمع القطب الحلبي باحتمال أنه ركب كلًا منهما يومئذ، كما مَرَّ مبسوطًا، "وأخرى أهداها له ابن العلماء" بفتح العين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 صاحب أيلة, وأخرى من دومة الجندل، وأخرى من عند النجاشي. قيل: وأهدى له كسر بغلة أخرى، وفي ذلك نظر؛ لأن كسرى مزَّق كتابه -صلى الله عليه وسلم.   المهملة وإسكان اللام وبالمد تأنيث الأعلم، مشقوق الشفة العليا، قاله القرطبي "صاحب أيلة" بفتح الهمزة وسكون التحتية، مدينة على ساحل البحر بين مصر ومكة، قاله أبو عبيدة، وقال غيره: هي آخر الحجاز، وأول الشام. روى مسلم في حديث أبي حميد: وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، وعند ابن إسحاق: ولما انتهى -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك أتاه يحنَّة بن رؤبة صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وكذا رواه إبراهيم الحربي في الهدايا من حديث عليّ، قال في فتح الباري: فاستفيد من هذا اسمه، واسم أبيه، ولعلَّ العلماء اسم أمه، ويحنّة -بضم التحتانية وفتح المهملة وتشديد النون، ورؤبة -بضم الراء وسكون الواو بعدها موحدة. انتهى، فقول الحافط البرهان: لا أعرف اسم ابن العلماء، ولا أعرف له إسلامًا، تقصير شديد، وقد مَرَّ شيء من ذلك في تبوك وفي المكاتبات، وذكر بعضهم أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى إليه بردًا، وأنَّ حكمة ذلك أنه لما أهدى إليه ما يعلو المصطفى عليه، وهو البغلة، وكانت طويلة مخندفة، حسنة السير فأعجبته, أهدى له ما يعلو عليه، أي: على يُحَنَّة، وهو البرد ليكون العلوّ له -صلى الله عليه سلم- في الطرفين, "وأخرى من دومة الجندل" أهداها له صاحبها, وهو أكيدر بن عبد الملك النصراني, اختلف في إسلامه، والأكثر وهو الأصح أنه لم يسلم، وأن خالد بن الوليد قتله على نصرانيته في خلافة أبي بكر، كما مَرَّ مفصَّلًا في تبوك وفي المكاتبات، "وأخرى من عند النجاشي". روى أبو الشيخ في كتاب أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس, أهدى النجاشي إلى رسول الله بغلة فكان يركبها، "قيل: وأهدى له كسرى بغلة أخرى" أخرجه الثعالبي في تفسيره، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس، أنَّ كسرى أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- بغلة، فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه، "وفي ذلك نظر" كما قال الحافظ الدمياطي، قال: "لأنَّ كسرى مزق كتابه -صلى الله عليه وسلم،" فبعيد أن يهدي له، وأجيب باحتمال أن الذي أهداها له شيرويه ولده، أو ابن عمّه كسرى بن قباذ، أو أردشير بن شيرويه، أو جرهان، فإن هؤلاء كلهم ملكوا بعد قتل أبرويز، ثم ملك بعدهم بوران بنت كسرى، كما ذكره ابن قتيبة، قلت: على أنه لا يلزم من تمزيق الكتاب أن لا يهدي إليه، فإنه مزقه لما ورد عليه لسورة الملك, والشقاوة التي كتبت عليه، فيحتمل أنه لما خلا بنفسه خاف لاستيقانه نبوته, فأهدى له البغلة، والعلم عند الله, فهذه ست، وزاد بعضهم سابعة تسمَّى: حمارة شامية، رواه ابن السكن عن بسر -بضم الموحدة وسكون المهملة, والد عبد الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 وكان له عليه الصلاة والسلام من الحمير: عفير، أهداه له المقوقس، ويعفور, أهداه له فروة بن عمرو والجذامي، ويقول: هما واحد، وذكر أن سعد بن عبادة أعطى للنبي -صلى الله عليه وسلم- حمارًا فركبه.   الحارثي، واستدلَّ بهذا على جواز اتخاذ البغال، وإنزاء الحمر على الخيل، وأمَّا حديث علي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون". أخرجه أبو داود والنسائي، وصحَّحه ابن حبان، فقال الطحاوي: أخذ به قوم فحرَّموا ذلك، ولا حجة فيه؛ لأن معناه: الحض على تكثير الخيل لما فيها من الثواب، وكأنَّ المراد: لا يعلمون الثواب المرتَّب على ذلك، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- من الحمير عفير". قال الحافظ: بالمهملة والياء, مصغَّر مأخوذ من العفرة، وهو لون التراب، كأنه سمي بذلك للونه، والعفرة حمرة يخالطها بياض، وهو تصغير أعفر، أخرجوه عن بناء أصله، كما قالوا: سويد في تصغير أسود، ووَهِمَ من ضبطه بالغين المعجمة. روى البخاري عن معاذ: كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمارٍ يقول له عفير، فقال: "يا معاذ, هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على اله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا"، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّر الناس، قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". "أهداه له المقوقس" في جملة الهدايا, "ويعفور" بسكون المهملة وضم الفاء, مصروف، قال الحافظ وغيره: هو اسم ولد الظبي، كأنه سُمِّيَ بذلك لسرعته، وقيل: تشبيهًا في عدوه باليعفور، وهو الخشف، أي: ولد الظبي، وولد البقرة الوحشية، "أهداه له فروة بن عمرو الجذامي" قال الواقدي: نَفِقَ يعفور، أي: مات, منصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع، وبه جزم النووي عن ابن صلاح، وقيل: طرح نفسه في بئر لأبي الهيثم ابن التيهان يوم مات -صلى الله عليه وسلم، فكانت قبره، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبَّان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وليس سنده بشيء، وفيه أنه غنمه من خيبر، كان اسمه يزيد بن شهاب، وقد ساقه المصنف في المعجزات. وروى الطيالسي وابن سعد عن ابن مسعود، قال: كانت الأنبياء يلبسون الصوف، ويحلبون الشاة، ويركبون الحمير, كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمار يقال له عفير، ثم المشهور كما في الألفية، وهو قول الجمهور: أنهما اثنان، "ويقول: هما واحد", قال في الفتح: زعمه ابن عبدوس، وقواه صاحب الهدى، وردّه الدمياطي، فقال: عفير أهداه المقوقس، ويعفور فروة بن عمرو، وقيل بالعكس "وذكر أن سعد بن عبادة" سيد الخزرج "أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- حمارًا، فركبه". روى يحيى بن منده في كتاب أسماء من أردفه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه، أنه -صلى الله عليه وسلم- زار سعدًا ماشيًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 وكان له -عليه الصلاة والسلام- من اللقاح: القصواء, وهي التي هاجر عليها، والعضباء, والجدعاء، ولم يكن بهما عضب ولا جدع، وإنما سميتا بذلك،   فأركبه في رجوعه حمارًا، وأرسل قيس بن سعد معه، فأردفه -صلى الله عليه وسلم- خلفه، فلمَّا وصل إلى بيته أراد أن يردَّ الحمار، فقال: هو لك هدية، وزاد في الشامية حمارًا رابعًا أعطاه له بعض الصحابة، "وكان له -عليه الصلاة والسلام- من اللقاح" بكسر اللام فقط، وخفة القاف, جمع لقحة -بكسر اللام وفتحها، وهي الناقة القريبة العهد بالولادة إلى ثلاثة أشهر، ثم هي بعد الثلاثة لبون، وجاء اللقحة في البقر والغنم أيضًا، كما ذكره البرهان في غزوة الغابة "القصواء" بفتح القاف، والمد على غير قياس، والقياس القصر، كما وقع في بعض نسخ أبي ذر، والقصو: قطع طرف الأذن، وقد قيل: كان طرف أذنها مقطوعًا. وزعم الداودي شارح البخاري أنها كانت لا تسبق، فقيل لها القصواء؛ لأنها بلغت من السبق أقصاه. قال عياض: ووقع في رواية العذري في مسلم -بالضم والقصر، وهو خطأ، وقال الخطابي: أكثر أصحاب الحديث يقولون بالضم، والقصر، وهو خطأ فاحش, إنما القصوى تأنيث الأقصى، كالسفلى تأنيث الأسفل، "وهي" كما قال الواقدي: وتبعه غير واحد من الحفّاظ "التي هاجر عليها" اشتراها من أبي بكر بثمانمائة درهم، وكانت من نعم بني قشير، وعاشت بعده -صلى الله عليه وسلم، وماتت في خلافة أبي بكر، وكانت مرسلة ترعى بالبقيع. ذكره الواقدي، وعند ابن إسحاق: أنَّ التي هاجر عليها الجدعاء، وكانت من إبل بني الحريش، وكذا في رواية البخاري في غزوة الرجيع، وابن حبان عن عائشة، وهو أقوى إن لم نقل أنهما واحدة، وكان على القصواء يوم الحديبية، ويوم الفتح دخل عليها مردفًا أسامة. "والعضباء" بفتح المهملة، وسكون المعجمة، بعدها موحدة، وهى المقطوعة الآذان، أو المشقوقتها. وقال ابن فارس: كان ذلك لقتالها، وقال الزمخشري: العضباء منقول من قولهم ناقة عضباء، أي: قصيرة القد. "والجدعاء" بفتح اجيم، وإسكان الدال المهملة، كما ضبطه المصنف، وغيره في شرح الصحيح، وهو الذي في اللغة، فقول الشامي: المعجمة سبق قلم بعدها عين مهملة, هي المقطوعة الأنف، أو الأذن، أو الشفة, "ولم يكن بهما عضب، ولا جدع، وإنما سميتا بذلك" قاله ابن فارس، وتبعه ابن الأثير، وغيره محتجين بقول أنس في الصحيح: تسمَّى العضباء، وقوله: ويقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 وقيل: كان بأذنها عضب، وقيل: العضباء والجدعاء واحدة، والعضباء هي التي كانت لا تسبق, فجاء أعرابي على قعود له فسبقها, فشقَّ ذلك على المسلمين, فقال -عليه الصلاة والسلام: "إن حقًّا على الله أن لا يرفع من الدنيا شيئًا إلّا وضعه".   لها العضباء، ولو كانت تلك صفتها لم يحتج لذلك، "وقيل: كان بأذنها عضب" وبه صدّر في الفتح، وقابله بقول ابن فارس، وبقول غيره: كانت مشقوقة الأذن، "وقيل: العضباء والجدعاء واحدة" قال في الفتح: اختُلِفَ هل العضباء هي القصواء أو غيرها, فجزم الحربي بالأوّل، وقال: تسمَّى العضباء والقصواء والجدعاء، وروى ذلك ابن سعد عن الواقدي، وقال غيره بالثاني، وقال: الجدعاء كانت شهباء، وكان لا يحمله عند نزول الوحي غيرها, انتهى، وعلى الأوَّل جرى العراقي في قوله: عضباء جدعاء هما القصواء لكن روى البزار عن أنس, خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- على العضباء، وليست بالجدعاء، قال السهيلي: فهذا من قول أنس أنها غير الجدعاء، وهو الصحيح، "والعضباء هي التي كانت لا تسبق" أخرج البخاري عن أنس قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة تسمَّى العضباء لا تسبق، "فجاء أعرابي" قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد التتبع الشديد, "على قعود له" بفتح الاف, ما استحقَّ الركوب من الإبل، قال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل السادسة، فيسمَّى جميلًا. وقال الأزهري: لا يقال إلًَّا للذكر، ولا يقال للأنثى قعودة، وإنما يقال لها: قلوص، قال: وقد حكى الكسائي في النوادر: قعودة للقلوص، وكلام الأكثر على غيره، وقال الخليل: القعود من الإبل ما يعده الراعي لحمل متاعه، والهاء فيه للمبالغة، "فسبقها", وعند أبي نعيم: فسابقها فسبقها، وللنسائي سابق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعرابي فسبقه، "فشقَّ ذلك على المسلمين" حتى عرفه، كما في البخاري، أي: عرف أثر المشقة، "فقال -عليه الصلاة والسلام", وللبخاري في الرقاق، فلمَّا رأى ما في وجوههم، وقالوا: سبقت العضباء، قال: "إن حقًّا على الله" متعلق بحقًّا "أن لا يرفع من الدنيا شيئًا إلّا وضعه" خبر إن وأن مصدرية، فيكون معرفة, والاسم نكرة من باب القلب، أي: إن عدم الارتفاع حق على الله، ويمكن أن يقال: على الله صفة حقًّا، أي: حقًّا ثابتًا على الله، قال الطيبي: وفي رواية للبخاري: "أن لا يرتفع شيء من الدنيا"، وللنسائي: "أن لا يرجع شيء بقسمه في الدنيا"، وفي الحديث اتخاذ الإبل للركوب، والمسابقة عليها، والتزهيد في الدنيا للإشارة إلى أن كل شيء منها لا يرتفع إلّا اتَّضع، والحثّ على التواضع، وحسن خلقه -صلى الله عليه وسلم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وغنم -عليه الصلاة والسلام- يوم بدر جملًا لأبي جهل في أنفه برة من فضة، فأهداه يوم الحديبية ليغيظ بذلك المشركين. وكانت له -عليه الصلاة والسلام- خمسة وأربعون لقحة, أرسل بها إليه سعد بن عبادة: منها: أطلال، وأطراف، وبردة، وبركة، والبغوم، والحناء، وزمزم، والرياء، والسعدية، والسقيا، والسمراء، والشقراء، وعجرة والعريس،   وتواضعه، وعظمته في صدور أصحابه, انتهى. "وغنم -عليه الصلاة والسلام- يوم بدر جملًا" يسمَّى المكتسب، كما في الألفية -بفتح المهملة, على صيغة اسم المفعول "لأبي جهل, في أنفه برة" بضم الموحدة وفتح الراء المخففة وتاء تأنيث, حلقة صغيرة "من فضة", فكان عنده -صلى الله عليه وسلم- يغزو عليه، ويضرب في لقاحه، "فأهداه" نحوه في جملة ما أهدى "يوم الحديبية, ليغيظ بذلك المشركين" وذكر في الألفية جملين آخرين، فقال: وعيرهن والجمال الثعلب ... وجمل أحمر والمكتسب غنمه في يوم بدر من أبي ... جهل، فأهداه إلى البيت النبي وقد روى ابن سعد عن نبيط بن شريط قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجته على جمل أحمر، "وكانت له -عليه الصلاة والسلام- خمسة وأربعون لقحة، أرسل بها إليه سعد بن عبادة" المصنف في عهده، كونه أرسل الجميع، والذي في الهدى: كانت له خمسة وأربعون لقحة مهرة، أرسل بها سعد، أي: منها اللقحة المسمَّاة مهرة، وكذا ذكر اليعمري أن سعدًا أرسل مهرة، فسقط من المصنف لفظ مهرة، فأوهم, "منها أطلال" بفتح الهمزة، "وأطراف" إنما ذكرهما العراقي بعد الكلام على اللقاح في باب ذكر منائحه, جمع منيحة، وهي الشاة "وبردة" أهداها له الضحاك بين سفاين، وكانت غزيرة اللبن تحلب، كما تحلب لقحتان غزيرتان، ذكره اليعمري وغيره، وهو مما يرد قول: أرسل بها سعد، "والبغوم" بضم الموحدة والغين المعجمة وسكون الواو، وهو في الأصل: صوت الناقة التي لا تفصح به، "وبركة" بالتحريك, إنما ذكره العراقي اسمًا لمنيحة، "والحناء" بفتح المهملة وشد النون ومد، وهي التي نحرها العرنيون، "وزمزم" إنما ذكره العراقي اسمًا لشاة، "والرياء" بفتح الراء وشد التحتية ومد. "والسعدية" بفتح السين وسكون العين وكسر الدال المهملات، "والسقيا" بضم أوله، وإسكان القاف, إنما هي في الألفية اسم لشاة. "والسمراء" بفتح المهملة والمد كانت لعائشة، و"الشقراء" بمعجمة وقاف، "وعجرة" بفتح العين، وسكون الجيم, إنما ذكره العراقي اسمًا لشاة، "والعريس" بضم العين، وفتح الراء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وغوثة، وقيل: غيثة، وقمر، ومروة، ومهرة، وورشة، واليسيرة. وكانت له مائة شاة، وكانت له سبعة أعنز منائح ترعاهنَّ أم أيمن.   المهملتين، وشد التحتية، وسين مهملة، و"وغوثة" بغين معجمة"، ومثلثة، و"قيل: غيثة" بياء بدل الواو، "وقمر" وهذه والتي قبلها إنما ذكرهما اليعمري والعراقي اسمًا لشاتين، وروى ابن سعد: كان له -صلى الله عليه وسلم- شاة تسمَّى قمر، "ومروة" أهداها له سعد بن عبادة، "ومهرة" بضم الميم، قال اليعمري وغيره: بعث إليه بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل، "وورشة" بشين معجمة، "واليسيرة" بضم أوله، ومن قوله: منها إلى هنا, ساقط من بعض النسخ، ولعله الصواب، فإن كثيرًا منها إنما ذكره العراقي اسمًا للمنيحة، كما رأيت، ووافقه اليعمري على بعضها، ولم يتكلم على أسماء الباقي، فإن صحَّ ما ذكره المصنف بناءً على ثبوته عنه، فتكون تلك الأسماء سُمِّيَ بها كلٌّ من اللقاح والمنائح, والعلم عند الله. "وكانت له مائة شاة" لا يريد أن تزيد على ذلك، كلما ولدت بهيمة ذبح الراعي مكانها شاة, رواه أبو داود، وفي العيون: كانت له شاة تسمَّى غوثة, وقيل: غيثة، وشاة تسمَّى قمر, وعنز تسمَّى اليمن، "وكانت له سبة أعنز منائح ترعاهن أم أيمن" بركة الحبشية، ومنائح جمع منيحة، وهي في الأصل شاة، أو بقرة يعطيها صاحبها لمن يشرب لبنها، ثم يردّا إذا انقطع اللبن، ثم كثر استعمالها حتى أطلق على كل شاة، أو بقرة معدَّة لشرب لبنها، لكن المراد هنا الشياه، فقد قال اليعمري: وأمَّا البقر، فلم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- ملك منها شيئًا. انتهى، أي: للقنية، فلا يرد عليه ما في الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- ضحَّى عن نسائه بالبقر في حجة الوداع، وتجويز أنهنّ ملكنها، فضحَّى هو بها, رده البرهان بأن في مسند أحمد عن عائشة: دخل علينا يوم النحر بلحم بقر، فقلت: ما هذا، قال: نحره -صلى الله عليه وسلم- عن أزواجه، وبوّب عليه البخاري: باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهنَّ، قال العراقي: وكان ديك عنده أبيض له ... كذا المحب الطبري نقله يشير إلى ما رواه أبو نعيم، والحارث بن أبي أسامة بسند ضعيف، عن أبي زيد الأنصار مرفوعًا, الديك الأبيض صديقي، وعدو إبليس يحرس داره، وتسع دور حولها، وكان -صلى الله عليه وسلم- يبيته معه في البيت، وأحاديث الديك حكم ابن الجوزي بوضعها، وردَّ عليه الحافظ بما حاصله أنه لم يتبين له الحكم بوضعها؛ إذ ليس فيها وضَّاع ولا كذاب, نعم هو ضعيف من جميع طرقه, والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 الفصل العاشر: في ذكر من وفد عليه صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه مدخل ... الفصل العاشر: في ذكر من وفد عليه -صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلًا وشرفًا لديه قال النووي: الوفد: الجماعة المختارة للتقدم في لقاء العظماء، واحدهم: وافد، انتهى. وكان ابتداء الوفود عليه -عليه الصلاة والسلام- بعد رجوعه من الجعرانة في آخر سنة ثمان وما بعدها، وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك، وقال ابن هشام: كانت سنة تسع تسمَّى سنة الوفود. وقد سرد محمد بن سعد في.   "الفصل العاشر": "في ذكر من وفد" أي: قدم "عليه" بالإفراد, مراعاة اللفظ من, ولو راعى معناه لقال: وفدوا, وكلٌّ جائز، ويعدَّى بعلى وإلى, "صلى الله وسلم عليه", فكان المناسب تعديته بإلى حتى يغاير هذه الفقرة، "وزاده فضلًا وشرفًا لديه" عنده. "قال النووي: الوفد: الجماعة المختارة للتقدم" صلة المختارة، أي: التي اختيرت لفصاحة ونحوها للتقدم "في لقاء" أي: ملاقاة "العظماء, واحدهم: وافد" أي: راكب، قاله ابن كثير وغيره في تفسير وفد. "انتهى" كلام النووي وأقرّه في الفتح, وكأنه استعمال عرفي، وإلّا ففي اللغة: إن الوافد القادم مطلقًا مختارًا للقاء العظماء أم لا؟ راكبًا أم لا. قال القاموس: وفد إليه وعليه، يفد وفدًا ووفودًا ووفادة وإفادة، قدم وورد, ونحوه في الصحاح وغيره، "وكان ابتداء الوفود" مصدر وَفَد لا جمع, ضرورة إضافته إلى ابتداء، أي: لقدوم "عليه -عليه الصلاة والسلام- بعد رجوعه من الجعرانة" حين قدم من غزوة الطائف، فانتهى إليها ليلة الخمس لليال خلون من ذي القعدة، فأقام بها ثلاث عشرة ليلة، وقسم بها غنائم حنين، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، فأحرم بعمرة ودخل مكة، كما قدَّمه المصنف هناك "في آخر سنة ثمان" أي: ما يقرب من آخرها لا آخر يوم منها، كما يفيده السياق، "و" استمرَّ فيها "بعدها" من سنة تسع وعشر إلى أن توفي -صلى الله عليه وسلم، فهو متعلق بمقدر لا عطف على سنة ثمان لفساده؛ إذ يصير معناه: الابتداء في آخر ما بعدها. "وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك" ورجع منها في شعبان أو رمضان سنة تسع. "وقال ابن هشام: كانت سنة تسع تسمَّى سنة الوفود،" يعني: كلها، فخالف شيخ شيخه في قوله: بعد تبوك، واستعمل الوفود ها جمعًا، وفيما قبله مصدرًا، "وقد سرد محمد بن سعد في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 الطبقات الوفود، وتبعه الدمياطي في السيرة له، وابن سيد الناس، ومغلطاي، والحافظ زين الدين العراقي. ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين.   الطبقات: الوفود، وتبعه الدمياطي في السيرة له, و" تلميذه "ابن سيد الناس ومغلطاي والحافظ زين الدين العراقي" في منظومته, "ومجموع ما ذكروه يزيد على الستين" ولا يبلغ السبعين على المتبادر من مثل هذه العبارة عرفًا، وقد سردهم الشامي فزادوا على مائة، فلعلّ الجماعة اقتصروا على المشهورين أو الآتين لترتيب مصالحهم، وذكر المصنف خمسًا وثلاثين وما للإيجاز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 [ الوفد الأول: وفد هوازن ] قدم -عليه الصلاة والسلام- وفد هوازن، كما رواه البخاري وغيره، وذكر موسى بن عقبة في المغازي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف في شوال إلى الجعرانة, وفيها السبي -يعني سبي هوازن, قدمت عليه وفود هوازن مسلمين، فيهم تسعة   "الوفد الأول": "قدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد هوازن، كما رواه البخاري وغيره" من طريق الزهري عن عروة، عن المسور ومروان, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين، فسألوه: أن يردَّ إليهم سبيهم وأموالهم، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون, وأحب الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم"، وكان انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلمَّا تَبَيِّنَ لهم أنه -صلى الله عليه وسلم- غير رادّ إليهم إلّا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين, وإني قد رأيت أن أردَّ عليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل"، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرجع إلينا عرفاؤكم أمركم"، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا. "وذكر موسى بن عقبة" بالقاف "في المغازي" له "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف في شوال" متعلّق بانصرف, ووصل "إلى الجعرانة" ليلة الخامس من ذي القعدة لأمور عرضت له في الطريق اشتغل بها، وبهذا وافق قول ابن سيد الناس المعروف عند أهل السير أنه انتهى إلى الجعرانة لخمس ليالٍ خلون من ذي القعدة، "وفيها السبي -يعني سبي هوازن- قدمت عليه وفود هوازن" حال كونهم "مسلمين, فيهم تسعة نفر من أشرافهم" إضافة بيانية؛ إذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 نفر من أشرافهم, فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه فقالوا: يا رسول الله، إن فيمن أصبتم الأمهات والأخوات والعمات والخالات، فقال: "سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم، فأي الأمرين أحبّ إليكم، السبي أم المال"؟ قالوا: خيرتنا يا رسول الله بين الحسب والمال، فالحسب أحب إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال: "أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين فكلموهم وأظهروا إسلامكم". فلمَّا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهاجرة قاموا، فتكلَّم خطباؤهم, فأبلغوا فيه, ورغبوا إلى المسلمين في ردّ سبيهم،   النفر الرجال من ثلاثة إلى عشرة، والمراد: أنَّ جملتهم تسعة، أو المراد بالنفر: الرجال مجازًا، فكأنه قال: تسعة من الرجال، فهي غير بيانية، "فأسلموا وبايعوا، ثم كلموه، فقالوا: يا رسول الله" بيان لما كلموه به، فهو عطف مفصَّل على مجمل "إن فيمن أصبتم الأمهات" بالكسر, اسم إن واللام فيه وفيما بعده عوض عن المضاف إليه، أي: أمهاتك، "والأخوات والعمات والخالات" لك, "فقال: "سأطلب لكم، وقد وقعت المقاسم" جمع مقسم كمنبر، أو مقسم كمقعد، بمعنى: الأنصباء، أي: فرقت الأنصباء من الغنيمة على أربابها، أو جمع مقسم كمسجد، أي: فرقت الغنائم في مواضع قسمتها، "فأي الأمرين أحب إليكم: السبي أم المال" بالجر بدل من الأمرين، "قالوا: خيَّرتنا يا رسول الله بين الحسب" شرف الإنسان، وإن لم يكن لآبائه شرف، أو هو الشرف الثابت له ولآبائه, "والمال، فالحسب أحب إلينا" من المال، "ولا نتكلم في شاة ولا بعير" يقع على الذكر والأنثى، كالشاة، "فقال: "أما الذي لبني هاشم فهو لكم، وسوف أكلم لكم المسلمين" أشفع لكم عندهم، "فكلموهم وأظهروا إسلامكم" كي يتحننوا عليكم؛ وأراد أن لا يكون هو الآمر ابتداء، فيصير في نفوس بعض القوم شيء من أمره برد ما أخذوه. وفي رواية ابن إسحاق: "وأنا إذا بالناس فأظهروا إسلامكم وقولوا: إنا أخوانكم في الدين، وإنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأعطيكم ذلك وأسأل لكم الناس"، وعلمهم -صلى الله عليه وسلم- التشهد، أي: كلمة الشهادة كيف يكلمون الناس، "فلمَّا صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الهاجرة،" يعني الظهر بالناس "قاموا". زاد في رواية: فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكلام، فأذن لهم، "فتكلم خطباؤهم،" أي المتكلون عنهم بما أمرهم به -صلى الله عليه وسلم، وأصابوا القول "فأبلغوا فيه ورغبوا" بفتح الراء وشد المعجمة المفتوحة. "إلى المسلمين" أي: حملوهم على الرغبة "في رد سبيهم،" ويجوز كسر المعجمة وتخفيفها، أي: قصدوا إلى المسلمين في ذلك، والأول أبلغ؛ لحملهم المسلمين على الرغبة في الرد بخلاف الثاني, فقصد منهم فقط، والمناسب لبلاغتهم ترغيب المسلمين لا القصد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فرغ، وشفع لهم وحضَّ المسلمين عليه، وقال: "قد رددت الذي لبني هاشم عليهم"، وفي رواية ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: وأدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل وعشيرة، وقد أصبنا من البلاء ما لم يخف عليك, فأمنن علينا منَّ الله عليك، وقام خطيبهم زهير بن صُرد فقال: يا رسول الله، إن اللواتي في الحظائر من السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، وأنت خير مكفول   وقد ذكر الفتح رواية ابن عقبة هذه بلفظ: ورغَّبوا المسلمين، بدون إلى، وهي تؤيد أو تعين الأول، وقول الشارح: رغبوا إلى الإسلام، أي: أظهروا حبهم له، ورغبوا في الدخول فيه سهو، فاللفظ إلى المسلمين لا الإسلام، "ثم قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين فرغ" المصطفى من أذكار صلاته، أو خطيبهم، وهو ما عند ابن إسحاق، ولا ينافيه قوله: فتكلم خطباؤهم؛ لأنهم تكلّموا أولًا جميعًا، ثم خطب واحد وهو زهير، "وشفع لهم وحضَّ المسلمين عليه" أي: رد سبيهم، "وقال: قد رددت الذي لبني هاشم عليهم" من جملة الحض أو بيان له. "وفي رواية ابن إسحاق عن" شيخه "عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص صدوق، مات سنة ثماني عشرة ومائة، ولفظ ابن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب، "عن أبيه" شعيب السهمي، صدوق، ثبت سماعه "عن جده" عبد الله بن عمرو بن العاص, الصحابي ابن الصحابي، فضمير جده لشعيب لا لابنه عمرو، فهو متصل, أو لعمرو، ويحمل على الجد الأعلى، كما قال: والأكثر احتجوا بعمرو حملًا ... له على الجد الكبير الأعلى "وأدركه وفد هوازن بالجعرانة" لفظ ابن إسحاق عن جده عبد الله بن عمرو: أن وفد هوازن أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, "وقد أسلموا، فقالوا" ترقيقًا واستعطافًا: "يا رسول الله, إنا أهل وعشيرة, وقد أصبنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منَّ الله عليك، وقام خطيبهم،" أي: المتكلم عنهم "زهير" بضم الزاي، وفتح الهاء وسكون التحتية. "ابن صُرد". بضم الصاد، وفتح الراء ودال مهملات. مصروف, ليس معد, ولا السعدي الجشمي أو جرول، ويقال: أبو صرد. قال ابن منده: سكن الشام، "فقال: يا رسول الله, إن اللواتي في الحظائر" بمهملة ومعجمة مشالة: جمع حظيرة، وهو السرب الذي يصنع للإبل والغنم يكفها، وكان السبي في حظائر مثلها "من السبايا خالاتك وعمَّاتك" من الرضاع، "وحواضنك اللاتي كنَّ يكفلنك وأنت خير مكفول" أي: تزيد في الفضل والشرف على كل مكفول. وفي رواية الواقدي: وإن أبعدهنَّ قريب منك، حضنك في حجرهن، وأرضعنك ثديهن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 ثم أنشد: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر الأبيات المشهورة الآتية. وروينا في المعجم الصغير للطبراني من ثلاثياته، عن زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين -يوم هوازن, وذهب يفرّق السبي والشاء, أتيته فأنشأت أقول: امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه وندخر امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشت شملها في دهرها غير   وتوركنك على أوراكهنَّ وأنت خير المكفولين. وفي رواية عند ابن إسحاق: أن زهيرًا قال: ولو أنَّا ملحنا للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منَّا بمثل الذي نزلت, رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين، "ثم أنشد: امنن علينا" يا "رسول الله" فهو منادى بحذف الأداة "في كرم" في: سببية، أي: بسبب صفتك الجميلة التي هي كرمك, أو كرم بمعنى إكرام، أي: امنن علينا بإكرامك لنا لما بيننا وبينك من الوصلة، "فإنك المرء". بفتح الميم وبالراء والهمزة وأل: لاستغراق أفراد الجنس، أي: أنت المرء الجامع للصفات المحمودة المتفرقة في الرجال "نرجوه" لمهماتنا "وندخر" بدال هملة ومعجمة، أي: نختاره ونتخذه لما يعرض لنا من الأهوال، وأصله: نذتخر -بمعجمة, قلبت التاء دالًا، ثم أدغمت فيها الذال، ويجوز قلب المهملة معجمة، ويجوز ترك الإدغام، لكن إنما يتَّزن بالإدغام "الأبيات المشهورة الآتية" قريبًا في قوله: "وروينا في المعجم الصغير" وهو عن كل شيخ له حديث "للطبراني من ثلاثياته،" أي: ما وقع بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أنفس، "عن زهير بن صرد،" ولفظ الطبراني: حدثنا عبيد الله بن دماحش القيسي. بزيادة الرملة, سنة أربع وسبعين ومائتين، قال: حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق البلوي، وكان قد أتت عليه مائة وعشرون سنة، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد "الجشمي" -بضم الجيم وفتح المعجمة وميم، نسبة إلى جشم, بطن من بني سعد "يقول: لما أسرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين يوم هوازن" أي: أسر نساءنا وأولادنا، وكانوا ستة آلاف من الذراري والنساء، "وذهب يفرق السبي والشاء" جمع شاة، أي: وفرَّقهم بالفعل, "أتيته" في وفد هوازن، "فأنشأت أقول: امنن علينا" بهمزة مضمومة، فميم ساكنة، فنون مضمومة فأخرى ساكنة، أي: أحسن إلينا من غير طلب ثواب ولا جزاء يا "رسول الله في كرم، فإنك المرء" الرجل الكامل في صفة الرجولية "نرجوه وندَّخر" لنوائبنا "امنن على بيضة" أي: أهل وعشيرة "قد عاقها قدر، مشتت شملها في دهرها غير" بكسر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 أبقت لنا الدهر هتافًا على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلمًا حين تختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذا فوك يملؤه من مخضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر يا خير من مرحت كُمْت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر إنا نؤمل عفوًا منك تلبسه ... هادي البرية إذ تعفو وتنتصر فاعفوا عفا الله عمّا أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر   المعجمة وفتح الياء، تغيّر حال وانتقالها من صلاح لفساد، "أبقت لنا الدهر" نصب معمول أبقت "هتافًا" بفتح الهاء وفوقية وفاء، أي: ذا هتف، أي: صوت مشتمل "على حزن" بفتحتين, "على قلوبهم الغماء" بفتح المعجمة وشد الميم، أي: الحزن؛ لأنه يغطي السرور، "والغمر" بفتح المعجمة، وتكسر، وميم مفتوحة وراء, الحقد, "إن لم تداركهم نعماء تنشرها" عليهم هلكوا، فجواب أن محذوف, أو هو شرط في أبقيت فلا حذف، "يا أرجح الناس حلمًا" عقلًا "حين تختبر" بالبناء للمفعول قيد به لظهوره بالاختبار. "امنن على نسوة قد كنت ترضعها" بفتح الفوقية. "إذ فوك يملؤه من مخضها" بفتح الميم، وسكون المعجمة, لبنها الخالص "الدرر" بكسر المهملة وفتح الراء الأولى, كثرة اللبن وسيلانه، جمع درة. "إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها، وإذ يزينك" بفتح الياء وكسر الزاي. "ما تأتي وما تذر"، أي: تترك, "لا تجعلنا" بشد النون "كما شالت" ارتفعت "نعامته" أي: هلك، والنعامة باطن القدم، "واستبق منا" ثناء يدوم، "فإنا معشر زهر" بضمتين. "إنا لنشكر للنعماء" بفتح النون وإسكان العين وميم والمد، أي: النعمة؛ "إذ كفرت" بالبناء للمفول، "عندنا بعد هذا اليوم مدخر" بميم مضمومة، فمهملة مشددة، فمعجمة مفتوحتين فراء، "فألبس" بفتح الهمزة وكسر الموحدة. "العفو من قد كنت ترضعه من أمهاتك إن العفو مشتهر" حسنه بين الناس ظاهر، فهو وصف سببي, "يا خير من مرحت" بفتح الميم والراء والحاء المهملة. نشطت ورعت "كمت،" بضم الكاف، وسكون الميم وفوقية. جمع كيمت "الجياد". بكسر الجيم. "به عند الهياج". بكسر الهاء وخفة التحتية، وجم القتال "إذا ما استوقد" بالبناء للمفعول، "الشرر، إنا نؤمل"، نرجو "عفوًا منك تلبسه" بضم الفوقية، وسكون اللام وكسر الموحدة "هادي" بهاء ومهملة. منادى، أي: يا هادي "البرية"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 قال: فلمَّا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: "ما كان لي ولعبد المطلب فهو لكم"، وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. ومن بين الطبراني وزهير لا يعرف، لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة، فهو حديث حسن، وقد وهم من زعم أنه منقطع   وفي نسخة: بمعجمة, إشارة للنسوة التي طلب العفو عنهنَّ, "إذ تعفو وتنتصر" فتجمع بين الأمرين الحسنين، "فاعفو،" بواو الإشباع, أو على لغة من يجري المعتل مجرى الصحيح، "عفا الله عمَّا أنت راهبه" بموحدة, خائفه "يوم القيامة؛ إذ يهدي لك الظفر" أي: الفوز، "قال: فلمَّا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الشعر قال: "ما كان لي ولعبد المطلب" أي: آله المعبَّر عنهم في السابقة ببني هاشم. وعند ابن إسحاق في حديث عمرو: لبني عبد المطلب, "فهو لكم" بلا فداء، "وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله" يفعل فيه ما شاء، "وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله". زاد ابن إسحاق في حدث عمرو عن أبيه، عن جده: وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عباس: وهنتموني، فقال -صلى الله عليه وسلم: " أما مَنْ تمسَّك منكم بهذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه، فردوا إليهم أبناءهم ونساءهم"، وعنده من طريق آخر: إلّا عيينة بن حصن أخذ عجوزًا من عجائز هوازن، وقال حين أخذها: أرى عجوزًا, إني لا أحسب لها في الحي نسبًا، وعسى أن يعظم فداؤها، فلما ردَّ -صلى الله عليه وسلم- السبايا بست فرائض أبى أن يردها، فقال له زهير بن صرد: خذها فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد، ولا زوجها بواحد، ولا درها بماكد. فردَّها بست فرائض حين ذلك، ولقي الأقرع فشكا إليه ذلك، فقال: والله إنك ما أخذتها بيضاء غريزة ولا نصقًا وتيرة، وكسا النبي -صلى الله عليه وسلم- كل واحد من السبي قبطية. وقال ابن عقبة: كساهم ثياب المعقد -بضم الميم، وفتح المهملة والقاف الثقيلة, ضرب من برود هجر، "ومن بين الطبراني وزهير" وهم الرجلان "لا يعرف" بتعديل ولا جرح، "لكن يقوى حديثه بالمتابعة المذكورة". في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدة: "فهو حديث حسن، وقد وَهِمَ من زعم أنه منقطع" كذا في الفتح. وقال في الإصابة: وَهَّى ابن عبد البر إسناده من غير قادح، وقد أوضحته في لسان الميزان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وقد زاد الطبراني على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات. وذكر الواقدي: إن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتًا، فيهم أبو برقان السعدي، فقال: يا رسول الله، إن هذه الحظائر لأمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك, فامنن علينا منَّ الله عليك، فقال: "قد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي".   في ترجمة زياد بن طارق. "وقد زاد الطبراني على ما أورده ابن إسحاق خمسة أبيات" أي: وأسقط مما ذكره بعض أبيات. قال في الروض: لم يذكر ابن إسحاق شعر زهير في رواية البكائي، وذكره في رواية إبراهيم بن سعد عنه، وهو ذكر البيتين الأولين وقال عقبهما: يا خير طفل ومولود ومنتخب ... في العالمين إذا ما حصل البشر وأسقط بيت: أبقت لنا الدهر، وقال عقب ذا البيت: إن لم تداركهمو، حتى قوله: فإنا معشر زهر، وأسقط بيت: فألبس العفو، وذكر بعده: يا خير من مرحت، إلى آخر الشعر. انتهى، وعلى هذا، فالذي زاده الطبراني على ابن إسحاق بيتين فقط لا خمسة، كما قال المصنف تبعًا للفتح, إلّا أن يكون مرادهما رواية غير إبراهيم، كيونس الشيباني. "وذكر الواقدي: أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتًا" قدموا مسلمين، وجاءوا بإسلام من وراءهم من قومهم، كما هو عند الواقدي، "فيهم أبو برقان". قال الحافظ: بموحدة وقاف، ويقال: أبو مروان -بميم أوله، ويقال: أبو ثروان -بمثلثة أوّله- السعدي, عمه -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة, ذكره ابن سعد، "فقال: يا رسول الله, إن هذه الحظائر" أي: أهلها، يعني من فيها "لأمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك، فامنن علينا مَنَّ الله عليك، فقال: "قد استأنيت بكم". قال الحافظ: أي: استنظرت، أي: أخَّرت قسم السبي لتحضروا، فأبطأتم "حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي" وقد كان ترك السبي بلا قسمة، وتوجّه إلى الطائف فحاصرها، ثم رجع إلى الجعرانة، ثم قسم الغنائم فيها، فجاءه بعد ذلك وفد هوازن، فبيِّنَ لهم أنه آخر القسم ليحضروا فأبطئوا. انتهى، أي: ثم شفع لهم ومن عليهم بسباياهم، كما مَرَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 الوفد الثاني: وفد ثقيف وقدم -عليه الصلاة والسلام- وفد ثقيف، بعد قدومه -عليه الصلاة والسلام- من تبوك، وكان من أمرهم أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف قيل له: يا رسول الله, ادع لنا ثقيف، فقال: "اللهم اهد ثقيفًا وأتِ بهم". ولما انصرف عنهم، اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام،   "الوفد الثاني": "وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد ثقيف بعد قدومه -عليه الصلاة والسلام- من تبوك" المدينة في رمضان، كما قال ابن سعد وابن إسحاق، وجزم به مغلطاي، وقال بعضهم: في شعبان سنة تسع، وأما خروجه من المدينة إلى تبوك فكان يوم الخميس في رجب سنة تسع اتفاقًا كما مَرَّ، "وكان من أمرهم" أي: من جملة الأشياء المتعلقة بثقيف "أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الطائف" أي: ترك محاصرته، وعزم على السفر، "قيل له: يا رسول الله, ادع لنا ثقيف" فقد أحرقتنا نبالهم، "فقال: "اللهم اهد ثقيفًا" إلى الإسلام "وأت بهم" مسلمين. روى الترمذي، وحسَّنه عن جابر قال: قالوا: يا رسول الله, أحرقتنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد ثقيفً وأت بهم". وعند البيهقي عن عروة، ودعا -صلى الله عليه وسلم- حين ركب قافلًا، فقال: "اللهم اهدهم، واكفنا مؤنتهم"، "ولما انصرف عنهم،" أي: شرع فيه بالفعل ليغاير ما قبله "اتبع بشد التاء "أثره" بتثليث الهمزة وفتح المثلثة وإسكانها "عروة بن مسعود" بن معتب -بمهملة وفوقية مشددة، أن مالك كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، وهو عمّ والد المغيرة بن شعبة، وأمه سبيعة بنت عبد مناف، كان أحد الأكابر, ممن قيل: إنه المراد بقوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] الآية، قال ابن عباس وجماعة: أرادوا الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وعروة بن مسعود من أهل الطائف. وفي مسلم: عرض على الأنبياء الحديث, وفيه: ورأيت عيسى فإذا أقرب من رأيت به شبهًا عروة بن مسعود، وله ذكر في الصحيح في قصة الحديبية، وكانت له اليد البيضاء في تقرير الصلح، وترجمة ابن عبد البر بأنه شهد الحديبية، وليس كذلك، فالعرف إذا أطلق على الصحابي أنه شهد غزوة كذا، فالمراد شهدها مسلمًا, فلا يقال شهد معاوية بدرًا؛ لأنه إذا أطلق ذلك ظنّ من لا خبرة له لكونه عرف أنه صحابي أنه شهدها مع المسلمين، أفاده في الإصابة. "حتى أدركه" أي: لحقه، ففيه تجريد، ففي المصباح: أدركته إذا طلبته، فلحقته "قبل أن يدخل المدينة"، كما عند ابن إسحاق، وعند موسى بن عقبة عن الزهري وأبي الأسود، عن عروة: لما صدر أبو بكر من الحج سنة تسع قدم عروة بن مسعود على النبي -صلى الله عليه وسلم، "فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام" أي: بإظهاره, وطلبه منهم. وعند ابن عقبة وغيره، فقال: إني أخاف أن يقتلوك، فقال: لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 فلمَّا أشرف على علية له، وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهرًا، ثم إنهم ائتمروا فيما بينهم, ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا،   وفي رواية ابن إسحاق، فقال له: "إنهم قاتلوك"، وعرف أن فيهم نخوة الامتناع، أي: كبره وعظمته، فقال: أنا أحب إليهم من أبكارهم. وقال ابن هشام: من أبصارهم، وكان فيهم كذلك محببًا مطاعًا، فأذن له، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، "فلمَّا أشرف" ظهر "لهم على علية" بضم العين، وكسرها وشد التحتية, غرفة، "وقد دعاهم إلى الإسلام، وأظهر لهم دينه" بالإفراد، أي: الإسلام. وفي نسخة: دينهم، أي: بطلان دينهم، لكن الرواية عند ابن إسحاق وغيره: إنما هي بالإفراد، ثم في هذه الرواية اختصار، ففي رواية ابن عقبة وغيره: فرجع، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم فنقصوه وأسمعوه من الأذى، فلمَّا كان من السحر قام على غرفة له، فأذن، "رموه بالنبل من كل وجه" أي: جهة، "فأصابه سهم فقتله". وحكى ابن إسحاق: الخلاف في أنَّ اسم قاتله أوس بن عوف, أو وهب بن جارية، فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ، فليس فيَّ إلّا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معكم، فدفنوه معهم، فقال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن مثله في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه". روى عروة بن مسعود الثقفي عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله, فإنها تهدم الخطايا" رواه ابن منده, إسناد ضعيف. وروى أبو نعيم عنه: كان -صلى الله عليه وسلم- يوضع عنده الماء، فإذا بايع النساء لمسن أيديهن فيه، وإسناده ضعيف منقطع، "ثم أقامت ثقيف بعد قتله أشهرًا" نحو: ثمانية، فعند ابن إسحاق: قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة من تبوك في رمضان، وقدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف، "ثم إنهم ائتمروا فيما بينهم, ورأوا أنهم لا طاقة" لا قوَّة "لهم بحرب من حولهم من العرب, و" الحال أنهم "قد بايعوا وأسلموا" أي: من حولهم، فبقي أهل الطائف منفردين بعد الإسلام معرضين للحرب. وعند ابن إسحاق: أن عمرو بن أمية كان مهاجر العبد ياليل لشيء كان بينهما، وكان عمرو من أدهى العرب، فمشى إلى عبد ياليل حتى دخل داره, فخرج إليه فرحَّب به، فقال له عمر: إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليست لكم بحربهم طاقة، فانظروا في أمركم، فعند ذلك ائتمرت ثقيف, وقال بعضهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فبعثوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومعه اثنان من الأحلاف: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، وشرحبيل بن غيلان، وثلاثة من بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس بن عوف، ونمير.   لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب، ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع، فأتمروا بينهم "وأجمعوا" عزموا وصمَّموا على "أن يرسلوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فبعثوا عبد ياليل بن عمرو" بفتح العين "ابن عمير" بضمها مصغَّر، كذا قاله ابن إسحاق، فذكره ابن حبان في الصحابة، فقال: له صحبة، وكان من الوفد، والذي قاله غيره: إن هذا إنما هو لولده مسعود، ذكره في الإصابة فيمن ذكر غلطًا في الصحابة، ومن الغير موسى بن عقبة، وابن الكلبي، وأبو عبيدة قالوا: إنه مسعود بن عبد ياليل، لكن صاحب الإصابة وغيره ترجموا مسعود بن عمرو. وقالوا: إنه أخو عبد ياليل لا ابنه، وما ذكروا لابنه ترجمة، "ومعه اثنان من الأحلاف: الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب" بضم الميم، وفتح العين المهملة، وكسر الفوقية وموحّدة، ويجوز فيه إسكان العين، وكسر الفوقية "ابن مالك" بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفي، كذا نسبه في الإصابة ثقيفًا, والمصنف تبعًا لابن إسحاق قالا: إنه من أحلافهم، "وشرحبيل" بفتح المعجمة والراء، وإسكان المهملة وكسر الموحدة وتحتية ولام "ابن غيلان" بفتح المعجمة وسكون التحتية, ابن معتب بن مالك الثقفي. قال ابن سعد: نزل الطائف وله صحبة، ومات سنة ستين. قال أبو عمرو: له حديث في الاستغفار بين كل سجدتين, ليس مما يحتجّ بإسناده، "وثلاثة من بني مالك: عثمان بن أبي العاص" بن بشر بن عبيد بن درهمان بن عبد الله الثقفي، أبو عبد الله, نزيل البصرة, أسلم في ود ثقيف، فاستعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على الطائف، وأقرَّه أبو بكر، ثم استعمله عمر على البحرين وعمان سنة خمس عشرة، ثم سكن البصرة حتى مات بها، قيل: سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وكان هو الذي منع ثقيفًا عن الردة, خطبهم فقال: كنتم آخر الناس إسلامًا، فلا تكونوا أولهم ارتدادًا، وجاء عنه: إنه شهد آمنة لما ولدت النبي -صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا يكون عاش نحوًا من مائة وعشرين سنة. روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث في مسلم والسنن، "وأوس بن عوف" بن جابر بن سفيان بن عبد ياليل بن سالم بن مالك، كذا نسبه ابن حبان في الصحابة، وقال: كان في وفد ثقيف، وزعم أبو نعيم أنه هو أوس بن حذيفة، نسب إلى عوف أحد أجداده. قال الحافظ: وليس كذلك, لاختلاف النسبين "ونمير" بضم النون، وفتح الميم، وإسكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 ابن خرشة، فلمَّا قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب عليهم قبة في ناحية المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم, حتى أسلموا واكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه، وكان فيما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدع لهم الطاغية -وهي اللات, لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم -عليه الصلاة والسلام- إلّا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة يهدمانها. وكان فيما سألوه مع ذلك أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا.   التحتية وراء. "ابن خرشة" بفتح المعجمة والراء المعجمة, ابن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن الحارث بن حطيط بن جشم بن ثقيف, نسبه ابن حبان. وقال أبو عمرو: هو حليف لهم من بني كعب، أخرج البغوي وابن السكن وأبو نعيم عنه, قال: أدركنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجحفة, فاستبشر الناس قدومنا. الحديث. وذكر في سياق اشتراطهم ما اشترط، وذكره في الإصابة. وعند ابن إسحاق: فخرج بهم عبد ياليل وهو صاحب أمرهم، فلمَّا دنوا من المدينة ونزلوا قناة, وجدوا المغيرة بن شعبة ليبشِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقدومهم، فلقيه أبو بكر، فقال: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه، ففعل المغيرة، فدخل أبو بكر، فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة إليهم فروج الظهر، أي: الركاب معهم، وعلمهم كيف يحيون رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلم يفعلوا إلّا بتحية الجاهلية، "فلمَّا قدموا على رول الله -صلى الله عليه وسلم- ضرب عليهم قبة" خيمة "في ناحية المسجد"؛ لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، "وكان خالد بن سعيد بن العاص" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف, من السابقين الأولين، قيل: كان رابعًا، أو خامسًا، "هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم", وكانوا لا يطعمون طعامًا يأتيهم من عنده -صلى الله عليه وسلم- حتى يأكل منه خالد، "حتى أسلموا واكتتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي كتبه، وكان فيما سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن يدع لهم الطاغية" اسم لمعبودهم من أصنام وغيرها, والجمع طواغي، "وهي" أي: المراد بها هنا: "اللات", لا أنها مفهوم الطاغية "لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى عليهم -عليه الصلاة والسلام" في ابن إسحاق: فما برجوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم حتى سألوه شهرًا واحدًا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئًا، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى -صلى الله عليه وسلم "إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمانها، وكان فيما سألوه مع ذلك أن يعفيهم" بضم الياء وكسر الفاء, يتركهم "من الصلاة، وأن لا يكسروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 أوثانهم إلّا بأيديهم، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كسروا أوثانكم بأيديكم, وأما الصلاة: فلا خير في دين لا صلاة فيه"، فلما أسلموا وكتب لهم الكتاب أمَّرَ عليهم عثمان بن أبي العاص, وكان من أحدثهم سنًّا، لكنه كان من أحرصهم على التفقّه في الإسلام وتعلم القرآن. فرجعوا إلى بلادهم ومعهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية، ......................   أوثانهم إلا بأيديهم، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كسروا أوثانكم بأيديكم" نقل بالمعنى. ولفظ ابن إسحاق: فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، "وأمّا الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه"،" فقالوا: يا محمد, فسنؤتيكها وإن كانت دناءة، "فلما أسلموا وكتب لهم الكتاب أمَّرَ" بشد الميم "عليهم عثمان بن أبي العاص, وكان من أحدثهم سنًّا" بزيادة من في الإثبات على رأي الأخفش أو تبعيضية، والمراد: أن ثلاثة من الستة مثلًا أحدث من باقيهم، وهو واحد منهم، فلا ينافي كونه أصغرهم، فلا يخالف ما هنا قوله: الآتي وأنا أصغر الستة، "لكنَّه كان من أحرصهم على التفقُّه في الإسلام وتعلم القرآن" بشد اللام مضمومة والجر عطف على التفقّه، فلذا أمَّره عليهم بإشارة الصديق، كما عند ابن إسحاق, وعنده عن بعض وفدهم: وصمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بقي من رمضان، فكان بلال يأتينا من عنده بفطرنا وسحورنا، فيأتينا السحور وإنا لنقول: إنا لنرى الفجر قد طلع، فيقول: قد تركت رسول الله يتسحَّر, ويأتينا بفطورنا وإنا لنقول: ما نرى الشمس ذهبت، فيقول: ما جئتكم حتى أكل -صلى الله عليه وسلم، ثم يضع يده في الجنة، فيلقم منها، "فرجعوا إلى بلادهم ومعهم أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية", حتى إذا قدموا الطائف، أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى, وقال: ادخل أنت على قومك، وأقام بماله بذي الهرم -بفتح الهاء وإسكان الراء وميم, محلّ بالطائف، كذا عند ابن إسحاق وغيره، أنهما ذهبا مع الوفد. وفي رواية: أنهم تأخروا عنهم أيامًا حتى قدموا، وأنَّ الوفد لما قدموا تلقاهم ثقيف، فقصدوا اللات ونزلوا عندها، فسألوهم ماذا جئتم به؟ فقالوا: أتينا رجلًا فظًّا غليظًا، قد ظهر بالسيف، وداخ له العرب، قد عرض علينا أمورًا شددًا، أهدم اللات، فقالت ثقيف: والله لا نقبل هذا أبدًا، فقال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيؤا للقتال، فمكثوا يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، فقالوا: والله ما لنا به من طاقة، فارجعوا فأعطوه ما سأل، فقال الوفد: فإنا قاضيناه وشرطنا ما أردنا، وجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه، فاقبلوا عافية الله. فقالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث؟ فقالوا: لو أردنا أن ننزع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 فلمَّا دخل المغيرة عليها علاها بضربها بالمعول، وخرج نساء ثقيف حسرًا يبكين عليه، وأخذ المغيرة بعد أن كسرها مالها وحليها. وكان كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله   قلوبكم نخوة الشيطان، أي: الكبر والعظمة، فأسلموا مكانهم، ومكثوا أيامًا، ثم قدم رسل النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدم اللات, فإن صحَّ، فيحتمل أنهم خرجوا من المدينة مصاحبين للوفد، ثم أخَّروهم في مكان لكي يستألف الوفد قومهم قبل قدومهم, حتى لا يكون نزاع، "فلما دخل المغيرة عليها" وقام قومه دونه, خشية أن يرمى أو يصاب كعروة, "علاها يضربها بالمعول" بكسر الميم، وإسكان المهملة وفتح الواو. الفأس العظيمة يقطع بها الصخر، "وخرج نساء ثقيف حسرًا" بضم الحاء، وفتح السين المشددة وراء مهملات، أي: منكشفات "يبكين عليها". وفي رواية: خرجت ثقيف كلها حتى العواتق من الحجال، لا ترى أنها مهدومة، ويظنون أنها ممتنعة، فأخذ المغيرة الفأس فضرب ثم سقط، فارتجوا وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته، وفرحوا وقالوا: والله لا يستطاع هدمها، فوثب المغيرة وقال: قبَّحكم الله, إنما هي حجارة ومدر، فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علا سورها, وعلا الرجال معه يهدمونها حجرًا جرًا حتى سورها، فقال البواب: ليغضبنّ الأساس فيخسف بهم، فحفروا أساسها حتى أخرجوا ترابها، "وأخذ المغيرة بعد أن كسرها مالها وحليها" بضم الحاء وكسر اللام والياء المشددة, جمع حلي -بفتح فسكون. عطف خاص على عام. زاد ابن إسحاق: وأرسل إلى أبي سفيان حليها -مجموع, ومالها من الذهب والفضة والجذع، وقد كان أبو فليح بن عروة وقارب بن الأسود قدما على رسول الله قبل وفد ثقيف حين قتل عروة يريدان فراق قومهما، فأسلما, فقال لهما -صلى الله عليه وسلم: "توليا من شئتما"، فقالا: نتولّى الله ورسوله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "وخالكما أبا سفيان بن حرب"، فقالا: وخالنا أبا سفيان، فلما أسلم أهل الطائف, سأل أبو فليح رسول الله أن يقضي عن أبيه عروة دينًا كان عليه من مال اللات، فقال: "نعم"، فقال له: قارب، وعن الأسود: يا رسول الله, فاقضه, وعروة والأسود شقيقان، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الأسود مات مشركًا"، فقال قارب: يا رسول الله, لكن تصل مسلمًا ذات قرابة، يعني: نفسه، إنما الدَّيْن عليَّ, وأنا الذي أطلب به، فأمر أبا سفيان أن يقضي دينهما من مال الطاغية فقضاه، ثم قدموا عليه بحليها وكسوتها، فقسمه من يومه, وحمد الله على نصر دينه وإعزاز نبيه، "وكان كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله" لفظه في ابن إسحاق: "من محمد النبي رسول الله" , فسقط من المصنف لفظ النبي, "إلى المؤمنين: إن عضاه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 إلى المؤمنين: إن عضاه وج, وصيده حرام لا يعضد، من وجد يفعل شيئًا من ذلك فإنه يجلد، وتنزع ثيابه، فإن تعدَّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ النبي محمدًا، وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله"، وكتب خالد بن سعيد بأمر محمد بن عبد الله، فلا يتعدَّاه أحد, فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله. و"وج": واد بالطائف. واختلف فيه: هل هو حرم يحرم صيده وقطع شجره؟ فالجمهور: أنه ليس في البقاع حرم إلّا حرم مكة والمدينة, وخالفهم أبو حنيفة   "وج" بمهملة مكسورة ومعجمة وآخره هاء لا تاء, كل شجر ذي شوك, جمع عضهة، حذفت منه هاء، فصار عضه بهاء تأنيث كشَفَه، ثم ردّت في الجمع، فقيل: عضاه كشِفَاه، ويقال: عضهة كعنبة، ويقال أيضًا: عضاهة وهو أقبحها. "وصيده حرام لا يعضد" بضم التحتية وفتح المعجمة. لا يقطع "من وجد يفعل شيئًا من ذلك فإنه يجلد" تعزيرًا لمخالفة النهي "وتنزع ثيابه" أي: تكون سلبًا لمن وجده يفعل، "فإن تعدَّى ذلك" أي: امتنع من تسليم نيابه لمن وجده يقطع، "فإنه يؤخذ، فيبلغ" به "النبي محمدًا"، فيرى فيه رأيه, "وإنَّ هذا أمر النبي محمد رسول الله وكتب خالد بن سعيد بأمر محمد بن عبد الله: فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله" زيادة في التأكيد، وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم، واختاره النووي في شرح المهذَّب للأحاديث الصحيحة فيه بلا معارض. روى مسلم: أن سعد بن أبي وقاص وجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه، فسلبه، فجاءه أهل العبد، فكلموه أن يردّ على غلامهم, أو عليهم ما أخذ منه، فقال: معاذ الله أنْ أَرُدَّ شيئًا نفلنيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم. وروى أبو داود: أن سعدًا أخذ رجلًا يصيد في حرم المدينة، فسلبه ثيابه، فجاءوا إليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول الله حرَّم هذا الحرم، وقال: "من أخذ أحدًا يصيد فيه فليسلبه" , فلا أردّ عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله، ولكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه، ولم يأخذ الجمهور بهذا, ومنهم الشافعي في الجديد؛ لأن عمل الأمَّة على لافه "ووج" بفتح الواو وشد الجيم "واد بالطائف" لا بلد به، وغلط الجوهري, قاله في القاموس، أي: في قوله: إنه بلد، أي: حصن من حصون الطائف. "واختلف فيه: هل هو حرم بحرم صيده وقطع شجره، فالجمهور أنه" لا يحرم ذلك؛ لأنه "ليس في البقاع حرم إلّا حرم مكة والمدينة" للأحاديث الصحيحة، "وخالفهم أبو حنيفة في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 في حرم المدينة. وقال الشافعي -في أحد قوليه: وج حرم يحرم صيده وشجره، واحتج لهذا القول بحديثين: أحدهما: ما تقدَّم، والثاني: حديث عروة بن الزبير عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صيد وج وعضاهه حرم محرَّم لله" رواه الإمام أحمد وأبو داود, لكن في سماع عروة من أبيه نظر، وإن كان قد رآه. وفي مغازي المعتمر بن سليمان التيمي عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عمه عمرو بن أوس عن عثمان بن أبي العاص، قال: استعملني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة،   حرم المدينة" فأباح صيده وقطع شجره، وهو محجوج الصحيحة في البخاري وغيره. "وقال الشافعي في أحد قوليه: وج حرم يحرم صيده وشجره" وهو القول الجديد والمشهور، قال في البهجة: وحرم الهادي ووج الطائف ... كتلك الحرمة والجزا نفي "واحتجَّ لهذا القول بحديثين، أحدهما ما تقدَّم" في الكتاب, وأجاب الجمهور بضعفه؛ إذ إن إسحاق ذكره بلا إسناد، "والثاني: حديث عروة بن الزبير عن أبيه" الزبير بن العوام: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله"، رواه الإمام أحمد وأبو داود" فلو صحَّ لكان حجة, "لكن" لا يصح؛ لأن "في سماع عروة من أبيه نظر, وإن كان قد رآه،" فأصحاب الحديث نفوا سماعه منه، فهي علة تقدح في صحته. "وفي مغازي المعتمر بن سليمان التيمي" أبي محمد البصري, ثقة، روى له الستة، ومات سنة سبع وثمانين، وقد جاوز الثمانين, "عن عبد الله بن عبد الرحمن" بن يعلى بن كعب "الطائفي" الثقفي، صدوق يخطئ ويهم, "عن عمه عمرو بن أوس" الثقفي التابعي الكبير، روى له الجميع، ووهم من ذكره في الصحابة، كالطبري وابن منده، كما بينه الحافظ، "عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي، الطائفي الصحابي الشهير، "قال: استعملني رسول الله -صلى الله عله وسلم- وأنا أصغر الستة الذين وفدوا عليه من ثقيف، وذلك أني" أي: لأجل أني "كنت قرأت سورة البقرة في" مدة إقامتهم، كانوا يفدون على المصطفى ويخلّفونه في رحالهم لصغره، فإذا رجعوا بالهاجرة عَمَد عثمان إلى رسول الله، فسأله عن الدين، واستقرأه القرآن حتى فقه في الدِّين، فأعجب ذلك المصطفى وأحبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 فقلت: يا رسول الله، إن القرآن يتفلّت مني، فوضع يده على صدري، وقال: "يا شيطان, اخرج من صدر عثمان"، فما نسيت شيئًا بعده أريد حفظه. وفي صحيح مسلم، عن عثمان بن أبي العاص، قلت: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي، فقال: "ذلك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته تعوَّذ بالله منه, واتفل على يسارك ثلاثًا" قال: ففعلت فأذهبه الله عني.   وروي عنه: سألته مصحفًا كان عنده فأعطانيه، "فقلت: يا رسول الله, إن القرآن يتفلّت مني، فوضع يده على صدري، وقال: "يا شيطان, اخرج من صدر عثمان"، فما نسيت شيئًا بعده أريد حفظه،" وعنه قلت: يا رسول الله, ادع الله أن يفقِّهني في الدّين ويعلمني، قال: "ماذا قلت"؟ فأعدت عليه القول، فقال: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من تقدَّم عليك من قومك". "وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص قلت: يا رسول الله, إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي، فقال: "ذلك شيطان يقال له خنزب" مثلث الخاء المعجمة، كما في النهاية. قال النووي: والمعروف: الفتح والكسر، ثم نون ساكنة، ثم زاي مفتوحة، ثم ياء موحدة، "فإذا أحسسته فتعوَّذْ بالله منه واتفل" بضم الفاء وكسرها, من بابي: ضرب ونصر, "على يسارك ثلاثًا" أي: على جهته، فيشمل ما إذا ألقى ما يتفله بالأرض، أو على شيء من أعضائه كيده اليسرى، "قال: ففعلت, فأذهبه الله عني" ففيه أن ذلك يذهب الوسواس. وروى ابن إسحاق عن عثمان، قال: كان من آخر ما عهد إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعثني على ثقيف أن قال: "يا عثمان, تجاوز في الصلاة, وأقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 الوفد الثالث: وفد بني عامر وقدم وفد بني عامر عليه -صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: لما فرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب،   "الوفد الثالث": "وقدم وفد بني عامر" بن صعصعة، كما في الروض، وهو من قيس عيلان "عليه -صلى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق لما فرغ" أي: رجع "من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت, ضربت" أي: سارت "إليه وفود العرب"، كقوله تعالى: {ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض} [النساء: 101] ، [المائدة: 106] , الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 فدخلوا في دين الله أفواجًا، يضربون إليه من كل وجه. فوفد عليه -عليه الصلاة والسلام- بنو عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس, وخالد بن جعفر، وحيان بن أسلم بن مالك، وكان هؤلاء النفر, لفظ: رؤساء القوم وشياطينهم، فقدم -عدو الله- عامر بن الطفيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهو يريد أن يغدر به، فقال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه، فاعله بالسيف, فكلّم عامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   فحذف منها المضروب إليه للعلم به، كما حذف هنا المضروب فيه للعلم به؛ إذ سير الوفود إنما يكون في الأرض، أو إشارة إلى أنّ استعماله بمعنى السير لا يتوقف على كونه في الأرض، فيقال: ضرب الطائر في الهواء إذا سار، "فدخلوا في دين الله أفواجًا, يضربون إليه من كل وجه، فوفد عليه -عليه الصلاة والسلام- بنو عامر" بن صعصعة, "فيهم عامر بن الطفيل" بضم الطاء وفتح الفاء, ابن مالك بن جعفر بن كلاب العامري، وهذا صريح في أن قصته كانت بعد الفتح. وقال ابن كثير: الظاهر أنها متقدمة على الفتح، وإن ذكرها ابن إسحاق والبيهقي بعده, "وأربد" بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الموحدة ومهملة, "ابن قيس وخالد" كذا في النسخ، وهو تصحيف, صوابه كما في ابن إسحاق وغيره: وأربد بن قيس بن جزء بن خالد "بن جعفر, وحيان بن أسلم" صوابه كما في ابن إسحاق وغيره: وجبار بن سلمى -بفتح الجيم وشد الموحدة وبالراء، وسلمى -بفتح السين وضمها، والصواب: الفتح، قاله أبو ذر، قال في النور: والذي أعرفه الضم، وفي الإصابة: بضم السين، وقيل: بفتحها, "ابن مالك" بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الكلابي العامري، كان يقال لأبيه: سلمى نزال الضيف، وأسلم جبار بعد ذلك وصحب -رضي الله عن، "وكان هؤلاء النفر، لفظ" ابن إسحاق: هؤلاء الثلاثة "رؤساء القوم وشياطينهم" أي: عتاتهم، فكل عات متمرد، من جن وإنس ودوابّ شيطان، كما في المصباح، "فقدم عدو الله عامر بن الطفيل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يغدر به" مثلث الدال. قال في القاموس: الغدر ضد الوفاء، غدره وبه كنصر وضرب وسمع. قال ابن إسحاق: وقد قال له قومه: يا عامر, إن الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: والله قد كنت آليت لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش، "فقال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه" أي: صارفه بأن ألهيه بحديثٍ حتى لا يفطن لما تريد فعله به "فاعله" أي: اضرب أعلاه "بالسيف"؛ كأنه يريد ضرب عنقه، فانتهى إليه عامر وأربد، وجلسا بين يديه. "فكلّم عامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فقال: يا محمد, خالني -بمعجمة فألف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 وقال: والله لأملأنَّها عليك خيلًا ورجالًا، فلمَّا ولَّى, قال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اكفني عامر بن الطفيل". فلما خرجوا، قال عامر لأربد: ويحك، أينما كنت أمرتك به؟ فقال: والله ما هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبينه، أفأضربك بالسيف؟ ولما كانوا ببعض الطريق بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله.   فلام مشدَّدة مكسورة, من المخالة، وهي المصادقة، أي: اتخذني خليلًا، وروي بخِفَّة اللام، أي: انفرد لي خاليًا حتى أتحدث معك، قال: "لا، والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له"، فقال: يا محمد, خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، وأربد لا يصنع شيئًا, ويبست يده على السيف، فلم يستطع سلّه، فقال: يا محمد خالني، قال: "لا, والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له"، قال: ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال: "لك ما للمسلمين, وعليك ما عليهم"، قال: أتجعل لي الأمر بعدك، قال: "ليس ذلك لك، ولا لقومك, ولكن لك أعنة الخيل"، قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، أتجعل لي الوبر ولك المدر؟ قال: "لا"، فقام عنه "وقال: والله لأملأنَّها،" أي: المدينة "عليك خيلًا" زاد في رواية: جروًا "ورجالًا", زاد في رواية: مردًا, ولأربطنَّ بكل نخلة فرسًا، فقال -صى الله عليه وسلم: "يمنعك الله"، "فلمَّا ولَّى قال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اكفني عامر بن الطفيل"،" زاد في رواية: "بما شئت وابعث له داء يقتله واهد قومه"، "فلمَّا خرجوا، قال عامر لأربد: ويحك, أينما كنت أمرتك به" والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف على نفسي منك، وايم الله, لا أخافك بعد اليوم أبدًا، "فقال" أربد: لا أبا لك, لا تعجل عليّ، "والله ما هممت بالذي أمرتني به إلّا دخلت بيني وبينه" حتى ما أرى غيرك، "أفأضربك بالسيف،" والمعنى: إن الله تعالى منع أربد عن رسوله بإراءته صورة صاحبه بينهما. قال في الروض: وفي رواية غير ابن إسحاق: إلّا رأيت بيني وبينه سورًا من حديد، وفي رواية: لما أردت سل سيفي، نظرت فإذا فحل من الإبل فأغرفاه بين يديّ يهوي إليَّ، فوالله لو سللته لخفت أن يبلغ رأسي، وجمع بأن ما في الرواية الأولى بعد أن تكر منه الهم، وما في الثانية بعد أن حصل منه هم آخر، وكذا يقال في الثالثة، "ولما كانوا ببعض الطريق" بمكانٍ يقال له: الرقم -بفتح الراء والقاف, موضع بالمدينة، "بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله،" والمتبادر من ذا السياق قتله سريعًا، ووقع في رواية، فمكث -صلى الله عليه وسلم- يعدعو عليه ثلاثين صباحًا، حتى إذا كان بالرقم بعث الله عليه الطاعون فقتله، والذي يظهر أنها وهم نشأ من دعائه عليه شهرًا، لما قتل أصحابه ببئر معونة، فدخل على روايها حديث في حديث، فخلط قصة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 وفي صحيح البخاري: أن عامرًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، يكون لك أهل السهل، ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء. فطُعِنَ في بيت امرأة, فقال: أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من آل بني فلان. ائتوني بفرسي, فمات على ظهر فرسه.   بقصة، كما أشار إليه شيخنا. "وفي صحيح البخاري" من حديث أنس: "أن عامرًا" أي: ابن الطفيل "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: أخيّرك" لفظ البخاري، وكان عامر رئيس المشركين خير "بين ثلاث خصال". قال الحافظ: بفتح أوّله وحذف المفعول، أي: خيِّرَ النبي -صلى الله عليه وسلم, وبَيِّنَه البيهقي في الدلائل من طريق شيخ البخاري فيه، ولفظه: وكان أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أخيرك بين ثلاث خصال، وفي نسخة خير -بضم أوله. وخطأها ابن قرقول "يكون لك أهل السهل" -بفتح المهملة وسكون الهاء, سكَّان البوادي "ولي أهل المدر" -بفتح الميم، والدال المهمل وراء, أهل البلاد. قال المصنف: فتفسير شيخنا السهل بالمدن، والقرى والمدر بالبوادي خلافه، "أو أكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان -بمعجمة، ومهملة وفاء مفتوحات, قبيلة "بألف أشقر، وألف شقراء" الذي في البخاري: بألف وألف. قال الحافظ وغيره في رواية البيهقي عن أنس, والطبراني عن سهل بن سعد: بألف أشقر، وألف شقراء، وبه مزج المصنف لفظ البخاري بلا عزو، "فطُعِنَ في بيت امرأة، فقال: أغدة" بالنصب يعامل مقدر، أي: أغد غدة، كما قال سيبويه، والاستفهام تعجبي، لكن لفظ البخاري: غدة بدون أََلِف. قال الحافظ: يجوز رفعه بتقدير: أصابتني، أو غدة بي، ويجوز النصب على المصدر، أي: أغد غدة، "كغدة البكر" -بفتح الموحدة وإسكان الكاف, الفتي من الإبل، والغدة -بضم المعجمة, من أمراض الإبل وهو طاعونها، "في بيت امرأة من آل بني فلان" بينها الطبراني من حديث سهل، فقال: امرأة من آل سلول، وهي بنت ذهل بن شيبان، وزوجها مرة بن صعصعة أخو عامر بن صعصعة، ينسب بنوه إليها، كما في الفتح، "ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فره" كافرًا. وفي رواية: ركب فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول ويقول: يا ملك الموت ابرز لي، فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتًا. قال الداودي: كانت هذه من حماقات عامر، فأماته الله بذلك ليصغر إليه نفسه، وبنو سلول كانوا موصوفين باللؤم، فرغب أن يموت في بيتها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 ......................................   قال في الفتح: وفي الإصابة ذكر جعفر المستغفري عامر بن الطفيل هذا في الصحابة، وهو غلط وخطأ صريح، وموت عامر المذكور على الكفر أشهر عند أهل السِّيَر من أن يتردَّد فيه، وإنما اغترَّ جعفر برواية أخرجها البغوي, وبما أخرجه هو عن أبي أمامة، عن عامر بن الطفيل؛ أنه قال: يا رسول الله, زوِّدني بكلمات أعيش بهنّ؟ " قال: "يا عامر: أفش السلام، وأطعم الطعام، واستح من الله كما تستحي رجلًا من أهلك، وإذا أسأت فأحسن، فإن الحسنات يذهبن السيئات"، فعامر هذا أسلمي لا عامري، فقد روى البغوي عن عبد الله بن بريدة الأسلمي، قال: حدثني عمي عامر بن الطفيل، فذكر حديثًا، فعرف أن الصحابي أسلمي، وافق اسمه واسم أبيه العامري، فساق المستغفري في نسب الصحابي نسب العامري، فوَهِمَ. قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين واروه بالتراب حتى قدموا أرض بني عامر، فأتاهم قومهم، فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم، أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: فأنزل الله في عامر وأربد: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} إلى قوله: {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} ، وأما ثالثهم: جبَّار بن سلمى، فقد أسلم مع من أسلم من بني عامر. ذكر الواقدي عن عبد الله بن كعب بن مالك، قدم وفدهم وهم ثلاثة عشر رجلًا، فيهم لبيد بن ربيعة، فنزلوا دار رملة، وكان بين جبار بن سلمى وبين كعب بن مالك صحبة، فجاء كعب فرحَّبَ بهم، وأكرم جبارًا، وانطلق معهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فأسلموا وأسلم جبار وحسن إسلامه. قال ابن الكلبي: وكان أفرس بني عامر, ذكره في الإصابة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 الوفد الرابع: وفد عبد القيس وقدم وفد عبد القيس عليه، زاده الله شرفًا وكرمًا لديه، وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين, ينسبون إلى عبد القيس بن أقصى -بسكون الفاء بعدها ضاد مهملة.   "الوفد الرابع": "وقد وفد عبد القيس عليه, زاده الله شرفًا وكرمًا لديه، وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين" وما والاها من أطراف العراق، كما في الفتح، والنسبة إليها العبدي، "ينسبون إلى عبد القيس بن أقصى -بسكون الفاء بعدها صاد مهملة" مفتوحة، وقبلها ألف مفتوحة، وأفادهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 بوزن أعمى, ابن دُعْمي -بضم الدال وسكون العين المهملتين وكسر الميم بعدها تحتانية. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس: قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: "ممن القوم"؟ قالوا: من ربيعة، قال: "مرحبًا بالوفد غير خزايا ولا ندامى"،   بقوله: "بوزن أعمى, ابن دعمي -بضم الدال، وسكون العين المهملتين، وكسر الميم بعدها تحتانية" ثقيلة، كما في الفتح, ومن قال كالكرماني والمصنف: وياء نسبة، فمراده: أنها تثقل كياء النسبة, وإلا فهو علم، وهو ابن جذيلة -بجيم, وزن كبيرة, ابن أسد بن ربيعة بن نزار. "وفي الصحيحين" البخاري في عشرة مواضع، ومسلم في الإيمان والأشربة "من حديث ابن عباس, قدم وفد عبد القيس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ممن القوم"؟ " وفي رواية: "من القوم"، أو الوفد بالشك من الراوي، "قالوا: من ربيعة" كذا للبخاري في الصلاة، وله في الإيمان: ربيعة بإسقاط من, قال الحافظ فيه: التعبير عن البعض بالكل؛ لأنهم بعض ربيعة، وهذا من بعض الرواة، فللبخاري في الصلاة، فقالوا: إن هذا الحي من ربيعة. قال ابن الصلاح: الحي منصوب على الاختصاص, والمعنى: إن هذا الحي حي من ربيعة، "قال: "مرحبًا بالوفد" منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رحبًا -بضم الراء، أي: سعة، والرحب -بالفتح: الشيء الواسع, وقد يزيدون معها أهلًا، أي: وجدت أهلًا فاستأنس، وأفاد العسكري أن أول من قال مرحبًا, سيف بن ذي بزن، وفيه استحباب تأنيس القادم، وقد تكرَّر ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حدث أم هانئ، وقال لعكرمة بن أبي جهل: "مرحبًا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة: "مرحبًا بابنتي"، وكلها صحيحة. وأخرج النسائي عن عاصم بن بشير الحارثي عن أبيه, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له لما دخل فسلم عليه: "مرحبًا, وعليك السلام غير خزايا" بنصبه حالًا، وروي بجره صفة، والمعروف الأوّل، قاله النووي، وأيضًا: فيلزم منه وصف المعرفة بالنكرة, إلّا أن تجعل أل للجنس كقوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبني والأولى: أن يكون الخفض على البدل, قاله الأبي. قال الحافظ: ويؤيد النصب رواية البخاري في الأدب: "مرحبًا بالوفد الذين جاءوا غير خزايا" جمع خزيان، أي: غير أذلاء، أو غير مستحيين لقدومكم مسلمين طوعًا من غير حرب، أو سبي بخزيهم ويفضحهم، "ولا ندامى" جمع نادم على غير قياس، اتباعًا لخزايا للمشاكلة والتحسين، كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها غدوات, لكنه اتبع فاصلة نادمين، جمع نادم؛ لأن ندامى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل، نأخذ به ونأمر به من وراءنا، وندخل به الجنة.   إنما هو جمع ندمان، أي: المنادم في اللهو، قال الشاعر: فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني كذا قاله الخطابي, قال الحافظ: وقد حكى القزاز والجوهري وغيرهما من أهل اللغة: إنه يقال: نادم وندمان في الندامة، بمعنى: فعلى هذا, فهو على الأصل، ولا اتباع فيه، وللنسائي والطبراني: رحبًا بالوفد ليس الخزايا، ولا النادمين. قال ابن أبي جمرة: بشَّرهم بالخير عاجلًا وآجلًا؛ لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها، وفيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أُمِنَ عليه الفتنة، "فقالوا: يا رسول الله, إن بيننا وبينك هذا الحي من كفَّار مضر" -بضم الميم وفتح المعجمة, لا ينصرف للعلمية والتأنيث، "وإنا لا نصل إليك إلّا في شهر حرام" بتنكيرهما، فهو شامل للأربعة، ويؤيده رواية البخاري في المناقب: إلّا في كل شهر حرام، وقيل: المراد المعهود: وهو رجب, وبه صرح في رواية البيهقي، وكانت مضر تبالغ في تعظيمه، فلذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة؛ حيث قال: "رجب مضر" , والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم مع تحريم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلّا أنهم ربما أنسوها بخلافه. وللبخاري في العلم: وإنا نأتيك من شُقَّةٍ بعيدة. قال ابن قتيبة: الشقة: السفر، وقال الزجاج: هي الغاية التي تقصد، "فمرنا" أصله أؤمرنا -بهمزتين, من أمر يأمر، فحذفت الهمزة الأصلية للاستثقال، فصا أمرنا، فاستغني عن همزة الوصل فحذفت، فبقي مُرْ على وزن عل؛ لأنَّ المحذوف فاء الفعل "بأمر فصل" بصاد مهملة وبالتنوين فيهما، لا بالإضافة بمعنى الفاصل كالعدل بمعنى العادل، أي: يفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المفصل، أي: المبيّن المكشوف. حكاه الطيبي. وقال الخطابي: الفصل البيّن، وقيل: المحكم, "نأخذ به ونأمر به من" أي: الذي استقرَّ "وراءنا" أي: خلفنا من قومنا الذين خلفناهم في بلادهم، "وندخل به الجنة" إذا قبل برحمة الله. ولفظ البخاري في الإيمان: نخبر به من وراءنا، بدل نأمر به، وإسقاط نأخذ به, قال الحافظ: نخبر بالرفع على الصفة لأمر، وكذا قوله: وندخل، وروي بالجزم فيها على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو من: وندخل, في بعض الروايات، فيرفع نخبر، ويجزم ندخل. قال ابن أبي جمرة: فيه إبداء العذر عند العجز عن توفية الحق واجبًا كان، أو مندوبًا وأنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 قال: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن أربع: عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت،   يبدأ بالسؤال عن الأهمّ، وأن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها برحمة الله، وللبخاري في رواية: وسألوه عن الأشربة، أي: عن ظروفها على حذف مضاف، أو على حذف الصفة، أي: التي تكون في الأواني المختلفة، "قال: "آمركم بأربع" أي: بأربع خصال، أو جمل, لقولهم: حدثنا بجمل من الأمر، وهي رواية البخاري في المغازي, "وأنهاكم عن أربع, آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أسقطه المصنف من لفظ الحديث في الصحيحين سهوًا، أو من الكاتب, "شهادة أن لا إله إلا الله" برفع شهادة خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، ويجوز جره على البدلية، "وأن محمدًا رسول الله". وهذه رواية البخاري في العلم والصلاة, وسقطت الجملة الثانية من الإيمان؛ لأن الأولى صارت علمًا عليهما معًا، "وإقام الصلاة" المفروضة، "وإيتاء الزكاة" المعهودة، "صوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس" بضم الخاء -كما في التنزيل. وذكر جواب سؤالهم عن الأشربة بقوله: "وأنهاكم عن أربع: عن الدباء" بضم المهملة وشد الموحدة والمد، وحكى الفزار: القصر هو الفرع، والمراد منه اليابس، وهو والثلاثة بعده من إطلاق المحلّ وإرادة الحال، أي: ما في الدباء, "والحنتم" , وصرَّح بالمراد في رواية النسائي، فقال: "وأنهاكم عن أربع: ما يبنذ في الحنتم" بفتح المهملة، وسكون النون وفتح الفوقية, هي الجرة، كما فسرها ابن عمر في مسلم، وله عن أبي هريرة: الحنتم: الجرار الخضر. وروى الحربي عن عطاء: إنها جرار كانت تعمل من طين وشعر وأدم, "والنقير" بفتح النون وكسر القاف, أصل النخلة تنقر ليتخذ منه وعاء. وفي البخاري: وربما قال: المقير -بالقاف وفتح التحتية المشددة: ما طُلِيَ بالقار، ويقال له: القير، وهو نبت يحرق إذا يبس يُطْلَى به السفن وغيرها كما يطلى بالزفت, قاله في المحكم, "والمزفت" بالزاي والفاء: ما طلي بالزفت. وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة، قال: أمَّا الدباء: فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع، فيخطرون فيه العنب، ثم يدفنونه حتى يهدر، ثم تموت، وأما النقير: فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر، ثم تموت، وأما الحنتم: فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت، فهذه الأوعية التي فيها الزفت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 فاحفظوهنَّ وادعوا إليهنَّ من وراءكم". قال ابن القيم: ففي هذه القصة أن الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول والعمل، كما على ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون موتابعوهم كلهم، ذكر ذلك الشافعي في المبسوط، وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة، ولم يعد الحج من هذه الخصال، وقد كان قدومهم في سنة تسع، وهذا أحد ما يحتج به على أنَّ الحج لم يكن فُرِضَ بعد، وأنه إنما فرض في العاشرة، ولو كان فرض لعدَّه من الإيمان كما عَدَّ الصوم والزكاة. انتهى.   قال الحافظ: وإسناده حسن، وتفسير الصحابي أَوْلَى أن يعتمد عليه من غيره؛ لأنه أعلم بالمراد، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنه يسرع إليها الإسكار، فربما يشرب منها من لا يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كلِّ وعاء مع النهي عن شرب كل مسكر أ. هـ، يعني في صحيح مسلم مرفوعًا: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلّا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا، فاحفظوهنَّ وادعو إليهنَّ". وفي رواية: وأخبروا بهنَّ "من" بفتح الميم "وراءكم" يشمل من جاءوا من عندهم، وهو باعتبار المكان، ويشتمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين معًا حقيقة ومجازًا. قاله الحافظ. "قال ابن القيم: ففي هذه القصة أنَّ الإيمان بالله مجموع هذه الخصال من القول" وهو الشهادتان "والعمل" وهو ما بعدهما، "كما على ذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعون، وتابعوهم كلهم" وأرادو بذلك أن الأعمال شرط كمال، وثَمَّ سبعة أقوال أُخَر، فصَّلَها المصنف في شرح البخاري، "ذكر ذلك" الذي بيناه، وفي نسخة كما ذكره "الشافعي في المبسوط، وعلى ذلك ما يقارب مائة دليل من الكتاب والسنة، ولم يعدّ الحج من هذه الخصال، وقد كان قدومهم في سنة تسع" إذ هي سنة الوفود، "وهذا أحد ما يحتج به على أن الحج لم يكن فرض بعد" أي: الآن، "وأنه إنما فرض في العاشرة، ولو كان فرض لعده من الإيمان، كما عدَّ الصوم والزكاة. انتهى" كلام ابن القيم. قال الحافظ: وأما قول من قال: ترك الحج لكونه على التراخي فليس بجيد؛ لأنه لا يمنع من الأمر به، وكذا من قال لشهرته عندهم ليس بقوي؛ لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا القول بأنه تركه؛ لأنهم لم يكن لهم إليه سبيل من أجل كفار مضر ليس بمستقيم؛ لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليعمل به عند الإمكان، كما في الآية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وقد كان لعبد القيس وفدتان: إحداهما: قبل الفتح، ولهذا قالوا له -عليه الصلاة والسلام: حال بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديمًا، إمَّا في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين، وكان عدد الوفد الأوَّل ثلاثة عشر رجلًا، وقيل: كانوا أربعة عشر راكبًا،   بل دعوى أنهم لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة؛ لأنه يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم يأمنون فيها، لكن يمكن أن يقال إنما أخبرهم بعض الأوامر، لكونهم سألوا أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكن فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلًا وتركًا، ويدل على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية، مع أنَّ في المناهي ما هو أشد تحريمًا من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها، وزيادة أبي قلابة الحج بلفظ: وتحجوا البيت الحرام، أخرجه البيهقي شاذة، وقد أخرجه الشيخان ومن استخرج عليهما، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان من طريق شيخ أبي قلابة، فلم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قلابة تغيِّر حفظه في آخر أمره، فلعلَّ هذا مما حدَّث به في التغيّر، لكن هذا بالنسبة لرواية أبي جمرة -بجيم وراء- عن ابن عباس. وقد روى أحمد من طريق سعيد بن المسيب وعكرمة عن ابن عباس، ذكر الحج في قصة وفد عبد القيس، فإن كان محفوظًا، فالمراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس، "وقد كان لعبد القيس وفدتان، إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا له -عليه الصلاة والسلام: حال بيننا وبينك كفار مضر، وكان ذلك قديمًا، إمَّا في سنة خمس" من الهجرة "أو قبلها" وكان سبب ذلك أن منقذ -بميم مضمومة، ونون ساكنة وقاف مكسورة. ابن حبان -بفتح المهملة والموحدة، كان متجره إلى المدينة، فمرَّ به -صلى الله عليه وسلم، وهو قاعد، فنهض إليه منقذ، فقال -عليه الصلاة والسلام: "كيف قومك"؟ ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل بأسمائهم، فأسلم منقذ، وتعلّم الفاتحة وسورة اقرأ، وكتب -عليه الصلاة والسلام- لجماعة عبد القيس كتابًا، فلمَّا دخل على قومه كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ، وهو الأشجّ: إني أنكرت فعل بعلي منذ قدم من يثرب، إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الكعبة، فيحني ظهره مرّة، ويضع جبينه إلى الأرض أخرى، فاجتمعا فتجاريا ذلك، فوقع الإسلام في قلبه، ثم أخذ المنذر كتابه -عليه الصلاة والسلام، وذهب إلى قومه، فقرأه عليهم، فأسلموا، وأجمعوا المسير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كذا ذكر الكرماني، "وكانت قريتهم بالبحرين" أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة، كما يأتي، "وكان عدد الوفد الأوّل ثلاثة عشر رجلًا" كما رواه البيهي وغيره "وقيل: كانوا أربعة عشر راكبًا" كما جزم به القرطبي والنووي, وهم: المنذر بن عائذ، وهو الأشج، ومنقذ بن حبان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 وفيها سألوه عن الإيمان، وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج، وكان كبيرهم، وقال له -عليه الصلاة والسلام: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناءة" رواه مسلم من حديث أبي سعيد. وأخرج البيهقي: قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه قال: "سيطلع عليكم من.   ومزيدة بن مالك، وهو بميم وزاي بوزن كبيرة، وعمرو بن رحوم، والحارث بن شبيب، وعبيدة بن همام، والحارث بن جندب وصحار -بضم الصادر وبالحاء المهملتين- ابن العباس، وعقبة بن حروة، وقيس بن النعمان، والجهم بن قثم، وجويرة العبدي، ورستم العبدي، والزراع بن عامر. انتهى ملخصًا من الفتح، "وفيها سألوه عن الإيمان وعن الأشربة" على حذف مضاف، أي: عن ظروفها، أو حذف الصفة، أي: التي تكون في الأواني المختلفة، "وكان فيهم الأشج" -بهمزة فشين معجمة مفتوحتين فجيم، واسمه: المنذر بن عائذ -بمهملة وتحتية ومعجمة، سمَّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- الأشجّ لأثر كان في وجهه. قال النووي: هذا هو الصحيح المشهور في اسمه الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون. وقال الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل: اسمه المنذر بن عامل، وقيل: ابن عبيد، وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن عوف العصري، بفتح العين والصاد المهملتين، "وكان كبيرهم" قدرًا لا ينافي الحديث الآتي، وكان أصغرهم سنًّا، "وقال له -عليه الصلاة والسلام: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم" بحاء مكسورة فلام ساكنة فميم: العقل, "والأناة" بهمزة ونون مفتوحتين، فألف، فتاء تأنيث وبالقصر: التثبت وعدم العجلة. قال عياض: وهي تربُّصه حين نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "تبايعون على أنفسكم وقومكم"؟ فقالوا: نعم، فقال الأشج: يا رسو ل الله, إنك لن تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتَّبَعنا كان منَّا، ومن أبى قتلناه، قال: "صدقت, إن فيك خصلتين.. " إلخ، فهذا يدل على صحة عقله وجودة نظره للعواقب, انتهى. "رواه مسلم من حديث أبي سعيد" الخدري، ولا يخالف هذا النهي عن مدح الرجل في وجهه؛ لأن ما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- وحي ولا يجوز كتمه، أو أنه علم من حاله أنه لا يلحقه من المدح إعجاب، فأخَّره بأن ذلك مما يحبه الله ليشكره على ما منحه ويزداد لزومًا له، "وأخرج البيهقي" وأبو يعلى، والطبراني بسند جيد، عن مزيد بن مالك العصري، "قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه قال: "سيطلع" بضم اللام، ولفظ الرواية: إذ قال لهم: "سيطلع عليكم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 ههنا ركب هم خير أهل المشرق"، فقام عمر بن الخطاب نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فبشَّرهم بقوله -عليه الصلاة والسلام, ثم مشى معهم حتى أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركبائهم، فأخذوا يده فقبَّلوها. الحديث, وأخرجه البخاري في الأدب المفرد. فيمكن أن يكون أحد المذكورين غير راكب أو مرتدفًا. وثانيتهما: كانت في سنة الوفود وكان عددهم حينئذ   ههنا ركب هم خير أهل المشرق"، فقام عمر بن الخطاب نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبًا" فقال من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد ألتجارة؟ قالوا: لا، قال: أما إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذكركم آنفًا فقال خيرًا. هذا لفظ رواية البيهي وغيره، واختصره المصنِّف تبعًا للحافظ بقوله: "فبشرهم بقوله -عليه الصلاة والسلام" أي: بمعنى قوله على طريق الإجمال، كما علم من لفظ الرواية، "ثم مشى معهم حتى أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم،" فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، "فرموا بأنفسهم عن ركائبه" فمنهم من مشى إليه، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى حتى أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم، فابتدروه القوم ولم يلبسوا إلا ثياب سفرهم. هذا أسقطه من رواية البيهقي قبل قوله: "فأخذوا يده فقبَّلوها.. الحديث" بقيّته، وتخلّف الأشج، وهو أصغر القوم في الركاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم، وذلك بعين رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي حديث الزراع بن عامر عند البيهقي: فجعلنا نتبادر من رواحلنا نقبِّل يد رسول الله ورجله، وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عبئته، فلبس ثوبيه، وفي حديث عند أحمد: فأخرج الأشج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَبَّلَهما، وكان رجلًا دميمًا، قال: يا رسول الله, إنه لا يستقي في مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه، فقال له -صلى الله عليهوسلم: "إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله تعالى جبلك عليهما"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خِلَّتَيْن يحبهما الله تعالى ورسوله. وفي مسند أبي يعلى: قديمًا كان فيَّ أم حدثًا, قال: "بل قديمًا"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما، "وأخرجه البخاري في الأدب المفرد" مطوّلًا من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمعه، فصرح في الحديث بأنهم ثلاثة عشر راكبًا، فيخالف القول بأنهم أربعة عشر، "فيمكن" في طريق الجمع بينهما "أن يكون أحد المذكورين غير راكب" بل راجل "أو مرتدفًا" مع واحد منهم، فلا خلف, "وثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 اربعين رجلًا، كما في حديث أبي خيرة الصباحي عند ابن منده. ويؤيد التعدد: ما أخرجه من وجه آخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لهم: "مالي أرى ألوانكم تغيّرت"؟ ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغيّر، وفي قولهم: يا رسول الله، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا في قولهم: كُفَّار مضر، وقولهم: الله ورسوله أعلم.   أربعين رجلًا". قال الحافظ: سمى منهم في جملة أخبار زيادة على الأربعة عشر السابقين، مطر أخو الزراع وابن أخته، ولم يسم، ومسمرح السعدي. روى ابن السكن أنه وَفَدَ مع عبد القيس، وجابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد عمرو، وهمَّام بن ربيعة، وجارية -بجيم أوله- ابن جابر, ذكرهم ابن شاهين. ونوح بن مخلدة، وأبو خيرة، والجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته، وأنه كان نصرانيًّا فأسلم وحَسُنَ إسلامه، "كما في حديث أبي خيرة" بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية فراء فهاء "الصباحي" -بضم الصاد المهملة فموحدة خفيفة فألف فحاء مهملة- نسبة إلى صباح بطن من عبد القيس، كما في الفتح. زاد في الإصابة عن الخطيب: إنه لا يعلم أحدًا سماه "عند ابن منده" والدولابي وغيرهما، عنه قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وفد عبد القيس، وكنا أربعين رجلًا نسأله عن الدباء والنقير.. الحديث، وفيه: فزودنا الأراك نستاك به، فقلنا: يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك، فقال: "اللهم اغفر لعبد القيس، أسلموا طائعين غير مكرهين، إذ قعد قوم لم يسلموا إلا خزايا موترين" , "ويؤيد التعدد ما أخرجه" ابن حبان, ما في الفتح، وبيض له المصنف "من وجه آخر؛ أنه -عليه الصلاة والسلام- قال لهم: ما لي أرى ألوانكم تغيّرت، ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير" وهذا كله على أنَّ لهما وفادتين، كما جزم به الحافظ في المغازي من فتح الباري قائلًا: إنه الذي تبيِّنَ لنا، وذكر قول المصنّف، وقد كان لعبد القيس وفادتان حتى هنا، ومشى في كتاب الإيمان على الاتحاد؛ حث جمع بين اختلاف الروايتين في عددهم، بأنه يمكن أن الثلاثة عشر كانوا رءوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانًا، وكان الباقون أتباعًا, انتهى. "وفي قولهم: يا رسول الله، دليل على أنهم كانوا حين المقالة مسلمين، وكذا في قولهم: كفار مضر، وقولهم: الله ورسوله أعلم" هذه عبارة الفتح، ومَرَّ أن المصنِّف أسقط ذا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضًا، ما في البخاري: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين، وهي قرية لهم، وإنما جمَّعوا بعد رجوع وفدهم إليهم. قال في فتح الباري: فدلَّ على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام. وما جزم به ابن القيم من أنَّ السبب في كنه لم يذكر الحج في الحديث؛ لأنه لم يكن فرض هو المعتمد. وقد قدمت الدليل على قدم إسلامهم، لكن جزمه تبعًا للواقدي بأن قدومهم كان في سنة تسع قبل فتح مكة ليس بجيد؛ لأن   لفظ الخبر سهوًا، أو من الناسخ، وأورد شيخنا حافظ العصر البابلي -رحمه الله تعالى؛ حيث كانوا مسلمين, فكيف يقولون جوابًا لقوله: "أتدرون ما الإيمان"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، وأجاب بأنه احتمل عندهم أن ما دخلوا به في الإسلام تغيّر لحقيقة أخرى؛ لأن الزمن كان زمن وحي، ونظيره حديث حجة الوداع: أتدرون ما هذا اليوم؟ وما هذا الشهر؟ وما هذا البلد؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم، مع معرفتهم أن اليوم عرفة، والشهر الحرام، والبلد مكة، "ويدل على سبقهم إلى الإسلام أيضًا ما في البخاري" في الجمعة والمغازي عن ابن عباس أنه قال: "إن أوّل جمعة جمعت" بضم الجيم وشد الميم المكسورة. زاد في رواية أبي داود: في الإسلام "بعد جمعة" زاد البخاري في المغازي جمعت "في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد أبو داود: بالمدينة، والنسائي: بمكة، وهو خطأ بلا مرية, قاله الحافظ "في مسجد عبد القيس بجواثي من البحرين" بضم الجيم وتخفيف الواو وقد تهمز ثم مثلثه خفيفة، "وهي قرية" كما في رواية أبي داود: قرية من قرى البحرين، وفي أخرى له: من قرى عبد القيس، وحكى الجوهري والزمخشري، وابن الأثير: إن جواثي اسم حصن بالبحرين، وهذا لا ينافي كونها قرية. وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي: أنها مدينة، وما ثبت في الحديث من كونها قرية أصح، مع احتمال أن تكون في الأوّل قرية، ثم صارت مدينة، قاله الحافظ، "وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، قال في فتح الباري: فدلَّ على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام" فيتنافى من قال: إنهم قدموا سنة تسع، فهذا مما يؤيد تعدد القدوم أيضًا، "وما جزم به ابن القيم من أن السبب في كونه لم يذكر الحج في الحديث؛ لأنه لم يكن فرض, هو المعتمد، وقد قدَّمت الدليل على قدم إسلامهم" قريبًا، "لكن جزمه تبعًا للواقدي؛ بأن قدومهم كان في سنة تسع قبل فتح مكة" صوابه: بعدلان فتحها سنة ثمان، والذي قاله الحافظ، لكن جزم القاضي عياض؛ بأن قدومهم كان سنة ثمان قبل فتح مكة، تبع فيه الواقدي "ليس بجيد، لأن فرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 فرض الحجّ كان سنة ست على الأصح، ولكنه اختار -كغيره- أنَّ فرض الحج في السنة العاشرة، حتى لا يرد على مذهبه أنه على الفور شيء. وقد احتجَّ الشافعي بكونه على التراخي, بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان قادرًا على الحج في سنة ثمان، وفي سنة تسع، ولم يحجّ إلا في سنة عشر، وسيأتي في حجه -صلى الله عليه وسلم- من مقصد عبادته مزيد بيان لذلك -إن شاء الله تعالى. فإن قلت: كيف قال -صلى الله عليه وسلم: "آمركم بأربع" والمذكورات خمس؟ قلت: أجاب القاضي عبد الوهاب تبعًا لابن بطال: بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان التي هي الأربع, ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها؛ لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين. قال: وكذلك لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض.   الحج كان سنة ست على الأصح" فالتحرير أنهم قدموا مرتين: مرة قبل سنة ست، ولذا لم يذكر الحج، ومرة بعدها سنة ثمان أو تسع، "ولكنَّه اختار كغيره أن فرض الحج في السنة العاشرة حتى لا يرد على مذهبه، أنه على الفور شيء" وبنى مختاره على اتخاذ القدوم، "وقد احتجَّ الشافعي بكونه على التراخي، بأن فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنه -صلى الله عليه وسلم- قادر على الحج في سنة ثمان" التي هي سنة الفتح، وولَّى على الحج فيها عتاب بن أسيد كما مَرَّ. "وفي سنة تسع" وفيها ولَّى الصِّدِّيق على الحج، "ولم يحج إلّا في سنة عشر" فدل ذلك على التراخي، وأجاب القائلون بالفور: بأنه لم يحج في السنتين لأعذار، "وسيأتي في حجه -علي الصلاة والسلام- من مقصد عباداته مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى" وقد شاء، "فإن قلت: كيف قال -صلى الله عليه وسلم: "آمركم بأربع" والمذكورات خمس، قلت: أجاب القاضي عبد الوهاب" كذا في نسخ المصنف والمذكور في الفتح القاضي فقط، ثم أفصح عنه بعد قليل بقوله: القاضي عياض، وهو الصواب لقوله: "تبعًا لابن بطال" المتوفَّى سنة أربع وأربعين وأربعمائة، وعبد الوهاب مات سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة عن ستين سنة، فهو متقدّم الوفاة على ابن بطال، فكيف يتبعه، "بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان التي هي الأربع، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد؛ لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها" أي: الخصلة الخامسة "بعينها؛ لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين، قال: وكذلك لم يذكر الحج؛ لأنه لم يكن فرض". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 وقال غيره: قوله: "وأن تعطوا" معطوف على قوله: "بأربع" أي: آمركم بأربع وآمركم بأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع والإتيان: بأن والفعل، مع توجه الخطاب إليهم. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: يحتمل أن يقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- عد الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد الخمس؛ لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما: إنه إخراج مال معين. وقال البيضاوي: الظاهر أن الأمور الخمسة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعودة بذكرها، والثلاثة الأخرى حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا.   "وقال غيره" وهو ابن الصلاح "قوله: "وأن تعطوا" معطوف على قوله: "بأربع"، أي: آمركم بأربع، وآمركم بأن تعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع، والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب إليهم". وقد قال النووي في ذا الجواب والذي قبله: إنهما أصح الأجوبة، وتوقَّف فيهما الكرماني، بأن البخاري عقد الباب على أنَّ أداء الخمس من الإيمان، فلابُدَّ وأن يكون داخلًا تحت أجزاء الإيمان، كما أن ظاهر العطف يقتضي ذلك. انتهى، وهذا سبقه إليه ابن رشيد، وأجاب بأن المطابقة تحصل من جهة أخرى، وهي أنهم سألوه عن الأعمال التي يدخلون بها الجنة، وأجيبوا بأشياء منها: أداء الخمس والأعمال التي تدخل الجنة هي أعمال الإيمان، فيكون أداء الخمس من الإيمان بهذا التقرير، وأجاب ابن التين بأن الزيادة لا تمنع إذا حصل الوفاء بعد الأربع. قال الحافظ: ويدل على ذلك لفظ مسلم عن أبي سعيد: "آمركم بأربع: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم". "وقال القاضي أبو بكر بن العربي: يحتمل أن يقال: إنه -عليه الصلاة والسلام- عَدَّ الصلاة والزكاة واحدة؛ لأنها قرينتها في كتاب، وتكون الرابعة أداء الخمس" فلا زيادة عمَّا عدّ، "أو أنه لم يعد الخمس، لأنه داخل في عموم إيتاء الزكاة، والجامع بينهما أنه إخراج مال معين" في حال دون حال. "وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "الظاهر أن الأمور الخمسة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الأخرى حذفها الراوي اختصارًا، أو نسيانًا" وهذا بعيد جدًّا، لما فيه من نسبة الراوي إلى ما الأصل عدمه، ولذا قال الحافظ: ما ذكر أنه الظاهر لعله بحسب ما ظهر له، وإلا فالظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع لقوله: وعقد واحدة، قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 وتعقَّب بأنه وقع في صحيح البخاري أيضًا في رواية: "آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله" وعقد واحدة" فدلَّ على أن الشهادة إحدى الأربع. وقال القرطبي: قيل إن أوّل الأربع المأمور بها: إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تركبًا، وإلى هذا نحا الطيبي، فقال: عادة البلغاء أنَّ الكلام إذا كان منصوبًا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرِّين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإسلام. قال: ولهذا لم   وكأنه أراد أن يرفع إشكال كون الإيمان واحدًا، والموعود بذكره أربع، وقد أجيب عن ذلك؛ بأنه باعتبار أجزائه المنفصلة أربع، وهو في ذاته واحد، والمعنى: إنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فَسَّرها، فهو واحد بالنوع متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع متعدِّد بحسب أوعيته، والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوَّق النفس إلى التفصيل، ثم تسكن إليه، وأن يتحصَّل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها طلب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه علم أنه قد فاته بعض ما سمع. انتهى، فاختصره المصنّف بقوله: "وتعقَّب بأنه وقع في صحيح البخاري أيضًا في رواية" له في المغازي: "آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله، وعقد واحدة" , وعنده في فرض الخمس، وعقد بيده، "فدلَّ على أن الشهادة إحدى الأربع", وأمَّا ما وقع عند البخاري في الزكاة من زيادة واو في قوله: "وشهادة أن لا إله إلا الله"، فهي زيادة شاذّة لم يتابع أحد عليها، راويها حجَّاج بن منهال، ومما يدل أيضًا على أنه عد الشهادتين من الأربع، رواية البخاري في المواقيت بلفظ: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع"، ثم فسرها لهم: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"؛ لأنه أعاد الضمير في قوله، فسرها مؤنثًا، فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا، قاله الحافظ. "وقال القرطبي:" أبو العباس في المفهم على مسلم، "قيل" في الجواب عن الإشكال: "إن أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركًا،" كما قيل في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] "وإلى هذا نحا الطيبي، فقال: عادة البلغاء أنَّ الكلام إذا كان منصوبًا" أي: مسوقًا "لغرض, جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه" وإن ذكروه، "وهنا لم يكن الفرض في الإيراد ذكر الشهادتين؛ لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة،" فلم يقصدا بالذكر، بل ذكرًا تبركًا، "ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما، كما كان الأمر في صدر الإسلام، قال: ولهذا لم يعد الشهادتين في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 بعد الشهادتين في الأوامر، انتهى ملخصًا من فتح الباري.   الأوامر،" قيل: ويَرُدُّ على هذا الإتيان بحرف العطف، فيحتاج إلى تقدير. قال ابن العربي: لولا وجود حرف العطف لقلنا: إن ذكر الشهادتين ورد على سبيل التصديق، لكن يمكن أن يقرأ قوله: "وإقام الصلاة" بالخفضِ، فيكون عطفًا على قوله: "آمركم بأربع" مصدرًا به وبشرطه من الشهادتين، وآمركم بإقام الصلاة إلى آخره. قال: ويؤيد هذا حذفها في رواية البخاري في الأد، "انتهى" جميع ما ذكره "ملخصًا من فتح الباري" في كتابي الإيمان والمغازي، إلّا ما نقله عن ابن القيم، فليس فيه، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 الوفد الخامس: وفد بني حنيفة وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة الكذّاب، فكان منزلهم في دار امرأة من الأنصار، من بني النجار،   "الوفد الخامس": "وقد عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد بني حنيفة" قبيلة كبيرة ينزلون اليمامة، بين مكة واليمن، ينسبون إلى جَدِّهم حنيفة بن لجيم -بالجيم- ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل. ذكر الواقدي: إنهم كانوا سبعة عشر، "فيهم مسيلمة الكذاب" بكسر اللام مصغرًا- ابن ثمامة بن كبير-بموحدة- ابن حبيب من بني حنيفة، وزعم وثيمة في كتاب الردة أنَّ مسيلمة لقب، واسمه: ثمامة, وفيه نظر؛ لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظًا، فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، "فكان منزلهم" -بفتح الميم والزاي- مصدر ميمي، أي: نزولهم مضاف لفاعله، ويجوز ضم الميم مع فتح الزاي أيضًا من إضافة المصدر لمفعوله، فيفيد أن النبي أو أحد من صحبه أمر بإنزالهم، وقد ضبط البرهان الزاي بالفتح، وسكت عن الميم، فيحتمل الضبطين، وأمَّا كسر الزاي مع فتح الميم اسم للموضع، في أنه ليس مرادًا هنا لإيهامه موضعًا معينًا من الدار، مع أنَّ المراد مجرَّد النزول دون تعيين محل, "في دار امرأة من الأنصار من بني النجار" هي كما قاله الحافظ: رملة بنت الحدث -بدال بعد الحاء المهملة، لا براء قبلها ألف- كما عند ابن سعد وغيره، والحدث: هو ابن ثعلبة بن الحارث بن زيد, الأنصارية النجارية، كانت دارها دار الوفود، وهي صحابية, زوجة معاذ بن عفراء، وأما كيسة -بكاف فتحتية مشددة فمهملة- بنت الحارث بن كيرز -بضم الكاف- ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فكانت زوجًا لمسيلمة، ولم تكن إذ ذاك بالمدينة, وإنما كانت باليمامة، فلمَّا قتل مسيلمة تزوَّجها ابن عمها عبد الله بن عامر بن كريز، ذكر ذلك الدارقطني، وتبعه ابن ماكولا، فلا يصحّ تفسير المرأة بها، كما فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 فأتو بمسيلمة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستر بالثياب، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، في يده عسيب من سعف النخل، فلمَّا انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يسترونه بالثياب -كلَّمه وسأله، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك". وذكر حديثه ابن إسحاق على غير ذلك, فقال: حدَّثني شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة: أنَّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلَّفوا مسيلمة في رحالهم، فلمَّا أسلموا ذكروا له مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خَلَّفنا صاحبنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أمر به للقوم، وقال لهم: إنه ليس بشركم مكانًا، يعني: لحفظه ضيقة أصحابه،   السهيلي؛ لأنها قرشية عبشمية، وقد قال في الرواية: امرأة من الأنصار، انتهى ملخصًا من الفتح، ومقدمته "فأتوا" كما ذكره ابن إسحاق عن بعض علمائه "بمسيلمة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستر بالثيا" إكرامًا له وتعظيمًا، ولعلّ ذلك عادتهم فيمن يعظّمونه، وقد كان أمره عند قومه كبيرًا، فكانوا يقولون له: رحمن اليمامة، قبل مولد عبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولما سمعت قريش البسملة قال قائلهم: دق فوك، إنما يذكر مسيلمة رحمن اليمامة، قتل مسيلمة وهو ابن ائة وخمسين سنة، ذكره السهيلي, "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه في يده عسيب" بفتح العين وكسر السين المهملتين. "من سعف النخل" في رأسه خويصات، كما في السيرة، وفي المصباح: السعف: أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإذا زال عنها قيل لها: جريدة, الواحدة سعفة مثل قصب وقصبة، فتفسير النور عسيب بالجريدة توهّم أنه لا خوص بها، وليس بمراد لما علم، "فلما انتهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهم يسترونه بالثياب، كلَّمه وسأله" أن يجعل له الأمر من بعده، كما هو لفظ حديث الصحيحين الآتي, وأن يشركه معه في النبؤة، "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتك" مبالغة في منعه عن سؤاله ما لا يكون له، "وذكر حديثه ابن إسحاق على غير ذلك، فقال" بعدما أورد هذا أوّلًا عن بعض علمائه: وقد "حدثني شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة" أن حديثه كان على غير هذا، زعم "أنَّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وخلَّفوا مسيلمة في رحالهم، فلمَّا أسلموا ذكروا له مكانه" أي: محله، "فقالوا: يا رسول الله, إنا قد خلفنا صاحبنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما أمر به للقوم" وهو خمس آواقٍ فضة لكل واحد، "وقال لهم: "إنه ليس بشركم مكانًا" يعني: " أنه قصد معكم معروفًا "لحفظه ضيعة أصحابه" بفتح الضاد، وإسكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 ثم انصرفوا، فلمَّا قدموا اليمامة ارتدَّ -عدوّ الله- وتنبَّأ وقال: إني أشركت في الأمر معه، ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى, من بين صفاق وحشي. وسجع اللعين على سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، فقال: إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر. وفي رواية: إنا أعطيناك الجماهر, فخذ لنفسك وبادر، واحذر أن تحرص أو تكاثر، وفي رواية: إنا أعطيناك الكواثر, فصل لربك وبادر, في الليالي الغوادر.   التحتية ومهملة، المراد بها هنا ظهرهم وحوائجهم، وإن كانت في الأصل العقار، "ثم انصرفوا، فلمَّا قدموا اليمامة ارتدَّ عدوَّ الله" ظاهره أنه كان أسلم "وتنبأ" ادَّعى النبوَّة، "وقال: إني أشركت" -بضم الهمزة مبني للمفعول "في الأمر معه"، وبقية هذه الرواية في ابن إسحاق، وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم: إنه ليس بشركم مكانًا، ما ذاك إلا لما يعلم أني أشركت في الأمر معه، "ثم جعل يسجع السجعات، فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن" أي: مشاكلة, تقول: ضاهات فلانًا، وضاهيته بالهمزة وتركه, بهما قرئ: "يضاهون قول الذين كفروا" قراءة عاصم بالهمز وكسر الهاء، والباقون بضم الهاء بلا همز: "لقد أنعم الله على الحبلى" عام في كل امرأة وبهيمة تلد، وقيل: مختص بالآدميات، فغيرهم من بهائم وشجر، يقال: حمل بالميم، "أخرج منها نسمة" بفتح السين- روحًا "تسعى" تمشي "من بين صفاق" بكسر المهملة، وخفة الفاء، فألف، فقاف- الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر، أو ما بين الجلد والمصران، أو جلد البطن كله، كما في القاموس "وحشى" بالقصر- المعي والجمع أحشاء، مثل عنب وأعناب، "وسجع" كمنع, نطق بكلام له فواصل، فهو ساجع، والسجع الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على روي, جمعه أسجاع، كما في القاموس في فصل السين من باب العين المهملتين "اللعين على سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] "فقال: إنا أعطيناك الجواهر"، فظنَّ اللعين المخذول أن الجواهر تعادل الكوثر، فجهل اللغة العربية أن الكوثر الخير الكثير، "فصلِّ لربك وهاجر، إن مبغضك رجل فاجر" ليت شعري ما الذي جاء به، فإنه أخذ لفظ القرآن، وحرَّف الكلم عن مواضعه، أبدل شانئك بمبغضك، ولكونه هو الفاجر، أتى الفجور في لسانه، وصرف عن الإتيان بما يفيد الحصر. "وفي رواية: إنا أعطيناك الجماهر، فخذ لنفسك وبادر، واحذر أن تحرص أو تكاثر" بمثلثة، أو موحدة. "وفي رواية: إنا أعطيناك الكواثر، فصل لربك وبادر، في الليالي الغوادر،" أي: المظلمة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب، وسيأتي في أوائل مقصد معجزاته -عليه الصلاة والسلام- من تسجيع مسيلمة الركيك زيادةً على ما ذكرته هنا إن شاء الله. وقيل: إنه أدخل البيضة في القارورة وادعى أنها معجزة له، فافتضح بنحو ما ذكر: أن النوشادر إذا ضرب في خل الخمر ضربًا جيدًا، وتجعل فيه بيضة بنت يومها يومًا وليلة فإنها تمتد كالخيط، فتجعل في القارورة ويصب عليها الماء البارد فإنها تجمد. ولما سمع اللعين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأس صبيّ كان ألمَّ به داء فشفي في الوقت, ومج في عين بئر فكثر ماؤها، وتفل في عين علي -وكان أرمد- فبرأ, فتفل في بئر فغار ماؤها، وفي عين بصير فعمي، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها وييس ضرعها، ولله در الشقراطيسي حيث يقول -يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم: أعجزت بالوحي   "ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب، وسيأتي في أوائل مقصد معجزاته -عليه الصلاة والسلام" وهو الرابع "من تسجيع مسيلمة الركيك، زيادة على ما ذكرته هنا إن شاء الله، وقيل: إنه أدخل البيضة في القارورة". وفي الروض، يقال: إنه أوَّل من فعل ذلك، وأوَّل من وصل جناح الطائر المقصوص، "وادَّعى أنها معجزة، فافتضح بنحو ما ذكر: إن النوشادر" بضم النون، وكسر الدال المهملة، وآخره راء. "إذا ضرب في خلّ الخمر ضربًا جيدًا، وتجعل فيه بيضة بنت يومها يومًا وليلة، فإنها تمتد كالخيط، فتجعل في القارورة ويصب عليها الماء البارد، فإنها تجمد" بضم الميم، "ولما سمع اللعين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مسح رأس صبي كان ألَمَّ" بالفتح والتثقيل, نزل "به داء فشفي في الوقت" كذا في نسخ، وفي غالبها إسقاطها، والاقتصار على أن النبي مَجَّ، ويدل عليه أنه لم يذكر نظيرها، "ومجَّ في عين بئر فكثر ماؤها، وتفل في عين عليٍّ وكان أرمد فبرأ" بفتح الراء أكثر من كسرها. "فتفل" جواب لما اقترن بالفاء، على قلة "في بئر فغار ماؤها، وفي عين بصير فعمي، ومسح بيده ضرع شاة حلوب فارتفع درها" لبنها، "ويبس ضرعها،" ولم يذكر نظير الأولى، وقد ذكرها في الروض, وقال: ومسح رأس صبي فقرع قرعًا فاحشًا، "ولله در الشقراطيسي؛ حيث يقول -يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم" في قصيدته الطنانة التي قدم المصنف منها في الفتح، وقبله المولد "أعجزت بالوحي" القرآن؛ لأن الله أطلقه عليه في قوله: إن هو إلا وحي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 ............ أرباب البلاغة في ... عصر البيان فضلَّت أوجه الحيل سألتهم سورة في مثل حكمته ... فتلَّهم عنه حين العجز حين تُلي فرام رجس كذوب أن يعارضه ... بعي غي فلم يحسن ولم يطل مثبج بركيك الإفك ملتبس ... ملجلج بزري الزور والخطل يمج أول حرف سمع سامعه ... ويعتريه كلال العجز والملل كأنه منطق الورهاء شذَّ به ... لبس من الخبل أو مسّ من الخبل   يوحى "أرباب" جمع رب، أي: ملوك "البلاغة في عصر" زمان "البيان" هو والبلاغة والفصاحة متقاربة بمعنى, "فضلّت" ضاعت وهلكت "أوجه الحيل", فلم يقدروا على حيلة يدفعوه بها، "سألتهم سورة في مثل حكمته" وفي نسخة محكمه، ولو أبدل في بمن لوافق قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] الآية, "فتلهم". بفوقية وشد اللام. صرعهم "عنه حين". بفتح فسكون. هلاك "العجز حين تلي" قرئ "فرام" طلب بالفاء، وفي نسخة بالواو، والأُولَى أحسن "رجس" قذر "كذوب" يعني: مسيلمة، جعله رجسًا مبالغة في ذمه، أو على حذف مضاف، أي: ذو رجس "أن يعارضه" أي: القرآن "بعي" بمهملة. ضعف نطق، وانقطاعه "غي" بمعجمة، أي: ضلالة وخيبة. وفي نسخة: بسخف إفك، أي: رقة عقل، والإفك: الكذب وإضافة السخف إليه على معنى، أن كذبه الذي أتى به سخيف واهٍ، "فلم يحسن" عن الغي، أو سخف الإفك، "ولم يطل" أي: يمتد من طال. وفي نسخة: بضم حرفي المضارعة من أحسن وأطال، والواو وفي ولم يطل للحال، أي: والحال أنه فقد كلامه صفة الحسن على قصره عيًّا منه وغباوة "مثبج" بمثلثة، فموحدة، فجيم مبهم: لم يبين، أو مضطرب فاسد المعاني، "بركيك الإفك" ضعيف الكذب، قليل الفائدة, "ملتبس" مختلط مشتبه، متعلق بركيك الإفك، أي: مع فساد، معناه: قد اختلط بإفك ركيك "ملجلج" مردد غير مفصح به "بزري" بالزاي قبل الراء، أي: حقير "الزور" الكذب "والخطل" المنطق الفاحش، ثم يجوز الرفع على أنها أخبار لمحذوف، أي: الذي أتى به مثبج، والجر صفة لما قبله "يمج" يطرح ويلقى "أوَّل حرف سمع سامعه، ويعتريه" يصيبه "كلال" تعب "العجز" عن سماعه، "والملل" منه لرذالته وقبحه، "كأنه منطق الورهاء،" المرأة الحمقاء، "شذبه" خلطه، فشذب فعل ماض، والهاء ضمير المفعول، أي: خلط "لبس" اختلاط "من الخبل" بالسكون. الفساد، "أو مس من الخبل" -بالفتح الجنون والمسّ: الجنون أيضًا، والمعنى: قطع ذلك الكلام وفرقه، فلم يلتئم تخليطه، ويروى شذبه كصد، وبه جار ومجرور فلبس، أما فاعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 أمرت البئر واغورت لمحبته ... فيها وأعمى بصير العين بالتفل وأيبس الضرع منه شؤم راحته ... من بعد إرسال رسل منه منهمل فشبَّه هذا الكلام الذي عارض به مسيلمة بكلام امرأة ورهاء، وهي الحمقاء التي تتكلم لحمقها بما لا يفهم، فهي تهذي بكلام مشذّب -أي مختلط- لا يقترن بعضه ببعض، ولا يشبه بعضه بضعًا؛ ككلام من به خبل -بسكون الموحدة, أي: فساد، أو مسّ من الخبل -بفتحها- أي جنون. ثم إن اللعين وضع عن قومه الصلاة، وأحلَّ لهم الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه نبي. وقد كان كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد: فإني قد أشركت معك الأوامر، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر.   شذا ومبتدأ وخبره المتقدم عليه، أي: به لبس، أي: إنه وإن أشبه منطق الورهاء إلّا أنه شاذ بالنسبة إليه "أمرت البئر واغورت" أي: غار ماؤها "لمحبته فيها، وأعمى بصير العين بالتفل" بتحريك الفاء الساكنة للوزن، فتفل من بابي ضرب ونصر, "وأيبس الضرع منه شؤم" ضد اليُمن "راحته" كفه "من بعد إرسال رسل" لبن "منه منهمل" مُنْصَبّ جارٍ، "فشبَّه هذا الكلام الذي عارض به مسيلمة" القرآن "بكلام امرأة ورهاء، وهي الحمقاء التي تتكلم لحمقها بما لا يفهم، فهي تهذي بكلام مشذب، أي: مختلط لا يقترن بعضه ببعض، ولا يشبه بعضه بعضًا، ككلام من به خبل -بسكون الموحدة، أي: فسادًا، ومس من الخبل- بفتحها، أي: جنون" وهذا على الرواية المشهورة: إن شذَب فعل ماض اتصل به ضمير المفعول، كما مَرَّ وروي شذبه، واعتمده مخمس القصيدة إذ قال: مسيلم هو هذا هل سمعت به ... سحقًا له من لعين في تكذبه وما إليه دعا من سوء مذهبه ... كأنه منطق الورهاء شذبه "ثم إن اللعين وضع عن قومه الصلاة، وأحلَّ لهم الخمر والزنا" ترغيبًا لهم في اتباعه، فأباح لهم ما يشتهون، "وهو مع ذلك يشهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه نبي" مشارك له في النبوة، فهذا من جملة سخافة عقله؛ إذ النبي لا يبيح المحرمات، "وقد كان كتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-،" لما ادَّعى النبوة سنة عشر، "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أمَّا بعد فإني أشركت" بضم الهمزة. "معك في الأوامر،" يعني: النبوة، "وأن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 فقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ِ "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". وفي الصحيحين من حديث نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قدم مسيلمة الكذاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل   الذي في ابن إسحاق، بلفظ: نصف الأرض في الموضعين، وزاد، ولكن قريشًا يعتدون، "فقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الكتاب" والقادم به رسول لمسيلمة. قال ابن إسحاق: حدَّثني شيخ من أشجع، عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي، عن أبيه نعيم, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لهما حين قرأ كتابه: "فما تقولان أنتما"؟ قالا: نقول كما قال، فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضرب أعناقكما". قال عبد الله -يعني: ابن مسعود: فمضت السُّنَّة أن الرسل لا تقتل، "فكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى" الرشاد "أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين". قال ابن إسحاق: وذلك في آخر سنة عشر، "وفي الصحيحين" البخاري في علامات النبوَّة والمغازي، ومسلم في الرؤيا "من حديث نافع بن جبير" بن مطعم القرشي النوفلي المدني، ثقة من رجال الجميع، مات سنة تسع وتسعين، "عن ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على" أسقط من البخاري، عهد وفسروه بزمن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" المدينة، "فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر،" أي: الخلافة "من بعده اتبعته". قال الحافظ: وثبت لفظ الأمر في علامات النبوة، وسقط في المغازي من رواية الأكثر، وهو مقدر، وثبت في رواية ابن السكن "وقدمها" أي: المدينة "في بشر كثير من قومه" بني حنيفة. ذكر الواقدي: أن عدد من كان معه سبعة عشر نفسًا، فيحتمل تعدد القدوم، "فأقبل" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 النبي -صلى الله عليه وسلم- معه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعة من جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال: "لو سالتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني"، ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما رأيت" فأخبرني أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا أنا نائم, رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمَّني شأنهما, فأوحي إلي في المنام أن   النبي -صلى الله عليه وسلم" تأليفًا له ولقومه، رجاء إسلامهم, وليبلغه ما أنزل إليه، "ومعه ثابت بن قيس بن شماس" بفتح المعجمة، والميم المشددة، فالف فمهملة، "وفي يد النبي -صلى الله عليه وسلم- قطعة من جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه" فكلَّمه في الإسلام، فطلب مسيلمة أن يكون له شيء من أمر النبوة، "فقال" -صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذه القطعة" من الجريدة "ما أعطيتكها" مبالغة في منعه لطلبه ما ليس له، "ولن تعدو" لن تجاوز "أمر الله" حكمه "فيك". قال الحافظ: رواه الأكثر بالنصب، ولبعضهم: لن تعد بالجزم بلن على لغة "ولئن أدبرت" أي: خالفت الحق "ليعقرنك الله" بالقاف، أي: يهلكك، "وإني لأراك" بفتح الهمزة- لأعتقدك، وفي بعضها بضم الهمزة: لأظنك "الذي أريت" بضم الهمزة وكسر الراء- في منامي "فيه ما أريت، وهذا ثبات بن قيس يجيبك عني"؛ لأنه خطيب الأنصار وخطيبه -عليه السلام، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي جوامع الكلم، فاكتفى بما قاله لمسيلمة، وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب فهذا الخطيب يقوم عني بذلك، ويستفاد منه: استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد ونحو ذلك، قاله الحافظ، "ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم". "قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنك الذي أريت فيه ما أريت" , فأخبرني أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا" بلا ميم في المغازي، وفي علامات النبوّة بالميم، كما أفاده المصنف "أنا نائم رأيت في يدي" بالتثنية "سوارين" بكسر السين، ويجوز ضمها. وفي رواية: إسوارين -بكسر الهمزة وسكون المهملة- تثنية إسوار، وهي لغة في السوار، كما في الفتح "من الذهب" من لبيان الجنس، كقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} ، ووهم من قال: لا تكون الأساور إلّا من ذهب، فإن كانت من فضة فهي القلب، "فأهمَّني" أحزنني "شأنهما"؛ لأن الذهب من حلية النساء محرَّم على الرجال. وفي رواية: فكبر على، "فأوحى إليَّ في المنام" على لسان ملك، أو وحي إلهام "أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان من بعدي، فهذان هما: أحدهما العنسي صاحب صنعاء   انفخهما" بهمزة وصل وكسر النون. للتأكيد بالجزم على الأمر. قال الطيبي: ويجوز أن تكون مفسّرة، لا وحي مضمّن، معنى القول وأن تكون ناصبة، والجار محذوف، "فنفختهما فطارا" لحقارة أمرهما، ففيه إشارة إلى اضمحلال أمرهما وحقارته؛ لأن ما يذهب بالنفخ يكون في غاية الحقارة، قاله بعضهم, وردَّه ابن العربي بأن أمرهما كان في غاية الشدة، لم ينزل بالمسلمين قبله مثله. قال في الفتح: وهو كذلك، لكن الإشارة إنما هي للحقارة المعنوية لا الحسية، "فأولتهما كذابين" لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، ووضع الذهب المنهي عن لبسه من وضع الشيء في غير موضعه؛ إذ هما من حلية النساء، ففيه أن السوار وسائر آلات الحليّ اللائقة بالنساء، تعبّر للرجال بما يسوءهم، ولا يسرهم، وأيضًا، فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالأمر له بنفخهما، فطارا، فدلَّ ذلك على أنه لا يثبت لهما أمره، وأيضًا يتَّجه في تأويل نفخهما أنه قتلهما بريحه؛ لأنه لم يقتلهما بنفسه، فأمَّا العنسي فقتله فيروز الديلمي في مرض موت النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحيح، وأمَّا مسيلمة فقُتِلَ في خلافة الصديق، "يخرجان من بدي" أي: تظهر شوكتهما ودعواهما النبوَّة، واستشكل بأنهما كانا في زمنه -صلى الله عليه وسلم، فإمَّا أن يكون المعنى بعد نبوّتي، أو يحمل على التغليب؛ لأن مسيلمة قُتِلَ بعده، "فهذان هما" لفظ البخاري في المغازي، ليس فيه هذه الجملة، ولفظه في علامات النبوَّة، فكان "أحدهما العنسي" بفتح العين المهملة وسكون النون وكسر السين المهملة, من بني عنس، وحكى ابن التين: فتح النون. قال الحافظ: ولم أر له في ذلك سلفًا "صاحب صنعاء" ولقبه الأسود، واسمه كما قال الحافظ والمصنف وغيرهما: عبهلة -بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الهاء- ابن كعب، وكان يقال له أيضًا: ذو الخمار؛ لأنه كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وكان الأسود قد خرج بصنعاء وادَّعى النبوَّة، وغلب على عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- على صنعاء المهاجر بن أبي أمية، ويقال: إنه مر به، فلما حاذاه عثر الحمار، فادَّعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئًا، فقام وكان معه شيطانان، يقال لأحدهما سحيق -بمهملتين وقاف مصغَّر، والآخر شقيق -بمعجمة وقافين مصغَّر، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، وكان باذان عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- بصنعاء، فمات فجاء شيطان الأسود فأخبره، فخرج في قومه حتى ملكها، وتزوَّج المرزبانة زوجة باذان، فواعدت فيروز وغيره، فدخلوا عليه ليلًا، وقد سقته الخمر صرفًا حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 والآخر مسيلمة الكذاب".   سكر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار، حتى دخلوا فقتله فيروز واحتزَّ رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافاهم عند وفاته -صلى الله عليه وسلم. قال أبو الأسود عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بيوم وليلة، فأتاه الوحي، فأخبر أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفن النبي -صلى الله عليه وسلم، "والآخر مسيلمة الكذاب" ادَّعى النبوّة في حياته -صلى الله عليه وسلم، لكن لم تظهر شوكته، ولم تقع محاربته إلّا في زمن الصديق، وكان بدء أمره أنَّ الرحال الحنفي، واسمه: نهار, آمَنَ وتعلَّم سورًا من القرآن، فرآه -صلى الله عليه وسلم- مع فرات بن حيان وأبي هريرة، فقال: "ضرس أحدكم في النار مثل أحد"، فما زالا خائفين حتى ارتدَّ الرحال، وآمن بمسيلمة، وشهد زورًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شركه معه في النبوَّة، ونسب إليه بعض ما تعلم من القرآن، فكان أقوى أسباب الفتنة على بني حنيفة، فجمع جموعًا كثيرة ليقاتل الصحابة، فجهَّز له الصديق جيشًا أمَّرَ عليهم خالد بن الوليد، فقتل جميع أصحابه، ثم كان الفتح بقتل مسيلمة، قله عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني، جزم به الواقدي وإسحاق بن راهويه والحاكم، وقيل: عدي بن سهل، وبه جزم سيف، وقيل: أبو دجانة، وقيل: زيد بن الخطاب، وقيل: وحشي، والأول أشهر، ولعلَّ عبد الله بن زيد هو الذي اصابته ضربته، وحمل عليه الآخرون في الجملة، وأغرب وتيمة، فزعم أن اسم الذي ضربه شن -بفتح المعجمة وشد النون- ابن عبد الله، وأنشد له: ألم تر أني ووحشيهم ... ضربنا مسيلمة المفتتن تسائلني الناس قتله ... فقلت ضربت وهذا طعن فلست بصاحبه دونه ... وليس بصاحبه دون شن وأغرب منه ما حكاه ابن عبد البر: إن الذي قتل مسيلمة هو جلاس بن بشير بن عاصم، ذكره الحافظ في شرح قول وحشي عند البخاري، لما خرج مسيلمة قلت: لأخرجنَّ إليه لعلي أقتله فأكافئ به حمزة، فخرجت مع الناس، فإذا رجل قائم، كأنه جمل أورق، ثائر الرأس، فرميته بحربتي، فوضعتها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، وضربه رجل من الأنصار بالسيف على هامته، وقال رجل من بني حنيفة يرثيه: لهفي عليك أبا ثمامة ... لهفي على ركني يمامه كم آية لك فيهم ... كالشمس تطلع من غمامه قال السهيلي: وكذب، بل كانت آيته منكوسة، فذكر بعض ما قدمه المصنف، وزاد: ودعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 فإن قلت: كيف يلتئم خبر ابن إسحاق مع الحديث الصحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع به وخاطبه، وصرَّح بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة من الجريد ما أعطاه. فالجواب: إن المصير إلى ما في الصحيح أَوْلَى. ويحتمل أن يكون مسيلمة قدم مرتين، الأولى تابعًا وكان رأس بني حنيفة غيره، ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعًا، وفيها خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم. أو القصة واحدة، وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارًا أن يحضر مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم، وعامله -عليه الصلاة والسلام- معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف, فقال لقومه: "إنه ليس بشركم" أي: مكانًا، لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد   الرجل في ابنين له بالبركة، فرجع إلى منزله، فوجد أحدهما قد سقط في بئر، والآخر أكمله الذئب، ومسح رأس صبي، فقرع قرعًا فاحشًا. قال صاحب المفهم: مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء واليمامة كانوا أسلموا، وكانوا كساعدين للإسلام، فلمَّا ظهر الكذابان، ويهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعواهما الباطلة، انخدع أكثرهم بذلك، فكان اليدان بمنزلة البلدين، والسواران بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفاه، والزخرف من أسماء الذهب، "فإن قلت كيف يلتئم خبر ابن إسحاق" الذي قدمه من كونه لم يجتمع بالمصطفى، وقعد في الرحال "مع" هذا "الحديث الصحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمع به وخاطبه، وصرَّح بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة من الجريد" بفتح الجيم "ما أعطاه، فالجواب أن المصير إلى ما في الصحيح أولى" لصحة إسناده، بخلاف خبر ابن إسحاق، فضعيف منقطع، ولم يسم راويه، ويحتمل" في طريق المع على تقدير الصحّة، كما قال الحافظ "أن يكون مسيلمة قدم مرتين: الأولى كان تابعًا، وكان رأس بني حنيفة غيره، ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرة متبوعًا، وفيها خاطبه النبي -صلى الله عليه وسلم" وهذا بعيد جدًّا، فقد قال هو -أعني الحافظ: وهذا يعني حديث ابن إسحاق مع شذوذه ضعيف السند لإنقطاعه، وأمر مسيلمة كان عند قومه أكبر من ذلك، فقد كان يقال له رحمَّن اليمامة، لعظم قدره فيهم أ. هـ، فمن يكون مقامه عند قومه أكبر من دعوى النبوَّة، يبعد كل البعد أن يكون تابعًا، فالأولى قوله, "أو القصة واحدة" لأنه الأصل، "وكانت إقامته في رحالهم باختياره أنفة منه واستكبارًا أن يحضر مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم, وعامله -عليه الصلاة والسلام- معاملة الكرم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه: "إنه ليس بشركم"، أي: مكانًا لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يفد في مسيلمة توجه بنفسه إليه ليقيم عليه الحجة ويعذر إليه بالإنذار. والعلم عند الله تعالى.   استئلافه بالإحسان بالقول" المذكور، "والفعل"؛ حيث أعطاه مثل ما أعطى قومه، "فلمَّا لم يفد في مسيلمة، توجه بنفسه إليه ليقيم عليه الحجة ويعذر" بكسر الذال "إليه بالإنذار، والعلم عند الله تعالى". قال -أعني الحافظ: ويستفاد من هذه القصة أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قدم يريد لقاءه من الكفار، إذا تعيِّن ذلك طريقًا لمصلحة المسلمين أ. هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 الوفد السادس: وفد وطئ وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد طيء، وفيهم زيد الخيل   "الوفد السادس": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد وطيء" بفتح المهملة وشد التحتانية المكسورة، بعدها همزة- ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهل بن سبا، يقال: كان اسمه جلهمة، فسمي طيئًا، لأنه أوّل من طوى بئرًا، ويقال: أوَّل من طوى المناهل، وكانوا خمسة عشر رجلًا، اقتصر المصنف على زيد، لتميزه بمناقب حسنة، فقال: "وفيهم زيد الخيل" بن مهلهل بن زيد بن منهب بن عبد الطائي، وفد في قومه سنة تسع، كما في السير، هذا يرد على ما في النور؛ أن زيدًا كان من المؤلَّفة؛ لأن المؤلفة من أعطي من غنائم حنين، وكان ذلك سنة ثمان، وقد تقدَّم أن الحافظ نقله في سردهم عن التلقيح لابن الجوزي، وأن الشامي توقف فيه بأنه لم يره في نسختين من التلقيح، ويقوَّي ذلك ما في الروض من رواية أبي علي البغدادي: قدم وفد طيء، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ودخلوا، وجلسوا قريبًا من النبي -صلى الله عليه وسلم، حيث يسمعون صوته، فلمّا نظر -عليه السلام- إليهم، قال: "إني خير لكم من العزى، ومن الجمل الأسود الذي تعبدون من دون الله، ومما حازت مناع من كل ضار غير نفاع"، فقام زيد الخيل، وكان من أعظمهم خلقًا وأحسنهم وجهًا وشعرًا، وكان يركب الفرس العظيم الطويل، فتخط رجاله في الأرض كأنه حمار، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعرفه: "الحمد لله الذي أتى بك من حزنك وسهلك، وسهّل قلبك للإيمان"، ثم قبض على يده، فقال: "من أنت"؟ فقال: أنا زيد الخيل بن مهلهل، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، فقال له: "بل أنت زيد الخير، ما خبرت عن رجل قط شيئًا إلّا رأيته دون ما خرت عنه غيرك"، فبايعه وحسن إسلامه أ. هـ. فعلى تقدير ثبوت كونه من المؤلَّفة، فيحتمل أنه نطق بالإسلام وفي قلبه شيء، ثم حسن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 وهو سيدهم، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال -عليه الصلاة والسلام: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما فيه"، ثم سمَّاه زيد الخير.   إسلامه لكي يمنع هذا التاريخ السابق، "وهو سيدهم". وقال أبو عمر: كان شجاعًا خطيبًا شاعرًا كريمًا. قال ابن أبي حاتم: ليس يروى عنه حديث، وفي الصحيحين عن أبي سعيد، أن عليًا بعث للنبي -صلى الله عليه وسلم- بذهبية في أديم، فقسمها بين الأقرع وعيينة، وزيد الخيل، وعلقمة بن علانة، ولعل هذا شبهة من قال: إنه من المؤلفة، "فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا، وحسن إسلامهم". زاد في الروض: وكتب لكل واحدٍ منهم على قومه إلّا وزر بن سدوس، فقال: إني أرى رجلًا تملك رقاب العرب، والله لا يملك رقبتي عربي أبدًا، ثم لحق بالشام، وتنصَّر وحلق رأسه: "وقال -عليه الصلاة والسلام: "ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلّا رأيته دون ما يقال فيه"،" لأن العادة جرت بالتجاوز في المدح "إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ" بضم أوله وفتح اللام, مبني للمجهول، ونائبه "كل ما فيه" كما في النور، أي: لم ينقل عنه جميع الفضائل التي اتصف بها، ثم يحتمل لام يبلغ التخفيف من المجرد، والتثقيل من المزيد، فإن كان رواية, وإلا فيجوز بناؤه للفاعل، أي: لم يبلغ زيد في أوصافهم كل ما فيه في نفس الأمر، بل نقصوا منها، فكل منصوب على المفعولية أو على معنى: لم يبلغنا كل ما اتصف به بل بعضه، وإيهام أن المعنى لم يصل إلى كل ما اتصف به من الكمال بعيد، بل ممنوع؛ إذ سياقه في بعضه، وإيهام أن المعنى لم يصل إلى كل ما اتصف به من الكمال بعيد، بل ممنوع؛ إذ سياقه في المدح يأبى ذلك، وقد تقدَّم قريبًا أن المصطفى شافهه بذلك، ولا مانع من التعدد، "ثم سماه زيد الخير" بالراء بدل اللام، وإنما قيل له: زيد الخيل لخمسة أفراس كانت لها أسماء أعلام يغيب عني حفظها الآن، قاله في الروض، ومعلوم أن وجه التسمية لا يطرد, وإلَّا لسمي الزبرقان بن بدر زيد الخيل، فقد روي أنه وفد على عبد الملك بن مروان، وقاد إليه خمسة وعشرين فرسًا، ونسب كل واحد منها إلى آبائها وأمهاتها، وحلف على كل فرس يمينًا غير التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك، عجبي من إختلاف أيمانه، أشد من عجبي بمعرفته بأنساب الخيل. وأخرج ابن شاهين وابن عدي، وضعَّفه من حديث سنين، مولى النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأقبل زيد الخيل راكبًا حتى أناخ راحلته، فقال: يا رسول الله, إني أتيتك من مسيرة تسع، أصهبت راحلتي، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، أسألك عن خصلتين أسهرتاني، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما اسم"؟ قال: أنا زيد الخيل، قال: "بل أنت زيد الخير، فاسأل"، فقال: أسألك عن علامة الله تعالى فيمن يريد, وعلامته فيمن لا يريد، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت"؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 فخرج راجعًا إلى قومه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أن ينج زيد من حمى المدينة"، فلما انتهى إلى ماء من مياه نجد أصابته الحمَّى فمات. قال ابن عبد البر: وقيل مات في آخر خلافة عمر. وله ابنان: مكنف   قال: أصبحت أحب الخير وأهله ومن يعمل به، وإن عملت به أيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حننت إليه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "هذه علامته فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد ضد ذلك، ولو أرادك بالأخرى هيأك لها، ثم لم يبال من أي واد هلكت". وفي لفظ: سلكت، وعند أهل السير: وأقطع -صلى الله عليه وسلم- زيدًا فيدًا -بفتح الفاء، وسكون التحتية، ودال مهملة- اسم مكان وأرضين معه, وكتب له بذلك. وفي الروض: أقطعه قرى كثيرة منها فدك، كذا قال: وأظنه مصحَّفًا من قيد، "فخرج راجعًا إلى قومه" هو ومن كان معه، وقد أعطى -عليه السلام- كل واحد منهم خمس أواقٍ فضة، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشا، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن ينج زيد من حمَّى المدينة " ببناء ينج للمفعول، وإن جازمة، أي: فإنه لا يعاب بسوء، كما قدَّره بعض أو لم يصبه ضررًا ونحو ذلك، أو نافية، أي: ما ينجو, لكن لا يساعده الرسم، "فلمَّا انتهى إلى ماء من مياه نجد" يقال له: فردة -بفتح الفاء والدال المهملة بينهما راء ساكنة ثم تاء تأنيث, "أصابته الحمَّى" فلمَّا أحسَّ بالموت قال: أمرتحل قومي المشارق غدوة ... وأترك في بيتك بفردة منجد ألا رب يوم لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهن يزهد "فمات" وذكر ابن دريد أنه أقام بمفرده ثلاثة أيام ومات، فأقام عليه قبيصة بن الأسود المناحة سنة، ثم وجه براحلته ورحله، وفيها كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما رأت امرأته الراحلة ليس عليها زيد، ضرمتها بالنار، فاحترقت، فاحترق الكتاب. "قال ابن عبد البر: وقيل: مات في آخر خلافة عمر" وهذا يؤيد جعل إن جازمة لا نافية، وأنشد له وثيمة في الردة قال: وبعث بهما إلى أبي بكر: أما تخشين الله بيت أبي نصر ... فقد قام بالأمر الجلي أبو بكر نجى رسول الله في الغار وحده ... وصاحبه الصديق في معظم الأمر قال في الإصابة: وهذا إن ثبت يدل على تأخّر وفاته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، "وله ابنان مكنف" بضم الميم وإسكان الكاف وكسر النون وبالفاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 وحريث، أسلما وصحبَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وشهدا قتال أهل الردة مع خالد.   قال ابن حبان: أكبر ولد أبيه، وبه كان يكنَّى, أسلم وحسن إسلامه، وذكره الدارقطني والطبري في الصحابة، واعتمده في الإصابة، ولم يعرج على إشارة الذهبي إلى أنه تابعي. وذكر الواقدي أنه ممن ثبت على الإسلام، وقاتل بني أسد لما ارتدوا مع طليحة، وأنشد له أبياتًا منها: ضلوا وغرهم طليحة بالمنى ... كذبًا وداعي ربنا لا يكذب لما رأونا بالفضاء كتائبًا ... تدعوا إلى رب الرسول ونرغب ولو فرارًا والرماح تؤزهم ... وبكل وجه وجهوا يترقب "وحريث" بضم الحاء وآخره مثلثة، قال ابن عبد البر: ويقال له أيضًا: الحارث, "أسلما وصحبا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وشهدا قتال أهل الردة مع خالد" بن الوليد في خلافة الصديق، كما قاله ابن عبد البر وابن الكلبي. وذكر الواقدي أن حريثًا كان رسول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يحنة بن رذبة وأهل أيلة، وقال وهو يقاتل أهل الردة: أنشده المرزباني: أنا حريث وابن زيد الخيل ... ولست بالنكس ولا الزميل ويقال: إن عبيد الله الجعفي قتله مبارزة في حربٍ بينهما من جهة مصعب بن الزبير، ذكره في الإصابة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 الوفد السابع: وفد كنده وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد كندة, في ثمانين أو ستين راكبًا من كندة، فدخلوا عليه مسجده،   "الوفد السابع": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد كندة" بكسر الكاف وإسكان النون, قبيلة من اليمن، ينسبون إلى كندة، لقب جدهم: ثور بن عفير "في ثمانين، أو ستين راكبًا من كندة" إشارة إلى قول ابن سعد: وفد الأشعث الكندي في ستين راكبًا من كندة سنة عشر، والأوّل رواه ابن إسحاق عن الزهري، ويمكن الجمع بأن بعضهم أتباع فلم يعدّ، "فدخلوا عليه مسجده" منصوب على التوسع, نحو: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} ، أي: فيه؛ لأنَّ ظرف المكان لا يكون إلّا مبهمًا كفرسخ، ويريد وليس شيء من مسجد ودار وبيت بمبهم؛ لأنه اسم لحصة معينة من المحل بالتحديد، وإن لم يعين المسجد ونحوه؛ لأنه يكفي التحديد بقدر كل، والفرق بين إبهام فرسخ وبريد في نحو قولهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 قد رجلوا جممهم، ولبسوا جباب الحبرات مكففة بالحرير، فلما دخلوا, قال -صلى الله عليه وسلم: "أولم تسلموا"؟ قالوا: بلى، قال: "فما هذا الحرير في أعناقكم   سرت بريدًا وفرسخًا, جاعلين ذلك ظرف مكان، وبين إبهام نحو مسجد؛ حيث جعل النصب على التوسّع، أن الفرسخ والبريد اسم آلة يكال بها، لا اسم حصة معينة بخلاف نحو: دار ومسجد، فاسم لحصة محدودة في نفس الأمر، وإن لم تكن معينة "قد رجلوا" بجيم فلام ثقيلة سرَّحوا "جممهم" بجيم مضمومة، فميمين مفتوحتين فهاء- جمع جُمَّة، وهي مجتمع شعر الناصية التي تبلغ المنكبين، زاد ابن إسحاق، وتكحَّلوا "ولبسوا جباب" جمع جبة, ثوب معروف، ويجمع أيضًا على جيب، كما في القاموس "الحبرات" -بكسر المهملة وفتح الموحدة, جمع حبرة بزنة عنبة, من البرود ما كان موشيًا مخططًا، وفي الفتح يقال: برد حبير وبرد حبرة بزنة عنبة، على الوصف والإضافة "مكففة بالحرير" أي: مجعولًا لكل منها كفة -بضم الكاف وشد الفاء وتاء تأنيث- السجاف، ويسمَّى الطرة أيضًا، وكل مستطيل كفة -بالضم، وكل مستدير كفة -بالكسر؛ ككفة الميزن، وقيل: بالوجهين فيهما. زاد في رواية: والديباج المخوَّص بالذهب، "فلمَّا دخلوا" قالوا: أبيت اللعن وكانت تحيتهم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لست ملكًا، أنا محمد بن عبد الله"، قالوا: لا نسميك باسمك، قال: "أنا أبو القاسم"، فقالوا: يا أبا القاسم, إنا خبَّأنا لك خبأ، فما هو؟ وكانوا خبئوا له عين جرادة في ظرف سمن، فقال -صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإن الكاهن والكهانة والتكهن في النار"، فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله، فأخذ كفًّا من حصباء، فقال: "هذا يشهد أني رسول الله"، فسبَّح الحصا في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، "إن الله بعثني بالحق، وأنزل عليّ كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، فقالوا: أسمعنا منه, فتلا: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] ، حتى بلغ {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] ، ثم سكت، وسكن -صلى الله عليه وسلم؛ بحيث لا يتحرك منه شيء، ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي، أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ قال: "إن خشيتي أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حدّ السيف، إن زغت عنه هلكت"، ثم تلا: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] " الآية، ثم "قال -صلى الله عليه وسلم: أتيتمونا "أولم تسلموا"،" فالمعطوف عليه مقدَّر بعد همزة الاستفهام الحقيقي؛ لأن كثيرًا وفدوا مشركين، فيعرض عليهم الإسلام، أو التقرير يرى ليرتب عليه لومهم على الحرير، "قالوا: بلى" أسلمنا، "قال: "فما" بال "هذا الحرير في أعناقكم" وهو لا يجوز لبسه للرجال، ولعله جاوز حد السجاف، فلا يرد على قول الفقهاء بجواز التسجيف بالحرير. زاد في رواية: وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- حلة يمانية، يقال: إنها حلة ذي يزن, وعلى أبي بكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 فشقوه فنزعوه وألقوه.   وعمر مثلها، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم عليه وفد لبس أحسن ثيابه، وأمر أصحابه بذلك "فشقوه" بفتح الشين ماضٍ وضمها أمر، وإن لزم عليه إتلاف مال لوجوبه تخلصًا من الحرمة، على أنه يمكن أن المراد بالشق الإزالة لا القطع، فلا إتلاف "فنزعوه وألقوه". زاد في رواية: ثم أجاز كل أحد بعشر أواق فضة، إلّا الأشعث فأجازه باثنتي عشرة أوقية، وزاد ابن إسحاق: وقالوا يا رسول الله, نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن آكل المرار، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم، وقال: $"ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث"، وكانا تاجرين، فإذا شاعا في العرب، فسئلا من هما قالا: نحن بنو آكل المرار, يتعززان بذلك، وذلك أن كندة كانوا ملوكًا، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: $"لا نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا"، فقال الأشعث بن قيس الكندي، هل فرغتم يا معشر كندة، والله لا أسمع رجلًا يقولها إلّا ضربته ثمانين، ونقفوا -بنون مفتوحة فقاف ساكنة ففاء مضمومة، أي: لا نترك النسب إلى الآباء، وننتسب إلى الأمهات، وله -صلى الله عليه وسلم- جدة من كندة، وهي أم كلاب بن مرة، واسمها: دعد بنت سرير بن ثعلبة بن حارثة الكندي، وقيل: بل هي جدة كلاب أم أمّه هند. قال السهيلي: ففيه أنهم أصابوا في بعض قولهم: نحن وأنت بنو آكل المرار، وهو الحارث بن عمرو الكندي، لُقِّبَ بذلك لأكله هو وأصحابه شجرًا يقال له المرار في غزوة غزاها، وقيل: لقب بذلك؛ لأن عمرو بن هند الغسَّاني أغار عليهم في غيبة الحارث فغنم وسبى، فكان في السبي امرأة الحارث، فقالت لعمرو: لكأنّي برجل أتاكم أسود، كأن مشافره مشافر بعير قد أكل المرار -تعني: زوجها، فتبعه الحارث في قومه، فقتله واستنفذ امرأته وما كان أصاب. وروي أن المخاطب للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأشعث بن قيس، ولا مانع أنه خاطبه، ثم خاطبوه، أو هو المخاطب، ونسب للكل في الرواية الأخرى لسكوتهم عليه؛ لأن الأشعث كان من ملوك كندة، وصاحب رباع حضرموت، وكان وجيهًا في قومه في الإسلام، وارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، فأسر وأحضر إلى أبي بكر، فأسلم، فأطلقه وزوَّجه أخته أم فروة، فاخترط سيفه، ودخل إلى سوق الإبل، فجعل لا يرى جملًا، ولا ناقة إلا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث، فلمَّا فرغ طرح سيفه، وقال: والله ما كفرت، ولكن زوَّجني هذا الرجل أخته، ولو كنَّا في بلادنا كانت وليمة غير هذه، يا أهل المدينة كلوا، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا أثمانها، ثم شهد اليرموك بالشام، ثم القادسية وحروب العراق مع سعد، وسكن الكوفة، وشهد صفين مع علي، ومات بعده بأربعين ليلة، وصلى عليه الحسن، وقيل: مات سنة ثنتين وأربعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 الوفد الثامن: وفد الأشعريين وفد الأشعريين وأهل اليمن. وقد عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- الأشعريون وأهل اليمن. قيل: هو من عطف الخاص على العام، وقال الحافظ أبو الفضل شيخ الإسلام ابن حجر: المراد بهم بعض أهل اليمن، وهم وفد حمير. قال: ووجدت في كتاب الصحابة لابن شاهين من طريق إياس بن عمرو الحميري: أنه قدم وافدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفرٍ من حمير فقالوا: أتيناك لنتفقه في الدين.. الحديث.   "الوفد الثامن": "وقدم عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- الأشعريون" بفتح الهمزة وإسكان المعجمة فراء فتحتية فواو فنون- قبيلة كبيرة باليمن، نسبوا إلى جدهم أشعر، سمي بذلك؛ لأنه ولد والشعر على بدنه وهو نبت. بنون أوله. ابن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبا "وأهل اليمن" وهذه الترجمة وقعت في البخاري، بلفظ: باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، "قيل: هو من عطف الخاص على العام" ويرده أن أهل اليمن ليسوا بعضًا من الأشعريين، فالصواب العكس؛ إذ الأشعريون بعض أهل اليمن، "وقال الحافظ أبو الفضل، شيخ الإسلام ابن حجر: "كنت أظنه من عطف العام على الخاص، ثم ظهر لي أن هذا العام خصوص أيضًا، و"المراد بهم بعض أهل اليمن، وهم وفد حمير" -بكسر المهملة وسكون الميم وفتح التحتية- نسبة إلى حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان, من أصول القبائل باليمن، فيمنع صرفه على إرادة القبيلة، ويصرف على إرادة الحي، وعلى هذا المراد، فيكون من عطف المباين؛ لأن الأشعريين والحميريين قبيلتان مختلفتان، "قال: ووجدت في كتاب الصحابة لابن شاهين" الحافظ الإمام أبي حفص، عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي، صاحب التصانيف، منها التفسير ألف جزء، والمسند ألف وثلثمائة جزء، والتاريخ والزهد, إلى ثلثمائة وثلاثين تصنيفًا. مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلثمائة, "من طريق" زكريا بن يحيى الحميري، عن "إياس بن عمرو لحميري؛ أنه قدم" صوابه، كما في الإصابة من طريق إياس بن عمرو الحميري؛ أن نافع بن زيد الحميري قدم "وافدًا" أي: رسولًا من قومه "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفر من حمير، فقالوا: أتيناك لنتفقه في الدين.. الحديث" بقيته: ونسأل عن أوّل هذا الأمر، قال: "كان الله ليس شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم خلق القلم، فقال له: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السموات والأرض وما فيهنّ، واستوى على عرشه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 والحاصل: إن الترجمة مشتملة على طائفتين، وليس المراد اجتماعهما في الوفادة، فإن قدوم الأشعريين كان مع أبي موسى في سنة سبع عند فتح خيبر، وقدوم حمير كان في سنة تسع، وهي سنة الوفود، ولهذا اجتمعوا مع بني تميم. روى يزيد بن هارون، عن حميد, عن أنس, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقدم عليكم قوم هم أرقّ منكم قلوبًا". فقدم الأشعريون فجعلوا يرتجزون: غدًا نلقى الأحبه ... محمدًا وحزبه   قال في الإصابة: فيه عدة مجاهيل. انتهى، فالصحبة والقدوم إنما هو لنافع بن زيد، لا لإياس بن عمرو؛ فإنه ليس بصحابي، ولم يترجم له في الإصابة، بل هو تابعي مجهول، كما رأيت عن الإصابة، "والحاصل أن الترجمة مشتملة على طائفتين" الأشعريين والحميريين، "وليس المراد اجتماعهما في الوفادة، فإن قدوم الأشعريين كان مع أبي موسى" عبد الله بن قيس، "في سنة سبع عند فتح خيبر" وقيل: إن أبا موسى قدم قبل الهجرة، ثم كان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى، ثم قدم الثانية صحبة جعفر، والصحيح أنه خرج طالبًا المدينة في سفينة، فألقتهم الريح إلى الحبشة، فاجتمعوا فيها بجعفر، ثم قدموا صحبته، "وقدوم حمير كان في سنة تسع، وهي سنة الوفود، ولهذا اجتمعوا مع بني تميم", وعلى هذا: فإنما ذكر البخاري الأشعريين هنا؛ ليجمع ما وقع له من شرطه من بعوث وسرايا ووفود، وإن تباينت تواريخهم، وقد عقد ابن سعد في الطبقات للوفود بابًا، وذكر وفد حمير، ولم يقع له قصة نافع بن زيد التي ذكرتها، قاله كله الحافظ. "وروى يزيد" بتحتية وزاي "ابن هارون" بن زاذان السلمي، مولاهم أبو خالد الواسطي، ثقة متقن، عابد، روى له الستة, ومات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين, "عن حميد" الطويل البصري: اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة مدلس، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وأربعين ومائة، وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنة، روى له الجميع، "عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقدم عليكم قوم هم أرقّ منكم قلوبًا"، فقدم الأشعريون، فجعلوا يرتجزون" قائلين: "غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه،" وهذا رواه الإمام أحمد وغيره، ولا يلزم من ذلك تفضيلهم على المخاطبين؛ لأنها مزية. عم من المشكل ما روى أحمد والبزار والطبراني، عن جبير بن مطعم مرفوعًا: "أتاكم أهل اليمن، كأنهم السحاب، وهم خيار في الأرض"، فقال رجل من الأنصار: إلّا نحن، فسكت، ثم قال: إلّا نحن، فسكت، ثم قال: إلَّا نحن يا رسول الله، قال: "إلّا أنتم كلمة ضعيفة"، قال: ولما لقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلموا، وبايعوا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الأشعريون كصرة فيها مسك" ولا إشكال؛ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى اله عليه وسلم- يقول: "جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوبًا، الإيمان يمان،   المراد في أرضهم، وأما سكوته مرتين عن استثناء الأنصار مع أن فيهم من هو أفضل قطعًا؛ لأن منهم من هو أهل بدر وربيعة الرضوان، فلعله لئلّا يغتروا ويتكلموا على التفضيل، ولذا قال بعد الثالثة: "كلمة ضعيفة" , "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "جاء أهل اليمن". وفي رواية البخاري: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وأضعف" هو بمعنى رواية البخاري وألين "قلوبًا". قال الخطابي: وصف الأفئدة بالرقة والقلوب باللين؛ لأن الفؤاد غشاء القلب، فإذا رقَّ نفذ القول وخلص إلى ما وراءه، فإذا غلظ بعد وصوله إلى داخل، فإذا صادف القلب لينًا علق به وتجمع فيه. وقال البيضاوي: الرقة ضد الغلظ، واللين يقابل القسوة، فاستعيرت في أحوال القلب، فإذا نبا عن الحق، وأعرض عن قبوله، ولم يتأثر بالآيات والنذر، وصف بالغلظ، وكان شعاعه ضعيفًا لا ينفذ فيه الحق، وجرمه صلب لا يؤثر فيه الوعظ، وإذا كان يعكس ذلك يوصف بالرقة واللين، فكان حجابة رقيقًا، لا يأبى نفوذ الحق، وجوهره لين يؤثر فيه النصح. وقال الطيبي: يمكن أن يراد بالفؤاد والقلب: ما عليه أهل اللغة من كونهما مترادفين، فكرَّر ليناط به معنى غير المعنى الأول، فإنَّ الرقة مقابلة للغلظ، واللين مقابل للشدة والقسوة، فوصف أولًا بالرقة ليشير إلى التخلق مع الناس، وحسن العشرة مع الأهل والإخوان. قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . وثانيًا: باللين ليأخذ بأن الآيات النازلة والدلائل المنصوبة راجعة فيها، وصاحبها يقيم على التعظيم لأمر الله تعالى. انتهى. "الإيمان" وفي رواية: الفقه "يمان" أي: منسوب لأهل اليمن؛ لأن صفاء القلب ورقته ولين جوهره تؤدي إلى عرفان الحق والتصديق به، وهو الإيمان والانقياد. وقال أبو عبيدة وغيره: معناه: إن مبدأ الإيمان من مكة؛ لأن مكة من تهامة، وتهامة من اليم، وقيل: المراد مكة والمدينة لصدور هذا الكلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بتبوك، فتكون المدينة حينئذ بالنسبة إلى المحل الذي هو فيه يمانية، وقيل: واختاره أبو عبيد أن المراد الأنصار؛ لأنهم يمانون في الأصل، فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره. وقال ابن الصلاح: لو تأملوا ألفاظ الحديث، لما احتاجوا إلى هذا التأويل، لأن قوله: "أتاكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 والحكمة يمانية, والسكينة في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر قبل مطلع الشمس".   أهل اليمن" خطاب للناس، ومنهم الأنصار، فتعيِّنَ أن الذين جاءوا غيرهم، قال: ومعنى هذا الحديث وصف الذين جاءوا بقوة الإيمان وكماله، ولا مفهوم له، ثم المراد الموجودون حينئذ منهم، لا كل أهل اليمن في زمان. قال الحافظ: ولا مانع أن المراد ما هو أعم من قول أبي عبيد وابن الصلاح، وحاصله أنه يشمل من ينسب إلى اليمن بالسكنى وبالقبيلة، لكن كون المراد من ينسب بالسكنى أظهر، بل هو المشاهد في كل عصر من أحوال سكان اليمن وجهة الشمال، فغالب من يوجد من جهة اليمن رقاق القلوب والأبدان، وغالب من يوجد من جهة الشمال غلاظ القلوب والأبدان، "والحكمة يمانية" بخفة الياء- فقلوبهم معادن الإيمان وينابيع الحكمة، والأصل: يمني ويمنية، فحذفت الياء تخفيفًا، وعوَّض عنها بالألف، "والسكينة" بفتح السين وخفة الكاف- الطمأنينية والسكون والوقار والتواضع "في أهل الغنم" لأنهم غالبًا دون أهل الإبل في التوسّع والكثرة، وهما من سبب الفخر والخيلاء. وعند ابن ماجه عن أم هانئ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لها: "اتخذي الغنم فإنها بركة"، وقيل: أراد بأهل الغنم أهل اليمن؛ لأن غالب مواشيهم الغنم, "والفخر" بفتح الفاء، وإسكان المعجمة، وبالراء- ادَّعاء العِظَمِ والكبر والشرف، ومنه الإعجاب بالنفس "والخيلاء" بضم المعجمة، وفتح التحتية والمد- الكبر واحتقار الغير "في الفدادين" بشد الدال عند الأكثر جع فدّاد، وهو من يعلو صوته في إبله وخيله وحرثه ونحو ذلك، والفديد: الصوت الشديد، وقيل: المكثرون الإبل من مائتين إلى ألف، وقيل: الجمّالون والبقارون والحمارون والرعيان، وقيل: من يسكن الفدافد جمع فدفد، وهو البراري والصحاري وهو بعيد، وحكى تخفيف الدال جمع فدان، والمراد البقر التي يحرث عليها، فهو على حذف مضاف. قال الحافظ: ويؤيد الأول رواية في البخاري، وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل "أهل الوبر" بفتح الواو والموحدة وبالراء. للإبل بمنزلة الشعر لغيرها, وهذا بيان للفدادين، أي: ليسوا من أهل المدن، بل من أهل البدو "قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة- جهة "مطلع الشمس". قال الخطابي: إنما ذمَّ هؤلاء لاشتغالهم بمعالجة ما هم فيه عن أمور دينهم، وذلك يفضي إلى قساوة القلب. وقال البيضاوي: تخصيص الخيلاء بأصحاب الإبل، والوفاء بأهل الغنم، دليل على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 رواه مسلم. وفي البخاري: إن نفرًا من بني تميم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أبشروا يا بني تميم"، فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فتغيّر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وجاء نفر من أهل اليمن، فقال: "أقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم"، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله, جئنا لنتفقه في الدين ونسألك عن هذا الأمر، فقال: "كان الله ولم يكن شيء غيره   مخالطة الحيوان ربما تؤثر في النفس، وتعدى إليها هيئات وأخلاقًا تناسب طباعها، وتلائم أحوالها، "رواه مسلم" وكذا البخاري بنحوه. "وفي البخاري" من حديث عمران بن حصين "أن نفرًا من بني تميم" بن مر -بضم الميم وشد الراء- ابن أد -بضم الهمزة وشد المهملة -ابن طابخة -بموحدة مكسورة ثم معجمة- ابن إلياس بن مضر بن نزار. ذكر ابن إسحاق: إن أشرافهم قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، منهم: عطارد، والأقرع، والزبرقان، وعمرو بن الأهتم، والحباب بن يزيد، ونعيم بن يزيد، وقيس بن عاصم، وعيينة بن حصن، وقد كان هو والأقرع شهدا الفتح، وحنينًا، والطائف، ثم كان مع بني تميم "جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "أبشروا" بهمزة قطع "يا بني تميم"، "بما يقتضي دخول الجنة، حيث عرفهم أصول العقائد التي هي المبدأ والمعاد وما بينهما، "فقالوا" لكون جل شأنهم الدنيا والاستعطاء "بشرتنا فأعطنا" من المال، وقائل ذلك منهم الأقرع بن حابس، ذكره ابن الجوزي, وكان فيه بعض أخلاق البادية -رضي الله عنه، "فتغيّر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أسفًا عليهم, كيف آثروا الدنيا، أو لكونه لم يحضره ما يعطيهم فيتألفهم به، أو لكلٍّ منهما، "وجاء نفر من أهل اليمن، فقال: "اقبلوا البشرى" بضم الموحدة وسكون المعجمة والقصر، أي: اقبلوا ما يقتضي أن تبشروا إذا أخذتم به بالجنة، كالتفقه في الدين والعمل به، ورواه الأصيلي اليسرى -بتحتية مهملة ومهملة. قال عياض: والصواب الأول, "إذ لم يقبلها بنو تميم" وفي رواية: أن بدل إذ وهو -بفتح الهمزة، أي: من أجل تركهم لها، ويروى بكسرها، "قالوا: قد قبلنا" البشرى "يا رسول الله" واستشكل بأن قدوم تميم في التاسعة، والأشعريين قبلهم في السابعة، وأجيب باحتمال أن طائفة من الأشعريين قدموا بعد ذلك "جئنا لنتفقه في الدين، ونسالك عن هذا الأمر" أي: الحاضر الموجود، وكأنهم سألوه عن أحوال هذا العالم، وهو الظاهر، ويحتمل أنهم سألوا عن أول جنس المخلوقات. وفي قصة نافع بن زيد: ونسألك عن أول هذا الأمر، "فقال: "كان الله" في الأزل منفردًا متوحدًا، "ولم يكن شيء غيره" وللبخاري في التوحيد، "ولم يكن شيء قبله ولغيره بعده"، والقصة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 وكان عرشه على الماء, وكتب في الذكر كل شيء". وقوله: وجاء نفر من أهل اليمن، هم الأشعريون قوم أبي موسى.   متحدة، فاقتضى ذلك أن الرواية وقعت بالمعنى، لكن الأوّل أصرح في القِدَم، وفيه أنه لم يكن ماء، ولا عرش، ولا غيرهما؛ لأن كل ذلك غير الله، ويكون معنى قوله: "وكان عرشه على الماء" أنه خلق الماء، ثم العرش. قال الطيبي: هو فصل مستقل؛ لأن القديم من لم يسبقه شيء، ولم يعارضه في الأزلية، فهو إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم، لخلقهما قبل السموات والأرض، فلم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء، ويحتمل أنه مطلق، وكان عرشه على الماء، مقيد بقوله: "ولم يكن شيء غيره"، والمراد بكان في الأول الأزلية، وفي الثاني الحدوث بعد العدم. وقد روى أحمد، والترمذي وصحَّحه مرفوعًا؛ أنَّ الماء خلق قبل العرش، ووقع في بعض الكتب: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث، نبه على ذلك العلامة تقي الدين بن تيمية، وهو مسلم في قوله: "وهو الآن".. إلخ، وأما لفظ: ولا شيء معه، فرواية الباب بلفظ: "ولا شيء غيره" بمعناها. وفي حديث نافع الحميري: "كان الله لا شيء غيره" بغير واو، "وكتب" قدر "في الذكر،" أي: محله، وهو اللوح المحفوظ "كل شيء" من الكائنات، وبقية الحديث: وخلق السموات والأرض، بالواو في بدء الخلق، وبثمّ في التوحيد، وفي الحديث جواز السؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواب العالم بما يستحضره، والكفّ إن خشي على السائل مفسدة، وفيه: أن جنس الزمان ونوعه حادث، وأن الله تعالى أوجد هذه المخلوقات بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك، بل مع القدرة، واستنبط بعضهم من سؤال الأشعريين عن هذه القصة أن الكلام في أصول الدين، وحدوث العالم مستمر لذريتهم، حتى ظهر ذلك في أبي الحسن الأشعري منهم, أشار إليه ابن عساكر, "وقوله: وجاء نفر من أهل اليمن، هم الأشعريون قوم أبي موسى" ولذلك لم يظهر لي أن المراد بأهل اليمن أهل حمير، لكنَّ لما كان زمان قدوم الطائفتين مختلفًا، ولكل منهما قصة غير قصة الأخرى، وقع العطف, انتهى كله ملخصًا من فتح الباري. قال: وقد روى البزار عن ابن عباس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة؛ إذ قال: "الله أكر إذا جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن نقية قلوبهم، حسنة طاعتهم، الإيمان يمان، والفقه يمان, والحكمة يمانية". وروى الطبراني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعيينة بن حصن: "أي الرجال خير"؟ قال: "أهل نجدة"، قال: "كذبت، بل هم أهل اليمن الإيمان يمان ... الحديث"، انتهى، وقد أطلت، وما تركته أطول، وإن كان من النفائس خشية الملل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 الوفد التاسع: قدوم صرد بن عبد الله الأزدي وقدم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- صرد بن عبد الله الأزدي، فأسلم وحسن إسلامه، في وفد من الأزد، فأمَّره -عليه السلام- على مَنْ أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك. فخرج صرد يسير بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بجرش، وبها قبائل من قبائل العرب،   "الوفد التاسع": "وقدم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- صرد بن عبد الله الأزدي" -بضم الصاد، وفتح الراء ثم دال مهملات, مصروف، فلا يقدر أنه معدول عن صادر؛ لأن العَلَمَ الذي بزنة فَعَلَ إن سُمِعَ مصروفًا، كأدد وصرد لا يقدَّر له العدل ليمنع، وإن سمع منعه، كعمر قدر ليكون فيه علتان، "فأسلم وحسن إسلامه في وفد من الأزد" بفتح الهمزة وبالزاي الساكنة- أي: أزد شنوأة -بفتح المعجمة، وضم النون، فواو، فهمزة بعدها، وقد تشدَّد الواو، سُمِّيَت بذلك لشنآن كان بينهم، ويقال أيضًا: بالسين بدل الزاي، وكانوا خمسة عشر، ولم يقل من قومه لئلَّا يوهم أن المراد من له اختصاص بهم، كإخوته وأقاربه، ولم يقل: قدم وفد الأزد وفيهم صرد، لجواز أنه الذي قصد الوفادة ابتداءً وتبعوه, أو لأنه أفضلهم، "فأمَّره". بشد الميم -أي: جعله "عليه السلام" أميرًا "على مَنْ أسلم من قومه" الذين أتوا معه، وغيرهم ليكن لم يفصح، كغيره بأن جميع القادمين أسلموا مع صرد، أو بعضهم أم لا، "وأمَرَه أن يجاهد بمن أسلم أهل الشرك" أي: من يليه منهم، كما هو لفظ الرواية عند ابن إسحاق وأتباعه، ويحتمل أن المصنّف حذفه؛ لأنه ليس قيدًا، بل هو الغالب، "فخرج صُرْد يسير بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بجرش" بضم الجيم، وفتح الراء، وشين معجمة, مخلاف من مخاليف اليمن -بكسر الميم، أي: كورة، أي: ناحية, ممنوع الصرف، كما يقتضيه قول القاموس، كزفر مخلاف باليمن؛ لأن غالب الأعلام التي على وزن فعل المنع ما لم يسمع مصروفًا. وقال في الرواية: وهي يومئذ مدينة مغلقة، "وبها قبائل من قبائل العرب" تعبيره به دون اليمن يشعر بأن فيهم غيرهم، ويصرّح به قول الرواية، وقد ضوت عليهم خثعم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم، وخثعم كجعفر, بن أنمار أبو قبيلة من معد، كما في القاموس، فظاهره أنها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 فحاصروهم فيها قريبًا من شهر، وامتنعوا فيها، فرجع عنهم قافلًا، حتى إذا كان في جبل لهم, وظنّوا أنه إنما ولَّى عنهم منهزمًا, خرجوا في طلبه، حتى أدركوه, عطف عليهم فقتلهم قتلًا شديدًا. وكان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين منهم، فبينما هما عنده -عليه الصلاة والسلام- عشية, فقال لهما -عليه الصلاة والسلام: "إن بدن الله لتنحر عند شكر"، أي: المكان الذي وقع به قتل قومهم"، قال:   ليست من اليمن، لكن الرواية: وبها قبائل من قبائل اليمن، وقد ضوت، أي: أوت إليهم خثعم، فأفاد أن القبائل التي بجرش إنما هي من اليمن، والزائد عليهم قبيلة واحدة من غيرهم هي خثعم، "فحاصروهم فيها قريبًا من شهر، وامتنعوا فيها" لكونها مدينة، "فرجع عنهم" أي: انصرف عن حصارهم "قافلًا" راجعًا إلى أرضه، فأتى به مع أن القفول الرجوع, دفعًا لإيهام أنه انصرف لقتال غيرهم, أو مكان آخر يقيم به مدة "حتى إذا كان في جبل لهم" وهو شكر، كما يأتي، "وظنّوا أنه إنما ولَّى عنهم منهزمًا، خرجوا في طلبه حتى أدركوه، عطف" رجع "عليهم، فقتلهم قتلًا شديدًا" باعتبار صفته التي وقع عليها، أو كثرته فيهم بقتل غالبهم، فلا يرد أن القتل إزهاق الروح، فلا تفاوت فيه، فهو نحو قولهم: الموت الأحمر إذا كان على حالة رديئة، "وكان أهل جرش بعثوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين منهم" يرتادان، أي: يطلبان الأخبار وينظران، "فبينما هما عنده -عليه الصلاة والسلام- عشية" بعد العصر، إذ قال -صلى الله عليه وسلم: "بأي بلاد الله شكر"، فقام الجرشيان، فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل، يقال له كشر، وكذلك تسميه أهل جرش، "فقال لهما -عليه الصلاة والسلام: "إنه ليس بكشر، ولكنه شكر"، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال: "إن بدن الله" بضمتين وتسكين الدال للتخفيف، كما في المصباح "لتنحر عند شكر" بفتح الشين المعجمة، وإسكان الكاف وبالراء، جبل من جبال جرش، كما اعتمده البرهان، وهو مقتضى القاموس؛ لأنه قال: الشكر الحر، أي: الفرج ولحمها، ويكسر فيهما, وجبل باليمن، وقاعدته إذا أطلق فتح الأول، يكون الثاني ساكنًا، فإن كان مفتوحًا قيده بقوله محرك، وهو صريح المصباح، ففيه شكر كفلس الحر، وضبط في العيون بالقلم -بفتح الكاف، ووهَّنَه النور، "أي: المكان الذي وقع به قتل قومهم" فإطلاق البدن عليهم استعارة، أو تشبيه بليغ، وأصله: إن قومكم الذين هم كالبدن في عدم الإدراك؛ حيث لم يؤمنوا، وحاربوا المسلمين، وإضافتهم إلى الله إشارة إلى تحقيق الاستعارة؛ حيث جعلوا كالبدن التي تنحر تقربًا, أو إشارة إلى أنهم مخلوقون لله، مغمورون بأنعامه، فأضافهم إليه توبيخًا لهم على عدم الإيمان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] الآية، فمحاربتهم كأنها إنكار، وجحد للنعمة، "قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 فجلس الرجلان إلى أبي بكر وعثمان, فقالا لهما: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينعي لكما قومكما. فخرجا إلى قومهما فوجداهم قد أصيبوا في اليوم الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم- ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر. فخرج وفد جرش حتى قدموا عليه -صلوات الله وسلامه عليه, فأسلموا, وحمى لهم حمى حول قريتهم.   فجلس الرجلان إلى أبي بكر وعثمان، فقالا لهما" ويحكما "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لينعي لكما قومكما" أي: يخبركما بموتهم. زاد في الرواية: فقوما إليه، فاسألاه أن يدعو الله يرفع عن قومكما، فسألاه ذلك، فقال: "اللهم ارفع عنهم" , "فخرجا إلى قومهما، فوجداهم، قد أصيبوا في اليوم الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم- ما قال، وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر"؛ لأنه إما عن مشاهدة، أو وحي، ولا ينافي ذلك قوله: "اللهم ارفع عنهم"، لأنها أجيبت في الذين في القرية دون من في الجبل، لوقوعها بعد قتلهم، "فخرج وفد جرش حتى قدموا عليه -صلوات الله وسلامه عليه، فأسلموا, وحمى لهم حمًى" بكسر ففتح, مقصور منوّن "حول قريتهم" على أعلام معلومة للفرس والراحلة ولبقرة الحارث، فمن رعاها من الناس فماله سحت، فقال رجل من الأزد في تلك الغزوة، وكانت خثعم تصيب من الأزد في الجاهلية، وكانوا يعدون في الشهر الحرام: يا غزوة ما غزونا غير خائبة ... فيها البغال وفيها الخيل والحمر حتى أتينا جريشًا في مصانعها ... وجمع خثعم قد شاعت لها النذر إذا وضعت خليلًا كنت أحمله ... فما أبالي جاءوا بعد أم كفروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 الوفد العاشر: بني الحارث بن كعب قال ابن إسحاق: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى.   "الوفد العاشر": وقد بنى الحارث بن كعب، "قال ابن إسحاق: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد،" سيف الله المخزومي "في شهر ربيع الآخر، أو جمادى الأولى،" يحتمل أنه شك، أو إشارة إلى قولين، فقد حكاهما الحاكم في الإكليل قولين، مصدِّرًا بالأول "سنة عشر, إلى بني الحارث بن كعب، بنجران" ناحية بين اليمن وهجر, سُمِّيَ بنجران بن زيد بن سبأ، "وأمره أن يدعوهم إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا، فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه. فأقام خالد فيهم، يعلمهم الإسلام, وكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك, ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه وفدهم، منهم: قيس بن الحصين، ويزيد بن المحجل، وشداد بن عبد الله.   الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثًا" من الأيام، متعلق بيدعوهم، "فإن استجابوا" بسين التأكيد، أي: أجابوا إليه، "فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا، فقاتلهم، فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون" يسيرون "في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام، ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا" في الدارين، "فأسلم الناس، ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام خالد فيهم يعلمهم الإسلام" وكتاب الله وسنة نبيه، وبذلك كان أمره -صلى الله عليه وسلم: إن هم أسلموا ولم يقاتلوا، كما عند ابن إسحاق، "وكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك" فكتب إليه يأمره بالقدوم، ومعه وفدهم، وقد ذكر ابن إسحاق لفظ الكتابين، "ثم أقبل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه وفدهم" كما أمره "منهم قيس بن الحصين" بن يزيد بن شداد الحارثي الكعبي الصحابي. قال ابن الكلبي: رأس الحسين، والد قيس مائة سنة، وكان له أربعة أولاد، يقال لهم: فوارس الأرباع، كانوا إذا حضرت الحرب ولَّى كل واحد منهم ربغها، ويقال للحصين: ذو الغصة لغصة كانت في حلقه، لا يكاد يبين معها الكلام، وذكره عمر بن الخطاب يومًا، فقال: لا تزاد امرأة في صداقها على كذا، ولو كانت بنت ذي الغصة، كما في الروض، وربما وصف بها ابنه قيس. قال البرهان: ويحتمل أن يقال له: ذو الغصة، وابن ذي الغصة؛ لأنه وأباه كان بهما الغصة، وفيه بعد، "ويزيد بن المحجل" بميم، فحاء، فجيم، فلام، كما هو رسمه في ابن إسحاق وأتباعه، كالإصابة، فنسخة المحمل تحريف، "وشداد بن عبد الله" الغساني، ويقال: القناني -بفتح القاف، وتخفيف النون، وهو الصواب، قاله في الإصابة. زاد ابن إسحاق: ويزيد بن عبد المدان، وعبد الله بن قراد الزيادي، وعمرو بن عبد الله الضبابي، كذا رأيته في ابن إسحاق. وفي نقل الإصابة، عن عبد الله بن قريظ، وعمرو بن عمرو، وقال عقبة: وزاد الواقدي عبد الله بن عبد المدان، وقال في عبد الله بن قريظ: عبد الله بن قراد، وفي عمرو بن عمرو وعمرو بن عبد الله، والباقي سواء. انتهى، فلعلَّ هذا رواية غير ابن هشام، عن البكائي، عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "بم كنتم تغلبون من قاتلكم"؟ , قال: كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال: "صدقتم". وأمَّرَ عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوال أو من ذي القعدة، فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   ابن إسحاق؛ إذ روايته موافقة لما عند الواقدي، كما رأيت. قال ابن إسحاق: فلمَّا رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند"؟ قيل: هؤلاء بنو الحارث بن كعب، فسلَّموا عليه وقالوا: نشهد أنك لرسول الله, وأنه لا إله إلا هو، فقال: "وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله"، ثم قال: "أنتم الذين إذا زجروا استقدموا"، فسكتوا، فأعادها ثلاث مرات، فقال يزيد بن عبد المدان بعد الرابعة: نعم يا رسول الله, نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها أربع مرات، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّ خالدًا لم يكتب إليّ أنكم أسلمتم، ولم تقاتلوا؛ لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم"، فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك وما حمدنا خالدًا، قال: "فمن حمدتم"؟ قال: حمدنا الله الذي هدانا بك يا رسول الله، قال: "صدقتم". "وقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "بم كنتم تغلبون من قاتلكم" في الجاهلية؟ قال: لم نكن نغلب أحدًا، قال: "بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم"، "قال -أي: يزيد بن عبد المدان: كما رأيت، فتصرف المصنّف في الرواية، فلم يعلم منه فاعل، قال: وفي نسخة قالوا: وهي أظهر؛ لأنه حكاه بالمعنى، فنسبه إليهم، وأنَّ المتكلم يزيد لكونهم عليه "كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدًا بظلم، قال: "صدقتم". وروى ابن شاهين في الصحابة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "ما الذي تغلبون به الناس وتقهرونهم"؟ قالوا: لم نقل فندل، ولم نكثر فنتحاسد ونتجادل، ونجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحدًا بظلم، ونصبر عند البأس، فقال: "صدقت"، "وأمَّر" بشد الميم "عليهم قيس بن الحصين، فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوَّال، أو من ذي القعدة". لفظ ابن إسحاق: أو في صدر ذي القعدة، "فلم يمكثوا إلّا أربة أشهر حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم". زاد ابن إسحاق: وكان -صلى الله عليه وسلم- بعث إليهم بعد أن ولّى وفدهم عمرو بن خرم ليفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب إليه كتابًا عهد إليه فيه عنده، وأمَّره فيه أمره، وذكر لفظ الكتاب مطولًا، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 الوفد الحادي عشر: وفد همدان وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد همدان، فيهم: مالك بن النمط، وضمام بن مالك، وعمرو بن مالك،   "الوفد الحادي عشر": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد همدان" بفتح الهاء، وإسكان الميم، وبالدال المهملة- شعب عظيم من قحطان، وأمَّا بفتح الميم والذال المعجمة فمدينة بالجبال، لكن ليس منها أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا تابعيهم, إنما هم من الأولى التي هي القبيلة، "فيهم مالك بن النمط" بن قيس بن مالك بن سعد بن مالك الهمداني، ثم الأرحبي -بفتح الهمزة، وإسكان الراء، وحاء مهملة مفتوحة وموحدة- نسبة إلى أرحب, بطن من همدان. قال أبو عمر: يقال فيه اليامي -بالتحتية، فألف، فميم- نسبة إلى يام من همدان، قال: ويقال: الخارفي، أي: بخاء معجمة، وراء مكسورة، ثم فاء، يعني: أن منهم من ينسبه إلى جده الأعلى همدان، ومنهم من ينسبه إلى أحد آبائه يام، أو خارف، أو أرحب، وهو واحد يكنَّى أبا نور، ولقبه ذو المشغار -بميم مكسورة فشين فغين معجمتين أو مهملتين، ثم راء, كان شاعرًا محسنًا, له في النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيات حسان هي: ذكرت رسول الله في فحمة الدجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد وهن بنا خوض طلائع تعتلى ... بركبانها في لاحب متمدد على كل فتلاء الذراعين جسرة ... تمر بنا مر الهجف الحفيدد حلفت برب الراقصات إلى منى ... صوادر بالركبان من هضب قردد بأن رسول الله فينا مصدق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمد وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحد المشرفي المهند ونمط -بنون، فميم مفتوحتين، فطاء مهملة, نوع من البُسُط، فهو علم منقول على الظاهر، أو لقب لأمر اقتضاه، "وضمام بن مالك" بكسر الضاد المعجمة، وخفة الميم الأولى- السلماني، نسبة إلى جد له اسمه سلمان، ترجم له في الإصابة وقال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من تبوك، ذكره أبو عمر, في ترجمة مالك بن نمط، وزعم الرشاطي أنه الذي قبله، يعني: ضمام بن زيد بن ثوابة بن الحكم بن سلمان بن عبد عمرو بن الخارف بن مالك بن عبد الله بن كبير بن مالك بن جشم بن حامد بن جشم بن خيران بن نوف الهمداني، ثم الخارفي. قال ابن الكلبي، والطبري والهمداني: وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأسلم، "وعمرو" كذا في النسخ، والذي في ابن هشام عميرة "بن مالك" الخارفي، وهو الصواب، ففي الإصابة: عميرة -بالتصغير- ابن مالك الخارفي، ذكره أبو عمر في ترجمة مالك ابن نمط، ولم يذكره هنا، فاستدركه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه من تبوك، وعليهم مقطعات الحبرات والعمائم العدنية، على الرواحل المهرية والأرحبية، ومالك بن النمط يترجز بين يديه -صلى الله عليه وسلم-   ابن الأثير، وأغفله ابن فتحون وهو على شرطه، انتهى. فضبط النور لعمير مكبرًا فيه نظر، وكأنه انتقال نظر، فإن عميرة المكبَّر ابن فروة الكندي, صحابي ذكره في الإصابة قبل هذا، وضبطه بزنة عظيمة، ولا يصح أن يريد المصنف عمرو بن مالك بن لاي الأرحبي؛ لأنه ليس مما جاء مع الوفد، وإنما أتى في حجة الوداع. ففي الإصابة: عمرو بن مالك بن لاي الأرحبي، يكنَّى أبا زيد، ذكر الرشاطي أن قيس بن نمط لما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم, وصفه بأنه فارس مطاع، فكتب إليه النبي، ثم دخل مكة بعد الهجرة، فصادف النبي -صلى الله عليه وسلم- قد هاجر إلى المدينة، ثم وفد في حجة الوداع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره الهمداني في الإكليل، ولما حكى في الإصابة عن أبي عمران الوافد مالك بن نمط، قال: وسيأتي في ترجمة نمط بن قيس بن مالك أنه الوافد، وقيل: أبوه قيس، والذي يجمع الأقوال أنهم وفدوا جميعًا، فقد ذكر الحسن بن يعقوب الهمداني أنهم كانوا مائة وعشرين نفسًا، ذكره عنه الرشاطي. انتهى، وزاد ابن هشام في روايته: مالك بن أيفع, "فلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرجعه" اسم لزمان الرجوع، أي: لقوه في زمن رجوعه "من تبوك", وكان في رمضان سنة تسع عند ابن إسحاق وابن سعد، وقيل: في شعبان, "وعليهم مقطعات الحبرات" بكسر المهملة، كما في النور، والقاموس وغيرهما, جمع حبرة, بزنة عنبة وعنبات، ففتحها سبق قلم -وفتح الموحدة فألف فراء- برود تصنع باليمن، والمقطعات: الثياب القصار، قاله أبو عبيد محتجًّا بحديث ابن عباس في صلاة الضحى: إذا انقطعت الظلال، أي: قصرت، وبقولهم في الأراجيز: مقطعات، وخطاه ابن قتيبة وقال: إنما هي الثياب المخيطة، كالقميص ونحوه، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها تقطع وتفصّل ثم تخاط، والظاهر ما قاله ابن قتيبة، فلا معنى لوصفها بالقصر في هذا الموطن، قاله السهيلي، وحكى ابن الأثير القولين، فقال: المقطعات ثياب قصار؛ لأنها قطعت عن تلوث القمام. وقيل: كل ما يفصّل ويخاط من قيمص وغيره، بخلاف ما لا يقطع منها كالأزر والأردية. انتهى. "والعمائم العدنية" بعين فدال مهملتين مفتوحتين- نسبة إلى عدن, مدينة باليمن, "على الرواحل المهرية" بفتح الميم وإسكان الهاء وكسر الراء- نسبة إلى مهرة قبيلة من قضاعة "والأرحبية" بفتح الهمزة والحاء بينهما راء ساكنة ثم موحدة- نسبة إلى أرحب, بطن من همدان, كما سبق، والمعنى: إنهم قدموا متجمِّلين بالثياب والعمائم والرواحل المنسوبة لما ذكر، ولها شأن عندهم، وهذا مما يقوي تفسير ابن قتيبة للمقطعات؛ إذ القصار لا تجمل فيها غالبًا، ولذا استظهره السهيلي, "ومالك بن النمط يرتجز بين يديه -صلى الله عليه وسلم" ويقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وذكروا له كلامًا كثيرًا حسنًا فصيحًا. فكتب لهم -عليه الصلاة والسلام- كتابًا أقطعهم فيه ما سألوه، وأمَّرَ عليهم مالك بن النمط، واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف. وكان لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه. وروى البيهقي بإسناد صحيح عن البراء بن عازب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث علي بن أبي طالب فأمره أن يقفل خالدًا إلا رجلًا ممن كان مع   إليك جاوزن سواد الريف ... في هبوات الصيف والخريف محظمات بحبال الليف "وذكروا له كلامًا كثيرًا حسنًا فصيحًا، فكتب لهم -عليه الصلاة والسلام- كتابًا" من جنس كلامهم، "أقطعهم فيه ما سألوه" وذكر المصنف ذلك بتمامه في المقصد الثالث, "وأمَّرَ عليهم مالك بن النمط، واستعمله" جعله عاملًا، أي: أميرًا "على من أسلم من قومه" ولا ينافي ذلك ما رواه ابن شاهين وغيره: أن قيس بن مالك وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة فأسلم، ورجع إلى قومه، ثم رجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ قومه أسلموا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "نعم وافد القوم قيس" وأشار بإصبعه إليه، وكتب عهده على قومه همدان: عربها ومواليها وخلائطها، أن يسمعوا له ويطيعوا، ولهم ذمة الله ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، انتهى لاحتمال أنَّه شرك مع قيس بعد ذلك مالك بن نمط، أو غير ذلك، "وأمره بقتال ثقيف، وكان" في العيون، فكان بالفاء، وهي أحسن، كما لا يخفى "لا يخرج لهم سرح" بفتح السين وإسكان الراء وحاء مهملات: مال سائم، أي: راع "إلا غار عليه" أخذه، وهذا الذي ساقه المصنف وقع في سيرة ابن هشام من زيادته بإسناد ضعيف مرسل، "و" جاء ما يخالفه، فقد "روى البيهقي بإسناد صحيح، عن البراء بن عازب" الصحابي ابن الصحابي, "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث خالد بن الوليد إلى" بعض "أهل اليمن" وهم همدان، كما يدل عليه بقية الحديث، "يدعوهم إلى الإسلام". "قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث علي بن أبي طالب، فأمره أن يقفل" بضم الياء وسكون القاف وكسر الفاء، أي: يرجع "خالدًا إلّا رجلًا،" أي: جنسه، يعني، أي: رجل "ممن كان مع خالد أن" سقط من لفظ البيهي، أراد أن "يعقب" بضم الياء، وفتح العين، وشد القاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 خالد أن يعقب مع علي. فلمَّا دنونا من القوم خرجوا إلينا، فصلى بنا علي، ثم صفَّنا صفًّا واحدًا، ثم تقدَّم بين أيدينا، فقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعًا، فكتب علي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم, فلما قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب خَرَّ ساجدًا, ثم رفع رأسه فقال: "السلام على همدان، السلام على همدان" مرتين، وأصل الحديث في صحيح البخاري. وهذا أصحّ مما تقدم،   المكسورة، أي: يرجع "مع علي" إلى اليمن، بعد أن رجع منه، ولفظ رواية البخاري: "مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل". قال البراء: فكنت فيمن عقب معه، "فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا" مقاتلين، فدعاهم علي إلى الإسلام، فأبوا، ورموا بالنبل والحجارة، فحمل عليهم علي بأصحابه، فقتل منهم عشرين رجلًا، فتفرقوا وانهزموا، فكفَّ عنهم قليلًا، كما عند ابن سعد وغيره، ففي الحديث اختصار. انتهى، "فصلَّى بنا علي، ثم صفَّنا صفًّا واحدًا" ليريهم قوتهم على الحرب، "ثم تقدَّم بين أيدينا" حتى لحقهم ودعاهم إلى الإسلام، "فقرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعًا". وعند ابن سعد: فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من رؤسائهم على الإسلام، وقالوا: نحن على من وراءنا من قومنا، وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق الله، وجمع عليُّ الغنائم، فجزأها خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها الله، وأقرع عليها، فخرج أول السهام سهم الخمس، وقسم على أصحابه بقية المغنم، "فكتب علي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهم", أي: بإسلام من كان باقيًا منهم على الشرك، فلا يخالف ما تقدَّم أن القادمين في الوفد أسلموا، وأمَّرَ عليهم مالكًا، "فلمَّا قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب" أي: قرئ عليه "خَرَّ ساجدًا" شكر الله على إسلامهم، "ثم رفع رأسه، فقال: "السلام عى همدان، السلام على همدان" مرتين، وأصل الحديث في صحيح البخاري", وهو من إفراده عن مسلم عن البراء: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع خالد إلى اليمن، ثم بعث عليًّا بعد ذلك مكانه، قال: "مُرْ أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقِّبَ فليعقب، ومن شاء فليقبل". قال البراء: فكنت فيمن عقب، فغنمت أواقي ذات عدد. قال الحافظ: لم أقف على تحريرها، "وهذا أصحّ مما تقدَّم" المخالف له من وجهين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 ولم تكن همدان تقاتل ثقيفًا ولا تغير على سرحهم، فإن همدان باليمن وثقيف بالطائف. قاله ابن القيم في الهدي النبوي.   أحدهما: أنهم وفدوا وأسلموا، وأمَّرَ عليهم مالكًا، وهذا الحديث الصحيح، أنه بعث إليهم خالدًا، ثم عليًّا، فلو كان كذلك ما بعثهما واحدًا بعد واحد، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ البعث لمن لم يسلم ولم يأت، والتأمير إنما هو على القوم الذين أسلموا، وإن جمع الكل اسم همدان، فلا خلف على أنه في فتح الباري. قال في حديث البراء: إن البعث كان بعد رجوعهم من الطائف، وقسمة الغنائم بالجعرانة. انتهى، فالوفد إنما كان بعد البعث؛ لأنه في آخر الثامنة، والوفد في التاسعة، والوجه الثاني ما ذكره بقوله: "ولم تكن همدان تقاتل ثقيفًا، ولا تُغِيرُ على سرحهم، فإن همدان باليمن، وثقيف بالطائف" وهذه علة أقوى من الأولى، ويحتمل على بعد أنه -عليه السلام- أمره إذا مَرَّ عليهم في عوده لليمين بقتالهم ففعل، وأغار على سرحهم، ولم يمكنه القتال لتحصنهم بحصنهم، ولا يخالف ذلك التعبير بكان مع المضارع، فإنه يصدق ولو بمرة، كحديث كان يبعث ابن رواحة يخرص تمر خيبر، مع أنه إنما بعثه مرة واحدة، ولأن كلًّا من وفدي ثقيف وهمدان قدم مراجعة من تبوك؛ لاحتمال أن همدان سبقوهم "قاله" أي: جميع ما ذكره في ذا الوفد "ابن القيم في الهدي النبوي" أي: كتابه: زاد المعاد في هدي خير العباد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 الوفد الثاني عشر: وفد مزينة روى البيهقي عن النعمان بن مقرن قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة   "الوفد الثاني عشر": وفد مزينة -بضم الميم، وفتح الزاي، وسكون التحتية- بعدها نون- اسم امرأة عمرو بن أد بن طابخة، -بموحدة ومعجمة- ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أمّ أوس وعثمان ابني عمر وفذرية, هذين يقال لهم: مزينة والمزنيون، ومن قدماء الصحابة منهم عبد الله بن مغفل وعمّه خزاعي، وإياس بن هلال, وابنه قُرَّة وآخرون، كما في الفتح، ولعلَّ المصنف لم يقل، وقدم عليه وفد مزينة على قياس سابقه، إشارةً إلى أنَّه لا يتعيِّن. "روى البيهقي" ومن قبله الإمام أحمد "عن النعمان بن مقرن" بضم الميم وفتح القاف وكسر الثقيلة ونون- ابن عائذ المزني, كان معه مزينة يوم فتح مكة، وله ذكر كثير في فتوح العراق، وهو الذي فتح أصبهان وسكن البصرة، ثم تحوّل إلى الكوفة، وقدم بشيرًا بفتح القادسية على عمر، واستشهد في خلافته بنهاوند سنة إحدى وعشرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 رجل من مزينة، فلمَّا أردنا أن ننصرف قال: "يا عمر، زوّد القوم"، قال: ما عندي إلا شيء من تمر ما أظنه يقع من القوم موقعًا. قال: "انطلق فزودهم" , فانطلق بهم، فأدخلهم منزله, ثم أصعدهم إلى علية، فلمَّا دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق، فأخذ القوم منه حاجتهم. قال النعمان: وكنت في آخر من خرج، فنظرت: وما أفقد موضع تمرة من مكانها.   "قال: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أربعمائة رجل من مزينة", وعند ابن سعد عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه، عن جده: أوّل من وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- من مضر أربعمائة من مزينة, وفي الألفية: أوّل وفد وفدوا المدينة ... سنة خمس وفدوا مزينة زاد في رواية: وجهينة، فلعلَّهم كانوا قليلًا، أو أتباعًا، فلم يعدهم النعمان، "فلما أردنا أن ننصرف قال:" وفي رواية: قال القوم: يا رسول الله, ما لنا من طعام نتزوده؟ فقال: "يا عمر زود القوم"، قال: ما عندي" ما أزودهم به "إلا شيء من تمر، ما أظنه يقع من القوم موقعًا" لقلته، "قال: "انطلق فزودهم"، فانطلق بهم، فأدخلهم منزله" بيته، "ثم أصعدهم إلى علية" بكسر العين وضمها- غرفة، "فلمَّا دخلنا إذا فيها من التمر مثل الجمل الأورق" بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فراء فقاف- ما في لونه بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحمًا لا سيرًا وعملًا. قاله القاموس، وهذا معجزة له -صلى الله عليه وسلم، فإنه كان قليلًا في الواقع، فأخبر بذلك عمر على ما يعلمه منه، "فأخذ القوم منه حاجتهم". "قال النعمان: وكنت في آخر من خرج، فنظرت وما أفقد موضع تمرة من مكانها" معجزة أخرى له -عليه السلام؛ حيث زاد القليل، وأخذوا كفايتهم منه، واستمرَّ على زيادته، وفي رواية: وقد احتمل منه أربعمائة، وكأنا لم نرزأه تمرة -بنون مفتوحة فراء ساكنة فزاي مفتوحة فهمزة فهاء, أي: ننقصه، انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 الوفد الثالث عشر: وفد دوس وفد دَوْس: وكان قدومهم عليه -صلى الله عليه وسلم- بخيبر.   "الوفد الثالث عشر": "وفد دَوْس" بفتح المهملة وسكون الواو ومهملة- قبيلة أبي هريرة، ينسبون إلى جدِّهم دَوْس بن عدنان. -بضم المهملة فدال ساكنة فمثلثة فألف- ابن عبد الله، ينتهي نسبهم إلى الأزد، فدوس مصروف؛ لأنه في الأصل علم لمذكَّر؛ ولأن أصل الأسماء الصرف حتى يوجد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلًا شريفًا شاعرًا لبيبًا، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرِّق بين المرء وابنه, وبين المرء وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه. قال: فوالله ما زالوا بي حتى عزمت أن لا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت في أدني حين غدوت إليه كرسفًا،   مانعه، "وكان قدومهم عليه -صلى الله عليه وسلم- بخيبر" كما سيأتي في القصة، فهو سنة سبع. "قال ابن إسحاق" في السيرة بلا إسناد في غالب النُّسَخ، وفي نسخة أسندها عن صالح بن كيسان، عن الطفيل، وكذا أخرجه ابن سعد من وجه آخر، وكذا الأموي وابن الكلبي بإسناد آخر، كما في الإصابة، "كان الطفيل بن عمرو" بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس "الدوسي" لقبه ذو النور -براء آخره- لما يجيء. قال البوي: أحسبه سكن الشام، واستُشْهِد بأجنادين في خلافة الصديق، أو باليمامة، أو باليرموك، أقوال "يحدث أنه قدم مكة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها" قبل الهجرة، "فمشى إليه رجال من قريش". قال في النور: لا أعرفهم بأعيانهم، "وكان الطفيل رجلًا شريفًا شاعرًا لبيبًا". زاد ابن سعد: كثير الضيافة، وهذه الأوصاف جملة معترضة، ليست مما حدَّث به الطفيل، وإنما هي حدث بها عبد الواحد ابن أبي عون الدوسي، كما عند ابن سعد، "فقالوا له: إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرَّق جماعتنا" أمكنة، واعتقادًا بأن أزال الألفة بينهم وفرَّقهم في البلاد، "وشتت أمرنا" أي: فرَّق ما كنَّا عليه من اعتقاد عبادة الأصنام، بعد أن كنَّا كشيء واحد، فهو عطف مباين أولى من جعله تفسيرًا؛ إذ التأسيس خير من التأكيد، "وإنما قوله كالسحر" كأنه عطف علة على معلول، أي: إنما فعل ذلك بنا لأن كلامه كالسحر يسلب العقول، "يفرّق بين المرء" مثلث الميم "وابنه" بنون أو تحتية, "وبين المرء وأخيه، وبين الرجل وزوجه" امرأته, أفصح من زوجته، وهذا بيان لجهة السحر، "وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا" من الكلام الذي يفتن به، حتى تبعه من تبعه، "فلا تكلمه، ولا تسمع منه" لئلا تفتتن، "قال: فوالله ما زالوا بي حتى عزمت" أجمعت وصمَّمت "أن لا أسمع منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 فرقًا من أن يبلغني شيء من قوله. قال: فغدوت إلى المسجد, فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريًبا منه، فأبى الله أن يسمعني بعض قوله: فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت: واثكل أماه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنًا قبلت، وإن كان قبيحًا تركت. قال: فمكثت حتى أتى -عليه الصلاة والسلام- إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته فقلت: يا محمد, إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف أن لا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولًا حسنًا، فاعرض عليَّ أمرك. فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا عليَّ القرآن،   شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت في أذنيّ" تثنية أذن "حين غدوت إليه كرسفًا" بضم الكاف والسين بينهما راء ثم فاء- القطن، ويقال فيه أيضًا: كرسوف بزنة زنبور، "فرقًا" خوفًا "من أن يبلغني شيء من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد, فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبًا منه، فأبى الله إلّا أن يسمعني بعض قوله", هذا لفظ رواية ابن إسحاق، فنسخة: أن لا يسمعني، تصحيف، وإن أمكن توجيهها بأن المعنى منع على عدم السماع، "فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت: واثكل أمياه"، أصله: أمي -بياء المتكلم، فتقلب ألفًا، وتلحقها هاء السكت، وقد يجمع بين الألف والياء، كما هنا، والذي رأيته في ابن إسحاق: أمي على الأصل، "والله إني لرجل لبيب" عاقل "شاعر, ما يخفى عليّ الحسن" أي: تمييزه "من القبيح, فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول, فإن كان ما يقول"، أي: إن ظهر لي قوله "حسنًا قبلت"؛ لأنه ثمرة العقل، "وإن كان قبيحًا تركت، قال: فمكثت حتى أتى -عليه الصلاة والسلام- إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل بيته" دخلت عليه، "فقلت: يا محمد, إن قومك قد قالوا لي" بلام الجرِّ، وفي نسخة إليَّ، أي: أوصلوا إليَّ، "كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك" بنون واحدة، وأصله بنونين، حذفت إحداهما تخفيفًا، وفي أن المحذوفة الأولى والثانية خلاف "حتى سددت أذني" تثنية أذن "بكرسف"؛ لأجل "أن لا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعت قولًا حسنًا" فردَّ الله كيدهم في نحورهم، وقلب مكرهم عليهم، والله متمَّ نوره، ولو كره الكافرون، "فاعرض علي أمرك" بهمزة وصل من عرض ظهر، "فعرض عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإسلام، وتلا علي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 فلا والله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في قومي, وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية. قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللَّهم في غير وجهي، إني أخشى أن يقولوا إنها مُثْلَة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحوّل فوقع رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، حتى جئتهم وأصبحت فيهم، فلمَّا جئت أتاني   القرآن،" أي: بعضه، وهو الإخلاص والمعوّذتان، كما أفاده الإصابة عن أبي الفرج الأصبهاني، "فلا والله ما سمعت قولًا قط أحسن منه" أي: من قوله، "ولا أمرًا أعدل منه" من أمره الذي فهمته من قوله من الأحكام والمعاني التي استفدتها من كلامه، ويجوز عود ضميره للقول أيضًا، "فأسلمت" انقدت باطنًا لاستحساني قوله، "وشهدت شهادة الحق" أي: نطقت بها، فليس عطف تفسير؛ إذ الأصل خلافه، وأنشد له المرزباني يخاطب قريشًا، وكانوا هددوه لما أسلم: ألا أبلغ لديك بني لؤي ... على الشنان والغضب المردي بأن الله رب الناس فرد ... تعالى جده عن كل ند وأن محمدًا عبدًا رسولًا ... دليل هدى وموضح كل رشد وأن الله جلله بهاء ... وأعلى جده في كل جد "وقلت: يا رسول الله, إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم، فداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية" أي: علامة، وأسقط من رواية ابن إسحاق: تكون عونًا لي عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: "اللهمَّ اجعل له آية"، وعند الطبراني: "اللهم نوّر له"، وفي التقليح لابن الجوزي "اللهم اجعل له نورًا"، "قال الطفيل: "فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية" طريق في الجبل "تطلعني على الحاضر" هَمَّ القوم النزول على ماء يقيمون به، لا يرحلون عنه، ويقال للمناهل: المحاضر للاجتماع والحضور عليها. قال الخطابي: ربما جعلوا الحاضر اسمًا للمكان المحضور، يقال: نزلنا حاضر بني فلان، فاعل بمعنى مفعول، "وقع نور بين عيني مثل المصباح" أي: قرب مما بين عينية، ولم يصبه, "فقلت: اللهمَّ في غير وجهي" اجعل هذه الآية, "إني أخشى أن يقولوا" لفظ ابن إسحاق: يظنوا "أنها مُثْلَة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحوّل فوقع في رأس سوطي". زاد الطبري: فكان يضيء في الليلة المظلمة، فسمِّيَ ذا النور، قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي، "كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية حتى جئتهم وأصبحت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 أبي -وكان شيخًا كبيرًا- فقلت: إليك عني يا أبت، فلست مني ولست منك، قال: ولم يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بني, فديني دينك، قال فقلت: فاذهب فاغتسل وطهّر ثيابك ثم تعالى أعلمك ما علمت، قال: فذهب فاغتسل وطهَّر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عني, فلستُ منك ولستِ مني، قالت: لِمَ؟ قلت: فرَّق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت محمدًا، فقالت: فديني دينك, فأسلمت. ثم دعوت دَوْسًا إلى الإسلام، فأبطئوا عليَّ, فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت:   فيهم، فلمَّا جئت أتاني أبي، وكان شيخًا كبيرًا، فقلت: إليك عنِّي يا أبت، فلستَ منِّي ولستُ منك، قال: ولِمَ يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، قال: يا بني, فديني دينك، قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهِّر ثيابك" وليس فيه رضاه ببقائه كافرًا حتى يعود؛ لأن قوله: فدينك إيمان ديني عند كثير، وإن لم ينطق بالشهادتين، "ثم تعالَ أعلمك ما علمت، قال: فذهب فاغتسل وطهَّر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم" فنطق بالشهادتين، وأظهر له ما يدخل به في الإسلام ظاهرًا، ويترتب عليه أحكامه، فلا يُرَدّ أنه أسلم أوّلًا بقوله: فديني دينك، وقد ترجم له في الإصابة في القسم الأوّل عمرو بن طريف، والد أبي الطفيل، وذكر من القصة قول الطفيل له، وإسلامه ناسبًا لابن إسحاق، ولم يذكر أنه وفد واجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم، فلعله وقف عليه، وإلّا فهو مخضرم. وعند أبي الفرج في الأغاني من طريق الكلبي: فدعا أبويه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه، ودعا قومه، فأجابه أبو هريرة وحده، "ثم أتتني صاحبتي" يعني: زوجته. قال في النور: لا أعرف اسمها، "فقلت لها: إليك عني، فلستُ منك ولستِ مني، قالت: ولِمَ؟ قلت: فرَّق الإسلام بيني وبينك، أسلمت وتابعت محمدًا، فقالت: فديني دينك" أسقط من الرواية في ابن إسحاق، فقلت: فاذهبي إلى حنى ذي الشرى. قال اب هشام: ويقال: حمى ذي الشرى, فتطهري منه، قال: وكان ذو الشرى صنمًا لدَوْس، حموا له ماء يهبط من جبل، فقالت: بأبي أنت وأمي, أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئًا، قلت: لا أنا ضامن ذلك، قال: فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت, فعرضت عليها الإسلام، "فأسلمت". وفي الروض: حنى بالنون عند ابن إسحاق، والميم عند ابن هشام، موضع حموه لصنمهم، فإن صحة رواية النون، فالنون قد تبدل من الميم، "ثم دعوت دَوْسًا إلى الإسلام فأبطئوا عليَّ" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 يا نبي الله, إنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم، فقال: "اللَّهمَّ اهد دوسًا"، ثم قال: "ارجع إلى قومك فادعهم إلى الله وارفق بهم"، فرجعت إليهم, فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله، ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس.   وعند الطبراني: فأجابه أبو هريرة وحده، "فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بمكة، كما في نفس رواية ابن إسحاق، "فقلت: يا نبي الله, إنه قد غلبني على دَوْس الزنا،" أي: حبهم له، وعلمهم أنهم إن أسلموا منعوا منه، وفي البخاري عن أبي هريرة: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: إن دوسًا قد هلكت، عصت وأبت، "فادع الله عليهم، فقال: "اللهم اهد دوسًا"،" زاد البخاري: "وائت بهم". قال الحافظ في الفتح: وقع مصداق ذلك، فذكر ابن الكلبي أن جندب بن عمرو بن جممة الدوسي كان حاكمًا على دَوْس، وكذا كان أبوه من قبله، وكان جندب يقول: إني لأعلم أن للخلق خالقًا، لكني لا أدري من هو، فلمَّا سمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إليه، ومعه خمسة وسبعون رجلًا من قومه، فأسلم وأسلموا. انتهى، وجندب -بجيم فنون فدال فموحدة. ذكره في الإصابة في حرف الجيم، فال: قتل بأجنادين، ولا يعرف له حديث، وذكر فيها أيضًا عمرو بن حممة -بضم المهملة وفتح الميم الخفيفة بعدها مثلها- الدوسي. ذكر ابن دريد: إنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم, والذي ذكره غيره أنه مات في الجاهلية. قال المرزباني: كان أحد حكام العرب في الجاهلية، وأحد المعمِّرين، يقال: إنه عاش ثلاثمائة وتسعين سنة، وهو القائل: كبرت وطال العمر مني كأنني ... سليم أفأعي ليلة غير مودع أخبر أخبار القرون التي مضت ... ولابُدّ يومًا أن يطار لمصرعي وما السقم أبلاني ولكن تتابعت ... عليّ سنون من مصيف مربع ثلاث مئين من سنين كوامل ... وها أنا هذا أرتجي مر أربع فأصبحت بين الفخ والعش نادبًا ... إذا رام طيَّارًا يقال له: قع "ثم قال: "ارجع إلى قومك، فادعهم إلى الله، وارفق بهم"؛ إذ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، "فرجعت إليهم، فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الله" حتى هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضت بدر وأحد والخندق، كما هو قوله في ابن إسحاق، وعقَّبه بقوله: "ثم قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم" حال كونه "بخيبر" أو خبر مبتدأ، أي: وهو بخيبر، وليس ظرفًا لغوًا متعلقًا بقدمت؛ لأن قدومهم كان إلى المدينة، ظانِّين أنه بها، كما أفاده بقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر, فأسهم لنا مع المسلمين. وهذا يدل على تقدُّم إسلامه، وقد جزم ابن أبي حاتم بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر، وكأنها قدمته الثانية.   "فنزلت المدينة بسبعين، أو ثمانين بيتًا من دَوْس" أي: جماعة يجمعهم نسب واحد، فلا ينافي أنهم أربعمائة، "ثم لحقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر", وللطبراني بسند ضعيف أنهم أربعمائة، فلمَّا رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مرحبًا بأحسن الناس وجوهًا، وأطيبهم أفواهًا" أي: كلامًا، "وأعظمهم أمانة". وروى البخاري في التاريخ وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي، وعن أبي هريرة: قدمنا المدينة، ونحن ثمانون بيتًا من دَوْس، فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة الغفاري، فقرأ في الركعة الأولى بسورة مريم، وفي الأخيرة بويل للمطففين، فلمّا قرأ: {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] ، قلت: تركت عمي له مكيالان: إذا اكتال اكتال بالأوفى، وإذا كال كال بالناقص، فلمَّا فرغنا من صلاتنا قال قائل: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، وهو قادم عليكم، فقلت: لا أسمع به في مكان أبدًا إلا جئته، فزودنا سباع، وجئنا خيبر، فنجده قد فتح النطاة، وهو محاصر الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا، "فأسهم لنا مع المسلمين". وفي رواية من حديث أبي هريرة: قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد فتح خيبر، فكلم المسلمين، فأشركنا في سهمانهم، "وهذا" المذكور من حديث الطفيل، "يدل على تقدُّم إسلامه" بمكة قبل الهجرة دلالة صريحة، "وقد جزم ابن أبي حاتم، بأنه قدم مع أبي هريرة بخيبر، وكأنها" كما قال الحافظ "قدمته الثانية" مع الوفد، فلا يخالف صريح حديثه، والمراد بالثانية: باعتبار مكة والمدينة، فلا ينافي أنه قدم مكة مرتين، فتكون ثالثة، وقد قدم جميع الوفد مسلمين، بدليل صلاة الصبح خلف سباع، والإسهام لهم؛ إذ لو لم يسلموا ما أسهم لهم، وقد رجع شيخنا ضمير إسلامه للوفد، والإشارة بهذا للإسهام، وهو واضح في نفسه، لكنه ليس مراد المصنف، وإنما مراده كالحافظ: الاستدلال على خلاف ما جزم به ابن أبي حاتم، كما أفصح بذلك في الفتح والإصابة، وبقية حديث الطفيل عن ابن إسحاق: ثم لم يزل معه -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا فتح الله عليه مكة، قلت: يا رسول الله, ابعثني إلى صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه، فبعثه فأحرقه وهدمه، ثم رجع، فأوقد النار عليه، وهو يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا ثم رجع، فكان مع المصطفى حتى قبض، فلمَّا ارتدت العرب، خرج مع المسلمين حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو، فرأى رؤيا وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 .................................................   متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا، فاعبروها لي، إني رأيت أن رأسي قد حلق، وأنه خرج من فمي طائر، ولقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأن ابني يطلبني طلبًا حثيثًا، ثم رأيته حُبِسَ عني، قالوا: خيرًا، قال: أما أنا والله فقد أوّلتها، قالوا: بماذا؟ قال: أمَّا حلق رأسي فوضعه، وأمَّا الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأمَّا المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها، وأمَّا طلب ابني إياي ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني، فقُتِلَ شهيدًا باليمامة، وجُرح ابنه جراحة شديدة، ثم استفل منها، ثم استشهد عام اليرموك زمن عمر. انتهى. وبقتل الطفيل يوم اليمامة جزم ابن سعد أيضًا، ومن قبله ابن الكلبي، وقيل: باليرموك، قاله ابن حبان، وقيل: بأجنادين، قاله موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وأبو الأسود عن عروة، ويأتي في ترجمة عمرو بن الطفيل، أنه الذي استشهد باليرموك، قاله في الإصابة. وعند ابن سعد: إن عمرو بن الطفيل قُطِعَت يده أيضًا، زيادةً على الجراحة الشديدة يوم اليمامة، ثم صحّ، فبينا هو مع عمر إذ أُتِيَ بطعام، فتنحَّى، فقال مالك: لعله لمكان يدك، قال: أجل، قال: والله لا أذوقه حتى تسوطه بيدك، ففعل. قال ابن أبي حاتم: لا أعلم، روى عن الطفيل شيء, وتعقبه الحافظ بأن البغوي أخرج من حديث عبد ربه، عن الطفيل بن عمرو الدوسي، قال: أقرأني أُبَيّ بن كعب القرآن، فأهدَيْتُ له فرسًا.. الحديث، وقال غريب: وعبد ربه لم يسمع من الطفيل، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 الوفد الرابع عشر: وقد نصارى نجران ... الوفد الرابع عشر: وفد نصارى نجران وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران، فلمَّا دخلوا المسجد النبوي بعد العصر حانتز   "الوفد الرابع عشر": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران" بفتح النون وسكون الجيم- بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاث وسبعين قرية، مسيرة يوم للراكب السريع، كما في الفتح، سميت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب، وهو أوّل من نزلها، والأخدود المذكور في القرآن في قرية من قراها، وهي اليوم خراب، ليس فيها إلّا المسجد الذي أمر عمر بن الخطاب ببنائه، وكانت نصارى نجران غزاهم ذو نواس اليهودي من حمير، فأحرق في الأخدود من لم يرتد، ثم الإضافة في وفد نصارى لامية حقيقة، أي: طائفة هي مقدمة نصارى، أو بيانية، والمعنى: إن الوفد هم نصارى نجران، والتقييد بالنصارى يحتمل التخصيص، كأنّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 صلاتهم، فقاموا يصلون فيه، فأراد الناس منعهم, فقال -عليه الصلاة والسلام: "دعوهم"، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. وكانوا ستين راكبًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم؛ العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم, واسمه: عبد المسيح. والسيد: صاحب رحلهم ومجتعهم، واسمه: الأيهم -بتحتية ساكنة, ويقال: شرحبيل, وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل،   يكون بها مشركون ويهود، وإنه لبيان الواقع، "فلما دخلوا المسجد النبوي بعد العصر حانت صلاتهم" دخل وقتها، "فقاموا يصلون فيه", لا يقال الصلاة حيثما كان الشخص من خصائص هذه الأمة لحديث الصحيحين: "أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي"، وفيهن: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا". قال الخطابي: وأما من قبله، فإنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع؛ لأنا نقول إنما ذلك في الحضر، فأمَّا السفر، فتباح لهم الصلاة في غيرها، وقد كان عيسى يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، "فأراد الناس منعهم" لما فيه من إظهار دينهم الباطل بحضرة المصطفى، وفي مسجده، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "دعوهم" , اتركوهم تأليفًا لهم ورجاء إسلامهم، ولدخولهم بأمان، فأقرَّهم على كفرهم، ومنع مَنْ تعرَّض لهم، فليس فيه إقرار على الباطل، "فاستقبلوا المشرق، فصلوا صلاتهم،" ومستقبل المشرق بالمدينة ليس مستقبلًا للكعبة، ولا مستدبرها، كما حملوا عليه حديث الصحيحين: "إذا أتى أحدكم بغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا" , بخلاف نحو مصر، فمن شَرَّق استقبلها، "وكانوا ستين راكبًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من إشرافهم" كما عند ابن إسحاق، وسرد أسماءهم، وفي رواية ابن سعد: أربعة عشر، ولا منافاة لاحتمال أن الأربعة عشر أعظم الأشراف، "والأربعة والعشرون، منهم ثلاثة نفر" إضافة بيانية؛ إذ النفر من الثلاثة "إليهم يئول أمرهم, العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم" يشبه عطف السبب على المسبب، "واسمه: عبد المسيح" والعاقب لقبه، "والسيد صاحب رحلهم" أي: ارتحالهم، أي: صاحب معرفة أماكنهم في الرحيل؛ لخبرته بالطرق، "ومجتمعهم" بالجر أو الرفع, عطف على صاحب، أي: مكان اجتماعهم عند آرائهم، فلا ينافي أن العاقب صاحب رأيهم، "واسمه: الأيهم -بتحتية ساكنة" ثم هاء, بزنة جعفر، "ويقال: شرحبيل" اسمه بدل الأيهم، "وأبو حارثة بن علقمة" في الفتح، وأبو الحارث علقمة، بإسقاط ابن "أخو بكر بن وائل", المراد أنه من قبيلة بكر، المذكور لا أخوه حقيقة، وهذا كثير في كلامهم كقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرَّفوه ومَوَّلُوه، وكان يعرف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم, وشأنه وصفته, مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكن حمله جَهْلُه على الاستمرار في النصرانية، لما يرى من تعظيمه ووجاهته عن أهلها. فدعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن فامتنعوا، فقال: "إن أنكرتم ما أقول فهلمَّ أباهِلكم".   أيا أخوينا عبد شمس ونوفلًا ... أعيذكما بالله أن تحدثا حربا "قد شرف فيهم، ودرس كتبهم" عطف علة على معلول، "وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرَّفوه وموَّلوه" أي: جعلوا له مالًا يتخذ قنية؛ لحبهم من تدين من العرب بدينهم، "وكان يعرف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وشأنه وصفته, مما علمه من الكتب المتقدمة، لكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية، لما يرى من تعظيمه ووجاهته عن أهلها" وسماه: جاهلًا وإن كان عالمًا، تنزيلًا له منزلة الجاهل؛ لأنه لم يعمل بعلمه، فهو والجاهل سواء، أو لأنّ عناده حمله على تأويلات باطلة لشبه واهية، فهي فاسدة، فصاحبها جاهل، والأحسن أن المراد بالجهل: السفه والخطأ، فإنه يطلق عليهما لغة، "فدعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا،" فلم يؤمنوا، "فقال: "إن أنكرتم ما أقول" بأن اعتقدتم بطلانه، فلا ينافي قوله: فامتنعوا، أو المعنى: إن دمتم على إنكاركم وعنادكم ظلمًا وعدوانًا، "فهلُمَّ أُبَاهِلُكم"، أي: ألاعنكم؛ بحيث يلعن كلٌّ منَّا الكاذب، كما قال تعالى: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] . قال البيضاوي: البهلة -بالضم والفتح- اللعنة، وأصله: الترك, من قولهم: بهلت الناقة، إذا تركتها بلا صرار, وهو بصادٍ وراءين مهملات بينهما ألف. قال الجوهري: صررت الناقة: شددت عليها الصرار، وهو خيط يشد فوق الخلف، لئلّا يرضعها ولدها. روى البيهقي في الدلائل: إنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: "بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي.." الحديث. وفيه: فأتوه، فسألهم، وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ قال: " ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم"، فأصبح الغد، وقد أنزل الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] الآية، إلى قوله: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: إن رهطًا من نجران قدموا على النبي، فيهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 وفي البخاري من حديث حذيفة؛ جاء السيد والعاقب صاحبَا نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, يريدان أن يلاعناه -يعني: يباهلاه, فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل. وعند أبي نعيم: إن القائل ذلك هو السيد، وعند غيره: بل الذي قال ذلك هو العاقب؛ لأنه كان صاحب رأيهم، وفي زيادات يونس بن بكير في المغازي: إن الذي قال ذلك هو شرحبيل. فوالله لئن كان نبيًّا فلاعنَّا -يعني: باهلناه- لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا, زاد في رواية ابن مسعود عند الحاكم: أبدًا, ثم قالا: إنا نعطيك ما سألتنا،   السيد والعاقب، فقالوا: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال: "من هو"؟ قالوا: عيسى، تزعم أنه عبد الله، فقال: "أجل"، قالوا: فهل رأيت مثل عيسى، أو أنبئت به، ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل، فقال له: قل لهم إذا أتوك {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] الآية، إلى قوله: {مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] الآية. "وفي البخاري من حديث حذيفة" بن اليمان: "جاء السيد والعاقب صاحبا نجران" كأنَّ السيد كان له تصرف في نجران، وإن لم يكن بالإمارة، فأطلق عليهما صاحبيهما، لاشتراكهما في مطلق التصرف، فلا ينافي ما مَرَّ أن الأمير هو العاقب، وأمَّا أبو حارثة فكأنه كان عندهم يرجع إليه في استعلام الأحكام، لا في التصرف، فلم يذكره "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, يريدان أن يلاعناه، يعني: يباهلاه" تفسير من المصنف لقوله: يلاعناه لا من الحديث. قال في الفتح: وذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل: إن ثمانين آية من أوّل سورة آل عمران نزلت في ذلك، يشير إلى قله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية، "فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، وعند أبي نعيم" في كتاب الصحابة: "إن القائل ذلك هو السيد، وعند غيره: بل الذي قال ذلك هو العاقب؛ لأنه كان صاحب رأيهم، وفي زيادات يونس بن بكير" الشيباني على سيرة شيخه ابن إسحاق "في المغازي: أن الذي قال ذلك شرحبيل" وهو موافق لما عند أبي نعيم، بناءً على أن السيد اسمه شرحبيل، كما مَرَّ، وفصل المصنف بين أجزاء الحديث بهذه الجملة من فتح الباري، لبيان المبهم في قوله: أحدهما، ثم عاد لتتميم حديث البخاري، "فوالله لئن كان نبيًّا" فهو مقول الأحد، "فلاعنّا" في رواية الكشميهني: فلاعننا، فإظهار النون، كما في الفتح، وليس في البخاري، فلاعنَّاه بضمير، "يعني: باهلناه" فسره بالأخفى دفعًا لتوهّم أنها غير المباهلة، "لا نفلح نحن، ولا عقبنا من بعدنا". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث إلا أمينًا، فقال: "لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين". فاستشرف لها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلمَّا قام قال -صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة".   "زاد في رواية ابن مسعود عند الحاكم" لفظة "أبدًا، ثم قالا: إنا نعطيك ما سألتنا", في رواية ابن مسعود، فأتيا فقالا: لا نلاعنك، ولكنَّا نعطيك ما سألت، أي: في كتابك من الجزية، إن لم يسلموا. ففي رواية البيهقي أنه -صلى الله عليه وسلم- كتب إليهم، يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم، فقد آذنتكم بحرب. وفي رواية ابن أبي شيبة، وأبي نعيم، وغيرهما؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران"، لو تمموا على الملاعنة، ولما غدا إليهم أخذ بيد حسن، وحسين، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: "إذا أنا دعوت فأمِّنوا"، فقال أسقفهم: إني لأرى وجوهًا، لو سألوا الله أن يزيل جبلًا من جباله لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، والله لقد عرفتم نبوَّته، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبكم، أي: عيسى، فوالله ما باهل قوم نبيًّا إلّا هلكوا، فإن أبيتم إلا دينكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا، فقالوا: يا أبا القاسم, لا نلاعنك، فقال: "فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين، وعليكم ما عليهم"، فأبوا، قال: "فإني أنذركم"، قالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنَّا نصالحك، فصالحهم، وقال: "والذي نفسي بيده, إن العذاب تدلَّى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضَّطرم عليهم الوادي نارًا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر"، "وابعث معنا رجلًا أمينًا" يأخذ ما تجعله علينا، "ولا تبعث معنا إلا أمينًا" ذكره بعد سابقه؛ لأنه لا حصر فيه، فيصدق بما لو بعث مع الأمين غيره، "فقال: "لأبعثنَّ معكم رجلًا أمينًا حق أمين"، أي: بالغًا في الأمانة، ففيه توكيد، والإضافة فيه نحو قولهم: إن زيد العالم، حق عالم، وجد عالم، أي: عالم حقًّا وجدًّا، يعني: عالم يبالغ في العلم جدًّا، ولا يترك في الجد المستطاع منه شيئًا، "فاستشرف لها" أي: تطلَّع "أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم" ورغبوا فيها، حرصًا على نيل صفة الأمانة البالغة، لا على الولاية من حيث هي. وفي رواية أبي يعلى عن ابن عمر: سمعت عمر يقول: ما أحببت الإمارة إلا مرة واحدة، فذكر هذه القصة، وقال في آخرها: فتعرضت أن تصيبني، "فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلمَّا قام، قال -صلى الله عليه وسلم: "هذا أمين هذه الأمة"، والأمين هو الثقة الرضي، وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره، لكن السياق يشعر بأنه له مزيدًا في ذلك، لكن خص النبي -صلى الله عليه وسلم- كل أحد من الكبار بفضيلة، وصفه بها، فأشعر بقدر زائد فيها على غيره، كالحياء لعثمان، والقضاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 وفي رواية يونس بن بكير: إنه صالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية، وساق الكتاب الذي بينهم مطولًا. وذكر ابن سعد: إن السيد والعاقب رجعَا بعد ذلك وأسلما. وفي ذلك مشروعية مباهلة المخالف إذا أصَرَّ بعد ظهور الحجة, ووقع ذلك لجماعة من العلماء سلفًا وخلفًا، ومما عرف بالتجربة أنَّ من باهل وكان مبطلًا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة.   لعلي، ونحو ذلك، قاله الحافظ. "وفي رواية يونس بن بكير: إنه صالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب، وألف في صفر، ومع كل حلة أوقية" من "وساق الكتاب الذي بينهم مطولًا،" وقد ذكره الشامي، وغيره. "وذكر ابن سعد: إن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك" إلى المدينة، "وأسلما" كما هو بقية كلام ابن سعد، كما في الفتح، وذكرهما معًا في الإصابة، فقال عن ابن سعد وابن المدائني: إنهم رجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيد والعاقب إلّا يسيرًا، حتى رجعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلما، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري، "وفي ذلك مشروعية مباهلة المخالف إذا أصَرَّ بعد ظهور الحجة" على المخالفة، "ووقع ذلك لجماعة من العلماء سلفًا وخلفًا". زاد في الفتح: وقد دعا ابن عباس إلى ذلك، ثم الأوزاعي، "ومما عرف بالتجربة أن من باهل، وكان مبطلًا، لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة". قال الحافظ: وقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين. قال: وفي القصة أيضًا -يعني: من الفوائد: أنَّ إقرار الكافر بالنبوَّة لا يدخله الإسلام حتى يلتزم أحكامه، وجواز مجادلة أهل الكتاب، ومصالحتهم على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى ضرب الجزية، فإن كلًّا مال يؤخذ على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل، العالم، الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، ومنقبة ظاهرة لأبي عبيدة. وذكر ابن إسحاق: أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث عليًّا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم، وهذه غير قصة أبي عبيدة؛ لأنه توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، فقبض ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم ما وجب عليه من الصدقة، والله أعلم، انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 الوفد الخامس عشر: فروة بن عمرو الجذامي وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- رسول فروة ابن عمرو الجذامي ملك الروم -وكان منزله معان- بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، ولما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه ثم صلبوه على ماء بفلسطين، وضربوا عنقه على ذلك الماء.   "الوفد الخامس عشر": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- رسول فروة" بفتح الفاء "ابن عمرو" على الأشهر، وقيل: عامر "الجذامي" بضم الجيم، وبذال معجمة- نسبةً إلى جذام, قبيلة، واسم الرسول الذي أرسله مسعود بن سعد الجذامي، أسلم وصحب, "ملك الروم" فيه تحوّز، فقد قال ابن إسحاق: إنه كان عاملًا للروم على من يليه من العرب، والمصنف نفسه قدم قريبًا في المكاتبات؛ إنه كان عاملًا لقيصر، "وكان منزله معان،" وما حولها من أرض الشام، كما عند ابن إسحاق, ومعان -بفتح الميم وضمها، وصوَّب الفتح. قال البكري: اسم جبل. قال في الروض: والمعان أيضًا حيث تحبس الخيل والركاب، وبه جنس المعري، فقال: معان من أحبتنا معان ... تجيب الصاهلات بها القيان وجوَّز البرهان رفع منزل اسم كان، ونصب معان خبره وعكسه، "بإسلامه" صلة قوله: قدم ذلك لما بعث إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسلم، فأسلم، وكتب إليه بإسلامه، "وأهدى له بغلة بيضاء" هي فضة، وفرسًا يقال لها الظرب، وحمارًا يقال له يعفور، وأثوابًا، وقباء مذهبًا، فقبل هديته، وأعطى رسوله مسعودًا اثنتي عشرة أوقية فضة، كما تقدَّم، "ولما بلغ الروم" بالنصب مفعول, فاعله قوله: "ذلك من إسلامه، طلبوه حتى أخذوه، فحبسوه، ثم صلبوه على ماء" بالمد- لهم يقال له: عفراء -بفتح المهملة، وإسكان الفاء، وبالراء ممدودة, "بفلسطين" بكسر الفاء، وفتحها، فلام مفتوحة، فسين ساكنة، فطاء مكسورة مهملتين، فتحتية ساكنة، فنون، وهي الرملة وغزة وبيت المقدس، وما حولها، كما في النور، وعند ابن إسحاق، فقال في ذلك: ألا هل أتى سلمى بأن خليلها ... على ماء عفرًا فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يضرب الفحل أمها ... مشذبة أطرافها بالمناجل ولما قدموه ليقتلوه قال: بلغ سراة المسلمين بأنني ... سلم لربي أعظمي ومقامي وضربوا عنقه على ذلك الماء" ولم ينقل أنه اجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم، كما في الإصابة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 الوفد السادس عشر: قدوم ضمام بن ثعلبة وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- ضمام بن ثعلبة، بعثه بنو سعد بن بكر. روى البخاري من حديث أنس بن مالك قال: بينما نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد, دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله،   "الوفد السادس عشر": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- ضمام" بمعجمة مكسورة وخفة الميم الأولى المفتوحة, "ابن ثعلبة" بفتح المثلثة والموحدة بينهما عين ساكنة ولام, السعدي، قال البغوي: كان يسكن الكوفة "بعثه بنو سعد بن بكر" قومه ليجيب عمَّا أرسل به المصطفى لهم، ويبصر فيما جاء به -عليه الصلاة والسلام, في سنة تسع على الصواب، وبه جزم ابن إسحاق، وأبو عبيدة وغيرهما، خلافًا لما زعم الواقدي أنه سنة خمس، كما أفاده الحافظ، ولم يقل وفد لانفراده, لا يعد وافدًا عرفًا، وإن عُدَّ لغة، بل حقه أن يقال له يريد؛ لأنه بمنزلة من يرسله الملك في مصلحة ليأتيه بالخبر، وادَّعى ابن بطال وعياض وابن العربي وغيرهم: أن ضمامًا هو المرد بقول طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد، ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول, حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال -صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلّا أن تطوّع"، قال: "وصيام رمضان"، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا، إلّا أن تطوَّع" وذكر له الزكاة"، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا, إلا أن تطوَّع"، قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقص، قال -صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق". رواه الشيخان من طريق مالك عن عمه، عن أبيه، عن طلحة. وقال القرطبي في المفهم: وتبعه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، الظاهر أنه غيره لاختلاف السياقين، وهو كما قال ذكره الحافظ في المقدمة. وقال في الفتح: جزم ابن بطال وآخرون بأنه ضمام، والحامل لهم على ذلك إيراد مسلم قصته عقب حديث طلحة، وإنَّ في كلٍّ منهما أنه بدويّ، وأن كلًّا منهما قال في آخر حديثه: لا أزيد على هذا، ولا أنقص، لكن تعقَّبه القرطبي بأن سياقهما مختلف، وأسئلتهما متباينة، قال: ودعوى أنها قصة واحدة دعوى فرط، وتكلف شطط من غير ضرورة. انتهى المراد منه. "روى البخاري"، وكذا مسلم "من حديث أنس بن مالك، قال: بينا" بلا ميم, وفي رواية بينما بالميم، "نحن جلوس مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" النبوي، "دخل رجل" جواب بينا, وللأصيلي: إذ دخل، لكنَّ الأصمعي لا يستفصح إذ وإذا في جواب بينا, "على جملٍ فأناخه في المسجد، ثم عقله" بتخفيف القاف, أي: شدَّ على ساقه بعد أن ثنى ركبتيه حبلًا، واستنبط منه ابن بطال وغيره، طهارة أبوال الإبل وأرواثها؛ إذ لا يؤمن منه ذلك في المسجد، ولم ينكره -صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: ودلالته غير واضحة، وإنما فيه مجرد احتمال، ويدفعه رواية أبي نعيم: أقبل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 ثم قال: أيكم محمد؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟   على بعير له حتى أتى المسجد، فأناخه، ثم عقله، فدخل المسجد، وأصرح منه روايةً ابن عباس عند أحمد والحاكم، ولفظه: فأناخ بعيره على باب المسجد, فعقله ثم دخل، فعلى هذا، ففي رواية أنس مجاز الحذف والتقدير، فأناخه في ساحة المسجد، أو نحو ذلك, انتهى، وفيه: إن ساحة المسجد رحبته، كما في اللغة، ومذهب الشافعي أن الرحبة من المسجد، وهي ما بني لأجله، فتستحب فيها التحية، ويجوز الاعتكاف، فتمَّ الاستنباط، "ثم قال: أيكم" استفهام مرفوع، مبتدأ خبره "محمد", أو أيكم خبر قُدِّمَ؛ لأن الاستفهام له الصدر، "والنبي -صلى الله عليه وسلم- متكئ" -بالهمز، مستوٍ على وطاء، والجملة اسمية وقعت حالًا، قاله المصنف، وتفسيره بهذا هو الظاهر هنا، وإن أطلق الاتكاء أيضًا على الميل على أحد الشقين، والتمكُّن من القعود بالتربُّع والاعتماد على اليد اليسرى، كما يأتي بسطه للمصنف. قال الحافظ: فيه جواز إتكاء الإمام بين أتباعه، وفيه ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من ترك التكبر لقوله: "بين ظهرانيهم" بفتح النون، أي: بينهم، وزيد لفظ ظهر، ليدل على أن ظهرًا منهم قدامه، وظهرًا وراءه، فهو محفوف بهم من جانبيه، والألف والنون فيه للتأكيد، قاله صاحب الفائق. وقال الدماميني: زيدت الألف والنون على ظهر عند التثنية للتأكيد, ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقًا. قال المصنف: فهو مما أريد بلفظة التثنية فيه معى الجمع، واستشكل ثبوت النون مع الإضافة، وأجيب بأنه ملحق بالمثنى، لا أنه مثنى ثني، وحذفت منه نون التثنية، وصار ظهرانيهم، "فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ". قال الحافظ: أي: المشرب بحمرة، كما في رواية الحارث بن عمير الأمغر -بالغين المعجمة. قال حمزة بن الحارث: هو الأبيض المشرب بحمرة، ويؤيده ما يأتي في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن أبيض ولا أدم، أي: لم يكن أبيض صرفًا، "فقال له" للنبي -صلى الله عليه وسلم- "الرجل" الداخل "ابن عبد المطلب" بكسر الهمزة وفتح النون, كما في فرع اليونينية والذي رأيته في اليونينية بهمزة وصل. قال شيخنا: ولا تنافي بينهما, فما في الأصل وصل كلمة بالرجل، وما في الفرع وقف على الرجل، وابتدأ بابن إشارة إلى أنه مقول القول، فالهمزة مكسورة. وفي الفتح للحافظ: بفتح النون على النداء، وفي رواية الكشميهني: يا ابن بإثبات حرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد أجبتك". فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة, فلا تجد علي في نفسك, فقال: "سل عمَّا بدا لك" , فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله   النداء. انتهى. وقال الزركشي: بفتح الهمزة للنداء ونصب النون؛ لأنه مضاف لا على الخبر ولا الاستفهام؛ لقوله: "قد أجبتك"، وفي رواية: يا ابن عبد المطلب، وردَّه الدماميني بأنه لا دليل في شيء مما ذكر على تعين فتح الهمزة، فإن ثبت رواية، وإلّا فلا مانع أن همزة الوصل التي في ابن سقطت للمدرج، وحرف النداء محذوف، وهو في مثله قياس مطَّرد باتفاق، "فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: قد "أجبتك"،" أي: سمعتك، أو المراد: إنشاء الإجابة، أو نزل تقريره للصحابة في الإعلام عنه منزلة النطق، وهذا لائق بمراد البخاري، وقيل: لم يقل له نعم؛ لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم، لا سيما مع قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] الآية، والعذر عنه إن قلنا: قدم مسلمًا أنه لم يبلغه النهي، وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب، وقد ظهر ذلك بعد في قوله: فمشدد عليك، "فقال: إني سائلك", وللأصيلي وابن عساكر: فقال الرجل: إليَّ سائلك، "فمشدد" بكسر الدال الأولى المثقَّلة، والفاء عاطفة على سائلك, "عليك في المسألة فلا تجد" بكسر الجيم، والجزم على النهي من الموجدة، أي: لا تغضب "عليَّ في نفسك". قال الحافظ: ومادة وجد متحدة الماضي والمضارع، مختلفة المصادر بحسب اختلاف المعاني، ففي الغضب موجدة، والمطلوب وجودًا والضالة وجدانًا، والحب وجدًا -بالفتح، والمال وجدًا -بالضم، والغني جدة -بكسر الجيم وخفة الدال مفتوحة على الأشهر في جميع ذلك، وفي المكتوب: وجادة وهي مولدة، "فقال: "سل ما بدا"، ظهر "لك"، فقال: أسألك بربك" أي: بحق ربك "ورب من قبلك" زاد مسلم: ومن رفع السماء، وبسط الأرض، وغير ذلك من المصنوعات، ثم أقسم عليه به أن يصدقه عما يسأل عنه، وكرّر القسم في كل مسألة، تأكيدًا وتقريرًا للأمر، ثم صرَّح بالتصديق، فكل ذلك دليل على حسن تصرفه، وتمكن عقله, ولهذا قال عمر: ما رأيت أحدًا أحسن مسألة، ولا أوجز من ضمام، وقد وقع عند مسلم عن أنس: كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول اله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل فيسأله ونحن نسمع. زاد أبو عوانة: وكانوا أجراء على ذلك منا، يعني: إن الصحابة واقفون عند النهي، وأولئك يعذرون بالجهل، وتمنَّوه عاقلًا ليكون عارفًا بما يسأل عنه، وظهر عقل ضمام في تقديمه الاعتذار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: "اللَّهمَّ نعم" , فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: "اللهمَّ نعم" , فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر في السنة؟ قال: "اللَّهم نعم" , فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فنقسمها على فقرائنا, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم نعم".   بين يدي مسألته، لظنه أنه لا يصل إلى مقصوده إلّا بتلك المخاطبة، قاله الحافظ: "آلله" بهمزة الاستفهام الممدودة في المواضع كلها مبتدأ خبره "أرسلك إلى الناس كلهم، فقال: "اللهمَّ" أي: يا الله "نعم" فالميم بدل من حرف النداء، وذكر للتبرُّك، وإلّا فالجواب حصل بنعم. قال الحافظ: وكأنه استشهد في ذلك بالله تأكيدًا لصدقه، وفي رواية أبي عوانة، فقال: صدقت، قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله"، قال: فمن خلق الأرض والجبال؟ قال: "الله"، قال: فمن جعل فيها المنافع؟ قال: "الله"، قال: فبالذي خلق السماء والأرض، ونصب الجبال، وجعل فيها المنافع, الله أرسلك؟ قال: "نعم"؛ وكذا هو في رواية مسلم، "فقال: أنشدك" بفتح الهمزة وضم المعجمة: أسألك "بالله" وأصله من النشد، وهو رفع الصوت, والمعنى: سألتك رافعًا نشيدتي، قاله البغوي في شرح السنة. وقال الجوهري: نشدتك بالله، أي: سألتك، كأنك ذكرته فنشد، أي: تذكر "آلله أمرك أن تصلي" بتاء الخطاب فيه وفيما بعده، وللأصيلي بالنون فيهما. قال عياض: وهو أوجه, ويؤيده رواية مسلم بلفظ: إن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، وساق البقية كذلك، ووجه الأوّل أنَّ كل ما وجب عليه وجب على أمته، حتى يقوم دليل على الاختصاص "الصلوات الخمس", وللكشميهني والسرخسي: الصلاة بالإفراد على إرادة الجنس "في اليوم والليلة، قال: "اللهمَّ نعم"، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تصوم" بتاء الخطاب وبالنون "هذا الشهر في السنة؟ " أي: رمضان في كل سنة، فاللام فيهما للعهد, والإشارة لنوعه لا لعينه، "قال: "اللهمَّ نعم"، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ" بتاء الخطاب، أي: بأن تأخذ "هذه الصدقة" المعهودة، وهي الزكاة "من أغنيائنا، فتقسمها" بتاء الخطاب المفتوحة، والنصب عطفًا على تأخذ "على فقرائنا؟ " خرج مخرج الأغلب؛ لأنهم معظم أهلها، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ نعم". قال ابن التين: فيه دليل على أن المرء لا يفرق صدقته بنفسه، وفيه نظر، ولم يذكر الحج في هذه الرواية، وقد أخرج مسلم وأبو عوانة في روايتهما عن أنس بلفظ: وإن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: "صدق"، وهو في حديث أبي هريرة، وابن عباس أيضًا عند مسلم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 فقال الرجل: آمنت بما جئت به, وأنا رسول مَنْ ورائي من قومي, وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.   وأغرب ابن التين، فقال: لم يذكره؛ لأنه لم يكن فرض، وكان الحامل له على ذلك ما جزم به الواقدي، ومحمد بن حبيب؛ أنَّ قدوم ضمام كان سنة خمس، فيكون قبل الحج، لكنه غلط من أوجه: أحدها: إن في رواية مسلم: إنه كان بعد نزول النهي في القرآن عن سؤال الرسول، وآية النهي في المائدة ونزولها متأخر جدًّا. ثانيها: إن إرسال الرسل للدعاء إلى الإسلام إنما كان ابتداؤه بعد الحديبية، ومعظمه بعد الفتح. ثالثها: إن في القصة أنَّ قومه أوفدوه، وإنما كان معظم الوفود بعد فتح مكة. رابعها: إن في حديث ابن عباس أن قومه أطاعوه، ودخلوا في الإسلام بعد رجوعه إليهم، ولم تدخل بنو سعد ابن بكر، وهو ابن هوازن, في الإسلام إلّا بعد وقعة حنين، وكانت في شوَّال سنة ثمان، فالصواب أن قدوم ضمام كان في سنة تسع، وبه جزم ابن إسحاق، وأبو عبيدة وغيرهما، ويدل له رواية أحمد، والحاكم عن ابن عباس: بعثت بنو سعد ضمامًا وافدًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا؛ لأن ابن عباس إنما قدم المدينة بعد الفتح، وغفل البدر الزركشي فقال: لم يذكر الحج؛ لأنه كان معلومًا عندهم في شريعة إبراهيم، وكأنَّه لم يراجع صحيح مسلم, فضلًا عن غيره. "فقال الرجل: آمنت بما جئت به" يحتمل أن يكون إخبارًا، وهو اختيار البخاري، ورجَّحه عياض، وأنه حضر بعد إسلامه مستثبتًا منه ما أخبر به رسول إليهم؛ لقوله عند مسلم: إن رسولك زعم، وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: أتتنا كتبك وأتتنا رسلك، واستبط منه الحاكم أصل صلب علوّ الإسناد؛ لأنه سمع ذلك من الرسول وآمن وصدّق، ولكنَّه أراد أن يسمع ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشافهة، ويحتمل أن قوله: آمنت, إنشاء، ورجَّحه القرطبي، قال: والزعم القول الذي لا يوثق به، قال ابن السكيت وغيره وفيه نظر؛ لأنه يطلق على القول المحقّق أيضًا، كما نقله أبو عمرو الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب، وأكثر سيبويه من قوله: زعم الخليل في مقام الاحتجاج، وأما تبويب أبي داود عليه: باب المشرك يدخل المسجد، فليس مصيرًا منه إلى أنَّ ضمامًا قدم مشركًا، بل وجهه أنهم تركوا شخصًا قادمًا يدخل المسجد من غير استفسار، ومما يؤيد أنه إخبار أنه لم يسأل عن دليل التوحد، بل عن عموم الرسالة، وعن شرائع الإسلام، ولو كان إنشاءً لطلب معجزة توجب التصديق، قاله الكرماني، وعكسه القرطبي، فاستدلَّ به على صحة إيمان المقلد للرسول، ولِمَ لَمْ تظهر له معجزة، وكذا أشار إليه ابن الصلاح، "وأنا رسول" بإضافته إلى "مَنْ" بفتح الميم, موصولة "ورائي مِن" بكسر الميم "قومي", ويجوز تنوين رسول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 وزاد ابن إسحاق في مغازيه: فقال: آلله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئًا وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ نعم". قال: وكان ضمام رجلًا جلدًا ذا غديرتين، ثم أتى بعيره فأطلق عقله ثم خرج حتى أتى قومه فاجتمعوا إليه، وكان أوّل ما تكلَّم به أن قال: بئست الَّلات والعزَّى, فقالوا: مه يا ضمام, اتق البرص والجنون والجذام، قال: ويلكم، إنهما لا يضران ولا ينفعان. إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا   وكسر الميم، لكن لم تأت به الرواية، "وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر". زاد مسلم: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهنّ ولا أنقص، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ليدخلنَّ الجنة"، وفي حديث أبي هريرة: فأمَّا هذه الهناة، يعني: الفواحش، فوالله إنا كنَّا لنتنزه عنها في الجاهلية، فلمَّا أن ولَّى، قال -صلى الله عليه وسلم: "فقه الرجل"، "وزاد ابن إسحاق في مغازيه" فإنه روى الحديث فيها عن ابن عباس "فقال" بعد قوله: الله أرسلك إلينا رسولًا، قال: "اللهمّ نعم"، قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، "آلله أمرك" أن تأمرنا "أن نعبده" وحده "ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون" معه، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ نعم"،" فذكر الحديث. قال: فلما فرغ، قال: إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن صدق دخل الجنة". "قال" ابن عباس في صدر الحديث: "وكان ضمام رجلًا جلدًا" بجيم مفتوحة فدال مهملة- صلبًا شديدًا، "ذا غديرتين" بفتح المعجمة، وكسر المهملة، وإسكان التحتية، أي: ذؤابتين, تثنية غدير، والجمع غدائر، وقال في آخر الحديث: "ثم أتى بعيره، فأطلق عقله، ثم خرج حتى أتى قومه، فاجتمعوا إليه، وكان" كذا في النسخ بالواو، والرواية في ابن إسحاق: فكان -بالفاء، "أوَّل ما تكلم به" برفع أول اسم كان والخبر، "أن قال" أي: قوله ويجوز عكسه، "بئست اللات والعزَّى، فقالوا: مَهْ،" انكفف عن هذا القول "يا ضمام! اتق البرص والجنون والجذام،" أي: احذر سبَّهما، فإنه موجب لذلك، "قال: ويلكم, إنهما" والله، كما في الرواية "لا يضرَّان، ولا ينفعان"؛ إذ هما جماد لا يعقل، ولذا عَبَّر بويل إشارة إلى استحقاقهم الوقوع في الهلاك، إذ لو تأمَّلوا بعقولهم ما عبدوا الجماد، "إن الله قد بعث رسولًا، وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به" مما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 استنقذكم به، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا. قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.   كنتم فيه، كما في الرواية، وضمير به يحتمل عوده لكتابًا؛ لأنه أقرب مذكور، ويحتمل للمذكور من الرسول والكتاب "وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا سول الله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به،" أي: طلبه منكم من الأحكام، "ونهاكم عنه" منها، لأنكم من جملة المكلفين، "فوالله ما أمسى في ذلك اليوم في حاضره،" أي: مكان إقامته "رجل، ولا امرأة إلا مسلمًا". "قال ابن عباس" راوي الحديث: "فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة" -رضي الله عنه، وتقدَّم قول عمر: ما رأيت أحسن مسألة، ولا أوجز من ضمام، وحسبه هذا الثناء من عمر، وابن عباس مع شهادة المصطفى له بالفقه، حيث قال: "فقه الرجل"، كما مَرَّ، ولم يذكروا تاريخ وفاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 الوفد السابع عشر: وفد طارق بن عبد الله وقومه وفد طارق بن عبد الله وقومه, روى البيهي عن جامع بن شداد قال: حدَّثني رجل يقال له طارق بن عبد الله قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز إذ أقبل رجل وهو يقول: أيها الناس, قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجَّع يتبعه فيرميه   "الوفد السابع عشر": "وفد طارق بن عبد الله" المحاربي، من محارب خصفة -بفتح المعجمة، والمهملة والفاء, صحابي، له حديثان، أو ثلاثة أحاديث. روى عنه أبو الشعثاء، وربعي بن حراش، وجامع بن شداد، كما في الإصابة. روى أصحاب السنن الأربعة والبخاري في كتاب خلق أفعال العباد، "وقومه" بني محارب، وأراد بالوفد هنا معناه اللغوي، وهو مجرّد القدوم لا الجماعة المختارة للتقدّم في لقاء العظماء؛ لأن هؤلاء إنما قدموا لأجل الميرة، فالمعنى هذا بيان قصة ورود طارق وقومه على النبي -صلى الله عليه وسلم. "روى البيهي عن جامع بن شداد" المحاربي، أبي صخرة الكوفي، ثقة، روى له الستة، مات سنة سبع، ويقال: سنة ثمان وعشرين ومائة. "قال: حدثني رجل يقال له: طارق بن عبد الله، قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز" كان للعرب على فرسخ من عرفة بناحية كبكب؛ "إذ أقبل رجل" زاد في راية الحاكم: عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 بالحجارة يقول: يا أيها الناس, إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت من هذا؟ فقالوا: هذا غلام من بني هاشم يزعم أنه رسول الله. قلت: من ذا الذي يفعل هذا؟ قالوا: عمه عبد العزّى. قال: فيما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها، فلمَّا دنونا من حيطانها ونخلها قلنا: لو نزلنا فلبسنا ثيابًا غير هذه، فإذا رجل في طمرين له فسلم, وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة، قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نمتار من تمرها، قال: ومعنا ظعينة   جبة له حمراء, فسمعته "وهو يقول: "أيها الناس, قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل يتبعه يرميه بالحجارة" زاد في رواية الحاكم: وقد أدمى كعبيه, "يقول: يا أيها الناس إنه كذاب، فلا تصدقوه" فجمع بين الأذى فعلًا وقولًا، ولو كان من أجنبي لربما كان أخفّ، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "ما أوذي أحد ما أوذيت"، وقال: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد"، "فقلت: من هذا؟ " الذي يأمر بالتوحيد، "فقالوا: هذا غلام" أي: رجل "من بني هاشم". وفي القاموس: الغلام الطار الشارب، أو من حين يولد إلى أن يشيب، والمراد الثاني، "يزعم أنه رسول الله" أي: يذكر، وعبَّروا بالزعم؛ لأنهم كانوا في شك من رسالته، وأكثر ما يستعمل فيما يشك فيه، وإن أطلق على الحق والباطل والكذب، وقد مَرَّ قريبًا، "قلت: من ذا الذي يفعل به هذا؟ " الأذى القولي والفعلي، "قالوا: عمه عبد العزى" أبو لهب، "قال: فلمَّا أسلم الناس، وهاجروا خرجنا من الربذة" بفتح الراء والموحدة والمعجمة. قال في المصباح: وزان قصبة، خرقة الصائغ يجلو بها الحلي، وبها سميت قرية كانت عامرة في صدر الإسلام، وبها قبر أبي ذر الغفاري وجماعة من الصحابة، وهي في وقتنا دارسة لا يعرف بها رسم، وهي عن المدينة في جهة المشرق على طريق حاجّ العراق، نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني جماعة من أهل المدينة، في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. انتهى. "نريد المدينة، نمتار من تمرها" أي: نحمل منه، ففيه تحر يدلان الامتياز، حمل الميرة -بالكسر، وهي هنا التمر، ويمكن بقاء نمتار على حقيقته؛ إذ الميرة له في القاموس: حب الطعام، فالمعنى يحمل حب الطعام التمر، فالتمر مبين للمراد من حب الطعام الذي يحملونه، "فيما دنونا" قربنا "من حيطانها ونخلها قلنا: لو نزلنا، فلبسنا ثيابًا غير هذه" لكان أحسن، فلو شرطية، حذف جوابها أو للتمني، فلا جواب لها، "فإذا رجل في طمرين له" بكسر الطاء- ثوبين خلقين، أو كساءين باليين من غير الصوف، "فسلّم، وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا: من الربذة، قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة، قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نمتار من تمرها، قال" طارق: "ومعنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: "أتبيعون جملكم هذا"؟ قالوا: نعم, بكذا وكذا صاعًا من تمر، فأخذ بخطام الجمل فانطلق، فلمَّا توارى عنَّا بحيطان المدينة ونخلها قلنا: ما صنعنا، والله ما بعنا جملنا ممن نعرف, ولا أخذنا له ثمنًا. قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلًا كأنَّ وجهه قطعة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم, وفي رواية ابن إسحاق: قالت الظعينة: فلا تلاوموا، لقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه؛ إذ أقبل رجل فقال: أنا رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، هذا تمركم, فكلوا واشبعوا واكتالوا   ظعينة لنا" امرأة في هودج سُمِّيَت بذلك، ولو كانت في بيتها؛ لأنها تصبر مظعونة، أي: يظعن بها زوجها، "ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: "أتبيعوني جملكم هذا"؟ قالوا: نعم, بكذا وكذا صاعًا من تمر، فأخذ بخطام" بكسر الخاء- مفرده خطم، مثل كتاب وكتب، أي: ما يقاد به "الجمل، فانطلق" به، "فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا" استفهام توبيخ لأنفسهم على تسليمهم الجمل لمن لا يعرفونه من غير قبض ثمنه، ويدل علي قول الظينة: فلا تلاوموا؛ لأن ضابط التوبيخي أن يكون ما بعد أداته واقعًا, وفاعله ملوم، أي: فعلنا ما لا ينبغي فعله، "والله ما بعنا جملنا ممن نعرف، ولا أخذنا له ثمنًا" فعرضناه للضياع، "قال" طارق: "تقول المرأة التي معنا" حين قلنا ذلك، وعَبَّر بالمضارع حكاية للحال الماضية: "والله لقد رأيت رجلًا كأنَّ وجهه قطعة القمر" وفي لفظ: شقة، فكان أحدهما بالمعنى، وهي بكسر الشين- القطعة "ليلة البدر", زائدة في البهاء ليلة أربعة عشر، وهو أحسن ما يكون القمر، وشبه به دون الشمس؛ لأن نوره أنفع من نورها، ولعلّ التقييد بالقطعة، مع أن البلغاء يشبهون الوجه بالقمر بلا تقييد أنه كان حينئذ متلثمًا، أو احترازًا عن السواد الذي في القمر، ويأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى في الصفة النبوية، وحسن الوجه دليل على الخير، فضلًا عن الأذى، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا الخير عند حسان الوجوه"، ولذا قالت: "أنا ضامنة لثمن جملكم" أن يأتيكم من هذا الحسن الوجه الذي اشتراه. "وفي رواية ابن إسحاق" عن طارق السيرة، رواية يونس عن ابن إسحاق، "قالت الظعينة: فلا تلاوموا" أي: لا يلم بعضكم بعضًا، "لقد رأيت وجه رجل لا يغدر" بكسر الدال "بكم، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه" ومَنْ هذه صفته لا يغدر؛ "إذ أقبل" رجل, جواب لمحذوف، أي: فبينا نحن نتكلم إذ أقبل "رجل" وفي رواية الحاكم: فما كان العشي أتانا رجل، "فقال: أنا رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، هذا تمركم" الذي بعتم به جملكم، وفيه تسمّح، فمقتضى السياق أنه أكثر مما جعلوه ثمنًا، فالمراد هذا تمر بعث به إليكم لتستوفوا منه، "فكلوا واشبعوا" لا مجرد أكل، "واكتالوا واستوفوا", فلا تتساهلوا في نظير أكلكم، "فأكلنا حتى شبعنا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا، واكتلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فلمَّا دخلنا المسجد إذا هو قائم على المنبر يخطب الناس, فأدركنا من خطبته وهو يقول: "تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى".   واكتلنا واستوفينا" كما أمرهم، "ثم دخلنا المدينة" من الغد، كما في رواية الحاكم، "فلمَّا دخلنا المسجد، إذا هو قائم على المنبر يخطب الناس" يحتمل أن ذلك وافق يوم جمعة، وأنه عرض له أمر اقتضى الوعظ، فصعد المنبر للوعظ عليه، "فأدركنا من" أي: بعض "خطبته، وهو يقول" جملة حالية، أي: والحال أنه يقول فيما أدركناه فيه: "تصدقوا، فإن الصدقة خير لكم"؛ لأنها بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء، ولأن فيها المواساة والسماحة، ومخالفة النفس المطبوعة على حب المال، وقال -صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر". وفي التنزيل: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، أي: المال، أو الله، "اليد العليا" وهي المنفقة، "خير من اليد السفلى" الآخذة، وقيل: العليا هي المنفقة، وقيل: السائلة، لكن ورد في رواية اليد العليا المنفقة من النفقة في رواية الأكثرين. قال القرطبي: فهذا نص يرفع الخلاف في التفسير، قال: ورواه بعضهم: المتعففة -بعين وفاءين، وقيل: إنه تصحيف. قال الحافظ: ومحصّل ما في الآثار؛ أنَّ أعلى الأيدي المنفقة، ثم المتعفِّفة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي السائلة والمانعة، وبقية الحديث عند مخرجه: "وابدأ بمن تعول" أمك وأباك، وأختك وأخاك، وادنَّاك أدناك، وثم رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله, هؤلاء بنو ثعلبة بن يربوع، قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع -صلى الله عليه وسلم- يده حتى رأيت بياض إبطيه، فقال: "لا تجني أم على ولد"، أخرجه الحاكم بطوله، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه النسائي وابن ماجه متختصرًا عن طارق؛ أن رجلًا، قال: يا رسول الله, هؤلاء بنو ثعلبة، الذين قتلوا فلانًا في الجاهلية، فخذ لنا بثأرنا، فرفع يده حتى رأيت بياض إبطيه، وهو يقول: "لا تجني أم على ولد مرتين". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 الوفد الثامن عشر: وفد تجيب وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد تجيب،   "الوفد الثامن عشر": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد تجيب" بضم الفوقية وفتحها وكسر الجيم وتحتية ساكنة، وموحدة. قال في التبصير: اختلف في أوَّله، فقيل: بالفتح، وقيل: بالضم، فسوَّى بينهما تبعًا لابن السيد، لكن القاموس قدَّم الضم، فقال: وتجيب -بالضم وتفتح- بطن من كندة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 وهم من السكون، من ثلاثة عشر رجلًا، قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ -عليه الصلاة والسلام- بهم وأكرم منزلهم، وأمر بلالًا أن يحسن ضيافتهم، ثم جاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودعونه, فأمر بلالًا فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود. قال: "هل بقي منكم أحد"؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنًّا، قال: "أرسلوه إلينا"، فلما أقبل الغلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا راغبين في الإسلام، والله ما أخرجني من بلادي لا إلا أن تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل   قال في النور: وعليه المحدثون، وكثير من الأدباء أ. هـ، ينسبون إلى جدتهم العليا تجيب, ابنة ثوبان بن سليم من مذحج، وهي أم أبذى بن عدي، قاله الواقدي، وأبذى -بفتح الألف والمعجمة، بينهما موحدة ساكنة مقصورة، "وهم من السكون" بفتح المهملة، وضم الكاف، وسكون الواو، ونون- بطن من كندة باليمن، "ثلاثة عشر رجلًا" لا أعرف أسماءهم، قاله في النور، "قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ" بضم السين "عليه الصلاة والسلام بهم، وأكرم منزلهم" وقالوا: يا رسول الله, سقنا إليك حقّ الله في أموالنا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ردوها فاقسموها على فقرائكم"، قالوا: ما قدمنا عليك إلّا بما فضل من فقرائنا، فقال أبو بكر، يا رسول الله, ما قدم علينا وفد من العرب مثل ما وفد به هذا الحي من تجيب، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الهدى بيد الله -عز وجل، فمن أراد به خيرًا شرح صدره للإيمان"، وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد فيهم رغبة، "وأمر بلالًا أن يحسن ضيافتهم،" فأقاموا أيامًا، ولم يطيلوا اللبث، فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكلامنا إياه وما رد علينا، "ثم جاءوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يودّعونه، فأمر بلالًا، فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود، قال", استئناف, والذي في العيون، فقال: "هل بقي منكم أحد"؟ قالوا: غلام خلَّفناه على رحالنا، وهو أحدثنا سنًّا، قال: أرسلوه إلينا،" فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله، فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه، وودَّعناه، "فلما أقبل الغلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم،" قال: أنا غلام من بني أبذى، أنا من الرهط الذين أتوك، فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي يا رسول الله، قال: "ما حاجتك"؟ "فقال:" جواب لما دخلته الفاء من تصرّف المصنف في الرواية، "يا رسول الله, إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا راغبين في الإسلام،" وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، "والله ما أخرجني" لفظه: ما أعملني، أي: ما حثَّني وساقني، فأتى المصنف بمعناه، "إلّا أن تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي" بالقصر. يساري "في قلبي", فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 غناي في قلبي، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفر له وارحمه, واجعل غناه في قلبه"، ثم أمر له بما أمر لرجل من أصحابه, ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم. ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِنَى سنة عشر، فقال: "ما فعل الغلام"؟ قالوا: يا رسول الله, ما رأينا مثله قط، ولا حدَّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أنَّ الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها.   من قنع بالكفاف استراح من طلب الزيادة، مع أنه ليس له إلّا ما قُدِّرَ له، وشهوات النفس لا تنقطع أبدًا، فهي دائمًا فقيرة لتراكم الشهوات عليها، فهي مفتونة بذلك، وتصل فتنتها إلى القلب فيفتتن، فيصم ويعمى عن الحق. وفي الحديث: "حبك الشيء يعمي ويصم"، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه" وهذا عبد أراد الله به الخير، فوافقه لسؤال ذلك من المصطفى, فقد قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل غناه في نفسه، وتقواه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شرًّا، جعل فقره بين عينيه". رواه الديلمي وغيره، "ثم أمر له بما"، أي: بمثل الذي "أمر" به "لرجل من أصحابه، ثم انطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِمِنَى سنة عشر" فقالوا: نحن بنو أبذى، "فقال" -صلى الله عليه وسلم: "ما فعل الغلام" الذي أتاني منكم؟ "قالوا: يا رسول الله" والله "ما رأينا مثله قط، ولا حدَّثنا بأقنع منه بما رزقه الله, لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها، ولا التفت إليها" فاستجاب الله دعاء نبيه، وبقية القصة: فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعًا"، فقال رجل منهم: أَوَلَيْس يموت الرجال جميعًا؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعلَّ أجله أن يدركه في بعض لك الأودية، فلا يبالي الله -عز وجل- في أيها هلك"، قالوا: فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلمَّا توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل الصديق يذكّره، ويسأل عنه، حتى بلغه حاله، وما قام به، فكتب إلى زياد بن الوليد يوصيه به خيرًا، ذكره اليعمري أ. هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 الوفد التاسع عشر: وفد بني سعد هذيم قدوم وفد بني سعد هذيم من قضاعة:   "الوفد التاسع عشر": "قدوم وفد بني سعد هذيم" بضم الهاء وفتح الذال المعجمة فتحتية فميم، وهو سعد بن زيد، لكن حضنه عبد أسود اسمه هذيم، فأضيف إليه، وهو أبو قبيلة "من قضاعة" شعب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 روى الواقدي عن ابن النعمان عن أبيه, من سعد هذيم قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافدًا في نفر من قومي، فنزلنا ناحية من المدينة, ثم خرجنا نؤمَّ المسجد الحرام، فقمنا ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونباعيه، ثم بايعنا -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام, ثم انصرفنا إلى رحالنا. وقد كنَّا خلفنا أصغرنا، فبعث -عليه السلام- في طلبنا, فأتي بنا إليه، فتقدَّم صاحبنا   من معد، وقيل: من اليمن. "روى الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي المدني، الحافظ، المتروك مع سعة علمه، "عن ابن النعمان، عن أبيه" قال في النور: لا أعرفهما أ. هـ. والنعمان صحابي، عجبت من صاحب الإصابة كيف لم يترجم له، مع أنَّ شأنه الاستيعاب لكل ما ورد، وإن ضعف إسناده، أو كان لا إسناد له، "من سعد هذيم، قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وافدًا في نفر من قومي" وقد أوطأ رسول الله البلاد غلبةً, وأذاخ العرب والناس صنفان، إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السيف، هذا أسقطه من رواية الواقد قبل قوله: "فنزلنا ناحية من المدينة", وأذاخ -بذال وخاء معجمتين: استولى، "ثم خرجنا نؤمّ" نقصد "المسجد الحرام" يعني: النبوي, مسجد المدينة؛ لأنه يطلق عليه الحرام أيضًا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "وإني حرَّمت المدينة"، أي: جعلتها حرمًا، والقرية صارفة عن إرادة حرم مكة، لكن لم يقع في رواية الواقدي عند اليعمري لفظ الحرام، فالأَوْلَى إسقاطه، "فقمنا ناحية" تصرف في رواية الواقدي بالحفظ، ولفظه: نؤمّ المسجد حتى انتيهنا إلى بابه، فنجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي على جنازة في المسجد، فقمنا خلفه ناحية، "ولم ندخل مع الناس في صلاتهم" على الجنازة، وقلنا: "حتى نلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونبايعه", ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- فنظر إلينا، فدعا بنا، فقال: "ممن أنتم"؟ فقلنا: من بني سعد هذيم، فقال: "أمسلمون أنتم"؟ قلنا: نعم، قال: "فهلّا صليتم على أخيكم"؟ قلنا: يا رسول الله, ظننَّا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، قال -صلى الله عليه وسلم: "أينما أسلمتم، فأنتم مسلمون"، قالوا: فأسلمنا وبايعنا, هذا أسقطه من خبر الواقدي؛ لأنه لم يتعلق غرضه به، واختصره بقوله: "ثم بايعنا -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام" قال في النور: ما حاصله. والظاهر أنه سهيل بن بيضًا، فلا أعلم أحدًا صلى عليه في مسجد غيره، وما في مسلم: أنه صلى على سهيل وأخيه في المسجد، ففيه أنه إن كان المراد به سهلًا بالتكبير، فلا يصح؛ لأنه مات بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، قاله الواقدي، وإن كان صفوان فكذلك؛ لأنه قُتِلَ ببدر أ. هـ، "ثم انصرفنا إلى رحالنا، وقد كنَّا خَلَّفْنَا أصغرنا" بشد اللام، ولم يعرف البرهان اسم أصغرهم، "فبعث -عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 فبايعه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله، إنه أصغرنا وخادمنا، فقال: "أصغر القوم خادمهم، بارك الله عليك"، قال: فكان والله خيرنا وأقرأنا بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أمَّره علينا، فكان يؤمّنا, فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام.   السلام- في طلبنا، فأُتِيَ" بالبناء للمجهول "بنا إليه،" وكأنه بعث يطلبهم، لأجل مبايعة أصغرهم له، وشرَّفه برؤيته، "فتقدَّم صاحبنا، فبايعه على الإسلام، فقلنا: يا رسول الله, إنه أصغرنا وخادمنا، فقال: "أصغر القوم خادمهم, بارك الله عليك"،" وفي اليعمري وغيره: عليه، وهي الموافقة لكون الخطاب معهم لا معه، ويحتمل أنه قصد خطابه؛ لأنه تقدَّم له وبايعه، فلا التفات فيه. "قال" النعمان راوي الحديث: "فكان والله خيرنا، وأقرأنا بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أمَّرَه علينا" بشد الميم- من التأمير، "فكان يؤُمُّنا،" قال: ولما أردنا الانصراف أمر بلالًا، فأجازنا بأواقي من فضة لكل رجلٍ منا، "فرجعنا إلى قومنا، فرزقهم الله الإسلام" كذا في نسخة، فرجعنا بالفاء، وهي التي في الرواية، وفي نسخة: مرجعنا -بالميم، أي: يؤمّنا زمن رجوعنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 الوفد العشرون: وفد بني فزارة وفد بني فزارة: قال أبو الربيع بن سليمان في كتاب الاكتفاء: ولما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك، قدم عليه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلًا, منهم خارجة بن حصن،   "الوفد العشرون": "وفد بني فزارة" بفتح الفاء والزاي فألف فراء فتاء تأنيث, قبيلة من قيس عيلان، ويحتمل أنه أراد بالوفد، القدوم, من إضافة المصدر إلى فاعله، وأنَّه بمعنى الجماعة المختارة للتقدُّم في لقاء العظماء، فتكون من إضافة الأعمّ إلى الأخص، وهذا أوفق بقوله بعد قدم عليه إلخ ... "قال" الإمام الحافظ البارع العالم، محدث الأندلس وبليغها "أبو الربيع" سليمان بن موسى "ابن سليمان،" ابن حسان الحميري، الكلاعي، البلنسي، المُعْتَنِي بالحديث أتمَّ عناية، فكان إمامًا في صناعته، بصيرًا به، عارفًا بالجرح والتعديل، ذاكرًا للمواليد والوفيات، مقدَّم أهل زمانه في ذلك، وفي حفظ أسماء الرجال، مع التبحُّر في الأدب، والاشتهار بالبلاغة، فردًا في الإنشاء، شجاعًا بطلًا، يباشر الحروب بنفسه، ويبلي فيها بلاءًَ حسنًا. ولد في مستَهَلِّ رمضان سنة خمس وستين وخمسمائة، واستُشْهِدَ ببلد العدو في العشرين من ذي الحجة، سنة أربع وثلاثين وستمائة "في كتاب الاكتفاء" بالمد, في مغازي رسول الله والثلاثة الخلفاء، أحد تصانيفه العديدة، "ولما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك" في رمضان سنة تسع، "قدم عليه وفد بني فزارة بضعة عشر رجلًا، منهم خارجة" بمعجمة فراء فجيم "ابن حصن" بكسر المهملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 والحر بن قيس، ابن أخي عيينة بن حصن، وهو أصغرهم، مقرِّين بالإسلام، وهم مسنتون، على ركاب عجاف، فسألهم -عليه الصلاة والسلام- عن بلادهم, فقال أحدهم: يا رسول الله، أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا،   الأُولَى وإسكان الثانية, ابن حذيفة بن بدر، أخو عيينة بن حصن، وهو والد أسماء بن خارجة، الذي كان بالكوفة. ذكر الواقدي: أنه ارتدَّ بعد المصطفى ومنع الصدقة ثم تاب، وقدم على أبي بكر, "والحر" بضم المهملة، وشد الراء "بن قيس" ابن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، "ابن أخي عيينة بن حصن" نرفع ابن صفة للحر المرفوع بالعطف، ذكره ابن السكن في الصحابة، وفي البخاري عن ابن عباس: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر الحديث. وفي الصحيحين: تمارى ابن عباس، والحر بن قيس في صاحب موسى، فمرَّ بهما أُبَيّ بن كعب.. الحديث. وقال مالك في العتبية: قدم عيينة بن حصن، فنزل عند ابن أخ له أعمى، فبات يصلي، فلما أصبح غدا إلى المسجد، فقال عيينة: ما رأيت قومًا أوجه لما وجهوهم له من قريش، كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني، ذكره في الإصابة، "وهو أصغرهم" فنزلوا في دار رملة بنت الحارث، وجاءوا المصطفى "مقرين بالإسلام وهم مسنتون" بضم الميم، وإسكان المهملة، وكسر النون، أي: مجدبون، ويروى: مشتون -بشين معجمة فتاء، أي: داخلون في الشتاء "على ركاب" إبل يسار عليها "عجاف" بكسر المهملة، وخفة الجيم: بالغين في الهزال النهاية، جمع أعجف على غير قياس، حملًا على نظيره، وهو ضعاف أو على ضده، وهو سمان، والقياس عجف، كأحمر وحمر، "فسألهم -عليه الصلاة والسلام- عن بلادهم،" عن أحوالها، "فقال أحدهم:" قال في النور: لا أعرفه. وفي الفتح: الظاهر أنه خارجة؛ لكونه كبير الوفد أ. هـ، ولا يلزم من كونه كبيرهم أن يكون هو القائل "يا رسول الله أسنتت" بهمزة مفتوحة، ومهملة ساكنة، وفوقية، أي: أجدبت "بلادنا" أصابتها السنة وهي الجدب، "وهلكت مواشينا" من عدم ما تأكله، "وأجدب" بدال مهملة "جنابنا" بفتح الجيم وخفة النون، فألف فموحدة: الفناء، وما قرب من محلة القوم، فعطفه بلا تاء على أسنت من عطف الجزء على الكل، إن أريد بجنابنا ما حول بيوتنا، ومباين أن أريد به ما يقرب من بلادهم، وعلى كلٍّ، فالغرض الزيادة في إظهار سبب هلاك المواشي، سيما على الوجه الثاني، وقراءته جناننا -بنونين، جمع جنة, تصحي، فأرض العرب لم يكن بها جنان "وغرث" بفتح المعجمة، وكسر الراء، ومثلثة: جاع "عيالنا" لقلة ما يأكلون، وفي نسخة: غرثت -بزيادة تاء، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك. فقال -صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله!! ويلك، هذا إنما شفعت عند ربي -عز وجل, فمن ذا الذي يشفع ربنا إلينا؟ لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، فهي تئط من عظمته وجلاله، كما يئط الرجل الجديد". وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله -عز وجل- ليضحك   وتركها أظهر، لأنَّ عيال الرجل من يعول، ولو ذكورًا، فهو مذكر، "فادع لنا ربك يغيثنا" بفتح أوله. من الغيث، أي: يمطرنا، وبضم أوله من الإغاثة، وهي الإجابة، "واشفع لنا إلى ربك" أي: توسَّل لنا إليه بما بينك وبينه من السر، يقال: شفعت في الأمر شفعًا وشفاعة, طالبته بوسيلة أو ذمام، "وليشفع لنا ربك إليك، فقال -صلى الله عليه وسلم" متعجبًا: "سبحان الله، ويلك" كلمة عذاب خاطبه بها زجرًا وتنفيرًا عن العود لمثلها، وإن عذر لقرب عهده بالإسلام، "هذا إنما شفعت" بفتح الفاء- من باب منع، كما في القاموس وغيره. قال في النور: وهو بديهي كالشمس، إلّا أني أخبرت أن بعض الأروام كسرها، وفي نسخة: أنا شفعت، وكذلك في العيون وغيرها، وهي أَوْلَى؛ لأن إنما للحصر، وإنما تستعمل للرد على معتقد الشركة أو القلب، وهؤلاء ليسوا كذلك, "عند ربي -عز وجل، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلي" فوق خلقه بالقهر "العظيم" الكبير، "وسع كرسيه السموات والأرض" قيل: أحاط علمه بهما، وقيل: ملكه، وقيل: الكرسي بعينه يشتمل عليهما لعظمته؛ لحديث: "ما السموات السبع في الكرسي إلّا كدراهم ألقيت في ترس"، ذكره السيوطي. وفي النور: الصواب: أنَّ الكرسي غير العلم، خلافًا لزاعمه ولزاعم أنه القدرة، وأنه موضع قدميه، وإنما هو المحيط بالسموات والأرض، وهو دون العرش، كما جاءت به الآثار، "فهي تئط" بفتح الفوقية، وكسر الهمزة، وشد الطاء المهملة: تصوَّت "من عظمته وجلاله"، "كما يئط الرجل" بالمهملة "الجديد" بالجيم. قال المصنف في المقصد التاسع: الأطيط صوت الأقتاب، يعني: إن الكرسي ليعجز عن حمله وعظمته؛ إذ كان معلومًا أن أطيط الرحل بالراكب، إنما يكون لقوّة ما فوقه وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة الله وجلاله، وإن لم يكن أطيط، وإنما هو كلام تقريبي أريد به تقرير عظمته -عز وجل أ. هـ. "وقال -عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الله -عز وجل- ليضحك" يدر رحمته، ويجزل مثوبته، فالمراد لازمه، أو الضحك فيهنّ وما أشبهه التجلي والظهور، حتى يرى بعين البصيرة في الدنيا والآخرة بعين البصر، يقال: ضحك الشيب إذا ظهر قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 "من شففكم وقرب غياثكم". فقال الأعرابي: يا رسول الله، ويضحك ربنا -عز وجل؟ فقال: "نعم". قال الأعرابي: لن نعدمك من رب يضحك خيرًا. فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله, وصعد المنبر فرفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه   لا تعجبي يا هند من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى "من شففكم" بفتح الشين المعجمة والفاء: اسم من الإشفاف، والمراد به: أقصى ما وجدوه من الضيق، كما في الشامي، ومقضتاه أنه بفاءين، ويفيده كلام القاموس والصحاح، كذا قال شيخنا هنا، وضبطه في المقصد التاسع بالفاء والقاف، فقال، أي: خوَّفكم، يقال: أشفقت من كذا حذرت، وفي الصحاح: أشفقت عليه، فأنا مشفق وشفيق، وإذا قلت: شفقة منه، فإنما تعني حذرته، وأصلهما واحد، ومثله في القاموس أ. هـ. وقد زاد في العيوان: وأزلكم -بفتح الهمزة، وإسكان الزاي، أي: ضيقكم، وهو يؤيد الثانية قاف لا فاء؛ لأن الأصل تباين العطف، "وقرب غياثكم" بضم القاف، وسكون الراء مخفوض عطفًا على شفقكم، والمعنى: إن الله يضحك من حصول الفرج لكم متصلًا بشدة الضيق، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- قبل صعود المنبر، والدعاء، فيكون علمه بالوحي، فبشرهم به، "فقال الأعرابي: يا رسول الله, ويضحك ربنا -عز وجل؟ فقال: "نعم"، قال الأعرابي: لن نعدمك" بفتح النون، وسكون العين، وفتح الدال، كما في الصحاح، والقاموس، والمختار، والمصباح: إنه من باب طرب، وبه ضبط الكرماني وغيره، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا نعدمك من صاحب المسك، إما تشتريه أو تجد ريحه"، فضبط الشامي -بكسر الدال- لا يعوَّل عليه على أنه كتب بهامش نسخته بخطه يحرر، فأفاد أنه كتبه على عجل، ليراجعه بعد "من رب يضحك خيرًا" أي: لا ننفي عنك خيرًا من رب يضحك، لما جرت له العادة, إنَّ العظيم إذا سُئِلَ شيئًا فضحك، أو نظر السائل نظرة جلوة حصل له ما يؤمله منه، "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله وصعد" بكسر العين مضارعة بفتحها "المنبر". زاد في الرواية: وتكلم بكلمات "فرفع يديه حتى ريء" براء مكسورة، فهمزة مفتوحة، ممدود، أو بضم الراء، وكسر الهمزة. "بياض إبطيه" وهو من خصائصه دون غيره. قال أبو نعيم: بياض إبطيه من علامات نبوَّته, وقد وقع في هذه الرواية، وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلّا رفع الاستسقاء، ومثله في الصحيحين من حديث أنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 وكان مما حفظ دعائه: "اللهم اسق بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا مربعًا طبقًا واسعًا عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضار، اللهمَّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق, اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء"، الحديث رواه ابن سعد والبيهقي، ويأتي تمامه   قال الحافظ: ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء، وتقدَّم أنها كثيرة، وأفردها البخاري بترجمة في كتاب الدعوات، وساق فيه عِدَّة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أَوْلَى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس، لأجل الجمع بحمله على نفي الرفع البالغ إلّا في الاستسقاء، يدل عليه قوله: حتى رِيء إلخ، ويؤيده أن غالب الأحاديث الواردة في رفع اليدين في الدعاء، المراد به مد اليدين، وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء, زاد: فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذاتاه، وبه حينئذ يرى بياض إبطيه، أو على صفة اليدين في ذلك، لما في مسلم عن أنس؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء، ولأبي داود عن أنس: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل طونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه. قال النووي: قال العلماء: السُّنَّة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء أ. هـ، وتعقب الحمل الثاني بأنه يقتضي أنه يفعل ذلك، وإن كان استسقاؤه للطلب، كما هنا، مع أنه نفسه ذكر أن ما كان لطلب شيء، كان ببطون الكفَّين إلى السماء، والظاهر أنَّ مستند هذا استقراء حاله -صلى الله عليه وسلم- في دعاء الاستسقاء وغيره، "وكان مما حُفِظَ" بالبناء للمفعول من "دعائه: "اللهم اسق" بوصل الهمزة، وقطعها ثلاث ورباعي، وكذا ما بعده "بلدك" أي: أهل بلدك "الميت، اللهم اسقنا غيثنا" مطرًا "مغيثًا" من هذه الشدة, "مربعًا" بضم الميم، وإسكان الراء، وكسر الموحدة، وعين مهملة، أو بفوقية بدل الموحدة, من رتعت الدابة إذا أكلت ما شاءت، أو بفتح الميم، وكسر الراء، وسكون التحتية، ومهملة, من المراعة، وهي الخصب, "طبقًا" بفتح المهملة والموحدة وقاف، أي: مستوعبًا للأرض منطبقًا عليها "واسعًا" كالتأكيد طبقًا، "عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضار" بزرع، ولا مسكن، ولا حيوان وآدمي، أو بهيمة, "اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء"، الحديث. "رواه ابن سعد والبيهقي" في الدلائل، "ويأتي تمامه"، وهو: فقام أبو لبابة بن عبد المنذر، فقال: يا رسول الله, إن التمر في المربد ثلاث مرات، فقال -عليه السلام: "اللهم اسقنا حتى يقوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 إن شاء الله تعالى في الاستسقاء في مقصد عباداته -عليه الصلاة والسلام.   أبو لبابة عريانًا يسد ثعلب مربده بإزار"، قال: فلا والله ما في السماء من قزعة، ولا سحاب" وما بين المسجد وسلع من بناء، ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلمَّا توسَّطت السماء انتشرت وهم ينظرون، ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس سبتًا، وقام أبو لبابة عريانًا بسد ثعلب مربده بإزاره لئلَّا يخرج التمر منه، فقال الرجل -يعني الذي سأله أن يستسقى لهم: يا رسول الله, هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فصعد المنبر فدعا، ورفع يديه حتى رأى بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر"، فانجابت السحابة على المدينة، كانجياب الثوب هذا آخر الآتي، "إن شاء الله تعالى في الاستسقاء من مقصد عباداته -عليه الصلاة والسلام" وهو التاسع، وفيه ثَمَّ فوائد جليلة، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 الوفد الحادي والعشرين: وفد بني أسد ... الوفد الحادي والعشرون: وفد بني أسد وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني أسد، عشرة رهط فيهم وابصة بن معبد، وطليحة بن خويلد،   "الوفد الحادي والعشرون": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني أسد" بفتح الهمزة والسين- ابن خزيمة, في سنة تسع "عشرة رهبط فيهم وابصة بن معبد" بن عتبة بن الحارث بن مالك بن الحارث بن مالك بن قيس بن كعب بن سعد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي. وقال أبو حاتم: هو وابصة بن عبيدة, ومعبد لقب أبو سالم، ويقال: أبو الشعثاء، ويقال: أبو سعد، وفد سنة تسع، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وابن مسعود وأم قيس وغيرهم، وعنه ابناه سالم وعمرو، وغيرهما, نزل الجزيرة فروى أبو علي الحراني عن أبي عبد الله الرقي، وكان من أعوان عمر بن عبد العزيز، أنه بعث معه بمال، وكتب إلى وابصة أن يبعث معه من يكف الناس عنه، وقال لي: لا تفرقه إلّا على نهر جار، فإني أخاف أن يعطشوا، قال أبو علي: وما أظن هذا إلا وهمًا؛ لأن وابصة ما عاش إلى خلافة عمر بن عبد العزيز، وهو كما ظنَّ، ولعلَّه كان في الأصل إلى ابن وابصة, قاله في الإصابة، وفي تقريبه وابصة -بكسر الموحدة ثم مهملة- ابن عتبة الأسدي، صحابي, نزل الجزيرة، وعاش إلى قرب سنة تسعين. روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، "وطليحة بن خويلد" بتصغيرها- ابن نوفل بن نضلة الأسدي وَفَدَ وأسلم، ثم ارتدَّ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وادَّعى النبوّة، فأمر أبو بكر خالد بن الوليد، وأمره أن يصير في ضاحية مضر، فيقاتل من ارتدَّ، ثم يسير إلى اليمامة، فسار فقاتل طليحة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس مع أصحابه، فقال متكلمهم: يا رسول الله, إنا شهدنا أن الله وحده لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك ولم تبعث إلينا بعثًا. فأنزل الله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] .   فهزمه وهرب إلى الشام، ثم أسلم إسلامًا صحيحًا، ولم يغمض عليه بعد إسلامه، وأحرم بالحج، فرآه عمر، فقال: لا أحبك بعد قتل الرجلين الصالحين عكاشة بن محصن، وثابت بن أقرم، وكانا طليعتين لخالد، فلقيهما طليحة فقتلهما، فقال طليحة: هما رجلان أكرمهما الله بيدي، ولم يهنِّي بأيديهما يا أمير المؤمنين، فمعاشرة جميلة، فإن الناس يتعاشرون مع البغضاء، وشهد القادسية ونهاوند مع المسلمين، وذكروا له مواقف عظيمة في الفتوح، ويقال: إنه استُشْهِدَ بنهاوند سنة إحدى وعشرين، ووقع في الأم للشافعي أن عمر قتل طليحة وعيينة، وراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني فاستغربه جدًّا، ولعله قبل -بالباء الموحدة- أي: قَبِلَ منهما الإسلام، قاله في الإصابة ملخصًا، واقتصر المصنف على تسمية هذين الاثنين من العشرة، تبعًا لما في بعض الروايات، وزاد ابن سعد: ضرار بن الأزور، وحضرمي ابن عامر، وقتادة بن القائف، وسلمة بن حبيش، ومعاذ بن عبد الله بن خلف، فجملة من سمي سبعة، ولم يسم الثلاثة الباقية، فقصَّر البرهان تقصيرًا شديدًا في قوله: ما عرفت منهم إلّا وابصة وطليحة، وفي الإصابة: أبو مكعت -بضم فسكون فمهملة مكسورة ثم مثناة فوقية- الأسدي, اسمه: عرفطة ابن نضلة، وقيل: الحارث بن ثعلبة, وفد في قومه بني أسد، فلمَّا وقف بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول أبو مكعت صادقًا ... عليك السلام أبا القاسم سلام الإله وريحانه ... وروح المصلين والصائم فقال عليه السلام: "يا أبا مكعت, عليك السلام تحية الموتى" أ. هـ باختصار، فهذا ثامن، "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس" في المسجد، كما في الرواية، فكأنه أسقطه للعلم به "مع أصحابه، فقال" لفظ ابن سعد: فسلَّموا، وقال "متكلمهم" -قال في النور: لا أعرفه: "يا رسول الله، إنا شهدنا أن الله وحده" حال وخبر أن "لا شريك له، وأنك عبده ورسوله، وجئناك" لفظ الرواية. وقال حضرمي ابن عامر، أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء، أي: نجعل الليل الشديد الظلمة درعًا لنا في سنة جدباء، لا مطر فيها من الشبهة البياض، "ولم تبعث إلينا بعثًا". زاد ابن سعد: ونحن لمن وراءنا سلم، "فأنزل الله تعالى {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ} , أي: بأن {أَسْلَمُوا} من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال، {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} منصوب بنزع الخافض، وهو الباء، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 ................................   صَادِقِينَ} في قولكم: آمنَّا، وهذا أسنده ابن سعد من مرسل محمد بن كعب الكرظي، وله شواهد، وسألوه -صلى الله عليه وسلم- عن العيافة والكهانة وضرب الحصى، فنهاهم عن ذلك كله, العيافة -بعين مهملة مكسورة فتحتية ففاء- الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، والكهانة: تعاطي خبر الكائنات في المستقبل، فقالوا: بقيت خصلة هي الخط، قال -صلى الله عليه وسلم: "الخط علمه نبي من الأنبياء، فمن صادف مثل علمه علم". قال ابن قرقول: الخط خط الرمل، ومعرفة ما يدل عليه. قال البرهان: هذا النبي لا أعرف اسمه، والشامي في حفظي أنه إدريس، ولا أعلم من ذكره أ. هـ، وفي مسلم, فمن وافق فذاك، ومعناه على الصحيح: من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة, فلا يباح، فالقصد أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بتيقن الموافقة، ولا سبيل إليها، وإنما قال فذاك، ولم يقل: هو حرام بلا تعليق على الموافقة، لئلّا يتوهم دخول ذلك النبي في النهي. وقال عياض: المختار: إن معناه من وافق خطه، فذاك الذي يجدون إصابته فيما يقول، لا أنه يباح لفاعله، قال: ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا، فحصل من مجموع كلام العلماء الاتفاق على النهي عنه الآن، كذا في النور، وفي الشامية: ضرب الرمل حرام, صرَّح به غير واحد من الشافعية والحنابلة وغيرهم أ. هـ، وكذا ابن رشد من المالكية، ومقتضى كلام المازري: إنه إذا اعتقد أن الله أجرى عادته بدلالته على ما يدل عليه، من غير أن يكون للخط تأثير في ذلك، فلا يكون حرامًا، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 الوفد الثاني والعشرون: وفد بهراء وقدم عليه -صلوات الله وسلامه عليه- وفد بهراء من اليمن، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا، فلمَّا انتهوا إلى باب المقداد رحَّب بهم، وقدّم لهم جفنة من حيس،   "الوفد الثاني والعشرون": "وقدم عليه صلوات الله وسلامه عليه وفد بهراء" بفتح الموحدة، وإسكان الهاء، وبالراء ممدود- قبيلة من قضاعة، والنسبة إليها بهراني على غير قياس، وقياسه بهراوي بالواو، وذكر الواقدي عن كريمة بنت المقداد، قال: سمعت أمي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب تقول: قدم وفد بهراء "من اليمن، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا" فأقبلوا يقودون رواحلهم، "فلما انتهوا إلى باب المقداد" بن الأسود، ونحن في منازلنا ببني حديلة -بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وتحتية- بطن من الأنصار، خرج إليهم المقداد فـ "رحَّب بهم، وقدَّم لهم جفنة" بفتح الجيم- قصعة "من حيس" بفتح المهملة، وإسكان التحتية، ومهملة, تمر يعجن بسمن وأقط, قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 فأكلوا منها حتى نهلوا, وردَّت القصعة وفيها شيء، فجمع في قصة صغيرة فأرسل بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت أم سلمة، فأصاب منها هو ومن معه في البيت حتى نهلوا، ثم أكل منها الضيف ما أقاموا، يرددون ذلك عليهم وما تغيض، حتى جعلوا يقولون: يا أبا معبد، إنك لتنهلنا من أحبّ الطعام إلينا، وما كنا نقدر على مثل هذا إلّا في الحين، فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أكل منها وردَّها، فإن هذه بركة أصابعه -عليه الصلاة والسلام، فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينًا، وتعلَّموا الفرائض, وأقاموا أيامًا، ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأمر لهم بجوائز وانصرفوا إلى أهليهم.   والتمر والسمن جميعًا والأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط قالت ضباعة: كنا قد هيأناها قبل أن يحلوا، لنجلس عليها، فحملها أبو معبد المقداد، وكان كريمًا على الطعام، "فأكلوا منها حتى نهلوا" بفتح النون وكسر الهاء، وأصله الشرب, الأول أطلق على الأكل مجازًا علاقته أن الشرب لازم للأكل غالبًا، "وردَّت" البناء للمفعول "القصعة" بالفتح، ولا تكسر، "وفيها شيء، فجمع في قصعة صغيرة، فأرسل بها" لفظ الرواية عن ضباعة، فجمعنا ذلك في قصعة صغيرة، ثم بعثنا بها مع سدرة مولاتي "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فوجدته "في بيت أم سلمة" فقال -صلى الله عليه وسلم: "ضباعة أرسلت بهذا"؟ قالت سدرة: نعم يا رسول الله، قال: "ضعي" , ثم قال: "ما فعل ضيف أبي معبد"؟ قلت: عندنا، "فأصاب منها هو ومن معه في البيت حتى نهلوا" وأكلت معهم سدرة، "ثم" قال: "اذهبي بما بقي إلى ضيفكم"، فرجعت بها، فـ "ـأكل منها الضيف ما أقاموا" مدة إقامتهم، وجمع مع أن الضيف مفردًا للفظ؛ لأن المراد هنا الثلاثة عشر "يرددون ذلك عليهم وما تغيض" بفتح الفوقية، وكسر المعجمة، ثم تحتية، فمعجمة، أي: تنقص، "حتى جعلوا يقولون: يا أبا معبد, إنك لتنهلنا" بضم أوله، وكسر الهاء- لتشبعنا حتى نحتاج إلى النهل الشرب الأول، "من أحب الطعام إلينا، وما كنَّا نقدر على مثل هذا إلا في الحين" أي: نادر من الزمن، وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام، إنما هو العلق، أو نحوه، ونحن عندك في الشبع، "فأخبرهم أبو معبد" كنية المداد بن الأسود من السابقين، شهد بدرًا، ولم يثبت أنه شهدها فارس غيره "بخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أنه أكل منها وردَّها، فإن هذه بركة أصابعه -عليه الصلاة والسلام، فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله، وازدادوا يقينًا" وذلك الذي أراد -صلى الله عليه وسلم، فأتوه فأسلموا، أي: أظهروه عنده بالنطق بالشهادتين، "وتعلَّموا الفرائض، وأقاموا أيامًا" لم يبين عدتها، "ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بجوائز" لم يبيِّن أيضًا قدرها، "وانصرفوا إلى أهليهم" باليمن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 الوفد الثالث والعشرون: وفد عذرة وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد عذرة، في صفر سنة تسع، وكانوا اثني عشر رجلًا، منهم جمرة بن النعمان، فرحَّب بهم -صلى الله عليه وسلم، فأسلموا وبشَّرَهم بفتح الشام, وهرب هرقل إلى ممتنع من بلاده،   "الوفد الثالث والعشرون": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد عذرة" بمهملة مضمومة، ومعجمة ساكنة، فراء مفتوحة، فتاء تأنيث- قبيلة باليمن من قضاعة. روى الواقدي: إنهم وفدوا "في صفر سنة تسع، وكانوا اثني عشر رجلًا، منهم جمرة بن النعمان", وسعد وسليم ابنا مالك، هكذا نقله في الإصابة عن الواقدي، فقصر البرهان في قوله: لا أعرف منهم إلا جمرة بن النعمان بن هوذة بن مالك بن سمعان العذري. قال الكلبي: هو أوّل من قدم بصدقة قومه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال الطبري: هو سيد بني عذرة، ووفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقة قومه، فأقطعه -صلى الله عليه وسلم- حصر قوسه ورمية سوطه من وادي القرى، فنزلها إلى أن مات، ذكره ابن شاهين، لكنه أخرجه في الحاء المهملة، وكذا ابن بشكوال، فوهِمَا فيه، فقد ضبطه الدارقطني بالجيم والراء. وقال الواقدي: حدثنا شعيب بن ميمون، عن أبي مرانة البلوي: سمع جمرة بن النعمان العذري، وكانت له صحبة, يقول: أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدفن الشعر والدم، أخرجه الدارقطني من طريقه انتهى، "فرحَّب بهم -عليه الصلاة والسلام" أي: قال لهم: "مرحبًا بكم وأهلًا"، أي: لقيتم رحبًا وسعة فاستأنسوا، ولفظ الرواية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "من القوم"؟ فقال متكلمهم: من لا تنكر, نحن بنو عذرة إخوة قصي لأمه، نحن الذين عضدوا قصيًّا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، ولنا قرابات وأرحام. قال -صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بكم وأهلًا، ما أعرفني بكم، فما يمنعكم من تحية الإسلام"، قالوا: كنا على ما كان عليه آباؤنا، وجئنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا، فإلام تدعو؟ قال: "إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة"، فقال متكلمهم: فما وراء ذلك من الفرائض، فأخبرهم بجميعها، فقالوا: الله أكبر, نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه، ونحن أعوانك وأنصارك يا رسول الله، إن متجرنا الشام، وبه هرقل، فهل أوحي إليك في أمره بشيء؟ قال: "أبشروا، فإن الشام ستفتح عليكم، ويهرب هرقل إلى ممتنع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 ثم انصرفوا وقد أجيزوا.   بلاده"، واختصر المصنف هذا، فقال: "فأسلموا، وبشَّرهم بفتح الشام وهرب" بالجر، أي: وبشرهم بهرب "هرقل إلى ممتنع بلاده" ونهاهم عن سؤال الكاهنة، وعن الذبائح التي كانوا يذبحونها، وأخبرهم أن ليس عليهم إلا الأضحية، فأقاموا أيامًا بدار رملة، أي: بنت الحارث النجارية، كانت دارها تنزل فيها الوفد، "ثم انصرفوا وقد أجيزوا" أعطاهم الجائزة، وهي العطية، والتحفة، واللطف، كما في القاموس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 الوفد الرابع والعشرون: وفد بلي وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بلي، فأسلموا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار" , ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجازهم.   "الوفد الرابع والعشرون": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بلي" بفتح الموحدة، وكسر اللام، وشد الياء، والنسبة إليها بلوي -بفتحتين, نسبة إلى بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، ذكر الواقدي عن رويفع بن ثابت البلوي، قال: قدم وفد قومي في شهر ربيع الأول سنة تسع، فأنزلتهم عليَّ, وقدمت بهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقلت: هؤلاء قومي، فقال: "مرحبًا بك وبقومك"، "فأسلموا، فقال" لهم "صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار"، " وبقية حديث رويفع عند الواقدي. وقال له أبو الضبيب شيخ الوفد: يا رسول الله, إن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: "نعم، وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقة"، قال: يا رسول الله, ما وقت الضيافة؟ قال: "ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فصدقة، ولا يحلّ للضيف أن يقيم عندك فيحرجك". قال: يا رسول الله, أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض؟ قال: "لك ولأخيك، أو للذئب"، قال: فالبعير؟ قال: "ما لك وله، دعه حتى يجده صاحبه"، قال رويفع: ثم قاموا، فرجعوا إلى منزلي، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي منزلي يحمل تمرًا، فقال: "استعن بهذا التمر"، فكانوا يأكلون منه، ومن غيره فأقاموا ثلاثًا، "ثم ودَّعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أجازهم" ورجعوا إلى بلادهم, وأبو الضبيب -بمعجمة مضمومة- بلفظ تصغير ضب، ويقال فيه أيضًا: أبو الضبيس -بسين مهملة آخره بدل الموحدة. ذكره محمد بن الربيع الجيزي فيمن دخل مصر من الصحابة، كما في الإصابة ذاكرًا بعض حديث رويفع عازيًا للواقدي، وبالسين، ذكره الذهبي، فقال في التجريد: أبو ضبيس البلوي له صحبة، فقصر البرهان في قوله: لم أقع لأبي الضبيس على ترجمة، ولا رأيت أحدًا ذكره في الصحابة، إلّا ما هنا فليتبع. انتهى. وعذره أنه إنما رآه بسين آخره في تجريد الصحابة، وهنا رآه بموحدة، فظنَّه غيره، مع أنه هو، كما أفاده في الإصابة، ويحرجك من الحرج، أي: يضيق صدرك، وقيل: يؤثمك، أي: يعرضك للإثم، حتى تتكلم فيه بما لا يجوز، فتأثم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 الوفد الخامس والعشرون: وفد بني مرة وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني مرة وكانوا ثلاثة عشر رجلًا، ورئيسهم: الحارث بن عوف، فقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "كيف البلاد"؟ فقالوا: والله إنا لمسنتون، فادع الله لنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقهم الغيث" , ثم أقاموا أيامًا ورجعوا بالجائزة, فوجدوا بلادهم قد أمطرت في ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   "الوفد الخامس والعشرون": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد بني مرة" بضم الميم وشد الراء فتاء تأنيث- ابن كعب بن لؤي. قال الواقدي: حدَّثني عبد الرحيم بن إبراهيم المدني، عن أشياخه، قالوا: قدم وفد بني مرة، منصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من تبوك سنة تسع، "وكانوا ثلاثة عشر رجلًا" فنزلوا في دار بنت الحارث، ثم جاءوا إلى النبي -عليه السلام، "ورئيسهم الحارث بن عوف،" أي: بمهملة، فواو، ففاء- المري -بالراء- من فرسان الجاهلية المشهوريين, أسلم وعليه شيء من دمائها، فأهدره النبي -صلى الله عليه وسلم، وعند الواقدي، فقال -أي الحارث: يا رسول الله, إنا قومك وعشيرتك, إنا من لؤي بن غالب، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال له: "أين تركت أهلك"؟ قال: بسلاح -بكسر المهملة، ولام، وألف، ومهملة، وما والاها، "فقال لهم -عليه الصلاة والسلام: "كيف البلاد"؟ " أي: كيف أهلها، أو حالها، والأول أنسب بقوله، "فقالوا: والله إنا لمسنتون", أي: مجدبون، فأسنده لأهل البلاد، وإلّا لقال: إنها مسنتة، زاد في الرواية: وما في المال مخ، أي: المواشي, كنَّى بالمخ عن شدة هزالها، "فادع الله لنا، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقهم الغيث" المطر، "ثم أقاموا أيامًا" فأرادوا الانصراف إلى بلادهم، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- مودِّعين له، فأمر بلالًا، فأجاز كل واحد بعشرة أواق فضة، وفضَّل الحارث فأعطاه اثنتي عشرة أوقية، "ورجعوا بالجائزة، فوجدوا بلادهم قد أمطرت" بالبناء للمفعول، أي: أمطرها الله "في ذلك اليوم، الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وأخصبت بعد ذلك بلادهم، وقدم على المصطفى وهو يتجهز لحجة الوداع قادم منهم، فقال: يا رسول الله, رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مصبوبة مطرًا في ذلك اليوم الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 ....................................   دعوت لنا فيه، ووصف كثرة الخصب، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هو صنع ذلك". وذكر الزبير بن بكار، وابن عساكر: إن الحارث بن عوف أتى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: ابعث معي من يدعو إلى دينك، وأنا له جار، فبعث معه رجلًا أنصاريًّا، فغدا به عشيرة الحارث فقتلوه، فقال حسان: يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمدًا لا يغدر وأماته المري حيث لقيته ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر إن تغدروا فالغدر منكم عادة ... والغدر ينبت في أصول السحبر فاعتذر وودي الأنصاري، وقال: يا محمد, إني عائذ بك من لسان حسان، لو أن هذا مزج بماء البحر لمزجه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 الوفد السادس والعشرون: وفد خولان وقدم عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- وفد خولان، في شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة، فقالوا: يا رسول الله، نحن مؤمنون بالله مصدّقون برسلوه، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنّة لله ولرسوله، وقدمنا زائرين لك, فقال -عليه الصلاة والسلام: "أمَّا ما ذكرتم من مسيركم إلي فإنَّ لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة" , ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "ما فعل صنم   "الوفد السادس والعشرون": "وقدم عليه -زاده الله شرفًا وكرمًا لديه- وفد خولان" بفتح المعجمة، وسكون الواو, وابن عمر أبو قبيلة باليمن "في شعبان سنة عشر، وكانوا عشرة" قال في النور: لا أعرف منهم أحدًا، "فقالوا: يا رسول الله، نحن" على من وراءنا من قومنا، ونحن "مؤمنون بالله، مصدقون برسوله،" أي: برسالته، والمراد بكونهم على من وراءهم؛ أنهم أمناء على المؤمنين بطلب العهد له، وكافلون بطلب إيمان من لم يكن آمن، "وقد ضربنا إليك آباط الإبل" جمع إبط، أي: تحملنا مشقة السير مع طول المسافة، "وركبنا حزون الأرض" بضم المهملة والزاي, جمع حزن -بفتح فسكون- ما غلظ من الأرض، "وسهولها" جمع سهل: ما لان منها، "والمنَّة لله ولرسوله، وقدمنا زائرين لك، فقال -عليه الصلاة والسلام: "أما ما ذكرتم من مسيركم إليَّ، فإن لكم بكل خطوة" -بفتح الخاء مرة واحدة "خطاها بعير أحدكم حسنة" وبضم الخاء: ما بين القدمين"، والأنسب الأوّل؛ إذ الثواب إنما هو على الفعل، وسير بعيرهم منسوب لهم، فأثيبوا عليه، "وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة" بضم الجيم وكسرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 خولان الذي كانوا يعبدونه"؟ قالوا: بدَّلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزًا وشيخًا كبيرًا يتمسكان به، وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى. ثم علَّمهم -عليه الصلاة والسلام- فرائض الدين، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، وأن لا يظلموا أحدًا، ثم أجازهم ورجعوا إلى قومهم، وهدموا الصنم.   زمامي وعهدي وتأميني، فأجابوه -رضي الله عنهم، فقالوا: يا رسول الله هذا السفر الذي لا توى عليه. بفتح الفوقية والواو والقصر، أي: لا هلاك، "ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "ما فعل" عم أنس، وهو "صنم خولان الذي كانوا يعبدونه"،" أي: ما أصابه، أهو باقٍ على حاله؟ أم لا؟ فنسبة الفعل إليه تجوز، ويدل عليه جوابهم، حيث "قالوا:" بشر "بدلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزًا وشيخًا كبيرًا، يتمسكان به،" ظاهره أنهما واحد وواحدة، وليس بمراد لفظ الرواية، كما في العيون، وقد بقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير، وعجوز كبيرة متمسكون به، فالمراد الجنس الصادق بالمتعدد، فكأنه قال بقيت شيوخ وعجائز متمسكون به، "وإن قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى،" فقد كَّا منه في غرور وفتنة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "وما أعظم ما رأيتم من فتنته"، قالوا: لقد أسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه واتبعنا مائة ثور، ونحرناها له قربانًا في غداة واحدة، وتركناها تردها السباع، ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يواري الرجل، فيقول قائلنا: أنعم علينا عم أنس، وذكروا له ما كانوا يقسمون لصنمهم من أنعامهم وحروثهم، وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءًا له، وجزء لله بزعمهم، فكانوا يزرعون الزرع، فيجعلون له وسطه، ويسمَّى زرعًا آخر حجره لله، فإذا مالت الريح بالذي له، جعلناه للصنم، وبالذي له لم نجعله لله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله، قد أنزل عليّ في ذلك {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] الآية "، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فنكلم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تلك الشياطين تكلمكم"، "ثم علَّمهم -عليه الصلاة والسلام- فرائض الدين" لما سألوه عنها، أي: المسائل العامة الحصول، كالصلاة والزكاة والصوم، وما يحتاجون إليه، مما يكثر وقوعه، فهو مغاير لقوله: "وأمهرم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار" بكسر الجيم فقط، أي: الملازمة، كما في النور، أي: التزام الوفاء بالعهد وحفظه. ففي القاموس: الجوار بالكسر أن تعطي الرجل ذمة يكون بها جارك، "وأن لا يظلموا أحدًا" قال: فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، "ثم" ودعوه بعد أيام، "و"أجازهم" باثنتي عشرة أوقية ونش، "ورجعوا إلى قومهم، وهدموا الصنم،" قبل أن يفعلوا شيئًا، ثم حرموا ما حرم عليهم المصطفي، وأحلوا ما أحل لهم، أي أظهروا ذلك فيما بينهم وعملوا به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 الوفد السايع والعشرون: وفد محارب ... الوفد السابع والعشرون: وفد محارب وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد محارب عام حجة الوداع، وكانوا أغلظ العرب وأفظهم عليه أيام عرضه على القبائل يدعوهم إلى الله، فجاءه -عليه الصلاة والسلام- منهم عشرة فأسلموا، ثم انصرفوا إلى أهليهم.   "الوفد السابع والعشرون": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد محارب" بضم الميم ومهملة وراء مكسورة وموحدة- ابن سعد بن قيس عيلان -بمهملة مفتوحة، وتحتية ساكنة, "عام حجة الوداع" سنة عشر، "وكانوا أغلظ" أسوأ "العرب" خلقًا"، "وأفظهم" أشدهم جفاء "عليه" بمعجمة فيهما, "أيام عرضه على القبائل، يدعوهم إلى الله" قبل الهجرة، "فجاءه -عليه الصلاة والسلام- منهم عشرة" لم يسمعهم نائبين عن قومهم، "فأسلموا،" وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، إلى أن جلسوا معه -صلى الله عليه وسلم- يومًا من الظهر إلى العصر، فعرف رجلًا، فأمده النظر، فقال المحاربي: كأنك يا رسول الله توهمني، قال: "لقد رأيتك"، فقال: أي: والله لقد رأيتني وكلمتني وكلمتك بأقبح الكلام، وأقبح الرد بعكاظ، وأنت تطوف على الناس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فقال: يا رسول الله, ما كان في أصحابي أشد عليك يومئذ، ولا أبعد عن الإسلام مني، فأحمد الله الذي أبقاني حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن هذه القلوب بيد الله -عز وجل"، فقال: يا رسول الله, استغفر لي من مراجعتي إياك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله من الكفر"، "ثم انصرفوا إلى أهليهم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 الوفد الثامن والعشرون: وفد صداء وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد صداء في سنة ثمان، وذلك أنه لما انصرف من الجعرانة بعث قيس بن سعد بن عبادة في أربعمائة، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن فيها صداء، فقدم رجل منهم علم   "الوفد الثامن والعشرون": "وقدم عليه -عليه الصلاة والسلام- وفد صداء" بضم الصاد والدال المهملتين- حي من اليمن، قاله البخاري وغيره، يقال: إن أبا هذا الحي صداء بن حرب بن علة، "في سنة ثمان، وذلك" أي: سبب قدومهم، وهذا أَوْلَى من تقدير بيان؛ لأن مجيء الوفد لأجل البعث، "أنه لما انصرف من الجعرانة" لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، "بعث" كما قال ابن سعد بعوثًا إلى اليمن، فبعث المهاجر بن أمية إلى صنعاء، وزياد بن لبيد إلى حضرموت، وهيأ بعثًا استعمل عليهم "قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي، الصحابي ابن الصحابي -رضي الله عنهما، وعقد له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 بالبعث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله, أردد الجيش، وأنا لك بقومي، فرد قيسًا. ورجع الصدائي إلى قومه فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلًا منهم، فبايعوه على الإسلام ورجعوا إلى قومهم, ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم مائة رجل في حجة الوداع. ذكره الواقدي وذكر من حديث زياد بن الحرث الصدائي: إنه الذي قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: اردد الجيش، وقال: وكان زياد هذا معه في بعض أسفاره, وأنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "يا أخا صداء, هل معك ماء"؟ قلت: معي شيء في إداوتي، فقال: "صبه"، فصببته في قعب ثم وضع عليه   لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وعكسر بناحية قناة "في أربعمائة" فارس من المسلمين، "وأمره أن يطأ ناحية من اليمن فيها صداء، فقدم رجل منهم" هو زياد بن الحارث، كما يأتي، "علم بالبعث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله, اردد الجيش، وأنا" أتكفَّل "لك بقومي" أي: بإسلامهم. ففي رواية عن زياد: جئتك وافدًا على من ورائي، وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم، فقال: "اذهب فردهم"، فقلت: إن راحلتي قد قلَّت, فبعث رجلًا، "فردَّ قيسًا" ومن معه من صدر قناة، "ورجع الصدائي إلى قومه" ومع كتاب من المصطفى، "فقدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر رجلًا منهم" فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله, دعهم ينزلون عليَّ، فنزلوا عليه، فحيَّاهم وأكرمهم، وكساهم، ثم راح بهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، "فبايعوه على الإسلام" وقالوا: نحن لك على من وراءنا من قومنا، فقال -صلى اله عليه وسلم- لزياد: "يا أخا صداء, إنك امرؤ مطاع في قومك"، فقلت: بل الله هداهم للإسلام. وفي رواية قلت: بل من الله ومن رسوله، "ورجعوا إلى قومهم، ففشا" ظهر وكثر "فيهم الإسلام، فوافى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم مائة رجل في حجة الوداع، ذكره الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، عن بعض بني المصطلق، قال في النور: ولا أعرف هذا البعض، "وذكر" بالبناء للفاعل، أي: الوافدي أيضًا "من حديث زياد بن الحارث" وقيل: ابن حارثة، والأوَّل أصحّ، قاله البخاري "الصدائي" صحابي شهد فتح مصر، "أنه الذي قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: اردد الجيش" وأنا لك بقومي فردّهم، "وقال" الواقدي في روايته من حديث زياد: "وكان زياد هذا معه في بعض أسفاره" قال: فسار ليلًا وسرنا معه، وكنت رجلًا قويًّا, فتفرق أصحابه، ولزمت ركابه، فلمَّا كان السحر، قال: "أذّن يا أخا صداء"، فأذَّنت على راحلتي، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب لحاجته ثم رجع، "وأنه -عليه الصلاة والسلام- قال له: "يا أخا صداء هل معك ماء"؟ قلت: معي شيء في إداوتي" بكسر الهمزة المطهرة، وجمعها أدوى بفتح الواو، "فقال: "صبه"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 الصلاة والسلام- كفه فيه, فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه عينًا تفور.   فصببته في قعب" بفتح القاف، وإسكان المهملة وموحدة- القدح الضخم الحافي، أو إلى الصغر، أو يروى الرجل، قال: وجعل أصحابه يتلاحقون، "ثم وضع -عليه الصلاة والسلام- كفه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه" أي: بين كل إصبعين من أصابعه، كما هو لفظه "عينًا تفور", وقد اختلف هل نبع الماء من نفس الأصابع وهو الصحيح، أومن بينها، لا من نفسها, قولان، ولا ينافيها قوله بين كل إصبعين من أصابعه، لاحتمال أن العَيْن ناشئة من الماء، خارجة من بين الأصابع، وأنها من ذات بدنه الشريف، ولذا جاء القولان، وبعضهم يقول في حكايتهما: هل هو إيجاد معدوم، أو تكثير موجود، بمعنى: أنه بورك في الماء فزاد من غير ضم ماء آخر إليه بخلاف الأول، فنبع من بين الأصابع ماء انضمَّ إلى ما في القعب، فتغايَر القولان، وبسط ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في المعجزت، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صداء أذَّن، ومن أذَّن فهو يقيم"، فأقمت، ثم صلى بنا، فلمَّا سلَّم، وكنت سألته قبل ذلك أن يؤمرني على قومي، وأن يأمر لي بشيء من صدقاتهم، فكتب لي كتابين بذلك، قام رجل يشتكي عامله، فقال: أخذنا بظلامات كانت بيننا وبينه في الجاهلية. وفي رواية: أخذنا بكل شيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أو فعل ذلك"؟ قالوا: نعم، فالتفت إلى أصحابه، وأنا منهم، فقال: "لا خير في الإمارة لرجل مؤمن". وفي لفظ مسلم: فدخل قوله في قلبي، ثم قام آخر، فقال رسول الله: "أعطني"، فقال: "من يسأل الناس عن غني، فصداع في الرأس، وداء في البطن"، قال: "فأعطني من الصدقة"، قال: "إن الله عز وجل لم يرض بحكم نبي، ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها بثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك، وإن كنت غنيًّا عنها، فإنما هي صداع في الرأس، وداء في البطن". وفي رواية: "إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، حتى جزَّأها على ثمانية أجزاء" والباقي سواء. قال زياد: فدخل في نفسي أني سألته الصدقة وأنا غني، فقلت: يا رسول الله, هذان كتاباك فاقبلهما، ثم قال: "دُلَّني على رجل من قومك أستعمله"، فدللته فاستعمله، قلت: يا رسول الله, إن لنا بئرًا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإذا كان الصيف قلَّ علينا، فتفرقنا على المياه، والإسلام اليوم فينا قليل، ونحن نخاف, فادع الله لنا في بئرنا، فقال: " ناولني سبع حصيات"، فناولته فعركَهُنَّ بيده، ثم دفعهنَّ إليَّ، وقال: "إذا انتهيت إليها، فألق فيها حصاة حصاة، وسمّ الله"، ففعلت، فما أدركنا لها قعرًا حتى الساعة، ولعلَّ حكمة ذلك دون إلقاء الجميع، دفعة إرشاد العباد إلى أنهم إذا حاولوا أمرًا، أخذوا في أسبابه بالتدريج شيئًا فشيئًا، وإن أمكنهم حصولها دفعة، وأسر علمه -عليه الصلاة والسلام، ككون الحصيات سبعًا، ولعلّه ليس المراد خصوص الصداع ووجع البطن، بل ما يشمله ويشمل كل ضرر عاجل أو آجل، وحمله على ظاهره أَوْلَى، فلا دخل للعقل في ذلك، والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 الوفد التاسع والعشرون: وفد عسان ... الوفد التاسع والعشرون: وفد غسان وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد غسَّان، في شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر، فأسلموا وأجازهم -عليه الصلاة والسلام- بجوائز، وانصرفوا راجعين.   "الوفد التاسع والعشرون": "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد غسان" بفتح الغين المعجمة وشد المهملة- اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد، فنسبوا إليه، قال حسَّان: أما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان وقيل: غسان اسم القبيلة، فنونه أصلية فيصرف، فإن كان المسموع، وإلا فسبب منعه العلمية والتأنيث، باعتبار القبيلة "في شهر رمضان سنة عشر، وكانوا ثلاثة نفر" إضافة بيانية، "فأسلموا" وقالوا: لا ندري أيتبعنا قومنا أم لا؟ وهم يحبون بقاء ملكهم وقرب قيصر، "وأجازهم -عليه الصلاة والسلام- بجوائز، وانصرفوا راجعين" إلى قومهم، فلم يستجيبوا لهم، فكتموا إسلامهم، حتى مات منهم رجلان على الإسلام، وأدرك الثالث عمر عام اليرموك، فلقي أبا عبيدة، فأخبره بإسلامه، فكان يكرمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 الوفد الثلاثون: وفد سليمان وقدم عليه وفد سلامان في شوّال سنة عشر، كما قال الواقدي، وكانوا سبعة نفر، فيهم حبيب بن عمرو، فأسلموا وشكوا إليه   "الوفد الثلاثون": "وقدم عليه وفد سلامان" بفتح المهملة وخفة اللام- بطن من قضاعة, ينسبون إلى جدهم الأعلى سلامان بن سعد بن زيد بن لوث بن سود بين أسلم بن الحاف بن قضاعة، "في شوَّال، سنة عشر، كما قال الواقدي، وكانوا سبعة نفر فيهم حبيب بن عمرو" والسلاماني، كان يسكن الجبال، "فأسلموا". روى الواقدي عنه أنه قال: قدمنا وفد سلامان ونحن سبعة نفر، فانتهينا إلى باب المسجد، فصادفنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خارجًا إلى جنازة دعي إليها، فلما رأيناه قلنا: السلام عليك يا رسول الله، فقال: $"وعليكم السلام من أنتم"؟ قلنا: من سلامان، قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا، فالتفت إلى مولاه ثوبان، فأمره بإنزالهم دار رملة بنت الحارث، فذكر حديثًا طويلًا فيه أنهم لما سمعوا الظهر أتوا المسجد، فصلوا معه -صلى الله عليه وسلم، وصلوا العصر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 جدب بلادهم, فدعا لهم ثم ودعوه, وأمر لهم بالجزائز، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت في اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الساعة.   قال حبيب: فكانت أخف في القيام من الظهر، وقلت: يا رسول الله, ما أفضل الأعمال؟ قال: "الصلاة في وقتها"، وسألته عن رقية العين وذكرها له، فأذن له فيها، "و" فيه أنهم "شكوا إليه جدب بلادهم، فدعا لهم" ولفظ حديث حبيب المذكور، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بيده اللهمَّ اسقهم الغيث في دارهم"، فقلت: يا رسول الله, ارفع يديك، فإنه أكثر وأطيب، فتبسَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام، وقمنا معه وقوله: أكثر، أي: في الأسباب المقضتية للاستعطاف, وأطيب، أي: لهيئة الداعي التي تكون سببًا لنزول الرحمة، "ثم ودَّعوه" بعد إقامتهم ثلاثًا، وضيافته تجري عليهم، "وأمر لهم بالجوائز" فأعطينا خمس أواقي فضة لكل رجل منا، واعتذر إلينا بلال، وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه، "ورجعوا إلى بلادهم، فوجدوها قد أمطرت" بالبناء للفاعل والمفعول، كما في النور "في اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الساعة" وما ذلك بغريب في معجزاته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 الوفد الحادي والثلاثون: وفد بني عبس وقدم عليه وفد بني عبس، فقالوا: يا رسول الله، قدم علينا قراؤنا, فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الله حيث كنتم, فلن يلتكم من أعمالكم شيئًا".   "الوفد الحادي والثلاثون": "وقدم عليه وفد بني عبس" بفتح المهملة، وسكون الموحدة، وسين مهملة- ذكر ابن شاهين من طريق هشام بن الكلبي أنهم تسعة، قدموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، فدعا لهم بخير، وقال: "ابغوني لكم عاشرًا أعقد لكم لواء"، فدخل طلحة بن عبيد الله، فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم يا عشرة، فهو إلى اليوم كذلك. قال: وهم: بشر بن الحارث، والحارث بن الربيع بن زياد، وسباع بن زيد، وعبد الله بن مالك، وقرة بن حصن بن وقنان بن دارم، وميسرة بن مسروق، وهرم بن مسعدة، وأبو الحصين بن القيم. وروى ابن سعد عن عروة: أن عير القريش أقبلت من الشام، فبعث بني عبس في سرية، وعقد لهم لواء, فقال: يا رسول الله, كيف نقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ فقال: "أنا عاشركم". وعند الواقدي عن أبي هريرة: قدم ثلاثة من بني عبس، "فقالوا: يا رسول الله, قدم علينا قراؤنا، فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش" وهي معايشنا، "فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له" فلا خير في أموالنا، "بعناها وهاجرنا" من آخرنا، "فقال -عليه الصلاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 ...................................................   والسلام: "اتقوا الله حيث كنتم, فلن يلتكم" بفتح التحتية وكسر اللام ففوقية- أي: ينقصكم "من أعمالكم شيئًا ولو كنتم بصمد وجاران" بصاد ودال ومهملتين بينهما ميم, وجاران -بجيم فألف فراء فألف فنون, اسما مكانين، وبقية خبر الواقدي هذا: وسألهم عن خالد بن سنان هل له عقب، فأخبروه أنه كان له ابنة فانقرضت، فأنشأ -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه عن خالد، فقال نبي: ضيعه قومه، وضعف الواقدي معلوم، لكنه لم ينفرد بذلك، فقد روى نحوه الحاكم في حديث طويل، وصحَّحَه عن ابن عباس، وتعَقَّبَه الذهبي بأنه منكر، وابن شاهين في الصحابة من حديث سباع بن زيد، وله طرق أخرى، وفي بعضها: إن خالدًا بعث مبشرًا بمحمد -عليه السلام، ولم يكن في بني إسماعيل نبي غيره قبل المصطفى، وأنه دعا على العنقاء -طائر كانت تخطف الصبيان- فانقطع نسلها، وأطفأ نار رحرة بني عبس، كان يستضاء بنورها من مسيرة ثلاث، وربما سقط منها عنق، فلا تمر بشيء إلا أهلكته، فإذا كان النهار فإنما هي دخان يفوز، فحفر لها سربًا وأدخلها فيه، والناس ينظرون، ثم اقتحم فيها حتى غيبها، فسمع بعض القوم يقول: هلك خالد، فخرج وهو يقول: كذب ابن راعية المعزى، ووردت ابنة له عجوز على النبي -صلى الله عليه وسلم، فتلقاها بخير، وأكرمها، وقال: "مرحبًا ببنت نبي ضيعه قومه"، فأسلمت، وسمعته يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌْ} [الإخلاص: 1] ، فقالت: كان أبي يقول هذا، قال في الإصابة: وأصح ما وقفت عليه من ذلك ما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن جبير، قال: جاءت ابنة خالد بن سنان العبسي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبًا بابنة نبي ضيعه قومه"، رجاله ثقات، إلّا أنه مرسل. انتهى باختصار. وقال في الفتح في قوله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بابن مريم" ليس بيني وبينه نبي، قد ضعف هذا الحديث ما قيل: إن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى, إلّا أن يجاب بأنهما بُعِثَا بتقرير شريعة عيسى، لا شريعة مستقلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 الوفد الثاني والثلاثون: وفد غامد وقدم عليه وفد غامد سنة عشر، وكانوا عشرة، فأقروا بالإسلام, وكتب لهم كتابًا فيه شرائع الإسلام،   "الوفد الثاني والثلاثون": "وقدم عليه وفد غامد" بغين معجمة فألف فميم مكسورة فدال مهملة- بطن من الأزد باليمن، "سنة عشر، وكانوا عشرة" فنزلوا في بقيع الفرقد، وهو يومئذ أثل وطرفاء، ثم انطلقوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وخلَّفوا أصغرهم في رحالهم، "فأقرّوا بالإسلام" وسلَّموا على النبي -صلى الله عليه وسلم، "وكتب لهم كتابًا فيه شرائع الإسلام" إضافة جنسية، فتصدَّق بالبعض. ففي العيون: فيه شرائع من شرائع الإسلام، وقال: "من خلفتم في رحالكم"؟ قالوا: أحدثنا سنًّا، قال: "فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آتٍ فأخذ عيبة أحدكم"، فقال أحدهم: ما لأحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 وأمر أُبَيّ بن كعب يعلمهم قرآنًا، وأجازهم -عليه الصلاة والسلام, وانصرفوا.   منهم عيبة غيري، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قد أخذت ورُدَّتْ إلى موضعها"، فخرجوا حتى أتوا رحلهم، فسألوه، فقال: فزعت من نومي، ففقدت العيبة، فقمت في طلبها, فإذا رجل قاعدًا، فثار يعدو مني، فانتهيت إلى حيث انتهى، فإذا أثر حفر، وإذا هو قد غيب العيبة، فاستخرجتها، فقالوا: نشهد أنه رسول الله، فإنه قد أخبرنا خبرها، وأنها قد رُدَّتْ، فرجعوا، فأخبروه -صلى الله عليه وسلم، وجاء الغلام الذي خلَّفوه فأسلم، "وأمر" النبي -صلى الله عليه وسلم "أُبَيّ بن كعب يعلمهم قرآنًا، وأجازهم -عليه الصلاة والسلام" كما كان يجيز الوفود، وهو تشبيه في أصل الجائزة؛ لأنه لم يكن له جائزة مخصوصة، وإنما يدفع ما اتفق جوده، وهو يتفاوت قلة وكثرة، فقد أجاز بخمس أواق وبعشر، وباثنتي عشرة، وبأزيد، كما مر، "وانصرفوا" إلى بلادهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 الوفد الثالث والثلاثون: وفد الأزد وقدم عليه وفد الأزد، ذكر أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة، وأبو موسى المديني، من حديث أحمد بن أبي الحواري.   الوفد "الثالث والثلاثون": "وقدم عليه وفد الأزد" بفتح الهمزة، وسكون الزاي، ودال مهملة، ويقال بالسين لقربها من الزاي، ينسبون إلى جدهم الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: اسم الأزد درًا بدال قبل الراء، وإليه إجماع الأنصار، ذكره الحازمي "ذكر" أي: روى "أبو نعيم" بضم النون- الحافظ الكبير، أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى الأصفهاني، الصوفي، الأحول, ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وأجاز له مشايخ الدنيا، وهو ابن ست سنين وتفرَّد بهم، ورحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه وضبطه وعلوّ إسناده، وله عدة تصانيف. مات في المحرم سنة ثلاث وأربعمائة، "في كتاب معرفة الصحابة، وأبو موسى" محمد بن أبي بكر، عمر بن أحمد الأصفهاني "المديني" بكسر الدال، وسكون التحتية- نسبة إلى مدينة أصفهان، الحافظ الكبير شيخ الإسلام، ولد في ذي القعدة سنة إحدى وخمسمائة، وسمع الكثير، ورحل وعني بهذا الشأن، وانتهى إليه التقدم فيه مع علوّ الإسناد، وعاش حتى صار أوحد وقته، وشيخ زمانه إسنادًا وحفظًا مع التواضع، ولا يقبل من أحد شيئًا، وله معرفة الصحابة، وغيرها من التصانيف، مات في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، "من حديث أحمد" بن عبد الله بن ميمون بن العباس بن الحارث التغلبي -بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام- نسبة إلى تغلب بن وائل قبيلة، يكنَّى أبا الحسن "بن أبي الحواري" بفتح المهملة والواو الخفيفة وكسر الراء وفتحها, والكسر أشهر، والفتح حُكِيَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد الأزدي قال: حدثني أبي عن جدي قال: وفدت سابع سبعة من قومي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلما دخلنا عليه وكلَّمْنَاه أعجبه ما رأى من سمتنا وزينا.   عن أهل الإتقان. كما قاله النووي في البستان، ثقة زاهد من العاشرة، وهم كبار الآخذين عن تبع الأتباع ممن لم يلق التابعين، كأحمد بن حنبل، كما أفصح به في ديباجة التقريب. روى له أبو داود وابن ماجه، ومات سنة ست وأربعين ومائتين، لا مائة كما زعم، لقوله في خطبة التقريب، وإن كان من التاسعة إلى آخر الطبقات، فهم بعد المائتين، وهذا من العاشرة، وقد أرَّخه ابن عساكر والذهبي وغيرهما سنة ست، وقيل: سبع وأربعين ومائتين. "قال: سمعت أبا سليمان" عبد الرحمن بن أحمد بن عطية الزاهد، العنسي -بالنون- "الداراني" بفتح الدال فألف فراء خفيفة فألف فنون، ويقال: بهمز بدل النون، وبالنون أشهر وأكثر، كما قال ابن السمعاني، نسبة إلى داريا قرية بدمشق، على غير قياس, إمام كبير الشأن، ارتفع قدره وعلا ذكره، وأخذ الحديث عن جمع، منهم سفيان الثوري، قال في التقريب: وهو ثقة لم ير، ومسندًا إلا حديثًا واحدًا، وله حكايات في الزهد، قال النووي في بستانه, كان من كبار العارفين، أصحاب الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، والحكم المتظاهرة، وهو أحد مفاخر بلادنا دمشق وما حولها، مات سة اثنتي عشرة، أو خمس عشرة ومائتين، وقيل غير ذلك. "قال: حدثني علقمة بن يزيد بن سويد" بضم السين وفتح الواو "الأزدي" زاد في رواية العسكري: إنه حَدَّثه بساحل دمشق، "قال: حدثني أبي" يزيد "عن جدي" سويد بن الحارث. هكذا رواه العسكري من هذا الطريق، وكذا الرشاطي وابن عساكر من وجهين آخرين، عن ابن أبي الحواري، ورواه أبو سعد النيسابوري في شرف المصطفى من وجه آخر، عن ابن أبي الجواري، فقال علقمة بن سويد ن علقمة ابن الحارث، فذكر أبو موسى بسبب ذلك علقمة بن الحارث، والأول أشهر، قاله في الإصابة. "قال: وفدت سابع سبعة" أي: واحدًا منهم، لا أنه زائد عليه؛ لأن اسم الفاعل إن أخذ من اثنين إلى عشرة، ثم أضيف إلى أصله، فمعناه: إنه واحد من ذلك العدد لا زائد، وإن أضيف إلى دون أصله صيَّره بانضمامه إليه زائدًا عليها, "من قومي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلماه، أعجبه ما رأى من سمتنا" سكينتنا ووقارنا. قال في المصباح: السمت السكينة والوقار، وهو حسن السمت، أي: الهيئة "وزينا" بكسر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 فقال: "ما أنتم"؟ قلنا: مؤمنون، فتبسَّم -عليه الصلاة والسلام- وقال: "إن لكل قول حقيقة, فما حقيقة قولكم وإيمانكم"؟ قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل بها، وخمس تخلَّقنا بها في الجاهلية, فنحن عليها إلّا أن تكره منها شيئًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي"؟ قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت. قال: "وما الخمس التي أمرتكم أن تعملوا بها"؟ قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله, ونقيم الصلاة   الزاي- الهيئة، فالعطف تفسيري، "فقال: "ما أنتم"؟ " أي: ما صفتكم, أمؤمنون أم كفار؟ ولذا أجابوا، "قلنا: مؤمنون" أي: متصفون بالإيمان، فما يسأل بها عن صفات العقلاء، كما يسأل بها عن غيرهم. قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، أي: الطيب، فاستعملت ما لصفة ما يعقل، أي: للوصف المشتَق الدالِّ على الحدث وصاحبه، وليس المراد بالوصف مبدأ الاشتقاق، الذي هو المعنى المصدري، ضرورة أن المعنى المصدري لا ينكح، "فتبسَّم -عليه الصلاة والسلام" فرحًا بإيمانهم "وقال: "إن لكل قول حقيقة"، " أي: علامة أو ماهية، التي هي سبب في تحققه، "فما حقيقة قولكم وإيمانكم" عطف تفسير، أو مسبب على سبب، والقول بمعنى المقول، "قلنا: خمس عشرة خصلة، خمس منها أمرتنا" بفتحات، وإسكان تاء التأنيث، ونا مفعول والفاعل, "رسلك" ففيه إفادة أنه أرسل إليهم رسلًا، وإن لم يذكرهم المصنف، ويحتمل أن مرادهم رسله الذين بعثهم إلى اليمن؛ إذ هم منه "أن نؤمن بها" أي: نصدق "وخمس أمرتنا" بفتح الهمزة، والميم، والراء وإسكان التاء- رسلك "أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية" أي: ما قبل إيمانهم، "فنحن عليها إلّا أن تكره منها شيئًا" فنتركه، وهذا من قوة إيمانهم، ومزيد فقههم، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي"؟ قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله" نصدق به وبصفاته الواجبة له, "وملائكته" جمع مَلَك، أي: نصدِّق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى: عباد مكرمون، "وكتبه" نصدّق بأنها كلام الله، وأن ما اشتملت عليه حق، "ورسله" أي: نصدق بصدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى، وتأخيرهم في الذكر لتأخر إيجادهم، لا لأفضلية الملائكة، "والبعث بعد الموت" من القبور وما بعده من الصراط والميزان والجنة والنار، "قال: "وما الخمس التي أمرتكم" رسلي "أن تعلموا بها"؟ قلنا: أمرتنا أن نقول: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله؛ لأنها صارت علمًا على الشهادتين، أو أنَّ رسله اقتصروا عليها تدريجًا لهم، واكتفاءً بقولهم أوَّلًا: ورسله، فحكوا له لفظ رسله، "ونقيم الصلاة" المكتوبة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 ونؤتي الزكاة ونصوم رمضان ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلًا. قال: "وما الخمس التي تخلقتم بها في الجاهلية"؟. قلنا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضاء بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء. فقال -صلى الله عليه وسلم: "حكماء علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء"، ثم قال: "وأنا أزيدكم خمسًا, فتتم لكم عشرون خصلة، إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون،   أي: نديمها، أو نأتي بها على ما ينبغي، "ونؤتي الزكاة" المفروضة، "ونصوم رمضان، ونحج البيت إن استطعنا إليه سبيلًا" طريقًا، "قال: "وما الخمس التي تخلَّقتم بها في الجاهلية"، قلنا: الشكر عند الرخاء" أي: الثناء على الله تعالى عند حصول النعم، وصرفها فيما يحمد، كصدقة وإغاثة ملهوف، وغير ذلك، "والصبر عند البلاء" أي: عدم الجزع والتضجر، وهذا قد يحصل وإن لم يكن رضا، ولذا قال: "والرضا" وهو الانقياد والطمأنينة باطنًا، "بِمُرِّ القضاء" أي: بالمر من المقضي، فالإضافة بمعنى من أو بالمر لمقضى من إضافة الصفة للموصوف، بحيث نراه في الباطن، كالنعم التي يستلذ بها، فجمع بينهما للتنبيه على طلبهما معًا، أي: الصبر والرضا "والصدق" أي: الثبات "في مواطن" جمع موطن كمسجد، مشاهد "اللقاء" للأعداء؛ بحيث لا نفر منهم، بل نصبر على حربهم، وإطلاق الصدق على الثبات مجاز شائ، "وترك الشماتة" أي: الفرح "بالأعداء"؛ إذا نزلت بهم مصيبة، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "حكماء علماء" خبر مبتدأ محذوف، أي: هم، والمعنى: إنهم يفعلون أمورهم متقنة موافقة للحق، والخطاب للحاضرين غيرهم ثناء عليهم، وقدَّم الحكمة على العلم؛ لأنها الصفة القائمة بهم، الدالة على كمال عقولهم، والعلم طريق إلى معرفة الحسن من القبيح، ولكن صاحبه قد لا يعمل به، ودليل تقديرهم دون أنتم قوله: "كادوا" قاربوا "من فقههم أن يكونوا أنبياء"؛ لأن هذه الخمس التي تخلقوا بها من قِبَلِ أنفسهم في الجاهلية، بعض صفات الأنبياء، وعلى تقدير المبتدأ: أنتم, والخطاب لهم يكون كادوا التفاتًا، إلّا أن الأَوَّل أبلغ، لما فيه من الاعتناء بالإخبار عن صفاتهم الحميدة، "ثم قال: "وأنا أزيدكم خمسًا، فتتم لكم عشرون خصلة، إن كنتم كما تقولون"،" متصفين بالخمس عشرة التي ذكرتم، "فلا تجمعوا ما لا تأكلون" جواب الشرط، أي: زيادة على الحاجة، فيكون نفعه لمن بعدكم، "فلا تجمعوا ما لا تأكلون" جواب الشرط، أي: زيادة على الحاجة، فيكون نفعه لمن بعدكم، وحسابه عليكم، والإتيان بالشرط بعد قوله حكماء علماء، حثٌّ لهم على ملازمة الفعل، كأنه قيل: وصفتم أنفسكم بما يفيد حرصكم على الإيمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 ولا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدًا زائلون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون". فانصرفوا وقد حفظوا وصيته -عليه الصلاة والسلام- وعملوا بها.   ومكملاته، فإن كنتم كذلك، فتخلَّقوا بهذه الخمس أيضًا، فإنه أدلُّ على حسنكم، وكمال إيمانكم بما اتصفتم به، وهذا أَوْلَى من جعل أن بمعنى إذ، وليس الشرط متعلقًا بما قبله، بل جوابه، "فلا تجمعوا"، ولذا اقترن بالفاء ولا ناهية فيه، وفي الأربع بعده، ولذا حذف النون. وفي نسخة: إثبات النون في الخمس على أنها أخبار بمعنى النهي، وهو أبلغ في المعنى من النهي الصريح؛ لأنه صورة خبر، كأنهم متصفون بذلك، "ولا تبنوا ما لا تسكنون" فلا تزيدوا على الحاجة، فإن سكناكم في البناء لا يدوم لمفارقتكم له، وانتقاله لمن يسكنه بعدكم، فاللائق الاقتصار على قدر الضرورة، "ولا تنافسوا" أي: لا تتزاحموا، وتتغالبوا، وترغبوا "في" حصول "شيء أنتم عنه غدًا زائلون" مرتحلون وتاركوه، "واتقوا الله" احذروا عذابه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، "الذي إليه ترجعون" تصيرون، فيجازيكم على أعمالكم حسنة أو ضدها، فتقواه تدفع عذابه عنكم، "وعليه تعرضون" والتاء أصلها الواو، فأبدلت منها ولزمت، فصارت كالأصلية. قال البيضاوي: الوقاية فرط الصيانة، والمتقي في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه عمَّا يضره في الآخرة، وله ثلاث مراتب: الأولى: التوقي من العذاب المخلّد، بالتبري عن الشرك وعليه قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى} . والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، والمعنى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} . والثالثة: أن يتنزه عمَّا يشغل سره عن الحق، ويتبتل إليه بشراشره، وهو التقوى الحقيقية المطلوب بقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} ، انتهى. "وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون" وهو الجنة، فإنها التي يخلد فيها المؤمنون، والرغبة فيها بالمسارعة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة وترك المعاصي، وفي الصحيحين: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، "فانصرفوا وقد حفظوا وصيته -عليه الصلاة والسلام وعملوا بها" توفيقًا من الله لهم ببركته -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 الوفد الرابع والثلاثون: وفد بني المنتفق وقدم عليه وفد بني المنتفق   "الوفد الرابع والثلاثون": "وقدم عليه وفد بني المنتفق" بضم الميم، وسكون النون، وفتح الفوقية، وكسر الفاء، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 روى عبد الله بن الإمام أحمد، في زوائد مسند أبيه عن دلهم بن الأسود عن عاصم بن لقيط، أن لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، أبا رزين العقيلي،   وبعدها قاف- علم على أبي قبيلة من عامر بن صعصعة، "روى عبد الله بن الإمام أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الرحمن الحافظ بن الحافظ. روى عن أبيه وابن معين وخلق، وعنه النسائي، وابن صاعد، وأبو عوانة، والطبراني، وآخرون, قال أبوه: ابني عبد الله محظوظ من علم الحديث، لا يكاد يذاكرني إلا بما أحفظه. قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا فهمًا, وُلِدَ سنة ثلاث عشرة ومائتين، ومات سنة تسعين ومائتين. "في زوائد مسند أبيه" يعني: ما رواه من غير طريق أبيه في روايته مسند أبيه، فإنه قال في هذا الحديث: كتب إليَّ إبراهيم بن حمزة بن مصعب بن الزبير، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الخزامي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري، "عن دلهم" بدال مهملة مفتوحة، ولام ساكنة، وهاء مفتوحة "ابن الأسود" بن عبد الله بن حاجب العقيلي -بضم العين, حجازي مقبول، "عن عاصم بن لقيط" بن عامر العقيلي، ثقة من الطبقة الوسطى من التابعين. روى له أصحاب السنن الأربعة، والبخاري في التاريخ، "أن" أباه "لقيط" بفتح اللام وكسر القاف "ابن عامر بن صبرة" بفتح المهملة، وكسر الموحدة، وراءٍ وهاء، "ابن عبد الله بن المنتفق بن امر بن عقيل" بضم العين, والد القبيلة "ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة" بصادين بعد كل عين مهملات, "أبا رزين" بفتح الراء، وكسر الزاي، وسكون الياء وبالنون، بدل من اسم إن, "العقيلي" نسبة إلى جده عقيل المذكور, وهذا السياق صريح في أن أبا رزين اسمه: لقيط بن عامر بن صبرة، وأن من قال ابن صبرة نسبة إلى جده، وبه جزم ابن معين والبخاري وابن حبان، وابن السكن، وعبد الغني، وابن عبد البر وصحَّحَاه، وعليه مشى المزي في التهذيب، وقيل: إنهما اثنان, ذهب إليه ابن المدينيّ، وخليفة، وابن أبي خيثمة، ومسلم، وابن سعد, وغيرهم، وضعَّفه ابن عبد البر، فقال: ليس بشيء, وعبد الغني بن سعيد، فقال: لا يصح، ولكن مشى عليه المزي في الأطراف، ورجَّحه في الإصابة، فترجم أولًا: لقيط بن صبرة، وساق نسبه، كما هنا قائلًا: العامري، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عاصم، ثم ترجم تلوه لقيط بن عامر بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل العامري, أبو رزين العقيلي، روى عنه ابن أخيه وكيع بن عدس، وعبد الله بن حاجب، وعمرو بن أوس الثقفي، ذهب علي بن المديني، وخليفة بن خياط وابن أبي خيثمة، ومحمد بن سعد ومسلم، والبغوي، والدارمي، والبارودي، وابن قانع وغيرهم، إلى أنه غير لقيط بن صبرة المذكور قبله. وقال ابن معين: إنهما واحد، وإن من قال لقيط بن عامر نسبه لجده، وإنما هو لقيط بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 المعروف في أهل الطائف، خرج وفدًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ومعه صاحب له يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبًا فقال: "يا أيها الناس، ألا إني قد خبَّأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتسمعوا الآن، ألا فهل من امرئ بعثه قومه فقالوا له: اعلم لنا ما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ألا ثم لعله يلهيه   صبرة بن عامر، وحكاه الأثرم عن أحمد، ومال إليه البخاري، وجزم به ابن حبان، وابن السكن، وعبد الغني بن سعيد في إيضاح الأشكال، وقال: قيل: إنه غيره وليس بصحيح، وكذا قال ابن عبد البر، وقال في مقابله: ليس بشيء، وتناقض فيه المزي، فجزم في الأطراف بأنهما اثنان، وفي التهذيب، بأنهما واحد، والراجح في نظري أنهما اثنان؛ لأن لقيط بن عامر معروف بكنيته، ولقيط بن صبرة لم تذكر كنيته إلّا ما شذّ به ابن شاهين. فقال أبو رزين العقيلي أيضًا: والرواة عن أبي رزين جماعة، ولقيط بن صبرة لا يعرف له راوٍ إلا ابنه عاصم، وإنما قوي كونه واحدًا عند من جزم به؛ لأنه وقع في صفة كل واحد منها أنه وافد بني المنتفق، وليس بواضح، لاحتمال أن يكون كل واحد منهما رأسًا، انتهى. وصواب قوله: وإن من قال: لقيط بن عامر إلخ ... أن من قال لقيط بن صبرة نسبه لجده، وإنما هو لقيط بن عامر بن صبرة، كما هو المنقول عن ابن معين في الجامع، وهو الموافق لما في سياق زوائد المسند، كما رأيت، وهو الذي في تقريبه؛ إذ قال: لقيط بن صبرة، ويقال: إنه جده، واسم أبيه عامر "المعروف في أهل الطائف، خرج وفدًا" خبران "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومعه صاحب له يقال له: نهيك" بفتح النون، وكسر الهاء، وسكون الياء وكاف, "ابن عاصم بن مالك بن المنتفق" العامري، ثم العقيلي، "فوافيناه" أي: أتيناه، وهو معمول لمحذوف، هو قال: ولفظ زوائد المسند، قال لقيط: خرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لانسلاخ رجب، فوافيناه "حين انصرف من صلاة الغداة" أي: الصبح، "فقام في الناس خطيبًا، فقال: "يا أيها الناس, ألا" " بفتح الهمزة والتخفيف- أداة استفتاح نحو: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} أتى بها للتنبيه، فيدل على تحقق ما بعدها, "إني قد خبَّأت لكم صوتي" أي: ادَّخرته وجعلته لكم عندي خبيئة, "منذ أربعة أيام"، أي: من أولها إلى آخرها؛ لأن مذ ومنذ حرفَا جر بمعنى من, إن كان الزمان ماضيًا -كما في المغني, "لتسمعوا الآن"؛ لأن الصوت قد استراح، فيقوى على التسميع، ففيه حثهم على الاستماع له، والإقبال له على ما يقوله، "ألا" أداة استفتاح أيضًا, تنبيهًا لهم على تحقق ما بعدها، وطلب إصغائهم، "فهل" تفريع على مقدر، أي: ألا تسمعون! فكأنهم، قالوا: نعم، فقال: فهل "من" زائد "امرئ بعثه قومه، فقالوا له: اعلم" فعل أمر "لنا ما يقول رسول الله" لنعمل به, "ألا" تنبيه أيضًا، "ثم" بضم الثاء- بعد إتيانه لأجل علم ذلك، "لعله يلهيه" عن السماع المحصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 حديث نفسه أو حديث صاحبه، ألا وإني مسئول, هل بلغت؟ ألَا اسمعوا تعيشوا ... " الحديث. وفيه ذكر البعث والنشور والجنة والنار، وفيه ثَمَّ قال: قلت يا رسول الله، علام أبايعك؟ فبسط -صلى الله عليه وسلم- يده وقال: "على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن لا تشرك بالله شيئًا" الحديث.   للعلم أحد أمور ثلاثة، "حديث نفسه" فيغفل عن السماع، أو لا يضبطه؛ لاشتغاله بحديث نفسه، وهذا مشاهد؛ بحيث لو أراد علمه بعد لطلب إعادته من المتكلم، "أو حديث صاحبه له"، والثالث أسقطه المصنف قوله -صلى الله عليه وسلم: "أو يلهيه ضال"، هذا ثابت قبل قوله: "ألا وإني مسئول، هل بلغت" ما أوحى إليك، "ألا اسمعوا تعيشوا"، أي: تحيوا حياة أبدية سعيدة، فإنها الحياة المطلوبة، "الحديث بطوله في نحو ورقتين، وفيه عقب قوله: "تعيشوا، ألا اجسلوا"، فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرع لنا فؤاده ونظره، قلت: يا رسول الله, ما عندك من علم الغيب، فضحك، وعلم أني أبتغي السقط، "وفيه ذكر البعث، والنشور، والجنة، والنار، وفيه ثَمَّ قال": لقيط "قلت: يا رسول الله علام"، أي: على أي شيء "أبايعك" بحذف ألف ما، كما قال ابن مالك، وما في الاستفهام إن جرت حذف ألفها. قال في الهمع: إلى، وعلى، وحتى يكتبن بالياء، فإن وصلت الثلاثة بما الاستفهامية، كتبن بالألف لوقوعها وسطًا نحو: إلام، وعلام وحتّام، وإنما كتب إلى وعلى بالياء ما لم يوصلا، بما لعود ألفهما ياء في إليه وعليه، وحتى تكتب ألفا مع المضمر نحو: حتاي وحتاك، وبالياء مع الظاهر، نحو: حتى زيد. انتهى. فكتابة على في بعض النسخ بالياء، خلاف قاعدة الخط، "فبسط -صلى الله عليه وسلم- يده، وقال: "على إقام الصلاة" المفروضة "وإيتاء الزكاة" المعهودة، "وأن لا تشرك بالله شيئًا". لفظ الزوائد: إلهًا غيره "الحديث"، وليس فيه الصوم، ولا الحج، وكأنه اختصار من الراوي، فإن لفظه عقب قوله: إلهًا غيره، قال: قلت: يا رسول الله، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، قبض -صلى الله عليه وسلم- يده، وظنَّ أني مشترط ما لا يعطينيه، قال: "تحل منها حيث شئت، ولا يجني عليك إلا نفسك". قال: فانصرفنا عنه، ثم قال: "ها إن ذين، ها إن ذين" مرتين، "لمن نقر أنهم من أتقى الناس لله في الدنيا والآخرة"، فقال له كعب بن الخدارية: من هم يا رسول الله؟ قال: "بنو المنتفق"، قالها ثلاثًا، فانصرفنا، وها للتنبيه، وذين، يعني: أبا رزين وصاحبه نهيك بن عاصم، والخدارية، بضم المعجمة، وتخفيف الدال، ولولا الإطالة لسقت الحديث بتمامه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 الوفد الخامس والثلاثون: وفد النخع وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد النخع، وهم آخر الوفود قدومًا عليه, وكان قدومهم في نصف المحرَّم سنة إحدى عشرة، في مائتي رجل، فنزلوا دار الأضياف، ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرِّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل.   الوفد الخامس والثلاثون: "وقدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد النخع" بفتح النون، والخاء المعجمة، وبعين مهملة, قبيلة من مذحج -بفتح الميم وسكون المعجمة وكسر الحاء المهملة وجيم, قبيلة من اليمن، "وهم آخر الوفود قدومًا عليه، وكان قدومهم في نصف المحرم سنة إحدى عشرة" من الهجرة، وهذا وأمثاله مبني على أول التاريخ هل هو المقدم، أو أول سنة المقدم، أو طرح بقية سنة القدوم، والحسبان من ثاني ستة أقوال، أغربها الثالث. وقد قال ابن عبد البر والذهبي: قدم زرارة في نصف رجب سنة تسع، فيحتمل أنه وفد فيها، ثم مع قومه سنة إحدى عشرة، كذا في النور "في مائتي رجل"، لم يعرف البرهان منهم إلّا زرارة، "فنزلوا دار الأضياف"، هي دار رملة بنت الحارث النجارية، الصحابية، زوجة معاذ بن عفراء، "ثم جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرِّين بالإسلام، وقد كانوا باعوا معاذ بن جبل"، لما بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن. وقال ابن سعد في الطبقات: حدَّثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن أشياخ النخع، قال: بعث النخع رجلين منهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وافدين بإسلامهم: أرطأة بن شراحيل بن كعب، والجهيش، واسمه: الأرقم, من بني بكر بن عمرو بن النخع، فخرجا حتى قدما عليه -صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه، فبايعاه على قومهما، وأعجبه -صلى الله عليه وسلم- شأنهما، وحسن هيئتهما، فقال: "هل خلفتما وراءكما مثلكما"؟ قالا: يا رسول الله, قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلًا، كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء، ما يشاركونا في الأمر إذا كان، فدعا لهما -صلى الله عليه وسلم- ولقومهما بخير، وقال: "اللهم بارك في النخع"، وعقد لأرطأة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، فقتل يومئذ، فأخذه أخوه دريد، فقتل، فأخذه سيف بن حارثة من بني حذيفة, فدخل به الكوفة، وأخرجه ابن شاهين بإسناد ضعيف عن قيس بن كعب النخعي؛ أنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم، هو وأخوه أرطأة بن كعب، والأرقم، وكانا من أجَلِّ أهل زمانهما وأنظفه، فذكر الحديث، وسمى أخاه المقتول بعده يوم القادسية: زيد بن كعب, وجهيش -بضم الجيم وآخره معجمة مصغَّر، وقيل: بفتح أوله وكسر الهاء وسكون التحتية، وقيل: بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها موحدة، وبه جزم ابن الأمين. روى ابن منده عن أبي هريرة، قدم جهيش بن أويس النخعي في نفر من أصحابه، فقالوا: يا رسول الله أنا حي من مذحج، فذكر حديثًا طويلًا، فيه شعر منه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 فقال رجل منهم، يقال له: زرارة بن عمرو، يا رسول الله, إني رأيت في سفري هذا عجبًا، قال: "وما رأيت"؟ قال: رأيت أتانًا تركتها كأنها ولدت جديًا أسفع أحوى، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل تركت لك مصرة"؟ قال: نعم، قال: "فإنها قد ولدت غلامًا وهو ابنك"، فقال يا رسول الله: ما باله أسفع أحوى؟   ألا يا رسول الله أنت مصدق ... فبوركت مهديًّا وبوركت هاديًا شرعت لنا دين الحنيفة بعدما ... عبدنا كأمثال الحمير طواغيا وعند أبي نعيم، عن الحارث: قدمنا من اليمن، فنزلنا المدينة، فخرج علينا عمر، فطاف في النخع، فتصفحهم، وهم ألفان وخمسمائة، وعليهم أرطأة، فقال عمر: سيروا إلى العراق، قالوا: بل نسير إلى الشام، قال: سيروا إلى العراق, فسرنا فأتينا القادسية، فقُتِلَ منَّا كثير، ومن سائر الناس قليل، فسُئِلَ عمر عن ذلك، فقال: إن النخع ولّوا أعظم الأمر وحدهم. ذكره في الإصابة في موضعين. وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو لهذا الحي من النخع، أو قال: يثني عليهم، حتى تمنَّيت أني رجل منهم، "فقال رجل منهم يقال له: زرارة بن عمرو" بضم الزاي، وأبوه -بفتح العين، وسماه ابن الكلبي، وتبعه ابن شاهين: زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي. قال أبو حاتم: قدم نصف المحرم سنة إحدى عشرة، وقال أبو عمر: بل كان قدومه في نصف رجب، سنة تسع، وبالأوّل جزم ابن سعد عن الواقدي، كذا في الإصابة، وتقدَّم جمع البرهان باحتمال قدومه أولًا وحده في التاريخ الأول، ثم مع قومه في هذا التاريخ, "يا رسول الله, إن رأيت في سفري هذا عجبًا"، وفي رواية المدائني: رأيت في طريقي رؤيا هالتني، "قال: "وما رأيت"؟ قال: رأيت أتانًا" بفتح الهمزة، وفوقية- حمارة أنثى، ولا يقال أتانة، قاله ابن السكيت، وجمع القلة آتن، كعناق، وأعنق، والكثرة أتن -بضمتين. روى البيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "من لبس الصوف، وحلب الشاة، وركب الأتن، فليس في جوفه من الكبر شيء" "تركتها" في الحي، كما في رواية، وللمدائني: خلَّفتها في أهلي, "كأنها ولدت جديًا"، هو الذي من أولاد المعز، "أسفع" بزنة أحمر، أسود مشرب بحمرة، "أحوى" كالتأكيد لما قبله؛ إذ الحوة -بالضم- سواد إلى خضرة، أو حمرة إلى سواد، كما في القاموس، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل تركت لك مصرة"، اسم فاعل من أصر على الشيء، أقام عليه، والمراد حملها محقق ثابت. وفي العيون والمدائني: أمة، وفي السبل: امرأة، فلعل المصنف ترك الموصوف للخلاف فيه، كذا قيل، وإنما يتحقق الخلاف لو قيل: زوجة، فيرد لفظ امرأة إلى أمة، فلا خلاف. "قال: نعم، قال: "فإنها قد ولدت غلامًا، وهو ابنك"، دفع به ما قد يدخل عليه من الريبة؛ إذ رأى اللون الغريب، "فقال: يا رسول الله, ما باله أسفع أحوى"، أي: ما الحال الداعي إلى مجيئه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 قال: "ادن مني"، فدنا منه، قال: "هل بك من برص تكتمه"؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما علم به أحد، ولا اطَّلع عليه غيرك، قال: "فهو ذلك". قال: يا رسول الله، ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان مدلجيان ومسكتان. قال: "ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته". قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزًا شمطاء، خرجت من الأرض. قال: "تلك بقية الدنيا".   بهذا اللون المخالف للون أبيه؟ "قال: "ادن مني"، قصدته ستره لعلمه -صلى الله عليه وسلم- أنه يخفيه، "فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه" " استفهام تقريري، أريد به طلب اعترافه به، ليرتِّب عليه الجواب، فيكون ألزم للحجة، "قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، ما علم به أحد، ولا اطَّلَع عليه غيرك"، فكأنه قال: نعم هو بي، ولكن والذي.. إلخ، فهو معجزة، "قال: "فهو ذلك"، أي: اللون الذي في ولدك أثر ما فيك من البرص، وهذا من المعجزات، "قال: يا رسول الله, ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان" بالضم, تثنية قرط، وهو ما يعلق في شحمتي الأذن، والجمع أقراط "مدلجيان" كذا في النسخ، والمدلج: الذي يسير اليل كله، ولا معنى له هنا، والذي في العيون والإصابة وغيرهما, كالمصنف نفسه في الرؤيا: ودملجان -بضم اللام وفتحه: شيء يشبه السوار، "ومسكتان" بفتح الميم والسين المهملة: سواران من ذهب، قاله المصنف في التعبير، والذي قاله ابن سيده، والجوهري: المسك -بفتحتين: أسورة من ذبل أو عاج، والذبل -بمعجمة، وموحدة ساكنة: شيء كالعاج، وقيل: ظهر السلحلفاة البحرية، فالمعنى على هذا: سواران من ذبل، وفي الجامع لابن الأثير: المسكة -بالتحريك: أسورة من ذبل، أو عاج، فإذا كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب، أو فضة، أو غيرهما. "قال: "ذلك ملك" بضم الميم، وإسكان اللام "العرب رجع إلى أحسن زيه" بكسر الزاي وشد الياء. وهيئته "وبهجته" حسنه؛ لأن النعمان كان ملكًا على العرب، فالمعنى: عادت العرب إلى ما كانوا عليه من العزِّ والشرف، وذهبت غلبة الفرس والعجم بظهور المصطفى. قال المصنف في الرؤيا: تعبيره السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مَرَّ، والجواب أن النعمان كان ملكًا على العرب من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، فالسواران من زيهم ليسا بمنكرين في حقه، ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفًا، وأما النبي -صلى الله عليه وسلم، فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته، فجدير أن يهمه ذلك؛ لأنه ليس من زيه، واستدلَّ به على أنه أمر يوضع في غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابه، "قال: يا رسول الله, ورأيت عجوزًا شمطاء" بزنة حمراء، أي: أبيض شعر رأسها، "خرجت من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا"، فلم يبق منها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 قال: ورأيت نارًا خرجت من الأرض, فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان" , قال: يا رسول الله، وما الفتنة؟ قال: "تقتل الناس إمامهم" وخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه, "يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكنّ دم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك". قال: يا رسول الله, ادع الله أن لا أدركها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها". فمات فبقي ابنه فكان ممن خلع عثمان بن عثمان -رضي الله عنه انتهى ملخصًا من الهدي النبوي، والله الموفق, وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في تعبيره الرؤيا -صلى الله عليه وسلم, من المقصد الثاني. انتهى.   إلّا القليل بالنسبة للماضي، كالباقي من عمر العجوز مما مضى، "قال: ورأيت نارًا خرجت من الأرض، فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو"، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعموني، آكلكم آكلكم، أهلككم ومالك، هذا من جملة رؤياه، كما في المقصد الثامن والعيون، وكان معناه: تفترق الناس فيها فرقتين، بصير عرف الحق فاتبعه، وأعمى لم يهتد إلى طريق الحق فضلَّ، ومعنى أطعموني: افتتنوا بي، وارتكبوا الضلال، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزما" سماه آخرًا، مع أنها قتل عثمان -رضي الله عنه, على معنى: إنه لغلظ أمره وفحشه بمنزلة ما يكون في آخر الزمان, الذي تندرس فيه الأحكام وتزول، حتى كأنها لا أثر لها، أو أنَّ المراد: آخر زمان الخلافة الحقيقية التي جروا فيها على سنن المصطفى، وسمَّاها آخرًا مع أنه بقي منها مدة علي وابنه، لقرب قتل عثمان من آخرها، "قال: يا رسول الله, وما الفتنة؟ " لأنها تطلق لغة على معانٍ، فسأله أيها أراد، "قال: "تقتل الناس إمامهم" "، ولفظ الآتي في التعبير، قال: "يفتك الناس بإمامهم، ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس"، ثم قال: "إطباق الرأس عظامه"، والاشتجار: الاشتباك والاختلاف. "وخالف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصابعه"، لم يبينوا صفة المخالفة، "يحسب المسيء فيها أنه محسن"، جملة مستأنفة للإشارة إلى غلبتها على الناس، فيظنّ المبطل أنه محق، "ويكون دم المؤمن عند المؤمن أحلى" ألذ "من شرب الماء" للظمآن. وفي العيون وغيرها: " أحلّ من الحل"، وكأنه لغلبة اشتباه الحال فيظن أنه محق، فيراه أشد حلًّا من شرب الماء، وخصَّه لغلبة حصوله من جهة حلّ، كالأنهار والأمطار وغيرهما، "إن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك"، قال: يا رسول الله, ادع الله أن لا أدركها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها"، فمات"، ولم يبينوا وقت موته "فبقي ابنه" عمرو بن زرارة، أورده صاحب الإصابة في القسم الأول، وقال: صحبته محتملة، "فكان ممن خلع عثمان بن عفان -رضي الله عنه". وعند الكلبي وغيره: فكان أوّل خلق الله خلع عثمان بالكوفة، "انتهى ملخصًا من الهدي النبوي" لابن القيم، "والله الموفق، وسيأتي هذا"، أي: خبر زرارة -إن شاء الله تعالى "في تعبيره الرؤيا -صلى الله عليه وسلم, من المقصد الثاني، انتهى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته صلى الله عليه وسلم ... المقصد الثالث: فيما فضَّله الله تعالى به من كمال خلقته وجمال صورته, وكرمه تعالى به من الأخلاق الزكية, وشَرَّفه به من الأوصاف المرضية. وما تدعو ضرورة حياته إليه -صلى الله عليه وسلم, وفيه أربعة فصول. الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته -صلى الله عليه وسلم: اعلم أنَّ من تمام الإيمان به -صلى الله عليه وسلم, الإيمان بأن الله تعالى جعل خلق   كتاب الشمائل النبوية: المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به: أي: في صفاتٍ صَيِّرَه الله تعالى بها، زائدًا على غيره "من كمال"، بيان لما "خلقته" صورته التي خلق عليها, والكمال يستعمل في الذوات والصفات، فالمعنى: كماله في ذاته وصفاته، "وجمال صورته" مساوٍ لما قبله في المعنى, حسنه اختلاف اللفظ. وفي المصباح، قال سيبويه: الجمال رقة الجسد، والأصل: جماله -بالهاء، مثل صبح صباحه، لكنهم حذفوا الهاء، تخفيفًا لكثرة الاستعمال، "وكرَّمه تعالى به"، أي: عظَّمه ومَيِّزَه على غيره أصلًَا وذاتًا وصفةً "من الأخلاق الزكية" الصالحة، الزائدة في الكمال "وشَرَّفه"، أعلاه "به" رتبةً على غيره "من الأوصاف" الذاتية القائمة به، "المرضية" عند ربه، وعند أولي الألباب، فهذه الألفاظ متقاربة المعاني، أو متحدة، "وما تدعو ضرورة حياته إليه" من غذائه ونحوه، كما يأتي له "صلى الله عليه وسلم، وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته، وهي ما يظهر للناظرين من جسده -صلى الله عليه وسلم, "اعلم أنَّ من تمام الإيمان به -صلى الله عليه وسلم, الإيمان" التصديق "بأن الله تعالى جعل خلق"، أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 بدنه الشريف على وجه لم يظهر قبله ولا بعده خلق آدمي مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه آيات على ما يتضح من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه آيات على ما تحقق له من سر قلبه المقدّس، ولله در الأبوصيري حيث قال: فهو الذي تَمَّ معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبًا بارئ النسم منزه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم   تقدير "بدنه الشريف على وجه"، أي: حال وهيئة، "لم يظهر قبله، ولا بعده خلق آدمي مثله، فيكون ما يشاهد من خلق بدنه"، أي: الصفة الظاهرة، "آيات على ما يتضح"، أي: ينكشف ويظهر "من عظيم خلق نفسه الكريمة، وما يتضح من عظيم أخلاق نفسه"، بيان لما, فأشار إلى أن المراتب ثلاث: المشاهد دليل على الباطن، وذلك الباطن دليل على ما أودع في قلبه من العلوم والمعارف، كما أفاده بقوله: "آيات على ما تحقَّق" بفتح التاء: ثبت وصحَّ "له من سرّ قلبه المقدَّس"، أي: ما اشتمل عليه من المعاني البديعة، فوصف المعاني بكونها مكنونة لا يُطَّلَع عليها، ولكن يستدل عليها بما ظهر من أخلاقه وكمالاته، وهو -صلى الله عليه وسلم- وإن ظهر منه كمالات لا تحصى، فهي بالنسبة لما خفي، كنقطة من بحر، "ولله در الأبوصيري" محمد بن سعيد الصنهاجي، الدلاصي لمولد، المغربي الأصل، البوصيري المنشأ، ولد بدلاص أول شوال، سنة ثمان وستمائة، وبرع في النظم. قال فيه الحافظ ابن سيد الناس: هو أحسن من الجزار والوراق، ومات سنة خمس، أو أربع وتسعين وستمائة، كان أحد أبويه من بوصير الصعيد، والآخر من دلاص -بفتح الدال المهملة: قرية بالبهنسا، فركبت النسبة منهما، فقيل: الدلاصيري، ثم اشتهر بالبوصيري، لنشأته بها، أو لأنها بلد أبيه، فقوله: الأبوصيري منتقد؛ لأن القرية إنما هي بوصير، والنسبة إليها البوصيري، كما في المراصد واللباب، ولبه في باب الموحدة لا الهمزة، وفي نسخة: الأبي صيري -بالياء، ولا وجه له، لا إفرادًا ولا تكريبًا، "حيث قال: فهو الذي تَمَّ" كمل "معناه" حال باطنه "وصورته"، حال ظاهره، بالرفع عطفًا على معناه، والنصب مفعول معه، "ثم اصطفاه" اختاره "حبيبًا بارئ" خالق "النسم"، جمع نسمة -بفتحتين: وهي الإنسان، وثم للترتيب في الأخبار، كما قال الأنصاري، نظرًا لما قبل وجوه، فإنه في الأزل تعلق علمه بكماله معنًى وصورته، وإنه حبيبه، فهو ترتيب في الأخبار دون الصفات؛ أو في الاصطفاء، كما قال المحلى نظرًا للوجود الخارجي، فإن اتخذه حبيبًا، ومخاطبته به بعد تمام معناه، صورته "منزه" مبعد "عن شريك في محاسنه"، جمع محسن، بمعنى: الحسن، أي: لا شريك له في حسنه، "فجوهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 يعني: حقيقة الحسن الكامل كائنة فيه؛ لأنه الذي تَمَّ معناه دون غيره، وهي غير منقسمة بينه وبين غيره، وإلّا لما كان حسنه تامًّا؛ لأنه إذا انقسم لم ينله إلّا بعضه فلا يكون تامًّا. وفي الأثر: إن خالد بن الوليد خرج في سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء, فقال له سيد ذلك الحي: صِفْ لنا محمدًا، فقال: أما إني أفصل فلا، فقال الرجل: أجمل، فقال: الرسول على قدر المرسل،   الحسن"، أصله "فيه غير منقسم"، أي: متفرق. ومعنى البيتين: هو الذي كمل باطنه في الكمالات، وظاهره في الصفات، ثم اختاره خالق الإنسان حبيبًا، لا شريك له في الحسن، وجوهره لا يقبل القسمة بينه وبين غيره، كما أنَّ الجوهر الفرد المتوهم في الجسم، ويقول المتكلمون: الجسم مركَّب منه؛ غير منقسم بوجه، لا بالفرض، ولا بالوهم، ومن كان موصوفًا بكمال الصفات ظاهرًا وباطنًا كان محبوبًا، قاله الشيخ خالد، وإلى نحوه يومئ قول المصنف، "يعني" الناظم بقوله: جوهر الحسن، "حقيقة الحسن" لا مقابل العرض من الأشياء التي تقوم بأنفسها من الموجودات الخارجية، "الكامل"، قَيِّدَ به لإفادة أنه المختص به، فلا ينافي وجود أصله في نحو الأنبياء، "كائنة فيه؛ لأنه الذي تَمَّ معناه"، تعليل لوجود الكامل فيه "دون غيره، وهي غير منقسمة بينه وبين غيره وإلا لما كان حسنه تامًّا؛ لأنه إذا انقسم لم ينقله إلّا بعضه فلا يكون تامًّا"، فحاصله: إن الانقسام المنفي أن يعطى نوعًا من الحسن، وغيره آخر منه، فيكون منقسمًا بينهما، بل أعطي -صلى الله عليه وسلم- أعلى الصفات اللائقة بالبشر، وشاركه غيره في الاتّصاف ببعضها، فيكون ذلك البعض مشتركًا، وتميز المصطفى بالزيادة التي لم يؤتها غيره، كما قال ابن المنير وغيره في حديث: "أعطي يوسف شطر الحسن"، يتبادر إلى بعض الأفهام أنَّ الناس يشتركون في البعض الآخر، وليس كذلك، بل المراد أنه أوتي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم، فإنه بلغ الغاية ويوسف شطرها. "وفي الأثر" المأثور، المنقول عن السلف؛ "أنَّ خالد بن الوليد خرج في سرية من السرايا، فنزل ببعض الأحياء، فقال له سيد ذلك الحي: صف لنا محمدًا، فقال: أما إني أفصّل فلا" لعجزي عن التفصيل؛ لأن صفاته لا يمكن الإحاطة بها، "فقال الرجل: أجمل"، أي: اذكرها مجملة، "فقال: الرسول على قدر المرسل"، أي: حالة تليق به، وهو رسول الله، بعثه لتبليغ أحكامه، فمن لازمه أنه بالغ الغاية، فكل ما تصور فيه من كمال دون ما ثبت له، فإن الملك إذا بعث رسولًا لقضاء ما يريد، إنما يرسل من يقدر على ذلك؛ بحيث يكون ذا مرتبة شريفة، وتصرُّف تام، ولا يلزم منه مساواته لبقية الرسل؛ لأن عموم رسالته ونسخها لشرائع من قبله، يقتضي رتبة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 ذكره ابن المنير في أسرار الإسراء. فمن ذا الذي يصل قدره أن يقدر قدر الرسول، أو يبلغ من الاطلاع على مأثور أحواله المأمول والمسئول؟!. وقد حكى القرطبي -في كتاب الصلاة- عن بعضهم أنه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما أطاقت أعيننا رؤيته -صلى الله عليه وسلم, ولقد أحسن   زائدة عليهم، أولًَا: ضرر في المشاركة؛ لأنه من حيث الإجمال "ذكره ابن المنير" ناصر الدين أحمد بن محمد الجذامي، الإسكندراني، العلامة المتبحِّر في العلوم، صاحب التصانيف العديدة. قال العز بن عبد السلام: ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها: ابن دقيق العيد بقوص، وابن المنير بالإسكندرية. "في أسرار الإسراء" سمَّاه المقتفى, كتاب نفس فيه فوائد جليلة، واستنباطات حسنة، وجعله قسمين، الأول: في الإسراء، والثاني: في السيرة النبوية من المبعث إلى الوفاة، "فمن ذا الذي يصل قدره"، استفهام إنكاري للتوبيخ لمن توهَّم وصول قدرته إلى ما أعطي المصطفى، ومعناه النفي، أي: لا يقدر أحد "أن يقدر" بكسر الدال وضمها. وقرأ السبعة: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} بالكسر، فهو أفصح، قيل: وهو الرواية في حديث: "فاقدروا له" قدر الرسول، أو يبلغ" عطف على يقدر، أي: ولا يبلغ "من الاطِّلاع على مأثور أحواله، المأمول والمسئول"، ومن لا يصل لذلك كيف يمكنه التعبير عنه، وهذا ترق في النفي؛ فإنه لما نفى القدرة على الذكر أولًا، ولا يلزم منه عدم الاطِّلاع؛ لإمكانه مع العجز عن العبارة ترقى، فنفى الاطِّلاع أيضًا، فكأنه من نفي السبب بعد نفي ما يترتب عليه من المسبب. "وقد حكى" محمد بن أحمد بن أبي بن فرح -بإسكان الراء، وبالحاء المهملتين- أبو عبد الله، الأنصاري، الأندلسي، "القرطبي" بضم القاف، والطاء، وموحدة- نسبة إلى قرطبة, مدينة بالأندلس، المفسِّر, كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين، المشغولين بأمور الآخرة، أوقاته ما بين توجه وعبادة وتصنيف، وله تصانيف كثيرة. أخذ عن أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي، شارح مسلم، المتوفَّى بالإسكندرية سنة ست وعشرين وستمائة، وأخذ عن غيره، واستقرَّ بمنية ابن خصيب، وبها مات سنة إحدى وسبعين وستمائة. "في كتاب الصلاة عن بعضهم؛ أنه قال: لم يظهر لنا تمام حسنه -صلى الله عليه وسلم"، رفقًا من الله بنا، "لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه، لما أطاقت أعيننا رؤيته -صلى الله عليه وسلم"، لعجزنا عن ذلك، "ولقد أحسن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 الأبوصيري حيث قال أيضًا: أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم وهذا مثل قوله أيضًا: إنما مثلوا صفاتك للنا ... س كما مثل النجوم الماء وأشار بقوله "تظهر" إلى وجه التشبيه بالشمس لا مطلقًا، ولقد بَيِّنَ عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس -عفا الله عنه   الأبوصيري؛ حيث قال أيضًا: أعيا" أعجز "الورى" الخلق "فهم" معرفة "معناه" حاله، فليس يرى"، يبصر "للقرب والبعد فيه، غير منفحم"، من نفخم إذا سكت عن الجدال، ولم يجب، "كالشمس تظهر للعينين من بعد" بضم العين- لغة، لا تبعًا لضم الباء, ضد قرب، "صغيرة" قدر المآة أو الترس "وتكل" بضم فكسر: توقف "الطرف" البصر عند رؤيتها "من أمم" بفتح الهمزة والميم الأولى، أي: قرب لو فرض ذلك لكبرها جدًّا، فتكاد تخطف الطرف وتعميه، فلا تدرك لكمالها، وكذلك المصطفى لا يدرك، معناه: في حالتي القرب والبعد، وإن شوهدت صورته، "وهذا" المعنى الذي ذكره في البردة، "مثل قوله أيضًا" في الهمزية، "إنما مثلوا" صوروا، أي: الأنبياء، أو الواصفون "صفاتك" جمع صفة، وهو ما دَلَّ على معنى زائدة على الذات "للناس" تمثيلًا، "كما مَثَّل" فهو نعت مصدر محذوف، "النجوم الماء" حيث يرى فيه دون حقيقته، يعني: إن واصفيه لم يبلغوا حقيقته -صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يحيطوا بها، وإنما غاية ما وصلوا إليه تصوير صورها الحاكية لمباديها، كما أن الماء لم يحك من النجوم إلا مجرد صورها لا غير، "وأشار بقوله: تظهر إلى وجه التشبيه بالشمس" فإنه من حيث الظهور "لا مطلقًا"؛ لأنه لا يشبه بها من كل وجه لعيوب فيها، هو منَزَّه عنها، "ولقد بَيِّنَ عيب التشبيه بها على الإطلاق أبو النواس" الحسن بن هانئ بن عبد الأوّل، شاعر ماهر من شعراء الدولة العباسية، له أخبار عجيبة، ونكت غريبة، وخمريات أبدع فيها، وسئل عن نسبه، فقال: أغناني أدبي عن نسبي، مات سنة أربع وتسعين ومائة، "عفا الله عنه"، وقد رؤي بعد موته، فقيل: ما فعل الله بك، قال: غفر لي بأبيات قلتها في مرضي، وهي تحت الوسادة، فنظرت، فإذا تحتها رقعة مكتوب فيها بخطه: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم أدعوك رب كما أمرت تضرعًا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم إني مسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 حيث قال: يتيه الشمس والقمر المنير ... إذا قلنا كأنهما الأمير لأن الشمس تغرب حين تمسي ... وأن البدر ينقصه المسير وهذه التشبيات الواردة في حقه -عليه الصلاة والسلام- إنما هي على سبيل التقريب والتمثيل، وإلا فذاته أعلى ومجده أغلى. فأما رأسه الشريف المقدَّس فحسبك ما ذكره الترمذي في جامعه بسنده إلى هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم الهامة.   ذكره ابن خلكان "حيث قال: يتيه"، يتكبّر ويدعي ما ليس له، كما في القاموس: "الشمس والقمر المنير"، تعاظمًا وافتخارًا، "إذا قلنا" في حقهما؛ "كأنهما الأمير"؛ لأن رتبتهما دون رتبته؛ "لأن الشمس تغرب حين تمسي"، وذلك نقص، "وأنَّ البدر ينقصه المسير" بخلاف الأمير، فصفاته لا تتغير، فمن قال في مدح الكامل: كأنه الشمس والقمر عكس التشبيه، فإن حقه أن يشبه الأدنى بالأعلى؛ إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، "وهذه التشبيهات الواردة في حقه -عليه الصلاة والسلام، إنما هي على سبيل التقريب والتمثيل"، وقد قال عليّ -كرم الله وجهه: يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده ثله، أي: يقول ذلك عند العجز عن وصفه، "وإلّا، فذاته أعلى" بمهملة: أشد علوًّا، أي: رفعة في الأوصاف القائمة بها، مما ظهر وشوهد، "ومجده" عزّه وشرفه "أغلى" بمعجمة- أزيد مما شوهد من غلا السعر إذا زار وارتفع، وقد قال نفطوية في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] ، هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- يقول: يكاد نظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنًا، كما قال ابن رواحة: لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر وإذا أردت بيان شيء من صفاته، "فأمَّا رأسه الشريف المقدَّس" المنزه المطهر، باعتبار أن القوى التي اشتمل عليها مقبلة على الحق، مشغولة باكتساب المعاني الدينية، منزَّهة عمَّا لا يليق، "فحسبك" اسم بمعنى: كافيك, خبر وما بعده مبتدأ، أو عكسه، أو اسم فعل بمعنى: يكفيك، فما محله رفع فاعل، أي: يكفيك في بيان صفته "ما ذكره"، أي: رواه "الترمذي في جامعه، بسنده إلى هند بن أبي هالة"، واسمه في أحد الأقوال: النباش -بنون فموحدة ثم معجمة- التميمي، ربيب النبي -صلى الله عليه وسلم، أمه خديجة، قيل: استشهد يوم الجمل مع علي، وقيل: عاش بعد ذلك. روى عنه الحسن بن علي، وقال: كان وصَّافًا، "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم الهامة" بالتخفيف: الرأس لكل ذي روح، أو ما بين حرب الرأس، أو وسط الرأس، وعظمه ممدوح؛ لأنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 وقال نافع بن جبير: وصف لنا علي -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان عظيم الهامة. وأما وجهه الشريف: فحسبك ما روى الشيخان من حديث البراء قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير البائن.   أعون على الإدراكات والكمالات؛ لدلالته على كمال القوى الدماغية، وبها يتميز الإنسان من غيره، وكماله قوة تصرفها فيما هي له، وهند عند من قال بها الحس المشترك، والخيال، والحافظة، والواهمة، والمفكرة، ثم المراد: العظم المعتدل لا الخارج، فإنه دليل على البلادة، كما أن الصغير جدًّا دليل على الخفة. "وقال نافع بن جبير" بن مطعم النوفلي، معطوف على ما ذكره بحذف العائد، أي: وما قاله، أو مستأنف لتعدد الناعتين، "وصف لنا علي -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان عظيم الهامة"، وفي رواية: ضخم الرأس، وفي رواية: ضخم الهامة، ووصفه بذلك صيغ من طرق عن عدة من الصحب، "وأما وجهه الشريف: فحسبك ما روى الشيخان": البخاري في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم، "من حديث البراء" بن عازب -رضي الله عنهما، "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا". قال الحافظ: الأحاديث التي فيها صفته -صلى الله عليه وسلم، داخلة في قسم المرفوع باتفاق، مع أنها ليست قولًا له، ولا فعلًا، ولا تقريرًا. انتهى، ولذا قال الكرماني: موضوع علم الحديث ذاته -صلى الله عليه وسلم، من حيث إنه رسول الله وحده, يعرف به أقواله وأفعال وأحواله، وغايته الفوز بسعادة الدارين، "وأحسنهم خلقًا"، قال في الفتح: بفتح المعجمة للأكثر، قال الكرماني: إنه الأصح، وضبطه ابن التين بضمها، واستشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] , وللإسماعيلي خلقًا، أو خلقًا بالشك، ويؤيده قوله: أحسن الناس وجهًا، فإنه إشارة إلى الحُسْنِ الحسي، فيكون الثاني إشارة إلى الحُسْنِ المعنوي. انتهى. والخلق -بالضم- الطبع والسجية، "ليس بالطويل الذاهب"، أي: المفرط في الطول، "ولا بالقصير البائن" بموحدة- اسم فاعل من بانٍ إذا ظهر، أي: الواضح في القصر، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، أي: البائن، فجعل البائن وصفًا لهما. قال الحافظ: بموحدة من بان، إذا ظهر على غيره، أو فارق من سواه، انتهى، وحيث كان معناه لغة الواضح الظاهر، صحَّ وصف كل من الطول والقصر به، فإذا نفيا عنه معًا، فمعناه أنه بينهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 وعن أبي هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كأنَّ الشمس تجري في وجهه. رواه الترمذي والبيهقي وأحمد وابن حبان. قال الطيبي: شبَّه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه -صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل أن يكون من تناهي التشبيه جعل وجهه مقرًّا ومكانًا للشمس   وفي حديث أنس وغيره: إنه كان ربعة، لكنه إلى الطول أقرب، كما في رواية البيهقي، ثم الجمع بين النفيين، لتوجّه الأول إلى الوصف، أي: ليس طوله مفرطًا، ففيه إثبات الطول، فاحتيج للثاني، ثم الوصفان صفة ذاتية له، فلا ينافي أنه كان إذا ماشى الطويل زاد عليه، لأنه معجزة. روى ابن أبي خيثمة عن عائشة: لم يكن أحد يماشيه من الناس، ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وربما اكتنفه الرجلان الطويلان، فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطويل، ونسب -صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة. "وعن أبي هريرة: ما رأيت شيئًا" بصرية فما بعده صفة لشيئًا أو علمية وهو أبلغ، فقوله: "أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" مفعول ثان، يعني: ولا مثله، كما هو مدلول العبارة عرفًا، "كأن الشمس تجري في وجهه. رواه الترمذي، والبيهقي، وأحمد، وابن حبان"، وابن سعد. "قال الطيبي: شبَّه جريان الشمس" حركتها "في فلكها"، كما قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] ، "بجريان الحُسْنِ في وجهه -صلى الله عليه وسلم"، وفيه عكس التشبيه للمبالغة، هذا أسقطه من كلام الطيبي، فهو من باب التشبيه المصطَلَح عليه، وهو تشبيه حالة بحالة، وهو أن شدة النور وسريانه في وجه الناظر إليه، منَزَّل منزلة الشمس التي ظهر نورها في وجهه، فشبَّه ظهور النور في وجهه بظهور الشمس في وجهه، لكنَّه عكس التشبيه، فجعل نور الشمس هو المشبّه، وجعل وجهه مقرًّا لظهور نورها، وليس استعارة تبعية على معنى: إن جريان الشمس في فلكها كجريان الحسن في وجهه، أي: شدة البريق واللمعان فيه، وعدم انحصاره في بعضٍ منه دون باقيه، يشبِّه نور الشمس في فلكها، لفقد ضابطها، وهو تشبيه مصدر بمصدر، ثم يستعار اسم المصدر المشبَّه به إلى المشبَّه، كما يستعار قتل للضرب الشديد، وهنا لفظ يجري، متحد في المشبه والمشبه به؛ لأن مفهوم الجريان واحد، إلا أن ينزل تغايرهما بالاعتبار منزلة تغايرهما بالذات، فتصح الاستعارة؛ لأن جريان الشمس في فلكها حقيقي، وجريان الحسن في وجهه مجازي. "قال" الطيبي: "ويحتمل أن يكون من تناهي" بهاء بعد ألف "التشبيه" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: من التشبيه الذي بلغ النهاية، حيث "جعل وجهه مقرًّا ومكانًا للشمس" تجري فيه، فهذا بيان لجهة التناهي، أي: إنه جعل ما حقه أن يكون مشبهًا مشبهًا به؛ إذ جريان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 ولله در القائل: لم لا يضيء بك الوجود وليلة ... فيه صباح من جمالك مسفر فبشمس حسنك كل يوم مشرق ... وببدر وجهك كل ليل مقمر وفي البخاري: سئل البراء: أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل القمر. وكأنَّ السائل أراد مثل السيف في الطول، فردَّ عليه البراء فقال: بل مثل القمر، أي في التدوير، ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف في اللمعان والصقالة،   الشمس في فلكها أمر ظاهر، وجريان الحسن في الوجه الوجيه، وإن كان أعظم، إلّا أن التشبيه به ليس متعارفًا, فجعله مشبهًا به مبالغة في التشبيه، كما يقال الأصل: زيد كأسد، وأبلغ منه: زيدًا أسد، وأبلغ منه: الأسد كزيد، فلا وجه لما قيل، لعلَّ العبارة من تناسى -بسين لا هاء، لأنَّ تناسي التشبيه استعارة، نحو: رأيت أسدًا، وما هنا ليس استعارة لجمعه بين طرفي المشبه، وبعبارة أخرى: شبَّه وجهه بالشمس في الإشراق، ثم عكس التشبيه ليكون أبلغ، فقال: كأنَّ الشمس وجهه، ثم زاد في المبالغة على طريق التجريد، فانتزع منها شمسًا، جعلها في وجهه، كقوله لهم: فيها دار الخلد، وأقحم، تجري على أنه حال، وأصله: كأنه الشمس، ثم كأنَّ الشمس وجهه، ثم كأن الشمس في وجهه، وإنما قيدها بكونها جارية، لأنَّ المراد: ظاهرة أو سائرة على وجه الأرض، أو لأنَّ تلألؤ النور في وجهه كتحركها، وهو أقوى في التشبيه، "ولله در القائل". "لم لا يضيء بك الوجود" استفهام تعجبي أو نكاري، على من منع الإضاءة به، "وليلة فيه صباح من جمالك"، أي: لا مانع لا يضيء بك، والحال أنَّ ليله فيه نور أعظم من نور المصباح، ووصفه بقوله "مسفر"، إشارة إلى أنه ليس المراد مجرده، فإن الصباح كالصبح: الفجر, ونوره قليل، فدفع ذلك بالوصف "فبشمس حسنك كل يوم مشرق" تعليل، "وببدر وجهك" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بوجهك الذي هو كالبدر، "كل ليل مقمر" شديد البياض. "وفي البخاري" عن أبي إسحاق، قال: "سئل البراء" بن عازب، "أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف، فقال: لا، بل مثل القمر". قال في فتح الباري: "وكأنَّ السائل أراد مثل السيف في الطول، فردَّ عليه البراء" ردًّا بليغًا، "فقال: مثل القمر، أي: في التدوير"، فهو ردٌّ لما توهمه السائل، وإثبات لخلافه. قال السيوطي: زاد مسلم مستديرًا، وهو يؤيد أن السائل أراد هذا الاحتمال، "ويحتمل أن يكون" السائل "أراد مثل السيف في اللمعان والصقالة" بكسر الصاد: الجلاء -بجيم، فهو عطف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان. وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب بن دحية -رحمه الله تعالى- في كتابه "التنوير" في مولد البشير النذير" عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففي هذا الحديث, من العلم أنَّ التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح الإقرار عليه؛ لأن السائل شبَّه وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف، ولو شبهه بالشمس كان أَوْلَى، فردَّ عليه البراء قوله وقال: بل مثل القمر، وأبدع في تشبيهه؛ لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده، ونوره من غير حَرٍّ يفزع،   سبب على مسبب؛ إذ الجلاء سبب اللمعان، "فقال: بل فوق ذلك، وعدل" عن التشبيه بالشمس "إلى" التشبيه بـ "القمر؛ لجمعه الصفتين من التدوير واللمعان"، فهو رَدٌّ لتوهم السائل أن لمعانه كلمعان السيف، بأنّه وإن شاركه في اللمعان، لكن لمعانَ الوجه الشريف لا يساويه شيء، قيل: ويحتمل أن السائل سأل عنهما جميعًا، ويبعد إرادة الأَوَّل فقط, زيادة مسلم، لا بل مثل الشمس والقمر، وكانَّ مستديرًا؛ إذ لو كان السؤال عن طوله كفاه في الجواب، لا بل مثل القمر، أي: لا كان مثل السيف في الاستنارة، ولا الاستطالة، انتهى. ويجاب بأنه تبرع بزيادة في الجواب، تعليمًا للسائل كيف يسأل، فكأنَّه قال: مفاد سؤالك أنه مثل في الطول، ولا يليق السؤال عنه. "وقال الحافظ النسابة أبو الخطاب" عمر بن حسن بن علي بن محمد، اشهير بأنه "ابن دحية"؛ لأنه من ذرية دحية الكلبي، الصحابي، الأندلسي، كان بصيرًا بالحديث، متقنًا، معروفًا بالضبط, جال البلاد، ودخل أصبهان والعراق ومصر، وأدَّب الملك الكامل، ونال دنيا عريضة، ومات سنة ثلاث وثلاثين وستمائة "رحمه الله تعالى, في كتابه: التنوير في مولد البشير النذير" أحازه على تأليفه الملك المظفَّر، صاحب إربل -بكسر الهمزة والموحدة، ولام, بألف دينار "عند إيراد حديث البراء المذكور ما لفظه: ففي هذا الحديث من العلم أنَّ التشبيه ممن لا يحسنه لا يصلح"، أي: لا يليق "الإقرار عليه؛ لأنَّ السائل شبَّه وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسيف، ولو شبَّهه بالشمس كان أولى" لظهورها، لكن السائل لم يتعرَّض لغير السيف، فلعلَّ المعنى: إن هذا أمر قدر على لسانه، كأنه حذف معادل مثل السيف، وهو الشمس، وإن تشبيهه بها أَوْلَى، "فَرَدَّ عليه البراء قوله وقال: بل مثل القمر، وأبدع في تشبيهه"، أتى بأمر بالغ لا يساويه غيره من أنواع التشبيه هنا؛ "لأنَّ القمر يملأ الأرض بنوره"، لا سيما ليلة كماله، وقد تكون أل في القمر للإشارة إلى أنَّ المراد ليلة تمامه بخلاف الشمس؛ فإنها تطلع وقت طلوعها مع ظلٍّ، ثم ترتفع شيئًا فشيئًا إلى أن يميل الظلّ، "ويؤنس كل من يشاهده ونوره، من غير حر يفزع" بفاء وزاي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 ولا كلل ينزع، والناظر إلى القمر متمكِّن من النظر بخلاف الشمس التي تعشي البصر. وفي رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة، وقال له رجل: أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل الشمس والقمر وكان مستديرًا. وإنما قال: مستديرًا، للتنبيه على أنه جمع الصفتين؛ لأنَّ قوله: مثل السيف, يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان -كما تقدَّمت إليه الإشارة فيما سبق من العبارة، فردَّه المسئول ردًّا بليغًا، ولما جرى   يؤلم، "ولا كلل ينزع" بفتح الياء وسكون النون، وكسر الزاي- أي: ولا ثقل في العين يضعفها، حتى كأنه يقلع البصر منها، "والناظر إلى القمر متمكِّن من النظر"، عطف مسبب على سبب، "بخلاف الشمس التي تعشي" بعين مهملة: تضعف "البصر"، ويحتمل إعجامها، أي: تحدث في البصر ما هو كالغشاوة. "وفي رواية مسلم من حديث جابر بن سمرة" بفتح المهملة وضمّ الميم وتسكن للتخفيف- ابن جنادة بن جندب، العامري، صحابي ابن صحابي، روى له الستة. ومات سنة ثلاث أو أربع أو ست وسبعين، وصلى عليه عمرو بن حريث الصحابي، "وقال له رجل": جملة حالية بتقدير قد، ويحتمل أنه الذي سأل البراء، فيكون سؤاله لأحدهما بعد الآخر زيادةً في التثبت، ويحتمل أن يكون غيره, وقد أعلَّ النسائي هذا، فقال: إسناده إلى جابر خطأ، وإنما هو عن البراء، وتعقَّب بقول البخاري: الحديث صحيح عن جابر وعن البراء جميعًا، "أكان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل السيف، فقال: لا، بل مثل الشمس" في البهاء والإشراق، "والقمر" في الاستدارة والنور، "وكان مستديرًا" لا طويلًا كالسيف، فالمراد استدارة مع الأسالة، كما في حديث أبي هريرة: كان أسيل الخدين، والقصد تشبيهه بمحاسن كل حسن، مجردًا عمَّا في ذلك المشبَّه به من الخلل، كما قال بديع الزمان: يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا ... لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهبا والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا "وإنما قال: مستديرًا"، كما قال الحافظ بعد نقله رواية مسلم في الفتح، "للتنبيه على أنه جمع الصفتين، لأنَّ قوله: مثل السيف، يحتمل أن يريد به الطول، ويحتمل أن يريد به اللمعان، كما تقدَّمت إليه الإشارة" قريبًا "فيما سبق من العبارة"، ويحتمل إرادتهما معًا، "فرده المسئول ردًّا بليغًا" بنفي قوله: مثل السيف، بقوله: لا، ثم إضرابه إلى التشبيه بالنيرين، "ولما جرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 التعارف به أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبًا الإشراق، وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما، فقوله: وكان مستديرًا، إشارة إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معًا: الحسن والاستدارة. وقال المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن جابر بن سمرة أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء،   التعارف"، أي: الأمر المتعارف "به" بين الناس "أنَّ التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبًا الإشراق" دون الضرر والإحراق، "وبالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرهما"، وجواب لما سقط من قلم المصنّف لما نقل من الفتح، وهو ثابت فيه بلفظ أتى بقوله: وكان مستديرًا، إشارة ... إلخ، ويحتمل أن المصنّف جعل "فقوله: وكان مستديرًا" دليلًا على جواب لما, الذي حذفه، أو أنه جواب لما, دخلته الفاء على قلة، وهو واقع في كلامه كثيرًا، أو أن لفظ لما -بكسر اللام وخفة الميم- عطف على للتنبيه، وما مصدرية، "إشارة إلى أنه أراد به التشبيه بالصفتين معًا: الحسن والاستدارة"، ولو اقتصر على هذا جاعلًا له جواب لما، وحذف لفظ فقوله: وكان مستديرًا، أو أتى بلفظ الفتح، كما هو لا غنى عن ذلك التمحل. "وقال المحاربي عن أشعث" بفتح الهمزة، وإسكان المعجمة، فمهملة فمثلثة- هو ابن سوار، كما في الشمائل -بفتح المهملة وشد الواو. قال في التقريب قاضي الأهواز: ضعيف. مات سنة ست وثلاثين ومائة. روى له البخاري في تاريخه، والنسائي وابن ماجه، والترمذي في الشمائل، ولفظه: حدَّثنا هناد بن السري، قال: حدثنا عبثر، عن أشعث، يعني: ابن سوار، "عن أبي إسحاق" عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي -بفتح المهملة، وكسر الموحدة- ثقة مكثر عابد. روى له الستة, من أواسط التابعين، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل: قبلها, "عن جابر بن سمرة أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلة إضحيان" بكسر الهمزة، وسكون المعجمة، وكسر الحاء المهملة, فياء, فألف، فنون منونة- صفة لليلة، أي: مضيئة مقمرة من أولها إلى آخرها، لا ظلمة فيها ولا غيم، والألف والنون زائدتان، كما في النهاية، والقياس أضحيانة، وكأنه لتأويل ليلة بليل. قال الزمخشري: وافعلان في كلامهم قليل جدًّا، ومنع بعضهم إضافته؛ لأنه صفة لقمر، ورد بأنه لا يمنع من الإضافة؛ لجواز أن ليلة مضافة إلى إضحيان بعد حذف موصوفه، والأصل: ليلة قمر إضحيان، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، "وعليه حلة حمراء" بيان لما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلهو في عيني أحسن من القمر، وفي رواية: بعد قوله: حمراء, فجعلت أماثل بينه وبين القمر. وروى الترمذي والبيهقي عن علي أنه نعته -صلى الله عليه وسلم- فقال: لم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في وجهه تدوير قليل. والمكلثم: المدور الوجه, أي: لم يكن شديد تدوير الوجه, بل في وجهه تدوير قليل. وأنه في حديث علي عند أبي عبيد في الغريب: وكان في وجهه تدوير قليل، قال أبو عبيد   أوجب التأمّل فيه، لظهور مزيد حسنه حينئذ، "فجعلت أنظر إليه" تارة، "وإلى القمر" أخرى، "فلهو" بلام الابتداء وجواب قسم, "في عيني" قيِّد بذلك افتخارًا باعتقاده، لا لتخصيصه دون غيره، فإنه "أحسن من القمر" في عيني كل من رآه. وفي رواية: فلهو عندي أحسن من القمر، "وفي رواية: بعد قوله: حمراء، فجعلت أماثل بينه وبين القمر"، فلهو عندي أحسن من القمر. "وروى الترمذي والبيهقي عن علي؛ أنه نعته" وصفه "صلى الله عليه وسلم، فقال" في جملة حديث: "لم يكن بالمطهم". قال المصنِّف في شرح الشمائل: الرواية فيه وفي قوله: "ولا بالمكلثم" بلفظ اسم المفعول فقط، والمطهم، الفاحش السمن، وهذا قريب من قول الترمذي: البادن الكثير اللحم، أو المنتفخ الوجه، الذي فيه عبوس ناشئ عن السِّمَن، أو النحيف الجسم، وهو من الأضداد، أو طهمة اللون: أن تجاوز سمرته إلى سواد، ووجه مطهم إذا كان كذلك، ولا مانع من إرادة هذا الأربع هنا، وغلط من فسَّره هنا بالبارع الجمال التام، كل شيء منه على حدته؛ لأنه مدح، وقد نفاه، "وكان في وجهه تدوير، والمكلثم: المدوّر الوجه"، نحو قوله الصحاح: الكلثمة اجتماع لحم الوجه، زاد القاموس: بلا جهومة -بالجيم، أي: غلظ فيه يوجب كراهته، فتننكير تدوير للنوعية، أي: نوع منه، أو للتقليل، أي: شيء منه، فلا ينافي نفي الكلثمة -كما توهم، وإلى هذا أشار بقوله، "أي لم يكن شديد تدوير الوجه, بل في وجهه تدوير قليل"، فهذه الجملة كالمبينة بقوله: ولا بالكلثم، إشارة إلى أنه ليس كل تدوير حسنًا، "و" يدل على إرادة علي -رضي الله عنه- ذلك، "أنه في حديث علي" نفسه، "عند أبي عبيد في" كتاب "الغريب"، أي: ما يحتاج إلى تفسيره من الحديث، "وكان في وجهه تدوير قليل"، فزاد لفظ قليل، فيحمل عليه حديثه الذي فيه إسقاطه؛ لأن الحديث يفسّر بعضه بعضًا، لا سيما مع اتحاد المخرج، ولذا "قال أبو عبيد" القاسم بن سلام -بالتشديد- البغدادي، الإمام الحافظ المشهور، له تصانيف. مات سنة أربع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 في شرحه: يريد أنه ما كان في غاية التدوير، بل كان فيه سهولة وهي أحلى عند العرب. وفي حديث أبي هريرة عند الذهلي في الزهريات في صفته -صلى الله عليه وسلم: كان أسيل الخدين. قال ابن الأثير: الأسالة في الخد: الاستطالة, وأن لا يكون مرتفع الوجنة. وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ولعلَّ هذا هو الحامل لمن سأل: أكان وجهه مثل السيف؟ وأخرج البخاري عن كعب بن مالك قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سرَّ استنار وجهه كأنَّه قطعة قمر، وكنَّا نعرف ذلك منه، أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور وهو   وعشرين ومائتين. قال في التقريب: ثقة من العاشرة, ولم أر له في الكتب، أي: الستة حديثًا مسندًا، بل من أقواله في شرح الغريب، "في شرحه, يريد أنه ما كان في غاية التدوير، بل كان فيه سهولة، وهو أحلى" بالحاء المهملة "عند العرب" وغيرهم من كل ذي دوق سليم وطبع قويم، بل قال الترمذي الحكيم: استدارته المفرطة دالة على الجهل, "وفي حديث أبي هريرة عند الذهلي" بذال معجمة وهاء تليها لام- محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري الحافظ، روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وخلق، وعنه البخاري، وأصحاب السنن، وأمم. قال أبو بكر بن أبي داود: كان أمير المؤمنين في الحديث، وقال الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين، والحفَّاظ المتقنين، والثقات المأمونين، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين على الصحيح، وله ست وثمانون سنة "في الزهريات"، كتاب جمع فيه حديث ابن شهاب الزهري وجوَّده. قال الخطيب: كان أحمد بن حنبل يثني عليه ويشكر فضله, "في صفته -صلى الله عليه وسلم، كان أسيل" بهمزة مفتوحة، فسين مهملة مكسورة، فياء ساكنة، فلام لين, "الخدَّيْن" غير مرتفع الوجنتين، وهو بمعنى حديث هند: سهل الخدين. "قال ابن الأثير" في النهاية: "الأسالة في الخد الاستطالة، وأن لا يكون مرتفع الوجنة"، أي: عاليها، "وقال شيخ الإسلام، الحافظ ابن حجر: ولعلَّ هذا" لفظ الفتح، وكأنَّ قوله: أسيل الخدَّين، "هو الحامل لمن سأل: أكان وجهه مثل السيف"؛ لأنَّ الأسالة الاستطالة، فيؤيد احتمال أنه سأل عن الطول، "وأخرج البخاري عن كعب بن مالك" الأنصاري الخزرجي "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سرَّ استنار"، أي: أضاء "وجهه" حتى "كأنَّه قطعة قمر، وكنَّا نعرف ذلك منه"، أي: استنارة وجهه إذا سرَّ، وقوله: كأنه، "أي: الموضع الذي يتبين فيه السرور، وهو جبينه"، ولذا قال: قطعة قمر، ولعلَّه كان حينئذ متلثمًا، وكان التشبيه وقع على بعض الوجه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 جبينه. وقالت عائشة -رضي الله عنها: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا مسرورًا تبرق أسارير وجهه. ولذلك قال كعب: كأنه قطعة قمر. وفي حديث جبير بن معطم عند الطبراني: التفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجهٍ مثل شقة القمر. فهذا محمول على صفته عند الالتفات. وقد أخرج الطبراني حديث كعب بن مالك من طرق في بعضها: كأنه دارة قمر. ويسأل عن السر في التقييد بالقطعة مع كثرة ما ورد للبلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير   فناسب أن يشبه ببعض القمر، قاله في الفتح، والجبين فوق الصدغ، وهو جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، كما في المختار، وعليه: فالنور المشاهد منه ليس في الجبهة، "وقالت عائشة -رضي الله عنها: دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه عليه وسلم- يومًا مسرورًا" فرحًا "تبرق" بضم الراء: تضيء وتسنير من الفرح "أسارير وجهه"، جمع أسرار جمع سِرّ -بكسر السين، وهو الخطوط التي في الجبهة تبرق عند الفرح، وبقية الحديث في البخاري، فقال -صلى الله عليه وسلم: ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد أسامة، ورأى أقدامهما أن بعض هذه الأقدام من بعض، "ولذلك قال كعب: كأنه قطعة قمر"، إشارة إلى موضع الاستنارة وهو الجبين، "وفي حديث جبير بن مطعم" القرشي، النوفلي "عند الطبراني: التفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجه مثل شقة" بكسر الشين- قطعة "القمر"، وأما الشقة -بضم الشين، فالقطعة من الثوب والسفر البعيد، كما في الصحاح وغيره، "فهذا محمول على صفته عند الالتفات"، كما قاله الحافظ، يدل عليه لفظ: التفت، وأمَّا قول كعب: قطعة قمر، فيحتمل أنه كان حينئذ متلثمًا، فوقع التشبيه على البعض، كما مَرَّ، ويحتمل كما قال الحافظ أيضًا: أن يريد بقطعة قمر القمر نفسه. "وقد أخرج الطبراني حديث كعب بن مالك، من طرق في بعضها، كأنه دارة قمر"، أي: الدائرة حوله، وهي الهالة، أي: كأنه في شدة نور هالة القمر، يعني: فهذا يؤيد احتمال أنَّه أراد بالقطعة القمر نفسه من التعبير بالبعض عن الكل، "ويسأل عن السر" النكتة الخفية "في التقييد بالقطعة" في قول كعب، كأنه قطعة قمر، "مع كثرة ما ورد للبلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 تقييد. وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة، فلابُدَّ للتقييد بذلك من حكمة. وما قيل في أن ذلك من الاحتراز من السواد في القمر ليس بالقوي؛ لأن المراد بتشبيهه ما في القمر من الضياء والاستنارة, وهو في تمامه لا يكون فيها أقلّ مما في القطعة المجردة، فكأنَّ التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر. وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: كان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كدارة القمر، أخرجه أبو نعيم. وروى البيهقي عن أبي إسحاق الهمداني.   تقييد، وقد كان كعب بن مالك قائل هذا من شعراء الصحابة" الفصحاء البلغاء، فلا يعدل عن المتعارف بينهم إلا لسبب، "فلابُدَّ للتقييد بذلك من حكمه" لئلَّا يضيع، "وما قيل" القائل هو السراج البلقيني، كما قاله المصنف وغيره، وأبهمه هنا تبعًا للحافظ تأدبًا؛ لأنه شيخه، "في أنَّ ذلك من الاحتراز من السواد الذي في القمر" بيان لما قيل، ولفظ المصنّف في الشرح: أجاب السراج البلقيني: بأنَّ وجه العدول أن القمر فيه قطعة يظهر فيها سواد، وهو المسمَّى بالكَلَف، فلو شبّه بالمجموع لدخلت هذه القطعة في المشبه، وغرضه: إنما هو التشبيه على أكمل الوجوه، فلذا قال: كأنه قطعة قمر، يريد القطعة الساطعة الإشراق، الخالية من شوائب الكدر أ. هـ. "ليس بالقوي؛ لأن المراد بتشبيهه"، أي: الوجه, وفيه حذف هو تشبيهه "ما في القمر من الضياء والاستنارة"، لا بما فيه من النور والسواد معًا، "وهو" أي: القمر "في تمامه لا يكون فيها أقلّ مما في القطعة المجردة", بل ما فيها في غير التَّمَام يكون مساويًا لما في القمر بجملته، أو أكثر، وقد يقال: بل هو قوي؛ لأن المراد بالقطعة المشبَّه بها ما فيه من النور خاصَّة, وهو خالٍ من السواد، كبرت القطعة أو صغرت؛ والقمر أبدًا لا يخلو من سواد، سواء وقت التَّمَام وغيره، ومن قوله: ويسأل إلى هنا, ذكره الحافظ في المغازي، وقال عقبه: فيوجه بأنه إشارة إلى موضع الاستنارة، وهو الجبين، وفيه يظهر السرور، كما قالت عائشة: مسرورًا تبرق أسارير وجهه، "فكأنَّ التشبيه وقع على بعض الوجه" الذي هو الجبين، "فناسب أن يشبه ببعض القمر"، وتقدَّم له قريبًا مزيد. "وعلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: كان وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كدارة القمر"، قال الجوهري: الدارة أخصّ من الدار، والدارة التي حول القمر، وهي الهالة، "أخرجه أبو نعيم، وروى البيهقي عن أبي إسحاق"، عمرو بن عبد الله "الهمداني" بفتح الهاء، وإسكان الميم، ومهملة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 عن امرأة من همدان -سماها- قالت: حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مراتٍ, فرأيته على بعير له يطوف بالكعبة, بيده محجن, عليه بردان أحمران, يكاد يمس شعره منكبه, إذا مَرّ بالحجر استلمه بالمحجن ثم يرفعه إلى فمه فيقبّله. قال أبو إسحاق: فقلت لها شبهيه فقالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله -صلى الله عليه وسلم. وروى الدارمي والبيهقي وأبو نعيم والطبراني عن أبي عبيدة بن محمد بن   نسبة إلى همدان, شعب من قحطان السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة- التابعي الجليل, تقدَّم قريبًا، "عن امرأة من همدان -سماها" أبو إسحاق، ونسيها الراوي، عنه "قالت: حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مرات" كذا هنا، فلعلها قبل الهجرة؛ إذ لم يحج بعدها سوى حجة الوداع، "فرأيته على بعير له" في حجة الإسلام، "يطوف بالكعبة بيده محجن" بكسر الميم، وإسكان المهملة، وفتح الجيم، ونون: عصا معوجة الرأس, "عليه بردان أحمران، يكاد" يقرب "يمس شعره منكبه, إذا مَرَّ بالحجر" الأسود "استلمه بالمحجن، ثم يرفعه إلى فيه فيقبله". "قال أبو إسحاق: فقلت لها: شبهيه" صلى الله عليه وسلم, "فقالت: كالقمر ليلة البدر"، فاستعملت البدر في الصفة اللازمة، وهي الكمال، فكأنها قالت: كالقمر ليلة كماله، "لم أر" لم أبصر "قبله ولا بعده مثله" مَنْ يساويه خلقًا وخُلُقًا، وهذه جملة ثانية معربة عن كمال حسنه، ونهاية جماله -صلى الله عليه وسلم، وظاهره نفي رؤية مثله قبل رؤيته وبعدها، وذلك متعارف في المبالغة في نفي المثل، سواء وجد المتكلم في زمن قبل أم لا, فهو كناية عن نفي كون أحد مثله، فيدل عرفًا على أنه أحسن من كل أحد، وإذا انتفى المثل الذي هو أقرب إليه من الأحسن في مقام ذكر المحاسن، فالأحسن أنقى؛ لأنه إن وجد كان مثلًا وزيادة. "وروى الدارمي" بفتح الدال المهملة، وكسر الراء، نسبة- إلى درام، بطن من تميم, عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام، أبو محمد السمرقندي، الحافظ، صاحب المسند، أحد الأعلام الثقات. روى عن يزيد بن هارون، وأبي عاصم وغيرهما، وعنه مسلم وأبو داود والترمذي وخلق، سئل عنه أحمد، فقال للسائل: عليك بذاك السيد. قال ابن حبان: كان من الحفَّاظ المتقنين، جمع وتَفَقَّه وصَنَّفَ وحَدَّثَ، وأظهر السُّنَّةَ ببلده، ودعا إليها، وذبَّ عن حريمها، وقمع من خالفها، ومات يوم التروية سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أربع أو خمس وسبعون سنة. "والبيهقي، وأبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصبهاني، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، تقدَّم بعض ترجمة الثلاثة، "عن أبي عبيدة" بضم العين مصغَّر "ابن محمد بن عمار بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 عَمَّار بن ياسر قال: قلت للربيع بنت معوّذ صفي لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة، وفي لفظ: يا بني لو رأيته لرأيت الشمس طالعة. وروى مسلم عن أبي الطفيل أنه قيل له: صف لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان أبيض مليح الوجه. وفيما خرجه الترمذي من حديث هند بن أبي هالة:   ياسر" العنسي -بالنون- المدني، أخي سلمة، وقيل: إنه هو التابعي الوسط, مقبول، روى له الأربعة "قال: قلت للربيع" بضم الراء، وفتح الموحدة، وشد التحتية مصغَّر- صحابية صغيرة، روى لها الستة "بنت معوذ" بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد الواو، وفتحها على الأشهر، وجزم الوقشي -بالكسر، كما في الفتح في غزوة بدر, صحابي جليل، مشهور بأنه ابن عفراء، استُشْهِدَ ببدر -رضي الله عنه: "صفي لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قالت: لو رأيته لقلت: الشمس طالعة"، أي: لرأيت نورًا عظيمًا؛ بحيث تظن لما ترى من بهجة وجهه أن الشمس طالعة. "وفي لفظ: يا بني" بالتصغير، للتحبب والشفقة، "لو رأيته لرأيت الشمس طالعة". وقال الطيبي معناه: لرأيت شمسًا طالعة، جردت من نفسه الشريفة نفسًا، نحو قولك: لئن لقيته لتلقينَّ أسدًا، وإذا نظرت إليه لم تر إلا أسدًا. "وروى مسلم عن أبي الطفيل" عامر بن واثلة -بمثلثة، ابن عبد الله الليثي: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، فمن بعده وعمر، إلى أن مات سنة مائة، على الصحيح عند الذهبي، وتبعه في التقريب، وجزم مسلم وابن عبد البر بأنَّه مات سنة مائة، واقتصر عليه العراقي، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره. ولد عام الهجرة، أو ثانيها، وفي روايةٍ لمسلم أيضًا، والترمذي عنه: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم، وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري، "إنه قيل له: صف لنا رسول الله"، القائل له: سعيد الجريري -بضم الجيم وراءين- مصغَّر، فلفظ رواية مسلم عن الجريري، قلت لأبي الطفيل: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: كيف رأيته؟ وفي رواية الترمذي، قلت: صفه لي -صلى الله عليه وسلم، فقال: كان أبيض"، يعني: بياضًا مشربًّا بحمرة، كما يأتي إيضاحه مع زيادة "مليح الوجه"، أي: حسنه, من ملح: حسن منظره، فهو مليح، ولمسلم أيضًا، والترمذي، قال -أي: أبو الطفيل: كان أبيضًا مليحًا مقصدًا -بشد الصاد المهملة، أي: متوسطًا في جميع أوصافه، كان خلقه نحى به القصد، أي: الوسط، كما أن شَرْعه وسط بين الشرائع، وأمَّته وسط بين الأمم، فكان في لونه وهيكله وشعره، وشرعه مائلًا عن طرفي الإفراط والتفريط، وكان معتدل القوى، "وفيما"، أي: الحديث الطويل، الذي "خرجه الترمذي من حديث هند بن أبي هالة"، من رواية الحسن بن علي، قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخمًا مفخمًا يتلألأ وجهه تلألأ القمر ليلة البدر. وقالت أم معبد حين وصفته لزوجها: مبلج الوجه، يعني: مشرقه مضيئه، ومنه: تبلج الصبح إذا أسفر، وما أحسن قول سيدي علي بن وفى حيث قال:   سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصفًا عن خلية النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئًا أتعلق به، فقال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم" من ابتداء طفوليته إلى آخر عمره كما تفيده كان التي للاستمرار عند قوم "فخمًا" بفتح الفاء، وإسكان الخاء المعجمة- على الأشهر، واقتصر عليه السيوطي، وكأنه الرواية، وإلّا فيجوز كسرها، أي: عظيمًا في نفسه "مفخمًا" بضم الميم، وفتح الفاء، والخاء المعجمة المشددة: معظمًا في صدور الصدور، وعيون العيون، لا يستطيع مكابر أن لا يعظمه، وإن حرص عليه خالف باطنه، أو فخمًا، عظيم القدر عند صحبه, مفخمًا عند من لم يره قط، فهو عظيم أبدًا، أو فخمًا عند الله مفخمًا عند الخلق، وعليها: فليست الفخامة في الجسم، وقيل: هو المراد، ففخامة الوجه امتلاؤه بالجمال والمهابة، أو كثرة لحم الوجنتين مع كمال الجمال، وبدأ الوصَّاف بالوجه دون الهامة؛ لأنه أوّل ما يتوجَّه إليه النظر، وأشرف ما في الإنسان وغيره، فقال: "يتلألأ وجهه" يشرق ويضيء, وأصل تلألأ أبيض, فأسبه بياض اللؤلؤ لضوئه, "تلألؤ القمر" مثل إشراقه واستنارته "ليلة البدر" ليلة أربعة عشر، سُمِّي بدر السبق طلوعه مغيب الشمس، وهو أحسن ما يكون، وشبهه به دون الشمس؛ لأنه ظهر في عالم مظلم بالكفر؛ ولأنَّ نور القمر أنفع من نورها، فنور وجهه أنفع من نور الشمس، وهذا أحسن من الوجه الآتي للمصنف. "وقالت أم معبد" بفتح الميم، وإسكان المهملة، وفتح الموحدة، ومهملة- عاتكة بنت خالد الخزاعية، صحابية "حين وصفته لزوجها" أبي معبد أكثم -بفتح الهمزة والمثلثة, أو حبيش -بضم المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، ومعجمة- أو لا يعرف اسمه, صحابي، قديم الوفاة: "مبلج الوجه" بموحدة وجيم، "يعني: مشرقه مضيئه، ومنه: تبلج الصبح إذا أسفر"، وأما الأبلج الذي وضع ما بين حاجبيه، فلم يقترنا، فهو أبلج، والاسم البلج -بفتح اللام، فلم ترده أم معبد؛ لأنها وصفته بالقرن، كما تقدَّم مبسوطًا في الهجرة، "وما أحسن قول سيدي علي"، أبي الحسن "بن" محمد, "وفى" رضي الله عنه- الشاذلي، العارف الكبير، ابن العارف الكبير, اليقظ، حادّ الذهن، المالكي، صاحب الكرامات الباهرة، والحكم المتكاثرة، المتوفَّى سنة سبع وثمانمائة، وله تسع وأربعون سنة، "حيث قال": لا حاجة له مع قوله أولًا: ما أحسن قوله، ولذا سقط من نسخ، وإن أمكن توجيهه بأنه من ظرفية الجزئي لكليه، الذي هو قول، ولا يرد أنه يوهم حصر أحسنية قوله المذكور هنا عمَّا سواه؛ لأنه بالنسبة لكونه مدحًا في المصطفى، ثم قول يجوز أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 ألا يا صاحب الوجه المليح ... سألتك لا تغيب عني فأنت روحي متى ما غاب شخصك عن عياني ... رجعت فلا ترى إلّا ضريحي بحقك جد لرقك يا حبيبي ... وداوي لوعة القلب الجريح ورقَّ لمغرم في الحب أمسى ... وأصبح بالهوى دنفًا طريح محب ضاق بالأشواق ذرعًا ... وآوى منك للكرم الفسيح وفي النهاية: إنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا سر فكان وجهه المرآة، وكان الجدر تلاحك وجهه. قال: والملاحكة: شدة الملاءمة، أي: يرى شخص الجدر في وجهه -صلى الله عليه وسلم. وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر   مصدر، بمعنى المقول، فقوله: "ألا يا صاحب الوجه المليح" بدل منه، وأنه مصدر لا بمعناه, فهو مقول القول، "سألتك لا تغيب" عني؛ بحيث لا أراك، "فأنت روحي"، أي: كروحي التي بها حياتي، فغيبتك عني سبب هلاكي، "متى ما غاب شخصك عن عياني" بكسر العين- مشاهدتي له, هلكت، فحذف جواب الشرط، فإذا "رجعت"، فهو شرط لمقدر، بدليل الفاء في: "فلا ترى إلّا ضريحي"، أي: قبري. قال المصباح: شقٌّ في وسط القبر، فعيل بمعنى مفعول، "بحقك" أسألك، فأقول: "جد لرقك" مرقوقك، أي: مملوكك ولامه للتعدية، أي: أوصل عطاءك لرقك, أو تعليلية، أي: جدبًا لوصل، لأجل رقك "يا حبيبي"، والمراد التوسُّل به، وهو مطلوب، "وداوى لوعة القلب" حرقته, "الجريح" المجروح، "ورقَّ لمغرم" مولع، أي: ارحم محبًّا احترق قلبه بإقبالك عليه "في الحب"، متعلق بقوله: "أمسى، وأصبح بالهوى دنفًا" مريضًا بمرض لازم لا يفارقه، "طريح" مُلْقَى لما أصابه من الحب، صفة لمغرم بلا ياء، وبياء إمَّا للإشباع ساكنة، أو ياء، نسبة للطرح، لكثرته بالغرام، "محب" نعت ثان لمغرم، "ضاق بالأشواق ذرعًا" أي: صدرًا، كناية عن شدة الانقباض لعجزه عن مدافعة الأشواق، ولم يطقها صدره، ولم يبق فيه سعة، لامتلائه بها، "وآوى منك"، أي: أقام عندك "للكرم الفسيح" الواسع. "وفي النهاية" لابن الأثير؛ "إنه -عليه الصلاة والسلام، كان إذا سر فكان وجهه المرآة" التي ترى فيها صور الأشياء، "وكان الجدر"، جمع جدار "تلاحك وجهه، قال: والملاحكة شدة الملاءمة" أي: الموافقة، "أي: يرى شخص الجدر في وجهه -صلى الله عليه وسلم" لشدة ضيائه. وهذا التفسير من تتمة كلام النهاية، "وفي حديث ابن أبي هالة: يتلألأ وجهه تلألؤ القمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 ليلة البدر. وذلك: لأنَّ القمر يملأ الأرض بنوره, ويؤنس كل من يشاهده، وهو يجمع النور من غير أذى، ويتمكَّن من النظر إليه, بخلاف الشمس التي تغشي البصر فتمنع من تمكن الرؤية، والتشبيه بالبدر أبلغ في العرف من التشبيه بالقمر؛ لأنه وقت كماله، كما قال الفاروق حين رآه أو كلما رآه: لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة البدر وقد صادف هذا التشبيه تحقيقًا، فمن أسمائه -صلى الله عليه وسلم: البدر:   ليلة البدر"، أي: يلمع لمعانه ليلة كماله، فاستعمل البدر في صفة القمر التي هي له، وجرَّده عن معناه الذي هو الموصوف والصفة، أو هو من استعماله المطلق في القيد، أي: ليلة كونه بدرًا، فلا يرد أن المعنى تلألؤ القمر ليلة القمر الكامل، ولا معنى له، "وذلك" أي: وجه التشبيه بالقمر دون الشمس؛ "لأن القمر يملأ الأرض بنوره، ويؤنس كل من يشاهده"، أي: يسكن قلبه إليه، ولا ينفر منه، "وهو يجمع النور من غير أذى، ويتمكَّن من النظر إليه"، بل قد يستلذه، "بخلاف الشمس التي تغشي البصر" بمهملة أو بمعجمة -كما مَرَّ قريبًا، "فتمنع من تمكن الرؤية"، ولا يؤنس إليها لشدة حرها، وسبق توجيه آخر على أنه ورد تشبيهه بالشمس، كما مَرّ. "والتشبيه بالبدر أبلغ في العرف من التشبيه بالقمر؛ لأنه"، أي: البدر هو القمر "وقت كماله، كما قال الفاروق" لقب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لكثرة فرقه، أي: فصله بين الحق والباطل، وفي أن الملقب له جبريل أو المصطفى، أو أهل الكتاب، روايات "حين رآه"، أي: قال: البيت مرة واحدة حين رؤيته في بعض الأزمان، "أو" كان يقوله "كلما رآه"، وكأنه شك من الراوي: "لو كنت من شيء سوى بشر كنت المنوَّر"، أي: القمر "ليلة البدر"، واستعمل سوى صفة لشيء، بناءً على خروجها عن الظرفية إلى معنى غير، وهو الأصح خلافًا، فقول سيبويه: إنها ظرف لا تتصرف إلا في الضرورة، وهذا البيت تمثل به عمر، وليس منشئه؛ إذ هو من قصيدة للمسيب بن عبس بن مالك، خال الأعشى، يمدح بها قيسًا وبعده: ولا أنت أجود بالعطاء من ... الزمان لما جاد بالقطر ولا أنت أشجع من أسامة إذ ... دعيت نزال ولج في الذعر "وقد صادف هذا التشبيه" بالبدر "تحقيقًا"، أي: معناه الحقيقي، وهو ما وضع له الاسم، "فمن أسمائه -صلى الله عليه وسلم- البدر"؛ لتمام كماله وعلوّ شرفه. وفي قصص الكسائي: إن الله قال لموسى: إن محمدًا هو البدر الباهر، والنجم الزاهر، والبحر الراجز، ولهذا أنشدوا لما قدم المدينة في الهجرة أو من غزوة تبوك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع ولقد أحسن من قال: كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فلا تظنَّنَّها كافًا لتشبيه وما أحلى قول ابن الحلاوي: يقولون: يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن ينحط كما شبهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا فقد حصل للبدر والغصن غاية في الفخر بهذا التشبيه، على أنَّ هذه التشبيهات الواردة في صفاته -عليه الصلاة والسلام- إنما هي على عادة الشعراء والعرب،   طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع "ولقد أحسن من قال": كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فلا تظننها كافًا لتشبيه يعني: إذا أتيت بالعدل في وصفه -صلى الله عليه وسلم، قلت: الكاف زائدة، فإنه البدر لا مشبَّه به، "وما أحلى قول ابن الحلاوي" بفتح الحاء وخفة اللام- نسبة إلى الحلاوة لبيعٍ أو غيره، "يقولون" في صفته -عليه السلام، "يحكي البدر" بالرفع فاعل "في الحسن وجهه" بالنصب مفعول، "وبدر الدجى عن ذلك الحسن" الذي في وجهه، "ينحط" عنه, فكيف يحكيه، فما أنصفوا في قولهم، "كما شبهوا غصن النقا" في الاعتدال "بقوامه" بفتح القاف: اعتداله، "لقد بالغوا في المدح للغصن واشتطوا"، جاروا وظلموا؛ لأن التشبيه يستدعي وجهًا جامعًا بين المشبَّه والمشبَّه به، والبدر وغصن النقا لا نسبة بينهما وبين وجهه وقوامه، "فقد حصل للبدر والغصن غاية في الفخر بهذا التشبيه، على أن هذه التشبيهات الواردة في صفاته -عليه الصلاة والسلام، إنما هي على عادة الشعراء والعرب"، ولذا لما عيب على أبي تمام تشبيه ممدوحه بمن دونه في قوله: ما في وقوفك ساعة من بأس ... تقضي ذمام الأربع الأدراس أقدام عمر وفي سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس تفطن لذلك، فقال في أواخر شعره: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 وإلّا فلا شيء في هذه التشبيهات المحدثات, يعادل صفاته الخِلْقية والخُلُقية، ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفى الشاذلي -رحمه الله تعالى؛ حيث قال: كم فيه للأبصار حسن مدهش ... كم فيه للأرواح راح مسكر   لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلًا شرودًا في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلًا من المشكاة والنبراس "وإلّا فلا شيء في هذه التشبيهات المحدثات يعادل صفاته الخَلْقية" بفتح فسكون، "والخُلُقية" بضمتين، كما يدل ل كلامه أوّل الفصل الثاني عن الراغب، فليس الأوّل بالكسر كما قد يتوهم من نسبته إلى الخِلْقة، "ولله در إمام العارفين، سيدي محمد" بن محمد بن محمد، ثلاثة الإسكندراني أو المغربي، ثم المصري، صاحب الموشحات التوحيدية التي لم ينسج على منوالها أحد من البرية، وشيخ الخرقة الوفائية, كان وافر الجلال، فائق الخلال، تمسك من فنون العلم بأفنان، وأفاد بنظمه ونثره عقود الجمان، وقلائد العقيان، ولم يتسم بالسادات في مصر غير ذريته الأعيان. ولد بالإسكندرية سنة اثنتين وسبعمائة، فجاء التاج بن عطاء الله، ومعه أصحابه إلى بيته، فأتى له به، فقبله، وهو في القماط، وقال لأصحابه: هذا جامع علم حقائقنا، ومات أبوه وهو صغير، فكفله جده النجم محمد، وكان من أصحاب الأحوال. قال الشعراوي: وكان أميًّا، وله مؤلفات كثيرة ألفها وهو ابن سبع أو عشر، ولقبه "وفي" بالياء- على القياس، وإن رسم بألف في النسخ؛ إذ هو منقول عن الفعل، وهو وفى يفي إذا تَمَّ؛ لأنه وقف النيل، ولم يزد أو أن الوفاء حتى عزم أهل مصر على الرحيل، فقصدوه، وكان معروفًا بإجابة الدعوة, فجاء وتوضأ بالمقياس، وصلى ركعتين، ثم دعا الله، فصار كلما يطلع من الفسقية درجة، يطلع البحر معه، حتى وفي ذلك اليوم سبعة عشر ذراعًا، فعاد ماشيًا، وهو يقول: وفي وفي، وأخذ عن داود بن باخلا، عن ابن عطاء الله، عن أبي العباس المرسي، عن أبي الحسن، ولذا ينسب "الشاذلي" بذال معجمة، ومهملة- نسبة إلى شاذلة بلد المغرب، منها الشيخ أبو الحسن، أستاذ الشاذلية، وفيهم يقول أبو العباس بن عطاء: تحقق بحب الشاذلية تلق ما ... تروم فحقق ذاك فيهم وحصل ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم ... شموس الهدى في أعين المتأمل ومات سنة ستين، وقيل: حمس وستين وسبعمائة، "رحمه الله تعالى، حيث قال: كم" للتكثير "فيه للإبصار حسن مدهش" محير، أي: إن كثيرًا من الأبصار أدهشها حسنه، بحيث تحيّرت فيه لفرط ما أصابها من الدهش، "كم فيه للأرواح راح مسكر"، أي: وكثير من صفاته التي إدراكها والتعلق بها، يحصل حالة تشبه الخمر لمن قامت به، فيصير كالسكران، الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 سبحان من أنشأه من سبحاته ... بشرًا بأسرار الغيوب يبشر قاسوه جهلًا بالغزال تغزلًا ... هيهات يشبهه الغزال الأحور هذا وحقك ما له من مشبه ... وأرى المشبه بالغزالة يكفر يأتي عظيم الذنب في تشبيهه ... لولا لرب جماله يستغفر فخر الملاح بحسنهم وجمالهم ... وبحسنه كل المحاسن تفخر فجماله مجلى لكل جميلة ... وله منار كل وجه نير جنات عدن في جنى وجناته ... ودليله أن المراشف كوثر   لا يحس بشيء مما عليه الناس، "سبحانه من أنشأه من سبحاته" بضمتين- خلقه من أنواره "بشرًا بأسرار الغيوب يبشر". قال القاموس: سبحات وجه الله -بضمتين: أنواره، وفي الصحاح: جلالته، والأوَّل أنسب هنا، إشارة إلى النور الذي خلق منه، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "يا جابر, إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره" رواه عبد الرزاق، كما مَرَّ أوَّل الكتاب، "قاسوه جهلًا" منهم "بالغزال"، الحيوان المعروف "تغزلًا" لتوهمهم أن بينهما مشابهة، والحال أنها منفية، كما قال: "هيهات" بعد "يشبهه الغزال الأحور" من الحور -بفتحتين: شدة بياض العين في شدة سوادها، "هذا" أي: خذ، وهي كلمة يؤتى بها للفصل والانتقال من معنى لآخر، "وحقك ما له من مشبه، وأرى المشبه بالغزالة"، الشمس التي هي أجل من الغزال، "يكفر" نعمته الواصلة إليه؛ حيث شبهه بما لا نسبة بينه وبينه، لا خلاف الإيمان، "يأتي عظيم" بالرفع فاعل، والنصب مفعول، فاعله ضمير يعود على المشبه، أي: كبير "الذنب في تشبيهه، لولا لرب جماله يستغفر" من هذا الذنب لهلك، فجواب لولا محذوف "فخرَّ" غلب هو "الملاح" بالكسر: جمع مليح, الحسان، الذين فخروا "بحسنهم وجمالهم، وبحسنه كل المحاسن تفخر" بفتح الخاء- من باب منع، كما في القاموس، فلا يقاربه شيء يجعل بينه وبين مشابهة، "فجماله مجلى" بالجيم- محل جلاء، أي: ظهور "لكل" صفة "جميلة"؛ إذ كله محاسن لا يشوبه شيء ينافي الكمال بخلاف غيره؛ إذ اشتمل على صفات جميلة، ربما سترها وصف يغايرها، فيمتنع ظهوره، "وله منار" علم الطريق، استعمل فيما يدل على كماله "كل وجه نير" دليل عليه؛ إذ جميع الأنوار مقتبسة منه "جنات عدن في جنى وَجَناته" -بفتحتين، وهي ما ارتفع من الخد، يعني: أن نعيم الجنات الذي يناله العبد في الآخرة، إنما هو مما اقتبسه من علومه ومعارفه، عبَّرَ عنه بذلك؛ لأن الوجنات أشرف دليل على المحاسن، "ودليله أن المراشف": ما يرشف بالشفتين لإزالة العطش الأكبر يوم القيامة، "كوثر" نهر في الجنة، وعده ربه به، فيه خير كثير، أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 هيهات ألهو عن هواه بغيره ... والغير في حشر الأجانب يحشر كتب الغرام علي في أسفاره ... كتبًا تئوّل بالهوى وتفسر فدع الدعي وما ادعاه في الهوى ... فدعيه بالهجر فيه تهجر وعليك بالعلم العليم فإنه ... لخطيبه في كل خطب منبر وأما بصره الشريف -صلى الله عليه وسلم, فقد وصفه الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] .   وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، لا يظمأ من شرب منه، "هيهات" بعد "ألهو" أشتغل "عن هواه" ميلي ومحبتي له "بغيره". "والغير في حشر الأجانب يحشر"، وشتَّان ما بينهما، فكيف أشتغل بغيره "كتب الغرام"، الولوع والتعلق به، ومحبته "علي في أسفاره"، كتبه الكبيرة "كتبًا"، أحكامًا كثيرة كلها "تئوّل بالهوى" الميل وخلوص المحبة، "وتفسَّر" بها، "فدع" اترك "الدعيّ" المنتسب لقوم وليس منهم، "وما ادَّعاه في الهوى" من الدعاوى الكاذبة، يعد نفسه من أهل المحبَّة، وما هو منهم، "فدعيه" المنتسب إليه "بالهجر" بضم فسكون، الهذيان والتخليط "فيه تهجّر"، أمر يعود عليه بالأذى والهلاك، من هجر المريض هجرًا: خلط وهذي, وتهجّر، سار وقت الهاجرة -شدة الحر، فكأنَّه قال: مدعي المحبة بمجرد اللفظ شبيه بالسائر في شدة الحر، فأتعب نفسه وآذاها بما يلام عليه عاجلًا وآجلًا، "وعليك بالعلم العليم"، أي: الزم واتبع الرسل، الكثير العلم، الذي هو في ظهوره، كعلم الطريق الذي يهتدي به من البعد، "فإنه لخطيبه في كل خطب منبر"، أي: فإنه كالمنبر لكل خطيب في كل أمر مهم، "وأمَّا بصره الشريف -صلى الله عليه وسلم"، وهو النور الذي تدرك به الجارحة المبصرات، كما في المصباح، وهو بمعنى قول المتكلمين: قوة مودعة في العين، وهو صريح في أنه شيء مخلوق في العين زائد عليها، ومقتضى قول القاموس: البصر محركة حسن العين, إنه صفة للعين، ليست زائدة عليها، إلّا أن يكون على حذف مضاف، أي: سبب حسن العين، أي: جمالها. واستعمل الحسن في نفس سببه مجازًا لغويًّا، فأطلق المسبب مريدًا سببه، "فقد وصفه الله تعالى في كتابه العزيز"، الغالب على الكتب التي قبله، بنسخه ما فيها، وإعجازه "بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} ما مال بصره -صلى الله عليه وسلم- عمَّا رآه, " {وَمَا طَغَى} " ما تجاوزه، بل أثبته إثباتًا صحيحًا مستيقنًا، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أُمِرَ برؤيتها، وما جاوزها، كما في البيضاوي، فإن قيل: الآية لا تصلح جوابًا لما؛ لأن المراد الخلق الحسي لا الصفة، فالقياس: أنَّ الجواب، فهو في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل في الظلمة كما يرى في النهار في الضوء. رواه البخاري. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى في الظلمات كما يرى في الضوء. رواه البيهقي.   غاية الحدة والقوة المودَعة فيه، فالجواب أنَّه من التعبير باللزوم؛ لأن وصفه بما في الآية ملزوم، ويلزمه غاية قوة بصره؛ بحيث إنه لا يتخيل في شيء رآه ما يخالف الواقع فيه، بل متى تعلّق بمبصر ما أدركه على ما هو به في الواقع، وإن كان في غاية الخفاء، "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى بالليل في الظلمة"، احترازًا عمَّا إذا كان مع القمر، "كما يرى بالنهار في الضوء"، متعلّق بالنهار للاحتراز عمَّا إذا كان في بيت مظلم، أو في يوم غيم، فلا يقال: لا حاجة إليه بعد ذكر النهار، فالمعنى: إن رؤيته في النهار الصافي والليل المظلم متساوية؛ لأن الله تعالى لما رزقه الاطِّلاع بالباطن، والإحاطة بإدراك مدركات القلوب، جعل له مثل ذلك في مدركات العيون، ومن ثَمَّ كان يرى المحسوس من وراء ظهره، كما يراه من أمامه، ذكره الحرالي ملخصًا، ويأتي نصه في المصنف، ولا يرد عليه حديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة، فوطئ على زينب أم سلمة بقدمه، وهي نائمة فبكت، فقال: "أمطيوا عنا زناياكم"؛ لأنه حجب عن ذلك حينئذ ليعلم أنه لا ينام أحد ببيت ذي الأهل"، وفي حديث: كان يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه. قال عياض: وإنما حدثت هذه الآية له بعد ليلة الإسراء، كما أنَّ موسى كان يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ بعد ليلة الطور أ. هـ. والظاهر أنَّ مراده بالآية ما يشتمل الآيتين في الحديثين، "رواه البخاري"، كذات في النسخ، ولم أجده فيه، وإنما عزاه السيوطي وغيره للبيهقي في الدلائل، وقال: إنه حسن. قال شارحه: ولعلَّه لاعتضاده، وإلّا فقد قال السهيلي: ليس بقوي، وضعَّفه ابن دحية، أي: نقل تضعيفه في كتاب الآيات البينات عن ابن بشكوال؛ لأن في سنده ضعفًا، فكيف يكون في البخاري، "وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى في الظلماء"، مرادف للظلمة. قال في القاموس: الظلمة -بالضم وبضمتين- والظلماء والظلام ذهاب النور، "كما يرى في الضوء، رواه البيهقي" وابن عدي، وكذا بقي بن مخلد، كما في الشفاء، وضعَّفه ابن الجوزي والذهبي، لكنه يعتضد بشواهده، فهو حسن، كما قال السيوطي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل ترون قبلتي ههنا، فوالله ما يخفى عليّ ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وراء ظهري" رواه البخاري ومسلم. وعند مسلم من رواية أنس بن مالك أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيها الناس، إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي".   "وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "هل ترون" بفتح التاء- والاستفهام إنكاري، أي: أتظنون "قبلتي"، أي: مقابلتي ومواجهتي "ههنا" فقط؛ لأن من استقبل شيئًا، استدبر ما وراءه، فبَيِّنَ أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة، "فوالله ما"، وفي رواية: لا "يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم"، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري في موضع من كتاب الصلاة: "فوالله ما يخفى علي خشوعكم، ولا ركوعكم"، وفي موضع آخر: "ركوعكم ولا خشوعكم". قال الحافظ وغيره: أي: في جميع الأركان، ويحتمل أن يريد به السجود؛ لأن فيه غاية الخشوع. وقد صرَّح بالسجود في رواية مسلم، وإذا كان المراد به الأعمّ، فذكر الركوع بعده من الأخص بعد الأعم، إمَّا لأنَّ التقصير فيه كان أكثر، أو لأنه أعظم الأركان، من حيث إنَّ المسبوق يدرك الركعة بتمامها بإدراك الركوع، "إني لأراكم" بفح الهمزة- بدل من جواب القسم، وهو ما يخفى، أو بيان له "من وراء ظهري" رؤية حقيقية، اختُصَّ بها عليكم، وهو تنبيه لهم على الخشوع في الصلاة؛ لأنه قاله لهم لما رآهم يلتفتون، وهو منافٍ لكمال الصلاة، فيكون مستحبًّا لا واجبًا؛ إذ لم يأمرهم بالإعادة. وقد حكى النووي الإجماع على عدم وجوبه، وتعقَّب بأنَّ في الزهد لابن المبارك عن عمّار بن ياسر: لا يكتب للرجل من صلاة ما سها عنه. وفي كلام غير واحد: ما يقتضي وجوبه، ثم الخشوع تارةً يكون من فعل القلب كالخشية، وتارةً من فعل البدن كالسكون، وقيل: لابُدَّ من اعتبارهما، حكاه الرازي في تفسيره. وقال غيره: هو معنى: يقوم بالنفس، يظهر عنه سكون في الأطراف، يلائم مقصوده العبادة، ويدل على أنه من عمل القلب، حديث على الخشوع في القلب، أخرجه الحاكم. وأما حديث: لو خشع هذا خشعت جوارحه، ففيه إشارة إلى أن الظاهر عنوان الباطن، "رواه البخاري، ومسلم"، كلاهما في الصلاة، "وعند مسلم من رواية أنس بن مالك أنه -صلى الله عليه وسلم، قال: "أيها الناس, إني أمامكم، فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي"، قدامي "ومن خلفي"، تعليل للنهي عن السبق أو تحذير عنه؛ لأنهم إذا علموا أنه يراهم اجتنبوا السبق بكل اعتبار، ومن أمامي حال من المفعول، أو هو لغو متعلق بأراكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 وعن مجاهد: في قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يرى من خلفه من الصفوف، كما يرى من بين يديه. رواه الحميدي في مسنده، وابن المنذر في تفسيره. وهذه الرؤية رؤية إدراك, والرؤية لا تتوقف على   وفي البخاريّ عن أنس: صلَّى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة، ثم رقي المنبر، فقال في الصلاة وفي الركوع: "إني لأراكم من ورائي، كما أراكم من أمامي". وفي مسلم: "إني لأبصر من ورائي، كما أبصر من بين يدي". قال الحافظ: وظاهر الحديث أنّ ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله، وقد نقل عن ذلك عن مجاهد، وحكى بقي بن مخلد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يبصر في الظلمة، كما يبصر في الضوء، انتهى، وتعقَّب بأن جماعة من المتقدمين, صرَّح بالعموم، وعللوه بأنه كان يبصر من خلفه؛ لأنه كان يرى من كل جهة. "وعن مجاهد" ابن جبير -بفتح الجيم، وسكون الموحدة- المخزومي، مولاهم المكي, ثقة، روى له الجميع, إمام في التفسير وفي العلم, تابعي وسط. مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث أو أربع ومائة، وله ثلاث وثمانون سنة، "في" تفسير "قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 219] ، أي: المصلين، "قال: كان -صلى الله عليه وسلم: رى من" -بفتح الميم- موصول. "خلفه من الصفوف، كما يرى مَنْ" -بفتح الميم- الذي "بين يديه"، ووجه إدخال ذا الحديث المرسل في تفسير الآية، أنَّ أخباره برؤيته، يتصفَّح أحوالهم، يستدعي أنه يراهم، سواه كانوا خلفه أو أمامه، قربوا منه أو بعدوه، "رواه الحميدي" عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي، الأسدي المكي، أبو بكر, الثقة، الحافظ، الفقيه، أجَلّ أصحاب ابن عيينة، جالسه تسع عشرة سنة، وروى عن خلق سواه، وعنه البخاري وخلائق. قال الحاكم: كان البخاري إذا وجد الحديث عن الحميدي لا يعدوه إلى غيره. مات سنة تسع عشرة ومائتين، وقيل: بعدها. "في مسنده" مرسلًا عن مجاهد, فليس مجرد استنباط، وفهم من الآية، كما يوهم، "وابن المنذر" الحافظ، العلامة الفقيه, محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، شيخ الحرم، كان غاية في معرفة الخلاف، والدليل, مجتهد ألَّا يقلد أحدًا, مات بمكة سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، "في تفسيره" أحد تصانيفه التي لم يصنف مثلها: "وهذه الرؤية" المذكورة في حديث ابن عباس, وعائشة, وأبي هريرة، وأنس، ومجاهد، "رؤية إدراك" إبصار حقيقي، خاصّ به -صلى الله عليه وسلم، انخرقت له فيه العادة، "والرؤية" من حيث هي، لا بقيد وصف المصطفى بها، "لا تتوقف على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 وجود آلتها التي هي العين عند أهل الحق, ولا شعاع ولا مقابلة، وهذا بالنسبة إلى القديم العالي، أما المخلوق: فتتوقَّف صفة الرؤية في حَقِّه على الحاسَّة والشعاع والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان خرق عادة في حقِّه -عليه الصلاة والسلام، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها. قال الحرالي: وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالّة على ما في حقيقة أمره في الاطّلاع الباطن لسعة علمه، ومعرفته لما بربه لا بنفسه, أطلعه على ما بين يديه مما تقدَّم من أمر الله، وعلى ما وراء الوقت   وجود آلتها، التي هي العين عند أهل الحق، ولا" تتوقف على وجود "شعاع"، وهو بالجر عطف على آلتها، "ولا" على "مقابلة، وهذا" الإدراك المفسّر بذلك, إنما هو "بالنسبة إلى القديم العالي"، ولعلّ قصده الرد على من زعم أنه كان يدرك ذلك بلا رؤية أصلًا، بل بمجرد العلم، إمَّا بأن يوحى إليه كيفية فعلهم، وإمَّا بأن يلهم، كما يأتي. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن العلم لو كان مرادًا لم يقيده بقوله: من وراء ظهري، انتهى. فلا يقال لا مناسبة في إيراد ما يتعلق به تعالى في ذا المقام. "أما المخلوق: فتتوقَّف صفة الرؤية في حقّه على الحاسَّة، والشعاع، والمقابلة بالاتفاق، ولهذا كان" ما ذكر من إبصارٍ من وراء ظهره "خرق عادة في حقِّه -عليه الصلاة والسلام، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها"، فيجوز أنه سبحانه خلق فيه قوة البصر في غيرها، فيدرك من خلفه بآلة في، أي: محل من جسده، وهذا بناه المصنف على مجَّد الجواز، وهو لا يسلتزم الوقوع، فلا ينافي ما يأتي أن الأقعد حمله على الإدراك من غير آلة. "قال الحرالي" -بفتح المهملة، والراء، وشد اللام- نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه: علي بن أحمد بن الحسن، ذو التصانيف المشهورة: "وهذه الآية قد جعلها الله تعالى دالَّة على ما في حقيقة أمره في الاطّلاع الباطن"، أي: الخفي "لسعة علمه، ومعرفته لما" -بشد الميم- "عرَّف" الناس -بشد الراء- "بربه"، بأن بلغهم أنه إله واحد في ذاته وصفاته، مستحق لأن يُعْبَد، وغير ذلك مما يليق به، "لا بنفسه"، أي: لم يعرفهم بما اشتملت عليه ذاته من الكمالات، "أطلعه" جواب لما، أي: جوزي بأن أطلعه، ويحتمل خفة راء عرف، أي: لما عرف الأحكام الشرعية بالوحي لا بنفسه، فلم يستقل بأخذ حكم يليق بحال البشر، جوزي بأن أطلعه الله "على ما بين يديه"، أي: الأمور الحاضرة عنده، ولا ينافيه قوله: "مما تقدَّم من أمر الله"؛ لأن التعليق التنجيزي بالأمور الحاضرة عنده، حاصل قبل علمه -صلى الله عليه وسلم- بها، ويحتمل أن يريد بما بين يديه ما لم يتأخر عن الوقت الذي هو فيه، فيشمل الحاضر والماضي من الأمور التي أطلعه الله عليها، "وعلى ما وراء الوقت، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 مما تأخَّر من أمر الله، فلمَّا كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب, جعل الله تعالى له -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه, كما قال -صلى الله عليه وسلم. انتهى. ومن الغريب ما ذكره الزاهدي يختيار محب بن محمود، شارح القدوري في رسالته الناصرية: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسَمِّ الخياط يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب. وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم، وهذا إن كان نقلًا عن الشارع -عليه الصلاة والسلام- بطريق صحيح فمقبول, وإلا فليس المقام مقام رأي، على أن الأقعد في إثبات كونه معجزة حملها على الإدراك من غير آلة. والله أعلم.   مما تأخَّر من أمر الله"، من كلِّ ما يكون إلى يوم القيامة، "فلمَّا كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب، جعل الله تعالى له -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره، كما يراها من بين يديه، كما قال -صلى الله عليه وسلم. انتهى" كلام الحرالي، وحاصله -كما قال بعضهم: إنه من قبيل الكشف له عن المرئيات، فهو من الخوارق، "ومن الغريب" الذي لا يعرف "ما ذكره الزاهدي" -بزاي ودال مهملة- "يختيار"، كذا في النسخ، وفي بعضها باختيار "محب"، وكتب عليه بهامش: بخت -بموحدة، ومعجمة- سعد ويار، صاحب على طريق العجم من تقديم المضاف إليه على المضاف، وليس بشيء، فالي في طبقات الحنفية لأبي الوفاء الغزميني في حرف الميم: مختار "بن محمود" بن محمد، أبو الرجاء الغزميني -بمعجمتين، نسبةً إلى قصبة من خوارزم، يلقّب نجم الدين، "شارح القدوري" -بضمتين، نسبةً إلى بيع القدور، شرحًا نفيسًا. مات سنة ثمان وخمسين وستمائة، "في رسالته" التي سماها: "الناصرية، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان له بين كتفيه عينان كسَمِّ الخياط" -بفتح السين وضمها- ثقب الإبرة، "يبصر بهما، ولا تحجبهما الثياب"، ونوزع بأنه لا يصح كيف، ولو أن إنسانًا كان له عينان في قفاه، لكان أقبح شيء، وانتصر له بعضهم، بأن الظاهر أن مثله لا يقال بالرأي، "وقيل: بل" معناه أنه "كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته، كما تنطبع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها، فيشاهد أفعالهم، وهذا" المذكور من القولين، "إن كان نقلًا عن الشارع -عليه الصلاة والسلام، بطريق صحيح، فمقبول"، ويكون أيضًا من الخوارق، "وإلّا" بأن كان رأيًا في فهم الحديث، "فليس المقام مقام رأي" فلا يقبل لما فيه من إثبات ما لم يرد "على أن الأقعد في إثبات كونه معجزة، حملها على الإدراك من غير آلة"؛ لأنه الظاهر من الحديث، "والله أعلم" بما في الواقع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف. وعن بعضهم: المراد بها العلم, إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم, أو بأن يلهم، والصحيح والصواب ما تقدَّم. وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم، ما ذكره ابن الجوزي في بعض كتبه بغير إسناد: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لا أعلم ما وراء جداري هذا" , فإن صحَّ فالمراد منه نفي العلم بالمغيبات،   "وقد ذهب بعضهم"، في معنى الحديث "إلى أن هذه الرؤية رؤية قلبه الشريف"، وهو خلاف الظاهر أيضًا، "وعن بعضهم: المراد بها العلم، إمَّا بأن يوحى إليه كيفية" صفة "فعلهم، أو بأن يلهم"، وهو من الوحي أيضًا، ومَرَّ تنظير الحافظ فيه؛ بأنه لو كان مرادًا لم يقيد بقوله: "من وراء ظهري"، وفي الشفاء الظواهر تخالفه، أي: هذا التأويل، ولا إحالة في ذلك، وهي من خواص الأنبياء، كما أخبرنا عبد الله بن أحمد العدل، فذكر إسناده عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "لما تجلى الله لموسى، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ"، ولا يبعد أن يخص نبينا بذلك بعد الإسراء، والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى. انتهى. ولذا قال: "والصحيح والصواب ما تقدَّم" من أنه الإدراك من غير آلة، وقيل: المراد أنه يرى من عن يمينه، ومن عن يساره، ممن تدركه عينه، مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك؛ بأنه وراء ظهره. قال الحافظ: وهذا ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب، والصواب المختار: إنه حمول على ظاهره، وإن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به -صلى الله عليه وسلم، انحرفت له فيه العادة، وعلى هذا عمل البخاري، فأخرج هذا الحديث، أي: حديث "هل ترون قبلتي" إلخ .... في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه، انخرقت له العادة فيه أيضًا، فكان يرى من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلًا، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الآخرة، خلافًا لأهل البدع، لوقوفهم مع العادة. انتهى. "وقد استشكل على قول من يقول: إن المراد بذلك العلم ما ذكره" نائب فاعل استشكل، يعني: إذا بنى على أن الرؤية هي العلم بلا إبصار، يشكل ما ذكره "ابن الجوزي في بعض كتبه بغير إسناد؛ أنه -صلى الله عليه وسلم، قال: "إني لا أعلم ما وراء جداري هذا"، فإن صح، فالمراد منه نفي العلم بالمغيبات"، لا خصوص ما وراء الجدار، فهو مناقض لقوله: "إني لأراكم"، أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 فكيف يجتمعان؟ وأجيب بأنَّ الأحاديث الأُوَل ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد, وأما إذا ذهبنا إلى أن الإدراك بالبصر وهو الصواب فلا إشكال؛ لأن نفي العلم هنا عن الغيب وذاك عن مشاهدة. وفي "المقاصد الحسنة" للحافظ شمس الدين السخاوي حديث: "ما أعلم ما خلف جداري هذا". قال شيخنا -يعني شيخ الإسلام ابن حجر: لا أصل له. قلت: ولكنه قال في تلخيص تخريج أحاديث الرافعي عند قوله في الخصائص: ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدامه. هو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة في ذلك   أعلمكم من وراء ظهري، وهو مغيب، فيصير المعنى: أعلم المغيبات ولا أعلمها، "فكيف يجتمعان"، فمبنى التناقض على تفسيره بالعلم؛ إذ لو فُسِّرَ عدم التناقض بما وراء الجدار المشار إليه لم يتحقق تناقض، "وأجيب بأن الأحاديث الأُوَل ظاهرها ينطق باختصاص ذلك بحالة الصلاة، ويحمل المطلق منها على المقيد" بحالة الصلاة، فقوله: "لا أعلم ما وراء جداري" معناه: في غير الصلاة، فلا إشكال، "وأما إذا ذهبنا إلى أن الإدراك بالبصر، وهو الصواب، فلا إشكال؛ لأن نفي العلم هنا" في خبر الجدار "عن الغيب، وذاك" الذي هو قوله: "إني لأراكم من وراء ظهري" "عن مشاهدة"، فلم يتواردا على محل، وأيضًا، فعدم رؤية ما وراء الجدار لا ينافي الرؤية بلا حائل، وأورد على حديث الرؤية أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم: "أيكم الذي ركع دون الصف"، فقال أبو بكر: أنا؛ إذ لو كان يرى ما سأل، وأجاب ابن عبد البر بأنَّ قصة أبي بكر كانت قبل أن يفضله الله بهذه الفضيلة، فإن شئونه -صلى الله عليه وسلم- تتزايد دائمًا. وفي أبي داود عن معاوية ما يدل على أن ذلك كان في آخر عمره، "وفي المقاصد الحسنة" في بيان كثير من الحاديث المشهورة على الألسنة، "للحافظ شمس الدين" محمد بن عبد الرحمن، "السخاوي"، شيخ المصنف، نسبة إلى سخا من أعمال مصر، على غير قياس، "حديث: "ما أعلم ما خلف جداري هذا". "قال شيخنا -يعني شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ أبو الفضل العسقلاني: "لا أصل له، قلت: ولكنه"، أي: الحافظ نفسه، "قال في تلخيص تخريج أحاديث الرافعي"، الواقعة في شرحه على وجيز الغزالي، في الفقه، "عند قوله في الخصائص: ويرى من وراء ظهره كما يرى من قدّامه. هو" بمعناه "في الصحيحين، وغيرهما من حديث أنس وغيره، والأحاديث الواردة بذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 مقيدة بحالة الصلاة, وبذلك يجمع بينه وبين قوله: "لا أعلم ما رواء جداري هذا" انتهى. قال شيخنا: وهذا مشعر بوروده، وعلى تقدير وروده لا تنافي بينهما لعدم تواردهما على محل واحد. فإن قيل: يشكل على هذا -أيضًا- إخباره -صلى الله عليه وسلم- بكثير من المغيبات التي في زمنه وبعده، ووقعت كما أخبر -صلى الله عليه وسلم. فالجواب: إن نفي العلم في هذا ورد على أصل الوضع، وهو أن علم الغيب مختص بالله   مقيدة بحالة الصلاة"، كذا جزم به في التخريج، وجعله في فتح الباري ظاهرًا فقط، وقابله باحتمال الإطلاق، وأنه منقول عن مجاهد، "وبذلك يجمع بينه وبين قوله: "لا أعلم ما وراء جداري هذا"، انتهى" كلام الحافظ في التخريج. "قال شيخنا" -يعني السخاوي: "وهذا مشعر بوروده"، فينافي قوله: لا أصل له، فهو تناقض منه، ويمكن أن مراده لا أصل له معتبر؛ لكونه ذكر بلا إسناد، لا أن مراده بطلانه، "وعلى تقدير وروده لا تنافي بينهما؛ لعدم تواردهما على محلّ واحد"؛ إذ الظاهر من الثاني أنَّ معناه نفي علم المغيبات، مما لم يعلم به -صلى الله عليه وسلم، قد أخبر بمغيبات كثيرة كانت وتكون، وحينئذ فهو نظير لا أعلم إلّا ما علمني الله، ولكن مشى ابن الملقن، وقلده شيخنا على أن معناه نفي رؤية مَنْ خَلْفه، ومع ذلك، فلا تنافي بينهما أيضًا إن مشينا على ظاهر الأوّل من تقييده بالصلاة لكونه فيها، لا حائل بينه وبين المأمومين، وإن كان ابن الملقن لم ينظر لهذا، بل جعل الأول مقيدًا للثاني، والظاهر ما قلته، أما على قول مجاهد: ن ذلك كان واقعًا في جميع أحواله -صلى الله عليه وسلم، فلا على أن بعضهم زعم أن المراد بالأول خلق علم ضروري له بذلك، والمختار حمله على الحقيقة، ولذا، قال ابن المنير: لا حاجة إلى التأويل، فإنه في معنى تعطيل، لفظ الشارع من غير ضرورة. وقال القرطبي: حمله على ظاهره أَوْلَى؛ لأن فيه زيادة في كرامته -صلى الله عليه وسلم، فإن قيل: قد روي أنه -صلى الله عليه وسلم- ورد عليه وفد عبد القيس، وفيهم غلام وضيء، فأُقْعِدَ وراء ظهره، فالجواب: إنه مع كونه روي مسندًا ومرسلًا، والحكم عليه بالنكارة, فعله -صلى الله عليه وسلم، إن صح، كما قال ابن الجوزي: ليسن، أو لأجل غيره، وقد أطلت الكلام على هذا الحديث في بعض الأجوبة، انتهى كلام المقاصد، وإن تكرر فيه بعض ما تقدَّم لما فيه من الفوائد، "فإن قيل: يشكل على هذا أيضًا إخباره -صلى الله عليه وسلم- بكثير من المغيبات التي في زمنه وبعده"، كفتح الأمصار، وغير ذلك، "ووقعت كما أخبر -صلى الله عليه وسلم، فالجواب: إن نفي العلم في هذا ورد على أصل الوضع، وهو أنّ علم الغيب مختص بالله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 تعالى، وما وقع منه على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- وغيره فمن الله تعالى، إمَّا بوحي أو إلهام، ويدل على ذلك الحديث الذي فيه: أنه لما ضلت ناقته -صلى الله عليه وسلم- تكلّم بعض المنافقين وقال: إن محمدًا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال -صلى الله عليه وسلم- لما بلغه ذلك: "والله إني لا أعلم إلّا ما علَّمني ربي، وقد دلني الله عليها, وهي في موضع كذا وكذا، حبستها شجرة بخطامها" , فذهبوا فوجدوها كما أخبر -صلى الله عليه وسلم. فصحَّ أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره إلّا ما أعلمه ربه -تبارك وتعالى. وذكر القاضي عياض في الشفاء أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرى في الثريا أحد عشر نجمًا، وعند السهيلي: اثني عشر.   تعالى"، كما قال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا, إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، "وما وقع منه على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- وغيره، فمن الله تعالى، إمَّا بوحي" على يد ملك، أو منام "أو إلهام"، وهو من الوحي، "ويدل على ذلك الحديث الذي فيه أنّه لما ضلت ناقته"، غابت وخفيت، فلم يهتد إليها، وهي القصواء، حين كان سائر إلى غزوة تبوك "صلى الله عليه وسلم، تكلّم بعض المنافقين"، وهو زيد بن اللصيت، "وقال: إن محمدًا يزعم أنه يخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما بلغ ذلك" بإخبار الله له بوحي، أو إلهام، لا مبلغ من الناس، كما في الحديث: "والله إني لا أعلم إلّا ما علمني ربي"، فإخباري بأمر السماء إنما هو بتعليم الله، والنبي لا يعلم كل غيب. قال: ذلك رد الزعم المنافق؛ أنه لو كان نبيًّا لعلم مكان ناقته، "وقد دَلَّني الله عليها، وهي في موضع كذا وكذا"، لشعب عينه لهم، وأشار لهم إليه, "حبستها" منعتها "شجرة بخطامها" بزنة كتاب، وفي رواية بزمامها، "فذهبوا فوجدوها كما أخبر -صلى الله عليه وسلم"، فجاءوا بها، "فصحَّ أنه لا يعلم ما وراء جداره ولا غيره، إلّا ما أعلمه ربه -تبارك وتعالى"، فإن ثبت الحديث، فلا إشكال عليه. "وذكر القاضي عياض في الشفاء" بلفظ، وحكي عنه "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرى في الثريا أحد عشر نجمًا"، أي: ليلًا أو ليلًا ونهارًا، لما مر أن رؤيته فيهما سواء. "وعند السهيلي اثني عشر"، وجزم القرطبي بالأوَّل، وقال في مناهل الصفاء: هذا لم يوجد في شيء من كتب الحديث، ونحوه قول الحيضري, ما ذكره القرطبي والسهيلي: لم أقف له على سند، ولا أصل يرجع إليه، والناس يذكرون أنها لا تزيد على تسعة أنجم، فيما يرون. انتهى، وهذا عجيب مع قول التلمساني: جاء في حديث ثابت عن العباس، ذكره ابن أبي خيثمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 وفي حديث أبي هالة: وإذا التفت التفت جميعًا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء جلّ نظره الملاحظة. وهي مفاعلة من اللحظ: وهو النظر بشق العين الذي يلي الصدغ، وأمّا الذي يلي الأنف فالمؤق والماق. وقوله: وإذا التفت التفت جميعًا, أراد أنه لا يسارق   أ. هـ، والثريا مصغَّر ثروى من الثروة، وهي الكثرة. قال في مناهج الفكر: ستة أنجم صغار طمس، يظنها من لا معرفة له سبعة مجتمعة بينها نجوم صغار، كالرشاش، وحكي أنها اثنا عشر نجمًا، لم يتحقق الناس منها غير ستة، أو سبعة، ولم ير جميعًا غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لقوة جعلها الله في بصره، والنجم علم عليها بالغلبة، كالكوكب للزهرة. "وفي حديث أبي هالة: وإذا التفت التفت جميعًا" جملة شرطية معطوفة على الشرطية الأولى، وهي قوله: إذا زال زال قلعًا، "خافض" من الخفض، ضد الرفع "الطرف"، أي: إذا نظر إلى شيء خفض بصره، ولا ينظر إلى الأطراف والجوانب بلا سبب، بل لم يزل مطرقًا متوجهًا إلى عالم الغيب، مشغولًا بحاله، متفكرًا في أمور الآخرة؛ لأنَّ هذا شأن المتواضع، وهو متواضع سليقة، وشأن المتأمل المتفكر المشتغل بربه، وقيل: هو كناية عن شدة حيائه، أو لين جانبه، أو عدم كثرة سؤال واستقصائه إلّا في واجب، وأردفه بما هو، كالتفسير له أو التأكيد، فقال: "نظره إلى الأرض" حال السكوت، وعدم التحدث "أطول"، أي: أكثر "من نظره إلى السماء"؛ لأنه أجمع للفكرة، وأوسع للاعتبار؛ لاشتغاله بالباطن، وإعمال جنانه فيما بع لأجله، أو لكثرة حيائه وأدبه مع ربه، أو لأنه بعث لتربية أهل الأرض لا أهل السماء، والأوَّل أحسن، والنظر -بفتحتين- تأمل الشيء بالعين، كما في الصحاح، وبالتقييد بعدم التحدث لا ينافي رواية أبي داود، كان إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء، أو يحمل الإكثار على الحقيقي، لا الإضافي، وقيل: أكثر لا ينافي الكثرة "جلّ نظره" -بضم الجيم- أي: معظمه، وأكثره "الملاحظة، وهي مفاعلة من اللحظ، وهو النظر بشق العين الذي يلي الصدغ"، وهي لحاظ العين -بالفتح، أي: مؤخره، أي: إن أكثر نظره في غير أوان الخطاب الملاحظة، فلا ينافي قوله: وإذا التفت التفت جميعًا، وتطلق الملاحظة أيضًا لغةً على المراقبة والمراعاة، وتفسيره بهذا أنسب وأكمل بمفرمه -صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد أنَّ نظره إلى الأشياء لم يكن كنظر أهل الحرص إلى الدنيا وزخرفها، امتثالًا لأمر ربه بقوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [الحجر: 88] الآية. "وأما الذي يلي الأنف فالمؤق" بالهمز- "والماق" بالألف، "وقوله: وإذا التفت التفت جميعًا"، وفي رواية جمعًا كضربًا، نصب على المصدر أو الحال، "أراد أنه لا يسارق النظر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 النظر، وقيل: لا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف, ولكن كان يقبل جميعًا ويدبر جميعًا. قاله ابن الأثير. وعن علي قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم العينين، أهدب الأشفار، مشرب العين بحمرة. رواه البيهقي. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم أشكل العينين منهوس القدمين، رواه مسلم. والشكلة: الحمرة ...................................................   وقيل: لا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف" صفة كاشفة، فالطيش لغةً الخِفَّة، "ولكن كان يقبل جميعًا، ويدبر جميعًا؛ قاله ابن الأثير" في النهاية. "وعن علي" بن أبي طالب -رضي الله عنه "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم العينين" أي: شديد اتساعهما، فهو بمعنى رواية الترمذي وغيره عن علي: أدعج العينين، قال الجوهري: الدعج محركًا: شدة سواد العين مع سعتها, "أهدب الأشفار" جمع شفر -بالضم وتفتح- وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر، أي: الهدب، وإيهامه، أن الأشفار هي الأهداب غير مراد، فقد قال ابن قتيبة: العامّة تجعل أشفار العين الشعر وهو غلط، وفي المغرب وغيره: لم يذكر أحد من الثقات أن الأشفار الأهداب، فهو إمَّا على حذف مضاف، أي: الطويل شعر الأشفار، أو سمَّى النابت باسم المنبت للملابسة، "مشرب العين" بصيغة اسم المفعول مخففًا، ومشددًّا "بحمرة"، وهي عروق حمر رقاق, من علاماته في الكتب السابقة "رواه البيهقي". "وعن جابر بن سمرة" -بضم الميم وإسكانها- "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضليع الفم" بفتح الضاد المعجمة- عظيمة أو واسعة، ولذا كان يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، والعرب تذم ضيقه، وتمدح سعته؛ لدلالته على قوة الفصاحة، وقيل: هو كناية عن فصاحته، وقيل: المراد ذبول شفتيه ورقتهما وحسنهما، وكما تمدح العرب بعظم الفم تتمدح بكثرة ريقه عند المقامات والخطب والحروب؛ لدلالته على ثبات الجنان، بخلاف الجبان، فيجفّ ريقه في هذه المحافل، "أشكل العينين" بالتثنية، وفي نسخة: العين بالإفراد, على إرادة الجنس, "منهوس" -بسين مهملة, وفي رواية: معجمة، والمعنى واحد، أي: قليل لحم "القدمين". وفي رواية: العقب -بفتح، فكسر, مؤخَّر القدم، وفي القاموس: المنهوس من الرجال قليل اللحم، ومنهوس القدمين معرقهما، "رواه مسلم" والترمذي، "والشكلة" بضم الشين "الحمرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 تكون في بياض العين وهو محمود محبوب، وأمَّا الشهلة: فإنها حمرة في سوادها, وهذا هو الصواب: لا ما فسره به بعضهم بأنه طول شق العين. وعند الترمذي في حديث عن علي، أنه نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان في وجهه تدوير أبيض مشرب بحمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار. والأدعج: الشديد سواد الحداقة.   تكون في بياض العين"، يقال: ماء أشكل إذا خالطه دم، "وهو محمود محبوب"، قال الشاعر: ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عناق الخيل شكل عيونها قال الحافظ العراقي: وهي إحدى علامات نبوته -صلى الله عليه وسلم، ولما سافر مع ميسرة إلى الشام سأل عنه الراهب ميسرة، فقال: في عينيه حمرة، فقال: ما تفارقه، قال الراهب: هو هو، "وأما الشهلة". بضم الشين، وإسكان الهاء "فإنها حمرة في سوادها" ولم ترد في وصفه -عليه السلام، وإنما ذكر معناها كغيره للفرق بينها وبين الشكلة الواردة، "وهذا" التفسير للشكلة "هو الصواب" المعروف في كتب اللغة، والغريب "لا ما فسر به بعضهم"، وهو سماك بن حرب، راويه عن جابر، "بأنه طول شق العين". قال عياض: هو وهم من سماك باتفاق العلماء، وغلط ظاهر، فقد اتفق العلماء وأصحاب الغريب أن الشكلة حمرة في بياض العين، كالشهلة، في سوادها، انتهى لفظ عياض، وما في الشارح عنه مقلوب، "وعند الترمذي في حديث عن علي أنه نعت" وصف "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان في وجهه تدوير"، بالتنكير للنوعية، أو التقليل، أي: شيء قليل منه، كما مَرَّ "أبيض" بالرفع، أي: هو أبيض، فهي جملة مستقلة على نمط تعديد النعت، "مشرَب بحمرة" بصيغة اسم المفعول، مخففًا ومثقلًا للتكثير، والمبالغة من الإشراب، وهو خلط لون بلون, "أدعج العينين" بمهملة وجيم، أي: شديد سواد الحدقة مع سعتها، فلا يشكل بأنه أشكل؛ لأن الشكلة في البياض لا في السواد، "أهدب الأشفار" جمع شفر -بالضم وقد تفتح، "والأدعج: الشديد سواد الحدقة" من الدعج -بفتحتين، أي: مع اتساعها، كما في الصحاح وغيره. وفي النهاية: الدعج: السواد في العين وغيرها، وقيل: شدة بياض البياض، وسواد السواد، وكأن من عارض رواية: أدعج برواية أشكل، بناه على ذا القول، وإلّا فالشكلة في البياض، لا في السواد، فلا إشكال على التفسيرين الأولين، ودعوى أن الدعج زرقة في بياض لقوله: يا رب العيون السود قد فتكت ... فينا وصالت بأسياف من الدعج لأن السيوف زرق، ردت بأن المراد تشبيهها بالسيوف في فتكها لا في لونها، فإنه أبيض وزرق، إنما يقال للسهام، كما قال امرؤ القيس: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 والأهداب: الطويل الأشفار: وهي شعر العين. وعنده -أيضًا- عن علي قال: كان أسود الحدقة أهدب الأشفار. وعن علي: بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن لأخطب يومًا على الناس، وحبر من أحبار اليهود واقف بيده سفر ينظر فيه، فلمَّا رآني قال: صف لي أبا القاسم، فقلت: ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. الحديث، وفيه: قال علي: ثم سكت، فقال الحبر: وماذا؟ قلت: هذا ما يحضرني، قال الحبر: في عينيه حمرة حسن اللحية، ثم قال علي: هذه والله صفته، قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر آبائي، وإني أشهد أنه نبي وأنه رسول الله إلى الناس كافة. الحديث. وأما سمعه الشريف فحسبك أنه قد قال:   أتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال "والأهدب الطويل الأشفار، وهي شعر العين"، فسَّره على ظاهره، وتقدَّم أنه ليس بمراد، وأنه إمَّا على حذف مضاف، أي: مغارز شعر العين، أو من تسمية الحال، وهو الشعر باسم المحل، وما في الشرح مقلوب، فلا ينافي قول ابن قتيبة العامَّة، تجعل أشفار العين الشعر، وهو غلظ، إنما هي حروف العين التي ينبت عليها الشعر، فكأن لسان حال المصنف يقول ما قيل في الحديث، يقال: على تفسيري، "وعن علي بعثني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن لأخطب يومًا على الناس"، أعظهم وأذكرهم، ليتمكَّن إيمان من آمن، ويؤمن من لم يكن آمن، فخطبت "وحبر" بفتح الحاء وكسرها- لغتان مشهورتان, عالم "من أحبار يهود، واقف بيده سفر" بكسر السين- كتاب كبير "ينظر فيه، فلمَّا رآني، قال: صف لي أبا القاسم" -صلى الله عليه وسلم, "فقلت: ليس بالطويل البائن" بالهمز، وقراءته بالياء غلط. قال في النهاية، أي: المفرط طولًا، الذي بعد عن قدر الرجال الطوال، وقال في فتح الباري: اسم فاعل من بان، أي: ظهر على غيره، أو فارق من سواه، "ولا بالقصير" أي: البائن، بل هو ربعة، ولكنه إلى الطول أقرب "الحديث، وفيه قال علي: ثم سكت، فقال الحبر: وماذا قلت, هذا ما يحضرني" من صفته الآن، "قال الحبر: في عينيه" بالتثنية "حمرة, حَسَن اللحية، ثم قال علي: هذه والله صفته، قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة" التي وصفتها يا علي، والتي ذكرتها أنا، فتذكرتها، وحلف أنها صفته "في سفر آبائي، وإني أشهد أنه نبي، وأنه رسول الله إلى الناس كافَّة الحديث"، فذكر منه مقصوده هنا، وهو أن حمرة عينيه من آيات نبوته في الكتب السابقة، "وأمَّا سمعه الشريف، فحسبك أنه قد قال" خير حسبك، والرابط بينهما محذوف، دلَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون, وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع أربع أصابع إلّا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى" رواه الترمذي من رواية أبي ذر.   عليه المقام، أي: كافيك في بيان كماله ووصوله إلى ما لم يصل إليه غيره قوله "صلى الله عليه وسلم: "إني أرى ما لا ترون" " لما أعطاه الله تعالى من قوة البصر. قال في الشفاء: والأحاديث كثيرة صحيحة في رؤيته -صلى الله عليه وسلم- الملائكة والشياطين، ورفع النجاشي له حتى صَلَّى عليه، وبيت المقدس حتى وصفه لقريش، والكعبة حين بنى مسجده، وحكي عنه أنه كان يرى في الثريا أحد عشر نجمًا، وهذه كلها محمولة على رؤية العين، وهو قول ابن حنبل وغيره، وذهب بعضهم إلى ردّها إلى العلم، والظواهر تخالفه، ولا إحالة في ذلك، وهي من خواص الأنبياء انتهى. ونازعه السيوطي في رفع النجاشي؛ بأنه لم يجده في كتب الحديث، وإنما الوراد فيها أنه رفع إليه معاوية المزني حتى صلى عليه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بتبوك، أخرجه أبو يعلى والبيهقي عن أنس. انتهى، والمصنّف ذكر هذا الحديث بتمامه، وإن كان غرضه منه قوله: "وأسمع ما لا تسمعون" فهو صريح في قوة سمعه، وقوَّى ذلك بقوله: "أطَّت السماء" بفتح الهمزة، وشد الطاء- صاحت وصوتت من ثِقَلِ ما عليها من ازدحام الملائكة، وكثرة الساجدين فيها منهم, من الأطيط، وهو صوت الرحل والإبل من حمل أثقالها, وأل للجنس، ومعنى الحديث: وأنا سمعت ذلك لقوله في الحديث التالي: "إني لأسمع أطيط السماء"، "وحق" بفتح الحاء وضمها- على ما يفيده القاموس، فالضم من حق لك فعل كذا، والفتح من وقع ووجب، "لها أن تئط" بفتح الفوقية، وكسر الهمزة، وشد الطاء- أي: تصوّت، والجملة حالية أو معترضة؛ لبيان أنه لا ينكر أطيطها ولا يستغرب، وذلك لأنه "ليس فيها موضع أربع أصابع"، وهذه الرواية مبنية، أن قوله في رواية حكيم: موضع شبر، أي: ولا أقل منه "إلا وملك واضع جبهته" استعارة، أو حقيقة في البعض، كذا، قيل "ساجدًا لله تعالى". وفي رواية: إلّا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله ويحمده، وقد ادَّعى ابن الأثير أن أطيط السماء مَثَلٌ وإيذانٌ بكثرة الملائكة، وإن لم يكن أطيط، وإنما هو كلام تقريبي، أريد به تعزيز عظمة الله تعالى، ونظر فيه الشامي بقوله: "إني لأسمع أطيط السماء"، فالظاهر حمله على الحقيقة؛ فإنه أمر ممكن، ولا يتم الدليل إلا به، وألفاظه -صلى الله عليه وسلم- يجب بقاؤها على ظاهرها إلّا لمانع، ولا مانع هنا، فكيف إذا كان الصرف على الظاهر يفوّت المقصود، "رواه الترمذي"، وأحمد، وابن ماجه، والحاكم، وصححه، كلهم "من رواية أبي ذر"، عنه -صلى الله عليه وسلم- بزيادة: "والله لو تعلمون ما أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 وما رواه أبو نعيم عن حكيم بن حزام، بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه؛ إذ قال لهم: "تسمعون ما أسمع"؟ قالوا: ما نسمع من شيء، قال: "إني لأسمع أطيط السماء، وما تلازم أن تئط, وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم".   لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله"، "وما رواه أبو نعيم" عطف على أنه قد قال، أي: وحسبك رواية أبي نعيم، "عن حكيم" بفتح الحاء وكسر الكاف, "ابن حزام" بكسر المهملة وبالزاي- ابن خويلد بن أسد، بن عبد العزى، بن قصي القرشي، الأسدي، أبو خالد المكي، ابن أخي خديجة، أم المؤمنين، أسلم يوم الفتح، وصحب له أربع وسبعون سنة، وروى أحاديث في الكتب الستة وغيرها، وكان عالمًا بالنسب، وولد في جوف الكعبة، وعاش إلى سنة أربع وخمسين، أو بعدها، قال: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه إذ قال لهم: "تسمعون ما أسمع"؟ أي: أتسمعون، فهمزة الاستفهام التقديري مقدَّرة، "قالوا: ما نسمع من شيء"، زائد على ما جرت العادة بسماعه، وأما أنت, فلا نصل إلى ما تسمع، ففيه حذف الصفة، فلا يرد أن جوابهم بنكرة منفية، لا يلاقي سؤاله، فكان حقهم أن يقولوا: لم نسمع ما تسمع، وعدلوا عن هذا لئلّا يقتضي أنهم علموا ما سمع، لكن بغير السمع، وهو غير واقع، "قال: "إني لأسمع أطيط"، صوت "السماء"، أي: جنسها، فالمراد السبع، فإن قيل: كيف يكون صوتًا مسموعًا لسامع في محل لا يسمعه آخر معه، وهو مثله سليم الحاسَّة عن آفةٍ تمنع الإدراك، أجيب بأن الإدراك معنى يخلفه الله تعالى لمن يشاء، ويمنحه من يشاء، وليس بطبيعة ولا وتيرة واحدة، أي: طريقة مطَّردة، لا تختلف الناس فيها، "وما تلازم" لا يعترض عليها في "أن تئطّ"، كأن يقال في شأنها: لم أطت، "وما فيها موضع شبر"، فأقلّ لقوله في الرواية السابقة "أربع أصابع"؛ إذ هو كناية عن كثرة اشتغال أجزائها كلها، "إلا وعليه"، أي: الموضع، وفي نسخة: عليها, إما لتأويل الموضع بالبقعة، أو لعود الضمير للسماء، أي إلا وعليها في ذلك الموضع "ملك ساجد أو قائم". فزاد في ذا الحديث القيام؛ لأن وضع الجبهة للسجود في الحديث قبله، كنايةً عن العبادة بغاية الخضوع والذلة، فلا ينافي ذا الحديث المفصّل، وقد روى ابن عساكر أن في السماء ملائكة قيام، لا يجلسون أبدًا، وسجود لا يرفعون أبدًا، وركوع لا يقومون أبدًا، يقولون: ربنا ما عبدناك حق عبادتك، ثم لا يرد أن الملائكة أجسام نورانية، لا يحصل بهم ثقل تئط به السماء؛ لأن المعنى يغلب عليها النور، لا ينافي أن كثرتهم توجب ثقلًا تئط منه على أنه حقيقي، وفي ذا الحديث ونحوه: إن الملائكة أكثر الخلق، لكن معرفة قدر كثرتهم وأصنافهم موكولة إلى الله، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، ويروى في حديث مناجاة موسى، قال: يا رب من عبدك قبل آدم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 وأما جبينه الكريم -صلى الله عليه وسلم, فقد كان واضح الجبين، مقرون الحاجبين. بهذا وصفه علي، كما عند ابن سعد وابن عساكر فقال: مقرون الحاجبين صلت الجبين. أي: واضحه، والقرن: اتصال شعر الحاجبين. وعند البيهقي عن رجل من الصحابة قال:   قال: الملائكة، قال: كم هم؟ قال: اثنا عشر ألف سبط، قال: مثل الجن والإنس والطير والبهائم اثني عشر ألف مرة، وفي رواية: كم عدد السبط؟ قال: عدد التراب, والأخبار والآثار الدالة على أكثريتهم لا تكاد تحصى، "وأمَّا جبينه الكريم"، أي: صفته، والمراد جبيناه "صلى الله عليه وسلم"، فالإضافة للاستغراق، وهما جبينان فوق الصدغين، مكتنفان الجبهة، يمينًا وشمالًا، وأفرد لوقوعه كذلك في رواية علي وغيره، ولعله أخَّره على البصر والسمع مع كونه فوقهما؛ لأن مدركاتهما لقوتهما تناسب مدركات الدماغ، وقدَّم البصر على السمع، مع أنه أفضل على ما قال بعض؛ لأنَّ مدركات البصر يستلذ بها عادة أقوى من السمع، "فقد كان واضح الجبين"، لم يقل واضحًا، محافظة على الوارد، "مقرون الحاجبين" ثنِّي فيهما؛ لأن وصفهما بالقرن يستدعي التعدد "بهذا وصفه علي، كما عند ابن سعد وابن عساكر، فقال: مقرون الحاجبين"، أي: الشعر المسمَّى بالحاجبين على أحد القولين لغة، والثاني أنهما العظمان فوق العينين بالشعر واللحم، فإن أريد هذا ففيه مضاف، أي: شعر الحاجبين، "صلت الجبين" بفتح المهملة، وإسكان اللام، وفوقية، وفي حديث ابن أبي هالة: واسع الجبين، أي: جنسه، والمراد بسعتهما امتدادهما طولًا وعرضًا، وسعتهما محمودة عند كل ذي ذوق سليم، وهو معنى رواية عليّ: صلت الجبين، "أي: واضحه"، ففي الصحاح: الصلت الجبين: الواضح، تقول منه: صلت -بالضم، أي: لللام صلوتة أ. هـ، فهو صفة ذاتية لجبين كل من وصف بذلك، لا من حيث ظهوره للرائي له -صلى الله عليه وسلم- لما قام به من النور، وذكر ابن أبي خيثمة: كان -صلى الله عليه وسلم- أجلى الجبين إذا طلع جبينه من بين الشعر، أو طلع من فلق الشعر، أو عند الليل، أو طلع بوجهه على الناس تراءى، أي: جبينه، كأنَّه هو السراج المتوقّد يتلألأ، وكانوا يقولون: هو -كما قال شاعره حسان -رضي الله عنه: متى يبد في الليل البهيم جبينه ... بلج مثل مصباح الدجى المتوقد فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد فهذا هو الزائد عن مطلق وضح الجبين، المسفر بالاتساع، والامتداد "والقرن" -بفتحتين- "اتصال شعر الحاجبين"، إضافة بيانية أن فسَّر الحاجب بالشعر، ولامية من إضافة الجزء إلى كله أن فَسَّرَ بالعظم مع الشعر واللحم. "وعند البيهقي عن رجل من الصحابة": لا ضير في إبهامه؛ لأنهم كلهم عدول، "قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل حسن الجسم, عظيم الجبهة, دقيق الحاجبين. ولله در القائل: جبينه مشرق من فوق طرته ... يتلو الضحى ليلة والليل كافره بالمسك خطت على كافور جبهته ... من فوق نوناتها سينًا ضفائره مكمل الخلق ما تحصى خصائصه ... منضر الحسن قد قلت نظائره وقال ابن أبي هالة: أزجّ الحواجب -وفُسِّرَ بالمقوس الطويل الوافر الشعر,   رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإذا" هو "رجل حسن الجسم"، أي: الجسد، "عظيم الجبهة، دقيق الحاجبين" بالدال من الدقة، خلاف الغلظ، أي: رقيقهما، "ولله در القائل" هو الأستاذ العارف محمد، وفي من قصيدة أولها: إذا أباح ذم المهجور هاجره ... باح المحب بما تخفي ضمائره "جبينه مشرق من فوق طرته" بضم الطاء المهملة- جانب الثوب الذي لا هدب له, والناصية -كما في القاموس، فكأنَّ المعنى هنا: إن جبينه يزيد لكثرة نوره، فيجاوز ناصيته، وينتشر على جوانب ثوبه، "يتلو الضحى"، أي: نوره الذي كبياض النهار وقت الضحى, "ليله" أي: سواد شعره الذي كالليل، "والليل كافره"، ساتر لذلك النور والإشراق، رحمة من الله، ورفقًا بالناس؛ إذ للاه ما استطاع أحد نظر وجهه الشريف, "بالمسك خطت" كتبت "على كافور", قال في القاموس: نبت طيب، نوره كنور الأقحوان، وطيب معروف لونه أحمر، وإنما يبيض بالتصعيد، انتهى باختصار, "جبهته، من فوق نوناتها سينًا"، مفعول خطت، والفاعل "ضفائره" بضاد معجمة، جمع ضفيرة، والمعنى على التشبيه والاستعارة ظاهر، "مكمّل الخلق" بفتح الخاء، وإسكان اللام, "ما تحصى خصائصه"، أي: لا يمكن إحصاؤها وعدها لكثرتها, "منضر" محسن "الحسن"، فهو مبالغة في المدح، "قد قَلَّت نظائره" عدمت فلا وجود لها، فالقلة تنتهي للعدم، كقولهم: قل رجل يقول كذا، أي: ليس رجل يقوله، "وقال ابن أبي هالة: أزجّ" بفتح الهمزة، والزاي، وتشديد الجيم- صفة مشبهة, "الحواجب" جمع حاجب, من الحجب: المنع, سُمِّيَ به حواجب، كأنَّه جعل كل قصحة اسمها حاجب، فوقع الجمع على القطع المختلفة مبالغة، وهذا أدق من قول جمع؛ لأنَّ التثنية جمع، "وفسّر" عند عياض في الشفاء "بالمقوّس"، أي: الحاجب المشبه بالقوس كالمتقوس كما في القاموس, "الطويل الوافر الشعر"، أي: المتصل بعضه ببعض؛ بحيث لا يتخلله فرج، فلا ينافي دقته، أي: رقته في نفسه، المستفادة من نعته بأزج، وهو الدقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 ثم قال: سوابغ من غير قرنٍ بينهما عرق يدره الغضب، أي: يمتلئ دمًا إذا غضب, كما يمتلئ الضرع لبنًا إذا در. قاله في النهاية. وعن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول، إني خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية   في طول وامتداد، كما قال حسان: أزج كشق النون من يد كاتب والزجج ما كان خلقه، والتزجيج ما صنع، كزججن الحواجب والعيونا، وتسميه العوام تخفيفًا -بمهملة، "ثم قال" ابن أبي هالة: "سوابغ" بسين وصاد، والسين أفصح- جمع سابغة، أي: كاملات. قال الزمخشري: حال من المجرور، وهو الحواجب، وهي فاعلة في المعنى؛ إذ تقديره أزجّ حواجبه، أي: زجت حواجبه. انتهى, أو منصوب على المدح "من"، وفي رواية: في، وهي بمعنى من "غير قرن" -بفتحتين- أي: اجتماع، يعني أن طرفي حاجبيه، قد سبغا، أي: طالا حتى كادا يلتقيان ولم يلتقيا، فهو مكمل للوصف المذكور، أو هو حال أيضًا من الحواجب على الترادف، أو التداخل، ويأتي قريبًا الجمع بينه وبين وصفه بأقرن "بينهما"، أي: الحاجبين، فهو إشارة إلى أن الحواجب في معنى الحاجبين، وهو حال أيضًا من الحواجب، وترك العطف في الجملة الاسمية جائز "عرق" بكسر فسكون, "يدره" بضم أوله، وكسر ثانيه، وشَدِّ ثالثه- أي: يحركه ويظهره "الغضب", فيمتلئ ذلك العرق دمًا، فيظهر ويرتفع، وقوله: "أي: يمتلئ دمًا إذا غضب" تفسير للإدرار باللازم، وأثر له لا بيان لمعناه، يعني: إذا غضب حرك الغضب ذلك العرق، فامتلأ دمًا، "كما يمتلئ الضرع لبنًا إا در، قاله في النهاية"، فجعله من در اللبن إذا كثر ونوزع بأنه لا استقامة لهذا التجوّز، وقيل: هو من در السهم إذا دار على الظفر، وقيل: من الإدرار، وهو إخراج الريح المطر من السحاب، وجعله الزمخشري من أدرت المرأة الغزل؛ إذ فتلته شديدًا، واعترض بأنه لا قرينة لهذا المجاز. "وعن مقاتل بن حيان" بمهملة وتحتية مشددة- النبيطي -بفتح النون والموحدة- أبي بسطام البلخي الخزاز -بمعجمة وزايين منقطوتين، صدوق فاضل، روى له مسلم وأصحاب السنن، أخطأ الأزدي في زعمه أن وكيعًا كذَّبه، وإنما كذَّب مقاتل بن سليمان، مات قبل الخمسين ومائة بأرض الهند. ذكره الحافظ، "قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام: اسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول" المنقطعة عن الرجال، "إني خلقتك من غير فحل، فجعلتك آية" علامة دالة على قدرتي "للعالمين" الإنس والجن والملائكة؛ حيث خلقتك من غير فحل، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 للعالمين، فإياي فاعبد، وعليَّ فتوكّل، فَسِّر لأهل سوران: أني أنا الله الحي القيوم، لا أزول، صدقوا النبي الأمي، صاحب الجمل والمدرعة والعمامة والنعلين والهراوة، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، وريحه كالمسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة   "فإياي فاعبد" لا غيري، "وعليّ فتوكل" لا على غيري، "فسِّر لأهل سوران: إني أنا الله الحيّ" الدائم البقاء, "القيوم" المبالغ في القيام بتدبير خلقه، "لا أزول، صدقوا النبي الأمي، صاحب الجمل والمدرعة" بكسر الميم- أي: القتال والملاحم، كما في الشامي في الأسماء، وإن كانت في الأصل كالدراعة، ثوب ولا يكون إلّا من صوف، كما في القاموس، "والعمامة والنعلين والهراوة" بكسر الهاء، ثم راء، فألف، فواو، فتاء تأنيث- العصا مطلقًا، أو الضخمة، "الجعد الرأس" بفتح الجيم، وإسكان العين- أي: جعوده متوسطة، فلا يخالف قول أنس في الصحيحين، والترمذي: ليس بالجعد القطط، ولا بالسبط القطط -بفتحتين, الشديد الجعودة كالسودان، والسبط -بفتح فكسر، أو سكون- المنبسط، المسترسل، الذي لا تكسر فيه، فهو متوسط بين الجعودة والسبوطة, "الصلت"، أي: الواضح "الجبين، المقرون الحاجبين، الأهداب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين"، أي: ليس فيهما نتوء، ولا ارتفاع، فهو كقول هند: سهل الخدين، "الكث اللحية" بفتح الكاف ومثلثة- غير دقيقها، ولا طويلها، وفيها كثافة، كما في النهاية. وفي التنقيح: كثير شعرها غير مسبلة، واللحية -بكسر اللام وفتحها- وهو لغة الحجاز، الشعر النابتت على الذقن خاصة, "عرقه" بالتحريك: ما يرشح من جلده "في وجهه كاللؤلؤ" في الصفاء والبياض. وللبيهقي عن عائشة: كان يخصف نعله، وكنت أغزل، فنظرت إليه، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نورًا، "وريحه كالمسك ينفح" بفتح الفاء- أي: يهبّ "منه" ويظهر رائحته, "كأنَّ عنقه" بضم المهملة والنون وتسكن- "إبريق فضة"، صفاء، وطولًا متوسطًا لا مفرطًا، ففي حديث هند: معتدل الخلق، وفي حديث أبي هريرة: كان -صلى الله عليه وسلم- أبيض، كأنما صيغ من فضة، رواه الترمذي، وعنده في حديث هند: كان عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، وجيد -بكسر الجيم وإسكان الياء- العنق, عَبَّر به تفننًا وكراهة للتكرار اللفظي، ودمية -بضم المهملة، وسكون الميم، وتحتية- الصورة، أو المنقوشة من نحو رخام أو عاج, شبَّه عنقه بعنقها؛ لأنه يتأنّق في صنعتها مبالغة في حسنها، وخصها لكونها كانت مألوفة عندهم دون غيرهم، وقوله: في صفاء الفضة حال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 الحديث. والأنجل: الواسع شق العين. والقرن -بالتحريك: التقاء الحاجبين. وما وصفه به ابن أبي هالة مخالف لما في حديث مقاتل بن حيان وما في حديث أم معبد, فإنها قالت: أزجّ أقرن، أي: مقرون الحاجبين، قال ابن الأثير: والأوّل هو الصحيح في صفته، يعني: سوابغ في غير قرن.   مقيدة بالتشبيه به، أي: هو حال صفائه. قال الزمخشري: وصف عنقه بالدمية في الإشراق والاعتدال، وظرف الشكل، وحسن الهيئة والكمال، وبالفضة في اللون والإشراق والجمال، "الحديث، والأنجل: الواسع شق العين"، لم يتقدّم حتى يحتاج إلى بيانه، لكنه سقط من قلمه بعد قوله: الأدعج العينين، لفظ الأنجل العينين، وهو بنون وجيم من النجلة السعة، ومنه طعنة نجلاء "والقرن -بالتحريك"، أي: فتح الأول والثاني، "التقاء" شعر "الحاجبين"، ففيه مضاف، "وما وصفه به ابن أبي هالة" من قوله: سوابغ من غير قرن، "مخالف لما في حديث مقاتل بن حيان", من قوله: المقرون الحاجبين، "و" مخالف "ما في حديث أم معبد، فإنها قالت": أحور أكحل، "أزج" يوصف به الرجل، والحاجب في المدح "أقرن، أي: مقرون الحاجبين". قال ثابت في كتاب خلق الإنسان: رجل أقرن، وامرأة قرناء، فإذا نسب إلى الحاجبين قالوا: مقرون الحاجبين. "قال ابن الأثير: والأول هو الصحيح في صفته" صلى الله عليه وسلم، "يعني: سوابغ في غير قرن"، وقال غيره: إنه المشهور، وإن قول الحسن: سألت خالي هند بن أبي هالة، وكان وصَّافًا، فارد لما حاء بخلافة، وجمع على تقدير الصحة، بأنَّه يحسب ما بيده للناظرين من بعد، أو بلا تأمّل، وأما القريب المتأمل فيرى بين حاجبيه فاصلًا لطيفًا مستثنيًا، فهو أبلج في الواقع، أقرن بحسب الظاهر للناظر من بعد، أو بلا تأمل، كما في وصف أنفه، يحسه من لم يتأمّله أشمّ، ولم يكن أشمّ، وبأنَّ بينهما شعرًا خفيفًا جدًّا، يظهر إذا وقع عليه الغبار، في نحو سفر، وحديثهما سفري، وبأنّ القرن حدث له بعد، وكان أولًا بلا قرن واستبعد. قال الأنطاكي وغيره: والقرن معدود من معايب الحواجب، والعرب تكرهه، وأهل القيافة تذمّه، ويستحبون البلج، خلاف ما عليه العجم، وإذا دقَّقت النظر علمت أن نظر العرب أدق، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 والقنى في الأنف: طوله ودقة أرنبته مع خدب في وسطه. وقد وصفه -عليه الصلاة والسلام- غير واحد: بأنَّه كان عظيم الهامة، كما في حديث ابن أبي هالة المشهور, وقال علي بن أبي طالب -في حديث رواه الترمذي وصححه البيهقي: ضخم الرأس. وكذا قال أنس في رواية البخاري. وكان -عليه الصلاة والسلام- أيضًا ضخم الكراديس، وهي رءوس العظام، كما وصفه به علي في حديث الترمذي, وقال أيضًا في رواية: جليل المشاش والكتد, وفُسِّرَ برءوس العظام كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أي: عظيمهما. والكتد -بفتحتين ويجوز كسر التاء: مجتمع الكتفين. وكان -عليه الصلاة والسلام- دقيق العرنين،   وطبعهم أرقّ، "والقنى في الأنف طوله، ودقة أرنبته مع خدب" -بمهملتين- "في وسطه"، وهو معنى قول ابن الأثير: وهو السائل الأنف، المرتفع وسطه، وقيل: هو نتوء في وسط القصبة، والأوّل أَوْلَى بالمدح، "وقد وصفه -عليه الصلاة والسلام- غير واحد" من الصحابة؛ "بأنَّه كان عظيم الهامة" -بالتخفيف- الرأس عظمًا متوسطًا لا خارجًا؛ لأنه آية البلادة، "كما في حديث ابن أبي هالة المشهور" في الترمذي، "وقال علي بن أبي طالب في حديثٍ رواه الترمذي وصحَّحَه"، رواه "البيهقي" في الدلائل، "ضخم الرأس", أي: عظيمه، وهو محبوب ممدوح؛ لأنه أعون على الإدراكات، ونيل الكمالات، "وكذا قال أنس في رواية البخاري" بلفظ: كان ضخم الرأس واليدين والقدمين، "وكان -عليه الصلاة والسلام- أيضًا ضخم الكراديس"، جمع كردوس -بالضم "وهي رءوس العظام"، كما قاله عياض وغيره، وقيل: هي كل عظمين التقيا في مفصل نحو الركبتين، والمنكبين، والوركين، وكيفما كان يدل على وفور المادة، وقوة الحواس، وكثرة الحرارة، وكمال القوى الدماغاية، "كما وصفه به عليّ في حديث الترمذي، وقال" الترمذي "أيضًا في رواية" عن علي أيضًا: "جليل"، أي: عظيم "المشاش" -بضم الميم، ومعجمتين- جمع مشاشة -بالضم والتخفيف، "والكتد"، وذلك علامة النجابة ونهاية القوة، "وفسر برءوس العظام؛ كالركبتين، والمرفقين، والمنكبين، أي: عظيمهما" تفسير لجليل، أي: المشاس والكتد، فهو مثل قوله في الرواية الأولى: وضخم الكراديس. وفي الصحاح: المشاشة رءوس الأصابع، والعظام اللينة التي يمكن مضغها، "والكتد -بفتحتين" للكاف والفوقية، "ويجوز كسر التاء، مجتمع الكتفين"، كما قاله عياض وغيره، "وكان -عليه الصلاة والسلام- دقيق العرنين" -بكسر المهملة، وإسكان الراء، وكسر النون الأُولَى، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 أي: أعلى الأنف، كما وصفه به علي في رواية ابن سعد وابن عساكر، وفي روايته أيضًا عن ابن عمر من وصف علي له أيضًا: أقنى الأنف، وفسر بالسائل المرتفع وسطه، وقال ابن أبي هالة: أقنى العرنين له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، والأشم: الطويل قصبة الأنف. وأما فمه الشريف -صلى الله عليه وسلم: ففي مسلم من حديث جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ضليع الفم،   "أي: أعلى الأنف"، أي: أوّله؛ حيث يكون فيه الشمم، وهو ما تحت مجتمع الحاجبين، أو ما صلب من عظم الأنف، أو كله، ويجمع على عرانين، ويوصف به أشراف الناس لشموخ أنفهم، وارتفاعهم على أقرانهم، ويكنَّى به عن العزيز المحسود في قومه لعزِّه, ومنه: إن العرانين تلقاها محسدة ... وما ترى للئام الناس حسادا "كما وصفه به علي في رواية ابن سعد وابن عساكر، وفي روايته أيضًا، عن ابن عمر" ابن الخطاب "من وصف علي له أيضًا"، فهو في رواية صحابي، عن صحابي، "أقنى الأنف" -بقاف فنون مخففًا- من القنى، "وفسر" في النهاية "بالسائل" الأنف، "المرتفع وسطه" مع إحديدابه، وارتفاع أعلاه، كما مَرَّ قريبًا. "وقال ابن أبي هالة: أقنى العرنين، له نور"، أي: للعرنين؛ لأنه أقرب، وقيل: للنبي؛ لأنه الأصل، فلامه بمعنى على "يعلوه"، يغلبه من حسنه، وبها رونقه، "يحسبه" بفتح السين وكسرها، قيل: وهو أولى, يظنه "من لم يتأمله" يُمْعِن النظر فيه "أشم" مفعول ثانٍ ليحسبه، أي: وليس بأشمّ، "والأشم: الطويل قصبة الأنف"، مع استواء أعلاه وانفراق الأرنبة، وقيل: الشمم: طول الأنف مع سيلانه ودقته، والأول أصح، وقد يعبر به عن عزة النفس، وعدم التنزل للأمور، ومما يمدح به، كما قال كعب: شم العرانين إبطال لبوسهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل "وأما فمه الشريف -صلى الله عليه وسلم"، أي: صفته ظاهرة وباطنة، فدخل الأسنان والخدان، فليس المراد حقيقته التي هي الخلاء الداخل، وجواب إمَّا مقدر، أي: فكان على غاية من الرونق والكمال، "ففي مسلم": الفاء للتعليل، بمعنى اللام "من حديث جابر" بن سمرة، كما في مسلم والترمذي، فكان عليه زيادته؛ لأنه عند الإطلاق ابن عبد الله، لكنه استغنى عن التقييد، لتقدمه قريبًا "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ضليع الفم" -بفتح الضاد المعجمة، "يعني: واسعة" أو عظيمة. قال الزمخشري: والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه ووفرت، فاجفر جنباه، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 يعني واسعة. وكذا وصفه به ابن أبي هالة، وزاد: يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، يعني: لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر القم. وقال شمر: عظيم الأسنان. وفي حديث عند البزار والبيهقي, قال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسيل الخدين واسع الفم. ووصفه -صلى الله عليه وسلم- ابن أبي هالة فقال: أشنب مفلج الأسنان. والشنب: رونق الأسنان   استعمل في موضع العظيم، وإن لم يكن، ثم أضلاع، وقيل: ضليعه: مهزوله وذابله، والمراد: ذبول شفتيه، ورقتهما، وحسنهما، وقيل: هو كناية عن قوة فصاحته، وكونه يفتتح الكلام، يختمه بأشداقه، والأول قول الأكثر. قال النووي: وهو الأظهر، "وكذا وصفه به ابن أبي هالة، وزاد" في بعض طرق حديثه: "يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه" جمع شدق -بكسر الشين وفتحها وسكون الهملة- جوانب فمه، "يعني: لسعة فمه، والعرب تمدح به وتذم بصغر الفم"؛ لدلالة السعة على الفصاحة والصغر على ضدها، والمولدون من الشعراء يمدحون صغره، وهو خطأ منهم، أو لمعنى لا يلتفت إليه لقبحه، "وقال شمر" -بكسر الشين المعجمة وسكون الميم- ابن عطية الأسدي، الكاهلي، الكوفي: معنى ضليع الفم، "عظيم الأسنان"، وتعقّب بأن المقام مقام مدح، وعظمهما مذموم بخلاف الفم، وأجيب بأن مراده بعظمها: شدتها وقوتها وتمامها، ولا يتوهم في سياق المدح غير هذا، وتعقب تفسيره أيضًا؛ بأن المتباردان ذلك إنما هو من معاني الضليع من غير إضافة إلى الفم، فلمَّا إضيف إليه استبان أن المراد عظمه لا عظم الأسنان، إلّا أن ثبت نقل عن أئمة هذا الشأن، وأجاب شيخنا: إملاء بأنه لا يلزم من استعماله مضافًا إلى معنى تخصيصه بما أضيف إليه، ومن تتبَّع ما ورد من استعمالات اللغة لا يتوقف فيه، فضلاعة الفم لا تتقيد بكونها في خصوص الفم، بل يجوز أن تكون صفة له باعتبار ما وجد فيه. "وفي حديث عند البزار والبيهقي، قال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسيل الخدين" بزنة أمير: لينهما، غير مرتفع الجنتين، فهو كقول هند: سهل الخدين، "واسع الفم"، فهذا يؤيد تفسير الأكثر ضليع بواسع؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، "ووصفه -صلى الله عليه وسلم- ابن أبي هالة، فقال" عقب ضليع الفم: "أشنب" -بفتح الهمزة، وإسكان المعجمة، وفتح النون، وموحدة- أي: ذو شنب، "مفلج الأسنان" -بضم الميم، وشد اللام- "والشنب رونق"، أي: حسن "الأسنان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وماؤها. وقيل: رقتها وتحديدها. وأفلج الأسنان أي: متفرقها. وقال علي: مبلج الثنايا -بالموحدة، أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة. وعند ابن عساكر عن علي: براق الثنايا. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلج الثنتين, إذا تكلم ريء   وماؤها". قال المجد: رونق السيف والضحى ماؤه وحسنه، "وقيل: رقتها وتحديدها" -بحاء ودالين مهملات- أي: الأسنان على ظاهر المتن، وبه فسره الجوهري، وقصره المجد على الأنياب، فيحتمل الموافقة والمخالفة، وفي نسخة: وتحزيزها -بزاءين منقوطتين, وهو قول في معنى الشنب أيضًا؛ إذ قيل: إنه نقط بيض، وتحزيز في الأسنان، وسئل رؤبة عن قول ذي الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب فأخذ حبة رمان، وقال: هذا هو الشنب، أي: إن صفاء ما فيها كهذا، وقيل: هو برد وعذوبة فيها، وقيل: بياض وبريق وصفاء وتحديد في الأسنان، "وأفلج الأسنان، أي: متفرقها"، وهو أنقى للفم، وأطيب، وأبلغ في الفصاحة؛ لأن اللسان يتَّسع فيها، والمراد: الثنايا؛ لحديث ابن عباس: أفلج الثنيتين، والمراد: الثنايا والرباعيات؛ لأن تباعد الأسنان كلها عيب، وفي القاموس: مفلج الثنايا منفرجها، "وقال علي: مبلج" -بضم الميم، وإسكان الموحدة- من أبلج, "الثنايا" أي: مشرقها ومضيئها، صفة مستقلة لا تفسير للفلج "بالموحدة" الساكنة من أبلج، كما في القاموس وغيره، ويحتمل فتحها، وشد اللام من بلج مثقلًا، لكن لم يذكروه. "أخرجه ابن سعد من حديث أبي هريرة" عن علي، ففيه من اللطائف, صحابي عن صحابي، "وعند ابن عساكر عن علي: براق الثنايا" أي: مضيئها، فهو مساوٍ للرواية الأولى عنه: أبلج، وكلاهما يرجع لمعنى الشنب. "وعن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفلج الثنيتين" من الفلج، أي: بعيد ما بين الثنايا والرباعيات، والفرق فرجة ما بين الثنايا، فاستعمل الفلج مكان الفرق بقرينة نسبته إلى الثنايا فقط، ذكره ابن الأثير، لكن ذكره الجوهري أنه مشترك بينهما، فلا حاجة إلى أنه استعمل في محله، إلا أن يكون إطلاق الفلج على تفريج الثنايا مجازًا لغويًّا، قيل: أكثر الفلج في العليا، وهي صفة جميلة، لكن مع القلة؛ لأنه أتمّ في الفصاحة، لاتساع الأسنان "إذا تكلم" خبر ثانٍ لكان "ريء" بكسر الراء, بزنة قيل على الأفصح، ويقال: بضم الراء وكسر الهمزة، وبني للمجهول إشارة إلى أن الرؤية لا تختص بأحد دون أحدٍ، ولذا لم يقل إذا تكلّم يخرج "كالنور"، أي: شعاع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 كالنور يخرج من بين ثناياه, رواه الترمذي في الشمائل، والدارمي، والطبراني في الأوسط. وكان -عليه الصلاة والسلام- أحسن عباد الله شفتين, وألطفهم ختم فم. بحر من الشهد في فيه مراشفه ... ياقوته صدف فيه جواهره وعن أبي قرصافة قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأمي وخالتي، فلمَّا رجعنا قالت لي أمي وخالتي: يا بني، ما رأينا مثل هذا الرجل أحسن وجهًا, ولا أنقى ثوبًا, ولا ألين كلامًا، ورأينا كالنور يخرج من فيه. وأما ريقه الشريف:   مثله، فالكاف بمعنى مثل، فلا حاجة لتقدير شيء "يخرج من بين ثناياه"، إمَّا من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم، وطريقه من بينها معجزة له، وهو نور حسي، ووهم من قال معنوي، والمراد: ألفاظه بالقرآن أو السنة؛ لأنه خلاف الظاهر المتبادر من قوله: ريء، والثنايا جمع ثنية، وهي أربع في مقدم الفم، ثنتان من فوق، وثنتان من تحت، "رواه الترمذي في الشمائل" النبوية، "و" رواه أيضًا شيخ الترمذي، فيه عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ "الدارمي" في مسنده، "والطبراني في" معجمه "الأوسط"، وكذا في الكبير، وفيه عند الجميع: عبد العزيز أبي ثابت، وهو ضعيف جدًّا، كما قاله الحافظ نور الدين الهيثمي، "وكان -عليه الصلاة والسلام- أحسن عباد الله شفتين، وألطفهم ختم فم"، وأنشد قول العارف الرباني سيدي محمد وفى: بحر من الشهد في فيه مراشفه ... ياقوته صدف فيه جواهره "وعن أبي قرصافة" -بكسر القاف وسكون الراء بعدها مهملة وفاء- اسمه: جندرة -بفتح الجيم، ثم نون ساكنة، ثم مهملة مفتوحة، ثم راء فهاء- ابن خيشة -بمعجمة، ثم تحتية، ثم نون- الكناني، الليثي، الصحابي، المشهور بكنيته، ذكره الحافظ، "قال: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنا وأمي"، ذكرها في الإصابة في الكنى، ولم يسمِّها، فقال: أم جندرة, والدة أبي قرصافة. وقع ذكرها عند الطبراني في مسند ولدها، "وخالتي، فلمَّا رجعنا، قالت لي أمي وخالتي": مفعول معه، أي: مع مصاحبتها لخالتي، فقوله: "يا بني" مقول أمه خاصّة، أو معطوف، يعني: إن كلًّا منهما وصفه بالبنوة، فهو حقيقي بالنسبة لأمّه, مجازي لخالته "ما رأينا مثل هذا الرجل" خَلْقًا وخُلُقًا "أحسن"، الرواية لا أحسن "وجهًا"، بل هو أحسن وجهًا من جميع الناس، "ولا أنقى -بنون وقاف- أنظف "ثوبًا"، بل ثوبه أنظف من جميع الثياب، "ولا ألين كلامًا، ورأينا كالنور يخرج من فيه"، هذا محل شاهده من هذا الحديث، "وأمَّا ريقه الشريف"، أي: وصفه، فكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 ففي الصحيحين، عن سهل بن سعد, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله رسوله، ويحبه الله ورسوله"، فلمَّا أصبح الناس غدوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجو أن يعطاها، قال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: "فأرسلوا إليه"، فأتي به، فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع.   يشفي الداء الحسي والمعنوي، كإزالة ملوحة الماء، فالجواب محذوف اكتفاءً بما دَلَّ عليه، وهو قوله: "ففي" التي بمعنى اللام، أي: لما في "الصحيحين" للبخاري ولمسلم، "عن سهل بن سعد" بن مالك بن خالد الأنصاري، الخزرجي، الساعدي، صحابي ابن صحابي. مات سنة ثمان وثمانين أو بعدها، وقد جاوز مائة، "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال يوم خيبر": بعدما أرسل أبا بكر بالراية، فقاتل شديدًا، ولم يكن فتح، ثم أرسل عمر من الغد، فقاتل أشد من الأوّل, ثم رجع ولم يكن فتح، كما عند أحمد والنسائي وغيرهما، ففي هذه الراية اختصار، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لأعطينّ الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". قال الحافظ: أراد وجود حقيقة المحبة، وإلّا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة، وفيه تلميح بقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فكأنه إشارة إلى أن عليًّا تام الاتباع، حتى وصفه بصفة محبة الله، ولذا كان حبّه علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، كما في مسلم وغيره، "فلمَّا أصبح الناس غَدَوْا" -بمعجمة- أتوا صباحًا "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو" بلا نون، دون ناصب وجازم، وهو لغة، كما قال المصنف. وفي رواية: يرجون "أن يعطاها"، أي: الراية، قال عمر: ما أحببت الإمارة إلّا يومئذ، رواه مسلم, وفي حديث بريدة: فما منَّا رجل له منزلة عنده -صلى الله عليه وسلم- إلّا وهو يرجو أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها. "قال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه"، مثنَّى "قال: "فأرسلوا إليه" -بكسر السين- أمر من الإرسال وفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا إليه، أي: الصحابة إلى علي، وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده، قاله المصنّف، "فأتي به"، وفي مسلم عن سلمة: فأرسلني إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، "فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه فبرأ" -بفتح الراء والهمزة- بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم، قاله الحافظ، فأفاد أن الرواية بالأول، أي: شُفِيَ "كأن لم يكن به وجع"، مع أنه كان أرمد، شديد الرمد، قاله جابر في الطبراني، وقال ابن عمر: أرمد لا يبصر، رواه أبو نعيم. قال علي: فما رمدت، ولا صدعت مذ دفع إليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الراية يوم خيبر، وفي رواية: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 الحديث متفق عليه. وأتي بدلو من ماء فشرب من الدلو، ثم صب في البئر، أو قال: مجَّ في البئر ففاح منها مثل رائحة المسك. رواه أحمد من حديث وائل بن حجر. وبزق في بئر في دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، رواه أبو نعيم. وكان -عليه الصلاة والسلام- يوم عاشوراء, يدعو برضعائه وبرضعاء ابنته فاطمة, فيتفل في أفواهم ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل"، فكان ريقه يجزيهم.   فما اشتكيتهما حتى يومي هذا، رواهما الطبراني "الحديث" بقيته: فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم"، "متفق عليه" بمعنى. أخرجه الشيخان. "وأتي بدلو من ماء، فشرب من الدلو"، لم يقل منه، لئلَّا يوهم أنه شرب من الماء في غير الدلو، بأن صبَّه في إناء غيره من الدلو، "ثم صبَّ" باقي شربه "في البئر"، قصدًا لإظهار المعجزة المصدقة له، "أو قال": شك الراوي "مجَّ في البئر، ففاح منها مثل رائحة المسك" معجزة له، ويحتمل قصره على ما عند الصب وبقاؤه مدة. "رواه أحمد من حديث وائل بن حجر" -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن مسروق الحضرمي، صحابي جليل، كان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وعنه جماعة. مات أوائل خلافة معاوية، "وبزق" -بالزاي وبالصاد- وفي لغة: بالسين، خلافًا لمن أنكرها "في بئر في دار أنس" بن مالك، "فلم يكن في المدينة بئر أعذب" أحلى "منها"، ببركة بزاقه، "رواه أبو نعيم" وغيره عن أنس، "وكان -عليه الصلاة والسلام- يومًا عاشوراء يدعو برضعائه"، أي: صبيانه الذين ينسبون إليه، "وبرضعاء ابنته فاطمة"، أي: أولادها، ورضيع الشخص أخوه رضاعة، وليس مرادًا هنا، كما هو ظاهر، "فيتفل" -بكسر الفاء وضمها- يبصق "في أفواههم، ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل"، لعله أراد مشاركتهم للصائمين في عدم تناول شيء، لتعود عليهم بركة تصورهم بهم، ولا مانع أن يكتب لهم ثواب من صامه، إكرامًا له، "فكان ريقه يجزيهم" -بفتح الياء- يكفيهم إلى الليل، ويجوز ضم الياء مع سكون الجيم، آخره همزة، أي: يقضيهم عن اللبن، "رواه البيهقي" في الدلائل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 رواه البيهقي. ودخلت عليه عميرة بنت مسعود هي وأخواتها يبايعنه وهنَّ خمس, فوجدنه يأكل قديدًا, فمضغ لهنَّ قديدة فمضغنها, كل واحدة بينهنَّ قطعة, فلقين الله وما وجد لأفواههنّ خلوف، رواه الطبراني. ومسح -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث فيها من ريقه على ظهر عتبة وبطنه, وكان به شرى، فما كان يشم أطيب رائحة منه. رواه الطبراني. وأعطى الحسن لسانه -وكان قد اشتد ظمؤه- فمصَّه حتى روي. رواه ابن عساكر, ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفى الشاذلي المالكي -رضي الله عنه   "ودخلت عليه عميرة بنت مسعود" الأنصارية، "هي وأخواتها يبايعنه، وهن خمس، فوجدنه يأكل قديدًا" لحمًا مقددًا، أي: مجفَّفًا في الشمس، "فمضغ لهنَّ قديدة، فمضغنها, كل واحدة"، بدل من الفاعل في مضغتها، وذلك بعد أخذ عميرة لها من المصطفى، ففي رواية عنها: فمضغ لهن قديدة، ثم ناولني القديدة فقسمتها "بينهنَّ"، فمضغت كل واحدة "قطعة, فلقين الله"، أي: مِتْنَ، "وما وجد لأفواههن خلوف" -بضم الخاء- تغيُّر ريح، "رواه الطبراني"، وأبو نعيم، وأبو موسى في الصحابة، وفي روايتها: فلقين الله ما وجدن في أفواههن خلوفًا، ولا اشتكين من أفواههن شيئًا، "ومسح -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة بعد أن نفث" تفل "فيها من ريقه، على ظهر عتبة" بن فرقد بن يربوع السلمي، صحابي, نزل الكوفة ومات بها، وهو الذي فتح الموصل زمن عمر، "وبطنه، وكان به شرى" خراج صغار، لها لذع شديد، كما في المختار، "فما كان يشمّ أطيب رائحة منه، رواه الطبراني" في الكبير والصغير، من طريق أم عاصم زوجة عتبة بن فرقد، عنه قال: أخذني الشرى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأمرني فتجردت، فوضع يده على بطني وظهري، فعبق الطيب من يومئذ، قالت أم عاصم: كنا عنده أربع نسوة، فكنا نجتهد في الطيب، وما كان هو يمس الطيب، وأنه لأطيب ريحًا منَّا، "وأعطى الحسن" ابنه "لسانه، وكان قد اشتد ظمؤه، فمصَّه حتى روي" -بفتح الراء، وكسر الواو- زال ظمؤه، "رواه ابن عساكر"، وروى الطبراني: أنَّ امرأة بذيئة اللسان جاءته -صلى الله عليه وسلم، وهو يأكل قديدًا، فقالت: ألا تطعمني، فناولها من بين يديه، فقالت: لا، إلا الذي في فيك، فأخرجه، فأعطاه لها فأكلته، فلم يعلم منها بعدما كانت عليه من البذاءة، "ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفى الشاذلي المالكي -رضي الله عنه؛ حيث يقول: جنى النحل"، أي: مجنيه؛ كقوله تعالى: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] "في فيه"، أي: في فمه، أي: كلامه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 حيث يقول: جنى النحل في فيه وفيه حياتنا ... ولكنه من لي بلثم لثامه رحيق الثنايا والمثاني تنفست ... إذا قال في فيح بطيب ختامه وأمّا فصاحة لسانه، وجوامع كلمه، وبديع بيانه وحكمه، فكان -صلى الله عليه وسلم- أفصح خلق الله،   الحلاوة، كالشهد المجني من النحل، "وفيه"، أي: ما يُجْنَى منه "حياتنا"؛ لأنه يأتي بما تحيا به القلوب، ويقرب إلى علام الغيوب، فنحيا في الدنيا بالعبادة والإيمان، وفي الأخرى الحياة الأبدية في رياض الجنان، "ولكنه من" يتكفل "لي بلثم لثامه" حتى أجني منه ذلك الجني، تمنَّى رؤيته يقضة ليسمع منه، ويأخذ عنه، وما ذلك عليه بعزيز، "رحيق الثنايا" خمرها، شبَّه ما يخرج من بينها بالخمر الخالص من الدنس، في أنه يستلذ به، كالرحيق الممتنّ به على المتقين في الجنة، {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} ، "والمثاني" القرآن، أو ما ثنى منه مرة بعد مرة، أو الحمد، أو البقرة إلى براءة، أو غير ذلك مما قيل في تفسير المثاني، أو المراد المزامير، وهو أظهر تشبيهًا لصوته الخارج من فيه، لشدة حسنه بنغمتها، "تنفست": خرج منها نفس طيب، "إذا قال"، أي: تكلم "في فيح" -بفاء، فتحتية، فمهمل- ظرف لتنفست، تلميح بقوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} "وأما فصاحة" أي: طلاقة وجودة "لسانه"، الجارحة المخصوصة، بحيث ينطق بالكلام البليغ بلا تكلف، فالمراد الفصحة اللغوية، يقال: لسان فصيح، أي: طلق، فلا يرد أن الفصاحة لا توصف بها الجارحة، بل اللفظ والمتكلم به؛ لأن تخصيصها ألفاظ أمر اصطلاحي، ولا يرد حصرهم لها في الكلام والكلمة والمتكلم؛ لأن الحصر إضافي بالنسبة للبلاغة التي يوصف بها الأخيران فقط، واللسان العضو يذكر، فيجمع على ألسنة، ويؤنّث، فيجمع على ألسن. قال أبو حاتم: والتذكير أكثر، وهو في القرآن كله مذكر، "وجوامع كلمه" من إضافة الصفة للموصوف، أي: كلمة "الجوامع" للمعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم"، واختصر لي الكلام اختصارًا، رواه أبو يعلى والبيهقي عن ابن عمر، والدارقطني عن ابن عباس. "وبديع بيانه وحكمه" -بكسر ففتح- جمع حكمة، أي: بيانه البديع، وحكمه البديعة، فهما أيضًا من إضافة الصفة للموصوف، "فكان -صلى الله عليه وسلم- أفصح خلق الله"، أي: مخلوقه الذي يوصف بالفصاحة، وهو نوع الإنسان، أي: أقدرهم على المجيء بالكلام الفصيح، أي: البليغ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 وأعذبهم كلامًا، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقًا، حتى كان كلامه يأخذ بمجامع القلوب ويسلب الأرواح, شعر: ينظم در الثغر نثر مقوله ... فيا حسنه ونثره ونظامه يناجي فينجي من يناجي من الجوى ... فكل كليم برؤه في كلامه ففصاحة لسانه -عليه الصلاة والسلام- غاية لا يدرك مداها،   فالفصاحة قد تطلق ويراد بها البلاغة، "وأعذبهم كلامًا"، فيتكلم بألفاظ حلوة لطيفة لا يلتوي الذهن في فهمها، فما من لفظة يسبق فهمها للذهن، إلّا ومعناها أسبق إليه، "وأسرعهم أداء" اسم مصدر من أدَّى، أي: تأدية للمعاني التي يريد إيرادها، فينطبق بغاية من الله السرعة بلا تلعثم ولا تأنٍّ، "وأحلاهم منطقًا" مصدر ميمي، أي: نطقًا، وعذوبة الكلام وحلاوته، المراد بهما: حسنه؛ بحيث يستلذ بسماعه، كما يستلذ بتناول الشيء الحلو، كما قيل: يكاد من عذوبة الألفاظ ... تشربه مسامع الحفاظ "حتى كان" بالتشديد "كلامه يأخذ بمجامع"، أي: جميع، واحده مجمع -بفتح الميم وكسرها, "القلوب": بأن يستولي عليها؛ بحيث تصير كأنها في يده، يقلِّبها كيف شاء، "و" كأنه "يسلب الأرواح" جمع روح، "شعر" للأستاذ محمد، وفي جملة القصيدة التي قدَّم بيتين منها قريبًا، فقال عقبهما: "ينظم در" -بضم الدال- جمع درة: اللؤلؤة العظيمة، "الثغر" المبسم، ثم أطلق على الثنايا, "نثر" بالرفع "مقوله"، أي: قوله، يعني: إذا تكلم بنَثْرٍ أشبه اللآلئ الكبار في حسنها، وقبول النفوس لها، "فيا حسنه ونثره ونظامه"، إتيانه بكلامه المنثور والمنظوم. وليس المراد الشعر، فنادى حسنه ليتعجب منه، "يناجي" يسارر، والمراد: مطلق الكلام، "فينجي من يناجي من الجوى" -بالقصر: الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حزن، أي: يخاطب من كرب، فيزول بخطابه، "فكل كليم" جريح "برؤه" شفاؤه حاصل "في كلامه" -صلى الله عليه وسلم- له، والمراد: إن كلامه يداوي المرضى، ويزيل عللهم، "ففصاحة لسانه -عليه الصلاة والسلام- غاية" مدى "لا يدرك مداها" -بفتحتين- غايتها، كما في اللغة، فكأنه قيل: نهاية لا تدرك نهايتها، فيشكل بأن نهاية الشيء آخره، ووجه بأنه من نفي القيد والمقيد جميعًا، أي: لا لها غاية، ولا منتهى حتى تدرك كقوله: على لا حب ... لا يهتدي لمثاره أو قصد المبالغة، حتى إنه جعل النهاية بمنزلة شيء ممتد لا تدرك نهايته، أو الغاية هنا بمنزلة المرتبة، أو الحالة، وهي لا تدرك نهايتها، على نحو قول الرضي قولهم: من لابتداء الغاية، معناه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 ومنزلة لا يداني منتهاها، وكيف لا يكون ذلك وقد جعل الله تعالى لسانه سيفًا من سيوفه، يبين عنه مراده, ويدعو إليه عباده، فهو ينطق بحكمه عن أمره، ويبين عن مراده بحقيقة ذكره. أفصح خلق الله إذا لفظ، وأنصحهم إذا وعظ, لا يقول هجرًا، ولا ينطق هذرًا، كلامه كله يثمر علمًا،   لابتداء المسافة، فلا منافاة بين الحكم بأنها للابتداء، وأن ذلك الابتداء للغاية، "ومنزلة" رتبة عليه، "لا يداني" يقارب "منتهاها" غايتها, لما خصَّه الله به من القوة النطقية التي اختص بها الإنسان على غيره الحيوان؛ إذ علاه من يقدر على ضبط سائر المعاني، والتعبير عنها إلى أقصى الغايات، وهذه القدرة هي فصل الخطاب، فهو القدرة على كل ما يخطر بالبال، ويحضر في الخيال، بتفصيل كل فرد منه, والتعبير عنه بما يطابقه من أمور الدنيا والدين، وغاية ذلك التي لم يصل إليها مخلوق مختصة بنبينا -صلى الله عليه وسلم، ولذا قيل: كلامه معجز كالقرآن، ولم يقل في غيره ذلك؛ لأن كتبهم ليست معجزة، فكذا كلامهم بخلاف كتابه، وكلامه مثل، وهذا وإن كان ضعيفًا، لكنه من حيث الكل، أمَّا الأكثر سيما جوامع كلمه، فلا شَكَّ في إعجازها، كما بينه في الاستيعاب، "وكيف لا يكون ذلك" استفهام تعجبي، والواو للاستئناف، "وقد جعل الله تعالى لسانه سيفًا"، أي: كسيف "من سيوفه" في شدة تأثير ما يقوله في النفوس، وأنه لا يرد "يبين عنه مراده"، أي: الله، "ودعو إليه عباده"، كما قال: {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} ، "فهو ينطق بحكمه -بضم فسكون- الذي شرعه "عن أمره"، امتثالًا لنحو قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، أو بكسر، ففتح جمع: حِكَمه، أي: كلماته الحق المطابقة للواقع، نطقًا ناشئًا عن أمر الله تعالى له بذلك، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، "ويبين" -بضم فكسر فسكون، أو بضم، ففتح، فكسر وشدّ. من أبان وبَيِّنَ، أي: يكشف "عن مراده بحقيقة ذكره"، أي: ذكر الحق الذي لا ريب فيه، "أفصح" بالفاء "خلق الله"، الذين يوصفون بالفصاحة، فلا يرد الحيوانات والجمادات، فإنها لا توصف بها، وأفعل التفضيل يقتضي المشاركة، وأورد بالخلق المجموع، فلا يستلزم الحكم على كل فرد فرد، "إذ لفظ" تكلم، "وأنصحهم" -بالنون- أشدهم نصحًا، "إذا وعظ" ذكر وخوف العواقب، "لا يقول هجرًا" -بضم الهاء، وإسكان الجيم- فحشًا، "ولا ينطق هذرًا" -بفتح الهاء، وذال معجمة ساكنة- أي: لا يخلط في كلامه، ولا ينطق بما لا ينبغي، بل كان أشد حياء من العذراء في خدرها، "كلامه كله يثمر علمًا"، فهو شجرة طيبة يجتني منها الثمار المشتهاة، ولذا كان طالب العلم لا يشبع منه، "ويمتثل" -بضم التحتية، وإسكان الميم، وفتح الفوقية، ومثلثة- أي: يمتثل ما جاءته حال كونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 ويمتثل شرعًا وحكمًا، لا يتفوه بَشَرٌ بكلام أحكم منه في مقالته، ولا أجزل منه في عذوبته. وخليق بمن عبَّر عن مراد الله بلسانه، وأقام به الحجة على عباده ببيانه، وبَيِّنَ مواضع فروضه وأوامره ونواهيه وزواجره, ووعده ووعيده وإرشاده, أن يكون أحكم الخلق جنانًا وأفصحهم لسانًا، وأوضحهم بيانًا. وقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا تكلم تكلم بكلام مفصَّل مبيّن، يعده العادّ، ليس بهذر مسرع لا يحفظ،   "شرعًا" أي: مشروعًا، "وحكمًا" أمورًا محققة متقنة. وفي البيضاوي: الحكمة تحقيق العلم، وإتقان العمل، "لا يتفوّه" ينطق "بَشَر بكلام أحكم منه في مقالته"، بل لا يقدر على مساواة مقالته، "ولا أجزل" -بجيم وزاي- أحسن وأسلس "منه في عذوبته"، قبول النفوس له، كالحلو، "وخليق" جدير وحقيق "بمن عَبَّر عن مراد الله بلسانه، وأقام" الله "به الحجة"، البرهان والدليل الواضح "على عباده ببيانه، وبَيِّنَ مواضع فروضه، وأوامره، ونواهيه، وزواجره، ووعده" بالخير لمن أطاع، "ووعيده" بالشر لمن عصى، "وإرشاده أن يكون أحكم الخلق جنانًا" -بفتح الجيم- قلبًا, فاعل سد مسد الخبر؛ لقوله: وخليق, بناء على قول الأخفش، الذي لا يشترط اعتماد الوصف في أعماله، أو هو مبتدأ، وخليق في خبره، وقد جوَّزوا الوجهين في قوله: خبير بنو لهب فلا تك ملغيًا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت فخبير مبتدأ، وبنو فاعله، أو مبتدأ خبره خبير، ولا يجوز أن خليق مبتدأ، والخبر أن يكون؛ لأن المنسبك من أن والفعل بمنزلة المضاف للضمير، فيكون أعرف، والخبر لا يكون أرف، ومن ثَمَّ قال ابن هشام: اتفقوا على نصف حجتهم في قوله تعالى: {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} [الجاثية: 25] ، إلّا أن قالوا، وهو متعين، "و" أن يكون "أفصحهم لسانًا، وأوضحهم بيانًا" لأجل ذلك الذي أريد منه، "وقد كان -عليه الصلاة والسلام- إذا تكلّم"، أي: إذا أراد أن يتكلم، "تكلّم بكلام مفصَّل مبيّن"، صفة كاشفة؛ بحيث يمتاز بعضه عن بعض فلا يلتبس، "يعده العادّ" لمبالغته في الترتيل والتفهيم؛ بحيث لو أراد مستمعه عد كلماته أو حروفه لأمكنه ذلك؛ لوضوحه وبيانه, "ليس بهذر" -بفتحتين- اسم من هذر، وأما بالسكون، فالمصدر, والأوّل أنسب هنا، وفي نسخة بهذ -بحذف الراء، وهو السرعة، فقوله: "مسرع" صفة كاشفة، "لا يحفظ"، وهذا ورد بمعناه عن عائشة عند الترمذي، "وقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها": فيما رواه مسلم، والبخاري، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 وقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد سردكم هذا، كان يحدِّث حديثًا لو عده العاد لأحصاه, وكان يعيد الكلمة ثلاثًا حتى تعقل عنه.   وأبو داود، "ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد" -بضم الراء- الحديث "سردكم"، وفي رواية: كسردكم، والمعنى واحد "هذا"، أي: ما كان يتابع الحديث استعجالًا بعضه إثر بعض، لئلَّا يلتبس على المستمع. زاد الإسماعيلي في روايته: إنما كان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهمًا تفهمه القلوب، "كان يحدث حديثًا لو عدَّه العاد لأحصاه"، أي: لو عدَّ كلماته، أو مفرداته، أو حروفه، لأطاق ذلك وبلغ آخرها، والمراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهم، قاله الحافظ, وفيه إشارة إلى أن الشرط والجزاء مختلفان، وأوضحه المصنف بقوله: لا يقال فيه اتحاد الشرط والجزاء؛ لأنه كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، وقد فُسِّرَ بلا تطيقوا عدَّها وآخرها، وهذا أتت به عائشة، تعرض بأبي هريرة، فصدر الحديث عن عروة، عنها أنها قالت: ألا يعجبك أبو فلان؟ ولفظ مسلم: أبو هريرة جاء، فجلس إلى جانب حجرتي، يحدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرد يسمعني ذلك، وفي رواية، فقال: ألا تسمعي يا ربة الحجرة، وكنت أسبّح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان، فذكرته. قال الحافظ: وأعتذر عن أبي هريرة، بأنه كان واسع الرواية، كثير المحفوظ، فكان لا يتمكّن من الترتيب عند إرادة التحديث، كما قال بعض البلغاء: أريد أن أقتصر فتتزاحم عليّ القوافي. "و" روى الترمذي، والحاكم، عن أنس "كان" -صلى الله عليه وسلم- "يعيد الكلمة" الصادقة بالجملة، أو الجمل, نحو أنها كلمة، والمراد بها: ما لا يتبين مبناها أو معناها إلا بالإعادة "ثلاثًا"، أي: ثلاث مرات، معمول لمحذوف، أي: فقالها ثلاثًا، أو ضُمِّنَ عاد قال، فلم تقع الإعادة إلا مرتين، ولا يصح بقاؤه على ظاهره لاستلزامه قول الكلمة أربع مرات؛ إذ الأولى لا إعادة فيها. قاله البدر الدماميني وغيره، وبَيِّنَ المراد بذلك بقوله: "حتى تعقل عنه"، وفي رواية البخاري: حتى تفهم عنه، والمعنى واحد، أي: ليتدبرها السامعون، ويرسخ معناها في القوة العاقلة، وحكمته: أن الأولى للإسماع، والثانية للوعي، والثالثة للفكرة، أو الأولى إسماع، والثانية تنبيه، والثالثة أمر. وفيه كما قال ابن التين: إن الثلاثة غاية الإعذار والبيان، فمن لم يفهم بما لا يفهم بها زيد عليها، ولو مرات عديدة، وقد ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يراجع بعد ثلاث، وفيه رد على من كراه إعادة الحديث، وأنكر على الطالب الاستعادة، وعدّه من البلادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 وكان يقول: "أنا أفصح العرب". وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ فقال: كانت لغة إسماعيل قد درست, فجاءني بها جبريل فحفظتها. رواه أبو نعيم.   قال ابن المنير: والحق أنه يختلف باختلاف القرائح، فلا عيب على المستفيد، الذي لا يحفظ من مرة إذا استعاد، ولا عذر للمفيد إذ لم يعد، بل الإعادة عليه آكد من الابتداء؛ لأن الشروع ملزم، وقد علمت أن قوله: وكان يعيد، ليس من بقية كلام عائشة، بل هو حديث أنس، أخرجه الترمذي، والحاكم بهذا اللفظ، إلّا أن الحاكم، وهو في استدراكه ودعواه أن البخاري لم يخرجه، فقد رواه في كتاب العلم، عن أنس من طريقين، لفظ أولهما، كان إذا سَلَّمَ سَلَّمَ ثلاثًا، وإذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا، ولفظ ثانيهما: كان إذا تكلَّم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم، سلم عليهم ثلاثًا، "وكان يقول: "أنا أفصح العرب" وهو أفصح الناس، فهو أفصح الفصحاء، وهذا اللفظ ذكره أصحاب الغريب. قال ابن كثير والسيوطي: لم نقف على سنده، "وقد قال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله, ما لك أفصحنا؟ "، حال من الكاف، وما مبتدأ خبره لك، "و" الحال أنك "لم تخرج من بين أظهرنا"، حتى تزيد علينا بالفصاحة؛ لأنك لو خرجت من بيننا لقلنا: تعلم من لغات من عاشرهم غيرنا، ومراده الاستفهام، ولذا أجابه، "فقال: كانت لغة إسماعيل" بن إبراهيم جده -عليهم الصلاة والسلام، التي هي أفصح اللغات "قد درست"، عفت وخفيت آثارها، فلم يبق من ينطق بها على وجهها، "فجاني بها جبريل، فحفظتها"، وفي رواية ابن عساكر: فحفظنيها، أي: جبريل، فلذا كنت أفصح العرب، ينطق بأفصح اللغات، وأتمّ البلاغات، وأفحم بلغاء العرب قاطبة، فلم يدع منهم أحدًا إلا أعجزه، وأدله وحيره في أمره وأعله. قال العلامة المحدث أحمد المتبولي: دلّت الأحاديث عن أن لسان آدم الذي علمه الله له، وتكلم به عربي، وعلمه اثنين وسبعين، أو ثمانين لسانًا، لكنه لم يتكلّم إلا بالعربية، فلمَّا أكل من الشجرة تكلم بالسريانية، ثم رد الله إليه العربية لما تاب الله عليه واجتباه، واستمرَّ الناس عليها إلى أن تبلبلت ألسنتهم بعد الطوفان، وقول بعض المفسرين: إن الله علّم آدم سبعمائة ألف، غريب لم أقف له على أصل، والمعوّل عليه ما قررناه. وذكر في الإتقان: إن القرآن فيه خمسون لغة، سردها في النوع السابع والثلاثين، وذكرها هنا يخرج عن المقصود، "رواه أبو نعيم" في تاريخ أصبهان بإسناد ضعيف، وكذا ابن عساكر، وأبو أحمد الغطريف، بلفظ: إن لغة إسماعيل كانت درست، فأتاني بها جبريل، فحفَّظنيها، "وروى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 وروى العسكري في الأمثال من حديث علي بسند ضعيف جدًّا قال: قدم بنو نهد على النبي -صلى الله عليه وسلم: الحديث وفيه: ذكر خطبتهم وما أجابهم به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقلنا: يا نبي الله، نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتكلم العرب بلسان ما نعرف أكثره، قال: "إن الله -عز وجل- أدَّبني فأحسن تأديبي، ونشأت في بني سعد بن بكر".   العسكري" -بفتح العين المهملة، والكاف، وبالراء- نسبة إلى عسكر مكرم, مدينة بالأهواز، الحافظ، الإمام أبو الحسن علي بن عبد الله، نزيل الري، صنَّف وجمع، ومات سنة خمس وثلاثمائة، "في الأمثال"، كتاب جمع فيه ألف مَثَل عن النبي -صلى الله عليه وسلم، "من حديث علي، بسند ضعيف جدًّا، قال: قدم بنو نهد" -بفتح النون وإسكان الهاء- ابن زيد "على النبي -صلى الله عليه وسلم، الحديث. وفيه ذكر خطبتهم، وما أجابهم به النبي -صلى الله عليه وسلم"، وسيذكر المصنّف ذلك كله مع كتاب المصطفى، لهم أواخر هذا المبحث. "قال" علي: "فقلنا: يا نبي الله, نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد" وهي مكة، "وإنك لتكلم العرب بلسان ما نعرف أكثره"، فلم ذلك، "قال: "إن الله -عز وجل- أدبني" "، أي: علمني رياضة النفس، ومحاسن الأخلاق، الظاهرة والباطنة، "فأحسن تأديبي"، بإفضاله علي بالعلوم الوهيبة، مما لم يقع نظيره لأحد من البرية. قال بعضهم: أدبه بآداب العبودية، وهذَّبَه بمكارم الأخلاق الربوبية، لما أراد إرساله؛ ليكون ظاهر عبوديته، مرآة للعالم؛ كقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وباطن أحواله مرآة للصادقين في متابعته، وللصديقين في السير إليه "و {اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ". وقال القرطبي: حفظه الله من صغره، وتولّى تأديبه بنفسه، ولم يكله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كره إليه أحوال الجاهلية، وحماه منها، فلم يجر عليه شيء منها، كل ذلك لطف به، وعطف عليه، وجمع للمحاسن لديه، وقال بعضهم: أدَّب الله روح رسوله، وربَّاها في محل القرب، قبل اتصالها ببدنه، باللطف والهيبة، فتكامل له الأنس باللطف، والأدب والهيبة، واتصلت بعد ذلك بالبدن، ليخرج من اتصالها كمالات أخرى من القوة إلى الفعل، وينال كل من الروح والبدن بواسطة الآخر من الكمال ما يليق بالحال، ويصير قدوة لأهل الكمال والأدب، استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، أو الأخذ بمكارم الأخلاق، أو الوقوف المستحسنات، أو تعظيم من فوقه مع الرفق بمن دونه، وقيل غير ذلك، "ونشأت في بني سعد بن بكر"، فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها، وخلوص ألفاظ الحاضرة، ورونق كلامها. قال السخاوي: وسند هذا الحديث ضعيف جدًّا، وإن اقتصر شيخنا -يعني الحافظ- على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 وعن محمد بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال: قال رجل: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: "نعم, إذا كان ملفجًا". فقال له أبو بكر: يا رسول الله، ما قال لك، وما قلت له؟ قال: "قال: أيماطل الرجل أهله؟ قلت له: نعم, إذا كان مفلسًا" , قال أبو بكر: يا رسول الله، لقد طفت في العرب وسمعت فصحاءهم, فما سمعت أفصح منك، قال: "أدبني ربي ونشأت في بني سعد"، رواه السرقسطي في الدلائل.   الحكم عليه بالغرابة في بعض فتاويه، ولكن معناه صحيح، ولذا جزم بحكايته ابن الأثير في خطبة النهاية وغيرها، وقد أخرج أبو سعد السمعاني في أدب الإملاء بسند منقطع فيه من لم أعرفه عن عبد الله، أظنه ابن مسعود، قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله أدبني فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق"، فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] الآية. وذكر حديث عمر السابق في المصنف، وحديث الصديق الآتي شاهدين له، ثم قال: وبالجملة، فهو كما قال ابن تيمية: لا يعرف له إسناد ثابت أ. هـ، وجزم السيوطي في الدرر وغيرها بأنه ابن مسعود قائلًا، وضعَّفه ابن السمعاني، وابن الجوزي، وصحَّحه أبو الفضل بن ناصر. "وعن محمد بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن جده، قال: قال رجل" من بني سليم "يا رسول الله أيدالك الرجل امرأته؟ قال: "نعم، إذا كان ملفجًا"، فقال له أبو بكر" مستفهمًا عَمَّا لم يفهمه على عادة الصحابة: "يا رسول الله, ما قال لك، وما قلت له؟ قال" -صلى الله عليه وسلم: "قال الرجل: أيماطل الرجل أهه؟ قلت له: نعم، إذا كان مفلسًا"، قال أبو بكر" الصديق: يا رسول الله، لقد طفت"، سعيت "في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك"، فمن أدبك؟ هذا أسقطه من الرواية، "قال: "أدبني ربي، ونشأت في بني سعد"، فجمع له قوة الحاضرة والبادية، بخلاف غالبهم، فإنما نشأ في مكة فقط, أو البادية فقط. "رواه" ثابت بن حزم بن عبد الرحمن بن مطرف، العوفي، "السرقطي" بفتح المهملة، والراء، وضم القاف، وسكون المهملة- نسبة إلى سرقسطة, مدينة بالأندلس، العلامة الحافظ، أبو القاسم، سمع ابن وضاح والنسائي، وكان عالمًا متقنًا، بصيرًا بالحديث والنحو واللغة والغريب والشعر, ولي قضاء سرقسطة، وبها مات في رمضان سنة ثلاث عشرة، وقيل: أربع عشرة وثلاثمائة، وهو ابن خمس وتسعين سنة. "في الدلائل" في شرح ما أغفل أبو عبيد، وابن قتيبة من غريب الحديث، وناهيك به إتقانًا. قال أبو علي القالي: ما أعلم به، وضع بالأندلس، مثل كتاب الدلائل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 بسند واهٍ. وكذا أخرجه ابن عساكر. قال في القاموس: ودالكه أي: ماطله. انتهى. وقوله: "ملفجًا" بضم الميم وفتح الفاء- اسم فاعل من "ألفج الرجل" فهو ملفج، إذا كان فقيرًا، وهو غير مقيس, ومثله: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، في ألفاظ شدت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق, لكن ابن الأثير: لم يجئ إلا في ثلاثة أحرف: أسهب وأحصن وألفج. وقال غيره: معناه: أيداعب الرجل امرأته، يعني قبل الجماع؟ وسمَّاه مطلًا لكون غرضها الأعظم الجماع. قال: إذا كان عاجزًا؛ ليكون ذلك محركًا لشهوته، ولعجزه سمي مفلسًا.   قال ابن الفرضي: ولو قال ما وضع بالمشرق مثله ما أبعد "بسند واهٍ"، أي: شديد الضعف، من وهي الحائط إذا مال للسقوط، "وكذا أخرجه ابن عساكر، قال في القاموس: ودالكه، أي: ماطله، انتهى، وقوله: ملفجًا -بضم الميم، وإسكان اللام، وفتح الفاء، وبالجيم- "اسم فاعل من ألفج الرجل، فهو ملفج إذا كان فقيرًا، وهو غير مقيس، ومثله" في الخروج عن القياس "أحصن، فهو محصن" -بفتح الصاد- على غير قياس، حكاه ابن القطاع، "وأسهب" -بسين مهملة- الفرس، اتَّسع في الجري وسبق, وأسهب الرجل إذا أكثر الكلام، "فهو مسهب" -بفتح الهاء, ولا يقال بكسرها، وهو نادر، قاله الجوهري "في"، أي: مع "الألفاظ شذت، والقياس الكسر، قاله ابن مرزوق"، شارح البردة، "لكن قال ابن الأثير: لم يجئ إلا في ثلاثة أحرف: أسهب، وأحصن، وألفج"، فقوله في ألفاظ مستدرك، إلّا أن يقال من حفظ حجة، ولفظ الجوهري لا حصر فيه، قال: ألفج الرجل، أي: أفلس، وقال رؤبة: أحسابكم في العسر والإلفاج ... شيت بعذب طيب المزاج فهو مفلج -بفتح الفاء، مثل: أحصن، فهو محصن، وأسهب، فو مسهب، فهذه الثلاثة جاءت بالفتح نوادر، وقال: جارية شبت شبابًا عسلجًا ... في حجر من لم يك عنها ملفجًا "وقال غيره: معناه"، أي: أيدالك، "أيداعب الرجل امرأته، يعني: قبل الجماع، وسمَّاه مطلًا، لكون غرضها الأعظم الجماع؟ قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ملفجًا"، أي: "إذا كان عاجزًا، ليكون ذلك محركًا لشهوته ولعجزه، سُمِّيَ مفلسًا تشبيهًا بمن لا يملك ما لا يجامع العجز. "وقال ابن الأثير": معناه "يماطلها بمهرها إذا كان فقيرًا" لعجزه عن دفعه، فحمله على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 وقال ابن الأثير: يماطلها بمهرها إذا كان فقيرًا. وأمَّا ما يروى: أنا أفصح مَنْ نطق بالضاد. فقال ابن كثير: لا أصل له. انتهى, لكن معناه صحيح والله أعلم. وقد حَدُّوا الفصاحة بخلوص الكلام من التنافر والغرابة ومخالفة القياس. والمراد بالتنافر: تقارب مخارج الحروف كقوله: غدائره مستشزرات إلى العلا فإن السين والشين والتاء والزاي كلها متقاربة المخارج.   الحقيقة، "وأمَّا ما يروى: أنا أفصح من نطق بالضاد"، أي: المعجمة، "فقال ابن كثير: لا أصل له، انتهى، لكن معناه" وهو: أنا أفصح العرب؛ لأنهم هم الذين ينطقون بالضاد، وليست في لغة غيرهم "صحيح"؛ إذ لا شك في أنه أفصح العرب، وإن لم يعلم لهذا اللفظ سند، كما قاله ابن كثير أيضًا، وتقدم "والله أعلم"، بما في نفس الأمر، وقد زاد بعضهم: بيد أني من قريش، أي: من أجل أني منهم، "وقد حدوا"، أي: علماء البيان، "الفصاحة" التي هي في الأصل تنبئ عن الظهور والإبانة، "بخلوص الكلام من التنافر"، وهي صفة توجب ثقله على اللسان، وعسر النطق به "والغرابة، ومخالفة القياس" اللغوي، أي: المستنبط من استقراء اللغة، "والمراد بالتنافر تقارب مخارج الحروف، كقوله"، أي: امرئ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيت كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلا ... تضل العقاص في مثنى ومرسل غدائره، أي: ذوائبه، جمع غديرة، وضميره للفرع في البيت قبله، ومستشزرات مرتفعات, إن قرئ بكسر الزاي، أو مرفوعات إن قرئ بفتحها، وتضل تغيب العقاص، جمع عقيصة، وهي الخصلة المجموعة من الشعر، والمثنى المفتول، يعني أن ذوائبه مفتولة على الرأس بخيوط، وإن شعره ينقسم إلى عقاص، ومثنى، ومرسل، والأول يغيب في الأخيرين، والغرض بيان كثرة شعره، "فإن السين، والشين، والتاء، والزاي، كلها متقاربة المخارج"، وذلك سبب للثقل المخل بالفصاحة، وقد رد هذا السعد، وارتضى أن الضابط هنا أن كل ما يعده الذوق الصحيح ثقيلًا متعسرًا لنطق فهو متنافر، سواء كان من قرب المخارج، أو بعدها، أو غير ذلك، على ما صرَّح به ابن الأثير في المثل السائر، "والغرابة كون الكلمة"، وخشية غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 والغرابة: كون الكلمة لا تدل على المراد من أوّل وهلة لاحتمال معنى آخر. ومخالفة القياس: استعمال الكلمة على غير قياس، كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام. كقوله: الحمد لله العلي الأجلل والفصاحة: يوصف بها الكلام والكلمة والمتكلم. والبلاغة: أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته، والجزالة خلاف الركاكة. ففصاحته -صلى الله عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية.   الاستعمال، "لا تدل على المراد من أول وهلة؛ لاحتمال معنى آخر"، كقوله: وفاحمًا ومرسنًا مسرجًا فمسرج، يحتمل أنه كالسيف السر، يجيء في الدقة والاستواء، وسريج اسم حداد تنسب إليه السيوف، ويحتمل كالسراج في البريق واللمعان، والفاحم بالفاء شعر أسود كالفحم، والمرسن الأنف، "ومخالفة القياس استعمال الكلمة على غير قياس"، مستنبط من تتبع لغة العرب، أعني: مفردات ألفاظهم الموضوعة، أو ما هو في حكمها؛ كوجوب الإعلال في قام، والإدغام وغير ذلك، فمخالفه ليس بفصيح، "كإبقاء وجود المثلين من كلمة واحدة من غير إدغام، كقوله: الحمد لله العلي الأجلل" بفك الإدغام، والقياس الأجلّ بالإدغام، وأمَّا نحو أبي، يأبى، وعور، واستحوذ، وقطط شعره، وآل، وما أشبه ذلك من الشواذ الثابتة في اللغة، فليست من المخالفة في شيء؛ لأنها كذلك ثبتت عن الواضع، فهي في حكم المسثناة، كما قاله السعد: "والفصاحة يوصف بها الكلام"، فيقال: كلام فصيح، وقصيدة فصيحة، "والكلمة" من كلمة فصيحة، "والمتكلم"، فيقال: كاتب فصيح، وشاعر فصيح، "والبلاغة"، ويوصف الكلام والمتكلم لا الكلمة؛ إذ لم يسمع كلمة بليغة، وهي لغة تنبئ عن الوصول والانتهاء، واصطلاحًا "أن يطابق الكلام مقتضى الحال مع فصاحته"، أي: الكلام, والحال هو الأمر الداعي إلى أن يعتبر مع الكلام، الذي يؤدي به أصل المراد خصوصية ما، وهو مقتضى الحال, مثلًا كون المخاطب منكرًا للحكم، حال يقتضي تأكيد الحكم، والتأكيد مقتضى الحال، فقولك: إن زيدًا في الدار، مؤكدًا بأن مطابق لمقتضى الحال. "والجزالة" -بجيم وزاي، "خلاف الركاكة"، وبسط ذلك معلوم في فننه، وإنما سقط بعضه ضرورة ذكر المصنف له، "ففصاحته -صلى الله عليه وسلم- إلى الحد الخارق للعادة، البالغ نهاية المزية"، فعيلة، وهي التمام والفضيلة، ولفلان مزية، أي: فضيلة يمتاز بها عن غيره، قالوا: ولا يبنى منه فعل، وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 والزيادة التي تصدع القلوب قبل الأذهان، وتقرع الجوانح قبل الآذان، مما يروق ويفوق، ويثبت له على سائر البشر الحقوق التي لا تقابل بالعقوق، فهو صاحب جوامع الكلم وبدائع الحكم، وقوارع الزجر وقواطع الأمر، والأمثال السائرة، والغرر السائلة، والدرر المنثورة، والدراري المأثورة, والقضايا المحكمة، والوصايا المبرمة، والمواعظ التي هي على القلوب محكمة، والحجج التي هي للد الخصماء.   ذو مزية في الحسب والشرف، أي: ذو فضيلة، والجمع مزايا, مثل: عطية وعطايا، ذكره في المصباح، "والزيادة" مصدر زاد "التي تصدع" تشق "القلوب قبل الأذهان" جمع ذهن، وهو الذكاء والفطنة، "وتقرع" -بفتح الراء- من باب نفع، تطرق "الجوانح": الأضلاع التي تحت الترائب، وهي مما يلي الصدر، كالضلوع مما يلي الظهر, الواحدة جانحة. قاله الجوهري: "قبل الآذان" جمع أُذُن "مما يروق" يصفو من راق الماء صفًّا، "ويفوق" يفضل ويرجح ويغلب على غيره "ويثبت له على سائر"، أي: جميع "البشر الحقوق" جمع حق، والتقييد بالبشر؛ لأنهم المنازعون، فلا ينافي أن حقوقه ثابتة أيضًا، على الجن والملائكة "التي لا تقابل بالعقوق": العصيان، "فهو صاحب جوامع الكلم"، أي: إيجاز اللفظ مع سعة المعنى, بنظم لطيف لا يعثر الفكر في طلبه، ولا يلتوي الذهن في فهمه، فما من لفظة يسبق فهمها إلى الذهن إلّا معناها إليه أسبق، وقيل: المراد القرآن، وقيل: الأمور الكثيرة التي كانت في الأمم المتقدمة، جمعت له في الأمر الواحد أو الأمرين، "وبدائع الحكم" جمع حكمة، وهي تحقيق العلم، وإتقان العمل من إضافة الصفة للموصوف، أي: الحكم البديعة من أبدع، إذا أتى بشيء بديع غير مسبوق بمثله، "وقوارع الزجر"، المنع من المعاصي، "وقواطع الأمر والأمثال"، جمع مثل -بفتحتين- بمعنى الوصف، ضرب الله مثلًا، أي: وصفًا "السائرة والغرر" جمع غرر -بالضم- "السائلة والدرر" جمع درة -بالضم- اللؤلؤة العظيمة الكبيرة، كغرفة وغرف، ويجمع أيضًا على در بحذف الهاء "المنثورة والدراري": الكواكب المضيئة, جمع دريّ -بكسر الدال وضمها- من الدر، بمعنى الدفع لدفعه الظلام "المأثورة"، أي: المنقولة المروية من الأثر، وهو ما يدل على الشيء من آثاره وعلاماته "والقضايا"، أي: الأحكام جمع قضية، مصدر قضى يقضي قضاء وقضية، وهي الاسم أيضًا، أي: حكم، كما في القاموس. "المحكمة" المتقنة، "والوصايا المبرمة" المحكمة, من أبرم الأمر, كبرمه أحكمه، كما في القاموس، "والمواعظ التي هي على القلوب محكمة، والحجج التي هي لدّ" -بضم اللام- جمع ألد، مثل أحمر، وحمر "الخصماء" من إضافة الصفة للموصوف، أي: الخصماء، اللد، أي: الذين اشتدت خصومتهم، "مفخمة"، مسكنة، "ملجمة"، فجعل حجتهم دابة تلجم باللجام وتقاد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 مفحمة ملجمة. وقليل هذا الوصف في حقه -صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلًا وشرفًا لديه، وقد روى الحاكم في مستدركه وصحَّحه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد -صلى الله عليه وسلم. وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، وقد جمع الناس من كلامه الفرد الموجز البديع الذي لم يسبق إليه دواوين، وفي كتاب الشفاء للقاضي عياض من ذلك ما يشفي العليل.   "وقليل هذا الوصف في حقه -صلى الله عليه وسلم، وزاده فضلًا وشرفًا لديه، وقد روى الحاكم في مستدركه" على الصحيحين، "وصحَّحه من حديث ابن عباس: إن أهل الجنة يتكلمون بلغة محمد -صلى الله عليه وسلم"، وهذا حكمه الرفع؛ إذ هو لا يقال رأيًا، وفيه من تشريف المصطفى ما لا يخفى، "وبالجملة: فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد" لقوة ظهورها، "ولا ينكرها مواقف، ولا معاند"، يشبه عطف العلة على المعلول، "وقد جمع الناس" العلماء الكبار؛ كابن السني، والقضاعي، وابن الصلاح في آخرين "من كلامه الفرد"، الذي لا نظير له، وفي نسخة المفرد، أي: المتميز عن غيره لا مقابل المركب، والمثنى والنسخة الأولى أحسن. "الموجز" -بفتح الجيم- أي: القليل الألفاظ الكثير المعاني، وبكسر الجيم من أوجز، فإسناده للكلام مجاز، كعيشة راضية، أي: موجز صاحبه؛ إذ الكلام لا يوصف بأنه موجز، اسم فاعل، أو حقيقي من أوجز اللازم، ففي القاموس: أوجز الكلام قلَّ، وأوجز كلامه اختصره, "البديع" الذي لا مثال له، فقوله "الذي لم يسبق إليه" صفة كاشفة، أي: إلى جملته, فلا ينافي أن منه ما سبق إليه، أو لم يسبق إلى شيء منه بالترتيب الخاص الذي اشتمل عليه، ولذا قال في الشفاء: وأما كلامه المعتاد، وصاحته المعلومة، وجوامع كلمه، وحكمه المأثورة، فقد ألف الناس فيها "دواوين"، أي: كتبًا مستقلّة، جمع ديوان -بكسر الدال والفتح لغة، وقال أبو عمر: إنه خطأ؛ لأنه كان يجمع على دياوين ولم يسمع، قاله الجواليقي. قال عياض: وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب، ومنها ما لا يواري فصاحة، ولا يباري بلاغة، وذكر عدة أحاديث، ثم قال: وقد جمعت من كلماته التي لم يسبق إليها، ولا قدر أحد أن يفرغ في قالب عليها، كقوله: حمي الوطيس، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، والسعيد من وعظ بغيره، في إخواتها ما يدرك الناظر العجب في مضمنها، وتذهب به الفكر في أدنى حكمها. "وفي كتاب الشفاء للقاضي عياض من ذلك ما يشفي العليل" -بعين مهملة- المريض، "كقوله -صلى الله عليه وسلم", فيما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس، وأبي موسى، وابن مسعود، قيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 كقوله -صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب". وقوله: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين".   يا رسول الله, الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، "قال: "المرء مع من أحب" في الجنة، بحسن نيته من غير زيادة عمل"؛ لأنّ محبته لهم لطاعتهم، والمحبة من أفعال القلوب، فأنيب على ما اعتقده؛ لأن الأصل النية، والعمل تابع لها، ولا يلزم من المعية استواء الدرجات، بل ترفع الحجب حتى تحصل الرؤية والمشاهدة، وكلٌّ في درجته، قاله المصنف. وقال السخاوي: قال بعض العلماء: ومعنى الحديث: إنه إذا أحبَّهم عمل بمثل أعمالهم، قال الحسن البصري: من أحبَّ قومًا اتبع آثارهم، واعلم أنك لن تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم، فتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي على مناهجهم، حرصًا أن تكون منهم، أسنده العسكري، ولذا قيل: تعصى الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وسأل رجل أبا عثمان الواعظ: متى يكون الرجل صادقًا في حب مولاه؟ قال: إذا خلا من خلافه كان صادقًا في حبه، فوضع الرجل التراب على رأسه، وصاح: كيف أدَّعي حبه ولم أخل طرفة عين من خلافه، فبكى أبو عثمان وأهل المجلس، وصار أبو عثمان يقول في بكائه: صادق في حبه، مقصر في حقه، أورده البيهقي قائلًا: يشهد لقوله صادق إلخ، هذا الحديث انتهى وهذا الحديث متواتر. قال في الفتح: جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب المحبين مع المحبوبين، وبلغ عدد الصحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم: "المرء مع من أحب"، وفي بعضها بلفظ حديث أنس: "أنت مع من أحببت" انتهى. قال ابن العربي: يريد في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي، وفي الآخرة بالمعاينة والقرب الشهودي، فمن لم يتحقق بهذا, وادعى المحبة، فدعواه كاذبة. ولفظ حديث أنس: إنَّ رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها"، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"، فقلنا: ونحن كذلك؟ قال: "نعم"، ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم- في كتابه لهرقل والمقوقس: "أسلم" -بكسر اللام, "تسلم" -بفتحها, "يؤتك الله أجرك مرتين"، لإيمانه بنبيه، ثم بالمصطفى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 وقوله: السعيد من وعظ بغيره. ومما لم يذكره القاضي عياض -رحمه الله: قوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات   قال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ، أو لأنَّ إسلامه سبب لإسلام أتباعه، ويؤتك بالجزم جواب ثانٍ للأمر، أو بدل اشتمال منه، أو عطف عليه بحذف العاطف، فلا يردان جواب الأمر حصل بتسلم، أو هو جواب لأمر محذوف، هو وأسلم يؤتك، كما هو رواية البخاري في الجهاد بتكرير الأمر تأكيدًا، أو الأوّل: الدخول في الإسلام، والثاني: مداوم عليه، وتقدَّم بسط هذا في المكاتبات، "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "السعيد" المبارك المرضي عند الله"، وعند الناس "من وعظ بغيره"، أي: تأمّل عواقب الأمور، فلم يفعل ما يضره، لما رأى ما أصاب غيره من فعلها، ومفهومه، والشقي من وعظ به غيره، وهذا الحديث رواه الديلمي عن عقبة بن عامر، والعسكري عن زيد بن خالد بهذا اللفظ مختصرًا، وصحَّحه الحافظ، وشيخه العراقي، خلافًا لقول ابن الجوزي في أمثاله لا يثبت، وأخرجه العسكري، والقضاعي، والبيهقي في المدخل عن ابن مسعود، رفعه بزيادة: "والشقي من شقي في بطن أمه"، ورواه مسلم موقوفًا بالزيادة، وللبزار بسند صحيح عن أبي هريرة، رفعه: "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه"، "ومما لم يذكره القاضي عياض -رحمه الله"، كذا في نسخ، وفي بعضها اقتصر على قوله: ومما لم يذكره، اكتفاءً بعود الضمير له، "قوله -عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال" البدنية: أقوالها وأفعالها، فرضها ونفلها, قليلها وكثيرها، الصادرة من المكلفين المؤمنين، صحيحة أو مجزئة، أو كاملة"، "بالنيات" من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنيته. وقال الحربي: كأنه أشار إلى تنويع النية كالأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل وعده، أو اتقاء وعيده، وفي معظم الروايات: بالنية بالإفراد؛ لأن محلها القلب، وهو متحد، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال، فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة، فناسب جمعها، أو لأنَّ النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له. وفي صحيح ابن حبان: الأعمال بالنيات، بحذف إنما وجمعهما، وللبخاري في الإيمان، والعتق، والهجرة: الأعمال بالنية، بجمع الأعمال، وإفراد النية، وله في النكاح: العمل بالنية -بإفرادهما، والنية -بكسر النون وشد التحتية- على المشهور، وفي لغة تخفيفها، وهذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين؛ لأن أل في الأعمال للاستغراق، وهو مستلزم للحصر؛ لأن معناه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 .................................................................................................   كل عمل بنية، فلا عمل إلا بنية، أو لأن إنما للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق، أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع، أو بالعرف، أو تفيده بالحقيقة، أو بالمجاز، ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعًا حقيقيًّا، بل نقله شيخ الإسلام البليقيني، عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة، إلا اليسير كالآمدي، وعلى العكس من ذلك أهل العربية، واستدلَّ على إفادة إنما للحصر بأنَّ ابن عباس، استدلَّ على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: "إنما في الربا النسيئة"، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على إفادتها الحصر، وتعقّب باحتمال أنهم تركوا المعارضة تنزلًا، وأوضح من ذلك الحديث: "إنما الماء من الماء"، فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه، لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضوهم في الحكم من أدلة أخرى، كحديث: "إذا التقى الختانان". وقال ابن عطية: إنما لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد؛ حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر، إن دخل في قضية ساعدت عليه، فجعل ورودها للحصر مجازًا يحتاج إلى قرينة، وعكسه غيره، فقال: أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فكأنه سيق باعتباره منكري الوحدانية، وإلّا فلله سبحانه صفات أخرى، كالعلم والقدرة، وكقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] [النازعات: 45] ، فإنه سبق باعتبار منكري الرسالة، وإلّا فله -صلى الله عليه وسلم- صفات أخرى كالبشارة، والأعمال تقتضي عاملين، فالتقدير الصادرة من المكلفين. قال الحافظ: فالظاهر إخراج أعمال الكفار؛ لأنَّ المراد أعمال العبادة، وهي لا تصح من الكافر، وإن كان مخاطبًا بها، معاقبًا على تركها، ولا يرد العتق والصدق؛ لأنها بدليل آخر. انتهى، وعَبَّر بالأعمال دون الأفعال؛ لأن الفعل قد يكون زمانه يسيرًا، ولا يتكرر. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] ، وتبين لكم كيف فعلنا بهم؛ حيث كان إهلاكهم في زمان يسير، ولم يتكرر بخلاف العمل، فإنه الذي يوجد من الفاعل في زمان مديد، بالاستمرار والتكرار الذين آمنوا وعملوا الصالحات، طلب منهم العمل الدائم المتجدد لأنفس الفعل، قال تعالى: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ، ولم يقل: الفاعلون, والنيات جمع نية. قال البيضاوي: وهي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع، أو دفع ضر، حالًا أو مالًا، والشرح خصَّه بالإرادة المتوجِّهة نحو الفعل، لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه، وهي محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده، وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 رواه الشيخان وغيرهما. وقوله: ليس للعامل من عمله إلا ما نواه. وتحت هاتين الكلمتين كنوز من العلم.   لما أجمل، والحديث متروك الظاهر؛ لأن الذوات غير منفية؛ إذ التقدير لا عمل إلا بنية، فليس المراد نفي ذات العمل؛ لأنه قد يوجد بلا نية، بل المراد نفي أحكامها، كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أَوْلى؛ لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه؛ ولأن اللفظ دلَّ على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلمَّا منع الدليل نفيَ الذات، بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة. انتهى، والباء سببية بمعنى: إنها مقوية للعمل, فكأنها سبب في إيجاده، أو للمصاحبة، فهي من نفس العمل، فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، ولابُدَّ من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فلذا احتيج للتقدير. وقال ابن القيم: هذا كلام مستقلّ بنفسه، لا يحتاج لإضمار صحة، ولا إجزاء، ولا قبول، إنما دلَّ على أن وقوع الأعمال بالنيات، وأن النية هي الباعثة على العمل، المثيرة له، وهي أصله وهو فرعها، ولما تكلف الناس بعض هذه التقديرات المستغنى عنها، وقعوا في الإشكال والاضِّطراب، فبعضهم قدر متعلق الظرف الصحة، وبعضهم الكمال، وعليه فالأوَّل هو اللائق؛ لأن الصحة أكثر لزومًا للحقيقة، فلا يصح عمل كتيمم, خلافًا للأوزاعي، وكوضوء عند الأئمة الثلاثة، إلّا بنية, خلافًا للحنفية، ولا نسلم أن الماء يطهر بطبعه، والخلاف في الوسائل. أما المقاصد، فلا خلاف في اشتراط النية، وإنما لم تشترط في إزالة الخبث؛ لأنها من قبيل التروك، وشرعت تمييزًا للعبادة عن العادة، أو لتمييز مراتب العبادة بعضها عن بعض، "رواه الشيخان" البخاري في سبعة مواضع، ومسلم "وغيرهما" كالإمام أحمد، وأصحاب السنن، كلهم من حديث عمر، ولم يخرجه في الموطأ، رواية الأكثرين، وخرجه في رواية محمد بن الحسن عنه. قال السيوطي: وبه يتبيّن صحة قول من عزا روايته للموطأ، وهم من خطأه في ذلك. انتهى، وفيه تعريض، يقول الحافظ: هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون، إلا الموطأ، وهم من زعم أنه في الموطأ مغترًا بتخريج الشيخين له، والنسائي من طريق مالك. انتهى، وهذا من كثر، "وقوله: ليس للعامل من عمله إلّا ما نواه، وتحت هاتين الكلمتين كنوز" أبواب كثيرة "من العلم"، عبَّر عنها بالكنوز للمشابهة. قال ابن مهدي: يدخل في ثلاثين بابًا من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين، ويحتمل أن مراده المبالغة، "ولهذا قال" الإمام "الشافعي -رحمه الله تعالى" في إحدى الروايتين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 ولهذا قال الشافعي -رحمه الله تعالى: حديث الأعمال بالنيات يدخل فيه نصف العلم، وذلك أن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وأيضًا فالنية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح. وقال بعض الأئمة: حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين، ووجهه أن الدين: قوله وعمل ونية.   عنه "حديث: الأعمال بالنيات يدخل فيه نصف العلم، و" وجه "ذلك أن للدين ظاهرًا وباطنًا، والنية متعلقة بالباطن"، فهي نصف، "والعمل هو الظاهر"، فهو النصف الآخر، "وأيضًا" توجيه ثانٍ، "فالنية عبودية القلب"، أي: عبادته، وهي انقياده وخضوعه، "والعمل عبودية الجوارح". قال الراغب: العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها؛ لأنها غاية التذلل، ولا يستحقها إلّا الله، والذي في الرسالة القشيرية، وشرحها أن العبودية، وهي تذلل وتبرٍّ من الحول والقوة في العبادة أتمّ من العبادة، وأعلى منها العبودية، فالعبادة لعوام المؤمنين؛ لأن غايتهم علم ما أمروا به، ونهوا عنه، والقيام بمقتضاهما، والعبودية للخواصّ لزيادة التذلل والتبري من الحول والقوة، والعبودية لخواص الخواص، لكمال معرفته بربه؛ حيث أتى بما طلب منه، ورأى نفسه محلًّا لجريان قضاء لله فيه، ولتوفيقه له في فعل ما طلب منه أقرب إلى مقام الجمع، وهو إفراد الحق بالفعل من الثاني؛ لأنه يشاهد كسبًا واختيارًا، وإن كان مفتقرًا لعون ربه فيما يختاره، والأوّل أقرب إلى مقام التفرقة؛ لأنه يرى نفسه عابدًا، محسنًا، مطيعًا، ويطلب الجزاء على عمله، وحاصله: إن العابد واقف مع الأعمال، والثاني: مستغرق في الجلال والجمال، والثالث: وهو ذو العبودة، متبر مما فيه نظر العون المتعال، والتفرقة اصطلاح للقوم للفرق بين المقامات، وإن كان الأصل العبادة. "وقال بعض الأئمة" كأحمد، وابن مهدي، وابن المديني، وأبي داود، والدارقطني، وحمزة الكناني، والشافعي، في نقل البويطي عنه: "حديث الأعمال بالنيات ثلث الدين"، ومنهم من قال: ربعه، واختلفوا في تعيين الباقي، "ووجهه أن الدين قول، وعمل، ونية". وفي الفتح: وجه البيهقي، كونه ثلث العلم؛ بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد الثلاثة وأرجحها؛ لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد: "نية المؤمن خير من عمله"، وكلام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم؛ أنه أحد القواعد الثلاث التي يردَّ إليها جميع الأحكام عنده، وهي هذا، و "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، و "الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ"، وقوله: "نية المؤمن خير من عمله"، رواه الطبراني" في الكبير، عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 وقوله: "نية المرء خير من عمله" رواه الطبراني, لكن قال بعضهم: لا يصح رفعه, قال: ورواه القضاعي عن إسماعيل بن عبد الله الصفار، أخبرنا علي بن عبد الله بن الفضل, حدثنا محمد بن الحنفية الواسطي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحلبي، حدثنا يوسف بن عطية, عن ثابت عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "نية المؤمن أبلغ من عمله". قال: وهذا الإسناد لا ضوء عليه، ويوسف بن عطية أحد رجاله متروك الحديث. ورواه عثمان بن عبد الله الشامي من حديث النواس بن سمعان وقال: "نية المؤمن خير من عمله"،   سهيل بن سعد مرفوعًا بزيادة: "وعمل المنافق خير من نيته، وكلٌّ يعمل على نيته، فإذا عمل المؤمن عملًا صالحًا نار في قلبه نور"، "لكن قال بعضهم: لا يصح رفعه"، إنما هو موقوف عن سهل، وأطلق الحافظ العراقي أنه ضعيف، لكن قال رفيقه الحافظ نور الدين الهيتمي: رجاله موثوقون إلّا حاتم بن عباد، لم أر من ذكر له ترجمة. "قال: ورواه القضاعي" أبو عبد الله محمد بن سلامة المصري، "عن إسماعيل بن عبد الله الصفار"، نسبة إلى بيع النحاس، "أخبرنا علي بن عبد الله بن الفضل، حدثنا محمد بن الحنفية الواسطي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحلبي، حدّثنا يوسف بن عطية" بن ثابت الصفار البصري، أبو سهل، متروك, من الطبقة الوسطى, من أتباع التابعين. "عن ثابت" بن أسلم البناني -بضم الموحدة، ونونين- أبي محمد البصري، عابد ثقة، من رجال الجميع، "عن أنس؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "نية المؤمن أبلغ"، هو مساو لقوله: خير "من عمله"، قال: وهذا الإسناد لا ضوء عليه"، كناية عن ضعفه، "ويوسف بن عطية أحد رجاله متروك الديث، ورواه عثمان بن عبد الله، الشامي من حديث النواس" -بفتح النون، وشد الواو، ثم مهملة- "ابن سمعان"، الكلابي، أو الأنصاري، صحابي مشهور، سكن الشام. روى له مسلم، وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، كذا في التقريب، ونسبه في الإصابة كلابيًّا، وقال: له ولأبيه صحبة، ولم أجد في التقريب أن سمعان -بفتح السين، ويجوز كسرها، "وقال" في سياق لفظه: "نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاجر شر من عمله". "وقال ابن عدي" عثمان بن عبد الله الشامي، له أحاديث موضوعات، هذا من جملتها، وقال: من الجوزي، لا يصح رفعه"، وتعقب ادعاء الوضع؛ بأن مفرداته ضعيفة فقط، لكن بانضمامها يقوى، كما أشار إليه السخاوي، فقال ما حاصله، أخرجه الطبراني، عن سهل، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 ونية الفاجر شر من عمله" , وقال ابن عدي: عثمان بن عبد الله الشامي له أحاديث موضوعات، هذا من جملتها، وقال: من الجوزي, لا يصح رفعه، ومعناه: إن النية سر، والعمل ظاهر، والعمل السر أفضل، وهو يقتضي أنه لو نوى أن يذكر الله أو يتفكر، تكون نية الذكر خيرًا منه، وليس بصحيح. وقيل: معناه: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد؛ لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلًا. وقيل: النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة، فإذا تأمّلت تألم القلب، وإذا تألم القلب تألمت, فارتعدت الفرائص وتغير اللون، فإن القلب الملك الراعي, والجوارح خدمه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته.   والعسكري، عن النوَّاس، وهو البيهقي، وضعَّفه عن أنس، والديلمي، عن أبي موسى، وهي وإن كانت ضعيفة، فبمجموعها يتقوى الحديث, انتهى. فمن حكم بحسنه، أراد أنه حسن لغيره لا لذاته، "ومعناه: إن النية سر، والعمل ظاهر، والعمل السر أفضل"، لما فيه من السلامة من الوقوع في الرياء، وسائر حظوظ النفس، ومن ثَمَّ ورد في بعض الآثار: عمل السر يفضل عمل العلانية بسبعين ضعفًا، وللديلمي مرفوعًا: السر أفضل من العلانية، والعلانية لمن أراد الاقتداء، "وهو يقتضي أنه لو نوى أن يذكر الله أو يتفكَّر، تكون نية الذكر ونية التفكر خيرًا منه"، أي: من نفس الذكر، "وليس بصحيح"، فيصرف عن هذا الظاهر، "وقيل: معناه: إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده دون النية، وهذا بعيد؛ لأن العمل إذا خلا عن النية لم يكن فيه خير أصلًا"، فيبطل أفعل التفضيل، فلا ينبغي حمل الحديث عليه، "وقيل" في معناه: "النية عمل القلب، والفعل عمل الجوارح، وعمل القلب خير من عمل الجوارح، فإن القلب أمير الجوارح، وبينه وبينها علاقة" -بفتح العين- ارتباط واتصال، "فإذا تألمت تألَّمَ القلب، وإذا تألم القلب تألمت، فارتعدت الفرائص"، جمع فريصة -بمهملة- وهي اللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد، كما في القاموس، فالمراد هنا: زادت رعدتها، وتغيّر اللون، فإنَّ القلب الملك الراعي، والجوارج خدمه ورعيته، وعمل الملك أبلغ من عمل رعيته"، فلذا كانت النية التي القلب محلها أبلغ وخيرًا من العمل، وحاصله أنها فعل القلب، وهو أشرف، ففعل الأشرف أشرف، وزاد غيره: لأن القصد من الطاعة تنوير القلب، وتنويره بالنية أكثر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها وروحها ولبها، والأعمال تابعة لها تصح بصحتها وتفسد بفسادها، وهي التي تقلب العمل الصالح فتجعله فاسدًا، وغير الصالح تجعله صالحًا مثابًا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرًا من عمله. وقال أبو بكر بن دريد في محتباه: المعنى -والله أعلم- أنَّ المؤمن ينوي الأشياء من أنواع البر نحو الصدقة والصوم وغير ذلك, فلعله يعجز عن بعض ذلك وهو معقود النية عليه، فنيته خير من عمله.   لأنها صفته. "وقيل: لما كانت النية أصل الأعمال كلها"؛ إذ لا توجد شرعًا إلا بها، "وروحها ولبها" خالصها، "والأعمال تابعة لها، تصح بصحتها، وتفسد بفسادها، وهي التي تقلب العمل الصالح" كالصلاة "فتجعله فاسدًا" بقصد الرياء، وظاهره قلبها نفس العمل، وفي التحفة: إنه لا ينقلب، إنما المنقلب ثوابه وإثمه، "وغير" العمل "الصالح، تجعله صالحًا مثابًا عليه، ويثاب عليها أضعاف ما يثاب على العمل، فلذا كانت نية المؤمن خيرًا من عمله"، جواب لما دخلته الفاء، ولذا قيل: إذا فسدت النية وقعت البلية، ومن الناس من يكون همه ونيته أجل من الدنيا وما عليها, فتبلغ النية بصاحبها في الخير والشر ما لا يبلغه عمله، فأين نية من طلب العلم لوجه الله، والنظر إليه وسماع كلامه، وتسليمه عليه في الجنة، وليصلي الله عليه وملائكته، وتستغفر له حيتان البحر، ودوابّه في الدنيا من نية من طلبه، لا كل أو وظيفة، كتدريس ونحوه من الغرض الفاني. "وقال أبو بكر"، محمد بن الحسن "بن دريد" الأرموي، البصري, انتهى إليه علم لغة البصرة، وكان أحفظ الناس، وأوسعهم علمًا، وأقدرهم على الشعر، تصدَّر للعلم ستين سنة. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، ومات بعمان في رمضان، سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، "في محتباه: المعنى" في الحديث: "والله أعلم- أن المؤمن ينوي الأشياء من أنواع البر نحو: الصدقة والصوم وغير ذلك، فلعله يعجز عن بعض ذلك، وهو معقود النية"، عازم، ومصمم "عليه"، أي: البعض المعجوز عنه، والجملة حالية، "فنيته خير من عمله"، لذلك العقد، وقيل: لأنَّ تخليد العبد في الجنة إنما هو بنيته لا بعمله، "فنيته خير من عمله"، لذلك العقد، وقيل: لأنَّ تخليد العبد في الجنة إنما هو بنيته لا بعمله، إذ لو كان الأقام فيها بقدره، أو إضعافه، لكن لما نوى الطاعة أبدًا، وأتته المنية جازاه الله بالنية، وكذا الكافر؛ إذ لو جوزي بعمله لم يخلد في النار إلّا بقدر مدة كفره، لكنَّه نوى الكفر أبدًا، فجوزي بها. وقال الكرماني: المراد أنَّ النية خير من عمل بلا نية؛ إذ لو كان المراد من عمل مع نية، لزم كون الشيء خيرًا من نفسه مع غيره، أو المراد أن الجزء الذي هو النية خير من الجزء الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 وقوله -صلى الله عليه وسلم: "يا خيل الله اركبي". رواه أبو الشيخ في الناسخ والمنسوخ عن سعيد بن جبير، والعسكري عن أنس، وابن عائذ في المغازي عن قتادة, ولفظه عن ابن عائذ قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومئذ -يعني يوم الأحزاب- مناديًا ينادي: "يا خيل الله اركبي". قال العسكري وابن دريد في مجتباه: وهذا على المجاز والتوسع، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، فاختصره.   هو العمل، لاستحالة دخول الرياء فيها، أو أن النية خير من جملة الخيرات الواقعة بعمله، وقيل: معناه إنَّ جنس النية راجح على جنس العمل، بدليل أن كلًّا من الجنسين إذا انفرد عن الآخر يثاب على الآخر دون الثاني، وهذا لا يتمشَّى في حق الكافر، ولذا قال: نية المؤمن. وأفاد أنَّ الثواب المرتَّب على الصلاة مثلًا أكثره للنية، وباقيه لغيرها من قيام وغيره، وقيل: معناه: إن المؤمن كلما عمل خيرًا نوى أن يعمل ما هو خير منه، فليس لنيته في الخير منتهى، والفاجر كلما عمل شرًّا نوى أن يعمل ما هو شر منه، فليس لنيته في الشر منتهى، "وقوله -صلى الله عليه وسلم: "يا خيل الله اركبي"، رواه أبو الشيخ" عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان -بفتح المهملة وتحتانية- الأصبهاني، الحافظ، الإمام، المصنف، الخير، الصالح، القانت، الصدوق، المأمون، الثقة، المتقن، مات في محرم سنة تسع وستين وثلاثمائة "في" كتاب "الناسخ والمنسوخ، عن سعيد بن جبير" في قصة المحاربين، قال: كان ناس أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: نبايعك على الإسلام، فذكر القصة وفيها: فأمر -صلى الله عليه وسلم، فنودي في الناس: "يا خيل الله اركبي"، فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا. "والعسكري عن أنس"، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لحارثة بن النعمان: "كيف أصبحت.." الحديث، وفيه أنه قال: يا نبي الله, ادع الله لي بالشهادة، فدعا له، قال: فنودي يومًا: "يا خيل الله اركبي"، فكان أوَّل فارس ركب، وأوَّل فارس استشهد. "وابن عائذ في المغازي عن قتادة" بن دعامة, "ولفظه عند أبي عائذ" مستغنى عنه, "قال: بعث رسول الله يومئذ -يعني- يوم الأحزاب", أي: يوم انصرافه من غزوهم, ومسيره إلى بني قريظة " مناديًا ينادي: "يا خيل الله اركبي" وللعسكري مرفوعًا: "الأناة في كل شيء إلا في ثلاث: إذا صيح في خيل الله, فكونوا أول من يشخص", "قال العسكري, وابن دريد في مجتباه: وهذا على المجاز" بالحذف "والتوسع, أراد يا فرسان خيل الله اركبي, فاختصره" لعلم المخاطب بما أرده, لكن لا يناسبه قوله: اركبي؛ إذ لو أراده لقال: اركبوا, إلا أن يقال: نسب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 وقوله: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". رواه الشيخان وغيرهما، والله أعلم- أنَّ حظ العاهر الحجر ولا شيء له في الولد، وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد التي نهايتها رميه بالحجر, وقيل: أراد بالحجر هنا الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد إذا لم تكن المرأة زوجًا له، والله أعلم.   ما لهم من الركوب للخيل؛ لأنها آلة القتال وبها الاستعداد، والأولى على جعله مجازًا بالنقص أن يقدّر: يا جماعة خيل الله، ويمكن جعله مجازًا في الإسناد، استعمل الخيل في نفس الفرسان لملازمتها لها، "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الولد" ذكر وأنثى, مفرد ومتعدد، تابع أو محكوم به "للفراش"، أي: صاحبه زوجًا كان أو سيدًا؛ لأنهما يفترشان المرأة بالاستحقاق، ومحله ما لم ينقه بلعان في الزوجة، وليس لزانٍ نصيب في النصب، إنما حظه الحَدّ، كما قال, "وللعاهر" الزاني، يقال: عهر إلى المرأة إذا أتاها ليلًا للفجور بها، والعهر -بفتحتين- الزنا، "الحجر"، الخيبة والحرمان، "رواه الشيخان، وغيرهما" من حديث عائشة وأبي هريرة، وهو متواتر، وفيه قصة "والله أعلم، أن حظ"، أي: نصيب "العاهر"، الزاني "الحجر"، أي: من الخيبة والحرمان، كقولهم: بفيه الحجر، "ولا شيء له في الولد"، لعدم اعتبار دعواه مع وجود الفراش للآخر، فأبطل بذلك إثبات بعض العرب النسب بالزنا، "وقيل: أراد أن حظه الغلظة والخشونة من إقامة الحد، التي نهايتها رميه بالحجر"، إذا كان محصنًا. قال الطيبي تبعًا للنووي: أخطأ من زعم أن المراد الرجم بالحجر؛ لأنه خاصّ بالمحصن؛ ولأنه لا يلزم من الرجم نفي الولد الذي الكلام فيه. قال السبكي: المعول على الأوّل لتعم الخيبة كل زانٍ، ودليل الرجم مأخوذ من أدلة أخرى، فلا حاجة للتخصيص بلا دليل، "وقيل: أراد بالحجر هنا: الكناية عن رجوعه بالخيبة على الولد، إذا لم تكن المرأة زوجًا له"، أي: الزاني، فيخيب الولد بكونه لا أب له شرعًا، فلا يثيب نسب بوطء زنا، وأول من استلحق في الإسلام ولد الزنا معاوية، استلحق في خلافته زياد بن سمية أخًا؛ لأن أباه كان زنى بها زمن كفره، فجاءت به، وفيه يقول أبو سفيان، ولم يستلحقه، يخاطب عليًّا -رضي الله عنهما: أما والله لولا خوف واش ... يراني يا علي من الأعادي لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم تكن المقالة عن زياد لقد علمت معاشرتي ثقيفا ... وتركني فيهم ثمر الفؤاد قال البارزي: واستلحاقه خلاف إجماع المسلمين، "والله أعلم" بمراد رسوله، "وقوله" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وقوله: كل الصيد في جوف الفرا. وهو بفتح الفاء: حمار الوحش، رواه الرامهرمزي في الأمثال، وسنده جيد، ولكنه مرسل، ونحوه عند العسكري وقال: جوف أو جنب. وهذا خاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب حين جاءه مسلمًا بعد أن كان عدوًّا له, وهجَّاء كثير الهجاء مقذعًا فيه، فكأنه يقول -صلى الله عليه وسلم- إن الحمار الوحشي من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنك أعظم أهلي   -صلى الله عليه وسلم: ""كل الصيد في جوف الفراء"، وهو بفتح الفاء" مقصور مهموز، كما في النهاية "حمار الوحش"، وفي القاموس: الفرأ، كجبل، وسحاب حمار الوحش أو فنيه، أي: صغيرة الجمع أفراء، وفراء انتهى، فقراءته بالألف خلاف الرواية واللغة، وإن أمكن توجيهه، بأن الهمزة قلبت ألفًا على غير قياس، أو سكنت للوصل بنية الوقف، ثم أبدلت، "رواه الرام هرمزي" بفتح الراء، والميم الأولى، وضم الهاء، والميم الثانية، وإسكان الراء بينهما وزاي منقوطة، نسبة إلى رام هرمزة بالأهواز، الحافظ، الإمام البارع، أبو محمد، الحسن بن عبد الرحمن، الفارسي، كان من أئمة هذا الشأن. عاش إلى قريب الستين وثلاثمائة, "في" كتاب "الأمثال"، من طريق ابن عيينة، عن وائل بن مازن، عن نصر بن عاصم الليثي، قال: أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقريش وآخر أبا سفيان، ثم أذن له، فقال: ما كدت أن تأذن لي، حتى كدت أن تأذن الحجارة الجلهمتين، وبكى، فقال: "وما أنت وذاك يا أبا سفيان، إنما أنت كما قال الأول: كل الصيد في جوف الفرا"، "وسنده جيد"، أي: مقبول، "ولكنَّه مرسل"؛ لأن نصر بن عام تابعي وسط، "ونحوه عند العسكري، و" لكنه "قال": كل الصيد في "جوف، أو جنب" الفراء بالشك، "وهذا خاطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، حين جاءه مسلمًا" بالإبواء بين مكة والمدينة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- سائر إلى فتح مكة، "بعد أن كان عدوًّا له, هجَّاء كثير الهجاء" بعد البعثة، وكان يألفه قبلها، "مقذعًا فيه" بضم الميم، وإسكان القاف، وذال معجمة، وعين مهملة, من أقذع، أي: مبالغًا في الهجو والفحش. قال في القاموس: قذعه، كمنعه، رماه بالفحش وسوء القول كأقذعه، فلمَّا أسلم كان لا يرفع رأسه إلى المصطفى حياءً منه، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: "أرجو أن يكون خلفا من حمزة"، "فكأنه يقول -صلى الله عليه وسلم: إن الحمار الوحشي من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه"، أي: أقل منه، "كما أنك أعظم أهلي وأمسّهم رحمًا بي، ومن أكرم من يأتيني كل دونك انتهى"، فقال ذلك ملاطفة له؛ لأنه استأذن فلم يأذن له، وقال: إنه هتك عرضي، كما تقدَّم بسطه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 وأمسّهم رحمًا بي، ومن أكرم من يأتيني, وكل دونك. انتهى. وقوله: "الحرب خدعة". رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرب خدعة, وليس عند مسلم "سمى"، وقوله: "خدعة" مثلث الخاء- أشهرها: فتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهي لغة النبي -صلى الله عليه وسلم، والثانية، ضمّ الخاء وإسكان الدال, والثلاثة: ضمّ الخاء وفتح الدال.   في الفتح. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة"، رواه البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة قال: سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحرب خدعة"، مبالغة؛ لكونها أعظم نافع فيه حتى من الشجاعة لخطرها وسلامة هذه، فهو كقوله: "الحج عرفة"، "وليس عند مسلم سمَّى، وقوله: خدعة -مثلث الخاء" ظاهره أنه روي بالكسر مع إسكان الدال، وبه صرّح في التوضيح والقاموس، إلّا أن المصنّف صرّح في شرحه للبخاري، تبعًا للحافظ، بأنها لغة حكاها مكي وغيره، وأن الرواية إنما هي بالثلاث التي أفادها بقوله، "أشهرها فتح الخاء، وإسكان الدال". قال النووي: اتفقوا على أنها أفصح حتى "قال ثعلب وغيره"، كأبي ذر الهروي والقزاز: "وهي لغة النبي -صلى الله عليه وسلم". قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلبة أن النبي كان يستعملها، كثير الوجازة، لفظها وكونها تعطي معنى الآخرين، أي: الضم مع الإسكان، أو الفتح. قال: ويعطي معناها أيضًا الأمر باستعمال الحيلة، مهما أمكن ولو مرَّة، فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى، ومعناها أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر، وأنها وصف للمفعول، كهذا الدرهم ضرب الأمير، أي: مضروبه. وقال الخطابي: إنها المرة الواحدة، يعني: إنه إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته، "والثانية -ضم الخاء وإسكان الدال"، وهي رواية الأصيلي، ومعناها: إنها تخدع الرجال، أي: هي محلّ الخداع وموضعه، "والثلاثة -ضم الخاء وفتح الدال"، صيغة مبالغة كهمزة لمزن، المعنى: إنها تخدع الرجال، أي: تمنيهم الظفر، ولا تفي لهم، كالضحكة إذا كان يضحك بالناس، وقيل: حكمة الإتيان بالتاء الدلالة على الوحدة، فإن الخداع إذا كان من المسلمين، فكأنه حضهم عليه ولو مرَّة واحدة، وإن كان من الكفار، فكأنَّه حذَّرهم مكرهم ولو وقع مرة واحدة فلا ينبغي التهاون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 وقد قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث نعيم بن مسعود, وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان واليهود، وأشار بذلك إلى المماكرة أنفع من المكاثرة. قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن إلا أن   بهم، لما ينشأ عنه من المفسدة، ولو قال، وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما، قال: وهو جمع خادع، أي: إن أهلها بهذه الصفة، فكأنه قال: أهل الحرب خدعة، وحكى مكي، ومحمد بن عبد الواحد لغة خامسة، كسر أوله مع الإسكان، ذكره الحافظ في قوله: لغة رابعة لغة خامسة، أفاد أن الرواية لم تأت بهما، وتبعه المصنّف فيتوقف في قول القاموس، والحرب خدعة -مثلثة كهمزة، وروي بهنَّ جميعًا، لكن يوافقه قول السيوطي: بفتح الخاء، وضمها، وكسرها سكون الدال، أمر باستعمال الحيلة فيه ما أمكن. "وقد قال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب، لما بعث بن مسعود"، الأشجعي، الصحابي المشهور، المتوفَّى أول خلافة علي، حين جاء له مسلمًا، وقال: إن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال: " إنما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنَّا إذا استطعت، فإن الحرب خدعة"، "وأمره أن يخذل بين قريش وغطفان" وبين "اليهود"، فأتى بني قريظة، وكان نديمًا لهم، فقال: قد عرفتم ودي لكم، قال: صدقت، قال: إن قريشًا وغطفان ليسوا كأنتم إن رأوا نهزة أصابوها، وإلا لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين محمد، ولا طاقة لكم به وحدكم، فلا تقاتلوا حتى تأخذوا رهنًا من أشرافهم، فقالوا: أشرت بالرأي، ثم أتى قريشًا، فقال: قد عرفتم ودي، وفراقي محمدًا، وقد بلغني أمر رأيت حقًّا علي أن أبلغكموه صحًا لكم، إن يهود ندموا على ما صنعوا، وأرسلوا بذلك إلى محمد, وقالوا: أيرضيك أن نأخذ لك من أشراف قريش وغطفان رجالًا تضرب أعناقهم، ثم نكون معك حتى نستأصل باقيهم، ثم أتى غطفان فقال لهم مثل ذلك، فأرسلوا إلى بني قريظة عكرمة في نفر من القبيلتين، فقالوا: لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنًا، فقالت القبيلتان: إن الذي حدَّثكم نعيم لحق، وأرسلوا إليهم لا ندفع لكم رجلًا واحدًا، فقالت قريظة: إن الذي ذكر لكم نعيم لحق, "وأشار بذلك إلى أن المماكرة" الاحتيال في بلوغ الغرض، "أنفع من المكاثرة"، المغالبة بالكثرة، ولذا قال ابن المنير: معناه: الحرب الكاملة في مقصودها البالغة إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، وحصول الظفر بالمخادعة بلا مواجهة. "قال النووي: اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن، إلّا أن يكون فيه نقض عهد وأمان، فلا يحل" ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل. وقوله: "إياكم وخضراء الدِّمَن". رواه الرامهرمزي والعسكري في الأمثال، وابن عدي في الكامل، وأبو بكر بن دريد في المجتبى, والقضاعي في مسند الشهاب, والديلمي من حديث الواقدي, قال: حدثنا محمد بن سعيد بن دينار, عن أبي وجزة يزيد بن عبيد, عن عطاء بن يزيد الليثي, عن أبي سعيد مرفوعًا: قيل: يا رسول الله وما زاد؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء" قال ابن عدي: تفرَّد به الواقدي. ومعناه: إنه كره نكاح الفاسدة، وقال: إن أعراق السوء تنزع   قال ابن العربي: ويقع الخداع بالتعريض وبالكمين ونحوهما، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدمن" بكسر الدال وفتح الميم، "رواه الرامهرمزي والعسكري"، كلاهما "في" كتاب "الأمثال وابن عدي في الكامل، وأبو بكر بن دريد في المجتبى، والقضاعي في مسند الشهاب، والديلمي" في الفردوس، والدارقطني في الإفراد، والخطيب في إيضاح الملتبس، كلهم "من حديث الواقدي قال: حدثنا محمد"، صوابه كما في المقاصد ناسبا للمذكورين يحيى "بن سعيد بن دينار، عن أبي وجزة" بفتح الواو، سكون الجيم، بعدها زاي, "يزيد" بتحتية وزاي "ابن عبيد"، بضم العين- السعدي، الشاعر المدني، الثقة، التابعي، الصغير, مات سنة ثلاثين ومائة, روى له أبو داود والنسائي، "عن عطاء بن يزيد الليثي"، المدني، نزيل الشام، ثقة، من رجال الجميع، مات سنة خمس أو سبع ومائة، وقد جاوز الثمانين. "عن أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري، "مرفوعًا" باللفظ المزبور، "قيل: يا رسول الله وما زاد؟ " المراد بخضرة الدمن "قال: "المرأة الحسناء" الجميلة، "في المنبت السوء" , وفي نسخة: في البيت، والذي في المقاصد: المنبت -بالميم، "قال ابن عدي: تفرَّد به الواقدي"، وهو متروك متَّهم، زاد السخاوي، وذكره أبو عبيد في الغرائب فقال: يروي عن يحيى بن سعيد بن دينار. قال ابن الصلاح: وابن طاهر يُعَدّ في أفراد الواقدي، وقال الدارقطني: لا يصح من وجه، "ومعناه: إن كره نكاح الفاسدة، وقال: "إن أعراق" جمع عرق "السوء تنزع" تميل وتشبه "أولادها" بها، "وتفسير حقيقته: إن الريح تجمع الدمن، وهي البعر في البقعة من الأرض، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 أولادها، وتفسير حقيقته: إن الريح تجمع الدمن، وهي البعر، في البقعة من الأرض، ثم يركبه الساقي، فإذا أصابه المطر أنبت نباتًا غضًّا ناعمًا يهتز, وتحته الأصل الخبيث، فيكون ظاهره حسنًا وباطنه قبيحًا فاسدًا, والدمن جمع دمنة, وأنشد زفر بن الحارث: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا ومعنى البيت: إن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغضاء والعداوة، كما ينبت المرعى على الدمن، وهذا أكثري أو كلي في زمنًا، أشار إليه شيخنا. وقوله: الأنصار كرشي وعيبتي. رواه البخاري، أي: إنهم بطانته وموضع سره،   يركبه الساقي، فإذا أصابه المطر أنبت نباتًا غضًّا" بمعجمتين- طريًّا "ناعمًا يهتز" يتمايل، "وتحته الأصل الخبيث"، وهو البعر، "فيكون ظاهره حسنًا وباطنه قبيحًا فاسدًا، والدمن جمع دمنة"، بزنة سدر وسدرة، وهو البعر، أي: نفسه، هذا ظاهره، وفي المصباح: الدِّمن من وزان حمل، ما يتلبَّد من البعر، والدمنة موضعه، والجمع دمن، "وأنشد زفر بن الحارث" بضم الزاي، وفتح الفاء: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا "ومعنى البيت: إن الرجلين قد يظهران الصلح والمودة، وينطويان على البغضاء" شدة البغض وأقواه، "والعداوة" كما ينبت المرعى على الدمن، وهذا أكثريّ أو كليّ في زمننا، أشار إليه" بمعنى ذكره "شيخنا"، يعني: السخاوي في المقاصد الحسنة. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الأنصار كرشي" بفتح الكاف وكسر الراء والشين المعجمة, "وعيبتي" بفتح المهملة والموحدة، بينهما تحتية ساكنة، ثم تاء تأنيث، "رواه البخاري" ومسلم، والترمذي، والنسائي، عن أنس بزيادة: "والناس سيكثرون ويقلون، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم"، أي: إنهم بطانته وموضع سره"؛ إذ البطانة -بالكسر: الوليجة -بالجيم، وهو الذي يكون محلًّا لسر صاحبه، فالمعنى: إنهم كالبطانة يسر لهم أموره، فيكتمونها ولا يظهرونها، فكانوا كالكرش. قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقَرّ غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 والعيبة كذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يجمع ثيابه في عيبته. وقيل: أي هم الذين اعتمد عليهم وأفزع إليهم وأقوى بهمن وقيل أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي، ويقال: عليه كرش من الناس, أي: جماعة، ووقع في رواية الترمذي: ألّا إن عيبتي التي آوي   فلان كرش منثورة، أي: عيال كثيرة, "والعيبة كذلك"؛ إذ هي ما يجعل الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سرّه وأمانته، "لأنَّ المجتر" من ذي الخف، والظلف، ويربوع، وأرنب، "يجمع علفه في كرشه"؛ لأنه له بمنزلة المعدة للإنسان، "والرجل يجمع ثيابه في عيبته"، تعليل لوجه التشبيه، "وقيل" في بيانه أيضًا "أي: هم الذين اعتمد عليهم، وأفزع" بالفاء والزاي- ألجأ "إليهم وأقوي بهم"، كما يقوى الحيوان بما في كرشه، ويلجأ الرجل إلى ما في عيبته، "وقيل: أراد بالكرش الجماعة"، وهو أحد إطلاقاته لغة، "أي: جماعتي وصحابتي" عطف تفسير، "ويقال": عطف علة على معلول، أي: لأنه يقال لغة "عليه كرش من الناس، أي: جماعة"، وقيل: أي: إنهم مني في المحبة والرأفة بمنزلة الأولاد الصغار؛ لأن الإنسان مجبول على محبَّة ولده الصغير، ذكره المصباح، ولكنه لا يناسب سياقه في الثناء عليهم، كما قال شيخنا في التقرير: ففي بعض طرق الحديث في الصحيح، مَرَّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منَّا، فدخل فأخبره، فخرج -صلى الله عليه وسلم، وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم"، وفي الفتح: أي: "بطانتي وخاصتي". قال القزاز: ضرب المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال لفلان: كرش منثورة، أي: عيال كثيرة، والعيبة ما يحرزه فيه الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته. قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه، وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان، والعيبة مستودع الثياب، والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة، والأَوَّل أوْلَى، وكل من الأمرين مستودع لما يخفي فيه. انتهى. "ووقع في رواية الترمذي: ألا إن عيبتي التي آوى" بفتح الهمزة الممدودة، أي: جماعتي التي أرجع "إليها"، وأقيم عندها، حتى كأنها حافظة لي "أهل بيتي، وإن كرشي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 إليها أهل بيتي وإن كرشي الأنصار. وقوله: "ولا يجني على المرء إلا يده". رواه الشيخان، ولأحمد وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: "لا يجني جانٍ إلا على نفسه" , وقد أراد -صلى الله عليه وسلم- بهذا: إنه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره، إن قتل أو جرح أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هي التي أدته لذلك. وقوله: "ليس الشديد من غلب الناس, إنما الشديد من غلب نفسه" رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه الشيخان.   الأنصار"، ضبطه المصنّف بزنة كتف، فإن كان الرواية، وإلّا ففيه الكسر مع الإسكان أيضًا، كما في القاموس، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "ولا يجني على المرء"، أي: الرجل، والمراد الإنسان، فيشمل المرأة، أي: لا يوصل إليه مكروهًا، "إلا يده"؛ لأنه يذنب فيعاقب من الله، أو الحاكم, فكأنه المعاقب لنفسه لتسببه في إيصال العقاب لها، وخصّ اليد لمباشرتها غالبًا الجنايات، "رواه الشيخان" في حديث، "ولأحمد وابن ماجه من حديث عمر بن الأحوص" الجشمي -بضم الجيم، وفتح المعجمة, صحابي له حديث في السنن الأربعة أنه شهد حجة الوداع فيه، "لا يجني جانٍ إلا على نفسه"، أي: لا يؤخذ أحد بجناية أحد، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، فهو خبر بمعنى النهي، وفيه مزيد تأكيد كأنَّه نهاه, فقصد أن ينتهي، فأخبر عنه، ولذا عدل عن النهي إلى الخبر، ولمزيد من التأكيد والحث على الانتهاء، أضاف الجناية إلى نفسه، والمراد الغير؛ لأنها كانت سببًا للجناية عليه، قصاصًا ومجازاة، فأبرزها على ذلك ليكون أدعى إلى الكفِّ، وأمكن في النفس لتضمُّنِه الدلالة على المعنى الموج للنهي، كما أشار إليه البيضاوي، وإلى حاصله يومئ قول المصنف. "وقد أراد -صلى الله عليه وسلم- بهذا، أنَّه لا يؤخذ إنسان بجناية غيره إن قتل، أو جرح، أو زنى، وإنما يؤخذ بما جنته يده، فيده هي التي أدَّته لذلك"، فهو إبطال لأمر الجاهلية، كانوا يقودون بالجناية من يجدونه من الجاني وأقاربه، الأقرب فالأقرب، وعليه الآن أهل الجفاء من سكان البوادي والجبال، "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد"، أي: القوي "من غلب الناس"، بل هو ضعيف، فإن الظفر بالغير ينشأ غالبًا عن تعدٍّ في القول، أو الفعل، فيذمّ فاعله عند الله وعند الخلق، فهو نفي للمتعارف عندهم، "إنما الشديد من غلب نفسه"، بأن منعها من مطلوباتها المخالفة للشرع، لأنه يجازى على منعها من الله الثواب الجزيل، "رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه" بمعناه "الشيخان في الأدب، عن أبي هريرة بلفظ: "ليس الشديد بالصرعة" بضم الصاد المهملة، وفتح الراء، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 بلفظ: "ليس الشديد بالصرعة, إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" يعني: إنه إذا ملكها كان قد قهر أكبر أعدائه وشر خصومه. ولذلك قال: أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك. وهذا من باب المجاز، ومن فصيح الكلام؛ لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ وقد ثارت عليه شدة من الغضب وقهرها بحلمه، وصرعها بثباته كان كالصرعة الذي يصر.   الذي يصرع الناس كثيرًا بقوته، والهاء للمبالغة في الصفة، والصرعة -بسكون الراء- بالعكس، وهو من يصرعه غيره كثيرًا، وكل ما جاء بهذا الوزن -بالضم والسكون- فهو كذلك, كهمزة ولمزة وحفظة وخدعة، ووقع بيان ذلك في حديث ابن مسعود عند مسلم أوله: "ما تعدون الصرعة فيكم"، قالوا: الذي لا تصرعه الرجال. قال ابن التين: ضبطناه -بفتح الراء، وقرأة بعضهم بسكونها وليس بشيء؛ لأنه عكس المطلوب، قال: وضبط أيضًا في بعض الكتب بفتح الصاد، وليس بشيء، ذكره الحافظ والنفي للمبالغة، أي: ليس القوي من يقدر على صرع أبطال الرجال وإلقائهم إلى الأرض بقوة، "إنما الشديد" على الحقيقة "الذي يملك نفسه عند الغضب"، أي: إنما القوي من كظم غيظه عند فوران الغضب وقهر نفسه وغلب عليها، فحوّل المعنى فيه من القوة الظاهرة إلى القوة الباطنة، "يعني: إنه إذا ملكها كان" هو الشديد، لأنه "قد قهر أكبر أعدائه"؛ إذ من عداها أذاه دونها؛ لأنها موجبة لعقوبة الله، وأقلها أشد من عقوبات الدنيا "و" قهر "شر" بالنصب، "خصومه"، جمع خصم على لغة المطابقة في التثنية والجمع، والمشهور وقوع خصم على الذكر والأنثى والمفرد، والجمع, فآثر الجمع وإن كان لغة قليلة؛ لأنه أبلغ في إفادة المراد "ولذلك" المذكور من الأمرين. "قال" عليه الصلاة والسلام، فيما ذكره في النهاية بلا إسناد: "أعدى عدو لك"، أي: أشد عداوة لك من بين أعدائك، "نفسك التي بين جنبيك"، والعدو خلاف الصديق الموالي، وليس المراد البغض لاستحالته, بل فعلها معه فعل العدو، ولحملها له على اكتساب المال من غير حله، وانفاقه في اللذات والشهوات، وصدّها عن العلم والجهاد، وميلها للكسل وما يفوت الكمالات، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} "وهذا من باب المجاز ومن فصيح الكلام"، أي: بليغه إلى الغاية؛ بحيث اشتمل على أعلى البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فليس المراد الفصاحة الاصطلاحية التي هي خلوصه من ضعف التأليف، وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها؛ "لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شدة من الغضب، وقهرها بحلمه، وصرعها بثباته" وعدم عمله بمقتضى الغضب، "كان كالصرعة الذي يصرع الرجال ولا يصرعونه"، فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة أو استعارة، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 الرجال ولا يصرعونه. وقوله: "ليس الخبر كالمعاينة". رواه أحمد وابن منيع والطبراني والعسكري.   كالمعاينة"، وفي رواية: كالعيان -بكسر العين, ومعناهما واحد، أي: المشاهدة؛ لأنها تحصل العلم القطعي، وقد جعل الله لعباده آذانًا واعية، وأبصارًا ناظرة، ولم يجعل الخبر في القوة كالنظر بالعيان، وكما جعل في الرأس سمعًا وبصرًا جعل في القلب ذلك، فما رآه الإنسان ببصره قويّ علمه به، وما أدركه يبصر قلبه كان أقوى عنده. وقال الكلاباذي: الخبر خبر إن صادق، لا يجوز عليه الخطأ وهو خبر الله ورسوله، ومحتمله، وهو ما عداه، فإن حمل الخبر على الأوّل، فمعناه ليس المعاينة كالخبر في القوة، بل الخبر أقوى وأبعد عن الشكوك، إذا كان خبر الصادق والمعاينة قد تخطئ، فقد يرى الإنسان الشيء على خلاف ما هو عليه، كما في قصة موسى والسحرة، وإن حمل على الثاني، فمعناه أنها أقوى؛ لأن المخبَر لا يطمئن قلبه، وتزول عنه الشكوك في خبر من يجوز عليه السهو والغلط، وحاصله: إن الخبر إذا كان خبر الصادق، فهو أقوى من المعاينة، أو غيره فعكسه. انتهى، وهذا الفهم يشكل عليه بقية الحديث الآتية، "رواه أحمد" بن حنبل الإمام، "و" أحمد "ابن منيع" بفتح الميم، وكسر النون، وإسكان التحتية ومهملة- ابن عبد الرحمن أبو جعفر البغوي، نزيل بغداد، ثقة حافظ, مات سنة أربع وأربعين ومائتين، وله أربع وثمانون سنة. روى عنه مسلم والأربعة وغيرهم، "والطبراني والعسكري" من حديث ابن عباس بزيادة: إن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلمَّا عاين ما صنعوا، ألقى الألواح فانكسرت، ورواه أحمد، وابن طاهر، والبغوي، والدارقطني، والطبراني في الأوسط، وابن حبان والعسكري أيضًا، عن ابن عباس مختصرًا بدون الزيادة، وصحَّح الحديث ابن حبان والحاكم والضياء. قال العسكري: أراد -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يهجم على قلب المخبر من الهلع، بالأمر والاستفظاع له, مثل ما يهجم على قلب المعاين، قال: وظنَّ بعض الملحدين في حديث موسى، أنه لم يصدق بما أخبره ربه، ولا دلالة فيه على ذلك، ولكن للعيان روعة هي أنكأ للقلب، وأبعث لهلعه من المسموع، قال: ومن هذا قول إبراهيم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، أي: بيقين النظر؛ لأن للمشاهدة والمعاينة حالًا ليست لغيره، وقال غيره: كان خبر الله ثابتًا عند موسى, وخبره كلامه، وكلامه صفته، فعرف فتنة قومه بصفة الله، لكن صفة البشرية لا تظهر عند صفة الله، لعجز البشرية وضعفها، فتمسك موسى بما في يديه ولم يلقه، فلمَّا عاين قومه عاكفين على العجل عابدين له، عاتبهم بصفة نفسه التي هي نظره ببصره ورؤيته بعينه، فلم يتمالك أن طرح الألواح من شدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 وقوله: "المجالس بالأمانة". رواه العقيلي في ترجمة حسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن علي.   الغضب، وفرط الضجر حمية للدين. روي أنَّها كانت سبعة، فانكسر ستة كان فيها تفصيل كل شيء، وبقي السابع فيه المواعظ والأحكام، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "المجالس"، أي: ما يقع فيها قولًا وفعلًا ملحق "بالأمانة"، فيجب حفظها، فلا يشيع أحد حديث جليسه إلّا فيما يحرم ستره ولا يبطن، خلاف ما يظهر، وفيه إشارة إلى مجلسه أهل الأمانة وتجنب أهل الخيانة، ذكره العامري في شرح القضاعي، وقال العسكري: أراد -صلى الله عليه وسلم- أن الرجل يجلس إلى القوم، فيخوضون في الحديث، ولعلَّ فيه ما إن نمى كان فيه ما يكرهون، فيأمنونه على أسرارهم، فيريد أنَّ الأحاديث التي تجري بينهم كالأمانة التي لا يجب أن يطَّلِع عليها، فمن أظهرها فهو قتاب، وفي التنزيل: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} ، وقال -صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قتات"، أي: نَمَّام. وروي مرفوعًا: "إلا أنَّ من الخيانة أن يحدِّث الرجل أخاه بالحديث فيفشيه"، انتهى. ولعبد الرزاق مرفوعًا: "إنما يتجالس المتجالسون بأمنة الله، فلا يحلّ لأحد أن يفشي عن صاحبه ما يكره"، وقال ابن الأثير: هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قول أو فعل، فكان ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه، والأمانة تقع على الطاعة والعبادة، والوديعة، والثقة، والأمان، وقد جاء كل منها حديث، انتهى. "رواه" الديلمي" والعسكري، والقضاعي، و"القيلي" الإمام، الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد، كثير التصانيف، مقدم في الحفظ، ثقة عالم بالحديث، مات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. "في ترجمة حسين بن عبد الله بن ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن علي" بن أبي طالب، "رفعه" بلفظ الترجمة فقط، لكن قصر المصنّف في عزوه، فقد رواه ابن ماجه عن جابر بهذا اللفظ فقط، ورواه أبو داود والعسكري عن جابر بن عبد الله مرفوعًا بزيادة: إلا ثلاثة مجالس سفك دم حرام، أو فرج حرامن أو اقتطاع مال بغير حق. قال البيضاوي: يريد أن المؤمن إذا حضر مجلسًا، ووجد أهله على منكرات يستر عوراتهم، ولا يشيع ما رأى منهم إلّا أن يكون أحد هذه الثلاثة، فإنه فساد كبير, وإخفاؤه إضرار عظيم، وقال غيره، أي: من قال في مجلس أريد قتل فلان، أو الزنا بفلانة، أو أخذ مال فلان ظلمًا، فلا يجوز لسامعه حفظ سره، بل يجب عليه إفشاؤه دفعًا للمفسدة، "و" جاء "عن جابر بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 رفعه، وعن جابر بن عتيك: إذا حدَّث الرجل ثم التفت فهي أمانة، ورواه أبو داود في سننه, والترمذي في جامعه, وابن أبي الدنيا في الصمت. وغيرهم. ففي هاتين الكلمتين من الحمل على آداب العشرة وآداب الصحبة وكتم السر، وحفظ الود وحفظ العهد، وإصلاح ذات البين, والتحذير من النميمة بين الإخوان، الموقعة للشنآن ما لا يكاد يخفى على مبادئ الأذهان.   عتيك" بن قيس الأنصاري، صحابي جليل، اختلف في شهوده بدرًا، مات سنة إحدى وستين، وهو ابن إحدى وتسعين، له في أبي داود والنسائي: "إذا حدَّث الرجل"، أي: الإنسان، فذكر الرجل غالبي, ومفعول حدث محذوف في رواية ابن عتيك، وقد ثبت في رواية ابن عبد الله بلفظ: إذا حدث الرجل.. الحديث، "ثم التفت"، أي: غاب عن المجلس، كما قال المظهري، أو يمينًا وشمالًا، كما قال الطيبي، فثَمَّ الحقيقة الترتيب على الأوّل لا الثاني، "فهي"، أي: الكلمة التي حدَّث بها قبل التفاته "أمانة" عند المحدَّث أودعه إياها، فإن حدَّث بها غيره فقد خالف أمر الله بتأدية الأمانة إلى غير أهلها، فيكون من الظالمين، فيجب عليه كتمها؛ إذ التفاته بمنزلة استكتامه بالنطق؛ لأن التفاته إعلام لمن يحدّثه أنه يخاف أن يسمع حديثه أحد، وأنه قد خصَّه بسره، فكأن التفاته قائم مقام قوله: أكتم هذا عني، وهو عندك أمانة، "ورواه"، أي: حديث: إذا التفت لا بقيد كونه من حديث ابن عتيك، "أبو داود في سننه، والترمذي في جامعه"، وقال: حديث حسن، "وابن أبي الدنيا في" كتاب "الصمت وغيرهم"، كالإمام أحمد، والطيالسي، وأبي يعلى، كلهم من حديث جابر بن عبد الله مرفوعًا، بلفظ: إذا حدَّث الرجل.. الحديث، ثم التفت فهي أمانة، وفيه عبد الرحمن بن عطاء، وثَّقه جماعة، وليِّنَه آخرون، فتحسين الترمذي اعتماد لتوثيقه، أو لشاهده عند أبي يعلى، عن أنس به مرفوعًا، كما أفاده السخاوي. "ففي هاتين الكلمتين" هذا الحديث والمجالس بالأمانة، سمَّاهما كلمتين لقلة حروفهما، وفي نسخة: الخصلتين، أي: المستفادتين من الخبرين، وكلاهما من جوامع الكلم "من الحمل على آداب العشرة، وآداب الصحبة، وكتم السر، وحفظ الود، وحفظ العهد، وإصلاح ذات البين"، أي: الحالة التي تكون بين الناس من التعارف والمخالطة، "والتحذير من النميمة"، هي نقل الكلام إشاعةً له وإفسادًا وتزيين الكلام بالكذب، كما في القاموس، "بين الإخوان الموقعة للشنآن"، أي: البغضاء، "ما لا يكاد يخفى"، لشدة ظهوره "على مبادى الأذهان"، أي: أوائلها، أي: إنها تدرك بأدنى التفات، فلا تحتاج لإمعان نظر وتأمّل، وإفشاء السر حرام إن أضر. قال الماوردي: إظهار الرجل سِرَّ غيره أقبح من إظهار سِرِّ نفسه؛ لأنه يبوء بإحدى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وقوله: "البلاء موكل بالمنطق". رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، من رواية إبراهيم عن ابن مسعود، ورواه الديلمي عن أبي الدرداء مرفوعًا: "البلاء موكل بالمنطق" , وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي الدرداء وابن مسعود. قال شيخنا في المقاصد الحسنة: ولا يحسن من مجموع ما ذكرناه   وصمتين؛ الخيانة إن كان مؤتمنًا، والنميمة إن كان مستخبرًا، وأمَّا الضرورة فيما استويا فيه، أو تفاضلا، فكلاهما مذموم، وهو فيهما ملوم. وقال الراغب: السِّرُّ ضربان، أحدهما ما يلقى إلى الإنسان من حديث يستكتم، وذلك إمّا لفظًا، كقولك لغيرك: اكتم ما أقول لك؛ وإمَّا حالًا وهو أن يتحرَّى القائل حال انفراده فيما يورده، أو خفض صوته، أو بخفيه عن مجالسه، وهو المراد في هذا الحديث، انتهى. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "البلاء موكل بالمنطق". قال الديلمي: البلاء الامتحان والاختيار، ويكون حسنًا ويكون سيئًا, والله يبلو عبده بالصنع الجميل؛ ليمتحن شكره، ويبلوه بما يكره؛ ليمتحن صبره، ومعنى الحديث: إن العبد في سلامة ما سكت، فإذا تكلَّم عرف ما عنده بمحنة النطق، فيتعرَّض للخطر، أو للظفر، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "أنت في سلامة ما سكت, فإذا تكلمت فلك أو عليك"، ويحتمل أن يريد التحذير من سرعة النطق با تثبت خوف بلاء لا يطيق دفعه، وقد قيل: اللسان ذنب الإنسان، وما شيء أحق بسجن من اللسان، "رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد من رواية إبراهيم" النخعي، "عن ابن مسعود" مرفوعًا بهذا اللفظ وزيادة: "لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبًا"، رواه الخطيب والديلمي، وأبو نعيم والعسكري مرفوعًا: "البلاء موكل بالمنطق"، فلوّ أنَّ رجلًا عَيِّرَ رجلًا برضاع كلبة لرضعها، وسنده ضعيف، وهو عند أحمد في الزهد موقوفًا على ابن مسعود، قاله السخاوي، "ورواه الديلمي عن أبي الدرداء مرفوعًا: "البلاء موكل بالمنطق"، وزاد: "ما قال عبد لشيء: والله لا أفعله, إلا ترك الشيطان كل شيء، وولع به حتى يؤثمه"، ولا حاجة إلى ذكر المصنف لفظ الحديث؛ إذ هو مساو لترجمته، وقد رواه القضاعي وابن السمعاني عن علي، والديلمي عن ابن مسعود، والعسكري عن أبي الدرداء رفعوه، وابن لال في المكارم عن ابن عباس، عن الصديق موقوفًا، وابن أبي الدنيا من مرسل الحسن، خمستهم بلفظ: "البلاء موكل بالقول" , "وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي الدرداء وابن مسعود, قال شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة: ولا يحسن مع مجموع ما ذكرناه"، وهو هذه الطرق التي لخصتها من كلامه "الحكم عليه بالوضع"؛ لأن تعدد الطرق، وتباين مخارجها دليل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 الحكم عليه بالوضع، ويشهد لمعناه قوله -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي الذي دخل عليه يعوده, وقال -عليه الصلاة والسلام: "لا بأس هو طهور"، فقال الأعرابي: بل هي حمَّى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال -عليه الصلاة والسلام: "فنعم إذًا". وأنشد في معناه: لا تنطقنَّ بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون   أن للحدث أصلًا، وورد أيضًا من حديث أنس، أشار إليه الديلمي، "ويشهد لمعناه قوله -صلى الله عليه وسلم" عند البخاري وغيره، عن ابن عباس "للأعرابي الذي دخل عليه" المصطفى "يعوده"، أي: الأعرابي، "وقال" عليه الصلاة: "لا بأس" عليك "هو طهور" لك من الذنوب، أي: مطهر. قال ابن عباس في البخاري: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل على مريض يعوده قال: "لا بأس طهور"، "فقال الأعرابي": مستبعد الحصول الشفاء، "بل لفظ البخاري: قلت طهور كلابل، "هي حمى تفور"، بالفاء، أي: يظهر حرها ووهجها وغليانها، ولفظ البخاري: تفور، أو قال: تثور، أي: بالشك من الراوي, هل قاله بفاء أو مثلثة، ومعناهما واحد. "على شيخ كبير تزيره" بضم الفوقية، وكسر الزاي- من أزاره حمله على الزيارة، والمعنى: إنها سبب في إدخاله "القبور، فقال -عليه الصلاة والسلام: "فنعم إذًا" بالتنوين. قال الطيبي: الفاء مرتبة على محذوف، تقديره: أرشدتك بقولي لا بأس طهور إلى أن تحمي تطهرك وتنقي ذنوبك، فاصبر واشكر الله عليها، فأبيت إلّا اليأس والكفران، فكان كما زعمت، وما اكتفيت بذلك، بل رددت نعمة الله، قاله غضبًا عليه. انتهى. عند الطبراني وغيره، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما إذا أبيت فهي كما تقول وقضاء الله كائن"، فما أمسى الأعرابي من الغد إلا ميتًا، وعند الدولابي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما قضى الله فهو كائن"، فأصبح الأعرابي ميتًا. قال الحافظ: وقع في ربيع الأبرار، أن اسم هذا الأعرابي قيس بن أبي حازم، ولم أر تسميته لغيره، فإن كان محفوظًا فهو غير قيس بن أبي حازم، أحد المخضرمين؛ لأنَّ هذا مات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، والمخَضْرَم لا صحبة له، وإن أسلم في حياته، وعاش بعده دهرًا طويلًا ولأبيه صحبة، "وأنشد" بالبناء للمجهول، وفي المقاصد أنشد القاضي البهلول "في معناه: لا تنطقنَّ بما كرهت فربما ... نطق اللسان بحادث فيكون وقال الخرائطي: أنشدونا: لا تعبثنَّ بحادث فلربما ... عبث اللسان بحادث فيكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ترك الشر صدقة". رواه بعضهم: ومعنى ذلك: إن من ترك الشر وأذى الناس فكأنه تصدّق عليهم، وعلم من ذلك أن فضل ترك الشر كفضل الصدقة. وقوله: "وأي داء أدوى من البخل" رواه البخاري،   وأنشد غيره: لا تمزحن بما كرهت فربما ... ضرب المزاح عليك بالتحقيق وفي تاريخ الخطيب: اجتمع الكسائي واليزيدي عند الرشيد، فقدَّموا الكسائي يصلي جهرية، فأرتجّ عليه في قراءة الكافرون، فقال اليزيدي: قارئ الكوفة يرتجّ عليه في هذه، فحضرت جهرية أخرى، فقام اليزيدي فارتجَّ عليه في الفاتحة، فقال الكسائي: احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق وقال النخعي: تحدثني نفسه بالشيء فلا أتكلم به مخافة أن أُبْتَلِيَ به، "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ترك الشر" السوء والفساد والظلم، وجمعه شرور، وهذا شَرٌّ من ذاك، أصله أشر بالألف على أفعل، واستعمال الأصل لغة لبني عامر، وقرئ شاذًّا من الكذب الأشر على هذه اللغة "صدقة" رواه بعضهم، كذا زاده في بعض النسخ، ولا كبير فائدة فيه، ومعنى ذلك أن من ترك الشر، و" ترك "أذى الناس"، وهو إيصال المكروه إليهم، "فكأنَّه تصدَّق عليهم, وعلم من ذلك أنَّ فضل ترك الشر كفضل الصدقة"، أي: ثوابها في الجملة، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوى من البخل"، أي: أي عيب أقبح، وأيُّ مرض أعظم منه، أي: لا شيء أعظم منه؛ لأن من ترك الإنفاق خشية الإملاق لم يصدق بوعد الرزاق، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} . قال عياض: هكذا يرويه المحدثون أدوى غير مهموز من دوى، أي: بكسر الواو، وإذا كان به مرض في جوفه، والصواب أدوأ بالهمز؛ لأنه من الداء، فيحمل على أنهم سهَّلوا لهمزة، أي: قلبوها ألفًا، قاله الحافظ. "رواه البخاري"، ومسلم، والإمام أحمد عن جابر، وله سبب، أخرجه البخاري في الأدب المفرد والسراج، وأبو الشيخ، وأبو نعيم، والبيهقي عن جابر قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سيدكم يا بني سلمة"؟، قالوا: الجد بن قيس على أنّا نبخله، فقال: "بيده هكذا، ومد يده، وأي داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن الجموح"، وكان عمرو يولم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا تزوج، وفي بعض طرقه عند أبي نعيم: "بل سيدكم الأبيض، الجعد عمرو بن الجموح"، ورواه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 والبخل قد جعله -صلى الله عليه وسلم- داء، وليس بداء مؤلم لصاحبه، وإنما شبهه بالداء إذ كان مفسدًا للرجل مورثًا له سوء الثناء، كما أن الداء المرض المشي يئول إلى طول الضنا وشدة العنا، والمقصد من هذا النهي عن البخل أعاذنا الله منه.   الحاكم في المستدرك، وأبو الشيخ بإسناد غريب عن أبي هريرة، وفي رواية ابن جرير عن أبي هريرة: "بل سيدكم وابن سيدكم بشر بن البراء بن معرور"، وكذا في بعض طرقه عن جابر عن أبي نعيم. وروى ابن منده وأبو الشيخ في الأمثال، والولي بن إبان في كتاب الجود عن كعب بن مالك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سيدكم"؟ قال: جد بن بشير، فقال: "سيدكم بشر بن البراء بن معرور"، وسنده جيد. قال الحافظ: ويمكن حمل قصة بشر على أنها كانت بعد قتل عمرو بأحد جمعًا بين الحديثين، وروى الحديث الأول ابن عائشة في نوادره عن الشعبي مرسلًا، وزاد: فقال في ذلك بعض الأنصار: وقال رسول الله والحق قوله ... لمن قال منا من تسمون سيدا فقالوا له جد بن قيس على التي ... نبخله منها وإن كان أسودا فسوَّدَ عمرو بن الجموح لجوده ... وحق لعمرو بالندى أن يسودا فلو كنت يا جد بن قيس على التي ... على مثله عمرو لكنت المسوَّدا "والبخل" بضم الباء، وسكون الخاء، وبفتح الباء والخاء، كذا ضبطه الزركشي، "قد جعله -صلى الله عليه وسلم- داء": مرضًا مؤلمًا لصاحبه في العقبى، "وليس بداء" حسي، "مؤلم لصاحبه" حقيقة، كالأمراض الحسية، فهو تشبيه، "وإنما شبهه بالداء إذ" تعليلية، "كان مفسدًا للرجل" أكثري، فالمراد الإنسان، "مورثًا له سوء الثناء، كما أن الداء المرض الحسي، يئول إلى طول الضنا" شدة المرض، "وشدة العنا" التعب، "والمقصد" مصدر ميمي بمعنى القصد، "من هذا النهي عن البخل، أعاذنا الله منه"، ولذا عد من جوامع الكلم، وكما نطق بهذا اللفظ النبي -صلى الله عليه وسلم، في ذا الحديث الصحيح، قاله خليفته أبو بكر بعده لما أتاه بعده مال البحرين، ونادى: من كان له عند النبي -صلى الله عليه وسلم- عدة، أو دين فليأتني، فجاءه جابر، فأخبره أن المصطفى قال له: لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا، ثلاثًا، فلم يعطه, ثم أتاه ثانيًا وثالثًا، فلم يعطه، فقال له: إما أن تعطيني، وإمّا أن تبخل عني، فقال: "أقلت تبخل عني، وأي أداء أدوى من البخل"؟ قالها ثلاثا، ما منعتك من مرة إلّا وأنا أريد أن أعطيك، رواه البخاري ومسلم، وفي بعض طرقه عند البخاري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 وقوله: "لا ينتطح فيها عنزان". أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع. وقوله: "الحياء خير كله". متفق عليه. وقوله: "اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع".   وقال ابن المنكدر: وأيّ داء أدوى من البخل، وهو يوهم أنه لم يقله أبو بكر وليس بمراد؛ لأن معناه وقال ابن المنكدر في حديثه، كما رواه مسدد، أي: في حديثه عن جابر، عن الصديق، كما بينه الحافظ والله أعلم. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "لا ينتطح فيها"، أي: في عصماء بنت مروان, اليهودية التي قتلها عمير بن عدي، وكان أعمى- في بيتها ليلًا، ثم رجع وصلى الصبح مع المصطفى، فقال له: أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم, فهل علي في ذلك من شيء؟ فقال: "لا ينتطع فيها عنزان"، وكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم، رواه ابن سعد وغيره. "أي: لا جري فيها خلف ولا نزاع"، بل هي هدر لا يسأل عنها، ولا يؤخذ لها بثأر، ومر بسط القصة في محلها. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الحياء" بالمد، وهو تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم. قال الراغب: وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، "خير كله"؛ لأن مبدأه انكسار يلحق الإنسان مخافة نسبته إلى القبيح، ونهايته ترك القبيح، وكلاهما خير، ومن علم أنه مشهد النعمة والإحسان، وأن الكريم لا يقابل بالإساءة من أحسن إليه، وإنما يفعله اللئيم منعه مشهد إحسانه إليه ونعمته عليه، من عصيانه حياء منه أن يكون خيره وإنعامه نازلًا عليه، ومخالفته صاعدة إليه، فملك ينزل بهذا، وملك يعرج بهذا، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، أي: لأن من استحيا من الناس أن يروه يأتي بقبيح، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من الله أشد، فلا يضيع فريضة، ولا يرتكب خطيئة. وقال -عليه الصلاة والسلام: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة"، وقال: "الحياء زينة" "متفق عليه" عن عمران بن حصين، "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "اليمين الفاجرة" "، أي: الكاذبة، "تدع الديار بلاقع"، جمع بلقع، وبلقعة الأرض القفراء التي لا شيء بها، يريد أن الحالف كاذبًا يفتقر، ويذهب ما في بيته من الرزق، وقيل: هو أن يفرق الله شمله، ويغير عليه ما أولاه من نعمه، كما في النهاية. "رواه الديلمي في مسند الفردوس"، لأبي شجاع الديلمي، ألفه محذوف الأسانيد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي هريرة. وقوله: سيد القوم خادمهم. رواه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب "آداب الصحبة" له عن عقبة بن عامر رفعه، وفي سنده ضعف أو انقطاع. ورواه غيره أيضًا. وقوله: "فضل العلم خير من فضل العبادة".   ومسنده لولده أبي منصور شيرويه بن شهردار بن شيرويه الحافظ، خرج سند كل حديث تحته "من حديث أبي هريرة" مرفوعًا. "وقوله: "سيد القوم خادمهم"؛ إذ السيد من يفزع إليه في النوائب فيحمل الأثقال، فلمَّا تحمَّل الخادم الأمور، وكفى المؤنة، وما لا يطيقونه كان سيدهم، فخادم مبتدأ مؤخر، وأصله خادم القوم كسيدهم، فبُولِغَ فيه بالقلب المكاني حتى جعل السيد خادمًا. "رواه أبو عبد الرحمن" محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري "السلمي" بضم السين- إلى جَدٍّ له اسمه سليم، كان وافر الجلالة، وحدَّث أكثر من أربعين سنة. قال في اللسان: كأصله وليس بعمدة. وقال الخطيب: ثقة صاحب علم وحال. قال السبكي: وهو الصحيح ولا عبرة بالطعن فيه، "في كتاب آداب الصحبة له"، أحد تصانيفه التي بلغت مائة أو ألفًا، "عن عقبة بن عامر رفعه، وفي سنده ضعيف، أو انقطاع، ورواه غيره أيضًا" كابن عساكر من حديث ابن عباس، عن جرير مرفوعًا، وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف جدًّا مع انقطاعه، عن أنس رفعه بلفظ: "رب الخادم في الدنيا سيد القوم في السفر خادمهم، فمن سبقهم لخدمة لم يسبقوه بعمل إلا الشهادة"، وعزاه الديلمي للترمذي وابن ماجه عن أبي قتادة فوهم، أفاده السخاوي. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "فضل العلم خير"، هذا لفظ الطبراني، ولفظ البزار: "أحب إلي من فضل العبادة"، أي: إن زيادة العلم خير من زيادتها، فنفله أفضل من نفلها، كما أن فرضه أفضل من فرض العمل، ونفله ما زاد على الواجب، وظاهره يشمل العلوم بجميع أنواعها، كتوحيد وتفسير، وحديث، وفقه، ونحو وغير ذلك. وقال السهرودي: ليس المراد علم البيع والشراء ونحوهما، بل العلم بالله واليقين، وقد يكون العبد عالمًا بالله، وليس عنده شيء من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 رواه الطبراني والبزَّار. وقوله: "الخيل في نواصيها الخير".   علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة، وفي علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفتوى من بعض الصحابة، وفيه حَثٌّ على العلم، لكن لا مع ترك العبادة، بل هو إشارة إلى أنَّ العبادة إنما يعتدَّ بها من العالم؛ إذ العلم يحكمها ويصححها ويخلصها ويصفيها، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد"، رواه البيهقي وغيره. وقال الغزالي: العلم أشرف جوهرًا من العبادة, لكن لابُدَّ منها مع العلم، وإلّا كان هباء منثورًا؛ إذ العلم بمنزلة الشجر، والعبادة بمنزلة الثمر، فالشرف للشجرة، لكونها الأصل، لكن الانتفاع بثمرتها أشرف، فلابُدَّ من الأمرين، ولذا قال الحسن: اطلبوا العلم طلبًا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبًا لا يضر بالعلم. "رواه الطبراني" في الأوسط بلفظه، "والبزار" بلفظ: "أحبّ إلي" كلاهما عن حذيفة رفعه بزيادة: "وخير دينكم الورع"، وصحَّحَه الحاكم، وحسَّنه المنذري، وشواهده كثيرة. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الخيل" اسم جمع لهذا الجنس المجبول على الاختيال، لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه، ومنه سمي واحده فرسًا, "في نواصيها الخير". قال الطيبي: يحتمل أن الخير المفسَّر بالأجر والمغنم, استعارة لظهوره وملازمته، وخص الناصية لرفعة قدره، فكأنه شبهه لظهور بشيء محسوس معقود على مكان مرتفع، فنسب الخير إلا لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريد للاستعارة، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة. قال الخطابي وغيره قالوا: ويحتمل أنه كني بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، ويبعد لفظ الحديث الثالث، أي: في البخاري، وهو البركة في نواصي الخيل، وفي مسلم عن جرير: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلوي ناصية فرسه بأصبعه، ويقول.. فذكر الحديث، فيحتمل أنها خصت بذلك لكونها المقدم منها، إشارة إلى الفضل في الإقدام بها على العدو، دون المؤخر لما فيه من الإشارة إلى الإدبار، قاله في فتح الباري، وسبقه شيخه الحافظ العراقي، فقال: إنه خاص بناصيتها، بدليل النهي عن قصها، وقول البيضاوي: أي ملازم لها كأنه معقود فيها، فهو استعارة مكنية، قال الشاعر: ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء ردَّه شيخنا بأن ضابط المكنية أن لا يذكر من أركان التشبيه سوى المشبه، ويرمز إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة،   التشبيه بشيء من خواص المشبه به، وما ذكره لا يصلح أنه مشبه. نعم يمكن أن تجعل الملازمة للنواصي كالاستقرار فيها، فيتجوّز بالظرفية للملازمة، ويستعمل فيها ما يستعمل للظرفية، وهي في نفيه استعارة تبعية في الحرف، "متفق عليه"، أي: رواه البخاري ومسلم "من حديث مالك" الإمام "عن نافع، عن ابن عمر رفعه"، أي قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "الخيل" أي: ما تتخذ للغزو بأن يقاتل عليها، أو تربط لأجل ذلك، لقوله في حديث مالك والشيخين أيضًا، عن أبي هريرة: "الخيل لثلاثة، لرجل أجر، ولرجل ستره, وعلى رجل وزر.. " الحديث، وفيه: " ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواء لأهل الإسلام، فهي له وزر"، "في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، أي: إلى قربه أعلم به، أن الجهاد قائم إلى ذلك الوقت، زاد في حديث عروة البارقي عند مسلم والبخاري: الأجر والمغنم، وهو بدل من قوله: الخير، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الأجر، وفي مسلم، قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟، قال: "الأجر والمغنم". قال عياض في هذا الحديث مع وجيز لفظه من البلاغة: والعذوبة ما لا مزيد عليه في الحسن، مع الجناس السهل الذي بين الخيل والخير. قال الخطابي: وفيه إشارة إلى أنّ المال المكتسب باتخاذ الخيل من خير وجوه الأموال وأطيبها، والعرب تسمي المال خيرًا، كما في قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . وقال ابن عبد البر: فيه إشارة إلى تفضيل الخيل على غيرها من الدوابّ؛ لأنه لم يأت عنه -صلى الله عليه وسلم- في شيء غيرها مثل هذا القول، وفي النسائي عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد النساء من الخيل، واستدلَّ به على أن قوله -صلى الله عليه وسلم: " إنما الشؤم في ثلاث: الفرس والمرأة والدار" أخرجه الشيخان وغيرهما على غير ظاهره؛ لأنه أثبت لها الخير. قال عياض: فيبعد أن يكون فيها شؤم، فيحتمل أنّ الشؤم في غير التي ربطت للجهاد، والتي أعدت له هي المخصوصة بالخير والبركة، أو يقال: الخير والشرك ممكن اجتماعهما في ذات واحدة، فإنه فسره بالأجر والمغنم، ولا يمنع ذلك أن يكون الفرس مما يتشاءم به، أو المراد جنس الخيل، أي: إنها بصدد أن فيها الخير، فلا ينافي حصول غيره لأمر عارض. وقد روى أبو داود عن ابن القاسم، عن مالك أنَّه سُئِلَ عن حديث الشؤم، فقال: كم من دار سكنها ناس فهلكوا، قال المازري: فحمله مالك على ظاهره، والمعنى: إن قدر الله بما وافق ما يكره عند سكنى الدار، فيصير كالسبب فيتشاءم في إضافة الشؤم إليها اتساعًا. وقال ابن العربي: لم يرد مالك إضافة الشؤم إلى الدار، وإنما هو عبارة عن جري العادة فيها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 وفي لفظ لغيرهما: "معقود بنواصيها الخير". وقوله: "أعجل الأشياء عقوبة البغي".   فأشار إلى أنه ينبغي الخروج عنها، صيانةً لاعتقاده عن التعلق بالباطل، وقيل: معنى الحديث: إن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها مع كراهة أمرها، لملازمتها بالسكنى والصحبة، ولو لم يعتقد الإنسان الشؤم فيها، فأشار إلى الأمر بفراقها ليزول التعذيب، وقيل: شؤم الفرس عدم الغزو عليه، والمرأة عدم ولادتها، والدار الجار السوء، وقيل: إنه سيق لبيان اعتقاد الناس ذلك، لا إخبار بثبوته، وسياق الأحاديث الصحيحة يبعد هذا التأويل، بل قال ابن العربي: هو جواب ساقط؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية، أو الحاصلة، إنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه، وما رواه الترمذي مرفوعًا لا شؤم، وقد يكون اليمن في المرأة والدار والفرس، ففي إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة. وروى الطيالسي عن مكحول، قيل لعائشة: إنَّ أبا هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في ثلاثة"، فقالت: لم يحفظ أنه دخل، وهو يقول: قاتل الله اليهود يقولون: الشؤم في ثلاثة، فسمع آخر الحديث، ولم يسمع أوله، وهو منقطع، فمكحول لم يسمع من عائشة، لكن روى أحمد وابن خزيمة والحاكم: أن رجلين من بني عامر دخلا عليها، فأخبراها بذلك، فغضبت غضبًا شديدًا، وقالت ما قاله، إنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك، إلّا أنه لا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة، مع موافقة جماعة من الصحابة له في ذلك، انتهى ملخصًا من فتح الباري، قال: وقوله "في نواصيها الخير"، كذا في الموطَّأ ليس فيه معقود، "وفي لفظ لغيرهما"، غير البخاري ومسلم، اللذين عبَّر عنهما بقوله متفق عليه، "معقود بنواصيها الخير"، ومن الغير الإسماعيلي، من رواية عبد الله بن نافع عن مالك به، ورواه البخاري في علامات النبوة، من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع شيخ مالك فيه بإثباتها، وذلك في رواية أبي ذر عن الكشميهني وحده، والنزاع إنما هو في إثباتها في حديث ابن عمر، فمالك في الموطأ، وفي الصحيحين عنه بدونها، والإسماعيلي عنه بإثباتها، وإلّا فهي ثابتة في حديث عروة الباقي عند الشيخين، وجابر عند أحمد، وجرير عنده، وعند مسلم وأبي هريرة، عند أبي يعلى والطبراني، "وقوله: "أعجل" أسرع "الأشياء"، أي: الذنوب "عقوبة البغي"، مجاوزة الحد والتعدي بلا حق، وعقوبة تمييز محوّل عن المضاف، والبغي حذف منه المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: أسرع عقوبات الأشياء عقوبة البغي، والمعنى لكل ذنب عقوبة، لكنها قد تتأخَّر إلّا البغي، فينجز للباغي في الدنيا، إن لم يعف الله تعالى. وقد روى الطبراني في الكبير، والبخاري في التاريخ، عن أبي بكرة مرفوعًا: "اثنان يعجلهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 وقوله: "وإن من الشعر حكمًا". رواه أبو داود من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من البيان لسحرًا،   الله تعالى في الدنيا، البغي وعقوق الوالدين"، قال في الفائق: وأصل التعجيل إيقاع الشيء قبل أوانه، {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} سبقتموه، "وقوله: "وإن من الشعر حكمًا" جمع حكمة, قولًا صادقًا، "رواه أبو داود" في الأدب، "من رواية صخر بن عبد الله بن بريدة" بن الحصيب -بمهملتين- مصغَّر وصحف. من أعجم الحاء الأسلمي، "عن أبيه" عبد الله الأسلمي، أبي سهل المروزي، قاضيها, ثقة، روى له الجميع، مات سنة خمسة ومائة، وقيل: بل سنة خمس عشرة، وله مائة سنة، "عن جده" بريدة بن الحصيب بن عبد الله الحارث الأسلمي، أسلم حين مَرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا بالغميم، وأقام بموضعه حتى مضت بدر وأُحد، ثم قدم، وقيل: أسلم بعد انصرافه -عليه الصلاة والسلام- من بدر، وفي الصحيحين عنه: أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوة، ويقال: اسمه عامر، وبريدة لقب, سكن البصرة، ثم تحوَّل إلى مرو، فسكنها حتى مات سنة ثلاث وستين. "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن من البيان لسحرًا". قال البيضاوي: البيان جمع الفصاحة في اللفظ والبلاغة باعتبار المعنى، والسحر في الأصل الصرف، قال تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] ، وسمي السحر سحرًا؛ لأنه منصرف عن جهته، وقال الخطابي وابن التين: البيان نوعان: أحدهما ما يقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان، والآخر ما دخلته صنعته، تحسين اللفظ بحيث يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم، وهذا هو الذي يشبه بالسحر؛ لأن السحر صرف الشيء عن حقيقته، يعني: إن منه لنوعًا يحل من العقول والقلوب في التمويه محل السحر، فإن الساحر بسحره يزيّن الباطل في عين المسحور حتى يراه حقًّا، فكذا المتكلّم بمهارته في البيان، وتقلبه في البلاغة، وترصيف النظم يسلب عقل السامع، ويشغله عن التفكير فيه والتدبر له، حتى يخيل إليه الباطل حقًّا والحق باطلًا، فتستمال به القلوب، كما تستمال بالسحر، فشبَّه به تشبيهًا بليغًا بحذف الأداة. قال التوربشتي: وأصله أن بعض البيان كالسحر، لكنه جعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعًا، والفرع أصلًا. قال الباجي: قال قوم: وهذا خرج مخرج الذم؛ لأنه أطلق عليه سحرًا، والسحر مذموم؛ ولأن مالكًا أدخله في باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله، وقال قوم: خرج مخرج المدح؛ لأن الله أمتنَّ به على عباده، {خَلَقَ الْإِنْسَانَ, عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، وكان -صلى الله عليه وسلم- أبلغ الناس، وأفصحهم بيانًا، قال: "هؤلاء، وإنما جعله سحرًا لتعلقه بالنفس وميلها إليه". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 وإن من العلم جهلًا، وإن من الشعر حكمًا،   قال ابن العربي وغيره: حمله على الأول صحيح، لكن لا يمنع حمله على المعنى الثاني، إذا كان في تزيين الحق، وقال ابن بطال: أكثر ما يقال هذا الحديث، ليس ذمًّا للبيان كله، ولا مدحا لقوله من البيان، فأتى بمن التي للتبعيض، قال: وكيف يذمّه وقد امتنَّ الله به؟ فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ, عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . قال الحافظ: والذي يظهر أنَّ المراد به في الآية، ما يقع به الإبانة عن المراد بأيّ وجه كان لا خصوص ما نحن فيه، وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز بالمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام، هذا كله من البيان بالمعنى الثاني. نعم الإفراط في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، وهذه الجملة رواها مالك في الموطأ، وأحمد والبخاري، والترمذي، وأبو داود أيضًا من حديث ابن عمر، قال: جاء رجلان من المشرق فخطبا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا"، قال الحافظ: لم أقف على تسمية الرجلين صريحًا، وزعم جماعة أنهما لزبرقان -بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة ثم قاف, وعمرو بن اأهتم، لما رواه البيهقي وغيره عن ابن عباس، قال: جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم، أي: حين قدما في وفد تميم، ففخر الزبرقان فقال: يا رسول الله, أنا سيد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ لهم حقوقهم، وهذا، أي: عمرو يعلم ذلك، فقال عمرو: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذنيه، فقال الزبرقان: والله لقد علم مني أكثر مما قال، ما منعه إلّا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك، والله إنك لئيم الخال، حديث المثال، أحمق الوالد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت في الأولى، وما كذبت في الأخرى، لكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا"، وأخرجه الطبراني عن أبي بكرة. كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم، فقدم علينا وفد تميم، فذكر نحوه، وهذا لا يلزم منه أن يكونا هما المراد بحديث ابن عمر، فإن المتكلم إنما هو عمرو وحده، وكان كلامه في مراجعة الزبرقان، فلا يصح نسبة الخطبة إليهما إلّا على طريق التجوّز، "وإن من العلم جهلًا"، لكونه علمًا مذمومًا، فالجهل به خير من علمه، كعلوم الفلسفة، وعلم أيام الجاهلية ووقائعهم, ونحو ذلك، أو المراد أن يتعلّم ما لا يحتمل عليه، كالنجوم، وعلوم الأوائل، فيشتغل به عن تعلم ما يحتاجه في دينه من علم القرآن والسنة، فيصير علمه بما لا يعنيه جهلًا بما يعنيه، "وإن من الشعر حكمًا" بكسر الحاء وفتح الكاف- جمع حكمة، أي: قولًا صادقًا مطابقًا للحق، موافقًا للواقع، كذا ضبطه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فقال صعصعة بن صوحان: صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم   بعضهم: فإن كان رواية فصحيح ظاهر، وإلّا فقد ضبطه ابن رسلان بضم الحاء وسكون الكاف، قال في النهاية: أي: كلامًا نافعًا يمنع من الجهل والسَّفَه وينهي عنهما، قيل: أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس والحكم العلم والفقه، والقضاء بالعدل، وهو مصدر حكم يحكم، وهذا قد رواه أبو داود أيضًا، وأحمد من حديث ابن عباس بلفظه، وفي رواية البخاري: الحكمة، وهي بمعنى الحكم، وأسقط المصنف من رواية أبي داود عقب هذا ما لفظه، وإن من القول عيالًا. قال الراغب: جمع عيل لما فيه من الثقل، فكأنه أراد به الملال، فالسامع إمَّا عالم فيمل، أو جاهل فلا يفهم فيسأم، وفي النهاية هو عرض الحديث على من لا يريده، وليس من شأنه، كأنه لم يهتدي لمن يطلب علمه، فعرضه على من لا يريده. قال الخطابي: هكذا رواه أبو داود عيالًا، ورواه غيره عيلًا. قال الأزهري: من قولك: علت الضلالة أعيل عيلًا, وعيلًا إذا لم تدر أي جهة تبغيها. قال أبو زيد: كأنَّه لم يهتد إلى من يطلب علمه، فعرضه على من لا يريده. انتهى. فبيِّن -صلى الله عليه وسلم- أنَّ البيان الحسن، وإن كان محمودًا، ففيه ما يذم لكونه معربًا عن باطل، وأن العلم كذلك لما سبق، وأن الشعر وإن ذمَّ في الجملة، لكنَّه قد يكون فيه ما يحمد، لاشتماله على الحِكَم ومنه ما يعذب، يقضي له بالعجب، وتقصر عنه العامة، كالسحر الذي لا يقدر عليه كل أحد، ويسمَّى السحر الحلال، "فقال" ليس قوله حين سمع صخرًا يرويه، بل عند تحديث بريدة، فلفظ أبي داود عن صخر، عن أبيه عبد الله، قال: بينما بريدة جالس مع أصحابه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكره، فقال "صعصعة بن صوحان" بضم الصاد، وبالحاء المهملتين- العبدي، نزيل الكوفة، تابعيّ كبير، مخضرم، ثقة، فصيح، قال في الإصابة: ذكر الإمام أبو بكر الطرطوشي أنه صحابي، ولم يذكر مستنده، وما أظن ذكره لذلك إلا بالتوهم لشهرته في عصر كبار الصحابة، فله ذكر في السنن مع عمر، وقد جزم ابن عبد البر بخلاف قوله، فقال: كان مسلمًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولم يره، قلت: وله رواية عن عثمان وعلي، وشهد معه صفين، وكان خطيبًا فصيحًا، وله مع معاوية مواقف، وقال الشعبي: كنت أتعلّم منه الخطب، وروى عنه أيضًا أبو إسحاق السبيعي، والمنهال بن عمرو، وعبد الله بن بريدة، وغيرهم. مات بالكوفة في خلافة معاوية، وقيل: بعدها، وذكر العلائي: إن معاوية نفاه من الكوفة إلى جزيرة بالبحرين، وقيل: إلى جزيرة ابن كافان، فمات بها. "صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، لفظ أبي داود، فقال صعصعة -وهو أحدث القوم سنًّا: صدق الله ورسوله، ولو لم يقلها كان كذلك، فتوسمه رجل من الحلقة، فقال له بعدما تفرق القوم: ما حملك على أن قلت, ولو لم يقلها كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 أما قوله: "إن من البيان سحرًا" , فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق, فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق، وأما قوله: "إن من العلم جهلًا"، فتكلُّف العالم إلى علمه ما لا يعلم بجهله، وأمَّا قوله: "إن من الشعر حِكَمًا"، فهي هذه المواعظ والأمثال التي يتَّعظ بها الناس. ومفهومه: إن بعض الشعر ليس كذلك؛ لأن من تبعيضية, وفي البخاري:   كذلك؟ قال: "أما قوله: "إن من البيان سحرًا"، فالرجل يكون عليه الحق، وهو ألحن بالحجج"، أي: أقوى إقامة البراهين "من صاحب الحق"، إما لجودة كلامه واقتداره على تأليفه، وإما لشدة فطنته وفهمه، بحيث يتمكَّن من إقامة مدعاه، "فيسحر القوم ببيانه"، أي: يخدعهم حتى يأخذ بعقولهم بسبب ما ألفاه عليهم من الكلام المشتمل على ما يخيّل لسامعه أنه الحق لدقته، "فيذهب بالحق"، فيحل به الوعيد. فقد روى مالك، وأحمد، والستة عن أم سلمة عنه -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها، أو ليتركها"، "وأما قوله: "إن من العلم جهلًا"، فتكلف العالم إلى علمه ما لا يعلم بجهله"، أي: معه: فهو صلة تكلف، أي: إن العالم إذا سُِلَ عن شيء لا يعلمه، فتحمَّل الشقة في تحصيل الجواب عنه بلا استناد إلى حجة تهديه، ولا بناء على القواعد كان عين الجهل في الواقع، وإن كان علمًا عند الناس لحصول الجواب به صورة، وهذا جعله ابن الأثير أحد قولين في معناه، ثانيهما: أن يتعلم ما لا يحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل، ويدع ما يحتاج إليه في دينه من علم القرآن والسنة، وتقدم ثالث هو حمله على العلم المذموم، "وأما قوله: "إن من الشعر حكمًا" فهي"، أي: الحِكَم، "هذه المواعظ والأمثال التي يتَّعظ بها الناس"، ومقتضى هذا قراءته -بكسر، ففتح- ومَرَّ أن ابن رسلان ضبطه بضم، فسكون محتجًّا بتفسير النهاية، وهو أيضًا صريح قول العسكري، والمعنى: إن من الشعر ما يحثُّ على الحسن، ويمنع من القبيح؛ لأن أصل الحكم في اللغة المنع، ومنه حكمة الدابة؛ لأنها تمنعها أن تنصرف كيف شاءت، قال: وفي بعض كتب المتقدمين أحكموا سفهاءكم، أي: امنعوهم عن القبيح، انتهى. وفي المصباح: حكمة وزان قصبة، وبقيته في أبي داود، وأما قوله: "إن من القول عيالًا، فعرضك كلامك على من ليس من شأنه ولا يريده"، ومفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك؛ لأن من تبعيضية"، فقوله من الشعر، أي: بعضه، وكذا في باقيها كما مَرَّ، "وفي البخاري" من حديث أُبَيّ بن كعب، وكذا الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعًا: "إن من الشعر حكمة"، أي: قولًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 "إن من الشعر حكمة" أي: قولًا صادقًا مطابقًا للحق. قال الطبري: وفي هذا رَدٌّ على من كره الشعر مطلقًا، واحتجَّ بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان. وعن أبي أمامة -رفعه- أنَّ إبليس لما هبط إلى الأرض قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشعر. ثم أجاب عن ذلك: بأنها أحاديث واهية, وهو كذلك. فحديث أبي أمامة فيه: علي بن زيد الألهاني، وهو ضعيف. وعلى تقدير قوتها فهو محمول على الإفراد فيه والإكثار منه.   صادقًا، مطابقًا للحق"، موافقًا للواقع، والمراد جنس حكمة، فلا ينافي رواية حكمًا على أنه جمع، وأولى على أنه مصدر. "قال الطبري" الإمام ابن جرير: "وفي هذا رَدٌّ على من كره الشعر مطلقًا"، سواء كان ثناء على الله ورسوله، وذبًّا عنهما، أم لا؟ سواء كان في المسجد، أم لا؟ وثالثها، وهو الأَوْلَى التفصيل، فما اقتضى الثناء على الله ورسوله، أو الذَّبِّ عنهما، كشعر حسان، أو تضمَّن الحث على الخير، فحسن في المساجد وغيرها، وما لم يكن كذلك لم يجز؛ لأن الشعر لا يخلو غالبًا عن الكذب والفواحش، والتزين بالباطل، ولو سلم, فأقل ما فيه اللغو والهذر, والمساجد منزهة عن ذلك، والحجَّة لهذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام". رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو يعلى والطبراني بإسناد حسن، كما قال النووي: وقصر ابن بطال في جعله من كلام الشافعي، وقد عاب القرطبي المفسّر ذلك على جماعة من الشافعة، وثَمَّ أدلة سواء، "واحتجَّ" المانع مطلقًا "بقول ابن مسعود: الشعر مزامير الشيطان، و" بما جاء "عن أبي أمامة" صدي بن عجلان "رفعه, أنّ إبليس لما هبط إلى الأرض، قال: رب اجعل لي قرآنًا، قال: قرآنك الشعر، ثم أجاب" الطبري "عن ذلك بأنها أحاديث واهية"، ضعيفة جدًّا، فلا حجَّة فيها، "وهو كذلك" في جميعها، وبَيِّنَ سبب ضعف بعضها بقوله: "فحديث أبي أمامة فيه عليّ بن زيد الألهاني" بزنة الأنصاري، نسبة إلى ألهان بن مالك أخي همدان، "وهو ضعيف، وعلى تقدير قوتها"، أي: الأحاديث الواردة في ذمِّ الشعر، "فهو محمول على الإفراد فيه، والإكثار منه"، لما يئول إليه أمره من تشاغله به عن العبادة، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا"، رواه أحمد والستة، فالمراد به ما تضمَّن تشبيبًا، أو هجاء، أو مفاخرة، كما هو الغالب في أشعار الجاهلين، أو هو مخصوص بما لم يشتمل على الذكر، والزهد، والمواعظ والرقائق، مما لا إفراط فيه، وقال النووي: هو محمول على التجرُّد للشعر؛ بحيث يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر، وقال القرطبي: من غلب عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، عن عمرو بن الشريد عن أبيه، استنشدني النبي -صلى الله عليه وسلم- من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته مائة قافية. وقوله: "الصحة والفراغ نعمتان" رواه البخاري.   الشعر لزمه بحكم العادة الأدبية الأوصاف المذمومة، وعليه يحمل الحديث. وقول بعضهم: عني به الشعر الذي هجي به أو غيره، ردَّه ابن بطال بأن هجوه كفر, كثر أو قلّ، وهجو غيره حرام وإن قلَّ، فلا يكون لتخصيص الذمّ بالكثير معنى، "ويدل على الجواز أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد"، وكذا مسلم في الصحيح، فالعزو له أَوْلَى، ولا يصح الاعتذار عن المصنّف، بتجويز أنه في مسلم عن الشريد بغير تعيين الواسطة، وفي الأدب بتعيين أنه عن أبيه، فإن هذا من تجويز العقل المخالف للنقل، المؤدي لضعف الإسناد، فينافي كونه في الصحيح، فإن مسلمًا والبخاري في الأدب روياه معًا "عن عمرو بن الشريد" بفتح المعجمة- الثقفي أبي الوليد الطائفي، التابعي، الثقة، "عن أبيه" الشريد بوزن الطويل، الثقفي، الصحابي, شهد بيعة الرضوان، قيل: كان اسمه مالكًا، "استنشدني النبي -صلى الله عليه وسلم- من شع أمية بن أبي الصلت"، الذي قال فيه المصطفى: "آمن شعره وكفر قلبه"، واسم أبي الصلت: عبد الله, كان يتعبَّد في الجاهلية، ويؤمن بالبعث، وأدرك الإسلام ولم يسلم، "فأنشدته مائة قافية"، أي: بيت لما في مسلم أيضًا من حديث عمرو بن الشريد، عن أبيه, ردفت النبي -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فقال: "هل معك من شعر أمية"؟ قلت: نعم، قال: "هيه" فأنشدته بيتًا فقال: "هيه"، ثم أنشدته بيتًا، فقال: "هيه"، حتى أنشدته مائة بيت، فقال: "إن كاد ليسلم". قال القرطبي: فيه دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها، إذا تضمَّنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعًا وطبعًا، وقد أنشد كعب بن زهير للنبي -صلى الله عليه وسلم: بانت سعاد، وأتى فيها من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، وتشبيه ريقها بالراح، ولم ينكر عليه. "وقوله: "الصحة والفراغ نعمتان"، قال العسكري: الصحة عند بعضهم الشباب، والعرب تجعل مكان الصحّة الشباب، كما قالوا بالقلب الفارغ، والشباب المقبل تكسب الآثام، إن يكن الشغل محمده، فالفراغ مفسدة، ولا تفرغ قلبك من فكر، ولا ولدك من تأديب، ولا عبدك عن مصلحة، فإن القلب الفارغ يحث على السوء، واليد الفارغة تنازع إلى الآثام، وقال ابن دريد: أفضل النعم العافية والكفاية؛ لأن الإنسان لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا، والعافية هي الصحة، ومن عوفي وكفي فقد عظمت عليه النعمة، "رواه البخاري" تسمح في غزوه بهذا اللفظ له، فلفظه في كتاب الرقائق عن ابن عباس، قال -صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 .................................   والفراغ". قال في فتح الباري: كذا لسائر الرواة، لكن عند أحمد: "الفراغ والصحة"، أخرجه أبو نعيم في المستخرج بلفظ: "الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس"، وأخرجه الدارمي عن مكي بن إبراهيم، شيخ البخاري، فيه بلفظ: "إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله"، والباقي سواء انتهى فما عزاه المصنف للبخاري، إنما هو لفظ أبي نعيم في مستخرجه ونقض باقيه. قال الحافظ: والغَبْن بالسكون والتحريك، وقال الجوهري: هو في البيع بالسكون، في الرأي بالتحريك، وعلى هذا، فيصح كل منهما في هذا الخبر، فإن من لا يستعملهما فيما ينبغي، فقد غبن لكونه باعهما ببخس، ولم يجد رأيه في ذلك. قال ابن بطال: معنى الحديث: إن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكفيًا صحيح البدن، فمن حصل له ذلك، فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه، ومِنْ شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فمن فرَّط في ذلك فهو المغبون، وأشار بقوله: "كثير من الناس" إلى أن الذي يوفق لذلك قليل. وقال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكو غنيًّا، ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعتا، فغلب عليه الكسل من الطاعة، فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة للآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله، فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله، فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلّا الهرم، كما قيل: يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة تفعل ترد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا رام القيام ويحمل وقال الطيبي: ضرب -صلى الله عليه وسلم- للمكلف مثلًا بالتاجر الذي له رأس مال، فهو يبغي الربح مع سلامة رأس المال، فطريقه أن يتحرَّى فيمن يعامله، ويلزم الصدق والحذق لئلَّا يغبن، فالصحة والفراغ رأس المال، فينبغي له أن يعامل الله بالإيمان، ومجاهدة النفس، وعدو الدين ليربح خيري الدنيا والآخرة، وقريب منه قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] الآيات، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس، ومعاملة الشيطان؛ لئلَّا يضيّع رأس ماله مع الربح، وقوله: "مغبون فيهما كثير من الناس"، كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في أول نعمة الله على العبد، فقيل: الإيمان، قيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 وقوله -صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على الحاجات بالكتمان, فإن كل ذي نعمة محسود". رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه،   الحياة، وقيل: الصحة. والأَوَّل أَوْلَى؛ فإنه نعمة مطلقة، وأمَّا الحياة والصحة، فإنهما نعمة دنيوية، ولا تكون نعمة حقيقية إلّا إذا صاحبها الإيمان، وحينئذ يغبن فيهما كثير من الناس، أي: يذهب ربحهم، أو ينقص، فمن استرسل مع نفسه الأمَّارة بالسوء، الخالدة إلى الراحة، فترك المحافظة على الحدود، والمواظبة على الطاعة، فقد غبن، وكذلك إذا كان فارغًا، فإنَّ المشغول قد يكون له معذرة، بخلاف الفارغ، فإنه يرتفع عند المعذرة، وتقوم عليه الحجة، انتهى. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "استعينوا على" قضاء "الحاجات بالكتمان". بالكسر، أي: إخفائها عن الغير، مستعينين بالله على الظفر بها، فالكتمان وإن كان سببًا عاديًا لقضائها، لكنَّه في الحقيقة لله، وعلل ذلك بقوله: "فإن كل ذي نعمة محسود"، فإن أظهرتم حوائجكم للناس حسدوكم، فعارضوكم في أمركم. قال السخاوي وغيره: والأحاديث الواردة في التحدّث بالنعم محمولة على ما بعد وقوها، فلا تعارض هذا، نعم إن ترتَّب على التحدث بها حسد، فالكتمان أَوْلَى. انتهى. قال الراغب: وإذاعة السر من قلة الصبر وضيق الصدر، ويوصف به ضعفة الرجال والنساء والصبيان، وسبب صعوبة كتمان السر أن للإنسان قوتين: آخذة ومعطية، وكلتاهما متسوفة إلى الفعل المختص به، ولولا أنَّ الله وكَّل المعطية بإظهار ما عندها، لما أتاك بالأخبار من لم تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يمسكها، ولا يطلقها إلا حيث يجب إطلاقها، "رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة عن معاذ بن جبل رفعه"، لكن بلفظ: "استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان"، والباقي سواء، كما عزاه السخاوي للمعاجيم الثلاثة، ومثله للسيوطي، وفي شرحه: إن لفظ الطبراني "استعينوا على قضاء حوائجكم"، فلعل في الطبراني روايات، وكذا أخرج الحديث البيهقي في الشعب، وأبو نعيم، وابن أبي الدنيا، والعسكري، والقضاعي، وابن عدي, كلهم عن معاذ، وفيه عند الجميع سعيد بن سلام العطار، كذَّبه أحمد وغيره، وقال فيه العجلي: لا بأس به، ولكن أخرجه العسكري أيضًا من غير طريقه، بسند ضعيف مع انقطاعه بلفظ: "استعينوا على طلب حوائجكم بالكتمان لها، فإن لكل نعمة حسدة، ولو أنَّ أمرأ كان أقوم من قدح، لكان له من الناس غامزًا"، ويستأنس له بما أخرجه الطبراني في الأوسط، عن ابن عباس، مرفوعًا: "إن لأهل النعم حسادًا فاحذروهم" في الباب عن جماعة منهم: عمر عند الخرائطي، وابن عباس عند الخطيب، فلا يسوغ دعوى وضعه، كما صنع ابن الجوزي، وقد جزم الحافظ العراقي، بأنه ضعيف فقط، ومنهم: علي، كما أفاده بقوله، "وأخرجه الخلعي". بكسر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 وأخرجه الخلعي عن علي مرفوعًا: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها". وقوله: "المكر والخديعة في النار". رواه الديلمي عن أبي هريرة، ومعناه: إن ذا المكر والخداع لا يكون تقيًّا ولا خائفًا لله؛ لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وإذا فعلهما أوبق, وهذا لا يكون في تقيّ، فكلُّ خِلَّة جانبت التقى فهي في النار.   الخاء، وفتح اللام، نسبة إلى بيع الخلع, أبو الحسن بن الحسن بن الحسين، له الخلعيات في عشرين جزء، "عن علي مرفوعًا: "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان لها"، فمن كتم سره ملك أمره، كما قيل، وليس بحديث. وقال الشافعي: من كتم سِرَّه كانت الخيرة في يده، قال: وروي لنا عن عمرو بن العاص أنه قال: ما أفشيت إلى أحد سرًّا، فأفشاه, فلمته؛ لأني كنت أضيق منه سرًّا، وأخذ من الحديث أن على العقلاء إذا أرادوا التشاور في أمر إخفاء التحاور فيه, والاجتهاد في طي سرهم. قال حكيم: من كتم سِرَّه كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه، وكم من إظهار سِرٍّ أراق دم صاحبه، ومنع من بلوغ مآربه، ولو كتمه كان من سطواته آمنًا, ومن عواقبه سالمًا، وبنجاح حوائجه فائزًا. وقال بعضهم: سرك من دمك، فإذا تكلمت به فقد أرقتهنّ. وقال أنوشروان: من حصَّن سره فله بتحصينه خصلتان: الظفر بحاجته، والسلامة من السطوات. وفي منثور الحكم: انفرد بسرِّك، ولا تودعه حازمًا فيزول، ولا جاهلًا فيحول، لكن من الأسرار ما لا يُسْتَغْنَى فيه عن مطالعة صديق، ومشورة ناصح, فيتحرى له من يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فما كل من كان أمينًا على الأموال أمينًا على الأسرار، والعِفَّة عن المال أيسر من العفة عن السر. "وقوله" صلى الله عيه وسلم: "المكر والخديعة في النار"، رواه الديلمي عن أبي هريرة"، والقضاعي عن ابن مسعود به, زاد الثاني: "ومن غشنا فليس منَّا"، وفي الباب غيرهما، ونحوه: "ليس منَّا من ضارَّ مسلمًا، أو ماكره" رواه الترمذي، "ومعناه" كما قال العسكري: "إن ذا"، صاحب "المكر والخداع لا يكون تقيًّا، ولا خائفًا لله؛ لأنه إذا مكر" أضمر السوء لغيره، "غدر" به، فنقض عهده ولم يف به، "وإذا غدر خدع" أوصل المكروه للغير من حيث لا يعلم، "وإذا فعلهما أوبق" نفسه، أي: أهلكها، "وهذا" الفعل لا يكون في تقيٍّ, فكل خلة" بالفتح- خصلة "جانبت التقى، فهي في النار"، أي: صاحبها، ومقتضى هذا تغاير المكر للخديعة؛ لأنه جعل المكر سبب الغدر، وهو سبب الخديعة والسبب مغاير للمسبب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 وقوله: "من غَشَّنَا فليس منا". رواه مسلم في صحيحه عن حديث أبي هريرة. وقوله: "المستشار مؤتمن".   وفي القاموس: وغيره المكر الخديعة، والجواب: إنه جَرَّدَ المكر عن معناه، كما ذكرنا، فلا يخالف ترادفهما. وقال الراغب: المكر والخديعة متقاربان، وهما اسمان لكل فعل يَقْصِدُ فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره، ويكون سيئًا, كقصد إنزال مكروه بالمخدوع، وإياه قصد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحديث، ومعناه: يؤديان بقاصدهما إلى النار ويكون حسنًا، وهو أن يقصد فاعلهما مصلحة بالمخدوع والممكور به، كما يفعل بالصبي إذا امتنع من فعل خير، ولكونهما ضربين, قال تعالى: {الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [فاطر: 10] ، {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} ، {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ، ووصف نفسه بالمكر الحسن، فقال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] ، [الأنفال: 30] . "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "من غشنا"، أي: لم ينصحنا، وزَيِّن لنا غير المصلحة, "فليس منَّا"، أي: ليس على طريقنا ومنهاجنا؛ لأنَّ طريقتنا الزهد في الدنيا، والرغبة عنها، وعدم الرغبة والطمع، الباعثين على الغش. قال الطيبي: لم يرد به نفيه عن الإسلام، بل نفي خلقه عن أخلاق المسلمين، أي: ليس هو على سنتنا وطريقتنا من مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك، يريد الموافقة والمتابعة، قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- لما مَرَّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فابتليت أصابعه، فقال: "ما هذا"؟ قال: أصابته السماء، قال: "أفلا جففته فوق الطعام ليراه الناس"، ثم ذكر الحديث. "رواه مسلم في صحيحه عن حديث أبي هريرة" بزيادة: "ومن حمل علينا السلاح فليس منَّا"، وفي رواية له أيضًا: "من غش فليس مني"، وأخرجه العسكري بلفظ الترجمة، وزاد: قيل: يا رسول الله, ما معنى ليس منَّا، فقال: "ليس مثلنا". وعند أبي نعيم والطبراني في الكبير والصغير برجال ثقات عن ابن مسعود رفعه: "من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار"، أي: صاحبهما يستحق دخولها إن لم يعف الله؛ لأن الداعي إلى ذلك الحرص والشح والرغبة في الدنيا، وذلك يجر إلى النار، وأخذ الذهبي أن الثلاثة من الكبائر، فعدَّها منها، وللدارقطني بسند ضعيف عن أنس: "من غش أمتي فعليه لعنة الله". "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتَمَن"، أي: أمين على ما استشير فيه، ولذا احتاج كالناصح إلى كونه أمينًا مجربًا حازمًا ناصحًا، ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلوّن في رأيه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 رواه أحمد وغيره. ومعناه: إن من أفضى إليك بسرِّه وآمنك على ذات نفسه, فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلّا بما تراه صوابًا،   ولا كاذب في مقاله، فارغ البال وقت الاستشارة، ولذا قيل: إنهما يحتاجان إلى علم كبير كثير، فيحتاج أولًا إلى علم الشريعة، وهو العلم المتضمِّن لأحوال الناس، وعلم الزمان والمكان، وعلم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور، فقد يكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان، وهكذا، فينظر إلى الترجيح، فيفعل بحسب الأرجح عنده، مثاله: أن يضيق الزمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال، فيشير بأهمها، وإذا عرف من حال إنسان المخالفة، وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضده، أشار عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمَّى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة، الشاردة عن طريق مصالحها، فلذا يحتاج المشير والناصح إلى علم وعقل، وفكر صحيح وروية حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة وتأنٍّ، فإن لم يجمع هذه الخصال فخطؤه أسرع من إصابته، فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة. قال الراغب: والاستشارة استنباط الرأي من غيره، فيما يعرض من المشكلات، ويكون في الأمور الجزئية التي يتردَّد فيها بين فعل وترك ونعمت العدة هي. قال علي: المشاورة حصن من الندامة، وأمن من الملامة، ويقال: الأحمق من قطعه العجب ع الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، "رواه أحمد" من حديث ابن مسعود بزيادة: وهو بالخيار إن شاء تكلّم، وإن شاء سكت، فإن تكلَّم فليجتهد رأيه، "وغيره" كأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، والترمذي عن أم سلمة، والطبراني عن سمرة بزيادة: إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر، والقضاعي عنه بلفظ: "المستشار مؤتمن، فإن شاء أشار، وإن شاء سكت، فإن أشار فليشر بما لو نزل به لفعله، والطبراني عن عليٍّ وزاد: فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه، وللعسكري عن عائشة: المستشير معان، والمستشار مؤتمن، فإذا استشير أحدكم فليشر بما هو صالح لنفسه، وفي الباب جابر بن سمرة، وأبو الهيثم، وابن عباس، وآخرون. قال السيوطي: وهو متواتر، "ومعناه"، كما قال العسكري: "إن من أفضى إليك بسرِّه، وآمنك على ذات نفسه"، إضافة بيانية إن أريد بالذات النفس، ومن إضافة المحل للحال حقيقة، أو اعتبارًا على أن النفس الروح، أو جوهر مجرَّد خارج عن البدن، متعلق به تعلق التدبير، "فقد جعلك بموضع نفسه، فيجب عليك أن لا تشير عليه إلا بما تراه صوابًا"، وهذا صادق بالترك مع العلم بالصواب؛ إذ المعنى: إذا أشرت فلا تشر إلا بالصواب، وهو مدلول سين الطلب في المستشار، وأصرح منه قوله: وهو بالخيار.. إلخ، فإنه صريح في أنه لا يجب؛ لأنه لم يتعين عليه ما لم يتحقق بالترك ضرر المحترم من نفس، أو مال، أو عرض، وإلّا تعيِّنَ نصحه، بل لو علمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا الثقة في نفسه، والسر الذي ربما كان في إذاعته تلف النفس أَوْلَى بأن لا يجعل إلّا عند الموثوق به. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة" رواه الطبراني في الكبير.   وجب، وإن لم يستشره، كما تفيده أدلة أخرى: كـ "الدين النصيحة"، و "لا ضرر ولا ضرار"، بل وأدلة خاصة كقوله: فليشر، بلام الأمر، وهو للوجوب. وقد روى ابن ماجه والخرائطي، وغيرهما عن جابر مرفوعًا: "إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه بما هو الأصلح، وإلا فقد خانه"، فقوله: وإلا صادق بما إذا ترك مع علم الأصلح، وما إذا أشار بغيره على أن حديث الخيار يمكن تأويله بأن معناه: فعل ما ظهر له أنه الخيار من السكوت والنصح، لا أنه يخير بينهما، وإن ظهر له الأصلح، "فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلّا الثقة في نفسه، والسر الذي ربما كان في إذاعته" إفشائه "تلف النفس أَوْلَى بأن لا يجعل إلّا عند الموثوق به"، فيجب عليه بذل النصح إن تعيِّن، فيذكر الأخف من عيوب المستشار فيه إن لم يكتف، وإلّا استوعب مراعيًا في بيانها الأخفّ، فالأخف فإن لم يكتف إلّا بأعظمها ذكره. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة"، أي: الحزن على ما فعله، أو كراهته له بعد فعله من حيث كونه تارًا فيه لإجلال الله، ومخالفًا أمره أو نهيه، إمَّا لافتضاح، أو مرض، أو عقاب, ونحو ذلك، فليس توبة، بل قد يكون معصية؛ لأنه لولا مراقبة الناس لم يكن عنده حرج من فعل المعصية، ثم المعنى: إنه معظم أركانها؛ لأنه شيء يتعلق بالقلب والجوارح تبع له، فإذا ندم القلب انقطع عن المعاصي، فرجعت برجوعه، وليس المراد أنَّ الندم وحده كافٍ فيها، فهو نحو: "الحج عرفة". قال الغزالي: إنما نَصَّ على أنه توبة، ولم يذكر جميع شروطها ومقدماتها؛ لأن الندم غير مقدور للعبد؛ لأنه قد يندم على أمر وهو يريد أن لا يكون، والتوبة مدورة له، مأمور بها، فعلم أن في الحديث معنًى لا يفهم من ظاهره، وهو أنَّ الندم لتعظيم حقوق الله وخوف عقابه مما يبعث على التوبة النصوح، فإذا ذكر مقدماتها الثلاث، وهي ذكر غاية قبح الذنب، وذكر شدة عقوبة الله وأليم غضبه، وذكر ضعف العبد وقلة حيلته يندم, ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب، وتبقى ندامته بقلبه في المستقبل، فيحمله على الابتهال والتضرُّع، ويجزم بعدم العود، وبذلك تتمّ شروط التوبة الأربعة، فلمَّا كان من أسبابها سماه باسمها، "رواه الطبراني في الكبير"، وأبو نعيم في الحلية عن أبي سعيد الأنصاري بزيادة: "والتائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وسنده ضعيف، وأخرجه ابن ماجه، والطيالسي عن ابن مسعود بلفظ الترجمة فقط، ورجاله ثقات، بل قال الحافظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 وقوله: "الدالّ على الخير كفاعله". رواه العسكري وابن جميع، ومن طريقه المنذري عن ابن عباس في حديث مرفوع بلفظ: "كل معروف صدقة   في الفتح: سنده حسن. قال السخاوي: يعني لشواهده، وإلّا فأبو عبيدة لم يسمع من ابن مسعود، انتهى، وقد رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي عن أنس بلفظ الترجمة فقط، وفي الباب ابن عباس، وأبو هريرة، وغيرهما. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الدالّ على الخير"، شامل لجميع أنواع الخصال الحميدة، "كفاعله"، فإن حصل ذلك الخير فله مثل ثوابه، وإلا فله أجر دلالته، وقد ذهب جمع منهم: عياض، وتبعه النووي إلى أنّ المثل بلا تضعيف؛ لأن الدالّ لم يفعله. قال في المفهم: وليس كما قال، بل ظاهر اللفظ المساواة، ووجهه أنَّ أجر الأعمال إنما هو بفضل الله، يهبه لمن يشاء، على أنَّ فعل شاء, وجاء في الشرع في ذلك كثير، وقال الأبي: ظاهر الحديث المساواة، وقاعدة: إن الثواب على قدر المشقة تقتضي خلافه؛ إذ من أنفق عشرة دراهم ليس كمن دَلَّ، ويدل عليه أن من دَلَّ إنسانًا على قتل آخر يعزّر، ولا يقتص منه. قال شيخنا: وقد يقال: التشبيه في أصل الثواب، ولا يلزم منه التساوي في مقداره، وقد يقترن به ما يربو بسببه ثواب الدالّ على الفاعل، كما لو ترتَّبَ على دلالته خير لغير من دله، كأمره -صلى الله عليه وسلم- بالإيمان والطاعة امتثالًا لقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، فإن ترتَّبَ على تبليغه ما لا يعلم قَدْرَه إلا الله، مع مخالفة كثير من المأمورين فيما أمر به، "رواه العسكري" والبيهقي في الشعب "وابن جميع، ومن طريقه المنذري عن ابن عباس في حديث مرفوع بلفظ: "كل معروف صدقة"، أي: كل ما يفعل من البر فثوابه كثواب المتصدق بالمال، والمعروف لغة: ما عرف, وشرعًا: قال ابن عرفة: الطاعة, ولما تكرر الأمر في الكتاب والسنة بالصدقة مالت إليها القلوب، فأخبرهم بأنَّ كل طاعة من قول، أو فعل أو بذل صدقة، يشترك فيها المتصدقون، حثًّا منه للكافّة على المبادرة إلى فعل المرء طاقته، وسميت صدقة؛ لأنها من تصديق الوعد بنفع الطاعة عاجلًا وثوابها آجلًا. وقال البيضاوي: المعروف في اصطلاح الشرع: ما عرف فيه حسنه، وبإزائه المنكر: وهو ما أنكره وحرمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 والدالُّ على الخير كفاعله, والله يحب إغاثه اللهفان". والمعنى: إن من دلَّك على خير وأرشدك إليه فنلته بإرشاده فكأنه فعل ذلك الخير. وقوله: "حبك للشيء يعمي ويصم" رواه أبو داود والعسكري من حديث بقية   وقال الراغب: المعروف اسم لكل ما عرف حسنه في الشرع والعقل معًا، ويطلق على الاقتصاد لثبوت النهي عن السرف. وقال ابن أبي جمرة: يطلق المعروف على ما عرف بأدلة الشَّرع أنه من عمل البرِّ، جرت به العادة أم لا. وقال الماوردي: المعروف نوعان: قول وعمل، فالقول طيب الكلام وحسن البر والتودد بجميل القول، والباعث عليه حسن الخلق ورِقَّة الطبع، لكن لا يسرف فيه، فيكون ملقًا مذمومًا، وإن توسَّط واقتصد، فهو بر محمود، والعمل بذل المال والإسعاف بالنفس، والمعونة بالنائبة, والباعث عليه حب الخير للناس, وإيثارًا لصلاح لهم, وليس في هذه الأمور سرف, ولا لغايتها حد، بخلاف الأولى، فإنها وإن كثرت أفعال تعود بنفعين، نفع يعود على فاعلها باكتساب الأجر، وجميل الذكر، ونفع المعان بها في التخفيف والمساعدة، فذلك سمَّاه صدقة، "والدال على الخير كفاعله، والله يحب إغاثة اللهفان"، المكروب المتحيِّر في أمره، وأخرج ذا الحديث بتمامه الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، والعسكري، وأحمد، وأبو يعلى عن بريدة بلفظ الترجمة، وزيادة: "والله يحب إغاثة اللهفان"، والبزار عن أنس بلفظ: "الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله"، أي: لإعانته عليه، فعليه كفل من الإثم، وإن لم يحل بمباشرته، وعزوه للبزار عن ابن مسعود سهو، إنما هو عن أنس، ورواه مسلم بمعناه عن ابن مسعود بلفظ: "مَنْ دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله". وقال أبو الدرداء: الدال على الخير وفاعله شريكان، أخرجه ابن عبد البر، "والمعنى: إن من دلك على خير وأرشدك إليه فنلته بإشادة، فكأنَّه فعل ذلك الخير"، فيثاب كثواب الفاعل، أو أقلّ، أو أزيد على ما سبق، ومقتضى قوله: فنلته لو لم تنله لمانع، أو عدم إرادة الفعل، لا يكون له مثل ثواب الفعل، ومقتضى الحديث الإطلاق، ولا مانع منه. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "حبك للشيء" بلام ودونها روايتان "يعمي" عن عيوب المحبوب، "ويصم" عن سماعها، فلا تبصر قبيح فعله، ولا تسمع فيه نهي ناصح، بل ترى قبيحه حسنًا، وتسمع منه الجفاء قولًا جميلًا، أو المعنى: يعمي ويصم عن طريق الآخرة، أو عن طريق الهدى، وفائدته: النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه، "رواه أبو داود والعسكري من حديث بقية" بموحدة فقاف "ابن الوليد" بن صائد بن كعب الكلاعي، صدوق، كثير التدليس عن الضعفاء، مات سنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 ابن الوليد، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبيه مرفوعًا، ولم ينفرد به بقية, بل توبع عليه. وابن أبي مريم ضعيف. وقد حكم الصغاني عليه بالوضع. وتعقَّبه العراقي وقال: ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن. وقال العسكري: أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ من الحب ما يعميك عن طريق الرشد، ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمَّه حبه عن العدل وأعماه عن الرشد فلا، ولذا قال بعض الشعراء:   سبع وتسعين ومائة، وله سبع وثمانون سنة، "عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم" الغسَّاني الشامي، وقد ينسب إلى جده، قيل: اسمه بكير، وقيل: عبد السلام, ضعيف، وكان قد سُرِقَ بيته فاختلط، مات سنة ست وخمسين ومائة. روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، "عن خالد بن محمد الثقفي"، الدمشقي، نزيل حمص، ثقة، "عن بلال بن أبي الدرداء" الأنصاري، قاضي دمشق، ثقة, مات سنة اثنتين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، "عن أبيه" الصحابي الجليل المشتهر بكنيته، وفي اسمه خلف "مرفوعًا" إليه -عليه الصلاة والسلام، "ولم ينفرد به بقية، بل توبع عليه"، فتابعه شريح بن يزيد، ومحمد بن حرب عند العسكري، ويحيى البابلي عند القضاعي، وعصام بن خالد ومحمد بن مصعب عند أحمد في مسنده، "وابن أبي مريم ضعيف، وقد حكم الصغاني عليه بالوضع، وتعقَّبه العراقي، وقال ابن أبي مريم: لم يتهمه أحد بكذب"، إنما سُرِقَ له حلي، فأنكر عقله, وضعفه غير واحد، "ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن" على رأي ابن الصلاح، فيما سكت عليه أبو داود. "وقال العسكري: أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ من الحب ما يعميك" أيها المحب "عن طريق الرشد، ويصمّك عن استماع الحق، وإن الرجل إذا غلب الحب على قلبه، ولم يكن له رادع" مانع "من عقل، أو دين أصمَّه حبه"، أي: جعله كالأصم "عن العدل"، اللوم لا يسمعه فيه، "وأعماه عن الرشد، فلا" يبصر فيه عيبًا، بل يرى مساويه، وما يسمعه فيه محاسن، والحب لذة يعمي عن رؤية غير المحبوب، ويصم عن سماع العدل فيه، وإذا استولت على القلب سلبته عن صفاته، "ولذا قال بعض الشعراء: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا أشار إليه شيخنا السخاوي في المقاصد الحسنة. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "العارية مؤادَّة والمنحة مردودة, والدَّيْن مقضي والزعيم غارم" رواه الترمذي وأبو داود. وقوله: "سبقك بها عكاشة   لكن هنا بمعنى الواو لا للاستدراك؛ إذ لا يتوهم من كون عين الرضا كليلة، أن تكون عين السخط كذلك حتى يستدل، وأنشده غيره، كما أنَّ وهو واضح، "أشار إليه شيخنا السخاوي في المقاصد الحسنة"، وزاد على ما هنا، وعن ثعلب، قال: تعمي العين عن النظر إلى مساويه، وتصمّ الأذن عن استماع العذل فيه، وأنشأ يقول: وكذبت طرفي في فيك والطرف صادق ... وأسمعت أذني فيك ما ليس يسمع وقيل: تعمى وتصم عن الآخرة، وفائدته: النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه، انتهى. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "العارية مؤادة"، أي: واجبة الرد على مالكها عينًا حال الوجود، وقيمة عند التلف عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: هي أمانة في يده لا تضمَّن إلا بالتعدي، وقال مالك، إن خفي تلفها ضمن، وإلا فلا، "والمنحة" بالكسر: شاة أو ناقة- يعطيها صاحبها رجلًا يشرب لبنها، ثم يردها إذا انقطع اللبن "مردودة" إلى مالكها؛ لأنه لم يعطه عينها بل لبنها، فإذا مضت أيامه ردّها، "والدَّيْن" بفتح الدال "مقضيّ" إلى صاحبه، أي: صفته اللازمة هي القضاء وجوبًا، وعَبَّر فيه بالقضاء، وفيما قبله بالرد؛ لأن المردود بدل الدَّيْن لا نفسه، "والزعيم"، أي: الكفيل، يعني الضمين، "غارم" لما ضمنه بمطالبة المضمون له، سواء كان عن ميت لترك وفاء أم لا، عند الشافعي ومالك، خلافًا لأبي حنيفة؛ لأنه قول عام على تأسيس القواعد، فحمل على عمومه، فإن كانت الكفالة بالبدن فلا غرم عند الشافعي مطلقًا، كمالك إن أحضره وإلا غرم، وهل لو أثبت عدمه تردد، "رواه الترمذي" وابن ماجه في الوصايا، "وأبو داود" في البيع، وأحمد، كلهم عن أبي أمامة، ورجاله ثقات، وأورده الضياء في المختارة، وضعَّفه ابن خرم، فلم يصب، قاله الحافظ في تخريج الرافعي، وهو يرد جزمه في تخريج الهداية بضعفه. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "سبقك بها" أي: الفضيلة التي هي دخول الجنة بغير حساب "عكاشة" بشد الكاف في الأَشْهَر. قال القرطبي: لم يره أهلًا لذلك، فأجابه بهذا الجواب، وقد ضرب المثل به، فيقال لمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 رواه البخاري. وقوله: "عجب ربك من كذا". روي من عدة روايات عند البخاري وغيره, ومعناه كما قال ابن الأثير: عظم ذلك عنده وكبر لديه، أَعْلَمَ الله أنه إنما يتعجّب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده وخفي عليه سببه، فأخبرهم بما يعرفون ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده. وقيل: معنى "عجب ربك" أي: رضي وأثاب، فسمَّاه عجبًا مجازًا وليس بعجب في الحقيقة, والأول الوجه. وقوله: "قُتِلَ صبرًا"   سبق في الأمر "سبقك بها عكاشة"، "رواه البخاري" ومسلم، كلاهما عن ابن عباس، في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عكاشة: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم"، فقام آخر فذكره. "وقوله: "عجب ربك من كذا"، روي من عدة روايات عند البخاري، وغيره، ومعناه كما قال ابن الأثير: عظم ذلك عنده وكبر" بضم الباء "لديه" عطف تفسير، "أَعْلَمَ الله" عباده على لسان رسوله؛ "أنه" أي: الشأن والحال "إنما يتعجَّب الآدمي من الشيء إذا عظم موقعه عنده" مصدر ميمي، أي: وقوعه، أو اسم مكان، أي: محل وقوعه، ومنه موقع الغيث: موضعه الذي يقع فيه، "وخفي عليه سببه"، وذلك محال على الله، "فأخبرهم بما يعرفون، ليعلموا موقع هذه الأشياء عنده"، أي: مقدارها شرفًا ومكانة، فيسارعوا إليها، "وقيل: معنى "عجب ربك" أي: رضي وأثاب، فسمَّاه عجبًا مجازًا"؛ لأن صفات العباد إذا أطلقت على الله أريد بها غاياتها، فغاية التعجّب من الشيء الرضى به، واستعظام شأنه، "وليس بعجب في الحقيقة"؛ لأنه أمر جائز, وواقع القدرة صالحة التعلق بأعظم منه، "والأول الوجه"؛ لأن التعجب من الشيء إنما يستلزم استعظامه عند المتعجّب، ولكنه قد يصرف للمخاطب إذا منع نسبته للمتكلم به مانع، كنسبته إلى الله تعالى؛ إذ التعجب انفعال النفس، لزيادة وصف في المتعجب منه، نحو: ما أشجعه، ونحو: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} ، إنما هو بالنظر للسامع، نقله المصباح عن بعض النحاة، وقال: التعجب يستعمل على وجهين: أحدهما: ما يحمده الفاعل، ومعناه: الاستحسان والإخبار عن رضاه به، والثاني: ما يكرهه، ومعناه: الإنكار والذمّ له، ففي الاستحسان يقال: أعجبني بالألف، وفي الذمِّ والإنكار: عجبت, وزن تعبت. "وقوله: "قُتِلَ صبرًا"، هو أن يمسك، ثم يرمي بشيء حتى يموت، وكل من قتل في غير معركة، ولا حرب، ولا خطأ، فإنه مقتول صبرًا، كما في النهاية "رواه غير واحد"، وروى البزار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 رواه غير واحد. وقوله: "ليس المسئول بأعلم من السائل" رواه مسلم وغيره. وقوله: "ولا ترفع عصاك عن أهلك أدبًا" رواه أحمد، أي: لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة الله تعالى، يقال: شق العصا، أي: فارق الجماعة، وليس المراد: الضرب العصا، ولكنَّه جعله مثلًا، وقيل معناه: لا تغفل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قاله ابن الأثير.   عن أبي هريرة رفعه: "قُتِلَ الرجل صبرًا كفارة لما قبله من الذنوب"، وعنده أيضًا بسند رجاله ثقات عن عائشة مرفوعًا: "قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه". "وقوله" -صلى الله عليه وسلم- جوابًا لقول جبريل: ما الساعة؟ فقال -صلى الله عليه وسلم: "ليس المسئول"، زاد في رواية عنها "بأعلم من السائل"، زيدت الباء في أعلم لتأكيد معنى النفي، والمراد: نفي علم وقتها؛ لأن علم مجيئها مقطوع به، فهو علم مشترك، وهذا وإن أشعر بالتساوي في العلم؛ إلّا أنَّ المراد التساوي في العلم بأن الله استأثر بعلم وقت مجيئها، وليس السؤال عنها ليعلم الحاضرين، كالأسئلة السابقة، بل لينزجروا عن السؤال عنها، كما قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] ، فلما وقع الجواب كفوا، وهذا السؤال والجواب وقعا بين عيسى وجبريل أيضًا، لكن عيسى هو السائل. روى الحميدي في نوادره عن الشعبي، قال: سأل عيسى بن مريم جبريل عن الساعة، فانتقض بأجنحته، وقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، "رواه مسلم" من حديث عمر "وغيره"، كالبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، ولم يخرج البخاري حديث عمر لاختلاف فيه على بعض رواته. "وقوله" -صلى الله عليه ولم: "لا ترفع عصاك عن أهلك أدبًا" رواه أحمد، أي: لا تدع تأديبهم وجمعهم على طاعة الله تعالى" بأيِّ وجه كان، فمن يتأدَّب ويطيع بنحو التقريع، أو مجرد الأمر بذلك لم يحتج لضربه، وذلك من مشمول الحديث؛ لأنه "يقال" لغة "شقَّ العصا، أي: فارق الجماعة، وليس المراد الضرب بالعصا، ولكنه جعله مثلًا، وقيل معناه: لا تغفل عن أدبهم ومنعهم من الفساد، قال ابن الأثير"، ومن تأديبهم تعليق السوط. روى البخاري في الأدب المفرد، عن ابن عباس رفعه: "علق سوطك حيث يراه أهلك"، وروى أبو نعيم عن ابن عمر، والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه آَدِبٌ لهم"، وعن جابر رفعه: "رحم الله رجلًا علَّق في بيته سوطًا يؤدّب به أهله"، وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 وقوله: "إنما مما ينبت الربيع ما يقتل حبطًا أو يلم" رواه البخاري،   سنده عباد بن كثير وهو ضعيف، ذكره السخاوي. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "إن مما ينب" بضم التحتية- من الإنبات "الربيع" فاعل "ما"، أي شيئًا، أو إنباتًا "يقتل" قتلًا "حبطًا" بمهملتين بينهما موحدة مفتوحات- نصبه على التمييز، أو مفعول مطلق، "أو يلم" بضم التحتية وكسر اللام، وشد الميم- يقرب من الهلاك، والمعنى: يقتل في الآخرة بدخول النار، وفي الدنيا بأذى الناس وحسدهم له، وغير ذلك من أنواع الأذى، "رواه البخاري" ومسلم في الزكاة، والبخاري أيضًا، والنسائي في الرقاق، كلهم عن أبي سعيد الخدري مطولًا في حديث، ولفظ البخاري في الرقاق: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض"، قيل: وما بركات الأرض؟ فقال: "زهرة الدنيا"، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر، فصمت النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ظنَنَّا أنه لن ينزل عليه، ثم جعل يمسح جبينه، فقال: "أين السائل"؟ قال: أنا، قال بو سعيد: لقد حمدناه حين طلع ذلك، قال: "لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع، ويقتل حبطًا، أو يلم إلّا أكلة الخضرة، أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاه استقبلت الشمس، وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت, وإن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقّه وضعه في حقه، فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل، ولا يشبع"، وأخرجه في الزكاة من طريق آخر عن عطاء، عن أبي سعيد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا زينتها"، فقال رجل: أَوَيأتي الخير بالشر؟ فسكت، فذكر الحديث. وقال في آخره: "وإن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحبه المسلم ما أعطى منه المسكين، واليتيم، وابن السبيل"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم: "وإنه من يأخذه بغير حقه، كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة"، وقوله: "هل يأتي الخير بالشر"؟ أي: هل تصير النعمة عقوبة؛ لأن زهرة الدنيا نعمة من الله، فقال: "لا يأتي الخير إلا بالخير"، أي: وإنما يعرض له الشر لعارض البخل به عن مستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم يشرع، وخضرة -بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين- أي: الحياة بالمال، أو المعيشة به خضرة في المنظر، حلوة في الذوق، أو المراد التشبيه، أي: الحال، كالبقلة الخضرة الحلوة، أو أنَّث باعتبار ما يشتمل عليه المال من زهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 وذكره ابن دريد وقال: إنه من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق -صلى الله عليه وسلم- إلى معناه.   الدنيا، أو المراد بالمال: الدنيا؛ لأنه من زينتها، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] ، وقوله: "إلا آكلة الخضرة" -بكسر الهمزة، وشدة اللام استثناء، وآكلة -بمد الهمزة، وكسر الكاف، والخضرة -بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وفي رواية: الخضرة بلا هاء، وفي رواية: الخضرة -بضم الخاء، وإسكان الضاد- ضرب من الكلأ، شبه بها؛ لأن المخاطبين ألفوا أحوالها، في سومها ورعيها، وما يعرض لها من بشم وغيره، والاستثناء منقطع لوقوعه في الكلام المثبت؛ أي: لكن آكلة الخضرة لا يقتلها آكلها، ولا يلم بقتلها، ويجوز اتصاله بتأويل في المستثنى، والمعنى من جملة ما يثبت الربيع شيء يقتل آكله إلا آكلة الخضرة، وفي رواية: ألا -بفتح الهمزة وخفة اللام- استفتاح، كأنَّه قيل: ألا انظروا آكلة الخضرة، واعتبروا شأنها, و "خاصرتاها" بالتثنية- جنباها، أي: امتلأت شبعًا، وعظم جبناها، وفي رواية: بالإفراد، فاجترت -بجيم ساكنة، وفتح الفوقية، والراء المشددة- استرجعت ما أدخلته في كرشها من العلف، فمضغته ثانيًا ليزداد نعومة وسهولة لإخراجه، و "ثلطت" بمثلثة، ولام، وطاء مهملة مفتوحات، وضبطه ابن التين بكسر اللام، ألقت ما في بطنها رقيقًا، بخلاف من لم يتمكن من ذلك، فيقتلها الانتفاخ سريعًا، وإن هذا المال في الرغبة والميل إليه بحرص النفوس عليه، كالفاكهة خضرة في المنظر، حلوة في الذوق، كالذي يأكل ولا يشبع، أي: كذي الجوع الكذب بسبب السقم، كلما ازداد أكلًا ازداد جوعًا. قال ابن المنير: في هذا الحديث وجوه من التشبيهات البديعة، تشبيه المال ونموه بالنبات وظهوره، وتشبيه المنهمك في الاكتساب والأسباب بالبهائم المنهمكة في الأعشاب، وتشبيه الاستكثار منه والادخار له بالشره في الأكل والامتلاء منه، وتشبيه المال مع عظمه في النفوس، حتى أدى إلى المبالغة في البخل به بما تطرحه البهيمة من السلح، ففيه إشارة بديعة إلى استقذاره شرعًا، وتشبيه التقاعد عن جمعه وضمه بالشاة إذا استراحت وحطَّت جانبيها مستقبلة الشمس، فإنها من أحسن حالاتها سكونًا وسكينة، وفيه إشارة إلى إدراكها لمصالحها، وتشبيه موت الجامع المانع بموت البهيمة الغافلة عن دفع ما يضرها، وتشبيه المال بالصاحب الذي لا يؤمن أن ينقلب عدوًّا، فإن المال من شأنه أن يرحز ويشد وثاقه، وذلك يقتضي منعه من مستحقه، فيكون سببًا لعقاب مقتنيه، وتشبيه آخذه بغير حق بالذي يأكل ولا يشبع، فهي ثمانية انتهى، وهذا، كما قال ابن الأثير: حديث يحتاج إلى شرح ألفاظه مجتمعة، فإنه إذا فرق لا يكاد يفهم الغرض منه. "وذكره ابن دريد، وقال: إنه من الكلام المفرد الوجيز الذي لم يسبق -صلى الله عليه وسلم- إلى معناه، أي: كل ما أنبت الجدول"، فسره المصنف كغيره بالنهر الصغير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 أي: كل ما أنبت الجدول، وإسناد الإنبات إليه مجاز، والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى، وليست "من" للتبعيض، وحبطًا -بفتح المهملة والموحدة والطاء المهملة أيضًا- وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل حتى تنتفخ فتموت، ويلم -بضم الياء- أي: يقرب من الهلاك، وهو مَثَلٌ للمنهمك في جمع الدنيا، المانع من إخراجها في وجهها.   قال شيخنا: وليس معنى الربيع إنما هو الزمن المسمَّى فصل الربيع، وهو أحد الفصول عند العرب؛ لأن فيه الخصب والمياه والزرع، ولعله فُسِّرَ بذلك؛ لأنه السبب المترتب عليه الإنبات ظاهرًا؛ ولأن ترتبه عليه لا يختص بزمن؛ إذ يسقي به الأرض، فتحيا وتصلح للإنبات، "وإسناد الإنبات إليه مجاز" على رأي الشيخ عبد القاهر الجرجاني؛ إذ المسند إليه ملابس الفعل، وليس فاعلًا حقيقيًّا له، "والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى"، والسكاكي يرى أن الإسناد ليس مجازيًّا، وأن المجاز في الربيع، فجعله استعارة بالكناية, على أن المراد به الفاعل الحقيقي بقرينة نسبة الإسناد إليه، "وليست من للتبعيض"، بل للابتداء، أو زائدة في الإثبات، على قلة لرواية البخاري في الرقاق، وإنَّ كل ما أنبت، والمعنى: إنه لا ينبغي الاغترار بشيء من زهرة الدنيا وزينتها؛ لأن جميعها مضر، ويجوز جعلها تبعيضية؛ وبه جزم الدماميني على معنى أن بعض النبات مهلك، أو مقرب منه، وبعضه ليس كذلك، وهو ما سد الرمق، وأعان على العبادة؛ لأنه سبب لإقامة هذا العالم، لكن الأوّل أبلغ في ذم الدنيا، وكأنه نزل الأمر الضروري منزلة العدم، لقلته بالنسبة لغيره، "وحبطًا -بفتح" الحاء "المهملة، و" فتح "الموحدة، و" فتح "الطاء المهملة أيضًا" منونة، يقال: حبطت الدابة تحبط حبطًا، "وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل، حتى تنتفخ فتموت, ويلم -بضم الياء، أي: يقرب من الهلاك"، فالمعنى يقتل أو يقارب القتل، هكذا فسَّره به شراح الحديث، ومثله في القاموس. وجوّز شيخنا أن معنى يلم: الجنون، لقول المصباح: اللمم -بفتحتين- مقارفة الذنب، وطرف من الجنون، "وهو مثل للمنهمك في جمع الدنيا، المانع من إخراجها في وجهها" وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر منه الماشية لاستطابتها إياه حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاحتمال؛ فتنشق أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تقارب الهلاك، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حلها، ويمنعها مستحقها، قد تعرض للهلاك في الآخرة بدخول النار، وفي الدنيا بأذى الناس وحسدهم إياه، وغير ذلك من أنواع الأذى، وأما قوله: "إلا آكلة الخضرة"، فإنه مَثَل للمقتصد، وذلك أنّ الخضرة ليس من جيد البقول التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره، فتحسن وتنعم، ولكنه من البقول التي ترعاها المواشي بعد يبس البقول؛ حيث لا تحبسوها، فلا ترى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "خير المال عين ساهرة لعين نائمة". ومعناه: عين ماء تجري ليلًا ونهارًا وصاحبها نائم، فجعل دوام جريانها: سهرًا لها. وقوله: "خير مال المرء مهرة مأمورة أو سكة مأبورة". رواه الإمام أحمد   الماشية تكثر من أكلها، ولا تستمر بها، فضربها مثلًا للمقتصد في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضرة، ألا تراه قال: أكلت حتى.. إلخ ذكره في النهاية. زاد المصنف: وقيل: الربيع قد ينبت أحرار العشب والكلأ، فهي كلها خبر في نفسها، وإنما يأتي الشر من قبل آكل مستلذ مفرط منهمك فيها؛ بحيث تنتفخ أضلاعه منه، وتمتلئ خاصرتاه، ولا يقلع منه, فيهلكه سريعا، فهذا مثل الكافر؛ ولذا أكَّد القتل بالحبط، أي: يقتل قتلًا حبطًا، والكافر هو الذي تحبط أعماله، أو من قبل آكل، كذلك فيقربه إلى الهلاك، وهذا مثال للمؤمن الظالم لنفسه، المنهمك في المعاصي، أو من آكل مسرف حتى تنتفخ خاصرتاه، ولكنه يتوخَّى إزالة ذلك، ويتحيِّل في دفع مضرته، حتى يهضم ما أكل، وهذا مثال المقتصد، وآكل غير مفرط ولا مسرف، يأكل منها ما يسد جوعه ولا يسرف فيه حتى يحتاج إلى دفعه، وهذا مثال الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، لكن ليس هذا صريحًا في الحديث، لكنه ربما يفهم منه, انتهى. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "خير المال عين ساهرة لعين"، متعلِّق بساهرة، والأَوْلَى أنه صفة ثانية لعين، أي: مملوكة، أو مستحقة لعين "نائمة"، أي: تاركة للتعب في تحصيلها، فهو تشبيه بليغ، أو مجاز مرسل، باستعمال النائمة في لازمها من الراحة، وترك السعي في أسباب التحصيل، من إطلاق الملزوم، وإرادة لازمة، "ومعناه: عين ماء تجري ليلًا ونهارًا وصاحبها نائم"، فقوله: "نائمة" مجاز عقلي، أي: نائم صحبها، "فجعل دوام جريانها سهرًا لها"، فشَبَّه جريان الماء وعدم انقطاعه بسهر المشغول بأسباب مقتضية لملازمة السهر، فاستعاره لدوام جريانه، واشتقّ منه ساهرة، فهو استعارة تصريحية تبعية لجريانها في المشتق بعد جريانها في المصدر، ولم يذكر المصنف مخرج الحديث. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "خير مال المرء مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة" رواه الإمام أحمد" برجالٍ ثقات، "والطبراني" في الكبير، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن أبي نعامة، عن مسلم بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 والطبراني عن سويد بن هبيرة. ومعنى "مأمورة": أي: كثيرة النتاج، و "سكة مأبورة" , أي: طريقة مصطفة من النخل، ومنه قيل للأزقة: سكة، والتأبير تلقيح النخل. انتهى. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، رواه مسلم من حديث أبي هريرة.   بديل، عن إياس بن زهير، "عن سويد بن هبيرة" بن عبد الحارث الديلي ابن عمر, بطن من عبد القيس. وقال أبو أحمد: هو عدوى من عدي بن عبد مناف، وكذا نسبه ابن قانع، وقال أبو عمر: سكن البصرة، قال سويد: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، فذكره. قال ابن منده: لم يقل: سمعت إلا روح بن عبادة، وقد رواه عمرو بن عيسى عن أبي نعامة، فقال: يرفع الحديث. قال الحافظ: وأخرجه الطبراني من طريق عبد الوارث عن أبي نعامة كذلك، ورواه معاذ بن معاذ عن أبي نعامة، فقال فيه: إلى سويد بلغني عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ذكره البخاري في تاريخه. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: غلط فيه روح، وإنما هو تابعي، وقال ابن حبان: في ثقات التابعين, يروي المراسيل، انتهى. "ومعنى: "مأمورة"، أي": الأَوْلَى إسقاط، أي: "كثيرة النتاج"، يقال: أمرهم الله فأمروا -بكسر الميم، أي: كثرهم فكثروا، فيه لغتان: مأمورة ومؤمرة، كما في النهاية، وهو من باب تعب، كما في المصباح، فوصفها بمأمورة مع وحدتها إسناد مجازي، أي: مأمور نتاجها، أو باعتبار ما ينشأ عنها منه، كما قال كثيرة النتاج، "وسكة مأبورة" بموحدة، "أي: طريقة مصطفّة من النخل، ومنه قيل للأزقة سكة" لاصطفافها زاد النهاية، وقيل: هي سكة الحارث ومأبورة، أي: مصلحة له، أراد خير المال نتائج أو زرع، "والتأبير تلقيح النخل، انتهى"، والمناسب للفظ الحديث والإبر؛ لأنه من أبرت النخل من بابي ضرب وقتل، لقحته وأبرته تأبيرًا مبالغة وتكثيرًا، كما في المصباح، فلعله عَبَّرَ بالتأبير لشهرته في الاستعمال. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من أبطأ" بألف ودونها" روايتان، وهما بمعنًى, إلّا أن السخاوي ادعى أن لفظ مسلم بلا ألف، وأن رواية القضاعي أبطأ بألف, "به عمله" أي: أخَّرَه عمله السيء، أو تفريطه في العمل الصالح، بأن لم يأت به على الوجه الأكمل، "لم يسرع به نسبه"، أي: لا ينفعه في الآخرة شرف النسب، فلا يعجل به إلى منازل السعداء، "رواه مسلم"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وأحمد، والعسكري، والقضاعي، كلهم "من حديث أبي هريرة" في آخر حديث لفظه: "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا، نَفَّسَ الله عنه كربة من كُرَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 وقوله: "زر غبًّا تزدد حبًّا". رواه البزار، والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي بعض أحاديث الباب أنه قيل: يا أبا هريرة, أين كنت أمس؟ قال: زرت ناسًا من أهلي، فقال: "يا أبا هريرة, زر غبًّا تزد حبًّا".   يوم القيامة، ومن يَسَّرَ على معسر يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه؛ ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سَهَّلَ الله له طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله, يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحَفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" انتهى. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "زر" أخاك "غبًّا" وقتًا بعد وقت، ولا تلازم زيارته بحيث يملك، "تزدد" عنده "حبًّا"، وبقدر الملازمة تهون عليه"، ونصب غبًّا على الظرف، وحبًّا على التمييز المحول عن الفاعل، فالمدار على عدم ملازمة الزائر للمزور حتى يسأم منه، وذلك يختلف باختلاف أحوالها. قال في الدرر: كأصله الغب من أوراد الإبل أن ترد الماء يومًا وتدعه يومًا، فنقل إلى الزيارة بعد أيام، وإلى عيادة المريض. انتهى. وقول القاموس: الغِبّ -بالكسر- في الزيارة أن تكون كل أسبوع، إمّا من مجاز اللغة الواقعة فيه، أو جري على عرف اللغة، وذاك على أصلها، وبينهما فرق، "رواه البزار" والبيهقي وضعَّفاه، "والحارث بن أبي أسامة"، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية، "عن أبي هريرة مرفوعًا"، رواه عنه ابن عدي في أربعة عشر موضعًا من كامله، وضعّفَها كلها، لكنه ورد من طرق كثيرة، يتقوّى بممجموعها، كما قال السخاوي؛ فروي عن ابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وجابر، وأنس، وعائشة، وأبي الدرداء، وأبي ذر، ومعاوية بن حيدة وآخرين. "وفي بعض أحاديث الباب"، أي: باب إغباب الزيارة، جرت عادتهم بتسمية ما أفاده الحديث بابًا، "أنه قيل" لفظ الرواية، قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة, أين كنت أمس"؟ قال: زرت ناسًا من أهلي، فقال: "يا أبا هريرة زر غبًّا تزدد حبًّا"، وأنشد ابن دريد في معناه: عليك بإغباب الزيارة إنها ... إذا كثرت كانت إلى الهجر مسلكًا فإني رأيت الغيث يسأم دائمًا ... ويسئل باليدي إذا هو أمسكا وقال غيره: قلل زيارتك الصديق تكـ ... ـن كالثوب استجدَّه وأملّ شيء لامريء ... أن لا يزال يراك عنده "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا" -بفتح السين- وفي رواية: "لا تسعون" بالفتح أيضًا، أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 وقوله: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم". رواه أبو يعلى والبزار من طرق، أحدها حسن بلفظ: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق". وقوله: "الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل". رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبيهقيّ.   لا تطيقون أن تعموا "الناس بأموالكم"، لعزة المال وكثرة الناس، فلا يمكنكم ذلك، "فسعوهم بأخلاقكم"؛ بحيث تقبلون على كلٍّ منهم بالبشاشة وإظهار المودة, وكأنَّه جعل المال محلًّا لطالبيه، لاستراحة من حصل له منك مال، فاطمأنَّ به، كما يطمئن من هبيء له منزل يدفع عنه الضرر، "رواه أبو يعلى والبزار من طرقٍ أحدها حسن" عن أبي هريرة رفعه "بلفظ: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، أي: لا تتسع أموالكم لعطائهم، فوسعوا أخلاقكم لصحبتهم، والوسع والسعة: الجدة والطاقة، وذلك لأنَّ استيعاب عامتهم بالإحسان بالفعل لا يمكن، فأمر بجعل ذلك بالقول، كما قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] . وروى العسكري عن الصولي: لو وزنت كلمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأحسن كلام الناس كلهم، لرجحت على ذلك، وهي قوله: "إنّكم.. " إلخ، قال: وقد كان ابن عباد كريم الوعد، كثير البذل، سريعًا إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه، فما ترى له أمدًا، وقال إبراهيم بن آدم: إن الرجل ليدرك بحسن خلقه ما لا يدركه بماله؛ لأن المال عليه فيه زكاة، وصلة أرحام وأشياء أخر، وخلقه ليس عليه فيه شيء، وقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامي بالهواجر"، رواه الطبراني. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الخلق الحسن يذيب الخطايا، كما يذيب الماء الجليد، والخلق السيء يفسد العمل"، أي: يفوت المقصود منه، فربما فعل جميلًا يستحق به الثناء العاجل والثواب الآجل، فيقترن به ما يتولّد منه ضرر لمن فعل معه الجميل، فينقلب الثناء ذمًّا، ويترتَّب عليه استحقاق العقاب، "كما يفسد الخلّ العسل"، بتفويت الحلاوة واللذة الحاصلة به، فلا ينافي حصول منافع طيبة بخلطهما، وفيه إشارة إلى أنَّ الإنسان إنما يحوز جميع الخيرات، ويبلغ أقصى المنازل، وأنهى الغايات بحسن الخلق، وهو -بضمتين، وضم، فسكون- الطبع والسجيّة، "رواه" تامًّا، كما ذكرته "الطبراني في الكبير، والأوسط، والبيهقي" في الشعب، كلاهما عن ابن عباس، وضعَّفه المنذري وغيره؛ لأن في إسناد عيسى بن ميمون المديني، وهو ضعيف، لكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 وقوله: "إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" رواه البزار والحاكم في علومه، والبيهقي في سننه،   له شواهد كثيرة، كقوله: "وخالق الناس بخلق حسن"، وقوله: "الخلق وعاء الدين"، وقوله: "الخلق الحسن زمام من رحمة الله في أنف صاحبه، والزمام بيد الملك, والملك يجره إلى الخير, والخير يجره إلى الجنة، وأن الخلق السيء زمام من عذاب الله في أنف صاحبه، والزمام بيد الشيطان، والشيطان يجره إلى الشر، والشر يجره إلى النار"؛ رواه أبو الشيخ. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين"، أي: دين الإسلام "متين" صلب شديد، أي: كثير النفع عديم النظير، منيع لا يتأتَّى إبطاله وتحريفه، "فأوغل"، أي: سِرْ أمر لغير معيّن، فهو كرواية أحمد أوغلوا بالجمع "فيه برفق" من غير تكلُّف، ولا تحمل نفسك ما لا تطيق فتعجز وتترك العمل، "ولا تبغّض" -بضم الفوقية، وفتح الموحدة، وشد المعجمة، وآخره معجمة ساكنة- وفي نسخة بزيادة نون ثقيلة تأكيدًا للنفي، فالضاد مفتوحة، لكن الذي في المقاصد بلا نون، "إلى نفسك عبادة الله" بأن تأتي بكثير تملّه النفس، وتنفر منه، فيحملك على الترك. قال الغزالي: أراد بهذا الحديث أن يكلف نفسه أعمال الدين بتلطُّف وتدريج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى أقصاها؛ إذ الطبع نفور, لا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلّا شيئًا فشيئًا، فمن لم يراع التدريج، وتوغّل دفعة واحدة، ترقَّى إلى حالة تشق عليه، فتنعكس أموره، فيصير ما كان محبوبًا عنده ممقوتًا، وما كان مكروهًا عنده مشربًا هنيًا، لا ينفر عنه، وهذا لا يعرف إلّا بالتجربة والذوق، ونظيره في العادات: الصبي يحمل على التعلُّم ابتداء قهرًا، فيشق عليه الصبر على اللعب والصبر مع المعلم، حتى إذا انفتحت بصيرته، وأنِسَ بالعلم، انقلب الأمر، فصار يشق عليه الصبر عن العلم، وعلّل النهي عن ذلك بقوله: "فإن المنبت" -بضم الميم، وسكون النون، وفتح الموحدة، وشد الفوقية- المنقطع في السفر عن رفقته من البت، القطع مطاوع بت، يقال بته وأبته "لا أرضًا قَطَع"، أي: لم يقطع الأرض التي قصدها، "ولا ظهرًا أبقى"، أي: ولم يبق ظهره، أي: دابَّته تنفعه، فكذا من تكلّف من العبادة ما لا يطيق، فيكره التشديد فيها، واستعمل الظهر في الراحلة مجازًا، لكن في القاموس: الظهر خلاف البطن، مذكَّر, والركاب, وعليه فهو حقيقي، إلّا أنَّ المراد هنا مطلق المركوب إلّا الإبل فقط، "رواه البزار والحاكم في علومه"، أي: في كتابه المسمَّى علوم الحديث، وهو ما يعبِّر عنه المتأخرون بمصطلح الحديث. "والبيهقي في سننه" من طريق شيخه الحاكم، وكذا ابن طاهر من طريقه، وأبو نعيم، والقضاعي، والعسكري، والخطَّابي في العزلة، "كلهم من طريق محمد بن سوقة" -بضم السين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 كلهم من طريق محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر به مرفوعًا. وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة في إرساله ووصله، وفي رفعه ووقفه، ثم في الصحابي، أهو جابر أو عائشة أو عمر. ورجَّح البخاري في تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال،   المهملة- الغنوي -بفتح المعجمة، والنون الخفيفة- أبي بكر الكوفي، العابد، ثقة، مرضي من الخامسة، روى له الستة، كما في التقريب، "عن محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيميّ المدني، التابعي، الثقة, من رجال الجميع. مات سنة ثلاثين ومائة، أو بعدهما "عن جابر" بن عبد الله "به"، أي: اللفظ الذي ذكره "مرفوعًا" بمعنًى قال: قال -صلى الله عليه وسلم" وهذا صريح في أن الجميع رووا جميع اللفظ المذكور، ومثله في المقاصد، ووقع في الجامع عزوه للبزار وحده، مسقطًا قوله: "ولا تبغّض إلى نفسك عبادة الله"، فلعلهما روايتان في مسند البزار، وفيه يحيى بن المتوكِّل أبو عقيل، وهو كذّاب، وفيه أيضًا اضطراب بَيِّنَه بقوله: "وهو مما اختلف فيه على ابن سوقة" في أمور "في إرساله"، فرواه بعضهم عنه عن ابن المنكدر مرسلًا مرفوعًا، "ووصله"، فروى عنه عن ابن المنكدر، عن جابر والمرسل ما رفعه التابعي، وتسمَّح من قال: ما سقط منه الصحابي؛ لأنه لو تحقَّق أن الساقط صحابي لم يتوقف أحد في الاحتجاج بالمرسل، لعدالة الصحابة كلهم، كما بَيِّنَ ذلك في علوم الحديث، "وفي رفعه"، فروي عنه مرفوعًا مرسلًا، أو موصولًا، فهو شامل للأمرين قبله, "ووقفه"، فروي عنه موقوفًا على الصحابي، "ثم" اختلف عليه أيضًا، "في الصحابي أهو جابر"، كما رواه الجماعة المتقدمون، "أو عائشة، أو عمر"، كما عند غيرهما. قال الدارقطني: ليس فيها حديث ثابت، "ورجَّح البخاري في تاريخه من حديث ابن المنكدر الإرسال"، أي: روايته عنه مرسلًا مرفوعًا على روايتي الوصل والوقف. زاد السخاوي، وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمرو بن العاص بلفظ: "فإن المنبت لا سفرًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظنّ أن لن يموت أبدًا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدًا"، وسنده ضعيف أيضًا، مع كون صحابيه عند العسكري عمر, إلّا ولده، لكن الظاهر أنه من الناسخ، فطريقهما متحد، ورواه ابن المبارك في الزهد عن ابن عمر، موقوفًا بلفظ: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغّضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبت ... " إلخ، وله شاهد عند العسكري، عن علي رفعه: "إن دينكم متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا ظهرًا أبقى، ولا أرضًا قطع". وعند أحمد عن أنس رفعه: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وهو مع اختصاره أجود مما قبله، "ومعناه: إنه بقي في طريقه عاجزًا عن مقصده لم يقض وطره وقد أعطب" -بفتح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 ومعناه: إنه بقي في طريقه عاجزًا عن مقصده، لم يقض وطره، وقد أعطب ظهره. والوغول: الدخول، فكأنه قال: إن هذا الدين -مع كونه يسيرًا سهلًا- شديدًا، فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق، فإن من بالغ بغير رفق وتكلّف من العبادة فوق طاقته يوشك أن يملّ حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مثله كمثل الذي يعسف الركاب, ويحملها من السير على ما لا تطيق رجاء الإسراع، فينقطع ظهره، فلا هو قطع الأرض التي أراد، ولا هو أبقى ظهره سالمًا ينتفع به بعد ذلك. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من شادّ هذا الدين غلبه".   الهمزة، وإسكان العين، وفتح الطاء المهملتين، وموحدة. "ظهره"، أي: مركوبة مجازًا أو حقيقة على ما في القاموس، كما مَرَّ، والإيغال -كما في النهاية: السير الشديد، "والوغول: الدخول" في الشيء، والظاهر -كما قال بعض: إن المراد في الحديث السير لا بقيد الشدة؛ إذ لا يلائم قوله: "برفق" انتهى، ولذا عدل المصنف عن الإيغال الموافق لقول الحديث: فأوغل، إشارة إلى أنه مستعمل فيه في غير مدلوله اللغوي، بل بمعنى الدخول الذي هو من وَغَلَ بوزن وَعَدَ، إذا توارى بشجرة ونحوها، ووغل في الشيء دخل فيه مطلقًا، "فكأنَّه قال: "إن هذا الدين مع كونه يسيرًا"، أي: مع كون تكاليفه قليلة "سهلًا" لانتقاء الأصر الذي كان على من قبلنا، "شديد" خبران، أي: شديد القيام به، فلا ينبغي المبالغة في القيام بحقوقه، خارجًا عن الحد، ولا التهاون في ترك شيء منه، "فبالغوا فيه بالعبادة، لكن اجعلوا تلك المبالغة مع رفق"، فإن "الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه"، "فإن من بالغ بغير رفق، وتكلّف من العبادة فوق طاقته، يوشك أن يملّ" -بفتح الياء والميم- يسأم "حتى ينقطع عن الواجبات، فيكون مَثَلُه" -بفتحتين- صفته وحاله، "كمثل الذي يعسف" -بكسر السين- من باب ضرب يأخذ بقوة "الركاب" بكسر الراء- المطي الواحد، راحلة من غير لفظها، أو المعنى يظلمها. ففي القاموس: عسف السلطان ظلم، فقوله: "ويحملها من السير"، أي: يغريها "على ما لا تطيق"، عطف علة على معلول، والمعنى: ألجأها إلى ما لا تقدر عليه "رجاء الإسراق فينقطع ظهره" دابته، "فلا هو قطع الأرض التي أراد، ولا هو أبقى ظهره سالمًا ينتفع به بعد ذلك"؛ وهذه كلها عبارة شيخه السخاوي، ثم هذا الحديث، وإن كان ضعيفًا لاضطرابه وضعف راويه، لكنَّه تقوى بشواهده التي منها قوله: "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من شادَّ هذا الدين"، أي: غالبه، فزاد فيه على طاقته، "غلبه" الدين وقهره بحيث ينقطع عن مطلوبه، "رواه العسكري"، كذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 رواه العسكري عن بريدة، وللبخاري من حديث معن بن محمد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه،   أورده المصنف: شادَّ وغلب فعلًا ماضيًا، والذي عزاه السخاوي للعسكري "عن بريدة" بن الحصيب: "من يشاد هذا الدين يغلبه" بالمضارع فيهما، قال: وأوَّله عند العسكري: عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من، فذكره، وذكره بهذا اللفظ أيضًا في النهاية، وقال: أي: من يقاومه، ويكلف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته، والمشادَّة المغالبة، وهو مثل الحديث الآخران: "هذا الدين متين فأوغل فيه برفق" اهـ، ورواه القضاعي بدون أوله, وفي لفظ آخر عند العسكري: "فإنه من يغالب .... " إلخ "وللبخاري" في كتاب الإيمان "من حديث" عمر بن عطاء، عن "معن" -بفتح الميم، وسكون العين المهملة- "ابن محمد" بن معن الغفاري -بكسر الغين المعجمة- الحجازي، المدني، ثقة، قليل الحديث، "عن سعيد" ابن أبي سعيد كيسان "المقبري" -بضم الموحدة- نسبة إلى مقبرة بالمدينة، كان مجاورًا بها المدني. مات سنة خمس وعشرين ومائة، "عن أبي هريرة مرفوعًا"، بمعنى: إنه قال عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإن الدين"، أي: دين الإسلا "يسر"، أي: ذو يسر؛ لأن التوافق بين المبتدأ والخبر شرط ولا يكون بالتأويل، أو هو الخبر نفسه، بوضعه موضع اسم المفعول، مبالغةً لشهرة اليسر وكثرته، كأنَّه اليسر نفسه، والتأكيد بأنَّ ردَّ على منكر يسره، إمَّا لأنَّ المخاطب منكر، أو لتنزيله منزلته، أو على تقدير المنكر غيره، أو لأنَّ القصة مما يهتم به، "ولن يشادَّ الدين" بنصبه مفعول فاعله، "أحد" الثابت في رواية ابن السَّكَن، وفي بعض الروايات عن الأصيلي، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيلي، وأبي نعيم، وابن حِبَّان وغيرهم، وأكثر رواة البخاري بإسقاط لفظ: أحد, على إضمار الفاعل للعلم به، فالدين نُصِبَ على المفعولية أيضًا، وحكى صاحب المطالع، أن أكثر الروايات برفع الدين على أن يشادّ مبني لما لم يسم فاعله، وعارضه النووي بأن أكثر الروايات بالنصب. قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنَّه بالنسبة إلى روايات المغاربة والمشارقة، ويؤيد النصب لفظ حديث بريدة عند أحمد، أنَّه من يشاد هذا الدين يغلبه، ذكره في حديث آخر، يصلح أن يكون هو سبب حديث الباب، "إلّا غلبه" الدين، والمشادَّة -بالتشديد- المغالبة، يقال: شادَّه يشادّه إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلّا عجز وانقطع، فيغلب. وقال الطيبي: بناء المفاعلة في يشاد ليس للمبالغة، بل للمغالبة نحو: طارقت النعل، وهو من جانب المكلف، ويحتمل أن يكون للمبالغة في سبيل الاستعارة، والمستثنى منه أعم، عام الأوصاف، أي: لم يحصل، ويستقرّ ذلك الشادّ على وصف من الأوصاف، إلّا على وصف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".   المغلوبية. قال ابن المنير في هذا الحديث: علم من أعلام النبوة, فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أنَّ كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراد المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته, كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم، إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصلاة في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس، فخرج وقت الفريضة، وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: لن تنالوا هذا الأمر بالمبالغة، وخير دينكم أيسره، وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطُّع، كمن يترك التيمّم عند العجز عن استعمال الماء، فيفضي استعماله إلى حصول الضرر. انتهى، "فسدِّدوا" بمهملة، أي: الزموا بالسداد، هو الصواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللغة: السداد التوسُّط في العمل. قال الطيبي: والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا بينت لكم ما في المشادَّة من الوهن، فسدّدوا "وقاربوا" بموحدة في العبادة، أي: إن لم يستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرب من الطيبي، وهو تأكيد للتسديد من حيث المعنى، "وأبشروا" بقطع الهمزة، وكسر الشين، من الإبشار، وفي لغة: بضم الشين من البشر، أي: بالثواب على العمل الدائم، وإن قلَّ، أو المراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل، بأن العجز إذا لم يكن من صنعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم المبشّر به تعظيمًا له وتفخيمًا، "واستعينوا بالغدوة" بالفتح سير أوّل النهار. وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداء إلى طلوع الشمس، كذا ضبطه الحافظ، كالكرماني والزركشي، وتوقَّف فيه المصنف بأن في النهاية الغدوة بالضمِّ ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، وتبعه العيني فضبطه -بالضم, "والروحة" بالفتح- السير بعد الزوال، "وشيء"، أي: واستيعنوا بشيء "من الدلجة" -بضم أوله، وفتحه، وإسكان اللام- سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله, ولهذا عَبَّر فيه بالتبعيض؛ ولأنَّ عمل الليل أشقّ من عمل النهار، قال الحافظ: وظاهره أنَّ الرواية بضم الدال وفتحها معًا، وذكر الكرماني، وتبعه الزركشي أنَّ الرواية بالضم والفتح لغة. قال الحافظ: أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات النشيطة، أي: كأوّل النهار، وبعد الزوال، وبالليل, قال: فهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، فكأنَّه -صلى الله عليه وسلم- خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأن المسافر إذا سافر الليل والنهار جميعًا عجز وانقطع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 وقوله: "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت   وإذا تحرَّى السير في هذه الأوقات النشيطة أمكنته المداومة من غير مشقَّة، وحسن هذه الاستعارة أنَّ الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أرْوَح ما يكون فيها البدن للعبادة انتهى، ونحوه للكرماني قائلًا: فنبَّه الأمة على اغتنام أوقات فرصتهم، وقال البيضاوي: الغَدْوَة والروحة والدلجة استعير بها عن الصلاة في هذه الأوقات؛ لأنها سلوك وانتقال من العادة إلى العبادة، ومن الطبيعة إلى الشريعة، ومن الغيبة إلى الحضور. قال الحافظ: وهذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم وصحَّحه، وإن كان من رواية مدلس بالعنعنة، وهو عمر بن علي المقدمي -بضم الميم، وفتح القاف، والدال المشددة- البصري؛ لتصريحه بالسماع عند ابن حبان من طريق أحمد بن المقدام، أحد شيوخ البخاري, عن عمر بن علي المذكور قال: سمعت معن بن محمد، فذكره، وهو من إفراد معن، وهو ثقة، قليل الحديث، لكن تابعه على شقه الثاني ابن أبي ذئب عن سعيد، أخرجه البخاري في كتاب الرقاق بمعناه، ولفظه: "سددوا وقاربوا"، وزاد في آخره: "والقصد القصد، تبلغوا"، ولم يذكر شقه الأوّل، ومن شواهده حديث عروة الفقيمي -بضم الفاء، وفتح القاف- عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "إن دين الله يسر"، وحديث بريدة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عليكم هديًا قاصدًا، فإنه من يشادّ هذا الدين يغلبه"، رواهما أحمد، وإسناد كلّ منهما ثقات، انتهى. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الكيس"، أي: العاقل -بشد الياء مكسورة- مأخوذة من الكيس -بفتح فسكون. قال الزمخشري: حُسْن التأنِّي في الأمور، وقال ابن الأثير: الرفق في الأمور، وقال الراغب: القدرة على استنباط ما هو أصلح في بلوغ الخير, "من دان نفسه"، أي: أذلّها واستعبدها، وقيل: حاسبها، يعني جعل نفسه مطيعة منقادة لأوامر ربها, مجتنبة لنواهيه، فلازم الطاعة، وتجنّب المعصية. قال أبو عبيد الدين: الدَّأب، وهو أن يداوم على الطاعة, والدين الحساب، "وعمل لما بعد الموت" قبل نزوله؛ ليصير على نور من ربه، فالموت عاقبة أمور الدنيا، فالعاقل من أبصر العاقبة، والأحمق من عمي عنها، وحجبته الشهوات والغفلات، وعاجل الحاصل يشترك في درك ضره ونفعه جميع الحيوانات بالطبع، وإنما الشأن في العمل للآجل، فجدير بِمَنِ الموت مصرعه، والتراب مضجعه، ومنكر ونكير جليسه، والدود أنيسه، والقبر مقرّه، وبطن الأرض مستقره، والقيامة موعده، والجنة والنار مورده، أن لا يكون له فكر إلا في الموت وما بعده، ولا ذكر الإله، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا اهتمام إلّا به، ولا انتظار إلّا له، وحقيق أن يعد نفسه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني". رواه الحاكم عن شدَّاد بن أوس، وقال: صحيح على شرط البخاري، وتعقَّبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم وهو واهٍ. وكذا رواه العسكري والقضاعي والترمذي وابن ماجه.   من الموتى، ويراها في أهل القبور، فكل ما هو آتٍ قريب، والبعيد ما ليس بآت، "والعاجز" بمهملة، وجيم، وزاي- من العجز، أي: المقصِّر في الأمور، ورواه العسكري: الفاجر -بالفاء والراء- من الفجور، "من أتبع نفسه هواها"، فلم يكفَّها عن الشهوات، ولم يمنعها عن المحرمات واللذات. قال الطيبي: العاجز الذي غلبت عليه نفسه وقهرته، فأعطاها ما تشتهيه، قوبل الكيّس بالعاجز، والمقابل الحقيقي السفيه، إيذانًا بأن الكيّس هو القادر، والعاجز هو السفيه، "وتمنَّى على الله الأماني" -بشد الياء- جمع أمنية، فهو مع تقصيره في طاعة ربه، واتباع شهوات نفسه، لا يستعدّ ولا يعتذر ولا يرجع، بل يتمنَّى على الله العفو والجنة، وسقط في رواية لفظ الأماني, وأصل الأمنية ما يقدِّره الإنسان في نفسه من مني إذا قدر، ولذا يطلق على الكذب وعلى ما يتمنَّى. قال الحسن: إن قومًا ألَّهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظنَّ بربي، وكذب, لو أحسن الظنَّ أحسن العمل، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقال سعيد بن جبير: الغرة بالله أن يتمادى الرجل على المعصية، ويتمنَّى على الله المغفرة. قال العسكري: وفيه رد على المرجئة، وإثبات الوعيد، وفيه ذم التمني، وأما الرجاء فمحمود؛ لأنَّ التمني يصاحب الكسل، خلاف الرجاء، فتعليق القلب بمحبوب يحصل حالًا، "رواه الحاكم" في المستدرك في كتاب الإيمان، من حديث أبي بكر بن أبي مريم الغسَّاني، عن ضمرة بن حبيب، "عن شداد بن أوس، وقال" الحاكم: "صحيح على شرط البخاري، وتعقَّبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم، وهو واهٍ" ضعيف جدًّا، فكيف يكون على شرط البخاري، "وكذا رواه العسكري، والقضاعي، والترمذي، وابن ماجه" كلاهما في الزهد؛ والإمام أحمد، وفيه عند الجميع ابن أبي مريم. قال ابن طاهر: مدار الحديث عليه، وهو ضعيف جدًّا. انتهى، لكن له شاهد أخرجه البيهقي بإسناد فيه ضعف، عن أنس، رفعه: "الكيّس من عمل لما بعد الموت، والعاري العاري من الدين، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 وقوله: "ما حاك في صدرك فدعه" رواه الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لجمالها ومالها ودينها وحسبها   "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "ما حاك"، قال في النهاية، أي: أثَّرَ ورسَخَ، يقال: ما يحيك كلامك في فلان، أي: ما يؤثِّر فيه، وقال غيره: أي: تردَّد, من حاك يحيك إذا تردَّد، "في صدرك"، أي: قلبك, من المجاز اللغوي, استعمل الصدور وأراد القلب, والعلاقة إما المجاورة إن لم يكن القلب في الصدر، وإما الحالية والمحلية إن كان فيه, وهذا أقرب من قول بعضهم: أي: قلبك الذي في صدرك؛ لأن فيه حذف الموصول الاسمي وموصوفه، "فدعه"، أي: اتركه؛ لأنَّ نفس المؤمن الكامل ترتاب من الإثم والكذب، فتردده في شيء أمارة كونه حرامًا، فالمتعيِّن أنَّ الذي يعمل بذا الحديث مثل المخاطب به كراويه، "رواه الطبراني في الكبير" برجال الصحيح، "من حديث أبي أمامة"، قال: قال رجل: ما الإثم.. فذكره. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح" -بضم التاء وفتح الكاف- "المرأة"، أي: يقصد عادةً نكاحها "لجمالها"، أي: حسنها، ويقع على الصور والمعاني، فشمل حسن الصفات أيضًا، والجمال مطلوب في كل شيء، لا سيما المرأة التي تكون قرينة وضجيعة، وعند الحاكم حديث: "خير النساء من تسر إذا نظرت، وتطيع إذا أمرت، ولا تخالف في نفسها ومالها". قال الماوردي: لكنهم كرهوا ذات الجمال البارع؛ لكونها تزهو بجمالها، "ومالها"؛ لأن ذات المال قد لا تكلفه في النفقة وغيرها فوق طاقته. قال المهلب: وفيه أنَّ للزوج الاستمتاع بمال زوجته، فإن طابت نفسها بذلك حلّ له, وإلا فله من ذلك قدر ما بذل لها من الصداق، وتعقّب بأن هذا التفصيل ليس في الحديث، ولم ينحصر قصد نكاح ذات المال في الاستمتاع بمالها، بل قد يقصد حصول ولد منها، فيعود إليه مالها بالإرث، أو لكونها تستغني بمالها عن مطالبته بما تحتاج إليه النساء، واحتجّ به بعض المالكية على أن للرجل الحجر على امرأته في ماله؛ لأنَّه إنما تزوَّجها لمالها فليس لها تفويته، وفيه نظر لا يخفى، "ودينها"، أي: صاينتها في نفسها ومالها مجرّد الإسلام, "وحسبها" -بفتحتين وموحدة- شرفها، وهو في الأصل: الشرف بالآباء والأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم، وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره. قال أكثم بن صيفي: يا بني تميم, لا يغلبنَّكم جمال النساء على صراحة الحسب، فإنَّ المناكح الكريمة مدرجة للشرف، وقيل: وأول خبث المرء خبث ترابه ... وأول لؤم المرء لؤم المناكح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 فعليك بذات الدين ترتبت يداك" متَّفَق عليه من حديث أبي هريرة.   وقيل: المراد بالحسَب الفعال الحسنة، قال: شمر الحسب، الفعل الجميل للشخص وآبائه، وقيل: المراد به المال، ورد بذكره قبله، وعطفه عليه, وللنسائي، وصحَّحه ابن حبان والحاكم مرفوعًا: "إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال"، وللترمذي والحاكم مرفوعًا: "الحسب المال، والكرم، والتقوى" وحمل على أنَّ المراد أنَّ المال حسب من لا حسب له. وروى الحاكم حديث: "تخيروا لنطفكم"، "فعليك بذات الدين"، إنما هذا لفظ جابر عند مسلم "تربت يداك" لصقتا بالتراب وافتقرتا إن خالفت ما أمرتك به، وهي كلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها حقيقتها. وروى ابن ماجه مرفوعًا: "لا تزوجوا النساء لحسنِّهن، فعسى حسنهن أن يرديهن"، أي: يهلكن، "ولا تزوجوهنّ لأموالهن، فعسى أموالهن أن يطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين" "متفق عليه من حديث أبي هريرة"، لكن ليس بهذا اللفظ، بل بلفظ: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وذكر اللام، وفي الأربع رواية مسل، وأسقطها البخاري من وجمالها فقط، ولفظ: "فعليك بذات الدين"، ليس مما اتفقا عليه، ولا هو من حديث أبي هريرة، إنما انفرد به مسلم من حديث جابر، فتسمح المصنف تسمحًا شديدًا سامحه الله. قال النووي: الصحيح في معنى هذا الحديث، أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر بما يفعله الناس عادة، وآخرها عندهم ذات الدين، فاظفر أنت أيها المسترشد بذات الدين؛ لأنه أمر بذلك. وقال البيضاوي: المعنى: إن اللائق بذوي المروآت وأرباب الديانات، أن يكون الدِّين مطمح نظرهم في كل شيء، لا سيما فيما يدوم أمره ويعظم خطره، فلذا اختاره -صلى الله عليه وسلم- بآكد وجه وأبلغه، فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية ومنتهى الاختيار والطلب، الدالّ على تضمّن المطلوب لنعمة عظيمة وفائدة جليلة. وقال الطيبي: قوله: فاظفر جزاء مشرط محذوف، أي: إذا تحققت ما فصلته لك تفصيلًا بينًا، فاظفر أيها المسترشد بذات الدِّين، فإنها تكسبك منافع الدارين. قال: واللامات المكررة مؤذنة بأن كلًّا منها مستقلة في الغرض، و "تربت يداك" ليس دعاء عليه، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا مقدامًا في الحرب أبلى فيه بلاء حسنًا يقولون: قاتله الله, ما أشجعه، يريدون به ما يزيد قوته وشجاعته، وكذلك هنا، فالرجل إمَّا يؤثر الثلاثة على ذات الدِّين لإعدامها الثلاثة، فينبغي أن يحمل الدعاء على ما يجب عليه من الفقر، أي: عليك بذات الدين يغنك الله، فيوافق معنى الحديث النص التنزيلي: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 وقوله: "الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصامه, وطال ليلة فقامه". رواه البيهقي وأحمد وأبو نعيم مختصرًا، والعسكري بتمامه، كلهم من حديث درَّاج عن أبي الهيثم   عِبَادِكُمْ} [النور: 32] ، {وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ، والصالح هو صاحب الدين، انتهى. قال النووي: وفي الحديث الحثّ على مصاحبة أهل الصلاح في كل شيء؛ لأن من صاحبهم استفاد من أخلاقهم وبركتهم وحسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم، وحكي أن رجلًا قال للحسن: إن لي بنتًا أحبها، وقد خطبها غير واحد، فمن ترى أن أزوجها؟ قال: زوّجها رجلًا يتقي الله، فإنه إن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها. وقال الغزالي: ليس أمره -صلى الله عليه وسلم- بمراعاة الدِّين نهيًا عن مراعاة الجمال، ولا أمرًا بالإضراب عنه، وإنما هو نهي عن مراعاته مجردًا عن الدِّين، فإن الجمال في الغالب يرغب الجاهل في النكاح دون التفات إلى الدِّين، ولا نظر إليه، فوقع النهي عن هذا، فقال: وأمره -صلى الله عليه وسلم- مريدًا التزوّج بالنظر إلى المخطوبة يدل على مراعاة الجمال؛ إذ النظر لا يفيد معرفة الدِّين، وإنما يعرف به الجمال، أو القبح. "وقوله" -صلى الله عليه وسلم: "الشتاء ربيع المؤمن" تشبيه بليغ، أي: إنه له لسهولة العبادة فيه، ولذته بها، والقيام بها بلا مشقّة، كفصل الربيع للماشية الذي يكثر فيه الخصب والماء، فترتفع فيه وتنمو. قال العسكري: إنما قال ذلك؛ لأنَّ أحد الفصول عند العرب فصل الربيع، فيه الخصب ووجود المياه والزرع، ولذا كانوا يقولون للرجل الجواد: هو ربيع اليتامى، فيقيمونه مقام الخصب في الخير الكثير، كوجوه في الربيع، "قصر نهاره فصامه، وطال ليله فقامه"، وفي رواية: فصام، فقام, بحذف المفعول؛ لأنه لطوله تأخذ النفس حظها من النوم، ثم تقوم للتهجّد والأوراد بنشاط، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه، مع إدراكه وظائف العبادات، فيكمل له فيه مصلحة دينه وراحة بدنه، بخلاف ليل الصيف، لقصره وحره يغلب فيه النوم، فلا يتوفر فيه ذلك، "رواه البيهقي، وأحمد"، وأبو يعلى، "وأبو نعيم، مختصرًا" بلفظ: "الشتاء ربيع المؤمن"، "والعسكري"، وكذا أبو يعلى، والبيهقي في السنن أيضًا، والقضاعي "بتمامه" المذكور، "كلهم من حديث درَّاج" -بفتح الدال المهملة، وتثقيل الراء فألف، فجيم- ابن سمعان أبي السمع -بفتح المهملة، وسكون الميم، ومهملة, قيل: اسمه عبد الرحمن، ودرّاج لقب السهمي، مولاهم المصري، القاص، روى له الأربعة, والبخاري في التاريخ، ومات سنة ست وعشرين ومائة. "عن أبي الهيثم" سليمان بن عمرو الليثي، المصري، الثقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 عن أبي سعيد، وله شواهد. وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويشرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة, ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد, فلا يحصل فيه مشقّة الصيام.   روى له البخاري في التاريخ، وأصحاب السنن، "عن أبي سعيد" الخدري، قال الحافظ -النور الهيثمي: إسناده حسن، وقال السخاوي: ودرَّاج ممن ضعَّفه جماعة، وعُدَّ هذا الحديث فيما أنكر عليه، لكن وثَّقه ابن معين وابن حبّان. وقال ابن شاهين في ثقاته: ما كان من حديثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، فلا بأس به، ومشى عليه شيخنا، يعني: الحافظ في تقريبه، فقال: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف في غيره، وعكسه أبو داود، فقال: أحاديثه مستقيمة، إلّا ما كان عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، "و" لكن "له شواهد"، منها ما رواه الطبراني، وابن أبي عاصم، وغيرهما, من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس مرفوعًا: "الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة"، وسعيد ضعيف عند أكثرهم، وقد رواه همّام عن قتادة، عن أنس، عن أبي هريرة موقوفًا، أخرجه البيهقي، وأبو نعيم، وعبد الله بن أحمد، وهو أصحّ، ومنها ما رواه أحمد، والترمذي، وابن خزيمة، والطبراني، والقضاعي عن ابن مسعود، رفعه بلفظ حديث أنس، وللديلمي عن ابن مسعود مرفوعًا: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه الرحمة، أما ليله فطويل للقيام، وأمّا نهاره فقصير للصيام"، وفي الجالسة عن قتادة: لم ينزل عذاب قط من السماء على قوم، إلا عند انسلاخ الشتاء، "وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات"، أي: يجتهد في أنواعها قراءة، وصلاة، وذكر وغيرها، فشبّه اجتهاده برتوع الماشية، أي: رعيها، كيف شاءت لتيسر الخصب وكثرته، وعدم مانع يمنعها من الرعي، وأطلق عليها بساتين؛ لأنها باعتبار ما يحصل للنفس الكاملة من اللذات المختلفة بتلك الأنواع، أشبهت البساتين المشتملة على أنواع الفواكه الكثيرة، "ويشرح في ميادين العبادات" جمع ميدان -بفتح الميم وتكسر- محل تسابق الفرسان، أي: يتقلّب في محلات العبادات، فهو مساوٍ لسابقه، فالسروخ هو رعي الماشية بنفسها، "وينزه قلبه في رياض الأعمال" جمع روضة، وهو الموضع المعجب بالزهور وهو بمعنى ما قبله أيضًا، من حيث المراد "الميسّرة فيه من الطاعات، فإن المؤمن يقدر على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة" عطف تفسير، "ولا يحصل له جوع ولا عطش، فإن نهاره قصير بارد، فلا يحصل فيه مشقة الصيام"، أي: وليله طويل لا يحصل فيه مشقة القيام، وتركه اكتفاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى". رواه الطبراني في الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر، والقضاعي بدون: وكنز لا يفنى, عن أنس. وفي القناعة أحاديث كثيرة، ولو لم يكن في القناعة إلّا التمتع بالعزِّ لكفى صاحبه، وكان من   "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "القناعة" الرضا بالمقسوم "مال"، أي: كمالٍ بجامع أنها تغني صاحبها عن الناس، كما يغنيه مال "لا ينفد" -بفتح الفاء- أي: لا يفنى, "وكنز لا يفنى" أي: مال مدفون، فهو أخصّ من الأوّل، وإن ساواه في المعنى، وذلك؛ لأنَّ ذا المال ينفق منه متى شاء كيف شاء، والقانع متى تعذَّر عليه شيء رضي بما دونه؛ إذ القناعة تنشأ عن غنى القلب ومزيد الإيقان، ومن قنع أخذ بالبركة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الإنفاق منها لا ينقطع؛ إذ صاحبها كلما تعذَّر عليه شيء قنع بما دونه، فلا يزال غنيًّا عن الناس، ولذا كان ما يقنع به خير الرزق، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "خير الذكر الخفيّ, وخير الرزق ما يكفي"، رواه أحمد والبيهقي وابن حبان، وقال -صلى الله عليه وسلم: " خير الرزق ما كان يومًا بيوم كفافًا"، رواه ابن عدي والديلمي، أي: ما يقنع به، ويرضى على الوجه المطلوب شرعًا، ومن قنع بالمقسوم كانت ثقته بالله التي شأنها أن لا تنقطع كنزًا له لا ينفد إمداده، وأشعر تشبيه القناعة بالمال أنها إنما تطلب في أمور الدنيا؛ ليُسْتَغْنَى بها عن الناس، ولئلَّا يشتغل بكثرتها عن الآخرة؛ لكونه مجبولًا على الشحِّ، كما أجاب به بعض الصوفية قائلًا: أما القناعة من المعرفة بالقليل فمذمومة بنص قوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، أي: بك وبأسرار أحكامك لا زيادة التكاليف، فإنه كان يكره السؤال في الأحكام. "رواه الطبراني في الأوسط من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر" القرشي، التيمي، المدني، ليِّن الحديث، روى له الترمذي والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمانين ومائة، "عن أبيه، عن جابر" بن عبد الله. قال الذهبي: وإسناده واهٍ، "والقضاعي بدون: وكنز لا يفنى، عن أنس" رفعه، وكذا رواه بدونها العسكري من الطريق الأولى عن جابر، "وفي القناعة أحاديث كثيرة"، منها: حديث عمرو مرفوعًا: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه"، وعن علي في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] ، قال: القناعة، وكذا قال الأسود: إنها القناعة والرضا، وعن سعيد بن جبير، قال: لا يحوجنَّه إلى أحد، "ولو لم يكن" كما قال بشر بن الحارث: "في القناعة إلّا التمتع بالعزِّ"، أي: شرف النفس وقوتها بالصبر على ما أعطته، "لكفى صاحبه، وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ قنِّعني بما رزقتني"، وأنشد بعضهم"، وهو ابن دريد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 دعائه -عليه الصلاة والسلام: "اللهم قَنِّعني بما رزقتني" , وأنشد بعضهم: ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعًا ما عاش مفتقرًا وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ما خاب من استحار, ولا ندم من استشار،   ما ذاق طعم الغنى من لا قنوع له ... ولن ترى قانعًا ما عاش مفتقرا والعرف من يأته يحمد مغبَّته ... ما ضاع عرف وإن أوليته حجرا قنوع -بضم القاف- المراد: الرضا، ويروى: ما ذاق روح الغني، قال المجد: القنوع -بالضم- السؤال والتذلل، والرضا بالقسم ضد, والفعل كمنع، ومن دعائهم: نسأل الله القناعة، ونعوذ به من القنوع، وفي المثل: خير الغنى القنوع، وشر الفقر الخضوع، ومقتضاه: اتحاد الماضي والمضارع معنًى، وفي المصباح: قنع يقنع -بفتحتين- قنوعًا سأل، وقنعت به قنعًا من باب تعب، وقناعة رضيت، وهو قنع وقنوع انتهى، وعلى هذا قول القائل: العبد حران قنع ... والحر عبدان قنع فاقنع ولا تقنع فما ... شيء يشين سوى الطمع فقوله: إن قنع -بكسر النون- أي: رضي، وثانيًا -بفتحها- أي: سأل، وفاقنع فارض، ولا تقنع ولا تسأل، وقال أبو العتاهية: تسربلت أخلاقي قنوعًا وعفة ... فعندي بأخلاقي كنوز من الذهب فلم أر خصبًا كالقنوع لأهله ... وإن يحمل الإنسان ما عض في الطلب "وقوله -صلى الله عليه وسلم: $"ما خاب من استخار" الله تعالى، أي: طلب الخيرة في الأمور منه تعالى، وحقيقتها تفويض الاختيار إليه تعالى، فإنه الأعلم بخيرها للعبد، والقادر على ما هو خير لمستخيره إذا دعاه بخير له، فلا يخيب أمله، والخائب من لم يظفر بمقصوده، وكان -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا ما يقول: "اللهم خر لي واختر لي". قال ابن أبي جمرة: هذا الحديث عام أريد به الخصوص، فالواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام، والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح، وفي المستَحَبِّ إذا تعارض فيه أمران أيهما يبتدئ به، أو يقتصر عليه. قال الحافظ: ويدخل في الواجب والمستَحَبّ المخير، وفيما كان منه موسعًا، وشمل العموم العظيم والحقير، فربّ حقير يترتَّب عليه أمر عظيم، "ولا ندم من استشار " غيره ممن له تبصر ونصيحة. قال الحراني: والمشورة أن تستخلص حلاوة الرأي وخالصه من خبايا الصدر، كما يشور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 ولا عال من اقتصد". رواه الطبراني في معجمه الأوسط من حديث أنس. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة،   العسل جانيه، وفي بعض الآثار: نقِّحوا عقولكم بالمذاكرة، واستعينوا على أموركم بالمشاورة، وقال الحكماء: من كمال عقلك استظهارك عليه، وإذا أشكلت عليك الأمور، وتغيّر لك الجمهور، فارجع إلى رأي العقلاء، وافزع إلى استشارة الفضلاء، ولا تأنف من الاسترشاد، ولا الاستمداد. وقال بعض العارفين: الاستشارة بمنزلة تنبيه النائم أو الغافل، فإنه يكون جازمًا بشيء يعتقد أنه صواب، وهو بخلافه، ولا يشاور إلّا أمينًا مجربًا، حازمًا ناصحًا، ثابت الجأش, غير معجَبٍ بنفسه، ولا متلوّن في رأيه، ولا كاذب في مقاله. زاد بعضهم: وليس محبًّا لغلبة هوى محبوبه عليه، ولا امرأة، ولا متجردًا عن الدنيا لعدم معرفته، ولا منهمكًا في حبها؛ لأن استيلائها عليه يظلم قلبه، فيفسد رأيه، ولا بخيلًا. قال ابن عباس: لما نزل وشاورهم في الأمر قال -صلى الله عليه وسلم: "أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، لكن جعلها الله رحمة لأمتي، فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غيًّا"، رواه البيهقي بإسناد غريب. وقال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من النبي -صلى الله عليه وسلم, رواه الشافعي، ويستحبّ تقديمها على الاستخارة، كما في المدخل، "ولا عال من اقتصد"، أي: ما افتقر من توسط في النفقة على عياله، "رواه اطبراني في معجمه الأوسط"، وكذا في الصغير، كما قال النور الهيثمي "من حديث أنس" بإسناد ضعيف جدًّا. انتهى، فمن عزاه للصغير فقط، كالفتح والمقاصد، أو للأوسط فقط، كالمصنّف والجامع، فقد قصروا وهم، وكذا جزم الحافظ بأنّ إسناده واهٍ جدًّا، لكن له شواهد كثيرة. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الاقتصاد"، أي: التوسُّط "في النفقة"، وتجنّب الإفراط والتفريط فيها "نصف المعيشة". قال الطيبي: وذلك لأنَّ كِلَا طرفي التبذير والتقتير ينغِّص المعيشة، والتوسّط فيه هو العيش، والعيش نوعان: عيش الدنيا وعيش الآخرة، كما أنَّ العقل نصفان: مطبوع ومسموع، والمسموع صنفان: معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق، وقال غيره: التوسّط في النفقة يحصل به راحة للعبد, وحسن حال، وذلك نصف ما به الحياة، فقد قيل: كمال العيش شيئان: مدة الأجل وحسن الحال، فمدة الأجل لا دخل للعبد فيها بوجه، وحسن الحال, وإن كان من الله، لكنَّه جعل للعبد مدخلًا فيه، بالسعي في أسبابه المحصّلة له عادة، "والتودد"، أي: التحبب "إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم". رواه البيهقي في الشعب، والعسكري في الأمثال، وابن السني والديلمي من طريقه, والقضاعي, كلهم من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا. وضعَّفه البيهقي، لكن له شاهد عن العسكري من حديث خلّاد بن عيسى, عن ثابت عن أنس رفعه: "الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين". وكذا أخرجه الطبراني وابن لال   الناس"، بالأخذ في أسباب المحبَّة، كملاقاتهم بالبشر، وطلاقة الوجه، وحسن الخلق، والرفق وغير ذلك، "نصف العقل"؛ لأنه يبعث على السلامة من شرّهم ومحبتهم، أي: نصف ما يرشد إليه العقل، ويحصله جعله نصفان مبالغة، حتَّى كأنَّ ما يرشد إليه من المحاسن هو نفسه، وقال بعضهم: ما يرشد إليه العقل صنفان: معاملة مع الله، ومعاملة مع الخلق، كما قيل: العقل العبودية لله، وحسن المعاملة مع خلقه، "وحسن السؤال نصف العلم"، فإن السائل الفطن يسأل عمَّا يهمه وما هو بشأنه أعنى، وهذا يحتاج إلى فضل تمييز بين مسئول ومسئول، فإذا ظفر بمبتغاه وفاز به كمل علمه، وعليه يحمل قوله: لا أدري نصف العلم، ذكره الطيبي، وقال غيره: إذا أحسن سؤال شيخه أقبل عليه بقلبه وقالبه، وأوضح له ما أشكل، وأبان له ما أعضل، لكونه وجد استعدادًا وقابلًا، وإذا لم يحسن السؤال أعرض عنه، وضنَّ بإلقاء النفائس إليه، وقنع من الجواب يئزر يسير مما يورده عليه، "رواه البيهقي في الشعب"، والطبراني في مكارم الأخلاق، "والعسكري في الأمثال، وابن السُّنِّي" -بضم المهملة، وشد النون- نسبة إلى السنة، ضد البدعة, الحافظ أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الدينوري. روى عن جماعة منهم النسائي، واختصر سننه الكبرى، وسمَّاه المجتبى، وله عمل يوم وليلة، وغير ذلك، وتوفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، "والديلمي من طريقه، والقضاعي, كلهم من طريق نافع، عن ابن عمر مرفوعًا، وضعَّفه البيهقي، لكن له شاهد عن العسكري من حديث خلّاد بن عيسى" الصفَّار، أبي مسلم الكوفي, لا بأس به، روى له الترمذي، وابن ماجه "عن ثابت" البناني، "عن أنس رفعه "الاقتصاد نصف العيش"، أي: المعيشة, "وحسن الخلق" -بالضم- "نصف الدِّين"؛ لأنه يكسب صاحبه ملكة تامَّة، يقتدر بها على تجنُّب ما يخلّ بمروآته ودينه، فمن حازه توفَّر عليه نصف الدِّين، فليتَّقِ الله في النصف الثاني، بخلاف سوء الخلق، فيوقع صاحبه في رقَّة الديانة، وقلة الأمانة، ويورِّطه في القبائح كرهًا عليه، فإنه عند ثوران الغضب لا يدري ما يقول، ولا ما يفعل، "وكذا أخرجه الطبراني"، والخطيب، "وابن لال" أحمد بن علي، ولال أخرس، "ومن شواهده أيضًا للعسكري عن أنس، رفعه: "السؤال نصف العلم"، أي: حسنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 ومن شواهده أيضًا: ما للعسكري عن أنس رفعه: "السؤال نصف العلم، والرفق نصف المعيشة، وما عال امرؤ في اقتصاد". وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: "السؤال نصف العلم, والرفق نصف المعيشة". وفي صحيح ابن حِبَّان من حديث طويل عن أبي ذر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق". وهذا   بدليل اللفظ السابق "والرفق"، أي: الاقتصاد في النفقة بقدر ذات "نصف المعيشة"، وهي ما يعاش به من أسباب العيش، "وما عال امرؤ"، أي: افتقر، "في اقتصاد"، وورد: الرفق في المعيشة خير من بعض التجارة، ورواه الدارقطني والطبراني وغيرهما، ويروى كما في الفردوس: خير من كثير من التجارة، "وللديلمي من حديث أبي أمامة رفعه: "السؤال"، أي: حسنه، "نصف العلم، والرفق نصف المعيشة"، وجاء في خبر: من فقه الرجل رفقه في معيشته. قال مجاهد: ليرفق أحدكم بما في يده، ولا يتأوّل قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، فإن الرزق مقسوم، فلعلَّ رزقه قليل، فينفق نفقة الموسع، ويبقى فقيرًا حتى يموت، بل معنى الآية: إن ما كان من خلف فمنه سبحانه، فلعله إذا أنفق بلا إسراف ولا إقتار كان خيرًا من معاناة بعض التجار. "وفي صيح ابن حبان من حديث طويل عن أبي ذر, أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال له: "يا أبا ذر, لا عقل"، أي: لا شيء مما يؤدي إليه العقل من المحاسن، "كالتدبير"، وهو النظر في العواقب لأمن صاحبه الغوائل والوقوع فيما يضره. قال الطيبي: أراد بالتدبير العقل المطبوع، وقال القيصري: هو خاطر الروح العقلي، وهو خاطر التدبير لأمر المملكة الإنسانية، والنظر في جميع الخواطر الواردة عليه من جميع الجهات، ومنه يؤخذ الفهوم والعلوم الربانية، "ولا ورع"، أي: لا شيء من أسبابٍ تؤدي إلى الورع، وهو اجتناب الشبهات، خوفًا من الوقوع في الحرام، "كالكف" أي: منع النفس عن الحرام والمكروه، فمن فعله بَعُدَ عن الشبهات، والورع في الأصل الكَفّ، ثم استُعِيرَ للكفّ عن المحارم، فإن قيل: يلزم اتحاد المشبّه والمشبَّه به، أجيب بأنه إذا أطلق فهم منه كف الأذى، أو كف اللسان، فكأنه قيل: لا ورع كالصمت، أو كفّ الأذى عن الناس، أو عن المحارم، "ولا حسب"، أي: لا شيء يفتخر به من الصفات الحميدة، "كحسن الخلق" مع الخلق، فالأوَّل عام والثاني خاص، و"هذا اللفظ عند البيهقي في الشعب"، وقد أبعد شيخه السخاوي النجعة في الغزو، فإنه في سنن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 اللفظ عند البيهقي في الشعب. وله أيضًا وللعسكري عن علي مرفوعًا: "التودد نصف الدِّين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد"، أي: ما افتقر من أنفق قصدًا, ولم يجاوزه إلى الإسراف. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "المؤمن من أمنه الناس" رواه الترمذي. وقوله: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده،   ابن ماجه عن أبي ذر بلفظه، "وله أيضًا وللعسكري عن علي مرفوعًا: "التودد نصف الدِّين، وما عال امرؤ قط على اقتصاد"، صلة لمحذوف، أي: اشتمل على اقتصاد، وتتمة ذا الحديث: "واستنزلوا الرزق بالصدقة، وأبى الله أن يجعل رزق عباده المؤمنين من حيث يحتسبون"، "أي: ما افتقر من أنفق قصدًا"، توسطًا بقدر ذات اليد، "ولم يجاوزه إلى الإسراف"، وفي التنزيل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] الآية، وللديلمي عن أنس رفعه: "إن أحدكم يأتيه الله -عز وجل- برزق عشرة أيام في يوم واحد، فإن هو حبس عاش تسعة أيام بخير، وإن هو وسّع وأسرف قُتِّر عليه تسعة أيام". "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "المؤمن من أمنه الناس"، أي: من حقه أن يكون موصوفًا بذلك، أو المراد: المؤمن الكامل، "رواه الترمذي"، وحسَّنه ابن ماجه، كلاهما من حديث فضالة بن عبيد بزيادة: "من أموالهم وأنفسهم، والمهاجرة من هجر الخطايا والذنوب"، وهو عطف تفسير، أو عام على خاص. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "المسلم" الكامل، فأل لكمال نحو: زيد الرجل"، أي: الكامل في الرجولية، وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض، أو المراد: علامة المسلم الذي يستدل بها على إسلامه، "من سَلِمَ المسلمون" والمسلمات وأهل الذمة، فخرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كفِّ الأذى عن أخيه أشد تأكيدًا؛ ولأن الكفار بصدد أن يقاتلوا، وإن كان فيهم من يحب الكفّ عنه "من لسانه ويده"، إلّا في حَدٍّ، أو تعزيز، أو تأديب، وخَصَّ اللسان بالذكر؛ لأنه المعبر عمَّا في النفس واليد؛ لأن أكثر الأفعال بها، واستشكل تقدير الكامل باستلزامه أنَّ المتَّصف بهذا فقط يكون كاملًا، وأجيب بأن المراد مع مراعاة باقي الصفات التي هي أركان الإسلام. قال الخطابي: أفضل المسلمين من جمع أداء حقوق الله وأداء حقوق المسلمين. قال الحافظ: ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحثِّ على حسن معاملة العبد مع ربه؛ لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه، فأَوْلَى أن يحسن معاملة ربه, من باب التنبيه بالأدنى على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 والمهاجر مَنْ هجر ما حرَّم الله عليه"، متفق عليه عن ابن عمرو، به مرفوعًا، وعن أبي موسى، ومسلم عن جابر. وقوله: "قلة العيال أحد اليسارين".   الأعلى. قال: والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد؛ لأن اللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والجائين بخلاف اليد، نعم يمكن أن تشارك اللسان في ذلك بالكتابة، وإنّ أثرها في ذلك لعظيم، ونكتة التعبير باللسان دون القول شموله من أخرج لسانه استهزاء، وذكر اليد دون غيرها من الجوارح؛ ليدخل اليد المتعدية على حق الغير بلا حق، وفيه من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق، وهو كثير، "والمهاجر" حقيقة بمعنى الهاجر، وإن اقتضى المفاعل وقوع فعل بين اثنين، لكنَّه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل أنه على بابه؛ إذ من لازم كونه هاجرًا وطنه، مثلًا أنه مهجور منه، "من هجر ما حرَّم الله عليه"، هذا لفظ رواية النسائي وأبي داود، ولفظ البخاري: "من هجر ما نهى الله عنه". قال الحافظ: والهجرة ضربان: ظاهرة، وهي الفرار بالدِّين من الفتن، وباطنة، وهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمَّارة بالسوء والشيطان، وكأنَّ المهاجرين خوطبوا بذلك، لئلّا يتَّكِلُوا على مجرَّد التحوّل من دارهم، حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قبل انقطاع الهجرة، فلمَّا فتحت مكة تطييبًا لقلوب من لم يدرك ذلك، بأن حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نُهِيَ عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام، "متفق عليه، عن ابن عمرو" بن العاص "به مرفوعًا وعن أبي موسى"، كذا وقع المصنف تبعًا لشيخه في المقاصد بالحرف، وهو منابذ لقول الحافظ في الفتح، هذا الحديث من إفراد البخاري عن مسلم، أخرج مسلم معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان، والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحًا: "والمؤمن من أَمِنَه الناس" وكأنَّه اختصره هنا لتضمنه لمعناه انتهى، "ومسلم" وحده "عن جابر" بلفظ: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده" دون بقيته، فإيذاء المسلم من نقصان الإيمان، والإيذاء ضربان: ضَرْبٌ ظاهر بالجوارح، كأخذ المال بنحو سرقة، أو نهب، وضرب باطن كالحسد، والغل، والبغض، والحقد، والكبر، وسوء الظن، والقسوة, ونحو ذلك، فلذلك كله مضربًا لمسلم مؤذ له، وقد أمر الشرع بكفّ النوعين من الإيذاء، وهلك بذلك خلق كثير. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "قلة العيال أحد اليسارين"؛ لأن الغنى نوعان: غنى بالشيء والمال، وغنى عن الشيء لعدم الحاجة إليه، وهذا هو الحقيقي، فقِلَّة العيال لا حاجة معها إلى كثرة المؤن، وقيل: اليسار خفض العيش، أي: سعته والراحة فيه، وزيادة الداخل على الخرج، أو وفاء الدخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 رواه صاحب مسند الفردوس ولفظه: "التدبير نصف المعيشة، والتودد نصف العقل, والهم نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين". وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك   بالخرج، فمن كثر عياله ودخله، وفضل له من دخله، أو وفَّى دخله بخرجه، أو قَلَّ عياله ودخله وفضل، أو وفَّى، فهو في يسر، ومن قَلَّ دخله وكَثُرَ عياله في عسر، "رواه صاحب مسند الفردوس" الديلمي عن أنس، وكذا القضاعي عن علي، "ولفظه: "التدبير"، أي: النظر في عواقب الأمور, "نصف المعيشة"، إذ به يحترز عن الإسراف والتقتير، وكمال العيش شيئان: مدة الأجل وحسن الحال فيها، ولا يعارض هذا قول الصوفية: أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك؛ لأن الحديث في تدبير صحبة تفويض، وكلامهم فيما لم يصحبه، "والتودد" التحبب إلى الناس "نصف العقل، والهم نصف الهرم"، وهو ضعف ليس وراءه قوة، فإن لم يصل إلى الهرم؛ وزال الهمّ عادت القوة، فالْهَمّ إذًا نصف الضعف، "وقلة العيال أحد اليسارين". وفي المقاصد: حديث قلة العيال اليسارين، وكثرته أحد الفقرين. القضاعي عن علي، والديلمي عن غيره بالشطر الأول، مرفوعًا بسندين ضعيفين، وذكره في الإحياء بتمامه. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أدّ" -بفتح الهمزة وكسر الدال، وجوبًا في الواجب، وندبًا فيما تطلب يه المعاونة من الأداء. قال الراغب: وهو دفع ما يجب دفعه وتوفيته، أي: أوصل "الأمانة"، وهي كل حقٍّ لزمك أداؤه، أو حفظه، ومن قصرها على حق الحق، أو حق الخلق، فقد قصر. قال القرطبي: الأمانة تشمل أعدادًا كثيرة، لكنَّ أمهاتها الوديعة، واللقطة، والرهن، والعارية، "إلى من ائتمنك" عليها، ولا مفهوم له، بل غالبي، فإن حفظها أثر كمال الإيمان، فإذا نقص نقصت الأمانة في الناس، وإذا زاد زادت، والمراد: من جعل لك شرعًا على ما لديه يدًا، فشمل ما إذا ألقت الريح ثوبًا ببيتك، أو دخل فيه جائع، والمراد بأدائها: إيصالها إليه بالتخلية بينه وبينه، فليست الأمانة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، من أنها ما لم يضمّنه ذو اليدين إذا لم يقصر. وقال النووي: الظاهر أنَّ المراد بالأمانة التكليف الذي كلف الله به عباده، والعهد الذي أخذه الله عليهم، وهي التي في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية، وفي النهاية: الأمانة تقع على الطاعة، والعبادة، والوديعة، والثقة، والأمان. وقال الفخر الرازي: قيل: هي التكاليف, سُمِّيَتْ أمانة؛ لأن من قصر فعليه الغرامة، ومن وفَّى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 ولا تخن من خانك". رواه أبو داود والترمذي من رواية شريك وقيس بن الربيع،   فله الكرامة، وقيل: هي لا إله إلا الله، وهو بعيد، فالأكوان ناطقة بأن الله واحد، وقيل: هي الأعضاء، فالعين أمانة ينبغي حفظها، والأذن كذلك، وبقية الأعضاء، وقيل: هي معرفة الله، ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة، رواغة عنه مضايق الأمانة، وربما تأوّلت جوازها مع من لم يلتزمها، أعقبه بقوله: "ولا تخن من خانك" أو لأنَّ الأول عام، والثاني في شيء خاص، فلا يقال: يستغني بالأول عن الثاني، أي: لا تعامله بمعاملته، ولا تقابل خيانته بخيانتك فتكون مثله، وليس منها ما يأخذه الإنسان من مال من جحد حقه؛ إذ لا تعدي فيه، أو المراد: إذا خانك صاحبك فلا تقابله بجزاء خيانته وإن كان حسنًا، أي: جائزًا، بل قابله بالأحسن الذي هو العفو، وادفع بالتي هي أحسن. قال الطيبي: وهذا أحسن، وهذه مسألة خلافية، "لا تخن من خانك مطلقًا"، وهذا ظاهر الحديث: خن من خانك، قاله الشافعي، وهو مشهور. ومذهب مالك، وأجابوا عن ذا الحديث: بأنه لم يثبت أولًا، أتأخذ منه أزيد من حقك، أو هو إرشاد إلى الأكمل، كما مَرَّ، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وبحديث هند، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف". ثالثها: إن كان من ائتمنك عليه، من خانك فلا تخنه، وإن كان ليس في يدك، فخذ حقك منه، قاله مالك. رابعها: إن كان من جنس حقك فخذ، وإلّا فلا، قاله أبو حنيفة. قال ابن العربي: والصحيح جواز الاعتداء بأن تأخذ مثل مالك من جنسه، أو غير جنسه إذا عدلت؛ لأن ما للحاكم فعله إذا قدرت تفعله إذا اطررت انتهى. وسبب الحديث، كما رواه إسحاق بن راهويه في مسنده أن رجلًا زنى بامرأة آخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الزاني، بأن تركها عنده وسافر، فاستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر، فقال له، فذكره. "رواه" البخاري في التاريخ، "وأبو داود، والترمذي" في البيوع، "من رواية شريك" بن عبد الله النخعي، الكوفي، قاضيها, صدوق, يخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ ولي القضاء، وكان عادلًا فاضلًا شديدًا على أهل البدع، مات سنة سبع، أو ثمان وسبعين ومائة، "وقيس بن الربيع" الأسدي الكوفي، ضعيف, تغيِّر لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدَّث به، مات سنة بضع وستين ومائة، "كلاهما عن أبي صالح"، ذكوان السمان الزيات المدني، ثقة ثبت، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 كلاهما عن أبي صالح والحارث من رواية الحسن، كلاهما عن أبي هريرة. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وأخرجه الدارمي في مسنده، والحاكم وقال: إنه صحيح على شرط مسلم، ولكن أعلّه ابن حزم وكذا ابن القطان والبيهقي. وقال أبو حاتم: إنه منكر، وقال الشافعي: إنه لي بثابت عند أهله. وقال أحمد: هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه صحيح. قال شيخنا: لكن بانضمامها يقوى الحديث. انتهى. وقوله: "الرضاع يغيّر الطباع،   كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة إحدى ومائة، "و" رواه "الحارث" بن أبي أسامة "من رواية الحسن" البصري، "كلاهما" يعني: أبا صالح والحسن، "عن أبي هريرة". "وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وأخرج الدارميّ في مسنده، والحاكم، وقال: إنه صحيح على شرط مسلم"؛ لأنه روى لشريك، "ولكن أعلّه ابن حزم، وكذا ابن القطان والبيهقي". "وقال أبو حاتم: إنه منكر"، أي: ضعيف، "وقال الشافعي" الإمام: "إنه ليس بثابت"، أي: ضعيف "عند أهله"، أي: الحديث. "وقال أحمد" الإمام: "هذا حديث باطل"، ولعله باعتبار ما وقف عليه، وإلّا فليس في رواته وضَّاع ولا كذَّاب, أو ليس مراده حقيقة البطلان، بل الضعف، بدليل قوله: "لا أعرفه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجه صحيح"، وقال ابن ماجه: له طرق ستة كلها ضعيفة. "قال شيخنا"، أي: السخاوي في المقاصد: "لكن بانضمامها يقوى الحديث، انتهى"؛ لأن تباين الطرق وكثرتها يفيد قوة، وأنّ للحديث أصلًا، وقد رواه الدارقطني والطبراني في الكبير والصغير، من حديث أنس ورجاله ثقات، وصحَّحه الضياء في المختارة، ورواه الطبراني في الكبير، وابن عساكر والبيهقي من حديث أبي أمامة بإسنادٍ ضعيف، والدارقطني عن أُبَيّ بن كعب بإسناد ضعيف، والطبراني أيضًا عن رجل من الصحابة، فحديث أبي هريرة لا يقصر عن درجة الحسن، وقد صحَّحَه ابن السكن. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الرضاع"، أي: اللبن الذي يشربه الطفل من غير أمه، وحقيقته مَصّ الثدي، استُعْمِلَ في اللبن مجازًا، "يغيِّر الطباع"، أي: طبع الصبي عن لحوقه بطبع والديه إلى طبع مرضعته، لصغره ولطف مزاجه، فمراد الحديث: حث الوالدين على توخي مرضعة ظاهرة العنصر، زكية الأصل، ذات عقل ودين وخلق حسن، والطباع ما تركَّب في الإنسان من جميع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا إيمان لمن لا أمانة له, ولا دين لمن لا عهد   الأخلاق التي لا يكاد يزاولها من خير وشر، كذا في النهاية. وفي المصباح: الطبع -بالسكون: الجبلة التي خلق الإنسان عليها. قال الديريني: والعادة جارية بأنَّ من ارتضع امرأة غلب عليه أخلاقها من خير وشر، ومن ثَمَّ لما دخل الشيخ أبو محمد الجويني بيته، ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرضع ثدي غير أمه اختطفه منها، ثم نكس رأسه ومسح بطنه، وأدخل أصبعه في فيه، ولم يزل يفعل كذلك حتى خرد ذلك اللبن, قائلًا: يسهل علي موته، ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير أمه، ثم لما كبر الإمام كان إذا حصلت له كبوة في المناظر، يقول: هذه من بقايا تلك الرضعة، "رواه أبو الشيخ من حديث ابن عمر" بن الخطاب، والقضاعي، والديلمي، وابن لال عن ابن عباس، وادَّعى بعضهم أنه حديث حسن، وتعقَّب بأن فيه صالح بن عبد الجبار. قال في الميزان: أتى بخبر متكبر جدًّا، وساق هذا الحديث، وفيه أيضًا عبد الملك بن مسلمة, مدني ضعيف. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا إيمان" كامل "لمن لا أمانة له" "، فالأمانة لب الإيمان، وهي منه بمنزلة القلب من البدن، وهي في العين، والسمع، واللسان، واليد، والرجل، والبطن، والفرج، فمتى ضيع جزء منها ضعف إيمانه بقدره، "ولا دين"، أي: لا خضوع، ولا انقياد لأوامر اله ونواهيه وأمانته، والعهد الذي وضعه الله بينه وبين عباده يوم إقرارهم بالربوبية في حمل أعباء الوفاء في جميع جوارحه، فمن استكمل الدين استوفى الجزاء، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ، "لمن لا عهد له"؛ لأنَّ الله إنما جعل المؤمن مؤمنًا ليأمن الخلق جَوْرَه، والله عدل لا يجور، وإنما عهد إليه؛ ليخضع له بذلك العهد فيأتمر بأموره، ذكره الحكيم والترمذي. قال البيضاوي: هذا وأمثاله وعيد لا يراد به الوقوع، وإنما يقصد به الزجر والردع، ونفي الفضيلة والكمال دون الحقيقة في رفع الإيمان وإبطاله. وقال المظهري: معنى: "لا دين لمن لا عهد له"، أنَّ من جرى بينه وبين أحد عهد، ثم غدر بلا غدر شرعي، فدينه ناقص, إما لعذر، كنقض الإمام المعاهدة مع الحربي لمصلحة, فجائز. قال الطيبي: وفي الحديث إشكال؛ لأنَّ الدين والإيمان والإسلام أسماء مترادفة موضوعة، لمفهوم واحد في عرف الشرع، فلِمَ فرَّق بينها، وخص كل واحد منها بمعنى، وجوابه أنهما وإن اتفقا لفظًا، فقد اختلفا هنا معنًى؛ لأن الأمانة ومراعاتها إمَّا مع الله، فهي ما كُلِّفَ به من الطاعة، وتسمَّى أمانة؛ لأنه لازم الوجود، كما أنَّ الأمانة لازمة الأداء، وأمَّا مع الخلق فظاهر، وأن العهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 له". رواه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والبيهقي في الشعب عن أنس. وقوله: "النساء حبائل الشيطان". رواه في مسند الفردوس عن عقبة بن عامر. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "حسن العهد من الإيمان" رواه الحاكم في مستدركه   توثيقه، أما مع الله فاثنان: الأوَّل: ما أخذه على ذرية آدم في الأزل، وهو الإقرار بروبيته قبل خلق الأجساد، والثاني: ما أخذه عند هبوط آدم إلى الدنيا من متابعة هدى الله من الاعتصام بكتاب ينزله ورسول يرسله، وأما مع الخلق فظاهر أيضًا، فحينئذ ترجع الأمانة والعهد إلى طاعته تعالى بأداء حقوقه وحقوق عباده، كأنه: لا إيمان ولا دين لمن لا يفي بعهد الله بعد ميثاقه، ولا يؤدي أمانته بعد حملها، وهي التكاليف من أمر ونهي، "رواه أحمد، وأبو يعلى في مسنديهما والبيهقي في الشعب، عن أنس" قال الذهبي: وسنده قوي، وصحَّحه ابن حبان. "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "الشباب شعبة من الجنون، و "النساء حبائل الشيطان"، أي: مصايده جمع حبالة -بالكسر، ما يصاد به من أيّ شيء كان, ويروى بهما، والرواية بالجمع أكثر، قاله السخاوي، والمراد: إن النساء آلات للشيطان يتوصَّل بهنَّ إلى إغواء الفسقة، فإنهم إذا رأوا النساء مالت قلوبهم إليهنَّ سيما المتبرجات، فالنساء له كالشبكة التي تصاد بها الوحوش النافرة، فأرشد -صلى الله عليه وسلم- لكمال شفقته على أمته إلى الحذر من النظر إليهنّ، والقرب منهنّ، وكفَّ الخاطر عن الالتفات إليهنَّ باطنًا ما أمكن. وقال في حديث: "اتقوا الدنيا والنساء"، فخصَّهنَّ لكونهن أعظم أسباب الهوى، وأشدّ آفات الدنيا، "رواه" الديلمي بتمامه "في مسند الفردوس" وكذا القضاعي، "عن عقبة بن عامر" الجهني، ورواه الديلمي أيضًا عن عبد الله بن عامر، وأبو نعيم عن عبد الرحمن بن عابس، وابن لال عن ابن مسعود، والخرائطي والتيمي عن زيد بن خالد، وهو حديث حسن، ولا ينافي قوله: "الشباب شبعة من الجنون" قول سفيان الثوري: يا معشر الشباب عليكم بقيام الليل، فإنما الخير في الشباب؛ لكونه محلًّا للقوة والنشاط غالبًا. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "حسن العهد"، قال السخاوي: ينصرف لغةً إلى وجوه؛ أحدها: الحفظ والمراعاة، وهو المراد هنا, "من الإيمان"، أي: من أخلاق أهله وخصائلهم، أو من شعب الإيمان، أو كماله، وأمَّا عهد الدخول في الإيمان فذاك الإيمان، وظاهر أيضًا أنه يسمَّى وفاء بالإيمان، ويكفيه مشرفًا ومدحًا، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} ، "رواه الحاكم في مستدركه" في كتاب الإيمان، ومن طريقه الديلمي من حديث الصغاني، عن أبي عاصم قال: حدَّثنا صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة، "عن عائشة، قالت: جاءت عجوز إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عندي، فقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عندي فقال لها: "من أنت"؟ فقالت: جثامة المزينة, قال: "أنت حسانة، كيف أنتم، كيف حالكم، كيف كنتم بعدنا"؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي، فلمَّا خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الاقبال؟ قال: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان"، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين وليس له علة. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الخمر جماع الإثم".   لها: "من أنت"؟ فقالت: جثامة المزنية"، قال في الإصابة: بجيم ومثلثة ثقيلة، أي: فألف، فميم, غَيِّر النبي -صلى الله عليه وسلم- اسمها، و"قال: "أنت حسانة" "، بحاء وسين مهملتين، أي: وبعد الألف نون أ. هـ، فلم يصب من قال: هو من تمام إظهار الميل إليها والشفقة عليها، لا للشك في أنها هي أو غيرها؛ لأنه مبني على تصحيف أخبارها باسمها بالاسم الذي غَيِّرَه المصطفى دون مراجعة المنقول, "كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا"؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي" يا رسول الله، "فلما خرجت قلت: يا رسول الله تقبل" بحذف همزة الاستفهام التقريري، أي: أتقبل "على هذه العجوز هذا الإقبال" الزائد، "قال: "إنها كانت تأتينا زمن خديجة"، فلنا بها معرفة قديمة، "وإن حسن العهد" الوفاء والحفظ، ورعاية الحرمة "من الإيمان" وقال" الحاكم: "إنه صحيح على شرط الشيخين، وليس له علة"، وأقرَّه الذهبي، وأخرجه ابن عبد البر من الطريق التي أخرجه الحاكم، وقال: هذا أصح من رواية من روى ذلك في ترجمة الحولاء بنت تويت، ثم رواه من طريق الكديمي، عن أبي عاصم، عن صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: استأذنت الحولاء على رسول الله.. فذكره. وقال: هكذا رواه الكديمي، والصواب: إن هذه القصة لحسَّانة المزنية كما تقدَّم، وتعقَّبه في الإصابة؛ بأنه لا يمتنع احتمال التعدد، كما لا يمتنع احتمال أنَّ حسَّانة اسمها, والحولاء وصفها، أو لقب لها، وقد اعترف أبو عمر؛ بأن الكديمي لم يقل: بنت تويت، فلم يصب في إيراده في ترجمة بنت تويت، ثم اعتراضه، وإنما هي أخرى أن ثبت السند, والعلم عند الله أ. هـ. وقول السخاوي يحتمل التعدد مع بعده لاتحاد الطريق فيه نظر, فليست متحدة؛ لأن طريق الحاكم وأبي عمر في أنها حسانة، ليس فيها الكديمي الذي سماها الحولاء، وإن توافقًا فيما فوقه، ولذا يستبعد شيخه في الإصابة احتمال التعدد. "وقوله -عليه الصلاة والسلام" فيما رواه الديلمي في حديثه عن عقبة: "الخمر جماع الإثم" بكسر الجيم والتخفيف، أي: مجمعه ومظنَّته، كما في النهاية، أي: شربها سبب لكل إثم؛ لحملها الشارب على مجاوزة الحدود، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "الخمر أمّ الفواحش وأكبر الكبائر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 وقوله -صلى الله عليه وسلم: "جمال الرجل فصاحة لسانه". رواه القضاعي من حديث الأوزاعي, والعسكري من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر، كلاهما عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعًا. وأخرجه أيضًا الخطيب وابن طاهر، وفي إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي, والديلمي من حديث جابر رفعه: "الجمال صواب المقال،   من شربها ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته" رواه الطبراني، وقال: "الخمر أم الخبائث" رواه القضاعي. "وقوله -صلى الله عليه وسلم: "جمال الرجل فصاحة لسانه"، أي: قدرته على التكلُّم ببلاغة وفصاحة، بلا تلعثم ولا لكنة؛ لأنه يظهره ويميزه على غيره، فأطلق الجمال على الكمال مجازًا؛ إذ الجمال الحسن، والمراد هنا كونه من فصحاء المصاقع، الذين أوتوا سلاطة الألسن وبسطة المقال من غير تصنّع ولا ارتحال، فلا يناقضه خبر: إن الله يبغض البليغ من الرجال؛ لأنه فيما فيه تيه ومبالغة في التشدق والتفصح، وذا في خلقي صحبة اقتصاد وساسه العقل، ولم يرد به الاقتدار على القول إلى أن يصغِّر عظيمًا، أو يعظِّم صغيرًا، أو ينض الشيء، أي: يظهره وضده، كما يفعله أهل زماننا، ذكره ابن قتيبة، "رواه القضاعي من حديث الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمر، والأوزاعي الفقيه الثقة الجليل, من رجال الستة، مات سنة سبع وخمسين ومائة، "والعسكري من حديث المنكدر بن محمد بن المنكدر" التيمي، "كلاهما" أي: الأوزاعي والمنكدر، "عن محمد بن المنكدر" بن عبد الله التيمي المدني، الثقة، أحد رجال الجميع، مات سنة ثلاثين ومائة، أو بعدها، "عن جابر" بن عبد الله "مرفوعًا، وأخرجه أيضًا الخطيب، وابن طاهر" محمد أبو الفضل بن طاهر بن علي المقدسي، الشيباني، الحافظ الكبير، الجوّال، روى عن خلائق بأربعين بلدًا أو أكثر، وعنه الديلمي وغيره. قال ابن منده: كان أحد الحفّاظ، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، صدوقًا عالمًا بالصحيح والسقيم، كثير التصانيف، لازمًا للأثر، وقال غيره: ما كان له نظير، وكان ظاهريًّا يرى إباحة السماع، ونظر المرد، ولحنة, لا يحسن النحو، مات سنة ثمان وخمسمائة وله ستون سنة. "وفي إسناده أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي"، وهو كذّاب، ومن بلاياه هذا الخبر، قاله الخطيب، وقال ابن طاهر: كان يضع الحديث، "وللديلمي من حديث جابر، رفعه: "الجمال صواب المقال" من إضافة الصفة للموصوف، أي: القول الصواب، وكذا يقال في قوله: "والكمال حسن الفعال"، أي: الفعال الحسنة، "بالصدق"، أي: معه، وخصّ الجمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 والكمال حسن الفعال بالصدق". وعند العسكري من حديث العباس, قلت: يا نبي الله, ما الجمال في الرجل؟ قال: "فصاحة لسانه". وقوله -عليه الصلاة والسلام: "منهومان لا يشبعان: طالب علم, وطالب دنيا".   بالمقال لظهوره ظهورًا تامًّا للناس, بخلاف الكمال فأمر باطني، غالبًا لا يظهر إلا بالفعال، وفي رواية الحكيم الترمذي: "الجمال صواب القول بالحق"، وباقيه سواء، "وعند العسكري من حديث العباس قلت: يا نبي الله, ما الجمال في الرجل؟ قال: "فصاحة لسانه" الخلقية بلا تكلف"، وفي إسناده محمد بن زكريا الغلابي، وهو ضعيف جدًّا. وروى الحاكم في المستدرك، عن علي بن الحسين، قال: أقبل العباس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه حلتان، وله ضفيرتان، وهو أبيض، فلمَّا رآه تبسَّم، فقال: يا رسول الله, ما أضحكك أضحك الله سنك، فقال: "أعجبني جمال عم النبي -صلى الله عليه وسلم"، قال العباس: ما الجمال؟ قال: "اللسان"، وهو مرسل. قال ابن طاهر: وإسناده مجهول، وروى العسكري عن ابن عمر: مَرَّ عمر بقوم يرمون، فقال: بئسما رميتم، فقالوا: إنا متعلمين، فقال عمر: لذنبكم في لحنكم أشد علي من ذنبكم في رميكم، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رحم الله أمرأ أصلح من لسانه". "قوله -عليه الصلاة والسلام: "منهومان" " تثنية منهوم، ومن نهم بالبناء للمفعول إذا أولع بالشيء واشتدَّ حرصه عليه، أي: اثنان مولعان لا يكتفيان بما يصل إليهما، فشبَّه عدم اكتفائهما بالجوع، فقال: "لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنا"، بخلاف المنهوم في شهوة الطعام، وهو المعروف بهذا الوصف، فإنه قد يشبع. قال في النهاية: النهمة شدة الحرص على الشيء، ومنه النهم من الجوع. قال الطيبي: إن ذهب في الحديث إلى الأصل كان لا يشبعان استعارة، لعدم انتهاء حرصهما، وإن ذهب إلى الفرع كان تشبيهًا، جعل إفراد المنهوم ثلاثة: أحدها المعروف، وهو المنهوم من الجوع، والآخرين العلم والدنيا، وجعلهما أبلغ من المتعارف، ولعمري أنه كذلك، وإن كان المحمود منهما هو العلم، ومن ثَمَّ أمر الله رسوله بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ، ويعضده قول ابن مسعود: ولا يستويان إلخ ... وقال الراغب: النهم بالعلم استعارة، وهو أن يحمل على نفسه ما تقصر قواها عنه فينبت، والمنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، "رواه الطبراني في الكبير، والقضاعي عن ابن مسعود، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 رواه الطبراني في الكبير, والقضاعي عن ابن مسعود رفعه، وهو عند البيهقي في المدخل, عن القاسم قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان: طالب العلم وصاحب الدنيا. ولا يستويان، أمَّا صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، وأمَّا صاحب العلم فيزداد من رضا الرحمن. وقال: إنه موقوف منقطع. وكذا رواه البزار والعسكري   رفعه" بهذا اللفظ، "وهو عند البيهقي في المدخل عن القاسم" بن محمد موقوفًا، فإنه "قال: قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان، طالب العلم وصاحب الدنيا"، عبَّر بصاحب إشارة إلى شدة رغبته فيها. قال الماوردي: وفيه تنبيه على أنَّ العلم يقتضي ما بقي منه، ويستدعي ما تأخَّر عنه، وليس للراغب فيه قناعة ببعضه، "ولا يستويان، أمّا صاحب الدنيا" الراغب فيها، المبالغ في الانهماك عليها، "فيتمادى في الطغيان، وأما صاحب العلم: فيزداد من رضا الرحمن"، والمعنى: إن من شأن صاحب الدنيا الازدياد فيما يبعده عن القرب من الله، ويوجب سخطه عليه، ومن شأن طالب العلم السعي فيما يقربه من رضا الله بالطاعة والإخلاص. قال الغزالي: اجتمع في الإنسان أربعة أوصاف، سبعية وبهيمية وشيطانية وربانية، فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطي أفعال السباع, بنحو: ضرب وشتم وبغضاء، ومن حيث الشهوة: يتعاطى أفعال البهائم كشره وحرص وشبق، من حيث سلط عليه السعي من الفتن، وأسباب الفساد يتعاطى أفعال الشيطان، ومن حيث إنه في نفسه أمر رباني، كما قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، يدعي لنفسه الربوبية, ويحب الاستيلاء والاستعلاء، والتخصيص، والاستبداد بالأمور، والتفرد بالربانية، والانسلال عن ربقة العبودية، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها، ويدَّعي لنفسه العلم والمعرفة والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، وهو حريص على ذلك لا يشبع. "وقال" البيهقي: "إنه موقوف منقطع"، ويمكن أنّ ابن مسعود كان يحدث به مرفوعًا، إذا لم يزد عليه شيئًا، وإذا زاد عليه قوله: ولا يستويان إلخ ... حدَّث به موقوفًا عليه، "وكذا رواه" أي: الحديث، لا بقيد صحابيه، "البزار" من حديث ليث، عن طاوس أو مجاهد، عن ابن عباس رفعه بلفظ: "منهومان لا يشبعان: طالب عالم وطالب دنيا". قال البزار: لا أعلمه، يروى من وجه أحسن من هذا، "والعسكري" من حديث ليث عن طاوس، ولم يشك في مجاهد، عن ابن عباس، أحسبه مرفوعًا: "منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب العلم، ومنهوم في طلب الدنيا"، وللعسكري عن أبي سعيد رفعه: "لن يشبع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 وغيرهما وبمجموعها يتقوَّى، وإن كانت مفراداته ضعيفة فيكون حسنًا، والله أعلم. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا فقر أشدَّ من الجهل، ولا مال أعزَّ من العقل، ولا وحشة أشد من العجب". رواه ابن ماجه. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الذنب لا ينسى، والبر لا يبلى،   المؤمن خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة"، "وغيرهما" كابن عدي، والقضاعي، والبيهقي عن أنس بلفظ الترجمة، وفي الباب ابن عمر، وأبو هريرة، "وبمجموعها يتقوّى" الحديث، "وإن كانت مفرداته ضعيفة، فيكون حسنًا" لغيره، "والله أعلم" بالواقع. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا فقر"، أي: لا احتياج في شيء يهتم بدفعه، والتخلّص منه "أشد من الجهل"؛ لأنه المواقع في مهالك الدنيا، والأخرى، فهو أقوى شيء يتخلص منه، فاستعمل الفقر الذي هو قلة المال في لازم معناه وهو الاحتياج؛ لاحتياجه للناس في كل مسألة, وللتخلص منه، "ولا مال"، أي: لا غنى عن الناس، "أعز من العقل"؛ لأنه المرشد إلى كل كمال، والموصِّل إلى كل خير ونول؛ إذ به يدبِّر صاحبه ما لا يدبّر ذو المال، فاستعمل في لازم معناه أيضًا، "ولا وحشة"، أي: لا انقطاع، ولا بعد للقلوب من المودة "أشد من العجب"؛، لحمله صاحبه على احتقار الغير، والتلبُّس بكل خطر وضير، فلا يألف أحدًا يستأنس به؛ لأنه يراهم أقلّ منه، فهو دائمًا في وحشة وحرمان، وإن كان في غاية القرب والمخالطة بمن يتصوّرهم ظاهرًا بصورة الإخوان، "رواه ابن ماجه". "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "الذنب"، أي: الإثم، بمعنى المؤثم، أي: ما يحصل به لوم، أو إثم على فاعله "لا ينسى"، بل هو محفوظ في صحف الملائكة، ولابُدَّ أن يجازي عليه، إن لم يحصل عفو، {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، ونَبَّه به على شيء دقيق، يغلط الناس فيه كثيرًا، وهو أنهم لا يرون تأثير الذنب، فينساه الواحد منهم، ويظنّ أنه لا يضره ذلك، وأنه كما قال: إذا لم يغبر حائط في وقوعه ... فليس له بعد الوقوع غبار قال ابن القيم: وسبحان الله! ما أهلكت هذه البلية من الخلق، وكم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وما أكثر المغترِّين بها من العلماء، فضلًا عن الجهّال، ولم يعلم المغترّ أن الذنب ينقض ولو بعد حين، كما ينقض السم والجرح المندمل على دغل. "والبر" بالكسر- الخير والفضل "لا يبلى"، أي: لا ينقطع ثوابه ولا يضيع، بل هو باقٍ عند الله تعالى، وقيل: أراد الإحسان, وفعل الخير لا يبلى ثناؤه، وذكره في الدنيا والآخرة، فهو بمنزلة الثوب الجديد، الذي لا يفنى ولا يتغير، "والدَّيَّان لا يموت"، بل هو سبحانه حي باقٍ، عالم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 والديان لا يموت، فكن كما شئت". رواه في مسند الفردوس عن ابن عمر. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ما جمع شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم". رواه العسكري في الأمثال من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي زين العابدين مرفوعًا بزيادة: "وأفضل الإيمان التحبُّب إلى الناس، ثلاث من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله، حلم يرد به جهل الجاهل،   بأحوال عباده، فيجازيهم عليها، وإذا علمت هذا، "فكن كما شئت"، من أحوال وأفعال خير أو شر، فإن الديَّان يجازيك عليه، ففيه وعيد وتهديد شديد، وفيه جواز إطلاق الديَّان على الله لو صحَّ الخبر، وفي رواية عبد الرزاق وغيره: "اعمل ما شئت، كما تدين تدان"، أي: كما تجازي تجازى، يقال: دنته بما صنع، أي: جزيته، ذكره الديلمي، ومن مواعظ الحكماء: عباد الله الحذر الحذر، فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر، ولقد أمهل حتى كأنه أهمل، "رواه" الديلمي "في مسند الفردوس"، وأبو نعيم "عن ابن عمر" بن الخطاب، وفيه محمد بن عبد الملك الأنصاري, ضعيف، وقد رواه عبد الرزاق في جامعه، والبيهقي في الزهد, وفي الأسماء والصفات له عن أبي قلابة، رفعه مرسلًا: "البر لا يبلى ... " إلخ، ووصله أحمد في الزهد، فرواه عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء من قوله، لكنه منقطع مع وقفه، وللديلمي عن أنس رفعه: "الذنب شؤم على غير فاعله, إن عيره ابتلي، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه". "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "ما جمع شيء إلى شيء أحسن"، وفي رواية: أفضل "من حلم إلى علم"؛ إذ باجتماعهما تحصل الكمالات والنجاة من الوقوع في المهلكات، "رواه العسكري في الأمثال، من حديث جعفر بن محمد"، أبي عبد الله، المعروف بالصادق، فقيه صدوق، إمام، روى له مسلم، وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمان وأربعين ومائة، "عن أبيه" محمد بن علي أبي جعفر الباقر، ثقة فاضل، مات سنة بضع عشرة ومائة، "عن" أبيه "علي بن الحسين" بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثقة ثبت، عابد فقيه، فاضل مشهور. قال الزهري: ما رأيت قرشيًّا أفضل منه، مات سنة ثلاث وتسعين، وقيل: غير ذلك، "عن أبيه" الحسين، سبط المصطفى، "عن" أبيه "علي زين العابدين" أمير المؤمنين، "مرفوعًا بزيادة: "وأفضل الإيمان التحبب إلى الناس" بالبشر وطلاقة الوجه، والإحسان والتجاوز، ونحو ذلك، "ثلاث من لم تكن فيه فليس مني"، أي: متصلًا بي، "ولا من الله, حلم يَرُدّ به جهل الجاهل، وحسن خلق" -بالضم- "يعيش به في الناس، وورع يحجزه" -بضم الجيم- يكفه ويمنعه "عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 وحسن خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن معاصي الله". وعنده أيضًا من حديث جابر مرفوعًا: "ما أوى شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان إلى الحلم". وقوله -عليه الصلاة والسلام: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض". رواه في جزء ب ي ب ي عن ابن أبي شريح   معاصي الله"، وقد أخرج الحديث مختصرًا بدون الزيادة الطبرانيُّ في الأوسط, عن علي من الطريق المذكورة. قال الحافظ الهيثمي: وهو من رواية حفص بن بشر عن حسن بن حسين بن زيد العلوي، عن أبيه، ولم أر أحدًا ذكر أحدًا منهم، أي: بتعديل ولا تجريح، "وعنده"، أي: العسكري "أيضًا من حديث جابر مرفوعًا: "ما أوى"، أي: قام "شيء إلى شيء أحسن"، لفظ المقاصد عن رواية العسكري، هذه أفضل "من حلم إلى علم، وصاحب العلم غرثان" -بفتح المعجمة، وسكون الراء، ومثلثة- جائع، أي: محتاج "إلى الحلم"؛ إذ به يقام العلم، ولأبي الشيخ عن أبي أمامة مرفوعًا: "ما أضيف شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم". "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "التمسوا"، أي: اطلبوا، "الرزق في خبايا الأرض"، جمع خبية، كخطية وخطايا، أي: اطلبوه في الحرث بنحو زرع وغرس، فإن الأرض تخرج ما فيها مخبًا من النبات، الذي به قوام الحيوان، فأرشد إلى طلب الرزق فيها؛ لأنه أقرب شيء إلى التوكّل وأبعده من الحول والقوة، فإن الزارع إذا أثار الأرض وتقاها، وقام عليها، ودفن فيها الحَبّ، تبرَّأ من حوله وقوته، ونفذت حيلته، فلا يرى لنفسه حيلة في إنباته وخروجه، بل ينظر إلى القضاء والقدر، ويرجو ربَّه دون غيره في إرسال السماء، ورفع الآفة مما لا حيلة لمخلوق فيه، ولا يقدر عليه إلّا الله، "رواه في جزء ب ي ب ي"، كذا بخط المصنف، مقطّع الحروف -بموحدة مكسورة، بعدها تحتانية ساكنة- ثم مثلهما، وهي بنت عبد الصمد بن علي بن محمد الهرثمية، وجزؤها من عوالي الأجراء، "عن ابن أبي شريح"، كذا وقع للمصنف، ولا ذكر له في الجزء المذكور، فلفظها. حدَّثنا عبد الرحمن بن أحمد الأنصاري، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، حدَّثنا مصعب بن ثابت، حدَّثني هشام بن عبد الله المخزومي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض"، وقد أبعد المصنف النجعة، وأغرب بالعز، ولغير الحفّاظ المشاهير، فهذا الحديث أخرجه أبو يعلى، والطبراني، والبيهقي، كلّهم من طريق هشام المخزومي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "اطلبوا الرزق في خبايا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 والمراد الزرع، وأنشدوا: تنبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يومًا أن تجاب فترزقا وقوله -عليه الصلاة والسلام: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, وعدّ نفسك من أهل القبور"   الأرض"، وضعَّفه البيهقي وغيره، "والمراد: الزرع"، كما قاله عروة بن الزبير وغيره، وقيل: المراد استخراج الجواهر والمعادن من الأرض، "وأنشدوا" استشهادًا على أن المراد الزرع. قال السخاوي: قال عروة بن الزبير: عليكم بالزرع، وكان يتمثّل بهذه الأبيات: لعل الذي أعطى العزيز بقدرة ... وذا حسب أعطى وقد كان زردقا سيؤتيك ماء واسعًا ذا قرارة ... إذا ما مياه الناس غاضت تدفقا تنبع خبايا الأرض وادع مليكها ... لعلك يومًا أن تجاب فترزقا "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "كن في الدنيا كأنك غريب"، قدم بلدًا لا مسكن له فيها يأويه، ولا سكن يسكنه، خالٍ من الأهل والعيال، والعلائق التي هي سبب الاشتغال عن الخالق، "أو عابر سبيل". قال الطيبي: ليست أو للشك للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبَّه الناسك السالك بالغريب الذي لا مسكن له يأويه، ثم ترقى، وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر البيل القاصد لبلد شائع، وبينهما أودية مردوية، ومفاوز مهلكة، وقطاع طريق، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، ومن ثَمَّ عقبة بقوله: "وعد نفسك من أهل القبور"، أي: استمرّ سائرًا ولا تفتر، فإنك إن فترت انقطعت وهلكت في تلك الأودية. وقال ابن بطال: لما كان الغريب قليل الانبساط إلى الناس، بل هو مستوحش منهم؛ إذ لا يكاد يمر بمن يعرفه يتأنس به، فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابر السبيل، لا ينفذ في سفره إلّا بقوة عليه، وتخفيفه من الأثقال، غير متشبث بما يمنعه من قطعه سفره, معه زاده وراحلته يبلغانه إلى بغيته, من قصده شبهه بهما، وفيه إشارة إلى الزهد في الدنيا, وأخذ البلغة منها والكفاف، فكما لا يحتاج المسافر إلى أكثر مما يبلغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمن في الدنيا أكثر مما يبلغه المحل. وقال غيره: هذا الحديث أصل في الحث على الفراغ عن الدنيا، والزهد فيها، والاحتقار لها، والقناعة فيها بالبلغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 رواه البيهقي في الشعب, والعسكري من حديث ابن عمر مرفوعًا في حديث. وأخرجه البخاري والترمذي وغيرهم. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء،   وقال النووي: معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدّث نفسك بالبقاء فيها, ولا تتعلق منها بما لا يتعلق الغريب به في غير وطنه. وقال غيره: عابر السبيل هو المارّ على الطريق طالبًا وطنه، والمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجته إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أُرْسِلَ فيه، ثم يعود، ولا يتعلّق بشيء غير ما هو فيه، وقال غيره: المراد أن يُنْزِلَ المؤمن نفسه في الدنيا منزلة الغريب، فلا يعلق قلبه بشيء من بلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، ويجعل إقامته في الدنيا ليقضي حاجته, وجهازه للرجوع إلى وطنه، وهذا شأن الغريب، أو يكون كالمسافر لا يستقر في مكان بعينه، بل هو دائم السير إلى بلد الإقامة، واستشكل عطف عابر السبيل على الغريب، وتقدَّم جواب الطيبي، وأجاب الكرماني: بأنه من عطف العام على الخاص، وفيه نوع من الترقي؛ لأن تعلقاته أقل من تعلقات الغريب المقيم، "رواه البيهقي في الشعب، والعسكري من حديث ابن عمر مرفوعًا في" جملة "حديث، وأخرجه البخاري" في كتاب الرقاق عن ابن عمر، قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنَّك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، "والترمذي" بمثل رواية البخاري، إلّا أنه قدَّم جملة: وإذا أصبحت، وقال: ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدًا، أي: هل يقال لك شقي أو سعيد، ولم يرد اسمه الخاص به؛ لأنه لا يتغير، وقيل: المراد هل يقال حي أو ميت، "وغيرهم"، كأبي داود، وابن ماجه وأحمد. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "صنائع"، جمع صنيعة، وهي العطية، والكرامة، والإحسان، "المعروف" اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع، ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، أي: والحسنات والسيئات، وهو من الصفات الغالبة، أي: أمر معروف بين الناس؛ إذ رأوه لا ينكروه، والمعروف النصفة، وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم، والمنكر ضد ذلك جميعه، قاله في النهاية، فالإضافة بيانية، أي: العطايا التي هي مطلوبة شرعًا، معروفة بين الناس، "تقي مصارع السوء"، أي: تكون سببًا لوقايته، فالإسناد مجازي، والصرع في الأصل الطرح على الأرض، لكنه استعمل هذا في مطلق الوصول تجريدًا، وهذا تنويه عظيم بفضل المعروف وأهله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر"، أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن.   قال علي -رضي الله عنه: لا يزهدنَّك في المعروف كفر من كفر، فقد يشكر الشاكر إضعاف جحود الكافر. قال الماوردي: فينبغي لمن أراد إسداء المعروف أن يجعله حذرًا من فوته، ويبادر به خيفة عجزه، ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه، ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بقدرة فاتت، فأعقبت ندمًا، ومعوّل على مكنة زالت، فأورثت خجلًا، ولو فطن لنوائب دهره، وتحفَّظ من عواقب فكره، لكانت مغارمه مدحورة، ومغانمه محبورة. وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها، "وصدقة السر"، أي: فيه، وهو ما لم يطَّلع عليه إلا الله، وفي رواية: والصدقة خفيًا "تطفئ غضب الرب". قال الطيبي: يمكن حمله على المنع من إنزال المكروه في الدنيا، ووخامة العاقبة في العقبى من إطلاق السبب على المسبب، فإنه نفى الغضب، وأراده الحياة الطيبة في الدنيا، والجزاء الحسن في العقبى. قال ابن العربي: وهو الموفِّق عبدَه لما تصدَّق به، فهو المطفئ غضبه بما وفق عبده، وقال بعضهم: معنى الحديث: الحث على إخفاء الصدقة؛ لأنه دليل على إخلاصه لمشاهدته ربه، وهي درجة الإحسان، وفي القرآن: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، فبنور الإخلاص، ورحمة الإحسان إطفاء نار الغضب، وفي رواية: "وصدقة العلانية تقي ميتة السوء"، وفي الترمذي، وقال: حسن غريب, من حديث أنس: "إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة السوء"، "وصلة الرحم" القرابة، بالتعهد والمراعاة والمواساة، ونحو ذلك "تزيد في العمر" بالبركة فيه، حتى يحصل منه في الزمن اليسير طاعات لا تحصل من غيره في الزمن الكثير، أو حقيقة بأن يزاد فيه على ما كتب في صحف الملائكة، والأُول أَوْلَى؛ إذ هذا ليس زيادة حقيقة؛ إذ علم الله يتعلق بكونه يصل ويمد له عمره، "أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن" عن أبي أمامة، ورواه في الأوسط عن أم سلمة بزيادة: "وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة، وأول من يدخل الجنة أهل المعروف"، قال السخاوي: وسنده ضعيف، قال الماوردي: وللمعروف شروط لا يتم إلّا بها، ولا يكمل إلّا معها، فمنها: ستره عن إذاعته، وإخفاؤه عن إشاعته. قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا صنع معك فانشره، لما جبلت عليه النفس من إظهار ما أخفي، وإعلان ما كتم، ومنها تصغيره بالنسبة لنعم الله عليه، وإن كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "العفو لا يزيد العبد إلا عزًّا، والتواضع لا يزيده إلا رفعه, وما نقص مال من صدقة". وروى مسلم: "ما نقضت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا،   عظيمًا. قال العباس: لا يتمّ المعروف إلّا بتعجيله وتصغيره وستره، ومنها: ترك الامتنان به, والإعجاب بفعله، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر، ومنها: أن لا يحتقر منه شيئًا وإن قلَّ إذا عجز عن الكثير. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: " العفو": التجاوز من الشخص عن عقوبة ثبتت له على غيره، وقدر على مؤاخذته، وتركها لله سبحانه، لا لغرض آخر "لا يزيد العبد إلّا عزًّا"، أي: رفعة عند الله في الدنيا، فإن من عُرِفَ بالعفو والصفح عَظُمَ في القلوب، أو في الآخرة، بأن يعظم ثوابه، أو فيهما، ثم محل حمد العفو إن لم يطغ الجاني، وإلّا فالأولى عدمه زجرًا، "والتواضع" خفض الجناح والخشوع والذلة، "لا يزيده" عند الله وعند خلقه "إلا رفعة" إذا كان حقيقيًّا، أما من أظهر صورته، معتقدًا عظمة نفسه، فهو بالتكبر أشبه، "وما نقص مال" نقصًا يعود على صاحبه منه ضرر، "من" أجل "صدقة" بل قد يبارك له فيه بسببها، فيربح، فيزيد ماله حسًّا، أو يحصل له رفق، فيسد القليل مسد الكثير. قال القرطبي: فيه وجهان: أحدهما: إنه بقدر ما ينقص منه يزيد الله فيه وينميه ويكثره، والثاني: إنه وإن نقص في نفسه، ففي الأجر والثواب ما يجبر ذلك النقص بإضعافه، "وروى مسلم"، والترمذي، وأحمد عن أبي هريرة رفعه: "ما نقصت صدقة من مال". قال الطيبي: يحتمل أنَّ من زائدة، أي: ما نقصت صدقة مالًا، وأنها صلة لنقصت، والمفعول الأول محذوف، أي: ما نقصت شيئًا من مال في الدنيا بالبركة فيه، ودفع المفسدات عنه, والإخلاف عليه بما هو أجدى وأنفع، وأكثر وأطيب، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، أو في الآخرة بإجزال الأجر، وتضعيفه أو فيهما، وذلك جابر لإضعاف ذلك النقص، بل وقع لبعض الكمّل أنه تصدَّق من ماله، فلم يجد فيه نقصًا. قال الفاكهاني: أخبرني من أثق به أنَّه تصدق من عشرين درهمًا بدرهم، فوزنها، فلم تنقص، قال: وأنَّا لي. وقول الكلاباذي: يراد بالصدقة الفرض، وبإخراجها ما لم ينقص ماله بعده لا يخفى، "وما زاد الله عبدًا بعفوٍ"، أي: بسبب عفوه، أي: تجاوزه "إلا عزًّا" في الدنيا، بعظمته في القلوب، وفي الآخرة تعظم ثوابه، "وما تواضع أحد لله"، من المؤمنين رقًّا وعبودية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". وروى القضاعي عن أبي سلمة عن أم سلمة مرفوعًا: "ما نقص مال من صدقة, ولا عفا رجل عن مظلمة إلّا زاده الله تعالى بها عزًّا". وروى الديلمي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفس محمد بيده, لا ينقص مال من صدقة". ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.   في الائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه, ومشاهدته لحقارة نفسه، ونفي العجب عنها "إلا رفعه الله" في الدنيا؛ بأن يثبت له في القلوب بتواضعه منزلة عند الناس، ويُجِلّ مكانه، وكذا في الآخرة على سرير خلد لا يفنى، ومنبر ملك لا يبلى، ومن تواضع لله في تحمُّل مؤن خلقه، كفاه الله مؤنة ما يرفعه إلى هذا المقام، ومن تواضع في قبول الحق مِمَّن دونه، قبل الله منه مدحور طاعته، وقليل حسناته، وزاد في رفعة درجاته، وحفظه بمعقبات رحمته من بين يديه ومن خلفه. قال القرطبي: التواضع: الانكسار والتذلل، ونقيضه الكبر والترفّع، والتواضع يقتضي متواضعًا له، وهو الله، أو من أمر بالتواضع له، كالرسول، والإمام، والحاكم، والعالم، والوالد، فهو التواضع الواجب المحدود، الذي يرفع الله به صاحبه في الدنيا والآخرة، وأمَّا التواضع لسائر الخلق فالأصل أنه محمود، ومندوب إليه, ومرغَّب فيه، إذا قُصِدَ به وجه الله، ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب، وطيِّبَ ذكره في الأفواه، ورفع درجته في الآخرة، وأمَّا التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذلك هو الذل الذي لا عِزَّ معه، والخِسَّة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليها ذلّ الآخرة، وكل صفقة خاسرة. وقال غيره: من جبلة الإنسان الشح بالمال، ومتابعة السبعية من إيثار الغضب والانتقام، والاسترسال في الكبر، الذي هو من نتائج الشيطنة، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يقلعها من شحها، فحثَّ أولًا: على الصدقة؛ ليتحلَّى بالسخاء والكرم، وثانيًا: على العفو؛ ليعزز بعز الحلم والوقار، وثالثًا: على التواضع؛ ليرفع درجاته في الدارين. "وروى القضاعي عن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته, عن أبيه, وعثمان وأم سلمة وغيرهم، ثقة مكثر, من رجال الجميع، وُلِدَ سنة بضع وعشرين، ومات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة، "عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية القرشية، المخزومية، أم المؤمنين "مرفوعًا: "ما نقص مال من صدقة"، بل يزد دنيا وأخرى، "ولا عفا رجل"، وصف طردي لقوله: قبل عبد "عن مظلمة إلّا زاده الله تعالى بها عزًّا" في الدارين، "وروى الديلمي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "والذي نفس محمد بيده"، أقسم تقويةً وتأكيدًا "لا ينقص مال من صدقة"، ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم" -بالميم بدل ياء النداء- ولذا لا يجمعان إلّا شذوذًا، قيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أعوذ بك من شَرِّ سمعي، ومن شَرِّ بصري، ومن شَرِّ لساني، ومن شَرِّ قلبي ومن شَرِّ مَنِيّي". أخرجه أبو داود في جامعه, والحاكم في مستدركه عن شكل. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى   وهذه الميم، كالواو في الدلالة على الجمع, كأنه قيل: يا من اجتمعت له الأسماء الحسنى. قال الحسن البصري: اللهمَّ مجتمع الدعاء. وقال النضر بن شميل: من قال: اللهم، فقد سأل الله بجميع أسمائه، "إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري" فلا أسمع، ولا أبصر بهما ما يسخطك علي، "ومن شر لساني"، أي: نطقي، فإن أكثر الخطايا منه، وهو الذي يورد المرء في المهالك، وخصَّ الثلاثة؛ لأنها مناط الشهوة، ومثار اللذة، "ومن شر قلبي"، أي: نفسي، فإنها مجمع الشهوات والمفاسد لحبِّ الدنيا، والرهبة من الخلق، وخوف فوت الرزق، والأمراض القلبية من نحو: حسد وحقد وطلب رفعة، وغير ذلك، "ومن شر منيي"، أي: شدة الغلمة، وسطوة الشهوة إلى الجماع الذي إذا أفرط ربما أوقع في الزنا، أو مقدماته لا محالة، فهو حقيق بالاستعاذة من شرِّه، وخَصَّ هذه الأشياء بالاستعاذة؛ لأنها أصل كل شر وقاعدته ومنبعه، "أخرجه أبو داود في جامعه"، أي: سننه، وكذا الترمذي والنسائي خلافًا لإيهام المصنف، "والحاكم في مستدركه عن شكل" -بفتح المعجمة، والكاف- ابن حميد العبسي -بالموحدة- صحابي، نزل الكوفة, حديثه في الكوفيين، روى أصحاب السنن من طريق بلال بن يحيى العبسي، عن شتير -بمعجمة وفوقية- مصغر, عن أبيه، شكل ابن حميد قال: قلت: يا رسول الله, علمني دعاء، وفي رواية الترمذي: تعوذًا أتعوَّذ به، فأخذ بكفِّي، فقال: قل ... ، فذكره. قال البغوي: ولا أعلم له غير هذا الحديث، ولم يرو عنه إلّا ابنه. قال الترمذي: حسن غريب, قال في الإصابة: وأشكل له رواية عن علي. "وقوله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم"، الميم عوض عن الياء، ولذا لا يجتمعان، وقيل: أصله: يا الله أمنَّا بخير, فخفف بحذف حرف النداء والميم، دلّت على الجملة المحذوفة. قال ابن الأثير: وهي ثلاثة أنحاء: النداء المحض، والثاني يذكره المجيب، تمكينًا للجواب في نفس السائل، يقول لك القائل: أزيد قائم، فتقول: اللهمَّ نعم أولًا، والثالث: يستعمل دليلًا على الندوة، وقلة وقوع المذكور، كقولك: أنا لا أزورك، اللهمَّ إذا لم تدعني, "إني أعوذ بك من شر فتنة الغنى"، أي: الفتنة التي تحصل بسببه من البطر والطغيان والتفاخر، وصرف المال في المعاصي. وقال الغزالي: هي الحرص على جمع المال وحبه، حتى تكتسبه من غير حِلّه، وتمنعه من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا عرض حاضر, يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق, يحكم فيها ملك عادل قادر، يحق فيها الحق ويبطل الباطل، فكونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل أمّ يتبعها ولدها". رواه أبو نعيم في الحلية من حديث شداد.   واجبات إنفاقه. قال الطيبي: استعاذ مما عصم منه، ليلتزم خوف الله وإعظامه، والافتقار إليه، وليُقْتَدَى به، وليبين صفة الدعاء, والباء للإلصاق المعنوي التخصيصي، كله خص الرب بالاستعاذة، وقد جاء في الكتاب والسنة: أعوذ بالله، ولم يسمع بالله أعوذ؛ لأن تقديم المعمول تفنن وانبساط، والاستعاذة حالة خوف، وقبض بخلاف الحمد لله، ولله الحمد؛ لأنه حال شكر، وتذكّر إحسان ونعم. "رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه"، عن عائشة مرفوعًا في حديث، وهو في الصحيحين من جملة حديث طويل. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن الدنيا عرض" -بفتحتين- متاع "حاضر" موجود، أي: هي مع دناءتها إلى فناء، فالمتاع ما لا بقاء له، فإنما خلق ما فيها؛ لأن يستمتع به مع حقارته أمدًا قليلًا، ثم ينقضي، ولذا "يأكل منه البر والفاجر" كل بحسب ما قُدِّرَ له، بل قد يكون متاع الفاجر فيها أوسع، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء"، رواه الترمذي، وصحَّحه الحاكم، أي: حال بينه وبين التوسّع في اللذات والشهوات، بأن يعسِّر عليه حصول ذلك، وقال -صلى الله عليه وسلم: "الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه"، رواه ابن لال والديلمي، "وإن الآخرة وعد صادق" لا شَكَّ في وقوعه، ويحتمل التنوين والإضافة، فالصادق من أسماء الله، "يحكم فيها ملك" -بكسر اللام، "عادل" لا يجور، " قادر" على ما يشاء، وهو الله سبحانه، "يحق فيها الحق" يظهره ويحكم به، "ويبطل الباطل"، يمحقه ويذهبه، "فكونوا أبناء الآخرة"، بالأعمال الصالحة النافعة فيها، "ولا تكونوا أبناء الدنيا" بالرضا بها والطمأنينة إليها، " فإن كل أمّ يتبعها ولدها"، فمن تبع الدنيا خاب وخسر، ومن تبع الآخرة حيي الحياة الطيبة في روضات الجنات، "رواه أبو نعيم في الحلية من حديث شداد" بن أَوْس بن ثابت الأنصاري، أبي يعلى الخزرجي، صحابي، مات بالشام قبل الستين، أو بعدها، وهو ابن أخي حسان بن ثابت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أخسر الناس صفقةً من أذهب آخرته بدنيا غيره". وعند ابن النجار من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه, وهو مما بيض له الديلمي: "أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه في آماله, ولم تساعده الأيام على أمنيته،   "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "أخسر الناس صفقة" "، أي: من أشدهم خسرانًا لعظيم الثواب، وأعظمهم حسرة يوم المآب، "من أذهب آخرته" بترك الواجب أو المندوب "بدنيا غيره"، أي: بسبب اشتغاله بجلب دنيا غيره، كخدّام العظماء يشتغلون بنفع مخاديمهم، والقيام بمصالحهم، ويتركون الصلوات، ويحلفون الإيمان الفاجرة، ويأخذون أموال الناس لاسترضاء مخاديمهم، "وعند ابن النجار" في تاريخ بغداد "من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة" العنزي، حليف بني عدي أبي محمد المدني، وُلِدَ على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، ووثَّقه العجلي، وورى له الستة، مات سنة بضع وثمانين، "عن أبيه" عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي -بسكون النون- حليف الخطاب, صحابي مشهور، أسلم قديمًا وهاجر، وشهد بدرًا وما بعدها، ومات ليالي قتل عثمان، "وهو مما بيض له الديلمي" لعدم وقوفه له على سند. قال عامر: قال -صلى الله عليه وسلم: "أخسر الناس"، أي: من أخسرهم، كما علم "صفقة" هي في الأصل ضرب اليد على اليد في البيع والبيعة، والخسر في الأصل: نقص رأس المال، ثم استعمل في المعينات الخارجة كالمال والجاه، وأكثر استعماله في النفيس منها؛ كصحة وسلامة، وعقل، وإيمان، وثواب، وهو المراد هنا ذكره، الراغب "رجل" وصف طردي، والمراد مكلف "أخلق" أتعب "يديه" وأفقرهما بالكد والجهد، وتجوّز بهما عن النفس؛ لأن المزاولة بهما غالبًا "في" بلوغ "آماله" جمع أمل، وهو الرجاء، وأكثر استعماله في مستبعد الحصول "ولم تساعده"، أي: تعاونه "الأيام على أمنيته"، أي: بلوغها في تحصيل مطلوبه من مالٍ ومناصب وجاه ونحوها، بل عاكسته وغدرته، فلا يزال يتشبث بالطمع الفارغ، والرجاء الكاذب، ويتمنَّى على الله ما لا تقتضيه حكمته، ولم تسبق به كلمته. قال بعض العارفين: أماني النفس حديثها بما ليس عندها، ولها حلاوة إذا استصحبها عبد لا يفلح أبدًا، وأهل الدنيا فريقان، فريق يتمنَّون ما يتمنعون، ولا يعطون إلّا بعضًا منه، وكثير منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، فصاروا أخسر الناس صفقة، وأمَّا المؤمن المتقي، فقد حاز مراده، وهي غنى القلب المؤدي لغنى الآخرة، فما يبالي أوتي حظًّا من الدنيا أو لا، فإن أوتي منها، وإلّا فربما كان الفقر خيرًا له وأعون على مراده، فهو أربح الناس صفقة، واشتقاق الأمنية من منى قدر؛ لأن المتمني يقدّر في نفسه، ويحرز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 فخرج من الدنيا بغير زاد, وقدم على الله بغير حجة". وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن من كنوز البر كتمان المصائب".   ما يتمنَّاه "فخرج من الدنيا" بالموت "بغير زاد" يوصّله إلى دار المعاد، وينفعه يوم تقوم الأشهاد، ويفصل بين العباد؛ لأن خير الزاد إلى الآخرة اتقاء القبائح، وقد تلطَّخ بأقذارها الخبيثة الروائح، فهو مهلك لنفسه باسترساله مع الأمل، وهجره للعمل, حتى تتابعت على قلبه ظلمات الغفلة، وغلب عليه رين الشهوة، ولم يسعفه المقدور بنيل مرامه من ذلك الحطام الفاني، فلم يزل مغمومًا مقهورًا إلى أن فرق الموت بينه وبين آماله، وكل جارحة منه متعلقة بالدنيا التي فاتته، فهي تجاذبه إلى الدنيا، والموت يجاذبه إلى الآخرة التي لا يريدها، "وقدم على الله بغير حجة" معذرة يعتذر بها، وبرهان يتمسّك به على تفريطه، بتضييعه عمره النفيس في طلب شيء خبيث خسيس، وإعراضه عن عبادة ربه التي إنما خُلِقَ لأجلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . قال الغزالي: ومَنْ هذا حاله فهو كالأنعام، بل أضلّ؛ إذ البهيمة لم يخلق لها المعرفة التي بها تجاهد مقتضى الشهوات، وهذا قد خُلِقَ له وعطَّله، فهو الناقص عقلًا، والمدبر يقينًا، ولذا قيل: ولم أر في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام وفي الحديث إلزام للحجة، ومبالغة في الإنذار، وإعذار فيه، وتنبيه على أن إيثار التلذّذ والتنعم، مما يؤد إلى طول الأمل، ويعطّل العمل، وهذه هجيرًا أكثر الناس ليس من أخلاق المؤمنين، ومن ثَمَّ قيل: التمرغ في الدنيا من أخلاق الكافرين. ذكره الزمخشري، هكذا حمل بعض الشراح الحديث على أمنية الدنيا، وحمله بعض آخر على أمنية الأعمال الصالحة، فقال: المعنى ضلَّ وهلك رجل قَدِرَ أن يعمل في المستقبل أعمالًا صالحة، ولم تعاونه الأوقات على ذلك، فخرج بلا زاد، أي: عمل وقدم على الله بغير حجة؛ لأنه في وقت التقدير كان فارغًا صحيحًا. انتهى، وكلاهما حسن. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "إن من كنوز البر"، أي: من نفس ما يتوصل به العبد إلى مقصده، "كتمان المصائب"، أي: عدم التحدث بها إلا لمصلحة, كإخبار طبيب، أو مشير ناصح، فإظهارها، والتحدث بها قادح في الصبر، مفوت للأجر، وكتمانها رأس الصبر، وقد شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، وكرره، فقال: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة، فما شكوتها لأحد، وهذا بعض حديث، رواه البيهقي، وأبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عمر رفعه بلفظ: "من كنوز البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة"، أخبر عليه الصلاة أن كتم هذه الثلاثة يدخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليمين حنث أو ندم". رواه أبو يعلى وابن ماجه إلّا أنه قال: إنما الحلف. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك". رواه الترمذي من حديث مكحول عن واثلة،   لصاحبه يوم فاقته، لا يطّلع على ثوابه ملك، ولا يدفع إلى خصمائه، بل يعوضهم الله من باقي أعماله، وخزائن فضله ليبقى له كنزه، وذلك؛ لأن لصفاء توحيده كتم مصائبه وأمراضه ومهماته عن الخلق صبرًا من رضا عن ربه، وحياء منه، أن يشكو ويستعين بأحد من خلقه. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليمين حنث أو ندم"، قال العسكري: معناه: إنك إذا حلفت حنثت، أو فعلت ما لا تشتهي كراهة الحنث فندمت، وقال الميداني في الأمثال: معناه: إن كانت صادقة ندم، وإن كانت كاذبة حنث, يضرب للمكروه من وجهين. قال الغزالي: والندم توجُّه القلب عند شعوره بفوت محبوبه، وعلامته: طول الحسرة والحزن. انتهى، والقصد بذا الحديث وأمثاله: التنفير عن اليمين؛ لأنه يغلب على الحالف أن يجعلها عرضة للوقوع في منهي عنه؛ إذ كثرة الحلف لابُدَّ لها من سقطة، فلا ينافي حلف النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابن عمر "إلّا أنه"، أي: ابن ماجه، "قال: إنما الحلف" بدل اليمين، وبلفظ: إنما أوَّله، كما في المقاصد والجامع، وبَيِّنَ السخاوي: أن أبا يعلى رواه بلفظ: إنما اليمين، وبلفظ الحلف بدون إنما، فتسمَّح المصنّف في العزو له أيضًا، نعم أخرجه الطبراني، والعسكري بلفظ: "اليمين حنث أو ندم"، فكان اللائق عزوه لهما، ثم بيان لفظ من خالفهما، ثم فيه عند الجميع بشَّار بن كدام -بكسر الكاف- الكوفي, ضعيف. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا تظهر الشماتة بأخيك" -بباء موحَّدة، وفي رواية: لأخيك باللام، في الدِّين، وهي لفرح ببلية من يعاديك أو تعاديه، "فيعافيه الله" رغمًا لأنفك، "ويبتليك"؛ حيث زكَّيت نفسك، ورفعت منزلتك. قال الطيبي: بالنصب جوابًا للنهي، ويبتليك عطف عليه، "رواه الترمذي من حديث مكحول" الشامي, ثقة، فقيه, كثير الإرسال, مشهور، وروى له مسلم والأربعة، مات سنة بضع عشرة ومائة، "عن واثلة" -بمثلثة- ابن الأسقع -بالقاف- ابن كعب الليثي، صحابي نزل الشام، وعاش إلى سنة خمس وثمانين، ومات وله مائة وخمس سنين. "وقال" الترمذي: "حسن غريب، وهو عند الطبراني أيضًا"، وزعم ابن الجوزي أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 وقال: حسن غريب، وهو عند الطبراني أيضًا، وفي رواية لابن أبي الدنيا: "فيرحمه الله "، بدل: "فيعافبه الله". وروى الترمذي مرفوعًا: "مَنْ عَيِّرَ أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله". وقوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي هريرة: "جف القلم بما أنت لاق".   موضوع، ولذا انتقده الحافظ سراج الدين القزويني على المصابيح زاعمًا وضعه، وتعقَّبه العلامة الحافظ العراقي، وصوَّب كلام الترمذي، "وفي رواية لابن أبي الدنيا: "فيرحمه الله" بدل "فيعافيه الله"، الواقعة في رواية الترمذي، ومثل ما ذكر المصنّف لشيخه السخاوي بالحرف، وساقه في الجامع، ناسيًا للترمذي بلفظ: فيرحمه الله، وأخذ جماعة من ذا الخبر أن في الشماتة بالعدو غاية الضرر، فالحذر الحذر، نعم أفتى ابن عبد السلام؛ بأنَّه لا ملام في الفرح بموت العدو؛ من حيث انقطاع شرّه عنه وكفاية ضرره. "وروى الترمذي" عن معاذ بن جبل "مرفوعًا: "من عَيِّر أخاه بذنب"، أي: وصف مذموم انتقاصًا له، وإن لم يحرم، "لم يمت حتى يعمله". قال الترمذي: حسن غريب، وليس إسناده بمتَّصل، قال: وقال أحمد بن منيع، يعني: شيخه، قالوا: من ذنب قد تاب منه. قال السخاوي ونحوه: فليجلدها الحد، ولا يثرِّب، أي: لا يوبِّخ ولا يقرع بالزنا بعد الجلد، ولعله كما قال شيخنا: احترز به عَمَّن تلبَّس بقبيح شرعًا، وإن لم يحرم، واسترسل فيه فغيِّره غيره، لينزجر عنه لقبحه شرعًا، لا لحظ نفس المعير، فلا يعاقب على تعييره؛ لأنه إنما قصد به الحث على المطلوب، وترك النهي عنه. "وقوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي هريرة"، فيما أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما، عنه قال: قلت: يا رسول الله, إني رجل شاب، وأنا أخاف على نفسي العَنَت، ولا أجد ما أتزوّج به النساء، فائذن لي أختصي، فسكت عني، ثم قلت مثل ذلك، فسكت، ثم قلت مثل ذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة جَفَّ القلم بما أنت لاق"، أي: نفذ المقدور بما كُتِبَ في اللوح المحفوظ، فبقي القلم الذي كتب به جافَّا لا مداد فيه، لفراغ ما كتب به. قال عياض: كتاب الله ولوحه وقلمه من غيب علمه الذي نؤمن به، ونكل علمه إليه، وبقية الحديث: "فاختص على ذلك أو ذر" بكسر الصاد المهملة، أمر من الاختصاء، أي: اختص حال استعلائك على العلم بأنَّ كل شيء بقضاء الله وقدره، أو أترك، وفي رواية: فاختصر -براء بعد الصاد- أي: اقتصر على ما أمرتك به أو أتركه، وافعل ما ذكرت من الخصاء، وعلى كل من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 قال صاحب فتح المنَّة بشرح الأخبار لمحيي السنة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده، فهو من إطلاق اللازم على الملزوم، وهذا اللفظ لم يوجد في كلام العرب، بل هو من الألفاظ التي لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليوم الرهان وغدًا السباق, والغاية الجنة, والهالك من دخل النار".   الروايتين: الأمر ليس لطلب الفعل، بل للتهديد، كقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] . "قال صاحب فتح المنَّة بشرح الأخبار لمحيي السُّنَّة: هو كناية عن جريان القلم بالمقادير وإمضائها والفراغ منها، فإن الفراغ بعد الشروع يستلزم جفاف القلم عن مداده"، لفراغ ما كُتِبَ به، "فهو من إطلاق اللازم على الملزوم"، وفي النهاية: إنه تمثيل بفراغ الكاتب من كتابته ويبس قلمه، "وهذا اللفظ لم يوجد في كلام العرب، بل هو من الألفاظ التي لم يهتد إليها البلغاء، بل اقتضتها الفصاحة النبوية" التي لا تنطق عن الهوى. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اليوم"، أي: الدنيا، "الرهان" -بكسر الراء، قال المجد: المخاطرة والمسابقة على الخيل، انتهى، استعير للمسابقة على الأعمال في الدنيا، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] . قال البيضاوي: سابقوا: سارعوا مسارعة المتسابقين في المضمار، "وغدًا"، أي: يوم القيامة، "السباق" -بالكسر- مصدر سابق مسابقة، وسباقًا بمعنى السبق -بفتحتين، وهو ما يجعل من المال رهنًا على المسابقة، استُعِير للأعمال التي تلقَّاها العاملون يوم القيامة، وفي القاموس: السبق -محركة، والسبقة -بالضم- الخطر، يوضع بين أهل السباق، وفيه كالصحاح الخطر محركة: السبق الذي يتراهن عليه، وقد أخطر المال، أي: جعله خطرًا بين المتراهنين. انتهى، وفي الحديث: "لا سبق إلّا في خف أو حافر". قال الخطَّابي: الرواية الصحيحة بفتح الباء، وهو ما يجعل من المال رهنًا على المسابقة، وبالسكون مصدر سبقت أسبق، "والغاية" التي يقع عليها الرهان "الجنة"، فيه حذف دلَّ عليه المذكور، أي: أو النار، فالفائز من دخل الجنة، "والهالك من دخل النار"، والمعنى: الفائز من عمل الأعمال الصالحة، وفعل المأمورات، واجتنب المنهيات، فدخل الجنة، فرفعت له فيها الدرجات، والهالك من فعل المعاصي، فآل إلى استحقاق دخول النار، وحاصل معنى الحديث: إن الدنيا بتمامها للناس، كيومٍ يتسابق المتسابقون فيه على خيلهم إلى غاية معلومة لهم، وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه ضمنت له على الله الجنة". رواه جماعة، منهم العسكري عن جابر به، وفي البخاري والترمذي عن سهل بن سعد بلفظ: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".   جعلوا ما لا يأخذه السابق غدًا، فمن عمل الصالحات فاز بذلك الجعل، الذي هو الجنة بمقتضى الوعد الصادق، ومن عمل السيئات حرم الجعل، واستحقَّ النار بمقتضى الوعيد, ما لم يعف عنه إن كان مسلمًا، هذا ما ظهر لي، ولم أر أحدًا شرحه، وبقية الحديث: "أنا الأول، وأبو بكر الثاني، وعمر الثالث، والناس بعد علي السبق الأول"، فالأوّل رواه الطبراني، وابن عدي، والخطيب، عن ابن عباس بتمامه مرفوعًا، وفيه أصرم بن حوشب، منكر الحديث. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "من ضمن" في رواية: من حفظ، "لي ما بين لحييه" بفتح اللام، وسكون المهملة، والتثنية- هما العظمان في جانب الفم، "وما بين رجليه" فرجه، ترك التصريح به استهجانًا له واستحياءً؛ لأنه كان أشدَّ حياء من البكر في خدرها، "ضمنت له على الله الجنة"، رواه جماعة منهم: العسكري عن جابر به"، أي: بهذا اللفظ مرفوعًا. "وفي البخاري" في الرقاق والمحاربين، "والترمذي" في الزهد، وقال: حسن صحيح غريب، "عن سهل بن سعد" -بسكون الهاء والعين- الساعدي، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "بلفظ: "من يضمن". قال الحافظ: بفتح أوّله وسكون المعجمة، والجزم من الضمان، بمعنى الوفاء بترك المعصية، "لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن" بالجزم جواب الشرط "له الجنة" أي: على الله، كما في الرواية السابقة، ولم تقع في البخاري والترمذي، فزيادتها في بعض نسخ المصنف هنا لا تنبغي، والمراد بالضمان لازمه، وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى: من أدَّى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه، أو الصمت عمَّا لا يعنيه، وأدَّى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال، وكَفِّه عن الحرام، قاله الحافظ وغيره. وقال الطيبي: أصل الكلام من يحفظ ما بين لحييه من اللسان والفم، فيما لا يعنيه من الكلام والطعام يدخل الجنة، فأراد أن يؤكِّد الوعد تأكيدًا بليغًا، فأبرزه في صورة التمثيل، ليشير بأنه واجب الأداء، فشبَّه صورة حفظ المؤمن نفسه، مما وجب عليه من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ونهيه، وشبَّه ما يترتَّب عليه من الفوز الجنة، وأنه واجب على الله تعالى بحسب الوعد أداؤه، وأنه -صلى الله عليه وسلم- هو الواسطة والشفيع بينه وبين الله تعالى بصورة شخص له حقّ واجب الأداء على الآخر، فيقوم به ضامنًا من يتكفَّل له بأداء حقه، وأدخل المشبّه في جنس صورة المشبَّه به، وجعله فردًا من أفراده، ثم ترك المشبه به، وجعل القرينة الدالة عليه ما يستعمل فيه من الضمان ونحوه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 والمراد بما بين لحييه: اللسان وما يتأتَّى به النطق، وما بين رجليه: الفرج، وقال الداودي: المراد بما بين اللحيين: الفم، فيتناول الأقوال والأكل والشرب وسائر ما يتأتَّى بالفم. وفي لفظ: "من توكَّل لي ما بين فقيمه ورجليه أتوكل له بالجنة"، والفقم -بالضم والفتح: اللحى. وفي لفظ آخر: "من تكفَّل لي تكفلت له". وللديلمي -بسند ضعيف- عن أنس رفعه: "من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه وجبت له الجنة"، ولفظ الإحياء: من وقي, يعني: البطن   التمثيل؛ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} انتهى، "والمراد بما بين لحييه اللسان، وما يتأتَّى به النطق، وما بين رجليه الفرج، وقال الداودي" أحمد بن نصر، المالكي، شارح البخاري: "المراد بما بين اللحيين: الفم" بتمامه، "فيتناول الأقوال" كلها، "والأكل، والشرب، وسائر ما يتأتَّى بالفم"، من النطق، والفعل، كتقبيل، وعض، وشتم. قال -أعني: الداودي: ومن يحفظ من ذلك أمن من الشر كله؛ لأنه لم يبق إلّا السمع والبصر. قال الحافظ: وخفي عليه أنَّه بقي البطش باليدين، وإنما محمل الحديث على أن النطق باللسان أصل في حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلّا في خير سلم. وقال ابن بطال: دَلَّ الحديث على أن أعظم البلايا على المرء في الدنيا لسانه وفرجه, فمن وقي شرهما وقي أعظم الشر. انتهى، يعني: فخصَّهما بالذكر لذلك، "وفي لفظ" عند الطبراني بسند جيد، عن أبي رافع: "من توكَّل"، أي: التزم "لي" حفظ "ما بين فقيمه ورجليه أتوكّل له بالجنة"، أي: بدخوله إياها، "والفقم -بالضم والفتح" للفاء، وأمَّا القاف فساكنة فيهما "اللحى"، واقتصر الجوهري على الضم، وظاهر القاموس أنّ الفتح أفصح، وعبارته: والفقم -ويضم: اللحى، أو إحدى اللحيين، والفقم -بضمتين: الفم، "وفي لفظ آخر: "من تكفَّل لي تكفَّلت له"، أي: من ضمن ضمنت له، "وللديلمي" والبيهقي "بسند ضعيف، عن أنس رفعه: "من وقي شر فبقبه"، أي: بطنه "وذبذبه" بمعجمتين بعد كل موحدة بزنة مذهب، أي: ذكره, سُمِّيَ بذلك لتذبذبه، أي: تحركه، "ولقلقه" بلامين وقافين، أي: لسانه، "وجبت له الجنة"، أي: استحقَّ دخولها مع السابقين، أو بغير عذاب، "ولفظ الإحياء: "من وقي" يعني: البطن" بيان لمفعوله وقى، فيصير اللفظ: من وقي البطن "من القبقبة، وهو صوت يسمع في البطن، وكأنَّها حكاية ذلك الصوت، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 من القبقبة، وهو صوت يسمع في البطن، وكأنَّه حكاية ذلك الصوت، ويجوز أن يكون كناية عن أكل الحرام وشبهه، والذكر واللسان. فهذا وأشباهه مما يعسر استقصاؤه, يدلك على ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- قد رقي في الفصاحة وجوامع الكلم درجةً لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره -صلى الله عليه وسلم. ومما عدّ من وجوه بلاغته: ما ذكر أنه جمع متفرقات الشرائع وقواعد الإسلام في أربعة أحاديث وهي: حديث "إنما الأعمال بالنيات ... " وحديث "الحلال بَيِّن والحرام بَيِّن ... "   ويجوز أن يكون كنايةً عن أكل الحرام وشبهه, والذكر واللسان"، بالنصب عطفًا على البطن. وروى الترمذي، وابن حبان، والحاكم عن أبي هريرة رفعه: " من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة"، وفي هذا كله تحذير عظيم من شهوتي البطن والفرج، وأنهما مهلكة، ولا يقدر على كسر شهوتهما إلّا الصدّيقون، "فهذا"، أي: المذكور من جوامع الكلم "وأشباهه، مما يعسر استقصاؤه، يدلُّك على ذلك، أنه -صلى الله عليه وسلم، قد رقي" بكسر القاف، من باب تعب، كما في المصباح، "في الفصاحة وجوامع الكلم درجة لا يقاس بها غيره، وحاز مرتبة لا يقدر فيها قدره -صلى الله عليه وسلم، ومما عدّ من وجوه" جمع وجه، أي: طرق وأدلة "بلاغته ما ذُكِرَ" بالبناء للمفعول، أي: ما ذكره الأئمة، "أنه جمع متفرقات الشرائع" القديمة، "و" جمع "قواعد الإسلام في أربعة أحاديث"، فجعل المصنّف جمعهم دليلًا على البلاغة، لا أنه نفسه من البلاغة؛ إذ ليس منها على أن هذا إنما يجيء إن فسّر وجوه بصفات، إمّا بطرق بمعنى أدلة فلا، "وهي حديث: "إنما الأعمال بالنية"، أي: الحديث الذي منه هذه الجملة، وكذا، يقال في الباقي، وتقدَّم في أوائل هذا المبحث شرح هذا اللفظ بما يغني عن إعادته حن ذكره المصنف، "وحديث: "الحلال" ضد الحرام لغةً وشرعًا، "بَيِّنٌ" ظاهر بالنظر إلى ما دلَّ عليه بلا شبهة، وهو ما نَصَّ الله ورسوله، أو أجمع المسلمون على حله بعينه، أو جنسه، ومنه ما لم يرد فيه منع في أظهر الأقوال، أمَّا المختلف فيه، فليس من البَيِّن الخفاء، الحل عن القائل بالحرمة وعكسه، "والحرام بَيِّنٌ"، أي: ظاهر بالنظر إلى ما دلَّ عليه بلا شبهة. قال الحافظ: أي: في عينهما ووصفهما بأدلتهما الظاهرة. انتهى، أي: فإنما هما بالنص، أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 رواه مسلم. وحديث "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". وحديث "لا يكمل إيمان المرء ..... "   الإجماع على تحريمه بعينه، أو جنسه، أو بورود عقوبة أو وعيد عليه لا بنفسهما، فلا حجة فيه للمعتزلة في قولهم: العقل يميز الحسن من القبيح، حتى لو لم تبعث الرسل لعُلِمَ ذلك، وإنما بعثت لاختلاف العقول، بل الحسن ما حسَّنه الشرع، وكذلك القبيح، ثم التحريم إمَّا لمفسدة، أو مضَرَّة خفية، كالزنا، ومذكَّى المجوس، وإمَّا المفسدة، أو مضرة واضحة، كالسم والخمر، وتفصيله يطول, هذا والظاهر من مقابلة الحلال بالحرام شموله الواجب والمندوب والمباح والمكروه، وخلاف الأولى، كذا قيل، لكن وصفه ببَيِّن، بمعنى: ظاهر, يبعد ذلك؛ إذ لو بان ما كره، أو كان خلاف الأولى، "رواه مسلم" في البيوع، وكذا البخاري فيه، وفي كتاب الإيمان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في البيوع، وابن ماجه في الفتن، فما هذا التقصير للمصنف في العزو، فلا أقلَّ من رواه الشيخان كلهم من حديث النعمان بن بشير، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ... فذكره مطولًا. "وحديث: "البينة على المدعي"، وفي رواية: "على مَنْ ادَّعى"، وهو من يخالف قوله الظاهر، أو من لو سكت خلى، "واليمين على من أنكر" المدعَّى عليه به؛ لأن جانب المدعي ضعيف، فكلف حجة قوية هي البينة، وجانب المدعَّى عليه قوي، فقنع بحجة ضعيفة هي اليمين. قال ابن العربي: وهذا الحديث من قواعد الشريعة التي ليس فيها خلاف، وإنما اختلف في تفاصيل الوقائع. قال البيضاوي: والبينة في الأصل: الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل، وقال غيره: هي ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل؛ بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده، ثم هذا الحديث رواه عبد الرزاق، والبيهقي، وابن عساكر، والدارقطني عن ابن عمرو بن العاص بزيادة: "إلا في القسامة". قال الحافظ: وهو حديث غريب معلول، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر، وأيضًا بلفظ: "البينة على المدَّعى عليه"، وله شاهد عن ابن عباس، وابن عمر، وغيرهما. "وحديث: "لا يكمل إيمان المرء" نقل بالمعنى لبيان المراد، وإلّا فرواية الصحيحين، وغيرهما: "لا يؤمن أحدكم"، وفي رواية: أحد، وفي رواية: عبد، وزاد مسلم أوله: "والذي نفسي بيده"، وقال الشراح: معناه: إيمانًا كاملًا، فالمراد بنفيه هنا نفي بلوغ حقيقته ونهايته, كخبر: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، ونفى اسم الشيء على معنى نفي الكمال مستفيض في كلامهم؛ كقولهم: فلان ليس بإنسان، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه" رواه الشيخان.   يرد استلزامه أنَّ فاعل ذلك يكمل إيمانه، وإن ترك بقية الأركان؛ لأن هذا ورد مورد المبالغة، ويستفاد من قوله لأخيه المسلم ملاحظة بقية صفات المسلم، وصرَّح في رواية ابن حبان بالمراد ولفظه: "لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان"؛ إذ معنى الحقيقة: الكمال ضرورة أنَّ من لم يتَّصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، "حتى يحب" بالنصب؛ لأن حتى جارَّة، وإن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع، فتكون عاطفة لفساد المعنى؛ إذ عدم الإيمان ليس سببًا للمحبَّة، قاله الكرماني, "لأخيه" المسلم، كما زاده في رواية الإسماعيلي، ولعله غالبي، فالمسلم ينبغي حبه للكافر الإسلام وما يترتَّب عليه من خير وأجر، "ما يحب لنفسه" من الخير، كما في رواية النسائي، وابن منده، والإسماعيلي والقضاعي، فلا حاجة لقوله: بعضهم، وهو عام مخصوص؛ إذ الرجل يحب لنفسه وطء حليلته لا لغيره، والخير كلمة جامعة تعمّ الطاعات والمباحات الدينية أو الدنيوية، وتخرج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها، والمحبَّة إرادة ما يعتقده خيرًا. قال النووي: المحبَّة الميل إلى ما يوافق المًحِب، وقد يكون بحواسِّه؛ كحسن الصورة، أو بعقله، إمَّا لذاته كالفضل والكمال، أو لإحسانه كجلب نفع ودفع ضر. انتهى. والمراد هنا: الميل الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضًا نظير ما حصل له، لا عينه سواء، كان ذلك في الأمور المحسوسة والمعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، مع سلبه عنه، ولا مع بقائه بعينه له؛ إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، قيل: وظاهر الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل؛ لأن كل أحد يجب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثاله، فقد دخل في جملة المفضولين. قال الحافظ: أقرَّ عياض هذا وفيه نظر؛ إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ويستفاد ذلك من قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83] ، ولا يتمّ ذلك إلا بترك الحسد والغل والحق والغش، وكلها خصال مذمومة. قال الكرماني: ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره؛ لأن حب الشيء مستلزم لبعض نقيضه، فترك النص عليه اكتفاءً. انتهى، وذلك ليكون المؤمنون كنفس واحدة، ومن زعم كابن الصلاح أنَّ هذا من الصعب الممتنع، فقد غفل عن المعنى المراد، وهو أن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، كما علم، وبه دفع زعم أنَّ هذه محبة عقلية لا تكليفية؛ لأن الإنسان جُبِلَ على حبّ الاستئثار، فتكليفه بأنه يحب له ما يحب لنفسه مفض لأن لا يكمل إيمان أحد إلّا نادرًا، ثم مقصود الحديث انتظام أحوال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 فالحديث الأول: يشتمل على ربع العبادات. والثاني: على ربع المعاملات. والثالث: على ربع الحكومات وفصل الخصومات. والرابع: على ربع الآداب والمناصفات, ويدخل تحته التحذير من الجنايات.   المعاش، والمعاد، والجري على قانون السداد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وعماد ذلك كله وأساسه السلامة من الأمراض القلبية، فالحاسد يكره أن يفوقه أحد، أو يساويه في شيء، والإيمان يقتضي المشاركة في كلّ خير من غير أن ينقص على أحد من نصيب أحد شيء، نعم، ومن كمال الإيمان تمنّي مثل فضائله الأخروية التي فارق عليها غيره، وقوله: {لا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} نهي عن الحسد المذموم، فإذا فارقه أحد في فضل ديني اجتهد في لحاقه، وحزن على تقصيره, لا حسدًا بل منافسة في الخير وغبطة، "رواه الشيخان"، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن أنس، لكن لفظ رواية مسلم: "حتى يحب لأخيه"، أو قال: جاره، ورواية البخاري وغيره: "لأخيه" بلا شَكٍّ. "فالحديث الأوّل": "إنما الأعمال بالنية"، "يشتمل على ربع العبادات" عند بعضهم، ومنهم من قال -كالشافعي في إحدى الروايتين عنه: يدخل فيه نصف العلم، ووجَّهه المصنف فيما مَرَّ تبعًا لغيره، بأن للدين ظاهرًا وباطنًا، فالنية متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر، وبأنَّ النية عبودية القلب، والعمل عبودية الجوارح، ومنهم من قال: ثلثه، كأحمد وابن مهدي، والشافعي في الرواية الثانية، ووجهه: أن الدين قول وعمل ونية. "والثاني": "الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ " على ربع المعاملات"، كما نقل عن أبي داود. وقال ابن العربي: جعلوا هذا الحديث ثلث الإسلام وربعه، وأكثروا في التقسيمات، وكلها تحكمات، تحتمل الزيادة والنقص، وبالجملة, فالمعاني مشتركة، ولو قيل: إنه نصف الإسلام لكان له وجه، ولو قيل: إنه جملة الدين لما عُدِمَ وجهًا. قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلُّق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا، يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه. "والثالث" حديث البينة "على ربع الحكومات، وفصل الخصومات". "والرابع: على ربع الآداب والمناصفات"، جمع مناصفة بمعنى إنصاف، أي: العدل في معاملة الإخوان بعضهم مع بعض، "ويدخل تحته التحذير من الجنايات"؛ لأنه إذا جنى على أخيه لم يحب له ما يحب لنفسه؛ إذ هو لا يحب أن أحدًا يجني عليه، ومنهم من عَدَّ حديث: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 قال ابن المنير. ومما عُدَّ أيضًا من أنواع بلاغته, كلامه -عليه الصلاة والسلام- مع كل ذي لغة بليغة بلغته اتساعًا في الفصاحة، واستحداثًا للألفة، فكان -صلى الله عليه وسلم- يخاطب أهل الحضر بكلام ألْيَن من الدهن وأرقّ من المزن، ويخاطب أهل البدو بكلام أرسى من الهضب وأرهف من العضب. فانظر إلى دعائه لأهل المدينة حين سألوه ذلك فقال: "اللهمَّ بارك لهم في مكيالهم, وبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم،   "ازهد في الدنيا يحبك الله" رُبْعًا وأسقط البينة، وعدَّ حديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، وأسقط حديث: "لا يؤمن .... "، وفي ذلك البيتان المشهوران: عمدة الدين عندنا كلمات ... مسندات من قول خير البرية اتركنّ الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملنّ بنية "قال ابن المنير" في المقتفى: "ومما عُدَّ أيضًا من أنواع بلاغته, كلامه -عليه الصلاة والسلام- مع كل ذي لغة بليغة بلغته اتساعًا"، أي: زيادة "في الفصاحة، واستحداثًا للألفة" -بضم الهمزة وكسرها- كما يفيده المصباح، وهي الأنس والمحبَّة، "فكان -صلى الله عليه وسلم- يخاطب أهل الحَضَر بكلام أَلْيَنَ من الدهن، وأرق من المزن"، السحاب الأبيض، جمع مزنة، "ويخاطب أهل البدو" الملازمين للبادية، ولم يخالطوا أهل الحاضرة، حتى تفسد لغتهم، وليس المراد بهم الأخلاط الذين لا يحسنون اللغات "بكلام أرسى"، أثبت "من الهضب" جمع هضبة، وتُجْمَع أيضًا على هِضَاب، وجمع الجمع أهاضيب، كما في القاموس قائلًا، وهي: الجبل المنبسط على الأرض، أو جبل خلق من صخرة واحدة، والطويل الممتنع المنفرد، ولا يكون إلا في حُمُر الجبال، والمعنى: إنه يخاطبهم بكلام أثبت من الجبال الراسية في تمكُّنِه من اللغة لشدة فصاحته، "وأرهف من العضب" -بمهملة ومعجمة ساكنة- السيف القاطع، "فانظر إلى دعائه لأهل المدينة"، الذين هم أهل حضر، "حين سألوه ذلك"، أي: الدعاء، "فقال: "اللهمَّ بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومُدِّهم"، أي: فيما يكال بذلك. قال الراغب: أصل البرك صدر البعير، وإن استُعْمِل في غيره, وبَرَك البعير ألقى بركه، واعتبر فيه معنى اللزوم، ومنه بركاء الحرب، لمكان تلزمه الأبطال، والبِرْكَة لمحبس الماء، والبَرَكَة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال تعالى: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف: 96] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 وفي حديث آخر: "اللهمَّ بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مُدِّنَا, اللهمَّ إني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكَّة ومثله معه". ثم انظر دعاءه لبني نهد وقد وفدوا عليه في جملة الوفود، فقام طهفة بن رهم   لثبوت خيرها ثبوت الماء في البِرْكَة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحسّ على وجه لا يحصى ولا يحصر، قيل: لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة مبارك فيه بركة، وإلى هذه الزيادة أشير بحديث: "لا ينقص مال من صدقة"، لا إلى النقصان المحسوس، كما قال بعض الخاسرين، حين قيل له: ذلك بيني وبينك الميزان، وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61] ، تنبيه على ما يفيض علينا بواسطة هذه البروج والنيرين المذكورة، وكل موضع ذكر فيه تبارك، فهو تنبيه على اختصاصه تعالى بالخيرات المذكورة، مع ذكر تبارك. انتهى، وهو تحقيق نفيس لا مزيد عليه. "وفي حديث آخر" عند مسلم بمعناه: "اللهم بارك لنا في تمرنا، وبارك لنا في مدينتنا"، أي: كَثِّر خيرها، "وبارك لنا في صاعنا"، أي: فيما يكال بصاع مدينتنا، "وبارك لنا في مُدِّنَا"، أي: وفيما يكال به، ثم يحتمل كون البركة دينية، وتكون بمعنى الثبات، أي: ثَبِّتنا في أداء حقوق الحق المتعلقة بهذه المقادير، وكونها دنيوية، وتكون بمعنى الزيادة؛ بحيث يكفي المد فيها ما لا يكفي في غيرها، ويحتمل الأمرين معًا، "اللهمَّ إني أدعوك للمدينة" طيبة، "بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة" بقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] الآية، "ومثله معه"، وفي رواية مسلم: "اللهم اجعل مع البركة بركتين"، وعند الترمذي: "أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مُدِّهِم وصاعهم مثل ما باركته لأهل مكة مع البركة بركتين، وتمسك بهذا من فضلها على مكة"؛ لأن التضعيف شامل للأمور الدينية أيضًا، "ثم انظر دعاءه لبني نهد" -بفتح النون، وسكون الهاء، ودال مهملة- قبيلة باليمن, الذين هم أهل بدو، أي: تأمَّل الفرق بينه وبين دعائه لأهل المدينة، حيث دعا لنهد بنوع ما جاءوا به، "وقد وفدوا عليه في جملة الوفود، فقام طهفة" -بكسر الطاء المهملة، وفتحها، وهاء ساكنة تليها فاء- كما قال ابن عبد البر، وضبطه غيره بالتحتية بدل الفاء، ويقال: بخاء معجمة بدل الهاء وبالفاء، ثم هاء تأنيف، ويقال: طغية بغين معجمة وياء، وقيل: طقفة بقاف، ثم فاء، ويقال: اسمه يعيش أو قيس "ابن رهم"، كذا في النسخ، والذي في الإصابة: طهفة بن أبي زهير، وقال أبو عمر: طهفة بن زهير. انتهى، فإن ثبت ما للمصنِّف، فيجوز أن أبا زهير اسمه "النهدي"، روى قصته هذه بطولها ابن الأعرابي في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 النهدي يشكو الجدب إليه, فقال: يا رسول الله, أتيناك من غورى تهامة، بأكوار الميس، نرتمي بنا العيس، نستخلب الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير، ونستحيل الرهام، ونستحيل الجهام، من أرض غائلة النطاء، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن وما يحدث من الزمن، لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر وقام تعار، ولنا نعم همل، أغفال ما تبل ببلال، ووقير كثير الرسل قليل الرسل، أصابتها سنية حمراء مؤزلة، لي لها علل ولا نهل.   معجمه، وأبو نعيم في الصحابة عن عمران بن حصين، وابن الجوزي في العلل من وجه ضعيف جدًّا، عن علي بن أبي طالب قالا: قدم وفد بني نهد على النبي -صلى الله عليه وسلم، فقام طهفة, لفظ عمران، ولفظ علي: طخفة -بالخاء المعجمة- ابن أبي زهير، "يشكو الجدب إليه" -بدال مهملة- ضد الخصب، "فقال: يا رسول الله أتيناك من غورى" -بفتح المعجمة، والراء، وإسكان الواو بينهما- "تهامة" أي: ما انحدر مغربًا عنها، كما في القاموس "بأكوار"، أي: رحال، "الميس" -بفتح الميم، وإسكان التحتية، ومهملة, "نرتمي" نقصد "بنا العيس"، أي: الإبل مطلقًا، وإن كانت في اللغة: الإبل البيض إلى صفر، "نستخلب الصبير، ونستخلب الخبير" -بمعجمة فيهما- و"نستعضد البرير، ونستخيل" بمعجمة "الرهام" -بكسر الراء: الأمطار الضعيفة الدائمة، و"نستحيل" -بحاء مهملة- على الأشهر، وروي بجيم وخاء معجمة, "الجهام" -بفتح الجيم- السحاب لا ماء فيه، أو انقطع ماؤه, "من أرض غائلة النطاء" -بكسر النون، مهلكة لبعدها, "غليظة الوطاء، قد نشف المدهن" -بضم الميم، والهاء- من النوادر التي جاءت على خلاف القياس، والقياس الكسر، كما في المصباح، "ويبس الجعثن" -بكسر الجيم، وسكون المهملة، وكسر المثلثة، "وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي، برئنا إليك يا رسول الله من الوثن والعنن، وما يحدث من الزمن, لنا دعوة الإسلام وشرائع الإسلام ما طما البحر، وقام تعار ولنا نعم همل" -بفتحتين وبضم أوله وفتح ثانيه- ثقيلًا "أغفال" بمعجمة- وفاء "ما تبل ببلال ووقير" -بقاف وتحتية وراء- قطيع من الغنم، "كثير الرسل" -بفتح الراء- أي: شديد التفرق في طلب المرعى، "قليل الرسل" -بكسر فسكون- اللبن، كما في النهاية، "أصابتها سنية حمراء" أي: جدب شديد، تصغير تعظيم، قاله في النهاية، "مؤزلة". قال ابن الأثير: الأزل الضيق والشدة، وسنة مؤزلة: آتية بالأزل والقحط، "ليس لها علل، ولا نهل"، أي: شرب ثانٍ بعد شرب أوّل لشدة القحط، "فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها، وابعث راعيها في الدثر بيانع الثمر، وافجر له الثمد، وبارك له في المال والولد، من أقام الصلاة كان مسلمًا، ومن آتى الزكاة كان محسنًا، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصًا، لكم يا بني نهد ودائع الشرك، ووضائع الملك، لا تلطط في الزكاة، ولا تلحد في الحياة،   لهم في محضها ومخضها ومذقها"، متعلق ببارك، أي: اجعل البركة وزيادة الرزق وثباته مقسومًا وأصلًا لهم، "وابعث" أرسل "راعيها في الدثر" -بفتح المهملة وإسكان الثلثة وتفتح- المال الكثير، "بيانع الثمر" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالثمر اليانع، "وأفجر" -بضم الجيم "له" للراعي "الثمد" -بمثلثة مفتوحة وميم ساكنة وتفتح- الماء القليل، أي: كثره للراعي، وإذا كثر له كثر لغيره، فافجر مجاز عن معنى التكثير للزومه له غالبًا، "وبارك له في المال والولد"، عطف على ما قبله، أو على بارك الأوّل، والمال كل ما يتموّل ويُمْلَك، وهو في كلام العرب في الأكثر يُخْتَصُّ بالإبل، ويجوز إرادة كلٍّ منهما هنا, "من أقام الصلاة كان مسلمًا"، أي: كاملًا، كقوله: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه"، أو المراد: يحكم بإسلامه الظاهر، أو المراد: الحث على إقامة الصلاة، أي: المداومة والمحافظة عليها، أو هو على ظاهره؛ لأنَّ مَنْ تَرَكَها مستحلًّا لتركها كَفَر، أو لأنَّ تاركها كافر في قول كثيرين منهم أحمد، وهو في حكم الكافر؛ لأنه يقتل، "ومن آتى" بالمد، أعطى وأدَّى "الزكاة كان محسنًا"، منعمًا متفضِّلًا على الفقراء، أو إتيانًا بأمر حسن، مطلوب في الدين، "ومن شهد أن لا إله إلا الله"، أي: أتى بكلمة التوحيد وأعلن بها، "كان مخلصًا" في إيمانه؛ لأن الظاهر مطابقة قوله لما في قلبه حملًا لأحوال المؤمن على الصلاح, والمراد بالإخلاص عدم النفاق. وقيل: المراد من قال كلمة الشهادة، وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله، كما يقال: قرأت {حم ?, وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} ، أي: السورة بتمامها, "لكم يا بني نهد ودائع الشرك" لكم خير مقدَّم للاهتمام، لا للحصر القلبي، بناءً على ما يأتي من تفسيره، وجملة النداء معترضة لبيان المخاطب, "ووضائع الملك"، بكسر الميم، على تفسيره الآتي: ما يلزم الناس في أموالهم من زكاة وصدقة، أي: يلزمكم من غير زيادة ولا نقص، أو بضم الميم، أي: ما كان ملوك الجاهلية يوظّفونه على الرعايا، ويستأثرون به من غنائم الحروب, لا يؤخذ منكم، فهو لكم "لا تلطط" -بضم الفوقية، وإسكان اللام، وكسر الطاء الأولى- مجزوم على النهي، "في الزكاة" متعلّق به، أي: لا تمنعها، "ولا تلحد" -بضم التاء والجزم، "في الحياة" , من أَلْحَدَ إذا جارَ وعدل عن الحق، أي: لا تملْ عن الحق ما دمت حيًّا، "ولا تتثاقل" بالجزم أيضًا، أي: لا تتوان وتتكاسل، "عن الصلاة" , كناية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 ولا تتثاقل عن الصلاة". ثم كتب معه كتابًا إلى بني نهد: "بسم الله الرحمن الرحيم, من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله -عز وجل- ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق، من أقرَّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوفاء بالعهد   عن تركها، كأنَّ عليه ثقلًا يمنعه عن الحركة إليها، والخطاب في الثلاثة لطهفة، فأفرده بعد خطاب الجماعة بقوله: "يا بني نهد" لجواز أنه ذكَّرهم به حال خطابه لطهفة، ويدل عليه قوله: "ثم كتب معه كتابًا إلى بني نهد: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد، السلام على من آمن بالله -عز وجل- ورسوله, لكم يا بني نهد في الوظيفة" -بظاء معجمة وفاء- بزنة سفينة، وجمعها وظائف، ووظف كسفن, "الفريضة ولكم الفارض" -بالفاء والعين المهملة، "والفريش" -بالفاء المعجمة، "وذو العنان" -بالكسر، "الركوب" -بفتح الراء والرفع- صفة، ذو روي بالجر صفة العنان، "والفلوّ" -بفتح الفاء وضم اللام، وشد الواو- المهر الصغير, سُمِّيَ فلوًّا؛ لأنه يفلي عن أمه، أي: يقطع بالفطام عنها. قال الجوهري: يقال: فلوته إذا قطعته، وعن أبي زيد: إذا افتحت الفاء شدَّدت الواو، وإذا كسرتها خفَّفت، فقلت: فلو كجرو، وفي القاموس: الفلو -بالكسر- وكعدو وسموا الجحش والمهر طمًا، أو بلغا السنة, "الضبيس" -بمعجمة، وإهمالها وهم "لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم" -بفتح المهملة، وسكون اللام ومهملة- شجر عظيم يقال له: العضاء، وأم غيلان، وكل شجر له شوك، والمراد: لا يقطع لكم شجر طلحًا، أو غيره، وخصَّه؛ لأنه لا ثمر له، فإذا منع من قطعه علم عدم قطع غيره بالأَوْلَى، "ولا يحبس دركم" -بفتح الدال، وشد الراء المهملتين- أصل, معناه: اللبن، والمراد به هنا: الأنعام ذوات الدر، أي: لا تمنع عن المرعى "ما لم تضمروا" تخفوا، أو تكتموا "الإماق" -بهمزة مكسورة وميم ساكنة، وهمزة ممدودة تليها قاف- بزنة الإكرام، أي: الغدر والبغض، وقد تخفف همزته، كما في التلمساني، ويأتي للمصنف أن في رواية الرماق -بكسر الراء والميم، قيل: وهي التي اتفق عليها شرَّاح الشفاء، ومحشوها، "وتأكلوا الرباق" -براء وموحدة خفيفة وقاف، جمع ربقة، "من أقَرَّ بما في هذا الكتاب فله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوفاء بالعهد"، أل عهدية، أي: ما عاهدهم عليه في كتابه هذا، أو ما علم من عهود الإسلام، "والذمَّة" بمعنى: العهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 والذمّة، ومن أبى فعليه الربوة". وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى التفسير: فالميس: شجر صلب تعمل منه أكوار الإبل ورحالها. ونستحلب -بالحاء المهملة- الصبير: بفتح الصاد المهملة وكسر الموحَّدة، وهو سحاب أبيض متراكب متكاثف, أي: نستدرّ السحاب. ونستحلب -بالخاء المعجمة، الخبير -بالخاء المعجمة- أيضًا ثم الموحدة: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل وهو وبرها، واستخلابه: احتشاشه بالمخلب، وهو المنجل، والخبير: يقع على الوبر والزرع والأكار, قاله ابن الأثير.   والأمان والضَّمان والحرمة والحق، والمراد: الأوَّلان, سُمِّيَت ذمَّة؛ لأن تركها يوجب الذمّ، ثم سُمِّيَ محل الالتزام بها في قول الفقهاء ثبت في ذمّته، كذا قال القرافي في قواعده: لم يعرف أكثر الفقهاء معناها، وحقيقتها حتى ظنَّوا أنها أهلية المعاملة، أو صحّة التصرف، وليس كذلك؛ لأن كلًّا يوجد بدون الآخر، وهي عبارة عن معنى مقدّر في المكلف، قابل للالتزام واللزوم، مسبّب عن أشياء خاصة في الشرع، وهي البلوغ والرشد وعدم الحجر، وهي من خطاب الوضع، "ومن أبى" امتنع من قبول العهد، أو نقضه بعد قبوله ودخوله فيه من منع الزكاة، "فعليه الربوة" -مثلث الراء ساكن الموحدة. "وتحتاج هذه الألفاظ البالغة أعلى أنواع البلاغة إلى التفسير، فالميس -بفتح الميم، وسكون التحتية، "شجر صلب يعمل منه أكوار الإبل ورحالها" عطف تفسير، ففي القاموس: الكور -بالضم- الرحل، أو بأدواته، "ونستحلب -بالحاء المهملة- الصبير -فتح الصاد المهملة، وكسر الموحدة- وهو سحاب أبيض متراكب، متكاثف"، كأنَّ بعضه صبر على بعض، أي: حبس، "أي: نستدر السحاب"، أي: نطلب نزول دره، وهو المطر، "ونستخلب -بالخاء المعجمة- الخبير -بالخاء المعجمة- أيضًا، ثم الموحدة: النبات والعشب"، خاص على عام، "شبّه بخبير الإبل، وهو وبرها"، فهو مجاز، "واستخلابه احتشاشه بالمخلب، وهو المنجل" بكسر الميم- الآلة المعروفة، "والخبير يقع على الوبر والزرع، والأكار" الزراع، ومنه المخابرة، وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، "قاله ابن الأثير" في النهاية، والمراد هنا الزرع، أي: النبات. قال الجوهري: وفي الحديث: "نستخلب الخبير"، أي: نقطع النبات ونأكله. انتهى، ثم ظاهر قوله يقع أنه حقيقة لغوية في كلّ، وهو ظاهر إطلاق القاموس والصحاح، فيخالف قوله شبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 ونستعضد البرير: أي: نقطعه ونجنيه من ثمره للأكل، وهو بموحَّدة وراءين بينهما مثناة تحتية: ثمر الأراك إذا اسودَّ وبلغ, وقيل: هو اسم له في كل حال، وكانوا يأكلونه في الجدب. ونستخيل -بالخاء المعجمة- الرهام -بكسر الراء: وهي الأمطار الضعيفة، واحدتها رهمة، أي: نتخيّل الماء في السحاب القليل، وقيل: الرَّهْمَة أشدّ وقعًا من الديمة. ونستجيل -بالجيم- أي: نراه جائلًا يذهب به الريح ههنا وههنا. والجهام -بالجيم- أي: السحاب الذي فرغ ماؤه. ومن روى نستخيل -بالخاء المعجمة بدل الجيم- فهو نستغفل من "خلت، أخال" إذا ظننت، أراد لا نتخيّل في السحاب حالًا إلّا المطر, وإن كان جهامًا لشدة حاجتنا إليه، ومن رواه بالحاء المهملة -وهو الأشهر- أراد: لا ننظر من السحاب في حال إلّا إلى جهام من قلة المطر.   بخبير الإبل، اللهمَّ إلّا أن يريد يقع مجازًا فلا تخالف، "ونستعضد البرير" أي: نقطعه"، فالسين للتأكيد، "ونجنيه من ثمره للأكل، وهو بموحَّدة وراءين، بينهما مثناة تحتية، ثمر الأراك إذا اسودَّ وبلغ، وقيل: هو اسم له في كل حال"، وإن لم يسود ويبلغ، "وكانوا يأكلونه في الجدب" لقلة الزاد، "ونستخيل"، بالخاء المعجمة: الرِّهام -بكسر الراء، وهي الأمطار الضعيفة" الدائمة، كما في القاموس، "واحدتها رهمة" بكسر الراء، وتجمع أيضًا على رهم كعنب، كما في القاموس "أي: نتخيّل الماء في السحاب القليل، وقيل: الرهمة أشدّ وقعًا من الديمة" المطر، "ونستجيل" بالجيم، أي: نراه جائلًا يذهب به الريح ههنا وههنا، والجهام بالجيم" المفتوحة، "أي: السحاب الذي فرغ ماؤه"، كذا فسره ابن الأثير، وهو أحد قولين حكاهما المجد، فقال: الجهام السحاب لا ماء فيه، أو قد هرق ماءه، وجزم الجوهري بأوّلهما، وقد يكون أنسب هنا، "ومن روى: نستخيل -بالخاء المعجمة- بدل الجيم، فهو نستفعل"، ذكره لبيان مأخذه، وإلا فوزنه كذلك على الرايات الثلاث، "من خِلْتُ أخال إذا ظننت, أراد: لا نتخيل في السحاب حالًا إلّا المطر، وإن كان جهامًا لشدة حاجتنا إليه"، فنظنّ ما لا وجود له موجودًا، "ومن رواه بالحاء المهملة، لا بمعجمة، ولا جيم، "وهو الأشهر، أراد: لا ننظر من السحاب في حال إلّا إلى جهام من قلة المطر"، فقده بعد وجوده، أو عدم وجوده أصلًا، وهذا كله لفظ النهاية، "وأرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 وأرض غائله -بالغين المعجمة- والنطاء -بكسر النون- أي: مهلكة للبعد، يقال: بلد نطي، أي: بعيد، ويروى المنطأ وهو مفعل منه. والمدهن: نقرة في الجبل. والجعثن: بالجيم والمثلثة، أصل النبات، ويقال: أصل الصليان خاصّة, وهو نبت معروف. والعسلوج: بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم، وهو الغصن إذا يَبِسَ وذهبت طراوته، وقيل: هو القضيب الحديث الطلوع، يريد أن الأغصان يبسن وهلكت من الجدب، وجمعه، عساليج. والأملوج: بالضم والجيم، وَرَق شجر يشبه الطرفاء والسرو، وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان، وقيل: هو نوى المقل. وفي رواية: وسقط الأملوج من البكارة -بالكسر- جمع البكرة -بالفتح, يريد أن السمن الذي قد علا بكارة الإبل بما رعت   غائلة -بالغين المعجمة، والنطاء -بكسر النون- أي: مهلكة" بيان لغائلة، "للبعد، يقال: بلد نطي، أي: بعيد، ويروى: المنطأ، وهو مفعل منه". فالروايتان بمعنًى، "والمدهن نقرة في الجبل"، كما قال ابن الأثير، ويخالفه قول القاموس: المدهن -بالضم- آلة الدهن، وقارورته, شاذّ ومستنقع الماء، أو كل موضع حفره سيل، ومنه حديث طهفة: نشف المدهن، اللهمَّ إلا أن يريد بنقرة الجبل ما حفره السيل مما اعتيد حفره فيه، وهو كناية عن جفاف الماء في جميع نواحيهم، "والجعثن -بالجيم والمثلثة" المكسورتين -بينهما مهملة ساكنة آخره نون، "أصل النبات" مطلقًا، "ويقال: أصل الصليان" -بكسرتين مشدَّدة اللام، واحدته بهاء، ذكره القاموس في باب اللام، "خاصَّة, وهو نبت معروف، والعسلوج -بضم العين وبالسين المهملتين، آخره جيم- وهو الغصن إذا يبس وذهبت طراوته، وقيل: هو القضيب الحديث" الجديد "الطلوع، يريد أن الأغصان يبسن وهلكت من الجدب، وجمعه: عساليج، والأملوج -بالضم" بالألف واللام "والجيم" آخره: "ورق شجر يشبه الطرفاء والسرو، وقيل: هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان، وقيل: هو نوى المقل". قال في القاموس: بالضم، إلى أن قال: ثمر الدوم، "وفي رواية: وسقط الأملوج من البكارة -بالكسر- جمع البكرة -بالفتح" للباء", يريد أن السمن الذي قد علا بكارة الإبل بما رعت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 من هذه الشجرة قد سقطت عنها، فسمَّاه باسم المرعى؛ إذ كان سببًا له. وهلك الهدي -بفتح الهاء وكسر الدال المهملة والتشديد- كالهدي بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لينحر، فأطلق على جميع الإبل وإن لم تكن هديًا، تسمية للشيء ببعضه، يقال: كم هدي بني فلان؟ أي: كم إبلهم. ومات الوديّ: بالتشديد، فسيل النخل، يريد: هلكت الإبل ويبست النخل. وبرئنا إليك من الوثن والعنن، الوثن: الصنم، والعنن: الاعتراض، يقال: عنَّ لي شيء, أي: اعتراض، كأنه قال: برئنا إليك عن الشرك والظلم، وقيل: أراد به الخلاف والباطل. وما طمي البحر: أي: ارتفع بأمواجه. وتعار -بكسر التاء المثناة الفوقية- يصرف ولا يصرف، اسم جبل. ولنا نعم همل: أي: مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهي كالضالة. والإبل الأغفال: لا لبن فيها   من هذه الشجرة، قد سقط عنها، فسمَّاه باسم المرعى؛ إذ كان سببًا له"، فهو مجاز، "وهلك الهدي -بفتح الهاء، وكسر الدال المهملة، والتشديد- كالهدي بالتخفيف، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام من النعم لينحر، فأطلق على جميع الإبل، وإن لم تكن هديًا" لصلوحها له، "تسمية للشيء ببعضه، يقال: كم هدي بني فلان، أي: كم إبلهم، ومات الوديّ -بالتشديد" للياء- "فسيل النخل, يريد: هلكت الإبل، ويبست النخل، وبرئنا إليك من الوثن والعنن، الوثن: الصنم، والعنن: الاعتراض، يقال: عنَّ لي شيء، أي: اعتراض، كأنَّه قال: برئنا إليك من الشرك والظلم، وقيل: أراد به الخلاف والباطل، وما طمي البحر" -بالطاء المهملة "أي: ارتفع بأمواجه, وتعارّ -بكسر المثناة الفوقية" بعدها عين مهملة، فألف، فراء- بزنة كتاب "يصرف، ولا يصرف"، بالاعتبارين, البقعة والمكان "اسم جبل" ببلاد قيس، كما في القاموس، "ولنا نعم همل" -بفتحتين وبضم أوله، وشد الميم مفتوحة- جمع هامل مثل: راكع وركع، كما في المصباح والقاموس، "أي: مهملة لا رعاء لها، ولا فيها ما يصلحها ويهديها، فهي كالضالة، والإبل الأغفال لا لبن فيها"، جمع غفل -بالمعجمة والفاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ بارك لهم في محضها" -بالحاء المهملة والضاد المعجمة- أي: خالص لبنها. "ومخضها" -بالمعجمتين: ما مخض من اللبن وأخذ زبده. "ومذقها" -بفتح الميم وسكون المعجمة وبالقاف- أي: ممزوج بالماء. "وابعث راعيها في الدثر" -بالمهملة المفتوحة ثم المثلثة الساكنة ثم الراء: المال الكثير، وقيل: الخصب والنبات الكثير. "وافجر له الثمد" -بفتح المثلثة: الماء القليل، أي: صيّره كثيرًا. "وودائع الشرك" , قيل: المراد بها العهود والمواثيق، يقال: توادع الفريقان إذا أعطى كل واحد.   "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهمَّ بارك لهم في محضها" -بالحاء المهملة، والضاد المعجمة- أي: خالص لبنها، ومادَّته كلها تدل على الخلوص والصفاء، ومنه: محض الإيمان، ومحض الود، وعربي محض، ونحو ذلك، "ومخضها" -بالمعجمتين- ما مخض من اللبن وأخذ زبده"، وأصله تحريك السقاء الذي فيه اللبن حتى يتميّز زبده فيؤخذ منه، ويسمَّى ذلك اللبن المأخوذ زبده: مخيضًا، وهو صفة لا مصدر ميمي، "ومذقها" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وبالقاف- أي": لبنها، وهو "ممزوج بالماء"، وأصل معناه الخلط والمزج، ثم استعمل في اللبن المخلوط بالماء، قال: جاءوا بمذاق هل رأيت الذئب قط، والضمائر راجعة لأرضهم أو لأنعامهم المذكورة في كلام طهفة، فدعا المصطفى لهم بالبركة في ألبانهم بأقسامها، ما كان خالصًا لم يتميز زبده، وما خرج بالماء، ومجموعه كناية عن خصب أرضهم وسقيها، فإن الألبان إنما تكثر بنبات المرعى، وهو إنما يكون بالمطر المخلوط، فكأنه قال: "اللهم اسق بلادهم، واجعلها مخصبة ملبنة"، ويدل عليه قوله: "وابعث راعيها في الدثر -بالمهملة المفتوحة، ثم المثلثة الساكنة"، ويجوز فتحها، "ثم الراء: المال الكثير"، وقيل: الخصب والنبات الكثير"؛ لأنه من الدثار وهو الغطاء؛ لأنها تغطي وجه الأرض، "وافجر" بضم الجيم، "له الثمد -بفتح المثلثة"، وإسكان الميم، وتفتح- كما في القاموس، "الماء القليل" لا مادَّة له، أو ما يبقى في الجلد، أو ما يظهر في الشتاء، ويذهب في الصيف، كما في القاموس، "أي: صيره كثيرًا"، فافجر مجاز عن التكثير للزومه له غالبًا، "وودائع الشرك"، قيل: المراد بها: العهود والمواثيق"، التي كانت بينهم وبين من جاورهم من الكفَّار في المهادنة، "يقال: توادع الفريقان إذا أعطى كل واحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 منهم عهده للآخر لا يغزوه، وقيل: المراد ما كانوا استودعوه من أموال الكفَّار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، أراد إحلالها لهم؛ لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط. "ووضائع الملك" جمع وضيعة، وهي الوظيفة التي تكون على الملك، وهو ما يلزم الناس في أموالهم من الزكاة والصدقة، أي: لكم الوظائف التي تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم ولا نريد عليكم فيها شيئًا. "ولا تلطط" بضم المثناة الفوقية، ثم اللام الساكنة ثم طاءان، الأولى مكسورة والثانية مجزومة على النهي، أي: لا   منهم عهده للآخر لا يغزوه"، ويسمَّى ذلك العهد وديعًا بلا هاء، فيقال: أعطيته وديعًا، أي: عهدًا، قيل: والظاهر أن المراد عهودهم الواقعة بينهم بعد الحروب، بعدم المؤاخذة بما قتلوا، وإن ما أراقوا من الدماء هدر، كما في الحديث الآخر: "كل دم في الجاهلية تحت قدمي هذه"، أي: متروك هدرًا، "وقيل: المراد ما كانوا استودعوه من أموال الكفَّار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، أراد إحلالها لهم؛ لأنها مال كافر قدر عليه من غير عهد ولا شرط"، فهو فيء لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فهو على هذا جمع وديعة بالهاء، ولا ينافيه أنه -صلى الله عليه وسلم، لما هاجر خلَّف عليًّا لردِّ الوداع والأمانات التي كانت عنده؛ لأنه كان قبل حل الغنائم له، أو لأنَّه -صلى الله عليه وسلم- فَرَّ من نسبته للخيانة، وذهاب شهامته وأمانته، فيطعنوا في الإسلام، ويبعدوا من الإيمان. "ووضائع الملك" جمع وضيعة، بمعنى: موضوعة، "وهي الوظيفة التي تكون على الملك" بكسر الميم- ما يملك، "وهو ما يلزم الناس في أموالهم من الزكاة والصدقة، أي: لكم الوظائف التي تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم، ولا نريد عليكم فيها شيئا"، بل هم فيها، كسائر المسلمين، وقيل: الملك -بضم الميم، والمعنى: أن ما كان ملوك الجاهلية يوظفونه على الرعايا، ويستأثرون به من غنائم الحروب لا يؤخذ منكم، فهو لكم، فلام لكم على ظاهرها على التفسيرين الأخيرين للودائع، والوضائع، وعلى الأوَّلين بمعنى: علي كقوله: "وإن أسأتم فلها"، واعترض بأنَّ العهد إذا لزم الوفاء به يكون على المعاهد؛ لأنه فرض مطلوب منه، وعهود مهادنتهم قبل الإسلام لا يجب الوفاء بها بعده، والقائل: ظنَّ وجوب الوفاء، فجعل اللام بمعنى على، وليس كذلك؛ لأن عهد الكافر لا يُعْتَدُّ به، وإنما الوضائع بمعنى تكاليف الزكاة، فهي وإن ثقلت على بعضهم, لهم باعتبار الأجر عليها، لكنَّ هذا مبني على تفسيره، وليس بمتعَيِّن، كما علم، "ولا تلطط" بضم المثناة الفوقية ثم اللام الساكنة ثم طاءان" بعدها الأولى، ثم طاءين "الأولى مكسورة، والثانية مجزومة"، فيه مسامحة؛ إذ الجزم صفة للفعل بتمامه، فالمراد: ساكنة "على النهي، أي: لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 تمنعها. "ولا تلحد في الحياة" بضم المثناة الفوقية وإسكان اللام وكسر الحاء المهملة وآخره دال مهملة، أي: لا تمل عن الحق ما دمت حيًّا. قال بعضهم: كذا رواه القتيبي: لا وتلطط ولا تلحد على النهي للواحد، ولا وجه له؛ لأنه خطاب الجماعة، ورواه غيره: ما لم يكن عهد ولا موعد ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط في الزكاة وتلحد في الحياة. قال الحافظ أبو السعادات الجزري، وهو الوجه؛ لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله.   تمنعها". قال ابن الأعرابي: لط الغريم إذا منعه حقَّه، وأصله من لطت الناقة فرجها بذنبها, إذا ضمته عليه، وقد أرادها الفحل، وفي شعر الأعشى في امرأته حين نشزت: أخلفت الوعد ولطت بالذنب ... وهنّ شر غالب لمن غلب "ولا تلحد في الحياة" بضم المثناة الفوقية، وإسكان اللام، وكسر الحاء المهملة، آخره دال مهملة" مجزوم، "أي: لا تمل عن الحق ما دمت حيًّا"، من ألحد إلحادًا، إذا جار وعدل عن الحق، وأصله مطلق العدول، ويقال: لحد قليلًا، "قال بعضهم: كذا رواه القتيبي" بضم القاف، وفتح الفوقية، وإسكان التحتية، وبالموحدة- عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري نسب إلى جده، "ولا تلطط، ولا تلحد" على النهي للواحد، ولا وجه له؛ لأنه خطاب الجماعة" المذكورين في قوله: "لكم يا بني نهد"، "ورواه غيره" عقب قوله: "وضائع الملك" , "ما لم يكن عهد ولا موعد، ولا تثاقل عن الصلاة، ولا تلطط"، بزنة تفعل، "في الزكاة، وتلحد في الحياة"، باسم المصدر، وشَدّ العين في الثلاث. "قال الحافظ أبو السعادات الجزري"، وهو ابن الأثير في النهاية: "وهو" أي: المروي عن غير القتيبي، "الوجه" الواضح؛ "لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله"، وتلك الرواية جاءت على غير أسلوبه، لتوجّه الخطاب الواحد من بينهم، فقياسه: ولا تلططوا ولا تلحدوا، ولذا ضبطه ابن رسلان: لا نلطط، ولا نلحد -بالنون فيهما, من باب: نهى الإنسان نفسه لينتهي غيره، ولكن قد أجيب رواية القتيبي؛ بأن الخطاب لمن تلقَّى الكلام من النبي -صلى الله عليه وسلم- من بين جميع المخاطبين ابتداءً، ونظيره: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ، حيث خوطب المتلقي بلفظ ذلك، ولم يقل: ذلكم، وتخصيص واحد من الحاضرين بخطاب النهي للتعريض بالباقين، والصَّوْن لهم عن توجه صيغة النهي إليهم، رجاء الانقياد للامتثال بألطف وجه، أو الخطاب لهم برمتهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 وقوله: "ولا تتثاقل عن الصلاة" أي: لا تتخلف. "والوظيفة" الحق الواجب. "والفريضة" أي: الهرمة المسنة، أي: لا تأخذ في الصدقات هذا الصنف, كما أنا لا نأخذ خيار المال. "والفارض" -بالفاء والضاد المعجمة: المريضة. "والفريش" -بفتح الفاء آخره شين معجمة- وهي من الإبل, كالنفساء من بنات آدم، أي: لكم خيار المال وشراره، ولنا وسطه.   أولًا، ثم توجَّه لواحد في المجلس، فنهاه تعريضًا بهم، أو نهاهم نهي غيبة تنزيلًا لهم منزلة الغائبين، أي: لا تلطط ولا تلحد هي، والضمير لبني نهد، وبنون، وإن كان جمع مذكر سالم، لا يعود له ضمير المؤنث، ولا تلحقه التاء، فلا يقال: الزيدون قامت، ولا قامت الزيدون، إلّا أنه لما غُيِّرَ مفرده عند جمعه أشبه التكسير، فأُعْطِيَ حكمه، فجاز إلحاق التاء بفعله نحو: قامت البنون، ومنه: {إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ، فيجوز البنون قامت، وتقوم بتاء التأنيث، "وقوله: "لا تتثاقل"، بالجزم نهي للواحد، وفيه ما مَرَّ, "عن الصلاة"، أي: لا تتخلَّف" عنها وتتركها بجعل التناقل كناية عن ذلك، كأنَّ عليه ثقلًا يمنعه عن الحركة إليها، "والوظيفة" الحق الواجب، "والفريضة" أي: الهرمة المسنة لفرضها سنها، أي: قطعها له، أو لانقطاعها عن العمل، والانتفاع بها، "أي: لا تأخذ في الصدقات هذا الصنف، كما أنَّا لا نأخذ خيار المال والفارض -بالفاء والضاد المعجمة- المريضة" فهي لكم، لا نأخذها في الزكاة أيضًا، هكذا ضبطه البرهان الحلبي وغيره بالفاء، وضبطه التحاني بالعين مهملة بدل الفاء، وذكره الشمني أيضًا، وفسروه بالناقة التي يصيبها كسر ومرض، فهي باقية لأصحابها لا تؤخذ في الزكاة، وفي الغريبين: الفارض بالفاء، وقيل: بالعين, التي أصابها كسر، يقال: عرضت الناقة إذا أصابها آفة أو كسر، وبنو فلان أكالون للعوارض إذا لم ينحروا إلا ما أصابه مرض أو كسر، خوفًا أن يموت فلا ينتفعون به. والعرب تعيِّر بأكله، "والفريش" -بفتح الفاء، وكسر الراء، وتحتية ساكنة، "آخره شين معجمة، وهي من الإبل" الحديثة العهد بالنتاج، "كالنفساء من بنات آدم، أي: لكم خيار المال"، كالفريش، لأنها لبون نفيسة، "و" لكم، "شراره"، كالفريضة والفارض، "ولنا وسطه" رفقًا بالفريقين، وقيل: الفريش ما لا يطيق حمل الأثقال من الإبل لصغره، يقال: فرش وفريش بمعنًى، وإن كان المشهور فرش، قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] ، وعلى هذا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 "وذو العنان" بكسر العين- سير اللجام. "والركوب" بفتح الراء- أي: الفرس الذلول. "والضبيس" بفتح المعجمة وكسر الموحدة آخره مهملة- المهر العسر الصعب. امتنَّ عليهم بترك الصدقة في الخيل جيدها ورديئها. "ولا يمنع" بضم المثناة التحتية وفتح النون- سرحكم -بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة- ما سرح من المواشي، أي: لا يدخل عليكم أحد في مراعيكم. "ولا يعضد طلحكم" أي: لا يقطع. "ولا بحبس دركم" أي: لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجتمع   فالمعنى لا تؤخذ لحسنها، "وذو العنان" بكسر العين"، ونونين، بينهما ألف "سير اللجام، "والركوب" بفتح الراء، أي: الفرس الذلول"، أي: المذلَّل المركوب، قال تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] ، ووصفه بذي العنان في محله، أي: لا تؤخذ الزكاة من الفرس المعَدّ لركوب صاحبه، "و" الفلوّ: "الضبيس" بفتح المعجمة، وكسر الموحدة، وسكون التحتية، "آخره" سين "مهملة: المهر العسر" الركوب، "الصعب" وهو من رجال كذلك، كأنه كنَّى به عن صغره، ولو عطف كان المراد به الحرون إلّا أنه وقع بلا عطف، "امتَنَّ عليهم بترك الصدقة في الخيل جيدها"، وهو ذو العنان الركوب "ورديئها"، وهو الغلوّ الضبيس، أي: أظهر المنَّة عليهم بذلك، وإلا فعدم زكاة الخيل إنما يقوله المصطفى بالوحي، " "ولا يمنع" -بضم المثناة التحتية، وفتح النون- "سركم" بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وبالحاء المهملة، ما سرح من المواشي، أي: لا يدخل عليكم أحد في مراعيكم"، وأصل السرح: الماشية التي تسرح بالغداة للمرعى، والمراد: إن مطلق الماشية لا تمنع عن مرعاها، يقال: سرحت تسرح، إذا خرجت للمراعى، وفعله يتعدَّى ولا يتعدّى، فإذا رجعت، قيل: أراحت، قال تعالى: {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] ، وهذا كقوله في كتابه للكندي: لا تعدل سارحتكم وفاردتكم من مرعى، إلا أن عبَّر فيه بالساحة لمشاكلة الفاردة، كما عَبَّر هنا بالسرح لمشاكلة قوله: "ولا يعضد طلحكم"، أي: لا يقطع" من عضده إذا قطعه، والمعنى: لا يقطع شجركم طلحًا أو غيره؛ لأنه إذا نهى عن قطع الطلح الذي لا ثمر له، فغيره أولى، وقد تقدَّم، "ولا يحبس دركم، أي: لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجتمع الماشية، ثم تعد"، أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 الماشية ثم تعد، أو أنَّ معناه أن لا نأخذها لما في ذلك من الأضرار. "والإماق" -بالميم- أي: ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء، مما يلزمكم من الصدقة، قاله في القاموس. وقال الزمخشري: المراد إضمار الكفر والعمل على ترك الاستبصار في دين الله، وفي رواية: الرماق -بالراء والميم- أي: النفاق، يقال: رامقته رماقًا، وهو أن تنظر إليه شزرًا نظر العداوة، يعني: ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال: عيش رماق، أي: ضيق، وعيش رمق، ومرفق: أي ممسك الروح، والرمق: بقية الروح وآخر النفس. "وتأكلوا الرباق" -بكسر الراء وبالموحدة المخففة- أي: إلا أن تنقضوا العهد، واستعار الأكل لنقض العهد؛ لأن البهيمة إذا أكلت الربق -وهو الحبل, يجعل فيه عرى وتشد به- خلصت من الرباط.   بعدها الساعي، لما فيه من ضرر صاحبها بعدم رعيها ومنع درها عنه، والقصد: الرفق بمن تؤخذ منهم الزكاة بعدم حبسها، وروي: لا تحشر، أي: لا تجمع في مكان عند الساعي، لما فيه ضرر ربها, فهما بمعنًى، "أو أنَّ معناه: أن لا نأخذها لما في ذلك من الإضرار"، بأخذ الكرائم، "والإماق" بالميم الساكنة، بين همزتين، أولاهما مكسورة، والثانية ممدودة تليها قاف، وقد تخفف همزته- "أي: ما لم تضمروا الغيظ، والبكاء مما يلزمكم من الصدقة، قاله في القاموس"، وقال غيره: معناه الغدر والبغض. "وقال الزمخشري" في الفائق: "المراد إضمار الكفر، والعمل على ترك الاستبصار في دين الله"، مع إظهار خلافه، فهو نفاق، "وفي رواية: الرماق -بالراء" المكسورة، "والميم"، وهي التي وجدت بخط عياض، واتفق عليها شراحه محشوه، أي: النفاق، "يقال: رامقته رماقًا، وهو أن تنظر إليه شزرًا" بمعجمتين، ثم راء، "نظر العداوة، يعني: ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال: عيش رماق، أي: ضيق" عن مسك الرمق: بقية الروح، "وعيش رمق، ومرفق، أي: مسك الروح، والرمق بقية الروح وآخر النفس، "وتاكلوا الرباق" بكسر الراء، وبالموحدة المخففة، أي: إلّا أن تنقضوا العهد، واستعار الأكل لنقض العهد"، استعارة تصريحية أو تمثيلية، شبَّه ما يلزم من العهد بالرباق، واستعار الأكل لنقضه؛ "لأن البهيمة إذا أكلت الربق، وهو الحبل يجعل فيه عرى، وتشد به"، جملة معترضة، لبيان معنى الربق "خلصت من الرباط"، وما مصدرية ظرفية قيد لما قبله، أو الجميع ما تقدَّم، والمعنى: هذا أمر مقدَّم عليكم منا، ما لم تنقضوا العهد، وترجعوا عن الإسلام، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 "والربوة" -بكسر الراء وفتحها وضمها- أي: الزيادة. يعني: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة عقوبة له. فانظر إلى هذا الدعاء والكتاب الذي انطبق على لغتهم، وجاد وزاد عليها في الجزالة والبداوة, أين هذا من كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأنس في الصدقة،   فإن فعلتم، فعليكم ما على الكفرة، وهذا معنى حسن في ضمنه الترتيب؛ إذ المعنى ما لم تضمروا النفاق، ثم تظهروا نقض العهد، وقريب منه تفسيره بالغدر والعداوة؛ إذ إضمار ذلك نفاق، وأمَّا تفسير إضمار الرماق بإخفاء قطيع من الغنم عن الساعي، وذلك جناية تقتضي التضييق على ذي المواشي بحبسها عنهم، فهو متعلق على هذا بقوله: "لا حبس دركم"، وهو معنى صحيح لغة؛ إذ الرمق: القطيع من الغنم, فارسيّ معرَّب، قاله الجوهري, واعترض البرهان عليه, بأنه لم يره لغير الصحاح, وأخشى أن لا يكون أحد قاله قبله لا يليق، نعم المشهور في تفسيره ما مَرَّ. "والربوة" بكسر الراء وفتحها وضمها" فهي مثلثة, والاقتصار على عضها تقصير، "أي: الزيادة، يعني: من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة عقوبةً له"، قاله ابن الأثير، وهو صادق، بأي: زيادة كانت. وقال التجاني: معناه: يؤخذ منه الفرض، ويزاد مثله، كما في الصحيحين، بعث -صلى الله عليه وسلم- عمر على الصدقة، فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلّا أنه كان فقيرًا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمونه، وقد احتبس أدراعه في سبيل الله, وأما العباس فهي عليه ومثلها معها"، وفي رواية البخاري: "فهي عليه صدقة، ومثلها معها"، أي: عليه صدقة واجبة تؤخذ منه, لا أنه يعطاها؛ لأنه لا يحل له الصدقة, انتهى باختصار, وفي ذا الحديث كلام يخرج عن المقصود، "فانظر" أي: أعرف وقف، بأيّ طريق كان "إلى هذا الدعاء" الذي دعا به لبني نهد، "والكتاب" الذي كتبه لهم، "الذي انطبق" اشتمل "على" موافقة "لغتهم"، من حيث المماثلة لها في غرابة الألفاظ، لا من حيث اشتماله على جميع الألفاظ التي يعرفونها لاستحالة ذلك، وأفرد ضمير انطبق كاللذين بعده، وهما جاد وزاد، والقياس التثنية باعتبار النوع؛ إذ هما نوع واحد وهو لغتهم، أو المراد: انطبق جاد وزاد كل من الدعاء والكتاب، "وجاد" أي: حسن في سبكه، وترتيب ألفاظه، وعدم الصعوبة في فهمه من حيث الأسلوب، فلم يخل بالفصاحة، "وزاد" فاق "عليها في الجزالة"، أي: حسن النظم والتأليف، وهي لغة، خلاف الركاكة "والبداوة"، أي: الوضوح، والظهور، فالعطف مغاير، ويحتمل أنه عطف علة على معلول، أي: جاد؛ لأنه زاد، والجاران والمجروران متعلقان بزاد، "أين هذا من كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأنس في الصدقة"، أي: شأنها، أي: الزكاة، وقد تقدَّم، وهو استفهام تعجبي، ولم يقل أين هو، إشارة إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار, إنهم أمّة واحدة دون الناس من قريش على رباعتهم، يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، ويفكون عافيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على من بقى عليهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، وأن سلم المؤمنين واحد على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم   ظهوره، حتى صار كالمحسوس الذي استحقَّ أن يشار إليه إشارة حسية، "وأين ذلك من كتابه بين قريش والأنصار, إنهم"، بكسر الهمزة، أي: الأنصار "أمّة واحدة دون الناس" حال من اسم إنّ "من قريش"، صفة لأمّة بعد صفة، أي: جزء منهم، كأبنائهم وإخوانهم على نحو: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، يعني: إن الأنصار دون غيرهم من الناس طائفة من قريش، فهو مبالغة في اتحادهم معهم، حتى كأنهم من نسلهم، "على رباعتهم" بكسر الراء- أي: على استقامتهم، يريد أنَّهم على أمرهم الذي كانوا عليه، ورباعة الرجل شأنه وحاله التي هو رابع عليها، أي: ثابت مقيم، قاله في النهاية، وهو خبر ثانٍ لأن, يعني: إن الأنصار مع قريش باقون على حالهم التي كانوا عليها من الإنجاد والمودَّة، "يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى"، يأتي بيانه، "ويفكون عافيهم" أي: أسيرهم؛ بأن يسعوا في خلاصه بمال، أو غيره، وكذا يخلصون من أصابه تعب، أو مشقَّة بحسب الطاقة "بالمعروف"؛ بحيث لا يرتكبون في ذلك محرمًا، بل يحافظون على إزالة تعب من أصابه مصيبة, مع رعاية قوانين الشرع. "والقسط" بكسر القاف، اسم مصدر م أقسط إذا عدل، لا من قسط؛ لأن مصدره بالفتح, مشترك بين العدل والجور، والمراد هنا: العدل "بين المؤمنين، وأن المؤمنين المتقين أيديهم" قوتهم وسلطانهم بالقهر والغلبة، "على من بغى" تعدَّى "عليهم" وظلمهم، وقيد بالمتقين إشارةً إلى أن هذه حالة الكاملين، فمن اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام، فيبغي ويخالف الحدود، فيمنع من ذلك، "أو ابتغى" طلب "دسيعة ظلم" بفتح الدال، وكسر السين المهملتين، فتحتية، فمهملة، ثم تاء التأنيث، أي: عظيمة من الظلم، فأضافه إليه على معنى من، ويجوز أن يراد بالدسيعة العطية، أي: ابتغى أن يدفع إليه عطية على وجه الظلم، أو أضافها للظلم؛ لأنها سبب الدفع، وقال أبو ذر: الدسيعة العطية، وهي ما يخرج من حلق البعير إذا رغا، فاستعاره هنا للعطية، وأراد به ما ينال من الظلم. ذكره في النور، "وإن سلم" بفتح السين وكسرها، يذكَّر ويؤنَّث- صلح "المؤمنين واحد على سواء، وعدل بينهم"، والمراد أن حالهم، وصفتهم حالة واحدة لا تختلف، بل هي على استقامة وعدل؛ بحيث لا يطلب أحد أن يتميز على غيره، "وإن كل" طائفة "غازية" اسم فاعل كراضية من غزا يغزو، وقصد العدوّ في بلاده، "غزت يعقب بعضهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 بعضًا، ومن اعتبط مؤمنًا قتلًا فهو قَوْد إلّا أن يرضى ولي المقتول، ومن ظلم وأَثِمَ فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن". كذا روي مختصرًا من حديث ابن شهاب. وقوله: "دسيعة ظلم": أي عظيمة من الظلم. "ورباعتهم" أمرهم القديم الذي كانوا عليه. "ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي:   "بعضًا"، أي: يكون الغزو بينهم نوبًا، كما يأتي، "ومن اعتبط" -بعين مهملة- أي: ذبح "مؤمنًا" بلا جناية "قتلًا" مفعول مطلق؛ لأنه نوع منه، "فهو قَوْدٌ" جواب الشرط، وكان الظاهر أن يقال: يقتص منه، فأقيم السبب وهو القود، أي: الانقياد مقام السبب، أي: القصاص، قاله الطيبي، وفي النهاية، أي: قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يُقَادُ به ويقتل، وكلُّ من مات بغير علة فقد اعتبط، ومات فلان عبطه أي: شابًّا صحيحًا. وحديث أبي داود: "من قتل مؤمنًا فاعتبط بقتله, لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا" جعله الخطَّابي من ذلك، فقال: أي: قتله ظلمًا لا عن قصاص، ومقتضى تفسير غيره؛ أنه من الغبطة -بالغين المعجمة- وهي الفرح والسرور وحسن الحال؛ لأن القاتل يفرح بقتل خصمه، فإذا كان المقتول مؤمنًا وفرح بقتله, دخل في هذا الوعيد. انتهى ملخصًا، وهما روايتان في حديث أبي داود، كما في المنضدة، قائلًا: ورواية الإهمال أولى؛ لأنَّ القاتل ظلمًا عليه القَوْد هبه فرح بقتله أو لا. انتهى، فأمَّا حديثنا هذا فبالمهملة لا غير، "إلّا أن يرضى" بضم أوله, رباعي, فاعله هو, أي: القاتل، ومفعوله "ولي المقتول" بالعفو مجانًا، أو على مال، فلا قود على القاتل، ويجوز أن يرضى -بفتح أوله- ثلاثي، وفاعله ولي، كذا ذكر الضبطين في النور. قال الطيبي: وهذا استثناء في الحقيقة من المسبب، "ومن ظلم وأثم فإنه لا يوتغ" بضم التحتية، وكسر الفوقية، وغين معجمة- أي: يهلك "إلا نفسه، وأَوْلَاهم بهذه الصحيفة البَرّ" التقيّ الصادق المطيع، "المحسن، كذا روي مختصرًا من حديث ابن شهاب" محمد الظهري، وذكره ابن إسحاق مطولًا في نحو ورقتين في مبحث الهجرة. قال ابن سيد الناس: وأسنده ابن أبي خيثمة عن عمرو المزني، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار، فذكره مطولًا بنحوه، "وقوله: "دسيعة ظلم"، أي: عظيمة من الظلم"، فالإضافة على معنى مِن، ومَرَّ قريبًا بسطه، "ورباعتهم" أمرهم القديم الذي كانوا عليه"، يقال القوم على رباعهم ورباعتهم، أي: استقامتهم، "ويتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل: الديّات، جمع معقلة، يقال: بنو فلان على معاقلهم التي كانوا عليها، أي: على مراتبهم وحالاتهم. "ولا يوتغ" أي: لا يهلك. "ويعقب بعضهم بعضًا" أي: يكون الغزو بينهم نوبًا, فإذا خرجت طائفة ثم عادت لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها. وأين هذا اللين في القول، وقرب المأخذ في اللفظ على طريق الحاضرة وعرف الجمهور المشهور أيضًا من كتابه لذي المشعار الهمداني، لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال له مالك بن نمط: يا رسول الله، نصية.   يكونون على ما كانوا عليه من أخذ الديّات وإعطائها، وهو تفاعل من العقل، والمعاقل: الديات, جمع معقلة" بضم القاف: الدية، كما في المختار، "يقال: بنو فلان على معاقلهم التي كانوا عليها، أي: على مراتبهم، وحالاتهم"، وهذا كله لفظ النهاية، "ولا يوتغ" أي: لا يهلك، يقال: وتغ وتغاو أوتغه غيره أهلكه، قاله أبو عبيد، "ويعقب بعضهم بعضًا"، أي: يكون الغزو بينهم نوبًا، فإذا خرجت طائفة ثم عادت، لم تكلف أن تعود ثانية حتى يعقبها غيرها"، بضم القاف، من باب: قتل، كما في المصباح، "وأين هذا اللين في القول، وقرب المأخذ في اللفظ على طريق الحاضرة، وعرف الجمهور المشهور"، استفهام تعجبي، "أيضًا من كتابه لذي المشعار" بكسر الميم، وإسكان الشين المعجمة، وعين مهملة، فألف فراء- كما صحَّحه الصغاني في الذيل قائلًا: لُقِّبَ بذلك لأنَّ المشعار موضع باليمن ينسب إليه، وتبعه في القاموس، فذكره في شعر -بالمعجمة بعدها مهملة. وقال التلمساني: إنه بشين معجمة ومهملة وغين معجمة ومهملة، وهو أبو ثور مالك بن نمط، بفتحتين، "الهمداني" بفتح الهاء، وإسكان الميم، ودال مهملة- نسبة إلى شعب عظيم من قحطان، ثم الأرحبي -بفتح الهمزة، والحاء المهملة، بينهما راء ساكنة، ثم موحدة- إلى أرحب, بطن من همدان، ويقال له: اليامي -بتحتية، فألف، فميم، والخارقي، بمعجمة، وراء مكسورة- كان شاعرًا محسنًا، له في النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيات حسان، تقدَّمت في الوفود، وَهِمَ ابن إسحاق في قوله: مالك بن نمط، وأبو ثور، إلّا أن يكون من عطف الكنية على الاسم، "لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك، فقال له مالك بن نمط"، من إقامة الظاهر مقام المضمر لبيان اسم ذي المشعار، والنمط في الأصل نوع من البسط، فهو علم منقول منه: "يا رسول الله نصية" بنون مفتوحة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 من همدان من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف, ويام لا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما قام لعلع، وما جرى اليعفور بصلع. فكتب لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وحفاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن النمط ومن أسلم من قومه، على أنّ لهم فراعها ووهاطها وعزازها، ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها، لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة،   وصاد مهملة مكسورة، وتحتية ثقيلة مفتوحة- أشراف "من همدان, من كل حاضر وباد"، صفة ثانية لنصية، أو حال، فيفيد أنَّ همدان متفرقة في محلات، ويدل على هذا قوله الآتي: نصية من كل حاضر وباد؛ حيث جمع بين نصية، وقوله: من إلخ ... ، فهو أظهر من جعله متعلقًا بقوله: "أتوك على قلص" بضمتين- نوق "نواج" بجيم- سراع, "متصلة بحبائل الإسلام, لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف، ويام لا ينقض عهدهم عن سنة" طريقة "ما حل" ساع بالنميمة والإفساد. وفي رواية: شية -بمعجمة، وتحتية- أي: وشاية، ويأتي بسطه، "ولا سوداء عنقفير" براء آخره- أي: داهية شديدة, من إضافة الصفة للموصوف, "ما قام لعلع" جبل, "وما جرى اليعفور بصلع" بضم الفتح، مثقلًا، "فكتب لهم النبي -صلى الله عليه وسلم" أمر يكتب ما صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، "هذا كتاب من محمد رسول الله لمخلاف" بخاء معجمة. قال في الفائق: هو لليمن كالرستاق لغيرهم، وفي المصباح: الرستاق معرب، ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم, والرزداق -بزاي ودال مهملة- "خارف وأهل جناب" بكسر الجيم، "الهضب" بفتح الهاء، وسكون المعجمة، وموحدة- جمع هضبة، مركَّب تركيب مزج، "وحفاف الرمل" بحاء مهملة مكسورة ففاءين بينهما ألف- أسماء بلادهم، كما ضبطه الشامي، "مع وافدها ذي المشعار مالك بن النمط"، بدل من وافدها، أي: مخلاف خارف، وما عطف عليه, "ومن أسلم من قومه على أن لهم فراعها" بالكسر "ووهاطها" بالكسر أيضًا, "وعزازها" بالفتح- كما يأتي، يعني: إنه -صلى الله عليه وسلم- أقطعتهم ذلك "ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة"، أي: مدة إقامتهم على ذلك، "يأكلون علافها" بالكسر، "ويرعون عفاها" بالفتح، "لنا من دفئهم" بكسر فسكون وهمز، "وصرامهم" بالكسر، "وما سلموا" بشدِّ اللام، والعائد محذوف، أي: سلموه، أي: أعطوه من الزكاة المفروضة, "بالميثاق" العهد الذي أخذ عليهم، أو الإسلام, "والأمانة"، أي: كونهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض الداجن والكبش الحوري، وعليهم فيها الصالغ والقارح". وقوله: نصية من كل حاضر وباد، قال ابن الأثير: النصية من ينتصي من القوم, أي: يختار من نواصيهم، وهم الرءوس والأشراف، ويقال للأشراف: نواص، كما يقال للأتباع أذناب. وأتوك على قلص: بضم القاف واللام- جمع قلوص، وهي الناقة الشابّة. قال: ولا تزال قلوصًا حتى تصير نازلًا. والنواج: السراع.   مؤتمنين على أموالهم؛ لأن رب المال يصدق في الزكاة، فما موصول مبتدأ, خبره قوله: لنا, مقدَّم عليه، والباء في "بالميثاق" سببية, أي: لنا عليهم ما يعطونه من زكاة مواشيهم، ونمارهم بسبب الميثاق، ولا يبحث عن أموالهم، لأنّهم مؤتمنون، "ولهم من الصدقة الثلب" بكسر فسكون- الهرم, "والناب" الهرمة، "والفصيل" الصغير، "والفارض" بالفاء- المسن، "الداجن" التي تألف البيوت. وفي رواية: والدواجن، بالعطف، يعني: إن هذه لا تؤخذ في الزكاة لكونها من شرارها، فتترك لهم، "والكبش الحوري"؛ لأنه من الخيار، فلا يؤخذ في الصدقة, "وعليهم فيها"، أي: الزكاة "الصالغ" بصاد ولام ومعجمة، ويقال: بسين؛ لأن كل صاد تبدل سينًا مع الغين، "والقارح" بقاف وراء ومهملة- من الخيل، يعني: إذا وجد عندهم هذا النوع يؤخذ منه مما ليس هرمًا، ولا معيبًا، ففيه حجة لمن قال بالزكاة في الخيل السائمة، وحمله المانعون على ما إذا كانت معدَّة للتجارة، جمعًا بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة"، رواه الشيخان. "وقوله: "نصية من كل حاضر وباد"، قال ابن الأثير" في النهاية: "النصية: من ينتصي من القوم، أي: يختار من نواصيهم، وهم الرءوس والأشراف، ويقال للأشراف: نواصٍ"؛ لعلوّهم على غيرهم، كالناصية، "كما يقال للأتباع: أذناب"، قال في الفائق ومثله في الوزن: السرية لمن يستري من العسكر، أي: يختار من سراتهم، "وأتوك على قلص -بضم القاف واللام" بعدها صاد مهملة، "جمع قلوص" بفتح القاف، "وهي الناقة الشابّة، قال: ولا تزال قلوصًا حتى تصير نازلًا" بموحدة وزاي- وهو ما تَمَّ له ثمان سنين ودخل في التاسعة من الإبل، وحينئذ يطلع نابه، وتكمل قوته، ثم يقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين، "والنواج: السراع" جمع ناجية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 وقوله: متصلة بحبائل الإسلام, أي: عهوده وأسبابه. وخارف: بالخاء المعجمة. ويام -بالمثناة التحتية: قبيلتان. ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل: أي: لا ينقض بسعي ساعٍ بالنميمة والإفساد، كما يقال: لا أفسد ما بيني وبينك بمذاهب الأشرار وطرقهم في الفساد. والسنة: الطريقة، والسنن أيضًا. والعنقفير -بفتح العين المهملة وسكون النون وتقديم القاف- الداهية, أي: لا ينقض عهدهم بسعي الواشي ولا بداهية تنزل. ولعلع: جبل. وما جرى اليعفور -بفتح التحتية،   "وقوله: متصلة بحبائل الإسلام، أي: عهوده" مواثيقه "وأسبابه" طرقه الموصلة إليه، فهو عطف مغاير، "وخارف -بالخاء المعجمة" المفتوحة، والراء المكسورة، وفاء، "ويام -بالمثناة التحتية" فألف فميم، ويقال: أيام بهمزة "قبيلتان" من همدان، "ولا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، أي: لا ينقض بسعي ساع بالنميمة والإفساد، كما يقال، لا أفسد ما بيني، وبينك بمذاهب الأشرار، وطرقهم في الفساد" عطف تفسير، "والسنة: الطريقة، والسنن أيضًا"، فقوله عن سنة -بالسين المهملة، بعدها نون- أي: طريقته، وهو إحدى روايتين. قال في الفائق: وهي أشبه، وفي رواية: عن شية ماحل -بشين معجمة وتحتية- وهي الوشاية. قال في النهاية: أي: من أجل وشى واشٍ, حذفت الواو وعوّضت الهاء كزنة. انتهى, "والعنقفير -بفتح العين المهملة، وسكون النون، وتقدّم القاف" على الفاء، بعدها تحتية، فراء: "الداهية، أي: لا ينقض عهدهم بسعي الواشي، ولا بداهية تنزل"، وإضافة السوداء إليها من إضافة الصفة للموصوف، أي: ولا ينقض عن داهية شديدة، "ولعلع" بلامين وعينين "جبل"، كانت به وقعة قال الشاعر: لقد ذاق متاعًا يوم لعلع ... حسامًا إذا ما هَزَّ بالكف صمما ذكره الجوهري، "وما جرى اليعفور -بفتح التحتية" وإسكان المهملة، وضم الفاء، فواو، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 الخشف، وولد البقرة الوحشية، وقيل: هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء زائدة. ويصلح -بضم الصاد المهملة وتشديد اللام- الأرض التي لا نبات فيها. وقوله -عليه الصلاة والسلام: "وأهل جناب الهضب" بكسر الجيم- اسم موضع. "وحفاف الرمل" أسماء بلادهم. "وفراعها" بكسر الفاء وبراء وعين مهملة- أي: ما علا من الجبال أو الأرض. "ووهاطها" بكسر الواو، وبطاء مهملة- المواضع المطمئنة، واحدها وهط، وبه سمي الوهط، مال كان لعمرو بن العاص بالطائف. وقيل: الوهط: قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها. "وعزازها" بفتح العين المهملة.   فراء، "الخشف" مثلث الخاء المعجمة، وسكون الشين المعجمة وبالفاء- ولد الظبي أوَّل ما يُولَد، أو أول سنة، أو الذي يقرب من ولادها، كما في القاموس، "وولد البقرة الوحشية"، واقتصر ابن سبع عليه، "وقيل: هو تيس الظباء، والجمع: اليعافير، والياء زائدة، وكذا الواو، إنما نَبَّه على الياء لئلَّا يتوهَّم وزنه فعلول، فأشار إلى أن وزنه يفعول، فالياء زائدة كالواو؛ لأن أصل الماء عفر فقط، "ويصلح -بضم الصاد المهملة" قبلها ياء خفض "وتشديد اللام- الأرض التي لا نبات فيها"، فالمراد أن عهدًا لم لا ينقض أصلًا، لأنَّ لعلعًا مقيم, واليعفور لا ينفك عن جريه بالأرض القفراء. "وقوله -عليه الصلاة والسلام: "وأهل جناب الهضب" بكسر الجيم- اسم موضع، "وحفاف الرمل" أسماء بلادهم، "وفراعها" بكسر الفاء وبراء وعين مهملة" جمع فرعة -بفتح، فسكون- "أي: ما علا من الجبال أو الأرض، "ووهاطها" بكسر الواو، وبطاء مهملة- المواضع المطمئنة، واحدها وهط" كسهم، وسهام، ومثله لابن سبع، وفي الصحاح. قال الأصمعي: يقال لما اطمأنَّ من الأرض وهطة، وهي لغة في وهدة، والجمع وهط، ووهاط، "وبه سُمِّي الوهط مال" أي: أعناب، "كان لعمرو بن العاص" الصحابي "بالطائف" على ثلاثة أميال من وج، كان يعرشه على ألف ألف خشبة شراء، كل خشبة درهم، ذكره القاموس، "وقيل: الوهط قرية بالطائف كان الكرم المذكور بها، وعزازها -بفتح العين امهملة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 ثم زاءين مخفَّفَتين- ما صلب من الأرض واشتدَّ وخشن، وإنما يكون في أطرافها. "وتأكلون علافها" بكسر العين المهملة وتخفيف اللام وبالفاء- جمع علف، وهو ما تأكله الماشية. "وعفاءها" بفتح المهملة وتخفيف الفاء وبالمد- أي: المباح. "ومن دفئهم" بكسر الدال المهملة وسكون الفاء وبالهمز- قال في المجمل: نتاج الإبل وألبانها والانتفاع بها. "وصرامهم" بكسر الصاد المهملة وتخفيف الراء- أي: من نخلهم. "والثلث" بكسر المثلثة واللام الساكنة وبباء موحدة- ما هرم.   ثم زاءين مخففين- ما صلب من الأرض واشتدَّ وخشن"، مما لا ملك لأحد عليه، فيوطأ ويحرث، فيصير رخوًا، وإليه أشار بقوله: "وإنما يكون في أطرافها"، ومنه العز لصلابة جانبه، "وتأكلون علافها -بكسر العين المهملة، وتخفيف اللام، وبالفاء- جمع علف، وهو ما تأكله الماشية"، مثل: جمل وجمال، كما في النهاية، ففي قوله: تأكلون, مجاز الحذف، أي: تأكل ماشيتكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه الذي هو الكاف، وعَبَّرَ عنها مع الميم بواو الضمير، أو مجاز لغوي بجعل تأكلون، بمعنى: تملكون، "وعفاءها" بفتح المهملة، وتخفيف الفاء، وبالمد- أي: المباح" الذي ليس لأحد فيه ملك، ولا أثر من عفا الشيء إذا اندرس، أو من عفا يعفو إذا خلص، ومنه الحديث: "أقطعهم ما كان عفا"، وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْف} [الأعراف: 199] ، أو المراد به: الكلأ، سُمِّيَ بالعفا الذي هو المطر، كما يسمَّى بالسماء، وقال التجاني: روي عفاء -بكسر العين- جمع عفو، كجبل وجبال، وهو بمعنى الأوّل, والرعي للبهائم، ففيه ما مَرَّ، ولذا قال جاهل لأديب، أنت عندي كالأب -بشد الباء، فقال: فلذا تأكلني، ولو قال: ترعاني, كان ألطف للتورية من الرعي أو الرعية، كالأب بمعنى الولد والتبن، فعني أنه لجهله كالأنعام. "ومن دفئهم" بكسر الدال المهملة وسكون الفاء، وبالهمز- قال في المحجل: نتاج الإبل وألبانها، والانتفاع بها"، وسماها دفئًا؛ لأنها يتخذ من أصوافها وأوبارها ما يستدفأ به، وفصله عمَّا قبله ملتفتًا من الخطاب إلى التكلم لشبه انقطاع بينهما؛ إذ ذاك فيما خصهم به من أرضهم، وما يخرج منها، وهذا مما خص به نفسه، ومن معه من مواشيهم, "وصرامهم" بكسر الصاد المهملة، وجوّز فتحها، "وتخفيف الراء- أي: من نخلهم"، أي: ما يصرم، أي: يقطع، وما يخرج منه، وهو التمر, "والثلث -بكسر المثلثة، واللام الساكنة، وبباء موحدة- ما هرم" بكسر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 من ذكور الإبل وتكسَّرت أسنانه. "والناب" بالنون والموحدة- الناقة الهرمة التي طال نابها. "والفصيل" بالمهملة- الذي انفصل عن أمه. "والفارض" بالفاء- المسنّ من الإبل. "والداجن" بالمهملة والجيم- الدابّة التي تألف البيوت. "والكبش الحوري" بالحاء المهملة ثم واو مفتوحتين فراء مكسورة- الذي في صوفه حمرة. "والصالغ" بالصاد المهملة والغين المعجمة،   الراء، "من ذكور الإبل، وتكسَّرت أسنانه"، فهو مخصوص بالذكور، والأنثى ثلبة، قاله الهروي، "والناب" بالنون والموحَّدة- الناقة الهرمة التي طال نابها"، فهو مثلث الثلب معنًى, إلا أنه مختَصّ بالنوق الإناث، فلا يقال للجمل ناب، بل أسنّ، وسميت نابًا؛ لأنها إذا هرمت طال نابها، "والفصيل -بالمهملة- الذي انفصل عن أمه" من أولاد النوق، وأنثاه فصيلة، والجمع فصال، وفصلان، وقيل: هو من أولاد البقر، والمعروف لغة الأوَّل، $"والفارض" بالفاء، والراء- المسنّ من الإبل"؛ لعله من البقرة، قال تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68] . قال الراغب: الفارض: المسنُّ من البقر، قيل: سُمِّيَ به لكونه فارضًا للأرض، أي: قاطعًا، أو فارضًا لما يحمل من الأحمال الشاقّة من الفرض، وهو القطع، وقيل: لأنَّ فريضة البقرة تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنة يجوز بدلها في كل حال، فسميت المسنة فارضًا، فعلى هذا يكون اسمها إسلاميًّا انتهى، "والداجن" بالمهملة، والجيم- الدابة التي تألف البيوت"، ولا ترسل للمرعى، وكذا الراجن بالراء- كما في الصحاح، وعلى هذا، فالداجن غير الفارض، فينبغي عطفها كغيرها، وهو في غالب النسخ بلا عطف، اللهمَّ إلا أن يقال ما ذكر معناه الحقيقي، وهي هنا صفة مجرَّدة عن كونها شاة جعلت وصفًا للفارض، "والكبش الحوري" -بالحاء المهملة، ثم واو مفتوحتين، وقد تسكن الواو، "فراء مكسورة- الذي في صوفه حمرة"، منسوب إلى الحورة، وهي جلود تتخذ من الضأن، وقيل: ما دُبِغَ من الجلود بغير القرظ، وهو مما جاء على أصله، ولم يعل إعلال ناب، قاله ابن الأثير، وروي: الحواري بزيادة ألف، وكلاهما بمعنًى، وهو كبير الغنم، فلا يؤخذ في الزكاة؛ لأنه أنفسها، ويحتاج إليه للضراب. "والصالغ" بالصاد المهملة، والغين المعجمة، وزعم أنه، بضاد معجمة، وعين مهملة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 من صلغت الشاة ونحوها: إذا تمت أسنانها. "والقارح" بالقاف والراء والحاء المهملة- وهو من الخيل الذي دخل في السنة الخامسة. وهذا من جنس كتابه لقطن ابن حارثة العليمي من كلب: "هذا كتاب من محمد لعمائر كلب وأحلافها، ومن ظأره الإسلام من غيرهم من قطن بن حارثة العليمي، بإقام الصلاة لوقتها،   وعزوه للنهاية غلط "من صلغت الشاة ونحوها، إذا تَمَّت أسنانها، "وذلك إذا دخلت في السادسة، وقيل: الخامسة، وقيل: السابعة، "والقارح" بالقاف، والراء، والحاء المهملة- وهو من الخيل الذي دخل في السنة الخامسة"، الذي في الفائق في السنة، وفي النهاية: الصالغ والقارح من البقر والغنم الذي كمل وانتهى سنه، وذلك في السنة السادسة، "وهذا من جنس كتابه لقطن" بفتح القاف، والطاء المهملة، ونون، "ابن حارثة" بحاء وراء مهملتين، "العليمي" بمهملة مصغَّر, نسبةً لبني عليم، "من كلب" هو عليم بن جناب بن كلب. قال المررزباني في معجم الشعراء: وفد مع قومه على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، وأنشد النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله: رأيتك يا خير البرية كلها ... نبت نضارًا في الأرومة من كعب أغر كان البدر سنة وجهه ... إذا ما بدا للناس في خلل العضب أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجها ... ونت اليتامى في السقاية والجدب قال: فروي أنه -صلى الله عليه وسلم- ردَّ عليه خبرًا، وكتب له كتابًا، قال أبو عمر: حديثه كثير الغريب, من رواية ابن شهاب، عن عروة، قال: وابن سعد يقول: حارثة بن قطن بدل قطن بن حارثة، ذكره في الإصابة، "هذا كتاب من محمد لعمائر كلب" جمع عمارة -بالفتح والكسر- أصغر من القبيلة، يقال للحيّ العظيم شعب -بفتح فسكون، ولما دونه قبيلة، ولما دونها عمارة -بالفتح؛ لاجتماعهم على بعضهم والتفافهم كالتفاف العمامة على الرأس، وبالكسر؛ لأن بهم عمارة الأرض، وما دون العمارة بطن، وما دونه فخذ، وما دونه فصيلة، "وأحلافها" بحاء مهملة- جمع حليف، كأشراف وشريف، أو جمع حلف بمعنى صديق، قال المجد: الحلف بالكسر: العهد بين القوم، والصداقة، والصديق يحلف لصاحبه، أن لا يعذر به، جمعه أحلاف، "ومن ظأره الإسلام" بظاء معجمة- كما يأتي "من غيرهم من قطن بن حارثة العليمي" حال من كتاب، أي: إن حامله قطن, "بإقام" أي: بطلب إقام "الصلاة لوقتها"، فالباء للملابسة، أو متعلق بمحذوف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 وإيتاء الزكاة بحقها في شدة عقدها ووفاء عهدها بمحضر من شهود المسلمين" وسمى جماعة منهم دحية بن خليفة الكلبي، "عليهم من الهمولة الراعية البساط الظئار في كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشوي الوري مسنة حامل أو حائل، وفيما سقى الجدول من العين المعين العشر،   أي: أمر، "وإيتاء الزكاة بحقها" بأن يخرجها سالمة مما يخلّ بأدائها، بأن تشمل على الحقوق المطلوبة فيها، التي عوهد المسلمون عليها، فيوفوا بتلك العهود "في شدة عقدها" الذي عقده الله عليها، "ووفاء عهدها" يشبه عطف التفسير. وفي القاموس: العقد الضمان والعهد, وفيه العهد الوصية، والتقدّم إلى المرء في الشيء، والوثق، واليمين، والحرمة، والأمان، والذمة، فيمكن أن يراد بالعقد العهد، وبالعهد الوصية، أي: على أدائها بطيب نفس، فهو مغاير، وخصَّ الزكاة بهذه الأوصاف المقتضية للتأكيد دون الصلاة، لما جُبِلَت النفوس عليه من عزة المال، والرغبة فيه "بمحضر" مصدر ميمي، أي: حضور، أو بمعنى القوم الحضور، "من شهود المسلمين، وسَمَّى" النبي -صلى الله عليه وسلم "جماعة منهم: دحية بن خليفة الكلبي"، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس، كما عند ابن قتيبة وغيره، "عليهم" متعلق بمحذوف، أي: يجب عليهم "من الهمولة الراعية"، بالجر نعت, "البساط" بكسر الباء وضمها روايتان, جمع بسط بالكسر والضم وبضمتين، كما في القاموس، أي: التي معها أولادها، وهو بالخفض أيضًا على الصفة، ويروى بفتح الباء، أي: الأرض الواسعة، فهو منصوب بالراعية، أي: الهمولة التي ترعى الأرض الواسعة، أي: نباتها, "الظئار" بالظاء المعجمة: جمع ظئر، وهي المرضعة, بجره أيضًا على الصفة, "في كل خمسين ناقة"، بالرفع فاعل يجب المقدَّر، "غير ذات عوار" بفتح العين وضمها لغةً، أي: عيب، والمراد: بالناقة الحقة، ثم النعت بالهمولة الموصوفة بما ذكر ليس للتخصيص، لما علم في غير هذا الحديث من عموم الحكم لجميع أصناف الإبل، حتى لو تمحَّضت من بنات المخاض لوجبت فيها الزكاة، "والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشوي الوري مسنة: حامل أو حائل"، هذا بظاهره يخالف ما في الفروع، إن الواجب في الغنم جذعة ضأن لها سنة، أو أجذعت مقدم أسنانها، أو ثنية معزلها سنتان، ويمكن حمل ما هنا عليه، ولعلَّ حكمة اقتصاره على زكاة الإبل والغنم أنها غالب أموالهم، وإلا فوجوب الزكاة في غيرها ثابت في غير هذا الحديث. "وفيما سقى الجدول" بفتح الجيم وسكون الدال- النهر الصغير "من العين المعين" الظاهر الجاري على وجه الأرض بلا تعب، "العشر" مبتدأ خبره ما قبله، أو فاعل يجب, مقدار زاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 وفي العثري شطره بقيمة الأمين, لا يزاد عليهم وظيفة ولا يفرق. عهد على ذلك الله ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس". وتفسير غريبه أن قوله: "من ظأره الإسلام" بالظاء المعجمة والهمزة آخره هاء- أي: عطفه عليه وعليهم. "في الهمولة" بفتح الهاء- هي التي ترعى بأنفسها, ولا تستعمل فعولة بمعنى مفعولة. "والبساط" التي معها أولادها.   في الفائق من ثمرها، ومما أخرجت أرضها، "وفي العثري" بفتح المهملة، والمثلثة- وقيل: بإسكانها"فسَّرها الجوهري بالزرع لا يسقيه إلا ماء المطر، وغيره مما سقى من النخل سيحًا، وهذا الواجب فيه العُشْر لا نصفه، فتعيِّن أن المراد به هنا نوع آخر لم يعرفه هؤلاء، يسقَى بنحو النضح لقوله: الواجب فيه، "شطره بقيمة الأمين" أي: الخراص، وفي لفظ الأوسط، أي: العدل, بأن يخرج من كل بقسطه، فإن عسر فالوسط، ولا يخرج رديء عن جيد، "لا يزاد عليهم" قدر غير ما بين في نصب الزكاة، فيصير "وظيفة" حقًّا لازمًا، "ولا يفرق" الحق الواجب، كأن يدفع المالك أجزاء من شياه لا تنقص جملتها عن مقدر الواجب، "عهد على ذلك الله ورسوله، وكتب ثابت بن قيس بن شماس" بالتشديد، الأنصاري، "وتفسير غريبه أن قوله: "من ظأره الإسلام" بالظاء المعجمة والهمزة" المفتوحة، يقال: ظأره كمنعه "آخره هاء، أي: عطفه عليه"، فالمعنى: هذا الكتاب لعمائر كلب، ومن جمعه الإسلام عليهم من غيرهم، " وعليهم في الهمولة -بفتح الهاء: هي التي ترعى بأنفسها"، بأن تكون سائمة في كلأٍ مباحٍ, عَبَّر عنه بذلك؛ لأنه لا مالك له يصدها عنه، "ولا تستعمل" في حرث، أو نضج، فإن استعملت، فلا زكاة فيها، وبه أخذ قوم "فعولة"، خبر مبتدأ محذوف، وهو وزن همولة فعولة، "بمعنى مفعولة"، أي: متروكة للرعي، لا تستعمل في نحو حرث، أي: لا بمعنى فاعلة. "والبساط" التي معها أولادها، قال في النهاية: يروى -بفتح الباء، وكسرها، وضمها- قال الأزهري: هو بالكسر جمع بسط، وهي الناقة التي تركت، وولدها لا يمنع منها، ولا تنعطف على غيره، وبسط بمعنى مبسوطة، كالطحن والقطن، أي: بسطت على أولادها. وقال القتيبي، والجوهري: هو بالضم جمع بسط أيضًا، كظئر وظؤار، فأمَّا بالفتح: فالأرض الواسعة، فإن صحّت به الرواية، فيكون المعنى في الهمولة التي ترعى الأرض الواسعة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 "والظئار" أن تعطف الناقة على غير ولدها. "والحمولة المائرة لهم لاغية" يعني: إن الإبل التي تحمل عليها الميرة -وهي الطعام ونحوه مما يجلب للبيع- لا تؤخذ منها زكاة؛ لأنها عوامل. "وفي الشوي" بفتح الشين المعجمة وكسر الواو والياء المشددة- اسم جمع للشاة. "والوري" السمينة. ومن هذا النمط كتابه -صلى الله عليه وسلم- لوائل بن حجر -بتقديم الحاء المضمومة على الجيم الساكنة.   وحينئذ تكون الظاء منصوبة انتهى، "والظئار" أن تعطف الناقة على غير ولدها"، فهو اسم جمع ظئر بمعنى مرضعة، وهو بكسر الظاء وضمها، كما في المصباح، "والحمولة" بفتح المهملة، "المائرة لهم لاغية" يعني: إن الإبل التي تحمل عليها الميرة" بكسر الميم، "وهي الطعام ونحوه، مما يجلب للبيع، لا تؤخذ منها زكاة؛ لأنها عوامل"، وبه قال قوم, "وفي الشوي" الأولى حذف في؛ لأن المفسّر ما بعده "بفتح الشين المعجمة، وكسر الواو، والياء المشددة- اسم جمع للشاة، "والوري" السمينة -بفتح الواو وكسر الراء وشد الياء. "ومن هذا النمط كتابه -صلى الله عليه وسلم- لوائل بن حجر، بتقديم الحاء المهملة المضمومة على الجيم الساكنة"، ابن ربيعة بن وائل بن يعمر، ويقال: ابن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن عدي بن مالك بن شرحبيل بن مالك بن مرة بن حمير بن زيد الحضرمي، كانّ أبوه من أقيال اليمن، ووفد هو على النبي -صلى الله عليه وسلم، واستقطعه أرضًا، فأقطعه إياها، وبعث معه معاوية ليسلمها له، فقال له: أردفني، فقال: لست من أرداف الملوك، فلمَّا استخلف معاوية قصده، فتلقاه وأكرمه. قال وائل: فوددت لو كنت حملته بين يدي. قال ابن سعد: نزل الكوفة، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه علقمة وعبد الجبار، وزوجته أم يحيى، ومولى لهم، وكليب بن شهاب، وآخرون، ومات في أوائل خلافة معاوية، وقال أبو نعيم: أصعده النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه على المنبر، وأقطعه، وكتب له عهدًا، وقال: "هذا وائل سيد الأقيال"، ثم نزل الكوفة وعقبه بها، وذكر ابن ظفر أنه كان له صنم من عقيق يعبده ويسجد له، فنام عنده في الظهيرة، فسمع صوتًا هائلًا، فأتاه فسجد له، فسمع هاتفًا يقول: واعجبًا لوائل بن حجر ... يخال يدري، وهو ليس يدري ماذا ترجى من نحيت صخر ... ليس بذي عرف ولا ذي نكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب"، وذكر الفرائض فقال: "في التبعة شاة لا مفوّرة الألياط ولا ضناك، وأنطوا الثبجة وفي السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عامًا، ومن زنى مم ثيب فرجوه بالأضاميم، ولا توصيم في الدين، ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام،   ولا بذي نفع ولا ذي ضر ... لو كان ذا حجر أطاع أمري فرفع رأسه، وقال: بماذا تأمرني؟ فقال: ارحل إلى يثرب ذات النخل ... وسر إليها سير مستقل فدن بدين الصائم المصلي ... محمد الرسول خير الرسل ثم خَرَّ الصنم لوجهه، فقام إليه فجعله رفاتًا، ثم سار حتى أتى المدينة ودخل المسجد، فناداه النبي -صلى الله عليه وسلم، وبسط له رداءه، وأجلسه معه، ثم صعد المنبر، وقال: "يا أيها الناس, هذا وائل بن حجر، أتاكم من أرض بعيدة، راغبًا في الإسلام"، فقال: يا رسول الله, بلغني ظهورك وأنا في ملك عظيم, فتركته واخترت دين الله، فقال: "صدقت, اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده"، وقع في الشفاء: نعته بالكندي، فقيل: غلط؛ إذ هو حضرمي، ورَدَّ بأنَّ ابن الجوزي، قال الحضرمي، أو الكندي انتهى، فلا مانع من كونه حضرميًّا كنديًّا "إلى الأقيال العباهلة"، أي: الملوك القار ملكهم، "والأرواع": الحسان الوجوه، وقيل: إنه جمع رائع، وهم الذين يروّعون الناس، أي: يخوفونهم بمنظرهم لجماله وهيآتهم، قاله ابن الأثير، قيل: الأوَّل أَوْلَى، وجمع فاعل على أفعال نادر جدًّا، ولكن ارتضى المبرد في الكامل الثاني، لما فيه من البلاغة، فإن زائد الحسن إذا رآه من له إدراك أدهشه وحيره، فيشبه الخائف الفزع. "المشابيب": السادة الرؤساء، وروي: الأشباء جمع شبيب, كأخلاء وخليل، أو هم الرجال الذين وجوهم بيض وشعورهم سود، كما يقال في الحسناء: ذات الذوائب السود, شعرها يشب لونها، أي: يظهره ويحسنه، وقيل: المراد الأذكياء، "وذكر" -صلى الله عليه وسلم- في هذا الكتاب "الفرائض، فقال": المشابيب من أهل حضرموت بإقام الصلاة المفروضة، وأداء الزكاة المعلومة عند محلها، أي: وقت وجوبها، "في التبعة شاة لا مفورة الألياط ولا ضناك" بالكسر. وهذا بيان لبعض أنواع الزكاة المذكورة في قوله: وأداء الزكاة، "وأنطوا الثبجة، وفي السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصعقوه مائة" بالقاف وبالفاء، "واستوفضوه عامًا، ومن زنى مم ثيب، فضرجوه بالأضاميم، ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض الله تعالى، وكل مسكر حرام"، أي: ما شأنه الإسكار ولو قطرةى، وإنما ذكر هذا؛ لأنهم سألوه، فقالوا: يا رسول الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 ووائل بن حجر يترفَّل على الأقيال". وفسَّر الأقيال -وهو بالقاف والمثناة التحتية -بالرؤساء الذين دون الملوك. "والعباهلة" بالمهملة المفتوحة والموحدة- الذين أقروا على ملكهم لا يزالون. "الأرواح" بفتح الهمزة وسكون الراء آخرة عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات الحسان الوجوه. "والمشابيب" بفتح الميم والشين والمعجمة   إن شرابًا يصنع بأرضنا، يقال له: المزر والبتع، وأهل تلك الديار لهم به ولع، "ووائل بن حجر يترفّل على الأقيال"، يتأمَّر ويترأس، وهذا كقوله في كتاب آخر له، وقد وجَّهه إلى المهاجر: "من محمد رسول الله إلى المهاجرين أبو أمية: إن وائلا يستعير ويترفَّل على الأقيال؛ حيث كان من حضرموت" أي: هو مستعمل على الصدقات، وأمير على الأقيال، قال الشاعر: إذا نحن رفلنا أمرأ ساد قومه ... وإن لم يكن من قبل ذلك يذكر وقوله: ابن أبو أمية، كذا الرواية بحكاية أوّل أحواله وأشرافها، كما يقال: علي بن أبي طالب: وقريش، لا تغير الأب في الكنية، بل تجعله بالواو في أحواله الثلاثة، حكاه أبو زيد عن الأصمعي، "وفسَّر الأقيال، وهو بالقاف، والمثناة التحتية" جمع: قيل -بفتح القاف وشد الياء, أو فتح فسكون "بالرؤساء الذين دون الملوك" كالوزراء، وهو أحد أقوال, الثاني: إنهم الملوك مطلقًا, الثالث: ملوك حمير واليمن، سمي به؛ لأنه يقول ما يشاء فينفد، وفي النهاية: روي أنه كتب لوائل إليّ الأقوال، وفي رواية: الأقيال، فقيل: إنه من القيالة، وهي الأمارة، وقيل: من القول لنفوذ قوله وأمره، فأصله على هذا، قيل: بتشديد الياء على إعلال ميت، ولولاه لم يكن لقلب الواو ياء وجه، وأقوال على الأصل، وأقيال على لفظ، قيل: كما قيل: ريح وأرياح، والقياس أرواح، لكنه لم يرجع لأصله فرقًا بينه وبين جمع روح، "والعباهلة" بالمهملة المفتوحة، والموحدة- الذين أقروا على ملكهم لا يزالون" من عبهلت الإبل إذا تركتها ترعى متى شاءت, واحده عبهل، فالتاء لتأكيد الجمعية، كقشعم، وقشاعمة، أو جمع عبهول، وأصله عباهيل، حذفت الياء، وعوّض منها التاء، كما في فرازنة، وفرازين. وفي كتاب تثقيف اللسان: العباهلة بموحَّدة- الذين لا يد لأحد عليهم، وبتحتية: السنان، وكلاهما مدح, "والأرواع" بفتح الهمزة، وسكون الراء، فواو، فألف، آخره عين مهملة- جمع رائع، وهم ذوو الهيئات: الحسان الوجوه، "والمشابيب" بفتح الميم، والشين المعجمة، وباءين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 وباءين موحَّدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة -السادة الرءوس، الحسان الوجوه. "وفي التيعة" بكسر المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية وبالعين المهملة- أربعون من الغنم, وفي القاموس والنهاية: أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان. "ولا مقورة" بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو. "والألياط" بفتح الهمزة وسكون اللام آخرها طاء مهملة- أي: لا مسترخية الجلود لكونها هزيلة. "ولا ضناك" بكسر المعجمة وتخفيف النون- ضدها, وهي الكثيرة اللحم. "وأنطوا" بقطع الهمزة   موحدتين، بينهما مثناة تحتية ساكنة: السادة الرءوس الحسان الوجوه"، فهم مع اتصافهم بالحسن متصفون بأنهم رؤساء، فلا يرد أنه مساو لمفهوم الأرواع، وقال غيره: المشابيب جمع مشبوب، وهو الأزهر الحسن اللون، قال ذو الرمة: أنا الأروع المشبوب أضحى كأنه ... على الرحل مما منه السير أحمق والمراد: السيد الطاهر الأزهر اللون المنير؛ كأنه وقد في وجهه سراج منير، وهو يجمع من الأروع، كما في البيت، فإن النار مما يروع ناظره، "وفي التيعة" بكسر المثناة الفوقية، وسكون المثناة التحتية، وبالعين المهملة- أربعون من الغنم" تفسير للتيعة، فالأولى إسقاط في، "وفي القاموس والنهاية": التيعة "أدنى ما تجب فيه الصدقة من الحيوان"، أي: غير البقر، فلا يرد اقتضاء هذا جزاء شاة عن ثلاثين من البقر، وليس كذلك، كما في أحاديث آخر، وقيل: التيعة الخمس من الإبل، وقيل: ما يأخذه الساعي من الزكاة، ولا يناسب هنا، "ولا مقوّرة" بضم الميم وفتح القاف، وتشديد الواو"، كذا ضبطه المصنف هنا، وشراح الشفاء إنما ضبطوه -بإسكان القاف، وفتح الواو الخفيفة، وراء مهملة ثقيلة- من الإقورار، كحمرة من الاحمرار، "والألياط" بفتح الهمزة، وسكون اللام"، بعدها تحتية، فألف، و"آخره طاء مهملة، أي: لا مسترخية الجلود لكونها هزيلة"، جمع ليط -بكسر اللام، وهو قشر العود, فاستعير للجلد, من لاطه يلوطه إذا ألصقه، وقيل: المقوَّرة المقطوعة، والمعني بها: الناقصة، فالتفاسير متقاربة، "ولا ضناك" بكسر المعجمة"، وفتحها، قاله الفارابي. قال الصغاني: والصواب الكسر، "وتخفيف النون ضدها، وهي الكثيرة اللحم" السمينة، فلا نؤخذ لجودتها، وفي نسخة: المكتنزة اللحم -وهي بضم الميم، وسكون الكاف، وفتح الفوقية، وكسر النون، وفتح الزاي، وبالهاء- أي: الكثيرة اللحم، "وأنطوا" بقطع الهمزة، بعدها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 أي: أعطوا. "والثبجة" بالمثلثة ثم موحَّدة ثم جيم مفتوحات، وقد تكسر الموحدة، أي: أعطوا الوسط في الصدقة لا من خيار المال ولا من رذالته. "وفي السيوب" بضم المهملة والمثناة التحتية وواو وآخره موحدة- أي: الركاز، قاله الهروي، وقيل: المال المدفون في الجاهلية والمعدن. "ومن زنى مم بكر" بكسر الراء بلا تنوين؛ لأن أصله من البكر، لكن أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميما، وهي ساكنة فأدغمت النون فيها، والمراد بالبكر الجنس،   نون، "أي: أعطوا" بلغة اليمن، أو بني سعد، وقرئ شاذًّا: إنا أنطيناك، وروي في الدعاء: لا مانع لما أنطيت، "والثبجة" بالمثلثة، ثم الموحدة، ثم جيم مفتوحات" آخرها- للنقل من الاسمية للوصفية، "وقد تكسر الموحدة" مع خفة الجيم، كما أفاده التجاني، أما مع شدِّها ففيه نظر، كما قال البرهان، "أي: أعطوا الوسط في الصدقة، لا من خيار المال، ولا من رذالته" بفتح الراء، على تقدير مضاف، أي: من ذي رذالته، وبضمها بلا تقدير، فالرذالة بالضم ما انتُقِيَ جيده، كما في القاموس، "وفي السيوب" بضم المهملة، والمثناة التحتية، وواو، وآخره موحدة"، جمع سيب، "أي: الركاز، قاله الهروي"، بمهملة وكاف وزاي, بزِنَة كتاب، بمعنى: مركوز، وهو المال المدفون الجاهلي، من ركز الرمح إذا غرزه في الأرض وأقَرَّه، أو من الركز وهو الإخفاء، قال تعالى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] ، أي: صوتًا خفيفًا، وسُمِّيَ سيبًا؛ لأنه عطية من الله تعالى؛ إذ السيب لغة العطاء، وقيل: هو الذهب والفضة المدني من تسيب، بمعنى: تكون من غير صاحب له، فكأنه مسيب، فأطلق على كل جزء منه سبب، فجمع، ثم أطلق عليه الركاز. "وقيل": السيوب "المال المدفون في الجاهلية، والمعدن"، فهو على هذا أعمّ من الركاز؛ لإطلاقه على المعدن، فيشترك القولان في إطلاقه على المال المدفون في الجاهلية، ويختص الثاني بإطلاقه على المعدن، "ومن زنى مم بكر" بكسر الراء بلا تنوين؛ لأن أصله من البكر، لكنَّ أهل اليمن يبدلون لام التعريف ميمًا، وهي ساكنة، فأدغمت النون فيها"، وفي جواز الإدغام نظر، فإنه إذا كان الأصل أل، فهمزته همزة وصل، تثبت في الابتداء والخط، وتسقط في الدرج لفظًا، وثبوتها خطًّا فاصلًا بين النون واللام، فيمنع الإدغام، ويمكن الجواب بأن الألف حذفت تخفيفًا، كحذفها في بسم الله، فاتصلت النون، بالميم خطًّا ولفظًا فأدغمت؛ إذ لم يبق مانع من الإدغام، "والمراد بالبكر الجنس"؛ لأن بكر نكرة عامَّة لوقوعها في سياق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 وقال ابن الأثير: أي: من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميمًا، أمَّا مع بكر فلأنَّ النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميمًا في النطق، نحو: عنبر وشنباء، وأمَّا مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف. انتهى. و"فاصقعوه" بهمزة وصل وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف وضم العين المهملة- أي: اضربوه. "واستوفضوه" بهمزة وصل وكسر   الشرط. "وقال ابن الأثير: أي من بكر ومن ثيب، فقلبت النون الساكنة ميمًا، أمَّا مع بكر فلأنَّ النون إذا سكنت قبل الباء فإنها تقلب ميمًا في النطق"، سواء كان من كلمة "نحو عنبر وشنباء"، كحمراء، وهي المرأة التي كثر ماء أسنانها ورقيه وعذوبته، أو من كلمتين، نحو: من بكر، "وأمَّا مع غير الباء فإنها لغة يمانية، كما يبدلون الميم من لام التعريف"، نحو: ليس من أميرًا مصيام في امسفر، قال -أعني ابن الأثير: فإمَّا أن يكون ما نحن فيه من الثاني، وأصله من البكر، فحذفت نون من, فبكر غير منوّن، واستعمل البكر موضع الإبكار، والأشبه أن يكون نكرة منونة وأبدل نون من ميمًا. "انتهى" كلام ابن الأثير، واعترض بأن كون بكر بمعنى إبكار؛ لأجل مِن التبعيضية، فتقديره: من زنى من الإبكار، ويجوز: إنها لبيان الجنس، فبكر على أصلها، ومع هذا يحتمل أنه بمعنى الإبكار أيضًا؛ لأن في معنى العموم، ثم قلبت النون ميمًا على نهج الإقلاب التجريدي، لا يتأتَّى في قوله: "مم ثيب" فلذا قال الشمني أنه من باب الازدواج، والمشاكلة، كقولهم: ما قدم وحدث -بضمهما- مع أن حدث بالفتح. وقال التجاني: قلبت النون ميمًا؛ لأنها تعاقبها كثيرًا، كقولهم: بنان وبنام، وقال الدلجى: بكر نكرة عامَّة، لوقوعها في سياق الشرط، فراؤها منونة، وأبدلت فيه نون من ميمًا، لكثرة استعمالها ذلك لفظًا، نحو: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أنزلناه، من ماء كان فيه، سيما إذا كان بعدها باء، كما هنا، ولو كان معرفة، لقال بلغتهم: ومن زنى من امبكر، كما قال: ليس من امبر مصيام في امسفر، ومن الجارّة تبعيضية، أو بيانية، مفسّرة للاسم المبهم الشرطي، أي: ومن زنى من الإبكار، "وفاصقعوه -بهمزة وصل، وإسكان الصاد المهملة، وفتح القاف، وضم العين المهملة- أي: اضربوه"، ويقال: بالسين أيضًا من الصقع، وهو الضرب، وأصله على الرأس، وقيل: الضرب ببطن الكف، ونقل التلمساني أن بعض الشراح ضبطه، بالفاء بدل القاف، يقال: صفعت فلانًا أصفعه إذا ضربت قفاه، ورجل مصيفعاني يفعل به ذلك، "و "استوفضوه" بهمزة وصل، وكسر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 الفاء وضمَّ الضاد المعجمة، أي: غربوه وانفوه. و"فضرجوه" بالضاد المعجمة وتشديد الراء وبالجيم. و"بالأضاميم" بفتح الهمزة والضاد المعجمة- أي: أدموه بالضرب بجماهير الحجارة. و"لا توصيم" بصاد مهملة مكسورة- أي: لا كسل عن إقامة الحدود. "ولا غمة" بضم الغين المعجمة وتشديد الميم- أي: لا تستر ولا تُخْفَى. "ويترفّل" بتشديد الفاء المفتوحة- يتسوّد ويترأس، استعارة من ترفيل الثوب, وهو إسباغه وإسباله.   الفاء، وضم الضاد المعجمة"، ثم واو ساكنة، بعدها الضمير، "أي: غربوه وانفوه، و "فضرجوه" بالضاد المعجمة" المفتوحة "وتشديد الراء" المكسورة، "وبالجيم" المضمومة- من التضريح، وهو القدمية، أي: ارجموه حتى يسيل دمه ويموت، قال: إن بني ضرَّجوني بالدم "وبالأضاميم" بفتح الهمزة، والضاد المعجمة" وميمين أولهما مكسورة، بينهما تحتية ساكنة، "أي: أدموه"، تفسير لضرّجوه "بالضرب بجماهير الحجارة"، تفسير للأضاميم, جمع إضمامة -بكسر الهمزة، أو أضموم بضمها، سميت به؛ لأنه يضمّ بعضها البعض، "ولا توصيم" في الدين "بصاد مهملة مكسورة"، تفعيل من الوصم، وهو العيب والعار، "أي": لا عار، و"لا كسل عن إقامة الحدود"، فلا تحابوا فيها أحدًا، وهذا بمعنى قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَهِ} [النور: 2] . "ولا غمّة" في فرائض الله، "بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم- أي: لا تستر ولا تخفى" بل تظهر، ويجهر بها إقامة، وإظهارًا لشعائر الدين، ففيه أن إظهار الفرائض أفضل، فإظهار الزكاة أفضل من إخفائها، وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، محمول على صدقة التطوّع، فإخفاؤها أفضل، وقيل: شامل للزكاة، وقيل: يستحب إخفاؤها إذا خاف الرياء ونحوه، وقيل: يختلف باختلاف الأحوال والزمان، وفي رواية: لا عمه -بفتح العين المهملة، والميم المخففة، والهاء- أي: لا حيرة ولا تردد فيها، وروي: ولا غمد -بكسر المعجمة، وسكون الميم، ودال مهملة- أي: لا ستر ولا خفاء, كتغمدنا لله برحمته، أي: سترنا بها، "ويترفَّل" بتشديد الفاء المفتوحة- يتسوّد، ويترأس استعارة من ترفيل الثوب، وهو إسباغه" تطويله، "وإسباله"، للفخر، والعظمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 وقريب من هذا، كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأكيدر وأهل دومة الجندل، كما قدمته في مكاتبته -عليه الصلاة والسلام. وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث عطية السعدي: "فإن اليد العليا هي المنطية والسفلى هي المنطاة" قال: فكلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغتنا.   فاستعير أو جعل كناية، وهو أظهر لجعله رئيسًا عليهم محكمًا فيهم، وفي أخذ صدقاتهم؛ لأن الترفُّل للتعظيم, والرئيس والحاكم معظَّم، فجعل عبارة عن أنه -صلى الله عليه وسلم- جعله واليًا على أمورهم، وقبض صدقاتهم، "وقريب من هذا كتابه -صلى الله عليه وسلم- لأكيدر، وأهل دومة الجندل، كما قدمته في مكاتباته -عليه الصلاة والسلام". "وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث عطية" ابن عروة، وقيل: ابن عمرو، وقيل: ابن سعد، وقيل: ابن قيس "السعدي"، قيل: هو من بني سعد بن بكر، وقيل: من بني جشم بن سعد، صحابي معروف، له أحاديث، نزل الشام، وجزم ابن حبان بأنه عطية بن عروة بن سعد. ووقع عند الطبراني والحاكم عطية بن سعد، وذكر المدائني عنه أنه كان ممن كلم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سبي هوازن، قاله في الإصابة وفي التقريب, له ثلاثة أحاديث، روى له أبو داود، والترمذي وابن ماجه، وأخرج ابن عبد البر، والحاكم من طريق عروة بن محمد بن عطية، قال: حدثني أبي أنَّ أباه حدَّثه أنه قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناس من بني سعد، قال: وأنا أصغرهم، فخلَّفوني في رحالهم، ثم أتوه -صلى الله عليه وسلم، فقضى حوائجهم، ثم قال: "هل بقي منكم أحد"؟، قالوا: يا رسول الله, غلامًا خلفناه في رحالنا، فأمرهم أن يبعثوني إليه، فأتوا إلي، وقالوا: أجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فلمَّا رآني، قال: "ما الله مسئول ومنطي". "قال: فكلمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغتنا"، أي: بني سعد، وهي إبدال العين نونًا، ولا ينافيه القول، بأنها لغة يمانية؛ لجواز أنها لغة لهما، وفي رواية: فكلمني بلغتنا، ولا خلف؛ لأنه وجه إليه الكلام لنجابته، وقومه يسمعون، فيصح أن يقال: كلمنا وكلمني، أو النون للعظمة، إظهارًا لإنعام الله عليه بخطابه -صلى الله عليه وسلم- له، ثم اليد العليا المعطية، والسفلى يد السائل الآخذة، وهي المعطاة، وقد فُسِّرَ بذلك في حديث آخر أنه -صلى الله عليه وسلم، قال على المنبر، وهو يذكر الصدقة، والتعفّف عن المسألة: "اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة"، رواه الشيخان، والمنفقة -بنون وفاء وقاف، ويروى المتعففة -بعين وفاءين- التي لا تسأل أحدًا، وقيل: إنه تصحيف، ويروى: المنفعة -بشد الفاء، وقيل: "اليد العليا المعطية، والسائلة المانعة"، وقيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 وقد كان هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه, أن يكلِّم كل ذي لغة بليغة بلغته, على اختلاف لغة العرب وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها، كان أحدهم لا يتجاوّز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربي، وما ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- إلّا بقوة إلهية وموهبة ربانية؛ لأنه بُعِثَ إلى الكافَّة طرًا، وإلى الناس سودًا وحمرًا، والكلام باللسان يقع في غاية البيان، ولا يوجد غالبًا متكلم بغير لغته إلا قاصرًا في الترجمة نازلًا عن صاحب الأصالة في تلك اللغة، إلّا نبينا وسيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كما تقدَّم، فإنه زاده الله تكريمًا وشرفًا, تكلم في كل لغة من لغة العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها،   العليا يد الفقير، لتحصيلها الثواب لصاحب المال، ودفع البلاء عنه، واختار بعض الصوفية، قال ابن قتيبة: وما أرى هذا إلّا كلام قوم استحبوا السؤال وحسَّنوه، وكله مضمحِّل بعد التصريح بتفسيره في الصحيح، وإن قيل: إنه مدرج، "وقد كان هذا من خصائصه -صلوات الله وسلامه عليه"، وأبدل من اسم الإشارة قوله: "أن يكلّم كل ذي لغة بليغة بلغته على اختلاف لغة العرب"، فكان يعلمها كلها، "وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها"، فلمَّا كان كلام من تقدَّم على هذا الحد، وبلاغتهم على هذا النمط، وأكثر استعمالهم هذه الألفاظ استعملها معهم، فاستعمالها مع من هي لغتهم لا يخلّ بالفصاحة، بل هو من أعلى طبقاتها، وإن كان فيها ما هو غريب وحشي بالنسبة لغيرهم. وقد نَصَّ الجاحظ في كتاب البيان على أنَّ كلام البادية الوحشي فصيح بالنسبة لهم، وإن أوهم كلام أهل المعاني خلافه، وأنه يحل بالفصاحة، "كان أحدهم لا يتجاوز لغته، وإن سمعت لغة غيره، فكالعجمية يسمعها العربي، وما ذلك منه -صلى الله عليه وسلم- إلّا بقوة إلهية وموهبة ربانية؛ لأنه بعث إلى الكافَّة طرًا، وإلى الناس سودًا وحمرًا"، فعَلَّمه الله جميع اللغات، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، أي: لغتهم، فلمَّا بعثه للجميع علمه الجميع، "والكلام باللسان"، اللغة، "يقع في غاية البيان"، وقد قال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] فلو كان بغيرها احتاج إلى ترجمان، فقد لا يقع به البيان، "ولا يوجد غالبًا متكلم بغير لغته، إلًا قاصرًا في الترجمة، نازلًا عن صاحب الأصالة في تلك اللغة، إلّا نبينا وسيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم، كما تقدَّم، فإنه زاده الله تكريمًا وشرفًا، تكلم في كل لغة من لغة العرب"، بكلام "أفصح" حال، "وأنصع" بنون، وصاد، وعين مهملتين- أخلص "بلغاتها منها بلغة نفسها"، يعني: إنه أعرف بلغة العرب وأقدر عليها من أهلها، "وجدير" حقيق "به ذلك، فقد أوتي في سائر القوى" بالضم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 وجدير به ذلك، فقد أوتي في سائر القوى البشرية المحمودية زيادة ومزية على الناس، مع اختلاف الأصناف والأجناس ما لا يضبطه قياس, ولا يدخل في تحقيقه إلباس. وأما صوته الشريف، فعن أنس قال: ما بعث الله نبيًّا قط إلّا بعثه حسن الوجه حسن الصوت، حتى بعث الله نبيكم, فبعثه حسن الوجه حسن الصوت، رواه ابن عساكر. وروي نحوه عن حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.   "البشرية المحمودة، زيادةً ومزيّة على الناس مع اختلاف الأصناف والأجناس، ما لا يضبطه قياس، ولا يدخل في تحقيقه إلباس" بموحدة وإشكال، "وأما صوته الشريف". أي: صفته، فكان على غاية من الحسن والسعة، كما صرَّحت به الأحاديث لا حقيقته التي هي غرض يخرج من داخل الرئة؛ لأن الكلام في شمائله، ولذا أولنا في المبتدأ لا الخبر، ولا يردَّان كل حكم ورد على اسم، فهو على مدلوله إلّا لقرينة؛ لأن القرينة هنا صارفة عن إرادة الحقيقة، "فعن أنس قال": ظاهره أنه موقوف عليه؛ لكنه مرفوع حكمًا؛ إذ لا دخل فيه للرأي، "ما بعث الله نبيًّا قط إلا بعثه"، انظر ما نكتته، مع أنه يكفي إلّا "حسن الوجه، حسن الصوت"، ونبيًّا نكرة في سياق النفي، فعمومها شمولي، فوجه الإغياء في قوله: واستمرَّ ذلك في جميع الأنبياء "حتى بعث الله نبيكم"، إنه لما احتمل النفي العموم احتمالًا ظاهرًا، وعدمه مرجوحًا, قصد رفع الاحتمال المرجوح، واحتاج لقوله: "فبعثه حسن الوجه، حسن الصوت"؛ لأنه قد يتوهّم من عدم ظهور تمام حسنه، لحجبه بالجلال أنه دونهم، ولم ينبه في هذا الحديث على أنه أحسن منهم في الأمرين، مع أنه لواقع الجوار أن المقام مقام إثبات المساواة، ردًّا على زاعم أنه دونهم، وهذا من البلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، واكتفاءً بما علم أنه إذا شارك غيره في شيء فاق عليه فيه، وهذا أحسن، وهذا كله بالنظر لهذا اللفظ الذي "رواه ابن عساكر"، وإلا فقد رواه الرمذي من حديث أنس نفسه بلفظ: ما بعث الله نبيًّا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا، فعلى المؤلف المؤاخذة في ترك الترمذي من وجهين: أحدهما: إن الحديث إذا كان في أحد الستة لا يعزى لغيرها، كما قال مغلطاي. ثانيهما: إن لفظه أصرح في الدلالة على المراد من لفظ ابن عساكر، "وروي نحوه من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه". قال الحافظ: وأمَّا قوله في حديث المعراج في يوسف: "فإذا أنا برجل حسن ما خلق الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 وروي أنه كان إذا تكلَّم ريء كالنور يخرج من ثناياه. وقد كان صوته -عليه الصلاة والسلام- يبلغ حيث لا يبلغه صوت غيره. فعن البراء قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق في خدورهنّ. رواه البيهقي. وقالت عائشة -رضي الله عنها: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر فقال للناس: اجلسوا، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في بني غنم, فجلس في مكانه، رواه أبو نعيم. وقال عبد الرحمن بن معاذ   قد فضل الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب، رواه البيهقي والطبري وابن عائذ؛ ليحمل على أنَّ المراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم، ويؤيده القول بأنَّ المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، وقوله في رواية مسلم: "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" حمله ابن المنبر على أنَّ المراد أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم. "وروي" عند الترمذي، والدارمي، والطبراني عن ابن عباس "أنه" -صلى الله عليه وسلم- "كان" أفلج الثنيتين "إذا تكلّم" خبر ثانٍ لكان "ريء" بكسر الراء، بزنة قيل على الأفصح، ويقال: بضم الراء، وكسر الهمزة، وبني للمجهول إيماءً إلى أنَّ الرواية لا تختص بأحد دون أحد، ولذا لم يقل: إذا تكلَّم يخرج "كالنور"، أي: شعاع مثله، فالكاف، بمعنى مثل، فلا حاجة لتقدير شيء "يخرج من" بين "ثناياه"، إما من الثنايا نفسها، أو من داخل الفم، وطريقه من بينهما لمعجزة له، وهو نور حسيّ لا معنوي، والمراد: لفاظه بالقرآن أو السنة، كما زعم؛ لأنه خلاف المتبادر من قوله: ريء، وهو زائد على حسن الصوت، "وقد كان صوته -عليه الصلاة والسلام- يبلغ حيث" أي: مكانًا "لا يبلغه صوت غيره"، فحيث هنا، بمعنى المكان مجرَّدة عن الظرفية. "فعن البراء قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فعلا صوته "حتى أسمع العواتق" جمع عاتق، وهي الشابّة أوّل ما تدرك، وقيل: التي لم تبن من والديها، ولم تتزوج، وقد أدركت وشبّت, وتجمع أيضًا على عتق، كما في النهاية "في خدورهنَّ" جمع خدر، أي: ستر، ويطلق على البيت إن كان فيه امرأة، وإلّا فلا، "رواه البيهقي"، وخصَّهن بالذكر لبعدهنَّ واحتجابهنَّ في البيوت، فسماعهنَّ آية علوّ صوته زيادة على غيره، "وقالت عائشة -رضي الله عنها: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة على المنبر، فقال للناس: "اجلسوا" فسمعه عبد الله بن رواحة" الأنصاري "وهو في بني غنم" بمعجمة مفتوحة، فنون ساكنة، فميم- بطن من الخزرج بالمدينة، ونسخة تميم تحريف، "فجلس في مكانه" مبالغةً في امتثال أمره -صلى الله عليه وسلم، مع أنه ليس مأمور بذلك؛ إذ قصده أمره الحاضرين للخطبة بالجلوس، "رواه أبو نعيم، وقال عبد الرحمن بن معاذ" بن عثمان بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 التيمي: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا -وفي لفظ: ففتح الله أسماعنا- حتى إن كنَّا لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا. رواه ابن سعد. وعن أم هانيء قالت: كنَّا نسمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل عند الكعبة، وأنا على عريشي، رواه ابن ماجه. وأما ضحكه -عليه الصلاة والسلام، ففي البخاري عن عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستجمعًا قط ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يبتسم،   عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مُرَّة بن كعب بن لؤيّ القرشي "التيمي" بن عم طلحة بن عبد الله, قال البخاري وغيره: له صحبة، وعدَّه ابن سعد من مسلمة الفتح، "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت" أي: فتح الله -كما في الرواية التالية "أسماعنا" حتى كنَّا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا. الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وأخرج البخاري عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بمثل حصى الخذف فارموا"، "وفي لفظ: ففتح الله أسماعنا"، بأن خلق فيها قوة سمع زيادة على معتادها، فكأنها كانت مغلقة ففتحت، فشبَّه الأسماع بأبواب مغلقة، وأثبت لها الفتح تخييلًا، فهو استعارة بالكناية تخييلية، "حتى" غاية, لقد رأى، فقويت حتى, "إن كنَّا" مخفَّفة من الثقيلة، بدليل اللام في "لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا، رواه ابن سعد" بهذا اللفظ، وإلّا فقد رواه بلفظ: ففتحت، بالبناء للمجهول, الأئمة لذين رأيت. "وعن أم هانيء، قالت: كنا نسمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوف الليل عند الكعبة"، متعلق بقراءة: "وأنا على عريشي" أي: سريري، وحمله عليه أبلغ من سقف بيتي، كما هو أحد معاني العريش، كالعرش في القاموس أيضًا، فسماعها له، وهي على سريرها، داخل بيتها البعيد عن محل القراءة، دليل على قوته، "رواه ابن ماجه"، وفي الصحيحين عن البراء: قرأ -صلى الله عليه وسلم- في العشاء: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] ، فلم أسمع صوتًا أحسن منه، وروى أبو الحسن بن الضحاك عن جبير بن مطعم: كان -صلى الله عليه وسلم- حسن النغمة، وفي حديث أم معبد: كان في صوته صحل. رواه ابن عساكر وغيره بفتح المهملتين، ولام- شبه البحة، وهي غلظ الصوت. قال ابن الأثير: بالتحريك كالبحَّة، وأن لا يكون حادّ الصوت، وفي رواية: صهل -بهاء بدل الحاء- وهو قريب منه؛ لأنه صوت الفرس وهو يصهل بشدة وقوة، "وأمَّا ضحكه -عليه الصلاة والسلام"، قال في القاموس: ضحك ضحكًا -بالفتح، وبالكسر، وبكسرتين- ككتف, "ففي البخاري عن عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستجمعًا قط ضاحكًا" ضحكًا تامًّا؛ بحيث ينفتح فمه، "حتى أرى منه لهواته" غاية لضاحكًا، "إنما كان يتبسَّم". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 أي: ما رأيته مستجمعًا من جهة الضحك؛ بحيث يضحك ضحكًا تامًّا مقبلًا بكليته على الضحك. واللهوات -بفتح اللام- جمع لهاة، وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم. وهذا لا ينافي ما في حديث أبي هريرة في قصة المواقِعِ أهلَه في رمضان، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه. رواه البخاري   قال المجد: بسم يبسم بسمًا، وابتسم، وتبسَّم، وهو أقل الضحك وأحسنه. قال الكشَّاف: وكذلك ضحك الأنبياء لم يكن إلا تبسمًا. انتهى، وعليه، فهو من خواصِّه على الأمم دون الأنبياء، "أي: ما رأيته مستعجمًا من جهة الضحك"، أي: مطمئنًّا قاصدًا للضحك الذي يغلب وقوعه للناس؛ "بحيث يضحك ضحكًا تامًّا مقبلًا بكليته على الضحك، واللهوات -بفتح اللام" والهاء، والواو- "جمع لهاة" على الأصل. وتجمع أيضًا على لهيات ولهى, مثل: حصاة وحصى وحصيات، كما في المصباح، "وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة" أي: الحلق، "من أقصى الفم، وهذا لا ينافي ما في حديث أبي هريرة، في قصة المواقع"، المجامع "أهله في" نهار "رمضان"، قيل: إنه سلمة بن صخر، رواه ابن أبي شيبة وابن الجارود، وجزم به عبد الغني، وانتُقِدَ بأنَّ هذا هو المظاهِر في رمضان، أتى أهله ليلًا, رأى خلخالها في القمر، وفي رواية ابن عبد البَرِّ: تسميته سلمان بن صخر البياضي، قال ابن عبد البر: وأظنّه وهمًا؛ لأن ذلك إنما هو المظاهر، أمَّا المجامع فأعرابي، فهما واقعتان، ففي قصة المجامع: أنه كان صائمًا، وقصة سلمان أنه كان ليلًا، كما عند الترمذي فافترقا، نعم اشتركا في قدر الكفّارة، وفي الإتيان بالتمر، وفي قول كلٍّ منهما أعل أفقر منَّا، وسبب ظنّ من قال: إن المحترق سلمان أو سلمة، أن ظهاره من امرأته كان في رمضان، وجامع ليلًا، ولفظ الصحيح عن أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله, هلكت، قال: "ما لك"؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها"؟ قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟، قال: لا، قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينًا"؟، قال: لا، فأتى -صلى الله عليه وسلم- بتمر، فقال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال: على أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي، "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه"، وفي رواية: أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك"، رواه البخاري" في الصوم غيره، ومسلم وأصحاب السنن في الصوم: وإنما ضحك كذلك -صلى الله عليه وسلم- تعجبًا من حال الرجل في كونه جاء أولًا هالكًَا محترقًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 وهو بالجيم والذال المعجمة- أي: أضراسه, ولا تكاد تظهر إلّا عند المبالغة في الضحك، ولا منافاة لأنَّ عائشة إنما نفت رؤيتها، وأبو هريرة أخبر عمَّا شاهد، والمثبت مقدَّم على النافي. وقد قال أهل اللغة: التبسُّم مبادي الضحك، والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعيد فهو القهقهة، وإلّا فالضحك. وقال ابن أبي هالة: جلّ ضحكه التبسم، ويفتر   كما في رواية: احترقت خائفًا على نفسه، راغبًا في فدائها مهما أمكنه، فلمّا وجد الرخصة طمع في أكل الكفَّارة، "وهو بالجيم، والذال المعجمة- أي: أضراسه" ظاهره حقيقة. وقال السيوطي تبعًا للزمخشري: الوجه حمله على مبالغة مثله في الضحك من غير ظهورها حقيقةً، وهو أقيس، وقال ثعلب: المراد أنيابه, للتصريح في الرواية الأخرى، ورجَّحه السيوطي وغيره؛ بأنَّه لم يبلغ به الضحك إلى بدوِّ أضراسه، وقيل: النواجذ الأسنان بين الضرس والناب، وقيل: أربع من "الأضراس"، آخرها يسمَّى ضرس العقل؛ لأنه لا ينبت إلا بعد الحلم، "ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك"، فينافي قول عائشة: إنما كان يبتسم، "ولا منافاة؛ لأنَّ عائشة إنما نفت رؤيتها, وأبو هريرة أخبر عمَّا شاهد، والمثبت مقدَّم على النافي"؛ لأن معه زيادة علم, خصوصًا والنافي هنا إنما نفى رؤيته لها مطلقًا، "وقد قال أهل اللغة: التبسُّم مبادي الضحك"، أي: مقدماته، "والضحك انبساط الوجه" تهلله وتلألؤه، "حتى تظهر الأسنان من السرور" متعلق بانبساط، وكأنَّ المعنى: إذا تهلَّلَ وجهه لسرور قام به، انفتح فمه على الهيئة المعروفة، "فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعيد فهو القهقهة، وإلّا" يسمع من بعد، وهو بصوت "فالضحك"، فالفارق بين الثلاثة: أنَّ التبسم انفتاح الفم بلا صوت، والضحك انفتاحه مع صوت قليل، والقهقهة انفتاحه بصوت قوي. "وقال ابن أبي هالة: جلّ ضحكه"، أي: أكثره "التبسّم"، وقد يزيد عليه أحيانًا "ويفتر" بفتح الياء وسكون الفاء وفتح الفوقية وتشديد الراء- كما ضبطه شرَّاح الشفاء، وفي القاموس: افترَّ ضحك ضحكًا حسنًا، قال الحريري: يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد ... وعن أقاح وعن طلع وعن حبب قال في النهاية: أي: يبتسم، ويكشر حتى تبدو أسنانه من غير قهقهة، وهو من فررت الدابة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 عن مثل حب الغمام، أي: يبدي أسنانه ضاحكًا، وحب الغمام: البرد. وقال الحافظ بن حجر: والذي يظهر من مجموع الأحاديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسّم، وربما زاد على ذلك فضحك. قال: والمكروه من ذلك إنما هو إكثار منه, أو الإفراط فيه؛ لأنه يذهب الوقار. وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك. وقد روى البخاري في الأدب المفرد وابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب".   أفرها فرًا، إذا كشفت شفتها لتعرف سنها، وافتر يفتر افتعل منه, انتهى. فقول الشامي -بضم الفوقية- سبق قلم أو من النساخ، "عن مثل حب الغمام" متعلق بيفتر، "أي: يبدي أسنانه ضاحكًا، وحب الغمام" السحاب واحده غمامة، كسحابة "البرد" بفتحتين- الجامد المعروف، لا قطر الماء كما توهّم؛ لأنه مع عدم مناسبته لا يسمّى حبًّا؛ إذ الحب الجامد لا السائل, شبَّه به أسنانه في صفاته وبياضه، ولمعانه، ورطوبته، دون جريه, حتى يقال: إنه كنوع منه. "وقال الحافظ بن حجر: والذي يظهر من مجموع الأحاديث، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في معظم أحواله لا يزيد على التبسم, ربما زاد على ذلك فضحك"، وظاهره أنه لم يقهقه البتة. "قال: والمكروه من ذلك إنما هو إكثار منه، أو الإفراد فيه؛ لأنه يذهب الوقار" الحلم والرزانة والعظمة، وهذا جواب عمَّا يقال: صرَّح الفقهاء بكراهة الضحك، وقد فعله -صلى الله عليه وسلم. "وقال ابن بطال: والذي ينبغي أن يقتدى به من أفعاله ما واظب عليه من ذلك" وهو التبسم، فيقتصر عليه، وضحكه لبيان أنه ليس بحرام "وقد روى البخاري في" كتاب "الأدب المفرد" الذي أفرده بالتأليف، احترازًا عن كتاب الأدب من صحيحه، "وابن ماجه عن أبي هريرة رفعه: "لا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب"؛ إذ هي تورّث قسوته، وهي مقضية إلى الغفلة، وليس موته إلّا لغفلة، قاله الطيبي. وقال الغزالي: كثرة الضحك والفرح بالدنيا سمّ قاتل يسري إلى العروق، فيُخْرِج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة، هذا هو موت القلب، وزاد الطبراني من حديث أبي ذر: وتذهب بنور الوجه، أي: إشراقه وضيائه، وقال الماوردي: اعتياد الضحك شاغل عن النظر في الأمور المهمة، مذهل عن الفكر في النوائب الملمّة، وليس لمن أكثر منه هيبة ولا وقار، ولا لمن وسم به خطر ولا مقدار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 وقال أبو هريرة: وإذا ضحك -صلى الله عليه وسلم- يتلألأ في الجدر. رواه البزار والبيهقي، أي: يضيء في الجدر -بضم الجيم والدال- جمع جدار وهو الحائط, أي: يشرق نوره عليها إشراقًا كإشراق الشمس عليها. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان حديث عهد بجبريل لم يبتسم ضاحكًا حتى يرتفع عنه، بل كان إذا خطب أو ذكر الساعة اشتدَّ غضبه, وعلا صوته, كأنَّه منذر جيش, يقول: "صبحكم ومساكم" رواه مسلم. وكان بكاؤه -عليه الصلاة والسلام- من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة, ولكن تدمع عيناه حتى ...   "وقال أبو هريرة" في حديث: "وإذا ضحك -صلى الله عليه وسلم- يتلألأ في الجدر. رواه البزار والبيهقي، أي: يضيء" تفسير يتلألأ "في الجدر -بضم الجيم والدال- جمع جدار، وهو الحائط، أي: يشرق نوره عليها إشراقًا كإشراق الشمس عليها، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان حديث" قريب "عهد بجبريل لم يبتسم ضاحكًا، حتى يرتفع عنه" بحيث لا يراه إعظامًا له بترك الاشتغال بشيء يشغله عنه، أو اعتبارًا، وتفكر فيما فيما أتاه به، "بل" انتقالية، "كان إذا خطب" وعظ "أو ذكر الساعة" القيامة "اشتدَّ غضبه" لله -سبحانه وتعالى- على من خالف زواجره. قال القاضي عياض: يغني بشدته أن صفته صفة الغضبان، وهذا شأن المنذر المخوف، ويحتمل أنه نهي خولف فيه شرعه، وهكذا تكون صفة الواعظ مطابقة لما يتكلم به. قال النووي: أو كان عند إنذاره أمرًا عظيمًا. زاد في رواية: واحمرَّت عيناه، "وعلا صوته"، أي: رفعه ليؤثِّر وعظه في خواطر الحاضرين حتى "كأنه منذر" محذر "جيش" أي: كمن ينذر قومًا ن جيش عظيم قصدوا الإغارة عليهم، فإن المنذر المعلم يعرف القوم بما يدهمهم من عدو أو غيره، وهو المخوف حال كونه "يقول: "صبَّحكم" بفتح الصاد، والباء المشدَّدة- أي: أتاكم الجيش وقت الصباح، "ومسَّاكم" بالفتح مثقلًا- أتاكم وقت المساء. قال الطيبي: شبَّه حاله في إنذاره وخطبته بقرب يوم القيامة، وتهالك الناس فيما يرد بهم بحال من ينذر قومه عند غفلتهم بجيش قريب منهم، ويقصد الإحاطة بهم بغتة؛ بحيث لا يفوته منهم أحد، فكما أن المنذر يرفع صوته، وتحمرّ عيناه، ويشتدّ غضبه على تغافلهم؛ فكذا حاله -صلى الله عليه وسلم- عند الإنذار، وفيه أنّه يسنّ للخطيب تفخيم أمر الخطبة، ورفع صوته، وتحرك كلامه، ويكون مطابقًا لما يتكلم به من ترغيب وترهيب، "رواه مسلم" من حديث جابر بن سمرة"؛ "وكان بكاؤه -عليه الصلاة والسلام" وقياس ما مَرَّ أن يقول: وأما بكاؤه فكان "من جنس ضحكه, لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 تهملان، ويسمع لصدره أزيز، يبكي رحمة لميّت, وخوفًا على أمته وشفقة، ومن خشية الله، وعند سماع القرآن، وأحيانًا في صلاة الليل. قاله في الهدي النبوي. وقد حفظه الله تعالى من التثاؤب، ففي تاريخ البخاري ومصنَّف ابن أبي شيبة, عن يزيد بن الأصم: ما تثاءب النبي قط. لكن في رواية عند ابن أبي شيبة: ما تثاءب نبي قط. وأمَّا يده الشريفة -صلى الله عليه وسلم- فقد وصفه غير واحد بأنَّه كان شثن الكفين كما سيأتي، أي غليظ أصابعهما،   تهملان" بضم الميم- يسيل دمعهما، وإثبات النون مع حتى قليل، نحو: أن تقرآن على أسماء، أو على حذف المبتدأ، أي: إنهما تهملان، أو هما تهملان، فحتَّى ابتدائية, نحو: حتى ماء دجلة، أشكل "ويسمع لصدره أزيز" بزاءين منقوطتين- أي: صوت، وأصله غليان القدر "يبكي رحمةً لميت" استئناف بياني، كأنه قيل: لم كان يبكي، فأجيب بأنَّه رحمة لميت، "وخوفًا على أمته وشفقة" عليهم, "ومن خشية الله، وعند سماع القرآن، وأحيانًا في صلاة الليل. قاله في الهدي النبوي، وقد حفظه الله تعالى من التثاؤب"، لأنه يكره، وذِكْرُه لأن كلامه في شمائله، ومنها عدم التثاؤب بخلاف غيره، فليس ذكره استطرادًا لمضادته للضحك، وفي المصباح: تثاءب -بالهمز- تثاؤبًا، وزان تقاتل تقاتلًا، قيل: هي فترة تعتري الشخص، فيفتح عندها فمه، وتثاوب -بالواو- عامّي، "ففي تاريخ البخاري، ومصنَّف ابن أبي شيبة عن يزيد" بتحتية وزاي "ابن الأصمّ"، واسمه: عمرو بن عبيد البكائي -بفتح الموحدة والتديد- الكوفيّ, ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، ثقة، مات سنة ثلاث ومائة، "ما تثاءب النبي قط"؛ لأنه من الشيطان، وفي البخاري مرفوعًا: "إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"، ثم أل في النبي عهدية، أي: نبينا -صلى الله عليه وسلم، فيفيد اختصاصه, "لكن في رواية" من مرسل يزيد المذكور، "عند ابن أبي شيبة: ما تثاءب نبي قط"، وهذا يعمّ الجميع، فهو من خصائصه على الأمم، لا على الأنبياء. "وأمَّا يده الشريفة -صلى الله عليه وسلم" أي: صفة يديه معًا؛ لأن إضافة المفرد إلى المعرفة تفيد العموم، وهي من المنكب إلى أطراف الأصابع، واليد والكف أيضًا، والظاهر إرادة الإطلاقين هنا معًا، لما يأتي من رؤية بياض إبطيه، "فقد وصفه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، لا اليد؛ لأنها مؤنثة، "غير واحد، بأنه كان شثن الكفين" بفتح الشين المعجمة، وإسكان المثلثة- كما ضبطه جمع منهم المصنف، ووقع للسيوطي في زهر الخمائل -بمثناة فوقية- ولعله سهو، فإن اللغويين وأصحاب الغريب إنما ذكروه في الشين مع المثلثة, من أصرحهم الهروي؛ حيث قال: باب الشين مع الثاء, وذكر فيه الحديث، وذكر قبله الشين مع التأويل، ولم يذكر فيه، "كما سيأتي، أي: غليظ أصابعهما"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 وبأنه عَبْل الذراعين رحب الكفَّين. وقد مسح -صلى الله عليه وسلم- خد جابر بن سمرة قال: فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار، رواه مسلم. وفي حديث وائل بن حجر عند الطبراني والبيهقي: لقد   وذلك جمال في الرجال؛ لأنه أشد لقبضهم، ويذمّ في النساء، وفُسِّرَ أيضًا في النهاية وغيرها بغلظ الأنامل بلا قصر، والأنامل عقد الأصابع، فلا منافاة، نعم على تخصيص الأنامل برءوس الأصابع يتنافيان، "وبأنه عبل" بفتح العين وسكون الموحدة تليها للام- أي: قويّ "الذراعين" ضخمهما, تثنية ذراع، وهو ما بين مفصل الكف والمرفق، أو من المرفق إلى أطراف الأصابع، كذا ضبطه بعضهم، بإسكان الباء، فإن كان الرواية، وإلّا، ففيه أيضًا كسر الباء بزنة فرخ "رحب" بفتح فسكون، "الكفين"، أي: واسعهما. قال ابن الأثير: يكنّون بذلك عن السخاء والكرم. وقال التجاني، أي: كبيرهما، وهو على ظاهره من كبر الجوارح؛ لدلالته على كمال الخلق, بخلاف صغرهما. قال: والحق أنَّه إن كان في بيان الخلق -بالفتح- فلا مناسبة للكناية، أو الخللق -بالضم- فله مناسبة، وقال غيره: رحبهما حسًّا ومعنًى، وقصره على الحقيقة، أو جعله كناية فقط تقصيرًا، لكن هذا وإن كان حسنًا لا يناسب المقام؛ لأن الكلام مسوق لبيان صفاته الصورية، إلّا أن يقال: الكناية لا تنافي إرادة المعنى، "وقد مسح -صلى الله عليه وسلم- خَدَّ جابر بن سمرة" تأنيسًا وشفقة وتبريكًا، قال جابر: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنا معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحدًا واحدًا، "قال": وأمَّا أنا فمسح خدي، "فوجدت"، أي: أحسست "ليده"، أي: كفّه وما قاربها "بردًا" حقيقيًّا؛ لرواية: أبرد من الثلج، لا لعارض مَسّ ماء، وهذا ممدوح عند العرب، لا سما في الزمن الحار، ولا بعد في أنه خاص به مع كمال حرارته الغريزية، وقيل: هو عبارة عن لين كفة ورطوبته، والأقرب أنه بمعنى الراحة واللذة والطيب. قال في النهاية: كل محبوب عندهم بارد، وبرد الظل طيب العيش، والغنيمة الباردة الهنية، "وريحًا, كأنما أخرجها" أي: اليد؛ لأنها مؤنثة "من جؤنة عطار" بضم الجيم، وسكون الهمزة- ويقال: بواو ساكنة، تليها نون، وهاء تأنيث- شبه صندوق صغير مغشَّى بجلد، وزند مستدير يضع العطار فيها عطره، وهو كل ما طابت رائحته، أي: كان ريحها ريح ما أخرج من جؤنة العطار مضمخًا بالعطر، والجملة صفة ريحًا أو مستأنفة، "رواه مسلم" في الصحيح، "وفي حديث وائل بن حجر" بمهملة مضمومة فجيم ساكنة- الحضرمي "عند الطبراني، والبيهقي: لقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 كنت أصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أو يمسّ جلدي جلده، فأتعرَّفه بعد في يدي، وإنه لأطيب رائحة من المسك. وقال يزيد بن الأسود: ناولني رسول الله عليه وسلم- يده, فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحًا من المسك. رواه البيهقي. وعن المستورد بن شداد عن أبيه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذت بيده, فإذا هي ألين من الحرير وأبرد من الثلج. رواه الطبراني. ودخل -صلى الله عليه وسلم- على سعد بن أبي وقاص يعوده بمكة وقد اشتكى، قال: فوضع يده على جبهتي فسمح وجهي وصدري وبطني، فما زلت يخيل إلي   كنت أصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو يمسّ جلدي جلده" أو للتنويع لا للشك، فهو إخبار عن حالتين، "فأتعرَّفه بعد في يدي"، أي: فأعرف أثره بعد مفارقته لي، "وأنه لأطيب رائحة من المسك". قال القاموس: تعرَّفت ما عندك، تطلَّبته حتى عرفته، "وقال يزيد": بتحتية وزاي، "ابن الأسود" بن سلمة بن حجر بن وهب الكندي، صحابي ابن صحابي، قال ابن الكلبي: وفد به أبوه على النبي -صلى الله عليه وسلم, وهو غلام، فدعا له. استدركه ابن فتحون، ذكره في الإصابة، "ناولني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، رواه البيهقي"، وفيه كسابقه ولاحقه, إشارة إلى كمال الأعضاء النبوية حسًّا ومعنًى، "وعن المستورد" بضم الميم، وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء وبالدال المهملتين- "ابن شداد" بن عمر القرشي الفهري، صاحبيّ حجازي، نزل الكوفة، ثم مصر، وشهد فتحها، واختط بها، وتوفي بالإسكندرية سنة خمس وأربعين، ويقال: اسم أبيه سلامة، وهو تغيير، والصواب شدَّاد، كما في كتاب ابن يونس, أفاده الإصابة "عن أبيه" شدَّاد بن عمرو بن حسل بن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محار بن فهر القرشي، الفهري الصحابي، "قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخذت بيده، فإذا هي ألين من الحرير، وأبرد من الثلج، رواه الطبراني" بإسناد على شرط الصحيح، قاله الحافظ: "ودخل -صلى الله عليه وسلم- على سعد بن أبي وقاص" مالك القرشي الزهري، أحد العشرة، "يعوده بمكة" في حجة الوداع، "وقد اشتكى" من مرض، أشرف معه على الموت، فاستأذنه في التصدّق بثلثي ماله أو بشطره فأبى، فقال: فالثلث، قال: "الثلث، والثلث كثير"، الحديث في الصحيح. "قال: فوضع يده على جبهتي، فمسح وجهي وصدري وبطني، فما زلت يخيل إليّ"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة، رواه. في البخاري من حديث أنس قال: ما مَسَسْتُ حريرًا ولا ديباجًا ألين من كَفِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وهو من باب عطف الخاص على العام؛ لأن الديباج نوع من الحرير. قيل: وهذا الوصف في هذا الحديث يخالف ما وقع في حديث هند بن أبي هالة عند الترمذي في صفته -صلى الله عليه وسلم، فإنَّ فيه -كما تقدَّم: كان شثن الكفين والقدمين، أي: غليظهما في خشونة، وهكذا وصفه عليُّ من عدة طرق عند الترمذي   أي: يقع في وهمي "أني أجد" أي: وجود "برد يده على كبدي حتى الساعة، رواه" كذا في نسخة، وبعدها بياض، وفي الشامي: وقد رواه الإمام أحمد من حديث سعد، ويقع في نسخة: رواه البخاري، وهي خطأ؛ إذ البخاري إنما روى في الجنائز والوصايا وحجة الوداع أصل الحديث بدون تلك الزيادة التي هي: فوضع يده إلى آخره، والله أعلم. "وفي البخاري" في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم "من حديث أنس قال: ما مسست"، قال الحافظ وغيره: بمهملتين: الأولى مكسورة ويجوز فتحها، والثانية ساكنة، "حريرًا، ولا ديباجًا" بكسر المهملة، وحُكِيَ فتحها، وقال أبو عبيد: الفتح مولّد، أي: ليس بعربي، "ألْيَن من كفِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، ولا شممت ريحًا قط، أو عرفًا قط أطيب من ريح أو عرف النبي -صلى الله عليه وسلم. هذا بقية الحديث عند البخاري، وأخرجه مسلم بنحوه, وشممت -بكسر الميم الأولى وتفتح، وإسكان الثانية، وعرف -بفتح المهملة، وسكون الراء، بعدها فاء- وهو شكّ من الراوي يدل عليه قوله: أطيب من ريح أو عرف، وهو الريح الطيب، ووقع في بعض الروايات -بفتح الراء، وبالقاف- وأو على هذا للتنويع الأوّل هو المعروف، فقد رواه البخاري في الصوم عن أنس: ما شممت مسكة ولا عنبرة أطيب رائحة من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، "وهو" أي: قوله: ولا ديباجًا "من باب عطف الخاصّ على العام؛ لأن الديباج نوع من" ثياب "الحرير"، أي: كله حرير على ظاهره، كظاهر قول النهاية: الديباج -بكسر الدال- الثياب المتَّخذة من الإبريسم، فارسي معرّب، وقد تفتح داله، ويجمع على ديابيج -بالياء- أي: التحتية، ودبابيج -بالباء، أي: الموحدة، وفي المصباح: الديباج: ثوب سداه، ولحمته إبريسم، "قيل: وهذا الوصف"، أي: كونه ألين من الحرير "في هذا الحديث، يخالف ما وقع في حديث هند بن أبي هالة عند الترمذي في صفته -صلى الله عليه وسلم، فإن فيه -كما تقدم: كان شثن الكفين والقدمين، أي: غليظهما في خشونة، وهكذا وصفه علي"، كما ورد عنه "من عدة طرق"، فهو صلة محذوف "عند الترمذي والحاكم وغيرهما" كابن أبي خيثمة، "وكذا وصف عائشة له عند ابن أبي خيثمة" زهير بن حرب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 والحاكم وغيرهما، وكذا وصف عائشة له عند ابن أبي خيثمة. والجمع بينهما: إن المراد اللّين في الجلد, والغلظ في العظام، فتجتمع له نعومة البدن وقوته. وقال ابن بطال: كانت كفّه -صلى الله عليه وسلم- ممتلئة لحمًا، غير أنها مع ضخامتها كانت لينة، كما في حديث أنس، قال وأمَّا قول الأصمعي: الشثن: غلظ الكف في خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذي فسَّره به الخليل أَوْلَى، قال: وعلى تسليم ما فسَّر به الأصمعي الشثن, يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كف النبي -صلى الله عليه وسلم, فكان إذا عمل بكفه في الجهاد أو في مهنة أهله، صار كفّه خشنًا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع كفه إلى أصل جبلته من النعومة.   "والجمع بينهما" كما في الفتح، أي: بين اللين المصرِّح به أنس، والغلظ الذي تضمَّنه شثن في حديث الجماعة على ما فسَّره به، "أن المراد: اللين في الجلد، والغلظ في العظام"، فلا تنافي، وكلاهما متعلق بمحذوف، أي: المراد باللين: اللين في الجلد، وبالغلظ في العظام، "فتجتمع له نعمة البدن وقوته"، لكن هذا الجمع لا يدفع التعارض بين وصف جلده باللين والخشونة، وإنما يدفع التعارض بين اللين والغلظ مع أنه لا يرد؛ إذ مفهوم اللين لا يعارض مفهوم الغلظ. "وقال ابن بطال: كانت كفّه -صلى الله عليه وسلم- ممتلئة لحمًا، غير إنها مع ضخامتها" الذي هو معنى الشثن "كانت لينة، كما في حديث أنس" المذكور، "قال: وأما قول" أبي سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن الأصمع "الأصمعي" بفتح الهمزة، وسكون الصاد المهملة، وفتح الميم وعين مهملة- نسبة إلى جدّه أصمع المذكور الباهلي، ثم البصري، إمام ثقة, صدوق سني، روى له أبو داود والترمذي، مات سنة خمس أو ست أو سبع عشرة ومائتين بالبصرة، عن ثمان وثمانين سنة، "الشثن: غلظ الكف في خشونة، فلم يوافق على تفسيره بالخشونة"، وإن تبعه عليه الجوهري والمجد وغيرهما؛ لأنه لا يليق هنا لمنابذته، لما صحَّ من لين كفِّه -صلى الله عليه وسلم، "والذي فسَّره به الخليل"، من أنه غلظ الأصابع، وأنه جمال في الرجال؛ لدلالته على الشدة "أَوْلَى" بالقبول؛ لأن الغلظ لا ينافي النعومة. "قال" ابن بطال: "وعلى تسليم ما فسَّر به الأصمعي الشثن، يحتمل أن يكون أنس وصف حالتي كَفّ النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عمل بكفِّه في الجهاد، أو في مهنة أهله صار كفّه خشنًا للعارض المذكور"، فيحمل عليه قول أنس في الصحيح: كان شثن القدمين والكفين بناءً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 وقال القاضي عياض: فسَّر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر, وتعقّب بأنه ثبت في صفته -عليه الصلاة والسلام- أنه كان سائل الأطراف. انتهى. ويؤيد كونها كانت لينةً قوله في رواية النعمان: كان سبط الكفين -بتقديم المهملة على الموحدة، فإنه موافق لوصفها باللين. والتحقيق في الشثن أنه الغلظ من غير قصر ولا خشونة. وقد نقل ابن خالويه: إن الأصمعي لما فسر الشثن بما مضى قيل له: إنه ورد في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لَيِّن الكفَّين، فآلى   على تفسيره بالخشونة، و"إذا ترك ذلك رجع كفّه إلى أصل جبلته" طبيعته التي خُلِقَ عليها، وفي نسخة: خلقته، "من النعومة"، وعليه يحمل قول أنس: إنها أَلْيَن من الحرير، فلا تخالف بين حديثيه. "وقال القاضي عياض: فسَّر أبو عبيدة الشثن بالغلظ مع القصر، وتعقّب بأنه ثبت في صفته -عليه الصلاة والسلام" عند الترمذي وغيره، من حديث هند بن أبي هالة، "أنه كان سائل الأطراف" بسين مهملة ولام- ممتد الأصابع، طويلها طولًا معتدلًا بين الإفراط والتفريط، من غير تكسّر جلد ولا تشنج، بل كانت مستوية مستقيمة، وذلك مما يتمدح به، قال النابغة: يهزون أرماحًا طوالًا متونها ... بأيد طوال عاريات الأشادح وقد وقع حديث هند بالشك، هل قاله بالسين المهملة، أو شائل بالمعجمة، أي: مرتفعها، وهو قريب من سائل, من قولهم: شالت الميزان: ارتفعت إحدى كفتيه، والمعنى: كان مرتفع الأصابع بلا احديداب ولا انقباض، وقال ابن الأنباري: روي سائل، وسائن -بالنون، وهما بمعنى, تبدَّل اللام من النون، ولم يتعرض أصحاب الغريب لشائل -بمعجمة، لكنه مستقيم على قانون العربية -كا عُلِمَ، ومقصود الكلمة كما قال الزمخشري: إنها ليست معتقدة "انتهى" كلام عياض، "ويؤكد كونها كانت لينةً قوله في رواية النعمان: كان سبط الكفين -بتقديم المهملة" المفتوحة "على الموحدة" الساكنة، وحكي كسرها وفتحها وطاء مهملة- أي: ممتدهما بلا تعقيد ولا نتوّ، لكن هذه اللغات في الوصف، أما المصدر فبالفتح لا غير، "فإنه موافق لوصفها باللين" في المعنى، "والتحقيق في الشثن أنَّه الغلظ من غير قصر ولا خشونة"، كما فسَّره به الخليل ومن تبعه. "وقد نقل ابن خالويه: إن الأصمعي لما فسَّر الشثن بما مضى" من الغلظ مع الخشونة، "قيل له: إنه ورد في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم، أنه لَيِّنُ الكف"، فلا يصح تفسيرك بالخشونة، "فآلى": الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 على نفسه أن لا يفسِّر شيئًا في الحديث. انتهى. وفي حديث معاذ عند الطبراني والبزار: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه في سفر، فما مسَسَت شيئًَا قط ألين من جلده -صلى الله عليه وسلم. وأصيب عائذ بن عمرو في وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبي -صلى الله عليه وسلم- الدم بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده -عليه الصلاة والسلام- إلى منتهى ما مسح من صدره غُرَّة سائلة كغرة الفرس. رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر. وأخرج البخاري في تاريخه والبغويّ وابن منده في الصحابة من طريق صاعد بن العلاء بن بشر عن أبيه عن جدّه بشر بن معاوية: أنه قدم مع أبيه معاوية بن ثور على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فمسح رأسه ودعا له بالبركة   حلف "على نفسه أن لا يفسر شيئًا في الحديث" خوفًا من أن يفسره بخلاف معناه في الواقع "انتهى"، وهذا من قوة دينه -رحمه الله. "وفي حديث معاذ" بن جبل "عند الطبراني والبزار: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفه في سفر، فمَا مسست شيئًا قط أَلْيَن من جلده -صلى الله عليه وسلم"، وهذا شامل للكفَّين وغيرهما، "وأصيب عائذ" بتحتية وذال معجمة "ابن عمرو" بن هلال بن عبيد بن يزيد المزني, صحابي بايع تحت الشجرة, ابن صحابي، وسكن البصرة، وبها مات سنة إحدى وستين "في وجهه يوم حنين، فسال الدم على وجهه وصدره، فسلت النبي -صلى الله عليه وسلم- الدم"، أي: أزاله "بيده عن وجهه وصدره، ثم دعا له، فكان أثر يده -عليه الصلاة والسلام- إلى منتهى ما مسح من صدره غرَّة" بياضًا "سائلة كغرة الفرس، رواه الحاكم وأبو نعيم وابن عساكر، وأخرج البخاري في تاريخه، والبغوي" أبو القاسم من طريق عمران بن ماعز. قال البغوي: وهو مجهول، "وابن منده" كلاهما "في" معرفة "الصحابة، من طريق صاعد بن العلاء بن بشر"، كما بَيِّنَه الإصابة، خلاف ما أوهمه المصنف؛ أنَّ الكل من طريق صاعد، "عن أبيه، عن جده بشر" بكسر الموحدة ومعجمة- صحابي، عداده في أهل الحجاز، "ابن معاوية؛ أنه قدم مع أيه معاوية بن ثور" بن معاوية بن عبادة -بكسر العين- ابن البكاء، واسمه: ربيعة بن عامر بن صعصعة العامري البكائي، "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فمسح رأسه"، لفظ رواية المذكورين، كما في الإصابة، فمسح رأس بشر، "ودعا له بالبركة"، وذلك بطلب أبيه، فروى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 فكانت في وجهه مسحة النبي -صلى الله عليه وسلم- كالغرَّة, وكان لا يمسح شيئًا إلا برئ. ومسح -صلى الله عليه وسلم- رأس مدلوك أبي سفيان, فكان ما مرت عليه يده أسود، وشاب ما سوى ذلك. رواه البخاري في تاريخه والبيهقي. وكذا وقع له -عليه الصلاة والسلام- في رأس السائب   ابن شاهين، وثابت في الدلائل: قدم معاوية بن ثور على النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو شيخ كبير، ومعه ابن له يقال له بشرًا، فقال: يا رسول الله, امسح وجه ابني هذا، ففعل، فذكر الحديث، وفيه، فقال محمد بن بشر بن معاوية: وأبي الذي مسح النبي بوجهه ... ودعا له بالخير والبركات فأفادت الروايتان أنَّ المسح وقع في الرأس والوجه معًا، فلا غبار على قوله: "فكانت في وجهه مسحة النبي"، أي: أثر مسحته "صلى الله عليه وسلم- كالغرَّة" البياض، "وكان لا يمسح شيئًا إلّا بَرِئَ ببركة اليد الميمونة، قال ابن منده: لا نعرفه إلّا من هذا الوجه، وانتقده الإصابة؛ بأن له طريقًا أخرى عند أبي نعيم بإسناد مجهول، وأخرى عند ابن شاهين بإسناد منقطع، وذكر ابن منده بهذا السند قال: وكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاوية كتابا، ووهب له من صدقة عامة، فلمَّا رجع معاوية إلى منزله، قال: إنما أنا هامة اليوم أو غد، ولي مال كثير، وإنما لي ابنان، فرجع فقال: يا رسول الله خذها مني، فضعها حيث ترى من مكابدة العدو، فإني موسِرٌ، فقال: "أصبت يا معاوية"، فقلبها منه، "ومسح -صلى الله عليه وسلم- رأس مدلولك" بميم فدال مهملة فلام فواو فكاف- علم "أبي سفيان"، كنيته: الفزاري، مولاهم، صحابي، نزل الشام، وذكره البرديجي في الأسماء المفرَدة من الصحابة، "فكان ما مرت عليه يده أسود، وشاب ما سوى ذلك، رواه البخاري في تاريخه، والبيهقي"، وابن سعد، والبغوي، والطبراني من طريق مطر بن العلاء الفزاري، حدثتني عمَّتي آمنة أو أميَّة بنت أبي الشعثاء، وقطبة مولاهم، قالا: سمعنا أبا سفيان مدلوكًا يقول: ذهبت مع مولاي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، فدعا بالبركة، ومسح رأسي بيده، قالت: فكان مقدم رأس أبي سفيان أسود، ما مسَّته يد النبي -صلى الله عليه وسلم، وسائره أبيض. وأخرجه ابن منده، وأبو نعيم من وجه آخر عن مطر، فقال: عن مدلوك أبي سفيان، وقال: عن آمنة -بالنون، ولم يشك، كما في الإصابة. "وكذا وقع له -عليه الصلاة والسلام- في رأس السائب" بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، أو الأزدي، وقيل: في نسبه غير ذلك, له ولأبيه صحبة، وفي البخاري عنه: حجَّ أبي مع النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن ست سنين. وهو عند ابن شاهين بلفظ: حج بي أبي، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحاديث، وعن أبيه، وعمر، وعثمان، وجماعة من الصحابة، وعنه الزهري، وآخرون، واستعمله عمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 رواه البغوي والبيهقي وابن منده. وأخرج البيهقي وصحَّحه، والترمذي وحسَّنه، عن أبي زيد الأنصاري قال: مسح -عليه الصلاة والسلام- بيده على رأسي ولحيتي ثم قال: "اللهم جمّله"، قال: فبلغ بضعًا ومائة سنة وما في لحيته بياض. لقد كان منبسط الوجه ولم ينقبض وجهه حتى مات. ومسح -عليه الصلاة والسلام- رأس حنظلة بن حذيم بيده وقال له: "بورك فيك،   على سوق المدينة، ومات سنة اثنتين وثمانين، وقيل: بعد التسعين, سنة إحدى أو أربع، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة في قول, "رواه البغوي والبيهقي وابن منده" عنه: أنَّ المصطفى مسح رأسه، فما مسَّته يده لم يشب, وشاب ما عداه، وأصله في الصحيحين عنه, أنَّ خالته ذهبت به وهو وَجِعٌ، فمسح النبي -صلى الله عليه وسلم- رأسه، ودعا له وتوضأ، وشرب من وضوئه، ونظر إلى خاتم النبوة، "وأخرج البيهقي وصحَّحه، والترمذي وحسَّنه" من طريق علياء بن أحمر، "عن أبي زيد الأنصاري". الخزرجي, اسمه: عمرو بن أخطب بن رفاعة، مشهور بكنيته، غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث عشرة غزوة، ونزل البصرة, له في مسلم والسنن، "قال: مسح -عليه الصلاة والسلام- بيده على رأسي ولحيتي، ثم قال: "اللهمَّ جَمِّله"، قال" الراوي عنه وهو علباء -بكسر المهملة، وسكون اللام، بعدها موحدة: "فبلغ بضعًا ومائة سنة، وما في لحيته بياض" ببركة اليد الميمونة، "ولقد كان منبسط الوجه، ولم ينقبض وجهه حتى مات" ببركة الدعوة المجابة. وفي رواية لأحمد، عن أبي نهيك، حدثني أبو زيد قال: استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماء، فأتيته بقدح فيه ماء، فكانت فيه شعرة، فأخذتها، فقال: "اللهمَّ جمِّله"، قال: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة، ليس في لحيته شعرة بيضاء. صحَّحَه الحاكم وابن حبان، "ومسح -عليه الصلاة والسلام- رأس حنظلة بن حذيم" بكسر الحاء المهملة وسكون المعجمة وفتح التحتية وميم- ابن حنيفة -بفتح المهملة- ابن جبير بن بكر بن حجر بن معد بن ثعلبة بن زيد مناة بن تميم التميمي، ويقال: الأسدي أسد خزيمة، ويقال له: المالكي، ومالك بطن من أسد بن خزيمة، له ولأبيه وجَدّه صحبة، "بيده، قال له: "بورك فيك" لفظ رواية أحمد: "بارك الله فيك"، أو قال: بورك فيك -بالشك، ولفظ الحديث من أوله، قال الإما أحمد: حدَّثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدَّثنا الذيال بن عبيد، سمعت جدي حنظلة بن حذيم، حدثني أبي أنَّ جدي حنيفة، قال لحذيم: اجمع لي بنيّ، فأوصاهم فقال: إن ليتيمي الذي في حجري مائة من الإبل، فقال حميد: يا أبت! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها, والبعير والإنسان به الورم، فيتفل في يده ويمسح بصلعته ويقول: بسم الله, على أثر يد رسول الله -صلى عليه وسلم- فيمسحه, ثم يمسح موضع الورم, فيذهب الورم. رواه أحمد والبخاري في التاريخ, وأبو يعلى وغيرهم. وقد جاء في عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة بياض إبطيه. فعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه.   سمعت بنيك يقولون: إنما تقر بهذا لتقر عين أبينا، فإذا مات رجعنا، فجاء حنيفة، وحذيم، ومعهما، ومعهم حنظلة، وهو غلام رديف أبيه، فقص على النبي -صلى الله عليه وسلم- قصته، فغضب -صلى الله عليه وسلم، فجثا على ركبتيه، وقال له: "لا لا, الصدقة خمس"، وإلّا فعشر، وإلّا فعشرون، وإلّا، فثلاثون، فإن كثرت فأربعون. قال: فودعوه، ومع اليتيم هراوة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "عظمت هذه هراوة يتيم"، فقال حذيم: إن لي بنين ذوي لحاء، وإن هذا أصغرهم -يعني حنظلة- فادع لله له، فمسح رأسه، وقال: "بارك الله فيك"، أو قال: "بورك فيك"، قال الذيال: "فكان يؤتى بالشاة الوارم ضرعها، والبعير والإنسان به الورم، فيتفل" بضم الفاء وكسرها "في يده"، أي: يد نفسه، "ويمسح بصلعته" بفتح اللام، وإسكانها لغة, أباها الحداق موضع الصلع، وهو انحسار الشعر على مقدم الرأس، أو يضع يده على رأس موضع كفه -صلى الله عليه وسلم، "ويقول: "بسم الله، على أثر يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فيمسحه، ثم يمسح موضع الورم، فيذهب الورم. رواه أحمد, والبخاري في التاريخ، وأبو يعلى، وغيرهم"، كالطبراني، ويعقوب بن سفيان. ورواه الحسن بن سفيان من وجه آخر عن الذيّال، وزاد أنَّ اسم اليتيم: ضرار بن قطبة، وأنه كان شبه المحتلم، وأخرج هو والباوردي وابن السكن عن الذيال: سمعت جدي حنظلة, سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يتم بعد احتلام، ولا تصلي جارية إذا هي حاضت"، والذيال -بذال معجمة وتحتية فألف فلام- ابن عبيد بن حنظلة، تفرَّد بالرواية عن جده، "وقد جاء في عدة أحاديث عن جماعة من الصحابة، بياض إبطيه"، قال الحافظ: واختُلِفَ في المراد بذلك، فقيل: لم يكن تحتها شعر، فكانا كَلَوْنِ جسده، ثم قيل: لم يكن تحت إبطيه شعر البتة، وقيل: كان لدوام تعاهده له لا يبقى فيه شعر، وعند مسلم في حديث: حتى رأينا عفرة إبطيه، ولا تنافي بينهما؛ لأن الأعفر ما بياضه ليس بالناصع، وهذا شأن المغابن، يكون لها في البياض دون بقية الجسد. انتهى، "فعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في الدعاء"، أي: في الاستسقاء، "حتى رأيت بياض إبطيه"، فلا ينافي قول أنس: كان لا يرفع يديه في شيء من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 وقال الطبري: ومن خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإبط من جميع الناس متغيّر اللون غيره, إلا هو -عليه الصلاة والسلام. ومثله للقرطبي وزاد: وإنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد، وقال: إنَّه لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه أن لا يكون له شعر. قال عبد الله بن أقرم -وقد صلى معه -صلى الله عليه وسلم: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه. حسَّنه الترمذي. والعفرة: بياض ليس بالناصع كما قاله الهروي وغيره، وسيأتي مزيد لذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى. وعن رجل من بني حريش قال: ضمَّني رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فسال عليَّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك. رواه البزار.   دعائه، إلّا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، متفق عليه. "وقال الطبري: ومن خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنّ الإبط من جميع الناس متغيّر اللون غيره" بالجر نعت للناس، "إلّا هو -عليه الصلاة والسلام، ومثله للقرطبي، وزاد: وإنه لا شعر عليه، لكن نازع فيه صاحب شرح تقريب الأسانيد" للنووي، وهو العلامة ولي الدين القراتي, الحافظ ابن الحافظ، "وقال: إنه لم يثبت ذلك"، أي: إنه لا شعر عليه "بوجهٍ من الوجوه، قال: والخصائص لا تثبت بالاحتمال"، وإنما تثبت بالنص الصحيح الصريح، "ولا يلزم من ذكر أنس وغيره"، كعبد الله بن مالك بن بجينة، "بياض إبطيه, أن لا يكون له شعر"؛ لاحتمال أنه كان يديم تعاهده، وقد علَّله ابن العراقي نفسه بقوله: فإن الشعر إذا نتف بقي المكان بيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، "وقال عبد الله بن أقرم" بفتح الهمزة والراء بينهما قاف ساكنة آخر ميم- ابن زيد الخزاعي، أبي معبد، صحابي، مقلّ، له حديثان، "وقد صلى معه -صلى الله عليه وسلم: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه. حسَّنه الترمذي، والعفرة" بضم المهملة، وإسكان الفاء "بياض ليس بالناصع، كما قاله الهروي وغيره" كابن الأثير، "وسيأتي مزيد" قليل "لذلك في الخصائص -إن شاء الله تعالى"، وهو نقل قول العراقي: وهذا -أي: حديث ابن أقرم- يدل على أن أثر الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلّا فلو كان خاليًا عن نبات الشعر جملةً لم يكن أعفر، نعم الذي نعتقده أنّه لم يكن لإبطه رائحة كريهة. انتهى. وقد يمنع دلالته على ما قال بما تقدَّم عن الحافظ، أنَّ شأن المغابن كونها أقلّ بياضًا من باقي الجسد، "وعن رجل" لم يسمّ "من بني حريش" بفتح المهملة وكسر الراء وإسكان التحتية وشين معجمة- بطن من الأنصار "قال: ضمَّني رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فسال عليَّ من عرق إبطيه مثل ريح المسك، رواه البزار"، وهو صريح في اختصاصه، بطيب رائحة إبطيه دون الناس، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 ووصفه علي فقال: ذو مسربة، وفسِّر بخيط الشعر بين الصدر والسرة. وقال ابن أبي هالة: دقيق المسربة. وعند ابن سعد عن علي: طويل المسربة. وعند البيهقي: له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب, ليس على صدره ولا بطنه غيره. ووصفت بطنه أم هانئ فقالت: ما رأيت بطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلّا ذكرت القراطيس المثْنَى بعضها على بعض. رواه الطيالسي والطبراني. وقال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ من فضة،   "ووصفه عليّ" عند الترمذي، "فقال: ذو مسربة" بفتح الميم، وإسكان السين، وضم الراء، وفتحها، وموحدة، وهاء، والتنوين للتعظيم، فهو كقوله الآتي: طويل المسربة، "وفسِّر بخيط الشعر بين الصدر والسرة"، وفي المصباح: شعر الصدر يأخذ إلى العانة، وفي القاموس: شعر وسط الصدر إلى البطن، "وقال ابن أبي هالة: دقيق" بالدال، وفي رواية بالراء: "المسربة"، ووصفها بالدقة للمبالغة؛ إذ هي الشعر الدقيق، "وعند ابن سعد"، وكذا الترمذي في الشمائل، "عن علي: طويل المسربة"، فأفاد الحديثان أنها دقيقة طويلة، "وعند البيهقي له شعرات من لبته" بفتح اللام "إلى سرَّته, تجري كالقضيب" الغصن أو العود، أو السيف اللطيف الرقيق، "ليس على صدره ولا بطنه غيره"، الضمير للشعرات، ذكره لقوله: كالقضيب، "ووصفت بطنه أم هانئ فقالت: ما رأيت بطن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، إلّا ذكرت القراطيس المثْنَى بعضها على بعض"، ولعلَّ رؤيتها بطنه قبل تحريم رؤية الأجنبية للأجنبي؛ إذ هو -صلى الله عليه وسلم- ابن عمها، أو قبل البعثة، فلا يشكل على قول مالك: ترى الأجنبية من الأجنبي ما يراه من محرمة، وهو الوجه والأطراف، ولا على قول الشافعي: لا ترى منه شيئًا، ولا الوجه والأطراف، "رواه الطيالسي" أبو داود سليمان بن داود بن الجارود, الحافظ المشهور، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب, "وقال أبو هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبيض كأنما صيغ" من الصوغ بمعنى الإيجاد، أي: خُلِقَ "من فضة"، قال الجوهري والمجد: صاغ الله فلانًا صيغة حسنة خَلَقَه، وقال الزمخشري: من المجاز: فلان حسن الصيغة وهي الخلقة، وصاغه الله صيغة حسنة، وفلان من صيغة كريمة: من أصل كريم، انتهى. وهذا باعتبار ما كان يعلو بياضه من الإضاءة ولمعان الأنوار والبريق الساطع، فلا ينافي ما ورد أنه كان مشربًّا بحمرة، وآثره لتضمنه نعته بتناسب التركيب وتماسك الأجزاء، فلا اتجاه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 رجل الشعر، مفاض البطن، عظيم مشاش المنكبين. وتقدَّم أن المشاش هي: رءوس العظام كالركبتين، ومفاض: أي: واسع البطن، وقيل: مستوي البطن مع الصدر. وخرَّج الإمام أحمد عن محرش الكعبي قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة ليلًا، فنظرت إلى ظهره كأنَّه سبيكة فضة. وكان -صلى الله عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين. رواه البخاري. أي: عريض الصدر، ووقع عند ابن سعد من حديث أبي هريرة: رحب الصدر. وأمَّا قلبه الشريف -صلى الله عليه وسلم،   لجعله من الصوغ، بمعنى: سبك الفضة, "رجل الشعر" بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها وسكونها- كما في المفهم، أي: مسرح الشعر، أو ما فيه تثن قليل، أو لم يكن شديد الجعود ولا السبوطة، بل بينهما، قال القرطبي: كان شعره مثل خلقته مسرجًا، وهذا الحديث إلى هنا رواه الترمذي في الشمائل عنه، وزاد في رواية غيره: "مفاض البطن" بالفاء والضاد المعجمة- كما قاله الهروي وغيره، "عظيم مشاش المنكبين، وتقدَّم أن المشاش" بضم الميم، ومعجمتين "هي رءوس العظام؛ كالركبتين، ومفاض، أي: واسع البطن، وقيل" معناه "مستوي البطن مع الصدر"، وجزم به الهروي، وحكى ابن الأثير القولين، "وخرَّج الإمام أحمد عن مُحَرّش" بضم الميم، وفتح المهملة، وكسر الراء الثقيلة، ومعجمة- ضبطه ابن ماكولا تبعًا لهشام بن يوسف، ويحيى بن معين، ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوَّبه ابن السكن تبعًا لابن المديني، كما في الإصابة، وزاد في التبصير: وقال ابن سعد: مخرّش -بالخاء المعجمة، وقال بعضهم: مهملة، وقال الزمخشري: الصواب بالخاء المعجمة، انتهى. وفي الجامع لابن الأثير، ويقال: محرش -بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الراء مخففة وشين معجمة- قال في الإصابة، وهو ابن سويد بن عبد الله بن مرة الخزاعي، "الكعبي"، عداده في أهل مكة وقيل: إنه ابن عبد الله، انتهى. "قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجعرانة ليلًا، فنظرت إلى ظهره كأنَّه سبيكة فضة"، فاعتمر وأصبح بها كبائت، هذا بقية الحديث، وأخرجه أبو داود والنسائي، والترمذي بإسناد حسن، قال الترمذي: ولا يعرف له غيره، "وكان -صلى الله عليه وسلم- بعيد ما بين المنكبين. رواه البخاري" عن البراء بن عازب في حديث، "أي: عريض الصدر" لفظ الفتح، وتبعه المصنف في شرحه، أي: عريض أعلى الظهر، "ووقع عند ابن سعد من حديث أبي هريرة: رحب الصدر"، أي واسعه، "وأما قلبه الشريف"، أي: صفته -صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت له من الكمال، كالشق وشرح الصدر. وغير ذلك, ما لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 فاعلم أنَّ القلب مضغة في الفؤاد معلَّقة بالنباط، فهو أخصّ من الفؤاد. قاله الواحدي، وسُمِّيَ به لتقلبه بالخواطر والعزوم، قال الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب وقال الزمخشري: مشتق من التقلُّب الذي هو المصدر لفرط تقلبه،   يثبت لغيره، فجواب أمَّا محذوف، وإذا أردت معرفة القلب من حيث هو، وموضعه، "فاعلم"، فالفاء فصيحة في جواب شرط مقدّر، وصدَّر هذا المبحث بمقدمة كلية عنونها بالأمر بالعلم، تنبيهًا على جلالة ما فيه من الأبحاث دون بقية الجوارح، "إن القلب مضغة" بميم، ومعجمة- وفي نسخة: بضعة -بموحدة مثلثة، ومعجمة، ومهملة- وهما بمعنى قطعة, "في الفؤاد، معلقة بالنباط" بكسر النون- عرق متصل بالقلب، كما في المصباح، "فهو أخصّ من الفؤاد"، أي: أشرف منه؛ لأنه قصد به حفظ القلب، فالقلب المقصود، وليس المراد الأخصّ المقابل للأعمّ؛ لأنه بعض أفراد العام، ولا يستقيم على ما ذكره المقتضي تباينهما ضرورة تباين الظرف لمظروفه في متعددات، لا في شيء واحد، "قاله الواحدي، وسمي به لتقلبه بالخواطر"، أي: ما يعرض له من أوّل أحواله قبل التصميم عليه، فشمل الأربع التي قبل العزم، الخاطر والهاجس وحديث النفس والهمّ، بدليل مقابلته بقوله: "والعزوم" بالجمع على أمر واحد؛ لأدلة مختلفة كان يتردَّد في أمر، ويظهر له صواب فيصمم عليه، ثم يظهر له خلافه فيعزم عليه، ويعرض عن الأوَّل، وهكذا، كما يقع للمجتهدين، أو المراد: العزم على أمور متباينة يتعلّق بها نظره؛ ليفعلها في أوقات مختلفة، فالجمع باعتبار أفراد العزوم في متعددات، لا في شيء واحد، "قال الشاعر: وما سمي الإنسان إلا لنسيه بكسر النون- كما في القاموس، بناءً على قول الكوفيين، مشتَقّ من النسيان, فالهمزة زائدة، فوزنه: أفعان على النقص، وفي نسخة: لأنسه على قول البصريين، من الأنس، فالهمزة أصل، ووزنه فعلان، واتفقوا على زيادة النون الأخيرة، "ولا القلب، إلّا أنه" بفتح الهمزة- بتقدير اللام، أي: لأنه "يتقلّب"، فهذا سبب التسمية دون ملاحظة اشتقاق من شيء؛ إذ لا يلزم من حكمة التسمية اشتقاقه من مصدرها، كتسمية الوالد الذي فيه حمرة أحمر، فلذا عقبه بالنص عليه بقوله. "وقال الزمخشري: مشتَقٌّ من التقلُّب الذي هو المصدر"، فرُوعِيَ فيه أخذه منه للمناسبة بينهما، أي: إنه اعتبر لتسمية المضغة قلبًا، ووجود التقلّب في مسمّاه، لا أنه جزء من مدلوله؛ بحيث ينتفي بانتفائه، ولا يلزم منه تسمية كل متقلب قلبًا؛ لأن الاشتقاق قد يختص ببعض الأشياء كالقارورة، وقد يطَّرِد, كاسم الفاعل "لفرط تقلبه"، أي: تنقّله مع حركته نفسه، أي: اضطرابه عند رجفه مثلًا، أو المراد تنقله من خاطر لآخر مع بقاء ذاته, والأوّل أظهر لمخالفته لما قلبه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 ألا ترى إلى ما روى أبو موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ومثل هذا القلب كمثل ريشة معلقة بفلاة يقلبها الريح بطنًا لظهر". قال: والفرق بينه وبين الفؤاد، أنَّ الفؤاد وسط القلب، سُمِّيَ به لتفؤده، أي: توفده. وفسَّر الجوهري القلب بالفؤاد, ثم فسَّر الفؤاد بالقلب. قال الزركشي: والأحسن قول غيره: الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبَّته وسويداؤه، ويؤيد الفرق قوله -صلى الله عليه وسلم: "ألين قلوبًا وأرقّ أفئدة"، وهو أَوْلَى من قول بعضهم: إنه كرّر لاختلاف اللفظ. وقال الراغب: يعبَّر بالقلب عن المعاني التي تختص به كالعلم والشجاعة. وقيل: حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] ، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك, وإلى سائر القوى من الشهوة والغضب ونحوهما. انتهى.   أمرين، وهو ظاهر الحديث أيضًا، بخلاف الثاني, فمغاير لما قبله في واحد وهو الاشتقاق، "ألا ترى إلى ما روى أبو موسى"، عبد الله بن قيس الأشعري، "عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ومثل هذا القلب كمثل ريشة معلقة بفلاة، يقلبها الريح بطنًا لظهر"، قال: والفرق بينه وبين الفؤاد أنَّ الفؤاد وسط القلب, سُمِّيَ به لتفؤده" بالهمز- كما في القاموس، "أي: توفده"، زاد القاموس: وتحركه، "وفسر الجوهري القلب بالفؤاد، ثم فسَّر الفؤاد بالقلب" فجعلهما مترادفين. "قال الزركشي: والأحسن قول غيره: الفؤاد غشاء القلب، والقلب حبَّته وسويداؤه" عطف تفسير, الجوهري: سواد القلب حبته، وكذا أسوده، وسويداؤه، وفي كفاية المتحّفظ: سويداء القلب علقة سوداء في وسط القلب، يقال للرجل: اجعل ذلك في سويداء قلبك، "ويؤيّد الفرق قوله -صلى الله عليه وسلم: "أتاكم أهل اليمن أَلْيَن قلوبًا وأرق أفئدة"، حيث وصف القلوب باللين، والأفئدة بالرِّقَّة، ومرت فيه مباحث نفيسة، "وهو أوْلَى من قول بعضهم: إنه كرَّر" في الحديث "لاختلاف اللفظ"، وإن كانا بمعنى واحد، "وقال الراغب: يعبَّر بالقلب عن المعاني التي تختص به؛ كالعلم والشجاعة، وقيل" مما نقل عن بعض الحكماء، "حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم؛ كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} " عظة " {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} " عقل وعلم، "وحيثما ذكر الصدر، فإشارة إلى ذلك" المذكور من العقل والعلم، "وإلى سائر القوى" التي في الصدر، من الشهوة والغضب، ونحوهما، انتهى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 قال بعض العلماء: ولقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له قلبًا يعقل عنه، وهو أصل وجوده، إذا صلح قلبه صلح سائره، وإذا فسد قلبه فسد سائره، وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص الذي هو سر الله يودعه قلب من شاء من عباده، فأوّل قلب أودعه إليه قلب محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أوّل خلق, وصورته -صلى الله عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أولهم وآخرهم. وقد جعل -سبحانه وتعالى- أخلاق القلوب للنفوس أعلامًا على أسرار القلوب، فمن تحقَّق قلبه بسر الله اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله، ولذلك جعل الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- جثمانية   وفي تمريضه عدم ارتضائه، وفي البيضاوي: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، أي: قلب واعٍ يتفكَّر في حقائقه، "قال بعض العلماء: ولقد خلق الله تعالى الإنسان، وجعل له قلبًا يعقل عنه"، أي: يدرك الإنسان إدراكًا ناشئًا عن تصرّف القلب، ففاعل يعقل الإنسان, وعنه متعلّق بمقدر فسَقَط، ما عساه يقال: الأَوْلَى أن يقول به لا عنه؛ لأنه مبني على أن فاعل يعقل القلب، "وهو أصل" أي: سبب وجوده" على الحالة المأمور بها، "إذا صلح" بضم اللام، وفتحها "قلبه صلح سائره"، وحسنت حاله، واعتدَّ بوجوده، فكأنه أحياه من العدم، "وإذا فسد قلبه فسد سائره"، وفسدت أحواله، وكأنه مات، وإليه أشار في حديث: "ألا وأن في لجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجد كله, ألا وهي القلب"، "وجعل سبحانه القلوب محل السر والإخلاص الذي هو سِرّ الله يودعه قلب من شاء من عباده، فأوّل قلب أودعه إليه قلب محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أول خلق"، أي: مخلوق، "وصورته -صلى الله عليه وسلم- آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، فهو أوّلهم"، أي: المتقدِّم عليهم بوجود صورته النورية قبل خلق الأشياء كلها، "وآخرهم" ظهورًا لهذا العالم؛ إذ لا نبي بعده، "وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- أخلاق القلوب للنفوس أعلامًا على أسرار القلوب، فمن تحقَّق قلبه بسر الله"، أي: من أودع الله تعالى سره في قلبه، بحيث يكون منقادًا، باطنًا لأوامره، متباعدًا عن نواهيه، "اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله"، فيعاملهم برفق ولينٍ على مقتضى الحال، فيعامل كل إنسان بما يليق بحاله بغاية الرفق، حتى العصاة ينهاهم عن معصيتهم ببيان ما يضرهم وما ينفعهم، كما قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الآية، فإذا لم يفد في كفهم عن المعاصي إلّا الزجر الشديد، عاملهم به، وأقام عليهم الحدود ليكفهم عن العود إلى ما صدر منهم، وذلك من سعة الخلق؛ لأنه نفع لهم، بل قتال الكفار والبغاة من سعة الخلق. "ولذلك جعل الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- جثمانية" بضم الجيم، وإسكان المثلثة- أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 اختص بها من بين سائر العالمين، فتكون علامات اختصاص جثمانيته آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه، وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سِرِّ قلبه المقدَّس. ولما كان قلبه -صلى الله عليه وسلم- أوسع قلب اطَّلع الله عليه -كما ورد في الخبر, كان هو الأَوْلَى أن يكون هو قلب العبد الذي يقول فيه تعالى: "ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن". ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين كان صدره يضيق، فاتسع قلبه لما انشرح صدره ووضع عنه وزره.   جسمًا، على تفسير أبي زيد، وقال الأصمعي: الجثمان هو الشخص، كما في المصباح، "اختُصّ بها من بين سائر العالمين"، فلا يكون لغيره جثمانية تماثل جثمانيته في شيء من الصفات المختصة بها، والياء في جثمانية للمبالغة لا النسبة؛ إذ المنسوب غير المنسوب إليه، ولا يظهر التغاير هنا بينهما، "فتكون علامات اختصاص جثمانيته" جسمه أو شخصه، "آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة وعظيم خلقه" بالضم، "وتكون علامات عظيم أخلاقه آيات على سِرّ قلبه المقدَّس" المطهر، "ولما كان قلبه -صلى الله عليه وسلم- أوسع قلب, اطَّلع الله عليه -كما ورد في الخبر، كان هو الأَوْلَى أن يكون هو قلب العبد الذي يقول فيه تعالى: "ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن". ذكره الغزالي في الإحياء بزيادة: اللين، الوادع، قال الحافظ العراقي في تخريجه: لم أر له أصلًا، وقال ابن تيمية: هو مذكور في الإسرئيليات، وليس له إسناد معروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ومعناه: وسع قلبه الإيمان بي، ومحبتي ومعرفتي، وإلّا فمن قال: إن الله يحلّ في قلوب الناس فهو أكفر من النصارى الذين خصوا ذلك بالمسيح وحده، قال السخاوي: وكأنَّه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه أحمد في الزهد، عن وهب بن منبه، قال: إن الله فتح السماوات لحزقيل حتى نظر إلى العرش، فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب، فقال الله: إن السماوات والأرض ضعفن عن أن يسعنني، ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين، ورأيت بخط ابن الزركشي: سمعت بعض العلماء يقول: حديث ما وسعني.. إلخ، باطل, من وضع الملاحدة، قلت: وقد روى الطبراني عن أبي عتبة الخولاني رفعه: "إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقّها"، وفيه بقية بن الوليد, مدلِّس, لكنه صرَّح بالتحديث أ. هـ، "ولما كان كماله قبل الإسراء بمنزلة سائر النبيين، كان صدره يضيق"، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} من الشرك والطعن في القرآن، والاستهزاء بك، "فاتسع قلبه، لما انشرح صدره، ووضع" حَطّ "عنه وزره" إن كان له وزر، وقيل غير ذلك، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 ورفع له ذكره. وقد صحَّ أن جبريل -عليه السلام- شقَّه واستخرج منه علقة, فقال له: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده في مكانه. قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره. رواه مسلم. وإنما خلقت هذه العلقة في ذاته الكريمة ثم استخرجت منه؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقها تكملة للخلق الإنساني فلابُدَّ منها، ونزعها أمر رباني طرأ بعد ذلك، قاله السبكي.   كما يأتي للمصنف، "ورفع له ذكره"، فلا يذكر الله ألا ويذكر معه، وهذا صريح في أنَّ هذه الأحوال؛ إنما حصلت له بعد الإسراء، وإن نزل: {أَلَمْ نَشْرَحْ} بعده، وقد نَصَّ المفسِّرون على أنها مكية، وهو محتمل لنزولها بعد الإسراء وقبله، "وقد صحَّ أن جبريل -عليه السلام- شَقَّه"، أي: قلبه، "واستخرج منه علقة"، وفي رواية: مضغة سوداء فرمي بها، ولا تنافي، فقد تكون العلقة لكبرها تشبه المضغة، "فقال له: هذا حَظّ الشيطان منك"، أي: هذا هو الموضع الذي يتوصّل الشيطان منه إلى وسوسة الناس، ولا ينافيه قوله: منك؛ لجواز تقدير مضاف، أي: من مثلك من بني آدم، كذلك تكلفه شيخنا، ولا حاجة له مع التصريح بنزعها منه؛ وأنه في حالة الطفولية، وهو يلعب مع الغلمان، كما في مسلم، "ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، فأعاده في مكانه، قال أنس" راوي الحديث: "فلقد كنت أرى أثر المخيط" بكسر الميم- ما يخاط به "في صدره"، وظاهره أنه بآلة، وإنَّ الشق كذلك بآلة، ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر: خَطّ بطنه فخاطه، وفي حديث عتبة: حصه فحاصه، وقد وقع السؤال عن ذلك، ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرّض له بعد التتبع، وأمَّا قوله: فأتيت بالسكينة فوضعت في صدري، فالصواب كما قال ابن دحية: تخفيف السكينة، لذكرها بعد شق البطن خلافًا للخطابي، ذكره الشامي "رواه مسلم". وكذا الإمام أحمد عن أنس، "وإنما خلقت هذه العلقة في ذاته الكريمة، ثم استخرجت منه؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية" التي اقتضت الحكمة وجودها في الإنسان، وإن لم يحصل بعدمها نقص في صورته ظاهرًا، "فخلقها تكملة للخلق الإنساني فلابُدَّ منها، ونزعها أمر رباني طرأ بعد ذلك" الخلق، فإخراجها بعد خلقها دَلَّ على مزيد الرفعة وعظيم الاعتناء والرعاية من خلقه بدونها، "قاله السبكي" جوابًا لمن سأله عن حكمة ذلك، وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يكن للآدميين اطِّلاع على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحقَّقوا كمال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 وعند أحمد وصححه الحاكم: "ثم استخرجا قلبي فشقَّاه, فأخرجا منه علقتين سوداوين, فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء وثلج, فغسلا به جوفي, ثم قال: ائتني بماء برد, فغسلا قلبي, ثم قال: ائتني بالسكينة فذراها في قلبي, ثم قال أحدهما لصاحبه: حصه فحاصه, وختم عليه بخاتم النبوة".   باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر، "وعند أحمد، وصحَّحه الحاكم" من حديث عتبة بن عبد، عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابنٍ لها في بهم لنا، ولم نأخذ معنا زادًا، فقلت: يا أخي, اذهب فأتنا بزاد من عند أمِّنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل إلي طيران كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو، قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني، فبطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين"!. قال الشامي: إحداهما محلّ غمز الشيطان، والأخرى منشأ الدم الذي قد يحصل منه أضرار في البدن، وعلى هذا، فلا حاجة لما أجيب به عن حديث العلقتين، باحتمال أنها علقة واحدة انقسمت عند خروجها قسمين، فسمِّي كل جزء منهما علقة مجازًا، "فقال أحدهما لصاحبه: "ائتني بماء وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد" بفتحتين- أي: مطر، وهو حب الغمام، "فغسلا قلبي"، قال السهيلي: حكمة ذلك ما يشعر به من ثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ولذا حصل له اليقين بالأمر الذي يراد به بواحدنية ره، "ثم قال: ائتني بالسكينة" بالتخفيف, "فذراها" بذال معجمة- بثَّاها "في قلبي"، وفي حديث أبي ذر عند البزار، وغيره، وصحَّحه الضياء: "ثم دعا بسكينة، كأنها برهرهة بيضاء، فأدخلت قلبي"، قال السهيلي: البرهرهة بصيص البشرة، وزعم الخطابي أنه أراد بها سكينة بيضاء صافية، الحديد متمسكًا بأنه عثر على رواية فيها: "فدعا بسكينة كأنها درهمة بيضاء"، قال ابن الأنباري: هي السكينة المعوجّة الرأس التي تسميها العامّة المنجل -بالجيم, قال ابن دحية. والصواب: السكينة بالتخفيف؛ لذكرها بعد شق البطن، فإنما عني بها فعيلة، من السكون والطمأنينة، وهي أكثر ما تأتي في القرآن، "ثم قال أحدهما لصاحبه: حصه" بحاء مهملة مضمومة، بعدها صاد مهملة- أي: خطه, "فحاصه"، أي: خاطه, يقال: حاص الثوب يحوصه حوصًا إذا خاطه، وهذا لفظ رواية عتبة بن عبد، وفي رواية أبي ذر: "خطه فخاطه" بالخاء المعجمة- نقل فيهما، فما في نسخ هنا، بالخاء المعجمة، نقل بالمعنى، "وختم عليه بخاتم النبوة"، وتقدَّم الكلام فيه مستوفي بالمقصد الأول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 وفي رواية البيهقي: "إن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد, فشرح أحدهما صدري، ومجّ الآخر بمنقاره فيه". وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله، ما أوّل ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: "إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج, إذا أنا برجلين فوق رأسي, يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذاني فألصقاني لحلاوة القفا, ثم شقَّا بطني، وكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب, والآخر يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فإذا صدري -فيما أرى- مفلوقًا لا أجد له وجعًا، ثم قال: اشقق قلبه, فشقَّ قلبي، فقال: أخرج الغل والحسد، فأخرج شبه العلقة, فنبذ به, ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة قلبه، فأدخل شيئًا كهيئة الفضة، ثم أخرج   "وفي رواية البيهقي"، عن يحيى بن جعدة مرسلًا يرفعه "إن ملكين" هما: جبريل وميكائيل, "جاءاني في صورة كركيين"، وسبق في حديث عتبة: كأنهما نسران، وهو أصحّ, "معهما ثلج وبرد " بفتحتين، "وماء بارد، فشرح أحدهما" , لفظ رواية البيهقي: فشق أحدهما بمنقاره "صدري، ومجَّ الآخر بمنقاره فيه"، فغسله، فإن صحت هذه الرواية، أفادت آلة الشق في هذه المرة، لكن قال السهيلي: هي رواية غريبة ذكرها يونس عن ابن إسحاق، "وعن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله, ما أوّل ما ابتدئت به من أمر النبوة؟ قال: "إني لي صحراء أمشي" حال كوني، "ابن" فهو بالنصب, وبالرفع خبر مبتدأ، أي: وأنا ابن "عشر حجج"، أي: سنين, "إذا أنا برجلين" أي: ملكين في صفة رجلين، وهما: جبريل وميكائيل, "فوق رأسي، يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأخذاني، فألصقاني"، بالهمز، وفي نسخة: لصقاني بدونه، لكنه إنما يتعدَّى بالهمزة، قال المصباح: لصق الشيء من باب تعب، مثل لزق, يتعدَّى بالهمز فيقال: ألصقته، وفي نسخة: فألقياني "لحلاوة القفا" مثلث الحاء، وهو وسطه، "ثم شقَّا بطني، وكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب، والآخر يغسل جوفي، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره"، بكسر الهمزة واللام، من باب ضرب، "فإذا صدري فيما أرى" نظر، "مفلوقًا لا أجد له وجعًا". زاد في رواية: ولا دمًا، "ثم قال: اشقق قلبه، فشقَّ قلبي، فقال: أخرج الغلَّ" بالكسر، الحقد "والحسد" منه، "فأخرج شبه العلقة، فنبذ به، ثم قال: أدخل الرأفة"، أرق الرحمة، قاله الهروي وغيره، "والرحمة" رقة القلب، وعطفه "قلبه، فأدخل شيئًا كهيئة الفضة، ثم أخرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 ذرورًا كان معه فذر عليه، ثم نقر إبهامي، ثم قال: اغد, فرجعت بما لم أغد به من رحمتي للصغير ورأفتي على الكبير". رواه عبد الله الإمام أحمد في زوائد المسند, وأبو نعيم وقال: تفرَّد به معاذ عن أبيه، وتفرَّد بذكر السن. وعند أبي نعيم في حديث يونس بن ميسرة: "فاستخرج حشوة جوفي فغسلها ثم ذرَّ عليه ذرورًا, ثم قال: قلب وكيع يعي ما وقع فيه، عينان تبصران, وأذنان تسمعان, وأنت محمد رسول الله المقفَّى الحاشر   ذرورًا" بمعجمة- نوع من الطيب، "كان معه، فذَرَّ عليه، ثم نقر إبهامي، ثم قال: اغد"، وأسلم، كما في الرواية، "فرجعت لما لم أغد به من رحمتي للصغير، ورأفتي على الكبير"، والحكمة في هذا الشق أن العشر قريب من سن التكليف، فشق قلبه وقدّس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، لكن هل كان في هذه المرة بختم لم أقف عليه في شيء من الأحاديث، وأمَّا المرات الثلاث، ففي كل مرة منها بختم، كما هو مقتضى الأحاديث، قاله الشامي: "رواه عبد الله، الإمام أحمد في زوائد المسند" لأبيه، أي: الأحاديث التي رواها من غير أبيه في مسنده، "وأبو نعيم، وقال: تفرَّد به معاذ" بن هشام الدستوائي، البصري، صدوق، مات سنة مائتين "عن أبيه" هشام بن أبي عبد الله الدستوائي -بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح الفوقية، والمد- ثبت من رجال الجميع، مات سنة أربع وخمسين ومائة، "وتفرَّد بذكر السن"، أي: قوله: "ابن عشر حجج"، ولكن تفرَّده لا يضر؛ لأنه ثقة كبقية رجاله، وقد صحَّحه ابن حبان والحاكم، والضياء في المختارة، فإن ورد كيف يجعل -صلى الله عليه وسلم- النبوة ما وقع له في هذا السن، وإنما كانت بعد الأربعين، أجيب باحتمال أنَّه لما رأى هذه الحالة العجيبة في صغره، علم أنه يكون له شأن، واطمأنَّ بما يرد عليه، فلمَّا جاءه الوحي علم أن ذلك كان من الله، لا سبيل للشيطان فيه. "وعند أبي نعيم في حديث يونس بن ميسرة" بن حلبس -بمهملتين في طرفيه، وموحدة- وزن جعفر، وقد ينسب لجده, ثقة عابد معمر, من الثالثة، أي: الوسطى من التابعين، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، كما في التقريب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني ملك بطست من ذهب، فشقَّ بطني, فاستخرج حشوة" بضم الحاء وكسرها- أمعاء "جوفي، فغلسها، ثم ذَرَّ عليها ذرورًا، ثم قال: قلب وكيع" واعٍ، أي: متين محكم، ومنه قولهم: سقاء وكيع, إذا كان محكم الخرز، قاله في النهاية، "يعي ما وقع فيه"، متعلّق بوقع، و "عينان" مبتدأ حذف خبره، أي: له أو فيه، خبر مقدَّم مبتدؤه عينان "تبصران، وأذنان تسمعان"، والجملة صفة ثانية لقوله: قلب؛ كالسبب للأولى التي هي كونه يحفظ ما وقع فيه، "وأنت محمد رسول الله المقفَّى الحاشر"، تقدَّما في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 قلبك سليم, ولسانك صادق, ونفسك مطمئنة, وخلقك قيم, وأنت قثم". وهذا الشق روي أنه وقع له -عليه الصلاة والسلام- مرات في حال طفولته إرهاصًا. وتقديم المعجزة على زمان البعثة جائز للإرهاص، ومثل في حق الرسول -عليه الصلاة والسلام- كثير, وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك في حال طفولته؛ لأنه من العجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازي. والذي عليه أكثر أهل الأصول: اشتراط اقتران المعجزة بالدعوة, كما نبَّهت عليه في أوائل الكتاب، ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المقصد الرابع. وهو المراد بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ، وقد قيل: المراد   أسمائه الشريفة، "قلبك سليم، ولسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قيم، وأنت قثم" بضم القاف، وفتح المثلثة- ومنع الصرف للعلمية والعدل التقديري عن قاثم، ومَرَّ في الأسماء، "وهذا الشق روي أنه وقع له -عليه الصلاة والسلام- مرات" أربعًا، الأُولَى: في بني سعد بن بكر، وهو ابن أربع سنين عند حليمة، والثانية: وهو ابن عشر، والثالثة: عند البعثة، والرابعة: عند المعراج، وروي خامسة ولا تثبت، كما ذكره المصنف في المقصد الأول كغيره، فقوله: "في حال طفوليته" ظرف لمقدر، لا لمرات، أي: بعضها في حال طفوليته، وهو الأولى والثانية، "إرهاصًا" تقوية، وتأسيسًا للنبوة، "وتقديم المعجزة"، أي: الأمر الخارق للعادة. "على زمان البعثة جائز للإرهاص"، كذا أوّله شيخنا قائلًا: لما يأتي أن الراجح اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى، وفيه أنَّ هذا كلام الرازي، وهو ماشٍ على غير الراجح، فلا معنى لردِّه إليه، "ومثل هذا في حق الرسول -عليه الصلاة والسلام- كثير، وبه يجاب عن استشكال وقوع ذلك في حال طفوليته؛ لأنه من المعجزات، ولا يجوز أن تتقدم على النبوة، قاله الرازي": الإمام فخر الدين، "والذي عليه أكثر أهل الأصول, اشتراط اقتران المعجزة بالدعوى"، اعتراض على قوله من المعجزات، فالخوارق الواقعة قبل الرسالة إنما هي كرامات، والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها عليهم، وتسمَّى إرهاصًا، وبقي عليه كيف يجمع بين إرهاص ومعجزة، مع تغاير الموضوعين؛ لأن مذهبه تسمية الكل معجزة، وإن ما قبل النبوة يسمَّى إرهاصًا أيضًا، كما يسمَّى معجزة، "كما نبَّهت عليه في أوائل الكتاب" في قصة الفيل، "ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في المقصد الرابع، وهو"، أي: شق صدره الشريف، "المراد بقوله" تعالى: " {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} " [الإنشراح: 1] ، وقد قيل: المراد بالشرح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 بالشرح في الآية: ما يرجع إلى المعرفة والطاعة, ثم ذكروا في ذلك وجوهًا منها: أنه لما بعث الأحمر والأسود من جني وإنسي, أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفتح صدره حتى اتسع لجميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر, بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر, مشتغل بإداء ما كُلِّف. فإن قلت: لم قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ولم يقل: قلبك. وأجيب: بأنّ محل الوسوسة الصدر، كما قال تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح، لا جرم خصَّ ذلك الشرح بالصدر دون القلب. وقد قال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان، يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب, فإذا دخل مسلكًا أغار فيه, وأنزل جنده فيه, وبث فيه الهموم والغموم والحرص, فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة، ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو في الابتداء حصل الأمن   في الآية: ما يرجع إلى المعرفة والطاعة"، فكأنه قيل: ألم نفتح ونوسع ونليّن قلبك بالإيمان والنبوة والعلم، والحكمة، وبهذا جزم البغوي. "ثم ذكروا في ذلك وجوهًا منها: أنه لما بعث الأحمر والأسود"، كما في الحديث، فقيل: المراد العرب والعجم، وقيل: الإنس والجن، وعليه جرى في قوله: "من جنىّ وإنسي, أخرج تعالى عن قلبه جميع الهموم، وانفتح صدره حتى اتَّسع جميع المهمات، فلا يقلق ولا يضجر، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر، مشتغل بأداء ما كُلِّف، فإن قلت: لم قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، ولم يقل: قلبك" مع إن الشرح، أي: الشق وقع فيه، "أجيب بأن محلّ الوسوسة الصدر، كما قال تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح" الحقيقي، "لا جرم" حقًّا، "خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب، وقد قال محمد بن علي" الحكيم، "الترمذي"، الحافظ، الزاهد، الواعظ، صاحب التصانيف: "القلب محل العقل والمعرفة"، كما عليه جماهير العلماء والأئمة، خلافًا لمن قال: محله الرأس، كالفلاسفة وبعض الأئمة، "وهو الذي يقصده الشيطان، يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا دخل مسلكًا أغار فيه، وأنزل جنده فيه، وبثَّ فيه الهموم والغموم والحرص، فيضيق القلب حينئذ، ولا يجد للطاعة لذة" إذا أتى بها، "ولا للإسلام حلاوة"، كما يجد ذلك الصديقون المتمكنون، "وإذا طرد العدو في الابتداء حصل الأمن، وزال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسَّر له القيام بأداء العبودية. وههنا دقيقة: قال تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25] وقال لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أعطي بلا سؤال، ثم إنه تعالى نعته -عليه الصلاة والسلام- فقال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} فانظر إلى التفاوت، فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلًا للنور، والسراج المنير هو الذي يقتَبَس منه النور فالفرق بينهما واضح. قال الدقاق: كان موسى -عليه السلام- مريدًا؛ إذ قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مراد؛ إذ قال الله له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} والله أعلم. وأما جماعه -صلى الله عليه وسلم, فقد كان يدور   الضيق، وانشرح الصدر"، اتسع، "وتيسَّر له القيام بأداء العبودية"، ووجد لذَّة الطاعة وحلاوة الإيمان، "وههنا دقيقة" نكتة لطيفة من الدقة، خلاف الغلظ، قال تعالى حكاية عن موسى -عليه السلام: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ، وقال لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} أعطي بلا سؤال". قال الزمخشري: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار مبالغةً في إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، ولذا عطف عليه، ووضعنا اعتبارًا للمعنى، قال الطيبي: أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكر ذلك ثبت الشرح؛ لأن الهمز للإنكار، والإنكار نفي، والنفي إذا دخل على النفي عادا ثباتًا، ولا يجوز جعل الهمزة للتقرير. انتهى، أي: لأنَّ التقرير سؤال مجرد؛ إذ هو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر استقرَّ عنده ثبوته أو نفيه، فلا يحسن عطف: ووضعنا عليه، "ثم إنه تعالى نعته -عليه الصلاة والسلام- فقال: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] ، فانظر إلى التفاوت" بين مقامي موسى ومحمد -صلى الله وسلم عليهما، "فإن شرح الصدر هو أن يصير قابلًا للنور، والسراج المنير هو الذي يقتَبَس منه النور"، فهو أعلى، "فالفرق بينهما واضح". "قال الدقاق" أبو علي: "كان موسى -عليه السلام- مريدًا؛ إذ قال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} ، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- مرادًا؛ إذ قال الله له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، وفرق بين المراد والمريد، "والله أعلم، وأما جماعه -صلى الله عليه وسلم"، أي: قدرته عليه، فكانت إلى الغاية، ودليله قوله: "فقد كان يدور" فالجواب محذوف، والفاء للتعليل، أو إنه نفس الجواب، باعتبار ما دلَّ عليه من ثبوت غاية القوة له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار, وهن إحدى عشرة،   وقد ذكروا الوجهين في نحو قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] ، ويدور كناية عن الجماع، من دار على كذا وطاف به, إذا مشى حوله، وفي رواية: يطوف "على نسائه"، أي: يجامعهنّ في غسل واحد، كما أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح، وروى أبو داود والنسائي، عن أبي رافع، أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف ذات يوم على نسائه، يغتسل عند هذه، وعند هذه، فقلت: يا رسول الله, ألا تجعله غسلًا واحدًا؟ فقال: "هذا أزكى، وأطيب وأطهر"، وأجمعوا على أنَّ الغسل بينهما لا يجب، وفي استحباب الوضوء وعدمه ووجوبه أقوال, الجمهور على الاستحباب؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ بينهما وضوءًا" رواه مسلم. زاد ابن خزيمة: "فإنه أنشط للعود"، ففه أنَّ الأمر ندب، ويدل له أيضًا قول عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يجامع، ثم يعود، ولا يتوضأ. رواه الطحاوي، ثم اختلفوا هل المراد الوضوء اللغوي، وهو غسل الفرج؟، لأنَّ في رواية: "فليغسل فرجه"، أو الحقيقي لما عند ابن خزيمة: "فليتوأ وضوءًا للصلاة" , "في الساعة الواحدة" المراد بها: قدر من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة، قاله الحافظ، وتبعه العيني، وهو الظاهر: كما في ساعة الجمعة؛ لأن ذلك غير متعارف عندهم، ويحتمل أن يراد بها ما يتعارفه الناس، قاله بعض الشراح، وكأنَّه أراد بالناس العامَّة في تقليل الساعة، كقولهم: جاء وراح في ساعة، ومغايرته لما قبله, تقليلها عن قدر من الزمان "من الليل والنهار"، الواو بمعنى أو, جزم به الكرماني، ويحتمل أنها على بابها، بأن تكون تلك الساعة جزأ من آخر أحدهما، وجزأ من أول الآخر، قاله الحافظ، قال بعضهم: نعم, يحتمل ذلك، لكنَّه تكلف بعيد جدًّا، انتهى. "وهنَّ إحدى عشرة" كذا في رواية هشام الدستوائي عن قتادة، عن أنس، وفي رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس في البخاري أيضًا: تسع نسوة، وجمع ابن حبَّان، فحمل ذلك على حالتين، لكنه وَهِمَ في قوله: كانت الأولى أوّل قدومه المدينة؛ حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر؛ حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة، وموضع الوهم أنه لما قدم المدينة لم يكن تحته سوى سودة، ثم دخل على عائشة، ثم تزوّج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في الثالثة والرابعة، ثم زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، واختلف في أنّ ريحانة زوجة، أو أمة وماتت قبله سنة عشر عند الأكثر، وزينب بنت خزيمة مكثت عنده شهرين أو ثلاثة وماتت, قاله ابن عبد البر، فلم يجتمع عنده أكثر من تسع زوجات، مع أنَّ سودة كانت وهبت يومها لعائشة، فرجحت رواية سعيد، لكن تحمل رواية هشام على أنه ضمّ مارية وريحانة إليهنَّ، وأطلق عليهن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 قال الراوي: قلت لأنس: أوَكَان يطيقه؟ قال: كنَّا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين. رواه البخاري. وعند الإسماعيلي عن معاذ: قوَّة أربعين, زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة.   لفظ نسائه تغليبًا، وبه استدلَّ ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء؛ لإطلاقه على الجميع لفظ نسائه، وتعقّب بأنه تغليب، فلا حجَّة فيه للمدعي، واستدلَّ به ابن المغير على جواز وطء الحرة بعد الأمة، من غير غسل بينهما ولا غيره، والمنقول عن مالك أنَّه يتأكد الاستحباب في هذه الصورة، يمكن أن ذلك وقع لبيان الجواز، فلا يدل على عدم الاستحباب. واستدلَّ به البخاري في كتاب النكاح على استحباب الاستكثار من النساء، وأشار فيه إلى أنَّ القسم لم يكن واجبًا عليه، وهو قول طوائف من العلماء، وقال الأكثر بوجوبه، فاحتاجوا للجواب، بأنَّه كان برضا صاحبة النوبة، كما استأذنهنَّ أن يمرَّض في بيت عائشة، وباحتمال أنَّ ذلك كان يقع عند استيفاء القسمة، ثم يستأنفها، أو عند إقباله من سفر، أو قبل وجوب القسم عليه. وأغرب ابن العربي، قال: خص الله نبيه بأشياء منها: إنه أعطاه ساعة في كل يوم، لا يكون لأزواجه فيها حق، حتى يدخل على جميعهنّ، فيفعل ما يريد، ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب، ويحتاج إلى ثبوت ما ذكر مفصلًا، قاله في فتح الباري. "قال الراوي": لهذا الحديث، وهو قتادة بن دعامة الأكمة المفسر: "قلت لأنس، أوَكَان يطيقه" بفتح الواو، وهو مقول قتادة، والهمزة للاستفهام، قاله الحافظ, والواو عاطفة على مقدَّر، أي: أكان يفعل ذلك، ويطيق الدوران، "قال" أنس: "كنا" معشر الصحابة "نتحدث أنه" صلى الله عليه وسلم "أعطي"، بضم الهمزة وكسر الطاء، وفتح الياء "قوة ثلاثين" رجلًا، فمميز ثلاثين محذوف، ولعلَّ تحدثهم بذلك الخبر بلغهم عنه "رواه البخاري" في الغسل, حدَّثنا محمد بن بشار، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، قال: حدثنا أنس، قال: كان النبي يدور، فذكره "وعند الإسماعيلي" في مستخرجه، "عن معاذ" هشام الدستوائي، عن أبيه، عن قتادة عن أنس: "قوة أربعين" بدل ثلاثين. قال الحافظ: وهي شاذَّة من هذا الوجه، لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك، وزاد في الجماع، وفي صفة الجنة، لأبي نعيم من طريق مجاهد مثله، و"زاد أبو نعيم عن مجاهد: كل رجل من رجال أهل الجنة"، وعنده أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، رفعه: "أعطيت قوة أربعين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 وعن أنس مرفوعًا: "يعطي المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في الجماع"، قلت: يا رسول الله، أويطيق ذلك؟ قال: "يعطى قوَّة مائة". قال الترمذي: صحيح غريب, لا نعرفه من حديث قتادة إلّا من حديث عمران القطان. فإذا ضربنا أربعين في مائة بلغت أربعة آلاف، وبهذا يندفع ما استشكل من كونه -صلى الله عليه وسلم- أوتي قوة أربعين فقط, وسليمان -عليه السلام- قوة مائة رجل أو ألف على ما ورد. وذكر ابن العربي: إنه كان له -صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق في الوطء، وكان له في الأكل القناعة، ليجمع الله له الفضيلتين في الأمور الاعتبارية, كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية،   في البطش والجماع"، وعن أنس مرفوعًا: "يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في الجماع"، قلت: يا رسول الله، أويطيق ذلك؟ " استفهام تعجبي, استعظم ذلك عليهم، أو حقيقي بتقدير، بلا كلفة أم يتكلفه، "قال: "يعطى" كل واحد من أهل الجنة "قوة مائة" رجل من أهل الدنيا، وهو ظاهر في استوائهم في ذلك، وعند أحمد، والنسائي وصحَّحه الحاكم عن زيد بن أرقم، رفعه: "إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة". "قال الترمذي: صحيح غريب"، لا ينافي الصحة؛ لأن الغرابة من حيث تفرّد راويه، كما أفاده بقوله: "لا نعرفه من حديث قتادة" ابن دعامة بن قتادة اسدوسي البصري، ثقة ثبت, من رجال الجميع، يقال: ولد أكمه, مات سنة بضع عشرة ومائة، "إلا من حديث عمران القطان"، البصري، صدوق، يهم، روى له أصحاب السنن، ومات بين الستين والسبعين بعد المائة، "فإذا ضربنا أربعين في مائة بلغت أربعة آلاف، وبهذا يندفع ما استشكل من كونه -صلى الله عليه وسلم- أوتي قوة أربعين فقط، وسليمان -عليه السلام- قوة مائة رجل، أو ألف على ما ورد"، فإن مثال الإشكال حملهما على رجال الدنيا، وليس كذلك، بل ما ورد في سليمان محمول على رجال الجنة، كما ورد، وذلك بأربعة آلاف، فقد زاد على سليمان بكثير، فطاخ الإشكال. "وذكر ابن العربي، أنَّه كان له -صلى الله عليه وسلم- القوة الظاهرة على الخلق في الوطء، وكان له في الأكل القناعة"، فأكثر أكله بلغة؛ "ليجمع الله له الفضيلتين في الأمور الاعتبارية"، أي: التي تعتبرها العامة، ويعتنون بشأنها، وتعدّها صفة كمال، وليس المراد الاعتبار اللغوي وهو الاختيار والامتحان، والاتعاظ، والتذكر، والاعتداد بالشيء في ترتب الحكم عليه، وتطلق عند النحاة على خلاف الحقيقة، كالجنس، والفصل، والنوع، فلا معنى لشيء من ذلك هنا، وفي نسخة: الاعتيادية -بتحتية ودال مهملة، أي: المعتادة، "كما جمع له الفضيلتين في الأمور الشرعية"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 حتى يكون حاله كاملًا في الدارين. انتهى. وطاف -عليه الصلاة والسلام- على نسائه التسع ليلة. رواه ابن سعد. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني جبريل بقدر فأكلت منها, فأعطيت قوة أربعين رجلًا في الجماع" رواه ابن سعد. حدثنا عبيد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن صفوان بن سليم مرسلًا, وروي من حديث أبي هريرة: شكا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل قلة الجماع فتبسَّم   وهما ما شارك أمته فيه، وما خُصَّ به من الأحكام، وكل ما يقربه إلى الله، مما لم يطلع عليه أحد من الخلق، "حتى يكون حاله كاملًا في الدارين، انتهى". كلام ابن العربي: "وطاف -عليه الصلاة والسلام- على نسائه التسع ليلة"، وفي نسخة: في ليلة، "رواه ابن سعد"، وهي من جملة ما شمله حديث أنس، "وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتاني جبريل بقدر" بكسر فسكون- إناء يطبخ فيه، وهي مؤنَّثة، وتصغيرها قدير بلا هاء، على غير قياس، قاله الجوهري. "فأكلت منها" بإذن؛ إذ وضع الطعام إذن، وظاهره أنه من الجنة، ولا مانع أن طعامها يخرج إلى الدنيا، لكنَّه يسلب الخصوصية في حق غير نبينا، "فأعطيت قوة" أي: قدرة "أربعين" , فهي صفة الاقتدار على الشيء، وهي من أعلى صفات الكمال، قال تعالى في جبريل: {ذِي قُوَّةٍ} "رجلًا"، تمييز أربعين، وفي رواية: حذفه، أي: من رجال الجنة، كما مَرًَّ, "في الجماع" قيد به؛ ليدل على أولوية القوة في غيره؛ إذ هو محل العجز غالبًا، وخصوصًا عند الكبر، ولم يتعرّض في هذا الحديث لجنس المأكول الذي في القدر، وهو هريسة إن سلم الآتي من الوضع، وإلا، فلا يعلم ما في القدر، "رواه ابن سعد" في طبقاته، فقال: "حدثنا عبيد الله" بضم العين، "ابن موسى"، بن باذام العبسي -بموحدة- أبو محمد، ثقة، كان يتشيع، روى له الستة, "عن أسامة بن زيد" الليثي، مولاهم، المدني، صدوق, يهم, روي له مسلم والأربعة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو ابن بضع وسبعين سنة، "عن صفوان بن سليم" بضم السين، المدني، أبي عبد الله الزهري، مولاهم التابعي الصغير، ثقة، مفت عابد، رمي بالقدر روى له الأئمة الستة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وله اثنتان وسبعون سنة، قيل: لم يضع جنبه الأرض أربعين سنة حتى نقبت جبهته من السجود، "مرسلًا"، ووصله أبو نعيم، والديلمي، عن صفوان، هذا, عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رفعه، لكن فيه سفيان بن وكيع، قال أبو زرعة الرازي: كان يُتَّهم بالكذب، وأورده ابن الجوزي في الموضوع، ونوزع بأن له شواهد، فلهذا اقتصر المصنف على رواية إرساله لصحة سنده. "وروي من حديث أبي هريرة، شكا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل قلة الجماع، فتبسَّم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 جبريل حتى تلألأ مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بريق ثنايا جبريل, فقال له: أين أنت من أكل الهريسة, فإن فيه قوة أربعين رجلًا. ومن حديث حذيفة بلفظ: "أطعمني جبريل الهريسة أَشُدُّ بها ظهري وأتقوَّى بها على الصلاة". رواه الدارقطني. وروي من حديث جابر بن سمرة وابن عباس وغيرهم. وكلها أحاديث واهية. بل صرَّح الحافظ بن ناصر الدين في جزء له سماه: رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة, بأنه موضوع. وروي أنه -عليه الصلاة والسلام- أعطي قوة بضع وأربعين رجلًا من أهل الجنة،   جبريل حتى تلألأ"، أي: امتلأ بالنور "مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، من بريق"، أي: لمعان "ثنايا جبريل، فقال له: أين أنت من أكل الهريسة، فإن فيه"، أي: الأكل بمعنى المأكول، والهريسة بدل منه، وفي نسخة: فإن فيها، أي: الهريسة "قوة أربعين رجلًا"، وأخذ من هذا وما أشبهه أنه يستحب للرجل تناول ما يقوي شهوته لاستكثار الوقاع، كالأدوية المقوية للمعدة لتعظم شهوتها للطعام، وكالأدوية المثيرة للشهوة، وردَّه الغزالي؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما فعله؛ لأنه كان عنده من النساء عدد كثير، ويحرم على غيره نكاحهنّ إن طلقهنّ، أو مات عنهنّ، فكان طلبه القوة لهذا المعنى، لا للتنعم والتلذذ، مع أنه لا يشغل قلبه عن ربه شيء، فلا تقاس الملائكة بالحدادين، قال: وما مثال من يفعل ما يعظم شهوته إلا كمن بلي بسباع ضارية، وبهائم عادية، فتنام عنه أحيانًا، فيحتال لإثارتها، وتهييجها، ثم يشتعل بعلاجها وإصلاحها، فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يراد التخلص منها أ. هـ. "ومن حديث حذيفة بلفظ: "أطعمني جبريل الهريسة"، وهي ما يجعل من قمح ولحم يطبخان معًا، "أشد بها ظهري"، زاد الطبراني: لقيام الليل, ""وأتقوَّى بها على الصلاة"، رواه الدارقطني"، والطبراني، وفيه محمد بن الحجاج اللخمي، هو الذي وضع هذا الحديث، ذكره المصنف في الفصل الثالث من ذا المقصد، "وروي من حديث جابر بن سمرة، وابن عباس، وغيرهم" بالجمع، على أن أقلَّه اثنان، أو بالنظر لعوده للمذكورين قبل ذين، أعني: أبا هريرة وحذيفة، "وكلها أحاديث واهية"، ولذا أوردها ابن الجوزي في الموضوعات، "بل صرَّح الحافظ بن ناصر الدين في جزء له سماه: رفع الدسيسة بوضع حديث الهريسة، بأنه موضوع"، متعلق بصرَّح، "وروي أنه -عليه الصلاة والسلام- أعطي قوة بضع وأربعين رجلًا من أهل الجنة"، وعليه، فتزيد قوّته على أربعة آلاف ولم يبيِّن قدر الزائد؛ إذ البضع من ثلاثة لعشرة، وفيه تقوية لمذهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 رواه الحارث بن أبي أسامة. وقد حفظه الله تعالى من الاحتلام, ذكر هنا للمناسبة من حيث أنَّ الجماع كما يكون يقظة يكون في النوم، فعن ابن عباس قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام من الشيطان، رواه الطبراني. وأمَّا قدمه الشريف -صلى الله عليه وسلم, فقد وصفه غير واحد بأنَّه كان شثن القدمين، أي: غليظ أصابعهما. رواه الترمذي وغيره. وعن ميمونة بنت كردم قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة على سائر أصابعه، رواه أحمد والطبراني. وعن جابر بن سمرة قال: كانت خنصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رجله   بعض مشايخ اللغة، في استعمال البضع فيما زاد على عشرين. "رواه الحارث بن أبي أسامة" في مسنده، "وقد حفظه الله تعالى من الاحتلام، ذكر هنا للمناسبة من حيث أن الجماع كما يكون يقظة يكون في النوم"، لكن جماع الأنبياء إنما هو يقظة، "فعن ابن عباس قال: ما احتلم نبيّ قط"؛ لأنه من تلاعب الشيطان، ولا سلطان له عليهم، ولذا قال: "وإنما الاحتلام من الشيطان, رواه الطبراني" موقوفًا، وحكمه الرفع، "وأما قدمه الشريف -صلى الله عليه وسلم"، أي: صفته، "فقد وصفه غير واحد، "كعلي، وهند، وأنس، وضمير، وصفه للنبي لقوله: "بأنه كان شثن" بفتح المعجمة، وإسكان المثلثة، ونون "القدمين، أي: غليظ أصابعهما" مع غاية النعومة، "رواه الترمذي، وغيره". ولا يرجع ضميره للقدم؛ إذ يصير المعنى: وصفوا القدم بأنه كان شثن القدمين، وهذا باطل، وفي رواية: ضخم القدمين، وأخرى: منهوس العقب، وتقدما في كلام المصنّف، وقدمنا أنه يروى منهوس بالإهمال والإعجام، "وعن ميمونة بنت كردم" بفتح الكاف، وسكون الراء، وفتح الدال، المهملة- بزنة جعفر الثقفية، صحابية صغيرة، لها حديث, ابنة صحابيّ, حديثها عند أهل الطائف، لا عند أهل البصرة كما ادَّعى ابن عبد البر, نبه عليه في الإصاب، إلّا أن يجاب بأن مراده يزيد بن هارون، راويه عن أهل الطائف؛ لأنه بصري واسطي، كما يأتي، وأصحاب الحديث يقولون: لم يرَ، وهذا غير أهل البصرة، ويريدون واحدًا من أهلها، كما في الألفية، "قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فما نسيت طول أصبع قدميه السبابة"، بدل من أصبع، أي: ما نسيت طول كل أصبع من أصبعي قدميه السبابتين "على سائر"، أي: باقي "أصابعه، رواه أحمد والطبراني" في حديث طويل، "وعن جابر بن سمرة، قال: كانت خنصر" بالكسر "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رجله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 متظاهرة، رواه البيهقي. وقد اشتُهِرَ على الألسنة أنَّ سبابة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت أطول من الوسطى. قال الحافظ بن حجر: وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه. انتهى. وقال شيخنا -في المقاصد الحسنة: وسلف جمهورهم الكمال الدميري. وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة. وعبارته: "كذا رواه ابن هارون عن عبد الله بن مقسم, عن سارة ابنة مقسم, أنها سمعت ميمونة ابنة كردم, تخبر أنها رأت أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك" فضمَّ ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كَوْن الوسطى من كل أطول من   متظاهرة"، أي: زائدة في الطول على الظاهر، ويحتمل في الغلظ، على ما يليها من الأصابع، فتكون مرتفعة عنها بارزة، "رواه البيهقي". وفي سنده سلمة بن حفص السعدي، قال ابن حبان: كان يضع الحديث، لا يحلّ الاحتجاج به ولا الرواية عنه، وحديثه هذا باطل لا أصل له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان معتدل الخلق، "وقد اشتهر على الألسنة أن سبابة النبي"، أي: سبابة اليد منه "صلى الله عليه وسلم، كانت أطول من الوسطى"، وذكره القرطبي وغيره، "قال الحافظ بن حجر" لما سُئِلَ عنه: "وهو غلط ممن قاله، وإنما ذلك في أصابع رجليه أ. هـ". فإطلاق السبابة على الأصبع التي تلي إبهام الرجل مجاز، علاقته المجاورة لإبهام الرجل؛ لأنها لغة الإصبع التالية لإبهام اليد؛ لأنه يشار بها عند السب، "وقال شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة": حديث سبابة النبي -صلى الله عليه وسلم، وأنها كانت أطول من الوسطى، اشتُهِرَ هذا على الألسنة كثيرًا، "وسلف جمهورهم"، أي: القائلين بطول سبابة يده "الكمال الدميري، وهو خطأ نشأ عن اعتماد رواية مطلقة وعبارته" أي: الدميري. "كذا رواه" يزيد "بن هارون" السلمي، مولاهم البصري الواسطي، ثقة متقن عابد، روى له الستة، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين, "عن عبد الله" بن يزيد "بن مقسم"، فنُسِبَ إلى جده -بكسر الميم وسكون القاف، وفتح المهملة- ابن ضبة الثقفي، مولاهم البصري, أصله من الطائف، صدوق ثقة. روى له أبو داود حديثًا واحدًا، قال في الإصابة: ومنهم من أسقط عبد الله، وقال عن يزيد بن مقسم، "عن" عمته "سارة ابنة مقسم" الثقفية، لا تعرف, من الرابعة، كما في التقريب "إنها سمعت ميمونة ابنة كردم، تخبر أنها رأت أصابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك"، أي: السبابة أطول من الوسطى، "فضمَّ ما وقع فيها من إطلاق الأصابع إلى كون الوسطى من كلٍّ أطول من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 السبابة، وعين اليد منه -صلى الله عليه وسلم- لذلك بناءً على أن القصد ذكر وصفٍ اختُصَّ به -صلى الله عليه وسلم- عن غيره. ولكن الحديث في مسند الإمام أحمد من حديث يزيد بن هارون المذكور مقيّد بالرجل، ولفظه -كما قدمته: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه. وهو عند البيهقي أيضًا في الدلائل من طريق يزيد ولفظها: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكَّة وهو على ناقته وأنا مع أبي، فدنا منه أبي, فأخذ بقدمه فأقَرَّ له رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه.   السبابة، وعين اليد منه -صلى الله عليه وسلم- لذلك"، فأنتج له كونه أطول من الوسطى على فهمه، "بناءً على أنَّ القصد ذكر وصف اختص به -صلى الله عليه وسلم- عن غيره"، مع أنَّه ليس بمراد، إنما المراد صفة أصابعه مطلقًا، قال شيخنا: وعلى هذا، فما حكمة تخصيصها طول سبابة رجله بالذكر؟ فإن كان المراد مساواتها لغيرها من الأصابع، فلا فائدة في ذكرها، وإن كان المراد أنها تزيد طولًا على سبابة غيره، كان ذكر طولها من الوصف المختَصِّ به -صلى الله عليه وسلم، "ولكن الحديث في مسند الإمام أحمد، من حديث يزيد بن هارون المذكور" بسنده "مقيّد بالرِّجْلِ، ولفظه كما قدمته قريبًا: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه"، فيحمل المطلق على المقيد. "وهو عند البيهقي أيضًا في الدلائل النبوية، من طريق يزيد" ابن هارون المذكور سنده عند ميمونة، "ولفظها: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة" في حجة الوداع "وهو على اقته، وأنا مع أبي"، وبيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- درة كدرة الكتاب، "فدنا منه أبي، فأخذ بقدمه فأقرّ"، أي أثبت "له" قدمه "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في مكانها حتى يتمكَّن من رؤيتها، "قالت: فما نسيت طول أصبع قدمه السبابة على سائر أصابعه", إلى هنا ما نقله من المقاصد، وقال عَقِبَه: ولا يمنع ذكرها لذلك مشاركة غيره من الناس له -صلى الله عليه وسلم- في ذلك؛ إذ لا مانع أن يقال: رأيت فلانًا أبيض أو أسمر، مع العلم بمشاركة غيره له، ويجوز أن يكون التفاوت بكونه زائد الظهور؛ إذ الناس فيه متفاوتون، وكذا لا يمنع منه كون السبابة في اليد خاصة؛ لأن تسميتها فيها حقيقة، وفي القدم لاشتراكها معها في التوسُّط بين الإبهام والوسطى أ. هـ. هذا وقد اشتُهِرَ في المدائح قديمًا وحديثًا، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه وأثَّرت، وأنكره السيوطي وقال: لم أقف له على أصل ولا سند، ولا رأيت مَنْ خَرَّجه في شيء من كتب الحديث، وكذا أنكره غيره، لكن المصنّف ذكر في الخصائص، في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 وعن أبي هريرة أنَّه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها ليس له أخمص. رواه البيهقي. وعن أبي أمامة الباهلي قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أخمص له, يطأ على قدمه كلها. رواه ابن عساكر. وقال ابن أبي هالة: خمصان الأخمصين، مسيح القدمين.   بعض نسخه تقويته بما حاصله، أنَّه ما خص نبي بمعجزة أو كرامة، إلّا ولنبينا مثلها، وأثر قدمي إبراهيم بالمقام، بمكة متواتر، وفيه يقول أبو طالب: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير فاعل وفي البخاري، حديث تأثير ضرب موسى في الحجر ستًّا أو سبعًا؛ إذ فَرَّ بثوبه حين اغتسل أ. هـ، إلّا أن مثل هذا لا يدفع إنكار وروده، والمثلية التي لنبينا إمَّا من جنسها، أو بغيرها أعلى، أو مساوٍ، كما نصوا عليه، "وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم: كان إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس له أخمص"، بزنة أحمر، أي: انخفاض باطن قدم, بل كانت قدمه مستوية، فالأخمص من باطن القدم ما لم يصب الأرض عند المشي، كما يأتي "رواه البيهقي" والبزار، وعبد الرزاق، "وعن أبي أمامة الباهلي قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا أخمص له"، ولذلك "يطأ على قدمه كلها، رواه ابن عساكر، وقال ابن أبي هالة: خمصان" بضم الخاء المعجمة وفتحها وسكون الميم- كما قاله الصغاني وغيره، لا بفتح الميم، كما يوهمه القاموس، والاقتصار على ضمِّ الخاء قصور "الأخمصين" تثنية أخمص، سمي به لضموره، وخوله في الرجل، قال الزمخشري: يريد أنهما مرتفعان عن الأرض، ليس بالأرح الذي يمسها أخمصاه أ. هـ. وهذا كما قال البرهان الحلبي في شرح الشفاء: مناف لقوله: "مسيح" بفتح الميم، وكسر المهملة، وإسكان التحتية، ومهملة, "القدمين"، أي: أمسلهما، ولذا قال: ينبو عنهما الماء، ومنابذ لقول أبي هريرة، وأبي أمامة: لا أخمص له، ويمكن الجمع باحتمال أنه في أوّل أمره كان له أخمص، لما لم يكن جسده ممتلئًا باللحم، ثم لما امتلأ باللحم استوت قدمه، فلمّ يضر بها خمص، وقد يؤيد ذلك أن الإثبات رواية ابن أبي هالة, وهو ربيبه وتربيته، فقد يكون إخباره عن أوّل أمره، والنفي رواية أبي هريرة، وهو متأخِّر؛ لأنه إنما جاء سنة سبع من الهجرة، عام خيبر، وكذا أبو أمامة، من الأنصار, أسلم بالمدينة؛ وكان المصطفى قد أسنّ، فهو إخبار عن آخر أمره، وقد جمع أيضًا بأن مرادًا لنا في سلب نفي الاعتدال فيمن أثبته، أراد أن في قدميه خمصًا يسيرًا، ومن نفاه نفى شدته، وهذا قد يؤيده جمع هند بين أخمص، ومسيح، فأتى به عقبه؛ ليبيِّنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 قال ابن الأثير: الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء. والخمصان: البالغ منه، أي: إن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض. وسُئِلَ ابن الأعرابي عنه فقال: إذا كان خمص الأخمص بقدر لم يرتفع جدًّا، ولم يستو أسفل القدم جدًّا, فهو أحسن ما يكون، وإذا استوى أو ارتفع جدًّا فهو ذم، فيكون المعنى: إن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأوّل. ووقع في حديث أبي هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلِّها ليس له أخمص. وقوله: مسيح القدمين, أي: ملساوان لينتان ليس فيهما تكسُّر ولا شقاق،   أنَّ الخمصة فيه قليلة جدًّا. "قال ابن الأثير: الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء"، أي: المشيء، يقال منه: خمص القدم خمصًا، من باب تعب، فالرجل أخمص، والمرأة خمصاء، والجمع خمص؛ مثل أحمر وحمراء وحمر؛ لأنه صفة، "والخمصان البالغ منه، أي: إن ذلك الموضع من أسفل قدميه شديد التجافي عن الأرض" فجعله كليل أليل، واعترض بأن ذلك لا يناسب قوله بعده: مسيح القدمين، فالأحسن أنه لم يرد المبالغة في ارتفاعه، بل أتى به لبيان أنه مرتفع فقط، وهذا معنى قوله: "وسئل ابن الأعرابي"، الإمام، الحافظ، الزاهد، أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري، صاحب التصانيف: سمع أبا داود وخلقًا, عمل لهم معجمًا، وعنه ابن منده وغيره، وكان ثقة ثبتًا عارفًا ربانيًّا، مات سنة أربع وثلاثمائة, "عنه"، أي: عن معناه، "فقال: إذا كان خمص" بكسر الميم "الأخمص"، أي: مرتفعة "بقدر لم يرتفع جدًّا، ولم يستو أسفل القدم جدًّا، فهو أحسن ما يكون" لاعتداله، "وإذا استوى" جدًّا، "أو ارتفع جدًّا، فهو ذم، فيكون المعنى: إن أخمصه معتدل الخمص بخلاف الأوّل"، فلا يكون معتدلًا، فلا يحمل عليه الحديث، لما ورد في صفته -صلى الله عليه وسلم- أنه معتدل الخلق، "ووقع في حديث أبي هريرة: إذا وطئ" مشى بقدمه "وطئ بكلها"، ليس له أخمص"، وذلك منافٍ لحديث هند, إلا أن يحمل على نفي الاعتدال فيجتمعان، أو على وقتين كما مَرَّ. "وقوله: مسيح القدمين، أي" هما "ملساوان ليِّنَتَان، ليس فيهما تكسُّر"، أي: انخفاض لبعض الأجزاء وارتفاع لبعضها, مأخوذ من قولهم -كما في الصحاح: أرض ذات كسور، أي: صعود وهبوط، "ولا شقاق" بضم المعجمة- كغراب، وهو لغة: داء يصيب أرساغ الدواب، وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 فإذا أصابهما الماء نبا عنهما كما قاله ابن أبي هالة: ينبو عنهما الماء، وهو معنى حديث أبي هريرة. وعن عبد الله بن بريدة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن البشر قدمًا. رواه ابن سعد. وأما طوله -صلى الله عليه وسلم, فقال علي: كان -صلى الله عليه وسلم- لا قصير ولا طويل، وهو إلى الطول أقرب. رواه البيهقي. وعنه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بالذاهب طولًا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم. رواه عبد الله بن الإمام أحمد. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربعة   بين الحافر وطرف الساق، فأطلق مجازًا على تشقق القدم، "فإذا أصابهما الماء نبا عنهما" انحدر سريعًا، ولا يقف لملاستهما، "كما قاله ابن أبي هالة" عقب مسيح القدمين: "ينبو عنهما الماء"، أي: يرتفع، والمراد به: مفارقة الماء وانصبابه مجازًا، "وهو معنى حديث أبي هريرة" المذكور؛ لأن المراد من وطئه بكلِّها استواء أجزائها بلا ارتفاع ولا انخفاض، "وعن عبد الله بن بريدة" بن الحصيب الأسلمي المروزي، قاضيها، تابعي ثقة، روى له الستة، مات سنة خمس عشرة ومائة، وله مائة سنة، "كان -صلى الله عليه وسلم- أحسن البشر قدمًا. رواه ابن سعد" في طبقاته، وهو يؤيد تفسير ابن الأعرابي، الأخمص بالمعتدل، والله أعلم. "وأما طوله -صلى الله عليه وسلم، فقال علي" في بيانه، فهو الجواب؛ لأنه دالٌّ على نفس المراد، فلا حاجة هنا لجعله محذوفًا، أي: فكان معتدلًا؛ لقول علي: "كان -صلى الله عليه وسلم- لا" هو "قصير، ولا" هو "طويل"، فهو خبر مبتدأ محذوف، كقوله تعالى: {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} [البقرة: 68] ، "وهو إلى الطول أقرب" نفي به تُوهِّم أنه بينهما على السواء، أو إلى القصر أقرب، "رواه البيهقي"، ورواه الترمذي في الشمائل عن علي بلفظ: لم يكن بالطويل ولا بالقصير. وهو عنده أيضًا عن أنس، "وعنه"، أي علي: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس بالذاهب"، أي: المفرط "طولًا، وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم" بفتح المعجمة، والميم- أي: زاد عليهم في الطول، فكان فوق كل من معه من غمر الماء، إذا علا، وهل بأحداث الله له طولًا حقيقة حينئذ، ولا مانع منه، أو أن ذلك يرى في أعين الناظرين فقط، وجسده باقٍ على أصل خلقته، على حَدِّ قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] ، وهذا هو الظاهر، فهو مثل تطور الولي، وذلك كي لا يتطاول عليه أحد صورة، كما لا يتطاول معنًى، فمثل ارتفاعه المعنوي في عين الناظر، فرآه رفعة حسية، وهذا من معجزاته، "رواه عبد الله بن الإمام أحمد" بن حنبل الحافظ، ابن الحافظ. "وعن أبي هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربعة" بفتح فسكون وقد تحرَّك, والجمع ربعات، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 وهو إلى الطول أقرب. رواه البزار. وقوله: ربعة, أي: مربوعًا، والتأنيث باعتبار النفس. وقد فسِّر في الحديث الآتي بأنه ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، والمراد بالطويل البائن: المفرط في الطويل مع اضطراب القامة. وقال ابن أبي هالة: أطول من المربوع وأقصر من المشذوب -وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيتهما مشددة- أي: البائن الطول في نحافة، وهو مثل قوله في الحديث الآخر:   بالسكون، وتحريكه شاذ، كما في القاموس؛ لأن فعلة إذا كان صفة لا يُحَرَّك في الجمع، وإنما يُحَرَّك إذا كان اسمًا، ولم يكن موضع العين واوًا وياءً؛ كجوزة وبيضة، فيقال في الجمع: جوازات وبيضات، وربما سُمِعَ التحريك هنا، وهو لغة هذيل، "وهو إلى الطول أقرب. رواه البزار"، وكذا وصفه أنس وعلي؛ بأنه كان ربعة، رواه الترمذي وغيره، "وقوله: ربعة, أي: مربوعة"، كما عَبَّر به البراء بن عازب فقال: كان رجلًا مربوعًا. رواه الترمذي، والبخاري، ومسلم، والأحاديث يفسِّر بعضها بعضًا، فالمربوع يرادف الربعة، كالربع على مفاد القاموس وغيره، فليس مراد المصنّف أنه في الأصل بمعنى المصدر، ثم استعمل بمعنى المفعول، بل مجرَّد الإيضاح، "والتأنيث باعتبار النفس"، يقال: رجل ربعة وامرأة ربعة, كما في الفتح، أي: وإلا فالأصل تجرده من الهاء، قال بعض: ويمكن جعل التاء مما بنيت عليه الكلمة، فلا حاجة إلى تقدير نفس أو نسمة؛ إذ ليست للتأنيث، "وقد فسِّر في الحديث الآتي" قريبًا عن عائشة، "بأنه ليس بالطويل البائن" بالهمز- اسم فاعل من بان، فهو بائن, بقلب الياء همزة، لوقوعها بعد ألف زائدة، ولذا قال شرَّاح الشمائل وغيرهم: جعله بالياء، وهو لوجوب اعتلال اسم فاعل اعتلَّ فعله، "ولا بالقصير"، أي: البائن، كما في رواية، "والمراد بالطويل البائن: المفرط في الطول مع اضطراب القامة"، أي: مع رخاوة لها. "وقال ابن أبي هالة: أطول من المربوع" عند إمعان النظر وتحقيق التأمّل، فهذا بحسب الواقع، والمراد بكونه ربعة فيما مَرَّ, كونه كذلك في مبادئ النظر، فهو بحسب الظاهر، ولا ريب أنَّ القرب من الطول في القامة أحسن وألطف، "وأقصر من المشذب -وهو بمعجمتين مفتوحتين ثانيتهما مشددة"، اسم مفعول، ثم موحَّدة، "أي: البائن الطول في نحافة"، كذا في النهاية وفي القاموس: المشذّب كمعظّم: الطويل الحسن الخلق، كالشوذب، وهذا أبلغ من قوله: لم يكن بالطويل البائن؛ لأنه ينفي الطول، ويفيد حسن الخلق، وقراءة المشذب -اسم فاعل- لا تساعده اللغة، "وهو مثل قوله" أي: علي بن أبي طالب "في الحديث الآخر" عند الترمذي، قال: كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 لم يكن بالطويل الممغط -وهو بتشديد الميم الثانية- المتناهي في الطول. وأمغط النهار إذا امتدَّ، ومغطت الحبل إذا مددته، وأصله: منمغط, والنون للمطاوعة, فقلبت ميمًا وأدغمت في الميم، ويقال: بالعين المهملة بمعناه. وعن عائشة قالت: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلّا طاله -صلى الله عليه وسلم, ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسب   علي إذا وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لم يكن بالطويل الممغط" ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم، "وهو بتشديد الميم الثانية" وكسر الغين المعجمة وطاء مهملة- اسم فاعل "المتناهي في الطول، وأمغط النهار إذا امتدَّ، ومغطت الحبل إذا مددته"، وكل ما يمتد بالمد يطول ويرق، فالمراد نفي الطول البائن وقلة اللحم، "وأصله: منمغط" بنون ساكنة فميم مفتوحة، "والنون للمطاوعة فقلبت ميمًا وأدغمت في الميم"، فصار الموجود لفظًا ميمًا مشددًا، وهذا لفظ النهاية، لكن يرد عليه أن النون الساكنة إذا اجتمعت مع ميم في كلمة لا يجوز إدغامها، كقولهم: ناقة زنماء -بالزاي بلا إدغام، أي: قطع بعض أذنها وتُرِكَ معلقًا، إشارة إلى أنها كريمة، "ويقال بالعين المهملة، بمعناه"، وعليهما: هو اسم فاعل من انمغط، وفي جامع الأصول: المحدثون يشدِّدون الغين، فعليه هو اسم مفعول من التمغيط، ولا يقدح فيه اشتهار اسم الفاعل، فقد يكون الاشتهار طارئًا. "وعن عائشة الت: لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطويل البائن" بالموحدة, قال في فتح الباري: اسم فاعل من بان، أي: ظهر على غيره أو فارق من سواه، وقال في النهاية: أي: المفرط طولًا الذي بعد عن قدر الرجال، وقد تقدَّم ذلك، وهو إشارة إلى احتمال أنه من بان إذا ظهر، أو بان إذا بعد وفارق، وسُمِّيَ فاحش الطول بائنًا؛ لأنَّ من رآه تصوّر أن كلًّا من أعضائه بائن عن الآخر، أو ظاهر على غيره، أو مفارقه طولًا وقامة، "ولا بالقصير المتردد": المتناهي في القصر، كأنه تردد بعض خلقه على بعض، وتداخلت أجزاؤه، كما في النهاية، "وكان ينسب إلى الربعة" بأن يوصف بها، فيقال: هو ربعة لقربه منها، "إذا مشى وحده" فهو من نسبة الجزئي إلى كلية، واستأنفت جوابًا لسؤال نشأ من مفهوم وحده, قولها: "ولم يكن على حالٍ يماشيه أحد من الناس، ينسب إلى الطول إلّا طاله"، أي: زاد في الطول "صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما" يزيد عليهما طولًا إكرامًا من الله, حتى لا يزيد أحد عليه صورة، "فإذا فارقاه نسب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقي. وزاد ابن سبع في الخصائص: إنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين. ووصفه ابن أبي هالة بأنه بادن متماسك، أي: معتدل الخلق، كأن أعضاءه يمسك بعضها بعضًا.   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الربعة، رواه ابن عساكر والبيهقي"، وابن أبي خيثمة، كما مَرَّ، "وزاد ابن سبع في الخصائص"، ورزين: "إنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين"، وحكمته ما رأيت، ودليله قول علي: إذا جامع القوم غمرهم؛ إذ هو شامل للمشي والجلوس، فقصر من توقّف فيه بأنه لم يره إلا في كلام رزين وكلام الناقلين عنه. "ووصفه ابن أبي هالة بأنه" معتدل الخلق، "بادن" ضخم البدن، لا مطلقًا، بل بالنسبة لما سبق من كونه شثن الكفين والقدمين، جليل المشاش والكتد، ولما كانت البدانة, قد تكون من الأعضاء، وقد تكون من كثرة اللحم والسمن المفرط المواجب لرخاوة البدن، وهو مذموم، أردفه بما ينفي ذلك، فقال: "متماسك" صريح، تصرف المصنف أنهما بالرفع، وهو في الشمائل بلا ألف، فقال بعض شراحها: ما قبله منصوب، ومن بادن إلى آخر الحديث بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، والجملة مستأنفة، أو في محل نصب خبر لكان بعد خبر؛ إذ أوّل الحديث: كان فخمًا مفخمًا، لكن الظاهر من حيث العربية النصب، بل قال: بعض لا حجة في رسمه في الشمائل بلا ألف على الرفع بل هو منصوب، على طريقة جمع من أصحاب الحديث، يكتبون المنصوب بصورة المرفوع اكتفاءً بالحركة، ويقرؤنه بالنصب، وقد نقله ابن الأثير في الجامع عن الشمائل بادانًا متماسكًا، بنصبهما أ. هـ. وكذا أخرجه عياض في الشفاء من طريق الترمذي، وكذا نقله عن الشمائل السيوطي في جامعه، بنصبهما، "أي: معتدل الخلق، كأن أعضاؤه يمسك بعضها بعضًا" من غير ترجرج، وقيل معناه: ليس بمسترخي البدن، واستشكل كونه بانًا بما في رواية البيهقي، ضرب اللحم، قال البغوي: يريد أنه ليس بناحل ومنتفخ، وفي المقتفى: شحم بين شحمين، لا ناحل ولا مطهم، والبادن: الجسيم أو كثير اللحم، وأجيب بأنه لم يرد بضرب القلة، بل الخفة لتماسكه، وبأنَّ القلة والكثرة والخفة والتوسط من الأمور النسبية المتفاوتة، فحيث قيل: بادن, أريد عدم النحول والهزال، وحيث قيل: قليل أو خفيف أو متوسط، أريد عدم السمن التامّ، فهو المنفي، والمثبت عدم النحول، وبأنه كان نحيفًا، فلمَّا أسنَّ بدن، لما في مسلم عن عائشة: فلما أسنّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 وأما شعره الشريف -صلى الله عليه وسلم، فعن قتادة قال: سألت أنسًا عن شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: شعر بين شعرين، لا رَجِل ولا سبط ولا جعد قطط, كان بين أذنيه وعاتقه. وفي رواية للشيخين: كان رجلًا ليس بالسبط ولا الجعد.   وكثر لحمه سابقته فسبقتُه. قال بعض المحققين: والحق أنه لم يكن سمينًا قط، ولا نحيفًا قط، غير أنَّ في الآخرة كان أكثر لحمًا، فغايته أن يراد بالبدانة قدر آخر كان أزيد بالخفّة ما دون ذلك، "وأمَّا شعره"، بسكون العين: جمعه شعور، كفلس وفلوس، وبفتحها, جمعه أشعار؛ كسبب وأسباب، وجمع تشبيهًا لاسم الجنس بالمفرد وهو مذكور, واحداته شعرة, "الشريف -صلى الله عليه وسلم"، أي: صفته في الرأس وغيره، وأمَّا صفة الرأس: فهو أوّل ما بدأ به المصنف من شمائله، فلا نسوّد وجه الطرس بنقله عن غيره. "فعن قتادة" بن دعامة -بكسر الدال- الأكمه المفسر، السدوسي التابعي الشهير، "قال: سألت أنسًا عن شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: شعر بين شعرين"، أي: بين نوعين من الشعر, هما: الجعد والسبط، أي: بين الجعودة والسبوطة، كما يأتي, "لا رَجِل" بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها، وسكونها، كما في المفهم، وزاد غيره: وضمها، "ولا سبط" بفتح فكسر وسكون أو فتحتين- أي مسترسل لا يتكسّر منه شيء، كشعر الهنود، "ولا جعد" بفتح الجيم وسكون المهملة- أي: منقبض يتجعد ويتكسّر؛ كشعر الحبش والزنج، "قطط" بفتحتين- كجسد على الأشهر، ويجوز كسر ثانيه، والجعد يَرِدُ بمعنى: الجواد والكريم والبخيل واللئيم، ومقابل السبط يوصف بقطط في الكل، فهو لا يعين المراد، فلذا وقع مقابلًا لسبط، والمراد: إن شعره ليس نهاية في الجعودة، وهي تكسره الشديد، ولا في السبوطة، وهي عدم تكسره وتثنيه بالكلية، بل كان وسطًا بينهما، وخير الأمور أوساطها. قال الزمخشري: الغالب على العرب جعودة الشعر، وعلى العجم سبوطته، فقد أحسن الله تعالى برسوله الشمائل، وجمع فيه ما تفرّق في الطوائف من الفضائل أ. هـ. ثم المراد بقوله: لا رجل, نفي شدة استرسال الشعر، بدليل قوله: "كان بين أذنيه" بالتثنية، "وعاتقه" بالإفراد، فلا ينافي إثباته في قوله: "وفي رواية للشيخين" وغيرهما عن قتادة، سألت أنس بن مالك عن شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, لفظ البخاري ولفظ مسلم: قلت لأنس بن مالك: كيف شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "كان" شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفظ خ، ولفظ م، فقال: كان شعرًا "رجلًا ليس بالسبط"، أي: المنبسط المسترسل، "ولا الجعد"، أي: الشديد التكسر، بل فيه تكسر يسير، فهو بينهما، قال المصنف: فقوله: ليس إلخ ... ، كالتفسير لسابقه أ. هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 بين أذنيه وعاتقه. وفي أخرى: إلى أنصاف أذنيه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء واحد، وكان له شعر فوق الجمة ودون الوفرة. رواه الترمذي وأبو داود.   فهو المراد بالإثبات، فلا ينافي النفي، وكان "بين أذنيه وعاتقه" بالتثنية في الأوّل والإفراد في الثاني، أي: فليس فيه شدة ارتفاع ولا شدة استرسال، وفي رواية للشيخين عن قتادة عن أنس: كان يضرب شعره منكبيه، وللبخاري أيضًا: كان يضرب رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- منكبيه، "وفي أخرى" من حديث حميد عن أنس قال: كان شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم "إلى أنصاف أذنيه" جمع نِصف، أريد به ما فوق الواحد، أو أراد بالنصف مطلق البعض، وذلك البعض متعدد أكثر من اثنين؛ لأنه تارة إلى نصف الأذن، وتارة إلى دونه، وأخرى إلى فوقه، "رواه البخاري" في كتاب اللباس والزينة، "ومسلم" في صفة النبي، "وأبو داود والنسائي"، والترمذي في الشمائل، "وعن عائشة قالت: كنت أغتسل" أفادت الحكاية الماضية بصيغة المضارع استحضارًا للصورة الماضية، وإشارة إلى تكرره واستمراره، أي: اغتسلت متكررًا "أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم" برفع النبي عطفًا على الضمير المرفوع، ولذا أبرز, وجاز مع أن المضارع المبدوء بالهمزة لا يرفع الاسم الظاهر؛ لأنه تابع، فيغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، أو غلب المتكلم على الغائب، كما غلب في قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] ، المخاطب على الغائب؛ لأن آدم أصل, وزوجه تبع، وهنا لأنَّ النساء محل الشهوة، وحاملات على الغسل، فكأنهن أصل، أو لأنَّ الأصل إخبار الشخص عن نفسه، أو لاحتمال أنَّ الماء معدًّا لغسلها، وشاركها المصطفى، أو من عطف الجمل بتقدير عامل، أي: ويغتسل معي، كما قيل في: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وبالنصب على أنه مفعول معه, "من إناء واحد" زاد في رواية: من جنابة, "وكان له شعر فوق الجمة" بضم الجيم وشد الميم, "ودون الوفرة" بفتح الواو، وسكون الفاء "رواه الترمذي" في جامعه وشمائله بهذا اللفظ، "وأبو داود" في سننه، وكذا ابن ماجه بلفظ: فوق الوفرة دون الجمة، كما بَيَّنَه الحافظ العراقي في شرح الترمذي قائلًا: ورايتهما هي الموافقة لكلام أهل اللغة، إلّا أن تئول رواية الترمذي، وذلك أنه قد يراد بقوله: دون, النسبة إلى القلة والكثرة، وقد يراد بالنسبة إلى محل وصول الشعر، ورواية الترمذي محمولة على هذا التأويل، أي: إن شعره كان فوق الجمة، أي: أرفع في المحل، فعلى هذا يكون شعره لمة، وهو ما بين الوفرة والجمة، وتكون رواية أبي داود وابن ماجه معناها: كان شعره فوق الوافرة، أي: أكبر من الوفرة، ودون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن. وقال ابن أبي هالة أيضًا: كان رجل الشعر -وهو بفتح الراء وكسر الجيم- أي: يتكسر قليلًا، بخلاف السبط والجعد- إن انفرقت عقيقته فرقها وإلّا فلا، يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره. والعقيقة -بالقاف: شعر رأسه الشريف،   الجمة، أي: في الكثرة، وعلى هذا، فلا تعارض بين الروايتين، فروى كلّ راوٍ ما فهمه من الفوق والدون، قال تلميذه الحافظ ابن حجر: وهو جمع جيد، لولا أنَّ مخرج الحديث متحد، وأجاب المصنف بأن إحدى الروايتين نُقِلَ بالمعنى، ولا يضره اتحاد المخرج لاحتمال أنه وقع ممن دونه أ. هـ. ونحو قول بعضهم: مآل الروايتين على هذا التقدير متحد معنًى، والتفاوت بينهما إنما هو في العبارة، ولا يقدح فيه اتحاد المخرج، وهو عائشة؛ لأن دونها أدَّى معنى العبارتين، هذا وقد يستعمل أحد اللفظين المتقاربين مكان الآخر، كما سبق في أفلج الثنيتين؛ حيث قالوا: الفلج يستعمل مكان الفرق، فكذا يقال هنا. أ. هـ. وبهذا علمت شدة تسمّح المصنف في العزو، "والوفرة: الشعر الواصل إلى شحمة الأذن"، ويأتي قريبًا تفسيرها بذلك أيضًا، وبيان الجمة واللمة، "وقال ابن أبي هالة أيضًا: كان رجل الشعر" لفظ. كان لم يقع في لفظه، وإنما أتى به المصنف ليبين أن رجل منصوب؛ لأنه خبر بعد خبر؛ إذ أوّل الحديث: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخمًا مفخمًا, إلى أن قال: رجل الشعر، "وهو بفتح الراء وكسر الجيم" لعله الأشهر، أو الرواية، وإلا فقد قال القرطبي في المفهم: وفتحها وسكونها- ثلاث لغات، زاد بعضها وضمها، كما مَرَّ، ومقتضاه: إنها بمعنى واحد، وفي المصباح: رجل الشعر رجلًا، من باب تعب تعبًا، فهو رجل -بالكسر والسكون- ومفاده: إن المصدر بفتحتين، والوصف على فعل -بكسر فسكون تخفيف، "أي: يتكسّر قليلًا بخلاف السبط" الذي لا يتكسّر شيء منه، "والجعد" المتكسّر "إن انفرقت عقيقته" من جملة قول هند, فَصَّله بضبط رجل، ومعناه: "فرقها" بالتخفيف، أي: جعل شعره نصفين: نصفًا عن اليمين، ونصفًا عن اليسار، قيل: بالمشط، وقيل: بذاته، "وإلّا" تنفرق، بل كانت مختلطة متلاصقة، لا تقبل الفرق، بلا ترجيل، "فلا" يفرقها، بل يتركها على حالها معقوصة، أي: وفرة واحدة، وحينئذ فقد "يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفّره"، أي: جعله وفرة، أي: مجموعًا، وفي نسخ: وفر بلا هاء. قال المزيّ: والمعروف رواية -بالهاء، "والعقيقة -بالقاف: شعر رأسه الشريف" من العق، وهو في الأصل، القطع والشق، ولذا سميت الذبيحة للمولود يوم سابعه عقيقة، لشقّ حلقها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 يعني: إن انفرقت بنفسها فرقها, وإلا فتركها معقوصة، ويروى: إن انفرقت عقيصته -بالصاد المهملة- وهي الشعر المعقوص. وعن ابن عباس, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رءوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء،   والشعر الخارج على رأس المولود من بطن أمه عقيقة؛ لأنه يحلق، ثم قيل للشعر النابت بعد ذلك عقيقة، لأنه منها، ونباته من أصولها، فهو مجاز مرسل، أو لأنه شبيه بها، فاستعارة، "يعني: إن انفرقت بنفسها فرقها وإلّا، فتركها معقوصة"، قاله القاضي عياض، ونحوه قول ابن الأثير، وإلّا تركها على حالها، ولم يفرّقها، وهو بناءً على أن، وإلّا، فلا كلام تامّ، وكذلك ما بعده، وإنه متعلق بمقدّر، كما أشرنا إليه، ومنهم من جعله كله كلامًا واحدًا، وفسَّره تارة بأنه لا يجاوز شحمة أذنه إذا ترك الفرق؛ فقوله: إذا هو وفَّره بيان لقوله: وإلّا, وأخرى: بأنه إن انفرق لا يجاوز في وقت توفير الشعر، قال: وبه يجمع بين مختلف الروايات في أنَّ شعره وفرة، أو جمة، فيقال: ذلك باختلاف أزمنة عدم الفرق والفرق، "ويروى إن انفرقت عقيصته -بالصاد المهملة- وهو الشعر المعقوص"، وهو نحو من المضفور، وأصل العقص الليّ، وإدخال أطراف في أصوله, والمشهور عقيقته، أي: بالقافين؛ لأنه لم يقعص شعره، قاله في النهاية، وبه ردَّ قول بعضهم رواية الصاد أولى، وقيل العقيقة: الشعر الذي مع المولود، فإن نبت بعد حلقه لم يسمّ عقيقة، واستبعده الزمخشري باقتضائه: إن شعر المصطفى كان شعر لولادة وتركه، وعدم حلقه يوم السابع، وعدم ذبح شاة، وإطعامها عيب عند العرب وشح، وأجيب بأنه من إرهاصاته؛ حيث لم يمكِّن الله قومه أن يذبحوا له باسم اللات والعزّى، ويؤيده قول النووي في التهذيب: إنه -صلى الله عليه وسلم- عقَّ عن نفسه بعد النبوة أ. هـ. "وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسدل" بفتح أوله، وسكون السين، وكسر الدال المهلمتين، ويجوز ضم الدال، قاله الحافظ وغيره، وبالضم ضبطه الدمياطي في حاشية الصحيح، والمنذري في حاشية السنن، فاستفدنا أنَّ الرواية بالوجهين، "شعره"، أي: يترك شعر ناصيته على جبهته، لما في رواية للشيخين: سدل النبي -صلى الله عليه وسلم- ناصيته، وإلّا فالسدل لغةً لا يخص الناصية، بل هو إرخاء الشعر وهو الأشهر, ومشددًا، "رءوسهم"، أي: شعر رءوسهم، "وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم"، وفي رواية: أشعارهم، "وكان يحب موافقة أهل الكتاب" اليهود، حين كان عبَّاد الأوثان كثيرًا، "فيما لم يؤمر فيه بشيء"، أي: فيما لم يخالفه شرعه إيجابًا، أو ندبًا، وقصره على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 ثم فرق -صلى الله عليه وسلم- رأسه. رواه الترمذي في الشمائل. وفي صحيح مسلم نحوه. وسدل الشعر إرساله، والمراد هنا: إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة. وأما الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض. قال العلماء: والفرق سنة؛ لأنه الذي رجع إليه -صلى الله عليه وسلم، والصحيح جواز الفرق والسدل، لكن الفرق أفضل.   الوجوب تقصيرًا، أو لم ينزل عليه فيه وحي، أو فيما لم يطلب منه وجوبًا أو ندبًا، "ثم فرق" بفتح الفاء، والراء- روي مخففًا ومثقلًا "صلى الله عليه وسلم- رأسه"، أي: ألقى شعره إلى جانبي رأسه، فلم ينزل منه شيئًا على جبهته، وإنما أحبَّ موافقتهم لتمسّكهم في زمانه ببقايا شرائع الرسل، والمشركون وثنيون، لا مستند لهم إلّا ما وجدوا عليه آباءهم. قال الحافظ: فكانت موافقتهم أحبّ إليه من موافقة عباد الأوثان، فلما أسلم غالبهم، أحبَّ حينئذ مخالفة أهل الكتاب. انتهى. قال النووي وغيره: أو كان لاستئلافهم، كما تألَّفَهم باستقبال قبلتهم، وتوقَّف فيه بأن المشركين أولى بالتأليف، وردَّ بأنه قد حرص أولًا على تألُّفهم، ولم يأل جهدًا في ذلك، وكلما زاد زادوا نفورًا، فأحبَّ تأليف أهل الكتاب؛ ليجعلهم عونًا على قتال الآبين من عبدة الأوثان، وقال القرطبي: حبه لموافقتهم كان أولًا, في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم ليتألَّفهم، حتى يصغوا إلى ما جاء به، فلمَّا غلبت عليهم الشقوة, ولم ينفع فيهم ذلك, أمر بمخالفتهم في أمور كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالوفهم" أ. هـ. "رواه الترمذي في الشمائل، وفي صحيح مسلم نحوه"، والبخاري في الصفة انبوية، واللباس بنحوه، ورواه في الهجرة بلفظ الشمائل، خلافًا لإيهام المصنف، وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه "وسدل" بفتح فسكون- مصدر سدل، كقتل "الشعر: إرساله"، ولا يقال: أسدل بالألف، "والمراد هنا إرساله على الجبين، واتخاذه كالقصة" بضم القاف وصاد مهملة- وهي شعر الناصية، يقص حول الجبهة، والمراد أنه كان يتركه على حاله، يشبه الشعر المقصوص، "وأمَّا الفرق: فهو فرق الشعر بعضه من بعض"، ولأبي داود، عن عائشة، قالت: أنا فرقت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه، أي: شعر رأسه عن يافوخه. "قال العلماء: والفرق سنة؛ لأنه الذي رجع إليه -صلى الله عليه وسلم، والصحيح جواز الفرق والسدل" معًا، "ولكن الفرق أفضل" فقط؛ لأنه الذي رجع إليه، فكأنه ظهر الشرع به، لكن لا وجوبًا؛ لأن من الصحب من سدل بعد ذلك، فلو كان الفرق واجبًا ما سدلوا، وزَعْم نسخه يحتاج لبيان ناسخه، وتأخّره عن المنسوخ على أنه لو نسخ ما صار إليه كثير من الصحابة، ولذا قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 وعن عائشة: كان له -صلى الله عليه وسلم- شعر فوق الجمة ودون الوفرة. رواه الترمذي. وفي حديث أنس كان إلى أذنيه، وفي حديث البراء: يضرب منكبيه. وفي حديث أبي رمثة: يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه. وفي رواية: ما رأيت من ذي لمة أحسن منه. والجمة: هي الشعر الذي نزل إلى المنكبين. والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين،   القرطبي: توهم النسخ لا يلتفت إليه أصلًا لإمكان الجمع، قال: وهذا على تسليم أنّ حبه موافقتهم، ومخالفتهم حكم شرعي، فإنه يحتمل كونه مصلحة، وحديث هند: إن انفرقت عقيقته فرقها، وإلا تركها، يدل على أنه غالب أحواله؛ لأنه ذكر مع أوصافه الدائمة، وحليته التي كان موصوفًا بها، فالصواب أنّ الفرق مستحب لا واجب. أهـ. وقال الحافظ: حديث هند محمول على ما كان أولًا، لما بينه حديث ابن عباس أهـ. قيل: ويحتمل أنَّ رجوعه للفرق باجتهاد، وحكمته أنه أنظف وأبعد عن السرف في غسله، وعن مشابهة النساء، "وعن عائشة: كان له -صلى الله عليه وسلم- شعر فوق الجمة، ودون الوفرة. رواه الترمذي"، وقد مَرَّ قريبًا تامًّا، وكأنَّه أعاد المقصود هنا لمغايرته لما بعده، وذكر الجمع بينهما، لكنه لو اقتصر على هذا كفاه عن السابق، واندفع عنه اعتراض عزوه لأبي داود، مع أنَّه ليس لفظه كما مَرَّ، "وفي حديث أنس" عند البخاري ومسلم وغيرهما؛ "كان إلى" أنصاف "أذنيه، في حديث البراء" عند الشيخين وغيرهما: "يضرب منكبيه، أي: يصل إليهما، كنِّي بالضرب عن الوصول، وكذا في حديث أنس في الصحيحين "في حديث أبي رمثة" بكسر الراء وسكون الميم، ومثلثة- البلوى، ويقال: التيمي من تيم الرباب -بفتح الراء كما في الفتح، وكسرها كما في الصحاح، ويقال: التميمي، ويقال: هما اثنان، واسمه: رفاعة بن يثربي، وبه جزم الترمذي وهما بمهملتين بينهما فاء وألف، ويقال: يثربي بن رفاعة، وبه جزم الطبراني، ويقال: عمارة بن يثربي، ويقال عكسه، وقيل: يثربي بن عوف، وجزم غير واحد بأن اسمه حيّان بمثناة تحتية، وقيل: حبيب بن حيان، وقيل: جندب، وقيل: خشخاش، صحابي شهير. قال ابن سعد: مات بإفريقية، "يبلغ إلى كتفيه أو منكبيه" بالشك، "وفي رواية" عن البراء بن عازب عند الترمذي وغيره، "ما رأيت من ذي لمة" بزيادة من تأكيد النفي, والنص على استغراق جميع الأفراد، أو هي بيانية، أي: أحدًا من صاحب لمة -بكسر اللام وشد الميم "أحسن منه"، ولا مساوٍ له على مفاد النفي عرفًا، "والجمة" بضم الجيم وشد الميم، "هي الشعر الذي نزل إلى المنكبين، والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين"، سُمِّيَ بذلك؛ لأنه وقع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 واللمة: التي لمت بين المنكبين. قال القاضي عياض: والجمع بين هذه الروايات: إن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. وقال: قيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب, وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك. وعن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا مكة قدمة   على الأذن، أي: ثم عليها واجتمع. "واللمة التي لمت" أي: نزلت "بين المنكبين"، وأنَّث باعتبار أنها حملة من الشعر، وجمعها لمام ولمم, سميت بذلك لإلمامها بهما؛ إذ هي الشعر المتجاوز شحمة الأذن مع الوصول إلى المنكب، أو المتجاوز مطلقًا، أو المتجاوز بلا وصول إلى المنكب، فإذا وصله صار جمة، أقوال. لكن قال الحافظ العراقي: ورد في شعره -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أوصاف: جمة، ووفرة، ولمة، فالوفرة ما بلغ شحمة الأذن، واللمّة ما نزل عن شحمة الأذن، والجمة ما نزل عن ذلك إلى المنكبين، هذا قول جمهور أهل اللغة, وهو الذي ذكره صاحب المحكم والنهاية والمشارق وغيرهم، واختلف فيه كلام الجوهري، فذكره على الصواب في مادة لمم، فقال: واللمة -بالكسر: الشعر المتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي جمة، وخالف ذلك في مادة وفر، فقال: والوفرة إلى شحمة الأذن ثم الجمة، ثم اللمة التي ألمت بالمنكبين، وما قاله في باب الميم هو الصواب الموافق لقول غيره من أهل اللغة. "قال القاضي عياض: والجمع بين هذه الروايات أنَّ ما يلي الأذن هو الذي يبلع شحمة أذنيه، وما خلفه هو الذي يضرب" يبلغ "منكبيه"، فلا تنافي بين روايتي شحمة أذنيه ومنكبيه، "وقال" عياض أيضًا: "قيل" في الجمع "بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكانت تطول وتقصر بحسب ذلك" ورد الجمع الأوّل بأن من وصف شعره إنما أراد مجموعه أو معظمه، لا كل قطعة منه، لكن لا ضير فيه لحصول الجمع به، وقد مشى على نحوه الداودي، وتبعه ابن التين فقال: المراد أنَّ معظم شعره كان عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متصل إلى المنكب، قال الحافظ: قول هند بن أبي هالة: إذا هو وفَّره، أي: جعله وفرة، فهذا القيد يؤيد هذا الجمع. "وعن أم هانئ" بكسر النون وهمز آخره، وتسهل- فاختة، أو عاتكة، أو هند "بنت أبي طالب" شقيقة علي، وعاشت بعده، "قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علينا مكة قدمة" بفتح القاف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 وله أربع غدائر. رواه الترمذي في الشمائل, والغدائر -بالغين المعجمة والدال المهملة: هي الذوائب، واحدتها غديرة. وفي مسلم عن أنس، كان في لحيته -عليه الصلاة والسلام- شعرات بيض. وفي رواية له عنده:   وسكون الدال، المرة الواحدة من القدوم، أي: مرة من قدومه، وبعض الروايات يدل على أنه في فتح مكة؛ لأنه اغتسل وصلى الضحى في بيتها, وكانت له قدمات أربع بمكة بعد الهجرة، قدمة عمرة القضاء والفتح، وعمرة الجعرانة، وحجة الوداع، "وله أربع غدائر"؛ ليخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها، ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها، تخرج الأذنان ببياضهما من بين تلك الغدائر، كأنَّها توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره، قاله ابن أبي خيثمة: "رواه الترمذي في الشمائل، والغدائر -بالغين المعجمة، والدال المهملة: هي الذوائب" بذال معجمة، "واحدتها غديرة" وروى الترمذي أيضًا عن أم هانئ: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذا ضفائر أربع، جمع ضفيرة، وهي العقيصة، قاله الجوهري، فالغدائر أعمّ، كما قاله السيوطي وغيره، فيحتمل أن تكون رأته في وقت آخر، أو حين قدم عليها مكة، تكون أرادت بالضفائر المعنى الذي أرادته بالغدائر وإن اختلفا لغة، ويؤيده اتحاد طريقي الحديثين إليهما؛ إذ كلاهما من رواية ابن أبي نجيح، عن مجاهد عنها، وكلاهما يدل للجمع، ولذا قال بعض شراح المصابيح: لم يحلق -صلى الله عليه وسلم- رأسه في سني الهجرة إلا عام الحديبية، ثم عام القضاء، ثم في حجة الوداع، فليعتبر الطول والقصر منه بالمسافات الواقعة منه في تلك الأزمنة، وأقصرها ما كان في حجة الوداع، فإنه توفي بعدها بثلاثة أشهر، ثم ذكر المصنف شيبه -صلى الله عليه وسلم، ولم يترجم له؛ لأنه من جملة الشعر الذي الكلام فيه، فقال: "وفي مسلم عن أنس" من حديث ابن سيرين: سألت أنس بن مالك: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب. "كان في لحيته -عليه الصلاة والسلام- شعرات بيض"، مقتضاه أنها عشرة فقط أو أقل؛ إذ شعرات جمع قلة من جموع السلامة، وهي لا تزيد على عشرة، فيشكل بما يأتي عنه كان في رأسه ولحيته سبعة عشر، أو ثمانية عشر، وكون العشرة في خصوص اللحية يحتاج لدليل، فيمكن أنه استعمل جمع القلة فيما فوقها مجازًا، لكن لا دليل على ما فوقها؛ إذ الآتي في الرأس واللحية معًا، والذي يظهر لي حمل ما أفاده شعرات على ظاهره، من أنها عشرة أو أقل، ويؤيده ما عند أبي نعيم، عن عائشة: كان أكثر شيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرأس، "وفي رواية له" لمسلم، وفي نسخة "عنده" أي: مسلم من وجه آخر عن ابن سيرين، سألت أنسًا: أخضب -صلى الله عليه وسلم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 لم ير من الشيب إلّا قليلًا، وفي أخرى له أيضًا: لو شئت أن أعد شمطات كنّ في رأسه ولم يخضب. وعنده أيضًا: لم يخضب -عليه الصلاة والسلام, إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ -بضم النون وفتح الباء الموحدة وبفتح النون وإسكان الموحدة, أي: شعرات متفرقة. وفي رواية أخرى: ما شانه الله ببيضاء.   قال: إنه "لم يرَ من الشيب إلّا قليلًا، وفي أخرى له أيضًا" عن ثابت قال: سُئِلَ أنس عن خضاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو شئت أن أعدّ شمطات كنَّ في رأسه" فعلت, هكذا ثبت في مسلم جواب لو، وهو قوله: فعلت، فحذفه المصنّف اختصارًا، أو سقط من قلمه، أو نساخه ولم يره, من قال جوابه محذوف لظهوره، أي: لعددتها ولقلتها، "ولم يخضب" قاله بحسب علمه، لما يأتي، "وعنده" أي مسلم "أيضًا" عن قتادة عن أنس: "لم يخضب -عليه الصلاة والسلام, إنما كان البياض في عنفقته" بفتح العين- ما بين الشفة السفلى والذقن، سواء كان عليها شعر أم لا، فيقدر مضاف، أي: شعر، وقيل: هي الشعر النابت تحت الشفة السفلى، فلا تقدير، "وفي الصدغين" بضم الصاد، وإسكان الدال المهملتين، ومعجمة- ما بين الأذن والعين، ويقال ذلك للشعر المتدلي من الرأس في ذلك المكان، كما في الفتح وغيره، قال المصنّف: على الشمائل، والثاني: وهو المراد هنا؛ إذ هو من إطلاق المحلّ وإرادة الحال. "وفي الرأس نبذ -بضم النون، وفتح الباء الموحدة" وذال معجمة- نبذة؛ كغرف وغرفة "وبفتح النون، وإسكان الموحدة" جمع نبذة -بفتح فسكون؛ كتمر وتمرة، "أي: شعرات متفرقة"، وبرواية مسلم هذه جمع الحافظ بين رواية البخاري، ع عبد الله بن يسر: كان في عنفقته شعرات بيض، وروايته عن قتادة: سألت أنسًا هل خضَّب النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا, إنما كان شيء في صدغيه، قال: وعرف من مجموع ذلك أنَّ الذي شاب من عنفقته أكثر مما شاب من غيرها، قال المصنف في شرح الشمائل: ولم يظهر لي وجه الجمع بما ذكر، وروى أبو نعيم عن عائشة: كان أكثر شيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الرأس في فودي رأسه، وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن، وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر، فإذا مسَّه بصفرة، وكان كثيرًا ما يفعل ذلك, صار كأنه خيوط الذهب. "وفي رواية أخرى" عند مسلم أيضًا، من رواية أبي إياس عن أنس، إنه سُئِلَ عن شيب النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "ما شانه الله ببيضاء"، قال الحافظ: هذا محمول على أن تلك الشعرات البيض لم يتغيّر بها شيء من حسنه -صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر أحمد إنكار أنس أنه خضّب، وذكر حديث ابن عمر أنه رآه يخضب بالصفرة، وهو في الصحيح، ووافق مالك أنسًا على إنكار الخضاب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 قال الشيخ عبد الجليل في شعب الإيمان، فيما حكاه عنه الفاكهاني: إنما كان كذلك لأنَّ النساء يكرهن الشيب غالبًا، ومن كره من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا كفر. وقال في النهاية: قد تكرَّر في الحديث جعل الشيب ههنا عيبًا وليس بعيب، فإنه قد جاء في الحديث: إنه وقار وأنه نور،   وتأوَّل ما ورد في ذلك أ. هـ. "قال الشيخ عبد الجليل" القصري "في شعب الإيمان، فيما حكاه عنه" عمر بن علي بن سالم، بن صدقة اللخمي، الشهير بتاج الدين "الفاكهاني" أبو حفص الإسكندري، الفقيه المالكي، المتفنّن في الحديث والفقه والأصول والعربية والأدب, والدين المتين, والصلاح الوافر، والتصانيف العظيمة، وحج مرارًا، وُلِدَ بالإسكندرية سنة أربع، أو ست وخمسين وستمائة، وبها مات سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، "إنما كان" المصطفى "كذلك"، أي: قليل الشيب؛ "لأن النساء يكرهن الشيب غالبًا"، كما قيل: رأين الغواني الشيب لاح بعارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر وقل: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله ... فليس له من ودهن نصيب وقال: لو رأى الله أن في الشيب خيرًا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبًا "ومن كره من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا كفر"، وهو كان كثير النساء، فرحمهنَّ الله تعالى بعدم شيبه؛ ولأن فيه إزالة لبهجة الشباب ورونقه، وإلحاقه بالشيوخ الذين يكون الشيب فيهم عيبًا، لدلالته على الضعف، ومفارقة قوة الشباب والنشاط، "وقال في النهاية: قد تكرر في الحديث جعل الشيب ههنا عيبًا" في نحو قوله: ما شانه، "وليس بعيب" في نفس الأمر، "فإنه قد جاء في الحديث: أنه وقار، وأنه نور"، أخرج أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تنتفوا الشيب، لأنه نور الإسلام، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة"، وروى الترمذي والنسائي، عن كعب ابن مرة مرفوعًا "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة"، زاد الحاكم في كتاب الكنى، عن أم سليم: "ما لم يغيّرها"، وأخرج البيهقي، عن ابن عمر مرفوعًا: "الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلّا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة"، وروى ابن عساكر عن أنس مرفوعًا: "الشيب نور, من خلع الشيب فقد خلع نور الإسلام"، وللديلمي عن أنس رفعه: "أيما رجل نتفق شعرة بيضاء متعمدًا، صارت رمحًا يوم القيامة يطعن به"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 والشيب ممدوح، وذلك عجيب منه, لا سيما في حق النبي -صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يجمع بينهما: ووجه الجمع أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة ورأسه كالثغامة، أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك قال: "غيروا الشيب"، فلما علم أنس ذلك من عادته قال: ما شانه الله ببيضاء, بناءً على هذا القول, وحملًا له على هذا الرأي. ولم يسمع الحديث الآخر، ولعلَّ أحدهما ناسخ للآخر. انتهى. وفي رواية أبي جحيفة عنده، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذه منه بيضاء, ووضع الراوي بعض أصابعه على عنفقته.   وعند ابن سعد أن حجامًا أخذ من شاربه -صلى الله عليه وسلم، فرأى شيبة في لحيته، فأهوى إليها، فأمسك -صلى الله عليه وسلم- بيده، وقال: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة". "والشيب ممدوح" لهذه الأحاديث وغيرها، "وذلك" أي: جعله عيبًا "عجيب منه"، أي: من أنس -رضي الله عنه، "لا سيما في حق النبي -صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يجمع بينهما، ووجه الجمع أنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى أبا قحافة" بضم القاف ومهملة وفاء- عثمان والد الصديق، "ورأسه كالثغامة"، بمثلثة ومعجمة- مفرد ثغام؛ كسحاب, نبت يكون بالجبال غالبًا, إذا يبس يشبّه به الشيب، "أمرهم بتغييره وكرهه، ولذلك قال: "غيروا الشيب"، فلمَّا علم أنس ذلك من عادته، قال: ما شانه الله ببيضاء بناءً على هذا القول، وحملًا له على هذا الرأي"، وهو كراهة الشيب وطلب تغييره، وتقدَّم عن الحافظ حمله على أنه لم يغير شيئًا من حسنه، وهو أحسن من هذا، "ولم يسمع الحديث الآخر"، أي: جنسه المادح للشيب، وفي هذا النفي نظر؛ لأن أنسًا قد روى بعد أحاديث مدحه، كما رأيت، "ولعلَّ أحدهما ناسخ للآخر أ. هـ". كلام النهاية: وفي ترجيه شيء؛ إذ لا يثبت النسخ إلّا بمعرفة التاريخ، "وفي رواية أبي جحيفة" بجيم فحاء مهملة، ففاء مصغر- وهب بن عبد الله السوائي -بضم المهملة، وخفة الواو، والمد، والهمز- من بني سواء بن عامر بن صعصعة، الكوفي، ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، صحابي مشهور بكنيته، وصحب عليًّا، وكان يحبه، ويسميه: وهب الخير، وجعله على بيت المال، وفي الفتح: كان يقال له أيضًا وهب الله، ووهب الخير، مات سنة أربعين وسبعين، "عنده"، أي: عند مسلم من طريق أبي خيثمة، وهو زهير بن حرب، عن أبي إسحاق, عن أبي جحيفة "قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذه منه بيضاء، ووضع الراوي" لفظ مسلم، ووضع زهير "بعض أصابعه على عنفقته"، وفي رواية الإسماعيلي، عنه: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- شابت عنفقته. وفي البخاري عنه: رأيت النبي، ورأيت بياضًا تحت شفته السفلى، العنفقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 وفي حديث أنس عند البيهقي: ما شانه الله بالشيب، ما كان في رأسه ولحيته إلّا سبع عشرة أو ثمان عشرة شعرة بيضاء. وعن أبي جحيفة: كان أبيض قد شمط. رواه البخاري. وفي الصحيحين: عن ابن عمر, أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة.   "وفي حديث أنس عند البيهقي: ما شانه الله"، أي: عابه "بالشيب"، والشين ضد الزين، وبابه باع، كما في المختار: "ما كان في رأسه ولحيته"، أراد بها ما قابل الرأس، فيشمل العنفقة والصدغين، فلا ينافي ما مَرَّ عنه عند مسلم، "إلّا سبع عشرة، أو ثمان عشرة شعرة بيضاء"، وعن أنس أيضًا: ما عددت في رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولحيته إلّا أربع عشرة شعره بيضاء، رواه الترمذي وغيره، وجمع بينهما؛ بأن إخباره اختلف باختلاف الأزمان، وبأن هذا إخبار عن عدِّه، وذاك إخبار عن الواقع، فهو لم يعد إلا أربع عشرة، وهو في الواقع سبعة عشر، أو ثمانية عشر، وردَّ بأن ما في الواقع يتوقف على العد، فلا يصح الجمع، نعم لو وقع الظن والتخمين موضع الواقع، لكان له وقع، وحصل به الجمع، ويجاب بأن كونه الواقع من حيث ثبوته عند أنس من غير، لا بعده هو، فالجمع صحيح، وروى ابن أبي خيثمة, عن أبي بكر بن عياش، قلت لربيعة: جالست أنسًا؟ قال: نعم، وسمعته يقول: شاب -صلى الله عليه وسلم- عشرين شعرة ههنا -يعني العنفقة، والجمع بينهما ما مَرَّ عند الحافظ: أنَّ ما شاب من عنفقة أكثر مما شاب في غيرها، كما دلَّ عليه مجموع الروايات، قال: وقول أنس لما سأله قتادة: هل خضّب؟ إنما كان شيء في صدغيه، أراد أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب، كما صرَّح به في روايات مسلم السابقة. "وعن أبي جحيفة: كان أبيض قد شمط" بفتح المعجمة، وكسر الميم- أي: خالط البياض سواد شعره، فالرجل أشمط، والمرأة شمطاء، والاسم الشمط -بفتحتين، وفي اختصاصه بالرأس وعمومه فيه، وفي اللحية قولان في اللغة، قال الحافظ: وقد بَيِّنَ في الرواية التي تلي هذه، أي: في البخاري عن أبي جحيفة: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم، ورأيت بياضًا من تحت شفته السفلى -العنفقة، إن موضع الشمط كان في العنفقة، ويؤيده حديث عبد الله بن بسر المذكور بعده، ولمسلم عن أبي جحيفة: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذه منه بيضاء، وأشار إلى عنفقته أ. هـ. "ورواه البخاري" في الصفة النبوية، "وفي الصحيحين" البخاري في الوضوء واللباس، ومسلم في الحج، "عن ابن عمر" في حديث: "أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ". قال الحافظ: بضم الموحدة، وحكي فتحها، وكسرها، "بالصفرة" ثيابه لما في أبي داود، كان يصبغ بالورس والزغفران حتى عمامته، وقيل: شعره، لما في السنن أيضًا، أنه كان يصفّر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 وعن ابن عمر: إنما كان شيبه -صلى الله عليه وسلم- نحو من عشرين شعرة بيضاء، رواه الترمذي. وروى أيضًا عن ابن عباس, قال أبو بكر: يا رسول الله, قد شبت   بهما لحيته، ورجَّح عياض الأوَّل، وأجيب عن دليل الثاني باحتمال أنه كان مما يتطيّب به، لا أنه كان يصبغ بها، وذكر بعض أن الخضاب بالأصفر محبوب؛ لأنه مدح بقوله: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ، ونقل عن ابن عباس، من طلب حاجة بنعل أصفر قضيت؛ لأن حاجة بني إسرائيل قضيت بجلد أصفر، فينبغي جعل النعل صفراء، "وعن ابن عمر" عبد الله, هكذا في نسخ، وهو الصواب الواقع في الترمذي، فما في نسخ من حذف ابن لا يعوّل عليه، "إنما كان شيبه -صلى الله عليه وسلم- نحوًا"، أي: قريبًا "من عشرين شعرة بيضاء"، بمعنى: إنه لا يبلغ العشرين، فهو كقول أنس: سبع عشرة، أو ثمان عشرة، "رواه الترمذي"، ولا ينافيه قول أنس أيضًا: ما عددت في رأسه ولحيته إلا أربع عشرة؛ لأنها نحو العشرين، لكونها أكثر من نصفها، لكن توقف عصام فيه، بأن لا دلالة لنحو الشيء على القرب منه، ووهموه، وأجاب عنه شيخنا بأنَّ مراده: لا دلالة على القرب من الكمال جدًّا، كتسعة عشر, بالنسبة إلى العشرين؛ إذ نحو الشيء ما زاد على نصفه، فيصدق بأحد عشر، كما يصدق بما زاد عليها إلى تسعة عشر، وخصوص المراد من هذا لا دلالة عليه، ولا ينافيه أيضًا قول عبد الله بن بسر: كان في عنفقته شعرات بيض. رواه البخاري، وهو من أفراده وثلاثياته، ومقتضاه: إنه لا يزيد على عشر، لا يراده بصيغة جمع القلة؛ لأنه خص ذلك بعنفقته، فيحمل الزائد على ذلك في غيرها، كما أفاده الحافظ. وروى الحاكم في المستدرك، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، عن أنس قال: لو عددت ما أقبل من شيبة في رأسه ولحيته ما كنت أزيد على إحدى عشرة شيبة، وجمع العلَّامة البلقيني بين هذه الروايات؛ بأنها تدل على أن شعراته البيض لم تبلغ عشرين، والرواية الثانية: إن ما دونها كان سبع عشرة, فتكون العشرة على عنفقته، والزاد عليها في بقية لحيته؛ لأنه قال في الثالثة: لم يكن في لحيته عشرون شعرة بيضاء، واللحية تشمل العنفقة وغيرها، وتكون العشرة على العنفقة؛ لحديث عبد الله بن بسر، والبقية بالأحاديث الأخر في بقية لحيته، وإشارة حميد إلى أنَّ في عنفقته سبع عشرة لا تفهم من نفس الحديث، وأمَّا الرواية الرابعة: فلا تنافي كون العشرة على العنفقة، والواحد على غيرها، وهذا الموضع موضع تأمل أ. هـ. وكيف هذا مع قوله في الرابعة: في رأسه ولحيته, "وروى" الترمذي "أيضًا" من طريق عكرمة "عن ابن عباس" قال: "قال أبو بكر" الصديق: "يا رسول الله، قد شبت"، أي: ظهر فيك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 قال: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، إذ الشمس كورت". وفي حديث جابر   أثر الشيب والضعف، مع أنَّ مزاجك اعتدلت فيه الطبائع، واعتدالها يستلزم عدم الشيب، "قال: "شيبتني هود"، روي بالصرف أي: سورة هود, وبتركه على أنه عَلَم على السورة، ولا ينافي ذلك حديث أنس: أنه لم يبلغ الشيب؛ لأن مقصوده نفي احتياجه إلى الخضاب الذي سئل عنه؛ إذ الروايات الصحيحة صريحة في أنَّ ظهور الشيب في رأسه ولحيته لم يبلغ مبلغًا يحكم عليه بالشيب، "والواقعة والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت"، زاد الطبراني: والحاقة، وابن مردويه: وهل أتاك حديث الغاشية، وابن سعد: والقارعة، وسأل سائل، وفي رواية: واقتربت الساعة، وإسناد الشيب إلى السور، والمؤثر هو الله، إسناد إلى السبب، فهو مجاز عقلي، أو تنزيلًا للأسباب منزلة المؤثر، فالإسناد حقيقي، ولا ينافي أن التنزيل يقتضي التجوّز في المسند إليه، وروى ابن سعد أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: أنا أكبر منك مولدًا، وأنت خير مني وأفضل، فقال: " شيبتني هود وأخواتها، وما فعل بالأمم قبلي"، ووجه تشييب هود وأخواتها: اشتمالها على بيان أحوال السعداء والأشقياء، وأهوال القيامة، وما يتعسر، بل يتعذّر مراعاته على غير النفوس القدسية، كالأمر بالاستقامة، كما أمر الذي لا يمكن لأمثالنا، وغير ذلك مما يوجب استيلاء سلطان الخوف، لا سيما على أمته؛ لعظيم رأفته بهم ورحمته، ودوام الفكر فيما يصلحهم، وتتابع الغمّ فيما ينوبهم أو يصدر عنهم، واشتغال قلبه وبدنه وخاطره فيما فُعِلَ بالأمم الماضيين، وذلك كله يستلزم ضعف الحرارة الغريزية، وبها يسرع الشيب، ويظهر قبل أوانه، لكن لما كان عنده -صلى الله عليه وسلم- من شرح الصدر، وتزاحم أنوار اليقين على قلبه ما يسليه، لم يستول ذلك إلا على قدر يسير من شعره الشريف؛ ليكون فيه مظهر الجلال والجمال، ويستبين أن جماله غالب على جلاله، ووجه تقديم هود: إن كانت الواو لا ترتب، إلّا أنَّ تقديم الذكر لا يخلو عن حكمة، قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} ، فأمرهم بأعلى المراتب، ولا يستطيعها إلّا النادر، ولذا لم يذكر "شورى"؛ لأنه المأمور فيها وحده، بخلاف "هود"، وقد علم أنهم، لا يقومون بهذا الأمر الخطر كما يجب, فاهتمَّ بحالهم, وملاحظة عاقبة أمرهم, أو أنه أوّل ما سمعه في هود, وقول بعضهم كان وجه تخصيص هذه الصورة بالذكر، مع أن في بعض السور غيرها ما يفي بها وزيادة, أنه -صلى الله عليه وسلم- حال إخباره بذلك لم يكن أنزل عليه مما يشتمل على ما مَرَّ غيرها فيه، أنه ليس في القرآن الأمر بالاستقامة، وهو من تاب معه، إلّا في "هود"، إلّا أن يكون مراده غيرها، فقد تسلم نكتته، "وفي حديث جابر" أي: ابن سمرة. وكان الأولى زيادته؛ لأنه عند الإطلاق: ابن عبد الله، لكنه استغنى عن ذلك بإحالته على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 عنده: لم يكن في رأسه -صلى الله عليه وسلم- شيب إلّا شعرات في مفرق رأسه, إذا ادَّهن واراهنَّ الدهن. وفي رواية البيهقي: كان أسود اللحية حسن الشعر. واختلف العلماء: هل خضب -عليه الصلاة والسلام- أم لا؟ قال القاضي عياض: منعه الأكثرون, وهو مذهب مالك.   الترمذي، بقوله "عنده"؛ إذ هو عنده عن سماك بن جرب، قال: قيل لجابر بن سمرة: أكان في رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيب؟ قال: "لم يكن في رأسه -صلى الله عليه وسلم- شيب"، أي: بياض شعر أو شعر أبيض، "إلّا شعرات" قليلة معدودة، لا تزيد على عشر, بدليل جمع القلة "في مفرق" بفتح الراء وكسرها، "رأسه"، أي: مقدمة، لرواية مسلم: قد شمط مقدم رأسه، أو محلّ المفرق منه، وهو وسط الرأس، كما في الصحاح، "إذا ادَّهن، واراهنَّ الدهن" بالفتح والضم- أي: سترهنَّ وغيَّبَهنَّ، وجعلهنَّ مخفيات؛ بحيث لا ترى إلا بدقة نظر لجمعة الشعر، والخلطة بالطيب، وقال القرطبي: المراد أنه كان إذا تطيّب يكون فيه دهن، فيه صفرة تخفي شيبه، وهذا الحديث أخرجه مسلم، والنسائي، عن ابن سمرة، بنحوه، كما يأتي، "وفي رواية البيهقي: كان أسود اللحية حسن الشعر"، أي: ليس بجعد، ولا قطط، "واختلف العلماء" في جواب قول السائل، "هل خضب -عليه الصلاة والسلام- أم لا؟ "، ومثاره اختلاف الرواية في ذلك، فأنكره أنس، وأثبته ابن عمر، كما مَرَّ، وأبو رمثة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحنا. رواه الحاكم، وأصحاب السنن، وسُئِلَ أبو هريرة: هل خضب -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه الترمذي، وغيره، وفي الباب غيرهم. "قال القاضي عياض: منعه الأكثرون، وهو مذهب مالك"، فوافق أنسًا على الإنكار، وتأوَّل حديث ابن عمر بحمله على الثياب لا الشعر، وأحاديث غيره إن صحَّت على أن تلونه من الطيب لا من الصبغ، لما في البخاري وغيره، قال ربيعة: فرأيت شعرًا من شعره -صلى الله عليه وسلم، فإذا هو أحمر، فسألت، فقيل: أحمر من الطيب، قال الحافظ: لم أعرف المسئول المجيب بذلك، إلّا أنَّ الحاكم روى أنَّ عمر بن عبد العزيز قال لأنس: هل خضَّب النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فإني رأيت شعرًا من شعره قد لوّن، فقال: إنما هذا الذي لون من الطيب الذي كان يطيب به شعره، فهو الذي غيِّر لونه، فيحتمل أن يكون ربيع سأل أنسًا عن ذلك، فأجابه، ووقع في رجال مالك للدارقطني، والغرائب له، عن أبي هريرة قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم، خضب من كان عنده شيء من شعره، ليكون أبقى لها، فإن ثبت هذا استقام إنكار أنس، ويقبل ما أثبته سواه التأويل، انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 وقال النووي: المختار أنَّه صبغ في وقت, وترك في معظم الأوقات، فأخبر كلٌّ بما رأى وهو صادق، قال: وهذا التأويل كالمتعين؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين: ولا يمكن تركه ولا تأويل له. وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه, فالجمع بينهما أنه رأى شيبًا يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير, ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير الشيب إلّا قليلًا، انتهى. وعن جابر بن سمرة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- قد شمط مقدم رأسه ولحيته،   "وقال النووي: المختار أنه صبغ" شعره حقيقةً؛ لأن التأويل خلاف الأصل "في وقت، وترك في معظم الأوقات، فأخبر كلٌّ بما رأى، وهو صادق"، وغاية ما يفيده هذا عدم الحرمة؛ لأنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز، فلا يصح استدلال الشافعية به على قولهم: الخضاب بغير سواد سنة، فيحمل حديث من أثبت الخضاب على أنه فعله لإرادة بيان الجواز، ولم يواظب عليه، ويحمل نفي أنس على غلبة الشيب، حتى يحتاج إلى خضابه، ولم يتَّفق أنه رآه وهو يخضب، كما في الفتح, وما رواه الترمذي، عن أنس: رأيت شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخضوبًا، فقد حكم الحفَّاظ بأنه شاذّ، وبينوا أوجه الشذوذ، فلا يقاوم ما في الصحيحين عنه من طرق كثيرة، أنه لم يخضّب، وعلى تقدير الصحة، جمع بأن الشعر لما تغيّر بكثرة الطيب سماه مخضوبًا، وبأنه أراد بالنفي أكثر أحواله، وبالإثبات إن صحَّ عنه أقلّها، "قال: وهذا التأويل كالمتعين؛ لحديث ابن عمر في الصحيحين" السابق قريبًا, أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بالصفرة، "ولا يمكن تركه" لصحته، "ولا تأويل له" فيه نظر؛ إذ هو في نفسه محتمل للثياب والشعر، ثم قد ورد ما يعين الأول، وهو ما في سنن أبي داود، عن ابن عمر نفسه، كان يصبغ -صلى الله عليه وسلم- بالورس والزعفران حتى عمامته، ولذا رجَّحه عياض. "وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه" المناسب لجمعه، أن يقول في أصل شيبه، أي: إثباته ونفيه، أمَّا لفظ قدر: فيقتضي الاتفاق على وجوده، والأمر بخلافه، إلّا أن يقال: لفظ قدر ينتهي إلى العدم، "فالجمع بينهما" أي: بين رواية الشيب وعدمه، وإن اشتمل على عدة أحاديث، "أنه"، أي: جنس الراوي، "رأى شيبًا" أي: بياضًا "يسيرًا، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه" أي: الشيب "أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير من الشيب إلا قليلًا، انتهى" كلام النووي. "وعن جابر بن سمرة"، وقد سئل عن شيبه -صلى الله عليه وسلم "فقال: كان -صلى الله عليه وسلم- قد شمط" بفتح المعجمة، وكسر الميم، "مقدم رأسه ولحيته" بالجر، أي: ومقدم لحيته، أي: خالط سوادهما بياض، وإطلاق الشمط على بياض اللحية حقيقي، كما في المغرب عن الليث، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 وكان إذا ادَّهن لم يتبيّن، فإذا شعث رأسه تبيِّن, وكان كثير شعر اللحية. رواه مسلم والنسائي. وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته. رواه البغوي في شرح السنة.   وجزم به الشامي، مجاز على ما في الصحاح والقاموس من تخصيصه بالرأس، "وكان إذا ادَّهن لم يتبيّن" شيبه؛ لالتباس البياض ببريق الشعر من الدهن، وفي رواية الترمذي: كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيب، وإذا لم يدهن ريء منه، قال المصنف: كذا وقع في أصل سماعنا: دهن من الثلاثي المجرد، وكذا لم يدهن، وفي رواية: أدهن من باب الافتعال، وكذا لم يدهن، وعلى التقديرين يكون رأسه مفعولًا، لكن في المغرب: دهن رأسه وشاربه، إذا طلاه بالدهن، وادَّهن على افتعل إذا تولى ذلك بنفسه، من غير ذلك المفعول، "فإذا شعث رأسه" بعدم الإدهان "تبيّن" شيبه؛ لتفرق شعره، فيصير شيبه مرئيًّا. "وكان كثير شعر اللحية. رواه مسلم والنسائي"، وهو صريح في قلة شيبه أيضًا، كغيره من الأحاديث، "وعن أنس" قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه" بفتح الدال- مصدر بمعنى استعمال الدهن -بالضم- وهو ما يدهن به من زيت وغيره، وجمعه: دهان -بالكسر، وادَّهن على افتعل, تطلى بالدهن، كما في المصباح، كغيره، "وتسريح لحيته" عطف على دهن، لا على رأسه، كما وهم، "رواه البغوي في شرح السنة"، وأبعد المصنف النجعة، فقد رواه الترمذي في جامعه، وشمائله من طريق الربيع بن صبيح، عن يزيد بن أبان -هو الرقاشي، عن أنس به, بزيادة: ويكثر القناع، حتى كان ثوبه ثوب زيات، ومعناه: إنه يكثر دهن رأسه ويتقنع، فكأنَّ الموضع الذي يصيبه رأسه من ثوبه ثوب زيات. قال الحافظ -الشمس بن الجزري: الربيع بن صبيح له مناكير، منها هذا الخبر، فإنه -صلى الله عليه وسلم- كان أنظف الناس ثوبًا، وأحسنهم هيئة، وقد قال: " أصلحوا ثيابكم حتى تكونوا كالشامة في الناس"، وأنكر على من رآه وسخ الثوب، وقال: "أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه" انتهى. وتعقّب بأن الربيع لم ينفرد به، بل تابعه عمر بن حفص العبدي، عن يزيد، عن أبان, كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر التقنّع بثوبه, حتى كأنَّ ثوبه ثوب زيات أو دهان، أخرجه ابن سعد، وإصابة الدهن لحاشية ثوبه إنما كان أحيانًا، وإذا وقع غسله، وذلك لا ينافي كونه أنظف الناس ثوبًا. وقال الحافظ العراقي في شرح الترمذي: هذا الحديث إسناده ضعيف، لكن له شواهد, منهم في الخلعيات عن سهل بن سعد، كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته بالماء، ومنها: في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 قد وصفه -عليه الصلاة والسلام- ابن أبي هالة بأنَّه كان موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط عاري الثديين مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر.   سنن البيهقي، عن أبي سعيد: كان لا يفارق مصلاه سواكه ومشطه، وكان يكثر تسريح لحيته. وإسناده ضعيف، وإكثاره ذلك إنما كان في وقتٍ دون وقت؛ لنهيه عن الادّهان إلّا غبًّا في عدة أحاديث، "وقد وصفه -عليه الصلاة والسلام- ابن أبي هالة؛ بأنه كان موصول ما بين اللبة" بفتح اللام، والموحدة الثقيلة- وهي المنحر، أو النقرة التي فوق الصدر، أو موضع القلادة منه، وقال ابن قتيبة: هي التطامن الذي فوق الصدر، وأسفل الحلق بين الترقوتين، وفيها تنحر الإبل، والقول بأنها الفقرة التي في الحلق غلط، "والسرة" بضم المهملة- ما بقي بعد القطع، والمقطوع سر بلا تاء. قال الجوهري: تقول: عرفت ذلك قبل أن يقطع سرك، ولا تقل سرتك؛ لأن السرة لا تقطع، وإنما هي الموضع الذي قُطِعَ منه السر -بالضم، وما موصول، وموصول مضاف لما بعده إضافة الصفة لمعمولها، والمعنى: وصل الذي بين لبته وسرته "بشعر" متعلق بموصول, "يجري" يمتدّ, شبِّه بجريان الماء، وهو امتداده في سيلانه، "كالخط" واحد الخطوط، وهو الطريقة المستقيمة في الشيء، والخط الطريق، وغالبه الاستقامة والاستواء، فشبِّه بالاستواء، وفي الاصطلاح: ما وصل بين نقطتين متقابلتين، أو ما وجد فيه ثلاث نقط على سمت واحد، وأقصر خط وصل بين نقطتين، فكأنه جعل اللبة نقطة، والسرة نقطة، والشعر الرقيق بينهما خطًّا لاتصاله، والأوّل أعرف وأشهر، وروي: كالخيط, والأول أبلغ في التشبيه، وهذا معنى دقيق المسرية المتقدّم في وصف هند، "عاري الثديين" بفتح أوله ويضم- بقلة, أي: لم يكن عليهما شعر، وفي رواية: الثندوتين -بمثلثة ونون- وهما بمعنًى, قال ابن الأثير: هما للرجل كالثديين للمرأة، فمن ضمَّ الثاء همز، ومن فتحها لم يهمز, انتهى. وقيل: لم يكن عليهما لحم ناتئ عن البدن، لما يأتي أنه أشعر أعالي الصدر، وفيه نظر؛ لأنه لم يذكر فيه أنّ على ثدييه شعرًا، وأيضًا هو خلاف الظاهر المتبادر، قال المصنف: وأيضًا يتعطل قوله: والبطن، "مما سوى ذلك". وفي رواية: ما سوى ذلك, أي: ليس فيهما شعر غيره، فهو قيد للثديين والبطن، إلّا أنه بالنسبة لها للاحتراز، وللثديين ليس للتحرّز عن الخط، بل لأنه لو كان لكان سواه، ورواية: مما -بميمين- أقرب وأنسب، وما موصولة، وفي رواية: ما سوى ذين، وهي أيضًا أظهر, "أشعر"، أي: كثير شعر "الذراعين، والمنكبين، وأعالي" جمع أعلى, "الصدر"، أي: كان على هذه الثلاثة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 وعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحلاق يحلقه, وأطاف به أصحابه, فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل. رواه مسلم. وستأتي إن شاء الله تعالى قصة حلق رأسه الشريف في حجة الوداع. ولم يروَ أنه -عليه الصلاة والسلام- حلق رأسه الشريف في غير نسك حج أو عمرة فيما علمته، فتبقية الشعر في الرأس سنة, ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته. وقد رأيت بمكة المشرَّفة في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وثمانمائة شعرة عند الشيخ أبي حامد المرشدي، شاع وذاع أنها من شعره -صلى الله عليه وسلم، زرتها صحبة المقام المقري خليل العباسي, وإلى الله إحسانه عليه. وعن محمد بن سيرين   شعر غزير, هذا من تتمة الصفتين المارَّتين، وأشعر ضد أجرد، وهو أفعل صفة، لا أفعل تفضيل، "وعن أنس قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في حجة الوداع، "والحلاق" معمر بن عبد الله، كما ذكره البخاري، وقيل: خراش بن أمية -بمعجمتين- والصحيح الأوّل، فإن خراشًا كان الحلاق بالحديبية، "يحلقه" بكسر اللام، "وأطاف به أصحابه" داروا حواله، "فما يريدون أن تقع شعرة إلّا في يد رجل" تيمنًا وتبركًا "رواه مسلم"، وفي الصحيحين عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم، لما حلق رأسه، كان أبو طلحة أوّل من أخذ من شعره، "وستأتي إن شاء الله تعالى قصة حلق رأسه الشريف في حجة الوداع"، من المقصد التاسع، "ولم يروَ أنه -عليه الصلاة والسلام- حلق رأسه الشريف في غير نسك حجٍ أو عمرة" بدل من نسك، "فيما علمته"، وبه جزم ابن القيم، فقال: لم يحلق رأسه إلا أربع مرات, وقال العراقي في سيرته: يحلق رأسه لأجل النسك ... وربما قصره في نسك وقد رووا لا توضع النواصي ... إلا لأجل النسك المحاصي "فتبقية الشعر في الرأس سنَّة، ومنكرها مع علمه يجب تأديبه، ومن لم يستطع التبقية يباح له إزالته"، ولفقهائنا كلام طويل في ذلك، "وقد رأيت مكَّة المشرفة, في ذي القعدة، سنة سبع وتسعين وثمانمائة, شعرة عند الشيخ أبي حامد المرشدي، شاع وذاع أنها من شعره -صلى الله عليه وسلم, زرتها، صحبة المقام المقري خليل العباسي، وإلى الله إحسانه عليه"، وذكر هذا كسابقه، وإن لم يكن من شمائله، لبيان تبرك الناس قديمًا وحديثًا بأثاره، فله مناسبة ما في شمائله، وكذا قوله: "وعن محمد بن سيرين" الأنصاري مولاهم البصري، ثقة ثبت، تابعي عابد, كبير القدر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 قال: قلت لعبيدة، عندنا من شعر النبي -صلى الله عليه وسلم، أصبناه من قِبَلِ أنس أو من قِبَلِ أهل أنس، فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إليّ من الدنيا وما فيها. رواه البخاري. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها   كان لا يرى الرواية بالمعنى، مات سنة عشر ومائة، "قال: قلت لعبيدة" بفتح العين، وكسر الموحدة، آخره هاء- ابن عمرو بن قيس السلماني -بفتح، فسكون- ويقال: بفتحتين- المرادي أبي عمرو الكوفين التابعي، الكبير المخضرم، الثبت, الفقيه، أسلم قبل وفاة المصطفى ولم يره، ومات سنة اثنتين وسبعين أو بعدها، والصحيح أنَّه مات قبل سنة سبعين، "عندنا" شيء "من شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصبناه" أي: حصل لنا "من قِبَلِ" بكسر القاف، وفتح الموحدة- أي: من جهة "أنس، أو من قِبَلِ أهل أنس" بن مالك، ووجه حصوله لمحمد بن سيرين والده، كان مولى أنس، وأنس ربيب أبي طلحة، وكان أوّل من أخذ من شعره، كما في الصحيح "فقال" عبيدة: "لأن تكون عندي شعرة" واحدة "منه، أحب إليّ من الدنيا وما فيها" من متاعها، وللإسماعيلي: أحبّ إلي من كل صفراء وبيضاء. ولام لأنّ لام ابتداء للتأكيد، وأنّ مصدرية، أي: كون شعرة، وأحبّ خبر، فتكون ناقصة، ويحتمل أنها تامّة "رواه البخاري" في كتاب الوضوء. "وعن عمرو بن شعيب" ابن محمد بن عبد الله، بن عمرو بن العاص، "عن أبيه" شعيب "عن جده"، أي: شعيب، وهو عبد الله الصحابي، "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها"، بالسوية، كما في الرواية، لتقرب من التدوير من جميع الجوانب؛ لأن الاعتدال محبوب، والطول المفرط، قد يشوّه الخلق، ويطلق ألسنة المغتابين، ففعل ذلك مندوب، ما لم ينته تقصيص اللحية، وجعلها طاقات فيكره، وكان بعض السلف يقبض على لحيته، فيأخذ ما تحت القبضة، وقال النخعي: عجبت لعاقل كيف لا يأخذ من لحيته، فيجعلها بين لحيتين، فإن التوسّط في كل شيء حسن، ولذا قيل: كلما طالت اللحية تشمّر العقل، ففعل ذلك إذا لم يقصد الزينة والتحسين لنحو النساء سنّة، كما عليه جمع, منهم: عياض وغيره، واختار النووي: كونها بحالها مطلقًا، ثم لا ينافي في فعله -صلى الله عليه وسلم- قوله: "اعفوا اللحى"؛ لأنه في الأخذ منها لغير حاجة، أو لنحو تزين، وهذا فيما احتيج إليه لتشعث أو إفراط، طول يتأذَّى به، وقال الطيبي: المنهي عنه قصها كالأعاجم، أو وصلها كذنب الحمار، وقال الحافظ: المنهي عنه الاستئصال، أو ما قاربه بخلاف الأخذ المذكور. لطيفة: قال الحسن بن المثنَّى: إذا رأيت رجلًا له لحية طويلة، ولم يتخذ لحية بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 رواه الترمذي وقال: حديث غريب. وأخرج الترمذي عن ابن عباس وحسَّنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقصّ شاربه. وعنده من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه فليس منا". وفي الصحيحين: حديث: "خالفوا المشركين, وفِّروا   لحيتين، كان في عقله شيء، وجلس المأمون مع أصحابه مشرفًا على دجلة، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان قط إلّا ونقص من عقله بقدر ما طال منها، وما رأيت عاقلًا قط طويل اللحية، فقال بعض الجلساء: ولا يرد على أمير المؤمنين، أنه قد يكون في طولها عقل، فأقبل رجل كبير اللحية، حسن الهيئة، فأخر الثياب، فقال المأمون: ما تقولون فيه؟ فقال بعضهم: يجب كونه قاضيًا، فأمر بإحضاره، فوقف، فسلّم، فأجاد، فأجلسه المأمون واستنطقه، فأحسن، فقال المأمون: ما اسمك؟ فقال: أبو حمدويه، والكنية علوية، فضحك المأمون، وغمز جلساءه، ثم قال: ما صنعتك؟، قال: فقيه أجيد المسائل، قال: ما تقول فيمن اشترى شاة، فلمَّا تسلمها خرج من إستها بعرة، ففقأت عين رجل، فعلى من الدية؟، قال: على البائع دون المشتري؛ لأنه لما باعها لم يشترط أنَّ في إستها منجنيقًا، فضحك المأمون حتى استلقى على قفاه، وأنشد: ما أحد طالت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته إلّا وما ينقص من عقله ... أكثر مما زادني لحيته "رواه الترمذي" في الاستئذان، "وقال: حديث غريب"، وفيه عمرو بن هارون البلخي، قال الذهبي: ضعّفوه، "وأخرج الترمذي". "عن ابن عباس، وحسَّنه" الترمذي, "قال" ابن عباس: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقص شاربه" في أيّ وقت احتاج إليه، من غير تقييد بيوم، كما أفاده هذا الحديث الحسن، وحديث التقييد بالجمعة ضعيف، كما يأتي "وعنده"، أي: الترمذي أيضًا في الاستئذان، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الطهارة، والإمام أحمد "من حديث زيد بن أرقم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من لم يأخذ من شاربه" ما طال حتى تبين الشفة بيانًا ظاهرًا، "فليس منَّا"، أي: ليس على طريقتنا الإسلامية لندب ذلك مؤكدًا، فتاركه متهاون بالسنة، هذا مذهب الجمهور، وأخذ جمع بظاهره فأوجبوا قصه. وروى أحمد عن رجل من الصحابة رفعه: "من لم يحلق عانته، ويقلّم أظفاره، ويجز شاربه، فليس منا" وحسَّنه بعض الحفاظ لشواهده، فلا يخالف قوله -العراقي: هذا لا يثبت، وفيه ابن لهيعة، "وفي الصحيحين" عن ابن عمر حديث "خالفوا المشركين" في زيهم "وفروا" بشد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 اللحى وأحفوا الشوارب". واختلف في قص الشارب وحلقه, أيهما أفضل, ففي الموطأ: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة، وعن ابن عبد الحكم عن مالك قال: ويحفى الشارب ويعفى اللحى، وليس إحفاء الشارب حلقه، وأرى تأديب من حلق شاربه. وعن أشهب أنَّ حلقه بدعة, قال: وأرى أن يوجع ضربًا من فعله. وقال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفّه من أصله.   الفاء، من التوفير, "اللحى"، أي: اتركوها وافرة لتكثر وتغزر، ولا تتعرضوا لها، وفي رواية: "أوفوا اللحى" أي: اتركوها وافية، وأخرى: أرجئوا -بالجيم والهمز، أي: أخروا، وأخرى: بالخاء المعجمة بلا همز، أي: أطيلوا. قال النووي: وكل هذه الروايات بمعنى واحد، واللحى -بكسر اللام، وحُكِيَ ضمها، وبالقصر والمد جمع لحية بالكسر فقط، اسم لما ينبت على الخدين والذقن، "وأحفوا الشوارب"، قال النووي: بقطع الهمزة ووصلها من: أحفاه وحفاه: استأصله، وقال الزركشي: بألف قطع رباعي أشهر وأكثر، وهو المبالغة في استقصائه، ومنه أحفى في المسألة إذا أكثر، وقال القاضي عياض: من الإحفاء، وأصله الاستقصاء في أخذ الشارب، في معناه: أنهكوا الشوارب في الرواية الأخرى؛ والمراد: بالغوا في قص ما طال منها حتى تبين الشفة بيانًا ظاهرًا استحبابًا، وقيل: وجوبًا، "واختُلِفَ في قص الشارب وحلقه أيهما أفضل"، قال عياض: ذهب كثير من السلف إلى استيعاب الشارب وحلقه، لظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم: "أحفوا وانهكوا"، وهو قول الكوفيين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق، قاله مالك، "ففي الموطّأ: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة"، أي: يظهر ظهورًا واضحًا. "وعن ابن عبد الحكم عن مالك، قال: ويحفى الشارب، ويعفى اللحى, وليس إحفاء الشارب حلقه"، بل أخذ ما طال عن الشفة بقصٍّ ونحوه؛ بحيث ل يؤذي الآكل، ولا يجتمع فيه الوسخ، قال القرطبي: "وأرى تأديب من حلق شاربه" لما فيه من التشبيه بالمجوس، "وعن أشهب" عن مالك، كما في التمهيد: "إن حلقه بدعة" لذلك "قال: وأرى أن يوجع ضربًا من فعله" نائب فاعل يوجع، "وقال النووي: المختار في قص الشارب أنه يقصه حتى يبدو" يظهر "طرف الشفة؛ ولا يحفّه من أصله"، قال -أعني النووي: وأما رواية: أحفوا، فمعناه: أزيلوا ما طال على الشفتين، قال ابن دقيق العيد: لا أدري هل نقله عن مذهب الشافعي، أو قاله اختيارًا منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئًا منصوصًا في هذا، وكان المزني خال والربيع يحفيان شاربهما. وأمَّا أبو حنيفة وصاحباه: فمذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير. وأما أحمد: فقال الأثرم: رأيته يحفي شاربه شديدًا.   لمذهب مالك أ. هـ. لكن سبق النووي الغزالي، فقال في معنى الحديث: أي: اجعلوها حفاف الشفة، أي: حولها، وحفاف الشيء حوله ومنه، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} ، "وقال الطحاوي: لم نجد عن الشافعي شيئًا منصوصًا في هذا، وكان" أصحابه الذين رأيناهم، منهم "المزني خال" الطحاوي، "والربيع, يحفيان شاربهما"، قال: وما أظنهم أخذوا ذلك إلّا عنه، "وأما أبو حنيفة وصاحباه" لفظ الطحاوي: وأصحابه"، فمذهبهم في شعر الرأس والشارب أنَّ الإحفاء"، أي: الإزالة بالكلية "أفضل من التقصير"، قال -أعني الطحاوي: وخالف مالك، "وأمَّا أحمد: فقال الأثرم" بمثلثة- أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي، الفقيه، الحافظ، الثقة، المصنف، روى عنه النسائي، ومات سنة ثلاث وسبعين ومائتين: "رأيته يحفي شاربه شديدًا"، ونَصَّ على أنه أَوْلَى من القص. قال في فتح الباري: وذهب ابن جرير إلى التخيير، فإنه لما حكي قول مالك وقول الكوفيين، ونقل عن أهل اللغة أنَّ الأحفاء الاستئصال، قال: دلّت السنة على الأمرين، ولا تعارض, فالقص يدل على أخذ البعض، والإحفاء يدل على أخذ الكل، فكلاهما ثابت، فيخير فيما شاء. قال الحافظ: فيؤخذ من قول الطبري: ثبوت الأمرين معًا في الأحاديث، فأمَّا الاقتصار على القص، ففي حديث المغيرة: ضفت النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان شاربي وفيّ, فقصه على سواك، رواه أبو دواد، رواه البيهقي بلفظ: فوضع السواك تحت الشارب، وقص عليه، وأخرج البزار عن عائشة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبصر رجلًا شاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوزه. والبيهقي، والطبراني، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني: رأيت خمسة من الصحابة يقصون شواربهم: أبو أمامة الباهلي، والمقدام بن معد يكرب، وعتبة بن عون السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، وعبد الله بن بسر. وأمَّا الإحفاء: فأخرج الطبراني، والبيهقي، عن عبد الله بن أبي رافع، رأيت أبا سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله؛ وابن عمر، ورافع بن خديج، وأبا سعيد الأنصاري، وسلمة بن الأكوع، وأبا رافع، ينهكون شواربهم كالحلق. وأخرج الطبراني عن عروة وسالم والقاسم وأبا سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم. انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 واختلف في كيفية قَصّ الشارب، هل يقص طرفاه أيضًا، وهما المسميان بالسبالين, أم يترك السبالان كما يفعله كثير من الناس؟ قال الغزالي في الإحياء: لا بأس بترك سباليه, وهما طرفا الشارب. فعل ذلك عمر -رضي الله عنه- وغيره؛ لأن ذلك لا يستر الفم, ولا تبقى فيه غمرة الطعام؛ إذ لا يصل إليه. انتهى. وروى أبو داود عن جابر: كنا نحفي السبال إلّا في حجّة أو عمرة. وكره بعضهم إبقاءهه لما فيه من الشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهو أَوْلَى بالصواب لما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر قال: ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجوس فقال: "إنهم يوفِّرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، فكان يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير.   "واختلف في كيفية قص الشارب، هل يقص طرفاه أيضًا، وهما المسميان بالسبالين، أم يترك السبالان، كما يفعله كثير من الناس؟، فقيل: بجواز إبقائهما، وقيل: بكراهته، "قال الغزالي في الإحياء: لا بأس بترك سباليه، وهما طرفا الشارب"، أي: المراد بهما هنا ذلك، وإن كان أحد أقوال حكاها المجد، فقال: السبلة -محركة- الدائرة في وسط الشفة العليا، أو ما على الشارب من الشعر، أو طرفه، أو مجتمع الشاربين، أو ما على الذقن إلى طرف اللحية، كلها أو مقدمها خاصة, جمعه سبال، انتهى. "فعل ذلك عمر -رضي الله عنه- وغيره؛ لأن ذلك لا يستر الفم، ولا تبقى فيه غمرة" زهومة "الطعام؛ إذ لا يصل إليه. انتهى". "وروى أبو داود عن جابر: كنَّا نحفي" نزيل "السبال"، فهو بحاء مهملة، وفي نسخة: نعفي -بعين مهملة، وهي تصحيف؛ لأن الإعفاء بالعين: الإبقاء، فلا يصحّ الاستثناء بقوله: "إلّا في حجة أو عمرة"، لوجوب ترك إزالة الشعر، "و" لذا "كره بعضهم إبقاءه، لما فيه من الشبه بالأعاجم"، وقد قال عمر: إياكم وزي الأعاجم. وقال مالك: أميتوا سنة الجم وأحيوا سنة العرب. "بل بالمجوس وأهل الكتاب، وهو أَوْلَى بالصواب"، وفعل عمر إن صح؛ لعله لم يبلغه النهي، "لما رواه ابن حبان في صحيحه"، والطبراني، والبيهقي "من حديث" ميمون بن مهران، عن "ابن عمر قال: ذُكِرَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- المجوس، فقال: "إنهم يوفِّرون" من التوفير وهو الترك، أي: يتركون "سبالهم"، بلا إزالة، "ويحلقون لحاهم، فخالفوهم"، قال ميمون ابن مهران: "فكان" ابن عمر "يجز" بضم الجيم، وزاي "سباله، كما تجز الشاة أو البعير"، مبالغةً في إزالته، امتثالًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 وروى أحمد في مسنده في أثناء حديثٍ لأبي أمامة: فقلنا يا رسول الله، فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفِّرون سبالهم, فقال: "قصوا سبالكم ووفَِّروا عثانينكم وخالفوهم أهل الكتاب"، والعثانين -بالعين المهملة والثاء المثلثة وتكرار النون- جمع عثنون, وهو اللحية, قاله في شرح تقريب الأسانيد. وأما العانة: ففي حديث أنس, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يتنوّر، ولكن سنده ضعيف. وروى ابن ماجه والبيهقي، ورجاله ثقات، ولكن أعلّ بالإرسال, وأنكر أحمد صحته من حديث أم سلمة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته فطلاها بالنورة وسائر جسده   لأمره -صلى الله عليه وسلم. "وروى أحمد في مسنده في أثناء حديث لأبي أمامة"، صدي بن عجلان الباهلي، "فقلنا: يا رسول الله، فإنَّ أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفِّرون سبالهم، فقال: "قصوا سبالكم، ووفِّروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب" النصارى واليهود، "والعثانين -بالعين المهملة" المفتوحة "والثاء المثلثة، وتكرار النون"، أي: بنونين بينهما تحتية، "جمع عثنون" بضم العين، "وهو اللحية، قاله في شرح تقريب الأسانيد"، وفي القاموس: العثنون: اللحية، أو ما فضل منها بعد العارضين، ونبت على الذقن، وتحته سفلًا أو هو طولها، الجمع: عثانين، انتهى. "وأمَّا العانة" أي: عانته -صلى الله عليه وسلم, أي: ما كان يعله فيها، فقيل: كان يحلقها، وقيل: يزيلها بالنورة، فهي اسم للشعر النابت فوق ذكر الرجل وفرج المرأة، وهو قول ابن الأعرابي؛ ويعقوب بن السكيت، وقال الأزهري وجماعة: هي منبت الشعر على الفرجين لا الشعر نفسه، واسمه: الإسب -بكسر الهمزة وسكون المهملة، وقال الجوهري: هي شعر الركب، "ففي حديث أنس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يتنوّر"، أي: لا يطلي بالنورة -بضم النون- حجر الكلس، ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس، من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر، وتنوّر: أطلي بالنورة، ونوّرته طليته بها، قيل: عربية، وقيل: معربة، قال الشاعر: فابعث عليهم سنة قاشوره ... تحتلق المال كحلق النورة ذكره المصباح، "ولكن سنده ضعيف"، كما جزم به غير واحد وتتمته: وكان إذا كثر شعره حلقه، "وروى ابن ماجه والبيهقي، ورجاله ثقات، ولكن أُعِلَّ بالإرسال"، أي: الانقطاع، "وأنكر أحمد صحته من حديث أم سلمة، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا طلى بدأ بعانته"، أي: بطليها، وبين ما كان يصلي به فقال: "فطلاها بالنورة"؛ إذ الطلاء كل ما يطل به، "و" طلى "سائر"، أي: باقي "جسده" من كل ما فيه شعر يحتاج لإزالته، فشمل الذراعين ولا ينافيه قول هند: أشعر الذراعين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 أهله. وأما الحديث الذي يروى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل حمام الجحفة، فموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث, كما قاله الحافظ ابن كثير، بل لم يتعرّف العرب الحمام ببلادهم إلّا بعد موته -عليه الصلاة والسلام. وأخرج البيهقي من مرسل أبي جعفر الباقر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة.   لأنَّ معناه أن شعرهما يكثر ويطول، فيزيله بالنورة, "أهله" نساؤه -بالرفع فاعل، وروى الخرائطي عن أمّ سلمة، أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان ينوّره الرجل، فإذا بلغ مراقه تولّى هو ذلك. قال ابن القيم: ورد في النورة أحاديث، هذا أمثلها, وقال السيوطي: هو مثبت وأجود إسنادًا من حديث النفي، فيقدَّم عليه، واستعمالها مباح لا مكروه، إلّا أنه يتوقّف في كونه سنّة، لاحتياجه إلى ثبوت الأمر به، كحلق العانة ونتف الإبط، وفعله وإن دلّ على السنية، فقد يقال: هذا من الأمور العادية التي لا يدل فعله لها على سنيّة، وقد يقال: إنما فعله بيانًا للجواز ككل مباح، وقد يقال: إنها سُنَّة، ومحله كله ما لم يقصد اتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في فعله، وإلّا فهو مأجور آتٍ بالسنة, انتهى. "وأمَّا الحديث الذي يروى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل حمام الجحفة" وتنوّر فيه, وهي بالضم، ميقات أهل الشام، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلًا من مكة، كما في القاموس، "فموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، كما قاله الحافظ ابن كثير: بل لم تعرف العرب الحمام ببلادهم إلا بعد موته -عليه الصلاة والسلام"، وما ذكره الديلي بلا سند عن ابن عمر، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: "طاب حمامكما"، فمحمول إن صحّ على الماء المسخَّن خاصَّة من عين ونحوها، وكذا كل ما جاء فيه ذكر الحمّام، قاله السخاوي: وأورد عليه ما رواه الخرائطي، ويعقوب بن سفيان في تاريخه، وابن عساكر، عن محمد بن زياد الإلهاني، قال: كان ثوبان جارًا لي، وكان يدخل الحمام فقلت: وأنت صاحب رسول الله تدخل الحمام؟، فقال: كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل الحمام, فهذا يمتنع تأويله بما قال؛ إذ لا ينكر محمد بن زياد استعمال المسخّن على ثوبان، ولكن إسناده ضعيف جدًّا، "وأخرج البيهقي من مرسل أبي جعفر" محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، "الباقر" صفة لأبيه لقب به؛ لأنه بقر العلم، أي: شقه، فعرف أصله وخفيّه، "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه يوم الجمعة"، قبل الرواح إلى الصلاة، كما في خبر أبي هريرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 وله شاهد موصول من حديث أبي هريرة, لكنَّ سنده ضعيف, أخرجه البيهقي أيضًا في الشعب. وسُئِلَ عنه أحمد فقال: يسن يوم الجمعة قبل الزوال, وعنه: يوم الخميس، وعنه: يتخير. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: هذا هو المعتمد، أنه يستحب كيفما احتاج إليه، قال: ولم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث، وكذا لم يثبت في كيفيته شيء، ولا في تعيين يوم له عن النبي -صلى الله عليه وسلم.   وإلى هذا ذهب الشافعية، والمالكية؛ حيث يذكرون استحباب تحسين الهيئة يوم الجمعة، كقلم ظفر، وقص شارب، واستحدادٍ إن احتاج إلى ذلك، لنحو هذا الحديث، وإن كان مرسلًا، "و" لكن "له شاهد موصول من حديث أبي هريرة؛ لكن سنده ضعيف، أخرجه البيهقي أيضًا في الشعب"، عن أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقلّم أظفاره، ويقصّ شاربه يوم الجمعة، قبل أن يروح إلى الصلاة؛ قال البيهقي عقبه: قال الإمام أحمد: في هذا الإسناد من يُجْهَل. انتهى، لكن يشهد له أيضًا ما رواه الطبراني في الأوسط, والبزار، عن أبي هريرة: من قَلَّمَ أظفاره يوم الجمعة وقي من السوء إلى مثلها. "وسُئِلَ عنه"، أي: عن حكم استحباب الأخذ من الظفر والشارب، أي: وقت "أحمد فقال: يسنّ يوم الجمعة قبل الزوال"؛ لهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة، فبعضها يقوي بعضًا، "وعنه يوم الخميس"؛ لحديث علي رفعه: "قصّ الظفر، ونتف الإبط، وحلق العانة يوم الخميس, والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة". رواه الطبراني، وخبر أبي هريرة مرفوعًا: "من أراد أن يأمن الفقر، وشكاية العمى، والبرص والجنون، فليقلّم أظفاره يوم الخميس بعد العصر، وليبدأ بخنصر اليسرى"، رواه الديلمي وهما واهيان، وفي مسلسلات جعفر المستغفري الحفاظ بإسناد مجهول، عن علي: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقلم أظفاره يوم الخميس، "وعنه يتخيّر" في فعل ذلك أيّ وقت احتاج له، ولا يتقيّد بيوم. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: هذا"، أي: التخيير بين جميع لأزمنة "هو المعتمد"، ولما أوهم ذكر اسم الإشارة, إن المراد التخيير بين الجمعة والخميس، لذكرها عقبهما دفع ذلك، بقوله: "إنه يستحب كيفما احتاج إليه"، وكان الأَوْلَى أن يقول: والمعتمد أنه يستحب, بإسقاط هذا هو. "قال: ولم يثبت في استحباب قص الظفر يوم الخميس حديث"، أي: إنها ضعيفة جدًّا، "وكذا لم يثبت في كيفيته"، أي: صفة قصه "شيء، ولا في تعيين يوم له عن النبي -صلى الله عليه وسلم" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 وما يعزى من النظم في ذلك لعلي -رضي الله عنه, ثم لشيخ الإسلام ابن حجر, قال شيخنا: إنه باطل. والمراد: إزالة ما يزيد على ما يلابس الأصبع من الظفر؛ لأن الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول   شيء، قال السيوطي: وبالجملة، فأرجحها نقلًا ودليلًا يوم الجمعة، والأخبار الواردة فيه ليست بواهية جدًّا, بل فيها متمسك خصوصًا الأوّل، وقد اعتضد بشواهد، مع أنَّ الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال؛ "وما يعزي من النظم في ذلك لعلي -رضي الله عنه"، وهو: ابدأ بيمناك وبالخنصر ... في قص أظفارك واستبصر وثن بالوسطى وثلث كما ... قد قيل بالإبهام والبنصر واختمه في الكف بسبابة ... في اليد والرجل ولا تمتر وفي اليد اليسرى بإبهامها ... والإصبع الوسطى وبالخنصر وبعد سبابتها بنصر ... فإنها خاتمة الأيسر قال السخاوي: وكذب القائل، أي: الناسب هذا النظم لعلي -كرَّم الله وجهه، "ثم لشيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ، "قال شيخنا" السخاوي: إنه باطل"، قال: ونَصّ ما عزي له, وحاشاه من ذلك: في قص فرك يوم السبت آكله ... تبدو وفيما يليه تذهب البركة وعالم أفاضل يبدو بتلوهما ... وإن يكن في الثلاثا فاحذر الهلكة ويورّث السوء في الأخلاق رابعها ... وفي الخميس الغنى يأتي لمن سلكه والعمر والرزق زيدًا في عروبتها ... عن النبي روينا فاقتفي نسكه وقال السيوطي: هذا مفترى عليه، بل في مسند الفردوس بسند واهٍ، عن أبي هريرة مرفوعًا: من قلَّم أظافره يوم السبت خرج منه الدواء، ودخل فيه الشفاء، ومن قلّم أظافره يوم الأحد خرج منه الفاقة، ودخل فيه الغنى، ومن قلَّمها يوم الاثنين خرج منه الجنون، ودخلت فيه الصحة، ويوم الثلاثاء خرج منه المرض، ودخل فيه الشفاء؛ ويوم الأربعاء خرج منه الوسواس والخوف، ودخل فيه الأمن والشفاء، ويوم الخميس خرج منه الجذام، ودخلت فيه العافية، ويوم الجمعة دخلت فيه الرحمة، وخرجت منه الذنوب. قال: وأثار البطلان لائحة عليه. انتهى. "والمراد" مما يأخذه من الأظفار "إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الأصبع من الظفر"، وإنما استحبّ، "لأنَّ الوسخ يجتمع فيه فيستقذر، وقد ينتهي إلى حدٍّ يمنع من وصول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 الماء فيما يجب غسله في الطهارة. وقد حكى أصحاب الشافعي فيه وجهين: فقطع المتولي بأن الوضوء حينئذ لا يصحّ، وقطع الغزالي في الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يفارق سواكه ولا مشطه, وكان ينظر في المرآة إذا سرَّح لحيته. وعن ابن عباس أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة, ثلاثة في هذه, وثلاثة في هذه. رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد ولفظه: كان يكتحل بالإثمد   الماء؛ فيما يجب غسله في الطهارة، وقد حكى أصحاب الشافعي"، أي: مقلد ومذهبه "فيه وجهين: فقطع المتولي" بضم الميم، وفتح الفوقية، والواو، فلام مكسورة "بأن الوضوء حينئذ لا يصح"، وهو المعتمد "وقطع الغزالي في الإحياء بأنه يعفى عن مثل ذلك"؛ إذ أصله الندب، "وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة، كان -صلى الله عليه وسلم- لا يفارق سواكه ولا مشطه، وكان ينظر في المرآة إذا سرح لحيته"، ومناسبة ذكر الحديث في مبحث الشعر ظاهرة؛ إذ المشط والمرآة كل آلة لتنظيفه، وأما السواك فوقع في الحديث، وعادة العلماء يذكرون الحديث بتمامه، وإن كان غرضهم منه لفظة واحدة، فلا تتعسف فتقول: ذكره لمناسبته له، في أنّ كلًّا آلة للتنظيف، "وعن ابن عباس: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له مكحلة" بضم أوله وثالثه- من النوادر الواردة -بالضم، وقياسها الكسر؛ لأنها اسم آلة، "يكتحل منها كل ليلة"، حكمة كونه ليلًا أنه أبقى في العين، وأمكن في السراية إلى طبقاتها. "ثلاثة" متوالية "في هذه"، أي: اليمنى, "وثلاثة" كذلك "في هذه"، أي: اليسرى، وحكمة التثليث توسطه بين الإقلال والإكثار، وخير الأمور أوساطها، وأيضًا فإنه كان يحب الإيتار مع التعدد، وأقلّ مراتب الأعداد التي فيها الإيتار ثلاثة. قال الحافظ العراقي: ليس في الحديث تعرّض للابتداء بالعين اليمنى، وهو مستحب؛ لأنه كان يحب التيمُّن في شأنه كله، وهل تحصل سنة اليمنى باكتحاله فيها مرة، ثم اليسرى مرة، ثم يفعل ذلك ثانيًا وثالثًا، أو لا تحصل إلّا بتقديم المرات الثلاث في الأول, الظاهر الثاني, قياسًا على العضوين المتماثلين في الوضوء، ويحتمل حصولها بالأوّل كالمضمضة والاستنشاق على بعض الصور المعروفة في الجمع والتفرقة. "رواه ابن ماجه والترمذي" بهذا اللفظ، "و" رواه "أحمد، ولفظه: كان يكتحل بالإثمد"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال. وروى النسائي والبخاري في تاريخه, عن محمد بن علي قال: سألت عائشة: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتطيّب؟ قالت: نعم، بذكارة الطيب، المسك والعنبر. وأما مشيه -عليه الصلاة والسلام, فعن علي قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تكفَّا تكفيًا،   بكسر الهمزة، والميم بينهما مثلثة ساكنة: حجر الكحل المعدني المعروف، قال في التهذيب وغيره: ويقال: إنه معرَّب, ومعدنه بالمشرق، وهو أسود يضرب إلى حمرة، "كل ليلة قبل أن ينام"، والظاهر كما قال المصنف أنه كان بعد العشاء، "وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال" جمع ميل، وهو المرود، ويقال له: المكحل والمكحال, بزنة مفتح ومفتاح، ثم هذا الخبر يخالفه خبر ابن عمر، كان -صلى الله عليه وسلم- إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثة مراود، والأخرى مردودين، يجعل ذلك وترًا، رواه الطبراني، وخبر أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يكتحل في اليمنى ثنتين، وفي اليسرى ثنتين، وواحدة بينهما. قال ابن سيرين: هكذا الحديث، وأنا أحب أن يكون في هذه ثلاثًا، وفي هذه ثلاثًا، وواحدة بينهما، رواه ابن عدي. وحديث: من اكتحل فليوتر، فيه قولان، أحدهما: كون الإيتار في كل واحدة منهما، الثاني: كونه في مجموعهما، قال الحافظ: والأرجح الأوّل "وروى النسائي، والبخاري في تاريخه, عن محمد بن علي، قال: سألت عائشة: أكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتطيّب"؟ وجه السؤال: إن رائحته طيبة وإن لم يمسّ طيبًا، "قالت: نعم بذكارة الطيب"، بكسر الذال المعجمة- ما يصلح للرجال "المسك والعنبر" بدل، أو عطف بيان؛ إذ الذكارة -بالكسر- جمع ذكر -بفتحتين- ما يصلح للرجال، وهو ما لا لون له، كالمسك والعنبر والعود والكافور. والذكورة مثله، ومنه الحديث: كانوا يكرهون المؤنّث من الطيب، ولا يرون بذكورته بأسًا، والمؤنث طيب النساء كالخلوط والزعفران، كما في النهاية، ووجه إدخال هذا الحديث في الشعر: أنَّ التطيب يشمل تطييب الشعر؛ "وأما مشيه -عليه الصلاة والسلام، فعن علي" هو نفس الجواب، لكن بتقدير رابط، أي: فورد، أو الجواب محذوف، أي: ففيه أخبار، وإذا أردت معرفتها، فعن علي كذا، وما بعده عطف عليه في المعنى، والأحسن الأوّل "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تكفّا تكفيًا" بكاف وفاء، روي بهمز ودونه تخفيفًا، قاله العراقي. وقال النووي: زعم كثير أن أكثر ما يروى بلا همز، وليس كما قالوا, ومآلهما واحد، وهو يرد قول النور بشتّى الرواية المعتدّ بها بلا همز أ. هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 كأنما ينحطّ من صبب. رواه الترمذي وصحَّحه البيهقي. والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي. وعند البزار من حديث أبي هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها. وعند الترمذي في الشمائل من حديثه: وما رأيت أحدًا أسرع في مشيه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كأنَّما الأرض تطوى له،   قال في النهاية، أي: تمايل إلى قدّام، هكذا روي غير مهموز، والأصل الهمز، وبعضهم يرويه مهموزًا؛ لأنه مصدر تفعَّل من الصحيح، كتقدَّم تقدمًا، وتكفَّأ تكفؤًا، والهمزة حرف صحيح، فإذا اعتلّ انكسرت عين المستقبل منه، نحو: تخفى تخفيفًا، وتسمَّى تسميًا، فإذا خفِّفت الهمزة التحقت بالمعتلّ، فصار تكفيًا بالكسر, انتهى. أي: يسرع المشي؛ كأنه يميل بين يديه من سرعة مشيه، كما تتكفأ السفينة في جريها، ويؤيده قوله: "كأنما ينحطّ" وفي رواية: كأنما يهوي "من صبب"، أي: منحدر من الأرض، أي: كأنما ينزل في موضع منحدر، وهو حال من فاعل تكفأ, مبالغة في التكفي والتثبت في مشيه، "رواه الترمذي، وصحَّحه البيهقي"، ورواه الترمذي أيضًا عن أنس في حديث، "والتكفؤ: الميل إلى سنن المشي" مثلث السين، وبضمتين- نهجه وجهته, كما في القاموس، وهذا التفسير قطع به الأزهري، مخطئًا تفسير شمر يتمايل يمينًا وشمالًا كالسفينة بأنَّه من الخيلاء، وتكفؤ السفينة تمايلها على سمتها الذي يقصد، ويرده قوله: كأنما ينحطّ إلخ، فإنه مفسّر له، وقال الكسائي: أكفأت الإناء وكفأته, إذا كبيته، وأكفأته إذا أملته، ومنه الحديث، أي: تمايل إلى قدام، كما تتكفأ السفينة في جريها. انتهى. وأجاب القاضي عياض؛ بأنَّ التمايل يمينًا وشمالًا إنما يذمّ بالقصد، لا إن كان خلقة، كالغصن، وهو حسن صواب، وأمَّا حمله على سرعة انطواء الأرض تحت قدميه فخلاف الظاهر، "وعند البزار من حديث أبي هريرة: إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها"؛ ليس له أخمص، ومَرَّ هذا الحديث، وأعاده هنا لبيان صفة المشي، "وعند الترمذي في الشمائل من حديثه" أي: أبي هريرة: ما رأيت أحد أحسن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كأنَّ الشمس تجري في وجهه، "وما رأيت أحدًا أسرع في مشيه"، كذا في نسخ من الشمائل بصيغة المصدر، وهي أظهر؛ لأنه الذي يتَّصف بالسرعة والبطء، وفي نسخ: مشيته -بكسر فسكون- أي: كيفية مشيه، قال المصنف: ومعناهما متقارب، والمراد: مشيه المعتاد دون إسراع, "من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كأنما الأرض تطوى" تجمع وتجعل مطوية تحت قدميه، مع كونه على غاية من التأنِّي وعدم العجلة "له"، لا لمن يماشيه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 إنا لنجهد أنفسنا وأنه لغير مكترث. وعند يزيد بن مرثد قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى أسرع حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه: رواه ابن سعد. وروي أنه كان إذا مشى مشى مجتمعًا, أي: قوي الأعضاء غير مسترخٍ في المشي. وقال علي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تقلع.   وأوضحه بقوله: "إنا لنجهد" بفتح النون وضمها، من جَهد كمنع, وأجهد، أي: نتعب "أنفسنا"، ونوقعها في المشقَّة والتعب، أو نحمِّلها في السير فوق طاقتها، ولم يقل: يجهدنا؛ لأنه لم يقصده, إنما هو طبعه، "وأنه" حال من الفاعل "لغير مكترث"، أي: مبالٍ بجهدنا أو غير مسرعٍ؛ بحيث تلحقه مشقة، فكان يمشي على هينته، ويقطع ما نقطع بالجهد من غير جهد، واستعمال مكترث في النفي هو الأغلب؛ وفي الإثبات قليل شاذّ، وعن أبي هريرة: كنت معه -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فكنت إذا مشيت سبقني، فالتفتُّ إلى رجل بجنبي، فقلت: تطوى له الأرض وخليل إبراهيم. رواه أحمد وابن سعد، فأقسم أبو هريرة لما رآه من قطعه للمسافة مع تأنّيه في المشي، وجهد غيره فيه، "وعند يزيد" بتحتية وزاي "ابن مرثد" بفتح الميم والمثلثة, بينهما راء ساكنة ثم مهملة- أبي عثمان الهمداني الصنعاني، من صنعاء دمشق، ثقة, من أواسط التابعين، وله مراسيل. "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى أسرع"، قال الزمخشري: أراد السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت، امتثالًا لقوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] ، أي: أعدل فيه حتى يكون مشيًا بين مشيين، لا يدب دبيب المتماوتين، ولا يثب وثب الشياطين. انتهى. "حتى يهرول" أي: يسرع في المشي دون الخبب، "الرجل وراءه" قال الجوهري: الهرولة ضَرْبٌ من العَدْوِ, وهو بين المشي والعَدْوِ، "فلا يدركه" مع أنه على غاية من الهون والتأني وعدم العجلة، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} "رواه ابن سعد" في الطبقات، "وروي أنه كان إذا مشى مشى مجتمعًا، أي: قوي الأعضاء غير مسترخٍ في المشي"، وعند ابن عساكر: عن ابن عباس، كان يمشي مشيًا يعرف فيه أنه ليس بعاجز ولا كسلان، "وقال علي" فيما رواه الترمذي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى تقلع"، أي: رفع رجليه رفعًا بائنًا، متداركًا إحداهما بالأخرى، مشية أهل الجلادة، يريدان مشيه مثل مشي القلَعة -بفتح اللام، وهي القطعة العظيمة من السحاب، وفي حديث علي هذا أيضًا تلوه: كأنما ينحَطّ من صبب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 وقال ابن أبي هالة: إذا زال زال تقلعًا، يخطو تكفيًا، ويمشي هونًا، ذريع المشية إذا مشى, كأنما ينحط من صبب، وفي رواية: إذا زال زال قلعًا -بالفتح والضم، ثم الفتح- هو مصدر بمعنى الفاعل, أي: لا يزول قالعًا لرجله من الأرض، وهو بالضم, إمَّا مصدر أو اسم, وهو بمعنى الفتح.   "وقال ابن أبي هالة: إذا زال" أي: ذهب وفارق، يقال: زال يزول زوالًا، فارق طريقته أو مكانه جانحًا عنه، ذكره الراغب، "زال تقلعًا" بقاف ومهملة، وهو في الأصل انتزاع الشيء من أصله, أو تحويله عن محله، وكلاهما صالح هنا، أي: ينزع رجله عن الأرض، أو يحولها عن محلها بقوة, وحينئذٍ فضمير زال عائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وتعسف من رجعه للماء في قوله قبله: ينبو عنهما الماء، "يخطو" يمشي "تكفيًا" جملة مؤكدة لمعنى زال تقلعًا، "ويمشي" تفتن، فعبَّر عن المشي بعبارتين؛ كراهة تكرار لفظه، أو هو تتميم لبيان صفة مشيه، ويمشي "هونًا" حال أو صفة ليمشي, بمعنى هينًا أو مشيًا هينًا، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة، والهون الرفق واللين، ومنه خبر: أحبب حبيبك هونًا، وخبر: المؤمنون هينون لينون، وفي المثل: إذا عزَّ أخوك فهن، وإذا عاسر فياسر، والمراد: برفق وسكينة وتثبت ووقار، وحلم وأناة، وعفاف وتواضع، فلا يضرب بقدمه الأرض، ولا يخفق بنعله بطرًا، ولذا كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، قاله في الكشاف. لا يقال شأن الصفة تمييز الموصوف عن غيره، فكيف وصفه بما يشاركه فيه خواص أمته. قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ؛ لأنَّ المراد أنه أثبت منهم في ذلك، وأكثر وقارًا ورفقًا، وسكينة، "ذريع المشية" بالكسر- خلقة، أي: مع كون مشيه هونًا خطاه واسعة كأنما الأرض تطوى له، "إذا مشى" ظرف لما قبل، أو لقوله: "كأنما ينحط" ينزل "من صبب"، أي: محل منحدر، "وفي رواية" في حديث ابن أبي هالة: "إذا زال زال قلعًا" بالنصب حال أو مصدر، "بالفتح" للقاف، "والضم" لها مع إسكان اللام فيهما هذا ظاهره، وفي القاموس: إن الفتح إنما هو مع فتح اللام، "ثم الفتح هو مصدر بمعنى الفاعل"، أي: قالع، "أي: لا يزول"، كذا النسخ, والصواب كما في النهاية: حذف لا؛ إذ المعنى عليه، أي: يزول "قالعًا لرجله على الأرض، وهو بالضم إما مصدر، أو اسم" لمصدر، "وهو بمعنى الفتح" وهذا كله لفظ النهاية وفي القاموس، روي هذا الحديث بالضم بالتحريك، وككتف، أي: إذا مشى يرفع رجليه رفعًا بائنًا، أي: لا يمشي اختيالًا وتنعمًا, انتهى. والمفهوم منه: إن القلع رفعهما رفعًا ظاهرًا؛ بحيث لا يفهم منه الاختيال والتنعم، وجعله مصدرًا بمعنى الفاعل، يفيد إن كان يمشي في حالة كونه قالعًا لرجليه من الأرض؛ وكان المعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 وقال الهروي: قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري: قلعًا -بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري، وهو كما جاء في حديث آخر: كأنما ينحط من صبب، والانحدار من الصبب والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد: إنه كان يستعمل التثبت ولا يتبين منه استعجال ومبادرة شديدة. وذريع المشية: أي: واسع الخطوة, قاله ابن الأثير. وقال ابن القيم: التقلُّع الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحَطّ في الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمّة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، فكثير   إنه لا يجرَّهما في حال مشيه، وهذا بمجرِّده لا يفهم منه الرفع الظاهر؛ بحيث ينفي عنه ما هو صورة اختيال وتنعُّم، إلّا أن يحمل على أنه كان يقلعهما قلعًا تامًّا؛ فيساوي كلام القاموس، قاله شيخنا إملاءً، "وقال الهروي" في كتاب غريبي القرآن والحديث: "قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري" بفتح الهمزة، وإسكان النون- نسبة إلى الأنبار بالعراق، "قلعًا -بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري، وهو كما جاء في حديث آخر، كأنما ينحط من صبب, والانحدار من الصبب" والتكفؤ إلى قدام، "والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض؛ أراد" ابن أبي هالة "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يستعمل التثبت"، أي: يفعل ما يؤدي إليه، وهو التثبيت بوزن التفعيل؛ إذ هو الذي كان يفعله، فينشأ عن التثبت بزنة تفعُّل، وفي نسخة: التثبيت كالتفعيل وهي واضحة؛ "ولا يتبين منه استعجال ومبادرة شديدة"، ألَا تراه يقول: يمشي هونًا ويخط تكفؤًا. إلى هنا كلام الهروي. "وذريع المشية، أي: واسع الخطوة" بضم المعجمة- ما بين القدمين، "قاله": أي: ما ذكره من أوّل قوله بالفتح إلى هنا، مفرقًا في أماكنه "ابن الأثير" في النهاية، إلّا أنه إنما عبَّر بالخطا بالجمع, ونحوه قول الراغب: الذريع الواسع، يقال: فرس ذريع، واسع الخطو، وفي المصباح: الذريع السرع وزنًا ومعنًى، ولا تدافع بين الهون الذي هو عدم العجلة، وبين الانحدار والتقلّع الذي هو السرعة؛ لأن معنى الهون أنه لا يعجل في مشيه، ولا يسعى عن قصد إلا في حادث أو مهم، والانحدار والتقلّع مشيه الخلقي، كذا قال بعضهم. "وقال ابن القيم: التقلع: الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحَطّ في الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات، وأروحها للأعضاء؛ فكثير من الناس" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 من الناس يمشي قطعة واحدة كأنَّه خشبة محمولة، فهي مشية مذمومة، وإمَّا أن يمشي بانزعاج مشي الجمل الأهوج وهي مشية مذمومة، وهي علامة خِفّة عقل صاحبها, ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا. وفي بعض المسانيد: إن المشاة شكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المشي في حجة الوداع فقال: استعينوا بالنسلان, وهو العدو الخفيف الذي لا يزعج الماشي. وأما مشيه -عليه الصلاة والسلام- مع أصحابه، فكانوا يمشون بين يديه وهو خلفهم، ويقول: "خلوا ظهري للملائكة" أمامه, وتركوا ظهره للملائكة، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه   إمَّا "يمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة، فهي مشية مذمومة"، ودليل تقدير ما قوله, "وإمَّا أن يمشي بانزعاج مشي الجمل الأهوج" الطائش السريع في مشيه؛ "وهي مشية مذمومة، وهي علامة خِفَّة عقل صاحبها، ولا سيما إن أكثر الالتفات حال مشيه يمينًا وشمالًا" ولذا قال هند تلو قوله: كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا، أي: لا يسارق النظر, ولا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة. وروى الحاكم عن جابر, كان -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى لم يلتفت. "وفي بعض المسانيد: إن المشاة شكو إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المشي في حجة الوداع، فقال: "استعينوا بالنسلان" بفتح النون والسين المهملة واللام، "وهو العدو" الإسرا "الخفيف الذي لا يزعج الماشي"، وكأنَّه تفسير مراد وإلّا فالنسلان لغةً الإسراع بلا قيد، ومنه {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] "وأمَّا مشيه -عليه الصلاة والسلام مع أصحابه"، أي: مع قصده مشيهم معه, فلا ينافي أنَّه قدم قوله: حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه, وإنا لنجهد أنفسنا وهو غير مكترث؛ لأنه بلا قصد أو أعم، "فكانوا يمشون بين يديه، وهو خلفهم، ويقول: "خلوا ظهري للملائكة"؛ لأنهم يحرسونه من أعدائه، قاله أبو نعيم: ولا ينافيه {يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ؛ لأنه إن كان قبل نزولها فظاهر، وإلّا فمن عصمة الله تعالى له أن يوكّل به جنده من الملأ الأعلى إظهار الشرفة، وفي المستدرك عن جابر: كان إذا مشى مشى أصحابه "أمامه, وتركوا ظهره للملائكة، وهو معنى قول القائل: وكان يسوق أصحابه" يقدمهم بين يديه ويمشي خلفهم، كأنه يسوقهم؛ لأن هذا شأن الراعي، أو لأنَّ من كمال التواضع أن لا يدع أحدًا يمشي خلفه، أو ليختبر حالهم، وينظر إليهم حال تصرفهم في معاشهم، وملاحظتهم لنظرائهم، فيربي من يستحق التربية، ويكمل من يحتاج إلى التكميل، ويعاتب من يستحق العتب، ويؤدّب من يستحقه، وهذا شأن الولي مع المولى عليه، أو ليخلي ظهره للملائكة، احتمالات لا مانع من إرادة جميعها، قال النووي: وإنما تقدمهم في قصة جابر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 ويماشيهم فرادى وجماعة. ومشى -عليه الصلاة والسلام- في بعض غزواته مرة, فانجرحت أصبعه وسال منها الدم, فقال: "هل أنت إلّا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت". رواه أبو داود. ولم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ظل في شمس ولا قمر. رواه الترمذي الحكيم عن ذكوا   لأنه دعاهم إليه، فجاءوا تبعًا له، كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهما؛ وفي حديث هند: يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. وفي رواية: ينس أصحابه -بنون ومهملة- أي: يسوق كما في الفائق، "ويماشيهم فرادى وجماعة، ومشى -عليه الصلاة والسلام- في بعض غزواته"، قيل: هي غزوة أحد "مرَّة، فانجرحت أصبعه" هي مؤنثة؛ ولذا قال: انجرحت، وقد تذكّر، وفيها لغات عشرة، جمعها القائل: وهمز أنملة ثلث وثالثه ... والتسع في أصبع واختم بأصبوع "وسال منها الدم، فقال" منشدًا قول ابن رواحة، كما عند ابن أبي الدنيا، والوليد بن الوليد، كما عند الواقدي: "هل" أي: ما "أنت إلا أصبع دميت" بفتح فكسر- خاطبها على سبيل الاستعارة أو الحقيقة معجزة له، تسلية لها وتخفيفًا لما أصابها، أي: تثبتي وهوني عليك، فإن ما لقيتيه ليس قطعًا لا هلاكًا، "وفي سبيل الله"، أي: قتال أعدائه؛ لإعلاء كلمته ونصرة دينه "ما لقيت" فلا تحزني، بل افرحي، وما موصولٌ حذف عائده، أو استفهامية، وإن كان الاستفهام له صدر الكلام لأنَّ الأصل: وما لقيت في سبيل الله، أو نافية، أي: ما لقيت شيئًا في سبيل الله, تحقيرًا لما لقيته وتمنيًا لما زاد، "رواه أبو داود"، والترمذي من حديث جندب البجلي، وتقدَّم أن الممتنع عليه -صلى الله عليه وسلم- إنشاء الشعر لا إنشاده، فلا وجه لزعم أن هذه الرواية مع شهرتها غفلة، وأن الرواية بصيغة الغيبة، حتى لا يكون موزونًا، أو أنه جاء بلا قصد وشرط تسميته شعر، القصد إلى أنه شعر، ولذا جاء بعض الموزون في القرآن، نحو: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] ، فليس بشعر؛ لأنه لم يقصد به الشعر، وإن كان على زنته، وغير ذلك من الأجوبة المعلوم، "ولم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ظلّ في شمس ولا قمر"؛ لأنه كان نورًا، كما قال ابن سبع، وقال رزين: الغلبة أنواره، قيل: وحكمة ذلك صيانته عن أن يطأ كافر على ظله، وإطلاق الظل على القمر مجاز؛ لأنه إنما يقال له ظلمة القمر ونوره، وفي المختار: ظل الليل سواده، وهو استعارة؛ لأن الظل حقيقة ضوء شعاع الشمس دون السواد، فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة لا ظلّ، "رواه الترمذي الحكيم عن ذكوان"، أبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 وقال ابن سبع: كان -صلى الله عليه وسلم- نورًا، فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل. قال غيره: ويشهد له قوله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: "واجعلني نورًا". وأما لونه الشريف الأزهر -صلى الله عليه وسلم, فقد وصفه جمهور أصحابه بالبياض، منهم: أبو بكر وعمر وعلي وأبو جحيفة وابن عمر وابن عباس وابن أبي هالة والحسن بن علي وأبو الطفيل ومحرش الكعبي وابن مسعود والبراء بن عازب، وعائشة، وأنس في إحدى الروايتين عنه. فأما أبو جحيفة فقال: كان أبيض. رواه البخاري. وأمَّا أبو الطفيل فقال: كان أبيض مليحًا. رواه الترمذي في الشمائل، وفي رواية مسلم:   صالح السمان، الزيات المدني، أو أبي عمر، والمدني مولى عائشة، وكلّ منهما ثقة من التابعين، فهو مرسل, لكن روى ابن المبارك وابن الجوزي، عن ابن عباس: لم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- ظل، ولم يقم مع الشمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوء السراج، "وقال ابن سبع: كان -صلى الله عليه وسلم- نورًا، فكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل"؛ لأن النور لا ظلَّ له، "قال غيره: ويشهد له قوله -صلى الله عليه وسلم- في دعائه" لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا. ختم بقوله: "واجعلني نورًا"، أي: والنور لا ظل له، وبه يتمّ الاستشهاد. "وأما لونه الشريف الأزهر -صلى الله عليه وسلم، فقد وصفه جمهور أصحابه" الواصفين له "بالبياض، منهم: أبو بكر" الصديق، "وعمر" الفاروق، "وعلي وأبو جحيفة" بجيم، ومهملة، وفاء- مصغرة, وهب بن بد الله، "وابن عمر" بن الخطاب، "وابن عباس، وابن أبي هالة، والحسن بن علي، وأبو الطفيل" عامر بن واثلة، "ومحرش الكعبي" بضم الميم، وفتح الحاء، وكسر الراء، الثقيلة، وشين معجمة، "وابن مسعود، والبراء بن عازب، وعائشة، وأنس في إحدى الروايتين عنه" وهي رواية أصحابه عنه، ما عدا حميدًا فقال: أسمر اللون. قال الحافظ العراقي: انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه، فقال: أزهر اللون، فهؤلاء خمسة عشر صحابيًّا وصفوه بالبياض، وكذا وصفه به أبو هريرة -كما قدَّم المصنف، وسعد بن أبي وقاص، "فأمَّا أبو جحيفة فقال: كان أبيض. رواه البخاري" في الصفة النبوية. "وأما أبو الطفيل فقال: كان أبيض مليحًا" مقصدًا. هذا بقية حديثه الذي "رواه الترمذي في الشمائل"، من طريق يزيد بن هارون، عن سعيد الجريري، عن أبي الطفيل، وبهذا اللفظ رواه مسلم في الصحيح من طريق عبد الأعلى، عن الجريري عنه, من فالعز ولمسلم أحق خصوصًا، وقد أوهم أن مسلمًا لم يروه بهذا اللفظ، بقوله: "وفي رواية مسلم" من طريق خالد بن عبد الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 كان أبيض مليح الوجه. وفي رواية عنه للطبراني: ما أنسى شدة بياض وجهه مع شدة سواد شعره. وفي شعر أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وقال علي: أبيض مشرب. والمشرب: هو الذي في بياضه حمرة، كما قال في الرواية الأخرى: أبيض مشرب بحمرة، وبه فسّر قول أنس في صحيح مسلم: أزهر اللون. وفي النسائي من حديث أبي هريرة: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- جالس بين أصحابه جاء   عن الجريري، عن أبي الطفيل: "كان أبيض مليح الوجه", أي: حسنه, من ملح فهو مليح، ومقصدًا -بشد المهملة المفتوحة- اسم المفعول، أي: متوسطًا بين الطول والقصر، أو بين الجسامة والنحافة، أو أن جميع أوصافه في نهاية من التوسط، كأنَّ خلقه نجى به القصد، "وفي رواية عنه" أي: أبي الطفيل "للطبراني: ما أنسى شدة بياض وجهه، مع شدة سواد شعره، وفي شعر أبي طالب" في قصيدته الطويلة التي قالها، لما تمالأت قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم، وقدّم المصنف أبياتًا منها، "وأبيض" بالنصب, عطفًا على قوله في البيت قبله: وما ترك قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل لا مجرور بربَّ كما زعم، وفي رواية بالرفع, أي: هو أبيض "يستسقى الغمام بوجهه"، قاله ن مشاهدة لذلك مرتين، كما مَرَّ، لا لما رأى في وجهه من مخايل ذلك، وإن لم يشاهده، كما أبداه بعضهم احتمالًا، وجزم به آخر، فإنه عجب "ثمال اليتامى" بكسر المثلثة، وخفة الميم- هو العماد والملجأ، والمطعم والمغيث والمعين، والكافي, "عصمة للأرامل" أي: يمنعهم ما يضرهم, جمع أرملة، وهي الفقيرة التي لا زوج لها، "وقال: على أبيض مشرب" بصيغة اسم المفعول مخففًا ومثقلًا روايتان، "والمشرب هو الذي في بياضه حمرة"، أي: إنه المراد هنا "كما قال" علي "في الرواية الأخرى" عند الترمذي والبيهقي: "أبيض مشرب بحمرة"، والروايات يفسّر بعضها بعضًا، خصوصًا مع اتحاد المخرج، وإن كان الإشراب -كما في الصحاح وغيره: خلط لون بلون، كأنَّ أحد اللونين سقي بالآخر، يقال: مشرب -بالتخفيف، فإذا شدّد كان للتكثير والمبالغة، فهو هنا للمبالغة في البياض على رواية التشديد، "وبه فسّر قول أنس في صحيح مسلم"، وكذا البخاري في الصفة النبوية: "أزهر اللون"، أي: أبيض مشرب بحمرة، وقد وقع ذلك صريحًا في حديث أنس من وجه آخر عند مسلم، "وفي النسائي، من حديث أبي هريرة: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- جالس"، أي: بين أوقات جلوسه "بين أصحابه"؛ لأن بين، إنما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 رجل فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقالوا: هذا الأمغر المرتفق. والأمغر: المشرب بحمرة, والمرتفق: المتكئ على مرفقه. وفي البخاري من حديث أنس: ليس بأبيض أمهق. قال الحافظ بن حجر: ووقع عند الداودي تبعًا لرواية المروزي: أمهق ليس بأبيض. وفي رواية عند ابن أبي حاتم وغيره: أسمر. واستشكله بعضهم وقال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع؛ كالأبيض مع رواية المشرب بالحمرة والأزهر، وبعضها غير ممكن الجمع؛ كالأبيض الشديد الوضح مع الأسمر. واعترض الداودي رواية: أمهق ليس بأبيض, وهي التي وقعت عنده تبعًا لرواية المروزي.   تضاف لمتعدد "جاء رجل" هو ضمام بن ثعلبة، "فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ " نسبه إلى جده لشهرته به، "فقالوا: هذا الأمغر" بميم وغين معجمة وراء, "المرتفق" وفي رواية الصحيح، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، "والأمغر: المشرب بحمرة، والمرتفق: المتكئ على مرفقه"، قال الليث: الأمغر الذي في وجهه حمرة في بياض صافٍ. "وفي البخاري" ومسلم، كلاهما "من حديث" ربيعة، عن "أنس": أزهر اللون "ليس بأبيض أمهق" بفتح الهمزة والهاء بينهما ميم ساكنة- أي: شديد البياض كلون الجص، ولا آدم، كما في الصحيحين، بالمد أي: شارح البخاري "تبعًا لرواية المروزي" أبي زيد محمد بن أحمد، الفقيه، أحد رواة البخاري عن الفربري: "أمهق ليس بأبيض"، وهي مقلوبة, أولها وجه -كما يأتي، "وفي رواية عند ابن أبي حاتم، وغيره: أسمر، واستشكله بعضهم، وقال: إن غالب هذه الروايات متدافع، وبعضها ممكن الجمع، كالأبيض مع رواية المشرب بالحمرة والأزهر"، فيجمع بينها بحمل أبيض على ما خالطه حمرة، وكذا أزهر، ويبقى المشرب بحمرة على ظاهره، "وبعضها غير ممكن الجمع؛ كالأبيض الشديد الوضح" بفتحتين- أي: الخالص المنكشف البياض، "مع الأسمر"، وهذا وقع في زيادات عبد الله بن أحمد في المسند عن علي: أبيض شديد الوضح، ومخالفته لقول أنس: ليس بأبيض أمهق واضحة، قال الحافظ: ويمكن الجمع بحمل رواية علي على ما تحت الثياب مما لا يلاقي الشمس، "واعترض الداودي رواية أمهق: ليس بأبيض، وهي التي وقعت عنده" في شرحه، "تبعًا لرواية المروزي"؛ لأن المهق شدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 وقال القاضي عياض: إنها وهم. قال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم، ليس بصواب. قال الحافظ بن حجر: هذا ليس بجيد؛ لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض, ولا بالآدم الشديد الأدمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء في حديث أنس عند أحمد والبزار وابن منده بإسناد صحيح, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسمر اللون، وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أنس، فذكر الصفة النبوية فقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض بياضه إلى السمرة. وفي حديث ابن عباس في صفته -صلى الله عليه وسلم: رجل بين رجلين, جسمه ولحمه، أحمر إلى البياض. أخرجه أحمد. وقد تبيّن من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط   البياض؛ بحيث لا يخالطه حمرة، فيصير المعنى: أبيض ليس بأبيض، "و" لذا "قال القاضي عياض: إنها" أي: هذه الرواية "وهم" غلط؛ "قال: وكذلك رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا الآدم" بالمد، "ليس بصواب, قال الحافظ ابن حجر: هذا" الثاني "ليس بجيد؛ لأن المراد أنَّه ليس بالأبيض الشديد البياض"، بدليل وصفه في الرواية الثانية بأمهق، "ولا بالآدم الشديد الأدمة" بالضم- السمرة، "وإنما يخالط بياضه" مفعول "الحمرة" فاعل؛ لأن بياضه هو الأصل الكثير, والحمرة شيء قليل تخالطه، "والعرب قد تطلق على كل من كان كذلك أسمر"، هذا إنما يتم أن ثبت هذا الإطلاق بشاهد من كلامهم, وأتى به، كذا قيل، وفيه: إن من حفظ حجة، "ولهذا جاء في حديث أنس عند أحمد، والبزار، وابن منده، بإسناد صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسمر اللون"، لكن وإن صحَّ إسناده, فقد أعلَّه الحافظ العراقي بالشذوذ، فقال: هذه اللفظة انفرد بها حميد عن أنس، ورواه غيره من الرواة عنه بلفظ: أزهر اللون، ثم نظرنا من روى صفة لونه -صلى الله عليه وسلم- غير أنس، فكلهم وصفوه بالبياض، وهم خمسة عشر صحابيًّا، انتهى. "وأخرجه البيهقي في الدلائل، وجه آخر عن أنس" بلفظ آخر، "فذكر الصفة النبوية، فقال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبيض، بياضه إلى السمرة"، أي: يميل إليها, بمعنى: أن فيه حمرة قليلة، "وفي حديث ابن عباس في صفته -صلى الله عليه وسلم: رجل بين رجلين"، أي: ليس بالطويل ولا القصير، "جسمه, ولحمه أحمر"، أسقط من الفتح, وفي لفظ: أسمر "إلى البياض. أخرجه أحمد" وسنده حسن، كما في الفتح "وقد تبيّن من مجموع الروايات أنَّ المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 البياض، وأن المراد بالبياض المثبت ما تخالطه الحمرة، والمنفي ما لا تخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبيّن أن رواية المروزي: بأمهق, ليس بأبيض, مقلوبة, على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق: الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية، ولا سمرته ولا حمرته، فقد نقل عن رؤبة: إن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتمّ على تقدير ثبوت الرواية، وقد تقدَّم في حديث أبي جحيفة إطلاق كونه كان أبيض، وكذا في حديث أبي الطفيل عند مسلم والترمذي. وفي حديث سراقة, عند ابن إسحاق: فجعلت أنظر إلى ساقه كأنها جمارة. ولأحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة قال: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة. وعن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان شديد البياض. أخرجه   البياض، وأنّ المراد بالبياض المثبت ما تخالطه الحمرة، والمنفي ما لا تخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق، وبهذا تبيّن أن رواية المروزي: ليس بأبيض, مقلوبة"، والأصل: أبيض ليس بأمهق، "على أنه يمكن توجيهها؛ بأنَّ المراد بالأمهق: الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية، ولا سمرته" في الغاية، "ولا حمرته" في الغاية، فحذفت فيهما اكتفاءً بالأول. "فقد نقل عن رؤبة" بن العجاج, واسمه: عبد الله بن رؤبة بن لبيد التميمي، مخضرم، شاعر إسلامي هو وأبوه, له حديث واحد في الحداء، ولم يكن بروايته بأس، قاله ابن عدي: وقال النسائي: ليس بقوي في الحديث، وقال لأبيه: أنا أشعر منك، قال: وكيف؟ قال لأنّي شاعر بن شاعر، وأنت شاعر ابن مفحم، مات سنة خمس وأربعين ومائة؛ "إن المهق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتم على تقدير ثبوت الرواية"، لكنها لم تثبت لشذوذها بمخالفتها لرواية الجماعة، فلا يتم التوجيه، "وقد تقدّم في حديث أبي جحيفة، إطلاق كونه كان أبيض؛ وكذا في حديث أبي الطفيل عد مسلم، والترمذي" وتقدَّم أيضًا في شعر أبي طالب، "وفي حديث سراقة" المدلجي، "عند ابن إسحاق: فجعلت أنظر إلى ساقه"، ما بين الركبة والقدم, مؤنَّثة، ولذا قال: "كأنها جمارة" قلب النخلة، ومنه يخرج التمر والسعف، وتموت بقطعه. "ولأحمد من حديث محرش الكعبي في عمرة الجعرانة قال: فنظرت إلى ظهره كأنَّه سبيكة فضة، وعن سعيد بن المسيب" بكسر الياء وفتحها, "إنه سمع أبا هريرة يصف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: كان شديد البياض" ومَرَّ قوله أيضًا: كان أبيض كأنما صيغ من فضة "أخرجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 يعقوب بن سفيان والبزار بإسناد قوي. ويجمع بينهما بما تقدّم. وقال البيهقي: يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحا للشمس والريح كالوجه والعنق, وأمَّا ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض. انتهى. وهذا ذكره ابن أبي خيثمة عقب حديث عائشة في صفته -صلى الله عليه وسلم- بأبسط من هذا, وزاد: ولونه الذي لا شك فيه الأبيض الأزهر. انتهى. وتعقّب بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسًا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن -عليه الصلاة والسلام- ملازمًا للشمس، نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه في وقت غيِّرته الشمس لأمكن، فالأَوْلَى حمل السمرة في رواية أنس على الحمرة التي تخالط البياض كما قدمته. تنبيه: في الشفاء حكاية أحمد بن أبي سليمان صاحب عن سحنون: من قال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسود يقتل. انتهى.   يعقوب بن سفيان" الحافظ أبو يوسف الفسوي -بالفاء، "والبزار، بإسناد قوي، ويجمع بينهما بما تقدَّم" من قوله: المراد بالبياض المثبت: ما تخالطه الحمرة، والمنفي ما لا تخالطه، "وقال البيهقي" في الجمع بينهما "يقال: إن المشرب منه بحمرة وإلى السمرة منه ما ضحا" ظهر "للشمس والريح، كالوجه والعنق، وأمَّا ما تحت الثياب فهو الأزهر الأبيض. انتهى". "وهذا ذكره" الحافظ أحمد "بن أبي خيثمة، عقب حديث عائشة في صفته -صلى الله عليه وسلم- بأبسط من هذا، وزاد: ولونه الذي لا شكَّ فيه الأبيض الأزهر. انتهى" كلام الحافظ في الفتح "وتعقّب"، وفي نسخة: ضعَّف "بعضهم قول من قال: إنما وصف بالسمرة ما كانت الشمس تصيب منه، بأن أنسًا لا يخفى عليه أمره" شأنه وحاله، "حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن -عليه الصلاة والسلام- ملازمًا للشمس، نعم, لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه في وقتٍ غيِّرته الشمس لأمكن، فالأَوْلَى حمل السمرة في رواية أنس على الحمرة التي تخالط البياض كما قدمته"، أي: وهي في جميع بدنه؛ لقول ابن عباس: جسمه ولحمه أحمر إلى البياض "تنبيه: في الشفاء حكاية أحمد بن أبي سليمان" القيرواني، والفقيه، المتوفى سنة سبع وثمانين ومائتين، "صاحب عن سحنون" وهو أحد السبعة الذين كانوا بإفريقية في وقت واحد, من رواة سحنون "من قال أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أسود يقتل، انتهى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 وهذا يقتضي أن مجرد الكذب عليه في صفة من صفاته كفر يوجب القتل. وليس كذلك، بل لا بد من ضميمة ما يشعر بنقص في ذلك. كما في مسألتنا هذه, فإن الأسود لون مفضول. وأما طيب ريحه وعرقه وفضلاته -عليه الصلاة والسلام, فقد كانت الرائحة الطيبة صفته -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يمس طيبًا. وروينا عن أنس: ما شممت ريحًا قط   "وهذا يقتضي أنَّ مجرد الكذب عليه في صفة من صفاته كفر يوجب القتل، وليس كذلك، بل لابُدَّ من ضميمة ما يشعر بنقص في ذلك، كما في مسألتنا هذه، فإن الأسود لون مفضول" لكن هذا اعتراض عجيب من شافعي بمذهبه على مالكي حاكٍ لمذهب مالك، فمذهبه أنَّ من غيِّر صفته، كما لو قال قصيرًا أو أسودًا يقتل، وإن ظهر أنه لم يرد ذمَّه لجهلٍ أو سكر أو تهور، كما في المختصر، "وأما طيب ريحه وعرقه"، لونًا وريحًا وكثرةً، "وفضلاته" برفعهما عطفًا على طيب، وجرهما على ريح، والأول أظهر لذكره لون العرق وكثرته، وابتلاع الأرض بوله وغائطه، وعدم اطّلاع أحدٌ عليهما؛ فلم يقتصر على طيب ريحها منه "عليه الصلاة والسلام"، وجواب أمَّا محذوف، أي: فكانت أحوالها وصفاتها خارقة للعادة، وإذا أردت معرفة ذلك، "فقد كانت الرائحة الطيبة صفته -صلى الله عليه وسلم"، ويحتمل أن هذا جواب، أمَّا لكن ليس في الخبر ضمير يربطه بالمبتدأ؛ إذ المبتدأ طيبٌ المضاف لريحٍ المضاف لضمير المصطفى، وضمير صفته لنفسه -عليه السلام، لا لطيب الواقع مبتدأ, نعم في الخبر ضمير يعود على المضاف إلى المضاف إلى المبتدأ، فإن اكتفى بذلك فلا إشكال، ولكن الأَوْلَى أن الجواب محذوف، قرره شيخنا، "وإن لم يمس طيبًا"، ومع هذا كان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في طيب ريحه، لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي ومجالسة المسلمين، قاله النووي: ولأنّه حُبِّبَ إلي، كما قال: "حُبِّبَ إليَّ من نياكم النساء والطيب". وروى ابن مردويه عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- منذ أسري به ريحه ريح عروس، وأطيب من ريح عروس، ولا دلالة فيه على أنّ مبدأ طيب ريح جسده من ليلة الإسراء -كما زعم؛ إذ ريح عروس أخص من مطلق رائحة طيبة، فلا ينافي أنه طيب الرائحة من حين وُلِدَ، كما رواه أبو نعيم والخطيب، أن أمه آمنة لما ولدته قالت: ثم نظرت إليه؛ فإذا هو كالقمر ليلة البدر، ريحه يسطع كالمسك الأذفر، "وروينا عن أنس: ما شممت ريحًا قط"، أي: لطيب أو طيبًا؛ إذ الريح المطلق من الأوصاف التي لا تقوم بذاتها، بل شمه لا يتصور، والمعنى: إنه شم روائح طيبة، وريح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 ولا مسكًا ولا عنبرًا أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث رواه الإمام أحمد. وفي رواية البخاري: ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي -صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الترمذي: ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   المصطفى أطيب منها؛ لأن النفي إذا كان على مقيّد توجَّه النفي إلى قيده، "ولا مسكًا" بكسر الميم- والمشهور أنه دم يتجمّد في خارج سرة ظباء معينة، في أماكن مخصوصة، وينقل بحكمة الحكيم أطيب الطيب، وفي الحديث: "أطيب الطيب المسك" رواه مسلم وغيره، "ولا عنبرًا" بنون فموحدة- روث دابّة بحرية، أو نبع عين فيه, ويؤنّث، "أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وهما من عطف الخاص على العام؛ إذ المراد رائحة المسك والعنبر، وهي من أفراد ما قبلها لا ذاتهما، "الحديث رواه الإمام أحمد" في المسند، "وفي رواية البخاري" في كتاب الصيام، من طريق حميد، ومسلم في الصفة النبوية من طريق ثابت، كلاهما عن أنس في آخر حديث: "ولا شممت مسكة" قطعة من مسك، "ولا عنبرة" قال الحافظ: ضبط بسكون النون، بعدها موحدة، وبكسر الموحدة، بعدها تحتانية، والأوّل معروف، والثاني طيب معمول من أخلاطٍ يجمعها الزعفران، وقيل: هو الزعفران نفسه، ووقع عند البيهقي: ولا عنبرًا ولا عبيرًا، ذكرهما جميعًا أ. هـ. وفسَّر المصنف عنبرة -بنون ساكنة، فموحدة مفتوحة: قطعة من العنبر المعروف، "أطيب من رائحة"، وللكشميهني: من ريح "النبي -صلى الله عليه وسلم"، وإذا أودع الله بعض الحيوان محاسن بعض المشمومات كالمسك من الغزال، والزباد من الهرة، فلا بدع في أن يدع في أشرف خلقه ما هو أطيب من ذلك، من نفس خلقته، "وفي رواية الترمذي" من حديث ثابت، عن أنس في حديث: "ولا شممت مسكًا قط، ولا عطرًا" بكسر العين- الطيب, جمعه عطور، فهو عطف عام على خاص، كرواية: ولا شيئًا "كان أطيب من عرق" بفتح العين والراء- رشح بدن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية: عرف -بفتح العين، وسكون الراء، وبالفاء- وهو الريح الطيب. قال المصنّف: على الشمائل، وكلاهما صحيح، لكنّ معظم الطرق يؤيد الأوّل، يعني: ريحه أطيب مماسة من أنواع الروائح، فلا يرد أن نفي الشم لا يدل على الأطيبية، وهو المقصود على أنّه قد يراد بنفي العلم نفي المعلوم، والمراد حال ريحه الذاتية لا المكتسبة، كما هو المتبادر من ترجيح بعض على بعض، ولو أريد المكتسبة لم يكن فيه كمال مدح، بل لا تصح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 وقوله: شممت -بكسر الميم الأولى وسكون الثانية. وعن أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمي قالت: كنَّا عند عتبة أربع نسوة، فما منَّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب من صاحبتها، وما يمسّ عتبة الطيب إلّا أن يمس دهنًا يمسح له لحيته, ولهو أطيب ريحًا منه، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحًا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يومًا: إنا لنجتهد في الطيب، ولأنت أطيب ريحًا منَّا, فممَّ ذلك؟ قال: أخذني الشرى على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته, فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرَّد، فتجردت عن ثوبي وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي، فنفث في يده ثم مسح ظهري وبطني بيده، فعبق بي هذا الطيب من يومئذ   إرادته وحده، "وقوله: شممت -بكسر الميم الأولى وسكون الثانية"، وحكى الفراء فتح الأولى, وبه ردَّ زعم ابن درستويه أنها من خطأ العامة، ومضارع المكسور أشِم -بفتح الشين، والمفتوح اسم بضمها، "وعن أم عاصم امرأة عتبة" بضم المهملة، وسكون الفوقية، "ابن فرقد" بفتح الفاء، والقاف بينهما راء ساكنة- ابن يربوع بن حبيب بن مالك بن أسعد بن رفاعة، "السلمي". وقال ابن سعد: يربوع هو فرقد، شهد خيبر، وقسم له منها، فكان يعطيه لبني أخواله عامًا، ولبني أعمامه عامًا، وغزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- غزوتين، وولّاه عمر في الفتوح، ففتح الموصل سنة ثمان عشرة مع عياض بن غنم، ونزل بعد ذلك الكوفة، ومات بها، ذكره في الإصابة، "قالت: كنا عند عتبة" حال من "أربع نسوة"؛ لأنه في الأصل صفة لها، فلمَّا قدِّم أعرب حالًا، وأربع خبر كان، "فما منَّا امرأة إلّا وهي تجتهد في الطيب" أي: في تحصيل أحسنه واستعماله، "لتكون أطيب من صاحبتها"، كما هو شأن الضرائر، "وما يمسّ عتبة الطيب إلّا أن يمس دهنًا" مطيبًا "يمسح به لحيته، ولهو أطيب ريحًا منه، وكان إذا خرج إلى الناس قالوا: ما شممنا ريحًا أطيب من ريح عتبة، فقلت له يومًا: إنا لنجتهد في الطيب، ولأنت أطيب ريحًا منَّا، فممَّ"، أي: من أي سبب "ذلك" الوصف الذي ثبت لك، "قال: أخذني الشرى" بثور صغار حمر، حكاكة مكربة تحدث دفعة غالبًا، وتشتد ليلًا لبخارٍ حارٍّ يثور في البدن دفعة، كما في القاموس، "على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فشكوت ذلك إليه، فأمرني أن أتجرَّد، فتجردت عن ثوبي، وقعدت بين يديه، وألقيت ثوبي على فرجي" وما حوله, اقتصر عليه لكونه أفحش، ويحتمل خلافه، "فنفث في يده، ثم مسح ظهري وبطني بيديه فعبق" بفتح الباء- أي: لزق "بي هذا الطيب من يومئذ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 رواه الطبراني في معجمه الصغير. وروى أبو يعلى والطبراني قصة الذي استعان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة, فسلت له فيها من عرقه، وقال: "مرها فلتطيب به"، فكانت إذا تطيبت به شمّ أهل المدينة ذلك الطيب فسمّوا: بيت المطيبين. وقال جابر بن عبد الله: كان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصال: لم يكن في طريق فيتبعه أحد إلّا عرف أنه سلكه من طيب عرقه وعرفه، ولم يكن يمر بحجر إلّا سجد له. رواه الدرامي والبيهقي وأبو نعيم. ولله در من قال:   "رواه الطبراني في معجمه الصغير" والكبير أيضًا، كما في الإصابة، وقدَّم المصنف بعض الحديث في ريقه الشريف، "وروى أبو يعلى والطبراني" من حديث أبي هريرة "قصة" مفعول روى، وفي نسخة بزيادة في، فمفعول روى محذوف، أي: ما فيه طيب عرقه "الذي استعان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء، فاستدعاه بقارورة"، أي: طلبها من الرجل، "فسلت له فيها من عرقه" أي: بعضه، "وقال: "مرها فلتطيب به"، وهذا الحديث ذكره بالمعنى تبعًا للفتح، ولفظ أبي يعلى والطبراني عن أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, إني زوَّجت ابنتي، وأنا أحب أن تعينني بشيء، قال: "ما عندي شيء، ولكن إذا كان غدًا فأتني بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة، وآية ما بيني وبينك أن أجيف ناحية الباب"، فلمَّا كان من الغد أتاه بذلك؛ فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلت العرق عن ذراعيه، حتى امتلأت القارورة، فقال: "خذها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة فتطيب به"، "فكانت إذا تطيبت به شمّ أهل المدينة" كلهم "ذلك الطيب"، وإن بعدوا عن دارها، هذا ظاهره، ولا مانع؛ إذ هو أمر خارق، "فسمّوا: بيت المطيبين". قال الذهبي: حديث منكر، أي: ضعيف، "وقال جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما: "كان في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصال" خارقة للعادة، منها: إنه "لم يكن" يمر "في طريق فيتبعه" بالرفع، أي: يأتي بعد ذهابه منه، لا يمشي تابعًا له، وهو بالتخفيف والتشديد، ويجوز نصبه، أي: يمشي بعده بزمان قليل، فالفاء للتعقيب، "أحد" فاعل يتبع على حال من الأحوال، "إلّا" على حال "عرف أنه" -صلى الله عليه وسلم "سلكه"، أي: دخل الطريق ومَرَّ فيه، "من طيب عرقه" بالقاف، "وعرفه" بالفاء- ريحه الطيب، والضمير للعرق -بالقاف- فهو كالتفسير لما قبله، أو للنبي -صلى الله عليه وسلم، فيفيد طيب ريح بدنه، وإن لم يعرق، فهو دليل لقوله في الترجمة: الرائحة الطيبة صفة، وإن لم يمس طيبًا، "ولم يكن يمر بحجر إلّا سجد له"، أي: تحرك حتى كأنه سجد، "رواه الدارمي والبيهقي وأبو نعيم، ولله در الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 ولو أن ركبًا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل به الركب وعن أنس قال: كان رسول -صلى الله عليه وسلم- إذا مَرَّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مَرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق. رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح. وما أحسن قول من قال: يروح على غير الطريق التي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته تنفسه في الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طالبت له طرقاته تروح له الأرواح حيث تنسمت ... لها سحرًا من حبه نسماته   من قال: ولو أن ركبًا يمَّموك" قصدوك "لقادهم" أي: دلهم "نسيمك" أي: رائحة بدنك "حتى يستدل به الركب"، فشبَّه الدلالة بأخذ قياد الدابة والمشي أمامها، فهو استعارة تبعية، "وعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا مَرَّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه" أي: الطريق "رائحة الطيب" على أثره، على ظاهر قول جابر قبله، فيتبعه أحد، "وقالوا: مَرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا الطريق"؛ لأن القلب الطاهر الحي يشم منه رائحة الطيب، كما أن القلب الخبيث الميت يشم منه رائحة النتن؛ لأن نتن القلب والروح يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، والعرق يفيض من الباطن، فالنفس الطيبة يقوى طيبها، ويفوح عرف عرقها، حتى يبدو على الجسد، والخبيثة بضدها، كذا قال بعضهم: "رواه أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح، وما أحسن قول من قال" في هذا المعنى: يروح على غير الطريق التي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته تنفسه في الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طابت له طرقاته تروح له الأرواح حيث تنسمت ... له سحرا من حبه نسماته عن عائشة: كنت قاعدة أغزل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولّد نورًا، فبهت, فقال: "ما لك بهتِّ"؟، قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نورًا، ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره؛ حيث يقول: ومبرًا من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل رواه ابن عساكر، وأبو نعيم، والخطيب بسند حسن، وأبو كبير -بموحدة- عامر بن الحليس -بمهملتين- مصغَّر، وقيل: ابن جمرة, وراء, جاهلي، وغبر -بمعجمة وموحدة وراء بلا نقط، أي: بقية, وحيضة -بكسر الحاء، أي: لم تحمل به في بقية الحيض، ولا حملت عليه في حالة رضاعه، فيفسد رضاعه، والمغيل بوزن مكرم بالكسر، من الغيل، بفتح المعجمة، وسكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا وأنورهم لونًا، لم يصفه واصف قط إلا شبَّه وجهه بالقمر ليلة البدر, وكان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ، وأطيب من المسك الأذفر. رواه أبو نعيم. وعن أنس قال: دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ عندنا، فعرق, وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها، فاستيقظ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرقك نجعله لطيبنا، وهو أطيب الطيب. رواه مسلم. وفي رواية كان -صلى الله عليه وسلم   التحتية، وهي أن ترضعه وهي حامل، هكذا ضبطه جمع, منهم: السيوطي، "وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وجهًا، وأنورهم لونًا"؛ لأنه أبيض مشرب بحمرة، "لم يصفه واصف قط إلّا شبه وجهه بالقمر ليلة البدر، وكان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ" في البياض والصفاء، ففي مسلم عن أنس, كان -صلى الله عليه وسلم- أزهر اللون، كان عرقه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، فليس المراد المثلية في التحدر، "وأطيب من المسك الأذفر" بذال معجمة، أي: طيب الريح، ويقع على الكريه، ويفرق بينهما بما يضاف إليه، ويوصف به, وأما بدال مهملة، فخصَّ بالنتن "رواه أبو نعيم" وغيره. "وعن أنس قال: دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقَالَ عندنا"، أي: قام وقت القائلة، وهي نصف النهار، والغالب فيه الحر، "فعرق" بكسر الراء، "وجاءت أمي" أم سليم بنت ملحان بن خالد الأنصاري، يقال اسمها: سهلة، أو رميلة أو رميثة أو مليكة، أو أنيقة، وهي الغميصاء -بضم الغين المعجمة- أو الرميصاء -بالراء، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان، "بقارورة، فجعلت تسلت" بضم اللام- تمسح "العرق", وتجعله "فيها" أي: القارورة. قال القاضي عياض: كانت مَحْرَم له من قِبَل الرضاع، ففيه جواز الخلوة مع المحارم، قال الأبي: علمت طيب نفسه بذلك، وإلا فالقرابة لا تبيح القدوم على ذلك، وقال شيخنا: يجوز أن سلتها بآلة، فلا تمس جسده الشريف، والعرق هنا اسم عين؛ لأنه الذي يؤخذ، فيكون مشتركًا بين المصدر والعين، أو أنه حقيقة في المصدر, مجاز في غيره، "فاستيقظ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أم سليم, ما هذا الذي تصنعين"؟ قالت: هذا عرقك"، خبر موطئ لقولها: "نجعله لطيبنا"، ولفظ مسلم: في طيبنا، "وهو أطيب الطيب"، قال الأبي: وكانت رائحة العرق أخص من رائحة البدن، كما يوجد في ضد طيب الرائحة، فإن ذا الرائحة الكريهة, هي منه في حالة العرق أكره منها في حالة عدم العرق، "رواه مسلم" عن ثابت عن أنس. "وفي رواية" لمسلم من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، "كان -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها وليست فيه. قال فجاء ذات يوم فنام, فأتيت فقيل لها: هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم في بيتك على فراشك, قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها فجعلت تنسف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تصنعين يا أم سليم"؟ قالت: يا رسول الله, نرجو بركة لصبيانننا، قال: "أصبت". والعتيدة: كالصندوق الصغير الذي تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها. وأما ما روي أن الورد خلق من عرقه -صلى الله عليه وسلم- ومن عرق البراق, فقال شيخنا في الأحاديث المشتهرة: قال النووي: لا يصح. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: إنه موضوع   يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها وليست فيه"؛ لعلمه برضاها وفرحها به، "قال: فجاء ذات يوم، فنام" على فراشها، "فأتيت، فقيل لها", وفي نسخة: أما -بفتحتين- افتتاح كلام، "هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق واستنقع"، أي: سال وسقط "عرقه على قطعة أديم" جلد، كان نائمًا عليها "على الفراش، ففتحت عتيدتها" بفتح المهملة، بعدها فوقية، فتحتية، فمهملة، "فجعلت تنشف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما تصنعين يا أم سليم"؟، قالت: يا رسول الله, نرجو بركة لصبياننا، قال: "أصبت" والعتيدة كالصندوق" بفتح الصاد وضمها، "الصغير الذي تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها"؛ قاله النوي. وقال القاضي عياض: هي حقة للمرأة تعدها للطيب، وفي العين: العتاد ما يُعَدّ للأمر، وفرس عتيد، أي معد للركوب، ومنه عتيدة الطيب، وفي مسلم أيضًا عقب هذين الحديثين، من طريق أبي قلابة عن أنس. عن أم سليم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتيها فيقيل عندها، فتبسط له نطعًا فيقيل عليه، وكان كثير العرق، فكانت تجمع عرقه، فتجعله في الطيب والقوارير، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أم سليم ما هذا"؟ قالت: عرقك أذوف به طيبي. قال القاضي عياض: ضبطناه عن الأكثر أذوف -بذال معجمة- ومعناه: أخلط، وهو للطبري -بمهملة- ومعناه أيضًا: أخلط، "وأمَّا ما روي أن الورد خلق" صنف منه وهو الأبيض، "من عرقه -صلى الله عليه وسلم"، وخلق صنف منه، وهو الأصفر "من عرق البراق" بضم الموحدة- كذا في نسخة -بالواو، وفي نسخة: أو من عرق البراق، بأو للتنويع, بدليل بقية العبارة، لا للشك "فقال شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة "في الأحاديث المشهورة" على الألسنة، "قال النووي: لا يصح"، وهذا محتمل للضعف والوضع، وهو المراد "و" لذا "قال شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ: "إنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 وسبقه لذلك ابن عساكر، وهو في مسند الفردوس لفظ: الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق. رواه من طريق مكي بن بندار الزنجاني. قال: حدثنا الحسين بن علي بن عبد الواحد القرشي، حدثنا هشام بن عمار عن الزهري عن أنس به مرفوعًا, ثم قال: قال أبو مسعود: حدَّث به أبو عبد الله الحاكم عن رجل عن مكي. ومكي تفرَّد به انتهى. ورواه أبو الحسين بن فارس اللغوي في كتاب "الريحان والراح" له, عن مكي به. ومكي ممن اتهمه الدارقطني بالوضع، وله طريق أخرى, رواه أبو الفرج النهرواني في الخامس والتسعين من "الجليس الصالح" له, من طريق محمد بن عنبسة بن حمّاد قال: حدثني أبي, عن جعفر بن سليمان, عن مالك بن دينار   موضوع، وسبقه لذلك ابن عساكر" حافظ الشام، فقال: هذا حديث موضوع, وضعه من لا علم عنده، "وهو في مسند الفردوس لفظ: الورد الأبيض خلق من عرقي ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عرق جبريل، والورد الأصفر خلق من عرق البراق. رواه من طريق مكي بن بندار"، بموحدة فنون، "الزنجاني، قال: حدثنا الحسين بن علي بن عبد الواحد القرشي" المقدسي. قال بعضهم: هو الذي وضع هذا الحديث، قال: "حدَّثنا هشام بن عمَّار" السلمي، الدمشقي، صدوق كبر فصار يتلقّن، فحديثه القديم أصحّ، مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وله اثنتان وتسعون سنة؛ "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "عن أنس به مرفوعًا، ثم قال" الديلمي صاحب مسند الفردوس: "قال أبو مسعود" الدمشقي إبراهيم بن محمد الحافظ: مات كهلًا في رجب سنة أربعمائة، "حدّث به أبو عبد الله الحاكم، عن رجل، عن مكي، ومكي تفرّد به أ. هـ". "ورواه أبو الحسين" أحمد "ابن فارس" الرازي، الفقيه المالكي، الإمام في علوم شتَّى، خصوصًا اللغة، فإنه أتقنها فغلبت عليه، فلذا نُسِبَ "اللغوي"، صاحب المصنفات، مات في سنة تسعين وثلثمائة أو قبلها، "في كتاب الريحان والراح, له عن مكي به, ومكي ممن اتهمه الدارقطني بالوضع"، فروايته كعدمها، " وله طريق أخرى، رواه" أي: الطريق, يذكر ويؤنث "أبو الفرج النهرواني، في الخامس والتسعين من" كتاب "الجليس الصالح، له من طريق محمد بن عنبسة بن حمّاد، قال: حدثني أبي" عنبسة -بفتح المهملة، ثم نون ساكنة، ثم موحدة، ومهملة مفتوحتين، "عن جعفر بن سليمان" الضبعي -بضم الصاد المعجمة، وفتح الموحدة، أبي سليمان البصري، صدوق زاهد, لكنّه كان يتشيّع، مات سنة ثمان وسبعين ومائة، "عن مالك بن دينار" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 عن أنس رفعه: لما عُرِجَ بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي, فنبت اللصف من نباتها، فلمّا أن رجعت قطر من عرقي على الأرض فنبت ورد أحمر، ألا من أراد أن يشمّ رائحتي فليشمّ الورد الأحمر. ثم قال أبو الفرج: اللصف: الكبر، قال: وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير مما أكرم الله به نبيه ودل على فضله ورفيع منزلته. قال: وقد روينا معناه من طرق, لكن اختصرنا منها هذا فذكرناه, وإنما ذكرته ليعلم. وعن جابر بن سمرة أنه -صلى الله عليه وسلم- مسح خده، قال جابر: فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار. قال غيره: مسَّها بطيب أو لم يمسها يصافح.   البصري الزاهد، أبي يحيى، صدوق عابد، مات سنة ثلاثين ومائة أو نحوها، "عن أنس، رفعه: "لما عرج بي إلى السماء، بكت الأرض من بعدي، فنبت اللصف من نباتها، فلمَّا أن رجعت, قَطَر من عرقي على الأرض، فنبت ورد أحمر؛ ألا من أراد أن يشمَّ رائحتي فليشم الورد الأحمر"، ثم قال أبو الفرج: اللصف الكبر", وفي القاموس: اللصف -محركة- الإصف، أو اذن الأرنب، ورقة كورق لسان الحمل، وأدق وأحسن, زهره أزرق فيه بياض، وله أصل ذو شعب، إذا قلع وحكّ به الوجه حمَّره وحسَّنه، "قال" أبو الفرج تقوية لهذا الخبر؛ لئلّا ينكر من جهله العقل: "وما أتى به هذا الخبر فهو اليسير من كثير ما أكرم الله به نبيه، ودلَّ على فضله ورفيع منزلته، قال: وقد روينا معناه من طرق، لكن اختصرنا منها هذا، فذكرناه. انتهى" كلام شيخه السخاوي، وزاد على ما هنا ما لفظه: لأبي الحسين بن فارس أيضًا، مما عزاه لهشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة مرفوعًا، من أراد أن يشمَّ رائحتي فليشم الورد الأحمر، "وإنما ذكرته ليعلم" أنه موضوع فيترك، ولا يذكر إلّا مع بيان أنه موضوع "و" روى مسلم "عن جابر بن سمرة" قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأمَّا أنا فمسح خدي. فذكره بمعناه، فقال: "أنه -صلى الله عليه وسلم: مسح خده، قال جابر: فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار" بين صفة الريح دون البرد، وقال يزيد بن الأسد: ناولني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك. رواه البيهقي كما قدَّمه المصنف، كحديث جابر في يده الشريفة، "قال غيره" غير ابن سمرة، وهو عائشة، فيما رواه أبو نعيم، والبيهقي بإسناد ضعيف، عنها في حديث: وكانت كفه ألين من الحرير، وكان كفه كف عطار، "مسّها بطيب أو لم يمسها"، أي: الكف، وفيه قلب؛ إذ الظاهر مسّ بها طيبًا، أم لا، وهو إشارة إلى أن طيبه ذاتي, "يصافح" أي: يمس النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 المصافح فيظل يومه يجد ريحها، ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان ريحها. وجؤنة العطار -بضم الجيم وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها واوًا: سليلة مستديرة مغشاة أدمًا. وقد ورد مما عزاه القاضي عياض للإخباريين, ومن ألف في الشمائل الكريمة, أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوَّط   بصفحة يده "المصافح" بفتح الفاء والنصب- مفعول، وهو من يريد مصافحته، وفي رواية: يصافحه المصافح -بكسر الفاء والرفع- فاعل، "فيظل" بفتح الظاء المعجمة "يومه" منصوب على الظرفية، ولا توكيد فيه ولا تجريد؛ لدلالته على الاستغراق, "يجد ريحها" الطيبة طيبًا خلقيًّا خصَّه لله به معجزة وتكرمة، فالإضافة عهدية، وقدَّم المصنف أيضًا في اليد الشريفة قولَ وائل بن حجر عند الطبراني: كنت أصافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو يمس جلدي جلده، فأتعرّفه بعد في يدي، وإنه لأطيب من ريح المسك، وهذا صادق ببقائه أكثر من يوم؛ لأنه لم يقيد التعرف بزمن، وعجيب نقل ما قدمه المصنف قريبًا من كلام غيره، "ويضع يده على رأس الصبي" أيّ صبي كان، لا معين، "فيعرف من بين الصبيان بريحها"؛ لشدة فوحه، أي: برائحتها الحاصلة بمسّه، والفاء للسببية, أي: يعرف أن النبي مسَّه، فيميز من بينهم. وفي رواية: لريحها -باللام، والتعليلية- ومعناهما واحد، وفي رواية: من ريحها، ويحتمل أن ذلك في يومه، وأنه يستمرّ مدة طويلة، ثم المصنف تابع لعياض، ولفظ عائشة: ويضعها على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان أنه مسح على رأسه، "وجؤنة العطار -بضم الجيم، وهمزة بعدها، ويجوز تخفيفها" بإبدالها "واوًا- سليلة مستديرة مغشاة أدمًا" جلدًا، نقله عياض عن صاحب العين، وقال قبله: إنها كالسفط يجعل فيها العطار متاعه، "وقد ورد مما عزاه القاضي عياض للإخباريين" جمع إخباري، نسبة للخبر، وهو ما ينقل ويتحدث به، وجمعه أخبار، فقياس النسبة خبريّ، برد الجمع إلى مفرده، لكنَّه لما اشتهر فصار اسمًا لكل ما ينقل ويتحدث به، التَحَقَ بالعَلَم، فنسب إلى لفظه، "ومن ألف في الشمائل الكريمة" عطف خاص على خاص، أو مباين، وهو الظاهر؛ إذ الإخباريون الناقلون للأخبار كيف اتفق، ومقصود المؤلفين في الشمائل: بيان شمائله فقط, فهم قسم مستقل، لكن لفظ الشفاء: وحكى بعض المعتنين بأخباره وشمائله "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتغوَّطَ" أي: يأتي الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض على عادتهم في البراز؛ لأنه أستر، قال تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 انشقَّت الأرض وابتلعت بوله وغائطه, وفاحت لذلك رائحة طيبة. قال غيره: ولم يطَّلع على ما يخرج منه بشر قط. وأسند محمد بن سعد كاتب الواقدي -كما هو في بعض نسخ الشفاء: وقالوا: إنه ليس من الرواية, ولا من حواشي أصل ابن جبير, بل من حواشي غيره- عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: إنك تأتي الخلاء فلا نرى منك شيئًا من الأذى, فقال: "يا   ثم كنِّي به عمَّا يقع فيه تسمية للحال باسم المحل، تحاشيًا عن لفظ العذرة، فإن قيل: فغائط اسم عين, فلا يشتق منه فعل عند البصريين، بل من المصدر، أجيب بأنه يقدر له مصدر؛ كالغوط، أو يشتق الفعل من المزيد، كالتغوّط "انشقت الأرض وابتلعت بوله وغائطه، وفاحت لذلك رائحة طيبة"، ولما لم يلزم من الابتلاع انطباقها عليه؛ بحيث لا يرى لجواز انشقاقها دون انطباق، احتاج قوله. "قال غيره: ولم يطلع على ما يخرج منه بشر قط" ظاهره يعم البول، ولا ينافي رؤية أم أيمن وغيرها للبول، وقول المقدسي: فقد شاهده غير واحد؛ لحمل ما هنا على البول على الأرض، والآتي على ما إذا بال في إناء، كما هو صريح الكلامين، فلا خلاف، وهذا أَوْلَى من حمله على البول مع الغائط لا وحده، ولو على الأرض؛ لاحتياجه لدليل عليه لإخراجه عن ظاهره، "وأسند محمد بن سعد" بن منيع الهاشمي، مولاهم البصري، نزيل بغداد، صدوق حافظ، مات سنة ثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وستين سنة، ويعرف بأنه "كاتب الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، أبو عبد الله، المدني الحافظ، المتروك مع سعة علمه, مات كما في الديباج وغيره ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة، سنة سبع ومائتين، وهو ابن ثمان وسبين سنة، فسقط بعض الكلام على من قال: مات في ذي الحجة سنة إحدى عشرة؛ إذ لم يقله أحد، "كما هو في بعض نسخ الشفاء، وقالوا: إنه ليس من الرواية" عن عياض، "ولا من حواشي أصل" أي: نسخة "ابن جبير، بل من حواشي غيره"، فأدخلوها في متن الشفاء، ولكن عزوه صحيح لابن سعد، قال في طبقاته: أنبأنا إسماعيل بن أبان الوراق، أنبأنا عنبسة بن عبد الرحمن التشيري، عن محمد بن زاذان، عن أم سعد. "عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: إنك تأتي الخلاء" بالمد، أي: المكان الخالي البعيد عن البيوت؛ لأنهم كانوا قبل وضع المراحيض فيها يأتونه لقضاء الحاجة، ثم عبَّر به بعد ذلك عن محل التغوّط مطلقًا، ثم صار عرفًا اسمًا للبناء المعد لذلك، "فلا نرى منك شيئًا من الأذى"، بالمعجمة والقصر، وأصله: الضرر، ثم أريد به ما يكره، فالمراد به هنا الغائط، "فقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 عائشة, وما علمت أن الأرض تبتلع ما يخرج من الأنبياء فلا يرى منه شيء". انتهى. وفي الشفاء لابن سبع عن بعض الصحابة قال: صحبته -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فلمَّا أراد قضاء الحاجة تأمَّلته وقد دخل مكانًا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذي خرج منه فلم أر له أثر غائط ولا بول، ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهنَّ, فوجدت لهنَّ رائحة طيبة وعطرًا. قلت: وقد سُئِلَ الحافظ عبد الغني المقدسي: هل روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ فقال: قد روي ذلك من وجه غريب،   "يا عائشة" قلت ذلك، "وما علمتِ أن الأرض تبتلع" تفتعل من البلع، وضبطه التلمساني، تبلع من بلع، كعلم يعلم، أي: يخفي "ما يخرج من الأنبياء" بحيث يغيب فيها، "فلا يرى منه شيء" تفسير للمراد من البلع وتأكيد؛ إذ هو إدخال الطعام والشراب في الحنجرة والمريء، فاستُعِيرَ لمطلق الإخفاء؛ كقوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] ، أو هو بيان لحكمته، فليس بمستدرك كما توهم، قيل: وحكمة إخفائه مع طيبه وعدم استقذاره، عدم الإذكار لمحله الخارج منه، أو لتتبرك الأرض به، وينبغي ستره؛ لأنه من المروءة؛ لأنه يخشى من أخذ الناس له، "انتهى" ما أسنده ابن سعد، ورجاله ثقات، إلّا محمد بن زاذان المدني فمتروك, كما في التقريب، لكن له شواه يأتي بعضها، "وفي الشفاء"، أي: كتاب شفاء الصدور "لابن سبع" بسكون الباء، بلفظ العدد، وقد تضم، كما في التبصير، "عن بعض الصحابة قال: صحبته -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فلمَّا أراد قضاء الحاجة تأملته، وقد دخل مكانًا فقضى حاجته، فدخلت الموضع الذي خرج منه، فلم أر له أثر غائط ولا بول، ورأيت في ذلك الموضع ثلاثة أحجار فأخذتهنَّ، فوجدت لهنَّ رائحة طيبة وعطرًا" بكسر العين- طيبًا, معطوف على لهنّ لا على رائحة، فالمعنى: وجدتهن عطرًا، أي: كالعطر مبالغة، كأن عينهنَّ انقلبت من الحجرية إلى العطرية، ويدل لذلك أنَّ بقية ذا الخبر, كما في التلمساني: فكنت إذا جئت يوم الجمعة المسجد أخذتهنَّ في كمي، فتغلب رائحتهنّ رائحة من تطيب وتعطر, "قلت": من المصنف لا من تتمة كلام صاحب الشفاء كما زعم؛ لأن ابن سبع متقدّم على المقدسي بزمان، فلا ينقل عنه، "وقد سئل الحافظ عبد الغني" بن عبد الواحد بن سرور "المقدسي"، ثم الدمشقي، الإمام، محدث الإسلام، تقي الدين الحنبلي، صاحب التصانيف، غزير الحفظ والإتقان، قيِّم بجميع فنون الحديث، وَرِع كثير العبادة، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ونزل مصر في آخر عمره، وبها مات سنة ستمائة، وله تسع وخمسون سنة، "هل روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان ما يخرج منه تبتلعه الأرض؟ فقال" مجيبًا، "قد روي ذلك من وجه غريب" أي: ضعيف، "والظاهر المنقول" الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 والظاهر المنقول يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره، وأمَّا البول فقد شاهده غير واحد, وشربته أم أيمن. انتهى. لكن قال البيهقي: وأمَّا الحديث الذي أخبرنا به أبو الحسين بن بشران, أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار قال: حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا حسين بن علوان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الغائط دخلت في أثره فلا أرى شيئًا إلّا أني كنت أشمَّ رائحة الطيب، فذكرت ذلك له فقال: "يا عائشة, أما علمت أن أجسادنا تنبت على أرواح أهل الجنة وما خرج منها ابتلعته الأرض". فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغي ذكره إلّا لبيان أنه موضوع, ففي الأحاديث الصحيحة والمشهورة في معجزاته كفاية عن كذب ابن علوان. انتهى. لكن للحديث طرق غير طريق ابن علوان:   عن أحوال المصطفى، "يؤيده، فإنه لم يذكر عن أحد من الصحابة أنه رآه ولا ذكره"، فلو لم تبلعه الأرض لرؤي في بعض الأوقات، "وأمَّا البول فقد شاهده غير واحد، وشربته أم أيمن"، قسيم لما فهم من بلع الأرض غائطه، "انتهى". جواب عبد الغني، "لكن قال البيهقي: وأمَّا الحديث الذي أخبرنا به أبو الحسين بن بشران" بكسر الموحدة، وإسكان المعجمة، ثقة، مشهور، من شيوخ البيهقي، "أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار"، قال في اللسان: ثقة مشهور، أخطأ ابن حزم حيث جهَّله، "قال: حدَّثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، قال: حدثنا حسين بن علوان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم، إذا دخل الغائط"، أي: المكان الذي يريد قضاء الحاجة فيه، "دخلت في أثره، فلا أرى شيئًا، إلّا أني كنت أشمّ رائحة الطيب، فذكرت ذلك له، فقال: "يا عائشة, أما علمت أنَّ أجسادنا" معاشر الأنبياء "تنبت" أي: تخلق وتوجد "على" صفة "أرواح أهل الجنة، وما خرج منها ابتلعته الأرض، فهذا من موضوعات الحسين بن علوان، لا ينبغي ذكره إلا لبيان أنه موضوع، ففي الأحاديث الصحيحة، والمشهورة في معجزاته، كفاية عن كذب ابن علوان، انتهى". إذ فيها ما هو أجلّ من ذلك بكثير، "لكن للحديث طرق غير طريق ابن علوان"، فلا ينبغي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 فعند الدارقطني في الأفراد: حدثنا محمد بن سليمان الباهلي, أنبأنا محمد بن حسَّان الأموي، أنبأنا عبدة بن سلميان, عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: يا رسول الله، إني أراك تدخل الخلاء ثم يأتي الذي بعدك فلا يرى لما يخرج منك أثرًا، فقال: "يا عائشة, أما علمت أنَّ الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء"، ومحمد بن حسان بغدادي ثقة، وعبدة من رجال الصحيح, وله طريق أخرى عند ابن سعد، وأخرى عند الحاكم في مستدركه. وروي أنَّه كان يتبرك ببوله ودمه -صلى الله عليه وسلم.   دعوى وضعه مع وجودها، "فعند الدارقطني في" كتاب "الأفراد" بفتح الهمزة "حدَّثنا محمد بن سليمان، الباهلي" النعماني، قال تلميذه الدارقطني: وكان من الثقات، قال: "أنبأنا محمد بن حسَّان الأموي" بفتح الهمزة وضمها، البغدادي، قال: "أنبأنا عبدة" بفتح العين، وإسكان الموحدة، فدال فهاء، "ابن سليمان" الكلابي, أبو محمد الكوفي، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقيل بعدها, روى له الأئمة الستة، "عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: يا رسول الله, إني أراك تدخل الخلاء، ثم يأتي الذي بعدك، فلا يرى لما يخرج منك أثرًا، فقال: "يا عائشة, أما علمت أن الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء" بولًا أو غائطًا على ظاهر عمومه كما مَرَّ، وهو من خصائص نبينا على الأمم، "ومحمد بن حسان بغدادي ثقة" صالح، "وعبدة من رجال الصحيح"، ولذا قال السيوطي: هذا سند ثابت، وهو أقوى طرق هذا الحديث، انتهى. فقد تابع عبدة حسين بن علوان في روايته، عن هشام، وتابعه أيضًا أرطأة بن قيس الأسدي عن هشام, أخرجه أبو بكر الشافعي، وهي متابعة تامّة، فكيف يكون موضوعًا، "وله طريق أخرى عند ابن سعد"، تقدمت قريبًا، وأنَّ رجاله ثقات، إلا ابن زاذان، "وأخرى عند الحاكم في مستدركه" قال: أخبرني مخلد بن جعفر، نبأنا محمد بن جرير, نبأنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، نبأنا إبراهيم بن سعد، نبأنا المنهال بن عبد الله، عمَّن ذكره عن ليلى مولاة عائشة، عنها، وله طريق أخرى عند أبي نعيم، وأخرى عند أبي بكر الشافعي، فقول البيهقي: إنه موضوع, محمول على أنه لم يطَّلع على هذه الطرق؛ إذ يتعذّر معها دعوى الوضع، أو على أنه خاص بالطريق التي ذكرها دون البقية، أو على خصوص لفظه، والأظهر بل المتعيّن الأول، "وروي أنه كان يتبرك ببوله ودمه -صلى الله عليه وسلم"، أي: بشربهما، كما هو المروي، وإن شمل لفظه هنا الإدهان ونحوه، وأتى بصيغة التمريض نظرًا إلى أن كل فرد منها مقالًا، فلا يرد عليه أن بعضها يعتضد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 فروى ابن حبان في "الضعفاء" عن ابن عباس قال: حجم النبي -صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلمَّا فرغ من حجامته أخذ الدم فذهب به من وراء الحائط، فنظر يمينًا وشمالًا فلم ير أحدًا، فحسا دمه حتى فرغ, ثم أقبل فنظر في وجهه فقال: "ويحك ما صنعت"؟ فقلت: غيبته من وراء الحائط، قال ابن عيينة: قلت: يا رسول الله, نفست على دمك أن أهريقه في الأرض, فهو في بطني, فقال: "اذهب فقد أحرزت نفسك من النار". وفي سنن أبي سعيد بن منصور من طريق عمرو بن السائب   لبعض؛ لأنه بالنظر إلى المجموع، ولا يرد أن حديث شرب المرأة بوله صحيح؛ لأنَّها شربته للعطش غير عالمة أنه بوله، فلم تقصد التبرك، "فروى ابن حبان في" كتاب "الضعفاء، عن ابن عباس قال: حجم النبي -صلى الله عليه وسلم- غلام لبعض قريش، فلمَّا فرغ من حجامته أخذ الدم، فذهب به من وراء الحائط"، الظاهر أنَّ وراء هنا بمعنى قدام، كما هو أحد إطلاقها، يعني: إنه ذهب بالدم إلى جهة الحائط؛ بحيث صار قدامها لا تخطاها؛ بحيث صارت خلفه، "فنظر يمينًا وشمالًا فلم ير أحدًا، فحسا دمه"، بفاء العطف على ما قبله، وفي نسخة: تحسى، والأولى أظهر، "حتى فرغ" أي: من شربه شيئًا فشيئًا إلى فراغه، "ثم أقبل، فنظر" -صلى الله عليه وسلم- "في وجهه، فقال: "ويحك ما صنعت"؟، والظاهر أن ابن عباس حمله عن الغلام بقوله: "فقلت: غيبته" في جوفي "من وراء الحائط"، فليس كذبًا، "قال ابن عيينة" تفرَّس فيه، أو ألهم أنه شربه، فسأله ثانيًا، أو المراد: في أيّ مكان من ورء الحائط، فلا يرد أنه لا فائدة في السؤال الثاني، "قلت: يا رسول الله, نفست" بكسر الفاء- ضننت "على دمك أن أهريقه في الأرض، فهو في بطني"، قال في القاموس: نفس به كفرح ضنَّ، وعليه بخير جسده، وعليه الشيء نفاسة، لم يره أهلًا له، والظاهر صحة الثلاثة، فالأوّل تكون على بمعنى الباء، والثاني فيه حذف المفعول وهو جائز، أن نفست الأرض على دمك، أي: حسدتها، والثالث: لم أر دمك أهلًا لإراقته في الأرض لعظمته، قرَّره شيخنا، "فقال" -صلى الله عليه وسلم: "اذهب، فقد أحرزت نفسك من النار"؛ لأن دمه لا تمسه النار، وقد مازج لحمه ودمه، "وفي سنن أبي سعيد" بكسر العين "ابن منصور" بن شعبة، أبي عثمان الخراساني، نزيل مكة، حافظ ثقة مصنّف, روى عن مالك والليث وابن عيينة وخلق، وعنه: الإمام أحمد، وقال: إنه من أهل الفضل والصدق، ومسلم وأبو داود، وأبو حاتم وقال: إنه من المتقنين الأثبات، وخلق سواهم, صنَّف السنن بمكة، وبها مات سنة سبع وعشرين ومائتين "من طريق عمرو" بفتح العين. قال الحافظ: وصوابه: عمر -بضمها "ابن السائب" ابن أبي راشد المصري، مولى بني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 أنه بلغه أن مالكًا والد أبي سعيد الخدري لما جُرِحَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَصَّ جرحه حتى أنقاه ولاح أبيض فقال: "مجه"، فقال: والله لا أمجه أبدًا، ثم ازدرده فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" فاستشهد. وأخرج البزار والطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم في الحلية، من حديث عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة، وقال: "اذهب يا عبد الله فغيبه" , وفي رواية: "اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد" فذهبت فشربته, ثم أتيته -صلى الله عليه وسلم, فقال: "ما صنعت"؟ قلت: غيبته، قال: "لعلك شربته" قلت: شربته، وفي رواية قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافٍ عن الناس، قال: "لعلك شربته"؟ قلت: شربته، فقال: "ويل لك من الناس وويل للناس منك"   زهرة، أبو عمرو، صدوق، فقيه, مات سنة أربع وثلاثين ومائة، "أنه بلغه"، والبلاغ من أقسام الضعيف، "إن مالكًا" هو ابن سنان "والد أبي سعيد الخدري، لما جُرِحَ النبي -صلى الله عليه وسلم" في وجهه يوم أحد، "مَصَّ جرحه حتى أنقاه" بنون وقاف، "ولاح"، ظهر بعد المص محل الجرح "أبيض، فقال: "مجه"، فقال: والله" وفي نسخة: لا والله "لا أمجه أبدًا، ثم ازدرده" ابتلعه، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"، فاستشهد" يومئذ بأحد، فظهر صدق قوله أنه من أهل الجنة، وروى سعيد بن منصور أيضًا، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سره أن ينظر إلى رجل خالط دمي دمه فلينظر إلى مالك بن سنان"، "وأخرج البزار والطبراني والحاكم والبيهقي، وأبو نعيم في الحلية, من حديث عامر بن عبد الله بن الزبير" الأسدي، أبي الحارث المدني، التابعي الثقة العابد، مات سنة إحدى وعشرين ومائة، روى له الستة، "عن أبيه، قال: احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأعطاني الدم بعد فراغه من الحجامة، وقال: "اذهب يا عبد الله فغيبه". "وفي رواية: "اذهب بهذا الدم فواره حيث لا يراه أحد"، فذهبت فشربته، ثم أتيته -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما صنعت"؟ أي: بالدم، "قلت: غيبته، قال: "لعلك شربته"، قلت: شربته، وفي رواية، قلت: جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافٍ عن الناس"، وفي هذا مزيد حذقه -رضي الله عنه، مع صغر سنِّه، فإنه ولد سنة الهجرة، وكان أوّل مولود للمهاجرين "قال: "لعلك شربته"، قلت: شربته قال: "ويل" للتحسّر والتألم "لك من الناس" إشارة إلى محاصرته وتعذيبه وقتله وصلبه على يد الحجَّاج، "وويل للناس منك" لما أصابهم من حربه، ومحاصرة مكة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم، وتخريب الكعبة، فهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فما حملك على ذلك" قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم فشربته لذلك، فقال: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك". وعند الدارقطني من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه، وفيه: $"ولا تمسك النار" .......................   بيان لما تسبَّب عن شرب دمه، فإن بضعة من النبوة نورانية قوت قلبه، حتى زادت شجاعته وعلت همته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحق إمارة فضلًا عن الخلافة، وزعم أنه إشارة إلى ما يلحقه من قدح الجهلة فيه بسبب شرب الدم، مما لا ينبغي ذكره وسقوطه مغنٍ عن رده، "وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فما حملك على ذلك"؟، قال: علمت أن دمك لا تصيبه نار جهنم، فشربته لذلك. فقال: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك"، وقد سُئِلَ الحافظ ابن حجر عن الحكمة في تنوع القول لابن الزبير ومالك ابن سنان مع اتحاد السبب، فأجاب؛ بأنَّ ابن الزبير شرب دم الحجامة، وهو قدر كثير يحصل به الاغتذاء، وقوة جذب المحجمة تجلبه من سائر العروق، أو كثير منها. فعلم -صلى الله عليه وسلم- أنه يسري في جميع جسده، فتكتسب جميع أعضائه منه قوى من قوى النبي -صلى الله عليه وسلم، فتورثه غاية قوة البدن والقلب، وتكسبه نهاية الشهامة والشجاعة، فلا ينقاد لمن هو دونه بعد ضعف العدل، وقلة ناصره، وتمكُّن الظلمة، وكثرة أعوانهم، فحصل له ما أشار إليه -صلى الله عليه وسلم، من تلك الحروب الهائلة التي تنتهك بها حرمته الناشئة من حرمته -صلى الله عليه وسلم، وحرمة البيت العتيق، فقيل له: ويل له؛ لقتله وانتهاك حرمته، وويل لهم؛ لظلمهم وتعديهم عليه، وتسفيههم، وأما مالك: فازدرد ما مصّه من الجرح الذي في وجهه -صلى الله عليه وسلم، وهو أقلّ من دم الحجامة، وكأنَّه علم أنه يستشهد في ذلك اليوم، فلم يبق له من أحوال الدنيا ما يخبره به، فأعلمه بالأهمّ له مما يتلقاه من أنواع مسرَّات الجنان، انتهى. ولا عطر بعد عروس، وحاصله: إنه اقتصر لمالك على التبشير بالجنة أنه لا تصيبه النار؛ لعدم بقاء شيء له من الدنيا، بخلاف ابن الزبير، فأخبره بما يقع له في الدنيا على سبيل الإشارة، كما أشار له أيضًا بأنه من أهل الجنة بقوله: "لا تمسك النار"، فزعم أن مقتضاه أنه لم يخاطب بهذا ابن الزبير بل مالكًا, ساقط إذ محط الفرق إنما هو قوله: ويل إلخ ... ، وكيف يتوهّم أنه لم يخاطب به ابن الزبير، "و" قد ورد "عند الدارقطني، من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه، وفيه: "ولا تمسَّك النار"، فهل يظن بالحافظ أنه لم ير الدارقطني، وهو من جملة مروياته على شيوخ عدة، ولفظ الدارقطني في السنن عن أسماء، قالت: احتجم -صلى الله عليه وسلم، فدفع دمه لابني، فشربه، فأتاه جبريل، فأخبره، فقال: "ما صنعت"، قال: كرهت أن أصبّ دمك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تمسك النار"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 وفي كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون: إنه لما شرب دمه -صلى الله عليه وسلم- تضوّع فمه مسكًا، وبقيت رائحته موجودة في فمه إلى أن صُلِبَ -رضي الله عنه. وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده, والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم من حديث أبي مالك النخعي, عن الأسود بن قيس, عن نبيح العنزي, عن أم أيمن قالت: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل إلى فخارة في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها وأنا لا أشعر، فلمَّا أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أم أيمن, قومي   ومسح على رأسه، وقال: "ويل للناس منك، وويل لك من الناس" , "وفي كتاب الجوهر المكنون في ذكر القبائل والبطون: إنه"، أي: ابن الزبير، "لما شرب دمه -صلى الله عليه وسلم- تضوّع" أي: فاح "فمه مسكًا" تمييز، قال الجوهري: وضاع المسك وتضوّع وتضيّع، أي: تحرَّك فانتشرت رائحته، قال: تضوّع مسكًا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة عطرات ثم قال: وتضيع المسك لغةً في تضوّع، أي: فاح، "وبقيت رائحته موجودة في فمه إلى أن صلب" بعد قتله "رضي الله عنه" سنة ثلاث وسبعين، وكانت خلافته تسع سنين، قال الإمام مالك: وكان أحق بها من عبد الملك وأبيه مروان، "وأخرج الحسن بن سفيان" بن عامر الفسوي -بالفاء- إلى فسا من بلاد فارس، الحافظ الإمام، لقي إسحاق وابن معين، ومات سنة ثلاث ومائتين، وقد جاوز التسعين، "في مسنده" وهو كبير، "والحاكم والدارقطني والطبراني وأبو نعيم, من حديث أبي مالك النخعي" الواسطي, اسمه: عبد الملك, وقيل: عبادة بن الحسين، ويقال له: ابن ذر, متروك، من السابعة, روى له ابن ماجه، كما في التقريب، "عن الأسود بن قيس" العبدي، ويقال: العجلي، الكوفي، يكنَّى أبا قيس، تابعي صغير، ثقة، "عن نبيح" بضم النون، وموحدة، ومهملة- مصغر, ابن عبد الله، "العنزي" بفتح المهملة والنون ثم زاي- نسبة إلى عنزة بن أسد, أبي عمر، والكوفي، مقبول من الطبقة الوسطى من التابعين، "عن أم أيمن، قالت: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الليل" من ظرفية بمعنى في, لا زائدة، وقد عدَّه من معانيها الكوفيون وابن مالك، وأنشدوا: غسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلانا له بعد في غد وقال تعالى: {نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] أي: فيه, "إلى فخارة" جرة "في جانب البيت، فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة"، قيل: المعروف لغةً عطشى، فهذا سماعي على خلاف القياس، كألفاظ جاءت على فعلان وفعلانة، فيصرف فعلان؛ لأن شرط منع صرفه وجود فعلى، أو فقد فعلانة، وفي القاموس أن عطشانة لغة في عطشى، "فشربت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 "فأهريقي ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها, قالت: فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أما والله لا يبجعن بطنك أبدًا". وعن ابن جريج قال: أخبرت أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبول في قدحٍ من عيدان, ثم يوضع تحت سريره, فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء, فقال لامرأة يقال لها بركة, كانت تخدم أم حبيبة, جاءت معها من أرض الحبشة: "أين البول الذي كان في القدح"؟ قالت: شربته. قال: "صحة   ما فيها، وأنا لا أشعر" أنه بول لطيب رائحته، فلمَّا أصبح النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أم أيمن, قومي فأهريقي" بفتح الهمزة- من أهرق، أي: صبي "ما في تلك الفخارة"، فقلت: قد والله شربت ما فيها"، أقسمت عليه تأكيدًا، "قالت: فضحك سول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "أَمَا" بالفتح وخفة الميم "والله، لا يبجعن" بالباء الموحدة، والجيم- كذا قال السيوطي في المناهل، لكنه لا يناسب قول القاموس: بجعه -بالجيم- قطعه بالسيف؛ لأن ما هنا من الوجع، أي: المرض، وصرَّح المجد بأنه يقال: يوجع -بالواو وييجع -بالياء- فهو بتحتيتين أولاهما مفتوحة ومكسورة، أي: لا يصيب "بطنك" وجع "أبدًا"، وعن" عبد الملك بن عبد العزيز "بن جريج" بجيمين أولاهما مضمومة- الأموي, مولاهم المكي، ثقة فاضل فقيه، روى له الستة، وكان يدلس ويرسل، مات سنة خمسين ومائة أو بعدها، وقد جاوز التسعين، وقيل: جاوز المائة، ولم يثبت, "قال: أُخْبِرْتُ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبول في قدحٍ من عيدان" بفتح المهملة وإسكان التحتية ومهملة مفتوحة- جمع عيدانة -بالهاء، وهو الطوال من النخل، كما ضبطه جمع, منهم: المجد، وجوّز التلمساني كسر العين، على أنه جمع عود، وهو مخالف لهم، قال الشاعر: إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نجد ولم يعبأن بالريم "ثم يوضع تحت سريره"، فإن قيل: ما الحاجة لوضعه مع أن الأرض تبتلعه فلا يُرَى له أثر، أجيب بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكره الخروج ليلًا من بيته وهو مصلي نافلته، ومحلّ نزول الوحي والملائكة، فلا يليق أن يمسَّ باطنه وظاهره شيء من الفضلات، وإن ظاهره تعظيمًا لعبادة ربه وتأدبًا، لم لا ينافيه قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينقع بول في طشت في البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه بول مستنقع"، رواه الطبراني بسندٍ حسن عن ابن عمر، لإمكان حمله على الفعل بلا ضرورة، أو على تركه في الإناء مدة بحيث ينشر به الإناء، كما يشعر به ينقع ومستنقع, ومدة تركه -صلى الله عليه وسلم- كانت يسيرة، "فجاء، فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها بركة, كانت تخدم أم حبيبة" بنت أبي سفيان، أم المؤمنين، "جاءت معها من أرض الحبشة: "أين البول الذي كان في القدح"؟ قالت: شربته، قال: "صحة" بكسر الصاد، والنصب- أي: جعله الله صحة، أو الرفع، أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 يا أم يوسف" فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه. رواه أبو داود عن ابن جريج عن حكيمة عن أمها أميمة بنت رقيقة. وصحَّح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لامرأتين, وقد وضح أن بركة أمّ يوسف غير بركة أم أيمن،   ما شربتيه صحَّة، أي: سبب لها، وفيه أن قول ذلك مستحب للشارب، ويقاس عليه الأكل، وحكمته أنه يخشى منهما السقم ونحوه، كما قيل: فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب "يا أم يوسف" فما مرضت قط حتى كان" أي: وجد "مرضها الذي ماتت فيه"، وهذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج، أخبرت إلخ ... و"رواه أبو داود" متصلًا "عن ابن جريج عن حكيمة" بضم الحاء المهملة وفتح الكاف- مصغَّر، كما في التبصير، وغيره تابعية، وفي الإصابة عن أبي نعيم: لم يرو عنها إلّا ابن جريج، واسم والدها: حكيم، "عن أمها أميمة" بضم الألف، وميمين، بينهما تحتية- مصغَّر، قالت: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- قدح من عيدان يبول فيه، الحديث. وأبوها اسمه بجاد -بكسر الموحدة، والجيم- ابن عبد الله بن عمير بن الحارث بن جارية بن سعد، بن تيم بن مرة، القرشية التيمية، ويقال: أميمة بنت عبد الله بن بجاد، إلى آخره، صحابية من المبايعات، روت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وعنها محمد بن المنكدر، وبنتها حكيمة، واشتهرت بأمِّها، ولذا قال: "بنت رقيقة" بضم الراء، وقافين- مصغَّر، وهي بنت خويلد بن أسد، أخت خديجة أم المؤمنين، قال أبو عمر: كانت بنتها أميمة من المبايعات، وهي خالة فاطمة الزهراء، وردَّه ابن الأثير بأنها بنت خالتها؛ لأن خويلد والد خديجة هو والد رقيقة لا أميمة، قال في الإصابة: هذا يصح على قول من قال: إنها رقيقة بنت أسد بن عبد العزَّى، ومن ثَمَّ قال المستغفري: هي عمة خديجة بنت خويلد، وترجم في الإصابة تلو هذه: أميمة بنت رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم، بن عبد مناف، وهي أخت مخرمة بن نوفل لأمه، وأمها رقيقة، صاحبة الرؤيا في استقاء عبد المطلب، فرَّق أبو نعيم تبعًا للطبراني بينها وبين التي قبلها، وأخرج في ترجمة هذه حديث ابن جريج فذكره، ثم قال: وأمَّا ابن السكن فجعلهما واحدة، ثم ترجم: رقيقة بنت أبي صيفي، فنسبها كما رأيت، وقال: ذكرها الطبراني والمستغفري في الصحابة، وقال أبو نعيم: ما أراها أدركت الإسلام، انتهى. فليتأمَّل، ثم أشار المصنف إلى الخلاف، في أن شاربة بوله -صلى الله عليه وسلم- امرأة واحدة، أو امرأتان، بقوله: "وصحح ابن دحية أنهما قصتان وقعتا لأمرأتين" إحداهما أم أيمن، والثانية بركة أم يوسف، وزعم أن أحداهما أميمة وَهْمٌ؛ لأنها رواية فقط، كما علمت، "وقد وضح" بفتح الضاد- كوعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام البلقيني. وفي هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه -صلى الله عليه وسلم. قال النووي في شرح المهذّب: واستدلَّ من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين: أنَّ أبا طيبة الحجام حجمه -صلى الله عليه وسلم- وشرب دمه ولم ينكر عليه، وأنَّ امرأة شربت بوله -صلى الله عليه وسلم- فلم ينكر عليها. وحديث أبي طيبة ضعيف، وحديث شرب المرأة البول صحيح رواه الدارقطني, قال: وهو حديث حسن صحيح،   انكشف وظهر، "أنَّ بركة أم يوسف غير بركة أم أيمن"؛ لأن أم يوسف كانت تخدم أم حبيبة، وجاءت معها من الحبشة، وأم أيمن هي مولاته -صلى الله عليه وسلم، وحاضنته، وهي بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، "وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام" السراج "البلقيني"، خلافًا لدعوى ابن السكن أنَّ بركة خادمة أم حبيبة كانت تكنَّى أيضًا أم أيمن، فالقصتان لها، وخلافًا لخلط أبي عمر: خادمة أم حبيبة بأم أيمن، فأخرج في ترجمتها حديث ابن جريج عن حكيمة عن أميمة، ثم قال: أظنَّ بركة هذه أم أيمن. قال في الإصابة: وحمله على ذلك ما ذكره هو في صدر ترجمة بركة أم أيمن، أنها هاجرت الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وفي هجرتها إلى الحبشة نظر، فإنها كانت تخدم النبي -صلى الله عليه وسلم، وزوجها مولاه زيدًا، وزيد لم يهاجر إلى الحبشة، ولا أح من خدمه -صلى الله عليه وسلم؛ إذ ذاك، فظهر أن بركة الحبشية غير أم أيمن وإن وافقتها في الاسم، ثم إن بعض المغاربة جوّز أنَّ بركة الحبشية هي بركة بنت يسار، مولاة أبي سفيان بن حرب, المهاجرة إلى الحبشة مع زوجها قيس بن عبد الله الأسدي، وليس كما ظنّ، فإن بركة بنت يسار من حلفاء بني عبد الدار، وأصلها من كندة، وليست حبشية، وإن اشتركتا في كونهما كانتا في أرض الحبشة مع المهاجرين، انتهى. "وفي هذه الأحاديث دلالة على طهارة بوله ودمه -صلى الله عليه وسلم"؛ لأنه لم يأمر واحدًا منهم يغسل فمه، ولا نهاه عن عودة، قاله عياض. "قال النووي في شرح المهذّب: واستدل من قال بطهارتهما بالحديثين المعروفين، أن أبا طيبة الحجَّام حجمه -صلى الله عليه وسلم، وشرب دمه، ولم ينكر عليه، وأن امرأة شربت بوله -صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليها"، قال عياض: وشاهد هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن منه شيء يكره، ولا غير طيب، "وحديث أبي طيبة ضعيف" أي: شربه الدم، وإلّا فحجامته للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين من حديث أنس، وجابر، وغيرهما، "وحديث شرب المرأة البول صحيح"، يعني: أم أيمن؛ لأنها التي "رواه الدارقطني" أنها شربت بوله، كما مَرَّ قريبًا، "قال: وهو حديث حسن صحيح"، نحوه قول عياض في الشفاء: حديث المرأة التي شربت بوله -صلى الله عليه وسلم- صحيح, ألزم الدارقطني مسلمًا والبخاري إخراجه في الصحيح. انتهى، لكن تعقب بأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 كافٍ في الاحتجاج لكلّ الفضلات قياسًا، ثم قال: إن القاضي حسينًا قال بطهارة الجميع. انتهى. وبهذا قال أبو حنيفة، كما قاله العيني. وأبو طيبة -بفتح الطاء المهملة وسكون الياء المثناة تحت وباء موحدة- نافع الحجام, مولى محيصة -بضم الميم وفتح المهملة وتشديد المثناة تحت وكسرها- هو ابن مسعود الأنصاري. وقال شيخ الإسلام ابن حجر: قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته -صلى الله عليه وسلم, وعدَّ الأئمة ذلك من خصوصياته. انتهى.   الدارقطني، قال في علله: أنه مضطرب, جاء عن أبي مالك النخعي وهو ضعيف، وذلك "كافٍ في الاحتجاج لكل الفضلات قياسًا، ثم قال" النووي: "إن القاضي حسينًا قال بطهارة الجميع، انتهى". أي: جميع فضلاته، وبه جزم البغوي وغيره، واختاره كثير من متأخري الشافعية، وصحَّحه السبكي، والبارزي والزركشي وابن الرفعة والبلقيني والقاياتي، قال الرملي: وهو المعتمد خلافًا لما صحَّحه الرافعي، وتبعه النووي: إن حكمهما منه كغيره، وحمل الأخبار على التداوي، وردَّ بحديث: "لن يجعل الله شفاء أمتي فيما حُرِّمَ عليها"، وحمل تنزهه -صلى الله عليه وسلم- منها على الاستحباب ومزيد النظافة، "وبهذا قال أبو حنيفة كما قاله العيني"، وقطع به ابن العربي من المالكية، وعمَّمه بعض متأخريهم في جميع الأنبياء، وفي الشفاء: قال قوم بطهارة الحدثين منه -صلى الله عليه وسلم، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وحكى القولين عن العلماء ابن سابق المالكي "وأبو طيبة -بفتح الطاء المهملة، وسكون الياء المثناة تحت، وباء موحدة" مفتوحة "نافع الحجام"، كما ثبت في مسند أحمد وغيره، عن محيصة بن مسعود, أنه كان له غلام حجّام، يقال له: نافع أبو طيبة, فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خراجه، فقال: إعلفه الناضح الحديث، فقول العسكري: قيل: اسمه نافع ولا يصح, ولا يعرف اسمه, ساقط، ويقال: اسمه ميسرة، وذكره البغوي عن أحمد بن عبيد بن أبي طيبة، أنه سئل عن اسم جده، فقال: ميسرة. ويقال: اسمه دينار, حكاه ابن عبد البر، ولا يصح، فقد ذكر الحاكم أبو أحمد، أنَّ دينار الحجام آخر, تابعي، وأخرج ابن منده حديث لدينار الحجّام عن أبي طيبة، ذكره في الإصابة "مولى محيصة -بضم الميم، وفتح المهملة، وتشديد المثناة تحت، وكسرها- هو ابن مسعود الأنصاري"، فإذا بهذا أنَّ أبا طيبة غير الغلام المار؛ لأنه غلام لبعض قريش، "وقال شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ: "قد تكاثرت الأدلة على طهارة فضلاته -صلى الله عليه وسلم، وعدَّ الأئمة ذلك من خصوصياته انتهى". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 قال بعضهم: وكان السر في ذلك ما روي من صنيع الملكين حين غسلا جوفه, والله أعلم. وأمَّا سيرته -صلى الله عليه وسلم- في البراز، ففي حديث عائشة عند أبي عوانة في صحيحه والحاكم: ما بال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا منذ أنزل عليه القرآن. وفي حديث عبد الرحمن بن حسنة   قال الزركشي: وينبغي طرد الطهارة في فضلات سائر الأنبياء، ونازعه الجوجري في ذلك، لكن يؤيده حديث: "إن الله أمر الأرض أن تبتلع ما يخرج من الأنبياء"، من حديث "إن أجسادهم ثبتت على أرواح أهل الجنة"، "قال بعضهم: وكان السر في ذلك ما روي من صنيع الملكين حين غسلا جوفه" في المرة الأولى عند مرضعته حليمة، أو وهو ابن عشر، أو حين البلوغ، أو ليلة الإسراء، فعلى الأول يكون ذلك ثبت له من ابتداء طفوليته، "والله أعلم" بالحق في ذلك، "وأما سيرته -صلى الله عليه وسلم" أي حالته وهيئته التي كان يتلبّس بها "في البراز" بفتح الموحدة- اسم للفضاء الواسع، كنّوا به عن الحاجة كما كنّوا بالخلاء؛ لأنهم كانوا يتبرَّزون في الأمكنة الخالية من الناس، قال الخطابي: وأكثر الرواة يكسرون الباء، وهو غلط؛ لأنه مصدر بارزت الرجل مبارزة وبرازًا, إلّا معنى القضاء، وردّه النووي؛ بأنَّ الظاهر بل الصواب الكسر. قال الجوهري وغيره من أئمة اللغة: البراز -بالكسر- ثقل الغذاء وهو الغائط، وأكثر الرواة عليه، فتعيّن المصير إليه؛ ولأن المعنى عليه ظاهر, ولا يظهر معنى الفضاء الواسع هنا إلا بكلفة, انتهى. أي: بجعله مجازًا علاقته المجاورة، أو من تسمية الحال باسم المحلّ لخروجه فيه، وذكر المصباح أن كسر الباء في الفضاء لغةً قليلة، ثم جواب أما محذوف, أشير إلى بعضه بقوله: "ففي حديث عائشة" أو هو وما بعده نفس الجواب, وهو أولى "عند أبي عوانة" الحافظ، يعقوب ابن إسحاق الأسفرايني، النيسابوري, ثقة ثبت جليل، طاف الدنيا, وعني بالحديث، مات سنة ست عشرة وثلثمائة، "في صحيحه" المخرج على مسلم، وله فيه زيادات عدة، "والحاكم" محمد بن عبد الله، الحافظ المشهور، قالت: "ما بال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمًا منذ أنزل عليه القرآن"، يطلق على بعضه كما يطلق على كله، فشمل أوّل ما نزل، فكأنها قالت: منذ نبئ، ولا يشكل بأنها لم تولد حينئذ؛ لجواز أنه بلغها ذلك فأخبرت به، ولا يرد ما شاهده حذيفة من بوله قائما؛ لأنه في غير البيوت، أو لبيان الجواز، ولم تشاهده عائشة، فأخبرت بما شاهدت، وكأنها قاست عليه ما لم تشاهده، وقد روى الترمذي والنسائي عنها: من حدَّثكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كان يبول قائمًا فلا تصدقوه, ما كان يبول إلا قاعدًا، ولفظ النسائي: إلا جالسًا، وحمل على من اعتقد أنه عادته، "وفي حديث عبد الرحمن بن حسنة" بفتح المهملتين، ثم نون، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 عند النسائي وابن ماجه: أنه -صلى الله عليه وسلم- بال جالسًا، فقالوا: انظروا إليه يبول كما تبول المرأة. وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائمًا، ويؤيده ما في حديث عبد الرحمن هذا, وفيه دلالة على أنه كان يخالفهم في ذلك, فيقعد لكونه أستر وأبعد من مماسّة البول. وقال حذيفة: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم فبال قائمًا ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ   وهو ابن المطاع بن عبد الله، أخو شرحبيل بن حسنة، وهي أمهما، قال الترمذي: يقال: إنهما أخوان، وأنكره العسكري تبعًا لابن أبي خيثمة. روى عبد الرحمن عن المصطفى، وعنه زيد بن وهب، وذكر مسلم والأزدي والحاكم؛ أنه تفرَّد بالرواية عنه، ويرد عليهم أنَّ في الطبراني الكبير حديثًا من طريق أبي طارق عنه، قاله في الإصابة "عند النسائي، وابن ماجه"، وصحّحه الدارقطني وغيره؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- بال جالسًا" مخالفًا لعادة العرب، "فقالوا" متعجبين: "انظروا إليه يبول كما تبول المرأة"، ولعلَّ قائليه ليسوا مسلمين؛ إذ محافظة الصحابة على فعله واقتداؤهم به معلوم، "وحكى ابن ماجه عن بعض مشايخه أنه قال: كان من شأن العرب البول قائمًا"، ألا تراه يقول في حديث عبد الرحمن بن حسنة: يبول كما تبول المرأة. هذا بقية ما حكاه ابن ماجه، كما في الفتح، فما أوهمه قوله: "ويؤيده ما في حديث عبد الرحمن هذا"، من تعجبهم من بوله جالسًا؛ أنه من عنده ليس بمراد، "وفيه دلالة على أنه" -صلى الله عليه وسلم- "كان يخالفهم في ذلك، فيقعد لكونه أستر, وأبعد من مماسّة البول"؛ إذ القيام يخشى منه إصابة القدمين ونحوهما برشاش البول. "وقال حذيفة" بن اليمان، الصحابي ابن الصحابي: "أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم"، وفي رواية: بطيحة قوم، وهي المكان الواسع، "فبال قائمًا، ثم دعاء بماء فجئته بماء فتوضأ" وفي مسلم، فتنحيت، فقال: "ادن" فدنوت حتى قمت عند عقبيه. ولأحمد: أتى سباطة قوم فتباعدت، فأدناني حتى صرت قريبًا من عقيبة، فبال قائمًا، ودعا بماء فتوضأ، ومسح على خفَّيه، وكذا زاد مسلم وغيره فيه ذكر المسح على الخفين. "رواه البخاري"، ومسلم، وأصحاب السنن وغيرهم، وفي الصحيح أيضًا عن حذيفة: رأيتني أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- نتماشى، فأتى سباطة قوم خلف حائط، فقام كما يقوم أحدكم فبال، فانتبذت منه، فأشار إليّ فجئت، فقمت عند عقبيه حتى فرغ. وفيه أيضًا: كان أبو موسى الأشعري يشدد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 رواه البخاري. وفي رواية غيره: بال قائمًا ففحج رجليه، أي: فرقهما وباعد ما بينهما. والسباطة -المهملة وبعدها موحدة- هي المزبلة والكناسة, تكون بفناء الدور مرفقًا لأهلها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتدّ منها البول على البائل، وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك؛ لأنها لا تخلو عن النجاسة. وبهذا يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار ففيه إضرار، أو نقول: إنما بال فوق السباطة لا في أصل الجدار، وهو صريح في رواية أبي عوانة في صحيحه   في البول، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب البول ثوب أحدهم قرضه، فقال حذيفة: ليته أمسك, أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سباطة قوم، فبال قائمًا، "وفي رواية غيره: بال قائمًا ففحج"، بفاءين وحاء مهملة مفتوحات، وجيم، "رجليه، أي: فرَّقهما وباعد ما بينهما"، وهذه حالته وإن بال جالسًا، قال أبو موسى: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبول قاعدًا، قد جافى بين فخذيه، حتى جعلت أرثي له من طول الجلوس. رواه الطبراني، وقال ابن عباس: عدل -صلى الله عليه وسلم- إلى الشعب، فبال حتى أني أرثي له من وركيه، رواه ابن ماجه "والسباطة" بضم السين "المهملة، وبعدها موحدة"، فألف فطاء مهملة فتاء تأنيث، "هي المزبلة" بفتح الباء، والضم لغةً, موضع الزبل، كما في المصباح "والكناسة" الواو بمعنى أو وبها عبَّر المصنّف في شرح البخاري، وحكي ابن الأثير القولين فقال: السباطة الموضع الذي يرمى فيه السراب والأوساخ وما يكنس من المنازل، وقيل: هي الكناسة نفسها, انتهى. وجزم الجوهري، والمجد بالثاني، "تكون بفناء الدور مرفقًا لأهلها"، أي: محلًّا يرتفقون به، قال في القاموس: الرفق -بالكسر- ما استعين به، واللطف رفق به، وعليه مثلثة رفقًا ومرفقًا، كمجلس ومقعد ومنبر، ثم قال: ومرافق الدار مصاب الماء ونحوها؛ ومثله في صحاح الجوهري: وصريحهما أن اللغتين في المعنيين، وفي المصباح: المرفق ما ارتفقت به -بفتح الميم، وكسر الفاء، وعكسه لغتان، وأما مرفق الدار، كالمطبخ والكنيف ونحوه, فبكسر الميم، وفتح الفاء لا غير, على التشبيه باسم الآلة، "وتكون في الغالب سهلة لا يرتدّ منها البول على البائل"، فلذا بال عليها، "وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك، لأنها لا تخلو عن النجاسة"، وهي لا تملك، "وبهذا" أي: كونها سهلة, لا يرتدّ منها البول "يندفع إيراد من استشكله لكون البول يوهي الجدار، ففيه إضرار"، وهو قد قال: "لا ضرر ولا ضرار"، ووجه الدفع: إنها لسهولتها تشرب البول الحاصل بها، فلا يصل إلى الجدار، "أو نقول" في الجواب: "إنما بال فوق السباطة" بوسطها، "لا في أصل الجدار" الذي نشأ الإشكال منه، "وهو صريح في رواية أبي عوانة في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره, أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرّف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأموالهم، وهذا وإن كان صحيح المعنى, لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: وأما مخالفته -صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار، فقد قيل فيه: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بمصالح المسلمين، ولعلّه طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول, فلو أبعد لتضرَّر، واستدنى حذيفة ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه، أو لعله فعله   صحيحه"، فيحمل عليه؛ لأن الروايات تبيّن بعضها، "وقيل: يحتمل أن يكون علم إذنهم في ذلك بالتصريح أو غيره"، كإمارة دلّت على ذلك، "أو لكونه مما يتسامح الناس به، أو لعلمه بإيثارهم إياه بذلك، أو لكونه يجوز له التصرف في مال أمته دون غيره؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم", فيما دعاهم إليه، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه "وأموالهم؛ وهذا"، أي: التعليل بجواز التصرف. "وإن كان صحيح المعنى, لكن لم يعهد ذلك من سيرته ومكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم" أي: إنه عاملهم بما يتخيل أنّ فيه أذى؛ وإن جاز له ورضوا به، "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح أيضًا: إذ الذي قبله من أوّل قوله والسباطة فيه أيضًا، ثم قال بعد قليل جواب سؤال، تقديره: لم خالف عادته من الإبعاد، وبال على السباطة القريبة من الناس، "وأما مخالفته -صلى الله عليه وسلم- لما عرف من عادته من الإبعاد عند قضاء الحاجة، عن الطرق المسلوكة وعن أعين النظار"؛ بحيث لا يراه أحد، لما روى أبو داود وابن ماجه؛ والحاكم في علومه, عن بلال بن الحارث وغيره، كان -صلى الله عليه وسلم- إذا انطلق لحاجته تباعد حتى لا يراه أحد. وروى ابن جرير وغيره بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يذهب لحاجته إلى المغمس. قال نافع: وهو نحو ميلين من مكة، وفي القاموس: المغمس كمعظم ومحدث، وهو مبالغة في الإبعاد واستعمال الأدب، فلا ينافي في أنَّ المستحب يحصل بما دون ميلين، "فقد قيل فيه" أي: وجه مخالفته لعادته، "إنه -صلى الله عليه وسلم- كان مشغولًا بمصالح المسلمين، ولعلّه" في الفتح فلعله -بالفاء, "طال عليه المجلس حتى احتاج إلى البول، فلوّ أبعد لتضرَّر" بحبس البول إلى وصوله للمكان البعيد، "واستدنى حذيفة" أي: طلب قربه منه، "ليستره من خلفه عن رؤية من لعله يراه" أي: يرى شخصه -صلى الله عليه وسلم- مع وجود مانع رؤية عورته، ولفظ الفتح: من لعله يمر به، وكان قدّامه مستورًا بالحائط، "أو لعله فعله"، أي: الستر "لبيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 لبيان الجواز, ثم هو في البول, وهو أخف من الغائط لاحتياجه إلى زيادة تكشّف، والغرض من الإبعاد التستر, وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر. وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك المدينة, فانتهى إلى سباطة قوم فقال: "يا حذيفة, استرني" فذكر الحديث. وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة. وقيل: إنما بال قائمًا لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبًا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر -رضي الله عنه- قال: البول قائمًا أحصن للدبر. وقيل: السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد: إن العرب   الجواز، ثم هو"، أي: الستر "في البول، وهو أخفّ من الغائط؛ لاحتياجه إلى زيادة تكشّف"، أسقط من الفتح: ولما يقترن به من الرائحة, وإسقاطه حسن؛ إذ لم يكن لغائطه رائحة كريهة، كما مَرَّ، "والغرض من الإبعاد التستر، وهو يحصل بإرخاء الذيل والدنو من الساتر" إن كان طوله ثلثي ذراع؛ وقرب منه بأن كان ما بينهما ثلاثة أذرع فأقلّ، والساتر تعرض المقعدة. "وروى الطبراني من حديث عصمة بن مالك" الخطمي، له أحاديث أخرجها الدارقطني، والطبراني وغيرهما، مدارها على الفضل بن مختار، وهو ضعيف جدًّا، قاله في الإصابة وفي التقريب، زعم عبد الحق أن النسائي أخرج له حديثًا في السرقة، وتعقّب ذلك ابن القطان، "قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك" أي: طرق "المدينة، فانتهى إلى سباطة قوم، فقال: "يا حذيفة استرني"، فذكر الحديث"، وهو: فدنوت حتى قمت عند عقبه، فبال قائمًا، "وظهر منه الحكمة في إدنائه حذيفة في تلك الحالة"، وهي قربه من القوم، وجلوسه في مظنّة المارة عليه؛ مع أمره له بذلك، قال في الفتح: وكان حذيفة لما وقف خلفه عند عقبه استدبره, وظهر أيضًا أن ذلك كان في الحضر، لا في السفر، ويستفاد من هذا دفع أشد المفسدتين بأخفهما، والإتيان بأعظم المصلحتين إذا لم يمكنا معًا، وبيانه أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يطيل الجلوس لمصالح الأمة، ويكثر من زيارة أصحابه وعيادتهم، فلمَّا حصره البول وهو في بعض تلك الحالات، لم يؤخره حتى يبعد كعادته، لم يترتّب على تأخيره من الضرر، فراعى أهم الأمرين، وقدَّم المصلحة في تقريب حذيفة منه ليستره من المارة، على مصلحة تأخره عنه؛ إذ لم يمكن جمعهما، "وقيل: إنما بال قائمًا؛ لأنها حالة يؤمن معها خروج الريح بصوت، ففعل ذلك لكونه قريبًا من الديار، ويؤيده ما رواه عبد الرزاق عن عمر -رضي الله عنه- قال: البول قائمًا أحصن للدبر" من خروج الريح منه، "وقيل: السبب في ذلك ما روي عن الشافعي وأحمد: إن العرب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك, فلعله كان به. وروى الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة قال: إنما بال -صلى الله عليه وسلم- قائمًا لجرح كان بمأبضه. والمأبض -بهمزة ساكنة بعدها موحدة ثم معجمة- باطن الركبة. فكأنه لم يتمكّن لأجله من القعود، ولو صحَّ هذا الحديث لكان فيه غنى عن جميع ما تقدّم, لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي. والأظهر: إنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكأنَّ أكثر أحواله البول عن قعود. وقيل: إن البول عن قيام منسوخ, واستدل عليه بحديث عائشة المتقدّم. والصواب: إنه غير منسوخ، والجواب عن حديث عائشة أنه مستند على علمها, فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت فلم تطَّلع هي عليه،   كانت تستشفي لوجع الصلب بذلك، فلعله كان به" وجع صلب -بضم، فسكون، وبضمتين- عظام الظهر، وفي القاموس: عظم من لدن الكاهل إلى العجب. "وروى الحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة، قال: إنما بال -صلى الله عليه وسلم- قائمًا لجرح كان بمأبضه، والمأبض -بهمزة ساكنة بعدها موحدة" مكسورة، "ثم" ضاد "معجمة- باطن الركبة، فكأنَّه لم يتمكّن لأجله من القعود، ولو صحَّ هذا الحديث لكان فيه غنًى عن جميع ما تقدَّم"؛ لأنه نصٌّ وما تقدَّم احتمالات، "لكن ضعَّفه الدارقطني والبيهقي، والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود"، وقول ابن القيم الصحيح: إنه إنما فعله تنزيهًا وبعدًا من إصابة البول, فيه نظر، بل البول قائمًا في المكان الصلب مما ينجس القدمين بالرشاش، "وقيل: إن البول عن قيام منسوخ؛ واستدلّ عليه بحديث عائشة المتقدّم": ما بال قائمًا منذ أنزل عليه القرآن. وهذا زعمه أبو عوانة وابن شاهين، واستدلا بهذا وبحديثها أيضًا: مَنْ حدَّثكم أنه كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول قاعدًا، "والصواب أنه غير منسوخ"؛ إذ لا دليل على نسخه، "والجواب عن حديث عائشة أنه مستند إلى علمها، فيحمل على ما وقع منه في البيوت، وأما غير البيوت فلم تطَّلع هي عليه". "وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش"، وقد بينا أن ذلك كان بالمدينة، فتضمَّن الرد على ما نفته عائشة؛ من أنَّ ذلك لم يقع بعد نزول القرآن، وقد ثبت عن عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وغيرهم؛ أنهم بالوا قيامًا، وهو دالّ على الجواز من غير كراهة إذا أُمِنَ الرشاش، ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في النهي شيء، كما بينته في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 وقد حفظه حذيفة، وهو من كبار الصحابة، وهو جائز من غير كراهة إذا أمن الرشاش. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". رواه البخاري من حديث أنس. والخبث -بضم المعجمة والموحدة- ومراده: ذكران الشياطين وإناثهم.   أوائل شرح الترمذي، قاله في فتح الباري، "وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يدخل الخلاء"، قال ابن الحاجب وغيره: منصوب على الظرف؛ لأن دخل من الأفعال اللازمة؛ بدليل أن مصدره على فعول، وما كان كذلك فهو لازم؛ ولأنه نقيض خرج وهو لازم, فيكون هو أيضًا كذلك، واختار قوم أنه مفعول به، وعن سيبويه أنه منصوب بإسقاط الخافض، وجعله الحريري من الأفعال المتعدية تارة بنفسها، وتارة بحرف الجر. "قال: "اللهمَّ إني أعوذ"، أي: ألوذ وألتجئ "بك من الخبث"، جمع خبيث: ذكران الشياطين، "والخبائث" إناثهم, جمع خبيثة، وخصَّ بذلك حال الخلاء؛ لأن الشياطين يحضرون الأخلية، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله، فقدَّم لها الاستعاذة احترازًا منهم، وقال -صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصحّحه الحاكم، وابن حبان، عن زيد بن أرقم، ومحتضرة، أي: تحضرها الشياطين، والحشوش -بضم الحاء وشينين معجمتين- المراحيض والكنف، "رواه البخاري من حديث" آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز، عن "أنس" بلفظ: كان إذا دخل الخلاء إلخ ... ، ثم قال: وقال غندر عن شعبة: إذا أتى الخلاء، وقال سعيد بن زيد: حدَّثنا عبد العزيز: إذا أراد أن يدخل, انتهى. فبينت هذه الرواية المراد، فإذا قتصر عليها المصنف، لكنه أوهم أن البخاري رواها مسندة, مع أنه إنما رواها تعليقًا كما رأيت، نعم وصلها في كتاب الأدب المفرد له، وهذه الروايات وإن اختلف لفظها، فمعناها متقارب، يرجع إلى معنًى واحد، هو ما صرّحت به الرواية الثالثة، وهو في الأمكنة المعدَّة لذلك بقرينة الدخول، ولذا قال ابن بطال: رواية إذا أتى أعمَّ لشمولها انتهى. "والخبث -بضم المعجمة و" ضم "الموحدة، ومرداه: ذكران الشياطين" بالخبث جمع خبيث، "وإناثهم" بالخبائث جمع خبيثة، قاله ابن حبان، والخطابي، وزاد أن عامَّة أصحاب الحديث يقولونه، ساكن الباء، وهو غلط، والصواب: ضمها, واتفق من بعد الخطابي على أنه الغلط، منهم النووي والتوربشتي؛ لأن الخبيث إذا جمع يجوز تسكين بائه للتخفيف؛ وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ إظهارًا للعبودية، ويجهر بذلك للتعليم، وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدَّة لذلك؛ لكونها حضرة الشياطين، أو يعم؟ الأصح الثاني. ويقول ذلك قبيل الدخول في الأمكنة، وأمَّا في غيرها فيقوله في أوّل الشروع؛ كتشمير ثيابه مثلًا، وهذا مذهب الجمهور، فلو نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه.   مستفيض، لا يسع أحدًا مخالفته، إلّا أن يزعم أن ترك التخفيف أَوْلَى، لئلّا يشتبه بالمصدر، لكن صرح جماعة من أهل المعرفة بالعربية، منهم أبو عبيدة، بأن الباء هنا ساكنة. وقال ابن دقيق العيد: لا ينبغي أن يعد هذا غلطًا؛ لأن فعلًا -بضم الفاء والعين- تخفف عينه قياسًا، قال: ولا يتعيّن أن المراد بالخبث -بالسكون- ما لا يناسب المعنى، بل بمعناه، وهو بضمّها نعم حمله، وهو ساكن على ما لا يناسب غلط في الحمل، لا في اللفظ, انتهى. وقد أشار البخاري إلى أنه روي بالوجهين، فقال بعدما روى الحديث: ويقال الخبث، قال الحافظ: إي بإسكان الموحدة، فإن كانت مخفَّفة عن الحركة فتقدم توجيهه، وإن كانت بمعنى المفرد فمعناه كما قال ابن الأعرابي: المكروه، فإن كان من الكلام فالشتم، ومن الملل فالكفر، ومن الطعام فالحرام، ومن الشراب فالضارّ؛ وعلى هذا, فالمراد بالخبائث المعاصي، أو مطلق الأفعال المذمومة، ليحصل التناسب، ولذا وقع في رواية الترمذي وغيره، "أعوذ بالله من الخبث والخبث والخبائث" الأوّل بإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي: من الشيء المكروه، ومن الشيء الذموم، ومن ذكر أن الشياطين وإناثهم, انتهى. وفي المصباح: "من الخبث والخبائث" بضم الباء والإسكان- جائز على لغة تميم، قيل: ذكر أن الشياطين وإناثهم، وقيل: من الكفر والمعاصي، "وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ إظهارًا للعبودية"، وإلّا فهو معصوم من الشيطان كسائر الأنبياء، "ويجهر بذلك للتعليم" لغيره؛ "وهل يختص هذا الذكر بالأبنية المعدَّة لذلك؛ لكونها حضرة الشياطين"، كما ورد في حديث زيد بن أرقم، في السنن، "أو يعم"، أي: يشمل ما لو بال في إناء مثلًا في جانب البيت, "الأصحّ الثاني"، ما لم يشعر في قضاء الحاجة، "ويقول ذلك قبيل الدخول في الأمكنة، وأمَّا في غيرها فيقوله في أول الشروع؛ كتشمير ثيابه مثلًا"، وكإرادة تقديم الرجل، "وهذا مذهب الجمهور" المانعين ذكر الله في تلك الحالة, قائلين: "فلو نسي يستعيذ بقلبه لا بلسانه"، ومن يجيز مطلقًا، لا يحتاج إلى تفصيل، وقد روى المعمري -بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة- هذا الحديث بلفظ الأمر، قال: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنوا من الأرض. رواه الترمذي وأبو داود والدارمي. وعن عائشة قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك"، رواه الترمذي وابن ماجه. وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى   قال الحافظ: وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية، ولم أرها في غير هذه الرواية, انتهى. وظاهره: تأخير التعوّذ عن البسملة، وبه صرَّح جماعة؛ لأنه ليس للقراءة، قاله النووي. "وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد الحاجة" أي: القعود لبول أو غائط، "لم يرفع ثوبه" عن عورته، ولفظ أبي داود: حال قيامه، أي: بل يصبر "حتى يدنو" يقرب "من الأرض"؛ فإذا دنا منها رفعه شيئًا فشيئًا، وهذا أدب مستَحَب اتفاقًا، ومحله ما لم يخف تنجس ثوبه، وإلّا رفع بقدر حاجته؛ "رواه الترمذي وأبو داود" في الطهارة "و" شيخهما "الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، أبو محمد السمرقندي، الحافظ، أحد الأعلام، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله خمس وسبعون سنة، ثم هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، كما قاله الولي العراقي، وعبد الحق وغيرهما. "وعن عائشة قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء"، وفي رواية: من الغائط، "قال" عقبه؛ بحيث ينسب إليه عرفًا، "غفرانك"، بالنصب, تقدير: أسألك غفرانك, الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والجمال، عمَّا قصرت فيه حال الخلاء من ترك الذكر، وما هو نتيجة الإسراع إلى الطعام، وقضاء الشهوات، ولا يرد أنه مأمور بترك الذكر حينئذ، فلا حاجة إلى الاستغفار؛ لأن سببه من قبله، فأمر بالاستغفار مما تسبب فيه، أو سأل مغفرة عجزه عن شكر تلك النعمة؛ حيث أطعم، ثم هضم، ثم جلب منفعته ودفع مضرته، وسهل خروجه، فرأى شكره قاصرًا عن بلوغ هذه النعم، ففزع إلى الاستغفار، والمراد بالغفران: إزالة الذنب وإسقاطه، ويستحب قول: غفرانك, لقاضي الحاجة، سواء كان في صحراء أو بنيان؛ مرة واحدة على ظاهر الحديث، وقيل: مرتين، وقيل: ثلاثًا، "رواه الترمذي، وابن ماجه" وأبو داود، والنسائي، والإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد, وعنه رواه الترمذي وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن الجارود، وغيرهم، فقول الترمذي: غريب، لا نعرفه إلا من حديث عائشة، هذا مراده: لا نعرفه من وجهٍ صحيح إلّا من حديثها, وغيره من أذكار الخروج ضعيف، فهو كقول أبي حاتم: حديث عائشة أصحّ ما في الباب، والغرابة بمعنى الفردية، فتجامع الصحة، فليس مراده نفيها، كما فهمه مغلطاي واعترضه، "وعن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء، قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى"، بهضمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 وعافاني". رواه ابن ماجه. وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره، شرقوا أو غربوا"،   وتسهيل خروجه، "وعافاني" منه، أي: من احتباس ما يؤذي بدني ويضعف قوتي، ولابن أبي شيبة، والدارقطني من مرسل طاوس: إذا خرج أحدكم من الخلاء، فليقل: "الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذنني، وأمسك علي ما ينفعني"، وفي رواية: "الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى علي قوته، وأذهب عني أذاه"، "رواه ابن ماجه" بإسناد ضعيف، كما قاله المنذري، ومغلطاي وغيرهما، ورواه النسائي من حديث أبي ذر، وقال: مضطرب غير قوي. وقال الدارقطني حديث محفوظ. وروى ابن السني بسند ضعيف عن أنس: كان إذا خرج من الغائط قال: "الحمد لله الذي أحسن بي في أوله وآخره"، "وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى" أي: جاء "أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة" بكسر اللام- على النهي، وبضمها، على النفي، "ولا يولها ظهره" جزم بحذف الياء على النهي، أي: لا يجعلها مقابل ظهره، قاله المصنف والكرماني وغيرهما، وهو صريح في أنَّ الرواية جاءت في يستقبل بالوجهين، وفي يولها بالجزم فقط، لكن جزم الحافظ بكسر اللام؛ لأن لا ناهية، واللام في القبلة للعهد، أي: الكعبة, انتهى. ولذا قال شيخنا: مجزوم، بلا الناهية، حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، وليس خبرًا بمعنى النهي لعطف، ولا يولها, عليه مجزومًا. قال الحافظ: زاد مسلم: "ولا يستدبرها ببول أو بغائط"، والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازًا من إطلاق اسم المحلّ على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام، والظاهر من قوله: "ببول، أو غائط" اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر: "إذا أهرقنا الماء"، وقيل مثاره كشف العورة، وعلى هذا، فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة، كالوطء، وقد نقله ابن شاس المالكي قولًا في مذهبه، وكان قائله تمسك برواية الموطأ: "لا تستقبلوا القبلة بفروجكم"، ولكنها محمولة على قضاء الحاجة جمعًا بين الروايتين، "شرقوا، أو غربوا"، أي: خذوا في ناحية المشرق، أو المغرب؛ وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وهو لأهل المدينة، ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أمَّا من قبلتهم إلى المشرق أو المغرب، فينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، قال الحافظ ولي الدين: ضبطناه في سنن أبي داود: وغربو -بلا ألف، وفي بقية الكتب الستة بإثبات الألف، ونقله النووي عن بعض نسخ أبي داود، وكذا رأيته في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 رواه البخاري من حديث أبي أيوب الأنصاري. وهذا في الصحراء، أما في البنيان فلا، لما روي عن ابن عمر: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام. رواه الشيخان.   مختصر السنن للمنذري بإثباتها، ولعله من الناسخ، وكلاهما صحيح. "رواه البخاري" ومسلم، وأصحاب السنن "من حديث أبي أيوب" خالد بن زيد بن كليب "الأنصاري"، البدري، من كبار الصحابة، "وهذا" النهي محله "في الصحراء، أمَّا في البنيان فلا" يمنع الاستقبال، "لما روى" في التعبير به شيء؛ إذ هو فيما شك فيه، وهذا في الصحيحين، "عن ابن عمر" قال: "ارتقيت"، أي: صعدت "فوق بيت"، وفي رواية: فوق ظهر بيت "حفصة"، زاد مسلم: أختي، ولابن خزيمة: دخلت على حفصة بنت عمر، فصعدت ظهر البيت، وأضافه إليها؛ باعتبار أنه البيت الذي أسكنها فيه النبي -صلى الله عليه وسلم، وبقي في يدها إلى أن ماتت، فورث عنها، وفي رواية: على ظهر بيت لنا، وأخرى: على ظهر بيتنا، وإضافته إليه مجازًا؛ لأنها أخته، أو باعتبار ما آل إليه الحال؛ لأنه ورث حفصة دون أخوته؛ لأنها شقيقته، ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب، "لبعض حاجتي"، أي: لأمر اقتضى رقيه، ولم يبينه لعدم الاحتياج إليه في بيان المقصود هنا. "فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" حال كونه "يقضي حاجته"، وحال كونه "مستدبر القبلة، مستقبل الشام"، وفي رواية: بيت المقدس، والمعنى واحد؛ لأنهما في جهة واحدة، وسقط في رواية: مستدبر القبلة؛ لأن ذلك من لازم من مستقبل الشام بالمدينة، وذكرت في هذه الرواية للتأكيد والتصريح به، ثم لا يرد أن شرط الحال كونها نكرة، ومستدبر مضاف، فتعرف بالإضافة؛ لأنها لفظية, وهي لا تفيد التعريف، ولم يقصد ابن عمر الإشراف على النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الحالة، وإنما صعد السطح لضرورة، فحانت منه التفاتة، كما في رواية البيهقي، فلمَّا رآه بلا قصد أحب أن لا يخليها من فائدة، بحفظ هذا الحكم الشرعي، وكأنَّه إنما رآه من جهة ظهره، حتى ساغ له تأمل الكيفية المذكورة، من غير محذور، ودلَّ ذلك على شدة حرصه على تتبُّع أحواله -صلى الله عليه وسلم- ليتبعها، وكذا كان -رضي الله عنه، "رواه الشيخان", إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال ابن عمر: ارتقيت، فذكره، وادَّعى الخطابي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس لمن استدبر في استقباله الكعبة, وفيه نظر، فقد قال قوم، منهم: النخعي، وابن سيرين، بالتحريم عملًا بحديث معقل الأسدي، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل القبلتين ببول أو غائط. رواه أبو داود وغيره، وهو حديث ضعيف؛ لأن فيه راويًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 وأما حديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن خزيمة، ولفظه عند أحمد: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء. قال جابر: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة، فقال في فتح الباري: الحقّ أنه ليس بناسخ لحديث النهي خلافًا لمن زعمه، بل هو محمول على أنه رآه في بناءٍ أو نحوه؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله -صلى الله عليه وسلم- لمبالغته في التستر. ودعوى خصوصية ذلك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا دليل عليها؛ إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال. ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق: التفريق بين البنيان والصحراء، وهذا أعدل الأقوال؛ لإعمال جميع الأدلة. وقال قوم بالتحريم مطلقًا، وهو المشهور عن أبي حنيفة وأحمد،   مجهول الحال، وعلى تقدير صحته، فالمراد بذلك أهل المدينة؛ ومَنْ على سمتها؛ لأن استقبالهم بيت المقدس يستلزم استدبارهم الكعبة، فالعلة استدبار الكعبة لا استبدبار بيت المقدس، قاله الحافظ. "وأمَّا حديث جابر عند أحمد، وأبي داود، وابن خزيمة" وغيرهم، "ولفظه عند أحمد: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نستدبر القبلة" أي: الكعبة، "أو نستقبلها بفروجنا، إذا أهرقنا الماء، قال جابر: ثم رأيته قبل موته بعام مستقبل القبلة، فقال في فتح الباري": في شرح حديث أبي أيوب: "الحق أنه ليس بناسخٍ لحديث النهي، خلافًا لمن زعمه"؛ إذ لا دليل على النسخ، ومجرَّد رؤيته يفعل خلاف النهي لا يدل عليه، وكان زاعمه قصد به دفع المعارضة، ولذا أضرب، فقال: "بل" الجمع بينهما ممكن، بلا دعوى نسخ؛ إذ "هو محمول على أنه رآه في بناء أو نحوه؛ لأن ذلك هو المعهود من حاله -صلى الله عليه وسلم، لمبالغته في الستر"؛ ورؤية ابن عمر له كانت عن غير قصد، وكذا رؤية جابر، هكذا في الفتح قبل قوله: "ودعوى خصوصية ذلك" أي: استقبال القبلة حال البول "بالنبي -صلى الله عليه وسلم، لا دليل عليها؛ إذ الخصائص لا تثبت بالاحتمال"، بل بالنص الصريح، وقد أمكن الجمع بدون دعوى الخصوصية، "ومذهب الجمهور وهو مذهب مالك؛ والشافعي، وإسحاق" بن راهويه، أحد الأئمة الذين دوّنت مذاهبهم: "التفريق بين البنيان"، فيجوز لحديث ابن عمر الصريح في جواز الاستدبار, وحديث جابر الدال على جواز الاستقبال، "و" بين "الصحراء"، فيمنع لحديث أبي أيوب، "وهذا أعدل الأقوال؛ لإعماله جميع الأدلة" بخلاف غيره، ففيه إلغاء أحدها، وقد تقرَّر عند الفقاء والمحدثين والأصوليين؛ أنه متى أمكن الجمع بين الدليلين جمع، "وقال قوم بالتحريم مطلقًا" في صحراء أو بنيان، "وهو المشهور عن أبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 ورجَّحه من المالكية ابن العربي, وحجتهم أن النهي مقدَّم على الإباحة، ولم يصححوا حديث جابر المتقدّم. وقال قوم بالجواز مطلقًا، وهو قول عائشة وعروة بن الزبير وربيعة، محتجين بأن الأحاديث تعارضت, فلنرجع إلى أصل الإباحة. وفي البخاري عن أنس, كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام،   حنيفة، وأحمد"، وقال به أبو نور صاحب الشافعي، "ورجّحه من المالكية ابن العربي"، ومن الظاهرية ابن حزم، "وحجّتهم أن النهي" في حديث أبي أيوب "مقدَّم على الإباحة" التي دل عليها حديث ابن عمر، "ولم يصحّحوا حديث جابر المتقدم" الصريح في النهي، ولكن قد صححه ابن خزيمة وابن حبان. "وقال قوم بالجواز مطلقًا، وهو قول عائشة، وعروة بن الزبير، وربيعة" بن أبي عبد الرحمن، وداود، "محتجّين بأن الأحاديث تعارضت، فلنرجع إلى أصل الإباحة"، ويردّ عليهم: إن محل ذلك ما لم يمكن الجمع، وقال قوم بجواز الاستدبار دون الاستقبال، حُكِيَ عن أبي حنيفة وأحمد, وتمسَّكوا بحديث ابن عمر، فخصَّصوا به عموم حديث أبي أيوب، ولم يصحّحوا حديث جابر، ولم يلحقوا الاستقبال بالاستدبار قياسًا؛ لأنه لا يصح، وقيل بجواز الاستدبار في البنيان فقط؛ لحديث ابن عمر، وهو قول أبي يوسف، وقيل بعموم التحريم حتى القبلة المنسوخة، وقيل: يختص التحريم بأهل المدينة ومَنْ على سمتها، أما مَنْ قبلته المشرق أو المغرب، فيجوز له الاستدبار والاستقبال مطلقًا؛ لعموم وله: "شرقوا أو غربوا"، "وفي البخاري، عن أنس, كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج" من بيته، أو من بين الناس "لحاجته"، أي: البول أو الغائط، ولفظ: كان, يشعر بالتكرار والاستمرار، "أجيء أنا وغلام"، زاد في رواية للبخاري منّا، أي: من الأنصار؛ وبه صرَّح الإسماعيلي، ولمسلم: نحوي، أي: مقارب لي في السن، والغلام هو المترعرع، قاله أبو عبيد، وفي المحكم: من لدن الفطام إلى سبع سنين، وفي الأساس: الغلام الصغير إلى حد الالتحاء، فإن قيل له بعده غلام فمجاز، قيل: الغلام ابن مسعود؛ لقول أبي الدرداء، لعلقمة بن قيس: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد -يعني: ابن مسعود- الحديث في الصحيح، فيكون أنس سماه غلامًا مجازًا، ويكون معنى قوله: منا، أي: من الصحابة، أو من خدمه -صلى الله عليه وسلم؛ وقوله في رواية الإسماعيلي: من الأنصار؛ لعلها من تصرُّف الراوي، رأى في الرواية منا، فحملها على القبيلة، فرواها بالمعنى، أو لأنَّ إطلاق الأنصار على جميع الصحابة سائغ، وإن خصه العرف بالأوس والخزرج؛ لكن يبعده رواية مسلم: غلام نحوي، فوصفه بالصغر، ويحتمل أنه أبو هريرة، فعنه, كان النبي -صلى الله عليه وسلم، إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ركوة فاستنجى؛ ويؤيّد ما رواه البخاري في ذكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 ومعنا إداوة من ماء -يعني: يستنجي به. وفي رواية مسلم عنه: فخرج علينا وقد استنجى بالماء. وعن أبي هريرة قال: اتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم, وخرج لحاجته, فقال: "ابغني أحجارًا أستنفض بها   الجن عن أبي هريرة، أنَّه كان يحمل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الإداوة لوضوئه وحاجته، ويكون المراد بقول أنس: نحوي، أي: في الحال، لقرب عهده بالإسلام, ويحتمل أنه جابر؛ ففي مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- انطلق لحاجته, فاتبعه جابر بإداوة، ولا سيما وجابر أنصاري، ووقع للإسماعيلي في روايته: فاتبعته وأنا غلام -بتقديم الواو- فتكون حالية، لكن تعقَّبها الإسماعيلي بأن الصحيح: أنا وغلام بواو العطف، "ومعنا إداوة" بكسر الهمزة- إناء صغير من جلد مملوءة "من ماء"، وورد أنَّ إذا للاستقبال وخرج للمضي، فلا يصح هنا؛ إذ الخروج قد وقع؛ وأجيب بأنَّ إذا هنا لمجرد الظرفية، فالمعنى: تبعته حين خرج، أو هو حكايةً للحال الماضية، "يعني: يستنجي به". زعم الأصيلي أنَّ قائل ذلك هشام بن عبد الملك، شيخ البخاري، فيه، وقد رواه بعده عن شيخه سليمان بن حرب، فقال: يستنجي بالماء، ورواه عن محمد بن جعفر بلفظ: إذ تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به، "وفي رواية مسلم، عنه" أنس "فخرج" النبي -صلى الله عليه وسلم "علينا، وقد استنجي بالماء"، وللإسماعيلي: فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي -صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: فبان بهذه الروايات أن حكاية الاستنجاء من قول أنس، لا من قول هشام، كما ادَّعى الأصيلي، وأنه يحتمل أن الماء لوضوئه، فقد انتفى هذا الاحتمال بهذه الروايات، وهي تَرُدّ أيضًا زعم أبي عبد الملك البوني: إن قوله: يستنجي بالماء، مدرج من قول عطاء، راويه عن أنس، "وعن أبي هريرة قال: اتبعت النبي" بتشديد المثناة، أي: سرت وراءه "صلى الله عليه وسلم, و" قد "خرج لحاجته"، جملة وقعت حالًا، فلابُدَّ فيها من قد ظاهرة أو مقدرة، قاله المصنف. فظاهره أن لفظ: قد, لم يقع في رواية، فما في نسخ هنا من زيادتها لا يعتمد، وأسقط الراوية: كان لا يلتفت وراءه، فدنوت منه. زاد الإسماعيلي: أستأنس وأتنحنح، فقال: "من هذا"؟ فقلت: أبو هريرة، "فقال: "ابغني" بهمزة وصل ثلاثي، أي: اطلب لي، يقال: بغيتك الشيء، أي: طلبته لك، وبهمزة قطع إذا كان من المزيد، أي: أعني على الطلب، يقال: أبغيك الشيء، أي: أعنتك على طلبه؛ وهما روايتان. قال الحافظ: والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي: "آتني"، وفي رواية: أبغ لي -بهمزة قطع، ولام بعد المعجمة بدل النون، "أحجارًا" مفعول ثان، لأبغني، أو آتني من آتاه بالمد أعطاه، والمعنى هنا ناولني أحجارًا "استنفض بها" بفاء مكسورة وضاد معجمة، مجزوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 ولا تأتني بعظم ولا روث"، فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه, فلما قضى حاجته أتبعه بهنَّ.   جواب الأمر، ويجوز الرفع على الاستنئاف، قال القزاز: استفعل من النفض، وهو أن يهزَّ الشيء ليطير غبره، قال: وهذا موضع أستنظف، أي: بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي، ورَدَّه الحافظ؛ بأن الرواية صواب، ففي القاموس استنفضه: استخرجه، وبالحجر استنجى، وهو مأخوذ من كلام الطرزي، قال: الاستنفاض الاستخراج؛ ويكنَّى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف، والصاد المهملة، فقد صحَّف، وللإسماعيلي بدل استنفض استنجى، وكأنَّها المراد بقوله في رواية البخاري، أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته انتهى. وأو نحوه بالنصب مفعول، قال: أي: قال نحو هذا اللفظ، فلا يرد أنّ قال إنما تنصب الجمل ونحوه مفردًا؛ لأنه وإن كان مفردًا لكنه في معنى الجملة، كقلت قصيدة، "ولا تأتني" بالجزم، بحذف الياء على النهي، للكشميهني بإثبات الياء على النفي. وفي رواية: لا تأتي "بعظم ولا روث"؛ لأنهما مطعومان للجن، كما في البخاري، وفي المبعث أن أبا هريرة، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم, لما أن فرغ, ما بال العظم والروث، قال: "هما من طعام الجن"، فظاهر هذا التعليل اختصاص المنع بهما، نعم يلحق بهما جميع مطعومات الآدميين بالأَوْلَى، وكذا المحترمات، كأوراق كتب العلم, وكأنه -صلى الله عليه وسلم- خشي أن يفهم أبو هريرة له من قوله استنجى، أنّ كل ما يزيل الأثر كافٍ، ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث، أنَّ ما سواهما يجزئ، ولو اختص ذلك بالأحجار، كما يقول بعض الحنابلة والظاهرية: لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنًى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها، ومن قال: علة النهي عن الروث نجاسته, ألحق به كل نجس ومتنجس، وعن العظم كونه لزجًا، لا يزيل إزالة تامّة، الحق به كل ما في معناه، كالزجاج الأملس، ويؤيده ما رواه الدارقطني، وصحّحه عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن نستنجي بروث، أو عظم، وقال: "أنهما لا يطهران"، "فأتيته بأحجار بطرف"، أي: في طرف "ثيابي، فوضعتها إلى جنبه"، أسقط من رواية البخاري، وأعرضت عنه, كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني: واعترضت -بزيادة مثناة بعد العين، والمعنى متقارب، "فلمَّا قضى حاجته أتبعه" بهمزة قطع، أي: ألحقه "بهنّ"، أي: أتبع المحل بالأحجار، وكنَّى بذلك عن الاستنجاء، وقضيته أنه لم يتبعها بالماء، ولا يخالفه قول عائشة: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من غائط الأمس ماء. رواه ابن ماجه. وفي رواية له أيضًا، عنها: كان يغسل مقعدته ثلاثًا؛ لأنه إخبار عمَّا رأته، فلا ينافي رؤية غيرها الاقتصار على الأحجار، ويحتمل أنه استنجى بالماء بعد الأحجار، قال الحافظ: وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده, فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: "هذا ركس". رواه البخاري. وفي حديث سلمان عند مسلم مرفوعًا: "لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة   الحديث جواز اتباع السادات، وإن لم يأمروا بذلك، واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجي، وإعداده عنده، كي لا يحتاج إلى طلبه بعد الفراغ، فلا يأمن التلويث، "وعن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- الغائط"، أي: الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة، فالمراد به معناه اللغوي، "فأمرني أن آتيته بثلاثة أحجار، فوجدت"، أي: أصبت "حجرين، والتمست"، أي: طلبت الحجر "الثالث، فلم أجده"، بالضمير المنصوب، أي: الحجر الثالث، وفي رواية: بحذف الضمير، "فأخذت روثة" زاد في رواية ابن خزيمة: وكانت روثة حمار، ونقل التيمي أن الروث مختص بما يكون من الخيل والبغال والحمير؛ "فأتيته بها, فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: "هذا ركس" بكسر الراء، وإسكان الكاف- قيل لغة في رجس -بالجيم، ويدل عليه رواية ابن ماجه، وابن خزيمة -بالجيم, ويؤيده أيضًا رواية الترمذي: "هذا ركس" يعني: نجسًا، وقيل: الرجس: الرجع، رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة، قاله الخطابي وغيره، والأَوْلَى أن يقال: رد من حالة الطعام إلى حالة الروث. قال ابن بطال: لم أجد هذا الحرف في اللغة، يعني: الركس -بالكاف، وتعقَّبه أبو عبد الملك بأن معناه الردّ، كما قال تعالى: {أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91] ، أي: ردوا، فكأنه قال: هذا رد عليك، انتهى. ولو ثبت ما قاله، لكان بفتح الراء، يقال: أركسه ركسًا إذ ردَّه، وأغرب النسائي فقال عقب هذا الحديث: الركس طعام الجن، وهذا إن ثبت لغة، فهو يزيح الإشكال، قاله الحافظ، وذكر اسم الإشارة الراجع للروثة؛ باعتبار تذكير الخبر كقوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76، 77] ، وفي رواية: هذه ركس على الأصل، ووجه إتيانه بالروثة مع أمره بالأحجار: أنه قاسها على الحجر بجامع الجمود، فقطع -صلى الله عليه وسلم- قياسه بالفرق، أو بإبداء المانع بقوله: "هذا ركس"، وإن كان قياسه لضرورة عدم المنصوص عليه؛ "رواه"، أي: المذكور من حديثي أبي هريرة، وابن مسعود "البخاري" في الطهارة وغيرها، ويقع في كثير من نسخ المصنف سقوط: وقال: "هذا ركس" , في بعضها ثبوتها، وهو أحسن؛ إذ هي في البخاري، "وفي حديث سليمان" الفارسي، "عند مسلم مرفوعًا"، بمعنى، قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار"؛ فنهيه وافق أمره لابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 أحجار. وقد أخذ الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث بهذا، فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة, مع مراعاة الإنقاء, وإذا لم يحصل بها فتزاد حتى تنقى. ويستحبّ حينئذ الإيتار؛ لقوله -عليه والصلاة والسلام: "من استجمر فليوتر". وليس بواجب لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد، قال: "ومن لا فلا حرج"، قال الخطابي: لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة، فلمَّا اشترط العدد لفظًا وعلم الإنقاء فيه معنًى, دلَّ على إيجاب الأمرين. ونظيره: العدة بالأقراء، فإن العدد مشترط ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد. وقال الطحاوي: لو كان العدد مشترطًا لطلب -عليه الصلاة والسلام- حجرًا ثالثًا. وغفل -رحمه الله- عمَّا أخرجه في مسنده من طريق معمر   مسعود، أن يأتيه بثلاثة، "وقد أخذ الشافعي وأحمد، وأصحاب الحديث بهذا" المذكور من النهي والأمر، "فاشترطوا أن لا ينقص عن الثلاثة، مع مراعاة الإنقاء, وإذا لم يحصل بها فتزاد حتى تنقى، ويستحبّ حينئذ الإيتار؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام: "من استجمر فليوتر"، فالأمر للندب، "وليس بواجب لزيادة في أبي داود" وابن ماجه "حسنة الإسناد"، وصحَّحه ابن حبان، "قال" عقب قوله: "فليوتر, من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" عليه في عدم الإيتار، وبهذا أخذ مالك، وأبو حنيفة؛ وداود، ومن وافقهم في أن الإيتار مستحب فقط، لا شرط، ولا يخالفه حديث سلمان في النهي، لحمله على الكمال، وكذا أمره لابن مسعود، لا لأنه شرط كما زعم المخالف لتصريحه في هذه الرواية: بأن الأمر ليس للوجوب، وبه حصل الجمع بين الأدلة، وحمله على الزائد على الثلاث أن لم تنق تحكم. "قال الخطابي" منتصرًا لمذهب: "لو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة"، وفيه أنه لم يخل عنها؛ إذ المستحب فائدة، "فلمَّا اشترط العدد لفظًا، وعلم الإنقاء فيه معنًى, دل على إيجاب الأمرين" العدد والإنقاء؛ فإن حصل بالثلاث والأزيد "ونظيره العدة بالأقراء، فإن العدد مشترط، ولو تحققت براءة لرحم بقرء واحد"، وهذا ممنوع، وسنده أنَّ في العدة ضربًا من التعبّد، "وقال الطحاوي" تأييدًا لمذهبه: "لو كان العدد مشترطًا لطلب -عليه الصلاة والسلام- حجرًا ثالثًا، وغفل رحمه الله" مع كونه من كبار الحفاظ، "عمَّا أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر" ابن راشد الأزدي، مولاهم البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت, من رجال الجميع، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، عن أبي إسحاق، عمرو بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 عن ابن مسعود في هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة وقال: "إنها ركس ائتني بحجر"، ورجاله ثقات أثبات. واستدلال الطحاوي فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصود بالثلاثة: أن يمسح بها ثلاثة مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد. انتهى ملخصًا من فتح الباري.   عبد الله السبيعي، عن علقمة؛ "عن ابن مسعود"، فسقط من المصنف راويان عند أحمد، مذكوران في الفتح، وهو من التلخيص المخلّ؛ إذ معمر لم يدرك ابن مسعود "في هذا الحديث، فإن فيه: فألقى الروثة، وقال: "إنها ركس ائتني بحجر"؛ وفي رواية: "ائتني بغيرها"، "ورجاله ثقات إثبات" روى لهم الشيخان زاد الحافظ: وقد تابع معمرًا عليه أبو شيبة الواسطي، وهو ضعيف، أخرجه الدارقطني، وتابعهما عمَّار بن زريق أحد الثقات؛ عن أبي إسحاق، وقد قيل: إن أبا إسحاق لم يسمع من علقمة، لكن أثبت سماعه منه لهذا الكرابيسي، وعلى تقدير أنه أرسله عنه، فالمرسل حجّة عند المخالفين، وعندنا أيضًا إذا اعتضد. "واستدلال الطحاوي" على تقدير أنه لم يأخذ إلّا الحجرين، "فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون اكتفى" بالأمر الأول، في طلب الثلاثة, فلم يجدد الأمر بطلب الثالث، كما في الفتح قائلًا: أو اكتفى "بطرف أحدهما عن الثالث؛ لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات، وذلك حاصل ولو بواحد" والدليل على صحته، أنَّه لو مسح بطرف واحد ورماه، ثم جاء آخر فمسح بطرفه الآخر؛ لأجزأهما بلا خلاف "انتهى. ملخصًا من فتح الباري" وزاد وقال أبو الحسن بن القصار المالكي: روي أنه أتاه بثالث, لكن لا يصح، ولو صحَّ فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم؛ لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة, فحصل لك منهما أقلّ من الثلاثة، وفيه نظر أيضًا؛ لأن الزيادة ثابتة كما قدمنا؛ وكأنه إنما وقف على الطريق التي عند الدارقطني فقط، ثم يحتمل أنه لم يخرج منه شيء إلّا من سبيل واحد، وعلى تقدير أنه خرج منهما, فيحتمل أنه اكتفى للقبل بالمسح في الأرض وللدبر بالثلاث؛ أو مسح من كلّ منهما بطرفين، وأمَّا استدلالهم على عدم اشتراط العدد بالقياس على مسح الرأس، ففاسد الاعتبار؛ لأنه في مقابلة النص الصريح، كما تقدَّم من حديث أبي هريرة وسلمان, انتهى. ولا فساد لحمل النص على الكمال والله أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 الفهرس : 3 مكاتبة عليه الصلاة والسلام إلى الملوك وغيرهم 62 رسله -صلى الله عليه وسلم 70 الفصل السابع: في مؤذنيه وخطبائه وحدائه وشعرائه 85 الفصل الثامن: في الآت حروبه عليه الصلاة والسلام؛ كدروعه وأقواسه ومنطقته وأتراسه 93 تكميل 97 الفصل التاسع: في ذكر خيله ولقاحه ودوابه 113 الفصل العاشر: في ذكر من وفد عليه -صلى الله عليه وسلم- وزاده فضلًا وشرفًا لديه 114 الوفد الأول: وفد هوازن 120 الوفد الثاني: وفد ثقيف 129 الوفد الثالث: وفد بني عامر 133 الوفد الرابع: وفد عبد القيس 146 الوفد الخامس: وفد بني حنيفة 157 الوفد السادس: وفد طيء 160 الوفد السابع: وفد كنده 163 الوفد الثامن: وفد الأشعريين 169 الوفد التاسع: قدوم صرد بن عبد الله الأزدي 171 الوفد العاشر: بني الحارث بن كعب 173 الوفد الحادي عشر: وفد همدان 178 الوفد الثاني عشر: وفد مزينة 179 الوفد الثالث عشر: وفد دوس 186 الوفد الرابع عشر: وفد نصارى نجران 191 الوفد الخامس عشر: فروة بن عمرو الجذامي 192 الوفد السادس عشر: قدوم ضمام بن ثعلبة 199 الوفد السابع عشر: وفد طارق بن عبد الله وقومه 202 الوفد الثامن عشر: وفد تجيب 204 الوفد التاسع عشر: وفد بني سعد هذيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 206 الوفد العشرون: وفد بني فزارة 211 الوفد الحادي والعشرون: وفد بني أسد 213 الوفد الثاني والعشرون: وفد بهراء 215 الوفد الثالث والعشرون: وفد عذرة 216 الوفد الرابع والعشرون: وفد بلي 217 الوفد الخامس والعشرون: وفد بني مرة 218 الوفد السادس والعشرون: وفد خولان 219 الوفد السابع والعشرون: وفد محارب 220 الوفد الثامن والعشرون: وفد صداء 223 الوفد التاسع والعشرون: وفد عسان 223 الوفد الثلاثون: وفد سليمان 224 الوفد الحادي والثلاثون: وفد بني عبس 225 الوفد الثاني والثلاثون: وفد غامد 226 الوفد الثالث والثلاثون: وفد الأزد 230 الوفع الرابع والثلاثون: وفد بني المنتفق 233 الوفد الخامس والثلاثون: وفد النخع 238 المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى به 238 الفصل الأول: في كمال خلقته وجمال صورته -صلى الله عليه وسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 المجلد السادس تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية ... بسم الله الرحمن الرحيم تابع المقصد الثالث: فيما فضله الله تعالى الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكيِّة وشرَّفه به من الأوصاف المرضية اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها. قال الراغب: الخلق والخُلق -بالفتح وبالضم- في الأصل بمعنى واحد، كالشَرب والشُرب, لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخُصَّ الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. انتهى. وقد اختلف: هل حسن الخلق غريزة أو مكتسب؟ وتمسك من قال بأنه غريزة بحديث ....   الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية "الفصل الثاني": من المقصد الثالث "فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية" الصالحة النامية، وجمع الأخلاق باعتبار الثمرات الناشئة عن الخلق من الأوصاف الحميدة، كبشاشة واحتمال أذى وعدم المجازاة بالسيئة، فلا يرد أن كونه جبلة في الإنسان يقتضي اتحاده أو بناء على تعدده؛ كما صار إليه كثير "وشرفه به من الأوصاف المرضية،" بمعنى الأخلاق الزكية على أن المراد بها الثمرات. "اعلم أن الأخلاق جمع خلق -بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها" تخفيفًا, فالضم الأصل, لكن سوَّى بينهما في النهاية "قال الراغب: الخلق والخلق بالفتح" للأول، "وبالضم" للثاني "في الأصل، بمعنى واحد كالشرب" بالفتح "والشرب" بالضم"، "لكن خصَّ" في الاستعمال وإن أطلق بالاشتراك على كلٍّ منهما؛ "الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدرجة بالبصيرة انتهى". وفي النهاية: الخلق -بضم اللام وسكونها- الدين والطبع والسجية, وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافه ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها؛ ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة، أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، "وقد اختلف هل حسن الخلق غريزة" بمعجمة فراء فتحتية فزاي منقوطة. أي: طبيعة؛ ", أو مكتسب، وتمسَّك من قال بأنه غريزة بحديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 ابن مسعود: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم. الحديث رواه البخاري. وقال القرطبي: الخلق جبلة في نوع الإنسان, وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها كان محمودًا, وإلّا فهو المأموم بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودًا، وكذلك إن كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى. وقد وقع في حديث الأشجّ ..................   ابن مسعود" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم" فأعطى بعضًا خلقًا حسنًا، وبعضًا خلقًا سيئًا، وفاوت في مراتبهما؛ "كما قسم" بينكم "أرزاقكم" فوسَّع على بعض، وضيِّقَ على بعض "الحديث رواه البخاري في الأدب المفرد كما عزاه له جمع، منهم المصنف على البخاري, خلافًا لما يوهمه إطلاقه هنا، أنه رواه في الصحيح, "وقال القرطبي: الخلق جبله" -بكسر الجيم والباء وشد اللام. طبيعة، وخلقة وغريزة وسجية، بمعنى واحد كما في المصباح، "في نوع الإنسان" أي أفراد النوع, " وهم في ذلك متفاوتون" إذ النوع حقيقة واحدة لا تكثر فيها ولا تعدد، واختلافهم فيها باعتبار أن منهم من جبلت طبيعته على محبَّة الأفعال الحسنة، ومنهم من طبيعته على خلاف ذلك. وإليه أشار بقوله: "فمن غلب عليه شيء" حسن لاختلافها حسنًا وغيره؛ "منها" أي: من الصفات التي هي ثمرات الجبلة الموصوفة، بالحسن "كان محمودًا", ولا يرد عليه أن الجبلة شيء واحد فلا يتَّصف بغلبة ولا دونها، لما قلنا المراد بها الصفات لا نفس الطبيعة، "وإلّا" يغلب عليه شيء بأن غلبت عليه صفات الذم, أو استوى فيها الأمران, "فهو المأمور" بالأحاديث الدالة على طلب تحسين الخلق, وذلك "بالمجاهدة فيه، حتى يصير محمودًا" فيمكن اكتساب حسن الخلق، "وكذلك إن كان" الخلق "ضعيفًا فيرتاض صاحبه" أي: يسعى في تذليله؛ بتعويده الصفات الحميدة شيئً فشيئًا "حتى يقوى" يعني: أن الحسن مقول بالتشكيك، فمن غلب عليه الحسن الكامل لا يحتاج إلى علاج، ومن غلب عليه صفات الذم احتاج إلى علاج قوي؛ ومن كان فيه أصل الحسن احتاج إلى رياضة ليحصل له قوة في الصفة التي تلبس بها، هكذا أملاني شيخنا -رحمه الله، "وقد وقع في حديث الأشج" بمعجمة وجيم. سمي به لأثر كان في وجهه، واسمه المنذر بن عائذ -بمعجمة فتحتية فمعجمة. على الصحيح المشهور؛ الذي قاله ابن عبد البر: والأكثر وقيل اسمه المنذر بن الحرث بن زياد بن عصر -بفتح العين والصاد المهملتين ثم راء. ابن عوف، وقيل المنذر بن عامر, وقيل: ابن عبيد, وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: "الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله قديمًا كان فيَّ أو حديثًا؟ قال: "قديمًا"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خِلَّتين يحبهما الله. رواه أحمد والنسائي وصحَّحَه ابن حبان. فترديد السؤال وتقريره عليه يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي وما هو مكتسب, وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم كما حسَّنت خَلْقِي فحَسِّن خُلُقِي" .......   عوف. "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إن فيك خصلتين" تثنية خصلة، وفي رواية لخلِّتين وهما بمعنى "يحبهما الله". زاد في رواية ورسوله "الحلم" العقل أو تأخير مكافأة الظالم أو العفو عنه، أو غير ذلك "والأناة" بالقصر بزنة فتاة: التثبت وعدم العجلة، وذلك إن وفد عبد القيس بادروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بثياب سفرهم, وأقام الأشج في رحالهم، فجمعها وعقل ناقته, ولبس أحسن ثيابه, ثم أقبل إلى النبي، فقر به -صلى الله عليه وسلم- وأجلسه إلى جانبه, وقال: "تبايعون على أنفسكم وقومكم"؟ فقال القوم: نعم. فقال الأشج: يا رسول الله! إنك لن تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ون أبَى قاتلناه. قال: "صدقت, إن فيك" إلخ. قال عياض: فالأناة: تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحة عقله، وجودة نظره للعواقب، "قال: يا رسول الله, قديمًا كان" المذكور من الخصلتين، هكذا في نسخ بالأفراد، ومثلها بخط الشامي، وفي بعضها كانا بالتثنية، لكن المناسب كانتا "فِيَّ، أو حديثًا، قال: قديمًا. قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين" تثنية خلة، وهي الخصلة، كما في النسخ الصحيحة، وخط الشامي، وهو موافق لقول المصطفى، خلتين لفظًا ومعنًى، وعلى رواية الخصلتين، يكون عدل عن لفظه إلى معناه قرارًا من توارد الألفاظ، وأن بين مخاطبين، فما في نسخ على خلقين لا يناسب قوله خصلتين، إلّا بحملهما على غير معنى الخلق. "يحبهما الله" زاد في رواية ورسوله "رواه أحمد، والنسائي، وصححه ابن حبان", وهو في مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس, وتقدَّمت القصة مبسوطة في الوفود. "فترديد السؤال، وتقريره عليه" بقوله: قديمًا، "يشعر بأن في الخلق ما هو جبلي، وما هو مكتسب"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أقرَّه على سؤاله، وأجابه بقوله: قديمًا. قال ابن حجر وغيره: وهذا هو الحق، قال شيخنا: وهو جميع بين القولين لا ثالث، "وقد كان -صلى الله عليه وسلم" إذا نظر في المرآة "يقول: "اللهم كما حسَّنت" وفي رواية أحسنت، "خَلْقِي" بالفتح "فحسِّن خُلُقِي" بالضم، لأقوى على أثقال الخلق، وأتحقق بتحقق العبودية، والرضا بالعدل ومشاهدة الربوبية، قال الطيبي: يحتمل أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 أخرجه أحمد وصححه ابن حبان، وعند مسلم في حديث دعاه الافتتاح: واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. ولما اجتمع فيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا يحصره عد، أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، وكلمة "على" للاستعلاء, فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستولٍ عليها. والخلق: ملكة نفسانية يسهل على المتَّصِف بها الإتيان بالأفعال الجميلة   يريد طلب الكمال، وإتمام النعمة عليه، بإكمال دينه، وأن يكون طلب المزيد والثبات على ما كان "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان" من حديث عبد الله بن مسعود، ورواته ثقات. قال شيخنا: ففيه دليل على أن حسن الخلق قد يتجدَّد ويحصل، بعد أن لم يكن، وقال غيره: تمسك به من قال: حسن الخلق غريزي لا مكتسب. والمختار أن أصول الأخلاق غرائز، والتفاوت في الثمرات، وهو الذي به التكليف، "وعند مسلم في حديث: دعاء الافتتاح، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت" وهو يدل أيضًا على أنها قد تكتسب، "ولما اجتمع فيه -صلى الله عليه وسلم- من صفات الكمال ما لا يحيط به جدولًا، يحصره عدَّ أثنى الله تعالى عليه في كتابه الكريم، فقال مقسمًا: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، "وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية" لتحمُّلك من قومك ما لا يتحمَّله أمثالك، وقالت عائشة: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا من أهل بيته إلّا قال: "لبيك"، فلذلك، أنزل الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] الآية، رواه ابن مردويه، وأبو نعيم بسند واهٍ، "وكلمة على للاستعلاء، فدلَّ اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق ومستول عليها" أي: متمكِّن من الجري على مقتضاها، ببذل المعروف، واحتمال الأذى، وعدم الانتقام، فأشبه في تمكُّنه من ذلك المستعلي على الشيء المستقر عليه, فهو استعارة تبعية لجريانها في الحرف، "والخلق ملكة نفسانية، يسهل على المتَّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة" كأنَّ هذا تعريف للخلق الحسن، المرضي شرعًا وعرفًا، فلا يشكل بأن الخلق قد يكون حسنًا، وقد يكون قبيحًا، ولذا جاء ذم الخلق في أحاديث كثيرة، ولذا اعترض عليه بأن هذا التعريف ليس بصواب؛ إذ الناشئ عن الجبلَّة يكون جميلًا تارة، وقبيحًا أخرى، وما ذكره إنما هو تعريف للخلق الحسن لا لمطلق الخلق، فكأنه لم يقف على قول الراغب حد الخلق حال للإنسان، داعية إلى الفعل من غير فكر ولا روية، ولا قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 وقد وصف الله تعالى نبيه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم, فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدةكمالها من جنس أرواح الملائكة. قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنَّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة، ولم يكن خلقه -صلى الله عليه وسلم- مقصورًا على ذلك، بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبًا .........................   الغزالي: هيئة للنفس تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير احتياج إلى فكر ورويِّة، فإن صدر عن الهيئة أفعال جميلة محمودة عقلًا وشرعًا سُمِّيَت خلقًا حسنًا، وإن صدر عنها أفعال قبيحة سُمِّيَت خلقًا سيئًا، وأجيب بأنه لم يدع حصر ما ينشأ عنها في الجميل، ورده شيخنا بأن حق التعريف أن يكون جامعًا مانعًا، والاعترا بالنظر، لهذا قال: والأحسن في الجواب؛ أنه قد يراد بالتعاريف تعريف بعض الأنواع، لتميزه عن غيره بصفة, حتى صار كأنه حقيقة في ذلك الشيء، وتنزيل غيره منزلة العدم، وهو هنا الخلق الحسن؛ إذ غيره لا اعتبار به. "وقد وصف الله تعالى نبيه بما" أي: بكمال "يرجع إلى قوته العلمية، بأنه" أي: ذلك الكمال "عظيم" والمعنى وصفه بكمال عظيم يرجع إلى قوته العلمية، "فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] الآية" من الأحكام والغيب، "وكان فضل الله" بذلك وبغيره "عليك عظيمًا"؛ إذ لا فضل أعظم من النبوة، "ووصفه بما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية، فدلَّ مجموع هاتين الآيتين على أنَّ روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها من جنس أرواح الملائكة"؛ إذ أعطاهم الله قوة في العمل لا تصل إليها البشر، وفي العلم ما يصلون به إلى معرفة حقائق الأمور في اللوح المحفوظ، أو الإلهام والعلم الضروري بمعرفة الأمور على ما هي به في الواقع، وكذلك كان -صلى الله عليه وسلم. "قال الحليمي: وإنما وصف خلقه بالعِظَم، مع أنّ الغالب وصف الخلق بالكرم؛ لأن كرم الخلق يراد به السماحة والدماثة" -بدال مهملة مفتوحة، ومثلثة- السهولة واللين، كما في النهاية وغيرها، وهو عطف مباين؛ إذ السماحة كثرة العطاء، والدماثة أعمّ، "ولم يكن خلقه -صلى الله عليه وسلم- مقصورًا على ذلك" المذكور من السماحة والدماثة، "بل كان رحيمًا بالمؤمنين، رفيقًا بهم، شديدًا قويًّا على الكفار، غليظًا عليهم مهيبًا" بزنة مبيع، اسم مفعول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم على مسيرة شهر، فكان وصفه بالعِظَم أولى ليشمل الإنعام والانتقام. وقال الجنيد: وإنما كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى. وقيل: لأنه -عليه الصلاة والسلام- عاشر الخلق بخلقه، وباينهم بقلبه. وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني في الأوسط بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن عبد الله: إن .......   من هاب "في صدور الأعداء، منصورًا بالرعب منهم" حال من الأعداء "على مسيرة شهر"، كما ورد في الحديث، لأنه لم يكن بينه وبين أعدائه حينئذ أكثر من شهر من كل جهة، "فكان وصفه بالعِظَم" دون الكرم "أولى؛ ليشمل الإنعام والانتقام". "وقال الجنيد"، أبو القاسم بن محمد, النهاوندي الأصل، البغدادي المنشأ، القواريري الزجاج، نسبة لحرفة أبيه، سيد الطائفة، مرجع أهل السلوك، تفقه على أبي ثور، وكان يفتي بحضرته وهو ابن عشرين سنة، ورزق من القبول وصواب القول ما لم يقع لغيره، كان إذا مرَّ ببغدد وقف الناس له صفوفًا، وكانت الكتبة تحضر مجلسه لألفاظه، والفقهاء لتقريره، والفلاسفة لدقة نظره، والمتكلمون لتحقيقه، والصوفية لإشارته وحقائقه، مات ببغداد سنة تسع أو ثمان وتسعين ومائتين، وحزر من صلى عليه، فكانوا نحو ستين ألفًا. "وإنما كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا؛ لأنه لم يكن له همة سوى الله تعالى" أي: سوى الاشتغال بامتثال أمره ونهيه، وتعظيمه, بالإقبال بجملته على عبادته، فلا يقبل على غيره طرفة عين. "وقيل: لأنه -عليه الصلاة والسلام- عاشر الخَلْقَ بخُلُقه" فكان يتكلم معهم في أمور دنياهم، من مزيد تلطفه بهم، وإن اقتضى الحال المزاح مازحهم، ولا يقول إلّا حقًّا كما قال زيد بن ثابت: كنت جار النبي -صلى الله عليه وسلم، وكنا إذ ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا. رواه البيهقي. "وباينهم بقلبه"؛ إذ هو مقبل على الله، منزه عمَّا يشغل سرّه عنه، متبتل إليه بشراشره، "وقيل: لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني في الأوسط" على الصواب، وعزاه الديلمي لأحمد عن معاذ، وما رأيته فيه، إنما فيه حديث أبي هريرة الآتي, أفاده السخاوي "بسند فيه عمر بن إبراهيم المقدسي -وهو ضعيف- عن جابر بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال. وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه -صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. قال بعض العارفين: وقد علم أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله, والراسخون في العلم يقولون آمنا به، أي: أقررناه في نصابه, ..............................................   عبد الله "إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال" ولكنَّه، وإن كان ضعيفا رواية، فله شواهد، كما أفاده بقوله: "وفي رواية مالك في الموطأ بلاغًا" أي: أنه قال: بلغني أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" والبلاغ، وإن كان من أقسام الضعيف، إلّا أن بلاغات الإمام ليست منه؛ لأنها تتبعت كلها، فوجدت صحيحة أو حسنة، ولذا قال ابن عبد البر: على الموطأ: هو متَّصل من وجوه صحاحٍ عن أبي هريرة وغيره، منها ما أخرجه أحمد والخرائطي، برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه بلفظ صالح، وأخرجه البزار من هذا الوجه، بلفظ الموطأ، وفي رواية "لأتمم حسن الأخلاق"، وحسن الخلق: اختيار الفضائل وترك الرذائل. "فجميع الأخلاق الحميدة كلها كانت فيه -صلى الله عليه وسلم، فإنه أُدِّب بالقرآن، كما قالت عائشة -رضي الله عنها- فيما رواه مسلم وغيره: "كان خلقه القرآن" يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ابن الأثير: أي كان متمسكا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن. وقال البيضاوي: أي جميع ما حصل في القرآن، فإن كل ما استحصنه، وأثنى عليه، ودعا إليه قد تحلَّى به، وكل ما استهجنه، ونهى عنه, تجنبه وتخلَّى عنه، فكان القرآن بيان خلقه، وفي الديباج معناه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدُّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه, وتدبره وحسن تلاوته. انتهى. وهي متقاربة، ثم هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، عنها بهذا اللفظ، وزيادة يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، ورواه ابن أبي شيبة وغيره، أن عائشة سُئِلَت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- فقالت: كان أحسن الناس خلقًا، كان خلقه القرآن؛ يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] الآية، إلى العشر، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه -صلى الله عليه وسلم. "قال بعض العارفين: وقد عُلِمَ أن القرآن فيه المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلّا الله، والراسخون في العلم" مبتدأ خبره، "يقولون آمنَّا به، أي: أقررناه في نصابه" أي: أصله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وأقررنا به من خلف حجابه، وتقلدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه: وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل وقال صاحب عوارف المعارف: ولا يبعد أن قول عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. فيه رمز غامض، وإيماء إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى, فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن استحياءً من سبحات الجلال وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها وكمال أدبها، انتهى.   بحيث لا نتكلم فيه بشيء، "وأقررنا:" اعترفنا "به من خلف حجابه" لعدم قدرتنا على كشفه، والمراد بالحجاب: ما يمنع حمل المتشابه على ظاهره، كاستحالة إطلاقه على الله، يعني: آمنا به مع اعترافنا بإشكاله علينا، "وتلقدنا سيف الحجة به ولكن في قرابه" أي: احتججنا به مع عدم العلم بالمراد منه: وما كونه مما تحصل مقلة ... ولا حده مما تحس الأنامل يعني: إنه لا يُدْرَكُ معناه لشدة خفائه؛ بحيث أشبه من الموجودات ما لا يدرَك بالبصر، لدقته وخفائه، ولا تدرك صفته بمس الأنامل لذلك أيضًا. "وقال صاحب عوارف المعارف" العارف، العلامة عمر شهاب الدين بن محمد بن عمر السهروردي -بضم المهملة، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح الواو، وسكون الراء الثانية، ودل مهملة- نسبةً إلى سهرورد بلد عند زنجان. الإمام الورع، الزهد الفقيه الشافعي، ولد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وأخذ عن الكيلاني وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وقرأ الفقه والخلاف، ثم لازم الخلوة والصوم والذكر، ثم تكلَّم على الناس لما أسنَّ، ووصل إلى الله به خلق كثير، وتاب على يديه كثير من العصاة، وكُفَّ، وأقعدَ، وما أخلَّ بذكر ولا حضور، جمع ولازم الحج، فكانت محفَّته تحمل على الأعناق من العراق إلى البيت الحرام، ومات ببغداد مستهَلّ محرم، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، "ولا يبعد أن قول عائشة -رضي الله عنها: كان خلقه القرآن، فيه رمز غامض" خفي "وإيماء" إشارة إلى الأخلاق الربانية، فاحتشمت" استحيت "الحضرة الإلهية، أن تقول: كان متخلقًا بأخلاق الله تعالى، فعبَّرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن، استحياء من سبحات" بضم السين "الجلال" إضافة بيانية، قال المصباح: السبحات التي في الحديث جلال الله وعظمته ونوره وبهائه، "وسترًا للحال بلطيف المقال، وهذا من وفور عقلها، وكمال أدبها، انتهى". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 فكما أن معاني القرآن لا تتناهى, فكذلك أوصافه الجميلة الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدَّد له من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم, وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى. فإذًا التعرُّض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته. قال الحرالي -وهو كما في القاموس -بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه: علي بن أحمد بن الحسين، ذو التصانيف المشهورة: ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلام- بربه -عز وجل-كما قال: بربي عرفت كل شيء، كانت أخلاقه أعظم خلق، فكذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الإنس حتى عمَّت الجن، ولم يقصرها على الثقلين حتى عمَّت جميع العالمين. فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أنَّ الربوبية نعم العالمين, فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين. انتهى.   فكما أن معاني القرآن لا تتناهى، فكذلك أوصافه الجميلة، الدالة على خلقه العظيم لا تتناهى؛ إذ في كل حالة من أحواله يتجدد له من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم" جمع شيمة -مثل سدرة وسِدَر- الغريزة، والطبيعة، والجبلة، وهي التي خلق الإنسان عليها، قاله المصباح، "وما يفيضه الله تعالى عليه من معارفه وعلومه ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فأذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة، تعرّض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عاداته، قال الحرالي، وهو كما في القاموس" في فصل الحاء المهملة من باب اللام، "بتشديد اللام، نسبة إلى قبيلة بالبربر، واسمه على" لفظ القامّوس حر، آلة مشددة اللام، بلد بالمغرب، أو قبيلة بالبربر، منه الحسن بن علي، "بن أحمد بن الحسن" الحر، إلى "ذو التصانيف المشهورة، ولما كان عرفان قلبه -عليه الصلاة والسلا- بربه -عز وجل- كما قال: "بربي عرفت كل شيء"، كانت أخلاقه أعظم خلق، فلذلك بعثه الله إلى الناس كلهم، ولم يقصر رسالته على الأنس، حتى عمت الجن" إجماعًا، "ولم يقصرها على الثقلين" الإنس والجن، "حتى عمَّت جميع العالمين" على ظاهر قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "وبعثت إلى الخلق كافَّة" رواه مسلم. "فكل من كان الله ربه فمحمد رسوله، فكما أن الربوبية تعم العالمين، فالخلق المحمدي يشمل جميع العالمين، انتهى". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 وهذا مصير منه إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضًا، وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى -إن شاء الله تعالى وهو المستعان. وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولًا على الأخلاق الكريمة في أصل خلقته الزكية النقية، لم يحصل له ذلك برياضة نفس، بل بجود إلهي، ولهذا لم تزل تشرق أنوار المعارف في قلبه حتى وصل إلى الغاية القصوى والمقام الأسنى. وأصل هذه الخصال الحميدة والمواهب المجيدة كمالُ العقل؛ لأن به تقتبس الفضائل وتجتنب الرذائل، .............................................   وهذا مصير منه إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل إلى الملائكة أيضًا" كما اختاره كثيرون، بل قوله، فكل من كان الله إلخ ... " يفيد أنه مرسل لسائر الحيوانات والجمادات، فإن الكل مربوب له تعالى، ويصدق عليه قوله: فمحمد رسوله؛ إذ معناه مرسل إليه، "وسيأتي الكلام على ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى" في الخصائص، "وهو المستعان", ولما قدم أن الخلق غريزي ومكتسب، استشعر سؤال سائل عن خلق المصطفى، من أيهما، فاستأنف قاصدًا زيادة الإيضاح، وإن قدَّم ما يفيده قوله: "وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولًا" مطبوعًا "على الأخلاق الكريمة" الحميدة، صفة مخصصة لما عُلِمَ أنها حميدة، وضدها، ووصفها بالكريمة؛ لأنه الغالب، ولذا احتيج للجواب عن الآية، كما مرَّ "في أصل خلقته الزكية النقية"، فلا يحتاج إلى الاكتسابات المتكلفة لتحسين الخلق، ولا ينافيه طلبه تحسين خلقه؛ لأن القصد به إظهار العبودية، وتعليم الأمة، وطلب الزيادة؛ لأن الكمال يقبل الكمال "لم يحصل له ذلك برياضة" أي: تذليل وتعويد "نفس" ما فيه ليت وسهولة. وهذه صفة كاشفة لقوله مجبولًا، "بل بجود إلهي، ولهذا" أي: كونها لم تحصل برياضة، "لم تزل تشرق" تضيء, أي: تزداد كمال "أنوار المعارف" أي: العلوم والإضافة حقيقة بحمل المعارف على العلوم، والأنوار على مآثرها، أو بيانية، أي: أنوار هي المعارف أي: العلوم، "في قلبه حتى وصل إلى الغاية" أي: المرتبة، وتكون عليا وسفلى، فلذا وصفها بقوله: "القصوى" فلا يرد أن الغاية النهاية، ولا تنقسم، فلا يصح الوصف، "والمقام الأسنى" الأرفع من كل مقام، عطف تفسير للإشارة إلى بلوغه في ذا الكمال أعلى رتبة، "وأصل هذه الخصال الحميدة، والمواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء: العطية بلا عوض، وكان المراد من عطفها على الخصال؛ أنها حصلت بلا كسب ولا تعب، "المجيدة" أي: العزيزة الشريفة، "كمال العقل؛ لأن به" لا بغيره "تقتبس" تؤخذ، أي: تكتسب "الفضائل" فقدم به على العامل ليفيد الاختصاص، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 فالعقل لسان الروح وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب، والعقل بمثابة اللسان. قال بعضهم: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر. وأما ما روي: إن الله لما خلق العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك آخذ وبك أعطي. قال ابن تيمية وتبعه غيره: إنه كذب موضوع باتفاق. انتهى. وفي زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على ..........................................   "و" كذلك به "تجتنب الرذائل"، الأمور الردية، جمع رذيلة ضد الفضيلة، "فالعقل لسان الروح"، أي: إنه لها بمنزلة اللسان للإنسان، والروح عند أهل السنة: النفس الناطقة المستعدة للبيان وفهم الخطاب، ولا تفنى بفناء الجسد، فكما أنَّ الإنسان الذي لا لسان له أصلًا لا يمكنه التكلُّم بشيء، فكذلك من لا عقل له لا يحسن شيئًا من أنواع التصرُّفات التي يريد فعلها أو تركها، ومن له عقل تمكَّن من بيان مراده، وأمكنه التأمُّل فيما يريد فعله، فيختار الحسن، ويدع القبيح. "وترجمان البصيرة، والبصيرة للروح بمثابة القلب" فصلاح الروح بصلاح البصيرة، كما أن صلاح الجسد بصلاح القلب، كما في الحديث، "والعقل بمثابة اللسان" للروح، وصلاحها وفسادها بصلاح البصيرة، التي هي لها كالقلب، فاللسان مترجم في الحقيقة عمَّا في القلب؛ لأن إصلاح الروح وفسادها تابع للبصيرة، "قال بعضهم: لكل شيء جوهر" أي: أصل جُبِلَ عليه، "وجوهر الإنسان" الذي طُبِعَ عليه "العقل، وجوهر" أصل, "العل" الذي يتمكَّن معه من امتثال الأمر واجتناب النهي, "الصبر" على المكاره، فيخالف نفسه لما فيه صلاح يوافق الشرع، بفعل الأمر، وترك النهي، كما أشير إليه بحديث "حُفَّت الجنة بالمكاره"، ولما استدلَّ على كمال العقل بأمور عقلية، استشعر قول سائل لم لا تستدل بالحديث، فأجابه بالإشارة إلى أنه لا حجة فيه، فقال: "وأما ما روي أنَّ الله لما خلق العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا أشرف منك، فبك" أي: بسببك "آخذ" من جنى، "وبك أعطي" من اتَّقى؛ لأنَّك سبب للطاعة والعصيان، وإنك أشرف ما يكتسب بك الخير والشر، "فقال ابن تيمية" العلامة، الإمام، الحافظ، الناقد، الفقيه الحنبلي، أحمد أبو العباس، تقي الدين بن عبد الحليم بن مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحراني، أحد الأعلام الأذكياء الزهَّاد، ألَّف ثلثمائة مجلد، مات سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ووُلِدَ سنة إحدى وستين وستمائة، "وتبعه غيره" كالزركشي، "أنه كذب موضوع باتفاق. انتهى". ولكن فيه نظر؛ لأن له أصلًا صالحًا، "في زوائد عبد الله بن الإمام أحمد على" كتاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 "الزهد" لأبيه, عن علي بن مسلم, عن سيار بن حاتم -وهو ممن ضعَّفه غير واحد, وكان جمَّاعًا للرقائق، وقال القواريري: إنه لم يكن له عقل. قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي قال: حدثنا مالك بن دينار عن الحسن البصري، مرسلًا: لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر, فقال: ما خلقت خلقًا أحب إليّ منك، بل آخذ وبك أعطي. وأخرجه داود بن ......................................................   "الزهد، لأبيه، عن" شيخه "علي بن مسلم، بن سعيد الطوسي، نزيل بغداد، ثقة، روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين، "عن سيار" بفتح السين المهملة، والتحتانية المثقلة، "ابن حاتم" العنزي، بفتح المهملة، والنون، ثم زاي، أبي سلمة البصري مات سنة مائتين، أو قبلها بسنة، "وهو ممن ضعَّفه غير واحد" كالقواريري والأزدي, ولكن احتج به الترمذي والنسائي على تفنُّنه في الرجال، وابن ماجه، ووثَّقه ابن حبان. وقال الذهبي: صالح الحديث، والحافظ، صدوق له أوهام، وقال الحاكم: كان سيار عابد عصره، وقد أكثر عند أحمد بن حنبل، "وكان جمَّاعًا" كثير الجمع "للرقائق" صحيحة أم لا، "وقال القواريري" بفتح القاف، والواو، فألف، فراءين بينهما تحتية، نسبة إلى عمل القوارير، أو بيعها عبيد الله بن عمر بن ميسرة البصري، نزيل بغداد، الحافظ، الثقة، الثبت، روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين على الأصح، وله خمس وثمانون سنة؛ "إنه لم يكن له عقل" كان معي في الدكان، قيل للقواريري: أتتهمه، قال: لا. وقال الأزدي: عنده مناكير لفظ الزوائد لابن أحمد، حدثنا علي ب مسلم, حدثنا سيار بن حاتم: "قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي" بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحدة، أبو سليمان البصري، صدوق زاهد, لكنه كان يتشيع، روى له مسلم وأصحاب السنن، والبخاري في التاريخ، مات سنة ثمان وسبعين ومائة "قال: حدثنا مالك بن دينار" البصري، الزاهد، أبو يحيى، صدوق، عابد، روى له الأربعة، وعلق له البخاري، مات سنة ثلاثين ومائة أو نحوها: "عن الحسن البصري" يرفعه "مرسلًا، لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: ما خلقت خلقًا أحبَّ إلي منك، بك آخذ وبك أعطي" قال السيوطي: هذا مرسل جيد الإسناد، وهو في معجم الطبراني الأوسط، موصول من حديث أبي أمامة، ومن حديث أبي هريرة بإسنادين ضعيفين. انتهى. وهو كلام محقَّق في الفن؛ إذ سيار مختلف في توثيقه وتضعيفه، فحديثه جيد، ومنهم من يقول: حسن، فلا عبرة بقول الشامي: هذا من الأحاديث الواهية لا الضعيفة، "وأخرجه داود بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 المحبر في كتاب العقل له، وابن المحبر كذاب. فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر: والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل. ولأبي الشيخ عن قرة بن إياس المزني رفعه: الناس يعملون الخير وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم. وقد اختلف في ماهية العقل ......................................................   المحبر" بمهملة، وموحَّدة مشددة مفتوحة. ابن قَحذم -بفتح القاف، وسكون المهملة، وفتح المعجمة، الثقفي، البكراوي أبو سليمان البصري، نزيل بغداد, متروك، وأكثر كتاب العقل الذي صنفه موضوعات من التاسعة، مات سنة ست وخمسين ومائتين، روى له ابن ماجه، ذكره الحافظ في التقريب، "في كتاب العقل له" فقال: حدثنا صالح المري، عن الحسن به بزيادة، ولا أكرم علي منك، لأني بك أعرف، وبك أعبد، والباقي مثله، "وابن المحبر كذاب" ولذا تركوه، ومن العجب إيماء الشارح للاعتراض على المصنف، بأن الذي في اللب واللباب المحبري، نسبة إلى كتاب المحبر الذي جمعه محمد بن حبيب، فيقال لمصنفه المحبر. انتهى. إذ كتاب العقل غير كتاب المحبر، والمحبر هنا علم على أبي داود، وذاك لقب لمحمد، وهما شخصان وكتابان، "فإن الحافظ أبو الفضل بن حجر، والوارد في أول ما خلق الله، حديث أول ما خلق الله القلم، وهو أثبت من حديث العقل", وهذا أيضًا يؤذن بثبوت حديث العقل، فأين الاتفاق على وضعه؟، "ولأبي الشيخ" عبد الله، بن محمد الحفظ، "عن قرة، بن إياس"، بن هلال "المزني"، أبي معاوية الصحابي، نزيل البصرة، له أحاديث في السنن وغيرها، مات سنة أربع وستين، "رفعه: الناس يعملون الخير، وإنما يعطون أجورهم على قدر عقولهم", فقد يجتهد الإنسان في الخير، ويداخله رياء أو نحوه، فينفي ثوابه، أو ينقص، وذلك ناشئ من فساد العقل، فكامله يحترز عن ذلك, ويسعى في تحصيله على أتم حال، ولو بمشقة، "وقد اختلف في ماهية العقل" من عقل البعير: منعه بالعقال عن القيام، أو من الحجر المنع؛ لأنه يعقل صاحبه ويمنعه عن الخطأ {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، وقد تظرَّف في التلميح لأصله القائل: قد عقلنا والعقل أي وثاق ... وصبرنا والصبر مر المذاق ومحله القلب عند جمهور أهل الشرع، كالأئمة الثلاثة، لقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} الآية، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه. وفي القاموس ومن خط مؤلفه نقلت: العقل العلم، أو بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وبشرِّ الشرين، أو يطلق لأمور لقوّة بها يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعانٍ مجتمعة في الذهن تكون بمقدِّمات تثبت بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته, والحق أنه روحاني به تدرك النفوس العلومَ الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ. انتهى. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل في الغاية القصوى التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا ............................................................   القلب والدماغ"، له تابع؛ إذ هو من جملة الجسد، وقال علي: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنفس في الرئة، رواه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي، بسند جيد، وذهب الحنفية، وابن الماجشون، وأكثر الفلاسفة إلى أنه في الدماغ؛ لأنه إذا فسد فسد العقل، وأجيب، بأن الله أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع في هذا، "اختلافًا طويلًا يطول استقصاؤه" بدليله، وتعليله، "وفي القاموس، ومن خط مؤلفه" المجد الشيرازي، "نقلت العقل العلم" مطلقًا أي: مطلق الإدراك، بلا اعتبار تعلُّقه بمعلوم دون آخر، "أو" هو العلم, "بصفات الأشياء من حسنها، وقبحها، وكمالها، ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين، وبشرّ الشرين، أو يطلق لأمور" أو إشارة للخلاف، فكأنه قال: اختلف في العقل هل هو العلم، أو غيره، وعلى أنه العلم، فقيل مطلقًا، وقيل بصفات إلخ ..................... وعلى أنه غير العلم، فهو مشترك يطلق لأمور "لقوة بها، يكون التمييز بين القبيح والحسن، ولمعان مجتمعة في الذهن، تكون بمقدمات تثبت بها الأغراض، والمصالح، ولهيئة محمودة للإنسان في حركاته وكلماته، والحق أنه نور "روحاني" بضم الراء، ما فيه روح، وكذلك النسبة إلى الملك والجن، والجمع روحانيون، كما في القاموس، "به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد" أي: كونه جنينًا في بطن أمه، "ثمَّ لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ، انتهى" كلام القاموس. وليس فيه بيان أيّ وقت يخلق العقل فيه، فإنه قال في باب النون: الجنين الولد في البطن، جمعه أجنة، وفي المصباح: وصف له ما دام في بطن أمه، ومفادهما وصفه به من أول خلقه، "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من كمال العقل في الغاية" أي: المرتبة "القصوى" التي لا مرتبة فوقها، فلا يردان الغاية النهاية، فلا توصف بالقصوى؛ إذ لا تتصف النهاية بالبعد تارة، والقرب تارة، والقرب أخرى، "التي لم يبلغها بشر سواه، ولهذا كانت معارفه" علومه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 كانت معارفة عظيمة, وخصائصه جسيمة، حارت العقول في بعض فيض ما أفاضه من غيبة لديه، وكلَّت الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك وقد امتلأ قلبه وباطنه وفاض على جسده المكرم ما وهبه من أسرار إلهيته ومعرفة ربوبيته وتحقق عبوديته. قال وهب بن منبه: قرأت في أحد وسبعين كتابًا، فوجدت في جميعها أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقله -صلى الله عليه وسلم- إلا كحبَّة رمل بين رمل من جميع رمال الدنيا، وأن محمد -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية وابن عساكر. وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي -صلى الله عليه وسلم, وجزء في سائر المؤمنين، ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب الذين هم كالوحش الشارد، ....................................................   بالأشياء، "عظيمة" لمطابقتها للواقع دائمًا، بلا خلل فيها، ولا ميل عن الحق، "وخصائصه جسيمة" أي: عظيمة، فغاير كراهية لتكرر اللفظ "حارت العقول" لم تدر وجه الصواب "في بعض فيض ما أفاضه، من غيبه لديه، وكلَّت" تَعِبَت "الأفكار في معرفة بعض ما أطلعه الله عليه، وكيف لا يعطى ذلك، وقد امتلأ قلبه وباطنه إيمانًا وحكمة حين شُقَّ صدره، فأعطي ما لم يعط غيره، فالمفعول محذوف، "وفاض على جسده المكرَّم ما وهبه" مفعول لفاض لا لامتلأ، لأنه إنما يتعدَّى بحرف الجر، فمفعوله محذوف، كما قدرت، وفي نسخ، لما بلام التعليل، لامتلأ، وفاض، أي: وفاض آثار ذلك على جسده، لم وهبه الله، "من أسرار إلهيته، ومعرفة ربوبيته، وتحقق عبوديته". "قال وهب بن منبه" -بضم الميم، وفتح النون، وكسر الموحدة- ابن كامل اليماني، التابعي، الثقة، روى له الشيخان وغيرهما: "قرأت في أحد وسبعين كتابا" من الكتب القديمة، وكان خبرها، "فوجدت في جميعها، أنَّ الله تعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل, في جنب عقله -صلى الله عليه وسلم، إلّا كحبة رمل بين رمل" كائن، أو الذي هو "من جميع رمال الدنيا" فالبينية تكون بين يسيرين، والمنسوب إليه جميع الرمال، "وأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أرجح الناس عقلًا، وأفضلهم رأيًا. رواه أبو نعيم في الحلية، وابن عساكر" وقال ابن عباس: أفضل الناس، أعقل الناس، وذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم، رواه داود بن المحبر، وعن بعضهم مما هو في عوارف المعارف: اللب والعقل مائة جزء، تسعة وتسعون في النبي -صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر المؤمنين" من أمته وغيرهم، "ومن تأمَّل حسن تدبيره للعرب، الذين هم كالوحش الشارد" النافر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 والطبع المتنافر المتباعد، وكيف ساسهم واحتمل جفاهم وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم وآباءهم وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم وأحباءهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين، ولما كان عقله -عليه الصلاة والسلام- أوسع العقول, لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعًا لا يضيق على شيء. فمن ذلك: اتساع خلقه العظيم في الحلم والعفو مع القدرة, وصبره -عليه الصلاة والسلام- على ما يكره، وحسبك صبره وعفوه على الكافرين المقاتلين المحاربين له في أشد ما نالوه به من الجراح والجهد بحيث كُسِرت رباعيته، وشُجَّ وجهه يوم أحد، حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، حتى شَقَّ ذلك على أصحابه شديدًا، .........................................................   الناد "والطبع المتنافر المتباعد، و" تأمل "كيف ساسهم" ملكهم بحسن تصرفه فيهم، واستجلاب قلوبهم، "واحتمل جفاهم" غلظتهم، وفظاظتهم، "وصبر على أذاهم إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم، وآباءهم، وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطائهم" جمع وطن مكانهم ومقرّهم، "وأحباءهم من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلم منها سير الماضين، تحقق أنه أعقل العالمين" جواب قوله: ومن تأمل إلخ ... "ولما كان عقله -عليه الصلاة والسلام- أوسع العقول، لا جرم" أي: حقًّا "اتسعت أخلاق نفسه الكريمة، اتساعًا لا يضيق عن شيء", ولا جرم في الأصل بمعنى لا بُدَّ ولا محالة، ثم كثرت، فحولت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقًّا، ولذا تجاب باللام نحو لا جرم، ولا فعلنَّ، قاله الفراء، كما في المصباح، "فمن ذلك اتساع خلقه العظيم، في الحلم والعفو مع القدرة، وصبره -عليه الصلاة والسلام- على ما يكره، وحسبك" أي: يكفيك في الدلالة على كماله في ذلك، "صبره وعفوه على الكافرين، المقاتلين، المحاربين له في أشد ما نالوه به" متعلق بقوله: صبره وعفوه، "من الجراح والجهد، بحيث كسرت رباعيته" اليمني السفلى -بفتح الراء، وخفة الموحدة- السن التي تلي التثنية، من كل جانب وللإنسان، أربع رباعيات، وكان الذي كسرها عتبة بن أبي وقاص، وجرح شفته السفلى، "وشج وجهه" شجه عبد الله بن قميئة "يوم أحد" حتى صار الدم يسيل على وجهه الشريف، فصار ينشفه، ويقول: "لو وقع شيء منه على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء"، "حتَّى شق ذلك على أصحابه شديدًا" غاية لقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: "إني لم أبعث لعانًا، ولكني بعثت داعيًا ورحمة، فقال: اللهم اغفر لقومي، أو اهد قومي فإنهم لا يعلمون". قال ابن حبان: أي: اللهم اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي, لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم. كذا قال رحمه الله. وقد روي عن عمر أنه قال في بعض كلامه: ........................   يسيل، "وقالوا: لو دعوت عليهم" لأجبت، أو للتمني، "فقال: إني لم أبعث لعانًا" مبالغًا في اللعن، أي: الإبعاد عن الرحمة، والمراد نفي أصل الفعل، نحو {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} ، يعني: لو دعوت عليهم لبعدوا عن رحمة الله، ولصرت قاطعًا عن الخبر، مع إني لم أبعث بهذا "ولكني بعثت داعيًا ورحمة" لمن أراد الله إخراجه من الكفر إلى الإيمان، أو لأقرِّب الناس إلى الله وإلى رحمته، لا لأُبعدهم عنها، فاللعن منافٍ لحالي، فكيف ألعن، ثم لم يكتف بذلك حتى سأل الله لهم الغفران، أو الهداية، "فقال: "اللهم اغفر لقومي" بإضافتهم إليه إظهارًا، لسبب شفقته عليهم، فإن الطبع البشري يقتضي الحنوَّ على القرابة بأي حال، ولأجل أن يبلغهم ذلك فتنشرح صدورهم للإيمان، "أو أهد قومي" ليست أو للشك، بل إشارة لتنويع الرواية، أي: إن في رواية اغفر، وأخرى اهد، ثم اعتذر عنهم بالجهل، بقوله: "فإنهم لا يعلمون" أنَّ ما جئت به هو الحق، ولم يقل: يجهلون تحسينًا للعبارة، ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخلهم بعظيم حلمه حرم الأمان، مع أنه إنما هو جهل حكمي، وإن لم يكن بعد مشاهدة الآيات البينات عذر، لكنّه تضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم، أو من ذريتهم مؤمنون، وقد حقق الله رجاءه واستشكلت رواية اغفر بقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} ، فإنها وإن كانت خاصة السبب، فهي عامَّة في حق كل مشرك، وأجيب بأنه أراد الدعاء لهم بالتوبة من الشرك، حتى يغفر لهم بدليل رواية اهد، وأراد مغفرةً تصرف عنهم عقوبة الدنيا من نحو: خسف ومسخ، قاله السهيلي، واستشكلت الروايتان معًا بأن دعاءه مقبول، ولم يسلم جميعهم، وجوابه قوله: "قال ابن حبان: أي: "اللهم اغفر لهم ذنبهم في شج وجهي"، لا أنه أراد الدعاء لهم بالمغفرة مطلقًا؛ إذ لو كان كذلك لأجيب، ولو أجيب لأسلموا كلهم، كذا قال رحمه الله" تبرأ منه، لاحتمال حمل دعائه لهم على المجموع، لا كل فرد، أي: اغفر لجنس، أو لبعض قومي، أو أراد غير الشرك، أو صرف عقوبة الدنيا، فنفيه، وتعليله مع هذه الاحتمالات لا ينهض, "وقد روي عن عمر" مما ساقه في الشفاء، وقال السيوطي: لا نعرف عن عمر في شيء في كتب الحديث "أنه قال في بعض كلامه" الذي بكى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، وهو دليل على ظهور حلمه بين صحبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} [نوح: 26] الآية. ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فلقد وُطِئَ ظهرك وأُدْمِيَ وجهك وكسرت رباعيتك, فأبيت أن تقول إلّا خيرًا فقلت: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وههنا دقيقة وهي أنه -عليه الصلاة والسلام- لما شجَّ وجهه عفا وقال: اللهم اهد قومي، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا"، فتَحَمَّل الشجَّة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمَّل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه. واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على   حتى عرفوه ووصفوه به، "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} وإنما قال: هذا لأنه مشربه مشرب نوح، كما شبهه النبي -صلى الله عليه وسلم- به في أسارى بدر، "ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا" أي: من أولنا إلى آخرنا, أي: جميعًا, وعند زائدة: ومن بمعنى إلى، أو كناية عن هلاك الجميع؛ إذ لا يكون الهلاك عند آخرهم إلّا إذا شملهم جميعًا، ولو دعوتها ما لمت، "فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكُسِرَت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرًا، فقلت: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" إن ما جئت به هو الحق، وهم عُبَّاد أوثان، فلا يرد الذين آتيناهم الكتاب، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، على أن المراد علماء أهل اكتاب، كما في البيضاوي. "وههنا دقيقة هي" أنَّ حلمه وعفوه، إنما هو فيما يتعلَّق بنفسه الشريف، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، لما شج وجهه عفا، وقال: "اللهم اهد قومي"، وحين شغلوه عن الصلاة يوم الخندق، قال: "اللهم املأ بطونهم نارًا" لفظ الصحيحين "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس"، "فتحمل الشجة الحاصلة في وجهه الشريف، وما تحمل الشجة الحاصلة في وجه دينه، فإن وجهه الدين هو الصلاة، فرجَّح حق خالقه على حقه" كما هو عادته، "واعلم أن الصبر على الأذى جهاد النفس" حصر المبتدأ في الخبر، فأفاد الحصر، في نسخة للنفس بلام، وحذفها أبلغ في الحصر، والمراد به المبالغة، كأنه جعل جهادها، إنما هو الصبر على الأذى، فغيره ليس جهادًا لها، فلا يرد عليه أنهم عدوا من جهادها أشياء كثيرة، غير الصبر، "وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها" والتألم سبب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 التألم بما يفعل بها، ولهذا شقَّ عليه -صلى الله عليه وسلم- نسبته إلى الجور في القسمة، لكنه -عليه الصلاة والسلام- حلم على القائل وصبر لِمَا علم من جزيل ثواب الصابر, وأن الله يأجره بغير حساب. وصبره -عليه الصلاة والسلام- على الأذى إنما هو فيما كان في حق نفسه، وأما إذا كان لله فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة, كما قال له تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] .....................................   للانتقام من المؤلم، ومع ذلك، فهو -صلى الله عليه وسلم- لكمال حلمه تحمَّله من فاعله فلم ينتقم منه، "ولهذا شقَّ عليه -صلى الله عليه وسلم- نسبته إلى الجور في القسمة" يوم حنين آثر ناسًا فيها ليؤلفهم، فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فأخبره ابن مسعود، فتغيِّر وجهه، ثم قال: "فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله"، ثم قال: "يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر". رواه مسلم والبخاري، عن ابن مسعو، وسمَّى الواقدي، الرجل القائل: معتب بن قشير المنافق، وعند أبي الشيخ وغيره، عن جابر، أنه -صلى الله عليه وسلم- جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا نبي الله, أعدل، فقال: "ويحك, من يعدل إذ أنا لم أعدل؟ قد خبت، وخسرت إن كنت لا أعدل"، فقال عمر: ألا أضرب عنقه؟، فإنه منافق, فقال: "معاذ الله أن تتحدث الناس أني أقتل أصحابي"، "لكنه -عليه الصلاة والسلام- حَلُم" -بفتح فضم- صفح وستر "على القائل، وصبر" عطف جزء على كل صرح به؛ لأنه مقصودة هنا بالثناء على النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي الشامية الحلم حالة توقير، وثبات في الأمور، وتصبّر على الأذى، لا يستَفز صاحبه الغضب عند الأسباب المحركة له، ولا يحمله على الانتقام، وهو شعار العقلاء، "لما علم من جزيل ثواب الصابر" من إضافة الصفة للموصوف، أي: ثواب جزيل معَدٌّ للصابر، "وإن الله يأجره" بضم الجيم، وكسرها، "بغير حساب" تفسير لثواب الصابر الجزيل؛ إذ الثواب العطاء بلا حساب، "وصبره -عليه الصلاة والسلام" استئناف في جواب سؤال، أكان صبره في سائر الأحوال، أم يختلف باختلافها؟، فأجاب بأنه يختلف، فصبره "على الأذى، إنما هو فيما كان في حق نفسه، وأما إذا كان لله، فإنه يمتثل فيه أمر الله" لم يقل، فإنه لا يصبر عليه، إشارة إلى أن انتهاك حرماته تارة، كانت تفعل على وجه، لا يفيد معه الشدة، وتارة بخلاف ذلك "من الشدة" بالكسر، اسم من الاشتداد، أي: يفعل ما أمر به، وإن كان فيه تشديد على مستحقه، لكن بعد المبالغة في الرفق، كما في البيضاوي، "كما قال تعالى" مثال للأمر بالشدة، لا لنفسها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف، "والمنافقين" باللسان والحجة، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} بالانتهار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 وقد وقع له -عليه الصلاة والسلام- أنه غضب لأسباب مختلفة مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة -صلى الله عليه وسلم. وقد روى الطبراني وابن حبان والحاكم والبيهقي عن زيد بن سعنة -بالمهملة والنون المفتوحتين- كما قيده به عبد الغني وذكره الداقطني, وبالمثناة التحتية، ثبت في الشفاء وصحح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق، وهو كما قاله النووي: أجلّ أحبار اليهود الذين أسلموا -أنه قال: لم يبق من علامات النبوة شيء إلّا وقد عرفته ........   والمقت، وفي البيضاوي واستعمل الخشونة فيما تجاهدهم، إذا بلغ الرفق مداة، أي: غايته، "وقد وقع له -عليه الصلاة والسلام- أنه غضب لأسباب مختلفة، مرجعها إلى أن ذلك كان في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها؛ ليكون أوكد في الزجر، فصبره وعفوه إنما كان فيما يتعلق بنفسه الشريفة -صلى الله عليه وسلم" أتى بهذا مع أنه قدَّمه لزيادة، وعفوه؛ إذ الصبر لا يستلزم العفو "وقد روى الطبراني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وأبو الشيخ في كتاب الأخلاق النبوية وغيرهم، برجال ثقات، عن عبد الله بن سلام "عن زيد بن سعنة، بالمهملة" أي: السين، "والنون المفتوحتين" والعين ساكنة، كما في التبصير وغيره، وصرَّح النووي بأن، السين مفتوحة، وأن بعضهم ضمها، وهو غريب، ووقع في الشامية ضبطه، بفتح العين، "كما قيَّده به عبد الغني" الحافظ، "وذكره الدارقطني، وبالمثناة التحتية" بدل النون، "ثبت في الشفاء، وصحَّح عليه مؤلفه بخطه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق" وحكى ابن عبد البر وغيره الوجهين، قال ابن عبد البر: والنون أكثر، واقتصر الجمهور على النون، قال الذهي: وهو أصح، "وهو كما قاله النووي أجلّ" بجيم ولام، كذا في النسخ، والذي في تهذيب النووي أحد -بحاء ودال مهملتين، "أحبار اليهود الذين أسلموا" وأكثرهم علمًا، ومالًا, أسلم وحسن إسلامه، وشهد معه -صلى الله عليه وسلم- مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك، مقبلًا إلى المدينة. انتهى. فكأنَّ المصنف غَيِّرَ أحدّ بأجلّ؛ لأن قوله: أكثرهم علمًا ومالًا, يفيد أنه أجلهم، ثم يرد على هذا ابن سلام؛ إذ ظاهر الأحاديث أنه أجلّ المسلمين من اليهود، إلّا أن تكون الجلالة باعتبار مجموع العلم والمال، "أنه قال: لم يبق من علامات النبوة شيء" وفي رواية عند ابن سعد: ما بقي شيء من نعت محمد في التوراة إلّا وقد عرفته" أي: شاهدته، ويروى: عرفْتُها، باعتبار أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فابتعت منه تمرًا إلى أجلٍ, فأعطيته الثمن، فلمَّا كان قبل مجيء الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته, فأخذت بمجامع قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مطل، فقال عمر: أي عدو الله، أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع, فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر   الشيء بمعنى العلامة، "في وجه محمد حين نظرت إليه إلّا اثنتين" في رواية: إلّا خصلتين، "لم أخبرهما" -بفتح الهمزة، وإسكان الخاء، وضم الباء- أي: لم أعلمهما "منه" على حقيقتهما؛ إذ علمهما لا يكون بالمشاهدة، بل بالاختيار، "يسبق حلمه جهله" مقابل الحلم من الغضب والانتقام، من آذاه، قال الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالمراد أن حلمه يغلب حِدَّته، كقوله: سبقت رحمتي غبي، فليس الجهل هنا مقابل العلم، وهو عدم إدراك الشيء، أو إدراكه على خلاف ما هو عليه، كما توهَّمه من لم يعرف لغة العرب؛ حيث قال: لو كان له جهل نحو: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} الآية، وهذه إحدى الخصلتين، "و" الثانية "لا تزيده شدة الجهل"، أي: جهل غيره، أي: سفاهته "عليه" وأذيته "إلا حلمًا", فكلما زادت واشتدت، زاد حلمه -صلى الله عليه وسلم، "فكنت أتلطف" أتخشَّع، وأترفَّق "له" توصلًا "لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله، فابتعت" أي: اشتريت "منه تمرًا إلى أَجَلْ" وفي رواية أبي نعيم: وأعطاه زيد بن سعنة قبل إسلامه ثمانين مثقالًا ذهبًا، في تمر معلوم إلى أجل معلوم، "فأعطيته الثمن، فلمَّا كان قبل مجيء الأجل بيومين، أو ثلاثة" وفي رواية أبي نعيم بيوم، أو يومين، "أتيته، فأخذت بمجامع" جمع مجمع، كمقعد ومنزل، موضع الاجتماع، كما في القاموس وغيره، أي: بما اجتمع من "قميصه وردائه على عنقه، ونظرت إليه بوجه غليظ" أي: عابس مقطب، "ثم قلت: ألَا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله أنكم يابني عبد المطلب مطل" بضم الميم، والطاء جمع ماطل، أي: تمتنعون من أداء الحق، وتسوفون بالوعد مرة بعد أخرى، "فقال عمر" في رواية أبي نعيم: فنظر إليه عمر وعيناه تدوران في وجهه، كالفلك المستدير، فقال: "أي عدو الله أتقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع؟ " زاد أبو نعيم، وتفعل به ما أرى، "فوالله لولا ما أحاذر" بمعنى أحذر، أي: شيء أخاف "فوته" من بقاء الصلح بين المسلمين وبين قومه. وفي رواية أبي نعيم: لولا ما أحاذر قومك لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 إلى عمر بسكون وتؤدة وتبسم ثم قال: "أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته"، ففعل، فقلت يا عمر: كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلّا اثنتين لم أخبرهما: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما، فأشهد أني قد رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا. وعن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا ثم قام، فقمنا حين قام, فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه فجذبه بردائه ........................................................   إلى عمر، بسكون" ضد الحركة، "وتؤدة" التأنِّي فتغايرا مفهومًا لا ما صدقا، "وتبسم" من مقالهما لشدة حلمه، ولعله كوشف بمراد ابن سعنة، وأن عمر لو كشف له لم يصعب عليه ذلك، "ثم قال: "أنا وهو" أي: صاحب الحق "كنا أحوج إلى غير هذا" الذي قلته "منك يا عمر", وأبدل منه قوله: "أن تأمرني بحسن الأداء" أي: وفاء ما علي، "وتأمره بحسن التباعة" -بالكسر- المطالبة بالحق، وفي الشفاء تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، ثم قال: لقد بقي من أجله ثلاث أهـ. فتكرَّم -صلى الله عليه وسلم- فعجَّلها قبل الأجل وزيادة، فقال: "اذهب به يا عمر، فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رعته؟ " فزعته، وما مصدريته، أي: في مقابلة روعك له، "ففعل" ذلك عمر، قال زيد: "فقلت يا عمر، كل علامات النبوة، قد عرفتها في وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما" أي: لم أعلمهما، "يسبق حلمه" ثباته، وصفحه وصبره "جهله" حدته، فلا ينتقم، "ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما" أي: صاحبهما؛ إذ الاختبار الامتحان، وهو لم يختبر الخصلتين، والمذكور بخط الشامي خبرتهما، بلا ألف، أي: علمتهما منه بما رأيت من فعله -صلى الله عليه وسلم, "فاشهد" يا عمر "أني، قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا". وفي رواية: وما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر إلّا أني كنت رأيت صفاته التي في التوراة كلها، إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم، فوجدته على ما وصف في التوراة، وإني أشهدك أنَّ هذا التمر، وشطر مالي في فقراء المسلمين، وأسلم أهل بيته كلهم، إلّا شيخًا غلبت عليه الشقوة، "وعن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا، ثم قام، فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي" لم يسم، "قد أدركه، فجذبه" وفي رواية، فجبذه، وهما لغتان صحيحتان "بردائه" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 فحمر رقبته، وكان رداء خشنًا، فالتفتّ إليه, فقال له الأعرابي: احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا مال أبيك، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني"، كل ذلك يقول له الأعرابي: والله لا أقيدها، فذكر الحديث، قال: ثم دعا رجلًا فقال له: احمل له على بعيريه هذين, على بعير تمرًا وعلى الآخر شعيرًا. رواه أبو داود. ورواه البخاري من حديث أنس بلفظ: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد   زاد في رواية: جبذة شديدة، "فحمَّر رقبته" براء بعد الميم، من التحمير، وفي نسخ فحمّ, بلا راء، أي: أثر فيها أثرًا غير لونها، كتأثير الحمى، وهو بالبناء للفاعل والمفعول، كما يفيده القاموس؛ وهذا إن ثبت رواية بلا راء، وإلّا فالذي في خط الشامي بالراء، "وكان رداءً خشنًا" بيان لسبب تحميره لرقبته، "فالتفت" صلى الله عليه وسلم "إليه" إلى الأعرابي، "فقال له الأعرابي: احملني" نسب الجمل إليه تنزيلًا لحمل ما يصل إليه، منزلة حمله لعود نفعه إليه، "على بعيري هذين" أي: حمّلهما إليّ طعامًا, زاد في رواية البيهقي: من مال الله الذي عندك، "فإنك لا تحملني من مالك، ولا من مال أبيك، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "لا" أحملك من مالي، ولا مال أبي، وفي رواية البيهقي، فسكت، ثم قال: "المال مال الله، وأنا عبده"، أي: أتصرف فيه بإذنه، وأعطي من يأمرني بإعطائه، فردَّ عليه بألطف رد، "وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله" ثلاث مرات، "لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك التي جبذتني" أي: تمكنني من القود من نفسك، فأفعل معك مثل ما فعلت معي من جذب ردائي، أطلق القود، وهو القصاص مجازًا، على مطلق المجازاة، أي: حتى تجازي على ترك أدبك، أو تعزر بما يليق بك، وفي رواية البيهقي: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي، فعبَّر بإعرابي إشارة إلى عذره، لما فيه من غلظ الأعراب وجفائهم، "كل ذلك يقول له الأعرابي: والله، لا أقيدها، فذكر الحديث" وهو قال: لم قال، لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- أي: سرورًا بما رآه من حسن ظنه به، وأنه لم يفعل ذلك، تنقيصًا له، وتطمينًا لقلبه، إذا بدأ المسرة بمقالته، وهذا يقتضي أنه كان مسلمًا، غير أنه فيه جفاء البادية، "قال: ثم دعا رجلا" هو عمر، كما في رواية، "فقال له: "احمل له على بعيريه هذين، على بعير تمرًا، وعلى الآخر شعيرًا"، "رواه أبو داود" في سننه، "ورواه البخاري" في الخمس، واللباس، والأدب، ومسلم، كلاهما "من حديث أنس" بن مالك "بلفظ: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد" -بضم الموحدة، وسكون الراء- نوع من الثياب، وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 نجراني غليظ الحاشية, فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتقه وقد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد, مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء. وفي هذا بيان حلمه -عليه الصلاة والسلام, وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء من يريد تألفه على الإسلام. وعن عائشة وقد سُئِلَت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا ..............................................................   رواية مسلم، عليه رداء "نجراني" بنون مفتوحة، فجيم ساكنة، فراء مفتوحة، فألف، فنون، نسبة إلى بلدة بين الحجاز واليمن، وهي إليه أقرب، فلذا يقال: بلدة باليمن "غليظ الحاشية" أي: الجانب، فأدركه أعرابي" قال الحافظ: لم أقف على تسميته، "فجبذ" بتقديم الباء على الذال المعجمة "بردائه". قال الزركشي: صوابه ببرده لقوله أولًا: عليه برد، وهو لا يسمَّى رداء، وردَّه الدماميني بأنه لا مانع أنه ارتدى بالبرد، فأطلق عليه رداء بهذا الاعتبار، وفي رواية مسلم رداءه، "جبذة شديدة، قال أنس: فنظرت إلى صفحة" جانب "عاتقه" ما بين العنق والكتف، أو موضع الرداء من المنكب، "وقد أثرت فيه حاشية البرد، من شدة جبذته" وفي رواية مسلم، وانشق البرد، وذهبت حاشيته في عنقه، "ثم قال: يا محمد" قبل تحريم ندائه باسمه، أو لقرب عهد الأعرابي بالإسلام، فلم يتفقَّه في الدين، وفي طبعه الغلظة والجفاء، وإلا فطلبه العطاء من مال الله، يدل على أنه مسلم "مر لي", ولمسلم: أعطني "من مال الله، الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء" هو تحميل بعيريه، كما في حديث أبي هريرة الذي قبله، "وفي هذا بيان حلمه -عليه الصلاة والسلام، وصبره على الأذى في النفس والمال، والتجاوز عن جفاء" بالمد خلاف البر، "من يريد تألفه على الإسلام" وسياق الحديث كما قيل يقتضي أنه من المسلمين المؤلفة قلوبهم. "وعن عائشة، وقد سئلت عن خلقه -صلى الله عليه وسلم" قالت: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا" إذا فحش في أقواله وأفعاله وصفاته، "ولا متفحشًا" متكلف الفحش في ذلك، أي: لم يقم به فحش طبعًا، ولا تكلفًا فهمًا, غير أن من هذه الجهة، إذا الصفة القائمة بالموصوف طبعًا غير القائمة به تطبعًا، ولذا سلّط النفي على كل منهما، فهو من بديع الكلام، وإن صدق أن كل متفحش فاحش، فلا يرد أن نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخص، وأسقط من الرواية، ولا سخَّابًا في الأسواق، روي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه الترمذي، أي: لم يكن الفحش له خلقًا ولا مكتسبًا. وفي البخاري من حديث ابن عمرو: لم يكن -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، وفي رواية له من حديث أنس بن مالك قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبَّابًا ولا فاحشًا ولا لعّانًا.   بسين مهملة، أي: مرتفع الصوت، وروي -بصاد- وهو الضجر واضطراب الصوت للخصام، وإذا لم يكن في الأسواق كذلك, فغيرها أَوْلى، ثم لا يرد أن سخابًا، للتكثير، وهو للمبالغة، فلا يلزم منه نفي أصل الفعل، لأن هذا من المفهوم، ولا يكفي هنا لوروده في سياق المدح، ولا يكفي فيه مثل ذلك، "ولا يجزي" بزنة يرمي "بالسيئة" السيئة؛ لأن خلقه القرآن، وفيه جزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، "ولكن" استدراك على ما قد يتوهَّم أن ترك الجزاء عجز، فصرَّحت بأنه مع القدرة، فقالت: "يعفو" عن الجاني، فلا يذكر له شيئًا من جنايته، "ويصفح" يظهر له أنه لم يطَّلع عليها، أو يعفو باطنًا، ويصفح يعرض ظاهرًا، وذلك منه طبقًا وامتثالًا لقوله تعالى {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] الآية. "رواه الترمذي" في جامعه وشمائله برجال ثقات، "أي: لم يكن الفحش له خلقًا" طبعًا, تفسير لقولها: فاحشًا، "ولا مكتسبًا" بيان لقولها متفحشًا، "وفي البخاري" في الصفة النبوية؛ والأدب، ومسلم في الأدب، ومسلم في الفضائل، والترمذي في البر، "من حديث ابن عمرو" -بفتح العين- ابن العاص. وفي رواية مسلم عن مسروق: دخلنا على عبد الله بن عمرو، حين قدم مع معاوية الكوفة، فكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا، ولا متفحشًا" فتوارد عبد الله مع عائشة على نفي الصفتين، دليل ظاهر على أن ذلك جبلته مع الأهل والأجانب؛ وبقية حديث عبد الله، وكان يقول: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، لفظ البخاري، ولفظ مسلم، قال مسلم، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا"، "وفي رواية له" للبخاري أيضًا في الأدب، "من حديث أنس بن مالك، قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- سبابًا" بشد الموحَّدة، "ولا فاحشًا" رواية أبي ذر، ورواه غيره فحاشًا بالتثقيل، "ولا لعّانًا" بشد العين. قال الكرماني: يحتمل تعلق السب بالنسب، كالقذف والفحش، بالحسب واللعن بالآخرة؛ لأنها البعد عن رحمة الله، ثم إن المراد نفي الثلاثة من أصلها؛ لأن فعالًا قد لا يراد به التكثير، بل أصل الفعل، أو المراد لم يكن بذي سب، ولا فحش، ولا لعن، ويؤيده رواية فاحشًا، فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 والفحش: كل ما خرج من مقداره حتى يستقبح، ويدخل في القول والفعل والصفة، لكن استعماله في القول أكثر. والمتفحّش -بالتشديد: الذي يتعمَّد ذلك ويكثر منه ويتكلفه. وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة، فلمَّا جلس تطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه وانبسط إليه، فلمَّا انطلق الرجل قالت له عائشة:   كقول امرئ القيس: وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبال فلا يرد أن المصطفى ليس فيه قليل ولا كثير مما ذكر, وبقية الحديث في البخاري، كان يقول: لأجدنا عند المعتبة ماله تربت جبينه -فتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الفوقية، وكسرها، فموحدة- مصدر عتب، وهو خطاب الإدلال، ومذاكرة الموجدة، وتربت جبينه: كلمة جرت على لسان العرب، لا يريدون حقيقتها، أو دعاء له بالطاعة، أي: يصلي، فيتترب جبينه، أو عليه بأن تسقط رأسه على الأرض من جهة جبينه، "والفحش كل ما خرج عن مقداره حتى يستقبح، ويدخل فيه القول" وهو الزيادة على الحد في الكلام السيء، "والفعل والصفة" كذلك, "لكن استعماله في القول أكثر، والمتفحش -بالتشديد: الذي يتعمَّد ذلك، ويكثر منه، ويتكلفه"، فالمراد قريبًا: لم يكن الفحش خلقًا له، ولا مكتسبًا. "وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلًا استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية: وأنا عنده، "فلما رآه" علمه بأن أخبر أنه فلان، أو بصر به، أي: فأذن له، فلمَّا رآه حين فتح الباب، "قال": بئس أخو العشيرة" أي: الواحد منها، يقال: هو أخو تميم، أي: واحد منهم، "وبئس ابن العشيرة" بمعنى ما قبله جاء به زيادة في ذمّه, هكذا رواه البخاري، بالواو، وكذا مسلم، لكنه عبَّر بالقوم، فقال: أخو القوم, وبئس ابن القوم، قال الحافظ: وهي بالمعنى، ورواه الترمذي، والبخاري في موضع آخر: بئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة بالشكّ، "فلمَّا جلس تطلَّق" -بفوقية، فطاء مهملة، فلا ثقيلة، فقاف مفتوحات- قال في الفتح: أي: أبدى له طلاقة وجهه، وفي رواية: بشَّ "النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، وانبسط إليه" أظهر البشر والسرور بحضوره، وهذه صفة تقوم بالذات، لا دلالة لها لغة على أنه خاطبه، لكن في رواية للبخاري في محل ثان: فلما دخل أَلَانَ له الكلام، وفي رواية الترمذي، ثم أذن له، فأَلَانَ له القول، فهو قد فعل معه الأمرين، وهما عرفًا متلازمان. "فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة" مستفهمة، وفيه التفات، وفي رواية الترمذي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه. فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، متى عهدتيني فحاشًا، إن شرَّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" رواه البخاري. قال ابن بطال: هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع. ..............   والبخاري أيضًا، فلما خرج، قلت: "يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له" أي: لأجله، وفي شأنه لا أنه خاطبه لفساد المعنى "كذا وكذا ثم تطلقت" سهلت، وانبسطت "في وجهه" يقال: وجه طلق وطليق، أي: مسترسل منبسط غير عبوس، فقوله: "وانبسطت إليه" عطف تفسير، أو معناه: ملت إليه، فهل تاب وصلح حاله بين ما قلت، وبين حضوره عندك، أو لمخالفتك بين الغيبة والحضور؟ حكمة، فهو استفهام، أو تعجب من عدم التسوية، لتقف على الحكمة، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة متى عهدتيني؟ " كذا في النسخ بزيادة الياء للإشباع، فإن التاء فاعل، والياء الأخيرة مفعول، فزيادة الياء بين التاء والنون، لا معنى لها سوى الإشباع، والذي في البخاري عهدتني -بفوقية مكسورة، فنون، وكذا نقله عنه في جامع الأصول وغيره، فلعل زيادتها من النسَّاخ؛ إذ لم ينبه المصنف في شرحه، مع استيعابه لجميع الروايات التي روى البخاري بها غالبًا على أنه روي بثبوت الياء، وكذا الكرماني، والحافظ، وغيرهم "فحاشًا" بالتشديد، أي: ذا فحش, وما ربك بظلام، كما سبق. الكشميهني فاحشًا، "إن شر الناس" استئنافًا، كالتعليل لترك مواجهته، بما ذكر في غيبته، وبيان لوجه الحكمة التي سألتها عائشة، قال العلائي وغيره: ويحتمل أنه علل به مداراته لعموم الناس، وهذا وغيره؛ وأنه ليس فحاشًا، بل شأنه إكرام وإحسان العشرة، وتحمُّل الأذى لما يترتب على ذلك من جموم الفوائد، وعموم العوائد، ثم المعنى على من، ففي رواية الترمذي: "إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، من تركه الناس اتِّقاء شره" أي: قبيح كلامه، وفي رواية للبخاري وغيره "اتقاء فحشه"، أي لأجل اتقاء قبيح قوله وفعله، أو لأجل اتقاء مجاوزته الحد الشرعي، قولًا، أو فعلًا" "رواه البخاري" ومسلم، وأبو داود، ثلاثتهم في الأدب، والترمذي في البر، في جامعه وفي شمائله، "قال ابن بطال، هذا الرجل هو عيينة بن حصن" بكسر، فسكون، "ابن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق" فاسد العقل، "المطاع" لأنه كان يتبعه من قومه عشرة آلاف قناة، لا يسألونه أين يريد؟ ومن حمقه أن دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وعائشة عنده قبل نزول الحجاب، فقال: من هذه؟ قال: "عائشة"، قال: ألا أنزل لك عن أم البنين؟ فغضبت عائشة، وقالت: من هذا؟ , فقال -صلى الله عليه وسلم: هذا الأحمق المطاع، يعني في قومه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 وكذا فسره به القاضي عياض والقرطبي والنووي. وأخرج عبد الغني من طريق أبي عامر الخزاعي، عن عائشة قالت: جاء مخرمة بن نوفل يستأذن، فلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- صوته قال: "بئس أخو العشيرة". الحديث. والمراد بالعشيرة: الجماعة أو القبيلة، وإنما تطلق -صلى الله عليه وسلم- في وجهه تألفًا ليسلم قومه، لأنه كان رئيسهم.   رواه سعيد بن منصور. وروى الحارث ابن أبي أسامة هذا الحديث مرسلًا، وفيه: "أنه منافق أداريه نفاقه، وأخشى أن يفسد على غيره"، "وكذا فسَّره به القاضي عياض والقرطبي، والنووي" جازمين بذلك؛ ونقله ابن التين عن الداودي، لكن احتمالًا جزمًا، وأخرجه عبد الغني بن سعيد في المبهمات، عن مالك بلاغًا، وابن بشكوال من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير؛ أن عيينة استأذن، فذكره مرسلًا، "وأخرج عبد الغني بن سعيد "من طريق أبي عامر الخزاعي" كذا في النسخ، وصوابه الخزاز. قال في التقريب: صالح بن رستم المزني، مولاهم أبو عامر الخزاز، بمعجمات البصري، صدوق، كثير الخطأ، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة، "عن عائشة، قالت: جاء مخرمة بن نوفل" القرشي، الزهري، صحابي شهير من مسلمة الفتح، وكان له سن عالية، وعلم بالنسب، فكان يؤخذ عنه، وعلم بأنصاب الحرم، فبعثه عمر فيمن بعثه لتحديدها، ومات سنة أربع، أو خمس وخمسين، عن مائة وخمس عشرة سنة، "يستأذن، فلما سمع النبي (ص) صوته، قال: "بئس أخو العشيرة" الحديث" السابق. قال الحافظ: فيحمل على التعدد، وقد حكى المنذري القولين، فقال: هو عيينة، وقيل مخرمة، وهو الراجح انتهى. وتُعقِّب بأن حديث تسميته عيينة صحيح، وإن كان مرسلًا، وخبر تسميته مخرمة، فيه أبو يزيد المدني، وفيه كلام، وأبو عامر صالح بن رستم؛ ضعَّفه ابن معين، وأبو حاتم، ولذا قال الخطيب، وعياض وغيرهما: الصحيح أنه عيينة، قالوا: ويبعد أن يقول -صلى الله عليه وسلم- في حق مخرمة ما قال؛ لأنه كان من خيار الصحابة، "والمراد العشيرة: الجماعة" من الناس، لا واحد لها من لفظها، كما في المصباح، "أو القبيلة" قاله عياض، وقال غيره: العشيرة؛ الأدنى إلى الرجل من أهله، وهم ولد أبيه وجده، انتهى. لإطلاق العشيرة لغة على القبيلة، وعلى بني الأب الأقربين، كما في القاموس، فلها ثلاث إطلاقات، "وإنما تطلّق -صلى الله عليه وسلم- في وجهه، تألفًا ليسلم قومه؛ لأنه كان رئيسهم" فهو أصل في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 وقد جمع هذا الحديث كما قاله الخطابي علمًا وأدبًا، وليس قوله -عليه الصلاة والسلام- في أمته بالأمور التي يسمهم بها ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن ذلك ويفصح به، وأن يعرِّف الناس أمرهم, فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة, ولكنَّه لما جبل عليه من الكرم, وأعطيه من حسن الخلق, أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله, وفي مدارته ليسلموا من شره وغائلته.   طلب المداراة، إذا ترتَّب عليها جلب نفع، أو دفع ضرر، وإلّا ذمَّت، فما كل جانٍ يعزر، ولا كل ذنب يغفر، قال: ووضع الندى في موضع السيف في العدا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى "وقد جمع هذا الحديث، كما قاله الخطابي علمًا" ومنه الإخبار بأن من ترك لاتقاء شره من شر الناس، ولذا أخذ منه؛ أن ملازمة الشخص الشر والفحش، حتى يخشاه الناس لشره من الكبائر، "وأدبًا" وهو عدم المواجهة بالذم، وإن كان حقًّا، والداراة وغير ذلك، "وليس قوله -عليه الصلاة والسلام- في أمته بالأمور التي يسمهم" بفتح، فكشَّر، أي: يصفهم "بها" سماه وسما، وهو العلامة، باعتبار أنه يصير كالعلامة التي تميزهم عن غيرهم، "ويضيفها" ينسبها "إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك" غيبة "من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّن ذلك، ويفصح به، وأن يعرف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة والشفقة على الأمة", وليس ذا خاصًّا به، بل ذلك على أمته أيضًا؛ إذ هو إحدى المسائل المذكورة في قوله: تظلم واستغث واستفت حذر ... وعرف بدعة فسق المجاهر "ولكنه، لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة، ولم يجبهه بالمكروه، لتقتدي به أمته في اتقاء شر من هذا سبيله" وذلك عذر مسقط للوجوب عن الأمة لا عنه -صلى الله عليه وسلم، فلا يسقط وجوب أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، خشية العاقبة لقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] الآية، فلعلَّ حكمة تركه هنا ما علمه أنَّ طلاقة الوجه مع هذا ونحوه سبب لإيمانه وإيمان قومه، فترك التشديد عليهم إنما هو للمصلحة العامة التي اقتضت ذلك؛ "وفي مداراته ليسلموا من شره وعائلته" عطف مرادف، فالغائلة لغةً الشر، واعترض بأن ظاهر كلامه أن هذا من الخصائص، وليس كذلك، بل كل من اطّلع من حال شخص على شيء، وخشي أن غيره يغتر؛ بجميل ظاهره، فيقع في محذورٍ ما، فعليه أن يطلعه على ما يحذر من ذلك قاصدًا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يختص به النبي -صلى الله عليه وسلم، أن يكشف له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلن بالفسق أو الفحش ونحو ذلك, مع جواز مداراتهم اتقاءً لشرهم ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله. ثم قال تبعًا للقاضي حسين: والفرق بين المداراة والمداهنة، أنَّ المداراة بدل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معًا, وهي مباحة وربما استحسنت، والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه حق، وفعله معه حسن عشرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال ولله الحمد.   عن حال من يغتر بشخص من غير أن يطَّلع المغتر على حاله، فيذم الشخص بحضرته ليجتنبه المغتر، ليكون نصيحة بخلاف غيره -صلى الله عليه وسلم، فإن جواز ذمه للشخص يتوقف على تحقق الأمر بالقول أو الفعل ممن يريد نصحه. "وقال القرطبي: فيه جواز غيبة المعلق بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك" من الجور في الحكم والدعاء إلى البدعة، "مع جواز مداراتهم اتقاءً لشرهم، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله", وهي معاشرة المعلن بالفسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه باللسان، ولا بالقلب، "ثم قال" القرطبي: "تبعًا للقاضي حسين، والفرق بين المداراة والمداهنة، أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معا" ومن البذل لين الكلام، وترك الإغلاظ في القول، والرفق بالجاهل في التعليم، والفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه؛ حيث لم يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف حتى يرتدع عما هو مرتكبه، "وهي مباحة، وربما استحسنت" فكانت مستحبة، أو واجبة للديلمي في الفردوس، عن عائشة مرفوعًا: "إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض"، ولابن عدي، والطبراني، عن جابر رفعه: "مداراة الناس صدقة"، وفي حديث أبي هريرة: "رأس العقل بعد الإيمان بالله؛ مداراة الناس، أخرجه البيهقي، بسند ضعيف، وعزاه في فتح الباري للبزار وتعقبه السخاوي؛ بأن لفظ البزار التودد إلى الناس. "والمداهنة بذل الدين لصلاح الدنيا؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بذل له من دنياه حسن عشرته، والرفق في مكالمته", وليس ذلك من بذل الدين في شيء، "ومع ذلك، فلم يمدحه بقولٍ, فلم يناقض قوله فعله؛ فإن قوله فيه" بئس ابن العشيرة، "حق وفعله معه حسن، عشرة فيزول مع هذا التقرير الإشكال" الذي هو أن النصيحة فرض، وطلاقه الوجه، والأنة القول يستلزمان الترك، وحاصل جوابه أن الفرض سقط لعارض، "ولله الحمد" على فهم ما ظاهره يشكل علينا، ففهمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وقال القاضي عياض: لم يكن عيينة -والله أعلم- حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم ولم يكن إسلامه ناصحًا، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبين ذلك لئلَّا يغترَّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به -عليه الصلاة والسلام- من علامات النبوة، وأما الأنة القول بعد أن دخل, فعلى سبيل الاستئلاف, وفي فتح الباري: إن عيينة ارتدَّ في زمن الصديق وحارب, ثم رجع وأسلم وحضر بعض الفتوح في عهد عمر. انتهى.   من النعم، "وقال القاضي عياض: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم"؛ لأنه أسلم قبل فتح مكة، وشهدها وحنينًا والطائف، وكان من المؤلَّفة، ولم يصح له رواية، قال ابن السكن: وأخرج في ترجمته هو وقاسم بن ثابت في الدلائل، عن عيينة بن حصن، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن موسى أجَّر نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه" الحديث. "فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم، ولم يكن إسلامه ناصحًا" بل كان من المؤلَّفة الذين أعطوا من غنائم حنين، "فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبيِّنَ ذلك؛ لئلَّا يغترَّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده أمور تدل على ضعف إيمانه" كدخوله على المصطفى بلا إذن، فقال له: "اخرج فاستأذن"، فقال: إنها يمين عليَّ أن لا أستأذن على مضري، وقوله: لعمر في خلافته ما تعطي الجزل، ولا تقسم بالعدل، فغضب، فقال له الجد بن قيس: إن الله يقول: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] الآية، فتركه، ودخل على عثمان، فأغلظ له، فقال عثمان: لو كان عمر ما قدمت عليه، "فيكون ما وصفه به -عليه الصلاة والسلام- من علامات النبوة، وأمَّا الأنة، القول بعد أن دخل" على المصطفى، في المحل الذي كان فيه؛ "فعلى سبيل الاستئلاف، وفي فتح الباري أن عيينة ارتدَّ في زمن الصديق، وحارب" وبايع طلحة، قال بعضهم: فجيء به إلى الصديق أسيرًا، فكان الصبيان يصيحون به في أزقَّة المدينة، هذ الذي خرج من الدين، فيقول: عمكم لم يدخل حتى خرج، "ثم رجع، وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر أ. هـ". وفي الإصابة: قرأت في كتاب الأم للشافعي، في كتاب الزكاة، أنَّ عمر قتل عيينة على الردة، ولم أر من ذكر ذلك غيره، فإن كان محفوظًا، فلا يذكر عيينة في الصحابة؛ لكن يحتمل أن يكون أمر بقتله، فبادر إلى الإسلام، فعاش إلى خلافة عثمان، وفيها أيضًا ترجمة طليحة نقلًا عن الأم، أنَّ عمر قتلهما على الردة، فراجعت في ذلك جلال الدين البلقيني، فاستغربه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 وما انتقم -صلى الله عليه وسلم- لنفسه. رواه البخاري. فإن قلت: قد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن خطل وغيرهما ممن كان يؤذيه -صلى الله عليه وسلم, وهذا ينافي قوله: وما انتقم لنفسه. فالجواب: إنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله. وقيل: أراد أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه، وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه. وحمل الداودي عدم الانتقام على ما يخص بالمال، وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه. وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر عن ..................................   وقال: لعله قبلهما، بالباء الموحدة. وقال القرطبي: في هذا الحديث إشارة، إلى أن عيينة خُتِمَ له بسوء؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- ذمَّه، وأخبر بأنَّ من كان كذلك كان شر الناس، وردَّه الحافظ بأن الحديث ورد بلفظ العموم، وشرط من اتصف بالصفة المذكورة أن يموت على ذلك، وقد ارتدَّ عيينة، ثم أسلم كما مرَّ. انتهى. "وما انتقم -صلى الله عليه وسلم- لنفسه" خاصة، "رواه البخاري" ومسلم، وأبو داود في حديث عن عائشة، قالت: ما خُيِّرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلّا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله فينقتم لله، "فإن قلت: قد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بقتل عقبة" بالقاف، "ابن أبي معيط" بعد أسره يوم بدر، "وعبد الله بن خطل" بمعجمه، فمهملة مفتوحتين، يوم فتح مكة "وغيرهما، ممن كان يؤذيه -صلى الله عليه وسلم, وهذا ينافي قوله" أي: الراوي، وهو عائشة، "وما انتقم لنفسه، فالجواب أنهم، كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله" فقتلهم لذلك لا لنفسه، "وقيل: أراد" الشخص الراوي عائشة، "أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه؛ وعن الآخر الذي جبذ بردائه حتى أثر في كتفه" ومرَّ حديثه قريبًا، "وحمل الداودي" أحمد بن نصر، شارح البخاري، "عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما العرض، فقد اقتص ممن نال منه" قال: واقتص ممن لده في مرضه بعد نهيه عن ذلك، بأن أمر بلدهم، مع أنهم كانوا في ذلك، تأولوا أنه إنما نهاهم على عادة البشرية من كراهة النفس للدواء. قال في الفتح: كذا قال: "وقد أخرج الحاكم هذا الحديث، من طريق معمر عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 الزهري مطولًا، وأوَّله: ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا بذكر -أي: بصريح اسمه- وما ضرب بيده شيئًا قط إلّا أن يضرب في سبيل الله، ولا سُئِلَ شيئًا قط فمنعه إلّا أن يسئل مأثمًا، ولا انتقم لنفسه من شيء إلا أن تُنْتَهَكَ حرمات الله فيكون لله ينتقم. الحديث. ومما روي من اتساع خلقه وحلمه -صلى الله عليه وسلم، اتساع خلقه للطائفة المنافقين الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملَّقون له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية حتى تؤيدها العناية الربانية. وكان -صلى الله عليه وسلم- كُلَّمَا أذن له في التشديد عليهم فتح لهم بابًا من الرحمة، فكان يستغفر لهم ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال -عليه الصلاة والسلام: "خيَّرَنِي ربي فاخترت أن أستغفر لهم"، ..............................   الزهري" بهذا الإسناد، كما في الفتح، أي: بإسناد الزهري، وهو عروة عن عائشة مرسل، كما يوهمه تصرف المصنف، "مطولًا، وأوَّله ما لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسلمًا يذكر، أي: بصريح تفسير لذكر "اسمه، وما ضرب بيده شيئًا قط" آدميًّا، ولا غيره، كما يأتي "إلّا أن يضرب في سبيل الله" فيضرب أن احتاج، "ولا سُئِلَ شيئًا قط فمنعه" بل يعطيه إن كان عنده وإلّا وعد، "إلّا أن يسأل مأثمًا" مصدر ميمي، بمعنى إثما، أي: ما فيه إثم من قول، أو فعل، "ولا انتقم لنفسه من شيء إلَّا أن تنتهك" -بضم الفوقية، وسكون النون، وفتح الفوقية- والهاء، أي: لكن إذا انتهكت "حرمات الله، فيكون لله ينتقم" لا لنفسه، ممن ارتكب تلك الحرمة، "الحديث" زاد في الفتح، وهذا السياق. سوى صدر الحديث عند مسلم، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة، وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، وفيه: "ما انتقم لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله، فإن انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله، "ومما روي من اتساع خلقه وحلمه -صلى الله عليه وسلم، اتساع خلقه لطائفة المنافقين" قال ابن عباس: كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة، ومن النساء مائة وسبعين، "الذين كانوا يؤذونه، إذا غاب يتملقون" ويتوددون "له إذا حضر، وذلك مما تنفر منه النفوس البشرية، حتى تؤيدها العناية الربانية؛ وكان -صلى الله عليه وسلم- كلما أذن له في التشديد عليهم، فتح لهم بابًا من الرحمة" لأنه رحمة، "فكان يستغفر لهم، ويدعو لهم، حتى أنزل الله عليه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، فقال -عليه الصلاة والسلام: "خَيَّرَني ربي" بين الاستغفار وتركه، "فاخترت أن أستغفر لهم" واستشكل فهم التخيير في الآية؛ لأن المراد بهذا العدد، أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 ولما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال -صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين". وأمر ولد الذي تولى كبر النفاق والأذى منهم ببر أبيه، ولما مات كفَّنه في ثوب خلعه عن بدنه وصلّى عليه، ..........   الاستغفار ولو كثر لا يفيد حتى أقدم جماعة؛ كالغزالي، وإمام الحرمين، والباقلاني، والداودي، فطعنوا في صحته؛ مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين، وسائر الذين خرَّجوا الصحيح على صحته، وذلك ينادي على الجماعة بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه، وأجيب بأجوبة، أجودها: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا، لا يستلزم النهي عنه لمن مات مظهرًا للإسلام، لاحتمال كونه صحيحًا، ولا ينافيه بقية الآية؛ لجواز أن الذي نزل أولًا إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، بدليل تمسكه -صلى الله عليه وسلم- به, وقوله: "إنما خَيَّرَنِي الله" تمسكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام، حتى يقوم الدليل الصارف عن ذلك، فكشف الله الغطاء بعد ذلك، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} الآية، وبهذا يرتفع الإشكال، وتقدم بسط هذا في المقصد الأول. "ولما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية. فقال" جواب، لما دخلت عليه الفاء على قوله -صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين" وفي رواية: "فوالله لأزيدنَّ"، وأخرى "فأنا أستغفر سبعين سبعين"، وهي وإن كانت مراسيل يقوي بعضها بعضًا، ووعده صدق، لا سيما، وقد حلف، وأتى بصيغة المبالغة في التأكيد؛ وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية. قال -صلى الله عليه وسلم: "لأزيدنَّ على السبعين"، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون] الآية. ورجاله ثقات، أي: فترك الاستغفار بعد نزول آية سورة المنافقين؛ إذ لا يتأتَّى فيها تخيير؛ إذ المعنى استغفارك وعدمه سواء، "وأمر ولد" وهو عبد الله الصحابيّ الصالح؛ "الذي تولَّى كبر النفاق" تحمل معظمه، وهو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، "والأذى منهم" أي: المنافقين "ببر أبيه" حين جاءه يستأذنه في قتله، لما بلغه بعض مقالاته في النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "بل أحسن صحبته". رواه ابن مندة بإسناد حسن، "ولما مات كفَّنه في ثوب خلعه عن بدنه" بطلب منه، لذلك روى الطبراني عن ابن عباس: لما مرض ابن أُبَيّ جاءه -صلى الله عليه وسلم- فكلمه، فقال: قد فهمت ما تقول، فأمنَنَّ علي، وكفِّني في قميصك, وصلّ عليّ، ففعل "وصلى عليه" بطلبه وطلب ابنه، لذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر، لما مات ابن أُبَيّ، جاء ابنه عبد الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 هذا وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه يجذبه بثوبه ويقول: يا رسول الله, أتصلي على رأس المنافقين؟ فنتر ثوبه من عمر وقال: "إليك عنِّي يا عمر". فخالف مؤمنًا وليًّا في حق منافق عدو، وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحراني. وقال النووي: قيل: إنما أعطاه قميصه وكفَّنه فيه تطييبًا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيًّا صالحًا. وقد سأل ذلك فأجابه إليه، وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت؛ لأنه كان ألبس العباس حين أُسِرَ يوم بدر قميصًا. وفي ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم، فقد علم ما كان ......   أن يعطيه قميصه يكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه. الحديث. وفيه: فصلَّى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84] الآية. فلا عبرة بتصدير البيضاوي بأنَّه لم يصلِّ عليه، وللطبراني وغيره، عن قتادة، فذكر لنا أنه، لما نزلت الآية، قال -صلى الله عليه وسلم: "وما يغني عنه قميصي، وإني لأرجو أن يسلِم بذلك ألف من قومه"، وروي أن ألفًا من الخزرج أسلموا، لما رأوه يستشفع بثوبه، ويتوقَّع اندفاع العذاب عنه، "هذا وعمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يجذبه" بكسر الذال، "بثوبه، ويقول: يا رسول الله! أتصلي على رأس المنافقين, فنتر ثوبه من عمر" بالمثناة الفوقية جذبه بقوة، "وقال: "إليك عني يا عمر" وفي الصحيحين. فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله، فقال: أتصلي عليه, إنه منافق، فصلى عليه "فخالف مؤمنًا وليًّا في حق منافق عدو" إجراء على الظاهر، "وكل ذلك رحمة منه لأمته، أشار إليه الحراني" بالفتح والتشديد إلى حران مدينة بالجزيرة، قال الخطابي وابن بطال: إنما فعل ذلك لكمال شفقته على من تعلَّق بطرف من الدين، وليطيّب قلب ولده الصحابي الصالح، ولتألّف الخزرج لرياسته فيهم؛ فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه، قبل ورود النهي الصريح، لكان سبَّة على ابنه وعارًا على قومه، فاستعمل -صلى الله عليه وسلم- أحسن الأمرين في السياسة؛ حتى كشف الله الغطاء، فأنزل: {وَلا تُصَلِّ} [التوبة: 84] الآية. فما صلّي على منافق بعد، ولا قام على قبره. "وقال النووي: قيل: إنما أعطاه قميصه وكفَّنه فيه تطيبًا لقلب ابنه، فإنه كان صحابيًّا صالحًا" شهد بدرًا، وما بعدها، فاستشهد يوم اليمامة؛ في خلافة أبي بكر، "وقد سأل ذلك، فأجابه إليه" لأنه لا يرد سائلًا، والضنة بالقميص ليست من شأن الكرام، "وقيل: مكافأة لعبد الله المنافق الميت؛ لأنه كان ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصًا" فكافأة قميصه حتى لا يكون له على عَمِّه مِنَّة، "وفي ذلك كله بيان عظيم مكارم أخلاقه -صلى الله عليه وسلم، فقد علم ما كان من هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 من هذا المنافق من الإيذاء له، وقابله بالحسنى, فألبسه قميصه كفنًا, وصلَّى عليه واستغفر له. من ذلك أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يؤاخذ لبيد بن الأعصم إذ سحره. وعفا عن اليهودية التي سمَّته في الشاة على الصحيح من الرواية. والله يرحم القائل: وما الفضل إلا خاتم ..............   المنافق من الإيذاء له" كقوله: ليخرجن الأعز منها الأذل، لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا, وتولّيه كبر الإفك، "وقابله بالحسنى، فألبسه قميصه كفنًا، وصلى عليه، واستغفر له. ذكر الواقدي: إن مجمع بن جارية، قال: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطال الصلاة على جنازةٍ قط ما أطال على جنازة ابن أُبَيّ من الوقوف، ولابن إسحاق عن عمر: ومشى معه حتى قام على قبره؛ حتى فرغ منه، وفي رواية للبخاري، عن عمر: فصلينا معه، قال أبو نعيم: ففيه أن عمر ترك رأي نفسه وتابعه -صلى الله عليه وسلم "ومن ذلك؛ أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يؤاخذ لبيد" -بفتح اللام، وكسر الموحدة، وإسكان التحتية، ومهملة- "ابن الأعصم" بمهملتين، بوزن أحمر، ويقال: أعصم بلا ألف يهودي، كما في الصحيحين، عن عائشة, من بني زريق -بضم الزاي وفتح الراء- بطن من الأنصار, ذكر الواقدي؛ أنه كان حليفًا فيهم, ووقع لعياض أنه أسلم، ورده البرهان؛ بأنه لا يعلم له إسلامًا، ولا ذكرًا في الصحابة، وقيل: كان منافقًا، ولعل المراد العرفي؛ إذ النفاق إخفاء الكفر، وإظهار الإسلام، ولبيد لم يكن كذلك، فهو على حد قوله -صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب؛ وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". رواه الشيخان. ويطلق النفاق على الكفر أيضًا، "إذ سحره" تعليلية بنفسه على ظاهر حديث الصحيحين، وعند ابن سعد: إنما سحره بنات لبيد، ولبيد هو الذي ذهب به، فإن صحَّ، فنُسِبَ إليه مجازًا لأخذه من بناته، وذهابه إلى البئر به، ومكث -صلى الله عليه وسلم- في السحر أربعين يومًا، رواه الإسماعيلي، ولأحمد ستة أشهر، وجمع بأنها من ابتداء تغير مزاجه، والأربعين من استحكامه، قال في الشفاء: وقد أعلم به، وأوحي إليه بشرح أمره، ولا عتب عليه فضلًا عن معاقبته، "وعفا عن اليهودية التي سمته في الشاة على الصحيح من الرواية" قال عياض: أي في حق نفسه، فلا ينافي أنه قتلها بعد ذلك، لما مات بشر بن البراء قصاصًا، ومرَّت القصة في خيبر، وأنها أسلمت -رضي الله عنها، "والله يرحم القائل، وما الفضل" الزيادة في مراتب القرب "إلّا خاتم" أي: زيادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 ................... أنت فصه وعفوك نقش الفص فاختم به عذري ومن ذلك إشفاقه -صلَّى الله عليه وسلم- على أهل الكبائر من أمته، وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات -يعني المحرمات- فليستتر". وأمر أمته أن يستغفروا للمحدود ويترحَّموا عليه لما حنقوا عليه فسبوه ولعنوه، فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهمَّ ارحمه".   خاتم "أنت فصه" المتميز عنه بزيادة الفضل والقرب، وكأنه أراد بالخاتم جميع الأنبياء، ففضلُهم وقربهم عند الله، لا يساويهم فيه غيرهم، وجعلهم خاتمًا؛ لأنَّ بواسطتهم تصان الملل عن الفساد؛ وتتزين بهم، فأشبهوا ما يطبع به على الكتاب، مثلًا: فيصان به ما في بطنه عن الفساد بالعلم به، وتزينت بهم الملل حيث أظهروا أحكامها ونشروها، فأشبهوا الحلي الذي يتزين به؛ "وعفوك نقش الفص" أي: كنقشه، لكونه زينة وشرفًا لأفعالك ومعاملتك مع الناس، كما أنَّ النقش زينة الخاتم، وهي ظهور آثاره، بحيث يقتدي بك فيها، كتأثير الفصل المنقوش، إذا طبع به أثرًا ظاهرًا ينتفع به، "فاختم به عذري" كأنه أظهر له عذرًا في تقصيره في حقه، وسأله قبوله منه، وجعل عفوه، كخاتم لا يتطرق للطبع، به خلل، "ومن ذلك إشفاقه -صلى الله عليه وسلم" مصدر أشفق، قال المجد: شفق وأشفق: حاذر، ولا يقال: ألا أشفق، أي: لا يستعمل إلا مزيدًا، وهجروا المجرد، وإن جاء في أصل اللغة مجردًا ومزيدًا، فلا يرد أن فيه إثباتًا ونفيًا، وهو تناقض "على أهل الكبائر من أمته؛ وأمره إياهم بالستر، فقال: "من بلي بهذه القاذورات" جمع قاذورة، وهي كل قول، أو فعل يستقبح، ولذا قال: "يعني المحرمات" سميت بذلك؛ لأن حقها أن تذر، فوصفت بما يوصف به صاحبها، "فليستتر" وجوبًا مع التوبة، ولا يخبر أحدًا، فإن خالف واعترف عند الحاكم؛ حدَّه، أو عزَّره، وهذا الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي في السنن عن ابن عمر، قال: قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد رجم ماعز الأسلمي، فقال: "اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن أَلَمَّ بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صحتته نقم عليه كتاب الله"، صححه الحاكم وابن السكن، وقال الذهبي في المهذب: إسناده جيد، ولا ينافيه قوله في اختصارٍ له المستدرك: غريب جدًّا؛ لأن الغرابة تجامع الصحة، وقول إمام الحرمين: صحيح متفق على صحته، قال ابن الصلاح: عجيب أوقعه فيه عدم إلمامه بصناعة الحديث التي يفتقر إليها كل عالم، "وأمر أمته" أتباعه الحاضرين عنده، "أن يستغفروا للمحدود، ويترحموا عليه، لما حنقوا" -بفتح المهملة، وكسر النون، اغتاظوا "عليه، فسبوه" شتموه بذكر مساويه "ولعنوه" بأن دعوا عليه باللعن، ولعلهم لم يريدوا به الطرد عن رحمة الله، "فقال: "قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 وقال لهم في رجل كان كثيرًا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة فقال: "لا تلعنوه فإنه يحب الله رسوله". فأظهر لهم مكتوم قلبه لما رفضوه بظاهر فعله، وإنما ينظر الله إلى القلوب -طهَّر الله قلوبنا وغفر عظيم ذنوبنا. ومن ذلك ما رواه الدارقطني من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصغي إلى الهرة الإناء حتى تشرب ثم يتوضأ بفضلها. ومن ذلك اتساع خلقه ..................................................   "وقال لهم في رجل" اسمه عبد الله، ولقبه حمار بلفظ الحيوان، "كان كثيرًا ما يؤتى به سكران بعد تحريم الخمر، فلعنوه مرة، فقال: "لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله". روى البخاري من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، قال: كان رجل يسمَّى عبد الله ويلقَّب حمارًا، وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان يؤتى به في الشراب، فجيء به يومًا، فقال رجل: لعنه الله, ما أكثر ما يؤتى به، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله"، وذكر الواقدي: أنَّ القصة وقعت له في غزاة خيبر، ولأبي يعلى أنه كان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن، أو العسل، ثم يجيء بصاحبها، فيقول: أعطه الثمن، ووقع نحو ذلك لنعيمان فيما ذكر الزبير بن بكار في كتاب المزاح، وروى أبو بكر المروزي أنَّ عبد الله المعروف بحمار شرب في عهد عمر، فأمر الزبير وعثمان فجلداه، "فأظهر لهم مكتوم قلبه" أي: ما كتمه قلبه وأخفاه من حب الله ورسوله؛ بحيث لم يعلم حقيقته سواه -صلى الله عليه وسلم، "لما رفضوه" حين تركوه "بظاهر فعله" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بسبب فعله الظاهر، تركوه ظنًّا أنه مبعد عن الله، "وإنما ينظر الله إلى القلوب" أي: إلى ما فيها، فيجازي عليه بأحسن الجزاء، وإن كان ظاهر فعله يقتضي خلافه، "طهر الله قلوبنا" بحبه وحب رسوله، "وغفر عظيم ذنوبنا" بفضله وكرمه. "ومن ذلك ما رواه الدارقطني" وحسَّنه، والحاكم، وصحَّحه، وأبو نعيم، والطبراني برجال ثقات، "من حديث عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يصغي" بمهملة فمعجمة، يميل "إلى الهرة الإناء حتى تشرب" منه بسهولة، "ثم يتوضأ بفضلها" أي: بما فضل من شربها، وفيه طهارة الهرة وسؤرها، وبه قال عامَّة العلماء، إلّا أن أبا حنيفة كره الوضوء بفضلها، وخالفه أصحابه، وندب سقي الماء والإحسان إلى خلق الله، وأن في كل كبد حرى أجرًا، وأنه ينبغي للعالم فعل المباح إذا تقرَّر عند بعض الناس كراهة، ليبين جوازه، "ومن ذلك اتساع خلقه" إن قيل اسم الإشارة عائد على اتساع خلقه، فما فائدة ذكره" فالجواب: لعل فائدته التنبيه على أن هذا من أحسن أخلاقه، كأنه قال: اتساع خلقه الحسن المتميز عن بقية أحواله، اتساع خلقه، مع أصحابه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 في شريف تواضعه وآدابه وحسن عشرته مع أهله وخدمه وأصحابه. قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلّا عند لمعان نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتَلِينُ وتنطبع للحق والخلق بِمَحْوِ آثارها وسكون وهَجِهَا وغُبَارِها. وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أوطان القرب، وحسبك من تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أن خَيَّره ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا، .......................................   كذا أملاني شيخنا "في شريف تواضعه" أي: تواضعه الشريف، "وآدابه، وحسن عشرته" فهو من إضافة الصفة للموصوف؛ إذ حسنها "مع أهله، وخدمه، وأصحابه" ليس من أشرف تواضعه؛ إذ الحظ الأوفر من تواضعه في أوطان القرب، كما "قال بعضهم: اعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لمعان" إضاءة النور، الحاصل بسبب "المشاهدة في قلبه" وإنما يحصل برياضة النفس ومجاهدتها في الإقبال على الله، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ "فعند ذلك تذوب النفس" تفني قواها عن ميلها إلى الشهوات المائلة إليها بالطَّبع، فتنهم بها وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات؛ فإذا جاهدها بمنعها من شهواتها، وتذكيرها ما آل ذلك من الذل والهوان، أهلكها؛ بحيث تغيرت طباعها، حتى كأنها ذابت فلم يبق لها أثر، "وفي ذوبانها" سيلانها، "صفاؤها" خلوصها، "من غش الكب والعجب" من إضافة الأعم إلى الأخص، أي: غش النفوس الذي هو الكبر والعجب، فشبَّه النفس باعتبار ما طبعت عليه، أصالة من نحو كبر وحسد، بتبر اشتمل على أوساخ منعت نفعه؛ وجعل معالجة النفس في خلوصها مما ألفته من الميل إلى القبيح، كتصفية التبر مما يمنع نفعه، فحينئذٍ تطمئن بذكر الله؛ لترقيها في معرفة الأسباب والمسببات؛ وعملها بمقتضاها، وعرفت الحق، وأقبلت عليه بجملتها، فلم يبق لها تعلق بشيء من مألوفها، "فتلين وتنطبع للحق والخلق، بمحو آثارها" التي طبعت عليها من فخر وسرعة غضب وحرارة عند غليان دم القلب، إذا أصابها ما تكرهه، وغير ذلك من كل ما يشين؛ "وسكون وهجها" بالواو، والهاء المفتوحين اتقادها "وغبارها" عطف مغاير، وفي نسخة وهجها -بالراء المفتوحة، والهاء الساكنة، وتفتح الغبار، وعليها، فعطف الغبار تفسير، "وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- في أوطان القرب" فكلما زاد قربًا زاد تواضعًا، "وحسبك" يكفيك "من تواضعه -عليه الصلاة والسلام، أن" مصدرية، أو مخففة، أي: إنه "خَيَّرَه ربه بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًّا عبدًا" تواضعًا لربه، مع أنَّه لو كان نبيًّا ملكًا ما ضره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 فأعطاه الله بتواضعه أن جعله أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع، وأول مشفَّع، فلم يأكل متكئًا بعد ذلك حتى فارق الدنيا, وقد قال -عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" رواه الترمذي. ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنَّه كان لا ينهر خادمًا، روينا في كتاب الترمذي عن أنس قال: خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، ..............   فالنبوة معطاة له في الوجهين، "فأعطاه الله بتواضعه، أن جعله أول من تنشق عنه الأرض" يوم القيامة "وأول شافع، وأول مشَفَّع" مقبول الشفاعة، كما يأتي بسط ذلك من الخصائص إن شاء الله تعالى، كقوله: "فلم يأكل متكئًا" مائلًا على أحد الجانبين، كما عزاه عياض في شرح مسلم للأكثر، وجزم به ابن الجوزي، أو معتمدًا على وطاء تحته، جزم به الخطابي، وعزاه في الشفاء للمحققين، أو معتمدًا على شيء، أو على يده اليسرى، من الأرض. أقوال بسطها المصنف في الأكل من ذا المقصد "بعد ذلك حتى فارق الدنيا"؛ لأنه لما اختار العبودية فعل فعل العبد، ولذا قال: "آكل، كما يأكل العبد، وأجلس، كما يجلس العبد". وروى ابن عدي، والديلمي، وغيرهما بإسناد ضعيف عن أنس: جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يأكل متكئًا، فقال: التكأة من النقمة، فاستوى بعد ذلك قاعدًا، فما رؤي بعد ذلك متكئًا، وقال: "إنما أنا بد أكل، كما يأكل العبد، وأشرب، كما يشرب العبد" والتكأة، بوزن الهمزة ما يتكأ عليه، ورجل تكأة: كثير الاتكاء، والتاء بدل من الواو، كما في النهاية، "وقد قال -عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني" بضم أوله، وسكون الطاء، والإطراء: المدح بالباطل، أي لا تتجاوز الحد في مدحي، بأن تقولوا ما لا يليق بي، "كما أطرت النصارى ابن مريم" , وفي رواية: "عيسى ابن مريم"، حيث كذبوا، وقالوا: إله وابن الله، وأحد ثلاثة, وغير ذلك من إفكهم، "إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" ولا تقولوا ما قالته النصارى، فأثبت لنفسه ما هو ثابت له من العبودية والرسالة، وأسلم لله ما هو له، لا لسواه "رواه الترمذي" كذا في النسخ، وقد رواه البخاري من حديث عمر، وعزاه المصنف نفسه له في الأسماء النبوية. "ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان لا ينهر خادمًا، روينا في كتاب الترمذي" ومسلم، والبخاري، "عن أنس، قال: خدمت النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية أحمد في السفر والحضر "عشر سنين" الرواية، بسكون الشين، ويجوز فتحها، وفي مسلم تسع سنين، وحملت على التحديد، والأولى، وهي أكثر الروايات على التقريب، إلغاء للكسر، فخدمته؛ إنما كانت أثناء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 فما قال لي أفٍّ قط, ولا قال لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحد قط، وهذا أمر لا تتسع له الطباع البشرية لولا التأييدات الربَّانية. وفي رواية مسلم: ما رأيت أحد أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة: ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط، ولا ضرب امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، .............................   السنة الأولى من الهجرة، "فما قال لي أف" بضم الهمزة، وسكون الفاء مشددة، ولأبي ذر أف، بفتحها: صوت يدل على التضجر, "قط" تأكيد لنفي الماضي بمعنى الدهر والأَبَد، مع أنه قد يتفق له فعل شيء ليس على الوجه الذي أراده منه المصطفى، ففي رواية أبي نعيم، فمَا سبَّني قط، وما ضربني من ضربة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، ولا أمرني بأمر، فتوانيت فيه، فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحد، قال: دعوه، ولو قدر شيء كان، "ولا قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته" زاد في رواية، ولكن يقول: "قدَّر الله، وما شاء الله فعل، ولو قدر الله كان، ولو قضى لكان"، "وكذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبيده وإمائه، ما ضرب منهم أحد قط، وهذا أمر لا تتسع له" لا تطيقه، ولا تقدر عليه "الطباع البشرية، لولا التأييدات الربانية", وما ذاك إلّا لكمال معرفته -صلى الله عليه وسلم- أنه لا فاعل، ولا معطي، ولا مانع إلا الله، وأن الخلق آلات وسائط، فالغضب على المخلوق في شيء فعله، كالإشراك المنافي للتوحيد، وقيل: سبب ذلك أنه كان يشهد تصريف محبوبه فيه، وتصريف المحبوب في المحب، لا يعلل، بل يسلم ليستلذ، فكل ما يفعله الحبيب محبوب، "وفي رواية مسلم" عن أنس في حديث: "ما رأيت أحد أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقالت عائشة: ما ضرب -صلى الله عليه وسلم. زاد في رواية: بيده، وهو لتأكيد النوعية نحو يطير بجناحيه؛ إذ الضرب عادة لا يكون إلّا باليد، "شيئًا قط" آدميًّا، أو غيره، أي: ضربًا مؤذيًا, وضربه لمركوبه لم يكن مؤذيًا، ووكْزَه بعير جابر، حتى سبق القافلة بعدما كان عنها بعيدًا، معجزة، وكذا ضربه لفرس طفيل الأشجعي لما رآه متخلفًا عن الناس، وقال: "اللهم بارك فيها" وقد كان هزيلًا ضعيفًا، قال طفيل: فلقد رأيتني ما أملك رأسها، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفًا. رواه النسائي، "ولا ضرب امرأة، ولا خادمًا" خاص على عام، مبالغة في نفي الضرب، لكثرة وجود سبب ضربهما، للابتلاء بمخاطبتهما ومخالفتهما غالبًا، فقد يتوهّم عدم إرادتهما من قولها شيئًا، "إلّا أن يجاهد في سبيل الله" فيضرب إن احتاج إليه، وقد قتل بأُحُد أُبَيّ بن خلف، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه إلّا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. رواه مسلم. وسئلت عائشة: كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته؟ قالت: كان ألين الناس، بسَّامًا ضحَّاكًا، لم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه. وعنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ما دعاه أحد من أصحابه إلّا قال: لبيك. رواه. وعند أحمد وابن سعد وصحَّحَه ابن حبان عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيط ثوبه ويخصف -بكسر- نعله، وفي رواية لأحمد: ويرفع دلوه، وعنده أيضا: يغلي   وما قتل بيده أحد غيره، بل قال ابن تيمية: لا نعلمه ضرب بيده أحدًا غيره، "وما نيل منه شيء، فينتقم من صاحبه"؛ إذ طبعه لا ينتقم لنفسه "إلا أن ينتهك" -بضم، فسكون، ففتح- أي: لكن إذا انتهك "شيء من محارم الله، فينتقم لله" لا لنفسه ممن ارتكب تلك الحرمة، "رواه مسلم" وبعضه رواه البخاري، "وسئلت" كما رواه ابن سعد وغيره "عائشة: كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا في بيته؟، قالت: كان" إذا خلا بنسائه "ألين الناس، بسَّامًا" كثير التبسم، "ضحَّاكًا" بمعنى ضاحكًا زيادة عن التبسم قليلًا، في بعض الأحيان "لم ير قط مادًّا رجليه بين أصحابه" زاد في رواية حتى يضيق بهما على أحد، "وعنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وبيَّنت بعض ذلك؛ بأنه "ما دعاه" أي ناداه "أحد من أصحابه إلا، قال: "لبيك" ظاهره أنه جوابه دائمًا، ويحتمل أنه كناية عن سرعة الجواب مع التعظيم، "رواه" كذا في نسخ وبعدها بياض، وفي أخرى بدون رواه، وفي بعضها رواه البخاري، وهي خطأ، فقد قال السيوطي في تخريج أحاديث الشفاء: رواه أبو نعيم في الدلائل بسند واهٍ, وروى أبو داود، والترمذي عن أنس، والبزار عن أبي هريرة: ما التقم أحد أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنحَّى رأسه عنه، حتى يكون الرجل هو الذي ينحِّي رأسه، وما أخذ أحد بيده، فيرسل يده حتى يرسلها الآخذ، "وعند أحمد، وابن سعد، وصححه ابن حبان، عنها" أي: عائشة، "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخيط" -بفتح الياء، وكسر الخاء- "ثوبه ويخصف -بكسر" المهملة، "فعله" أي: خرز طاقًا على طاق، بقية هذه الرواية عند أحمد، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، أي: من الاشتغال بمهنة الأهل والنفس إرشاد للتواضع، وترك التكبر، لكنه مشرف بالوحي والنبوة، مكرَّم بالرسالة والآيات، "وفي رواية لأحمد، ويرفع" بفتح، فسكون، ففتح، "دلوه" أي: يصلحه، "وعنده أيضًا يفلي" بفتح، فسكون مضارع فلي ثلاثيًّا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه. وهذا يتعيِّن حمله على أوقات, فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة. وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، وركب يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف. رواه الترمذي. وعن قيس بن سعد قال: زارنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلما أراد الانصراف قرَّب له سعد حمارًا وطأ عليه بقطيفة، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم قال سعد: يا قيس، اصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، .......................................   كما ضبطه غير واحد، يجوز ضم أوله، وسكون ثانيه مخففًا، أو فتحه مثقلًا "ثوبه" أي: يزيل قمله، وظاهره إن العمل يؤذيه، لكن قال ابن سبع: لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ولأن أكثره من العفونة، ولا عفونة فيه، ومن العرق، وعرقه طيب، ولا يلزم من التفلية وجود القمل، فقد يكون للتعليم، أو لتفتيش نحو: خرق فيه ليرقعه، أما لما علق به من نحو شوك ووسخ، وقيل: كان في ثوبه قمل، ولا يؤذيه، وإنما كان يفليه استقذارًا له، "ويحلب"، بضم اللام، "شاته، ويخدم" بضم الدال، "نفسه"، عطف عام على خاص، ونكتته الإشارة إلى أنه كان يخدم نفسه عمومًا وخصوصًا، "وهذا يتعيِّن حمله على" أنه كان يفعل ذلك في بعض "أوقات" لا دائمًا، "فإنه ثبت أنه كان له خدم، فتارة يكون بنفسه، وتارة بغيره، وتارة بالمشاركة" وفيه ندب خدمة الإنسان نفسه، وأنه لا يخل بمنصبه وإن جلَّ. "وكان يركب الحمار" زاد ابن سعد في روايته عريًا ليس عليه شيء، وذلك مع ما فيه من غاية التواضع، إرشاد للعباد، وبيان أن ركوبه لا يخل بمروءة، ولا رفعة، بل ف غاية التواضع، وكسر النفس، "ويردف" بضم التحتية "خلفه" الذكر والأنثى، الصغار والكبار، "وركب يوم بني قريظة" وفي رواية لأبي الشيخ يوم خيبر، ويوم قريظة، والنضير "على حمار مخطوم" في أنفه "بحبل من ليف" زاد في رواية الشمائل: عليه أكاف من ليف، وهو برزعه لذوات الحوافر، بمنزلة السرج للفرس، وهذا نهاية التواضع، وأي تواضع، وقد ظهر له -صلى الله عليه وسلم- من النصرة عليهم، والضفر بأموالهم، ما هو معروف، "رواه الترمذي" من حديث أنس، "وعن قيس بن سعد" بن عبادة، "قال: زارنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" على عادته في تفقد أصحابه، قيل: كان سعد دعاه رجل ليلًا، فخرج له، فضربه بسيفه، فعاده -صلى الله عليه وسلم، "فلما أراد الانصراف، قرَّب له سعد حمارا" ليركبه "وطأ" بشد المهملة، وهمزة، "عليه بقطيفة" كساء له خمل ووبر، وضعه على ظهر الحمار، "وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم قال سعد" لابنه: "يا قيس, اصحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: كن معه في خدمته، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 قال قيس: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فأبيت، فقال: "إما أن تركب وإما أن تنصرف". وفي رواية أخرى: "اركب أمامي فصاحب الدابَّة أَوْلَى بمقدمها"، رواه أبو داود وغيره. وفي البخاري من حديث أنس بن مالك: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر، وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ إذ عثرت الناقة، فقلت: المرأة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنها أمكم"، فشددت الرحل، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث. والمرأة: صفية، والردف والرديف: الراكب خلف الراكب بإذنه. وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بيني وبينه إلا آخرة   وفي ذا الحديث؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- جاء على حمار، مردفًا أسامة خلفه، فسَعْدُ وهبه الحمار ليركبه وحده، ويبقى أسامة على الحمار الذي جاء به، "قال قيس: فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فأبيت" أن أركب، تأدبًا معه لا مخالفة لأمره، "فقال: "أما أن تركب، وإما أن تنصرف" أي: ترجع ولا تمشي معي, أي: فوافقه على الركوب "وفي رواية أخرى: "اركب أمامي فصاحب الدابة أَوْلَى بمقدمها"؛ إذ هو أدرى بسيرها، وسماه صاحبًا، باعتبار ما كان، لأنَّه ابن مالكها سعد بن عبادة، لا ابن أبي وقاص، كما غلط من قاله، وعند ابن مندة: فأرسل ابنه معه ليرد الحمار، فقال: "احمله بين يدي"، قال: سبحان الله, أتحمله بين يديك؟، قال: "نعم، هو أحق بصدر حماره"، قال: هو لك يا رسول الله، قال: "أحمله إذن خلفي"، "رواه أبو داود وغيره" وفيه قصة طويلة. "وفي البخاري من حديث أنس بن مالك، أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خيبر" بمعجمة، فتحتية، فموحدة، فراء آخره، ونسخة من حنين، تصحيف من الجهال، فالثابت في البخاري خيبر، "وإني لرديف أبي طلحة" زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم أنس، "وهو يسير وبعض نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ إذ عثرت الناقة، فقلت" وقعت "المرأة" فنزلت، هذا أسقطه من الرواية، وفي رواية، نصب المرأة، أي: أوقعت الدابة المرأة، وفي أخرى، فقلت: بالفاء من الفلى، وهو الإخراج والفصل، ونزلت بلفظ المتكلم، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "إنها أمكم" تذكيرًا لهم بوجوب تعظيمها، "فشددت الرحل، وركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث" بقيته، فلما دنا ورأى المدينة، قال: "آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون"، "والمرأة صفية" بنت حيي أم المؤمنين، "والردف، والرديف، الراكب خلف الراكب بإذنه" قيد به، لأنه المتبادر؛ إذ من ركب بلا إذن، غاصب شرعًا، وإن كانت اللغة لا فرق بين الإذن وعدمه. "وقال معاذ بن جبل: بينا أنا رديف النبي -صلى الله عليه وسلم, ليس بيني، وبينه إلا آخرة" بفتح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 الرحل. وقد ركب -صلى الله عليه وسلم- على حمار على إكاف, عليه قطيفة فذكيه, أردف أسامة وراءه. ولما قدم -عليه الصلاة والسلام- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه. وقال ابن عباس: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وقد حمل قثم بين يديه والفضل خلفه، أو قثم والفضل خلفه، أو قثم خلفه والفضل بين يديه. رواه البخاري. وذكر المحب الطبريّ في مختصر السيرة النبوية له، أنه -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارًا عريًا إلى قبا وأبو هريرة معه, قال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ " قال: ما شئت يا رسول الله, فقال: "اركب" , فلم يقدر, فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر, فاستمسك برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فوقعا جميعًا. ثم ركب -صلى الله عليه وسلم, ثم قال: "يا أبا هريرة, أأحملك؟ " قال: ما   الهمزة، والمد، وكسر الخاء، "الرجل", قال المصباح: خشبة يستند إليها الراكب "وقد ركب -صلى الله عليه وسلم- على حمر، على إكاف" بالكسر، البرذعة, "عليه قطيفة فَدَكية" بفتحتين، موضع بخيبر، "أردف أسامة وراءه" ففيه جواز الإرداف، وإن كانوا ثلاثة إذا لم تكن الدابة ضعيفة لا تطبيق ذلك، وقيل: يكره ما فوق الاثنين، "ولما قدم -عليه الصلاة والسلام- مكة، استقبله أغيلمة" تصغير الغلمة، جمع الغلام، وهو شاذ، والقياس غليمة، قال الكرماني، "بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه" رواه البخاري، عن عبد الله بن عباس، "وقال ابن عباس: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وقد حمل قُثَم" بضم القاف، وخفة المثلثة المفتوحة، ابن العباس الهاشمي، كان آخر الناس عهدًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم, ولي مكة من قِبَلِ عليّ، ثم سار أيام معاوية إلى سمرقند، فاستشهد وقُبِرَ بها "بين يديه، والفضل" بسكون الضاد، أخوة ثبت يوم حنين، ومات سنة ثمان عشرة على الأصح، "خلفه، أو قثم خلفه، والفضل بين يديه" شكَّ الراوي "رواه البخاري", ففي هذه الرواية الثانية، بيان البهمين في الأولى، "وذكر المحب الطبري في مختصر السيرة النبوية له أنه -صلى الله عليه وسلم- ركب حمارًا عريًا" بضم العين، وإسكان الراء، أي: ما عليه إكاف، ولا يقال ذلك في الآدمي، إنما يقال عريان، "إلى قبا" بالضم: موضع بالمدينة، وفيه لغات، جمعها القائل: حرًا وقبا ذكر وأنثهما معًا ... ومد، أو اقصر واصرفنَّ وامنع الصرفا "وأبو هريرة معه، قال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ "، قال: ما شئت" افعله "يا رسول الله، فقال: "اركب"، فوثب أبو هريرة ليركب، فلم يقدر، فاستمسك" تمسك وتعلَّق "برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا، ثم ركب -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "يا أبا هريرة أأحملك"؟، قال" افعل "ما شئت يا رسول الله، فقال: "اركب"، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلَّق برسول الله -صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 شئت يا ................................................................................................................................... رسول الله، فقال: "اركب"، فلم يقدر أبو هريرة على ذلك، فتعلَّق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوقعا جميعًا، فقال: "يا أبا هريرة أأحملك؟ " فقال: لا والذي بعثك بالحق لأرميتك ثالثًا. وذكر المحب الطبري أيضًا: أنه -عليه الصلاة والسلام- كان في سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة, فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله، عليَّ سلخها، وقال آخر: يا رسول الله، علي طبخها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "علي جمع الحطب"، فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال: "فقد علمت أنكم تكفوني ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى. ولم أر هذا لغير الطبري بعد التتبُّع، نعم رأيت في جزء تمثال النعل الشريف   فقال: "يا أبا هريرة أأحملك"؟، فقال: لا والذي بعثك بالحق لأرميتك" أي: لا أرميك "ثالثًا" فاستعمل الماضي موضع المضارع، لأنه قوي عنده؛ أنه إذا ركب وقعا جميعًا أيضًا، "وذكر المحب الطبري أيضًا" في الكتاب المذكور "أنه -عليه الصلاة والسلام- في سفر، وأمر أصحابه" أي: جنس "بإصلاح شاة" أي: تهيئتها للأكل، "فقال رجل: يا رسول الله عليَّ ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله علي سلخها، وقال آخر: يا رسول الله عليّ طبخها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "عليّ جمع الحطب" من الوادي", "فقالوا: يا رسول الله نكفيك العمل، فقال: "قد علمت أنكم تكفوني" بحذف إحدى النونين تخففًا، والأصل تكفونني، "ولكن أكره أن أتميِّزَ عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه" , أي: لا يثني عليه إذا رآه متميزًا، والمكروه له تعالى في الحقيقة هو تميز العبد، لا رؤيته تعالى لذلك. "ولم أر هذا لغير الطبري بعد التتبع" وقد أنكره شيخه السخاوي، فقال: لا أعرفه، "نعم رأيت في جزء تمثال" أي: صورة "النعل الشريف", وهو نحو كراسة والأولى الشريفة؛ إذ النعل مؤنثة "لأبي اليمين بن عساكر، بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر، بن ربيعة" العنزي -بسكون النون، حليف بني عدي، وُلِدَ على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، وثَّقه العجلي، وروى له الستة، ومات سنة بضع وثمانين "عن أبيه" عامر، بن ربيعة، بن كعب، بن مالك العنزي، حليف الخطاب، صحابي مشهور؛ أسلم قديمًا، وهاجر وشهد بدرًا، وله أحاديث في الكتب الستة، ومات ليالي قتل عثمان، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 لأبي اليمن بن عساكر بعد أن روى حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه ....... قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطواف, فانقطعت شسعه, فقلت: يا رسول الله, ناولني أصلحه، فقال: "هذه أثرة ولا أحب الأثرة". والأثرة: بفتح الهمزة والثاء، الاسم من آثر يؤثر إذا أعطى، والأثرة: والاستئثار وهو الانفراد بالشيء. قال: وكأنه كره -صلى الله عليه وسلم- أن ينفرد أحد عنه بإصلاح نعله، فيحوز فضيلة الخدم, فيكون له بمثابة الخادم, ويكون له -صلى الله عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه، كره ذلك -صلى الله عليه وسلم- لتواضعه وعدم ترفعه على من يصحبه. ويؤيده ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يمتهن نفسه في شيء, فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: "قد علمت أنكم تكفوني, ولكن أكره أن أتميز عليكم, فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى. ثم رأيت شيخنا في الأحاديث المشهورة حكى ذلك.   "قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الطواف فانقطعت شِسْعه" بكسر المعجمة، وسكون المهملة: قبال نعله، "فقلت: يا رسول الله ناولني" بحذف المفعول الثاني، أي: ناولنيها "أصلحه" بضم الهمزة أي: الشسع، "فقال: "هذه" الحالة التي تفعلها عني "أثرة، ولا أحب الأثرة" والأثرة، بفتح الهمزة والثاء, الاسم من آثر يؤثر، إذا أعطي" وفي المصباح آثرته بالمد فضَّلته؛ واستأثر بالشيء استبدَّ به، والاسم الأثرة، مثال قصبة، "والأثرة والاستئثار، وهو الانفراد بالشيء، قال" أبو اليمن: "وكأنه كره -صلى الله عليه وسلم- أن ينفرد أحد عنه بإصلاح نعله، فيجوز" أن يحصل "فضيلة الخدم، فيكون له بمثابة الخادم، ويكون له -صلى الله عليه وسلم- ترفع المخدوم على خادمه", واستأنف مجيبًا لم كره هذا، فقال: "كره ذلك -صلى الله عليه وسلم- لتواضعه، وعدم ترفعه على من يصحبه، ويؤيده ما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يمتهن" يستعمل "نفسه في شيء" يباشره بنفسه، "فقالوا: نحن نكفيك يا رسول الله، قال: "قد علمت أنكم تكفوني، ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزًا بين أصحابه". انتهى كلام أبي اليمن. "ثم رأيت شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة، "في الأحاديث المشهورة" على الألسنة، "حكى ذلك" فقال: حديث إن الله يكره العبد المتميز على أخيه لا أعرفه، ثم رأيت في جزء تمثال النعل الشريف، لأبي اليمن بن عساكر، في الكلام على الأثرة ما نصه، ويؤيده ما روي أنه أراد أن يمتهن، فذكره، فلا يعود اسم الإشارة على جميع ما نقله المصنف؛ إذ السخاوي إنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 وعن أبي قتادة: وَفَدَ وَفْدُ النجاشي، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمهم، فقال له أصحابه: نحن نكفيك، قال: "إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم"، ذكره في الشفاء. وفي البخاري عن أنس: كان الرجل يجعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- النخلات حتى افتتح قريظة والنضير، وإن أهلي أمروني أن آتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسأله الذي كانوا أعطوه أو بعضه، وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي تقول: كلّا والذي لا إله غيره لا نعطيكم وقد أعطانيها -أو كما قال, والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لك كذا"، وتقول كلا ................   نقل أخره، كما رأيت، "وعن أبي قتادة" الأنصاري السلمي -بفتحتين- الحارث، ويقال: عمرو أو النعمان بن ربيع -بكسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها مهملة- شهد أحد وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: ثمان وثلاثين، والأول أصح، وأشهر، قال: "وفد" أي قدم: "وَفْد" بسكون الفاء، اسم جمع بمعنى وافدين "النجاشي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- يخدمهم" بنفسه، تواضعًا منه وإرشادًا لغيره، "فقال له أصحابه: نحن نكفيك" خدمتهم، أي: نقوم عنك بذلك، فأبى، و"قال: "أنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنا أحب أن أكافئهم" أي: أجازيهم على إكرامهم لأصحابنا، ولا إكرام أعظم من تعاطيه أمورهم بنفسه؛ "ذكره" عياض "في الشفاء" وأخرجه ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل، عن أبي قتادة المذكور. "وفي البخاري عن أنس: كان الرجل" من الأنصار؛ "يجعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- النخلات، حتى افتتح" أي: إلى أن افتتح "قريظة والنضير", وفي رواية الكشميهني حين بدل حتى، والأول أوجه، قال الحافظ: حاصله أن الأنصار كانوا واسوا المهاجرين بنخيلهم لينتفعوا بتمرها، فلما فتح الله النضير، ثم قريظة؛ قسم في المهاجرين من غنائمهم، فأكثر، وأمرهم برد ما كان للأنصار لاستغنائهم عنه، ولأنهم لم يكونوا ملكوهم رقاب ذلك، كما قال: "وإن أهلي أمروني أن آتي النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسأله" بهمزة قطع مفتوحة، منصوب عطفًا على المنصوب السابق النخل، "الذي" رواية أبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، ولغيرهم الذين "كانوا أعطوه، أو بعضه؛ وكان قد أعطاه أم أيمن، فجاءت" فيه حذف يوضحه رواية مسلم، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطانيه، فجاءت "أم أيمن"، "فجعلت الثوب في عنقي، تقول: كلا والذي لا إله غيره، لا نعطيكم" أي: لا نمكنكم مما بيدي، وفي نسخة، لا أعطيكم، "وقد أعطانيها" الواو للحال، "أو كما قال" أنس: إشارة إلى شك وقع في اللفظ مع حصول المعنى، قال المصنف: "والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لك كذا"، وتقول: كلا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 والله، حتى أعطاها -حسبت أنه قال- عشر أمثاله. أو كما قال. وإنما فعلت هذا أم أيمن لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤيدة وتمليكًا لأصل الرقبة، وأراد -صلى الله عليه وسلم- استطابة قلبها في استرداد ذلك, فلاطفها, وما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه -صلى الله عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ولا يخفى ما في هذا من فرط جوده وكثرة حلمه وبره -صلى الله عليه وسلم. وجاءته -صلى الله عليه وسلم- امرأة في عقلها شيء، فقالت: إن لي إليك حاجة، فقال: "اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك" , وفي رواية سلم: "حتى أقضي حاجتك، .............   والله حتى أعطاها". قال سليمان بن طرخان: الراوي عن أنس "حسبت أنه" أي: أنسًا "قال: عشر أمثاله، أو كما قال" أنس. وفي مسلم حتى أعطاها عشرة أمثاله، أو قريبًا من عشرة أمثاله، قال الحافظ: وعرف بهذا أن معنى قوله: ولك كذا وكذا، أي: مثل الذي لك مرة، ثم شرع يزيدها مرتين ثلاثًا، إلى أن بلغ عشرة، "وإنما فعلت هذا أم أيمن؛ لأنها ظنَّت أنها كانت هبة مؤيدة؛ وتمليكًا لأصل الرقبة", والواقع: إنها هبة للمنفعة فقط، ففيه مشروعية هبة المنفعة، دون الرقبة، فلم يكن لها امتناع، ولا أخذ بدل، "و" لكن "أراد -صلى الله عليه وسلم- استطابة قلبها، في استرداد ذلك، فلاطفها، وما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه -صلى الله عليه وسلم- وإكرام لها، لما لها من حق الحضانة والتربية، ففيه منزلة أم أيمن، وهي أم أسامة بن زيد، وابنها أيمن، صحابيّ أسنّ من أسامة، استشهد بحنين، وعاشت أم أيمن بعده -صلى الله عليه وسلم- قليلًا، ولا يخفى ما في هذا من فرط جوده، وكثره حلم وبره -صلى الله عليه وسلم". "وجاءته -صلى الله عليه وسلم- إمرأة", قال الحافظ: لم أقف على اسمها، وفي بعض الحواشي: إنها أم زفر ماشطة خديجة، ونزع فيه، وتردد البرهان في المقتفى، في أنها هي، أو غيرها؛ وجزم غيره بأنها هي، لكن نوزع، "كان في عقلها شيء" من الجنون، ولم يصرح به إشارة لخفته، وأنها لم تستغرق فيه، فإن لفظ شيء يشعر بالقلة، "فقالت: إن لي إليك حاجة" أي: لي حاجة أريد أن أنهيها إليك، وأعلمك بها، "فقال: "اجلسي" بصيغة المخاطبة من أمر الحاضر، "في أي سكك" طرق "المدينة شئت أجلس" بالجزم جواب الأمر "إليك" , أي: معك، فإلى بمعنى عند، وهذا الحديث في الصحيحين، "و" زاد في "في رواية مسلم "حتى أقضي حاجتك" , قيل: ولعلها كانت تعقد بالطريق، لما في عقلها، فعبَّر عن إجابتها بذلك، أو أظهر كمال الاهتمام والاستعجال بقضاء حاجتها بهذا البيان، "فخلا معها في بعض الطريق، حتى فرغت من حاجتها" لأنه كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها. ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه -صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن أبي الحمساء -بالحاء المهملة المفتوحة والميم الساكنة وبالسين المهملة في آخره وهمزة ممدودة: بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت, فذكرته بعد ثلاث, فإذا هو في مكانه, فقال: "لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" رواه أبو داود. وقال عبد الله بن أبي أوفى: كان -عليه الصلاة والسلام- لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة. رواه النسائي.   محرمًا لجميع النساء، قال بعض: وفيه إيماء وإرشاد إلى أنه لا يخلو أجنبي مع أجنبية، بل إذا عرضت حاجة يكون معها بموضع لا يتطرق فيه تهمة، ولا يظن به ريبة؛ لكونه بطريق المارة, وفيه حل الجلوس في الطريق لحاجة، وموضع النهي من يؤذي، أو يتأذَّى بقعوده فيها، وأنه ينبغي للحاكم المبادرة إلى تحصيل غرض أولي الحاجات، ولا يتساهل في ذلك "ولا ريب أن هذا كله من كثرة تواضعه -صلى الله عليه وسلم" لبروزه للناس، وقربه، وصبره على المشاق لأجل غيره خصوصًا، امرأة في عقلها شيء. "وقال عبد الله بن أبي الحمساء -بالحاء المهملة المفتوحة، والميم الساكنة، وبالسين المهملة في آخره، وهمزة ممدودة- العامري, سكن البصرة، وقيل: إنه ابن أبي الجدعاء، قال في الإصابة: والراجح أنه غيره، "بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم" أي: بعت له شيئًا "قبل أن يبعث، وبقيت له" أي: لذلك المبيع "بقية" لم تسلم له، "فوعدته أن آتيه بها في مكانه" أي: في مكان وقع فيه البيع؛ "فنسيت" الوعد، فذكرته بعد ثلاث" أي: أيام، ولم يقل ثلاثة لحذف المعدود، فيجوز تذكيره مع المذكور، وتأنيثه مع المؤنث، فجئته "فإذا هو" مستقر "في مكانه" لم يفارقه، "فقال:" "يا فتى، لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك" ففيه وفاؤه بعهده، ووعد من قبل البعثة، "رواه أبو داود" منفردًا به عن الكتب الستة؛ وأخرجه البزار من طريق عبد الكريم بن عبد الله بن سفيان، عن أبيه، عن ابن أبي الحمساء، "وقال عبد الله بن أوفى" -بفتح الهمزة، والفاء، بينهما واو ساكنة- واسمه علقمة، صحابي، ابن صحابي، "كان -عليه الصلاة والسلام- لا يأنف" لا يستكبر، "أن يمشي مع الأرملة" المرأة التي لا زوج لها؛ "والمسكين" بكسر الميم، لغة جميع العرب، إلّا بني أسد، فبفتحها من السكون؛ لسكونه إلى الناس، "فيضي له الحاجة، رواه النسائي". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 وفي رواية البخاري: إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتنطلق به حيث شاءت، وفي رواية أحمد: فتنطلق به في حاجتها، وعند أيضا: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت. والمقصود من الأخذ باليد لازمه وهو الانقياد. وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة؛ وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي: أي أمة كانت، أي: كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي: من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرُّف، حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة والتمست مساعدتها في تلك الحالة لساعدها على ذلك، وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر -صلى الله عليه وسلم. ودخل الحسن وهو يصلي قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ في ...............................................   "وفي رواية البخاري" في باب الكبر من كتاب الأب، عن أنس قال: "إن" أي: أنه "كانت" رواية أبي ذر عن الكشميهني ولغيره، بحذف إن، كما بينه المصنف، "الأَمَة" أيّ أَمَة كانت، وأسقط البخاري من إماء المدينة، "لتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت", وبقية هذه الرواية: ويجيب إذا دعي، "والمقصود من الأخذ باليد لازمه، هو الانقياد، وقد اشتمل" الحديث الذي رواه البخاري، وأحمد معًا، وقصره على الثاني لا وجه له؛ إذ لا ريب أن سياق البخاري اشتمل "على أنواع من المبالغة، في التواضع لذكره، والمرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة" بقوله: إن كانت الأمة، "وحيث عمَّم بلفظ الإماء، أي: أي أمة كانت، وبقوله: حيث شاءت، أي: من الأمكنة، والتعبير باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست مساعدتها في تلك الحالة، لساعدها على ذلك" بالخروج معها، "وهذا من مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر -صلى الله عليه وسلم" ومن ثَمَّ أورده البخاري في باب الكبر، إشارة إلى براءته منه، "ودخل الحسن" السبط، "وهو" صلى الله عليه وسلم "يصلي، قد سجد، فركب على ظهره، فأبطأ ف سجوده حتى نزل الحسن، فلمَّا فرغ، قال له بعض أصحابه: يا رسول الله، قد أطلت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 سجوده حتى نزل الحسن، فلمَّا فرغ, قال له بعض أصحابه: يا رسول الله, قد أطلت سجودك. قال: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله". أيّ جعلني كالراحلة فركب على ظهري. وكان -عليه الصلاة والسلام- يعود المرضى، ويشهد الجنازة. أخرجه الترمذي في الشمائل. وحجَّ -عليه الصلاة والسلام- على رحل رثٍّ وعليه قطيفة لا يساوي أربعة دراهم .........   سجودك! قال: "إن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله"، أي: جعلني كالراحلة، فركب على ظهري". "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعود المرضى" الشريف، والوضيع، والحر، والعبد، حتى عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" رواه البخاري عن أنس، وعاد عمَّه أبا طالب، وهو مشرك، وعرض عليه الإسلام، وقصته في الصحيحين، وعدت العيادة تواضعًا مع أن فيها رضا الله، وحيازة الثواب، ففي الترمذي، وحسَّنه مرفوعًا، "من عاد مريضًا ناداه مناد، طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا"، ولأبي داود: "من توضأ، فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبًا, بُوعِدَ من جهنم سبعين خريفًا" إلى غير ذلك، لما فيها من خروج الإنسان عن مقتضى جاهه، وتنزهه عن مرتبته إلى ما دون ذلك، "ويشهد الجنازة" أي: يحضرها للصلاة عليها، هبها لشريف أو وضيع، فيتأكد التأسي به، وآثر قوم العزلة، ففاتهم خير كثير، "أخرجه الترمذي في الشمائل" من حديث أنس، "وحجَّ -عليه الصلاة والسلام- كما رواه ابن ماجه، والترمذي في الشمائل، والبيهقي عن أنس، قال: حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم "على رحل" بالفتح، أي: راكبًا عليه، وهو للجمل، كالسرج للفرس، "رث" بمثلثة، بالٍ خَلِق، "وعليه" أي: على الرحل، كما هو أنسب بالسياق، ويؤيده قوله في رواية أخرى، على رحل وقطيفة، فأفادت أن ضمير عليه ليس للمصطفى، "قطيفة" كساء خمل، "لا يساوي" أي: لا يسع ثمنها "أربعة دراهم", وفي رواية: كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، قال المصنف: وفيه مسامحة، والتحقيق أنها لا تساويها، كما في هذه الرواية، وزعم تعدد القصة ممنوع؛ إذ لم يحج إلا مرة واحدة، انتهى. وذلك لأنه في أعظم مواطن التواضع؛ إذ الحج حالة تجرد وإقلاع، وخروج من الموطن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 فقال: "اللهم اجعله حجًّا لا رياء فيه ولا سمعة". وكان إذا صلَّى الغداة جاءه خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلَّا غمس يده فيه، فربما جاءه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها. رواه مسلم والترمذي. وكان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة مع أزواجه، وكان -عليه الصلاة والسلام- ينام مع أزواجه.   سفر إلى الله، ألا ترى ما فيه من الإحرام؟ ومعناه: إحرام النفس من الملابس، تشبيهًا بالفارين إلى الله، والتذكير بالموقف الحقيقي، "فقال: "اللهم اجعله حجًّا" بفتح الحاء، وكسرها، "لا رياء فيه" لا عمل لغرض مذموم، كان يعمل ليراه الناس، "ولا سمعة" لا عمل ليسمع الناس، ويصير مشهورًا به، فيكرم، ويعظم جاهه في قلوبهم، فتضرع -صلى الله عليه وسلم- إلى الله، وسأله عدم الرياء والسمعة، مع كمال بعده عنهما، تخشعًا، وتذللًا، وعدًّا لنفسه كواحد من الآحاد من عظيم تواضعه؛ إذ لا يتطرق ذلك إلا لمن حجَّ على مراكب نفيسة، وملابس فاخرة، وأغشية محبرة، وأكوار مفضَّضة، هذا مع أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى في هذه الحجة مائة بدنة، وأهدى أصحابه ما لا يسمح به أحد، ومنهم عمر، أهدى فيما أهدى بعيرًا، أعطى فيه ثلثمائة دينار، فأبى قبولها، "وكان إذا صلَّى الغداة" أي: الصبح، "جاءه خدم" أهل "المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلّا غمس يده فيه" للتبرك بيده الشريفة، "فربما جاءه في الغداة الباردة، فينغمس يده فيها", ولا يمتنع لأجل البرد، من مزيد لطفه، وتواضعه، "رواه مسلم، والترمذي" وأحمد من حديث أنس، وفيه بروه للناس، وقربه منهم؛ ليصل كل ذي حق لحقه، وليعلم الجاهل ويقتدي بأفعاله، وكذا ينبغي للأئمة بعده، والحديث رواه أيضًا أبو نعيم في الدلائل، عن أبي أنس كان -صلى الله عليه وسلم- أشد الناس لطفًا، والله ما كان يمتنع في غداة باردة, من عبد ولا أمة تأتيه بالماء، فيغسل وجهه وذراعيه، وما سائل قط إلّا أصغى إليه، فلا ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه، وما تناول أحد يده قط إلا ناوله إياها، فلا ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه. "وكان -عليه الصلاة والسلام- حسن العشرة مع أزواجه" جمع زوج، أي: امرأة؛ لأن اللغة الفصحة زوج، بلا هاء، وبها جاء القرءان في نحو {وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} حتى بالغ الأصمعي، فقال: لا تكاد العرب تقول زوجه بالهاء، وهذا تفصيل، لما قدمه إجمالًا، لأنه إذا كان حسن العشرة مع غيرهن، فمعهن أولى، "وكان -عليه الصلاة والسلام ينام مع أزواجه" في فراش واحد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 قال النووي: وهو ظاهر فعله الذي واظب عليه مع مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن، فإذا أراد القيام لوظيفته قام فتركها، فيجمع بين وظيفته وأداء حقها المندوب وعشرتها بالمعروف. وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته في فراش واحد أفضل، لا سيما إن عرف من حالها حرصها على هذا، ولا يلزم من نومه معها الجماع والله أعلم. وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسرب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. رواه الشيخان. وإذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه على موضع فمها وشرب. رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقًا -وهو العظم الذي عليه اللحم- أخذه فوضع فمه على موضع فمها .................   والمراد مع الواحدة منهن، ولو كانت حائضًا، كما في حديث ميمونة عن البخاري، "قال النووي: وهو ظاهر فعله الذي واظب عليه" فيه إشعار؛ بأنَّه قد يعرض له غير هذه الحالة لعذر، "مع مواظبته -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، فينام مع إحداهن" التي هي صاحبة النوبة، "فإذا أراد القيام لوظيفته, قام فتركها" راقدة في الفراش, "فيجمع بين وظيفته" من قيام الليل, "وأداء حقها المندوب، وعشرتها بالمعروف" إذ هو خير من امتثل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الآية، "وقد علم من هذا أن اجتماع الزوج مع زوجته في فراش واحد أفضل" من النوم كل في فراش، فتركه مكروه، لا حرام؛ إذ القصد الإنس، لا الجماع ونحوه، "لا سيما إن عرف من حالها، حرصها على هذا" فيتأكد الاستحباب، "ولا يلزم من نومه معها الجماع" فلا يؤخذ منه ندبه كل ليلة، "والله أعلم". "وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يسرّب" من التسريب، بالمهملة، وهو الإرسال والتسريح، أي: يرسل "إلى عائشة بنات الأنصار" واحدة بعد أخرى، "يلعبن معها"؛ لأنها كانت صغيرة، "رواه الشيخان، وإذا شربت" عائشة "من الإناء، أخذه، فوضع فمه على موضع فمها وشرب" إشارة إلى مزيد حبه لها، "رواه مسلم. وإذا تعرقت عرقًا" بفتح العين المهملة، وإسكان الراء، "وهو العظم الذي عليه اللحم، أخذه، فوضع فمه على موضع فمها" قال في النهاية: العرق، بالفتح، والسكون: العظم إذ أخذ عنه معظم اللحم، وعرقت اللحم وأعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك، وفي المصباح: عرقت العظم عرقًا من باب قتل، أكلت ما عليه من اللحم، فجعله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 رواه مسلم أيضًا. وكان يتكئ في حجرها، ويقبّلها وهو صائم. رواه الشيخان. وكان يريها الحبشة وهم يلعبون في المسجد وهي متكئة على منكبة, رواه البخاري. ورواه الترمذي، بلفظ: قام -صلى الله عليه وسلم, فإذا حبشة تزفن والصبين حولها، فقال: يا عائشة تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت, فجعلت أقول: لا، لا. وقال: حسن صحيح غريب. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- سابقها فسبقته، ثم سابقها فسبقها, فقال: "هذه بتلك" .........   مصدرًا، والمصنف اسما، وعليه، فهو مجاز؛ إذ المصدر، لا يتصور وضع الفم عليه، فيكون المعنى أخذ المعروق، فالضمير راجع إليه، بمعنى اسم المفعول، لكن في القاموس: العرق العظم بلحمه، فإذا أكل لحمه، فعراق كغراب، وعليه فإطلاق العرق حقيقي، "رواه مسلم أيضًا" من حديثها: "وكان يتكئ في حجرها، ويقبلها، وهو صائم. رواه الشيخان" عنها، وروى الأئمة الستة عنها، كان يُقَبِّلُ النساء وهو صائم، وبه تعلق الظاهرية، فجعلوا القبلة سنَّة للصائم، وقربة من القرب، وكرهها الجمهور، وردوا على أولئك؛ بأنه كان يملك إربه، كما صرَّحت به عائشة عند الشيخين بلفظ، وكان أملكهم لإربه، وأيما كان لا يفطر إلا بإنزال، "وكان يريها الحبشة، وهم يلعبون" بحرابهم، للتدريب على مواقع الحرب، والاستعداد، ولذا جاز "في المسجد"؛ لأنه من منافع الدين "وهي متكئة على منكبه" ولعله أراها لعبهم لتضبطه، وتعلمه، فتنقله بعد الناس، "رواه البخاري" من حديثها. "ورواه الترمذي بلفظ: قام -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبشة" أي: جماعة من الحبشة "تزفن" بفتح الفوقية، وسكون الزاي، وكسر الفاء، وبالنون، ترقص، "والصبيان حولها" ينظرون إليها "فقال: "يا عائشة تعالى فانظري"، فجئت، فوضعت لحيي على منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعلت أنظر إليها" أي: الحبشة: "ما بين المنكب إلى رأسه" أي: ورأسه، فإلى بمعنى الواو، أي: حالة كون لحيي موضوعًا عليه، ما بين منكبه ورأسه، "فقال لي: "أما شبعت أما شبعت؟ " من رؤيتهم، "فجعلت أقول: لا لا" بالتكرار، "وقال" الترمذي "حسن صحيح غريب" بمعنى: تفرَّد به الراوي، وهو ثقة، فيجامع الصحة والحسن، "وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- سابقها" في سفر، "فسبقته" لخفة جسمها بقلة اللحم، "ثم سابقها" بعد ذلك في سفر آخر، وقد سمنت، "فسبقها، فقال" مطيبًا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 رواه أبو داود بلفظ: سبقتها في سفر فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني قال: "هذه بتلك السبقة". وعن أنس بن مالك: أنهم كانوا يومًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة -رضي الله عنها، ثم أتي بصحفة من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ضعوا أيديكم، فوضع نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يده ووضعنا أيدينا فأكلنا، وعائشة تصنع طعامًا عجَّلته قد رأت الصحفة التي أتي بها، فلما فرغت من طعامها جاءت به فوضعته ورفعت صفحة أم سلمة فكسرتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كلوا بسم الله، غارت أمكم"، ثم أعطى صحفتها أم سلمة, فقال: "طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء". رواه الطبراني في الصغير.   لخاطرها "هذه بتلك" روى الإمام أحمد عنها: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، وأنا جارية، لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: "تقدَّموا" فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته، فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم، وبدنت وسمنت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: "تقدموا", ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "أسابقك"، فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: "هذه بتلك"، "رواه أبو داود بلفظ: سابقته في سفر، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم" صرت سمينة، كما قالت في الرواية الأخرى: وبدنت، بضم الدال، وفتحها، وسنت، "سابقته" في سفر آخر، "فسبقني، قال: "هذه بتلك السبقة" من مزيد لطفه حتى لا تتشوش. "وعن أنس بن مالك: إنهم كانوا يومًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة -رضي الله عنها، ثم أتي بصحفة" إناء، كالقصعة المبسوطة، ونحوها، جمعها صحاف، "من بيت أم سلمة، فوضعت بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال: "ضعوا أيديكم" للأكل، فوضع نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يده, ووضعنا أيدينا، فأكلنا، وعائشة تصنع طعامًا عجَّلته" أسرعت به، والحال أنها "قد رأت الصحفة التي أتي بها" من بيت أم سلمة، "فلمَّا فرغت من طعامها، جاءت به فوضعته، ورفعت صفحة أم سلمة، فكسرتها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صحفة عائشة: "غارت أمكم" هي، كأسرة الصحفة عائشة أم المؤمنين، وأبعد الداودي، فقال: هي سارة زوج الخليل، وأنه أراد، لا تعجبوا مما وقع من هذه من الغيرة، فقد غارت تلك قبلها، ورد مع بعده؛ بأن المخاطبين ليسوا من أولاد سارة؛ إذ ليسوا من بني إسرائيل، "ثم أعطى صحفتها أم سلمة، فقال: "طعام مكان طعام، وإناء مكان إناء". "رواه الطبراني في الصغير" وعزاه في الفتح، والمقدمة له في الأوسط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 وهو عند البخاري بلفظ: كان -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة, ويقول: "غارت أمكم" , ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت. وعند أحمد وأبو داود والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعامًا مثل   "وهو" أي: حديث أنس "عند البخاري" في المظالم، والأطعمة، "بلفظ كان -صلى الله عليه وسلم- عند بعض نسائه" هي عائشة، كما في الترمذي وغيره، ولا خلاف في ذلك، "فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين" صفية، رواه أبو داود والنسائي، من حديث عائشة، أو حفصة، رواه الدارقطني من حديث أنس، وابن ماجه عن عائشة، أو أم سلمة. رواه الطبراني في الأوسط عن أنس، وإسناده أصح من إسناد الدارقطني، وساقه بسند صحيح، وهو أصح ما ورد في ذلك، ويحتمل التعدد, وحكى ابن حزم في المحلَّى أن المرسلة زينب بنت جحش، ذكره الحافظ, وتبعه المصنف في جزم السيوطي بالأخير، شيء "بصحفة" لفظ البخاري في الأطعمة, ولفظه في المظالم بقصعة، بفتح القاف "فيها طعام" أي: حيس، كما في المحلَّى لابن حزم، وتأتي رواية يلتقط اللحم، فيحتمل أن اتحدت القصة، أنه كان فوق الحيس، قال الشاعر: التمر والسمن جميعًا والأقط ... الحيس إلّا أنه لم يختلط مع خادم، "فضربت التي النبي" صلى الله عليه وسلم "في بيتها" هي عائشة على جميع الأقوال، "يد الخادم" لم يسم، قاله الحافظ، "فسقطت الصحفة، فانفلقت، جمع -صلى الله عليه وسلم- فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام، الذي كان في الصحفة، ويقول" مبديا لعذرها: "غارت أمكم" عائشة، "ثم حبس الخادم" منعه من العود إلى سيدته التي أرسلته، "حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة" التي، لا كسر فيها "إلى" الخادم ليوصلها إلى "التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت" عقابًا لها، فإن قيل: القصعة متقوّمة، فكيف ضمنها بالمثل، لا بالقيمة، أجاب البيهقي؛ بأن القصعتين كانتا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت زوجيته. فعاقب الكاسرة بجعل المكسورة في بيتها، وجعل الصحيحة في بيت صاحبتها، ولم يكن هناك تضمين. "وعند أحمد، وأبي داود، والنسائي، قالت عائشة: ما رأيت صانعة طعامًا" حسنًا، "مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 صفية، أهدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إناء من طعام, فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ قال: "إناء كإناء وطعام كطعام". وعند غيرهم: فأخذت القصعة من بين يديه فضربت بها وكسرتها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام وهو يقول: "غارت أمكم"، فلم يثرب عليها. فوسع خلقه الشريف آثار طفحات آثار غيرتها، ولم يتأثر، وقضى عليها بحكم الله في التقاصّ. وهكذا كانت أحواله -عليه الصلاة والسلام- مع أزواجه، لا يأخذ عليهن ويعذرهن، وإن أقام عليهن قسطاس العدل إقامة من غير قلق ولا غضب، بل رءوف رحيم، حريص عليهن وعلى غيرهن، عزيز عليه ما يعنتهم. قيل: وفي هذا الحديث إشارة إلى عدم مؤاخذة .....   صفية أهدت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" وهو في بيتي "إناء من طعام، فما ملكت نفسي أن كسرته" أي: الإناء، ثم رجعت إلى نفسي، وندمت، "فقلت: يا رسول الله ما كفارته، قال: "إناء كإناء، وطعام كطعام" , ففي هذه الرواية أن المرسِلَة صفية، فيخالف رواية الطبراني أنها أم سلمة، إن لم تحمل على التعدد، "وعند غيرهم، فأخذت القصعة" بفتح القاف، "من بين يديه، فضربت بها، وكسرتها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتقط اللحم والطعام، وهو يقول: "غارت أمكم" عائشة، فلا تلوموها، "فلم يثرب" بضم التحتية، وفتح المثلثة، وكسر الراء ثقيلة، أو بفتح، فسكون، فكسر، "عليها" أي: لم يلمها، ولم يعبها، "فوسع خلقه الشريف" وفي نسخة: الكريم، "آثار" أي: شدائد، "طفحات آثار" حرارة "غيرتها" بفتح الغين المعجمة، فأطلق الطفح لذي هو امتلاء الإناء حتى يفيض على شدة الغيرة مجازًا، "ولم يتأثر" من فعلها ذلك بحضوره، وحضور أصحابه، لمزيد حلمه، وعلمه بما تؤدي إليه الغيرة، "وقضى عليها بحكم الله في التقاص" أي: العقاب، بجعل المكسورة عندها، ودفع الصحيحة لضرتها، فكأنه قاصصها، فأطلق التقاص مجازًا عن ذلك، وإلا فكلاهما له، كما مرَّ عن البيهي. "وهكذا كانت أحواله -عليه الصلاة والسلام- مع أزواجه، لا يأخذ عليهنَّ، ويعذرهن" بكسر الذال، برفع عنهن اللوم،، "وإن اقام عليهن قسطاس" ميزان "العدل" مبالغة، أي: يفعل ذلك مع العدل بينهن، "إقامة" مصدر مؤكَّد "من غير قلق، ولا غضب" كما هو الواقع من غيره كثيرًا، وهذا أولى من جعل أن شرطًا جوابها إقامة، لما لا يخفى، "بل" هو "رءوف" شديد الرحم "رحيم" يريد الخير، "حريص عليهن، وعلى غيرهن" أن يهتدوا، "عزيز" شديد "عليه ما يعنتهم" بكسر النون، أي: عنتهم، أي: مشقتهم، ولقاؤهم المكروه، "قيل: وفي هذا الحديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 الغَيْرَى فيما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به عن عائشة مرفوعًا: إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه. انتهى. وعن عائشة -رضي الله عنها: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بخزيرة طبختها له، وقلت لسودة -والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها؛ كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين أو لألطِّخن بها وجهك، فأبت فوضعت يدي في الخزيرة فلطخت بها وجهها, فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فوضع فخذه لها وقال لسودة: لطِّخي وجهها، فلطَّخت بها وجهي, فضحك -صلى الله عليه وسلم. الحديث رواه ابن غيرن من حديث الهاشمي, وأخرجه الملاء في سيرته.   إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيرى، فيما يصدر" يقع "منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا، بشدة الغضب الذي أثارته" حركته، "الغيرة" -بفتح المعجمة وسكون التحتية وراء- مصدر غار، مشتقة من تغيِّر القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون بين الزوجين، "وقد أخرج أبو يعلى بسند لا بأس به، عن عائشة مرفوعًا أن" المرأة "الغيرى" يقال: امرأة غيور، وغيرى، "لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه" فقد تهلك بسبب ذلك، وقد كتب الله ذلك عليهن. روى البزار، والطبراني عن ابن مسعود: كنت جالسًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه أصحابه؛ إذ أقبلت امرأة عريانة، فقام إليا رجل، فألقى عليها ثوبًا، وضمَّها إليه، فتغيِّر وجهه -صلى الله عليه وسلم، فقال بعض جلسائه: حسبها امرأته، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أحسبها غيرى، إن الله كتب الغيرة على النساء، والجهاد على الرجال، فمن صبر منهن كان له أجر شهيد" انتهى. "وعن عائشة -رضي الله عنها: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم بخزيرة" بخاء، وزاي معجمتين، فياء، فراء، فتاء تأنيث "طبختها له، وقلت لسودة" أم المؤمنين، "والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيني وبينها: كلي، فأبت، فقلت لها: كلي، فأبت، فقلت لها: لتأكلين، أو لألطخنَّ بها وجهك، فأبت، فوضعت يدي في الخزيرة، فلطخت بها وجهها" بالتخفيف، وتشديد مبالغة، "فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فوضع فخذه لها، وقال لسودة: لطِّخي وجهها" قصاصًا، "فلطَّخت بها وجهي، فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الحديث، رواه ابن غيلان من حديث الهاشمي، وأخرجه الملاء" بفتح الميم، وشد اللام، والإمام الزاهد عمر الموصلي "في سيرته" كان إمامًا عظيمًا ناسكًا، يملأ من بئر بجامع الموصل احتسابًا، وكان السلطان نور الدين الشهيد يعتمد قوله، ويقبل شهادته، ذكره الشامي في فضائل آل البيت من سيرته، "والخزيرة: اللحم يقطع صغارًا، ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 والخزيرة: اللحم يقطع صغارًا ويصب عليه ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق. وبالجملة؛ فمن تأمَّل سيرته -عليه الصلاة والسلام- مع أهله وأصحابه وغيرهم من الفقراء والأيتام والأرامل والأضياف والمساكين، علم أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه الغاية التي لا مرمى وراءها لمخلوق. وإن كان يشتد في حدود الله وحقوقه ودينه، حتى قطع يد السارق، إلى غير ذلك. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يباسط أصحابه بما يولج حبه في القلوب، كان له رجل من البادية يسمى زهيرًا، وكان يهادي النبي -صلى الله عليه وسلم- بموجود البادية، بما يستطرف منها، وكان -صلى الله عليه وسلم- يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها، ..................................   عليه الدقيق،" ويأتي فيه للمصنف كلام طويل في الأكل النبوي، "وبالجملة، فمن تأمَّل سيرته -عليه الصلاة والسلام- مع أهله، وأصحابه، وغيرهم من الفقراء، والأيتام، والأرامل والأضياف، والمساكين، عَلِمَ أنه قد بلغ من رقة القلب ولينه، الغاية التي لا مرمى وراءها لمخلوق" أي: لا يصل أحد بعده إليها، "وإن كان يشتد في حدود الله، وحقوقه، ودينه، حتى قطع يد السارق إلى غير ذلك" كحد الزاني، "وقد" للتحقيق, "كان -صلى الله عليه وسلم- يباسط" يلاطف "أصحابه" بالقول والفعل، "بما يولج" يدخل "حبه في القلوب" تطمينًا لهم، وتقوية لإيمانهم، وتعليمًا لهم أن يباسطوا بعضهم بعضًا؛ لأنهم إذا رأوا ذلك من أكمل الخلق، وأفضلهم، وقد علموا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، اطمأنَّت قلوبهم على فعل ذلك مع بعضهم. "كان له رجل من البادية يسمى زهيرًا" الذي في الشمائل، وغيرها زاهرًا، وكذا بخط ابن الجوزي، والشامي، وفي الإصابة زاهر بن حرام الأشجعي، قال ابن عبد البر: شهد بدرًا، ولم يوافق عليه، وقيل: إنه تصحف عليه؛ لأنه وصف بكونه بدويًّا حرام والده، يقال: بالفتح، والراء، ويقال: بالكسر والزاي، ووقع في رواية عبد الرزاق بالشك، انتهى. فإن صحَّت رواية بتصغيره، أمكن أنه خوطب تحببًا، وملاطفة، واسمه الأصلي زاهر، وفي رواية أحمد، وغيره، وتصغيره على أزيهر، "وكان يهادي النبي -صلى الله عليه وسلم" أي: يهدي، فالمفاعلة مستعملة في أصل الفعل، لأنه علق مهاداته "بموجود البادية"، أي: ما يوجد حسنًا، من ثمارها، وزهورها، "بما يستطرف" بالطاء المهملة، يستملح "منها" بدل مما قبله؛ لأن موجودها حسن، وغيره، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يهاديه، ويكافئه" عطف علة على معلول، أي: يهاديه مكافأة له على هديته، "بموجود الحاضرة، وبما يستطرف منها" كذا في نسخ، بواو عطف التفسير، وفي نسخة بلا واو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "زهير باديتنا، ونحن حاضرته"، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحبه، فمشى -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى السوق فوجده قائمًا، فجاء من قبل ظهره وضمَّه بيده إلى صدره, فأحس زهير بأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء بركته. وفي رواية الترمذي في الشمائل: فاحتضنه من خلفه ولا يبصره، فقال أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يشتري ..............   على البدل، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "زهير باديتنا" أي: ساكنها، وإذا تذكرناها سكن قلبنا برؤيته، أو نستفيد منه ما يستفيده الرجل من باديته من أنواع الثمار، وصنوف النبات، فكأنه صار باديتنا، وإذا احتجنا متاع البادية جاء به لنا، فأغنانا عن السفر إليها، فالتاء على هذه الوجوه للتأنيث؛ لأنه الأصل، ويحتمل أن التاء للمبالغة، أي: بادينا، كما ورد، كذلك، قيل، وهو أظهر، أو المراد حقيقتها التي هي خلاف الحاضرة، ويحتمل أنه من إطلاق اسم المحل، وهو البادية على الحال، وهو ساكنها، "ونحن حاضرته" أي: يصل إليه منا ما يحتاج إليه، مما في الحاضرة، أو لا يقصد بمجيئه إلى الحضر إلا مخالطتنا، وتوقّف بعض في الأول؛ بأن المنعم لا يليق به ذكر إنعامه، منع؛ بأنه ليس من ذكر المنّ بالأنعام في شيء، بل إرشاد إلى مقابلة الهدية بمثلها، أو أفضل. "وكان -صلى الله عليه وسلم- يحبه، فمشى -صلى الله عليه وسلم- يومًا إلى السوق" لحاجته، لا لمحبته، فهو توطئة لقوله: "فوجده قائمًا" يبيع متاعه، "فجاءه من قِبَل" بكسر ففتح، جهة "ظهره" تفريع على قوله يحبه، "وضمَّه بيده إلى صدره، فأحسَّ زهير بأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: أدرك ذلك بطريق من الطرق، "قال: فجعلت أمسح ظهري في صدره رجاء"، حصول "بركته، وفي رواية الترمذي في الشمائل" من طريق ثابت عن أنس؛ أن رجلًا من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية من البادية، فيجهزه النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن زاهرًا باديتنا، ونحن حاضروه"؛ وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبه، وكان رجلًا دميمًا، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو يبيع متاعه، "فاحتضنه" أي: أدخله في حضنه، وهو ما دون الإبط إلى الكشح بزنة فِلس، ما بين الحاضرة إلى الضلع "من خلفه" أي: جاء من ورائه، وأدخل يده تحت إبطي زاهر، فاعتنقه، "ولا يبصره" جملة حالية، "فقال: أرسلني من هذا" أي: خلني، وأطلقني، "فالتفتّ" سقط من بعض نسخ الشمائل، "فعرف النبي" القياس، فعرف أنه النبي "صلى الله عليه وسلم، فجعل، لا يألوا" لا يترك، ولا يقصر، "ما" مصدرية، "ألصق ظهره" أي: لا يقصر في إلصاق ظهره، "بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم" تبركًا، وتلذذًا، وتحصيلًا لثمرات ذلك الإلصاق، من الكمالات الناشئة عنه "حين عرفه" كرره اهتمامًا بشأنه، وإيماء إلى أن منشأ هذا الإلصاق ليس إلا معرفته، "فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 العبد"، فقال له زهير: يا رسول الله، إذن تجدني كاسدًا، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "أنت عند الله غالٍ"، وفي رواية الترمذي أيضًا: "لكن عند الله لست بكاسد، أو قال: أنت عند الله غال". وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم أن رجلًا كان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال: أعط هذا متاعه، فما يزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يتبسم، ويأمر به فيعطى. ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم: وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا ...........   "من يشتري العبد" أي: من يشتري مثله في الدمامة، أو يستبدله مني؛ بأن يأتي بمثله، فلما فعل ذلك معه ملاطفة، نزله منزلة العبد، أو من يقابل هذا العبد، الذي هو عبد الله بالإكرام، والتعظيم، أو أراد التعريض له؛ بأنه ينبغي أن يشتري نفسه من الله، ببذلها فيما يرضيه، وفيها تكلف. "فقال له زهير: يا رسول الله إذن" أي: إذا بعتني "تجدني كاسدًا" رخيصًا، لا يرغب فيَّ أحد لدمامتي، وقبح منظري، فأذن جواب شرط محذوف، ويجوز أن أذن للظرفية، والتنوين عوض عن الجملة المحذوفة، أي: إذا كنت عبدًا تبيعني، لكن هذا قليل، فلذا اقتصر الشراح على ما قبله، "فقال له -صلى الله عليه وسلم: "أنت عند الله غال" بغين معجمة، رفيع القدر عنده، وإن كسد في الدنيا لقبح منظره، ومن أول قوله، فقال له زهير: أتى به من الرواية الأولى التي لم يعزها، ثم عاد لرواية الشمائل، فقال: "وفي رواية الترمذي أيضًا" بقية الرواية السابقة، فقال: يا رسول الله إذن، والله تجدني كاسدًا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لكن عند الله لست بكاسد، أو" شك من الراوي، "قال: "أنت عند الله غال" ببركة محبته -صلى الله عليه وسلم، فالصورة، لا يلتفت إليها؛ "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" "وأخرج أبو يعلى عن زيد بن أسلم" العدوي، مولى عمر المدني، ثقة، عالم، من رجال الجميع، كان يرسل "أن رجلًا" هو عبد الله، الملقَّب بحمار، بلفظ الحيوان المعروف، كما في الإصابة عن أبي يعلى نفسه، "كان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- العكة من السمن" تارة، "والعسل" أخرى، ويحتمل أنهما مخلوطين، كما هو شأن العرب كثيرًا، "فإذا جاء صاحبه يتقاضاه" أي: يطلبه، "جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعط هذا متاعه" أي: ثمنه، كما في الرواية اللاحقة، "فما يزيد النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يتبسم" تعجبًا، "ويأمر به، فيعطى" لثمن. "ووقع في حديث محمد بن عمرو بن حزم" الأنصاري، المدني له رؤية، وليس له سماع إلّا من الصحابة، قتل يوم الحرة، سنة ثلاث وستين، "وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله، هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه جاء به فقال: أعط هذا الثمن، فيقول: "ألم تهده لي" , فيقول: ليس عندي، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه. وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزح ..........   اشترى منها" فليست هديته قاصرة على السمن والعسل، "ثم جاء، فقال: يا رسول الله هذا أهديته لك" أي: حملته لك، كما تحمل الهدية، فلا يرد كيف يطلب ثمنه بعد قوله ذلك، "فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به، فيقول: أعط هذا الثمن، فيقول" صلى الله عليه وسلم: "ألم تهده لي؟ " استفهام تقرير، "فيقول: ليس عندي" ما أهديه، وإنما أتيت به، أريد ثمنه لمالكه، "فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه" هكذا مشاه شيخنا، وهو خلاف الظاهر، ولذا قال بعض المحققين من شراح الشمايل: كان هذا الصحابي -رضي الله عنه، من كمال محبته للنبي -صلى الله عليه وسلم، كلما رأى طرف أعجبته اشتراها، وآثره بها، وأهداها إليه على نية أداء ثمنها، إذا حصل لديه، فلما عجز صار، كالمكاتب، فرجع إلى مولاه، وأبدى إليه جميع ما أولاه، فالمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فرجع بالمطالبة إلى سيده، ففعله هذا جد حق ممزوج بمزاح صدق، انتهى. وقع نحو ذلك للنعيمان بالتصغير، ابن عمرو بن رفاعة الأنصاري، ذكر الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة، والمزاج، كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب نعيمان بثمنه، أحضره إلى النبي، فيقول: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أولم تهده لي؟ "، فيقول: أنا والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه، "وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزح" لأن الناس مأمورون بالتأسي به، والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة ولزم العبوس؛ لأخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة، من المشقة والعناء، فمزح ليمزحوا، قاله ابن قتيبة، وقال الخطاب: سئل بعض السلف عن مزاحه -صلى الله عليه وسلم- فقال: كانت له مهابة، فلذا كان ينبسط للناس بالدعابة، قال: وأنشد ابن الأعرابي في نحو هذا يمدح رجلًا: يتلقَّى الندى بوجه صبيح ... وصدور القنا بوجه وقاح فبهذا وزاد تتم المعاني ... طرق الجد غير طرق المزاح ولا يخالف هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "ليست من دَدِ، ولا الدد مني" أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والبيهقي عن أنس، والطبراني في الكبير عن معاوية، ودد -بفتح الدال الأولى، وكسر الثانية- أي: لست من أهل اللعب واللهو، ولا هما مني، وقد رواه الطبراني أيضًا، والبزار، وابن عساكر، عن أنس بزيادة: "ولست من الباطل، ولا الباطل مني"، لأن المنفي ما كان بباطل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 ولا يقول إلا حقًّا. كما روى أبو هريرة، وقد قال له رجل كان فيه بله: يا رسول الله احملني، فباسطه -عليه الصلاة والسلام- من القول بما عساه أن يكون شفاءً لبلهه بعد ذلك، فقال: "أحملك على ابن الناقة". فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه البنوة, فقال: يا رسول الله، ما عسى أن يغني عني ابن الناقة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ويحك, وهل يلد الجمل إلا الناقة"، روى الحديث الترمذي وأبو داود. وباسط عمته صفية ..........   ومجرد لهو ولعب مجرد، وهو في مزاحه صادق، كما قال: "ولا يقول إلّا حقًّا" فلا ينافي الكمال حينئذ، بل هو من توابعه وتتماته، لجريه على القانون الشرعي، فمن زعم تناقض الحديثين من الفرق الزائغة فقد ضلَّ، "كما روى أبو هريرة" قال: قالوا يا رسول الله: إنك تداعبنا، قال: "إني لا أقول إلا حقًّا" أخرجه الترمذي وغيره. "وقد قال له رجل كان فيه بله" أي: عدم اهتمام بأمر الدنيا، وتأمَّل في معاني الألفاظ، حتى حمل الكلام على المتبادر، من أن المراد بالبنوة الصغير، فليس صفة ذم هن، فهو كقوله في الحديث: "أكثر أهل الجنة البلة" أي: في أمر الدنيا لقلة اهتمامهم بها، وهم أكياس في أمر الآخرة، وللبلة إطلاقات، منها هذا، وعدم التمييز، وضعف العقل، والحمق؛ وسلامة الصدر، ولكل مقام مقال، "يا رسول الله احملني" على دابة، "فباسطه -عليه الصلاة والسلام- من القول: بما" أي: شيء "عساه أن يكون شفاء لبلهه بعد ذلك" والظن، بل الجزم أنه حصل له الشفاء بتلك المداعبة، "فقال: "أحملك" خبر مبتدأ محذوف، أي أنا أحملك، بدليل رواية الترمذي، وأبي داود: إني حاملك "على ابن الناقة، فسبق لخاطره استصغار ما تصدق عليه، البنوة، فقال: يا رسول الله ما عسى أن يغنى عني ابن الناقة" أنثى الإبل، ولا تسمَّى ناقة حتى تجزع, "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ويحك، وهل يلد الجمل إلا الناقة؟ " فلو تدبرت، وتأملت اللفظ، لم تقل ذلك، ففيه مع المباسطة، الإيماء إلى إرشاده وإرشاد غيره؛ أنه إذا سمع قولًا يتأمله، ولا يبادر برده، إلّا بعد أن يدرك غوره، ولا يسارع إلى ما تقتضيه الصورة. "روى حديثه الترمذي" وصححه، "وأبو داود" وأحمد، والبخاري في الأدب، عن أنس: أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستحمله، فقال: "إني حاملك على ولد الناقة" , فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: "وهل يلد الإبل إلا النوق؟ " وجاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله احملني على بعير، فقال: "احملوها على ابن بعير" فقالت: ما أصنع به, وما يحملني يا رسول الله؟ فقال: "هل تجيء بعير إلّا ابن بعير؟ " فتعددت الواقعة بالنسبة للرجل والمرأة، وأما الخطاب بقوله: "أحملك على ابن الناقة"، وأنا أحملك وفي رواية: أنا حاملوك، فلرجل واحد، والخلف اللفظي من الرواة، فبعضهم باللفظ، وبعضهم بالمعنى، لا لتعدد الواقعة، لاتحاد المخرج، "وباسط عمته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 وهي عجوز فقال لها: "إن الجنة لا يدخلها عجوز"، فلما جزعت فقال لها: "إنك تعودين إلى صورة الشباب في الجنة"، وفي رواية الترمذي عن الحسن. أتته -صلى الله عليه وسلم- عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال: "يا أم فلان, إن الجنة لا يدخلها عجوز"، قال: فولت تبكي فقال: "أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35، 36] " وذكره رزين.   صفية" بنت عبد المطلب، أم الزبير، مما نقله صاحب المورد عن خط بعض المحدثين. وقال غيره: إنه سمعه من مشايخ الحديث، وتوقَّف فيه بعضهم، فقال: الله أعلم بصحته، ففي حديث عائشة عند البيهقي، أتت خالتي، "وهي عجوز" وصفية ليست خالة عائشة, قلت: إن صح ما قالوه، فسمتها خالتها إكرامًا وتعظيمًا لسنها، على العادة في تسمية المسنَّة خالة، لا لكونها أخت أمها حقيقة, "فقال لها: "إن الجنة لا يدخلها عجوز" فلما جزعت" بكسر الزاي، "قال لها: "إنك تعودين إلى صورة الشباب في الجنة" فلا تجزعي، فإنما هذا مباسطة، وهي حق، "وفي رواية الترمذي عن الحسن" أي: البصري؛ لأنه المراد عند الإطلاق، وبه صرح شراح الشمايل، ولم يقع في متنها نعته بالبصري، حتى ظنَّ بعض من كتب عليها؛ أنه ابن علي، وليس، كما ظن. "أتته -صلى الله عليه وسلم- عجوز، فقالت: يا رسول الله, ادع الله لي أن يدخلني الجنة، فقال: "يا أم فلان" نسي الراوي اسمها، وما أضيف إليه، فكنَّى عنه بما يكنَّى به الأعلام، "إن الجنة لا يدخلها عجوز" كأنه فهم من حالها، إنها تريد دخولها على صفتها، حالة السؤال، فمازحها مريدًا إرشادها إلى خلاف ما في وهمها، الذي لا يطابق ما سيقع، "قال: فولت" ذهبت أو أعرضت "تبكي" حال من فاعل ولت، أي: ذهبت حال كونها باكية، فقال: "أخبروها" أعلموها "أنها لا تدخلها" جملة سدت مسد ثاني وثالث مفعول أخبر، وضمير لا تدخلها، وما بعد أما إليها، أو إلى العجوز المطلقة، والأول أقرب، "وهي عجوز" مسنة، ولا تؤنث بالهاء، قاله ابن السكيت، وقال ابن الأنباري: سمع تأنيثه، أي: لا تدخلها، والحا أنها موصوفة بهذه الصفة، واستشهد على ذلك تطييبًا لخاطرها، فقال: "إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة: 35] الآية" أي: النسوة، أي: أعدنا إنشاءهن {إِنْشَاءً} خاصًّا، وخلقناهن خلقًا غير خلقهن، وتفسير الآية بالجور، وإن كان مقتضى سياق القرآن يرده هذا الحديث, {فَجَعَلْنَاهُنَّ} بعد كونهن عجائز شمطاء مصافي الدنيا، {أَبْكَارًا} عذارى، وإن وطئت كثيرًا، فكلما أتاها الرجل وجدها بكرًا، كما ورد في الأثر، ولكن لا دلالة للفظ عليه، "وذكره رزين" بن معاوية، العبدري، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 وكان -عليه الصلاة والسلام- يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويؤنسهم. ويأخذ معهم في تدبير أمورهم، ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره، وهو مع ذلك سره في الملكوت يجول حيث أراد الله به. والدعابة -بضم الدال وتخفيف العين المهملتين وبعد الألف موحدة: هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره. وقد أخرج الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة؛ قالوا: إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلَّا حقًّا.   السرقسطي، ورواه الترمذي، أيضًا، وابن الجوزي، موصولًا عن أنس: إن عجوزًا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها ومازحها به: "لا يدخل الجنة عجوز"، وحضرت الصلاة، فخرج -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة، فبكت بكاء شديدًا، حتى رجع، فقالت عائشة: يا رسول الله إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها، لا يدخل الجنة عجوز، فضحك، وقال: "أجل لا يدخل الجنة عجوز، ولكن الله تعالى قال: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35] الآية "، وهن العجائز الرمص، ولا تنافي بين روايتي وصله وإرساله؛ لأن الحسن حدَّث به مرسلًا تارة بإسقاط أنس، وتارة وصله بذكر أنس، وقد رواه الطبراني في الأوسط من وجه آخر، من حديث عائشة: "وكان -عليه الصلاة والسلام- يمازح أصحابه" بالقول والفعل، للملاطفة، "ويخالطهم، ويحادثهم" تأنيسًا لهم، وجبرًا لقلوبهم، ولا ينفرهم، "ويأخذ معهم" أي: يشاركهم "في تدبير أمورهم، ويداعب" بدال مهملة، "صبيانهم، ويجلسهم في حجره" بكسر الحاء، وفتحها، كما فعل مع أم قيس؛ إذ أتته بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه، "وهو مع ذلك سره في الملكوت، يجول" بالجيم، "حيث أراد الله، والدعابة -بضم الدال، وتخفيف العين المهملتين، وبعد الألف موحدة: هي الملاطفة في القول بالمزاح -بضم الميم، وبالزاي: اسم مصدر من مزح مزحا، ومزاحة، وبكسر الميم مصدر مازح، كما في المصباح "وغيره" كالمداعبة الفعلية، كمجه في وجه محمود، واحتضانه زاهرًا، "وقد أخرج الترمذي، وحسنه من حديث أبي هريرة" قال: "قالوا:" أي: الصحابة مستفهمين، "إنك تداعبنا" -بدال وعين، تمازحنا بما يستملح، وقد نهيت عن المزاح، فهل المداعبة خاصة بك؟ "قال: "إني لا أقول إلا حقًّا" فمن حافظ على قول الحق، وتجنب الكذب، وأبقى المهابة والوقار فله، ومن داوم عليها، أو أكثر منها، أو اشتمل مزحه على كذب، أو أسقطت مهابته، فلا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 وما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- في النهي عن المداعبة محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله والتفكر في مهمات الدين وغير ذلك. والذي يسلم من ذلك هو المباح، فإن صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب -كما كان هو فعله عليه الصلاة والسلام- فهو مستحب. وقال أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير، وكان له نغر يلعب به فمات، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم حزينًا فقال: ما شأنه؟ قالوا: مات نغره، فقال ......................................................   "وما ورد عنه -عليه الصلاة والسلام- في النهي عن المداعبة" كقوله: "لا تمار أخاك، ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه" رواه الترمذي "محمول على الإفراط، لما فيه من الشغل عن ذكر الله وعن التفكر في مهمات الدين، وغير ذلك"، كقسوة القلب؛ وكثرة الضحك، وذهاب ماء الوجه، بل كثيرًا ما يورث الإيذاء، والحقد، والعداوة، وجراءة الصغير على الكبير؛ وقد قال عمر: من كثر ضحكه قلت هيبته, ومن مزح استخف به. أسنده العسكري، ولذا، قيل: فإياك إياك المزاح فإنه ... يجري عليك الطفل والرجل الذلا ويذهب ماء الوجه من كل سيد ... ويورثه من بعد عزته ذلا "والذي يسلم من ذلك" بأن لا يؤدي إلى حرام، ولا مكروه، "هو المباح" المستوي الطرفين على الأصح، "فإن صادف" المباح "مصلحة؛ مثل تطييب نفس المخاطب، كما كان هو فعله -عليه الصلاة والسلام، فهو مستحب" وقضيته أنه لا يقترن به ما يصيره واجبًا، ولو قيل: إن تعيِّنَ طريقًا لدفع حرام لم يبعد وجوبه، ذكره شيخنا، وقال غيره: ما سلم من المحذور فهو بشرطه مندوب لا مباح؛ إذ الأصل في أفعاله وأقواله وجوب أو ندب الاقتداء به فيها إلا لمانع، ولا مانع هنا. "وقال أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا" -بضم الخاء المعجمة، أتى به توطئة لقوله: "وكان لي أخ" من أمِّه، أم سليم، "يقال له أبو عمير" بضم العين، وفتح الميم، ابن أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري، وكان اسمه عبد الله، فيما جزم به أبو أحمد الحاكم، أو حفص، كما عند ابن الجوزي، ومات في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم، ففي مسلم عن أنس أن ابنًا لأبي طلحة مات، فذكر قصة موته، وأنها قالت لأبي طلحة هو أسكن مما كان: وبات معها، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "بارك الله لكما في ليلتكما"، فأتت بعبد الله ابن أبي طلحة، فبورك فيه، وهو والد إسحاق بن عبد الله الفقيه، وأخوته كانوا عشرة، كلهم حمل عنه العلم؛ "وكان له نغر يلعب" يتلهى "به، فمات، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم حزينًا، فقال: "ما شأنه"، قالوا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 له: "يا أبا عمير ما فعل النغير"، رواه البخاري ومسلم. وفي رواية الترمذي قال أنس: إن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخ لي: "يا أبا عمير ما فعل النغير". قال الجوهري: النغير: تصغير نغر، والنغر جمع النغرة وهو طائر صغير كالعصفور، والجمع نغران مثل صرد وصردان. وقد كان ألقى عليه مع الدعابة والمهابة، ........   مات نغرة، فقال له: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " ملاطفة وتأنيسًا له وتسلية، وفيه جواز تكنية من لم يلد له، وتكنية الطفل، وأنه ليس كذبًا، وجواز المزح فيما ليس بإثم، وجواز السجع في الكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان عليه المصطفى من حسن الخلق، وكرم الشمائل والتواضع. "رواه البخاري" في الأدب وغيره، "ومسلم" في الصلاة والاستئذان، وفضائل النبي، والترمذي في الصلاة، وابن ماجه في الأدب، "وفي رواية الترمذي" وكذا البخاري في الأدب، بهذا اللفظ أيضًا، ومسلم، فما أدري لم هذا التوهُّم من المصنّف، "قال أنس: إن" مخففة من الثقيلة, بدليل دخول اللام في خبرها، أي: إنه "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا" بالملاطفة، وطلاقة الوجه، والمزاح، قاله المصنف، وقال غيره: ليخالطنا يمازحنا، ففي القاموس: خالطه مازحه، والمراد أنس، وأهل بيته، "حتى" انتهت مخالطته لأهلنا كلهم حتى الصبي، والمداعبة معه، والسؤال عن طيره، "يقول لأخ لي" من أمي: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " أي: ما شأنه وحاله، فباسطه بذلك ليسليه حزنه عليه، كما وشأن الصغير إذا فقد لعبته، فيفرح بمكالمة المصطفى ويرتاح بها ويفتخر؛ ويقول لأهله: كلمني وسألني، فيشتغل باغتباطه بذلك عن حزنه، فيسلي ما كان، وقد أكثر الناس من استنباط الأحكام من ذا الحديث، وزاد أبو العباس بن القاص من الشافعية، على مائة أفردها في جزء. "قال الجوهري: النغير تصغير نغر" بزنة رطب، "والنغر جمع النغرة، وهو طائر صغير، كالعصفور" وقيل فراخ العصافير، قال عياض: والراجح أنه طائر أحمر المنقار، وأهل المدينة يسمونه البلبل، وفي رواية قالت أم سليم: ماتت صعوته التي كان يلعب بها، فقال: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " "والجمع نغران مثل صرد" ميزان النغر، "وصردان" ميزان نغران، وقضية هذا، أنه بصيغة كونه جمعًا يطلق على الطائر، وفيه خلاف، فعلى عدم إطلاقه، فضمير وهو طائر للنغير المصغَّر، "وقد كان ألقي عليه مع الدعابة المهابة" العظمة في النفوس والإجلال، والمخافة على خلاف مقتضى حال المداعب، فإن المداعبة قد تكون سببًا لسقوطه من العيون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 ولقد جاء إليه -صلى الله عليه وسلم- رجل فقام بين يديه, فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: "هوّن عليك، فإني لست بملك ولا جبار, إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة"، فنطق الرجل بحاجته، فقام -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس, إني أوحي إلى أن تواضعوا، ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد, ولا يفخر أحد على أحد، وكونوا عباد الله إخوانًا".   "ولقد جاء إليه -صلى الله عليه وسلم- رجل" لحاجة يذكرها له لقوله الآتي، فنطق بحاجته، "فقام بين يديه، فأخذته رعدة شديدة" -بفتح الراء، وكسرها- كما في القاموس، واقتصر المصباح على الكسر، وهي اضطراب قوي، "ومهابة" أي: مخافة، عطف سبب على مسبب، والمهابة تكون بمعنى العظمة والخوف، وهو المراد هنا، "فقال له: "هوّن عليك" خَفِّف عن نفسك هذا الخوف، وأزله منك، ولا تجزع مني، "فإني لست بملك" أي: متصور بصورة الملوك، بل أنا عبد الله، "ولا جبار" أخبر الناس على ما أردته منهم؛ من فعل، أو ترك عطف لازم على ملزوم، "إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد" اللحم المقدد "بمكة"، فنطق الرجل بحاجته؛ فقام -صلى الله عليه وسلم- لما رأى تواضعه مع الرجل، سكن روعه، حتى تمكن من عرض حاجته عليه، أمرهم بالتواضع، وبين أنه بالوحي، فقال: "يا أيها الناس إني أوحي إلي" وحي، إرسال، لا إلهام، كما زعم، لأنه خلاف الأصل والظاهر، بلا دليل "أن تواضعوا" أي: تواضعكم أي: أمركم به، "ألا فتواضعوا" بخفض الجناح ولين الجانب، "حتى لا يبغي" لا يجوز، ولا يتعدى "أحد" منكم "على أحد" ولو ذميًّا، أو معاهدًا، أو مؤمنًا؛ وحتى هنا بمعنى كي، كما قال الطيبي: فهو علة للتواضع، فيكون طريقًا لترك البغي والعدي، "ولا يفخر" بمعجمة، لا يتعاظم، "أحد على أحد" بتعداد محاسنه كبرًا، ورفع قدره على الناس تيهأ وعجبًا. قال ابن القيم: والتواضع انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة للخلق، حتى لا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، بل، ويرى الحق لذلك الأحد؛ "وكونوا" يا "عباد الله" فهو منادى، يحذف الأداة والخبر "إخوانًا" لا عبادًا لله؛ إذ هم عباده، فالقصد كونهم إخوانًا، قال المجد بن تيمية: نهى الله على لسان رسوله عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهما البغي والفخر؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، أو بغير حق، فقد بغى، فلا يحل هذا ولا هذا، فإن كان إنسان من طائفة فاضلة، كبني هاشم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه والنظر إليها، فإنه مخطئ؛ إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، قرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب بغضه وخروجه عن الفضل؛ فضلًا عن استعلائه واستطالته بهذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 فسكَّن -عليه الصلاة والسلام- روعه شفقة، لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية بقوله: "فإني لست بملك"، لما يلزمها من الجبروتية، وقال: "أنا ابن امرأة تأكل القديد"، تواضعًا، لأن القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة. ولما رأته -عليه الصلاة والسلام- قبلة بنت مخرمة في المسجد، وهو قاعد القرفصي, أرعدت من الفرق. رواه أبو داود.   وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، والحاكم من حديث أبي مسعود البدري، والحاكم أيضًا من حديث جرير، "فسكن -عليه الصلاة والسلام- روعه" بالفتح، خوفه وفزعه، "شفقة؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وسلب عنه وصف الملوكية" أي: الوصف بكونه من الملوك، "بقوله: "فإني لست بملك"، لما يلزمها من الجبروتية" التكبر والافتخار، ولم يقل والجبرية، للإشارة إلى أنه من عطف اللازم على الملزوم، كما مَرَّ، "وقال: "أنا ابن امرأة" فنسب نفسه إليها، ولم يقل رجل، زيادة في شدة التواضع، وتسكين الروع، لما علم من ضعف النساء، ووصفها بأنها "تأكل القديد"، تواضعًا، لأنَّ القديد مفضول، وهو مأكول المتمسكنة" فكأنه قال: إنما أنا ابن امرأة مسكينة، تأكل مفضول الأكل، فكيف تخاف مني؟ "ولما رأته -عليه الصلاة والسلام- قبلة" بفتح القاف، وسكون التحتية، ولام، "بنت مخرمة" بفتح الميم، وإسكان المعجمة، التميمية، ثم من بني العنبر، هاجرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ولها حديث طويل فصيح، شرحه أهل الغريب, وقصة طويلة "في المسجد" بعد صلاة الصبح، "وهو قاعد القرفصي" مثلثة القاف، والفاء مقصورة، والقرفصاء بضم القاف، والراء على الاتباع أن يجلس على البنية، ويلصق خذيه ببطنه، ويحتبي بيديه؛ يضعهما على ساقيه، أو يجلس على ركبتيه منكبًّا، ويلصق بطنه بفخذيه، ويتأبط كفيه، قاله القاموس: "أرعدت من الفرق" -بفاء وراء مفتوحين وقاف: الخوف والفزع. "رواه أبو داود" والترمذي، والبخاري في التاريخ، عنها في حديثها الطويل، وروى ابن سعد، وابن جرير، والطبراني، وابن منده، عنها: لما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متخشعًا في الجلسة، وهو قاعد القرفصاء، أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال -صلى الله عليه وسلم: ولم ينظر إليّ، وأنا عند ظهره: "يا مسكينة عليك السكينة" , فلما قالها أذهب الله ما كان دخل قلبي من الرعب، ومتخشعًا، بضم الميم، وفوقية، فمعجمة مفتوحتين، فمعجمة، فمهملة من الخشوع، وهو الانقياد، والطاعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما ملأت عيني منه قط حياء منه وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفة لما قدرت، أو كما قال. وإذا كان هذا قوله وهو من جملة أصحابه، ولولا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يباسطهم ويتواضع لهم ويؤنسهم, لما قدر أحد منهم أن يقعد معه, ولا أن يسمع كلامه, لما رزقه الله تعالى من المهابة والجلالة. يبين ذلك ويوضحه ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا فرغ من ركوع الفجر حدث عائشة إن كانت مستيقظة، وإلّا اضطجع بالأرض ثم خرج بعد ذلك للصلاة، وما ذاك إلّا أنه -عليه الصلاة والسلام- لو خرج على تلك الحالة التي كان عليها، وما حصل له من القرب والتداني .............................................   "وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص" القرشي، السهمي، الصحابي، ابن الصحابي، "قال: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم" صحبة طويلة، وسمعت منه أحاديث كثيرة، وحفظت عنه ألف مثل، ومع ذلك "ما ملأت عيني منه قط، حياء منه، وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفه" بجميع أوصافه، "لما قدرت", فلا ينافي أنه وصفه ببعضها، "أو كما قال" عبد الله، شك الراوي، هل قال هذا اللفظ، أو معناه، "وإذا كان هذا قوله، وهو من جلة أصحابه" -بكسر الجيم، وشد اللام- جمع جليل، ويجمع أيضًا على أجلاء، قال المجد: قوم جلة بالكسر، عظماء سادة ذوو أخطار، وجواب إذا، محذوف، أي: فما بال بغيره، "ولولا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يباسطهم، ويتواضع لهم، ويؤنسهم، لما قدر أحد منهم أن يقعد معه، ولا أن يسمع كلامه، لما رزقه الله تعالى من المهابة، والجلالة" عطف تفسير "يبين" يظهر "ذلك ويوضحه" بعد ظهوره، أي: يكشف حقيقة أمره، "ما روي أنه -عليه الصلاة والسلام، كان إذا فرغ من ركوع الفجر" أي: صلاة ركعتيه قبل الصبح، "حدَّث عائشة إن كانت مسيقظة، وإلا اضطجع بالأرض", وهذا إذا كان ببيتها، لأنه كان يقسم، وحجر نسائه متصلة بالمسجد، فلا يأتي له مع القسم أن يتحدث معها بعد كل فجر، ثم يحتمل أنه كان يحدث من هو عندها، ولم ينقل، لأنهن لم يحدثن به، ويحتمل أن لا يحدث، ويقتصر على الاضطجاع، وفي الصحيحين عن عائشة: كان إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع على شقه الأيمن، "ثم خرج بعد ذلك للصلاة، وما ذاك إلّا أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يتهجد ليلًا ويشتغل بما يقربه من الله، فيظهر عليه حاله حتى يظن أنه ليس من البشر، "فلو خرج على تلك الحالة التي كان عليها، وما حصل له من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 في مناجاته وسماع كلام ربه وغير ذلك من الأحوال التي يكل اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه ولا يباشره، فكان -عليه الصلاة والسلام- يتحدث مع عائشة أو يضطجع بالأرض حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة أو من جنس أصل الخلقة التي هي الأرض. ثم يخرج إليهم، وما كان إلا رفقًا بهم، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} . قال ابن الحاج في المدخل. وقد جاء في الحديث أنه لما خُيِّرَ بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا, فنظر -عليه الصلاة والسلام- إلى جبريل كالمستشير له، فنظر جبريل إلى الأرض يشير إلى التواضع، فاختار -عليه الصلاة والسلام- العبودية، فلما كان تواضعه إلى الأرض؛ حيث أشار جبريل أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفيق الأعلى، إلى حضرة قاب قوسين أو أدنى، ........................................   القرب، والتداني، في مناجاته وسماع كلام ربه، وغير ذلك من الأحوال، التي يكل" بكسر الكاف، "اللسان عن وصف بعضها، لما استطاع بشر أن يلقاه، ولا يباشره، فكان -عليه الصلاة والسلام- يتحدث مع عائشة، أو يضطجع بالأرض" للتنويع، كما علم، "حتى يحصل التأنيس بجنسهم، وهو التأنيس مع عائشة" التي هي بشر، "أو من جنس أصل الخلقة، التي هي الأرض، ثم يخرج إليهم" ليتمكن الناس من مخالطته، والتكلُّم معه، "وما كان" يفعل ذلك "إلا رفقًا بهم {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43] الآية. كما قال تعالى وصفًا لذاته العليا في سورة الأحاب، وهو من صفات المصطفى أيضًا، كما قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] الآية. "قال ابن الحاج في المدخل" كتاب نفيس، "وقد جاء في الحديث أنه لما خُيِّر" على لسان إسرافيل، "بين أن يكون نبيًّا ملكًا، أو نبيًّا عبدًا، فنظر" جواب، لما أدخل المصنّف عليه الفاء على عادته، وهو قليل "-عليه الصلاة والسلام- إلى جبريل، كالمستشير له" لأنه يجب الاستشارة، "فنظر جبريل إلى الأرض، يشير إلى التواضع" لأن تركه طلب للرفعة المنهي عنها، وفي التواضع يعظم غيره، حتى كأنه نزل نفسه منزلة الملصق بالأرض، ثم الإشارة ليست بمجرد نظر الأرض، بل مع الإشارة باليد، ففي رواية، فأشار إلى جبريل بيده أن تواضع، فقلت: نبيًّا عبدًا. "فاختار -عليه الصلاة والسلام- العبودية، فلمَّا كان تواضعه إلى الأرض؛ حيث أشار جبريل، أورثه الله تعالى رفعته إلى السماء، ثم إلى الرفيق الأعلى، إلى حضرة قاب" قدر "قوسين، أو أدنى" أقرب من ذلك قرب مكانة لإمكان، لتنزهه سبحانه عنه، وخص القوسين؛ لأنهم كانوا إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 وقف بين يديه محمود بن الربيع، وهو صغير ابن خمس سنين، فمج -عليه الصلاة والسلام- في وجهه مجَّة من ماء من دلو يمازحه بها، فكان في ذلك من البركة أنه لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا تلك المجة، فعد بها من الصحابة, وحديثه مذكور في البخاري من طريق الزهري عنه. ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة وهو في مغتسله، فنضح الماء في وجهها، فكان في ذلك من البركة في وجهها أنه لم يتغير، فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها ظاهرًا في رونقها وهي ..............   أرادوا إيقاع صلح، أو عهد بينهم، يقف أحد المتصالحين تجاه الآخر، وفي يد كل منهما قوس يمده إلى صاحبه، بحيث يتلاقيان، "ووقف بين يديه محمود بن الربيع"، بن سراقة بن عمرو بن زيد الأنصاري الخزرجي، وزيادة ابن عبد البر من بني عبد الأشهل، ذهول؛ لأنهم من الأوس، وهذا من الخزرج، قيل: من بني الحارث بن الخزرج، وقيل: من بني سالم بن عوف، "وهو صغير ابن خمس سنين" كما في البخاري عنه، قال في الفتح: وذكر عياض في الألماع وغيره: إن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع، ولم أقف على هذا صريحًا في شيء من الروايات بعد التتبع التام، إلّا إن كان ذلك مأخوذًا من قول صاحب الاستيعاب، أنه عقل المجة، وهو ابن أربع، أو خمس، وكان الحامل له التردد، قول الواقدي أنه مات ابن ثلاث وتسعين، والأول أولى بالاعتماد لصحة سنده، على أن قول الواقدي: يمكن حمله إن صح على أنه ألقي الكسر، وجبره غيره، وقال في الإصابة: أكثر روايته عن الصحابة، وأمه جميلة بنت أبي صعصعة، ومات سنة تسع وتسعين، وكأنه مأخوذ من رواية الطبراني عنه، توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن خمس سنين. "فمجَّ -عليه الصلاة والسلام- في وجهه مجة من ماء" من بئر "من دلو" في رداهم "يمازحه بها، فكان في ذلك" المجّ "من البركة، أنه لما كبر لم يبق في ذهنه من ذكر رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- إلّا تلك المجة، فعدّ بها" بسبب تذكرها، وروايتها "من الصحابة" الراوين عن النبي -صلى الله عليه وسلم، لا من الصحابة الذين رأوه، بلا رواية، "وحديثه مذكور" أي: مروي "في البخاري، من طريق الزهري، عنه" إلّا: عقلت من النبي -صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي، وأنا ابن خمس سنين من دلو، "ودخلت عليه ربيبته زينب بنت أم سلمة" من أبي سلمة بن عبد الأسد، المخزومية، حفظت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وروت عنه، وعن أزواجه، أمها وعائشة، وأم حبيبة، وغيرهن، وعنها جماعة، وكانت فقيهة عالمة، "وهو في مغتسلة، فنضح الماء في وجهها، فكان" حصل "في ذلك من البركة في وجهها، أنه لم يتغيّر، فكان ماء الشباب ثابتًا في وجهها، ظاهرًا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 عجوز كبيرة. وحديثها مذكور في البخاري. فقد علمت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان مع أصحابه وأهله، ومع القريب والغريب من سعة الصدر ودوام البشر وحسن الخلق والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه, والمزح مع الصغير والكبير أحيانًا، وإجابة الداعي, ولين الجانب, حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه. وهذا الميدان لا تجد فيه إلا واجبًا أو مستحبًّا أو مباحًا، فكان يباسط الخلق ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته من ظلمات دياجي الجهل، ويقتدوا بهديه -صلى الله عليه وسلم.   رونقها" أي: حسنها وبهجتها، "وهي عجوز كبيرة" ولدت بالحبشة، وماتت سنة ثلاث وسبعين، وكان دخولها عليه بإشارة أمها، قال في الإصابة: روينا في الخلعيات، عن عطاف بن خالد، عن أمه، عن زينب بنت أبي سلمة، قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل يغتسل، تقول أمي: أدخلي عليه، فإذا دخلت نضح في وجهي، ويقول: "ارجعي"، قالت أم عطاف: فرأيت زينب، وهي عجوز كبيرة، ما نقص من وجهها شيء، وفي رواية، ذكرها أبو عمر: فلم يزل ماء الشباب في وجهها، حتى كبرت وعمرت، "وحديثها مذكور في البخاري". "فقد علمت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان مع أصحابه، وأهله، ومع القريب والغريب،" على غاية "من سعة الصدر" يفتح السين على الأشهر، وحكى كسرها، "ودوام البشر" بكسر، فسكون، "وحسن الخلق" بالضم "والسلام على من لقيه، والوقوف مع من استوقفه، والمزح مع الصغير والكبير أحيانًا" إذا اقتضاه المقام، "وإجابة الداعي" ولو عبدًا، "ولين الجانب، حتى يظن كل واحد من أصحابه أنه أحبهم إليه" وقد وقع ذلك لعمرو بن العاص، "وهذا الميدان" بفتح الميم، وكسرها، محل تسابق الفرسان، والمراد هنا الحالة التي اتصف بها -صلى الله عليه وسلم- مع الخلق، شبهها بالميدان، لشدة اتساعها وسهولتها، واستعار لها لفظه، "لا تجد فيه لّا واجبًا، أو مستحبًّا، أو مباحًا، فكان يباسط الخلق، ويلابسهم ليستضيئوا بنور هدايته، من ظلمات دياجي الجهل" أي: من ظلم ليالي الجهل، أو من ظلمات هي دياجي الجهل، ففي القاموس: دياجي الليل حنادسه، والحندس، بالكسر: الليل المظلم، فيمكن أن إضافة دياجي إلى الجهل من إضافة الموصوف إلى صفته، أي: الجهل الذي هو كالليل المظلم، "ويقتدوا بهديه -صلى الله عليه وسلم" هكذا في النسخ الصحيحة، ليستيضيئوا ويقتدوا، وفي نسخة، بالنون فيهما، والصواب حذفها، وادَّعى البعض أنها لغة قليلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 وكانت مجالسته -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم عامَّتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والمواعظ الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدِّين، كما أمره الله تعالى أن يذكِّر ويعظ ويقص، وأن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشِّر وينذر، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقَّة القلوب، والزهد في الدنيا, والرغبة في الآخرة، كما ذكره أبو هريرة مما رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه قال: قلنا يا رسول الله: ما لنا إذا كنَّا عندك رقَّت قلوبنا وزهدنا في الدنيا, وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك عافسنا أهلنا وشممنا أولادنا وأنكرنا أنفسنا. فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك لزارتكم الملائكة في ........................................................   "وكانت مجالسته -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه -رضي الله عنهم- عامَّتها مجالس تذكير بالله، وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن" وهو مشتمل على الثلاثة، "أو بما آتاه الله تعالى من الحكمة، والمواعظ الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدين، كما أمره الله تعالى أن يذكر" في نحو: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] الآية. "ويعظ" في نحو قوله: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} الآية. "ويقص" {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] الآية. "وأن يدعو إلى سبيل الله" ربه، دينه بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] الآية. القرآن "والموعظة الحسنة" مواعظ القرآن، أو القول الرقيق، "وأن يبشر" في نحو: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} الآية. "وينذر" نحو: {قُمْ فَأَنْذِرْ} الآية، "فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقَّة القلوب، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة" حتى قال ابن مسعود: ما كنت أظن أحدًا من الصحابة يريد الدنيا، حتى نزل منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، "كما ذكره أبو هريرة مما رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، قال: قالنا يا رسول الله، ما لنا إذا كنا عندك، رقت" لانت "قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك، عافسنا أهلنا، وشممنا" بكسر الميم، والفتح لغة، كما مرّ "أولادنا" بالإقبال عليها بالملاطفة والرفق، وتقبيل صغارهم، والشفقة عليهم، فأطلق الشم على ذلك مجازًا بتشبيه ما أدركوه من أولادهم بالرائحة الطيبة، ومخالطتهم لهم على هذا الوجه بالشم. كذا حمله شيخنا، والأولى بقاؤه على حقيقته، "وأنكرنا أنفسنا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي، كنتم على حالكم ذلك" الذي تكونون عليه عندي، إشارة إلى أن الدوام عليها عزيز، وإن عدمه لا يوجب معتبة لما طبع عليه البشر من المعتبة، "لزارتكم الملائكة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 بيوتكم. الحديث. وقوله: عافسنا: بالعين المهملة وبعد الألف فاء فسين مهملة ساكنة -أي: عالجنا أهلنا ولاعبناهم. ومن تواضعه -صلى الله عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقًا قط، ولا عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه رواه الشيخان.   بيوتكم" لفظ أحمد، والترمذي: "لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم" , قال بعض العلماء: معناه، لو أنكم في معاشكم، وأحوالكم، كحالتكم عندي، لأظلتكم الملائكة، لأن حال كونكم عندي حال مواجيد، والذي يجدونه معه خلاف المعهود، إذا رأوا الأموال والأولاد، ومعه يرون سلطان الحق، ويشاهدونه، وترق أنفسهم لزوال سلطان الشهوة، ولم تصافحهم عنده؛ لأنها لم تكن حالتهم، بل حالة الحق، ولو كان ما يجدونه عنده حالهم، لكانت حالة ثابتة لهم هبة من الله، والله لا يرجع في هبة، ولا يسلب كرامته إلّا بالتقصير في واجباته، "الحديث" بقيته، "ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون، كي يغفر لهم"، وأخرجه أبو يعلى والبزار، برجال ثقات من حديث أنس بلفظ: "لو أنكم إذا خرجتم من عندي، تكونون على الحال الذي تكونون عليها، لصافحتكم الملائكة بطرق المدينة"، وأخرج مسلم، والترمذي، وابن ماجه، والإمام أحمد، عن حنظلة الأسيدي، أنه سأل نحو سؤال أبي هريرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لو كنتم تكونون في بيوتكم، على الحالة التي تكونون عليها عندي، لصافحتكم الملائكة، ولأظلتكم بأجنحتها، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" , وقوله: "عافسنا، بالعين المهملة، وبعد الألف فاء، فسين مهملة ساكنة، أي: يعالجنا أهلنا ولاعبناهم" نحوه قول النهاية المعافسة، المعالجة، الممارسة، والملاعبة، "ومن تواضعه -صلى الله عليه وسلم- أنه ما عاب ذواقًا" أي مذوقًا "قط", من إطلاق المصدر على اسم المفعول، قال في الدرر: الذواق المأكول والمشروب، فعال بمعنى مفعول من الذوق، "ولا عاب طعامًا قط" سواء كان من صنع الآدمي أم لا، فلا يقول مالح نيء، ونحو ذلك، "إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه" واعتذر بأنه لم يكن بأرض قومه، كالضب، وهذا، كما قال ابن بطال من حسن الأدب، لأن المرء قد لا يشتهي الشيء ويشتهيه غيره، وكل مأذون فيه من جهة الشرع لا عيب فيه. انتهى. ثم هو بمعنى ما قبله، ففي المصباح: الطعام يقع على كل ما يساغ حتى الماء، وذوق الشيء، "رواه الشيخان" البخاري في الصفة النبوية، والأطعمة، ومسلم في الأطعمة من حديث أبي هريرة، قال: ما عاب النبي -صلى الله عليه وسلم- طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه، وفي رواية وإلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 وهذا إذا كان الطعام مباحًا، أمَّا الحرام فكان يعيبه ويذمّه وينهي عنه، وذهب بعضهم إلى أن العيب إذا كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأنَّ صنعة الله تعالى لا تعاب، وصنعة الآدميين تعاب. قال في فتح الباري: والذي يظهر: التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع. قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكد أن لا يعاب، كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ، رقيق، غير ناضج ونحو ذلك. ومن تواضعه: إن هذه الدنيا شاع سبها في العالمين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدنيا"، ثم مدحها فقال: "نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر" ............   تركه، ولم يقع فيهما ما عاب ذواقًا قط، "وهذا إذا كان الطعام مباحًا، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه" للمنع عنه شرعًا، لا من حيث ذاته، فقد يكون حسن المذاق والصنعة، "وذهب بعضهم إلى أن العيب إن كان من جهة الخلقة كره، وإن كان من جهة الصنعة لم يكره، قال: لأن صنعة الله تعالى لا تعاب" فلذاكره ذمه، "وصنعة الآدميين تعاب" فلا يكره عيبه، "قال في فتح الباري: والذي يظهر التعميم، فإن فيه كسر قلب الصانع" بالنسبة للشق الثاني، الذي قال البعض بعدم كراهة ذمه، وأما الأول، فقد سلم كراهته، وعلَّله بأن صنعة الله لا تعاب، فالمعنى: أن للتعميم علتين، ذكر إحداهما هذا البعض، وفاتته الأخرى مع ظهورها بكسر قلب الصانع، وبهذا ظهر تعسف من قال: لا يصلح هذا دليلًا على التعميم، وإنما يناسب ما صنعه الآدميون، إلّا أن يقال ما لا صنع فيه للآدمي، كالفواك، يمكن عيبه من حيث زراعته، وخدمته، وقطعه قبل كمال نضجه، ونحو ذلك، فهو وإن كان إيجاده، إنما أيضًا فلله، لكن تدبيره وتهيئته للانتفاع به، يضاف للآدمي عادة، فذمه يكسر قلبه من هذه الجهة. "قال النووي: ومن آداب الطعام المتأكدة" أي: الأمور المستحسنة المتعلقة به، "أن لا يعاب"؛ لأن المصطفى ما عاب طعامًا قط، ومعلوم الاقتداء به في أقواله، وأفعاله وغيرهما، فذكر هذا ليبين بعض أنواع العيب، "كقوله: مالح، حامض، قليل الملح، غليظ" أي: ثخين "رقيق غير ناضج" أي: نيء، "ونحو ذلك" بالجر عطف على مدخول الكاف، فذكره إيضاح، "ومن تواضعه إن هذه الدنيا" ما بين السماء والأرض، "شاع سبها في العالمين" قديمًا وحديثًا، فنهى عن ذلك، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدنيا"، ثم مدحها فقال: "نعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر" , فإن قيل ما وجه كون هذا من التواضع، مع أنه هضم النفس من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 وقال: "لا تسبوا الدهر" رواه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: "ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر" , وفي لفظ له: "يسب بنو آدم الدهر وأنا الدهر, ...................   الملكات، تتصاغر تواضعًا، وفي القاموس: تواضع لله ذلَّ وخشع، قلنا: لعل وجهه من جهة أن الذين يسبونها يظهرون الاستغناء عنها، وعدم الاعتبار بها، مع أنه خلاف الواقع, فمدحه -صلى الله عليه وسلم- لها, ونهيه عن سبها، فيه إظهار للمحقق من احتياج في فيها إليها، وقال: "لا تسبوا الدهر". رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة، وزاد: "فإن الله هو الدهر"، وفي رواية: "فإن الدهو هو الله"، قال ابن الأثير: كان من شأن العرب أن تذم الدهر وتسبه عند النوازل والحوادث، ويقولون: أبادهم الدهر، وأصابتهم قوارع الدهر وحوادثه، ويكثرون ذكره بذلك في أشعارهم، وذكره الله عنهم، فقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الآية، نموت ونحيى، وما يهلكنا إلا الدهر، والدهر اسم للزمان الطويل، وهذه الحياة الدنيا، فنهاهم -صلى الله عليه وسلم- عن ذم الدهر وسبه، أي: لا تسبّوا فاعل هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتموه وقع السب على الله؛ لأنه الفعال لما يريد، لا الدهر، فتقدير رواية: "فإن الدهر هو الله"، فإن جالب الحوادث ومتوليها هو الله لا غيره، فوضع الدهر موضع جالب الحوادث، لاشتهار الدهر عندهم بذلك، وتقدير رواية: "فإن الله هو الدهر"، فإن الله هو الجالب للحوادث، لا غيره الجالب، ردًّا لاعتقادهم أن جالبها الدهر. انتهى. "رواه" الحديث لا بهذا اللفظ، فإنه رواية مسلم، كما علمت لا البخاري، نعم ترجم به "البخاري" وكذا مسلم أيضًا، كلاهما في كتاب الأدب "من حديث أبي هريرة، بلفظ "لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا خيبة الدهر" بالخاء المعجمة، والموحدة المفتوحتين، بينهما تحتية ساكنة، نصب على الندبة، كأنه فقد الدهر، لما يصدر عنه مما يكرهه، فندبه متفجعًا عليه، أو متوجعًا منه، وقال الداودي: هو دعاء عليه بالخيبة، كقولهم: قحَّط الله نواها، يدعون على الأرض بالقحط، وهي كلمة هذا أصلها، ثم صارت تقال لكل مذموم، وفي رواية لمسلم: وادهراه وادهراه، والخيبة الحرمان والخسران، قاله الحافظ وتبعه المصنف، وزاد: وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل. انتهى. وقال الكرماني: خيبة بالنصب، مفعول مطلق، أي: لا تقولوا هذه الكلمة، أو لا تقولوا ما يتعلق بخيبة الدهر ونحوها، ولا تسبوه، "فإن الله هو الدهر" أي الفاعل، ما يحدث فيه، قال القاضي عياض: زعم بعض من لا تحقيق عنده، أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، "وفي لفظ له" للبخاري، وكذا مسلم أيضا، كلاهما في أدب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: "يسب بنو آدم الدهر"، وفي رواية "يؤذيني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 بيدي الليل والنهار". وعند مسلم في حديث: "لا يسب أحدكم الدهر".   ابن آدم يسب الدهر"، قال القرطبي: معناه: يخاطبني من القول بما يتأذّى به من يجوز في حقه التأذي, والله منَزَّه عن أن يصل إليه الأذى، وإنما هذا التوسع في الكلام والمعنى، أن من وقع ذلك منه تعرض لسخط الله، قال الحافظ: وهذا السياق مختصر، وقد رواه الطبري. عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، هو الذي يميتنا ويحيينا، فقال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] الآية، قال: فيسبون الدهر، قال الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر". قال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي تنسبونها إلى الدهر، فمن سبَّ الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفًا لمواقع الأمور، وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر، فقالوا: بؤسًا للدهر، وتبًّا للدهر، وقال النووي: أنا الدهر، بالرفع في ضبط الأكثرين والمحققين، ويقال بالنصب على الظرف, أي: أنا باق أبدًا، والموافق لقوله: "فإن الله هو الدهر" الرفع، هو مجاز، وذلك لأنَّ العرب كانت تسب الدهر عند الحوادث، فقال: لا تسبوه فإن فاعلها هو الله، فإن سببتموه سببتموني، أو الدهر هنا بمعنى الداهر، فقد حكى الراغب أن الدهر في يسب بنو آدم الدهر، هو الزمان، وفي، فإن الله هو الدهر, المدبر المصرف لما يحدث، ثم استضعفه لعدم الدليل على، وبأنه لو كان كذلك لعد من أسماء الله، وكذا قال محمد بن داود الظاهري محتجًّا لروايته، بفتح الراء، بأنه لو كان بضمها لكان من أسماء الله، وتعقَّب بأن ذلك ليس بلازم، ولا سيما مع رواية، فإن الله هو الدهر. قال ابن الجوزي: يصوّب ضم الراء من أوجه، أحدها: إن الضم رواية المحدثين، ثانيها: لو نصب صار، التقدير، فإنا لدهر أقلبه، فلا تكون على النهي عن سبه مذكورة؛ لأنه تعالى يقلّب الخير والشر، فلا يستلزم ذلك منع الذم، ثالثها: رواية: "فإن الله هو الدهر" انتهى. وهذه الأخيرة لا تعين الرفع، لأن للمخالف أن يقول التقدير: فإن الله هو الدهر يقلبه لترجع للرواية الأخرى، وكذا ترك علة النهي لا يعين، لأنها تعرف من السياق، أي: لا ذنب له، فلا تسبوه. انتهى. "بيدي الليل والنهار" وفي رواية أحمد "ولا تسبوا الدهر، فإن الله تعالى"، قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أحددها، وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك، "وعند مسلم في حديث: "لا يسب أحدكم الدهر". قال في الفتح: ومعنى النهي عن سبه: إن من اعتقد أنه فاعل للمكروه فسبَّه أخطأ، فإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 ومحصل ما قيل في تأويله، ثلاثة أوجه: أحدها: إن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"، أي: المدبر للأمور. ثانيها: إنه على حذف مضاف. أي: صاحب الدهر. ثالثها: التقدير: مقلب الدهر. ولذلك عقَّب في رواية البخاري: "بيدي الليل والنهار". وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر، ومن جرى على لسانه غير معتقد لذلك فليس بكافر، لكن يكره له ذلك لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق.   الله هو الفاعل، فإذا سبه رجع إلى الله، قال: "ومحصل ما قيل في تأويله" لعدم جواز بقائه على ظاهره، "ثلاثة أوجه، أحدها: إن المراد بقوله: "إن الله هو الدهر"، أي: المدبر للأمور" ومنها جلب الحوادث ودفعها، "ثانيها: إنه على حذف مضاف, أي: صاحب الدهر" أي الخالق له؛ إذ هو مده زمان الدنيا كما قال القاضي عياض, "ثالثها": إنه أيضًا لكن "التقدير مقلب الدهر" بالإضافة، وعدمها "ولذلك عقب في رواية البخاري" المذكورة "بيدي الليل والنهار" أقلبهما كيف شئت، وأجددهما وأبليهما،"وقال المحققون: من نسب شيئًا من الأفعال إلى الدهر حقيقة كفر"؛ لأنه ذهب مذهب الدهرية من الكفار المنكرين للصنع، زاعمين أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك النفوس، منكرين ملك الموت، وقبضه للأرواح بأمر الله، ويضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان، وأشعارهم ناطقة بشكواه، ويعتقدون أن في كل ثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا، قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا القول، وكذبوا النقول، ووافقهم مشركوا العرب، وذهب إليه آخرون، لكنهم اعترفوا بوجود الصانع، الإله الحق -عز وجل، إلا أنهم نزهوه أن تنسب إليه المكاره، فأضافوها إلى الدهر فنسبوه. "ومن جرى على لسانه" بأن قصد النطق حالة كونه "غير معتقد، لذلك فليس بكافر، لكن يكره له ذلك، لتشبهه بأهل الكفر في الإطلاق" زاد في الفتح، وهذا نحو التفصيل في قولهم: مطرنا بنوء كذا, وقال عياض: زعم بعض من لا تحقيق له أن الدهر من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان لدنيا، وعرفه بعضهم؛ بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا، أو فعله، لما قبل الموت، وقد تمسك الجهلة من الدهرية والمعطلة بظاهر هذا الحديث، واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، وهو بنفسه حجة عليهم؛ لأن الدهر عندهم حركات الفلك وأمد العالم، ولا شيء عندهم، ولا صانع سواه، وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: "أنا الدهر أقلبه ليله ونهاره"، فكيف يقلب الشيء نفسه, تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا، وقال ابن أبي جمرة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 وما خيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه. رواه البخاري. أي بين أمرين من أمور الدنيا لا إثم فيهما، وأبهم "فاعل" خُيِّرَ ليكون أعمّ, من قِبَلِ الله أو من قِبَلِ المخلوقين. وقوله: إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما: أي ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم, فإنه حينئذ يختار .............   لا يخفى أن من سب الصنعة، فقد سبَّ صانعها، فمن سب الليل والنهار، أقدم على أمر عظيم بغير معنى، ومن سب ما يجري فيهما من الحوادث، وذلك هو أغلب ما يقع من الناس، وهو الذي يعطيه سياق الحديث؛ حيث نفى عنهما التأثير، فكأنه قال: لا ذنب لهما في ذلك. وأما الحوادث، فمنها ما يجري بواسطة العاقل المكلَّف، فهذا يضاف شرعًا ولغة إلى الذي أجري على يديه، ويضاف إلى الله، لكونه بتقديره، فأفعال العباد من اكتسابهم، ولذا تترتَّب عليها الأحكام، وهي في الابتداء خلق الله، ومنها ما يجري بلا واسطة، فهو منسوب إلى قدرة القادر، وليس لليل والنهار فعل ولا تأثير، لا لغة ولا عقلًا ولا شرعًا، وهو المعنى في هذا الحديث، ويلتحق بذلك ما يجري من الحيوان غير العاقل، ثم النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى الأدنى، فلا يسب شيء مطلقًا، إلا ما أذن الشرع فيه؛ لأن العلة واحدة، واستنبط منه أيضًا منع الحيلة في البيوع، مثل العينة؛ لأنه نهى عن سب الدهر، لما يئول إليه من حيث المعنى، وجعله سبًّا لخالقه. انتهى. "وما خُيِّرَ -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلّا اختار" وفي رواة: إلا أخذ "أيسرهما" أسهلهما، "ما لم يكن إثمًا، فإن كان" الأيسر "إثما كان أبعد الناس منه". "رواه البخاري" في الصفة النبوية والأدب، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الأدب، كلهم من حديث عائشة، وتمامه "وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، إلّا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها". "أي بين أمرين من أمور الدنيا" يدل عليه قوله: ما لم يكن إثمًا؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، هكذا شرحه الحافظ بإفراده ضمير فيها، فسقط من قلم المصنف بعض الكلام، فأتى بقوله: "لا إثم فيهما" مثنى عائدًا على الأمرين، فضاع قوله ما لم يكن إثمًا، فاللائق بقاء الأمرين على عمومهما، اللهمَّ إلّا أن يكون قيد بذلك، نظرًا لكونه -صلى الله عليه وسلم- لا يخيِّر بين حرامين، ولا حرام وغيره، "وأبهم" الشخص الراوي عائشة، "فاعل خير" بمعنى بناء للمجهول، "ليكون أعم" من أن يكون التخيير "من قِبَلِ الله تعالى، أو من قِبَلِ المخلوقين" أي جهتهم، "وقوله: إلّا اختار، أيسرهما" وقوله، أي: مع قوله: "ما لم يكن إثمًا، أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم، فإنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 الأشد. وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قِبَلِ المخلوقين واضح. ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يكن له بوّاب راتب، كما جاء عن أنس أنه قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بامرأة وهي تبكي عند قبر، فقال: "اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني فإنك خلو من مصيبتي، قال فجاوزها ومضى. فمر بها رجل فقال لها: ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما عرفته، قال: إنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم.   حينئذ يختار الأشد" على النفس، لما فيه من عدم الجر إلى الإثم، "وفي حديث أنس عند الطبراني في الأوسط: إلا أختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط، ووقوع التخيير بين ما فيه إثم، وما لا إثم فيه من قِبَلِ المخلوقين واضح" زاد الحافظ، وأما من قِبَلِ الله ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين، لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك، بأن يخيِّره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به، أن لا يتفرغ لعبادة مثلًا، وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفر، فيختار الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبي لا يراد منه معنى الخطيئة؛ لثبوت العصمة له. انتهى. "ومن تواضعه -عليه الصلاة والسلام- أنه لم يكن له بوَّاب راتب" فلا ينافي وجود بواب أحيانًا، لأمر ما، "كما جاء عن أنس، أنه قال: مرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بامرأة" لم يعرف الحافظ اسمها، "وهي تبكي عند قبر" زاد في رواية بد الرزاق مرسلًا: فسمع منها ما يكره، أي: من نَوْحٍ، أو غيره، ولم يعرف الحافظ أيضًا اسم المقبور، قال: لكن في رواية مسلم إشعار بأنه ولدها، ولفظه تبكي على صبي لها، وصرَّح به عبد الرزاق في مرسل يحيى بن أبي كثير، ولفظه: قد أصيبت بولدها، "فقال" لها: "يا أمة الله اتقي الله" خافي غضبه "واصبري" لا تجزعي ليحصل لك الثواب، "فقالت: إليك" اسم فعل، بمعنى تنح وابعد، "عني فإنك خلو" بكسر المعجمة، وسكون اللام، وبالواو، فارغ خالي البال "من مصيبتي" وفي رواية، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، "قال: فجاوزها ومضى، فمرَّ بها رجل" هو الفضل بن عباس، كما عند الطبراني في الأوسط، "فقال لها: ما قال لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟، قال: ما عرفته"؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شدة الوجد والبكاء، "قال: إنه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد مسلم في رواية، فأخذها مثل الموت من شدة الكرب الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا. الحديث رواه البخاري. لكن في حديث أبي موسى الأشعري: أنه كان بوابًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما جلس على القف. وجمع بينهما: بأنه كان -عليه الصلاة والسلام- إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة إليه.   أصابها، لما عرفت أنه رسول الله، "قال: فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابًا"، بالإفراد عند البخاري في الأحكام، وله في الجنائز: فلم تجد عنده بوابين -بالجمع، وفائدة هذه الجملة: إنه لما قيل لها إنه لرسول الله، استشعرت خوفًا وهيبة في نفسها، فتصورت أنه كالملوك له حاجب وبواب، يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته، كذا قال الطيب: "الحديث" بقيته، فقالت: لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى". "رواه البخاري" في الجنائز والأحكام، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي في الجنائز، وهو صريح، في أنه لم يكن له بواب، "لكن في حديث أبي موسى الأشعري؛ أنه كان بوابًا للنبي -صلى الله عليه وسلم، لما جلس على القف" بضم القاف، وبالفاء: الدكة تجعل حول البئر، أو حافة البئر، روى البخاري، ومسلم أن أبا موسى توضأ في بيته، ثم خرج، فقلت: لألزمنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولأكوننَّ معه يومي هذا، فجاء المسجد فسأل عنه، فقالوا: خرج ووجه ههنا، فخرجت أثره أسأل عنه، حتى وجدته دخل بئر أريس، فجعلت عند الباب، وبابها من جريد، حتى قضى -صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسَّط قفها، وكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، فسلَّمت عليه، ثم انصرفت، فجلس عند الباب، فقلت: لأكونن بوَّاب رسول الله اليوم، زاد البخاري في الأدب: ولم يأمرني الحديث في مجيء أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، واستئذانه لهم، وقوله -عليه السلام- في كلٍّ: "افتح له وبَشِّره بالجنة"، وفي رواية أبي عوانة، فقال لي: "أملك على الباب، فلا يدخل علي أحد" وجمع النووي باحتمال أنه أمره بحفظ الباب، حتى يقضي حاجته ويتوضأ، لأنها حالة تستر، ثم حفظه أبو موسى من تلقاء نفسه، وادَّعى الشارح أن عبارة المصنف تشعر بأنه اتخذه بوابًا، وهو خلاف الحديث, إلّا أن يكون لما أقره نسب إليه، وليت شعري من أين الإشعار مع أن لفظه أنه كان بوابًا، ولم يقل اتخذه بوابًا, إلا أن ادعى أن الإشعار من الجمع المذكور بقوله: "وجمع بينهما؛ بأنه كان -عليه الصلاة والسلام- إذا لم يكن في شغل من أهله، ولا انفراد من أمره، أنه" الأولى، حذفها وكأنه أتى بها مذكرة للسابقة، "كان يرفع حجابه بينه وبين الناس، ويبرز لطالب الحاجة إليه" أي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 وفي حديث عمر -رضي الله عنه- حين استأذن له الأسود في قصة حلفه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يدخل على نسائه شهرًا، ففيه: أنه كان في وقت خلوته يتَّخذ البواب، ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي. ولكن يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذائه عليه، فلما أذن له اطمأن. وقد اختلف في مشروعية الحجاب للحاكم. فقال الشافعي وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا. وذهب آخرون إلى جوازه. وحمل الأوّل على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحبّ ذلك ليرتب الخصوم ويمنع المستطيل، ويدفع الشرير، والله تعالى أعلم.   وإذا اشتغل بأمر نفسه اتخذ بوابًا. "وفي حديث عمر -رضي الله عنه، حين استأذن له" العبد "الأسود" رباح، الآتي "في قصة حلفه -صلى الله عليه وسلم- أن لا يدخل على نسائه شهرًا، ففيه أنَّه كان في وقت خلوته" وهو يتَّخذ البواب وقتها، "ولولا ذلك لاستأذن عمر بنفسه، ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي، ولكن"، لا دليل فيه، إذ "يحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون" المصطفى "وجد" غضب "عليه، بسبب ابنته" حفصة أم المومنين؛ إذ كانت من جملة سبب الحلف، كما تقدَّم في القصة "فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلمّا أذن له اطمأنَّ" سكن ودخل عليه، "وقد اختلف في مشروعية الحجَّاب للحاكم، فقال الشافعي، وجماعة: ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبًا" لأنه المعروف من حال المصطفى، وقد روى أحمد في الزهد، وغيره، عن الحسن: والله ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحُجَّاب، ولا يغدي عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزًا, من أراد أن يلقى نبي الله لقيه، كان يجلس على الأرض ويطعم الطعام بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده، "وذهب آخرون إلى جوازه، وحمل الأول على زمن سكون الناس، واجتماعهم على الخير، وطواعتهم للحاكم، وقال آخرون: بل يستحب ذلك ليرتب الخصوم، ويمنع المستطيل ويدفع الشرير، والله تعالى أعلم" بالحق من ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وأمَّا ما روي من حيائه -صلى الله عليه وسلم، فحسبك ما في البخاري من حديث سعيد: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياءً من العذراء في خدرها. والعذراء هي البكر. والخدر: بكسر الخاء المعجمة -أي في سترها. وهو من باب التتميم، لأنَّ العذراء في الخدر يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجها، لكون الخلوة مظنَّة وقوع الفعل بها. فالظاهر: أن المراد تقييده بما إذا دخل عليها .................   "وأما ما روي من حيائه -صلى الله عليه وسلم" لم يقل: وأما حياؤه على منوال سابقه ولاحقه؛ إذ الفصل معقود لبيان الصفات، لا المروي كأنه، لأن حياءه وقوته علم من مواضع، كالصريحة في كلامه، ولأن اتصافه به ثابت مشهور عند الناس، خاصتهم وعامتهم، لا يحتاج لبيان، فلم يجعله مقصودًا، وإنما القصد بيان الروايات الواردة فيه، وجواب أمَّا محذوف، أي: ففيه أحاديث كثيرة، "فحسبك" أي: يكفيك عن طلب حقيقة حيائه،؛لأنك إذا علمت وصفه بما ذكر، علمت أنه لا يساويه فيه أحد، "ما في البخاري" في الصفة النبوية، والأدب، ومسلم في الفضائل، وابن ماجه في الزهد، "من حديث أبي سعيد" الخدري، قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد حياء" نصب على التمييز، وهو تغير وانكسار عند خوف ما يعاب أو يذم، "من العذراء" بالذال المعجمة، البكر، لأنَّ عذرتها وهي جلدة البكارة باقية، "في خدرها" وأخرجه البخاري من وجه آخر، عن أبي سعيد بزيادة: وإذا كره شيئًا عُرِفَ في وجهه، وهو إشارة إلى أنَّه لم يكن يواجه أحد إنما يكرهه بل يتغير وجهه، فيفهم أصحابه كراهته لذلك، كما في الفتح: "والعذراء" بالمد، "هي البكر" ذات العذرة، وجمعها عذارى، بفتح الراء، وكسرها، فهما مترادفان لغة، وأما شرعًا: فالعذراء أخص من البكر، لأنها من لم تزل عذرتها بشيء، والبكر من لم تزل بكارتها بوطء، ولو أزيلت بسقطة وحدة حيض، ونحوهما، "والخدر، بكسر الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة مبتدأ وخبر، وقوله: "أي: في سترها" تفسير لقوله في خدرها، والإضافة عهدية, أي: في الستر المعهود اتخاذه لها، قال المجد: الخدر: ستر يمد للجارية، أي: البنت في ناحية البيت، كالأخدور، وكل ما واراك من بيت ونحوه، جمعه خدور وأخدار. "وهو من باب التتميم؛ لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر مما تكون خارجها، لكون الخلوة مظنة وقوع الفعل" الوطء "بها، فالظاهر أن المراد تقييده" أي: قوة حيائها في خدرها، "بما إذا دخل عليها" بالبناء للفاعل، أي: من تحتشمه أخذًا من قوله: أولًا، لكون الخلوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 في خدرها لا حيث تكون منفردة فيه. والحياء -بالمد- وهو من الحياة، ومنه: الحيا للمطر، لكن هو مقصور، وعلى حسب حياة القلب تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتم. وهو في اللغة: تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرَّد ترك الشيء بسبب. والترك إنما هو من لوازمه. وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير من حق ذي الحق.   إلخ .... ، أو المفعول، أي: دخل أحد، ولو امرأة "في خدرها" فحينئذ يشتد حياؤها، "لا حيث تكون منفردة فيه" فقد لا يحصل لها حياء، أو لا يشتد لعدم مقتضيه. زاد الحافظ: ومحل وجود الحياء منه -صلى الله عليه وسلم- في غير حدود الله، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا: "أنكتها لا يكنى"، كما في الصحيح في كتاب الحدود، وأخرج البزار هذا الحديث، عن أنس، وزاد في آخره، وكان يقول الحياء خير كله، وأخرج عن ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قط، وإسناده حسن. انتهى. وروى أحمد، وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، والترمذي في الشمائل، عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يواجه أحد في وجهه بشيء يكرهه، فدخل عليه يومًا رجل وعليه أثر صفرة، فلما قام قال لأصحابه: لو غير، أو نزع هذه الصفة، وفي رواية: لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة، "والحياء، بالمد" مبتدأ وخبر، "وهو" مأخوذ "من الحياة"؛ لأنه ينشأ عن تمييز الحسن من القبيح، ومنشأ ذلك وجود الحياة التي هي صفة تصبر ذا الروح حيًّا، "ومنه" أي: المعنى المأخوذ منه الحياء الممدود، "الحيا للمطر، لكن هو مقصور" على المشور، ويمد كما في القاموس، "وعلى حسب حياة القلب" يقظته، ومعرفته، لما يضره وينفعه في الدارين، "تكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح" أي: فقد صفاتها المقتضية للكمال لا الجسم اللطيف، "وكلما كان القلب حيًّا كان الحياء أتمّ" ولذا كان تمام الحياء في المصطفى؛ إذ لا قلب أحيى من قلبه، "وهو في اللغة تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه" فتسميته حياء مجاز من تسمية اللازم باسم ملزومه، "وفي الشرع: خلق يبعث" يحمل من قام به "على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق" وهو الله تعالى في حق عباده، والصديق في حق صديقه، والسيد في حق عبده, إلى غير ذلك، ولذا جاء في الحديث: "الحياء من الإيمان، والحياء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وقال ذو النون: الحياء وجود الهيبة في الخلق، مع وحشة ما يسبق منك إلى ربك، والحب ينطق والحياء ............   خبر كله، والحياء لا يأتي إلا بخير"، وهذا التعريف الذي ذكره المصنف لغة، وشرعًا لفظ الفتح في باب أمور الإيمان، ثم قال فيه: في باب الحياء من الإيمان، ما لفظه، قال الراغب: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان؛ ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو مركَّب من خير وعفة، فلذا لا يكون المستحي فاسقًا، وقلَّما يكون الشجاع مستحيًا، وقد يكون لمطلق الانقباض، كما في بعض الصبيان. انتهى ملخصًا. وقال غيره: هو انقباض النفس خشية ارتكاب ما يكره، أعم من أن يكون شرعيًّا، أو عقليًّا، أو عرفيًّا، ومقابل الأول فاسق، والثاني مجنون، والثالث أبله. وقال الحليمي: حقيقة الحياء خوف الذم بنسبة الشر إليه، وقال غيره: إن كان في محرم، فهو واجب، وإن كان في مكروه، فهو مندوب، وإن كان في مباح، فهو العرفي، وهو المراد بقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير"، ويجمع كل ذلك؛ أنَّ المباح إنما هو ما يقع على نهي الشرع إثباتًا ونفيًا، وجاء عن بعض السلف: رأيت المعاصي نذالة، فتركتها مروءة، فصارت ديانة، وقد يتولد الحياء من الله تعالى، من التقلب في نعمة، فيستحي العاقل أن يستعين بها على معصيته، وقد قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحِ منه على قدر قربه منك، انتهى كلام الفتح رحمه الله. "وقال ذو النون" المصري، ثوبان بن إبراهيم، أبو الفيض، أحد المشايخ المذكورين في رسالة القشيري، ولد بأخميم، وحدَّث عن مالك، والليث، وابن لهيعة، وعنه الجنيد، وغيره، وكان أوحد وقته علمًا، وأدبًا، وورعًا، وهو أول من عَبَّر عن علوم المنازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدث علمًا لم يتكلّم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكّل، ورده مكر ما، مات في ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد قارب السبعين، فأظلت الطير الخضر جنازته ترفرف عليه حتى وصل إلى قبره، فلمَّا دفن غابت، فاحترم أهل مصر قبره، وكانوا يسمونه الزنديق، "الحياء وجود الهيبة في الخلق" بفتح، فسكون، أي: النوع الإنساني، احترازًا عن البهائم، وفي نسخ في القلب بدل في الخلق، "مع وحشة" أي: خوف "ما" شيء "يسبق" يصدر "منك، إلى ربك" مما يخالف أمره، أو نهيه، أو أصل الوحشة بين الناس، الانقطاع، وبعد القلوب من المودات، "والحب ينطق" يحمل المحب على التكلم بما في ضميره، مما يريد إخفاءه قهرًا عليه، "والحياء يُسْكِتُ" عن التكلم بما يريده، إخفاءه قهرًا عليه، "والحياء يسكت" عن التكلّم بما يريده، "والخوف يقلق" يزعج، يعني أن خوف العبد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 يسكت، والخوف يقلق. وقال يحيى بن معاذ: من استحى من الله مطيعًا استحى الله منه وهو مذنب، وهذا الكلام يحتاج إلى شرح, ومعناه: إن من غلب عليه خلق الحياء من الله حتى في حال طاعته فقلبه مطرق بين يديه إطراق مستحي خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه في تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه لما يشينه عنده. وفي الشاهد شاهد لذلك، فإن الرجل إذا اطلع على أخص الناس به وأحبهم إليه وأقربهم منه، من صاحب أو ولد أو من يحبه، وهو يخونه، فإنه يلحقه من ذلك الاطلاع عليه حياءً عجيب حتى كأنه هو الجاني, وهذا غاية الكرم. وللحياء أقسام ثمانية يطول استقصاؤها. منها: حياء الكرم، كحيائه -صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب، وطولوا عنده المقام، واستحيا أن ..................   يزعجه مخافة أن يصيبه ما يخاف منه، "وقال يحيى بن معاذ" الرازي، أحد الأولياء الكبار المشهورين، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، المتوفَّى بنيسابور، سنة ثمان وخمسين ومائتين، "من استحى من الله مطيعًا استحى الله منه وهو مذنب" أي: عامله معاملة المستحي منه إذًا لتغير إلخ ... محال على الله، "وهذا الكلام يحتاج إلى شرح، ومعناه: إن من غلب عليه خلق الحياء من الله، حتى في حال طاعته" إذ لا يقدر على الإتيان بها، كما أمر، "فقلبه مطرق" ساكن في مقام الخوف، "بين يديه إطراق مستحي خجل، فإنه إذا وقع منه ذنب استحى الله من نظره إليه" أي: ترك نظره إليه نظر انتقام "في تلك الحالة لكرامته عليه، فيستحي أن يرى من وليه" رؤية غضب وعقاب، "ما يشينه" بفتح أوله، وكسر الشين، يعيبه، "عنده، وفي الشاهد" أي: المشاهد المرئي، "شاهد" دليل "لذلك" ظاهر، "فإن الرجل إذا اطَّلع على أخصّ الناس به، وأحبهم إليه، وأقربهم منه، من صاحب، أو ولد، أو من يحبه، وهو يخونه فإنه يلحقه" أي: المطلع "من ذلك الاطلاع حياء عجيب، حتى كأنه هو الجاني، وهذا غاية الكرم" أي: النفاسة والعزة فيمن قام، يقال: كرم الشيء كرمًا نفس وعزَّ، فهو كريم، والجمع كرام، وكرماء، كما في المصباح، "وللحياء أقسام ثمانية، يطول استقصاؤها". "منها حياء الكرم، كحيائه -صلى الله عليه وسلم- من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب" بنت جحش لما تزوجها، وكانت خبزًا ولحمًا، أشبع المسلمين، "وطولوا عنده المقام" بعد الأكل، "واستحيا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 يقول لهم انصرفوا. ومنها: حياء العبودية، وهو حياء يمتزج بين محبة وخوف ومشاهدة عدم صلاحية عبوديته لمعبوده، وأن قدره أعلى وأجلّ منها، فعبوديته له توجب استحياء منه لا محالة. ومنها: حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون، فيجد نفسه مستحييًا من نفسه، حتى كأنَّ له نفسين، يستحي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدر. والحياء -كما قال عليه الصلاة والسلام- لا يأتي إلا بخير، وهو من الإيمان.   أن يقول لهم انصرفوا" فقام فقاموا" إلّا ثلاثة، أو اثنين، فمكثوا حتى انطلق إلى أزواجه، فسلَّم عليهن، ثم قاموا، فأخبره أنس، فجاء، فدخل على زينب. ومنها حياء المحبّ من محبوبه، حتى إنه إذا خطر على قلبه في حال غيبته، هاج تحرك الحياء من قلبه، وأحسّ به في وجهه، فلا يدري هو، أي: المحب ما سببه. "ومنها حياء العبودية، وهو حياء يمتزج" يختلط "بين محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاحية، عبودية لمعبوده، وإن قدره أعلى وأجلّ منها؛ فعبوديته له توجب استحياء منه، لا محالة" بفتح الميم. "ومنها حياء المرء من نفسه، وهو حياء النفوس الشريفة الرفيعة، من رضاها لنفسها بالنقص، وقنعها بالدون" في المطلوب دنيويًّا، أو أخرويًّا؛ "فيجد نفسه مستحييا من نفسه، حتى كأن له نفسين يستحيي بإحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيا من نفسه، فهو بأن يستحيي من غيره أجدر" أحق، وهذه أربعة من الثمانية. "والحياء كما قال -عليه الصلاة والسلام- لا يأتي إلا بخير؛ لأن من استحيا أن يراه الناس يأتي بقبيح، دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد، فلا يضيِّع فريضة، ولا يرتكب خطيئة، "وهو من الإيمان" لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا، كما يسمَّى الشيء باسم ما قام مقامه، قاله ابن قتيبة, ومن للتبعيض، فهو كرواية: "الحياء شعبة من الإيمان"، ولا يرد إذا كان بعضه ينتفي الإيمان بانتفائه؛ لأن الحياء من مكملات الإيمان، ونفي الكمال لا يستلزم نفي الحقيقة، فأول الحياء وأولاه الحياء من الله، وهو أن لا يراك حيث نهاك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 كما رواهما البخاري. قال القاضي عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان -وإن كان غريزة؛ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد واكتساب وعلم. وقال القرطبي: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلَّف به دون الغريزي، غير أنَّ من كان فيه غريزة منه فإنها تعينه على المكتسب، حتى يكاد يكون غريزة، قال: وكان -صلى الله عليه وسلم- قد جمع له النوعان، فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها. وقال القاضي عياض: وروي عنه -صلى الله عليه وسلم: أنه كان من حيائه لا يثبت بصره في وجه أحد. وأما خوفه -صلى الله عليه وسلم- ربه جلَّ وعلا، ............   ولا يفقدك حيث أمرك، وكماله إنما ينشأ عن المعرفة ودوام المراقبة، "كما رواهما" الحديثين "البخاري" ومسلم، فحديث "الحياء لا يأتي إلا بخير"، روياه عن عمران بن حصين، وحديث "الحياء من الإيمان" أخرجاه عن ابن عمر، "قال القاضي عياض وغيره: وإنما جعل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزة" جبلة، "لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصده" أراده، "واكتساب، وعلم" فهو غريزي أصلًا؛ واكتسابي كمالًا، "وقال القرطبي" وأبو العباس في شرح مسلم: "الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلّف به دون الغريزي، غير أن من كان فيه غريزة منه، فإنها تعينه على المكتسب؛ حتى يكاد يكون" المكتسب "غريزة". "قال: وكان -صلى الله عليه وسلم- قد جمع له النوعان: فكان في الغريزي أشد حياءً من العذراء في خدرها" وسئل بعضهم: هل الحياء من الإيمان مقيدٌ ومطلق؟ فقال: مقيد بترك الحياء في المذموم شرعًا، فعدمه مطلوب في النصح والأمر والنهي الشرعي، أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا، والله لا يستحيي من الحق، "وقال القاضي عياض" في الشفاء: "وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من حيائه لا يُثَبِّتُ" بضم أوله رباعي، لا بفتحها ثلاثي، لإيهامه العجز "بصره" أي: لا يديم نظره "في وجه أحد" ولا يتأمله، فإثبات البصر بمعنى إطالة النظر، من غير تخلل إغماض الجفن ونحوه، حتى كان بصره صار قارًّا في المرئي، كما قال المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا قال السيوطي: هذا الحديث ذكره صاحب الأحياء، ولم يجده العراقي. "وأما خوفه -صلى الله عليه وسلم- ربه جلَّ وعلا" فكان على غاية لا يساويه أحد فيه، فالجواب محذوف، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 فاعلم أن الخوف والوجل والهيبة والرهبة ألفاظ متقاربة غير مرادفة. قال الجنيد: الخوف توقّع العقوبة على مجاري الأنفاس. وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام، وهذا سبب الخوف، لا أنه نفسه. وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره. والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 38] فهو خوف مقرون بمعرفة. وقال -صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم لله وأشدكم له خشية"، ........   دلت عليه الأحاديث الآتية: وإذا أردت بيان معنى الخوف، "فاعلم أن الخوف والوجل والهيبة والرهبة ألفاظ متقاربة غير مرادفة" لأن المترادفين: كل لفظين اتحدا في المفهوم وإلى ما صدق، وهذه الألفاظ ليست متحدة في المفهوم، كما علم من تعاريفها. "قال الجنيد: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس" بأن يتصوَّر أن كل نفس يقوم به، يخشى أن تحل به عقوبة عنده، وهو من إضافة الصفة للموصوف، أي: الأنفاس الجارية، أي: عقب كل نفس جار، والمجاري: جمع مجرى مصدر جرى، ويطلق أيضًا على أواخر الكَلِم، فإن فسرت به المجاري، حملت على الأثر الحاصل عقب كل نفس، "وقيل: الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف" أي: الأمر الذي يخاف وقوعه به، "وقيل: الخوف قوة العلم" ثبوته وتحققه "بمجاري الأحكام" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالأحكام الجارية, "وهذا" التعريف "سبب الخوف"؛ لأن مَنْ تحقَّقَ عواقب الأمور وراقبها خاف وقوعها، فالعقوبات موفة، وقوة العلم سبب لخوف وقوعها، "لا أنه نفسه" أي الخوف، "وقيل: الخوف هرب القلب" نفرته وجزعه "من حلول المكروه عند استشعاره، والخشية أخص من الخوف، فإن الخشية للعلماء بالله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} " لا الجهال [فاطر: 28] الآية. "فهو خوف مقرون بمعرفة" أي: فخشية الله هي خوف عقابه، مع تعظيمه بأنه غير ظالم في فعله، بخلاف مطلق الخوف، فإنه يتحقق عند تهديد الظالم له. "وقال -صلى الله عليه وسلم: "أنا أتقاكم لله" لأني أعلمكم به، وكلما زاد العلم زادت التقوى والخوف، ولذا قال: "وأشدكم له خشية" , فلا ينبغي لكم التنزة عن مباح فعلته، وفي الصحيحين عن عائشة، صنع النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما بال أقوام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 فالخوف حركة والخشية انجماع وانقباض وسكون، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه وهي الخشية. وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه.   يتنزهون عن الشيء أصعنه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية"، قال الداودي: التنزه عمَّا رخص فيه من أعظم الذنوب، لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله، وهذا إلحاد، قال في فتح الباري: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، لكن في حديث أنس عند البخاري, جاء ثلاثة إلى أزواجه -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلمَّا أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: أين نحن منه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: أنتم الذين قلتم، كذا وكذا، "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"، ولعبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب: أن الثلاثة علي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون. قال الحافظ: ومرادهم أن بيننا وبينه بونًا بعيدًا، فأنا على حذر التفريط وسوء العاقبة، وهو معصوم، مأمون العاقبة، وأعمالنا جة من العقاب، وأعماله مجلبة للثواب، فردَّ -صلى الله عليه وسلم- ما اختاروا لأنفسهم بأن ما استأثرتم به من الإفراط في الرياضة، لو كان أحسن من العدل الذي أنا عليه، لكنت أنا أولى بذلك، ففيه الحث على الاقتداء به؛ والنهي عن التعمق، وذم التنزه عن المباح، شكا في إباحته، وأن العلم بالله يوجب اشتداد الخشية. وقال الحافظ: في محل آخر فيه رد ما بنوا عليه أمرهم، من أنَّ المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة، بخلاف غيره، فأعلمهم أنَّه مع كونه لم يبالغ في التشديد، أخشى الله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك؛ لأن المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما دوام عليه صاحبه، "فالخوف حركة" على أن الخوف اضطراب القلب؛ أما على بقية الأقوال السابقة، فلعل المراد أنه ينشأ عنه ما يرى في الخارج. "والخشية: انجماع، وانقباض، وسكون" وأشار إلى الفرق بينهما بالمحسوس، "فإن الذي يرى العدو والسيل، ونحوهما له حالتان: إحداهما حركته للهرب منه، وهي حالة الخوف، والثانية سكونه وقراره" ثباته، "في مكان لا يصل إليه، وهي الخشية، وأما الرهبة" بالفتح، اسم من رهب من باب تعب، "فهي الإمعان في العرب من المكروه، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه" أي: طلبه له، فسمي الطلب سفرًا لمشابهته له في قطع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته. وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المعرفة والمحبة. والإجلال: تعظيم مقرون بالحب. فالخوف لعامَّة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين. وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، رواه البخاري، وقال -عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، ..............   المسافة، لتحصيل المطلوب، أو لأن الطلب لازم للسفر، "وأما الوجل: فرجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته". "وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المعرفة، والمحبة، والإجلال، تعظيم مقرون بالحب" وهذا الاستطرادي ذكر لتمام الصفات التي عند الصوفية؟ كالخشية؛ إذ المذكور في قوله أولًا: فاعلم ليس فيه واحد من الثلاثة، "فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين" وفي نسخة العاملين، "والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين، وعلى قدرالعلم والمعرفة يكون الخوف والخشية، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية" قال العز بن عبد السلام: فيه إشكال؛ لأن الخوف والخشية حالة تنشأ عن ملاحظة شدة النقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دلت القواطع على أنه -صلى الله عليه وسلم- غير معذب، وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} الآية، فكيف يتصور منه الخوف؟، فكيف أشد الخوف؟، قال: والجواب أن الذهول جائز عليه، فإذا ذهل عن موجبات نفي العقاب، حدث له الخوف، "رواه البخاري" ومسلم من حديث عائشة. "وقال -عليه الصلاة والسلام: "لو تعلمون ما أعلم" من عظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت، وفي القبر ويوم القيامة، "لضحكتم قليلًا" أي: لما ضحكتم أصلًا؛ إذ القليل، بمعنى العديم؛ لأن لو حرف امتناع لامتناع، وقيل معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أعد في الجنة من النعيم، وما حفّت عليه من الحجب، لسهل عليكم ما كلفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرة، وانكشاف الغطاء يوم العرض على الله، لا شتد خوفكم، فلم تضحكوا، "ولبكيتم كثيرًا" لغلبة الحزن واستيلاء الخوف؛ واستحكام الوجل. قال الكرماني: فيه من البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كل منهما، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه دلالة على اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بمعارف بصرية وقلبية، وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته, لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها -صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه -عليه الصلاة والسلام قال: "والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار". فقد جمع الله له بين علم اليقين .................   "رواه البخاري من حديث أبي هريرة" في حديث طويل. قال في الفتح: ومناسبة كثرة البكاء، وقلة الضحك في هذا المقام واضحة، والمراد به التخويف، وقد جاء لهذا الحديث سبب، أخرجه سنيد في تفسيره بسند رواه الطبراني عن ابن عمر: خرج -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد، فإذا بقوم يتحدثون ويضحكون، فقال: "والذي نفسي بيده، لو تعلمون"، فذكره، انتهى. "وفيه دلالة على اختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بمعارف بصرية" كرؤية الجنة والنار وأهوالها، "وقلبية" كالأحكام التي لم يطَّلع عليها غيره، "وقد يطلع الله عليها غيره من المخلصين من أمته، لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختص بها -صلى الله عليه وسلم- زيادة في كرامته، ولأنه هو الذي يحتملها. "وفي صحيح مسلم، من حديث أنس؛ أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "والذي نفس محمد بيده لو رأيتم ما رأيت" أي: لو علمتم ما علمته من الأمور ومنه رؤية بصري وعلمي بإلهام ووحي أحوال البعث والنشور، وعذاب القبر وغير ذلك، مما لم يقع ولا يدرك بالبصر؛ "لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" فرأى علمية، والمتبادر أنها بصرية، لأنهم "قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟، قا: "رأيت الجنة والنار"؛ إذ هو رآهما رؤية بصرية ليلة المعراج، وفي صلاة الكسوف. وروى ابن أبي شيبة برجال ثقات، والطبراني عن أبي سعيد, كنَّا يومًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأيناه كئيبًا، فقال بعضنا: بأبي أنت وأمي ما سبب هذا؟ فقال: "سمعت هدة لم أسمع مثلها، فأتاني جبريل، فسألته عنها، فقال: هذه صخرة هوت من شفير جهنم منذ سبعين خريفًا، فهذا حين بلغت قعرها، فأحب أن يسمعك صوتها، فما رؤي ضاحكا بعد حتى قبضه الله تعالى"، ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس؛ وهذا مما يؤيد حملها على العلمية، وهو أولى لشمولها للبصرية، "فقد جمع الله له بين علم اليقين" وهو قبول ما ظهر من الحق وما غاب، ويجري فيه النقل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 وعين اليقين مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"، وهو في الصحيح من حديث عائشة. وكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء، رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحة بلفظ: كأنين الرحى، أي: خنين من الخوف -بالخاء المعجمة- وهو صوت البكاء. وقيل: هو أن يجيش جوف ويغلي بالبكاء. وأمَّا ما روي من شجاعته .....................   والاستدلال. "وعين اليقين" وهو شهود الأشياء، كما هي كشفًا عيانًا، "مع الخشية القلبية، واستحضار العظمة الإلهية، على وجه لم يجتمع لغيره، ولذا قال: "إن أتقاكم" اسم أن "وأعلمكم بالله" عطف عليه "أنا" خبرها. قال الحافظ: وفيه إقامة الضمير المنفصل مقام المتصل، ومنعه أكثر النحاة إلّا لضرورة، وأوَّلوا قوله، وإنما يدافع عن إحسابهم أنا أو مثلي، بأن الاستثناء مقدَّر، أي: وما يدافع إلّا أنا. قال بعض الشراح: والحديث يشهد للجواز بلا ضرورة، "وهو في الصحيح" للبخاري "من حديث عائشة" قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، قد غُفِرَ لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فغضب حتى عُرِفَ الغضب في وجهه، ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" "وكان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ولجوفه أزيز" بزاءين منقوطتين: صوت "كأزيز المرجل" بكسر الميم، وسكون الراء، وفتح الجيم، ولام، قِدْر من نحاس "من البكاء" لغلبة الخشية عليه، يسيل دمعه، فيسمع لجوفه ذلك، ولا يرد إن شدة البكاء في الصلاة تبطلها، لأن بكاءه لم يكن بصوت، بل تدمع عيناه حتى تهملا، كما قدمه المصنف في مبحث ضحكه. "رواه النسائي" وأبو اود, "وابن خزيمة، وابن حبان" كلٌّ منهما "في صحيحه، بلفظ كأنين الرحى" أي: صوت كصوتها، يقال: أزَّت الرحى إذا صوتت، كما في الترغيب، "أي: خنين" بفتح الخاء المعجمة، وكسر النون، ضرب من البكاء، دون الانتحاب، كما في النهاية، "من الخوف" من الله، وقوله: "بالخاء المعجمة، وهو صوت البكاء" ضبط بقوله خنين، "وقيل: هو أن يجيش" بجيم، ومعجمة، "ويغلي بالبكاء" عطف تفسير، ففي المصباح: جاشت القدر، يجيش جيشًا، غَلَت، وقوله: بالخاء إلى هنا لفظ النهاية. "وأمَّا ما روي من شجاعته" مثلث الشين، مصدر شجع بالضم، شجاعة، فهو شجيع، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 -عليه الصلاة والسلام, وقوته في الله وشدته، فعن أنس، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَلَ الصوت فتلقَّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا قد سبقهم إلى الصوت واستبرأ الخبر ...............   وشجاع، بضم الشين، وبنو عقيل، بفتحها، حملًا على نقيضه، وهو جبان، وبعضهم كسرها للتخفيف، فرارًا من توالى حركات متوالية من جنس واحد، وهو الشديد القلب عند البأس المستهين بالحروب، "-عليه الصلاة والسلام, وقوته" يعني: كما أنه تام لقوة في أعضائه، فهو تامها في حقوق الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، مراقب لحدوده، حافظ لها، لا يخاف "في الله" لومة لائم، "وشدته" وظاهر المصنف تغاير هذا الألفاظ، والمفهوم من كلام غيره ترادفها، وأنها وإن اختلفت مفهومًا متحدة ما صدقًا. قال الشامي: الشجاعة انقياد النفس مع قوة غضبية وملكة يصدر عنها انقيادها في أقدامها، متدربة على ما ينبغي في زمن ينبغي، وحال ينبغي، ومن في المصنف بيانية بتقدير مضاف، أي: من دال شجاعته؛ إذ الشجاعة ليست مروية، ولما كانت شجاعته معلومة لكل الناس لم يحتج إلى بيانها، بل بَيِّنَ المروي، فقال: "فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس" صورة وسيرة؛ لأن الله أعطاه كل الحسن، "وجود الناس" لتحليه بصفات الله التي منها الجود والكرم، أي: بكل ما ينفع، فحذف للتعميم، أو لفوت إحصائه كثرة؛ لأن من كان أعظمهم شرفًا، وأيقظهم قلبًا؛ وألطفهم طبعًا، وأعدلهم مزاجًا, جدير بأن يكون أسمحهم صورة، وأنداهم يدًا؛ ولأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات. "وأشجع الناس:" أقواهم قلبًا في حال البأس، فكان الشجاع منهم الذي يلوذ بجانبه عند التحام الحرب، وما ولَّى قط ولا تحدَّث أحد بفراره؛ وقد ثبتت أشجعيته بالتواتر النقلي، بل أخذه بعضهم من النص القرآني لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية، فكلفه وهو فرد جهاد الكل، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا ضير في كون المراد هو ومن معه؛ إذ غايته أنه قوبل بالجميع، وذلك مفيد للمقصود، وهذه الثلاث أمهات الأخلاق الفاضلة، فلذا اقتصر عليها، كما يأتي للمصنف بيانه، "لقد فزع" بكسر الزاي، خاف "أهل المدينة ذات ليلة" من صوت سمعوه، كما أفاده بقوله: "فانطلق الناس قِبَل" بكسر، ففتح، جهة "الصوت" ليعرفوا خبره، لظنهم أنه عدو، "فتلقَّاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- راجعًا" حال كونه "قد سبقهم إلى الصوت" وحده, وذلك دليل على كمال شجاعته، لمبادرته منفردًا للخروج، "واستبرأ الخبر" بمهملة، وفوقية، وموحدة، وهمزة، وقد تبدَّل ألفًا، أي: كشفه، ووقف على حقيقته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 على فرس لأبي طلحة عري والسيف في عنقه وهو يقول: لن تراعوا. وفي رواية: كان فزع بالمدينة فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا من أبي طلحة يقال له المندوب، فركبه -عليه الصلاة والسلام, فلما رجع قال: "ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرًا، أو إنه لبحر". قال: وكان فرسًا يبطؤ. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. وللبخاري: إن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لأبي طلحة كان يقطف، ..................   قال في الأساس: استبرأت الشيء، طلبت آخره لأقطع الشبهة عني، "على فرس لأبي طلحة" زيد بن سهل، زوج أم أنس، استعاره منه،"عري" بضم المهملة، وسكون الراء، ليس عليه سرج، ولا أداة، ولا يقال في الآدميين، إنما يقال: عريان "والسيف في عنقه" أي: حمائله معلقة في عنقه الشريف، متقلدًا به، وهذا هو السنة في حمل السيف، كما قاله ابن الجوزي: لأشده في وسطه، كما هو العرف الآن، "وهو يقول لن تراعوا" لن هنا، بمعنى لم، بدليل الرواية الآتية، والمراد نفي سبب الروع، أي: الخوف، أي: ليس هناك شيء تخافونه، وهذا أخرجه البخاري في باب مدح الشجاعة في الحرب من كتاب الجهاد، وفي الأدب ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- واللفظ له، "وفي رواية" عن أنس: "كان فزع" بفتح الفاء، والزاي، أي خوف من عدو "بالمدينة، فاستعار النبي -صلى الله عليه وسلم- فرسًا من أبي طلحة، يقال له المندوب، قيل: سمي بذلك من الندب وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجح، وقال عياض: يحتمل أنه لقب أو اسم لغير معنى كسائر الأسماء. "فركبه -عليه الصلاة والسلام، فلمَّا رجع قال: "ما رأينا من شيء" يوجب الفزع، "وإن وجدناه" أي: الفرس "لبحرًا" أي: واسع الجري، ومنه سمي البحر بحرًا لسعته، وتبحَّر فلان في العلم إذا اتسع فيه، وقيل: شبهه بالبحر، لأن جريه لا ينفذ، كما لا ينفذ ماء البحر، "أو أنه لبحر" بالشك، وفي رواية المستملي، وإن وجدنا بحذف الضمير. قال الخطابي: إن هي النافية، واللام في لبحرًا، بمعنى إلّا، أي: ما وجدناه إلا بحرًا. قال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين؛ أن إن مخففة من الثقيلة، واللام زائدة، وكذا قال الأصمعي: وزيدت للفرق بين أن المخففة والنافية، "قال: وكان فرسًا يبطؤ" بفتح الياء، وسكون الموحدة، وضم الطاء، مخففًا، وبالهز، أي: لا يسرع في مشيه، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وللبخاري" في الجهاد، عن أنس: "إن أهل المدينة فزعوا مرة" ليلًا، "فركب -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لأبي طلحة، كان يقطف" بكسر الطاء، وتضم، قاله المصنف، "أو فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 أو فيه قطافًا، فلما رجع قال: "وجدنا فرسكم هذا بحرًا"، فكان بعد لا يجاري. وفي أخرى له: ثم خرج يركض الفرس وحده فركب الناس يركضون خلفه فقال: "لن تراعوا، إنه لبحر"، فما سبق بعد ذلك اليوم. وقوله: لن تراعوا: أي روعًا مستقرًا، أو روعًا يضركم. وفي هذا الحديث بيان شجاعته -صلى الله عليه وسلم- من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم، بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه: بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعا بعد أن كان بطيئا وهو معنى قوله عليه ..............   قطافًا" بكسر القاف، والشك من الراوي، والمراد أنه كان بطيء المشي، وعند البخاري في باب آخر، فركب فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، "فلمَّا رجع" بعد أن استبرأ الخبر، "قال: "وجدنا فرسكم هذا بحرًا" لسرعة جريه "فكان بعد لا يجاري" بضم أوله، وفتح الراء، مبني للمجهول، أي: لا يسابق في الجري، ولا يطيق فرس الجري معه ببركته -صلى الله عليه وسلم، قاله المصنف وغيره، وقال شيخنا: أي لا يسابق لعلمهم؛ بأنه لا يسبقه فرس غيره، "وفي أخرى له" للبخاري في باب السرعة والركض، في الفزع من كتاب الجهاد، عن أنس قال: فزع الناس، فركب -صلى الله عليه وسلم- فرسًا لأبي طلحة بطيئًا، "ثم خرج يركض الفرس وحده" من غير رفيق، "فركب الناس، يركضون خلفه، فقال:" حين رجع: "لن تراعوا" كذا في النسخ لن، والذي في البخاري في الباب المذكور: "لم تراعوا" بالميم. قال المصنف: ولم، بمعنى، لا مجزوم بحذف النون "إنه" أي: الفرس "لبحر" أي: كالبحر في سرعة سيره، "فما سبق" بضم السين، مبني للمفعول، "بعد ذلك اليوم، وقوله: لن تراعوا، أي: روعًا مستقرًا، أو روعًا يضركم" فلا ينافي وقوع الفزع لهم، وحاصل الجواب أن فزعهم زال سريعًا، فكأنه لم يقع، لكن هذا التأويل ظاهر على ما في البخاري بالميم، أما على ما في نسخ المتن لن بالنون، فلا يظهر، لأن لن لنفي المستقبل، ولم يعلم حاله، ولذا احتاجوا إلى تأويل رواية لن في الحديث الأول، بأنها بمعنى لم إلا أن يقال: إنه بشارة منه لأهل المدينة، علمها بالوحي، والمراد في حياته، فلا يرد روعهم بعده في وقعة الحرة وغيره، "وفي هذا الحديث بيان شجاعته -صلى الله عليه وسلم- من شدة عجلته" من تعليلية "في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم" أي: قبل كل واحد من الناس، فأل للعموم، "بحيث كشف الحال، ورجع قبل وصول الناس، وفيه بيان عظيم بركته، ومعجزته في انقلاب الفرس سريعًا، بعد أن كان بطيئًا، وهو معنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 الصلاة والسلام: "وجدناه بحرًا"، أي واسع الجري. وفيه قطاف: يقال: قطف الفرس في مشية إذا تضايق خطوه وأسرع مشيه. قال القاضي عياض: وقد كان في أفراسه -صلى الله عليه وسلم- فرس مندوب، فلعله صار إليه بعد أبي طلحة. وقال النووي: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم. وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن إسحاق في كتابه وغيره: أنه كان بمكة رجل شديد القوة يحسن الصراع, وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة فيصرعهم. فبينما هو ذات يوم في شعب من شعاب مكة؛ إذ لقيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما   قوله -عليه الصلاة والسلام: "وجدناه بحرًا" أي: واسع الجري" ففيه إشارة إلى أنه لم يكن كذلك، "و" قوله في الحديث: "فيه قطاف" معناه أنَّ في مشيه ضيق خطا، ودليله أنه "يقال قطف الفرس في مشيه، إذا تضايق خطوه، وأسرع مشيه" بالنصب مفعول، أسرع على التوسع، أي: في مشيه بناء على قول القاموس، الأصل إن أسرع متعد، وبالرفع على أنه لازم، والإسناد مجازي، ومقتضى المصباح أنه أشهر وفي التوضيح القطوف المتقارب الخطور، وقيل: الضيق المشي، يقال: قطفت الدابة تقطف، بكسر الطاء، وضمها، قطافًا. "قال القاضي عياض: وقد كان في أفراسه -صلى الله عليه وسلم- فرس" اسمه "مدوب"، وصرح الحديث، بأنه لأبي طلحة، "فلعله صار إليه بعد أبي طلحة" بهبة أو بيع منه له، لا بعد موته، لأنه عاش بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. "وقال النووي: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم" وهذا أولى، "وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أنجد" أكثر نجدة "من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" والنجدة والشجاعة والشدة، فالعطف مساو، ولعله مأخوذ من نجد الرجل فهو نجيد، كقرب فهو قريب، إذا كان ذا نجدة أو من نجدة، كنصر إذا أعانه؛ لأن اسم التفضيل يكون من اللازم والمتعدى، وهذا الحديث رواه أحمد، والنسائي، وغيرهما، بزيادة، ولا أجود، ولا أرضى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وعطف أجود على أنجد للمناسبة بينهما؛ إذ الجواد لا يخاف الفقر، والشجاع لا يخاف الموت، ولأن الأول بذل النفس، والثاني بذل المال، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، و"ذكر" محمد "بن إسحاق" ابن يسار المطلبي، مولاهم، المدني، نزيل العراق "في كتابه" السيرة، "و" ذكر "غيره؛ أنه كان بمكة رجل شديد القوة، يحسن الصراع" بكسر الصاد، مصدر صارع مصارعة وصراعا، "وكان الناس يأتونه من البلاد للمصارعة، فيصرعهم" بابه نفع، "فبينما هو ذات يوم في شعب" بالكسر، الطريق، أو في الجبل، "من شعاب مكة، إذ لقيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال له: "يا ركانة ألا تتقي الله، وتقبل ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 أدعوك إليه" -أو كما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له ركانة: يا محمد، هل لك من شاهد يدل على صدقك؟ فقال: "أرأيت إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ " قال: نعم يا محمد، فقال له: "تهيأ للمصارعة"، قال: تهيأت، فدنا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذه ثم صرعه، قال: فتعجب من ذلك ركانة، ثم سأله الإقالة والعودة، ففعل به ذلك ثانيًا وثالثًا. فوقف ركانة متعجبًا وقال: إن شأنك لعجيب. رواه الحاكم في مستدركه عن أبي جعفر محمد بن ركانة المصارع، ............   أدعوك إليه؟ " فتؤمن بالله ورسوله، "أو كما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم" شك الراوي "فقال له ركانة: يا محمد, هل لك من شاهد يدل على صدقك" فيما تقوله؟ "فقال: "أرأيت" أي: أخبرني "إن صرعتك أتؤمن بالله ورسوله؟ " بهمزة الاستفهام، "قال: نعم يا محمد" وصريح هذا أن السائل له في المصارعة المصطفى، وفي رواية البلاذري: أن السائل ركانة، فيحتمل أن كلًّا منهما توارد مع الآخر في السؤال، "فقال له: "تهيأ للمصارعة"، فقال: تهيأت، فدنا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأخذه، ثم صرعه قال: فتعجب من ذلك ركانة"؛ لأنه كان مستحيلًا عنده أن أحدًا يصرعه، "ثم سأله الإقالة" مما توافقا عليه، وهو الإيمان إن صرعه لا على قطيع من الغنم، لأن المعاقدة على الغنم إنما كانت مع ابنه يزيد، كما في الإصابة، "والعودة" إلى المصارعة، "ففعل به ذلك ثانيًا وثالثًا، فوقف ركانة متعجبًا، وقال: إن شأنك لعجيب" وأسلم عقبها في قول، والآخر في فتح مكة، قال في الإصابة: ركانة بن عبد يزيد، بن هاشم، بن المطلب، بن عبد مناف، المطلبي. روى البلاذري أنه قدم من سفر، فأخبر خَبَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة قبل الإسلام, وكان أشد الناس، فقال: يا محمد إن صرعتني آمنت بك، فصرعه، فقال: أشهد أنك ساحر، ثم أسلم بعد، وأطعمه النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسين وسقًا، وقيل: لقيه في بضع جبال مكة، فقال: يا ابن أخي بلغني عنك شيء، فإن صرعتني علمت أنك صادق، فصارعه، فصرعه، وأسلم ركانة في فتح مكة، وقيل عقب مصارعته، ومات في خلافة معاوية، قال الزبير، وقال أبو نعيم، في خلافة عثمان، وقيل: عاش إلى سنة إحدى وأربعين. انتهى. باختصار "رواه الحاكم في مستدركه عن أبي جعفر، محمد بن ركانة المصارع" كذا وقع للمصنف، وصوابه عن أبي جعفر، عن أبيه محمد إلخ ..... ، قال في التقريب أبو جعفر بن محمد بن ركانة، مجهول من السادسة، وفيه أيضًا محمد بن ركانة مجهول من الثالثة، ووهم من ذكره في الصحابة، وقال في الإصابة محمد بن ركانة، القرشي، المطلبي، لأبيه صحبة، وأمَّا هو، فأرسل شيئًا، فذكره البغوي في الصحابة، فقال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا محمد بن ربيعة، عن أبي جعفر، بن محمد بن ركانة، عن أبيه أنه صارع النبي -صلى الله عليه وسلم، فصرعه النبي، قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 ورواه أبو داود والترمذي, وكذا البيهقي من رواية سعيد بن جبير. وقد صارع -عليه الصلاة والسلام- جماعة غير ركانة، منهم أبو الأسود الجمحي، كما قاله السهيلي. ورواه البيهقي، وكان شديدًا بلغ من ...............   وسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم، يقول: "فرق ما بيننا وبين أهل الكتاب العمائم على القلانس". قال ابن منده: ذكره البغوي في الصحابة، وهو تابعي، وقال ابن فتحون: حديث المصارعة مشهور عن ركانة، وكذا حديث العمائم، كان محمدًا أرسله، أو سقط من السند عن أبيه، قلت: الاحتمال الثاني أقرب، وهو موجود في رواية أبي داود عن قتيبة، عن محمد بن ربيعة بهذا الإسناد, لكن قال بعد المصارعة: قال: سمعت رسول الله، فظهر أن محمدًا أرسل حديث المصارعة، وأسند حديث العمامة، فسقط من رواية داود بن رشيد، قال ركانة: وسمعت، فصار ظاهره أن قائل سمعت محمد، فلو كان كذلك، لكان صحابيًّا بلا ريب، لكن جزم ابن حبان في الثقات بأنه تابعي، "ورواه أبو داود والترمذي" من رواية أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه, أن ركانة صارع النبي -صلى الله عليه وسلم. الحديث. قال الترمذي: قريب، وليس إسناده بالقائم، وقال ابن حبان في إسناد خبره: قاله الإصابة، "وكذا" أخرجه "البيهقي، من رواية سعيد بن جبير" التابعي المشهور، "وقد صارع -عليه الصلاة واللام- جماعة غير ركانة، منهم" ابنه يزيد بن ركانة. قال أبو عمر: له ولأبيه صحبة ورواية, روى عنه ابناه علي وعبد الرحمن، وأبو جعفر الباقر، وأخرج ابن قانع من طريق يزيد ابن أبي صالح، عن علي بن يزيد بن ركانة، أن أباه أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا ركانة بأعلى مكة، فقال: "يا ركانة أسلم" فأبى، فقال: "أرأيت إن دعوت هذه الشجرة لشجرة قائمة؟ فأجابتني تجيبني إلى الإسلام"، قال: نعم، فذكر الحديث، وقصة الصراع مشهورة لركانة، لكن جاء من وجه آخر أنه يزيد بن ركانة، فأخرج الخطيب في المؤتلف عن ابن عباس، قال: جاء يزيد بن ركانة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعه ثلثمائة من الغنم، فقال: يا محمد هل لك أن تصارعني، قال: "وما تجعل لي إن صرعتك؟ " قال: مائة من الغنم، فصارعه، فصرعه، ثم قال: هل لك في العود؟، قال: "وما تجعل لي؟ " قال: مائة أخرى، فصارعه فصرعه، وذكر الثالثة، فقال: يا محمد ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليى منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقام عنه، وردَّ عليه غنمه، ذكره في الإصابة، فقد صارع ركانة، وابنه جميعًا، ومنهم "أبو الأسود الجمحي" بضم الجيم، وفتح الميم، ومهملة، إلى جمع بطن قريش، كما قاله السهيلي، ورواه البيهقي، وكان شديدًا، بلغ من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 شدته أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد ولم يتزحزح عنه، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصارعة, وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن. وفي قصته طول. وفي البخاري من حديث البراء، وسأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر. كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا, فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام ...................................   شدته؛ أنه كان يقف على جلد البقرة، ويتجاذب أطرافه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتفرى الجلد" ينشق، وينقطع، "ولم يتزحزح عنه، فدعا" هو "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المصارعة، وقال: إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلم يؤمن، وفي قصته طول، وفي البخاري من حديث البراء" بن عازب، و"سأله رجل من قيس". قال الحافظ: لم أقف على اسمه، "أفررتم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين؟ " وفي رواية للبخاري أيضًا: أفررتم مع النبي، وجمع بينهما بحمل المعية على ما قبل الهزيمة، فبادر إلى إخراجه "فقال: لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفر" فهو استدراك على ما قد يتوهم من فراره حين فروا عنه، الواقع عند السائل أخذًا من عموم، ثم وليتم مدبرين، فبيِّن له أنه من العموم الذي أريد به الخصوص والتقدر فررنا، ولكنه ثبت وثبت معه علي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث، وابن مسعود. رواه ابن أبي شيبة مرسلًا، وللترمذي بإسناد حسن، عن ابن عمر: لقد رأيتنا يوم حنين، وإن الناس لمولون، وما مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مائة رجل. ولأحمد والحاكم عن ابن مسعود: فولَّى الناس عنه، وبقي معه ثمانون رجلًا من المهاجرين والأنصار، وفي شعر العباس: أن الذين ثبتوا عشرة فقط، قال الحافظ: ولعله الثبت، ومن زاد عليهم عجل الرجوع، فعد فيمن لم يفر، ثم بَيِّنَ سبب التولي بقوله: "كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا" انهزموا، كما في لفظ رواية البخاري في الجهاد، "فأكببنا" بفتح الموحدة الأولى، وإسكان الثانية، ونون، أي: وقعنا "على الغنائم" وفي الجهاد، " فأقبل الناس على الغنائم، "فاستُقبلنا" بضم التاء، وكسر الموحدة، أي: استقبلتهم هوازن، وفي الجهاد، فاستقبلونا "بالسهام" أي: فولينا، وفي مسلم، فرموهم برشق من نبل، كأنهم رجل جراد، وفيه أيضًا عن أنس جاء المشركون بأحسن صفوف، رأيت صف الخيل ثم المقاتلة، ثم النساء من وراء ذلك، ثم الغنم، ثم النعم، ونحن بشر كثير، وعلى خيلنا خالد بن الوليد، فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب، ومن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 ولقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، لأنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة ليست بسريعة الجري، ولا تصلح لكرٍّ ولا فر ولا هرب, وهو مع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوه ........................   تعلم من الناس. قال ابن جرير: الانهزام المنهي عنه هو ما يقع على غير نية العود، وأمَّا الاستطراد للكثرة، فهو كالمتحيز إلى فئة، "ولقد رأيت النبي" وفي رواية رسول الله "صلى الله عليه وسلم، على بغلته البيضاء" التي أهداها له فروة، كما في مسلم عن العباس، وعن ابن سعد وأتباعه، على بغلته دلدل. قال الحافظ: وفيه نظر، لأن دلدل أهداها له المقوقس، قال القطب الحلبي، فيحتمل أنه ركب يومئذ كلا من البغلتين، إن ثبت أن دلدل كانت معه، وإلّا فما في الصحيح أصح، "وإن أبا سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "آخذ بزمامها"، أولًا، فلمَّا ركضها -صلى الله عليه وسلم- إلى جهة المشركين خشي عليه العباس، فأخذ زمامها، وأخذ أبو سفيان بالركاب، فلا يخالف هذا ما في مسلم؛ أن العباس كان آخذ بزمامها، وللبخاري في الجهاد، فنزل، أي: عن البغلة، فاستنصر، وفي مسلم، فقال: "اللهم أنزل نصرك"، "وهو يقول "أنا النبي" حقًّا، "لا كذب" في ذلك، أو والنبي لا يكذب، فست بكاذب، حتى انهزم، "أنا ابن عبد المطلب". قال الخطابي: خصَّه بالذكر، تثبيتًا لنبوته، وإزالة للشك، لما اشتُهر من رؤيا عبد المطلب المبشرة به -صلى الله عليه وسلم، ولما أنبأت به الأحبار والكهان، فكأنه يقول: أنا ذاك، فلا بُدَّ مما وعدت به لئلَّا ينهزموا عنه، أو يظنوا أنه مغلوب أو مقتول، فليس من الفخر بالآباء في شيء، وليس بشعر وإن كان موزونًا؛ لأنه لم يقصده ولا أراده، وهما من شرط كونه شعرًا، وهذا أعدل الأجوبة، ولا يجوز فتح الباء الأولى، وكسر الثانية ليخرج عن الوزن؛ لأنه تغيير للرواية بمجرد خيال يقوم في النفس، ولأنه وقع في إشكال أصعب مما فرَّ منه؛ لأن فيه نسبة اللحن إلى أفصح الفصحاء، فالعرب لا تقف على متحرك، "وهذا" يعد "في غاية ما يكون من الشجاعة التامة؛ لأنه مثل هذا اليوم في حومة الوغى" بالقصر، والمعجمة، الحرب أي: في أشد موضع في القتال، "وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، ليست" من مراكب الحرب، بل الطمأنينة؛ إذ ليست بسريعة، ولا تصلح لكر، ولا فر، ولا هرب"فركوبها دليل النهاية في الشجاعة، والثبات، وإن الحرب عنده كالسلم، "وهو مع ذلك يركضها إلى وجههم، وينوه" يرفع نفسه من بينهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 باسمه ليعرفه من ليس يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه. وفي حديث البراء: كنا إذا احمرَّ البأس اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, أي: جعلناه قدامنا واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه. وأمَّا ما ذكر من سخائه وجوده وكرمه، فاعلم أن السخاء صفة غريزية، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: {وَمَنْ ........................   "باسمه، ليعرفه من ليس يعرفه -صلوات الله وسلامه عليه" مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو. "وفي حديث" رواه مسلم عن "البراء: كنا إذا أحمر اللباس" أي: اشتد، "اتقينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم" وإن الشجاع منا الذي يحاذيه، "أي: جعلناه قدامنا، واستقبلنا العدو به، وقمنا خلفه" وروى أحمد، والنسائي، وغيرهما، عن علي: كنا إذا حمي البأس، وفي رواية إذا اشتدَّ البأس، واحمرَّت الحِدَق، اتقينا برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر، ونحن نلوذ بالنبي -صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس بأسًا، وتقدَّم للمصنف في حنين، وقبله في أحد، أن من زعم أنه هزم يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل عند الشافعية، ووافقهم ابن المرابط من المالكية، وإن مذهب مالك يقتل بلا استتابة، وفرقوا بينه وبين من قال: جرح، أو أوذي؛ بأن الأخبار عن الأذى نقص في المؤذي لا عليه، والأخبار بالانهزام نقص له -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعله لو وقع، كما أنَّ الأذى فع المؤذي، قال ابن دحية: وأما تغيبه في الغار، فكان قبل الإذن بالقتال، وأما مظاهرته بين درعين يوم أحد، فهو من الاستعداد للإقدام، وليقتدي به أصحابه، والمنهزم خارج عن الإقدام جملة، بخلاف المستعد له. انتهى. "وأما" معنى "ما ذكر" أو الصفة المرادة "من سخائه، وجوده، وكرمه" والأوّل أولى لاطِّراده في جميع ما يأتي، والجواب محذوف، أي: ففيه خلاف، وإذا أردت معرفته، "فاعلم أن السخاء صفة غريزية" طبيعة قائمة بالموصوف، كقيام الأوصاف الحسية بمحالها، قال بعض: وهي سهولة الانفاق، وتجنب اكتساب، ما لا يحمد من الصنائع المذمومة، كالحجامة، وأكل ما لا يحل مأخوذ من الأرض السخاوية، وهي الرخوة اللينة، ولذا وصف الله تعالى بجواد دون سخيّ، لأنه أوسع في معنى العطاء، وأدخل في صفة العلاء، فعلى هذا هو أخص منه، وقيل هما مترادفان لقول الشاعر: وما الجود من يعطي إذا ما سألته ... ولكن من يعطي بغير سؤال "وفي مقابلته الشح" أشد البخل، "والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: {وَمَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، فحكم بالفلاح لمن وقي الشح، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ، {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 3، 5] والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين. وليس الشح من الآدمي بعجيب؛ لأنه جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة. والسخاء أتمَّ وأكمل من الجود، وفي مقابلته البخل, وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء؛ إذ كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخي جواد ................   يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حرصها على المال، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] الآية، "فحكم بالفلاح لمن وقي الشح، وحكم بالفلاح أيضًا لمن أنفق، وبذل، فقال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم {يُنْفِقُونَ} ، [البقرة: 3] في طاعة الله، {َأُولَئِكَ} الموصوفون بما ذكر {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] الفائزون بالجنة الناجون من النار، "والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، وليس الشح من الآدمي بعجيب، لأنه جبلي فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة" مقتضاه تغاير الغريزة والجبلة، وفي المصباح: الجِبِلّة، بكسرتين، وتثقيل اللام، والطبيعة، والخلقة، والغريزة، بمعنى واحد، "والسخاء أتمّ، وأكمل من الجود" بناء على تغايرهما، والأصح: إن السخاء أدنى منه، ولذا لم يوصف الله به، كما مَرَّ، "وفي مقابلته" أي: الجود "البخل، وفي مقابلة السخاء الشح" ويأتي أن الجود إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، فذكر تعريفه، كالسخاء، ولم يذكر الكرم مع أنه ترجم به، كأنه لأنه مأخوذ عنده في معنى الجود، وفي الشامي الكرم، بفتحتين، الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم خطره، وفي نسخة قدره. وفي القاموس الكرم محركة ضد اللؤم، كرم، بضم الراء، كرامة كرامًا، فهو كريم، وفيه اللؤم ضد الكرم، "والجود، والبخل يتطرَّق إليهما الاكتساب بطريق العادة", وذلك أن الجواد إذا رأى من أنفق ماله، فصار فقيرًا غلب عليه الحرص، فمنع نفسه من الجود، حتى لا يصير كذلك, والبخيل يعلم خسة الدنيا، وما يؤل إليه، وإن ذا المال يموت، فيأخذ غيره ماله، فيعالج نفسه على إعطاء ما ينبغي، فيصير له طبيعة "بخلاف الشح، والسخاء؛ إذ كان" تعليلية، أي: لكون "ذلك من ضرورة الغريزة" فلا يمكن اكتسابهما، وهذه التفرقة بناء على أن الشحَّ أشد من البخل، وأنَّ السخاء أتم من الجود, أمَّا على ترادفهما، وأن الجود أعلى فلا، "فكل سخي جواد" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 وليس كل جواد سخيًّا، والجود يتطرَّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعا إلى غرض من الخلق أو الحق بمقابلة من الثناء أو غيره من الخلق والثواب من الله تعالى، ولا يتطرق الرياء إلى السخاء؛ لأنه ينبع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض. أشار إليه في عوارف المعارف. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس، رواه البخاري ومسلم من حديث أنس. وأجود: أفعل تفضيل، من الجود وهو إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، ومعناه: هو أسخى الناس، ولما كانت نفسه أشرف النفوس ومزاجه أعدل الأمزجة, لا بُدَّ أن يكون فعله أحسن الأفعال، .................   لأن السخاء إعطاء ما ينبغي بحسب الطبيعة، "وليس كل جواد سخيًّا"؛ لأن الجود إعطاء ما ينبغي أيضًا، لكن قد يكون بمعالجة النفس على اكتسابه. "والجود يتطرَّق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعًا إلى غرض من الخلق أو الحق" سبحانه, وبَيِّنَ الغرض بقوله: "بمقابلة من الثناء، أو غيره من الخلق، والثواب من الله تعالى", كمن جاد بالمال لذلك، "ولا يتطرق الرياء إلى السخاء، لأنه" غريزة، لا صنع فيه، فلا يقصد به غرضًا؛ إذ هو "ينبع" يتفجر "من النفس الزكية، المرتفعة عن الأغراض، أشار إليه" العارف العلامة السهروردي، بمعنى ذكره "في" كتابه "عوارف المعارف" بلفظه من أول قوله: فاعلم إلى هنا، "وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس"؛ لأن الله تعالى أعطاه كل الحسن، "وأشجع الناس" أقواهم قلبًا في حالة البأس؛ "وأجود الناس" لتخلقه بصفات الله، التي منها الجود والكرم، "رواه البخاري، ومسلم من حديث أنس" بزيادة تقدَّمت قريبًا في قوله: لقد فزع أهل المدينة إلخ ....... ، وإنه لفظ مسلم، ولفظ البخاري، ولقد فزع أهل المدينة ليلًا، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- سبقهم على فرس، وقال: "وجدناه بحرًا"، "وأجود أفعل تفضيل من الجود" بضم الجيم، مصدر جاد، "وهو إعطاء ما ينبغي" شرعًا "لمن ينبغي أن يعطى" لاستحقاقه للصفة القائمة به، كالفقر، فلا حاجة لزيادة بعض لا لغرض لدخوله فيما ينبغي، وقيل: الجود تجنب اكتساب ما لا يحمد، وهو ضد التقتير، والجواد الذي يتفضل على من يستحق، ويعطي من لا يسأل، ويعطي الكثير ولا يخاف الفقر، والسخي الليِّن عند الحاجة. قال الأستاذ القشيري: قال القوم: من أعطى البعض فهو سخي، ومن أعطى الأكثر وأبقى لنفسه شيئًا فهو جواد، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر، "ومعناه هو أسخى الناس، لما كانت نفسه أشرف النفوس، ومزاجه أعدل الأمزجة، لا بُدَّ أن يكون فعله أحسن الأفعال" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 وشكله أملح الأشكال، وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شكَّ يكون أجود الناس، وكيف لا وهو مستغنٍ عن الفانيات بالباقيات الصالحات. واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكلم، فإنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها الغضبية، وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية وكمالها الجود، وثالثها: العقلية وكمالها النطق بالحكمة. وفي رواية لمسلم عنه: ما سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا إلّا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا, فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر. وعنده أيضًا عن صفوان بن أمية ....................   وهو كونه أسخى الناس، "وشكله أملح الأشكال" من الملاحة، "وخلقه أحسن الأخلاق، فلا شَكَّ يكون أجود الناس" وأنداهم يدًا، "وكيف لا" يكون كذلك؟ "وهو مستغنٍ عن الفانيات" من متاع الدنيا، "بالباقيات الصالحات" لعله أراد بها هنا الطاعات التي ثوابها عظيم عند الله، لا خصوص سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. "واقتصار أنس على هذه الأوصاف الثلاثة من جوامع الكَلِم، فإنها أمهات" أصول "الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاث قوى: أحدها: الغضبية، وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية" بفتح، فسكون، ففتح، نسبة إلى الشهوة على خلاف القياس، والقياس الشهوية، وهو كذلك في نسخة، وهي اشتياق النفس إلى الشيء، وجمعها شهوات، "وكمالها الجود، ثالثها العقلية، وكمالها النطق بالحكمة" وفي الفتح جمع أنس صفات القوى الثلاثة، العقلية، والغضبية، والشهوانية، فالشجاعة، تدل على الغضبية، والجود يدل على الشهوة، والحسن تابع لاعتدال المزاج المتتبع لصفاء النفس، الذي به جودة القريحة، الدال على العقل، فوصف بالأحسنية في الجميع. انتهى. "وفي رواية لمسلم عنه" عن أنس "ما سُئِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا إلّا أعطاه" لما جبل عليه من الجود والحياء، "فجاءه رجل" هو صفوان بن أمية، كما قال: غير واحد: "فأعطاه غنمًا بين جبلين" مبالغة في الكثرة، أي: إنها لكثرتها سدَّت ما بينهما، "فرجع إلى قومه" وهم قريش، "فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر", وذلك آية لنبوته، وفي رواية: من لا يخشى الفاقة وهي الفقر، أو الشدة، "وعنده" أي: مسلم "أيضًا", والترمذي من طريق سعيد بن المسيب، "عن صفوان بن أمية" بن خلف بن وهب، بن قدامة بن جمح القرشي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 قال: لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة. وفي مغازي الواقدي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا، قال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي. ويرحم الله جابر حيث قال: هذا الذي لا يتقي فقرًا إذا ... أعطى ولو كثر الأنام وداموا وادٍ من الأنعام أعطى آملًا ... فتحيِّرت لعطائه الأوهام وإنما ................................   الجمحي، المكي، صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، وقيل: سنة إحدة أو اثنتين وأربعين، روى له مسلم، وأصحاب السنن، وعلق له البخاري، "قال: لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني، وأنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. قال ابن شهاب" الزهري، بيانًا لمبهم قوله: أعطاني ما أعطاني، "أعطاه يوم حنين مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة", والحكمة في كونه لم يعطها دفعة واحدة أن هذا العطاء دواء لدائه، والحكيم لا يعطي الدواء دفعة واحدة؛ لأنه أقرب للشفاء. "وفي مغازي الواقدي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى صفوان يومئذ" أي: يوم حنين، وكان حضرها مشركًا "واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا" عطف تفسير؛ إذ النعم اسم للإبل خاصة, قاله أبو عبيد, لكن قيل: تطلق النعم على الإبل والغنم، وعليه هو عطف عام على خاص، وفي نسخة: ونمًا. "قال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلّا نفس نبي" ولفظ الواقدي، يقال: إن صفوان طاف معه -صلى الله عليه وسلم- يتصفح الغنائم؛ إذ مَرَّ بشعب مملوء إبلًا وغنمًا فأعجبه، وجعل ينظر إليه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب"؟، قال: نعم. قال: "هو لك بما فيه" فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله، ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نفس نبي. "ويرحم الله" أبا عبد الله محمد "بن جابر حيث قال: هذا الذي لا يتقي" لا يتلبَّس بما يدفع "فقرًا إذا". "أعطى", بل يعطي لقوة يقينه ورجائه في الله، "ولو كثر الأنام وداموا" استمروا على الطلب منه، فيستمر على الإعطاء، ولا يترك خوف الفقر، "وادٍ" بدال مهمل على حذف مضاف، أي: ملء واد "من الأنعام" بفتح الهمزة، وسكون النون: الإبل إشار لقصة صفوان "أعطي" حذف مفعوله الثاني، أي: أعطاه "آملًا" راجيًا، "فتحيرت لعطائه" لأجله "الأوهام" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 أعطاه ذلك لأنه -عليه الصلاة والسلام- علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء وهو الإحسان, فعالجه به حتى برئ من داء الكفر وأسلم، وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته -عليه الصلاة والسلام؛ إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حَرِّ النيران إلى برد لطف الجنان. وكان علي إذا وصفه -صلى الله عليه وسلم- قال: كان أجود الناس كفًّا، وأصدق الناس لهجة. وخرج ابن عدي -بإسناد فيه ضعف- من حديث أنس مرفوعًا: أنا أجود بني آدم. فهو -صلى الله عليه وسلم- بلا ريب أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم   العقول، لأنه خارق للعادة، "وإنما أعطاه ذلك؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- علم أن داءه" مرضه، وهو الكفر، "لا يزول إلّا بهذا الدواء، وهو الإحسان؛ فعالجه به حتى برئ" بكسر الراء، وفتحها، "من داء الكفر" مرضه، "وأسلم" رضي الله عنه، "وهذا من كمال شفقته ورحمته ورأفته -عليه الصلاة والسلام؛ إذ عامله بكمال الإحسان، وأنقذه من حر النيران" لو مات على الكفر، "إلى برد لطف الجنان" فجَرَّه إليها، ولم يتركه يقع في النار، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه" رواه البخاري. "وكان علي" كما رواه الترمذي في حديث "إذا وصفه -صلى الله عليه وسلم، قال: كان أجود الناس" أكثرهم عطاءً، "كفًّا" تمييز عن نسبة أجود إلى ضميره -صلى الله عليه وسلم، وكذا كان قلبه أجود القلوب، وأسخاها بالمال والمعارف، لا يبخل بشيء منها على مستحقه، وفي رواية: أجود الناس صدرًا، وأخرى: أوسع الناس صدرًا. "وأصدق الناس لهجة" بسكون الهاء، وفتح الجيم، أي: لسانًا، يعني كلامًا، وإطلاقه على آله الكلام الذي هو اللسان مبالغة، والمعنى: كلامه أصدق الكلام، لا مجال لجريان صورة الكذب عليه، فوضع المظهر موضع المضمر، فلم يقل أصدقهم لزيادة التمكّن، كما في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1، 2] الآية؛ حيث لم يقل: هو الصمد، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] الآية. فما قال: وبه نزل, وهاتان من صفاته من قبل أن يبعث، قالت خديجة: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف؛ وتعين على نوائب الحق. زاد في رواية: وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، "وخرَّج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من حديث أنس مرفوعًا" "أنا أجود بني آدم" ورواه أبو يعلى وبقي بن مخلد في مسنديهما، عن أنس رفعه: ألا أخبركم عن الأجود لله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علمًا فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة واحدة، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل، "فهو -صلى الله عليه وسلم- بلا ريب" شك، "أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم؛ وأعلمهم، وأشجعهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله في إظهار دينه وهدايته عباده وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من إطعام جائعهم, ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، ولقد أحسن ابن جابر حيث قال: يروى حديث الندى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهل ومنسجم من وجه أحمد لي بدر ومن يده ... بحر ومن فمه در لمنتظم يمم نبيًّا يباري الريح أنمله ... والمزن في كل هامي الودق مرتكم لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحر منه إن تعم   وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة، وكان جوده بجميع أنواع الجود من بذل العلم والمال, وبذل نفسه لله في إظهار دينه" كما ظهر يوم حنين وأُحُد؛ إذ بقى بين العدو وحده، "وهدايته عباده, وإيصال النفع إليهم بكل طريق، من" بيان الجملة الطرق التي بان فيها جوده؛ "إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم. ولقد أحسن ابن جابر، حيث قال، يروي حديث الندى" كثرة الإعطاء، "والبشر" بكسر الموحدة، وسون المعجمة، طلاقة الوجه, "عن يده" عائد للندى، "و" عن "وجهه" عائد للبشر، فهو لف ونشر مرتب، وهذا خير من رفع وجهه، على أنه جملة حالية، لأن البشر لا تعلق له باليد، "بين منهل" بضم الميم، وفتح الهاء، وشد اللام، أي: مطر كثير، "ومنسجم" بضم الميم وسكون النون، وفتح السين، وكسر الجيم، متوسط, يريد أن عطاياه وطلاقة وجهه لازمان له، لا ينفكان عنه, غايته أنهما دائران بين الكثرة والتوسط، والجملة صلة يروي، أو حال من الندى والبشر، "من وجه أحمد" ولاح "لي بدر" نور كنوره, "ومن يده بحر" عطاء كالبحر، "ومن فمه در" كبار اللؤلؤ، أي: ثنايا كدُرٍّ، "لمنتظم" في سلكه، فهو تشبيه بليغ في الثلاثة، أو استعارة تصريحية؛ "يمم" اقصد في مهماتك "نبيًّا" كثير الخير والرحمة؛ بحيث "يباري" بضم الفوقية، أو التحتية، والأكثر تأنيث الريح، -فألف فموحدة فراء فتحتية- يغالب ويعارض "الريح", فعل "أنمله" فتريد الريح فعل مثلها في سرعة الحصول، والوصول إلى المحتاج، فلا تقدر على ذلك، وإن لم تنفك عن الهبوب, "والمزن" جمع مزنة سحابة بيضاء، عطف على الريح، حال كون المزن، "من كل هامي" سائل "الودق" المطر "مرتكم" مجتمع ماؤه لكثرته، أي: من كل سحاب كثير المطر، احترازًا عن سحاب لا مطر فيه، والمعنى أن ما سأل منه شابه أنمله في الإعطاء، وإن افترقا في أن عطاءه أتمَّ وأرجح، "لو عامت الفلك فيما فاض" أي: في البحار التي فاضت "من يده، لم تلق أعظم بحر منه أن تعم" فلا تعوم إلا فيه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كل طامي الموج ملتطم لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمي فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه. وروى البخاري من حديث جابر: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط فقال: لا، وكذا عند مسلم، أي: ما طلب منه شيء من أمر الدنيا فمنعه. قال الفرزدق: ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم   يحيط كفاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودَعْ كل طامي الموج ملتطم أي: اترك الأمواج الكثيرة التي دخل بعضها في بعض، لكثرتها والجأ إلى ما فاض من يده، فما عداه بالنسبة له كالعدم، والمعنى: إن عطاء غيره بالنسبة له لا يعد شيئًا. لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وروت قلب كل ظمي ظمآن لكنها شاملة كل العالم، فهو استدلال على دعواه إحاطة كفيه بالبحر، وذلك لأن هدايته وإنقاذه من الضلال وشفقته شاملة لجميع العالم، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فهو قياس استثنائي، فاستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم، "فسبحان من أطلع أنوار الجمال من أفق جبينه، وأنشأ أمطار السحائب من غمائم يمينه" ثم استدل على دعواه كثرة إنعامه، فقال: "روى البخاري، من حديث جابر" بن عبد الله، قال: "ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن شيء قط"، يقدر عليه من الخير، "فقال: لا" بل يعطيه إن كان عنده، أو يعده بميسور من القول إن ساغ وإلا سكت أو دعا، "وكذا عند مسلم" عن جابر، ولو قال: أولًا: روى البخاري، ومسلم لا غناه عن هذا "أي: ما طلب منه شيء من أمر الدنيا، فمنعه، قال الفرزدق" همام بن غالب بن صعصعة، بن ناجية التميمي، قال المرزباني: كان سيدًا جوادًا، فاضلًا وجيهًا عند الأمراء والخلفاء، وأكثر العلماء يقدمونه على جرير، مات سنة عشر ومائة، وقد قارب المائة، وقيل: بلغ مائة وثلاثين سنة، والأول أثبت، وصحَّ أنه قال الشعر أربعًا وسبعين سنة، لأن أباه أتى إلى علي في سنة ست وثلاثين، فقال: إن ابني شاعر، فقال علي: علّمه القرآن، فإنه خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق، فقيِّد نفسه، وآلى أن لا يحل نفسه حتى يحفظ القرآن، ووهم من زعم أنه صحابي، كما بينه في الإصابة. "ما قال لا قط إلّا في تشهده" أي نطقه بكلمة التوحيد، سواء كان في صلاة أم لا، "لولا التشهد كانت لاؤه نعم" مرفوع، على الحكاية، أي: هذا اللفظ، أي: لولا أنه ينطق بلا في التشهد لم ينطق إلّا بنعم، وظاهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر: ليس المراد أنه يعطي ما يطلب منه جزمًا، بل المراد: إنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا وإلّا سكت. قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية عند ابن سعد ولفظه: كان إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم،   سوق المصنف هذا البيت، وتبعه تلميذه الشامي أنه في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم، والذي في القصيدة أنه في زين العابدين علي بن الحسين، قال في حياة الحيوان: ينسب إلى الفرزدق، مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أن هشام بن عبد الملك لما حجَّ أيام أبيه طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود، فلم يقدر لكثرة الزحام، فجلس على كرسي ينظر الناس، ومعه جماعة من أعيان الشام، فأقبل زين العابدين علي بن الحسين فطاف، فلما انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلمه، فقال شامي لهشام: من ذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: ما أعرفه مافة أن يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق: أنا أعرفه، فقال الشامي: من هو؟ فقال: هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم إلى أن قال: وليس قولك من هذا يضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عم نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والكرم حمال أثقال أقوام إذا فدجوا ... حلو الشمائل تحدو عنده نعم وبعد ما قال لا البيت، وبعده: عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغياهب والأملاق والعدم من معشر حبهم دين وبغضهم ... كفر وقربهم منجا ومعتصم وهي خمسة وعشرون بيتًا، فغضب هشام وحبس الفرزدق، فأنفذ له زين العابدين اثنتي عشر ألف درهم، فردها وقال: مدحته لله لا للعطاء، فأرسل يقول له: إنَّا أهل بيت إذا وهبنا شيئًا لا نستعيده، والله يعلم نيتك ويثيبك عليها، فقبلها، "لكن قال شيخ مشايخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر" في فتح الباري "ليس المراد" يقول جابر, فقال: لا "إنه يعطي ما يطلب منه جزمًا" لأنه خلاف الواقع، "بل المراد أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء" المطلوب، أو غيره "أعطاه إن كان الإعطاء سائغًا"، كالمباح، "وإلّا سكت" أو اعتذر، كما يأتي، أو دعا، كما قال بعض "قال: وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب اشتهر بأمه، "عند ابن سعد، ولفظه كان" صلى الله عليه وسلم "إذا سئل، فأراد أن يفعل، قال: "نعم"، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 وإن لم يرد أن يفعل سكت. وهو قريب من حديث أبي هريرة: ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلّا تركه. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه: لم يقع, لا منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] ، ولا يخفى الفرق بين قوله: لا أجد ما أحملكم, وبين: لا أحملكم. انتهى. وهو نظير ما في حديث أبي موسى الأشعري: لما سأله الأشعريون الحملان فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم عليه". لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم فقال: "والله لا أحملكم على شيء" فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر ما إذا سئل ما ليس عنده, والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة، فلو   وإن لم يرد أن يفعل سكت، وهو قريب من حديث أبي هريرة" السابق "ما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإلّا تركه" كالضب، وبهذا لا يخالف ما ورد أن من سأله حاجة لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول، "وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام معناه" أي: قول جابر، "لم يقع لا منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا" كذا في النسخ الصحيحة، بلا بعد أن، وفي نسخة حذفها، وهي خطأ، "كما في قوله تعالى: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآية. ولا يخفي الفرق بين قوله: لا أجد ما أحملكم" لأن فيه الاعتذار بعدم الوجدان، "وبين لا أحملكم" لأنه منع بلا اعتذار. انتهى كلام العز، "وهو نظير ما في حديث أبي موسى"، عبد الله بن قيس "الأشعري، لما سأله الأشعريون الحملان" بضم، المهملة، وسكون الميم، أي: الشيء الذي يركبون عليه، ويحملهم في غزوة تبوك، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما عندي ما أحملكم عليه" كما في رواية للشيخين، "لكن يشكل عليه أنه -صلى الله عليه وسلم- حلف لا يحملهم، فقال كما في رواية لهما أيضًا: "والله لا أحملكم على شيء" ووافقته وهو غضبان، ولا أشعر، "فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر، ما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك" فلا تنافي بينه وبين حديث أبي موسى، "أو" يقال: يخص منه "حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل، كأن لم يكن يعرف العادة" من أنه إذا لم يرد الإعطاء سكت، "فلو اقتصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 اقتصر في جوابه على السكون مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القسم على ذلك تأكيدًا لقطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله: "لا أجد ما أحملكم" وقوله: "والله لا أحملكم" إن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالفرض مثلًا أو بالاستيهاب؛ إذ لا اضطرار حينئذ. وروى الترمذي أنه حمل إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما ردَّ سائلًا حتى فرغ منها. قال: وجاءه رجل .....................   في جوابه على السكوت، مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القسم على ذلك تأكيدًا لقطع طمع السائل" عن السؤال، "والسر" الحكمة "في الجمع بين قوله: "لا أجد ما أحملكم" وقوله: "والله لا أحملكم": إن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده" فاعتذر بعدمه "والثاني أنه لا يتكلّف الإجابة إلى ما سئل بالفرض" السلف "مثلًا، أو بالاستيهاب" أي: طلب الهبة من أحد "إذ لا اضطرار حينئذ" لذلك، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ابتاع ستة أبعرة بعد سويعة، وحملهم عليها. "وروى الترمذي أنه حمل إليه تسعون" بفوقية قبل السين، وفي رواية ابن أبي الحسن بن الضحاك، في شمائله مرسلًا، ثمانون "ألف درهم" بغلية، أو طبرية، أو منهما، لا بقيد النصف من كل، والدراهم التي في عهده منهما، ووزن أحدهما ثمانية دوانق، والأخرى أربعة، هذا والمبتادر من صنيع المصنف، إن هذه الدراهم غير الدراهم الآتية من البحرين، فإنه أول مال حمل إليه، فيكون هذا المجيء متأخرًا عن مال البحرين، وانظر أي زمان تأخَّر عنه، ومن أين قدومه، وما سببه، كذا قال شيخنا: وفي بعض الهوامش الجزم بأن هذه الدراهم هي التي حملت إليه من البحرين، اختلف في عدتها؛ وأن الحديثين واحد، وهذا هو الأصل والمتبادر، "فوضعت على حصير، ثم قام إليها" لعلَّ المراد شرع "يقسمها" أو أخذ يقسمها؛ بأن أمر به، وإن لم يقم بالفعل، ولا باشر القسم بيده، "فما ردَّ سائلًا" لا يؤخذ منه أنه لم يعط إلا من سأله، بل يصدق بذلك، وبإعطاء من علم حاجته، فيدفع له إن كان عنده بلا سؤال، أو يبعث إليه "حتى فرغ منها" غاية لقوله: قسمها، أو لقوله: فما رَدَّ سائلًا، وليس المراد أنه يرد بعد الفراغ، فهو ونحو حديث: "إن الله لا يمل حتى تملوا"، "قال" أي: روى الترمذي في الشمائل بتصرف قليل لا يغير المعنى، "وجاءه رجل" لفظ الشمائل، عن عمر بن الخطاب أن رجلًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 فقال: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي، فإذا جاءنا شيء قضيناه"، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر، فكره النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالًا، ..................   يسأله أن يعطيه، "فقال: "ما عندي شيء، ولكن ابتع علي" روي بموحدة ساكنة بعد همزة الوصل، ففوقية، أي: اشتر واعدد، أو احسب علي، قال الزمخشري: البيع هنا الاشتراء، قال طرفة: ويأتيك بالأخبار من لا تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد وروي بتقديم التاء الفوقية على الموحدة، أي: أحل علي، قال الزمخشري: اتبعت فلانًا على فلان أحلته، ومنه خبر إذا اتبع أحدكم علي ملئ فليتبع، انتهى. وفي رواية البزار عن عمر، فقال: "ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك"، فلا مانع من تفسير ابتع، أو اتبع باستقرض، تجوز الرواية البزار إذ الحديث واحد، وليس بضمان، بل وعد منه، ووعده ملتزم الوفاء؛ إذ وعد الكريم دَيْن، ولذا صحَّ أنه لما توفي نادى لصديق لما جاءه مال البحرين من كان له عند رسول الله عدة أو دين فليأتنا، فجاء جابر وقال: إنه وعدني كذا، فأعطاه له الحديث في الصحيح، "فإذا جاءنا شيء" من غنائم، أو غيرها "قضيناه" أي: أدَّيناه، وعبَّر بالجمع للتعظيم، أي: فضيته قضاء أنال به التعظيم من الله، ولذا لم يقل: جاءني، وقضيته مع قوله: عليَّ، والقضاء يشعر بأنه لزم زمته, كذا وجهه بعض شراح الشفاء؛ لأنه وقع فيها بالجمع كما هنا، لكن لفظ الشمائل: "فإذا جاء شيء قضيته"، "فقال له عمر" القياس، فقلت له: فهو التفات عند بعض، أو رواية بالمعنى، قال المصنف: وهو بعيد، "ما كلفك الله ما لا تقدر" أي: ما ليس حاصلًا عندك، "فكره النبي -صلى الله عليه وسلم" قول عمر، كما هو لفظ الترمذي، أي: من حيث استلزامه قنوط السائل وحرمانه؛ ولأن مثله ما لا يعد تكليفًا لما لا يقدر عليه، لما عوَّده الله من فيض نعمه عليه، "فقال رجل من الأنصار"؛ حيث رأى كراهة المصطفى لذلك: "يا رسول الله أنفق" بفتح الهمزة، أمر من الإنفاق، "ولا تخف" قال بعض: كذا في غالب النسخ، ولعل الصواب، ولا تخش، فإنه يصير نصف بيت موزون، وليس هذا الترجي بشيء "من ذي العرش" قيد للمنفي، لا للنفي "إقلالًا" فقرأ من قلَّ بمعنى افتقر، وهو في الأصل بمعنى صار ذا قلة، وما أحسن من ذي العرش هنا، أي: لا تخف أن يضيِّع مثلك من هو مدبر الأمر من السماء إلى الأرض، قال البرهان في المقتفى: هذا الرجل لا أعرفه، وفي حفظي أنه بلال, لكنه مهاجري لا أنصاري، فيكون قد قال ذلك بلال والأنصاري، أو أن الذي فيه ذكر بلال قصة أخرى، المأمور فيها بالإنفاق بلال. روى الطبراني، والبزار عن ابن مسعود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 فتبسم -صلى الله عليه وسلم- وعرف البشر في وجهه. وقال: "بهذا أمرت". وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك كالاستيلاف ونحوه. وذكر ابن فارس في كتابه "أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم" أنه في يوم حنين جاءت امرأة فأنشدت شعرًا تذكره أيام رضاعته في هوازن, فردَّ عليهم ما أخذه, وأعطاهم عطاءً كثيرًا, حتى قوِّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف .......................................   دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على بلال وعنده صبرة من تمر، فقال: "ما هذا يا بلال"؟، قال: يا رسول الله دخرته لك ولضيفانك، قال: "ألا تخشى أن يفور لها بخار من جهنم؟، أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا" انتهى. فما في حفظه، إنما هو في هذه القصة، فلا يصح تفسير المبهم ببلال لوجهين، "فتبسم -صلى الله عليه وسلم" فرحًا بقول الأنصاري، "وعرف البشر في وجهه" بانبساطه وتهلله، "وقال بهذا" أي: الإنفاق من غير مخافة فقر، "أمرت" بنحو: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، لا بما قال عمر, فقدَّم الظر ليفيد قصر القلب رد اعتقاد عمر، "وإنما فعل ذلك للمصلحة الداعية لذلك، كالاستيلاف" بسكون الياء، وأصله الهمزة، "ونحوه" كدفع الضرر، واستشكل الحديث؛ بأن الله قال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [إسراء: 29] الآية, وأجاب القاضي أبو يعلى، بأن المراد بهذا الخطاب غيره -صلى الله عليه وسلم، وغير خُلَّص المؤمنين الذين كانوا ينفقون جميع ما عندهم عن طيب قلب لتوكلهم وثقتهم بما عند الله، أما من كان ليس كذلك يتحسَّر على ما ذهب منه، فهم المحمود منهم التوسط {الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] الآية؛ لأنهم لا صبر لهم على الفاقة، ولذا صعب عليه -صلى الله عليه وسلم- كلام عمر، لما راعى ظاهر الحال, وأمره بصيانة المال، شفقة عليه لعلمه بكثرة السائلين له، وتهافتهم عليه، والأنصاري راعى حاله -صلى الله عليه وسلم، فلذا سره كلامه، فقوله: "بهذا أمرت" إشارة إلى أنه أمر خاص به، وبمن يمشي على قدمه، "وذكر ابن فارس في كتابه أسماء النبي" وفي نسخة في أسماء، أي: المؤلف في أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم، أنه في يوم حنين جاءت" وفي نسخة جاءته "امرأة، فأنشدت شعرًا تذكره أيام رضاعته في هوازن، فردّ عليهم ما أخذه" من النساء، والبنين، ونسب إليه لأنه الأمير، وفي نسخة بحذف الهاء مبني للفاعل، أي: ما أخذ مما نابه من الخمس، أو المفعول: أي: المسملون، "وأعطاهم" عطف تفسير، أي: كان المردود "عطاء كثيرًا"؛ لأنه لم يكن معه مال غير المأخوذ من الغنيمة، وسمي المردود عطاء الملك الغانمين له "حتى قوّم ما أعطاهم ذلك اليوم فكان خمسمائة ألف ألف" من السبايا، وأما أموالهم فلم يردها عليهم؛ لأنه كان قسم الجميع، فلما جاءوه مسلمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 ألف. قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الوجود. وفي البخاري من حديث أنس: إنه -صلى الله عليه وسلم- أتي بمال البحرين فقال: "انثروه" -يعني صبوه- في المسجد، وكان أكثر مال أتي به -صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلمَّا قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدًا إلا أعطاه؛ إذ جاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا، ..................   خَيَّرَهم بين رد المال أو السبايا، فاختاروا السبايا فردهم، كما مَرَّ مفصلًا. "قال ابن دحية، وهذا نهاية الجود، الذي لم يسمع بمثله في الوجود" وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن رجل من العرب, مشيت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجله، فنفحني نفحة بسوط في يده، وقال: "بسم الله أوجعتني"، فبت لنفسي لائمًا أقول: أوجعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فبت بليلة كما يعلم الله، فلما أصبحنا إذا رجل يقول: ابن فلان، فقلت: هذا الذي، والله كان مني بالأمس، فانطلقت وأنا متخوّف، فقال لي -صلى الله عليه وسلم: "إنك وطئت رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك بسوط، فهذه ثمانون نعجة فخذها"، ونفحني -بنون ففاء فمهملة- دفعني، ولعله أتى بالتسمية مع نفحة، إرادة أن لا يؤلمه الدفع، "وفي البخاري" في مواضع "من حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- أتي" بضم الهمزة، مبني للمفعول، "بمال من" خراج "البحرين" لفظ تثنية بحر بلدة بين بصرة، وعمان، "فقال: "انثروه" بمثلثة "يعني صبوه" فسره به لدفع توهم أنه أمر بنثره مفرقًا "في المسجد" النبوي، وفيه جواز وضع ما يشترك المسلمون فيه من صدقة ونحوها في المسجد، ومحله ما لم يمنع مما وضع المسجد له من صلاة وغيرها مما بني المسجد لأجله، ونحو هذا الوضع وضع زكاة الفطر، ويستفاد منه جواز وضع ما يعم نفعه في المسجد، كالماء لشرب من عطش، ويحتمل التفرقة بين ما وضع للخزن للتفرقة وبين ما يوضع للخزن، فيمنع الثاني دون الأول، قاله الحافظ: "وكان أكثر مالٍ أتي به -صلى الله عليه وسلم" من الدراهم، أو من الخراج، فلا ينافي أنه غنم في حنين ما هو أكثر منه وقسمه، "فخرج إلى المسجد، ولم يلتفت إليه" أي: المال، أي: لم يتعلّق نظره بأخذ شيء منه لنفسه، ولا لأحد من أصحابه به بعينه، ففيه غاية كرمه، وأنه لا يلتفت إلى المال قلَّ أو كَثُر. "فلمَّا قضى الصلاة جاء، فجلس إليه" أي: عنده، "فما كان يرى أحدًا إلّا أعطاه" منه "إذ جاء العباس" عمه، من غير موعد سابق، قال في المصابيح: المعنى، فبينما هو على ذلك إذ جاءه العباس، "فقال: يا رسول الله أعطني" منه، "فإني فاديت" أي: أعطيت فداء "نفسي" يوم بدر، "فاديت عقيلًا" بفتح العين، وكسر القاف- ابن أبي طالب، وكان أسر مع عمه في غزوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 فقال له: "خذ"، فحثى في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله، مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا"، قال: فأرفعه أنت عليّ، فقال: "لا"، فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع, فقال: يا رسول الله, مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا"، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: "لا"، فنثر منه ثم احتمله, فألقاه على كاهله فانطلق، فما زال -صلى الله عليه وسلم- يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبًا من حرصه، فما قام -عليه الصلاة والسلام- وثَمَّ منها درهم. وفي رواية ابن أبي شيبة ...................   بدر، "فقال له: خذ فحثى" بمهملة، ومثلثة، من الحثية، وهي ملء اليد "في ثوبه" أي: حثى العباس في ثوب نفسه، "ثم ذهب يقله" بضم أوله، من الإقلال، وهو الرفع والحمل، أي: يرفعه، "فلم يستطع" حمله، "فقال: يا رسول الله مر بعضهم" بضم الميم، وسكون الراء، وفي رواية: أؤمر بالهمز "يرفعه علي" بالجزم لأنه جواب الأمر, ويجوز الرفع, أي: فهو يدفعه, قاله الحافظ, وقال المصنف: أؤمر بهمزة مضمومة، فأخرى ساكنة، وبحذف الأولى، وتصير الثانية ساكنة، وهذا جار على الأصل، وللأصيلي مُرْ على وزن على، حذف منه فاء الفعل لاجتماع المثلين في أول كلمة، وهو مؤد إلى الاستثقال، فصار أمر، فاستغني عن همزة الوصل المتحرك ما بعدها فحذفت، ولأبي ذر في نسخة: برفعه بموحدة مكسورة، وسكون الفاء، "قال: "لا" آمر أحدًا برفعه" "قال: فأرفعه أنت عليّ، فقال: "لا" أرفعه، وإنما فعل ذلك تنبيهًا له على الاقتصاد، وترك الاستكثار من المال، "فنثر" العباس "منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: "لا" , قال: فارفعه أنت عليّ، قال: "لا" أرفعه، وكأن العباس فهم أنه لا يكلف بعض أصحابه برفعه، فسأله أن يرفعه هو إدلالًا عليه، "فنثر منه، ثم احتمله، فألقاه على كاهله" أي: بين كتفيه. قال الحافظ وغيره، قال ابن كثير: كان العباس شديدًا طويلًا نبيلًا، قلَّما احتمل شيئًا يقارب أربعين ألفًا، "فانطلق" وفي رواية، ثم انطلق، وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله، فقد أنجز يشير إلى قوله تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] الآية، "فما زال -صلى الله عليه وسلم- يتبعه" بضم أوله، وسكون ثانية، وكسر ثالثه، أي: يتبع العباس، "بصره حتى خفي علينا" غاب شخصه عنا؛ بحيث لا نراه "عجبًا" بالنصب مفعول مطلق، من حرصه، فما قام -عليه الصلاة والسلام" من ذلك المجلس، "وثَمَّ" بفتح المثلثة، أي: هناك "منها" أي: الدراهم "درهم" جملة حالية من مبتدأ مؤخر وهو درهم، وخبره منها، ومراده: نفي أن يكون هناك درهم, فالحال قيد للمنفي لا للنفي، فالمجموع منتفٍ بانتفاء القيد لانتفاء المقيد، وإن كان ظاهره نفي القيام حالة ثبوت الدراهم، قاله البرماوي، والعيني، "وفي رواية ابن أبي شيبة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 من طريق حميد بن هلال مرسلًا: كان مائة ألف، وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مال حمل إليه -صلى الله عليه وسلم. وسايره جابر على حمل له، فقال -عليه الصلاة والسلام: "بعني جملك"، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فقال: "بل بعنيه"، فباعه إياه وأمر بلالًا أن ينقده ثمنه فنقده، ثم قال له -صلى الله عليه وسلم: "اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما" مكافأة لقوله: هو لك، فأعطاه الثمن ...........   من طريق حميد بن هلال" العدوي، أبي نصر البصري التابعي الثقة العالم، روى له الستة "مرسلًا، كان" المال "مائة ألف" من الدراهم، "وأنه أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين، قال: وهو أول مالٍ حُمِلَ إليه -صلى الله عليه وسلم". زاد في الفتح، وعند البخاري في المغازي من حديث عمرو بن عوف، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صالح أهل البحرين، وأمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث أبا عبيدة بن الجراح إليهم، فقدم أبو عبيدة بمالٍ، فسمعت الأنصار بقدومه. الحديث. فيستفاد منه تعيين الآتي المال، لكن في الردَّة للواقدي أن رسول العلاء ابن الحضرمي بالمال هو العلاء بن جارية الثقف، فلعله كان رفيق أبي عبيدة. وأما حديث جابر، ففي الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "لو جاء مال البحرين أعطيتك"، وفيه، فلم يقدم مال البحرين حتى مات -صلى الله عليه وسلم، فلا يعارض ما تقدَّم، بل المراد أنه قدم في السنة التي مات فيها؛ لأنه كان مال خراج أو جزية، فكان يقدم من سنة إلى سنة، "وسايره جابر" بن عبد الله في انصرافه من غزوة ذات الرقاع، كما رواه ابن إسحاق عن جابر، وفي البخاري أن ذلك كان في غزوة تبوك، وفي مسلم في غزوة الفتح، "على حمل له" كان قد أبطأ، فلا يكاد يسير، فأمره بإناخته، ونخسه نخسات بعصا، وضربه برجله، ودعا فوثب الجمل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اركب"، فقال جابر: إني أرضى أن يساق معنا، قال: "اركب" فركب، فوالذي نفسي بيده لقد رأيتني وأنا أكنه عنه -صلى الله عليه وسلم- إرادة أن لا يسبقه، "فقال -عليه الصلاة والسلام: "بعني جملك" فقال: هو هبة "لك يا رسول الله" بلا ثمن, فديتك "بأبي أنت، وأمي", أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بهما, "فقال: "بل بعنيه" فلا أقبله هبة، "فباعه إياه" بأوقية، أو أربع، أو خمس، أو خمسة دنانير، أو أربعة دنانير، أو دينارين ودرهمين, روايات ذكرها البخاري، "وأمر بلالًا" بعدما رجع إلى المدينة "أن ينقده" -بفتح الياء، وضم القاف على الأكثر، ويجوز ضمَّ الياء وكسر القاف- ثمنه، "فنقده" ثمنه، وزاده عليه شيئًا يسيرًا، كما عند ابن إسحاق، "ثم قال له -صلى الله عليه وسلم: "اذهب بالثمن والجمل، بارك الله لك فيهما" قال ذلك "مكافأة لقوله هو لك، فأعطاه الثمن، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 ورَدَّ عليه الجمل وزاده الدعاء بالبركة فيهما. وحديثه في البخاري ومسلم. وقد كان جوده -عليه الصلاة والسلام- كله لله وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج, وتارة ينفقه في سبيل الله، وتارة يتألف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه. وكان يؤثر على نفسه وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عند الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار، وربما ربط الحجر على بطنه الشريفة من الجوع. وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أتاه سبي، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت, وطلبت منه خادمًا يكفيها مؤنة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد، .....................   ورَدَّ عليه الجمل، وزاده الدعاء بالبركة فيهما، وحديثه في البخاري" في عشرين موضعًا "ومسلم" وفي ذكره مع التكلّم عليه طول يخرج عن المقصود، وقد تقدَّم إلمامٌ ببعضه في ذات الرقاع. "وقد كان جوده -عليه الصلاة والسلام- كله لله، وفي ابتغاء مرضاته" عطف تفسير، وعلله بقوله: "فإنه كان يبذل المال تارة لفقير أو لمحتاج، وتارة ينفقه في سبيل الله" الجهاد ونحوه، "وتارة يتألّف به" أي: يطلب به الألفة "على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه" بأن يطلب دخوله فيه، ومحبته له، وتارة لإنقاذ المتألف من النار وإن لم يقو الإسلام به، "وكان يؤثر" يقدم "على نفسه، وأولاده" فيعطي ما بيده للمحتاج، ويتحمل المشقة هو وعياله، "فيعطي عطاء يعجز" بكسر الجيم، أفصح من فتحها، "عند الملوك" العظام، "مثل كسرى" بكسر الكاف، وقد تفتح، "وقيصر" ملك الروم "ويعيش في نفسه عيش الفقراء, فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار" كما ورد في الحديث "وربما ربط الحجر على بطنه خلاف الظهر مذكر، وتأنيثه لغة حكاها أبو عبيدة، وعليها جرى قوله "الشريفة من الجوع". "وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أتاه" قوم "سبى" وصف بالمصدر، "فشكت إليه" ابنته "فاطمة" رضي الله عنها "ما تلقى" أي: المشقة التي تلقاها، "من خدمة البيت، طلبت منه خادمًا" يقع على الأنثى، والذكر "يكفيها مؤنة بيتها" من السبي، "فأمرها أن تستعين بالتسبيح" أي: قول سبحان الله عند النوم ثلاثًا وثلاثين، "والتكبير" أي قول: الله أكبر كذلك، "والتحميد" قول: الحمد لله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 وقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع". وأتته امرأة ببردة .........................   كذلك، "وقال: "لا أعطيك" خادمًا من السبي، "وأدع أهل الصفة" الفقراء "تطوى بطونهم من الجوع" , فمنع أحب أهله إليه شفقة على الفقراء، وهذا الحديث رواه أحمد، عن علي أنه قال لفاطمة: لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما جاء بك أي بنية؟ " قالت: جئت لأسلِّم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت فقال: "ما فعلت"؟، قالت: استحييت أن أسأله، فأتيا جميعًا النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال علي: يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري, وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فأخدمنا، فقال: "والله لا أعطيكم، وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم، وأنفق عليهم أثمانهم" فرجعا، فأتاهما النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد دخلا في قطيفتهما، إذا غطت رءوسهما كشفت أقدامها، وإذا غطت أقدامهما كشفت رءوسهما، فثارا، فقال: مكانكما, ثم قال: "ألا أخبركما بخير مما سألتماني"؟، قالا: بلى. قال: "كلمات علمنيهنَّ جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا وتكبران عشرًا، فإذا أويتما إلى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين". ومجلت، بفتح الجيم، وكسرها، انقطعت من كثرة الطحن، والحديث في البخاري ومسلم عن علي، إن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحى، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- سبي، فانطلقت فلم تجده، فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم، فقال: "على مكانكما" فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، وقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني، إذا أخذتما مضاجعكما من الليل، تكبران ثلاثًا وثلاثين، وتسبحان ثلاثًا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم". قال القاضي عياض: معنى الخيرية أنَّ عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا، وقال ابن تيمية: فيه أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل، فأحالها عليه، "وأتته امرأة". قال الحافظ: لم أقف على اسمها "ببردة" منسوجة فيها حاشيتها، كما في البخاري، مرفوع بمنسوجة؛ لأن اسم المفعول يعمل عمل فعله، كاسم الفاعل، قال الداودي: يعني أنها لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليه فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله, ما أحسن هذه فاكسنيها, فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم"، فلما قدم -صلى الله عليه وسلم- لامه ............   تقطع من ثوب، فتكون بلا حاشية، وقال غيره: حاشية الثوب هديه، وكأنه أراد أنها جديدة لم يقطع هدبها، ولم تلبس، قال القزاز: حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفيهما الهدب، ولفظ البخاري في الأدب: جاءت امرأة ببردة، فقال سهل للقوم: أتدون ما البردة، قالوا: الشملة, قال سهل: هي شملة منسوجة فيها حاشيتها، "فقالت: يا رسول الله أكسوك هذه؟ " وفي رواية الجنائز، قال: "نعم" قالت: قد نسجتها بيدي، فجئت لأكسوكها. قال الحافظ: وتفسير البردة بالشملة تجوز؛ لأن البردة كساء, والشملة ما اشتمل به فهي أعمّ، لكن لما أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها، "فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها" كأنهم عرفوا ذلك بقرينة حال، أو تقدّم قول صريح، "فلبسها" لفظ الأدب، وفي رواية الجنائز، فخرج إلينا، وأنها إزاره، ولابن ماجه: فخرج إلينا فيها. وللطبراني: فأتزر بها ثم خرج، "فرآها عليه رجل من الصحابة" أفاد المحب الطبري في الأحكام أنه عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطبراني، ولم أره في المعجم الكبير، ولا في مسند سهل، ولا في مسند عبد الرحمن، وقد أخرج الطبراني الحديث. وقال في آخره: قال قتيبة: هو سعد بن أبي وقاص، وأخرجه البخاري في اللباس، والنسائي في الزينة عن قتيبة، ولم يذكرا عنه ذلك، ورواه ابن ماجه. وقال فيه: فجاء رجل سماه يومئذ، وهو دال على أن الراوي ربما سماه في رواية أخرى للطبراني، من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل، أن السائل المذكور أعرابي، فلو لم يكن زمعة ضعيفًا لانتفى أن يكون هو عبد الرحمن بن عوف، أو سعد بن أبي وقاص، أو يقال: تعددت القصة على ما فيه من بعد، وقول شيخنا ابن الملقن: إنه سهل ابن سعد غَلَطٌ التبس عليه اسم القائل باسم الراوي، قاله الحافظ: "فقال: يا رسول الله ما أحسن" بنصبه تعجبًا، "هذه" البردة "فاكسنيها" لفظ الأدب, ولفظ الجنائز عقب أنها إزاره فحسنها فلان، فقال: اكسنيها ما أحسنها. قال الحافظ: فحسنها كذا، في جميع الروايات هنا، أي: في الجنائز -بمهملتين- من التحسين، وللبخاري، وفي اللباس، فجسَّها -بجيم، بلا نون، وكذا للطبراني، والإسماعيلي من طريق أخر، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "نعم" اكسوكها، وللبخاري في اللباس، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع، فطواها، فأرسل بها إليه، "فلما قال -صلى الله عليه وسلم- لامه" أي: السائل، "أصحابه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 أصحابه، وقالوا: ما أحسنت حين رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذها محتاجًا إليها ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه. رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. وفي رواية ابن ماجه والطبراني قال: "نعم" , فلما دخل طواها وأرسل بها إليه. وأفاد الطبراني في رواية زمعة بن صالح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يصنع له غيرها, فمات قبل أن يفرغ منها. وفي هذا الحديث من الفوائد: حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- وسعة جوده. واستنبط منه السادة الصوفية: جواز استدعاء المريد خرقة التصوّف من   وقالوا: ما" نافية "أحسنت حين رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذها". وفي رواية: لبسها "محتاجًا إليها، ثم سألته إياها، وقد عرفت أنه لا يسأل شيئًا فيمنعه" وفي رواية: لا يرد سائلًا, بقيته في البخاري فقال: رجوت بركتها حين لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفَّن فيها. وفي رواية للبخاري أيضًا، فقال الرجل: والله ما سألتها إلّا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه، وبَيِّنَ في رواية الطبراني المعاتب له من الصحابة، ولفظه: قال سهل: فقلت للرجل: لِمَ سألته وقد رأيت حاجته إليها، فقال: رأيت ما رأيتم، ولكني أردت أن أخبأها حتى أكفَّن فيها. وفي رواية فتح الباري في الجنائز، قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه، "رواه البخاري" في الجنائز، والبيوع، والأدب، واللباس، "من حديث سهل بن سعد" الساعدي. "وفي رواية ابن ماجه، والطبراني، قال: "نعم" أكسوكها، "فلما دخل طواها، وأرسل بها إليه", وكذا البخاري في اللباس، بعد قوله قال: "نعم"، وقيل: قوله، فلمَّا قام، وإنما أوقع المصنف أنه نقل هذا من الفتح، في الجنائز مع أنه إنما صدَّر بعزوه لهما لقوله من هذا الوجه، أي: الذي أخرجه منه البخاري في الجنائز، وقال عقبة: وهو للمصنف، أي: البخاري في اللباس، من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، بلفظ، فقال: "نعم"، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، "وأفاد الطبراني في رواية زمعة" بسكون الميم، "ابن صالح" الجندي -بضم الجيم, والنون- اليماني, نزيل مكة, ضعيف من السادسة، أي: في روايته، من طريق زمعة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، "أنه -صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها" يحتمل بناؤه للفاعل، فالمأمور بالصنع من دفعت إليه البردة، أو للمفعول، فالصانع المرأة، أو غيرها، "فمات قبل أن يفرغ منها" صلى الله عليه وسلم, "وفي هذا الحديث من الفوائد حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- وسعة جودة", وقبوله الهدية، وغير ذلك، "واستنبط منه السادة الصوفية، جواز استدعاء المريد خرقة التصوف، من المشايخ تبركًا بهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 المشايخ تبركًا بهم وبلباسهم، كما استدلوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس أم خالد خميصة سوداء ذات علم. رواه البخاري. لكن قال شيخنا: ما يذكرونه من أن الحسن البصري لبسها من علي بن أبي طالب، فقال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحًا في ذلك فباطل, قال: ثم إنَّ من الكذب ................   وبلباسهم، كما استدلّوا لإلباس الشيخ للمريد بحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس أم خالد" أمة، بفتح الهمزة، والميم، بنت خالد بن سعيد بن العاصي، القرشية الأموية، ولأبويها صحبة، وكانا ممن هاجر إلى الحبشة وولدت بها، وقدما بها وهي صغيرة، وتزوجها الزبير بن العوام، فولدت منه خالدًا، وبه تكنَّى، وعمرت لحقها موسى بن عقبة "خميصة سوداء" -بفتح الخاء المعجمة، وكسرت الميم، وسكون التحتية، فصاد مهملة- ثوب من حرير، أو ثوب معلم، أو كساء مربع له علمًا، أو كساء رقيق من أي لون كان، أو لا يكون خميصة إلا إذا كانت سوداء معلمة. ذكره المصنف "ذات علم، رواه البخاري" في مواضع عن أم خالد, أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بثياب فيها خميصة وداء صغيرة، فقال: من ترون نكسو الخميصة؟، فسكت القوم، قال: "ائتوني بأم خالد" فأتي بها تحمل، فأخذ الخميصة بيده فألبسها، وقال: "أبلي وأخلقي"، وكان فيها علم أخضر، أو أصفر، فقال: "أم خالد هذا سناه, وسناه بالحبشة حسن" -وهو بفتح السين المهملة، والنون، فألف، فهاء ساكنة- فكلمها -عليه السلام- بلغة الحبشة لولادتها بها، وفي رواية له عنها: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي، وعليَّ قميص أصفر، قال -صلى الله عليه وسلم: "سنه سنه"، فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزبرني أبي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "دعها أبلى، وأخلقي أبلى، وأخلقي، أبلي، وأخلقي"، قال ابن المبارك: فبقيت حتى ذكر، أي: الراوي زمنًا طويلًا، أي: طال عمرها بدعائه -صلى الله عليه وسلم، "لكن قال شيخنا" السخاوي: "ما يذكرونه" أي: الصوفية، "من أن الحسن البصري لبسها من علي بن أبي طالب، فقال ابن دحية، وابن الصلاح: إنه باطل، وقال شيخ الإسلام الحافظ بن حجر: ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أنه -صلى الله عليه وسلم- ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعلها، وكل ما يروى صريحًا في ذلك فباطل، قال:" أي: الحافظ: "ثم إن من الكذب المفترى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 المفترى قول من قال: إن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا فضلًا عن أن يلبسه الخرقة. وكذا قال الدمياطي والذهبي والعلائي ومغلطاي والعراقي والأبناسي والحلبي وغيرهم, من كون جماعة منهم لبسوها وألبسوها تشبها بالقوم، ..................   قول من قال: إن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث" أي: جمهورهم، "لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا, فضلًا عن أن يلبسه الخرقة. قال السخاوي: ولم ينفرد شيخنا يعني: الحافظ بذلك، بل سبقه إليه جماعة حتى ممن لبسها وألبسها، كالدمياطي، والذهبي إلخ ..... فاختصره المصنف، فقال: "وكذا قال الدمياطي، والذهبي، والعلائي، ومغلطاي، والعراقي، والأبناسي" بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، بعدها نون، ثم سين مهملة، نسبة إلى أبناس، قرية صغيرة بالوجه البحري من أرض مصر، منها العلامة البرهان إبراهيم بن موسى بن موسى، بن أيوب الشافعي الورع الزاهد المحقق، شيخ الشيوخ بمصر, ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وصنَّف وأخذ عن الأسنوي وغيره، وولي مشيخة سعيد السعداء، وعُيِّنَ لقضاء الشافعية فاحتفى، وكان مشهورًا بالصلاح, تقرأ عليه الجن، مات سنة اثنتين وثمانمائة راجعًا من الحج، ودفن بعيون القصب، وليس ضبطه في الأنساب للسيوطي، كما زعم، "والحلبي" الحافظ برهان الدين صاحب النور، والمقتفي، وشرح البخاري، وغير ذلك، "وغيرهم" كالهكاري، وابن الملقن، وابن ناصر الدين، وتكلم عليها في جزء مفرد، "مع كون جماعة منهم لبسوها وألبوها تشبهًا بالقوم" إلى هنا كلام شيخه السخاوي، وللحافظ السيوطي مؤلَّف سماه: إتحاف الفرقة برفو الخرقة، ذكر فيه أن جمعًا من الحفاظ أثبتوا سماع الحسن من علي، والحافظ ضياء الدين في المختارة رجَّحه، وتعبه الحافظ في أطرافها، وهو الراجح عندي لقاعدة الأصول أنَّ المثبت مقدَّم على النافي؛ لأن معه زيادة علم؛ ولأن الحسن ولد اتفاقًا لسنتين بقيتا من خلافة عمر، وكانت أمه خيرة مولاة أم سلمة، فكانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة، فيباركون عليه، وأخرجته إلى عمر، فدعا له فقال له: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، أخرجه العسكري بسنده، وذكر المزي أنه حضر يوم الدار وله أربع عشرة سنة، ومعلوم أنه من حين بلغ سبع سنين أمر بالصلاة، فكان يحضر الجماعة ويصلي خلف عثمان حتى قتل، ولم يخرج علي للكوفة إلّا بعد قتله، فكيف ينكر سماع الحسن منه وهو كل يوم يجتمع به خمس مرات، من حين مَيِّز إلى أن بلغ أربع عشرة سنة، وقد كان علي يزور أمهات المؤمنين، ومنهم أم سلمة، والحسن في بيتها هو وأمه، وقد ورد عن الحسن ما يدل على سماعه منه، روى المزي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 نعم ورد لبسهم لها مع الصحبة المتصلة إلى كهيل بن زياد، وهو صحب علي بن أبي طالب من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل. وفي بعض الطرق اتصالها بأويس القرني، وهو اجتمع بعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب, وهذه صحبة لا مطعن فيها، وكثير من السادة يكتفي بمجرد الصحبة ................   من طريق أبي نعيم أن يونس بن عبيد قال للحسن: إنك تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولم تذكره, قال: يا ابن أخي, لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك، ولولا منزلتك مني ما أخبرتك، أني في زمان كما ترى، وكان في عمل الحجاج كل شيء، سمعتني أقول, قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم، فهو عن عليّ, غير أني لا أستطيع أن أذكر عليًّا. ثم ذكر ما أخرجه الحفاظ من رواية الحسن عن علي، فبلغ عشرة أحاديث ساقها، وذكر في خلالها قول ابن المديني، الحسن رأى عليًّا بالمدينة وهو غلام، وقال أبو زرعة: كان الحسن البصري يوم بويع عليّ ابن أربع عشرة سنة، ورأى عليًّا بالمدينة، وقال: رأيت الزبير [بايع] عليًّا، ثم خرج إلى الكوفة والبصرة، ولم يلقه الحسن بعد ذلك، ففي هذا القدر كفاية، ويحمل قول النافي على ما بعد خروج علي من المدينة، وروى أبو يعلى, حدثنا جويرية بن أشرس، قال: أخبرنا عقبة بن أبي الصهباء الباهلي، قال: سمعت الحسن يقول: سمعت عليُّا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر" الحديث. قال الحافظ في تهذيب التهذيب: قال محمد بن الحسن الصيرفي شيخ شيوخنا: هذا نص في سماع الحسن من عي، ورجاله ثقات، انتهى ملخصًا. وليس في [ذاك الرفع] كله إثبات الدعوى، أن عليًّا ألبس الحسن الخرقة على متعارف الصوفية، وكذا قول المصنف "نعم ورد لبسهم لها، مع الصحبة المتصلة إلى كهيل" بضم الكاف، وفتح الهاء، "ابن زياد" النخيع، ثقة رمي بالتشيع، وكان شريفًا مطاعًا في قومه. قال خليفة: قتله الحجاج سنة اثنتي وثمانين، وحكى ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين مات كهيل سنة ثمان وثمانين، وهو ابن سبعين سنة، روى له النسائي، "وهو صحب علي بن أبي طالب" وروى عنه وعن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي مسعود وأبي هريرة, وروى عنه الأعمش وأبو إسحاق السبيعي، وغيرهما "من غير خلف في صحبته له بين أئمة الجرح والتعديل" لا دلالة فيه على الدعوى، وهو أن عليًّا ألبسها كهيلًا، إنما هو احتمال، ولا تقوم به حجة، "وفي بعض الطرق" للخرقة، "اتصالها بأويس" بن عامر "القرني" بفتحتين، خير التابعين، "وهو اجتمع بعمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وهذه صحبة لا مطعن فيها" لكن لا تدل على الدعوى نصًّا, إنما هو احتمال، "وكثير من السادة" الصوفية "يكتفي بمجرد الصحبة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 كالشاذلي وشيخنا أبي إسحاق المتبولي. وكان يوسف العجمي يجمع بين تلقين الذكر وأخذ العهود واللبس وله في ذلك رسالته ريحان القلوب، قرأتها على ولد ولده العارف بالله تعالى المسلك سيدي علي، مع إلباسه لي الخرقة والتلقين والعهد. وللشيخ قطب الدين القسطلاني "ارتقاء الرتبة في اللباس والصحبة" والله تعالى يهدينا إلى سواء السبيل.   كالشاذلي"، إمام الطريقة، "وشيخنا أبي إسحاق" إبراهيم بن علي بن عمر الأنصاري "المتبولي" الأحمدي الصوفي، كان ذا عقل راجح، وتمكُّن قوي من نفسه، فلا تحكم عليه الأعراض النفسانية، وله معرفة تامة بالتربية، مع كون أميامات ذاهبًا إلى القدس بسدوس، وبها دفن سنة نيف وثمانين وثمانمائة، "وكان يوسف" بن عبد الله بن عمر "العجمي" أبو المحاسن الكرواني، ثم المصري، المتجرِّد من الدنيا لا يبيت على معلوم، عرضت عليه الإقطاعات فأباها، وكان أعجوبة زمانه في التسليك، وله أتباع ومريدون كثير. "يجمع بين تلقين الذكر، وأخذ العهود، واللبس، وله في ذلك رسالته ريحان القلوب، قرأتها على ولد ولده, العارف بالله تعالى المسلك سيدي علي, مع إلباسه لي الخرقة، والتلقين والعهد" على طريق جده، "وللشيخ قطب الدين القسطلاني" كتاب "ارتقاء الرتبة في اللباس والصحبه، والله تعالى يهدينا إلى سواء السبيل" الطريق السوي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 الفصل الثالث: فيما تدعو ضرورته إليه من غذائه وملبسه ومنكحه وما يلحق بذلك وفيه أربع أنواع:   الفصل الثالث: من المقصد الثالث: "فيما،" أي: أشياء "تدعو ضرورته" حاجته الشديدة "إليه،" أي: الأشياء، وأفرد الضمير رعاية للفظ ما، ويجوز تفسيره بشيء، فالإفراد في محله، ولم يقل حاجته، للإشارة إلى أنه لا يلتفت لدفع الحاجة إلّا إذا اشتدت، فإن خفَّت لم يلتفت لدفعها إلّا بالنسبة ولا لأهله، ومقتضى القاموس أن الحاجة أعم من الضرورة، "من غذائه" بكسر الغين، والدال المعجمتين، والمد، ما به نماء الجسم، وقوامه من طعام وشراب، "وملبسه" بوزن مذهب ما يلبسه، "ومنكحه" ما ينكحه من زوجة أو أمة، "وما يلحق بذلك" من كل هو محتاج إليه، كزيت وطيب، وفرش ومركوب، ووجه إلحاقها شدة الاحتياج لها، كالغداء وتابعيه؛ "وفيه أربعة أنواع" من ظرفية الكل إلى إجرائه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 المقصد الرابع: في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالة على ثبوت نبوته مدخل ... المقصد الرابع: في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالة على ثبوت نبوته كتاب في المعجزات والخصائص: وصدق رسالته, وما خص به من خصائص آياته, وبدائع كراماته, وفيه فصلان: الأول: في معجزاته. اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم، والرسول العظيم -سلك الله بي وبك   المقصد الرابع في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته كتاب في المعجزات والخصائص: صفة لازمة لا مخصصة؛ إذ كلها دال على ذلك، "وصدق رسالته" شدتها وقوتها لدلالة معجزاته على تحقق رسالته تحققًا لا مرية فيه, وذلك مستلزم لشدتها. وفي القاموس: الصدق بالكسر: الشدة، والرسالة بالكسر والفتح اسم مصدر من أرسل رسولًا: بعثه برسالة يؤديها، فيجوز حملها على ما بُعِثَ به من الأحكام ليؤديها، وعلى بعثه بما جاءه من الوحي، لكن وصفها بالصدق على هذين مجاز, بناءً على ما شاع من استعمال الصدق في الأقوال خاصة، فالأوَّل أولى "وما خص به" أي: ثبت له من الأمور الفاضلة دون غيره، إما من الأنبياء أو الأمم، وهو عطف على معجزاته عام على خاص، أو من عطف ما بينه وبين المعطوف عموم وخصوص وجهي، "من خصائص آياته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: آياته الخاصة, أي: الفاضلة في الشرف على غيرها، وبهذا لا يرد أنه عين قوله، وما خص به وشرط المبين بالكسر زيادته على المبين بالفتح، "وبدائع كراماته" جمع كرامة أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة لها تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم لمتابعة نبي كلف بشريعته, مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها أو لم يعلم, فدخل في أمر خارق جنس الخوارق، وخرج بغير مقرون بدعوى النبوة المعجزة، وبنفي مقدمتها الإرهاص، وبظهور الصلاح ما يسمَّى معونة مما يظهر على يد بعض العوام، وبالتزام متابعة نبي ما يسمَّى إهانة كالخوارق المؤكدة لكذب الكذابين، كبصق مسيلمة في البئر، وبالمصحوب بصحيح الاعتقاد الاستدراج, كما خرج السحر من جهات عدَّة، كما قال السبكي. قال ابن أبي شريف: والذي يتلخَّص من كلام من تكلَّم في الخوارق أنها ستة أنواع إرهاص، وهو ما أكرم به النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة، ومعزة وهو ما ظهر بعد دعوى النبوة وكرامة للولي، ومعونة واستدراج وإهانة، "وفيه فصلان": "الأول: في معجزاته" أي: بعضها؛ إذ هو لم يستوفها. "اعلم أيها المحب لهذا النبي الكريم والرسول العظيم، سلك" ذهب الله بي وبك" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 مناهج سنته، وأماتنا على محبته بمنه ورحمته- أنَّ المعجزة هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي الدال على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام. وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها، فعلم أن لها شروطًا. أحدها: أن تكون خارقة للعادة، كانشقاق القمر، وانفجار الماء من بين أصابعه، وقلب العصا حية، ....   قال في المختار: السلك بالفتح مصدر سلك الشيء في الشيء فانسلك، أي: أدخله فيه فدخل, وبابه نصر، قال تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وأسلكه فيه لغة، ولم يذكر في الأصل, يعني: الجوهري, سلك الطريق إذا ذهب، وبأنه دخل، وأظنَّه سها عن ذكره؛ لأنه مما لا يترك قصدًا "مناهج سنته،" أي: الطرق الموصلة إلى سيرته الحميدة -جمع منهج كمذهب, ويجمع أيضًا على منهاج، "وأماتنا على محبته" المراد سؤال الإخلاص في حبه ودوام ذلك للموت، فلا يزول عنه ما دام حيًّا لا سؤال الموت، ولا أنَّه مع المحبة، وإن سبقه انتفاؤها "بمنِّه" إنعامه لا تعداد النعم, بقرينة أن المطلوب أصل النعم، ورحمته إنعامه أو إرادته, فعطفها على مَنِّه مراد على الأول, ومن عطف السبب على المسبب على الثاني, أي: إرادته الرحمة؛ إذ الإرادة سبب للمنِّ، "أن المعجزة هي الأمر الخارق للعادة" وجوديًّا، كنبع الماء من الأصابع أو عدميًّا كنجاة إبراهيم من النار، المقرون بالتحدي الدال على صدق الأنبياء" صفة لازمة؛ إذ كل خارق مقرون بدعوى الرسالة دالّ على صدقهم "عليهم الصلاة والسلام، وسميت معجزة لعجز البشر عن الإتيان بمثلها"؛ إذ لا ينسب شيء منها لكسبهم لخرقها للعادة، "فعلم" من هذا التعريف "أن لها شروطًا" أركانًا أربعة لابُدَّ منها, لا ما كان خارج الماهية؛ إذ الخارق للعادة المقرون بالتحدي مفهوم المعجزة لا خارج عنها, وما كان كذلك ركن لا شرط. "أحدها: أن تكون خارقة للعادة: بأن ينقطع أثر على سبب جرت العادة الإلهية بترتُّبه عليه، كانقطاع الإحراق عن نار نمروذ في حق إبراهيم، وبأن يترتَّب أثر على سبب لم تجر العادة الإلهية بترتُّبه عليه، كانشقاق القمر" للمصطفى، وانفجار الماء من بين أصابعه" صلى الله عليه وسلم، "وقلب العصا حية" لموسى -عليه الصلاة والسلام. وروي عن ابن عباس والسدي: أنه لما ألقى عصاه صارت حية عظيمة، صفراء، شعراء فاغرة، أي: فاتحة فاها بين لحييها ثمانون ذراعًا، وارتفعت عن الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها ووضعت لحيها الأسفل على الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون، روي أنها أخذت قبته بين نابيها، فهرب وأحدث، قيل: أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 وإخراج ناقة من صخرة، .......................................   وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، قتل بعضهم بعضًا، فأخذها فعادت عصاه. ذكره البغوي، وفي التنزيل: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} ، وفيه {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} . قال البغوي: الثعبان الذكر العظيم من الحيات، ولا ينافيه قوله: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} ، والجان الحية الصغيرة؛ لأنها كانت كالجانّ في الخفة والحركة، وهي في جثتها حية عظيمة. "وإخراجه ناقة من صخرة" لصالح -عليه السلام، كما ذكر ابن إسحاق وغيره: أن عادًا لما هلكت عمَّرت ثمود بعدها وكثروا، وعمروا إعمارًا طوالًا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي, فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة، فعتوا وأفسدوا وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أوسطهم نسبًا وأفضلهم حسبًا وموضعًا، وهو شاب، فدعاهم إلى الله حتى شمط وكبر، لا يتبعه إلّا قليل مستضعفون، فألحَّ عليهم بالدعاء، وأكثر لهم التخويف، فسألوه آية تصدقه، فقال: أية آية تريدون, قالوا: تخرج معنا غدًا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم في يوم معلوم من السنة، فتدعوا إلاهك وندعو آلهتنا، فإن استجيبت لك اتبعناك، وإن استجبت لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم، وخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم، فسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء من دعائه، فلم تجبهم، فقال سيدهم جندع بن مرو: يا صالح، أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية من الحجر، يقال لها الكاثبة: ناقة مخترجة، جوفاء، وبراء، عشراء، والمخترجة ما شاكل البخث من الإبل، فإن فعلت صدقناك وآمنَّا بك، فأخذ صالح مواثيقهم بذلك، فقالوا: نعم، فصلى ركعتين ودعا ربه، فتمخَّضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها، ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة، كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلّا الله عظمًا, وهم ينظرون, ثم نتجت سبقًا، بمهملة مفتوحة، وقاف ساكنة وموحدة، أي ولدًا، وهم ينظرون مثلها في العظم، فآمن به جندع ورهط من قومه، وأراد أشرافهم الإيمان، فنهاهم دواب ابن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبا أوثانهم، ورباب بن صمعر كاهنهم, فقال صالح: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، فمكثت الناقة وسقبها ترعى الشجرة وتشرب الماء غبًّا، فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما في البئر، فلا تدع قطرة، ثم ترفع رأسها فتتفحج فيحلبون ما شاءوا، فيشربون ويدخرون حتى يملؤوا أوانيهم كلها، ثم تصدر من غير الفج الذي منه وردت، لا تقدر أن تصدر من حيث ترد، يضيق عنها حتى إذا كان الغد يومهم، فيشربون ما شاءوا من الماء ويدَّخرون ليوم الناقة، فهم من ذلك في سعة ودعة، وكانت تصيف بظهر الوادي مواشيهم إلى ظهره، فأضرَّ ذلك مواشيهم للبلاء والاختبار, وكبر ذلك عليهم, فأجمعوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 وإعدام جبل. فخرج غير الخارق للعادة كطلوع الشمس كل يوم. الثاني: أن تكون مقرونة بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة. قال الجوهري: يقال: تحديت فلانًا، إذا باريته في فعل ونازعته ......... ..........   على عقرها، وكانت عنيزة أم غنم لها بنات حسان، وإبل، وبقر، وغنم، وصدوف بنت المحيا، وكانت جميلة، وكانتا من أشد الناس عداوة لصالح, وتحبان عقرها لما أضرَّ بمواشيهما، فدعت صدوف ابن عمها مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على عقر الناقة فأجابها، ودعت عنيزة قدار بن سالف، رجلًا أحمر أزرق قصيرًا عزيزًا، متبعًا في قومه، فقال: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة, فانطق هو ومصدع فاستغويا غواة ثمود، فاتبعهم سبعة، فانطلقوا فرصدوها حين صدرت عن الماء، وكمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها، وكَمُنَ مصدع في أخرى، فمرّت عليه، فرمى بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، فشد قدار عليها بالسيف، فكشف عرقوبها، فخرت ورغت، ثم نحرها في لبتها، فخرج أهل البلد، فاقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى أتى جبلًا منيعًا يقال له: صنو، وقيل: فاره وأتى صالح، فقيل له: عقرت الناقة، فأقبل وخرجوا يعتذرون، إنما عقرها فلان ولا ذنب لنا, فقال صالح أدركوا الفصل، فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فلمَّا رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول حتى ما ناله الطير، وجاء صالح فلمَّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه, ثم رغا ثلاثًا وانفجرت الصخرة فدخلها, فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم, {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ، وقيل: اتبع السق أربعة من التسعة الذين عقروا الناقة, منهم: مصدع رماه بسهم فانتظم قلبه، ثم جَرَّ برجله، فأنزله فألقوا لحمه مع لحم أمه، فقال صالح: انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذابه ونقمته, تصبحون غدًا -وكان يوم الخميس- وجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة وجوهكم محمرة, ثم تصبحون وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب, فلمَّا رأوا العلامات طلبوا قتله، فأنجاه الله، فلمَّا كان ليلة الأحد خرج هو ومن أسلم معه إلى الشام، فنزل رملة فلسطين، فلما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنَّطوا، وتكفَّنوا وألقوا أنفسهم إلى الأرض، يقلبون أبصارهم إليها مرة وإلى السماء مرة، فلمَّا اشتد الضحاء أتتهم صيحة من السماء، فقطَّعت قلوبهم، فهلكوا كبيرهم وصغيرهم، وقدار -بضم القاف، وفتح الدال المهملة الخفيفة فألف فراء- "وإعدام جبل" فخرج غير الخارق للعادة، كطلوع الشمس كل يوم" والقمر كل ليلة. "الثاني: أن تكون مقرونة بالتحدي، وهو طلب المعارضة والمقابلة". "قال الجوهري: يقال تحديث فلانًا إذا باريته" أي: عارضته "في فعل ونازعته" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 للغلبة. وفي القاموس: نحوه. وفي الأساس: حد يحدو، وهو حادي الإبل، واحتدى حداء إذا غنَّى، ومن المجاز: تحدَّى أقرانه إذا باراهم ونازعهم للغلبة. وأصله: الحداء، يتبارى فيه الحاديان ويتعارضان، فيتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، أي: يطلب حداءه. كما يقال: توفَّاه بمعنى استوفاه، وفي بعض الحواشي الموثوق بها، كانوا عند الحدو يقوم حاد عن يمين القطار وحاد عن يساره، يتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه استعمل في كل مباراة. انتهى من حاشية الطيبي على الكشاف.   عطف تفسير "للغلبة" أي: لأجل أن يغلبه، "وفي القاموس نحوه، وفي الأساس" للزمخشري "حدا يحدو،" فهو واوي، "وهو حادي الإبل، واحتدى حداء" بضم المهملة والمد، "إذا غنَّى" للإبل يحثها على السير، "ومن المجاز: تحدَّى أقرانه إذا باراهم ونازعهم" تفسيري "للغلبة", فقول الجوهري: يقال، أي مجازًا، "وأصله الحداء الغناء "يتبارى فيه الحاديان، ويتعارضان فيتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، أي يطلب حداءه، كما يقال: توفاه بمعنى استوفاه، وفي بعض الحواشي الموثوق بها، كانوا عند الحدو،" بفتح، فسكون، وبضمتين، وشد الواو، ففي المختار: حدا الإبل من باب عدا، وحداء أيضًا بالضم والمد، انتهى، فله مصدران، "يقوم حاد عن يمين القطار" بالكسر: عدد من الإبل على نسق واحد، "وحاد عن يساره، يتحدَّى كل واحد منهما صاحبه، بمعنى يستحديه، أي: يطلب منه حداءه، ثم اتسع فيه حتى استعمل في كل مباراة" مغالبة. "انتهى من حاشية" العلامة شرف الدين الحسن بن محمد بن عبد الله، "الطيبي" -بكسر الطاء، وسكون الياء- نسبة إلى الطيب، بلد بين واسط وكور الأهواز، "على الكشاف" تفسير الزمخشري. قال السيوطي: وهو أجَلّ حواشيه في ست مجلدات ضخمات، قال: وله إلمام الحديث، لكنه لم يبلغ فيه درجة الحفاظ، ومنتهى نظره الكتب الستة ومسند أحمد، والدارمي لا يخرج من غيرها، وكثيرًا ما يورد صاحب الكشاف الحديث المعروف، فلا يحسن الطيبي تخريجه، ويعدل إلى ذكر ما هو في معناه مما في هذه الكتب، وهو قصور في التخريج، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 وقال المحققون: التحدي، الدعوى للرسالة. والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة. وعبَّر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة. وهو أحسن من التعبير: بعدم المعارضة؛ لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها, والشرط إنما هو عدم إمكانها. وقد خرج بقيد "التحدي" الخارق من غير تحد، وهوالكرامة للولي. وبـ "المقارنة" الخارق المتقدم على التحدي، كإظلال الغمام، وشق الصدر، الواقعين لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى الرسالة, فإنها ليست معجزات، إنما هي كرامات لظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء،   وقال المحققون: التحدي الدعوى للرسالة،" فما جاء به بعدها من الخوارق فهو معجزة، وإن لم يطلب الإتيان بالمثل الذي هو المعنى الحقيقي للتحدي. "والشرط الثالث من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي،" الطالب للمعارضة، وهو مدعي الرسالة "على وجه المعارضة" له، "وعبَّر عنه بعضهم بقوله: دعوى الرسالة مع أمن المعارضة" له، وهو أحسن من التعبير بعدم المعارضة؛ لأنه لا يلزم من عدم المعارضة امتناعها، والشرط إنما هو عدم إمكانها" لا عدمها، "وقد خرج بقيد التحدي الخارق من غير تحدٍ وهو الكرامة للولي" وهي وإن لم تكن معجزة له، لكنَّها كرامة لنبيه، كذا قيل، ونظر فيه ابن أبي شريف، بأن المعروف أن المعجزة هي الخارق الذي يظهر على يد مدعي النبوة بعد دعواها، ومن عَدَّ الإرهاصات والكرامات معجزات، فسبيله التغليب والتشبيه، وليست معجزات حقيقة. قال التفتازاني: والولي هو العارف بالله وصفاته حسبما يمكن المواظب على الطاعات، المتجنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات. قال شارح الهمزية: ويتجه أن هذا ضابط الولي الكامل، وأن أصل الولاية يحصل لمن وجدت فيه صفات العدالة الباطنة بالشروط المذكورة عند الفقهاء، "وبالمقارنة الخارق المتقدم على التحدي، "كإظلال الغمام وشق الصدر، الواقعين لنبينا -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوى الرسالة، فإنها ليست معجزات, إنما هي كرامات لظهورها على الأولياء جائز، والأنبياء قبل نبوتهم لا يقصرون عن درجة الأولياء، فيجوز ظهورها" تأسيسًا لنبوتهم التي ستحصل, "وكلام عيسى في المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة عليه أيضًا، وحينئذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 فيجوز ظهورها, وكلام عيسى في المهد، وما شابه ذلك مما وقع من الخوارق قبل دعوى الرسالة عليهم أيضًا، وحينئذ تسمَّى "إرهاصا" أي: تأسيًا للنبوة كما صرَّح به العلامة السيد الجرجاني في شرح المواقف وغيره، وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم. وخرج أيضًا بقيد "المقارنة" المتأخِّر عن التحدي، بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روي بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- من نطق الموتى بالشهادتين وشبهه، مما تواترت به الأخبار. وخرج أيضًا بـ "أمن المعارضة" السحر المقرون بالتحدي، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم. واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع أم لا؟ فقال بالأول قائلون، حتَّى جوَّزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارًا. وذهب آخرون: إلى أن أحدًا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة طبيعة إلا الله   تسمَّى إرهاصًا، أي: تأسيسًا للنبوة، كما صرَّح به العلامة السيد" الشريف علي "الجرجاني في شرح المواقف، و" صرح به "غيره وهو مذهب جمهور أئمة الأصول وغيرهم، خلافًا للرازي في تسميتها معجزة، "وخرج أيضًا بقيد المقارنة" الأمر "المتأخِّر عن التحدي بما يخرجه عن المقارنة العرفية، نحو ما روي بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- من نطق بعض الموتى بالشهادتين، وشبهه مما تواترت به الأخبار" المفيد للعلم، "وخرج أيضًا بأمن المعارضة السحر المقرون بالتحدي، فإنه يمكن معارضته بالإتيان بمثله من المرسل إليهم" بناءً على دخول السحر في الخارق للعادة، وهو ممنوع. قال السنوسي: ومن المعتاد السحر ونحوه، وإن كان سببه العادي نادرًا، خلافًا لمن جعل السحر خارقًا، وقال ابن أبي شريف: الحق أن السحر ليس من الخوارق، وإن أطبق القوم على عدة منها؛ لأنه يترتب على أسباب كلما باشرها أحد حلقه الله تعالى عقب ذلك، فهو ترتيب مسبب على سبب جرت العادة الإلهية بترتبه عليه، كترتب الإسهال على شرب السقمونيا، وشفاء المريض على تناول الأدوية الطبية، فإن كلّا منهما غير خارق. واختلف: هل السحر قلب الأعيان وإحالة الطبائع" كحال الطبيعة السوداوية صفراوية، "أم لا؟ فقال بالأول قائلون، حتَّى جوزوا للساحر أن يقلب الإنسان حمارًا" وحجرًا، "وذهب آخرون إلى أن أحدًا لا يقدر على قلب عين ولا إحالة" تغيير "طبيعة إلّا الله" صفة لا حدًّا، أي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينًا. قالوا: ولو جوَّزنا للساحر ما جاز للنبي, فأي فرق عندكم بينهما؟ فإن لجأتم إلى ما ذكره القاضي العلامة أبو بكر الباقلاني من الفرق بالتحدي فقط, قيل لكم: هذا باطل من وجوه: أحدها: إن اشتراط التحدي قول لا دليل عليه، لا من كتاب ولا من سنة، ولا من قول صاحب ولا إجماع, وما تعرَّى من البرهان فهو باطل. الثاني: إن أكثر آياته -صلى الله عليه وسلم- وأعمها وأبلغها كانت بلا تحدٍّ، كنطق الحصى، ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله في العين، وتكليم الذراع، وشكوى البعير، وكذا سائر معجزاته العظام، ولعله لم يتحد بغير القرآن، وتمني الموت.   غير الله "تعالى لأنبيائه، وأن الساحر والصالح لا يقلبان عينًا، قالوا: ولو جوَّزنا للساحر ما جاز للنبي، فأي فرق عندكم بينهما، فإن لجأتم" اعتصمتم أي: تمسكتم، وذهبتم "إلى ما ذكره القاضي العلامة أبو بكر الباقلاني من الفرق" بين النبي وبين الساحر، "بالتحدي فقط، قيل لكم، هذا باطل من وجوه". "أحدها: إن اشتراط التحدي قول لا دليل عليه، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قول صاحب" للنبي -صلى الله عليه وسلم, "ولا إجماع وما تعرَّى, أي: خلا "من البرهان: " الدليل "فهو باطل،" فيبطل ما بني عليه. "الثاني: إن أكثر آياته -صلى الله عليه وسلم- وأعمَّها وأبلغها بلا تحدٍّ، كنطق الحصا ونبع الماء، ونطق الجذع، وإطعامه المئين من صاع، وتفله في العين، وتكليم الذراع" المسمومة له إذا أخبرته بذلك، "وشكوى البعير" له أنّ صاحبه يجيعه, ويأتي تفاصيل هذا كله، "وكذا سائر" باقي معجزاته العظام" وقعت بلا تحدٍّ، ويأتي الجواب قريبًا، ومرَّت الإشارة إليه، "ولعله" صلى الله عليه وسلم "لم يتحد بغير القرآن" في نو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ، "وتمني الموت" تحدَّى به اليهود بقوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] الآية، فلم يفعلوا، كما قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] الآية، من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم. وفي البيضاوي: من موجبات النار، كالكفر بمحمد والقرآن، وتحريف التوراة. أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقة" , ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفًا: لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلّا مات، وللبيهقي عنه، رفعه: "لا يقولها رجل منهم إلّا غص بريقه"، وأورده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 قالوا: فأف لقول لا يبقي من الآيات ما يسمى معجزة إلا هذين الشيئين، ويلقي معجزات كالبحر المتقاذف بالأموج، ومن قال: إن هذه ليست معجزات ولا آيات فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة. قالوا: وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول عند ورود آية من هذه الآيات: "أشهد أني رسول الله"، كما قال ذلك عند تحققهم مصداق قوله في الإخبار عن الذي أنكأ في المشركين قتلًا في المعركة: إنه من أهل النار، .................................................   البيضاوي مرفوعًا، بلفظ: "لو تمنَّوا الموت لغص كل إنسان بريقه، فمات مكانه، وما بقي يهودي على وجه الأرض" , وأشار محشيه إلى أنه لم يرد بهذا اللفظ. "قالوا: فأف" بفتح الفاء وكسرها منونًا وغير منون، بمعنى: تبًّا وقبحًا "لقول لا يبقي من الآيات ما يسمَّى معجزة إلّا هذين الشيئين، ويلقي" بالق: يطرح، "معجزات كالبحر المتقاذف بالأمواج، ومن قال: إن هذه ليست معجزات ولا آيات، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى البدعة", لكن لم يقل بذلك أحد، وإنما سرى له ذلك من حمل التحدي على المعنى الحقيقي له، "قالوا: وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول عند ورود آية من هذه الآيات: "أشهد أني رسول الله"، كما في البخاري عن سلمة: حين خفت أزواد القوم, فذكر الحديث في دعائه -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" , وله شاهد في مسلم عن أبي هريرة، وللبيهقي: لما قدم وفد ثقيف، قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله، ولا يشهد به في خطبته، فلمَّا بلغه قولهم، قال: "فإني أول من شهد بأني رسول الله". وفي البخاري في قصة جداد نخل جابر واستيفاء غرمائه, بل وفضل له تمر، فقال -صلى الله عليه وسلم- لما بشره جابر بذلك: "أشهد أني رسول الله" , كما قال ذلك عند تحققهم مصداق" أي صدق "قوله في الإخبار عن الذي أنكأ في المشركين قتلًا في المعركة" يوم خيبر، كما في البخاري، أو يوم أحد، كما لأبي يعلى، بإسناد فيه مقال، وهو قزمان -بضم القاف وسكون الزاي- كما قال جماعة, وتوقف فيه الحافظ، بأن الواقدي ذكر أنه قتل بأُحْد، قال: لكن الواقدي لا يحتجّ به إذ انفرد، فكيف إذا خالف "إنه من أهل النار، فلمَّا حضر القتال قاتل الرجال أشد القتال حتى كثرت به الجراح، فكاد بعض الناس يرتاب، رواه البخاري عن أبي هريرة، وفي حديثه عن سهل، فقالوا: أينا من أهل الجنة، إن كان هذا من أهل النار. وللطبراني عن أكتم، قلنا: يا رسول الله! إذا كان فلان في عبادته واجتهاده ولين جانبه في النار، فأين نحن؟ قال: "ذلك إخبات النفاق" فكنَّا نتحفظ عليه في القتال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 فقتل نفسه بمحضر ذلك الذي اتبعه من المسلمين, قالوا: والوجه الثالث: وهو الدامغ لهذا القول، قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59] فسمَّى الله تعالى تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديًا من غيره. فصحَّ أن اشتراط التحدي باطل محض. انتهى ملخصًا من تفسير الشيخ أبي   وفي البخاري عن سهل: فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، فخرج معه كلما وقف وقف معه، "فقتل نفسه بمحضر ذلك" الرجل "الذي اتبعه من المسلمين،" قال الحافظ -وهو أكتم الخزاعي، كما في الطبراني: فقول الشارح، أي: الجمع الذي اتبعه من المسلمين خلافه، ومرت القصة في غزاة خيبر، "قالوا: والوجه الثالث وهو الدامغ" بميم ومعجمة المبطل "لهذا القول" بحيث لا يبقي للمتمسك به شبهة، قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} الآية. وقال البيضاوي: أي: فيمحقه، وإنما استعار لذلك القذف، وهو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرمي، والدمغ الذي هو كسر الدماغ؛ بحيث تشق غشاءه الذي يؤدي إلى زهوق الروح تصويرًا لإبطاله، ومبالغة فيه "قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا} الآية، أي كفار مكة، {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية: أي غاية اجتهادهم فيها، {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} الآية، مما اقترحوا، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، ينزله كيف يشاء، {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} الآية، يدريكم بإيمانهم، أي: أنتم لا تدرون {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} الآية، لما سبق في علمي، وفي قراءة بالتاء خطابًا للكفار، وفي أخرى، بفتح أن، بمعنى: لعل، أو معمولة لما قبلها. وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ} الآية، التي اقترحها أهل مكة {إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} الآية، لما أرسلناهم فأهلكناهم, ولو أرسلناها إلى هؤلاء لكذبوا بها واستحقوا الإهلاك، وقد حكمنا بإمهالهم لإتمام أمر محمد -صلى الله عليه وسلم، والمنع هنا مجاز عن الترك، أي: وما سبب ترك الإرسال إلا تكذيب الأولين، وإلّا فالله تعالى لا يمنعه عن مراده مانع، "فسمَّى الله تلك المعجزات المطلوبة من الأنبياء آيات، ولم يشترط تحديًا من غيره، فصحَّ أن اشتراط التحدي باطل محض" خالص، "انتهى ملخصًا من تفسير الشيخ أبي أمامة بن النقاش، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 أمامة بن النقاش. وأجيب: بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدي بمعنى طلب الإتيان بالمثل الذي هو المعنى الحقيقي للتحدي، بل يكفي للتحدي دعوى الرسالة, والله أعلم. الرابع من شروط المعجزة: أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها، فلو قال مدعي الرسالة: آية نبوتي أن تنطق يدي، أو هذه الدابة، فنطقت يده أو الدابة بكذبه فقالت: كذب وليس هو بنبي، فإن الكلام الذي خلقه الله تعالى دال على كذب ذلك المدعي؛ لأن ما فعله الله تعالى لم يقع على وفق دعواه. كما يروى أن مسيلمة الكذاب -لعنه الله تعالى - تَفَل في بئر ليكثر ماؤها فغارت وذهب ما ..................   وأجيب بأنه ليس الشرط الاقتران بالتحدي، بمعنى طلب الإتيان بالمثل، الذي هو المعنى الحقيقي" اللغوي "للتحدي" حتى يرد عليه ما ذكروه، "بل يكفي للتحدي دعوى الرسالة" فكل ما وقع بعدها من الخوارق آيات، سواء كانت بطلب المثل أم لا، فلا يرد على هذا الشرط شيء مما ذكروه، "والله أعلم" بأنه شرط في نفس الأمر أم لا. "الرابع من شروط المعجزة" أي: الوصف الخارق المسمَّى معجزة، "أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها." فليس فيه سلب شيء عن نفسه؛ إذ تقدير كلامه لو لم تقع المعجزة على وفق دعواه لم تكن معجزة، فيلزم سلب الإعجاز عنها بعد ثبوته لها، وهو باطل، وبعبارة: لا يخفى أن وقوعها على وفق دعوى المتحدي يفيد أن مفهومه: لو لم تقع على وفقه لم تكن معجزة، وهذا تناقض بحسب الظاهر، والجواب: إن فيه تجريدًا، كأنه قيل من شرط المعجزة، بمعنى مطلب الخارق لا ما يسمَّى معجزة بخصوصه, "فلو قال مدعي الرسالة: آية نبوتي أن تنطلق يدي أو هذه الدابة" بما يوافق دعواي، بدليل أن مقسم الشرط لذلك، فلا ينافي قوله: "فنطقت يده أو الدابة بكذبه، فقالت: كذب وليس هو بنبي" بيان للكذب، فإن الكلام الذي خلقه الله تعالى دالٌّ على كذب ذلك المدعي؛ لأن ما فعله الله تعالى" من خلق نطقها بتكذيبه، "لم يقع على وفق دعواه", بل وقع مخالفًا لها، فلو نطقت بما لا تكذيب فيه له، كان يقول الله واحد، فمعجزة على ما يفهمه قوله بكذبه، مع أنها لم تنطق بموافقة دعواه، إلّا أن يراد بالموافق ما لا يناقضها، ومفاد قوله: أو الدابّة، أنه لا يعتبر في المكذب كونه ممن يعتبر تكذيبه، ووقع لبعض من حشى العقائد أنه لا بُدَّ من كونه ممن يعتبر، كما يروى أن مسيلمة" بكسر اللام، واخطأ من فتحها "الكذاب -لعنه الله تعالى- تفل في بئر ليكثر ماؤها، فغارت وذهب ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 فيها من الماء. فمتى اختلَّ شرط من هذه لم تكن معجزة. ولا يقال: قضية ما قلتم: أن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلّا على أيدي الصادقين، وليس كذلك، لأنَّ المسيح الدجال يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحَّاح، ..........................   فيها من الماء، فمتى اختلَّ شرط من هذه" الحالة التي أريد تسميتها معجزة "لم تكن معجزة", بل تارة كرامة، وتارة إهانة, وغير ذلك، "ولا يقال: قضية، ما قلتم: أن ما توفرت فيه الشروط الأربعة من المعجزات لا يظهر إلّا على أيدي الصادقين، وهم النبيون، "وليس كذلك؛ لأن المسيح" بفتح الميم، وكسر المهملة الخفيفة، آخره حاء مهملة يطلق على الدجال، وعلى عيسى -عليه السلام, لكن إذا أريد الدجال قيد، كما قال "الدجال", وقيل: هو بالتخفيف عيسى، والتشديد الدجال، وقيل: هو بالتشديد لهما، وعلى الأول: يسمَّى الدجال لمسحه الأرض، أو لأنه ممسوح العين، أو لأنَّ أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، وسمي به عيسى لمسحه الأرض بالسياحة، أو لأنَّ رجله كانت لا أخمص لها، أو لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو هو بالعبرانية: الصديق. أقوال مبسوطة في شروح البخاري وغيره. "يظهر على يديه من الآيات العظام ما هو مشهور، كما وردت به الأخبار الصحاح" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن من فتنته أنَّ معه جنة ونارًا، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره، فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف، فتكون بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، وإنَّ من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، فتشهد أني ربك، فيقول: نعم، فيتمثّل له شيطان صورة أبيه وأمه فيقولان: يا بني اتبعه، فإنه ربك، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة، فيقتلها، ينشرها بالمنشار حتى تلقى شقين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه، ثم يزعم أن له ربًا غيري، فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك، فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله, أنت الدجال, والله ما كنت قط أشد بصيرة بك مني اليوم، وإن من فتنته أن يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإن من فتنته أن يمر بالحيّ فيكذبونه، فلا يبقي لهم سائمة إلا ملكت، وإن من فتنته أن يمر بالحيّ فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت، وأعظمه وأمده خواصر، وأدره ضروعا". رواه ابن ماجه، وابن خزيمة، والحاكم في حديث طويل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 لأن ما ذكر فيمن يدعي الرسالة, وهذا يدعي الربوبية. وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدَّعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التي تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . فإن قلت: أي الاسمين أحق وأولى بما أتت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، هل لفظ "المعجزة" أو لفظ "الآية" أو "الدليل"؟ فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون معجزات الأنبياء: دلائل النبوة، وآيات النبوة، ولم يرد أيضًا في القرآن لفظ "المعجزة", بل ولا في السنة أيضًا، وإنما فيهما لفظ   لأن ما ذكر فيمن يدَّعي الرسالة، وهذا" الدجال "يدَّعي الربوبية، وقد قام الدليل العقلي على أن بعثة بعض الخلق غير مستحيلة" كما قام على استحالة إله غير الله، "فلم يبعد أن يقيم الله الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع والملة، ودلَّت القواطع على كذب المسيح الدجال فيما يدَّعيه للتغير من حال إلى حال، وغير ذلك من الأوصاف التي تليق بالمحدثات ويتعالى عنها رب البريات. وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "إني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي، إنه يبدأ، فيقول: أنا نبي ولا نبي بعدي، ثم يثني، فيقول: أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرأه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب". {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الكاف زائدة، لأنه تعالى لا مثل له {وَهُوَ السَّمِيعُ} لما يقال، {الْبَصِيرُ} ، بما يفعل، "فإن قلت: أي: الإسمين أحق وأَوْلَى" عطف علة على معلول، أي: أحق لأولويته أو تفسيري، "بما أتت به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلا، هل لفظ المعجزة، أو لفظ الآية، أو الدليل" بدل مفصل من مجمل، فالسؤال عن أمرين فقط معجزة, ومقابلها من الآية أو الدليل، بدليل ذكره لفظ مرة ثانية فقط، فالثاني أحد دائر بين اثنين، وبدليل: إن الجواب باختيار الشق الثاني بفرديه، فلا يرد عليه أن تعبيره بالاسمين لا يصح، لأن المذكور ثلاثة. "فالجواب: إن كبار الأئمة يسمون المعجزات الأنبياء دلائل النبوة وآيات النبوة, ولم يرد أيضًا في القرآن لفظ المعجزة، بل ولا في السنة أيضًا، وإنما فيهما لفظ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 "الآية" والبينة و"البرهان" كما في قصة موسى -عليه السلام: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 32] أي: العصا واليد، وفي حق نبينا -عليه الصلاة والسلام {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] . وأما لفظ الآيات فكثير, بل هو أكثر من أن نسرده هنا، كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} [الأنعام: 124] و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [الرعد: 3] . وأمَّا لفظة المعجزة إذا أطلق فإنه لا يدل على كون ذلك آية إلّا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه، وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمي معجزة إلّا ما كان للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق عادات سماها: كرامات،   الآية والبينة والبرهان،" فالتعبير بمعجزة خلاف الأولى لعدم وروده, والأولى الآية أو الدليل ونحوهما، لموافقة الوارد، وفي الشامي: لفظ المعجزة وضعه المتكلمون على ما اشتُمل على الشروط الأربعة السابقة من آيات الأنبياء، ولا ضَيْر في ذلك خلافًا لمن زعمه، والتعبير بالآية والبرهان والبينة لا ينافي ذلك، وكل معجزة آية وبرهان وبينة، ولا عكس، كما يظهر بتأمُّل حد المعجزة، والظاهر أن الآية والدليل متساويان، انته، وفيه: أن مدعي الأولويّة لم يمنع إطلاق المعجزة، بل ذكر أولويّة الآية، والدليل عليها، ولم يدع ضيرًا ولا منافاة، كما ترى. "كما في قصة موسى -عليه السلام، {فَذَانِكَ} بالتشديد والتخفيف، {بُرْهَانَانِ} مرسلان {مِنْ رَبِّكَ} إلى فرعون وملائه، "أي: العصا واليد" وهما مؤنثان، ذكر المشار به إليهما المبتدأ لتذكير خبره برهانان، "وفي حق نبينا -عليه الصلاة والسلام: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية، كما فسره به سفيان بن عيينة عند ابن أبي حاتم، وجزم به ابن عطية والنسفي، ولم يحكيا غيره، وهو لغةً: الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، وهو -صلى الله عليه وسلم- برهان بالمعنيين؛ لأنه حجة الله على خلقه، وحجة نيرة واضحة لما معه من الآيات الدالة على صدقه، وهذا مما سماه الله به من أسمائه تعالى فإنه منها، كما جاء في ابن ماجه. "وأما لفظ الآيات فكثير، بل هو أكثر من أن نسرده هنا،" لو سردناه من الكتاب والسنة، "كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} الآية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} [الرعد: 3] . "وأمَّا لفظ المعجزة إذا أطلق، فإنه لا يدل على كون ذلك آية، إلّا إذا فسر المراد به، وذكرت شرائطه" الأربعة المتقدمة، وهذا أيضًا يفيد أولوية غيرها عليها، كقوله: "وقد كان كثير من أهل الكلام لا يسمّي" الخارق "معجزة، إلا ما كان للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقط، ومن أثبت للأولياء خوارق: عادات" وهم الجمهور، "سماها كرامات، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 والسلف كانوا يسمون هذا وهذا معجزة؛ كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبي, فإن هذا يجب اختصاصه به. وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانًا، انتهى. وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة.   والسلف كانوا يسمون هذا" مع وقع للأنبياء "وهذا" ما وقع للأنبياء "معجزة، كالإمام أحمد وغيره، بخلاف ما كان آية وبرهانًا على نبوة النبي، فإن هذا يجب اختصاصه به،" فيه تأمّل؛ إذ الكلام في الخارق الواقع لولي هل يسمَّى معجزة، كما يسمَّى كرامة، أم لا؟ وكذا ما وقع لنبي هل يسمَّى كرامة، كما يسمَّى معجزة، أم لا؟ لا في ثبوت الصفة نفسها، فلو قال بخلاف الآية، والدليل: فإنهما مختصَّان بما ثبت للأنبياء لاستقام، ويدل له قوله: "وقد يسمون الكرامات آيات لكونها تدل على نبوة من اتبعه ذلك الولي، فإن الدليل مستلزم للمدلول، يمتنع ثبوته بدون ثبوت المدلول، فكذلك ما كان آية وبرهانًا، انتهى". "وإذا علمت هذا، فاعلم أن دلائل:" جمع دلالة قياسًا، ودليل على غير قياس، والمراد الثاني؛ إذ الأول صفة الدليل، ويصح إرادة الأول أيضًا؛ لأن وصف الدلالة بالوضوح يستلزم وضوح الدليل، أو أطلق الدلالة، وأراد الدليل مجازًا من باب تسمية الموصوف باسم صفته، ثم جمعت قياسًا؛ لأن الجمع يتعلق باللفظ، سواء استعملت الكلمة في حقيقتها أو مجازها، "نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- كثيرة" عبر بنبوة دون رسالة؛ لأنهم كانوا ينكرون نبوته من أصلها لا رسالته فقط، ولأنَّ الدلائل إذا كانت للنبوة، فللرسالة أولى؛ لأنه من إثبات الشيء بدليله، أي: آثبات الرسالة بإثبات النبوة؛ لأن النبي لا يكذب، والأخبار بظهور معجزاته شهيرة" لكنها كما قال في الشقاء ثلاثة أقسام: الأول: ما علم قطعًا ونقل إلينا متواترًا، كالقرآن فلا مرية ولا خلاف في مجيء النبي -صلى الله عليه وسلم- به, وظهوره من قِبَله، واستدلاله به على ثبوت نبوته، وكونه رسولًا إلى الناس كافَّة, ونحو ذلك، وإن أنكر مجيئه به، وظهوره من قبله أحد، فهو معاند جاحد، وإنكاره كإنكار وجود محمد -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا. الثاني: ما اشتهر وانتشر، ورواه العدد الكثير، وشاع الخبر به عند المحدثين والرواة، ونقله السير والأخبار، كنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 فمن ذلك: ما وجد في التوراة والإنجيل وسائر كتب الله تعالى المنزلة من ذكره ونعته، وخروجه بأرض العرب، وما خرج بين يدي أيام مولده ومبعثه من الأمور الغريبة العجيبة القادحة في سلطان الكفر، الموهنة لكلمتهم المؤيدة لشأن العرب المنوهة بذكرهم، كقصة الفيل، وما أحلّ الله بأصحابه العقوبة والنكال، وخمود نار فارس, وسقوط شرفات إيوان كسرى، وغيض ماء بحيرة ساوه، ورؤيا المؤبذان، ...........................   الثالث: ما لم يشتهر، ولا انتشر واختص به الواحد والاثنان، ورواه العدد اليسير، ولم يشتهر اشتهار غيره، لكنه إذا جمع إلى مثله اتفقا في المعنى المقصود به الإعجاز، واتفقا على الإتيان بالمعجز، كما قدمناه أنه لا مرية في جريان معانيها على يديه، وإذا انضمَّ بعضها إلى بعض أفادت القطع، انتهى ملخصًا، "فمن ذلك ما وجد في التوراة والإنجيل، وسائر" باقي "كتب الله تعالى، المنزلة من ذكره ونعته" وصفة بالصفات المميزة له، حتى كأنهم شاهدوا أن الذي ذكر اسمه "وخروجه بأرض العرب وما خرج بين يدي ايام مولده" أي: أمامه بقربه، "ومبعثه من الأمور الغريبة، العجيبة، القادحة في سلطان الكفر" وحججه وبرهانه، أي: الشبه الباطلة التي يقيمها أهله على صحته زاعمين حقيتها عَبَّر عنها بالحجج، نظرًا لزعمهم "الموهنة لكلمتهم" أي: كلمة أهل الكفر، أي: أقاويلهم الباطلة التي رفعوها، عَبَّر عنها بكلمة؛ لأنهم لما اتفقوا كانت كأنها واحدة، "المؤيدة لشأن العرب، المنوّهة بذكرهم، كقصة الفيل وما أحلَّ الله بأصحابه من العقوبة والنكال" كما مَرَّ بسطه, "وخمود نار فارس" التي كانوا يعبدونها، وكان لها ألف عام لم تخمد، "وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفات" -بضم الشين، وإسكان الراء، وفتحها وضمها- جمع شرفة تحقيرًا لها، أو لأن جمع القلة قد يقع موضع جمع الكثرة، "إيوان" كديوان ويقال فيه أوان بوزن كتاب، بناء أزج غير مسدود الوجه، "كسرى" بكسر الكاف وفتحها: ملك الفرس، وكانت شرفات إيوانه اثنتين وعشرين، "وغيض ماء بحيرة" تصغير بحرة لا بحر؛ لأن تصغيره بحير، "ساوه" -بمهملة فألف، فواو مفتوحة، فهاء ساكنة- مدينة بين الري وهمذان، وبحيرتها متسعة جدًّا، كانت أكثر من ستة فراسخ يركب فيها السفن، ويسافر فيها إلى ما حولها من البلاد والمدن، فأصبحت ليلة المولد ناشفة؛ كأن لم يكن بها شيء من الماء، ورؤيا الموبذان" بضم الميم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، كما قال ابن الأثير وغيره. وحكى ابن ناصر كسرها أيضًا، وبذال معجمة: اسم لحاكم المجوس، كقاضي القضاة للمسلمين, رأى ليلة مولده -صلى الله عليه وسلم- إبلًا صعابًا تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، فقال له كسرى: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون من ناحية العرب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 وما سمع من الهواتف الصارخة بنعوته وأوصافه، وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها، إلى سائر ما روي ونقل في الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته وبعدها إلى أن بعثه الله نبيًّا. ولم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ما يستميل به القلوب من مال فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال، ولا أعوان على الرأي الذي أظهره، والدِّين الذي دعا إليه، وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام، مقيمين على عادة الجاهلية في العصبة والحمية، والتعادي والتباغي وسفك الدماء، وشنّ الغارات, ولا تجمعهم ألفة دين، ولا يمنعهم من سوء أفعالهم نظر في عاقبة، ولا خوف عقوبة ولا لائمة، فألَّف -صلى الله عليه وسلم- بين قلوبهم, وجمع كلمتهم، حتى اتفقت الآراء وتناصرت القلوب، وترادفت الأيدي، فصاروا إلبًا واحدًا في نصرته، وعنقًا واحدًا إلى .................   "وما سمع من الهواتف:" جمع هاتف من الهتف، وهو الصوت العالي مطلقًا، ثم خُصَّ بصوت يسمع ممن لا يرى شخصه، ولذا خص عند العرب بالجنّ الصارخة بنعوته وأوصافه" عطف تفسير، وكثر ذلك عند مبعثه -صلى الله عليه وسلم. وللخرائطي كتاب الهواتف جمع فيه ذلك، "وانتكاس الأصنام المعبودة وخرورها:" سقوطها لوجهها من غير دافع لها من أمكنتها إلى سائر" باقي "ما روي ونقل في الأخبار المشهورة من ظهور العجائب في ولادته وأيام حضانته، مما تقدَّم بعضه، "وبعدها إلى أن بعثه الله نبيًّا، وبسط ذلك بطول، "و" الحال أنه لم يكن له -صلى الله عليه وسلم- ما يستميل به القلوب من مال" بيان لما، "فيطمع فيه، ولا قوة فيقهر بها الرجال ولا أعوان على الرأي الذي أظهره, والدين الذي دعا إليه" بل دعاهم وحده إلى ذلك، "وكانوا يجتمعون على عبادة الأصنام، وتعظيم الأزلام" الأقداح التي كانوا يعملون بما تخرجه، "مقيمين على عادة الجاهلية في العصبة والحمية، والتعادي والتباغي، وسفك الدماء وشنّ الغارات" بحيث لا يقع بينهم اختلاف ولا حروب، "ولا يمنعهم من سوء أفعالهم نظر في عاقبة، ولا خوف عقوبة، ولا لائمة" بالمد والهمز، ملائمة، أي: حالة يلامون بها، "فألف -صلى الله عليه وسلم- بين قلوبهم وجمع كلمتهم حتى اتفقت الأراء وتناصرت القلوب" عاون بعضها بعضًا وقواه، والمراد أصحابها ونسبه إليها؛ لأنه سبب لمعاونة صاحبه، وترادفت الأيدي، تتابعت في التعاون والتناصر على إظهار الحق، "فصاروا إلبًا" بكسر الهمزة، وفتحها لغة، وموحدة جمعًا "واحدًا في نصرته، وعنقًا" بضمة وبضمتين جمعًا، "واحدًا" فهو كالرديف لما قبله، والمعنى: إنهم صاروا ناظرين متلفتين "إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 طلعته، وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم وأرواحهم في نصرته، ونصبوا وجوههم لوقع السيوف في إعزاز كلمته، بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا غرض في العاجل أطمعهم في نيله يحوونه، أو ملك أو شرف في الدنيا يحوزونه، بل كان من شأنه -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغني فقيرًا، والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور، أو يتفق مجموعها لأحد هذا سبيله، من قِبَل الاختيار العقلي والتدبير الفكري، لا والذي بعثه بالحق، وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سماوي، ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلا من له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.   طلعته،" ليذبّوا عنه ما يكره ويعاونوه على ما يريد، "وهجروا بلادهم وأوطانهم، وجفوا قومهم وعشائرهم في محبته، وبذلوا مهجهم:" جمع مهجة: الدم أو دم القلب والروح، كما في القاموس، فقوله: "وأرواحهم" تفسيريّ على الثالث "في نصرته ونصبوا وجوههم" جعلوها كالهدف الذي ينصب لوقع السيوف", والسهام والرماح، حيث نصحوا في محاربة أعدائه، ووطَّنوا أنفسهم على إصابة ذلك لوجوههم وصدورهم "في" لأجل "إعزاز كلمته"، إعلاء دينه وإظهاره، "بلا دنيا بسطها لهم، ولا أموال أفاضها عليهم، ولا غرض في العاجل" أي: أمر في الزمن الحاضر، "أطمعهم في نيله، يحوونه" فيرغبون بسببه، "أو ملك، أو شرف في الدنيا يحوزونه،" بل ليس ثَمَّ ما يحملهم على الجهاد معه، وإنما محض غرضهم إظهار الحق وإخماد الباطل، وخص العاجل؛ لأنه أدعى للرغبة في معالجة النفس لحصوله، "بل كان من شأنه -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الغني فقيرًا" يحمله على صرف أمواله في الجهاد ونحوه من أنواع اقُرَب، كأبي بكر، أو بأن يصيِّره كالفقراء في تهذيب النفس، وعدم الفخر، والإعراض عن الأسباب المشعرة بنحو الكبر، "والشريف أسوة الوضيع، فهل يلتئم مثل هذه الأمور أو يتفق مجموعها لأحد، هذا سبيله من قبيل الاختيار العقلي والتدبير الفكري، لا والذي بعثه بالحق" جواب الاستفهام، "وسخر له هذه الأمور، ما يرتاب" يشك "عاقل في شيء من ذلك، وإنما هو أمر إلهي، وشيء غالب سماوي ناقض للعادات، يعجز عن بلوغه قوى البشر، ولا يقدر عليه إلّا من له الخلق" جميعًا "والأمر" كله، "تبارك" تعاظم "الله رب" مالك "العالمين". وبهذه الآية استدلّ سفيان بن عيينه على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم؛ لأن الأمر هو الكلام، وقد عطفه على الخلق, فاقتضى أن يكون غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي، ذكره في الإكليل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 ومن دلائل نبوته -عليه الصلاة والسلام- أنه كان أميًّا، لا يخط كتابًا بيده ولا يقرؤه، ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضيين، ولم يخرج في سفر ضاربًا إلى عالم فيعكف عليه، فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية، وقد كان ذهبت معالم تلك الكتب، ودرست وحُرّفت عن مواضعها، ولم يبق من المتمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها إلّا القليل, ثم حاج كان فريق من أهل الملل المخالفة له بما لو احتشد   وقال في فتح الباري: قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية، يخص به قوله تعالى الله:" {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية، ولذا أعقبه البخاري بقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} الآية، وهذا الأثر وصله ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية، فقال: الخلق هو المخلوق، والأمر هو الكلام، وسئل مرة عن القرآن: أهو مخلوق؟ فقرأ الآية وقال: ألا ترى كيف فرَّق بين الخلق والأمر، فالأمر كلامه، فلو كان مخلوقًا لم يفرق، وسبق ابن عيينة، إلى ذلك محمد بن كعب القرظي، وأحمد بن حنبل وعبد السلام بن عاصم وطائفة، أخرجه ابن أبي حاتم، انتهى. "ومن دلائل نبوته" المستلزمة لرسالته؛ لاستحالة الكذب على النبي، وقد قال: "أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا" "عليه الصلاة والسلام أنه كان أميًّا لا يخط كتابًا بيده" صفة لازمة, فالأمي من لا يكتب نسبة إلى الأم، لبقائه على الحالة التي لد عليها؛ إذ الكتابة مكتسبة، أو إلى أمة العرب؛ لأن أكثرهم أميون. وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" رواه الشيخان وغيرهما، عن ابن عمر، "ولا يقرؤه"؛ لأن عادة من لا يحسن الكتابة لا يحسن القراءة، "ولد في قوم أميين، ونشأ بين أظهرهم" أي: بينهم، وأظهر زائد "في بلد ليس بها عالم يعرف أخبار الماضيين، ولم يخرج في سفر ضاربًا" بموحدة: قاصدًا "إلى عالم، فيعكف" بكسر الكاف وضمها عليه" ليتعلم منه، "فجاءهم بأخبار التوراة والإنجيل والأمم الماضية" أي: ذكر لهم ذلك وعَبَّر عنه بجاء، أي: كأنه؛ لأنه هو الذي جاءهم إلى منازلهم حرصًا على تبليغ الرسالة ما أمكنه، "وقد كان ذهبت معالم، أي: آثار "تلك الكتب" التي تخبر بما دلت عليه واستعمال معالم جمع معلم، هو الأثر يستدل به على الطريق في آثار الكتب مجاز، "ودرست وحُرِّفت" أي: بذلت "عن مواضعها" التي وضعها الله عليه، "ولم يبق من المستمسكين بها وأهل المعرفة بصحيحها إلّا القليل،" ولقلتهم لم يجمع -صلى الله عليه وسلم- بأحد منهم حتى يظن أنه أخذ عنهم، "ثم حاجَّ" جادل "كل فريق من أهل الملل المخالفة له بما،" أي شيء، أي: ببراهين، "لو احتشد" بهمزة وصل، وسكون المهملة، وفوقية معجمة مفتوحتين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 له حذاق المتكلمين وجهابذة النقاد المتفننين لم يتهيأ له نقض ذلك. وهذا أدلّ شيء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى. ومن ذلك القرآن العظيم، فقد تحدَّى بها فيه من الإعجاز، ودعاهم إلى معارضته, والإتيان بسورة من مثله، فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشيء منه. قال بعض العلماء: إن الذي أورده -عليه الصلاة والسلام- على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية، وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ............   فمهملة: اجتمع له " اي: لردّه "حذاق المتكلمين" جمع حاذق، وهو العارف بغوامض صناعته ودقائقها، "وجهابذة النقاد" أي: خبراؤهم جمع جهبذ بالكسر، الناقد الخبير، كما في القاموس فجرَّده المصنف عن بعض معناه، لإضافته إلى النقَّاد؛ إذ لا يضاف اسم لما به، اتحد معنى المتفننين" المتنوعين في المعارف، يقال: رجل متفنن، أي: ذو فنون، أي: أنواع "لم يتهيأ" يتيسر له نقض إبطال "ذلك"، ولم يقل لهم مطابقة للجمع، نظرًا إلى تنزيلهم منزلة الشخص الواحد، فأفرد، فإن قيل: ما السر في نسبة المحاجة للنبي -صلى الله عليه وسلم، ونسبة الله تعالى لقوم إبراهيم في قوله: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} الآية، فالجواب: إن إبراهيم لما كسَّر أصنامهم نصبوا أنفسهم لمحاجته، والمصطفى أتاهم بالحجج، فهو المحاجج لهم، وكل منهما حج المخالفين له، وهذا أدل شيء على أنه أمر جاءه من عند الله تعالى" لا صنع، لا حد فيه. "ومن ذلك, أي: دلائل نبوته" القرآن العظيم،" أو من الذي حاجّهم به، وعجزوا عنه وهو أظهر لقوله: "فقد تحدَّى" بحذف المفعول، أي: تحداهم به، والباء في "بما فيه من الإعجاز" سببية لا صلة تحدى؛ لأنه ما تحداهم بالإعجاز، بل طلب منهم المعارضة فقط، بدليل تفسيره التحدي بقوله: "ودعاهم إلى معارضته" أي: طلبًا منهم، "والإتيان بورة" وجعل الباء صلة يوهم أنه قال: ائتوا، بالإعجاز الذي فيه، مع أنه لم يقله، إنما قال: فأئتوا بسورة "من مثله" من للبيان, أي هي مثله في البلاغة، وحسن النظم، والإخبار عن الغيب، والسورة قطعة لها أول وآخر, أقلها ثلاث آيات فنكلوا عنه" أي: امتنعوا عن الإتيان بمثله، بمعنى: لم يحاولوا أن يأتوا بشيء يماثله، لعلمهم أنهم لا يقدرون، "وعجزوا عن الإتيان بشيء منه" عطف علة على معلول. "قال بعض العلماء: الذي أورده -عليه الصلاة والسلام- على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله، أعجب في الآية" العلامة، "وأوضح في الدلالة على ما ادعاه من الرسالة "من إحياء الموتى" لعيسى وإبراء الأكمه" الذي ولد ممسوح العين، "والأبرص" من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان والمتقدمين في اللسن بكلامٍ مفهوم المعنى عندهم، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه، ولا في إبراء الأكمه والأبرص, ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة، ...................................   به بياض في ظاهر البدن بفساد مزاج، كما في القاموس، فقول من قال: هو الذي بيده بياض، مثال لا قيد، وخُصَّا لأنهما داء إعياء، وكان بعث عيسى في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء بشرط الإيمان. روى ابن عساكر عن وهب: كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان، والمجاني وغيرهم: اللهمَّ أنت إله من في السماء، وإله من في الأرض، لا إله فيهما غيرك، وأنت جبار من في السماء، وجبار من في الأرض, لا جبار فيهما غيرك، وأنت ملك من في السماء، وملك من في الأرض، لا ملك فيهما غيرك، قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء، وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء، أسألك باسمك الكريم، ووجهك المنير، وملكك القديم، إنك على كل شيء قدير. قال وهب: هذا للفزع والمجنون يكتب ويسقى ماءه يبرأ إن شاء الله تعالى؛ "لأنه أتى أهل البلاغة" وهي ملكة يبلغ بها المتكلم في تأدية المعاني حدًّا يؤذن بتوفية خاصة كل تركيب حقها, وبقية علوم العرب الشعر، وهو كلام موزون مقفَّى، مراد به به الوزن والخبر، وهو معرفة الأسماء، والإنساب، والأيام؛ إذ كانوا بمكان من ذلك, والكهانة وهي معاناة الجنّ وادعاء معرفة الأسرار، فأنزل الله القرآن الخارق لهذه الأربعة فصول، من أجل الفصاحة والإيجاز، والبلاغة الخارجة عن نوعه. "وأرباب الفصاحة ورؤساء" جمع رئيس، كشريف وشرفاء، وزنًا ومعنًى. "البيان" الإفصاح مع ذكاء "والمتقدمين في اللسن" بفتح اللام والمهملة ونون: الفصاحة، "بكلام" متعلق بقوله: أتى "مفهوم المعنى عندهم، وكان عجزهم عنه أعجب من عجز من شاهد المسيح عند إحياء الموتى؛ لأنهم كان لم يكونوا يطمعون فيه" هذا واضح. وأما قوله: "ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه"، ففيه نظر، فقد ذكر أهل التفسير أن عيسى بُعِثَ في زمن الطب، ومن جملته تعاطي علم إبراء الأكمه والأبرص، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح، والبلاغة والخطابة،" بفتح الخاء المعجمة: إنشاء الكلام في المحافل، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقةً، فيأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، فيخطبون بديها في المقامات إلى آخر ما طول به في الشفاء في صفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 فدلَّ على أن العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته وصحة نبوته, وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح. وقال أبو سليمان الخطابي: وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق، وقد قطع القول فيما أخبر به عن ربه تعالى, بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علَّام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلا لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون. انتهى. وهذا من أحسن ما يكون في هذا المجال وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة، وبالتقصير عن بلوغ الغرض في المناقضة، ..........   بلاغتهم وفصاحتهم، "فدلَّ على أنَّ العجز عنه إنما كان ليصير علمًا على رسالته وصحة نبوته، وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح، وهو باقٍ دون غيره من المعجزات: ومنه تستنبط الأحكام الشرعية والعلوم العقلية، ولم تستنبط من معجز سواه، ولذا قيل: معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلّا من حضرها، ومعجزة القرآن باقية إلى يوم القيامة. "وقال أبو سليمان الخطابي" نسبة إلى جده؛ إذ هو حمد -بفتح المهملة، وإسكان الميم ومهملة- ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، الحافظ الفقيه المشهور: "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من عقلاء الرجال، عند أهل زمانه، بل هو أعقل خلق الله على الإطلاق" تعليل مقدَّم لقوله: "وقد قطع القول" أي: إنه لكمال عقله لم يرتّب "فيما أخبر به عن ربه تعالى، بأنهم لا يأتون بمثل ما تحداهم به، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، ولم يقل: ولن تأتوا بسورة من مثله، لما فيه من الكناية والإيجاز، "فلولا علمه بأن ذلك من عند الله علّام الغيوب، وأنه لا يقع فيما أخبر عنه خلف، وإلّا" صوابه إسقاطه؛ إذ جواب لولا قوله: "لم يأذن له عقله أن يقطع القول في شيء بأنه لا يكون وهو يكون" يوجد, ولا يصح أن جواب لولا محذوف، أي: لم يقطع القول؛ لأنه يناكده ما بعد وإلّا، "انتهى". "وهذا من أحسن ما يكون في هذا المجال -بالجيم- وأبدعه وأكمله وأبينه، فإنه نادى عليهم بالعجز قبل المعارضة" حيث قال: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، فنفى قدرتهم في المستقبل, فلو قدروا لحميتهم فعلوا، "وبالتقصير" منهم "عن بلوغ الغرض لهم في المناقضة", هي لغة التكلم بما يتناقض معناه، والمعنى: إنه أخبر بعجزهم قبل ظهور المناقضة منهم في أقوالهم الدالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 صارخًا بهم على رءوس الأشهاد "فلم يستطع أحد منهم الإلمام به مع توفر الدواعي وتظاهر الاجتهاد، فقال -وكان بما ألقى عليهم خبيرًا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] فرضيت هممهم السرية وأنفسهم الشريفة الأبية بسفك الدماء وهتك الحرم. وقد ورد من الأخبار في قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض ما نزل عليه على المشركين الذين   على ذلك "صارخًا بهم" صائحًا عليهم بعجزهم عن ذلك، "على رءوس الأشهاد، فلم يستطع أحد منهم الإلمام به" أي: القرب منه، "مع توفّر الدواعي، وتظاهر الاجتهاد" وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والافتراء، يقولون: إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وإفك افتراه، وأساطير الأولين، والمباهتة، والرضا بالدنية كقولهم: قلوبنا غلف, وفي أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، أي: صمم، ومن بيننا وبينك حجاب، ولا تسمعوا لهذا القرءان، والغوا فيه لعلكم تغلبون، والادعاء مع العجز، لو نشاء لقلنا مثل هذا، وهذه وقاحة لفرط عنادهم ومكابرة، فلو استطاعوه ما منعهم أن يشاءوا، وقد تحدَّاهم وقرعهم بالعجز بضعًا وعشرين سنة، ثم قارعهم بالسيوف، فلم يقدروا مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصًا في الفصاحة. "فقال:" أي: أيضًا إذا ما قبله في: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} ، وكان بما ألقى عليهم خبيرًا, {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} في الفصاحة والبلاغة، {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} جواب لقدر، ولذا لم يجزم {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} معينًا، نزل ردًّا لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، قال بعضهم: التحدي إنما وقع للإنس دون الجن؛ لأنهم ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في هذه الآية تعظيمًا لإعجازه؛ لأن للهيئة الاجتماعية من القوة ما ليس للأفراد، وإذا فرض اجتماع الثقلين فيه وظاهر بعضهم بعضًا، وعجزوا عن المعارضة، كان الفريق الواحد أعجز، وقال غيره: بل وقع للجن أيضًا، والملائكة منويّون في الآية؛ لأنهم لا يقدرون أيضًا على الإتيان بمثله. وقال الكرماني في غرائب التفسير: إنما اقتصر على الإنسان والجن؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى الثقلين دون الملائكة، ذكره في الإتقان، "فرضيت هممهم السرية،" الشريفة، "وأنفسهم الشريفة الأبية" الممتنعة "بسفك الدماء وهتك الحرم،" عجزًا عن الإتيان بمثله، وعنادًا بعدم الإيمان. "وقد ورد من الأخبار في قراءة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ما نزل على المشركين الذين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم بإعجازه جمل كثيرة: فمن ذلك ما ورد عن محمد بن كعب قال: حدّثت أن عتبة بن ربيعة قال ذات يوم -وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورًا لعله يقبل منا بعضها ويكفّ عنا. قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فذكر الحديث فيما قاله عتبة, وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك, فلما فرغ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: فافعل، .................   كانوا من أهل الفصاحة والبلاغة، وإقرارهم" بالجرِّ عطف على قوله: الأخبار "بإعجازه جمل كثيرة. فاعل ورد "فمن ذلك ما ورد عن محمد بن كعب" بن سليم بن أسد القرظي المدني، ثقة عالم, روى له الستة. قال الحافظ: ولد سنة أربعين على الصحيح، ووهِمَ من قال: ولد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري: إن أباه كان ممن لم يثبت من سبي قريظة، مات محمد سنة عشرين ومائة، وقيل: قبلها، "قال: حدثت" بالبناء للمجهول، قال في النور: لا أعرف مَنْ حدَّثه "أن عتبة بن ربيعة" الكافر المقتول ببدر، "قال ذات يوم، وهو جالس في نادي" مجلس قريش، الذي يجلسون فيه يتحدثون، "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحده في المسجد: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى هذا" وفي رواية: إلى محمد، "فأعرض عليه أمورًا لعله أن يقبل منا بعضها،" فنعطيه أيها شاء، "ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قاله عتبة، وفيما عرض عليه من المال وغير ذلك" ولفظه فقال -أي تبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السبطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعِبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبواليد، أسمع" قال: يا ابن أخي, إن كنت إنما جئت بهذا تطلب مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تطلب الشرف فينا, فنحن نسودك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك, وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الأمر الذي يأتيك ريًا قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك أو نعذر، "فلمَّا فرغ" من كلامه هذا، "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد" , قال: نعم، قال: "فاسمع مني" , قال: فافعل, الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1] {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} " فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة فسجد فيها, ثم قال: "سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت, قال: "فأنت وذاك" فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلمَّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني، وخَلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ. قال: فأجابني بشيء, والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة: قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ....................   فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية، مبتدأ خبره {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} الآية. بَيَّنت الأحكام والقصص والمواعظ والأمثال وأساليب البلاغة، "فمضى رسول الله يقرؤها عليه،" أي: يقرأ بقية السورة، "فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السجدة، فسجد فيها، ثم قال: "سمعت يا أبا الوليد؟ " قال: سمعت، قال: "فأنت وذاك" مرفوع وجوبًا عند الجمهور، نحو قولهم: أنت ورأيك، والنصب على أنه مفعول معه، أو على أن ما قبل الواو جملة حذف ثاني جزأيها، "فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به" لشدة تغيره مما سمع، فلمَّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني "والله قد سمعت قولًا ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر" وكان بعضهم قال: هو شعر لحسن نظمه وفصاحته، ولا بالسحر، وكان قال بعضهم، هو سحر للطافته، "ولا الكهانة" وكان بعضهم قال ذلك فيه لتحيرهم فيه، كل ذلك من التحيز والانقطاع، "يا معشر قريش! أطيعوني" واجعلوها في "خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه" فاعتزلوه، "فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ" فإن تصبه العرب فقد كفيتموه، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه, فاصنعوا ما بدا لكم، هذا بقية حديث محمد بن كعب عند ابن إسحاق. وزاد في رواية غيره: "قال" عتبة معللًا لقوله: ليكونن لقوله نبأ: "فأجابني بشيء، والله ما هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة" كما تزعمون "قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم, لا دلالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فأمسكت فمه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أنَّ محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب, فخفت أن ينزل بكم العذاب. رواه البيهقي وغيره. وفي حديث إسلام أبي ذر، ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، وقد ناقض اثنى عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وجاء إلى مكة, وجاء إليّ أبو ذر بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن، ساحر، لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر ........................   فيه على أنها من السورة، للإجماع على ندب استفتاح القراءة في غير الصلاة بالبسملة، {حم, تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية "حتى بلغ: {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} الآية، أي: خوفتكم عذابًا يهلككم مثل الذي أهلكم، "فأمسكت فمه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب" فكيف يكذب على الله، "فخفت أن ينزل بكم العذاب، رواه البيهقي وغيره" كابن إسحاق: حدَّثني زيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، فذكره. وفي رواية: أن عتبة لم يرجع إليهم، وظنّوا إسلامه، فذهبوا له، فغضب وحلف لا يكلم محمدًا أبدًا، وقال: قد علمتم أنه لا يكذب ..... إلى آخره، فإن صحّا أمكن الجمع بينهما. "وفي حديث إسلام أبي ذر" الغفاري، "ووصف أخاه أنيسًا،" بالتصغير ابن جنادة، بن سفيان بن عبيد، بن حرام، بن غفار الغفاري، أسَنّ من أبي ذر، وأسلم على يده، وهاجرا معًا، "فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس، قد ناقض اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم" أي: عارضهم في قصائدهم، فأتى بمثلها، وهذا يدل على فصاحته ومعرفته بالشعر وقدرته عليه. قال الجوهري: النقيضة في الشعر ما ينقض به، وقال المجد: أن يقول شاعر شعرًا، فينقض عليه شاعر حتى يجيء بغير ما قاله. "وإنه انطلق إلى مكة" لحاجة له، وجاء إلي أبو ذر بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: رأيت رجلًا بمكة يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس" فيه؟ " قال" أنيس: "يقول: شاعر، كاهن، ساحر،" أي: بعضهم يقول هذا وبعض هذا، وأبطله، فقال: "لقد سمعت قول الكهنة، فما هو" أي: النبي أو كلامه ملتبس "بقولهم، ولقد وضعته". أي: قوله, كما هو لفظه في مسلم، "على أقراء" بفتح الهمزة والمد "الشعر،" أي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 فلم يلتئم ولا يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، وإنه لصادق وإنهم لكاذبون. رواه مسلم والبيهقي. وعن عكرمة في قصة الوليد بن المغيرة، وكان زعيم قريش في الفصاحة: أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي، فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] إلى آخر الآية. قال: أعد، فأعاد -صلى الله عليه وسلم، فقال: والله إن له لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإن أعلاه لمثمر, وإن أسفله لمغدق .....................   أنواعه وأنحائه. وقال الزمخشري: إقراؤه قوافيه التي يختم بها كإقراء الطهر التي ينقطع الدم عندها، واحدها قرء مثلث القاف، "فلم يلتئم" بالهمز من الملاءمة، أي: لم أره مناسبًا ولا موافقًا لها لفظا ولا معنًى، وأين الثريا من الثرى؟ "ولا يلتئم" لا يتفق على لسان أحد بعدي، أنه" بفتح الهمزة "شعر"؛ إذ ليس أحد أعلم به، ولا أقدر عليه مني, فلو أمكن فعلت، فحيث لم يتفق لي لا يتفق لغيري، والمراد: إبطال كونه شعرًا بعدما أبطل كونه سحرًا وكهانة، ولذا عقبه بقوله: "وإنه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- "لصادق" في قوله: "إنه من عند الله "وإنهم" أي: الكفار لكاذبون" في جميع ما قالوه، "رواه مسلم" في الفضائل مطولًا جدًّا، "والبيهقي في الدلائل كذلك. "وعن عكرمة" مولى ابن عباس فيما رواه البيهقي مرسلًا، "في قصة الوليد بن المغيرة،" بضم الميم، وكسر المعجمة، ابن عبد الله المخزومي، مات كافرًا، وكان زعيم" سيد "قريش في الفصاحة، أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي" شيئًا من القرآن لينظر فيه، "فقرأ عليه: " {إَِّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} التوحيد أو الإنصاف {وَالْأِحْسَانِ} الآية، أداء الفرائض أو أن تعبد الله كأنك تراه، كما في الحديث. {وَإِيتَاءِ} إعطاء {ذِي الْقُرْبَى} القرابة, خصَّه بالذكر اهتمامًا به "إلى آخر الآية" وخص هذه الآية لمناسبتها للطالب من أقاربه، وفيها عظة له وتنبيه، وهو من رؤساء عقلانهم، فرجا -صلى الله عليه وسلم- بذلك لكمال رأفته ورحمته أن يهدي للإسلام. "قال" الوليد: أعد قراءتك، "فأعاد -صلى الله عليه وسلم: فقال: والله إن له لحلاوة" أي: عذوبة فصاحة، استعارة لما يستلذه السمع، وإن عليه لطلاوة" مثلث الطاء، حسنًا وبهجة وقبولًا، وأكدهما بالقسم، وإن والجملة الاسمية وقدَّم الخبر للحصر، إشارة إلى أنه لا يشبه غيره من الكلام. "وإن أعلاه لمثمر" أي: له طيب كثير، استعارة تمثيلية، والمراد: أن أصله قوي ليس من جنس كلام البشر، ومعانيه مفيدة مرشدة لسعادة الدارين وحسن العاقبة، "وإن أسفله الغدق"، وهو كثرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 وما يقول هذا بشر، ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة, وإن عليه لطلاوة, وإنه لمثمر أعلاه, مغدق أسفله, وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه. وفي خبره الآخر: حين جمع قريشًا عند حضور الموسم وقال: إن وفود العرب تردنا، فأجمعوا فيه رأيًا، لا يكذب بعضكم بعضًا، .......................................   الماء، وأراد بأسفله ما تضمنه من المعاني، فهو تمثيلية أيضًا، شبهه لفصاحته وبلاغته بشجرة شربت عروقها ماء غزيرًا، فاهتزت وربت، وأينعت ثمرتها وكثرت، ويجوز كونها مكنية وتخييلية. وفي رواية ابن إسحاق: وإن أصله لعذق -بفتح المعجمة، وكسر المهملة، قال في الروض: رواية ابن إسحاق أفصح؛ لأنها استعارة تامة، آخر الكلام فيها يشبه أوله، وجناه -بفتح الجيم والنون- الثمرة، "وما يقول هذا بشر"؛ لأنه لا يشبه كلامهم بوجه من الوجوه، لحلاوة نظمه، وبديع أسلوبه، وبلاغة معانيه، وجزالة مبانيه، يعني: إنه ليس مفترى مختلفًا، وخصَّ البشر؛ لأنهم المعروفون بالبلاغة، وإلا فهو معجز للجن أيضًا، على أنه صرح بذلك في قوله: "ثم قال لقومه: والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه" نوع من الشعر معروف، فهو خاص على عام، ففيه حجة لقول الجمهور: الرجز شعر, "ولا بأشعار الجن" مني، "والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا" المذكور، "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة, وإنه لمثمر، أعلاه مغدق أسفله", وأعاد ذلك للتأكيد ولشدة اللذَّة الحاصلة له بسماعه، "وإنه ليعلو" يرتفع على ما سواه، "ولا يُعْلَى عليه", وبقية هذا عند البيهقي: "وإنه ليحطم ما تحته، وفي خبره" أي: الوليد: "الآخر حين جمع قريشًا" يعني أشرافهم ورؤساهم، "عند حضور الموسم" للحج، "وقال: إن وفود العرب تردنا" أي: تقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم، "فأجمعوا" -بقطع الهمزة، وإسكان الجيم، وكسر الميم- "فيه رأيًا" أي: اعزموا وصمموا عليه من أجمع المختص بالمعالي دون الأعيان، لا من جمع؛ لأنه مشترك بينهما. قال تعالى: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} الآية، ثم أتى الذي جمع مالًا وعدَّده، وأمَّا قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} الآية. فوقع الفعل على وشركاءكم" بطريق العطف، ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع أو تقديره، كما قيل: وأحضروا شركاءكم. لا يكذب -بضم الياء، وسكون الكاف، وخفة الذال، أو بفتح الكاف وشد الذال المكسورة- من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 فقالوا: نقول إنه كاهن، قال: والله ما هو بكاهن, ما هو بزمزمته ولا سجعه، قالوا: مجنون. قال: ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته، قالوا: فنقول شاعر، قال: وما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر. قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول: قال: فما أنتم قائلون من هذا شيئًا إلّا وأنا أعرف أنه باطل، .............   أكدب وكذب، "بعضكم بعضًا" إذا اختلفتم، قالوا: فأنت أقم لنا رأيًا نقوله فيه، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع, "فقالوا: نقول إنه كاهن" يخبر عن المغيبات، ويدَّعي معرفة الأسرار، وكانوا في العرب كثيرًا، كشق وسطيح، وكان لهم كلام مشجع, فمنهم من له جني يخبره بالأخبار، ومنهم من يدَّعي معرفة ذلك بأسباب وأمور يأخذها من كلام سائله وفعله وحاله، ويقال له: عرَّاف، "قال: والله ما هو بكاهن", لقد رأينا الكهَّان، "ما هو بزمزمته" أي: صوته الذي لا يفهم، كصوت الرعد، وذلك أصوات الكهنة، "ولا سجعه" الذي يسجعه وقت كهانته، "قالوا: مجنون" اختلَّ عقله، فاختل كلامه وفعله" قال:" والله "ما هو بمجنون" لقد رأينا المجنون وعرفناه، ولا" هو "بخنقه" بفتح النون، وكسرها، وإسكانها ثلاث لغات، ذكره المصنف، "ولا بوسوسته" بفتح الواو: مصدر شيء يلقى في القلب وفي السمت بصوت خفي يحدث به المرء نفسه, ولذا سمي حديث النفس، أي: لا يشبه حاله، "قالوا: فنقول شاعر، قال: وما هو بشاعر, قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه" بفتح الهاء والزاي والجيم: أحد بحور الشعر، لكن المنقول أن أسماءها منقولات للخليل بن أحمد، فهي منقولة من الهزج نوع مطرب من الأغاني، ولو قيل: إنه اسم لضرب من الشعر كانت العرب تتغنى به كان أقرب وانسب بقوله: "وقريضه"؛ لأنه ليس اسم بحر من بحور العروض، وهو لغة الشعر مطلقًا من قرض بمعنى قطع, أي: مطولات قصائده المقابلة لما قبله فيتناول الطويل والبسيط وغيرهما، ومقبوضه" مختصرًا وزانه المسمَّى في العروض بالمنهوك والمجزور, وتكلف من فسَّر مبسوطه ببحر البسيط، وإن زيادة الميم لمشاكلة مقبوضة، "ما هو بشاعر" أعاده تأكيدًا، "قالوا: فنقول ساحر، قال: وما هو بساحر", لقد رأينا السحار وسحرهم, فما هو بساحر، "ولا نفثه ولا عقده" بفتح فسكون أو بضم ففتح: جمع عقدة التي يعقدها في الخيط ينفخ فيها بشيء يقوله بلا ريق أو معه، "قالوا: فما نقول" بالنون نحن، أو الفوقية: أي: أنت "قال:" والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناه، فما أنتم قائلون من هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل، ليس بمقبول عندي ولا عند أحد من العقلاء الذين يعرفونه, وقدَّم الضمير لتقوية الحكم؛ لأنه يقدم لذلك أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 رواه ابن إسحاق والبيهقي. وأخرج أبو نعيم من طريق ابن إسحاق بن يسار قال: حدثني إسحاق بن يسار عن رجل من بني سلمة قال فتيان بني سلمة: قال عمرو بن الجموح لابنه: أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل، فقرأ عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فقال: وما أحسن هذا وأجمله، أَوَكل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا. وقال بعضهم -بعض العلماء: .........................................................   للحصر في نفسه بادّعاء أن غيره يجهل ذلك، وفيه بعده، وبقية خبره: وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر، يفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته, فتفرقوا عنه بذلك, فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره, فصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها، "رواه" بتمامه هذا "ابن إسحاق والبيهقي" بإسناد جيد عن ابن عباس. "وأخرج أبو نعيم من طريق" محمد بن إسحاق بن يسار" إمام المغازي، صدوق، مدلس، قال: حدثني" أبو "إسحاق بن يسار، المدني، ثقة من التابعين، عن رجل من بني سلمة، بكسر اللام، بطن من الأنصار قال: لما أسلم فتيان بني سلمة، قال عمرو،" بفتح العين، ابن الجموح -بفتح الجيم، وخفة الميم- ابن زيد بن حرام بن كعب الأنصاري السلمي، من سادات الأنصار، استشهد بأحد، "لابنه" معاذ، شهد العقبة وبدرًا، وشارك في قتل أبي جهل: "أخبرني ما سمعت من كلام هذا الرجل " وكان أسلم قبل أبيه، "فقرأ عليه" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الآية. "إلى قوله: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الآية. "فقال" عمرو لابنه: "ما أحسن هذا وأجمله، أوكل كلامه مثل هذا؟ قال: يا أبت وأحسن من هذا" قال ابن إسحاق: كان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بني سلمة، وشريفًا من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنمًا من خشب يعظمه، فلمَّا أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدخلون على صنمه فيطرحونه في بعض حصر بني سلمة، فيغدو عمرو، فيجده منكبًا لوجهه في العذرة، فيأخذه ويغسله ويطيبه ويقول: لو أعلم من صنع بك هذا لأضربنَّه، ففعلوا ذلك مرارًا, ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، وقال: إن فيك خير فامتنع، فلمَّا أمسى أخذوا كلبًا ميتًا، فربطوه في عنقه، وأخذوا السيف، فأصبح، فوجده كذلك، فأبصر رشده وأسلم. وقال ابن الكلبي: كان آخر الأنصار إسلامًا، "وقال بعضهم" وفي نسخة "بعض العلماء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 إن هذا القراءن لو وجد مكتوبًا في مصحف في فلاة من أرض, ولم يعلم من وضعه هناك لشهدت العقول السليمة أنه منَزَّل من عند الله، وأن البشر لا قدرة لهم على تأليف مثل ذلك, فيكف إذا جاء على يد أصدق الخلق وأبرهم وأتقاهم, وقال: إنه كلام الله، وتحدَّى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكيف يبقى مع هذا شك. انتهى. واعلم أن وجوه إعجاز القرآن لا تنحصر, لكن قال بعضهم: إنه قد اختلف العلماء في إعجازه على ستة أوجه. أحدها: إن وجه إعجازه هو الإيجاز والبلاغة، ...................................   "إن هذا القرآن لو وجد مكتوبًا في مصحف في فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك، لشهدت العقول السليمة أنه منَزَّل من عند الله، وأنَّ البشر" وأولي الجن" لا قدرة لهم على تأليف ذلك، فكيف إذا جاء على يد أصدق الخلق، وأبرهم، وأتقاهم، و"قد قال: إنه كلام الله وتحدَّى الخلق كلهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا, فكيف يبقى مع هذا شك؟ انتهى" كلام البعض. "واعلم أنَّ وجوه" أي: أنواع "إعجاز القرآن" التي يعلم بها إعجازه، وأنه لا يقدر عليه بشر، "لا تنحصر" بعدد, وإن أفردها خلائق بالتصنيف، وقد قال في الشفاء، بعدما قال: إن تحصيلها من جهة ضبط أنواعها أربعة، وبسطها، ثم زاد عليها جملة، قال: وإذا عرفت ما ذكره من وجوه إعجاز القرآن، عرفت أنه لا يحصى عدد معجزات بألفٍ ولا ألفين، ولا أكثر؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد تحدَّى بسورة منه، فعجزوا عنها. قال أهل العلم: وأقصر السور {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الآية. فكل آية أو أيات منه بعددها منه معجزة، ثم فيها نفسها معجزات على ما سبق. "لكن قال بعضهم: إنه قد اختلف العلماء في" وجه "إعجازه على ستة أوجه" أي: إنها جملة الوجوه التي حصل بها الإعجاز, وليس المراد أن من قال بواحد نفى غيره. "أحدها: إن وجه إعجازه" أي: جعل غيره عاجزًا عن معارضته والإتيان بمثله، هو الإيجاز:" قلة اللفظ وكثرة المعاني، "والبلاغة الخارقة عادة العرب بأن يكون في الحد الأعلى، أو ما يقرب الإعجاز فيه من جهة البلاغة، لكن صعب عليهم تفصيلها, فصغوا فيه إلى حكم الذوق، وقال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبا في درجات البيان متفاوتة، فمنها: البليغ الوصيف الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهي أقسام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 مثل قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فجمع في كلمتين عدد حروفهما عشرة أحرف معاني كلام كثير. وحكى أبو عبيد: أن أعرابيًّا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] فسجد وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام ...............................................   الكلام الفاضل فالأول أعلاها، والثاني أوسطها, والثالث أدناها وأقربها, فجاءت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الثلاثة, فانتظم لها بذلك نمط يجمع صفة الفخامة والعذوبة، وأطال في بيان ذلك نقله في الإتقان, ثم قال: اختلف في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة بعد اتفاقهم على أنه في أعلى مراتب البلاغة، بحيث لا يوجد في التراكيب ما هو أشد تناسبًا، ولا اعتدالًا في إفادة المعنى منه، فاختار القاضي المنع، وإن كان كلمة فيه موصوفة بالذروة العليا، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض. واختار أبو نصر القشيري وغيره التفاوت، وأن فيه الأفصح والفصيح, وإليه نحا العز بن عبد السلام وأورد: لِمَ لم يأت القرآن جميعه بالأفصح، وأجاب غيره، بأنه لو جاء على ذلك لكان على غير النمط المعتاد في كلام العرب من الجمع بين الأفصح والفصيح، فلا تتمّ الحجة في الإعجاز, فجاء على نمطهم المعتاد ليتمَّ ظهور العجز عن معارضته، ولا يقولوا مثلًا: أتيتنا بما لا قدرة لنا على جنسه، كما لا يصح للبصير أن يقول للأعمى: غلبتك بنظري؛ لأنه يول له: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرًا على النظر, وكان نظرك أقوى من نظري، فأمَّا إذا فقد أصل النظر، فكيف يصح معنى المعارضة، انتهى، والرصيف بفتح الراء وكسر المهملة وبالفاء، الشديد المضموم، والجزل، بفتح الجيم، وسكون الزاي، فلام القوي الشديد الرونق، "مثل قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية، أي: بقاء عظيم، "فجمع في كلمتين" هما المبتدأ والخبر؛ لأنهم لا يعتبرون جزء الكلمة، وأما قوله: {وَلَكُمْ} فخبر آخر لحياة، أو أحدهما خبرًا، والآخر صلة له "عدد حروفهما عشرة أحرف" بحذف ألف أل والياء في قوله, في، لأنهم إنما يعدون ما ينطقون به لا ما يكتب، والعرب لم تكن تعرف الكتابة "معاني كلام كثير". "وحكى أبو عبيد" القاسم بن سلام البغدادي أحد الأعلام، مَرَّ بعض ترجمته، "أن أعرابيًّا سمع رجلًا يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} الآية. جهر به من صدع بالحجة إذا تكلم جهارًا، أو افرق به بين الحق والباطل، وأصله: الإبانة والتمييز، وما مصدرية أو موصولة, والعائد محذوف, أي: بما تؤمر به من الشرائع، كما في البيضاوي "فسجد" الأعرابي لما أدهشه من بلاغته، "وقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام"؛ إذ ليست آية سجدة، وإنما هزَّه العجب لفصاحته، حتى ذلَّ ومرَّغ وجهه في التراب، وكان هذا معروفًا في مثله، حتى قال بعضهم للشعر، سجدات وليس المعنى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 وسمع آخر رجلًا يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وحكى الأصمعي: أنه رأى جارية خماسية أو سداسية وهي تقول: استغفر الله من ذنوبي كلها، فقلت لها: ممن تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت: استغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانًا بغير حله مثل غزال ناعم في دله ... انتصف الليل ولم أصله فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك، ................... ......................   سجدت لله لأجل فصاحته، كما وهم وسمع أعرابي "آخر رجلًا يقرأ {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} الآية، يئسوا من يوسف، وزيدت السين والتاء للمبالغة في اليأس، {خَلَصُوا} ، اعتزلوا {نَجِيًّا} الآية، مصدر يصلح للواحد وغيره، أي: يناجي بعضهم بعضًا، "فقال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام"؛ لإعجاز بلاغته وخروجها عن طوق البشر، فإنك لو وزنت قولك، لما لم يطعم يوسف، ولم يجبهم، ذهبوا وتشاوروا فيما بينهم فيما يقولون بعد هذا، وكيف يرجعون لأبيهم، عرفت بالذوق أن لا مناسبة بينهما. "وحكى الأصمعي" بفتح الهمزة، والميم، بينهما مهملة ساكنة، ثم مهملة، نسبة إلى جده، فإنه عبد الملك بن قريب بالتصغير، ابن عبد الملك بن علي بن أصمع, أبو سعيد الباهلي، البصري، صدوق سني، روى له أبو داود والترمذي، مات سنة ست عشرة، وقيل: سنة عشر ومائتين وقد قارب تسعين "أنه رأى جارية" أي: صغيرة السن، "خماسية، أو سداسية" بلغت خمسًا أو ستًا" "وهي تقول: أستغفر الله من ذنوبي كلها،" قال الأصمعي: "فقلت لها مِمَّ تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ إذ لم تبلغي الحلم، فقالت:" أستغفر الله لذنبي كله ... قتلت إنسانًا بغير حله بالكسر، أي: لا بسبب يبيح قتله، "مثل غزال " صفة إنسانًا "ناعم في دله" أي: تُدَلِّلُه وتكسره في مشيته، "انتصف الليل ولم أصله، إخبار عن ذنب آخر أي: لم أتهجد فيه ثم يحتمل أن المراد بإنسانًا نفسها، أي: قتلت نفسي بعدم فعل الطاعات لانتصاف الليل وما صليت، ويحتمل غيرها، والقتل له حقيقي أو مجازي عن هجرها له ونحوه، أي: كدت أقتله، وهذا أظهر؛ إذ قتلها الحقيقي أو بالعشق بعيد لصغرها جدًّا، "فقلت لها: قاتلك الله ما أفصحك, تعجب من فصاحتها مبالغًا في تعجبه, فإنها تقال لمن أتى بأمر بديع غريب، وليس المراد حقيقة لدعاء, بل شدة الاستحسان كأنه ممن يستحق أن يحسد ويدعى عليه، "فقالت: أو تعد" بالفوقية للمعلوم". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 فقالت: أَوَتَعُدّ هذا فصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7] فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وحكي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يومًا نائمًا في المسجد، فإذا برجل على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فأعلمه أنه من بطارقة الروم، ................   والتحتية للمجهول، وفتح همزة الاستهام والواو العاطفة، والهمزة مقدمة من تأخير، أو داخلة على مقدر معطوف عليه على الخلاف الشهير، أي: أتعجب وتعد هذا" الكلام "فصاحة؟ أي: فصيحًا، "بعد قوله تعالى" أي: مع فصاحة القرآن، لا يعد غيره فصيحًا لسامعه، فإنه أزرى بكل فصاحة فصيرها كالعدم، "وأوحينا" الآية، وحي إلهام أو منام {إِلَى أُمِّ مُوسَى} الآية. ولم يشعر بولادته عن أخته {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} الآية. البحر، أي: النيل {وَلا تَخَافِي} الآية. "غرقه" {وَلا تَحْزَنِي} الآية، لفراقه، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، الآية فأرضعته ثلاثة أشهر، لا يبكي، وخافت عليه، فوضعته في تابوت مطلي بالقار من داخل، ممهد له, وألقته في بحر النيل ليلًا، "فجمع في آية واحدة بين أمرين:" أرضعيه وألقيه، "ونهيين" ولا تخافي ولا تحزني, و"خبرين" {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} , {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} "وبشارتين" {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية. وهذا أولى من جعل الخبرين: أوحينا وخفت؛ لأنَّ أوحينا وحده ليس هو المقصود بالإخبارية، وخفت، وإن كان خبرًا في الأصل لكنه باقترانه بأداة الشرط خرج عن كونه خبرًا، ولا يضر كون {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} خبرًا وبشارة، لاختلاف الجهة فيهما، ثم المراد بالفصاحة هنا البلاغة؛ لأنها تطلق عليها، كما قال عبد القاهر. قال في الشفاء: فهذا، أي: الجمع بين ما ذكر في آية واحدة نوع من إعجازه، منفرد بذاته، غير مضاف لغيره على التحقيق والصحيح. "وحكي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يومًا نائمًا في المسجد" النبوي, فإذا -فجائية- برجل" بباء الملابسة على رأسه" أي: منتصف القامة بجانب رأس عمر، وهو حقيقة عرفية في مثله "يتشهد شهادة الحق" أي: ينطق بالشهادة, فاستخبره، فأعلمه، كما في الشفاء فسقط من الناسخ لفظ: فاستخبره, وفي نسخة: خبَّره، أنَّه من بطارقة الروم -جمع بطريق، ككبريت- القائد من قواد الروم، تحت يده عشرة آلاف رجل، كما في القاموس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 ممن يحسن كلام العرب وغيرها, وأنه سمع رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم, فتأملتها فإذا قد جمع الله فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة, وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] الآية. وقد رام فوق من أهل الزيغ والإلحاد، أوتوا طرفًا من البلاغة، وحظًّا من البيان، أن يضعوا شيئًا يلبسون به، فلمَّا وجده مكان النجم من يد المتناول، مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما لوقوع الشبهة على الجهال فيما قلَّ عدد ....................   وقال الجواليقي: لما سمعت العرب أن البطارقة أهل رئاسة، وصفوا الرئيس به يريدون المدح، قال أبو ذؤيب: هم رجعوا بالعرج والقوم شهد ... هوازم يخدوها حماة بطارق "ممن يحسن كلام العرب وغيرها" من عبرانية وسريانية ورومية، وهذا توطئة؛ لأنه يفهم القرآن والإنجيل ويقدر على النظر في معانيهما، ولذا قال: وإنه سمع رجلًا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم" أيها المسلمون، يعني القرآن، "فتأملتها" نظرت بفكري في معناها، "فإذا هي قد جمع فيها ما أنزل الله على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة" بان لما, أي: من الأحوال التي تلزم العبد في الدنيا التي هو سبب النجاة والفوز في الآخرة وهي قوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فيما يأمرانه أو في الفرائض والسنن {وَيَخْشَ اللَّهَ} ألآية" يخفه فيما صدر عنه من الذنوب، {وَيَتَّقْهِ} الآية، يجتنب ما يوجب عقوبته، فيما بقي من عمره الآية، أي: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} الآية، بالنعيم المقيم أو سعادة الدارين, وذلك لأنها آمرة بجميع الطاعات, وباجتناب جميع المعاصي, والمبادر إلى التوبة والفوز بالمطلوب"وقد رام قوم من أهل الزيغ" الميل عن الحق إلى الباطل، التوبة والفوز بالمطلوب, وقد رام قوم من أهل الزيغ: الميل عن الحق إلى الباطل، والإلحاد: الطعن في الدين "أوتوا طرفًا من البلاغة وحظًّا" نصيبًا "من البيان أن يضعوا شيئًا يلبسون -بفتح أوله، وسكون اللام وفتح الباء وكسرها، وبضم أوله، وفتح اللام وشد الباء- مكسوة من التلبيس شدد مبالغة يخلطون به, فلما وجده مكان النجم من يد المتناول, أي: بعيدًا لا يتخيل الوصول إليه، كما لا يتخيل أحد أن يتناول نجمًا بيده من محله، "مالوا إلى السور القصار، كسورة الكوثر والنصر وأشباههما لوقوع" أي: دخول الشبهة على الجهال" القاصرة عقولهم عن تمييز الحسن من القبيح، ولو قال: لإيقاع كان أَوْلَى؛ لأن الغرض منه فعله وتزويجه ما يقول: "فيما قلَّ عدد حروفه؛ لأن العجز إنما يقع في التأليف والاتصال، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 حروفه؛ لأن العجز إنما يقع في التأليف والاتصال. وممن رام ذلك من العرب بالتشبث بالسور القصار، مسيلمة الكذَّاب فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين. فلما سمع أبو بكر -رضي الله عنه- هذا قال: إنه لكلام لم يخرج من إل. قال ابن الأثير: أي من ربوبية، و"الإل" بالكسر هو الله تعالى. وقيل: الإل هو الأصل الجيد، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن. ولما سمع مسيلمة الكذاب -لعنه الله- و"النازعات" قال: والزارعات زرعًا والحاصدات حصدًا والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والحافرات حفرًا، والثاردات ثردًا, واللاقمات لقمًا، لقد فضلتم على أهل الوبر, وما سبقكم أهل المدر. إلى غير ذلك من الهذيان، مما ذكرت في الوفود من المقصد الثاني بعضه والله أعلم.   وممن رام ذلك من العرب بالتشبث: " التعلق "بالسور القصار: مسيلمة" بضم الميم، وكسر اللام، تصغير مسيلمة، ففتح لامه خطأ من بني حنيفة "الكذاب، فقال: يا ضفدع نقي كم تنقين،" أي: تصوتين "أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين، فلما سمع أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- هذا" الكلام "قال: إنه لكلام لم يخرج من "إل" بكسر الهمزة، وتثقيل اللام. "قال ابن الأثير" في النهاية: "أي: من ربوبية، والإلّ، بالكسر هو الله تعالى، وقيل: الإلّ هو الأصل الجيد، أي: لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن، ولما سمع مسيلمة الكذاب -لعنه الله- {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} الآية. "قال: والزارعات" بذال معجمة من ذروت الشيء طيرته وأذهبته، "قمحًا، والطاحنات طحنًا، والحافرات حفرًا، والثاردات ثردًا" بمثلثة، "واللاقمات لقمًا، لقد فضلتم على أهل الوبر" بفتحتين، صوف الإبل والأرانب ونحوها، جمعه: أوبار، "وما سبقكم أهل المدر" بفتحتين: قطع الطين اليابس، أو العلك الذي لا رمل فيه، والمدن والحضر، كما في القاموس، "إلى غير ذلك من الهذيان،" التكلم بغير معقول، "مما ذكرت في الوفود من المقصد الثاني بعضه والله أعلم". "وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى من بين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 وقال آخر: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى, أخرج من بطنها نسمة تسعى، من بين شراسيف وأحشى. وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل. ففي هذا الكلام مع قلة حروفه من السخافة ما لا خفاء فيه على من لا يعلم، فضلًا عمَّن يعلم. والثاني: إن إعجازه هو الوصف الذي صار به خارجًا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر والرجز والسجع، .....................................   شراسيف" بشين معجمة، وراء وسين مهملة، جمع شرسوف، كعصفور، غضروف معلق بكل ضلع أو مقسط الضلع، وهو الطرف المشرف على البطن، "وأحشى:" جمع حشى. "وقال آخر: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل" -بمثلثة- طويل، يشبه الحبل في امتداده، "ومشفر،" بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الفاء، "طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل، ففي هذا الكلام مع قلة" وفي نسخة: قلت بالفاء، "حروفه من السخافة، قلة العمل، "ما لا خفاء فيه على من لا يعلم فضلًا عمَّن يعلم؛" إذ كل من سمعه يمجّه، ويعلم ضرورة هجنته ولكنته. "و" الوجه "الثاني: إن إعجازه هو الوصف،" بالغ في العلة حتى جعلها محمولة على المبتدأ، كزيد عدل فلا يرد أن الوصف علة للإعجاز الذي هو تصبير الغير عاجزًا، لأجل الوصف الذي صار به خارجًا عن جنس كلام العرب" من حسن تأليفه، والتئام كلمة وفصاحته، ووجوه إيجازه من قصر وحذف جزء جملة مضاف، أو موصوف، أو صفة في نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ، أي: أهلها ومنادون ذلك، أي: رجال, و {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} ، أي: سفينة صالحة، وغير ذلك مما استدلَّ عليه من وجوه الإعجاز وبلاغته الخارقة عادة العرب في عجائب تراكيبهم وغرائب أساليبهم، وبدائع إنشاءاتهم، وروائع إشاراتهم الذين هم فرسان الكلام، ومن صورة نظمه العجيب، وأسلوبه الغريب، المخالف لأساليب العرب، ومناهج نظمها، ونثرها الذي جاء به القرآن، ووقفت عليه تقاطع آياته، أي: أواخر وقوفها، كالتامّ والكافي، وانتهت إليه فواصل كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له. انتهى ملخصًا من الشفاء. "من النظم" بيان لكلام العرب, "والنثر" بمعنى المنظوم والمنثور، "والخطب والشعر والرجز" عطف أخص على أعمّ إذا الراجح أنه شعر، "والسجع" بمهملة: كلام له فواصل بمعنى المسجوع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 فلا يدخل في شيء منها, ولا يختلط بها, مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة في نثرهم ونظمهم، ولذلك تحيَّرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم, ولم يهتدوا إلى مثله في حسن كلامهم، فلا ريب أنه في فصاحته قد قرع القلوب ..........................   قال المجد: السجع: الكلام المقفَّى، أو موالاة الكلام على رويّ, جمعه أسجاع وسجوع وسجع كمنع, نطق بكلام له فواصل، وسجعت الحمامة: رددت صوتها. وفي المصباح: إن تسمية مثل هذا سجعًا لتشبيهه بهدر الحمامة، والفرق بينه وبين الشعر أنه يعتبر فيه الوزن قصدًا بخلاف السجع, فلا يعتبر فيه الوزن هذا، ومغايرة الثاني للأول من حيث أنه لوحظ فيه جانب المعنى، ككون الكلام مطابقًا لمقتضى الحال من التأكيد وغيره، والثاني: لوحظ فيه جانب اللفظ المتعلق بكيفية التأليف من الحذف لبعض الأجزاء وغيره، بدليل قوله: من النظم ........... إلخ، وبه يصرّح كلام القاضي المتقدم. "فلا يدخل في شيء منها" حتى يتَّصف بشيء من الأوصاف التي بني عليها كلام العرب، بل هو أعلى منها وأغلى، وإن شاركها في أنه مؤلف من كلماتهم، ونزل على أساليب كلامهم، نظرًا لأصل اشتماله على تراكيب من نوع تراكيبهم، لكن تراكيب القرآن في أعلى طبقات الفصاحة، فلم يعد شيء منه داخلًا في جنس كلامهم, ولا يختلط" أي: يشتبه بها", بحيث لو جمع شيء منه مع كلامهم تميز عنه تميزًا، لا يخفى على أحد، ومثل ذلك لا يكون من الخلط في شيء، "مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة" بالنصب عطفًا على محل ما قبله؛ لأنه خبر كون "في نثرهم ونظمهم، ولذلك تحيَّرت عقولهم" وقعت في الحيرة، فالعناد يمنعهم من الاعتراف أنه من عند الله، وظهور إعجازه في قولهم: مفترى وسحر ونحو ذلك، "وتدلهت،" -بفتح أوله، والمهملة واللام الثقيلة- دهشت وتحيِّرت في شأنه، "أحلامهم" عقولهم، فهو قريب مما قبله. وفي نسخة: تولهت بواو، وبدل الدال من الوله، وهو الحيرة أيضًا، قال بعض: والأحسن تفسير التدله بذهاب العقل من الهوى, فيكون ترقى من خيرته إلى ذهابه، "ولم يهتدوا إلى مثله، "أي: ألم يقدروا على الإتيان بما يماثله أو يقرب منه، ولا سمعوه من فصائحهم، "في حسن كلامهم" الذي يقدرون عليه، ونفى به قواهم البشرية من نظر، أو نظم، أو رجز، أو شعر، "فلا ريب،" لا شكَّ في "أنه في فصاحته قد قرع القلوب" أثَّر فيها، إذا ورد عليها أثرًا، كتأثير من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 ببديع نظمه, وفي بلاغته قد أصاب المعاني بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقي إلّا تهافت تهافت الفراش في الشهاب، ودلَّ ذل النقد حول الليوث الغضاب. وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكي عن يحيى بن حكيم الغزل -بتخفيف الزاي وقد تشدد, وكان بليغ الأندلس في زمانه ........   قرع الباب "ببديع نظمه" أي: بسبب تأليفه البديع, فهو من إضافة الصفة للموصوف، "و" ريب أنه "في بلاغته قد أصاب المعاني" أدركها؛ بحيث أخذ منها أوفرها وأعذبها، "بصائب سهمه" من إضافة الصفة للموصوف أيضًا، فإن قيل: الباء سببية أو آلية، وذلك يقتضي مغايرة السبب والآلة للمسبب، وللمجعول له الآلة والقرآن واحد، فالجواب: إنه يجعل صائب السهم وصفًا زائدًا على بلاغته، ولفظه: "فإنه حجة الله" برهانه "الواضحة ومحجته" -بفتح الميم- طريقه "اللائحة" الظاهرة، "ودليله القاهر" الغالب، فإن الدليل إذا قوي وظهر قهر الخصم وقطعه، "وبرهانه الباهر" الغالب الظاهر، ما رام قصد معارضته شقي إلّا تهافت، تساقط وذلَّ وانخفض عن نوع العقلاء، حتى كأنه رمى نفسه في المهالك، كما أفاده بقوله: "تهافت الفراش" -بالفتح- جمع فراشة, طائر معروف يتساقط في الشهاب، ككتاب شعلة من نار ساطعة، "ودلَّ, ذلَّ النقد" -بفتح النون والقاف، والذال المهملة- نوع من الغنم قبيح الشكل, "حول الليوث" جمع ليث الأسود، "الغضاب" جمع غضبان، كعطاش وعطشان. "وقد حكي عن غير واحد ممن عارضه" أي: قصد معارضته بكلام يماثله، "أنه اعترته:" حدثت له وأصابته "روعة" -بفتح الراء وسكون الواو: فزعة, "وهيبة" أي: مخافة "كفته" منعته "عن ذلك" الذي أراده من المعارضة، "كما حكى عن يحيى بن حكيم" بزنة طبيب، قال في التبصير: شاعر أندلسي بديع القول، مات سنة خمس وخمسين ومائتين في عشر المائة، انتهى. وسمي في الشفاء والده الحكم بفتحتين، "الغزال، تخفيف الزاي" كما جزم به الذهبي في المشتبه، والحافظ في تبصيره: علم منقول من اسم الحيوان، لقَّبه به هشام بن الحكم الجياني في صغره لحسنه، "وقد تشدَّد" فهو وصف منسوب لصنعة الغزال، "وكان بليغ الأندلس" -بفتح الهمزة، وضم الدال، وفتحها، وضم اللام فقط- "في زمانه" أي: معروفًا بالبلاغة وفصاحة النظم والنثر في عصره، وهو بكري قرطبي الدار، وله شعر في غاية الحسن، وارتحل إلى مصر، ثم عاد للأندلس، ويقال: إنه بلغ من العمر مائة وثلاثين سنة، وأرسل رسولًا لبلاد الفرنج، فأعجب ملكها ونادمه، وسألته زوجته عن سنِّه، فقال: عشرين، فقالت: فما هذا الشيب؟ فقال: أمَا رأيت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 أنه قد رام شيئًا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج على منوالها، فاعترته خشية ورِقَّة، حملته على التوبة والإنابة. ويحكى أن ابن المقفع -وكان أفصح أهل وقته- طلب ذلك ورامه, ونظم كلامًا وجعله مفصلًا وسماه سورًا, فاجتاز يومًا بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ .......... } [هود: 44] الآية فرجع ومحى ما عمله ....................   مهرًا ولد أشهب، فضحكت، "أنه قد رام" قصد "شيئًا من هذا" أي: معارضة القرآن "فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها" من حدوته بمهملة ومعجمة، إذا قمت بحذائه، أي: مقابله، فالمعنى: ليقول مثلها بزعمه، "وينسج" بكسر السين "على منوالها، بكسر الميم: خشبة ينسج عليها الثياب، وهو بمعنى ما قبله "فاعترته" أي: عرض له في حال النظر "خشية" خوف أو ضعف ولين "حملته على التوبة" عمَّا كان راحه والنوم عليه, "والإنابة" الرجوع عنه لعلَّة أنه أمر وتعظيم "ورقة" في قلبه وخشوع لا يقدر عليه البشر. "ويحكى أن ابن المقفع" بضم الميم، وفتح القاف، والفاء المشددة قبل العين المهملة، كما ضبطه في المقتفي، وفي القاموس، رجل مقفَّع اليدين، كعظم متشنجهما، وموان بن المقفع تابعي، وأبو محمد عبد الله بن المقفع، فصيح بليغ، كان اسمه روزيه أو داذية بن داذ جشنش قبل إسلامه، وكنيته أبو عمرو، لقِّب أبوه بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده، وتقفع تقبض، انتهى. وقال ابن مكي في تثقيف اللسان: الصواب فيه المقفع -بكسر الفاء؛ لأنه كان يعمل القفاع: جمع قفعة وهي شيء يشبه الزنبيل بلا عروة من خصوص، ويقال: إنه كاتب المنصور، قتله سفيان المهلبي لما ولي البصرة، وحضره أهلها، وفيهم ابن المقفع، فذكر عنده الوطيس، فلم يعرفه، وسأل الحاضرين عنه، فضحك ابن المقفع، فلمَّا انصرفوا أمر ابن المقفع بالجلوس حتى خلا المجلس، فأمر بتنور عظيم، فأسجر، وأمر بطرحه فيها، فاحترق، وكان من جملة قوم زنادقة يجتمعون على الطعن في القرآن، وصياغة هذيان يعارضون بها، "وكان أفصح أهل وقته" زمانه وعصره الموجود فيه، "طلب ذلك ورامه، ونظم كلامًا، وجعله مفصلًا وسماه سورًا، فاجتاز يومًا بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الآية. الذي نبع منك, فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارًا وبحارًا {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} الآية، أمسكي عن المطر، فأمسكت {وَغِيضَ} نقص {الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} "الآية" ثم هلاك قوم نوح, {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، الجودي، جبل بالجزيرة بقرب الموصل، "فرجع ومحا" جميع ما عمله" أي: غسله، وأبطل ما في صحفه لما رآها لا مناسبة بينها وبين شيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا، وما هو من كلام البشر. ولله در العارف سيدي محمد وفا حيث قال، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن المعظم: له آية الفرقان في عين جمعه ... جوامع آيات بها اتضح الرشد حديث نزيه عن حدوث منزه ... قديم صفات الذات ليس له ضد بلاغ بليغ للبلاغة معجز ... له معجزات لا يعد لها عد   من الكتاب العزيز، "وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا، وما هو من كلام البشر" لظهور إعجازه؛ إذ في هذه الآية من البلاغة المعجزة، مع الإيجاز أنه ناداهما كما ينادى العقلاء، وأمرهما بما به يؤمرون، تمثيلًا لباهر قدرته وعظمته، لانقيادهما لما أراد، كالمأمور المطيع، المبادر للامتثال حذرًا من سطوة أمره، والبلع استعارة للجفاف، والإقلاع للإمساك، وفيها لطائف آخر مبينة في علوم البلاغة. "ولله در العارف سيدي محمد وفا؛ حيث قال: يعني" يريد بما قاله "النبي -صلى الله عليه وسلم والقرآن العظيم, له آية الفرقان " بإضافة البيان، أي: آية هي القرآن، وفي نسخة الفرقان، "في عين جمعه" يطلق الجمع عندهم على معانٍ، منها: الاشتغال بشهود الله عمَّا سواه، بحيث يجتمع الهمّ، ويتفرغ الخاطر إلى حضرة قدسه تعالى، وعلى شهود ما سوى الله قائمًا بالله، وعلى غير ذلك مما هو معلوم لأهله، "جوامع آيات" خبر محذوف من إضافة الصفة للموصوف، أي: هو آيات جوامع، "بها اتضح الرشد،" هو "حديث" أي: محدث الألفاظ؛ كقوله: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، نزيه" منَزَّه "عن حدوث" إذ العاني القائمة بالذات قديمة، فأشار إلى أن القرآن يطلق بالاشتراك على المعنيين، "منَزَّه" عن كل ما لا كمال فيه، يعني أن القرآن مع كونه ألفاظًا مؤلَّفة متَّصف بغاية الكمال، منَزَّه عن سائر صفات النقص، "قديم" خبر ثان للمبتدأ المقدَّر، ووصفه بالقدم؛ لأنه كلامه تعالى النفسي، القائم بذاته تعالى، "صفات" أي: وهو من صفات "الذات ليس له ضد" أمر وجودي يضاده؛ لأن الضدين تناسبًا ما وصفاته تعالى وكمالًا؛ لأنه ليس لها في الوجود ما يناسبها حتى يحكم بالتضاد بينهما، "بلاغ" كسحاب، أي: فيه الكفاية عن جميع الكتب السابقة لجمعه معانيها، وزيادة أو هو اسم من الإبلاغ، أي: الإيصال، أي: إنه واصل لنا بالتواتر. قال الجوهري: الإبلاغ الإيصال، وكذلك التبليغ والاسم منه البلاغ، والبلاغ أيضًا الكفاية، ومنه قول الراجز: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 تحلت بروح الوحي حلة نسجه ... عقود اعتقاد لا يحل لها عقد وغاية أرباب البلاغة عجزهم ... لديه وإن كانوا هم الألسن اللد فأفاكهم بالإفك أعياه غيه ... تصدى وللأسماع عن غيه صد قلى الله أقوالًا بهاجر هجرها ... هوانًا بها الورهاء والبهم البلد تلاها قتل الفحش في القبح وجهها ... وعن ريبها الألباب نزهها الزهد لقد فرَّق الفرقان شمل فريقه ... بجمع رسول الله واستعلن الرشد أتى بالهدى صلى عليه إلهه ... ولم يله بالأهواء إذ جاءه الجد   نزج من دنياك بالبلاغ "بليغ" في أعلى الطبقات، "للبلاغة" قال الجوهري: البلاغة الفصاحة، معجز" أصحاب البلاغة، "له معجزات لا يعدّ لها عد، لعدم إمكان عدها؛ إذ لا تحصر، تحلت" بحاء مهملة، "بروح الوحي حلة نسجه" فاعل تحلّت ومفعوله، عقود، اعتقاد لا يحل لها عقد" لعدم إمكانه؛ إذ هو تنزيل من حكيم حميد، وغاية أرباب البلاغة عجزهم لديه" عنده، "وإن كانوا هم الألسن اللد،" القوية، البالغة في الفصاحة: جمع ألدّ من لَدَّ من باب تعب: اشتدت خصومته، فأفَّاكهم" كذَّابهم "بالإفك" أسوأ الكذب، "أعياه غيه:" ضلاله، حيث تصدى: تعرض لمعارضته. قال في القاموس: والتصدد: التعرض وتبدل الدال ياء، فيقال: التصدي والتصدية، وللإسماع عن غيه صدَّ" إعراض لفرط نفارها منه، "قلى" أبغض "الله أقوالًا بهاجر" يترك هجرها -بالضم- فحشها وقبحها المشتملة عليه، "هوانًا بها الورهاء" الحمقاء، "والبهم،" بفتحتين جمع بهمه: أولاد الضأن والبقر والمعز، "البلد" جمع بليد، "تلاها فتل،" بفوقية، ألقى "الفحش" المشتملة عليه تلك الهذيانات "في القبح" متعلق بقوله: "وجهها" ما ظهر منها مفعول الفحش، "وعن ريبها كذبتها؛ إذ هو أحد معانيه في القاموس، "الألباب" العقول، "نزهها الزهد، عدم الرغبة فيها عند سماعها واحتقارها، لخروجها عن باب الفصاحة مطلقًا فضلًا عن فصاحة القرآن، "لقد فرَّق الفرقان" القرآن فرقه بين الحق والباطل، "شمل فريقه" أي: أصحاب هاتيك الأقوال الموصوفة بما ذكر، ويحتمل أن فرق، بمعنى ميّزَ، وضمير فريقه للقرآن، أي: مَيِّزَ شمل فريقه القائمين به عن غيرهم، "بجمع رسول الله، واستعلن الرشد" اتضح وضوحًا لا يخفى على أحد، وفيه تلميح بمقام الجمع والفرق عندهم، "أتى بالهدى" البيِّن، فلا يضرنا انتحال المبطلين، "صلى عليه إلهه ولم يله بالاهواء؛ إذ جاءه الجد"، بالكسر ضد الهزل، كما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ, وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ، ويطلق الجد أيضًا على الاجتهاد ويصح إرادته هنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 والثالث: أن وجه إعجازه هو أن قارئه لا يمله, وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة وطلاوة، ولا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، وكتابنا يستلذ به في الخلوات، .....................   "والثالث: إن وجه إعجازه" فيما قاله جماعة من الأئمة، كما في الشفاء، "هو أن قارئه لا يمله" لا يضجر ولا يسأم منه، ولو أعاده مرارًا، مع أن الطباع جبلت على معاداة المعادات، "وسامعه لا يمجه" بضم الميم: لا يعرض عنه ولا يكره تكراره على سمعه, فحقيقة المج: طرح المائع من الفم، فإن كان غير مائع، قيل: لفَظ, وعبَّر في الأول بالملل تشبيهًا للقارئ بصانع يتعاطى الصناعة، والغالب حصول الملل، وفي الثاني بالمج تشبيهًا للسامع بواضع المائع في فمه، وتشبيه المسموعات بالمذوقات استعارة لطيفة؛ إذ أقام الإذن مقام الفم، واللفظ مقام المائع لرقته، كما قيل: وتغير المعتاد يحسن بعضه ... للورد خد بالأنوف يقبل فاستعير لتركه، فكأنه كالنفس لا يمل منه مع تكرره؛ لأنه مادة الحياة. كم قيل: ورى حديثك ما أمللت مستمعًا ... ومن يمل من الأنفاس ترديدًا "بل الإكباب" الملازمة "على تلاوته يزيده حلاوة" ترقى من عدم الملل إلى زيادة الحلاوة، وأصاب المحزلان ما يمجّ مرّ أو مالح، يكره طبعًا، والحلاوة في المذوقات، وهي أجسام، حلاوة الكلام مجاز، ومعناه تميل القلوب إليه وتقبله، فيصير بذلك كالحلو المستلذ من المذوقات، "وترديده" إعادته وتكريره مرة بعد أخرى، "يوجب له محبة" لزيادة حلاوته وحسنه، "وطلاوة:" حسنًا وبهجة وقبولًا، مثلث الطاء، كما مَرَّ قريبًا، "ولا يزال" كلما كرر "غضًّا" بمعجمتين، أي: جديجًا مجاز من غض الصوت والطرف، "طريًّا" أي: رطبًا ناعمًا، فلا تتغير بهجته ونضارته, فكأنه في كل مرة قريب العهد بالنزول، وقال التلمساني: عمَّا بمعنى ولا يبعد أن معنى غضًّا، رطبًا وطريًّا ناعمًا، فكأنه قال: لا يزال طريًّا ناعمًا غير يابس، وذلك كناية عن حلاوة ما يجده الإنسان من النشاط عند تلاوته، فأشبه النبت الذي تميل النفس إليه وتلتذّ به، "وغيره من الكلام، ولو" فرض أنه "بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه" أي: غايته في حسنه، "يمل" بالبناء للمجهول، أي: يملّه قارئه وسامعه "مع الترديد" أي: التكرير مرارًا، "ويعادى إذا أعيد" أي: يكره ويثقل، وتنفر منه النفس، كنفرتها ممن يعاديها، وهذا على فرض المحال لما مر أنه لا يوجد مثله، ولا ما يقرب منه، كذا قال شارح بناء على عود، ضمير مبلغه للقرآن، فلو أعيد للكلام لم يحج لذلك، وكتابنا" معاشر الأمة المحمدية، النازل إلينا بواسطة نبينا -صلى الله عليه وسلم "يستلذ به في الخلوات" أي: يجد قارئه لذة إذا اختلى بقراءته، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 ويؤنس بوجد بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث وألف أصحابها لها لحونًا وطرقًا، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف -صلى الله عليه وسلم- القرآن ................................................   وخَصَّ الخلوة لأنها محل اجتماع الحواس واطمئنان القلوب بذكر الله، فهو فيها أعظم لذة، وإن كان له لذة أيضًا بقراءته بين الناس، "ويؤنس" بضم الياء وإسكان الهمزة، وفتح النون مبني للمجهول، أي: "يوجد بتلاوته" أنس، يدفع الوحشة "في الأزمات" بفتح الهمزة، وسكون الزاي: جمع أزمة، وهي الشدة، وقياس ما كان من الصفات على فعله -بفتح، فسكون- أن يجمع على فعلات، بسكون العين نحو ضخمات، ويفتح في الاسم كسجدات وركعات، هذا إن كانت سالمة، فإن اعتلت عينها بالواو والياء، فالسكون على الأشهر، كما في المصباح كغيره، فانقلب على من قال: تسكن في الأسماء، وتحرك في الصفات، "وسواه" بضم السين وكسرها، مقصور على الرواية، أي: غيره وتفنن، فعبَّر أولًا بغير، وهنا بسوى، بمعناها "من الكتب" المنزَّلة قبله، كذا استظهر بعض "لا يوجد فيها ذلك" المذكور من اللذة والأنس "حتى أحدث" وألف أصحابها من يقرؤها لها" للكتب، "لحونًا" جمع لحن واحد، ألحان الأغاني والنغمات التي تزين بها الأصوات، وتوزن بضروب الموسيقى, والمراد هنا: ترجيع الأصوات للتطريب، تحسينًا للقراءة والشعر، "وطرقًا" جمع طريق، وهي: ما يجري على قانون الموسيقى ضروبها الموزونة، كذا في النسيم. وقال شيخنا: وطرقًا عطف تفسير، والمراد: إن غير القرآن يخترعون له أسبابًا تحمل الناس على الرغبة فيه والإقبال عليه، فالمصنفون للكتب يذكرون فيها اصطلاحات وأشياء تميزها عن غيرها، مما هو مؤلف في فنها، ليحملوا الناس على قراءتها "يستجلبون" أي: يطلبون وجودها, أو يجلبون لهم ولمن يسمعهم "بتلك اللحون" والنغمات "تنشيطهم" أي: وجود نشاطهم وطربهم "على قراءتها", أي: على تطويل قراءتها وزيادتها، أو على أن يقرأها غيرهم، كقراءتهم إن أريد باللحون تغني القارئ نفسه، ويحتمل أن يريد بما أحدثوه ما يكون مع القارئ من آلات الطرب كالمزامير، كذا قال شارح "ولهذا" أي: ما اختص به القرآن من عدم ملل قارئه، وما بعده "وصفه -صلى الله عليه وسلم- القرآن" في حديث رواه الترمذي عن على: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنها ستكون فتنة" قيل: فما المخرج؟ قال: "كتاب الله, فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قسمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن؛ إذ سمعته أن قالوا: إنا سمعنا قرءانًا عجبًا، يهدي إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 بأنه: "لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل، لا تشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنته الجن حين سمعته أن قالوا: ......   الرشد، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعى إليه هدى إلى صراط مستقيم". هذا لفظه في الترمذي، فاقتصر المصنف على حاجته منه، وقدَّم فيه وأخَّر، فقال بأنه: "لا يخلق" بفتح الياء، وضمَّ اللام وتفتتح، أي: لا يبلى ويتغير حاله، وبضم أوله، وكسر اللام من أخلق بمعنى خلق؛ لأنه جاء متعديًا ولازمًا، فلامه مثلثة بمعنى واحد، "على" بمعنى مع "كثرة الرد" بمعنى الترديد، أي: كثرة تكرار قراءته، والعادة أنها تؤثر وتفني ما كرر؛ كالثوب إذا كرر لبسه، ففيه استعارة مكنية وتخييلية، لتشبيهه بثوب رقيق، يلبس ليتجمل به، والمراد: أمَّا الملل منه، فهو دليل ما قدمه، أن قارئه لا يمله، وأما التصرف فيه بنحو تحريف، "ولا تنقضي عبره" بكسر المهملة، وفتح الموحدة، جمع عبرة بسكونها، أي: موعظة التي يعتبر بها، الحاملة على كمال الإيمان، الصارفة عن العصيان، عبارة عن كثرتها وبقائها، "ولا تفنى عجائبه" أي: لكثرتها لا تنفد، وتنتهي, جمع عجيبة، وهي كل ما يتعجب منه، فكلما أعيد النظر فيها ظهر ما هو أغرب وأعجب من الأول، "هو الفصل" أي: الحد الفاصل بين الحق والباطل، أو المفصول المتميز عن غيره، فعل، بمعنى فاعل أو مفعول، "ليس بالهزل" اللعب، أي: لا لعب فيه ولا كلام سخيف، وهو في الأصل من الهزل ضد السمن، فهو كله سمين لا غثّ فيه، لما فيه من الأوامر والنواهي التي يهابها سامعها، "لا تشبع منه العلماء" أي: لا تستغنى عنه، ولا تزال تستنبط منه معاني وفوائد في كل حين، وفي الحديث: "منهومان لا يشبعان، طالب علم وطالب دنيا" فشبهه بمأكول بأقوام الحياة، إلّا أن كل مأكول يشبع آكله إذا امتلأ جوفه منه، وهذا بخلاف ذلك, موائد فوائده ممدودة، وألوان لذائذه غير مقطوعة ولا ممنوعة، "ولا تزيغ"، بفتح الفوقية، وكسر الزاي، وتحتية معجمة، تميل "به الأهواء" بالمد: جمع هوى، وهو ما تهواه وتشتهيه الأنفس من الضلال، أي: لا يصل من اتبعه، ويميل إلى هوى نفسه الأمَّارة، "ولا تلتبس به الألسنة" جمع لسان: وهو الجارحة, شاع في اللغات، فالمعنى لا يشبه غيره من الكلام، فلا يمكن اختلاطه به وإدخاله فيه؛ لأن أسلوبه ونظمه لا يشبه غيره، فالمراد: أنه لا يمكن أن يدس فيه دسيسة، "هو الذي لم تنته" لم تنكف وتترك "الجن حين سمعته أن قالوا" بفتح الهمزة، ومحله نصب أو جر، بتقدير عن {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} الآية، في بلاغته، وعلوّ رتبته، وبركته وعزته {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} الآية، يدل على الصواب من الإيمان والتوحيد، وهو تبكيت لقريش؛ إذ مكثوا سنين مع فصاحتهم لم يهتدوا، والجن بمجرد سماعه آمنوا بلا توقف، وتقدمت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا, يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} " أشار إليه القاضي عياض. والرابع: إن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان، مما علموه وما لم يعلموه، فإذا سألوه عنه فبينه لهم عرفوا صحته وتحققوا صدقه كالذي حكاه من قصة أهل الكهف وشأن موسى ...............   قصتهم في المقصد الأول، "أشار إليه" بمعنى: ذكره بلفظه "القاضي عياض" في الشفاء، من أول قوله: هو أن قارئه إلى هنا. "والرابع: إن وجه إعجازه هو ما فيه من الأخبار بما كان" وجد، كأخبار القرون الماضي والأمم الهالكة، والشرائع الدائرة، "مما علموه، وفي الشفاء مما كان لا يعلم القصة الواحدة منه إلا الفذ من الأحبار، الذي قطع عمره في تعلم ذلك، فيورده النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهه، فيعترف العالم بذلك بصدقه، وإن مثله لم ينله بتعليم، "وما لم يعلموه، فإذا سألوا" بالبناء للفاعل "عنه" عمَّا لم يعلموه، "فبينه لهم، عرفوا صحته" لموافقته لما بلغهم إجمالًا، "وتحققوا صدقه", وقد كان أهل الكتاب كثيرًا ما يسألونه -صلى الله عليه وسلم- عن هذا فينزل عليه ما يتلو عليهم منه ذكرًا، "كالذي حكاه من قصة أهل الكهف،" الغار الواسع في الجبل، واختلف في أنه بعربسوس في بلاد الروم، وكما تظافرت به الأخبار، أو قرب أيلة، أو طرسوس، أو غرناطة، أو قرب زيرا، أو بين أيلة وفلسطين، سألته اليهود عنها لما قدم المدينة، كما في الصحيح، عن ابن مسعود. وفي الترمذي: وغيره، عن ابن عباس, قالت قريش ليهود: أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل، وملخصها: أنهم كانوا في مملكة جبار، يعبد الأوثان، فخرجوا، فجمعهم الله على غير ميعاد، فأخذ بعضهم على بعض العهود, ففقدهم أهلهم، فأخبروا الملك، فأمروا بكتابة أسمائهم في لوح من رصاص وجعله في خزانته، ودخل الفتية الكهف، فضرب الله على آذانهم يقلبون لأكلتهم الأرض، ثم ذهب ذلك الملك، وجاء آخر فكسَّر الأوثان، وعبد الله وعدل، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يأتيهم بما يأكلون, فدخل المدينة مستخفيًا، فدفع درهمًا لخباز، فاستنكر ضربه، وهمَّ برفعه إلى الملك، فقال: أتخوفني بالملك وإني دهقانه؟ قال: من أبوك؟ قال: فلان، فلم يعرفه، فرفعوه إلى الملك، فسأله، فقال: علي باللوح، وكان قد سمع به، فسمَّى أصحابه، فعرفهم من اللوح, فكثر الناس وانطلقوا إلى الكهف، وسبق الفتى لئلَّا يخافوا من الجيش، فلمَّا دخل عليهم عمَّى الله على الملك ومن معه، فلم يدر أين ذهب الفتى، فاتفقوا على أن يبنوا عليهم مسجدًا، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون. "وشأن موسى" بن عمران كليم الله لا موسى غيره، كما زعم أهل الكتاب وبعض من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 والخضر -عليهما السلام، وحال ذي القرنين، .........................................   تلقى عنهم، وفي البخاري عن ابن عباس: تكذيب قائل ذلك. "والخضر -عليهما السلام" بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وبسكون ثانية، مع فتح أوله وكسره- لقب، واسمه بليا بن ملكان، على أصح الأقوال، وهو بفتح الموحدة، وسكون اللام، وتحتية، فألف وأبوه، بفتح الميم وسكون اللام وفي الصحيح مرفوعًا: "إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة، فإذا هي تهتز من تحته خضراء" والفروة: الأرض اليابسة. وقال الخطابي: الفروة وجه الأرض، أنبتت واخضرت بعد أن كانت جرداء، وهو نبي عند الجمهور. قال القرطبي: والآية تشهد بذلك؛ لأن النبي لا يتعلم ممن هو دونه؛ ولأن الحكم بالباطن إنما يطلع عليه الأنبياء، ثم اختلفوا: هل هو رسول أم لا؟ وقيل: إنه وليّ. قال الثعلبي: وهو معمّر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار، وقيل: لا يموت إلا في آخر الزمان، حين يرفع القرآن، وقال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء والعامة معهم، وشذَّ بإنكاره بعض المحدثين. قال النووي: وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به أكثر من أن تحصر، وجزم البخاري وإبراهيم الحربي، وابن العربي وطائفة بموته، وأنه غير موجود الآن، للحديث المشهور، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر حياته: "لا يبقى على الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد". قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه, وأجاب من أثبت حياته: بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث، كما خصّ منه إبليس باتفاق، وجاء في اجتماعه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حديث ضعيف، رواه ابن عدي، وبسط الكلام عليه في الإصابة والفتح وغيرهما. "وحال ذي القرنين" الأكبر، الحميري، المختلف في نبوته، والأكثر، وصحَّح أنه كان من الملوك الصالحين، وذكر الأزرقي وغيره: أنه حج وطاف مع إبراهيم وآمن به واتبعه، وكان الخضر وزيره، وعن علي: لا نبيًّا كان ولا ملكًا, ولكن كان عبدًا صالحًا. وحكى الثعلبي: أنه كان من الملائكة, وقيل: أمه من بنات آدم، وأبوه من الملائكة، لقب بذي القرنين, واسمه الصعب على الراجح، كما في الفتح, أو هرمس، أو هرديس، أو عبد الله. وفي اسم أبيه أيضًا خلف لطوافه قرني الدنيا، شرقها وغربها، أو لانقراض قرنين من الناس في أيامه، أو لأنه كان له ضفيرتان من شعر، والعرب تسمي الخصلة من الشعر قرنًا، أو لأن لتاجه قرنين أو على رأسه ما يشبه القرنين، أو لكرم طرفيه أمًا وأبًا، أو لغير ذلك أقوال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 وقصص الأنبياء وأممهم، والقرون الماضية في دهرها. والخامس: إن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب، والإخبار بما يملكون، فيوجد على صدقه وصحته، ..............................................   وفي مرآة الزمان: إن ذا القرنين مات ببابل، وجعل في تابوت، وطلي بالصبر والكافور، وحمل إلى الإسكندرية، فخرجت أمه في نساء الاسكندرية حتى وقفت على تابوته, وأمرت به فدفن، قيل: عاش ألف سنة، وقيل: ألفًا وستمائة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة. انتهى. وأما ذو القرنين الأصغر، فهو الإسكندري اليوناني، قتل دارًا، وسلبه ملكه، وتزوج بنته، واجتمع له الروم وفارس، فلقب بذي القرنين. قال السهيلي: ويحتمل أنه لُقِّبَ به تشبيهًا بالأول، لملكه ما بين المشرق والمغرب، فيما قيل أيضًا، واستظهره الحافظ، وضعَّف قول أن زعم أن الثاني هو المذكور في القرآن، كما أشار إليه البخاري بذكره قبل إبراهيم؛ لأن الإسكندر كان قريبًا من زمن عيسى، وبَيْنَه وبين إبراهيم أكثر من ألفي سنة، والحق أن الذي في القرآن هو المتقدّم؛ لأنه آمن بإبراهيم، وصافحه وسلم عليه وسأله أن يدعو له، وتحاكم إليه إبراهيم في بئر، فحكم له، واستفهمه عن بناء الكعبة حين كان يبنيها هو وإسماعيل، فقالا: نحن عبدان مأموران فقال: من يشهد لكما، فشهدت خمسة أكبش، فقال: صدقتما، كما ورد في آثار يشد بعضها بعضًا؛ ولأن الرازي جزم أن ذا القرنين نبي، والإسكندر كافر؛ ولأنه من اليونان، وذو القرنين من العرب، وقد قدمت ذلك بأبسط من هذا في المقصد الأول. "وقصص" بالفتح مصدر وبالكسر جمع قصة، أي: سير "الأنبياء وأممهم" مفصلًا بأبلغ عبارة وألطف إشارة، "والقرون الماضية في دهرها" وشبه ذلك من بد الخلق، وما في التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى، ومما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيبه، بل أذعنوا له، فمن وفق آمن، ومن شقي معاند حاسد، ومع هذا لم يقدر واحد من النصارى واليهود، مع شدة عدواتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- على تكذيبه في شيء بما في كتبهم، كما بسطه في الشفاء. "والخامس: إن وجه إعجازه هو ما فيه من علم الغيب", وهو شامل لما سبق مما لم يدركه هو ولا أهل عصره، وما يقع بعد ذلك مما لا يعلمه إلّا الله، كما قال: "والإخبار بما يكون فيوجد، أي: يقع بعد ذلك، دالًّا "على صدقه" لمطابقته لما أخبر به، "وصحته" كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} , {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} , {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} ، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} الآية، إلى آخرها، فوجد جميع هذا، كما قال في آيات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 مثل قوله تعالى لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94, 95] فما تمناه أحد منهم. ومثل لقوله لقريش: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:   كثيرة بَيَّنَها عياض "مثل قوله تعالى لليهود" لما ادعوا دعاوي باطلة، كقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ} , فكذبهم وألزمهم الحجة، فقال مخاطبًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} الآية، لهم {إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ} الآية. الجنة {عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} خاصَّة {مِنْ دُونِ النَّاسِ} الآية، كما زعمتم، أي: من باقيهم من المؤمنين غيرهم، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية، في زعمكم أن الجنة مخصوصة بكم؛ لأن من تيقن دخولها اشتقاق لها، وأحب التخلص من الدنيا وأكدارها، وتعلق بتمني الموت، الشرطان على أن الأوّل قيد في الثاني، أي: إن صدقتم في زعمكم أنها لكم ومن كانت له يؤثرها، والموصل إليها الموت فتمنوه، "ثم قال" تلو الآية، والأولى إسقاطه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} "الآية" من كفرهم بالنبي المستلزم لكذبهم، وتحريفهم التوراة، فنفى عنهم التمني في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: لن وأبدًا، "فما تمنَّاه أحد منهم، فهو أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غُصّ بريقة" يعني: يموت مكانه, فصرفهم الله عن تمنيه ليظهر صدق رسوله، وصحة ما أوحي إليه، ذكره عياض. وفي الكشاف: فإن قلت: التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطَّلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه؟ قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنّ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب، لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه. قال القطي في حواشيه: استدلَّ على أن التمني ليس من أفعال القلوب؛ لأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه: إن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز، لإلزام من لم يقبل الدعوى, والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقًا، ويمكن أن يقال: التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبدًا معجزة, طلب دفعها بتمنيهم, والدفع إنما يكون بأمر ظاهر. "ومثل لقوله لقريش" {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآية، {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فقطع بأنهم لا يفعلون فلم يفعلوا. وتعقَّب بأن الغيوب التي اشتمل عليها القرآن بعضها وقع في زمنه -صلى الله عليه وسلم، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] وبعضها بعده كقوله: {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1, 2] فلو كما قالوا لنازعوا وقع المتوقع، وبأن الإخبار عن الغيب جاء في بعض سور القرآن, واكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة، فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها.   النَّارَ} الآية، "فقطع بأنهم لا يفعلون" بإثبات النون على الصواب؛ لأن المراد الإخبار لا النهي، وفي نسخة بحذفها على الحكاية "فلم يفعلوا", وهذه الآية أبلغ في الإعجاز من التي قبلها؛ لأنه أمر معجز في نفسه في سائر الأزمنة، وإن كان الخطاب لقريش بخلاف التي قبلها، فإعجازه إنما هو بمجرد الإخبار عن عدم وقوعه منهم، وإن كان قول الإنسان: ليتني أموت ونحوه ممكنًا لهم ولغيرهم، ولذا فرق بينهما عياض، وإن ساوى بينهما المصنف تبعًا للكشاف. "وتعقَّب" عدّ الخامس وجهًا للإعجاز، "بأن الغيوب التي اشتمل عليها القرآن بعضها وقع في زمنه -صلى الله عليه وسلم، كقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} الآية، هو فتح مكة، ونزلت مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها، وأتى به ماضيًا لتحقق وقوعه، وفيه من الفخامة والدلالة لى علوِّ شأن المخبر به ما لا يخفى. وقال جماعة: المراد فتح الحديبية ووقوع الصلح، فالفتح لغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقًا حتى فتح الله، وعلى هذا القول ليست الآية من الإخبار بالغيب المستقبل، "وبعضها بعده، كقوله: " {الم, غُلِبَتِ الرُّومُ} على قراءة غلبت بالفتح، وسيغلبون بالضم، أي: إن الروم غلبت على الشام، وسيغلبهم المسلمون عليها وينزعونها منهم، فكان ذلك بعده -صلى الله عليه وسلم, فأمَّا على القراءة المشهورة بضم الغين، وسيغلبون بفتحها، فوقع ذلك في عهده -صلى الله عليه وسلم، كما هو مبيَّن في التفاسير والأخبار بما في جلبه طول، "فلو كان كما قالوا" أي: الذين عدوا وجه إعجازه الإخبار بما يكون، "لنازعوا" أي: الكفار، أي: لخاصموا وطلبوا "وقع المتوقع، "أي: حصول الأمور المتأخر حصولها عن زمن المصطفى، مع أنهم لم يطلبوا ذلك، "وبأن الإخبار عن الغيب جاء في بعض سور القرآن" لا في كلها، فلو كان معجز الطلب منهم أن يأتوا بما يشتمل على الإخبار بالغيب ليصلح معارضة، "و" الحال أنه لم يطلب ذلك، بل "اكتفى منهم بمعارضة سورة غير معينة" بل أيّ سورة، "فلو كان كذلك لعارضوه بقدر أقصر سورة لا غيب فيها" ولم يقع ذلك, فلا يصح جعل إخباره بالغيوب وجه إعجازه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 السادس: إن وجه إعجازه هو كونه جامعًا لعلوم كثيرة، لم تتعاط العرب الكلام فيها، ولا يحيط بها من علماء الأمم واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب، بَيِّنَ الله فيه خبر الأولين والآخرين وحكم المتخلفين وثواب المطيعين وعقاب العاصين. فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا, فإذا جمعها القرآن فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها. وقد قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] فلم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن .....   "والسادس: إن وجه إعجازه هو كونه جامعًا لعلوم كثيرة" كبيان علوم الشرائع، والتنبيه على الحجج والعقليات، والرد على الفرق الضالة ببراهين قوية بينة، سهلة الألفاظ، موجزة، كقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] الآية. إلى ما حواه من علوم السير والحكم وأخبار الآخرة ومحاسن الآداب، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ومنها علم النجوم، لقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] . والطب: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الآية. والمعارف الجزئية، والمعارف الجزئية، كقصة يوسف؛ إذ لا يعرفها إلّا من شاهدها، وغير ذلك. "لم تتعاط العرب الكلام فيها" عامَّة, زاد القاضي: ولا محمد -صلى الله عليه وسلم- قبل نبوته، "ولا يحيط بها من علماء الأمم" السالفة، كالحكماء والأحبار، "واحد منهم، ولا يشتمل عليها كتاب" من كتبهم، أي: لم يدوّن قبله، حتى يقال: أخذ علمه منها، {بَيِّنَ الله فيه} أي: القرآن "خبر الأولين، والآخرين وحكم المتخلفين" عن أمره ونهيه، والذين تخلفوا عن الجهاد مع نبيه، أو عن الإيمان، وتعللوا بعلل باطلة، فبيِّن لهم بطلان عللهم، وفضحهم بإظهاره، "وثواب المطيعين وعقاب العاصين، فهذه ستة أوجه يصح أن يكون كل واحد منها إعجازًا، لا أن الإعجاز إنما حصل بجملتها، بل كل واحد حصل به إعجازهم عن معارضته، "فإذا" فحيث جمعها القرآن, فليس اختصاص أحدها بأن يكون معجزًا بأولى من غيره، فيكون الإعجاز بجميعها", وإن كان بعضها أقوى من غيره في الإعجاز، وقد قال تعالى" دليل سمعي على عجزهم عن معارضته: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، "فلم يقدر أحد أن يأتي بمثل القرآن في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا بعده على نظمه وتأليفه وعذوبة منطقه وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال والأشياء التي دلّت على البعث وآياته، والأنباء بما كان يكون, وما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وصلة الأرحام, إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد وقد عجزت عنه العرب الفصحاء, والخطباء والبلغاء، والشعراء, والفهماء من قريش وغيرها، وهو -صلى الله عليه وسلم- في مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة ولا يحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب، .......   زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده" إلى يومنا هذا، بل إلى يوم الدين، مع أنه لا يكاد يعدّ من سعى في تغييره من الملحدة والمعطلة، فأجمعوا كيدهم وحولهم وقوتهم فما قدروا على إطفاء شيء من نوره، ولا تغيير كلمة منه، ولا تشكيك المسلمين في حروف من حروفه، ولله الحمد على نظمه، أي: نظامه البديع المعجز, "وتأليفه" كما يؤلف البناء شيئًا بعد شيء حتى يتمَّ ويكمل في غاية الإحكام، وعذوبة منطقه، وصحة معانيه، وما فيه من الأمثال" الكثيرة المقررة لما مثل له التنزيل المعقول منزلة المحسوس. فقال البيضاوي: ولأمرٍ ما أكثر لله تعالى والأنبياء والحكماء في كلامهم من الأمثال، ولكثرة اشتماله على الأمثال جعله -صلى الله عليه وسلم- عين المثل المبالغة، فقال: "إن الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا، وسنة خالية ومثلًا مضروبًا، فيه نبؤكم, وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم" الحديث، رواه الترمذي. "والأشياء التي دلّت على البعث وآياته، والأنباء" الأخبار "بما كان ويكون, وما فيه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والامتناع من إراقة الدماء، وما فيه من "صلة الأرحام إلى غير ذلك، فكيف يقدر على ذلك أحد، وقد عجزت عنه العرب الفصحاء" فعجز غيرهم أولى؛ إذ عجز أمراء الكلام مع توفر الأسباب فيهم يفيد أن من انتفت عنه تلك الأسباب أولى، والخطباء والبلغاء" هو أعمّ مما قبله؛ إذ قد يكون بليغًا عارفًا بمواقع الكلام، لكنه ليس معتنيًا بتأليف الخطب والمراسلات، ونحوهما. والشعراء والفهماء" هو قريب مما قبله، "من قريش وغيرها" من المتصفين بذلك، "وهو -صلى الله عليه وسلم- في مدة ما عرفوه قبل نبوته وأداء رسالته أربعين سنة، لا يحسن نظم كتاب" أي: تأليفه متناسب الكلمات لفظًا ومعنًى, ولا عقد حساب، أي: ولا أصلًا مما تستعمله الناس في معرفة الأمور التي يدبرونها في أنفسهم، ويعرفون بها أصول ما يرد عليهم من الوقائع، كذا قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 ولا يتعلم سحرًا، ولا ينشد شعرًا، ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا، حتى أكرمه الله بالوحي المنزل، والكتاب المفصَّل، فدعاهم إليه وحاجَّهم به، قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] ، وشهد له في كتابه بذلك فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] . وأمَّا ما عدا القرآن من معجزاته -عليه السلام؛ كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد، فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًّا على صدقه من غير سبق تحدّ، ومجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يديه -صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير - ..............   شيخنا، "ولا يتعلم سحرًا، ولا ينشد:" يقرأ "شعرًا" لغيره، فضلًا عن إنشائه، "ولا يحفظ خبرًا، ولا يروي أثرًا حتى أكرمه الله بالوحي المنزَّل، والكتاب المفصَّل، المبيّن ما فيه من الفوائد الجليلة، كالعقائد الحقة والأحكام الشرعية، والمواعظ، والأمثال، والأخبار الصادقة أو المجعول سورًا، أو المنزَّل نجمًا نجمًا، أو المفرّق بين الحق والباطل، "فدعاهم إليه وحاجَّهم به, قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ} الآية، أعلمكم {بِهِ} الآية. ولا نافية عطف على ما قبله، وفي قراءة: بلام جواب لو، أي: لأعلمكم به على لسان غيري، {فَقَدْ لَبِثْتُ} الآية، مكثت {فِيكُمْ عُمُرًا} الآية، سنينًا أربعين {مِنْ قَبْلِهِ} الآية، أحدثكم بشيء {أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآية. إنه ليس من قبلي. "وشهد له في كتابه بذلك، فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} الآية، أي: القرآن {مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا} الآية، أي: لو كنت قارئًا كاتبًا، {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} الآية، أي اليهود فيك، وقالوا: الذي في التوراة أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، ثم ذكر قسيم ما مَرَّ أن القرآن معجز بلا شك، فقال: "وأمَّا ما عدا القرآن" بالنصب؛ لأنه تقدَّمه ما "من معجزاته -عليه السلام" بيان لما "كنبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام ببركته، وانشقاق القمر، ونطق الجماد", ويأتي تفصيلها، ففيه تفصيل، "فمنه ما وقع التحدي به، ومنه ما وقع دالًّا على صدقه، من غير سبق تحدّ" بناء على أن المراد بالتحدي طلب المعارضة، أمَّا إن أريد مجرد الاقتران بدعوى النبوة، فكلها مسبوقة بالتحدي. وأمَّا ما قبل البعثة فهو إرهاص لا معجزة على المعتمد، كما مَرَّ. "ومجموع" أي: جملة "ذلك" المذكور مما وقع التحدي به، وما لم يقع "يفيد القطع" الجزم، أي: العلم الضروري، "بأنَّه ظهر على يديه -صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 كما يقطع بوجود جود حاتم، شجاعة علي، وإن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد، مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر, ورواه العدد الكثير، والجمّ الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار، وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك.   ويسمَّى ذلك التواتر المعنوي، "كما يقطع بوجود جود حاتم" بن عبد الله بن سعد الطائي، المشهورة أخباره في الجود، أسلم ابنه عدي سنة تسع، وقيل: سنة عشر، وكان جوادًا كأبيه، وسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمور تتعلق بالصيد، كما في الصحيحين. وأخرج أحمد عن عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم، ويفعل كذا وكذا، فقال: "إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذكر. وروى وكيع في الغرر، عن محرز، مولى أبي هريرة، قال: مرَّ نفر بقبر حاتم، فركض بعضهم قبره برجله، وقال: اقرنا وجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعًا، فقال: إن حاتمًا أتاني في النوم وأنشدني شعرًا حفظته، يقول فيه: أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدى حفرة لجب هامها وتبغي لي الذم عند المبيت ... وحولك طيّ وأنعامها فإنا سنشبع أضيافنا ... وتأتي المطي فتعاتمها فقاموا، فإذا ناقة صاحب القول عقير فنحروها وباتوا يأكلون, وقالوا: قرانا حاتم حيًّا وميتًا، وأردفوا صاحبهم، فلمَّا نبع النهار إذا رجل راكب بعيرًا يقود آخر، فقال: أنا عدي بن حاتم، إن حاتمًا أتاني في النوم، فزعم أنه قراكم ناقة أحدكم، وأمرني أن أحمله، فشأنكم البعير، فدفعه إليهم وانصرف. "وشجاعة علي" أمير المؤمنين، وزهد الحسن البصري، وحلم أحنف لاتفاق الأخبار الواردة عنهم على كرم هذا وشجاعة هذا، وزهد هذا، وحلم هذا، وإن كانت أفراد ذلك ظنية، أي: كل واحد منهم ظني لا يوجب العلم، ولا يقطع بصحته، لكونها "وردت موارد الآحاد", لكنها تفيد التواتر المعنوي الحاصل من مجموعها؛ كالكرم والشجاعة لاتفاقها على معنى واحد مع كثرتها، وإن كان كل واحد يصف جزئية، "مع أن كثيرًا من المعجزات النبوية قد اشتهر"؛ بحيث صار يفيد القطع بانفراده، ويسميه المحدثون مشهورًا ومستفيضًا" ورواه العدد الكثير والجمّ الغفير، وأفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار،" الأحادي والعناية" الاهتمام "بالسيد جمع سيدة, وهي أخبار المغازي" والأخبار" كنبع الماء من بين الأصابع، وتكثير الطعام "وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم اهتمامهم بذلك, فبالنسبة لهم لا يفيد القطع بخلاف أولئك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 فلو ادَّعى مدَّعٍ أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري لما كان مستبعدًا، وذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك, ولا الإنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق؛ لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء عن الباطل، وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئًا من ذلك, فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام ............................   قال عياض: ولا بعد أن يحصل العلم بالتواتر عند واحد، ولا يحصل عند غيره، فإن أكثر الناس يعلمون بالخبر وجود بغداد، وأنها مدينة عظيمة دار الإمامة والخلافة، وآحاد لا يعلمون اسمًا فضلًا عن وصفها، وهكذا تعلّم الفقهاء من أصحاب مالك بالضرورة أن مذهبه إيجاب أم القرآن في الصلاة للمنفرد والإمام، وإجزاء النية أول ليلة من رمضان عمَّا سواه، وأنَّ الشافعي يرى تجديدها كل ليلة، والاقتصار على مسح بعض الرأس، وأن مذهبهما القصاص في القتل بالمحدد وغيره، وإيجاب النية في الوضوء، واشتراط الولي في النكاح، وأن أبا حنيفة يخالفهما في هذه المسائل, وغيرهم ممن لا يشتغل بمذاهبهم لا يعرف هذا فضلًا عمَّا سواه، "فلو ادَّعى مدَّعٍ أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري، المحصل للعلم الضروري، "لما كان مستبعدًا،" تفريع على قوله: "وأفاد الكثير منه، إلى آخره، "وذلك" أي: وجه عدم الاستبعاد، "أنه" بالفتح، أي: لأنه "لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة، ولا يحفظ عن أحد من أصحابه مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك" من الآيات، "ولا إنكار عليه فيما هنالك، فيكون الساكت منهم كالناطق؛ لأن السكوت في محله إقرار؛ لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء" بغين وضاد معجمتين، التغافل عن وفي نسخة: على، بمعنى: عن؛ إذ إنما تعدَّى بعن "الباطل" سمعوه ولم ينكروه؛ إذ ليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم من الإنكار، "وعلى تقدير أن يود من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئًا من ذلك, فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي،" لا في المروي نفسه، "أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه، أو نسبته إلى سوء الحفظ أو جواز الغلط" عليه لعدم اتقانه، ولا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، ولذا قال: "ولا يوجد أحد منهم طعن في المروي" نفسه، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام" كما وقع بين عمر وابن عباس في إنكاره عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 وحروف القرآن ونحو ذلك والله أعلم. وأنت إذا تأمَّلت معجزاته وباهر آياته وكراماته -عليه السلام, وجدتها شاملة للعلوي والسفلي، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمائع والجامد، والسابق واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل, إلى غير ذلك مما لو أعيد لطال، كالرمي بالشهب الثواقب، ومنع الشياطين من استراق السمع في الغياهب، وتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتها له بالرسالة بين يديه, ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع، ونبع الماء من كفِّه في الميضأة والتور والمزادة, وانشقاق القمر، ورد العين من العور، ونطق البعير والذئب ..........................................   نكاح المتعة، "وحروف القرآن" أي: قراءته المتعددة؛ إذ كل وجه من القراءة يطلق عليه حرف، كما صحَّ أن عمر أنكر على هشام بن حكيم قراءة قرأ بها في سورة الفرقان لم يسمعها, فجاء به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال: سمعته يقرأ بغير ما أقرأتينه، فقال: "اقرأ يا هشام" فقال: "هكذا أنزلت" ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأ فقال: "هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه" , وهذا كثير، "ونحو ذلك" مما يتوقف على النقل ولا يقال بالرأي، والله أعلم". "وأنت إذا تأمَّلت معجزاته، وباهر:" غالب "آياته" من إضافة الصفة للموصوف، "وكراماته -عليه السلام, وجدتها شاملة للعلوي والسفلي، والصامت والناطق، والساكن والمتحرك، والمانع والجامد، والسابق" على وجوده إكرامًا له، ويسمَّى إرهاصًا، "واللاحق، والغائب والحاضر، والباطن والظاهر، والعاجل والآجل، إلى غير ذلك مما لو أعيد" كذا في النسخ، والأولى: مما لو عدّ "لطال"؛ إذ الإعادة ذكر الشيء مرة بعد أخرى، وليس المراد هنا، بل المراد: لو شرع في عدِّها لعجز عن استيعاب إفرادها وضبطها، "كالرمي بالشهب" جمع شهاب: الكواكب المضيئة" الثواقب" التي تثقب مسترق السمع، أو تحرقه أو تخبله" "ومنع الشياطين من استراق السمع في الغياهب، جمع غيهب، وهو الظلمة، وتسليم الحجر والشجر عليه, وشهادتها له بالرسالة بين يديه, ومخاطبتها له بالسيادة، وحنين الجذع" لفراقه، "ونبع الماء من كفه في الميضأة" بكسر الميم والقصر، وقد تمد المطهرة، وزنها مفعلة ومفعال، وميمها زائدة ليست منها، "والتور" بفوقية، مجرور بالعطف: إناء معروف، "والمزادة" بفتح الميم، شطر الرواية، والقياس كسرها؛ لأنها آلة يستقي بها الماء وجمعها مزايد، وربما قيل: مزاد بغيرها وكما في المصباح. "وانشقاق القمر، وردّ العين من العور" بل وبعد السقوط، "ونطق البعير والذئب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 والجمل، والنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه عبد الله من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التي تداولتها الحملة، ونقلتها عن ألسنة الأول النقلة، مما لو أعملنا أنفسنا في حصرها لفني المدى في ذكرها. ولو بالغ الأولون والآخرون في إحصاء مناقبه لعجزوا عن استقصاء ما حباه الكريم به من مواهبه، ولكن الملمَّ بساحل بحرها مقصرًا عن حصر بعض فخرها، ولقد صحَّ لمحبيه أن ينشدوا فيه: وعلى تفنن واصفيه لنعته ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وإنه لخليق بمن ينشد فيه قول الخنساء التي شهد لها النابغة الذبياني بأنها أشعر الناس, وقد أسلمت وصحبت: فما بلغت كف امرئ متناولًا ... من المجد إلّا والذي نال أطول ولا بلغ المهدون في القول مدحه ... ولو حذقوا إلّا الذي فيه أفضل   والجمل", ويأتي بيان ذلك كله، "والنور المتوارث من آدم إلى جبهة أبيه عبد الله من الأزل، وما سوى ذلك من المعجزات التي تداولتها الحملة" للأخبار، "ونقلتها عن ألسنة الأُوَل" أي: المقدمين "النقلة" المتأخرون في تصانيفهم، "مما لو أعملنا أنفسنا في حصرها لفني المدى،" أي: الغاية "في ذكرها" أي: لانتهى العمر وفرغ في عدتها ولم يحط بها "ولو بلغ الأولون والآخرون في إحصاء" أي: عدّ "مناقبه، لعجزوا عن استقصاء ما حباه" بموحدة: أعطاه بلا عوض، "الكريم" سبحانه "به من مواهبه، ولكان الملمّ" النازل "بساحل بحرها مقصرًا" أي: عاجزًا "عن حصر بعض فخرها" مباهاتها، وقد صحَّ لمحبيه" أمكنهم "أن" يقولوا قولًا يقبل منهم ولا يكذبون فيه، كأن ينشدوا فيه" قول ابن الفارض، "وعلى تفنن" تنوع "واصفيه" أي: إتيانهم بأنواع كثيرة "لنعته يفنى" ينقضي "الزمان, وفيه ما لم يوصف" أوصاف كثيرة، ما عثروا على شيء منها حتى يذكروه, "وإنه لخليق" جدير وحقيق "بمن ينشد فيه قول الخنساء التي شهد لها النابغة الذبياني، بأنها أشعر الناس، وقد أسلمت وصحبت": فما بلغت كف امرئ متناولًا ... من المجد والذي نال أطول أجل وأعظم، "ولا بلغ المهدون في القول مدحه، ولو حذقوا، بفتح الذال وكسرها من بابي ضرب وتعب مهروا، وعلموا غوامض المدح ودقائقه، "إلّا" الوصف "الذي" هو "فيه أفضل" أتمّ وأكمل من أوصافهم التي ذكروها. ذكر عبد العظيم ابن أبي الأصبع في كتابه الأشعار الرائقة: إن الأخطل وفد على معاوية يمتدحه، فقال له: إن كنت شبَّهتني بالحية والأسد والصقر فلا حاجة لي به، وإن كنت قلت كما قالت الخنساء، فهات، قال: وما قالت؟ فأنشد هذين البيتين، فقال الأخطل: والله لقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفي, فلقد كفى وشفى بقوله: ما شئت قل فيه فأنت مصدق ... فالحب يقضي والمحاسن تشهد ولقد أبدع الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيري حيث قال: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول الله ليس له ... حد فيعرب عنه ناطق بفم يعني: إن المداح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه، ....... ......   أحسنت ولقد قلت فيك بيتين، ما هما بدون ما سمعت، وأنشد: إذا متَّ مات الجود وانقطع الغنى ... فلم يبق إلّا من قليل مصرد وردت أكفّ الراغبين وأمسكوا ... عن الدين والدنيا بحلف مجرد فقال: لحاك الله, ما زدت على أن نعيت إلي نفسي، ولم تتعلق للمرأة بغبار. "ولله در إمام العارفين سيدي محمد وفي، فلقد كفى وشفى بقوله: ما شئت" من الصفات المتناهية في الكمال، "قل فيه" صفة بها، ولا تخش من ذكرها، "فأنت مصدق" في كل ما تقوله فيه، "فالحب" الذي أودعه الله في قلوب العارفين يقضي" يحكم بذلك, والمحاسن الظاهرة التي لا تخفى على أحد "تشهد" بحقيقة ما وصفته به, "ولقد أبدع: أني بأمر بديع لم يسبق إليه، "الإمام الأديب شرف الدين الأبوصيري" صوابه البوصيري؛ لأنه منسوب إلى بوصير، كما مَرَّ كثيرًا، "حيث قال: دع:" اترك ما ادَّعته النصارى" جمع نصران، كسكارى جمع سكران، أو نسبة إلى قرية تسمَّى ناصرة، وقيل: إنها قرية المسيح، أو الياء في نصرانيّ للمبالغة، سمّوا نصارى لنصرهم عيسى في "نبيهم" كقولهم: ابن الله وثالث ثلاثة، لنهي نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن مثل ذلك بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" , و "بعد ذلك "احكم" اقصد بما شئت مدحًا" ثنا: حسنًا "فيه واحتكم: اختصم، أي: خاصم في إثبات فضائله من شئت من الخصماء، وانسب:" أعز "إلى ذاته" حقيقة "ما شئت من شرف" عز، "وانسب إلى قدره: " مبلغه "ما شئت من عظم" تعظيم ورفعة، فقد وجدت للقول سعة، فإن فضل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس له حَدّ:" غاية يوقف عندها، "فيعرب" يبين منصوب بأن مضمرة، وجوبًا بعد فاء السبية في جواب النفي، "عنه" متعلق بيعرب, "ناطق" فاعل" بفم" متعلق بناطق على تقدير مضاف، أي: بلسان فم؛ إذ أوصافه لا تحصى، وفضائله لا تستقصى "يعني: إن المدَّاح وإن انتهوا إلى أقصى الغايات والنهايات لا يصلون إلى شأوه" بفتح الشين المعجمة، وسكون الهمزة، وبالواو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 إذ لا حدَّ له، ويحكى أنه رؤي الشيخ عمر بن الفارض السعدي في النوم فقيل له: لم لا مدحت النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال: أرى كل مدح في النبي مقصرًا ... وإن بالغ المثني عليه وأكثروا إذ الله أثنى بالذي هو أهله ... عليه فما مقدار ما يمدح الورى قال الشيخ بدر الدين الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين كأبي تمام والبحتري وابن الرومي مدحه -صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما يحاولونه، ...................   والهاء: غايته وأمده، "إذ لا حدَّ له" حتى يصلوا إليه. "ويحكى أنه رؤي الشيخ" شرف الدين، أبو القاسم "عمر بن" علي "الفارض" -كان يكتب فروض النساء- ابن مرشد "السعدي،" نسبة إلى بني سعد: قبيلة حليمة، الحموي الأصل، المصري، ولد بالقاهرة في ذي القعدة سنة ست وسبعين وخمسمائة، وترجمه الرشد العطار في معجمه، فقال: الشيخ الفاضل، الأديب، حسن النظم، متوقد الخاطر، كان يسلك طريق التصوف، وينتحل مذهب الشافعي، وأقام بمكة مدة، وصحب جماعة من المشائخ. وترجمه أيضًا المنذري وغيره، مات في ثالث جمادي الأولى، سنة اثنتين وثلاثين وستمائة. "في النوم فقيل له: لم لا مدحت النبي -صلى الله عليه وسلم؟ " على سبيل الصراحة، وإلّا فباطن كلامه مدح له، كذا قال بعض. وقال آخر: يعتقد بعض العوام أن باطن كلامه مدح للنبي -صلى الله عليه وسلم, وغالب كلام لا يصح أن يراد به ذلك، "فقال: أرى كل مدح" أي: مادح "في النبي" أو هو باقٍ على مصدريته، وتجوز في إسناده "مقصرًا" إليه، "وإن بالغ المثني عليه، وأكثروا" بألف الإطلاق في المبالغة في الثناء عليه، "إذ الله أثنى بالذي هو أهله عليه،" بنحو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، الآية، "فما مقدار ما يمدح الورى؟ الخلق. قال الشيخ بدر الدين الزركشي: ولهذا لم يتعاط فحول الشعراء المتقدمين" نعت للشعراء، "كأبي تمام" حبيب بن أوس الطائي، المشهور، صاحب الحماسة, قال ابن خلكان: أصله من قرية جاسم قرب طبرية، وكان بجامع دمشق يسقي الماء، ثم جالس الأدباء وأخذ عنهم، حتى قال الشعر، فأجاد وشاع ذكره، وسار شعره، وبلغ المعتصم خبره، فحمله إليه، فقدم بغداد فجالس الأدباء وعاشر العلماء، وتقدَّم على شعراء وقته، مات بالموصل سنة ثمان وعشرين ومائتين، وقيل بعد ذلك. "والبحتري" بضم الموحدة، وسكون الحال المهملة، وضم الفوقية- أبو عبادة، الوليد بن عبيد، الشاعر المشهور، نسبة إلى بحتر بن عقود الطائي، كما في التبصير. و"أبي العباس علي بن الرومي, مدحه -صلى الله عليه وسلم، وكان مدحه عندهم من أصعب ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 فإن المعاني دون مرتبته، والأوصاف دون وصفه، وكل غلوٍّ في حقه تقصير، فيضيق على البليغ مجال النظم، وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التي فيها غلوّ بالنسبة إلى من فرضت له وجدتها صادقة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم، حتى كان الشعراء على صفاته يعتمدون, وإلى مدحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيري بقوله: "دع ما ادعته النصاري في نبيهم" إلى ما أظرت النصارى به عيسى بن مريم من اتخاذه إليها. قال النيسابوري: إنهم صحَّفوا في الإنجيل "عيسى نبي وأنا ولدته" فحرفوا الأول بتقديم الباء وخففوا اللام في الثاني، فلعنة الله على الكافرين. فإن قلت: هل ادَّعى أحد في نبينا -عليه السلام- ما ادعى في عيسى؟ أجيب بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا له -عليه السلام: أفلا   يحاولونه، فإن المعاني" التي يتصورونها مادحة له "دون مرتبته", أي: حقيقة صفاته الحميدة، فإن وصفوه، بها قصروا في حقه، "والأوصاف دون وصفه، وكل غلوّ" بمعجمة، أي: كل وصف تجاوز قائله فيه الحد المتعارف بين الناس، أو بمهملة، أي: ارتفاع في الوصف زائد على العادة، في حقه تقصير" قليل بالنسبة لمقامه، "فيضيق على البليغ مجال النظم" بميم وجيم، أي: العمل الذي يجول فكره فيه ليأخذ المعاني التي يستحسنها وتليق عنده، "وعند التحقيق إذا اعتبرت جميع الأمداح التي فيها غلوا -بمعجمة ومهملة- بالنسبة إلى مَنْ فرضت له، وجدتها صادقة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى كان الشعراء" إذا حاولوا الثناء على أحد بأكمل الصفات، وصفوه ببعض أوصاف، صفات المصطفى الممكن ثبوتها للمدوح, وكأنَّهم على صفات يعتمدون؛ لأنه غاية طاقتهم، "وإلى مدحه كانوا يقصدون، وقد أشار الأبوصيري بقوله: دع ما ادعته النصارى في نبيهم، ومنه أخذ الحلي قوله في بديعيته: دع ما تقول النصارى في نبيهم ... من التغالي وقل ما شئت واحتكم "إلى ما أطرت النصارى به عيسى بن مريم من اتخاذه إلهًا" كما قال تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} الآية. قال النيسابوري: إنهم صحَّفوا في الإنجيل عيسى نبي" -بنون تليها موحدة, وأنا ولدته -بالتثقيل- خلقت ولادته من مريم بلا أب، فحرَّفوا الأول بتقديم الباء، على النون, وخففوا اللام في الثاني, فلعنة الله على الكافرين المحرفين للكلم عن مواضعه, "فإن قلت: هل ادعى أحد في نبينا -عليه السلام- ما ادعي في عيسى؟ أجيب بأنهم قد كادوا" قاربوا "أن يفعلوا نحو ذلك" وما فعلوا "حين قالوا له -عليه السلام" في قصة سجود الأشجار له والجمل والغنم: "أفلا" الهمزة داخلة على محذوف، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 نسجد لك؟ فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" فنهاهم عمَّا عساه يبلغ بهم من العبادة. وقد جاء في صفته في حديث ابن أبي هالة: ولا يقبل الثناء إلّا من مكافيء، أي: مقارب في مدحه غير مفرِّط فيه، وقال ابن قتيبة: معناه: إلّا أن يكون ممن له عليه مِنَّة، فيكافئه الآخر، وغلَّطه ابن الأنباري، بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتمّ الإسلام إلا به. قال: وإنما المعنى: لا يقبل الثناء إلّا من رجل عرف حقيقة إسلامه. ثم حاصل .............................   أي: أنترك تعظيمك، فلا "نسجد لك" أم نعظمك, فنحن أحق بالسجود من الغنم وغيرها, "فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لما له عليها من الحق، "فنهاهم عمَّا" أي: أمر، "عساه يبلغ" يصل بهم من العبادة" التي يتجاوز بها الحد، حتى يصيروا كفرة أو فسقة، معتقدين أنه حق وهو باطل، على نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الآية. نعم، روى ابن حبان عن ابن أبي أوفى، قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام، سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما هذا؟ " قال: يا رسول الله! قدمت الشام، فرأيتهم يسجدون لبطارقته وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: "لا تفعل، فإني لو أمرت شيئًا أن يسجد لشيء، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه". "وقد جاء في صفته" -صلى الله عليه وسلم- في حديث" هند بن أبي هالة" وصَّافه "ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء" بالهمز، "أي: من مقارب في مدحه غير مفرط فيه، وقال" عبد الله بن مسلم بن قتيبة" الدينوري: "معناه: ألّا يكون ممن له" عليه الصلاة والسلام عليه منَّة" سبقت له، فيكافئه الآخر،" فيقبله لسبق منته عليه، "وغلَّطه ابن الأنباري" بالفتح نسبة إلى الأنبار بالعراق، "بأنه لا ينفك أحد من إنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله بعثه رحمة للعالمين، فما من أحد إلّا وله عليه منة" "فالثناء عليه فرض عليهم، لا يتمّ الإسلام إلا به؛ لوجوب شكر النِّعَم، "قال: وإنما المعنى لا يقبل الثناء إلا من رجل" وصف طردي، والمراد إنسان "عُرِفَ حقيقة إسلامه", وأجيب عن هذا التغليط، بأن القرينة قائمة على أن المراد نعم حادثة خاصة، وقد صرَّح في بعض الروايات بقوله: إلّا عن يد، ثم للترتيب في الذكر أو للتراخي، "حاصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 معجزاته وباهر آياته وكراماته كما نَبَّه عليه القطب القسطلاني يرجع إلى ثلاثة أقسام: ماض: وجد قل كونه، فقضى بمجده. ومستقبل: وقع بعد مواراته في لحده. وكائن معه من حين حمله ووضعه إلى أن نقله الله إلى محل فضله وموطن جمعه. فأما القسم الماضي: وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة في المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك، مما هو تأسيس لنبوته وإرهاص لرسالته، .........   معجزاته، و" حاصل "باهر" غالب "آياته" من إضافة الصفة للموصوف، "و" حاصل "كراماته" فهما بالجر عطف على معجزاته، "كما نَبَّه عليه القطب" قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علي "القسطلاني" المصري المولود بها سنة أربع عشرة وستمائة، وجمع بين العلم والعمل, وألّف في الحديث والتصوّف والتاريخ بمصر، ومات في محرم سنة ست وثمانين وستمائة, نسبة إلى قسطلينة من إقليم أفريقية، كما قاله هو رحمه الله في تاريخ مصر، ولم يضبطه. وقال القطب الحلبي: كأنه منسوب إلى قسطلينة، بضم القاف من أعمال أفريقية بالمغرب، وقال غيره بفتح القاف وشد اللام، ويرجع إلى ثلاثة أقسام، ماض وُجِدَ قبل كونه" أي: وجوده، "فقضى بمجده" حكم بشرفه وسيادته وعزه، بمعنى: إنهم اعتقدوا ذلك حتى سمَّى جماعة أبناءهم محمدًا رجاء أن يكون هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. "ومستقبل وقع بعد مواراته في لحده" أي: بعد موته، "وكائن معه من حين حملة ووضعه إلى أن نقله الله إلى فضله وموطن جمعه: المكان الذي تجتمع فيه الخلائق, ولكن عدّه ما تقدم وجوده من المعجزة، وكذا ما قارن حمله إلى نبوته، مبنيّ على أن المعجزة لا يشترط اقترانها بالتحدي، والراجح كما مرَّ ويأتي خلافه إلى أن ذلك لا يرد عليه؛ لأنه جعل مجموع الآيات والمعجزات والكرامات منقسمًا إلى ثلاثة أقسام، ولا يلزم من انقسام المجموع وجود كل فرد منه في الأقسام الثلاثة. "فأمَّا القسم الماضي، وهو ما كان قبل ظهوره إلى هذا الوجود، فقد ذكرت منه جملة في المقصد الأول، كقصة الفيل وغير ذلك مما هو تأسيس، أي: اتخاذ أصل "لنبوته" يدل عليها إذا ادعاها، "وإرهاص لرسالته" من أرهص الحائط، جعل لها أصلًا، فهما متحدان، والمراد: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسًا وإرهاصًا، قال: ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله، يعني في سفره قبل النبوة، خلافًا للمعتزلة القائلين بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال، انتهى. وقد تقدَّم أول هذا المقصد: إن الذي عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم أن هذا ونحوه مما هو متقدّم على الدعوى لا يسمَّى معجزة، بل تأسيسًا للرسالة وكرامة للرسول -عليه السلام. وأما القسم الثاني: وهو ما وقع بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- فكثير جدًّا؛ إذ في كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى, كالاستغاثة به, وغير ذلك مما يأتي في المقصد الأخير، في أثناء الكلام على زيارة قبره المنير.   إن الخوارق التي ظهرت قبل وجوده أو في زمنه قبل بعثته مقدِّمات لتصديقه في دعوى النبوة؛ لأنها حقَّقت عنده شرفه وأمانته. "قال الإمام فخر الدين الرازي: ومذهبنا" معاشر أهل السنة "إنه يجوز تقديم المعجزة تأسيسًا وإرهاصًا، قال: ولذلك قالوا" أي: رووا أنه "كانت الغمامة" السحابة "تظله، يعني: في سفره قبل النبوة" كما ورد في أخبار صحاح، وزعم أنها لم تصح عند المحدثين باطل، كما قاله الزركشي. "خلافًا للمعتزلة القائلين، بأنه لا يجوز أن تكون المعجزة قبل الإرسال، انتهى", وقد تقدَّم أول هذا المقصد، وقبله في المقصد الأول، أن الذي عليه جمهور أئمة الأصول وغيرهم، أن هذا ونحوه مما هو متقدم على الدعوى" للنبوة، "لا يسمَّى معجزة" لفقد شرط التحدي الذي هو دعوى الرسالة, بل تأسيسًا للرسالة، وكرامة للرسول -عليه السلام،" والأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الولاية. "وأما القسم الثاني: وهو ما وقع بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم، فكثير جدًّا إذا في كل حين يقع لخواص أمته من خوارق العادات بسببه، مما يدل على تعظيم قدره الكريم ما لا يحصى، كالاستغاثة به" في الملمّات، "وغير ذلك" كالتوسُّل به في نيل المرامات, والإقسام به على رب البريات، "مما يأتي في المقصد الأخير في أثناء الكلام على زيارة قبره المنير، فكرامات الأولياء، كما نقل اليافعي من تتمة معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تشهد للولي بالصدق المستلزم لكمال دينه، المستلزم لحقيِّته، المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة، فكانت الكرامة من جملة المعجزات بهذا الاعتبار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته, فكالنور الذي خرج معه حتى استضاء له قصور الشام وأسواقها، حتى ريئت له أعناق الإبل ببصرى, ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألمًا لولادته، والطواف به في الآفاق، إلى غير ذلك, وكانشقاق القمر عند اقتراحه عليه، وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه، وكإطعام الجيش الكثير من النزر اليسير، في عدة من المواضع واستيلاء الفجائع، غير ذلك مما أمدَّه الله به من المعجزات, وأكرمه به من خوراق العادات، تأييدًا ..............   وأما القسم الثالث: وهو ما كان معه من حيث ولادته إلى وفاته فكالنور، أي: مثل النور، وقولهم: مثل كذا, كنايةً عن كذا ومثله, فكأنه قال: فهو النور، وما أشبهه من الخوارق, "الذي خرج معه حتى استضاء" أي: أضاء "له قصور الشام وأسواقها" من إضاءة ذلك النور وانتشاره حتى ريئت له أعناق الإبل ببصرى" بضم الموحدة وسكون المهملة، وراء، فألف مقصورة: مدينة بين المدينة ودمشق، وهي حوران. وروى ابن سعد مرفوعًا: "رأت أمي حين وضعتني سطع منها نور أضاء له قصور بصرى" , وحكمته الإشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به الخلق, وتخصيص الشام إشارة إلى ما خصها من نوره، لأنه أسري بها إليها وخصت بصرى؛ لأنها أول ما دخل ذلك النور المحمدي، إذ كانت أول ما فتح من الشام, أو إشارة إلى أنه ينور البصائر، ويحيي القلوب الميتة, على أن ابن سعد قد روى عن ابن عباس وغيره: أن آمنة قالت: لما فصل مني، تعني: النبي -صلى الله عليه وسلم, خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب, "ومسح الطائر على فؤاد أمه حتى لم تجد ألمًا" وجعًا "لولادته" وعه في هذا القسم مع أنه قل الولادة؛ لأنه أراد بحينها أعمّ منهم نفسها" أو ما قاربها، فدخل ما وجد زمن الحمل به "والطواف به في الآفاق" مارق الأرض ومغاربها وبحارها، ليعرفوه باسمه ونعته وصورته في جميع الأرض، كما في حديث رواه الخطيب "إلى غير ذلك" مما مَرَّ بعضه في المقصد الأول, وكانشقاق القمر عند اقتراحه" أي: طلبهم منه تعنتًا "عليه، وتحكمًا، واختيارًا" وانضمام الشجرتين لما دعاهما إليه" ليستتر بها حين قضى حاجته، "وكإطعام الجيش الكثير من النزر،" بنون وزاي، "اليسير" صفة كاشفة؛ إذ النزر القليل في عدة من المواضع يأتي بيان بعضها "و" في أوقات استيلاء غلبة وتتابع الفجائع, أي: الشدائد جمع فجيعة، حتى كأنها أحاطت بجميع أجساد الصحابة -رضي الله عنهم، وغير ذلك مما أمَّده الله به من المعجزات، وأكرمه به من خوارق العادات، تأييدًا" تقوية "لإقامة حجته، وتمهيدًا لهداية محجته": طريقه الواضحة وتأبيدًا" بموحدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 لإقامة حجته، وتمهيدًا لهداية محجته، وتأبيدًا لسيادته في كل أمة، وتسديدًا لمن ادَّكر بعد أمة، مما تتبعه يخرج عن مقصود الاختصار؛ إذ هو باب فسيح المجال منيع المنال، لكنِّي أنبِّه من ذلك على نبذة يسيرة، وأنوه في أثنائها بجملة خطيرة. فأقول وما توفيقي إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. أمَّا معجزة انشقاق القمر، فقد قال تعالى في كتابه العزيز: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ................................................................   "لسيادته في كل أمة" جماعة من الناس، سواء كانت من أتباعه، أم لا؛ لأن غير أتباعه وإن أنكروا رسالته، فذلك عناد واستكبار؛ لأن براهين رسالته قطيعة لا تنكر فهم، وإن أنكروها بألسنتهم، فقلوبهم تعترف لها قهرًا عليهم، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} الآية. "وتسديدًا" بسين مهملة، تقوية وتنبيهًا "لمن ادَّكر بعد أمَّة:" جماعة من الزمان، أي: مدة طويلة، أي: لمن تذكَّر بعد غفلته عن اتباع الحق مدة طويلة، لاستغراقه في شهوات نفسه، "مما تتَّبعه، يخرج" هذا الكتاب، "عن مقصود الاختصار؛ إذ هو باب فسيح" واسع "المجال" بجيم, "منيع" ممتنع, "المنال" بالنون، أي: ما يراد حصوله منه على الوجه التام، ممنوع لا يمكن الوصول إليه، "لكني أنبِّه من ذلك على نبذة" بضم النون "يسيرة: وأنوّه" أعظم "في أثنائها بجملة خطيرة" -بمعجمة فمهملة- متفعة القدر والمنزلة، "فأقول، وما توفيقي" قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات, "إلّا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب" أرجع, اقتباس لطيف. "وأما معجزة انشقاق القمر،" أي: أما الدليل على ثبوت المعجزة التي هي انشقاق القمر، "فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز" {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الآية، قربت ودنت القيامة، {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. بالفعل آية المصطفى، وقدم اقتراب الساعة عليها تخويفًا لمنكري ذلك، وإثباتًا له، وتقريرًا في نفوس المؤمنين لها؛ إذ فيها تشقق السموات، فالقادر على ذلك الفعَّال لما يريد، كيف لا يقدر على شق القمر. وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود: قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. يقول: كما شققت القمر، كذلك أقيم الساعة، وقيل: اقتربت أخص من قربت، فيدل على المبالغة في القرب؛ لأن افتعل يدل على اعتمال ومشقة في تحصيل الفعل، فهو أخص مما يدل على القرب بلا قيد، والمعنى: صارت قريبة من بعثته -صلى الله عليه وسلم، كما في حديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعين الوسطى والسباب؛ لأن التفاوت بينهما مقدار سبع، وبعثه -صلى الله عليه وسلم- في الألف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 والمراد: وقوع انشقاقه بالفعل، ويؤيد قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {انْشَقَّ} , وقوع انشقاقه؛ لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة, فإذا تبيِّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبين وقوع الانشقاق, وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، وسيأتي ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود وغيره.   السابعة على المشهور عند المحدثين وغيرهم، وإنما كانت الساعة قريبة؛ لأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وكسور على المشهور، وقيل: أكثر من ذلك. وروى البيهقي في شعبة والديلمي، عن ابن عباس رفعه، قال: "اقتربت تدعى في التوراة المبيضة، تبيّض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه". "والمراد: وقوع انشقاقه بالفعل" عند الجمهور فلقتين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم، كما يأتي في الأحاديث لا الوعد به يوم القيامة، كما قال بعض أهل العلم من القدماء، وأنه من التعبير بالماضي عن المستقبل، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} الآية. أي: سيأتي. ونكتة ذلك إرادة المبالغة في تحقيق وقوع ذلك، فنزل الواقع، وما ذهب إليه الجمهور أصح، كما قال الحافظ وغيره، "ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك" يتلوه: {وَإِنْ يَرَوْا} الآية. أي: كفار قريش، {آيَةً} الآية. أي: معجزة له -صلى الله عليه وسلم {يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا} الآية، هذا {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} قويّ من المرَّة، وهي القوة، أو دائم مطَّرد، فيدل على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك، أو مستبشع من استمرَّ، إذا اشتدت مرارته، أو مارّ: ذاهب لا يبقى، "فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {انْشَقَّ} الآية. "وقوع انشقاقه؛ لأن الكفَّار لا يقولون ذلك"، أي: سحر مستمر فيما ظهر على يد النبي من الآيات "يوم القيامة" لظهور الأمر واتضاحه، "فإذا تبيِّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا، تبيِّن وقوع الانشقاق" بالفعل، "وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سحر، وسيأتي ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود وغيره،" كحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عباس. وفي الدلائل لأبي نعيم، عن ابن عباس: انشقَّ القمر ليلة أربع عشرة نصفًا على الصفا، ونصفًا على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل، ويؤيده أيضًا، كما في البيضاوي: أنه قرئ: وقد انشقَّ القمر، أي: وقد حصل من آيات اقتراب الساعة انشقاق القمر. وقال الحليمي: من الناس من يقول: المراد سينشق، فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثانية منشقًّا نصفين، عرض كل واحد منهما، كعرض القمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 واعلم أن القمر لم ينشقّ لغير نبينا -صلى الله عليه وسلم, وهو من أمهات معجزاته -عليه السلام, وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله -صلى الله عليه وسلم، فإن كفَّار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه, طلبوا منه أيةً تدل على صدقه في دعواه، فأعطاه الله هذه الآية العظيمة، التي لا قدرة للبشر على إيجادها، دلالة على صدقه -عليه السلام- في دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنَّه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة التي يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر، وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له.   ليلة أربع أو خمس، ثم اتَّصلا فصار في شكل أترجّة إلى أن غاب، وأخبرني بعض من أثق به، أنه شاهد ذلك ليلة أخرى، نقله البيهقي. قال الحافظ: ولقد عجبت من البيهقي كيف أقرّ هذا مع إيراده حديث ابن مسعود، المصرح بأن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية. أن ذلك وقع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم, فإنه ساقه هكذا عن ابن مسعود في هذه الآية، قال: انشقَّ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم ساق حديث ابن مسعود: لقد مضت آية الدخان والروم، والبطش، وانشقاق القمر، انتهى. "واعلم: أن القمر لم ينشق لغير نبينا -صلى الله عليه وسلم" لما طلب الكفار آية. وأخرج عبد بن حميد, وابن مردويه، والحاكم، وصحَّحه البيهقي في الدلائل، عن ابن مسعود، قال: رأيت القمر منشقًّا بشفتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم, شقة على أبي قبيش، وشقة على السويداء، والمراد بمخرجه: هجرته إلى المدينة، كما في رواية عبد الرزاق، لا بعثته "وهو من أمهات معجزاته -عليه السلام،" أي: معجزاته التي هي كالأمهات لغيرها مما دونها، "وقد أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه لأجله -صلى الله عليه وسلم" حكاه القاضي عياض مؤيدًا له بأن الله أخبر بوقوعه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته، واعترض بأن الحسن البصري قال: المراد سينشق، نقله عنه النسفي وأبو الليث، ولعله لم يصحّ عنه، أو شذَّ به على تكذيبه، فلا يعتد به في خرق إجماعهم، "فإن كفار قريش لما كذبوه ولم يصدقوه" أي: واستمروا على تكذيبه، فلم يرجعوا عمَّا هم فيه من الغي والضلال، بل زادوا طغيانًا، "طلبوا منه آية"، هي انشقاق القمر، كما يأتي أنَّ الوليد ومن معه قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر، والأحاديث تفسّر ببعضها، وخير ما فسَّرته بالوارد، فليس المراد مطلق آية "تدل على صدقه في دعواه" جواب لما، "فأعطاه اله تعالى هذه الآية العظيمة التي لا قدرة للبشر على إيجادها, دلالة على صدقه -عليه السلام- في دعواه الوحدانية لله تعالى، وأنه منفرد بالربوبية، وأن هذه الآلهة" بزعمهم "التي يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضر" نفسها، فضلًا عن غيرها، "وأن العبادة إنما تكون لله وحده لا شريك له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات خارجًا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركّب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر. انتهى. وقال ابن عبد البر: قد روى هذا الحديث -يعني حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير إلى أن انتهى إلينا. وتأيد بالآية الكريمة. انتهى. وقال العلامة بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندي أنَّ انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرقٍ من حديث شعبة عن سليمان بن مهران ...........................................   "قال الخطَّابي: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء" ولذا اختص بها سيدهم، "وذلك أنه ظهر في ملكوت السماوات، خارجًا عن جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان: " الدليل الواضح "به أظهر" من غيره، "انتهى". "وقال ابن عبد البر" أبو عمر الذي ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان: "قد روى هذا الحديث -يعني حديث انشقاق القمر- جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير" المفيد للعلم "إلى أن انتهى" وصل "إلينا، وتأيد بالآية الكريمة" فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر، "انتهى ما أراده من كلام ابن عبد البر. وقال العلامة" قاضي القضاة أبو بكر عبد الوهاب، "ابن" الإمام علي بن عبد الكافي بن تمام الأنصاري "السبكي", ولد بمصر سنة تسع وعشرين وسبعمائة، ولازم الاشتغال بالفنون على أبيه وغيره، حتى مهر وهو شاب، وصف كتبًا نفيسة اشتهرت في حياته، وألَّف وهو في حدود العشرين، ومات سابع الحجة، سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، "في شرحه لمختصر ابن الحاجب" في الأصول، "والصحيح عندي: أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرءان مروي في الصحيحين وغيرهما، من طرق، من حديث شعبة" بن الحجاج بن الوالد العتكي، مولاهم الواسطي ثم البصري، ثقة، حافظ، متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان عابدًا, مات سنة ستين ومائة، "عن سليمان بن مهران" الأسدي، الكاهلي، الكوفي، الأعمش, ثقة حافظ ورع، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين, وهي تصحيف، فليس في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 عن إبراهيم عن أبي معمر عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخرى شتَّى، بحيث لا يمترى في تواتره. انتهى. وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم. فأمَّا أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأمَّا أنس فكان ابن أربع أو خمس سنين بالمدينة، وأمَّا غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك. ففي الصحيحين: من حديث أنس -رضي الله عنه: إن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية، .....................................................   رجال الكتب الستة شعبة بن سليمان، فصحَّف النساخ عن بابن، والحديث في الصحيحين عن شعبة وسفيان، أي: ابن عيينة عن الأعمش، وهو سليمان بن مهران، بكسر الميم، "عن إبراهيم" بن سويد النخعي -ثقة، "عن أبي معمر" -بفتح الميم وسكون العين- عبد الله بن سخبرة -بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح الموحدة- الأزدي، الكوفي، ثقة من كبار التابعين، مات في إمارة عبيد الله بن زياد. قال الحافظ: هذا هو المحفوظ، ووقع عند ابن مردويه، وأبي نعيم، عن إبراهيم عن علقمة: والمحفوظ المشهور عن أبي معمر، "عن ابن مسعود،" وأخرجه مسلم من طريق أخرى عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر، وقد علَّقه البخاري عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، فالله أعلم هل عند مجاهد فيه إسنادان، أو قول من قال ابن عمر، وهم من أبي معمر، "ثم قال: وله طرق أخرى شتى بحيث لا يمترى في تواتره، انتهى. وقد جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة، عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس بن مالك "وابن مسعود" عبد الله، وابن عباس، وعلي" بن أبي طالب، "وحذيفة" بن اليمان، وجبير بن مطعم النوفلي، "وابن عمر" بن الخطاب, "وغيرهم، فأمَّا أنس وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه -أي: الانشقاق- كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذا ذاك لم يولد؛ إذ ولادته قبلها بثلاث سنين بالشعب، على الصحيح المحفوظ. "وأما أنس، فكان ابن أربع أو خمس سنين بالمدينة،" فحديثها مرسل صحابي، "وأمَّا غيرهما، فيمكن أن يكون شاهد ذلك" فحدَّث عمَّا شاهد، ويمكن أن يكون حمله عن غيره، والأظهر الأول، "ففي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه: إن أهل مكة" -أي: كفار قريش, وتأتي رواية تسميتهم، "سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية" معجزة تشهدة لما ادعاه من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما, وقوله: شقتين -بكسر الشين المعجمة, أي: نصفين. ومن حديث ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرقتين، فرقة فوقه الجبل، وفرقة دونه, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". وفي الترمذي من حديث ابن عمر، في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ   نبوّته، "فأراهم انشقاق القمر شقتين، حتى رأوا حراء،" بكسر المهملة، وراء خفيفة، مذكر مصروف على الصحيح، وحكي فتح حائه، والقصر، وتأنيثه على إرادة البقعة، فيمنع صرفه, جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى مِنَى، "بينهما،" أي: بين الشقتين، "وقوله: شقتين -بكسر الشين المعجمة، أي: نصفين" كما ضبطه في الفتح والمصابيح، واليونينية والناصرية، وضبطه في الفرع -بفتح الشين- مصححا عليه، ذكر المصنف. "و" في الصحيحين "من حديث ابن مسعود، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: في زمنه وأيامه، "فرقتين" -بكسر الفاء وسكون الراء- بمعنى: قطعتين، والمراد: نصفين، وانتصابه على المصدر من معنى انشقَّ، كقعد جلوسًا أو بتقدير: وافترق فرقتين، "فرقة" بالنصب يدل "فوق الجبل، وفرقة دونه،" أي: في مقابلته، منفصلًا عنه، لا تحته، كما قيل: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". قال الحافظ: أي: اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة، والجبل: حراء، كما في الحديث قبله، لكن روى عبد الرزاق والبيهقي من طريقه، عن ابن مسعود: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء -بالمد والتصغير: ناحية خارج مكة عندها جبل، وقوله: على أبي قبيس، يحتمل أنه رآه كذلك، وهو بمنَى، كأن يكون على مكان مرتفع؛ بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويحتمل أن القمر استمرَّ منشقًّا حتى رجع ابن مسعود من منَى إلى مكة فرآه كذلك، وفيه بعده, والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويحتمل أن الانشقاق وقع أول طلوع، فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، والتعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة؛ لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على جبل، والأخرى على جبل أخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل بينهما، أي: بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل، وفرقة عن يساره مثلًا, صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه أو يساره صدق أنها عليه أيضًا، انتهى. "وفي الترمذي من حديث ابن عمر" بن الخطاب، "في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، انشق فلقتين: فلقة دون الجبل، وفلقة خلف الجبل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا". وعند الإمام أحمد، من حديث جبير بن مطعم قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس. وعن عبد الله بن مسعود قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة، ..............................................   وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية، "قال: قد كان ذلك على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: زمنه ردًّا على من يقول: سيكون يوم القيامة، "انشقَّ فلقتين" باللام: فلقة دون الجبل" أي: في مقابلته، "وفلقة خلف الجبل،" أي: فوقه: كما في الحديث قبله, "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا" على نبوّتي ومعجزتي، وقوع ما طلبوه؛ لأنهم أهل بهتان وجحد، هذا ظاهر السياق، ويحتمل: اشهدوا على ذلك لتخبروا؛ لأنها آية ليلية أتت وقت غفلة. "وعند الإمام أحمد من حديث جبير" بضم الجيم، مصغر، "ابن مطعم، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصار فرقتين" بالراء، أي: نصفين، وصرح في هذا بناصب فرقتين، "فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فيه ما سبق قريبًا عن الحافظ، "فقالوا" أي: الكفار: "سحرنا محمد، فقالوا" وفي بعض طرق حديث ابن مسعود: فقال رجل منهم، ويقال أنه أبو جهل، فلموافقتهم له عبَّر جبير، بقالوا, "إن كان سحرنا" محمد، "فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس". وفي رواية مسروق عن ابن مسعود، فقال كفار قريش: سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدًا إن كان سحر القمر، فإنه لا يبلغ سحره أن يسحر الأرض كلها، فسلوا من يأتيكم من بلد آخر هل رأوه، فأتوا، فسألوا، فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك. رواه البيهقي في الدلائل. "وعن عبد الله بن مسعود، قال: انشقَّ القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال كفار قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة" بفتح الكاف، وإسكان الموحدة، ومعجمة مفتوحة، قيل: أحد أجداده لأمه، قالوه عداوة وتحقيرًا بنسبته إلى غير نسبه المشهور؛ لأن عادة العرب إذا انتقصت، نسبت إلى جد غامض، وقيل: غير ذلك، كما مرّ في جدته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 قال: فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فأخبروهم بذلك. رواه أبو داود الطيالسي. ورواه البيهقي بلفظ: انشقَّ القمر بمكة فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلوا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق, فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلها, وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم فهو سحر، فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه. وعند أبي نعيم في الدلائل من وجه ضعيف عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل, والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث ونظراؤهم, فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فشق لنا القمر فرقتين، فسأل ربه فانشق.   "قال" ابن مسعود: "فقالوا" كفار قريش: "انظروا ما يأتيكم بن السفار، فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، قال: فجاء السفار، فأخبروهم بذلك، أي: رؤية القمر منشقًّا، "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود، "الطيالسي" البصري، الثقة، الحافظ، مات سنة أربع ومائتين. "ورواه البيهقي" عن ابن مسعود، بلفظ: انشق القمر بمكة، فقالوا: سحركم ابن أبي كبشة، فسلموا السفر، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، وإن لم يكونوا رأوا ما رأيتم، فهو سحر، فسألوا السفار، وقد قدموا من كل وجه، فقالوا: رأيناه" زاد في رواية: فقال الكفار: هذا سحر مستمر. "وعند أبي نعيم" أحمد بن عبد الله، الأصبهاني، الحافظ، "في الدلائل" للنبوة "من وجه" إسناد "ضعيف، عن ابن عباس قال: اجتمع المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، منهم الوليد بن المغيرة" المخزومي، الكافر، الميت على كفره الذي أنزل الله تعالى في ذمه: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} الآية، و {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآية، "وأبو جهل" فرعون هذه الأمة المقتول ببدر، "والعاص بن وائل" السهمي، أحد المستهزئين، "والأسود بن المطلب" أحدهم، والنضر بن الحارث" المقتول عقب بدر، "ونظراؤهم" أشباههم في التوغّل في الكفر والعناد, "فقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا" في أنك رسول الله، "فشق لنا القمر فرقتين" نصفين، "فسأل ربه فانشقَّ", وفي رواية ابن الجوزي في الوفاء: فقال لهم: "إن فعلت تؤمنوا؟ "، قالوا: نعم، فسأل ربه أن يعطيه ما قالوا، فانشقَّ القمر فرقتين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي: "يا فلان, يا فلان، اشهدوا". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 وعند البخاري مختصرًا من حديث ابن عباس بلفظ: إن القمر انشقَّ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وابن عباس, وإن كان لم يشاهد القصة كما قدمته، ففي بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود. وعند مسلم من حديث سعيد عن قتادة بلفظ فأراهم انشقاق القمر مرتين. وكذا في مصنف عبد الرزاق عن معمر بلفظ مرتين أيضًا. واتَّفق الشيخان عليه من رواية شعبة عن قتادة بلفظ: فرقتين، كما في حديث جبير عند أحمد.   "وعند البخاري مختصرًا من حديث ابن عباس، بلفظ: إن القمر انشقَّ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" ورواه عنه أبو نعيم، وزاد: فلقتين. قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء من بين فلقتي القمر، وهذا يوافق الرواية الأولى في ذكر حراء. "وابن عباس وإن لم يشاهد القصة، كما قدمته"؛ لأنها كانت قبل ولادته "ففي بعض طرقه أنه حمل الحديث عن ابن مسعود" أي: ما يشعر بذلك، ما عبَّر به الحافظ، وهي رواية أبي نعيم المذكورة من قول ابن عباس، قال ابن مسعود: لقد ..... إلخ. "وعند مسلم من حديث سعيد" -بفتح المهملة، وكسر العين، فياء، فدال مهملة آخره: ابن أبي عروبة مهران اليشكري، مولاهم، أحد الأعلام، وما يوجد في غالب نسخ المصنف شعبة مخالف للواقع، فرواية شعبة لفظها فرقتين، لم يختلف عليه رواته فيها، ولما في مسلم فالذي فيه عن سعيد، "عن قتادة" بن دعامة، عن أنس "بلفظ: "إن أهل مكة سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يريهم آية، "فأراهم انشقاق القمر مرتين", بدل قوله في الرواية الأولى: شقتين، "وكذا في مصنف عبد الرزاق عن معمر" عن قتادة، عن أنس "بلفظ: مرتين أيضًا" وكذا أخرجه الإمامان أحمد وإسحاق عن عبد الرزاق، وكذا ورد من حديث شيبان عن قتادة، أشار له مسلم في الصحيح. "واتفق الشيخان" البخاري ومسلم، "عليه من رواية شعبة، عن قتادة،" عن أنس "بلفظ: فرقتين". قال البيهقي: قد حفظ ثلاث من أصحاب قتادة عنه مرتين, يعني: سعيدًا، وشيبان, ومعمرًا. قال الحافظ: لكن اختلف عن كل منهم في هذه اللفظة، ولم يختلف على شعبة وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود، بلفظ: مرتين, إنما فيه فرقتين أو فلقتين، بالراء أو باللام، "كما في حديث جبير" بن مطعم: فرقتين، بالراء "عند أحمد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 وفي حديث ابن عمر فلقتين -باللام- كما قدمته، وفي لفظ في حديث جبير: فانشق باثنتين، وفي رواية عن ابن عباس عند أبي نعيم في الدلائل: فصار قمرين. ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشقَّ القمر مرتين بالإجماع. قال الحافظ بن حجر: وأظن قوله: "بالإجماع" يتعلق بـ "انشقّ" لا بـ "مرتين"، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه -صلى الله عليه وسلم.   وفي حديث ابن عمر: فلقتين باللام، كما قدمته" من رواية الترمذي. "وفي لفظ في حديث جبير" بن مطعم: "فانشق" القمر باثنتين" أي: بصيرورته ثنتين من الشق أو الباء زائدة، "وفي رواية عن ابن عباس، عند أبي نعيم في الدلائل، فصار قمرين، وفي لفظ: شفتين، وعند الطبري من حديثه: حتى رأوا شقتيه. "ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشقَّ القمر مرَّتين بالإجماع", فظاهره تعلق بالإجماع، بقوله: مرَّتين، على ظاهر رواية مسلم وغيره، لكن "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح، ما ملخصه: "وأظن قوله بالإجماع يتعلّق بانشقَّ لا بمرتين، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه -صلى الله عليه وسلم", وعبارة الحافظ في الفتح. ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل: وانشقَّ مرتين بالإجماع، ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه -صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرّض لذلك أحد من شراح الصحيحين، وتكلّم ابن القيم على هذه الرواية، فقال: المرات يراد بها الأفعال تارة، ويراد بها الأعيان أخرى، والأول أكثر. ومن الثاني: انشقَّ القمر مرتين، وقد خفي هذا على بعض الناس، فادَّعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط، فإنه لم يقع إلّا مرة واحدة، وقد وقع لعماد بن كثير في الرواية التي فيها مرتين نظير، ولعل قائلها أراد فرقتين، قلت: وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات، ثم راجعت نظم شيخنا فوجدته يحتمل التأويل المذكور، ولفظه: فصار فرقتين فرقة علت ... وفرقة للطود منه نزلت وذاك مرتين بالإجماع ... والنص والتواتر السماعي فجمع بين فرقتين ومرَّتين, فيمكن أن يتعلق قوله بالإجماع بأصل الانشقاق لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس الانشقاق نظرًا يأتي بيانه، انتهى. فعن النظم جوابان، أولهما: تأويل مرة بفرقتين، ولا ينافيه الجمع بينهما؛ لأنه إشارة للروايتين، أي: إنه رواية مرتين محمولة على رواية فرقتين، كما أشار إليه ابن كثير، ومراده: بما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 ولعل قائل "مرتين" أراد فرقتين, وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات. وقد وقع في رواية البخاري من حديث ابن مسعود: ونحن بمنَى، وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة؛ لأنه لم يصرّح بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان ليلتئذ بمكة. فالمراد أن الانشقاق كان وهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة. والله أعلم.   يأتي ما جلبه المصنف بقوله: وقد أنكر ........... إلخ. الجواب: إنه أراد إجماع من يعتدّ به، أمَّا هؤلاء فلا عبرة بخلافهم، وذكر الحافظ برهان الدين الحلبي في النور: إنه كاتب شيخه العراقي بكلام ابن القيم، فلم يرد له جوابًا بالكلية. "ولعل قائل مرتين أراد به فرقتين" كما قال ابن كثير، "وهذا" كما قال الحافظ: "الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات", فإنها إذا كثرت ودلَّت على شيء وخالفها رواية أخرى ترد إليها إذا أمكن دفعًا للتعارض على القاعدة, " وقد وقع في رواية البخاري من حديث ابن مسعود:" انشقَّ القمر، ونحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنَى. وفي رواية مسلم: بينما نحن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنَى إذا انفلق القمر، "وهذا لا يعارض قول أنس: إن ذلك كان بمكة؛ لأنه" أي: أنسًا، "لم يصرح بأنه -عليه السلام- كان ليلتئذ بمكة، فالمراد: إن الانشقاق كان وهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، والله أعلم". زاد الحافظ: وعلى تقدير تصريحه فمِنَى من جملة مكة، فلا تعارض، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد، فأخرج من وجه آخر عن ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمكة قبل أن يصير إلى المدينة، فوضح أن مراده بذكر مكة، الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن يقع وهُمْ ليلتئذ بمِنَى، ثم قال: والجمع بين قول ابن مسعود تارة بمِنَى، وتارة بمكة، إم باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمِنَى, ومن بها لا ينافي أنه بمكة؛ لأن من كان بمِنَى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها بمِنَى قال فيها: ونحن بمِنَى، والتي فيها بمكة لم يقل فيها، ونحن إنما, قال: انشقَّ بمكة، أي: إنه كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداودي أن بين الخبرين تضادًّا، انتهى. وقال بعضهم: الذي تحرَّر في الجمع بين روايات مِنَى ومكة، وأنَّ حراء كان بين الفلقتين، وإن إحداهما كانت فوق الجبل والأخرى دونه، أن يقال: إنه تباعد ما بين الفلقتين جدًّا، ليكون أظهر في دفع الإنكار، فإنه لو تقارب لقالوا: إنه من غلط الحس، فلمَّا أشهدهم -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، أشار مرة إلى فلقة منه، وقال: "اشهد يا فلان ويا فلان" ثم أراهم مرة أخرى فلقة أخرى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لملاستها لا يتهيأ فيها الانخراق والالتئام، وكذا قالوه في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى غير ذلك. وجواب هؤلاء إن كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض، لا سبيل له إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في يوم القيامة، وإذا ثبت هذا استلزم أيضًا وقوع ذلك معجزة لنبي الله -صلى الله عليه وسلم.   وقال: "اشهدوا"، وكذا هذا كان ليلًا بمكة، والقمر في وسط السماء بحذاء حراء، وبحذاء غيره من الجبال والأماكن البعيدة, فلا تعدد في الشق، ولا تدافع بين الروايات، ولا يطعن في شيء منها. وهذا إن شاء الله مما لا ينبغي العدول عنه، فإن القول بأن المرات في الأعيان لا صحة له لغةً ولا استعمالًا, فلو قطع إنسان بطيخة قطعتين دفعة واحدة، وقال: قطعتها مرتين، كذَّبه من سمعه واستهزأ به, فعليك بالنظر الحديد، وأن تطرح من جُبِلَ فكره على التقليد. "وقد أنكر هذه المعجزة جماعة من المبتدعة، كجمهور الفلاسفة، متمسكين بأن الأجرام العلوية لملاستها، لا يتهيأ" لا يمكن "فيها الانخراق والالتئام, وكذا قالوه في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء إلى" أي: مع "غير ذلك" من إنكارهم ما يكون يوم القيامة من تكوين الشمس، وغير ذلك، "وجواب هؤلاء إن كانوا كفارًا أن يناظروا أولًا على ثبوت دين الإسلام، فإذا تمت" المناظرة، وثبت عندهم دين الإسلام، "اشتركوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين", فيناظروا ثانيًا بإقامة الحجة على إثبات الانشقاق، كما حكي أنَّ أبا بكر بن الطيب لما أرسله صاحب الدولة لملك الروم بقسطنطينية، وإن أجَلّ علماء الإسلام، أحضر بعض بطارقته، فقال له: تزعمون أن القمر انشقَّ لنبيكم، فهل للقمر قرابة منكم حتى ترونه دون غيركم؟ فقال: وهل بينكم وبين المائدة إخوة ونسب إذ رأيتموها، ولم ترها اليهود، ويونان، والمجوس الذين أنكروها، وهم في جواركم؟ فأفحم ولم يحر جوابًا، والقصة طويلة في الشرح، "ومتى سلم المسلم بعض ذلك دون بعض لزم التناقض، ولا سبيل له إلى إنكار ما ثبت في القرآن من الانخراق والالتئام في يوم القيامة"؛ لأنه كفر، "وإذا ثبت هذا استلزم أيضًا وقوع ذلك معجزة لنبي الله -صلى الله عليه وسلم, يرد عليه أن مجرد ثبوت ذلك في القيامة إنما يستلزم جواز وقوعه، والجواز لا يستلزم الوقوع، فالمناسب أن يقول: استلزم جواز وقوع ذلك معجزة، كما عبَّر به الحافظ في الفتح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 وقد أجاب عن ذلك القدماء من العلماء، فقال الزجاج في "معاني القرآن": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر مخلوق, لله أن يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم القيامة ويفنيه. انتهى. وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل متواترًا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة؛ لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رواية كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلّد في كتاب التسيير والتنجيم؛ إذ يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله, مع جلالة شأنه ووضوح أمره. فأجاب عنه الخطاب وغيره: بأنَّ هذه القصة خرجت عن الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نيامًا ومستكنين في الأبنية، ................................................   وفي نسخة: استلزم الجواز وقوع ذلك معجزة، فيمكن أن يجاب على ثبوت الواو بأن وقوع بالرفع مبتدأ خبره محذوف، أي: وقوعه معجزة ثبتت بالقرآن فيجب قبوله. "وقد أجاب عن ذلك القدماء من العلماء، فقال الزجاج" بفتح الزاي والتشديد نسبة إلى خرط الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري "الإمام، العلامة، المتوفَّى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وهو شيخ الزجاجي، صاحب الحمل "في معاني القرآن: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة،" الكفار "انشقاق القمر،" لاستحالته بزعم الكاذب, ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر هو مخلوق, لله أن يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره, أي: يلففه ويذهب نوره "يوم القيامة ويفنيه، انتهى". وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا النقل متواترًا، اشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة؛ لأنه أمر صدر عن حس أمر محسوس بحاسة البصر، "ومشاهدة" يشبه عطف التفسير، "فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رواية" نقل "كل غريب، ونقل ما لم يعهد، ولو كان لذلك أصل لخلد في كتب التيسير -بفوقية، فسين مهملة، فتحتيتين، فراء- أي: الهيئة, "والتتنجيم؛ إذ لا يجوز" عقلًا وعادة "إطباقهم على تركه، وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره، فأجاب عنه الخطابي وغيره: بأن هذه القصة خرجت عن بقية "الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاص من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون الناس فيه نيامًا ومستكنين في الأبنية،" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 والبارز منهم بالصحراء إذا كان يقظانًا يحتمل أن يتفق أنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بما يلهيه من سمر وغيره. ومن المستبعد ان يقصدوا إلى مراكز القمر ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما تصدَّى لرؤيته من اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهر القوم غائبًا عن قوم، وكما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد أخرى. وقد أبدى الخطابي حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه كالقرءان بما حاصله: إن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامَّة أعقبت هلاك من كذَّب به من ....   لا يرون القمر، بل ولا السماء "والبارز منهم بالصحراء إذا كان يقظانًا يحتمل أن يتَّفق أنه كان مشغولًا في ذلك الوقت بما يلهيه من سمر" حديث الليل "وغيره, ومن المستبعد" عقلًا وعادةً "أن يقصدوا إلى مراكز القمر، ناظرين إليه لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما تصدَّى لرؤيته من اقترح وقوعه", وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام، وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها إلا الآحاد، وكذلك الانشقاق آية وقعت في الليل لقوم سألوا واقترحوا، فلم يتأهب لها غيرهم، كما في الفتح، تبعًا لما بسطه في الشفاء. ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر، "يرد على ترجية قول ابن عباس: قدر ما بين العصر إلى الليل، كما مَرَّ، إلّا أن يحمل على أنّ الانشقاق الواقع في الابتداء كان بقدر إدراك البصر، ثم أخذ في الالتئام، فلم يتمّ، وبقي خلاء بين الفلقتين، دام قدر ما بين العصر إلى الليل، "وقد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض الآفاق" النواحي "دون البعض، كما يكون ظاهر القوم غائبًا عن قوم" فقد يكون ليلة انشقاقه طالعًا بمكة دون غيرها، فلو قال غيرهم: لم نر انشقاقه تلك الليلة لم يكذبوا، "وكما يج الكسوف أهل بلد دون أهل بلد أخرى" وفي بعضها كلية، وفي بعضها جزئية، وفي بعضها لا يعرفها إلّا المدعون علمها، ذلك تقدير العزيز العليم. "وقد أبدى الخطابي حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ منها شيء مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه، كالقرآن" أي: كبلوغ القرآن. ولفظ الفتح: إلا القرآن، وكل صحيح، "بما حاصله" أن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامّة أعقبت هلاك من كذب به من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 قومه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رحمة للعاملين، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذي بعث منهم، لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الإفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذب به كما عوجل من قبلهم. انتهى. وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه.   قومه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بعث رحمة للعالمين" ولو كفّارًا، "فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بعث منهم لما أوتوه من فضل العقول وزيادة الإفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل من كذب به، كما عوجل من قبلهم، انتهى. زاد الحافظ: وذكر أبو نعيم في الدلائل نحو ما ذكره الخطابي، وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في كل بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار، الذين يعتقدون أنها سحر، ويجتهدون في إطفاء نور الله. قلت: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نقل ذلك من الصحابة، وأمَّا من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه فجوابه: إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كافٍ، فإن الحجة فيمن أثبتت لا فيمن لم يوجد عنه صريح النفي، حتى إن كل مَنْ وُجِدَ منه صريح النفي يقدم عليه من وُجِدَ منه صريح الإثبات، انتهى. "وكذا أجاب ابن عبد البر بنحوه" أي: بنحو جواب الخطابي، وقال: قد يطلع على قوم قبل طلوعه على أخرين, وأيضًا فإن زمن الانشقاق لم يطل، ولم تتوافر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بعث أهل مكة إلى آفاق مكة يسألون عن ذلك، فجاءت السفار، وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون في ضوء القمر، ولا يخفى عليهم ذلك. وقال القرطبي: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويحتمل أن الله صرف جميع أهل الأرض، غير أهل مكة وما حولها، عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة، ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات، ونقلوها إلى غيرهم. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن أحدًا لم ينقل أن أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر تلك الليلة المعينة، فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبي جيدًا، ولكن لم ينقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على جواب الخطابي، ومن وافقه أوضح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 تنبيه: ما يذكره بعض القصاص: أن القمر دخل في جيب النبي -صلى الله عليه وسلم, وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير.   تنبيه: "ما يذكره بعض القصاص أن القمر دخل في جيب النبي -صلى الله عليه وسلم, وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي، عن شيخه العماد بن كثير", وسبقهما لذلك النووي في الفتاوي، فإن سئل عن رجلين تنازعا في انشقاق القمر على عهده -صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: انشقّ فرقتين دخلت إحداهما في كمه، وخرجت من الكم الآخر، وقال الآخر: بل نزل إلى بين يديه فرقتان، ولم يدخل في كمه، فأجاب: الاثنان مخطئان، بل الصواب، إنه انشق وهو في موضعه من السماء، وظهرت منه إحدى الشقتين فوق الشقتين فوق الجبل، والأخرى دونه، وهكذا ثبت في الصحيحين من رواية ابن مسعود -رضي الله عنه، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 ردّ الشمس له "صلى الله عليه وسلم": وأما رد الشمس له -صلى الله عليه وسلم, فروي عن أسماء بنت عميس أن النبي -صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي -رضي الله عنه، .......................   ردّ الشمس له -صلى الله عليه وسلم: "وأما ردّ الشمس له -صلى الله عليه وسلم" قسيم قوله: أمّا معجزة القمر .... إلخ، تفصيلًا لقوله أولًا: وجدتها شاملة للعلوي والسفلي ..... إلخ، ومن جملته القمر والشمس, "فروي عن أسماء بنت عميس، بمهملتين مصغر، الخثعمية، تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، وولدت لهم، وماتت بعد علي، وهي أخت ميمونة بنت الحارث، أم المؤمنين لأمها، ووزن أسماء فعلاء عند سيبويه، وأصله، وسماء من الوسامة، أي: الحسن، فأبدلت الواو همزة، وقيل: أفعال جمع اسم. قال التلمساني: والأوّل أولى، أي؛ لأن المسموع منع الصرف، وإن جعله كذلك يفيد أن سبب الآخذ حسنها، وأعلَّ ابن تيمية حديث أسماء هذا، بأنها كانت مع زوجها بالحبشة. قال الشامي: وهو وهم بلا شك؛ إذ لا خلاف أن جعفرًا قدم من الحبشة هو وامرأته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بخيبر بعد فتحها، وقسم لهما ولأصحاب سفينتهما، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يوحى إليه" مرة بالصهباء" "ورأسه في حجر علي -رضي الله عنه" جملة خالية وحجر مثلث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أصليت يا علي؟ فقال: لا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس"، قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت, ووقعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر، رواه الطحاوي في مشكل الحديث، كما حكاه القاضي عياض في .........   بالحاء، بمعنى: الحضن، والأظهر: أنَّ الرأس كان على ركبته وهو نائم، فاستعمل في المفيدة للظرفية ويجعل الحضن محلًّا للرأس، تجوزًا من إطلاق اسم الشيء وهو الحجر على ما يقرب منه وهو الفخذ، وبالغ في تمكّن رأسه من فخذه، فشبَّه ذلك التمكن بالظرفية، واستعمل فيه ما يستعمل فيها استعارة تبعية، "فلم يصل" عليّ "العصر حتى غربت الشمس". وأما المصطفى فكان قد صلاها، كما يأتي في الرواية الأخرى، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أصليت يا علي؟ " استفهام تقريري ليرتب عليه الدعاء له، وإظهار المعجزة أو حقيقي، ولا يشكل بأن قلبه لا ينام لاشتغال قلبه حينئذ بالوحي، فاستغرق فيه، "قال: لا،" لأنهم كانوا لا يوقظونه، كما في الصحيح، وقد وضع رأسه في حجره, فهو عذر في إخراج الصلاة عن وقتها، ولم يصلها بنحو الإيماء، لجواز أنه لم يكن شرع حينئذ، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك"؛ لأنه لم يزعجه من منامه، وانتظر يقظته, وذلك تعظيم لله برعاية نبيه ولرسوله بترك ما يؤذيه، "فأردد" بفك الإدغام على إحدى اللغتين الفصيحتين, ويأتي رواية الطبراني فرد بالإدغام, وقد قرئ من يريد بالإدغام والفكّ. "عليه الشمس" أي: أعدها لمكانها الذي غربت منه ليصلي العصر في وقتها، "قالت أسماء" بنت عميس: "فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت، بدعاء المحتبي "بعدما غربت ووقعت" أي: نزلت على الجبال والأرض, وذلك بالصهباء في خيبر" بعد مفارقتها لهما، فوقعت بعين مهملة، وقول الدلجي بالفاء من الوقوف، أي: لم تسر وتبيّن رجوعها إن ثبت رواية، وإلّا فالعين أوفق، لقولها: بعدما غربت، "رواه" العلامة الإمام الحافظ أحمد بن محمد، بن سالم، بن سلمة الأزدي، أبو جعفر "الطحاوي" بفتح المهملتين نسبةً لطحا قرية بصعيد مصر، على ما قاله ابن الأثير. وردَّه السيوطي بأنه ليس منها، بل من طحطوط بقربها، فكره أن يقال الطحطوطي المصري، ابن أخت المزني، سمع يونس بن عبد الأعلى، وهارون بن سعيد، وعنه الطبراني، وغيره، وكان ثقة، ثبتًا، فقيهًا، حنفيًّا، لا مالكيًّا، كما زعم بعض، انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة، وله مؤلفات, ولد سنة تسع وثلاثين ومائتين، ومات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، "في مشكل الحديث" كتاب جليل اشتهر بالآثار من طريقين عن أسماء، "كما حكاه القاضي عياض في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 الشفاء وقال: قال الطحاوي: إن أحمد بن صالح المصري كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء؛ لأنه من علامات النبوة. انتهى. قال بعضهم: هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج القاضي عياض له في الشفاء عن الطحاوي من طريقين, فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال: إنه موضوع بلا شك, وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذّاب، كما قاله الدارقطني. وقال ابن حبان: كان يضع الحديث. قال ابن الجوزي: وقد روى هذا الحديث ابن شاهين, فذكره ثم قال: وهذا حديث باطل، ............   الشفاء، وقال: قال الطحاوي: إن أحمد بن صالح المصري،" أبو جعفر بن الطبري، ثقة حافظ، روى عنه البخاري وأبو داود، تكلّم فيه النسائي، بسبب أوهام له قليلة، ونقل عن ابن معين تكذيبه، وجزم ابن حبّان، بأنه إنما كذب أحمد بن صالح الشمومي، فظنَّ النسائي أنه عني ابن الطبري، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين، وله ثمان وسبعون سنة، "كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله" طريقه السالك فيه "العلم" أي: طلبه والاشتغال به، ومعرفة الحديث، فجعل نفس العلم طريقًا، لأنه يصل به صاحبه إلى سعادة الدارين، "التخلف عن حفظ حديث أسماء" بنت عميس، هذا الذي روته في ردّ الشمس، "لأنه من علامات النبوة" آياتها الدالة عليها؛ إذ هو معجزة عظيمة، وهذا مؤيد لصحته، فإن أحمد هذا من كبار أئمة الحديث الثقات، وحسبه أن البخاري روى عنه في صحيحه, فلا يلتفت إلى من ضعَّفه، وفي الألفية، قال: وربما كان بغير قادح ... كالنسائي في أحمد بن صالح "انتهى" كلام عياض. "قال بعضهم" تعقبًا عليه: "هذا الحديث ليس بصحيح، وإن أوهم تخريج" أي: نقل "القاضي عياض له في الشفاء، عن الطحاوي من طريقين" صحته، فالمفعول محذوف، أي: بقوله: قال: وهذان الحديثان ثابتان، رواتهما ثقات، "فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: إنه موضوع بلا شك، وفي سنده أحمد بن داود، وهو متروك الحديث كذّاب، كما قاله الدارقطني، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث. "قال ابن الجوزي: ولقد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره، ثم قال" ابن الجوزي: "وهذا حديث باطل،" وليس فاعل. قال ابن شاهين: لأن إسناده حسن، ولذا قال السيوطي تبعًا للحافظ: أخطأ ابن الجوزي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 قال: ومن تغفَّل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة، ولم يلمح عدم الفائدة فيها، وإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء. انتهى. وقد أفرد ابن تيمية تصنيفًا مفردًا في الرد على الروافض, ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع، والعجب من القاضي عياض مع جلاله قدره وعلوّ خطره ...................   وقد نصَّ ابن الصلاح وسائر من تبعه على تساهل ابن الجوزي في كتاب الموضوعات؛ بحيث خرج عن موضوعه، لمطلق الضعف. قال العراقي: وأكثر الجامع فيه إذ خرج ... لمطلق الضعف عني أبا الفرج فهذه غفلة شديدة منه، يحكم بوضع حديث في أحد الصحيحين. "قال" ابن الجوزي: "ومن تغفَّل واضعه، أنه نظر إلى صورة فضيلة" هي رد الشمس حتى صلى عليّ العصر, "ولم يلمح عدم الفائدة فيها، وإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس تصير قضاء، ورجوع الشمس لا يعيدها أداء، انتهى", وتعقب بأنه لا وجه له؛ لأنها فاتته بعذر مانع من الأداء، وهو عدم تشويشه على النبي، وهذه فضيلة، ودلَّ ثبوت الحديث على أنَّ الصلاة وقعت أداء. وبذلك صرَّح القرطبي في التذكرة، قال: فلو لم يكن رجوع الشمس نافعًا، وإنه يتجدد الوقت لما ردها عليه، ووجهه: إن الشمس لما عادت كأنها لم تغب، وفي الإسعاد لو غربت الشمس ثم عادت عاد الوقت أيضًا، لهذا الحديث، وتجويز حمل الغروب في كلام أسماء على الشروع فيه أو مقارنته، فيكون عودها قبل غروب الشمس، فيحصل به بقاء الوقت، فمعنى: عادت عاد ظهورها كاملة, فالوقت باقٍ حقيقة فيه، أنه لا قرينة هنا على هذا الاحتمال الصارف للفظ عن المتبادر منه, الذي حمله عليه الحفاظ المثبتون للحديث, والذين زعموا وضعه أو ضعفه، ولا دلالة في حديث جابر الآتي: أمر الشمس فتأخَّرت ساعة من نهار على أن قبل الغروب، بل الظاهر أنه بعد الغروب، بدليل قوله بعده: فزيد له في النهار ساعة، على أن حديث جابر قصة أخرى غير هذه، كما نبينه. "وقد أفرد ابن تيمية" الحافظ أبو العباس أحمد الشهير "تصنيفًا مفردًا في الرد على الروافض، ذكر فيه هذا الحديث بطرقه ورجاله، وإنه موضوع، والعجب من القاضي عياض مع جلالة قدره" عظمته" "وعلو خطره" بفتح الخاء والطاء: علوّ قدره ومنزلته على ما في المصباح، ففيه تجريد باستعمال الخطر في مجرد القدر، أو أنه قصد المبالغة، وإن المعنى: علوّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 في علوم الحديث كيف سكت عنه موهمًا صحته، وناقلًا ثبوته، موثقًا رجاله. انتهى. وقال شيخنا: قال الإمام أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن الجوزي فأورده في الموضوعات. ولكن قد صحَّحه الطحاوي والقاضي عياض، وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس، وابن ....................................................   قدره، على أن في القاموس: الخطر قدر الرجل "في علوم الحديث"؛ إذ هو من الحفَّاظ النقاد، "كيف سكت عنه موهمًا صحته، وناقلًا ثبوته، موثقًا رجاله، انتهى" ولا عجب أصلًا؛ لأن إسناد حديث أسماء حسن، وكذا إسناد حديث أبي هريرة الآتي، كما صرَّح به السيوطي قائلًا: ومن ثَمَّ صححه الطحاوي والقاضي عياض، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات فأخطأ، كما بينته في مختصر الموضوعات، وفي النكت البديعات، انتهى. يعني: لما تقرر في علوم الحديث: أنَّ الحسن إذا اجتمع مع حسن آخر، أو تعددت طرقه ارتقى للصحة، فالعجب العجاب إنما هو من كلام ابن تيمية هذا، لا من عياض؛ لأنه الجاري على القواعد المعلومة في الألفية وغيرها، لصغار الطلبة. ولذا قال الحافظ في فتح الباري: أخطأ ابن الجوزي بذكره في الموضوعات، وكذا ابن تيمية في كتاب الرد على الروافض في زعم وضعه، انتهى. "وقال شيخنا" السخاوي في المقاصد: "قال الإمام أحمد: لا أصل له، وتبعه ابن الجوزي، فأورده في الموضوعات", وكذا نقل ابن كثير عن أحمد وجماعة من الحفاظ: أنهم صرّحوا بوضعه. قال الشامي: والظاهر أنه وقع لهم من طريق بعض الكذابين، ولم يقع لهم من الطرق السابقة، وإلّا فهي يتعذّر معها الحكم عليه بالضعف، فضلًا عن الوضع، ولو عرضت عليهم أسانيدها لاعترفوا بأن للحديث أصلًا وليس بموضوع، وقال: وما مهَّدوه من القواعد، وذكر جماعة من الحفاظ له في كتبهم المعتمدة، وتقوية من قواه يرد على من حكم عليه بالوضع، انتهى. ولذا استدرك السخاوي، زعم وضعه، فقال: "ولكن قد صححه الطحاوي، والقاضي عياض" وناهيك بهما. "وأخرجه ابن منده، وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس،" بإسناد حسن، "وابن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 مردويه من حديث أبي هريرة. انتهى. ورواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن, كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب عن أسماء بنت عميس ولفظه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليًّا في حاجة, فرجع وقد صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- العصر، فوضع -صلى الله عليه وسلم- رأسه في حجر علي فنام، فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال -عليه الصلاة والسلام: "اللهم إن عبدك عليًّا احتبس بنفسه على نبيه فرد عليه الشمس"، قالت أسماء: فطلعت عليه الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض، وقام علي فتوضأ وصلَّى العصر ثم غابت, وذلك بالصهباء. وفي لفظ آخر: كان -عليه الصلاة والسلام- إذا نزل عليه الوحي يغشى عليه، فأنزل عليه يومًا وهو في حجر علي،   مردويه من حديث أبي هريرة" بإسناد حسن أيضًا، "انتهى، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، بإسناد حسن، كما حكاه شيخ الإسلام" قاضي القضاة "ابن العراقي" الحافظ ولي الدين "في شرح التقريب عن أسماء بنت عميس، ولفظه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلَّى الظهر بالصهباء، ثم أرسل عليًّا في حاجة" هي قسم غنائم خيبر، كما في رواية الطبراني أيضًا، "فرجع وقد صلَّى النبي -صلى الله عليه وسلم- العصر، فوضع -صلى الله عليه وسلم- رأسه في حجر علي، فنام فلم يحركه حتى غابت الشمس، فاستيقظ فسأله، "أصليت"؟ قال: لا: "فقال -عليه الصلاة والسلام": "اللهم إن عبدك عليًّا احتبس نفسه" امتنع من الحركة، قاصرًا نفسه "على" حفظ نبيه" وخدمته، "فردَّ عليه الشمس" كي يصلي العصر أداء، "قالت أسماء: فطلعت عليه الشمس حتى وقعت عى الجبال وعلى الأرض, وقام عليّ فتوضأ وصلَّى العصر، ثم غابت، وذلك بالصهباء. وعند الطبراني أيضًا عن أسماء قالت: اشتغل علي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا علي أصليت العصر؟ " قال: لا يا رسول الله، فتوضأ -صلى الله عليه وسلم- في المجلس، فتكلّم بكلمتين أو ثلاثة، كأنها من كلام الحبشة، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر، فقام علي فتوضأ وصلَّى العصر، ثم تكلّم -صلى الله عليه وسلم- بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت الشمس إلى مغربها، فسمعت لها صريرًا كالمنشار في الخشبة، وطلعت الكواكب، وبهذا الحديث أيضًا بان أنَّ الصلاة ليست قضاء، بل يتعين الأداء, وإلا لم يكن للدعاء فائدة. "وفي لفظ آخر" عند الطبراني أيضًا في الكبير: "كان -عليه الصلاة السلام- إذا نزل عليه الوحي يغشى عليه", ويعرف ذلك حاضروه، "فأنزل عليه يومًا، وهو في حجر علي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "صليت العصر؟ " قال: لا، يا رسول الله, فدعا الله فرد عليه الشمس حتَّى صلى العصر، قالت أسماء: فرأيت الشمس طلعت بعد ما غابت حين ردت حتى صلى العصر علي. قال: وروى الطبراني أيضًا في معجمه الأوسط بإسناد حسن عن جابر، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الشمس فتأخَّرت ساعة من نهار. وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن ابن إسحاق، مما ذكره القاضي عياض: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم, وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير، قالوا: متى تجيء؟ قال: "يوم الأربعاء" ................................................   فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم" لما سرَّي: "صليت العصر" قال: لا" أي: لم أصله، "يا رسول الله، فدعا الله" بكلمتين أو ثلاثة، "فردَّ عليه الشمس حتى صلى العصر، قالت أسماء: فرأيت الشمس طعلت بعد ما غابت، حين ردت، حتى صلى العصر علي", ومن القواعد أن تعدّد الطرق يفيد أن للحديث أصلًا، ومن لطائف الاتفاقات الحسنة أن أبا المظفر الواعظ ذكر يومًا قريب الغروب فضائل علي, ورد الشمس له، والسماء مغيمة غيمًا مطبقًا، فظنّوا أنها غربت, وهموا بالانصراف، فأصحت السماء ولاحت الشمس صافية الإشراق، فأشار إليهم بالجلوس، وقال ارتجالًا: لا تغربي يا شمس حتى ينتهي ... مدحي لآل المصطفى ولنجله واثني عنانك إذا أردت ثناءهم ... أنسيت إذ كان الوقوف لأجله إن كان للمولى وقوفك فليكن ... هذا الوقوف لخيله ولرجله "قال" ابن العراقي: "وروى الطبراني أيضًا في معجمه الأوسط، بإسناد حسن، عن جابر" بن عبد الله: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الشمس" أن لا تغرب حتى تقدم عير قريش التي رآها ليلة الإسراء، وأخبرهم بأنها تقدم يوم كذا، وولّى النهار ولم تجئ، "فتأخَّرت ساعة من نهار" إلى أن قدمت, فهذه قصة أخرى كانت وهو بمكة قبل الهجرة، كما حمله الحافظ ابن حجر مؤيدًا به الحديث المنقطع المذكور، بقوله: "وروى يونس بن بكير" بن واصل الشيباني، أبو بكر الكوفي، صدوق، روى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والبخاري تعليقًا، مات سنة تسع وتسعين ومائة، "في زيادات المغازي، عن" شيخة محمد "بن إسحاق" بن يسار، إمام المغازي، "مما ذكره القاضي عياض" في الشفاء: "لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم, وأخبر قومه بالرفقة" -مثلث الراء: الجماعة المترافقين في السفر, ولا يذهب اسم الرفيق إلّا بالتعرف والعلامة التي في العير" هي أن يتقدَّمها جمل أو رق، "قالوا: متى تجيء؟ قال: "يوم الأربعاء" بتثليث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 فلمَّا كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون، وقد ولَّى النهار ولم تجئ، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فزيد له في النهار ساعة, وحبست عليه الشمس. وهذا يعارضه ما في الحديث الصحيح: لم تحبس الشمس على أحد إلّا ليوشع بن نون، .......   الباء والكسر أَوْلَى، كما في المحكم وغيره -ممدود والهمزة مفتوحة على الثلاث، وحكى ابن هشام، فتح الهمزة، وكسر الهمزة، وفتح الباء، وقال: هذه أفصح اللغات، فلمَّا كان ذلك اليوم" بالرفع والنصب، والأول أولى؛ لأنه نعت فاعل كان التامة بمعنى وجد، "أشرقت" بمعجمة، وراء مهملة وراء مهملة وفاء, "قريش" أي: قامت على شرف, وهو المكان المرتفع لتنظر العير قادمة أم لا، "ينتظرون" حال أو مستأنف, أي: يترقَّبون قدوم عيرهم في اليوم الموعود، وقد ولَّى النهار،" قارب ذلك اليوم أن يتم ويدخل الليل بغروب الشمس، "ولم تجئ" العير "فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" سأله ربه أن يمد له ذلك اليوم حتى تجيء العير قبل انقضائه، "فزيد له في النهار ساعة، "ذلك أنه "حُبِسَت عليه الشمس" أمسكها الله بقدرته وعوَّقها عن سيرها المعتاد حتى قدمت العير قبل غروبها، وعورض هذا بما ورد، واقتصر عليه البيضاوي والزمخشري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخططتان، تطلع عليكم عند طلوع الشمس"، فخرجوا ينتظرون طلوعها، فقال قائل منهم: هذه الشمس قد طلعت, فقال آخر: وهذه الإبل قد طلعت يقدمها .... إلخ، فقالوا: إن هذا إلّا سحر مبين. وعند ابن أبي حاتم: فلمَّا كان ذلك اليوم، أي: الذي قال إنهم يأتون فيها أشرف الناس ينتظرون، حتى إذا كان قرب نصف النهار أقبلت لعير يقدمهم ذلك الجمل، كما وصف -صلى الله عليه وسلم، ولا معارضة؛ لأنه مرَّ بعيرين، بل بثلاثة، وكان إحداها تأخرت. روى ابن مردويه والطبراني، عن أم هانيء, قالوا: أخبرنا عن عيرنا، قال: "أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد أضلّوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، فليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه, ثم انتهيت إلى عير بني فلان بمكان كذا وكذا، فيها جمل عليه غرارتان، غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلا حاذيت العير نفرت، وصرع ذلك البعير وانكسر، ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالتنعيم، يقدمهم حمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان" الحديث. "وهذا يعارضه ما في الحديث الصحيح" الذي أخرجه أحمد برجال الصحيح: "لم تحبس الشمس على أحد" لفظ أحمد عن أبي هريرة، قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع" بالشين المعجمة، ومهملة "ابن نون" مجرور بالإضافة منصرف على الأصح, وإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 يعني: حين قاتل الجبارين يوم الجمعة, فلمَّا أدبرت الشمس خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم, ويدخل السبت فلا يحلّ لهم قتالهم فيه، فدعا فردّ عليه الشمس حتى فرغ من قتالهم. قال الحافظ بن كثير فيه: إن هذا كان من خصائص يوشع، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلَّى علي بن أبي طالب العصر، وقد صحَّحه أحمد بن صالح المصري، ولكنه منكر، ليس في شيء من الصحاح والحسان، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله، وتفرَّدت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها. انتهى.   كان أعجميًّا لسكون وسطه، كنوح ولوط ونون ابن افرايم بن يوسف، كان يوشع يخدم موسى ويتبعه، ولذا سمَّاه الله فتاه، وبقية رواية أحمد: ليالي سار إلى بيت المقدس. وأخرجه الخطيب في تاريخه من حديث أبي هريرة، بلفظ: "ما حبست الشمس على بشر قطّ إلا على يوشع، ليالي سار إلى بيت المقدس" ,"يعني: حين قاتل الجبارين يوم الجمعة" بعد موت موسى وهارون في التيه، وكان رحمة لهما، وعذابًا لأولئك، وسأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدَّسة رمية حجر، فأدناه، كما في الحديث، ونبيء يوشع عند الأربعين، وأمر بقتال الجبارين، فسار بمن بقي معه وقاتلهم يوم الجمعة، "فلمَّا أدبرت الشمس،" قاربت الغروب, "خاف أن تغيب قبل أن يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل لهم قتالهم فيه، فدعا الله، فردّ عليه الشمس" ساعة "حتى فرغ من قتالهم", ويقال: كان علم النجم صحيحًا قبل، فلمّا وقفت ليوشع بطل أكثره، ولما ردت لعلي بطل جميعه. "قال الحافظ ابن كثير فيه: إن هذا كان من خصائص يوشع" وبه اشتُهر، حتى قال أبو تمام في قصيدة: فو الله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع "فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه، أنَّ الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب العصر، وقد صححه أحمد بن الح المصري، ولكنه منكر" أي: ضعيف؛ إذ المنكر من أقسامه، "ليس في شيء من الصحاح والحسان" ممنوع لوروده من طرق ثلاثة حسان، كما مَرَّ، وتقرَّر أنه يرتقي بذلك للصحة، وهو مما تتوفر الدواعي على نقله" لغرابته، "وتفرَّدت بنقله امرأة من أهل البيت، مجهولة لا يعرف حالها" فيه نظر أيضًا، فقد رواه جماعة وتعددت طرقه، كما بينه في النكت، وتلخيص الموضوع، وسبل الهدى وغيرهم، "انتهى" كلام ابن كثير، ولم يثبت في كل النسخ، بل بعضها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 ويحتمل الجمع بأن المعنى: لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري إلّا ليوشع بن نون. وكذا روى حبس الشمس لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أيضًا يوم الخندق، حين شغل عن صلاة العصر، فيكون حبس الشمس مخصوصًا بنبينا وبيوشع، كما ذكره القاضي عياض في الإكمال، وعزاه لمشكل الآثار، ونقله النووي في شرح مسلم في باب حلّ الغنائم عن عياض، وكذا نقله الحافظ بن حجر في باب الأذان من تخريج أحاديث الرافعي, ومغلطاي في الزهر الباسم، وأقروه. وتعقب: بأن الثابت في الصحيح وغيره: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر في وقعة الخندق بعد ما غربت الشمس. كما سبق في غزوتها. وذكر البغوي في تفسيره: .................................................   ويحتمل الجمع، بأن المعنى: لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري، إلّا ليوشع بن نون،" نحوه قال الحافظ: الحصر محمول على الماضي للأنبياء قبل نبينا، وليس فيه أنها لا تحبس بعد الماضي، انتهى. وهو متعين لدفع التعارض بين الحديثين، ومثله كثير في الأحاديث، كقوله: "لم يتكلم في المهد إلّا ثلاثة"، فالحصر إضافي، وجمع أيضًا بأن خبر يوشع في حبسها قبل الغروب، وخبر عليّ في ردها بعده، وبأنه قال قبل قصة خيبر. "وكذا روي حبس الشمس لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أيضًا يوم الخندق حين شغل عن صلاة العصر، فيكون على هذا "حبس الشمس مخصوصًا بنبينا وبيوشع", بناء على أنها لم تحبس لغيرهما، لصحة خبريهما، دون غيرهما مما يأتي، "كما ذكره" أي: حبسها يوم الخندق "القاضي عياض في الإكمال" شرح مسلم له، "وعزاه لمشكل الآثار" للطحاوي، "ونقله النووي في شرح مسلم في باب حل الغنائم عن عياض" وأقرَّه "وكذا نقله الحافظ ابن حجر في باب الأذان من" كتابه "تخريج أحاديث الرافعي، ومغلطاي في الزهر الباسم، في سيرة المصطفى أبي القاسم، وأقرّوه", لكنه في فتح الباري قال: لم أقف عليه في مشكل الآثار، إنما فيه حديث أسماء المار" فإن قلت: فهي قصة أخرى ثالثة. "وتعقّب بأن الثابت في الصحيح وغيره, أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر في وقعة الخندق بعدما غربت الشمس، كما سبق في غزوتها" وأجيب، بأنه كان في يوم آخر؛ إذ وقعة الخندق كانت أيامًا، "وذكر البغوي في تفسيره" بلفظ: حكي عن علي، أن معنى ردوها علي، يقول سليمان يأمر الله الملائكة الموكلين بالشمس يردها، فردوها حتى صلّى العصر وقتها، وذلك أنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 إنها حبست لسليمان -عليه السلام؛ لقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] . ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس في الآية، فالمراد: الصافنات الجياد والله أعلم. قال القاضي عياض: واختلف في حبس الشمس المذكور هنا، فقيل: ردت على أدراجها, وقيل: وقفت ولم ترد، وقيل: بطء حركتها. قال: وكل ذلك من معجزات النبوة. انتهى.   كان يعرض عليه الخيل الجياد غدوة حتى توارت بالحجاب, فاختصره المصنف، فقال: "إنها حبست لسليمان -عليه السلام- أيضًا؛ لقوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} ونوزع فيه بعدم ذكر الشمس في الآية, فالمراد الصافنات:" الخيل الجياد, وأجيب بأنه لو ثبت، عاد الضمير للشمس لعلمها، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} الآية. قال الحافظ: لكنه غير ثابت, وجاء أيضًا أنها حبست عن الطلوع لموسى، ففي المبتدأ لابن إسحاق عن عروة: أنه تعالى أمر موسى أن يحمل تابوت يوسف، فلم يدلّ عليه حتى كاد الفجر يطلع، وكان وعدهم بالسير عند طلوع الفجر، فدعا ربه أن يؤخّر الفجر حتى يفرغ ففعله. قال الحافظ: وتأخير طلوع الفجر يستلزم تأخير طلوع الشمس؛ لأنه ناشئ عنها، فلا يقال: الحصر إنما وقع في يوشع بطلوع الشمس، فلا يمنع حبس الفجر لغيره، قال: وأخرج الخطيب في كتاب ذم النجوم عن عليّ قال: سأل قوم يوشع أن يطلعهم على بدء الخلق وآجالهم، فأراهم ذلك في ماء من غمامة أمطرها الله عليهم، فكان أحدهم يعلم متى يموت, فبقوا على ذلك إلى أن قاتلهم داود على الكفر، فأخرجوا إلى داود من لم يحضر أجله، فكان يقتل من أصحاب داود ولا يقتل منهم, فشكا إلى الله ودعاه، فحبست عليه الشمس، فزيد في النهار، فاختلطت الزيادة الليل والنهار، فاختلط عليهم حسابهم، وإسناده ضعيف جدًّا، انتهى، والله أعلم" بصحة ذلك كله في نفس الأمر وضعفه. "قال القاضي عياض: واختلف في حبس الشمس المذكور هنا، فقيل: ردت على أدراجها" أي: أحوالها التي كانت تسير عليها نهارًا، "وقيل: وقفت ولم ترد", قال البرهان: وه ظاهر قوله: فحبست, "وقيل" بطء حركتها" قال ابن بطال: وهو أَوْلَى الأقوال، قال" عياض: وكل ذلك من معجزات النبوة. انتهى". قال بعض شراح مسلم: والشمس أحد الكواكب السيارة، وحركتها مترتبة على حركة الفلك بها، فحبسها على التفاسير المذكورة إنما هو لحبس الفلك لا حبسها في نفسها، انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 تسبيح الطعام والحصى في كفِّه الشريف "صلى الله عليه وسلم": وأمَّا ما روي من طاعات الجمادات وتكليمها له بالتسبيح والسلام ونحو ذلك مما وردت به الأخبار، فمنها تسبيح الطعام والحصا في كفة الشريف -صلى الله عليه وسلم. فخرج محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات قال: أخبرنا أبو اليمان قال: أنبأنا شعيب عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلًا من بني سليم كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة: عن أبي ذر قال: هجرت .............................................   تسبيح الطعام والحصى في كفِّه الشريف "صلى الله عليه وسلم": "وأمَّا ما روي من طاعات" أي: انقياد "الجمادات" جمع جماد، وهو ما لا روح له؛ كالحجر والشجر، والمراد: جنسها لا جميعها، "وتكليمها" خطابها "له بالتسبيح والسلام، ونحو ذلك" كمجيء الشجر له، "مما وردت به الأخبار". "فمنها" أي: مما روي من الطاعات، "تسبيح الطعام والحصا" لف ونشر غير مرتب وهو أَوْلَى، وفي نسخة: تقديم الحصا على الطعام، "في كفّه الشريف -صلى الله عليه وسلم " أي: قول سبحانه الله، "فخرَّج محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي -بضم الذال المعجمة وإسكان الهاء وباللام- النيسابوري الحافظ، روى عن أحمد، وإسحاق، وابن المديني وخلق، وعنه البخاري. قال أبو بكر بن أبي داود: كان أمير المؤمنين في الحديث. وقال الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين، "في الزهريات" -بزاي وراء- كتاب. قال الخطيب: جمع فيه حديث الزهري وجوده، وكان ابن حنبل يثني عليه، ويشكر فضله. "قال: أخبرنا أبو اليمان" الحكم -بفتحتين- ابن نافع البهراني -بفتح الموحدة- الحمصي، مشهور بكنيته، ثقة، ثبت من رجال الجميع, يقال: إنَّ أكثر حديثه عن شعيب مناولة، مات سنة اثنتين وعشرين ومائتين، "قال: أنبأنا شعيب" بن أبي حمزة، دينار الأموي، مولاهم الحمصي، ثقة عابد، روى له الجماعة. قال ابن معين: من أثبت في الزهري، مات سنة اثنتين وستين ومائة أو بعدها، "عن الزهري" محمد بن شهاب، العلم المنشور، "قال: ذكر الوليد بن سويدان أن رجلًا من بني سليم -بضم السين- "كبير السن كان ممن أدرك أبا ذر بالربذة -بفتح الراء والموحدة، والذال المعجمة- قرية قرب المدينة، كانت عامرة أول الإسلام، ذكر له "عن أبي ذر" الغفاري، "قال: هجرت" -بفتح الهاء وشد الجيم- سرت وقت الهاجرة, وهي اشتداد الحر نصف النهار، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 يومًا من الأيام, فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من بيته, فسألته عنه الخادم, فأخبرني أنه ببيت عائشة، فأتيته وهو جالس ليس عنده أحد من الناس، وكأنِّي حينئذ أرى أنه في وحي، فسلمت عليه فردَّ السلام، ثم قال: "ما جاء بك" , قلت: جاءني الله ورسوله، فأمرني أن أجلس, فجلست إلى جنبه، لا أسأله عن شيء ولا يذكره لي، فمكثت غير كثير، فجاء أبو بكر يمشي مسرعًا فسلّم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم قال: "ما جاء بك؟ " قال: قلت: جاء بي الله ورسوله، فأشار بيده أن أجلس، فجلس إلى ربوة مقابل النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، وقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر, ثم جاء عثمان كذلك, وجلس إلى جنب عمر، ثم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصيات سبع أو تسع أو ما قرب من ذلك، فسبحن في يده، حتى سمع لهنّ حنين كحنين النحل ....................................   "يومًا من الأيام، فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من بيته" الذي كنت أعهد جلوسه فيه، لا ينافي قوله: "فسألت عنه الخادم، فأخبرني أنه ببيت عائشة" إذ بيتها بيته, وهو لم يعين بيته الأول الذي خرج منه. وفي رواية البيهقي وابن عساكر عن أبي ذكر, كنت أتتبع خلواته -صلى الله عليه وسلم, فرأيته يومًا خاليًا فاغتنمت خلوته "فأتيته وهو جالس عنده أحد من الناس، وكأني حينئذ أرى" بالضم أظن "أنه في وحي" أي: استماعه، وفي نسخة: إنه وحي, ومعناها: وأرى أن ما هو مشغول به وحي, "فسلمت عليه، فردَّ السلام، ثم قال: "ما جاء بك؟ " قلت: جاءني الله ورسوله" أي: حبهما، "فأمرني أن أجلس، فجلست إلى جنبه لا أساله عن شيء، ولا يذكره لي, فمكثت غير كثير, فجاء أبو بكر يمشي مسرعًا، فسلَّم عليه فردَّ عليه السلام, ثم قال: "ما جاء بك" قال: قلت: جائني الله ورسوله، فأشار بيده أن اجلس" بفتح الهمزة، وكسر النون، ووصل همزة اجلس، وهي أن المفسرة؛ لأنها سبقت بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وبعدها جملة "فجلس إلى ربوة" بتثليث الراء: ما ارتفع من الأرض، كما في القاموس وغيره، "مقابل النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم جاء عمر ففعل مثل ذلك، وقال له: يا رسول الله مثل ذلك، وجلس إلى جنب أبي بكر، وفي رواية البيهقي وابن عساكر، وجلس عن يمين أبي بكر، "ثم جاء عثمان كذلك، وجلس إلى جنب عمر" أي: عن يمينه، كما في رواية، ثم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصيات" جمع حصاة، "سبع أو تسع أو ما قرب من ذلك،" بالشك من الراوي، ويأتي الجزم بسبع في رواية البزار ومن معه, فالشك ممن دون أبي ذر، "فسبَّحن في يده" بأن قلن: سبحان الله، حتى سمع لهنَّ حنين" تصويت "كحنين" تصويت "النحل" بالمهملة، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 في كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم وضعهنَّ وناولهنَّ أبا بكر، وجاوزني، فسبَّحن في كف أبي بكر، ثم أخذهن منه فوضعهن في الأرض, فخرسن وصرن حصى، ثم ناولهنَّ عمر، فسبحن في كفه، كما سبَّحن في كف أبي بكر", وناولهن عثمان فسبحن في كفه، كنحو ما سبَّحن في كف أبي بكر وعمر، ثم أخذهنَّ فوضعهن في الأرض فخرسن. وقال الحافظ بن حجر: قد اشتهر على الألسنة تسبيح الحصى. ففي حديث أبي ذر: تناول النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات فسبحن في يده حتى سمعت لهن حنينًا، ثم وضعهن في يد أبي بكر فسبحن، ثم وضعهن في يد عمر فسبحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن. أخرجه البزار، والطبراني في الأوسط.   تشبيه في علوّ الصوت فقط، فلا يردّ أن دون النحل ليس بألفاظ مفهومة، وتسبيح الحصى بألفاظ علم الحاضرون أنها تسبيح، ويأتي كلّ منها متكلم باعتبار خلق الكلام فيها حقيقة، خرقًا للعادة، "في كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم وضعهنّ" بالأرض فخرسن، ثم أخذهن، "وناولهن أبا بكر" كما في رواية البيهقي وغيره، والمخرج متّحد، ففيه هنا اختصار، "وجاوزني، فسبَّحن في كف أبي بكر" حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، كما عند البيهقي وغيره "ثم أخذن منه، فوضعهن في الأرض، فخرسن وصرن حصى" لا تسبيح فيه "ثم" تناولهن، أي: من الأرض، وناولهن عمر، فسبّحن في كفه، كما سبحن في كَفِّ أبي بكر", وللطبراني والبيهقي: حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، "وناولهن عثمان فسبَّحن في كفه كنحو ما سبَّحن في كف أبي بكر وعمر" وللطبراني والبيهقي: حتى سمعت لهن حنينًا كحنين النحل، "ثم أخذهن، فوضعن في الأرض فخرسن", فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذه خلافة النبوة" كما في رواية البيهقي والطبراني وغيرهما، وبه يعلم وجه مجاوزته -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر، مع أنه كان أقرب إليه منهم في المجلس؛ لأنه ليس من الخلفاء. وقال الحافظ ابن حجر" في فتح الباري في شرح حديث: كنا نسمع تسبيح الطعام "قد اشتهر على الألسنة تسبيح الحصى، ففي حديث أبي ذر: تناول النبي -صلى الله عليه وسلم- سبع حصيات" بسين قبل الموحدة، "فسبَّحن في يده حتى سمعت لهن حنينًا، ثم وضعهنَّ في يد أبي بكر، بعد وضعهن في الأرض "فسبحنَّ، ثم وضعهنَّ في يد عمر فسبّحن، ثم وضعهن في يد عثمان فسبَّحن. أخرجه البزار والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر في التاريخ، وعندهم أنه سمع لهن حنينًا كحنين النحل، وقت كونهن مع الخلفاء الثلاثة، كالنبي -صلى الله عليه وسلم, فالحافظ اختصره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 وفي رواية الطبراني: فسمع تسبيحهنَّ من في الحلقة، ثم دفعهنَّ إلينا فلم يسبحن مع أحد منَّا، قال البيهقي في "الدلائل": كذا رواه صالح بن أبي الأخضر, ولم يكن بالحافظ, عن الزهري عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر. والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: ذكر الوليد بن سويد أن رجلًا من بني سليم كان كبير السن. انتهى.   وفي رواية الطبراني: فسمع تسبيحهنَّ من في الحلقة" بسكون اللام وفتحها لغة، "ثم دفعهنَّ إلينا فلم يسبحن مع واحد منَّا", ولم يذكر عليًّا, فإن كان تسبيحها مع غيره -صلى الله عليه وسلم- مخصوصًا بالخلفاء فهو خليفة، كابنه الحسن أيضًا، فيحتمل أنه لم يكن حاضرًا، أو لأنَّ خلافته أدركت الفتنة, على أن مثله لا يشين مقامه مع ما له من المناقب، كما قاله بعض شراح الشفاء، واستظهر بعضهم تعدد الواقعة؛ لأن الرواية الأولى تقتضي أنه لم يكن ثَمَّة غير أبي ذر، والثانية تقتضي أنه حضرها جماعة من الصحابة؛ لقوله في رواية ابن عساكر، من حديث أنس بعد عثمان, ثم وضعهنَّ في أيدينا رجلًا رجلًا فما سبحت حصاة منهنّ. وعلى كليهما لم يحضر علي معهم, فقيه إشارة إلى عدم امتداد خلافته استقلالًا -رضي الله عنه, وفيه: إن الأصل عدم التعدد، لا سيما مع المخرج الذي هو أبو ذر، عن أنس لا يقتضي تعدد القصة؛ إذ هي قصة واحدة رواها اثنان، وكون متقضى حديث أبي ذر أنه لم يكن غيره ثمة، ومقتضى حديث أنس: أن حضرها جمع لا يقتضي التعدد أيضًا؛ لأنه من اختلاف الرواية بالزيادة والنقص، وقد صرَّح الحافظ وغيره بأنَّ تسبيح الحصى إنما له هذه الطريق الواحدة، مع ضعفها. "قال البيهقي في الدلائل" النبوية: "كذا رواه صالح بن أبي الأخضر" اليمامي، مولى هشام بن عبد الملك نزل البصرة, ضعيف يعتبر به، مات بعد الأربعين ومائة، روى له الأربعة، كما في التقريب, وسقط في نسخ المصنف لفظ أبي قبل الأخضر، مع أنه في الفتح عن البيهقي، بلفظ: أداة الكنية، وهو الصواب، ولم يكن بالحافظ، وإن روى "عن الزهري عن سويد بن يزيد السلمي عن أبي ذر. والمحفوظ ما رواه شعيب بن أبي حمزة" نافع، وروى عنه ابن مهدي ومسلم، وكان يخدم الزهري، فقد لينه البخاري واسمه دينار، عن الزهري، قال: ذكر الوليد بن سويد، أن رجلًا من بني سليم كان كبير السن" ممن أدرك أبا ذر بالربذة، ذكر له عن أبي ذرك، "انتهى". وذكر ابن الحاجب عن بعض الشيعة: إنه انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وحنين الجذع، وتسليم الغزالة، مما نقل آحادًا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم تكذب رواتها, وأجاب بأنه استغنى عن نقلها تواترًا بالقرآن، وأجاب غيره: بمنع نقلها آحادًا، وعلى تسليمه، فمجموعها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 وليس لحديث تسبح الحصى إلّا هذه الطريق مع ضعفها، لكنه مشهور عند الناس. وما أحسن قول سيدي محمد وفي: لسبحة ذاك الوجه قد سبح الحصا ... ومن سخ سحب الكف قد سبح الرعد وقول الآخر: يا حبدا لو لثمت كفًّا ... قد سبحت وسطها الحصاء وقد أخرج البخاري من حديث ابن مسعود: ....................   يفيد القطع، والذي أقول: إنها كلها مشتهرة عند الناس. أما من حيث الرواية، فليست على حد سواء، فحنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كلٌّ منهما نقلًا مستفيضًا يفيد القطع عند من يطّلع على طرق ذلك من أئمة الحديث دون غيرهم, ممن لا ممارسة له في ذلك. وأما تسبيح الحصى فليس له إلّا هذا الطريق الواحدة مع ضعفها. وأما تسليم الغزالة، فلم أجد له إسنادًا لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف، ذكره الحافظ عقب كلام البيهقي، بلفظ: فائدة: فاقتصر منه المصنف على قوله: "وليس لحديث تسبيح الحصى إلّا هذه الطريق الواحدة، وكأنه لم يعتبر طريق صالح لقول البيهقي: إنها غير محفوظة وإلا فهما طريقان, طريق صالح وطريق شعيب, وإن اتحد المخرج, لكن يرد عليه أنَّ ابن عساكر أخرجه عن أنس فهي طريق ثانٍ، لاختلاف المخرج، وإن اتحدت القصة, "مع ضعفها, لكنه مشهور عند الناس", وذلك يجبر ضعف الطريق، وما أحسن قول سيدي محمد وفي: لسبحة "بضم السين: بهاء ونور, "ذاك الوجه" النبوي "قد سبح الحصى" دلالة على صدقه, "ومن سخ" بفتح السين وشد الخاء المهملتين: صب وسيلان, "سحب" جمع سحاب, "الكف" أي: ومن أجل عطاياه المشبه للماء الكثير الذي يصبّه السحاب, "قد سبّح الرعد" دلالة على كماله -صلى الله عليه وسلم, "وقول الآخر: يا حبذا لو لثمت كفًّا قد سبحت وسطها" بالسكون "الحصاء" بالمد للضروة على أحد القولين في جواز مد المقصور, وفي نسخة الحصاة أي: جنسها, وفي نسخة الحصباء بزيادة باء, وهي تحريف, ينزحف به البيت. وقد أخرج البخاري في علامات النبوة, والترمذي في المناقب, من حديث ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفًا, كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فقلَّ الماء، فقال: "اطلبوا فضلة من ماء" فجاؤا بإناء فيه ماء قليل, فأدخل يده في الإناء ثم قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 كنَّا نأكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطعام، ونحن نسمع تسبيح الطعام. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: مرض النبي -صلى الله عليه وسلم, فأتاه جبريل بطبق فيه رمان وعنب فأكل منه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبح. رواه القاضي عياض في "الشفاء" ............   "حيّ على الطهور المبارك، والبركة من الله"، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم، ولقد كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. هذا لفظ البخاري. وأما قوله: "كنَّا نأكل مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطعام ونحن نسمع تسبيح الطعام"، فهو لفظ الترمذي، فتسامح المؤلف بعزوه للبخاري وإتيانه بلفظ الترمذي، فلو عزاه لهما لسهل ذلك، وقد قال الحافظ وتبعه المصنف، قوله: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل، أي: في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غالبًا، ووقع ذلك عند الإسماعيلي صريحًا من الوجه الذي أخرجه من البخاري، بلفظ: كنا نأكل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- الطعام، ونن نسمع تسبيح الطعام، زاد الحافظ: وله شاهد عند البيهقي، كان أبو الدرداء وسلمان إذا كتب أحدهما إلى الآخر، قال: بآية الصحفة، وذلك أنهما بينا هما يأكلان في صحفة إذ سبحت وما فيها. انتهى. ولأبي الشيخ عن أنس: أتى -صلى الله عليه وسلم- بطعام ثريد، فقال: "إن هذا الطعام يسبح" قالوا: أوتفقه تسبيحه؟ قال: "نعم"، ثم قال لرجل: "أدن هذه القطعة من هذا الرجل" فأدناها، فقال: نعم يا رسول الله، هذا الطعام يسبّح، ثم قال: "ردها" فردها. وظاهر هذين الحديثين أنه كان يسبح وهو في الإناء، وظاهر حديث البخاري أنه كان يسبح بعد وضعه في الفم، ولا مانع منهم، ثم هذا كله مما يستأنس به؛ لأن معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الآية. تسبيح حقيقي بلسان المقال لا بلسان الحال, ويشهد له قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الآية. إذ لو كان بلسان الحال لفهمناه, وفي قوله: كنَّا دليل على تكرّره، وأنه وقع مرارًا عديدة، وهو آية للنبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم من تسبيح الجبال مع داود، وفهم نطق الطير لسليمان. "وعن جعفر" الصادق "بن محمد، عن أبيه" محمد الباقر بن علي، زين العابدين بن الحسين، بن علي بن أبي طالب، "قال" محمّد: "مرض النبي -صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل بطبق،" أي: وعاء مجازًا، وإن كان الطبق لغة الغطاء؛ لأنه على هيئته، "فيه رمّان وعنب" من الجنة على الظاهر، وزعم أنهما من الدنيا، إذ لو كانا من الجنة لم يفنيا، لقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} لا يسمع، الآية؛ لأن ذاك في يوم القيامة، "فأكل منه النبي -صلى الله عليه وسلم, أي: فأراد الأكل منه؛ إذ تناوله بيده لا بعد الأكل؛ كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] كذا لبعض, "رواه" أي: ذكره القاضي عياض في الشفاء" بلا إسناد تعليقًا. قال السيوطي: ولم أجده في كتب الحديث، يعني: المشهورة، فلا ينافي اطّلاع عياض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 ونقله عنه الحافظ أبو الفضل في فتح الباري. واعلم أن التسبيح من قبيل الألفاظ الدالة على معنى التنزيه, واللفظ يوجد حقيقة ممن قام به اللفظ، فيكون في غير من قام به مجازًا، فالطعام والحصا والشجر ونحو ذلك، كلّ منهما متكلم باعتبار خلق الكلام فيها حقيقة، وهذا من قبيل خرق العادة. وفي قوله: "ونحن نسمع تسبيحة" تصريح بكرامة الصحابة بسماع هذا التسبيح وفهمه, وذلك ببركته -صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك تسليم الحجر عليه -صلى الله عليه وسلم: .....................................   عليه، "و" من ثَمَّ "نقله عنه الحافظ أبو الفضل في فتح الباري" في شرح حديث ابن مسعود. "واعلم: أن التسبيح من قبيل الألفاظ الدالة على معنى التنزيه، واللفظ يوجد حقيقة ممن قام به اللفظ،" وهو الحيوان الناطق، "فيكون في غير من قام به مجازًا" علاقته المشابهة في النطق، "فالطعام والحصى والشجر ونحو ذلك، كل منهما متكلم باعتبار خلق الكلام", وهذا من قبيل خرق العادة"؛ إذ خلق الله فيها النطق بما تنزهه به، لا أنه عبارة عن أحد كان يسبح حين أحضر الطعام أو الحصيات ونحوهما؛ لأنه خروج عن الظاهر بلا دليل، وخوارق العادات لا تقاس بالمعهودات. "وفي قوله: ونحن نسمع تسبيحه، تصريح بكرامة الصحابة بسماع هذه التسبيح وفهمه،" مع أنه ليس بمعهود"وذلك ببركته -صلى الله عليه وسلم"؛ حيث سرَّى سرَّه إليهم، وهي أعظم من معجزة داود -عليه السلام- في تسبيح الجبال معه؛ لأنها لم تسبح بيده، بخلاف نبينا، فسبَّحت بيده, ويد من أراده من أمته، وتسبيح الطعام أعظم منهما؛ إذ لم يعهد مثله، والجبال قد وصفت بالخضوع والخشوع، ومن فهم سليمان منطق الطير؛ لأنه ناطق في الجملة بخلاف الطعام، والله أعلم. "ومن ذلك تسليم الحجر عليه -صلى الله عليه وسلم" قال ابن سيد الناس: يحتمل أن يكون هذا التسليم حقيقة، ويكون الله أنطقه بذلك، كما خلق الحنين في الجذع، ويحتمل أن يكون مضافًا إلى ملائكة يسكنون هناك من باب: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} الآية. فيكون من مجاز الحذف، وهو علم ظاهر من أعلام نبوّته على كلا التقريرين، انتهى، وبالأوّل جزم النووي، فقال في شرح مسلم: سلامه حقيقة، وقيل في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} الآية. أنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 خرج مسلم من حديث جابر بن سمرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن". وقد اختلف في هذا الحجر، فقيل: هو في الحجر الأسود، وقيل: هو حجر غيره بزقاق يعرف به بمكة، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الذي كان يسلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- متى اجتاز به. وقد ذكر الإمام أبو عبد الله، محمد بن رشيد -بضم الراء- في رحلته ..................   حقيقة بتمييز يخلقه الله تعالى، ونقله الأبي وأقرّه. "خرَّج مسلم من حديث جابر بن سمرة" صحابي بن صحابي، نزل الكوفة ومات بها بعد سنة سبعين، "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلّم عليّ" أي: يقول: السلام عليك يا رسول الله، "قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن" , استحضار لمشاهدته حتى كأنه يسمع سلامه الآن. قاله عياض، وتأكيده بأن، وتنكيره إشارة إلى أن له شأنًا خاصًّا به، وأنه حجر ليس كسائر الحجارة، ولذا روي أنه الحجر الأسود، فلا يقال: لا فائدة في ذكر حجر واحد، مع أنه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلّا سلم عليه. "وقد اختُلِفَ في هذا الحجر، فقيل: هو في الحجر الأسود", كما روي في بعض المسندات، قاله في الروض والعيون، وقال في الإكمال، وفي غير مسلم: كانوا يرونه الحجر الأسود، انتهى. فصرَّحوا بأنه رواية، ولا ينافيه قوله: "إني لأعرفه الآن"؛ إذ الحجر الأسود يشاركه في معرفته جميع الناس؛ لأن المراد: إني لأستحضر ذلك ولم أنسه، حتى كأني أسمع سلامه الآن، كما ذكره عياض. "وقيل: هو حجر غيره بزقاق يعرف به" أي: بزقاق الحجر "بمكة" وزقاق المرفق، والناس يتبركون بلمسه، ويقولون: إنه هو الذي كان يسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- متى اجتاز به", ولكن الأول أصح؛ لأنه رواية، "وقد ذكر الإمام عبد الله محمد بن رشيد -بضم الراء،" مصغر رشد، نسبة لجده الأعلى؛ إذ ومحمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد بن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهري، السبتي، ولد بها سنة سبع وخمسين وستمائة، وكان إمامًا حافظًا متضلعًا من العلوم، عالي الإسناد، صحيح النقل، أخذ عن خلق بالمغرب، والشام، والحجاز, ضمنهم رحلته، وعاد إلى غرناطة فنشر بها العلم، ومات بفاس سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، "في رحلته" التي سماها: ملء العيبة، وهي ست مجلدات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 مما ذكره في "شفاء الغرام" عن علم الدين أحمد بن أبي بكر بن خليل قال: أخبرني عمّي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف، قال: أخبرني أبو حفص الميانشي قال: أخبرني كلّ من لقيته بمكة أن هذا الحجر -يعني المذكور- هو الذي كلّم النبي -صلى الله عليه وسلم. وروى الترمذي والدارمي والحاكم وصحّحه، عن علي بن أبي طالب قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة, فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر إلّا قال: السلام عليك يا رسول الله.   مما ذكره في شفاء الغرام" في تاريخ البلد الحرام، للحافظ تقي الدين محمد بن أحمد الشريف الفاسي، "عن علم الدين أحمد بن أبي بكر بن خليل" العسقلاني، "قال: "أخبرني عمي سليمان قال: أخبرني محمد بن إسماعيل" بن عبد الله، بن أبي الصيف -بصاد مهملة- اليمنى، سمع بمكة أبا نصر عبد الرحمن اليوسفي، والمبارك بن الطباخ وطبقتهما. قال الذهبي: كان عارفًا بالمذهب, وحصل كثيرًا من الكتب، وله نكت على التنبيه، مشتملة على فوائد، وجمع أربعين حديثًا عن أربعين شيخًا، من أربعين مدينة، سمع الكل بمكة، وكان على طريقة حسنه، وسيرة جميلة وخير، مات بمكة في ذي الحجة سنة سبع، وقيل: ست وستمائة. "قال: أخبرني أبو حفص الميانشي" نسبة إلى ميانش، قال في المراصد -بالفتح وتشديد الثاني- أي: التحتانية، فألف، فنون مكسورة، وشين معجمة، قرية من قرى المهدية فيها ماء عذب، إذا قصر الماء بالمهدية، استجلب منها. "قال: أخبرني كلّ من لقيته بمكة أن هذا الحجر، يعني المذكور" في كلام ابن رشيد من أنه الحجر المبني في الجدار، المقابل لدار أبي بكر، المشهورة بسوق الليل، "هو الذي كلّم النبي -صلى الله عليه وسلم", لكنه وإن اشتهر لا يعادل الأول لأنه رواية. "وروى الترمذي" وقال: حسن غريب، والدارميّ والحاكم، وصحّحه عن علي بن أبي طالب، قال: كنت أمشي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، وفي الشفاء عن علي: فخرج إلى بعض نواحيها، فما استقبله شجر ولا حجر، إلّا قال" له كلّ منهما: "السلام عليك يا رسول الله! " بأن خلق الله فيه نطقًا، وإن لم يكن معه حياة؛ لأنه لا تلازم بينهما كما سبق، لكن قال بعض الظاهر: إنه كان فيه حياة أيضًا، وهذا كما قاله ابن إسحاق: كان في بدء النبوة تطمينًا لقلبه، وتبشيرًا له، بانقياد الخلق له بعد ذلك، وإجابتهم لدعوته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما استقبلني جبريل بالرسالة جعلت لا أمرُّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله ". رواه البزار وأبو نعيم. وعن جابر بن عبد الله قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يمر بحجر ولا شجر إلّا سجد له. رواه. ومن ذلك: تأمين أسكفة الباب وحوائط البيت على دعائه -عليه الصلاة والسلام، عن أبي أسيد الساعدي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس بن عبد المطلب: "يا أبا الفضل، ......   "وعن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما استقبلني جبريل" أي: نزل عليّ وأتاني "بالرسالة، جعلت" , أي: صرت "لا أمر بحجر ولا شجر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله" , وأمر بقربه الحجر كيف ينكره البشر، "رواه البزار وأبو نعيم،" وثبت حديث عائشة هنا في نسخ، وسقط في أخرى، ويأتي للمصنف قريبًا إعادته مع حديث عليّ قبله في قوله: ومن ذلك كلام الشجر ولا تكرار، لأنه ساقهما هنا استدلالًا على تسليم الحجر، وثَمَّة على كلام الشجر. "وعن جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما، "قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم" في ابتداء بعثته "يمر بحجر ولا شجر إلّا سجد له", أي: انخفض حتى مسَّ الأرض على هيئة السجود، تواضعًا له تعظيمًا وتكريمًا، كما سجدت الملائكة لآدم، والسجود لغير الله إنما يمتنع من البشر، "رواه" بيض بعده، وقد رواه البيهقي في الدلائل عن جابر بلفظه، ومثله لا يقال رأيًا، فيحتمل أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم، كحديث عائشة قبله، ويحتمل من غيره ممن شاهد ذلك، لا أنَّه من باب الكشف، كما زعم بعض؛ إذ لا دخل له في الأحاديث، ولا أنه شاهد ذلك؛ لأنه في ابتدا بعثته ولم يكن جابر حينئذ معه، "ومن ذلك تأمين أسكفة" بضم الهمزة والكاف، بينهما مهملة ساكنة، ثم فاء ثقيلة مفتوحة، فهاء: عتبة "الباب" العليا، وقد تستعمل في السفلى، والجمع: إسكفات، "وحوائط البيت:" جمع حائط، أي: جدرانه المحيطة بجوانبه ونواحيه، "على دعائه -عليه الصلاة والسلام، عن أبي أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة، مالك بن ربيعة "الساعدي" مشهور بكنيته، شهد بدرًا وغيرها، ومات سنة ثلاثين، وقيل بعد ذلك، حتى قال المدائني: مات سنة ستين، قال: وهو آخر من مات من البدريين. "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس بن عبد المطلب: "يا أبا الفضل" كنيته باسم أكبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 لا ترم منزلك أنت وبنوك غدًا حتى آتيكم، فإن لي فيكم حاجة" , فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى، فدخل عليهم فقال: "السلام عليكم"، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: "كيف أصبحتم؟ " قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله تعالى، فقال لهم: "تقاربوا"، فتقاربوا يزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوه اشتمل عليهم بملاءته, فقال: "يارب هذا عمي وصنو أبي، وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه"، قال: فأمَّنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت: آمين آمين آمين. رواه البيهقي في الدلائل وابن ماجه مختصرًا. ومن ذلك كلامه ....................................................................   أولاده، "لا ترم" بفتح القوفية وكسر الراء، قال ابن الأثير, أي: لا تبرح، يقال: رام يريم إذا برح، أي: زال من مكانه، وأكثر ما تستعمل في النفي, "منزلك" , وأورده في النهاية: لا ترم من منزلك، بزيادة من "أنت وبنوك غدًا" وهم الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وقتم، ومعبد، وعبد الرحمن، كما بينه ابن السري في روايته، ذكره المصنف في المقصد السابع، فإسقاط بعضهم معبدًا وعبد الرحمن تقصير، والاعتذار عنه بأنه لعله بيان للحاضرين حينئذ، لا يصح المخالفة المروي أن الحاضرين الستة المذكورين، وهم من أم الفضل، "حتى آتيكم فإن لي فيكم حاجة"، منفعة أوصلها لكم، وجعلها له لشدة رأفته بهم، أو أوحي إليك بذلك، فهي له، "فانتظروه حتى جاء بعدما أضحى، فدخل عليهم، فقال: "السلام عليكم"، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: "كيف أصبحتم؟ " قالوا: أصبحنا بخير بحمد الله تعالى، فقال لهم: "تقاربوا" فتقاربوا، يزحف بعضهم إلى بعض، حتى إذا أمكنوه" من أنفسهم، بحيث اتصلوا به، "اشتمل" استولى "عليهم", وأحاط بهم وضمهم "بملاءته" بضم الميم، ولام، وهمزة والمدء, وهي: الإزار والملحفة، وقيل: الملاءة الإزار له شقتان، فإن كان له شقة واحدة فريطة -براء وطاء مهملتين، فقال: "يارب هذ عمي وصنوا أبي" بكسر المهملة، أي: قرينه، ومثله في الشفقة علي، "وهؤلاء أهل بيتي" أي: منهم, "فاسترهم من النار" امنعهم من دخولها وارتكاب ما يوجب عذابها، فهو مجاز عن ذلك؛ إذ الستر ما يمنع المستور ويحجبه، وشبه بعد التجوز، قوله: "كستري إياهم بملاءتي هذه" , قال: فأمَّنت -بفتح الهمزة، والميم الشديدة, "أسكفه الباب وحوائط البيت، فقالت: آمين آمين آمين،" ثلاثًا في نسخ, ومثله في ابن كثير والشامي. وفي نسخ مرتين، ومثله في الشفاء، وهو إمَّا على التوزيع، أي: قالت الأسكفة: آمين، والحوائط آمين، وإمَّا أن كل واحد منهما كرَّر آمين، تأكيدًا وتحقيقًا للمقال؛ إذ قد يغفل عن مثله. "رواه البيهقي في الدلائل" النبوية مطولًا، "وابن ماجه مختصرًا، ومن ذلك كلامه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 للجبل وكلام الجبل له -صلى الله عليه وسلم، عن أنس قال: صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر وعثمان أحدًا، فرجف بهم، فضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- برجله وقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". رواه أحمد والبخاري والترمذي وأبو حاتم. قال ابن المنير: قيل: الحكمة في ذلك أنه لما رجف أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى ..........................   للجبل" بقوله: "اثبت" اسكن ونحوهما،" وكلاهما الجبل" بقوله: "اهبط" إلخ ... ، "له -صلى الله عليه وسلم", وعد هذا من طاعات الجمادات له، من حيث أنه -صلى الله عليه وسلم- لما خاطبه انقاد له حتى علم ما قال واستقرَّ بأمره، وبهذا يطابق الترجمة, "عن أنس" بن مالك "قال: صعد" بكسر العين: علا "النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدًا" بضمتين، وقد يسكن ثانية، وقيل: إنه ضرورة جبل بالمدينة، مرَّ الكلام عليه في المغازي، هكذا عدى، صعد بنفسه في رواية البخاري في مناقب أبي بكر وعثمان، وله في فضل عمر: صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد، فعدَّاه بإلى، وكلاهما جائر، ويعدَّى أيضًا بفي، كما في اللغة، "وأبو بكر" وفي مناقب عثمان وعمر: ومعه أبو بكر وعمر وعثمان", هكذا الرواية في البخاري في المواضع الثلاثة، وفي غيره أيضًا، بتقديم أحدًا على قوله: وأبو بكر، فما في كثير من نسخ المصنف من تأخير قوله: أحدًا عن عثمان، خلاف الرواية، "فرجف" بفتح الراء والجيم، تحرك واضطرب "بهم" أحد، "فضربه -صلى الله عليه وسلم- برجله،" تسميته ضربًا حقيقة؛ إذ الضرب إمساس جسم جسمًا بعنف، وبعضهم قيِّدَ الممسوس بكونه حيوانًا، فيكون مجازًا تنزيل للجبل منزلة الحيوان؛ لكون صار يحس ويفهم ما يقوله المصطفى له، "وقال: "اثبت" أمر من الثبات، لفظ البخاري في مناقب الشيخين، ولفظه في مناقب عثمان: "اسكن أحد"، منادى حذفت أداته، أي: يا أحد، ونداؤه وخطابه يحتمل المجاز والحقيقة، لكن الظاهر الحقيقة، فحمله عليها أولى، كقوله: "أُحد جبل يحبنا ونحبه" , ويؤيده ضربه برجله، قاله الحافظ والمصنّف، "فإنما عليك نبي وصديق"، أبو بكر، "وشهيدان" عمر وعثمان، وللبخاري في مناقب عمر: "فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"، وأو للتنويع، فقيل: أو بمعنى الواو، وقيل: تغيير الأسلوب للإشعار بمغايرة الحال؛ لأن صفتي النبوة والصديقية كانتا حاصلتين بخلاف صفة الشهادة، فإنها لم تكن وقعت حينئذ، قاله الحافظ، "رواه أحمد" في المسند، "والبخاري، والترمذي" كلاهما في المناقب، وكذا النسائي، "وأبو حاتم" وأبو داود في السنة. "قال ابن المنير: قيل الحكمة في" قوله -صلى الله عليه وسلم "ذلك القول: "أنه لما رجف" بابه قتل، "أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى" لما أمره أن يأتيه بسبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبطة ستة، فزاد اثنان، فقال: ليتخلف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 لما حرَّفوا الكلم، وإن تلك رجفة الغضب، وهذه هزة الطرب، ولهذا نص على مقام النبوة والصديقية والشهادة التي توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانه، فأقرَّ الجبل بذلك فاستقرَّ، انتهى. وأحد: جبل بالمدينة، وهو الذي قال فيه: "أحد جبل يحبنا ونحبه"، رواه البخاري ومسلم. واختلف في المراد بذلك، فقيل: أراد به أهل المدينة ..............................   منكم رجلان فتشاجروا، فقال: إن لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام، فدخله موسى بهم، وخروا سجدًا، فسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام، فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ، فأخذتهم الرجفة، أي: الصاعقة، أو رجفة الجبل، فصعقوا منها، أي: ماتوا. "لما حرفوا الكلم، وإن تلك" الواقعة لقوم موسى، "رجفة الغضب" عليهم، "وهذه هزة" بكسر الهاء وشد الزاي، نشاط وارتياح "الطرب:" الفرح والخفة اللاحقة من السرور، "ولهذا نصَّ على مقام النبوة، والصديقية، والشهادة التي توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانة،" بفتحتين: اضطرابه الشديد، "فأقَرَّ" أي: أثبت النبي -صلى الله عليه وسلم "الجبل بذلك" القول، "فاستقرَّ:" ثبت، انتهى" كلام ابن المنير. ويرد عليه أن كونه أراد بيان ذلك لا يظهر مع قوله: فإنما عليك؛ لأنه نهي عن تلك الحالة، فلو كانت فرحًا لأقرَّه وما نهاه، بل قد يقتضي ذلك زيادة فرحه، فتزداد هزته. والجواب: إنه أراد تسكينه خشية الضرر لأصحابه، لئلّا يتولد منه ضرر، والذي يظهر لي أنه أراد لومه على فعله؛ لأنه وإن كان فرحًا، لكن فيه ترك الأدب مع من عليه، ويدل لذلك التعليل بقوله: "فإنما عليك .... " إلخ. وقد قيل: سبب تحركه مهابته -صلى الله عليه وسلم، أو خوف الجبل من الله، أو أنه لزللة اتفقت عند صعودهم عليه. "وأحد جبل بالمدينة" على أقل من فرسخ منها؛ لأنَّ بين أوله وبين بابها المعروف بباب البقيع ميلين وأربعة أسباع ميل، تزيد قليلًا، كما حرره السمهودي، "وهو الذي قال فيه: "أحد جبل" خبر موطيء لقوله: "يحبنا ونحبه" حقيقة؛ لأن جزاء من يحب أن يحب، وزاد في رواية أحمد: "وهو من جبال الجنة"، "رواه البخاري ومسلم" عن أنس، والبخاري أيضًا عن سهل، وفي رواية لهما أيضًا: أن أحدًا، "واختلف في المراد بذلك، فقيل: أراد به أهل المدينة". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 كما قال تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها، قاله الخطابي، وقال البغوي فيما حكاه الحافظ المنذري: الأولى إجراؤه على ظاهره، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء والأولياء، وأهل الطاعة، كما حنت الأسطوانة على مفارقته -صلى الله عليه وسلم- حتى سمع الناس حنينها إلى أن سكنها، وكما أخبر أن حجرًا كان يسلم عليه قبل الوحي، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحن إلى لقائه حال مفارقته أيها. انتهى. وقال الحافظ المنذري: هذا الذي قاله البغوي جيد. وعن ثمامة ....................................   الأنصار؛ لأنهم جيران أحد، فهو من مجاز الحذف، "كما قال تعالى"، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} الآية، "أي: أهلها، قاله الخطابي". قال الشاعر: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا "وقال البغوي: فيما حكاه الحافظ المنذري: الأولى إجراؤه على ظاهره، من أنه حب حقيقي من الجبل، ورجَّحه النووي وغيره، "ولا ينكر وصف الجمادات" التي هي سبب دعوى المجاز، لعدم عقلها "بحب، الأنبياء والأولياء وأهل الطاعة" عطف عام على خاص، "كما حنت الأسطوانة" بضم الهمزة، والطاء والنون، أصلية عند الخليل، فوزنها أفعواله، وزائدة عند بعضهم، والواو أصل، فوزنها: افعلانة، والمراد بها: الجذع الذي حن له، كما يأتي على مفارقته صلى الله عليه وسلم" لما تركها وخطب على المنبر، فخار كما يخور الثور، "حتى سمع الناس حنينها إلى أن سكنها،" كما يأتي تفصيله، "وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه، بمكة "قبل الوحي" كما مر قريبا، فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه" قيقة، "وتحن إلى لقائه حال مفارقته إياها، انتهى". "وقال الحافظ المنذري: وهذا الذي قاله البغوي جيد"؛ لأن فيه إبقاء اللفظ على حقيقته الذي هو الأصل، ورفع توهم بقائه على حقيقته، وقد صحَّحه النووي وغيره، فوضع الله الحب في الجبل، كما وضع التسبيح في الجبال مع داود، والخشية في الحجارة، حيث قال: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] ، وقمت لذلك مزيدًا في غزوة أحد. "وعن ثمامة" بمثلثة مضمومة، وميمين خفيفتين، ابن شراحيل اليماني، مقبول، من أواسط التابعين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، وروايته له في الكبرى، كما في التقريب وغيره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 عن عثمان بن عفان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير مكة، ومعه أبو بكر وعمر وأنا, فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، فركضه برجله وقال: "اسكن ثبير, فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" خرَّجه النسائي والترمذي والدارقطني. والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل. وركضه برجله: أي: ضربه بها. وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد".   ووهم من زعم أنه ثمامة بن أثال الصحابي؛ لأنه لا حديث له في الكتب الستة. "عن عثمان بن عفان, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على ثبير" بمثلثة مفتوحة، وموحدة مكسورة، وتحتية ساكنة وراء مهملة: جبل بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى مِنَى "مكة" احترز عن غيره، فإن ثبير متعدد، "ومعه أبو بكر، وعمر، وأنا،" أي: عثمان الراوي، "فتحرَّك الجبل" تحركًا قويًّا "حتى تساقطت حجارته بالحضيض -بمهملة وضادين معجمتين بينهما تحتية ساكنة، "فركضه" ضربه -صلى الله عليه وسلم "برجله، وقال: "اسكن ثبير" منادى بحذف الأداة، "فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" خرجه النسائي والترمذي والدارقطني. والحضيض: القرار من الأرض عند منقطع الجبل." كما قيد ب الصحاح ومختاره، وأسقط القاموس عند منقطع الجبل، وهو بفتح الطاء؛ حيث ينتهي إليه، طرفه اسم معنى، أي: مصدر ميميى، أما بكسر الطاء فالشيء نفسه اسم عين، وركضه برجله، أي: ضربه بها، يقال: ركض البعير إذا ضربه برجله، وأصل الركض تحريك الرجل، ومنه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} ، كما في الصحاح. "وعن أبي هريرة: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحرَّكت الصخرة" التي هي موضع وقوفهم، أو سمي الجبل بتمامه صخرة، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء" منادى بحذف الأداة "فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد" وهم من بعد الصديق، فإن كلا قتل شهيدًا، كما مَرَّ مفصَّلًا في الكتاب، وعبَّر بأو، بتقدير: فما كل أحد ممن عليك، وإلّا حد الدائر لا يخرج عن الثلاثة، ولا يقتضي وصف كل واحد بالثلاثة؛ إذ وصف النبوة قاصر على المصطفى، ولعلَّ حكمة أو هنا الإشارة إلى أن الأمر بالسكون يكفي فيه كل واحد بانفراده لشرف كل، وجمع فيما مر بالواو، لبيان الواقع. وركضه برجله أي ضربه بها. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر عليًّا. خرجهما مسلم وانفرد بذلك. وخرّجه الترمذي في مناقب عثمان، ولم يذكر "سعدًا", وقال: "اهدأ" مكان "اسكن" وقال: حديث صحيح. وخرجه الترمذي أيضًا عن سعيد بن زيد, وذكر أنه كان عليه العشرة إلّا أبا عبيدة، وقال: اثبت حراء. وكذا رواه الخلعي عنه بنحوه، ولم يذكر أبا عبيدة بن الجراح. ورواه أيضًا إسحاق البغدادي في ما رواه الكبار عن الصغار، والآباء عن الأبناء، ولله در ..........................   وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، وسعد لم يستشهد بل مات بقصره بالعقيق قرب المدينة، فحمل على رقاب الرجال، ودفن بالبقيع، فلا يبعد أنه استشهد بسبب غير القتل، "ولم يذكر عليًّا معهم في هذه الرواية، وإن كان شهيدًا، فالمتحصّل من الروايتين ذكر سعد وعلي معًا، "خرجهما" أي: الروايتين عن أبي هريرة "مسلم، وانفرد بذلك" المذكور منهما عن البخاري. "وخرجه الترمذي في مناقب عثمان، ولم يذكر سعدًا" بل عليًّا، فرجحت رواية مسلم الأولى على الثانية، "وقال: "اهدأ حراء" بالهمزة والجزم بالأمر، "مكان "اسكن" وهو بمعناه، قال الجوهري: هدأ: سكن، "وقال: حديث صحيح، وخرَّجه الترمذي أيضًا عن سعيد بن زيد، وذكر أنه كان عليه العشرة، فعدَّ نفسه فيهم ولم يقتل، فيحمل على أنه استشهد بغير القتل، "إلّا أبا عبيدة" بن الجراح، "وقال: أثبت حراء" أمكان اسكن أو اهدأ. "وكذا رواه الخلعي" بكسر ففتح, نسبة إلى الخِلَع؛ لأنه كان يبيعها لملوك مصر, أبو الحسن علي بن الحسين، الموصلي الأصل، المصري, المولود بها في محرم سنة خمس وأربعمائة, الفقيه الصالح، له كرامات وتصانيف، أعلى أهل مصر إسنادًا، جمع له أحمد بن الحسين الشيرازي عشرين جزأ خرجها عنه، وسماها الخلعيات، ومات في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وتقدم ذلك أيضًا عنه" عن سعيد بن زيد "بنحوه" بنحو رواية الترمذي، "ولم يذكر أبا عبيدة بن الجراح" أيضًا، كما لم يذكره الترمذي، "ورواه أيضًا إسحاق" بن إبراهيم بن يونس المنجنيقي، أبو يعقوب الوراق "البغدادي", نزيل مصر، ثقة حافظ، مات سنة أربع وثاثمائة، وعنه النسائي "في" كتاب "ما رواه الكبار عن الصغار" والأصل فيه رواية النبي -صلى الله عليه وسلم- عن تميم خبر الجساسة، "والآباء عن الأبناء" وهو نوع مهم من فوائده، أمن انقلاب السند، "ولله در الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 القائل: ومال حراء تحته فرحًا به ... فلولا مقال "اسكن" تضعضع وانقضى وحراء وثبير: جبلان متقابلان معروفان بمكة. واختلاف الروايات يحمل على أنها قضايا تكررت. قاله الطبري وغيره. لكن صحح الحافظ ابن حجر: أنه "أحد" قال: ولولا اتحاد المخرج لجوزت تعدد القصة، ثم ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد، فإني وجدته في مسند الحارث بن أبي أسامة عن روح بن عبادة فقال فيه: "أحد" بالشك. وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة بلفظ: حراء, وإسناده صحيح. وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ "أحد", وإسناده صحيح, فقوي احتمال تعدد القصة.   القائل: ومال حراء تحته" بالمد، وفي نسخة: ومال حراء من تحته، فحراء بالقصر وبالصرف عليهما، وتقدَّم أن لغاته جمعت في بيت: حرا وقبا ذكر وأنثهما معًا ... ومد أو اقصر واصرفنّ وامنع الصرف "فرحًا به، فلولا مقال" أي: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- له: "اسكن"، تصحيح:" انهدم حتى الأرض، "وانقضى" ذهبت آثاره فلم يبق منه شيء". "وحراء وثبير جبلان متقابلان" أي: أحدهما مقابل الآخر في الجملة، لا بقيد التحاذي، وهو الاستواء في المقابلة، فلا ينافي أن حراء أقرب إلى مكة من ثبير، "معروفان بمكة، واختلاف الروايات يحمل على أنها قضايا" وقائع "تكررت، قاله الطبري وغيره" فيكون وقف على كل من أحد وحراء وثبير، وتحرك كل وخاطبهم بذلك جمعًا بين الروايات لصحة جميعها. "لكن صحح الحافظ ابن حجر" في أول كلامه، ثم رجع عنه في آخره، "أنه أحد" حيث قال:" صعد أحدًا، ولمسلم وأبي يعلي من وجه آخر: حراء، والأول أصح، "ولولا اتحاد المخرج" وهو أنس "لجوَّزت تعدد القصة, ثم ظهر لي أن الاختلاف فيه من سعيد" بن أبي عروبة، راوي الحديث عن قتادة، عن أنس, "فإني وجدته في مسند الحارث بن أبي أسامة عن روح بن عبادة" بن العلاء بن حسان البصري، ثقة من رجالهم، عن سعيد بن أبي عروبة، "فقال فيه: أحد وحراء بالشك، وقد أخرجه أحمد من حديث بريدة"، بن الخصيب الصحابي، "بلفظ حراء، وإسناده صحيح، وأخرجه أبو يعلى من حديث سهل بن سعد بلفظ أحمد, وإسناده صحيح، فقوى احتمال تعدد القصة"؛ إذ لا وجه لإعمال بعض الروايات، وطرح بعضها مع صحة جمعيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة ما يؤيد تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء, ومعه الجماعة المذكورون هنا, وزاد معهم غيرهم. ولما طلبته -عليه الصلاة والسلام- قريش, قال له ثيبر: اهبط يا رسول الله إني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله تعالى، فقال له حراء: إليَّ يا رسول الله. رواه في "الشفاء" وهو حديث مروي في الهجرة من السير. وحراء مقابل لثبير، والوادي بينهما، وهو على يسار السالك إلى مني، وحراء قبلي قبير مما يلي شمال الشمس. وهذه الواقعة غير واقعة ثور في خبر الهجرة. هذا هو الظاهر والله أعلم.   "وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة ما يؤيده تعدد القصة، فذكر أنه كان على حراء، ومعه الجماعة المذكورون هنا" في حديث أنس، وهم العمران وعثمان، "وزاد معهم غيرهم", وهم عليّ وطلحة والزبير، وقد سبق لفظه قريبًا. ولما ذكر أحاديث تكليم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للجبال ذكر حديث تكليم الجبل له، فقال: "ولما طلبته -عليه الصلاة والسلام- قريش" حين خرج مهاجرًا، وأرسلوا خلفه من يطلبه، وقد صعد ثبيرًا "قال له ثبير: اهبط يا رسول الله" انزل من فوقي، واذهب إلى مكان آخر تختفي به عنهم، "إني أخاف أن يقتلوك على ظهري، فيعذبني الله تعالى" بالنصب عطفًا على يقتلوك، فإنما خاف العذاب بسبب قتله؛ لأنه لو قتل على ظهره غضب الله على المكان الذي يقع فيه مثل هذا الأمر العظيم، كما غضب على أرض ثمود، فلا يرد كيف يعذب بذنب غيره، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وتوجيهه بأنه خوف بمعنى حزنه وتأسفه عليه، نحو ذلك مما لا وجه له، "فقال له حراء: إليّ" بشد الياء المفتوحة، أي: ائت، أو هو اسم فعل بمعنى أقبل "يا رسول الله", ألهمه الله تعالى أن يقدره على أن ينشق ويستتر في جوفه، ونحو ذلك مما تقع به سلامته، فلم يذهب إليه لسبق تعبده به، فخاف أن يطلبوه فيه، "رواه" أي: ذكره "في الشفاء" بلا إسناد بلفظ وقد روى أنه حين طلبته قريش فذكره, "وهو حديث مروي في الهجرة من السير" بلا إسناد، ولم يخرجه في مناهل الصفاء، "وحراء قابل" مواجه "لثبير، والوادي بينهما وهو على يسار السالك إلى منى، وحراء قبلي ثبير، مما يلي شمال الشمس، وهذه الواقعة غير واقعة ثور في خبر الهجرة", فكأنها كانت قبل توجهه إلى غار ثور الذي اختفى فيه، "هذا هو الظاهر، والله أعلم،" لكن مقتضى قوله في حديث الصحيح: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصديق, وعدا الدليل غار ثور، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 قال السهيلي في حديث الهجرة: وأحسب في الحديث أن ثورًا ناداه أيضًا: إليَّ يا رسول الله، لما قال له ثبير: اهبط عني.   أنهما لم يخرجا من مكة قاصدين سواه. "قال السهيلي في حديث الهجرة، وأحسب: "أظن" في الحديث أن ثورًا ناداه أيضًا: إلي يا رسول الله، لما قال له ثبير: اهبط عني" فيكون ناداه كلّ من ثور وحراء، والله أعلم بصحته، "ومن ذلك كلام الشجر له" وهو ما قام على ساق وما عداه نبات، وقد يطلق على بعضه شجر، كاليقطين والحنطة، "وسلامها عليه،" أي: الشجر، وهو اسم جنس، يذكر ضمير، ويؤنث عطف خاص على عام، "وطواعيتها:" انقيادها له بغير الكلام؛ لأن مجيئها بشقها للأرض ليس من الكلام، فهو مباين، وإن حمل على الطواعية بالكلام وغيره، كان عطف عام، والأولى أَوْلَى. "وشهادتها له بالرسالة" خاص على عام -صلى الله عليه وسلم", وهذا كتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء, من خصائصه على الأنبياء والمرسلين، كما في الأنموذج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له, وشهادتها له بالرسالة "صلى الله عليه وسلم": ومن ذلك كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له، وشهادتها له بالرسالة -صلى الله عليه وسلم. أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أوحى إلي جعلت لا أمرّ بحجر ولا شجر إلّا قال: السلام عليك يا رسول الله".   "أخرج البزار وأبو نعيم من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لما أوحى إليّ" وفي رواية: "لما استقبلني جبريل بالرسالة"، "جعلت" بفتح الجيم مبني للفاعل، أي: صرت، ويحتمل ضمها مبني للمفعول، أي: جعلني الله، "لا أمُرُّ بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله"، ففيه كلامها له وشهادتها له بالرسالة. وروى أبو نعيم في الدلائل عن برة، قالت: لما أراد كرامة نبيه كان يمضي إلى الشعاب وبطون الأودية، فلا يمر بشجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله، وكان يرد عليهم وعليكم السلام. قال الدلجي: لعله رد عليها السلام مكافأة لا وجوبًا؛ إذ ليست مكلفة، انتهى. والتوقف فيه باحتياجه لنقل قصور، فقد علمته رواية، وردّه بأن السلام شرع تحية موجبة للرد في حق البشر؛ لأنه أمان وليست من أهله ساقط، فالمكافأة لغير الأهل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 وخرَّج الإمام أحمد عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، قال: جاء جبريل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وهو جالس حزين، قد خضّب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ما لك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فعل بي هؤلاء وفعلوا"، فقال له جبريل: اتحب أن أريك آية، فقال: "نعم". فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة فدعاها، قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، فقال: مرها ..................   "وخرج الإمام أحمد عن أبي سفيان طلحة بن نافع" الواسطي، أبي سفيان الإسكاف، نزل مكة، صدوق من التابعين، "عن جابر" بن عبد الله" قال: جاء جبريل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم" أي: في ساعة من يوم، "وهو جالس حزين" مغموم على قومه، أن يحلَّ بهم العذاب إذ كذبوه، لا لحَظِّ نفسه؛ لأنه كان لا يغضب لها، بل إذا انتهكت حرمات الله، وإلى هذا أشار القاضي عياض بقوله في الشفاء: وحزنه لتكذيب قومه، وطلبه الآية لهم لا له، أي: لأنه على يقين من أمره، عالم بقدرة ربه، ثم هذا لفظ جابر عند أحمد. وفي حديث أنس عند الدارمي وغيره: إن جبريل قال للنبي، وآره حزينًا، وهو ما أورده في الشفاء، وهو جملة حالية، أي: وقد رآه محزونًا لعدم طاعة قومه في أول البعثة؛ إذ عرض نفسه على القبائل، "قد خضب بالدماء" لأنه "ضرَّ به بعض أهل مكة" لما صدع بأمر الله، فاجتمعوا عليه وأخذوه، وقالوا: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فما دنا منهم أحد إلّا وأبو بكر يدفعهم عنه، وهو يقول: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، كما مَرَّ في المقصد الأول، "فقال له مالك: " أي: شيء عرض لك حتى جلست حزينًا؟ "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فعل بي هؤلاء" الكفار، "وفعلوا" بتكرير الفعل، إشارة إلى تكرر أذاهم، وكثرة أنواعه من غير حصر، لا أنه مرتين فقط، فهو على حد كرتين، ورب ارجعون، ولا يقال حذف المفعول يؤذن بالعموم؛ لأنا نقول العموم ولو في نوع فقط، بخلاف تكرار الفعل، وفي حديث علي عند البزار: أخذته قريش، فهذا يجؤّه، وهذا يتلبَّبه. وفي حديث عمرو بن العاص: ما رأيت قريشًا أرادوا قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يوم أغروا به، وهم في ظل الكعبة، وهو يصلي عند المقام، "فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟ " معجزة تزيل حزنك، لأن الجماد إذا أطاع دعوته دلَّ ذلك على أن الناس تطيعه بعد، لكنَّ تأخير ذلك لحكم خفية، أو آية تدل من نظر إليها، أو علمها على صدقك، ويزول بها حزنك، "فقال: "نعم" أحب ذلك ليزول حزني، وأعلم أن الله سينصرني، ويلين قلوب قومي لإجابة دعوتي، "فنظر إلى شجرة من وراء الوادي" الذي كان فيه مع جبريل، "فقال" جبريل: "ادع تلك الشجرة" أي: مرها أن تأتي إليك، ولم يأمرها هو، إشارة إلى أن المعجزة له لا لجبريل، "فدعاها, قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه, فقال" جبريل: "مرها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 فلترجع إلى مكانها, فأمرها فرجعت إلى مكانها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "حسبي حسبي"، ورواه الدارمي من حديث أنس. وعن عليّ قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله جبل ولا شجر إلّا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله. رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب. وخرج الحاكم في مستدركه بإسناد جيد عن ابن عمر قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فأقبل أعرابي، فلمَّا دنا منه, قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أين تريد؟ " قال: إلى أهلي، ...................................................................   فلترجع إلى مكانها، الذي كانت فيه، "فأمرها، فرجعت إلى مكانها" كما كانت, "فقال -صلى الله عليه وسلم: "حسبي حسبي" ذلك دليلًا على تصديقهم لي، وإن أنكروا عنادًا فلا أحزن". وفي حديث عمر عند البيهقي، فقال: "لا أبالي من كذبني بعد هذا من قومي" , ولعله ظهر ذلك لقومه، بحيث رأوه فلا عذر لهم في عدم تصديقه؛ لأنه بعد ما رؤية الآيات البيات عناد محض، "ورواه الدارمي من حديث أنس" بنحوه، وأخرجه البيهقي من حديث عمر بنحوه أيضًا وهي قصة واحدة، اختلفت الطرق فيها ببعض التغيير والزيادة, هذا هو الأصل, وتجويز التعدد بعيد. "وعن عليٍّ قال: كنت" "مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة" في ابتداء النبوة، "فخرجنا في بعض نواحيها, فما استقبله" أي: لم يقع في مقابلته "جبل ولا شجر", فنسب الاستقبال لهما، إشارة إلى إدراكهما، حتى كأنهما توجَّها لمقابلته، وإلّا فكان الظاهر: فما استقبل جبلًا ولا شجرًا "إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله" لما في المصباح، كل شيء جعلته تلقاء وجهك، فقد استقبلته, واستقبلت الشيء واجهته، فهو مستقبل بالفتح اسم مفعول، "رواه الترمذ: وقال: حديث حسن غريب" من جهة تفرد راويه، فلا ينافي قوله حسن. ورواه أيضًا الدارمي والحاكم وصححه، كما قدَّمه المصنف في ترجمة تسليم الحجر، وأعاده هنا في ترجمة تسليم الشجر، فلا تكرار لاختلاف المراد من سوقه، وكذا كرر حديث عائشة المذكور أول هذه الترجمة في المحلين لذلك، فلا تكرار. "وخرج الحاكم في مستدركه" على الصحيحين "بإسناد جيد،" أي: مقبول، "عن ابن عمر" بن الخطاب" قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر, فأقبل أعرابي، فلما دنا:" قرب "منه، قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أين تريد؟ " أي: تقصد بمسيرك، قال: إلى أهلي، أي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 قال: "هل لك إلى خير"، قال: وما هو؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله"، قال: هل لك من شاهد على ما تقول؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذه الشجرة" , فدعاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهي على شاطيء الوادي, فأقبلت تخدّ الأرض خدًّا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثًا فشهدت، ثم رجعت إلى منبتها. الحديث رواه الدارمي ........   إلى المكان الذي فيه أهلي، ليطابق الجواب السؤال، وحذف المكان للعلم به؛ إذ لا بد لأهله من مكان، أو لعدم تعلق غرضه بخصوص المكان؛ إذ مراده الذهاب إلى أهله في أيِّ مكان كانوا، أو لأنهم كانوا نزالة رحالة لا مكان لهم، وعدَّاه بإلى، والإرادة متعدية بنفسه لتضمنه معنى التوجه، وقدم سؤاله تأنيسًا له، وإزالة لما في نفسه من مهابته؛ لأنه كان مهيبًا لمن رآه، توطئة لقوله: قال: "هل لك" غرض في الوصول "إلى خير" مما أنت فيه أدلك عليه, فلك خبر مبتدأ محذوف، "قال: وما هو" الخير الذي دعوتني له؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وحده" حال لازمة، أي: متوحدًا، منزهًا عن شريك في ذاته وصفاته، وفي كونه معبودًا بحق، "لا شريك له" تأكيدًا لوحدانيته بعد تأكيد، "وأن محمد عبده ورسوله" قدَّم العبودية تنزيهًا لنفسه عن الإطراء في مدحه، ولم يقل وأني عبده ورسوله؛ لاحتمال أن الأعرابي كان يعرف شهرته بذلك، ولا يعرف عينه، "قال: هل لك من شاهد" آية ومعجزة. لا أحد الشهود، "على ما تقول" من الرسالة؟ " قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هذه الشجرة" شاهدي, وفي رواية قال: "هذا السمرة" بفتح المهملة وضم الميم وراء مفتوحة: شجرة عظيمة ذات شوك من الطلح، وأشار إليها لقربها منه, وجمعها سمر -بفتح السين وضم الميم، وسكونها- كما في اللغة لا بفتح الميم، كما وقع لبعض "فدعاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم" وهي على شاطيء" بمعجمة وألف، ومهملة وهمزة: جانب "الوادي" الأرض المتسعة المستوية، من ودى بمعنى سال، لما فيها من المياه السائلة، "فأقبلت تخد الأرض" جملة حالية أو مستأنفة "خدًّا، فقامت بين يديه" محاذية له قريبًا منه، فاستشهدها ثلاثًا،" أي: قال لها ثلاث مرات، وطلب منها أن تشهد له، بأنه رسول الله، والتثليث للتأكيد، ليقوى ذلك في قلب الأعرابي، "فشهدت" له بأنه رسول الله ثلاثًا، وتركه لعلمه من السياق، "ثم رجعت إلى منبتها" بفتح الموحدة قياسًا، وكسرها سماعًا. قال المجد: المنبت كمجلس: موضع النبات شاذ، والقياس كمقعد؛ لأن قياس اسم المكان من يفعل، أن يكون على مفعل بالفتح، كمدخل ومخرج ومقعد، " الحديث" بقيته، ورجع الأعرابي إلى قومه، وقال: يا رسول الله, إن يتبعوني آتك بهم، وإلّا رجعت إليك وكنت معك، "ورواه الدارمي" والبزار، والبيهقي وأبو القاسم البغوي، ومن طريقه المتقدم أخرجه في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 أيضا بنحوه. وقوله: تخد الأرض -بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة- أي: تشق الأرض. وعن بريدة: سأل أعرابي النبي -صلى الله عليه وسلم- آية، فقال له: "قل لتلك الشجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوك"، قال: فمالت الشجرة عن يمينها وشمالها، وبين يديها وخلفها، فتقطعت عروقها .........................................................   الشفاء، "أيضًا بنحوه" وفيه معجزات خلق الله في الجماد إدراكًا، ونطقًا وحركة إرادية تجيء بها وتذهب، وقد وقعت على سبيل التحدي، فحد المعجزة منطبق على كل واحدة منبها" وقوله: تخد الأرض -بضم الخاء المعجمة، وتشديد الدال المهملة, أي: تشق الأرض لتسعى بعروقها التي في جوف الأرض، ولولا ذلك لم تتحرم. "وعن بريدة" علم منقول من تصغير بردة, قال أبو علي الطوسي: اسمه عامر وبريدة، لقب ابن الحصيب، بمهملتين مصغر، وصحّف من قال بخاء معجمة, الأسلمي. قال ابن السكن: أسلم حين مرَّ به -صلى الله عليه وسلم- مهاجرًا بالغميم، وأقام موضوعه حتى مضت بدر وأحد، وقيل: أسلم بعد بدر، وسكن البصرة لما فتحت، وفي الصحيحين عنه أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ست عشرة غزوة، ومناقبه مشهورة، وأخبار كثيرة, وكان غزا خراسان زمن عثمان، ثم تحوَّل إلى مرو، فسكنها إلى أن مات سنة ثلاث وستين، كما في الإصابة، وتقدَّم بعض ترجمته في الهجرة وغيرها. "سأل أعرابي" بعد أن أسلم، كما في نفس رواية البزار وأبي نعيم "النبي -صلى الله عليه وسلم- آية" علامة ومعجزة تقوي إسلامه" "فقال له: "قل لتلك الشجرة" مشير السمرة، كانت ثمة يحتمل أنها المذكورة في الحديث قبله وأنها غيرها، "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوك" بكسر الكاف، يطلب منك المجيء إليه والحركة نحوه، "قال" بريدة: فدعاها "فمالت" فالفاء فصيحة، ويحتمل أنها بمجرد سماعها قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم، جاءت لتحصيل قصده بدون دعاء الأعرابي لها، وهذا أبلغ في المعجزة، لكن المتبادر الأول. "الشجرة عن يمينها وشمالها، وبين يديها وخلفها" أي: مالت ميلًا شديدًا، وتحركت في جهاتها الأربع لتخلص عروقها من الأرض وتتمكّن من الحركة نحو المصطفى، ولعل حكمة ذلك إظهار أنه خلق فيها قوة وإدراك لفعل ذلك، وإن أمكن وصولها إليه بتعلق الإرادة بذلك بلا سبب يحال عليه، "فتقطعت عروقها" على ظاهره أو معناه: تخلّصت وتعلقت، وهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 ثم جاءت تخد الأرض, تجر عروقها مغيرة حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: السلام عليك يا رسول الله، فقال الأعرابي: مرها فلترجع إلى منبتها، فرجعت, فدلت عرقوها في ذلك الموضع فاستقرّت, فقال الأعرابي: ائذن لي أن أسجد لك، قال: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". رواه البزار في الشفاء. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بم أعرف   هو الظاهر لقوله: "ثم جاءت تَخُدُّ الأرض، تجرّ عروقها،" ولو تقطعت حقيقة، فسدت ولم تبق ثابتة بحالها، وقيل: هي معجزة أخرى، مخالفة للعادة ببقائها بعد تقطع عروقها التي هي سبب حياتها، والجملتان حالان مترادفتان أو متداخلتان، والثانية مؤكدة للأولى، ولذا لم تعطف عليها، "مغيرة" بضم الميم وكسر المعجمة وسكون التحتية، أي: مسرعة في مشيها، قال تعالى: {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} الآية، فهو اسم فاعل من أغار، وروي بياء موحَّدة، مشددة مكسورة، وراء خفيفة، اسم فاعل، يقال غير: أثار الغبار، وروي مغبَّرة بضم فسكون ففتح الموحدة الخفيفة، والراء الثقيلة اسم فاعل أيضًا؛ لأنه ازم, أي: اشتد غبارها أو علاها الغبار، وهو حال إمَّا من ضمير تجر, أي: تجر العروق في حال غبرة، أو من العروق، أي: في حال كون العروق مغبرة، "حتى وقفت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم" قريبة منه، مواجهة له، "فقالت: السلام عليك يا رسول الله" فجمعت الطاعة والشهادة بالرسالة والتوقير، "قال الأعربي: مرها" بضم الميم، مخفف أؤمرها، "فلترجع إلى منبتها،" بكسر الموحدة وفتحها، كما مَرَّ فأمرها. "فرجعت" لمحلها، "فدلَّت عروقها،" أدخلتها في ذلك الموضع" الذي هو أصلها، "فاستقرَّت" فيه، وفي الشفاء: فاستوت، أي: انتصبت قائمة من غير ميل، "فقال الأعرابي: ائذن،" بكسر الهمزة، وسكون التحتية، وأصله ائذن بهمزتين، والأولى وصل، والثانية فاء الكلمة، فلما اجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة، وجب إبدالها ياء على القاعدة في ذلك، كما في الألفية وغيرها، خلاف قول البعض بكسر الهمزة الأولى وسكون الثانية، ويجوز إبدالها ياء، "لي أن أسجد لك", فأبى -صلى الله عليه وسلم، و"قال: "لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد" أي: لو جاز أمر مخلوق بالسجود، لمثله، "لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" لوجوب طاعته عليها، وحقوقه الموجبة للتعظيم والخضوع، وفي شرعنا يمتنع السجود والركوع لغير الله تعالى، قيل: وكان جائزًا في الشرائع السابقة بقصد التعظيم لا العبادة، كما قال تعالى: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} الآية. إن كان الضمير ليوسف، وسجدت الملائكة لآدم، وكان ذلك تحية ملوكهم، ولذا طلبه الأعرابي، فنهاه، وعوضنا عن تلك التحية بالسلام والمصافحة، "رواه البزار" في مسنده، وأبو نعيم في الدلائل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 أنك رسول الله؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي، رواه الترمذي وصحَّحه. وفي حديث يعلى ابن مره الثقفي: ثم سرنا نزلنا منزلنا، فنام النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته. ..........................................   ونقله "في الشفاء" بلا عزو بزيادة، وقال: ائذن لي أقبِّل يديك ورجليك، فأذن. "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابي" من بني عامر، كما في رواية البيهقي، "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: بم أعرف أنك رسول الله"؟ كأنَّه لما علم بدعائه الناس للتصديق برسالته، ولاحت عليه علامات السعادة، قصد استكشاف أمره بعلامه يستدل بها، ليتيقَّنَ صدقه -صلى الله عليه وسلم، وتكون تلك العلامة حجة له على غيره، ولعلها تكون سببًا لهداية غيره، بها "قال: "إن دعوت" أمرت، وفي رواية: أرأيت: أرايت إن دعوت، "هذا الغدق" بمهملة مكسورة فمعجمة ساكنة، فقاف:: العرجون جامع الشماريخ، "من هذه النخلة" لنخلة كانت عنده، وأما العذق بفتح العين، فالنخلة نفسها، وقيل: تطلق بكسرها على النخلة أيضًا، لكنه لا يفسر به هنا، لقوله: من هذه، وفي الكلام حذف، فأجابني: "أتشهد أني رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ " أي: أتؤمن بي بما أرسلت به وتقر بذلك، "قال: نعم"، كما في الرواية, فسقط من قلم المصنف أو نساخه، "فجعل، أي: شرع، وصار العذق "ينزل من النخلة" شيئًا فشيئًا "حتى سقط" على الأرض بقعر النخلة، فأقبل وهو يسجد ويرفع، حتى انتهى "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال" له: "ارجع" فعاد إلى مكانه الذي كان فيه، "فأسلم الأعرابي" زاد في رواية، وقال: والله لا أكذبك بشيء تقوله بعدها أبدًا، أشهد أنك رسول الله، وآمن، "رواه الترمذي وصحَّحه" فقال: هذا حديث صحيح، وكذا رواه البخاري في التاريخ، وأبو يعلى وابن حبان، والبيهقي. "وفي حديث يعلى" بزنة يرضى -علم منقول من المضارع، "ابن مرة" بن وهب بن جابر "الثقفي", وأمه سيابة -بكسر السين المهملة، كما في التقريب، وقال التلمساني: بفتحها وتخفيف التحتانية، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع أعناب ثقيف، فقطعها, وهو غير يعلى العامري، وقيل: هما واحد، اختلف في نسبه، فقيل: الثقفي، وقيل: العامري، قال يعلى: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسير، فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم سرنا حتى نزلنا منزلًا، فنام النبي -صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرة" في رواية طلحة أو سمرة بالشك من الرازي في الشجرة، وهما نوعان من شجر البرية ذات شوك يسمَّى العضاه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 ثم رجعت إلى مكانها، فلمَّا استيقظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ذكرت له، فقال: "شجرة استأذنت ربها في أن تسلم علي فأذن لها". الحديث رواه البغوي في شرح السنة. وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزلنا واديًا أفيح، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فلم ير شيئًا يستتر به، فإذا شجرتان في شاطيء الوادي, فانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى إحداهما, فأخذ بغصنٍ من أغصانها فقال: "انقادي عليّ بإذن الله تعالى" فانقادت معه كالعبير المخشوش ...........................   "تشق الأرض حتى غشيته،" وفي رواية: طافت به، أي دارت حوله، "ثم رجعت إلى مكانها" موضعها الذي هي نابتة فيه، "فلمَّا استيقظ انتبه "رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ذكرت له" ذلك، "فقال: "شجرة استأذنت ربها في أن تسلم علي فأذن لها" , فيه إشعار بعلمه، مجيئها قبل إخبار يعلى له به، ولعله علم ذلك في نومه؛ لأنه كان يوحى إليه فيه فتكون الشجرة حين زارته سلمت عليه، وعلم بها، فحصلت مقصودها، "الحديث رواه البغوي" الإمام الفقيه، الحافظ أبو محمد، الحسين بن مسعود بن محمد، صاحب المصنفات، المبارك له فيها القصد الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، مات بمرو سنة ستة عشرة وخمسمائة عن ثمانين سنة، "في شرح السنة" أحد تصانيفه، وهو حديث طويل، رواه الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي. "وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في غزاة حتى نزلنا واديًا أفيح،" بفتح الهمزة، وسكون الفاء، وفتح التحتية، وبالحاء المهملة، أي: واسعًا، فذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي حاجته" كناية عن التغوّط، اي: لأجل ذلك، "فاتبعته بإداوة" بالكسر مطهرة، جمعها إداوي -بفتح الواو "من ماء, فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فلم ير شيئًا يستتر به" من الناس, "فإذا شجرتان" فاجأتاه بلا ترقب، وفي رواية: بشجرتين، بزيادة الباء "في شاطيء الوادي،" بالهمز: جانبه، "فانطق" توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحداهما" حتى قرب منها "فأخذ بغصن من أغصائها"، أي: أمسكه بيده، "فقال: "انقادي" طاوعيني، أو ميلي "علي" لتكوني ساترة لي "بإذن الله تعالى" تيسيره وتسهيله لا بقوة جذبي، "فانقادت معه:" طاوعته ومالت حتى سترته، كما أراد، وإنما أمسك غصنها, ولم يكتف بمجرد دعوتها، كما في الحديث قبله؛ لأن ذلك كان الإظهار معجزة، حتى يسلم الإعرابي، وهنا لم يقصد ذلك، "كالبعير المخشوش" بمعجمات اسم مفعول، أي: الذي وضع في أنفه خشاش بالكسر، أي: عود من خشب لينقاد بسهولة، فإن كان مفتولًا من وبر ونحوه فخزام، ومن نحاس فبرّة. قاله الخطابي وبه علم موقع المخشوش دون المخزوم؛ لأن الغصن من جنس العود، وهو تشبيه في السرعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 الذي يصانع قائدة، ثم فعل بالأخرى كذلك، حتى إذا كان بالمصنف بينهما قال: "التئما علي بإذن الله" فالتأمتا. الحديث رواه مسلم. والمنصف -بفتح الميم: الموضع الوسط بين الموضعين. والتلاؤم: الاجتماع. ولله در الأبو صيري حيث قال: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم كأنما سطرًا لما كتبت ... فروعها من بديع الخط في اللقم   والسهولة، "الذي يصانع" يلاين "قائده" بسهولة الانقياد له، مستعار من المصانع وهي المدارة والإعطاء، ولذا قيل للرشوة مصانعه، قاله الراغب، "ثم فعل بالأخرى كذلك" بأن أمسك غصنًا منها إلى آخره"حتى إذا كان بالمصنف بينهما،" أي: الشجرتين، قال: "التئما" بفتح الفوقية، وكسر الهمزة: انضمَّا واجتمعا "علي بإذن الله" بتيسيره، وإرادته، لا بفعلي، "فالتأمتا" اجتمعتا "الحديث. رواه مسلم" في الصحيح، "والمصنف -بفتح الميم، وإسكان النون وفتح الصاد المهملة الخفيفة، وبالفاء: "الموضع الوسط بين الموضعين والتلاؤم -بالهمز والالتئام: "الاجتماع", ومنه التئام الجرح، وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال -صلى اله عليه وسلم: "يا جابر، قل لهذه الشجرة: يقول لك رسول الله: الحقي بصاحبتها حتى أجلس خلفكما" فزحفت حتى لحقت بصاحبتها فجلس خلفهما، فرجعت أحضر، وجلست أحدث نفسي، فالتفَّت، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والشجرتان قد افترقا، فقامت كل واحدة منهما على ساق، فوقف -صلى الله عليه وسلم- وقفة، فقال برأسه هكذا يمينًا وشمالًا، وهو حديث واحد طوَّله بعض الرواة وبعضهم اختصره، فكأنه لما أخذ بغصن إحداهما، قال لجابر: "قل لهذه الشجرة" إلخ .... فلمَّا جاءت فعل بها مثل ما فعل بالأخرى, وبقي أحاديث أخر في طاعة الأشجار وانقيادها, أورد منها في الشفاء جملة، ثم قال: فهذا ابن عمر، وبريدة، وجابر وابن مسعود، ويعلى بن مرة، وأسامة، وأنس، وعلي، وابن عباس وغيرهم، قد اتفقوا على هذه القصة نفسها أو معناها، ورواه عنهم من التابعين أضعافهم, فصارت في انتشارها من القوة حيث هي، "ولله در الأبوصيري" صوابه البوصيري، كما تقدَّم كثيرًا، "حيث قال: جاءت لدعوته" ندائه "الأشجار، ساجدة" خاضعة، "تمشي إليه على ساق بلا قدم" يعينها على المشي، قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} الآية، والشجر ما له ساق، والنجم ما لا ساق له، وبلا قدم، متعلق بتمشي، أو صفة لساق، وباؤه للمصاحبة "كأنما" حال من فاعل تمشي، وما كافَّة, "سطرت" خَطَّت الأشجار "سطرًا لما" للذي "كتبت فروعها" أي: عروقها مجازًا من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 فشبَّه آثار مشي الشجرة لما جاءت إليه -صلى الله عليه وسلم- بكتابة كاتب أوقعها على نسبة معلومة في أسطر منظومة. وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره -صلى الله عليه وسلم- حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أَوْلَى بالمبادرة لامتثال ما دعا إليه, زاده الله شرفًا وكرمًا لديه. وتأمَّل قول الأعرابي: "ائذن لي أن أسجد لك" لما رأى من سجود الشجرة، فرأى أنه أحرى بذلك، حتى أعلمه -عليه الصلاة والسلام- أن ذلك لا يكون إلّا لله، فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود المعبود، ويقوم على ساق العبودية، وإن لم يكن له قدم كما قامت شجرة.   إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر؛ ليناسب قوله في الحديث المارّ. فتقطعت عروقها، وإن كان الفرع لغة من كل شيء أعلاه، "من بديع الخط" بيان لما، والإضافة بيانية، أو هي من إضافة الصفة للموصوف، أي: الخط المبتدع؛ لأنه لم يعهد مثله للأشجار "في اللقم،" بفتح اللام والقاف، وبضم اللام وفتح القاف: الطريق أو وسطه، كما في القاموس، "فشبَّه آثار مشي الشجر لما جاءت إليه -صلى الله عليه وسلم" المفيدة للخيرات، "بكتابة كاتب، أوقعها على نسبة معلومة في أسطر منظومة" منشقَّة، ووجه التشبيه أن الخط دالٌّ على اللفظ المفيد للمعاني، وآثار مشي فروع الشجرة في الأرض مفيد للخيرات، فالتشبيه من حيث الفائدة، "وإذا كانت الأشجار تبادر لامتثال أمره -صلى الله عليه وسلم- حتى تخر ساجدة بين يديه، فنحن أَوْلَى" أحق "بالمبادة لامتثال ما دعا إليه" لأنَّا عقلاء، مكلفون، وهي جماد غير مكلف، "زاده الله شرفًا وكرمًا لديه" عنده. "وتأمَّل قول الأعرابي: ائذن لي أن أسجد لك" بكسر اللام وخفة الميم، أي: للأمر العظيم الذي "رأى من سجود الشجرة" بيان لما، "فرأى أنه أحرى" أولى بذلك منها، "حتى أعلمه -عليه الصلاة والسلام- أن ذلك" أي: السجود، لا يكون إلّا لله, فحق على كل مؤمن أن يلازم السجود للرب المعبود، ويقوم على ساق العبودية، وإن لم يكن له قدم" يقوم عليه، بأن كان كسيحًا، أو قدم معنوي، كما قامت الشجرة" على ساقها، طاعة للمصطفى، وهي عبودية لله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 حنين الجذع شوقًا إليه "صلى الله عليه وسلم": ومن ذلك: حنين الجذع شوقًا إليه -صلى الله عليه وسلم: اعلم أن "الحنين" مصدر مضاف إلى الفاعل، والمراد: شوقه وانعطافه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، والذي في الأحاديث المسوقة هنا أنه صوت، ولعلّ المراد منه الدلالة على الشوق، أي: الصوت الدال على شوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. والجذع: واحد جذوع النخل، وهو بالذال المعجمة. وقد روي حديث حنين الجذع عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوع ذلك.   حنين الجذع شوقًا إليه "صلى الله عليه وسلم": "ومن ذلك حنين الجذع" المعهود الذي كان يخطب عليه، "شوقًا إليه -صلى الله عليه وسلم" لما فارقه وخطب على المنبر. "اعلم أن الحنين،" بفتح المهملة ونونين، بينهما تحتية، ساكنة، صوت كالأنين يكون عند الشوق لمن يهواه إذا فارقه, وتوصّ به الإبل كثيرًا، "مصدر مضاف إلى الفاعل" أي: إن الجزع حنَّ، "والمراد" بحنينه: "شوقه وانعطافه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم"؛ لأن الحنين اشتياق المرأة إلى ولدها، فشبَّه سوق الجذع بالمرأة على ما يفهم من قصر المصباح، الحنين على ذلك، والحنان على غيرها، لكن قال الجوهري: الحنين: الشوق وتوقان النفس، تقول: حنّ إليه يحنُّ حنينًا. وفي القاموس: الحنين: الشوق وشدة البكاء، والطرب أو هو صوت الطرب عن حزن أو فرح، وعليه فه بيان للمعنى المقصود بالحنين هنا، من جملة المعاني المذكورة، والذي في الأحاديث المسوقة هنا أنه صوت" فتفسيره بالشوق لا تعرض له في الأحاديث, "و" لكن "لعل المراد منه" أي: الصوت: "الدلالة على الشوق" للمصطفى، أي: الصوت الدال على شوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المتبادر أنه بالخفض تفسير للشوق، فيصير المعنى، ولعلَّ المراد من الصوت الدلالة على الصوت؛ لأنَّه جعل تفسيرًا للشوق، وهذا لا معنى له، اللهمَّ إلّا أن يقرأ الصوت بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: فالمراد من الحنين الصوت الدال على شوقه, ويكون بيانه لحاصل المعنى، "والجذع" بكسر الجم" "واحد جذوع النخل" وهو ساق النخلة، كما في القاموس وغيره، "وهو بالذال المعجمة", وظاهره كان أخضر أو يابسًا، وقيل: يختص باليابس, ولا دلالة في {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} على الإطلاق؛ لأن كونه يابسًا يدل للتقييد على أنه لا دلالة فيه لواحد من القولين؛ لأن الواقع أنه كان يابسًا. قال البيضاوي: الجذع ما بين العرق والغصن، وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة. "وقد روي حديث حنين الجذع عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة، تفيد القطع بوقوع ذلك" فهو متواتر، فلا يليق تعبيره بروي ممرضًا؛ لأنه إنما يستعمل فيما يشك فيه، لا في الصحيح، فضلًا عن المتواتر، ولو أسقط عن، وجعل جماعة فاعل روى ببنائه للفاعل لم يرد عليها هذا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 قال العلامة التاج بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب: والصحيح عندي أن حنين الجذع متواتر: رواه البخاري عن نافع عن ابن عمر. ورواه أحمد من رواية أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر. ورواه ابن ماجه وأبو يعلى الموصلي وغيرهما من رواية حمَّاد بن سلمة، عن ثابت عن أنس، وإسناده على شرط مسلم. ورواه الترمذي وصحَّحه أبو يعلى وابن خزيمة والطبراني والحاكم وصحَّحه وقال: على شرط مسلم، يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة   "قال العلامة التاج بن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب" في الأصول، والصحيح عندي، أن حنين الجذع متواتر، وسبقه إلى ذلك عياض وغيره، كما يأتي". رواه البخاري" في علامات النبوة، والترمذي في الصلاة، "عن نافع عن ابن عمر" كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إلى جذع، فلمَّا اتخذ المنبر تحوَّل إليه، فحنَّ الجذع فأتاه، فمسح يده عليه، زاد الإسماعيلي، فسكن، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو لم أفعل لما سكن". "ورواه أحمد من رواية أبي جناب" بجيم ونون خفيفة، فألف، فموحدة, الكلبي، مشهور بكنيته، واسمه يحيى ابن أبي حيّة الكلبي، ضعَّفوه لكثرة تدليسه، مات سنة خمسين ومائة أو قبلها، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، "عن أبيه" أبي حيّة -بفتح الحاء المهملة، والتحتية الثقيلة, واسمه حيّ -بفتح الحاء المهملة، وشد التحتية, الكلبي، الكوفي, روى عن سعد، وابن عمر، وعنه ابنته، قال أبو زرعة: محله الصدق. وفي التقريب: مقبول من الثالثة، روى له ابن ماجه فقط، والمراد من سوقه أن أبا حيّة تابع نافعًا في روايته، "عن ابن عمر" فيغتفر ضعف أبي جناب؛ لأن القصد المتابعة لا الاحتجاج. "ورواه ابن ماجه" وأبو يعلى الموصلي، وغيرهما من رواية حمَّاد، بن سلمة" ابن دينار البصري، ثقة، عابد، أثبت الناس في ثابت، روى له مسلم والأربعة، "عن ثابت" بن أسلم البناني، عابد، ثقة، روى له الستة، "عن أنس، وإسناده على شرط مسلم", فهو من الطبقة السادسة من مراتب الصحيح، "ورواه الترمذي وصححه أبو يعلى، وابن خزيمة والطبراني، والحاكم وصحَّحه، وقال: على شرط مسلم، يلزمه إخراجه من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة" الأنصاري، المدني، ثقة، حجة من رجال الجميع، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 عن أنس. ورواه الطبراني من رواية الحسن عن أنس. ورواه أحمد بن منيع والطبراني وغيرهما، من رواية حمَّاد بن سلمة عن عمَّار بن أبي عامر عن ابن عباس. ورواه أحمد والدارمي وأبو يعلى وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن أبي كعب عن أبيه. ورواه الدارمي من رواية أبي حازم عن سهل بن سعد. ورواه أبو محمد الجوهري من رواية عبد العزيز أبي رواد عن نافع تميم الدارمي. ثم قال: ولست أدعى أن التواتر حاصل بما عددت من الطرق، بل من طرق أخرى كثيرة يجدها المحدث .......................................................   وقيل: سنة أربع وثلاثين، وكان مالك لا يقدم عليه أحدًا في الحديث فيما قال الواقدي، "عن أنس" بن مالك. "ورواه الطبراني، من رواية الحسن" البصري, فهؤلاء ثلاثة رووه" "عن أنس, ورواه أحمد بن منيع البصري" بفتح الميم وكسر النون ابن عبد الرحمن أبو جعفر البغوي، نزيل بغداد، ثقة حافظ، مات سنة أربع وأربعين ومائتين وله أربع وثمانون. "والطبراني وغيرهما من رواية حمَّاد بن سلمة، عن عمار بن أبي عامر، مولى بني هاشم أبو عمر، ويقال: "أبو عبد الله، صدوق، روى له مسلم والأربعة، مات بعد العشرين ومائة، "عن ابن عباس" عبد الله، "ورواه أحمد، والدارمي، وأبو يعلى، وابن ماجه وغيرهم من رواية الطفيل بن أبيّ بن كعب،" الأنصاري، الخزرجي، ثقة، من كبار التابعين، يقال: وُلِدَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان يقال له أبو بطن لعِظَمِ بطنه، روى له البخاري في الأدب المفرد، "عن أبيه" أبي بن كعب، بن قيس، بن زيد، بن معاوية، بن عمرو، بن مالك، بن النجار، سيد القراءة، من فضلاء الصحابة، يكنَّى أبا المنذر، ويكنَّى أبا الفيل أيضًا. "ورواه الدارمي من رواية أبي حازم" بمهملة وزاي، سلمة بن دينار المدني، عابد، ثقة من رجال الجميع، "عن سهيل بن سعد الساعدي. "ورواه أبو محمد" الحسن بن علي "الجوهري" من رواية عبد العزيز أبي رواد،" بفتح الراء، وشد الواو، صدوق، عابد، ربما وهم ورمي بالإرجاء، روى له الأربعة, وعلق له البخاري، مات سنة تسع وخمسين ومائة" عن نافع عن تميم، بن أوس بن خارجة "الدارمي" الصحابي المشهور، مات سنة أربعين، فعدَّ ستة من الصحابة الذين رووه، "ثم قال" ابن السبكي: "ولست أدعى أن التواتر حاصل بما عددت من الطرق، بل من طرق أخرى كثيرة، يجدها المحدث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 ضمن المسانيد والأجزاء وغيرهما، وإنما ذكرت في المشاهد منها أو في بعضها، وربَّ متواتر عن قوم غير عند آخرين. انتهى. وقال الحافظ بن حجر في فتح الباري: حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كلّ منهما نقلًا مستفيضًا يفيد القطع عند من يطّلع على طرق الحديث دون غيرهم ممن لا ممارسة له في ذلك، والله أعلم، انتهى. وقال البيهقي: قصه حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف، انتهى. وهذه الآية من أكبر الآيات والمعجزات الدالة على نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي -فيما نقله ابن أبي حاتم عنه، في مناقبه: ما أعطى الله نبيًّا ما أعطى نبينا محمدًا، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتي، قال: أعطى محمدًا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهو أكبر من ذلك.   ضمن المسانيد والأجزاء وغيرهما" كالمشيخات والمعاجم، أي: غير القسمين، وفي نسخة وغيرها، بالتأنيث نظرًا للمعني، أي: وغير الإفراد، المذكورة, "وإنما ذكرت" بالبناء للفاعل، مسند إلى ضمير المتكلم، وحذف المفعول، أي: ما وجدته "في الشاهدة منها، أو في بعضها، وربَّ متواتر عند قوم" لكثرة اطِّلَاعهم، "غير متواتر عند آخرين" لقِلَّته، "انتهى" كلام ابن السبكي. "وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري" في حديث تسبيح الطعام: "حنين الجذع وانشقاق القمر، نقل كلٌّ منهما نقلًا مستفيضًا، يفيد القطع عن من يطَّلع على طرق الحديث، دون غيرهم، ممن لا ممارسة له في ذلك، والله أعلم. انتهى". "وقال" هنا "قال البيهقي: قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف" ورووها "عن السلف" رواية الإخبار الخاصة كالتكليف، هذا بقية كلام البيهقي، "انتهى. وهذه الآية من أكبر الآيات والمعجزات الدالة على نبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم". "قال الشافعي فيما نقله ابن أبي حاتم" عن أبيه، عن عمرو بن سواد، "عنه" أي: الشافعي "في" كتاب "مناقبه" التي ألفها ابن أبي حاتم، "ما أعطى الله نبيًّا" مثل "ما أعطى نبينا محمدًا،، فقيل له" القائل عمرو بن سواد، بلفظ قلت: "أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدًا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهي أكبر من ذلك". الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 وقال القاضي عياض: حديث حنين الجذع مشهور منتشر، والخبر به متواتر، أخرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر، منهم: أُبَيّ بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد، وأبو سعيد الخدري, وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبي وداعة, انتهى. فأمَّا حديث أُبَيّ بن كعب فرواه الشافعي، في مسنده وابن ماجه والدارمي وأحمد وأبو يعلى كما سبق قريبًا، والبيهقي كلهم من حديث الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مستندًا إلى جذع إذ كان المسجد عريشًا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: .......................   وقال القاضي عياض: في الشفاء: "حديث حنين الجذع مشهور منتشر،" أي: شائع بين الخلق، والخبر به متواتر، لكثرة طرقه الصحيحة، ونقل جماعة له عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، "أخرجه أهل الصحيح" أي: الذين التزموا إخراج الأحاديث الصحيحة في كتبهم، كالبخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان. "ورواه من الصحابة بضعة عشر" بكسر الباء وفتحها من ثلاثة إلى تسعة، "منهم: أُبَيّ بن كعب وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر" بن الخطاب، "وعبد الله بن عباس، "وسهل بن سعد، وأبو سعيد" سعد بن مالك "الخدري" بالدال المهملة، "وبريدة وأم سلمة" أم المؤمنين هند بنت أبي أمية، "والمطلب بن أبي وداعة" بفتح الواو وخفة الدال- الحارث بن صبيرة -بمهملة، ثم موحدة- ابن سعيد، بالتصغير، السهمي، أبو عبد الله، صحابي أسلم يوم الفتح، وأمه أروى بنت الحارث بن عبد المطلب، بنت عم النبي -صلى الله عليه وسلم، نزل المدينة، ومات بها، وله أحاديث في مسلم والسنن، "انتهى" ما نقله من كلام عياض، ومنه كلهم يحدث بمعنى الحديث، أي: فروايتهم متفقة بحسب المعنى، وكأنه يشير إلى أن تواتره معنوي لا اصطلاحي، كقول ابن صلاح: إن التواتر لا يكاد يوجد، لكن تعقب بأنه حقيقي لإجماع من بعدهم على صحتها، ثم نسب المصنف ما ذكره عياض من أحاديث هؤلاء إلى مخرجها إلّا أخيرها, وهو المطلب, وقد أخرجه أحمد والزبير بن بكار، فقال: "فأما حديث أُبَيّ بن كعب" "فرواه الشافعي" "في مسنده" وابن ماجه" والدارمي، وأحمد، وأبو يعلى، كما سبق قريبًا والبيهقي، كلهم من حديث الطفيل بن أُبَيّ بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي مستندًا إلى جذع، إذ كان المسجد عريشًا" أي: مسقَّفًَا بالجريد، وكانت الجذوع له كالأعمدة، "وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه" هو تميم الداري، ففي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 هل لك أن نجعل لك منبرًا تقوم عليه يوم الجمعة، ويسمع الناس خطبتك؟ قال: "نعم"، فصنع له ثلاث درجات، هي التي على المنبر، .........................................   أبي داود وغيره بإسناد جيد، أن تميمًا قال له -صلى الله عليه وسلم- لما كثر لحمه، ألا نتخذ لك منبرًا يحمل عظامك, قال: "بلى" فاتخذ منبرًا، الحديث. ولا تصريح فيه بأن صانع المنبر تميم، بل روى ابن سعد، أن تميمًا لم يعمله، وأشبه الأقوال بالصواب أن صانعه ميمون؛ لكونه من رواية سهل بن سعد، أخرجه قاسم بن أصبغ، وأبو سعد في الشرف، وهو مولى امرأة من الأنصار، كما في الصحيح، وقيل: مولى سعد بن عبادة، فكأنه في الأصل مولى امرأته، ونسب إليه مجازًا، واسمها فكيهة بنت عمة عبيد بن دليم، أسلمت وبايعت، وأمَّا الأقوال الأخرى أن صانعه تميم، أو بأقوال باللام أخره، أو الميم الرومي، أو صباح -بضم المهملة، وخفة الموحدة، أو قبيضة، أو مينا -بكسر الميم, أو صالح مولى العباس، أو إبراهيم أو كلاب مولى العباس، فلا اعتداد بها لوهائها، ويبعد جدًّا الجمع بينها، بأنَّ النجار كانت له أسماء متعددة، واحتمال كون الجميع اشتركوا في عمله يمنع منه قوله في كثير من الروايات: لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد يقال له ميمون، إلّا أن يحمل على أن المراد واحد في صناعته، والبقية أعوانه، فيمكن كما بسطه في فتح الباري، وقدمته في المقصد الأول مبسوطًا. "هل لك أن نجعل منبرًا تقوم عليه يوم الجمعة", فتستريح من القيام على الجذع، ويسمع الناس خطبتك" أقوى من سماعهم وأنت على الأرض، "قال: "نعم" , فصنع له ثلاث درجات هـ التي على المنبر، أي: فوقه؛ لأنه كان ثلاثة درجات إلى أن زاده مروان بن الحكم في خلافة معاوية ست درجات, وسبب ذلك أن معاوية كتب إليه أن يحمل المنبر إليه من المدينة إلى الشام، فأمر به، فقلع فأظلمت المدينة، وانكسفت الشمس حتى رأو النجوم, فخرج مروان فخطب فقال: إنما أمرني أمير المؤمنين أن أرفعه، فدعا نجارًا، فزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس، أخرجه الزبير بن بكار في أخبار المدينة من طرق. قال ابن النجار: واستمرَّ على ذلك إلى أن احترق مسجد المدينة، سنة أربع وخمسين وستمائة فاحترق. قال السيوطي: وكان ذلك إشارة إلى زوال دولة آل البيت النبوي بني العباس، فإنها انقرضت عقب ذلك بقليل في فتنة التتار. قال ابن النجار: ثم جدَّد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين وستمائة منبرًا، ثم أرسل الظاهر بيبرس بعد عشر سنين منبرًا، فأزيل منبر المظفر فلم يزل منبر بيبرس إلى سنة عشرين وثمانمائة، فأرسل المؤيد شيخ منبرًا، فلم يزل إلى سنة وستين وثمانمائة، فأرسل الظاهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 فلمَّا صنع وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضعه الذي هو فيه، فكان إذا بدا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخطب عليه، تجاوز الجذع الذي كان يخطب عليه خار حتى تصدّع وانشقّ، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت الجذع, فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، الحديث. وأما حديث جابر فرواه البخاري من طرق، وفي لفظ له: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار، أو رجل من الأنصار: ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: "إن شئتم" , فجعلوا له منبرًا, كان يوم الجمعة   خشقدم منبرًا، انتهى. "فلمَّا صنع" من أثل الغابة، كما في الصحيح، "وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضعه الذي هو فيه، فكان إذا بدا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخطب تجاوز الجذع الذي كان يخطب عليه، خار،" بخاء معجمة: صوت، وهو في الأصل يختص بصياح البقر، ثم توسعوا فيه في أصوات جميع البهائم، ثم قاله الراغب، فإطلاقه على صوت الجذع مجاز، "حتى تصدَّع وانشقَّ،" عطف تفسير؛ إذ حقيقة الصدع شق الأجسام الصلبة، كالزجاج والحديد، ثم استعير منه صدع الأمر بينه كأصدح بما تؤمر، وهو مبالغة في شدة صياحه، كما يقال: صاح حتى انفلق، ويجوز بقاؤه على ظاهره، ولكن يؤيد الأول قوله: "فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سمع صوت الجذع، فمسحه بيده،" فسكت، كما في رواية لزوال ألمه بقربه منه ومشيه له، ثم رجع إلى المنبر. الحديث. "وأما حديث جابر، فرواه البخاري من طيق" في مواضع, "وفي لفظ له" في علامات النبوة وغيرها، عن شيخه أبي نعيم، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة" يخطب "إلى شجرة، أو" قال: إلى نخلة بالشكِّ من الراوي، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع، عن عبد الواحد، فقال: إلى نخلة، أي: إلى جذع نخلة، "فقالت امرأة من الأنصار" لم تسم, أو هي فكيهة بنت عبيد بن دليم زوجة سعد بن عبادة، وقول المستغفري: اسمها علاثة، تصحيف، وللطبراني اسمها عائشة، وإسناده ضعيف، "أو رجل" شكّ من الراوي، والمعتمد الأول، وقد تقدَّم بيانه في الجمعة، والخلاف في اسمها قاله في الفتح, وقال في مقدمته: في رواية البيهقي أنه تميم الداري, وقدّمنا الخلاف في اسم صانع المنبر، ورجَّحنا أن تميمًا هو المشير به، وأن صانعه الذي قطعه من طرفاء الغابة هو المختلف في اسمه، انتهى. ويقع في نسخ المصنف: أو رجل "من الأنصار" وليس في البخاري من الأنصار، ولا يصحّ لرواية البيهقي، فقال تميم: وليس من الأنصار، "ألا" بالتحفيف "نجعل لك منبرًا؟ قال: "إن شئتم" جعله فاجعلوا، "فجعلوا له منبرًا, فلمَّا كان يوم الجمعة" الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 رفع إلى المنبر، فصاحت النخلة, فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فضمَّها إليه, فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: "كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها". وفي لفظ: قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفًا على جذوع نخل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلمَّا صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار - وهو بكسر العين المهملة: النوق الحوامل. وفي حديث أبي الزبير ....................................   برفع يوم، اسم كان، ونصبه على الظرفية "رفع" بالراء، وفي رواية بالدال بدلها، وكسر الفاء، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم "إلى المنبر" ليخطب عليه، "فصاحت النخلة" التي كان يخطب عندها، أسقط من لفظ البخاري في العلامات صياح الصبي، وزاد في البيع: حتى كادت أن تنشق، "فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضمها" أي: النخلة، وفي رواية: فضمَّه، أي: الجذع "إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن" بضم التحتية، آخره نون، مبني للمفعول من التسكين، قاله المصنف. "قال" عليه الصلاة والسلام: "كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها"، أي: ذكر الله، أو المواعظ، أو القرآن، أو نفس المصطفى؛ لأنه أطلق عليه الذكر أيضًا، لكن يبعده تسمع، وهو جواب سؤال نشأ من الكلام السابق، تقديره: لم كانت تبكي. "وفي لفظ" للبخاري أيضًا في العلامات والجمعة، "قال جابر بن عبد الله: كان المسجد" النبوي "مسقوفًا على جذوع نخل" أي: كانت له كالأعمدة، "فكان" بالفاء، وفي رواية: بالواو، "النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب، يقوم" مستندًا "إلى جذع منها" حين يخطب، وصرَّح به في رواية الإسماعيلي: "فلمَّا صنع بالبناء للمفعول "له المنبر" وخطب عليه، مفارقًا للجذع "سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار", وبقية هذا الحديث في البخاري، حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليها، فسكنت. قال المصنف: بالنون "وهو بكسر العين المهملة" بعدها معجمة خفيفة، "النوق الحوال التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر, جمع عشراء -بضم، ففتح. وقال الخطابي: هي التي قاربت الولادة، وفي القاموس: العشراء من النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر وثمانية، أو هي كالنفساء من النساء، وتقدَّم في الطريق الأخرى، فصاحت صياح الصبي، حتى كادت أن تنشق. "وفي حديث أبي الزبير"، محمَّد بن مسلم المكي، صدوق، روى له الجميع، مات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 عن جابر -عند النسائي في الكبرى: اضَّطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج. انتهى. والخلوج -بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام الخفيفة وآخره جيم: الناقة التي انتزع منها ولدها. والحنين: هو صوت المتألم المشتاق عند الفراق. وإنما يشتاق إلى بركة رسول الله, ويأسف على مفارقته أعقل العقلاء. والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعي الحياة، وهذا يدل على أن الله -عز وجل- خلق فيه الحياة والعقل والشوق, ولهذا حنَّ وأنَّ. فإن قلت: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري: ...................................   سنة ست وعشرين ومائة، "عن جابر عند النسائي في" السنن "الكبرى" إحدى تصانيفه، والصغرى هي أحد الكتب الستة: "اضَّطربت" تحرَّكت "تلك السارية" وصوَّتت تصويتًا، "كحنين الناقة الخلوج، انتهى. والخلوج -بفتح الخاء المعجمة، وضمّ اللام الخفيفة، وآخره جيم: الناقة التي انتزع منها ولدها". زاد الفتح: وفي حديث أنس عند ابن خزيمة: فحنَّت الخشبة حنين الواله، وفي روايته الأخرى عند الدارمي: خار ذلك الجذع كخوار الثور. وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أحمد، والدارمي، وابن ماجه: فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشقّ، فأخذ أُبَيّ ذلك الجذع لما هُدِمَ المسجد، فلم يزل عنده حتى بلي وصار رفاتًا، وهذا لا ينافي أنه دفن، لاحتمال أنه ظهر بعد الهدم عند التنظيف، فأخذه أُبَيّ بن كعب، انتهى. "والحنين: هو صوت المتألم المشتاق عند الفراق" لمن يهواه، "وإنما يشتاق إلى بركة رسول الله، ويأسف على مفارقته أعقل العقلاء، والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعي الحياة، وهذا يدل على أن الله -عز وجل- خلق فيه" أي: الجذع "الحياة والعقل والشوق، ولهذا حنَّ وأنَّ" والأنين صوت المريض، وهما متقاربان، وقيل في الأنين زيادة امتداد الصوت، وعبَّر به إيماءً إلى أنه لحقه ألم كالمريض، وهو عطف خاص على عام؛ لأن الحنين في الإبل إذا فارقت أولادها، ثم شاع في مطلق الشوق ولو بالكلام، وأمَّا الأنين فيما لا يفهم كالتأوّه، ففيه إشارة إلى أنه كان بصوت يفهم منه الحزن بدلالة طبيعة، كأنين المريض. "فإن قلت: مذهب الشيخ الحسن الأشعري" من ذرية أبي موسى الأشعري الصحابي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 إن الأصوات لا يستلزم خلقها في المحل خلق الحياة ولا العقل. أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة، إلّا أنَّ الشوق إلى الحق شوقًا معنويًّا عقليًّا لا طبيعيًّا بهيميًّا. ومذهب الشيخ أبي الحسن أن الذكر المعنوي والكلام النفسي يستلزمان الحياة استلزام العلم لها. وقد بينَّا أن هذه المعاني وجدت في الجذع، وأطلق الحاضرون على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر وإلى مقام الحبيب عنده، وقد عامله النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة، فالتزمه كما يلتزم الغائب أهله وأعزته يبرد غليل شوقهم إليه وأسفهم عليه، ولله در القائل: وحنَّ إليه الجذع شوقًا ورِقَّةً ... ورجع صوتًا كالعشار مرددا فبادره ضمًّا فقَرَّ لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعوّدا   "إن الأصوات لا يستلزم خلقها في المحل خلق الحياة ولا العقل"؛ إذ الأصوات من العرض عند الأكثرين، ولم يخالف فيه إلّا النظام، وجعل الأشعري الأصوات اصطكاك الجواهر بعضها ببعض، وذلك لا يستلزم الحياة والإرادة. "أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة" للصوت حى يلزمنا مخالفة الأشعري، "إلّا أن الشوق إلى الحق" إنما يكون "شوقًا معنويًّا", فهو خبر محذوف، أَوْلَى من تخريجه على نصب أنَّ الجزأين "عقليًّا لا طبيعيًّا بهيميًّا، ومذهب الشيخ أبي الحسن" الأشعري، "أن الذكر المعنوي والكلام النفسي يستلزمان الحياة استلزام العلم لها، وقد بينَّا أن هذه المعاني وجدت في الجذع، وأطلق الحاضرون على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر، وإلى مقام الحبيب عنده، وفي رواية سهل: وكثر بكاء الناس لما رأوا به، "وقد عامله النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة" معاملة الحي العاقل، "فالتزمه" اعتنقه وضمَّه، "كما يلتزم الغائب أهله وأعزته، يبرد غليل:" حرارة "شوقهم إليه، وأسفهم:" حزنهم "عليه", ففيه دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكًا كالحيوان، بل كأشرف الحيوان، وفيه تأييد لمن حمل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] الآية، على ظاهر، كما في الفتح, "ولله در القائل" وهو صالح بن الحسين الشاعر، في قصيدة طويلة: "وحنَّ" صوت "إليه الجذع شوقًا" أي: لأجل شوقًا، أو هو مفعول مطلق، أي: اشتاق إليه شوقًا عظيمًا، فالتنوين للتعظيم، "ورقة ورجّع صوتًا كالعشار" بكسر العين وخفة الشين، "مرددًا،" بفتح الدال، صفة صوتًا، وكسرها حال من فاعل رجع: أي: ورجع الجذع حال كونه مرددًا الترجيح صوتًا كصوت العشار، "فبادره ضمًّا" اعتناقًا، "فَقَرَّ" سكن "لوقته لكل امرئ من دهره ما تعوّدا", يعني: إنه أمر مطَّرد في كل من اعتاد أمرًا وانقطع عنه، فإنه يتألم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 وأما حديث أنس، فرواه أبو يعلى الموصلي بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئًا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع منبرًا له درجتان, ويقعد على الثالثة، فلمَّا قعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر جأر الجذع كجؤار الثور، وارتجَّ المسجد لجؤاره حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فنزل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فالتزمه وهو يخور، فلمَّا التزمه .....   لذلك ويحزن, فإذا رجع إليه فرح واطمأنَّ، وهذا الجذع لما ألف مقامه -صلى الله عليه وسلم- اعتاد ذلك، فصار يتألَّم لفراقه تألُّم من فارقته أحبته، فلمَّا ضمه، سكن وفرح كمقيم ورد عليه أحبته المسافرون سفرًا طويلًا، لا سيما إذا ظنّ المقيم أن لا يرجع المسافر إليه. "وأما حديث أنس فرواه أبو يعلى الموصلي،" الحافظ، الثقة، أحمد بن علي بن المثني، التميم، المتوفَّى سنة سبع وثلاثمائة، وقد زاد على مائة وعمَّر، وتفرَّد ورحل الناس إليه "بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد" النبوي، كالعمود "يخطب الناس، فجاءه روميّ" باقوم، بموحدة، فألف، فقاف مضمومة، آخره ميم، أو لام، أو مينًا أو غيرهما، والأصح والأشهر أنه ميمون، كما مَرَّ عن الحافظ، ووقع للمصنف أن الأشهر باقوم، وفيه نظر، "فقال: ألا أصنع لك شيئًا تقعد عليه كأنك قائم، فصنع منبرًا" بكسر الميم من نبره، رفعه، ورقاه؛ لأن القائم عليه يرتفع عن غيره، "له درجتان، ويقعد على الثالثة، فلمَّا قعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، جأر" بجيم، فهمزة مفتوحة، والجؤار معروف، ولذا قال: "كجؤار الثور،" وهو مثل الخوار بالخاء، يقال: جار الثور يجار، أي: صاع، وقرأ بعضهم: {عجلًا جسدًا له جؤار} [طه: 88] الآية، بالجيم، حكاه الأخفش، كذا في نور النبراس. وقال التلمساني: بضم الخاء المعجمة، يهمز ويسهل، وهو أولى، وبالجيم، وهو رفع صوته مع تضرع، واستغاثة, فصدر بالخاء، وذكر الحجازي على الشفاء، أن الرواية بالجيم، وأنه لم بالخاء فيما علم وارتج" بهمزة وصل، "وراء ساكنة، وفوقية مفتوحة، وجيم ثقيلة: تحرَّك واضَّطرب اضطرابًا شديدًا، "المسجد"أي: أهله "لجؤاره" لعظيم هذه الآية، وكثر فيه الكلام، أو هو على ظاهره بأن تحرَّكت حيطانه وجدارنه لشدة صوته، إمَّا حقيقة، أو لظنّ ذلك ممن هو فيه، "حزنًا", وفي رواية" تحزنًا", أي: إظهار حزن، وهو خلاف السرور "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فنزل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنبر، فالتزمه" ضمَّه "وهو يخور:" يصوت، "فلمَّا التزمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 سكت, ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى تقوم الساعة حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم "، فأمر به -صلى الله عليه وسلم- فدفن. ورواه الترمذي وقال: صحيح غريب. وكذا رواه ابن ماجه والإمام أحمد من طريق الحسن عن أنس ولفظه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلمَّا كثر الناس قال: "ابنوا لي منبرًا"، أراد أن يسمعهم، ......................................................   سكت" عن ذلك، "ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس" روح "محمد بيده" قدرته وتصرفه، وحياته ومماته، متى أراد "لو لم ألتزمه" اعتنقه وأضمه، افتعال من اللزوم، وهو عدم الفراق، ثم استعير للعناق، كما في الأساس، "لما زال هكذا" أي: له صياح وجؤار "حتى تقوم الساعة" , وفي رواية: "إلى يوم القيامة"، "حزنًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم " , قيل: وهذا على طريق المبالغة، كقوله: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} ، وإن لم يقع، فلا يشكل بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} , {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية. ولا حاجة إليه، فلا مانع من بقائه على ظاهره؛ لأنه علّق بقاءه على عدم التزامه، فإذا التزمه تغير وفني، وقد علَّم الله ذلك، "فأمر به -صلى الله عليه وسلم" بعض صحبه بأخذه ودفنه، "فدفن" تحت المنبر، كما في رواية. وفي بعض الروايات: فدفنت تحت منبره، أو جعلت في السقف، كذا في بعض نسخ الشفاء، فيحتمل أنه دفن تحت المنبر أولًا، ثم رفع في السقف، لئلَّا يداس بالأرجل، تكريمًا لأثره -صلى الله عليه وسلم، فلما هُدِمَ المسجد أخذه أُبَيّ، فكان عنده إلى أن بلي وصار رفاتًا. قال البرقي: وإنما دفنه وهو جماد؛ لأنه صار حكمه حكم المؤمن لحبه وحنينه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: لئلّا تشتغل به الناس، وربما افتتن به بعد العصر الأول، وفيه إشارة إلى أنه سينبت في الجنة، كما يأتي، "ورواه" أي: حديث أنس المذكور "الترمذي، وقال: صحيح غريب" لتفرد راويه، فيجامع الصحة، فلا تنافي، ونصَّ على صحته لبيان حاله، لا لنفي صحة غيره، وكذا رواه ابن ماجه والإمام أحمد من طريق الحسن البصري، "عن أنس، ولفظه: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، هي جذع نخلة، وفيه تكرر ذلك منه؛ لأن خبر كان إذا كان مضارعًا يفيد ذلك استعمالًا، كقولهم: كان حاتم يقري الضيف. وفي التنزيل: وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، "فلا كثر الناس، قال: "ابنوا لي منبرًا" أراد أن يسمعهم، فأرسل لامرأة من الأنصار أن مري غلامك النجار، كما في حديث سهل، ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 فبنوا له عتبتين، فتحوّل من الخشبة إلى المنبر، قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحنّ كحنين الواله، قال: فما زالت تحنّ حتى نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنبر فمشي إليها, فاحتضنها فسكتت. ورواه أبو القاسم البغوي وزاد فيه: فكان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله, الخشبة تحنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.   ينافي ذلك أن المشير بن تميم، وأن الرومي قال: ألا أصنع لك شيئًا، كما في الرواية قبله عن أنس؛ لأنه لما شقَّ عليه القيام على الجذع، وأراد إسماع الناس، أشار تميم بذلك، وقال له الرومي ما قال، فقال: "ابنو لي منبرًا" ثم أرسل المرأة، "فبنوا له عتبتين"، أي: درجتين، والثالثة هي التي يجلس عليها، كما في الرواية قبله، ولا يفهم من قوله: "ابنوا" وقوله: فبنوا أنه من طين؛ لأنه لم يثبت، كما قدَّمه المصنف في المقصد الأول، والذي في الصحيحين، أنه من أثقل الغابة، وهو بمثلثة شجر، كالطرفاء والغابة، بمعجمة موضع بالمدينة, "فتحوّل من الخشبة" أي: الجذع "إلى المنبر, قال" الحسن: "فأخبر أنس بن مالك، أنه سمع الخشبة تحنّ كحنين الواله، قال: فما زالت تحنّ حتى نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنبر، فمشى إليها فاحتضنها، فسكنت، تركت صياحها لزوال همّها وحزنها بمشيه لها وضمها، "ورواه أبو القاسم" الحافظ الكبير، مسند العالم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، "البغوي" الأصل، البغدادي، الإمام الجليل، المصنف العارف، طال عمره وتفرّد في الدنيا، ومات سنة سبع عشرة وثلاثمائة عن مائة وثلاث سنين، وهو متقدِّم على محيي السنة البغوي بزمان، "وزاد فيه: فكان الحسن" البصري، "إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الل! الخشبة" أي: الجذع, "تحنَّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقًا إليه" مفعول مطلق لتحنّ، كجلست قعودًا، أو مفعول له الأوّل أَوْلَى، لقوله: "لمكانه من الله، بلام التعليل، إن لم يكن بدلًا من قوله إليه، أو علة متداخلة، فشوقًا علة لتحنّ، ولمكانه علة لشوقًا، أي: إن الخشبة اشتاقت لعلوّ مقامه وجلالة قدره، وهي جماد، "فأنتم أحق" من الجماد "أن تشتاقوا إلى لقائه", وذكر ابن عطية عن أبيه: سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على سرير وعظه، سنة تسع وستين وأربعمائة: من أحبَّ أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الكهف وصحبهم، فذكره الله في محكم تنزيله، فالخشبة تحنّ, والكلب يحب، فهذه عبرة لأولي الألباب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 ولله در القائل: وألقى حتى في الجمادات حبه ... فكانت لإهداء السلام له تهدى وفارق جذعا كان يخطب عنده ... فأن أنين الأم إذا تجد الفقدا يحن إليه الجذع يا قوم هكذا ... أما نحن أولى أن نحن له وجدا إذا كان جذع لم يطق بعد ساعة ... فليس وفاء أن نطيق له بعدا وأما حديث سهل بن سعد، ففي الصحيحين من طرق. وأما حديث ابن عباس فعند الإمام أحمد بإسناد على شرط مسلم، ورواه ابن ماجه. وأما حديث ابن عمر، ففي البخاري. وأما حديث أبي سعيد الخدري، فعند عبد بن حميد.   "ولله در القائل: وألقى حتى في الجمادات حبه" عليه السلام، "فكانت لإهداء السلام له تهدى،" أي: تدل لذلك، بأن يخلق الله فيها هداية للسلام عليه. فارق جذعا كان يخطب عنده ... فأن أنين الأم إذا تجد الفقدا بألف الإطلاق، وهو إشباع حركة الروى، فيتولد منها حرف مجانس لها، "يحن إليه الجذع يا قوم هكذا،" أي: الحنين الزائد المشبه بحنين الأم. أما نحن أولى أن نحن له وجدا ... إذا كان جذع لم يطق بعد بضم، فسكون "ساعة، فليس وفاء" منا، خبر ليس قدم على اسمها، وهو "أن نطيق له بعدا" وهو معرفة بل من أعرف المعارف، لأن المصدر المنسبك من أن، والفعل في رتبة الضمير، كما في المغني. "وأما حديث سهل بن سعد، ففي الصحيحين" في الصلاة وغيرها "من طرق" عن سهل، قال: بعث صلى الله عليه وسلم إلى امرأة: "أن مري غلامك النجار يعمل لي أعوادا أجلس عليهن". "وأما حديث ابن عباس، فعند الإمام أحمد، بإسناد على شرط مسلم،" ولا يلزم أنه كصحة ما رواه نفس مسلم، كما نبه عليه ابن الصلاح وغيره، ولذا كان من الرتبة السادسة من مراتب الصحيح، "ورواه ابن ماجه" وابن منيع والطبراني، كما مر، "وأما حديث ابن عمر، ففي البخاري" مختصرا، وقدمت لفظه، "وأما حديث أبي سعيد الخدري، فعند عبد" بلا إضافة "ابن حميد" بن نصر الكسبي، بمهملة أبي محمد، قيل: اسمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 وأمَّا حديث عائشة، فعند البيهقي وفي آخره: أنه -صلى الله عليه وسلم- خَيّرَ الجذع بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وأما حديث بريدة، فعند الدارمي وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له حين حَنَّ: "إن شئت أن أردَّك إلى الحائط الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك؟ " ثم أصغى له النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله, وأكون في مكان لا أبلى فيه، فسمعه من يليه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت"، ثم قال: اختار دار البقاء على دار الفناء.   عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقة، حافظ، روى عن مسلم والترمذي، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، وكذا رواه عنه الدارمي. "وأمَّا حديث عائشة، فعند البيهقي" في الدلائل، ولم يذكرها أولًا فيمن أجمله من الصحابة، "وفي آخره: أنه -صلى الله عليه وسلم- خَيِّرَ الجذع بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة" وفيه نوع إجمال بيته قوله. "وأمَّا حديث بريدة، فعند الدارمي وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله حين حن: "إن شئت" بتاء الخطاب؛ لأنَّ الله خلق فيه إدراكًا "أن أردك إلى الحائط" أي: البستان، "الذي كنت فيه تنبت لك عروقك" بدل من أردك، أو مستأنف لبيان علة الرد إلى مكانه الذي نبت فيه، "ويكمل خلقك ويجدد ذلك خوص" بضم الخاء ورق النخل، "وثمرة" أي: يعود لك خلقتك بتمامها ونضارتها، "وإن شئت" غرسك، بالمفعول مقدر، "أغرسك في الجنة" بالجزم جواب الشرط، "فيأكل أولياء الله من ثمرك" , عطف على الجواب، فخيره بين الحياة الدنيوية والأخروية، "ثم أصغى" بمهملة فمعجمة: أمال رأسه" وقرَّبه له النبي -صلى الله عليه وسلم- يستمع ما يقول" أي: ليستمع قوله وجوابه: "فقال" الجذع: بل تغرسني في الجنة, أي: تصيرني من غراسها، فيأكل مني" أي: من ثمري "أولياء الله" المؤمنون، "وأكون في مكان لا أبلى -بفتح الهمزة: أفني وضمها خطأ "فيه" وهو الجنة كسائر أهلها وأشجارها، "فسمعه" أي: لام الجذع "من يليه" أي: الجذع أو النبي، أي: يقرب منه فسماعه لم يختص به النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت" بضم التاء للمتكلم، أي: جعلتك من غراس الجنة، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم: "اختار دار البقاء" الجنة "على دار الفناء" الدنيا، بفتح الفاء والمد: الذهاب والزوال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 وأما حديث أم سلمة، فعند أبي نعيم في الدلائل. والقصة واحدة، وما في ألفاظها مما ظاهره التغاير هو من الرواة. وعند التحقيق يرجع إلى معنى واحد، فلا نطيل بذكر ذلك, والله أعلم.   "وأمَّا حديث أم سلمة، فعند أبي نعيم في الدلائل" النبوية، "والقصة واحدة، وما في ألفاظها مما هو ظاهره التغاير" الذي قد يأخذ منه من لا يعلم تعدد القصة، "هو من الرواة، وعند التحقيق" بالجمع بين المتغاير، "يرجع إلى معنى واحد، فلا نطيل بذكر ذلك" لأن غرضنا الاختصار، "والله أعلم", وقد قال بعض علماء الحديث: من جعل كل رواية غايرت الأخرى مرة على حدة، فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 سجود الجمل وشكواه إليه "صلى الله عليه وسلم" : وأما كلام الحيوانات وطاعتها له -صلى الله عليه وسلم. فمنها: سجود الجمل وشكواه إليه -صلى الله عليه وسلم. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون عليه، وأنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره، ..............   سجود الجمل وشكواه إليه "صلى الله عليه وسلم": "وأمَّا كلام الحيوانات" أي: جنسها لا جميعها؛ إذ لم يرد كلام جميعها له، وإن انقادت له، وفرق بين الكلام اللفظي والانقياد بمعنى علمها به، وفي حديث: "ما بين السماء والأرض شيء إلا ويعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس"، رواه البيهقي وغيره، "وطاعتها له -صلى الله عليه وسلم" عطفها على الكلام، إشارة إلى أن الانقياد يكون بلفظ وبدونه، وجعل المصنف القصد هنا نفس الكلام، والانقياد والأحاديث دالة على ذلك، وفيما سبق من قوله. وأمَّا ما روى من طاعات الجمادات، وتكليمها له، بيان الأحاديث المروية في ذلك، ولعل نكتته زيادة على التفنن، الإشارة إلى أن القصد بهما واحد يحصل بكل من العبارتين. "فمنها" أي: هذه المعجزة المعبَّر عنها بمجموع الكلام والطاعة، وإلّا فالظاهر منهما بالتثنية؛ لأن كل واحد معجز بانفراده، ولعلَّ وجه العدول للإفراد النظر للمعنى، وهو أن كل واحد من الجزئيات مقصود بالإخبار به، وأنه معجز، "سجود الجمل وشكواه إليه -صلى الله عليه وسلم" كثرة العمل وقلة علف. "عن أنس بن مالك -رضي الله عنه، كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يسنون" يسقون عليه، "وإنه استصعب عليهم فمنعهم ظهره،" أي: الانتفاع به، كنَّى عن ذلك بالظهر؛ لأن الانتفاع بالإبل، بالجمل على ظهورها غالبًا، وأن الأنصار" أصحاب هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 وأن الأنصار جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنه كان لنا جمل نسني عليه، وإنه استصعب علينا ومنعنا ظهره، وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا"، فقاموا فدخل الحائط، والجمل في ناحية فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله، قد صار مثل الكلب الكَلِب، وإنا نخاف عليك صولته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس علي منه بأس"، فلما نظر الجمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خَرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناصيته أذل ما كان قط، ......................................   الجمل "جاءوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه كان لنا جمل" يحتمل إن كان للدوام، وأنها للانقطاع باعتبار استصعابه وقت الشكية منه، فكأن السقاية منه انقطعت، "نسني عليه" ظاهر هذا أنه يأتي، وفي الصحاح وغيره، سننت الناقة تسنو، إذا سقت الأرض، والقوم يسنون لأنفسهم إذا سقوا، وهذا ظاهر في أنه واوي، وهو صريح قوله قبل: يسنون عليه، وهو محذوف الواو، وأصله يسنون بواوين، حذفت أولاهما لثقل الضمّة عليها، فالتقى ساكنان، فحذفت لام الكلمة، ويحتمل أن نسني واوي وأصله نسنوي، قلبت الواو ياء، ثم حذفت، لالتقاء الساكنين، "وأنه استصعب علينا ومنعنا ظهره" عطف علة على معلول، "وقد عطش النخل والزرع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا" معي، تأنسًا وضبطًا لما يفعله في سيره، فيقوي يقينهم بمشاهدة المعجزات، ويخبرون من وراءهم بها، "فقاموا، فدخل الحائط" البستان، "والجمل في ناحية" جانب منه، "فمشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا رسول الله! قد صار مثل الكلب، بفتح، فسكون: الحيوان المعروف, "الكَلِب" بفتح، فكسر، أي: العقور الذي أصابه داء، كالجنون من أكل لحم الإنسان ونحوه، "وإنا نخاف عليك صولته" سطوته ووثوبه، "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليس علي منه بأس" شدة وضرر لمنع الله له ذلك، "فلمَّا نظر الجمل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خَرّ ساجدًا", أي: واضعًا مشفره بالأرض، باركًا "بين يديه" كما في رواية, وهي مبينة لسجوده؛ إذ السجود الحقيقي لا يتأتَّى من الجمل، "فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بناصيته، أذلَّ" حال من الضمير المضاف لناصيته، مأخوذ من الذل -بالكسر، الانقياد لا بضمها الذي هو ضد العز، "ما كان قط" أي: حالة كونه منقادًا انقيادًا لم يسبق له مثله في زمن من الأزمنة الماضية، واستعمال قط غير مسبوقة بنفي أثبتها ابن مالك في الشواهد، قال: وهي مما خفي على كثير من النحاة لمجيئها بعد المثبت في مواضع من البخاري، منها: في الكسوف أطول صلاة صليتها قط، وفي أبي داود: توضأ ثلاثًا قط، وفي حديث حارثة بن وهب: صلَّى بنا النبي -صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله، هذه بهيمة لا تعقل تسجد لك, ونحن نعقل فنحن أحق بالسجود لك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، لو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظيم حقه عليها"، رواه أحمد والنسائي بإسناد جيد. والحائط: هو البستان. وقوله: نسني -بالنون والسين المهملة- أي: نسقي عليه.   ونحن أكثر ما كنَّا قط، وفي حديث جابر: "ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلّا جاءت يوم القيامة أكبر ما كانت قط" , وفي حديث سمرة في صلاة الكسوف: فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة، ثم ركع كأطول ما ركع بنا في صلاة قط، ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط. ففي هذه الأحاديث استعمال قط غير مسبوقة بنفي، "حتى أدخله في العمل، فقال له أصحابه: يا رسول الله! هذه" أنت والجمل مذكر، مراعاة للخبر، وهو "بهيمة لا تعقل" صفة كاشفة، ففي القاموس: البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والمراد الثاني، "تسجد لك، ونحن نعقل، فنحن أحق بالسجود لك" منها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر" إنما يسجد لله، "لو صلح لبشر أن يسجد لبشر، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها". قال ابن العربي: فيه تعظيم وهو جائز، فقد سجدت الملائكة لآدم، وأخبر المصطفى أنه لا يكون، ولو كان لجعل للمرأة في آداب حق الزوج، وقال غيره فيه: إن السجود لمخلوق لا يجوز، وسجود الملائكة خضوع وتواضع له من أجل علم الأسماء التي علمها الله له وإنبائهم بها، فسجودهم إنما هو ائتمام به، لأنه خليفة الله، لا سجود عبادة, إن الله لا يأمر بالفحشاء. "رواه أحمد والنسائي، بإسناد جيد"، رواته ثقات مشهورون، كما قاله المنذري وبقيته عندهما: "والذي نفسي بيده, لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه يتبجّس بالقيح والصديد، ثم استقبلته تلحسه, ما أدت حقه" , ويتبجس -بفتح التحتية، والفوقية، والموحدة، والجيم الثقيلة، فسين مهملة: يتفجر، وفيه تأكيد حق الزوج، وحث على ما يجب من بره، ووفاء عهده، والقيام بحقه، "ولهن على الأزواج ما للرجال عليهن"، قاله بعض، "والحائط هو البستان" أي: المراد به ذلك تجوز، أو أصله اسم فاعل من حاطه، إذا أحاط به ودار عليه، ثم نقل للبستان نفسه الذي فيه الشجر والنخل، "وقوله: نسني بالنون والسين المهملة، أي: نسقي عليه" بيان المراد من هذه الصيغة، وقضيته أن ألفه منقلبة عن ياء، ومقتضى الصحاح، والنهاية والقاموس أنه واوي، كما مَرَّ، فقياسه نسنو، أو هما لغتان، حكاهما ابن مالك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 وفي حديث يعلي بن مرة الثقفي: بينما نحن نسير مع النبي -صلى الله عليه وسلم؛ إذ مررنا ببعير يسنى عليه، فلمَّا رآه البعير جرجر، فوضع جرانه، فوقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أين صاحب هذا البعير، فجاءه، فقال: "بعنيه"، فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال: "أما إذ ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرة العمل، وقلة العلف، فأحسنوا إليه"، رواه البغوي في شرح السنة. والجران -بكسر الجيم، قال ابن فارس: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره. وروى الإمام أحمد قصة أخرى نحو ما تقدَّم من حديث جابر ضعيفة السند، والبيهقي بإسناد جيد.   "وفي حديث يعلى بن مرة الثقفي" تقدَّم التعريف به قريبًا: "بينما نحن نسير مع النبي -صلى الله عليه وسلم" في سفر، "إذ مررنا ببعير يسنى" بضم أوله، مبني للمجهول يسقى "عليه، فلمَّا رآه البعير جرجر"، بجيمين وراءين بلا نقط، أي: صوّت كثيرًا بشدة، وردَّد ذلك، لكن بالصوت المعتاد للإبل على المتبادر، ويكون وجه المعجزة قوله: "فوضع جرانه" بالكسرة مقدم عنقه، كما يأتي عند رؤيته -صلى الله عليه وسلم، فهذا من طاعة الحيوان مع فهمه -عليه السلام- من جرجرته شكواه، "فوقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم" من مزيد لطفه وشفقته على خلق الله، "فقال: "أين صاحب هذا البعير؟ " فجاءه، فقال: "بعنيه" فقال: بل نهبه لك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بلا عوض، "وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال: "أما إذا ذكرت هذا من أمره" فلا أقبله بشراء ولا هبة، فحذف جواب. أما وقوله: "فإنه" ليس جوابها لعدم ترتبه عليه، فهو علة لمقدر رأى وطلبت شراءه، فإنه "شكا" بجرجرته فهم ذلك منها، أمر خارق أظهره الله له تعظيمًا وإجلالًا، قاله شيخنا. وقال غيره: الظاهر أن شكايته بنطق فهي معجزة، "كثرة العمل وقلة العلف" بفتحتين، بمعنى المعلوف من قوت الدواب من حبوب وغيرها، "فأحسنوا إليه" بقلة العمل وكثرة العلف، "رواه البغوي" المتأخر "في شرح السنة" وتقدَّم بعض ترجمته، وقد روى حديث يعلى أحمد، والحاكم، والبيهقي بسند صحيح، والجران -بكسر الجيم، بعدها راء، فألف، فنون: "قال ابن فارس: مقدم عنق البعير من مذبحه" أي: محله لو ذبح, وهو ما تحت الحنك من الحلق, "إلى منحره" أي: لبته، وهي أصل العنق، "وروى الإمام أحمد قصة أخرى نحو ما تقدَّم" عن يعلى "من حديث ضعيفة السند، و" لكن رواها "البيهقي" في الدلائل"بإسناد جيد"؛ لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 وكذا روى الطبراني قصة أخرى عن عكرمة عن ابن عباس: لكن بإسناد ضعيف، والإمام أحمد أيضًا من حديث يعلى بن مرة.   رجاله ثقات، وكذا رواها الدارمي، والبزار، واللفظ للبيهقي عن جابر: أن جملًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما كان قريبًا منه، خَرَّ الجمل ساجدًا, فقال -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس! من صاحب هذا الجمل؟ " فقال فتية من الأنصار: هو لنا، قال: "فما شأنه؟ " قالوا: سنونا عليه عشرين سنة، فلمَّا كبر سِنّه أردنا نحره، فقال -صلى الله عليه وسلم: "تبيعونه؟ " قالوا: هو لك يا رسول الله، فقال: "أحسنوا إليه حتى يأتي أجله" فقالوا: يا رسول الله! نحن أحق أن نسجد لك من البهائم، فقال: "لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر، ولو كان النساء لأزواجهن". وقد روى ذلك أيضًا أحمد في حديث طويل عن يعلى بن مرة، قال فيه: وكنت معه، يعني: النبي -صلى الله عليه وسلم، جالسًا ذات يوم؛ إذ جاء جمل حتى ضرب بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه، فقال: "ويحك أنظر لمن هذا الجمل, إن له لشأنًا" فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: "ما شأن جملك هذا؟ " , قال: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: "لا تفعل هبه لي أو بعنيه" قال: بل هو لك يا رسول الله، فوسمه بميسم الصدقة، ثم بعث به، قال المنذري: وإسناده جيد. قال: وفي رواية لأحمد أيضًا نحوه, لكنه قال فيه: إنه قال لصاحب البعير: "ما لبعيرك يشكوك، زعم أنك شنأته حين كبر، تريد أن تنحره" , قال: صدقت والذي بعثك بالحق لا أفعل. "وكذا روى الطبراني قصة أخرى عن عكرمة عن ابن عباس، لكن بإسناد ضعيف:" أن رجلًا من الأنصار كان له فحلان، فاغتلما، فأدخلهما حائط، فسد عليهما الباب، ثم جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يدعو له, والنبي -صلى الله عليه وسلم- قاعد معه نفر من الأنصار، فقال: يا رسول الله! إني جئت في حاجة، وإنه كان فحلان لي اغتلما، وإني أدخلتهما حائطًا، وسددت عليهما الباب، فأحب أن تدعو لي أن يسخرهما الله -عز وجل، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "قوموا معنا"، ذهب حتى أتى الباب، فقال: "افتح" , فشفق الرجل على رسول الله، فقال: "افتح" ففتح، فإذا أحد الفحلين قريبًا من الباب، فلمَّا رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سجد له، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ائتني بشيء أشد به رأسه وأمكنك به" فجاء بخطام فشد رأسه وأمكنه منه، ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر، فلمَّا رآه وقع له ساجدًا، فقال للرجل: "ائتني بشيء أشد به رأسه"، فشد رأسه وأمكنه منه، وقال: "اذهب فإنهما لا يعصيانك" , ورواها "الإمام أحمد أيضًا من حديث يعلى بن مرة" الثقفي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 وأخرج ابن شاهين في الدلائل عن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- قال: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه, فأسَرَّ إليَّ حديثًا لا أحدّث به أحدًا من الناس، قال: وكان أحب ما استتر به النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل, فلمَّا رأى الجمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حنَّ فذرفت عيناه، فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه، وفي رواية فسكن، ثم قال: "مَنْ رَبُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ " فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: "ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه"، قال في المصابيح: وهو حديث صحيح، قال: ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ......................   وأخرج ابن شاهين في الدلائل" ومن قبله الإمام أحمد، "عن عبد الله بن جعفر" الصحابي، ابن الصحابي "رضي الله عنهما، قال: "أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه، فأسرَّ إليَّ حديثًا لا أحدث به أحدًا من الناس"؛ لكونه أسرَّه إليه، ففهم نهيه عن إفشائه، "قال: وكان أحبَّ ما استتر به النبي -صلى الله عليه وسلم- لحاجته" عند قضائها "هدف" بفتحتين كل شيء عظيم مرتفع على الأرض من بناء ونحوه، "أو حائش نخل،" بمهملة وهمزة وشين معجمة، "فدخل حائط رجل من الأنصار" لحاجته، ولا يرد كيف فعل ذلك بغير إذنه، وهو أيضًا قد نهى عن البول تحت الشجرة التي من شأنها أن تثمر، لأنه علم من الرجل السرور بذلك، فضلًا عن الرضا، ومحل النهي ما لم يغلب على الظنّ حصول ما يزيل أثر الحاجة على أنّ فضلاته ظاهرة، وكانت الأرض تبتلع ما يخرج منه، كما مَرَّ، "فإذا جمل، فلمَّا رأى الجمل النبي -صلى الله عليه وسلم- حنَّ، فذرفت، بفتحات من باب ضرب "عيناه" أي: سال دمعهما، "فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذفراه" بالألف مقصور. "وفي رواية: فسكن" ما به، "ثم قال: "من رَبُّ هذا الجمل، لمن هذا الجمل"؟ أعاده بمعناه للتأكيد، "فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: "ألا" بالفتح والتخفيف "تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي" بالنطق، أو بفهمه من فعله المذكور، وكل معجزة "أنك تجيعه وتدئبه" بضم التاء، وسكون الدال، وكسر الهمزة، وموحدة: تتعبه بكثرة العمل. "قال" البغوي "في المصابيح: وهو حديث صحيح، قال: ورواه أبو داود عن" شيخه "موسى بن إسماعيل" المنقري -بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف- التبوذكي، بفتح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 عن مهدي بن ميمون. والحائش -بالحاء المهملة والشين المعجمة ممدودًا: هو جماعة النخل، لا واحد له من لفظه. وقوله: ذفراه تأنيث ذفر، بكسر الذال المعجمة مقصور، وهو الموضع الذي يعرق من قفا البعير عند أذنه. ومنها: سجود الغنم له -صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لأنصاري ومعه أبو بكر وعمر ورجل من الأنصار، وفي الحائط غنم فسجدت له، فقال أبو بكر: يا رسول الله، نحن أحقّ بالسجود لك من الغنم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينبغي لأحد بأن يسجد لأحد. ...............................   الفوقية, وضمّ الموحدة، وسكون الواو، وفتح المعجمة، ثقة، ثبت، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، "عن مهدي بن ميمون" الأزدي البصري، ثقة، روى له الجميع، مات سنة اثنتين وسبعين ومائة، "والحائش -بالحاء المهملة، والشين المعجمة، ممدودًا: هو جماعة النخل، أي: النخل المجتمع، لا واحد له من لفظه، وقوله: ذفراه تأنيث ذفر -بكسر الدال المعجمة, مقصور، هكذا في نسخ وهي ظاهرة. وفي النهاية: الفذري مؤنثة، وألفها للتأنيث أو للإلحاق، وفي نسخة: تثنية ذفري، وفيه: إن ذفرى لايصح جعلها مفردًا مثنى، لاتحاد صورة المثنى والمفرد، فإنما تثنيته ذفريان بالألف رفعًا، وذفريين بالياء نصبًا وجرًّا، والحديث بلفظ ذفراه بالألف, إلّا على لغة من يلزم المثنى الألف في أحواله، وفي نسخة تثنية ذفر بلا ألف، ويصح مع قوله مقصور، وآن: رجع لقوله ذفراه، أشكل يجعل مفرده مذكرًا, وبما في القاموس والنهاية إنه مؤنف، "وهو الموضع الذي يعرق من قفا البعير عند أذنه", وفي القاموس: الذفري، بالكسر من جميع الحيوانات، من لدن القدم إلى نصف القذال، أو العظم الشاخص خلف الأذن، جمعه ذفريات وذفاري، "ومنها سجود الغنم له -صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك، قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حائطًا" بستانًا "لأنصاري" لم يسمّ، ومعه أبو بكر، وعمر، ورجل من الأنصار" لم يسمّ, ويحتمل أنه أنس، أَبْهَمَ نفسه لغرض صحيح، وفي الحائط غنم، فسجدت له" تعظيمًا لما شاهدت نور نبوته، وألهمها الله معرفته، "فقال أبو بكر: يا رسول الله! نحن أحق بالسجود لك من الغنم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي" لا يجوز "لأحد أن يسجد لأحد" عبَّر به المخصوص بالنفي، ليشمل الواد وغيره، ويختص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 رواه أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه في كتاب دلائل النبوة له بإسناد ضعيف. وذكره القاضي عياض في الشفاء, وذكر أيضًا عن جابر بن عبد الله عن رجل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به وهو على بعض حصون خيبر، وكان في غنم يرعاها لهم، فقال: يا رسول الله، كيف لي بالغنم، قال: "احصب وجوهها, فإن الله سيؤدي عنك أمانتك, ويردها إلى أهلها"، ففعل فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها.   بالعقلاء، فيه إشارة إلى أنَّ الغنم ونحوها لا يمتنع سجودها تعظيمًا، "رواه أبو محمد، عبد الله بن حامد الفقيه في كتاب دلائل النبوة له، بإسناد ضعيف", وأبعده المصنف النجعة, فقد رواه أحمد والبزار "وذكره القاضي عياض في الشفاء" بدون عزو, بل قال: وعن أنس فذكره، "وذكر بالبناء للفاعل، أي: عياض "أيضًا" بلا إسناد، وقد رواه البيهقي "عن جابر بن عبد الله، عن" قصة "رجل" وليس المراد أنه يروي عنه، وهو أسلم الحبشي، كذا سماه ابن عبد البر، واعترضه ابن الأثير، بأنه ليس في شيء من السياقات أن اسمه أسلم، قال في الإصابة: وهو اعتراض متجه، وقد سماه أبو نعيم يسارًا -بتحتية وسين مهملة- الحبشي. وقال الرشاطي في الأنساب: أسلم الحبشي يوم خيبر، وقاتل، وقتل، وما صلى لله صلاة، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن معه الآن زوجة من الحور العين" انتهى، "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمن به، "وهو" أي: النبي لا الرجل، كما زعم "على بعض حصون خيبر" جمع حصن: القلعة التي يتحَصَّن بها لا القصر، كما زعم، "وكان" الرجل في غنمٍ يرعاها لهم" أي: لأهل خيبر, ولظرفية بمعنى المعية، أو مجازية، نحو: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فقال: يا رسول الله! كيف لي بالغنم، أي: ما أفعل بها إذا أسلمت، وهي في ملك غيري، وأنا أجيز، فإن رددتها خشيت على نفسي لإسلامي، وإن مكثت معك ضاعت، فأرشده إلى ما يدفع خوفه؛ إذ "قال: "أحصب وجوهها" بمهملتين: ارمها بالحصباء، وهي صغار الحصا، والصاد مكسورة من باب ضرب، وضمّها من باب قتل، "فإن الله سيؤدي عنك أمانتك" يوصلها "ويردها إلى أهلها" أصحابها المالكين لها, فتخرج أنت عن عهدي ضمانها "ففعل" ما أمره به "فسارت كل شاة حتى دخلت إلى أهلها", معجزة له -صلى الله عليه وسلم، فهذا من طاعة الحيوان له، وإنما فعل هذا؛ لأنه كان مستأمنًا بيده أمانة لأهل خيبر، فلذا ردَّها -صلى الله عليه وسلم- لأصحابها مع ما فيه من تطمين قلبه بخروجه عن عهدتها، ولذا لم يجعلها فيئًا، مع علمه أنها تكون كذلك بعد الفتح، وبقية هذا الحديث عند البيهقي، أنه شهد القتال فقتل، أصابه حجر، أو سهم، ولم يصل صلاة قط، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى عنده حوريتين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 كلام الذئب وشهادته له "صلى الله عليه وسلم" بالرسالة : ومنها: قصة كلام الذئب وشهادته له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة. اعلم أنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب في عدة طرق من حديث أبي هريرة وأنس وابن عمر وأبي سعيد الخدري. فأما حديث أبي سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد, ولفظه قال: عدا الذئب على شاة فأخذها، فطلبه الراعي فانتزعها منه, فأقعى الذئب على ذنب وقال: ألا تتقي الله؟ تنزع مني رزقًا ساقه الله إلي، فقال الراعي: يا عجبًا، ذئب مقع على ذنبه يكلمني بكلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك: محمد .......................................   كلام الذئب وشهادته له "صلى الله عليه وسلم" بالرسالة: "ومنها: قصة كلام الذئب" إضافة بيانية؛ إذ المراد معجزة الكلام، لا القصة، وعبَّر بقصة دون سابقة، نظرًا لقولهم قصة الجمل مثلًا، وأل في الذئب جنسية لتعدد القصة، بدليل روايتي أبي هريرة وكلامه، وإن كان لغيره، لكن إقراره به معجزة، "وشهادته" بالجر، عطف على كلام "له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة". "اعلم: إنه قد جاء حديث قصة كلام الذئب في عدة طرق من حديث أبي هريرة، وأنس، وابن عمر" بن الخطاب "وأبي سعيد الخدري" المتبادر تعدد الطرق عن كل واحد من الأربعة، وليس بمراد، "فأمَّا حديث أبي سعيد، فرواه الإمام أحمد بإسناد جيد،" أي: مقبول، وكذا رواه الترمذي، والحكم، وصححاه. "ولفظه: قال" أبو سعيد, لما ثبت ذلك عنده، وتحققه، وإن لم يحضره، فكان كالمشاهد له: عدا" هجم "الذئب على شاة، فأخذها" بغير اختيار صاحبها", فشابه الظالم المتجاوز الحد فعبَّر بعدا", وفي لفظ: عرض الذئب لشاة، "فطلبه الراعي" سعى خلفه حتى أدركه، وفي القاموس: طلبه طلبًا محركة، حاول وجوده وأخذه, فكأنه استعمل الطلب في محاولة الوجود، ومع ذلك فيه حذف، والتقدير: حاول وجوده حتى أدركه، "فانتزعها منه، فأقعى الذئب" ألصق ألييه بالأرض، ونصب ساقية, وتساند إلى ظهره، كما في الصحاح وغيره، فقوله: "على ذنبه" ليس صلة أقعى؛ لأن ليس من مسماه، فهو متعلق بمقدَّر، أي: واعتمد على ذنبه، أي: جعله بين رجليه، كما يفعل الكلب، ويفيد هذا ما يأتي في تفسير الاستنفار. "وقال" للراعي: "ألا" حرف استفتاح "تتقي الله" تخافه وتحذره، "تنزع مني رزقًا" وفي رواية: حلت بيني وبين رزق "ساقه الله إلي", سخَّره لي بأن مكَّنَني منه، "فقال الراعي: يا عجبًا! ذئب مقع على ذنبه، يكلمني بكلام الإنسان، وفي رواية: البشر، وهما بمعنى, تعجب منه؛ إذ ليس شأنه، "فقال الذئب" مجيبًا له، زاد في رواية: أتعجب مني؟ قال: كيف لا أعجب من ذئب مستوفز ذنبه يتكلم، فقال الذئب: والله إنك لتترك أعجب من هذا، "ألا أخبرك بأعجب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج فقال للأعرابي: "أخبرهم" فأخبرهم.   من ذلك" وفي رواية: أنا أخبرك بأعجب من كلامي، قال: وماذا أعجب؟ قال: "محمد بيثرب" اسم المدينة المنورة قديمًا، وصحَّ النهي عن تسميتها به، "يخبر الناس بأنباء ما قد سبق" من الأمم السابقة وأحوالهم, وعَبَّر عن الأمم بما ليشمل ما وقع لغير العقلاء، كانفلاق البحر، وناقة صالحة، وإنما كان أعجب؛ لأن الإخبار بالغيب معجز، فهو أعجب من نطق حيوان، أنطقه من أنطق كل شيء، لكن ليس العجب واقعًا على مجرَّد إخباره بذلك، بل على جحدهم وتكذيبهم له, مع ظهور الآيات البينات على يديه، كما جاء في بعض طرق الحديث، مما ساقه في الشفاء وغيره، فقال: ألا أخبرك بأعجب من كلامي, رسول الله في النخلات بين الحجرتين يحدّث الناس عن نبأ سبق وما يكون بعد ذلك؟ وفي لفظ: يدعو الناس إلى الهدى وإلى الحق وهم يكذبونه، "قال" أبو سعيد: "فأقبل الراعي يسوق غنمه" المملوكة، ففي رواية: كان يرعى غنمًا له، "حتى دخل المدينة فزواها،" براي منقوطة "إلى زاوية من زواياها" أي: المدينة، "ثم أتى -صلى الله عليه وسلم، فأخبره", وقد اختلف في اسم مكلِّم الذئب المذكور، فقيل: أهبان بن أوس، وقيل: سلمة بن الأكوع، وأنه صاحب هذه القصة، وكانت سبب إسلامه، وقيل: أهبان بن الأكوع عن سلمة، وقيل: أهبان بن الأكوع بن عبّاد الخزاعي، وقيل: رافع بن ربيعة، وقيل: أهبان بن صيفي، وقيل: رافع بن عميرة الطائي، فإن كانت القصة تعدَّدت، فلا خلف، قال ابن عبد البر وغيره: كلّم الذئب ثلاثة من الصحابة: رافع بن عميرة، وسلمة بن الأكوع، وأهبان بن أوس، وروى البخاري في تاريخه، وأبو نعيم في الدلائل، عن أهبان بن أوس قال: كنت في غنم لي، فشدَّ الذئب على شاة منها، فصحت عليه، فأقعى الذئب على ذنبه يخاطبني، وقال: من لها يوم تشتغل عنها، تمنعني رزقًا رزقنيه الله تعالى، فصفقت بيدي وقلت: والله ما رأيت شيئًا أعجب من هذا، فقال: أعجب من هذا رسول الله بين هذه الخلات، يدعو إلى الله، فأتيت إليه وأخبرته وأسلمت، قال البخاري: إسناده ليس بالقوي، قال الحافظ: لأن فيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف. "فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فنودي بالصلاة جامعة،" بنصبهما على الحكاية، والأول إغراء، والثاني حال، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر، ونصب الأول، ورفع الثاني, وعكسه, قاله السيوطي وغيره في قول البخاري: باب النداء بالصلاة جامعة، ثم خرج من المحل الذي كان فيه حين أخبره الراعي، "فقال للأعرابي: "أخبرهم" بما شاهدته ليسرّوا ويزداد إيمانهم "فأخبرهم", وقضية سياقه أن الأمر بذلك كان عقب إخباره وليس بمراد، فالفاء للتعقيب مع التراخي كتزوج، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 وأما حديث ابن عمر فأخرجه أبو سعد الماليني والبيهقي, وأما حديث أنس فأخرجه أبو نعيم في الدلائل، وأما حديث أبي هريرة فرواه سعيد بن منصور في سننه قال: جاء الذئب فأقعى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم, وجعل يبصبص بذنبه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئًا" , قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرًا ورماه به، فأدبر الذئب وله عواء، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الذئب وما الذئب".   فولد له، ففي حديث أبي هريرة عند أحمد، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "إذا صليت الصبح معنا، فأخبر الناس بما رأيت" , فلما أصبح الرجل وصلى الصبح، أمر -صلى الله عليه وسلم- فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للأعرابي: "أخبرهم" فأخبرهم، فقال -صلى الله عليه وسلم: "صدق، والذي نفسي بيده, لا تقوم الساعة حتى يخرج، أي: الرجل من أهله فيخبره نعله، أو سوطه، أو عصاه بما أحدث أهله من بعده". "وأمَّا حديث ابن عمر، فأخرجه أبو سعد" بفتح، فسكون، الحافظ، العالم الزاهد, أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الل بن حفص الأنصاري الهروي، "الماليني" -بفتح الميم وكسر اللام وسكون التحتية، ونون- نسبة إلى مالين من أعمال هراة، سمع ابن عدي، والإسماعيلي، وابن نجيد، وأبا الشيخ وغيرهم، وعن الخطيب، والبيهقي وخلق، وكان ثقة متقنًا، من كبار الصوفية، مات بمصر يوم الثلاثاء، سابع عشر شوال، سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، "والبيهقي" في الدلائل بنحوه. "وأمَّا حديث أنس، فأخرجه أبو نعيم في الدلائل" النبوية بنحوه، "وأمَّا حديث أبي هريرة" وهو مروي على وجهين، أحدهما موافق لحديث أبي سعيد، وهو ما ذكره المصنف بعد بقوله: وروى البغوي ...... إلخ، والثاني: قصة أخرى وقعت للذئب مع النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو ما ذكره بقوله: "فرواه سعيد بن منصور" بن شعبة، أبو عثمان الخراساني، نزيل مكة، مصنف حافظ، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل بعدها "في سننه". "قال" أبو هريرة: "جاء الذئب، فأقعى بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم، وجعل يبصبص بذنبه،" أي: يحركه، يقال: بصبص الكلب بذنبه إذا حركه، كما في القاموس، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا وافد الذئاب، جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئًا" لعله خاطبه بذلك أو أوحى إليه بالمعنى الذي جاء له الذئب أو أعلمه الله، بأنه يريد بتحريك ذنبه ذلك، "قالوا: والله لا نفعل، وأخذ رجل من القوم حجرًا ورماه به" خشية الحاجة، فيضَّجر المصطفى فبادر إلى صرفه عنه، أو خشي أن يأمرهم بشيء للذئاب، فلا يستطيعون "فأدبر الذئب وله عواء" بالضمِّ والمد، أي: صياح، "فقال -صلى الله عليه وسلم: "الذئب" خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا الذئب قد رأيتموه, "وما الذئب" استفهام تفخيم لأمره، وأصله وما حاله، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أقوى في التفخيم على نحو: {الْحَاقَّةُ, مَا الْحَاقَّةُ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 وروى البغوي في شرح السنَّة وأحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبي هريرة أيضًا قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منه شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلٍّ واستثفر, وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله أخذته انتزعته مني, فقال الرجل: تالله إن رأيت كاليوم ذئب يتكلم، فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرتين يخبركم بما مضى وما هو كائن بعدكم، ولا تتبعونه، قال: وكان الرجل يهوديًّا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فأخبره وأسلم, فصدَّقه النبي ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "إنها أمارات بيني يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعد". قال القاضي عياض في الشفاء وفي بعض الطرق عن أبي هريرة: قال الذئب: أنت أعجب مني ,واقفًا على غنمك وتركت نبيًّا ................................................   "وروى البغوي في شرح السنة، وأحمد، والبزار، والبيهقي، "وأبو نعيم، بسند صحيح، عن أبي هريرة أيضًا، قال: جاء ذئب إلى راعي الغنم، فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلٍّ -بفوقية، ولام ثقيلة، معروف يجمع على تلال مثل سهم وسهام، "واستثفر" بإسكان المهملة والمثلثة بينهما فوقية مفتوحة ثم فاء، "وقال: عمدت" تصدت وزنًا ومعنًى، "إلى رزق رزقنيه الله" مكَّنَني منه، "أخذته" أنا، "انتزعته" أنت "مني", فقال الرجل: تالله" قسم "إن" نافية، أي: ما "رأيت كاليوم" الكاف بمعنى مثل, أي: ما رأيت هذا اليوم "ذئب" بالرفع جواب سؤال مقدر، كأنه قيل له: وما رأيت؟ فقال: الذي رأيت ذئب، وفي نسخ بالنصب، أي فقال: رأيت ذئبًا يتكلم" بكلام الإنس، "فقال الذئب: أعجب من هذا" أي: كلامي، "رجل في النخلات بين الحرتين" بفتح المهملة وشد الراء وتاء التأنيث- حرة وهي ثنية مرتفعة ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار، "يخبركم بما مضى" من أخبار الأمم، "وما هو كائن بعدكم ولا تتبعونه، قال: وكان الرجل يهوديًّا، فجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، وأسلم، فصدقه النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى ترك استغراب مثل ذلك: "إنها أمارات بين يدي الساعة، قد أوشك الرجل أن يخرج" من أهله "فلا يرجع حتى يحدثه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعد" بالضم، أي: بعد خروجه. "قال القاضي عياض في الشفاء: وفي بعض الطرق" بضمتين جمع طريق، مجاز عن الروايات "عن أبي هريرة" قال الذئب" للراعي: أنت" أي: حالك "أعجب مني" من حالي في حال كونك "واقفًا على غنمك" أي: راعيًا وحافظًا لها، وقد تركت نبيًّا، فالجملة حالية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 لم يبعث الله قط أعظم منه عنده قدرًا، وقد فتحت له أبواب الجنة وأشرف على أصحابه ينظرون قتالهم, وما بينك وبينه إلّا هذا الشِّعْب، فتصير في جنود الله. قال الراعي: من لي بغنمي؟ قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع، فأسلم الرجل إليه غنمه ومضى، فذكر قصته وإسلامه ووجوده النبي -صلى الله عليه وسلم يقاتل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "عد إلى غنمك تجدها بوفرها، فوجدها كذلك، وذبح للذئب شاة منها". واستنفر -بالسين والمثناة ثم المثلثة فاء وآخره راء- كاستفعل، أي: جعل ذنبه بين رجليه كما يفعل الكلب. وقد روى ابن وهب مثل .......................................................   بتقدير قد، "لم يبعث الله" نبيًّا "قط" من أنبيائه السابقة "أعظم، أجَلّ منه عنده قدرًا" منزلة، تمييز نسبة، "وقد فتحت" بالتخفيف والتشديد "له أبواب الجنة" جملة حالية أيضًا، "وأشرف على أصحابه، ينظرون قتالهم" وهم واقفون فيه صفوفًا كصفوف الملائكة، وفيه أنَّ الفتح حقيقي لا مجاز عن التهيئة، والإعداد كما زعم، "وما بينك وبينه إلّا هذا الشِّعْب" بكسر المعجمة، وسكون المهملة وموحدة، وهو: ما انفرج بين جبلين، يعني أنه قريب منك، لا عذر لك في التخلف عنه، فيجب عليك الذهاب إليه، "فتصير" معدودًا "في جنود الله،" حزبه المفلحين، فتخلفك مع هذا أعجب من نطقي الذي تعجبت منه. "قال الراعي: من" يتكفَّل لي بغنمي" يحفظها أو من يرعاها لي، فمن استفهامية, حتى أذهب إليه وأجيء" قال الذئب: أنا أرعاها حتى ترجع" إليها من عنده, "فأسلم الرجل" الراعي إليه إلى الذئب غنمه، ومضى إليه -صلى الله عليه وسلم, فذكر له قصته مع الذئب وما كلَّمه به، "وإسلامه" الغنم له، "ووجوده النبي -صلى الله عليه وسلم- يقاتل" كما قاله الذئب، "فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم" بعدما قصَّ عليه وأسلم: "عد إلى غنمك تجدها بوفرها" -بفتح الواو وسكون الفاء- بتمامها وكمالها لم ينقص منها شيء من قولهم، أرض وافرة لم يرع نباتها, كذا فسروه وكأنه مراد, وإلا فالوفر الإتمام لا الالتمام، والذي بمعناه الوفور، كما في المصباح وغيره، فعاد إليها، فوجدها كذلك" تامَّة لم ينقص منها شيء وذبح للذئب شاة منها" جزاءً له على صنيعه وإرشاده للهدى. واستثفر بالسين" المهملة" والمثناة الفوقية، "ثم المثلثة" تليها "فاء وآخره راء كاستفعل، أي: بزنته أي جعل ذنبه بين رجليه، كما يفعل الكلب" بيان للمراد باستثفار الذئب، وإن أطلق الاستثفار على معان آخر في اللغة، ثم قال عياض: "وقد روى ابن وهب مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 هذا أنه جرى لأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية مع ذئب وجداه أخذ ظبيًا، فدخل الظبي الحرم, فانصرف الذئب عنه, فعجبا من ذلك, فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار، فقال أبو سفيان: واللات والعزّى، لئن ذكرت هذا بمكة لتتركنّها خلوفًا - بضم الخاء المعجمة, أي: فاسدة متغيّرة، يعني: يقع الفساد والتغيّر في أهلها.   هذا" المذكور من كلام الذئب، "أنه جرى لأبي سفيان بن حرب" بدل من مثل هذا، "وصفوان بن أمية" قبل إسلامهما "مع ذئب وجداه أخذ ظبيًا" أي: أراد أخذه، فجرى خلفه من الحل ليأخذه, بقرينة قوله: "فدخل الظبي الحرم، فانصرف الذئب عنه؛ لأنه في الحرم المحرم صيده، أو أنه انفلت منه بعد أخذه، "فعجبا من ذلك" أي: من كون الذئب عرف حرمة الحرم، وكفَّ عن صيد أمكنه، وليس من العقلاء، "فقال الذئب" لما سمع تعجبهما، أو علمه من حالهما، "أعجب من ذلك" الفعل الواقع مني، "محمد بن عبد الله" كائن "بالمدينة يدعوكم إلى الجنة" بدعائه إلى الإسلام المقتضي لدخولها، "وتدعونه إلى النار" بقولكم: لم لا توافقنا وتعبد آلهتنا, مما هو سبب للخلود فيها، وكان هذا أعجب لمخالفته لما يقتضيه العقل، ونطق حيوان أعجم بقدرة الله وإقداره ليس بعجيب في النظر السديد والعقل السليم، وليس بأعجب من عبادة الحجارة، فقال أبو سفيان: واللات والعزَّى لئن ذكرت" بضم التاء، أي: أنا، وبفتحها، أي: أنت يا صفوان "هذا" الذي قاله الذئب في شأن محمد بمكة لأهلها لتتركنَّها خلوفًا -بضم الخاء المعجمة واللام، وإسكان الواو وفاء، "أي: فاسدة متغيرة، يعني: يقع الفساد والتغيّر في أهلها" بإسلامهم, فيغير دينهم الذي يزعمون أنه حق، وهو ضلال باطل من خلف، بمعنى تغيّر، كقوله -صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم" أي: تغيّر ريحه، وقيل معناه: خالية من أهلها، بأن يسلموا ويهاجروا؛ إذ من سمع ذلك لا يتردد في صحة رسالته وسعادة متبعه، من قولهم: أتيت الحي فوجدته خلوفًا، أي: ليس فيه أحد من الرجال بل النساء، ويقال لهن الخوالف كما في التنزيل؛ لأنهن يخلفن الرجال، وما اقتصر عليه المصنف أظهر؛ لأن الفساد الذي زعموه لا يختص بالرجال، بل عندهم كل م أسلم فسد دينه، رجلًا كان أو امرأة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 حديث الحمار : ومن ذلك حديث الحمار: أخرج ابن عساكر عن أبي منظور، قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر, أصاب حمارًا أسود، فكلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحمار، فكلمه الحمار، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك؟ " قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا كلهم لا يركبه إلّا نبي، وقد كنت أتوقعك أن تركبني، لم يبق من نسل جدي غيري, ولا من الأنبياء غيرك, وقد كنت قبلك لرجل يهودي, وكنت أتعثّر به عمدًا، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "فأنت يعفور، ..............................................   حديث الحمار: "ومن ذلك", أي: كلام الحيوانات وطاعتها له "حديث الحمار" إضافة لأدنى ملابسة، أي: الخبر المتعلق بشأنه "إخراج ابن عساكر عن أبي منظور،" بفتح الميم، وسكون النون، وضم الظاء المعجمة، قال في الإصابة في الكنى: غير منسوب ذكره في خبر واهٍ، "قال: لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيبر أصاب حمارًا أسود، فكلّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحمار، فكلَّمه الحمار،" لعله علم بحاله، فابتدأه بالكلام ليظهر ما أخبره به، أو أوحي إليه بتكليمه، لظهور هذه المعجزة, "فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما اسمك؟ " من عطف المفصل على المجمل، بيان لما كلمه به على نحو: توضأ فغسل وجهه، "قال: يزيد بن شهاب" اسم أبيه دنية على الظاهر، ويحتمل أنه جده الذي قال فيه: "أخرج الله من نسل جدي ستين حمارًا" يحتمل أنه اقتصر على الستين، لوصفهم بقوله: "كلهم لا يركبه إلّا نبي" فلا ينافي أن فيهم إناثًا لم يركبها نبي، ويؤيده أن في لفظ: كان في آبائي ستون، وكأنه ألهم ذلك، فنطق به على حد: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} ، وقد زاد في الجواب على السؤال التذاذًا بخطاب الرسول نظير قوله: {هِيَ عَصَايَ} الآية. فإنه يطال الكلا م مع الأحبة تلذّذًا، أو ليرغب فيه، خوفًا أن يدفعه لغيره، ففيه حضّه على أخذه واختصاصه به، ولا يجعله غنيمة أو في الغنيمة، وعبَّر بكلهم -بميم الجمع الموضوعة للعقلاء- تشبيهًا لأصوله بالعقلاء، لشرفهم بركوب الأنبياء لهم، "وقد كنت أتوقعك أن تركبني" بدل اشتمال من الكاف في أتوقعك؛ لأنه لم يبق من نسل جدي غيري،" قد يشعر بأنه من جملة الستين، "ولا من الأنبياء غيرك،" فلذا كنت أتوقع ركوبك، وظاهرًا، وصريح قوله: لا يركبه إلّا نبي، الحضر فينا في قوله: "وقد كنت قبلك" أي: قبل وجودك بخيبر، أو قبل اختصاصي بك، رجاء أن لا يأخذه إلّا هو، فلا يرد أنه لم يذكر أنه اختص به حتى يقول قبلك، "لرجل يهودي" يركبني، بناء على أنه من الستين، إلّا أن يكون الحصر بناء على الغالب، أو المعنى لا يعده لركوبه ويقتصر عليه إلّا نبي دون غيره، أو أنه سلب الحكم عن الجملة، فهو من سلب العموم، لا عموم السلب، "وكنت أتعثّر به عمدًا،" أي: أتكلف العثار، كراهة لركوبه علي، "وكان يجيع بطني ويضرب ظهري" كناية عن أذاه أعمّ من كونه يضرب ظهره، أو بالنخس أو بغيرهما، "فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "فأنت" اسمك "يعفور" مفرع على عثارة؛ لأنه يثير الغبار، أو لأنه أسود فشبهه، بالتراب، فسماه يعفورًا، كذا تكلف، وقد قدّم في دوابه -عليه السلام- قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 فكان -صلى الله عليه وسلم- يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه, فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله، فلمَّا قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم, جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان فتردَّى فيها جزعًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ورواه أبو نعيم بنحوه من حديث معاذ بن جبل، لكن الحديث مطعون فيه، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وفي معجزاته -عليه الصلاة والسلام- ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره.   الحافظ وغيره يعفور بالصَّرف، اسم ولد الظبي، كأنه سمي بذلك لسرعته، وقيل: تشبيهًا في عدوه باليعفور، وهو الخشف، أي: ولد الظبي وولد البقر الوحشية. انتهى. وفي التلمساني: منوّن مصروف، وروي بمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل؛ كيعقوب, وتعقب بأن زيادة الواو أخرجته عن شبه الفعل، فالظاهر صرفه، ويعقوب إنما منع للعلمية والعجمة، لا لوزن الفعل, ألا ترى أن يعفر -بضم الياء- يصرف؛ لأنه قد زال عنه شبه الفعل، كما في الصحاح، وليس في أوزان الفعل يفعول، "فكان -صلى الله عليه وسلم- يبعثه إلى باب الرجل" من أصحابه، "فيأتي الباب فيقرعه" يضربه "برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه" برأسه "أن أجب رسول الله", وفهم مراد المصطفى -صلى الله عليه وسلم، بإلهام من الله، فهو معجزة؛ إذ سخره له وفهم مراده، "فلمَّا قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم, جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان -بفتح الفوقية وكسر التحتية المشددة، وهاء فألف فنون- الصحابي الجليل المشهور، "فتردّى" ألقى نفسه وطرحها "فيها جزعًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم", فمات وكانت قبره، كما عند ابن حبان في الضعفاء. وقال الواقدي: مات يعفور منصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع، وبه جزم الثوري عن ابن الصلاح، "ورواه أبو نعم بنحوه من حديث معاذ بن جبل؛ لكن الحديث مطعون فيه،" أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وليس سنده بشيء، وأبو موسى المديني في الصحابة، قال: وهذا حديث منكر جدًّا إسنادًا ومتنًا, لا أحلّ لأحد أن يرويه عنِّي إلا مع كلامي عليه، وهو في كتاب بركة النبي -صلى الله عليه وسلم، تخريج أبي طاهر المخلص. "وذكره ابن الجوزي في الموضوعات", وتعقب بأنه شديد الضعف فقط، كما قال في الإصابة إسناده واهٍ لا موضوع، "وفي معجزاته -عليه الصلاة والسلام- ما هو أعظم من كلام الحمار وغيره", وليس فيه ما ينكر شرعًا، فلا بدع في وقوعه له، فنهايته الضعف لا الوقع على قياس قول المصنف بعد في الضب. وقال شيخنا، أي: فبتقدير كون كلام الحمار لا أصل له، لا ينقص ذلك من مقامه شيئًا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 ومن ذلك: من حديث الضب، وهو مشهور على الألسنة، ورواه البيهقي في أحاديث كثيرة، لكنه حديث غريب ضعيف. قال المزي: لا يصح إسنادًا ولا متنًا، وذكره القاضي عياض في الشفاء، وقد روي من حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في محفل من أصحابه؛ إذ جاءه أعرابي من بني سليم قد صاد ضبًّا جعله في كمّه؛ ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله، فلمَّا رأى الجماعة قال: من هذا؟ قالوا: نبي الله،   لكثرة معجزاته وعظمتها، وفيه: إن مسلمًا لا يتوهّم نقصًا حتى ينصّ على نفيه، "ومن ذلك حديث الضب" -بفتح المعجمة وموحدة ثقيلة- حيوان بري يشبه الورل, قال ابن خالويه: لا يشرب الماء ويعيش سبعمائة سنة فصاعدًا، ويقال: إنه يبول في كل أربعين يومًا قطرة, ولا يسقط له سن, ويقال: إن أسنانه قطعة واحدة ليست متفرقة, ويرجع في قيئه كالكلب, ويأكل رجيعه, وهو طويل الدماء بعد الذبح وهشم الرأس, يمكث ليلة ويلقى في النار فيتحرك كما في حياة الحيوان "وهو مشهور على الألسنة, ورواه البيهقي في أحاديث كثيرة, لكنه حديث غريب ضعيف". "قال الحافظ أبو الحجاج جمال الدين، يوسف بن الذكي، عبد الرحمن الحلبي الأصل، الدمشقي الدار والمنشأ, "المزي" بكسر الميم، وتشديد الزاي المكسورة، نسبة إلى المزة، قرية بدمشق, ولد بحلب سنة أربع وخمسين وستمائة، ونشأ بالمزة، وتفقه قليلًا، ثم أقبل على الحديث، ورحل، وسمع الكثير، ونظر اللغة ومهر فيها، وفي التصريف، وقرأ العربية. وأمَّا معرفة الرجال: فهو حامل لوائها, والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله, صنَّف تهذب الكمال والأطراف، وأملى مجالس، وأوضح مشكلات ومعضلات ما سبق إليها من علم الحديث ورجاله، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية, مات يوم السبت، ثاني عشر صفر، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، "لا يصح إسنادًا" لضعف رواته, "ولا متنًا" وهو لفظ الحديث، "وذكره القاضي عياض في الشفاء" فقال: "وقد روي" عند الطبراني، والبيهقي، وشيخه الأكم وشيخه ابن عديّ، كلهم "من حديث ابن عمر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في محفل" بفتح الميم، وسكون المهملة، وكسر الفاء: جمع كثير، "من أصحابه؛ إذ جاءه أعرابي" أي: دخل عليهم بغتة رجل من البادية لا يعرف "من بني سليم" بضم ففتح "قد صاد ضبًّا" جملة حالية، "جعله في كمه ليذهب به إلى رحله فيشويه ويأكله" على عادة الأعراب، فلمَّا رأى الجماعة" الصحابة، "قال" لهم: "من هذا"؛ لأنه ينكره أو لم يعرفه، "قالوا: نبي الله" ولفظ الدارقطني ومن بعده، فقال: على من هؤلاء الجماعة، فقالوا: على هذا الذي يزعم أنه نبي، فأتاه فقال: يا محمد! ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أنَّ تسمين العرب عجولًا، لقتلتك ولسررت الناس بقتلك أجمعين، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أقتله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 فأخرج الضب من كمه وقال: واللات والعزى لا آمن بك أو يؤمن هذا الضب. وطرحه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا ضب"، فأجابه بلسان مبين يسمعه القوم جميعًا: لبيك وسعديك يا زين من وافى القيامة، قال: "من تعبد؟ " قال: الذي في السماء عرشه, وفي الأرض سلطانه, وفي البحر سبيله, وفي الجنة رحمته, وفي النار عقابه. قال: "فمن أنا؟ قال: رسول رب العالمين وخاتم النبيين، وقد أفلح من صدَّقك وخاب من كذَّبك,   الحليم كاد أن يكون نبيًّا"، ثم أقبل الأعرابي على رسول الله، "فأخرج الضب من كمه، وقال: واللات والعزى"صنمان عُبِدَا في الجاهلية، "لا آمنت بك،" أي: بأنك رسول الله، "أو يؤمن" بالنصب، أي إلى، أو إلّا، وفي رواية: حتى يؤمن "هذا الضب", فأؤمن أنا بك أيضًا لمشاهدة المعجزة، "وطرحه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم", أي: في مقابلته قريبًا منه، "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا ضب" بالضم -منادى مفرد، "فأجابه بلسان مبين كلامه, أو بكلام ظاهر مفهوم. وفي رواية الداقطني ومن معه: فكلَّمه الضب بلسان طلق فصيح، عربي مبين" يسمعه, وفي رواية يفهمه القوم الذين عنده جميعًا: "لبيك" مثنى منصوب على المصدرية، أي: إجابة لك بعد إجابة, "وسعديك" أي: مساعدة وطاعة لك بعد الطاعة, "يا زين" أي: من يزين ويحسن كل "من وافى" حضر القيامة، جعله مزينًا لأهلها ومن بها؛ لأنه سيدهم وقائدهم، والشفيع فيهم، وهذه العبارة شائعة في لسان عامة العرب، يقولون: يا زين القوم لأشرفهم وأحسنهم، "قال -صلى الله عليه وسلم: "من تعبد" سأله ليقر بعبودية الله، فوصفه بما يعرفه كل أحد؛ إذ "قال: "أعبد الذي في السماء عرشه" المراد السماء: ما قابل الأرض أو جهة العلوّ، فلا ينافي أن العرش فوق السماوات، كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} الآية. "وفي الأرض سلطانه" أي: يظهر عدله وحكمه وقهره لمن فيها من الثقلين, وسلطانه، وإن كان على كل موجود, لكن ظهوره فيمن قد يخالف ظاهر فيها، "وفي البحر سبيله:" طريقه التي جعلها مسلوكة لعباده، بتسخير الرِّيح ونحوه، مما لا يقدر عليه غيره، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية. ولذا كان الكفار لا يدعون فيه سواه، كما قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 56] الآية. وقال التلمساني: معناه واضح قدرته، أي: ما يدل على كمال قدرته وباهر آياته, أو معناه: سبيل عباده الذين يستدلون بصنعه عليه سبحانه، "وفي الجنة رحمته" المختصة العظيمة الباقية, وإن كان رحيم الدنيا والآخرة، وفي النار عقابه، وفي رواية: عذابه, فلإيمانه بالله وصفه بما هو مختص به، دالّ على عظمته، "قال" ليكمل إيمانه: "فمن أنا؟ " قال: رسول الله رب العالمين" إشارةً إلى عموم رسالته لكل موجود حتى الحيوان والجماد، "وخاتم النبيين" فلا نبي بعدك، "وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 فأسلم الأعربي. الحديث بطوله, وهو مطعون فيه, وقيل: إنه موضوع. لكن معجزاته -عليه   أفلح فاز بسعادة الدارين "مَنْ صدقك:" أقرَّ برسالتك، "وخاب:" لم ينجح، ولم يظفر بالمأمول "من كذبك" بإنكار رسالتك، وعدم إجابة دعوتك، "فأسلم الأعرابي" لما رأى المعجزة البينة, وعلم علمًا ضروريًّا بتوحيد الله، وأنه رسوله، "الحديث بطوله" تتمته عند الدارقطني وابن عدي، ومن بينهما, فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله حقًّا، ولقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إلي منك، والله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي، وولدي، وشعري، فقد آمن بك شعري وبشري، داخلي وخارجي، وسري وعلانيتي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلّا بقرآن" , قال: فعلمني، فعلمه -صلى الله عليه وسلم- الفاتحة والإخلاص، فقال: يا رسول الله, ما سمعت في البسط ولا في الوجيز أحسن من هذا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، إذا قرأت {قُلْ ُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الآية. مرة، فكأنما قرأت ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين، فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإن قرأتها ثلاثًا، فكأنما قرأت القرآن كله", فقال الأعرابي: نِعْمَ الإله إلاهنا, يقبل اليسير ويعطي الكثير، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "ألك مال" , فقال: ما في سليم قاطبة أفقر مني، فقال لأصحابه: "أعطوه" , فأعطوه حتى أثروه، فقال عبد الرحمن بن عوف: إني أعطيه يا رسول الله ناقة عشراء، أهديت إلي يوم تبوك، تلحق ولا تلحق، أتقرَّب بها إلى الله دون البختي وفوق العرابي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قد وصفت ما تعطي، فأصف لك ما يعطيك الله" , قال: نعم، قال: "لك ناقة من درة جوفاء، قوائمها من زمرد أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر، عليها هودج، وعلى الهودج السندس والإستبرق، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف"، فخرج الأعرابي من عند رسول الله، فتلقَّاه ألف أعرابي من بني سليم، على ألف دابّة، بألف رمح وألف سيف، فقال لهم: أين تريدون، فقالوا: نريد هذا الذي يكذب، ويزعم أنه نبي، فقال الأعرابي: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: صبوت, فحدَّثت بحديثه، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله, ثم أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم, فتلقاهم بلا رداء, فنزلوا عن ركائبهم يقبّلون ما ولوا منه، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقالوا: يا رسول الله, مرنا بأمرك، قال: "كونوا تحت راية خالد بن الوليد"، قال ابن عمر: فلم يؤمن في أيامه -صلى الله عليه وسلم- من العرب، ولا من غيرهم ألف غيرهم، "وهو مطعون فيه" بالضعف. "وقيل: إنه موضوع" زعم ذلك ابن دحية، وليس كما زعم، قال القطب الخضيري: رجال أسانيده، وطرقه ليس فيهم من يتهم بالوضع، وأما الضعف، ففيهم, ومثل ذلك لا يتجاسر على دعوى الوضع فيه، "لكن معجزاته -عليه الصلاة والسلام- فيها ما هو أبلغ من هذا،" فلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 الصلاة والسلام- فيها ما هو أبلغ من هذا, وليس فيه ما ينكر شرعًا, خصوصًا وقد رواه الأئمة, فنهايته الضعف لا الوضع، والله أعلم.   بدع في كون هذا منها، "وليس فيه ما ينكر شرعًا، خصوصًا وقد رواه الأئمة" الحفاظ الكبار، كابن عدي وتلميذه الحاكم، وتلميذه البيهقي، وهو لا يروي موضوعًا, والدارقطني وناهيك به، "فنهايته الضعف لا الوضع" كما زعم كيف، ولحديث ابن عمر طريق آخر، ليس فيه السلمي، رواه أبو نعيم، وورد مثله من حديث علي عند ابن عساكر، وابن عباس، رواه ابن الجوزي، ومن حديث عائشة وأبي هريرة عند غيرهما، "والله أعلم" بما في نفس الأمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 حديث الغزالة : ومن ذلك: حديث الغزالة: روى حديثها البيهقي من طرق، وضعَّفه جماعة من الأئمة، لكن له طرق يقوي بعضها بعضًا، وذكره القاضي عياض في الشفاء، ورواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه مجاهيل، عن حبيب بن محصن عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحراء من الأرض إذا هاتف يهتف:   حديث الغزالة: "ومن ذلك حديث الغزالة" أي: كلامها له، وأمَّا تسليمها المشهور على الألسنة وفي المدائح, فقال السخاوي: ليس له -كما قال ابن كثير- أصل، ومن نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ولكن ورد الكلام في الجملة، وفي فتح الباري، وأمَّا تسليم الغزالة، فلم أجد له إسناد إلّا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيف. "روى حديثها البيهقي من طريق" من حديث أبي سعيد، "وضعَّفه جماعة من الأئمة" حفاظ الحديث ونقاده، "لكن له طرق يقوي بعضها بعضًا"؛ لأن الطرق إذا تعددت وتباينت مخارجها، دلَّ ذلك على أن للحديث أصلًا، فيكون حسنًا لغيره لا لذاته، "وذكره القاضي عياض في الشفاء" بلا سند، عن أم سلمة بدون تمريض, فيدل على قوته، "ورواه أبو نعيم في الدلائل" النبوية، "بإسناد فيه مجاهيل، عن حبيب بن محصن، عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية، أم المؤمنين، "رضي الله عنها- قالت: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صحراء من الأرض", وفي حديث أنس عند أبي نعيم: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعض سكك المدينة، فمررنا بخباء، وإذا بظبية مشدودة إلى الخباء، فكأنَّ السكة التي مَرَّ بها كانت واسعة, فسماها صحراء مجازًا، ومرورهم بالخباء بعد سماع الهاتف، فلا يخالف قوله: "إذا هاتف يهتف" صائح يصيح بالنطق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 يا رسول الله, ثلاث مرات, فالتفت فإذا ظبية مشدودة في وثاق، وأعرابي منجدل في شملة نائم في الشمس، فقال: "ما حاجتك؟ " قالت: صادني هذا الأعرابي، ولي خشفان في ذلك الجبل فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع، قال: "وتفعلين؟ " قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أعد, فأطلقها فذهبت ورجعت, فأوثقها النبي -صلى الله عليه وسلم, فانتبه الأعرابي وقال: يا رسول الله, ألك حاجة؟ قال: "تطلق هذه الظبية،   يا رسول الله -ثلاث مرات، فالتفت فإذا ظبية مشدودة في وثاق، وأعرابي منجدل" مطروح على الجدالة: الأرض, في شملة نائم في الشمس، فقال: "ما حاجتك؟ " حتى ناديتني، "قالت: صادني هذا الأعرابي", وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، مَرَّ -صلى الله عليه وسلم- على قوم قد صادوا ظبية وشدوها إلى عمود فسطاط، فقالت: يا رسول الله! إني وضعت، ولي خشفان، فاستأذن لي أن أرضعهما، ثم أعود إليهم، فقال: "خلوا عنها حتى تأتي خشفيها فترضعهما، وتأتي إليكم" , قالوا: ومن لنا بذلك يا رسول الله؟ قال: "أنا" فأطلقوها، فذهب فأرضعتهما، ثم عادت إليهم، فأوثقوها، فإن كانت القصة تعدّدت، وإلّا فيمكن أن صائدها واحد من القوم له ولهم، فنسب إليهم في رواية أبي سعيد ذلك، واختبرته نفس الظبية خصوص من صادها، ولا تنافي بين قوله: فأطلقوها, وبين كون المصطفى هو الذي أطلقها في حديث أم سلمة؛ لجواز أن نسبته إليهم مجازية؛ لكونه عن إذنهم، وكأنه لما استأذنهم وضمن لهم عودها، طلبوا منه أن يطلقها بنفسه لتطئمنَّ قلوبهم، وكذا قوله: فأوثقوها لا ينافي حديث أم سلمة فأوثقها النبي؛ لجواز أنه أمرهم بإيثاقها، فنسب إليه، "ولي خشفان" بكسر الخاء، وسكون الشين المعجمتين: ظبيان صغيران قرب ولادتهما, "في ذلك الجبل" تشير لجبل بتلك الصحراء "فأطلقني حتى أذهب فأرضعهما وأرجع" بنصب الأفعال الثلاثة، "قال: "وتفعلين" بتقدير الهمزة، أي: ترجعين إن أطلقتك", "قالت: عذَّبني الله عذاب العشار" المكاس، "إن لم أعد، وفي حديث أنس عند أبي نعيم، فقالت: يا رسول الله, أخذت ولي خشفان في البرية، وقد انعقد اللبن في أخلافي، فلا هو يذبحني فأستريح, ولا يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية، فقال لها: "إن تركتك ترجعين؟ " قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذابًا أليمًا، "فأطلقها، فذهبت" فأرضعتهما ورجعت" عن قرب, "فأوثقها النبي -صلى الله عليه وسلم" كما كانت, "فانتبه الأعرابي" من نومه، وقال: يا رسول الله! ألك حاجة؟ قال: "تطلق هذه الظبية" , فأطلقها" من وثاقها. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في السنن بعد قوله: فأوثقوها, فمَرَّ بهم رسول الله، فقال: "أين أصحاب هذه" , قالوا: نحن يا رسول الله، فقال: "أتبيعونها" , قالوا: هل لك، قال: "خلو عنها" فأطلقوها، "فخرجت تعدوا في الصحراء" تجري جريًا شديدًا "فرحًا وهي تضرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 فأطلقها, فخرجت تعدو في الصحراء فرحًا وهي تضرب برجليها الأرض وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وكذا رواه الطبراني بنحوه، وساق الحافظ المنذري حديثه في الترغيب والترهيب من باب الزكاة. ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي عن ابن كثير: أنه لا أصل له، وأن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، ثم قال شيخنا: لكنه في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوى بعضها ببعض, أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر, والله أعلم. انتهى.   برجليها الأرض، وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله", وقال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية، وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، "وكذا رواه الطبراني بنحوه" من حديث أم سلمة، "وساق الحافظ المنذري حديثه" أي: لفظ الطبراني "في الترغيب والترهيب من باب الزكاة", ولا يخفاك ما في حديثها وحديث أبي سعيد من التغاير العديد المقتضي، لأنهما قصتان، وقد بينَّا لك بعضها مع تعسّف الجمع. وروى البيهقي في الدلائل: مَرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله! حلني حتى أذهب إلى خشفي ثم أرجع فتربطني، فقال -صلى الله عليه وسلم: "صيد قوم وربطه قوم" فأخذ عليها، فحلفت له، فحلّها، فما مكثت إلّا قليلًا حتى جاءت، وقد نقصت ما في ضرعها, فربطها -صلى الله عليه وسلم, ثم أتى خباء أصحابها، فاستوهبها منهم، فوهبوها له, فحلها، ثم قال: "لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينًا أبدًا". "ونقل شيخنا الحافظ أبو الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي" في كتاب المقاصد الحسنة، "عن ابن كثير، أنه لا أصل له، وإن من نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، لفظ السخاوي، حديث تسليم الغزالة اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية، وليس له -كما قال ابن كثير- أصل، ومن نسبه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد كذب، "ثم قال شيخنا" تلو هذا: "لكنه" أي الكلام في الجملة وارد في عدة أحاديث يتقوّى بعضها ببعض، أوردها شيخنا شيخ الإسلام ابن حجر، الحافظ في المجلس الحادي والستين من تخريج أحاديث المختصر" الكبير في الأصول لابن الحاجب، "والله أعلم، انتهى" فهما أمران كلاهما له، وهذا مفرداته ضعيفة، فيجير بعضها بعضًا، وتسليمها عليه، أي: قولها السلام عليك يا رسول الله مثلًا، وهذا لم يرد، كما قال ابن كثير خلاف ما يعطيه تصرف المصنف أنه قاله في الكلام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 وفي شرح مختصر ابن الحاجب للعلامة ابن السبكي، وتسبيح الحصى، رواه الطبراني وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر، وتسليم الغزالة رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والبيهقي، في دلائل النبوة، ونحن نقول فيهما: إنهما لم يكونا متواترين, فلعلهما استغنا بنقل غيرهما، أو لعلهما تواترا إذ ذاك، انتهى.   "وفي شرح مختصر ابن الحاجب، للعلامة ابن السبكي: وتسبيح الحصى, رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أبي ذر" الغفاري", وقد تقدَّم" وتسليم الغزالة، مجاز عن الكلام؛ إذ هو الذي رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني" وكذا الطبراني عن أم سلمة, "والبيهقي" عن أبي سعيد الخدري "في دلائل النبوة" لهما، وكذا رواه البيهقي في السنن عن أبي سعيد, "ونحن نقول فيهما: إنهما وإن لم يكونا اليوم متواترين فلعلهما استغنا بنقل غيرهما" عنهما، وهو القرآن متواترًا، كما قاله ابن الحاجب جوابًا لقول الشيعة: كيف ينقل آحادًا مع توفر الدواعي على نقله، ومع ذلك لم تكذب رواته, "أو لعلهما تواترا إذ ذاك", ثم انقطع التواتر بعد، "انتهى". قال الحافظ: والذي أقوله: إنها كلها مشتهرة عند الناس، وأمَّا من حيث الرواية، فليست على حد سواء, وقد مرت عبارته بتمامها في تسبيح الحصى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 طاعة داجن البيوت له "صلى الله عليه وسلم" : من ذلك، داجن البيوت، وهو ما ألفها من الحيوان، كالطير والشاة وغيرهما، روى قاسم بن ثابت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عندنا داجن, فإذا كان عندنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَرَّ وثبت مكانه، فلم يجئ ولم يذهب, وإذا خرج   طاعة داجن البيوت له "صلى الله عليه وسلم": "ومن ذلك" أي: طاعات الحيوانات "داجن" بدال مهملة، ثم جيم "البيوت" من دجن، إذا أقام بموضع تربَّى فيه ليسمن، ويقال: رجن -بالراء بدل الدال- إذا أقام، "وهو ما ألفها من الحيوان، كالطير والشاة وغيرهما، كالناقة، روى قاسم بن ثابت السرقطي الأندلسي، الفقيه المالكي، المحدث المشارك لأبيه، الحافظ، ثابت بن حزم في رحلته وشيوخه، الورع الناسك، مجاب الدعوة، مات سنة اثنتين وثلاثمائة. "عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عندنا" بمنزلنا الذي نسكنه "داجن, فإذا كان عندنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَرَّ" بالقاف المفتوحة، والراء الثقيلة، أي: سكن وثبت مكانه، أي: وقف أو ربض فيه، لا يتحرك أدبًا معه، "فلم يجئ ولم يذهب, وإذا خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء وذهب" أي: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء وذهب. وذكره القاضي عياض بسنده.   مشى في البيت وتردَّد فيه؛ لأنه ليس ثمة من يهابه, وقيل: معناه من لم يقر لعدم رؤيته -صلى الله عليه وسلم- شوقًا له، وكلاهما آية لألف الحيوان الذي لا يعقل له ومهابته، عنده، "وذكره القاضي عياض بسنده" من طريق قسم, وأخرجه أحمد والبزار وغيرهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 الفهرس : الصفحة الموضوع 3 الفصل الثاني: فيما أكرمه الله تعالى به من الأخلاق الزكية وشرَّفه به من الأوصاف المرضية 129 الفصل الثالث: فيما تدعو ضرورته إليه من غذائه وملبسه ومنكحه, وما يحلق بذلك 254 النوع الثاني: في لباسه وفراشه 301 صفة إزاره -صلى الله عليه وسلم 305 لطيفة 312 فص خاتمه -صلى الله عليه وسلم 330 نقش خاتمه -عليه الصلاة والسلام 340 السراويل 346 الخف 346 نعله -صلى الله عليه وسلم 359 فراشه 366 النوع الثالث: في سيرته -صلى الله عليه وسلم- في نكاحه 390 النوع الرابع: في نومه -عليه الصلاة والسلام 405 المقصد الرابع: في معجزاته -صلى الله عليه وسلم- الدالة على ثبوت نبوته 484 رد الشمس له -صلى الله عليه وسلم 495 تسبيح الطعام والحصى في كفه الشريف -صلى الله عليه وسلم 513 كلام الشجر له وسلامها عليه وطواعيتها له, وشهادتها له بالرسالة -صلى الله عليه وسلم 522 حنين الجذع شوقًا إليه -صلى الله عليه وسلم 538 سجود الجمل وشكواه إليه -صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 الصفحة الموضوع 545 كلام الذئب وشهادته له -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة 551 حديث الحمار 557 حديث الغزالة 560 طاعة داجن البيوت له -صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 المجلد السابع تابع المقصد الرابع: في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته معجزة نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ... تابع المقصد الرابع: في معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على ثبوت نبوته بسم الله الرحمن الرحيم "معجزة نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم": وأما نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف المياه، فقال القرطبي: قصة نبع الماء من بين أصابعه قد تكررت منه صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي   نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم: "وأما نبع الماء" قسيم قوله: أما معجزة انشقاق القمر، بيانًا لتفصيل القسم الثالث، وهو ما كان معه من حين ولادته إلى وفاته، "الطهور" صفة لازمة، وقال شيخنا: مخصصة "من بين أصابعه" أي أصابع يديه "صلى الله عليه وسلم" كما هو ظاهر الروايات الآتية، واقتصر على بين الأصابع بالنسبة لأغلب الوقائع، أو تجوز بالبينية عما يشمل رءوس الأصابع، "وهو أشرف المياه" على الإطلاق؛ كما قاله البلقيني وغيره. قال السيوطي: وأفضل المياه ماء قد نبع ... من بين أصابع النبي المتبع يليه ماء زمزم فبالكوثر ... فنيل مصر ثم باقي الأنهر "فقال القرطبي" صاحب المفهم فيه: "قصة نبع الماء" إضافة بيانية، أي القصة التي هي نبع الماء "من بين أصابعه، ق تكررت منه صلى الله عليه وسلم في عدة مواطن" جمع موطن، المشهد من مشاهد الحرب ومكان الإنسان، "في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي، المستفاد من التواتر المعنوي. وقال عياض: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير والجم الغفير، عن الكافة متصلة بالصحابة، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل، ومجامع العساكر، ولم يرد عن أحد منهم إنكار على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعي في معجزاته. قال في فتح الباري: فأخذ القرطبي كلام عياض وتصرف فيه، وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين، وأحمد، وغيرهم من خمسة طرق، وعن جابر عندهم من أربعة طرق، وعن ابن مسعود عند البخاري والترمذي، وعن ابن عباس عند أحمد والطبراني من طريقين، وعن أبي ليلى، والد عبد الرحمن عند الطبراني، فعدد هؤلاء الصحابة، ليس كما يفهم من إطلاقهما. وأما تكثير الماء بأن لمسه بيده، أو تفل فيه، أو أمر بوضع شيء فيه، كسهم من كنانته، فجاء من حديث عمران بن حصين في الصحيحين، وعن البراء بن عازب عند البخاري وأحمد من طريقين، وعن أبي قتادة عند مسلم، وعن أنس عند البيهقي في الدلائل، وعن زياد بن الحارث، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 ولم يسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم. انتهى.   الصدائي عنده، وعن بريح، بضم الموحدة، وتشديد المهملة الصدائي أيضًا، فإذا ضم هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة أو قاربها. وأما من رواها من أهل القرن الثاني، فهم أكثر عددًا، وإن كان شطر طرقه أفرادًا، وفي الجملة يستفاد منها الرد على ابن بطال، حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك لطول عمره، وتطلب الناس العلو في السند، انتهى، وهذا ينادي عليه بقلة الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه، انتهى. "ولم يسمع بهذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه، وقد نقل ابن عبد البر عن المزني" إسماعيل بن يحيى، بن إسماعيل، بن عمرو، بن إسحاق، الإمام الجليل، صاحب التصانيف، الزاهد، المتقلل من الدنيا، مجاب الدعوة، قال الشافعي: لو ناظر الشيطان لغلبه، مات لست بقين من رمضان، سنة أربع وستين ومائتين، ودفن قريبًا من الشافعي، وولد سنة خمس وسبعين ومائة، "أنه قال: نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر، حيث ضربه موسى بالعصا فتفجرت" جرت وسالت "منه المياه؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود" كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} الآية، "بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم" ليس بمعهود؛ كما قال الشاعر: إن كان موسى سقى الأسباط من حجر ... فإن في الكف معنى ليس في الحجر ولله در البوصيري حيث قال في اللامية: ومنبع الماء عذبًا من أصابعه ... وذي أياد عليها قد جرى النيل "انتهى" كلام القرطبي. قال الحافظ: وظاهر كلامه أن الماء نبع من بين اللحم الكائن في الأصابع، ويؤيد قوله في حديث ابن عباس عند الطبراني: فجاءوا بشيء، فوضع صلى الله عليه وسلم يده عليه، ثم فرق بين أصابعه، فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى، فإن الماء تفجر من نفس العصا، فتمسكه به يقتضي أن الماء تفجر من بين أصابعه، ويحتمل أن المراد أن الماء نبع من بين أصابعه بالنسبة إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 وقد روى حديث نبع الماء جماعة من الصحابة، منهم: أنس وجابر وابن مسعود. فأما حديث أنس ففي الصحيحين قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء.   رؤية الرائي وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه، يفور ويكثر وكفه صلى الله عليه وسلم في الماء، فيراه الرائي، نابعًا منه، والأول أبلغ في المعجزة، وليس في الإخبار ما يرده، انتهى، ويأتي نحوه في المتن. "وقد روى حديث نبع الماء جماعة من الصحابة" خمسة، كما علمت، "منهم: أنس وجابر، وابن مسعود" وابن عباس، وأبو يعلى، "فأما حديث أنس، ففي الصحيحين" البخاري في الوضوء وعلامات النبوة، ومسلم في الفضائل، ورواه الترمذي في المناقب، والنسائي في الطهارة، كلهم من طريق مالك، الإمام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس، أنه "قال: رأيت" أي أبصرت "رسول الله" وفي رواية: النبي صلى الله عليه وسلم، والحال أنه قد "حانت" بالمهملة، أي قربت "صلاة العصر" زاد في رواية للشيخين من حديث سعيد، عن قتادة، عن أنس، وهو بالزوراء، بفتح الزاي، وسكون الواو، بعدها راء: موضع بسوق المدينة، وتفسير حانت: بقربت، هو ما صدر به الكرماني، واقتصر عليه المصنف والحافظ أنسب بقوله: صلاة العصر، وإن كان يطلق لغة أيضًا على دخول الوقت. قال الحافظ: وزعم الداودي أن الزوراء: مكان مرتفع، كالمنارة، وكأنه أخذه من أمر عثمان بالتأذين على الزوراء، وليس بلازم، بل الواقع أن المكان الذي أمر بالتأذين فيه كان الزوراء، لا أنه الزوراء نفسها. وفي رواية همام عن قتادة عن أنس: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء، أو عند بيوت المدينة، أخرجه أبو نعيم، "فالتمس" أي طلب، "الناس الوضوء" بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به، وفي رواية: فالتمس الوضوء بالبناء للمفعول، "فلم يجدوه" وفي رواية بغير الضمير للمنصوب، أي فلم يصيبوا الماء، "فأتي" بضم الهمزة مبني للمفعول، "رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالرفع نائب الفاعل، "بوضوء" بفتح الواو، أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به، وفي رواية: فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير، وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد، وعند أبي نعيم والحارث بن أبي أسامة، من رواية شريك بن أبي نمر، عن أنس، أنه هو الذي أحضر الماء، ولفظه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انطلق إلى بيت أم سلمة"، فأتيته بقدح ماء، إما ثلثه وإما نصفه. الحديث، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 فوضع يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضئوا منه، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم، وفي لفظ البخاري: كانوا ثمانين رجلا، وفي لفظ له: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، قال: فقلنا لأنس كم كنتم قال: كنا ثلاثمائة. قوله: "حتى توضئوا من عند آخرهم" قال الكرماني: حتى للتدريج، ومن للبيان، أي: توضأ الناس حتى توضأ الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، و"عند" بمعنى "في" لأن "عند" وإن كانت للظرفية الخاصة لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال: الذين هم في آخرهم. وقال التيمي: المعنى.   وفيه: أنه رده بعد فراغهم إليها، وفيه قدر ما كان فيه أولا، "فوضع يده في ذلك الإناء" قال شيخ الإسلام: الظاهر أنها اليد اليمنى، "فأمر" بالفاء "الناس أن يتوضئوا منه" أي: بالتوضؤ من ذلك الإناء، قال أنس: "فرأيت الماء ينبع" بتثليث الموحدة: يخرج "من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم، وفي لفظ للبخاري" من رواية حميد عن أنس: "كانوا ثمانين رجلا". في لفظ للبخاري أيضًا من رواية الحسن عن أنس: كانوا سبعين أو نحوه، وفي مسلم: سبعين أو ثمانين، "وفي لفظ له" أي البخاري في العلامات، وكذا مسلم في الفضائل من طريق سعيد عن قتادة عن أنس: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء فوضع يده في الإناء، "فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم، قال" قتادة: "فقلنا لأنس: كم كنتم؟، قال: كنا ثلاثمائة" لفظه، أو زهاء ثلاثمائة بالشك. قال الحافظ: بضم الزاي والمد، أي قدر ثلاثمائة من زهوت الشيء إذا حصرته، وللإسماعيلي من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد ثلاثمائة، بالجزم دون قوله أو زهاء، انتهى وبه تعلم ما في المؤلف من المؤاخذة، بالجزم بثلاثمائة مع العزو للبخاري، وقد ظهر من السياق تعدد القصة إذ كانوا مرة ثمانين أو سبعين، ومرة ثلاثمائة أو ما قاربهما، فهما كما قال النووي قضيتان جرتا في وقتين حضرهما جميعًا أنس، "قوله: حتى توضئوا من عند آخرهم". "قال الكرماني: حتى للتدريج، ومن للبيان، أي توضأ الناس حتى توضأ الناس الذين هم عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، وعند بمعنى في؛ لأن عند وإن كانت للظرفية الخاصة، لكن المبالغة تقتضي أن تكون" لمطلق الظرفية؛ لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة، "فكأنه قال: الذين هم في آخرهم". "وقال التيمي" أحمد بن محمد بن عمر، شارح البخاري شرحًا واسعًا جدًا: "المعنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، وقال النووي: "من" هنا بمعنى "إلى" وهي لغة، وتعقبه الكرماني بأنها شاذة، قال: ثم إن "إلى" لا يجوز أن تدخل على "عند" ويلزم عليه وعلى ما قاله التيمي أن لا يدخل الأخير، لكن ما قاله الكرماني من أن "إلى" لا تدخل على عند لا يلزم مثله في "من" إذا وقعت بمعنى "إلى" وعلى توجيه النووي يمكن أن يقال عند زائدة. قاله في فتح الباري. وروى هذا الحديث أيضًا عن أنس بن شاهين، ولفظه: قال أنس كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال المسلمون: يا رسول الله، عطشت دوابنا وإبلنا،   توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر". وقال النووي: من هنا بمعنى إلى، وهي لغة" والكوفيون يجوزون مطلقًا وضع حروف الجر بعضها مقام بعض، "وتعقبه الكرماني بأنها شاذة" فلا يخرج عليها الفصيح مع إمكان غيره، "قال: ثم إن إلى لا يجوز أن تدخل على عند" فهو اعتراض ثان على النووي، "ويلزم عليه" أي جعل النووي من بمعنى إلى، "وعلى ما قاله التيمي" من قوله إلى آخرهم، فأشار أيضًا إلى أنها بمعنى إلى "أن لا يدخل الأخير" من القوم؛ لأن المغيابالي خارج على المشهور، وإلا فيدخل على قول؛ "لكن ما قاله الكرماني من أن إلى لا تدخل على عند، لا يلزم مثله في من إذا وقعت بمعنى إلى" لأن كون كلمة بمعنى أخرى لا يلزم أن تكون مثلها استعمالا، فلا مانع من دخول من التي بمعنى إلى على عند، وامتناع دخول إلى عليها، "وعلى توجيه النووي" يمكن أن يقال عند زائدة، قاله في فتح الباري" في كتاب الطهارة. وقال المصنف: أي توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد، والشخص الذي هو آخرهم داخل في هذا الحكم، لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة، لأن عند هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى في، كأنه قال: حتى توضأ الذين هم آخرهم، وأنس داخل فيهم، إذ قلنا يدخل المخاطب، بكسر الطاء في عموم خطابه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وهو مذهب الجمهور، وقال بعضهم: حتى حرف ابتداء مستأنف، جملة اسمية وفعلية فعلها ماض، نحو: حتى عفوا وحتى توضئوا، ومضارع نحو: "حتى يقول الرسول" في قراءة نافع، ومن للغاية لا للبيان، خلافًا للكرماني، لأنها لا تكون للبيان إلا إذا كان فيما قبلها إبهام، ولا إبهام هنا. "وروى هذا الحديث أيضًا" أي حديث نبع الماء لا بقيد المتقدم عن الصحيحين؛ لأنه في سوق المدينة، وهذا في تبوك "عن أنس بن شاهين" فاعل روى "ولفظه، قال أنس: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال المسلمون: يا رسول الله! عطشت دوابنا وإبلنا،" عطف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 فقال: "هل من فضلة ماء". فجاء رجل في شن بشيء، فقال: "هاتوا صحفة". فصب الماء ثم وضع راحته في الماء، قال: فرأيتها تخلل عيونًا بين أصابعه، قال: فسقينا إبلنا ودوابنا وتزودنا، فقال: "أكفيتم"؟. قلنا: نعم يا رسول الله، فرفع يده فارتفع الماء. وأخرج البيهقي عن أنس أيضًا، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء فأتى من بعض بيوتهم بقدح صغير، فأدخل يده فلم يسعه القدح، فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: "هلموا إلى الشراب". قال أنس: بصر عيني ينبع الماء من بين أصابعه فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا منه جميعًا. وأما حديث جابر: ففي الصحيحين، قال: عطش الناس يوم الحديبية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين   خاص على عام، فقال: "هل من فضلة ماء"؟. إنما طلبها لئلا يظن أنه صلى الله عليه وسلم موجد للماء والإيجاد إنما هو لله لا لغيره، "فجاء رجل في شن" بفتح المعجمة ونون ثقيلة: قربة بالية "بشيء" من ماء فقال: "هاتوا صحفة" إناء كالقصعة، وقال الزمخشري: قصعة مستطيلة، "فصب الماء" "ثم وضع راحته" كفه مع أصابعه "في الماء قال" أنس "فرأيتها" أي الصحفة "تخلل"، بفتح التاء، مضارع بحذف إحدى التاءين، أي تنفذ "عيونًا بين أصابعه" تمييز محول عن الفاعل، والأصل تتخلل عيونها بين أصابعه. "قال" أنس: "فسقينا إبلنا وداوبنا، وتزودنا" حملنا الماء معنا، "فقل" صلى الله عليه وسلم: "أكفيتم"؟. قلنا: نعم يا رسول الله، فرفع يده" من الصحفة، "فارتفع الماء" برفع يده. "وأخرج البيهقي عن أنس أيضًا، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء" موضع معروف بالمدينة، كان صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت راكبًا أو ماشيًا، "فأتي" بالبناء للمفعول "من بعض بيوتهم" أي بيوت أهل قباء، "بقدح صغير، فأدخل يده، فلم يسعه" أي إدخال يده، وإلا فالظاهر لم يسعها، أي اليد "القدح" لصغره، "فأدخل أصابعه الأربعة ولم يستطع أن يدخل إبهامه، ثم قال للقوم: "هلموا إلى الشراب"، قال أنس: بصر" بضم الصاد وكسرها، قال المجد: ككرم وفرح، أي نظر "عيني ينبع الماء" أي نبعه "من بين أصابعه" وتعديه بصر بنفسه لغة، والأفصح تعديته بالباء، نحو بصرت بما لم يبصروا به، "فلم يزل القوم يردون القدح حتى رووا" بفتح الراء وضم الواو، "منه جميعًا" أي زال ظمؤهم، وأصله رويوا، حذفت الياء لثقل الضمة عليها، وضمت الواو الأولى لمناسبة الثانية. "وأما حديث جابر، ففي الصحيحين" في المغازي والبخاري أيضًا في علامات النبوة، وأخرجه النسائي في الطهارة والتفسير، كلهم من رواية سالم بن أبي الجعد عن جابر، "قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 يديه ركوة يتوضأ منها، وجهش الناس نحوه، فقال: ما لكم؟ قالوا يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا ماء نشربه إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور من بين أصابعه، كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة. وقوله: "يثور"   عطش" بكسر الطاء "الناس يوم الحديبية" بالتخفيف والتشديد، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة" مثلث الراء: إناء صغير من جلد يشرب فيه، لفظ البخاري في الموضعين فتوضأ "منها" قال الحافظ: كذا وقع في هذه الرواية، ووقع في الأشربة من طريق الأعمش عن سالم؛ أن ذلك لما حضرت صلاة العصر، "جهش"، بفتح الجيم والهاء، بعدها معجمة "الناس" أي: أسرعوا لأخذ الماء، وللكشميهني: فجهش بزيادة فاء في أوله، "نحوه" عليه السلام، وقال المصنف: بفتح الجيم، والهاء والشين المعجمة، أي: أسرعوا إلى الماء منتهين لأخذه، ولأبي ذر بكسر الهاء، وللحموي والمستملي جهش بإسقاط الفاء وفتح الهاء انتهى، فما يوجد في كثير من نسخ المتن، وجهش بواو، بل الجيم مخالف للروايتين، "فقال" وفي رواية: قال بلا فاء، "ما لكم" أي: أي شيء عرض لكم حتى جهشتم إلى "قالوا: يا رسول الله! ليس عندنا ماء نتوضأ به، ولا ماء نشربه" وماء بالهمز في اليونينية، وفي بعض النسخ لم يضبطها "إلا ما بين يديك" ومعلوم أنه لا يكفي، وجعلوا ما بين يديه عندهم، لعلمهم أنه لا يمنعهم منه، فالاستثناء متصل، "فوضع" صلى الله عليه وسلم "يده في الركوة، فجعل الماء يثور" بالمثلثة للأكثر، وللكشميهني بالفاء، وهما بمعنى، أي: ينبع الماء ويرتفع لزيادته "من بين أصابعه، كأمال العيون" أي: مائها الذي يخرج منها، والغرض وصف الماء الخارج من أصابعه بالكثرة. وقال بعض: أي: كان بين كل أصبعين من أصابعه عين ماء نابعة، "فشربنا وتوضأنا، قلت" هو مقول سالم بن أبي الجهد راويه عن جابر، أي: قلت له "كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا" ذلك الماء لما شاهد من ثورانه الدال على عدم انقطاعه، "كنا خمس عشرة مائة" يعني: ألفًا وخمسمائة. قال الطيبي: عدل عن الظاهر لاحتمال التجوز في الكثرة والقلة، وهذا يدل على أنه اجتهد فيه، وغلب على ظنه المقدار، لكن يخالفه قول البراء عند البخاري: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، ورجح البيهقي هذه الرواية على الأولى، بل قيل: إنها وهم، وجمع بأنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال: وأربعمائة ألغاه، ويؤيده رواية البخاري من وجه آخر عن البراء: كنا ألفًا وأربعمائة أو أكثر، فأو بمعنى بل تفيد ذلك، واعتمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 أي يغلي ويظهر متدفقًا. وفي رواية الوليد بن عبادة بن الصامت عنه في حديث مسلم الطويل في ذكره غزوة بواط، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد: الوضوء". وذكر الحديث بطوله، أنه لم يجد إلا قطرة في عزلاء شجب   النووي هذا الجمع لصحة الروايات كلها، كما تقدم بسط ذلك في الحديبية، "وقوله: يثور" بالمثلثة أو الفاء، لأنهما بمعنى؛ كما قال الحافظ، "أي: يغلي ويظهر متدفقًا" عطف تفسير, يقال للشيء إذا زاد وارتفع قد غلى؛ كما في المصباح، وبه تعلم أنه لا يشترط في الغليان حصوله بحرارة النار. "وفي رواية الوليد بن عبادة بن الصامت" الأنصاري، المدني، أبي عبادة، ثقة، من كبار التابعين، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات بعد السبعين، روى له الشيخان والترمذي والنسائي، "عنه" أي: عن جابر "في حديث مسلم الطويل" صفة لحديث في آواخر صحيحه، نحو ورقتين في باب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، "في ذكر غزوة بواط" بضم الباء وفتحها، وخفة الواو مفتوحة، وألف، ومهملة جبال جهينة على أبراد من المدينة بقرب ينبع ثاني غزواته صلى الله عليه وسلم، قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ناد" أمر من النداء محذوف الآخر المعتل، أي: ناد الناس، فقال لهم: أعطوا أو ناولوا "الوضوء" بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ به، فنصب بمقدر، "وذكر الحديث بطوله" وهو: فقلت: ألا وضوء، ألا وضوء، ألا وضوء، قال: قلت: يا رسول الله! ما وجدت في الركب من قطر، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب له ماء في أشجاب على حمارة، فلم أجد إلا قطرة وعزلاء شجب، منها لو أني أفرغه لشربه، يابس الإناء، قال: "اذهب فائت به"، فأتيته به، فأخذه بيده، فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو، ويغمز بيده، ثم أعطانيه، فقال: "يا جابر ناد بجفنة" فقلت: يا جفنة الركب، فأتى بها تحمل، فوضعها بين يديه، فقال صلى الله عليه وسلم: بيده هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: "خذ يا جابر، فصب علي وقل: بسم الله". فصببت عليه وقلت بسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فقال: "يا جابر ناد من كانت له حاجة بماء"، قال: فأتى الناس، فاستقوا حتى رووا وبقي، فقلت: هل بقي أحد له حاجة، فرفع صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى، الحديث. قال الحافظ: وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم لاشتمالها على قلة الماء، وعلى كثرة من استقى منه، فذكر المصنف معناه تبعًا للشفاء بقوله: "وإنه" أي: جابرًا "لم يجد" عند الأنصاري "إلا قطرة" أي: ماء قليلا جدًا، "في عزلاء" بفتح المهملة، وسكون الزاي، ولام، بعدها مدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فغمزه وتكلم بشيء لا أدري ما هو، وقال: "ناد بجفنة الركب". فأتيت بها فوضعتها بين يديه، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بسط يده في الجفنة وفرق أصابعه وصب عليه جابر، وقال: بسم الله، قال فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة واستدارت حتى امتلأت وأمر الناس بالاستقاء فاستقوا حتى رووا، فقلت: هل   وهمزة: فم القربة الأسفل أو مصب الماء من الراوية، مضاف إلى "شجب" بفتح المعجمة، وحكي كسرها، ولا يصح سكون الجيم وموحدة، أي: فم قربة معلقة بعود أو بالية، فالشجب عود يعلق عليه القرب والثياب والأواني بالماء على الصحيح، وقيل: ما قدم من القرب، "فأتي" بالبناء للمفعول، والفاعل "به النبي صلى الله عليه وسلم، فغمزه" بفتح، المعجمة والميم، والزاي: عصره وحركه، أو وضع يده عليه وكبسه بها، "وتكلم بشيء لا أدري ما هو" كأنه سر من أسرار الله، تكلم به بالسريانية ونحوها ليخفى على غيره، كذا قال بعض أو بالعربية، وأسره فلم يدره جابر، "وقال: "ناد بجفنة" كقصعة لفظًا ومعنى: إناء يشبع عشرة فأكثر، ودونها الصحفة تشبع خمسة، ثم الماكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة مصغر تشبع الواحد، وقيل: الجفنة كالصحفة، وقيل: أعظم منها، "الركب" بزيادة الباء أو بتضمين ناد معنى صح أو ائت، بدليل قوله: "فأتيت بها فوضعتها بين يديه" بالبناء للمفعول؛ كما قاله البرهان وغيره، وقيل: مفعول ناد محذوف، أي: ناد القوم يؤتوا بجفنة أو نزلها منزلة العاقل؛ لأن الله خلق فيها إدراكًا حتى تنادي هي، ثم ظاهره أن الركب كان لهم جفنة معينة يستعملونها في حوائجهم، أو يضعون فيها الطعام، ويجتمعون عليها عند الأكل مثلا، وهذا مقتضى الإضافة. وقد علمت أن لفظ مسلم: "ناد بجفنة". فقلت: يا جفنة الركب، ولا منافاة لجواز أن المراد بها الجفنة المخصوصة، فالتنوين عوض عن المضاف إليه، أو على حقيقته؛ لأنه جوز أن يكون معهم غيرها، فأراد، أي: جفنة كانت. "وذكر" جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بسط" بالسين والصاد، وبهما قرئ، أي: وضع "يده في الجفنة" مبسوطة، ليكون أبرك، "وفرق أصابعه، وصب عليه جابر، وقال" جابر: "بسم الله" كما أمره بها، وزعم أن فاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم بعيد، بل يخالفه لفظ مسلم المار. "قال" جابر: "فرأيت الماء يفور" يزيد ويرتفع حتى يتدفق، "من بين أصابعه" عليه الصلاة والسلام، "ثم فارت الجفنة" أي: ارتفع ماؤها، فالمضاف مقدر، وإسناد مجازي للمبالغة في فورانه، "واستدارت" أي: دارت، كما هو لفظ مسلم، أي: دار الماء فيها من تسمية الحال باسم المحل؛ لأن الماء إذا زاد بسرعة يرى كأنه يدور، وقيل: الجفنة نفسها دارت لعظم الأمر وشرف الموضع، فاهتزت واضطربت، وتتابعت حركاتها، "حتى امتلأت" قال بعض: ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 بقي من أحد له حاجة؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة وهي ملأى. وروى حديث جابر أيضًا الإمام أحمد في مسنده بلفظ: اشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فدعا بعس فصب فيه شيئًا من الماء، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وقال: "استقوا". فاستقى الناس، فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ من حديثه له أيضًا: قال فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء ثم قال: "بسم الله". ثم قال: "أسبغوا الوضوء". قال جابر: فوالذي ابتلاني ببصري، لقد رأيت العيون، عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فما رفعها حتى توضئوا أجمعون. ورواه أيضًا عنه البيهقي في الدلائل قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصابنا عطش فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوضع يده في تور   محصل لهذا القيل، وفيه نظر، "وأمر الناس بالاستقاء، فاستقوا حتى رووا فقلت" مقول جابر، "هل" نافية، أي: ما "بقي من" زائدة "أحد له حاجة" كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} ، و"هل ترك لنا عقيل من رباع"، بدليل زيادة من، وقوله: "فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الجفنة" ويجوز أنها استفهامية، ومن زائدة والفاء في فرفع فصيحة، أي: فقالوا: لا، فرفع والأولى أَوْلى؛ لأن الأصل عدم التقدير، "وهي ملأى" أي: مملوأة بالماء لم تنقص شيئًا بما أخذوه. "وروى حديث جابر أيضًا الإمام أحمد في مسنده، بلفظ: اشتكى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فدعا بعس" بضم العين، وشد السين المهملتين: قدح كبير، "فصب فيه شيئًا من الماء" قليلا، "ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده، وقال: "استقوا" فاستقى الناس، فكنت أرى العيون أي: عيون الماء "تنبع" تخرج "من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ من حديثه" أي: جابر، "له" أي: لأحمد "أيضًا، قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء، ثم قال: "بسم الله" أتبرك وأطلب نبع الماء، ويحتمل القسم لصحة نيته بذلك، واقتصر عليه، لأنه المأثور في سائر الأفعال، لا لبيان جوازه بدون الرحمن الرحيم؛ كما زعم، ثم قال: "أسبغوا الوضوء" قال جابر: فوالذي ابتلاني ببصري أي: بفقده وذهابه؛ لأنه عمي في آخر عمره، "لقد رأيت العيون عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فما رفعها" أي: يده "حتى توضئوا أجمعون، ورواه أيضًا عند البيهقي في الدلائل" النبوية، "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هو الحديبية، "فأصابنا عطش، فجهشنا" بفتح الجيم، والهاء، وتكسر: أسرعنا، "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال" جابر: "فوضع يده في تور" بفتح الفوقية: شبه الطست، وقيل: هو الطست، ووقع في حديث شريك عن أنس في المعراج: أتي بطست من ذهب فيه تور، وظاهره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 من ماء بين يديه، قال: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون قال: خذوا بسم الله، فشربنا، فوسعنا وكفانا، ولو كنا مائة ألف لكفانا، قلت لجابر: كم كنتم؟ قال: ألفًا وخمسمائة. وأخرجه ابن شاهين من حديث جابر أيضًا، وقال: أصابنا عطش بالحديبية فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. وأخرجه أيضًا -عن جابر- أحمد من طريق نبيح العنزي عنه، وفيه: فجاء رجل بإداوة فيها شيء من الماء ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح ثم توضأ فأحسن الوضوء، ثم.   المغايرة بينهما، ويحتمل الترادف، فكان الطست أكبر من التور، قاله الحافظ: وقوله: فكان لا يلائم احتمال الترادف إلا أن يكون مراده الترادف اللغوي، وقال المصنف: التور إناء من صفرا وحجارة. وفي القاموس: إناء يشرب فيه مذكر، "من ماء بين يديه، قال: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه كأنه العيون" لكثرة نبعه، "قال: "خذوا بسم الله" فشربنا، فوسعنا" عمنا "وكفانا" حتى روينا، ولا يلزم من الوسع الكفاية في الري، فلذا جمع بينهما، "ولو كنا مائة ألف لكفانا" لأنه مدد غير منقطع، قال سالم بن أبي الجعد: "قلت لجابر: كم كنتم؟ قال" كنا "ألفًا وخمسمائة". "وأخرجه ابن شاهين" الحافظ، أبو حفص، عمر بن أحمد البغدادي، تقدمت ترجمته، وإن له المنتهى في التصنيف، له ثلاثمائة وثلاثون تصنيفًا، منها المسند ألف وستمائة مجلد، والتفسير ألف مجلد ضخم، وحاسب الحبار على ثمانية عشر قنطارًا من الحبر استجرها منه وجمع براية أقلامه عنده، وأوصى أن يسخن له ماء غسله، فكفت تسخينه. قال ابن ماكولا وغيره: ثقة مأمون صنف ما لم يصنفه أحد، إلا أنه لحان ولا يعرف الفقه، مات سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، "من حديث جابر أيضًا، وقال" في سياقه: "أصابنا عطش بالحديبية، فجهشنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. "وأخرجه أيضًا عن جابر أحمد" الإمام في المسند، "من طريق نبيح" بضم النون ومهملة، مصغر ابن عبد الله "العنزي" بفتح المهملة والنون، ثم زاي، أبي عمرو الكوفي مقبول "عنه" أي: جابر، قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضرت الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما في القوم طهور"؟. "وفيه" تلو هذا: "فجاء رجل بإداوة فيها شيء" قليل "من الماء، ليس في القوم ماء غيره، فصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح، ثم توضأ فأحسن الوضوء" أتم فرائضه ونوافله، "ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 انصرف وترك القدح، قال: فتزاحم الناس على القدح فقال: على رسلكم، فوضع كفه في القدح ثم قال: أسبغوا الوضوء قال: فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. وأما حديث ابن مسعود، ففي الصحيح من رواية علقمة: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا ماء، فقال لنا: "اطلبوا من معه فضل ماء". فأتي بماء فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم.   انصرف وترك القدح، قال" جابر: "فتزاحم الناس على القدح" أسقط من هذه الرواية، فقال: تمسحوا تمسحوا، فسمع صلى الله عليه وسلم، فقال: "على رسلكم" بكسر الراء: هينتكم، "فوضع كفه في القدح"، وفي رواية: فضرب يده في القدح في جوف الماء، ثم قال: "أسبغوا الوضوء"، أتموه بفرضه، ونقله ولا تمسحوا، "قال" جابر: "فلقد رأيت العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم" حتى توضئوا أجمعون، قال: حسبته قال: كنا مائتين وزيادة هذا بقية رواية نبيح؛ كما في الفتح. "وأما حديث ابن مسعود، ففي الصحيح" أي الحديث الصحيح أو صحيح البخاري، "من رواية علقمة" بن قيس بن عبد الله النخعي، الكوفي، التابعي، الكبير، ثقة، ثبت، فقيه عابد، مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال: "بينما" بالميم، وفي رواية: بينا بلا ميم، "نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: في سفر؛ كما في البخاري، وجزم البيهقي في الدلائل؛ بأنه الحديبية، لكن لم يخرج ما يصرح به، وقد روى أبو نعيم في الدلائل أن ذلك في غزوة خيبر، فهذا أولى؛ كما في الفتح، "وليس معنا ماء" جملة حالية، فقال لنا: "اطلبوا من معه فضل ماء" أي: بقية ماء كان أو زيادة منه على حاجته، "فأتى بماء" بالبناء للمفعول، والفاء فصيحة، أي: فطلبوا الماء، فوجده بعضهم، فأتى به، وفي البخاري: فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، ولأبي نعيم عن ابن عباس: دعا صلى الله عليه وسلم بلالا بماء فطلبه فلم يجده، "فصبه في إناء" آخر مكشوف ليدخل يده فيه "ثم وضع كفه فيه" أي: في الإناء الثاني، والعطف بثم، لما بينهما من تراخ قليل، "فجعل" أي: صار "الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية ابن عباس: فبسط كفه فيه، فنبعت تحت يده عين، فجعل ابن مسعود يشرب ويكثر. وفي رواية عن ابن مسعود: فجعلت أبادرهم إلى الماء، أدخله في جوفي؛ لقوله: "البركة من الله" ثم ما ذكره المصنف من لفظ الحديث، وعزاه للصحيح مثله في الشفاء، ولفظ البخاري في علامات النبوة من رواية علقمة عن عبد الله، قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 وظاهر هذا أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر -للبركة الحاصلة فيه- يفور ويكثر، وكفه صلى الله عليه وسلم في الإناء، فيراه الرائي نابعًا من بين أصابعه. وظاهر كلام القرطبي: أنه نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع، وبه صرح النووي في شرح مسلم، ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وفي رواية: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، وهذا هو الصحيح، وكلاهما معجزة له صلى الله عليه وسلم.   تعدونها تخويفًا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء، فقال: "اطلبوا فضلة من ماء"، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: "حي على الطهور المبارك والبركة من الله" فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. "وظاهر هذا أن الماء كان ينبع من بين أصابعه" لا حقيقة، بل "بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه" متعلق بقوله: "يفور ويكثر" في نفسه من غير خروجه من أصابعه، الشريفة، "وكفه صلى الله عليه وسلم في الإناء، فيراه الرائي نابعًا من بين أصابعه" وليس بنابع حقيقة. "وظاهر كلام القرطبي" المتقدم أول هذا المبحث: "أنه نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع" لقوله: نبع الماء من عظمه ولحمه ودمه، وقدمت أن الحافظ أبدى فيه احتمال كونه بالنسبة للرؤية، وأن ظاهره أبلغ، وليس في الأخبار ما يرده. "وبه صرح النووي في شرح مسلم" فقال: وفي كيفية هذا النبع، قولان، حكاهما عياض وغيره، أحدهما وهو قول أكثر العلماء والمزني: أن الماء كان يخرج من ذات أصابعه، والثاني: أن الماء كثر في ذاته، فصار يفور من بين أصابعه، انتهى. ودعوى المصنف أن حديث ابن مسعود ظاهر في الثاني، فيها نظرًا؛ إذ هو محتمل، بل الظاهر منه الأول كبقية الأحاديث، "ويؤيده قول جابر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه، وفي رواية: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه" فقوله: يخرج وينبع ظاهر في أنه من ذاتها، "وهذا هو الصحيح، وكلاهما" أي: الأمرين كثرته في نفسه ببركته، وخروجه من ذات أصابعه "معجزة له صلى الله عليه وسلم" وقول الأكثر أبلغ في المعجزة، وأفرد معجزة نظرًا للفظ كلا، فيجوز مراعاة لفظها ومعناها، واجتمعا في قوله: كلاهما حين جد الجري بينهما ... قد أقلع وكلا أنفيهما رابي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملابسة ماء ولا وضع إناء تأدبًا مع الله تعالى، إذ هو المنفرد بابتداع المعدومات وإيجادها من غير أصل. وروى ابن عباس قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فطلب الماء، فقال: لا والله ما وجدت الماء، قال: "فهل من شن"؟. فأتي بشن فبسط كفه فيه فانبعثت تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب وغيره يتوضأ، رواه الدارمي وأبو نعيم، وكذا رواه الطبراني وأبو نعيم من حديث أبي ليلى الأنصاري وأبو نعيم من طريق القاسم بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده.   "وإنما فعل ذلك ولم يخرجه من غير ملابسة ماء، ولا وضع إناء تأدبًا مع الله تعالى، إذ هو المنفرد بابتداع المعدومات" إيجادها على غير مثال سابق، "وإيجادها من غير أصل" تتولد منه. وفي فتح الباري: الحكمة في طلبه صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن فضلة الماء، لئلا يظن أنه الموجد للماء، ويحتمل أنه إشارة إلى أن الله أجرى العادة في الدنيا غالبًا بالتوالد، وأن بعض الأشياء يقع بثها بالتوالد، وبعضها لا يقع، ومن جملة ذلك ما يشاهد من فوران بعض المائعات إذا خمرت وتركت زمانًا، ولم تجر العادة في الماء الصرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدًا، انتهى. "وروى ابن عباس، قال: دعا" نادى "النبي صلى الله عليه وسلم بلالا" بماء؛ كما في الرواية، "فطلب" بلال "الماء، فقال" بلال: "لا والله ما وجدت الماء"، قال: "فهل من شن"؟. بفتح المعجمة وبالنون، إداوة يابسة، "فأتي بشن، فبسط كفه" اليمنى على الظاهر "فيه، فانبعثت" انفرجت "تحت يده عين، فكان ابن مسعود يشرب" ويكثر؛ كما في الرواية، وكان "غيره يتوضأ، رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، "وأبو نعيم" في الدلائل، قال الحافظ: وهذا يشعر بأن ابن عباس حمل الحديث عن ابن مسعود، فإن القصة واحدة، ويحتمل أن يكون كل من بلال وابن مسعود أحضر الإداوة، فإن الشن الإداوة اليابسة، انتهى. "وكذا رواه الطبراني وأبو نعيم من حديث أبي ليلى الأنصاري" والد عبد الرحمن، قيل: اسمه بلال، وقيل: بليل بالتصغير، وقيل: داود بن بلال، وقيل: أوس، وقيل: يسار، وقيل: اليسر، وقيل: اسمه وكنيته. وقال ابن الكلبي: أبو ليلى بن بلال بن بليل بن أحيحة، وتميم نسبة إلى مالك بن الأوس، وقال غيره: شهد أحدًا وما بعدها، ثم سكن الكوفة، وكان مع علي في حروبه، وقيل: إنه قتل بصفين، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ولده عبد الرحمن وجده. وقال الدولابي: روى عنه أيضا عامر بن كدين، قاضي دمشق، وليس كما قال: فشيخ عامر هو أبو ليلى الأشعري؛ كما في الإصابة، وله أحاديث في السنن. "وأبو نعيم من طريق القاسم بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده" أبي رافع، واسمه أسلم، على أشهر أقوال عشرة تقدمت غير مرة، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر المصنف ستة صحابة رووا حديث نبع الماء، فزاد أبا رافع على الحافظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 " تفجر الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته صلى الله عليه وسلم ": ومن ذلك تفجر الماء ببركته، وابتعاثه بمسه ودعوته. روى مسلم في صحيحه عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي". قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض   تفجر الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته صلى الله عليه وسلم: "ومن ذلك تفجر الماء" وفي نسخة: تفجير، فأطلق المصدر وأراد أثره وهو التفجر مجازًا إذ التفجير من فعل الله لا من الماء، فالمراد منه التفجر أو المراد بتفجيره شق محله الذي يخرج منه، أو المصدر مضاف لمفعوله بعد حذف الفاعل، أي: تفجير الله الماء بمعنى إخراجه، "ببركته" أي: يمنه ووجوده في مكان أخرج منه الماء، "وابتعاثه" افتعال من البعث، وهو الإثارة والإخراج للماء حتى يجري، وفي نسخة: انبعاثه بالنون انفعال، وهما بمعنى واحد، يقال: بعثه، فابتعث، وانبعث "بمسه" لمحله "ودعوته" دعائه لله تعالى، وآخر هذا عن نبعه من أصابعه لقوة ذاك في المعجزة على هذا الاحتمال كونه اتفاقيًا. "روى مسلم في صحيحه" في فضائل النبي من طريق مالك، عن أبي الزبير، عن عامر بن واثلة، "عن معاذ" بن جبل: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك" التي بها لا ينصرف على المشهور لوزن الفعل كتقول، وقد يصرف على إرادة الموضع مكان بين المدينة والشام، "وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها" أي: قبلي، بدليل قوله: "فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي" بالمد: أجيء، "فجئناها وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك" بكسر المعجمة، وفتح الراء، وألف، وكاف: سير النعل الذي على وجهه، شبهه به لضعفه وقلة جريه، وليس بمعنى أخدود في الأرض؛ كما توهم، "تبض" بفتح التاء وكسر الموحدة، وتشديد الضاد المعجمة، أي: تقطر وتسيل؛ كما رواه ابن مسلمة، وابن القاسم في الموطأ، ورواه يحيى وطائفة، بصاد مهملة، أي: تبرق، قاله الباجي، وبهما روى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 بشيء من ماء، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئًا"؟. قالا: نعم، فسبهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول: ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء، ثم غسل عليه السلام وجهه ويديه به ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال عليه الصلاة والسلام: "يا معاذ، يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا"، أي بساتين وعمرانًا، وهذا أيضًا من معجزاته عليه الصلاة والسلام. ورواه القاضي عياض في الشفاء بنحوه من طريق مالك في.   أيضًا في مسلم، "بشيء من ماء" يشير إلى تقليله، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما" بكسر السين الأولى على الأفصح، وتفتح "من مائها شيئًا"؟. "قالا: نعم" لأنهما لم يعلما نهيه أو حملاه على الكراهة أو نسياه إن كان مؤمنين، وقد روى أبو بشر الدولابي، أنهما كانا من المنافقين، "فسبهما" لمخالفتهما أمره ونفاقهما، أو حملهما النهي على الكراهة إن كانا مؤمنين، فإن كان لم يعلما أو نسيا فسبهما لكونهما تسببًا في فوات ما أراده من إظهار المعجزة، كما يسب الناسي والساعي، ويلامان إذا كان سببًا في فوات محروس عليه، قاله الباجي في شرح الموطأ. "وقال لهما ما شاء الله أن يقول: ثم غرفوا من العين" بأيديهم "قليلا قليلا" بالتكرار، "حتى اجتمع" الماء الذي غرفوه "في شيء" من الأواني التي كانت معهم ولا قلب فيه، وإن أصله غرفوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير؛ كما توهم، "ثم غسل عليه السلام وجهه ويديه" للبركة "به" أي: الماء، والذي في مسلم، وفي الموطأ فيه بدل به، وضميره قيل عائد على الشيء، أي: الإناء، والظاهر أنه للماء أيضًا، وعبر بفي لمشاكلة قوله: "ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير" نقل بالمعنى، ولفظ مسلم: فجرت العين بماء منهمر، وقال غزير: شك أبو علي، أي: راويه عن مالك. نعم لفظ الموطأ بماء كثير، كلفظ المصنف، لكنه لم يعزه له، "فاستقى الناس" شربوا وسقوا دوابهم، "ثم قال عليه الصلاة والسلام: "يا معاذ، يوشك" يقرب ويسرع من غير بطء "إن طالت بك حياة" أي: إن أطال الله عمرك، ورأيت هذا المكان، "أن ترى" بعينك فاعل يوشك، وإن بالفتح مصدرية، "ما" موصول، أي: الذي "هاهنا" هو إشارة للمكان، "قد ملئ" بالبناء للمفعول "جنانًا" نصب على التمييز، بكسر الجيم جمع بفتحها، "أي: بساتين وعمرانًا"، أي: يكثر ماؤه ويخصب أرضه، فيكون بساتين ذات ثمار وشجر كثيرة، "وهذا أيضًا من معجزاته عليه الصلاة والسلام" لأنه إخبار بغيب وقع، "ورواه" بمعنى: ذكره "القاضي عياض في الشفاء بنحوه من طريق مالك" أي: ناسبًا له بلفظ: روى مالك "في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 الموطأ، وزاد فقال: قال في حديث ابن إسحاق: فانخرق من الماء ماء له حس كحس الصواعق. وفي البخاري، في غزوة الحديبية، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: أنهم نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضًا.   الموطأ" عن معاذ، "وزاد" بعده، "فقال" عياض: "قال" معاذ "في حديث ابن إسحاق" في السيرة: "فانخرق" انفجر انفجارًا بشدة "من الماء، ماء له حس" صوت، "كحس الصواعق" جمع صاعقة: الصيحة، فهو تشبيه محسوس بمحسوس، قال التلمساني: وهي والصعقة: النار تسقط من السماء إلى الأرض في رعد شديد، وصيحة العذاب، وقطعة من النار تسقط إلى الأرض، انتهى، لكن هذا إنما ذكره ابن إسحاق في قصة أخرى بعد ارتحاله من تبوك، فقال: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، أي: تبوك، ثم انصرف قافلا إلى المدينة، وكان في الطريق ماء يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له وادي المشقق، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سبقنا إلى ذلك الماء، فلا يستقي منه شيئًا حتى نأتيه"، فسبق إليه نفر من المنافقين، فاستقوا، فلما أتاه صلى الله عليه وسلم وقف عليه، فلم ير فيه شيئًا، فقال: "من سبقنا إلى هذا الماء"؟. فقيل: فلان وفلان، فقال: "أو لم أنههم أن يستقوا منه شيئًا حتى آتيه" ثم لعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده تحت الرسل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا بما شاء أن يدعو، فانخرق من الماء ماء له حس، كحس الصواعق، فشرب الناس وأسقوا حاجتهم منه، فقال صلى الل عليه وسلم: "لئن بقيتم أو من بقي منكم، ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه" انتهى. "وفي البخاري في غزوة الحديبية من حديث المسور"، بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو، وبالراء، "ابن مخرمة" بفتح الميم، وسكون المعجمة، بن نوفل، بن أهيب، بن عبد مناف، بن زهرة القرشي، الزهري، له ولأبيه صحبة، مات سنة أربع وستين، "ومروان بن الحكم" بن أبي العاصي، بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف القرشي، الأموي، لم تثبت له صحبة. قال الحافظ: وهذا الحديث مرسل، فمروان لا صحبة له، والمسور لم يحضر القصة، وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن المسور ومروان أخبرا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعا جميعًا، صحابة شهدوا هذه القصة، كعمر، وعثمان، وعلي، والمغيرة، وأم سلمة، وسهل بن حنيف، "أنهم"، أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، "نزلوا بأقصى الحديبية على ثمد" بفتحتين: "قليل الماء يتبرضه"، بتحتية، ففوقية، فموحدة، فراء ثقيلة، فضاد معجمة: يأخذه "الناس تبرضًا" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه. والثمد -بالمثلثة والتحريك- الماء القليل.   نصب على أنه مفعول مطلق من باب النقل للتكلف، "فلم يلبثه الناس". قال الحافظ: بضم أوله، وسكون اللام من الألبان، وقال ابن التيمي: بفتح أوله، وكسر الموحدة المنقلة، أي: لم يتركوه يلبث، أي: يقيم، انتهى. وقال المصنف: بضم أوله، وفتح اللام، وشد الموحدة، وسكون المثلثة في الفرع، وأصله مصححًا عليه، "حتى نزحوه" بنون، فزاي، فحاء مهملة، أي: لم يبقوا منه شيئًا. قال الحافظ: ووقع في شرح ابن التين، بفاء بدل الحاء، ومعناهما واحد، وهو أخذ الماء شيئًا بعد شيء حتى لا يبقى منه شيء، "وشكى" بالبناء للمفعول "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش" بالرفع نائب الفاعل، "فانتزع سهمًا من كنانته" بكسر الكاف: جعبته التي فيها النبل، "ثم أمرهم أن يجعلوه فيه" أي: الثمد. روى ابن سعد من طريق أبي مروان، قال: حدثني أربعة عشر رجلا من الصحابة: أن الذي نزل البئر ناجية بن الأعجم، وقيل: هو ناجية بن جندب، وقيل: البراء بن عازب، وقيل: عباد بن خالد، حكاه الواقدي، ووقع في الاستيعاب: خالد بن عبادة. قال في الفتح: ويمكن الجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره، "فوالله ما زال يجيش" بفتح أوله، وكسر الجيم، وسكون التحتية ومعجمة، "لهم بالري" بكسر الراء، ويجوز فتحها "حتى صدروا عنه" أي: رجعوا بعد ورودهم. زاد ابن سعد: حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسًا على شفير البئر. وعند ابن إسحاق: فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن، "والثمد بالمثلثة" المفتوحة "والتحريك" أي: "فتح الميم "الماء القليل". وقال في الفتح أي: حفرة فيها ماء قليل، يقال: ماء مثمود، أي: قليل؛ فقوله: قليل الماء تأكيدًا لدفع توهم أن يراد لغة من يقول الثمد الماء الكثير، وقيل: الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف، انتهى، وهذا أولى من تفسير المصنف بالماء القليل؛ لأنه يصير في قوله قليل الماء خزازة، لرجوع معناه إلى أنهم نزلوا على ماء قليل، أي: قليل الماء لكن تعقب بعض كلام الحافظ؛ بأنه إنما يتم إن ثبت لغة أن الثمد الماء الكثير، واعترض الدماميني قوله تأكيد؛ بأنه لو اقتصر على قليل أمكن، أما مع إضافة إلى الماء فيشكل؛ كقولنا: هذا ماء قليل الماء نعم، قال الرازي: الثمد العين، وقال غيره: حفرة فيها ماء؛ فإن صح فلا إشكال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 وقوله: "يتبرضه الناس تبرضًا" -بالضاد المعجمة- أي يأخذونه قليلا قليلا، والبرض: الشيء القليل. وقوله: "ما زال يجيش" -بفتح المثناة التحتية، وبالجيم، آخره شين معجمة- أي: يفور ماؤه ويرتفع. وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فتمضمض ودعا ومج في بئر الحديبية منه، فجاشت بالماء كذلك. وفي مغازي أبي الأسود عن عروة: أنه توضأ في الدلو، ومضمض فاه ثم مج فيه، وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهمًا من كنانته وألقاه في البئر ودعا الله تعالى، ففارت بالماء حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفيرها، فجمع بين الأمرين. وكذا رواه الواقدي من طريق أوس بن خولى.   "وقوله: يتبرضه الناس تبرضا، بالضاد المعجمة، أي: يأخذونه قليلا قليلا، والبرض: الشيء القليل" قال الحافظ: البرض، بالفتح والسكون: اليسير من العطاء. وقال صاحب العين: هو جمع الماء بالكفين، "وقوله: فما زال" أي: استمر "يجيش، بفتح المثناة التحتية، وبالجيم، آخره شين معجمة، أي: يفور ماؤه ويرتفع". "وفي رواية" للبخاري عن البراء: "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ، فتمضمض، ودعا، ومج في بئر الحديبية منه، فجاشت بالماء كذلك" ولم يذكر إلقاء السهم. "وفي مغازي أبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن الأسدي، المدني، يتيم عروة بن الثقات، "عن عروة" بن الزبير، أحد الفقهاء مرسلا: "أنه" صلى الله عليه وسلم "توضأ في الدلو، ومضمض فاه، ثم مج فيه" في الدلو، "وأمر أن يصب في البئر، ونزع سهمًا من كنانته" جعبته، "وألقاه في البئر" أي: أمرهم بإلقائه؛ لرواية البخاري قبل. "ودعا الله تعالى، ففارت" بفاءين من الفوران: ارتفعت "حتى جعلوا يغترفون بأيديهم منها، وهم جلوس على شفيرها" بالمعجمة والفاء: حافتها، "فجمع" في هذه الرواية "بين الأمرين" التوضؤ والمج منه، وإلقاء سهم من كنانته، ففي رواية البخاري اختصار، وفيه معجزات ظاهرة وبركة سلاحه، وما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم، "وكذا رواه الواقدي" محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، الحافظ، المتروك مع سعة علمه، "من طريق أوس بن خولى" بفتح الخاء المعجمة، وفتح الواو، ضبطه العسكري في كتاب التصحيف؛ كما في التبصير الأنصاري الخزرجي، صحابي شهير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 وهذه القصة غير القصة السابقة في ذكر نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم مما رواه البخاري في المغازي من حديث جابر: عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه. الحديث. فبين القصتين مغايرة، وجمع ابن حبان بينهما: بأن ذلك وقع في وقتين، انتهى. فحديث جابر في نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك. ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من بين أصابعه ويده في الركوة، وتوضئوا كلهم وشربوا أمر حينئذ بصب الماء الذي بقي في الركوة في البئر فتكاثر الماء فيها. انتهى. وفي حديث البراء وسلمة بن الأكوع مما رواه البخاري في قصة الحديبية وهم أربع عشرة مائة، وبئرها لا تروي خمسين شاة، فنزحناها.   قال ابن سعد: مات قبل حصر عثمان، "وهذه القصة غير القصة السابقة" قريبًا "في ذكر نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم مما رواه البخاري" ومسلم، كلاهما "في المغازي من حديث جابر" قال: "عطش الناس بالحديبية وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوة" فذكر الحديث، وفيه: "فجعل الماء يفور من بين أصابعه، الحديث" المتقدم قريبًا؛ "فبين القصتين مغايرة" ظاهرة؛ لأنه قال في حديث جابر: فجعل الماء يفور من بين أصابعه، وفي حديث البراء: أنه صب ماء وضوئه في البئر، "وجمع ابن حبان بينهما بأن ذلك وقع في وقتين، انتهى" فالقصة متعددة؛ "فحديث جابر في نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء" له، "وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك" كشرب وسقي دواب، "ويحتمل أن يكون الماء لما تفجر من بين أصابعه ويده في الركوة، وتوضئوا كلهم وشربوا، أمر حينئذ بصب الماء الذي بقي في الركوة في البئر" ظرف لصب، "فتكاثر الماء فيها" فتكون قصة واحدة، "انتهى" من فتح الباري وزاد: وفي حديث زيد بن خالد أنهم أصابهم مطر بالحديبية، فكان ذلك وقع بعد القصتين المذكورتين، والله أعلم. "وفي حديث البراء" بن عازب، "وسلمة بن الأكوع مما رواه البخاري" لو زاد مسلم لاستقام على التوزيع، فالبخاري روى حديث البراء، ومسلم حديث سلمة، "في قصة الحديبية، وهم أربعة عشر مائة، وبئرها لا تروى" بضم الفوقية "خمسين شاة" الشاة المعروفة، وروى إشاءة، بكسر الهمزة الأولى، وفتح الأخيرة، وهي السخلة الصغيرة، "فنزحناها" أخرجنا جميع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 فلم نترك فيها قطرة، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها، قال البراء: وأتي بدلو منها فبصق فدعا، وقال سلمة: فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت فأرووا أنفسهم وركابهم، وقال في رواية البراء: ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال: "دعوها ساعة". قوله: "على جباها" -بفتح الجيم والموحدة والقصر- ما حول البئر، وبالكسر: ما جمعت فيه من الماء. وقوله:   مائها، "فلم نترك فيها قطرة، رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها، قال البراء: وأتى" بالبناء للمفعول "بدلو منها" أي: بماء مما نزحوه، "فبصق" بالصاد، وفي رواية بالسين وهما لغتان، أي: ألقى ريقه، "فدعا" الله سرًا بعد بصاقه، فجمع بينهما على رواية البراء، وليس هنا أداة شك، فلا يصح احتمال أنه شك من الراوي هل بصق أو دعا؛ لقوله: "وقال سلمة: فإما دعا وإما بصق" بكسر الهمزتين، بيان للشك في الرواية؛ لأنه لا يلزم من وقوع الشك في رواية سلمة منه، أو ممن بعده وقوعه في رواية البراء، كما هو ظاهر "فيها" أي: البئر لا الدلو، كذا قيل، "فجاشت" البئر، أي: فار ماؤها وارتفع لفمها، "فأرووا أنفسهم" بشربهم "وركابهم" إبلهم لسقيهم منها، "وقال في رواية البراء: ثم مضمض ودعا" الله سرًا، "ثم صبه" الماء الذي توضأ وتمضمض به "فيها" أي: البئر، "ثم قال: "دعوها ساعة" مقدارا من الزمان، وفي رواية للبراء: فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا، ولفظ البخاري من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاها، فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، وتمضمض، ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا ونحن وركابنا، ولفظه من طريق زهير: حدثنا أبو إسحاق: أنبأنا البراء أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة أو أكثر، فنزلوا على بئر فنزحوها، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأتى البئر وقعد على شفيرها، ثم قال: "ائتوني بدلو من مائها"، فأتي به، فبصق، ثم قال: "دعوها ساعة"، فأرووا أنفسهم وركابهم، حتى ارتحلوا، ولفظ مسلم عن سلمة: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشر مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، فقعد صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا وإما بصق فيها، فجاشت فسقينا واستقينا. "قوله: على جباها، بفتح الجيم والموحدة والقصر: ما حول البئر، وبالكسر: ما جمعت فيها" عبارة غيره: ما جمع فيها "من الماء" وروى شفاها بمعجمة وهما بمعنى، "وقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 "وركابهم" أي الإبل التي يسار عليها. وفي الصحيحين عن عمران بن الحصين قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلانا -كان يسميه أبو رجاء.   وركابهم، أي: الإبل التي يسار عليها. وفي الصحيحين" البخاري في التيمم وعلامات النبوة، ومسلم في الصلاة من حديث عوف: حدثنا أبو رجاء، "عن عمران بن حصين" بن عبيد، بن خلف الخزاعي، أسلم عام خيبر، وكان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول أهل البصرة عنه: كان يرى الحفظة، وتكلمه حتى اكتوى، روي له مائة وثمانون حديثًا في البخاري اثنا عشر، مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، "قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" اختلف في أنه الحديبية، ففي مسلم عن ابن مسعود: أقبل صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا، فنزل، فقال: "من يكلؤنا"؟، فقال بلال: أنا ... الحديث، أو بطريق مكة؛ كما في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلا، أو بطريق تبوك؛ كما رواه عبد الرزاق عن عطاء بن يسار مرسلا، والبيهقي عن عقبة بن عامر، أو في جيش الأمراء؛ كما في أبي داود، وتعقبه أبو عمر؛ بأنها مؤتة، ولم يشهدها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال؛ لكن يحتمل أن المراد بها غيرها، ذكره الحافظ، وقول المصنف: أو عند رجوعهم من خيبر، كما في مسلم، لا وجه له؛ إذ في قصة عمران قال: أول من استيقظ أبو بكر، ورواية مسلم: أول من استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصح تفسير السفر المبهم هنا بما في مسلم، ولذا لم يذكر الحافظ هنا، وإنما ذكره استدلالا على تعدد الواقعة، أي: نومهم عن صلاة الصبح، كما مر بيانه في آخر المقصد الثالث، "فاشتكى" حذف من الحديث ما لم يتعلق به غرضه هنا، وهو: وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل، وقعنا وقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حر الشمس، فكان أول من استيقظ من منامه أبو بكر، ثم فلان، ثم فلان، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ؛ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس، وكان رجلا جليدًا، فكبر ورفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، فقال: "لا ضير أو لا تضير ارتحلوا" فارتحل، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بالوضوء، فتوضأ، ونودي بالصلاة، فصلى بالناس، فلما انتقل من صلاته إذا هو برجل لم يصل، فقال: "ما منعك أن تصلي"؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، ثم سار فاشتكى "إليه الناس من العطش" أي: ما أصابهم من الشدة الحاصلة بسببه، "فنزل عليه السلام، فدعا فلانًا كان يسميه أبو رجاء" بفتح الراء، وخفة الجيم والمد، عمران بن ملحان، بكسر الميم، وسكون اللام، وبالحاء المهملة العطاري، ويقال: اسم أبيه تيم، وقيل غير ذلك في اسم أبيه مخضرم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم بعد الفتح، وهو ثقة معمر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 ونسيه عوف -ودعا عليا، وقال: "اذهبا فابتغيا الماء". فانطلقنا فتلقينا امرأة بين مزادتين أو سطيحتين من ماء، فجاءوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستنزلوها عن بعيرها   مات سنة خمسمائة وله مائة وعشرون سنة، روى له الستة، "ونسيه عوف" بالفاء الأعرابي، العبدي، البصري، ثقة، رمي بالقدر وبالتشيع، مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة، وله ست وثمانون. قال الحافظ: وفلان الذي نسيه هو عمران بن حصين، بدليل قوله عند مسلم: ثم عجلني النبي صلى الله عليه وسلم في ركب بين يديه نطلب الماء، ودلت هذه الرواية على أنه كان هو وعلي فقط؛ لأنهما خوطبا بلفظ التثنية، ويحتمل أنه كان معهما غيرهما على سبيل التبعية لهما، فيتجه إطلاق لفظ ركب وخصا بالخطاب؛ لأنهما المقصودان بالإرسال. "ودعا عليا" هو ابن أبي طالب، وقال: "اذهبا فابتغيا" بموحدة، ففوقية من الابتغاء، وللأصيلي: فابغيا من الثلاثي وهمزته للوصل، ولأحمد فابغيانا، "الماء" والمراد: الطلب، يقال: ابتغا الشيء طلبه، وابغ الشيء، أي: تطلبه لي، وفيه الجري على العادة في طلب الماء وغيره، وأن التسبب في ذلك لا يقدح في التوكل، "فانطلقنا، فتلقينا امرأة", وفي علامات النبوة من رواية سلم، بفتح فسكون عن أبي رجاء عن عمران فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأة سادلة رجليها "بين مزادتين" بفتح الميم والزاي: قرية كبيرة فيها جلد من غيرها، وتسمى أيضًا السطيحة، "أو سطيحتين" بفتح السين، وكسر الطاء المهملتين، تثنية سطيحة بمعنى المزادة، أو وعاء من جلدين، سطح أحدهما على الآخر، قال الحافظ: وأو هنا شك من عوف لخلو رواية سلم عن أبي رجاء عنها، أي: حيث جزم بقوله بين مزادتين، قال: والمراد بهما الرواية، زاد المصنف: أو القربة الكبيرة سميت بذلك، لأنه يزاد فيها جلد آخر من غيرها، انتهى. وظاهر حديث الصحيحين هذا؛ أنهما يجدان امرأة بمكان كذا، معها بعير عليه مزادتان الحديث، فوجداها وأتيا بها، قال شارحه: ولم يسم أحد هذه المرأة إلا أنها أسلمت، ولا المكان "من ماء" على بعير لها، فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة، ونفرنا خلوف، فقالا لها: انطلقي إذن، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله، قالت: الذي يقال الصابئ، قالا: هو الذي تعنين فانطلقي، هكذا في الصحيح قبل قوله: "فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وحدثاه الحديث؛ كما في الرواية، أي: الذي كان بينهما وبينها، "فاستنزلوها عن بعيرها" أي: طلبوا منها النزول عنه، وجمع باعتبار من تبع عليًا وعمران ممن يعينهما، قال بعض الشراح المتقدمين: إنما أخذوها واستجازوا أخذ مائها، لأنها كانت حربية، وعلى فرض أن يكون لها عهد، فضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره على عوض وإلا فنفس الشارع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواهمما، وأطلق العزالى، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من سقى، واستقى من شاء، وهي قائمة تنظر إلى ما يفعل بمائها، وأيم الله لقد أقلع عنها وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملئة.   تفدي بكل شيء، نقله الحافظ، "ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء ففرغ" من التفريغ، وفي رواية: فافرغ من الأفراغ، "فيه من أفواه المزادتين أو السطيحتين" أي: أفرغ الماء من أفواههما، وجمع موضع التثنية على حد، فقد صغت قلوبكما إذ ليس لكل مزادة سوى فم واحد، زاد الطبراني: فمضمض في الماء وأعاده في أفواه المزادتين. قال الحافظ: وبهذه الزيادة تتضح الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، وإن البركة إنما حصلت بمشاركة ريقه الطاهر المبارك للماء، وفي الشفاء: فجعل في إناء من مزادتيها، وقال فيه ما شاء الله أن يقول، "وأوكأ"، أي: ربط "أفواههما وأطلق" أي: فتح "العزالي" بفتح المهملة والزاي، وكسر اللام، ويجوز فتحها: جمع عزلى، بإسكان الزاي، قال الخليل: هي مصب الماء من الرواية، ولكل مزادة عزلا، وإن من أسفلها، قال الحافظ؛ فالجمع في العزالي على بابه، لأنهما مزادتان، فلهما أربع عزالى. وقال بعض: جمع، وليس للقربة إلا فهم واحد، قيل: لأنها كانت تتعدد في قربهم عزلا، وإن من أسفل وعزلا، وإن من فوق وما كان من أسفل يخص باسم العزلى، والأحسن أن الجمع قد يطلق على ما فوق الواحد وليس على حد، فقد صغت قلوبكما لاختصاصه بما إذا كان المضاف مثنى "ونودي في الناس أسقوا" بهمزة قطع مفتوحة من أسق، أو بهمزة وصل مكسورة من سقى؛ كما في الفتح وغيره، أي: اسقوا غيركم، كالدواب، "واستقوا" أنتم، "فسقى من سقى" ولابن عساكر: فسقى من شاء، "واستقى من شاء" فرق بينه وبين سقى؛ أنه لنفسه، وسقى لغيره من ماشية ودواب واستقى، قيل: بمعنى سقي، وقيل: إنما يقال سقيته لنفسه وأسقيته لماشيته، ذكره المصنف، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء، قال: "اذهب فأفرغه عليك"، هكذا في الصحيح قبل قوله: "وهي" أي: والحال أن المرأة "قائمة تنظر إلى ما يفعل" بالبناء للمجهول "بمائها، وايم الله" قال الحافظ: بفتح الهمزة وكسرها، والميم مفتوحة، ولم يجئ كذلك غيرها، وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف، والتقدير: ايم الله قسمي، وفيها لغات جمع منها النووي في تهذيبه سبع عشرة، وبلغ بها غيره عشرين، وسيكون لنا عودة لبيانها في كتاب الإيمان، ويستفاد منه جواز التوكيد باليمين، وإن لم يتعين، "لقد أقلع" بضم الهمزة، أي: "عنها"، "وأنه ليخيل إلينا أنها أشد ملئة" بكسر الميم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 منها حين ابتدأ فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجمعوا لها". فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة حتى جمعوا لها طعامًا، فجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائك شيئًا.   وسكون اللام، بعدها همزة مفتوحة، ثم تاء تأنيث، أي: امتلأ. وفي رواية البيهقي: أنها أملأ "منها حين ابتدأ فيها" والمراد أنهم يظنون أن الباقي فيها من الماء أكثر مما كان أولا، وهذا من عظيم آياته وباهر دلائل نبوته، حيث توضؤوا واستقوا، واغتسل الجنب، بل في علامات النبوة من طريق سلم، بفتح المهملة أوله، تليها لام ساكنة، فميم، ابن زرير، بفتح الزاي المنقوطة أوله، وراءين بلا نقط، بينهما تحتية ساكنة؛ كما ضبطه النووي، والحافظ، والمصنف وغيرهم؛ أنهم ملئوا كل قربة وإداوة كانتا معهم بما سقط من العزالى، وبقيت المزادتان مملوءتين، بل ظن الصحابة أنه كان أكثر مما كان أولا، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لأصحابه: "اجمعوا لها" تطييبًا لخاطرها في مقابلة حبسها في ذلك الوقت عن السير إلى قومها وما نالها من خوف أخذ مائها، لا أنه عوض عما أخذ من الماء، قاله المصنف، وقال الحافظ: وفيه جواز أخذ المحتاج برضا المطلوب منه أو بغير رضاه إن تعين، وفيه جواز المعاطاة في مثل هذه من الهبات والإباحات من غير لفظ من المعطى والآخذ، "فجمعوا لها من بين عجوة" تمر، أجود تمر المدينة، وفي رواية: ما بين، كما في المصنف، واقتصر الحافظ على من بين، فلا معنى لترجي زيادة بين من المصنف بعد ثوبتها رواية، "ودقيقة وسويقة" بفتح أولهما، وفي رواية: كريمة بضمهما مصغرًا مثقلا؛ كما قال الحافظ وغيره، وعطف سويقة على دقيقة خاص على عام، "حتى جمعوا لها طعامًا" كثيرًا؛ كما عند أحمد، وفيه إطلاق لفظ الطعام على غير الحنطة والذرة، خلافًا لمن أبى ذلك، ويحتمل أن يكون المعنى طعامًا غير العجوة وما بعدها، قال الحافظ، أي: ما يعد طعامًا عرفا بحيث ينتفع به ويدخر ليؤكل في أوقات متفرقة، وهو كناية عن كثرة ما جمعوه لها، بدليل زيادة أحمد: كثيرًا، "فجعلوه" أي: ما جمعوه، ولأبي ذر: فجعلوها، أي: الأنواع المجموعة "في ثوب" من عندهم على ظاهره، لكن في الشفاء، ثم أمر فجمع للمرأة من الأزواد حتى ملئوا ثوبها، فظاهره: أن المراد في ثوبها "وحملوها على بعيرها" الذي كانت راكبة عليه، "ووضعوا الثوب" بما فيه "بين يديها" أي: قدامها على البعير، "قال لها" صلى الله عليه وسلم؛ كما في رواية الإسماعيلي، وللأصيلي: قالوا لها، أي: الصحابة بأمره صلى الله عليه وسلم "تعلمين" قال الحافظ: بفتح أوله وثانيه، وتشديد اللام، أي: اعلمي، وقال المصنف: بفتح التاء، وسكون العين، وتخفيف اللام، أي: اعلمي "ما رزئنا" بفتح الراء، وكسر الزاي، ويجوز فتحها، وبعدها همزة ساكنة، أي: نقصنا "من مالك شيئًا" قال الحافظ: ظاهره أن جميع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها فقالت: العجب، لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له الصابئ ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس كلهم أو إنه لرسول الله حقًا، فقالت يومًا لقومها: ما أرى أن هؤلاء يدعونكم عمدًا فهل لكم في الإسلام. الحديث. وعن أبي قتادة.   ما أخذوه مما زاده الله وأوجده وأنه لم يختلط فيه شيء من مائها في الحقيقة، وإن كان في الظاهر مختلطًا، وهنا أبدع وأغرب في المعجزة، وهو ظاهر قوله: "ولكن الله هو الذي أسقانا" بالهمز، ولابن عساكر: سقانا، ويحتمل أن المعنى: ما نقصنا من مقدار مائك شيئًا، وفيه إشارة إلى أن الذي أعطاها ليس على سبيل العوض من مائها, بل على سبيل التكرم والتفضل، وجواز استعمال أواني المشركين ما لم تتيقن فيها النجاسة، "فأتت أهلها" وقد احتبست عنهم، فقالوا: ما حبسك يا فلانة؟ هذا أسقطه من الحديث قبل قوله: "فقالت" حبسني "العجب، لقيني رجلان، فذهبا بي إلى هذا الرجل الذي يقال له الصابئ، ففعل كذا وكذا" حكت لهم ما فعل، "فوالله إنه لأسحر الناس كلهم" لفظ البخاري: إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعيها الوسطى والسبابة، فرفعتهما إلى السماء، تعني: السماء والأرض، "أو إنه لرسول الله حقًا" هذا منها ليس بإيمان الشك، لكنها أخذت في النظر، فأعقبها الحق فآمنت بعد ذلك، وأسقط من الحديث: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين، ولا يصيبوا الصرم الذي هي منه، "فقالت" المرأة "يومًا لقومها: ما" موصول "أرى" بفتح الهمزة، بمعنى: أعلم، أي: الذي اعتقد "أن" بالفتح مثقلا، "هؤلاء يدعونكم" من الإغارة "عمدًا" لا جهلا، ولا نسيانًا، ولا خوفًا نكم، بل مراعاة لما سبق بيني وبينهم، وهذه الغاية في مراعاة الصحبة القليلة، فكان هذا القول سبب رغبتهم في الإسلام؛ كذا رواه أبو ذر بلفظ أن الثقيلة، ورواه الأكثرون: ما أرى هؤلاء القوم يدعونكم عمدًا، بفتح همزة أرى وإسقاط أن، ووجهها بما ذكر ابن مالك، ولابن عساكر: ما أرى، بضم الهمزة، أي: أظن أن بكسر الهمزة، وللأصيلي وابن عساكر: ما أدري بدال بعد الألف أن بالفتح والتشديد في موضع المفعول، والمعنى: ما أدري ترك هؤلاء إياكم عمدًا لماذا هو، "فهل لكم" رغبة "في الإسلام الحديث" بقيته في الصحيحين: فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام، وما كان يزيد الكتاب بهذة البقية، وللناس فيما يعشقون، والله أعلم. "وعن أبي قتادة" الحارث، أو عمرو، أو النعمان بن ربعي، بكسر الراء، وسكون الموحدة الأنصاري، السلمي، بفتحتين المدهني، شهد أحدًا وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا، ومات سنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 يقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء غدًا إن شاء الله". فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهارّ الليل -أي ابيض- فمال عن الطريق فوضع رأسه ثم قال: "احفظوا علينا صلاتنا".   أربع وخمسين على الأصح الأشهر، "قال: خطبنا" وعظنا "رسول الله صلى الله عليه وسلم" في سفر؛ كما دل عليه السياق، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: أن ذلك كان حين قفل من غزوة خيبر، "فقال" في خطبته: "إنكم تسيرون عشيتكم" أي: بقية يومكم، فالعشية كالعشي: آخر النهار؛ كما في القاموس، وفي المصباح: ما بين الزوال إلى الغروب، "وليلتكم" التي تلبه "وتأتون الماء غدًا إن شاء الله تعالى" تبركًا، وامتثالا للآية، "فانطلق الناس لا يلوي" لا يعطف "أحد على أحد" لاشتغال كل منهم بنفسه، "فبينا" بلا ميم "رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار" بالموحدة، وتشديد الراء "الليل، أي: ابيض" كذا فسره المصنف، والذي للسيوطي، أي: انتصف، وفي مقدمة الفتح، قيل: انتصف أو ذهب معظمه، إذ بهرة كل شيء أكثره وفي القاموس: ابهار الليل: انتصف، أو تراكمت ظلمته، أو ذهبت عامته، أو بقي نحو ثلثه، فلم يذكروا تفسيره بالبياض؛ كما فعل المصنف، بل في الصحاح والقاموس؛ إنما ذكرا البياض صفة للقمر لا لليل، ولفظ القاموس: بهر القمر، كمنع غلب ضوءه ضوء الكواكب. ولفظ مسلم: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل، وأنا إلى جنبه، فنعس، فمال على راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى ابهار الليل مال عن راحلته، فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين حتى كاد ينحفل، فأتيته فدعمته، فرفع رأسه، فقال: "من هذا"؟، قلت: أبو قتادة، قال: "متى كان هذا مسيرك مني"؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: "حفظك الله بما حفظت به نبيه"، ثم قال: "هل ترانا نخفي على الناس"، ثم قال: "هل ترى من أحد"؟. قلت: هذا راكب، ثم قلت: هذا راكب آخر حتى اجتمعنا، فكنا سبعة ركب، قال: "فمال" رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: عدل "عن الطريق" فحذف المصنف هذا من الحديث لعدم غرضه فيه، إذ غرضه منه إنما هو تكثير الماء، لكن صار سياقه يقتضي أن عدوله ونومه كان عند انتصاف الليل، مع أنه إنما كان عند السحر، "فوضع رأسه" أي: نام، ثم قال: "احفظوا علينا صلاتنا" بأن تنبهونا قبل خروج وقتها، وفي البخاري عن أبي قتادة ذكر سبب نزوله سؤال بعض القوم ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "أخاف أن تناموا عن الصلاة" فقال بلال: أنا أوقظكم. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، وقال لبلال: "اكلأنا الليل"، فصلى بلال ما قدر له ونام صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، فلما قارب الفجر استند بلال إلى راحلته، مواجه الفجر، فغلبت بلالا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره، ثم قال: "اركبوا". فركبنا فسرنا، حتى إذا ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء فتوضأ منها وضوءًا   عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، "فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم" مثله عن أبي هريرة عند مسلم أيضًا، وفي حديث عمر: أن أول من استيقظ أبو بكر، ولم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم حتى أيقظه عمر بالتكبير، ولذا رجح القاضي عياض أن نومهم عن صلاة الصبح وقع مرتين لما في الحديثين من المغايرات التي يتعسر معها الجمع، خلافًا للأصيلي في أن القصة واحدة، وأيضًا في حديث أبي قتادة أن العمرين لم يكونا مع المصطفى، وفي حديث عمران: أنهما معه، وأيضًا فالذي كلأ الفجر، في قصة أبي قتادة بلال، وأما في قصة عمران، فروى الطبراني شبيهًا بقصته، وفيه: أن الذي كلأ لهم الفجر ذو مخبر، بكسر الميم، وسكون المعجمة، وفتح الموحدة. وفي ابن حبان عن ابن مسعود أنه كلأ لهم الفجر، وأيضًا مما يدل على التعدد اختلاف مواطنها؛ كما قدمنا، "والشمس في ظهره" كناية عن كمال ظهورها، وأسقط من الحديث عند مسلم، قال: فقمنا فزعين، قال أبو عمر: يحتمل أن يكون تأسفًا على ما فاتهم من وقت الصلاة، ففيه أن ذلك لم يكن من عادته منذ بعث، قال: ولا معنى لقول الأصيلي فزعين، خوفًا أن يكون اتبعهم عدو، فيجدهم بتلك الحال من النوم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبعه عدو في انصرافه من خيبر، بل انصرف ظافرًا غانمًا، "ثم قال: "اركبوا" زاد في رواية أبي هريرة: "فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". قال عياض: وهذا أظهر الأقوال في تعليله، أو لاشتغالهم بأحوال الصلاة، أو تحرزًا من العدو، أو ليستيقظ النائم وينشط الكسلان. قال ابن رشيق: وقد علله صلى الله عليه وسلم بهذا ولا يعلمه إلا هو، أي: فهو خاص به سواء كان في ذلك الوادي، أو في غيره "فركبنا فسرنا" غير بعيد، "حتى إذا ارتفعت الشمس نزل" أي: علت في الارتفاع وزاد ارتفاعها، وإلا فقوله: والشمس في ظهره دليل ارتفاعها، إذ لا تكون كذلك حتى ترتفع، وفي حديث أبي هريرة، حتى ضربتهم الشمس، وذلك لا يكون إلا بعد أن يذهب وقت الكراهة، ففيه رد على من زعم أن علة تأخيره كون ذلك كان وقت كراهة؛ كما في الفتح، "ثم دعا بميضأة" بكسر الميم، وهمزة بعد الضاد: إناء يتوضأ به كالركوة؛ كذا في الديباج. وقال غيره: بكسر الميم والقصر، وياؤها منقلبة عن واو، لأنها آلة الوضوء، فوزنها مفعلة، وقد تمد، فوزنها مفعالة، "كانت معي فيها شيء من ماء" قال: "فتوضأ منها وضوءًا" دون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 قال: وبقي شيء من ماء، ثم قال: "احفظ علينا ميضأتك"، فسيكون لها نبأ، ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة، وركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين اشتد النهار وحمي كل شيء، وهم يقولون: يا رسول الله هلكنا عطشنا، فقال: "لا هلك عليكم"   وضوء؛ كما هو لفظ الحديث، ومعناه: وضوءًا كامل الفروض دون وضوء تام بالفرائض والسنن، كاقتصاره على الوضوء مرة، ونحو ذلك. "قال: وبقي شيء من ماء" وظاهره: أنه لم يتوضأ منها أحد غيره، وفي رواية عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم في سفر، فقال لأبي قتادة: "أمعكم ماء"؟، قلت: نعم في ميضاءة فيها شيء من ماء، قال: "ائت بها" فأتيته بها، فقال لأصحابه: "تعالوا مسوا منها"، فتوضئوا، وجعل يصب عليهم وبقيت جرعة، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: "احفظ علينا ميضأتك، فسيكون لها نبأ" خبر عظيم في أمر مائها وكفايته القوم وما يظهر بها من المعجزة العظيمة، "ثم أذن بلال بالصلاة" ولأحمد من حديث ذي مخبر: فأمر بلالًا فأذن، واستدل به على مشروعية الأذان للفوائت، "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين" هما ركعتا الفجر، "ثم صلى الغداة" الصبح، ولأحمد: فصلى الركعتين قبل الصبح، وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى الصبح. زاد الطبراني من حديث عمران، فقلنا: يا رسول الله! أنعيدها من الغدو لوقتها؟، قال: "نهانا الله عن الرياء، ويقبله منا" وفي رواية ابن عبد البر: "لا ينهاكم الله عن الرياء ويقبله منكم"، واختصر المصنف سياق أبي قتادة، ولفظه في مسلم: ثم صلى الغداة، فصنع ما كان يصنع كل يوم، قال: "وركب" رسول الله صلى الله عليه وسلم "وركبنا معه" فجعل بعضنا يهمس إلى بعض ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا، ثم قال: "أما لكم فيّ أسوة"، ثم قال: "إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها". ثم قال: "ما ترون الناس صنعوا"؟، قال: ثم أصبح الناس فقدوا نبيهم، فقال أبو بكر وعمر: رسول الله لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، قال: "فانتهينا إلى الناس" لأنه صلى الله عليه وسلم لما عدل عن الطريق مع طائفة نام وسار بقية الجيش، ولم يعملوا بنومه، وفيهم الشيخان، كما رأيت، "حين اشتد" بمعجمة قبل الفوقية، "النهار، وحمي كل شيء وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشنا" هكذا في مسلم بلا واو، بيان لهلاكهم، ويقع في نسخ المصنف: وعطشنا بالواو، فإن ثبت رواية، فهي عطف علة على معلول، فقال: "لا هلك عليكم" بضم الهاء، وسكون اللام: اسم من هلك وحذف من الحديث، ثم قال: "أطلقوا إليّ غمري"، وهو بضم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 ودعا بالميضأة فجعل يصب وأبو قتادة يسقيهم فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة فتكابوا عليها، فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الملء كلكم سيروى"، قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب فقال لي: "اشرب"، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، فقال: "إن ساقي القوم آخرهم"، قال: فشربت وشرب، الحديث رواه مسلم.   المعجمة: وفتح الميم وبالراء، يعني: قدحي، فحللته فأتيته به، قال: "ودعا بالميضأة فجعل" صلى الله عليه وسلم "يصب" في قدحه، "وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعد" بفتح الياء، وإسكان العين "أن رأي الناس" أي: لم يتأخروا زمنًا عن رويتهم "ماء" بالتنويم "في الميضأة، فتكابوا" أي: ازدحموا، وفي رواية أحمد: فازدحم الناس "عليها" بمجرد رؤية الماء لشدة عطشهم، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الملء" بفتح الميم وكسرها، وسكون اللام والهمز، أي: لأوانيكم، فلا تزدحموا على الأخذ "كلكم سيروى" ولأحمد: كلكم سيصدر عن ري، "قال: ففعلوا" أي: تركوا الازدحام، "فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب" في قدحه "وأسقيهم" ولأحمد: فشرب القوم، وسقوا دوابهم وركابهم، وملئوا ما كان معهم من إداوة وقربة ومزادة، "حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب، فقال لي: "اشرب"، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله، قال: "إن ساقي القوم آخرهم". "قال: فشربت وشرب" رسول الله صلى الله عليه وسلم، "الحديث"، بقيته: وأتى الناس الماء جامين رواء، قال: فقال عبد الله بن رباح: إني لأحدث هذا الحديث في مسجد الجامع، إذ قال عمران: انظر أيها الفتى كيف تحدث، فإني أحد الركب تلك الليلة، قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث، قال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار، قال: حدث، فأنت أعلم بحديثكم، قال: فحدثت القوم، فقال عمران: لقد شهدت تلك الليلة وما شعرت أن أحدًا حفظه كما حفظته، "رواه مسلم" في الصلاة من حديث ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة، وحذف المصنف منه كثيرًا، كما رأيت واحتج بآخره من قال باتحاده مع قصة عمران؛ لأنه صدق عبد الله في تحديثه، وأجيب: بأن عمران حضر القصتين، فحدث بإحداهما، وصدق عبد الله لما حدث عن أبي قتادة بالأخرى. قال في الشفاء: وذكر الطبري، يعني ابن جرير، حديث أبي قتادة على غير ما ذكره أهل الصحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ممدًا لأهل مؤتة عندما بلغه قتل الأمراء، وذكر حديثًا طويلا فيه معجزات وآيات وفيه إعلامهم أنهم يفقدون الماء غدًا، وذكر حديث الميضأة، قال: والقوم زهاء ثلاثمائة، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 وعن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى   "وعن أنس، قال: أصابت الناس سنة" بفتح السين المهملة، أي: شدة وجهد من الجدب "على عهد" أي: زمن "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم الجمعة" خطبة الجمعة على المنبر، "قام أعرابي" من سكان البادية لا يعرف اسمه، قال المصنف. وقال الحافظ: لم أقف على تسميته في حديث أنس، وروى أحمد عن كعب بن مرة ما يمكن أن يفسر المبهم بأنه كعب. وروى البيهقي ما يمكن أن يفسر بأنه خارجة بن حصن الفزاري، ولكن رواه ابن ماجه من طريق شرحبيل بن السمط، أنه قال لكعب بن مرة: يا كعب حدثنا عن رسول الله، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم استسق، فرفع يديه، ففي هذا أنه غير كعب، "فقال: يا رسول الله" فيه أنه كان مسلمًا، فانتفى زعم أنه أبو سفيان بن حرب؛ لأنه حين سؤاله لذلك لم يكن أسلم، فهي واقعة أخرى؛ كما في الفتح. "هلك المال" الحيوانات لفقد ما ترعاه، فليس المراد الصامت. وفي رواية: هلكت المواشي، وأخرى: الكراع، بضم الكاف، يطلق على الخيل وغيرها، "وجاع العيال" لعدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر، "فادع الله لنا" أن يغيثنا، "فرفع يديه" زاد في رواية: حذاء وجهه، ولابن خزيمة عن أنس: حتى رأيت بياض إبطيه. وزاد النسائي: ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون، "وما نرى في السماء قزعة" بقاف وزاي، وعين مهملة مفتوحات: قطعة من سحاب متفرق، أو رقيقه الذي إذا مر تحت السحب الكثيرة كان كأنه ظل، قال ابن سيده: القزع قطع من السحاب رقاق. زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف، قال أنس: "فوالذي نفسي بيده ما وضعها" أي: يديه، وللكشميهني: ما وضعهما، أي: يديه "حتى ثار" بمثلثة، أي: هاج وانتشر "السحاب أمثال الجبال" لكثرته، "ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر" ينحدر، أي: ينزل ويقطر "على لحيته" الشريفة، "فمطرنا" بضم الميم وكسر الطاء، أي: حصل لنا المطر "يومنا" نصب على الظرفية، أي: في يومنا "ذلك، ومن الغد" من للتبعيض، أو بمعنى في، "ومن بعد الغد" والذي يليه "حتى الجمعة الأخرى" بالجر في الفرع، وأصله: على أن حتى جارة، ويجوز النصب عطفًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدم البناء وغرق المال، فادع الله لنا فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"   على سابقه المنصوب، والرفع على أن مدخولها مبتدأ خبر محذوف، قاله المصنف. وفي رواية: فمطرنا من جمعة إلى جمعة، وفي أخرى: فدامت جمعة، وفي أخرى: فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، وأخرى فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، أي: من كثرة المطر وأخرى حتى سالت مثاعب المدينة، بمثلثة، وآخره موحدة جمع مثعب مسيل الماء، وفي مسلم: فأمطرنا حتى رأيت الرجل تهمه نفسه أن يأتي أهله، ولابن خزيمة: حتى أهم الشاب القريب الدار: الرجوع إلى أهله، "وقام" بالواو، ولأبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر، فقام بالفاء، "ذلك الأعرابي" الذي طلب الدعاء "أو غيره" وفي رواية: ثم دخل رجل في الجمعة المقبلة، فظاهره أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وقد قال شريك: سألت أنسا أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري، وهذا يقتضي أنه لم يجزم بالتغاير، فالقاعدة أغلبية؛ لأن أنسا من أهل اللسان قد تردد، ومقتضى رواية أو غيره أنه كان يشك فيه. وفي رواية للبخاري: فأتى الرجل، فقال. وفي أبي عوانة: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدًا، قاله الحافظ، "فقال: يا رسول الله، تهدم البناء" وفي رواية: البيوت، "وغرق المال" وفي رواية: هلكت الأموال، وانقطعت السبل، واحتبس الركبان، "فادع الله لنا" وفي رواية: فادع الله يمسكها، أي: الأمطار، أو السحابة، أو السماء، والعرب تطلق على المطر سماء، وفي رواية: ن يمسك الماء عنًا، ولأحمد: أن يرفعها عنًا. وفي رواية للبخاري: فادع ربك أن يحسبها عنا، فضحك. وفي رواية: فتبسم لسرعة ملال ابن آدم، "فرفع يديه" بالتثنية، وفي رواية: يده على إرادة الجنس، فقال: "اللهم حوالينا" بفتح اللام، أي: أنزل أو أمطر حوالينا، والمراد: أصرف المطر عن الأبنية والدور، "ولا" تنزله "علينا" قال الحافظ: فيه بيان المراد بقوله: حوالينا؛ لأنها تشمل الطرق التي حولهم، فأخرجه بقوله: "ولا علينا". قال الطيبي: في إدخال الواو هنا معنى لطيف، وذلك أنه لو أسقطها لكان مستقيًا للآكام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصودًا لعينه، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليس الواو مخلصة للعطف، ولكنها للتعليل، وهو كقولهم: تجوع الحرة، ولا تأكل بثدييها، فإن الجوع ليس مقصودًا لعينه، لكونه مانعًا عن الرضاع بأجرة، إذا كانوا يكرهون ذلك آنفًا، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 فما يشير ئإلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود. وفي رواية قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الإكام والظراب وبطون الأودية,   "فما يشير" بيده "إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت" انكشفت أو تدورت، كما يدور جيب القميص، وهذا لفظ البخاري في الجمعة، وشرحه المصنف بما ذكرت، ورواه في الاستسقاء، بلفظ: إلا تفرجت. قال المصنف بفتح الفوقية، والفاء، وتشديد الراء، وبالجيم، أي: تقطع السحاب، وزال عنها امتثالا لأمره، "وصارت المدينة مثل الجوبة، وسال الوادي قناة" بقاف مفتوحة، فنون، فألف، فتاء تأنيث، مرفوع على البدل من الوادي غير منصرف للتأنيث والعلمية، إذ هو اسم لواد معين من أودية المدينة بناحية أحد به مزارع، ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره، وقرأت بخط الرضى الشاطبي الفقهاء يقرءونه بالنصب والتنوين يتوهمونه قناة من القنوات وليس كذلك، انتهى. وهذا ذكره بعض الشراح، وقال: هو على التشبيه، أي: سال مثل القناة، قال الحافظ: أي: جرى فيه المطر "شهرًا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود، وفي رواية" للشيخين من وجه آخر عن أنس، "قال" صلى الله عليه وسلم: "اللهم حوالينا ولا علينا" وفي بعض الروايات: حولينا بلا ألف، وهما بمعنى، وهو في موضع نصب على الظرف أو مفعول به، والمراد بحوالي المدينة: مواضع النبات والزرع، لا نفس المدينة وبيوتها، ولا ما حواليها من الطرق، وإلا لم يزل شكواهم بذلك ولم يطلب رفع المطر من أصله، بل سأل رفع ضرورة وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق، بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل، بل سأل إبقاءه في موضع الحاجة؛ لأن الجبال والصحاري ما دام المطر فيها كثرت فائدتها في المستقبل من كثرة المرعى والمياه، وغير ذلك من المصالح، وفيه قوة إدراكه صلى الله عليه وسلم للخير عن سرعة البديهة، ولذا بين المراد بحوالينا بقوله: "اللهم على الإكام" بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع أكمة بفتحات. قال ابن البرقي: هو التراب المجتمع، وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة، وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض، وقال الثعلبي: الأكمة أعلى من الرابية، "والظراب" بكسر المعجمة، وآخره موحدة: جمع ظرب، بكسر الراء، وقد تسكن. قال القزاز: الجبل المنبسط ليس بالعالي، وقال الجوهري: للرابية الصغيرة، "وبطون الأودية" والمراد بها ما يتحصل فيه الماء لينتفع به، قالوا: ولم يسمع أفعله جمع فاعل إلا أودية: جمع واد، وفيه نظر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 ومنابت الشجر". فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس. رواه البخاري ومسلم. و"الجوبة" -بفتح الجيم والموحدة بينهما واو ساكنة- الحفرة المستديرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة، أي حتى صار الغيم والسحاب محيطًا بآفاق المدينة. و"الجود" -بفتح الجيم وإسكان الواو -المطر الواسع الغزير. وعن عبد الله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثنا عن ساعة العسرة فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا.   وزاد مالك في روايته: ورءوس الجبال: ذكره الحافظ، "ومنابت الشجر"، "فأقلعت" بفتح الهمزة من الإقلاع، أي: كفت وأمسكت السحابة الماطرة عن المدينة، وفي رواية: فما هو إلا أن تكلم صلى الله عليه وسلم بذلك تمزق السحاب حتى ما يرى منه شيئًا في المدينة، "وخرجنا نمشي في الشمس، رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري ومسلم" في مواضع من كتاب الصلاة وغيرها. "والجوبة، بفتح الجيم والموحدة، بينهما واو ساكنة: الحفرة المستديرة الواسعة، وكل منفتق بلا بناء جوبة، أي: حتى صار الغيم والسحاب محيطًا بآفاق المدينة" قال الحافظ: والمراد به هنا الفرجة في السحاب، وقال الخطابي: المراد بالجوبة هنا الترس، وضبطها الزين بن المنير تبعًا لغيره، بنون بدل الموحدة، ثم فسره بالشمس إذ ظهرت في خلل السحاب، لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون فقد صحف. "والجود بفتح الجيم وإسكان الواو: المطر الواسع الغزير", وزاد الحافظ: وهذا يدل على أن المطر استمر فيما سوى المدينة، فيشكل بأنه يستلزم أن قول السائل: هلكت الأموال وانقطعت السبل لم يرتفع الإهلاك ولا القطع، وهو خلاف مطلوب، ويمكن الجواب؛ بأن المراد أن المطر استمر حول المدينة من الإكام والظراب وبطون الأودية، لا في الطريق المسلوكة ووقع المطر في بقعة دون بقعة كثير، ولو كانت تجاورها، إذا جاز ذلك جاز أن يوجد للماشية أماكن تسكنها وترعى فيها بحيث لا يضرها ذلك المطر، فيول الإشكال، انتهى. "وعن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: حدثنا عن ساعة العسرة" غزوة تبوك، سميت بذلك لوقوعها مع عسر شديد؛ كما أفاده عمر، "فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ" حر "شديد، فنزلنا منزلا" لما ارتحل من الحجر، كما رواه ابن أبي حاتم، ولا ينافيه قول ابن إسحاق بعد ذكر نزوله بالحجر: فلما أصبح الناس شكوا له صلى الله عليه وسلم فقد الماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 أصابنا عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله لنا، قال: "أتحبون ذلك"؟. قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فانسكبت، فملئوا ما معهم من آنية، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها تجاوز العسكر، قال الحافظ المنذري: أخرجه البيهقي في الدلائل، وشيخه ابن بشران ثقة، ودعلج ثقة   فدعا، فأرسل الله سحابة حتى ارتووا وحملوا حاجتهم؛ لحمل قوله: فلما أصبح، أي: بعد أن سار منزلا بعد الحجر، كما جمعت بينهما في الغزوة بذلك، "أصابنا عطش" لفقد الماء، "حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع" من العطش "حتى إن كان الرجل لينحر بعيره، فيعصره فرثه" ما في كرشه "فيشربه" أي: ما ينزل منه مع تغيره وقلته، وكانوا يفعلون ذلك في ضرورتهم، "ويجعل ما بقي" مما عصره "على كبده ليخف عنه بعض الحرارة ببردة ما يمس كبده من الماء، "فقال أبو بكر" الصديق؛ "يا رسول الله! إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا" بالإجابة السريعة، "فادع الله لنا" أن يسقينا، قال: "أتحبون ذلك" , "قال: نعم، فرفع يديه" نحو السماء؛ كما في الرواية، "فلم يرجعهما" بفتح الياء من رجع المتعدي، نحو: فلا ترجعون إلى الكفار لا من رجع اللازم، أي: فلم يرد يديه بعد رفعهما في دعائه من الرفع المذكور، "حتى قالت اسماء" أي: غيمت وظهر فيها سحاب من قولهم، قال كذا إذا تهيأ له واستعد؛ كما في القاموس أي: امتلأت سحابًا، أو رعدت، فسمع دوي رعدها، أو رن سحابها وحن رعدها، وروي: قامت بالميم، أي: اعتدلت واستوت بالسحاب، أو توجهت بالخير، أو انتصب سحابها وارتفع، أو حان وقت مطرها وحضر، "فانسكبت" أي: انسكب ماؤها، فالإسناد مجازي، وتفسيبر بعض قالت: باللام بأمطرت لا يناسب ما بعده، وكون السماء بمعنى المطر بعيد هنا، وكذا كونه استخدامًا، "فملئوا ما معهم من آنية: "ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها تجاوز العسكر، وهذه معجزة أخرى. "قال الحافظ المنذري: أخرجه البيهقي في الدلائل" النبوية، وكذا الإمام أحمد، وابن خزيمة، والحاكم، والبزار، "وشيخه، أي: البيهقي فيه "ابن بشران" الحافظ، أبو حفص، عمر بن بشران، بن محمد، بن بشران السكري، "ثقة قال الخطيب: حدثنا عنه البرقاني، قال: كان ثقة، حافظًا، عارفًا، كثير الحديث، بقي إلى سنة سبع وستين وثلاثمائة، "ودعلج" كجعفر, ابن أحمد بن دعلج، الإمام الحافظ، الفقيه، محدث بغداد، أبو محمد، السجزي، "ثقة"، سمع البغوي وغيره، وعنه الدارقطني والحاكم، وكان من أوعية العلم وبحور الرواية، صنف المسند الكبير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 وابن خزيمة أحد الأئمة، ويونس احتج به مسلم في صحيحه وابن وهب وعمرو بن الحارث ونافع بن جبير احتج بهم البخاري ومسلم، وعتبة فيه مقال، انتهى. وقد رواه القاضي عياض في الشفاء مختصرًا وروى ابن إسحاق في مغازيه نحوه. وروى صاحب كتاب "مصباح الظلام" عن عمرو بن شعيب: أن أبا طالب قال: كنت مع ابن أخي -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- بذي المجاز، فأدركني العطش، فشكوت إليه فقلت: يابن أخي عطشت، وما قلت له ذلك وأنا لا أرى عنده شيئًا إلا الجزع، فثنى وركه ثم نزل   ومات سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وخلف ثلاثمائة ألف دينار، "وابن خزيمة" محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابوري، "أحد الأئمة" المعروف عند أهل الحديث بإمام الأئمة حدث عنه الشيخان خارج صحيحيهما، "ويونس" بن يزيد الأعلى، "احتج به مسلم في صحيحه، وابن وهب" عبد الله المصري، الفقيه، الحافظ العابد، المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة، "وعمرو بن الحارث" ابن يعقوب الأنصاري، مولاهم المصري، ثقة، فقيه حافظ مات قبل الخمسين ومائة ونافع بن جبير" بن مطعم القرشي النوفلي التابعي فاضل، مات سنة تسع وتسعين، "احتج بهم، أي: بكل واحد من الثلاثة "البخاري ومسلم" وباقي الأئمة الستة، "وعتبة بن حميد الضبي أبو معاذ، أبو معاوية البصري، "فيه مقال" فقال أحمد: ضعيف ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وثقه ابن حبان وغيره، وفي التقريب: صدوق له أوهام، "انتهى، وقد رواه" أي: ذكره بلا إسناد "القاضي عياض في الشفاء مختصرًا، وروى ابن إسحاق في مغازيه نحوه، وروى صاحب كتاب مصباح الظلام" في المستغيثين الأنام. "عن عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي، صدوق، مات سنة ثماني عشرة ومائة، روى له أصحاب السنن، "أن أبا طالب، قال: كنت مع ابن أخي، يعني النبي صلى الله عليه وسلم بذي المجاز" بفتح الميم والجيم، وألف، وزاي معجمة: اسم سوق كان بقرب عرفة، كانوا يجتمعون فيه في الجاهلية، "فأدركني العطش، فشكوت إليه، فقلت: يابن أخي، عطشت وما قلت له ذلك، وأنا لا أرى عنده شيئًا إلا الجزع" بكسر الجيم، وقال أبو عبيدة: اللائق فتحها منعطف الوادي ووسطه، أو منقطعه أو منحناه، أو لا يسمى جزعًا حتى تكون له سعة تنبت الشجر، أو هو مكان بالوادي لا شجر فيه، وربما كان رملا، قاله في القاموس؛ فالمعنى هنا: لا أرى عنده الأوسط الوادي، أو منقطعه دون ماء فيه، ويصح تفسيره بباقي المعاني المذكورة، وأبعد من قال: إلا الجزع تأسفًا على حال الناس، "فثنى وركه ثم نزل" عن الدابة التي كانا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 وقال: "يا عم، أعطشت"؟. فقلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: "اشرب يا عم فشربت". وكذا رواه ابن سعد وابن عساكر.   راكبين عليها، فإن في نفي الحديث، وهو رديفه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم رديف أبي طالب، أي: راكب خلفه، "وقال: "يا عم! أعطشت"؟، كأنه سأله بعد شكواه إليه العطش لينبهه على رؤية الآية، "فقلت: نعم، فأهوى بعقبه إلى الأرض" وضرب الأرض بقدمه، "فإذا بالماء، فقال: "اشرب يا عم"، فشربت، وكذا رواه ابن سعد وابن عساكر" من رواية إسحاق بن الأزرق، عن عبد الله بن عون، عن عمرو بن شعيب، وهذا أحد ثلاثة أحاديث رواها أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن علي، سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد بن أخي، وكان والله صدوقًا، قال: قلت له: بم بعثت؟ قال: "بصلة الأرحام، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة". وعن أبي رافع: سمعت أبا طالب يقول: حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه أحدًا، ومحمد عندي الصدوق الأمين، رواهما الخطيب وضعفهما؛ كما في الإصابة وعبر السيوطي بأن أبا طالب روى عن المصطفى حديثين وهو أدق، إذ الثاني والثالث واحد، رواه عنه علي أبو رافع والخطب سهل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 " تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم ": ومن ذلك: تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه. عن جابر، في غزوة الخندق، قال: فانكفيت إلى امرأتي، فقلت هل عندك شيء، فإني رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، فأخرجت جرابًا   تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم: "ومن ذلك تكثير الطعام" ما قابل الماء لتقدمه، "القليل ببركته ودعائه" والطعام لغة ما يطعم، وهو المراد هنا بسائر أنواعه، "عن جابر بن عبد الله في غزوة الخندق" وهي الأحزاب، "قال": لما حفر الخندق، رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصًا شديدًا، "فانكفيت"، قال الحافظ: بفاء مفتوحة، بعدها تحتية ساكنة، أي انقلبت، وأصله انكفأت بالهمز، وقال في التنقيح: أصله الهمزة من كفأت الإناء، وتسهل. قال في المصابيح: ليس القياس في تسهيل مثله إبدال الهمزة، أي: انقلبت "إلى امرأتي" سهيلة، "فقلت" لها: "هل عندك شيء، فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم خمصًا"، بمعجمة وميم مفتوحتين، وصاد مهملة، وقد تسكن الميم، ضمور البطن من الجوع, "شديدًا، فأخرجت جرابًا" بكسر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعًا من شعير. فتعال أنت ونفر معك. فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أهل الخندق، إن جابرًا صنع سؤرًا، فحي هلا بكم".   الجيم، "فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة" بضم الموحدة، وفتح الهاء، مصغر بهمة، وهي الصغيرة من أولاد الغنم، وفي رواية: عناق، وهي الأنثى من المعز، "داجن" بكسر الجيم: التي تترك في البيت، ولا تخرج إلى المرعى، ومن شأنها أن تسمن، وقد زاد في رواية: أحمد: سمينة، "فذبحتها" بسكون الحاء، وضم التاء، فالذابح جابر، "وطحنت" بفتح المهملة والنون، امرأتي "الشعير" وفي رواية أحمد: فأمرت امرأتي، فطحنت لنا الشعير، وصنعت لنا منه خبزًا. وفي رواية في الصحيح من طريق آخر عن جابر: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: "أنا نازل" ثم قام وبطنه معصور بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، فضرب، فعاد كثيبًا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله! ئذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق وطحنت الشعير، "حتى جعلنا"، أي: وشرعنا في تهيئته حتى جعلنا، وللكشميهني: جعلت، أي: المرأة "اللحم في البرمة"، بضم الموحدة، وسكون الراء: القدر مطلقًا أو من حجارة. وفي رواية: ففرغت إلى فراغي، أي: معه وقطعتها في برمتها، "ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم"، زاد في رواية في الصحيح: والعجين قد انكسر، أي: اختمر، والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقالت: لا تفضحني برسول الله وبمن معه، فجئته "فساررته فقلت" له سرًا "يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت" المرأة رواية أبي ذر وابن عساكر ولغيرهما: وطحنا، وعلى الأولى هو من الإضمار، أي: إرجاع الضمير لما علم من السياق، وهو أنه لما أسند الفعل إلى مؤنث، علم النبي صلى الله عليه وسلم أنها الطاحنة، إذ ليس عنده غيرها، ولعله نسب الذبح إليهما لمعاونتها له فيه، والطحن لها لاستقلالها به دونه، "صاعًا من شعير كان عندنا، "فتعال أنت ونفر معك" دون العشرة من الرجال، وفي رواية: فقلت: طعيم لي صنعته، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، ولأحمد: وكنت أريد أن ينصرف صلى الله عليه وسلم وحده، قال: "كم هو"؟، فذكرت له، فقال: "كثير طيب، قل لها: لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور حتى آتي"، "فصاح النبي صلى الله عليه وسلم": "يا أهل الخندق، إن جابرًا صنع سؤرًا فحي" بحاء مهملة، وشد التحتية، "هلا بكم" بفتح الهاء واللام المنونة مخففة، أي، هلموا مسرعين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء". ثم قال فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال: "ادع خابزة فلتخبز معك   وفي رواية في الصحيح، فقال: "قوموا". فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟، قلت: نعم، وفي سياقه اختصار، وبيانه في رواية يونس بن بكير في زيادات المغازي، قال: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت، جاءك رسول الله بالجند أجمعين، فقالت: هل كان سألك: كم طعامك؟ فقلت: نعم، فقالت: الله ورسوله أعلم، نحن أخبرناه بما عندنا، فكشفت عني غما شديدًا، وفي رواية الصحيح: فجئت امرأتي، فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، ويجمع بينهما بأنها أولا أمرته أن يعلمه بالصورة، فلما قال لها: إنه جاء بالجميع، ظنت أنه لم يعلم فخاصمته، فلما أعلمها أنه أعلمه، سكن ما عنده، لعلمها بإمكان خرق العادة، ودل ذلك على وفور عقلها وكمال فضلها، وقد وقع لها في قصة التمر أن جابرًا أوصاها لما زارهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تكمله، فلما أراد صلى الله عليه وسلم الانصراف نادته: يا رسول الله! صل عليّ وعلى زوجي، فقال صلى الله عليه وسلم: "صلى الله عليك وعلى زوجك" فعاتبها جابر، فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله بيتي، ثم يخرج ولا أسأله الدعاء، أخرجه أحمد بإسناد حسن، ذكره الحافظ. "قال النبي صلى الله عليه وسلم" لجابر: "لا تنزلن"، بضم الفوقية، وكسر الزاي، وضم اللام، "برمتكم" نصب على المفعولية ولأبي ذر: لا تنزل بفتح الزاي واللام مبني للمفعول، برمتكم بالرفع نائب الفاعل، "ولا تخبزن" بفتح الفوقية، وكسر الموحدة، وضم الزاي، وشد النون "عجينكم" بالنصب، ولأبي ذر، بضم التحتية، وفتح الموحدة، والزاي، ورفع عجينكم، "حتى أجيء" إلى منزلكم، "ثم جاء" لفظ البخاري: فجئت وجاء صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت إلى امرأتي، فقالت: بك وبك، فقلت الذي قلت، "فأخرجت" المرأة "له عجينًا، فبصق فيه" بالصاد، ولأبي ذر، والوقت، وابن عساكر: فبسق بالسين، ويقال بالزاي أيضًا، لكن قال النووي: بالصاد في أكثر الأصول وفي بعضها بالسين، وهي لغة قليلة، "وبارك" في العجين، أي: دعا فيه بالبركة، "ثم عمد" بفتح الميم: قصد "إلى برمتنا، فبصق" زاد الكشميني: فيها، أي: البرمة "وبارك" في الطعام، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم لجابر: "ادع خابزة فلتخبز"، بسكون اللام "معك" بكسر الكاف، خطابًا لزوجة جابر، فخصه بالأمر بالدعاء؛ لأنه صاحب المنزل المشار بإذنه لمن شاء في دخوله منزله، وخاطب زوجته، بأنه إذا أحضرها يأمرها بالخبز معها، أي: مساعدتها فيه، ثم تباشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". وهم ألف. فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو، رواه البخاري ومسلم. وقوله: "فانكفأت" أي: انقلبت.   هي غرف الطعام، ولا ينافيه أن لفظ البخاري: فلتخبزي معي؛ لأن المراد وقولي لها لتخبزي معي، أي: تعاونيني فيه، كذا أملانيه شيخنا قائلا، ويدل عليه قوله: "واقدحي" بسكون القاف، وفتح الدال، وكسر الحال المهملتين، أي: اغرفي "من برمتكم" والمغرفة تسمى المقدمة، وقدحه من المرق غرفه منه، "ولا تنزلوها" بضم الفوقية، وكسر الزاي، أي: البرمة من فوق الأثافي، بفتح الهمزة والمثلثة فألف، ففاء مكسورة، فتحتية مشددة: حجارة ثلاثة يوضع عليها القدر، "وهم" أي: القوم الذين أكلوا "ألف" وفي مستخرج أبي نعيم، وهو سبعمائة أو ثمانمائة، وللإسماعيلي ثمانمائة أو ثلاثمائة، وفي مسلم: ثلاثمائة. قال الحافظ والحكم: لزائد لمزيد علمه، ولأن القصة متحدة. وفي رواية أبي الزبير عن جابر وأقعدهم عشرة عشرة يأكلون، "فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا"، أي: مالوا عن الطعام، "وإن برمتنا لتغط" بكسر الغين المعجمة، وشد الطاء المهملة، أي: تغلي وتفور بحيث يسمع لها غطيط، "كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو" لم ينقص من ذلك شيء، وما في, كما كافة، وهي مقمحة لدخول الكاف على الجملة، وهي مبتدأ، والخبر محذوف، أي: كما هي قبل ذلك. "رواه البخاري ومسلم" في المغازي من حديث سعيد بن مينا عن جابر، وأخرجه البخاري وحده من رواية أيمن عن جابر نحوه، وفي آخره: فقال صلى الله عليه وسلم ادخلوا ولا تضاغطو، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرم والتنوم إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا أو بقي بقية، قال: "كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة" وفي رواية يونس بن بكر: فما يزال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعين، ويعود التنور والقدر أملأ ما كانا، فقال: "كلي وأهدي" فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع، وفي رواية أبي الزبير عن جابر: فأكلنا نحن وأهدينا لجيراننا، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك، انتهى. وصريح هذا أن الذي باشر الغرف النبي صلى الله عليه وسلم، فيخالف ظاهر قوله: "واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها". أي: اغرفي من أن مباشرة المرأة، ويمكن الجمع بينهما؛ بأنها كانت تساعد في الغرف، ولم يتعرض الحافظ ولا المصنف لهذا. "وقوله: فانكفأت، أي: انقلبت" بالهمز وتركه، وهو الرواية على ظاهر كلام الحافظ بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 وقوله: "داجن" يعني سمينة. وقوله: "فذبحتها" بسكون الحاء، و"طحنت" بسكون التاء، يعني إن الذي ذبح هو جابر، والتي طحنت هي امرأته سهيلة بنت معوذ الأنصارية. وقوله: "سورا" بضم المهملة وسكون الواو بغير همز: قال ابن الأثير: أي طعامًا يدعو الناس إليه. قال: واللفظة فارسية. وقوله: "فحي هلا بكم" كلمة استدعاء فيه حث، أي هلموا مسرعين. وقوله: "واقدحي" أي: اغرفي. وقوله: "إن برمتنا لتغط" بالغين المعجمة والطاء   حجر، وظاهر تصويب الحافظ أبي ذر له بالهمز؛ كما مر، "وقوله: داجن، يعني: سمينة" كما ورد صريحًا في رواية أحمد، قال الحافظ: الداجن التي تترك في البيت ولا تفلت للرعي، ومن شأنها أن تسمن. وفي رواية أحمد: سمينة، "وقوله: فذبحتها، بسكون الحاء" وضم التاء، "وطحنت، بسكون التاء" الفوقية، قبلها نون، فحاء فطاء مفتوحات، "يعني: أن الذي ذبح هو جابر، والتي طحنت هي امرأته سهيلة" بلفظ التصغير، "بنت معوذ" صوابه كما في الفتح وغيره: بنت مسعود بن أوس بن مالك، بن سواد "الأنصارية" الظفرية، زوجة جابر وأم ولده عبد الله، ذكرها ابن حبيب في المبايعات؛ كما في الإصابة. وقوله: "سورا" بضم المهملة وسكون الواو بغير همز, قال الحافظ: هو هنا الصنيع بالحبش، وقيل العرس بالفارسية، ويطلق أيضًا على البناء الذي يحيط بالمدينة، وأما الذي بالهمز، فهو البقية، "قال ابن الأثير، أي: طعامًا يدعو الناس إليه" زاد المصنف: أو الطعام مطلقًا، "قال: واللفظة فارسية" قال الطيبي: تظاهرت أحاديث صحيحة؛ أنه صلى الله عليه وسلم تكلم بالألفاظ الفارسية، أي: كقوله للحسن: "كخ" ولعبد الرحمن: "مهيم"، أي: ما هذا، ولأم خالد: "سنا سنا"، يعني: حسنة، وهو يدل على جوازه، ذكره المصنف، ولعله صلى الله عليه وسلم عبر بها دون طعام، لعمومه في كل مأكول، بخلاف الطعام، فيخص بالحنطة عند أهل مكة، فقد يفهم بعض السامعين غير المراد، أو لبيان الجواز. وقوله: "فحي" بالفتح مثقلا "هلا" بفتح الهاء، واللام مخففًا "بكم". وفي رواية: "أهلا بكم" بزيادة ألف، والصواب حذفها، قاله الحافظ. "كلمة استدعاء فيه"، أي: الاستدعاء، ولفظ الحافظ فيها: أي الكلمة والأمر سهل، "حث" على الإجابة، "أي: هلموا مسرعين، وقوله: "واقدحي"، أي: اغرفي" والمقدحة: المغرفة، "وقوله: وإن برمتنا لتغط بالغين المعجمة" المكسورة، "والطاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 المهملة، أي: تغلي ويسمع غطيطها. وعن أنس قال: قال أبو طلحة لأم سليم، لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء، فقالت: نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخرجت خمارًا، فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه -أي أدارت بعض الخمار على رأسي مرتين كالعمائم- ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به فوجدت   المهملة" المشددة، "أي: تغلي ويسمع غطيطها" صوتها بالغليان، كغطيط النائم. "وعن أنس" بن مالك "قال: قال أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري، زوج أم سليم، والدة أنس "لأم سليم" قال الحافظ: اتفقت الطرق على أن الحديث المذكور من مسند أنس، وقد وافقه على ذلك أخوه لأمه عبد الله بن أبي طلحة، فرواه مطولا عن أبيه، قال: دخلت المسجد، فعرفت، في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ... الحديث، أخرجه أبو يعلى بإسناد حسن، "لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفًا؛ أعرف فيه الجوع" فيه العمل بالقرائن، وكأنه لم يسمع من صوته حين تكلم الفخامة المألوفة منه، فحمله على الجوع، ولأحمد عن أنس، أن أبا طلحة رآه طاويًا، وفي مسلم جئت وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت، فقالوا: من الجوع، فأخبرت أبا طلحة، فدخل على أم سليم، قال: "فهل عندك من شيء" يأكله النبي صلى الله عليه وسلم؟، "فقالت: نعم، فأخرجت أقراصًا" جمع قرص، بالضم: قطعة عجين مقطوع منه "من شعير" ولأحمد: عمدت أم سليم إلى نصف مد من شعير فطحنته. وللبخاري: عمدت إلى مد من شعير جشته، ثم عملته عصيدة، وفي لفظ خطيفة، وهي العصيدة وزنًا ومعنى، وفي مسلم وأحمد: أتي أبو طلحة بمدين من شعير، فأمر، فصنع طعامًا، قال الحافظ: ولا منافاة لاحتمال تعدد القصة، او أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، ويمكن الجمع بأن يكون الشعير في الأصل كان صاعًا، فردت بعضه لعيالهم وبعضه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز المفتوت، الملتوت بالسمن من المغايرة، "ثم أخرجت خمارًا" بكسر الخاء المعجمة، أي: نصيفًا لها، "فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته" أي: أخفته "تحت يدي" بكسر الدال، أي: إبطي "ولاثتني بمثلثة، ففوقية ساكنة، فنون مكسورة: لفتني، "ببعضه" ببعض الخمار، "أي: أدارت بعض الخمار على رأسي مرتين، كالعمائم" وفي الفتح، أي: لفتني به يقال: لاث العمامة على رأسه، أي: عصبها، والمراد أنها لفت بعضه على بعض رأسه، وبعضه على إبطه، وللبخاري في الأطعمة، فلفت الخبز ببعضه، ودست الخبز تحت ثوبي وردتني ببعضه، يقال: دس الشيء يدسه دسًا، إذا أدخله في الشيء بقهر وقوة، "ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به، فوجدت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فسلمت عليه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم، قال: "لطعام"؟ قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا"، فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي يا أم سليم ما عندك"، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت، وعصرت أم سليم عكة   رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فسلمت عليه" لفظ البخاري: فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك" بهمزة ممدودة للاستفهام، كذا في الفتح "أبو طلحة"؟، قلت: نعم، قال: "لطعام"؟، أي: لأجله، "قلت: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه" من صحبه: "قوموا" , يأتي الجواب عما فيه من شبه التنافي، "فانطلق" وأصحابه, ولأبي نعيم، فقال للقوم: "انطلقوا" وهم ثمانون رجلا، "وانطلقت بين أيديهم" ولأبي نعيم: أخذ صلى الله عليه وسلم بيدي، فشده، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دنوا، أرسل يدي، فدخلت وأنا حزين لكثرة من جاء معه، "حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته" بمجيئهم. وفي رواية: قال يا أنس فضحتنا، وللطبراني: فجعل يرميني بالحجارة، "فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم" أي: قدر ما يكفيهم، "فقالت: الله ورسوله أعلم" كأنها عرفت أنه فعل ذلك عمدًا ليظهر الكرامة في تكثير الطعام، ودل ذلك على فضل أم سليم، ورجحان عقلها، "فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول" صلى الله عليه وسلم، وقال: إنما أرسلت أنسا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى إنما هو قرص، فقال: "إن الله سيبارك فيه"؛ كما في روايات تأتي، "فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه" حتى دخل على أم سليم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي" كذا لأبي ذر عن الكشميهني، بالتحتية؛ وهي لغة تميم، وللأكثر: هلم، بفتح الميم مشددة مع خطاب المؤنثة، وهي لغة حجازية لا يؤنث ولا يجمع، ومنه: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} ، والمراد: الطلب، أي: هات "يا أم سليم ما عندك" , "فأتت بذلك الخبز" الذي كانت أرسلته مع أنس، ويحتمل أنه لما أخبره أخذته منه؛ وأنه كان باقيًا معه، وخاطبها لأنها هي المتصرفة، "فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت" بضم الفاء، وشد الفوقية، أي: كسر، "وعصرت أم سليم عكة" بضم المهملة، وشد الكاف إناء من جلد مستدير، يجعل فيه السمن غالبًا والعسل، وفي رواية: فقال: "هل من سمن"؟، فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء، فجعلا يعصرانها حتى خرج، ثم مسح صلى الله عليه وسلم به سبابته، ثم مسح القرص فانتفخ، وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 فأدمته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال: "ائذن لعشرة، ثم لعشرة"، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا. رواه البخاري ومسلم. والمراد بالمسجد -هنا- الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين حاصره الأحزاب بالمدينة في غزوة الخندق. وفي رواية: لمسلم أنه قال: ائذن لعشرة، بالدخول فدخلوا فقال: كلوا وسموا الله، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلا، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وتركوا سؤرًا. أي بقية وهي بالهمزة. وفي رواية للبخاري:   "بسم الله"، فلم يزل يصنع ذلك القرص والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع، "فأدمته" أي: صيرت ما خرج من العكة إدامًا له، "ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول" في رواية أحمد: فقال "بسم الله"، وفي مسلم: فمسحها ودعا فيها بالبركة، ولأحمد: فجئت بها، ففتح رباطها، ثم قال: "بسم الله اللهم أعظم فيها البركة"، ثم قال: "ائذن لعشرة" بالدخول؛ لأنه أرفق، "ثم لعشرة" ثانية، "فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلا" بالشك من الراوي، وعند أحمد ومسلم وغيرهما، حتى فعل ذلك بثمانين رجلا بالجزم، ولأحمد أيضًا: كانوا نيفًا وثمانين ولا منافاة، لأنه ألغى الكسر، وفي مسلم وفضلت فضلة، فأهدينا لجيراننا، ولأبي نعيم: حتى أهديت أم سليم لجيرانها، "رواه البخاري ومسلم" كلاهما في الأطعمة من رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس والبخاري أيضًا في علامات النبوة، وروى بعضه في الصلاة، وأخرجه الترمذي في المناقب والنسائي في الوليمة، "والمراد بالمسجد هنا: الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه حين حاصره الأحزاب بالمدينة في غزوة الخندق" لا المسجد النبوي. وفي رواية لمسلم، أنه قال: "ائذن لعشرة" بالدخول، فأذن لهم, "فدخلوا، فقال: "كلوا وسموا الله" فأكلوا" وفي رواية أحمد: فوضع يده وبسط القرص، وقال: "كلوا بسم الله" فأكلوا من حوالي القصعة حتى شبعوا، ثم قال لهم: "قوموا وليدخل عشرة مكانكم"، "حتى فعل ذلك بثمانين رجلا" فجزم بثمانين، "ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم" بعد ذلك "وأهل البيت، وتركوا سؤرًا، أي: بقية، وهو بالهمزة" الفضلة والبقية. "وفي رواية للبخاري" في الأطعمة عن أنس: أن أمه عمدت إلى مد شعير جشته، منه خطيفة، وعصرت، عكة عندها، ثم بعثتني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيته وهو في أصحابه، فدعوته، قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 وقال: "أدخل عليّ عشرة"، حتى عد أربعين، ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم ثم قام، فجعلت أنظر هل نقص منها شيء. وفي رواية يعقوب: "أدخل عليّ ثمانية ثمانية"، فما زال حتى دخل عليه ثمانون، ثم دعاني ودعا أمي وأبا طلحة فأكلنا حتى شبعنا. انتهى. وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه، قال الحافظ ابن حجر، قال: وظاهره أنه عليه الصلاة والسلام دخل لمنزل أبي طلحة وحده، وصرح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ولفظه: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم: "اقعدوا" , ودخل. وفي رواية يعقوب عن أنس:   ومن معي، فقلت: أنه يقول ومن معي، فخرج إليه أبو طلحة، فقال: يا رسول الله! إنما هو شيء صنعته أم سليم، فدخل وجيء به، "وقال: "أدخل" بفتح الهمزة، وكسر الخاء "عليّ عشرة" من الذين حضروا معه، فدخلوا معه، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: "أدخل عليّ عشرة"، فدخلوا، فأكلوا حتى شبعوا، ثم قال: "أدخل علي عشرة"، "حتى عد أربعين" رجلا، "ثم أكل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام" قال أنس: "فجعلت أنظر" إلى القصعة "هل نقص منها شيء" من الطعام، إشارة إلى أنه لم ينقص شيء منها. وفي رواية أحمد: حتى أكل منها أربعون رجلا، وبقيت كما هي، قال الحافظ: وهذا يدل على تعدد القصة. "وفي رواية يعقوب بن عبد الله، بن أبي طلحة، عن أنس عند مسلم: "أدخل عليّ ثمانية ثمانية" بالتكرير، أي: ثمانية بعد ثمانية، "فما زال حتى دخل عليه ثمانون، ثم دعاني ودعا أمي" أم سليم، "وأبا طلحة" زوجها، "فأكلنا حتى شبعنا، انتهى، وهذا يدل على تعدد القصة، فإن أكثر الروايات فيها، أنه أدخلهم عشرة عشرة سوى هذه" فقال: "أدخلهم ثمانية ثمانية". "قال الحافظ ابن حجر" في الفتح، "قال" فيه أيضًا: "وظاهره" أي: قوله: ائذن لعشرة فأذن لهم؛ "أنه عليه الصلاة والسلام دخل لمنزل أبي طلحة وحده، وصرح بذلك في رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى" عن أنس عند أحمد ومسلم، "ولفظه: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم: "اقعدوا" ودخل. "وفي رواية يعقوب" بن عبد الله بن أبي طلحة، ثقة، من صغار التابعين، "عن أنس" عند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى، وفي رواية عمرو بن عبد الله عن أنس، فقال أبو طلحة: إنما هو قرص، فقال: "إن الله سيبارك فيه". قال العلماء: وإنما أدخلهم عشرة عشرة -والله أعلم- لأنها كانت قصعة واحدة، لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلوا عشرة عشرة لينالوا من الأكل ولا يزدحموا، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم، قال: "لطعام"؟ قلت: نعم، فقال لمن معه: قوموا: فظاهره: أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده قوموا، وأول الكلام يقتضي أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس؟! فيجمع: بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس لأن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل به أنس   مسلم، "فقال أبو طلحة: يا رسول الله! إنما أرسلت أنسًا يدعوك وحدك، ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى" فقال: "أدخل، فإن الله سيبارك فيما عندك". "وفي رواية عمرو" بفتح العين، "بن عبد الله" بن أبي طلحة الأنصاري، التابعي، الصغير، ثقة، عابد، "عن أنس" عند مسلم، "فقال أبو طلحة: إنما هو قرص" تقدم التعبير بأقراص، فنزلها لقلتها منزلة القرص الواحد، فقال: "إن الله سيبارك فيه". "قال العلماء: وإنما أدخلهم عشرة عشرة، والله أعلم" بالحكمة في ذلك؛ لأنها كانت قصعة واحدة لا يمكن الجماعة الكثيرة أن يقدروا على التناول منها مع قلة الطعام، فجعلوا عشرة عشرة لينالوا من الأكل ولا يزدحموا" فهو أرفق بهم أو لضيق البيت؛ كما قال السيوطي، أو لهما معًا. "وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "أرسلك أبو طلحة"؟ قلت: نعم، قال: "لطعام"؟، قلت: نعم، فقال لمن معه: "قوموا"، فظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أن أبا طلحة استدعاه" طلب حضوره "إلى منزله، فلذلك قال لمن عنده: "قوموا"، وأول الكلام يقتضي" اقتضاء صريحًا "أن أم سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس" وقوله: "فيجمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز مع أنس" سقطت هذه الجملة من غالب نسخ المصنف سهوًا منه أو نساخه، وهي ثابتة في الفتح الذي هو ناقل عنه، وبها يستقيم الكلام؛ "لأن يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فيأكله، فلما وصل به أنس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيى، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل فيحصل مقصودهم من طعامه. ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله، عهد إليه أنه إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن ذلك لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن معه، وقد عرفوا إيثاره عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يأكل وحده. ووقع في رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس -عند أبي نعيم وأصله عند مسلم- قال لي أبو طلحة: يا أنس اذهب فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام فدعه حتى تتفرق عنه أصحابه، ثم اتبعه حتى إذا قام على عتبة بابه فقل له: إن أبي يدعوك، وفيه: فقال أبو طلحة: يا رسول الله إنما أرسلت أنسًا   ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيى، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم معه وحده إلى المنزل، فيحصل مقصودهم من طعامه" وذلك من مزيد فطنته على صغر سنه، "ويحتمل أن يكون ذلك عن رأي من أرسله, عهد إليه" أي: أوصاه، "إذا رأى كثرة الناس أن يستدعي النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن ذلك لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم هو ومن معه، وقد عرفوا إيثاره عليه الصلاة والسلام" على نفسه "وأنه لا يأكل وحده" زاد الحافظ عقب هذا: وجدت أكثر الروايات يقتضي أن أبا طلحة استدعى النبي صلى الله عليه وسلم أدعوه، وقد جعل طعامًا. وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أنس: أمر أبو طلحة أم سليم أن تصنع للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة، ثم أرسلني إليه. وفي رواية يعقوب: فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ فقالت: عندي كسر من خبز، فإن جاءنا صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء أحد معه قل عنهم، وجميع ذلك عند مسلم، وفي رواية أحمد: أن أبا طلحة قال: أعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو رسول الله. "ووقع في رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس عند أبي نعيم، وأصله عند مسلم، قال لي أبو طلحة: يا أنس! اذهب، فقم قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قام، فدعه حتى تتفرق عنه أصحابه، ثم اتبعه حتى قام على عتبة بابه" الذي يأوي إليه، "فقل له: إن أبي" فيه تجوز لأنه ربيبه، "يدعوك" ورواية يعقوب هذه ذكرها الحافظ، استدلالا على أن طلحة استدعاه مسقطًا لفظ وقع، بل قال عقب ما ذكرته عنه. وفي رواية يعقوب، فذكرها، "وفيه: فقال أبو طلحة: يا رسول الله! إنما أرسلت أنسًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 يدعوك وحدك، ولم يكن عندي ما يشبع من أرى، فقال: "أدخل, فإن الله يبارك فيما عندك". وإليك النظر، فقال: "هل من سمن"؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء فجاء بها، فجعلا يعصرانها حتى خرج.   يدعوك وحدك"، وهذا صريح أيضًا في أنه استدعاه لمنزله، "ولم يكن عندنا ما يشبع من أرى" معك، فقال: "أدخل، فإن الله يبارك فيما عندك" وبقية الروايات التي استدل بها الحافظ هي. وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة، عند أبي يعلى عن أنس، قال لي أبو طلحة: اذهب فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند البخاري من رواية ابن سيرين في الأطعمة عن أنس: ثم بعثني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، وهو في أصحابه، فدعوته. وعند أحمد من رواية النضر بن أنس عن أبيه، قالت لي أم سليم: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل له: إن رأيت أن تغدى عندنا، فافعل. وفي رواية، عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أنس عند البغوي، فقال أبو طلحة: اذهب يا بني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فادعه، فجئته، إن أبي يدعوك. وفي رواية محمد بن كعب عند أبي نعيم، فقال: يا بني اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعه، ولا تدع معه غيره، ولا تفضحني، انتهى. ولم يتنزل الحافظ للجمع بين هذه الروايات وبين مقتضى أول الصحيحين لسهولته، وهو أنه أرسله يدعوه وحده، وأرسل معه الخبز، فإن جاء قدموه له، وإن شق عليه المجيء لمحاصرة الأحزاب، أعطاه الخبز سرًا. وأما اختلاف الروايات في أنه أقراص، أو كسر من خبز، فكانت أقراصًا مكسورة، وقوله: اعجنيه وأصلحيه يحمل على تليينه بنحو ماء أو سمن ليسهل تناوله، كأنه كان يابسًا، كما هو شأن الكسر غالبًا، هذا ما ظهر لي، "وإليك النظر". وفي رواية مبارك بن فضالة، بفتح الفاء، وتخفيف المعجمة، البصري، صدوق يدلس ويسوي، مات سنة ست وستين ومائة على الصحيح، روى له أبو داود، والترمي، وابن ماجه، أي: روايته عن بكر بن عبد الله، وثابت، عن أنس عند الإمام أحمد، "فقال صلى الله عليه وسلم" لما دخل وأتته أم سليم بذلك الخبز: "هل من سمن"؟، نأدم به الخير، "فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء" قليل من السمن، "فجاء بها، فجعلا يعصرانها حتى خرج" لا ينافيه رواية الصحيحين السابقة بلفظ: وعصرت أم سليم عكة، فأدمته؛ لاحتمال أنها حين أتت بها عصرتها، ثم أخذاها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 ثم مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم القرص فانتفخ، وقال: "بسم الله" , فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع. وفي رواية النضر بن أنس: فجئت بها ففتح رباطها ثم قال: "بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة"، وعرف بهذا المراد بقوله في رواية الصحيحين: "قال ما شاء الله أن يقول". وفي رواية عن أنس عند أحمد: أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويًا. وعند أبي يعلى من طريق محمد بن سيرين عن أنس: أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام فآجر نفسه بصاع من شعير فعمل بقية يومه ذلك ثم جاء به ... الحديث.   منها وعصراها، استفراغًا لما بقي فيها، أو أنهما ابتدءا عصرها، ثم حاولت بعد عصرهما إخراج شيء منها، "ثم" بعد فراغ العصر ووصول السمن إلى الخبز، "مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم القرص" لا ينافيه أن الخبز فت وجعل عليه السمن، كما مر؛ لأن السمن لما وضع على الفت اجتمع؛ فصار كالقرص الواحد، فلذا عبر به، وتقدم أن أبا طلحة عبر عنها بقرص قبل فتها لقلتها، وهذا غير ذاك، "فانتفخ، وقال" "بسم الله"، "فلم يزل يصنع ذلك" المسح والتسمية، "والقرص ينتفخ، حتى رأيت القرص في الجفنة يتسع، وفي رواية النضر بن أنس" بن مالك الأنصاري، البصري، التابعي، الوسط، ثقة، روى له الجماعة، مات سنة بضع ومائة، أي: عن أبيه أنس في مسند أحمد، "فجئت بها" أي: العكة، "ففتح صلى الله عليه وسلم رباطها" بيده الميمونة، "ثم قال": "بسم الله، اللهم أعظم فيها البركة"، وعرف بهذا المراد بقوله في رواية الصحيحين" المتقدمة، ثم "قال ما شاء الله أن يقول" فالروايات تفسر بعضها. "وفي رواية" بكر وثابت، "عن أنس، عند أحمد؛ أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويًا، فلذا قال: أعرف فيه الجوع. "وعند أبي يعلى من طريق محمد بن سيرين، عن أنس: أنا طلحة بلغه؛ أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فآجر نفسه" في عمل "بصاع من شعير، فعمل بقية يومه ذلك، ثم جاء به ... الحديث" وهو مخالف للروايات السابقة واللاحقة؛ أنه سأل أم سليم، أعندها شيء؟، فأخبرته بالخبز، وأنه فت وجعل عليه سمن، والجمع بينهما؛ أنه تعدد مرتين، مرة سألها، فوجد الخبز، ففعل ما ذكر، وبعثه مع أنس قبل ذلك؛ لاحتمال أن لا يجيء فيعطيه له فجاء ومعه ثمانون أو أزيد، وأدخلهم عشرة عشرة، ومرة لم يسألها، بل آجر نفسه بالصاع، وأتى به إليها وقال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم وأبي يعلى قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب ظهر البطن. وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم أيضًا عن أنس قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدثهم وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقال من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة فأخبرته، فدخل على أم سليم فقال: هل من شيء ... الحديث. وفي رواية محمد بن كعب عن أنس عند أبي نعيم قال: جاء أبو طلحة إلى أم سليم فقال: أعندك شيء؟ فإني مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء وقد ربط على بطنه حجرًا.   أعجنيه وأصلحيه، فجعلته عصيدة، ودعاه فجاء ومعه أربعون، وأدخله ثمانية، وبهذا تتضح الروايات، وإليه أومأ الحافظ وإن لم يفصح به، فقال في رواية ابن سيرين عن أنس غير القصة التي رواها غيره، وقال قبل ذلك، كما قدمته عنه، يدل على التعدد ما بين العصيدة والخبز المفتوت، بالسمن من المغايرة انتهى. والله أعلم. "وفي رواية عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة" وهو أخو إسحاق، روي حديث الباب "عند مسلم وأبي يعلى" عن أنس، "قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلب ظهر البطن" من الجوع، "وفي رواية يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة عند مسلم أيضًا، عن أنس، قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسًا مع أصحابه يحدثهم. وقد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه" لم عصب بطنه؟ "فقال: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة، فأخبرته، فدخل على أم سليم، فقال: هل من شيء ... الحديث". "وفي رواية محمد بن كعب" بن مالك الأنصاري، السلمي، بالفتح المدني، التابعي، الوسط، ثقة، روى له مسلم وابن ماجه، "عن أنس عند أبي نعيم، قال: جاء أبو طلحة إلى أم سليم" بنت ملحان الأنصاري، اسمها سهلة، أو رملية، أو مليكة، أو أنيفة، اشتهرت بكنيتها، وكانت من الصحابيات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان، "فقال: أعندك شيء؟ فإني مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء، وقد ربط على بطنه حجرًا" من الجوع، وفيه رد على دعوى ابن حبان؛ أنه لم يكن يجوع؛ لحديث: "أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، وأجيب بحمله على تعدد الحال، فكان أحيانًا يجوع إذا لم يواصل ليتأسى به أصحابه، ولا سيما من لا يجد مردًا، فيصبر على الجوع فيتضاعف أجره، كما مر مفصلا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 وعن أبي هريرة أنه قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقال عمر: يا رسول الله ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، فقال: نعم، فدعا بنطع فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: "خذوا في أوعيتكم"، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله   "وعن أبي هريرة، أنه قال: لما كان" تامة، أي: وجد "غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة" وفي رواية: مخمصة، فاستأذن الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نحر ظهورهم، قالوا: يبلغنا الله عز وجل، فأذن، فعلم عمر، فجاء فقال: يا نبي الله! ماذا صنعت، أمرت الناس أن ينحروا الظهر، فعلى ماذا يركبون؟ قال: "فما ترى يابن الخطاب"؟ , "فقال عمر: يا رسول الله! ادعهم" ألزمهم، وفي لفظ: أرى أن تأمرهم أن يأتوا "بفضل أزوادهم" أي: بقيتها، أو ما فضل منه أزوادهم التي لا تكفيهم في الأكلة الثانية والألم يستأذنوه في نحر الظهر، "ثم ادع الله لهم عليها بالبركة" النمو والزيادة فيها، فإن الله عودك في الدعاء خيرًا، "فقال: "نعم". فدعا بنطع" بكسر النون، وفتح الطاء، على أفصح لغاته، وفتح النون والطاء، وفتح النون، وإسكان الطاء: ما يتخذ من الأدم، وتقدم مرارًا، "فبسط، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف رة ويجيء الآخر بكسرة" وفي رواية: فجعل الناس يأتون بالحثية من الطعام، وفوق ذلك، أعلام من جاء بالصاع من التمر، فجعلها صلى الله عليه وسلم في ثوب، أي: فوق النطع، "حتى اجتمع على النطع شيء يسير" قال سلمة بن الأكوع: فحزرته، كربضة العنز، براء، موحدة، ومعجمة، أي: مقدار جثة عنز باركة على الأرض، أو هو تقدير لموضع من النطع بموضع ربوضها، "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة"، ثم قال: "خذوا في أوعيتكم" , "فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه" مما اجتمع عنده. وفي رواية لمسلم: حتى ملئوا. "قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة" منه وفي رواية: فملأ كل إنسان وعاءه، ولم يبق في الجيش وعاء إلا ملئوه، حتى إن الرجل ليعقد قميصه، فيأخذ فيه، وبقي منه، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله"، مناسبتها لما قبلها من إظهار المعجزة، إعلامهم أن القصد منهم الثبوت عليها من غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجز عن الجنة". رواه مسلم. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب، فعمدت أمي أم سليم إلى تمر وسمن وأقط فصنعت حيسًا، فجعلته في تور، فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضعه"، ثم قال: "اذهب فادع لي -فلانًا وفلانًا، رجالا سماهم- وادع لي من لقيت"، فدعوت من سمى ومن لقيت، فرجعت فإذا البيت غاص   شك؛ كما أفاد بقوله: "لا يلقى الله بهما عبد غير شاك، فيحجز" بالنصب، أي: يمنع "عن الجنة" حجز تأييد، وكذا رواية: "إلا حجبت عنه النار"، أي: حجب تأييد، فلا ينافي دخولها لبعض لتطهيره، ويحتمل أن عدم شكه قبل لقاء الله، ملاحظًا التوبة إلى الله والتمحيص من الذنوب، فلا يحجب عن الجنة ابتداء، بل يكون مع السابقين، وتحجب عنه النار من أول الأمر، "رواه مسلم" وأحمد، وأخرجه البخاري عن سلمة بن الأكوع بنحوه. "وعن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب" بنت جحش الأسدية، فقالت لي أم سليم: لو أهدينا إلى رسول الله هدية، فقلت لها: افعلي، "فعمدت" بفتح الميم "أمي أم سليم إلى تمر وسمن وأقط، فصنعت حيسًا" بفتح الحاء المهملة وإسكان الياء، وبالسين المهملة، وهو خلط المذكور، قال: التمر والسمن جميعًا والإقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط أي: لم يختلط فيما حضر الشاعر فيما عناه، فهو حيس بالقوة لا بالفعل، وقيل: الحيس تمر ينزع نواه، ويخلط بالسويق. قال ابن قرقول: والأول أعرف، "فجعلته في تور" بفتح الفوقية، وإسكان الواو: إناء من صفر، أو حجارة. وفي رواية البخاري: في برمة، أي: قدر، أو من حجر، "فقالت: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام". وفي رواية البخاري: فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "ضعه" أي: التور، وفي رواية البخاري: "ضعها"، أي: البرمة، ثم قال: "اذهب فادع لي فلانًا وفلانًا"، "رجالا سماهم" أي: عينهم بأسمائهم، "وادع لي من لقيت" بتاء الخطاب، تعميم بعد تخصيص، "فدعوت من سمى ومن لقيت". وفي رواية البخاري: ففعلت الذي أمرني، "فرجعت، فإذا البيت غاص" بغين معجمة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 بأهله، قيل لأنس: عددكم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم: "اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه"، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة حتى أكلوا كلهم، قال لي: "يا أنس ارفع" فرفعت، فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت. رواه البخاري ومسلم.   وصاد مهملة مشددة، بينهما ألف، أي: ممتلئ "بأهله، قيل لأنس: عددكم" معمول مقدم؛ لقوله: "كانوا" أي: عدد أي قدر كانوا، "قال: زهاء ثلاثمائة" أي: مقدارها، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده" كذا بالإفراد، وفي البخاري: يديه، قال المصنف بالتثنية، "على تلك الحيسة" التي أرسلتها أم سليم لتحصل البركة، "وتكلم بما شاء الله" أن يتكلم، وفي رواية: فوضعه قدامه، وغمس ث. لاث أصابع، ولا منافاة، فإنه وضع يديه جميعًا عليها حين الدعاء قبل الأكل، ثم لما أطعم القوم أكل معهم بأصابعه الثلاث على سنته، فلا ترد الرواية التي في المصنف إلى الأخرى، فيقال: أي بعض يده، كما توهم، "ثم جعل يدعو عشرة عشرة" من القوم الذين اجتمعوا "يأكلون منه" أي: الطعام المسمى حيسة، أو الضمير للتور، ويقول لهم: "اذكروا اسم الله" بأن تقولوا: بسم الله قبل الأكل، "وليأكل كل رجل مما يليه"، قال أنس "فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة حتى أكلوا كلهم، قال لي: "يا أنس ارفع" الإناء، وفي رواية: "لترفع" بلام الأمر والخطاب، والرواية الأولى أفصح، "فرفعت، فما أدري حين وضعت" بضم التاء للمتكلم، أي: حين وضعته، أو بتاء تأنيث ساكنة، "كان" الطعام أو التور، وفي رواية: كانت بالتأنيث، أي: الآنية "أكثر أم حين رفعت" بضم التاء وإسكانها، "رواه البخاري ومسلم" واللفظ لهما كلاهما في النكاح، وبقيته عندهما: فخرج من خرج، وبقي نفر يتحدثون، وجعلت أغتم، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات، وخرجت في أثره، فقلت: إنهم قد ذهبوا، فرجع، فدخل البيت وأرخى الستر، وإني لفي الحجرة، وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} الآية، إلى قوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 35] الآية. قال في الفتح: استشكل عياض ما وقع هنا؛ أن الوليمة بزينب كانت من الحيس الذي أهدته أم سليم، فالمشهور في الروايات أنه أولم عليها بالخبز واللحم، ولم يقع في القصة تكثير ذلك الطعام، وإنما فيها أنه أشبع المسلمين خبزًا ولحمًا، فهذا وهم من راويه، وتركيب قصة على أخرى، وأجاب: بأن حضور الحيسة صادف حضور الخبز واللحم، فاكلوا كلهم من ذلك. وقال القرطبي: لعل الذين دعوا إلى الخبز واللحم أكلوا حتى شبعوا، وذهبوا ولم يرجعوا وبقي النفر الذين كانوا يتحدثون عنده حتى جاء أنس بالحيسة، فأمره أن يدعو ناسًا آخرين ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 وعن جابر قال: إن أم مالك كانت تهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنًا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي صلى الله عليه وسلم فتجد فيه سمنًا، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعصرتيها"؟ قالت: نعم، قال: "لو تركتيها ما زل قائمًا". رواه مسلم.   لقي، فدخلوا فأكلوا أيضًا حتى شبعوا، واستمر أولئك النفر يتحدثون، انتهى، ولعل جواب عياض أقرب. "وعن جابر، قال: إن أم مالك" الأنصارية، أوردها في الإصابة في الكنى ولم يسمها، بل ذكر هذا الحديث، "كانت تهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عكة لها سمنًا، فيأتيها بنوها، فيسألون الأدم"، أي: ما يأتدمون، به وفي رواية: فيسألون السمن، "وليس عندهم شيء فتعمد" بكسر الميم: تقصد "إلى الذي كانت تهدي فيه" ذكره، باعتبار الوعاء "للنبي صلى الله عليه وسلم، فتجد فيه سمنًا، فما زال" استمر السمن الذي تجده "يقيم لها أدم بيتها" واحد البيوت، وفي نسخة: بنيها جمع ابن، والأولى أبلغ في المعجزة، "حتى عصرته" أي: الظرف أو الإناء المعبر عنه بعكة، أو المير للسمن باعتبار محله لكن في مسلم حتى عصرتها بالتأنيث، "فأتت النبي صلى الله عليه وسلم" فذكرت ذلك له؛ كما في مسلم. فقال: "أعصرتيها" استفهام إنكاري، ولا يخفى أن التاء فاعل، والياء للإشباع لا لغة، قال شيخنا في التقرير: وفي ظني أن في الرضى ما يفيد جواز دخولها على ضمير الغيبة المؤنث أو المذكر، كأخذتيه، قالت: نعم، فقال: "لو تركتيها ما زال" السمن "قائمًا"، "رواه مسلم" من طريق أبي الزبير عن جابر، وروى ابن أبي عاصم، وابن أبي خيثمة، عن أم مالك الأنصاري: أنها جاءت بعكة سمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا بعصرها، ثم دفعها إليها، فإذا هي مملوءة، فجاءت، فقالت: أنزل في شيء؟، قال: "وما ذاك"؟ قالت: رددت علي هديتي، فدعا بلالا فسأله، فقال: والذي بعثك بالحق لقد عصرتها حتى استحييت، فقال: "هنيئًا لك هذه بركة يا أم مالك، هذه بركة عجل الله لك ثوابها"، ثم علمها أن تقول دبر كل صلاة: سبحان الله عشرًا، والحمد لله عشرًا، والله أكبر عشرًا، وترجم في الإصابة أم مالك، وساق حديث مسلم، ثم ترجم ثانيًا وذكر هذا الحديث، ثم قال: وكلام ابن منده ظاهر في أنهما واحدة، ووقع لأم سليم قصة شبيهة بهذه. أخرج الطبراني عن أنس عن أمه: كانت لي شاة، فجعلت من سمنها في عكة، فبعثت بها مع زينب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "افرغوا لها عكتها" ففرغت وجاءت بها، فجاءت أم سليم فرأت العكة ممتلئة تقطر سمنًا، فقالت: يا زينب ألست أمرتك أن تبلغي هذه العكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتدم بها؟ قالت: قد فعلت، فإن لم تصدقيني فتعالي معي، فذهبت معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 وعنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه، فأطعمه شطر وسق من شعير، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفه حتى كاله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه ولقام بكم"، رواه مسلم أيضًا. والحكمة في ذهاب بركة السمن حين عصرت العكة، وإعدام الشعير حين كاله، أن عصرها وكيله مضاد للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله وفضله، فعوقب فاعله بزواله، قاله النووي.   فقال: "قد جاءت بها" فقلت: والذي بعث بالهدى ودين الحق إنها ممتلئة سمنًا تقطر، فقال: "أتعجبين يا أم سليم، إن الله أطعمك". "وعنه" أي: جابر "أن رجلا" من أهل البادية لم يسم، "أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستطعمه" يطلب منه طعامًا له ولأهله لشدة حاجته، "فأطعمه" أي: أعطاه؛ لأن الإطعام يكون بمعنى الإعطاء كثيرًا، حتى إنه لكثرته يستعمل فيما لا يؤكل، كأطعمة السلطان بلدة، وهو مجاز مرسل، أو استعارة. "شطر" بفتح أوله، ولا يصح الكسر، أي: نصف "وسق" بفتح الواو وكسرها "من شعير" وقال النووي: الشطر هنا معناه شيء، كذا فسره الترمذي، "فما زال يأكل منه وامرأته" بالرفع، عطف على الضمير المستتر في يأكل بلا فصل بمؤكد، بل بقوله: منه، وهو فصيح، والأفصح الفصل؛ كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وقد يعطف بلا فاصل، وهو قليل؛ كقول علي: لو كنت، وأبو بكر، وعمر، "وضيفه" أي: من ينزل عليه يطلق على الواحد وغيره، "حتى كاله" غاية، أي: استمر أكلهم منه بلا نقص شيء منه إلى أن كاله فظهر نقصه بعد الكيل بما يأخذه منه، قال بعض: وهذا الرجل جد سعيد بن الحارث استعان بالنبي صلى الله عليه وسلم في إنكاحه فأنكحه امرأة، فالتمس صلى الله عليه وسلم ما سأله، فلم يجد، فبعث أبا رافع وأبا أيوب بدرعه فرهنها عند يهودي في شطر وسق من شعير، فدفعه صلى الله عليه وسلم إليه، قال: "فأطعمنا منه"، وأكلنا منه سنة، ثم كلناه، فوجدناه كما أدخلناه، "فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "لو لم تكله لأكلتم منه" دائمًا ما يكفيكم "ولقام بكم" مدة حياتكم من غير نقص، "رواه مسلم أيضًا" من طريق أبي الزبير عن جابر. "والحكمة في ذهاب السمن حين عصرت" أم مالك "العكة وإعدام الشعير حين كاله" الرجل "أن عصرها، وكيله مضاد" كل منهما "للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم" جمع حكمة "الله وفضله، فعوقب فاعله بزواله، قاله النووي" على مسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 وعن أبي العلاء سمرة بن جندب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة ويقعد عشرة، قلنا: فما كانت تمد؟ قال: من أي شيء تعجب ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء، رواه الترمذي والدارمي. وعنه: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها لحم، فتعاقبوها من غدوة حتى الليل، يقوم قوم ويقعد آخرون، فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ قال: ما كانت تمد إلا هاهنا، وأشار بيده إلى السماء، رواه الدارمي وابن أبي شيبة والترمذي والحاكم والبيهقي وصححوه، وأبو نعيم.   وقيل: إنما كان كذلك لإفشائه سرًا من أسرار الله ينبغي كتمه، وتقدم أن هذا ونحوه لا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم: "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه"؛ لأنه فيمن يخشى الخيانة، أو كيلوا ما تخرجوه للنفقة منه لئلا يخرج أكثر من الحاجة، أو أقل، بشرط بقاء الباقي مجهولا، أو كيلوه عند الشراء، أو إدخاله المنزل. "وعن أبي العلاء سمرة بن جندب" بضم الدال وفتحها ابن هلال الفزاري، حليف الأنصار، الصحابي المشهور، مات بالبصرة، سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع، وقيل: سنة ستين. قال في الإصابة: يكنى أبا سليمان. "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نتداول من قصعة" بفتح القاف فيها لحم، "من غدوة حتى الليل" بالجر، ويجوز رفعه ونصبه، "يقوم عشرة ويقعد عشرة" تفسير للتداول، قيل: المعروف من حديث سمرة من غدوة إلى الظهر يقوم قوم ويقعد آخرون، "قلنا: فما كانت" أي: أي شيء كانت "تمد" أي: تزاد به، "قال: من أي شيء تعجب؟ ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء" والمراد من إحسان الله معجزة له صلى الله عليه وسلم؛ كما يدل عليه السياق، لا أن الزيادة تنزل من السماء حقيقة، كنزول مائدة بني إسرائيل بدعاء عيسى، "رواه الترمذي" وشيخه "الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن، "وعنه" أي: سمرة من وجه آخر، والحديث واحد. "أتى" بالبناء للمفعول، إذ لا يتعلق غرض ببيان الآتي. "النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها لحم" مطبوخ، "فتعاقبوها"، أي: قعد عليها عشرة بعد عشرة؛ كما في رواية قبل، لأن كلا منهم أتى عقب سابقة بلا فاصل، "من غدوة حتى الليل" بالأوجه الثلاث، "يقوم قوم ويقعد آخرون تفسير للتعاقب وبين عدة القوم من الرواية قبله "فقال رجل لسمرة: هل كانت تمد؟ " حتى كفت تلك المدة الطويلة، "فقال: ما كانت تمد إلا من هاهنا، وأشار بيده إلى السماء، رواه الدارمي" أيضًا، "وابن أبي شيبة، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، وذكر الحديث أنه عجن صاع، وصنعت شاة فشوي سواد بطنها، قال: وايم الله، ما من الثلاثين ومائة إلا وقد حز له حزة من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا   وصححوه، وأبو نعيم" في الدلائل، وفي فتح الباري، روى أحمد، والترمذي، والنسائي عن سمرة، قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقصعة فيها ثريد، فأكل وأكل القوم، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب الظهر، يأكل قوم، ثم يقومون ويجيء قوم فيتعاقبونه، فقال رجل: هل كانت تمد بطعام؟ قال: أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تمد من السماء، قال بعض شيوخنا: يحتمل أن تكون هذه القصعة هي التي وقع فيها ما وقع في بيت أبي بكر، انتهى. "وفي حديث عبد الرحمن بن أبي بكر" الصديق، شقيق عائشة تأخر إسلامه إلى قبيل الفتح، وشهد اليمامة والفتوح، ومات سنة ثلاث وخمسين في طريق مكة فجأة، وقيل: بعد ذلك: "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم" حال من اسم كان، والخبر "ثلاثين ومائة" أو هما خبران، أي: خبر بعد خبر، "وذكر الحديث" وهو: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم طعام"؟. فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان، طويل جدًا بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بيعًا أم عطية"؟، أو قال: "أم هبة"؟ قال: لا بل بيع، فاشترى شاة، فصنعت وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين ومائة إلا وقد حز له النبي صلى الله عليه وسلم حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاه إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا، ففاضت القصعتان، فحملنا على بعير، وكما قال: هذا لفظ البخاري في الهبة، ومشعان، بضم الميم، وسكون الشين المعجمة، فعين مهملة، فألف، فنون مشددة، وقوله: طويل جدًا، أي: فوق الطوال، ويحتمل أنه تفسير للمشعان. وقال القزاز: المشعان: الجافي الثائر الرأس، وقال غيره: طويل شعر الرأس جدًا، البعيد العهد بالدهن أشعث، وقال عياض: ثائر الرأس متفرقه. قال الحافظ: ولم أقف على اسمه، ولا على اسم صاحب الصاع، فقوله: "أنه" أي: وفيه أنه، "عجن صاع وصنعت" أي: ذبحت "شاة، فشوى سواد بطنها" كبدها خاصة أو حشوها، والأول أظهر، وخص لأنه أصل الحياة، "قال" عبد الرحمن: "وايم الله" بوصل الهمزة، قسم، "ما من الثلاثين ومائة" الذين كانوا معه عليه الصلاة والسلام "إلا وقد حز" بفتح الحاء المهملة، "له حزة" بفتح المهملة قطعة؛ كما ضبطه المصنف في الهبة. وقال في الأطعمة: بضم الحاء قطعة "من سواد بطنها، ثم جعل منها قصعتين فأكلنا" لفظ البخاري في الأطعمة، ولفظه في الهبة: فأكلوا "أجمعون" تأكيدًا للضمير الذي في أكلوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 أجمعون وفضل في القصعتين فحملته على بعير. رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو أهل الصفة، فتتبعتهم حتى جمعتهم، فوضعت بين أيدينا صحفة فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع. رواه ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم. وعن علي بن أبي طالب: قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وكانوا أربعين، منهم قوم يأكلون الجذعة ويشربون الفرق، فصنع لهم مدًا من طعام، فأكلوا حتى شبعوا، وبقي كما هو، ثم دعا بعس. فشربوا حتى رووا، وبقي كأنه لم يشرب منه، رواه في الشفاء.   قال الحافظ: يحتمل أنهم اجتمعوا على القصعتين، فيكون فيه معجزة أخرى لكونهما وسعتا أيدي القوم، ويحتمل أنهم أكلوا كلهم في الجملة أعم من الاجتماع والافتراق، "وفضل في القصعتين فحملته" أي: ما فضل لفظ الأطعمة، وفي الهبة: فحملناها بضمير ودونه "على بعير" أو كما قال بالشك من الراوي، كما وقع في المحلين، "رواه البخاري" في الهبة والأطعمة تامًا، وفي البيوع مختصرًا، وكذا رواه مسلم في الأطعمة تامًا، قال الحافظ: وفيه معجزة ظاهرة، وآية باهرة من تكثير القدر اليسير من الصاع، ومن اللحم، حتى وسع الجمع المذكور وفضل منه، قال: ولم أر هذه القة إلا من حديث عبد الرحمن، وقد ورد تكثير الطعام في الجملة من أحاديث جماعة من الصحابة. "وعن أبي هريرة، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدعو أهل الصفة" لطعام يأكلونه عنده، "فتتبعتهم حتى جمعتهم" لأنهم كان منهم من يذهب لنحو الاحتطاب، "فوضعت بين أيدينا صحفة" فيها طعام" فأكلنا ما شئنا وفرغنا، وهي مثلها حين وضعت" لم تنقص شيئًا، "إلا أن فيها أثر الأصابع، رواه ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم" الأصبهاني. "وعن علي بن أبي طالب، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب" بمكة في ابتداء البعثة، "وكانوا أربعين" رجلا، "منهم قوم" اسم جمع للرجال، خاصة لقيامهم بالأمور، "يأكلون الجذعة" بفتح الجيم، والمعجمة، والمهملة من الإبل، كما ورد في أحاديث، وهي ما دخل في الخامسة، وقيل: الرابعة، ومن المعز ما تم له سنة، ومن الضأن ما أتى عليه ثمانية أشهر أو تسعة، والمراد: أقل ما يكفيهم الجذعة، كما يقال لمن دونهم أكلة رأس، "ويشربون الفرق" بفتح الفاء، وإسكان الراء، وبفتحهما: إناء يسع اثني عشر صاعًا بصاعه صلى الله عليه وسلم، وهو ستة عشر رطلا، وهو معروف بالمدينة، "فصنع لهم مدًا من طعام" أي: طبخه وسواه، "فأكلوا حتى شبعوا، وبقي كما هو" قبل الأكل، أي: لم ينقص؛ كأنه لم يؤكل منه شيء، "ثم دعا بعس" بضم المهملة الأولى: قدح من خشب يروي الثلاثة والأربعة، أي: من لبن طلبه من أهله لهم، "فشربوا" منه "حتى رووا، وبقي كأنه لم يشرب منه" شيء، "رواه" أي: ذكره بلا إسناد "في الشفاء" وقد أخرجه أحمد والبيهقي بسند جيد مطولا عن علي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 "إبراء ذوي العاهات وإحياء الموتى وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة": ومن ذلك: إبراء ذوي العاهات، وإحياء الموتى، وكلامهم له، وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة. روى البيهقي في الدلائل: أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: لا أومن بك حتى يحيي لي ابنتي، فقال صلى الله عليه وسلم: "أرني قبرها"، فأراه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فلانة"،   إبراء ذوي العاهات وإحياء الموتى وكلامهم له وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة: "ومن ذلك إبراء ذوي العاهات" أي: الآفات: جمع عاهة، وهي في تقدير فعلة، بفتح العين، "وإحياء الموتى" مصدر مضاف لمفعوله، والفاعل الله، أو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سببه، وإن كان الفاعل الحقيقي هو الله، وهو من أعظم معجزاته صلى الله عليه وسلم، ولذا قال في البردة: لو ناسبت قدره آياته عظمًا ... أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم ومعناه: أنه لا يعد شيء من معجزاته عظيمًا بالنسبة إليه، إلا أن يكون كل أحد لو دعا باسمه وتوسل في إحياء الموتى، وقع له ذلك واستشكل، بأن منها القرآن، وفي حديث: آية من كتاب الله خير من محمد وآله، فكيف لا يكون فيها ما يناسب قدره شرفًا، وأجيب: بأن المراد ما أحدثه الله على يديه والقرآن صفة قديمة لله، لكن الحديث المذكور، قال الحافظ وغيره: لم أقف عليه، "وكلامهم له" بدون إحياء، فالعطف مغاير لا خاص على عام؛ كما توهم، "وكلام الصبيان" الذين لم يصلوا لسن التكلم، ولذا عطف على كلام الموتى؛ لأنه ليس من شأنهم الكلام، وأخره لأنهم أحياء، شأنهم الكلام في الجملة، فهو دونه مرتبة، "وشهادتهم له بالنبوة" أي: قول من في المهد أنك نبي الله ورسوله، وعطفه على ما قبله خاص على عام، وخصهم بالذكر؛ لأن نطقهم نفسه معجزة، وإيمان الموتى به بعد إحيائهم ليس مقصودًا بكونه معجزة، بل المقصود من حيث كونه معجزة نفس الإحياء، وإزالة المرض عن ذوي العاهات. "روى البيهقي في الدلائل" النبوية عن "أنه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: لا أؤمن بك حتى يحيي لي ابنتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرني قبرها" فأراه إياها، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا فلانة" أي: ناداها باسمها الخاص كما في رواية، فنسي الراوي اسمها، فكنى بفلانة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 فقالت: لبيك وسعديك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبين أن ترجعي؟ فقالت: لا والله يا رسول الله، إني وجدت الله خيرًا لي من أبوي، ووجدت الآخرة خيرًا لي من الدنيا. وروى الطبري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون كئيبًا حزينًا، فأقام به ما شاء الله ثم رجع مسرورًا قال: "سألت ربي عز وجل فأحيا لي أمي فآمنت بي ثم ردها". وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به، أورده السهيلي في الروض، وكذا الخطيب في السابق واللاحق   "فقالت" وقد خرجت من قبرها، "لبيك" إجابة لك بعد إجابة، "وسعديك" إسعادًا، لك بعد إسعاد، ومعناه سرعة الإجابة والانقياد، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتحبين أن ترجعي"؟ كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي بعضها: أن ترجعين بالنون، وهي لغة؛ كقوله: إن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا "فقالت: لا والله يا رسول الله" لا أحب ذلك، "إني وجدت الله" حين انتقلت إلى دار كرامته "خيرًا لي من أبوي" وما عندهما "ووجدت الآخرة خيرًا لي في الدنيا" لما فيها من التعب، وفيه إن صح: أن أطفال الكفار غير معذبين، وهو الأصح، وهذه القصة أوردها في الشفاء، بلفظ: وعن الحسن، أي: البصري: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه طرح بنية له في وادي كذا، فانطلق معه إلى الوادي، وناداها باسمها: "يا فلانة أحيي بإذن الله تعالى"، فخرجت وهي تقول: لبيك وسعديك، فقال لها: "إن أبوك قد أسلما، فإن أحببت أن أردك عليها"؟، قالت: لا حاجة لي فيهما، وجدت الله خيرًا لي منهما، ولم يذكر مخرجه السيوطي من رواه. "وروى الطبري" الحافظ، محب الدين، أحمد بن عبد الله، بن محمد المكي، فقيه الحرم ومحدثه، "عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الحجون" في حجة الوداع "كئيبًا حزينًا" صفة لازمة لكئيبًا، "فأقام به ما شاء الله" أن يقوم "ثم رجع مسرورًا، قال" يخاطب عائشة لا قالت له: نزلت من عندي وأنت باك، حزين، مغتم، فبكيت لبكائك، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم، فمم ذاك يا رسول الله؟ قال: "سألت ربي عز وجل فأحيا لي أمي فآمنت بي، ثم ردها" إلى الموت، "وكذا روي من حديث عائشة أيضًا إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم حتى آمنا به" جميعًا، "أورده السهيلي في الروض، وكذا الخطيب في" كتاب "السابق واللاحق" أي: المتقدم والمتأخر، أي: المنسوخ والناسخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 قال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل، وقال ابن كثير: إنه منكر جدًا، وتقدم البحث في ذلك في أوائل المقصد الأول. وعن أنس أن شابًا من الأنصار توفي وله أم عجوز عمياء، فسجيناه وعزيناها، فقالت: مات ابني؟ قلنا: نعم، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك وإلى نبيك رجاء أن تعينني على كل شدة فلا تحملن علي هذه المصيبة، فما برحنا ....   "قال السهيلي: إن في إسناده مجاهيل" ومع ذلك قد قواه بقوله بعد: والله قادر على كل شيء وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء ونبيه أهل أن يختصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته. "وقال ابن كثير: إنه منكر" أي: ضعيف "جدًا" لا موضوع، فالمنكر من أقسام الضعيف، "وتقدم البحث في ذلك في أوائل المقصد الأول" وقدمت ثمة فوائد، وأن الصواب؛ أن الحديث ضعيف، فقد تجوز روايته في الفضائل والمناقب، كما عليه الخطيب، وابن عساكر، وابن شاهين، والسهيلي، والمحب الطبري، وابن المنير، وابن سيد الناس وغيرهم، لا موضوع كما زعم جماعة من الحفاظ، ولا صحيح كما جازف بعض. "وعن أنس: أن شابًا من الأنصار" لم يسم "توفي وله أم عجوز عمياء" إشارة إلى شدة حزنها لكبرها وعجزها المحوج لولدها، "فسجيناه" بمهملة وجيم: غطيناه أو كفناه، "وعزيناها" أي: صبرناها وسليناها بذكر ما لها من الأجر ونحوه، ولعل وجه المبادرة بتعزيتها وقت الموت، أنهم رأوا عندها جزعًا قويًا، "فقالت: مات" أي: أمات "ابني" فهمزة الاستفهام مقدرة، وقالت ذلك لأنها لم تعلم، أو لذهولها بالمصيبة، أو لذكر ما بعده، "قلنا: نعم، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني هاجرت إليك" لا ينافي أنه أنصاري؛ لأنه لا مانع أن أمه مهاجرة، أو الهجرة الانتقال من بلد إلى آخر، وقد تكون سكنت في مكان بعيد، فهاجرت منه، وإن كانت أنصارية نسبًا، "وإلى نبيك" الهجرة إلى الله بالهجرة إلى نبيه، وإلا فالله معها أينما كانت، "رجاء" بالنصب مفعول له، "أن تعينني" بالفوقية: خطابًا لله؛ لأنه هو المعين "على كل شدة" صعوبة، أي: على كل أمر شاق، وعلقته بأن المشعرة بعدم الجزم، باعتبار أن خلوصها في هجرتها مما يخفى على غيرها، ومن شأنه أن يشك فيه؛ لأنه لا يعلم ذلك، أو باعتبار القبول، أو تجاهلا رجاء للإجابة، "فلا تحملن" بمهملة، وشد الميم، ونون التأكيد، بمعنى: لا تكلفني، لأن التكليف كالحمل الثقيل، فاستعير له؛ كقوله: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، أو المعنى: لا تنزلن "علي هذه المصيبة" بدوام موت ولدها، فأسألك رفعها عني بإحيائه، "فما برحنا" بكسر الراء، أي: ما ذهبنا من مكاننا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 أن كشف الثوب عن وجهه فطعم وطعمنا. رواه ابن عدي وابن أبي الدنيا والبيهقي وأبو نعيم. وعن النعمان بن بشير قال: كان زيد بن خارجة من سراة الأنصار، فبينما هو يمشي في طريق من طرق المدينة بين الظهر والعصر إذ خر فتوفي، فأعلمت به الأنصار، فأتوه فاحتملوه إلى بيته، وسجوه كساء وبردين، وفي البيت نساء من نساء الأنصار يبكين عليه، ورجال من رجالهم، فمكث على حاله   الذي كنا فيه، "أن كشف" ولدها "الثوب عن وجهه" بعدما غطى به، "فطعم" أكل "وطعمنا" أكلنا معه من طعام قدم لنا، وعاش إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وروي: أنه بقي بعده وهلكت أمه في حياته، ووجه ذكره في المعجزات؛ أنه أحيي بالدعاء باسمه صلى الله عليه وسلم وحضوره، فلا يقال: هذه كرامة لأم الشاب، "رواه ابن عدي، وابن أبي الدنيا، والبيهقي، وأبو نعيم" بهذا اللفظ، ورووه أيضًا عن أنس، بلفظ: كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتته عجوز عمياء مهاجرة، معها ابن لها، قد بلغ فلم يلبث أن أصابه وباء بالمدينة، فمرض أيامًا، ثم قبض، فغمضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، أي: أنسًا بجهازه، فلما أردنا أن نغسله، قال: "يا أنس! ائت أمه فأعلمها"، فأعلمها، فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما، ثم قالت: إني أسلمت إليك طوعًا، وخلعت الأوثان زهدًا، وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان، ولا تحملني في هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله، فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قميه، وألقى الثوب عن وجهه، وطعم وطعمنا معه، وعاش حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، وهلكت أمه. "وعن النعمان بن بشير" بن سعد، بن ثعلبة الأنصاري، الخزرجي، له ولأبيه صحبة، سكن الشام، ثم ولي إمرة الكوفة، ثم قتل بحمص سنة خمس وستين، وله أربع وستون سنة، قال: كان زيد بن خارجة" بالخاء المعجمة والجيم، ابن زيد الأنصاري الخزرجي، شهد أبوه أحدًا، وقتل بها هو وابنه سعيد بن خارجة، وشهد زيد بدرًا، ومات في خلافة عثمان، ذكر البخاري وغيره أنه الذي تكلم بعد الموت، وقيل: أبوه، وهو وهم؛ لأنه قتل بأحد، "من سراة" بفتح السين وفي نسخة: سروات، وكلاهما صحيح. قال المجد: السراة اسم جمع جمعه سروات، أي: أشراف "الأنصار" زاد ابن منده في روايته: وخيارهم، "فبينما هو يمشي في طريق من طرق المدينة" وفي رواية: في بعض أزقة المدينة، فالمراد: الطرق التي يسلك منها في المدينة، "بين الظهر والعصر، إذ خر" سقط من قيام، "فتوفى" مات، "فأعلمت به الأنصار، فأتوه فاحتملوه" من المكان الذي سقط فيه، وذهبوا به "إلى بيته، وسجوه كساء وبردين، وفي البيت نساء من نساء الأنصار يبكين عليه، ورجال من رجالهم، فمكث على حاله" مسجى كأنهم شكوا في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 حتى إذا كان بين المغرب والعشاء إذ سمعوا صوت قائل يقول: أنصتوا أنصتوا، فنظروا فإذا الصوت من تحت الثياب، فحسروا عن وجهه وصدره، فإذا القائل يقول على لسانه: محمد رسول الله النبي الأمي خاتم النبيين، لا نبي بعده، كان ذلك في الكتاب الأول، ثم قال: صدق صدق، ثم قال: هذا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته. رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت. وعن سعيد بن المسيب أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه   موته؛ لكونه فجأة، فأخروا تجهيزه ودفنه، "حتى إذا كان بين المغرب والعشاء، إذ سمعوا صوت قائل يقول: أنصتوا أنصتوا" بالتكرير للتأكيد، أي: استمعوا، "فنظروا" تأملوا، "فإذا الصوت من تحت الثياب" المسجى بها، "فحسروا" كشفوا "عن وجهه" الغطاء، "وصدره فإذا القائل يقول على لسانه" مقتضى هذا أنه لم يتكلم، بل ملك مثلا، وليس بمراد إذا الكلام في كلام الموتى، وكأنه نسبه لقائل، وإن كان هو المتكلم لموته، ولذا تصرف فيه في الشفاء، فأتى بمعناه المراد، فقال: فرفع وسجى، إذ سمعوه بين العشاءين والنساء يصرخن، يقول: أنصتوا أنصتوا، فقال: "محمد رسول الله، النبي الأمي، خاتم النبيين" أي: آخرهم بعثًا؛ كما مر "لا نبي بعده، كان ذلك" المذكور "في الكتاب الأول" أي: جنسه من الكتب المتقدمة، كالتوراة، أو اللوح المحفوظ، المكتوب فيه كل ما قدره الله، "ثم قال" زيد مخاطبًا من عنده، أو من يصح توجه الخطاب إليه، أو مجردًا من نفسه، مخاطبًا مأمورًا، إن كان قوله: "صدق صدق" أمرًا؛ كما قاله بعض شراح الشفاء، فإن كان ماضيًا، كما اعتمده آخر، فهو ظاهر، أي: صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما بلغ به عن الله، والتكرير للتأكيد، "ثم قال: هذا رسول الله" فيه أنه حضر عنده وشاهده، فأشار إليه، "السلام عليك يا رسول الله" خص وصف الرسالة بالذكر؛ لانتفاع الأمة بها الذي هو من جملتهم، "ورحمته" إنعامه وإحسانه، أو إرادتهما، "وبركاته" جمع بركة، وهو الخير الإلهي. وفي الشفاء: وذكر أبا بكر، وعمر، وعثمان، ثم عاد ميتًا، أي: ذكرهم بالثناء عليهم بما فعلوه في خلافتهم، ولذا لم يذكر عليًا؛ لأنه لم يدرك خلافته، إذ موته في زمان عثمان، "رواه أبو بكر" عبد الله "بن أبي الدنيا" القرشي، "في كتاب من عاش بعد الموت" وكذا رواه ابن منده وغيره، وأورد أن الترجمة في معجزته بإحياء الموتى، وكلامهم له عليه الصلاة والسلام بعد الموت، وهذا الحديث ليس من ذلك، إذ هو بعد وفاة المصطفى بدهر، وأجيب بأنه من صحبة وكرامات الأمة، فضلا عن الصحب من جملة كراماته. "وعن سعيد بن المسيب: أن رجلا من الأنصار توفي، فلما كفن أتاه القوم يحملونه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 تكلم فقال: محمد رسول الله، أخرجه أبو بكر بن الضحاك. وأخرج أبو نعيم: أن جابرًا ذبح شاة وطبخها، وثرد في جفنة، وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل القوم، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "كلوا ولا تكسروا عظمًا"، ثم إنه عليه الصلاة والسلام جمع العظام ووضع يده عليها ثم تكلم بكلام فإذا بالشاة قد قامت تنفض أذنيها، كذا رواه والله أعلم؟! وعن معرض بن معيقيب اليماني قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارًا بمكة، فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت منه عجبًا، جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، فقال له.   تكلم، فقال: محمد رسول الله" يحتمل أنه زيد المذكور، وأنه تكلم مرتين، فبذلك قبل التكفين، وبلفظ: محمد رسول الله بعده، ويحتمل أنه غيره، لكن الأصل عدم التعدد، "أخرجه أبو بكر بن الضحاك". "وأخرج أبو نعيم: أن جابرًا" هو ابن عبد الله، "ذبح شاة وطبخها، وثرد" فت الخبز "في جفنة" ووضع عليه الشاة، "وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكل القوم" الذين عنده معه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "كلوا ولا تكسروا عظمًا"، ثم إنه عليه الصلاة والسلام جمع العظام في وسط الجفنة، "ووضع يده عليها، ثم تكلم بكلام" قال جابر: لم أسمعه، "فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها" فقال: "خذ شاتك يا جابر، بارك الله لك فيها"، فأخذتها ومضيت، وإنها لتنازعني أذنها حتى أتيت بها المنزل، فقالت المرأة: ما هذا يا جابر؟ قلت: والله هذه شاتنا التي ذبحناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحياها، فقالت: أشهد أنه رسول الله، "كذا رواه" أبو نعيم، "فالله أعلم" بصحته، وكذا رواه الحافظ محمد بن المنذر، والمعروف بشكر في كتاب العجائب والغرائب. "و" روى "عن معرض" بضم الميم، وفتح المهملة، وكسر الراء الثقيلة، ثم ضاد معجمة؛ كما في الإصابة وفي التلمساني وغيره اسم فاعل من أعرض، وروي بكسر أوله كأنه آلة، "ابن معيقيب" بيان آخره، وقيل: لام، "اليماني" صحابي جاء عنه هذا الحديث، تفرد به عنه ولده عبد الله، "قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارًا بمكة، فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" ووجهه مثل دارة البدر؛ كما في رواية الخطيب. وفي رواية ابن قانع: كأن وجهه القمر، "ورأيت منه عجبًا" أمرًا عجيبًا وقع عنده، "جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد" وقد لفه في خرقة؛ كما في الرواية، فقال له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، من أنا"؟ قال: أنت رسول الله، قال: "صدقت بارك الله فيك"، ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب، فكنا نسميه مبارك اليمامة. رواه البيهقي.   رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام، من أنا "؟، قال: أنت رسول الله، قال: "صدقت بارك الله فيك"، ثم إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب، فكنا نسميه مبارك اليمامة" لقول المصطفى له: "بارك الله فيك"، "رواه البيهقي"، وابن قانع، والخطيب من طريق محمد بن يونس الكديمي، قال: حدثنا شاصونة بن عبيد، قال: أخبرنا معرض بن عبد الله، بن معرض، بن معيقيب، عن أبيه، عن جده معرض بن معيقيب، قال: حججت، فذكره. قال الدارقطني: الكديمي متهم بوضع الحديث، ومما تكلم به فيه حديث شاصونة، فقيل: إنه حدث عمن لم يخلق، ولذا قال ابن دحية وغيره: إنه موضوع، لكنه ورد من غير طريق الكديمي. قال في الإصابة: معرض وشيخه مجهولان، وكذلك شاصونة، واستنكروه على الكديمي، لكن ذكر أبو الحسن العتقي في فوائده، قال: سمعت أبا عبد الله البجلي، مستملي ابن شاهين، يقول: سمعت بعض شيوخنا يقول: لما أملى الكديمي هذا الحديث استعظمه الناس، وقالوا: هذا كذب من هو شاصونة، فلما كان بعد مدة، جاء قوم ممن جاء من عدن، فقالوا: دخلنا قرية يقال لها الحردة، فلقينا بها شيخًا، فسألناه: هل عندك شيء من الحديث؟ قال: نعم، فقلنا: ما اسمك؟ قال: محمد بن شاصونة، وأملى علينا هذا الحديث فيما أملى عن أبيه، وأخرجه أبو الحسن بن جميع في معجمه، عن العباس بن محمد بن شاصونة بن عبيد عن معرض بن عبد الله بن معرض عن أبيه عن جده، وأخرجه الخطيب عن الصوري عن ابن جميع، وكذا أخرجه البيهقي من طريقه، وأخرجه الحاكم في الإكليل من وجه آخر عن العباس بن محمد بن شاصونة، انتهى. وذكر نحوه السيوطي في خصائصه الكبرى، وقال: فقد وقعت روايته من طرق، فهو حديث حسن، قال: وسبب إنكاره أنه من الأمور الخارقة للعادة، وقد وقع في حجة الوداع مع كثرة الناس، فكان حقه أن يشتهر، انتهى، لكن تحسينه لا يظهر، إذ مداره على شاصونة، وهو مجهول كشيخه وشيخ شيخه؛ كما في الإصابة، فغاية ما يفيده تعدد طرقه عن شاصونة، أنه ضعيف لزوال ما كان يخشى أنه من وضع الكديمي, أما الحسن، فمن أين، ومداره على مجاهيل ثلاثة، وقد قال الشفاء: يعرف ذلك بحديث شاصونة اسم راويه، وهو بشين معجمة، وألف، وصاد مهملة، وواو ساكنة، ونون، وهاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 وعن فهد بن عطية، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي قد شب لم يتكلم قط فقال له: "من أنا"؟ قال: أنت رسول الله، رواه البيهقي. وعن ابن عباس قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابني به جنون، وإنه ليأخذ عند غدائنا وعشائنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره فثع ثعة وخرج من جوفه مثل الجرو الأسود يسعى. رواه الدارمي. وقوله: "ثع" يعني قاء.   "وعن فهد بن عطية" بفاء مفتوحة، وهاء ساكنة، ودال مهملة، وفي نسخة: وراء مهملة، قال في المقتفى: لا أعرفه بدال، ولا براء، والذي في البيهقي؛ أنه عن شمر بن عطية عن بعض أشياخه، فيحتمل أن تحرف على الناسخ، انتهى، وهو كما قال: فليس في الصحابة من يسمى بذلك، بدال، ولا براء، إذ لم يذكر ذلك في الإصابة مع استيعابه، ولا في القسم الرابع، فإنما هو عن شمر، بكسر الشين المعجمة، وسكون الميم، وراء بلا نقط، ابن عطية الأسدي، الكاهلي، الكوفي صدوق، من أتباع التابعين عن بعض أشياخه، فهو مرسل، "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي قد شب" كبر وصار شابًا، وهو "لم يتكلم قط" من طفولته لشبابه؛ لأنه خلق أخرس، "فقال له: "من أنا" قال: أنت رسول الله". فأنطقه الله، معجزة بعدما كان أبكم، فهو بمنزلة الميت والجماد، لعدم القدرة على النطق، "رواه البيهقي" مرسلا؛ كما علم، فعجب للمصنف، يعزوه له، ويتبع عياضًا في قوله: فهد أو فهر، مع أنه لم يعزه لأحد. "وعن ابن عباس" مما رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبيهقي، "قال: إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنون، وإنه ليأخذه عند غدائنا" بدال مهملة "وعشائنا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره" بيده الميمونة، "فثع ثعة" بفتح المثلثة، وروي بفوقية بدلها، وشد العين المهملة، "وخرج من جوفه" بطنه "مثل الجرو" بجيم مثلثة: الصغير من أولاد الكلاب والسباع، "الأسود" ويطلق الجر، وأيضًا على صغار الحنظل والقثاء، وهو محتمل هنا؛ كما قال بعض. "ويسعى" أي: يمشي، والذي في الشفاء، فشفي، بالبناء للمفعول، أي: شفاه الله، "رواه الدارمي" كذا في بعض النسخ، "وقوله: ثع، يعني: قاء" مرة واحدة؛ كما قاله جمهور أهل اللغة. وقال بعضهم: يعني سعل، وفي القاموس في المثلثة ثع يثع: قاء، وفيه في الفوقية الثع والثعة، التقيؤ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي امرأة أحبها وأخشى إن رأتني تقذرني فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالا"، فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرًا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى. وقد وفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذريته فسأل عمر: من أنت؟ فقال: أبونا الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد   وروى ابن أبي شيبة عن أم جندب، أنه صلى الله عليه وسلم أتته امرأة من خثعم، معها صبي به بلاء لا يتكلم، فأتى بماء فمضمض فاه، وغسل يديه، وأعطاه إياه، وأمرها بسقيه، ومسحه به، فبرأ الغلام، وعقل عقلا يفضل عقول الناس، والمتبادر أن هذه قصة أخرى غير التي ذكرها المصنف لما بينهما من الخلاف، فلا وجه لجعلهما واحدة، "وأصيبت" بالتأنيث بسهم، ويقال: برمح، وفي نسخ: أصيب بالتذكير للتأويل بالعضو، أو للفصل بينهما بقوله: "يوم أحد" وهو مسوغ؛ كقوله: لا يقبل منها شفاعة في قراءة التحتية، "عين قتادة بن النعمان" بن زيد الأوسي، المدني، أخي أبي سعيد لأمه، شهد بدرًا وغيرها، ومات سنة ثلاث وعشرين على الصحيح، وصلى عليه عمر، ونزل في قبره، وما رواه أبو يعلى أن أبا ذر أصيبت عينه يوم أحد، فأعله ابن عبد البر؛ بأن فيه عبد العزيز بن عمران متروك، وبأن أبا ذر لم يحضر بدرًا، ولا أحدًا، ولا الخندق، "حتى وقعت على وجنته" أعلى خده وما يلي العين من الوجه، وتطلق على الوجه كله، وفي رواية: فسالت حدقته على وجنته، وأخرى صارت في يده، "فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال": $"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله لك، فلم تفقد منها شيئًا" فقال: "يا رسول الله! " إن الجنة لجزاء جميل، وعطاء جليل، ولكني رجل مبتلي بحب النساء، "وإن لي امرأة أحبها، وأخشى إن رأتني تقذرني" أي: تكرهني ولكن تردها، وتسأل الله لي الجنة، قال: "أفعل يا قتادة" "فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وردها إلى موضعها، وقال: "اللهم اكسه جمالا". "فكانت أحسن عينيه" أجملهما وأقواهما حسنًا، أي: أحسن عينيه قبل ما أصيبت وردت، فلا يرد أن الشيء لا يكون أحسن من نفسه، "وأحدهما" أقواهما "نظرًا، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى". وفي رواية: وكان لا يدري أي عينيه أصيبت، "وقد وفد على عمر بن عبد العزيز" الإمام العادل في خلافته، "رجل من ذريته" هو حفيده عاصم بن عمر بن قتادة، "فسأله عمر: من أنت؟ فقال" على البديهة: "أبونا" رواية الأصمعي وغيره: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد فوصله عمر وأحسن جائزته. قال السهيلي: ورواه محمد بن أبي عثمان الأموي عن عمار بن نصر عن مالك بن أنس عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن أخيه قتادة بن النعمان قال: أصيبت عيناي يوم أحد فسقطتا على وجنتي، فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم فأعادهما مكانهما وبصق فيهما فعادتا تبرقان، قال الدارقطني: هذا حديث عن مالك تفرد به عمار بن نصر عن مالك وهو ثقة   أنا ابن "الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أيما رد" الذي رواه الأصمعي وغيره: أحسن الرد. "فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين" ............ بزيادة ما "ويا حسن ما خد". هكذا رواه الأصمعي، وبه تعقب البرهان إنشاده اليعمري، ويا حسن ما رد، وعلى تقدير صحته، فلا إبطاء؛ لأن الأول معرف، والثاني منكر، "فوصله عمر وأحسن جائزته" وأنشد: تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وقال: بمثل هذا فليتوسل المتوسلون. "قال السهيلي: ورواه محمد بن أبي عثمان الأموي" أبو مروان العثماني، المدني، نزيل مكة، صدوق، روى له النسائي، وابن ماجه، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين، "عن عمار بن نصر" السعدي، المروزي، نزيل بغداد، صدوق، مات سنة تسع وعشرين ومائتين، "عن مالك بن أنس، عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة" المدني، ثقة، روى له البخاري، والنسائي، وابن ماجه، مات سنة تسع وثلاثين ومائة، "عن أبيه" عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري، المدني، الثقة، التابعي الوسط، "عن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك، له ولأبيه صحبة، واستصغر يوم أحد، وشهد ما بعدها، وروى الكثير، "عن أخيه" لأمه "قتادة بن النعمان، قال: أصيبت عيناي يوم أحد" ويروى يوم بدر، ويروى الخندق، والصحيح الأول، قاله أبو عمر: "فسقطتا على وجنتي" بالتثنية، "فأتيت بهما النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادهما مكانهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان" تلمعان. "قال الدارقطني: هذا حديث عن مالك تفرد بن عمار بن نصر" أي: لم يروه غيره، "عن مالك، وهو ثقة" فتقبل زيادته، لكن قال النووي: قال أبو نعيم: سالت عيناه وغلطوه انتهى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 رواه الدارقطني عن إبراهيم الحربي عن عمار بن نصر. وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن قتادة قال: كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أخرها سهمًا نذرت منه حدقتي فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها في كفي دمعت عيناه فقال: "اللهم قِ قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا". وفي البخاري في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: أين علي بن أبي طالب فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه، قال:   وقد جمع بأن رواية الإفراد من التعبير عن العضوين المتفقين ذاتًا وصفة واسمًا بأحدهما، وهو فصيح مشهور، كما يقال: نظر بعينه، ومشى بقدمه، وبأن إحداهما سقطت حدقتها، وخرجت عن محلها بالكلية والأخرى خرج بعضها ولم ينفصل، فصدق أن كلا منهما أصيب، وخرجت حدقتهما، ويرده قوله: فسقطتا على وجنتي. "ورواه الدارقطني عن إبراهيم الحربي" الحافظ المشهور، فحصل لمحمد بن أبي عثمان، متابع في روايته، "عن عمار بن نصر" لكن لم يحصل متابع لعمار في روايته عن مالك. "وأخرج الطبراني وأبو نعيم عن قتادة، قال: كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي دون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان آخرها سهمًا نذرت" بالنون؛ سقطت "منه حدقتي" بالإفراد، "فأخذتها بيدي وسعيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآها في كفي دمعت" -بفتح الميم- عيناه، فقال: "اللهم قِ" فعل أمر، أي: احفظ "قتادة، كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدهما نظرًا" فكان كذلك. وأخرج البغوي، وأبو يعلى من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن جده؛ أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فالوا: لا حتى نستأمر رسول الله فاستأمروه، فقال: "لا"، ثم دعاه فوضع راحته على حدقته، ثم غمرها، فكان لا يدري، أي: عينيه أصيب، كذا في الرواية يوم بدر، وقد علمت أن الصحيح يوم أحد، "وفي البخاري في غزوة خيبر" وفي غيرها من صحيحه، عن سهل بن سعد؛ "أنه صلى الله عليه وسلم، قال" "لأعطين الراية غدًا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقالوا: يا رسول الله! هو يشتكي عينيه" وفي حديث سلمة عند البخاري: وكان رمدًا وللطبراني: أرمد شديد الرمد، ولأبي نعيم: أرمد لا يبصر، قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع. وعند الطبراني من حديث علي قال: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر. وفي رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة عن أبيه قال: فأرسلني النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه فبرأ. وعند الحاكم من حديث علي قال: فوضع صلى الله عليه وسلم رأسي في حجره ثم بصق في راحته فدلك بها عيني. وعند الطبراني: فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر   فأرسلوا إليه" قال المصنف: بكسر السين، أمر من الإرسال، وبفتحها، أي: قال سهل: فأرسلوا، أي: الصحابة إلى علي، وهو بخيبر لم يقدر على مباشرة القتال لرمده، "فأتى به" الآتي به سلمة بن الأكوع، "فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه" فيه تجوز بينته رواية علي عند الحاكم الآتية، "ودعا له" فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر" كما يأتي، "فبرأ" بفتح الراء والهمزة، بوزن ضرب ويجوز كسر الراء بوزن علم، كما في الفتح "حتى كأن لم يكن به وجع" وتتمة ذا الحديث مرت في خيبر، "وعند الطبراني من حديث علي، قال: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر". "وفي رواية مسلم من طريق إياس بن سلمة" بن الأكوع، التابعي، الثقة، مات سنة تسع عشرة ومائة، وهو ابن سبع وسبعين سنة، "عن أبيه قال: فأرسلني النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه فبرأ. قال الحافظ: فظهر من هذا؛ أنه الذي أحضره، ولعل عليًا حضر إليهم، ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فضر من المكان الذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره، فلا ينافي رواية البخاري عن سلمة: كان علي تخلف عن النبي، وكان رمدًا، فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلحق به. "وعند الحاكم من حديث علي، قال: فوضع صلى الله عليه وسلم رأسي في حجره، ثم بصق في راحته" لفظه في ألية راحته، والألية: اللحمة التي تحت الإبهام، أو باطن الكف، "فدلك بها عيني" بالتثنية. "وعند الطبراني" عن علي: "فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي صلى الله عليه وسلم، فقال: "اللهم أذهب عنه الحر والقر". بضم القاف البرد، وحكى ابن قتيبة تثليثه، وإنما دعا له بذلك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 قال: فما اشتكيتهما حتى يومي هذا. وأصيب سلمة يوم خيبر أيضًا بضربة في ساقه، فنفث فيها صلى الله عليه وسلم ثلاث نفثات فما اشتكاها قط. رواه البخاري. ونفث في عيني فديك وكانتا مبيضتين لا يبصر بهما شيئًا، وكان وقع على بيض حية، فكان يدخل الخيط في الإبرة وإنه لابن ثمانين سنة وإن عينيه لمبيضتان، رواه بن أبي شيبة والبغوي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم.   مع أن تألمه كان من الرمد، لأنه علم أن رمده من زيادة الدم الحاصل من الحر، فدعا له بإذهابه عنه، وزاد عليه القر، لأنه ضده، فربما أذاه لقوته بعدم ضده، "قال: فما اشتكيتهما حتى يومي هذا". وفي رواية: وكان علي يلبس القباء المحشو الثخين في شدة الحر، فلا يبالي الحر، ويلبس الثوب الخفيف في شدة البرد، فلا يبالي البرد فسئل فأجاب: إن ذلك بدعائه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، "وأصيب سلمة" بن الأكوع "يوم خيبر أيضًا بضربة في ساقه، فنفث فيها" لفظ الحديث فيه، قال الحافظ وغيره: أي موضع الضربة "ثلاث نفثات" بمثلثة بعد الفاء المفتوحة فيهما جمع نفثة، وهي فوق النفخ ودون التفل وقد يكون بلا ريق بخلاف التفل، وقد يكون بريق خفيف بخلاف النفخ، انتهى، "فما اشتكاها قط، رواه" بمعناه "البخاري" ثلاثيًا، فقال: حدثني المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة بساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة، "ونفث في عيني فديك" بن عمرو السلاماني، وقيل: فريك، بالراء بدل الدال، قاله الطبراني، وقيل: فويك بالواو، قاله البغوي والأزدي، وابن شاهين، والمستغفري، وابن عبد البر وغيرهم، وقال ابن فتحون: رأيته في كتب ابن أبي حاتم وابن السكن، بالواو، كما في الإصابة، "وكانتا مبيضتين" لغشاوة غطتهما، أو هو عبارة عن العمى، "لا يبصر بهما شيئًا، وكان" سبب ذلك، أنه "وقع على بيض حية، فكان يدخل الخيط في الإبرة" لقوة بصره وصحته، "وإنه لابن ثمانين سنة" وهو سن يضعف فيه البصر، وإن لم يعرض له عارض، "وإن عينيه لمبيضتان" وفيه أن البياض لم يزل بهما مع شدة نظرهما، وهذا أعظم في المعجزة، ولا ينافيه قوله في الحديث: فأبصر، "رواه ابن أبي شيبة والبغوي" الكبير في معجم الصحابة، "والبيهقي، والطبراني، وأبو نعيم" كلهم من طريق عبد العزيز بن عمران، عن رجل من بني سلامان، عن أمه، أن خالها حبيب بن فديك حدثها: أن أباه خرج به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان، لا يبصر بهما شيئًا، فسأله، فقال: كنت أروم جملا لي، فوقعت رجلي على بيض حية، فأصيب بصري، فنفث في عينيه، فأبصر، قال: فرأيته يدخل في الإبرة، وإنه لابن ثمانين، وإن عينيه لمبيضتان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 الفصل الثاني: فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات اعلم, نور الله قلبي وقلبك، وقدس سري وسرك، أن الله قد خص نبينا صلى الله عليه وسلم بأشياء لم يعطها لنبي قبله، وما خص نبي بشيء إلا وقد كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله، فإنه أوتي جوامع الكلم، وكان نبيًا ودام بين الروح والجسد، وغيره من الأنبياء لم يكن نبيًا إلا في حال نبوته وزمان رسالته. ولما أعطي هذه المنزلة علمنا أنه صلى الله عليه وسلم الممد   الفصل الثاني: فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات "الفصل الثاني فيما خصه الله تعالى به من المعجزات، وشرفه به على سائر" باقي "الأنبياء من الكرامات"، أي: الأمور الخارقة للعادة "والآيات البينات" والأول في معجزاته، كما قدم، أي: التي وقع نظير بعضها لغيره في الجملة، وأما هذا الثاني، فالقصد به ما زاد به على غيره. "اعلم، نور الله قلبي وقلبك" جملة دعائية: صدر بها تنبيهًا على شرف ما هو شارع فيه، "وقدس" طهر "سري وسرك"، أي: طهر أفعالنا عما ينقصها، وهو عطف مباين، "إن الله قد خص نبينا صلى الله عليه وسلم بأشياء لم يعطها لنبي قبله"، أي: ولا رسول، ولا ملك، "وما خص نبي بشيء"، أي: ما أعطي نبي شيئًا لم يعطه أحد من أمته، أو من الأنبياء السابقين عليه، "إلا وقد كان لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله" فلا يقال متى أعطي مثله لا يكون خصوصية، فجمع له كل ما أوتيه الأنبياء من معجزات وفضائل، ولم يجمع ذلك لغيره، بل اختص كل بنوع؛ "فإنه أوتي جوامع الكلم" كما قال ويأتي معناه، "وكان نبيًا وآدم بين الروح والجسد" كما مر، مشروحًا أوائل الكتاب، "وغيره من الأنبياء لم يكن نبيًا"، أي: موصوفًا بالنبوة "إلا في حال نبوته"، أي: بعد بعثته، "وزمان رسالته" بخلاف نبينا، فقد أفرغت عليه النبوة قبل خلق آدم، "ولما أعطي هذه المنزلة" التي لم يبلغها غيره، "علمنا أنه صلى الله عليه وسلم الممد" اسم فاعل من أمد، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 لكل إنسان كامل مبعوث ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيري فلقد أحسن حيث قال: وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم فإنه شمس فضل هم كواكبها ... يظهرن أنوارها للناس في الظلم قال العلامة ابن مرزوق: يعني أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد صلى الله عليه وسلم وما أحسن قوله: "فإنما اتصلت من نوره بهم" فإنه يعطي أن نوره صلى الله عليه وسلم لم يزل قائمًا به ولم ينقص منه شيء، ولو قال: فإنما هي من نوره لتوهم أنه وزع عليهم وقد لا يبقى له منه شيء, وإنما كانت آيات كل واحد من نوره صلى الله عليه وسلم لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن -أي تلك الكواكب- أنوار تلك الشمس للناس في الظلم. فالكواكب ليست مضيئة بالذات وإنما هي مستمدة من الشمس فهي عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس، فكذلك الأنبياء قبل وجوده عليه الصلاة والسلام كانوا يظهرون فضله.   بمعنى زاد "لكل إنسان كامل مبعوث" يعني أنه صلى الله عليه وسلم أفاض على جميع من تقدمه من الأنبياء والرسل أحوالا كثيرة، زيادة على ما عندهم من الفضائل، "ويرحم الله الأديب شرف الدين الأبوصيري، فلقد أحسن، حيث قال" في الميمية المشهورة: "وكل آي" جمع آية "أتى الرسل الكرام بها" دالة على نبوتهم، "فإنما اتصلت من نوره" الكائن قبل ظهوره إلى الوجود الخارجي "بهم، فإنه شمس فضل هم كواكبها، يظهرن أنوارها للناس في الظلم". "قال العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق" في شرحها: "يعني أن كل معجزة أتى بها كل واحد من الرسل، فإنما اتصلت بكل واحد منهم من نور محمد صلى الله عليه وسلم" الذي أوجده الله قبل وجوده في هذا العالم، "وما أحسن قوله: "فإنما اتصلت من نوره بهم، فإنه يعطي أن نوره صلى الله عليه وسلم لم يزل قائما به، ولم ينقص منه شيء، ولو قال: فإنما هي من نوره لتوهم أنه وزع عليهم، وقد لا يبقى له منه شيء، وإنما كانت آيات كل واحد من نوره صلى الله عليه وسلم، لأنه شمس فضل هم كواكب تلك الشمس يظهرن، أي: تلك الكواكب أنوار تلك الشمس للناس في الظلم، فالكواكب ليست مضيئة بالذات، وإنما هي مستمدة من الشمس، فهي عند غيبة الشمس تظهر نور الشمس" ومستند هذا الحدس والتخمين، كما هو معلوم في محل، "فكذلك الأنبياء قبل وجوده عليه الصلاة والسلام كانوا يظهرون فضله" بالصفات التي اشتملوا عليها، وأوصلوها إلى أممهم، فإنها وصلت إليهم من نوره عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك إخبارهم عنه بما اشتملت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 فجميع ما ظهر على الرسل عليهم الصلاة والسلام سواه من الأنوار فإنما هو من نوره الفائض ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شيء. وأول ما ظهر ذلك في آدم عليه السلام، حيث جعله الله تعالى خليفة وأمده بالأسماء كلها من مقام جوامع الكلم التي لمحمد صلى الله عليه وسلم فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] ، ثم توالت الخلائف في الأرض   عليه كتبهم من كمالاته وفضائله، "فجميع ما ظهر على يد الرسل عليهم الصلاة والسلام سواه من الأنوار، فإنما هو من نوره الفائض الكثير الذي عم المشارق والمغارب، "ومدده الواسع من غير أن ينقص منه شيء" فيكون ذلك كنور السراج إذا أوقد من نحو شمعة فنورها لم ينقص منه شيء، ونور السراج نشأ عن نورها مع بقاء نورها بمحله، لكن قد يشكل ما قدمه المصنف أول الكتاب، أن نوره صلى الله عليه وسلم قسم أجزاء، وأنه قسم الجزء الرابع إلى كذا وكذا، إلا أن يكون المراد بقوله: قسم زاد فيه، لا أنه قسم نفس النور الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الظاهر أنه حيث صور نوره بصورة روحانية مماثلة لصورته التي يصير عليها بعد لا يقسمه إليه وإلى غيره. "وأول ما ظهر ذلك في آدم عليه السلام، حيث جعله الله تعالى خليفة" عنه في تنفيذ أوامره ونواهيه في الأرض، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوب، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمر بلا واسطة، "وأمده بالأسماء"، أي: أسماء المسميات "كلها" حتى القصعة والمغرفة؛ بأن ألقى علمها فيقلبه "من مقام جوامع الكلم التي لمحمد صلى الله عليه وسلم، فظهر بعلم الأسماء كلها على الملائكة القائلين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} بالمعاصي {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يريقها بالقتل، كما فعل بنو الجان وكانوا فيها، فلما أفسدوا، أرسل الله إليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال، "ثم توالت الخلائف في الأرض" أي: تتابعت الرسل بعد آدم وجعل الكلا خلائف، لأن استخلفهم كلهم في عمارة الأرض، والمشهور أن خليفة الله إنما يطلق على آدم وداود لنص القرآن: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الآية، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، فأما غيرهما فلا, فقد قال رجل لأبي بكر الصديق: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا راض بذلك، وقال رجل لعمر: يا خليفة الله! فقال: ويلك، وزجره، وقيل: يجوز إطلاق ذلك على غيرهما أيضًا لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} الآية، ولأن الله جعل كلا خليفة، كما جعله سلطانًا، فقد سمع سلطان الله، وجنود الله، وحزب الله، لكن قال الماوردي: امتنع جمهور العلماء من ذلك، ونسبوا قائله إلى الفجور، وفي المصباح: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 إلى أن وصل إلى زمان وجود صورة جسم نبينا صلى الله عليه وسلم الشريف لأظهار حكم منزلته، فلما برز كان اندرج في نوره كل نور، وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها في صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطي صلى الله عليه وسلم مثلها. فآدم عليه الصلاة والسلام أعطي أن الله خلقه بيده، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شرح صدره، تولى الله شرح صدره بنفسه، وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوي، فتولى من آدم الخلق الوجودي ومن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الخلق النبوي، مع أن المقصود -كما مر- من خلق آدم خلق نبينا في صلبه، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة.   والخليفة بمعنى السلطان الأعظم، يجوز أن يكون فاعلا، لأنه خلف من قبله، أي: جاء بعده، ويجوز أن يكون مفعولا، لأن الله جعله خليفة، أو لأنه جاء بعد غيره "إلى أن وصل" حال الخلائف، وهو ما جاءوا به من الأحكام والشرائع، "إلى زمان وجود صورة: جسم نبينا صلى الله عليه وسلم الشريف" صفة لجسم أو نبينا، "لإظهار حكم منزلته" أي: مقدارها وشرفها عند الله، "فلما برز" ظهر "اندرج في نوره كل نور" لغلبته عليه، "وانطوى تحت منشور آياته كل آية لغيره من الأنبياء، ودخلت الرسالات كلها في صلب نبوته، والنبوات كلها تحت لواء" علم "رسالته، فلم يعط أحد منهم كرامة أو فضيلة إلا وقد أعطي صلى الله عليه وسلم مثلها" فجمع فيه ما فرق فيهم، وهذه خصوصية مع زيادته عليهم، ولما ذكر أن الله جمع له عليه السلام خصائص الأنبياء وزاده عليهم فضل بعض ذلك، وهو في غالبه تابع، لأن المنير في معراجه، فقال: "فآدم عليه الصلاة والسلام أعطي أن الله خلقه بيده" من أديم الأرض، أي: وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها، وعجنت بالمياه المختلفة وسواه، ونفخ فيه الروح، فصار حيوانًا حساسًا بعد أن كان جمادًا، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شرح صدره، تولى الله شرح صدره بنفسه" أي: ذاته، وفي إطلاق النفس على الله خلاف والأصح الجواز، "وخلق فيه الإيمان والحكمة، وهو الخلق النبوي، فتولى من آدم الخلق الوجودي، ومن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الخلق النبوي. زاد ابن المنير: وهو بالحقيقة متولي كل خلق، لكن المراد تخصيص التشريف وهو أعلى، "مع أن المقصود، كما مر" من قوله تعالى لآدم: "لولاه ما خلقتك"، "من خلق آدم خلق نبينا في صلبه فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المقصود وآدم الوسيلة، والمقصود سابق على الوسيلة" فلا شك في أنه أجل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 وأما سجود الملائكة لآدم، فقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان في جبهته، ولله در القائل: تجليت جل الله في وجه آدم ... فصلى له الأملاك حين توسل وعن أبي عثمان الواعظ، فيما حكاه الفاكهاني قال: سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذي شرف الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ، أجمع من تشريف آدم عليه الصلاة والسلام بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف، فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ من تشريف تختص به الملائكة، انتهى. قال بعضهم: وأما تعليم آدم أسماء كل شيء، فروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي رافع   "وأما سجود الملائكة لآدم فقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: إن الملائكة أمروا بالسجود لآدم، لأجل نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان في جبهته" ظاهرًا، "ولله در القائل: تجليت جل الله" جملة معترضة "في وجه، آدم، فصلى" سجد "له الأملاك حين توصل" وقال ابن المنير: نظيره إنجاد الملائكة للمصطفى، فإنه أنزلهم له جندًا وأعوانًا تحت لوائه، وأنصارًا في طاعته، والأسجاد والأنجاد متقاربان، وورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة، بل ورد أن الملائكة تصلي بصلاة آحاد أمته، ائتمامًا بهم، وسجودًا خلفهم، وهذا غاية الكرامة في هذا المعنى. "وعن أبي عثمان الوعظ فيما حكاه الفاكهاني، قال" أبو عثمان "سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذي شرف الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، أتم وأجمع من تشريف آدم عليه الصلاة والسلام، بأمر الملائكة بالسجود له، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف" لاستحالته في حقه سبحانه، إذ السجود من صفات الأجسام، "فتشريف يصدر عنه تعالى وعن الملائكة والمؤمنين أبلغ مع تشريف تختص به الملائكة" وهو السجود، "انتهى". "قال بعضهم" وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: "وأما تعليم آدم أسماء كل شيء، فروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي رافع" والحاكم، والديلمي أيضًا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلت لي أمتي في الماء والطين، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها" فكما أن آدم عليه الصلاة والسلام علم أسماء العلوم كلها كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه -واصل الله صلاته وسلامه عليه- بعلم ذواتها. ولله در الأبوصيري حيث قال: لك ذات العلوم من عالم الغيـ ... ـب ومنها لآدم الأسماء ولا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهي المقصودة بالذات وإليه الإيماء بقوله: ذات العلوم، والأسماء مقصودة لغيرها فهي دونها، ففضل العلم بحسب فضل معلومه. وأما إدريس عليه الصلاة والسلام.   حديث أم حبيبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلت لي أمتي" وفي رواية: الدنيا بدل أمتي، "في الماء والطين وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها". وروى الطبراني والضياء المقدسي، عن حذيفة بن أسيد بن خالد الغفاري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة" بالضم أي: عندها، "أولها وآخرها"، فقيل: يا رسول الله عرض عليك من خلق، فكيف من لم يخلق؟ فقال: "صوروا لي في الطين، حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه"، "فكما أن آدم عليه الصلاة والسلام علم أسماء العلوم كلها، كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه: واصل الله صلاته وسلامه عليه بعلم ذواتها" متعلق بزاد، "ولله در الأبوصيري حيث قال" في الهمزية: "لك" لا لغيرك "ذات" نفس وحقيقة "العلوم" جمع علم، وهو هنا صفة ينجلي بها المذكور لمن قامت به انجلاء تامًا، والإدراك الجازم الذي لا يحتمل النقيض "من" فيض "عالم الغيب" الغائب، وهو ما لم يشاهد بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إليه تعالى، فالكل من عالم الشهادة، "ومنها" أي: العلوم بمعنى المعلومات "لآدم" أبي البشر "الأسماء" مبتدأ مؤخر خبره منها، جمع اسم، وهو هنا ما دل على معنى فيشمل الفعل والحروف أيضًا، "لا ريب أن المسميات أعلى رتبة من الأسماء، لأن الأسماء يؤتى بها لتبين المسميات، فهي المقصودة بالذات، وإليه الإيماء بقوله: ذات العلوم والأسماء مقصودة لغيرها" وهي المسميات، "فهي دونها، ففضل العالم بحسب فضل معلومه" فهو أفضل من آدم. "وأما إدريس عليه الصلاة والسلام" قيل: سرياني، وقيل: عربي مشتق لكثرة درسه الصحف، واسمه خنوخ، بخاءين معجمتين بينهما نون، فواو، ويقال: أخنوخ، بألف أوله، ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 فرفعه الله مكانًا عليًا، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره. وأما نوح عليه الصلاة والسلام فنجاه الله تعالى ومن آمن معه من الغرق ونجاه من الخسف، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وأما قول الفخر الرازي في تفسيره: "أكرم الله تعالى نوحًا بأن أمسك سفينته على الماء وفضل محمد صلى الله عليه وسلم أعظم منه. روي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبي   يارد بن مهلائيل، بن قينان، بن أنوش، بن شيث، بن آدم، وهو أبو جد نوح، كذا ذكر المؤرخون، قال المازري: فإن قام دليل على أنه أرسل، لم يصح قولهم لحديث الصحيحين: "ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"، وإن لم يقم جازمًا، قالوا: وحمل على أنه كان نبيًا ولم يرسل، وأجيب بأن حديث أبي ذر عند ابن حبان يدل على أن آدم وإدريس رسولان، فالمراد أول رسول بعثه الله بالإهلاك وإنذار قومه، فأما رسالة آدم وشيث وإدريس، فإنما هي رسالة تبليغ الإيمان وطاعة الله، لأنهم لم يكونوا كفارًا "فرفعه الله مكانًا عليًا" قيل: هو الجنة، وقيل: السماء الرابعة، كما ورد في حديث المعراج، وقيل: السادسة، واختلف في أنه في السماء ميت أو حي، وقيل: المراد شرف النبوة والزلفى عند الله، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المعراج، ورفع إلى مكان لم يرفع إليه غيره" لا رسول ولا ملك. "وأما نوح عليه الصلاة والسلام" ابن لمك، بفتح اللام، وسكون الميم، وكاف، ابن متوشلخ، بفتح الميم، وضم الفوقية الثقيلة، وسكون الواو، وفتح الشين المعجمة، وإسكان اللام، وآخره خاء معجمة، "فنجاه الله تعالى ومن آمن معه" وما آمن معه إلا قليل، قيل: كانوا ستة رجال ونساءهم، وقيل: كانوا ثمانين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء، وهم أصحاب السفينة، "من الغرق، ونجاه من الخسف، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم تهلك أمته بعذاب من السماء" لأنه رحمة، "قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية، لأن العذاب إذا نزل عم، ولم نعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها، هكذا في التفسير، ولا يلائمه سياق المصنف. "وأما قول الفخر الرازي في تفسيره: أكرم الله تعالى نوحًا؛ بأن أمسك سفينته على الماء، وفضل محمد صلى الله عليه وسلم أعظم منه، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان على شط ماء، وقعد عكرمة بن أبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 جهل فقال: إن كنت صادقًا فادع ذلك الحجر الذي في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم فانقلع الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يكفيك هذا"؟ , فقال: حتى يرجع إلى مكانه. فلم أره لغيره والله أعلم بحاله. وأما إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فكانت عليه نار نمرود بردًا وسلامًا، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نظير ذلك، إطفاء نار الحرب عنه عليه الصلاة والسلام وناهيك بنار حطبها السيوف ووهجها الحتوف وموقدها الجسد ومطلبها الروح والجسد.   جهل" المسلم في فتح مكة، "فقال: إن كنت صادقًا فادع ذلك الحجر الذي في الجانب الآخر، فليسبح" يعوم على الماء، "ولا يغرق، فأشار إليه عليه الصلاة والسلام، فانقلع الحجر من مكانه، وسبح حتى صار بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وشهد له بالرسالة فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لعكرمة: "يكفيك هذا"؟ , "فقال: حتى يرجع إلى مكانه، فلم آره لغيره، والله أعلم بحاله" أي: الحديث هل هو وارد، أم لا؟ "وأما إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، فكانت عليه نار نمرود" بالدال مهملة، ومعجمة، وهو أصح لموافقته للقاعدة المنظومة في نحو قوله: إن تلت الدال صحيحًا ساكنا ... أهملها الفرس وإلا أعجموا "بردًا وسلامًا" أي: ذات برد وسلام، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي: ابردي بردًا غير ضار، ولو لم يقل سلامًا لمات من بردها، فذهبت حرارتها، وبقيت إضاءتها، ولم يحترق غير وثاقه، والقصة طويلة في التفاسير والتواريخ، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نظير ذلك إطفاء نار الحرب عنه عليه الصلاة والسلام"، أي: إبطال مكائدهم التي كانوا يديرونها لحربه بأن يوقع بينهم منازعة يكفون بها عنه شرهم، "وناهيك" أنهاك "بنار حطبها" أي: المستعان به فيها، بحيث يؤثر هلاك الأعداء، وهو "السيوف" فهي مستعملة في حقيقته والحطب مجاز عن الأسباب المؤثرة فيها، "ووهجها" بفتحتين حرها "الحتوف" جمع حتف وهو الهلاك، والمعنى: أن الأسباب المؤثرة هي السيوف والآثار المترتبة عليها، المشبهة لحرارة النار في التأثير هي الهلاك، "وموقدها" أي: السبب في وجودها "الحسد ومطلبها" مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول، أي: الأمر الذي أريد بتلك الحروب وبآثارها هو "الروح والجسد" والمعنى: أنهاك بنار موصوفة بما ذكر عن تطلب معجزة تقاوم نار الخليل غير هذه، أي: إنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] فكم أرادوا أن يطفئوا النور بالنار، وأبى الجبار إلا أن يتم نوره وأن يخمد شرورهم ويحمد لمحمد صلى الله عليه وسلم سروره وظهوره. ويذكر أنه عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج مر على بحر النار الذي دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روي مما رأيته في بعض الكتب. وروى النسائي أن محمد بن حاطب   غاية تنهاك عن تطلب غيرها. "قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} الآية، قال البيضاوي: كلما أرادوا حرب الرسول وإثارة شر عليه، ردهم الله، بأن أوقع بينهم منازعة، كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا، فسلط عليهم قطرس الرومي، ثم أفسدوا، فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا، فسلط عليهم المسلمين، وللحرب صلة أوقدوا أو صفة نارًا، انتهى. "فكم" للتكثير، أي: فكثيرًا "أرادوا أن يطفئوا النور"، وهو حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد أن القرآن، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم "بالنار" أي: محاربتهم ومعاداتهم له صلى الله عليه وسلم، "وأبى الجبار إلا أن يتم نوره" يظهر شرعه وبراهين نبيه وإعلاء دينه، "وأن يخمد" بضم الياء من أخمد، أي: يسكن "شرورهم" ويبطلها، شبه إبطال شرورهم بإطفاء النار، واستعار له الإخماد ثم اشتق منه الفعل، وهو يخمد، فهو استعارة تبعية، أو شبه الشرور بعد إبطالها بنار أطفئ لهبها، ثم أثبت له الإخماد، فهو استعارة بالكناية وتخييلية، "ويحمد لمحمد صلى الله عليه وسلم سروره وظهروه، بالثناء على ما جاء به، وعلى ما حصل له من النصر على أعدائه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حقية ما جاء به، وهذا النظير والسجع بعده جلبه المصنف من معراج ابن المنير، كغالب هذا المبحث، "ويذكر أنه عليه السلام ليلة المعراج مر على بحر النار" بأن سار مستعليًا عليه، حتى جاوزه "الذي دون سماء الدنيا مع سلامته منه، كما روي مما رأيته في بعض الكتب" والله أعلم بصحته. "وروى النسائي أن محمد بن حاطب" بن الحارث بن معمر بن حبيب الجمحي، الكوفي، صحابي صغير، ولد بالسفينة قبل أن يصلوا إلى الحبشة، وهو أول من سمي محمدًا في الإسلام، واختلف في أن كنيته أبو القاسم أو أبو إبراهيم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي وعن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 قال: كنت طفلا فانصب القدر علي واحترق جلدي كله، فحملني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتفل عليه الصلاة والسلام في جلدي ومسح بيده على المحترق وقال: "أذهب البأس رب الناس"، فصرت صحيحًا لا بأس بي.   أمه أم جميل، وعنه أولاده إبراهيم، وعمر، والحارث، وغيرهم ومات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين، "قال: كنت طفلا، فانصبت القدر" التي كانت أمه تطبخ فيها "على" أي: على ذراعي، "واحترق جلدي كله، فحملني أبي" فيه، إن أباه مات بأرض الحبشة، وقدمت بها جميل القرشية، العامرية، من السابقات المهاجرات إلى المدينة مع أهل السفينة، كما في الإصابة وغيرها، والذي في الروايات أن الآتي به "إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أمه، فإن كان لفظ أبي محفوظًا فلعله أراد به أباه من الرضاعة جعفر بن أبي طالب، فقد ذكر ابن أبي خيثمة، كما في الإصابة، أن أسماء بنت عميس أرضعت محمد بن حاطب مع ابنها عبد الله بن جعفر، وأرضعت أم محمد عبد الله بن جعفر، فنسب القدوم إليه تارة، وإلى أمه أخرى، "فتفل عليه الصلاة والسلام في جلدي، ومسح بيده على المحترق" أي: المواضع التي مستها النار، فأثرت فيها، ولا ينافيه قوله قبل: احترق جلدي كله، لجواز أن ما جاور ما مسته النار من جلده، صار إليه ألم مما مسته النار، فسماه محروقًا كله لوصول الألم إليه، وال: "أذهب البأس" بالموحدة، أي: الشدة، أي ما أصاب جلده من أثر النار عن هذا يا "رب الناس" والجملة دعائية، "فصرت صحيحًا لا بأس بي". وأخرج الإمام أحمد والبخاري في التاريخ، والنسائي وغيرهم، عن محمد، بن حاطب عن أمه أم جميل، قالت: أقبلت بك من أرض الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت لك طبيخًا، ففي الحطب، فخرجت أطلب الحطب، فتناولت القدرة، فانكفأت على ذراعك، فأتيت بك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هذا ابن أخيك، وقد أصابه هذا الحرق من النار، فادع له، وفي رواية: فقلت: هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي بك، قالت: فمسح على رأسك، ودعا لك بالبركة، وجعل يتفل على يدك، وهو يقول: "أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما"، قالت: فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك، وقد خمدت نار فارس لنبينا، وكان لها ألف عام لم تخمد. وروى ابن سعد عن عمرو بن ميمون، قال: أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار، فكان صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه، فيقول: "يا نار كوني بردًا وسلامًا على عمار، كما كنت على إبراهيم، تقتلك الفئة الباغية". وروى أبو نعيم عن عباد بن عبد الصمد: أتينا أنس بن مالك، قال: يا جارية هلمي المائدة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وأما ما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة فقد أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد بمقام المحبة، وقد روي في حديث الشفاعة أن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ قيل له: اتخذك الله خليلا فاشفع لنا   نتغدى، فأتت بها، ثم قال: هلمي المنديل، فأتت بمنديل وسخ، فقال: اسجري التنور، فأوقدته فأمر بالمنديل، فطرح فيه، فخرج أبيض كأنه اللبن، فقلنا: ما هذا؟، قال: هذا منديل كان صلى الله عليه وسلم يمسح به وجهه، فإذا اتسخ صنعنا به هكذا، لأن النار لا تأكل شيئًا مر على وجوه الأنبياء، وألقى غير واحد من أمته في النار، فلم تؤثر فيه. روى ابن وهب عن ابن لهيعة؛ أن الأسود العنسي لما ادعى النبوة، غلب على صنعاء، أخذ ذؤيب بن كليب بتصغيرها، فألقاه في النار لتصديقه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم تضره النار، فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمتنا مثل إبراهيم الخليل، وسماه ابن الكلبي ذؤيب بن وهب، وقال في سياقه: طرحه في النار، فوجده حيًا، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مخضرم، أسلم في العهد النبوي، قال عبدان: إنه أول من أسلم من أهل اليمن، ولا أعلم له صحبة. وروى ابن عساكر: أن الأسود بن قيس، بعث إلى أبي مسلم الخولاني، فأتاه، فقال: "أتشهد أني رسول الله؟ "، قال: ما أسمع، قال: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ "، قال: نعم فأتى بنار عظيمة، فألقاه فيها، فلم تضره، فقيل للأسود إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك، فأمر بالرحيل، فقدم المدينة، وقد قبض النبي صلى اله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، فقال أبو بكر: الحمد لله الذي ألبثني حتى أراني في أمة محمد من صنع به، كما صنع بإبراهيم. "وأما ما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة" بفتح الخاء وضمها: الصداقة، "فقد أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، وزاد بمقام المحبة" فجمع له بينهما، روى أبو يعلى في حديث المعراج، فقال له ربه: اتخذتك خليلا وحبيبًا، وفي التوراة: محمد حبيب الله، وروى ابن ماجه وأبو نعيم مرفوعًا: "أن الله اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين، والعباس بيننا، مؤمن بين خليلين". وروى أبو نعيم عن كعب بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته بخمس: "إن الله اتخذ صاحبكم خليلا". "وقد روي في حديث الشفاعة؛ أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذا قيل له: اتخذك الله خليلا" أي: اصطفاك وخصك بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، "فاشفع لنا" في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 قال: "إنما كنت خليلا من وراء وراء" اذهبوا إلى غيري إلى أن تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها"، وهذا يدل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان خليلا مع رفع الحجاب وكشف الغطاء ولو كان خليلا من وراء لاعتذر كما اعتذر إبراهيم عليه الصلاة والسلام, وفيه تنبيه ظاهر على أنه عليه الصلاة والسلام فاز برؤية الحق سبحانه وتعالى وكشف له الغطاء حتى رأى الحق بعيني رأسه، كما سيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الخامس. والملخص من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم نال درجة الخلة التي اشتهرت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام على وجه نطق إبراهيم بأن نصيب سيدنا محمد عليه الصلاة   فصل القضاء، "قال: إنما كنت خليلا من وراء وراء" ضبط بفتح الهمزة وضمها بلا تنوين، فيهما بناء، قال النووي: الفتح أشهر، ومعناه: لم أكن في التقرب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقال صاحب التحرير: هذه كلمة تقال على وجه التواضع، قاله في البدور، وقيل: مراده أن الفضل الذي أعطيه كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر وراء إشارة إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، حكاه المصنف فيما يأتي قائلا: وراء بفتح الهمزة بلا تنوين، ويجوز البناء على الضم للقطع عن الإضافة نحو من قبل ومن بعد، واختاره أبو البقاء. قال الأخفش: يقال لقيته من وراء بالضم، ثم قال: ويجوز فيها النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي. "اذهبوا إلى غيري" فيذهبون إلى موسى وعيسى إلى أن تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: "أنا لها أنا لها" بالتكرير، وصرفوا عن الإتيان له ابتداء، مع أنه صاحبها إذاعة لفضله على رءوس الخلائق، "وهذا يدل على أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان خليلا مع رفع الحجاب" عنه، "وكشف الغطاء" له، "ولو كان خليلا من وراء وراء لاعتذر، كما اعتذر إبراهيم عليه الصلاة والسلام وفيه تنبيه ظاهر على أنه عليه الصلاة والسلام فاز برؤية الحق سبحانه وتعالى، وكشف له الغطاء" ليلة الإسراء، "حتى رأى الحق" رؤية بصرية "بعيني رأسه"على المذهب المشهور، وقال به ابن عباس نفيا لمن قال بعيني قلبه، وإذا جوزه العقل، وشهد به النقل لم يبق للاستبعاد موقع ولا للإنكار موضع، "كما سيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الخامس، والملخص من هذا؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نال درجة الخلة التي اشتهرت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام" بقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} الآية، "على وجه نطق إبراهيم؛ بأن نصيب سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه: إنما كنت خليلا من وراء وراء، فلم يشفع وفيه دليل على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 والسلام منه الأعلى، بمفهوم قوله عن نفسه: "إنما كنت خليلا من وراء وراء، فلم يشفع وفيه دليل على أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس، لا المكان، وذلك مقام محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان. ومما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وانفراده في الأرض بعبادة الله وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر، أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كسرها بمحضر من أولي نصرها بقضيب ليس مما يكسر إلا بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتراء فيها بالأنفاس من الفاس، وما عول على المعول، لا عرض في القول ولا تمرض من الصول بل قال جهرًا بغير سر: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81] . ومما أعطيه الخليل عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام، ولا خفاء أن البيت   أنه إنما يشفع من كان خليلا لا من وراء وراء، بل مع الكشف والعيان وقرب المكانة من حظيرة القدس لا المكان" لاستحالته عليه تعالى: "وذلك مقام محمد صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان" وهذا ساقه كله ابن المنير في المعراج، والله المستعان. "ومما أعطيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام انفراده في الأرض بعبادة الله، وتوحيده، والانتصاب للأصنام بالكسر والقسر" بفتح القاف، وسكون السين، وبالراء: القهر والغلبة، "أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كسرها بمحضر من أولي نصرها" وهم أذلاء لا يستطيعون نصرها "بقضيب ليس مما يكسر إلا" بمعنى، لكن "بقوة ربانية ومادة إلهية، اجتراء" أي: اكتفاء "فيها بالأنفاس من الفاس وما عول على المعول" كما فعل إبراهيم حيث علقه في عنق كبيرهم الذي تركه لعلهم إليه يرجعون، "ولا عرض في القول" كتعريض إبراهيم بقوله: بل فعله كبيرهم هذا، "ولا تمرض من الصول" أي: لم يظهر مرضًا لأجل الصول على تلك الأصنام، كما فعل إبراهيم، حيث قال: إني سقيم، اعتذارًا عن عدم خروجه معهم إلى عيدهم، وجعل ذلك، وسيلة إلى كسر الأصنام في غيبتهم، "بل قال جهرًا بغير سر" زيادة إطناب، {َقُلْ} عند دخول مكة {جَاءَ الْحَقُّ} الإسلام، {وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} بطل الكفر، {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} مضمحلا زائدًا، وقد دخلها صلى الله عليه وسلم وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ذلك حتى سقطت، رواه الشيخان، وتقدم بسطه في فتح مكة. "ومما أعطيه الخليل عليه الصلاة والسلام بناء البيت الحرام" الذي بوأه الله له، "ولا خفاء أن البيت جسد" تشبيه بليغ، "وروحه الحجر الأسود، بل هو سويداء القلب، بل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 جسد وروحه الحجر الأسود بل هو سويداء القلب، بل جاء "أنه يمين الرب" كناية عن استلامه كما تستلم الأيمان عند عقد العهود والأيمان، وقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن قريشًا لما بنت البيت بعد تهدمه ولم يبق إلا وضع الحجر تنافسوا على الفخر الفخم والمجد الضخم، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل، فاتفق دخول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فقالوا: هذا الأمين، فحكموه في ذلك فأمر ببسط ثوب ووضع الحجر فيه ثم قال: يرفع كل بطن بطرف، فرفعوه جميعًا، ثم أخذه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فوضعه في موضعه، فادخر الله له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام. وأما ما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام من قلب العصا حية غير ناطقة، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حنين الجذع، وقد.   جاء أنه يمين الرب", كما روى الديلمي عن أنس مرفوعًا: "الحجر يمين الله، فمن مسحه فقد بايع الله" "كناية عن استلامه، كما تستلم الأيمان" الأيمان، بالفتح: جمع يمين العضو المخصوص، "عند عقد العهود، والأيمان" بالفتح أيضًا بمعنى القسم، والمعنى: أنه يستلم باليد من أراد عهدًا أو يمينًا يمين صاحبه عند معاهدة غيره، واللف كما كان عادتهم، "وقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن قريشًا لما بنت البيت بعد تهدمه" بسيل أو غيره، "ولم يبق إلا وضع الحجر" في محله، "تنافسوا على الفخر الفخم" العظيم القدر، "والمجد" العز والشرف "الضخم" العظيم فالفخم والضخم مختلفان مفهومًا: متحدان ما صدقا، "ثم اتفقوا على أن يحكموا أول داخل" من باب بني شيبة، "فاتفق دخول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فقالوا: هذا الأمين" رضينا بحكمه، "فحكموه في ذلك، فأمر ببسط ثوب، ووضع" النبي صلى الله عليه وسلم "الحجر فيه" أي: الثوب بيده الكريمة، فعند ابن إسحاق فقالوا: هذا الأمين رضينا، وأخبروه الخبر، فقال: "هلم إلي ثوبًا" فأتى به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثم قال: "يرفع" وفي نسخة: ليرفع، أي: ليأخذ "كل بطن" من بطون قريش، "بطرف" في رواية: "لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب"، فرفعوه جميعًا، ثم لما بلغوا به موضعه، "أخذه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فوضعه في موضعه، فادخر الله له ذلك المقام ليكون منقبة له على مدى الأيام" وكان سنه خمسًا وثلاثين سنة على الأشهر، وهذا الذي ذكره المصنف أيضًا لفظ ابن المنير. وأما ما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام منقلب العصا حية" وتقدم ذكر ذلك قريبًا أول المعجزات وأعاد الشارح نقله هنا "غير ناطقة" لعل ذكره مع أنه لازم للحية، لبيان التفاضل بين المعجزتين، وهو أن العصا لم تنطق لموسى، بخلاف الجذع، فنطق للمصطفى بكلام حتى سمعه من يليه زيادة على الحنين، كما مر، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حنين الجذع، وقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 مرت قصته. وحكى الإمام الرازي -في تفسيره- وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه عليه الصلاة والسلام بالحجر رأى على كتفيه ثعابين فانصرف مرعوبًا. وأما ما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام أيضًا من اليد البيضاء، وكان بياضها يغشى البصر، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل نورًا ينتقل في أصلاب الآباء وبطون الأمهات من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه. وأعطى صلى الله عليه وسلم قتادة بن النعمان وقد صلى العشاء في ليلة مظلمة مطيرة عرجونًا وقال: "انطلق به فإنه سيضيء لك من بين يديك عشرًا، ومن خلفك عشرًا   مرت قصته" قريبًا. "وحكى الإمام الرازي في تفسيره وغيره: أنه لما أراد أبو جهل أن يرميه عليه الصلاة والسلام بالحجر رأى على كتفيه" بالتثنية، أي: النبي عليه السلام، وفي نسخة: كتفه بالإفراد على إرادة الجنس "ثعابين، فانصرف مرعوبًا" كما انصرف فرعون مرعوبًا من العصا، ولما كان أشد الفراعنة رأى ثعبانين. "وأما ما أعطي موسى عليه الصلاة والسلام أيضًا من اليد البيضاء" اليمنى، بمعنى الكف، كما قال تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طه: 22] الآية، فأدخلها تحت جناحه، أي: جنبه الأيسر تحت الإبط، أو في جيبه، ثم نزعها، فإذا هي بيضاء نورانية من غير سوء، أي: برص، "وكان بياضها يغشى البصر" وغلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى آدم شديد الأدمة، أي: السمرة: "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أنه لم يزل نورًا ينتقل في أصلاب الآباء، وبطون الأمهات، من لدن آدم إلى أن انتقل إلى عبد الله أبيه" ثم منه إلى آمنة أمه، وكان بينا ظاهرًا في جباههم، "وأعطى صلى الله عليه وسلم قتادة بن النعان" الأوسي، البدري، "والحال أنه "قد صلى العشاء في ليلة مظلمة مطيرة" فعيلة بمعنى فاعلة، وإسناد المطر إليها مجاز، ولا يقال إنها بمعنى مفعولة، أي: ممطور فيها، لوجود الهاء، إذ لا يقال ممطورة فيها، قال الكرماني. "عرجونًا" أصل العذق الذي يعوج، وتقطع منه الشماريخ، فيبقى على النخل يابسًا، سمي بذلك لانعراجه وانعطافه، ونونه زائدة، وقال: "انطلق به، فإنه سيضيء لك من بين يديك عشرًا" من الأذرع، "ومن خلفك عشرًا" من الأذرع، هذا هو المتبادر، ومثله لا ينظر فيه، وذلك أعظم من اليد، فإن خلق الضوء في العرجون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 فإذا دخلت بيتك فسترى سوادًا فاضربه عشرًا، حتى يخرج فإنه الشيطان"، فانطلق فأضاء له العرجون حتى دخل بيته ووجد السواد وضربه حتى خرج. رواه أبو نعيم. وأخرج البيهقي، وصححه الحاكم عن أنس: كان عباد بن بشر وأسيد بن حضير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة: حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا, فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها   على هذا الوجه أعظم من البياض الذي في اليد، "فإذا دخلت بيتك فسترى سوادًا، فاضربه حتى يخرج، فإنه الشيطان" على غير صورته الأصلية، فلا ينافيه قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} الآية، قال البيضاوي: ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة، لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا، "فانطلق، فأضاء له العرجون حتى دخل بيته، ووجد السواد، وضربه حتى خرج، رواه أبو نعيم". وأخرج أحمد عن أبي سعيد، قال: هاجت السماء، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فبرقت فرأى قتادة بن النعمان، فقال: "ما السري يا قتادة"؟ قال: يا رسول الله! إن شاهد العشاء قليل، فأحببت أن أشهدها، قال: "فإذا صليت فأت" فلما انصرف أعطاه عرجونًا، فقال: "خذ هذا، فسيضيء لك، فإذا دخلت البيت ورأيت سوادًا في زاوية البيت فاضربه قبل أن تتكلم، فإنه شيطان" وأخرج هذه القصة الطبراني، وقال: إنه كان في صورة قنفذ. "وأخرج البيهقي، وصححه الحاكم عن أنس، قال: كان عباد" بفتح العين، وشد الموحدة "ابن بشر" بكسر الموحدة، وسكون المعجمة، ووقع للقابسي بشير، بفتح أوله، وكسر ثانيه، وزيادة تحتية، وهو غلط نبه عليه في الفتح ابن وقش، بفتح الواو، والقاف، ومعجمة الأنصاري من قدماء الصحابة، أسلم قبل الهجرة، وشهد بدرًا، وأبلى يوم اليمامة بلاء حسنًا، فاستشهد بها، "وأسيد" بضم الهمزة، وفتح السين، "ابن حضير" بضم المهملة، وفتح الضاد المعجمة، ابن سماك الأنصاري، الأشهلي، صحابي جليل، مات سنة عشرين أو إحدى وعشرين، روى البخاري في تاريخه، وأبو يعلى، وصححه الحاكم عن عائشة، قالت: ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد يعقد عليهم فضلا، كلهم من بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضر، وعباد بن بشر. "عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة" ولعبد الرزاق، تحدثا عنده "حتى ذهب من الليل ساعة، وهي ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا وبيد كل واحد منهما عصا، فأضاءت لهما عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها" إكرامًا لهما ببركة نبيهما، آية له صلى لله عليه وسلم، إذ خص بعض أتباعه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشي كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ هديه، ورواه البخاري بنحوه في الصحيح. وأخرج البخاري في تاريخه والبيهقي وأبو نعيم عن حمزة الأسلمي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم وإن أصابعي لتنير.   بهذه الكرامة عند الاحتياج إلى النور وإظهار السر، قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". رواه أبو داود وغيره وادخر لهما يوم القيامة ما هو أعظم وأتم من ذلك، "حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ هديه" أي: مقصده الذي لا يحتاج بعد الوصول إلى ما يرشده، لكن الذي في فتح الباري والمصنف وغيرهما أهله بدل هديه، "ورواه البخاري بنحوه في الصحيح" من رواية قتادة عن أنس: أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نور بين أيديهما يضيء حتى تفرقا، فتفرق النور معهما لفظ المناقب، ولفظه في الصلاة وعلامات النبوة: ومعها مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله، قال البخاري في المناقب: وقال معمر عن ثابت عن أنس، أن أسيد بن حضير، ورجلا من الأنصار. وقال حماد: أخبرنا ثابت عن أنس، قال: كان أسيد بن حضير وعباد بن بشر عند الني صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: رواية معمر، وصلها عبد الرزاق عنه ومن طريقه الإسماعيلي بلفظ فذكره أعني الحافظ مثل سياق المصنف، قال: ورواية حماد وصلها أحمد والحاكم بلفظ: إن أسيد بن حضير، وعبادًا كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس، فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما، فمشيا في ضوئها، فلما افترقت بهما الطرق، أضاءت عصا الآخر. "وأخرج البخاري في تاريخه، والبيهقي وأبو نعيم عن حمزة" بحاء مهملة، ابن عمرو بن عويمر بن الحارث بن سعد "الأسلمي" المدني، كنيته أبو صالح، وقيل: أبو محمد، صحابي جليل، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر، وكان يسرد الصوم، روى عنه أبو مراوح، مات سنة إحدى وستين، وله إحدى وسبعون، وقيل: ثمانون له في مسلم، والترمذي، والنسائي، وعلق له البخاري، "قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فتفرقنا في ليلة ظلماء، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم" أي: ركابهم، "وما هلك" أي: أشرف على الهلاك "منهم" بسبب تفرقهم لما أصابهم من شدة الظلمة، وقد ساقه الشامي بلفظ: وما سقط من متاعهم، وعزاه لمن عزاه له المصنف، فلعلهما روايتان، "وإن أصابعي لتنير" بضم التاء من أنار، أي: تضيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 ومما أعطيه موسى عليه السلام أيضًا انفراق البحر له، أعطي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر -كما مر- فموسى تصرف في عالم الأرض وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تصرف في عالم السماء، والفرق بينهما واضح، وقال ابن المنير: وذكر ابن حبيب أن بين السماء والأرض بحرا يسمى المكفوف، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط، قال: فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى جاوزه -يعني ليلة الإسراء- قال وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام. ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام إجابة دعائه، أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى.   "ومما أعطيه موسى عليه السلام أيضًا انفراق البحر له، أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، كما مر" فهو نظيره، بل أعظم، "فموسى تصرف في عالم الأرض" بضربه البحر بالعصا، كما أمره الله فانفلق، "وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تصرف في عالم السماء" لما سأل الله انشقاق القمر حين طلبوه منه تعنتًا، "والفرق بينهما واضح". قال ابن المنير: فإذا عرضت الآيتين على العقول حق العرض، سمت آية السماء على آية الأرض، "وقال ابن المنير" في معراجه: "وذكر ابن حبيب" محمد الأخباري: "أن بين السماء والأرض بحرًا يسمى المكفوف، تكون بحار الأرض بالنسبة إليه كالقطرة من البحر المحيط" بالدنيا، وهو الملح. "قال" ابن المنير: "فعلى هذا" الذي ذكره ابن حبيب، إن صح "يكون ذلك البحر انفلق لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى جاوزه" أي: قطعه وفارقه، "يعني: ليلة الإسراء" ومقتضى انفلق؛ أنه صار فرقتين، كما افترق لموسى فرقًا بينهما مسالك، "قال: وهو أعظم من انفلاق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام" لأن بحار الأرض قد يقع فيها زوال الماء في مواضع منها، بحيث تصير فرقًا يمشي في الأرض التي بينها والبحر بين السماء والأرض، لا مقر له من الأرض حتى يسلك فيه، بل هو على صفة الله أعلم بها. "ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام إجابة دعائه" في نحو قوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} الآية، قال الله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} , {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} الآية، "أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك" إجابة دعائه "ما لا يحصى، ومما أعطيه موسى عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام تفجير الماء له من الحجارة، أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الماء تفجر من بين أصابعه، وهذا أبلغ لأن الحجر من جنس الأرض التي ينبع الماء منها، ولم تجر العادة بنبع الماء من اللحم، ويرحم الله القائل: وكل معجزة للرسل قد سلفت ... وافى بأعجب منها عند إظهار فما العصا حية تسعى بأعجب من ... شكوى البعير ولا من مشي أشجار ولا انفجار معين الماء من حجر ... أشد من سلسل من كفه جار ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام الكلام، أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله ليلة الإسراء وزيادة الدنو والتدلي، وأيضًا كان مقام المناجاة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فوق السماوات العلى وفوق سدرة المنتهى، والمستوى، وحجب النور والرفوف، ومقام   الصلاة والسلام تفجير الماء له من الحجارة" كما قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} الآية، "أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الماء تفجر من بين أصابعه، وهذا أبلغ" في المعجزة؛ "لأن الحجر من جنس الأرض التي ينبع الماء منها" بل قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} الآية، "ولم تجر العادة بنبع الماء من اللحم" بل لم يقع لغير المصطفى، كما مر، "ويرحم الله القائل: وكل معجزة للرسل قد سلفت، وافى" أتى "بأعجب منها عند إظهار" الله تعالى له، وتأييده بالمعجزات، "فما العصا حية" حال موطئة، "تسعى" صفتها "بأعجب" خبر ما، "من شكوى البعير، ولا من مشي أشجار"، بل هما أعجب، "ولا انفجار معين الماء من حجر" من إضافة الصفة للموصوف "أشد" أقوى في المعجزة "من سلسل من كفه" متعلق بقوله: "جار" بل هو أشد. "ومما أعطيه موسى عليه الصلاة والسلام الكلام أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثله ليلة الإسراء، وزيادة الدنو" مجاز عن القرب المعنوي لإظهار منزلته عند ربه، "والتدلي" طلب زيادة القرب؛ كما قال بعضهم: فليس عطف تفسير، والمقصود كما في البيضاوي تمثيل ملكة الاتصال، وتحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس، "وأيضًا كان مقام المناجاة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فوق السماوات العلا وفوق سدرة المنتهى والمستوى" الذي سمع فيه صريف الأقلام، "وحجب النور" بالنسبة للمخلوق "والرفرف" أي: البساط، قاله المصنف، "ومقام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 المناجاة لموسى عليه الصلاة والسلام بطور سيناء. وأما ما أعطيه هارون عليه الصلاة والسلام من فصاحة اللسان، فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل. ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك فقال: "وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني، لسان عربي مبين". وقد كانت فصاحه هارون غايتها في العبرانية، والعربية أفصح منها. وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ قال ابن المنير: الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة   المناجاة لموسى عليه الصلاة والسلام بطور سيناء" جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، ولا يخلو من أن يكون الطور اسمًا للجبل، وسيناء: اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منهما علم له كامرئ القيس، كما في البيضاوي. "وأما ما أعطيه هارون عليه الصلاة والسلام من فصاحة اللسان" أي: القدرة على النطق بلا ركة، ولا تلعثم، ومن بلاغة الألفاظ التي يؤدي بها، لأنها التي تحسن المقابلة بينها وبين فصاحة المصطفى، فالمراد باللسان الجارحة واللغة معًا، لا الجارحة فقط بدليل قوله الآتي: فصاحة هارون غايتها في العبرانية، إذ العبرانية لغة لا آلة، "فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبلاغة بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل" بل يعلمه كل أحد لما فيه من البلاغة المشاهدة لكل من سمعه، وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد، ولا ينكرها موافق ولا معاند، "ولقد قال له بعض أصحابه: ما رأينا الذي هو أفصح منك؟ " أي: ما رأينا أحدًا هو أفصح منك، بل أنت أفصح من رأيناه على مفاد النفي عرفًا، وإن صدق لغة بالتساوي، وأما إشعاره بأن ثم أفصح منه، لكنهم لم يروه، فليس بمراد إذ يأباه سياقه في مقام المدح، "فقال: وما يمنعني" أي: شيء يمنعني من بلوغ الغاية القصوى في الفصاحة والتميز فيها عن سائر الخلق، بحيث لا يساويني، بل ولا يقاربني فيها أحد، "وإنما أنزل القرآن بلساني" أي: لغتي جملة حالية، قصد بها تحقيق ما انتهى إليه من الفصاحة "لسان" بدل مما قبله "عربي مبين" نعت له، وذكر السان نظرًا لكون اللغة لفظًا، "وقد كانت فصاحة هارون غايتها في" لغته "العبرانية" بكسر العين "والعربية أفصح منها" ومن غيرها، "وهل كانت فصاحة هارون معجزة أم لا؟ ". "قال ابن المنير" في المعراج: "الظاهر أنها لم تكن معجزة، ولكن فضيلة" لأن حكم الفصاحة مطلقًا الظفر، وإقامة الحجة، وكبت الخصوم، وإفهامهم، وإفحامهم، وإظهار نقائص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 ولم يتحد نبي من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز، وهل فصاحته صلى الله عليه وسلم في جوامع الكلم التي ليست من التلاوة ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم" أنه من التحدث بنعمة الله تعالى عليه وخصائصه، ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الإخبار بالمغيبات ونحوها معجزة. وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام من شطر الحسن، فأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الحسن كله، وستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء الله   المتبوعين عند الاتباع، ودرء الشبهة، ودفع الشكوك، كما بسطه ابن المنير، قائلا: "ولم يتحد نبي من الأنبياء بالفصاحة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، لأن هذه الخصوصية لا تكون لغير الكتاب العزيز" لأن غيره لا يقاربه في الفصاحة، ولم يقصد به الإعجاز، وهذا مستأنف لبيان الواقع، ويحتمل أنه عطف علة على معلول، يعني أن فصاحته ليست معجزة، لأنها ما تحدى بها، ولم يثبت أن غير نبينا تحدى بذلك، لكن إنما يتم هذا لو كان التحدي شرطًا، مع أنه ليس بشرط، بل يكفي وقوعها بعد دعوى النبوة، سواء طلب المعارضة به أم لا، وإلا لزم أن أكثر الخوارق ليست معجزة، إذ لم يتحد بغير القرآن، كما مر، "وهل فصاحته" أي: نبينا "عليه السلام" ولفظ ابن المنير: واختلف الناس في فصاحته "في جوامع الكلم التي ليست من التلاوة" أي: القرآن، "ولكنها معدودة من السنة، هل تحدى بها أم لا؟ " كذا في النسخ الصحيحة: هل بلا واو، بدل مفصل من مجمل قوله: أو لا، وهل فصاحته، فهو مساو لجعل ابن المنير قوله: هل بيانًا لقوله: اختلف، فما يوجد في بعض نسخ المصنف، وهل تحدى بزيادة واو فيه شيء، ويحتاج إلى تقدير خبر لقوله: أو لا هل فصاحته، أي: معجزة أم لا؟ "وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أوتيت جوامع الكلم" أنه من التحدث بنعمة الله تعالى عليه" ومزاياه، عنده "وخصائصه" فهو دليل القول؛ بأنه لم يتحد بها، "ولا خلاف أنها باعتبار ما اشتملت عليه من الأخبار بالمغيبات ونحوها معجزة" كالقرآن، ولا يضر اشتماله على بلاغات تزيد عليها؛ لأن الكلام، وإن بلغ أعلى طبقات البلاغة، أو قارب تتفاوت مراتبه. "وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام من شطر الحسن" أي: نصفه، "فأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم الحسن كله" لكن مهابته منعت رؤيته على وجهه، ولذا قال القرطبي: لم يظهر لنا تمام حسنه، لأنه لو ظهر ما أطاقت الأعين رؤيته صلى الله عليه وسلم، "وستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 في مقصد الإسراء، ومن تأمل ما نقلته من صفته عليه الصلاة والسلام تبين له من ذلك التفضيل لنبينا على كل مشهور بالحسن في كل جيل. وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام أيضًا من تعبيره الرؤيا، فالذي نقل عنه من ذلك ثلاثة منامات، إحداها: حين رأى أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر، والثاني: منام صاحبي السجن، والثالث: منام الملك، وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يدخله الحصر، ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار وجد من ذلك العجب العجاب، وستأتي   تعالى في مقصد الإسراء، ومن تأمل ما نقلته في صفته عليه الصلاة والسلام" فيما مر أول المقصد الثالث، "تبين له من ذلك التفصيل" بصاد مهملة التبيين "التفضيل" بمعجمة: فاعل تبين "لنبينا على كل مشهور بالحسن في كل جيل" بالجيم. "وأما ما أعطيه يوسف عليه الصلاة والسلام أيضًا من تعبيره الرؤيا، فالذي نقل عنه من ذلك" في القرآن "ثلاثة منامات، إحداها: حين رأى أحد عشر كوكبًا" هي الجريان، وطارق، والذيال، وذو الكتفين، وقابس، ورثاب، وعمودان, والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع، أخرجه الحاكم في مستدركه مرفوعًا، كما في المبهمات، "والشمس والقمر" فعبرهم بأبويه وإخوته. "والثاني: منام صاحبي السجن" وهما غلامان للملك، أحدهما ساقيه، والآخر صاحب طعامه، رأياه يعبر الرؤيا، فقالا: لنختبرنه، قال الساقي: إني أراني أعصر خمرًا، وقال صاحب الطعام: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه، فأوله بأن الساقي يخرج بعد ثلاث، فيسقي سيده خمرًا على عادته، وأما الآخر فيخرج بعد ثلاث، فيصلب، فتأكل الطير من رأسه، فقالا: ما رأينا شيئًا، قال قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. "والثالث: منام الملك" ملك مصر الريان بن الوليد: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر، أي: سبع سنبلات يابسات، قال: تزرعون سبع سنين دأبًا، أي: متتابعة، وهذا تأويل السبع السمان، والسنبلات الخضر، ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد، أي: مجدبات، وهي تأويل السبع العجاف واليابسات. "وقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يدخله الحصر" أي: يضبطه، هذا هو المراد لا الدخول الذي هو الظرف، "ومن تصفح الأخبار وتتبع الآثار، وجد من ذلك العجب العجاب" وإنما لم يوصف بعلم التعبير لاشتغاله بما هو أهم منه من بيان الشرع والجهاد وغير ذلك، ويوسف عليه السلام عبر للملك وقت الحاجة، ولصاحبي السجن، فوصف به "وستأتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 نبذة من ذلك إن شاء الله تعالى. وأما ما أعطيه داود عليه الصلاة والسلام من تليين الحديد له، فكان إذا مسح الحديد لان، فأعطي نبينا صلى الله عليه وسلم أن العود اليابس أخضر في يده وأورق، ومسح صلى الله عليه وسلم شاة أم معبدة الجرباء، فدرت. وأما ما أعطيه سليمان عليه الصلاة والسلام من كلام الطير وتسخير الشياطين والريح، والملك الذي لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطي   نبذة" بضم النون "من ذلك إن شاء الله تعالى" في الفصل الثاني من المقصد الثامن. "وأما ما أعطيه داود عليه الصلاة والسلام من تليين الحديد له" كما قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} الآية، "فكان إذا مسح الحديد لان", الله جعله في يده، كالعجين والشمع يمزقه كيف شاء من غير إحماء، ولا طرق بآلة أو بقوة، "فأعطي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن العود اليابس اخضر في يده وأورق، ومسح صلى الله عليه وسلم شاة أم معبدة الجرباء": صفة شاة "فدرت"، وقصتها في الهجرة مرت. "وأما ما أعطيه سليمان عليه الصلاة والسلام من كلام الطير" أي: نطقه مصدر مضاف لفاعله، أي: أن سليمان علم منطق الطير المعتاد له، لا أن الطير نفسه خرج عن عادته، فنطق بالعربية، كما وقع لنبينا في الظبية والذئب، بل وفي الجماد وغيره، فإنه لم يرد نطق الطير لسليمان وإنما فهم سليمان من تصويته معنى، كما أشار إليه البيضاوي في قوله تعالى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} الآية، إذ قال: ولعل سليمان مهما سمع صوته علم بقوته القدسية النخيل الذي صوته، والغرض الذي توخاه به، ومن ذلك ما حكي؛ أنه مر ببلبل يصوت ويرقص، فقال: يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا، فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال، وصياح الفاختة عن مقاساة: شدة وتألم قلب، "وتسخير الشياطين"، كما قال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} الآية، أي: من أن يفسدوا ما عملوا، لأنهم إذا فرغوا من العمل قبل الليل أفسدوه، إن لم يشتغلوا بغيره، وكما قال: والشياطين كل بناء وغواص وآخذت مقرنين في الأصفاد، أي: يبني الأبنية العجيبة، وغواص في البحر يستخرج اللؤلؤ، ومقرنين مشدودين في الأصفاد: القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم ليكفوا عن الشر "والريح" كما قال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} الآية، أي: لينه حيث أصاب، أي: أراد {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} ، "والملك الذي لم يعطه أحد من بعده، فقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وزيادة" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وزيادة. أما كلام الطير والوحش فنبينا صلى الله عليه وسلم كلمه الحجر، وسبح في كفه الحصى، وهو جماد، وكلمه ذراع الشاة المسمومة -كما تقدم في غزوة خيبر- وكذلك كلمه الظبي وشكا إليه البعير -كما مر- وروي أن طيرًا أفجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فيقول: "أيكم فجع هذا بولده"، فقال رجل أنا, فقال: "اردد ولده". ذكره الرازي ورواه أبو داود بلفظ: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش -أي تدنو- من الأرض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها"، الحديث   وبينه بقوله: "أما كلام الطير والوحش، فنبينا صلى الله عليه وسلم كلمه الحجر" بكلام فهمه المصطفى وغيره، "وسبح في كفه الحصى" حتى سمعه الحاضرون، "وهو جماد" فهو أبلغ إعجازًا، "وكلمة ذراع الشاة المسمومة، كما تقدم في غزوة خيبر" وهو قوي في الإعجاز، أبلغ من إحياء الإنسان الميت، لأنه جزء حيوان دون بقيته، فهو معجزة لو كان متصلا بالبدن، فكيف وقد أحياه وحده منفصلا عن بقيته مع موت البقية، وأيضًا فقد أعاد عليه الحياة مع الإدراك والعقل، ولم يكن يعقل في حياته، فصار جزؤه حيًا عاقلا، وأقدره الله على النطق والكلام، ولم يكن حيوانه يتكلم، وهذا أبلغ من إحياء الموتى لعيسى، وإحياء الطيور لإبرهيم، "وكذلك كلمه الظبي" والضب، وسمعه حاضروه، "وشكا إليه البعير، كما مر" قريبًا. "وروي؛ أن طيرًا أفجع" أصيب "بولده، فجعل يرفرف" يبسط جناحيه، يريد أن يقع "على رأسه" صلى الله عليه وسلم بدليل قوله: ويكلمه، فيقول: "أيكم، فجع هذا بولده"؟، فقال رجل: أنا، فقال: "اردد ولده"، ذكره الرازي" الإمام فخر الدين، "ورواه أبو داود" والحاكم، وصححه عن ابن مسعود، "بلفظ: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة" بضم الحاء المهملة، وشد الميم المفتوحة، وقد تخفف، وبالراء ضرب من الطير، كالعصفور، "معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش" بضم الراء وكسرها، "أي: تدنو من الأرض، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية الطيالسي والحاكم: فجاءت الحمرة ترف على رسول الله وأصحابه، فقال: "من فجع هذا بولدها؟ ردوا ولدها إليها" الحديث تتمته: ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: "من حرق هذه"؟ قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" , وقرية النمل موضعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 وقصة كلام الذئب مشهورة. وأما الريح التي كانت غدوها شهر ورواحها شهر، تحمله أين أراد من أقطار الأرض، فد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم البراق الذي هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من الفرش إلى العرش في ساعة زمانية، وأقل مسافة في ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات، وأما إلى المستوى وإلى الرفرف فذلك ما لا يعلمه إلا الله.   وروى الطيالسي، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل رجل غيضة، فأخرج منها بيض حمرة، فجاءت الحمرة ترف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أيكم فجع هذه"؟. فقال رجل: أنا يا رسول الله، أخذت بيضها، وفي رواية الحاكم: أخذت فرخيها، فقال: "رده رحمة لها". وروى الترمذي، وابن ماجه، عن عامر الرام: أن جماعة من الصحابة دخلوا غيضة، فأخذوا فرخ طائر، فجاء الطير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرف، فقال: "أيكم أخذ فرخ هذا؟ "، فأمره أن يرده فرده، وحكمة الأمر بالرد؛ أنها لما استجارت به أجارها، فوجب ردها، واحتمال كونهم محرمين بعيد مع قوله: رحمة لها، "وقصة كلام الذئب" بكلام الإنس العربي "مشهورة" وتقدمت قريبًا. "وأما الريح التي كانت غدوها" سيرها من الغدوة بمعنى الصباح إلى الزوال "شهر" أي: مسيرته، ورواحها" أي سيرها من الزوال إلى الغروب "شهر تحمله أين أراد من أقطار الأرض" قال الحسن: كان يغدو من دمشق، ويقيل باصطخر، وبينهما شهر للراكب المسرع، ثم يروح من اصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر، "فقد أعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم البراق" بضم الموحدة "الذي هو أسرع من الريح، بل أسرع من البرق الخاطف، فحمله من افرش إلى العرش" عرش الرحمن "في ساعة زمانية، وأقل مسافة في ذلك سبعة آلاف سنة، وتلك مسافة السماوات" لأن بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة، فهي سبعة آلاف. "وأما إلى المستوى وإلى الرفرف، فذلك ما لا يعلمه إلا الله" وفي الشامية أعطي البراق سارية، مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، انتهى، وهذا كله على أحد القولين: أن العروج إلى السماوات كان على البراق، والصحيح الذي تقرر من الأحاديث الصحيحة؛ كما قال السيوطي وغيره: إنه كان على المعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، ولذا قال ابن كثير: لما فرغ من أمر بيت المقدس، نصب له المعراج، وهو السلم، فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 وأيضًا: فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحي الأرض، ونبينا صلى الله عليه وسلم زويت له الأرض -أي جمعت- حتى رأى مشارقها ومغاربها، وفرق بين من يسعى إلى الأرض, وبين من تسعى له الأرض. وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين فقد روي أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فأمكنه الله منه وربطه بسارية من سواري المسجد. وخير مما أوتيه سليمان من ذلك إيمان الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فسليمان استخدمهم ومحمد استسلمهم.   الصعود على البراق، كما قد يتوهم بعض الناس بل كان البراق مربوطًا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة، "وأيضًا فالريح سخرت لسليمان لتحمله إلى نواحي الأرض، ونبنيا صلى الله عليه وسلم" لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه "زويت له الأرض" بالزاي المنقوطة، أي: جمعت "حتى رأى مشارقها ومغاربها" وما يبلغه ملك أمته منها، "وفرق بين من يسعى إلى الأرض، وبين من تسعى له الأرض" وهو المصطفى. "وأما ما أعطيه من تسخير الشياطين" في الأعمال الشاقة، كالبناء والغوص يعملون له ما يشاء من محاريب، وهي أبنية مرتفعة، يصعد إليها بدرج وتماثيل: جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء، أي: صورًا من نحاس وزجاج، ورخام ولم يكن اتخاذ الصور حرامًا في شريعته، وجفان: جمع جفنة، كالجوابي: جمع جابية، وهي حوض كبير يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها، وقدور راسيات ثابتات، لها قوائم لا تحرك عن أماكنها، تتخذ من الجبال باليمن، يصعد إليها بسلالم. "فقد روي أن أبا الشياطين إبليس اعترض سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فأمكنه الله منه، وربطه بسارية من سواري المسجد" النبوي، لكن الذي روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الشيطان عرض لي، فشد عليّ ليقطع الصلاة عليّ، فأمكنني الله منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه، فذكرت قول سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} الآية، فرده الله خاسئًا"، وأخرجه مسلم والبخاري أيضًا بلفظ: "إن عفريتا من الجن تفلَّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة"، فذكره، وهذا ظاهر في أن المراد غير إبليس، كما قال الحافظ: وهو نص في أنه تمكن منه، لكنه لم يربطه مراعاة لسليمان, وذعته بذال معجمة، وعين مهملة خفيفة، وفوقية ثقيلة: خنقته خنقًا شديدًا، "وخير مما أوتيه سليمان من ذلك" التسخير "إيمان الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم، فسليمان استخدمه" ولم يؤمنوا به، "والنبي صلى الله عليه وسلم استسلمهم" ولا شيء أعلى من الإسلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 وأما عد الجن من جنود سليمان في قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ} [النمل: 17] ، فخير منه عد الملائكة، جبريل ومن معه من جملة أجناده عليه الصلاة والسلام باعتبار الجهاد وباعتبار تكثير السواد على طريقة الأجناد. وأما عد الطير من جملة أجناده، فأعجب منه حمامة الغار وتوكيرها في الساعة الواحدة، وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية، وقد حصلت من أعظم شيء بأيسر شيء. وأما ما أعطيه من الملك، فنبينا صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا، فاختار صلى الله عليه وسلم أن يكون نبيًا عبدًا، ولله در القائل: يا خير عبد على كل الملوك ولي وأما ما أعطيه عيسى عليه الصلاة والسلام من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء   "وأما عد الجن من جنود سليمان في قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [النمل: 17] الآية والطير في مسير له فهم له يوزعون، أي: يجمعون، ثم يساقون، "فخير منه عد الملائكة جبريل ومن معه من جملة أجناده عليه السلام، باعتبار الجهاد" وفي بدر العظمى، "وباعتبار تكثير السواد" في غيرها لإرهاب العدو "على طريقة الأجناد"، كما وقع في أحد والخندق وحنين؛ كما مر بيانه في محله. "وأما عد الطير من جملة أجناده" في الآية الكريمة، "فأعجب منه حمامة الغار" أي: جنسها، فلا ينافي كونهما حمامتين، كما مر في الهجرة "وتوكيرها" أي: اتخاذها الوكر "في الساعة الواحدة، وحمايتها له من عدوه، والغرض من استكثار الجند إنما هو الحماية" من الأعداء، "وقد حصلت من أعظم شيء" وهم كفار قريش الذين خرجوا في طلبه، وجعلوا مائة ناقة لمن رده أو قتله "بأيسر شيء" وهو تعشيش الحمامة، "وأما ما أعطيه من الملك" بطلبه، "فنبينا صلى الله عليه وسلم خير" بلا طلب "بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو نبيًا عبدًا" أو بمعنى الواو؛ كقوله: قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع لأن بين ظرف مبهم لا يبين معناه إلا بإضافته إلى اثنين فصاعدًا، أو ما يقوم مقام ذلك؛ كقوله: عوان بين ذلك، كما بين في موضعه"، "فاختار صلى الله عليه وسلم أن يكون نبيًا عبدًا، ولله در القائل: يا خير عبد على كل الملوك ولي" أي: جعلت له الولاية عليهم، وكفى بذلك شرفًا. وأما ما أعطيه عيسى عليه الصلاة والسلام من إبراء الأكمه" الذي ولد أعمي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 الموتى، فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه رد العين إلى مكانها بعدما سقطت فعادت أحسن ما كانت، وفي دلائل النبوة للبيهقي قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا أؤمن بك حتى تحيي لي ابنتي وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أتى قبرها فقال: "يا فلانة"، فقالت: لبيك وسعديك يا رسول الله، الحديث، وقد مر. وروي أن امرأة معاذ بن عفراء -كانت برصاء- فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح عليها بعصا فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازي، وأيضًا قد سبح الحصى في كفه، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى لأن هذا من جنس ما لا يتكلم.   "والأبرص" وخصا؛ لأنهما مرضا إعياء، وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء، بشرط الإيمان، وقدمت ما كان يدعو به، "وإحياء الموتى" بإذن الله، فأحيا عازر صديقًا له، وابن العجوز، وابنه العاشر، فعاشوا، وولد لهم وسام بن نوح، ومات في الحال، وكان المصنف اقتصر على هذه الثلاثة لاشتهارها دون بقية معجزاته وإلا فصدر الآية: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وآخرها تأتي الإشارة إليه ومن معجزاته، المائدة وغير ذلك، "فأعطي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه رد العين" لقتادة "إلى مكانها بعدما سقطت" على وجنته، "فعادت أحسن ما كانت" فهذا أبلغ من إبراء الأكمه، لأن عينيه في مكانهما. "وروي أن امرأة معاذ بن عفراء، وكانت برصاء، فشكت" الفاء زائدة في خبر أن عند من يجيزه، "ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح عليها بعصا" ولم يمسها بيده، لأنها أجنبية، ولم يمس أجنبية أبدًا، وإشارة لغيره؛ وإن كان هو سيد أهل اليقين إلى أنه لا ينبغي مس محل البرص ونحوه، مخافة أن يصاب به الماس، فيتوهم أنه أعداه، "فأذهب الله البرص منها، ذكره الرازي، وأيضًا فقد سبح الحصى في كفه، وسلم عليه الحجر، وحن لفراقه الجذع، وذلك أبلغ من تكليم الموتى؛ لأن هذا من جنس ما لا يتكلم" لم يقل من جنس ما لم تحله الحياة للخلاف في أن نطق الجماد هل هو بعد تصييره حيًا، أو مع بقائه على كونه جمادًا وإحياء الجماد أبلغ من إحياء الموتى. قال ابن كثير: حلول الحياة والإدراك والعقل في الحجر الذي كان يخاطبه صلى الله عليه وسلم أبلغ من حياة الحيوان في الجملة؛ لأنه كان محلا للحياة في وقت، بخلاف هذا لا حياة فيه بالكلية قبل ذلك، وكذلك تسليم الأحجار، والمدر، والشجر، وحنين الجذع، وجعل أبو نعيم نظير خلق الطين طيرًا، جعل العسيب سيفًا، كما تقدم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 وفي دلائل النبوة للبيهقي قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أرني قبرها" وأتى قبرها فقال: "يا فلانة" فقالت: لبيك وسعديك ... الحديث، وقد مر. وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس في بيوتهم،   "وفي دلائل النبوة للبيهقي قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي، وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم" قال: "أرني قبرها"، وأتى قبرها فقال: "يا فلانة" باسمها الخاص فكنى عنه الراوي بفلانة لنحو نسيان، "فقالت: لبيك وسعديك ... الحديث، وقد مر" جميع ذلك الذي من جملته بقية الحديث قريبًا، وحاصل ما ذكره أن المصطفى شارك عيسى في إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وزاد بتكليم الجماد له، وإياء الجزء من الحي بعد انفصاله، كرد العين والذراع المسمومة، ولم يعهد مثله، وترك المصنف من آيات عيسى عليه الصلاة والسلام المائدة؛ لقول ابن المنير: لا يلزمنا إثبات نظيرها لنبينا، لأنها كانت محنة لبني إسرائيل، لا نعمة، لأنهم لعنوا بسببها، كما جاء في تفسير قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية، على لسان داود وعيسى ابن مريم؛ إنهم أصحاب المائدة، كفروا بعدها فلعنوا، ولم تقبل منهم توبة أبدًا، قال: وعلى تقدير شائبة الكرامة في إجابة دعوة عيسى، فنظير ذلك لنبينا إجابته حين خفت أزواد القوم، فجمعها فكانت كربضة العنز، ولا جفاء أنه طعام أقل من عشرة، فدعا بالبركة، فملأ الناس، وهم زهاء ألف ونيف أوعيتهم، والطعام بحاله، فهذه مائدة نزلت من السماء وطعام مبارك، قال الله: {كُنْ} الآية، فكان بدون تهديد، ولا وعيد، ولا تشديد، ولا محنة، ولا فتنة، ولا سد باب التوبة، بتقدير كفران النعمة، بل كانت نعمة محض، انتهى. وفي الشامية تقدم نظير ذلك لنبينا؛ أنه أتي بطعام من السماء في عدة أحاديث تقدمت، وروى البيهقي عن أبي هريرة، قال: أتى رجل أهله، فرأى ما بهم من الحاجة، فخرج إلى البرية، فقالت امرأته: اللهم ارزقنا ما نعجن ونخبز، فإذا الجفنة ملأى خميرًا، والرحى تطحن، والتنور ملأى خنوب شواء، فجاء زوجها وسمع الرحى، فقامت إليه لتفتح له الباب، قال: ماذا كنت تطحنين؟ فأخبرته وإن رحاهما لتدور وتصب دقيقًا، فلم يبق في البيت وعاء إلا ملئ، فرفع الرحى، وكنس ما حولها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ما فعلت بالرحى"؟ قال: رفعتها ونفضتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو تركتموها ما زالت كما هي لكم حياتكم" وفي رواية: "لو تركتموها لدارت إلى يوم القيامة". "وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من أنه كان يعرف ما تخفيه الناس في بيوتهم" كما قال تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} الآية، أي: بالمغيبات من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي. وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من رفعه إلى السماء، فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك ليلة المعراج، وزاد في الترقي لمزيد الدرجات وسماع المناجاة والحظوة في الحضرة المقدسة بالمشاهدات. وبالجملة: فقد خص الله تعالى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدًا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والتسليم. وقد روى جابر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:   أحوالكم التي لا تشكون فيها، فكان يخبر الشخص بما أكل وبما يأكل بعد، "فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما لا يحصى، ويأتي إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي" في المقصد الثامن. "وأما ما أعطيه عيسى أيضًا من رفعه إلى السماء" حيًا، أو بعد أن مات قولان أصحهما الأول، وعليه فقال بعضهم: صار كالملائكة في زوال الشهوة، ونقل البغوي وغيره عن قتادة: أن عيسى قال لأصحابه: أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول، فقال رجل: أنا، فقتل، ومنع الله عيسى، ورفعه إليه، وكساه الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش، فكان إنسيًّا، ملكيًّا، سماويًّا، أرضيًّا، ولذا قلت في جواب سؤال: وقد صار عيسى بعد رفع إلى السما ... كالأملاك لا يشرب ولا هو يأكل كما قاله الحبر الإمام قتادة ... فتنظير بعض فيه تقصير يجعل "فقد أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك ليلة المعراج، وزاد في" الأول حذفها لظهور أن المراد، أنه شارك عيسى في العروج، وزاد علي "الترقي لمزيد الدرجات" التي ما وصل إليها نبي ولا ملك، ولفظة في تقتضي مشاركته في الترقي "وسماع المناجاة" كلام الله تعالى، "والحظوة" بضم الحاء وكسرها: المحبة ورفعة المنزلة "في الحضرة المقدسة بالمشاهدات" وهذا تفصيل بعض ما أوتيه في نظير ما أوتيه الأنبياء الذين ذكرهم، "وبالجملة فقد خص الله تعالى سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم من خصائص التكريم بما لم يعطه أحدًا من الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم" وتفصيل ذلك متعسر أو متعذر. "وقد روى جابر" بن عبد الله، "عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال" في غزوة تبوك، كما في حديث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا   عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند الإمام أحمد: "أعطيت" بضم الهمزة "خمسًا" أي: خمس خصال، "لم يعطهن أحد" من الأنبياء "قبلي" قال الحافظ: ظاهر الحديث أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك، ولا يعترض بأن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلا من آمن معه، وقد كان مرسلا إليهم؛ لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فعموم رسالته من أصل بعثته، فثبت اختصاصه بذلك، وفيه أجوبة أخرى تأتي قريبًا، "كان كل نبي يبعث إلى قومه" المبعوث إليهم "خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود" قال الحافظ: المراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: الأحمر الإنس، والأسود الجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى؛ لأنه مرسل إلى الجميع، انتهى، أي: بالأقرب، وهم الإنس عجمًا وعربًا على الأبعد وهم الجن، وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري في التيمم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"، وكذا لفظه في الصلاة، لكنه قال: كافة بدل عامة، ولمسلم من حديث أبي هريرة: "وأرسلت إلى الخلق كافة"، وهي أصرح الروايات وأشملها، فهي حجة لمن ذهب إلى إرساله إلى الملائكة لظاهر قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، ويأتي بسطه، "وأحلت لي الغنائم" وللكشميهني: المغانم، بميم قبل الغين، وهي رواية مسلم، "ولم تحل لأحد قبلي". قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن لهم فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته، وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها حيث شاء والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا، ذكره الحافظ، "وجعلت لي الأرض مسجدًا" أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك، وفي رواية أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: وكان من قبلي، إنما يصلون في كنائسهم، وللبزار من حديث ابن عباس: ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه، "وطهورًا" بفتح الطاء على المشهور، واحتج به أبو حنيفة ومالك على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض، وخصه الشافعي وأحمد بالتراب، لما في مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان ونصرت بالرعب مسيرة شهر   كلها مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا" وتعقب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأما رواية ابن خزيمة وغيره الحديث بلفظ: "وجعل ترابها"، وقوله في حديث علي: "وجعل التراب لي طهورًا" , رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، فالنص على التراب في هاتين الروايتين لبيان أفضليته لا لأنه لا يجزئ غيره، وليس مخصصًا لعموم قوله: "وطهورًا"؛ لأن شرطه أن يكون منافيًا، ولذا قال القرطبي هو من باب النص على بعض أشخاص العموم؛ كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] الآية، انتهى. واستدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره، إذ لو كان المراد الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سبق لإثباتها، وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود، بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعًا: "جعلت لي كل أرض طيبة مسجدًا وطهورًا"، ومعنى طيبة طاهرة، فلو كان معنى طهورًا طاهرًا للزم تحصيل الحاصل، "فأيما رجل" كائن "من أمتي أدركته الصلاة" جملة في موضع جر، صفة لرجل، وأي مبتدأ فيه معنى الشرط، وما زائدة للتعميم، ورجل مضاف إليه، وفي رواية أبي أمامة عند البيهقي: "فأيما رجل من أمتي أتى الصلاة، فلم يجد ماء، وجد من الأرض طهورًا ومسجدًا". وعند أحمد: فعنده طهوره ومسجده، "فليصل حيث كان" خبر المبتدأ، أي: بعد أن يتيمم، أو حيث أدركته الصلاة، ولأحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: فأينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت. قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا لا طهورًا؛ لأن عيسى كان يسبح في الأرض ويصلي حيث أدركته في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم"، وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، وللبزار، ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه، قاله الحافظ، وتبرعنا به هنا تبعًا للشيخ، مع أن المصنف ذكره قريبًا بعد ذلك، وعلى ظاهر ما رجحه يسقط عنهم وجوب الأداء، ويقضون إذا رجعوا، وبه جزم بعض شراح الرسالة القيروانية، ويؤيده ظاهر قوله: "حتى يبلغ محرابه"، فما قيل هل يسقط عنهم مطلقًا أو محل الحصر في الكنائس ونحوها في الحضر لا في السفر، ويكون محل خصوصيتنا الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد مع سهولة الصلاة فيه، انظره فيه قصور، ويمنع الثاني أن القيد لا بد له من دليل، مع أن ظاهر قوله: حتى يبلغ محرابه خلافه، " ونصرت بالرعب" بضم الراء: الخوف، زاد أحمد عن أبي أمامة: يقذف في قلوب أعداي "مسيرة شهر" غيابه، لأنه لم يكن بين بلده الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 وأعطيت الشفاعة"، رواه البخاري. وفي رواية: "وبعثت إلى الناس كافة". وزاد البخاري في روايته -في الصلاة- عن محمد بن سنان: من الأنبياء. وعند الإمام أحمد: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي، ولا أقوله فخرًا".   وبين أعدائه أكثر منه في ذلك الوقت، وهذه الخصوصية حاصلة له مطلقًا حتى لو كان وحده بلا عسكر، وفي حصولها لأمته بعده احتمال أصله خبر أحمد الرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا. وعن ابن عباس: مسيرة شهرين، وعن السائب بن يزيد: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي"، رواهما الطبراني، ورواية السائب مبينة لمعنى رواية ابن عباس. "وأعطيت الشفاعة" العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، كما جزم به النووي وغيره، قال للعهد، كما قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، ويأتي بسطه، "رواه البخاري" ومسلم واللفظ له، فلو عزاه لهما لاستقام، ولفظ البخاري في التيمم عن شيخه سعيد بن النضر: أنا هشيم, أنا سيار, حدثنا يزيد, أنا جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة"، ومعلوم أن أل في النفي للاستغراق، فيساوي رواية كل نبي، لكن قد رأيت ما فيه من التقديم والتأخير، فما الحامل على العز, وللبخاري: والإتيان بلفظ مسلم وإن اتحد المعنى. "وفي رواية" هي رواية البخاري في الصلاة: "وبعث إلى الناس كافة" بدل عامة، وهما بمعنى، "وزاد البخاري في روايته" هذا الحديث "في" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" من كتاب "الصلاة عن" شيخه "محمد بن سنان" بكسر المهملة، وخفة النون الباهلي، البصري، العوقي، بفتح المهملة والواو بعدها قاف ثقة ثبت مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، أي: عن هشيم بهذا الإسناد بعد قوله: "لم يعطهن أحد "من الأنبياء" قبلي"، وساقه بلفظ التيمم لكنه عبر بكافة بدل عامة، وجعل وأعطيت الشفاعة ختام الحديث، قال الحافظ رحمه الله: مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شاهد من حديث ابن عباس، وأبي موسى وأبي ذر، ومن رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان، انتهى. "وعند الإمام أحمد: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي" أي: من اتصف بالنبوة، فدخل في ذلك الرسل، إذ لا يوجد رسول إلا وهو نبي، ويدل على المراد قوله: "وأحلت لي الغنائم، إذ الأنبياء لم يكن لهم غنائم"، "ولا أقوله فخرًا" بل تحدثا بالنعمة لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 وفيه: "وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا". وإسناده كما قال ابن كثير جيد. وليس المراد حصر خصائصه عليه الصلاة والسلام في هذه الخمس المذكورة. فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة   رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الآية، وفيه: "وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا" وإن فعل المعاصي، وفي رواية عمرو بن شعيب: "فهي لكم ولمن يشهد أن لا إله إلا الله". قال الحافظ: فالظاهر أن المراد بالشفاعة المختصة به في هذا الحديث إخراج من ليس له عمل إلا التوحيد، وهو مختص أيضًا بالشفاعة الأولى، أي في فصل القضاء، لكن جاء التنويه بذكر هذه، لأنها غاية المطلوب عن تلك، لاقتضائها الراحة المستمرة، وقد ثبتت هذه في رواية البخاري في التوحيد: "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله"، ولا تعكر عليه رواية مسلم، فيقول: "وعزتي ليس ذاك لك وعزتي" ... إلخ؛ لأن المراد أن لا يباشر الإخراج، كما في المرات الماضية، بل كانت شفاعته سببًا في ذلك في الجملة، "وإسناده كما قال ابن كثر جيد" أي: مقبول، "وليس المراد حصر خصائصه عليه الصلاة والسلام في هذه الخمس المذكورة" كما يعطيه المفهوم، "فقد روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا" أي أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم" أي: جمع المعاني الكثيرة في ألفاظ يسيرة، وقيل: إيجاز الكلام في اتساع من المعنى، فالكلمة القليلة الحروف تتضمن كثيرًا من المعاني وأنواعًا من الكلام، "ونصرت بالرعب" يقذف في قلوب أعدائي مسيرة شهر، وللطبراني عن السائب بن يزيد: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي"، "وجعلت لي الأرض مسجدًا" وطهورًا، بفتح الطاء، وفيه أن الأصل في الأرض الطهارة وأن صحة الصلاة لا تختص بالمسجد المبني لذلك، وأما حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" فضعيف، أخرجه الدارقطني من حديث جابر، واستدل به صاحب المبسوط من الحنفية على إظهار كرامة الآدمي، قال: لأن الآدمي خلق من ماء وتراب، وقد ثبت أن كلا منهما طهور، ففي ذلك بيان كرامته، قال في الفتح، "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرسالة عامة محيطة بهم، لأنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 وختم بي النبيون" فذكر الخمسة المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: وأعطيت جوامع الكلم وختم بي النبيون، فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال. ولمسلم أيضًا من حديث حذيفة مرفوعًا: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" وذكر خصلة الأرض كما تقدم، قال: وذكر خصلة أخرى. وهذه الخصلة المبهمة قد بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي: "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش"، يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الإصر.   إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، وهذا أصرح الروايات وأشملها، فهي مؤيدة لمن ذهب إلى إرساله إلى الملائكة؛ كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، ويأتي بسطه في كلام المصنف، "وختم بي النبيون" أي: أغلق باب الوحي والرسالة، وسد لكمال الدين، وتصحيح الحجة، فلا نبي بعده، وعيسى إنما ينزل بتقرير شرعه. قال الحافظ العراقي: وكذا الخضر وإلياس بناء على نبوة الخضر وبقائهما إلى الآن، فكل تابع لأحكام هذه الملة، "فذكر" أبو هريرة في حديثه "الخمسة المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة، وزاد خصلتين وهما: "وأعطيت" الأولى حذف الواو، لأنها ليست في الحديث "جوامع الكلم وختم بي النبيون" فتحصل منه، ومن حديث جابر سبع خصال، ولمسلم أيضًا من حديث حذيفة" بن اليمان مرفوعًا: "فضلنا على الناس بثلاث" من الخصال "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" قال الزين العراقي: المراد به التراص وإتمام الصوف الأول، فالأول في الصلاة، فهو من خصائص هذه الأمة، وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، "وذكر خصلة الأرض، كما تقدم", "وجعلت لنا الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا"، "قال: وذكر خصلة أخرى" أبهمها نسيانًا أو نحوه، "وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة، والنسائي" والإمام أحمد، وهي: "وأعطيت هذه الآيات في آخر سورة البقرة" {آَمَنَ الرَّسُولُ} الآية، "من كنز تحت العرش" قال العراقي: معناه أنها ادخرت له، وكنزت، فلم يؤتها أحد قبله، وكثير من آي القرآن منزل في الكتب السابقة باللفظ أو المعنى، وهذه لم يؤتها أحد، وإن كان فيه أيضًا ما لم يؤت غيره لكن في هذه خصوصية لهذه الأمة، وهي وضع الإصر الذي على من قبل، ولذا قال في بقية الرواية: "لم يعطها نبي قبلي" انتهى، وإليه يومئ قوله: "يشير إلى ما حطه الله تعالى عن أمته من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 وتحميل ما لا طاقة لهم به، ورفع الخطأ والنسيان، فصارت الخصال تسعًا. ولأحمد من حديث عليّ: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلي أعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعلت أمتي خير الأمم"، وذكر خصلة التراب، فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة. وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "فضلت على الأنبياء، غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر، وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه".   الإصر" الأمر الذي يثقل حمله، كقتل النفس في التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وفرض موضع النجاسة، "وتحميل ما لا طاقة" قوة "لهم به" من التكاليف والبلاء، "ورفع الخطأ" ترك الصواب لا عن عمد، "والنسيان، فصارت الخصال تسعًا، ولأحمد من حديث عليّ" مرفوعًا: "وأعطيت أربعًا لم يعطهن أحد من أنبياء الله تعالى قبلي: أعطيت مفاتيح" جمع مفتاح بالكسر: اسم للآلة التي يفتح بها، وهو في الأصل كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها، قاله ابن الأثير، "الأرض" وفي رواية: خزائن الأرض، استعارة لوعد الله تعالى بفتح البلاد: جمع خزانة، ما يخزن فيه الأموال، وهي مخزونة عند أهل البلاد قبل فتحها، أو المراد خزائن العلم بأسره، ليخرج لهم بقدر ما يستحقونه فكل ما ظهر في العالم، فإنما يعطيه الذي بيده المفتاح، بإذن المفتاح كذا أوله بعضهم، وإجراؤه على ظاهره أولى؛ لحديث جابر عند أحمد برجال الصحيح، وصححه ابن حبان وغيره مرفوعًا، "أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق، جاءني به جبريل، عليه قطيفة من سندس"، "وسميت أحمد" فلم يسم به أحد قبله، حماية من الله لئلا يدخل لبس على ضعيف اليقين، أو شك في أنه هو المنعوت بأحمد في الكتب السالفة، "وجعلت أمتي خير الأمم" بنص: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، وشرفها من شرفه، "وذكر خصلة التراب" فقال: "وجعل لي التراب طهورًا"، "فصارت الخصال ثنتي عشرة خصلة". "وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه: "فضلت على الأنبياء" بست، وبين ما فضل به بقوله: "غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر" أي: حيل بيني وبين الذنوب، فسترت عني، فلم آتها على أوجه محامله، ويأتي بسطه، "وجعلت أمتي خير الأمم، وأعطيت الكوثر" نهر في الجنة؛ كما صح عن مسلم، "وإن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمن دونه" وفي أنه حقيقي، وعند الله علم حقيقته، أو تصوير لعظمته وانفراده بالمقام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 وذكر ثنتين مما تقدم. وله من حديث ابن عباس رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم". قال: ونسيت الأخرى. فينتظم بها سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع. وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب "شرف المصطفى" أن عدد الذي خص به صلى الله عليه وسلم ستون خصلة. وطريق الجمع أن يقال: لعله صلى الله عليه وسلم اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله   الذي تحمده الخلائق قولان ويأتي، "وذكر ثنتين مما تقدم" من الخصال تمام الست، "وله" أي: البزار من حديث ابن عباس رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين: كان شيطاني كافرًا، فأعانني الله عليه فأسلم" بفتح الميم، أي: آمن بي قطعًا، إذ هذا اللفظ لا يحتمل غير هذا، فأما الذي حكى فيه النووي وغيره روايتين الفتح والضم، فإنما هو حديث مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن" , قالوا: وإياك؟ قال: "وإياي إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" روي هذا بفتح الميم وضمها، وصحح الخطابي الرفع، ورجح القاضي عياض والنووي الفتح، وهو المختار. "قال" الراوي ابن عباس أو من دونه: "ونسيت الأخرى" وهي مبينة في رواية البيهقي في الدلائل عن ابن عمر مرفوعًا: "فضلت على آدم بخصلتين: كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه حتى أسلم، وكن أزواجي عونًا لي وكان شيطان آدم كافرًا، وكانت زوجته عونًا عليه"، "فينتظم" يجتمع "بها" بهذه الأحاديث "سبع عشرة خصلة، ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع" للأحاديث. "وقد ذكر أبو سعيد النيسابوري في كتاب شرف المصطفى؛ أن عدد الذي خص به صلى الله عليه وسلم" على الأنبياء "ستون خصلة، وطريق الجمع" بين مختلف هذه الأحاديث من ست، وخمس، وثلاث، وأربع، وثنتين، "أن يقال: لعله عليه السلام اطلع أولا على بعض ما اختص به" فأخبر به، "ثم اطلع على الباقي" فحدث به، إذ لا ينطق عن الهوى، وهذا عند من يحتج بمفهوم العدد، "ومن لا يرى مفهوم العدد حجة" وإن كان نصًا في مدلوله "يدفع هذا الإشكال من أصله" إذ الإخبار بعدد لا يخفي غيره، وهذا الذي ساقه المصنف بعد حديث جابر إلى هنا من فتح الباري. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 وقد ذكر بعض العلماء أنه صلى الله عليه وسلم أوتي ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية. وقد اختلف في العلم بخصائصه عليه السلام، فقال الصيمري من الشافعية: منع أبو علي بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى فلا معنى للكلام فيه. وقال إمام الحرمين: قال المحققون ذكر الاختلاف في مسائل الخصائص خبط غير مفيد، فإنه لا يتعلق به حكم ناجز تمس إليه الحاجة، وإنما يجري الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم فيه، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة. وقال النووي في الروضة والتهذيب بعد نقله هذين الكلامين: وقال   "وقد ذكر بعض العلماء، أنه صلى الله عليه وسلم أوتي ثلاثة آلاف معجزة وخصيصية" وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم؛ أن معجزاته تزيد على ألف ومائتين، وقال البيهقي في المدخل: بلغت ألفًا، وقال الزاهدي من الحنفية: ظهر على يديه ألف معجزة، وقيل: ثلاثة آلاف هذا لفظ الفتح، وفي الأنموذج: وخص بأنه أكثر الأنبياء معجزات، فقد قيل: إنها تبلغ ألفًا، وقيل: ثلاثة آلاف سوى القرآن فإن فيه ستين ألف معجزة تقريبًا، قال الحليمي: وفيها مع كثرتها معنى آخر، وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا خاصة، انتهى، أي: كتكثير الطعام واللحم والتمر والماء، ونحو ذلك. "وقد اختلف في العلم بخصائصه عليه السلام، فقال الصيمري" بفتح الصاد المهملة وسكون التحتية، وفتح الميم، وراء نسبة إلى صيمر: نهر بالبصرة عليه عدة قرى، وبلد بخوزستان، كما في اللب "من الشافعية: منع أبو علي بن خيران الكلام فيها، لأنه أمر انقضى، فلا معنى للكلام فيه" لضياع الزمن بلا فائدة. "وقال إمام الحرمين: قال المحققون: ذكر الاختلاف في مسائل الخصائص خبط" سير على غير هدى "غير مفيد" بل قد يؤدي إلى ضرر شديد، "فإنه لا يتعلق به حكم ناجز، تمس إليه الحاجة، وإنما يجري الخلاف فيما لا يوجد بد من إثبات حكم في، فإن الأقيسة لا مجال لها، والأحكام الخاصة تتبع فيها النصوص، وما لا نص فيه، فالخلاف فيه هجوم على الغيب من غير فائدة". "وقال النووي في الروضة والتهذيب" للأسماء واللغات "بعد نقله هذين الكلامين، وقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 سائر الأصحاب لا بأس به، وهو الصحيح، لما فيه من زيادة العلم، فهذا كلام الأصحاب، والصواب الجزم بجواز ذلك، بل استحبابه، ولو قيل: وجوبه لم يكن بعيدًا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتًا في الحديث الصحيح فعمل به أخذًا بأصل التأسي، فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأي فائدة أهم من هذه الفائدة، وأما ما يقع في ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم فقليل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتدريب ومعرفة الأدلة، وتحقيق الشيء على ما هو عليه. انتهى كلام النووي وقد تتبعت ما شرف الله به نبينا صلى الله عليه وسلم من الخصائص والآيات، وأكرمه به من   سائر" أي: باقي "الأصحاب" أي: المقلدين لمذهب الشافعي، لا خصوص من صحبه، "لا بأس به" أي يجوز الكلام في الخصائص والبحث عنها، "وهو الصحيح لما فيه من زيادة العلم" وبيان شرف المصطفى ورفيع منزلته عند ربه، "فهذا كلام الأصحاب والصواب الجزم بجواز ذلك" كما قالوا: "بل باستحبابه" لما فيه من بيان شرفه صلى الله عليه وسلم، وكرامته على ربه، حيث أباح له ما لم يوجبه على غيره، كالأمر بالمعروف بلا شرط، وجعل له كرامات وفضائل لم يؤتها غيره، "ولو قيل بوجوبه لم يكن بعيدًا، لأنه ربما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتًا في الحديث الصحيح، فعمل به أخذًا بأصل التأسي" لأنا مأمورون باتباعه، "فوجب بيانها لتعرف، فلا يعمل بها، فأي فائدة أهم من هذه الفائدة" وهي معرفة الخصائص، ولذا قال الشمس الحطاب المالكي: ذكرها إما مستحب أو واجب، وهو الظاهر. "وأما ما يقع في ضمن الخصائص مما لا فائدة فيه اليوم" كتكليم الجماد، وسعي الشجر مما وجد لإظهار عظمته، وإثبات نبوته في زمنه، وقد ثبت ذلك في الأمة وتحقق، فلا فائدة تترتب عليها من اجتناب محرم ونحوه، "فقيل لا تخلو أبواب الفقه عن مثله" حيث يذكر فيها، الأدلة لهم ولمخالفيهم والجواب عن أدلة المخالفين "للتدريب ومعرفة الأدلة وتحقيق الشيء على ما هو عليه" وإلا فلا فائدة فيها إذ لا يبطل المذاهب المقررة، "انتهى كلام النووي" وهو وجيه. وقد تتبعت" طلبت شيئًا بعد شيء بلا عجلة، يقال: تتبع فلان أحوال فلان، أي: تطلبها شيئًا بعد شيء في مهلة "ما شرف الله به نبينا" أي: أعطاه شرفًا وتمييزًا "من الخصائص" على الأنبياء، كانشقاق القمر أو على الأمم، وإن شاركه الأنبياء "والآيات" عطف مرادف أو أعم؛ بأن يراد بها العلامات الدالة على نبوته، وإن شاركه فيها غيره في الجملة لما مر أنه لم يعط نبي معجزة، إلا وأعطي نبينا ما يوازيها ويزيد عليها. "وأكرمه به من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 الفضائل والكرامات من كتب العلماء، كالخصائص لابن سبع، وخصائص الروضة للنووي، ومختصرها للحجازي، وشرح الحاوي لابن الملقن، وشرح البهجة لشيخ الإسلام زكريا بن أحمد الأنصاري، واللفظ المكرم في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ قطب الدين الخيضري، واستفدت منه كثيرًا في فصل المعجزات، مع ما رأيته أثناء مطالعتي لفتح الباري، وشرح مسلم للنووي، وشرح تقريب الأسانيد للعراقي وغير ذلك مما يطول ذكره، فتحصل لي من ذلك جملة. وقد قسمها غير واحد من الأئمة أربعة أقسام: الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الواجبات، والحكمة في ذلك.   الفضائل" جمع فضيلة، وهي الفضل الخير، وهو خلاف النقص والنقيصة، كما في المصباح، وهذا شامل للمزايا القاصرة والمتعدية، فقول بعض الفضائل المزايا القاصرة، كقيام الليل والفواضل: جمع فاضلة وهي المزايا المتعدية، كالكرم مجرد اصطلاح، وإلا فاللغة تشمل الأمرين، "والكرامات" التي أكرم بها خارقه للعادة بخلاف الفضائل، فلا يلحظ فيها كونها خوارق: عادات "من كتب العلماء" صلة تتبعت "كالخصائص لابن سبع" بإسكان الباء، وقد تضم، "وخصائص الروضة للنووي، ومختصرها للحجازي، وشرح الحاوي لابن الملقن" العلامة سراج الدين، عمر أبو حفص، "وشرح البهجة" لابن الوردي، "لشيخ الإسلام زكريا بن أحمد الأنصاري، واللفظ المكرم في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ قطب الدين الخيضري، واستفدت منه كثيرًا" من الخصائص "في فصل المعجزات" إضافة بيانية أو من إضافة الصفة للموصوف، وحمله على مغايرة المضاف للمضاف إليه بعيد، كذا قرر شيخنا بناء على قراءة فضل، بضاد معجمة مع أنه بمهملة؛ لأن الخيضري عقد فصلا للمعجزات غير الخصائص، "مع ما رأيته" حال من المجرور بالحرف، وهو كتب العلماء، أي مصحوبًا بما رأيته "أثناء مطالعتي لفتح الباري، وشرح مسلم للنووي، وشرح تقريب الأسانيد" للنووي، "للعراقي" الشيخ ولي الدين، "وغير ذلك" عطف على فتح الباري "مما يطول ذكره، فتحصل لي من ذلك جملة" ذكرتها كلها، لكن في ضمن تقسيم غير واحد لأربعة أقسام، إذ كل كتاب من كتبهم وإن ذكر الأربعة، لكنه لم يستوعبها، كما استوعبتها مما تحصل لي، "وقد قسمها" أي الخصائص "غير واحد من الأئمة أربعة أقسام، الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الواجبات" الثاني: ما اختص به من المحرمات، الثالث: المباحات، الرابع: الفضائل والكرامات، كما يأتي له، وختمها بخصائص أمته، وقد زاد عليه غيره في كل قسم كثيرًا، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، "والحكمة في ذلك" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 زيادة الزلفى والدرجات، فإنه لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء ما افترض عليهم. قال بعضهم: خص الله تعالى نبيه بواجبات عليه لعلمه بأنه أقوم بها منهم، وقيل ليجعل أجره بها أعظم.   الاختصاص بالوجوب "زيادة الزلفى" القرب المعنوي، "والدرجات" العلى، أي: الثمرات المترتبة، كالوسيلة، ثم لا ينافي ترتب ذلك على الواجبات؛ أنه أفرغ عليه جميع الكمالات من الأزل؛ لأنه لا يخالف توقفه على فعل واجب، علم الله أنه سيفعله، "فإنه لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بمثل أداء" أي فعل "ما افترض" أي أوجب الله "عليهم" لعدم وجود مثل الفرض لا مع وجوده، كما يفهمه الكلام بحسب الظاهر، لكنه من إثبات الشيء بدليله على نحو: مثلك لا يبخل وليس كمثله شيء، وحاصل المعنى: أن أعظم شيء يتقرب به فعل الفرض، فالمراد بالأداء اللغوي، وهو فعل الشيء مطلقًا، فشمل الواجب الذي لا وقت له محدود، لا الاصطلاحي، وهو فعل العبادة قبل خروج وقتها، وهو الزمن المعين لها شرعًا، ثم هذا تلميح بخبر البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تعالى قال: من عادى وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه". الحديث، قال إمام الحرمين في النهاية: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النفل، أي: المماثل لها بسبعين ضعفًا لحديث سلمان مرفوعًا: "في شهر رمضان من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان من أدى سبعين فريضة في غيره"، فقابل النفل فيه بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فرضًا في غيره، فأشعر بأن الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة من طريق الفحوى، انتهى، وتعقب بأن الحديث ضعيف، أخرجه ابن خزيمة، وعلق القول به على صحته، والظاهر أن ذلك من خصائص رمضان، ولذا قال النووي: استأنسوا له بحديث في شهر رمضان. "قال بعضهم: خص الله تعالى نبيه بواجبات عليه، لعلمه بأنه أقوم بها منهم" أي: أقدر على القيام بها من جميع الأمة. قال ابن الجوزي: لما كانت الحمامة تزق فراخها لم تحضن غير بيضتين، لأنها لا تقوى على أكثر منها، ولما كانت الدجاجة لا تزق فراخها، كانت تحضن عشرين فأكثر، ولما كان صلى الله عليه وسلم أقوى الحاملين خص بواجبات لم تجب على غيره، انتهى. "وقيل: ليجعل أجره بها" أي بفعلها "أعظم" ثوابًا من ثواب فعل نفسه، ولو كانت مندوبة له، فالمفضل عليه فعله لا بصفة الوجود، كما قرر شيخنا أو فعل أمته لا فعله لها بغير صفة الوجوب، كما جزم به في الشرح وفي الشامية، وقيل: ليجعل أجره بها أعظم من أجرهم، وقربه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 فاختص صلى الله عليه وسلم بوجوب الضحى على المذهب، لكن قول عائشة في الصحيح: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى، يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه. قال الحافظ ابن حجر: ولم يثبت ذلك في خبر صحيح. انتهى، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في ذكر صلاة الضحى من مقصد عبادته عليه السلام. وهل كان الواجب عليه أقل الضحى أو أكثرها، أو أدنى الكمال؟ قال الحجازي؛ لا تقل فيه، لكن في مسند أحمد: "أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بهما". ومنها الوتر وركعتا الفجر، كما رواه الحاكم في المستدرك وغيره، ولفظ أحمد والطبراني   بها أزيد من قربهم، انتهى، ثم هذا علم من قوله: "لن يتقرب ... " إلخ, "فاختص صلى الله عليه وسلم بوجوب الضحى على المذهب" أي الراجح عند الشافعي، وجزم به صاحب المختصر من المالكية لكنه شاذ؛ كما قال ابن شاس في الجواهر، "لكن قول عائشة في الصحيح: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح" يصلي "سبحة الضحى" صلاته، سميت الصلاة تسبيحًا لاشتمالها عليه من تسمية الكل باسم البعض، "يدل على ضعف أنها كانت واجبة عليه" ومن ثم قال في الجواهر: إنما قال بوجوبها بعض من شذ. "قال الحافظ ابن حجر: لم يثبت ذلك" أي وجوبها عليه "في خبر صحيح" قال: وخبر أحمد: "أمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها" ضعيف، وصححه الحاكم فذهل، "انتهى" كلام الحافظ بما زدته، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في ذكر صلاة الضحى من مقصد عبادته عليه السلام" وهو التاسع، "وهل كان الواجب عليه أقل الضحى" وهو ركعتان "أو أكثرها" وهو ثمان، "أو أدنى الكمال" وهو أربعة. "قال الحجازي: لا نقل فيه" أي لم يتعرضوا له، كما في الخادم، "لكن في مسند أحمد" عن ابن عباس مرفوعًا: "أمرت بركعتي الضحى" أمر إيجاب بدليل قوله: "ولم تؤمروا بهما" ففيه أن الواجب عليه أقل الضحى، لكنه حديث ضعيف، ود عارضه ما أخرجه أحمد أيضًا من حديث ابن عباس "أمرت بالوتر وركعتي الضحى ولم يكتب" وقد جمع العلماء بين نفي عائشة رؤيته؛ يصليها، وأثبات غيرها صلاتها؛ بأنه كان لا يداوم عليها، مخافة أن تفرض على أمته، فيعجزوا عنها، فلو كانت واجبة لداوم عليها، "ومنها الوتر وركعتا الفجر، كما رواه الحاكم في المستدرك، ورواه "غيره" من حديث ابن عباس، "ولفظ أحمد والطبراني" عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 "ثلاث عليّ فريضة وهن لكم تطوع، الوتر وركعتا الفجر وركعتا الضحى". قال بعضهم: وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى الوتر على الراحلة. قال: ولو كان واجبًا لما جاز فعله على الراحلة. وتعقب: بأن فعله على الراحلة من الخصائص أيضًا كما سيأتي فيما اختص به عليه السلام من المباحات، إن شاء الله تعالى. وأجيب بأنه يحتاج إلى دليل. وهل كان الواجب عليه أقل الوتر أم أكثره؟ أم أدنى الكمال؟ قال الحجازي: لم أر فيه نقلا. ومنها صلاة الليل   ابن عباس رفعه: "ثلاث" هن "علي فريضة" لازمة، ولفظ الحاكم فرائض، "وهن لكم تطوع، الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى". قال الحافظ: يلزم من قال به بوجوب ركعتي الفجر عليه: ولم يقولوا به، وإن وقع في كلام بعض السلف والآدمي وابن الحاجب، فقد ورد ما يعارضه، وهذا الحديث ضعيف من جميع طرقه، وإن استدركه الحاكم، وقد أطلق الأئمة عليه الضعف، كأحمد، والبيهقي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، والنووي وغيرهم، انتهى. ولذا "قال بعضهم" معارضًا له: "وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى الوتر، على الراحلة قال: ولو كان واجبًا لما جاز فعله على الراحلة وتعقب بأن فعله على الراحلة من الخائص أيضًا كما سيأتي فيما اختص به عليه السلام من المباحات إن شاء الله تعالى، وأجيب بأنه" أي: جعل فعله على الراحلة من الخصائص، وإن جزم به النووي على مسلم "يحتاج إلى دليل" ولم يوجد، فهو في حقه سنة، ولذا ادعى البلقيني أنه لم يكن واجبًا عليه، خلافًا لما صححوه، ولا دليل لمن قال: كان واجبًا عليه في الحضر دون السفر، كذا قال "وهل كان الواجب عليه أقل الوتر" ركعة، "أم أكثره، أم أدنى الكمال" وهو ثلاثة. "قال الحجازي: لم أر فيه نقلا" وقال الزركشي: الظاهر أن مرادهم الجنس، وقياسًا على الضحى، ونازعه شيخنا بالفرق بينهما، لأن الاقتصار على ركعة في الوتر خلا الأولى، أو مكروه، ولا كذلك الضحى، فيكون الواجب عليه في الوتر أدنى الكمال، "ومنها صلاة الليل" أي: التهجد، وعطفها على الوتر، للإشارة إلى مغايرتها له، وهو ما رجحه الرافعي والنووي هنا، ورجحا في صلاة التطوع اتحادهما، ونقله في المجموع عن الأم والمختصر، ورجح ما هنا بما ذكره الرافعي هناك من اعتبار وقوع التهجد بعد النوم، بخلاف الوتر، ومنع القمولي هذا الاعتبار، رده الزركشي بمنع كون المصلي قبل نومه متهجدًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] أي فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا ما صححه الرافعي ونقله النووي عن الجمهور، ثم قال: وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي نص على أنه نسخ وجوبه في حقه، كما نسخ في حق غيره. ومنها السواك، واستدلوا له بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أبي حنظلة بن أبي عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرًا أو غير طاهر، فلما شق عليه ذلك أمر بالسواك لكل صلاة. وفي إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس. وحجة من لم يجعله واجبًا عليه، ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما جاءني جبريل إلا أوصاني   "قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] الآية، أي: فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة" فالمراد بالنافلة المعنى اللغوي، فلا ينافي الوجوب لا مقابله، "أو فضيلة" إكرامًا "لك لاختصاص وجوبه بك، وهذا": أي وجوب التهجد "ما صححه الرافعي، ونقله النووي عن الجمهور، ثم قال: وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي نص على أنه نسخ وجوبه في حقه، كما نسخ في حق غيره" قال في شرح البهجة: وهو الأصح، أو الصحيح، وفي مسلم عن عائشة ما يدل عليه، "ومنها: السواك، واستدلوا له" أي لوجوبه "بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن أبي" صوابه إسقاطه، فهو ابن "حنظلة بن أبي عامر" الراهب، الأنصاري، له رؤية، وأبوه غسيل الملائكة، قتل يوم أحد وأم عبد الله جميلة بنت عبد الله بن أبي، استشهد عبد الله يوم الحرة في ذي الحجة، سنة ثلاث وستين، وكان أمير الأنصار بها، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرًا" أي متوضئًا، "أو غير طاهر" وطاهره ولو نفلا، ورجحه الشيخ ولي الدين، لكن قال الحافظ: سياق الحديث يخصصه بالمفروضة، وكذا قال الزركشي ولا يخالفه، "فلما شق ذلك عليه، أمر بالسواك لكل صلاة" فرضًا، أو نفلا حضرًا، أو سفرًا، وهذا الحديث صححه ابن خزيمة وغيره، "ولكن "في إسناده محمد بن إسحاق" بن يسار، "وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس" وإن كان صدوقًا وعنعنة المدلس ليست مقبولة، ما لم يصرح بالسماع ونحوه، كما في الألفية وغيرها، فقال الشامي: إسناده، جيد وفيه اختلاف لا يضر فيه نظر، لأنه وإن لم يضر الاختلاف فيه على بعض رواته، فقد ضر تدليس ابن إسحاق فلا يكون إسناده جيدًا، "وحجة من لم يجعله واجبًا عليه، ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي أمامة" الباهلي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما جاءني جبريل إلا أوصاني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 بالسواك حتى خشيت أن يفرض علي وعلى أمتي". وإسناده ضعيف، وروى أحمد في مسنده من حديث واثلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب عليّ"، وإسناده حسن، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله في شرح تقريب الأسانيد. ومنها الأضحية، قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، وروى الدارقطني والحاكم عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هن عليّ فرائض، وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر". ومنها المشاورة، قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [عمران: 159] ، فظاهره الإيجاب   بالسواك" وصية استحباب وترغيب فيه، "حتى خشيت أن يفرض عليّ وعلى أمتي" وهذا لو صح كان ظاهرًا في عدم الوجوب، "ولكن إسناده ضعيف" وقد رواه أحمد والطبراني، بإسناد صحيح عن أبي أمامة بلفظ: "إلا أمرني بالسواك حتى لقد خشيت أن أخفي مقدم فمي". "وروى أحمد في مسنده من حديث واثلة"، بمثلثة، "ابن الأسقع" بالقاف، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت" على لسان جبريل، أو بالإلهام، أو بالرؤيا "بالسواك" أمر ندب "حتى خشيت أن يكتب علي" أي: يفرض وإسناده حسن، وقال المنذري وغيره: فيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة مدلس، وقد عنعنه، "والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح، قاله في شرح تقريب الأسانيد" للحافظ ولي الدين العراقي، لكن المعتمد عند المالكية والشافعية وجوبه عليه. "ومنها: الأضحية" بضم الهمزة وكسرها، وشد الياء وخفتها، أي: التضحية، "قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} الآية، أضحيتك، والأمر للوجوب، ولخبر الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس، رفعه: "الأضحى عليّ فريضة وعليكم سنة" أي التضحية علي واجبة، سميت باسم الوقت الذي تشرع ذكاتها فيه، وهو ارتفاع النهار. "وروى الدارقطني والحاكم عن ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هن عليّ فرائض" وفي رواية: فريضة "وهن لكم تطوع: النحر والوتر وركعتا الفجر" مر هذا الحديث قريبًا، وإنه ضعيف من جميع طرقه خلافًا لاستدراك الحاكم. "ومنها: المشاورة" لذوي الأحلام في غير الشرائع والأحكام، "قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [عمران: 159] الآية، فظاهره الإيجاب" وهو المعتمد عند الشافعية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 ويقال إنه استحباب، استمالة للقلوب، ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقي في "معرفة السنن والآثار" عن النص: أن المشورة غير واجبة عليه، كما نبه عليه الحجازي وغيره. واختلف في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحي عليه، ووجوب طاعته على أمته. فقال بعضهم: هو خاص في المعنى، وإن كان عامًا في اللفظ، أي: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد، يدل عليه قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر". وقال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو، ومكائد الحرب عند الغزو. وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب إذا لم تشاور في الأمر شق   والمالكية، "ويقال: إنه استحباب" وكان وجه صرف الأمر إليه غناه عنها، فإنما هي تطييب لقلوبهم ونحو ذلك "استمالة للقلوب" راجع للقولين، "ومعناه: استخراج آرائهم، ونقل البيهقي في" كتاب "معرفة السنن والآثار عن النص" أي: نص الشافعي: "أن المشورة غير واجبة عليه" فقال: وصرف الشافعي الأمر إلى الندب، فقال: هو كقوله: "البكر تستأمر"، فإنه تطييب لخاطرها لا واجب، فالمشاورة لاستمالة قلوبهم واستخراج آرائهم واستعطافهم، انتهى، "كما نبه عليه الحجازي وغيره" ولكن المعتمد الوجوب، وهو ما صححه الرافعي والنووي. "واختلف في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام بالمشاورة مع كمال عقله" إذ لم يخلق أعقل منه ولا مثله، كما مر. "وجزالة" بفتح الجيم والزاي "رأيه، وتتابع الوحي عليه، ووجوب طاعته على أمته، فقال بعضهم: هو خاص في المعنى، وإن كان عامًا في اللفظ، أي: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله عهد يدل عليه قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر"", وهذا وإن عزاه لبعضهم لا يخالف فيه أحد، إذ ما فيه عهد من الله لا يشاور فيه. "وقال الكلبي: يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكائد الحرب عند الغزو" بأن يذكر لهم ما يتعلق به، فإن ذكروا خلافه، كالخروج له أو عدمه، وكان الصواب خلافه، بيته لهم وأرشدهم إليه، فإن عارضوه برأيهم أظهر لهم ما يترتب عليه حتى تستقر نفوسهم على حسن ما يختاره. "وقال قتادة ومقاتل: كانت سادات العرب" رؤساؤهم، "إذا لم تشاور في الأمر شق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 عليهم، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. وقال الحسن: قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده. وحكى القاضي أبو يعلى، في الذي أمر بالمشاورة فيه قولين: أحدهما: في أمر الدنيا خاصة، والثاني: في أمر الدين والدنيا وهو الأصح، قاله المعافي بن زكريا في تفسيره. والحكمة في المشاورة في الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد. وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن الله جعلها رحمة لأمتي".   عليهم، فأمر الله تعالى نبيه عليه السلام أن يشاورهم، فإن ذلك أعطف لهم" أي: أشد عطفًا، أي: إمالة لقلوبهم إلى رأيه صلى الله عليه وسلم "وأذهب لأضغانهم" أي: حقدهم، أي ما يقوم في نفوس القاصرين من عدم الميل إلى ما يشير عليهم به من أمر الحرب ونحوه، "وأطيب لنفوسهم". "وقال الحسن" البصري: "قد علم الله أن ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن" أي يقتدي "به ومن بعده". "وحكى القاضي أبو يعلى في الذي أمر بالمشاورة فيه قولين، أحدهما: في أمر الدنيا خاصة، والثاني: في أمر الدين والدنيا وهو الأصح". وقد كان صلى الله عليه وسلم كثير المشاورة، "قال المعافى بن زكريا" بن يحيى بن حميد الحافظ، العلامة المفسر، الثقة، النهرواني، كان على مذهب ابن جرير، ولذا يقال له الجريري "في تفسيره، والحكمة في المشاورة في الدين التنبيه لهم على علل الأحكام، وطريق الاجتهاد" فلا يرد أنه لا معنى للقول الأصح؛ لأنه لا يرجع إلى مشورتهم لو أشاروا بخلافه. "وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما" بتخفيف الميم، "إن الله ورسوله لغنيان عنها" قال ابن مالك في شرح كافيته: يجوز كسر إن بعد أما، مقصودًا بها معنى ألا الاستفتاحية، فإن قصد بها معنى حقًا فتحت، "ولكن الله جعلها رحمة لأمتي" تطييبًا لنفوسهم وتسهيلا لاعتياد ذلك واتباعه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 وعند الترمذي الحكيم من حديث عائشة، رفعته: "إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض". ومنها مصابرة العدو وإن كثر عددهم. ومنها تغيير المنكر إذا رآه، لكن قد يقال: كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه تغيير، فيقال: المراد أنه لا يسقط عنه صلى الله عليه وسلم بالخوف بخلاف غيره.   "وعند الترمذي الحكيم" محمد بن علي، وكذا عند الديلمي بسند ضعيف "من حديث عائشة، رفعته: "إن الله أمرني بمداراة الناس" أي: بملاطفتهم وملاينتهم، ومن ذلك المشاورة والأمر للوجوب، "كما أمرني بإقامة الفرائض" وفي رواية بدله القرآن، أي أمرني بملاطفتهم قولا وفعلا والرفق بهم وتألفهم ليدخل من يدخل في الدين، وبقي المسلمون شر من قدر عليه الشقاء، ولذا قال حكيم: هذا أمر لا يصلحه إلا لين من غير ضعف، وشدة بلا عنف، وهذه هي المداراة. أما المداهنة، وهي بدل الدين لصلاح الدنيا، فمحرمة، وأمره بالمداراة لا يعارض أمره بالإغلاظ على الكفار وبعثه بالسيف، لأن المداراة تكون أولا، فإن لم تفد، فالإغلاظ، فإن لم يفد فالسيف. "ومنها: مصابرة العدو" أي قتال الكفار "وإن كثر عددهم" جدًا، قال بعض أصحابنا: ولو أهل الأرض، لأن الله وعده بالعصمة من الناس، ولأنه كما قال الرازي من العلم بأعلى مكان، كبقية الرسل، فيعلمون أنه لا يتعجل شيء عن وقته، ولا يتأخر شيء عن وقته بخلاف غيرهم من المكلفين، فليس لهم مثل هذا الإيمان، ولا مثل هذا اليقين. قال الجلال البلقيني: وهو حسن إقناعي، زاد الأنموذج: وإذا بارز رجلا في الحرب لم يول عنه قبل قتله. "ومنها: تغيير المنكر" وهو ما قبحه الشرع قولا أو فعلا ولو صغيرة، "إذا رآه" مطلقًا، ووجه الخصوصية أنه فرض عين عليه بخلاف غيره، فكفاية الجرجاني وغيره، ففي قوله: "لكن قد يقال كل مكلف تمكن من تغييره يلزمه تغييره" شيء، لأنه كفائي، "فيقال" في دفع هذا الاستدراك: "المراد أنه لا يسقط عنه صلى الله عليه وسلم بالخوف" على نفسه أو عضوه أو ماله، فإن الله وعده بالعصمة، أي: يحفظ روحه، فلا يرد نحو شج رأسه على أنه قبل نزول الآية فالعصمة محققة له، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، "بخلاف غيره" من الأمة، فيسقط عنه إظهار الإنكار للخوف على ما ذكر، زاد الأنموذج: ولا يسقط إذا كان المرتكب يزيده الإنكار إغراء، لئلا يتوهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 ومنها قضاء دين من مات مسلمًا معسرًا، روى مسلم حديث: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالًا فلورثته". قال النووي: كان هذا القضاء واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم.   إباحته بخلاف سائر الأمم، ذكره السمعاني في القواطع، انتهى، وهذا هو المعتمد خلافًا للغزالي، فالحاصل أنه واجب عليه عينًا بلا شرط. "ومنها: قضاء دين من مات مسلمًا معسرًا" لم يترك ما يوفي منه دينه، "روى مسلم" لا وجه لتخصيصه، بل البخاري، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه "حديث" أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى الذي عليه دين، فيسأل: "هل ترك لدينه قضاء"، فإن حدث أنه ترك قضاء صلى عليه، وإلا قال: "صلوا على صاحبكم" فلما فتح الله عليه الفتح، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم" في كل شيء من أمر الدارين، لأنه الخليفة الأكبر الممد لكل موجب، فيجب أن يكون أحب من أنفسهم، وإن حكمه أنفذ عليهم من حكمها. قال بعض الصوفية: وإنما كان كذلك، لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدعوهم إلى النجاة، فيجب عليهم إيثار الطاعة على شهوات نفوسهم، وإن شق عليهم، وأن يحيوه بأكثر من تحيتهم لأنفسهم، ومن محاسن أخلاقه السنية أنه لم يذكر ماله في ذلك من الحقوق، بل اقتصر على ما هو عليه، فقال: "فمن توفي" بالبناء للمجهول، أي: توفاه، الله، أي: مات من المؤمنين، "وعليه دين" بفتح الدال وفي رواية: فترك دينا "فعلي قضاؤه". قال ابن بطال: هذا ناسخ لتركه الصلاة على من مات وعليه دين، "ومن ترك مالا" أي: حقًّا، فالمال أغلبي إذ الحق يورث كالمال، "فلورثته" وفي رواية البخاري: فلترثه عصبته من كانوا، وهذا تفريع على الأولوية العامة له وعليه، لا تخصيص لها، كما فهمه القرطبي، فاعترض التعميم، بأنه النبي صلى الله عليه وسلم قد تولى تفسيرها، ولا عطر بعد عروس، بل أفاد فائدة حسنة، وهو أن مقتضى الأولوية مرعى في جانبه أيضًا، لكنه ترك ذكر ذلك تكرمًا، قال الداودي: المراد بالعصبة هنا الورثة لا من يرث بالتعصيب، وقيل: المراد قرابة الرجل، وهم من يلتقي مع الميت في أب ولو علا، وقال الكرماني: المراد العصبة بعد أصحاب الفروض، ويؤخذ حكمهم من ذكر العصبة بطريق الأولى، ويشير إلى ذلك قوله: من كانوا؛ فإنه يتناول أنواع المنتسبين إليه بالنفس أو بالغير، قال: ويحتمل أن تكون من شرطية. "قال النووي: كان هذا القضاء واجبًا عليه صلى الله عليه وسلم". قال ابن بطال: أي: مما يفيء الله عليه من المغانم والصدقات، قال: وهكذا يلزم المتولي لأمر المسلمين أن يفعله بمن مات وعليه دين، انتهى، وهذا هو الراجع عند الشافعية، فإن لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 قيل: تبرع منه، والخلاف وجهان لأصحابنا وغيرهم، قال: ومعنى الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم أو موته، أنا وليه في الحالين، فإن كان عليه دين قضيته من عندي إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئًا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين فليأتوا إلي فعلي نفقتهم ومؤنتهم، انتهى.   يفعل، فالإثم عليه إن كان حق الميت في بيت المال يفي بقدر ما عليه من الدين، وإلا فبقسطه، والمرجح عند المالكية؛ أنه من ماله الخاص به عليه السلام، إذ حمله على مال المصالح لا تحصل به خصوصية. قال ابن بطال: فإن لم يعط الإمام عنه من بيت المال لم يحبس عن دخول الجنة، لأنه يستحق القدر الذي عليه في بيت المال، إلا إذا كان دينه أكثر من القدر الذي له في بيت المال مثلا. قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يدخل في المقاصصة وهو كمن له حق، وعليه حق وذلك أنهم إذا خلصوا من الصراط حبسوا عند قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون المظالم، حتى إذا هذبوا ونفوا أذن لهم في دخول الجنة، فيحمل قوله: لا يحبس، أي: معذبًا مثلا، انتهى، "وقيل" لم يكن واجبًا، بل هو "تبرع منه والخلاف" المذكور "وجهان لأصحابنا وغيرهم" والأرجح الوجوب، "قال" أي النووي: "ومعنى الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، قال: أنا قائم بمصالحكم في حياة أحدكم أو موته، أنا وليه في الحالين فإن كان عليه دين قضيته من عندي" مالي الخاص بي. أو مال المصالح، القولان "إن لم يخلف وفاء، وإن كان له مال فلورثته، لا آخذ منه شيئًا، وإن خلف عيالا محتاجين ضائعين، فليأتوا إليّ، فعليّ نفقتهم ومؤنتهم" هذا زائد على معنى الحديث أتى به من الحديث الآخر، "انتهى" كلام النووي. قال الحافظ: قال العلماء: كان الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دين ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم والتوصل إلى البراءة منها، لئلا تفوتهم صلاتهم عليهم، وهل صلاته على المدين محرمة عليه أو جائزة وجهان. قال النووي: الصواب الجزم بالجواز مع وجود الضامن؛ كما في حديث مسلم، وحكى القرطبي؛ أنه ربما كان يمتنع من الصلاة على من أدان دينًا غير جائز، وأما من استدان لأمر جائز، فلا يمتنع، وفيه نظر إذ الحديث دال على التعميم، حيث قال: "من توفي وعليه دين" ولو كان الحال مختلفًا لبينه، نعم جاء عن ابن عباس؛ أنه صلى الله عليه وسلم لما امتنع من الصلاة على من عليه دين جاء جبريل، فقال: "إنما المظالم في الديون التي حملت في البغي والإسراف، فأما المتعفف ذو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وفي وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح وجهان، لكن قال الإمام: من استدان وبقي معسرًا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل ففيه احتمال، والأولى: لا، والله أعلم. ومنها تخيير نسائه صلى الله عليه وسلم في فراقه، وإمساكهن بعد أن اخترنه في أحد الوجهين، ووجوب ترك التزوج عليهن والتبدل بهن مكافأة لهن، ثم نسخ ذلك، لتكون المنة له عليه السلام عليهن، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الآية.   العيال، فأنا ضامن له أؤدي عنه" فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعد ذلك: "من ترك ضياعًا" الحديث، وهو ضعيف، وليس فيه أن التفصيل المذكور كان مستمرًا، وإنما فيه أنه طرأ بعد ذلك، وأنه السبب في قوله: "من ترك دينًا فعليّ". "وفي وجوب قضائه على الإمام من مال المصالح" أي: مال بيت المال "وجهان" المعتمد عدم الوجوب مطلقًا عندهم، والراجح عند المالكية وجوبه من بيت المال على الأئمة إذا عجز عن الوفاء قبل الموت، وتداينه في غير معصية أو فيها وتاب منها. قال الشهاب القرافي: وأحاديث الجنس عن الجنة منسوخة بما جعله الله على الأئمة من وجوب وفاء دين المسلم الميت بالقيد من بيت المال، قال: وإنما كانت قبل الفتوحات، "لكن قال الإمام: من استدان وبقي معسرًا إلى أن مات لم يقض دينه من بيت المال، فإن كان ظلم بالمطل، ففيه احتمال، والأولى لا" يقضي، "والله أعلم" بالحكم. "ومنها: تخيير نسائه" مصدر مضاف لمفعوله، أي: أن المصطفى يخير نساءه "في فراقه" وفي بقائهن معه، "ومنها: إمساكهن" فرفع عطفًا على تخيير لا بالجر لفساده، إذ يصير المعنى يجب عليه التخيير في الفراق وفي الإمساك، "بعد أن اخترنه" مكافأة لهن، وهذا "في أحد الوجهين" والثاني: لم يحرم عليه الطلاق أصلا، بل له الفراق بعد اختيارهن البقاء وهو الأصح، كما قاله شيخ الإسلام وغيره، "ووجوب ترك التزوج عليهن" بعد أن اخترنه، "وترك التبدل" فهو بالخفض عطف على التزوج "بهن مكافأة لهن" قال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} الآية، "ثم نسخ ذلك" بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} الآية، "لتكون المنة له عليه السلام عليهن" بإمساكهن، وترك التزوج عليهن، "قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ} أي: إن كان أعظم همكن وأقصى طلبكن {الدُّنْيَا} ، أي: التمتع بها والنيل من نعيمها "وزينتها" الآية، المال والبنين "الآية" أي: جنسها، فيشملها والتي بعدها، إذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 واختلف في تخييره لهن على قولين، أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، واختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق، وهذا هو قول الحسن وقتادة، والثاني: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، وهذا قول عائشة ومجاهد والشعبي ومقاتل. واختلفوا في السبب الذي لأجله خير صلى الله عليه وسلم نساءه على أقوال: أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة على الدنيا، فاختار الآخرة وقال: "اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين". فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل.   كلاهما مراد ولما نزلت بدأ بعائشة، وقال: "إني ذاكر لك أمرًا، فلا تبادريني بالجواب حتى تستأمري أبويك"، فاختارته وقالت: يا رسول الله! لا تقل إني اخترتك، فقال: "إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، وإنما بعثني معلمًا ميسرًا" رواه الشيخان عن عائشة، ومعنتا، بكسر النون، أي: مشقًا على عباده ومتعنتًا، أي: طالبًا للعنت، وهو العسر والمشقة. "واختلف في" صفة "تخييره لهن على قولين، أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، وبين "اختيار الآخرة فيمسكهن ولم يخبرهن في الطلاق، وهذا قول الحسن" البصري، وقتادة بن دعامة، وأكثر أهل العلم، كما قال البغوي وهو ظاهر القرآن، قال غير واحد: وهو الصحيح لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] الآية، فلو اخترن الدنيا لم يقع عليه طلاق حتى يوقعه هو، "والثاني: أنه خيرهن بين الطلاق" بأن فوضه إليهن، فلو أوقعنه لوقع، "وبين المقام معه" فلا يقع عليه، "وهذا قول عائشة، ومجاهد، والشعبي" عامر بن شراحبيل، "ومقاتل". "واختلفوا في السبب الذي لأجله خير صلى الله عليه وسلم نساءه على أقوال: أحدها: أن الله تعالى خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة" فيقدمه "على" نعيم "الدنيا، فاختار الآخرة، وقال" فيما رواه ابن ماجه وغيره: "اللهم أحيني مسكينًا، وأمتي مسكينًا واحشرني" اجمعني "في زمرة" بضم الزاي: جماعة "المساكين" أي: اجعلني منهم قال اليافعي: وناهيك بهذا شرفًا، ولو قال: واحشر المساكين في زمرتي لكفاهم شرفًا، قال البيهقي: ولم يسأل مسكنة ترجع إلى القلة، بل إلى الإخبات والتواضع، ولذا قال شيخ الإسلام زكريا: معناه طلب التواضع والخضوع، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين، وتقدم مزيد لهذا الفصل الثالث من المقصد الثالث، "فلما اختار ذلك أمره الله تعالى بتخيير نسائه ليكن على مثل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 اختياره. حكاه أبو القاسم النميري. والثاني: لأنهن تغايرن عليه. والثالث: لأن أزواجه طالبنه وكان غير مستطيع، فكان أولهن أم سلمة سألته سترًا معلمًا، وسألته ميمونة حلة يمانية، وسألته زينب ثوبًا مخططًا وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة ثوبًا سحوليًا، وسألته كل واحدة شيئًا إلا عائشة. حكاه النقاش. والرابع: أن أزواجه عليه السلام اجتمعن يومًا فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلي فأنزل الله آية التخيير، حكاه النقاش أيضًا، وذلك أنه لما نصر الله تعالى رسوله.   اختياره" فليس أمره بذلك بمعنى قام بهن من طلب شيء ونحوه، بل لئلا يكون مكرها لهن على ما اختاره لنفسه، "حكاه أبو القاسم النميري" بضم النون، وفتح الميم، وسكون التحتية، وراء نسبة إلى نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، كما في اللباب. "والثاني: لأنهم تغايرن عليه" قال قتادة: سبب الآية غيرة غارتها عائشة، وقال ابن زيد: وقع بين أزواجه تغاير ونحوه مما يتغير به مزاجه، فنزلت، حكاهما ابن عطية. "والثالث: لأن أزواجه" الأولى حذف اللام فيه وفيما قبله "طالبنه" بالنفقة وشططن عليه في تكليفه منها فوق سعته، "وكان غير مستطيع، فكان أولهن أم سلمة سألته سترًا معلمًا" بضم الميم، وسكون المهملة، وفتح اللام اسم مفعول من أعلمت الثواب، أي: جعلت له علمًا من طراز ونحوه، "وسألته ميمونة" بنت الحارث الهلالية "حلة يمانية، وسألته زينب" ابنة جحش الأسدية، لما تقدم في الزوجات، أن آية التخيير إنما نزلت وفي عصمته التسع التي توفي عنهن، فليس المراد زينب ابنة خزيمة لموتها عنده صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية، "ثوبًا مخططًا، وهو البرد اليماني، وسألته أم حبيبة" بنت أبي سفيان الأموية "ثوبًا سحوليًا" بسين وحاء مهملتين. قال في المصباح: مثل رسول بلدة باليمن يجلب منها الثياب، وينسب إليها على لفظها، فيقال: أثواب سحولية، وبعضهم يقول: سحولية، بالضم نسبة إلى الجمع، وهو غلط؛ لأن النسبة إلى الجمع، أي وهو سحل بضمتين إذا لم يكن علمًا، وكان له واحد من لفظه ترد إلى الواحد بالاتفاق، "وسألته كل واحدة" من باقي التسع "شيئًا إلا عائشة، حكاه النقاش" في تفسيره. "والرابع: أن أزواجه عليه السلام اجتمعن يومًا، فقلن: نريد ما تريد النساء من الحلي؟ فأنزل الله آية التخيير، حكاه النقاش أيضًا، وذلك أنه لما نصر الله تعالى رسوله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 وفتح عليه قريظة والنضير، ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق، وآلمن قلبه لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن لئلا يكون لأحد منهن عليه منة في الصبر على ما اختاره من خشونة العيش.   وفتح عليه قريظة" بالظاء المشالة، "والنضير ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم" بذال وخاء معجمتين: أموالهم المعدة لوقت الحاجة: جمع ذخيرة، "قعدن حوله، وقلن: يا رسول الله! بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، ونحن على ما تراه من الفاقة" أي: الحاجة "والضيق، وآلمن قلبه لمطالبتهن له بتوسعة الحال" مع أنه خلاف مراده، "وأن يعاملن بما تعامل به الملوك والأكابر أزواجهم" من الحلى والحلل وتوسيع العيش، "فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن، لئلا يكون لأحد منهن عليه منة في الصبر على ما اختاره من خشونة العيش". وأخرج مسلم، وأحمد، والنسائي عن جابر: أقبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله! لو رأيت ابنة زيد امراة عمر سألتني النفقة آنفًا، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال: "هن حولي يسألنني النفقة"، فقام أبو بكر إلى عائشة يضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقول: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده!! فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال نساؤه: والله لا نسأله بعد هذا المجلس ما ليس عنده ثم اعتزلهن شهرًا، ثم نزلت عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {عَظِيمًا} ، الآية، فبدأ بعائشة، فقال: "إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجليني فيه حتى تستأمري أبويك". قالت: ما هو؟ فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} الآية، قالت: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله ورسوله. وفي البخاري وغيره عن عمر في قصة المرأتين اللتين تظاهرتا، فذكر الحديث بطوله، وفيه: فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة، وكان قد قال: "ما أنا بداخل عليهن شهرًا" من شدة توجده حين عاتبه الله، فلما مضت تسع وعشرون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 فلما اخترنه وصبرن معه عوضهن الله على صبرهن بأمرين: أحدهما أن جعلهن أمهات المؤمنين تعظيمًا لحقهن وتأكيدًا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء بقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] ، والثاني: أن حرم الله عليه طلاقهن والاستبدال بهن فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] الآية، فكان تحريم طلاقهن مستدامًا.   دخل على عائشة، قالت: فأنزلت آية التخيير، فبدأ بي أول امرأة في فتح الباري، فاتفق الحديثان على أن آية التخيير نزلت عقب فراغ الشهر الذي اعتزلهن فيه، لكن اختلفا في سبب الاعتزال، ويمكن الجمع بأن يكونا جميعًا سبب الاعتزال، فإن قصة المتظاهرتين خاصة بهما، وقصة سؤال النفقة عامة في جميع النسوة، ومناسبة آية التخيير لقصة سؤال النفقة أليق منها بقصة المتظاهرتين، انتهى، "فلما اخترنه" كلهن على الصحيح الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما، وما يروى عند ابن إسحاق أن فاطمة بنت الضحاك الكلابية اختارت الدنيا، فكانت تلقط البعر، وتقول هي الشقية. وعند ابن سعيد: أن العامرية اختارت قومها، فكانت تقول: هي الشقية، فضعفه ابن عبد البر، وتبعه بأن الآية إنما نزلت وفي عصمته التسع اللاتي توفى عنهن، وقد صرحت عائشة في الصحيحين بأنهن كلهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وقد تقدم بسط ذلك في الزوجات، "وصبرن معه عوضهن" أي: قابلهن "الله على صبرهن بأمرين" الباء للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض أثمانًا أو غير أثمان نحو: اشتريته بألف وكافأت إحسانه بضعف، فالمعنى جعل لهن عوضًا عن صبرهن أمرين، "أحدهما: أن جعلهن أمهات المؤمنين" في الاحترام والتعظيم لا في الخلوة بهن ومنه نكاح بناتهن وأخواتهن، كما أفاده قوله: "تعظيمًا لحقهن، وتأكيدًا لحرمتهن، وتفضيلهن على سائر النساء" وهذا يصلح جعله أمرًا مستقلا، وإن أدمجه المصنف فيما قبله، "بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] ". قال السبكي: ظاهر الآية أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أفضل النساء مطلقًا حتى مريم، وظاهرها أيضًا تفضيلهن على بناته إلا أن يقال بدخولهن في اللفظ، لأنهن من نساء النبي، نقله عنه السيوطي في الإكليل وأقره، "والثاني، أن حرم عليه طلاقهن والاستبدل بهن، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 25] ، فكان تحريم طلاقهن مستدامًا" في أحد الوجهين، والآخر أن له الفراق بعد اختيارهن البقاء معه، وهو الأصح، كما مر، وأما قوله تعالى: {مِنْ بَعْدُ} ، أي: من بعد التسع، ففيه خلاف، فقيل: إنها حظرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كن عنده. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 وأما تحريم التزويج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء، يعني اللاتي حرمن عليه، وقيل: الناسخ لتحريمهن عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الآية. وقال النووي في الروضة: لما خيرهن فاخترنه كافأهن على حسن صنيعهن بالجنة فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} . انتهى. وإنما اختص صلى الله عليه وسلم بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك، لأن الجمع بين عدد منهن يوغر صدورهن بالغيرة التي هي أعظم الآلام، وهو إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن خرج عن أن يكون ضررًا.   قال ابن عطية: وكأن الآية ليست متصلة بما قبلها، وقال أبي بن كعب وعكرمة، أي: من الأصناف التي سميت، ومن قال الإباحة كانت مطلقة، قال هنا معناه لا تحل لك اليهوديات، ولا النصرانيات، وهذا تأويل في بعد، وإن روي عن مجاهد، انتهى. "وأما تحريم التزويج عليهن فنسخ، قالت عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء، يعني اللاتي حرمن عليه" ولذا تزوج، كما مر تفصيله في الزوجات، "وقيل: الناسخ لتحريمهن عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] ، وإن تقدم عليه التلاوة، وفي ابن عطية ذهب هبة الله إلى أن قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الآية، ناسخ لقوله {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية، وقال: ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ إلا هذا، قال: وكلامه مضعف من جهات، انتهى. "وقال النووي في الروضة: لما خيرهن فاخترنه، كافأهن الله عز وجل على حسن صنيعهن بالجنة، فقال: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ} يسر وهيأ {لِلْمُحْسِنَاتِ} المطيعات {مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} الآية، أي الجنة؛ كما قال، "انتهى، وإنما اختص صلى الله عليه وسلم بوجوب التخيير لنسائه بين التسريح والإمساك لأن الجمع بين عدد منهن يوغر" بضم التحتية، وكسر المعجمة وبالراء، أي: يهيج "صدورهن" بالغيظ والضغن والعداوة "بالغيرة" أي: بسببها "التي هي أعظم الآلام، وهو" أي: الألم "إيذاء يكاد ينفر القلب ويوهن الاعتقاد، وكذا إلزامهن على الصبر والفقر يؤذيهن، ومهما ألقى زمام الأمر إليهن" بالتخيير "خرج عن أن يكون" ما هن عليه "ضررًا" فلا يرد أن الأولى أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 فنزه عن ذلك منصبه العالي. وقيل له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} . ومنها: إتمام كل تطوع شرع فيه، حكاه في الروضة وأصلها، قال النووي: وهو ضعيف. وفرعه بعض الأصحاب: على أنه كان يحرم عليه صلى الله عليه وسلم إذا لبس لأمته أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل, ذكره في تهذيب الأسماء واللغات. ومنها: أنه كان يلزمه أداء فرض الصلاة بلا خلل. قال الماوردي: قال العراقي في شرح المهذب: إنه كان معصومًا عن نقص الفرض، والمراد خلل لا يبطل الصلاة. وقال بعضهم: كان يجب عليه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه أن يقول: "لبيك إن العيش عيش الآخرة"، ثم قال: هذه كلمة صدرت منه صلى الله عليه وسلم في أنعم حالة يسر بها،   يكون ضارًا لهن، "فنزه عن ذلك منصبه العالي" على كل منصب، "وقيل له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} ، "ومنها إتمام كل تطوع شرع فيه، حكاه في الروضة وأصلها". "قال النووي: وهو ضعيف" لخبر مسلم؛ أنه قال لعائشة ذات يوم: "هل عندكم شيء"؟. قالت: أهدي لنا حيس، قال: "هاتيه"، فأكله، ثم قال: "لقد كنت أصبحت صائمًا" فلو وجب عليه لم يفطر بعد الشروع في الصوم، "وفرعه بعض الأصحاب على أنه كان يحرم عليه صلى الل علي وسلم إذا لبس لأمته" أي: درعه, تجمع على لأم مثل تمرة وتمر، وعلى لؤم كنقر على غير قياس، كأنه جمع لؤمة، قاله الجوهري. "أن ينزعها حتى يلقى العدو ويقاتل، ذكره في تهذيب الأسماء واللغات" الواقعين في الشرح الكبير للرافعي على وجيز الغزالي، "ومنها: أنه كان لزمه أداء فرض الصلاة بلا خلل" يفسد كمالها، "قاله الماوردي" وإيضاحه ما "قال العراقي" أبو إسحاق إبراهيم بن منصور المصري، ولد بمصر سنة عشر وخمسمائة، وقيل له العراقي، لأنه سافر إلى بغداد، وأقام بها مدة يشتغل، ثم عاد إلى مصر، وتولى خطابة الجامع العتيق، مات سنة ست وتسعين "في شرح المهذب" وهو شرح حسن، قاله السيوطي؛ "إنه كان معصومًا عن نقص الفرض، انتهى، والمراد خلل لا يبطل الصلاة" كترك خشوع، فأما المبطل، فلا يتوهم وقوعه منه، وألحق بالصلاة غيرها من عباداته، كالصوم. "وقال بعضهم" من خصائصه؛ أنه كان يجب عليه صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يعجبه أن يقول: "لبيك إن العيش" المعتر الدائم "عيش الآخرة" لا عيش الدنيا لكدره، وكونه مع المنغصات الكثيرة، ثم هو فانٍ، وإن طال, {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} ، "ثم قال" هذا البعض: "هذه الكلمة صدرت منه صلى الله عليه وسلم في أنعم حالة يسر بها" ويحتمل أن الهاء ضمير عائد له عليه السلام، وهذا أنسب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 وهو يوم حجه بعرفة، وفي أشد حالة وهو يوم الخندق، انتهى. ومنها: أنه كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحي، ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام، كما ذكره في زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع. ومنها: أنه كان يغان   بقوله: "وهو يوم حجه بعرفة، وفي أشد حالة، وهو يوم الخندق، انتهى" ما قاله بعضهم، وهو وجه حكاه في الروضة، وأصلها كما في الأنموذج. قال شارحه: والثاني لا يجب، وهو الأصح، لأنه رأى ما يعجبه يوم وقعة بدر التي أعز الله فيها الإسلام وأهله، والفتح الأعظم الذي هو فتح مكة، ولم ينقل أنه قاله مع توفر الدواعي على نقله، فلو وقع لنقل، انتهى. "ومنها: أنه كان يؤخذ عن الدنيا حالة الوحي" أي: عند تلقيه، "ولا يسقط عنه الصوم والصلاة وسائر الأحكام" التي كلف بها، بل هو مخاطب بها في تلك الحالة، وهو آية كمال عقله فيها، وإن أخذه إنما هو بحسب الظاهر، لا الحقيقة، "كما ذكره" النووي "في زوائد الروضة عن ابن القاص والقفال، وكذا ذكره ابن سبع" والبيهقي وغيرهم، وحديث شأن الوحي في الصحيحين صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يتنقل من حالته المعروفة إلى حالة تستلزم الاستغراق والغيبة عن الحالة الدنيوية حتى ينتهي الوحي ويفارقه الملك. قال السراج البلقيني: وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي، ولما كان البرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال، خص الله نبيه ببرزخ في الحياة يلقى الله فيه، وهو مشتمل على كثير من الأسرار، وقد وقع لكثير من الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطلاع على كثير من الأسرار، وذلك مستمد من المقام النبوي، ويشهد لذلك حديث: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" انتهى. وتوقف شيخنا في عد هذا خصوصية، حيث كان عقله في تلك الحالة حاضرًا، لأنه لو حصل مثله لآحاد البشر، خرقًا للعادة، فاستغرق في مشاهدة الله مع حضور قلبه ومعرفة ما يرد عليه من نفع أو ضر لكان مكلفًا، اللهم إلا أن يقال عد خصوصية لكمال استغراقه حتى أن ما يدركه في تلك الحالة، كإدراكه في حالة نومه للمعاني والأحكام، لأنه لا ينام قلبه، وذلك بحسب ظاهر الحال يقتضي عدم التكليف، انتهى. فليتأمل. "ومنها: أنه كان يغان" بغين معجمة من الغين، وهو الغطاء، قال النووي: بالنون والميم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة. ذكره ابن القاص ونقله عنه ابن الملقن في كتاب الخصائص، ورواه مسلم وأبو داود من حديث الأغر المزني بلفظ: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله   بمعنى، والمراد هنا ما يغشى "على قلبه، فيستغفر الله سبعين مرة" رواه الترمذي عن أبي هريرة رفعه: "إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة" ورواه النسائي وابن حبان من حديث أنس بلفظ: "إني لأتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة"، وروى البخاري عن أبي هريرة رفعه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". قال السيوطي رحمه الله: المختار أن هذا من المتشابه الذي لا يخاض في معناه، وقد سئل عنه الأصمعي، فقال: لو كان قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت عليه، ولكن العرب تزعم أن الغين الغيم الرقيق، انتهى. "ذكره ابن القاص، ونقله عنه ابن الملقن في كتاب الخصائص" وأقره، ولا يخفى أن ضمير منها لما وجب، عليه لكن في الجزم بعزوه لابني القاص والملقن نظر، إذ لم يصرحا بالوجوب، إنما قالا: وكان يغان على قلبه فيستغفر الله سبعين مرة، ولذا أشار السيوطي إلى التوقف من مراد ابن القاص، وتابعه، فقال بعد نقله: وعبارة أبي سعد في شرف المصطفى، ويستغفر الله في كل يوم سبعين مرة، ولا يدرى، وعبارة رزين وما وجب عليه أن يستغفر الله في كل يوم سبعين مرة، "ورواه مسلم" في الدعوات، "وأبو داود" في الصلاة "من حديث الأغر" بفتح الهمزة والغين المعجمة، وبالراء ابن عبد الله، ويقال ابن يسار "المزني" ويقال: الجهني من المهاجرين، ومال ابن الأثير إلى التفرقة بين المزني والجهني، وليس بشيء، لأن مخرج الحديث واحد، وقد أوضح البخاري العلة فيها، وأن مسعرًا تفرد بقوله الجهني، فأزال الإشكال. قال ابن السكن: حدثنا محمد بن الحسن عن البخاري قال: كان مسعر يقول في روايته عن الأغر الجهني والمزني أصح، وجزم أبو نعيم وابن عبد البر؛ بأن المزني والجهني واحد كما بينه في الإصابة، فقوله في التقريب: ومنهم من فرق بينهما هو بفاء أوله، وقاف آخره، أي: جعلهما اثنين، إشارة لابن الأثير، وتصحفت في عبارة، بقاف أوله، ونون آخره من النساخ، فأحوجت الشارح إلى قوله: ولعل وجه من قرن بينهما، أنه كان من إحدى القبيلتين نسبًا، وحليفًا للأخرى، أو نحو ذلك، "بلفظ: أنه" أي: الشأن "ليغان على قلبي" نائب فاعل يغان، أي: ليغشى على قلبي، وقال الطيبي: اسم أن ضمير الشأن، والجملة بعده خبر له، ومفسرة والفعل مسند إلى الظرف، ومحله رفع بالفاعلية، أي: المجازية، وهي النيابة، "وإني لأستغفر الله" أي أطلب منه الغفر، أي: الستر، هذا ظاهره، قال الحافظ: ويحتمل أن المراد هذا اللفظ بعينه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 في اليوم مائة مرة", وهذا لفظ مسلم، وقال أبو داود "في كل يوم" قال الشيخ ولي الدين العراقي: والظاهر أن الجملة الثانية مرتبة على الأولى، وأن سبب الاستغفار: الغين، ويدل لذلك قوله في رواية النسائي في عمل اليوم والليلة: "إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله كل يوم مائة مرة"، وفي رواية له أيضًا: "فأستغفر الله". وألفاظ الحديث يفسر بعضها بعضًا. ويحتمل من حيث اللفظ أن تكون الجملة الثانية كلامًا برأسه غير متعلقة بما قبله، فيكون عليه السلام أخبر بأنه يغان على قلبه، وبأنه يستغفر الله في اليوم مائة مرة. انتهى.   ويرجحه ما أخرجه النسائي بسند جيد، عن ابن عمر؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه". في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة، وله عن نافع، عن ابن عمران: كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة "في اليوم" الواحد من الأيام، ولم يرد يومًا معينًا "مائة مرة" لا يعارض رواية سبعين، لأن المراد الكثرة لا التحديد، ولا الغاية، فالمراد: أستغفره دائمًا أبدًا، وخص المائة لكمالها في العدد المركب من الآحاد والعشرات، حتى إن ما زاد عليها، كالتكرير لذلك، كما أشار إليه الحرالي؛ لكن قال في الفتح: والمطالع كل ما جاء في الحديث من التعبير بالسبعين، قيل هو على ظاهره وحصر عدده، وقيل المراد التكثير، والعرب تضع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، قال في الفتح: وقوله في رواية البخاري: أكثر من سبعين، يحتمل أن يفسر برواية مائة، ووقع عند النسائي من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم خمسمائة مرة". لكن خالف معمر أصحاب الزهري في ذلك، "هذا لفظ مسلم". "وقال أبو داود: في كل يوم" بدل قوله في اليوم، ولا منافاة بينهما؛ لأن المراد باليوم ما صدقه، وهو يتحقق مع ذلك، كما يتحقق في بعض الأيام. "قال الشيخ ولي الدين العراقي: والظاهر أن الجملة الثانية" أي قوله: وإني لأستغفر الله ... إلخ، "مرتبة على الأولى" التي هي أنه ليغان على قلبي، وأن سبب الاستغفار الغين ويدل لذلك قوله في رواية النسائي في عمل اليوم والليلة: "إنه ليغان على قلبي" أي: ويدوم أثر ذلك "حتى أستغفر الله كل يوم مائة مرة" فيزول، وفي رواية له أيضًا: "فأستغفر الله" فصرح بفاء السببية، "وألفاظ الحديث المختلفة يفسر بعضها بعضًا" فتحمل الجملة الثانية على أنها مسببة عن الأولى، فتوافق الروايتين، "ويحتمل من حيث اللفظ" بقطع النظر عن الروايتين "أن تكون الجملة الثانية كلامًا برأسه، غير متعلقة بما قبله، فيكون عليه السلام أخبر بأنه يغان على قلبه، وأخبر "بأنه يستغفر الله في اليوم مائة مرة" وليس الاستغفار مسببًا عن الغين، فأخبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وقال أبو عبيد: أصل الغين في هذا، ما يغشى القلب ويغطيه، وأصله: من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها. وقال غيره: الغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء فلا يمنع ضوء الشمس. قال القاضي عياض -بعد حكايته لذلك: فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه وسهواها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان صلى الله عليه وسلم دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة.   بحصول الغين مع كثرة الاستغفار، فما الظن بمن ليس كذلك، والجملة حال مقدرة، "انتهى"، لكن الوجه الأول لقاعدة المحدثين أن خير ما فسرته بالوارد. "وقال أبو عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي، الإمام المشهور، المصنف، الثقة، الفاضل، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين في غريب الحديث، "أصل الغين" أي: ما وضع له أولا "في هذا ما يغشى" بفتح الياء والشين الخفيفة، أو بضمها وكسر الشين مشددة والأول أظهر "القلب" أي: يعرض له أو يستره "ويغطيه" عطف تفسير، وهو استعارة لما يشغله، "وأصله" أي: ما وضع له أولا مأخوذ "من غين السماء، وهو إطباق الغيم عليها" فأطلق على ما يغشى لاشتراكهما في مجرد التغطية. "وقال غيره: الغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية" أي لا يغطيه كله، "كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء" أي: في الجو "فلا يمنع ضوء الشمس" لرقته. "قال القاضي عياض" في الشفاء: "بعد حكايته لذلك" المذكور عن أبي عبيدة وغيره، "فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه" أي: فتورها "وسهوها" أي: زوال صورتها عن الفكر، وبين ما غفل عنه من فتور وسهو، فقال "عن مداومة الذكر" أي ذكره الله بلسانه وقلبه، "ومشاهدة الحق" إن أريد به الله تعالى، فالمراد مشاهدته في مزايا مصنوعاته حتى كأنه يراه عيانًا، وإن أريد الحق الثابت المتيقن من العلوم الحقة والأمور اليقينية اللدنية، فهو واضح، ولما كان هذا لا يناسب مقامه صلى الله عليه وسلم، أشار إلى دفعه بما لم يتنبه له المعترض بالتعقب الآتي، فقال: "بما": أي بسبب ما "كان صلى الله عليه وسلم دفع إليه" بالبناء للمجهول، أي: فوض إليه وأعطيه "من مقاساة البشر" أي مكابدتهم، وتحمل مشاقهم "وسياسة الأمة" تدبيرهم وأمرهم بما يصلح شأنهم من ساسه يسوسه إذا قام عليه لإصلاح أموره، وهو لفظ عربي لا معرب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وكلفه من أعباء أداء الرسالة وحمل الأمانة، وهو في كل هذا في طاعة ربه، وعبادة خالقه، لكن لما كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله مكانة وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالته عند خلوص قلبه وخلو همته، وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه، ومقامه هنالك أرفع حاليه، رأى عليه السلام حال فترته عنها، وشغله بسواها غضًا.   كما توهم، وهي حكم مخصوص بما يكون بطريق القهر والضبط، "ومعاناة الأهل" أي: تحمل المشاق من جهتهم، أي: الاعتناء بأمورهم والتقييد بما فيه معاشرهم, "ومقاومة الولي" من يواليه ويتبعه، أي: القيام معه بالمناصرة والحفظ "والعدو" بدفع شره وحمله على الإسلام والتمسك بالحق "ومصلحة النفس" أي: نفسه في أمور معاشه، "وكلفه" بالبناء للمفعول، معطوف على دفع إليه "من أعباء" بفتح وإسكان، آخره همز: جمع عبء، بالكسر ويفتح، أي: أثقال حاصله في "أداء الرسالة" وهو ما يكون له في تبليغها ودعوة الخلق، "وحمل" بفتح أوله "الأمانة" أي: ما استودعه الله تعالى من أسراره وإعطاء كل ذي حق حقه، وليس المراد بها طاعة الله التي أوجبها عليه، كما قيل: كذا في النسيم، وحمل شيخنا على ما نفاه، فقال: أي ما كلفه من الأحكام الشرعية، سميت أمانة لوجوب أدائها، كما يجب أاء الوديعة مثلا لمالكها، انتهى، والمثبت أوجه، "وهو" صلى الله عليه وسلم "في كل هذا" المذكور "في طاعة ربه وعبادة خالقه" عطف أخص على أعم، وهذا دفع لتوهم أنه كان اللائق أن لا يشغله شيء عن ذكر ربه ومشاهدته؛ بأنه لم يشغله به لحظوظ نفسانية، ولا لأمور رئاسية، وإنما الله شغله بذلك، فما حصل ذلك إلا لخدمته التي أمره الله بها، ولما ورد عليه إن كان هذا طاعة وعبادة، فلم استغفر منه وجهه على طريق الاستدراك بقوله: "ولكن لما كان صلى الله عليه وسلم أرفع" أعلى "الخلق عند الله مكانة" أي: رتبة ومنزلة، "وأعلاهم درجة" تمييز "وأتمهم" أكملهم "به" أي: الله "معرفة" فهو أعرف بالله ممن سواه، وآخر هذا، لأنه مرتب على ما قبله في المعقول والمحسوس، "وكانت حالته" أمره وشأنه "عند خلوص قلبه" لله، بحيث لا يمر به سواه، "وخلو همته وتفرده بربه" أي: جعل أمره منفردًا بالتوجه لجانبه الأعلى، فيكون قلبه معه وحده في خلوته، فإن ذاكر الله جليس الرحمن، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم "وإقباله بكليته" أي: ذاته كلها قلبًا وقالبًا "عليه، ومقامه هنالك" أي: إقامته مع الله وحده في حظيرة قدس قربه، وأشار بالبعد لعلو مقامه ثمة "أرفع" أي: أعلى "حاليه" أي حال اشتغاله بالظاهر، وحال كونه مع الله، وكل منهما رفيعة، لكن هذه أرفع، "رأى عليه السلام" شاهدًا، وعلم "حال فترته عنها وشغله بسواها" أي: اشتغاله بغيرها "غضًا بمعجمتين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 من عُليِّ حاله، وخفضا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك، قال: وهذا أولى وجوه الحديث وأشهرها، وإلى معنى ما أشرنا إليه مال كثير من الناس، وحام حوله فقارب ولم يرد، وقد قربنا غامض معناه، وكشفنا للمستفيد محياه، وهو مبني على جواز الفترات والغفلات والسهو في غير طريق البلاغ، انتهى. وتعقب: بأنه لا ترضى نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة عليه بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة، ولقوله عليه السلام: "لست أنسى ولكن أنسي لأسن".   أي: نقصًا كناية عن التنزيل "من عُليِّ حاله" أي: حالة العلا، "وخفضًا": أي حطا وتنزيلا "من رفيع مقامه" بالنسبة للحالة الأخرى، وإن لم يكن كذلك في نفسه، لأنه في عبادة "فاستغفر الله من ذلك" لعده بالنسبة لمقامه الآخر كالذنب. "قال" عياض: "وهذا" التفسير "أولى وجوه الحديث" التي ذكرت في توجيهه "وأشهرها: وإلى معنى ما أشرنا إليه، مال كثير من الناس، وحام حوله، فقارب ولم يرد" أي: لم يصل إليه استعارة من ورد الماء إذا أتاه ليستقي منه، وفيه إشارة إلى أن فيه شفاء العليل وثلج الصدور، وأن للنفس ظمأ إليه، وفيه بلاغة ظاهرة، "وقد قربنا غامض" أي أدنينا لمن قاربه خفي "معناه" الذي لم يتضح، "وكشفنا للمستفيد" طالب الفائدة العلمية من تجارته الرابحة "محياه" بضم الميم، وفتح الحاء، وشد الياء: وجهه الحسن شبهه بحسان مخدرة "وهو"، أي: هذا التفسير "مبني" أي: متفرع "على جواز الفترات والغفلات والسهو" على جمي الأنبياء عليهم السلام "في غير طريق البلاغ" فلا يجوز ذلك فيه لمنافاته له، وقد انتقد عليه بناؤه على هذا بأنه جعل أولا الثلاثة عبارة عن اشتغاله بأمر أمته وأهله ولا غفلة ولا فترة ولا سهو حقيقة، فكيف بناه على غير أساه، فهو كالغفلة عما قاله، "انتهى" كلام عياض. "وتعقب؛ بأنه لا ترضى نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك" حتى قيل: لا ينبغي ذكره "لما يلزم عليه من تفضيل الملائكة عليه بعدم الفترة عن التسبيح والمشاهدة" وهو خلاف الإجماع من تفضيله عليهم، وقدمنا الجواب عنه؛ بأن هذا غفلة من المتعقب؛ لأنه أشار إلى دفع هذا الاعتراض بقوله: بما كان دفع إليه ... إلخ، فلم يشتغل عن ذلك إلا لأمر الله له بهذا لما ترتب عليه من حكم وأحكام شرعية. ولقوله عليه السلام: "لست أنسى" تعليل ثان لكونه لا ترضى نسبته إلى ذلك، لأنه نفى عنه النسيان هذا ظاهره، لكن يرد عليه قوله: "ولكن أُنسَّى" بالتشديد مبني للمجهول "لأسن" فإنه ظاهر في أن ذلك لم ينشأ عن غفلة، فالأولى جعله جوابًا عن التعقب، وكأنه قال: ورد لقوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 فهذه ليست فترة وإنما هي لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعي، فالأولى أن يحمل على ما جعله علة فيه، وهو ما دفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، وحمل كل أعباء النبوة وحمل أثقالها، انتهى. وقيل: الغين شيء يعتري القلب مما يقع من حديث النفس، قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: وهذا أشار إليه الرافعي في أماليه، وقال: إن والده كان يقرره. وقيل: كانت حالة يطلع فيها على أحوال أمته فيستغفر الله لهم. وقيل: هو السكينة التي تغشى قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية لله تعالى، والشكر.   عليه السلام بدليل قوله: "فهذه ليست فترة" وإنما هي لحكمة مقصودة يثبت بها حكم شرعي" كما أشار إليه عياض، "فالأولى أن يحمل" الحديث "على ما جعله" عياض "علة فيه، وهو ما دفع" أي أوصل وفوض "إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل، وحمل كل" بفتح الكاف، وشد اللام "أعباء النبوة، وحمل أثقالها" عطف تفسير، "انتهى". وحاصله: إن ترك التسبيح ونحوه إنما هو لحكم وترتيب أحكام شرعية عليها، وقد صرح في الشفاء بعد هذا المبحث بكثير لما ذكر سهوه في الصلاة بقوله: والسهو هنا في حقه سبب إفادة علم وتقرير شرع، كما قال: "إني لأنسى أو أُنسَّى لأسن". بل قد روي: "لست أنسى، ولكن أنسى لأسن"، وهذه الحالة زيادة له في التبليغ، وتمام النعمة عليه بعيدة عن سمات النقص وأغراض الطعن، انتهى. "وقيل: الغين شيء يعتري القلب" الصافي "مما يقع من حديث النفس" لا بالمعنى الأول، فهو من جملة الأجوبة، وقال شيخنا: ليس مقابلا للخلاف السابق في معناه، بل هو سبب لما يحصل للقلب مما يغشاه، وفيه أن المتبادر خلافه، وقد جعله النووي من جملة الأجوبة، ويدل على ذلك ما "قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر" في فتح الباري في كتاب الدعوات: "وهذا أشار إليه الرافعي في أماليه، وقال: إن والده كان يقرره" جوابًا عن الحديث، "وقيل: كانت" الهيئة التي تعتري القلب "حالة يطلع فيها على أحوال أمته، فيستغفر الله لهم" أي يدعو بالمغفرة لما صدر منهم، أو سيصدر، فالغين خواطره فيما يتعلق بهم لاهتمامه بهم وكثرة شفقته عليهم واستغفاره، وإنما هو لهم، فلا إشكال أصلا. "وقيل: هو" أي: الغين "السكينة" الوقار والتأني والطمأنينة في الأمور "التي تغشى قلبه" أي: تعرض له، "والاستغفار" عندها "لإظهار العبودية لله تعالى" والافتقار إليه، "والشكر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 لما أولاه. وقال شيخ الإسلام ابن العراقي أيضًا: هذه الجملة حالية، أخبر عليه السلام أنه يغان على قلبه من أن حالة الاستغفار في اليوم مائة مرة، وهي حال مقدرة، لأن الغين ليس موجودًا في حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين. قال: وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالأخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى، فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا، وحجابًا بينه وبينها، فيجتمع القلب حينئذ على الله تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرًا وملازمة للعبودية، قال: وهذا معنى ما قاله القاضي عياض، انتهى ومراده قوله في "الشفاء": وقد يحتمل أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام تغشى قلبه فيستغفر حينئذ شكرًا لله تعالى، وملازمة لعبوديته.   لما أولاه" فالغين ليس نقصًا، بل صفة كمال، إذ هو خضوع وخشوع، والاستغفار عنه شكرًا لتلك النعمة. "وقال شيخ الإسلام" الحافظ ولي الدين أحمد "بن" الحافظ عبد الرحيم "العراقي أيضًا: هذه الجملة حالية أخبر عليه السلام؛ أنه يغان على قلبه مع أن حالة الاستغفار في اليوم مائة مرة، وهي حال مقدرة؛ لأن الغين ليس موجودًا في حال الاستغفار، بل إذا جاء الاستغفار أذهب ذلك الغين" فليست الجملة الثانية مسببة عن الأولى. "قال" ابن العراقي: "وعلى تقدير تعلق إحدى الجملتين بالأخرى، وأن الثانية مسببة عن الأولى" كما هو الظاهر المؤيد بروايتي النسائي: فاستغفر وحتى أستغفر؛ كما مر، "فيحتمل أن يكون هذا الغين تغطية للقلب عن أمور الدنيا وحجابًا بينه وبينها، فيجتمع القلب حينئذ" أي حين يحصل له ذلك "على الله تعالى ويتفرغ للاستغفار شكرًا وملازمة للعبودية" وهذا قريب أو مساوٍ للسكينة التي حكاها أولا بقوله: وقيل هو السكينة ... إلخ، كذا قيل قطعًا، وقد ذكر الأمرين في الشفاء؛ كما "قال: وهذا معنى ما قاله القاضي عياض، انتهى" كلام الولي. "ومراده قوله في الشفاء: وقد يحتمل الحديث أن تكون هذه الإغانة حالة خشية وإعظام" لله، ومنه "تغشى قلبه" أي: تعرض له من تصور ذلك "فيستغفر حينئذ" أي حين غشيته هذه الحالة "شكرًا لله تعالى" على نعمة جليلة؛ أن عرفه عظمته وخشيته، وهو أعظم المعلومات، "وملازمة" مداومة "لعبوديته" إذ مقتضاها عده نفسه مقصرًا لا يفي بأداء خدمته فذلك يستغفره، وبقية قول الشفاء: كما قال صلى الله عليه وسلم من ملازمة العبادة: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 قال الشيخ ابن العراقي: وهو عندي كلام حسن جدًا، وتكون الجملة الثانية مسببة عن الأولى، لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار في إزالة الغين، بل بمعنى أن الغين أصل محمود، وهو الذي تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال وأحسنها لأن الغين حينئذ وصف محمود وهو الذي نشأ عنه الاستغفار، وعلى الأول يكون "الغين" مما يسعى في إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك، وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء، فنحمله على غشاء يليق بحاله صلى الله عليه وسلم، وهو الغشاء الذي يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على أمر الغشاء أمرًا محمودًا وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، وانتهى. وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في كتابه "لطائف المتن" أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن هذا الحديث "إنه ليغان على قلبي" فقال   "قال الشيخ ابن العراقي: وهو عندي كلام حسن جدًا" بالغ في الحسن، "وتكون الجملة الثانية مسببة عن الأولى لا بمعنى أنه يسعى بالاستغفار في إزالة الغين" لأنه كمال، "بل بمعنى أن الغين أصل محمود" أي: أمر يحمد عليه، "وهو الذي تسبب عنه الاستغفار، وترتب عليه، وهذا أنزه الأقوال" أبعدها عن الاعتراض والتكلفات "وأحسنها؛ لأن الغين حينئذ وصف محمود، وهو الذي نشأ عنه الاستغفار" فنشأ محمود عن محمود، "وعلى الأول" الذي هو الغفلات والفترات بالمعنى المتقدم "يكون الغين مما يسعى في إزالته بالاستغفار، وما ترتب الإشكال وجاء السؤال إلا على تفسير الغين بذلك" أي: الغفلة والسهو بالمعنى المار، "وأهل اللغة إنما فسروا الغين بالغشاء" وهو في كل محل بما يناسبه، "فنحمله على غشاء يليق بحاله صلى الله عليه وسلم، وهو الغشاء الذي يصرف القلب ويحجبه عن أمور الدنيا، لا سيما وقد رتب على أمر الغشاء" إضافة بيانية "أمرًا محمودًا، وهو الاستغفار، فما نشأ هذا الأمر الحسن إلا عن أمر حسن، انتهى" كلام ابن العراقي. "وذكر الشيخ تاج الدين بن عطاء الله" ما يقوي هذا "في كتابه لطائف المتن" في مناقب الشيخ أبي العباس والشيخ أبي الحسن؛ "أن الشيخ أبا الحسن" علي بن عبد الله المغربي "الشاذلي" الشريف الهاشمي، من ذرية محمد بن الحنفية، مر بعض ترجمته شيخ الشاذلية، "قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فسألته عن هذا الحديث: "أنه ليغان على قلبي"، فقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 لي: يا مبارك: ذلك غين الأنوار، لا غين الأغيار.   لي: يا مبارك ذلك غين الأنوار" الواردة عليه، "لا غين الأغيار" إذ لا يعتريه، ولذا قال المحاسبي: خوف المقربين من الأنبياء والملائكة خوف إجلال وإعظام، وإن كانوا آمنين عذاب الله. وقال السهروردي: لا تعتقد أن الغين حالة نقص، بل هو كمال، أو تتمة كمال ثم مثل ذلك بجفن العين، حين يسيل ليدفع القذى عن العين، مثلا فإنه يمنعها من الرؤية، فهو صورة نقص من هذه الحيثية، وفي الحقيقة هو كمال هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال: فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته صيانة لها ووقاية عن ذلك، انتهى. وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بأجوبة منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشري لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر لم يعصموا من الصغائر، كذا قال وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح من عصمتهم من الصغائر أيضًا، ومنها قول ابن بطال: الأنبياء أشد الناس اجتهادًا في العبادة لما أعطاهم الله من المعرفة، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير، انتهى. ومحصل جوابه؛ أن الاستغفار من التقصير في أداء الحق الواجب له تعالى، ويحتمل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل، أو شرب، أو جماع، أو نوم، أو راحة، أو مخاطبة الناس والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله والتضرع إليه، ومشاهدته ومراقبته، فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس، ومنها أن استغفاره تشريع لأمته أو من ذنوبهم، فهو كالشفاعة لهم، وقال الغزالي: كان صلى الله عليه وسلم دائم الترقي، فإذا ارتقى إلى حال رأى ما قبلها ذنبًا، فاستغفر من احال السابق، وهذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك، إذ ليس فيها ما يدل على افتراق واجتماع. ا. هـ. وقد اقتصر المصنف في هذا القسم على ما ذكره وزاد عليه غيره فيه أكثر مما ذكر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 القسم الثاني: ما اختص به صلى الله عليه وسلم مما حرم عليه: فمنها: تحريم الزكاة عليه، وكذا الصدقة على الصحيح المشهور المنصوص، قال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نأكل الصدقة" رواه مسلم، ومن قال بإباحتها له ويقول: لا يلزم من امتناعه من أكلها تحريمها، فلعله ترك ذلك تنزهًا مع إباحتها له، وهذا خلاف ظاهر الحديث. قال شيخ الإسلام ابن العراقي، في شرح التقريب: وعلى كل حال ففيه أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام الامتناع من أكل الصدقة إما وجوبًا وإما تنزهًا، انتهى. والحكمة في ذلك: صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس. ومنها: تحريم الزكاة على آله صلى الله عليه وسلم   القسم الثاني: ما اختص به صلى الله عليه وسلم مما حرم عليه : "القسم الثاني: ما" أي: أشياء "اختص به صلى الله عليه وسلم" عن الأمة، فلا ينافي مشاركة الأنبياء له في بعضها "مما حرم عليه" دون أمته، ليكثر ثوابه في اجتنابه، وخص بها تكرمة له، لأن أجر ترك المحرم أكثر من أجر ترك المكروه، وفعل المندوب، "فمنها" أي: المحرمات عليه وعلى آله لأجله: "تحريم الزكاة عليه" أي: أخذها وعدم سقوطها عن مالكها لو وقع، "وكذا الصدقة" والكفارة والنذور "على الصحيح المشهور المنصوص، قال عليه الصلاة والسلام: "إنا لا نأكل الصدقة" وهي تشمل الفرض والنفل "رواه مسلم". قال البلقيني: وخرجت على ذلك؛ أنه يحرم أن يوقف عليه معينًا؛ لأن الوقف صدقة تطوع، قال: وفي الجواهر له يؤيده، فإنه قال: صدقة التطوع كانت حرامًا عليه. وعن أبي هريرة، أن صدقات الأعيان كانت حرامًا عليه دون العامة، كالمساجد ومياه الآبار، قاله في الأنموذج. "ومن قال بإباحتها له ويقول: لا يلزم من امتناعه من أكلها تحريمها، فلعله ترك ذلك تنزهًا مع إباحتها له، وهذا خلاف ظاهر الحديث" بل يرده قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة" رواه أحمد بإسناد قوي، كما في الفتح، وجزم الحسن البصري؛ بأن الأنبياء مثله، لأنها أوساخ، وقال ابن عيينة: تحل لهم بدليل: وتصدق علينا. "قال شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب: وعلى كل حال ففيه أن من خصائصه عليه الصلاة والسلام الامتناع من أكل الصدقة، إما وجوبًا وإما تنزهًا، انتهى" لأن القائل بالتنزه لم يقل بأكلها، "والحكمة في ذلك صيانة منصبه الشريف عن أوساخ أموال الناس" لأن الصدقة تطهر المال واجبة، كالزكاة، أو مندوبة كالتطوع، ولأنها تنبئ عن ذل الآخذ وعز المأخوذ منه، وأبدل بها الفيء المأخوذ بالقهر والغلبة لأنبائه بعز الآخذ وذل المأخوذ منه. "ومنها: تحريم الزكاة على آله" وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب عند الشافعية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 وتحريم كون آله عمالا على الزكاة في الأصح، كذا يحرم صرف النذر والكفارة إليهم، وأما صدقة التطوع فتحل لهم في الأصح خلافًا للمالكية وهو وجه عندنا. ومنها: أنه يحرم عليه صلى الله عليه وسلم كل ما له رائحة كريهة، كثوم وبصل، لتوقع مجيء الملائكة والوحي كل ساعة.   وبعض المالكية، والمشهور عندهم بنو هاشم فقط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد" رواه مسلم، ولقوله: "إن الله حرم عليّ الصدقة وعلى أهل بيتي"، رواه ابن سعد وغيره. قال الطيبي: وقد اجتمع في الحديث مبالغات شتى، حيث جعل المشبه به أوساخ الناس للتهجين والتقبيح، تنفيرًا واستقذارًا، وأجل حضرة الرسالة ومنبع الطهارة أن ينسب إلى ذلك، فجرد عن نفسه الطاهرة من يسمى محمدًا؛ كأنه غيره وهو هو، فإن الطيبات للطيبين، لا يقال كيف أباحها لبعض أمته، ومن كمال إيمان المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لأنا نقول: ما أباحها لهم عزيمة، بل اضطرارًا، وكم من حدث تراه ناهيًا عن السؤال، فعلى الحازم أن يراها كالميتة، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، انتهى. "وتحريم كون آله عمالا" ولو من بعضهم لبعض "على الزكاة في الأصح" لخبر الحاكم عن علي، قلت للعباس: سل رسول الله أن يستعملك على الصدقة، فسأله، فقال: "ما كنت لأستعملك على غسالة الأيدي"، "وكذا يحرم النذر والكفارة إليهم" ولكون تحريم ذلك على آله بسبب انتسابهم إليه عد ذلك من خصائصه. "وأما صدقة التطوع، فتحل لهم في الأصح" عند الشافعية والحنابلة وأكثر الحنفية، وهو الصحيح المشهور عند المالكية، وص عليه مالك وابن القاسم، وأما قوله: "خلافًا للمالكية" فضعيف غره فيه، كالسيوطي اقتصار العلامة خليل عليه وما علما أنه متعقب، "وهو وجه عندنا" واستدل للحل بما رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه؛ أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقيل له: أتشرب من الصدقات؟ فقال: إنما حرم علينا الصدقة المفروضة. وأخرجه البيهقي من طريق الشافعي، فثبت ذلك في حق القرابة، وقيس بها مواليها، زاد في الأنموذج: وعلى موالي وآله، أي خص بتحريم الزكاة عليهم في الأصح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة لا تحل لنا"، وإن مولى القوم من أنفسهم وعلى زوجته بالإجماع، حكاه ابن عبد البر. "ومنها: أنه يحرم عليه صلى الله عليه وسلم كل ما له رائحة كريهة كثوم" بضم المثلثة، "وبصل" وكراث إذا كان ذلك نبأ؛ "لتوقع مجيء الملائكة والوحي له كل ساعة" فيتأذون بريحه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 والأكل متكئًا في أحد الوجهين فيهما، والأصح في الروضة كراهتهما، وتعقب السهيلي الاتكاء فقال: قد يكره لغيره أيضًا لأنه من فعل المتعظمين، وقد تقدم مزيد لذلك. ومنها تحريم الكتابة والشعر، وإنما يتجه القول لتحريمهما ممن يقول إنه صلى الله عليه وسلم كان يحسنهما، والأصح أنه كان لا يحسنهما، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، أي: ما هو في طبعه، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته ولا يصلح له. وأجيب: بأن المراد تحريم التوصل إليهما.   لا مطبوخًا، فكان يأكله، كما رواه أبو داود والترمذي لانتفاء العلة. وروى أبو داود عن عائشة: آخر طعام أكله في بيتي فيه بصل، زاد البيهقي: كان مشويًا في قدر، "والأكل متكئًا" أي: مائلا على أحد شقيه، أو معتمدًا على وطاء تحته، أو على يده اليسرى، أقوال مرت رجح بعضهم أوسطها وبعض أولها، وهذا "في أحد الوجهين فيهما" وهو مذهب مالك. "والأصح في الروضة كراهتهما" لما في مسلم: أن أبا أيوب صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا فيه بصل، وفي رواية: أرسل إليه بطعام فيه بصل أو كراث، فرده، فقال: أحرام هو؟ قال: "لا ولكني أكرهه"، "وتعقب السهيلي: الاتكاء" أي القول بتخصيصه بكراهته، "فقال: قد يكره لغيره أيضًا؛ لأنه من فعل المتعظمين، وقد تقدم مزيد لذلك" في الأطعمة. "ومنها: تحريم الكتابة والشعر" بجميع أنواعه، ومنه الرجز عند الجمهور خلافًا للأخفش، "وإنما يتجه" كما قال الرافعي "القول بتحريمهما" عليه "ممن يقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يحسنهما" ولكن لا يكتب ولا يقول الشعر، "والأصح أنه كان لا يحسنهما" لأن الله "قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} ، أي: من القرآن {مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينَكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ، أي: اليهود، وقالوا: الذي في التوراة إنه أمي. "وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] ، أي ما هو في طبعه، ولا يحسنه ولا تقتضيه جبلته" سجيته وطبيعته، "ولا يصلح له" تفسير لما ينبغي، "وأجيب" عن عدهما من الخصائص، كما أجاب به النووي في الروضة، فقال: "بأن" لا يمتنع تحريمها، وإن كان لا يحسنهما، فإن "المراد تحريم التوصل إليهما" بأن يريد تعلم ذلك، قال شيخنا: ولعل القائل بعدم حرمته يرى أن هذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 وهل منع الشعر خاص به عليه السلام أو بنوع الأنبياء؟ قال بعضهم: هو عام لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ، لأنه لا يظهر فيه للخصوص نكتة. وتقدم في قصة الحديبية البحث في كونه عليه السلام كان يحسن الكتابة أم لا. ومنها: نزع لأمته إذا لبسها، حتى يقاتل أو يحكم الله بينه وبين عدوه. ومنها: المن ليستكثر، ذكره الرافعي، قال الله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ} [المدثر: 6] .   لما لم يكن في طبيعته كان كالمحال عليه، فلا يخطر في نفسه حتى يمنع من التعلم له، "وهل منع الشعر خاص به عليه السلام" لما رواه الطبراني عن علي لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم، وقال: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ... وغيب ذلك الوجه المليح "أو" خاص "بنوع الأنبياء" لما رواه الثعلبي عن ابن عباس، قال: إن محمدًا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، "قال بعضهم: هو عام؛ لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ؛ لأنه لا يظهر فيه للخصوص نكتة" لأن الشعر مبني على تخيلات مرغبة ومنفرة ونحوهما مما لا يليق بمقامه صلى الله عليه عليه وسلم، فصرفت طبيعته عن ذلك لعده نقصًا بالنسبة له، وهذا المعنى موجود في حق جميع الأنبياء؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، "وتقدم في قصة الحديبية البحث في كوه عليه السلام كان يحسن الكتابة، أم لا؟ " وأن الصحيح لا. "ومنها": تحريم "نزع لأمته" هي الدرع والسلاح، بهمزة ساكنة بعد ألف، وقد تخفف، "إذا لبسها حتى يقاتل" إن احتيج له، فلو هرب عدوه، أو حصل بينهم صلح، أو نحو ذلك جاز نزعها، وقد يشعر به قوله: "أو يحكم الله بينه وبين عدوه" لما رواه أحمد، وحسنه البيهقي، وعلقه البخاري عن جابر: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" ولأحمد أيضًا والطبراني والبيهقي عن ابن عباس مرفوعًا: "ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" فذكر في كل حديث غاية، فجمع المصنف بينهما، زاد في الأنموذج: وكذلك الأنبياء. قال أبو سعيد وابن سراقة: وكان لا يرجع إذا خرج إلى الحرب، ولا ينهزم إذا لقي العدو. "ومنها: المن، ليستكثر ذكره الرافعي" وغيره، قال الله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ} [المدثر: 6] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 أي: لا تعط شيئًا لتطلب أكثر منه، بل أعط لربك واقصد به وجهه، فأدبه بأشرف الآداب، قاله أكثر المفسرين، وقال الضحاك ومجاهد: هذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليس على أحد من أمته، وقال قتادة: لا تعط شيئًا لمجازاة الدنيا، أي أعط لربك، وعن الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، وقيل: لا تمنن على الناس بالنبوة فتأخذ عليها أجرًا وعوضًا من الدنيا. ومنها: مد العين إلى ما متع به الناس، قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} ، أي: استحسانًا له وتمنيًا أن يكون لك مثله {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر: 88] .   "أي: لا تعط شيئًا لتطلب أكثر منه" لأنه طمع لا يليق به، "بل أعط لربك واقصد به وجهه، فأدبه بأشرف الآداب" وأجل الأخلاق؛ فإن من أعطي ليثاب أكثر لم يكن له أجر لقصده الاستكثار، "قاله أكثر المفسرين" ومنهم ابن عباس، قال ابن عطية: فكأنه من قولهم من إذا أعطى. "وقال الضحاك ومجاهد: هذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة" لما ثبت عندهما بذلك، وإلا فالآية بمجردها لا تفيد الخصوصية، "وليس" يحرم "على أحد من أمته" ذلك، بل هو مباح لهم، لكن لا أجر لهم فيه، قال مكي: وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} الآية، "وقال قتادة: لا تعط شيئًا لمجازاة الدنيا، أي: أعط لربك" هو مثل قول الأكثر، والذي في ابن عطية عن قتادة: أن المعنى لا تدل بعلمك، ففي هذا التأويل تحريض على الجد وتخويف. "وعن الحسن" البصري: "لا تمنن على الله بعملك فتستكثره" وتعجب به، "وقيل" أي: قال ابن زيد: "لا تمنن على الناس بالنبوة فتأخذ عليها أجرًا وعوضًا من الدنيا. وحكى النقاش عن ابن عباس أنه قال: لا تمنن تستكثر، دعوت فلم أجب، قال ابن عطية: فهذه الأقوال كلها من المن الذي هو تعديد اليد، وذكرها. وقال مجاهد: معناه لا تضعف فتستكثر ما حملناك من أعباء الرسالة، فهذا من قولهم حبل متين، أي ضعيف، انتهى. "ومنها: مد الأعين إلى ما متع" بضم الميم، وكسر الفوقية مشددة "به الناس" من زهرة الحياة الدنيا، "قال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} لا تنظر بهما "إلى ما متعنا به" الآية، أي: استحسانًا له وتمنيًا أن يكون لك مثله {أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الحجر: 88] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 أشكالا وأشباها من الكفار، وهي المزاوجة بين الأشياء، وهي المشاكلة. وعن ابن عباس: أصنافًا منهم، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات. ومنها: خائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يشعر به الحال، كما قيل له عليه الصلاة والسلام في قصة رجل أراد قتله: هلا أومأت إلينا بقتله، فقال: "ما كان ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".   زينتها وبهجتها لنفتنهم فيه "أشكالا وأشباها من الكفار، وهي المزاوجة بين الأشياء، وهي المشاكلة". "وعن ابن عباس" في تفسير أزواجًا، قال: "أصنافًا منهم؛ فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته؛ فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات" كما قال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131] الآية، أخرج ابن أبي شيبة، وابن مردويه، والبزار، وأبو يعلى عن أبي رافع، قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفًا، فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقًا إلى هلال رجب، فقال: لا إلا برهن، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض"، فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} . "ومنها: خائنة الأعين وهي الإيماء" الإشارة بالعين، أو الحاجب، أو غيرهما خفية "إلى مباح من قتل أو ضرب" أو حبس "على خلاف ما يشعر به الحال" أي: ما يظهره المومئ، سمي خائنة لشبهه بالخانة من حيث خفاؤه، "كما قيل له عليه الصلاة والسلام في قصة رجل" هو عبد الله بن أبي سعد بن أبي سرح "أراد قتله" لأنه كان يكتب له بمكة، فأزله الشيطان، فكفر فأهدر دمه فيمن أهدر يوم فتح مكة، فاختبأ عند عثمان فلما دعا النبي صلى الهل عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به عثمان، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن مبايعته فيقتله"؟ فقال رجل: هلا أومأت إلينا بقتله؟ فقال: "ما كان ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الحاكم. وأفاد سبط ابن الجوزي: أن الرجل عباد بن بشر الأنصاري، وقيل: عمر بن الخطاب، فأسلم عبد الله وحسن إسلامه، وعرف فضله وجهاده، وكانت له المواقف المحمودة في الفتوح، وولاه عمر صعيد مصر ثم ضم إليه عثمان مصر كلها، وكان محمودًا في ولايته، واعتزل الفتنة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور، قاله الرافعي فيما نقله الحجازي في مختصر الروضة. ومنها: نكاح من لم تهاجر، في أحد الوجهين: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن، سمي المهر أجرًا لأن المهر أجر على البضع وتقييد الإحلال بإعطائها معجلة لا يتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأفضل، كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسببة في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} يعني من نساء بني زهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] قالوا: المراد هاجرن كما هاجرت، وإن لم تكن هجرتها في حال هجرته.   حتى مات سنة سبع أو تسع وخمسين، فقال: اللهم اجعل آخر عملي الصبح فتوضأ وصلى، فسلم عن يمينه، ثم ذهب يسلم عن يساره، فقبضت روحه رضي الله عنه؛ كما تقدم مبسوطًا في الفتح، "ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور" أي: ممنوع، "قاله الرافعي فيما نقله الحجازي في مختصر الروضة" قال بعض: بل إذا كان الإيمان في محظور، فليس من خائنة الأعين في شيء. "ومنها: نكاح من لم تهاجر" إلى المدينة "في أحد الوجهين، قال الله تعالى" {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} الآية، "أي: مهورهن، سمي المهر أجرًا، لأن المهر أجر على البضع" بضم فسكون، أي: الفرج، "وتقييد الإحلال بإعطائها معجلة، لا يتوقف الحل عليه، بل لإيثار الأفضل" مثله في البيضاوي، ولا يتعين الحمل عليه، إذ يمكن أن معنى آتيت أجورهن التزمته في ذمته: ثم أديته بعد؛ "كتقييد إحلال المملوكة بكونها مسببة في قوله: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} من الغنائم، فإن مثله الشراء والهبة والهدية ونحو ذلك. قال ابن عطية: يريد أو على أمتك، لأنه في عليه وملك اليمين أصله الفيء من المغنم أو ممن تناسل ممن سبى، والشراء من الحربيين كالسباء، ومباح النساء هو من الحربيين ولا يجوز سبي من له عهد ولا تملكه، ويسمى سبي الخبثة، {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} ، يعني: من نساء بني زهرة {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية أي إلى المدينة"؛ لأنها حقيقة الهجرة الشرعية. "قالوا: والمراد هاجرن كما هاجرت، وإن لم تكن هجرتها في حال هجرته"، إذ لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 وظاهره يدل على أن الهجرة شرط في التحليل، وأن من لم تهاجر من النساء لم يحل له نكاحها. وقالت أم هانئ: خطبني النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذر فعذرني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية فلم أكن لأحل له، فإني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وعن بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ، ولم يذكر ناسخه. وعن الماوردي قولان: أحدهما أن الهجرة شرط في.   يهاجر معه أحد، "وظاهره يدل على أن الهجرة شرط في التحليل، وأن من لم تهاجر من النساء لم يحل له نكاحها" لأنه قيد حل المذكورات بالهجرة، "ويؤيد هذا ما رواه الترمذي، وحسنه الحاكم، وصححه عن ابن عباس، قال: قالت أم هانئ: خطبني النبي صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه بعذر" فقلت: ما لي عنك رغبة يا رسول الله، ولكن لا أحب أن أتزوج وبني صغار، فقال صلى الله عليه وسلم: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على طفل في صغره، وأرعاه على بعل في ذات يده", رواه الطبراني عنها برجال ثقات. وروى ابن سعد بسند صحيح عن الشعبي، فقالت: يا رسول الله! لأنت أحب إليّ من سمعي وبصري وحق الزوج عظيم، فأخشي أن أضيع حق الزوج "فعذرني" أي: قبل عذري، "فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} "، إلى قوله: {اللَّاتِي} بالتاء في قراءة الجمهور وقراءة الأعمش بالياء {هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية، "فلم أكن لأحل له، فإني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء، وعن بعض المفسرين: أن شرط الهجرة في التحليل منسوخ" وبه جزم البغوي، "ولم يذكر ناسخه" على أنه لا حاجة لدعوى النسخ، فقد ذهب الضحاك، وابن زيد إلى أن معنى الآية أن الله أباح له كل امرأة يؤتيها مهرها وملك اليمين، وأباح له قرابته وخصصهن بالذكر، ووصفهن بالهجرة تشريفًا لهن، وأباح له الواهبات خاصة، فهي إباحة مطلقة في جميع النساء حاشى المحارم، لا سيما على ما ذكره الضحاك؛ أن من مصحف ابن مسعود: "واللاتي هاجرن" بالواو، ثم قال: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} ... إلخ. أي: من هذه الأصناف كلها، فيجري الضمير بعد ذلك على العموم إلى قوله: ولا أن تبدل بهن من أزواج، فيعود على التسع فقط على الخلاف في ذلك، ذكره ابن عطية. "وعن الماوردي قولان" ذكرهما في معنى الآية، "أحدهما: أن الهجرة شرط في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 إحلال كل النساء له عليه السلام من غريبة وقريبة، والثاني: أنها شرط في إحلال بنات عمه وعماته المذكورات في الآية وليس شرطًا في إحلال الأجنبيات، وعنه أيضًا: أن المراد بالمهاجرات المسلمات. ومنها: تحريم إمساك من كرهته، قاله الحجازي وغيره. ومنها: نكاح الكتابية، لأن أزواجه أمهات المؤمنين وزوجات له في الآخرة، ومعه في درجته في الجنة، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، قالوا: ولو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له. ومنها: نكاح الأمة المسلمة.   إحلال كل النساء له عليه السلام من غريبة وقريبة" من جهة أبيه أو أمه، "والثاني: أنها شرط في إحلال بنات عمه وعماته المذكورات في الآية، وليس شرطًا في الأجنبيات" وقد يؤيده حديث أم هانئ، "وعنه أيضًا" حكاية قول ثالث: "أن المراد بالمهاجرات المسلمات" فيحل له جميع النساء مهاجرات، أم لا من أقرابه أو غيرهن، وهذا هو الأصح في الحكم دون التحريم، ولكن أدق من كون المراد المسلمات ما نقله ابن عطية، كما رأيت. "ومنها: تحريم إمساك من كرهته، قاله، الحجازي، وغيره" كما هو قضية تخيير نسائه، ولما رواه البخاري عن عائشة: أن ابنة الجون لما أدخلت عليه صلى الله عليه وسلم ودنا منها، قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها: "لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك" وفي رواية له: "عذت بمعاذ" بفتح الميم، أي: بالذي يستعاذ به وهو الله. قال ابن الملقن: يفهم منه أنه يحرم عليه نكاح كل امرأة كرهت صحبته، وبحث فيه شيخنا بجواز أنه لما فهم كراهتها له لم يرد إبقاءها، وإن جاز، وفيه نظر وقد زاد في الأنموذج، وتحرم عليه مؤبدًا في أحد الوجهين. "ومنها: نكاح الكتابية" ولو ذمية؛ "لأن أزواجه أمهات المؤمنين" ولا يجوز أن تكون الكافرة أمهم، "وزوجات له في الآخرة" لحديث: "زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الجنة"، "ومعه في درجته ف الجنة" لقوله: "سألت ربي أن لا أتزوج إلا من كان معي في الجنة، فأعطاني" رواه الحاكم، وصححه والجنة حرام على الكافرين؛ "ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، قالوا: ولو نكح كتابية لهديت إلى الإسلام كرامة له" أي: لو فرض ذلك وإلا فلم يتفق له صلى الله عليه وسلم نكاح كتابية. "ومنها: نكاح الأمة المسلمة" لأنه مقيد بخوف العنت، وهو معصوم، وبفقد مهر الحرة، ونكاحه غني عن المهر ابتداء وانتهاء، وفيه رق الولد ومنصبه منزه عنه، وقال البلقيني: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 ولو قدر نكاحه أمة كان ولده منها حرًا، ولا تلزمه قيمته لتعذر الرق. قال القاضي حسين، وقال أبو عاصم: تلزم نقله الحجازي، ولا يشترط في حقه حينئذ خوف العنت ولا فقد الطول. وأما التسري بالأمة فالأصح الحل، لأنه صلى الله عليه وسلم استمتع بأمته ريحانة قبل أن تسلم، وعلى هذا، فهل عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها أو تقيم على دينها فيفارقها؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم لتكون من زوجاته في الآخرة والثاني: لا، لأنه لما عرض على ريحانة الإسلام فأبت لم يزلها عن ملكه وأقام على الاستمتاع، وقد أسلمت بعد.   ولا يتصور في حقه قط اضطرار إلى نكاحها، بل لو أعجبته أمة، وجب على مالكها بذلها إليه هبة، قياسًا على الطعام، "ولو قدر نكاحه أمة كان ولده منها حرًا" على الصحيح، وإن قلنا بالمشهور من جري الرق على العرب، "ولا تلزمه قيمته لتعذر الرق، قاله القاضي حسين" بخلاف ولد المغرور بحرية أمة لفوات الرق بظنه، وهنا يتعذر الرق؛ كما قاله القاضي حسين. "وقال أبو عاصم: تلزم، نقله البخاري" وأيد الرافعي الأول بقول إمام الحرمين: لو قدر نكاح غرور في حقه، لم تلزمه قيمة الولد؛ لأنه مع العلم بالحال لم ينعقد رقيقًا، فمع الجهل به أولى. قال ابن الرفعة: وفي تصوير ذلك في حقه نظر، "ولا يشترط في حقه حينئذ" أي: حين قدرنا نكاحه أمة "خوف العنت" إذ لا يتصور فيه لعصمته، "ولا فقد الطول" زواد الأنموذج: وله الزيادة على واحدة، أي: بخلاف أمته، فلا يزيدون على أمة واحدة، إذا خيف العنت وفقد الطول. "وأما التسري بالأمة" الكتابية، "فالأصح الحل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم استمتع بأمته ريحانة" القرظية على الأكثر، وقيل: النظرية "قبل أن تسلم" لا يرد أنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة؛ لأنه جزء علة، والحكم ينتفي بانتفائه، بخلاف المعلل بعلتين، فيبقى ما بقيت إحداهما، والسرية ليست أم المؤمنين، وقال بعض: لأن القصد بالنكاح أصالة التوالد، فاحتيط له وبأنه يلزم فيه أن تكون الزوجة أم المؤمنين، بخلاف الملك فيهما، "وعلى هذا فهل" يجب "عليه تخييرها بين أن تسلم فيمسكها، أو تقيم على دينها فيفارقها، فيه وجهان، أحدهما: نعم، لتكون من زوجاته في الآخرة، والثاني: لا؛ لأنه لما عرض على ريحانة الإسلام، فأبت" إلا اليهودية، "لم يزلها عن ملكه، وأقام على الاستمتاع" بها، ولعله علم بأنها ستسلم بعد، أو إن تمتعه بها يكون سببًا لإسلامها، فسهل ذلك له، "وقد أسلمت بعد" وكان يطؤها بالملك. جزم به ابن إسحاق، وقيل: أعتقها وتزوجها، ورجحه الواقدي، وماتت سنة عشر، مرجعه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 ومنها: تحريم الإغارة إذا سمع التكبير، كما ذكره ابن سبع في الخصائص.   من حجة الوداع، ودفنت بالبقيع هذا، وما جزموا من استمتاعه بها قبل أن تسلم، مخالف لقول ابن إسحاق: سباها صلى الله عليه وسلم، فأبت إلا اليهودية، فعزلها، ووجد في نفسه، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: "إن هذا الثعلبة بن سعية يبشرني بإسلام ريحانة"، فبشره، فسره ذلك، فعرض عليها أن يعتقها ويتزوجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله!، بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك، فتركها واصطفاها لنفسه، وكذا ذكر الواقدي وابن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم عزلها ثم أرسلها إلى بيت أم المنذر بنت قيس، فدخل عليها، قالت: فاختبأت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه، وخيرني، فاخترت الله ورسوله. قال في الأنموذج: وكان إذا خطب امرأة فرد لم يعد؛ كما في حديث مرسل، فيحتمل التحريم، والكراهة ياسًا على إمساك كارهته، ولم أر من تعرض له وشنع عليه شارحه، فقال: هذا لا دلالة فيه على الخصوصية بوجه، وإثباتها من قبيل الرجم بالغيب، وهذا على عادته في تحامله عليه، إذ لم يثبت له خصوصية، وإنما أبدى احتمالا في المروي مع القياس، كما ترى، فإذا لم يفهم على أحد الاحتمالين فماذا يكون معناه. "ومنها: تحريم الإغارة" على قول يريد غزوهم "إذا سمع التكبير" أي: الأذان لخبر الصحيحين عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قومًا لم يغر حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذانًا كف عنهم، وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم؛ "كما ذكره ابن سبع في الخصائص" وتعقب بأنه ليس في الحديث ما يصرح، بل ولا ما يلوح بأنه من خصائصه، وزاد في الأنموذج: وأن يخدع في الحرب فيما ذكر ابن القاص، وخالف فيه الجمهور، وعد القضاعي وغيره أنه لا يقبل هدية مشرك، ولا يستعين به، ولا يشهد على جور، وحرم عليه الخمر من أول بعثته قبل أن تحرم على الناس بنحو عشرين سنة، فلم تبح له قط. وفي الحديث: "أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان شرب الخمر وملاحاة الرجال"، ونهي عن التعري وكشف العورة من قبل أن يبعث بخمس سنين، وقالت عائشة: ما رأيت منه، ولا رأى مني، ونهى عليًا عن إنزاء الخمر على الخيل نهيًا خاصًا عد هذه رزين، وكان لا يصلي على من غل، ولا على من قتل نفسه، وفي المستدرك عن أبي قتادة: كان صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها فإن أثني عليها خيرًا صلى عليها، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها، "شأنكم بها" ولم يصل عليها. وفي سنن أبي داود حديث: "ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقًا، أو تعلقت تميمة، أو قلت شعرًا من قبل نفسي"، قال أبو داود: هذا كان له خاصة، وقد رخص في الترياق لغيره، انتهى. وقد رخص أيضًا في تعليق التمائم إذا كان بعد نزول البلاء، انتهى. وقوله: إن أنا شربت شرط حذف جوابه لدلالة الحال عليه، أي: إن فعلت هذا لا أبالي كل شيء أتيت به، لكني أبالي من إتيان بعض الأشياء وإدخال الشارح هنا ما حرم على غيره له، كرفع الصوت عليه لا ينبغي؛ لأن القسم فيما حرم عليه هو صلى الله عليه وسلم، مع أن غالب ما ذكره أدمجه المصنف في القسم الرابع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 القسم الثالث: فيما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات اختص عليه الصلاة والسلام بإباحة المكث في المسجد جنبًا، قال صاحب التلخيص, ومنعه القفال، قال النووي: وما قاله في التلخيص قد يحتج له بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري: "يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك". قال الترمذي حسن غريب. وقد يعترض على هذا الحديث بأن عطية بن سعد.   القسم الثالث: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات والتخفيفات له دون غيره توسعة عليه، وتنبيهًا على أن ما خص به منها لا يلهيه عن طاعته، وإن ألهى غيره، وليس المراد بالمباح هنا ما استوى طرفاه، بل ما لا حرج في فعله، ولا في تركه. قال في المطلب: المباح في عرف الفقهاء ما استوى طرفاه، وقد يطلق على ما لا إثم فيه، وهو المراد فيما نحن فيه؛ لأن الطرفين لم يستويا في كل الصور، فإنه يثاب على الوصال، وصفى المغنم قد يكون الراجح فعله أيضًا؛ لأنه يصرفه في أهم المهمات، وقد يكون الراجح تركه، وكذا دخول مكة بلا إحرام؛ فإنه في حال يكون راجحًا كما وجد في حال يكون الفعل أرجح لفقد ما لأجله يرجح الترك، وكذا إباحة التصدق بجميع ما يخلفه والزيادة على أربع لا تساوي فيه فإن أفعاله وأقواله كلها راجحة، فيثاب عليها، انتهى. "اختص عليه الصلاة والسلام بإباحة المكث في المسجد جنبًا، قاله صاحب التلخيص" هو ابن القاص "ومنعه القفال" وهو المعتمد. قال النووي: وما قاله في التلخيص قد يحتج له بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد الخدري: "يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد" أي: يمكث فيه جنبًا "غيري وغيرك"، "قال الترمذي: حسن غريب، وقد يعترض على هذا الحديث" أي: الاحتجاج "بأن" راويه عن أبي سعيد "عطية بن سعد" العوفي، الكوفي، المتوفى سنة إحدى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 ضعيف عند الجمهور. ويجاب بأن الترمذي حكم بأنه حسن فلعله اعتضد بما اقتضى حسنه، لكن إذا شاركه عليه السلام علي في ذلك لم يكن من الخصائص. وقد غلط إمام الحرمين وغيره صاحب التلخيص في الإباحة. واعلم أن معظم المباحات لم يفعلها صلى الله عليه وسلم وإن جازت له. ومما اختص به أيضًا أنه لا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعًا، وفي اللمس وجهان.   عشرة ومائة، "ضعيف عند الجمهور" وفي التقريب: صدوق يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا، روى له أبو داود، والنسائي، والترمذي، "ويجاب بأن الترمذي حكم بأنه حسن، فلعله اعتضد" تقوى "بما اقتضى حسنه" فإن له شواهد كحديث أم سلمة، رفعته: إلا أن مسجدي حرام على حائض من النساء، وكل جنب من الرجال إلا محمدًا وأهل بيتي علي وفاطمة والحسن والحسين، رواه البيهقي، وحديث عائشة مرفوعًا: "لا يحل المسجد لحائض ولا جنب إلا لمحمد وآل محمد" رواه البخاري في تاريخه والبيهقي، وروى ابن عساكر عن جابر نحوه، "لكن إذا شاركه عليه السلام علي في ذلك لم يكن من الخصائص" ويجاب بأن له أن يخص من شاء بما شاء، كما يأتي، فتخصيص علي ببعض خصائصه لا يمنع كونه منها، "وقد غلط إمام الحرمين وغيره صاحب التلخيص في الإباحة" لكن لا ينهض التغليط مع وجود حديث حكم مثل الترمذي بحسنه، واختلف المحدثون في تضعيف راويه عطية وتوثيقه، ووجود شواهد له كثيرة، زاد في الأنموذج، وبالعبور فيه عند المالكية، أي: لا الشافعية، لأنهم جوزوا عبور الجنب في المسجد. "واعلم، أن معظم المباحات لم يفعلها صلى الله عليه وسلم وإن جازت له" ولعل غرضه من هذا دفع ما قد يقال لو كان مباحًا له لنقل، ولم ينقل. "ومما اختص به أيضًا، أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعًا" لما في الصحيحين، أنه صلى الله عليه وسلم اضطجع ونام حتى نفخ، ثم قال فصلى ولم يتوضأ، أي: لأنه لا ينام قلبه، والأنبياء مثله في ذلك؛ لأن قلوبهم لا تنام، فهو خصوصية له على الأمم لا الأنبياء، ومر الجواب عن نومه في الوادي في آخر المقصد الثالث في نفس المتن بأجوبة عديدة، فعجيب تسويد الكاغد هنا بذكر بعضه من كلام غير المصنف، الموهم أنه ليس فيه، مع أن ما بالعهد من قدم، ولكن آفة العلم النسيان، "وفي اللمس وجهان" أحدهما: لا ينتقض قال السيوطي: وهو الأصح، والثاني: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 قال النووي: المذهب الجزم بانتقاضه به. واستدل القائلون بالأول بنحو حديث عائشة، عند أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. ورواه النسائي أيضًا، وقال أبو داود: وهو مرسل، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا. واختص أيضًا بإباحة الصلاة بعد العصر، فقد فاتته ركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر, ثم واظب عليهما،   النقض، وهو المعتمد عند الشافعية، كما "قال النووي: المذهب الجزم بانتقاضه به، واستدل القائلون بالأول بنحو حديث عائشة عند أبي داود" في الطهارة وأحمد؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه" وفي رواية: بعض نسائه، "ثم يصلي ولا يتوضأ، ورواه النسائي أيضًا" في الطهارة. "وقال أبو داود: هو مرسل إبراهيم التيمي، لم يسمع من عائشة" لكن قال الحافظ: روى عنها من عشرة أوجه فهذا يجبر إرساله، ولذا قال في تخريج الرافعي: إسناد جيد قوي، وقال عبد الحق: لا أعلم له علة توجب تركه. "وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث، وإن كان مرسلا" بناء على أن المرسل ما سقط منه راوٍ، أنه ما رفعه التابعي، فيقال، في هذا منقطع، وبه أخذ أبو حنيفة، فقال: لا وضوء من المس، ولا من المباشرة، إلا أن فحشت بأن يوجدا متعانقين متماسي الفرج، وذهب الشافعي إلى النقض مطلقًا، وأجاب بعض أتباعه بأن خصوصية أو منسوخ، لأنه قبل نزول قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ} ، ولأبي حنيفة أن يقول الأصل عدم الخصوصية وعدم النسخ حتى يثبت، والحديث صالح للحجية، وقد روى النسائي أيضًا بإسناد صحيح عن القاسم عن عائشة، قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله، وفصل مالك بين الالتذاذ أو قصده، فالنقض وبين انتفائهما فلا نقض إلا القبلة بفم مطلقًا. "واختص أيضًا بإباحة الصلاة" أي: جنسها "بعد العصر" أي: الركعتين بعد الظهر، خاصة على ما قال: "فقد فاتته ركعتان بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر" كما في الصحيحين عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، فسألته، فقال: "أتاني ناس من عبد القيس، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان"، "ثم واظب عليهما" ولم يتركهما حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 ذكره الحجازي، وبجواز صلاة الوتر على الراحلة مع وجوبه عليه، كما ذكره في شرح المهذب وعبارته: كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز فعل هذا الواجب الخاص به على الراحلة. وبالصلاة على الغائب عند أبي حنيفة ومالك. وبالقبلة في الصوم، مع قوة الشهوة، روى البخاري من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه وهو صائم، وكان أملككم لإربه.   لقي الله، رواه البخاري عن عائشة، "ذكره الحجازي" فجعلهما خصوصية واحدة، والسيوطي جعلهما خصوصيتين، فقال: وبإباحة الصلاة بعد العصر، وبقضاء الراتبة بعد العصر عند قوم، قال شارحه عقب الأولى لخبر أبي داود: كان يصلي وينهى عنها، ويواصل وينهى عنه، ثم شرح الثانية بخبر أم سلمة، "وبجواز صلاة الوتر على الراحلة" أي: البعير "مع وجوبه عليه، كما ذكره" النووي "في شرح المهذب" وهو ضعيف، كما مر، "وعبارته: كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز فعل هذا الواجب الخاص به" أي الوتر "على الراحلة" لما في الصحيحين عن جابر: كان يصلي في السفر على راحلته حيثما توجهت به، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة. "وبالصلاة على" الميت "الغائب عند أبي حنيفة ومالك" وحملا صلاته على النجاشي على ذلك، وخالف الشافعي وأحمد، فأجازاها لغيره، زاد السيوطي وعلى القبر عند المالكية، "وبالقبلة" بالضم "في الصوم مع قوة الشهوة" بخلاف غيره، فيحرم إن خاف الإنزال وإلا كره، "روى البخاري" ومسلم، وأصحاب السنن "من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض أزواجه" هي عائشة، كما في مسلم، أو أم سلمة، كما في البخاري، لكن الظاهر أن كلا إنما أخبرت عن فعله معها لرواية البخري أيضًا عن عائشة، إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبل بعض أزواجه "وهو صائم" ثم ضحكت، زاد ابن أبي شيبة عن عروة: فظننا أنها هي، وإنما ضحكت تنبيهًا على أنها صاحبة القصة، لتكون أبلغ في الثقة بها، أو تعجبًا من نفسها إذ حدثت بمثل هذا مما يستحيي النساء من ذكره للرجال، لكن ضرورة تبليغ العلم ألجأتها لذلك. وروى البيهقي عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم، ويمص لسانها، "وكان أملككم لإربه" بكسر الهمزة، وإسكان الراء في الفرع وغيره، أي: عضوه، وبفتح الهمزة والراء، وقدمه في فتح الباري، وقال: إنه أشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري، أي: أغلبكم لهواه وحاجته. وقال التوربشتي: حمل الإرب ساكنة الراء على العضو في هذا الحديث غير سديد، لا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب، مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 قال الحافظ ابن حجر: فأشارت بذلك إلى أن الإباحة لمن يكون مالكًا لنفسه دون من لا يأمن الوقوع فيما يحرم. وفي رواية حماد -عند النسائي- قال الأسود: قلت لعائشة: أيباشر الصائم؟ قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه. قال وظاهر هذا أيضًا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قاله القرطبي، قال: وهو اجتهاد منها. ويدل على أنها لا ترى بتحريمها ولا بكونها من الخصائص: ما رواه مالك في الموطأ أن عائشة بنت طلحة كانت عند عائشة فدخل عليها زوجها وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فقالت عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك فتلاعبها وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم.   وأجاب الطيبي: بأنها ذكرت أنواع الشهوة مرتقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة، ثم ثنت بالمباشرة بنحو المداعبة والمعانقة، وأرادت أن تعبر عن المجامعة، فكنت عنها بالأرب، وأي عبارة أحسن من هذا. انتهى. وفي الموطأ: أيكم أملك لنفسه، وبهذا فسره الترمذي، فقال: ومعنى لإربه لنفسه، قال الحافظ العراقي: وهو أولى بالصواب لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث. "قال الحافظ ابن حجر: فأشارت بذلك" أي قولها: وكان أملككم لإربه "إلى أن الإباحة لمن يكون مالكًا لنفسه دون من لا يأمن الوقوع فيما يحرم" من الإنزال أو الجماع، "وفي رواية حماد عند النسائي، قال الأسود" بن يزيد النخعي: "قلت لعائشة: أيباشر الصائم" حليلته بما دون الجماع، "قالت: لا، قلت: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبار وهو صائم؟ قالت: إنه كان أملككم لإربه، قال" الحافظ: "وظاهر هذا أيضًا أنها اعتقدت خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" لأنه لا يخاف ما يخاف غيره، "قال القرطبي، قال: وهو" أي اعتقادها الخصوصية "اجتهاد منها" لا أنها رفعته، "ولكن يدل على أنها لا ترى بتحريمها، ولا بكونها من الخصائص، ما رواه مالك في الموطأ: أن عائشة بنت طلحة" بن عبيد الله القرشية التيمية أم عمر، إن كانت فائقة الجمال، وهي ثقة، روى له الستة "كانت عند عائشة" أم المؤمنين، "فدخل عليها زوجها، وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر" الصديق، التيمي، التابعي، روى له الشيخان وغيرهما، "فقالت عائشة: ما يمنعك أن تدنو من أهلك" زوجك، "فتلاعبها وتقبلها؟ قال: أقبلها وأنا صائم؟ قالت: نعم" فدل ذلك، على أن قولها للأسود لا محمول على تحرك شهوته، كما أشعر به جوابها؛ بأنه كان أملككم، وقد حكى الإجماع على أن من كره القبلة لم يكرهها لنفسه، وإنما كرهها خشية ما تئول إليه من الإنزال، ومن بديع ذلك قول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 واختص أيضًا بإباحة الوصال في الصوم: كما سيأتي، وقال إمام الحرمين، وهو قربة في حقه عليه السلام. وأن يأخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج، ويجب على صاحبهما البذل. ويفدي بمهجته مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6] ، ولو قصده ظالم وجب على كل من حضره أن يبذل نفسه دونه صلى الله عليه وسلم.   عمر بن الخطاب: هششت، فقبلت وأنا صائم، فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم"، قلت: لا بأس به، قال: "فمه"، رواه أبو داود والنسائي، وقال: منكر، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، قال المازري: فأشار إلى فقه بديع وذلك أن المضمضة لا تنقض الصوم، وهو أول، الشرب ومفتاحه، كما أن القبلة من دواعي الجماع ومفتاحه، والشرب يفسد الصوم، كما يفسد الجماع، فكما ثبت أن أوائل الشرب لا تفسد الصيام، فكذلك أوائل الجماع، وأخذ الظاهرية بظاهر الحديث، فجعلوا القبلة للصائم سنة، وقربة من القرب اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، ورد بأنه كان يملك إربه، فليس كغيره، وكيفما كان لا يفطر إلا بإنزال، فلو أمذى فلا شيء عليه عند الشافعي وأبي حنيفة، وعليه القضاء عند مالك، "واختص أيضا بإباحة الوصال" كما قال الشافعي والجمهور "في الصوم، كما سيأتي" في المقصد التاسع مع بسط الخلاف في معنى: "يطعمني ربي ويسقيني" وفي حكم الوصال لنا بما يغني عن جلب بعض كلام غيره هنا. "وقال إمام الحرمين: هو قربة في حقه عليه السلام" أي مستحب لا مباح؛ كما قال الجمهور، "و" اختص بإباحة "أن يأخذ الطعام والشراب" والثياب "من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج" بلا ثمن، بخلاف غيره، فلا يجوز له إلا أن يضطر، فيجب على مالكه غير المضطر بذله بالثمن إن وجد على ما بسط في الفروع، "ويجب على صاحبهما البذل" ولو هلك جوعًا وعطشًا وعريًا، "ويفدي بمهجته مهجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه"، لكن لم ينقل أنه فعل هذا المباح، بل كان يؤثر على نفسه، قال الشيخان: بل ولا معظم المباحات، "ولو قصده ظالم وجب على كل من حضره أن يبذل" بضم الذال "نفسه" يجود بها ويعطيها "دونه صلى الله عليه وسلم" وإن خشي الدافع على نفسه بخلاف غيره، فلا يجب الدفع مع الخوف، كما قال الرافعي والنووي؛ لأن من قصد غير النبي مسلمًا لا يكفر، وقاصده عليه السلام يكفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 كما وقاه طلحة بنفسه يوم أحد. وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته، وسيأتي إن شاء الله تعالى في القسم الرابع حكم غيره عليه السلام. وبجواز الخلوة بهن. قال في فتح الباري: الذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، ويدل له قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله صلى الله عليه وسلم عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية، انتهى.   بذلك، قاله الخيضري "كما وقاه طلحة" بن عبيد الله، أحد العشرة "بنفسه يوم أحد" وكان أبو طلحة الأنصاري يتقي بترسه دونه، ونحو ذلك من الأحاديث، كما قاله الحافظ بعد قوله: لم أر وقوع ذلك في شيء من الأحاديث صريحًا، ويمكن أن يستأنس له بأن طلحة ... إلخ، "وبإباحة النظر إلى الأجنبيات لعصمته، وسيأتي إن شاء الله تعالى في القسم الرابع" التالي لهذا "حكم غيره عليه السلام" من اختلاف العلماء في جواز النظر إلى الوجه والكفين ومنعه، "وبجواز الخلوة بهن" لعصمته. "قال في فتح الباري: الذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالأجنبية، والنظر إليها" لمكان عصمته، وإن نازع في ذلك القاضي عياض؛ بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، قال: وثبوت العصمة مسلم لكن الأصل عدم الخصوصية، "ويدل له قصة أم حرام بنت ملحان" بكسر الميم، وسكون اللام، ومهملة، ونون، واسمه مالك بن خالد بن زيد بن حرام، بمهملتين، الأنصارية، خالة أنس، قال أبو عمر: لم أقف لها على اسم صحيح، قال في الإصابة: ويقال إنها الرميصاء، بالراء، وبالغين المعجمة، ولا يصح بل الصحيح أن ذلك وصف لأم سليم، ثبت ذلك في حديثين لأنس وجابر عند النسائي، روى عن أم حرام زوجها عبادة بن الصامت، وابن أخيها أنس، وعمير بن الأسود، وعطاء بن يسار، وعلى بن شداد بن أوس، "في دخوله عليها" بيتها "ونومه عندها" فيه، "وتفليتها رأسه، ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية" وزعم أنها كانت محرمة من الرضاع؛ بأن أرضعته هي أو أختها أم سليم لم يثبت؛ كما قاله الدمياطي وغيره، "انتهى". روى البخاري وغيره من طريق الموطأ لمالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى قباء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها، فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 ومنها نكاح أكثر من أربع نسوة، وكذلك الأنبياء، وفي الزيادة لنبينا صلى الله عليه وسلم على التسع خلاف.   سبيل الله يركبون ثيج هذا البحر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة" قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله"، كما قال الأول، فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين" قال: فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فماتت، وفي بعض طرقه عند البخاري، عن أنس، عن أم حرام بنت ملحان، وكانت خالته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بيتها، فاستيقظ وهو يضحك، وقال: "عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة". قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "إنك منهم" ثم نام فاستيقظ وهو يضحك، فقلت: يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: "عرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة"، قلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين" قال: فتزوجها عبادة بن الصامت، فأخرجها معه، فلما جاز البحر ركبت دابة، فصرعتها فقتلتها، قال ابن الأثير: وكانت تلك الغزوة غزوة قبرص، فدفنت فيها، وكان أمير ذلك الجيش معاوية، في خلافة عثمان، ومعه أبو ذر، وأبو الدرداء وغيرهما من الصحابة، وذلك في سنة سبع وعشرين، وقيل: ثمان وعشرين، فقوله في الحديث: زمن معاوية، أي: زمان غزوه في البحر، لا زمان خلافته، وهذا قول أكثر أهل السير. وقال البخاري ومسلم: في زمن معاوية نفسه. ثم لا يخالف بين قوله في الرواية الأولى: وكانت زوج عبادة، الظاهر في أنها كانت زوجه في الزمن النبوي، وبين قوله في الرواية الثانية: فتزوجها عبادة الظاهر في أنه تزوجها بعد لأنها كانت إذ ذاك زوجته ثم طلقها ثم راجعها بعد ذلك، قاله ابن التين وقيل: إنما تزوجها بعد. قال الحافظ: وهو أولى لاتفاق عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، ومحمد بن يحيى بن حبان، عن أنس كلاهما عند البخاري أن عبادة إنما تزوجها بعد، ويحمل قوله في رواية ابن إسحاق: وكانت تحت عبادة بن الصامت على أنها جملة معترضة، أراد الراوي وصفها به غير مقيد بحال من الأحوال، ظهر من رواية غيره؛ أنه إنما تزوجها بعد. "ومنها: نكاح أكثر من أربع نسوة" إلى تسع اتفاقًا وقد مات عنهن، "وكذلك الأنبياء" لهم الزيادة، فهو خصوصية له على أمته، "وفي" جواز "الزيادة لنبينا صلى الله عليه وسلم على التسع خلاف" أصحه الجواز؛ لأنه مأمون الجور، ولأن غرضه نشر باطن الشريعة وظاهرها، وكان أشد حياء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 ويجوز له النكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 5] ، وأما من جهته عليه الصلاة والسلام فلا بد من لفظ النكاح أو التزويج على الأصح في أصل الروضة، وحكاه الرافعي عن ترجيح الشيخ أبي حامد لظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 5] . قال البيضاوي: في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} الآية، أي: أعلمناك حل امرأة تهب كل نفسها ولا تطلب مهرًا إن اتفق، ولذلك نكرها. واختلف في ذلك، والقائل به ذكر أنها.   فأبيح له تكثير النساء بلا حصر عدد، لنقل ما يرينه من أفعاله ويسمعنه من أقواله الذي قد يستحيي من الإفصاح بها، "ويجوز له النكاح بلفظ الهبة من جهة المرأة، قال الله تعالى: وأحللنا لك {امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية، وأما من جهته عليه الصلاة والسلام فلا بد من لفظ النكاح أو التزويج" بأن يقول: نكحتك أو تزوجتك، "على الأصح في أصل الروضة وحكاه الرافعي عن ترجيح الشيخ أبي حامد لظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} ، لكن المعتمد جوازه بلفظ الهبة إيجابًا وقبولا إن أراده. "قال البيضاوي في" تفسير "قوله تعالى": {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} الآية، ما نصه: نصب بفعل يفسره ما قبله، أو عطف على ما سبق، ولا يدفعه التقييد بأن التي للاستقبال، فإن المعنى بالإحلال الإعلام بالحل، "أي: علمناك حل امرأة مؤمنة" وهذا مأخوذ من كلام أبي البقاء، قال ناصب: وامرأة أحللنا في أول الآية، وقد ورد هذا قوم، وقالوا: أحللنا ماض، وإن وهبت، وهو صفة المرأة مستقبل، وأحللنا في موضع جوابه وجواب الشرط لا يكون ماضيًا في المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ لأن معنى الإحلال هنا الإعلام بالحل إذا وقع الفعل على ذلك؛ كما تقول: أبحث لك إن تكلم فلانًا، إذا سلم عليك "تهب لك نفسها ولا تطلب مهرًا، إن اتفق" وقوع ذلك لك، "ولذلك نكرها". قال ابن عطية: وهو يقتضي الاستئناف: أي: إن وقع فهو حلال له، "و" قد "اختلف في ذلك" فروي عن ابن عباس: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يمين، أما الهبة فلم يكن عنده منهن أحد. وقيل: وقع ذلك، كان عنده منهن، "والقائل به ذكر أنها" لفظ البيضاوي أربعًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية، وأم شريك بنت جابر بن عوف القرشية العامرية، وخولة بنت جابر وخولة بنت حكيم، قال: وقرئ "أن" بالفتح، أي لأن وهبت، أو مدة أن وهبت.   "ميمونة بنت الحارث" الهلالية أم المؤمنين، قال ابن إسحاق: يقال إنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن خطبته، انتهت إليها وهي على بعيرها، فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، وأخرجه ابن أبي خيثمة عن الزهري وقتادة، وابن سعد عن عكرمة، وقالوا: ففيها نزلت الآية. "وزينب بنت خزيمة الأنصارية" وكذا وقع في البيضاوي، والذي في ابن عطية، وقال الشعبي وعروة، هي زينب ابنة خزيمة أم المساكين، انتهى، ومثله في فتح الباري، وهذه هلالية، قرينة ميمونة، تزوجها، فمكثت قليلا، وماتت عنده، فلعله سماها أنصارية بالمعنى الأعم، ويدل له أن البغوي قال: الأنصارية أم المساكين، وإلا فلم يذكر في الإصابة من تسمى زينب بنت خزيمة الأنصارية، وعجبت من السيوطي، وشيخ الإسلام حيث لم ينبها على هذا في حواشيهما على البيضاوي، وكأنه لظهوره. "وأم شريك" اسمها غزيلة بضم المعجمة، وفتح الزاي، وشد التحتية، وقيل: بفتح أولها، وقيل: اسمها غزيلة بلام بعد الياء، "بنت جابر بن عوف، القرشية، العامرية" وقيل: الأزدية الدوسية، وقيل: الأنصارية النجارية، قال في الإصابة: والذي يظهر في الجمع؛ أنها واحدة، اختلف في نسبها أقرشية، عامرية، أو أنصارية، أو أزدية من دوس، واجتماع الثلاثة ممكن بأن تكون قرشية تزوجت في دوس، فنسبت إليهم، ثم تزوجت في الأنصار، فنسبت إليهم، أو لم تتروج، بل نسب أنصاري بالمعنى الأعم، وطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف في دخوله بها، قاله المصنف في الزوجات، ففي رواية ابن عباس: دخل بها، وفي رواية غيره: لم يدخل بها، ويحتمل الجمع بأن المنفي الجماع، والمثبت مجرد الدخول إن صحا. "وخولة بنت جابر" كذا في بعض النسخ، ولم يذكرها البيضاوي الذي هو نافل عنه، ولا ذكر لها في الإصابة، فالصواب حذفها، كما في النسخ الصحيحة، "وخولة" ويقال: خويلة بالتصغير"بنت حكيم" بن أمية السلمي، بضم السين إلى جده سليم، صحابية، فاضلة، لها أحاديث، يقال كنيتها أم شريك، قاله أبو عمر، وهي زوجة عثمان بن مظعون، واختلف في أن هبتها لنفسها قبل أن يتزوجها عثمان أو بعد موته عنها، فأرجأها النبي ولم يتزوجها. "قال" البيضاوي: "وقرئ" شاذا "أن بالفتح" وهي قراءة أبي بن كعب، والحسن البصري، والشعبي وغيرهم، إشارة إلى ما وقع من الواهبات قبل نزول الآية، وفي مصحف ابن مسعود، مؤمنة وهبت بدون أن، قاله ابن عطية، أي: لأجل "أن وهبت أو مدة أن وهبت؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 كقولك: اجلس ما دام زيد جالسًا، قال: وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} شرط للشرط الأول في استيجاب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له إلا بإرادته نكاحها، فإنها جارية مجرى القبول، قال: والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ "النبي" مكررًا. ثم الرجوع إليه في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] إيذان بأنه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجله، انتهى. وقال المعافى: وفي معنى "خالصة" ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرأة إذا وهبت نفسها له لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين. قاله أنس بن مالك وابن المسيب. والثاني: أنه له أن ينكحها بلا ولي ولا شهود دون غيره. قاله قتادة، والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، قال: وهذا قول الشافعي وأحمد.   كقولك: اجلس ما دام زيد جالسًا" فإن على هذا مصدرية، وليست اللام مقدرة معها، "قال: وقوله: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} شرط للشرط الأول" على قراءة الجمهور "في استيجاب الحل، فإن هبتها نفسها منه لا توجب له إلا بإرادته نكاحها" بأن يأتي بلفظ يدل على القبول، كما أشعر به يستنكحها، فلا بد من لفظ الإنكاح، أو التزويج، أو يكفي لفظ الهبة في القبول أيضًا خلاف كما مر، "فإنها" أي: إرادتها "جارية مجرى القبول" فلا يجب عليه قبولها، بل يوكل الأمر إلى إرادته، "قال: والعدول عن الخطاب إلى الغيبة بلفظ النبي مكررًا، ثم الرجوع إليه في قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية إيذان بأنه، أي: انعقاد النكاح بلفظ الهبة "مما خص به لشرف نبوته، وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجله، انتهى" كلام البيضاوي. "وقال المعافى" بن زكريا بن يحيى بن حميد الحافظ المفسر، الثقة، الجريري، كان مقلدًا لابن جرير، مات سنة تسع وثلاثمائة، "وفي معنى خالصة ثلاثة أقوال، أحدها: أن المرأة إذا وهبت نفسها له لم يلزمه صداقها دون غيره من المؤمنين" فيلزمه الصداق، وليس المعنى أنها تحل له بلفظ الهبة، "قاله أنس بن مالك وابن المسيب". قال البغوي: فالخصوصية له في ترك الصداق لا في جوازه بلفظ الهبة، "والثاني: أنه له أن ينكحها بلا ولي ولا شهود دون غيره" فإنما تحل له بهما، "قاله قتادة" قالخصوصية له في تركهما لا في جوازه بلفظ الهبة، "والثالث: خالصة لك أن تملك عقد نكاحها بلفظ الهبة دون المؤمنين، قال: وهذا قول الشافعي، وأحمد" ومالك والأكثر. "وعن أبي حنيفة: ينعقد النكاح بلفظ الهبة لغيره صلى الله عليه وسلم أيضًا" وفي تفسير ابن عطية: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 وعن أبي حنيفة ينعقد النكاح بلفظ الهبة لغيره صلى الله عليه وسلم أيضًا. وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا مهر ابتداء وانتهاء، كما تقدم أن المرأة إذا وهبت نفسها له عليه الصلاة والسلام لا يلزمه صداقها. قال النووي: إذا وهبت امرأة نفسها له عليه الصلاة والسلام فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه مهرها بالدخول، ولا بغير ذلك، بخلاف غيره فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر، إما مسمى وإما مهر والله أعلم. وكذا يجوز له النكاح في حال الإحرام، قال النووي في شرح مسلم: قال جماعة من أصحابنا أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة، قال: وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا، انتهى.   أجمع الناس على أن ذلك لا يجوز لغيره إلا ما ورد عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف، إذا وهبت، فأشد على نفسه هو بمهر جاز، فليس في قولهم: إلا تجويز العبارة بلفظ الهبة، وإلا فالأفعال التي اشترطوها هي أفعال النكاح بعينه، انتهى، فأوله على موافقة مذهب مالك أنه يجوز مع الصداق العقد بلفظ الهبة، "وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا مهر ابتداء وانتهاء" أي: قبل الدخول وبعده، "كما تقدم أن المرأة إذا وهبت نفسها له عليه الصلاة والسلام، لا يلزمه صداقها". "قال النووي: إذا وهبت امرأة نفسها له عليه الصلاة والسلام فتزوجها بلا مهر حل له ذلك، ولا يجب عليه مهرها بالدخول، ولا بغير ذلك" من فرض أو موت "بخلاف غيره، فإنه لا يخلو نكاحه من وجوب مهر، إما مسمى، وإما مهر المثل" بالوطء في التفويض، "والله أعلم" وكذا له النكاح بصداق مجهول، كما في الأنموذج، "وكذا يجوز له النكاح في حال الإحرام" منه أو من المرأة أو منهما. "قال النووي في شرح مسلم: قال جماعة من أصحابنا" الشافعية وغيرهم "أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج في حال الإحرام، وهو مما خص به دون الأمة" قضيته مشاركة الأنبياء له في هذه الخصوصية. قال أبو حامد: وإنما منع غيره من ذلك، لأن فيه دواعي الجماع، فربما يفضي إليه فيفسد حجه به، وهذا مأمون من جهته، سواء اختص بالإحرام أو المرأة لعصمته وقدرته على الامتناع منه، "قال: وهذا أصح الوجهين عند أصحابنا، انتهى" واحتجوا له بما رواه مالك والأئمة الستة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، زاد في رواية للبخاري: في عمرة القضاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وكذا يجوز له النكاح بغير رضا المرأة، فلو رغب في نكاح امرأة خلية لزمها الإجابة، وحرم على غيره خطبتها، أو متزوجة وجب على زوجها طلاقها.   مع قوله: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح" فدل على أن فعله خصوصية له جمعًا بين الخيرين، لكن قال سعيد بن المسيب: وهل ابن عباس، وإن كانت خالته ما تزوجها صلى الله عليه وسلم إلا بعدما حل، رواه البخاري، ووهل، بكسر الهاء، أي: غلط لمخالفته لما صح عنها نفسها، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن حلالان بسرف، رواه مسلم من رواية يزيد بن الأصم عنها، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وأخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، عن أبي رافع، أنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا السفير بينهما، وكذا رواه مالك عن سليمان بن يسار، قال البيهقي في المعرفة: وبهذا رد الشافعي رواية ابن عباس التي احتج بها الحنفية وأهل العراق على جواز نكاح المحرم وإنكاحه، وخالفه الجمهور وأهل الحجاز محتجين بحديث مسلم عن عثمان رفعه: "المحرم لا ينكح ولا يُنكح" وأما خبر ابن عباس وإن صح إسناده إليه فوهم، كما قال سعيد. قال الشافعي: لأن ابن أختها يزيد يقول: نكحها حلالا، ومعه سليمان بن يسار عتيقها، أو ابن عتيقها، وخبر اثنين أكثر من خبر واحد مع رواية عثمان التي هي أثبت من هذا كله، انتهى. ولذا قال الزركشي في جعل ذلك من الخصائص نظر إذ لم يثبت الشافعي وقوع العقد حال إحرامه والتجويز يحتاج إلى دليل. وقال السهيلي: تأول بعض شيوخنا قول ابن عباس وهو محرم بمعنى في الشهر الحرام والبلد الحرام لأنه عربي فصيح، يتكلم بكلام العرب، ولم يرد الإحرام بالحج ولا العمرة، فالله أعلم، أراد لك ابن عباس أم لا؟ قال: ومن الغريب ما رواه الدارقطني عن أبي الأسود ومطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه تزوجها وهو حلال، انتهى، فإن ثبت ذلك عنه؛ فكأنه رجع، وإلا فالمعروف عنه وهو محرم، وإن كان وهمًا أو مؤولا، وتقدم مزيد لهذا في الزوجات، وقبله في عمرة القضية. "وكذا يجوز له النكاح بغير رضا المرأة" لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما مر، "فلو رغب في نكاح امرأة خلية" عن زوج أو عدة "لزمها الإجابة" إليه على الصحيح وتجبر عليه "وحرم على غيره خطبتها" بكسر الخاء بمجرد الرغبة، "أو متزوجة وجب على زوجها طلاقها" ليتزوجها، وقياسه لو رغب في نكاح سرية وجب على سيدها إعتاقها وتركها ليتزوج بها، كذا قال شيخنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 قال الغزالي: ولعل السر فيه من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليف النزول عن أهله، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين. ويدل لهذه الخصيصة قصة زينب بنت جحش، بنت عمته صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب.   "قال الغزالي: ولعل السر" النكتة والحكمة "فيه" أي: وجوب التطليق على الزوج "من جانب الزوج امتحان إيمانه بتكليف النزول عن أهله، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: $"لا يؤمن أحدكم" إيمانًا كاملا, ونفي اسم الشيء بمعنى الكمال عنه مستفيض في كلامهم، وخصوا بالخطاب، لأنهم الموجودون حينئذ، والحكم عام. وفي رواية ابن ماجه: أحد "حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين" عطف عام على خاص، وهو كثير، والحديث في الصحيحين وغيرهما، عن أنس بلفظ: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". وفي صحيح ابن خزيمة: "من أهله وماله" بدل من والده وولده، وكذا في مسلم من وجه آخر. وفي رواية للبخاري: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، ويأتي إن شاء الله تعالى كلام عليه في مقصد المحبة وبقية كلام الغزالي: ومن جانب النبي صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه ببلية البشرية ومنعه من خائنة الأعين، ولذا قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} الآية، ولا شيء أدعى إلى حفظ البصر من هذا التكليف، قال: وهذه يوردها الفقهاء في نوع التخفيفات، وعندي أنه في حقه في غاية التشديد، إذ لو كلف به آحاد الناس لما فتحوا أعينهم في الشوارع والطرقات خوفًا من ذلك، ولذا قالت عائشة: لو كان يخفي آية لأخفى هذه، كذا قال وتعقب بأن الآحاد غير معصومين، فيثقل عليهم ذلك بخلافه. "ويدل لهذه الخصيصية قصة زينب بنت جحش" الأسدية "بنت عمته صلى الله عليه وسلم أميمة" بالتصغير "بنت عبد المطلب" مختلف في إسلامها وأثبته ابن سعد، وفي هذا الدليل نظر لابتنائه على أنه صلى الله عليه وسلم رغب في نكاحها لما رآها، وقال: "سبحان الله مقلب القلوب"، ففهمت زينب ذلك منه، وأخبرت زيدًا ففارقها وهذا منكر، وعلى تقدير تسليمه لا يدل على الوجوب، إذ قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} صورة واقعة حال، والصواب أن إطلاق زيد لها لتعظمها عليه، ولذا قال ابن الرفعة: قصة زيد لا تدل على ذلك، بل تدل على عكسه، وبسط القول فيه بما يطول ذكره، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 المنصوص عليها بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: بنعمة الإسلام وهي أجل النعم {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، أي: بالإعتاق بتوفيق الله لك، وهو زيد بن حارثة الكلبي، وكان من سبي الجاهلية، فملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وأعتقه وتبناه وخطب له زينب فأبت هي وأخوها عبد الله، ثم رضيا لما نزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب: 36] الآية.   وكذا فعل ابن الصلاح في كلامه على بسيط الغزالي "المنصوص عليها بقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي: بنعمة الإسلام وهي أجل النعم" زاد ابن عطية: وبغير ذلك "وأنعمت عليه، أي: بالإعتاق بتوفيق الله لك، وهو زيد بن حارثة الكلبي، وكان من سبي الجاهلية" وذلك أن أمه سعدى بنت ثعلبة من بني معن من طيئ، خرجت به لتزيره أهلها، فأصابته خيل بني القين لما أغارت على بني معن، فأتوا به سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، وهو غلام ابن ثمانية أعوام، فاشتراه حكيم بن حزام بأربعمائة درهم لعمته خديجة بنت خويلد، فاستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم منها، فوهبته له، "فملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وأعتقه وتبناه" لما قدم حارثة وأخوه كعب مكة، فقالا: يابن عبد المطلب، يابن سيد قومه؛ أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير جئنا في ولدنا عبدك، فامنن علينا وأحسن في فدائه، فقال: "أو غير ذلك أدعوه، فخيروه، فإن اختاركم، فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني، فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء". قالوا: زدتنا على النصف، فدعاه فخيره، فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك، وعمك، وأهل بيتك؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا، فلما رأى صلى الله عليه وسلم ذلك قام إلى الحجر، فقال: "اشهدوا أن زيدًا ابني، أرثه ويرثني"، فطابت نفس أبيه وعمه وانصرفا، فدعي زيد بن محمد حتى جاء الإسلام، فأسلم بحيث قيل: إنه أول من أسلم مطلقًا، ومر هذا مبسوطًا في الموالي. وروى ابن الكلبي عن ابن عباس: لما تبنى صلى الله عليه وسلم زيدًا زوجه أم أيمن، ثم زوجه زينب، فلما طلقها زوجه أم كلثوم بنت عقبة، وولدت بركة أسامة له بمكة بعد البعثة، بثلاث أو خمس، "وخطب له زينب" بعد البعثة "فأبت هي وأخوها عبد الله" المستشهد بأحد، "ثم رضيا لما نزل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ} ما صح {لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية. قال ابن عطية: عبر بلفظ النفي، ومعناه المنع من فعل هذا، وتجيء ما كان، وما ينبغي ونحوهما لحظر الشيء، والحكم بأنه لا يكون، وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا كقوله: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} الآية، وربما كان للعلم بامتناعه شرعًا كقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وكان الرجل في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى ولد غيره يدعوه الناس به ويرث ميراثه وتحرم عليه زوجته، فنسخ الله التبني بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} وبهذه القصة يثبت الحكم بالقول والفعل، فأوحى الله تعالى إليه أن زيدًا سيطلقها، وأنه صلى الله عليه وسلم يتزوجها، وألقى في قلب زيد كراهتها، فأراد فراقها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي قال: "ما لك؟ أرابك منها شيء"؟. قال: لا والله يا رسول الله! ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم عليّ بشرفها وتؤذيني.   أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} الآية، وربما كان حظره بحكم شرعي، كهذه الآية، وربما كان في المندوبات، كما تقول: ما كان لك أن تترك النوافل ونحوها. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة، وابن جرير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب زينب، وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت واستنكفت، وقالت: أنا خير منه حسبًا، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} الآية كلها، فرضيت وسلمت، وما ذكر من أن النسخة لما نزل صواب واضح، وفي نسخ: ثم رضيا، فنزل وهي توهم أن رضاهما قبل نزول الآية، وليس كذلك. "وكا الرجل في الجاهلية وصدر الإسلام إذا تبنى ولد غيره، يدعوه الناس به، ويرث ميراثه" بأن يرث كل منهما الآخر، "وتحرم عليه زوجته، فنسخ الله التبني بقوله: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} الآية، قال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية، رواه البخاري، "وبهذه القصة يثبت الحكم بالقول" من الله تعالى، "وبالفعل" من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تزوجه زوجة من تبناه، "فأوحى الله تعالى إليه" بعد رضاها، وتزوجها بزيد "أن زيدًا سيطلقها، وأنه صلى الله عليه وسلم يتزوجها، وألقى في قلب زيد كراهتها" أي: كراهة بقائها في نكاحه، ولا يلزم منه كراهة ذاتها،"فأراد فراقها" بعد مكثها عنده مدة، "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي" أي: زوجتي قال: "ما لك" أي: شيء حصل لك منها حتى أردت فراقها، "أرابك منها شيء"؟ أي: هل استيقنت منها شيئًا يوجب لك الشك في أمرها، فالهمزة للاستفهام، ويحتمل أنها جزء الكلمة، أي: أحصل شيء يسيء ظنك بها، فهمزة الاستفهام، مقدرة؛ لأنه متى أبدل مما تضمن معنى الاستفهام وجب ذكر همزته في البدل، "قال: لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم عليّ بشرفها" عليّ لأنها عربية وأنا مولى، "وتؤذيني بلسانها، فقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 بلسانها، فقال له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 37] ، أي: في أمرها، فلا تطلقها ضرارًا وتعللا {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ولم يبق له فيها حاجة، وطلقها وانقضت عدتها زوجها الله تعالى له، كما قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} والمعنى أنه أمره بتزويجها منه، أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد, ويؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تولى نكاحي، وأنتن زوجكن أولياؤكن. وقيل: إن زيدًا كان السفير للتزويج بينهما.   له صلى الله عليه وسلم: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي: لا تفارقها {وَاتَّقِ اللَّهَ} في أمرها، أي: فلا تطلقها ضرارًا" مفعول له "ولا تعللا" وعبر البيضاوي بأو بدل الواو، {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ولم يبق له فيها حاجة" تفسير لوطرًا، "وطلقها وانقضت عدتها، زوجها الله تعالى" لنبيه سنة خمس أو ثلاث أو أربع من الهجرة، وبالثاني صدر في الإصابة، وبالثابت في العيون، وبالأولى المصنف؛ "كما قال تعالى" {زَوَّجْنَاكَهَا} الآية، "والمعنى أنه أمره بتزويجها منه" أي: بأن يتخذها زوجة، والأوضح بتزوجها، لأنه من النفس، والتزويج يكون من الغير، ولعله عبر به إشارة إلى أنه أمر بجعلها زوجة له أعم من كون ذلك بطلبه من الولي، أو بتزويجها له من نفسه؛ بأن يتولى الطرفين، "أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد" وهذا هو الصواب الذي لا يصح غيره، كما قال بعض الحفاظ لأنه الثابت في مسلم وغيره، كما يأتي. "ويؤيده أنها كانت تقول لسائر" أي باقي "نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تولى نكاحي وأنتن زوجكن أولياؤكن" أخرجه الترمذي، وصححه عن أنس، قال: كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات، وليس هذا من الفخر المنهي عنه، بل من التحدث بالنعمة، وقد سمعها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها. روى ابن سعد، قالت زينب: يا رسول الله! إني والله ما أنا كأحد من نسائك، ليست امرأة من نسائك إلا زوجها أبوها أو أخوها أو أهلها غيري زوجنيك الله من السماء، ويؤيده أيضًا ما رواه ابن سعد: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عند عائشة إذ أخذته غشية فسري عنه وهو يتبسم ويقول: "من يذهب إلى زينب فيبشرها" وتلا: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الآية، قالت عائشة: فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها وأخرى هي أعظم وأشرف ما صنع لها زوجها الله من السماء، وعن الشعبي: كانت زينب تقول لرسول الله: "أنكحك إياي من السماء، وإن الساعي في ذلك جبريل، وهي أولى من رواية من روى، وإن السفير بيني وبينك جبريل، لما لا يخفى. "وقيل: إن زيدًا كان السفير للتزويج بينهما" كما أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وفي ذلك ابتلاء عظيم لزيد، وشاهد بين على قوة إيمانه. وقد علل الله تعالى تزويجه إياها بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} ، أي في أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنونه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات ليست داخلات فيما حرم في قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ} . وأما قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} ، فمعناه: علمك أنه سيطلقها وتتزوجها، فعاتبه الله تعالى عن هذا القدر في شيء أباحه له، بأن قال: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} مع علمه أنه سيطلق، وهذا مروي عن علي بن الحسين   أنس، قال: لما انقضت عدة زينب، قال صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "اذهب فاذكرني لها"، قال: فذهبت إليها، فجعلت ظهري إلى الباب، فقلت: يا زينب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما كنت لأحدث شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل، فقامت إلى مسجد لها فأنزل الله: {فَلَمَا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} الآية، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليها بغير إذن. "وفي ذلك ابتلاء عظيم لزيد وشاهد بين على قوة إيمانه" حيث اطمأنت نفسه إلى خطبة من فارقها إلى سيده وسيد غيره، مع أن شأن النفوس الغض من أن يتزوج مطلقتها أعلى منها أو مساوٍ لها فضلا عن توليها الخطبة، ويروى أنه قال له: ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب زينب عليّ. "وقد علل الله تعالى تزويجه إياها بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} الآية، جمع دعي، وهو المتبنى، "أي: في أن يتزوجوا زوجات من كانوا يتبنونه إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات" عطف على أن يتزوجوا "ليست داخلات فيما حرم في قوله: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} ، الآية، إذ المراد الصلبية. "وأما قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} الآية، قال الزمخشري: الواو للحال، قال أبو حيان: لا يكون حالا إلا على إضمار مبتدأ، أي: وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا تدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر لا تنبني على مثله القواعد، وقال الطيبي: الجمل الثلاث الواو فيها للحال على سبيل التداخل، فقوله: {وَتُخْفِي} حال من المستتر في {تَقُولُ} و {وَتَخْشَى النَّاسَ} حال من فاعل تخفي، {وَاللَّهُ أَحَقُّ} حال من فاعل تخشى، "فمعناه" تخفي "علمك" فنصب بمقدر "أنه سيطلقها وتتزوجها، فعاتبه الله تعالى على هذا القدر في شيء أباحه له؛ بأن قال: {أَمْسَكْ} [الأحزاب: 37] الآية، مع علمه أنه سيطلق" وليس بكبير عتب، "وهذا مروي عن علي" زين العابدين، "ابن الحسين" بن علي بن أبي طالب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 وعليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري، وبكر بن العلاء، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم. والمراد بقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} إنما هو في إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في الحركات والسكنات، ولبعض المفسرين هنا كلام لا يليق بمنصب النبوة.   الهاشمي عليهم السلام، ثقة، ثبت من رجال الجميع، عابد، فقيه، فاضل، مشهور، قال الزهري: ما رأيت قرشيًا أفضل منه، "وعليه أهل التحقيق من المفسرين، كالزهري" محمد بن شهاب التابعي، الشهير، "وبكر بن العلاء" بن زياد القشيري، البصري، ثم المصري، وبها مات سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، وكان أحد كبار الفقهاء المالكية وعلماء الحديث، "والقاضي أبي بكر" محمد "بن العربي" الحافظ، الفقيه، المشهور "وغيرهم، والمراد بقوله" {وَتَخْشَى النَّاسَ} الآية، "إنما هو في إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء"، أي: في إكثارهم من الأخبار السيئة، واختلاف الأقوال الكاذبة حتى يضرب الناس منها؛ كما في المصباح، "والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم في الحركات والسكنات" وفي البيضاوي: وتخشى الناس تعبيرهم إياك والله أحق أن تخشاه إن كان فيه ما يخشى، "ولبعض المفسرين هنا كلام لا يليق بمنصب النبوة" وهو أنه عليه الصلاة والسلام طلب زيدًا في داره، فرأى زينب حاسرة، فأعجبته، فقال: "سبحان الله مقلب القلوب" قال السبكي: وهو منكر من القول، ولم يكن صلى الله عليه وسلم تعجبه امرأة أحد من الناس، وقصة زينب إنما جعلها الله تعالى، كما في سورة الأحزاب قطعًا لقول الناس: إن زيدًا بن محمد، وإبطالا للتبني، قال: وبالجملة فهذا الموضع من منكرات كلامهم في الخصائص، وقد بالغوا في هذا الباب في مواضع، واقتحموا فيها عظائم لقد كانوا في غنية عنها، انتهى. وفي البغوي في توجيه القول المنصور: فعاتبه الله، وقال له: قلت أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك، وهذا هو الأولى واللائق بحال الأنبياء، فهو مطابق للتلاوة؛ لأن الله أعلمه أن يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه، فقال: {زَوَّجْنَاكَهَا} الآية، فلو كان الذي أضمره محبتها وإرادة طلاقها لكان يظهر ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره، ثم يكتمه فلا يظهر، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه أنها تكون زوجًا له وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد: إن امرأتك ستكون امرأتي، وهذا قول حسن مرضي، وإن كان القول الآخر، وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها، لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من ثمل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم، لأن الود وميل النفس من طبع البشر، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 وقيل قوله: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} خطاب من الله تعالى، أو من الرسول عليه الصلاة والسلام لزيد، فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن تكون من نسائه. قال جار الله: وكم من شيء مباح يتحفظ الإنسان منه ويستحيي من إطلاع الناس عليه، فطموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة وغيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضًا، وهي خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، ولم يكن مستكرهًا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه ولا مستهجنًا إذا نزل عنها أن ينكحها آخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة واستهم الأنصار بكل شيء، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجري.   "وقيل: قوله: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الآية، مظهره "خطاب من الله تعالى، أو من الرسول عليه الصلاة والسلام لزيد" فهو على هذا عطف على أمسك من جملة مقبولة لزيد، "فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما" حين "توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن تكون من نسائه"، وكأنه قيل: وتقول لزيد: تخفي يا يزيد في نفسك ما الله مبديه، وتقول له: تخشى الناس ... إلخ، وهذا خلاف الظاهر المتبادر، أي: شيء أبداه عن زيد فهذا من غريب التفسير، "قال: جار الله" العلامة محمود الزمخشري، وصف بذلك لسكناه مكة: "وكم من شيء مباح يتحفظ الإنسان منه ويستحيي من إطلاع الناس عليه، فطموح" أي: استشراف "قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته" وبين ذلك بقوله: "من امرأة وغيرها غير موصوف بالقبح في العقل، ولا في الشرع، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضًا" عقلا وشرعًا، "وهي خطبة زينب" وفي نسخة: وهو التأنيث أولى؛ لأن الضمير إذا وقع بين مذكر ومؤنث، فالأولى مراعاة الخبر، لأنه عين المبتدأ، ومبين لحاله فهو المقصود، "ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، ولم يكن مستكرهًا عندهم أن ينزل الرجل منهم عن امرأته لصديقه" بل كانوا يعدونه كرمًا، "ولا مستهجنًا إذ نزل عنها أن ينكحها آخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة" وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الأنصار، "واستهم الأنصار بكل شيء حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجري" أي: تسبب في تزويجها له بطريقه الشرعي بعد خروجها من العدة بسؤال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 فإذا كان الأمر مباحًا من جميع جهاته لم يكن فيه وجه من وجوه القبح، انتهى. وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا ولي وبلا شهود. قال النووي: الصحيح المشهور عند أصحابنا صحة نكاحه عليه الصلاة والسلام بلا ولي وبلا شهود لعدم الحاجة إلى ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام، وهذا الخلاف في غير زينب أما زينب فمنصوص عليها والله أعلم. قال العلماء: إنما اعتبر الولي للمحافظة على الكفاءة، وهو صلى الله عليه وسلم فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو عليه الصلاة والسلام لا يجحد ولو جحدت هي لم يرجع إلى قولها، بل قال العراقي في شرح المهذب: تكون كافرة بتكذيبه. وكان له عليه الصلاة والسلام تزويج المرأة ممن شاء بغير إذنها وإذن وليها، وله إجبار الصغيرة من غير بناته، وزوج ابنة حمزة مع وجود عمها العباس.   وليها في ذلك، "فإذا كان الأمر مباحًا من جميع جهاته لم يكن فيه وجه من وجوه القبح، انتهى" كلام جار الله في كشافه. "وكذا يجوز له عليه الصلاة والسلام النكاح بلا ولي" مع شهود، "وبلا شهود" مع ولي وبلا ولي وشهود معًا، "قال النووي: المشهور الصحيح عند أصحابنا" وعند غيرهم: "صحة نكاحه عليه الصلاة والسلام بلا ولي وبلا شهود، لعدم الحاجة إلى ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام، وهذا الخلاف في غير زينب، أما زينب فمنصوص عليها" فلا يأتي فيها خلاف للنص، "والله أعلم". "قال العلماء: وإنما اعتبر الولي" في حق غير المصطفى "للمحافظة على الكفاءة، وهو صلى الله عليه وسلم فوق الأكفاء، وإنما اعتبر الشهود لأمن الجحود، وهو عليه الصلاة والسلام لا يجحد" إذ لا يجوز عليه ذلك، "ولو جحدت هي" أي: المرأة، "لم يرجع إلى قولها، بل قول العراقي في شرح المهذب: تكون كافرة بتكذيبه" أي: مرتدة، قال المالكية: تقتل ولو عادت إلى الإسلام، "وكان له عليه الصلاة والسلام تزويج المرأة" ولو صغيرة وبكرًا "ممن شاء" من غيره ومن نفسه؛ "بغير إذنها وإذن وليها" وبغير إذن الزوج أيضًا، فيتولى الطرفين؛ لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، "وله إجبار الصغيرة من غير بناته" قيد لمحل الخصوصية، "وزوج ابنة حمزة" بن عبد المطلب أمامة أو عمارة أو فاطمة أو سلمى أو عائشة أو يعلى أو أمة الله أقوال سبعة في اسمها، أشهرها الأول، كما في الفتح لربيبه سلمة ابن أم سلمة "مع وجود عمها العباس" كما رواه البيهقي فقدم على الأقرب بخلاف غيره، فيقدم الأقرب فالأقرب على ما بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 فيقدم على الأب. وزوجه الله تعالى بزينب، فدخل عليها بتزويج الله بغير عقد من نفسه. وعبر في الروضة عن هذا بقوله: وكانت المرأة تحل له بتحليل الله تعالى بغير عقد. وأعتق أمته صفية وجعل عتقها صداقها، كما أخرجه البخاري عن أنس في الصلاة والمغازي والنكاح مطولا ومختصرًا وبظاهره تمسك أحمد والحسن وطائفة لقولهم بجواز ذلك لغيره حتى لو طلقها قبل الدخول وجب له عليها نصف قيمتها، وقد اختلف في معناه، فقيل إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب له عليها قيمتها وكانت معلومة، فتزوجها بها، ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب: سمعت أنسًا قال: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها، فقال ثابت.   في الفروع، "فيقدم على الأب" تفريع على قوله: وله إجبار الصغير، "وزوجه الله تعالى بزينب" ابنة جحش، "فدخل عليها بتزويج الله بغير عقد" أي: بغير تلفظ بعقد "من نفسه" وهذا وإن علم من قوله سابقًا: والمعنى أنه أمره ... إلخ، لكنه ثمة حكاه عن غيره على وجه الترديد، وهنا جزم بأحد القولين اختيارًا له، "وعبر في الروضة عن هذا بقوله: وكانت المرأة تحل له بتحليل الله تعالى بغير عقد" إشارة إلى أن ذلك ليس خاصًا بزينب، لكنه لم يقع إلا فيها، "وأعتق أمته صفية" بنت حيي، سيدة قريظة والنضير، من ذرية هارون أخي موسى رضي الله عنها، "وجعل عتقها صداقها؛ كما أخرجه البخاري عن أنس في الصلاة والمغازي والنكاح مطولا ومختصرًا، وبظاهره تمسك أحمد والحسن وطائفة؛ لقولهم بجواز ذلك لغيره حتى لو طلقها قبل الدخول، وجب له عليها نصف قيمتها، وقد اختلف في معناه، فقيل: إنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، فوجب" ثبت "له عليها قيمتها" لأنه لم يعتقها مجانًا، بل بعوض، لكن لا يلزم الوفاء به في حق غيره، وإنما تعتق إن قبلت فورًا، كأن طلبته ابتداء لذلك، فأجابها، فيشترط الفور أيضًا، كما في البهجة، "وكانت معلومة فتزوجها بها" فإن جهلت لهما أو لأحدهما صح النكاح، ولزم مهر المثل للجهل بالعوض، كما هو مقرر عند الشافعية ومذهب مالك منع ذلك ابتداء، فإن وقع مضى العتق، وفسد النكاح، فيفسخ قبل الدخول، ويثبت بعده بصداق المثل، فوجه الخصوصية عدم لزوم المهر له صلى الله عليه وسلم لا حالا ولا مالا، وصحة نكاحه اتفاقًا. "ويؤيده قوله في رواية عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة البصري، ثقة، من رجال الجميع، مات سنة ثلاثين ومائة، "سمعت أنسًا قال: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية، فأعتقها وتزوجها، فقال ثابت" بن أسلم البناني، بضم الموحدة ونونين، أبو محمد البصري، العابد، الثقة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 لأنس: ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها، هكذا أخرجه البخاري في المغازي. وفي رواية حماد عن ثابت وعبد العزيز عن أنس في حديث قال: وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تزوجها وجعل عتقها صداقها. قال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد أنت سألك أنسًا ما أمهرها؟ قال: أمهرها نفسها، فتبسم. فهو ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق. والتأويل الأول لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة.   روى له الجميع، مات سنة بضع وعشرين ومائة، وله ست وثمانون سنة، "لأنس: ما أصدقها؟ قال: أصدقها نفسها، هكذا أخرجه البخاري في المغازي" في غزوة خيبر، وقد يمنع دعوى التأييد به لجواز أنه أعتقها بلا شرط، بل هو ظاهر في تأييد القول الثاني. "وفي رواية" البخاري في الصلاة والمغازي، عن "حماد" بن زيد بن درهم الأزدي، البصري، ثقة، ثبت، فقيه، روى له الستة، "عن ثابت وعبد العزيز" بن صهيب، كلاهما "عن أنس في حديث" لفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس، ثم ركب، فقال: "الله أكبر خربت، خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". فخرجوا يسعون في السكك ويقولون: محمد والخميس، فظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل المقاتلة، وسبى الذراري، "قال" فصارت صفية لدحية الكلبي، "وصارت صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم" كذا وقع في الصلاة بالواو، فظاهره أنها صارت لهما وليس كذلك؛ لأنها صارت لدحية أولا، ثم صارت للمصطفى لما قيل له: أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، فقال عليه الصلاة والسلام لدحية: "خذ جارية غيرها"، فردها، فاصطفاها لنفسه؛ كما رواه البخاري أيضًا وغيره، قالوا: وهنا بمعنى ثم لأن البخاري رواه في المغازي بلفظ: ثم صارت لرسول الله، "ثم تزوجها، وجعل عتقها صداقها، قال عبد العزيز لثابت: يا أبا محمد! " كنيته "أنت سألك" بحذف همزة الاستفهام في الفرع وأصله، وفي بعض الأصول: أأنت بإثباتها "أنسًا ما أمهرها؟ " أي: ما أصدقها، ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي ما مهرها، بحذف الألف، وصوبه القطب الحلبي، وهما لغتان. "قال" أنس: "أمهرها نفسها" إلى هنا كله مقول عبد العزيز لثابت وجوابه: قوله، "فتبسم" ثابت، وفي رواية المغازي: فحرك ثابت رأسه تصديقًا له، ولا منافاة، فجمع بينهما، وبهذا تعلم أنه ليس فيه حذف تقديره، قال: نعم سألته؛ لأنه يضيع قوله: فتبسم، وقوله: فحرك ... إلخ، "فهو ظاهر جدًا في أن المجعول مهرًا هو نفس العتق" لا شيء معه، "والتأويل الأول" أنه أعتقها بشرط أن يتزوجها، "لا بأس به، فإنه لا منافاة بينه وبين القواعد حتى لو كانت القيمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعية. وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر، لكنه من خصائصه، وممن جزم بذلك الماوردي. وقال آخرون: قوله: "أعتقها وتزوجها" معناه: ثم تزوجها، فلما لم يكن يعلم أساق لها صداقًا، قال: أصدقها نفسها، أي: لم يصدقها شيئًا فيما أعلم، ولم ينف أصل الصداق، ومن ثم قال أبو الطيب الطبري من الشافعية، وابن المرابط من المالكية ومن تبعهم: إنه قول أنس قاله ظنًا من قبل نفسه ولم يرفعه. ويعارضه ما أخرجه الطبراني وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها قالت: أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم وجعل عتقي صداقي. وهذا موافق لحديث أنس، وفيه رد على من قال: إن أنسًا قال ذلك بناء على ظنه.   مجهولة، فإن في صحة العقد بالشرط المذكور وجهًا عند الشافعية" وهو المعتمد، وإن أشعر سياقه بضعفه، ويجب مع ذلك مهر المثل، الفساد المسمى، ووجه الخصوصية على هذا التأويل عدم لزوم المهر له، كما مر. "وقال آخرون: بل جعل نفس العتق المهر" بأن أعتقها، ثم قال: جعلت عتقك صداقك، "ولكنه من خصائصه، وممن جزم بذلك الماوردي" بخلاف غيره، فيجب مهر المثل لفساد الصداق. "وقال آخرون: قوله: أعتقها وتزوجها، معناه: ثم تزوجها" فالواو بمعنى ثم "فلما لم يكن يعلم" أنس "أساق لها صداقًا" أم لا؟ "قال: أصدقها نفسها، أي: لم يصدقها شيئًا فيما أعلم" فإنما نفى علمه، "ولم ينف أصل الصداق" وهذا من بعيد التأويل الذي لم يقم عليه دليل، "ومن ثم" أي: هنا، أي من أجل ذلك التأويل المذكور. "قال أبو الطيب الطبري من الشافعية، وابن المرابط" محمد بن خلف الأفريقي "من المالكية، ومن تبعهم: أنه قول أنس، قال ظنًا من قبل نفسه، ولم يرفعه" وهذا لا يليق إذ هو سوء ظن بالصحابي، "ويعارضه ما أخرجه الطبراني، وأبو الشيخ من حديث صفية نفسها، قالت: أعتقني النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل عتقي صداقي، وهذا موافق لحديث أنس" والمتبادر منهما أنه لا شيء غيره، "وفيه رد على من قال إن أنسًا قال ذلك بناء على ظنه؛ لأن صفية أدرى بما وقع لها، ولذا قال الحافظ الهيثمي: ما روي عن رزينة أنه أمهرها رزينة، مخالف لما في الصحيح، انتهى، وهي بفتح الراء، وكسر الزاي، وقيل: بالتصغير؛ وروى أبو يعلى: أنه صلى الله عليه وسلم لما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها من غير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. ويحتمل: أنه أعتقها بغير عوض، وتزوجها بغير مهر في الحال، ولا في المآل، قال ابن الصلاح: معناه أن العتق حل محل الصداق وإن لم يكن صداقًا، قال: وهذا كقولهم الجوع زاد من لا زاد له، قال: وهذا أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه النووي في "الروضة". وممن جزم أن ذلك من الخصائص يحيى بن أكثم فيما أخرجه البيهقي، وكذا نقله المزني عن الشافعي قال: وموضع الخصوصية، أنه أعتقها مطلقًا وتزوجها بغير مهر ولا شهود، وهذا بخلاف غيره، انتهى.   تزوج صفية أمر بشراء خادم لها وهي رزينة، فيحتمل أنه لما أخدمها إياها ظنت أنه جعلها مهرها، وإلا فالمروي عن صفية وأنس أنه جعل عتقها صداقها، بل وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تقولون في هذه الجارية"؟ قالوا: إنك أولى الناس بها وأحقهم، قال: "فإني أعتقتها، واستنكحتها، وجعلت عتقها مهرها" رواه الطبراني بسند جيد. "ويحتمل أن يكون أعتقها بشرط أن ينكحها من غير مهر، فلزمها الوفاء بذلك، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره" فلا يلزمها الوفاء ونفذ العتق، "ويحتمل أنه أعتقها بغير عوض وتزوجها، بغير مهر في الحال ولا في المآل" خصوصية له أيضًا. "قال ابن الصلاح: معناه أن العتق حل محل الصداق، وإن لم يكن صداقًا" في نفس الأمر، "قال: وهذا كقولهم الجوع، زاد من لا زاد له" فعد عدم الزاد زادًا لتعذره عليه، وليس بزاد، "وهذا أصح الأوجه وأقربها إلى لفظ الحديث، وتبعه" أي: ابن الصلاح في ترجيح هذا الوجه "النووي في الروضة، وممن جزم أن ذلك من الخصائص يحيى بن أكثم" بالمثلثة، كما ضبطه النووي، وغيره ابن محمد بن قطن التميمي، المروزي أبو محمد القاضي المشهور، فقيه، صديق، روى عنه الترمذي، إلا أنه رمي بسرقة الحديث، قال الحافظ: ولم يقع ذلك له، وإنما كان يرى الرواية بالإجار والوجادة، مات في آخر سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وله ثلاث وثمانون سنة، "فيما أخرجه البيهقي" عنه، "وكذا نقله المزني" إسماعيل الإمام المشهور، "عن" شيخه "الشافعي" الإمام، "قال: وموضع الخصوصية أنه أعتقها مطلقًا" عن قيد اشتراط التزويج، "وتزوجها بغير مهر ولا شهود، وهذا بخلاف غيره" فإنما يجوز له ذلك في عتيقته بمهر وشهود، "انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح الذي اختاره المحققون، أنه أعتقها تبرعًا بلا عوض، ولا شرط، ثم تزوجها برضاها من غير صداق، والله أعلم. قال شيخ الحفاظ ابن حجر. واختلف في انحصار طلاقه صلى الله عليه وسلم في الثلاث، وعلى الحصر، قيل: تحل له من غير محلل، وقيل لا تحل له أبدًا. وكان له نكاح المعتدة في أحد الوجهين. قال النووي: الصواب القطع بامتناع نكاح المعتدة من غيره والله أعلم. وفي وجوب نفقة زوجاته عليه الصلاة والسلام وجهان، قال النووي: الصحيح: الوجوب، انتهى.   "وقال النووي في شرح مسلم: الصحيح الذي اختاره المحققون؛ أنه أعتقها تبرعا بلا عوض ولا شرط" أنه ينكحها، "ثم تزوجها برضاها" بيان للواقع "من غير صداق" لا لأن رضاها شرط لأن جائز له بدون رضا المرأة، كما مر، "والله أعلم" بما وقع. "قال شيخ الحافظ ابن حجر" في الفتح في النكاح: "واختلف في انحصار طلاقه صلى الله عليه وسلم في الثلاث" وهو الصحيح، وعدم انحصاره، كما لا ينحصر عدد زوجاته، "وعلى الحصر، قيل: تحل له" بالعقد عليها، فيباح الوطء لا بدونه، لحصول البينونة الكبرى "من غير محلل" قال السيوطي: على الأصح، "وقيل: لا تحل له أبدًا" لعدم إمكان التحليل، لأن من خصائصه حرمة من دخل بها على غيره، لقوله: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الآية، "وكان له نكاح المعتدة في أحد الوجهين" قال في الصلاح: وهو منكر، بل غلط، "قال النووي: الصواب القطع" الجزم "بامتناع نكاح المعتدة من غيره" إذ لا دليل على الخصوصية، "والله أعلم". "وفي وجوب نفقة زوجاته عليه الصلاة والسلام وجهان، قال النووي: الصحيح الوجوب، انتهى" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتسم ورثتي دينارًا ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عيالي، فهو صدقة"، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، عن أبي هريرة، فإذا كان يجب أن ينفق من ماله على زوجاته بعد وفاته، فكيف لا تجب النفقة لهن حال حياته. قال الجلال البلقيني: فهذا الخلاف باطل، ووقع الحديث مصحفًا في عبارة، بحذف بعد، فأحوج من لم يقف على غيرها إلى تعسف تصحيحها بقوله، أي: هو نفقة نسائي، لكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 ولا يجب عليه القسم فيما قاله طوائف من أهل العلم، وبه جزم الاصطخري من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب. وفي حل الجمع له بين المرأة وعمتها وخالتها وجهان، لا أختها وبنتها وأمها، قالوا: ومرجع غالب هذه الخصائص إلى أن النكاح في حقه كالتسري في حقنا.   يضيع قوله: فهو صدقة، وبعد ذلك ليس رواية، "ولا يجب عليه القسم فيما قاله طوائف من أهل العلم" كمالك، "وبه جزم الاصطخري من الشافعية" وصححه الغزالي في الخلاصة، واقتصر عليه في الوجيز. قال البلقيني والسيوطي: وهو المختار للأدلة الصريحة الصحيحة؛ كحديث الشيخين: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن تسع نسوة؛ ولقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} الآية، أي: تبعد من تشاء، فلا تقسم لها، وتقرب من تشاء، فتقسم لها على أحد التفاسير، ولأن في وجوبه عليه شغلا عن لوازم الرسالة، "والمشهور عندهم، وعند الأكثرين الوجوب" وتعسفوا الجواب عن هذا الحديث باحتمالات لينة تقدمت، واحتجوا للوجوب بقوله: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، رواه ابن حبان وغيره. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وقال الترمذي: روى مسلم وهو أصح، انتهى، ولا دلالة فيه على الوجوب، كما هو ظاهر، إنما هو احتمال، "وفي حل الجمع له بين المرأة وعمتها وخالتها وجهان" مبنيان على أن المتكلم يدخل في الخطاب، ومقتضى البناء ترجيح المنع، وهو الأصح، "لا أختها وبنتها" فلا يحل له الجمع اتفاقًا، وما حكاه الرافعي، وتبعه في الروضة من جوازه له، جزموا بأنه غلط فاحش، لا تحل حكايته إلا لبيان فساده؛ لأن صرح بتحريمها عليه، روى الشيخان، أن أم حبيبة قالت: قلت: يا رسول الله! انكح أختي؟ فقال: "أو تحبين ذلك"؟ فقلت: نعم لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك لا يحلي لي"، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، فقال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن"، "وأمها" مستدرك، إذ هو قوله: وبنتها، "قالوا: ومرجع غالب هذه الخصائص إلى أن النكاح في حقه، كالتسري في حقنا" فإن قلنا بحرمة التسري بأمتين، بينهما محرمية، حرم عليه صلى الله عليه وسلم جمع امرأتين بينهما ذلك، وإن قلنا بإباحة التسري لنا، كما يقوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 وكان له عليه الصلاة والسلام أن يصطفي ما شاء من المغنم قبل القسمة من جارية وغيرها. وأبيح له القتال بمكة والقتل بها، وجواز دخول مكة من غير إحرام مطلقًا. ذكره ابن القاص، واستدلوا له بحديث أنس عند الستة: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر وذلك من كونه عليه الصلاة والسلام كان مستور الرأس بالمغفر، والمحرم يجب عليه كشف رأسه. ومن تصريح جابر ومالك والزهري بأنه لم يكن محرمًا، انتهى. وأبدى ابن دقيق العيد لستر الرأس احتمالا فقال: يحتمل أن يكون لعذر، انتهى.   بعض الحنفية، جاز له ذلك، "وكان له عليه الصلاة والسلام أن يصطفي" يختار "ما شاء من المغنم قبل القسمة من جارية" كما اصطفى ريحانة من سبي بني قريظة وصفية من خيبر، قيل: ولذا سميت صفية؛ لأنها من الصفي، وكان اسمها زينب "وغيرها" كما اصطفى سيفه ذا الفقار، ولا يختص الاصطفاء بالمغنم كما اقتضاه كلام جمع، بل يكون من الفيء أيضا؛ كما ذكره الزركشي وغيره تبعًا لابن كج، "وأبيح له القتال بمكة" ساعة من نهار، كما في الصحيح، وهي من طلوع الشمس إلى العصر؛ كما في مسند أحمد، "والقتل بها" انظر ما المراد به، فإن لغيره صلى الله عليه وسلم قتل من يستحق القتل بها، قاله شيخنا. "وجواز دخول مكة من غير إحرام مطلقًا" دخل لحاجة، أم لا؟، والمراد أحل له دخولها بلا خلاف على، أي صفة كان الدخول بخلاف غيره، ففيه خلف بينه بعد "ذكره ابن القاص، واستدلوا له بحديث أنس عند" الأئمة "الستة" كلهم من طريق مالك عن الزهري، عن أنس، قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر" بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الفاء، وبالراء زرد ينسج من الدروع المتصل بها، يجعل على الرأس، أو رفرف البيضة، أو ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة، وفي رواية عن مالك خارج الموطأ مغفر من حديد، رواه الدارقطني، "وذلك" أي: وجه الاستدلال "من كونه عليه الصلاة والسلام كان مستور الرأس بالمغفر والمحرم، يجب عليه كشف رأسه، ومن تصريح جابر" عند مسلم" ومالك" عند البخاري وغيره، "والزهري" عند " ..... "1 "بأنه لم يكن محرمًا" وكذا صرح به طاوس عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، "وأبدى ابن دقيق العيد لستر الرأس احتمالا، فقال: يحتمل أن يكون لعذر" فلا ينافي أنه محرم، "انتهى".   1 بياض بالأصل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 وتعقبه الشيخ ولي الدين بن العراقي، فقال: هذا يرد تصريح جابر وغيره: قال: وهذا الاستدلال في غير موضع الخلاف المشهور، لأنه عليه الصلاة والسلام كان خائفًا من القتال متأهبًا، ومن كان كذلك فله الدخول عندنا بلا إحرام بلا خلاف عندنا، ولا عند أحد نعلمه. وقد استشكل النووي في شرح المهذب ذلك، لأن مذهب الشافعي أن مكة فتحت صلحًا خلافًا لأبي حنيفة في قوله: إنها فتحت عنوة، وحينئذ فلا خوف. ثم أجاب عنه: بأنه عليه الصلاة والسلام صالح أبا سفيان، وكان لا يأمن غدر أهل مكة، فدخلها صلحًا وهو متأهب للقتال إن غدروا. انتهى. وقد ذكرت ما في فتح مكة من المباحث في قصة فتحها من المقصد الأول. ثم إن غيره صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن خائفًا، فقال أصحابنا: إن لم يكن ممن يتكرر دخوله، ففي وجوب الإحرام عليه قولان: أصحهما عند أكثرهم: أنه   "وتعقبه الشيخ ولي الدين بن العراقي، فقال: هذا يرد تصريح جابر" بقوله: دخل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، أخرجه مسلم، وأحمد، وأصحاب السنن "وغيره" كالزهري ومالك بقوله: ولم يكن صلى الله عليه وسلم فيما نرى، والله أعلم يومئذ محرمًا، أخرجه البخاري، ورواه الدارقطني جزمًا عنه، فأسقط فيما نرى، والله أعلم. "قال" ابن العراقي: "وهذا الاستدلال" منهم على الخصوصية "في غير موضع الخلاف المشهور لأنه عليه الصلاة والسلام كان خائفًا من القتال متأهبًا له، ومن كان كذلك، فله الدخول عندنا بلا إحرام، بلا خلاف عندنا، ولا عند أحد نعلمه" فلا يصح الاستدلال بذلك. "وقد استشكل النووي في شرح المهذب ذلك" أي: دخوله خائفًا من القتال متأهبًا له؛ "لأن مذهب الشافعي أن مكة فتحت صلحًا، خلافًا لأبي حنيفة" ومالك والأكثرين، "في قوله: إنها فتحت عنوة، وحينئذ فلا خوف، ثم أجاب عنه بأنه عليه الصلاة والسلام صالح أبا سفيان وكان لا يأمن غدر أهل مكة، فدخلها صلحًا، وهو متأهب للقتال إن غدروا" أي: أهل مكة بالبناء للفاعل، "انتهى" وعلى قول الأكثرين لا يتوجه هذا السؤال أصلا. "وقد ذكرت ما في فتح مكة من المباحث في قصة فتحها من المقصد الأول" ومنه ترجيح فتحها عنوة من حيث الأدلة، "ثم إن غيره صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن خائفًا، فقال أصحابنا: إن لم يكن ممن يتكرر دخوله، ففي وجوب الإحرام عليه قولان، أصحهما عند أكثرهم أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 لا يجب، وقطع به بعضهم، فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم ففيه خلاف مرتب وهو أولى بعدم الوجوب وهو المذهب. وقال بعض الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات، وأوجبه المالكية في المشهور عندهم على غير ذوي الحاجات، وأوجبه الحنفية مطلقًا إلا من كان داخل الميقات. وقد تحرر أن المشهور من مذهب الشافعي: عدم الوجوب مطلقًا. ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما استثنى. ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقضي بعلمه من غير خلاف. وأن يقضي لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده. ولا تكره له الفتوى ولا القضاء في حال.   لا يجب" إن لم يرد نسكًا، بل يستحب، "وقع به بعضهم، فإن تكرر دخوله كالحطابين ونحوهم، ففيه خلاف مرتب" مفرع على الخلاف المذكور، فإن قلنا: لا يجب على من لم يتكرر، قلنا بعدمه على من تكرر قطعًا، وإن قلنا: يجب به على من لم يتكرر، ففي وجوبه على من تكرر خلاف أصحه لا يجب؛ كما قال: "وهو أولى بعدم الوجوب، وهو المذهب" أي: المعتمد من التعبير بالكل عن الجزء؛ لأنه الأهم عند الفقيه المقلد. "وقال بعض الحنابلة بوجوب الإحرام إلا على الخائف وأصحاب الحاجات المتكررة، وأوجبه المالكية في المشهور عندهم على غير ذوي الحاجات، وأوجبه الحنفية مطلقًا إلا من كان داخل الميقات، وقد تحرر" من هذا؛ "أن المشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقًا، ومن مذاهب الأئمة الثلاثة الوجوب إلا فيما استثنى" وفي رواية عن كل منهم: لا يجب، وقدم هذا في فتح مكة بنحوه، والله أعلم. "ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقضي بعلمه" لنفسه ولغيره، زاد الأنموذج، ولو في الحديد "من غير خلاف" وفي غيره خلاف أصحه عند الشافعية: إن القاضي المجتهد له الحكم بعلمه إلا في الحدود، بخلاف غير المجتهد والحدود فلا يقضي بعلمه للريبة، والراجح عند المالكية منعه في الحدود وغيرها إلا في التعديل والتجريح، "وأن يقضي لنفسه ولولده" أي: فروعه، لأن المنع في حق غيره للريبة، وهي منتفية عنه قطعًا، "وأن يشهد لنفسه ولولده" لانتفاء الريبة، زاد الأنموذج: وأن يقبل شهادة من شهد له ولولده، "ولا تكره له الفتوى، ولا القضاء في حال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 الغضب، كما ذكره النووي في شرح مسلم، وقد قضى للزبير بشراج الحرة بعد أن أغضبه خصم الزبير. لعصمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضى.   الغضب" لأنه لا يخاف عليه من الغضب ما يخاف على غيره إذ غضبه لله لا لحظ نفسه، "كما ذكره النووي في شرح مسلم" عند حديث اللقطة، فإنه صلى الله عليه وسلم أفتى فيه وقد غضب حتى احمرت وجنتاه؛ كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة، فقال: "أعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه"، قال: فضالة الإبل؛ فغضب حتى احمرت وجنتاه، فقال: "ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر، فذرها حتى يلقاها ربها"، قال: فضالة الغنم؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب". "وقضى للزبير" بن العوام، أحد العشرة، "بشراج" بكسر الشين المعجمة، آخره جيم، جمع شرج، بفتح، فسكون، بزنة بحر وبحار، ويجمع على شروج، وأضيف إلى "الحرة" بفتح الحاء والراء المشددة المهملتين، موضع معروف بالمدينة لكونه فيه، والمراد؛ مجاري الماء الذي يسيل منها "بعد أن أغضبه خصم الزبير" هو حميد، رواه أبو موسى المديني في الذيل بسند جيد. قال الحافظ: ولم أرَ تسميته إلا في هذا الطريق، وهو مردود بما في بعض طرق الحديث، أي عند البخاري في الصلح أنه شهد بدرا وليس في البدريين أحد اسمه حميد، وقيل: هو ثابت بن قيس بن شماس، حكاه ابن بشكوال واستبعد، وقيل: حاطب بن أبي بلتعة، حكاه ابن باطيش، ولا يصح، لأن حاطبًا ليس أنصاريًا، وأجيب، بحمله على المعنى اللغوي، أي: من كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه من الأنصار المشهورين، ورد بأن في رواية الطبراني أنه من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس، ودفع باحتمال أن مسكنه كان في بني أمية، لا أنهم منهم، وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ} الآية، قال: أنزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة، اختصامًا في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يسقي الأعلى، ثم الأسفل، وهذا مرسل، ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري "لعصمته صلى الله عليه وسلم، فلا يقول في الغضب إلا كما يقول في الرضى" إذ كل من غضبه ورضاه لله، أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله! إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله، ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك"، واستوعى للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة، وليس لنا أن نصلي إلا على نبي أو ملك. وكان له أن يقتل بعد الأمان، وأن يلعن من شاء بغير سبب: واستبعد ذلك. وجعل الله تعالى شتمه ولعنه قربة للمشتوم والملعون لدعائه عليه.   وأن بفتح الهمزة للتعليل مقدرة باللام، أي: حكمت له بالتقديم لأجل أنه ابن عمتك، وادعى الكرماني إن في بعضها أن بكسر الهمزة. قال الحافظ: على أنها شرطية، والجواب محذوف، ولا أعرف هذه الرواية، وحكى القرطبي فتح الهمزة والمد على أنه استفهام إنكاري، ولم يقع لنا في الرواية. قال المصنف: لكن رأيته في الأصل المقروء، وعلى الميدومي وغيره، وفي الفرع مصحح عليه بالمد والجذر، بفتح الجيم، وسكون المهملة: ما وضع بين شربات النخل، كالجدار أو الحواجز التي تحبس الماء، وقال القرطبي: هو أن يصل الماء إلى أصول النخل، قال: ويروى بكسر الجيم، وهو الجدار، والمراد جدران الشربات، وهي الحفر التي تحفر في أصول النخل، انتهى. "وكان له أن يدعو لمن شاء بلفظ الصلاة" استقلالا بلا كراهة لحديث الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن أبي أوفى علقمة رضي الله عنهما: قال: كان إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللهم صل على آل فلان" فأتاه أبي بصدقته، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، "وليس" أي: يكره تنزيهًا على الأصح "لنا أن نصلي إلا على نبي، أو ملك" استقلالا، لأنه صار شعارًا لهم، إذا ذكروا فلا يقال لغيرهم، وإن كان معناه صحيحًا إلا تبعًا فيجوز، "وكان له أن يقتل بعد الأمان" كذا نقله إمام الحرمين والرافعي، وغيرهما عن ابن القاص، وخطؤه فيه، وتعقبهم ابن الرفعة، بأن لفظه في تلخيصه لا يعطي ذلك، فإنه قال: يجوز له القتل في الحرم بعد إعطاء الأمان، وهذا معناه إذا قال: من دخل الحرم فهو آمن، فدخله شخص، وثم سبب يقتضي قتله أبيح، فهو إشارة لقصة عبد الله بن خطل في الصحيحيين عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاء رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه" وابن القاص معذور، لأنه رأى حديث الأمان في دخول المسجد، ورأى في هذا الأمر بقتله فاستنبط هذه الخصوصية، وهذا نهاية أمر الفقيه جمعًا بين الأحاديث، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمن الناس استثنى ابن خطل وغيره، كما سبق في الفتح. "وأن يلعن من شاء بغير سبب" يقتضيه، "واستبعد ذلك" أي وقوعه منه، "وجعل الله تعالى شتمه" سبه "ولعنه قربة للمشتوم والملعون" تقربه إلى الله يوم القيامة، "لدعائه عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 السلام بذلك. قاله ابن القاص، وردوه عليه، حكاه الحجازي في مختصر الروضة عن نقل الرافعي.   السلام بذلك" بقوله: "اللهم إني أتخذ عندك عهدًا لن تخلفنيه إنما أنا بشر، فأيما مؤمن أذيته أو شتمته، أو جلدته أو لعنته، فاجعلها صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". رواه الشيخان من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم، وفي لفظ له: "اللهم إني بشر، أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس هو لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة". وفيه روايات آخر متقاربة. وفي مسلم أيضًا عن عائشة: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه، فسبهما ولعنهما، فلما خرجا قلت له، فقال: "أو ما علمت ما شارطت عليه ربي، قلت: اللهم إنما أنا بشر فأيما". الحديث، قال في الفتح: قال المازري: إن قيل كيف يدعو بدعوة على من ليس لها بأهل، قيل: المراد ليس بأهل لذلك عند الله في باطن الأمر، لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله وجنايته حين دعا عليه، فكأنه يقول: من كان في باطن أمره عندك ممن ترضى عنه، فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طهورًا وزكاة، قال: وهذا معنى صحيح لا استحالة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم متعبد بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله، انتهى. لكنه مبني على أنه كان يجتهد في الأحكام ويحكم بما أدى إليه اجتهاده. أما على أنه لا يحكم إلا بالوحي، فلا يتأتى فيه هذا، وأجاب المازري أيضًا بأن ما وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في كلامها بلا نية؛ كقوله لغير واحد، "تربت يمينك" , و "عقري حلقي" , ومثل: "لا كبرت سنك ولا أشبع الله بطنك"، ونحو ذلك مما لا يقصد منه حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيئًا من ذلك، فسأل الله، ورغب إليه أن يجعل ذلك رحمة، وكفارة، وقربة، وطهورًا، وأجرًا، وهذا إنما يقع منه في النادر الشاذ من الزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا لعانًا، ولا منتقمًا لنفسه، وقيل له: ادع على دوس، فقال: "اللهم اهد دوسًا"، وقال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وأشار عياض إلى ترجيح هذا الجواب. قال الحافظ: وهو حسن إلا أنه يرد عليه قوله في إحدى الروايات: "أو جلدته"، إذ لا يقع الجلد بلا قصد، وقد ساق الجميع مساقًا واحدًا، إلا أن يحمل على الجلدة الواحدة فيتجه، "قاله ابن القاص وردوه عليه، حكاه الحجازي في مختصر الروضة عن الرافعي" ولعل وجه رده لشمول كلامه لمن دعا عليه بسبب يقتضي الدعاء، وإلا فالحديث كما رأيت مصرح بما قاله. وفي الشامية: وبأن له تعزير من شاء، أي: باللعن وغيره بغير سبب يقتضيه، ويكون له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 وكان يقطع الأراضي قبل فتحها، لأن الله ملكه الأرض كلها. وأفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة فأرض الدنيا أولى.   رحمة، ذكره ابن القاص، وتبعه الإمام والبيهقي، ولا يلتفت لقول من أنكره، "وكان يقطع الأراضي قبل فتحها" بخلاف غيره من الأئمة، فإنما يقطع بعد فتحها؛ "لأن الله ملكه الأرض كلها"، ولا ينقض شيء مما أقطعه بعده بحال، "و" لذا "أفتى الغزالي بكفر من عارض أولاد تميم الداري فيما أقطعهم النبي صلى الله عليه وسلم" من الأرض بالشام، "وقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع أرض الجنة" ما شاء منها لمن شاء، "فأرض الدنيا أولى" ونقله عن الغزالي ابن العربي في القانون، وأقره، وأفتى به السبكي أيضًا، روى الشافعي والبيهقي عن طاوس مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عادي الأرض لله ولرسوله، ثم لكم من بعد" قال الرافعي: يقال: للشيء القديم عادي نسبة إلى عاد الأولى، والمراد هنا الأرض غير المملوكة الآن، وإن تقدم ملكها ومضت عليه الأزمان، فلا يختص ذلك بقوم عاد، فالنسبة إليهم للتمثيل لما لم يعلم مالكه، وقوله: "لله ولرسوله" أي: مختص بهما، فهو فيء يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 الفصل الرابع: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات:   الفصل الرابع: ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات: "الفصل الرابع" وفي بعض نسخ: القسم الرابع، "ما"، أي: شيء "اختص به" على الأمة، وإن شاركه الأنبياء في بعضها "صلى الله عليه وسلم" وتفسير ما بشيء لا يقتضي حصرًا ولا استيعابًا، ولا يفسر بالذي لأنه يصير معرفة، فيقتضي الحصر، والواقع أنه لم يستوعب جميع ما اختص به "من الفضائل" جمع فضيلة، وهي الفضل والخير، وهو خلاف النقيصة والنقص؛ كما في المصباح، وقضيته إنما لا نقص فيه ولا كمال، يسمى فضيلة وفضلا؛ لأنه خلاف النقص، والظاهر كما قال شيخنا أنه غير مراد، وأن الفضيلة ما فيه مزية لصاحبها على غيره، فما لا كمال فيه، ولا نقص، واسطة بين الفضيلة والنقيصة، انتهى. وقد قال القرطبي في المفهم: الفضائل جمع فضيلة، وهي الخصال الجميلة التي يحصل لصاحبها بسببها شرف وعلو منزلة، إما عند الحق، وإما عند الخلق، والثاني لا عبرة به إلا إن أوصل إلى الأول، انتهى. "والكرامات" عطف خاص على عام: جمع كرامة أمر خارق للعادة غير مقرون بالتحدي، فيظهر على يد أولياء الله، ودرجة الأنبياء قبل النبوة لا تقصر عن الولاية، فيجوز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 منها: أنه أول النبيين خلقًا، كما تقرر في أول هذا الكتاب، وأنه كان نبيًا وآدم بين الروح والجسد، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة. ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق كما مر. ومنها: أنه أول من قال: "بلى" يوم "ألست بربكم" رواه أبو سهل القطان في جزء من أماليه. ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله، رواه البيهقي وغيره. ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش.   ظهورها على يدهم. "منها: أنه أول النبيين خلقًا" وآخرهم بعثًا، رواه ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "كنت أول" ... إلخ، ورواه هو والديلمي، وأبو نعيم، وغيرهم عن أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث"؛ "كما تقرر في أول هذا الكتاب" بأدلته وتفسير معناه، "وأنه كان نبيًا وآدم بين الروح والجسد" ظرف زمان، بمعنى أنه محكوم بها ظاهرة بين خلق روح آدم وجسده، حيث نبأه في عالم الأرواح، وأمرها بمعرفة نبوته والإقرار بها، "رواه الترمذي" وقال: حديث حسن "من حديث أبي هريرة" أنهم قالوا: يا رسول الله! متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد". "ومنها: أنه أول من أخذ عليه الميثاق" يوم ألست بربكم؛ "كما مر" أول الكتاب. "ومنها: أنه أول من قال: بلى" أنت ربنا "يوم ألست بربكم، رواه أبو سهل القطان في جزء من أماليه" عن علي بإسناد ضعيف. "ومنها: أن آدم وجميع المخلوقات خلقوا لأجله رواه البيهقي وغيره"، كشيخه الحاكم، وصححه عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى أن آمن بمحمد وأمر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار" الحديث، وهو لا يقال رأيًا، فحكمه الرفع. وروى ابن عساكر: "لقد خلقت الدنيا وأهلها، أعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي ولولاك ما خلقت الدنيا". "ومنها: أن الله كتب اسمه الشريف على العرش" لفظ الرواية عن كعب على ساق العرش كما مر في الأسماء، أي: قوائمه. وروى ابن عدي: "لما عرج بي، رأيت مكتوبًا على ساق العرش لا إله إلا الله محمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 وعلى كل سماء، وعلى الجنان وما فيها. رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار. ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين، آدم فمن بعده، أن يؤمنوا به وينصروه، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] قال علي بن أبي طالب: لم يبعث الله نبيًا من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على قومه.   رسول الله أيدته بعلي، "وعلى كل سماء" من السموات السبع، "وعلى الجنان وما فيها" من قصور وغرف، وعلى نحور الحور العين، وورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، "رواه ابن عساكر عن كعب الأحبار" قال: "أنزل الله على آدم عصيًا بعدد الأنبياء والمرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث، فقال: أي بني أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، فكلما ذكرت الله، فاذكر اسم محمد، فإني أيت اسمه مكتوبًا على ساق العرش" الحديث بطوله، قدمه المصنف في الأسماء، وهو من الإسرائيليات، وحكم بعض الحفاظ بوضعه. وأجاب شيخنا بأن الحكم بوضع جملة ألفاظه، لا يستلزم عدم ثبوت معانيها، إذ يجوز ثبوت معاني بعضها في أحاديث، فنظروا إليها من حيث وجودها في غير حديث كعب، كذا قال، وهو تجويز عقلي لا يلتفت إليه المحدثون، إذ كلامهم إنما هو في الإسناد الذي هو المرقاة وثبوت معنى الموضوع، ولو في القرآن فضلا عن تجويز ثبوته بأحاديث لا يؤيد الموضوع، فينفي عنه الوضع، كما هو مقرر عند أدنى من له إلمام بالفن. "ومنها: أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين آدم، فمن بعده" حتى عيسى إن قلنا بالمشهور، أنه ليس بينه وبين المصطفى نبي، أو من بعده أيضًا، كخالد بن سنان "أن يؤمنوا به وينصروه، قال الله تعالى: {وَ} اذكر {إِذْ} حين {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} عهدهم {لَمَا} بفتح اللام للابتداء، وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وكسرها متعلق بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي {آتَيْتُكُمْ} إياه، وقرئ: "آتيناكم", {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية، جواب القسم وأممهم تبع لهم في ذلك. "قال علي بن أبي طالب" في تفسير هذه الآية فيما رواه ابن جرير: "لم يبعث الله نبيًا من آدم، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث، وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذ العهد بذلك على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 ومنها: أنه وقع التبشير به في الكتب السالفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه لم يقع في نسبه من لدن آدم سفاح. رواه البيهقي والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل. ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده رواه الخرائطي -في الهواتف- وغيره.   قومه" الرواية بنصب يأخذ؛ كما أفاده عياض بالعطف على تؤمنن، بتقدير نون التوكيد الخفيفة، كذا وجهها الشمني والمصنف، ورد بأنه حينئذ يكون من جزاء الشرط، فيلزم أن الأخذ من الأمة بعد بعث المصطفى، وليس المقصود، فالعطف على جملة: لئن بعث ... إلخ على أنها في موضع مفرد، والوجه أن التقدير، وأمر أن يأخذ على حد: وزججن الحواجب والعيونا وفي البغوي: اختلف في معنى الآية، فقيل: أخذ ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم، وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده، وينصره إن أدركه، وأن يأمر قومه بنصره، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، وقيل: إنما أخذ عليهم الميثاق في محمد صلى الله عليه وسلم. واختلف على هذا، فقيل: الأخذ على النبيين وأممهم، واكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد على المتبوع عهد على التابع، وقيل: المراد أن الله أخذ عهد النبيين، أن يأخذوا الميثاق على أممهم بذلك، انتهى بحروفه، وقد مر بسط ذلك في أول هذا الكتاب. "ومنها: أنه وقع التبشير به في الكتب السالفة" كالتوراة والإنجيل، ونعته فيها، ونعت أصحابه وخلفائه؛ "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" في النوع الرابع من المقصد السادس. "ومنها: أنه لم يقع في نسبه من لدن آدم" أي: زمنه؛ لأن لدن وإن كان الأصل أنها ظرف مكان بمعنى عند، لكنها قد تستعمل للزمان، كما هنا، "سفاح" أي: زنا، بكسر السين المهملة من سفح الماء أو الدم أو الدمع إذا انصب؛ لأن الزاني يصب المني في غير حقه لعدم ثبوت النسب والتوارث فيه، ولكونه من الكليات الخمس التي لم تبح في ملة من الملل. قال بعض المحققين: والمراد بالسفاح ما لم يوافق شريعة، "رواه البيهقي والطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الدلائل" بإسناد حسن عن علي مرفوعًا: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء". "ومنها: أنه نكست الأصنام لمولده، رواه الخرائطي في الهواتف وغيره" كابن عساكر، عن عروة، أن نفرًا من قريش منهم ورقة بن نوفل، كانوا في صنم لهم يجتمعون إليه، فدخلوا عليه ليلة، فرأوه مكبوبًا على وجهه، فأخذوه، وردوه إلى حاله، فلم يلبث حتى انقلب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 ومنها: أنه ولد مختونًا مقطوع السرة، رواه الطبراني وغيره، وتقدم ما فيه من البحث أول الكتاب. ومنها: أنه خرج نظيفًا، ما به من قذر، رواه ابن سعد. ومنها: أنه وقع ساجدًا رافعًا إصبعيه كالمتضرع المبتهل. رواه أبو نعيم من   انقلابًا عنيفًا، فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فقالوا: إن هذا لأمر حدث، فكان ذلك ليلة ولد صلى الله عليه وسلم، وشاركه في هذه الخصوصية عيسى عليه الصلاة والسلام، روى عبد الرزاق عن وهب: لما ولد عيسى أتت الشياطين إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام منكوسة، فقال: هذا حادث حدث، فطاف خافقي الأرض، فلم ير شيئًا، ثم البحار فلم يقف على شيء، ثم طاف أيضًا، فوجد عيسى عليه السلام قد ولد، والملائكة قد حفت حوله فرجع إليهم، فقال: إن نبيًا ولد البارحة. "ومنها: أنه ولد مختونًا" أي: على صورة المختون، إذ الختن القطع، ولا قطع هنا. "مقطوع السرة" الأولى، حذف التاء؛ لأن السر، بالضم ما تقطعه القابلة من سرة الصبي، كما في النهاية وغيرها، إلا أن يكون سمي السرسرة مجاز العلاقة المجاورة، أو فيه حذف، أي: مقطوع منه ما يتصل بالسرة. "رواه الطبراني وغيره" وفي عده من الخصائص نظر إذ ولد سبعة عشر نبيًا مختونين؛ كما مر نظمًا، وجماعة من هذه الأمة ولدوا مختونين، ولذا قال ابن القيم: ليس هذا من خصائصه، فإن كثير من الناس ولد مختونًا، قال الشامي: حتى في عصرنا أخبر بعضهم أنه ولد مختونًا، انتهى، ويمكن أن الخصوصية مجموع الختن وقطع السرة، وقيل: ختنه جده يوم سابعه، وصنع له مأدبة، وقيل: ختنه جبريل عند حليمة، والأرجح الأول، فقد قال الحاكم: به تواترت الأخبار، وابن الجوزي: لا شك أنه ولد مختونًا. قال الخيضري: وأدلته مع ضعفها أمثل من أدلة غيره، انتهى، بل له طريق جيدة، صححها الضياء المقدسي وحسنها مغلطاي، وهي ما رواه الطبراني، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن أنس، رفعه: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونًا، ولم ير أحد سوأتي". "وتقدم ما فيه من البحث أول الكتاب" مع فوائد جليلة. "ومنها: أنه خرج نظيفًا ما به قذر" مما جرت العادة به في المولود عقب ولادته، وهي صفة موضحة للمبالغة في نظافته، إذ القذر ضد النظافة، "رواه ابن سعد" من طريق همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله، عن آمنة. "ومنها: أنه وقع" خرج من بطن أمه "ساجدًا" حقيقة، "رافعًا إصبعيه" أي: سبابتيه إلى السماء، قابضًا بقية أصابعه، "كالمتضرع، المتذلل، المبتهل، رواه أبو نعيم" في خبر طويل "من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 حديث ابن عباس. ورأت أمه عند ولادته نورًا خرج منها أضاء له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات الأنبياء. رواه أحمد، وكان مهده صلى الله عليه وسلم يتحرك بتحريك الملائكة، كما ذكره ابن سبع في الخصائص، وكان القمر يحدثه وهو في مهده، ويميل إليه حيث أشار إليه، رواه ابن طغر بك في "النطق المفهوم" وغيره. وتكلم في المهد، رواه الواقدي وابن سبع.   حديث ابن عباس" عن آمنة بلفظ: فوضعت محمدًا، فنظرت إليه، فإذا هو ساجد قد رفع أصبعيه إلى السماء، كالمتضرع المبتهل، وللطبراني: لما وقع إلى الأرض وقع مقبوضة أصابع يده، مشيرًا بالسبابة، كالمسبح بها، "ورأت أمه" رؤية عين بصرية، لا منامية، كما زعم، "عند ولادته نورًا خرج منها، أضاء له قصور الشام" أي: أضاء النور وانتشر حتى رأت قصور الشام، وأضاءت تلك القصور من ذلك النور، "وكذلك ترى أمهات الأنبياء" نورًا يخرج منهن عند الولادة، وإن لم يكن كالذي رأته آمنة من كل وجه، بحيث أن كل واحدة تضيء منها قصور الشام، هكذا ترجاه شيخنا، "رواه أحمد" والبزار، والطبراني، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث العرباض مرفوعًا، وأحمد أيضًا من حديث أبي أمامة وابن إسحاق عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: وفيه أضاءت له قصور بصري من أرض الشام، "وكان مهده" أي: ما هيئ له لينام فيه، "يتحرك بتحريك الملائكة" له، قال بعض: ولم ينقل مثله لأحد من الأنبياء؛ "كما ذكره ابن سبع" بإسكان الموحدة، وقد تضم؛ كما في التبصير "في الخصائص" له، "كان القمر يحدثه، وهو في مهده، ويميل إليه حيث" أي: في أي وقت "أشار إليه" بأصبعه، فحيث هنا للزمان، "رواه ابن طغربك" بضم الطاء المهملة، وإسكان الغين المعجمة، وضم الراء، وفتح الموحدة، "في" كتاب "النطق المفهوم وغيره" كالبيهقي، والصابوني، والخطيب، وابن عساكر، عن العباس بن عبد المطلب، قلت: يا رسول الله! دعاني إلى الدخول في دينك إمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر، وتشير إليه بأصبعك، فحيث أشرت إليه مال، قال: "إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش"، "وتكلم في المهد، رواه الواقدي" إن أول ما تكلم به لما ولد جلال ربي الرفيع، وروي أنه لما وقع على الأرض رفع رأسه، وقال بلسان فصيح: "لا إله إلا الله، وإني رسول الله"، وعند ابن عائذ: أول ما تكلم به حين خرج من بطن أمه: "الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلا" وطريق الجمع؛ أنه قال ذلك كله، "وابن سبع" لكن عده من الخصائص فيه نظر، إذ ليس من خصائصه، ولا من خصائص الأنبياء، فقد تكلم فيه ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، رواه أحمد، والحاكم مرفوعًا: "وابن المرأة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 وظللته الغمامة في الحر، رواه أبو نعيم والبيهقي، ومال إليه فيء الشجرة إذا سبق إليه، رواه البيهقي. ومنها: شق صدره الشريف. رواه مسلم وغيره. وغطه جبريل عند ابتداء الوحي ثلاث غلطات. عد هذه بعضهم من خصائصه كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من.   أصحاب الأخدود"، رواه مسلم ومبارك اليمامة، رواه البيهقي، وكذا الطفل الذي مرت عليه أمة تنسب إلى الزنا، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ولدي مثلها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهؤلاء ستة تكلموا في المهد، وليسوا بأنبياء، وللسيوطي نظم شهير في جملة من تكلم، "وظللته الغمامة" السحابة "في الحر، رواه أبو نعيم والبيهقي" عن ابن عباس: كانت حليمة لا تدعه يذهب مكانًا بعيدًا، فغفلت عنه، فخرج مع أخته في الظهيرة، فخرجت حليمة تطلبه حتى تجده مع أخته، قالت: في هذا الحر، قالت: ما وجد أخي حرًا، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، حتى انتهى إلى هذا الموضع ... الحديث، وهذا كان قبل النبوة، فهو من الكرامات. وفي الصحيح: فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، ولذا قال ابن جماعة: من زعم أن حديث إظلال الغمامة لم يصح، فهو باطل، نعم قال السخاوي وغيره: لم يكن دائمًا لما في حديث الهجرة: أن الشمس أصابته، وظلله أبو بكر بردائه، وثبت أنه كان بالجعرانة ومعه ثوب قد أظل عليه، وإنهم كانوا إذا أتوا على شجرة ظليلة تركوها له عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، "ومال إليه فيء" ظل "الشجرة إذ سبق إليه" إكرامًا له، "رواه البيهقي" والترمذي، وحسنه، والحاكم، وصححه، وغيرهم عن أبي موسى الأشعري، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش الحديث، وفيه: أن بحيرا الراهب صنع لهم طعاًا، وأتاهم به، وكان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فقال بحيرا: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظرا إلى فيء الشجرة مال عليه. "ومنها: شق صدره الشريف" أربع مرات ولم تثبت الخامسة، "رواه مسلم وغيره" وتقدم بسطه كجميع ما ذكره المصنف من أول هذا الفصل إلى هنا في المقصد الأول إلا كتابة اسمه على العرش وغيره، ففي المقصد الثاني، "وغطه" بغين معجمة، فطاء مهملة مشددة: ضمه وعصره "جبريل عند ابتداء الوحي ثلاث غطات" ليشغله عن الالتفات لشيء آخر، ولإظهار الشدة والجد في الأمر وأن يأخذ الكتاب بقوة، وقيل غير ذلك، كما مر، "عد هذه بعضهم من خصائصه؛ كما نقله الحافظ ابن حجر، قال: ولم ينقل عن أحد من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 الأنبياء أنه جرى له عند ابتداء الوحي. ومنها: أن الله ذكره في القرآن عضوًا عضوًا، فقلبه بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] ، وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] ، ولسانه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ، وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] ، وبصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] ، ووجه بقوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] . يده وعنقه بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] ، وظهره وصدره بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 1-3] ، أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد قال: كان أبو طالب يقول:   الأنبياء؛ أنه جرى له عند ابتداء الوحي" لا مرة ولا أكثر. "ومنها: أن الله ذكره في القرآن" أي: ذكر أعضاءه التي أريد الإخبار عنها بصفة تعلقت بها فيها، ثناء عليه، مبينة، "عضوًا عضوًا" وهو بهذا المعنى لا يستلزم ذكره الجميع، فلا يرد أن بقي من أعضائه الفخذان والرجلان وغيرهما، "فقلبه" أي: فذكر قلبه "بقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} الآية، أي: ما رآه بقلبه، أي: ما أنكر قلبه ما رآه، ببصره من صورة جبريل، أو الله تعالى؛ فإن الأمور القدسية تدرك أولا بالقلب، ثم تنتقل منه إلى البصر أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، لأنه عرفه بقلبه، كما رآه ببصره، والمعنى أنه ليس تخييلا، ويدل له أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيته بفؤادي"، رواه ابن جرير عن ابن عباس. "وقوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} " وفي قراءة بتشديد نزل ونصب الروح، والفاعل الله، "وذكر لسانه بقوله: {وَمَا يَنْطِقُ} " بما يأتيكم به {عَنِ الْهَوَى} الآية، هوى نفسه، "وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاه} " سهلنا القرآن {بِلِسَانِكَ} الآية، لغتك، "وبصره بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} " الآية، أي: ما مال بصره صلى الله عليه وسلم عن مرتبة المقصود له ولا جاوزه تلك الليلة، "ووجهه بقوله: {قَدْ} للتحقيق {نَرَى تَقَلُّبَ} تصرف {وَجْهِكَ فِي} جهة {السَّمَاءِ} الآية، متطلعًا إلى الوحي، ومتشوفًا إلى الأمر باستقبال الكعبة، وكان يود ذلك، لأنها قبلة إبراهيم ولأنه أدعى لإسلام العرب، "ويده وعنقه بقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} الآية، أي: لا تمسكها عن الإنفاق كل المسك، "وظهره وصدره بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بالنبوة وغيرها، {وَوَضَعْنَا} حططنا {عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ} أثقل {ظَهْرَكَ} ، الآية، وهذا كقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} الآية، ويأتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 واشتق اسمًا من اسم المحمود، ويشهد له ما أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق علي بن زيد، قال: كان أبو طالب يقول: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وهو مشهور لحسان بن ثابت. وسمي أحمد، ولم يسم به أحد قبله. رواه مسلم. ولأحمد من حديث عليّ: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد قبلي ... ". وذكر منها: "وسميت أحمد". ومنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعًا، ويصبح طاعمًا يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، كما سيأتي البحث فيه في صيامه صلى الله عليه وسلم من مقصد عباداته.   بيانه إن شاء الله تعالى. "واشتق اسمًا من اسم المحمود" بالجر بدل والنصب، بتقدير أعني، والرفع بتقدير وهو، وقيل: من اسمه الحميد، ولكن المحمود أتم في الاشتقاق؛ لأن فيه ميمين، كمحمد بخلاف الحميد، "ويشهد له ما أخرجه البخاري في تاريخه الصغير من طريق عليّ بن زيد" بن عبد الله، بن زهير بن عبد الله، بن جدعان القرشي، التيمي، البصري، ضعيف من صغار التابعين، "قال: كان أبو طالب يقول: وشق" بالبناء للفاعل من شق الشيء، جعله قطعتين، أي: اشتق الله تعالى "له من اسمه" بقطع الهمزة للضرورة، اسمًا "ليجله" ليعظمه، "فذو العرش محمود، وهذا محمد" وقدم المصنف هذا الحديث بلفظه في أسمائه عليه السلام، "وهو مشهور لحسان بن ثابت" الأنصاري، المؤيد بروح القدس، فتوارد حسان مع أبي طالب، أو ضمنه شعره، وبه جزم بعض، "وسمي أحمد" أيس أحمد الحامدين لربه فالأنبياء حمادون وهو أحمدهم أي أكثرهن حمدًا "ولم يسم به أحد من قلبه" منذ خلقت الدنيا، حماية من الله لئلا يدخل، لبس على ضعيف القلب، أو شك في أنه المنعوت بأحمد في الكتب السابقة، هكذا قاله الأكثرون، وبه جزم عياض وغيره، وهو الصواب، والقول بأن الخضر اسمه أحمد مردود رواه، وكذا لم يتسم به أحد في حياته، وأول من سمي به بعده والد الخليل بن أحمد على المشهور؛ كما مر مفصلا. "رواه مسلم" عن علي مرفوعًا: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وسميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم". ولأحمد من حديث علي: "أعطيت أربعًا لم يعطهن أحد قبلي" وذكر منها: "وسميت أحمد" وقدم لفظه أوائل الخصائص. "ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت جائعًا، ويصبح طاعمًا، يطعمه ربه ويسقيه من الجنة، فكان يواصل، "كما سيأتي في البحث فيه في صيامه صلى الله عليه وسلم من مقصد عبادته" التاسع، "وكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 وكان يرى من خلفه كما يرى أمامه. رواه مسلم. ويرى في الليل وفي الظلمة كما يرى بالنهار والضوء. رواه البيهقي. وكان ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم. ويجزي الرضيع، رواه البيهقي. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في الصخر غاصت قدماه فيه وأثرت فيه، كما هو مشهور قديمًا وحديثًا على الألسنة، ونطق به الشعراء في منظومهم، والبلغاء في منثورهم، مع اعتضاده بوجود أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام في حجر المقام المذكور في التنزيل في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وهو البالغ تعيينه -وأنه أثره- مبلغ التواتر، القائل فيه أبو طالب: وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل   يرى من خلفه، كما يرى من أمامه، رواه مسلم" عن أنس رفعه، وفيه: "أيها الناس إني أمامكم، لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي". "ويرى في الليل وفي الظلمة" بضم، فسكون وبضمتين ذهاب النور، واحترز به عما إذا كان قمر، "كما يرى بالنهار وفي الضوء، رواه البيهقي" في الدلائل عن ابن عباس به، وعنده أيضًا عن عائشة نحوه، وقدم المصنف بسط هذين في بصره من المقصد الثالث، "وكان ريقه يعذب الماء الملح، رواه أبو نعيم" وغيره، عن أنس: بزق في بئر في دار أنس، فلم يكن في المدينة بئر أعذب منها، "ويجزي" يكفي "الرضيع" عن اللبن، "رواه البيهقي" في الدلائل بلفظ: أنه كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة، فيتفل في أفواههم، ويقول للأمهات: "لا ترضعنهم إلى الليل". فكان ريقه يجزيهم، وقدم هذين في ريقه من المقصد الثالث. ويقع في بعض النسخ هنا زيادة، وهي: "منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى في الصخر، غاصت قدماه فيه وأثرت فيه، كما هو مشهور قديمًا وحديثًا على الألسنة، ونطق به الشعراء في منظومهم، والبلغاء في منثورهم" وأنكره الحافظ السيوطي، وقال: لم أقف له على أصل، ولا سند، ولا رأيت من خرجه في شيء من كتب الحديث، وكذا أنكره غيره، وحاول المصنف خلافه، فقال: "مع اعتضاده" تقويته "بوجود أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه أفضل الصلاة والسلام في حجر المقام المذكور في التنزيل في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} منها {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ، الآية أي: الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، فأثر قدماه فيه، "وهو البالغ تعيينه؛ وأنه أثره" أي: إبراهيم "مبلغ التواتر القائل فيه أبو طالب" في قصيدته اللامية، "وموطئ" بالجر عطفًا على المجرور قبله من قوله: أعوذ برب الناس، أي: محل وطء "إبراهيم في الصخر" الحجر "رطبة" حتى أثر فيه "على قدميه حافيًا غير فاعل" صفة كاشفة، "وبما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وبما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا من معجزة تأثير ضرب موسى في الحجر ستًا أو سبعًا إذ فر بثوبه لما اغتسل. إذ ما خص نبي بشيء من المعجزات والكرامات إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم مثله، كما نصوا عليه، مع ما يؤيد ذلك: وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة -على ما قيل- في مسجد بطيبة، حتى عرف المسجد بها، فيقال مسجد البغلة، وما ذاك إلا من سره الساري فيها ليكون ذلك أقوى في الآية. وأوضح في الدلالة على إيتائه عليه الصلاة والسلام هذه الآية التي أوتيها الخليل في حجر المقام على وجه أعلى منه. بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازي في المغانم.   في البخاري" ومسلم "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا: "من معجزة تأثير ضرب موسى في الحجر" الذي كان يحمله معه في الأسفار، فيتفجر منه الماء "ستًا" من الآثار، "أو سبعًا" بالشك من الراوي، ولعله أوحي إليه أن يضربه، "إذ فر بثوبه لما اغتسل"، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، قالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل، معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في أثره يقول: ثوبي يا حجر، ثوبي يا حجر حتى نظرت بنو إسرائيل موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربًا". قال أبو هريرة: والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة، رواه الشيخان. قال الحافظ: فيه معجزة ظاهرة لموسى، وأن الآدمي يغلب عليه طباع البشر؛ لأن موسى مع علمه أن الحجر ما سار بثوبه إلا بأمر الله، عامله معاملة من يعقل حتى ضربه، ويحتمل أنه أراد بيان معجزة أخرى لقومه بتأثير الضرب بالعصا في الحجر، انتهى، وذكر وجه استشهاده به بقوله: "إذ ما خص نبي بشيء من المعجزات والكرامات إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم مثله، كما نصوا عليه" لكن المثلية التي للمصطفى إما من جنسها، أو بغيرها أعلى أو مساوٍ؛ كما نصوا عليه، فمثل هذا لا يدفع إنكار وروده، "مع ما يؤيد ذلك، وهو وجود أثر حافر بغلته الشريفة على ما قيل في مسجد بطيبة حتى عرف المسجد بها، فيقال: مسجد البغلة" وهذا لو ثبت لا ينتج الدعوى، إذ لا يلزم من تأثير حافر بغلته، وإن كان إكرامًا له ومعجزوة، إن نفس قدميه يؤثر الذي هو المطلوب، "وما ذاك إلا من سره الساري فيها ليكون ذلك أقوى في الآية، وأوضح في الدلالة على إيتائه عليه الصلاة والسلام هذه الآية التي أوتيها الخليل في حجر المقام على وجه أعلى منه" وهذا تصريح منه، بأنه لم يؤت مثله بخصوصه، فلم يثبت المطلوب، "بل قال الزبير بن بكار فيما نقله المجد الشيرازي" صاحب القاموس "في" كتابه "المغانم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 المطابة بعد ذكره لأثر البغلة ومسجدها، وفي غربي هذا المسجد أثر كأنه أثر مرفق يذكر أن عليه الصلاة والسلام اتكأ ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر أثر الأصابع، والناس يتبركون بهما. وقال السيد نور الدين السمهودي في كتابه "وفاء الوفا" بعد إيراد ذلك: قلت ولم أقف في ذلك على أصل إلا أن ابن النجار قال في المساجد التي أدركها خرابًا بالمدينة ما لفظه، ومسجدان قرب البقيع، أحدهما يعرف بمسجد الإجابة، والثاني يعرف بمسجد البغلة، فيه إسطوان واحد، وهو خراب، وحوله نشز من الحجارة، فيه أثر يقولون إنه أثر حافر بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وكان إبطه صلى الله عليه وسلم لا شعر عليه، قال القرطبي، وكان أبيض غير متغير اللون، كما ذكره الطبري وعده من الخصائص، وذكره بعض الشافعية، لحديث أنس -المتفق عليه- أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه. وقال الشيخ جمال الدين.   المطابة" في فضائل طابة، "بعد ذكره لأثر حافر البغلة ومسجدها، وفي غربي هذا المسجد أثر؛ كأنه أثر مرفق". "ويذكر أنه عليه الصلاة والسلام اتكأ عليه، ووضع مرفقه الشريف عليه، وعلى حجر آخر آثر الأصابع والناس يتبركون بهما" أي: أثر المرفق وأثر الأصابع، "وقال السيد" الشريف "نور الدين" على "السمهودي في كتابه وفاء الوفاء" تاريخ المدينة "بعد إيراد ذلك: ولم أقف في ذلك على أصل إلا أن ابن النجار" الحافظ الشهير، "قال" في تاريخ المدينة "في المساجد التي أدركها خرابًا بالمدينة ما لفظه: ومسجان قرب البقيع، أحدهما يعرف بمسجد الإجابة"؛ كأنه لإجابة الدعاء فيه، "والثاني يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوان" عمود "واحد، وهو خراب وحوله نشز" بالزاي: مرتفع "من الحجارة فيه أثر، يقولون: إنه أثر خافر بغلة النبي صلى الله عليه وسل، انتهى" كلام السمهودي، وهذا آخر ما في بعض النسخ، وأكثرها سقوطها، ولعله أولى، "وكان إبطه عليه الصلاة والسلام لا شعر عليه، قاله القرطبي". "وكان أبيض غير متغير اللون" قيد به دفعًا لتوهم أن خلوه من الشعر لمرض منع ظهوره، "كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين المكي، "وعده في الخصائص، وذكره بعض الشافعية" كالأسنوي؛ "لحديث أنس المتفق، عليه" أي: الذي رواه الشيخان؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه" لفظ الحديث عندهما: كان لا يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، فاقتصر المصنف على حاجته منه، "وقال الشيخ جمال الدين" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 الأسنوي في "المهمات" إن بياض الإبط كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، انتهى. قال في شرح تقريب الأسانيد: وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا يلزم من ذكر أنس وغيره، بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم الخزاعي، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كنت أنظر إلى عفرة إبطيه إذا سجد، خرجه الترمذي، وحسنه، والنسائي، وابن ماجه. وقد ذكر الهروي في "الغريبين"، وابن الأثير في "النهاية" أن العفرة بياض ليس بالناصع ولكن كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليًا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر.   عبد الرحيم بن الحسن بن علي "الأسنوي" شيخ الشافعية وصاحب التصانيف السائرة، إمام زمانه البارع، توفي سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وله أربع وسبعون سنة، "في" كتاب "المهمات: أن بياض الإبط كان من خواصه صلى الله عليه وسلم، انتهى". "قال في شرح تقريب الأسانيد" الولي العراقي: "وما ادعاه من كون هذا من الخصائص فيه نظر، إذ لم يثبت ذلك بوجه من الوجوه، بل لم يرد ذلك في شيء من الكتب المعتمدة، والخصائص لا تثبت بالاحتمال" القائم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه، وإنما تثبت بالنص الصريح، "ولا يلزم من ذكر أنس وغيره بياض إبطيه؛ أن لا يكون له شعر" لاحتمال أنه كان يديم تعاهده، "فإن الشعر إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقي فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث عبد الله بن أقرم" بفتح الهمزة والراء، بينهما قاف ساكنة، ثم ميم، ابن زيد "الخزاعي" أبي معبد المدني، صحابي، نقل له حديثان، "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت أنظر إلى عفرة" بضم المهملة، وسكون الفاء "إبطيه إذا سجد، خرجه الترمذي، وحسنه النسائي، وابن ماجه، وقد ذكر الهروي" بفتح الهاء والراء أحمد بن محمد، أبو عبيد المشهور "في الغريبين" للقرآن والحديث نسبة إلى هراة مدينة بخراسان، وليس هو عليًا أبا الحسن بن إدريس، كما توهم، "وابن الأثير في النهاية، أن العفرة بياض ليس بالناصع" أي: الخالص، "ولكن" هو "كلون عفرة الأرض، وهو وجهها، وهذا يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المكان أعفر، وإلا فلو كان خاليًا من نبات الشعر جملة لم يكن أعفر" وقد تمنع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 نعم الذي يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفًا طيب الرائحة، كما ثبت في الصحيح. وكان عليه الصلاة والسلام يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه. وكان تنام عينه ولا ينام قلبه. رواه البخاري. وما تثاءب قط. كما رواه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من مرسل يزيد ابن الأصم قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط، وأرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد   دلالته على ذلك يقول الحافظ: إن شأن المغابن أن يكون لونها في البياض دون لون بقية الجسد، "نعم الذي يعتقد فيه صلى الله عليه وسلم" وجوبًا، "أنه لم يكن لإبطه رائحة كريهة، بل كان نظيفًا، طيب الرائحة؛ كما ثبت في الصحيح" عن أنس وغيره، وقد روى البزار عن رجل، قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسال علي من عرق إبطيه مثل رائحة المسك، "وكان عليه الصلاة والسلام يبلغ صوته وسمعه ما لا يبلغه صوت غيره ولا سمعه" من الأصوات والأسماع المعتادين، فقد كان يخطب، فتسمعه العواتق في البيوت، ويسمع أطيط السماء؛ كما مر بسط ذلك في شمائله، "وكان تنام عينه ولا ينام قلبه" وكذلك الأنبياء، فهو خصوصية له على الأمم؛ كما مر مبسوطًا، "رواه البخاري" ومسلم، وغيرهما بلفظ: "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي"، وأخرجه بلفظ المصنف الحاكم من حديث أنس: "كانت تنام" .... إلخ. وتقدم أيضًا. "وما تثاءب" بالهمز تثاؤبًا، وزان تثاقل تثاقلا، قيل: هي فترة تعتري الشخص، فيفتح عندها فمه وتثاوب بالواو عامي؛ كما في المصباح، وقال غيره: هو التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخار المنخفق في عضلات الفك "قط" وكلك الأنبياء، لأن سببه ناشئ عن إبليس، لأنه يدعو إلى الشهوات التي منها الامتلاء من الطعام الذي ينشأ عنه التثاؤب غالبًا، وهم معصومون من ذلك؛ "كما رواه ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من مرسل يزيد" بباء قبل الزاي، "ابن الأصم" ضد السامع، ونسخة الأعصم بزيادة عين تصحيف من الجهال، واسم الأصم عمرو، وقيل: يزيد بن عمرو بن عبيد العامري، البكائي، بفتح الموحدة، والكاف الثقيلة، ابن أخت ميمونة أم المؤمنين، من الثقات، مات سنة ثلاث ومائة، "قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط" وظاهر هذا اختصاصه، لكن في رواية عن يزيد المذكور عند ابن أبي شيبة أيضًا، بلفظ: "ما تثاءب نبي قط"؛ كما قدمه المؤلف في الصوت الشريف وهذا يعم جميع الأنبياء ونحوه قوله هنا: "وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك" بن مروان الأموي، الأمير، مقبول، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 الملك، قال: ما تثاءب نبي قط ويؤيده ذلك. أن التثاؤب من الشيطان. رواه البخاري. وما احتلم قط، وكذلك الأنبياء. ورواه الطبراني. وكان عرقه أطيب من المسك. رواه أبو نعيم وغيره. وإذا مشى مع الطويل طاله، رواه البيهقي، ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمر.   روى له أبو داود، ولم يلق أحدًا من الصحابة، مات سنة خمس وعشرين ومائة أو بعدها، "قال: ما تثاءب نبي قط" هذا يعم الجميع، فهو من خصائصهم على الأمم. "ويؤيده ذلك أن التثاؤب من الشيطان" لأنه الحامل على سببه بتزيين الشهوات، "رواه البخاري" ومسلم، عن أبي هريرة مرفوعًا: "التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع"، "وما احتلم قط" أي: ما رأى من منامه ما يقتضي خروج المني؛ لأنه من الشيطان ولا سبيل له عليك، "وكذلك الأنبياء" هذا هو المراد، إن أطلق الاحتلام لغة على الرؤيا المنامية، لا بهذا القيد، "رواه الطبراني" عن ابن عباس، قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام من الشيطان؛ كما قدمه في جماعة صلى الله عليه وسلم، "وكان عرقه أطيب من المسك، رواه أبو نعيم وغيره" بلفظ: كان عرقه في وجهه مثل اللؤلؤ، أي: في البياض والصفاء أطيب من المسك الأذفر بالمعجمة، أي: الطيب الريح، ومر بسط هذا في الشمائل. "وإذا مشى مع الطويل طاله" أي:" زاد عليه في الطول، مع أنه ربعة إكرامًا من الله حتى لا يزيد عليه أحد صورة، كما لا يزيد معنى، فمثل ارتفاعه في عين الناظر يراه رفعة حسية، وهذا من المعجزات. رواه البيهقي" وغيره عن عائشة، قالت: لم يكن بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد وكان ينسب إلى الربعة إذا مشي وحده، ولم يكن على حال يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول الإطالة، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه ينسب إلى الربعة. وروى عبد الله بن أحم عن علي: كان صلى الله عليه وسلم ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة، إذا جامع القوم غمرهم، بفتح المعجمة والميم، أي: زاد عليهم في الطول من غمر الماء إذا علا، ولذا زاد رزين وابن سبع: أنه كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين، وتوقف بعض فيه؛ بأنه لم يره إلا في كلام رزين، وكلام الناقلين عنه تقصير، فإنه المجامعة شاملة للجلوس والمشي. "ولم يقع له ظل على الأرض، ولا رؤي له ظل في شمس ولا قمر" رواه الحكيم الترمذي مرسلا، قال ابن سبع: لأنه كان نورًا كله، وقال رزين: لغلبة أنواره، قيل: وحكمته صيانته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا، ختم بقوله: واجعلني نورًا. وكان صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط. نقله الفخر الرازي، ولا يمتص دمه البعوض، كذا نقله الحجازي وغيره، وما آذاه القمل، قاله ابن سبع في "الشفاء" والسبتي في "أعظم الموارد". ومنها: انقطاع الكهنة عند مبعثه، وحراسة السماء من استراق السمع.   عن أن يطأ كافر ظله، وإطلاق الظل على القمر مجاز؛ لأنه إنما يقال ظلمة القمر ونوره، وروى ابن المبارك وابن الجوزي عن ابن عباس: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ظل، ولم يقم مع الشمس قط إلا غلب ضوءه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوءه ضوء السراج، وتقدم هذا كله في مشيه صلى الله عليه وسلم. ويشهد له أنه صلى الله عليه وسلم لما سأل الله تعالى أن يجعل في جميع أعضائه وجهاته نورًا، ختم بقوله: "واجعلني نورًا" أي: النور لا ظل له، وبه يتم الاستشهاد، "وكان صلى الله عليه وسلم لا يقع على ثيابه ذباب قط، نقله الفخر الرازي" عن بعضهم، "ولا يمتص دمه البعوض؛ كذا نقله الحجازي وغيره" ونوزع بعدم ثبوته، "وما أذاه القمل" لعدم وجوده فيه، "قاله" أبو ربيع سليمان "بن سبع" بإسكان الموحدة، وقد تضم السبتي "في" كتاب "الشفاء" أي: شفاء الصدور في إعلام نبوة الرسول وخصائصه، ولفظه: لم يكن فيه قمل، لأنه نور، ولأن أصله من العفونة، ولا عفونة فيه، وأكثره من العرق، وعرقه طيب. "والسبتي" بفتح، فسكون، نسبة إلى سبتة بالمغرب، وجزم الرشاطي؛ بأن سبتة، بالفتح، والذي ينسب إليها السبتي، بالكسر "في" كتابه "أعظم الموارد" وأطيب الموالد، وقدم المصنف في اللباس، أنه يشكل عليه حديث عائشة: كان يفلي ثوبه، ومن لازمه وجود شيء يؤذيه قمل أو برغوث أو نحو ذلك، ويجاب بأن التفلي لاستقذار ما علق بثوبه من غيره، وإن لم يؤذه، وفيه: إن أذاه غذاؤه من البدن، وإذا امتنع الغذاء لم يعش الحيوان غالبًا، انتهى ملخصًا، ومر أن شيخنا دفع بحثه، بأن التفلية لإزالة القذر الحاصل من غيره، لا القمل ونحوه، ولا يلزم أنه حيوان، وبتقديره حيوانًا يجوز أنه فلاه قبل مضي مدة، لا يصبر فيها على عدم الغذاء. "ومنها: انقطاع الكهنة" بمعنى الكهانة تجوز العلامة التعلق بينهما: فأطلق اسم المتعلق، وأراد به المتعلق، فهو مجاز لغوي، أو هو من مجاز النقص، أي: إخبار الكهنة؛ إذ نفس الكهنة لم ينقطعوا: جمع كاهن، وهو المخبر ببعض المغيبات كتابيًا أو غيره، "عند مبعثه" أي عقبه "وحراسة السماء من استراق السمع" أي: استراق الشياطين لاستماع ما تقوله الملائكة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 والرمي بالشهب، قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها، فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها.   فيخبرون به غيرهم، "والرمي" بالجر بباء مقدرة، أي: وحراسة السماء بالرمي "بالشهب"، أي: رمي الملائكة للشياطين عند استراق السمع، قال تعالى: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} الآية، قيل: الأولى تأخير عند مبعثه عن هذا ليتعلق بالثلاثة، وجوابه أنهما عطف علة على معلول والعلة تقارن معلولها، في الزمان، فيفيد أن الثلاثة عند مبعثه، فلا فرق بين تقديمها وتأخيرها، ثم المتبادر من المصنف؛ أنه لم يتخلل زمن بين المبعث والرمي بالشهب، وذكر ابن الجوزي؛ أن قريشًا وبني لهب، بكسر اللام رأت الرمي بالنجوم بعد المبعث بعشرين يومًا، فاجتمعوا إلى كاهن اسمه حظر، أتت عليه مائتان وثمانون سنة، فذكر الخبر مطولا جدًا، وفي آخره أنه من أجل مبعوث عظيم الشأن، يبعث بالتنزيل والقرآن، من نجل هاشم الأكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم، هذا هو البيان، أخبرني به رئيس الجان أغمي عليه، فما أفاق إلا بعد ثالثة، فقال: لا إله إلا الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "لقد نطق عن مثل نبوة، وإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده"، وفي سيرة ابن إسحاق: لما تقارب أمره صلى الله عليه وسلم، وحضر مبعثه، حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تسترق فيها، فرموا بالنجوم، فعرف الجن أنه أمر حدث فأول من فزع من ذلك ثقيف، فأتوا عمرو بن أمية بن علاج، وكان أدهى العرب، وأفكرها رأيًا، فقال: إن كانت هي النجوم التي يهتدى بها في البر والبحر، ويعرف بها الأنواء، فهو طي الدنيا وهلاك الخلق، وإن كانت غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهو لأمر أراد الله به هذا الخلق. "قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات، وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة" وفي تفسير ابن عطية: روي في الرمي بالشهب أحاديث صحاح، مضمونها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء، فتقعد لتسمع واحدًا فوق واحد، فيتقدم الأجسر نحو السماء، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، فيقضي الله بأمر من أمر الأرض، فيتحدث به أهل السماء، فيسمعه، منهم الشيطان الأدنى، فيلقيه إلى الذي تحته فربما، أحرقه شهاب، وقد ألقى الكلام، وربما لم يحرقه جملة، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة، فتصدق تلك الكلمة، فيصدق الجاهلون الجميع، "فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث" كأن حكمة تخصيصه دون باقي الأنبياء على ظاهره تعظيم المصطفى لقرب زمنه؛ كما قال: "أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي"، "فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها" وما وقع عند الزبير بن بكار، أن إبليس كان يخترق السماوات ويصل إلى أربع، فلما ولد المصطفى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار، فلا يخطئ أبدًا، فمنهم من يقتله، ومنهم من يحرق وجهه، ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري، وهذا لم يكن ظاهرًا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره أحد قبل زمانه، وإنما ظهر في بدئ أمره، وكان ذلك أساسًا لنبوته.   حجب من السبع، محمول على ما بعد ولادة عيسى، بدليل تفصيل ابن عباس المذكور، "فما منهم أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، وهو الشعلة من النار" التي تشبه النجم المنقض، وبهذا جزم البيضاوي، ويأتي أنهم كانوا يرمون بنفس النجوم، "فلا يخطئ أبدًا" من حيث الإصابة، وإن كان قد يتخلف الإحراق، كما بينه بقوله: "فمنهم من يقتله" فيموت حريقًا، "ومنهم من يحرق وجهه" ولا يموت، "ومنهم من يخبله" بضم التحتية، وفتح الخاء المعجمة، وشد الباء أبلغ من فتح الياء، وسكون الخاء، وكسر الباء، أي: يفسد عقله أو عضوه، "فيصير غولا" أي: شيطانًا "يضل الناس في البراري" وفي الحديث: "إذا تغولت لكم الغيلان، فنادوا بالأذان". وفي البغوي: فاتبعه شهاب ثاقب، كوكب مضيء لا يخطئه فيقتله أو يحرقه أو يخبله، وإنما يعودون إلى استراق السمع، مع علمهم أنهم لا يصلون إليه طمعًا في السلامة، ونيل المراد، كراكب البحر، قال عطاء: سمي النجم الذي يرمى به ثاقبًا؛ لأنه يثقبهم. وفي البيضاوي: والشهاب ما يرمى به؛ كأنه كوكب انقض، وما قيل أنه بخار يصعد إلى الجو فيشتغل، فتخمين إن صح لم يناف ذلك، إذ ليس فيه ما يدل على أنه ينقض من الفلك، ولا ينافي قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} الآية، فإن كل نير يحصل في الجو العالي، فهو مصباح لأهل الأرض، وزينة للسماء من حيث إنه يرى كأنه على سطحه، ولا يبعد أن يصير الحادث بما ذكر في بعض الأوقات رجمًا للشياطين، يتصعد إلى قرب الفلك للسمع، وما روي أن ذلكم حدث بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم إن صح، فلعل المراد كثرة وقوعه أو مصيره دحورًا، واختلف في أن المرجوم يتأذى به فيرجع أو يحرق به، لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا، ولا يقال: إن الشيطان من النار لا يحترق لأنه ليس من النار الصرف، كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص، مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، انتهى، ولعل قوله: قد يصيب وقد لا، معناه: قد يحترق وقد لا، فلا خلف، "وهذا" أي: الرمي بالشهب "لم يكن ظاهرًا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكره أحد قبل زمانه، وإنما ظهر في بدء أمره، وكان ذلك أساسًا لنبوته" وفيه إفادة أنه كان موجودًا، لكنه قليل بالنسبة لزمنه، فلا يخالف قوله: "وقال معمر" بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 وقال معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أفرأيت قوله: يقال {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن قتيبة: إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين ثم يعود إلى مكانه. ذكره البغوي. ومنها أنه أتي بالبراق.   راشد: "قلت للزهري" محمد بن مسلم بن شهاب: "أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ " أي: ما قبل البعثة، "قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية، فإن ظاهرها؛ أنه لم يكن يرمي بها في الجاهلية، "قال: غلظت، وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم" وقد روى ابن إسحاق، عن ابن عباس، عن نفر من الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم: "ما كنتم تقولون في هذا الذي يرمي به"؟، قالوا: يا نبي الله! كنا نقول مات ملك ملك ملك، ولد مولود مات، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك، ولكن الله تبارك وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرًا، سمعه حملة العرش، فسبحوا، فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، ولا يزال التسبيح يبسط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيسبحوا، ثم يقول بعضهم لبعض: ممن سبحتم؟، فيقولون: سبح من فوقنا، فسبحنا بتسبيحهم، فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا، فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش، فيقال لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى الله في خلقه كذا وكا للأمر الذي كان، فيهبط الخبر من سماء إلى سماء، حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فيتحدثوا به، فيسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتوا به الكهان من أهل الأرض فيحدثونهم فيخطئون ويصيبون فيتحدث به الكهان فيصيبون بعضًا، ويخطئون بعضًا، ثم إن الله حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها، فانقضت الكهانة اليوم فلا كهانة". "وقال ابن قتيبة: "إن الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة" كالشدة الكائنة "بعد مبعثه، وقيل: إن النجم كان ينقض ويرمي الشياطين، ثم يعود إلى مكانه" من السماء "ذكره البغوي" في تفسيره، وقضية هذا كله منعهم من الاستراق رأسًا؛ لكن قال السهيلي: إنه بقي من استراق السمع بقايا يسيرة، بدليل وجودهم على الندور في بعض الأزمنة وبعض البلاد، انتهى. "ومنها: أنه أتي بالبراق" بضم الموحدة، وخفة الراء: دابة فوق الحمار ودون البغل من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 ليلة الإسراء مسرجًا ملجمًا، وقيل وكانت الأنبياء إنما تركبه عريانًا. ومنها أنه أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به من المحل الأعلى، وأراه من آياته الكبرى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وأحضر الأنبياء له وصلى بهم وبالملائكة إمامًا. وأطلعه على الجنة والنار. وعزيت هذه للبيهقي. ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه، كما يأتي في مقصد الإسراء إن شاء الله تعالى، وجمع الله له بين الكلام والرؤية، وكلمة الله تعالى في الرفيع الأعلى، وكلم موسى بالجبل.   البرق لسرعة سيره؛ لأنه يضع حافره عند منتهى طرفه، أو لشدة صفائه، لأنه أبيض، أو لأنه ذو لونين بياض وسواد، "ليلة الإسراء مسرجًا ملجمًا، قيل: وكانت الأنبياء إنما تركبه عريانًا" فيه تجوز؛ لأنه إنما يقال في الآدمي وفي غيره عرى، بضم فسكون. "ومنها: أنه أسرى به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام" راكبًا على البراق، وحوله جبريل وغيره "إلى المسجد الأقصى" فربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد وصلى فيه ركعتين، "وعرج به من المحل الأعلى" الأقرب علوًا من الأرض إلى السماء، "وأراه من آياته الكبرى، وحفظه في المعراج حتى ما زاغ" مال "البصر وما طغى" ما تجاوز إلى رؤية ما لم يرد منه، بل جمع همته في توجهه إلى الحق بكليته، فما التفت إلى ما سواه، "وأحضر الأنبياء، له وصلى بهم وبالملائكة" في بيت المقدس، وفي السماوات "إمامًا" ليعلم أنه إمام الكل في الدنيا، والأخرى، "وأطلعه على الجنة والنار" يقظة ليلة الإسراء ليحصل على الإنس بأهوال يوم القيامة، وليتفرع فيه للشفاعة، ويقول: "أنا لها أنا لها وأمتي أمتي" حيث يقول غيره: نفسي نفسي، "وعزيت هذه" أي: اطلاعه عليهما "للبيهقي" ولفظ لأنموذج: عد هذه البيهقي، أي: من خصائصه. "ومنها: أنه رأى الله تعالى بعينيه" يقظة على الراجح؛ "كما يأتي في مقصد الإسراء إن شاء الله تعالى، وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه الله تعالى في الرفيع" بالفاء، أي: المكان "الأعلى" على سائر الأمكنة تشريفًا، له، لا لأنه تعالى في مكان يوصف بقرب أو بعد، "وكلم موسى بالجبل"، وذاك أشرف منه للفرق بين من رفعه الملك إلى محل شريف ليخاطبه فيه، وبين من خاطبه في محل يساويه فيه غيره، وقد روى ابن عساكر في حديث المعراج مرفوعًا: "هبط جبريل، فقال: إن ربك يقول: لقد وطئت في السماء موطئًا لم يطأه أحد قبلك ولا يطؤه أحد بعدك". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 ومنها أن الملائكة تسير معه حيث سار يمشون خلف ظهره وقاتلت الملائكة معه -كما مر- في غزوة بدر وحنين. ومنها: أنه يجب علينا أن نصلي ونسلم عليه، لآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] .   وعنده أيضًا عن أنس مرفوعًا: "لما أسري بي قربني ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى" وما أجمع قول الأنموذج، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السماوات السبع، والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكانًا ما وطئه نبي مرسل، ولا ملك مقرب، وإحياء الإنبياء له، وصلاته إمامًا بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عد هذه البيهقي، ورؤيته آيات ربه الكبرى، وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، ورؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق في أحد القولين، انتهى. "ومنها: أن الملائكة تسير معه حيث سار، يمشون خلف ظهره" قال أبو نعيم: ليكونوا حرسًا له من أعدائه، ولا ينافيه: والله يعصمك من الناس؛ لأن هذا إن كان قبل نزول الآية، فطاهر، وإلا فمن عصمة الله له أن يوكل به جنده من الملأ الأعلى تشريفًا له، وقد روى ابن سعد عن جابر: خرج صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: "امشوا أمامي وخلوا ظهري للملائكة" أي: فرغوه لهم ليمشوا خلفي، وهذا كالتعليل لومر بالمشي للملائكة، وقيل: إنما كان يمشي خلف أصحاه، ليختبر حالهم، وينظر إليهم حال تصرفهم في معاشهم، ويربي من يحتاج إلى التربية، وهذا شأن الراعي مع الرعية. قال النووي: وإنما تقدمهم في قصة جابر: لأن دعاهم إليه فجاؤوا تبعًا، كصاحب الطعام إذا دعا طائفة يمشي أمامهم، وقدمت هذا في مشيه، "وقاتلت الملائكة معه" ولم يكونوا مع غيره إلا مددًا، "كما مر في غزوة بدر" قتالهم عن جميع الجيش، "وحنين" على ما جزم به ابن القيم، نقله عنه المصنف في غزوتها عملا بظواهر أحاديث مرت، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين؛ كما قدمه المصنف في بدر، لأن الله قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} الآية، ولا دلالة فيه على قتال، نعم في الصحيحين: أن ملكين قاتلا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد كأشد القتال، والمعروف من قتال الملائكة، كما قال ابن كثير: إنما هو يوم بدر، وكانوا فيما عداها عددًا ومددًا، ولا يرد هذا الحديث، لأنه عن المصطفى خاصة، لا عن عموم الجيش كبدر. "ومنها: أنه يجب علينا أن نصلي ونسلم عليه" في الجملة اتفاقًا، فمرة في العمر عند المالكية، وفي التشهد الأخير عند الشافعية، وكلما ذكر عند جمع من المذاهب الأربع؛ "الآية" {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم. ومنها: أنه أوتي الكتاب العزيز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة. ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف.   الآية، "ولم ينقل أن الأمم المتقدمة كان يجب عليهم أن يصلوا على أنبيائهم" قال في الأنموذج: ومن خواصه أنه ليس في القرآن، ولا غيره صلاة من الله على غيره، فهي خصيصية اختصه الله بها دون سائر الأنبياء. "ومنها: أنه أوتي الكتاب العزيز" الغالب على كل كتاب بمعانيه وإعجازه، ونسخة أحكامها أو الذي لا نظير له، أو الممتنع مضاهاته لإعجازه أو من التغيير والتحريف لحفظ الله له، "وهو أمي، لا يقرأ، ولا يكتب، ولا اشتغل بمدارسة" ومن يقرأ ويكتب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض، وهذا أعلى درجات الفضل له حيث كان كذلك، وأتى بالعلوم الجمة، والحكم المتوافرة، وأخبار القرون الماضية بلا تعلم خط ولا استفادة من كتاب بخلاف غيره؛ كما قدم المصنف بسط ذلك. وروى ابن أبي حاتم عن عبادة رفعه: "أن جبريل أتاني، فقال: اخرج فحدث بنعمة الله التي أنعم الله عليك" الحديث، وفيه: "لقنني كلامه وأنا أمي"، وفي رواية: "وأتاني كتابه وأنا أمي". "ومنها: حفظ كتابه هذا من التبديل والتحريف" على ممر الدهور، بخلاف غيره من الكتب؛ فإن بعضها بدل، وحرف للبيهقي عن الحسن في تفسير قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ} الآية، {عَلَى مُكْثٍ} ، قال حفظه الله: فلا يزيد أحد فيه باطلا، ولا ينقص منه حقًا، وكأنه أخذ هذا التفسير من لازم الآية، وللبيهقي أيضًا عن يحيى بن أكثم دخل يهودي على المأمون، فأحسن الكلام، فدعاه إلى الإسلام، فأبى، ثم بعد سنة جاء مسلمًا، فتكلم على الفقه، فأحسن الكلام، فسأله المأمون ما سبب إسلامه، قال: انصرفت من عندك، فامتحنت هذه الأديان فعمدت إلى التوراة، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها البيعة، فاشتريت مني، وعمدت إلى القرآن، فكتبت ثلاث نسخ، فزدت فيها ونقصت، وأدخلتها الوراقين، فتصفحوها، فوجدوا فيها الزيادة والنقصان، فرموا بها فلم يشتروها، فعلمت أن هذا الكتاب محفوظ، فكان هذا سبب إسلامي. قال يحيى: فحججت تلك السنة، فلقيت سفيان بن عيينة، فذكرت له هذا، فقال: مصداقه في الكتاب، قلت: في أي موضع؟، قال: في قوله في التوراة والإنجيل: بما استحفظوا من كتاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 حتى سعى كثير من الملحدة والمعطلة، سيما القرامطة في تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا على إطفاء.   الله، فجعل حفظه إليهم، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية، فحفظه الله تعالى فلم يضع، "حتى سعى كثير من الملحدة" من الإلحاد، وهو الميل، سموا بذلك لعدولهم عن ظواهر الشريعة وتأويلها بأمور سخيفة، ويسمون باطنية، وهم الإسماعيلية المنسوبون إلى إمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وغرضهم إبطال الشرع؛ لأنهم في الأصل يهود ومجوس، "والمعطلة" الذين نفوا الصانع، وتستروا بزي الإسلام خوفًا من القتل، وسعوا في نقض الدين وتزيين ما يروج على بعض العقول القاصرة، "سيما القرامطة" طائفة من الملحدين. قال السمعاني في الأنساب: القرمطي، بكسر القاف، وسكون الراء، وكسر الميم والمهملة، نسبة إلى طائفة خبيثة من أهل هجر ولحيان، وأصلهم رجل من سواد الكوفة، يقال له: قرمط، وقيل: حمدان بن قرمط، وسبب ظهورهم؛ أن جماعة من أولاد بهرام جور ذكروا آباءهم وجددوهم وما كانوا فيه من العز والملك وزوال ذلك بالإسلام، فاتفقوا على رفعه، وقالوا: نفرقهم ونفسد الرعايا عليهم، فقسموا الدنيا أربعة أقسام لكل ربعها، فذهب واحد إلى الكوفة، فأول من أجابه حمدان بن قرمط، فأعانه على الدعوة، وقيل: سموا قرامطة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عامرًا يمشي، وهو من أهل المدينة فقال: "إنه ليقرمط في مشيه"، انتهى، أي: يقارب خطاه، ومنه الخط المقرمط، وعلى هذا فهو عربي، وقيل: معرب؛ وإن جدهم كان يمشي كرمد، بالكاف العجمية، ومعناه بالفارسية السفلة، فغيروه وعربوه قرمط، وكان أحمر البشرة والعينين، وكان ظهوره سنة ثمان وسبعين ومائتين، فأظهر زهدًا وصلاحًا حتى اجتمع عليه خلق كثير، فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر به؛ وأنه الإمام المنتظر، وابتدع مقالات في كتاب، وقال: إنه الكلمة والمهدي، وزعم أنه انتقل إليه كلمة المسيح وجعل الصلاة ركعتين بعد الصبح، ركعتين بعد المغرب، والصوم يومين بالنيروز والمهرجان، وجعل القبلة إلى بيت المقدس، فكانت لهم وقائع وحروب، ودعاة وخلفاء، مذكورة في التواريخ حتى ظهر منهم سليمان بن الحسن الجبائي، فعاث في البلاد وأفسد، وقصد مكة، فدخلها يوم التروية سنة سبع عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر، فقتل الحجاج، ورماهم بزمزم، وقلع باب الكعبة، وأخذ كسوتها، وأخذ الحجر الأسود، فبقي عندهم اثنتين وعشرين سنة، فبذل لهم خمسون ألف دينار ليردوه، فأبوا، ثم ردوه مكسورًا فوضع في مكانه وتغلبوا على مصر والشام حتى قاتلهم جوهر، القائد فهزمهم وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وكانت مدة خروجهم ستًا وثمانين سنة، حتى أهلكهم الله وأبادهم، وكانوا يحرفون القرآن ويتأولونه بتأويلات فاسدة لا تقبلها العقول، "في تغييره وتبديل محكمه، فما قدروا" في هذه المدة الطويلة "على إطفاء شيء من نوره" تمثيل لحالهم في سعيهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 شيء من نوره، ولا تغيير كلمة من كلمه، ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه، قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] الآية. وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب، جامعًا لأخبار القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب، الذي قطع عمره في تعلم ذلك.   في تحريف القرآن بمن أراد إطفاء نور عظيم منتشر في الآفاق، "ولا تغيير كلمة من كلمه" تفسير لما قبله بجعل كلام الله نورًا، "ولا تشكيك المسلمين في حرف من حروفه" فضلا عن كلمة فهو ترق "قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} أي يتطرق إليه "من بين يديه ولا من خلفه" أي: من جهة الجهات "الآية، وكتابه يشتمل على ما اشتملت عليه جميع الكتب" الإلهية وزيادة، روى البيهقي عن الحسن: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، أودع علومها أربعة كتب: التوراة، والإنجيل، والزبور والفرقان، وأودع علوم التوراة، والإنجيل، والزبور في الفرقان، "جامعًا" كل شيء، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَْءٍ} [النحل: 89] الآية. روى ابن جرير وغيره عن ابن مسعود: من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خير الأولين والآخرين، وأنزل فيه كل علم، وبين لنا فيه كل شيء، لكن علمنا يقصر عما بين فيه، كجمعه لأخبار القرون السالفة" أي الماضية "والأمم البائدة" الذاهبة المنقطعة؛ كما في القاموس، فهو مساوٍ لما قبله وما بعده، أو الهالكة على ما في المصباح، فهو مباين لما قبله مفهومًا، وإن اتحدا ما صدقا، "والشرائع الدائرة" بمهملة، ومثلثة من دثر إذا ذهب ولم يبق له أثر، وفي تعبيره نوع من البلاغة يسمى التفنن، لأن الثلاثة متغايرة اللفظ، متقاربة المعاني، وهذا لفظ الشفاء في الوجه الرابع من إعجاز القرآن، ثم المراد التي دثرت وذهبت أهاليها، إذ الأحكام باقية لم تدثر، فهو مجاز، وإليه يشير قوله: "مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ" الفرد الواحد "من أحبار" علماء "أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك" فيورده النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه، ويأتي به على نعته، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه؛ وأن مثله لم ينله بتعليم، قال عياض؛ وذلك لكبر كتبهم وعدم تقييد الأخبار بجملتها حتى قبل التوراة ستون سفرًا متفرقة بين أحبارهم بيد كل واحد سفر، فإذا وقعت حادثة وسئلوا عنها، قالوا: هذا في سفر فلان، وقال بعضهم: القرآن جامع لنبأ الأولين والآخرين، فعلم الأمم الماضية علم خاص وعلم هذه الأمة علم عام، وعلم أهل الكتاب قليل، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وقرأ ابن عباس: وما أوتوا، وعلم هذه الأمة كثير، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، أنزل إليك الكتاب والحكمة، الكتاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 ويسر حفظه لمتعلميه، وقربه على متحفيه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] ، وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم، فكيف بالجم الغفير على مرور السنين الكثيرة عليهم، والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة. ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف تسهيلا علينا، وتيسيرًا وشرفًا ورحمة وخصوصية لفضلنا.   القرآن، والحكمة فهمه، "ويسر" سهل "حفظه لمتعلميه" عن ظهر قلب، "وقربه" سهل فهمه "على متحفيه" أي: الذين أتحفوا به، أي: سروا بحفظه: وفي نسخة: على متحفظيه، أي: قرب تحصيله على المتحفظ، أي: المتمسك به، الخائف ذهابه منه، إذ نسيانه كبيرة، ولا يرد أنه مرفوع عن الأمة، لأن الذنب في التفريط في محفوظه بتعاهده ودرسه. قال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه، فقد علت رتبته، فإذا أخل بهاتيك الرتبة حتى تزحزح عنها، ناسب أن يعاقب، فإن ترك تعاهده يفضي إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد؛ "كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} سهلنا أو هيأنًا {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] الآية" للأذكار والاتعاظ؛ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} متعظ، "وسائر" أي: باقي "الأمم" غير هذه الأمة" لا يحفظ كتبها الواحد منهم" وإذا كان كذلك "فكيف" يتوهم "بالجم الغفير حفظه "على مرور السنين الكثيرة عليهم" وطول أعمالهم، فهو استفهام فيه تعجيب ممن يتوهم أن غير هذه الأمة شاركها في حفظ كتبهم، "والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة" فغالبه يحفظه قبل البلوغ أو كثير منهم، وهو من أعظم النعم. روى البخاري في تاريخه والبيهقي مرفوعًا: "من أعطاه الله تعالى حفظ كتابه، فظن أن أحدًا أعطي أفضل مما أعطي فقط غلط" وفي رواية: "صغر أعظم النعم، لأن قد أوتي النعمة العظمى التي كل نعمة، وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة، فإذا رأى أن غيره ممن لم يعظ ذلك أوتي أفضل مما أوتي فقد صغر عظيمًا" ومن خواصه أنه نزل منجمًا، وأنه مستغن عن غيره؛ وأنه نزل من سبعة أبواب. "ومنها: أنه أنزل على سبعة أحرف" كما في الصحيحين وغيرهما، واختلف في معناه على نحو أربعين قولا، بسطها في الإتقان، أشار المصنف إلى قول منها، فقال: وإنما نزل كذلك "تسهيلا علينا، وتيسيرًا، وشرفًا، ورحمة وخصوصية لفضلنا" فليس المراد حقيقة العدد، بل المراد ما ذكر، لأن سبعة يطلق على إرادة الكثرة في الآحاد، كما يطلق السبعون في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 ومنها: كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا. ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .   العشرات والسبعمائة في المئين، ولإيراد العدد المعين إلى هذا جنح عياض ومن تبعه، ويرده حديث ابن عباس في الصحيحين مرفوعًا: "أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف". وفي حديث أبي عند مسلم: "إن ربي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف، فرددت عليه أن هون على أمتي، فأرسل إليّ أن أقرأه على سبعة أحرف". وفي لفظ عند النسائي: "أن جبريل وميكائيل أتياني، فقعد جبريل على يميني وميكائيل على يساري، فقال جبريل: اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ سبعة أحرف". وفي حديث أبي بكر عند أحمد: "فنظرت إلى ميكائيل، فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدة" فهذا يدل على إرادة حقيقة العدد وانحصاره، وأقرب الأقوال قولان، أحدهما: أن المراد سبع لغات، وعليه أبو عبيدة، وثعلب، والزهري، وآخرون، وصححه ابن عطية، والبيهقي، وتعقب بأن لغات العرب أكثر من سبعة، وأجيب بأن المراد أفصحها، والثاني: أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، نحو: أقبل وتعال، وهلم، وعجل، وأسرع، وعليه سفيان بن عيينة، وابن وهب، وخلائق، ونسبة ابن عبد البر لأكثر العلماء. قال السيوطي: والمختار أن هذا من المتشابه الذي لا يدري معناه، كمتشابه القرآن والحديث، وعليه ابن سعدان النحوي، لأن الحرف يصدق لغة على الهجاء، وعلى الكلمة وعلى المعنى، وعلى الجهة. وفي فتح الباري قال أبو شامة: ظن قوم أن القراءات سبع، الموجودة الآن هي التي أريدت في الحديث، وهو خلاف إجماع أهل العلم قاطبة، وإنما يظن ذلك بعض أهل الجهل، وقال مكي بن أبي طالب: من ظن أن قراءة هؤلاء القراء، كعاصم ونافع هي الأحرف السبعة التي في الحديث، فقط غلط غلطًا عظيمًا، ويلزم من هذا، أن ما خرج عن قراءة هؤلاء السبعة مما ثبت عن الأئمة وغيرهم، ووافق خط المصحف؛ أن لا يكون قرآنًا وهذا غلط عظيم، انتهى. "ومنها: كونه آية باقية لا تعدم" بفتح، فسكون، أي: لا تزول "ما بقيت الدنيا" مدة بقائها إلى قرب قيام الساعة فيرفع، كما في الأحاديث. "ومنها: أنه تعالى تكفل بحفظه" دون غيره، فوكل حفظه إليهم، "فقال تعالى: {إِنَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 أي: من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} ، وقوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . فإن قلت: هذه الآية تنفي الاختلاف فيه، وحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف" المروي في البخاري وغيره عن عمر، يثبته، فأجاب الجعبري في أول شرحه للشاطبية: بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفي ختلاف تناقض، فموردهما مختلف، انتهى. فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف.   نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي: القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الآية، أي: من التحريف والزيادة والنقصان" فلم يقع فيه شيء منها، "ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن" " {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} الآية" أي: ليس قبله كتاب يكذبه ولا بعده، "وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} ، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} الآية، تناقضًا في معانيه وتباينًا في نظمه، "فإن قلت: هذه الآية تنفي الاختلاف فيه، وحديث: "أنزل القرآن على سبعة أحرف"، المروي في البخاري وغيره" كمسلم وأحمد، "عن عمر" وهو متواتر، رواه أحد وعشرون صحابيًا، ونص على تواتره أبو عبيد، وأخرج أبو يعلى أن عثمان قال على المنبر: اذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف"، فقاموا حتى لم يحصوا، فشهدوا بذلك، فقال: وأنا أشهد معهم، "يثبته" أي: الاختلاف، فهذا تناقض، قلت: "أجاب الجعبري" نسبة إلى جعبر، بموحدة، بوزن، جعفر، قلعة على الفرات، "في أول شرحه للشاطبية؛ بأن المثبت اختلاف تغاير، والمنفي اختلاف تناقض" بأن يكون مفهوم أحد المحلين إيجابًا، والآخر سلبًا لذلك الإيجاب، وهذا لا يقع منه شيء في القرآن، "فموردهما مختلف، انتهى" ولا يرد عليه أن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم قرئ برفع عباد ونصبه، فبينما تناف، إذ في الرفع إثبات أنها عباد مملوكون، مسخرون، مقهورون، والنصب نفي كونهم عبيدًا؛ لأن المراد النفي بقيد الصفة، أي: ليسوا مماثلين لكم في العقل والإدراك، بل هي أجسام تنحتونها بأيديكم، "فإن قلت: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف" وكان ابتدءا ذلك على يد أبي بكر بمشورة عمر، فقيض لذلك زيد بن ثابت؛ كما رواه البخاري مطولا، وروى ابن أبي داود بإسناد حسن عن علي: أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر، هو أول من جمع كتاب الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه. فالجواب: كما قال الرازي -إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال: وقال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من كل سورة، لأن الله قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونًا عن التغيير، وإلا لما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لوجب أيضًا أن يظن بهم النقصان. وذلك يوجب الخروج عن كونه حجة.   لكن عنده أيضًا عن علي: لما مات صلى الله عليه وسلم آليت لا آخذ ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن، فجمعه، قال الحافظ: وهذا الأثر ضعيف لانقطاعه وبتقدير صحته، فمراده بجمعه حفظه في صدره، ونازعه السيوطي، بأن له طريقًا آخر عند ابن الضريس، وثالثًا عند ابن أمية، وفيه: أن عليًا كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، وابن سيرين، قال: تطلبته وكتب فيه إلى المدينة فلم أقف عليه، فكان ما جمع في عهد أبي بكر عنده حياته، ثم عند عمر، ثم حفصة بنته حتى قدم حذيفة على عثمان، فقال: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها، ثم نردها إليك، فأرسلتها، فأمر جماعة من الصحابة، فنسخوها في المصاحف، ثم ردها إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق؛ كما في البخاري. "وقد وعد الله تعالى بحفظه، وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه" وكيف قال حذيفة ما ذكروا ووافقه عثمان، "فالجواب كما قال الرازي" الإمام فخر الدين: "إن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم" سببهم "لذلك" ويسره لهم. "قال: وقال أصحابنا" الشافعية: "وفي هذه الآية دلالة قوية على أن البسملة آية من كل سورة؛ لأن الله قد وعد بحفظ القرآن" ولن يخلف الله وعده، "والحفظ لا معنى له إلا أن يبقي مصونًا عن التغيير" بالزيادة والنقص، "وإلا" نقل أنها آية من كل سورة، "لما كان محفوظًا عن الزيادة، ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا" البسملة أول كل سورة، "لوجب أيضًا أن يظن بهم النقصان" إذ لا فرق بينهم عقلا، "وذلك يوجب الخروج عن كونه حجة" ولا قائل بذلك، فثبت أنها قرآن بمنزلة سورة قصيرة للفصل بين السور، ومنهم من قال: ليست آية من الفاتحة، ولا من كل سورة إلا في النمل فقط، لكن يستحب افتتاحه بها في غير الصلاة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 واختلف فيه، كيف يحفظ القرآن؟ فقال بعضهم: حفظه بأن جعله معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه، لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه تغير نظم القرآن، فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن. وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف. وقال آخرون: المراد بحفظه هو أن أحدًا لو حاول أن يغير بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا: إنه كذب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء، من الكتب مثل هذه الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتغيير والتحريف.   كما يستحب ابتداؤه بالاستعاذة إجماعًا ونصًا، فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، والإجماع على أن الاستعاذة ليست منه، فليس في كتب البسملة ما يدل على الدعوى، بل ولا على أنها آية مستقلة. "واختلف فيه كيف يحفظ القرآن" أي: في، أي: صفة حفظه له، "فقال بعضهم: حفظه بأن جعله، معجزًا مباينًا لكلام البشر، يعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان منه؛ لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا منه، تغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن" وهذا حفظ عظيم. "وقال آخرون: أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده؛ بأن قيض" الباء سببية، أي: بتقييض، وفي نسخة: بل قيض ببل الانتقالية "جماعة يحفظونه ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف" ولا تباين بين هذين القولين، فلا مانع من كونهما معًا بيانًا لصفة الحفظ، كالثالث، وهو: "وقال آخرون: المراد بحفظه هو أن أحدًا لو حاول أن يغير بحرف"، أي: بإبدال حرف منه بحرف آخر، "أو نقطة" بأن يزيدها أو ينقصها أو يسقطها؛ "لقال أهل الدنيا إنه كذب، حتى أن الشيخ المهيب" بوزن مبيع "لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم" فضلا عن الرجال: "أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف، والتغيير، والتحريف. "وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف" وحكمة ذلك مع أن الكتب السماوية كلها كلام الله؛ أنها إن غيرت جاء نبي بعده يبين ما غير أو بدل بخلاف القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 وقد صان الله تعالى هذا الكتاب العزيز عن جميع التحريف، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده، وانقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة سنة، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ. ومنها: أنه عليه السلام خص بآية الكرسي.   نزل على خاتم النبيين، فلا نبي بعده يبين التغير لو وقع فيه، "مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة" حريصة ومجتمعة "على إبطاله" أصلا، "وإفساده وانقضى الآن ثمانية وتسعون سنة وثمانمائة، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ" وكذا انقضى ست بعد مائة وألف، وهو كذلك، ولا يزال حتى يرفع. "ومنها: أنه عليه السلام خص بآية الكرسي" يعني: أنها لم تنزل على غيره، روى الديلمي مسلسلا عن أبي أمامة: سمعت عليًا يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله في الإسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآية، وإلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} الآية، فلو تعلمون ما هي أو ما فيها لما تركتموها على حال، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، ولم يؤتها نبي قبلي" قال علي: فما بت ليلة منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرأها، قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من علي، ثم سلسله الباقون. وأخرج أبو عبيد وابن الضريس، عن علي: آية الكرسي أعطيها نبيكم من كنز تحت العرش، ولم يعطها نبي قبل نبيكم، وسميت بذلك لذكر الكرسي فيها، والآية العامة وآية القرآن على تمام الكلام، أو لأنها جماعة من كلمات القرآن، والآية تقال للجماعة، قال بعضهم: والكرسي فيه صور الأشياء كلها فما في الأرض صورة إلا ولها في الكرسي مثل، فما في العرش إقامته، ففي الكرسي أمثلته، وما في السماوات إقامته ففي الأرض صورته، فجمعت هذه الآية تفصيل المفصلات. وقال ابن عربي: قد ثبت في القرآن الأخبار بتفاضل سوره، وإنافة بعضها على بعض في حق القارئ بالنسبة لما لنا فيه من الأجر، وقد ورد: آية الكرسي سيدة آي القرآن؛ لأنه ليس فيه آية ذكر الله فيها بين مضمر وظاهر ستة عشر موضعًا إلا آية الكرسي، قال شيخنا: ليس المراد أن الجلالة واقعة بين المضمر والظاهر، ولا أن المضمر واقع بين شيئين، أحدهما لفظ الجلالة، والآخر اسم ظاهر، بل المراد أن الله ذكر في ستة عشر موضعًا، وتلك المواضع منقسمة إلى كون بعضها مضمرًا وبعضها ظاهرًا، فالظاهر في خمسة، وهي: الله والحي القيوم العلي العظيم، والمضمر أحد عشر هو من لا إله إلا هو، والضمير البارز في لا تأخذه، ثالثها له، رابعها وخامسها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 وبالمفصل وبالمثاني وبالسبع الطوال، كما في حديث ابن عباس بلفظ: "وأعطيت خواتيم سورة البقرة من كنوز العرش، وخصصت به دون الأنبياء   عنده إلا بإذنه، سادسها المستتر في يعلم، سابعها البارز في علمه، ثامنها المستتر في شاء، تاسعها البارز في كرسيه، عاشرها البارز في لا يئوده، حادي عشرها المنفصل في قوله: وهو. وكأنه لم يعتبر الضمائر المستترة في الحي القيوم العلي العظيم؛ لأن المستتر فيه هو الاسم الظاهر، الدال على ذاته، فكأنه هو والضمير عبارة عن معنى واحد. وقال الغزالي: إذا تأملت جملة معاني أسماء الله الحسنى من التوحيد والتقديس، وشرح الصفات العلا، وجدتها مجموعة في آية الكرسي، فلذا ورد أنها سيدة آي القرآن، فإن شهد الله ليس فيها إلا التوحيد، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الآية، ليس فيها إلا التوحيد والتقديس، و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} الآية، ليس فيها إلا الأفعال وكمال القدرة، والفاتحة فيها رمز إلى هذه الصفات بلا شرح، وهي مشروحة في آية الكرسي، ويقرب منها في هذه المعاني آخر الحشر وأول الحديد، إذ تشتمل على أسماء وصفات كثيرة، لكنها آيات لا آية واحدة، وهذه ذا قابلتها بآحاد تلك الآيات وجدتها أجمع للمقاصد، فلذا استحقت السيادة على الآي، انتهى. وفي هذا الحديث: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت"، رواه النسائي وابن حبان، وروي أن من أدمن قراءتها عقب كل صلاة؛ فإنه لا يتولى قبض روحه إلا الله، وخص "بالمفصل" ويسمى المحكم، سمي مفصلا، لأن سوره قصار، كل سورة كفصل من الكلام، وآخره الناس اتفاقًا، وهل أوله الحجرات، أو الجاثية، أو القتال، أو ق، أو الصافات، أو الصف، أقوال أرجحها الأول، "وبالمثاني وبالسبع الطوال" بكسر الطاء جمع طويلة، وأما بضمها، فمفرد كرجل طوال؛ كما في حديث ابن عباس بلفظ: "وأعطيت خواتيم سورة البقرة" من آمن الرسول، وقيل: من لله إلى آخرها، ويدل له ما روى أبو عبيد عن كعب، قال: إن محمدًا أعطي أربع آيات لم يعطها موسى {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 255] الآية، حتى ختم البقرة، فتلك ثلاث، وآية الكرسي "من كنوز العرش"، قال الحافظ العراقي: معناه أنها ادخرت وكنزت له، فلم يؤتها أحد قبله، وكثير من القرآن منزل في الكتب السابقة باللفظ أو المعنى، وإن كان فيه أيضًا ما لم يؤت غيره، لكن في هذه الخصوصية لأمته، وهي وضع الإصر الذي على من قبل، ولذا قال: "وخصصت به دون الأنبياء" أي: بإعطاء ما ذكر من الخواتيم، وقال غيره: الله أعلم ما هذا الكنز، ويجوز كونه كنز اليقين، فهو كنز مخبوء تحت العرش، أخرج منه تعالى ثمانية مثاقيل من نور اليقين، فأعطي منها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 وأعطيت المثاني مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور وفضلت بالمفصل". رواه أبو نعيم في الدلائل.   رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة، وزيد ذخيرة خصوصية للرسالة، فلذا وزن إيمانه بإيمان الخلق فرجح، انتهى وهو غريب. وقد جرى على الأول الطيبي، فقال الكنز: النفائس المدفونة المدخرة، فهو إشارة إلى أنها ادخرت له، فلم تنزل على من قبله، وهو من إدخال الشيء في جنس، وجعله أحد أنواعه على التغليب، فالكنز نوعان متعارف، وهو المال الكثير، يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، وغير متعارف، وهو هذه الآيات الجامعة المكتنزة بالمعاني الإلهية. وروى الطبراني، وأبو الشيخ، والضياء في المختار، عن أبي أمامة، رفعه: "أربع أنزلت من كنز تحت العرش، لم ينزل منه شيء غيرهن: أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، والكوثر". "وأعطيت المثاني مكان التوراة" أي: بدل ما فيها، "والمئين" بفتح الميم عند بعض، وكسرها عند آخر، وهو المناسب للمفرد، وكسر الهمزة، ومثناة تحتية ساكنة، أي: السور التي تلي السبع الطوال، أو التي أولها ما يلي الكهف، لزيادة كل منها على مائة آية، أو تقاربها أو التي فيها القصص، وقيل غير ذلك، "مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل" أي: صيرت أفضل، أي: أزيد من غيري بما أنزل عليّ منه، "رواه أبو نعيم في الدلائل" ويعارضه ما روى أحمد، والبيهقي، والطبراني عن واثلة مرفوعًا: "أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين, وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بامفصل". وروى محمد بن نصر عن أنس مرفوعًا: "إن الله أعطاني السبع مكان التوراة، وأعطاني الراءات مكان الإنجيل، وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل، ما قرأهن نبي قبلي" وهذا مخالف لحديثي ابن عباس وواثلة معًا من وجهين، أحدهما: في المعطى مكان تلك الكتب، والثاني: صريحة أن الحواميم والمفصل مما أعطي، لا في مقابلة شيء، وصريح حديث ابن عباس، أن الحواميم مكان الزبور، فليطلب الجمع أو الترجيح. وروى الحاكم عن معقل بن يسار مرفوعًا: "أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه، والطواسين، والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، وتحت العرش، والمفصل نافلة" والطول في حديث واثلة، بضم الطاء، وفتح الواو، كما ضبطه السيوطي بالقلم، وفي النهاية الطول، بالضم، وفي القاموس السبع الطوال كصرد والذكر الأول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] ، وفي البخاري من حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم" سائره.   الصحف العشرة، والكتب الثلاثة، قال الكلابادي. "وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} الآية، بيان لسبعًا من التثنية أو الثناء، فإنه مثنى، تكرر قراءته وألفاظه، أو قصصه ومواعظه، أو مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز، ومثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى وأسمائه الحسنى، {الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عطف كل على بعض، أو عطف عام على خاص، وفي المثاني تفاسير ذكر بعضها مقدمًا أرجحها، فقال: "وفي البخاري" في تفسير سورة الحجر من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أم القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم" وفي رواية الترمذي: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب، والسبع المثاني". قال الخطابي: وفي الحديث رد على ابن سيرين، حيث قال: لا يقال للفاتحة أم القرآن، وإنما يقال لها فاتحة الكتاب، ويقول أم الكتاب هو في اللوح المحفوظ، قال: وأم الشيء أصله، وسميت أم القرآن، لأنها أصل القرآن، وقيل: لأنها متقدمة، لأنها تؤمه "سائره" كذا وقع في النسخ. وليست في البخاري ولا غيره، فسقط من المصنف لفظ، أي: التفسيرية، إشارة إلى أنه محذوف الخبر؛ كما قال الحافظ والقرآن، العظيم، عطف على أم القرآن مبتدأ خبره محوف، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: والقرآن العظيم ما عداها، وليس عطفًا على السبع المثاني؛ لأن الفاتحة ليست هي القرآن العظيم، وإن جاز إطلاقه عليها، لأنها منه لكن ليست كله، ثم وجدت الحديث في تفسير ابن أبي حاتم عن أبي هريرة بلفظ: "القرآن العظيم الذي أعطيتموه"، أي هو الذي أعطيتموه، فيكون هذا هو الخبر، وقد روى الطبراني بإسنادين جيدين عن عمر، ثم عن علي السبع المثاني: فاتحة الكتاب، زاد عن عمر: تثنى في كل ركعة، وبإسناد حسن عن ابن عباس: "وقد آتيناك سبعًا من المثاني هي فاتحة الكتاب"، انتهى. وقال التوربشتي: إن قيل كيف صح عطف القرآن على السبع المثاني: وعطف الشيء على نفسه لا يجوز، قلنا: ليس كذلك وإنما هو من باب ذكر الشيء بوصفين، أحدهما معطوف على الآخر، والتقدير: آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين. وقال الطيبي: عطف القرآن على السبع المثاني؛ المراد منه الفاتحة من باب عطف العام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 واختلفوا: لم سميت مثاني، فعن الحسن وابن عباس وقتادة لأنها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كل صلاة، وقيل لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين، نصفها ثناء ونصفها دعاء، كما في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين".   على الخاص، تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وإليه أومأ صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي سعيد بن المعلى: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن" حيث نكر سورة وأفردها ليدل على أنك إذا تقصيت سورة سورة وجدتها أعظم منها، ونظيره في النسق، ولكن من عطف الخاص على العام؛ من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل، انتهى، وهو معنى كلام الخطابي. قال الحافظ: وفيه بحث لاحتمال أن قوله: "والقرآن العظيم"، محذوف الخبر والتقدير ما بعد الفاتحة مثلا، فيكون وصف الفاتحة بقوله المثاني، ثم عطف والقرآن العظيم، أي: ما زاد على الفاتحة، وذكر ذلك رعاية لنظم الآية، فيكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيته زيادة على الفاتحة، قال: وعلى هذا، فالمراد بالسبع الآي؛ لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع، لكن جاء عن حسين بن علي الجعفي أنها ست آيات، لأنه لم يعد البسملة، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان آيات؛ لأنه عدها، وعد أنعمت عليهم، وقيل: ما بعدها، وعد إياك نعبد، وهذا أغرب الأقوال، انتهى. "واختلفوا: لم سميت" الفاتة "مثاني؟ فعن الحسن" البصري، "وابن عباس" عبد الله، "وقتادة" بن دعامة: "لأنها تثنى"، أي: تكرر "في الصلاة، فتقرأ في كل صلاة": من ثنيت الشيء بالتثقيل، جعلته اثنين، لكن ليس المراد خصوص الاثنين، بل مطلق التكرير، كما أن المراد قراءتها في جميع الصلوات حتى الركعة كالوتر، ويدل له قول عمر عند ابن جرير: لأنها تثنى في كل ركعة، أي: تقرأ. "وقيل: لأنها مقسومة بين الله وبين العبد نصفين" باعتبار المعنى لا اللفظ، لأن نصف الدعاء من قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الآية، يزيد على نصف الثناء، أو المراد قسمين، والنصف قد يراد به أحد قسمي الشيء، إن كان بينهما تفاوت "نصفها ثناء" على الله وعبادة له، "ونصفها دعاء" طلب منه تعالى ليثني العبد على ربه، ثم يدعوه فيجيب دعاءه؛ "كما في حديث أبي هريرة" عند مالك ومسلم، وأحمد، وأبي يعلى، عنه صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة" أي: قراءتها بدليل تفسيره بها، قال المنذري. أو يعني الفاتحة، سميت صلاة لأنها لا تصح إلا بها؛ كقوله: "الحج عرفة" وقيل: من أسماء الفاتحة الصلاة، فهي المعنية في الحديث. "بيني وبين عبدي نصفين. ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 وقيل: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها لهذه الأمة، فما أعطاها غيرهم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة وآخرها سورة الأنفال مع التوبة، وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأ   الْعَالَمِينَ} ، قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"، هذا بقية الحديث عندهم. قال الحافظ: لم يخرجه البخاري، لأنه ليس على شرطه، ولكن أشار إليه فيه، "وقيل: لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة" حكاه قوم؛ لأنه قد يتكرر النزول للتذكير، أو موعظة، أو تعظيم شأنه، لكن في فتح الباري يستنبط من تفسير السبع المثاني بالفاتحة؛ أنها مكية، وهو قول الجمهور خلافًا لمجاهد، ووجه الدلالة، أنه سبحانه امتن على رسوله بها، وسورة الحجر مكية اتفاقًا، فيدل لى تقدم نزول الفاتحة عليها. قال الحسين بن الفضل: هذه هفوة من مجاهد؛ لأن العلماء على خلاف، قوله: وأغرب بعض المتأخرين، فنسب القول بذلك لأبي هريرة، والزهري, وعطاء بن يسار، وحكى القرطبي أن بعضهم زعم أنها نزلت مرتين، انتهى. "وعن مجاهد: لأن الله استثناها وادخرها" بدال مهملة، وقد تعجم: أعدها "لهذه الأمة" عطف تفسير، "فما أعطاها غيرهم" روى البيهقي وغيره عن أنس، رفعه: "إن الله أعطاني فيما من علي، أن قال: إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين". "وعن سعيد بن جبير، عن ابن عباس" فيما رواه النسائي، والطبري، والحاكم، بإسناد صحيح: "أن السبع المثاني هي السبع الطوال، أولها سورة البقرة، وآخرها سورة الأنفال مع التوبة" لأنهما في حكم سورة واحدة، ولذا لم يفصل بينهما بالبسملة، وفي لفظ للطبري: البقرة, وآل عمران, والنساء، والمائدة، والأنعام, والأعراف، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، "وقال بعضهم: سورة يونس بدل الأنفال" مع التوبة، قال الحافظ: رواه ابن أبي حاتم صحيحًا عن مجاهد وسعيد بن جبير، وعند الحاكم: أنها الكهف، وزاد: قيل له: ما المثاني؟ قال: تثنى فيهن القصص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر تثنت فيها. وقال طاوس: القرآن كله مثاني، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، وسمي القرآن مثاني لأن القصص تثنت فيه والله أعلم. ومنها: أنه أعطي مفاتيح الخزائن.   "قال ابن عباس: وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأن الفرائض، والحدود، والأمثال والعبر تثنت" تعددت وتكررت "فيها" وهذا قول مشهور أيضًا في تفسير المثاني وإن رجح الأول، وقد أخرج الطبري من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: السبع المثاني فاتحة الكتاب. قلت للربيع: إنهم يقولون: إنها السبع الطوال، قال: لقد أنزلت هذه الآية، وما نزل من الطوال شيء، وروى الطبري أيضًا عن زيادة بن أبي مريم، قال في {لَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} ، قال: مر وانه، وبشر وأنذر، واضرب الأمثال، واعدد النعم والإيتاء، وحكي في الشفاء: أنها السبع كرامات: الهدى والنبوة، والرحمة والشفاعة، والولاية والتعظيم، والسكينة، ورجح ابن جرير الأول، أي: الفاتحة لصحة الخبر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. "وقال طاوس: القرآن كله مثاني، قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا} الآية يدل من أحسن، أي: قرءانًا {مُتَشَابِهًا} أي: يشبه بعضه بعضًا في النظم، وغيره {مَثَانِي} ، وسمي القرآن مثاني؛ لأن القصص تثنت فيه" ولأنه ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرما. وفي البيضاوي: وقيل سبع صحائف، وهي الإسباع، ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن، أو كتب الله كلها، فتكون من للتبعيض، والقرآن العظيم إن أريد السبع آيات أو السور، فمن عطف الكل على البعض، أو العام على الخاص، وإن أريد الإسباع، فمن عطف أحد الوصفين على الآخر، "والله أعلم" بما أراد. "ومنها: أنه أعطي مفاتيح الخزائن" أي خزائن الأرض، كما رواه البخاري وغيره، وأخرج أحمد، وابن حبان، والضياء برجال الصحيح عن جابر، مرفوعًا: "أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق، جاءني به جبريل، عليه قطيفة من سندس"، وفي رواية إسرافيل، ولا تنافي، لأنه إن تعدد المجيء، وإلا فالآتي جبريل وصحبته إسرائيل، وركوبه الفرس إشارة إلى أنه أوتي العز، وإلى إعزاز دينه، ولم يكن لونًا واحدًا إشارة إلى استيلاء أمته على خزائن جميع الملوك من أحمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 قال بعضهم: هي خزائن أجناس العالم ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم، فكل ما ظهر من رزق العالم فإن الاسم الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم الذي بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأعطي هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن. ومنها: أنه أوتي جوامع الكلم.   وأبيض وأسود، على اختلاف ألوانها وأشكالها، إذ الأبلق ما خالط لونه بياضًا وسوادًا، ثم يحتمل أنها حيزوم فرس جبريل الذي ما خالط موطئ حافره مواتًا إلا صار حيوانًا، ويحتمل غيرها، والخزائن: جمع خزانة ما يخزن فيه، والمال مخزون عند أهل البلاد قبل فتحها، فهو استعارة تصريحة بفتح البلاد. "قال بعضهم: هي خزائن أجناس" جمع جنس "العالم" مفرد عوالم، فاللام عوض عن المضاف إليه، أي: خزائن العالم السفلي بأسره؛ "ليخرج لهم بقدر ما يطلبونه لذواتهم" سواء تعلق بنفس الذوات، أو بمتعلقاتها، كالمواشي والزراعات، وهذا وجه في تقرير الاستعارة في إعطاء مفاتيح الخزائن، "فكل ما ظهر من رزق العالم، فإن الاسم الإلهي لا يعطيه إلا عن محمد صلى الله عليه وسلم" أي: فكان من يوصله إلى العالم، كالوكيل في إعطائه لهم نيابة عنه؛ لأنه حقه "الذي بيده المفاتيح، كما اختص تعالى بمفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو، وأعطي هذا السيد الكريم منزلة الاختصاص بإعطائه مفاتيح الخزائن" فلا يخرج منها شيء إلا على يديه. قال الزمخشري: المراد بالخزائن: المعان أو البلاد التي فيها ذلك، أو البلاد التي فتحت لأمته بعده؛ التي منها خزائن كسرى وقيصر، إذ الغالب على نقود خزائن كسرى الدنانير، وعلى قود ممالك قيصر الدراهم، وأشار في الكشاف إلى أن هذا، وما أشبهه من قبيل التمثيل والاستعارة، قال في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} الآية، ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى، وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور. "ومنها: أنه أوتي جوامع الكلم" أي: الكلم، الجوامع لمعان كثيرة بألفاظ قليلة، قال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت جوامع الكلم واختصر.لي الكلام اختصارًا" رواه البيهقي، وأبو يعلى، والدارقطني، يعني: أعطيت البلاغة والفصاحة، والتوصل إلى غوامض المعاني، وبدائع الحكم، ومحاسن العبارات، بلفظ موجز لطيف، وقيل: المراد بها القرآن، سمي به لإيجازه واحتواء لفظه القليل على المعنى الكثير، واشتماله على ما في الكتب السماوية، وجمعه ما فيها من العلوم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 فالكلم جمع كلمة، وكلمات الله لا تنفذ، فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطي الإعجاز بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى، وهو المترجم عن الله تعالى. فوقع الإعجاز في الترجمة التي هي له، فإن المعاني المجردة عن المواد لا يتصور الإعجاز بها، وإنما الإعجاز ربط هذه المعاني بصور الكلم القائم من نظم الحروف، فهو لسان الحق وسمعه وبصره. ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة، قال بعضهم: وهو من الكفت، وهو الضم،   وقال صلى الله عليه وسلم: "أعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه"، رواه الطبراني وغيره، "فالكلم جمع كلمة" في أحد الأقوال، وقيل: اسم جمع، وقيل: اسم جنس إفرادي يطلق على القليل والكثير، لكن خصه الاستعمال بالثلاثة فما فوق، والمختار أنه اسم جنس جمعي، يجوز في ضميره التذكير على الأصل، وهو الأكثر، نحو: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} الآية، والتأنيث ملاحظة للجمعية. "وكلمات الله لا تنفذ" بفتح التاء والفاء، كما في التنزيل لا تفنى ولا تنقطع، وكأنه جعل هذا جواب سؤال، هو: هل تنحصر جوامع كلمة؟ فأجاب: لا تحصر، بل متى أرادها قدر عليها، لأنها من كلمات، الله ولا تنفد؛ "فالكلمة منه كلمات، ولما علم جوامع الكلم أعطي الإعجاز بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى، وهو" أي: القرآن "المترجم" المبين، الكاشف "عن" الصفة القديمة، القائمة بذات "الله" حيث دل عليه، فتسميته مترجمًا، مجاز، علاقته المشابهة، فالترجمة تفسير كلام الغير بلسان آخر، ويحتمل أن ضمير هو للنبي صلى الله عليه وسلم، والظاهر الأول؛ لقوله: "فوقع الإعجاز" ذ هو إنما وقع في القرآن "في الترجمة التي هي له" أي: في الكلمات التي وقع التعبير بها على المعاني القائمة بذاته, حيث وقعت على أسلوب يعجز البشر عن الإتيان بمثله، "فإن المعاني المجردة عن المواد" جمع مادة، أي: الألفاظ التي تؤدي بها المعاني، إذ مادتها الألفاظ، لأنها قوالب المعاني، كأنها صبت فيها كالقالب "لا يتصور الإعجاز بها، وإنما الإعجاز ربط هذه المعاني بصور الكلم القائم من نظم الحروف" وهذا تعليل لكون الإعجاز بالكلمات المعبر بها عن المعاني، لا بالمعاني أنفسها، "فهو" أي القرآن "لسان الحق" لأنه المبين للمعاني القائمة به، المعبر عنها بالكلمات، "وسمعه وبصره" لأنه المبين للمسموعات والمبصرات. "ومنها: أنه بعث إلى الناس كافة" أي: كلهم، ولا تقل الكافة، لأنها تدخل أل، ووهم الجوهري، فأدخل أل؛ كما في القاموس. "قال بعضهم: وهو" مأخوذ "من الكفت، وهو الضم" للمناسبة بينهما، والكفت يتعدى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] ، أي: تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، كذلك ضمت شريعته صلى الله عليه وسلم جميع الناس، فلا يسمع به أحد إلا لزمه الإيمان به، ولما سمع الجن القرآن يتلى قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فضمت شريعته الإنس والجن، وعمت رحمته التي أرسل بها للعالم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فمن لم تنله رحمته فما ذاك من جهته، وإنما ذلك من جهة القابل. فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه.   بنفسه، وبإلى، قال المجد: كفته يكفته، صرفه عن وجهه فانكفت، والشيء إليه ضمه وقبضه ككفته. "قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} الآية، أي: تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها" فكفاتًا بمعنى كافتة اسم لما يكفت، أي: يضم ويجمع؛ كما في البيضاوي: قال: أو مصدر نعت به، أو جمع كافت، كصائم وصيام، أو كفت، وهو الوعاء أجري على الأرض، أي: أطلق عليها باعتبار أقطارها، انتهى، فعلى الأخيرين أطلق كفاتًا على الأض من حيث جعل كل جزء منها كافتًا، أي: جامعًا لما يحتوي عليه، "كذلك ضمت شريعته صلى الله عليه وسلم جميع الناس، فلا يسمع به أحد" عاقل، "إلا لزمه الإيمان به" لظهور المعجزات القطعية على يده، الدالة على حقية ما جاء به، وشمل أحد الإنس والجن، ولذا رتب عليه قوله: ومن ثم "لما سمع الجن القرآن يتلى، قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، " {وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فضمت شريعته الإنس والجن" إجماعًا، كما يأتي قريبًا بأدلته، "وعمت رحمته التي أرسل بها العالم" ودليله أنه "قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] الآية" لأن ما بعثت به سبب لإسعادهم، وموجب لصلاح معاشهم ومعادهم، ورحم الله به الخلق مؤمنهم وكافرهم بالأمن من الخسف والمسخ وعذاب الاستئصال، ومنافقهم بالأمن من القتل وتأخير العذاب. قال ابن عطية: ويحتمل أن معناه أنه هو رحمة وهدى بين أخذ به من أخذ، وأعرض عنه من أعرض، انتهى، وإليه أشار بقوله: "فمن لم تنله رحمته" من الكفار فلم يؤمن به، "فما ذاك من جهته" صلى الله عليه وسلم، "وإنما ذلك من جهة القابل" حيث طبع الله على قلوبهم، واستحبوا الكفر على الإيمان، أنهما كافي التقليد، وإعراضًا عن النظر الصحيح، فلا ينفذ في قلوبهم الحق، وأسماعهم تنفر منه، ولا يجتلي لأبصارهم الآيات المنصوبة في الآفاق، "فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 على الأرض، فمن استتر عنه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع، انتهى. فإن قلت: إن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء في حديث جابر وغيره: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود". وفي رواية: "إلى الناس كافة". أجاب الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى: بأن هذا العموم الذي حصل لنوح عليه الصلاة لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك.   على الأرض، فمن استتر عنه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه، وعدل عنه، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع" عن فيض شعاعها، "انتهى" كلام بعضهم. "فإن قلت" يرد على أن بعثه إلى كافة الناس من خصائصه؛ "إن نوحًا كان مبعوثًا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، فإنه لم يبق إلا من كان مؤمنًا معه، وقد كان مرسلا إليه، وقد جاء في حديث جابر" في الصحيحين "وغيره" النص على الخصوصية في قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" ... الحديث، وفيه: "وكان النبي يبعث إلى قومه" المبعوث إليهم "خاصة، وبعثت إلى كل أحمر" وهم العجم أو الإنس، "وأسود" العرب أو الجن، وهذه رواية مسلم. "وفي رواية" للبخاري: "وبعثت إلى الناس كافة" وفي رواية له أيضًا: "عامة"، وهما بمعنى، فظاهر الحديث أن كل واحدة من الخمس لم تكن لأحد قبله. "أجاب الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى" في فتح الباري في التيمم: "بأن هذا العموم الذي حصل لنوح عليه السلام لم يكن في أصل بعثته وإنما" هو اتفاقي "اتفق بالحادث الذي وقع" وبينه، فقال: "وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس" بالغرق؛ كما في القرآن والقصة مبسوطة في التفاسير وغيرها. "وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك" قال في الفتح: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 وأما قول أهل الموقف لنوح -كما صح في حديث الشفاعة- أنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادًا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم. واستدل بعضهم لعموم بعثته: بكونه دعا على جميع من في الأرض فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، وقد ثبت أنه أول الرسل. وأجيب: بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح.   وغفل الداودي الشارح غفلة عظيمة، فقال: قوله: "لم يعطهن أحد قبلي"، يعني: لم تجتمع لأحد قبله، لأن نوحًا بعث إلى الناس كافة. وأما لأربع فلم يعط أحد واحدة منهن، وكأنه نظر في أول الحديث، وغفل عن آخر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نص على خصوصيته بهذه أيضًا بقوله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه خاصة"، وفي رواية: "وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة". "وأما قول أهل الموقف لنوح، كما صح في حديث الشفاعة" عند الشيخين: "أنه أول رسول إلى أهل الأرض، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله" إلى من انحصر فيهم الوجود بعد الطوفان؛ فالأولية منصبة على الإرسال، فلا يلزم منه العموم، وأورد هذا آدم وإدريس على أنه كان قبل نوح، فإن حديث ابن حبان دل على أنهما رسولان، وأجيب: بأن المراد أول رسول بعث إلى الأرض بالإهلاك وإنذار قومه؛ لأن رسالة آدم كانت بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، لأنهم لم يكونوا كفارًا، وكذا رسالة إدريس. "وعلى تقدير أن يكون مرادًا، فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى" أي ذكره "في عدة آيات؛ على أن إرسال نوح كان إلى قومه"؛ كقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} الآية، "ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم"؛ كما قال لنبينا {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} ، {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الآية، "واستدل بعضهم لعموم بعثته، بكونه دعا على جميع من في الأرض" بقوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} الآية، "فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة" لإيمانهم، "ولو لم يكن مبعوثًا إليهم لما أهلكوا؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية "وقد ثبت أنه أول الرسل، وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح" لأنه كان في الزمن الأول إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه وغيرهم. فأجيب: وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره. ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته، انتهى. وأما قول بعض اليهود: إن نبينا محمد صلى الله علي وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد. والدليل عليه أنهم -أي اليهود- سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، فوجب أن يكون كل ما يقوله.   بعث نبي إلى قومه بعث غيره إلى آخرين، وكان يجمع في الزمن جماعة من الرسل؛ كما قاله ابن الجوزي، فمن جاء من الرسل بشريعة إلى قومه، وجب عليهم العمل بها دون غيرها من الشرائع، وإن بلغتهم عن أصحابها، "وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن به من قومه وغيرهم، فأجيب" دعاؤه بإهلاك الجميع بالطوفان، "وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره" فضلا عن كونه أرسل، "ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية" بضم الخاء المعجمة، وتفتح؛ كما في القاموس، وفي المصباح، بالفتح والضم، لغة "لنبينا صلى الله عليه وسلم" أي: جعلها له دون غيره "في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره، بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده" فينسخ بعض شريعته، انتهى" ما نقله عن الحافظ، وترك بقيته، وهو: ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك، فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسير سورة هود، قال: وغير ممكن أن نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته. ووجهه ابن دقيق العيد؛ بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عامًا في حق الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عامًا، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازمًا لهم لم يقاتلهم، ويحتمل أن لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا وقوم نوح، فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم، انتهى. "وأما قول بعض اليهود: أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة، ففاسد، والدليل عليه" أي: على فساده، وفي نسخة: عليهم, أي: الحجة الرادة عليهم "أنهم، أي: اليهود سلموا أنه رسول صادق إلى العرب، صلة رسول، "فوجب أن يكون كل ما يقوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 حقًا، وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم. ومنها: نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر، والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع، لعموم رعبه في قلوب أعدائه، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ليتميز السعيد من الشقي.   حقًا، لاستحالة الكذب على الرسول. "وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل الناس، فلو كذبوه فيه لزم التناقض، أشار إليه صاحب المعالم" أي: معالم السنن، شرح أبي داود للخطابي، مرت ترجمته. "ومنها: نصره صلى الله عليه وسلم بالرعب" بالضم الخوف؛ كما قال: "نصرت بالرعب، يقذف في قلوب أعدائي "مسيرة شهر" كما رواه جابر، وأبو أمامة وغيرهما، ولا ينافيه رواية ابن عباس عند الطبراني مسيرة شهرين؛ لحمله على ما إذا كان العدو أمامه وخلفه، فيصدق أنه مسيرة شهرين، ويدل له رواية السائب بن يزيد في الطبراني أيضًا مرفوعًا: "ونصرت بالرعب شهرًا أمامي وشهرًا خلفي". قال الشامي: فيه أن العدو الواحد لا يكون في وجهين بعيدين، وإنما يكون أمامه أو خلفه، فهو يرعب، ولو لم يقابله، فأطلق الشهر باعتبار إحدى الجهتين، وكذا لو كانا عدوين في جهتين أمامه، وخلفه، فالشهر نهاية مسافة الخوف، ولم أر من نبه على هذا، وهو بديع. "والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط، فهو أسرع قاطع" حيث قطعها في شهر، فالرعب المقذوف في قلوب أعدائه، أسرع قاطع، لهم عن معاداته؛ "لعموم رعبه في قلوب أعدائه، فلا يقبل" بموحدة "الرعب" قبول تأثير ينتقل به من الكفر إلى الإيمان "إلا عدو مقصود" هدايته، فأثر بقلبه حتى آمن، ولم يقصد هدايته، وإن رعب، لكن لم يتأثر قلبه تأثيرًا يوجب له الإيمان، بل يؤثر ما يوجب سعيه في جمع الجيوش وإهلاك الأموال في حربه؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية، وإنما كان كذلك "ليتميز السعيد من الشقي" ومن ذلك ما للطبراني بسند حسن عن معاوية بن حيدة القشيري، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دفعت إليه، قال: "أما أني سألت الله أن يعينني بالسنة، تحفيكم وبالرعب في قلوبكم" فقال: بيديه جميعًا أما أني قد حلفت هكذا وهكذا أن لا أؤمن بك فما زالت السنة تحفيني، وما زال الرعب يجعل في قلبي حتى قمت بين يديك، والسنة، بفتح السين المهملة، والنون الخفيفة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 ومفهوم هذا: أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة، ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: "ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر". فالظاهر اختصاصه به مطلقًا. وإنما جعل الغاية شهرًا، لأنه لم يكن بين بلده عليه الصلاة والسلام وبين أعدائه أكثر من شهر وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى ولو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال. ومنها: إحلال الغنائم ولم تحل لأحد قبله. وكان.   الجدب، وتحفيكم، بضم الفوقية، وسكون المهملة، وفاء تحتية: تستأصلكم وتبالغ في إهلاككم. "ومفهوم هذا"، كما في الفتح: "أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة" أي: الشهر، "ولا في أكثر منها" بالأولى، "أما ما دونها فلا" يختص به، بل يكون لغيره؛ "لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب" عن أبيه، عن جده: "ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر". "فالظاهر" من الإغياء بلو "اختصاصه به مطلقًا". قال الحافظ: وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب، بل هو وما ينشأ عنه من الظفر بالعدو، "وإنما جعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين بلده عليه الصلاة والسلام" المدينة، "وبين أعدائه أكثر من شهر" في جميع الجهات، "وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر" ولا يشكل الاختصاص بخوف الجن وغيرهم من سليمان، لأن المراد على الوجه المخصوص الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم من عدم العلم بالتسخير، بل بمجرد الشجاعة والإقدام البشري. وأما سليمان عليه السلام، فكل أحد علم أن له قوة التسخير، "وهل هي حاصلة لأمته من بعده، فيه احتمال" إلى هنا كلام الفتح، وأصل الاحتمال حديث أحمد: "والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا" قال بعض: الأشهر أنهم رزقوا منه حظًا وافرًا، لكن ذكر ابن جماعة أن في رواية أنهم مثله. "ومنها: إحلال الغنائم" له ولأمته، "ولم تحل لأحد قبله"، كما في حديث جابر في الصحيحين وغيرهما: "وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي" وقدم المصنف الحديث تامًا في ابتداء الخصائص واستأنف في جواب سؤال ماذا كان يعل فيها من قبله؟ فقال: "وكان" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 من تقدم على ضربين، منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. قال بعضهم: أعطي صلى الله عليه وسلم ما يوافق شهوة أمته، لأن النفوس لها التذاذ بها، لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة، فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوه من الشدة والتعب. ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا.   كما نقله الحافظ عن الخطابي، "من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد، فلم تكن له مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه" أي: يتصرفوا فيه، وخص الأكل، لأنه أقوى طرق الانتفاع، "وجاءت نار فأحرقته" إلا الذرية، كما استثناها الحافظ، والمراد بها نساء الكفار وصبيانهم وأرقاؤهم ومجانينهم، وقضية ذلك أنها كانت تحرق الحيوانات، ومجيء النار إذا لم يكن فيها غلول ولا خيانة، وإلا بقيت حتى تذريها الرياح؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين: "غزا نبي من الأنبياء" ... الحديث، وفيه: "فجمع الغنائم، فجاءت النار لتأكلها، فلم تطعمها، فقال: إن فيكم غلولا" , إلى أن قال: "فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى عجزنا وضعفنا، فأحلها لنا". زاد الحافظ: وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة بصرفها حيث شاء، والأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا. "قال بعضهم" استئناف بياني، كأنه قيل: ما حكمة ذلك؟ فأجاب بأنه "أعطي صلى الله عليه وسم ما يوافق شهوة أمته؛ لأن النفوس لها التذاذ بها" يعني أن إحلالها له ولأمته، وإن كان تعظيمًا له وإكرامًا، ليس إلى الدنيا، ولا لرغبته فيها لنفسه، بل ذلك توسعة على أمته لاحتياجهم إليها ورغبتهم فيها؛ "لكونها حصلت لهم عن غير قهر منهم لتحصيلها وغلبة" بفتح الغين، أي: قهر، "فلا يريدون أن يفوتهم التنعم بها في مقابلة ما قاسوه" صلة التنعم، أي: يريدون التنعم في نظير ما قاسوه "من الشدة" بالكسر اسم من الاشتداد، "والتعب" عطف لازم على ملزوم، ثم لا يرد على ذلك؛ أن المراد بالغنيمة ما يشمل الفيء، لأن كلا منهما إذا انفرد عم الآخر، والفيء لا يشترط حصوله عن قهر وغلبة، بل يشمل ما انجلوا عنه بلا قتال، وما أهدوه والحرب قائمة وغير ذلك؛ لأن ذلك كله يصدق عليه أنه عن قهر في الجملة، إذ لولا خوفهم ما أهدوا وما جلوا عن شيء يتعلق بهم. "ومنها: جعل الأرض له ولأمته مسجدًا وطهورًا" بفتح الطاء على المشهور؛ كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 والمراد: موضع سجود، أي: لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها كانت كالمسجد في ذلك. وقيل المراد: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا ولم تجعل له طهورًا، لأن عيسر كان يسيح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، قاله ابن التين ومن قبله الداودي. وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة فأبيح لهم في جميع الأرض، إلا فيما تيقنوا نجاسته.   قال صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث كان"، رواه الشيخان وغيرهما عن جابر، وقدمه المصنف تامًا في مبدأ الخصائص، فعجيب قول الشارح لم يذكر المصنف الحديث الدال لهذه ولحل الغنائم، ولكن آفة العلم النسيان. "والمراد: موضع سجود" تباح الصلاة فيه، حيث لا مانع كنجاسة، فأطلق السجود على الصلاة، مجازًا من تسمية الكل باسم الجزء، "أي: لا يختص السجود منها، بموضع دون غيره" بل يشمل كل مكان، "ويمكن أن يكون" المسجد "مجازًا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه" أي: شبه الموضع الذي جاز فيه السجود، ولو في صحراء بالبيت المهيأ للصلاة، وأطلق عليه اسمه، وهو المسجد؛ "لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك" فيكون استعارة تصريحية، أو أنه قصد تشبيهه به بتقدير الأداة، وكأنه قيل: الموضع الذي يباح فيه السجود، كالبيت المهيأ للصلاة في جوازها فيه، لكن هذا الثاني لا يطابق قوله، وهو من مجاز التشبيه. "وقيل: المراد" ليس هذا مقابلا لما قبله، إذ الأول بيان لمدلول اللفظ، وهذا في جهة الخصوصية، ولفظ الفتح الذي نقل عنه المصنف ظاهر؛ لأنه ليس فيه هذه الواو وعبارته. قال ابن التين: قيل المراد "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وجعلت لغيري مسجدًا، ولم تجعل له طهورًا، لأن عيسى كان يسيح في الأرض ويصلي حيث أدركته الصلاة" فالخصوصية لنا الجمع بين جواز الصلاة في أي محل، وبين كون الصعيد طهورًا والمسجد شورك فيه على ما "قاله" عبد الواحد "ابن التين، ومن قبله" أحمد بن نصر "الداودي" كلاهما في شرح البخاري، وسبقهما ابن بطال لذلك، ولم يبنوا على هذا حكم أمة عيسى في صلاتهم، لكن الأصل أن ما شرع لنبي شرع لأمته. "وقيل: إنما أبيح لهم في موضع يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة، فأبيح لهم في جميع الأرض؛ إلا فيما تيقنوا نجاسته" فالخصوصية على هذا جواز الصلاة في مظنون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 والأظهر: ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة نحو البيع والصوامع ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم" وهذا نص في موضع النزاع فتثبت الخصوصية، ويؤيده ما رواه البزار من حديث ابن عباس، نحو حديث جابر وفيه: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، قاله في فتح الباري. ومنها: أن معجزته عليه الصلاة والسلام مستمرة إلى يوم القيامة، ومعجزات   الطهارة، "والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلاة في أماكن مخصوصة نحو البيع" كنائس النصارى "والصوامع" للرهبان، فإن تعذر مجيئهم لها لنحو سفر، لم يصلوا على ظاهره، فيسقط عنهم أداؤها، ويقضون إذا بلغوها. قال بعض شراح الرسالة القيروانية: كان من مضى من الأمم إنما يصلون بالوضوء في مواضع اتخذوها وسموها بيعًا، وكنائس وصوامع، فمن غاب منهم عن موضع صلاته لم يجز له أن يصلي في غيره من بقاع الأرض حتى يعود إليه، ثم يقضي كل ما فاته، وكذا إذا عدم الماء لم يصل حتى يجده، ثم يقضي ما فاته، وخصت اليهود برفع الجنابة بالماء الجاري دون غيره، انتهى، وهو ظاهر الأحاديث المذكورة في قوله: "ويؤيده رواية عمرو بن شعيب" عن أبيه، عن جده، "بلفظ: "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم". وهذا" اللفظ "نص في موضع النزاع" وهو هل الخصوصية بالمسجد أيضًا كالطهارة، "فتثبت الخصوصية" بالمسجد، كما هي ثابتة بالطهارة، "ويؤيده" أيضًا "ما رواه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث جابر" المتقدم قبل عد الخصائص في المتن، "وفيه: ولم يكن أحد من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه" فهاتان الروايتان صريحتان في سقوط الأداء، ويقضون إذا رجعوا؛ كما جزم به بعض، كما رأيت، ويؤيده ظاهر قوله: حتى يبلغ محرابه، فلا اتجاه لما قيل: هل سقط عنهم مطلقًا، أو أداؤها، ويقضون إذا رجعوا، أو محل الحصر في الكنائس ونحوها في الحضر لا السفر، ويكون محل خصوصية الأمة المحمدية الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد، وسهولة الصلاة فيه، بل هو تقصير، ويمنع الثالث حديث ابن عباس المذكور والحصر في الحديث قبله، إذ التقييد لا بد له من دليل، "قاله في فتح الباري" في كتاب التيمم في شرح حديث جابر المتقدم. "ومنها: أن معجزته عليه الصلاة والسلام" إضافة عهدية أي المتبادرة المعهودة شرعًا وهي القرآن، وبه أفصح السيوطي "مستمرة إلى" قرب "يوم القيامة" حتى ترفع "ومعجزات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها. والقرآن العظيم لم تزل حجته قاطعة ومعارضته ممتنعة. ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة. قال القاضي عياض: أما كونها كثيرة فهذا القرآن كله معجز، وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض الأئمة المحققين بسورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أو آية في قدرها، وذهب بعضهم: إلى أن كل آية منه كيف كانت معجزة، وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة.   سائر الأنبياء انقرضت لوقتها، فلم يبق إلا خبرها" ولم يشاهدها إلا من حضرها وأكثرها حسية تشاهد بالبصر كناقة صالح وعصا موسى لبلادة أممهم، "والقرآن العظيم" الذي أريد بالمعجزة المستمرة "لم تزل حجته قاطعة" وهي عقلية تشاهد بالبصيرة لفرط ذكاء هذه الأمة فلا يمر عصر إلا ويظهر فيه شيء أخبر بأنه سيكون، "ومعارضته ممتنعة" لإعجازه فكان من يتبعه لأجلها أكثر إذ ما يدرك بالعقل يشاهده كل من جاء بعد الأول، وجميع معجزات المصطفى آحاد إلا القرآن، وحكمة ذلك مرت للمصنف في انشقاق القمر عن الخطابي وغيره. "ومنها: أنه أكثر الأنبياء معجزة" فقد قيل: إنها تبلغ ألفًا، وقيل: ثلاثة آلاف، حكاهما البيهقي سوى القرآن، ففيه ستون ألف معجزة تقريبًا. قال الحليمي: وفيها مع كثرتها معنى آخر وهو أنه ليس في شيء من معجزات غيره ما ينحو نحو اختراع الأجسام، وإنما ذلك في معجزات نبينا خاصة نقله في الأنموذج. "قال القاضي عياض" في الشفاء: ومعجزات نبينا خاصة أظهر من سائر معجزات الرسل بوجهين كثرتها وأنه لم يؤت نبي إلا وعند نبينا مثلها، أو ما هو أبلغ منها وقد نبه اناس على ذلك. "أما كونها كثيرة، فهذا القرآن كله معجز" دليل لكثرتها، وفي نسخة من الشفاء: وهذا بالواو بدل الفاء، فالتقدير: فهذا القرآن موجود معروف وجميع أجزائه معجز فناهيك به كثرة، "وأقل ما يقع الإعجاز فيه عند بعض الأئمة المحققين بسورة" بباء الجر داخلة على الخبر، وفي نسخ إسقاطها {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، وهي أقصر سورة في القرآن، "أو آية في قدرها" أي: مساوية لها في الحروف والكلمات وهي ثلاث آيات فأقل ما يقع الإعجاز به ثلاث آيات سورة أولا بحيث يظهر فيه تفاصيل قوى البلاغة، "وذهب بعضهم إلى أن كل آية منه كيف كانت" مقدار سورة أم لا؟ "معجزة" وقال قوم: لا يحصل الإعجاز بآية بل تشترط الآيات الكثيرة إذ لم يقم دليل على عجزهم عن معارضة أقل من سورة، وقيل: يتعلق الإعجاز بسورة طويلة كانت أو قصيرة تشبثًا بظاهر قوله: {بِسُورَةٍ} . "وذهب آخرون إلى أن كل جملة منتظمة" أي: مفيدة تامة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 منه معجزة، وإن كانت من كلمة أو كلمتين. قال القاضي: والحق ما ذكرناه أولا، لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فهو أقل ما تحداهم به، مع ما ينصر هذا القول من نظر وتحقيق يطول بسطه. فإذا كان هذا، ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف على عدد بعضهم.   "معجزة وإن كانت من كلمة أو كلمتين" لا يرد كيف تكون جملة منتظمة وهي كلمة؛ لأنه يكون فيها مقدر كمدهامتان، وقال آخرون: يتعلق بقليل القرآن وكثيره بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} . قال القاضي: ولا دلالة في الآية لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أول كلمات سورة. "قال القاضي" عياض: "والحق ما ذكرناه أولا" أن المعجزة أقصر سورة أو مقدارها؛ "لقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} أي سورة كانت {مِنْ مِثْلِهِ} ، في الإعجاز ودخل مقدار السورة فيه بدلالة النص فلا يتوهم أنه ليس فيه دليل على مدعاه، "فهو" أي ما ذكر "أقل ما تحداهم" الله أو رسوله "به" أي طلب منهم معارضته "مع ما ينصر هذا القول" المذكور أولا، أي: يقويه ويؤيده "من نظر" أي فكر وتدبر "وتحقيق يطول بسطه" ببيان الأدلة والبراهين القائمة لمن تدبره، ونظير ما فيه من مراعاة كل مقام وما احتوى عليه من الجزالة واللطافة التي تحير العقول فقد تحداهم أولا بجملته، فقال: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، ثم بعشر سور فأتوا بعشر سور مثله ثم بسورة فسجل عجزهم بعد إرخاء عنان التكليف، "فإذا كان هذا" أي ثبت أن ما تحداهم به هذا المقدر الأقل، "ففي القرآن من الكلمات نحو من سبعة وسبعين ألف كلمة ونيف" أي: زيادة عليه "على عدد بعضهم" إن هذا مقداره وفي قدر هذا الزائد خلف، قال في الإتقان: عد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعًا وثلاثين كلمة، وقيل: وأربعمائة وسبعًا وثلاثين، وقيل: ومائتان وسبع وسبعون وقيل غير ذلك، قيل: وسبب الاختلاف في عدد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز، قال: والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته وقد استوعبه ابن الجزري في فنون الأفنان فراجعه منه، فإن كتابنا موضوع للمهمات، لا لمثل هذه البطلات، وقد قال السخاوي: لا أعلم لعدد الكلمات والحروف فائدة؛ لأن ذلك إنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة والنقص، والقرآن لا يمكن فيه ذلك، انتهى. فلفظ: نحو للمصنف زائد؛ لأن واحد من هذه الأقوال يصدق عليه أنه نيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 وعدد كلمات {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أزيد من سبعة آلاف جزء، كل واحد منها معجز في نفسه، ثم إعجازه -كما تقدم- بوجهين. بلاغته، وطريق نظمه، فصار في كل جزء من هذا العدد معجزاته فتضاعف العدد من هذا الوجه.   "وعدد كلمات {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} عشر كلمات، فيتجزأ القرآن على نسبة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: على مقدارها وأتى بنسبة ليشمل آية واحدة وقدرها؛ كما مر، فالنسبة مجاز عن المقدار "أزيد من سبعة آلاف جزء" أي: بسبعمائة جزء وشيء؛ لأن السبعين ألفًا إذا قسمت على العشرة خرج لكل واحد منها سبعة آلاف، وإذا قسمت السبعة آلاف خرج لكل واحد منها سبعمائة فيصير الحاصل أن كل جزء سبعة آلاف وسبعمائة والنيف يختلف الخارج منه بحسب الخلاف فيه، "كل واحد منها معجز في نفسه" أي: بقطع النظر عن غيره "ثم إعجازه" أي القرآن؛ "كما تقدم" من ذكر الاختلاف في قدره "بوجهين" الأول "بلاغته" أي: ما فيه من مراعاة الوجوه التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال فهي من جهة المعنى، "والثاني "طريق نظمه" أي أسلوبه وكونه على نسق لا يشبه غيره من الكلام نظمًا وسجعًا ونثرًا وتناسب كلماته وجملة وإيتاء كل كلمة منه ما تستحقه وتنزيلها في محل لا يليق بها غيره، كما يعرفه من ذاق طعم البلاغة، "فصار في كل جزء من هذا العدد معجزتان" من جهة بلاغته ونظمه، "فتضاعف" ماض من التفاعل أو مضارع من المفاعلة "العدد" أي: عدد معجزته "من هذا الوجه" المشتمل على البلاغة والنظم، قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه وذلك أن الله أحاط بكل شيء علمًا وأحاط بالكلام كله، فإذا تركبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر لا يحيط بذلك فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك. والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ يفتتح القصيدة أو الخطبة حولا ثم ينظر فيها يتعرفها وهلم جرًا، وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البلاغة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصرنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق، وجودة القريحة، وإقامة الحجة على العالم بالقرآن؛ لأنهم كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحر، وفي معجزة عيسى بالطب، فكأن السحر انتهى في مدة موسى إلى غايته، وكذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 ثم فيه وجوه إعجاز آخر، من الإخبار بعلوم الغيب، فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئية الإخبار عن أشياء من الغيب، كل خبر منها بنفسه معجز، فتضاعف العدد كرة بعد أخرى. ثم وجوه الإعجاز الآخر التي ذكرناها توجب التضعيف، هذا في حق القرآن، فلا يكاد يأخذ العد معجزاته، ولا يحوي الحصر براهينه. ومن ذلك انشقاق القمر وتسليم الحجر، وحنين الجذع ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك، كما ذكره ابن عبد السلام وغيره، وتقدم ما فيه من المباحث. ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين.   الطب في زمن عيسى، والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى. "ثم فيه وجوه إعجاز آخر" غير الطريقين "من الإخبار بعلوم الغيب" أي الأمور المغيبة سابقة أو لاحقة بيان لوجوه، "فقد يكون في السورة الواحدة من هذه التجزئة" أي الأجزاء المذكورة المضاعفة من جهتي الإعجاز "الإخبار عن أشياء من الغيب" الأمور المغيبة عن علمنا "كل خبر منها بنفسه معجز" باعتبار إخباره عن الغيب وقطع النظر عن غيره من وجوه الإعجاز، "فتضاعف" ماض أو مضارع؛ كما مر "العدد" المذكور، أي: العدد المضاعف لقوله: "كرة" أي: مرة "بعد أخرى" أي: بعد مضاعفته السابقة "ثم وجوه الإعجاز الآخر التي ذكرناها" وهي ذكر المغيبات "توجب التضعيف" الزيادة إلى ما لا يكاد يحصى كثرة "هذا في حق القرآن" دون غيره من المعجزات الزائدة على معجزات سائر الأنبياء، "فلا يكاد يأخذ العد" وفي نسخة: العدد، وهما بمعنى "معجزاته" أي: لا يحيط بها لكثرتها، فالمراد بالأخذ الإحاطة مجازًا بليغًا؛ كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} ، وهو مبالغة، ولذا قال: لا يكاد "ولا يحوي الحصر" أي: الإحاطة "براهينه" أي: أدلته القاطعة الدالة على ثبوت رسالته لسائر الخلق وبقية كلام الشفاء في هذا الوجه ثم الأحاديث الواردة في هذه الأبواب، أي: أبواب معجزاته وما دل على أمره مما أشرنا إلى جمل منه تبلغ نحوًا من هذا، أي: المقدار الكثير. "ومن ذلك انشقاق القمر، وتسليم الحجر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك" المذكور من الأربع، وكذا اختراع الأجسام كتكثير التمر والطعام؛ "كما ذكره ابن عبد السلام عز الدين "وغيره وتقدم ما فيه من المباحث" في المعجزات. "ومنها: أنه خاتم الأنبياء والمرسلين" كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين". رواه البخاري ومسلم.   النَّبِيِّينَ} ، أي: آخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، وروى أحمد والترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أنس مرفوعًا: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي"، وقيل: من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وهو كالوالد لولد ليس له غيره، ولا يقدح نزول عيسى بعده؛ لأنه يكون على دينه مع أن المراد أنه آخر من نبئ، وكذا الخضر والياس على بقائهما إلى آخر الزمان تابعان لأحكام هذه الملة. قال عليه الصلاة والسلام: "مثلي" مبتدأ "ومثل الأنبياء قبلي" عطف عليه "كمثل رجل" خبره "بنى بيتًا فأحسنه وأكمله" وفي رواية جابر: كرجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها "إلا موضع لبنة" بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها نون وبكسر اللام وسكون الموحدة أيضًا قطعة طين تعجن وتعد للبناء من غير إحراق فإذا أحرقت فهي آجرة، "من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به" بالبيت "ويتعجبون له" أي: لأجله، وفي رواية جابر: فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون أي من حسنها، "ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة"؟ وزاد في رواية أحمد: فيتم بنيانك "فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين" ومكمل شرائع الدين، فإن قيل: المشبه به واحد والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه؟ أجيب: فإنه جعل الأنبياء كرجل واحد لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذا الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيلي وهو أن يؤخذ وصف من أوصاف المشبه ويشبه بمثله من أحوال المشبه به فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع يتم به صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي: أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور. قال الحافظ: وهذا إن كان منقولا فهو حسن، وإلا فليس بلازم نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها، وقد وقع في رواية مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها" فظهر أن المراد أنها مكملة محسنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصًا وليس كذلك فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة، "رواه البخاري" في أحاديث الأنبياء "ومسلم" في الفضائل من حديث أبي هريرة واللفظ له، ومن حديث جابر بنحوه، وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للأفهام وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وأن الله ختم به النبيين وأكمل شرائع الدين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 ومنها: أن شرعه مؤبد إلى يوم الدين، وناسخ لجميع شرائع النبيين، وأنه أكثر الأنبياء تابعًا كما قال عليه السلام: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة. رواه الشيخان من حديث أبي هريرة. ومنها أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه.   "ومنها: أن شرعه مؤبد" بموحدة: باق "إلى يوم الدين" أي: يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان، وبيت الحماسة: ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا وقيل: الدين الشريعة والطاعة، فالمعنى يوم جزاء الدين وقد تكفل الله لشرعه ببقائه على ممر الدهور حتى ينزل عيسى فيحكم به ثم يضمحل عند قيام الساعة بموت الطائفة الذين لا يزالون قائمين بالحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي الله، أي: ربح لينة تقبض أرواحهم فلا يبقى على الأرض من يقول لا إله إلا الله، فتقوم الساعة؛ كما بين في أحاديث. "وناسخ لجميع شرائع النبيين" إجماعًا حكاه غير واحد نعم خصه الإمام الرازي بالشرائع السمعية لا العقلية فيمتنع نسخة كمعرفة الباري وطاعته، "وأنه أكثر الأنبياء تابعًا؛ كما قال عليه السلام": "ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة". ورجاؤه محقق وقد جزم به في مسلم عن أنس رفعه: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وروى البزار: "يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل السيل والليل". وخصها لأنها يوم ظهور ذلك، "رواه الشيخان من حديث أبي هريرة" ورتب قوله: "فأرجو" ... إلخ، على ما تقدم من معجزات القرآن المستمرة لكثرة فائدة وعموم نفعه لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون فعم نفعه من حضر ومن غاب من وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجاء على ذلك، وهذا قد تحقق فإنه أكثرهم تبعًا ودل الحديث على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه ولا يضره من أصر على المعاندة، وقوله: ما مثله ما موصول وقعت مفعولا ثانيًا لأعطى ومثله مبتدأ وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه والمعنى أن كل نبي أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن لأجلها وعليه بمعنى اللام أو الباء ونكتة التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي: يؤمن بذلك مغلوبًا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه لكن قد يخذل فيعاند؛ كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} ، وقوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا"، أي: القرآن، المراد النوع المختص به أو أعظمها وأفيدها لا حصر معجزاته فيه؛ لأنها لم تنحصر فيه أو أنه لا مثل له لا صورة ولا حقيقة بخلاف غيره من المعجزات، فلا يخلو عن مثل، وقيل غير ذلك؛ كما بسطه في الفتح. "ومنها: أنه لو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حيًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى. ومنها أنه أرسل إلى الجن.   ما وسعه إلا اتباعي"، رواه أبو نعيم وغيره، "كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى" في المقصد السادس، وسبقت الإشارة إليه في ذا المقصد والمقصد الأول. "ومنها: أنه أرسل إلى الجن" وهم كما قال الحافظ عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي: أجسام مؤلفة وأشخاص ممثلة يجوز. أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة خلافًا لدعوى المعتزلة أنها رقيقة وأن امتناع رؤيتنا لهم من جهة رقتها، وهو مردود بأن الرقة لا تمنع الرؤية، ويجوز أن يخفي عن رؤيتنا بعض الأجساد الكثيفة إذا لم يخلق الله فينا إدراكها. وروى البيهقي عن الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيًا، وهو محمول على من ادعى رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها. وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتصور على صورة شيء من الحيوان، فلا يقدح فيه وقد تواترت الأخبار بتطورهم في الصور، واختلف المتكلمون هل هو تخيل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية، أو ينتقلون لكن لا اقتدار لهم على ذلك بل بضرب من الفعل إذا فعله انتقل كالسحر، وهذا قد يرجع إلى الأول. قال ابن عبد البر: الجن عند الجماعة مكلفون، قال عبد الجبار: لا نعلم خلافًا بين أهل النظر في ذلك إلا ما حكي عن بعض الحشوية أنهم مضطرون إلى أفعالهم وليسوا مكلفين. قال: والدليل للجماعة ما في القرآن من ذم الشياطين والتحرز من شرهم وما أعد لهم من العذاب، وهذه الخصال إنما تكون لمن خالف الأمر وارتكب النه مع تمكنه من أن لا يفعل والآيات والأخبار الدالة على ذلك كثيرة جدًا، وإذا تقرر تكليفهم فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام. وأما ما عداه من الفروع ففيه خلاف، لما ثبت أن الروث والعظم زاد الجن، وفي رواية في الصحيح: أنهما طعام الجن، فدل على جواز تناولهم الروث وهو حرام على الإنس؛ كذا في فتح الباري ولا دليل في حديث الروث، لأنه علف دوابهم، كما في الصحيح. وقد نقل ابن عطية وغيره الإجماع على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة، فإن قيل: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لترددوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتعلموها مع أنهم إنما اجتمعوا به قليلا، أجيب بأنه لا يلزم من عدم اجتماعهم به وحضورهم مجلسه وسماعهم كلامه أن لا يعلموا الأحكام فإن في الآثار والأخبار أن مؤمنيهم يصلون، ويصومون، ويحجون، ويطوفون، ويقرءون القرآن، ويتعلمون العلوم ويأخذونها عن الإنس، ويروون عنهم الأحاديث، وإن لم يشعروا بهم وبأنه يمكن اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يراهم المؤمنين، ويكون هو يراهم دون أصحابه بقوة يعطيها الله له زائد عن قوة أصحابه، ثم لا خلاف أنهم يعاقبون على المعاصي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 اتفاقًا، والدليل على ذلك قبل الإجماع: الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في هذه الآية، وهو مدلول لفظها.   واختلف: هل ينامون؟ وإليه ذهب الجمهور، وقال به الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعليه فهل يدخلون مدخل الإنس؟ وهو قول الأكثر والأشهر والأكثر أدلة، زاد الحارث بن أسد المحاسبي: ونراهم في الجنة ولا يرونا عكس الدنيا، قال الضحاك: ويأكلون فيها ويشربون، وقال مجاهد: يلهمون التسبيح والتقديس فيجدون فيه ما يجده الإنس من اللذة أو يكونون في ربض الجنة أو العراف أو الوقف أقوال، واستدل الإمام مالك على أن لهم الثواب وعليهم العقاب بقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، ثم قال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، والعذاب للإنس والجن فإذا ثبت أن فيهم مؤمنين، ومن شأن المؤمنين أن يخاف مقام ربه ثبت المطلوب، واستدل ابن وهب بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} ، وابن عبد الحكم وغيره بقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} بعد قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، وذهب أبو حنيفة وليث بن أبي سليم أن ثواب الجن أن يجاروا من النار ثم يكونوا أترابًا، واحتجا بقوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وقوله: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} ، قالا: فلم يذكر في الآيتين ثوابا غير النجاة من العذاب، وأجيب بأن الثواب مسكوت عنه وأن ذلك من قول الجن، فيجوز أنهم لم يطلعوا على ذلك وخفي عليهم ما أعد الله لهم من الثواب. وروى ابن مردويه وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي والديلمي بإسناد فيه ضعف عن أبي الدرداء مرفوعًا: "خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الحساب والعقاب" "اتفاقًا" أي: إجماعًا بدليل قوله: "والدليل على ذلك قبل الإجماع" المعلوم من الدين بالضرورة "الكتاب والسنة" أما الكتاب، فقد "قال الله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} منذرًا أو إنذارًا كالتكبير بمعنى الإنكار، "وقد أجمع المفسرون على دخول الجن في هذه الآية" ولا يقدح فيه القول بأن المراد الناس فقط؛ لأن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم فيه عالم على حاله، ولذا أمر بالنظر إلى الأنفس في الآفاق، فقيل: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} أما الشذوذ فلم يعتد به حاكى الإجماع أو أن قائله ليس من المفسرين، "وهو مدلول لفظها" بناء على أن العالمين اسم جمع لمن يعقل خاصة، وهم الملائكة والثقلان لا جمع له؛ لأن العالم اسم لما سوى الله فلو كان جمعًا له للزم أن معنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 فلا يخرج عنه إلا بدليل. وإن قيل إن الملائكة خارجون من ذلك فلا يضر، لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة. وقال تعالى في الأحقاف: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] ، فأمر بعضهم بعضًا بإجابته دليل على أنه داع لهم، وهو معنى بعثته لهم، إلى غير ذلك من الآيات.   المفرد أكثر من معنى الجمع، وهذا أحد قولين. والثاني: أنه جمع شامل لذوي العلم وغيرهم، قال البيضاوي: العالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر فيها واجب لذاته تدل على وجوده، وإنما جمعت ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء والنون كسائر أوصافهم. وقيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين، انتهى. وإذا كان كذلك، "فلا يخرج عنه إلا بدليل" ولم يوجد فثبت دخولهم في اللفظ "وإن قيل: إن الملائكة خارجون من ذلك" العموم على مذهب الأكثر أنه ليس مرسلا إليهم فتضعف دلالة العام على إفراده لاحتماله التخصيص زيادة على ما خص به، فحيث ثبت استثناء الملائكة من العالمين جاز استثناء الجن أيضًا، فلا تدل الآية على أنه مرسل إليهم، "فلا يضر" ذلك في الاستدلال بها على دخول الجن؛ "لأن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين" مطلقًا لاستدلال الصحابة به من غير نكير، وقيل: إن خص بمعين لا مبهم كاقتلوا المشركين إلا بعضهم، وقيل: إن خص بمتصل كالصفة وقيل غير ذلك، ومحل الخلاف إن لم نقل إنه حقيقة وإلا احتج به جزمًا؛ كما قاله ابن السبكي فتقييد المصنف بالجمهور بناء على أنه مجاز، فإن قلنا حقيق كان حجة عند الجميع. "ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة" كما قيل به مطلقًا أيضًا، "لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة" لكونها مخصوصة وهو خلاف عمل الصحابة والأئمة بعدهم، "وقال تعالى في الأحقاف" ذكر لمن يعلم أو شذ عنه: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} ، فأمر بعضهم بعضًا بإجابته دليل على أنه داع لهم وهو معنى بعثته لهم إلى غير ذلك من الآيات" كقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغ} والجن بلغهم القرآن، وقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} وهما الإنس والجن؛ لأنهما ثقلا الأرض أو لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال: ولمن خاف مقام ربه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 وأما السنة، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست" فذكر منها، "وأرسلت إلى الخلق كافة" فإنه يشمل الجن والإنس، وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل فلا يجوز. والكلام فيه كالكلام في آية الفرقان. فإن قلت: إن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 58] ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] ظاهر في اختصاص رسالته عليه السلام بالإنس، واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر. فالجواب: إن هذا إنما يتمشى على مذهب الدقاق.   جنتان ولذا قيل: من الجن مقربون وأبرار كالإنس. "وأما السنة" قسيم لمقدر كما مر، "ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست" من الخصال وليس المراد الحصر، لأنه فضل بأكثر بل أخبر بما أوحي إليه أولا ثم أخبر بالباقي؛ كما مر بسطه. "فذكر" الحديث المتقدم لفظه في المتن أول الخصائص، فلا ننقله من غيره. منها: "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرساله عامة محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، وهذا أصرح الروايات وأشملها، "فإنه يشمل الجن والإنس" بل والملائكة كما يأتي، "وحمله على الإنس خاصة تخصيص بغير دليل، فلا يجوز" لأنه تحكم، "والكلام فيه كالكلام في آية الفرقان" المذكورة أولا إذ العالمين والخلق كل منهما عام، "فإن قلت: إن قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} حال من إليكم والخلق كل منهما عام، "وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} إلا إرساله عامة لهم من الكف؛ فإنها إذا لحقتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد أو إلا جامعًا لهم في الإبلاغ فهو حال من الكاف والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار، قاله البيضاوي. "ظاهر" ما ذكر من الآيتين ولذا لم يقل ظاهر إن "في اختصاص رسالته عليه السلام بالإنس" لأن الخطاب لهم، "واحتمال غير ذلك عدول عن الظاهر" فهل يخالف الآيات والأحاديث الدالة على بعثه إلى الجن؟ "فالجواب: إن هذا" السؤال "إنما يتمشى على مذهب" الأستاذ أبي علي الحسن بن علي النيسابوري "الدقاق" إمام عصره برع في الفقه والأصول والعربية والتصوف، قال الغزالي: كان زاهد زمانه وعالم أوانه له كرامات ظاهرة ومكاشفات باهرة، قيل له: لم زهدت في الدنيا؛ قال: لما زهدت في أكثرها أنفت عن الرغبة في أقلها، مات سنة خمس أو ست وأربعمائة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 القائل بأن مفهوم اللقب حجة، و"الناس" من قبيل اللقب، فإن المسألة المترجمة في الأصول "بمفهوم اللقب" لا تختص باللقب، بل الأعلام وأسماء الأجناس كلها كذلك ما لم تكن صفة. و"الناس" اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له. فهذه الآية ليس فيها أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم إلا على مذهب الدقاق، بل ولا يتم على مذهبه التمسك بهذا المفهوم أيضًا لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض سواه في ذلك الاسم، وحيث غرض لا يقول بالمفهوم، بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض في الآية التعميم في جميع الناس، وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم، فلا يلزم نفي الرسالة عن غيرهم، لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره، وإنما خاطب الناس لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس، والتعميم فيهم لا النفي عن.   "القائل بأن مفهوم اللقب حجة" خصه لاشتهاره بذلك وإلا فقد قال به الصيرفي من الشافعية وهو أقدم منه وأجل وابن خويز منداد من المالكية إذ لا فائدة لذكره إلا نفي الحكم عن غيره كالصفة. وأجيب بأن فائدته استقامة الكلام إذ بإسقاطه يختل بخلاف إسقاط الصفة، "والناس من قبيل اللقب" عند الأصوليين وهو الاسم الجامد سواء كان عالمًا أو اسم جنس لا عند النحاة الذي هو ما أشعر برفعه المسمى أوضعته، "فإن المسألة المترجمة في الأصول بمفهوم اللقب لا تختص باللقب" المشعر بمدح أو ذم، "بل الأعلام كلها وأسماء الأجناس كلها، كذلك لم تكن صفة" ظاهره أنها من أسماء الأجناس، وفي المحلى خلافه فكأن مراده أن أسماء الأجناس لا تشمل الصفة فلا تدخل في اللقب، "والناس اسم جنس غير صفة فلا مفهوم له" فسقط السؤال، "فهذه الآية ليس فيه أصلا ما يفهم منه أنه ليس رسولا إلى غيرهم" أي: اإنس "إلا على مذهب الدقاق" وهو ضعيف "بل" انتقالية، "ولا يتم على مذهبه التمسك بهذا المفهوم أيضًا؛ لأن الدقاق إنما يقول به حيث لم يظهر غرض سواه" أي غيره "في ذلك الاسم" فيوافق الدقاق غيره على عدم اعتبار مفهوم اللقب، "وحيث ظهر غرض" كموافقة الغالب وما معها المذكور في الأصول، "لا يقول" الدقاق "بالمفهوم بل يحمل التخصيص على ذلك الغرض، والغرض في الآية التعميم في جميع الناس وعدم اختصاص الرسالة ببعضهم" كما زعم اليهود والنصارى لا نفي غير الناس، وحينئذ "فلا يلزم نفي الرسالة عن غيرهم لا على مذهب الدقاق ولا على مذهب غيره" وهم الجمهور، "وإنما خاطب الناس" فقط؛ "لأنهم الذين تغلب رؤيتهم والخطاب معهم، فمقصود الآية خطاب الناس والتعميم فيهم لا النفي عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 غيرهم، وهذا إذا قلنا إن لفظ الناس لا يشمل الجن، فإن قلنا إنه يشملهم فواضح. والاختلاف فيه مبني على الاختلاف في اشتقاق الناس، هل هو من النوس، وهو الحركة، أو من الإنس وهو ضد الوحشة؟ فإذا قلنا بالأول أطلق على الفريقين، ولكن استعماله في الإنس أغلب، فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم، وإذا قلنا بالثاني فلا، لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن في الآية إما ممتنع وإما قليل فلا يحمل عليه، وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها، لكنها لا تدل على خلافه. وأما قول الضحاك ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم، لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، فهو ظاهر الآية،   غيرهم" حتى يتأتى السؤال، "وهذا" كله إنما يحتاج إليه "إذا قلنا: إن لفظ الناس لا يشمل الجن" كما هو أحد القولين، "فإن قلنا: إنه يشملهم" كما هو القول الآخر، "فواضح" عدم تأتي السؤال وتكون الآيتان من جملة أدلة العموم، "واختلاف فيه" أي الشمول للجن "مبني على الاختلاف في اشتقاق الناس هل هو من النوس" المصدر "وهو الحركة" لأن أصل المشتقات المصدر على الراجح، وهو قول البصريين ولذا لم يقل من ناس إذا تحرك لابتنائه على قول الكوفيين إن أصلها الفعل، "أو من الإنس وهو ضد الوحشة، فإذا قلنا بالأول" من النوس "أطلق على الفريقين" لأن الجن يتحركون كالإنس، "ولكن" مع ذلك "استعماله في الإنس أغلب" من استعماله في الجن، "فحيث أطلق فالمراد به ولد آدم" لأنه الأغلب، "وإذا قلنا بالثاني" وهو الإنس، "فلا" يدخل الجن "لأنا لا نبصر الجن ولا نأنس بهم، فدخول الجن في الآية إما ممتنع" على أنه من الإنس. "وإما قليل" على أنه من النوس، "فلا يحمل عليه" الآية "وبهذا يتبين ضعف الاستدلال بها" على أنه مرسل إليهم؛ "لكنها لا تدل على خلافه" وهو خروج الجن عن كونه مرسلا إليهم بل هي ساكنة عنه. "وأما قول الضحاك" من مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد الخراساني صدوق كثير الإرسال روى له الأربعة مات بعد المائة، "ومن تبعه: أن الرسل إلى الجن منهم؛ لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} ، فهو ظاهر الآية" قال ابن جرير: لأن الله أخبر أن من الجن والإنس رسلا أرسلوا إليهم، فلو جاز أن المراد برسل الجن رسل الإنس لجاز عكسه وهو فاسد، وأجاب الجمهور بأن معنى الآية أن رسل الإنس رسل من قبل الله إليهم ورسل الجن يتهم الله في الأرض ليسمعوا كلام رسل الإنس ويبلغوه قومهم؛ كما قال تعالى: {وَلَّوْا إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة. وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة، وأما في هذه الملة فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم، ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقًا، ولا ينبغي أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع، على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس، ولم يكن من الجن قط رسول، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك. ونظيره قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، وهما يخرجان من الملح دون العذب، وقيل الرسل من الجن رسل الرسل من بني آدم إليهم لا رسل الله، لقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] .   قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} الآية؛ "لكن لم يقل الضحاك ولا أحد غيره باستمرار ذلك في هذه الملة" المحمدية، "وإنما محل الخلاف في ذلك في الملل المتقدمة خاصة, وأما في هذه الملة فنبينا صلى الله عليه وسلم هو المرسل إليهم وإلى غيرهم" إجماعًا حكاه ابن عبد البر وابن حزم وغيرهما: "ولم ينقل أحد عن الضحاك أن رسل الجن منهم مطلقًا" أي: في الأمم السابقة وهذه الأمة بدليل قوله: "ولا ينبغي أن ينسب إليه ما يخالف الإجماع" ويحتمل أن معنى الإطلاق لا بأنفسهم ولا عن أحد من البشر، فهو مقابل قوله الآتي، وقيل: الرسل من الجن وفيه بعد "على أن الأكثرين قالوا: لم تكن الرسل إلا من الإنس" خاصة، "ولم يكن من الجن رسول قط لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك" من باب الحكم على المجموع فلا يستلزم الحكم على الجميع، "ونظيره قوله: {يَخْرُجُ} بالبناء للفاعل والمفعول {مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، وهما" إنما "يخرجان من الملح دون العذب" على الصحيح، وقول الجمهور: خلافًا لقوم أنه يخرج من العذب أيضًا، قال ابن عطية: وقد رد الناس هذا القول لأن الحسن يكذبه ووجهت آية {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} أيضًا بأنه لما كان النداء لهما معًا والتوبيخ جرى الخطاب عليهما على سبيل التجوز المعهود في كلام العرب تغليبًا للإنس لشرفهم وتأوله الفراء على حذف مضاف، أي: من أحدكم؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ، أي: من أحدهما وهو الملح؛ وكقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} ، أي: في إحداهن وهي سماء الدنيا، و {يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} أراد بالذكر التكبير وبالأيام العشر، أي: أحد أيام العشر وهو يوم النحر. "وقيل: الرسل من الجن رسل الرسل من بني آدم إليهم" فهم رسل الله بواسطة إذ هم رسل رسله، "لا رسل الله" بلا واسطة؛ "لقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 قاله بعض العلماء. ومنها أنه أرسل إلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي.   منقول عن ابن عباس والضحاك أيضًا ونقل بعضهم عنه موافقة الجمهور أيضًا، "قاله بعض العلماء" وقيل: بعث الله رسولا واحدًا من الجن إليهم اسمه يوسف ونقل عن ابن عباس أنه المراد في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} واحتج ابن حزم على أن الرسل إلى الجن منهم في الأمم السابقة بقوله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة"، وليس الجن من قوم الإنس فيثبت أنه كاهن منهم أنبياء إليهم، وفي استدلاله بالحديث نظر. وما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: "ومن الأرض مثلهن" قال: سبع أرضين في كل أرض آدم كآدمكم ونوح كنوحكم وإبراهيم كإبراهيمكم وعيسى كعيساكم ونبي كنبيكم، فقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بمرة، يعني: فلا يلزم من صحة إسناده صحة متنه فقد يصح الإسناد، ويكون في المتن شذوذًا وعلة تقدح في صحته؛ كما تقرر عند المحدثين. قال ابن كثير: وهذا إن صح عنه يحمل على أنه أخذه من الإسرائيليات، وهذا أو أمثاله إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله، انتهى. وعلى تقدير ثبوته يكون المعنى أن ثم من يقتدي به مسمى بهذه الأسماء وهم الرسل المبلغون إلى الجن عن أنبياء الله سمي كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه والله أعلم. "ومنها: أنه أرسل إلى الملائكة" قال في فتح الباري: قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السماوات، وأبطل قول من قال إنها الكواكب أو الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها، وجاء في صفتهم وكثرتهم أحاديث، منها ما أخرجه مسلم عن عائشة مرفوعًا: "خلقت الملائكة من نور". الحديث، وأخرج الترمذي وابن ماجه والبزار عن أبي ذر مرفوعًا: "أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد". الحديث، وروى الطبراني عن جابر رفعه: "ما في السماوات موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد". وذكر في ربيع الأبرار عن سعيد بن المسيب، قال: الملائكة ليسوا ذكورًا ولا إناثًا"، ولا يأكلون ولا يشربون، ولا يتناكحون، ولا يتوالدون، وفي قصة الملائكة مع إبراهيم وسارة ما يؤيد أنهم لا يأكلون. وأما ما وقع في قصة الأكل من الشجرة أنها الخلد التي تأكل منها الملائكة فليس بثابت، وفي هذا ما ورد من القرآن رد على أن من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة، انتهى. في أحد القولين، ورجحه السبكي" والبارزي وابن حزم والسيوطي لأنهم مكلفون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ولا نزاع أن المراد من العبد ها هنا محمد عليه الصلاة والسلام، والعالم هو ما سوى الله تعالى، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، وبطل بذلك قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض، لأن لفظ "العالمين" يتناول جميع المخلوقات، فتدل الآية على أنه رسول إلى الخلق. ولو قيل لمدعي "خروج الملائكة من هذا العموم" أقم الدليل عليه ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من الملائكة من أنذره صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها. لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون.   بالطاعات العملية؛ كما قال تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ، وإن لم يكونوا مكلفين بالوحدانية لظهورهم لهم فتكليفهم بها تحصيل للحاصل ودليل رجحان هذا القول. ما "قال تعالى: {تَبَارَكَ} تعالى: {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} مخوفًا من عذاب الله، "ولا نزاع أن المراد من العبد ها هنا محمد عليه الصلاة والسلام" إذ الإضافة عهدية وجاء استعماله بهذا اللفظ فيه: أسرى بعبده أنزل على عبده الكتاب، واشتهر حتى صار كالعلم المخصوص به صلى الله عليه وسلم فهو دفع لتجويز أن المراد غيره، "والعالم" بفتح اللام والرفع استئناف "هو ما سوى الله" وليس بالخفض عطفًا على العبد؛ لأنه يكون التقدير ولا نزاع في أن المراد من العالم ما سواه "تعالى" مع أن فيه النزاع، قال المجد: العالم الخلق كله أو ما حواه بطن الفلك، وفي المصباح: العالم الخلق، وقيل: مختص بمن يعقل؛ "فيتناول جميع المكلفين" على أنه الخلق كله "من الجن والإنس والملائكة" وعلى أنه اسم للعاقل فالمكلفون مفهومه والتناول فيه باعتبار كل فرد أو نوع، "وبطل بذلك" أي: شمول الآية لجميع المكلفين "قول من قال: إنه كان رسولا إلى البعض دون البعض" لمخالفة التخصيص لصريح الآية، "لأن لفظ العالمين يتناول جميع المخلوقات" توجيه للإبطال، "فتدل الآية على أنه رسول إلى الخلق" كلهم ومنهم الملائكة فثبت المطلوب. "ولو قيل لمدعي خروج الملائكة من هذا العموم: أقم الدليل عليه" لأن تخصيص العام لا بد له من دليل، "ربما عجز عنه" فإن اعتل بأنه قال نذيرًا فيخرج الملائكة لعصمتهم، ولأنه لم ينذرهم لم تقبل علته، "فإنه يحمل أن يكون من الملائكة من أنذره صلى الله عليه وسلم إما ليلة الإسراء وإما غيرها" وإذا احتمل ذلك بطل تخصيصها بغير الملائكة إذ لا يثبت إلا بدليل، وظاهر الآية شمولها لهم وهو كاف في الاستدلال إذ ليس كل احتمال يقدح فيه بل إنما يقدح الاحتمال القوي، وكذا لا يلزم من العصمة عدم الإنذار ومن يقل منهم إني إله فقد أنذرهم مع العصمة، "لكن لا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 بالشريعة كلها. وإذا قلنا إن الملائكة هم مؤمنوا الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه، لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ. والجمهور: على أن "العالمين" في آية الفرقان عام مخصوص بالإنس والجن   بالشريعة كلها" إذ لا تتأتى كلها فيهم ومما يدل على شمول الآية للملائكة قوله تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} ، قال السيوطي: لم أقف على إنذار في القرآن للملائكة سوى هذه الآية، والحكمة في ذلك واضحة؛ لأن غالب المعاصي راجعة إلى البطن والفرج وذلك ممتنع عليهم من حيث الخلقة فاستغنى عن إنذارهم فيه. "وإذا قلنا: إن الملائكة هم مؤمنوا الجن السماوية" كما ذهب إليه من زعم أن العقلاء الناطقين فريقان إنس وجان، وكل فريق أخيار وأشرار، فأخيار الإنس هم الأبرار منهم رسل وغير رسل، وأشرارهم الفجار كفار وغير كفار، وأخيار الجن هم الملائكة منهم رسل وغير رسل، وأشرارهم الشياطين، واستدل من قال الملائكة هم خيار الجن، بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} ، والمراد قول الكفار: الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك، فدل على أن الملائكة من الجن، وبقوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} ، فلو كانت الملائكة صنفًا ثالثًا لما ترك التمدح بالقدرة على أشرف خلقه وذكر ما دونه، ورد بأن هذه الآية لبيان ما ركبه من خلق متقدم فلم تدخل الملائكة فيه لأنهم مخترعون، قال تعالى لهم كونوا فكانوا؛ كما قال للأصل الذي خلق منه الإنس والجن وهو التراب والماء والنار والهواء: {كُنْ} فكان، فالملائكة في الاختراع كأصول الإنس والجن لا كأعيانهم، فلذا لم يذكروا معهم كما في الحبائك. "فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه" أي: عموم رسالته للجن بأن يقال للملائكة مؤمنو الجن السماوية ورسالته إلى الجن مجمع عليها، "لزم عموم الرسالة" لهم؛ "لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ" لا اعتداد به؛ لقيام الأدلة على خلافه، ومن أصرحها قوله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم". رواه مسلم. قال البيهقي: ففي فصله بينهما دليل على أنه نور آخر غير نور النار، انتهى. "والجمهور على أن العالمين في آية الفرقان عام مخصوص بالإنس والجن" فيخرج الملائكة، وهذا من حين الاستدراك الذي قبله، ويمكن أن مراد الجمهور أنها مخصوصة بهما من حيث عمومها لجميع الأحكام من أمر ونهي، فلا ينافي أن إرساله للملائكة لأمر خاص؛ كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 كما فسر بهما حديث: "وأرسلت إلى الخلق كافة" المروي في مسلم. وصرح الحليمي والبيهقي في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، صرح في الباب الخامس عشر بانفكاكهم عن شرعه. وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي، والبرهان النسفي: حكاية الإجماع في تفسير آي الفرقان على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه العلامة الجلال المحلي، والله أعلم. وعبارة النسفي: ثم إنهم قالوا هذه.   يقوله السبكي والمحققون، كشرفه ودخولهم تحت دعوته، واتباعه تشريفًا له على سائر المرسلين "كما فسر بهما حديث: "وأرسلت إلى الخلق كافة"، المروي في مسلم" بهذا اللفظ عن أبي هريرة؛ كحديثه عن جابر بلفظ: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود" وللبخاري: "إلى الناس كافة"، "وصرح الحليمي" العلامة البارع، رئيس أهل الحديث بما وراء النهر القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم، نسبه إلى جده هذا البخاري الشافعي من أصحاب الوجوه، وأذكياء زمانه، وفرسان النظر, له اليد الطولى في العلوم والأدب. قال الذهبي: وما هو من فرسان هذا الشأن، أي: الحديث، مع أن له فيه عملا جيدًا، مات سنة ثلاث وأربعمائة، "والبيهقي" أحمد بن الحسين الحافظ الشهير، "في الباب الرابع من شعب الإيمان بأنه عليه الصلاة والسلام لم يرسل إلى الملائكة، وصرح في الباب الخامس عشر" من الشعب "بانفكاكهم عن شرعه، وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي" المسمى بأسرار التنزيل "و" تفسير "البرهان النفسي حكاية الإجماع على أنه لم يكن رسولا إليهم، كما حكاه" شارح جمع الجوامع في الكتاب السابع "العلامة الجلال" أي: جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم "المحلى" ولد بمصر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، واشتغل وبرع في الفنون فقهًا، وكلامًا، وأصولا، ونحوًا وغيرها وأخذًا عن الأقصراي والبيجوري والبساطي وغيرهم، وكان آية في الذكاء والفهم، قال في بعض أهل عصره: ذهنه يثقب ألماس، وقال: هو فهمي؛ لا يقبل الخطأ، ولم يكن يقدر على حفظ كراس، وكان ورعًا، صالحًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، يواجه بذلك أكابر الظلمة والحكام، ويأتون إليه، فلا يلتفت إليهم، ولا يأذن لهم بالدخول عليه، توفي أول يوم من سنة أربع وستين وثمانمائة، "والله أعلم" بما في نفس الأمر. "وعبارة "النسفي" ليست صريحة في حكاية إجماع الأمة، فإنه قال: "ثم إنهم قالوا: هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 الآية تدل على أحكام: أولها: إن قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة. لكنا أجمعنا على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولا إلى الملائكة، بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعًا. وقد تعقب الجلال المحلي العلامة كمال الدين بن أبي شريف فقال: اعلم أن البيهقي نقل ذلك عن الحليمي: فإنه قال: هذا معنى كلام الحليمي، وفي قوله هذا إشعار التبري من عهدته، وبتقدير أن لا إشعار فيه فلم يصرح بأنه مرضي عنده. وأما الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام. وما نقل عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه. وأما ما ذكره من حكاية الراوي والنسفي الإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام لم.   الآية تدل على أحكام، أولها إن قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية، يتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة، لكنا" لا نسلم تناوله للملائكة لأنا "أجمعنا على أنه لم يكن رسولا إلى الملائكة" وهذه العبارة تستعمل في إجماع الخصمين المتناظرين، كما يأتي، ويفرض تسليمه، فيمكن حمله على أنه لم يكن رسولا إليهم بشرع، يعملون به؛ لأنهم مطبوعون على ما به، أمروه حتى إن العبادة لهم كالأمور الضرورية لنا، بحيث لا يفترون عنها كالنفس للحيوان، فلا ينافي أنه رسول إليهم بغير ذلك، "بل يكون رسولا إلى الجن والإنس جميعًا" بلا نزاع، "وقد تعقب الجلال" مفعول "المحلي" وفاعله، "العلامة كمال الدين بن أبي شريف" المقدسي، ثم المصري الفقيه الأصولي، "فقال: اعلم أن البيهقي نقل ذلك عن الحليمي، فإنه قال هذا معنى كلام الحليمي، وفي قوله هذا إشعار بالتبري من عهدته" فلا ينبغي نسبته حكية الإجماع للبيهقي، "وبتقدير أن لا إشعار فيه" بالتبري، "فلم يصرح بأنه مرضي عنده" فكان ينبغي أن يقول: قال البيهقي: عن الحليمي. "وأما الحليمي فإنه وإن كان من أهل السنة، فقد وافق المعتزلة في تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام" ومحل الخلاف ما عدا نبينا، فإنه أفضل من الملائكة بإجماع حتى من المعتزلة؛ كما قاله جمع من المحققين، كالإمام الرازي، "وما نقل عنه موافق لقوله بأفضلية الملائكة، فلعله بناه عليه" وهو مردود، فكذا ما بني عليه. "وأما ما ذكره من حكاية الرازي والنسفي: الإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 يكن رسولا إليهم، فقد وقع في نسخ من تفسير الرازي: لكنا بينا بدل أجمعنا، على أن قوله: "أجمعنا" ليس صريحًا في إجماع الأمة، لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين، بل لو صرح به لمنع، فقد قال الإمام السبكي في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} قال المفسرون كلهم في تفسيرها للجن والإنس، وقال بعضهم: وللملائكة، انتهى. وبالجملة: فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية إجماع انفردا بحكايته أمر لا ينهض حجة على طريق علماء النقل، لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر وابن عبد البر، ومن فوقهما في الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة.   يكن رسولا إليهم" فغير مسلم، "فقد وقع في نسخ من تفسير الرازي: لكنا بينا بدل أجمعنا" وهذا لا إشعار فيه بإجماع "على أن قوله" في النسخ الأخرى: "أجمعنا" ومثله في النسفي "ليس صريحًا في إجماع الأمة؛ لأن مثل هذه العبارة" أي: هي ومثلها "تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين" فلا يلزم منها عدم الخلاف، فضلا عن الإجماع، "بل لو صرح به" بأن قال: أجمعت الأمة "لمنع" بوجود الخلاف، "فقد قال الإمام السبكي في" تفسير "قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} الآية". "قال المفسرون كلهم في تفسيرها: للجن والإنس، وقال بعضهم" لهما "وللملائكة" فدعوى الإجماع على عدمها باطلة، فمن حفظ حجة، "انتهى" كلام السبكي، ومعناه: أنهم اتفقوا على إرساله للثقلين واختلفوا في الملائكة، كما هو واضح جدًا، ولم يفهمه من قال قوله، كلهم ينافي قوله: وقال بعضهم، فهذا من سوء الفهم ما تنبه للواو، "وبالجملة فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية إجماع انفردا بحكايته، أمر لا ينهض حجة على طريق علماء النقل؛ لأن مدارك" جمع مدرك مصدر ميمي نفسي الإدراك، أو الشيء المدرك "نقل الإجماع من كلام الأئمة" متعلق بنقل، "وحفاظ الأمة كابن المنذر" محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، الحافظ، العلامة، الفقيه، شيخ الحرم، وصاحب الكتب التي لم يصنف مثلها، كان غاية في معرفة الخلاف، والدليل مجتهدًا لا يقلد أحدًا، مات بمكة سنة ثمان عشرة وثلاثمائة، "وابن عبد البر" يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم، الإمام، الحافظ ساد أهل الزمان في الحفظ والإتقان، كان فقيهًا، حافظًا، مكثرًا، عالما، بالقراءات والرجال، والحديث والخلاف، "ومن فوقهما في الاطلاع" الواسع؛ "كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة" المقلدة أربابها، المدونة كتبها كالأربعة المشهورة، والسفيانين، والليث، وابن راهويه، وابن جرير، وداود الظاهري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 ومن يلحق بهما في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان لها من الشهرة عند علماء النقل ما يغني عن بسط الكلام فيها. واللائق بهذه المسألة المتوقف عن الخوض فيها على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين، انتهى.   والأوزاعي، فكان لكل من هؤلاء أتباع يفتون بقولهم ويقضون، وإنما انقرضوا بعد الخمسمائة لموت العلماء وقصور الهمم. ذكره السيوطي، وذكر عياض أن أتباع الطبري انقرضوا بعد أربعمائة، وأن الثوري لم تكثر أتباعه ولم يطل تقليده، وانقطع مذهبه عن قريب، "ومن يلحق بهما" أي: ابن المنذر وابن عبد البر، وفي نسخة: بها، أي: الأئمة، وفي أخرى: بهم "في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان" وقوله: "لها" خبر أن في قوله: لأن مدارك أي للمدارك "من الشهرة عند علماء النقل ما يغني عن بسط الكلام فيها" فكيف يعتمد على إجماع انفرد بنقله رجلان ليسا من الحفاظ، ولا لهما سعة اطلاع، وقد ذكر الحافظ أن الرازي نوزع في ذلك. قال في الإصابة: هل تدخل الملائكة في حد الصحابي محل نظر، وقال بعضهم: إن ذلك ينبغي على أنه كان مبعوثا إليهم، أم لا؟ وقد نقل الرازي الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وتوزع في هذا النقل، بل رجح الشيخ تقي الدين السبكي إرساله إليهم، واحتج بأشياء يطول شرحها، وفي صحة بناء هذه المسألة على هذا الأصل نظر لا يخفى، انتهى. وفي الإصابة أيضًا أنكر ابن الأثير على أبي موسى المديني ترجمة الجن في الصحابة، ولا معنى لإنكاره، لأنهم مكلفون، وقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: كان الأولى أن يذكر جبريل، ففيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعًا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة، وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافًا بين الأصوليين حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم، انتهى. "واللائق بهذه المسألة التوقف عن الخوض فيها" لا مطلقًا، "بل على وجه يتضمن دعوى القطع في شيء من الجانبين" لتعسره أو تعذره، "انتهى" كلام ابن أبي شريف. وفي كشف الأسرار لابن العماد أن آدم عليه السلام أرسل إلى الملائكة لينبئهم بما علم من الأسماء، نقله الحبائك، وهو منابذ لعده في الأنموذج من الخصائص التي اختص بها عن جميع الأنبياء، ولم يؤتها نبي قبله أنه أرسل إلى الملائكة في أحد القولين، ورجحه السبكي، زاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] قال السمرقندي: يعني للجن والإنس، وقيل لجميع الخلق، رحمة بالهداية للمؤمن ورحمة للمنافق بالأمان من القتل. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه، ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة. فذاته عليه الصلاة والسلام -كما روي- رحمة نعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] وقال: "إنما أنا رحمة مهداة".   البارزي: وإلى الحيوانات والجمادات. "ومنها: أنه أرسل رحمة للعالمين" منّ بها على عباده لطفًا منه تعالى، ومحض جود وفضل، لا وجوبًا، كما زعمت المعتزلة، "كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، قال أبو بكر بن ظاهر: زين الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكونه وجميع شمائله وصفاته وحيائه وموته رحمة؛ كما قال: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم"، وقال: "إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطًا وسلفًا". "قال السمرقندي: يعني للجن والإنس" تفسير للعالمين، لإرشاده لهم ولطفه بهم، وحمله لهم على ذلك، الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، "وقيل لجميع الخلق" أهم من الثقلين، وهو المتبادر من العالمين "رحمة بالهداية" للمؤمن، "ورحمة للمنافق بالأمان من القتل" وتأخير عذابهم، وللكفار بالأمن من المسخ والخسف، وعذاب الاستئصال "وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر، لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة"، والتأخير رحمة. "وأما من صدقه، فله الرحمة في الدنيا والآخرة" بالشفاعة التي ادخرها لأمته في القيامة، "فذاته عليه الصلاة والسلام، كما روي رحمة، نعم المؤمن والكافر؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بما سألوه {وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية" لأن العذاب إذا نزل عم ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها، والمؤمنين منها. "وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة" أي: ذو رحمة، أو بالغ في الرحمة حتى كأني عينها، لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه وذاته كذلك فصفاته التابعة لها، كذلك "مهداة" بضم الميم، وللطبراني: "بعثت رحمة مهداة". قال ابن دحية: معناه أن الله بعثني رحمة للعباد، لا يريد لها عوضًا؛ لأن المهدي إذا كانت هديته عن رحمة لا يريد لها عوضًا، وقال غيره: أي ما أنا إلا رحمة أهداها الله للعالمين، فمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 رواه الدارمي والبيهقي من حديث أبي هريرة، وسيأتي في المقصد السادس مزيد لذلك إن شاء الله تعالى. والله الموفق. ومنها: أن الله خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم في القرآن، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا داود، يا زكريا، يا يحيى، يا عيسى، ولم يخاطبه هو إلا بـ"يا أيها الرسول" "يا أيها النبي" "يا أيها المزمل" "يا أيها المدثر". ومنها أنه حرم على الأمة نداءه باسمه، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] أي لا تجعلوا نداءه وتسميته   قبلها أفلح ونجا، ومن أبى خاب وخسر، ولا يشكل الحصر بوقوع الغضب منه كثيرًا؛ لأنه لم يقصد من بعثته، بل المقصود بالذات الرحمة الغضب بالتبعية بل في حكم العدم مبالغة، أو المعنى أنه رحمة على كل فرد، لأن غضبه لله كانتقامه؛ كقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآية، أو أنه رحمة في الجملة، فلا ينافي الغضب في الجملة. "رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ، وفي المقصد السادس الديلمي، "والبيهقي" وشيخه الحاكم "من حديث أبي هريرة" وقال: على شرطهما، وأقره الذهبي، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابًا". وروى ابن عساكر عن ابن عمر، رفعه: "إن الله بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع قوم وخفض آخرين"، أي: برفعهم بالسبق إلى الإيمان وإن كانوا من الضعفاء، وخفض من أبى وإن بلغ غاية الشرف؛ لأنه لم تنفع فيه الآيات والنذر، أي: أنه يضع قدرهم ويذلهم باللسان والسنان، "وسيأتي في المقصد السادس مزيد لذلك" قليل "إن شاء الله تعالى، والله الموفق" لا غيره. "ومنها: أن الله خاطب جميع الأنبياء" الذين ذكرهم في القرآن، أو الذين بلغنا في القرآن أنه خاطبهم "بأسمائهم" فلا يرد أنه لم يقم دليلا على خطاب الجميع، إنما ذكر آيات ذكروا فيها بأسمائهم، وذلك لا يستلزم خطاب غيرهم لا باسمه ولا بغيره، "فقال: يا آدم" {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} "يا نوح" {اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} الآية، "يا إبراهيم" {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} "يا موسى" {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} الآية، "يا داود" {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} الآية، "يا زكريا" {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} الآية، "يا يحيى" {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} الآية، "يا عيسى" {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي} الآية، "ولم يخاطبه هو" تشريفًا وإجلالا "إلا بـ {يَا أَيُّهَا الرَّسُول بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} الآية، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} الآية، {قُمِ اللَّيْلَ} ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} الآية، ومشى هنا على قول السهيلي: ليس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 كنداء بعضكم بعضًا باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات، ولكن قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، مع التوقير والتواضع وخفض الصوت.   المزمل والمدثر باسم من أسمائه يعرف به، وإنما هو مشتق من حالته التي كان متلبسًا بها حالة الخطاب، ملاطفة على عادة العرب؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "قم يا أبا تراب"، وقوله لحذيفة: "قم يا نومان"، لا على القول بأنهما من أسمائه لإشكاله، اللهم إلا أن يكون لم يرد بغير الأسماء ما يراد به مجرد الذات الشريفة، وأراد بغير الذات ما يراد به الذات مع صفة قائمة بها، ومنه المزمل والمدثر، ثم لا يخفى أن الخطاب نداء، فخرج به ذكره بلا داء من محمد رسول الله، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} ، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، {مُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} , {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} ؛ لأنه للتعريف بأنه الذي أخذ الله عهده على الأنبياء بالإيمان به، ولو لم يسمه لم يعرفوه. وأما قول الله سبحانه يوم القيامة: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع إلى آخره، فتنويه بذكر اسمه الدال على الصفة التي يحمده بها جميع الخلائق، فانظر إلى هذا التعظيم يناديه في كل مقام بأشرف تعظيم يناسب ذلك المقام، ففي الدنيا بالنبوة والرسالة ليشهد له بهما، وفي الآخرة لما تحققت الحقائق، ناداه باسمه لما اشتمل عليه من المعنى المناسب لذلك اليوم، وليفجأه سبحانه بما يدل على صفة يحمده بها الخلق، ليستدل بالنداء بها على قبول شفاعته، ثم عقب ذلك بقوله: قل تسمع، وسل تعط فهو تكريم بعد تكريم، وتعظيم بعد تعظيم. زاد في الأنموذج: وخاطبه بألطف مما خاطب به الأنبياء، أي كقوله لداود: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، وقال للمصطفى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} تنويهًا له على ذلك بعد الإقسام عليه، وقال موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} ، وقال عن نبينا: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، فكنى عن خروجه وهجرته بأحسن العبارات، ولم يذكره بالفرار الذي فيه نوع غضاضة. "ومنها: أنه حرم على الأمة نداءه باسمه" في كتابه العزيز "قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} الآية، أي: لا تجعلوا دعاءه وتسميته" فهو من إضافة المصدر لمفعوله، أي: لا تجعلوا دعاءكم إياه "كنداء" تفسير لدعاء "بعضكم بعضًا" بخطابه "باسمه، ورفع الصوت به، والنداء وراء الحجرات" بجرهما عطفًا على اسمه، ذكرهما لتمام التشبيه المستفاد من الآية، لا بالرفع على نداؤه لذكره حكمهما بعد، ولأنه من تمام تفسير الآية بقوله: "ولكن قولوا يا رسول الله، يا نبي الله مع التوقير" أي التعظيم "والتواضع" التذلل، "وخفض الصوت" لحرمة رفعه عليه والظرف، أي: بينكم متعلق بتجعلوا، لا حال من الرسول لأنه يوهم نداؤه باسمه بعد وفاته، مع أن الحرمة ثابتة مطلقًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 وقيل: لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة. ومنها أنه حبيب الله، وجمع له بين المحبة والخلة، وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من المباحث في آخر المقصد السابع، إن شاء الله تعالى.   "وقيل" المصدر مضاف إلى فاعله، أي: "لا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضًا" بظنكم مساواته "في جواز الإعراض والمساهلة في الإجابة" والرجوع بلا إذن فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} الآية، والرجوع بلا إذن حرام؛ كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} الآية، فالمعنى: لا تظنوا أنه مثلكم فتقيسوا، إذ القياس إلحاق فرع بآخر، لظن القائس اتحاد الجامع، ولولا ملاحظة هذا لورد أن القيام ليس من معنى الجعل. زاد البيضاوي: أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تنالوا بسخطه، فإن دعاءه موجب، أي: لحصول ما دعا به أو لا تجعلوا دعاءه ربه كدعاء صغيركم كبيركم، يجيبه مرة ويرده أخرى، فإن دعاءه مستجاب، انتهى، ومعناه عليهما، أي: لا تظنوا، أو تعتقدوا هذا، وكره الشافعي أن يقال في حقه الرسول لأنه ليس فيه من التعظيم، ما في الإضافة. قال الحافظ: وعلى هذا فلا ينادى بكنيته، قال تلميذه الشيخ زكريا: وهو ممنوع، إذ الكية تعظيم باتفاق، ولذا احتيج للجواب عن تكنية عبد العزى في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} الآية، مع أنه لا يستحق الكنية، لأنها تعظيم، فالأوجه جواز ندائه بكنيته، وإن كان نداؤه بوصفه أعظم، وتعقب بأن مقتضى آية النور المذكورة أنه ينادى بكنيته لأنهم كانوا يدعون بعضهم بعضًا بها، والحافظ لم يعلل الحكمة بترك التعظيم حتى يتوجه عليه ما قاله تلميذه. "ومنها: أنه حبيب الله" قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، فإذا كان متابعوه أحباءه، فنفسه أولى، وروى البيهقي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتخذ الله إبراهيم خليلا، وموسى نجيًا واتخذني حبيبًا"، ثم قال: "وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي". "وجمع له بين المحبة والخلة" قيل: هما سواء، وقيل: الخلة أرفع، والأكثر على أن المحبة أعلى، "وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من المباحث في آخر المقصد السابع إن شاء الله تعالى" في نحو ورقة. وقد روى أبو يعلى في حديث المعراج، فقال له ربه: إني اتخذتك خليلًا وحبيبًا، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 ومنها أنه تعالى أقسم على رسالته وبحياته وببلده وعصره، كما سيأتي ذلك في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى. ومنها أنه كلم بجميع أصناف الوحي، كما نقل عن ابن عبد السلام، وسبق تحقيقه في المبعث من المقصد الأول. ومنها أن إسرافيل هبط عليه، ولم يهبط على نبي قبله، أخرج الطبراني من حديث ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك إن شئت نبيًا عبدًا، وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إليّ بيده أن تواضع   "ومنها: أنه تعالى أقسم على رسالته" بقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، "وبحياته"، فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآية، "وبلده" {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدْ} الآية، "وعصره" {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ} السورة، قال أبو هريرة: ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد، رواه ابن مردويه؛ "كما سيأتي ذلك في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى" مطولا. "ومنها: أنه كلم" بالبناء للمفعول "بجميع أصناف الوحي، كما نقل عن" الشيخ عز الدين "بن عبد السلام، وسبق تحقيقه في المبحث من المقصد الأول". "ومنها: أن إسرافيل هبط، عليه، ولم يهبط على نبي قبله" عد هذه ابن سبع، "أخرج الطبراني، من حديث" عبد الله "بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لقد هبط" نزل "علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي" إذ لا نبي بعده "وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك" استدل به السيوطي على ضعف مرسل الشعبي أن إسرافيل أتاه في ابتداء الوحي، فقرن بنبوته ثلاث سنين، قال: لأن هذه القصة بعد ابتداء الوحي بعدة سنين؛ كما قدمته. "أمرني أن أخبرك إن شئت نبيًا عبدًا" قدم العبودية إشارة إلى أنه يختارها، "وإن شئت نبيًا ملكًا، فنظرت إلى جبريل" وكان جالسًا عنده قبل نزول إسرافيل، "فأومأ إليّ". وفي رواية: فأشار جبريل إلي "بيده أن تواضع" وسبب هذا التخيير ما رواه الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفاء، فقال: "يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى آل محمد سفة من دقيق، ولا كف من سويق"، فلم يكن كلامه بأسرع من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 فلو أني قلت نبيًا ملكًا، لسارت الجبال معي ذهبًا. ومنها أنه سيد ولد آدم، رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"، وعند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر".   أن سمع هدة من السماء أفزعته، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمر الله القيامة أن تقوم" قال: لا، ولكن أمر إسرافيل، فنزل إليك حين سمع كلامك، فأتاه إسرافيل، فقال: إن الله قد سمع ما ذكرت، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك، أسير معك جبال تهامة زمردًا وياقوتًا وذهبًا وفضة، فإن شئت نبيًا ملكًا، وإن شئت نبيًا عبدًا، ثلاثًا، "فلو أني قلت نبيًا ملكًا لسارت الجبال معي ذهبًا". وأخرج الترمذي عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب" ... الحديث، ذكرهما المصنف في عيشه من المقصد الثالث، فمعيب نقل أحدهما من غيره، لكن آفة العلم النسيان، وبهما يعلم وجه ترتب قوله: "فلو أني قلت"، إذ هي قصة واحدة، طولها راوٍ واختصرها آخر، فلا يرد أنه لا تلازم بين قوله نبيًا ملكًا، وبين سير الجبال معه ذهبًا وفضة، وكأنه اقتصر عليها ي هذه الرواية مع ذكر إسرافيل له الزمرذ والياقوت أيضًا؛ لأن المخاطب لا يعلم غيرهما ولا يتعامل به. "ومنها: أنه سيد ولد آدم" بضم الواو، وكسرها جمع ولد بفتحها، "رواه مسلم" في المناقب، وأبو داود في السنة "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه لأنه يوم مجموع له الناس فيه من سؤدده لكل أحد عيانًا، وصف نفسه بالسؤدد المطلق المفيد للعموم في المقام الخطابي على ما تقرر في علم المعاني، فيفيد تفوقه على جميع ولد آدم حتى أولي العزم من الرسل واحتياجهم إليه كيف لا هو واسطة كل فيض، وتخصيص ولد آدم ليس للاحتراز فهو أفضل حتى من الملائكة إجماعًا؛ كما حكاه الرازي وغيره، ولأن الآدمي أفضل من الملك وتتمة هذا الحديث في مسلم وأبي داود: "وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع". "وعند الترمذي" في المناقب، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، والإمام أحمد "من حديث أبي سعيد الخدري" رفعه: "أنا سيد ولد آدم" دخل آدم لأن في ولده من هو أفضل منه كإبراهيم "يوم القيامة ولا فخر" أي: أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، أي: لا أقوله تكبرًا على الناس وتعاظمًا وإن كان فيه فخر الدارين، فهو من قبيل قول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية, وقيل غير ذلك، "وبيدي لواء الحمد" بالكسر والمد، علمه، والعلم في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 وإنما قال ذلك إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدثًا بنعمة الله عنده، وإعلامًا لأمته ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله: "ولا فخر" أي أن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي، فليس لي أن أفتخر بها. ومنها أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.   العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلى مقامات الخير مقامات الحمد، فلما كان أعظم الخلائق أعطي أعظم الألوية، وهو لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي وعند الله علم حقيقته. وأما ما روي من صفته فموضوع بين الوضع، كما أفاده المصنف في المقصد الأخير، فلا وجه لعدول الطيبي ونحوه عن الحقيقة، وحمله على انفراده بالحمد، وشهرته به على رءوس الخلائق، وبقية هذا الحديث عند الترمذي ومن معه: "وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر"، وإنما قال ذلك" كما قال ابن الأثير في النهاية: "إخبارًا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد وتحدثًا بنعمة الله عنده" امتثالا لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} الآية، "إعلامًا لأمته" فهو من البيان الذي يجب عليه تبليغه إليهم؛ "ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه" بفتح الجيم: ما يتسبب عن الشيء فهو تفسير لحسبه، والمعنى: ليكون على قدر ما علموه من فضله؛ بأن يكون إيمانًا تامًا لا شبهة فيه، لأنهم حيث علموا كمال فضله، استحق أن يعظموه ويعتقدوا فيه الكمال اللائق بمن قام به هذا الفضل، "ولهذا أتبعه بقوله: "ولا فخر"، أي: إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل" بكسر، ففتح، أي: جهة "نفسي ولا بلغتها بقوتي" إذ ليست في طوق البشر، "فليس لي أن أفتخر بها" وإنما أفتخر بمن أعطانيها، وأما خبر: "لا تفضلوا بين الأنبياء" فمعناه تفضيل مفاخرة، وهو ادعاء العظم والمباهاة، أو في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها. وإنما التفضيل بنحو الخصائص، ولا بد من اعتقاده: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، وقيل غير ذلك. "ومنها: أنه غفر له ما تقدم من ذنبه" أنه لو كان كما قاله ابن عباس: أي أنه على سبيل الفرض والتقدير؛ لأنه كغيره من الأنبياء معصومون حتى من الصغائر قبل النبوة، ولو سهوًا على الأصح لكرامتهم على الله، خلافًا للأكثر في تجويز وقوع الصغائر منهم سهوًا إلا الدالة على خسة كتطفيف، وينبهون عليها، واحتجوا بظواهر، قالوا بها: أفضت بهم إلى حرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، كما بسطه عياض في الشفاء، "وما تأخر" لا يشكل بأن الغفر الستر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أخبره الله تعالى بالمغفرة ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء، بمثل ذلك ويدل له قولهم في الموقف: نفسي نفسي. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية -يعني آية الفتح- لم يشاركه فيها غيره. وقد أخرج أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء، قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فقد كتب له براءة.   فكيف يتصور فيما لم يقع؛ لأن ما لم يقع يفوض وقوعه مبالغة، "قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ} الآية" وفيها وجوه آخر، ذكر بعضها في المقصد السادس، وبعضها لا يرضي. "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه أخبره الله بالمغفرة، ولم ينقل أنه أخبر أحدًا من الأنبياء بمثل ذلك" فالخصوصية إخباره بذلك تعظيمًا له بإدخال السرور عليه، "ويدل قولهم في الموقف" يوم القيامة، حيث تطلب الشفاعة في فصل القضاء من آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فيقول كل منهم: "نفسي نفسي، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، يعني آية الفتح: لم يشاركه فيها غيره" ولذا قال ابن عطية: المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم تكن ذنوب البتة، "وقد أخرج أبو يعلى" أحمد بن علي الموصلي الحافظ الثقة، "والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب، "والبيهقي" أحمد بن الحسين، "عن ابن عباس، قال: إن الله فضل محمدًا على أهل السماء وعلى الأنبياء، قالوا: فما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء" أي: الملائكة " {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي الله، أي غيره، {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} الآية، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، فقد كتب له براءة" من الذنوب أن يفعلها، وإذا منعه من فعلها فقد سترها عنه، وهذا من ألطف الأجوبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] ، وقال لمحمد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28] فأرسله إلى الإنس والجن. ومنها أنه أكرم الخلق على الله، فهو أفضل من كل المرسلين، وجميع الملائكة المقربين، وسيأتي الجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس، عند مسلم: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى، ونحو ذلك في المقصد السادس إن شاء الله تعالى. ومنها إسلام قرينه. رواه مسلم من حديث ابن مسعود.   "قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله تعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية" أي: بلغتهم، "وقال لمحمد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} الآية، فأرسله إلى الإنس والجن" جميعًا، تفضيلا له على جميع المرسلين. "ومنها: أنه أكرم الخلق على الله" تعالى بنص قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، إذ خيريتها تستلزم خيرية نبيها، وإن صفاته أعلى وأجل، وذاته أفضل وأكمل، ويصرح به قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} الآية، "هو أفضل من كل المرسلين وجميع الملائكة المقربين" حتى الروح الأمين إجماعًا، وغلط الزمخشري في تفضيله عليه؛ بأن المعتزلة مجمعون على استثنائه من الخلاف في التفضيل بين البشر والملك فقد جهل مذهبه، "وسيأتي الجواب عن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس عند مسلم" والبخاري: "ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" ونحو ذلك كحديث الصحيحين: "لا تفضلوني على الأنبياء". وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء"، وأخرى: "لا تخيروا بين الأنبياء" وقوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} الآية، "في المقصد السادس إن شاء الله تعالى" بأجوبة سبعة، منها قول ابن أبي جمرة أنه بالنسبة إلى القرب والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به إلى قعر البحر، هما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله على حد واحد، وروى هذا الجواب عن مالك الإمام ونحوه لإمام الحرمين في قصة شهيرة. "ومنها: إسلام قرينه" أي صاحبه الموكل من الجن، "رواه مسلم" وأحمد "من حديث ابن مسعود": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 والبزار من حديث ابن عباس. ومنها أنه لا يجوز عليه الخطأ، كما ذكره ابن أبي هريرة والماوردي: وذكره الحجازي في مختصر الروضة.   الملائكة"، قالوا: وإياك؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير" ومعلوم عصمة الملائكة وإيمانهم، فإنما المراد الإخبار بمصاحبة الملك والجني لكل أحد، فالجني يغوي بخلاف الملك، فقول بعض إسلام قرينه من الملائكة والشياطين لا معنى له بالنسبة للملائكة، ولا دلالة في الحديث عليه، اللهم إلا أن يريد بإسلام ملكه انقياده التام له، وفيه ما فيه، "والبزار من حديث ابن عباس" رفعه: "فضلت على الأنبياء بخصلتين، كان شيطاني كافرًا فأعانني الله عليه فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى، فحديث ابن عباس نص في إيمانه. وأما حديث ابن مسعود فروي بفتح الميم وضمها، أي: فأسلم أنا من فتنته وكيده، وصحيح الخطابي رواية الرفع، ورجح عياض والنووي الفتح لقوله: "فلا يأمرني إلا بخير". قال الدميري: وهو المختار، والإجماع على عصمته من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين، ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان، انتهى. وقال غيره: اعترضت رواية بالضم؛ بأنه تعوذ منه بقوله: وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، أي يضرعني ويلعب بي، ويفسد ديني أو عقلي عند الموت؛ بنزعاته التي تزل بها الأقدام وتصرع العقول، وقد يستولي على الإنسان حينئذ فيضله، أو يمنعه التوبة، أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة؛ أو يؤيسه من الرحمة، أو يكره له الموت فيختم له بسوء، والعياذ بالله تعالى، وأجيب بأنه إنما قاله تعليمًا لأمته صلى الله عليه وسلم، فإن شيطانه أسلم، ولا تسلط له ولا لغيره بحال، بل سائر الأنبياء لا تسلط لشياطينهم عليهم وإن لم يسلموا. "ومنها: أنه لا يجوز عليه الخطأ" في اجتهاده، "كما ذكره ابن أبي هريرة، والماوردي، وذكره الحجازي في مختصر الروضة" لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه، فلذا عصم من بينهم، كذا في الشامية، وقال ابن السبكي: الصواب أن اجتهاده لا يخطئ تنزيهًا لمنصب النبوة عن الخطأ في الاجتهاد ومقتضى هذا التعميم، ثم هذا مبني على الصحيح عند الأصوليين من جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم ووقوعه لقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآية، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، فالعتاب لا يكون فيما صدر عن وحي، وقيل: يمتنع اجتهاده لقدرته على اليقين بانتظار الوحي، ورد بأن إنزاله ليس في قدرته، وثالثها، الجواز في الآراء والحروب فقط، والمنع في غيرها جمعًا بين الأدلة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووي في شرح مسلم. ومنها أن الميت يسأل عنه عليه الصلاة والسلام في قبره، فعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح أجلس، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله". الحديث رواه أحمد والبيهقي.   "وقال قوم: ولا النسيان، حكاه النووي في شرح مسلم" ما لم يترتب عليه تشريع، كسلامه من ركعتين وصلاته الظهر خمسًا. "ومنها: أن الميت يسأل عنه عليه الصلاة والسلام" إذا وضع "في قبره"، وتولى عنه أصحابه، واختلف في اختصاصه فتنة القبر بهذه الأمة، وجزم الحكيم الترمذي بالاختصاص، فعن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "أما فتنة الدجال، فإنه لم يكن نبي إلا وقد حذر أمته، وسأحذركموه بحديث لم يحذره نبي أمته: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن". "وأما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون، فإذا كان الرجل الصالح" أي: المسلم "أجلس" في قبره غير فزع، كما هو لفظ الحديث، "فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله" ... الحديث. بقيته: "جاءنا بالبينات من عند الله، فصدقناه، فيفرج له فرجة قبل النار، فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة إلى الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له: هذا مقعدك منها، ويقال: على اليقين كنت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله؛ وإذا كان الرجل الوء أجلس في قبره فزعًا، فيقال له: ما كنت تقول؟ فيقول: لا أدري، فيقال: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا، فقلت كما قالوا: فيفرج له فرجة من قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها، يحطم بعضها بعضًا، ويقال له: هذا مقعدك منها على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يعذب". "رواه" بتمامه الإمام "أحمد والبيهقي" وروى الشيخان وأحمد، وغيرهم عن أنس؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه يسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان يقعدانه، فيقولان له: ما كانت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا، ويفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 ومنها أنه حرم نكاح أزواجه من بعده، وقال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، أي: هن في الحرمه كالأمهات، حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية، ولأنهن أزواج له في الآخرة، وهذا في غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا ففي حلها للأزواج طريقان: أحدهما طرد الخلاف، والثاني: القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي. وأزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا، وفي جواز النظر إليهن وجهان: أشهرهما المنع، وثبت لهن حكم الأمومة في احترامهن وطاعتهن وتحريم نكاحهن، لا في جواز الخلوة بهن والنفقة عليهن والميراث.   وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطراق من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة، يسمعها من يليه غير الثقلين، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه". "ومنها: أنه حرم نكاح أزواجه من بعده" بقوله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} الآية، "وقال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} الآية، أي: هن في الحرمة"، أي: الاحترام "كالأمهات" في استحقاق التعظيم والرعاية، ومن ذلك أنه "حرم نكاحهن عليهم بعده تكرمة له وخصوصية" له عليه الصلاة والسلام، حيث جعلن أمهات، والأم لا يحل نكاحها، "ولأنهن أزواج له في الآخرة" بنصه صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بحرمته تزوج امرأة يعلم عودها له، ولأن المرأة لآخر أزواجها في الجنة على أحد الأقوال، فنكاح غيره لها المقتضى، لكونها تكون لمن هو آخر، يمنعه ما ثبت أنها تكون زوجًا له عليه السلام في الجنة، "وهذا في غير المخيرات، فمن اختارت منهن الدنيا، ففي حلها للأزواج طريقان، أحدهما: طرد الخلاف" الآتي في قوله: وفي التي فارقها في الحياة أوجه. "والثاني: القطع بالحل" بلا خلاف، "واختاره الإمام" أي: إمام الحرمين، "والغزالي" وقال في الشرح الصغير أنه الأظهر، وإلا فلا معنى للتخيير، اعتمد الرملي الحرمة ولو اختارت قبل الدخول، "وأزواجه اللاتي توفي عنهن محرمات على غيره أبدًا" كما قال الله تعالى، وهذا مستأنف بيانيًا في جواب سؤال، تقديره ما ذكر في زوجاته؛ هل يشمل من مات عنهن، ومن فارقهن في الحياة مدخولا بهم، أم لا؟ "وفي جواز النظر إليهن" ولو لشهادة أو مداواة "وجهان، أشهرهما المنع، وثبت لهن حكم الأمومة في احترامهن وطاعتهن" فيما أمرن به، "وتحريم نكاحهن لا في جواز الخلوة بهن" فيحرم، "والنفقة عليهن" فلا تجب، "والميراث" فلا توارث بينهن وبين الأجانب منهن، "ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 ولا يتعدى ذلك إلى غيرهن فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح. وقيل: إنما حرمن لأنه عليه السلام حي في قبره، ولهذا حكى الماوردي أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة. وفي التي فارقها في الحياة -كالمستعيذة- والتي رأى بكشحها بياضًا أوجه: أحدها، يحرمن أيضًا، وهو الذي نص عليه الشافعي وصححه في الروضة، لعموم الآية، إذ ليس المراد بمن بعده بعدية الموت، بل بعدية النكاح. وقيل: لا. والثالث وصححه إمام الحرمين والرافعي في الصغير: تحريم المدخول بها فقط، لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر، فهم عمر برجمه.   يتعدى ذلك" التحريم "إلى غيرهن، فلا يقال بناتهن أخوات للمؤمنين على الأصح" لأنه صلى الله عليه وسلم أنكح عثمان وعليًا بناته، ولا لأمهاتهن جدات المؤمنين على قياسه، وإلا لزم أن كل من نكحها حرمت أمها على زوجها. "وقيل: إنما حرمن، لأنه عليه السلام حي في قبره" ويكون حاله عند صاحب ذا القيل كالنائم، وهذا مقابل قوله تكرمة له وخصوصية، لأنه يفيد انقطاع نكاحه بموته، وهذا يفيد أنه لم ينقطع، "ولهذا حكى الماوردي" وجهًا للشافعية "أنه لا يجب عليهن عدة الوفاة" لحياته ومثله يقال في غيره من الأنبياء على قياسه وذكر الخطابي عن ابن عيينة أنهن في معنى المعتدات، فلهن سكنى البيوت ما عشن، ولا يملكن رقابها، "وفي" الزوجات "التي فارقها في الحياة" وقدرنا ذلك لقوله الآتي: أحدها يحرمن، ولا يضر وصف الجمع بالمفرد، لأن جمع الإناث وما لا يعقل، يجوز وصفه بالمفرد، ولهم فيها أزواج مطهرة، "كالمستعيذة" التي قالت: أعوذ بالله منك، "والتي رأى بكشحها بياضًا" أي: برصًا فردها، وقال: "دلستم عليّ"، "أوجه، أحدها: يحرمن أيضًا، وهو الذي نص عليه الشافعي، وصححه في الروضة لعموم الآية" {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} ، "إذ ليس المراد بمن بعده بعدية الموت" فقط، "بل بعدية النكاح، وقيل: لا" يحرمن مدخولا بها أم لا على ظاهر هذا الوجه، لكن في شرح البهجة الجزم بعدم حل المدخول بها. "والثالث: وصححه إمام الحرمين والرافعي في" الشرح "الصغير" على وجيز الغزالي: "تحريم المدخول بها فقط" وحل من لم يدخل "لما روي أن الأشعث بن قيس" بن معد يكرب الكندي، صحابي نزل الكوفة، ومات سنة أربعين أو إحدى وأربعين، وهو ابن ثلاث وستين، "نكح المستعيذة في زمن عمر" بن الخطاب، "فهم عمر برجمه" بناء على أن نكاحها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 فأخبر بأنها لم تكن مدخولا بها فكف. وفي أمة فارقها بعد وطئها أوجه ثالثها: تحرم إن فارقها بالموت -كمارية- ولا تحرم إن باعها في الحياة، انتهى. ومنها ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به وليس ذلك لغيره، قال ابن عبد السلام: هذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته، انتهى. ومنها أنه يحرم رؤية أشخاص أزواجه في الأزر.   حرام، فهو زنا وحد زنا المحصن الرجم، "فأخبر بأنها لم تكن مدخولا بها فكف" عن رجمه الذي كان هم به، وذلك يدل على حل من لم يدخل بها، ومن أطلق التحريم يقول: هو اجتهاد من عمر "وفي أمة فارقها بعد وطئها أوجه" بالحرمة والحل، "ثالثها تحرم إن فارقها بالموت كمارية" القبطية، "ولا تحرم إن باعها في الحياة" واعتمد شارح البهجة وغيره التحريم، "انتهى". "ومنها: ما عده ابن عبد السلام أنه يجوز أن يقسم على الله به" أخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم عن عثمان بن حنيف أن رجلا أعمى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: "إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت"، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، اللهم إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي، "وليس ذلك لغيره" من الأنبياء والملائكة والأولياء. وأما الاستشفاع بهم بلا إقسام، فمستحب، لأن دعاءهم أرجى للإجابة، كما استشفع عمر بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، رواه البخاري، وكذا بما فعل من خير يذكره في نفسه فيجعله شافعًا؛ لأن ذلك لائق بالشدائد، كما في خبر الثلاثة الذين آووا في الغار. "قال ابن عبد السلام: وهذا ينبغي أن يكون مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به لعلو درجته ومرتبته، انتهى". وتعقب: بأنه لا اتجاه لما ذكره، لأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، بل في بعض الأخبار التصريح بخلافه، وذكر التستري عن معروف الكرخي أنه قال لتلامذته: إذا كان لكم إلى الله حاجة، فاقسموا عليه بي، فإني الواسطة بينكم وبينه الآن بحكم الوراثة عن المصطفى. "ومنها: أنه يحرم رؤية أشخاص" أي: أجسام "أزواجه في الأزر"، ولا كذلك أزواج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 وكذا يحرم كشف وجوههن وأكفهن لشهادة أو غيرها، كما صرح به القاضي عياض، وعبارته: فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز، ثم استدل بما في الموطإ، أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها، وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن، فقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحجبن ويطفن، وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص. انتهى.   غيره، قال المصباح: الشخص سواد الإنسان، يراه من بعد، ثم استعمل في ذاته. قال الخطابي: ولا يسمى شخصًا إلا جسم مؤلف، له شخوص وارتفاع، "وكذا يحرم كشف وجوههن" مصدر مضاف إلى مفعوله، أي: أن يكشفن وجوههن "وأكفهن لشهادة أو غيرها" إكرامًا له صلى الله عليه وسلم "كما صرح به القاضي عياض" وأقره النووي، "وعبارته" في شرح مسلم: "فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها" بل يحرم عليهن، "ول اإظهار شخوصهن وإن كن مستترات" بالأزر ونحوها، "إلا ما دعت إليه ضرورة من" خروجهن إلى "براز" فترى أشخاصهن فلا حرمة، قال الجوهري وغيره: بالكسر ثقل الغذاء، وهو الغائط، وبالفتح اسم للقضاء الواسع، ولا يظهر معناه هنا إلا بكلفة، قاله النووي: أي يجعله مجازًا علاقته المجاورة، أو من تسمية الحال باسم المحل لخروجه بالفضاء، "ثم استدل بما في الموطأ؛ أن حفصة لما توفي" أبوها "عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها" ولم ينكر عليهن، فكان إجمعًا، "وأن زينب بنت جحش" المتوفية بالمدينة في خلافة عمر سنة عشرين "جعلت لها القبة فوق نعشها ليستر شخصها" وذلك بمحضر الصحابة، ومنهم عمر الذي صلى عليه ولم ينكر، وفيه أنه يمنع رؤى أشخاصهن بعد الموت، "انتهى" كلام عياض. "قال الحافظ ابن حجر: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن" لجواز أنه فعل ذلك تكرمة لهن، بل قد ورد عنهن ما يدل على خلاف ذلك، "فقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحججن ويطفن" وفي البخاري قول ابن جريج لعطاء: لما ذكر له طواف عائشة أقبل الحجاب أو بعد؟ قال: إن أدركت ذلك إلا بعد الحجاب، "وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث، وهن مستترات الأبدان" بثياب تمنع رؤية البشرة "لا الأشخاص" إذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 وأما حكم نظر غير أزواجه عليه الصلاة والسلام ففي الروضة وأصلها عن الأكثرين: جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية وكفيها إذا لم تكن فتنة، مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين: الرافعي والنووي تقتضي رجحانه، وصوبه في "المهمات" لتصريح الرافعي في الشرح بأن الأكثرين عليها، ولكن نقل ابن العراقي أن شيخه البلقيني قال: الترجيح بقوة المدرك، والفتوى على ما في المنهاج، وقد جزم به في "التدريب"، وقوة كلام الشرح الصغير تقتضي رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات. ونقلا في الروضة وأصلها هذا الاتفاق وأقراه. وعورضا بنقل القاضي عياض عن العلماء مطلقًا: أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو سنة، وعلى الرجال غض البصر، وحكاه عنه النووي في شرح مسلم وأقره. قال الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون في تصحيح المنهاج، والله أعلم.   لا يمنعها، لا كونها بهودج ونحوه بحيث لا يرى شخصها، "انتهى" ويمكن الجواب عن عياض بأن ذلك من جملة ما دخل في قوله: إلا ما دعت إليه ضرورة، وقوله: من براز مثال لا قيد. "وأما حكم نظر غير أزواجه عليه الصلاة والسلام، ففي الروضة وأصلها عن الأكثرين" من الشافعية "جواز النظر إلى وجه حرة كبيرة أجنبية، وكفيها، إذا لم تكن" أي: توجد "فتنة مع الكراهة، وقوة كلام الشيخين الرافعي والنووي" في الروضة، "تقتضي رجحانه، وصوبه في المهمات" للأسنوي "لتصريح الرافعي في الشرح" لوجيز الغزالي "بأن الأكثرين عليه" وذلك يقتضي رجحانه "لكن نقل ابن العراقي: أن شيخه البلقيني قال في الترجيح بقوة المدرك" أي: الدليل "والفتوى على ما في المنهاج" للنووي من حرمة ذلك، "وقد جزم به في التدريب" للبلقيني، "وقوة كلام الشرح الصغير" للرافعي على الوجيز "تقتضي رجحانه، وعلله باتفاق المسلمين على منع النساء من الخروج سافرات"، كاشفات وجوههن، "ونقلا في الروضة وأصلها هذا الاتفاق وأقراه وعورضا بنقل القاضي عياض عن العلماء مطلقًا" عن التقييد بمذهب، فكأه قال: اتفق العلماء على "أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في الطريق، وإنما هو سنة و" يجب "على الرجال غض البصر، وحكاه عنه" أي: عياض "النووي في شرح مسلم وأقره" وهو ينقض دعوى اتفاق المسلمين على المنع، "قاله الشيخ نجم الدين بن قاضي عجلون في تصحيح المنهاج، والله أعلم" بالحق في ذلك، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 وكان النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة مطلقًا، كما قاله السبكي، وهو في حق غيره ليس بعبادة عندنا، بل من المباحات, والعبادة عارضة له. ومنها أن أولاد بناته ينسبون إليه، قال عليه الصلاة والسلام في الحسن: "إن ابني هذا سيد" رواه أبو يعلى.   "وكان النكاح في حقه عليه الصلاة والسلام عبادة، مطلقًا" عن التقييد بالاحتياج وغيره "كما قاله السكبي، وهو في حق غيره ليس بعبادة" على الأصح "عندنا" أي: الشافعية، أي ليس مستحبًا لذاته، فيثاب فاعله مطلقًا، "بل من المباحات" لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} الآية، إذ العبادة لا تتعلق بالاستطابة، "والعبادة عارضة له" من جهة بقاء النسل وحفظ النسب، والاستعانة على المصالح الدينية، وصرحوا بأنه تجري فيه الأحكام الخمسة، وقيل: هو عبادة. قال الحافظ: والتحقيق أن الصورة التي يستحب فيها تستلزم كونه عبادة، فمن نفى العبادة عنه نظر إليه في حد ذاته، ومن أثبت نظر إلى صورة مخصوصة، انتهى، أي: وأولى صورة الوجوب. "ومنها: أن أولاد بناته ينسبون إليه" شرعًا، فهو عصبة لهم؛ مما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: "وكل ولد آدم، فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا أبوهم وعصبتهم" رواه أبو نعيم عن عمر برجال ثقات، وقال صلى الله عليه وسلم: "لكل بني آدم عصبة إلا ابني فاطمة أنا وليهما وعصبتهما"، أخرجه الحاكم عن جابر وأبو يعلى عن فاطمة، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يبعث نبيًا قط إلا جعل ذريته من صلبه غيري، فإن الله جعل ذريتي من صلب علي". رواه الطبراني والخطيب بخلاف غيره، فأولاد بناته لا ينسبون إليه؛ كما قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد "قال عليه الصلاة والسلام في الحسن" بالتكبير: "إن ابني هذا سيد" وفي رواية: سيد باللام، أي: حليم، كريم، متجمل، شريف من السؤدد، وقيل: من السواد؛ لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس، أي: الأشخاص العظيمة، ذكره ابن الأثير، وقال عليه السلام لما ولد: "أروني ابني ما سميتموه"، وكذا لما ولد الحسين، وكذا لما ولد محسن أخوهما أخرجه أحمد، "رواه أبو يعلى" والبخاري في مواضع من صحيحه، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي كلهم عن أبي بكرة، وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" فقصر المصنف وأوهم شديدًا، وقد صرح مغلطاي بأنه لا يجوز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 ومنها أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا سببه ونسبه. قال عليه الصلاة والسلام كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي. والنسب بالولادة والسبب بالنكاح. قيل: ومعناه أن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره.   لحديثي نقل حديث في أحد الكتب الستة من غيرها. "ومنها: أن كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة" قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} الآية، "إلا سببه ونسبه" فلا ينقطعان. "قال عليه الصلاة والسلام" فيما رواه الحاكم والبيهقي عن عمر: "وكل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي". قال عمر: فتزوجت أم كلثوم لذلك، وأحببت أن يكون بيني وبينه نسب وسبب، رواه البزار، وهذا لا يعارضه حثه في إخباره لأهل بيته على خوف الله، وتقواه، وتحذيرهم الدنيا وغرورها، وإعلامهم بأنهم لا يغني عنهم من الله شيئًا؛ لأن معناه أنه لا يملك لهم نفعًا، لكن الله يملكه نفعهم بالشفاعة العامة والخاصة، فهو لا يملك إلا ما ملكه ربه، فقوله: "لا أغني عنكم"، أي: بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله به من نحو شفاعة، أو مغفرة، وخاطبهم بذلك رعاية لمقام التخويف، أو كان قبل علمه بأنه يشفع. وفي رواية ابن عساكر: "كل نسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" "والنسب بالولادة، والسبب بالنكاح" حكاه الديلمي مصدرًا بأن السبب هنا الوصلة والمودة، وكل ما يتوصل به إلى الشيء لبعد عنه، فهو سبب. وفي البيضاوي: فجعله نسبًا وصهرًا، أي: قسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكورًا ينسب إليهم، وذوات صهر، أي إناثًا يصاهر بهن؛ كقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} الآية، ويمكن حمل المصنف عليه بجعل الولادة عبارة عن النسب إلى الآباء، والسبب عبارة عن القرابة من جهة النساء والتزوج بهن؛ كما قال الطيبي: السبب النسب ما رجع إلى ولادة قريبة من جهة الآباء، والصهر ما كان خلطة يشبه القرابة، يحدثها التزوج. وأما حديث ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري" فيراد بالصهر فيه خصوص النكاح، وبالسبب القرابة من جهة الأم لجمعه بين الثلاثة. "قيل: ومعناه" أي: الحديث بقطع النظر عن تفسيره المذكور، فلا يرد عليه أنه لا يرتب على الولادة والنكاح، "أن أمته ينتفعون بالنسبة إليه يوم القيامة بخلاف أمة غيره" من سائر الأنبياء، فلا ينسبون إليهم، وقد ضعف هذا القيل بأنه تأويل نشأ من خفاء الجمع على قائله بينه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 ومنها: أنه لا يتزوج على بناته. فعن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن لهم، ثم لا آذن ثم لا آذن لهم   وبين حديث: "لا أغني عنكم من الله شيئًا" وقد علم الجمع بينهما بوجهين، وضعفه أيضًا الجلال البلقيني بما في الصحيح عن أبي سعد مرفوعًا: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقال لأمته: هل بلغكم" الحديث، فهو صريح في نسبة أمة نوح إليه يومئذ، وأجاب شيخنا، بأن مراده من خص الانتساب إلى نبينا والانتفاع به الشفاعة الحاصلة منه لأمته على وجوه متعددة، لا تحصل لغيره مع أمته. وقيل: معناه ينتفع يومئذ بالنسبة إليه، ولا ينتفع بجميع الأنساب، ورجحه السيوطي وأيده بحديث عمر المتقدم، قال البلقيني: وهذا هو الطي يظهر، انتهى. "ومنها: أنه لا يتزوج على بناته" أي: يحرم، "فعن المسور" بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو "ابن مخرمة" بفتح الميم، وسكون المعجمة، وفتح الراء ابن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي، الزهري، أبي عبد الرحمن له ولأبيه ولأمه عاتكة بنت عوف أخت عبد الرحمن صحبة، ولد بعد الهجرة بسنتين، وقدم المدينة في ذي الحجة بعد الفتح سنة ثمان، وهو ابن ست سنين، وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وفي الصحيحين في بعض طرق الحديث: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ محتلم، وهذا يدل على أنه ولد قبل الهجرة لكن أطبقوا على أنه ولد بعدها، وقد تأول بعضهم قوله: محتلم على أنه من الحلم، بالكسر، لا من الحلم، بالضم، يريد أنه كان عاقلا ضابطًا لما يتحمله، مات سنة أربع وستين على الصواب بحجر أصابه من حجارة المنجنيق في حصار الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية لابن الزبير، وكان قائمًا يصلي، فأقام خمسة أيام، ومات يوم أتى نعي يزيد؛ كما في الإصابة. "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: "إن بني هاشم" كذا وقع في مسلم وصوابه، كما في البخاري هشام "بن المغيرة" المخزومي، إذ بنو هشام هم أعمام بنت أبي جهل لأنه عمرو بن هشام بن المغيرة، وقد أسلم أخواه الحارث وسلمة ابنا هشام عام الفتح، "استأذنوني" وفي رواية: استأذنوا " في أن ينكحوا" بضم أوله من أنكح "ابنتهم علي بن أبي طالب" وعند الحاكم بسند صحيح إلى سويد بن غفلة، بفتح المعجمة والفاء، أحد المخضرمين ممن أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، قال: خطب علي بنت أبي جهل إلى عمها الحارث فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أعن حسبها تسألني"؟، فقال: لا، ولكن أتأمرني، قال: "لا" الحديث، "فلا آذن لهم" في ذلك، "ثم لا آذن، ثم لا آذن لهم" بالتكرار ثلاثًا. قال الكرماني: فإن قلت لا بد في العطف من المغايرة بين المعطوفين، قلت: الثاني فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها". أخرجه الشيخان، وصححه الترمذي. وعنه أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح ابنة أبي جهل.   مغايرة للأول، فإن فيه تأكيد للأول، وفيه إشارة إلى تأييد مدة منع الإذن؛ كأنه أراد رفع المجاز، لاحتمال أن يحمل النفي على مدة بعينها، فقال: "ثم لا آذن"، أي: ولو مضت المدة المفروضة تقديرًا لا آذن بعدها، ثم كذلك أبدًا، "إلا أن يحب" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إلا أن يريد "ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي" فكنى بمحبة الطلاق عن نفس الطلاق إشارة إلى أنه باختياره لا بإكراه، "وينكح" بفتح الياء من نكح "ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني" بفتح الموحدة، وسكون المعجمة، وحكى ضم الموحدة وكسرها، أي قطعة لحم؛ كما ضبطه الحافظ وغيره، فمفاده أن الرواية بالفتح، ولذا اقتصر عليه المصنف في موضع "يريبني" بضم أوله "ما رابها" وفي نسخة: ما أرابها، وهما صحيحان، يقال: رابني فلان وأرابني إذا رأيت منه ما تكرهه، "ويؤذيني ما آذاها" فمن آذاها فقد آذاه، وهو حرام بإجماع، ولم يقل: ما يؤذيها إشارة إلى أن أذاه مسبب عن أذاها، فالمعنى إذا آذاها أحد آذاني وهذا تعليل لعدم إذنه يعني أن المانع لي من الإذن أنه يؤذيها كما يؤذيني، "أخرجه الشيخان" في مواضع، ومعلوم أنه أرفع الصحيح وإنما ذكر قوله "وصححه الترمذي" أي صرح بصحته، رد الزعم وضعه. قال الحافظ: إنما قام صلى الله عليه وسلم خطيبًا ليشيع الحكم الذي سيقرره، ويأخذوا به على سبيل الوجوب أو الأولوية، وغفل الشريف المرتضى عن هذه النكتة، فزعم أن هذا الحديث موضوع؛ لأنه من رواية المسور، وكان فيه انحراف على علي، وجاء من رواية ابن الزبير، وهو أشد في ذلك، ورد كلامه بإطباق أصحاب الصحيح على تخريجه، انتهى، والشريف هذا من رءوس الشيعة، وحمله على هذا قولهم: أن عليًا لا يمكن منه أن يفعل ذلك، "وعنه" أي عن المسور أيضًا "أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل، وعنده فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم" أخذ بعموم الجواز، فلما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم ترك الخطبة، "فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن قومك يتحدثون". وفي رواية: يزعم قومك "أنك لا تغضب لبناتك" إذ أوذوا، ولعل سبب التحدث أو الزعم مشاهدتهم حلمه، وأنه لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت حرمات الله، "وهذا علي ناكح" أي يريد أن ينكح "بنت أبي جهل"، وفي مسلم والطبراني: ناكحًا بالنصب، أطلق عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 قال المسور: فقال النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد قال: "أما بعد، فإني أنكحت أبا العاصي بن الربيع، فحدثني فصدقني، وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني، وإنما أكره أن يفتنوها، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا". قال: فترك علي الخطبة أخرجه الشيخان.   اسم ناكح مجازًا باعتبار قصده له. "قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم" خطيبًا على المنبر، "فسمعته حين تشهد" زاد في رواية للبخاري ومسلم: وأنا يومئذ محتلم، قال: "أما بعد، فإني أنكحت أبا العاصي" لقيط أو مقسم، بكسر الميم، أو هشيم، أو غير ذلك "ابن الربيع" بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، ويقال بإسقاط ربيعة مشهور بكنيته وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة، أي: أنكحه أكبر بناته زينب قبل النبوة، "فحدثني فصدقني" بخفة الدال بعد الصاد المهملتين، أي في حديثه، زاد في رواية: "ووعدني فوفى لي". قال الحافظ: ولعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب، وكذلك علي، فإن يكن كذلك فهو محمول على أن عليًا نسي ذلك الشرط، فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط، إذ لم يصرح به، لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر، فلذلك وقعت المعاتبة، وكان صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحدًا بما يعاب به، ولعله إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة، وكانت هذه الواعة بعد فتح مكة، ولم يكن حينئذ تأخر من بناته صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بأخواتها، فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها، انتهى. "وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني" قال المصنف: بفتح الموحدة فقط، وسكون المعجمة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: مضغة بميم مضمومة بدل الموحدة، وغين معجمة بدل المهملة، واقتصر على الفتح، لأنه الرواية، وإلا فحكى الضم والفتح أيضًا كما مر. وفي الكرماني قال الجوهري: بفتح الباء النووي بضمها صاحب النهاية بالفتح وقد تكسر، "وإنما أكره أن يفتنوها" لفظ مسلم، وله أيضًا وللبخاري: "إني أخاف أن تفتن في دينها"، وللبخاري في المناقب: "وإني أكره أن يسوءها" أي أحد عليّ أو غيره. زاد في رواية للشيخين: "وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حرامًا، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدًا". قال: المسور: "فترك على الخطبة" أعرض عنها وعزم أن لا ينكح ابنة أبي جهل، "أخرجه الشيخان" أيضًا مسلم في الفضائل والبخاري في مواضع. قال ابن التين: أصح ما تحمل عليه هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم حرم على علي أن يجمع بين ابنته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 واسم بنت أبي جهل هذه: جويرية، أسلمت وبايعت، وتزوجها عتاب بن أسيد، ثم أبان بن سعيد بن العاصي. قال أبو داود: حرم على علي أن ينكح على فاطمة في حياتها، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وذكر الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص: أنه يحرم التزويج على بنات النبي صلى الله عليه وسلم.   وبين ابنة أبي جهل؛ لأنه علل بأن ذلك يؤذيه، وأذيته حرام بالإجماع، ومعنى قوله: "لا أحرم حلالا" أنها حلال له لو لم تكن عنده فاطمة، وأما الجمع بينهما المستلزم تأذيه لتأذية فاطمة فلا، انتهى. "واسم بنت أبي جهل هذه" المخطوبة "جويرية" بضم الجيم، وجزم بذلك لأنه أشهر الأقوال، قال في الفتح: اختلف في اسم بنت أبي جهل، فروى الحاكم في الإكليل: جويرية، وهو الأشهر، وفي بعض الطرق اسمها العوراء. أخرجه ابن طاهر في المبهمات، وقيل: اسمها الحنفاء، ذكره ابن جرير الطبري، وقيل: جهدم، حكاه السهيلي. وقيل: جميلة، ذكره شيخنا ابن الملق في شرحه، وكان لأبي جهل بنت تسمى صفية، تزوجها سهيل بن عمر، وسماها ابن السكيت وغيره، وقال: هي الحنفاء المذكورة، "أسلمت وبايعت" النبي صلى الله عليه وسلم وحفظت عنه، "وتزوجها" فيما يقال كما في الفتح "عتاب" بفتح العين والفوقية الثقيلة "ابن أسيد" بفتح فكسر الصحابي، أمير مكة، فولدت له عبد الرحمن بن عتاب، "ثم" لما مات عنها تزوجها "أبان" بفتح الهمزة وخفة الموحدة، فألف، فنون "ابن سعيد بن العاصي" بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، الأموي، الصحابي. "قال أبو داود: حرم على علي" رضي الله عنه "أن ينكح على فاطمة في حياتها"، أي: مدة حياتها، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه "لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ} أعطاكم {الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية، وقد نهاه عن الزواج عليها، "وذكر الشيخ أبو علي السنجي" أحد عظماء الشافعية، أصحاب الوجوه، نسبة إلى سنج، بكسر المهملة، وسكون النون وجيم، قرية بمرو "في شرح التلخيص" لابن القاص "أنه يحرم التزويج" أي: والتزوج "على بنات النبي صلى الله عليه وسلم" إلى هنا كلام أبي علي وهو يبطل النكاح مقتضى تحريمًا للنهي المستفاد من {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} الآية، البطلان لأن الأصل في النهي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 ويحتمل أن يكون ذلك خاصًا بفاطمة رضي الله عنها، وقد علل صلى الله عليه وسلم بأن ذلك يؤذيه، وإذايته حرام بالاتفاق، وفي هذا تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيته، لأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقًا قليله وكثيره. وقد جزم عليه الصلاة والسلام بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء تأذت به فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الخبر الصحيح.   الفساد. وفي فتح الباري: لا يبعد أن يعد من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوج على بناته، "ويحتمل أن يكون ذلك خاصًا بفاطمة رضي الله عنها" لأنها كانت أصيبت بأمها ثم بأخواتها واحدة فواحدة، فلم يبق من تأنس به ممن يخفف عليها أمر الغيرة، انتهى كلام الفتح. "وقد علل عليه السلام" المنع "بأن ذلك يؤذيه، وإذايته حرام بالاتفاق" أي الإجماع، "وفي هذا" كما في الفتح "تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بتأذيه لأن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام اتفاقًا قليله وكثيره" {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} الآية، "وقد جزم عليه الصلاة والسلام، بأن يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل من وقع منه في حقها شيء تأذت به، فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الخبر الصحيح" المذكور، زاد في الفتح: ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها، ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد، انتهى. وقال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولاد فاطمة بضعة منها، فيكونون بواسطتها بضعة منه، ومن ثم لما رأت أم الفضل في منامها أن بضعة منه وضعت في حجرها أوله النبي صلى الله عليه وسلم، بأن فاطمة تلد غلامًا، فيوضع في حجرها فولدت الحسن، فوضع فيه، فكل من يشاهد الآن من ذريتها بضعة من تلك البضعة، وإن تعددت الوسائط، ومن تأمل ذلك انبعث من قبله دواعي الإجلال لهم، وتجنب بغضهم على أي حال كانوا، انتهى. وروى أحمد والحاكم، والطبراني: أن حسين بن حسين خطب بنت المسور بن مخرمة، فقال له: ما من نسب ولا صهر أحب إلي من نسبكم وصهركم، ولكن رسول الله قال: "فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها، ويبسطني ما يبسطها" وعندك بنتها ولو زوجتك أغضبها ذلك، فذهب عاذرًا له. قال في ذخائر العقبي: فيه دليل على أن الميت يراعى منه ما يراعى من الحي، قال: ولعل مراد أبي علي بقوله: يحرم التزويج على بناته من ينسب إليه بالنبوة، ويكون هذا الحديث دليل. قال السيوطي: فإن أخذ هذا على ظاهره، فمقتضاه أنه يحرم التزويج على ذرية بناته، وأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين، ومع ذلك فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، ويوجد منهن الغيرة ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما رعاه في حق فاطمة. وأجيب: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها ويزيل وحشتها من أم أو أخت، بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخاطر، بحيث إن كل واحدة منهن ترضى به بسبب خلقه وترضى بجميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قريب. ومنها: أنه لا يجتهد في محراب صلى إليه يمنة ولا يسرة، وأفتى شيخ الإسلام أبو زرعة.   يتعلق ذلك إلى يوم القيامة، وفيه وقفة، انتهى، بل لا يصح لقيام الإجماع الفعلي في كل عصر على خلافه، فهو خاص ببناته أو بفاطمة فقط على ما مر، وامتناع المسور من مزيد ورعه حملًا لما سمعه على عمومه. "وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك، مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين" الذي خشيه على فاطمة في نحو قوله: "وإني أخاف أن تفتن في دينها" "ومع ذلك: فكان صلى الله عليه وسلم يستكثر من الزوجات، ويوجد منهن الغيرة" عليه، "ومع ذلك ما راعى صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهن، كما راعاه في حق فاطمة" فهل لذلك حكمة؟ "وأجيب بأن فاطمة كانت إذا ذاك فاقدة من تركن إليه ممن يؤنسها، ويزيل وحشتها من أم" لموت أمها وهي صغيرة جدًا، "أو أخت" لموت أخواتها قبل ذلك واحدة بعد واحدة، "بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من يحصل لها معه ذلك" المذكور من الإيناس وإزالة الوحشة "وزيادة عليه، وهو زوجهن صلى الله عليه وسلم لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب، وجبر الخاطر، بحيث أن كل واحدة منهن ترضى به بسبب حسن خلقه" بضمتين، وجميل خلقه، بفتح وسكون، إذ لا أجمل منه، "وترضى بجميع ما يصدر منه، بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قريب" حتى كأنه لم يكن كما يعلم من تصفح الأخبار. "ومنها: أنه لا يجتهد في محراب" وهو ما ثبت أنه "صلى إليه" وإن لم يكن بمسجد "يمنة ولا يسرة" أي: لا يجوز ذلك، لأنه قطعي، أنه باجتهاده، إذ لا يقر على خطأ، فلو تحيل حاذق فيه يمنة أو يسرة، فحياله باطل، "وأفتى شيخ الإسلام" قاضي القضاة، "أبو زرعة" أحمد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 ابن العراقي في شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أجتهد وأصلي، بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهو ردة، وإن ذكر تأويلا بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه في زمنه عليه الصلاة والسلام بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادي، لم يحكم بردته، وإن لم يكن هذا التأويل صحيحًا. ومنها أن من رآه في المنام فقد رآه حقًا.   "ابن" عبد الرحمن "العراقي" الحافظ ابن الحافظ في الفتاوى المكية، وهو نحو كراسين "في شخص امتنع من الصلاة إلى محراب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أجتهد وأصلي بأنه إن فعل ذلك مع الاعتراف بأنه على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ردة" لتضمنه أنه كان مخطئًا في صلاته وهو ردة "وإن ذكر تأويلا، بأن قال: ليس هو الآن على ما كان عليه في زمنه عليه الصلاة والسلام، بل غير عما كان عليه، فهذا سبب اجتهادي لم يحكم بردته" لأنه لم يتضمن خطأ، "وإن لم يكن هذا التأويل صحيحًا" إذ خطأ تأويله يستلزم شيئًا في حقه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. "ومنها: أن من رآه في المنام فقد رآه حقًا" قال القضاعي: هذه الخصوصية مما خص به دون غيره من الأنبياء، وجزم البغوي بمشاركة جميع الأنبياء والملائكة له في ذلك. وحكى الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق فيه خلافًا، فقال: هل ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أم لا؟ قال بعضهم: رؤيا الله تعالى والأنبياء والملائكة والشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب، الذي فيه الغيم ايتمثل الشيطان بشيء منها، وذكر المحققون أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، وقالوا في ذلك أنه وإن ظهر بجميع أسماء الله تخلقًا وتحققًا، لكن المقصود من رسالته صلى الله عليه وسلم هدايته للناس، وأن يكون مظهرًا لاسمه الهادي، والشيطان بخلاف ذلك، فهو ضال مضل، ولا يظهر أحدهما بصفة الآخر، ولو ظهر إبليس بصفته لالتبس على الناس، فضلوا بما يلقيه لهم لظنهم أنه الرسول، فعصم الله صورته من أن يتصور بها شيطان، انتهى. والحكمة المذكورة تقتضي عمومه في جميع الأنبياء والملائكة، ثم أورد أعني الشيخ أكمل الدين، أن عظمة الله أتم من عظمة كل عظيم، مع أن إبليس يتراءى لكثير، وخاطبهم بأنه الحق ليضلهم، فضل جمع حتى ظهنوا أنهم رأوا الحق، وسمعوا خطابه، وأجاب: بأن كل عاقل يعلم بأن الحق لا صورة له معينة توجب الاشتباه بخلاف النبي، فصورته معينة معلومة؛ وبأن مقتضى الحكمة الحق أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء بخلاف النبي، فإنه متصف بالهداية ظاهر بصورتها ورسالته إنما هي لذلك لا للإضلال، فلا يكون منه إضلال لأحد البتة، فوجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 فإن الشيطان لا يتمثل به. وفي رواية مسلم: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة"، أو قال: "فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي".   عصمة صورته من أن يظهر بها شيطان، وقال عياض: لم يختلف العلماء في جواز صحة رؤيا الله في النوم، وإن رؤي علة صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام، لتحقق أن المرئي غير ذات الله، إذ لا يجوز عليه التجسم، ولا اختلاف الحالات رؤيا، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فكانت رؤياه تعالى في النوم من باب التمثيل والتخييل. وقال ابن العربي: رؤيا الله في النوم أوهام وخواطر في القلب، لا تليق به الحقيقة، ويتعالى عنها، وهي دلالات للرأي على أمر كان أو يكون كسائر المرئيات، وقال غيره: رؤياه تعالى منامًا حق وصدق، لا كذب فيها في قول ولا فعل، "فإن الشيطان لا يتمثل به" كما أخرج أحمد والبخاري والترمذي عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي". "وفي رواية مسلم" من حديث أبي هريرة: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" بفتح القاف، رؤية خاصة بصفة القرب منه. قال الدماميني: وهذه بشارة لرائيه بالموت مسلمًا؛ لأن لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصة، باعتبار القرب منه إلا من تحقق موته على الإسلام. وقال شيخنا: أي: فسيراني في اليقظة على الصورة التي رآني عليها في المنام، وذلك يدل على أن من رآه في المنام كانت رؤياه صادقة، "أو قال" شك من الراوي: "فكأنما رآني في اليقظة". قال الشيخ أكمل الدين: ومعناه غير الأول لأنه تشبيه، وهو صحيح؛ لأنه ما رآه في النوم مثالي، وما يرى في عالم الحس حسي، فهو تشبيه خيالي بحسي، انتهى. "لا يتمثل الشيطان بي" هذا كالتتميم للمعنى، والتعليل للحكم، أي: لا يحصل للشيطان مثال صورتي، ولا يتشبه بي، فكما منعه الله أن يتصور بصورته في اليقظة، منعه ذلك في النوم لئلا يشتبه الحق بالباطل، أو هو استئناف في جواب ما سبب ذلك، يعني: ليس ذلك المنام من قبيل تمثل الشيطان في خيال الرائي ما شاء من التخيلات، وإنما عزاه لمسلم وحده لوقع الشك من راويه في لفظه. وقد رواه البخاري ومسلم أيضًا بلا شك، كلاهما من حديث أبي هريرة: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي"، رواه الطبراني، وزاد: "ولا بالكعبة"، وقال: لا تحفظ هذه اللفظة إلا في هذا الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 قال الحافظ ابن حجر: وقع عند الإسماعيلي: "فقد رآني في اليقظة" بدل قوله: "فسيراني" ومثله عند ابن ماجه وصححه الترمذي من حديث ابن مسعود. وفي رواية أبي قتادة -عند مسلم أيضًا: "من رآني فقد رأى الحق". وله أيضًا من حديث جابر: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي"، وفي رواية: "من رآني في المنام فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي".   وروى الأزرقي عن عثمان بنساج، قال: بلغني عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "أول ما يرفع الركن، والقرآن ورؤيا النبي في المنام". "قال الحافظ ابن حجر" في فتح الباري في شرح حديث أبي هريرة المذكور: "ووقع عند الإسماعيلي" في مستخرجه: "فقد رآني في اليقظة" بدل قوله: "فسيراني"، ومثله عند ابن ماجه، وصححه الترمذي من حديث ابن مسعود, ولا منافاة بينها وبين: "فسيراني"؛ لحمل هذه الرواية على أنها من التعبير بالماضي عن الآتي، لتحقق وقوعه نحو: أتى أمر الله، ولا بينها وبين فكأنما رآني؛ لحملها على التشبيه؛ كزيد أسد. "وفي رواية أبي قتادة" الحارث، أو عمرو، أو النعمان الأنصاري، شهد أحدًا وما بعدها، "عند مسلم أيضًا" والبخاري بلفظه في التعبير، فلا وجه لقصر العز، وقال أبو قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رآني فقد رأى الحق" هكذا الرواية في الصحيحين، فما في نسخ من زيادة نون قبل الياء في رأي لا عبرة بها، أي: رأى الرؤيا الصادقة الصحيحة، وهي التي يريها الملك الموكل بضرب أمثال الرؤيا بطريق الحكمة لبشارة أو ندارة أو معاتبة، ليكون على بصيرة من أمره، وأبعد بعضهم، فقال: يمكن أن يراد بالحق الله مبالغة، تنبهًا على أن من رآه على وجه المحبة والاتباع، كأنه رأى الله؛ كقوله: "ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله"، ورد بأنه يأباه قوله: "فإن الشيطان" ... إلخ. "وله أيضًا من حديث جابر"، رفعه: "من رآني في المنام فقد رآني" أي: فليبشر بأنه رآني حقيقة، أي رأى حقيقتي، كما هي، فلم يتحد الشرط والجزاء، أو هو في معنى الإخبار، أي: من رآني، فأخبره بأن رؤياه حق لا أضغاث أحلام، ولا تخييل شيطان، ثم أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى، وتعليل للحكم، فقال: "فإنه لا ينبغي" لا يصح ولا يتصور "للشيطان أن يتمثل في صورتي" لاستحالة ذلك، "وفي رواية" لمسلم أيضًا من وجه آخر عن جابر: "من رآني في المنام فقد رآني، فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتشبه بي" والمعنى واحد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 وفي حديث أبي سعيد عند البخاري: "فإن الشيطان لا يتكونني". أي لا يتكون كوني، فحذف المضاف ووصل المضاف إليه بالفعل. وفي حديث أبي قتادة عند البخاري: "فإن الشيطان لا يتراءى بي"، بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بي، يعني إن الله وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من ضيق الذرع في ذلك حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة.   "وفي حديث أبي سعيد" الخدري "عند البخاري" من إفراده عن مسلم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتكونني" أي: لا يصير كائنًا في مثل صورتي، "أي لا يتكون كوني" أي: لا يتصور تصورًا كصورتي، "فحذف المضاف، ووصل المضاف إليه بالفعل، وفي حديث أبي قتادة عند البخاري" ومسلم أيضًا بلفظ: "من رآني فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتراءى بي"، بالراء، بوزن يتعاطى، ومعناه: لا يستطيع أن يتمثل بي" أي: المقصود منه ذلك، إذ المعنى ما يعني من اللفظ، ولو مجازًا، فإن معناه الحقيقي النظر؛ كما في القاموس لا الاستطاعة، فاستعمله في لازمه، فإن من نظر شيئًا تصوره، أو ضمن ترائى معنى تصور فعداه بالباء وإلا فهو متعد بنفسه، وهذا على ما اقتصر عليه هنا من ن الرواية، بالراء المهملة، وهي رواية لأبي ذر وحده للبخاري، ورواه الباقون بالزاي المنقوطة، أي: لا يظهر في زيي، كما بينه المصنف وغيره، "يعني: إن الله وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد، فإنه لم يمكنه التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم" فهذا الحديث يقيد مطلق الأحاديث قليلة المفيدة أنه لا يتمثل به على أي صفة كانت، "وقد ذهب إلى هذا جماعة" منهم الحكيم الترمذي وعياض، "فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان"، أي وجد خلق "عليها في الدنيا، ومنهم من ضيق الذرع في ذلك" فبالغ "حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قبض عليها حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة" فإنما تصح رؤياه عند هؤلاء لأحد رجلين، صحابي رآه فعلم صفته، فانطبع في نفسه مثاله، فإنه رآه جزم بأنه رأى مثاله المعصوم من الشيطان، والثاني رجل تكررت عليه صفاته المنقولة في الكتب حتى انطبعت في نفسه صفاته ومثاله المعصوم، كما حصل ذلك لمن شاهده فإذا رآه جزم برؤية مثاله، وأما غير هذين فلا يحصل الجزم بأنه رآه، ولو وجد في نفسه أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وعن حماد بن زيد عن أيوب قال: كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: صف الذي رأيت، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تره، وسنده صحيح. وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب قال: حدثني أبي.   المرئي هو النبي، أو قال له قائل هذا النبي بل يجوز أنه رأى تمثاله، ويحتمل أنه من تخييل الشيطان، ولا يفسده قوله للذي يراه: أن رسول الله، ولا قول من يحضر معه، ذكر العلامة الشهاب القرافي في قواعده ناسبًا له للعلماء، أي بعضهم قائلا: إنه من المهم، وتعقبه من قال: لقد ضيقت واسعًا، وما على الذي قلته دليل ولا برهان إلا مجرد دعوى الحق في خلافها، والمعبرون على خلاف هذا الشرط، ويبطله رؤيا الله تعالى ورؤيا الملائكة، فإنه يلزمك أن لا تصلح رؤيا الله، فإنه لا صورة له حتى يتمثل لنا، انتهى. وزعم بعض أن القرافي أخذ بعضه من كلام شيخه العز بن عبد السلام بعيد، فلفظه: كيف تقولون إنه رآه شابًا وشيخًا وأسود وأبيض وغير ذلك، وأجيب بأن هذه صفات الرائين، وأحوالهم تظهر فيه عليه الصلاة والسلام، وهو كالمرأة لهم، فإن قلت: كيف يبقى المثال مع هذه الأحوال المضادة له؟ قلت: لو كان لك أب شاب فغبت عنه، ثم وجدته شيخًا أو أصابه مرض فاصفر، أو اسود، أتشك أنه أبوك؟ فما ذاك إلا لما ثبت في نفسك من مثاله المتقدم عندك، فكذلك من ثبت عنده حال النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك فيه مع عروض هذه الأحوال، وإذا حصل له الضبط فرآه على غير صفته، دل على ظلم الرائي، انتهى، لكن هذا يشكل على الحكمة الثانية المتقدمة. "وعن حماد بن زيد" بن درهم الأزدي البصري، ثقة، ثبت، فقيه، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وله إحدى وثمانون سنة، "عن أيوب" بن كيسان السختياني، البصري، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وله خمس وستون سن، "قال: كان محمد، يعني ابن سيرين" الأنصاري، أبو بكر البصري، ثقة، ثبت، عابد، كبير القدر، لا يرى الرواية بالمعنى مات سنة عشر ومائة، "إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف الذي رأيت فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره" وإنما رأيت مثالا خيل لك أنه مثاله، أخرجه إسماعيل القاضي، "وسنده صحيح". قال الشامي: وجرى عليه علماء التعبير، فإذا قال الجاهل: رأيته، سئل عن صفته، فإن وافقها فذاك، وإلا فلا يقبل منه. "وقد أخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب" بن شهاب الجزمي، الكوفي، صدوق رمي بالإرجاء، روى له مسلم والأربعة ومات سنة بضع وثلاثين ومائة، "قال: حدثني أبي" كليب بن شهاب بن المجنون، صدوق، من كبار التابعين، ووهم من ذكره في الصحابة، روى له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 قال: قلت لابن عباس، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال: صفه لي، قال: فذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال: قد رأيته، وسنده جيد. لكن يعارضه: ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة". وفي سنده ابن التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط. قال القاضي أبو بكر بن العربي: رؤيته بصفته المعلومة إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال.   الحسن بن علي، فشبهته به" لأنه كان يشبهه، كما قال الصديق، وقد حمله: بأبي شبيه بالنبي ... ليس شبيهًا بعلي وعلي يضحك كما في الصحيحين، "قال: قد رأيته، فدل ذلك على أن رؤياه إنما تصح لرائيه على صفته "وسنده جيد"، أي مقبول "لكن يعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة صورتي أو غيرها". وفي سنده ابن التوأمة، بفتح الفوقية وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة، وصوابه صالح مولى التوأمة، وهو صالح بن نبهان المدني، التابعي الصغير، "هو" صدوق اختلط فهو "ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط". قال ابن عدي: لا بأس برواية القدماء عنه، كان أبي ذئب وابن جرير، مات سنة خمس أو ست وعشرين ومائة، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأخأه من زعم أن البخاري أخرج له. "قال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الحافظ الفقيه المالكي: "رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة" التي كان عليها "إدراك له على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة، وإدراك الصفات إدراك المثال" لا الحقيقة، فالأولى لا تحتاج إلى تعبير، والثانية تحتاجه، وللصوفية ما يوافق معنى هذا وإن اختلف اللفظ، حيث قالوا: هنا ميزان يجب التنبه به، وهو أن الرؤيا الصحيحة أن يرى بصورته الثابتة بالنقل الصحيح، فإن رآه بغيرها، كطويل، أو قصير، أو شيخ، أو شديد السمرة لم يكن رآه، وحصول الجزم في نفس الرائي بأنه رآه غير حجة، بل ذلك المرئي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 قال: وقد شذ بعض القدرية فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلا. قال وقوله: "فسيراني" معناه فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق وغيب، وأما قوله: "فكأنما رآني" فهو تشبيه ومعناه: أنه لو رآني في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًا وحقيقة، والثاني حقًا وتمثيلا. قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال. فإن رآه مقبلا عليه مثلا فهو خير للرائي، وعلى العكس فبالعكس. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني" أو: "فقد رأى الحق" أن من رآه على صورته المعروفة في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على   صورة الشرع بالنسبة لاعتقاد الرائي، أو خياله، أو صفته، أو حكم من أحكام الإنسان، أو بالنسبة للمحل الذي رأى فيه تلك الصورة. قال القونوي كابن العربي: وقد جربناه فوجدناه لم ينخرم. "قال" القاضي ابن العربي: "وقد شذ بعض القدرية، فقال: الرؤيا" من حيث هي للنبي أو لغيره "لا حقيقة لها أصلا" لأنهم حالوا الوقوف على حقيقتها بالعقل، وهي لا تدرك به، وهم لا يصدقون بالسمع، فنفوا عنها الحقيقة، وقالوا: إنما هي خيالات لا أصل لها كما بينه ابن العربي نفسه، وكذا غيره. "قال" ابن العربي: "وقوله: "فسيراني" معناه: فسيرى تفسير ما رأى، لأنه حق" في نفس الأمر "وغيب" عنًا. وأما قوله: "فكأنما رآني"، فهو تشبيه، ومعناه: أنه لو رآني في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول، وهو رؤيته يقظة "حقًا وحقيقة" أي: محققًا، "والثاني" أي رؤيا المنام "حقًا وتمثيلا، قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة" بأن كان صحابيًا، أو تكررت عليه صفته من الكتب كما مر "فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثال أي أمور شبهت له في المنام تدل على ما يحصل له يقظة "فإن رآه مقبلا عليه مثلا، فهو خير لرائي، وعلى العكس، أي: مدبرًا عنه "فبالعكس"، أي: فهو شر للرائي، لكن لا يظهر تفريع هذا على مقابله، إذ مجرد رؤياه مقبلا أو مدبرًا لا ينافي أنه رآه على صفته الأصلية، فالأولى لو مثل بنحو من رآه شيخًا، أو شابًا، أو جسمًا ملأ البلد الذي هو فيه. "وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني"، أو: "فقد رأى الحق" أن من رآه على صورته المعروفة في حياته كانت رؤياه حقًا، ومن رآه على غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 غير صورته كانت رؤيا تأويل، انتهى. وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها، انتهى. وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فقال: لم يظهر لي في كلام القاضي عياض ما ينافي ذلك، بل ظاهر قوله أنه يراه حقيقة في الحالتين، لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا تحتاج إلى تعبير، والثانية: مما تحتاج إلى التعبير. وقال بعضهم: معناه، أن من رآه على صورته التي كان.   صورته كانت رؤيا تأويل" بأن يؤول بما يناسب ما رآه من خير وغيره، "انتهى". "وتعقبه النووي فقال: هذا ضعيف، بل الصحيح أنه يراح حقيقة، سواء كان على صفته المعروفة أو غيرها. انتهى". وتبعه عليه بعض المحققين، ثم قال: فإن قيل كيف يرى على خلاف صورته، ويراه شخصان في ليلة واحدة في مكانين، والبدن الواحد إنما يكون في مكان واحد، قلنا: التغيير في صفاته لا في ذاته، فتكون ذاته مرئية وصفاته متخيلة غير مرئية، والإدراك لا يشترط فيه تحقق الإبصار، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، أو مدفونًا فيها، وإنما الشرط كونه موجودًا، انتهى. "وتعقبه شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، فقال: لم يظهر لي من كلام القاضي عياض ما ينافي ذلك" الذي ذكره النووي أنه يراه حقيقة مطلقًا، "بل ظاهر قوله" أي: كلام عياض المذكور "أنه يراه حقيقة في الحالتين" رؤياه على صورة حياته وعلى غيرها؛ "لكن في الأولى تكون الرؤيا مما لا تحتاج إلى تعبير، والثانية مما تحتاج إلى التعبير" فإذا رآه على غير صورته، كان المراد منها أمرًا يحصل للرائي، فهي حق من هذا الوجه، وفي المفهم للقرطبي اختلف في معنى الحديث، فقال قوم من القاصرين: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رآه على حقيقته، كمن يراه في اليقظة سواء، وهو قول يدرك فساده ببادئ العقل، إذ يلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه اثنان في وقت واحد في مكانين وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويخلو قبره عنه فيزار مجرد القب، ويسلم على غائب، لأنه يرى ليلا ونهارًا على اتصال الأوقات وهذه جهالات لا يلتزمها من له أدنى مسكة من عقل، وملتزم ذلك مختل مخبول. "وقال بعضهم" ولفظ القرطبي: طائفة، "معناه: أن من رآه على صورته التي كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 عليها. ويلزم من قول من قال: "إنها لا تكون إلا على صورته المعلومة" أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام. ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة بخلاف حالته في الدينا من الأحوال اللائقة به، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: فإن الشيطان لا يتمثل بي. فالأولى أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته. فالصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاثًا، بل هي حق في نفسها، ولو رؤي على غير صورته، فتصور تلك الصور ليس من الشيطان، بل هو من قبل الله تعالى.   عليها" فقد رآه حقًا، فهو شرط حذف جوابه، أو قوله على صورته معمول لمقدر، أي: من رآه على صورته، "ويلزم من قول من قال: إنها لا تكون إلا على صورته المعلومة"، أخصر منه قول القرطبي: ويلزم منه "أن من رآه على غير صفته، أن تكون رؤياه من أضغاث الأحلام" والأحاديث تأبى ذلك، "ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة بخلاف حالته في الدنيا من الأحوال اللائقة به" ومع ذلك تكون الرؤيا حقًا كما لو رآه ملأ بلدًا أو دارًا بجسمه، فإنه يدل على امتلاء البلدة بالحق والشرع، وتلك الدار بالبركة، وكثيرًا ما وقع ذلك. هذا أسقطه المصنف من القرطبي، "ولو تمكن الشيطان من التمثل بشيء مما كان عليه، أو ينسب إليه لعارض عموم قوله: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" إذ هو نفي مطلق، "فالأولى، أي الأحق "أن تنزه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه" كعمامته ونحوها، "أو مما ينسب إليه عن ذلك، فإنه أبلغ في الحرمة، أي: الاحترام والتعظيم، وأليق بالعصمة، كما عصم من الشيطان في يقظته"، بفتح القاف، "فالصحيح في تأويل هذا الحديث؛ أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة" سواء كان صفته أم غيرها "ليست باطلة ولا أضغاثًا" أخلاط أحلام "بل هي حق في نفسها، ولو رؤي على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله تعالى" مثل الله ذلك للرائي بشرى، فينبسط للخير، أو إنذارًا، فينزجر عن الشر تنبيهًا على خير يحصل، وقد ذكرنا أن المرئي في المنام أمثلة المرئيات لا أنفسها غير أن تلك الأمثلة تارة تطابق حقيقة المرئي، وتارة لا تتم المطابقة، وقد تظهر في اليقظة كذلك، فالمقصود بتلك الصورة معناها لا عينها، ولذا خالف المثال صورة المرئي بزيادة أو نقص، أو تغير لون، أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب وغيره. ويؤيده قوله "فقد رأى الحق" أشار إليه القرطبي. وقال ابن بطال: قوله: "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق ذلك في اليقظة وصحتها وخروجها على الوجه الحق، وليس المراد أنه يراه في الآخرة، لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة جميع أمته، ومن رآه في النوم ومن لم يره. وقال المازري: إن كان المحفوظ "فكأنما رآني في اليقظة" احتمل أن يكون أراد عصره ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة أن يراه بعد ذلك في اليقظة.   زيادة عضو تنبيهًا على معاني الأمور. هذا أسقطه من كلام القرطبي "وهذا قول القاضي أبي بكر" محمد "بن الطيب" بن محمد القاضي، المعروف بابن الباقلاني، الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة، البصري، ثم البغدادي المالكي، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وله بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة، وورده عشرون ركعة كل ليلة، ما تركها حضرًا ولا سفرًا، وإذا قضى ورده كتب خمسًا وثلاثين ورقة تصنيفًا من حفظه مات سنة ثلاث وأربعمائة "وغيره، ويؤيده قوله: "فقد رأى الحق"، أشار إليه القرطبي" في شرح مسلم، وحاصل كلامه أن رؤياه بصفته إدراك لذاته، فلا تحتاج لتعبير، وبغيرها إدراك لمثاله، فتحتاج إلى التعبير. وقال ابن بطال" أبو الحسن في شرح البخاري: "قوله: فسيراني في اليقظة"، يريد به أنه يرى "تصديق ذلك في اليقظة وصحتها"، أي: رؤياه "وخروجها على الوجه الحق" ولا يلزم منه أنه يرى ذاته يقظة، "وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة جميع أمته، ومن رآه في النوم ومن لم يره" فلا معنى لقصر الحديث عليه، ويأتي الجواب بأنه يراه بصفة خاصة. "وقال" أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي "المازري" بفتح الزاي وكسرها، نسبة إلى مازر جزيرة بصقلية، الإمام الفقيه، العلامة الشهير في شرح إحدى روايتي مسلم، وهي التي بالشك: "إن كان المحفوظ: فكأنما رآني في اليقظة، فمعناه ظاهر" لأنه تشبيه "وأن المحفوظ فسيراني في اليقظة"، وهو المجزوم به في الصحيحين. "احتمل أن يكون أراد أهل عصه ممن لم يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جعل ذلك علامة على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة" فيوفقه الله للهجرة إليه والتشرف برؤيته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها. وأجاب القاضي عياض: باحتمال أن تكون رؤياه في النوم على الصفة التي عرف بها، ووصف عليها، موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه، أو الشفاعة له، بعلو الدرجة ونحو ذلك من الخصوصيات. قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤيته صلى الله عليه وسلم مدة. وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر فذكر عن ابن عباس أو غيره، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد اليقظة متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين -ولعلها خالته ميمونة- فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ير صورة نفسه.   ولقائه، "وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم" فأخبر به "وقيل: معناه سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها" أي: يرى يقظة ما يصلح أن يكون تأويلا للرؤيا وهذا اختاره ابن بطال نافيًا قول من قال: سيراه في الآخرة لأنها لا تختص بمن رآه منامًا. "وأجاب القاضي عياض" عنه "باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عرف بها ووصف عليها" في الأحاديث "موجبة لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصة من القرب منه" عطف تفسير لتكرمته، أي: بالقرب منه "أو الشفاعة له بعلو الدرجة" في الجنة زيادة على الشفاعة العامة وعلى إدخال الجنة، "ونحو ذلك من الخصوصيات". "قال" عياض: "ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في" يوم "القيامة" قبل دخول الجنة "بمنع رؤيته صلى الله عليه وسلم مدة" فلا يضر قائل معنى: فسيراني في اليقظة أنه يراه في الآخرة، كون أمته جميعًا يرونه فيها، لأنهم وإن اشتركوا في الرؤية يختلفون في وقتها وصفتها. "وحمله" الإمم "ابن أبي جمرة" بجيم وراء "على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس أو غيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد اليقظة متفكرًا في هذا الحديث" أي: معنى قوله: "فسيراني في اليقظة" "فدخل على بعض أمهات المؤمنين ولعلها خالته ميمونة"؛ إن كان الرائي ابن عباس لأنه لم يجزم به أولا، "فأخرجت له المرأة" بكسر الميم على وزن فعلاة معروفة، وجمعها مراء كنواص؛ كما في المصباح "التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ير صورة نفسه" فدل ذلك على أن معناه رؤية صورته في مرآته وإن أمكن، ويأتي إن هذا أبعد المحامل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 وقال الغزالي: ليس معنى قوله: "فقد رآني" أنه رأى جسمي وبدني وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأذى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله: "فسيراني في اليقظة" ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني. قال: والآية تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية. والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله عز وجل في المنام، ولا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره. وقال الغزالي أيضًا في بعض فتاويه: من رأى الرسول -يعني في المنام- لم ير حقيقة شخصه الودع روضة المدينة، وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة.   "وقال الغزالي: ليس معنى قوله: "فقد رآني أنه رأى جسمي وبدني" حقيقة، "وإنما المراد أنه رأى مثالا صار ذلك المثال آلة يتأذى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله: "فسيراني في اليقظة" ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني، بل المثال، "قال: والآلة تارة تكون حقيقية وتارة تكون خيالية. والنفس" أي الذات "غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. قال" الغزالي: "ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته" أي: الأمور التي تتعقل بها ذاته "تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره" تقريبًا لعقله، "ويكون ذلك المثال آلة حقًا في كونه واسطة في التعريف" أي: التعقل، "فيقول الرائي: رأيت الله عز وجل في المنام، ولا يعني أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حق غيره، بل يعني أنه رأى مثالا علم به بعض صفاته المميزة له عن غيره؛ لأن رؤية ذات الله تعالى لا تجوز يقظة في الدنيا، فكذا منامًا لا ترى حقيقة، بل مثالا. "وقال الغزالي أيضًا في بعض فتاويه: من رأى الرسول -يعني في المنام- لم ير حقيقة شخصه الودع روضة المدينة"، أي: قربها، إذ هي بين القبور المنبر؛ كما في الحديث، "وإنما رأى مثاله لا شخصه، ثم قال: وذلك المثال مثال روحه المقدسة عن الصورة والشكل" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 والشكل. وقال الطيبي: المعنى من رآني في المنام بأي صفة كنت فليبشر وليعلم أنه قد رآني الرؤيا الحق، أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: "فقد رآني" فالشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء. والحاصل من الأجوبة أنه على التشبيه والتمثيل ويدل عليه قوله "فكأنما رآني في اليقظة". ثانيها: معناه، سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة. ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه. رابعها: المراد أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل.   فحاصله أن المرئي ليس ذات الروح ولا الشخص كما قاله قبل. "وقال الطيبي" في شرح المشكاة: "المعنى: من رآني في المنام بأي صفة كنت فليبشر"، بفتح الياء والشين، "وليعلم أنه قد رآني الرؤيا الحق، أي رؤية الحق لا الباطل، وكذا قوله: "فقد رآني" فالشرط والجزاء إذا اتحدا" صورة "دل على الغاية في الكمال، أي فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء" أي: فقد رأى حقيقتي على كمالها، لا شبهة ولا ارتياب فيما رأى؛ كما هو بقية كلام الطيبي. زاد الكرماني: أو هو في معنى الإخبار، أي: من رآني، فأخبره بأن رؤياه حق ليست من أضغاث الأحلام، ولا تخييلات الشيطان، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم، أي في أسامة بن زيد: "إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله" فيؤول بالإخبار، أي: إن طعنتم فيه، فأخبركم بأنكم طعنتم في أبيه أو يلازمه عند البيانية، أي: إن طعنتم فيه أثمتم بذلك. "والحاصل من الأجوبة" المذكورة في قوله: "فسيراني في اليقظة" خمس تأويلات: أولها: "أنه على التشبيه والتمثيل" عطف تفسير. ويدل عليه قوله: "فكأنما رآني اليقظة" بناء على ثبوته، إذ هو بالشك؛ كما مر. "ثانيها: معناه، سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة". "ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه" فيهاجر ويراه. "رابعها: المراد أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذك". "قال شيخ مشايخنا الحافظ ابن حجر: وهذا من أبعد المحامل" إذ لا دليل عليه، ورؤية ابن عباس أو غيره إن تثبت لا تدل على التخصيص. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره في المنام. والصواب كما قدمناه في رؤيته عليه الصلاة والسلام التعميم، على أي حالة رآه الرائي بشرط أن تكون على صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه أو رجوليته أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي، كما قال بعض علماء التعبير: إن رآه شيخًا فهو غاية سلم، ومن رآه شابًا فهو غاية حرب. وقال أبو سعيد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلا فذلك دل على سوء حال الرائي.   "خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية" من نحو قرب أو شفاعة برفع درجات، "لا مطلق من رآه حينئذ ممن لم يره في المنام" وزيد سادس: وهو أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه. وقال القرطبي: من فوائد رؤياه صلى الله عليه وسلم تسكين شوق الرائي لكونه صادقًا في محبته ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله: "فسيراني في اليقظة"، أي: أن من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بمطلوبه. قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو دينه وشريعته، فتعبر بحسب ما يراء الرائي من زيادة أو نقصان، أو إساءة أو إحسان. قال الحافظ: وهذا جواب سابع والذي قبله لم يظهر لي، وإن ظهر فهو ثامن. "والصواب كما قدمناه في رؤيته عليه الصلاة والسلام التعميم على أي حالة رآه الرائي" لأنه ظاهر الأحاديث الصحيحة، إذ لم يقيد فيها بأنه على صورته، "بشرط أن تكون على صورته الحقيقية في وقت ما"، أي: وقت كان، "سواء كان في شبابه أو رجوليته أن كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لما خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي، كما قال بعض علماء التعبير: إنه رآه شيخًا فهو غاية سلم"، بالفتح والكسر: صلح، لأن الشيخ لا حرب عنده غالبًا "ومن رآه شابًا فهو غاية حرب"، لأنه دأب الشباب. "وقال أبو سعيد أمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًا" أي نبي كان "على حاله وهيئته فذلك دليل على صلاح حال الرائي وكمال جاهه وظفره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلا فذلك دل على سوء حال الرائي"؛ لأن الأرض لا تغير الأنبياء، وهذا تقدم بمعناه عن ابن العربي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 وقال العارف ابن أبي جمرة: من رآه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين. قال: وهذا هو الحق. فقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أم لا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام نوراني مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وفي ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها، وكذلك يقال في كلامه عليه السلام في النوم أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي، فرؤيا الذات الكريمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره، قال: وهذا خير ما سمعته في ذلك، انتهى. وقال بعضهم: ليست رؤياه صلى الله عليه وسلم رؤيا عين، وإنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعي حصر المرئي بل يرى من المشرق إلى المغرب.   "وقال العارف" الرباني عبد الله "ابن أبي جمرة" المقرئ، نزيل مصر، عالم، عابد، خير، من بيت كبير بالمغرب، شهير الذكر: الشيطان لا يتصور بصورته أصلا، فـ"من رآه في صورة حسنة فذلك حسن في دين الرائي، وإن كان في جوارحه شين أو نقص فذلك خلل في الرائي من جهة الدين" فتدل رؤياه على شين أو نقص دينه أي: الطريق، "قال: وهذا هو الحق. فقد جرب ذلك فوجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل أم لا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام نوراني مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال لا نقص فيها" فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم هو على صفته التي ليس شيء أحسن منها، والتغير إنما هو في صفة الرائي، "وكذلك يقال في كلامه عليه السلام في النوم أنه يعرض على سنته، فما وافقها فهو حق، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي" لأنه لا يضبط ما يقال له "فرؤيا الذات الكرمة حق، والخلل إنما هو في سمع الرائي له أو بصره". "قال: وهذا خير ما سمعته" أي: أحسن الوجوه التي سمعتها "في ذلك" قال: ويؤخذ من قوله: "فإن الشيطان ... إلخ"، أن من تمثلت صورة المصطفى في خاطره من أرباب القلوب، وتصور له في عالم سره أنه يكلمه، أن ذلك يكون حقًا، بل هو أصدق من مرئي غيرهم. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة رحمه الله تعالى. "وقال بعضهم: ليست رؤياه صلى الله عليه وسلم" في المنام "رؤيا عين" كرؤية اليقظة، "وإنما يرى بالبصائر، وذلك لا يستدعي حصر المرئي" في محل، "بل يرى من المشرق إلى المغرب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة في المرأة المحاذية لها، وليست الصورة متنقلة إلى جرم المرآة، وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة. واختلاف رؤياه صلى الله عليه وسلم بأن يراه بعضهم شيخًا وآخر شابًا، وآخر ضاحكًا وآخر باكيًا، يرجع إلى الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة في مرائي مختلفة الأشكال والمقادير، ففي المرآة الكبيرة يرى وجهه كبيرًا، وفي الصغيرة صغيرًا، وفي المعوجة معوجًا، وفي الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، فالاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائي، لا إلى وجه المرائي. كذلك الراءون له عليه السلام أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسمًا إليه دل على أن الرائي متمسك بسنته، والله أعلم. وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال رؤية جماعة له صلى الله عليه وسلم في آن واحد من أقطار متباعدة، مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق بأنه صلى الله عليه وسلم سراج، ونور الشمس في هذا العالم، مثال نوره في العوالم كلها، وكما أن   "ومن الأرض إلى العرش، كما ترى الصورة في المرآة المحاذية لها، وليست الصورة متنقلة إلى جرم المرآة" إنما هي مثال، "وعين الناظر مقابلة جميع الكائنات كالمرآة واختلاف رؤياه صلى الله عليه وسلم بأن يراه بعضهم شيخًا" أي: ما قابل الشباب فيشمل الكهل، "وآخر شابًا، وآخر ضاحكًا وآخر باكيًا، يرجع إلى الرائين، كاختلاف الصورة الواحدة في مرائي" بزنة نواص: جمع مرآة، بكسر الميم، "مختلفة الأشكال والمقادير، ففي المرآة الكبيرة يرى وجهه كبيرًا، وفي الصغيرة صغيرًا، وفي المعوجة معوجًا، وفي الطويلة طويلا، إلى غير ذلك، الاختلاف راجع إلى اختلاف أشكال المرائي" جمع مرآة، "لا إلى وجه المرائي" إذ لا تختلف ذاته، "كذلك الراءون له عليه السلام أحوالهم بالنسبة إليه مختلفة، فمن رآه متبسمًا إليه، دل على أن الرائي متمسك بسنته، والله أعلم". وفي الوردية: رؤيا محمد سرور كامله ... وليس للشيطان أن يماثله "وقد أجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال رؤية جماعة" إضافة بيانية "له صلى الله عليه وسلم في آن واحد من أقطار" نواح "متباعدة، مع أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حق" وهو حي في قبره، يصلي فيه بأذان وإقامة، "بأنه صلى الله عليه وسلم سراج"، كما قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} ، "ونور الشمس في هذا العالم، مثال نوره في العوالم" بكسر اللام: جمع عالم بفتحها لأن فاعل يجمع على فواعل، "وكما أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحدة وبصفات مختلفة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولله در القائل: كالبدر من أي النواحي جئته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا: لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم. وقد اشتد حزن فاطمة عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا بعده بستة أشهر -على الصحيح- وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه.   الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحد"، وهي في محلها، "وبصفات مختلفة فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم" إذ نوره أتم وأعلى منها، "ولله در القائل" "كالبدر من أي النواحي جئته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا" كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا وهذا الجواب نسبه بعضهم للصوفية، وقال: هو باطل، فإنه صلى الله عليه وسلم يراه زيد في بيته، وعمرو كذلك في بيته بجملته، والشمس إنما ترى من أماكن عدة، وهي في مكان واحد، فلو رؤيت داخل بيت بجرمها، استحال رؤية جرمها داخل بيت آخر، وهذا هو الذي يوازي رؤيته صلى الله عليه وسلم في بيتين، والإشكال، إنما يراد في رؤيته في مواضع عدة، وإذا ورد بحسب ما قلنا، فلا يتجه الجواب إلا بإثبات الأمثال وتعدادها، فالمرئي في آن واحد في مكانين مثالان، فلا إشكال. "وإما رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة" بفتح القاف "بعد موته عليه الصلاة والسلام فقال شيخنا" السخاوي: "لم يصل إلينا ذلك عن أحد من الصحابة، ولا عن من بعدهم" كالتابعين، ولم يرد في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما قد يؤخذ من قوله: "فسيراني في اليقظة" على أحد الاحتمالات، بخلاف حديث رؤياه منامًا، فقال السيوطي: إنه متواتر، وأيد عدم الورود بقوله: "وقد اشتد حزن فاطمة" رضي الله عنها "عليه صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمدًا"، بفتح فسكون، وبفتحتين: حزنًا شديدًا "بعده بستة أشهر على الصحيح" الثابت في البخاري وغيره عن عائشة، وقيل: بثمانية أشهر، وقيل: أربعة، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، "وبيتها مجاور لضريحه" أي قبره "الشريف، ولم ينقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه" فلو كان يرى في اليقظة لرأته لاشتداد حزنها، ولم يقع ذلك، إذ لو وقع لنقل، ورد هذا بأن عدم نقله لا يدل على عدم وقوعه، وتعقب أنه ظاهر لو جعله لمانع دليلا قطعيًا على أنه لا يرى يقظة، وإنما جعله ظاهرًا في عدم وقوعه لفاطمة، وقول غيرها أنه يراه يقظة مؤول فلا يتم أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم، كما هو في كتاب "توثيق عرى الإسلام" للبارزي و"بهجة النفوس" لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة و"روض الرياحين" للعفيف اليافعي، وغيره من تصانيفه والشيخ صفي الدين ابن أبي المنصور في رسالته. وعبارة ابن أبي جمرة: قد ذكر عن السلف والخلف إلى هلم جرا.   "وإنما حكى بعض الصالحين حكايات عن أنفسهم" أنهم رأوه يقظة، "كما هو في كتاب توثيق عرى الإسلام" للبارزي" القاضي شرف الدين، "وبهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما عليها ولها "لأبي محمد عبد الله بن أبي جمرة" وهو اسم لشرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري، "وروض الرياحين" للعفيف اليافعي، وغيره من تصانيفه والشيخ صفي الدين ابن أبي المنصور في رسالته، وعبارة ابن أبي جمرة" في بهجة النفوس في قوله صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة" هل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته، أو في حياته؟ وهل ذلك لكل من رآه مطلقًا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته؟ اللفظ يقتضي العموم، ودعوى الخصوص بغير تخصيص عنه عليه السلام تعسف، فإن خرق العادة قد يقع للزنديق إغواء وإملاء، ثم ذكر متقدم عن ابن عباس أو غيره من رؤية صورته في مرآته، ثم قال: "وقد ذكر عن السلف" لعله أراد بهم من دون من بعد الصحابة، فلا ينافي ما قدمه المصنف عن شيخه، أو أن نفي السخاوي إنما هو من جهة اصطلاح المحدثين بالأسانيد ولو ضعيفة، "والخلف إلى هلم جرا". قال الشيخ جمال الدين بن هشام: هذا كلام مستعمل في العرف كثيرًا، وذكره الجوهري، فقال: تقول كان ذلك عام كذا وهلم جرا إلى اليوم، وفي عباب الصغني مثله. وقال ابن الأنباري: معناها سيروا على هينتكم، أي: تثبتوا في سيركم ولا تجهدوا أنفسكم، مأخوذ من الجر، وهو ترك الإبل والغنم ترعى في السير. وقال أبو حيان في الارتشاف: هلم جرًا معناه: تعال على هينتكم، ونصب جرًا على أنه مصدر في موضع الحال، أي جارين، قال البصريون، وقال الكوفيون: مصدر لأن معنى هلم جر، وقيل: نصب على التمييز، وأول من قاله عابدين بن زيد، قال: فإن جاوزت مقفرة رمت بي ... إلى أخرى كتلك هلم وتوقف ابن هشام في كونه عربيًا محضًا، وأطال في بيانه بأربعة أوجه، منها: أن الجوهري لا يقبل ما تفرد به، كما قال ابن الصلاح، ولم ينقله لغوي قبله، والصغاني تبعه، ثم قال: الظاهر لي على أنه عربي أن هلم هي القاصرة، بمعنى ائت وتعال إلا أن فيها تجوزين، أحدهما: ليس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص. ثم قال: والنكر لهذا لا يخلو إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا، فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة بالدلائل الواضحة، وإن كان الأول فهذه منها لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي.   المراد المجيء الحسي، بل الاستمرار على الشيء والمداومة عليه، والثاني: أنه ليس المراد الطلب حقيقة، بل الخبر عبر عنه بالطلب، كما في {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} . وجرًا، مصدر جره إذا سحبه، لكن ليس المراد الحسي، بل التعميم، فإن قيل: كان ذلك عام كذا، وهلم جرا، فكأنه قيل: واستمر في بقية الأعوام استمرار، فهو مصدر أو واستمر مستمرًا فهو حال مؤكدة، وبهذا ارتفع إشكال الضعف، فإن هلم جرًا حينئذ خبر وإشكال التزام إفراد الضمير، إذ فاعل هلم مفرد أبدًا. "عن جماعة كانوا يصدقون بهذا الحديث يعني من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أنهم رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم فرأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها، فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص". قال السيوطي: وأكثر من يقع له ذلك إنما يقع له قرب موته، أو عند الاحتضار، ويكرم الله من يشاء، "ثم قال" ابن أبي جمرة: "والمنكر لهذا لا يخلو، إما أن يكون ممن يصدق بكرامات الأولياء أو لا" يصدق بها، "فإن كان الثاني فقد سقط البحث معه، فإنه يكذب ما أثبتته السنة" أقواله، وأفعاله، وتقريره، وهممه، وعزمه صلى الله عليه وسلم "بالدلائل" أي: الدلالات "الواضحة" جمع دلالة، وهي ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه لا جمع دليل، فلا يرد أنه لا معنى فثبات السنة بالدلائل إذ هي نفسها، أو المراد بالسنة ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم مما يدل على ثبوت الكرامات، وبالأدلة المثبتة لها الطرق الموصلة إلى العلم بها، أي: أسانيدها، أو المراد أهل السنة بتقدير مضاف أو استعمل السنة في أهلها مجازًا أولياء للتصوير لا متعلقة بأثبتته، أي: السنة التي هي الدلائل أو المراد الأحاديث الواضحة عن أشياء في إثبات كرامات الأولياء، "وإن كان الأول فهذه منها, لأن الأولياء يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالمين العلوي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 والسفلي عديدة مع التصديق بذلك. وقال الشيخ ابن أبي المنصور في رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس بن القسطلاني دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الله بيدك يا أحمد. وعن الشيخ أبي السعود قال: كنت أزور شيخنا أبا العباس غيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح علي، لم يكن لي شيخ إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصافحه عقب كل صلاة. وقال الشيخ أبو العباس الحرار: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فوجدته يكتب مناشير الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخي محمد معهم منشورًا، فقلت: يا سيدي يا رسول الله، ما تكتب لي.   والسفلي عديدة" صفة أشياء "مع التصديق بذلك" أي: متهم لظهور مطابقته الواقع عندهم، أو ممن علموا به، حيث صدقوا بما أخبروا به، ولم ينكروه عليهم، وهو حال من الهاء في لهم أو متعلق بيكشف. "وقال الشيخ ابن أبي المنصور في رسالته، ويقال: إن الشيخ أبا العباس بن القسطلاني دخل مرة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ الله بيدك يا أحمد. وعن الشيخ أبي السعود" بن أبي العشائر بن سفيان بن الطيب الواسطي، ثم المصري، ذكره الحافظ المنذري في معجم شيوخه وأثنى عليه، وكان من أوسع الأولياء دائرة في السلوك، وله كرامات وخوارق، وكلام عال في الحقائق مات سنة سبع وأربعين وستمائة، ودفن بالقرافة، "قال: كنت أزور شيخنا أبا العباس" البصير، أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي برع في علوم الشرع ببلده، ثم سافر على قدم التجريد، فدخل الصعيد، ثم أقام بالقاهرة يقرئ الناس وينفعهم، أجاز سبعة آلاف رجل بالقراءات السبع، وكان بارعًا في الحديث، حافظًا لمتونه، عارفًا بعلله ورجاله، حسن الاستنباط بذهن وقاد. مات سنة ثلاث وعشرين وستمائة، "وغيره من صلحاء مصر فلما انقطعت واشتغلت وفتح علي، لم يكن لي شيخ إلا النبي صلى الله عليه وسلم و" ذكر "أنه كان يصافحه عقب كل صلاة" وذلك يقظة، وحسبه بذلك شرفًا، "وقال الشيخ أبو العباس" بن أبي بكر "الحرار" بمهملات كما في الكواكب المضيئة المغربي، الأشبيلي، العابد، الزاهد، صاحب الكرامات، قدم مصر وأقام بها، ومات بعد الستمائة: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة فوجدته يكتب" أي يأمر بأن يكتب "مناشير" جمع منشور، أي: كتب "الأولياء بالولاية، قال: وكتب لأخي محمد معهم منشورًا" كتابًا "فقلت: يا سيدي يا رسول الله، ما تكتب لي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 كأخي؟ قال: أتريد أن تكون قهمارًا. وهذه لغة أندلسية، يعني طرقيًا، وفهم عنه أن له مقامًا غير هذا. وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": وهم -يعني أرباب القلوب- في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، انتهى. ورأيت في كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية عن سيدي علي ابن سيدي محمد أنه قال في بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يومًا فرأيت إنسانًا يقرأ عليه سورة {وَالضُّحَى} وصحبته رفيق له وهو يلوي شدقيه بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابًا، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص علي فقال لي: اقرأ فقرأت عليه سورة {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ثم غاب عني، فلما بلغت إحدى وعشرين أحرمت.   كأخي؟ قال: أتريد أن تكون قهمارًا. وهذه لغة أندلسية" بفتح الألف، والدال، وضم اللام، إقليم بالمغرب، "يعني طرقيًا" وخاطبه بها، لأنه من المغرب، "وفهم عنه أن له مقامًا غير هذا". "وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال": وهم يعني أرباب القلوب في يقظتهم يشاهدون الملائكة" على غير صورهم الأصلية، "وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون" أي: يكتسبون، "منهم فوائد" ثم يرتقي الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، "انتهى" كلام الغزالي بما زدته. "ورأيت في كتاب المنح الإلهية في مناقب السادة الوفائية عن سيدي علي ابن سيدي محمد" وفي العارف الكبير ابن العارف الشهير، الغنيين بالشهرة عن التعريف، وتقدم بعضه، "أنه قال في بعض مشاهده: كنت وأنا ابن خمس سنين أقرأ القرآن على رجل يقال له الشيخ يعقوب، فأتيته يومًا فرأيت إنسانًا يقرأ عليه سورة {وَالضُّحَى} الآية وصحبته رفيق له وهو يلوي" يميل "شدقيه" جانبي فمه "بالإمالة، ورفيقه يضحك إعجابًا" بقراءة القارئ، ومقتضى يلوي شدقيه أنها لم تكن حسنة، ولعله حكمة أمره عليه الصلاة والسلام لسيدي علي بالقراءة، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا منامًا" محل الشاهد، "وعليه قميص أبيض قطن، ثم رأيت القميص عليّ فقال لي: اقرأ فقرأت عليه سورة {وَالضُّحَى} و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ثم غاب عني، فلما بلغت إحدى وعشرين" سنة "أحرمت بصلاة الصبح بالقرافة" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 بصلاة الصبح بالقرافة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال لي: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت، وصريح هذا أيضًا أنه يقظة. وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في "لطائف المنن" عن الشيخ أبي العباس المرسي، أنه كان مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي بالقيروان في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان، فذهب معه إلى الجامع. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس ... إلخ، فيحتمل أن يكون منامًا.   بزاويتهم، "فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبالة وجهي فعانقني فقال لي: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فأوتيت لسانه من ذلك الوقت" بأن صرت أتكلم بالكلام الجامع المشتمل على الحكم الكثيرة، والمواهب الربانية، "انتهى، وصريح هذا أيضًا أنه يقظة". "وأما ما حكاه الشيخ تاج الدين" أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله" الجذامي، الإسكندراني، الإمام المتكلم على طريقة الشاذلي، كان جامعًا لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه مالكي، وتصوف، وكان أعجوبة زمانه، وله تصانيف كثيرة؛ كاختصار المدونة للبرادعي، مات سنة تسع وسبعمائة، ودفن بالقرافة، "في لطائف المنن" في مناقب الشيخ أبي العباس، والشيخ أبي الحسن،"عن الشيخ أبي العباس المرسي" بضم الميم نسبة إلى مرسية مدينة بالمغرب، أحمد بن عمر الأنصاري، المالكي، العارف الشهير قطب زمانه، ورأس أصحاب أبي الحسن الشاذلي، مات بالإسكندرية سنة ست وثمانين وستمائة، "أنه كان مع الشيخ أبي الحسن الشاذلي" بمعجمة، ومهملة، الشريف علي بن عبد الله بن عبد الجبار، العلوي الهاشمي، من ذرية محمد بن الحنفية. قال ابن دقيق العيد: ما رأيت أعرف بالله منه، وقال ابن عطاء الله: نشأ بالمغرب الأقصى ومبدأ ظهوره بشاذلة، وله السياحات الكثيرة والمنازلات الجليلة والعلوم الكثيرة، لم يدخل في طريق الله تعالى حتى كان يعد للمناظرة في العلوم الظاهرة، ذو علوم جمة، جاء في هذا الطريق بالعجب العجاب، وشرح من علم الحقيقة بالأطناب، ووسع للسالكين الركاب وكان العز بن عبد السلام يحضر مجلسه، ويسمع كلامه، مات سنة ست وخمسين وستمائة، "بالقيروان" بفتح القاف، والراء، والواو بلد بأفريقية، "في ليلة الجمعة سابع عشر رمضان، فذهب معه إلى الجامع. الحكاية، إلى أن قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "يا علي طهر ثيابك من الدنس تحظ بمدد الله في كل نفس" إلى آخره، فيحتمل أن يكون منامًا" لأنه لم يصرح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلاني: كنت أقرأ على أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي بالمدينة النبوية، فجئته يومًا في وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلي وقال لي: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب علي، فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد وقعدت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا جالس على تلك الحال، وإذا أنا بالشيخ قد جاءني وقال: قم، فقد جاء فيك شفيع لا يرد. ونحوه ما حكاه السهروردي في "عوارف المعارف" عن الشيخ عبد القادر الكيلاني أنه قال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج. وحكي عن السيد نور الدين الإيجي، والد السيد عفيف الدين، أنه في بعض زياراته للنبي صلى الله عليه وسلم سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدي. وقال البدر حسن بن الأهدل في مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار.   "وكذلك قول الشيخ قطب الدين القسطلاني: كنت أقرأ على أبي عبد الله محمد بن عمر بن يوسف القرطبي بالمدينة النبوية، فجئته يومًا في وقت خلوة، وأنا يومئذ حديث السن فخرج إلي وقال لي: من أدبك بهذا الأدب؟ وعاب علي" المجيء هذا الوقت، ومراده تربيته وتأديبه، "فذهبت وأنا منكسر الخاطر، فدخلت المسجد" النبوي، "وقعدت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا جالس على تلك الحال، وإذا أنا بالشيخ قد جاءني وقال: قم، قد جاء فيك شفيع لا يرد" يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه جاءه في المنام، "ونحوه ما حكاه السهروردي" بضم السين، وسكون الهاء، وضم الراء، وفتح، وسكون الراء، ومهملة نسبة إلى سهرورد بلد عند زنجان العلامة العارف شهاب الدين، تقدم بعض ترجمته "في عوارف المعارف عن الشيخ عبد القادر" بن موسى بن يحيى الشريف الحسني "الكيلاني" بكاف أو جيم مكسورتين، ولد ببغداد سنة سبعين وأربعمائة، وحسبك فيه قول العز بن عبد السلام: بلغت إمامته مبلغ القطع، ومات ببغداد سنة نيف وستين وخمسمائة، مناقبه شهيرة كثيرة، "أنه قال: ما تزوجت حتى قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تزوج" فيحتمل أنه منام. "وحكي عن السيد نور الدين الإيجي" بالكسر وتحتية، وجيم نسبة إلى إيج بلدة بفارس، "والد السيد عفيف الدين، أنه في بعض زياراته للنبي صلى الله عليه وسلم سمع جواب سلامه من داخل القبر الشريف: عليك السلام يا ولدي" فهذا من سماع الصوت، وإن لم يكن برؤية، "وقال البدر حسن بن الأهدل في مسألة الرؤية له: إن وقوعها للأولياء قد تواترت بأجناسها الأخبار، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 وصار العلم بذلك قويًا، انتفى عنه الشك، ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة، ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة حس وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم في الرؤية متفاوتة، وكثيرًا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد متصلة صحيحة عمن يوثق به, وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى منامًا، أو في غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورًا فيظنه الرسول، وقد يلبس عليه الشيطان فيجب التحرز في هذا الباب   "وصار العلم بذلك قويًا، انتفى عنه الشك" لاستحالة الكذب مع التواتر، "ومن تواترت عليه أخبارهم لم يبق له فيه شبهة، ولكن يقع لهم ذلك في بعض غيبة حس وغموض طرف، لورود حالة لا تكاد تضبطها العبارة. ومراتبهم في الرؤية" المذكورة في شبه اليقظة "متفاوتة" باعتبار مقاماتهم، فبعضهم أعلى فيها من بعض"، "وكثيرًا ما يغلط فيها رواتها، فقل ما تجد متصلة صحيحة عمن يوثق به" لأن غالبهم يكتمون الأمر. "وأما من لا يوثق به فقد يكذب، وقد يرى منامًا، أو في غيبة حس، فيظنه يقظة، وقد يرى خيالا أو نورًا فيظنه الرسول" صلى الله عليه وسلم، واعترض هذا بأنه سوء ظن بهم، حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة، وهذا لا يظن بأدون العقلاء، فكيف بالأكابر؟ "، "وقد يلبس" بكسر الباء: يخلط "عليه الشيطان" لعدم تمكنه. أما المتمكن فلا، كما حكى أن العارف الكيلاني رأى مرة نورًا ملأ الأفق، ونودي منه أنا ربك، وقد أبحت لك المحرمات، فقال: اخسأ يا لعين، فانقلب النور دخانًا وظلامًا، فقال: نجوت مني بفقهك في أحكام منازلاتك، وقد أضللت بهذا سبعين صديقًا، فسئل بم عرفت أنه الشيطان؟ قال: بقوله أبحت لك المحرمات، "فيجب التحرز في هذا الباب" فإن رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيق وقل من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان بل عدمت غالبًا مع أنا لا ننكر من تقع له من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في بواطنهم وظواهرهم، قاله ابن الحاج في المدخل، قال: وقد أنكر بعض علماء الظاهرية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة؛ لأن العين الفانية لا ترى العين الباقية، والنبي في دار الباقية، والرائي في دار الفناء، ورده الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بأن المؤمن إذا مات يرى الله تعالى، وهو لا يموت، والواحد منهم يموت في كل يوم سبعين مرة، انتهى، ويتأمل معنى موت الواحد في اليوم سبعين مرة، وفي روض الرياحين عن المرسي: لما جاء الغلاء الكبير إلى مصر توجهت لأن أدعو، فقيل لي: لا تدع، فلا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام، فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل عليه السلام، تلقاني، فقلت: يا رسول الله! اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول، لاستلزامه خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره، ومشيه في الأسواق ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له، وخلو قبره عن جسده الشريف، فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب. أشار إلى ذلك القرطبي في الرد على من قال بأن الرائي له في المنام رؤيا حقيقية، يراه بعد ذلك في اليقظة. قال: وهذه جهالات لا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول، وملتزم شيء من ذلك مختل مخبول. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقة.   ففرج الله عنهم. قال اليافعي، قوله: تلقاني الخليل قول حق، لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات، كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام في الأرض، ونظره أيضًا هو وجماعة من الأنبياء في السماوات، وسمع منهم مخاطبات، انتهى. "وبالجملة: فالقول برؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته بعين الرأس في اليقظة يدرك فساده بأوائل العقول" مبادئها بدون احتياج إلى تأمل، "لاستلزامه خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره، ومشيه في الأسواق" وقد لا يلزم ذلك، إذ من الجائز أن يكشف لهم عنه وهو في قبره، "ومخاطبته للناس ومخاطبتهم له" وهم في أماكنهم، وهو في ضريحه، ولا محذور في ذلك، "وخلو قبره عن جسده الشريف، فلا يبقى منه فيه شيء، بحيث يزار مجرد القبر، ويسلم على غائب" وقد علمت أن ذلك ليس بلازم كما يرى القمران والنجوم في أقطار الأرض شرقًا وغربًا، وهي في أماكنها، "أشار إلى ذلك القرطبي" الإمام أبو العباس في المفهم، "في الرد على من قال بأن الرائي له في المنام رؤيا حقيقية، يراه بعد ذلك في اليقظة" زاعمًا أن ذلك معنى "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة". "قال" القرطبي: "وهذه جهالات لا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة" بضم الميم: شيء يمسكه "من المعقول، وملتزم شيء من ذلك" فضلا عن جميعه، "مختل" مخدوع، "مخبول" مجنون ولا شك في ذلك أن التزامه أما إن قال بما أولناه، فلا. "وقال القاضي أبو بكر بن العربي" الفقيه، الحافظ، "وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعني الرأس حقيقة" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 وقال في فتح الباري -بعد أن ذكر كلام ابن أبي جمرة: وهذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة. وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمة: فمن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًا فقد فاه مشتطا ولكن بين النوم واليقظة التي ... تباشر هذا الأمر مرتبة وسطا وقد جعل القاضي أبو بكر بن العربي القول بأن الرؤيا في المنام بعين الرأس غلو وحماقة، ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين في القلب، وأنه ضرب من المجاز، انتهى. فلا يمتنع من الخواص، أرباب القلوب القائمين بالمراقبة والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون لشيء مما يقع لهم من الكرامات، فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من.   فجعله شاذًا، لا يعتد به لعدم إمكانه عنده. "وقال في فتح الباري بعد أن ذكر كلام ابن أبي جمرة" المتقدم قريبًا: "وهذا مشكل جدًا، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة" وأجيب بأن شرط الصحبة رؤيته على الوجه المتعارف قبل موته صلى الله عليه وسلم لا بعده، وإن كان حيًا في قبره، وهذه خوارق، والخوارق لا تنقض لأجلها القواعد، "وللشيخ مسلم شيخ الطائفة المسلمية: "فمن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًا فقد فاه مشتطا "ولكن بين النوم واليقظة التي ... تباشر هذا الأمر مرتبة وسطا" "وقد جعل القاضي أو بكر بن العربي القول بأن الرؤيا في المنام بعين الرأس غلو" تجاوز حدّ "وحماقة" قلة عقل، "ثم حكى ما نسب لبعض المتكلمين، وهو القول بأنها مدركة بعينين في القلب، وأنه ضرب من المجاز، انتهى" فإذا قيل ذلك في رؤيا المنام، فما بالك برؤية اليقظة؟ "فلا يمتنع" سيأتي فاعله في قوله: أن يتمثل "من الخواص، أرباب القلوب" النيرة السليمة من الأغبار، "القائمين بالمراقبة" لله في أقوالهم وأفعالهم، "والتوجه على قدم الخوف، بحيث لا يسكنون" أي: لا يركنون "لشيء مما يقع لهم من الكرامات" بحيث يعولون عليها، ويرون أن لهم مقامًا، "فضلا عن التحدث بها لغير ضرورة، مع السعي في التخلص من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 المكدرات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله، وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم، كالشيخ عبد القادر الكيلاني: أن يتمثل صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإنه تزلزل أو اضطرب كان لمة من الشيطان، وليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم لعدم عصمة غير الأنبياء. فقد قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع تبعًا لغيره: وإن الإلهام ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره، وحينئذ فمن قال -ممن حكينا عنه أو غيره- بأن المرئي هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا، بل حمل كل من أطلق عليه هو اللائق. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت الجنة والنار". مع مزيد استبعاد هناك أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم. ويحكى عن الشيخ أبي العباس المرسي أنه قال: لو حجب عني.   المكدرات، والإعراض عن الدنيا وأهلها جملة، وكون الواحد منهم يود أن يخرج من أهله وماله" مع عزتهما على البشر، "وأنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم، كالشيخ عبد القادر الكيلاني: أن يتمثل صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره ويتصور في عالم سره أنه يكلمه، بشرط استقرار ذلك وعدم اضطرابه، فإنه تزلزل أو اضطرب كان لمة" مصدر محذوف: الزوائد من ألم إلمامًا "من الشيطان، وليس ذلك خادشًا في علو مناصبهم" مقاماتهم "لعدم" وجوب "عصمة غير الأنبياء" والملائكة، وإنما هي حائرة للغير، "فقد قال العلامة التاج ابن السبكي في جمع الجوامع" في الباب الخامس "تبعًا لغيره: وإن الإلهام" لفظه مسألة الإلهام: إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، يخص الله به بعض أصفيائه، و"ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصومًا بخواطره" لأنه لا يأمن من دسيسة الشيطان فيها خلافًا لبعض الصوفية في قوله: إنه حجة في حقه. أما المعصوم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو حجة في حقه وحق غيره إذا تعلق بهم كالوحي، "وحينئذ فمن قال ممن حكينا عنه أو غيره بأن المرئي هو المثال، لا يمتنع حمله على هذا" الذي قلناه أن يتمثل صورته في خاطره ... إلخ، لا حقيقة الرؤية، "بل حمل كل من أطلق" أنه رآه حقيقة "عليه" أي: على هذا التأويل "هو اللائق. وقريب منه قوله صلى الله عليه وسلم" في حديث صلاة الكسوف: "إني رأيت الجنة والنار". "مع مزيد استبعاد هناك" أي: في هذا الحديث "أن يكون المراد بالرؤية رؤية العلم" لبعده من لفظه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء لم أكن رؤيته إلا رأيته في مقامي هذا، حتى الجنة والنار" الحديث في الصحيحين. "ويحكى عن الشيخ أبي العباس المرسي، أنه قال" مرة: "لو حجب عني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين. وعلى هذا فيكون معنى "فسيراني في اليقظة" أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي بحيث لا يخرج عن أدابه وسنته صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه ويحمل العموم في "من رآني" على الموقفين، وإليه يشير قول بعض المعتمدين: أي من رآني رؤية معظم لحرمتي ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه. وقريب منه قول شارح المصابيح: أو أنه يراه في الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية، كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق.   رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين" الكاملين؛ لدلالة الحجب على تقصيري، "وعلى هذا فيكون معنى" قوله: "فسيراني في اليقظة" أي يتصور مشاهدتي وينزل نفسه حاضرًا معي" لا مجرد تصور، وتنزيل بل "بحيث لا يخرج عن آدابه وسنته صلى الله عليه وسلم بل يسلك منهاجه" طريقه، "ويمشي على شريعته وطريقته. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإحسان" الإخلاص، أو إجادة الفعل جوابا لسؤال جبريل: "أن تعبد الله كأنك تراه" بعين إيمانك، مطلعًا على جميع أحوالك، حتى كأنك تشاهده عيانًا، فلا تنحرف عن الطريق الذي نهجه الشرع، وأدى إليه طريق المعرفة، وهذا من جوامع الكلم لجمعه مع الإيجاز بيان المراقبة في كل حال، وهو الإخلاص في جميع الأعمال، والحث عليه، بحيث لو فرض أنه عاينه، لم يترك شيئًا من ممكنه، "ويحمل العموم في" قوله: "من رآني" على الموقفين" لا عموم الناس، ويكفي في صدق العام عمومه في فرد، "وإليه يشير قول بعض المعتمدين" وهو الشيخ أبو العباس القرطبي في المفهم في قوله: "فسيراني في اليقظة"، "أي من رآني رؤية معظم لحرمتي" قال ابن عربي: التعظيم ملاحظة الجلال بلواحظ الوقار على بساط الأدب في مقام المعرفة بعظمة قدر الملحوظ، قال: والحرمة تعظيم مهاب بالغيب والشهادة، وحقيقتها الامتناع من تعدي الحد، "ومشتاق لمشاهدتي وصل إلى رؤية محبوبه وظفر بكل مطلوبه". قال الحافظ: وهذا لم يظهر لي، وإن ظهر، فهو ثامن الأجوبة، كما مر، "وقريب منه قول شارح المصابيح: أو" معنى الحديث "أنه يراه في الدنيا حالة الذوق والانسلاخ عن العوائق الجسمانية" بكسر الجيم، "كما نقل ذلك عن بعض الصالحين أنه رآه في حالة الذوق". قال ابن عربي: هو إدراك في القلب، يميز به بين أشخاص أصناف المعاني، هذا إذا صح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 والشوق، وقد قال الشيخ الأهدل عقب الحكاية عن الشيخ أبي العباس المرسي: وهذا فيه تجوز يقع مثله في كلام الشيوخ، وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل، والله أعلم. ومما اختص به عليه الصلاة والسلام أن التسمي باسمه.   من علة داء الشرك الخفي، وحقيقته وجدان حلاوة في رياض روض الرضا، وغايته الاستغناء في تصور معاني الحقائق عن نصب الأدلة والبراهين السمعية والعقلية. وقال غيره: الذوق أول مبادئ التجليات، والشرب أوسطها، والري نهايتها، والأذواق التي يشير لها القوم هي علوم لا تنال إلا لمن كان خالي القلب عن جميع العلائق والعوائق، "والشوق" وقال بعضهم: يعنون به قواصف قهر المحبة، بشدة ميلها إلى إلحاق المشتاق بمشوقه، والعاشق بمعشوقه. وقال ابن عربي: الشوق انزعاج أثاره تعشق مسموع يوجب الاستشراف إلى لقيه، وحقيقته طلب يتعلق بمطلوب حجبه البعد، يصحبه قلق، وغايته تمني النفس ما لا بد لها منه، ولا قدرة لها على التوصل إليه، ولا قرار لها دون حصوله. "وقد قال الشيخ الأهدل عقب الحكاية" السابقة "عن الشيخ أبي العباس المرسي": لو حجب إلى آخره، "وهذا فيه تجوز يقع مثله في كلام الشيوخ" جمع شيخ، وحقيقته عند الصوفية الإنسان البالغ في علم الشريعة والطريقة، الحقيقة إلى حد من بلغه، كان عالما ربانيًا، مربيًا، هاديًا، مهديًا، مرشدًا إلى طريق الرشاد، معينًا لمن أراد الاستعانة به على بلوغ رتب أهل السداد، وذلك مما وهبه الله من العلم اللدني الرباني، والطب المعنوي الروحاني، فهو طبيب الأرواح الشافي لها بما عمله الله من أدوية أدوائها المردية لها، "وذلك أن المراد أنه لم يحجب حجاب غفلة ونسيان" ولم يحجب "عن دوام المراقبة" المحافظة. قال تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الآية، أي: الحفيظ، وهي عند الصوفية الملاحظة لما هو المقصود بالتوجه ظاهرًا وباطنًا، ويندرج فيها الرعاية والحرمة، "واستحضارها في الأعمال، والأقوال ولم يرد أنه لم يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين، فذلك مستحيل" فلا يريده العارف المرسي، وتعقب هذا بأنه إن أراد الاستحالة العقلية، فباطل، أو الشرعية، فمن أي دليل أو قاعدة أخذ لك كلا لا استحالة لذلك بوجه، "والله أعلم" بما أراد رسوله عليه الصلاة والسلام. "ومما اختص به عليه الصلاة والسلام أن التسمي باسمه" المعهود، المشتهر به، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 ميمون ونافع في الدنيا والآخرة. روينا عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوقف عبدان بين يدي الله تعالى فيؤمر الله إلى الجنة؟ فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة، فإني آليت على نفسي   محمد وأحمد، بدليل أحاديث الترجمة التي ذكرها "ميمون" أي مبارك بركة تامة لا توجد في التسمي باسم غيره من الأنبياء، وإن كان فيها أيضًا بركة، والتسمية بها مستحبة لقوله صلى الله عليه وسلم: "تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" الحديث، رواه أبو داود والنسائي، لأنهم سادة الخلق، وأخلاقهم أشرف الأخلاق، وأعمالهم أصلح الأعمال، فأسماؤهم أشرف الأسماء، فالتسمي بها فيه شرف للمسمى، وحفظها وذكرها؛ وأن لا ينسى، فلذا ندب مع المحافظة على الأدب، قال ابن القيم: هذا هو الصواب، وكان مذهب عمر كراهته، ثم رجع. "ونافع في الدنيا والآخرة" إن سماه تبركًا به وحبًا له، لا لكونه اسم أحد آبائه، أو اسم نحو أمير، ويشهد له ما رواه ابن عساكر والحسين بن أحمد بن عبد الله بن بكير، عن حامد بن حماد العسكري، حدثنا إسحاق بن يسار النضيبي، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة مرفوعًا: "من ولد له مولود فسماه محمدًا حبًا لي وتبركًا باسمي، كان هو ومولوده في الجنة". قال السيوطي: هذا أمثل حديث ورد في هذا الباب، وإسناده حسن، ونازعه تلميذه الشامي، فقال: وليس كذلك، ففي سنده أبو الحسين حامد بن حماد العسكري، شيخ ابن بكير، فيه قال في اللسان كالميزان، خبره هذا موضوع، وهو آفته وشيخه إسحاق بن يسار مجهول، كذا قال وفيه نظر، فإنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الحافظ بن بكير أيضًا، عن شيخه محمد بن عبد الله الخضرمي، حدثنا حبيب بن نصر المهلبي، حدثنا عبد الصمد بن محمد العباداني، حدثنا منصور بن عكرمة، عن برد بن سنان، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي، رفعه به، "روينا" مما أخرجه الحافظ أبو الطاهر السلفي، وابن بكير في جزئه من طريق حميد الطويل، "عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوقف عبدان بين يدي الله تعالى، فيأمر الله بهما إلى الجنة، فيقولان: ربنا بما استاهلنا الجنة، ولم نعمل عملا يجازينا"؟ أي: يجازينا الله بذلك العمل "الجنة" بأنه يجعله سببًا لدخولها، فإسناد المجازاة للعمل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى سببه، وفي نسخة: تجازينا به الجنة، وهي ظاهرة، "فيقول الله تعالى: ادخلا الجنة فإني آليت" أي: حلفت "على نفسي" والإيلاء إنما يتعدى بعلى للمحلوف عليه، وضمن في قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد". وروى أبو نعيم عن نبيط ابن شريط قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "وعزتي وجلالي، لا عذبت أحدًا تسمى باسمك في النار". وعن علي بن أبي طالب قال: ما من مائدة وضعت فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين، رواه أبو منصور الديلمي.   تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} الآية، معنى البعد فعدي بمن، كما في البيضاوي، فكان الظاهر: آليت على "أن لا يدخل" لكنه ضمن معنى فرضت، أو كتبت على نفسي أن لا يدخل "النار من اسمه أحمد ولا محمد" وهذان العبدان اسم أحدهما أحمد والآخر محمد، ويحتمل أن كلا اسمه أحمد ومحمد. "وروى أبو نعيم عن نبيط" بضم النون، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، وطاء مهملة، "ابن شريط" بفتح المعجمة، وكسر الراء، كما في الجامع والإصابة، فلا عبرة بقول القاموس: كزبير، فأهل الفن أعلم به؛ ابن أنس من مالك بن هلال الأشجعي، نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، روى أحمد عنه: إني لرديف أبي في حجة الوداع، إذ تكلم صلى الله عليه وسلم، فوضعت يدي على عاتق أبي: فسمعته يقول: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" ... الحديث. وأخرجه البغوي، وابن السكن من وجه آخر، عن نبيط بن شريط، عن أبيه، قال ابن أبي حاتم: بقي نبيط بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانًا، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا عذبت أحدًا تسمى باسمك" أحمد أو محمد "في النار" بل أعفو عنه. "وعن علي بن أبي طالب، قال: "ما من مائدة وضعت، فحضر عليها من اسمه أحمد أو محمد إلا قدس الله ذلك المنزل كل يوم مرتين" رواه أبو منصور والديلمي" وهو موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، إذ لا مدخل فيه للرأي، وقد ورد مرفوعًا عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن بكير في جزئه، وأخرج ابن عدي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أطعم طعام على مائدة، ولا جلس عليها وفيها اسمي إلا وقدسوا كل يوم مرتين" وفيه أحمد بن كنانة، قال: وقال في اللسان كالميزان: حديث مكذوب، وتعقب ذلك السيوطي، فقال: قد وجدت للحديث طريقًا آخر، ليس فيه أحمد بن كنانة، أخرجه أبو سعد النقاش في معجم شيوخه، عن جابر به، ورجاله ثقات، انتهى. وحديث علي المذكور شاهد له، وأخرجه الحاكم في تاريخه والديلمي والخطيب عن علي رفعه: "إذا سميتم الولد محمدًا، فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجهًا" أي: لا تقولوا له قبح الله وجهك، أو لا تنسبوه إلى القبح في شيء من أقواله وأفعاله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 وليس لأحد أن يتكنى بكنيته "أبي القاسم" سواء كان اسمه محمد أم لا، ومنهم: من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد، ويشبه أن يكون هو الأصح.   وكنى بالوجه عن الذات. وأخرج البزار عن أبي رافع مرفوعًا: "إذا سميتم محمدًا فلا تضربوه، ولا تحرموه"، وروى البزار، وأبو يعلى، والحاكم، عن أنس رفعه: "تسمون أولادكم محمدًا، ثم تلعنونهم"، وهذا استفهام إنكاري بحذف الأداة، أنكر اللعن إجلالا لاسمه كما منع ضرب الوجه تعظيمًا لصورة آدم، وشذ من أخذ من الحديث منع التسمية به، لأنه مدلوله النهي عن لعن من اسمه محمد، لا عن التسمية به. وأخرج الطرائقي، وابن الجوزي عن علي مرفوعًا: "ما اجتمع قوم قط في مشورة، وفيهم رجل اسمه محمد، لم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم فيه"، وذكر بعض الحفاظ أنه لم يصح في فضل التسمية بمحمد حديث، وزعم ابن تيمية أن كل ما ورد فيه موضوع متعقب. وروى ابن سعد مرسلا: "ما ضر أحدكم لو كان في بيته محمد ومحمدان وثلاثة"، وقال مالك: ما كان في أهل بيت اسم محمد إلا كثرت بركته. وفي فتاوى السخاوي ما رواه أبو شعيب الحراني عن عطاء: من أراد أن يكون حمل زوجته ذكرًا، فليضع يده على بطنها وليقل: إن كان ذكرًا فقد سميته محمدًا، فإنه يكون ذكرًا لم يرد مرفوعًا، ورفع بعضهم له، أورده ابن الجوزي في الموضوعات. "و" منها: أنه "ليس لأحد أن يتكنى بكنيته" المشهورة المعروفة له قديمًا "أبي القاسم" باسم أكبر أولاده عند الجمهور، أو لأنه يقسم الجنة بين أهلها أو لقوله: "إني جعلت قاسمًا أقسم بينكم" قال المصنف في أسمائه: كنيته المشهورة أبو القاسم، كما جاء في عدة أحاديث صحيحة، ويكنى بأبي إبراهيم، كما في حديث أنس في مجيء جبريل، وقوله: السلام عليك يا أبا إبراهيم، وبأبي الأرامل ذكره ابن دحية، وبأبي المؤمنين ذكره غيره، انتهى، "سواء كان اسمه محمدًا أم لا" لظاهر حديث الصحيحين عن أنس، قال: نادى رجل رجلا بالبقيع: يا أبا القاسم، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني لم أعنك، إنما دعوت فلانًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي". "ومنهم" أي: العلماء "من كره الجمع بين الاسم والكنية، وجوز الإفراد" أي التسمي بأحدهما، "ويشبه أن يكون هو الأصح" إذ سبب النهي اشتهاره بأبي القاسم، ولذا لا يكره تكنية من اسمه محمد بأبي إبراهيم، وأبي الأرامل، وأبي المؤمنين، وإن كني بها المصطفى، لأنه لم يكن ينادى بشيء منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لولا أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها لتكنيت بأبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 قال النووي: في هذه المسألة مذاهب، الشافعي منع مطلقًا، وجوزه مالك، والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا، ومن جوز خص النهي بحياته، وهو الأقرب، انتهى. ومنها أنه يستحب الغسل لقراءة حديثه والتطيب، ولا ترفع عند الأصوات، بل تخفض، كما في حياته إذا تكلم، فإن كلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف.   إبراهيم، كما به كناني جبريل"، رواه الطبراني، ومن الغريب أنه قيل: يحرم التسمي بمحمد، والتسمي بالقاسم لئلا يكنى أبوه أبا القاسم، حكاهما المازري في شرح مسلم، وتبعه النووي، فأما الثاني فمحتمل، وأما الأول فقد قام الإجماع على خلافه. "قال النووي: في هذه المسألة مذاهب" فصلها، فقال "الشافعي: منع مطلقًا" لمن اسمه محمد وغيره في حياته وبعده، "وجوز مالك" الجمع بينهما لمن اسمه محمد ولغيره بعده، وبه قال أكثر العلماء كما قال عياض: "والثالث: يجوز لمن ليس اسمه محمدًا، ومن جوز خص النهي بحياته" لأنه صلى الله عليه وسلم أذن لعلي وغيره أن يسموا من يولد لهم بعده محمدًا، ويكنوه بأبي القاسم، فعلم من إذنه اختصاص النهي بحياته، ودعوى أنه خص به عليًا لا دليل عليها، إذ أباح لغيره ذلك أيضًا، ولذا رجحه النووي، فقال: "وهو الأقرب" وإن كان الأصح عند الشافعية الإطلاق، "انتهى". وحكى غيره المنع مطلقًا في حياته، والتفصيل بعده بين من اسمه محمد، أو أحمد فيمنع، وإلا فيجوز. قال الحافظ: وهذا أعدل المذاهب، وقال ابن أبي جمرة بعد أن أشار إلى ترجيح مذهب الجمهور: لكن الأولى الأخذ بالمذهب الأول، فإنه أبرأ للذمة، وأعظم للحرمة. "ومنها: أنه يستحب الغسل" وكذا الوضوء "لقراءة حديثه" وروايته، واستماعه، وظاهره ولو سبق الغسل لسبب آخر، "والتطيب" لذلك، "و" يستحب أنه "لا ترفع عنده" أي عند قراءته "الأصوات" وقول ابن العربي. يجب، لعله أراد به تأكد الندب، "بل تخفض، كما في حياته إذا تكلم" تشبيه في مطلق الخفض، وإن كان الأول مستحبًا، والثاني واجبًا، "فإن" حرمته ميتًا كحرمته حيًا كما قال ابن العربي، قائلا: وإن "كلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه الشريف" لا سيما إن تواتر أو صح، وكلامه شامل لمنع مساواة صوت قارئ الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وأن يقرأ على مكان مرتفع. روينا عن مطرف قال: كان الناس إذا أتوا مالكًا -رحمه الله- خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ: تريدون الحديث أو المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم في الوقت، وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا وتعمم ولبس ساجه -والساج: الطيلسان- وتلقى له منصة فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.   زاد أبو بكر بن العربي: فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر أن لا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك عند تلفظه به، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} الآية، وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي له مثل ما للقرآن، إلا معاني مستثنى بيانها في كتب الفقه، وإذا كان رفع الصوت فوق صوته موجبًا لحبوط العمل، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به، انتهى. "و" يستحب "أن يقرأ على مكان مرتفع" عال، زاد في الأنموذج: وقراءة حديثه عبادة، يثاب عليها، كقراءة القرآن في إحدى الروايتين، أي: والرواية الثانية اختصاص ذلك بالقرآن، لأنا تعبدنا بألفاظه، والحديث بمعانيه ولذا جازت روايته بالمعنى للعارف، ولا يجوز ذلك في القرآن مطلقًا. "روينا عن مطرف" بن عبد الله بن مطرف اليساري، بالتحتانية والمهملة المفتوحتين، أبي مصعب المدني، ابن أخت مالك، وثقه ابن سعد والدارقطني، وروى عنه البخاري وغيره، ولم يصب ابن عدي في تضعيفه، مات سنة عشرين ومائتين على الصحيح، وله ثلاث وثمانون سنة، "قال: كان الناس إذا أتوا مالكًا رحمه الله" لطلب العلم، وهو داخل بيته، وطلبوا خروجه لإقرائهم، "خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون" بتقدير أداة الاستفهام، أي: أتريدون "الحديث، أو المسائل" الفقهية، فتعريفه للعهد، "فإن قالوا المسائل، خرج إليهم في الوقت" على حالته التي هو عليها، "وإن قالوا الحديث، دخل مغتسله" المكان الذي أعده للغسل فيه، "فاغتسل وتطيب، ولبس ثيابًا جددًا" بضم أوله وثانيه: جمع جديد، كسرير وسرر، "وتعمم ولبس ساجه، والساج: الطيلسان" مطلقًا، أو الأخضر، أو الأسود، "وتلقى له منصة" بكسر الميم، لأنها آلة على ما في المصباح، وقال غيره، بالكسر والفتح شيء عال كالكرسي والسرير من نصصته، إذ رفعته، وهي في الأصل ما يوضع للعروس، يجلس عليه، أو يقف عند جلائها، "فيخرج ويجلس عليها، وعليه الخشوع" والسكينة والوقار، "ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" إجلالا له، فإنه كان يحب الرائحة الطيبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث. قال ابن أبي أويس: فقيل له في ذلك، فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا. ويقال: إنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب. وقد كره قتادة ومالك وجماعة التحديث على غير طهارة، حتى كان الأعمش إذا كان على غيرها تيمم. ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره، وذكر حديثه وسماع اسمه وسيرته كما كان في حياته، والله أعلم.   فجعل مجلس حديثه كمجلسه حيًا صلى الله عليه وسلم، "ولم يكن يجلس على تلك المنصة إلا إذا حدث" فعلم أنه إنما فعله رعاية للحديث لا لنفسه، "قال" إسماعيل "بن أبي أويس" عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، ابن أخت الإمام مالك المدني، صدوق، روى عنه الشيخان، وروى له الباقون سوى النسائي، فأطلق القول بضعفه، مات سنة ست وعشرين ومائتين، "فقيل له في ذلك" أي: سئل عن سبب فعله جميع ما مر، "فقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" لنسبته له، وردًا على المنافقين، ومن على سنتهم، "ولا أحدث به إلا على طهارة متمكنًا، ويقال إنه أخذ ذلك" المذكور من الغسل والتبخير والتطيب ... إلخ، "عن سعيد بن المسيب" أي: بواسطة، لأنه لم يلق سعيدًا، لأنه مات بعد التسعين وولد مالك سنة ثلاث وتسعين، وقد روى عن الزهري وغيره عن سعيد، "وقد كره قتادة" بن دعامة "ومالك الإمام، "وجماعة التحديث على غير طهارة حتى كان الأعمش" سليمان بن مهران، "إذا كان على غيرها تيمم" لأنه بدل الوضوء، حيث فقد لشدة اعتنائه بالحديث، "ولا شك أن حرمته صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه وتوقيره بعد مماته عند ذكره وذكر حديثه، وسماع اسمه وسيرته، كما كان في حياته" ولذا استحبت الصلاة عليه كلما ذكر صلى الله عليه وسلم، "والله أعلم". زاد في الشفاء: وكان مالك يكره أن يحدث في الطريق، أو هو قائم، وقال: أحب أن أفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن المبارك: كنت مع مالك إل العقيق، فسألته عن حديث فانتهرني، وقال: كنت في عيني أجل من أن تسألني عن الحديث، ونحن نمشي، وسأله جرير بن عبد الحميد القاضي، عن حديث، وهو قائم، فضربه عشرين سوطًا، ثم أشفق عليه، فحدثه عشرين حديثًا، فقام هشام: وددت لو زادني سياطًا، ويزيدني حديثًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج في "المدخل": لأنه قلة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقلة احترام وعدم مبالاة أن يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعه، وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون إن أصابهم الضرر في أبدانهم ويتحملون المشقة التي تنزل بهم إذ ذاك التحديث احترامًا لحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم. وحسبك ما وقع لمالك -رحمه الله- في لسع العقرب له سبع عشر مرة، وهو لم يتحرك، وتحمله للسعها توقيرًا لجناب حديثه صلى الله عليه وسلم أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل لبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغي من الكلام المعتاد، انتهى. ومنها أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة، وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ.   "ومنها: أنه يكره لقارئ حديثه" دون غيره من العلوم "أن يقوم لأحد، قال ابن الحاج في المدخل: لأنه" أي: القيام "قلة أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم وقلة احترام وعدم مبالاة أن" أي: بأن "يقطع حديثه لأجل غيره، فكيف لبدعه" وهي القيام، "وقد كان السلف لا يقطعون حديثه ولا يتحركون إن أصابهم الضرر في أبدانهم ويتحملون المشقة التي تنزل بهم إذ ذاك" أي: وقت "التحديث احترامًا لحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم، وحسبك ما وقع لمالك رحمه الله في لسع العقرب له سبع عشرة" وفي الشفاء: ست عشرة "مرة"، فصار يصفر ويتلوى حتى تم المجلس وتفرق الناس، وقال: صبرت للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينافي قوله: "وهو لم يتحرك" لأن المراد حركة عنيفة لا اللالتواء، "وتحمله للسعها توقيرًا لجناب حديثه أن يكون يقرأ وهو يتحرك لضر أصابه، مع أنه معذور فيما وقع، فكيف بالحركة والقيام إذ ذاك لا لضرورة بل لبدعة، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك ما لا ينبغي من الكلام المعتاد" نحو: ما حالكم أنتم طيبون، "انتهى" كلام ابن الحاج. "ومنها: أن قراء حديثه لا تزال وجوههم نضرة" أي: حسنة ذات بهجة وسرور لقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرأ، سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها". رواه أحمد والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة، بل قال الحافظ: إنه مشهور، وعده بعضهم من المتواتر، لأنه ورد عن أربعة وعشرين صحابيًا وسردهم، "وأن قراء حديثه اختصوا بالتلقيب بالحفاظ" والحافظ من حفظ مائة ألف حديث متنًا وإسنادًا، ولو بتعدد الطرق والأسانيد، أو من روى ما يحتاج إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 وأمراء المؤمنين من بين سائر العلماء. ومنها أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع به صلى الله عليه وسلم لحظة، بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت إلا بطول الاجتماع معه.   وروى ابن أبي حاتم عن الزهري، قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة، "وأمراء المؤمنين" في الحديث"من بين سائر العلماء" من المفسرين والفقهاء وغيرهم، واختصوا أيضًا بأنهم خلفاؤه لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي، الذين يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس" رواه الطبراني، ويقع في بعض النسخ تأخير هذه عن التي بعدها، وتقديمها أنسب كما لا يخفى. "ومنها" أي فضائله التي اختص بها عن أمته، "أنه تثبت الصحبة لمن اجتمع له صلى الله عليه وسلم" وإن لم يره لعارض كعمى، ولو بلا مجالسة ومكالمة ذكرًا أو أنثى، إنسيًا أو جنيًا، روى عنه أم لا، مميزًا أم لا، فدخل من حنكه، أو مسح وجهه، أو تفل فيه، وهو رضيع على الأصح لكن أحاديث هؤلاء من قبيل مراسيل كبار التابعين، كما بينه الحافظ، ثم هذه صفة في الحقيقة لأصحابه، لكن لما كانت بركته بتأثيره فيهم، عدت من خصائصه أو التقدير، ومنها نور النبوة المفاض على من صبحه، وقد يكون هذا أولى، لأن السياق في خصائصه كما قرر شيخنا. "لحظة" مؤمنًا في حياته، وأما من رآه بعد موته وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابي، وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم، وهو في قبره، ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء، فرآه كذلك على طريق الكرمة إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنما هي أخروية، لا تعلق لها بأحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك، فالأحكام المتعلقة بهم بعد القتل، جارية على أحكام غيرهم من الموتى، وكذا المراد بهذه الرؤية من اتفقت له، وهو يقظان، أما منامًا، فهو وإن كان رآه حقًا، فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فذلك لا يعد صحابيًا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة، قاله الحافظ. وقال البقاعي: يخرج من التعريف من رآه بعد الموت وقبل الدفن، كأبي ذؤيب الهزلي، فإن الإخبار الذي هو معنى النبوة انقطع، وأيضًا لا يعد ذلك لقيًا عرفًا، وقد صرحوا بأن عدم جعله صحابيًا أرجح، انتهى، فإن ارتد ومات عليها، فلا يسمى صحابيًا، فإن عاد، فقولان أطبق المحدثون على عد من وقع له ذلك؛ كالأشعث بن قيس الكندي في الصحابة، وعلى إخراج أحاديثهم في المسانيد، ويأتي تمام ذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع، "بخلاف التابعي مع الصحابي، فلا تثبت" التابعية "إلا بطول الاجتماع معه" عرفًا، بحيث يعده ممن تلقى عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 على الصحيح عند أهل الأصول، والفرق عظم مرتبة النبوة ونورها، فمبجرد ما يقع بصره على الأعرابي الجلف ينطق بالحكمة. ومنها أن أصحابه كلهم عدول، لظواهر الكتاب والسنة، فلا يبحث عن عدالة أحد منهم.   الصحابي، وضبط ما قاله "على الصحيح عند أهل الأصول" لا المحدثين، فالأصح عندهم؛ كما عند ابن الصلاح والنووي: أنه من لقي الصحابي كما قاله الحاكم وغيره. قال العراقي: وعليه عمل الأكثر، كمسلم وابن حبان وإن لم يسمع من الصحابي، ولم يميز، واشترط ابن حبان تمييزه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة والتابعين بقوله: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني" ... الحديث، فاكتفى فيهما بمجرد الرؤية، انتهى باختصار، واختاره أيضًا الحافظ بن حجر، وهو صريح في أن فضل التابعية يحصل بمجرد اللقى والرؤية، وإن كانت روايته عن ذلك الصحابي الذي رآه لا تصح، إلا إذا ثبت سماعه منه، وإلا فهي منقطعة كما بين في علوم الحديث، ومن عكس هذا فقد وهم. "والفرق" على ما صححه الأصوليون, ووافقهم طائفة من المحدثين، كالخطيب، "عظم مرتبة النبوة" أي: نبوته قال عهدية، أو عوض عن المضاف إليه، وجعلها جنسية يقتضي مشاركة الأنبياء له في ذلك، وإن لم يكن رسولا، ويحتاج لنقل صريح لعدم ثبوت الخصائص بالاحتال "و" لعظم "نورها، فمبجرد ما" مصدرية "يقع بصره على الأعرابي الجلف" بالكسر، أي: الجافي، ووقع بصره تمثيل لا تقييد، فلو رأى النبي على بعد، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم، كان صحابيًا "ينطق بالحكمة" لشرف منزلته، فيظهر أثر نوره في قلب من لقيه، وعلى جوارحه، فالاجتماع به يؤثر من النور القلبي أضعاف ما يؤثر الاجتماع الطويل بالصحابي وغيره، ولا يشترط إيمان التابعي وقت اجتماع بالصحابي، قال البقاعي: وإنما اشترط في الصحبة الإيمان لشرفها، فاحتيط لها، ولأنه تعالى شرط في الصحابة كونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} ولا يكونون معه إلا إذا آمنوا به، انتهى. نعم، لو أسلم بعدما لقيه كافرًا، وحدث ما سمعه منه حالتئذ قبل، وإن لم يكن صحابيًا. قال العراقي: وقبلوا من مسلم تحملا ... في كفره كذا صبي حملا "ومنها: أن أصحابه كلهم عدول" بتعديل الله تعالى وتعديله عليه الصلاة والسلام "لظواهر الكتاب" نحو: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية، "والسنة" فتقبل رواياتهم ولو كان حجة لفعلهم كرواية علي قتل الخوارج وشهادتهم لا ثبوت عصمتهم واستحالة المعصية عليهم؛ كما نص عليه ابن الأنباري وغيره, وأشار إليه بقوله: "فلا يبحث عن عدالة أحد منهم" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 كما يبحث عن سائر الرواة. قال الله تعالى خطابًا للموجودين حينئذ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، أي: عدولا، وقال عليه السلام:   في شهادة ولا رواية "كما يبحث عن سائر الرواة" وغيرهم لأنهم خير الأمة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه، ولكن لا يفسقون بما يفسق به غيرهم كما ذكره الحلال المحلي في شرح الجوامع فتقبل رواياتهم وشهاداتهم، ولو وقعت كبيرة من بعضهم أقيم حدها أم لا؟ وإن لم يبلغنا توبته. ومن فوائد عدالتهم مطلقًا أنه إذا قيل عن رجل من أصحاب النبي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كان حجة كتعيينه باسمه بخلاف غيرهم فلا يقبل المبهم لاحتمال أنه ليس عدلا وسواء من لابس الفتنة وغيره على المختار طال اجتماعهم به أو قصر، وقول المازري في شرح البرهان: لسنا نعني بعدالة الصحابة كل من رآه يومًا أو زاره أو اجتمع به لغرض وانصرف عن قرب، بل الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. قال العلائي الحافظ: غريب لا يواف عليه، والجمهور على التعميم، انتهى. ويؤيد العموم رواية الأئمة أحاديثهم مطلقًا بدون تردد مع ورود النهي عن روايته عن غير العدل، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تأخذوا الحديث إلا عمن تجوزون شهادته"، رواه الخطيب وغيره عن ابن عباس، وقال ابن سيرين: هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. وقال مالك: لا تحمل العلم عن أهل البدع، ولا تحمله عمن لم يعرف بالطلب، ولا عمن يكذب في حديث الناس، وإن كان في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب، رواه ابن عساكر، وكان عروة بن الزبير يسمع الحديث يستحسنه ولا يرويه لكونه لا يثق ببعض رواته لئلا يؤخذ عنه رواه الشافعي، فلو لم تكن الصحابة كلهم عدولا لامتنع مالك وغيره من الأئمة عن رواية كثير منهم. "قال الله تعالى خطابًا للموجودين حينئذ" يعني الصحابة: {وَكَذَلِكَ} أي: كما هديناكم إلى صراط مستقيم أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل، {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} ، أي عدولا" مزكين بالعلم والعمل أو خيارًا، وكذا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، قال الحافظ العراقي: قيل اتفق المفسرون على أن الخطاب في الآيتين للصحابة الموجودين، انتهى. لكن البيضاوي والجلال جعلا الخطاب لأمة محمد الشامل لهم ولمن بعدهم إلى يوم القيامة، ويؤيده حديث البخاري وغيره في جحد الأمم تبليغ أنبيائهم فيؤتى بأمة محمد فيشهدون بالبلاغ ويزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن الجمع بأن الخطاب للصحابة حقيقي لوجودهم، وإن كان المراد ما يشملهم وغيره لاشتراك الجميع في العلم. "وقال عليه السلام" فيما أخرجه الشيخان وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري، وفي بعض طرقه عند مسلم، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".   شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم" وفي رواية: "فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا" كل يوم كما زاد في رواية البرقاني، قال: وهي زيادة حسنة: "ما بلغ مد أحدكم" بضم الميم، مكيال معروف، وحكى الخطابي أنه روي بفتح الميم، قال: والمراد به الفضل والطول ذكره الحافظ وتوقف الدماميمي، فقال: لا أدري هل أراد أنه روى في البخاري أو رواية في الحديث في الجملة، فينبغي تحريره، انتهى. وهو تشكيك لا طائل تحته، فالمتبادر أنه في البخاري. "ولا نصيفه" أي: المد من كل شيء يوزن رغيف، أي: نصفه كما يقال: عشر وعشير وثمن .وثمين، وقيل: النصيف مكيال دون المد ذكره الفتح، وقال تلميذه شيخ الإسلام زكريا بفتح النون وضمها مصغرًا، أي: نصفه والنصف مثلث النون، فمجموع ذلك خمس لغات، انتهى. قال البيضاوي: معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهبًا من الأجر والفضل ما نال أحدهم بإنفاق مد أو نصفه وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية، قال الحافظ: وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه وأشار بالأفضلية بسبب الاتفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما في آية: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} ، ففيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بعد ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجًا فلا يقع ذلك الموقع المتقدم، انتهى. وسبقه الطيبي، فقال: يمكن أن يقال فضيلتهم بحسب فضيلة إنفاقهم وعظم موقعها؛ كما قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} ، وهذا في الإنفاق، فكيف بمجاهدتهم وبذلهم أرواحهم ومهجهم؟ قال الحافظ: وفي قوله: "فلو أن أحدكم" إشعار بأن المراد بقوله أصحابي أصحاب مخصصون وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال: لو أن أحدكم أنفق، وهذا مثل قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي} الآية، ومع ذلك فنهي بعض من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبه بذلك عن سب من سبقه يقتضي زجر من لم يدركه ولم يخاطبه عن سب من سبقه من باب أولى، وغفل من قال -يعني الكرماني- الخطاب بذلك لغير الصحابة، والمراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل تنزيلا لمن سيوجد منزلة الموجود للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطب بذلك خالد بن الوليد وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق، انتهى. وتعقبه العيني بأن الحديث الذي فيه قصة خالد لا يدل على أنه المخاطب بذلك الخطاب، وإن سلمنا أنه المخاطب فلا نسلم أنه كان إذ ذاك صحابيًا بالاتفاق إذ يحتاج إلى دليل، ولا يظهر ذلك إلا بالتاريخ ولم يجب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وقال عليه السلام: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" في آيات كثيرة وأحاديث تقتضي تعديلهم. ولذلك: أجمع من يعتد به على ذلك، سواء في التعديل من لابس الفتنة منهم وغيره.   الحافظ في انتقاض الاعتراض عن هذا التعقب لسقوطه، فإن عدم تسليمه صحبته حينئذ مع وجود الاتفاق عليها مجرد مكابرة وعناد، وقال في خطبة الانتقاض: أنه إنما يجيب عن الاعتراض الذي له نوع تماسك، وقال الشيخ زكريا: الخطاب للحاضرين من الصحابة ولغيرهم ولو من غير الصحابة ففيه تغليب الحاضر على الغائب، انتهى. "وقال عليه السلام" فيما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود: "خير الناس" أهل "قرني" أي: عصري من الاقتران في الأمر الذي يجمعهم، يعني: أصحابي ومن رآني أو من كان حيًا في عهدي. قال الحافظ: ومدتهم من البعثة مائة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الخلاف في وفاة أبي الطفيل آخر من مات من الصحابة، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كان مائة سنة أو تسعين أو سبعًا وتسعين، وفي رواية للشيخين: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم" أي: القرن الذي بعدهم وهم التابعون ومدتهم نحو سبعين أو ثمانين سنة، إن اعتبر من سنة مائة، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين نحوًا من خمسين إلى حدود العشرين ومائتين، قال الحافظ: فظهر بهذا أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمان، واتفق أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله: من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاحشًا وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن العلماء ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن، وظهر قوله صلى الله عليه وسلم، ثم يفشوا الكذب ظهورًا بينًا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان. قال: ووقع في رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم ذكر طبقة رابعة وهي رواية شاذة وأكثر الروايات مقتصر على ذكر الثلاثة ثم الجمهور على أن ذا الفضل باعتبار الإفراد، وقال ابن عبد البر باعتبار المجموع، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السابع وقبله في خصائص الأمة قريبًا، "في" أي: مع "آيات كثيرة وأحاديث" كثيرة جدًا "تقتضي تعديلهم، ولذلك أجمع من يعتد به على ذلك" من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة؛ كما في الاستيعاب. "سواء في التعديل من لابس الفتنة" الواقعة حين قتل عثمان كالجمل وصفين، "منهم وغيره" وهو من لم يلابسها خلافًا لمن قال: لا يحكم بعدالة من لابسها حتى يبحث عنه؛ لأن أحد الفريقين فاسق. وقيل: يقبل الداخل فيها إذا انفرد لأن الأصل العدالة، وشككنا في ضدها ولا يقبل إذا خولف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 لوجوب حسن الظن بهم، حملا للملابس على الاجتهاد، ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر، من امتثال أوامره عليه السلام، وفتحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسنة، وهدايتهم الناس، مواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات، مع الشجاعة والبراعة والكرم والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك. كل ذلك بحلول نظره عليه الصلاة والسلام. وأفضلهم عند أهل السنة إجماعًا: أبو بكر ثم عمر، وأما بعدهما: فالجمهور على أنه عثمان ثم علي. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع.   لتحقق إبطال أحدهما من غير تعيين. وقيل: القول بالعدالة مختص بمن اشتهر منهم ومن عداهم كسائر الناس. "لوجوب حسن الظن بهم حملا للملابس على الاجتهاد" الواقع منه المقتضى لجواز فعله، بل قد يؤديه إلى وجوبه ولا التفات إلى ما يذكره الإخباريون فأكثره لم يصح، وما صح فله تأويل صحيح, وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيفنا فلا نخضب بها ألسنتنا. "ونظرًا إلى ما تمهد لهم من المآثر" الجليلة "من امتثال أوامره عليه السلام وفتحهم الأقاليم" بعده، "وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس مع مواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات مع الشجاعة والبراعة" الفضل في العلم والشجاعة وغيرهما، "والكرم والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة، ولا يكون أحد بعدهم مثلهم في ذلك، كل ذلك بحلول نظره عليه الصلاة والسلام" وقد قال محمد بن كعب القرظي: أوجب الله لجميع الصحابة الجنة محسنهم منهم ومسيئهم. قال ابن جرير: وورد نص النبي صلى الله عليه وسلم بالبشارة والشهادة بالجن لغير العشرة كالحسنين وأمهما وجدتهما وجمع أكثر من أن يحوى، انتهى. وأشار بذلك إلى أن لا تدافع بينه وبين تبشير العشرة في حديث واحد لأن العدد لا ينفي الزائد. وروى الترمذي وصححه الضياء عن بريدة رفعه: "ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلا بعث قائدًا ونورًا لهم يوم القيامة"، أي: إلا بعث ذلك الصحابي قائدًا لأهل تلك الأرض إلى الجنة ونورًا لهم يسعى بين أيديهم، فيمشي في ضوئه، وإطلاقه شامل للذكر وغيره وطول صحبته وملازمته ولغيره وقد عد هذا بعضهم من خصائصه. "وأفضلهم عند أهل السنة إجماعًا" منهم: "أبو بكر، ثم عمر" وإلزامًا للشيعة بما صح عن علي أنهما خير منه، "وأما بعدهما فالجمهور على أنه عثمان ثم علي" ومنهم من قدمه، ومنهم من وقف. "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد السابع" مع فوائد نفيسة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 ومنها أن المصلي يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبي، ولا يخاطب غيره. ومنها أنه كان يجب على من دعاه وهو في الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبي سعيد بن المعلى: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه. الحديث، وفيه: "ألم يقل الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] "، فإجابته فرض، يعصي المرء بتركها. وهل تبطل الصلاة أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم: أنها لا تبطل.   "ومنها: أن المصلي يخاطبه بقوله: السلام عليك أيها النبي" ورحمة الله وبركاته؛ كما في حديث التشهد والصلاة صحيحة، "ولا يخاطب غيره" من الخلق ملكًا أو شيطانًا أو جمادًا أو ميتًا، ولا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم لإبليس: "ألعنك بلعنة الله"؛ لأنه خصوصية أو خطاب نفسي لا لما قيل إنه قبل تحريم الكلام في الصلاة، لأنه كان بالمدينة وتحريمه قبلها. "ومنها: أنه كان يجب على من دعاه وهو في الصلاة أن يجيبه، ويشهد له حديث أبي سعيد" بكسر العين "ابن المعلى" الأنصاري المدني، قا ابن عبد البر: اسمه الحارث بن نفيع بن المعلى على الأصح، ومن قال رافع بن المعلى فقد وهم؛ لأنه قتل ببدر مات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ثلاث. قالوا: وعاش أربعًا وستين سنة، قال في الإصابة: وهو خطأ، فإنه يستلزم أن تكون قصته مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير وسياق الحديث يأبى ذلك، روى البخاري في تفسير الفاتحة عنه، قال: "كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه" وللبخاري في تفسير الأنفال فلم آته حتى صليت ثم أتيته، فقلت: يا رسول الله! إني كنت أصلي، فقال: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، ثم قال: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد" ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: "لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن"، قال: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته". هذا لفظه، فاقتصر المصنف على حاجته منه مشيرًا إلى ما حذفه بقوله: "الحديث وفيه: "ألم يقل الله {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} " من أمر الدين لأنه سبب للحياة الأبدية، "فإجابته فرض يعصي المرء بتركها" اتفاقًا، "و" اختلف العلماء "هل تبطل الصلاة" بذلك "أم لا؟ صرح جماعة من أصحابنا الشافعية وغيرهم" كالعلامة بهرام من المالكية في طائفة منهم "أنها لا تبطل" ولو فرضًا بل هي صحيحة ولو أجابه بالفعل فتجب ولا تبطل على الراجح، قال الإسنوي: وهو المتجه. قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا، سواء كان المخاطب مصليًا أو غير مصل. أما كونه يخرج بالإجابة أو لا يخرج فليس في الحديث ما يستلزمه، فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جنح بعض الشافعية، والله أعلم. ومنها: أن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره.   الخيضري: ومحله إذا اقتصر على لفظ يفهم منه الجواب كنعم أو لبيك، فإن زاد بطلت فيما يظهر، انتهى. لكن قال الرملي: لا فرق بين قليل الإجابة وكثيرها بالقول والفعل، فلو سأل مصليًا عن شيء وجبت إجابته وصحت صلاته كما ألحقه بعض بدعائه. أما لو ابتدأه المصلي بالكلام فإن تعلق بنحو الصلاة والسلام عليه اغتفر، وإلا كجاءك فلان أو نصرك الله يوم بدر، فالمتجه البطلان؛ لأنه كلام أجنبي غير محتاج إليه، ولا دعاء فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ولا جواب. "وفيه بحث لاحتمال أن تكون إجابته واجبة مطلقًا سواء كان المخاطب مصليًا أو غير مصلٍ. أما كونه يخرج من الصلاة بالإجابة" لبطلانها، "أو لا يخرج" لعدمه "فليس في الحديث" أي: حديث ابن المعلى المذكور "ما يستلزمه" ويدل عليه، "فيحتمل أن تجب الإجابة ولو خرج المجيب من الصلاة" وبعض المالكية أيضًا، وهو ضعيف والمعتمد في المذهبين الصحة، "والله أعلم" بالحكم. وهذا أخذه المصنف من فتح الباري، وزاد في الأنموذج: وكذلك الأنبياء، أي: تجب إجابتهم ولا تبطل الصلاة. وفي التحفة: وألحق به عيسى إذا نزل ولعل قائله غفل عن جعل هذا من خصائص نبينا، أو رأى أنه من خصائصه على الأمة لا على بقية الأنبياء وهو بعيد من كلامهم، وكذا قال: ويوافقه قول بعض تسن إجابة عيسى وتبطل بها الصلاة، والسيوطي حجة في النقل، وقد جزم بن الأنبياء مثله. "ومنها: أن الكذب" أي: الإخبار عنه بشيء على خلاف ما هو "عليه" ولو في غير الأحكام كترغيب وترهيب ووعظ "ليس كالكذب على غيره" كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"، أخرجه الشيخان من حديث المغيرة وأبو يعلى والبزار وكثيرون عن سعيد بن زيد، وظاهره حتى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكان حكمة ذلك أنه يصير شرعًا مستمرًا، لأنه بصدد بعثة نبي بعده تبين ما كذب عليه بخلاف نبينا فلا نبي بعده، فمن قال الأنبياء مثله فيما يظهر فيه نظر للفرق، وأيضًا فالخصائص إنما تثبت بدليل صحيح لا بالاحتمال ولا مفهوم لقوله: "علي"، لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب، وقد اغتر قوم من الجهلة كالكرامية فجوزوا ووضعوا أحاديث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 ..............................................................   في الترغيب والترهيب، وقالوا: إنه كذب له لا عليه، وهذا جهل باللغة العربية وما دروا أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من نقل عني ما لم أقل يقتضي الكذب على الله تعالى"؛ لأنه إثبات حكم سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه، وقد اشتد النكير على من كذب على الله في قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} ، فسوى بين من كذب عليه وبين الكافر. وقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ، والآيات في ذلك متعددة، فلذا شدد في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت، وهي ما أخرجه البزار عن ابن مسعود: "من كذب علي ليضل به الناس" الحديث، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، ورواه الدارمي عن يعلى بن مرة بسند ضعيف وعلى تقدير ثبوته فليست اللام للعلة بل للصيرورة؛ كقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} ، والمعنى أن مآل أمره إلى الإضلال أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له؛ كقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} ، فقتلهم ومضاعفة الربا والإضلال إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم؛ كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: قال: وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه عنه خلق كثير من الصحابة، واعتنى جماعة من الحفاظ بجمع طرقه، فأول من وقفت على كلامه في ذلك علي بن المديني وتبعه يعقوب بن شيبة، فقالا: إنه ورد عن عشرين صحابيًا ثم إبراهيم الحربي والبزار، فقالا: ورد عن أربعين وزاد ابن صاعد قليلا. وقال الصيرفي: رواه ستون، وجمع الطبراني فزاد قليلا. وقال ابن منده: رواه أكثر من ثمانين، وجمع ابن الجوزي طرقه في مقدمة الموضوعات فجاوز تسعين، وبه جزم ابن دحية. وقال أبو موسى المديني: يرويه مائة صحابي وجمعها بعده الحافظ المزي وأبو علي البكري، وهما متعاصران، فوقع لكل ما ليس عند الآخر ومجموع ما ذكراه مائة على ما فيها من صحيح وحسن وضعيف وساقط مع أن فيها ما هو في مطلق ذم الكذب عليه من غير تقييد بهذا الوعيد الخالص ونقل النووي أنه جاء عن مائتين من الصحابة، ولأجل كثرة طرقه أطلق جماعة أنه متواتر، ونازع بعض مشائخنا في ذلك بأن شرط التواتر استواء طرفيه وما بينهما في الكثرة، وليست موجودة في كل طريق بمفردها. وأجيب: بأن المراد بإطلاقه كونه متواترًا رواية المجموع عن المجموع من ابتدائه إلى انتهائه في كل عصر، وهذا كاف في إفادة العلم وأيضًا فطريق أنس وحدها قد رواها عنه العدد الكثير، وتواترت عنهم. وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين، وكذا حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو؛ فلو قيل في كل منها أنه متواتر عن صحابيه لكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 ومن كذب عليه لم تقبل روايته أبدًا وإن تاب، فيما ذكره جماعة من المحدثين. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن رجل عن سعيد بن جبير أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم.   صحيحًا، فإن العدد المعين لا يشترط في المتواتر بل ما أفاد العلم كفى، والصفات العلية في الرواية تقوم مقام العدد أو تزيد عليه كما قررته في نكت علوم الحديث وشرح النخبة، وبيت هناك الرد على من ادعى أن مثال المتواتر لا يوجد إلا في هذا الحديث فأمثلته كثيرة؛ كحديث: "من بنى لله مسجدًا" والمسح على الخفين ورفع اليدين والشفاعة والحوض ورؤية الله في الآخرة والأئمة من قريش، وغير ذلك. وأما ما نقله البيهقي عن الحاكم ووافقه أنه جاء من رواية العشرة، وليس في الدنيا حديث أجمع العشرة على روايته غيره، فقد تعقبه غير واحد؛ لكن الطرق عنهم موجودة فيما جمعه ابن الجوزي فمن بعده، والصحاح منها علي، والزبير، والحسان، وطلحة، وسعد، وسعيد، وأبو عبيد. ومن الضعيف المتماسك طريق عثمان وبقيتها ضعيف أو ساقط ويخالفه قوله: قبل، وصح أيضًا في غير الصحيحين من حديث عثمان بن عفان، فإنه قال: أولا أنه في الصحيحين من حديث علي، وأنس، وأبي هريرة، والمغيرة، والبخاري عن الزبير وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن عمرو بن العاصي، ومسلم عن أبي سعيد، وصح أيضًا في غير الصحيحين عن طلحة وسعيد بن أبي زيد، وأبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر، وعمران، وسلمان، ومعاوية، ورافع بن خديج، وطارق الأشجعي، والسائب بن يزيد، وخالد بن عرفطة، وأبي أمامة، وأبي قرصافة، وأبي موسى، وعائشة؛ فهؤلاء ثلاثون من الصحابة. وورد أيضًا عن نحو خمسين غيرهم بأسانيد ضعيفة، وعن نحو عشرين آخرين بأسانيد ساقطة، انتهى. وقد استبعد العراقي في شرح الألفية قول النووي: جاء عن مائتين من الصحابة. قال السخاوي: ولعلها تصحفت من ثمانين، وهذا أقرب من قول شيخنا لعله تصحفه من مائة، انتهى. ونقل بعض عن ابن دحية أنه جاء من أربعمائة طريق خلاف نقل الحافظ عنه أزيد من تسعين وتبعه تلميذه السخاوي. "ومن كذب عليه لم تقبل روايته" عطف علة على معلول "أبدًا، وإن تاب" بخلاف الكذب على غيره فتقبل إن تاب، "فيما ذكره جماعة من المحدثين" كالإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي شيخ البخاري وابن معين وغيرهم. "وقال عبد الرزاق" بن همام الصنعاني الثقة الحافظ المصنف الشهير: "أخبرنا معمر" بن راشد الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن، ثقة، ثبت، "عن رجل" لم يسم "عن سعيد بن جبير" الأسدي مولاهم الكوفي ثقة ثبت فقيه تابعي روايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين وله تسع وأربعون سنة وكونه من أواسط التابعين معلوم عند من له أدنى إلمام بالفن، فمن أين أن سياق المصنف يقتضي أنه صحابي، وليس كذلك. "أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم" لفظ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 فبعث عليًا والزبير وقال: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه". ولهذا حكى إمام الحرمين عن أبيه أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر. لكن لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك. والحق أنه فاحشة عظيمة وموبقة كبيرة ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله.   رواية عبد الرزاق عن سعيد، قال: جاء رجل إلى ناس من الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم وزوجني فلانة، فبعث عليًا والزبير، فقال: "اذهبا فإن أدركتماه فاقتلاه, وما أراكما تدركانه" فوجداه ميتًا من لدغة حية، هذا بقية الحديث. قال البيهقي: وقد سمي هذا الرجل في راية عطاء بن السائب عن عبد الله بن الحارث جدجد الجندعي، وكذا أخرجه ابن منده عن عبد الله بلفظ: أن جديد الجندعي، فذكره وهو بجيمين مضمومتين بينهما دال ساكنة مهملة صحابي كما في الإصابة. "ولهذا" الحديث "حكى إمام الحرمين عن أبيه" الشيخ أبي محمد الجويني، وكان الأولى أن يقول: ولذا قال الجويني كما حكاه ابنه إذ الحديث ليس علة لحكاية الإمام عن أبيه بل علة لقول أبيه بذلك والخطب سهل "أن من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لكن" لا حجة في الحديث لضعفه إذ فيه راوٍ مبهم، أي: لم يسم مع أنه مرسل وعلى تقدير صحته فهي قضية عينية يتطرق إليها الاحتمال لكن ليس منه علمه بأنه كافرًا صلى لأنه صحابي كما رأيت، ولذا ضعف إمام الحرمين قول أبيه وضعفه من بعده أيضًا كما في الفتح أيضًا، "لم يوافقه أحد من الأئمة على ذلك" قال ابنه إمام الحرمين: لم أره لأحد من الأصحاب وإنه هفوة عظيمة لكن في الفتح مال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلًا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر، وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفي إلا إن اعتقد حل ذلك، انتهى. "والحق أنه" أي: تعمد الكذب عليه "فاحشة عظيمة" فلو تعمد الكذب ولم يكن في الواقع كذبًا بأن صادف الواقع لم يدخل في الوعيد؛ لأن إثمه من جهة قصده، "وموبقة" مهلكة مصدر وبق "كبيرة، ولكن لا يكفر بها إلا إن استحله" قال بعض: وكلام الجويني محمول على ذلك وفيه نظر إذ لو حمل على ذلك ما خالفه أحد، قال في الفتح: فإن قيل الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره والمعاصي قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره، فالجواب من وجهين، أحدهما: إن الكاذب عليه عمدًا يكفر عند الجويني، ثم قال: الثاني إن الكذب عليه كبيرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 وقال النووي: لم أر له في أصل المسألة دليلا، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظًا وزجرًا بليغًا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة. ثم قال: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية: والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة. قال: فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، قال: وأجمعوا.   والكذب على غيره صغيرة، فافترقا ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحد، أو طول إقامتهما سواء؛ فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ" على طول الإقامة فيها بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه يجعل له منزلا غيره لكن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره، بقوله: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد"، وقال: "فليتبوأ" أمر بمعنى الخبر أو التهديد أو التهكم أو دعاء، أي: بوأه الله ذلك. وقال الكرماني: يحتمل أنه على حقيقته والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوؤ ويلزم عليه كذا قال: وأولها أولاها فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ: "يبنى له بيت في النار". قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي: كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد في جزائه التبوؤ. "وقال النووي" في شرح مسلم: "لم أر له" أي: للقو بعدم قبول رواية الكاذب عليه إذا تاب "في أصل المسألة دليلا" يعتد به وخبر ابن جبير ضعيف لا يعتد به وبفرضه يحتمل التأويل، كما مر. "ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظًا وزجرًا بليغًا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته فإنه" أي: الكذب عليه إذا قبل ونقل "يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة" صفة كاشفة، "ثم قال: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة" من عدم قبول روايته ولو تاب "ضعيف مخالف للقواعد الشرعية" أن التوبة مقبولة، "والمختار القطع" الجزم "بصحة توبته وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها" وهي الإقلاع عن المعصية والندم على فعلها والعزم على أن لا يعود إليها هذا حذفه من كلام النووي، وأبدله بقوله: "والمعرفة، قال: فهذا هو الجاري على قواعد الشرع" دون ما قاله أولئك الأئمة، "وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، وأجمعوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 على قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا. قال شيخنا: ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه في وضع حديث وحمل عنه ودون أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدًا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرًا، وإن وجد مجرد اسمها. ومنها أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات. قال الله.   على قبول شهادته ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا، قال شيخنا" السخاوي في شرح الألفية تعقبًا على النووي: "ويمكن أن يقال: فيما إذا كان كذبه في وضع حديث وحمل عنه ودون أن الإثم غير منفك عنه بل هو لاحق له أبدًا، فإن من سن سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، والتوبة حينئذ متعذرة ظاهرًا، وإن وجد مجرد اسمها" فإنما تصح عند من قال بها بالنظر لإثم الكذب نفسه، لا لما ترتب عليه وتولد منه، قال -أعني السخاوي: ولا يستشكل بقبولها ممن لم يمكنه التدارك برد أو محالة، فالأموال الضائعة لها مرد وهو بيت المال والاعراض قد انقطع تجدد الإثم بسببها فافترقا، وأيضًا فعدم قبول توبة الظالم ربما يكون باعثًا له على الاسترسال والتمادي في غيه فيزداد الضرر به بخلاف الراوي فإنه لو اتفق استرساله فاسمه بالكذب مانع من قبول متجدداته، وأيضًا فقبول توبته قد يشتهر عند من حمل عنه كذبه فيبعثه على التمسك بما رواه عنه، بل قال الذهبي: من عرف بالكذب على الرسول لا يحصل لنا ثقة بقوله إني تبت، يعني كما قيل بمثله في المعترف بالوضع، وكما اتفق لزياد بن ميمون أنه تاب بحضرة ابن مهدي والطيالسي، وقال لهما: أرأيتما رجلا يذنب فيتوب، أليس يتوب الله عليه؟ قالا: نعم، ثم بلغهما أنه نقل عمن اعترف لهما بكذبه في سماعه منه فأتياه، فقال لهما أيضًا: أتوب، ثم بلغهما أيضًا التحديث عنه فتركاه، أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، انتهى. وقال شيخ الإسلام زكريا: وقد كنت ملت لما قاله النووي، ثم ظهر لي أن الأوجه ما قاله الأئمة لما مر، يعني من الفرق بين الرواية والشهادة، وهو أن الحديث حجة لجميع المكلفين وفي جميع الأعصار، فكان حكمه أغلظ؛ لأن متعلقها عام مبالغة في الزجر عن الرواية له بلا إتقان وعن الكذب فيه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد" قال: ويؤيده قول أئمتنا أن الزاني إذا تاب لا يعود محصنًا ولا يحد قاذفه. وأما إجماعهم على صحة رواية من كان كافرًا فأسلم، فلنص القرآن على غفران ما سلف منه. "ومنها: أنه يحرم نداؤه من وراء الحجرات" أي: من خارج حجرات، نسائه، "قال الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ، أي: لكان الصبر خيرًا لهم، أي: لكان الصبر خيرًا من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب. ومنها أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} وقال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} .   تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} ، بأن أتوها حجرة حجرة، فنادوه أو تفرقوا عليها متطلبين له، لأنهم لم يعلموه بأيها {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} الآية، محلك الرفيع، وما يناسبه من التعظيم، "إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة" عطف سبب على مسبب، " {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} ، أي: لكان الصبر خيرا من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب، وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب" وهذا نزل في وفد بني تميم، وسبقت قصتهم في المقصد الأول، وفيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، وتلميح بالصفح عنهم، خصوصًا بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] الآية. "ومنها: أنه يحرم الجهر له بالقول، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إذا نطقتم "فوق صوت النبي" إذا نطق، "ولا تجهروا له بالقول" إذا ناجيتموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، بل دون ذلك إجلالا له، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الآية" أي: خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين. روى البخاري عن ابن أبي مليكة، قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر لما قدم وفد بني تميم، قال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر: إنما أردت خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية، إلى قوله: {عَظِيمٌ} [الحجرات: 3] الآية. قال ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير: فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم، حدثه كأخي السرار، لم يسمعه حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. "وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} الآية، "كان أبو بكر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 كان أبو بكر لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يسمع عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته. وكان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر، وكان جهوريًا، فلما نزلت تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفقده ودعاه فقال: يا رسول الله! لقد أنزلت عليك هذه الآية وإني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لست هناك، إنك تعيش بخير وتموت بخير وإنك من أهل الجنة"، قال أنس فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا.   لا يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار". قال المصنف: بكسر السين المهملة، أي: كصاحب السرار، أي: لا يرفع صوته إذا حدثه، بل يكلمه كلامًا مثل المساواة، وشبهها لخفض صوته. قال الزمخشري: ولو أريد بأخي السرار المسارر كان وجهًا، والكاف على هذا في محل نصب على الحال، يعني: لأن التقدير حدثه حديثًا مثل المسارة، انتهى، فهو براءين، بينهما ألف، كما في النسخ، ومثله في صحيح البخاري، كما رأيت وصحفه من قال السر، فأسقط منه الألف والراء، وقال: أي كالأخ الذي يريد مسارة أخيه بما يريد كتمه، فلا يحب أن يطلع عليه غيره، فيخفي كلامه عند مخاطبته غاية الإخفاء، فهذا صحيح في نفسه، لكن ليس هو الرواية. "وروي: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يسمع عمر حتى يستفهمه مما يخفض صوته" ما مصدرية، قال الحافظ: وأما خبر ابن عباس وجابر في الصحيح أن نسوة كن يكلمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالية أصواتهن، فالظاهر أنه كان قبل النهي، ويحتمل أن علو الصوت كان بالهيئة الاجتماعية، لا لانفراد كل منهن، وقال غيره: إنه بعده، لكنهن لم يعلمن به، ورد بأنه كان يجب عليه بيان الحكم لهن، ولم ينقل، "وكان ثابت بن قيس بن شماس" خطيبه صلى الله عليه وسلم، وخطيب الأنصار "في أذنه وقر" بسكون القاف، صمم، "وكان جهوريًا" أي: عالي الصوت، "فلما نزلت، تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقعد في بيته، وأغلق بابه، "فتفقده" المصطفى، "ودعاه، فقال: يا رسول الله! لقد أنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة والسلام: "لست هناك" أي: في ذلك الموضع الذي يحبط فيه العمل، والمعنى: لست ممن يحبط عمله، "إنك تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة". وعند ابن سعد والدارقطني، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدًا وتقتل شهيدًا وتدخل الجنة" وأخرجه ابن جرير، وقال في آخره: فعاش حميدًا وقتل شهيدًا. "قال أنس: فكنا ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدنا" وفي رواية: أظهرنا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة. رأى ثابت بعض الانكشاف وانهزمت طائفة منهم فقاتل حتى قتل. ومنها أنه معصوم من الذنوب كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها.   "فلما كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة" بكسر اللام الكذاب، "رأى ثابت" من بعض المسلمين "بعض الانكشاف، وانهزمت طائفة منهم، فقاتل حتى قتل" وظهر بذلك مصداق خبره صلى الله عليه وسلم، وروى ابن أبي حاتم، قال أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة، كان في بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل، وقد تكفن وتحنط، فقاتل حتى قتل. وأخرج البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده جالسًا في بيته منكسًا في رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي، فقال: إنه قال كذا وكذا، فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه، فقل له: "إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة"، وأخرجه مسلم من وجه آخر، عن أنس: سأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ: "ما شأن ثابت اشتكى"؟ فقال: إنه لجاري، وما علمت له شكوى، الحديث. وروى ابن المنذر من طريق آخر عن أنس، فقال سعد بن عبادة: هو جاري، الحديث. قال الحافظ: وهذا أشبه بالصواب لأن ابن عبادة من قبيلة ثابت، فهو أشبه أن يكون جاره من ابن معاذ لأنه من قبيلة أخرى. وقد استشكل بعض الحفاظ رواي مسلم بأن نزول الآي في سنة تسع، وموت ابن معاذ في سنة خمس، ويمكن الجمع؛ بأن الذي نزل في قصة ثابت مجرد رفع الصوت، والذي نزل في قصة الأقرع أول الصورة، وهو {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، وقد نزل قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الآية، في قصة عبد الله بن أبي بن سلول قبل أن يسلم عبد الله كما في الصحيح، وإسلامه كان بعد بدر، وللطبري وابن مردويه، عن ثابت: لما نزلت هذه الآية، قعد ثابت يبكي، فمر به عاصم بن عدي، فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوف أن تكون نزلت في فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تعيش حميدًا" الحديث، وهذا لا يغاير أن يكون الرسول إليه من النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، انتهى، ولم يظهر لي جمعه المذكور مع ما في البخاري، كما مر أنها نزلت بسبب اختلاف العمرين فيمن يؤمره من القعقاع، أو الأقرع، وهما من وفد تميم، وقدومهم سنة تسع. "ومنها: أنه معصوم من الذنوب" بعد النبوة وقبلها، "كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها" الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 وكذلك الأنبياء. ومنها أنه لا يجوز عليه الجنون لأنه نقص، ولا الإغماء الطويل الزمن، فيما ذكره الشيخ أبو حامد في التعليق، وجزم به البلقيني في حواشي الروضة، وكذلك الأنبياء. ونبه السبكي على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو ناشئ عن غلبة الأوجاع للحواس الظاهرة دون القلب، لأنه قد ورد أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء، فمن الإغماء.   على الأصح في ظاهره وباطنه، سره وجهره، جده ومزحه، رضاه وغضبه، كيف، وقد أجمع الصحب على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله، "وكذلك الأنبياء". قال السبكي: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء فيما يتعلق بالتبليغ وغيره من الكبائر، وصغائر الخسة، والمداومة على الصغائر، ومن صغائر لا تحط من رتبتهم، خلاف ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع لأنا أمرنا بالاقتداء بهم فيما يصدر عنهم، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ومن جوزه، لم يجوزه، بنص ولا دليل، انتهى، أي: وإنما تمسكوا بظواهر إن التزموها أفضت بهم إلى خرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم؛ كما بسطه عياض. "ومنها: أنه لا يجوز عليه الجنون" ولو قصر "لأنه نقص" وهو لا يجوز على الأنبياء لتأديته إلى النفرة عنهم، وعدم الانقياد إليهم، "ولا الإغماء الطويل الزمن فيما ذكره الشيخ أبو حامد" الغزالي "في التعليق، وجزم به البلقيني في حواشي الروضة". أما القصير، كلحظة أو لحظتين، فيجوز، صرح به الدارمي، والقاضي، وارتضاه الأسنوي، "وكذلك الأنبياء" وإن لم يكونوا رسلا، "ونبه السبكي على أن إغماءهم يخالف إغماء غيرهم، وإنما هو ناشئ عن غلبة الأوجاع" عطف علة على معلول؛ كأنه قيل: لغلبة الأوجاع "للحواس الظاهرة دون القلب" بخلاف إغماء غيرهم، فيؤثر حتى في القلب، بحيث يصير المغمى عليه لا شعور له، وهل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء، لعلة أو امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ، أو هو الغشي، وهو تعطيل القوى المحركة، والأوردة الحساسة لضعف القلب، بسبب وجع شديد، أو برد أو جوع مفرط أقوال، وإنما خالف إغماء غيرهم؛ "لأنه قد ورد" في الصحيح؛ "أنه إنما تنام أعينهم دون قلوبهم، فإذا حفظت قلوبهم وعصمت من النوم الذي هو أخف من الإغماء" لسرعة زواله، غايته أن يمنع الإدراك والمعرفة، "فمن الإغماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 بطريق الأولى. قال السبكي: ولا يجوز عليهم العمى، لأنه نقص، ولم يعم نبي قط. وأما ما ذكر عن شعيب أنه كان ضريرًا فلم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت، انتهى. وقال الرازي: في قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} لما قاله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} غلبه البكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول: أن تأثير الحزن في غلبة البكاء، لا في حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنًا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى.   بطريق الأولى" لاستيلائه على الحواس الظاهرة والباطنة استيلاء تامًا، بحيث لا يزول إلا بعلاج، وربما دام، فلا يفيد علاجه. "قال السبكي: ولا يجوز عليهم العمى لأنه نقص، ولم يعم نبي قط، وأما ما ذكر عن شعيب؛ أنه كان ضريرًا، فلم يثبت" ويفرض ثبوته وإنه حقيقي، فلا يضر، لأنه طارئ بعد تحقق النبوة بالآيات، فلا يغير الاعتقاد فيهم، والكلام في المقارن لابتداء الأنباء، لأنه ينفر، فلا تطمئن النفس بما جاءوا به، "وأما يعقوب، فحصلت له غشاوة، وزالت، انتهى". وقال القاضي عياض: الأنبياء منزهون عن النقائص في الخلق، والخلق سالمون من العاهات والمعائب، ولا التفات لما يقع في التاريخ من وقوع بعض العاهات في بعضهم بل نزههم الله من كل عيب، وكل ما ينقص العيون، أو ينفر القلوب. "وقال الرازي" الإمام فخر الدين "في" تفسير "قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} الآية، لما قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} غلبه بالبكاء، وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين، فتصير العين؛ كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء" أي: ولم يحصل له عمى، ولا نقص إبصار، "وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} الآية، كأنه من غلبة البكاء، والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء، لا في حصول العمى، فلما حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسنًا، ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل، فكان ما ذكرناه أولى". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 ثم قال: واختلفوا، فقال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرًا في هذا الوقت، وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان بحيث صار يدرك إدراكًا ضعيفًا، فلما ألقوا القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه، انتهى. ومنها أن من سبه أو انتقصه قتل. واختلف هل يحتم قتله في الحال، أو يوقف على استتابته؟ وهل.   قال البيضاوي: وفي الآية دليل على جواز التأسف والبكاء عند التفجع، ولعل أمثال ذلك لا تدل تحت التكليف؛ فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد، ولقد بكى صلى الله عليه وسلم على إبراهيم، وقال: "القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون"، انتهى، وذلك الجزع والحزن لما جبلوا عليه من الرحمة، ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء، فلا ينافي أن الأنبياء عالمون بأن الله فعال لما يريد، وقضاؤه كائن ويؤخذ منه أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة، لا يخرجه البكاء والحزن عن كونه صبرًا راضيًا، إذ كان قلبه مطمئنًا، بل قد يقال: إن من ينزعج من المصيبة، ويعالج نفسه على الصبر والرضا أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلا، أشار إلى ذلك ابن جرير، وأطال في بيانه، "ثم قال" الرازي: "واختلفوا، فقال بعضهم" كمقاتل: "إنه كان عمي بالكلية، فالله تعالى جعله بصيرًا في هذا الوقت" الذي ألقى فيه القميص على وجهه، "وقال آخرون: بل كان قد ضعف بصره من كثرة البكاء والأحزان، بحيث صار يدرك إدراكًا ضعيفًا، فلما ألقوا القميص على وجهه" وهو قميص إبراهيم الذي أتى به جبريل لإبراهيم حين ألقي في النار من حرير الجنة، فلما مات أخذه إسحاق، فلما مات أخذه يعقوب، فلما شب يوسف، جعله يعقوب في قصبة من فضة، وسد رأسها، وجعلها في عنقه، كالتعويذة لما يخاف عليه من العين، وكانت في عنق يوسف حين ألقي في الجب عريانًا، فأتاه جبريل، وأخرج ذلك القميص وألبسه إياه، فلما كان هذا الوقت أمره جبريل بإرساله لأبيه، وقال: إنه فيه ريح الجنة، ولا يلقى على مبتلى إلا عوفي؛ كما قاله مجاهد وغيره، وجزم به البغوي والجلال، "وبشر بحياة يوسف" من ابنه يهوذا جاءه بالقميص، وكان قد حمل قميص الدم، فأحب أن يفرحه، كما أحزنه، "عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه، فعند ذلك قوي بصره، وزال النقصان عنه، انتهى" كلام الرازي. "ومنها: أن من سبه" أي: شتمه "أو انتقصه" بأن وصفه بما يعد نقصًا عرفًا، "قتل" بإجماع، "واختلف هل يتحتم قتله في الحال، أو يوقف على استتابته" والامتناع منها، "وهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 الاستتابة واجبة أم لا؟ فمذهب المالكية: يقتل حدًا لا ردة: ولا تقبل توبته ولا عذره إن ادعى سهوًا أو غلطًا، وعبارة شيخهم العلامة خليل في مختصره، وإن سب نبيًا أو ملكًا، وإن عرض أو لعنه، أو عابه أو قذفه، أو استخف بحقه، أو غير صفته، أو الحق به نقصًا وإن في دينه   الاستتابة واجبة، أم لا؟ فمذهب المالكية يقتل حدًا لا ردة" بمعنى أنه يتحتم قتله، ثم تارة يكون مرتدًا، وتارة لا، "ولا تقبل توبته" في إسقاط الحد منه، كتوبة الزاني والسارق بعد بلوغ الإمام، لا تفيدهما في عدم الحد، وليس المعنى أنه لا يقبل رجوعه للإسلام، إذ لا قائل به، "ولا عذره إن ادعى" وقوع ذلك منه "سهوًا أو غلطًا، وعبارة شيخهم العلامة خليل" بن إسحاق بن موسى الجندي المجموع على فضله، وديانته، وتحقيقه، ثاقب الذهن، أصيل البحث، الفاضل في المذهب، المشارك في الحديث، والعربية، والأصول، والفرائض، تخرج به جماعة فقهاء فضلاء، وجمع بين العمل، والعلم، والإقبال على نشره مع الزهد والانقباض عن أهل الدنيا، وحج وجاور بمكة. قال ابن فرحون: اجتمعت به في القاهرة، وحضرت مجلسه يقرأ في الفقه والحديث، والعربية، وله تصانيف مفيدة، كمختصره الذي قصد فيه بيان المشهور، مجردًا عن الخلاف مع الإيجاز البليغ، مات سنة ست وسبعين وسبعمائة "وإن سب" مكلف "نبيًا أو ملكًا" مجمعًا على نبوته وعلى ملكيته بدليل ذكره، بعد أن يشدد عليه الأدب في سب من لم يجمع على نبوته، أي: أو ملكيته، كالخضر، وخالد بن سنان، وهاروت وماروت، فلا يقبل سابهما على المذهب خلافًا للقرافي، ثم المراد إجماع المسلمين، فلا عبرة بخلاف أهل الكتاب في بعضهم كسليمان، فيقتل سابه، "وإن عرض" بالسب بلا تصريح، "أو لعنه" بصيغة الفعل أو غيرها، "أو عابه" أي: نسبه للعيب، وهو خلاف المستحسن عقلا، أو شرعًا، أو عرفًا في خَلق أو خُلق أو دين، وهو أعم من السب، فإن من قال: فلان أعلم منه، فقد عابه ولم يسبه، "أو قذفه" بنسبته للزنا أو نفيه عن أبيه، "أو استخف بحقه" كلا أبالي بنهيه عن كذا، "أو غير صفته" كأسود، أو قصير، أو جبريل ينزل في صفة عبد أسود على النبي صلى الله عليه وسلم، "أو ألحق به نقصًا". قال العلامة البساطي: ليست بجيدة، أي: لأن النقص لا يلحقه بإلحاقه، والأولى بدلها، أو ذكر ما يدل على النقص في بدن أو دين، انتهى، كعمى، وعرج أو حكم بالهوى، وأجابوا عمن قال: إن كان ابن عمتك. بأن تركه، لأن الحق له في حياته، وليس لنا بعده تركه، "وإن في دينه" كذا في كثير من نسخ المختصر، وهو الذي عند شارحه بهرام تلميذه، وتوقف فيها محشيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 أو خصلته أو غض من مرتبته أو وفور علمه أو زهده أو أضاف له ما لا يجوز عليه، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو قيل له: بحق رسول الله، فلعن وقال أردت العقرب قتل -ولم يستتب- حدًا، إلا أن يسلم الكافر، وإن ظهر أنه لم يرد ذمه لجهل أو سكر أو تهور.   العلامة محمد بن غازي، فذكر أن أكثر النسخ وإن في بدنه وفي بعضها، وإن في دينه؛ وتأمل ما يليق به الإغياء في كلامه، انتهى، "أو خصلته" طبيعته التي جبل عليها، كالكرم، "أو غض"، أي: نقص "من مرتبته، أو" غض من "وفور علمه، أو زهده، أو أضاف" أي: نسب "له ما لا يجوز عليه" كعدم التبليغ، "أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه" كنفي زهده؛ وأنه لم يكن حقيقيًا، ولو قدر على الطيبات أكلها، أو قال: ليس بمكي أو بحجازي؛ لأنه وصفه بغير صفته المعلومة نفي له وتكذيب، ومقصوده تعداد الألفاظ الموجبة للقتل، وقدم نظير ذلك في الإقرار والطلاق، فلا يعترض عليه بأن بعضها مكرر، وبعضها يستغنى عنه بذكر غيره "على طريق الذم" عائد لقوله: أو غض من مرتبته، ولقوله: أو أضاف له، وقوله: أو نسب ... إلخ، لكن مفهومه لا يعتمد، إذ هو لا يعتبره، فالمعتمد المبالغة بعده، "أو قيل له: بحق رسول الله" تفعل أو تقول كذا، "فلعن، وقال: أردت العقرب" لأن الله تعالى أرسلها إلى من تلدغه وساقها؛ كما في قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} الآية، وهذا حقيقة الإرسال، وإنكاره مابرة، لكنه لا يقبل من قائله، لأن رسول الله إنما يراد به الأنبياء، ولا يخطر ببال أحد غيره، ولذا قال في الشفاء عن حبيب بن الربيع؛ لأن ادعاءه التأويل في لفظ صراح لا يقبل، وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا موقر له، فوجب إباحة دمه، انتهى. "قتل" المسلم الكافر "ولم يستتب" أي: لا يطلب منه توبة، بل ولا يقبل منه من غير طلب، ولو جاء تائبًا قبل الاطلاع عليه على ظاهره لازدرائه، فهو حق آدمي، مبناه المشاحة، بخلاف الزنديق كما قدمه "حدًا" إن تاب، أو أنكر ما شهد به عليه, ويغسل ويصلى عليه، ويدفن بمقابر المسلمين، وإلا قتل كفرًا بلا استتابة، ويدفن بمقابر الكفار بدون غسل وصلاة، "إلا أن يسلم الكافر" فلا يقتل لأن الإسلام يجب ما قبله، والفرق بينه وبين المسلم، أنه زنديق لا تعرف توبته، والكافر كان على كفره، فاعتبر إسلامه، ولم يجعل سبه من جملة كفره، لأنا لم نعطه العهد على ذلك، ولا على قتل مسلم أو أخذ ماله، فإن قتل قتلناه، وإن كان يستحله في دينه، وبالغ على قتل الساب، وإن كان كافرًا بقوله: "وإن ظهر أنه لم يرد" الساب "ذمه" أي: المذكور من نبي أو ملك، "لجهل، أو سكر، أو تهور" في الكلام، وهو كثرته بلا ضبط، إذ لا يعذر أحد في الكفر بذلك، وخرج بالمكلف المجنون وصغير لم يميز، فلا يقتلان بالسب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 وهذا قد ذكره القاضي عياض في الشفاء وغيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57] ، واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل عقوبته، قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن من هو كافر، وحكم الكافر القتل. والأذى: هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا، كذا قاله الخطابي وغيره. وإطلاق الأذى في حقه تعالى إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة. ويشهد لذلك الحديث الإلهي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني".   أما المميز، فإسلامه وردته معتبران، فإن بلغ ولم يتب قتل، وإن تاب أو أنكر ما شهد به عليه لم يقتل لوقوعه من غير مكلف، وفي المدخل من قال في نبي من الأنبياء في غير التلاوة والحديث عصى أو خالف فقد كفر، انتهى، ويتبادر منه أنه مرتد، ويحتمل أنه ساب. "وهذا قد ذكره القاضي عياض في الشفاء" في أواخرها، "و" ذكره "غيره، واستدلوا له بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يرتكبون ما يكرهانه من الكفر والمعاصي، ويؤذون رسول الله بكسر رباعيته، وقولهم شاعر مجنون، ونحو ذلك {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أبعدهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} ذا إهانة، وهو النار، فأطلق في الآية وعمم، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} الآية، فقيد وشرط وغاير في الجزاء، "واللعنة من الله هي إبعاد الملعون عن رحمته وإحلاله في وبيل" بموحدة، فتحتية، أي: شديد "عقوبته" من إضافة الصفة للموصوف، أي: عقوبته الشديدة. "قال القاضي عياض: وإنما يستوجب اللعن" أي: يستحقه وجوبًا "من هو كافر" وهذه مقدمة أولى من برهان منطقي على الحكم بقتله، "و" المقدمة الثانية هي "حكم الكافر القتل" لأنه غير معصوم بالذات، وإنما عرض له ما يمنع من قتله، ومن كفر بسببه أشد من الكافر الأصلي، فحتم قتله، "والأذى هو الشر الخفيف، فإن زاد كان ضررًا؛ كذا قال الخطابي وغيره، وإطلاق الأذى في حقه تعالى، إنما هو على سبيل المجاز لتعذر الحقيقة" إذ هو إيصال المكروه، وهو لا يتصور في حقه تعالى، لكنه لما خولف أمره وارتكبت معاصيه، عد ذلك أذى له على ما تعارفه الناس فيما بينهم، أو ذكر تهويلًا لأذية الرسول، وأن من يؤذيه، كمن يؤذي الله، ويشهد لذلك الحديث الإلهي: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 وهذا بخلاف جانب الرسول. فالأذى في حق الله تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية، لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار، وكذلك العذاب الأليم. وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65] ، قال القاضي عياض: قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما السنة: فروى أبو داود والترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لنا بابن الأشرف"، وفي رواية أخرى "من لكعب بن الأشرف"، أي: من ينتدب لقتله .....   "وهذا بخلاف جانب الرسول" فتارة يكون حقيقيًا، كأذاه بما أصابه من كسر رباعيته، وشج وجهه؛ كما قاله ابن عباس وتارة مجاز أيضًا، كأذاه بارتكاب ما يكرهه "فالأذى في حق الله تعالى وحق رسوله كفر بشهادة هذه الآية لأن العذاب المهين إنما يكون للكفار" والمسلمون، وإن عذبوا بالنار، لكنه بلا إهانة، فلا تسود وجوههم، ولا تزرق أعينهم، "وكذلك العذاب الأليم" في آية: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] الآية، أي: مؤلم، وفيه مجاز عقلي. "وقال تعالى" في المنافقين الذين قالوا، وهو ذاهب إلى تبوك: انظروا إلى هذا الرجل يريد فتح الشام، هيهات، هيهات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} استفهام توبيخ على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به، وإلزامًا للحجة عليهم، {لا تَعْتَذِرُوا} باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب، ولا يعبأ باعتذار الكاذب، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية أي: ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان. "قال القاضي عياض: قال أهل التفسير كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم" هو أذن، وفي البيضاوي بإيذاء الرسول والطعن فيه. "وأما السنة" فكثيرة، منها ما رواه الدارقطني والطبراني، عن علي، رفعه: "من سب نبيًا فاقتلوه، ومن سب أصحابي فاضربوه"، وسنده ضعيف، لكن اعتضد بالإجماع، "فروي" جواب، إما بتقدير فما روى أو جوابها محذوف، أي: فكثيرة، كما قدرت منها ما روى أبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من" يتكفل "لنا بابن الأشرف" أي: بقتله. "وفي رواية أخرى" عند ابن عائذ عن عروة: "من لكعب بن الأشرف"، بفتح الهمزة وسكون المعجمة، وفتح الراء وبالفاء اليهودي حلفًا حالف بني النضير، "أي: من ينتدب لقتله"، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 "فقد استعلن بعداوتنا وهجائنا" وفي رواية: "فإنه يؤذي الله ورسوله". قال القاضي عياض: ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلل بأذاه له، فدل على أن قتله إياه كان لغير الإشراك بل كان للأذى. وفي حديث مصعب بن سعد عند أبي داود: لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة فذكرهم ثم قال: وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان.   أي: يتوجه له، "فقد استعلن" الفاء، تعليلية، والسين للتأكيد، أي: أعلن "بعداوتنا" أو للطلب والباء زائدة، أي: طلب إظهار عداوتنا حتى من غيره، "وهجائنا" عطف سبب عن مسبب. "وفي رواية" في الصحيح عن جابر: "من لكعب بن الأشرف، فإنه يؤذي الله ورسوله" لأنه أعلن سب الرسول وهجاءه، ورثى أهل القليب، وذهب إلى المشركين يحرضهم عليه. "قال القاضي عياض: ووجه إليه" أي: أرسل له، وأصله الإرسال لجهته "من قتله" وهو محمد بن مسلمة الأنصاري في أربعة، وتقدمت القصة في المغازي، "غيلة" بكسر المعجمة، وسكون التحتية، أي: خفية من غير شعور أحد، "دون دعوة" للإسلام، "بخلاف غيره من المشركين" مطلق الكفرة، فإنما يقتله بعد الدعوة والإنذار، "وعلل" صلى الله عليه وسلم قتله "بأذاه له فدل على أن قتله إياه كان لغير الإشراك" مطلق الكفر؛ لأنه يهودي، وورد الإشراك بهذا المعنى أيضًا، "بل كان للأذى" لله ورسوله، فدلت قصته على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم وآذاه من الكفار يقتل. "وفي حديث مصعب بن سعد" بن أبي وقاص الزهري، المدني، التابعي، ثقة، روى له الجميع، مات سنة ثلاث ومائة، "عند أبي داود" عن مصعب، عن أبيه، لا أنه مرسل، كما أوهمه المصنف. قال سعد: "لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة فذكرهم" مفصلين، فقال عكرمة، وابن خطل، ومقيس، وابن أبي سرح، وفي رواية الحويرث بدل عكرمة، واسم ابن خطل عبد العزى، فلما أسلم سمي عبد الله، ومن قال اسمه هلال، التبس عليه بأخ له اسمه هلال؛ كما تقدم بسطه في فتح مكة؛ وأن جلة من هدر دمه تسع رجال وست نسوة، "ثم قال: وأما ابن أبي سرح" عبد الله بن سعد، "فاختبأ عند عثمان بن عفان" وكان أخاه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك وهو يأبى، فبايعه بعد الثلاث، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله"، قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا؟ قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". وفيه: أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل، لأنه كان يقول الشعر يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به.   الرضاعة؛ كما في ابن إسحاق، "فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة، جاء به" عثمان "حتى أوقفه" بالألف لغة قليلة، وأنكرها الأصمعي، وقال الجوهري: إنها رديئة، والكثير وقفه "على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال" عثمان: "يا نبي الله! بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه" ملا، أي: طويلًا "ثلاثًا كل" بالرفع "ذلك، وهو يأبى" أن يبايعه، "فبايعه بعد الثلاث، ثم" لما انصرف به عثمان كما في ابن إسحاق، "أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقال" "أما" فهمزة الاستفهام مقدرة، "كان فيكم رجل رشيد"، نبيه، يفهم مرادي، "يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله" فالاستفهام للوم على عدم قتله، وعند ابن إسحاق: "لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيقتله"، "قالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا" بالفتح والتخفيف لمجرد التنبيه، نحو: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الآية، "أومأت" أشرت "إلينا" بحاجب أو يد، أو غيرهما، فقال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" وهي الإيماء إلى مباح من نحو قتل أو ضرب، على خلاف ما يظهر، سميت بذلك لشبهها بالخيانة لإخفائها، كما لو أومأ لقتله حين طلب عثمان مبايعته، فإنه خلاف الظاهر من سكوته، وتجوز لغيره إلا في محظور، وعليه قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} الآية، ففيه ذم النظر إلى ما لا يجوز؛ كما فسره به ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وفسره السدي والضحاك بالرمز بالعين، وقد كان عبد الله بعد أن بايعه ممن حسن إسلامه، ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وله المواقف المحمودة في الفتوح، وولاه عمر صعيد مصر، ثم عثمان مصر كلها، واعتزل الفتنة بعده، "وفيه" أي حديث مصعب "أنه أمر بقتل عبد الله بن خطل" بفتح الخاء المعجمة، والطاء المهملة "لأنه كان يقول الشعر، يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر جاريتيه أن تغنيا به" وفي الصحيح أنه عليه السلام جاءه رجل، فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: "اقتلوه"، زاد ابن حبان: فقتل. وروى عمر بن شبة في كتاب مكة عن السائب بن يزيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وكذلك قتل جاريتيه. فقالوا: إنه قد ثبت أمره بقتل من آذاه، ومن تنقصه، والحق له عليه السلام وهو مخير فيه، فاختار القتل في بعضهم وعفا عن بعضهم وبعد وفاته تعذرت المعرفة بالعفو، لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه صلى الله عليه وسلم فإنه لم يرد عنه الإذن في ذلك. وهذا جعله في الشفاء. وأما الإجماع: فقال القاضي عياض: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه، قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم.   استخرج من تحت أستار الكعبة ابن خطل فضربت عنقه صبرًا بين زمزم ومقام إبراهيم، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل قرشي بعد هذا صبرًا" وأصح الروايات في تعيين قاتله أنه أبو برزة كما قدمه المصنف في فتح مكة تبعًا للحافظ. "وكذلك قتل" مصدر مجرور، عطف على عبد الله، أي: أمر بقتل "جاريتيه" اللتين كانتا تغنيان بهجائه، وهما فرتنى، بفتح الفاء، وإسكان الراء، ففوقية، فنون مقصورة وقريبة، بقاف، وموحدة، مصغر. قتلت، وأسلمت فرتنى، فلم تقتل؛ كما مر في الفتح، فلا يقرأ قتل فعلا، للإخبار بأنه قتلهما، لأنه خلاف الواقع، "فقالوا" في وجه الاستدلال: "أنه قد ثبت أمره بقتل من آذاه، ومن تنقصه، والحق له عليه السلام، وهو مخير فيه، فاختار القتل في بعضهم" كابن خطل ومقيس، "وعفا عن بعضهم" كابن أبي سرج وعكرمة، "وبعد وفاته تعذرت المعرفة بالعفو" فبقي الحكم على عمومه في القتل، "لعدم الاطلاع على العفو، وليس لأمته بعده أن يسقطوا حقه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يرد عنه الإذن في ذلك وهذا جعله في الشفاء" سؤالا وجوابًا، وأطال في بيان تفاصيله. "وأما" مقامه "من المسلمين وسابه" بالشتم الذي هو معنى السب، فليس إطنابًا، إذ الانتقاص يشمل السب كما زعم ولكن في الاستدلال بهذا الجماع على قتله إذا تاب لأن محصله أنه يقتل فقط، والتوبة وعدمها لم يجمع عليه، وعياض نفسه لم يجعله دليلا على ذلك، وعبارته القسم الرابع في تصريف وجوه الأحكام فيمن تنقصه إلى أن قال: حرم الله أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة ... إلخ. وقيد بالمسلمين للخلاف في الكافر، هل يقتل أو ينتقض عهده ويبلغ مأمنه، وقد عقد عياض لذلك فصلا بعد. "قال ابن المنذر" أبو بكر محمد بن إبراهيم النيسابوري: "أجمع عوام" أي: جماعة "أهل العلم" جمع عامة، والمتقدمون يعبرون بهذه العبارة للعموم، فكأنه قيل: أجمع عموم، أي كل العلماء وليس المراد العامي، إذ لا عبرة بهم، ولا بإجماعهم، وأهل العلم ينادي عليه؛ لأن العامي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك: مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي، وقال الخطابي: لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا. وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر، انتهى. ومذهب الشافعي: أن ذلك ردة، تخرج من الإسلام إلى الكفر، فهو مرتد كافر قطعًا لا نزاع في ذلك عند الجمهور من أمتنا، والمرتد يستتاب، فإن تاب   لا يكون أهل علم، "على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك مالك" بن أنس، "والليث" بن سعد المصري، الإمام، المجتهد، المشهور، "وأحمد" بن حنبل "وإسحاق" بن راهويه، "وهو مذهب الشافعي" المشهور عنه، وبعد هذا الإجماع يأتي الخلاف في تحتم قتله واستتابته وقبولها، وهذا لم يفهمه من اعترض حكاية الإجماع بمذهب الشافعي. "وقال الخطابي" حمد، بسكون الميم، ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب، يقال إنه من نسل زيد بن الخطاب أخي عمر: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا" ولم يتب، وإنما الخلاف في الكافر. "وقال محمد بن سحنون" الإمام، ابن الإمام، الجامع لخلال فلما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعلم بالأثر، والجدل، والحديث، والذب عن مذهب أهل الحجاز، كريمًا في معاشرته، نفاعًا، مطاعًا، جوادًا بماله وجاهه، وجيها عند الملوك والعامة، جيد النظر في الملمات ألف نحو مائتي كتاب في فنون العلم، تفقه بأبيه، وسمع من جماعة غيره بالمغرب والمشرق، توفي سنة ست وخمسين ومائتين، وله أربع وخمسون، أو ست وخمسون سنة، ودفن بالقيروان. "أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنقص له" لو عطفه كان أحسن "كافر مرتد، والوعيد" في القرآن والسنة، "جار عليه" لشموله له "بعذاب الله" كقوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية، "وحكمه عند الأمة" أمة الإجابة كلهم "القتل" إلا أن يتوب، فاختلفوا، "ومن شك في كفره وعذابه كفر" لتكذيبه لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية، "انتهى". "ومذهب الشافعي أن ذلك ردة تخرج من الإسلام إلى الكفر فهو مرتد كافر قطعًا لا نزاع في ذلك عند الجمهور من أئمتنا" بل جميعهم وجميع غيرهم، إنما النزاع في قتله إذا تاب، "والمرتد يستتاب، فإن تاب" قبلت توبته، ولم يجز قتله عند الشافعية، وإن تكررت ردته، لكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 وإلا قتل. وفي الاستتابة قولان: أصحهما وجوبها، لأنه كان محترمًا بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة، فينبغي إزالتها، وقيل: تستحب لأنه غير مضمون الدم، فإن قلنا بالأول فتجب الاستتابة في الحال ولم يؤجل كغيره. وفي الصحيح: "من بدل دينه فاقتلوه". وفي قول: يمهل ثلاثة أيام، فإن لم يتب وأصر -رجلا كان أو امرأة- قتل، وإن أسلم صح الإسلام وترك لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 5] الآية. وعن ابن عباس: أيما مسلم سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل، وأيما معاهد.   يعزر لزيادة تهاونه، ويتحتم قتله عند المالكية وطائفة، "وإلا" يتب "قتل، وفي الاستتابة قولان، أصحهما وجوبهما؛ لأنه كان محرمًا بالإسلام، وإنما عرضت له شبهة" فأوقعته في الجناب الرفيع، "فينبغي" أي: يجب "إزالتها" بعد الإسلام على الأصح، وفي وجه يناظر أولا؛ لأن الحجة مقدمة على السيف. "وقيل: تستحب" إزالتها "لأنه غير مضمون الدم" إذ لا يقتل قاتله حينئذ، "فإن قلنا بالأول، فتجب الاستتابة في الحال" أي: فورًا "ولم يؤجل" ثلاثة أيام "كغيره" من المرتدين. "وفي الصحيح" للبخاري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من بدل دينه" أي: انتقل من الإسلام لغيره بقول أو فعل، وأصر "فاقتلوه" بعد الاستتابة وجوبًا وخص عمومه بدين الإسلام، فمن انتقل من كفر لآخر لم يقتل، "وفي قول يمهل" الساب "ثلاثة أيام، فإن لم يتب، وأصر" على الكفر، "رجلا كان أو امرأة قتل" الرجل بإجماع، والمرأة عند الأئمة الثلاثة لأن عموم من يشملها. وقال أبو حنيفة: لا تقتل، لأن من الشرطية لا تعم المؤنث للنهي عن قتل النساء، فكما لا تقتل في الكفر الأصلي، لا تقتل في الطارئ، "وإن أسلم صح الإسلام وترك لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} "الآية" والذين قالوا بتحتم قتل الساب، وإن تاب خصوا منها المسلم، إذ سبه لأدلة أخرى. "وعن ابن عباس: أيما مسلم سب الله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فقد كذب رسول الله، وهي ردة يستتاب منها، فإن تاب وإلا قتل". وعجيب احتجاج المصنف بهذا، وابن عباس لم يرفعه، وهو مما يقال بالرأي وقول الصحابي ليس حجة عند الشافعية، "وأيما معاهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 سب الله أو سب أحدًا من الأنبياء فقد نقض العهد فاقتلوه. وأجيب عما تقدم من أدلة المالكية: فأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فليس فيه إلا كفر مؤذيه عليه السلام، وأما كونه يقتل فلا دلالة فيه أصلا، وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى مع ما اجتمع فيه من موجات القتل، ولأنه اتخذ الأذى ديدنا، فلا يقاس عليه من فرط منه فرطة -وقلنا بكفره بها- وتاب ورجع إلى الإسلام، فالفرق واضح. لكن وكذلك قتل جاريته لأنهما جعلا ذلك ديدنا مع ما قام بهما من صفة الكفر.   سب الله، أو سب أحدًا من الأنبياء، فقد نقض العهد، فاقتلوه" ظاهر قول ابن عباس الإطلاق، فهو مذهبه، فتنزيله على مذهب الشافعية أو غيرهم لا يليق. "وأجيب عما تقدم من أدلة المالكية، فأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، فليس فيه إلا كفر مؤذيه عليه السلام، أما كونه يقتل" حتمًا، "فلا دلالة فيه أصلًا" لكن قد بين عياض وجه الدلالة من الآية على القتل بأن من لعنته في الدنيا القتل، بدليل قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} الآية، وقال في أذى المؤمنين ما دون القتل من الضرب والنكال، فكان حكم مؤذي الله ونبيه أشد، وهو القتل. "وأما ابن خطل فإنما قتل ولم يستتب للكفر والزيادة فيه بالأذى، مع ما اجتمع فيه من موجبات القتل" كقتل مولاه المسلم حين خالفه في شيء أمره به، "ولأنه اتخذ الأذى ديدنا" أي: عادة مستمرة، ولم ينطق بالشهادتين عند الأمر بقتله، "فلا يقال عليه من فرض منه فرطة، وقلنا بكفره بها، وتاب ورجع إلى الإسلام" عطف تفسير "فالفرق واضح لكن" فيه أن وجه الدلالة منه أنه كان أسلم، وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا، ثم آذاه عليه السلام، فأمر بقتله، وإن تعلق بأستار الكعبة، ولم يأت في خبر أنه أمر باستتابته، مع أن استتابة المرتد واجبة، فدل على أن مؤذيه يقتل بلا استتابة، على أن شيخنا قال: هذا الفرق لا يتم فيمن تكررت منه الردة والعناد مرارًا كثيرة، "وكذلك قتل جاريتيه" أي: الأمر بقتلهما، والمقتول واحدة كما مر، "لأنهما جعلا ذلك ديدنًا مع ما قام بهما من صفة الكفر" لا يرد على مالك، لأنه قال: يقتل الكافر أيضًا إذا سبه، ما لم يسلم، وهما كانتا كافرتين، فقتلت الباقية عليه، وتركت المسلمة، فهو حجة لمالك لا عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبي معيط نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل من بينكم صبرًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك على رسول الله". فذكر له سببين في تحتم قتله، وهذا في غاية الظهور. وأما قول الخطابي وغيره: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا" فمحمول على التقييد بعدم التوبة. وأما سياق القاضي عياض لقصة الرجل الذي كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث عليًا والزبير ليقتلاه، فليس يفيد غرضًا في هذا المقام لأن الظاهر أن هذا كذب، فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين، لا سيما إن كان كافرًا، فيكون من محاربي الله ورسوله، مع السعي في الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل، وإلا فليس مطلق   "وقد روى البزار عن ابن عباس: أن عقبة بن أبي معيط" أحد أسرى بدر، لما قدم ليقتل بمحل على ثلاثة أميال من الروحاء قرب المدينة، "نادى" رافعًا صوته: "يا معشر قريش" ذكرهم بيانًا لحجته في عدم الفرق بينه وبين غيره، أو ليعطف عليه المسلمون منهم، "ما لي أقتل من بينكم" استفهام إنكاري، أي: دون غيري منكم، ومثله يستعمل للاختصاص "صبرًا" أي: بلا حرب، ولا غفلة، وأصل معناه الحبس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "بكفرك وافترائك" أي تعمدك الكذب "على رسول الله". فذكر له سببين في تحتم قتله، وهذا في غاية الظهور" وهو من جملة أدلة المالكية، إذ هم قائلون بقتل الكافر إذا سبه، ولذا ذكره في الشفاء دليلا. "وأما قول الخطابي وغيره: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلمًا فمحمول على التقييد بعدم التوبة" لأنه الإجماع الإجماع. "وأما سياق القاضي عياض لقصة الرجل الذي كذب على رسول الله" المتقدمة قريبًا، ولفظ عياض، ويروى أن رجلا كذب على النبي "صلى الله عليه وسلم وأنه بعث عليًا والزبير ليقتلاه" إن أدركاه، قال: "وما أراكما تدركانه"، فوجداه ميتًا من لدغة حية، "فليس يفيد غرضًا في هذا المقام" الذي هو تحتم قتل مؤذيه، وإن تاب إن كان مسلمًا "لأن الظاهر أن هذا كذب فيه إفساد وفتنة بين المؤمنين" هذا الاستظهار من عدم الاطلاع على الحديث، فإن لفظه جاء إلى ناس من الأنصار، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكن وزوجني فلانة، "لا سيما إن كان كافرًا، فيكون من محاربي الله ورسوله، مع السعي في الأرض بالفساد، فيكون متحتم القتل" لذلك، وفيه: أن المحارب لا يتحتم قتله، كما بين في القرآن مع أن منشأه القصور، فإن الرجل صحابي، وهو جدجد الجندعي، ذكره صاحب الإصابة وغيره، "وإلا فليس مطلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 الكذب عليه مما يوجب القتل. وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من لي بها"؟ 0 فقال رجل من فوقها: أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع، فإن في هذه القصة ونظائرها نظرًا واضحًا لقيام الكفر بالمحكي عنهم والزيادة منه، وقد أخبر عليه السلام أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا   الكذب عليه مما يوجب القتل" ولا الكفر على الصواب، خلافًا للجويني، وإنما هو إذا كذب عليه بما فيه نقص له، كساحر ونحوه، والجواب عن عياض أنه لم يذكر هذه القصة دليلا مستقلا، إذ هو لا يقول، يقتل من كذب عليه ولا بكفره، وإنما ذكرها استئناسًا لما ساقه من الأدلة وأشار إلى ضعفها بقوله: ويروى، وقد علم أدنى الطلبة أنه لا يحتج بضعيف. "وكذا سياقه حديث ابن عباس: هجت امرأة من خطمة" بفتح المعجمة، وسكون المهملة، وميم بطن من الأنصار، ينسبون إلى جدهم خطمة بن جشم من مالك بن الأوس، وهي عصماء بنت مروان اليهودية، نسبت إلى بني خطمة لأنها زوج يزيد بن زيد الصحابي، الخطمي، "النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "من لي بها"؟ أي: من يقوم لأجل حقي عليه بقتلها "فقال رجل من قومها" عمير بن عدي الخطمي، صحابي شهير، كان المصطفى يزوره، وكان أعمى، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم البصير: "أنا" لك بها أقتلها "يا رسول الله، فنهض" قام بسرعة عقب قوله: فجاءها ليلا ودخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه، فجسها ونحى الصبي عنها، "فقتلها" بأن وضع سيفه على صدرها، حتى أنفذه من ظهرها، ثم رجع، فصلى الصبح مع المصطفى، "فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك" أي: قتلها لما قال له، كما عند ابن سعد: "أقتلت ابنة مروان"؟، قال: نعم، هل علي في ذلك شيء؟ "فقال: "لا ينتطح فيها عنزان"، فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، "أي: لا يجري فيها خلف ولا نزاع" بل هي هدر، فضربه مثلا للأمر الذي يقع بلا خلف ولا نزاع لأن العنزين لا ينتطحان، بل يتشامان ويتفرقان، وإنما ينتطح التيوس والكباش، ومرت القصة في المغازي، "فإن في هذه القصة" أي: الاستدلال بها، "ونظائرها نظرًا واضحًا لقيام الكفر بالمحكي عنهم، والزيادة منه" وقد حاد المصنف رحمه الله للحمية المذهبية عن سواء السبيل، فإنها كانت ذمية، يهودية، متزوجة بمسلم صحابي، فأمره بقتلها لأذاها له، مع أن نساء الحربيين، فضلا عن أهل الذمة، لا تقتل دليل لقول المالكية، يقتل الكافر بسبه صلى الله عليه وسلم ما لم يسلم، فالدليل من قصتها شمس في رابعة النهار. "وقد أخبر عليه السلام أنه لا عصمة لأحد من الناس بعد دعواهم إلى الإسلام إلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 بالإسلام، فكل منهم مهدر الدم إلا من عصمه الله منهم بالإسلام. وإنما النافع له في مقام الاستدلال ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول بكونه ردة، فرجع إلى الإسلام وتاب. وهذا هو محل النزاع وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين. أما ذكر كافرًا صلى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وامتنع من إجابته وحاربه بيده ولسانه فلا نزاع في إهدار دمه قطعًا، لا سيما وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة أنها كانت تعيب الإسلام، وتؤذي النبي وتحرض عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعًا. فقد تبين مما ساقه القاضي عياض أن أمره عليه السلام بقتل سابه إنما نقل عن الكفرة.   بالإسلام" بقوله: "أمرت أن أقاتل الناس" الحديث، "فكل منهم مهدر الدم، إلا من عصمه الله منهم بالإسلام" أو بإعطاء الجزية كما في القرآن، أو عهد، أو أمان؛ كما بين في السنة، فما هذا الحصر من المصنف، "وإنما النافع له في مقام الاستدلال، ذكر من طرأ عليه من المسلمين وصمة الارتداد بالسب على القول، بكونه ردة" فيه نظر، إذ هو ردة إجماعًا كما مر، "فرجع إلى الإسلام وتاب، وهذا هو محل النزاع، وموضع الاستدلال لكل من المتنازعين" وسبحان الله، المصنف قد ذكر ذلك قبل، فإنه ذكر قصة ابن أبي سرح، وهو قد كان مسلمًا أصليًا، وأحد كتاب الوحي، ورجع إلى الإسلام، وامتنع النبي صلى الله عليه وسلم من مبايعته ثلاث مرات، ولام أصحابه على عدم قتله حين امتنع من بيعته وإنما بايعه لأجل عثمان وهو صلى الله عليه وسلم ولي ذلك، فله العفو دون غيره بعده، لعدم إذنه في ذلك. "أما ذكر كافرًا صلى بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وامتنع من إجابته، وحارب بيده ولسانه، فلا نزاع في إهدار دمه قطعًا، لا سيما، وقد نقل عن هذه المرأة الكافرة" التي هي عصماء بنت مروان، "أنها كانت تعيب الإسلام" بفتح، فكسر من عاب يستعمل لازمًا متعديًا أو بضم ففتح وشد التحتية من عيبه إذ نسبه إلى العيب أو أحدث فيها عيبًا، "وتؤذي النبي صلى الله عليه وسلم" عطف أعم على أخص؛ لأن عيب الإسلام ما يكون بذكر خلل في الدين، وإيذاء النبي يكون به وبغيره أو لازم على ملزوم، لأن عيب الإسلام يلزمه إيذاؤه، "وتحرض" تحث "عليه، فاجتمع فيها موجبات القتل إجماعًا" يعني: فلم يتعين أن قتلها للسب، وفيه أنه خلاف الظاهر من قول ابن عباس: هجت امرأة النبي ... الحديث، "فقد تبين مما ساقه القاضي عياض، أن أمره عليه السلام بقتل سابه إنما نقل عن" بمعنى في "الكفرة" يرد عليه ابن أبي سرح فقد امتنع من بيعته بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 ولم ينقل أنه قتل مسلمًا بسبه، وإنما كان ذلك في أهل الكفر والعناد، ولو نقل فلا يتعين كونه حدًا، لاحتمال أن يكون قتله كفرًا، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، فأعلمنا أن ما وراء الشرك في حيز إمكان المغفرة، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] . فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى لا بالنظر إلى حقوق العباد، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. وهذا حق النبي صلى الله عليه وسلم وليس لنا أن نسقطه.   إسلامه، ولام الصحابة على ترك قتله، كما مر، "ولم ينقل أنه قتل مسلمًا بسبه، وإنما كان ذلك في أهل الكفر والعناد" لكريم أخلاقه وحبه العفو والصفح، وهو ولي ذلك، فأحب العفو عمن وقع له ذلك وأسلم، وقد قال: "من سب نبيًا فاقتلوه" أخرجه الدارقطني والطبراني من حديث علي، ومن تشمل المسلم والكافر وأمره كفعله، "ولو نقل فلا يتعين كونه حدًا لاحتمال أن يكون قتله كفرًا" ويدفع هذا الاحتمال قتل ابن أبي سرح بعدما أسلم، ويؤيده عموم من سب نبيًا فاقتلوه، فإن ظاهره: ولو عاد إلى الإسلام. وروى ابن قانع: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سمعت أبي يقول فيك قولًا قبيحًا فقتلته، فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن قتل الساب مشروعًا، كان ذلك من أكبر الكبائر؛ لأنه قتل وعقوق، وظاهر قوله: فلم يشق أنه كان مسلمًا، إذ قتل الكافر لا يشق عليه حتى ينفى. "وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: الإشراك به، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ} سوى {ذَلِكَ} من الذنوب {لِمَنْ يَشَاءُ} الآية المغفرة له، فيدخله الجنة بلا عذاب، ومن شاء عذبه من المؤمنين بذنوبه ثم يدخله الجنة، "فأعلمنا أن ما وراء الشرك في حيز إمكان المغفرة" وهو كذلك بلا شك، لكنه لا يمنع إقامة الحدود، ألا ترى أن الزاني والسارق إذا تاب بعد بلوغ الإمام لا يسقط حده، فكذلك حد ساب الأنبياء إذا تاب نقول بتوبته وصحة إسلامه، ولكن نقيم حده، وهو القتل عملا بعموم قوله: "فاقتلوه". "وقال تعال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآية، لمن تاب من الشرك، ولكن ليس ذلك مانعًا من إقامة الحدود، فالقاتل يقتل وإن تاب، فذكر المصنف هاتين الآيتين لا يفيد غرضًا في استدلاله، "فإن قلت: هذا بالنظر إلى ظلم النفس وحقوق الله تعالى" كصلاة وصوم، "لا بالنظر إلى حقوق العباد؛ لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة وحقوق العباد مبنية على المشاحة، وهذا حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لنا أن نسقطه؛ لأنه لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 لأنه لم يرد إذنه في ذلك بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك. فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه عليه السلام، كأن يقول من سبني مثلًا فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعًا عن سبه، فإن نقل اتبعناه، ثم إنه من جهة النظر ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوق الله مبناها على المسامحة، وكذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى. ومما عد من خصائصه أنه إذا قصده ظالم وجب على من حضره أن يبذل نفسه دونه.   يرد إذنه في ذلك بخلافه هو صلى الله عليه وسلم فإن له ذلك"، لأن الحق له، ومن له حق، فله إسقاطه " فالجواب: لا بد لنا من نص على ذلك منه عليه السلام، كأن يقول من سبني مثلا فاقتلوه، ولا تقبلوا له توبة ولا رجوعًا عن سبه، فإن نقل اتبعناه"، والجواب: أن ظاهر قوله: "من سب نبيًا فاقتلوه" عدم قبول توبته من ترك قتله لأنه حده، وإن قبلناها في إجراء أحكام الإسلام عليه من تغسيل، وتكفين، وصلاة، ودفن بمقابر المسلمين، كالقاتل والزاني المحصن ونحوهما، "ثم إنه من جهة النظر" العقلي "ينبغي إلحاق حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم بحقوق الله، فكما أن حقوق الله مبناها على المسامحة، وكذلك حقوقه صلى الله عليه وسلم، فإنه متخلق بأخلاق الله تعالى" التي تليق به، كما أشارت إليه عائشة، بقولها: كان خلقه القرآن لكن منع من هذا الدليل العقلي قيام الأدلة الشرعية على خلافه في هذه المسألة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد روى النسائي عن أبي برزة الأسلمي، قال: أتيت أبا بكر وقد أغلظ الرجل، فرد عليه، قال: فقلت: يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه بسبه إياك، فقال: اجس فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن عامل عمر بن عبد العزيز على الكوفة استشاره في قتل رجل سب عمر بن الخطاب فكتب إليه أنه لا يحل قتل امرئ مسلم سب أحد من الناس، إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سبه فقد حل دمه. وقال أبو بكر الصديق: حد قذف الأنبياء ليس يشبه الحدود، رواه ابن سعد وابن عساكر، فهذه أدلة متظاهرة على قتل الساب، ولو تاب. قال عياض: ويدل على قتله من جهة النظر والاعتبار أن من سبه صلى الله عليه وسلم أو تنقصه قد ظهرت علامة مرض قلبه، وبرهان على سوء طويته وكفره، ولهذا حكم له كثير من العلماء بالردة، وهي رواية الشاميين عن مالك. ومما عد من خصائصه: أنه إذا قصده ظالم، وجب على من حضره، أن يبذل" بضم الذال "نفسه دونه" أي: يجود بها، وإن أدى إلى قتله بخلاف غيره، فلا يجب الدفع مع خوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 حكاه النووي في زيادات الروضة عن جماعات من الأصحاب. ومن خصائصه عليه السلام أنه كان يخص من شاء بما شاء من الأحكام. كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين. روى أبو داود عن عمارة ابن خزيمة بن ثابت عن عمه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسًا، فاستتبعه ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي يساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن.   ذلك، كما قاله الرافعي والنووي؛ لأن من قصد غيره مسلمًا لا يكفر، وقاصده صلى الله عليه وسلم بذلك يكفر، "حكاه النووي في زيادات الروضة عن جماعات من الأصحاب" الشافعية؛ لقوله تعالى: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وظاهره وإن كان له صلى الله عليه وسلم قدرة على الدفع والدافع عاجز، قال الحافظ: ولم أر وقوع ذلك في شيء من الأحاديث صريحًا، ويمكن أن يستأنس له؛ بأن طلحة وفاه بنفسه يوم أحد، وكان أبو طلحة الأنصاري يتقي بترسه دونه، ونحو ذلك من الأحاديث. "ومن خصائصه عليه السلام؛ أنه كان يخص من شاء بما شاء من الأحكام" وغيرها، "كجعله شهادة خزيمة" ابن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة الأنصاري، الخطمي، أبي عمارة المدني، من كبار الصحابة، شهد بدرًا، وقتل مع علي بصفين سنة سبع وثلاثين "بشهادة رجلين" ولذا لقب ذا الشهادتين. "روى أبو داود" واب خزيمة، وشيخهما فيه الذهلي، باللام عن شعيب، عن ابن شهاب، عن "عمارة بن خزيمة بن ثابت" الأوسي أبي عبد الله، أو أبي محمد المدني، تابعي، ثقة، مات سنة خمس ومائة، وهو ابن خمس وسبعين، روى له الأربعة، "عن عمه" قيل: اسمه عمارة قال ابن منده "وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع" أي: اشترى "من أعرابي" هو سواء بن الحارث صحابي "فرسًا" هو المرتجز، أو الظرب، أو النجيب، أقوال ذكرها المصنف في خيله في تعيين هذا الفرس المشترى من أفراسه صلى الله عليه وسلم، وزاد غيره القول بأنه الملاوح، ويرد على ذلك أنه ردها على الأعرابي، فماتت من الغد؛ كما في رواية الحارث وتأتي، فهي صريحة في أنها لم تكن من خيله المعينة، المسماة بالأسماء المعلومة، "فاستتبعه" أي تبعه فالسين زائدة والأولى كونها للطلب، أي: طلب المصطفى من الأعرابي أن يتتبعه "ليقبضه ثمن الفرس، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي" ومعه الفرس، "فطفق" بكسر الفاء وفتحها، أي: جعل "رجال يعترضون الأعرابي" أي: يعترضون له بالكلام معه، مأخوذ من اعترض على الأمير، أي مر عليه لينظر حاله، "يساومونه بالفرس" أي يطلبون بيعها منه، فالمفاعلة ليست مرادة، بل بمعنى السوم، والباء سببية، أو للمقابلة والعوض، أي يذكرون له ثمنًا في مقابلته، "ولا يشعرون أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، حتى زادوا على ثمنه. فذكر الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدًا يشهد أني قد بعتك، فمن جاء من المسلمين يقول: ويلك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا الحق، حتى جاء خزيمة بن ثابت فاستمع المراجعة فقال: أنا أشهد أنك قد بايعته ... الحديث، وفيه، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين. وفي البخاري من حديث زيد بن ثابت قال: فوجدتها مع خزيمة الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين.   رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه حتى زادوا على ثمنه، فذكر الحديث" وهو: فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي: "أو ليس قد ابتعته منك"، قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلى قد ابتعته"، "قال: فطفق الأعرابي يقول: هلم" أحضر "شهيدًا يشهد أني قد بعتك، فمن جاء من المسلمين" بعد هذا "يقول" إنكارًا على الأعرابي: "ويلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن" مريدًا "ليقول" شيئًا "إلا الحق" فخبر يكن محذوف، يتعلق به الجار "حتى جاء خزيمة بن ثابت، فاستمع المراجعة" التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأعرابي، "فقال: أنا أشهد أنك قد بايعته" أي: بعته "الحديث، وفيه قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة برجلين" هكذا رواه أبو داود وغيره من طريق عن عمه أخي خزيمة بدون تسمية الأعرابي، وقد رواه عمارة أيضًا عن أبيه، وسمي الأعرابي. أخرج أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن خزيمة، والطبراني عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسًا من سواء بن الحارث فجحده، فشهد له خزيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا" فقال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "من شهد له خزيمة، أو شهد عليه فحسبه". "وفي البخاري" في التفسير "من حديث" خارجة، عن أبيه "زيد بن ثابت" بن الضحاك، الأنصاري، النجاري، صحابي مشهور، كتب الوحي، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، مات سنة خمس أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، "قال" لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله يقرؤها، "فوجدتها مع خزيمة. وفي رواية لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة "الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادتين" {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} ، هذا بقية رواية البخاري. قال العلماء: أي: لم أجدها مكتوبة مع كونها محفوظة عنده وعند غيره: إذ القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 وعند الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا، فجحده الأعرابي، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابي أتجحد، أنا أشهد أنك بعته، فقال الأعرابي: أن شهد علي خزيمة فأعطاني الثمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خزيمة إنا لم نشهدك، كيف تشهد"؟ قال: أنا أصدقك على خبر السماء، ألا أصدقك على ذا الأعرابي؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فلم يكن في الإسلام من تعدل شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة. قال الخطابي: هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع به قوم من أهل البدع.   لا يثبت إلا بالتواتر. "وعند الحارث بن أبي أسامة" واسمه داهر، "في مسنده من حديث" مجاهد، عن الشعبي، "عن النعمان بن بشير" رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من أعرابي فرسًا، فجحده الأعرابي، فجاء خزيمة فقال: يا أعرابي أتجحد؟ " بالاستفهام الإنكاري أي: وتطلب منه شهيدًا، "أنا أشهد أنك بعته، فقال الأعرابي: أن" بفتح الهمزة، أي لأجل إن، وكسرها بمعنى إذا تعليلية نحو: أتغضب إن أذنا قتيبة حزنا وفي نسخة، وهي ظاهرة، إذ "شهد علي خزيمة فأعطاني الثمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خزيمة إنا لم نشهدك" بالمبايعة، بمعنى لم تحضرها، كما في الرواية التي قدمتها؛ ما حملك على الشهادة ولم تكن معه حاضرًا: "كيف تشهد" على ما لم تعانيه ولم تحضره؟ "قال: أنا أصدقك على خبر السماء" والأرض، كما في رواية الحارث، فسقط من قلم المصنف والأرض؛ "ألا أصدقك على ذا الأعرابي؟! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، فلم يكن في الإسلام من تعدل" لفظ الحارث من تجوز "شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة"، بتخصيص المصطفى له، ففيه أن يخص من شاء بما شاء، وبقية رواية الحارث عن النعمان: فرد صلى الله عليه وسلم الفرس على الأعرابي وقال: "لا بارك الله لك فيها، فأصبحت من الغد شائلة برجلها" أي: ماتت، وهذا الأعرابي اسمه سواء بن الحارث من وفد محارب، وروى ابن منده، وابن شاهين، عن المطلب بن عبد الله، قال: قلت لبني الحارث: إن سواء أبوكم الذي جحد بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا تقل ذلك، فلقد أعطاه بكرة، فما أصبحنا نسوق سارحًا ولا بارحًا إلا منها. "قال الخطابي" في شرح أبي داود: "هذا الحديث حمله كثير من الناس على غير محمله، وتذرع" بذال معجمة توسع وتوسل "به قوم من أهل البدع" وبإهمال الدال، أي: تمسكوا به وجعلوه كالدرع في اتقاء ما يرد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شيء ادعاه، وإنما وجه الحديث أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه، وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد لقوله: والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا، انتهى. ومن ذلك ترخيصه في النياحة لأم عطية، روى مسلم عنها: "قالت: لما نزلت هذه الآية.   عليهم، "إلى استحلال الشهادة لمن عرف عندهم بالصدق على كل شيء ادعاه" متعلق بالشهادة، وليس حمل الحديث على ذلك بصحيح، "وإنما وجه الحديث" أي: جهته التي ينبغي حمله عليها، "أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمه" لأنه من خصائصه. "وجرت شهادة خزيمة مجرى التوكيد" التقوية "لقوله: والاستظهار على خصمه، فصار في التقدير بشهادة اثنين في غيرها من القضايا" لأن شهادته متى وقعت كانت كشهادة رجلين، فلا يطلب له ثان، "انتهى" كلام الخطابي، وفيه نظر، فإن الأحاديث ظاهرة، بل صريحة في تخصيصه بذلك دائمًا، إلا لمجرد الحكم بعلمه، كيف! وفي رواية الحارث، فلم يكن في الإسلام من تجوز شهادته بشهادة رجلين غير خزيمة، وفي رواية محمد بن أبي عمر العدني في مسنده، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين حتى مات خزيمة، وروى أبو يعلى عن أنس، قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقالت الأوس: ومنا من جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين ... الحديث، فإنه لو كان للحكم بعلمه لم يكن فخرًا أصلا، والغاية بقوله: حتى مات خزيمة، صريحة في ذلك إذ هو قد عاش بعد النبي سبعًا وعشرين سنة، نعم لا حجة فيه للمبتدعة، لأنه خصوصية لخزيمة، خصه بها من له تخصيص من شاء بما شاء، "ومن ذلك ترخيصه في النياحة" رفع الصوت على الميت بالندب، وهو عد محاسنه كواكهفاء، واجبلاه، "لأم عطية" نسيبة، بضم النون، وفتح المهملة، مصغر، ويقال بفتح أولها، وكسر السين بنت الحارث الأنصارية المدنية، ثم سكنت البصرة. وقيل: بنت كعب، وأنكره أبو عمر؛ لأن بنت كعب هي أم عمارة، روت أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعنها أنس ومحمد وحفصة، ولدا سيرين وآخرون. وفي مسلم عنها غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، كانت أخلفهم في رحالهم، وفي الصحيح أيضًا عن حفصة بنت سيرين: أن أم عطية قدما البصرة فنزلت قصر بني خلف. "روى مسلم" في الجنائز من طريق حفصة، "عنها قالت: لما نزلت هذه الآية" {يَا أَيُّهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] ، قالت: كان منه النياحة، فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال: "إلا آل فلان". قال النووي: هذا محمول على الترخيص لأم عطية في آل فلان خاصة، وللشارع أن يخص من العموم ما يشاء.   النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] الآية، إلى قوله: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} الآية، قالت" أم عطية: "كان منه" أي: من "النياحة" على الميت، وهي من كفر النعمة، لأن من ناح على الميت كفر نعمة أنه حي، "فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان" لم يسم، "فإنهم كانوا أسعدوني، في الجاهلية" الإسعاد: قيام المرأة مع الأخرى في المناحة تراسلها، أي: تساعدها، وهو خاص بهذا المعنى، ولا يستعمل إلا في المساعدة عليها، "فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال" رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا آل فلان" وأخرجه البخاري في التفسير عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا: {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} ، ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فانطلقت، ورجعت فبايعها، وللنسائي قال: "اذهبي فاسعديها"، قالت: فذهبت فأسعدتها، ثم جئت فبايعته، وللترمذي، فأذن لها، ولأحمد قال: "اذهبي فكافئيهم". قال الحافظ: التي قبضت يدها هي أم عطية، وفلانة لم أقف على اسمها انتهى. وكأنه صلى الله عليه وسلم سكت أولا ثم أذن. "قال النووي: هذا محمول على الترخيص لأم عطية" خاصة، "في آل فلان خاصة وللشارع أن يخص من العموم ما يشاء" لمن يشاء. قال المصنف كغيره، وأورد على النووي حديث ابن العباس عند ابن مردويه، قالت: لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء، فبايعهن على {أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} الآية، قالت خولة بنت حكيم: يا رسول الله كان أبي وأخي ماتا في الجاهلية، وإن فلانة أسعدتني، وقد مات أخوها ... الحديث، وحديث أسماء بنت يزيد الأنصارية عند الترمذي، قالت: قلت يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي، ولا بد من قضائهن فأبى، قالت: فراجعته مرارًا، فأذن لي، ثم لم أنح بعد ذلك، وعند أحمد والطبراني من طريق مصعب بن نوح، قال: أدركت عجوزًا لنا، كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فأخذ علينا أن لا تنحن، فقالت عجوز: يا نبي الله إن أناسًا كانوا أسعدونا على مصائب أصابتنا، وإنهم قد أصابتهم مصيبة، فأريد أن أسعدهم، قال: "اذهبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 ومن ذلك: ترك الإحداد لأسماء بنت عميس، أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر بن أبي طالب، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسلبي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت". ومن ذلك: الأضحية بالعناق لأبي بردة ابن نيار، رواه الشيخان من حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنة".   فكافئيهم، فانطلقت، فكافأتهم، ثم إنها أتت فبايعته، وحينئذ فلا خصومة لأم عطية، والظاهر أن النياحة كانت مباحة، ثم كرهت كراهة تنزيه، ثم تحريم، فيكون الإذن لمن ذكرنا، وقع لبيان الجواز مع الكراهة، ثم لما تمت مبايعة النساء وقع التحريم، فورد حينئذ الوعيد الشديد. وفي حديث أبي مالك الأشعري عند أبي يعلى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة عليها سربال من قطران، ودرع من جرب". انتهى، "ومن ذلك ترك الإحداد" على الزوج، أي: ترخيصه في تركه "لأسماء بنت عميس" بضم العين، مصغر آخره سين مهملة، الخثعمية، صحابية تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبو بكر، ثم علي، وولدت لهم، وماتت بعد علي، ولها أحاديث في البخاري والسنن، وهي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين لأمه، "أخرج ابن سعد" محمد "عن أسماء بنت عميس، قالت: لما أصيب" قتل بغزوة مؤتة، سنة ثمان من الهجرة "جعفر بن أبي طالب" الهاشمي، ذو الجناحين، الصحابي الجليل، له في النسائي، "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسلبي " أي: حدي على زوجك "ثلاثًا" قال المصباح: التسلب: امتناع المرأة من الزينة والخضاب بعد موت زوجها، وفي نسخة تسلي بدون موحدة؛ فإن صحت فالمعنى، تصبري، أي: صبري نفسك على الإحداد ثلاثة أيام، "ثم اصنعي ما شئت" فأباح لها ترك الإحداد بعدها، مع وجوبه على المرأة ما دامت في العدة، "ومن ذلك الأضحية بالعناق" بفتح المهملة، وخفة النون الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول، "لأبي بردة" بضم الموحدة، "ابن نيار" السلولي، حليف الأنصار، اسمه هانئ، وقيل: الحارث بن عمرو، وقيل: مالك بن هبيرة، مات سنة إحدى وأربعين، وقيل: بعدها، "رواه الشيخان" البخاري في العيد، والأضاحي ومسلم في الذبائح، "من حديث البراء بن عازب" رضي الله عنهما، "قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر" وفي رواية يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: "من صلى صلاتنا ونسك" بفتح النون والسين، "نسكنا" بضم النون والسين، ونصب الكاف، أي: ضحى مثل ضحيتنا، "فقد أصاب السنة" أي: الطريقة، وفي رواية فقد أصاب سنتنا، وفي رواية النسك، وفي أخرى: ومن ذبح بعد الصلاة فقد: تم نسكه وأصاب سنة المسلمين، "ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم"، قال: عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم   نسك قبل الصلاة، فتلك شاة لحم" وليست أضحية، فلا ثواب فيها، واستشكلت هذه الإضافة، بأن الإضافة إما معنوية مقدرة بمن، كخاتم حديد، أو اللام، كغلام زيد، أو في كضرب اليوم، أو لفظية مضافة إلى معلومها، كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء منها في شاة لحم، وأجيب بأن الإضافة بتقدير محذوف، أي: شاة طعام لحم لا طعام نسك، وما أشبه ذلك، يعني شاة لحم غير نسك، فهي مضافة إلى محذوف، أقيم المضاف إليه مقامه، وفي رواية للصحيح أيضًا، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء، "فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله لقد نسكت" شاتي، أي ذبحتها "قبل أن أخرج إلى الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب" بضم الشين، وتجويز الزركشي فتحها كما قيل به في أيام منى أيام أكل وشرب، رده الدماميني؛ بأنه ليس محل قياس، إنما المعتمد الرواية. زاد في رواية: وأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي، وفي أخرى عن أنس في الصحيحين، فقال: يا رسول الله إن هذا يوم نشتهي فيه اللحم، أي: تجري العادة بكثرة الذبح فيه، فتشوف له النفس التذاذ به، "فتعجلت" وفي رواية: فذبحت شاتي، "وأكلت، وأطعمت أهلي وجيراني" قبل أن آتي الصلاة، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك شاة لحم" لا أضحية، فلا ثواب فيها، بل هي على عادة الذبح للأك المجرد عن القربة، فأفاد بإضافتها إلى اللحم نفي الأجزاء. وفي رواية: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدلها"، "قال" وفي رواية، فقال: "عندي عناق جذعة" بالتنوين فيهما، فالثاني عطف بيان، وفي رواية: عندي جذعة، وأخرى عندي عناق لبن إشارة إلى صغرها؛ وأنها قريبة من الرضاع، وفي أخرى: فإن عندنا عناقًا لنا جذعة، صفتان لـ"عناقا" المنصوب بأن. وفي رواية: فإن عندي داجنًا جذعة، وما يوجد في بعض النسخ، فإن عندي عناق جذعة، وإن أمكن توجيهها بجعل اسم أن ضمير الشأن محذوفًا، والجملة خبر، لكنه ليس رواية، "هي خير من شاتي، لحم" لطيب لحمها وسمنها، فإن قيل: كيف تكون واحدة خيرًا من أضحيتين، بل العكس أولى: كعتق اثنين خير من عتق واحد، ولو كان أنفس، أجيب بأن القصد بالضحايا طيب اللحم وكثرة السمن، فشاة سمينة أفضل من هزيلتين، وأما العتق فالمقصود منه التقريب إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 فهل تجزي عني؟ قال: "نعم ولن تجزي عن أحد بعدك". و"نيار" بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء. وقوله "تجزي" بفتح أوله غير مهموز، أي تقضي. و"الجذع" بالجيم والذال المعجمة. وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بإجزاء الجذع من المعز في الأضحية. ولكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر -عند البيهقي: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك". قال البيهقي: إن كانت هذه.   الله بفك الرقبة، فعتق اثنين أفضل من عتق واحد، نعم إن عرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره، كالعلم وأنواع الفضل، فجزم بعض المحققين أنه أفضل لعموم نفعه للمسلمين. وفي رواية: هي خير من مسنة، وأخرى من مسنتين، بالتثنية، قال الجوهري: يكون ذلك في الظلف والحافر في الثالثة، وفي الخف في السادسة "فهل تجزي عني؟ قال: "نعم تجزي عنك"، وفي رواية قال: "اجعلها مكانها"، "ولن تجزي عن أحد بعدكم" أي: غيرك لأنه لا بد في تضحية المعز من الثنية، "ونيار، بكسر النون، وتخفيف المثناة التحتية، وآخره راء بعد ألف، "وقوله تجزي، بفتح أوله غير مهموز أي: تقضي"، كقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} ، قال ابن بري: الفقهاء يقولون: لا يجزئ، بالضم والهمزة في موضع لا يقضي، والصواب الفتح بلا همز، ويجوز الضم والهمز، بمعنى الكفاية، في الأساس بنو تميم تقوله: نضم أوله، وأهل الحجاز، بفتح أوله، وبهما قرئ: "لا تجزى نفس عن نفس"، وجوز بعضهم هنا الضم من الرباعي، وبه قال الزركشي في تعليق العمدة اعتمادًا على نقل الجوهري، وغيره؛ أنها لغة تميم، وتعقب بأن الاعتماد إنما هو الرواية، لا مجرد النقل عن تميم، "والجذع، بالجيم والذال المعجمة" ثم عين مهملة ما استكمل سنة، فالعناق تجذع لسنة، وربما أجذعت قبل تمامها للخصب، فتسمن، فيسرع أجذاعها، "وفي هذا الحديث تخصيص أبي بردة بأجزاء الجذع من المعز في الأضحية" على سبيل الصراحة، "ولكن وقع في عدة أحاديث التصريح بنظير ذلك لغير أبي بردة، ففي حديث عقبة بن عامر" الجهني، الفقيه، الفاضل، مات قرب الستين "عند البيهقي" وأصله في الصحيحين، عن عقبة قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ضحايا، فصارت لعقبة جذعة، فقلت: يا رسول الله صارت لي جذعة، قال: "ضح بها". زاد في رواية البيهقي: "ولا رخصة فيها لأحد بعدك"، قال البيهقي: إن كانت هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 الزيادة محفوظة كان هذا رخصة لعقبة كما رخص لأبي بردة. قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم، فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني ويحتمل في الجمع أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، لا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا. وفي كلام بعضهم: أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل الجمع وليس بمشكل، فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قضية أبي بردة في الصحيح، وفي قضية عقبة بن عامر عند البيهقي، وأما ما عدا ذلك: فأخرج أبو داود وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا جذعًا، فقال: ضح به، فقلت إنه جذع أفأضحي به؟ قال: ضح به   الزيادة محفوظة" أي: ليست بشاذة، "كان هذا رخصة لعقبة، كما رخص لأبي بردة". "قال الحافظ ابن حجر: وفي هذا الجمع نظر، لأن في كل منهما صيغة عموم" وهو نفي الأجزاء عن غير المخاطب في كل منهما، "فأيهما تقدم على الآخر اقتضى انتفاء الوقوع للثاني" فلا يصح الجمع المذكور، "ويحتمل في الجمع أن تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني، لا مانع من ذلك، لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره صريحًا" لكن فيه دعوى النسخ بالاحتمال، وإنما يكون بمعرفة التاريخ، وإلى هذا أشار بقوله الآتي: وإن تعذر الجمع ... إلخ. "وفي كلام بعضهم أن الذين ثبتت لهم الرخصة أربعة أو خمسة واستشكل" هذا البعض "الجمع" بحسب الظاهر، "وليس بمشكل" عند التحقيق، "فإن الأحاديث التي وردت في ذلك ليس فيها التصريح بالنفي إلا في قضية أبي بردة في الصحيح" للشيخين. "وفي قضية عقبة بن عامر عند البيهقي، وأما ما عدا ذلك" فوقعت المشاركة في مطلق الأجزاء، لا في خصوص منع الغير، "فأخرج أبو داود، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد" الجهني المدي، صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين، أو سبعين، وله خمس وثمانون سنة؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عتودًا" بفتح المهملة، وضم الفوقية الخفيفة: ما قوى ورعى من أولاد المعز، وأتى عليه حول، أو العتود: الجذع من المعز ابن خمسة أشهر، وفي المحكم العتود الجدي الذي استكرش، وقيل: الذي بلغ السفاد "جذعًا" أي: صغيرًا، "فقال: "ضح به"، فقلت: إنه جذع" لا يجزي ضحية، أفأضحي به، قال: "ضح به" ولم يقل لا رخصة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 وفي الأوسط للطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص جذعًا من المعز فأمره أن يضحي به. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة، وفي سنده شدة ضعف. فلا منافاة بين ذلك وحديثي أبي بردة وعقبة، لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة، وعقبة بالرخصة في ذلك. وإن تعذر الجمع بين حديث أبي بردة وحديث عقبة، فحديث أبي بردة أصح مخرجًا. وإن كان حديث عقبة عند البيهقي من مخرج الصحيح.   أو لا يجزي عن أحد بعدك. "وفي الأوسط للطبراني من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أعطى سعد بن أبي وقاص" مالكًا أحد العشرة "جذعًا من المعز، فأمره أن يضحي به، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة" أنه أعطى سعد بن ... إلخ. "وفي سنده شدة ضعف" وإن خرجه الحاكم، وكذا وقع لعويمر بن أشقر، رواه ابن حبان، وابن ماجه، وروى أبو يعلى والحاكم عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله هذا جذع من الضأن مهزولة، وهذا جذع من المعز سمين، وهو خيرهما، أفأضحي به، فقال: "ضح به فإن لله الخير"، وسنده ضعيف، "فلا منافاة بين ذلك" كله "و" بين "حديثي أبي بردة وعقبة؛ لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر" مجزيًا، "ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزي، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك" لكن يبقى التعارض بين حديثيها، فإن ساغ أحد الجمعين المتقدمين فلا تعارض، "وإن تعذر الجمع بين حديث أبي بردة وحديث عقبة" لأن جمع البيهقي فيه نظر، بأن في كل منهما صيغة عموم، كما مر، والجمع باحتمال نسخ خصوصية الأول بالثاني لا ينهض، إذ النسخ لا يكون بالاحتمال رجعنا إلى الترجيح، "فحديث أبي بردة أصح مخرجًا" لاتفاق البخاري ومسلم عليه، هو أرفع الصحيح، فيقدم على حديث عقبة عند البيهقي، خصوصًا وقد أخرجه الشيخان بدون تلك الزيادة، "وإن كان حديث عقبة عند البيهقي من مخرج الصحيح" لأنه لا يلزم من إخراج الشيخين لرجاله أن يكون صحيحًا مثل تخريجهما بالفعل، وقد نبه على ذلك ابن الصلاح في مقدمة شرح مسلم، فقال: من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في الصحيح، بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، ذلك يتوقف على النظر في كيفية روايته عنه، وعلى أي وجه أخرج حديثه، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 ومن ذلك: إنكاح ذلك الرجل بما معه من القرآن، فيما ذكره جماعة، وورد به حديث مرسل أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي، قال: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن.   "ومن ذلك إنكاح ذلك الرجل" الذي كان عند المصطفى، لما عرضت امرأة نفسها عليه صلى الله عليه وسلم، فالإشارة إلى معلوم "بما معه من القرآن" أي: بتعليمه إياها، بأن جعله صداقًا، وذلك لا يجوز كونه صداقًا، فهو خصوصية "فيما ذكره جماعة" كأبي حنيفة وأحمد ومالك، وهو أحد قولين مرجحين عند أصحابه، وجوزه الشافعي والمصنف كغيره ممن ذكر الخصائص، غالبًا لا يقتصرون فيها على مذهبهم، بل يذكرون ما قيل أنه خصوصية، ولو كان ضعيفًا، فعجيب الاعتراض عليه بأنه مذهب الشافعي، وكان المعترض ما تنبه لقوله فيما ذكره جماعة "وورد به حديث مرسل". "أخرجه سعيد بن منصور عن أبي النعمان الأزدي" ظاهر المصنف أنه تابعي لقوله مرسل، وقد أورده في الإصابة في الكنى في القسم الأول، وقال: ذكره أبو موسى عن الطبراني، وأخرج ابن السكن عن أبي النعمان الأزدي أن رجلا خطب امرأة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أصدقها" قال: ما عندي شيء، قال: "أما تحسن سورة من القرآن فأصدقها السورة، ولا يكون لأحد بعدك مهر". قال ابن السكن: لا تحفظ هذه الزيادة إلا في هذه الرواية، انتهى. وفي التجريد للذهبي أبو النعمان: له حديث ساقه مطين وغيره في التزويج على سورة من القرآن؛ فهو صحابي قطعًا فمراد المصنف، كالسيوطي بقولهما مرسل ما سقط منه، رواه على أحد الأقوال لا ما رفعه التابعي، وإن كان هو المشهور في تعريفه، لأن الواقع أن أبا النعمان صحابي، لا تابعي، "قال زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة" يقال إنها خولة بنت الحكم، أو أم شريك، أو ميمونة، قال الحافظ في المقدمة: ولا يثبت شيء من ذلك، ولم يسم الرجل "على سورة من القرآن" أي على جنس، فلا ينافي رواية الصحيحين، قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا بعددها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنكحتها بما معك من القرآن" ولأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة سورة البقرة، أو التي تليها، وللدارقطني عن ابن مسعود البقرة وسورة من المفصل، ولتمام الرازي عن أبي أمامة قال زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار على سبع سور, وفي فوائد أبي عمر بن حبوبة عن ابن عباس، قال: معي أربع سور أو خمس سور، ذكره الحافظ. وفي أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة: "قم فعلمها عشرين -أي: آية- من القرآن، وهي امرأتك"، فظاهر حديث الصحيحين أنه جعل الصداق تعليمه إياها جميع ما معه من القرآن على اختلاف الروايات في تعيينه، ولا منافاة بينها، لأن كلا حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأما الجمع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 وقال: "لا يكون لأحد بعدك مهرًا".   بجواز أن ما كان مع الرجل سورة، وعدتها عشرون آية، أو كان عنده سور قصار تبلغ عشرين آية، ففاسد لما رأيت من أن منها البقرة، أو آل عمران، هذا وإنما عدل المصنف كالسيوطي عن الصحيحين إلى المرسل، لأنه صرح فيه بالخصوصية بقوله: "وقال: لا يكون لأحد بعدك مهرًا" وتجويز المراد لا يقع أن أحدًا يجعل السورة صداقًا حتى لا يخالف الشافعي عدول عن الظاهر، وقد قال مكحول: ليس ذلك لأحد بعده، أي: أنه خصوصية بخلاف حديث الصحيحين، فإفادته الخصوصية بالقوة لا الصريح. روى الشيخان عن سهل بن سعد: أن امرأة عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لهما، فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي إليك، فصعد فيها النظر، فقامت قيامًا طويلا، فقام رجل، فقال: يا رسول الله زوجنيها، إن لم يكن لك بها حاجة، قال: "ما عندك"؟ قال: ما عندي شيء قال: "اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد". فذهب، ثم رجع، فقال: لا والله ما وجدت شيئًا ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزاري، ولها نصفه، قال سهل: وما له رداء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "وما تصنع بإزارك، إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء". فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه أو دعى له، فقال له: "ماذا معك من القرآن؟ ". قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، وسورة كذا السور، يعدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنكحتكها بما معك من القرآن". هذا وزاد السيوطي ترخيصه في إرضاع سالم، مولى أبي حذيفة وهو كبير في تعجيل صدقة عامين للعباس، وفي الجمع بين اسمه وكنيته للولد الذي يولد لعلي، وفي المكث في المسجد جنبًا لعلي، وفي فتح باب داره في المسجد له، وفي فتح خوخة فيه لأبي بكر، وأكل المجامع في رمضان من كفارة نفسه، وفي لبس الحرير للزبير وعبد الرحمن فيما قاله جماعة، وهو وجه عندنا، وفي لبس الخاتم الذهب للبراء، وفي اشتراط الولاء لموالي بريرة، ولا يوفى به فيما ذكره بعضهم، وفي العزية لعلبة بن زيد الحارثي فيما ذهب إليه الواقدي، وفي خيار الغبن لحبان بن منقذ فيما ذكره النووي في شرح مسلم، وفي التحلل بالمرض لضباعة بنت الزبير في أحد القولين، وفي ترك مبيت منى لأجل السقاية لبني العباس في وجه، وبني هاشم في آخر، ولعائشة في صلاة ركعتين بعد العصر، ولمعاذ في قبول الهدية حين بعثه إلى اليمن، وفي المستدرك وغيره، عن أنس: أن أم سليم تزوجت أبا طلحة على إسلامه، قال ثابت: ما سمعت بامرأة كانت أكرم مهرًا منها في الإسلام، وأعاد امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثًا من غير محلل، وأسلم رجل على أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه، وضرب لعثمان يوم بدر بسهم، ولم يضرب لغائب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر، كان يواخي الصحابة ويثبت بينهم التوارث، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 ومنها أنه كان يوعك كما يوعك رجلان لمضاعفة الأجر. ومنها أن جبريل أرسل إليه ثلاثة أيام في مرضه يسأله عن حاله، ذكره البيهقي وغيره.   وليس ذلك لغيره، قاله علي بن زيد، وخص نساء المهاجرين بأنهن يرثن دون أزواجهن لأنهن غرائب لا مأوى لهن، وكان أنس يصوم من طلوع الشمس، لا من طلوع الفجر، فالظاهر أنها خصوصية، "ومنها أنه كان يوعك"، أي: يأخذه الوعك، بسكون العين، أي: شدة الحمى، أو ألمها، أو رعدتها، "كما يوعك رجلان لمضاعفة الأجر". روى الشيخان عن ابن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فقلت: إنك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال: "أجل إني أوعك، كما يوعك رجلان منكم"، قلت: وذلك لأن لك أجرين، قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة أوراقها". زاد الأنموذج، وكذلك الأنبياء، وعصم من الأعلال الموحية، ذكر هذه القضاعي، الأعلال: بمهملة جمع علة، والموحية: بحاء مهملة القاتلة بسرعة، فلم يصب منها بشيء حياته. وروى الطبراني عن أبي أمامة: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من موت الفجأة، وكان يعجبه أن يمرض قبل أن يموت. وروى ابن ماجه، وصححه الديلمي، عن أبي سعيد مرفوعًا: "إنا معاشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء، كما يضاعف لنا الأجر، كان النبي من الأنبياء يبتلى بالقمل حتى يقتله، وإنهم كانوا يفرحون بالبلاء، كما تفرحون بالرخاء". وروى أحمد بسند حسن، والطبراني، عن فاطمة بنت اليمان، قالت: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده في نساء، فإذا شن معلق نحوه، يقطر ماؤه في فيه من شدة ما يجد من حر الحمى، فقلنا: يا رسول الله لو دعوت اله فشفاك، قال: "إنا معاشر الأنبياء يضاعف علينا البلاء". "ومنها جبريل أرسل إليه ثلاثة أيام في مرضه" الذي مات فيه إكرامًا له وإجلالا، "يسأله عن حاله" كل يوم يقول: إن الله أرسلني إليك تفضيلا وخاصة، يسألك عما هو أعلم به منك، كيف تجدك؟ قال: "أجدني مكروبًا ومغمومًا" , وفي اليوم الثالث جاء، ومعه ملك الموت، فاستأذنه في قبض روحه، فأذن "ذكره" أي خرجه "البيهقي" في الدلائل "وغيره" وأشار البيهقي لضعفه، ولما نزل إليه ملك الموت نزل معه ملك يقال له إسماعيل، وهو على سبعين ألف ملك يسكن الهواء، لم يصعد السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قبل ذلك اليوم قط، وسبقهما جبريل، فقال له ما تقدم، فقال له: ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، فأذن له، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 ومنها: أنه صلى عليه الناس أفواجًا أفواجًا بغير إمام، وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره البيهقي وابن سعد وغيرهما.   فدخل، فوقف بين يديه، وقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك، فإن أمرتني أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال له جبريل: إن الله اشتاق إلى لقائك، أي: أراده، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الموت: "امض لما أمرت به"، رواه الشافعي والبيهقي عن علي بإسناد معضل. وروى أبو نعيم عن علي: لما قبض صلى الله عليه وسلم، صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وامحمداه. "ومنها أنه صلى عليه الناس أفواجًا أفواجًا" أي: فوجًا بعد فوج، روى الترمذي أن الناس قالوا لأبي بكر، أنصلي على رسول الله؟ قال: نعم، قالوا: وكيف نصلي؟ قال: يدخل قوم يصلون ويدعون، ثم يدخل قوم فيصلون، فيكبرون ويدعون، فرادى "بغير إمام" قال علي: هو إمامكم حيًا وميتًا، فلا يقوم عليه أحد، فكان الناس تدخل رسلا فرسلا، فيصلون صفًا صفًا ليس لهم إمام، رواه ابن سعد. قيل: وصلوا كذلك لعدم اتفاقهم على خليفة، وقيل: بوصية منه، روى الحاكم والبزار بسند فيه مجهول أنه صلى الله عليه وسلم لما جمع أهله في بيت عائشة، قالوا: فمن يصلي عليك؟ قال: "إذا غسلتموني وكفنتموني، فضعوني على سريري، ثم اخرجوا عني، فإن أول من يصلي علي جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنوده من الملائكة بأجمعهم، ثم ادخلوا علي فوجًا بعد فوج، فصلوا علي وسلموا تسليمًا". "وبغير دعاء الجنازة المعروف ذكره" أي: رواه "البيهقي، وابن سعد وغيرهما" عن علي أنهم كانوا يكبرون، ويقولون السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، اللهم إنا نشهد أن محمدًا قد بلغ ما أنزل عليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيلك حتى أعز الله كلمته، فاجعلنا نتبع ما أنزل إليه، وثبتنا بعده، واجمع بيننا وبينه، فيقول الناس: آمين، أي: الناس الذين لم يكونوا مشغولين بالصلاة، أو من سبق بالسلام ولم ينصرف أو المصلون أنفسهم. وروى الحاكم والبيهقي: أول من صلى الملائكة فرادى، ثم الرجال فرادى، ثم النساء، ثم الصبيان بوصية منه بذلك. وروى البيهقي عن ابن عباس: لما مات صلى الله عليه وسلم أدخل عليه الرجال فصلوا بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء، فصلين عليه كذلك، ثم العبيد كذلك، ولم يؤمهم عليه أحد، وتكرار الصلاة عليه من خصائصه عند مالك وأبي حنيفة، وفي اقتصار المصنف على أنه بغير دعاء الجنازة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 وترك بلا دفن ثلاثة أيام كما سيأتي، ففرش له في لحده قطيفة، والأمران مكروهان في حقنا، وأظلمت الأرض بعد موته كما سيأتي. ومنها: أنه لا يبلى جسده.   إفادة أنهم صلوا عليه الصلاة المعروفة، ولم يقتصروا على مجرد الدعاء، وهو كذلك. قال عياض، وتبعه النووي: الصحيح الذي عليه الجمهور أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاة حقيقية، لا مجرد الدعاء فقط، وعد طائفة من خصائصه أنه لم يصل عليه أصلا, وإنما كان الناس يدخلون أرسالا، فيدعون ويصدقون على ظاهر حديث علي، وعلل بأنه لفضله وشرفه غير محتاج للصلاة عليه، ورد بأن المقصود من الصلاة عليه عود التشريف على المسلمين، مع أن الكامل يقبل زيادة التكميل، "وترك بلا دفن ثلاثة أيام" لاختلافهم في موته، أو في محل دفنه، أو لاشتغالهم في أمر البيعة بالخلافة، حتى استقر الأمر على أبي بكر، "كما سيأتي" ذلك بتعليله في المقصد الأخير زاد غيره، أو لدهشتهم من ذلك الأمر الهائل الذي ما وقع قبله، ولا بعده مثله، فصار بعضهم كجسد بلا روح، وبعضهم عاجز عن النطق، وبعض عن المشي، أو خوف هجوم عدو أو لصلاة جم غفير، "ففرش له لحده قطيفة" نجرانية، كان يتغطى بها، وضعها مولاه شقران، وقال: والله لا يلبسه أحد بعدك، فوضعها خصوصية له، كما قال وكيع، فقد كره جمهور العلماء وضع قطيفة، أو مضربة، أو مخدة ونحو ذلك في القبر تحت الميت، وشذ البغوي، فجوزه، والصواب: الكراهة، وأجاب الجمهور عن هذا الحديث، بأن شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعل ذلك كراهة أن يلبسها أحد بعده، قال النووي، وقد قال ابن عبد البر: أنها أخرجت لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، ورجحه الحافظ وشيخه في الألفية، قال: وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل أخرجت وهذا أثبت "والأمران" تأخير الدفن والفرش "مكروهان في حقنا" تنزيهًا، "وأظلمت الأرض بعد موته" رواه الترمذي عن أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن التراب، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، "كما سيأتي" في المقصد العاشر. زاد الأنموذج: ولا يضغط في قبره، وكذلك الأنبياء، ولم يسلم من الضغطة صالح، ولا غيره سواهم، وفي تذكرة القرطبي: إلا فاطمة بنت أسد ببركته، وتحرم الصلاة على قبره واتخاذه مسجدًا. قال الأوزاعي: ويحرم البول عند قبور الأنبياء، ويكره البول عند قبور غيرهم. "ومنها أنه لا يبلى" بالبناء للمفعول "جسده" أي: لا يتغير عن حالته التي كان عليها في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 وكذلك الأنبياء، رواه أبو داود وابن ماجه. ومنها: أنه لا يورث، فقيل لبقائه على ملكه، وقيل لمصيره صدقة، وبه قطع الروياني، ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفًا على ورثته؟ وأنه إذا صار وقفًا هل هو الواقف؟ وجهان. قال النووي في زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه وأن ما تركه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، انتهى. وقال في الشرح الصغير: المشهور أنه صدقة.   الدنيا، فلا يقال هذه الخصوصية شارك الأنبياء فيها الشهداء وغيرهم، "وكذلك الأنبياء" ولا خلاف في طهارة ميتتهم وفي غيرهم خلاف، ولا يجوز للمضطر أكل ميتة نبي، "رواه أبو داود وابن ماجه" عن أوس، رفعه: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وروى الزبير بن بكار من مرسل الحسن: "من كلمه روح القدس لم تأكل الأرض لحمه". وروى البيهقي عن أبي العالية: "إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السبع". قال الشيخ أبو الحسن المالكي في شرح الترغيب: وحكمة عدم أكل الأرض أجساد الأنبياء، ومن ألحق بهم، أن التراب يمر على الجسد فيطهره والأنبياء لا ذنب لهم، فلم يحتج إلى تطهيرهم بالتراب. "ومنها أنه لا يورث، فقيل لبقائه على ملكه" لأنه حي "وقيل: لمصيره صدقة، وبه قطع" جزم "الروياني" وهو المعتمد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة"، الرواية برفع صدقة، ونصبها الشيعة، ورد بأنه يبطل معنى الحديث؛ إذ كل من ترك ما لا حالة كونه صدقة كذلك، وبأن عليًا والعباس من أهل اللسان، وقد احتج الصديق عليهم بالحديث، فقبلوه، "ثم حكى وجهين في أنه هل يصير وقفًا على ورثته؟ " لو كان يورث "وأنه إذا صار وقفًا هل هو الواقف" أو صار وقفًا من غير إنشاء صيغة؟ "وجهان، قال النووي في زيادات الروضة: الصواب الجزم بزوال ملكه، وأن ما تركه صدقة على المسلمين لا يختص به الورثة، انتهى". وقال الحافظ: يظهر أن ما تركه بعده من جنس الأوقاف المطلقة، ينتفع بها من يحتاج إليها، وتقر تحت يد من يؤتمن عليها، ولهذا كان له عند سهل بن قدح، وعند أنس آخر، وعند عبد الله بن سلام آخر، وكان الناس يشربون منها تبركًا، وكانت جبته عند أسماء بنت أبي بكر إلى غير ذلك مما هو معروف. "وقال" الرافعي "في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي: "المشهور أنه صدقة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 وذكر الرافعي في قسم الفيء أن الخمس كان له صلى الله عليه وسلم ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه ولا ينتقل إلى ورثته. وقال في باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما: بأن لجهة الإنفاق مادتين: مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار في إحداهما، انتهى. والله أعلم. وعلى هذا، فيباح له أن يوصي بجميع ماله للفقراء، ويمضي ذلك بعد موته بخلاف غيره فإنه لا يمضي مما أوصى به إلا الثلث بعد موته. وكذلك الأنبياء لا يورثون، لما رواه النسائي من حديث الزبير مرفوعًا: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث".   وذكر الرافعي" في الشرح الكبير على الوجيز "في قسم الفيء أن الخمس كان له صلى الله عليه وسلم، ينفق منه على نفسه ومصالحه، ولم يكن يملكه، ولا ينتقل إلى ورثته" لو كان يورث، "وقال في باب الخصائص: إنه ملكه، ويجمع بينهما بأن لجهة الإنفاق مادتين مملوكة وغير مملوكة، والخلاف جار في إحداهما، انتهى والله أعلم". "وعلى هذا، فيباح له أن يوصي بجميع ماله للفقراء، ويمضي" أي: ينفذ "ذلك بعد موته، بخلاف غيره، فإنه لا يمضي مما أوصى به إلا الثلث بعد موته" فالوصية بجميع المال في سائر الأحوال من غير حرمة، ولا كراهة من خصائص الأنبياء، لأنهم لا يورثون "وكذلك الأنبياء لا يورثون" لأنهم لو ورثوا لظن أن لهم رغبة في الدنيا لوارثهم، أو لأنهم أحياء، أو لئلا يتمنى ورثتهم، موتهم فيهلكون، "لما رواه النسائي من حديث الزبير" بن العوام "مرفوعًا: "إنا معاشر الأنبياء" نصب على الاختصاص أو المدح، والمعشر كل جمع أمرهم واحد، فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، وهو معنى قول جمع المعشر: الطائفة الذين يشملهم وصف "لا نور" وهذا بمعنى ما اشتهر مما لم يثبت لفظة: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث". "وقال الحافظ في تخريج المختصر": والحاصل أنه لم يوجد بلفظ نحن، ووجد بلفظ: إنا، ومفادهما واحد، فلعل من ذكره ذكره بالمعنى، وهو في الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" بحذف إنا، وكذا في السنن الثلاث، انتهى، وصدقة، بالرفع خبر المبتدأ الذي هو ما تركنا، والكلام جملتان الأولى فعلية، والثانية اسمية. قال الحافظ: ويؤيده وروده في بعض طرق الصحيح: "ما تركنا فهو صدقة"، وادعى بعض الرافضة أن الصواب قراءته بتحتية أوله، ونصب صدقة على الحال، والذي توارد عليه أهل الحديث في القديم والحديث بالنون، ورفع صدقة، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] وقوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} [مريم: 6] بأن المراد يرث النبوة والعلم.   وفي شرح المصنف وحرفه الإمامية فقالوا: لا يورث بتحتية بدل النون، وصدقة نصب على الحال، وما تركنا مفعول لما لم يسم فاعله، فجعلوا الكلام جملة واحدة، ويكون المعنى: إن ما يترك صدقة لا يورث، وهذا تحريف يخرج الكلام عن نمط الاختصاص الذي دل عليه قوله في بعض طرق الحديث: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، ويقضي ما صرفوه إلى أمر لا يختص به الأنبياء لأن آحاد الأمة إذا وقفوا أموالهم أو جعلوها صدقة، انقطع حق الورثة عنها، فهذا من تحاملهم، أو تجاهلهم، وقد أورده بعض أكابر الإمامية على القاضي شاذان، صاحب القاضي أبي الطيب، فقال القاضي شاذان وكان ضعيف العربية، قويًا في علم الخلاف: لا أعرف نصب صدقة من رفعه، ولا احتياج إلى علمه، فإنه لا خفاء بي وبك أن عليًا وفاطمة من أفصح العرب، لا تبلغ أنت ولا أمثالك إلى ذلك منهما، فلو كان لهما حجة فيما لحظت لأبدياها لأبي بكر، فسكت ولم يجر جوابًا، وذهب النحاس إلى صحة نصب صدقة على الحال، وأنكره عياض لتأييده مذهب الإمامية، لكن قدره ابن مالك ما تركناه متروك صدقة فحذف الخبر، وبقي الحال كالعوض منه، ونظير قراءة بعضهم: "ونحن عصبة" بالنصب. انتهى، لكن في التوجيه نظر إذ لم تأت رواية بالنصب حتى توجه، ولأنه لم يتعين حذف الخبر، بل يحتمل ما قاله الإمامية، ولذا أنكره عياض وإن صح في نفسه، "وعلى هذا فيجاب عن قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} الآية، وقوله {فَهَبْ لِي} الآية، ويقع في نسخة: {رَبِّ هَبْ لِي} ، وهو تصحيف مخالف للتلاوة {مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} الآية، "بأن المراد يرث النبوة والعلم" خلافًا لمن زعم أن خوف زكريا من مواليه كان على ما له، لأنه لا يخاف على النبوة، لأنها من فضل الله، يعطيها من شاء، فلزم أنه يورث، وهذا مدفوع بأن خوفه منهم لاحتمال شرتهم من جهة تغييرهم أحكام شرعه، فطلب ولدًا يرث نبوته ليحفظها. "ومنها: أنه حي في قبره" قال البيهقي: لأن الأنبياء بعدما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى نبينا صلى الله عليه وسلم جماعة منهم وأمهم في الصلاة، وأخبر وخبره صدق أن صلاتنا معروضة عليه، وإن سلامنا يبلغه، وإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. قال السيوطي: وكل نبي إلا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة، فيدخلون في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} الآية. وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، والحاكم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 ومنها: أنه حي في قبره ويصلي فيه بأذان وإقامة وكذلك الأنبياء، ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه. وقد حكى ابن زبالة، وابن النجار أن الأذان ترك في أيام الحرة ثلاثة أيام وخرج الناس، وسعيد بن المسيب في المسجد، قال سعيد: فاستوحشت فدنوت من القبر فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر فصليت الظهر.   والبيهقي عن ابن مسعود، قال: لأن أحلف تسعًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيًا واتخذه شهيدًا. وأخرج البخاري والبيهقي، عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي توفي فيه: "لم أزل أجد ألم الطعام حين أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"، "يصلي فيه بأذان وإقامة" من ملك موكل بذلك، إكرامًا له على ما يظهر، ويحتمل غير ذلك، "وكذلك الأنبياء" أحياء في قبورهم يصلون، روى أبو يعلى والبيهقي، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره"، "ولهذا قيل: لا عدة على أزواجه" لأنه حي، فزوجيتهن باقية غايته أن انتقل من دار إلى دار وحياته باقية، وذلك مقتضى لبقاء العصمة، وكأن قائل هذا رأى أن روحه لما ردت بعد موته إليه، كأنه لم يمت، لا أنه لم يمت حقيقة بل هو أمر كهيئة الإغماء، نظن به موته، إذ لا قائل بذلك، ومثله يقال في بقية الأنبياء. "وقد حكى" محمد بن الحسن "بن زبالة" بفتح الزاي وتخفيف الموحدة، المخزومي، أبو الحسن المدني، كذبوه ومات قبل المائتين، "وابن النجار أن الأذان ترك في أيام" وقعة "الحرة" بفتح الحاء المهملة، والراء الشديدة: أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار، كانت بها الوقعة بين أهل المدينة وبين عسكر يزيد بن معاوية سنة ثلاث وستين، بسبب خلع أهل المدينة يزيد، وولوا على قريش عبد الله بن مطيع وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد من بين أظهرهم وكان عسكر يزيد سبعة وعشرين ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل، قتل فيها خلق كثير من الصحابة وسيرهم، ونهبت المدينة وافتض فيها ألف عذارء. وفي البخاري عن سعيد بن المسيب: إن هذه الفتنة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا "ثلاثة أيام، وخرج الناس" من المسجد، "وسعيد بن المسيب في المسجد" لم يخرج، "قال سعيد: فاستوحشت" أي: حصلت لي وحشة، أي نفرة في نفسي لخلو المسجد ممن يستأنس به، "فدنوت من القبر" الشريف لنزول الوحشة، "فلما حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت الظهر" بذلك اكتفاء به لعلمه أنه حق، لكن مقتضى: فلما حضرت الظهر أنه علم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 ثم مضى ذلك الأذان والإقامة في القبر لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس وعاد المؤذنون فسمعت أذانهم كما سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون. فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة وليست دار عمل؟ فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.   دخول الوقت قبل سماع الأذان، لكن روى الدارمي: أخبرنا مروان بن محمد، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة لم يؤذن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ولم يقم، وأن سعيد بن المسيب لم يبرح مقيمًا، كان لا يعرف وقت الصلاة إلا بمهملة يسمعها من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، "ثم مضى" استمر "ذلك الأذان والإقامة في القبر لكل صلاة" يحتمل من ملك عنده بقبره تعظيمًا له على الظاهر، ويحتمل غير ذلك "حتى مضت الثلاث ليال، ورجع الناس، وعاد المؤذنون، فسمعت أذانهم، كما سمعت الأذان في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، انتهى. وأشار بذلك إلى أن ما سمعه في القبر هو الأذان المعروف، لا الإعلام بدخول وقت الصلاة بألفاظ أخر، أو نبه بذلك على سماعه بعد عود الناس أذان المؤذنين دون القبر، وإن كان باقيًا، لأن سماعه تلك المدة كرامة له، وتأنس لاستيحاشه بانفراده في المسجد، وتجويز أنه انقطع الأذان في القبر بعد عود الناس لا يسمع، وكلامهم يأباه. روى أبو نعم عن سعيد بن المسيب، قال: لقد رأيتني ليالي الحرة، وما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان من القبر. وروى الزبير بن بكار، عنه: لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله أيام الحرة حتى عاد الناس. وأخرج ابن سعد، عنه: أنه كان يلازم المسجد أيام الحرة والناس يقتتلون، قال: فكنت إذا حانت الصلاة أسمع أذانًا من القبر الشريف، "وقد ثبت أن الأنبياء يحجون ويلبون" فيجب اعتقاده لنبوته، "فإن قلت: كيف يصلون ويحجون ويلبون وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل" بل دار جزاء ونعيم للمؤمنين، "فالجواب: أنهم كالشهداء، بل أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون" كما في التنزيل، وقال صلى الله عليه وسلم: "الشهداء على بارق نهر بباب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا، أو نقول: إن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا لأنه قبل يوم القيامة في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال في الآخرة من غير تكليف على سبيل التلذذ بها، ولهذا ورد أنهم يسبحون ويقرءون القرآن، ومن هذا سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة. وقد قال صاحب "التلخيص": إن ماله عليه السلام قائم على نفقته وملكه، وعده من خصائصه. ونقل إمام الحرمين عنه أنه ما خلفه بقي على ما كان عليه في حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله وخدمه، وكان يرى أنه باق على ملك النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الأنبياء أحياء.   الجنة في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشية". رواه أحمد، "فلا يبعد أن يحجوا" ويلبوا "ويصلوا" وهذا لا يدفع السؤال: كيف تقع أعمال الدنيا في الآخرة، وليست دار عمل، وكما يرد هذا في الأنبياء يرد أيضًا في الشهداء، والأحسن الجواب بأنه ورد عن الشارع، وهو ممكن، فيجب قبوله، ولا يبحث فيه بشيء، وكون الآخرة ليست دار عمل، أي: مكلف به، وأعمالهم إنما هي لمجرد التلذذ وتيسيره لهم، فهو من جملة النعيم، "أو نقول" في الجواب: "أن البرزخ ينسحب" ينحر "عليه حكم الدنيا لأنه قبل يوم القيامة" وكل ما قبله يعد من الدنيا "في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف وقد تحصل الأعمال في الآخرة من غير تكليف على سبيل التلذذ بها" فهو من النعيم، وكان هذا تتمة الجواب الأول، "ولهذا" أي: حصول الأعمال في الآخرة تلذذًا، "ورد أنهم" أي أهل الآخرة "يسبحون ويقرءون القرآن" في الجنة، كما في مسلم مرفوعًا: "إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس"، "ومن هذا سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة" ثلاث مرات. "وقد قال صاحب التلخيص" ابن القاص: "أن ماله عليه السلام قائم" أي: باق "على نفقته وملكه" فيصرف منه على أزواجه ومن كان ي نفقته في حياته "وعده من خصائصه، ونقل إمام الحرمين" وصححه "عنه أنه ما خلفه بقي على ما كان عليه في حياته، فكان ينفق منه أبو بكر على أهله" أي: زوجاته "وخدمه" ويصرف منه ما كان يصرف في حياته، "وكان يرى" يعتقد "أنه باقٍ على ملك النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الأنبياء أحياء" ومال السبكي إليه لهذا التعليل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 وهذا يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد. والذي صرح به النووي: زوال ملكه عليه السلام وأن ما تركه صدقة على جميع المسلمين لا يختص به ورثته. فإن قلت: القرآن ناطق بموته عليه السلام، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقال عليه السلام: "إني امرؤ مقبوض". وقال الصديق: فإن محمدًا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك. فأجاب الشيخ تقي الدين السبكي، بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه صلى الله عليه وسلم أحيي بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطًا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية.   "وهذا يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا، وذلك زائد على حياة الشهيد" لأنها وإن كانت واقعة، لكن يزول ملكه معها، وتعتد نساؤه ويورث ماله فلا ينفق شيء منه على زوجاته وخدمه اتفاقًا في ذلك كله بخلاف الأنبياء، ففيه خلاف. "والذي صرح به النووي" وقال إنه الصواب، كما مر قريبًا "زوال ملكه عليه السلام" بالموت، "وأن ما تركه صدقه على جميع المسلمين، لا يختص به ورثته" وإنما أنفق منه على زوجاته لوجوب نفقتهن في تركته مدة حياتهن، لأنهن في معنى المعتدات لحرمة النكاح عليهن أبدًا، وليس ذلك لإرثهن منه، ولذلك اختصصن بمساكنهن مدة حياتهن، ولم يرثها ورثتهن بعدهن "فإن قلت" كيف يكون حيًا ويختلف في زوال ملكه عن ماله وفي عدة زوجاته، وهذا "القرآن ناطق بموته عليه السلام". "قال الله تعالى" خطابًا له صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَُّمْ مَيِّتُونَ} أي: ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت، نزلت لما استبطأ الكفار موته عليه السلام، وقال عليه السلام: "إني امرؤ مقبوض". وقال الصديق" ومن كان يعبد محمدًا، "فإن محمدًا قد مات، وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك" ورجع عمر عن قوله أنه ما مات، ولن يموت حتى يفني الله المنافقين، فقام لما بويع أبو بكر، واستوى على منبره عليه السلام، وتشهد، ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم مقالتي بالأمس، ولم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدتها في كتاب الله، ولا في عهدٍ عهِدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش حتى يكون آخرنا موتًا، فاختار الله له ما عنده، "فأجاب" أي: فأقول أجاب، لأن هذا ليس من المواضع التي تدخل عليها الفاء "الشيخ تقي الدين السبكي بأن ذلك الموت غير مستمر، وأنه صلى الله عليه وسلم أحيي بعد الموت، ويكون انتقال الملك ونحوه" كاعتداد الزوجات "مشروطًا بالموت المستمر، وإلا فالحياة الثانية حياة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 حياة أخروية، ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء، وهي ثابتة للروح بلا إشكال، وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلا عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيًا كحالته في الدنيا، أو حيًا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي، فهذا مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء. ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًا، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب وغير ذلك من صفات الأجسام.   أخروية ولا شك أنها أعلى وأكمل من حياة الشهداء" لفضل الأنبياء عليهم، "وهي ثابتة للروح بلا إشكال" أي: بلا خلاف عند أهل السنة، إذ لا تموت بموت الأجساد في جميع الناس، ففي فنائها عند القيامة توفيه بظاهر قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الآية، وعدمه قولان استقرب السبكي الثاني. "وقد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى، وعود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى فضلا" أي: نهاية "عن الشهداء، فضلا عن الأنبياء، وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أن البدن يصير حيًا كحالته في الدنيا، أو حيًا بدونها، وهي حيث شاء الله تعالى، فإن ملازمة الروح للحياة أمر عادي" أجرى الله به العادة، فيجوز تخلفه "لا عقلي" فيمتنع بخلفه "فهذا" أي: الحياة بلا روح "مما يجوزه العقل، فإن صح به سمع اتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء، ويشهد له صلاة موسى في قبره" كما ثبت في الصحيح. واختلف فيها، فقيل: الصلاة اللغوية، أي: يدعو الله ويذكره ويثني عليه وقيل: الشرعية، ولا مانع من ذلك، لأنه إلى الآن في الدنيا، وهي دار تعبد، وعلى هذا جرى القرطبي، فقال: الحديث يدل بظاهره على أنه رآه رؤية حقيقية في اليقظة، وأنه حي في قبره، يصلي الصلاة التي كان يصليها في الحياة، وذلك ممكن، "فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًا" سواء قلنا أنها الشرعية أو اللغوية، "وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء، كلها صفات الأجسام، ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وغير ذلك من صفات الأجسام" لأن ذلك عادي لا عقلي، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 التي نشاهدها بل يكون لها حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع إثبات الحياة الحقيقية لهم. وأما الإدراكات كالعلم والسماع فلا شك أن ذلك ثابت لهم بل ولسائر الموتى، حكاه الشيخ زين الدين المراعي، وقال: إنه مما يعز وجوده وفي مثله يتنافس المتنافسون.   وهذه الملائكة أحياء، ولا يحتاجون إلى ذلك، وقيد بقوله: "التي نشاهدها" حتى لا يرد عليهم أنهم يأكلون ويشربون مما لا نشاهده. وفي الفتاوى الرملية: الأنبياء والشهداء والعلماء لا يبلون، والأنبياء والشهداء يأكلون في قبورهم، ويشربون، ويصلون، ويصومون ويحجون، واختلف هل ينكحون نساءهم، أم لا؟ ويثابون على صلاتهم وحجهم، ولا كلفة عليهم في ذلك، بل يتلذذون، وليس هو من قبيل التكليف؛ لأن التكليف انقطع بالموت، بل من قبيل الكرامة لهم ورفع درجاتهم بذلك، "بل يكون لها حكم آخر، فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقية لهم". "وأما الإدراكات كالعلم والسماع، فلا شك أن ذلك ثابت لهم، بل ولسائر الموتى" كما ورد ذلك في الأحاديث. قال صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يزور قبر أخيه، ويجلس عليه إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم"، رواه ابن أبي الدنيا، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن، كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه، إلا عرفه ورد عليه السلام"، رواه ابن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يعرف من يغسله ويحمله ويدليه في قبره"، رواه أحمد وغيره. "حكاه الشيخ زين الدين المراعي" بفتح الميم، معجمة آخره المحدث، العالم النحرير، "وقال: إنه ما يعز وجوده، وفي مثله يتنافس المتنافسون" يرغبون بالمبادرة إليه لنفاسته، وفي نبأ الأذكياء حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره هو وسائر الأنبياء، معلومة عندنا علمًا قطعيًا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك، وتواترت به الأخبار، وألف البيهقي في ذلك جزأ، وفي تذكرة القرطبي عن شيخه: الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك؛ أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء، فالأنبياء أحق بذلك وأولى، وقد صح أن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء، ورأى موسى قائمًا يصلي في قبره، وأخبره صلى الله عليه وسلم بأنه يرد السلام على كل من يسلم عليه، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 ومنها: أنه وكل بقبره ملك يبلغه صلاة المصلين عليه.   كانوا موجودين أحياء، ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله تعالى بكرامة من أوليائه، انتهى، ولا تدافع بين رؤيته موسى يصلي في قبره، وبين رؤيته في السماء لأن للأنبياء مراتع ومسارح يتعرفون فيما شاءوا، ثم يرجعون، أو لأن أرواحهم بعد فراق الأبدان في الرفيق الأعلى، ولها إشراق على البدن وتعلق به، فيتمكنون من التعرف والتقرب، بحيث يرد السلام على المسلم، وبهذا التعلق رآه يصلي في قبره، ورآه في السماء، ورأى الأنبياء في بيت المقدس وفي السماء كما أن نبينا بالرفيق الأعلى، وبدنه في قبره يرد السلام على من يسلم عليه، ولم يفهم هذا من قال: رؤيته يصلي في قبره منامية، أو تمثيل، أو إخبار عن وحي، لا رؤية عين، فكلها تكلفات بعيدة. وأخرج البيهقي في كتاب حياة الأنبياء والحاكم في تاريخه، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور". قال الحافظ في سنده: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال: وأما ما أوردهم الغزالي والرافعي، بلفظ: "أنا أكرم على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث"، فلا أصل له إلا إن أخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد إذ تلك قابلة للتأويل، قال البيهقي: إن صح، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون، إلا هذا المقدار، ويكونون مصلين بين يدي الله. "ومنها: أنه وكل بقبره ملك" قائم على قبره إلى يقوم اليامة، "يبلغه صلاة المصلين عليه" بلفظ محمد وأحمد وغيرهما من أسمائه، كالعاقب والماحي، ولام المصلين للاستغراق، فهي للعموم، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ككون المصلي جنبًا، أو متعاطيًا لمحرم، أو في مكان لا يذكر الله فيه كالأخلية، ولا مانع من ذلك لجواز أن النهي لأمر خارج، وهو لا ينافي التبليغ الذي يترتب عليه الثواب، ويبلغها له عقب التلفظ بها، كما روى الديلمي عن أبي بكر، رفعه: "أكثروا الصلاة عليّ، فإن الله وكل بي ملكًا عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد إن فلان بن فلان يصلي عليك الساعة"، وبه سقط توهم أنه لا حاجة إلى ذلك لأن أعمال أمته كلها تعرض عليه، والصلاة من جملتها لأنها تعرض ساعة التلفظ بها، وهو غير وقت عرض الأعمال، ولذا جعلوا من أدلة حياته على الدوام، وأن روحه لا تفارقه أبدًا، قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، رواه أبو داود بهذا اللفظ لاستحالة خلو الوجود كله من أحد يسلم عليه عادة، ويأتي إن شاء الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه بلفظ: "إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي أمة السلام". وعند الأصفهاني عن عمارة: "إن لله ملكًا أعطاه الإجابة سمع العباد كلهم   تعالى بسط هذا الحديث في المقصد العاشر، "رواه أحمد والنسائي" في الصلاة "والحاكم، وصححه" في التفسير، وابن حبان، والطبراني، وأبو الشيخ، والبيهقي عن ابن مسعود، "بلفظ" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة" جمع ملك نكره على معنى بعض صفته "سياحين" بسين مهملة من السياحة، وهي السير، يقال: ساح في الأرض، يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح، وهو الماء الجاري المنبسط "في الأرض" في مصالح بني آدم، وفي رواية: يدله في الهواء، "يبلغوني عن" وفي رواية: "من أمتي" أمة الإجابة، "السلام" ممن يسلم عليّ منهن، وإن بعد قطره وتناءت داره، أي: فيرد عليهم بسماعه منهم؛ كما في خبر آخر، وفيه تعظم له صلى الله عليه وسلم، وإجلال لأمته، حيث سخر الملائكة الكرام لذلك، وهذا الحديث في الصحيحين دون قوله: "سياحين" فلم يعزه المصنف لهما لزيادتهما، فإن ورد أنه لا يطابق ترجمته، إذ هي ملك يبلغه الصلاة، والحديث ملائكة تبلغه السلام، فالجواب: أنه أراد يملك الجنس، وهو نوعان، واحد موكل بالقبر وآخرون سياحون، وأراد بالصلاة ما يشمل السلام مجازًا، وفي الحديث الأول تبليغ السلام، والثاني تبليغ الصلاة فطابق الترجمة، ولا يجاب بأن السياحين يبلغون الموكل لأنه صرح برده عليهم، بسماعه منهم، ودعوى التجوز ممنوعة، فالأصل الحقيقة. قال بعض: هل يبلغ السياحون غير السلام، أو الملك غير الصلاة؟ لم أقف على شيء في ذلك، والظاهر لا لأنه غير مشروع وكأنه أراد بغير الصلاة والسلام نحو ترضية وترحم عليه، لتعليله بأنه لم يشرع، ولأن الأمر توفيقي لا دخل فيه للقياس. "وعند الأصفهاني" بكسر الهمزة وفتحها، وهي همزة قطع، قال النووي: ويجوز حذفها في الوصل، وبفتح الموحدة، وقد تكسر، ويقال بالفاء مفتوحة ومكسورة، مع كسر الهمزة وفتحها مدينة معروفة، وهو أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، بفتح المهملة والتحتية، حافظ أصبهان، ومسند ذلك الزمان سنة ست وتسعين وثلاثمائة، أو أراد به الحافظ أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي، التيمي، الطلحي، الأصفهاني الإمام الحافظ الكبير، الذي يضرب به المثل في الصلاة مات سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وكلاهما صحيح، فأبو الشيخ روى هذا الحديث في كتاب العظمة، وأبو القاسم رواه في كتاب الترغيب والترهيب له، وقصر المصنف في العزو، فقد رواه البخاري في تاريخه، والطبراني، والعقيلي، وابن النجار، كلهم عن عمار بن ياسر، أحد السابقين، وقوله: "عن عمارة" تصحيف من الكتاب، فالصواب إسقاط الهاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن لله ملكًا أعطاه الإجابة سمع العباد كلهم, الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 فما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا أبلغنيها".   أي: قوة يقتدر بها على سماع ما ينطق به كل مخلوق من إنس وجن وغيرهما "فما" وفي رواية: فليس "من أحد يصلي علي صلاة إلا" سمعها و"أبلغنيها". زاد الطبراني في روايته: "وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها" للطبراني أيضًا عن عمار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملكًا أعطاه أسماع الخلائق كلها، وهو قائم على قبري، إذا مت إلى يوم القيامة، فليس أحد من أمتي يصلي عليّ صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه، وقال: يا محمد صلى عليك فلان من فلان، فيصلي الرب تبارك وتعالى عليه بكل واحدة عشرًا". وروى الخطيب عن أبي هريرة، مرفوعًا: "من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيًا وكل الله به ملكًا يبلغني"، ورواه الديلمي بلفظ: "نائيًا أبلغته" أي: بعيدًا أبلغنيه الملك، فظاهره أن تبليغه ما لم يكن المصلي عند القبر الشريف، وإلا سمعه صلى الله عليه وسلم بنفسه. قال الشهاب بن حجر في فتاويه: والذي يظهر أن المراد بالعندية أن يكون في محل قريب من القبر، بحيث يصدق عليه عرفًا أنه عنده، وبالبعد عنه ما عدا ذلك، وإن كان بمسجده صلى الله عليه وسلم وفي القول البديع: إذا كان المصلي عند قبره الشري سمعه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، سواء كان ليلة الجمعة أو غيرها، وما يقوله بعض الخطباء ونحوهم أنه يسمع بأذنيه في هذا اليوم من يصلي عليه، فهو مع حمله على القريب لا مفهوم له، وسئل النووي عمن حلف بالطلاق الثلاث؛ أنه صلى الله عليه وسلم يسمع الصلاة عليه هل يحنث أم لا؟ فأجاب: لا يحكم عليه بالحنث للشك في ذلك، والورع أنه يلزمه الحنث انتهى، لكن يعارضه خبر: "من صلى علي عند قبري، وكل الله به ملكًا يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته، وكنت له شفيعًا، أو شهيدًا يوم القيامة". وجمع صاحب الجوهر المنظم بأنه يسمع الصلاة والسلام عند قبره بلا واسطة، ويبلغه الملك أيضًا إشعارًا بمزيد خصوصيته والاعتناء بشأنه، والاستمداد له بذلك. وروى الطبراني وغيره عن الحسن بن علي، رفعه: "حيثما كنتم فصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني"، ومعناه: لا تتكلفوا المعاودة إلى قبري، لكن الحضور فيه مشافهة أفضل من الغيبة والمنهي عنه الاعتياد الرافع للحشمة، المخالف لكمال المهابة. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "إن أقربكم مني يوم القيامة في كل موطن" أكثركم عليّ صلاة في الدنيا، من صلى عليّ يوم الجمعة، وليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم يوكل الله بذلك ملكًا يدخله في قبري، كما يدخل عليكم الهدايا، يخبرني بمن صلى علي باسمه، ونسبه إلى عشيرته، فأثبته عندي في صحيفة بيضاء". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 وتعرض أعمال أمته عليه، ويستغفر لهم، روى بن المبارك عن سعيد بن المسيب قال: "ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم".   وأخرج الطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وابن عدي عن أنس مرفوعًا: "أكثروا الصلاة علي في الليلة الغراء، واليوم الأزهر، فإن صلاتكم تعرض عليّ"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي: بليت، فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أي: لأنها نور، وهو لا يتغير بل ينتقل من حالة إلى حالة. وروى ابن ماجه برجال ثقات عن أبي الدرداء مرفوعًا: "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها" قلت: وبعد الموت؟ قال: "وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، أي: عرضت علي عرضًا خاصًا، زيادة شرف للمصلي في ذلك اليوم فلا ينافي أنها تعرض عليه في أي وقت صلى عليه ولذا قال: "أكثروا من الصلاة عليّ في يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن فعل ذلك كنت له شهيدًا وشافعًا يوم القيامة"، رواه البيهقي عن أنس بإسناد ضعيف لكنه حسن لشواهده، أي: شهيدًا بأعماله التي منها الصلاة عليّ، وشافعًا له شفاعة خاصة اعتناء به، وإلا فشفاعته عامة، ووجه مناسبة الإكثار من الصلاة عليه يوم القيامة وليلتها أن يومها سيد أيام الأسبوع، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق فللصلاة عليه فيه مزية ليست لغيره، وأيضًا فكل خير تناله الأمة في الدارين إنما هو بواسطته، وأعظم كرامة تحصل لهم في يوم الجمعة، وهي بعثهم إلى منازلهم في الجنة، وكما أنه عيد لهم في الدنيا، فكذا في الأخرى فإنه يوم المزيد الذي يتجلى لهم الحق تعالى فيه، وهذا حصل لهم بواسطته؛ فمن شكره إكثار الصلاة عليه فيه، وذكر أبو طالب في القوت: أن أقل الأكثرية ثلاثمائة مرة، وورد في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ألفاظ كثيرة، أشهرها: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد لذلك في المقصد السابع والأخير. "وتعرض عليه أعمال أمته" حسنها وسيئها فيحمد الله على حسنها، "ويستغفر لهم" سيئها، وروى البزار بسند جيد عن ابن مسعود، رفعه: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فما كان من حسن حمدت الله عليه، وما كان من سيئ استغفرت الله لكم" أي: طلبت مغفرة الصغائر وتخفيف عقوبات الكبائر، وظاهره أن المراد عرض أعمال المكلفين، إذ غير المكلف لا ذنب له، ويحتمل العموم، وذلك العرض كل يوم مرتين كما "روى ابن المبارك" عبد الله، الذي تستنزل الرحمة بذكره "عن سعيد بن المسيب" التابعي الجليل ابن الصحابي، "قال: ليس من يوم إلا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أعمال أمته غدوة وعشيًا" زيادة إكرام لهم، "فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم" فيحمد الله ويستغفر لهم، فإذا علم المسيء ذلك قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 ومنها: أن منبره على حوضه كما في الحديث وفي رواية: "ومنبري على ترعة من ترع الجنة" وأصل الترعة الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن فهي روضة. ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره وأنه حق محسوس موجود، فإن القدرة صالحة لا عجز فيها، وكل ما أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب فالإيمان به واجب.   يحمله على الإقلاع، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "تعرض الأعمال كل يوم الاثنين والخميس على الله، وتعرض على الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجمعة، فيفرحون بحسناتهم، وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا، فاتقوا الله ولا تؤذوا موتاكم"، رواه الحكيم الترمذي، لجواز أن العرض على النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم على وجه التفصيل، وعلى الأنبياء، ومنهم نبينا على وجه الإجمال يوم الجمعة، فيمتاز صلى الله عليه وسلم بعرض أعمال أمته كل يوم تفصيلا، ويوم الجمعة إجمالا، ويأتي إن شاء الله تعالى وجه أن مماته خير في المقصد العاشر. "ومنها: أن منبره على حوضه" أي: ينقل المنبر الذي قال عليه هذه المقالة يوم القيامة، فينصب على الحوض، ثم تصير قوائمه رواتب في الجنة، كما روى الطبراني "كما في حديث" أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي". "وفي رواية" عند النسائ في هذا الحديث بدل قوله: "ومنبري على حوضي": "ومنبري على ترعة " بضم، فسكون "من ترع" بضم، ففتح، جمع ترعة "الجنة" أي: موضع معين فيها، "وأصل الترعة" أي حقيقتها لغة "الروضة على المكان المرتفع خاصة، فإذا كانت في المطمئن، فهي روضة" وبهذه الحقيقة فسرها الديلمي، قال: وقيل هي الدرجة، وفي رواية لأحمد والطبراني عن بعض الصحابة تفسير الترعة بالباب، وسوى في القاموس بين هذه الحقائق، فظاهره أنها كلها لغوية، والروضة الموضع المعجب بالزهور لاستراضة المياه السائلة إليها، أي: سكونها بها، وعلم من المصنف أن الروضة تطلق على مجمع الزهور في المرتفع والمنخفض، ويخص المنخفض بالروضة دون الترعة. "ولم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره" أي: إن المراد منبره الذي كان يخطب عليه في الدنيا، "وأنه حق محسوس" مشاهد بحاسة البصر، "موجود" في الجنة وعلى الحوض قبل، "فإن القدرة صالحة" لذلك "لا عجز فيها" تعليل لنفي الخلاف، "وكل ما أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام من أمور الغيب، فالإيمان به واجب" إذ لا ينطق عن الهوى، لكن في نفس الخلاف نظر، فالخلاف موجود، فقيل: هو منبره الذي كان يخطب عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 ومنها أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخاري بلفظ: "ما بين بيتي ومنبري"، وهذا يحتمل الحقيقة والمجاز. أما الحقيقة: فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه من الجنة مقتطعًا منها، كما أن الحجر الأسود منها.   قال السيوطي: وهو الأصح، وقيل: منبر يوضع له هناك، وقيل: التعبد عنده يورث الجنة، فكأنه قطعة منها، واستبعد الثاني بأن في رواية أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة، رفعه: "منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" فاسم الإشارة ظاهرًا، وصريح في أنه منبره في الدنيا، والثالث: بأنه لا يكون خصوصية له، إذا التعبد في أي مكان يورث الجنة، اللهم إلا أن يجاب عن المصنف بأن المعنى لم يختلف أحد في أن المنبر على ظاهره، وإن اختلفوا في أنه الذي كان في الدنيا أو غيره، وفي أنه على حذف مضاف، أي: العمل عنده أم لا؟ ويحتمل أن لفظ أحد بمعنى الجماعة، أي: لم يختلف جماعة في هذا، وإن اختلف غيرهم على نحو قول البيضاوي في: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} أحد في معنى الجمع لوقوعه في سياق النفي، أو إن أحد بمعنى واحد، كما في القاموس، أي: لم يتردد واحد في ذلك، فلم يقل أراد بالمنبر المقام، وهذا قريب مما قبله لكن قال شيخنا: تقريرًا هذا من حيث اللفظ، ومرادهم بمثله حكاية الاتفاق، فالأقرب الأول. "ومنها: أن ما بين منبره وقبره روضة من رياض الجنة، رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "بلفظ: "ما بين بيتي ومنبري" ووقع في رواية ابن عساكر للبخاري في فضل المدينة من صحيحه: وقبري بدل بيتي، قال الحافظ: وهو خطأ، فقد قدم البخاري الحديث في كتاب الصلاة بإسناده بلفظ: بيتي، وكذا هو في مسند مسدد شيخ البخاري فيه، نعم وقع في حديث سعد بن أبي وقاص عند البزار برجال ثقات، وابن عمر عند الطبراني بلفظ: قبري، فعلى هذا المراد بالبيت في قوله: بيتي أحد بيوته لا كلها، وهو بيت عائشة الذي صار فيه قبره، وقد ورد الحديث بلفظ: "ما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة"، أخرجه الطبراني في الأوسط، "وهذا يحتمل الحقيقة" بأن يكون على ظاهره ولم يثبت خبر عن بقعة بخصوصها أنها من الجنة إلا هذه البقعة، "والمجاز. أما الحقيقة فبأن يكون ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم بأنه من الجنة مقتطعًا منها" نقل ابن زبالة أن ذرع ما بين المنبر والبيت الذي فيه القبر الآن ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس وقيل: خمسون إلا ثلثي ذراع. قال الحافظ: وهو الآن كذلك، فكأنه نقص لما أدخل بين الحجرة في الجدار "كما أن الحجر الأسود منها" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود من الجنة"، رواه أحمد عن أنس والنسائي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 وكذلك النيل والفرات من الجنة، وكذلك الثمار الهندية من الورق التي أهبط بها آدم عليه السلام من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة، ومن ترابها، ومن حجرها، ومن فواكهها، حكمة حكيم جليل. وأما المجاز: فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة سبب في نيل الجنة، قاله ابن أبي جمرة، وهو معنى قول بعضهم: لكون العبادة فيه تئول إلى دخول العابد روضة الجنة. وهذا فيه نظر: إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها.   عن ابن عباس، والأصل الحقيقة، ويؤيده ما للخطيب وابن عساكر مرفوعًا: "والحجر الأسود ياقوتة بيضاء من ياقوت الجنة، وإنما سودته خطايا المشركين، يبعث يوم القيامة مثل أحد يشهد لمن استلمه وقبله من أهل الدنيا". ووى الأزرقي مرفوعا: "الحجر الأسود نزل به ملك من السماء". "وكذلك النيل والفرات من الجنة". وروى مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة" , وهو على ظاهره على الأصل، وقيل: مؤول، "وكذلك الثمار الهندية من الورق التي أهبط بها آدم عليه السلام من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة" كالنيل والفرات، "ومن ترابها" وهو الأرض التي بين المنبر والقبر، "ومن حجرها" وهو الحجر الأسود، "ومن فواكهها" وهو الثمار الهندية، "حكمة حكيم جليل" ليتدبر العاقل، فيسارع إليها بالأعمال الصالحة، وقيل في معنى الحقيقة أن ذلك الموضع ينقل بعينه في الآخرة إلى الجنة. "وأما المجاز، فبأن يكون من إطلاق اسم المسبب على السبب، فإن ملازمة ذلك المكان للصلاة والعبادة فيه سبب في نيل الجنة، قاله ابن أبي جمرة" بجيم وراء، وفيه تسمح إذ الروضة ليست مسببة من حيث ذاتها، بل الوصول إليها مسبب عن العمل، لكنها لما كانت المقصودة أطلق اسمها مريدًا التعبد الموصل إليها، "وهو معنى قول بعضهم لكون العبادة فيه تئول" أي: تؤدي، أي: تكون طريقًا "إلى دخول العابد روضة الجنة" ففيه تجوز أيضًا، لأن الأيلولة الرجوع، "وهذا فيه نظر؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة على غيرها" فالعبادة في أي مكان كذلك وجوابه أنها سب قوي يوصل إليها على وجه أتم من بقية الأسباب، أو هي سبب لروضة خاصة أجل من مطلق الدخول والتنعم، فإن أهل الجنة يتفاوتون في منازلها بقدر أعمالهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 في كتاب "بهجة النفوس" لابن أبي جمرة أيضًا حكاية قول: إن تلك البقعة تنقل فتكون في الجنة، يعني روضة من رياضها. قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا، يعني احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها موجبًا لصاحبه روضة من رياض الجنة، ويأتي مزيد لذلك في فصل الزيارة من المقصد الأخير إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر. وفي رواية مسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض". وهو أول من يفيق من الصعقة.   "وفي كتاب بهجة النفوس" وتحليها بمعرفة ما عليها ولها "لابن أبي جمرة أيضًا حكاية قول إن تلك البقعة تنقل بعينها" يوم القيامة، "فتكون في الجنة، يعني روضة من رياضها، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا" إذ لا تخالف بينهما، "يعني احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها موجبًا لصاحبه روضة من رياض الجنة" أخصر، وأجمع من هذا قول المصنف على البخاري، ولا مانع من الجمع، فهي من الجنة، والعمل فيها يوجب لصاحبه روضة من الجنة، وتنقل هي أيضًا إلى الجنة، "ويأتي مزيد لذلك في فصل الزيارة من المقصد الأخير إن شاء الله تعالى" وهو نقل كلام ابن أبي جمرة في الاستدلال على ذين الوجهين بالنظر والقياس بنحو ورقة، وقيل: في وجه المجاز أيضًا أنه من التشبيه البليغ، أي: كروضة من رياض الجنة في تنزل الرحمة وحصول السعادة. "ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عني القبر، وأول شافع، وأول مشفع". رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة، أي: أول من يعجل إحياؤه مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه. "وفي رواية مسلم" أيضًا من حديث أبي هريرة: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" فلا يتقدم عليه أحد، أي: أرض قبره، فهو مساوٍ للرواية قبله، زاد الترمذي وقال: حسن غريب، والحاكم من حديث ابن عمر: "ولا فخر، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع، فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين". قال السمهودي: وفيه بشرى عظيمة لكل من مات بالمدينة، وإشعار بذم الخروج منها مطلقًا، وهو عام أبدًا في كل زمان كما نقله المحب الطبري وارتضاه. وروى الترمذي عن أنس مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وقدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، ولا فخر". "وهو أول من يفيق" بضم أوله "من الصعقة" وهي غشي يلحق من سمع صوتًا، أو رأى شيئًا يفزع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور". رواه البخاري. والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم بذلك حتى أعلمه الله تعالى، فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه القبر. وهو أول من.   منه، واستشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل: المراد من كان حيًا إذ ذاك والأموات هم المستثنون في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية، أي: من سبق له الموت قبل ذلك، فيصعق. وأما الأنبياء، ففي حكم الأحياء، وقيل: المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض، وهي غشية تحصل للناس في الموقف. قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يرفع رأسه بعد النفخة" الأخيرة، كما في الرواية، "فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" أي بعمود من عمده، وللشيخين من حديث أبي هريرة، أيضًا: "باطش بجانب العرش"، أي: آخذ بشيء منه بقوة، فالبطش الأخذ بقوة، "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" لما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقًا، وفي الصحيحين، أيضًا: "فما أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله"؟، أي: في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} الآية، فلم يصعق، وكل من الأمرين فضيلة ظاهرة لكن لا يلزم من فضله من هذه الجهة أفضليته مطلقًا، ولا منافاة بين الروايتين لأن المعنى لا أدري، أي: هذه الثلاثة كانت الإفاقة، أو الاستثناء، أو المحاسبة، "رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، وبه استشكل كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض وأول من يفيق، مع التردد في خروج موسى من قبره، وأجاب عياض باحتمال أن هذه الصعقة ليست النفخة الأولى ولا الثانية التي يعقبها النشور، بل صعقة تأتي يوم القيامة حين تنشق السماء والأرض، ورده القرطبي بأنه صلى الله عليه وسلم صرح بأنه يخرج من قبره فيلقى موسى متعلقًا بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. قال: ويؤيده أنه عبر بقوله: أفاق؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي وبعث من الموت، ولذا عبر عن صعقة الطور بالإفاقة، لأنها لم تكن موتًا بلا شك، وإذا تقرر ذلك ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف، وأجاب المصنف كغيره، بقوله: "والظاهر أن عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم ذلك" أي: كونه أول "حتى أعلمه الله تعالى" بأنه أول، "فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه القبر" كما مر في الأحاديث المفيدة علمه بإفاقته قبل موسى، فحينئذ يكون ممن استثنى الله أو جوزي بصعقة الطور، "وهو أول من يجيز" بضم الياء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 يجيز على الصراط، رواه البخاري عن أبي هريرة. وأنه يحشر في سبعين ألفًا من الملائكة، كما روي عن كعب الأحبار: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره عليه الصلاة والسلام يضربون بأجنحتهم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم. رواه ابن النجار في تاريخ المدينة. وأنه يحشر راكبا البراق، رواه الحافظ السلفي، كما ذكره الطبري.   وكسر الجيم، وبالزاي، أي: يمضي "على الصراط" ويقطعه، وفي رواية: يجوز، وهما بمعنى يقال أجزت الوادي وجزته، "رواه البخاري" ومسلم "عن أبي هريرة" في حديث طويل بلفظ: قال صلى الله عليه وسلم: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز على الصراط, ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم". "وأنه يحشر في سبعين ألفًا من الملائكة، كما روي عن كعب الأحبار" جمع حبر، أي: ملجأ العلماء، الحميري أبي إسحاق الثقة المخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، مات في خلافة عثمان أنه دخل على عائشة، فتذاكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: "ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألف ملك يحفون بقبره عليه الصلاة والسلام، يضربون بأجنحتهم" أسقط منها، أيضًا: يحفون بالقبر، يضربون بأجنحتهم، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألفًا بالليل، وسبعون ألفًا بالنهار، "حتى إذا انشقت عنه الأرض، خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه صلى الله عليه وسلم، رواه ابن النجار" الحافظ، الإمام البارع أبو عبد الله، محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي، سمع ابن الجوزي وابن كليب وغيرهما، وكان من أعيان الحفاظ الثقات مع الدين والورع، والصيانة والفهم، وسعة الرواية، له ثلاث آلاف شيخ، ومؤلفات عدة، مات في خامس شعبان، سنة ثلاث وأربعين وستمائة، عن ست وستين سنة، رحل منها في الأقطار سبعًا وعشرين سنة للرواية "في تاريخ المدينة" المسمى بالدرر الثمينة، وكذا رواه أبو الشيخ، وابن المبارك، وابن أبي الدنيا، كلهم عن كعب، وكله من الكتب القديمة، لأنه حبرها. "وأنه يحشر راكبا البراق" بضم الموحدة، "رواه الحافظ" العلامة، شيخ الإسلام الناقد، الدين، الخير، أبو طاهر عماد الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني، "السلفي" بكسر السين المهملة، وفتح اللام، لقب جده أحمد، ومعناه الغليظ الشفة، وله التصانيف، وروى عنه الحفاظ، مات سنة ست وسبعين وخمسمائة؛ "كما ذكره الطبري" الحافظ محب الدين المكي في ذخائر العقبي، فقال: أخرج السلفي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبعث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 ويكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة. رواه البيهقي بلفظ، فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر.   الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتي العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة" انتهى. وأخرجه الطبراني والحاكم بلفظ: "تحشر الأنبياء على الدواب ليوافوا المحشر، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث على البراق، ويبعث ابناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي بالأذان محضًا، وبالشهادة حقًا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين، فقبلت ممن قبلت، وردت على من ردت"، وفيه مخالفة لما قبله فيما يركبه السبطان إلا أن يجمع بركوب ناقتيه، وبركوب ناقتي الجنة زيادة في تعظيمهما، ثم لا يعارض هذا ما ورد مرسلا، أن المؤمن يركب عمله، والكافر يركبه عمله؛ لأن بعضهم يركب الدواب، وبعضهم الأعمال، أو يركبونها فوق الدواب. وروى النسائي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر رفعه: "إن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج، فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم" وأخرج الترمذي، وحسنه عن أبي هريرة، مرفوعًا: "يحر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم، إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم على حدب وشوك". هذا، وجزم الحليمي والغزالي، بأن الذين يحشرون ركبانًا يركبون من قبورهم، وقال الإسماعيلي: إنهم يمشون من قبورهم إلى الموقف، ويركبون من ثم جمعًا بينه وبين حديث الصحيحين: "يحشر الناس حفاة مشاة". قال البيهقي: والأول أولى، وفي تاريخ ابن كثير: يحشر الناس مشاة، والنبي صلى الله عليه وسلم راكب على ناقته الحمراء، فإذا كان هذا من خصائصه، فإنما يؤتون بالنجائب بعد الجواز على الصراط، وهو الأشبه، وفي حديث: "إنهم يؤتون بنجائب يركبونها عند قيامهم من قبورهم" وفي صحته نظر. "ويكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة" بعد حشر الناس كلهم عراة، أو بعضهم كاسيًا، أو بعد خروجهم من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة لحديث أبي سعيد عند أبي داود، وصححه ابن حبان، مرفوعًا: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" "رواه البيهقي" في الأسماء، عن ابن عباس، مرفوعًا "بلفظ": "أول من يكسى إبراهيم حلة من الجنة ويؤتى بكرسي، فيطرح عن يمين العرش، ويؤتى به". "فأكسى حلة من الجنة لا يقوم" أي: لا يصلح "لها البشر" وفي نسخة بالباء بدل اللام، يقال: قام بالأمر إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 ورواه كعب بن مالك بلفظ: "يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء"، رواه الطبراني، وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: "يحشر الناس على تل، وأمتي على تل"، وعند الطبراني أيضًا من حديث ابن عمر: فيرقى هو -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم- وأمته على كوم فوق الناس.   استقل به دون غيره، فاستعمله في لازم معناه اللغوي، وذلك اللازم عدم صلاحية غيره لتلك الحلة. وفي البخاري عن ابن عباس، مرفوعًا: "إنكم تحشرون حفاة عراة غرلا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} الآية، "وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم" ... الحديث، فعجيب عزو بعض له للبزار، قال الحافظ: قيل في حكمة خصوصية إبراهيم بذلك، لكونه ألقي في النار عريانًا، أو لأنه من لبس السراويل، ولا يلزم من ذلك تفضيله على نبينا لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، ويمكن أن يقال: لا يدخل في عموم خطابه. وقال القرطبي: قد جبر صلى الله عليه وسلم عن هذا السبق بكونه يكسى حلتين؛ كما في حديث البيهقي، وأجاب الحليمي: بأنه يكسى إبراهيم أولا، ثم نبينا على ظاهر الخبر؛ لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فتجبر بنفاستها ما فات من الأولية؛ على أنه يحتمل أن نبينا صلى الله عليه وسلم خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق. "ورواه كعب بن مالك" الأنصاري، السلمي، المدني، أحد الثلاثة الذي تيب عليهم، مرفوعًا. بلفظ: "يحشر الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل" مكان عال، "ويكسوني ربي حلة خضراء" رواه الطبراني, فبين في هذه الرواية لونها، وهو عطف على أكون، والواو لا ترتب، فلا ينافي مقتضى التعقيب بالفاء في السابق، أن الكسورة تكون عقب الخروج من القبر، وفي الترمذي عن أبي هريرة: "أنا أول من ينشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة" ... الحديث، وعلى احتمال أنه يقوم بثيابه التي مات فيها، ولا تبلى حتى يكسى، يكون ذلك له خصوصية أخرى، حيث تبلى ثياب الخلائق وثوبه لا يبلى، ولا ينافيه الفاء لأن التعقيب في كل شيء يحسبه. "وهو عند ابن أبي شيبة" عن كعب، بلفظ: "يحشر الناس" كلهم "على تل وأمتي" أي: وهو معهم، كما قال قبل "على تل" أعلى من التل الذي عليه الناس. "وعند الطبراني، أيضًا من حديث ابن عمر: فيرقى هو يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته على كوم" هو التل، بمعنى "فوق الناس" ولم يبين هل الكوم من كافور، أو مسك، أو نحوهما، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 وأنه يقوم عن يمين العرش، رواه ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام وفيه: لا يقومه غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون. ومنها: أنه يعطى المقام المحمود، قال مجاهد: هو جلوسه صلى الله عليه وسلم على العرش، وعن عبد الله بن سلام، جلوسه على الكرسي، ذكرهما البغوي.   "وأنه يقوم عن يمين العرش" خصيصية شرفه الله بها، "رواه ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام" في حديث، "وفيه لا يقومه غيره يغبطه فيه" حال من المفعول، أي: يغبط النبي حالة كونه في ذلك المقام، أو في سببية، أي: يغبطونه بسببه. وقد ذكر المصنف الحديث فيما يأتي، بلفظ: "يغبطه به"، أو الضمير لموقف الخلائق، فيكون حالا من فاعل يغبط، أي: يغبطه حال كونهم في مقامهم "الأولون والآخرون". قال الحافظ الغبطة أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فإن كان في الطاعة فمحمود، ومنه: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} الآية؛ وفي المعصية فمذموم، ومنه: "فلا تنافسوا"، وفي الجائز، فمباح، انتهى. والمراد بالتمني هنا حالة تستدعي محبته واستحسانه لا الطلب لعلمهم أنه لا يكون لغيره، فغبطتهم له استحسانهم لمقامه المخصوص به، وعده مقامًا عظيمًا له، ففيه تجريد، إذ بالغبطة تمني المستحسن، فمجرد عن تمني، وأريد به الجزء الثاني، وهو المستحسن. وروى الترمذي: وقال: حسن صحيح غريب، عن أبي هريرة، مرفوعًا: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري". "ومنها: أنه يعطى المقام المحمود" قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} الآية، "قال مجاهد" لتابعي، المفسر المشهور، "هو جلوسه على العرش" حملا للمقام على أنه مصدر ميمي، لا اسم مكان. "وعن عبد الله بن سلام" الصحابي: هو "جلوسه على الكرسي" وهو مغاير لما قبله على الأصح أنه غير العرش ومساوٍ على أنه هو، "ذكرهما البغوي" في تفسيره بعد أن صدر بأن المراد الشفاعة، وساق حديثها الطويل في إتيان الناس آدم ... إلخ، وهذان التفسيران من جملة ما زيف لأنه تفسير للشيء بخلاف ما فسره به صاحبه، فقد روى البخاري والترمذي عن ابن عمر، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقام المحمود، فقال: "هو الشفاعة". وأخرج أبو نعيم والبيهقي، عن أبي هريرة: رفعه: "المقام المحمود الشفاعة" أي: الموعود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 وسيأتي ما قيل في ذلك في ذكر تفضيله عليه الصلاة والسلام بالمقام المحمود إن شاء الله تعالى. ومنها أنه يعطى الشفاعة العظمى في فصل القضاء بين أهل الموقف، حين يفزعون إليه بعد الأنبياء، والشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفي ربع درجات ناس في الجنة. كما جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به.   بها في فصل القضاء، ولذا قال الرازي وغيره: الصحيح المشهور أنه الشفاعة، ولابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال، أحد صغار التابعين أنه بلغه أن المقام المحمود يوم القيامة يكون بين يدي الجبار، وبين جبريل، يضبطه بمقامه أهل الجمع، وهو مما زيف أيضًا لكن قال الحافظ: يمكن رده إلى القول بأنه الشفاعة، لأنه لما كان مقامه الذي يقوم فيه أقرب إليه من مقام جبريل، صار صفة للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلائق. وقيل: هو إعطاؤه لواء الحمد، وقيل: ثناؤه على ربه، "وسيأتي ما قيل في ذلك" مبسوطًا "في ذكر تفضيله عليه الصلاة والسلام بالمقام المحمود إن شاء الله تعالى" في المقصد العاشر. "ومنها: أنه يعطي الشفاعة العظمى في فصل القضاء" بين أهل الموقف حين يفزعون إليه لما يطول عليهم الوقوف بعد إتيانهم الأنبياء: آدم، فنوح، فإبراهيم، فموسى فعيسى، "والشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب" لما في الصحيحين: "فأرفع رأسي، فأقول يا رب أمتي، يا رب أمتي، فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة". وروى هناد، وابن منيع، والديلمي بسند جيد، عن أبي هريرة، رفعه: "سألت الله الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قلت: ب زدني، فحثى لي بيده مرتين عن يمينه وعن شماله"، والظاهر أن المراد التكثير، لا خصوص العدد، وضرب المثل بالحثيات؛ لأنه شأن المعطي الكريم إذا استزيد أن يحثي بكفيه بلا حساب، وربما ناوله بغير كف، وقال بعض: هذا كناية عن المبالغة في الكثرة، وإلا فلا كف ولا حثي. "وفي رفع درجات ناس في الجنة كما جوز النووي اختصاص هذه" به، ولم يذكر لذلك مستندًا، "والتي قبلها به" وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، وفيه: أنه لم يجوزها، بل جزم به، وعبارته للنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعات خمس الشفاعة العظمى للفصل، وفي جماعة يدخلون الجنة بغير حساب، وفي ناس استحقوا النار فلا يدخلونها، وفي ناس دخلوها فيخرجون منها، وفي رفع درجات ناس في الجنة"، والمختص به الأولى والثانية، وتجوز الثالثة والخامسة. ا. هـ. وبحث بعض في إثبات الخصوصية، بتجويز النووي بما صرحوا به أن الخصائص لا تثبت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 ووردت الأحاديث به في التي قبل، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير، والله المعين. ومنها: أنه صاحب لواء الحمد، يوم القيامة، آدم فمن دونه تحته. رواه البزار. ومنها: أنه أول من يقرع باب الجنة. روى مسلم من حديث المختار بن فلفل عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة   باحتمال، "ووردت الأحاديث به في التي قبل" وهي الشفاعة العظمى، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير" مع فوائد حسنة، "والله المعين" لا غيره. "ومنها: أنه صاحب لواء الحمد" بالكسر والمد علمه، ورأيته "يوم القيامة" وأضيف إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأنه منصبه في الموقف، وهو المقام المحمود المختص به، والعرف جار؛ بأن اللواء إنما يكون مع كبير القوم ليعرف مكانه، إذ موضوعه أصالة شهرة مكان الرئيس، وتنصب في القيامة مقامات لأهل الخير والشر، لكل متبوع لواء يعرف به قدره، وأعلاها مقام الحمد، فأعطي لأعظم الخلائق لواء الحمد، وفي أنه حقيقي وعند الله علم حقيقته، أو معنوي، وهو انفراده بالحمد يومئذ، وشهرته على رءوس الخلائق، به رأيان رجح بعض الأول، وهو الأصل "آدم فمن دونه" أي: سواه "تحته، رواه البزار" وأخرجه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، عن أبي سعيد، مرفوعًا: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي". الحديث. "ومنها: أنه أول من يقرع" يطرق وينقر "باب اجنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يدق باب الجنة، فلم تسمع الآذان أحسن من طنين الخلق على تلك المصاريع" رواه ابن النجار، وجمع المصاريع باعتبار الأبواب، فإنه إذا قرع أعظمها، تحرك الجميع، أو لتعدد القرع، كأنه تعددت المصاريع، أو إن في كل مصراع مصاريع اعتبارية. "روى مسلم" في الإيمان "من حديث المختار بن فلفل" بضم الفاءين، ولامين، الأولى ساكنة مولى عمرو بن حريث، صدوق له أوهام، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي ومسلم، "عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس" الذي رأيته في مسلم، وكذا نقله جمع من الحفاظ عنه الأنبياء "تبعًا" بفتح الفوقية، والباء الموحدة: جمع تابع، وفي القاموس وغيره: التبع محركة، يكون واحد أو جمعًا، ويجمع على أتباع ونصب على التمييز "يوم القيامة" خصه لأنه يوم ظهور ذلك الجمع، وهذا يوضحه خبر مسلم أيضًا: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 وأنا أول من يقرع باب الجنة". وعنده أيضًا عن أنس قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن، بك أمرت   ما معه مصدق غير واحد"، ولا يعارضه: "وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا" إما لأن رجاءه محقق الوقوع، أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته ويراهم، ثم حقق الله رجاءه، فجزم به، "وأنا أول من يقرع باب الجنة" أي يطرقه للاستفتاح، فيكون أول داخل. "وعنده": أي: مسلم "أيضًا" في كتاب الإيمان من حديث ثابت عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة" أي أجيء بعد الانصراف من الحشر والحساب إلى أعظم المنافذ التي توصل إلى دار الثواب، وهو باب الرحمة، أو باب التوبة، كما في النوادر، وعبر بآتي دون أجيء للإشارة إلى أن مجيئه يكون بصفة من لبس خلعة الرضوان، فجاء على تمهل وأمان من غير نصف في الإتيان؛ إذ الإتيان، كما قال الراغب مجيء بسهولة، والمجيء أعم، ففي إيثاره عليه مزية "يوم القيامة فأستفتح" بسين الطلب، عبر بها إيماء إلى القطع بوقوع مدخولها وتحققه، أي: أطلب فتحه بالقرع؛ كما في الأحاديث، لا بالصوت. وفي رواية أحمد: "آخذ بحلقة الباب"، والفاء للتعقيب إشارة إلى أنه قد أذن له من ربه غير واسطة خازن ولا غيره، وذلك أن من ورد باب كبير، وقف عادة حتى يستأذن له، فالتعقيب إشارة إلى أن ربه صانه عن ذل الوقوف، وأذن له في الدخول ابتداء، بحيث صار الخازن مأموره، منتظرًا قدومه، "فيقول الخازن": أي: الحافظ: وهو المؤتمن على ما استحفظه، وأل عهدية والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة؛ لأنه أعظمهم، ومقدمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزينة، "بك أمرت" كذا في جميع ما رأيناه من نسخ المصنف، وفيه سقط منه أو من نساخه، فلفظ رواية مسلم: "فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت". وقد ساقه المصنف في المقصد الأخير تامًا، وإنما أجابه بالاستفهام، وأكده بالخطاب تلذذًًا بمناجاته، وإلا، فأبواب الجنة شفافة؛ كما في خبر، وهو العلم الذي لا يشتبه، والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان الجنة قبل ذلك، وعرفه أتم معرفة، ولذا اكتفى بقوله: "فأقول محمد"، وإن كان المسمى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبوبا الجنة شفافة. خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقه من فضة" لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلا في مجرد الاسم، كما في حديث: فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا، ولم يقل أن لإبهامه، مع إشعاره بتعظيم النفس، وهو سيد المتواضعين، وهذه الكلمة جارية على ألسنة المتجبرين إذا ذكروا مفاخرهم وزهوا بأنفسهم. وقال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر؛ كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا نسبي، لسمو مقامي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 أنا لا أفتح لأحد قبلك".   وقال بعض المحققين: ذهبت طائفة من العلماء وفرقة من الصوفية إلى كراهية إخبار الرجل عن نفسه؛ بأنا تمسكًا بظاهر الحديث، حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها؛ كقول إبليس: أنا خير، وفرعون: أنا ربكم، وليس كما قرروا، بل الشؤم لما صحبه من الخير والربوبية، وأصابه الصوفية في دقائق العلوم والإشارات في التبري من الدعاوي الوجودية، لكن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون القول كيف، وقد ناقضهم نصوص كثيرة: "إنما أنا بشر، أنا أول المسلمين، وما أنا من المتكلفين، أنا سيد ولد آدم، أنا أكثر الأنبياء تبعًا"، وغير ذلك. وقد قال النووي: لا بأس أن يقول أن الشيخ فلان، أو القاضي فلان إذا لم يحصل التمييز إلا به، وخلا عن الخيلاء والكبر، والباء في قوله: "بك" متعلقة بالفعل بعدها، وهي سببية، أي: بسببك أمرت بالبناء للمفعول والفاعل الله، "أن لا أفتح" كذا في نسخ، وفي أخرى بدون أن، وهي التي وقفت عليها في مسلم. وذكره السيوطي في جامعيه بأن وتعقبه شارحه بأن، الذي في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة بلا أن "لأحد قبلك" لا من الأنبياء ولا من غيرهم، إذ أحد من سياق النفي للعموم، فيفيد استغراق جميع الأفراد، وعلم منه أطلب الفتح إنما هو من الخازن، وإلا لما كان هو المجيب، فإن قيل: لم طلب الفتح من الخازن، ولم يطلبه منها بلا واسطة، فإنه ورد عن الحسن، وقتادة وغيرهما: أن أبوابها يرى ظاهرها من باطنها وعكسه، وأنها تتكلم وتكلم وتعقل ما يقال لها انفتحي انغلقي، أجيب: بأن الظاهر أنها مأمورة بعد الاستقلال بالفتح والغلق، وأنها لا تستطيع ذلك إلا بأمر عريفها، المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم، وحكمة اتخاذ الخزنة للجنة، مع أن الخزنة عرفًا إنما تكون لما يخاف ضياعه، أو تلفه أو نقصه، فيفوت كله، أو بعضه، أو وصفه على صاحبه، ولا يمكن ذلك في الجنة، هي أن الغرض من تعيين الخزنة لها إنما هو مراعاة الداخلين إكرامًا لهم، فتقدم الخزنة لكل منهم ما أعد له من النعيم، ثم لا تعارض بين الحديث وبين قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} ، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآية، ووجهه الرازي وغيره، بأنه يوجب السرور والفرح حيث نظروها مفتحة من بعد وفيه الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح لأن أبوابها تفتح أولا بعد الاستفتاح من جمع، ويكون مقدمًا بالنسبة إلى البعض، كما يقتضيه خبر: "إن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام"، والظاهر أنها لا تغلق بعد فتحها للفقراء، وأجيب، أيضًا بخمسة أجوبة غير هذا، نوقش فيها، وهذا أحسنها كما قال: مض المحققين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 ورواه الطبراني بزيادة فيه، قال: "فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك"، وهذه خصوصية أخرى له صلى الله عليه وسلم وهي: أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فقيامه له صلى الله عليه وسلم فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقوم لخدمته وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: "أنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين   "ورواه الطبراني بزيادة فيه، قال: "فيقوم الخازن فيقول: لا أفتح لأحد قبلك" كما أمرت، "ولا أقوم لأحد بعدك"، وهذه خصوصية أخرى له صلى الله عليه وسلم، وهي أن خازن الجنة لا يقوم لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، فقيامه له فيه إظهار لمزيته ومرتبته، ولا يقوم لأحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون لخدمته" أي: رضوان، "وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله حتى مشى وفتح له الباب" زيادة في إكرامه. "ومنها: أنه أول من يدخل الجنة" كما في مسلم وغيره، واستشكل بإدريس حيث أدخل الجنة بعد موته وهو فيها كما ورد، بأن السبعين ألفًا الداخلين بغير حساب يدخلون قبله، وبحديث أحمد في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بلال سبقه في دخولها، وخبر أبي يعلى وغيره: "أول من يفتح له باب الجنة أنا، إلا أن امرأة تبادرني، فأقول: ما لك؟ أو من أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى". وخبر البيهقي: "أول من يقرع باب الجنة عبد أدى حق الله وحق مواليه" وأجيب بأن دخوله صلى الله عليه وسلم يتعدد، فالدخول الأول لا يتقدمه، ولا يشاركه فيه أحد، ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره. وقد روى ابن منده في حديث، أنه كرر الدخول أربع مرات ونحوه في البخاري. وأما إدريس فلا يرد، لأن المراد الدخول التام يوم القيامة، وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ، وثم أجوبة أخرى هذا أظهرها، وسيكون لنا إن شاء الله تعالى عودة لمزيد الكلام على ذلك في المقصد الأخير. قال عليه الصلاة والسلام: "وأنا أول من يحرك حلق الجنة" بفتح اللام جمع حلقة، بسكونها على غير قياس، وقيل: فتحها لغة، فالجمع قياسي، ولأحمد والترمذي، عن أنس مرفوعًا: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها". "فيفتح الله لي" لا يخالف ما مر أن الفاتح رضوان لأن الفاتح الحقيقي هو الله تعالى، وتولى رضوان ذلك، إنما هو بأمره وإقداره وتمكينه، "فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين" أي: يدخلون عقبه بسرعة، فكأنهم دخلوا معه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 ولا فخر". رواه الترمذي. ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الكوثر، نهر في الجنة يسيل في حوضه مجراه على الدر والياقوت، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج.   وروى أبو داود عن أبي هريرة، مرفوعًا: "إن أبا بكر أول من يدخل الجنة"، وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة، رفعه: "أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وأول من يدخل علي الجنة ابنتي فاطمة"، أي: من النساء، "وأبو بكر من الرجال" فلا خلف. وروى ابن ماجه، وصححه الحاكم عن أبي، مرفوعًا: "أول من يصافحه الحق عمر، وأول من يسلم عليه، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة". "ولا فخر" أي: لا أفتخر بذلك، بل بمن أعطانيه، أو أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، وهو ادعاء العظمة والمباهاة، "رواه الترمذي" عن ابن عباس في حديث، ساقه المصنف بتمامه في المقصد العاشر. "ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم الكوثر" كما قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الآية، ونقل المفسرون فيه أقوالا تزيد على عشرة، وأولاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظه صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه. روى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قرأ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لآية، ثم قال: "أتدرون ما الكوثر"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "إنه نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك". ولأحمد أن رجلا قال: يا رسول الله! ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل". ولذا اقتصر المصنف هنا على قوله: "نهر في الجنة يسيل في حوضه" كما في حديث البخاري، ولأحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض "مجراه على الدر" اللؤلؤ الكبار، "والياقوت" وعند النسائي: ترابه النسك وحصاه اللؤلؤ والياقوت، "وماؤه أحلى من العسل، وأبيض من الثلج" لعله سقط منه من اللبن، وأبرد من الثلج، فعند الحاكم من حديث أبي برزة: "ماؤه أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، أوانيه من فضة". ولابن مردويه من حديث ابن عباس: "حافتاه الزبرجد" وفي حديث ثوبان: "لا يظمأ من شرب منه" رواه ابن ماجه فالمختص به صلى الله عليه وسلم الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره، وأن حوضه أكبر الحياض، وأكثر واردًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" رواه الترمذي، وفي أثر أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 ومنها الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة.   حوضه أعرض الحياض وأكثرها واردًا، قال القرطبي: وقول البكري المعروف بابن الواسطي: لكل نبي حوض إلا صالحًا، فحوضه ضرع ناقته، لم أقف على ما يدل عليه أو يشهد له، انتهى "ومنها: الوسيلة" لما في مسلم مرفوعًا: "إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت عليه الشفاعة". "وهي أعلى درجة في الجنة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة، فسلوا الله لي الوسيلة"، رواه أحمد. قال ابن كثير: الوسيلة علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش، وقال غيره: فعليه من وسل إذا تقرب، وتطلق على المنزلة العلية؛ كما في الحديث؛ فإنها منزلة في الجنة على أنه ممكن ردها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فتكون كالقرية التي يتوسل بها، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية، وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله، وأمر أمته أن يسألوها لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضًا فالله قدرها له بأسباب، منها: دعاء أمته له بما نالوه على يده من الهدى. وأما الفضيلة، فهي المرتبة الزائدة على سائر الخلائق، ويحتمل أنها منزلة أخرى، وتفسير للوسيلة. ولابن أبي حاتم عن علي: إن في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء، واسمها الوسيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والصفراء لإبراهيم وأهل بيته. قال ابن كثير: هذا أثر غريب، ذكره المصنف في المقصد الأخير، وقال عبد الجليل القصري في شعب الإيمان: الوسيلة هي التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى الله، وذلك أنه في الجنة بمنزلة الوزير من الملك بغير تمثيل، لا يصل إلى أحد شيء إلا بواسطته، وهذا كما قال بعض: وإن كان حسنًا، لكنه تفسير للشيء بخلاف ما فسره هـ صاحبه على أنه يحتاج إلى توقيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 خصائص أمته صلى الله عليه وسلم : وأما خصائص أمته صلى الله عليه وسلم   خصائص أمته صلى الله عليه وسلم: "وأما خصائص أمته صلى الله عليه وسلم" في الدنيا والآخرة، أي: بعضها في الدارين لتركه كثيرًا فيهما، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 وزادها شرفًا، فأعلم إنه لما أنشأ سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا صلى الله عليه وسلم للعيان، وظهرت عنايته بأمته الإنسانية، بحضوره وظهوره فيها، وإن كان العالم الإنساني والناري كله أمته، ولكن لهؤلاء خصوص وصف، فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم ورثة الأنبياء، وأعطاهم الاجتهاد في نصب الأحكام، فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم. وكل من دخل في زمان هذه الأمة من الأنبياء عليهم السلام بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كعيسى عليه السلام.   "وزادها شرفًا" والمراد أمة الإجابة، "فاعلم أنه لما أنشأ سبحانه وتعالى العالم على غاية من الإتقان، وأبرز جسد نبينا" أي: شخصه، وهو الصورة التي يرى عليها "صلى الله عليه وسلم للعيان" بكسر العين، "وظهرت عنايته" رعايته واهتمامه "بأمته الإنسانية" بمعاملته لهم معاملة من يريد نفع غيره، "بحضوره وظهوره فيها" عطف تفسير، "وإن كان العالم الإنساني والناري" أي: عالم الجن "كله أمته" لبعثه إليهم إجماعًا، "ولكن لهؤلاء" أي العالم الإنساني "خصوص وصف" من إضافة الصفة للموصوف، أي: وصف خاص بهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم وهو الخيرية المشار إليها بقوله: {فَجَعَلَهُمْ} جواب لم دخلت عليه الفاء على قلة، أو هو عطف على مقدر، أي: لما أنشأ العالم على ما ذكر، وخص الأمة المحمدية بصفة زائدة، ميزهم على غيرهم، وفضلهم فجعلهم {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية وجعلهم ورثة الأنبياء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم"، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما. وأما خبر: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فقال الحافظ، ومن قبله الدميري والزركشي: لا أصل له، وسئل عنه الحافظ العراقي، فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو صحيح، وأخرج ابن عدي وأبو نعيم والديلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء, وورثتي وورثة الأنبياء". "وأعطاهم الاجتهاد في نصب الأحكام" من الكتاب والسنة وغيرهما، "فيحكمون بما أدى إليه اجتهادهم" ويؤجرون ولو أخطئوا فيه، ولعل هذين من عطف بعض الأسباب على المسبب؛ لأن كونهم ورثة الأنبياء وإعطاءهم الاجتهاد من أسباب الخيرية المبينة في الآية بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية، وكان هذا هو الحامل على إدخال الأمرين في الخيرية، "وكل من دخل في زمان هذه الأمة من الأنبياء عليهم السلام بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، كعيسى عليه السلام"، فإنه حين ينزل من هذه الأمة اتفاقًا مع بقائه على نبوته، بل ذهب جمع من العلماء إلى أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 أو على تقدير دخوله كالخضر، فإنه لا يحكم في العالم إلا بما شرعه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فإذا نزل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام فإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم بإلهام أو اطلاع على الروح المحمدي، أو بما شاء الله تعالى   صحابي لاجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، مؤمنًا ومصدقًا، وكان اجتماعه به مرات في غير ليلة الإسراء. روى ابن عساكر عن أنس: قلنا يا رسول الله! رأيناك صافحت شيئًا ولا نراه؟ قال: "ذاك أخي عيسى ابن مريم، انتظرته حتى قضى طوافه، فسلمت عليه". وروى ابن عدي عن أنس: بينا نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردًا ويدًا، فقلنا: يا رسول الله! ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: "قد رأيتموه"؟ قلنا: نعم، قال: "ذاك عيسى ابن مرين سلم عليّ"، "أو على تقدير دخوله، كالخضر" على أنه نبي، وإلياس على أنهما باقيان، "فإنه لا يحكم في العالم إلا بما شرعه محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة" لا بشرائعهم التي كانت قبله، "فإذا نزل سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، فإنما يحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم" ويكون وصولها إليه "بإلهام" بأحكامها، "أو اطلاع على الروح المحمدي" فيخبره بشريعته، "أو بما شاء الله تعالى" من استنباطه لها من الكتاب والسنة ونحو ذلك، وقد سئل السيوطي بأي طريق تصل أحكام شريعتنا إلى عيسى، فأجاب بأن الأنبياء كانوا يعلمون في زمانهم بجميع شرائع من قبلهم، ومن بعدهم بالوحي من الله على لسان جبريل وبالتنبيه على بعض ذلك في الكتاب الذي أنزل عليهم وبأن عيسى ينظر في القرآن، فيفهم منه جميع أحكام هذه الملة من غير احتياج إلى مراجعة الأحاديث؛ كما فهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من القرآن، فإنه قد أنطوى على جميع أحكام الشريعة وفهمها نبينا بفهمه الذي اختص به، ثم شرحها لأمته في السنة، وإفهام الأمة تقصر عن إدراك ما أدركه صاحب النبوة، وعيسى نبي، فلا بد أن يفهم من القرآن كفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبأن عيسى معدود في الصحابة لأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، فلا مانع أنه تلقى منه أحكام شريعته المخالفة لشريعة الإنجيل؛ لعلمه بأنه سينزل في أمته، ويحكم فيهم بشرعه، فأخذها عنه بلا واسطة، وإلى هذا أشار جماعة من العلماء. قال: ورأيت عبارة السبكي نصها: إنما يحكم عيسى بشريعة نبينا بالقرآن والسنة، فترجح أن أخذه السنة بطريق المشافهة بلا واسطة، وبأنه إذا نزل يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، كما صرح به في أحاديث فلا مانع من أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شريعته. واستدل السيوطي لكل واحد من هذه الأربع بما يطول ذكره، وذكر أنه اعترض عليه في الجواب الأول بلزوم أن القرآن مضمن في الكتب السابقة فأجاب بأنه لا مانع من ذلك، فقد دلت الأحاديث على ثبوت هذه اللازم، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} ؛ ثم ساق أدلة ذلك في نحو ورثة، ثم قال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته، فلا يحكم في شيء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يحكم بشريعته التي أنزلت عليه في أوان رسالته ودولته، فهو تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم, وقد نبه على ذلك الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء، وأعرب عنه صاحب "عنقاء مغرب" وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح عقائد النسفي   إن السائل نفسه سأله ثانيًا: هل ثبت أن عيسى ينزل عليه الوحي بعد نزوله؟ فأجاب: نعم. روى مسلم وغيره أثناء حديث: "أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادًا من عبادي لا يد لك بقتالهم"، فهذا صريح في أنه يوحى إليه بعد نزوله، والذي نقطع به أن الجائي إليه جبريل لأنه السفير بين الله وبين أنبيائه كما صرحت الآثار بذلك وساقها، ثم قال: وقد زعم أن عيسى إذا نزل لا يوحى إليه حقيقة بل وحي إلهام وهو ساقط مهمل لمنابذته لحديث مسلم وغيره، ولأن ما توهمه من تعذر الوحي الحقيقي فاسد لأنه نبي، فأي مانع من نزول الوحي إليه؟ فإن تخييل أنه ذهب منه وصف النبوة فهو قول يقارب الكفر لأن النبوة لا تذهب أبدًا ولا بعد موته، وإن تخيل اختصاص الوحي بزمن دون زمن فهو قول لا دليل عليه، ويبطله ثبوت الدليل على خلافه، انتهى. "فيأخذ عنه ما شرع الله له أن يحكم به في أمته فلا يحكم بشيء من تحريم وتحليل إلا بما كان يحكم به نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يحكم" عيسى "بشريعته التي أنزلت عليه في أوان رسالته ودولته فهو" أي عيى تابع لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد نبه على ذلك الترمذي الحكيم" محمد بن علي من طبقة البخاري حافظ واعظ زاهد له تصانيف "في كتاب ختم الأولياء" أحد تصانيفه، "وأعرب" بمهملة بين "عنه صاحب عنقاء" بالمحد مجرور بالفتحة لا ألف التأنيث الممدودة "مغرب" قال الدميري: طائر غريب يبيض بيضًا كالجبال ويبعد في طيرانه، وقيل سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق، وقيل هو طائر يكون عند مغرب الشمس وأطال الدميري الكلام فيها، فعلى الأخير ميمه مفتوحة وعلى الأولين مضمومة، واقتصر عليه القاموس فقال: عنقاء مغرب بالرفع على الوصف وبالجر مضافة وهي بضم الميم، طائر معروف الاسم مجهول الجسم وهو اسم كتاب للعارف القطب محيي الدين بن علي بن محمد بن عربي الطائي الأندلسي، مات بدمشق سنة ست وثلاثين وستمائة، وعند الشعراوي كتابه هذا من الكتب التي لا يكاد يفهم العلماء منها معنى مقصودًا لقائله أصلًا لأنه لسان قدسي لا يعرفه إلا من تجرد عن هيكله من البشر. "وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح عقائد النسفي" أبي الفضل محمد بن محمد بن محمد ثلاثية المعروف بالبرهان الحنفي له مختصر تفسير الرازي ومقدمة في الخلاف وتصانيف كثيرة في علم الكلام وغيره، وأجاز للبرزالي، وتوفي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 وصحح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل منه، فإمامته أولى، انتهى. فهو عليه السلام وإن كان خليفة في الأمة المحمدية، فهو رسول ونبي   سنة سبع وثمانين وستمائة وهو متأخر عن النسفي عمر بن محمد صاحب التفسير والفتاوى وغيرهما. توفي سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وغير صاحب الكنز والمدارك والمنار وغيرها، واسمه عبد الله بن أحمد بن محمود وغير أبي المعين ميمون بن محمد، وكلهم حنفيون من نسف بفتح النون والسين المهملة وبالفاء مدينة بما وراء النهر. "وصحح أنه" أي عيسى "يصلي بالناس ويؤمهم" يصلي بهم إمامًا ويقتدي به المهدي" محمد بن عبد الله الحسني الحسيني الخليفة الآتي آخر الزمان، وفي حديث ضعيف المهدي بعد المائتين "لأنه" أي عيسى "أفضل منه" أي المهدي "فإمامته أولى انتهى" كذا جزم به اعتمادًا على تعليله وورد ما يشهد له في بعض الآثار وعورض بحديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم" ولمسلم أيضًا: "كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيقال صل بنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرهه لهذه الأمة ولا حمد" ومن حديث جابر: فإذا هم بعيسى فيقال: تقدم، فيقول: ليتقدم إمامكم فليصل بكم، ولابن ماجه في حديث أبي أمامة وكلهم أي: المسلمين ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح قد تقدم ليصلي بهم إذ نزل عيسى فرجع الإمام ينكص ليتقدم عيسى فيقف عيسى بين كتفيه ثم يقول: تقدم فإنها لك أقيمت. وروى أبو نيم عن أبي سعيد مرفوعًا: "منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه" أي: منا أهل البيت. وجمع بأن عيسى يقتدي بالمهدي أولا ليظهر أنه نزل تابعًا لنبينا حاكمًا بشرعه، ثم بعد ذلك يقتدي المهدي به على أصل القاعدة من اقتداء المفضول بالفاضل. قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إمامًا لوقع في النفس إشكال ولقيل أتراه تقدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا فيصلي مأمومًا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله: "لا نبي بعدي" وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، وقيل: معنى وإمامكم منكم أنه يحكم بالقرآن لا بالإنجيل كما في رواية لمسلم وإمامكم منكم، قال ابن أبي ذئب: معناه أمكم بكتاب ربكم وعليه لم يتبين أن عيسى إذا نزل يكون إمامًا أو مأمومًا لكن يعكر عليه رواية أحمد ومسلم فإنهما صريحتان لا يقبلان هذا التأويل، وقال أبو الحسن: ألا ترى في مناقب الشافعي تواترت الأخبار أن المهدي من هذه الأمة وأن عيسى يصلي خلفه، ذكر ذلك رد الحديث ابن ماجه عن أنس ولا مهدي إلا عيسى "فهو عليه السلام وإن كان خليفة في الأمة المحمدية فهو رسول ونبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا صلى الله عليه وسلم والحكم بشريعته. فإن قلت: قد ورد في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية"، وأن الصواب في معناه: أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو القتل.   كريم على حاله لا كما يظن بعض الناس أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة" بدون نبوة ورسالة وجهل أنهما لا يزولان بالموت كما تقدم فكيف بمن هو حي؟ "نعم هو واحد من هذه الأمة" مع بقائه على نبوته ورسالته لما ذكر من وجوب اتباعه لنبينا صلى الله عليه وسلم والحكم بشريعته" لا بشرع الإنجيل لنسخه. "فإن قلت: قد ورد في صحيح مسلم" والبخاري أيضًا: فما هذا الإبهام، كلاهما عن أبي هريرة، "قوله صلى الله عليه وسلم": "والذي نفسي بيده ليوشك" بكسر المعجمة، أي: ليقربن، أي لا بد من ذلك سريعًا "أن ينزل فيكم"، أي: في هذه الأمة، فإنه خطاب لبعضها ممن لا يدرك نزوله "ابن مريم حكمًا" أي: حاكمًا "مقسطًا" أي: عادلا بخلاف القاسط، فهو الجائر، ولمسلم أيضًا: "إمامًا مقسطًا"، ولفظ البخاري: "حكمًا عدلا ". وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "ينزل عيسى ابن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق" وفي الصحيحين عنه، رفعه: "ينزل عيسى، فيقتل الدجال". "فيكسر الصليب" تفريع على عدله، أي: فسبب عدله يكسره حقيقة، أو يبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، "ويقتل الخنزير" فيبطل دين النصرانية، وفيه تحريم اقتناء الخنزير، وتحريم أكله ونجاسته؛ لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه، لكن في الطبراني الأوسط، بإسناد لا بأس به، عن أبي هريرة: ويقتل الخنزير والقرد، فلا يصح الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير، لأن القرد ليس بنجس العين اتفاقًا، وفيه أيضًا تغيير المنكرات، وكسر آلة الباطل، زاد في رواية لمسلم: "ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاد". "ويضع الجزية" وفي رواية: "ويضع الحرب"، وبقية الحديث في الصحيحين: "ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] الآية. قال الحافظ: والمعنى أن الذين يصيرون واحدًا، فلا يبقى أحد من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل: معناه يكثر المال، فلا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له، فيترك الجزية استغناء عنها. وقال عياض: يحتمل أن المراد بوضعها تقريرها على الكفار من غير محاباة وتكون كثرة المال بسبب ذلك، وتعقبه النووي، "و" قال: "أن الصواب في معناه؛ أنه لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، أو" "القتل" إن امتنعوا منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى عليه السلام حاكمًا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى عليه الصلاة والسلام إنما ينزل حاكمًا بهذه الشريعة المحمدية ولا ينزل نبي برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة. وأما حكم الجزية وما يتعلق بها فليس حكمًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فدل على أن الامتناع في ذلك الوقت من قبول الجزية هو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم. أشار إليه النووي في شرح مسلم.   قال الحافظ: ويؤيده رواية أحمد من وجه آخر، وتكون الدعوى واحدة، "وهذا خلاف ما هو حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل" أي: أعطي "الجزية وجب قبولها، ولم يجز" بالزاي "قتله" لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} الآية، وفي نسخة: لم يجب بالباء بدل الزاي، وكأنه عبر بها لمطابقة ظاهر الآية، فلا ينافي أنه لا يجوز قتله وعلى قاتله ديته؛ لأن ذلك ثبت بدليل آخر، "ولا إكراهه على الإسلام، وإذا كان كذلك، فكيف يكون عيسى عليه الصلاة والسلام حاكمًا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، فالجواب: أنه لا خلاف أن عيسى إنما ينزل حاكمًا بهذه الشريعة المحمدية" لحديث عبد الله بن مغفل: "ينزل عيسى ابن مريم مصدقًا بمحمد على ملته" رواه الطبراني، "ولا ينزل نبي برسالة مستقلة وشريعة ناسخة" لأن هذه الشريعة لا تنسخ، "بل هو حاكم من حكام هذه الأمة" كقاض بين الخصوم بالملة المحمدية. "وأما حكم الجزية وما يتعلق بها" من إقرارهم على إبقاء صليبهم وخنزيرهم ونحوهما حيث لم يظهروها، "فليس حكمًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى" فوضعها بعد نزوله من شريعتنا. "وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم بنسخه" بهذا الحديث، كما في عبارة النووي "وليس عيسى هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ"، بقوله: ويضع الجزية، "فدل على أن الامتناع في ذلك الوقت من قبول الجزية، وهو شرع نبينا صلى الله عليه وسلم" في ذلك الوقت لا قبله، "أشار إليه النووي في شرح مسلم" ولخصه الحافظ بأوجز عبارة، بقوله قال النووي معنى وضع الجزية، مع أنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 فإن قلت: ما المعنى في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في قبول الجزية؟ فأجاب ابن بطال: بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عليه الصلاة والسلام عند خروجه إلى مال، لأنه يفيض في أيامه المال حتى لا يقبله أحد، فلا يقبل إلا القتل أو الإيمان بالله وحده، انتهى. وأجاب الشيخ ولي الدين ابن العراقي: بأن قبول الجزية من اليهود.   مشروعة في هذه الشريعة؛ أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى؛ كما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكمها، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله هذا. "فإن قلت: ما المعنى" أي: السر والحكمة "في تغيير حكم الشرع عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام في" منع "قبول الجزية" أهو تعبدي أم معقول المعنى، "فأجاب" أي: فأقول في ذلك، أجاب: فلا حاجة للفاء لدخولها على ماض مترف، وهو صالح لكونه جواب الشرط، ونقل البدر بن مالك جوازه، اعترض بأن ظاهره الإطلاق، وليس كذلك، بل الماضي المتصرف، المجرد ثلاثة أضرب: ضرب لا يجوز اقترانه بالفاء، وهو المستقبل الذي لم يقصد به وعد أو وعيد، نحو: إن قام زيد قام عمرو، وضرب يجب اقترانه بالفاء، وهو المستقبل الماضي لفظًا ومعنى، نحو: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} ، وقد معه مقدرة، وضرب يجوز اقترانه بالفاء وهو المستقبل معنى، وقصد به وعد أو وعيد، نحو: ومن جاء بالسيئة فكبت، لأنه إذا كان وعدًا أو وعيدًا حسن أن يقدر ماضي المعنى، فعومل معاملة الماضي حقيقة، وقد نص أبوه على هذا التفصيل في شرح كافيته "ابن بطال" أبو الحسن علي في شرح البخاري، "بأنا إنما قبلناها نحن لاحتياجنا إلى المال، وليس يحتاج عيسى عليه الصلاة والسلام عند خروجه" أي: ظهوره ونزوله من السماء إلى الأرض "إلى مال لأنه يفيض" بفتح أوله، وكسر الفاء، وبالضاد المعجمة، أي: يكثر "في أيامه المال حتى لا يقبله أحد" كما قال في الصحيحين ولمسلم في رواية: وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد. قال الحافظ: وسبب كثرته نزول البركات بسبب العدل وعدم الظلم، وحينئذ تخرج الأرض كنوزها ويقل الراغب في اقتناء المال لعلمهم بقرب الساعة، "فلا يقبل إلا القتل" أي: لا يحكم إلا به، فعبر بنفي القبول عن فعل القتل تجوزًا، نحو: وزججن الحواجب والعيونا، "أو الإيمان بالله وحده، انتهى" جواب ابن بطال. "وأجاب الشيخ ولي الدين" أحمد "ابن العراقي؛ بأن قبول الجزية من اليهود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل, وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم، فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام زالت تلك الشبه بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته. قال وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له. قال: وهذا أولى مما ذكره ابن بطال، انتهى.   والنصارى لشبهة" بالضم، أي: التباس "ما بأيديهم من التوراة والإنجيل" عليهم، فظنوا بسبب الالتباس حقية ما هم عليه، "وتعلقهم بزعمهم بشرع قديم" وهذه الشبهة، والتعلق وإن كانا باطلين لقيام الأدلة الواضحة على حقية الإسلام وبطلان ما سواه، لكنهم عذروا في الجملة لذلك، فاكتفى منهم بما دل على ذلهم وانقيادهم لبعض أحكام الإسلام، قهرًا عليهم، "فإذا نزل عيسى عليه الصلاة والسلام زالت تلك الشبهة بحصول معاينته، فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم وانكشاف أمرهم، فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام والحكم يزول بزوال علته" وهذا أيضًا ملحظ جواب ابن بطال. "قال: وهذا معنى حسن مناسب لم أر من تعرض له، قال: وهذا أولى مما ذكره ابن بطال، انتهى" وكان وجه أولويته، أنه مبني على علة معنوية معقولة دون جواب ابن بطال، وهو ظاهر في زوال شبهة النصارى بنزول. وأما زوالها عن اليهود بنزوله، فكأنه لأنهم زعموا هم والنصارى بقاء شرعهما مع شريعة الإسلام، وفي الفتح قال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء للرد على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فبين الله كذبهم؛ وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنو أجله ليدفن في الأرض، إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غرها، وقيل: إنه دعا الله لما رأى صفة محمد وأمته أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه وأبقاه حتى ينزل في آخر الزمان مجددًا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أوجه. وفي مسلم عن ابن عمرو: أنه يمكث في الأرض بعد نزوله سبع سنين، وروى نعيم بن حماد في كتاب الفتن من حديث ابن عباس: أن عيسى إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة: يقيم بها أربعين سنة. وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ينزل عيسى عليه السلام وعليه ثوبان ممصران، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، وتلعب الصبيان بالحيات، فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"، انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 .............................................................................   قال ابن كثير: يشكل عليه خبر مسلم أنه يمكث في الأرض سبع سنين، اللهم إلا أن تحمل هذه السبع على مدة إقامته بعد نزوله، وتكون مضافة إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السماء، وكان عمره إذ ذاك ثلاثًا وثلاثين سنة على المشهور، قال في مرقاة الصعود: وقد أقمت سنين أجمع بذلك، ثم رأيت البيهقي قال في كتاب البعث والنشور في هذا الحديث: إن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة، وفي مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في قصة الدجال: فيبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه ثم يلبث الناس بعده سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة. قال البيهقي: ويحتمل أن قوله: ثم يلبث الناس بعده، أي: بعد موته، فلا يكون مخالفًا للأول، انتهى، فترجح عندي هذا التأويل من وجوه، أحدها: إن حديث مسلم ليس نصًا في الإخبار عن مدة لبث عيسى، وخبر أبي داود نص فيها، والثاني: أن ثم تؤيد هذا التأويل، لأنها في التراخي. والثالث: قوله: يلبث الناس بعده، فيتجه أن الضمير فيه لعيسى؛ لأنه أقرب مذكور، والرابع: أنه لم يرد في ذلك سوى هذا الحديث المحتمل، ولا ثاني له، وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدة أحاديث من طرق مختلفة، فحديث أبي داود، وهذا هو صحيح، وأخرج الطبراني، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ينزل عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس أربعين سنة" وأخرج أحمد في الزهد عنه، قال: "يلبث عيسى في الأرض أربعين سنة لو يقول للبطحاء سيلي عسلا لسالت"، وأخرج ي المسند، عن عائشة مرفوعًا في حديث الدجال: "فينزل عيسى فيقتله، ثم يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلا وحكمًا مقسطًا". وورد أيضًا من حديث ابن مسعود عند الطبراني: فهذه الأحاديث المتعددة الصريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل، انتهى. ويؤيده أن حديث رفعه، وهو ابن ثلاث وثلاثين، إنما يروى عن النصارى، فعند الحاكم عن وهب بن منبه، قال: "إن النصارى تزعم"، فذكر الحديث إلى أن قال: "وإنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين"، وفيه عبد المنعم بن إدريس كذبوه، ولو صح، فهو عن النصارى كما ترى، والثابت في الأحاديث النبوية أنه رفع، وهو ابن مائة وعشرين. روى الطبراني والحاكم في المستدرك عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة: " إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبًا على رأس الستين". ورجاله ثقات وله طرق، وذكر ابن عساكر؛ أن وفاة عيسى تكون بالمدينة، فيصلي عليه هنالك، ويدفن بالحجرة النبوية، وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام، قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وكذلك من يقول من العلماء بنبوة الخضر.   واختلف في موته قبل رفعه لظاهر قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55] الآية. قال الحافظ: وعليه إذا نزل إلى الأرض، ومضت المدة المقدورة له يموت ثانيًا، وقيل: معنى متوفيك رافعك من الأرض، فعليه لا يموت إلا في آخر الزمان، وقال في موضع آخر: رفع عيسى وهو حي على الصحيح، ولم يثبت رفع إدريس وهو حي من طريق مرفوعة قوية، انتهى. وفي الإصابة: عيسى ابن مريم بنت عمران رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ذكره الذهبي في التجريد مستدركًا على من قبله، فقال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وسلم عليه، فهو نبي وصحابي، وهو آخر من يموت من الصحابة، وألغزه القاضي تاج الدين السبكي في قصيدته التي في أواخر القواعد له، فقال: من باتفاق جميع الخلق أفضل من ... خير الصحاب أبي بكر ومن عمر ومن علي ومن عثمان وهو فتى ... من أمة المصطفى المختار من مضر وأنكر مغلطاي على من ذكر خالد بن سنان في الصحابة، كأبي موسى المديني، وقال: إن ذكره لكونه ذكر النبي صلى الله عليه وسم، فكان ينبغي له أن يذكر عيسى وغيره من الأنبياء، أو من ذكره هو من الأنبياء غيرهم، ومن المعلوم أنهم لا يذكرون في الصحابة، انتهى. ويتجه ذكر عيسى خاصة لأمور اقتضت ذلك، وهي رفعه حيًا على أحد القولين، وأنه ينزل إلى الأرض، فيقتل الدجال، وأنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فبهذه الثلاث يدخل في تعريف الصحابي، وهو الذي عليه عول الذهبي، انتهى كلام الإصابة. ويؤيده اجتماعه بالمصطفى مرات في غير ليلة الإسراء في الطواف وغيره؛ كما تقدم قريبًا من رواية ابن عساكر وابن عدي عن أنس، ونقل السيوطي عن العلم القرافي؛ أنه تعقب قول الناظم وهو فتى؛ بأنه إن كان عني عيسى؛ فلا يطلق اسم الفتى على الأنبياء، إنما يسمى به الصبيان والعبيد والخدم، وإن أراد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يطلق عليه فتى، فقد نص الأزهري على أن الصبي لا يسمى فتى حتى يراهق، وإن أراد الحسن فأبو بكر أفضل منه، فلو قال شخص بدل فتى صح على عيسى وعلى إبراهيم وعلى فاطمة؛ لحديث: "فاطمة بضعة مني"، قال مالك: لا أفضل على بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا، انتهى. "وكذلك من يقول" وهم الجمهور؛ كما قال ابن عطية، والمازري، والبغوي، والقرطبي "من العلماء بنبوة الخضر" قائلين: لأن قوله تعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} الآية، يدل على أنه نبي يوحى إليه، ولأن النبي لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء، ثم اختلفوا في أنه رسول الله أم لا؟ فقال الثعلبي: الخضر نبي بعثه الله بعد شعياء، وقالت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 وأنه باق إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة.   طائفة منهم القشيري: هو ولي، وأجابوا عن الآية باحتمال بعيد جدًا، هو: أن الله أوحى إلى نبي ذلك العصر، بأن يأمر الخضر بذلك، وهو بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وقد تسكن مع كسر الخاء، وكنيته أبو العباس. وفي الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إنما سمي الخضر، لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من تحته خضراء". زاد عبد الرزاق: الفروة الحشيش الأبيض وما أشبهها، قال عبد الله بن أحمد: أظن هذا تفسيرًا من عبد الرزاق، وبه جزم عياض، ويوافقه قول الحربي: الفروة من الأرض قطعة يابسة من حشيش، وقال ابن الأعرابي: الفروة أرض بيضاء، ليس فيها نبات، وبه جزم الخطابي ومن تبعه، وحكى مجاهد: أنه قيل له الخضر، لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، واختلف في اسمه واسم أبيه ونسبه، فالأصح الذي نقله أهل السير وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال البغوي وغيره: أن اسمه بليا، بفتح الموحدة، وسكون اللام، فتحتية، فألف، وبخط الدمياطي في أول الاسم نقطتان، وقيل: كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل: اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: إرميا بكسر أوله، وقيل بضمه وأشبعها بعضهم واوًا، وقيل: المعمر، وقيل: خضرون، وقيل غير ذلك ابن ملكان، بفتح الميم، وسكون اللام ابن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وعلى هذا فمولده قبل إبراهيم؛ لأنه يكون ابن عم جد إبراهيم. وحكى الثعلبي قولين في أنه كان قبل الخليل أو بعده، وروى الدارقطني عن ابن عباس، قال: هو ابن آدم لصلبه، قال الحافظ: وهذا ضعيف منقطع، وحكى أبو حاتم السختياني أنه ابن قابيل بن آدم، وقيل: ابن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وقيل: ابن غاييل بن معمر بن عيصور بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: الخضر بن فرعون صاحب موسى، وهو غريب جدًا، وقيل: ابن بنت فرعون، وقيل: كان أبوه فارسيًا. وحكى السهيلي عن قوم أنه كان ملكًا من الملائكة وليس من بني آدم، قال النووي: وهو غريب ضعيف أو باطل، وقيل: إنه من ذرية بعض من آمن بإبراهيم، وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، فلا يموت حتى ينفخ في الصور، رواه الدارقطني وزاد: مد للخضر في أجله حتى يكذب الدجال. ونقل عبد الرزاق عن معمر، قال: بلغني أن الخضر هو الذي يقتله الدجال ثم يحييه، "وأنه باقٍ إلى اليوم، فإنه تابع لأحكام هذه الملة" قال ابن الصلاح: هو حي عند جمهور العلماء، والعامة معهم في ذلك، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين، وتبعه النووي، وزاد: وفي ذلك متفق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 .................................................................   عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر. قال في الإصابة: لا يقال يستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنوي؛ لأن المتواتر لا يشترط فيه عدالة، إنما العمدة على وروده بعدد تحيل العادة تواطأهم على الكذب، فإن اتفقت ألفاظه فذاك، وإن اختلفت فمهما اجتمعت فهو التواتر المعنوي، وهذه الحكايات تجتمع في أن الخضر حي، لأنا نقول بطرق حكاية القطع قول جماعة من الصوفية لكل زمان، وأنه نقيب الأولياء، وكلما مات نقيب أقيم نقيب مقامه، وسمي الخضر، فلا نقطع مع هذا أن الذي ينقل عنه الخضر صاحب موسى، بل هو خضر ذلك الزمان، ويؤيده اختلافهم في صفته، فمنهم من يراه شيخًا، أو كهلا، أو شابًّا، وهو محمول على تغاير المرئي وزمانه، انتهى. وروى ابن إسحاق في المبتدأ عن أصحابه: أن آدم أخبر بنيه عند الموت بأمر الطوفان، ودعا لمن يحفظ جسده حتى يدفنه بالتعمير، فجمع نوح بينه لما وقع الطوفان، وأعلمهم بذلك، فحفظوه حتى كان الذي تولى دفنه الخضر. وروى خيثمة بن سليمان، عن جعفر الصادق، عن أبيه: أن ذا القرنين كان له صديق من الملائكة، فطلب منه أن يدله على شيء يطول به عمره، فدله على عين الحياة، وهي داخل الظلمة، فسار إليها والخضر على مقدمته، فظفر بها الخضر، فشرب منها، وتوضأ، واغتسل فيها، ولم يظفر بها ذو القرنين، فلا يموت حتى يرفع القرآن. وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن عمرو بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع وهو في المسجد كلامًا، فقال: "يا أنس اذهب إلى هذا القائل، فقل له يستغفر لي". فذهب إليه، فقال: قل إن الله فضلك على الأنبياء بما فضل به رمضان على الشهور، وفضل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، فذهبوا ينظرونه، فإذا هو الخضر. وروى ابن عساكر نحوه، عن أنس بإسناد، أوهى منه، قال ابن المنادى: حديث واهٍ منكر الإسناد سقيم المتن، لم يراسل الخضر بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلقه، واستبعده ابن الجوزي من جهة إمكان لقيه له صلى الله عليه وسلم، واجتماعه معه ثم لا يجيء إليه وجاء في اجتماعه ببعض الصحابة أخبار أكثره واهي الإسناد، وقد جزم بموته، وأنه غير موجود الآن: البخاري وإبراهيم الحربي، وأبو جعفر بن المناد، وأبو يعلى بن الفراء، وأبو طاهر العبادي، وأبو بكر بن العربي وطائفة. قال ابن عطية: أخرج النقاش أخبارًا كثيرة تدل على بقائه، لا يقوم بشيء منها حجة، قال: لو كان باقيًا كان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يثبت شيء من ذلك؛ انتهى، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر وجابر، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته: "لا يبقى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 وكذلك إلياس ..................................................   على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد". قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قرنه، وأجاب: من أثبت حياته، بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث؛ كما خص منه إبليس باتفاق، ومن حجج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية، وحديث ابن عباس: "ما بعث الله نببيًا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه". ولم يأت في خبر صحيح، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا قاتل معه، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"، فلو كان الخضر موجودًا لم يصح هذا النفي، وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى، لوددنا لو كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما"، فلو كان الخضر موجودًا لما حسن هذا التمني ولأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة لا سيما أهل الكتاب، وقد بسط الكلام فيه في الإصابة بنحو كراس، وألم بشيء منه في فتح الباري من جملته: روى يعقوب بن سفيان في تاريخه، وأبو عروبة عن رياح بتحتية ابن عبيدة، قال: رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز معتمدًا على يديه، فلما انصرف، قلت له: من الرجل؟، قال: رأيته؟ قلت: نعم، قال: أحسبك رجلا صالحًا، ذاك أخي الخضر، بشرني أني سألي وأعدل، لا بأس برجاله، ولم يقع لي إلى الآن خبر، ولا أثر بسند جيد غيره، وهذا لا يعارض الحديث في مائة سنة؛ لأنه كان قبل المائة، انتهى. قال في الإصابة: وعلى بقائه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وحياته بعده، فهو داخل في تعريف الصحابي على أحد الأقوال، ولم أر من ذكره فيهم من القدماء، مع ذهاب الأكثر إلى الأخذ بما ورد من أخباره في تعميره وبقائه. "وكذلك إلياس" بهمزة قطع اسم عبراني، وأما قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} الآية، فقرأه الأكثر بصورة الاسم المذكورة، وزيادة ياء ونون في آخره، وقرأه أهل المدينة: "آل ياسين"، بفصل آل من ياسين، وبعضهم تأول أن المراد آل محمد، وهو بعيد، ويؤيد الأولى أن الله تعالى إنما أخبر في كل موضع ذكر فيه نبيًا من الأنبياء في هذه السورة بأن السلام عليه، فكذلك السلام في هذا الموضع على المبدأ بذكره في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} الآية، وإنما زيدت فيه الياء والنون، كما قالوا في إدريس إدراسين، ونقل بعضهم الإجماع على أن إدريس جد نوح، وفيه نظر؛ لأنه إن ثبت قول ابن عباس: أن إلياس هو إدريس، لزم أن إدريس من ذرية نوح؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآية، إلى أن قال: {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} الآية، سواء كان ضمير ذريته لنوح أو لإبراهيم؛ لأن من كان من ذريته هو من ذرية نوح لا محالة. وذكر ابن إسحاق: أن إلياس هو ابن نسي بن فينحاس، ابن العزر بن هارون أخي موسى بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 على ما صححه أبو عبد الله القرطبي أنه حي أيضًا. وليس في الرسل من يتبعه رسول إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وكفى بهذا شرفًا لهذه الأمة المحمدية زادها الله شرفًا. فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ علينا هذه النعمة، ومن علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة، ونوه بنا في كتابه العزيز بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] ، فتأمل قوله {كُنْتُمْ} .   عمران، "على ما صححه أبو عبد الله" محمد بن فرج "القرطبي" المفسر، "أنه حي أيضًا" ذكر وهب في المبتدأ أن إلياس عمر، كما عمر الخضر، وأنه يبقى إلى آخر الزمان. وروى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا: "يجتمع الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله، ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، لا يصرف السوء إلا الله، بسم الله، ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله، بسم الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله"، وإسناده ضعيف، ورواه ابن الجوزي بسنده واهٍ جدًا، وزاد: قال صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد قالها في كل يوم إلا أمن من الغرق والحرق والسرق، وكل شيء يكرهه حتى يمسي، وكذلك حتى يصبح"، ورواه أحمد في الزهد بسند حسن، لكنه معضل، عن عبد العزيز بن أبي رواد، وزاد: "ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل، ويصومان رمضان ببيت المقدس". وروي عن كعب الأحبار، قال: أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في الأرض، الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى. وروى الحاكم في المستدرك عن أنس: أإلياس اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأكلا جميعًا، وأن طوله ثلاثمائة ذراع، وأنه قال: إنه لا يأكل في السنة إلا مرة واحدة، قال الذهبي: هذا خبر باطل. وفي الإصابة: يلزم من ذكر الخضر في الصحابة أن يذكر إلياس، ومن أغرب ما روي فيه: أنه هو الخضر، فأخرج ابن مردويه في تفسير سورة الأنعام عن ابن عباس مرفوعًا: "الخضر هو إلياس". "وليس في الرسل من يتبعه رسول" عاملا بشريعته، تاركًا للشرع الذي أوحي إليه به، "إلا نبينا صلى الله عليه وسلم" لأنه نبي الأنبياء، "وكفى بهذا شرفًا لهذه الأمة المحمدية، زادها الله شرفًا، فالحمد لله الذي خصنا بهذه الرحمة، وأسبغ" أفاض وأتم "علينا هذه النعمة، ومن علينا بما عمنا به من الفضائل الجمة" الكثيرة "ونوه بنا" أي: رفع ذكرنا "في كتابه العزيز، بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية، "فتأمل قوله: {كُنْتُمْ} الدال على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم في علم الله. فينبغي لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية، ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة من الأوصاف المرضية، ويتأهل لما لها من الخيرية. قال مجاهد: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أي: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وقيل: إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أشهر. وقيل: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني   ثبوت قدم الخيرية لهم من قبل وجود الأمم، "أي: في اللوح المحفوظ، وقيل: كنتم في علم الله" والقصد بهذين القولين تحقيق معنى المضي، وقيل: معنى: {كُنْتُمْ} أنتم؛ كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا} الآية، وفي موضع آخر: {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} الآية. وأشار البغوي إلى ترجيح الأول بما أخرجه هو وأحمد والترمذي وغيرهم عن معاوية بن حيدة؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، قال: "إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله". "فينبغي لمن هو من هذه الأمة المحمدية أن يتخلق بالأخلاق الزكية" بملازمة الطاعات واجتناب المنهيات، "ليثبت له ما لهذه الأمة الشريفة" بشرف نبيها "من الأوصاف المرضية" لله وعباده التقين، "ويتأهل لما لها من الخيرية". "قال مجاهد" في تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} : إذا كنتم على الشرائط المذكورة، أي" قوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية؛ لأن ذلك استئناف لبيان الخيرية فهو شرط فيها فمن لم يكن كذلك لم يتصف بالخيرية. "وقيل: إنما صارت" أي كانت ووجدت "أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة؛ لأن المسلمين منهم أكثر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أشهر" وهذا كله على أن الخطاب للأمة كلهم، "وقيل: هذا" الخطاب "لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم" كما قال عليه الصلاة والسلام" في الصحيحين وغيرهما: "خير الناس" وفي رواية: خير أمتي، "قرني" أي: أهل عصري، يعني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل من بعدها. وإلى هذا ذهب معظم العلماء. وإن من صحبه صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتي بعده، وأن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، هذا مذهب الجمهور. وذهب أبو عمر بن عبد البر: إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني" ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان، وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود، وقد روى أبو أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرات   الصحابة، ومدتهم من البعثة مائة وعشرون سنة أو دونها، أو فوقها بقليل على الخلاف في وفاة آخر الصحابة موتا أبي الطفيل، وإن اعتبر من وفاته صلى الله عليه وسلم كان مائة أو تسعين أو سبعا وتسعين، "ثم الذين يلونهم" أي: القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، ومدتهم نحو سبعين أو ثمانين سنة إن اعتبر من سنة مائة، "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين من خمسين إلى حدود عشرين ومائتين، فمدة القرن تختلف باختلاف أعمار كل زمان، ومر الحديث قريبًا. "وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل من بعدها، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وإن من صحبه صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة من عمره أفضل من كل من يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل" عطف علة على معلول، "هذا مذهب الجمهور" إطناب مساو لقوله معظم العلماء. "وذهب أبو عمر بن عبد البر إلى أنه قد يكون فين يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة" كمن رآه مرة، "وإن قوله عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني"، ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان" لكن في الاستظهار بذكر هؤلاء على الدعوى شيء، إذ هؤلاء كفار، والكلام في المؤمنين، "وأهل الكبائر الذين أقام عليهم وعلى بعضهم الحدود" وفي الاستظهار بهم أيضا شيء، فالحدود جوابر على الصحيح، "وقد روى أبو أمامة" الباهلي، صدي بالتصغير ابن عجلان، صحابي مشهور، سكن الشام، ومات بها سنة ست وثمانين، "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى" تأنيث أطيب، أي: راحة وطيب عيش، حاصل "لمن رآني وآمن بي، وطوبى سبع مرات"، المتبادر أنه قال: هذا اللفظ، لا أنه كرر طوبى سبعًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 لمن لم يرني وآمن بي". وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة.   "لمن لم يرني وآمن بي" لأن الله مدح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وإيمان الصحابة بالله واليوم الآخر غيبًا، وبالنبي صلى الله عليه وسلم شهودًا للآيات والمعجزات، ومن بعدهم آمنوا غيبًا بما آمنوا به شهودًا، فلذا أثنى عليهم، وحديث أبي أمامة هذا أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ، وابن حبان والحاكم بلفظ: "طوبى لمن رآني وآمن بي مرة، وطوبى لمن لم يرني وآمن بي سبع مرات"، فزاد مرة وأخر سبع مرات، وصححه الحاكم وتعقب، لكن له شاهد من حديث أنس عند أحمد. وروى الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: أرأيت من آمن بك ولم يرك، وصدقك ولم يرك؟ قال: "أولئك إخواني أولئك معي، طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ثلاث مرات"، ولا يعارض ما قبله؛ لأنه أخبر بما علمه أولا، ثم زيد فأخبر به، ويدل على ذلك حديث الطبراني عن ابن عمر، وابن النجار عن أبي هريرة رفعاه: "طوبى لمن أدركني وآمن بي، وطوبى لمن لم يدركني، ثم آمن بي"، فأخبر أن كلا له طوبى، ولم يذكر عددًا، لأنه قبل أن يوحى إليه بالعدد. وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد، أن رجلا قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك، فقال صلى الله عليه وسلم: "طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني"، فقال رجل: يا رسول الله! وما طوبى؟ قال: "شجرة من الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". وروى الطبراني برجال ثقات، والحاكم عن عبد الله بن يسر، مرفوعًا: "طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى لمن رأى من رآني، وطوبى لمن رأى من رأى من رآني، طوبى لهم وحسن مآب". "وفي مسند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي"، البصري، ثقة، حافظ، روى له مسلم والأربعة، ومات سنة أربع ومائتين، "عن محمد بن أبي حميد" إبراهيم الأنصاري، الزرقي، المدني، ضعيف روى له الترمذي وابن ماجه، "عن زيد بن أسلم" العدوي، المدني ثقة، عالم من رجال الجميع مات سنة ست وثلاثين ومائة، "عن أبيه" أسلم مولى عمر، ثقة مخضرم، روى له الجميع ومات سنة ثمانين، وقيل: بعد سنة ستين، وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة، "عن عمر" بن الخطاب، "قال: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أتدرون أي الخلق أفضل إيمانًا؟ " قلنا: الملائكة" لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 قال: "وحق لهم، بل غيرهم". قلنا: الأنبياء، قال: "وحق لهم، بل غيرهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني فهم أفضل الخلق إيمانًا". وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبد الله أن أكتب إلى بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر فأنت أفضل من عمر، لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر، قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم. قال أبو عمر: فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها، التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل، إلا أهل بدر والحديبية. ومن تدبر هذا   "قال: وحق" بفتح الحاء من حق لازمًا، أي: ثبت "لهم"، وبضم الحاء من المتعدي، أثب: أثبت ويبنى منه للمفعول، فيقال: حق لك أن تفعل كذا بالضم؛ كما في القاموس، واقتصر المصباح على اللازم "بل" مرادي "غيرهم" أو غيرهم المراد، فهو بالرفع، ويحتمل النصب بتقدير أريد غيرهم، "قلنا: الأنبياء، قال: "وحق لهم، بل غيرهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني فهم أفضل الخلق إيمانًا" أعاده تأكيدًا، والمراد: من أفضل، فلا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل المؤمنين إسلامًا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا". رواه الطبراني بإسناد حسن. وروى ابن ماجه، وصححه الحاكم مرفوعًا: "أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا"، ولا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل المؤمنين إيمانًا المقل، الذي إذا سأل أعطى، وإذا لم يعط استغنى"، رواه ابن ماجه والخطيب، ويجمع بينهما أيضًا باعتبار الجهة، أي: أفضل الخلق من جهة الإيمان بالغيب، وهكذا. "وروي أن عمر بن عبد العزيز" الإمام العادل "لما ولي الخلافة، كتب إلى الم بن عبد الله" بن عمر، أحد الفقهاء: "أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها، فكتب إليه سالم: إن عملت بسيرة عمر، فأنت أفضل من عمر؛ لأن زمانك ليس كزمان عمر ولا رجالك كرجال عمر" أي: ولا يمكنك ذلك، لأنه يتصور، فالتعليق على محال. "قال: وكتب إلى فقهاء زمانه فكلهم كتب بمثل قول سالم"، ترغيبًا له، وحثا على العدل الذي رامه. "قال أبو عمر" عبد البر بعد ذكر هذا، وأحاديث آخر: "فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها" تواترًا معنويًا لاتفاقها على تفضيل العامل في أي زمان، "وحسنها" باعتبار المجموع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 الباب بأن له الصواب، انتهى. وإسناد حديث أبي داود الطيالسي عن عمر ضعيف فلا يحتج به، لكن روى أحمد والدارمي والطبراني عن أبي عبيدة -ابن الجراح: يا رسول الله، أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني". وإسناده حسن وصححه الحاكم. والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة لا نطيل بذكرها وسيأتي بقية مباحث ذلك في فضل الصحابة من المقصد السابع إن شاء الله تعالى. وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة بخصائص لم يؤتها أمة.   "التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية" لنصه صلى الله عليه وسلم على أفضلية أهلهما على من سواهما، فمحل النزاع فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، "ومن تدبر هذا الباب؛ بأن له الصواب، انتهى؛ وإسناد حديث أبي داود الطيالسي، عن عمر ضعيف" لضعف محمد بن أبي حميد، "فلا يحتج به" فتحسين ابن عبد البر ما حكم على المجموع؛ لأنه قال: وحسنها بعد أحاديث عدة، وأبرز سند حديث عمر، أو باعتبار شاهده الذي استدركه بقوله: "لكن روى أحمد والدارمي، والطبراني عن أبي عبيدة" عامر "ابن الجراح" أحد العشرة، أنه قال: "يا رسول الله! أحد" بتقدير أداة الاستفهام همزة، أو هل أحد "خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ "قال: خير منكم " قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني"، وإسناده حسن، وصححه الحاكم" وهو بمعنى حديث عمر، فهو شاهده. "والحق ما عليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو مرة، وذلك لا يكون لمن بعد الصحابة ولو بلغوا ما بلغوا، "والدلائل على أفضلية الصحابة على غيرهم كثيرة متظاهرة، لا نطيل بذكرها، وسيأتي بقية مباحث ذلك في فضل الصحابة من المقصد السابع إن شاء الله تعالى" بما منه ما محصله: أنه يمكن تأويل الأحاديث المتدمة، بأن زيادة الأجر والخيرية بسبب الإيمان بالغيب دون مشاهدة الآيات، لا تستلزم الأفضلية المطلقة، فإنما يقع التفاضل بالنسبة إلى ما يماثله، وما فاز به من شاهده صلى الله عليه وسلم لم يفز به من لم يقع له ذلك، فلا يعدله فيه أحد. "وقد خص الله تعالى هذه الأمة الشريفة" أي: أمة الإجابة "بخصائص لم يؤتها أمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 قبلهم، أبان بها فضلهم، والأخبار والآثار ناطقة بذلك. فخرج أبو نعيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى -عليه الصلاة والسلام- لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة   قبلهم" كالصفة الكاشفة لما قبلها، فإن عدم إيتائها لمن قبلهم هو معنى تخصيصهم بها، "أبان" أظهر "بها فضلهم" على غيرهم، وكذلك خص أمة الدعوة برفع ما كان من أنواع العذاب في الأمم السابقة، كالخسف ونحوه؛ لكن لم تعد كمالات لهم لكفرهم، ولأنها لم تنجهم من العذاب الأشد، ومتاع الدنيا قليل، "والأخبار والآثار" عطف خاص على عام، أو مباين "ناطقة بذلك" أي: دالة دلالة قوية، كالنطق، وبين بعضها مقتصرًا عليه؛ لأن دلالتها أوضح، وكافية في المقصود بقوله: "فخرج أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصفهاني، "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن موسى عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها، فوجد فيها ذكر هذه الأمة" بالأوصاف الحميدة التي لم توجد لغيرها، "قال: يا رب إني أجد في الألواح" التي أنزلت التوراة فيها، وكانت تسعة ألواح، وقيل: عشرة، وفي الحديث: "كانت من سدر الجنة، طول اللوح اثنا عشر ذراعًا" وقال الحسن: كانت من خشب، والكلبي: كانت من زبرجدة خضراء، وسعيد بن جبير: من ياقوت أحمر، والربيع بن أنس: كانت من برد، وابن جريج: من زمرد، أمر الله جبريل حت جاء بها من عدن، وكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، واستمد من نهر النور. قال وهب: أمره الله بقطع ألواح من صخرة صماء، لينها الله له، فقطعها بيده، ثم شققها بأصبعه. قالت الرواة: كانت التوراة سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفعت سنة أسباعها، وبقي سبع، فرفع ما كان من أخبار الغيب، وبقي ما فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام؛ كذا في المعالم. "أمة هم الآخرون" زمانًا في الدنيا، "السابقون" أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة في الحشر والحساب، والقضاء لهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة قبل الأمم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أتوا الكتاب من قبلنا". الحديث. وفي رواية مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والسابقون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق"، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 أناجيلهم في صدورهم يقرءونها فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة   أناجيلهم" مصاحفهم، أي: ما فيها محفوظ "في صدورهم" أي: قلوبهم. قال في الإتقان: فيه تسمية القرآن إنجيلا، وروى ابن الضريس وغيره عن كعب، قال: في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، ففيه تسمية القرآن توراة، ومع هذا لا يجوز الآن أن يطلق عليه ذلك، وهذا كما سميت التوراة فرقانًا في قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} الآية، وسمى صلى الله عليه وسلم الزبور قرآنًا في قوله: "خفف على داود القرآن". "يقرءونها" وكان من قبلهم يقرءون كتبهم ولا يحفظونها. قال الربيع بن أنس: نزلت التوراة سبعون وقر، بعير الجزء منها في ستة، لم يقرأها إلا أربعة: موسى، ويوشع، وعزير وعيسى، وبتفسير الأناجيل بالمصاحف يكون تجوز بكتاب عيسى عن بقية الكتب تسمية للمطلق باسم المقيد، ثم استعملها في القرآن خاصة، وجمعه نظرًا إلى أن ما يلفظ به قارئ مغاير لما يلفظ به غيره من حيث التلفظ، وإن كان المقروء واحدًا، إذ القرآن اللفظ المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يتعدد بتعدد محله، فالمقروء على لسانه عليه الصلاة والسلام هو المتلو الآن، والمختلف التلفظ لا نفس الألفاظ، وإلا لكان ما يقرؤه المصطفى غير ما قرأه جبريل، وهو باطل قطعًا، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم" أي: ما يصرفونه على أنفسهم وأهاليهم "يؤجرون" أي: يثابون "عليها" ثواب الصدقة بالمال على الغير؛ لأنه ينكف بذلك عن السؤال، ويكف أهله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة، وما أنفق المسلم من نفقة على نفسه وأهله كتب له بها صدقة" الحديث، رواه عبد بن حميد، والحاكم، وصححه عن جابر، وفي كتاب البشر لابن ظفر: هكذا الرواية، يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، ومعنى ذلك أنهم يطعمونها مساكينهم، ولا يحرقونها، كما كانت الأمم تفعل، وجاء في حديث غير هذا مما هو منسوب إلى كتب الله السالفة: يأكلون قرابينهم في بطونهم، فالمراد بهذا اللفظ الضحايا وما يؤكل من الهدايا، انتهى. وتبعه بعضهم، فقال: أي يأكلها فقراؤهم الذين هم منهم، وكان من قبلهم إنما تأكل صدقاتهم وقرابينهم نار تنزل من السماء إن كانت مقبولة، وإلا بقيت بحالها، انتهى، وهو وإن صح في نفسه، إلا أن اللفظ والامتنان عليه بذلك ينبو عنه ويبعده، فالحمل الأول أولى لا سيما ويؤيده أحاديث: "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 يأكلون الفيء فاجعلها أمتي قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له عشر حسنات فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة واحدة   يأكلون الفيء" أي: ما أخذ من الكفار بلا قهر أو به فيشمل الغنيمة؛ لأن كلا منهما إذا انفرد عم الآخر هكذا ثبتت هذه الجملة في أصل صحيح عليه خط المصنف، وسقطت في غالب النسخ. "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة" أي: عقد عزمه عليهم، "فلم يعملها"، بفتح الميم، "كتبت له حسنة واحدة" كاملة لا نقص فيها، وإن نشأت عن مجرد الهم، سواء كان الترك لمانع، أو لا، قيل: ما لم يقصد به الإعراض عنها، وإلا لم تكتب. وفي الصحيحين: فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، أي: قدرها أو أمر الحفظة بكتابتها، "وإن عملها" بكسر الميم "كتبت له عشر حسنات" لأنه أخرجها من الهم إلى العمل ومن جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها. وفي الصحيحين: فإن هم بها، فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فالعشرة أقل ما وعد به من الأضعاف حتى قيل: المراد بها الكثرة لا العدد، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد: قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة، إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها" بجوارحه ولا بقلبه، "لم تكتب عليه" سيئة، بل تكتب حسنة؛ كما في الصحيحين، وإن هم بسيئة لم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، "وإن عملها كتبت سيئة واحدة" لم توصف بكاملة تفضلا منه؛ ولمطابقة قوله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} الآية، ولإفادة أنها لا تتضاعف. قال العز بن عبد السلام: ولإفادة أنها لا تكتب اثنتين، واحدة للعمل، وواحدة لهم، حيث انضم له العمل، واستثنى بعضهم الحرم المكي، فتضاعف فيه السيئات كالحسنات لتعظيم حرمته، والجمهور على التعميم في الأزمنة والأمكنة، ولا يرد على ذلك قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} الآية؛ لأنه ورد تعظيمًا لحقه صلى الله عليه وسلم، لأن وقوعه من نسائه يقتضي أمرًا زائدًا على الفاحشة، وهو أذاه، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية، قال قتادة ومجاهد: الإلحاد هو الشرك وعبادة غير الله، وقال عطاء: دخول الحرم بلا إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد، أو قطع شجر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والعلم الآخر، فيقتلون المسيح الدجال، فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطي عند ذلك خصلتين، فقال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فخذ ما آتيك وكن من الشاكرين، قال: قد رضيت يا رب".   وقال ابن عباس: هو أن تقتل من لا يقتلك، أو تظلم من لا يظلمك، وقال قوم: هو كل شيء كان منهيًا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، ولكنه لا يدل على تضعيف العدد، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول" الذي أنزل على الأنبياء قبل المصطفى، "والعلم الآخر" الذي نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم من الأحكام التي ليست من الشرائع السابقة، "فيقتلون المسيح الدجال" نسبه إليهم لقتله في زمانهم على يد عيسى عليه السلام، وهو واحد منهم، "فاجعلها أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: يا رب فاجعلني من أمة أحمد، فأعطي عند ذلك خصلتين" أي: أخبر بأن الله أكرمه بهما، فلا ينافي أن الرسالة والكلام سابقان على ذلك. وفي رواية كعب الأحبار: فلما عجز موسى، قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بها، "فقال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الموودين في زمانك وهارون، وإن كان نبيًا، كان مأمورًا باتباعه، ولم يك كليمًا، ولا صاحب شرع، {بِرِسَالَاتِي} بالتوحيد قراءة أهل الحجاز، وبالجمع قراءة غيرهم، {وَبِكَلَامِي} تكليمي إياك، "فخذ ما آتيتك" من الفضل، "وكن من الشاكرين" لأنعمي. قال البغوي: فإن قيل ما معنى اصطفائه بالرسالة، وقد أعطاها غيره لما لم يكن على العموم في حق الناس كافة، استقام قوله: {اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الآية، وإن شاركه فيه غيره، كما تقول: خصصتك بمشورتي وإن شاورت غيره إذا لم تكن المشورة على العموم ويكون مستقيمًا، وفي الفقه أن موسى لما كلمه ربه لم يستطع أحد أن ينظر إليه، غشى وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له امرأته: أنا أيم منك منذ كلمك ربك، فكشف لها عن وجهه، فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجك في الجنة، قال: ذاك إن لم تتزوجي بعدي، فإن المرأة لآخر أزواجها، انتهى. وفي الأنوار روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر، "قال: قد رضيت يا رب"، وروى البغوي من طريق أبي العباس السراج بسنده عن كعب الأحبار: هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 وروى ابن طغر بك في "النطق المفهوم" عن ابن عباس رفعه: "قال موسى: يا رب، فهل في الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام، وأنزلت عليهم المن والسلوى، فقال: سبحانه وتعالى: يا موسى، أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر الأمم، كفضلي على جميع خلقي؟ قال: يا رب فأرينيهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم فقال سبحانه: صلاتي عليكم، ورحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق   الحديث مطولا غير مرفوع، وقال في آخره: فلما عجز موسى عن الخير الذي أعطى الله محمدًا وأمته، قال: يا ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله ثلاث آيات يرضيه بهن: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} الآية، إلى قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} ، {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} الآية، قال: فرضي موسى كل الرضا. "وروى ابن طغر بك" بضم الطاء المهملة والراء، بينهما معجمة ساكنة، ثم موحدة مفتوحة، كأنه علم مركب من طغر وبك لقب للإمام، العلامة المحدث سيف الدين أبي جعفر عمر بن أيوب بن عمر الحميري التركاني الدمشقي، الحنفي، لم أر له في ابن خلكان ترجمة، إنما فيه آخر من الأمراء بهذا الضبط، وزيادة لام ساكنة بعد الراء، وقدمت هذا في أول الكتاب "في" كتاب "النطق المفهوم"، عن ابن عباس رفعه": لفظة استعملها المحدثون بمعنى، قال صلى الله عليه وسلم: "قال موسى: يا رب، فهل من الأمم أكرم عليك من أمتي، ظللت عليهم الغمام" سترتهم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، "وأنزلت عليهم" فيه "المن والسلوى" هما الترنجبين، والطير السماني، بتخفيف الميم والقصر، "فقال" الله "سبحانه وتعالى: يا موسى أما علمت أن فضل أمة محمد على سائر" باقي "الأمم كفضلي على جميع خلقي" وتلك مزايا لا تقتضي التفضيل، "قال: يا رب فأرينيهم، قال: لن تراهم، ولكن أسمعك كلامهم، فناداهم الله تعالى، فأجابوا كلهم بصوت واحد، لبيك اللهم لبيك" إجابة لك بعد إجابة، "وهم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم" أي: بعض أصول هذه الأمة، كان حينئذ في أصلاب الآباء، وبعضهم في بطون الأمهات بخلافه حين أخذ العهد على الذرية، فلم يكن أحدًا موجودًا في بطون الأمهات، ولذا لم تذكر في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، "فقال سبحانه وتعالى: صلاتي" رحمتي ومغفرتي "عليكم، ورحمتي سبقت" وفي رواية: غلبت، أي: غلبت آثار رحمتي على آثار "غضبي" والمراد لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، وإليه أشار بقوله: "وعفوي سبق عذابي" وفي مسلم، عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 عذابي، أستجيب لكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله غفرت له ذنوبه".   أبي هريرة مرفوعًا: قال الله تعالى: "سبقت رحمتي غضبي" وفي البخاري، عنه رفعه: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي". قال في الفتح: في رواية غلبت، والمراد من الغضب لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، والسبق والغلبة باعتبار التعلق، أي: تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب، فيتوقف على سابقه عمل من العبد الحادث، وبهذا التقرير يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يدخل النار من الموحدين، ثم يخرج بالشفاعة وغيرها، وقيل: معنى الغلبة الكثيرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم، أي: هو أكثر أفعاله، وهذا كله بناء على أن الرحمة والغضب من صفات الذات. وقال بعض العلماء: إنهما من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم الجنة أول ما خلق مثلا، ومقابله ما وقع من إخراجه منها، وعلى ذلك استمرت أحوال الأمم تتقدم الرحمة في حقهم بالتوسيع عليهم في الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم. وأما ما أشكل من أمر من يعذب من الموحدين، فالرحمة سابقة في حقهم أيضًا، ولولا جودها لخلدوا أبدًا. وقال الطيبي: في سبق الرحمة إشارة إلى أن قسط الخلق منها أكثر من قسطهم من الغضب، وأنها تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فالرحمة تشمل الشخص جنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا قبل أن يصدر منه شيء من الطاعات، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك، انتهى. وفي المصابيح: الرحمة إرادة الثواب، والغضب إرادة العاب، والصفات لا توصف بغلبة، ولا يسبق بعضها بعضًا، لكن هذا ورد على الاستعارة، ولا منع من جعل الرحمة والغضب صفتي فعل لا ذات، فالرحمة الثواب والإحسان، والغضب الانتقام والعذاب، فتكون الغلبة على بابها، انتهى. "أستجيب لكم قبل أن تسألوني" زيادة في الإكرام، "فمن لقيني منكم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، غفرت له ذنوبه" وفي مسلم، عن عبادة مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله حرم الله عليه النار". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 قال صلى الله عليه وسلم: "فأراد الله أن يمن عليّ ذلك فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] "، أي: أمتك حتى أسمعنا موسى كلامهم. ورواه قتادة, وزاد: فقال: يا رب، ما أحسن أصوات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسمعني مرة أخرى. وفي الحلية لأبي نعيم، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله تعالى إلى موسى، نبئ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد أدخلته النار، قال: يا رب، ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقًا أكرم علي منه   وفي الصحيحين مرفوعًا: "من شهد أن لا إله إلا الله, وجبت له الجنة". وفي الطبراني رفعه: "من شهد أن لا إله إلا الله, خالصًا من قلبه، دخل الجنة، ولم تمسه النار". وفي بسط الكلام في هذا طول. قال صلى الله عليه وسلم: "فأراد الله أن يمن عليّ بذلك، فقال: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ", الجبل {إِذْ نَادَيْنَا} ، أي: أمتك حين أسمعنا موسى كلامهم. وفي البغوي: قيل نادينا موسى: خذ الكتاب بقوة، وقال وهب: قال موسى: يا رب أرني محمدًا، قال: إنك لن تصل إلى ذلك، وإن شئت ناديت أمته، وأسمعت صوتهم، قال: بلى يا رب، قال الله تعالى: يا أمة محمد، فأجابوه من أصلاب آبائهم. وقال أبو زرعة عن عمرو بن جرير: "نادى يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني". وروى عن ابن عباس ورفعه: "بعضهم قال الله: يا أمة أحمد، فأجابوا من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك الله، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال تعالى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي عقابي، قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني، وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني، وقد غفرت لكم من قبل أن تعصوني، من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدي ورسولي دخل الجنة، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر"، انتهى. ورواه قتادة، وزاد: "فقال يا رب ما أحسن أصوات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسمعني مرة أخرى" أصواتهم ولم أر هل أسمعه أم لا؟ "وفي" كتاب "الحلية" أي: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء "لأبي نعيم" أحمد بن عبد الله الأصفهاني، الحافظ الشهير، "عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوحى الله تعالى إلى موسى نبئ" خبر "بني إسرائيل" يعقوب, "أنه من لقيني وهو جاحد بأحمد، أدخلته النار" خالدًا فيها لكفره به، "قال: يا رب ومن أحمد؟ قال: ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منه". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السماوات والأرض، إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته، قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون، يحمدون صعودًا وهبوطًا وعلى كل حال, يشدون أوساطهم   بل هو الأكرم، وكان الظاهر في جواب السؤال أن يقال، هو: أحمد بن عبد الله الهاشمي، من ذرية عمك إسماعيل بن إبراهيم، مثلا ليتميز عند السائل عن غيره، لكنه عدل عن ذلك إلى ما يفهم منه الجواب زيادة في تبجيله؛ كما أشار إليه بقوله: "كتبت اسمه مع اسمي في العرش" أي: عليه "قبل أن أخلق السماوات والأرض" حين خلقت العرش فاضطرب، وهو أول المخلوقات بعد النور المحمدي. روى أبو الشيخ والحاكم، وصححه، عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة، ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله، محمد رسول الله فسكن". وهذا لا يقال رأيًا فحكمه الرفع. "إن الجنة" دار الثواب، "محرمة" ممنوعة "على جميع خلقي حتى يدخلها هو وأمته" حكم على الجملة، فلا ينافي أن الأنبياء تدخلها قبل هذه الأمة؛ كما رواه ابن ماجه، وللطبراني والدارقطني، عن عمر مرفوعًا: "إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلا أمتي"، "قال: ومن أمته؟ قال: الحمادون" صيغة مبالغة، أي الكثيرون الحمد، وتعريف الطرفين يفيد الحصر، فكثرة الحمد مختصة بهم، وهو بالنظر إلى الغالب، أو المجموع، أو الموفقين منهم، أو هذا من شأنهم، وكأنه قيل: ما سبب وصفهم بالمبالغة، فأجاب بقوله: "يحمدون" على الاستئناف البياني، جوابًا لسؤال اقتضته الأولى، ولذا ترك العاطف "صعودًا" إلى المحل العالي "وهبوطًا" إلى الأسفل. وقال ابن القيم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علو الثنايا كبروا، وإذا هبطوا سبحوا، فوضعت الصلاة على ذلك، "وعلى كل حال" من قيام، وقعود، واضطجاع، وحضر، وسفر، وسراء، وهو سعة العيش والسرور، وضراء، كالأمراض والمصائب، فهم راضون عن الله في كل حال. وروى النسائي عن ابن عباس مرفوعًا: "المؤمن بخير على كل حال تنزع نفسه من بين جنبيه، وهو يحمد الله" ولما أحس معاذ بالموت، قال: مرحبًا بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، الحمد لله، والحمد لا يلزم كونه في مقابلة نعمة كالشكر، فلا يحتاج الحمد في الضراء للتوجيه بمنفعة الثواب عليها، "ويشدون أوساطهم" بالأزر، كما ثبت في هذا الحديث المرفوع، ومثله نقل عن التوراة والإنجيل، وللديلمي مرفوعًا: "ائتزروا، كما رأيت الملائكة تأتزر عند ربها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله، قال: اجعلني نبي تلك الأمة، قال: نبيها منها، قال: اجعلني من أمة ذلك النبي، قال: استقدمت واستأخر، ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال".   إلى أنصاف سوقها"، ولذا عد من خصائص هذه الأمة، وتوقف فيه، بأنه ليس فيه أن الأمم الماضية لم تكن تأتزر، ولا تثبت الخصوصية بالاحتمال، ويدفع بأن المتبادر من وصفهم بذلك الاختصاص، ولا يلزم النص على لفظ الخصوصية. نعم، يحتمل أن المراد بشد الأزر الاجتهاد في العبادة، بحيث يقومون لها بنشاط وفراغ قلب، نحو ما قيل في خبر: "كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان شد مئزره" ويكون وجه الاختصاص إتيانهم بها على وجه أكمل من الأمم السابقة، "ويطهرون أطرافهم" أي: يتوضئون، "صائمون بالنهار، رهبان" عباد "بالليل، أقبل منهم" العمل "اليسير" وأثيبهم عليه الثواب الكثير رحمة منه بهم. روى مالك، وأحمد، والبخاري وغيرهم عن ابن عمر مرفوعًا: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها، حتى إذا انتصف النهار، عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملا، قال: هل ظلمتكم من أجركم شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء". قال السيوطي: والمراد تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر في كثرة العمل الشاق والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره، إذ مدة هذه الأمة أول من مدة أهل الإنجيل. قال إمام الحرمين: الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي لضرب الأمثال، انتهى. "وأدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله" يعني: وأن محمدًا رسول الله، فاكتفى بأحدهما عن الأخرى، لكونهما صارا كالشيء الواحد. "قال" موسى: "اجعلني نبي تلك الأمة" فإن قيل: كيف ساغ سؤال موسى عليه السلام ذلك مع إخبار الله تعالى أنهم أمة أحمد، قلت: "قال نبيها منها، قال: اجعلني من أمة ذلك النبي، قال: استقدمت" في الوجود الزماني، "واستأخر" أحمد فيه، بحيث كان خاتم النبيين، فلا يمكن أن تكون من أمته. "ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال" يوم القيامة في الجنة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 وعن وهب بن منبه قال: أوحى الله إلى سعيا: إني باعث نبيًا أميًا، أفتح به آذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، مولده بمكة ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، عبدي المتوكل المصطفى المرفوع الحبيب المنتخب   ولا يرد اجتماعه به ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماوات له مرار عديدة في أمر الصلوات؛ لأن المراد الاجتماع المتعارف في الدنيا بلا موت. "وعن وهب بن منبه" بضم الميم، وفتح النون، وكسر الباء، ابن كامل اليماني، أبي عبد الله الأنباري، التابعي، الثقة من رجال الصحيحين، مات سنة بضع عشرة ومائة، "قال: أوحى الله تعالى إلى سعيا" بسين مهملة وإعجامها لغة ابن أبي أمصيا نبي بشر بعيسى؛ كما في القاموس: "إني باعث" إلى جميع العالمين "نبيًا أميًا" لا يقرأ ولا يكتب "أفتح به آذانًا صمًا" بضم الصاد، وشد الميم جمع صماء كعمى وعمياء، لا تسمع، وفتحها إزالته مجاز، استعير الصمم لعدم الإذعان للحق والانتفاع به؛ لأنها لما لم تسمع السمع المعتد به، نزل منزلة الصمم، فلما أرشدهم صلى الله عليه وسلم للحق، وكشف عنهم الحجب المظلمة، وانقادوا مذعنين، كانوا كمن زال صممه، "وقلوبًا" جمع قلب العضو المعروف: ويراد به العقل، وبه فسر، وهو الظاهر؛ لقوله: "غلفًا" بضم المعجمة، وسكون اللام: جمع أغلف، أي: مغطاة في أكنة، ومعناه: أن قلوبهم كانت محجوبة عن الهداية، فأزال الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم حجابها، وكشف غطاءها حتى اهتدت، "وأعينا" جمع قلة لعين، عدل عن عيونًا جمع كثرة، وإن كان أنسب هنا؛ لأن جمع القلة قد يكون للكثرة، كعكسه، أو لعده قليلا بالنسبة لقدرة الله، أو لأنها كانت قليلة في الابتداء "عميًا" جمع عمياء، وهو عدم البصر عما هو من شأنه استعير لعدم انتفاعهم بها فهي كالمفقودة، ولا ينافيه قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} الآية؛ لأنه فيمن طبع على قلبه، وهذا في غيره: "مولده" يكون "بمكة، ومهاجره" أي: هجرته، أي مكان هجرته "طيبة" المدينة المنورة، "وملكه"، أي ظهوره "بالشام" لاشتماله على الأمراء الذين يتصرفون في الدنيا تصرف الملوك بخلاف الحجاز، وإن كان مبدؤه فيهم، لكنهم لم يكونوا كالملوك، بل كانوا حريصين على اتباع خلافة النبوة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بالمدينة، والملك بالشام" رواه البيهقي، أي: خلافة النبوة التي ذكرها بقوله الخلافة بعدي ثلاثون، ثم تكون ملكًا عضودًا "عبدي المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله، فإذا أمره بشيء نهض بلا جزع "المصطفى" أي: المختار من أشهر أسمائه، وفي أحاديث: إن الله اصطفاه، " المرفوع" الدرجات على جميع الخلائق، "الحبيب" فعيل من المحبة بمعنى مفعول؛ لأنه محبوب الله، أو بمعنى فاعل، لأنه محب له تعالى، "المنتخب" بالخاء المعجمة، أو بالجيم، كلاهما بمعنى المختار، وهما من أسمائه عليه السلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 المختار، لا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح ويغفر، رحيمًا بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ولليتيم في حجر الأرملة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش.   وفي نسخة: المتحبب، بكسر الباء اسم فاعل من تحبب إليه تودد، وأظنها تصحيفًا، ولم يذكره المصنف في الأسماء، "المختار" اسم مفعول من الاختيار، وهو الاصطفاء؛ كما في الصحاح، وهما أيضًا معدودان في أسمائه؛ كما مر. "لا يجزي" بفتح أوله "بالسيئة" لأنه خلقه القرآن، وفيه جزاء سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح، فأجره على الله، وقال فاصفح عنهم، ولذا قال: "ولكن يعفو"، فلا يسيء لمن أساء عليه، "ويصفح" يعرض عنه إغضاء وتكرمًا، فلا يقول: لم فعلت كذا يا فلان، بل يقول: "ما بال أقوام يفعلون كذا"، "ويغفر" يستر ويدفع بالتي هي أحسن وذكر الغفر بعد العفو تأكيد إن كانا بمعنى أو يعفو تارة ويستر أخرى، واستدرك، لأنه لا يلزم من عدم جزائها بمثلها الغفر، لجواز أن يكله إلى الله ويؤخره للآخرة، "رحيمًا بالمؤمنين" كما في الكتاب المبين: "يبكي للبهيمة المثقلة" لشدة شفقته على خلق الله، "ويبكي لليتيم في حجر الأرملة" ويقوم به، "ليس بفظ" سيئ الخلق جاف، "ولا غليظ" قاسي القلب، وهو موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية، ولا يعارضه قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية، لأن النفي محمول على طبعه الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفي بالنسبة للمؤمنين، والأمر بالنسبة للكفار والمنافقين، كما هو مصرح به في نفس الآية، "ولا صخاب" بصاد وسين روايتان، وهما لغتان، والصاد أشهر وأفصح، والسين لغة أثبتها الفراء وغيره، وضعفها الخليل وخاء معجمة ثقيلة، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه، ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الموصوفين بصفة مذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدح وذم لما يتبايعونه وأيمان خانثة، ولذا ورد أنها شر البقاع لما يغلب على أهلها من الأحوال المذمومة "ولا متزين" روي بزاي منقوطة وتحتية ونون، وروي بدال مهملة من الدين، وروي متزي، بزاي بلا نون من الزي، وهو اللباس والهيئة، أي: لا يتلبس "بالفحش" أو يتحمل أو يباهي وهو القبح، والقول السيئ، ولا يرد إبهام ظاهره؛ أنه قد يأتي به غيره متزين به؛ لأنه لا مفهوم له، لجريه على عادة أرباب الفحش في المباهاة به. وقيل: التزين بمعنى الاتصاف على التجريد، أو المراد؛ أنه لا يرى الفحش زينة وهذا من علاماته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نشأ بين قوم يتزينون بالفواحش، كالقتل والطواف عراة، فأتى بخلافهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 ولا قوال للخنا، ولو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب الرعراع لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرًا ونذيرًا إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وتوحيدًا لي وإيمانًا بي، وإخلاصًا لي، وتصديقًا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس والقمر، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لي، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد،   "ولا قوال" صيغة مبالغة، أي: كثير القول "للخنا" بخاء معجمة، ونون، مقصور قبيح الكلام، وهذا مع ما قبله يفيد أنه لا يصدر عنه شيء منه لا قليل ولا كثير؛ لأن الفحش بمعناه أو فعال هنا للنسبة كتما ونبال، أي: ليس بذي قول للخنا، "ولو يمر إلى جنب السراج" المصباح، والجمع سرج، ككتاب وكتب، "لم يطفئه" بفتح أوله "من سكينته" بفتح السين، وكسر الكاف مخففة. وحكى عياض في المشارق كسر السين، وشد القاف، وبها قرئ شاذًا فعلية من السكون، أي: وقاره وطمأنينته، "ولو يمشي على القصب" كل نبات يكون ساقه أنابيب وكعوبًا، قاله في مختصر العين الواحدة قصبة "الرعراع" أي: الطويل؛ كما في القاموس: "لم يسمع من تحت قدميه" لأن مشيه بتؤدة، وهو نبي، "أبعثه مبشرًا" من صدقه بالجنة، "ونذيرًا" منذرًا من كذبه بالنار، وهذا كله من صفاته عليه الصلاة والسلام "إلى أن قال: وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر" تمييز، أي: من جهة الأمر والنهي، أو حال بمعنى أمرين وناهين، "وتوحيدًا لي وإيمانًا بي" كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية، "وإخلاصًا لي وتصديقًا لما جاءت به رسلي" والمنصوبات تمييزًا وأحوال، كما علم، "وهم رعاة الشمس والقمر" للعبادة والذكر، قال صلى الله عليه وسلم: "إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله تعالى". رواه الحاكم والطبراني، أي: يرصدون دخول الأوقات بها لأجل ذكر الله من الأذان للصلاة، ثم إقامتها، ولإيقاع الأوراد في أوقاتها المحبوبة. وأخرج الطبراني والخطيب مرفوعًا: لو أقسمت لبررت أن أحب عباد الله إلى الله لرعاة الشمس والقمر، وإنهم ليعرفون يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله" وقال في عدهم: "ورجل يراعي الشمس لمواقيت الصلاة". "طوبى" فرح وقرة عين، وشجرة في الجنة "لتلك القلوب" بإخلاصها في الإيمان والعبادة، "والوجوه والأرواح التي أخلصت لي" صفة، قامت مقام التعليل، "ألهمهم التسبيح والتكبير، والتحميد، والتوحيد" وثواب ذلك لا يعلمه إلا الله، وفي الحديث: "أفضل الذكر: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، ويصفون في مساجدهم كصفوف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان، يصلون لي قيامًا وقعودًا وركعًا وسجودًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألوفًا، ويقاتلون صفوفًا، أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان، فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم، ويدخل في دينهم.   لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله". رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، وقال صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت". رواه مسلم والنسائي. وروى البزار بإسناد حسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يستطيع أحدكم أن يعمل كل يوم مثل أحد عملا"؟ قالوا: ومن يستطيعه؟ قال: "كلكم يستطيع ذلك" قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "سبحان الله أعظم من أحد، والحمد لله أعظم من أحد، ولا إله إلا الله أعظم من أحد، والله أكبر أعظم م أحد"، وأحاديث الباب كثيرة. "في مساجدهم" جمع مسجد في الصلاة ودونها، "ومجالسهم، ومضاجعهم، ومتقلبهم" منصرفهم لأشغالهم بالنهار، "ومثواهم" مأواهم إلى مضاجعهم بالليل، والمراد، أنه يلهمهم ذلك على أي حال كانوا، "ويصفون في مساجدهم" مصلاهم "كصفوف الملائكة حول عرشي" قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تصافون، كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف"، رواه مسلم وغيره. "هم أوليائي" فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، "وأنصاري" كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} الآية، والمراد: أنصار دينه ورسوله، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} الآية، "أنتقم بهم من أعدائي عبدة الأوثان" إكرامًا لهم وابتلاء؛ كما قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا} الآية، الآيتين، "يصلون لي قيامًا وقعودًا" للعذر في الفرض وبدونه في النفل، والمراد: يصلون على أي حال كانوا، "وركعًا وسجدًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي، ألوفًا" لأجل الجهاد، "ويقاتلون في سبيلي" جهاد الكفار "صفوفًا" بعضهم بجنب بعض من شدة حبهم للقتال، وفي القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} الآية، أي: ملزق بعضه إلى بعض ثابت، "أختم بكتابهم الكتب، وبشريعتهم الشرائع، وبدينهم الأديان" فلا كتاب ولا شرع ينسخ كتابهم ودينهم، "فمن أدركهم فلم يؤمن بكتابهم ويدخل في دينهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 وشريعتهم فليس مني، وهو مني برئ، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطًا شهداء على الناس، إذا غضبوا هللوني، وإذا تنازعوا سبحوني، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب إلى الأنصاف، ويهللون على التلول والأشراف، قربانهم دماؤهم، وأنا جيلهم في صدورهم، رهبانًا بالليل ليوثًا بالنهار، طوبى لمن كان معهم، وعلى دينهم ومنهاجهم وشريعتهم، وذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. رواه أبو نعيم. وقد ذكر الإمام فخر الدين: أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقل، قال السبكي: إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم.   وشريعتهم فليس مني" لكفره، "وهو مني بريء، وأجعلهم أفضل الأمم، وأجعلهم أمة وسطًا" خيارًا عدولا، "شهداء على الناس" يوم القيامة، إن رسلهم بلغتهم، "إذا غضبوا هللوني" قالوا: لا إله إلا الله، ولا يعملون بمقتضى الغضب، "وإذا تنازعوا" في شيء بينهم "سبحوني" فهم يذكرونه في جميع أحوالهم، "يطهرون الوجوه والأطراف" الأيدي والأرجل في الوضوء، "ويشدون الثياب إلى الأنصاف" من سوقهم، اقتداء بنبيهم، ولا يرخونها إلى أسفل من ذلك تيها وتكبرًا، "ويهللون على التلول" جمع تل الأمكنة العالية، "والأشراف" جمع شرف، بفتحتين المكان العالي، فالعطف مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ ومراعاة الفاصلتين، "قربانهم دماؤهم" أي: أضاحيهم وهداياهم، أو المراد أنهم متهيئون للجهاد في سبيل الله، فكأنهم يتقربون إلى الله بدماء أنفسهم، أو بدماء من قتلوه من الكفار؛ كما قال كعب بن زهير في مدح الأنصار: يتقربون يرونه نسكا لهم ... بدماء من علقوا من الكفار وفي الأنموذج قربانهم ودماؤهم، وروى ابن عدي مرفوعًا: "إن الصلاة قربان المؤمن"، وفي حديث: "الصلاة قربان كل تقي"، أي: الصلاة من المتقي بمنزلة الهدايا والضحايا لفاقدهما. "وأناجيلهم" مصاحفهم محفوظة "في صدورهم، رهبانًا" عبادًا "بالليل ليوثًا" أسدًا على الأعداء، "بالنهار طوبى" فرح وقرة عين وشجرة في الجنة، "لمن كان معهم وعلى دينهم ومنهاجهم" طريقتهم، "وشريعتهم، وذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل" الإحسان "العظيم" فلا حجر في تخصيصهم بهذه الفضائل دون غيرهم، "رواه أبو نعيم" الأصبهاني. "وقد ذكر الإمام فخر الدين" الرازي: "أن من كانت معجزاته أظهر، يكون ثواب أمته أقل"، لأن قوة ظهورها يلجئ إلى الإيمان. قال السبكي: "إلا هذه الأمة، فإن معجزات نبيها أظهر، وثوابها أكثر من سائر الأمم". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم، ولم تحل لأحد قبلها   فضلا من الله ونعمة. "ومن خصائص هذه الأمة إحلال الغنائم" وابتداء ذلك في غزوة بدر، وفيها نزل: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} الآية، كما في الصحيح من حديث ابن عباس، وعند ابن إسحاق: أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي كان عليها عبد الله بن جحش، وهو قبل بدر بشهرين. قال الحافظ: ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر، فقسمها مع غنائم أهل بدر، "ولم تحل لأحد" من الأمم، وفي نسخة لأمة "قبلها" والمراد بها ما أخذ من الكفار بقهر وغيره، فنعم الفيء؛ إذ كل منهما انفرد عن الآخر. روى النسائي، عن أبي هريرة رفعه: "إن الله أطعمنا الغنائم، رحمة رحمنا بها، تخفيفًا خففه عنا، لما رأى من ضعفنا وعجزنا، فأحلها لنا". وفي حديث جابر في الصحيحين: "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي". قال الخطابي: كان من تقدم على ضربين منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم يكن لهم مغانم، ومنهم من أذن له فيه، لكن كانوا إذا اغتنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه، وجاءت نار فأحرقته. وقيل: المراد أنه خاص بالتصرف في الغنيمة، يصرفها حيث شاء، والأقل الأول أصوب، وهو أن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا، ذكره الحافظ، ويرجع ما صوبه قوله: "ولم تحل لأحد قبلي"؛ لأنه التقييد بالقبلية بطريق المفهوم؛ أنها حلت له ولأمته. وروى الترمذي بسند صحيح، عن أبي هريرة رفعه: "لم تحل الغنائم لأحد، سود الرءوس من قبلكم، كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها". قال في الفتح: كان من مضى يغزون ويأخذون أموال أعدائهم وإسلابهم، لكن لا يتصرفون فيها، بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم أن تنزل نار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم قبوله أن لا ينزل، ومن أسباب عدم القبول الغلول، وقد من الله على هذه الأمة بشرف نبيها عنده، فأحل لهم الغنيمة، وستر عليهم الغلول، وستر عليهم فضيحته، ودخل في عموم أكل النار الغنيمة السبي وفيه بعد، لأن مقتضاه إهلاك الذرية ومن لم يقاتل من النساء، ويمكن أن يستثنوا من ذلك، ويلزم منه استثناؤهم من تحريم الغنائم عليها، ويؤيده أنه كانت لهم عبيدًا وإماء، فلو لم يجز لهم السبي لما كان لهم أرقاء، ولم أر من صرح بذلك انتهى، ونظر فيه شيخنا بأنه كان في شرع يعقوب إذا سرق إنسان شيئًا، ووجد عنده جعل السارق رقيقًا للمسروق منه، وجزم بعضهم باستثناء الذرية من أكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 وجعلت لهم الأرض مسجدًا ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيع والكنائس، وجعلت تربتها لهم طهورًا وهو التيمم. وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا وطهورًا". وفي رواية مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء".   النار، يفهم منه أنها كانت تحل لغير هذه الأمة. وفي شرح المشارق للشيخ أكمل الدين أنهم كانوا إذا أغنموا حيوانات تكون ملكًا للغانمين دون أنبيائهم، وإذا أغنموا غير الحيوانات، جمعوها، فتجيء نار فتحرقها. "وجعلت لهم الأرض مسجدًا" أي: موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أنه مجاز عن المكان المبني للصلاة من مجاز التشبيه؛ لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك. "ولم تكن الأمم تصلي إلا في البيع" كنائس النصارى، وقيل: اليهود، فقوله "والكنائس" عطف تفسير على الأول: جمع كنيسة، متعبد النصارى، وقيل: اليهود، وعبارة المصنف فيما مر عن الفتح إلا في نحو البيع والصوامع، أي: متعبد الرهبان، فإن تعذر مجيئهم لها لنحو سفر، لم يصلوا على ظاهره، فيسقط عنهم أداؤها، ويقضون إذا رجعوا؛ كما جزم به بعض شراح الرسالة في فقه المالكية. ويؤيده ظاهر قوله في حديث ابن عباس: "ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه"، فما قيل: هل تسقط عنهم مطلقًا أو محل الحضر في نحو البيع في الحضر. أما في السفر، فتباح في غيرها، ويكون محل خصوصيتنا الصلاة بأي محل، ولو بجوار المسجد، وسهولة الصلاة فيه تقصير، ويمنع الثاني أن القيد لا بد له من دليل، مع أن ظاهر قوله حتى يبلغ محرابه يمنعه، وتقدم هذا مرتين: "وجعلت تربتها لهم طهورًا" بفتح الطاء على المشهور، أي مطهرًا لغيره، لا طاهرًا، وإلا لزم تحصيل الحاصل، ولم تثبت الخصوصية، "وهو التيمم" لفقد الماء حسدًا، أو حكمًا بعدم القدرة على استعماله. وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي، ولأمتي مسجدًا وطهورًا" فصرح بمشاركة أمته له فيهما. وفي رواية مسلم من حديث حذيفة: "وجعلت لنا الأرض كلها لي ولأمتي مسجدًا، وجعلت تربتها طهورًا، إذا لم نجد الماء". أو لم نقدر على استعماله، وبه احتج للشافعي وأحمد على تخصيص التيمم بالتراب، وأجيب بأن تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره، وقد قال تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 ومن خصائص هذه الأمة أيضًا الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم، ذكره الحليمي، واستدل بحديث البخاري: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء".   {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، والصعيد: ما صعد على الأرض ترابًا أو غيره، وفي حديث جابر في الصحيحين: "وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" وبهذا احتج لمالك وأبي حنيفة على جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض. وأما قوله في رواية ابن خزيمة وغيره: "وجعل ترابها طهورًا"، وقوله في حديث علي: "وجعل التراب لي طهورًا"، رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن، فالنص على التراب في هاتين الروايتين لبيان أفضليته، لا لأنه لا يجزئ غيره، وليس مخصصًا لعموم قوله: وطهورًا، لأن شرط المخصص أن يكون منافيًا للعام، ولذا قال القرطبي هو من باب النص على بعض أشخاص العموم، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} الآية، "ومن خصائص هذه الأمة أيضًا الوضوء، فإنه لم يكن إلا للأنبياء دون أممهم" بخلاف هذه الأمة، فهو لها كنبيها، "ذكره الحليمي" قال السيوطي: وهو الأصح، ونوزع بما يأتي بيانه، "واستدل بحديث البخاري" ومسلم، عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: "إن أمتي" أمة الإجابة لا الدعوة، "يدعون" بضم أوله، أي: ينادون أو يمون، ولفظ مسلم: يأتون "يوم القيامة" أي: موقف الحساب، أو الميزان، أو الصراط، أو الحوض، أو غير ذلك "غرًا" بالضم والتشديد، جمع أغر، أي: ذي غرة، بضم الغين، بياض في جبهة الفرس فوق درهم، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، شبه به ما يكون لهم من النور في الآخرة، ونصب مفعول يدعون، أو حالا، أي: إذ دعوا يوم التناد على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذا النعت. قال الطيبي: ولا يبعد التسمية باعتبار الوصف الظاهر؛ كما يسمى رجل به حمرة الأحمر، للمناسبة بين الاسم والمسمى، "محجلين" من التحجيل، وهو بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها، أو في غيره قل أو أكثر بعدما تجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين. "من آثار الوضوء" بضم الواو، وجوز ابن دقيق العيد فتحها على أنه الماء، وظاهر هذا، كقوله في رواية لمسلم: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة، من إسباغ الوضوء" أن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ في الدنيا، ففيه رد لما نقله الزناتي الفاسي في شرح الرسالة عن العلمي: إن الغرة والتحجيل لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لا؛ كما يقال لهم أهل القبلة من صلى ومن لا. انتهى. وفي القياس على الإيمان نظر؛ لأنه التصديق والشهادة، وإن ترك الواجب وفعل الحرام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 لكن قال في فتح الباري: فيه نظر: لأنه ثبت في البخاري في قصة سارة -عليها السلام- مع الملك الذي أعطاها هاجر: لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي.   بخلاف الغرة والتحجيل، فمجرد فضيلة وتشريف للمتوضئ، فلا يكونان لسواه، ومن ثم قال شيخ الإسلام زكريا في شرح البخاري، لا تحصل الغرة والتحجيل إلا لمن توضأ بالفعل، أما من لم يتوضأ، فلا يحصلان له. قال شيخنا في حواشي الرملي: ومن نقل عنه خلاف ذلك فقد أخطأ إنما هو قول للزناتي لا لشيخ الإسلام، وينبغي على قوله أن ذلك خاص بمن توضأ حال حياته، فلا يدخل من وضأه الغاسل، وبقي أيضًا ما لو تيمم ولم يتوضأ، هل يحصل له ذلك أم لا؟ وفيه نظر، وينبغي أن يحصل لقيامه مقام الوضوء، انتهى. "لكن قال في فتح الباري: فيه" أي: استدلاله بهذا الحديث "نظر" لأن الذي دل على أنه خصوصية إنما هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء، "لأنه ثبت في البخاري في قصة سارة" بخفة الراء، وقيل بتشديدها، واختلف في اسم أبيها، فقيل: هاران ملك حران، تزوجها إبراهيم لما هاجر من بلاد قومه إلى حران، وإن هذا هو السبب في إعطاء الملك لها هاجر، وأنه قال لإبراهيم: رأيتها تطحن، وهي لا تصلح أن تخدم نفسها، وقيل هي بنت أخيه، وكان ذلك جائزًا في شرعه، حكاه ابن قتيبة والنقاش واستبعد، وقيل: بنت عمه، وتوافق الاسمان، وقيل: اسم أبيها نويل "عليها السلام" وهي إحدى النسوة اللاتي قيل بنبوتهن "مع الملك الذي أعطاها هاجر" بالهاء، رواه البخاري في أحاديث الأنبياء، وبهمزة بدلها، رواه في البيوع، وكذا مسلم، وفتح الجيم عليهما اسم سرياني، يقال: إن أباها كان من ملوك القبط، من حفن، بفتح المهملة، وسكون الفاء قرية بمصر كانت مدينة، وهي الآن كفر من عمل أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد، وفيها آثار عظيمة باقية، "لما هم الملك" عمرو بن امرئ القيس بن سبأ، وكان على مصر، ذكره السهيلي، وهو قول ابن هشام في التيجان. وقيل: اسمه صادف، وكان على الأردن، حكاه ابن قتيبة، وقيل سنان بن علوان بن عبيد بن جريج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، حكاه الطبري، ويقال: إنه الضحاك الذي ملك الأقاليم: "بالدنو منها، قامت تتوضأ وتصلي"، ففيه أن الوضوء كان مشروعًا للأمم قبلنا، وليس مختصًا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء لثبوت ذلك عن سارة، والجمهور أنها ليست نبية. أخرج البخاري من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 .........................................   بامرأة، وهي من أحسن النساء، فأرسل إليه أن يا إبراهيم من أين هذه التي معك؟ فقال: أختي، ثم رجع إليها، فقال: لا تكذبي حديثي فإني أخبرتهم أنك أختي، والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأرسل بها إليه، فقام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر، فغط حتى ركض برجله". قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل، ثم قام إليها، فقامت تتوضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله، قال الأعرج: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: قالت: اللهم إن يمت يقال هي قتلته، فأرسل في الثانية أو في الثالثة، فقال: ما أرسلتم إلي إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها أجر، فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة، أخرجه أيضًا مسلم وأحمد وغيرهما من طرق في ألفاظها اختلاف، ليس هذا موضع بيانه. قال في فتح الباري: قوله: فأرسل إليه ظاهر في أنه سأله عنها أولا، ثم أعلمها بذلك لئلا تكذبه عنده، وفي رواية هشام بن حسان عن ابن سرين عن أبي هريرة عند البزار والنسائي وابن حبان، أنه قال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، وإنك أختي في الإسلام، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، فأتاه، فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فيجمع بينهما بأن إبراهيم أحس بأنه سيطلبها منه، فأوصاها، فلما وقع ما خشيه، أعاد عليها الوصية، واختلف في السبب الحامل له على الوصية، مع أن مراده غصبها أختًا كانت أو زوجة، فقيل: كان من شأنه أن لا يتعرض إلا لذات الزوج، فأراد إبراهيم دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما؛ لأن اغتصابه واقع لا محالة، لكن إن علم لها زوجًا حملته على قتله، أو حبسه وإضراره، بخلاف الأخ، فالغيرة حينئذ من قبله خاصة، لا من قبل الجبار، فلا يبالي به، وهذا تقرير جاء صريحًا عن وهب بن منبه، رواه عبد بن حميد عنه. وذكر ابن الجوزي في مشكل الصحيحين، وتبعه المنذري في حواشي السنن عن بعض أهل الكتاب، أن الجبار كان من رأيه أن لا يقرب ذات زوج حتى يقتله، فلذا قال إبراهيم: هي أختي؛ لأنه إن كان عادلا خطبها منه ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالمًا خلص من القتل، وليس هذا يبعد من الأول. وقيل: كان من دين الجبار أن الأخ أحق بأن أخته زوجته، فقال: هي أختي اعتمادًا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 وفي قصة جريج الراهب: أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام.   ما يعتقده الجبار، فلا ينازعه فيها، وتعقب بأنه لو كان كذلك لقال: هي أختي وأنا زوجها، فلم اقتصر على قوله هي أختي، وأيضًا فهذا الجواب إنما يفيد لو كان الجبار يريد أن يتزوجها لا أن يغصبها نفسها، وقيل: أراد إبراهيم أنه إن علم أنك امرئتي ألزمني بالطلاق، ولا يشكل قوله: ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك بلوط، وقد قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} الآية، لأن مراده بالأرض التي وقع له فيها ذلك، ولم يكن لوط معه فيها، وقوله: فغط بضم المعجمة. وحكى ابن التين: فتحها والصواب الضم حتى ركض برجله، يعني أنه اختنق كأنه مصروع، وفي رواية مسلم: فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبضت قبضة شديدة، ويمكن الجمع بأنه عوقب تارة بقبض يده، وتارة بصرعه، ويجاب عن قولها إن كنت تعلم أنها قاطعة بأنه تعالى يعلم ذلك، بأنها قالته على سبيل الفرض هضمًا لنفسها، وفيه إجابة الدعاء بإخلاص النية، وكفاية الرب، لمن أخلص بعمله الصالح، ونظيره قصة أصحاب الغار، وابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم، ويقال: إن الله كشف لإبراهيم حتى رأى حال الملك مع سارة معاينة، وأنه لم يصل منها إلى شيء ذكره في التيجان، ولفظه: فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه ثم نحى إبراهيم إلى خارج القصر، وقام إلى سارة، فجعل الله القصر لإبراهيم، كالقارورة الصافية، فصار يراهما ويسمع كلامهما، انتهى. "وفي قصة جريج" بجيمين مصغر "الراهب" روى أحمد عن أم سلمة: كان رجل يقال له جريج من بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبى صومعة، وترهب فيها، الحديث. قال الحافظ: دل أنه كان بعد عيسى ومن أتباعه، لأنهم الذين ابتدعوا الترهب، وحبس النفس في الصوامع "أنه قام، فتوضأ وصلى" ركعتين، كما في حديث عمران، "ثم كلم الغلام"، نفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة خلافًا لزاعمه، روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج يصلي، جاءته أمه، فدعته، فقال: أجيبها، أو أصلي؟ فقالت اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة، فكلمته، فأبى، فأتت راعيًا، فأمكنته من نفسها فولدت غلامًا، فقالت: من جريج، فأتوه، فكسروا صومعته، فأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى، ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا إلا من طين" ... الحديث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، لا أصل الوضوء.   قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على اسم أم جريج، ولا على اسم الزانية، لكن في حديث عمر أنها كانت بنت ملك القرية، ولأحمد: فذكر بنو إسرائيل عبادة جريج، فقالت: بغي منهم إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا فأتته، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ كان يؤوي غنيمة إلى أصل صومعته، وله من وجه آخر، وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم، وفي أخرى: كان عند صومعته راعي ضأن، وراع معز، ويمكن الجمع بين هذه الروايات، بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجًا، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية، ليمكنها أن تأوي إلى ظل صومعته لتتوصل بذلك إلى فتنته، وفي رواية: أنه طعن الغلام بأصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ قال: أنا ابن الراعي. وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك؛ أنه سألهم أن ينظروه، فأنظروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول: أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم. وفي رواية: ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: راعي الضأن، ولأحمد: فوضع أصبعه على بطنها، وفي رواية: فأتى بالمرأة والصبي وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي، وقال: أبي راعي الضأن، وفي أخرى: فلما أدخل على ملكه، قال جريج: أين الصبي الذي ولدته؟ فأتى فقال له: من أبوك؟ فسمى أباه، ولم أقف على اسم الراعي، ويقال: اسمه صهيب. وأما الابن، فللبخاري في أواخر الصلاة بلفظ، فقال: يا ناموس، وليس اسمه كما زعم الداودي، إنما المراد به الصغير. وفي حديث عمران: ثم انتهى إلى شجرة، فأخذ منها غصنًا، ثم الغلام، وهو في مهده فضربه بذلك الغصن، فقال: من أبوك؟ ولأبي الليث السمرقندي بلا إسناد، قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فقال: يا شجرة أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال: كل غصن منها راعي الغنم، ويجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذكر، بأنه مسح رأس الصبي، ووضع أصبعه على بطن أمه، وطعنه بأصبعه وضربه بطرف العصا التي كانت معه، وأبعد من جمع بينها بتعدد القصة؛ وأنه استنطقه، وهو في بطن أمه مرة قبل أن تلد ثم بعد أن ولد، زاد في رواية: فوثبوا إلى جريج فجعلوا يقبلونه، وفي أخرى: فأبرأ الله جريجًا، وأعظم الناس أمره، انتهى ملخصًا، وحيث ثبت وضوء سارة وجريج وليسا نبيين. "فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل" زاد بعضهم أو التثليث أو الكيفية، أو مزيد الحث عليه، والمبالغة في التأكيد "لا أصل الوضوء" وقول ابن بطال: يحتمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 وقد صرح بذلك في رواية لسملم عن أبي هريرة مرفوعًا، قال: "لكم سيما ليست لغيركم". أي: علامة. ومنها مجموع الصلوات الخمس، ولم تجمع لأحد غيرهم، أخرج الطحاوي عن عبيد الله بن محمد.   أن يكون جريج نبيًا، فيكون معجزة لا كرامة، إنما هو احتمال لا تثبت به نبوته، "وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة مرفوعًا" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن حوضي أبعد من أيلة من عدن، لهو أشد بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثر من عدد النجوم، وإني لأصد الناس عنه، كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه"، قالوا: يا رسول الله أتعرفنا يومئذ؟ قال: "نعم لكم سيما" بكسر، فسكون "ليست لغيركم" لفظ مسلم: "ليست لأحد من الأمم، تردون الحوض علي غرًا محجلين من أثر الوضوء". هذا لفظ مسلم تامًا في الوضوء، وأخرج نحوه من حديث حذيفة، وقوله: سيما، "أي: علامة" كقوله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الآية، وهي نور وبياض يعرفون به في الآخرة أنهم سجدوا في الدنيا، وقد قال صاحب المطامح: تعلق بحديث أنتم الغر المحجلون إلى آخره الداودي، وغيره من ضعفاء النظر على أن الوضوء من خصائصنا، وهو غير قاطع؛ لاحتمال أن الخاص بنا الغرة والتحجيل بقرينة خبر هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي، وقصره على الأنبياء دون أممهم برده أن الوضوء إذا كان معروفًا عند الأنبياء، فالأصل أنه شرع ثابت لأممهم حتى يثبت خلافه، انتهى. وتعقب بأن حديث: هذا وضوئي، ضعيف لا حجة فيه، مع احتمال أن الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة على أنه صرح فيه بأن الوضوء للأمم المتقدمة. روى الطبراني عن بريدة: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء، فتوضأ واحدة واحدة، قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة به إلا مرتين"، وقال: "هذا وضوء الأمم قبلكم"، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". "ومنها مجموع الصلوات الخمس" على هذه الكيفية، "ولم تجمع لأحد غيرهم" من الأنبياء والأمم، والحجة لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله وصلوا خمسكم"، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وابن حبان والحاكم، فإضافتها إليهم تعطي ذلك، ولا يعارضه قول جبريل في حديث المواقيت حين صلى الخمس بالنبي صلى الله عليه وسلم، هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك، لأن المراد، كما قال الرافعي أنه وقتهم إجمالا، وإن اختص كل منهم بوقت فقد. "أخرج الطحاوي عن عبيد الله" بضم العين "ابن محمد" بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر التيمي, الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 ابن عائشة قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين فصارت الصبح، وفدى إسحاق عند الظهر، فصلى أربع ركعات، فصارت الظهر، وبعث عزير عند العصر، فقيل له: كم لبثت قال: يومًا، فرأى الشمس فقال: أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر، وغفر لداود عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات فجهد فجلس في الثالثة فصارت المغرب ثلاثًا. وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم.   ثقة، رمي بالقدر ولا يثبت، مات سنة ثمان وعشرين ومائتين، روى له أبو داود والترمذي والنسائي، ويقال له "ابن عائشة"، والعائشي، والعيشي، نسبة إلى عائشة بنت طلحة، لأنه من ذريتها، "قال: إن آدم لما تيب عليه عند الفجر صلى ركعتين، فصارت الصبح" فكان يصليها إلى أن مات، "وفدى إسحاق عند الظهر" من الذبح، ففيه حجة لقول الجمهور أنه الذبيح؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "الذبيح إسحاق". رواه الدارقطني وغيره بإسناد جيد، ومر بسطه، وتسمح من قال بناء على أنه الذبيح، والصحيح أنه إسماعيل؛ لأن هذا إخبار عن بلاغ، فلا يبنى على خلاف العلماء، "فصلى" إبراهيم "أربع ركعات" سقط إبراهيم من قلم المصنف أو نساخه مع أنه في رواية الطحاوي: فأوهم سقوطه أن المصلي إسحاق وليس كذلك، "فصارت الظهر؛ وبعث عزير" بالصرف ابن سروحا لما مر على قرية هي بيت المقدس، أو غيرها راكبًا على حمار ومعه سلة تين وقدح عصير بعد ما خرب القرية بختنصر، قال: استعظامًا لقدرة الله تعالى أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام، ثم بعثه: أحياه ليريه كيفية ذلك "عند العصر، فقيل له: كم لبثت؟ " مكثت هنا، "قال: لبثت يومًا، فرأى الشمس، فقال: أو بعض يوم" لأنه نام أول النهار، فقبض وأحيي أثناء نهار غيره فظن أنه يوم النوم، "فصلى أربع ركعات" وقد اختلف أهل التفسير في المراد بقوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} الآية، فالمشهور أنه عزير، وأخرجه الحاكم وغيره عن علي، والخطيب عن عبد الله بن سلام وعن ابن عباس، وقيل: كان نبيًا اسمه أرميا، وقيل الخضر، وقيل: حزقيل، وقيل: هو كافر بالبعث، وقيل غير ذلك؛ إلا أن ما أفاده بقوله: "فصارت العصر" أنها كانت له مخالف لما في شرح المسند للرافعي أن العصر لسليمان "وغفر لداود" بن إيشاء، بكسر الهمزة، وسكون التحتية، ومعجمة ابن عوبد، بمهملة، وموحدة، بزنة جعفر, ابن باعر، بموحدة، ومهملة مفتوحة، ابن سلمون بن يارب، بتحتية، آخر ابن رام بن حضرون، بمهملة، ثم ابن فارض بفاء، وآخره مهملة، ابن يهود بن يعقوب، "عند المغرب، فقام يصلي أربع ركعات، فجهد" تعب، "فجلس في الثالثة، فصارت المغرب ثلاثًا"، وفيه مخالفة لنقل الرافعي أن المغرب ليعقوب، "وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم" فهي من خصائصنا، وعورض بما في شرح المسند أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 وأخرج أبو داود في سننه، وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في سننه عن معاذ بن جبل قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة ليلة حتى ظن الظان أنه قد صلى, ثم خرج فقال: "أعتموا بهذه الصلاة فإنكم فضلتم بها على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم".   العشاء ليونس؛ لكن يؤيد خبر الطحاوي حديث معاذ، وهو المذكور بقوله: "وأخرج أبو داود في سننه" في الصلاة، "وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في سننه" بإسناد حسن، "عن معاذ بن جبل، قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة" أي: العشاء الآخرة "ليلة، حتى ظن الظان أنه قد صلى" لفظ الرواية: حتى ظن الظان أنه ليس بخارج، والقائل منا يقول قد صلى، "ثم خرج" فقالوا له كما قالوا: كما في الحديث، أي: القول الذي قالوا قبل خروجه، فقال: "أعتموا" بفتح الهمزة، وكسر الفوقية "بهذه الصلاة" صلاة العشاء. والباء للتعدية، أي: أدخلوها في العتمة، وهي ما بعد غيبوبة الشفق، أو للمصاحبة، أي: ادخلوا في العتمة متلبسين بها، قال البيضاوي: أعتم الرجل: دخل العتمة، وهي ظلمة الليل، أي: صلوها بعدما دخلتم في الظلمة، وتحققتم سقوط الشفق، ولا تستعجلوا فيها، فتوقعوها قبل وقتها، وعليه فلا يدل على أفضلية التأخير، ويحتمل أنه من العتم الذي هو الإبطاء، يقال: أعتم الرجل إذا أخر. انتهى. "فإنكم فضلتم" بالبناء للمفعول "بها على سائر الأمم، ولم تصها أمة قبلكم". وأورد الحافظ الولي العراقي ما المناسبة بين تأخيرها واختصاصها بنا دون سائر الأمم، حتى يجعل الثاني علة للأول، وأجاب بأن المراد إذا أخروها منتظرين خروج النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في صلاة، وكتب لهم ثواب المصلي، فقوله: فضلتم بها يعارض رواية أن العشاء ليونس، ورواية ابن سعد: أن إبراهيم وإسماعيل أتيا منى، فصليا بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء, والصبح، وهو ظاهر قول جبريل: هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك، وجمع الهروي وغيره بأن المصطفى أول من صلاها مؤخرًا لها إلى ثلث الليل أو نحوه، أما الرسل فكانوا يصلونها عند أول مغيب الشفق، ويدل لذلك، بل يصرح به قوله في أثر الطحاوي نفسه العشاء إلا آخره، وجمع البيضاوي في شرح المصابيح؛ بأن العشاء كانت تصليها الرسل ناقلة لهم، ولم تكتب على أممهم كالتهجد، وجب على نبينا دوننا. انتهى. واحتج بحديث معاذ من قال: الأفضل تأخير العشاء، وإليه ذهب جمع شافعية ومالكية، والمعتمد في المذهبين تفضيل التقديم، وورد ما يدل على نسخ التأخير. روى أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي بكرة، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم العشاء تسع ليال إلى ثلث الليل، فقال له أبو بكر: يا رسول الله لو أنك عجلت لكان أمثل لقيامنا من الليل، فعجل بعد ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 ومنها الأذان والإقامة. ومنها البسملة، قال بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين الحلبي النحوي في تفسيره، قال: ولم ينزلها الله على أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود، فهي مما اختصت به هذه الأمة، انتهى. ومنها التأمين، روى الإمام أحمد من حديث عائشة: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث.   "ومنها الأذان والإقامة" للصلاة بدليل تحيرهم فيما يجتمعون به للصلاة، حتى رأى عبد الله بن زويد الرؤيا المشهورة كما تقدم، ولا يعارضه ما روى عند الحاكم وابن عساكر، أن آدم لما نزل بالهند استوحش، فنزل جبريل فنادى بالأذان، لأن مشروعيته للصلاة هي الخصوصية، "ومنها البسملة" أي قول: بسم الله الرحمن الرحيم، بهذه الألفاظ العربية على هذا الترتيب، وما روي أن آدم لما أراد الخروج من الجنة قالها، فقال له جبريل: لقد تكلمت بكلمة عظيمة، قف ساعة، لعل أن يظهر من الغيب لطف لا يرد، لأنها لم تنزل عليه، وإنما ألهمها، ومحل الخصوصية نزولها على نبينا، وصارت لأمته، كما "قال بعضهم فيما نقله الشيخ شهاب الدين" أحمد بن يوسف بن عبد الدائم، "الحلبي النحوي" نزيل القاهرة، الشهير باسمين. قال الحافظ ابن حجر: تعالى النحو فمهر فيه، ولازم أبا حيان، إلى أن فاق أقرانه، وأخذ القراءات عن التقي الصائغ، ومهر فيها، وولى تدريس القرآن بجامع ابن طولون، والإعادة بالشافعي، وناب في الحكم، وله تفسير القرآن، وإعراب القرآن، وشرح التسهيل، وشرح الشاطبية، مات في جمادى الآخرة، سنة ست وخمسين وسبعمائة "في تفسيره" وهو كبير في عدة أجزاء غير إعراب القرآن له، كما علم، "ولم ينزلها الله على" نبي "أحد من الأمم قبلنا إلا على سليمان بن داود" وما شرع لنبي شرع لأمته، فالمراد بقوله: "فهي مما اختصت به هذه الأمة" أي: نزر لها قرآنًا يتلى. وأما بالنسبة لسليمان فلعله التبرك بها كذا قال: شيخنا، وأحسن منه قول بعض المحققين: الأصح أنها بهذه الألفاظ العربية على هذا الترتيب من خصائص المصطفى وأمته، وما في سورة النمل جاء على جهة الترجمة عما في الكتاب، لأنه لم يكن عربيًا، "انتهى". نقله الشهاب الحلبي، وقد روى الطبراني بريدة، رفعه: "أنزل علي آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم". "ومنها التأمين" عقب الفاتحة، للمأموم على ما يفهمه قول خلف الإمام، "وروى الإمام أحمد من حديث عائشة: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ استأذن رجل من اليهود، فذكر الحديث" وهو فأذن له، فقال: السام عليك، فقال النبي: "وعليك"، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم لم يحسدونا على شيء كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها   قالت فهممت أن أتكلم، ثم دخل الثانية، فقال: مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل الثالثة، فقال: السام عليك، قالت: قلت: بل السام عليكم، وغضب الله إخوان القردة والخنازير، أتحيون رسول الله بما لم يحيه به الله، فنظر إليّ، فقال: "مه إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، قالوا: قولا فرددناه عليهم، فلم يضرنا شيئًا ولزمهم إلى يوم القيامة". "وفيه" عقب هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنهم لم يحسدونا" كذا في النسخ، وفي مسند أحمد: لا يحسدونا، فلعله حذف نون الرفع تخفيفًا، وقد اختلف في أن لا تخلص الفعل للاستقبال أم لا "على شيء، كما حسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها" بأن نص لنا عليها أو بالاجتهاد، ويشهد له أثر ابن سيرين في جمع أهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أنه صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، وقد جاء بذلك حديث ابن عباس عه الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما ذكر ابن إسحاق وغيره، فحصلت الهداية بجهتي البيان والتوفيق، قاله الحافظ، ملخصًا وأسقط من الحديث هنا قوله: "وضلوا عنها"، أي: لأنه فرض عليهم يوم من الجمعة يقيمون فيه شريعتهم، ووكل إلى اختيارهم، فاختلفوا في أي الأيام؟ وهو لم يهتد، واليوم الجمعة، قاله ابن بطال، وقواه عياض، ورجح الحافظ أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فاختاروا السبت. فقد روى ابن أبي حاتم عن السدي: أن الله فرض على اليهود الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا، فاجعله لنا، فجعل عليهم، وليس هذا بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} الآية، وغير ذلك، وهم القائلون: سمعنا وعصينا، وأسقط أيضًا من الحديث قوله: "وعلى القبلة التي هدانا الله لها". أي: بصريح البيان بالأمر المكرر، أولا لبيان تساوي حكم السفر وغيره، وثانيًا للتأكيد، "وضلوا عنها" لأنهم لم يؤمروا باستقبال الصخرة، بل كان عن مشورة منهم، كما عند أبي داود عن خالد بن يزيد بن معاوية، وعنده أيضًا أن يهوديًا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: كان موسى يصلي عند الصخرة، ويستقبل البيت الحرام، وكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه. وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي عليه السلام، فقال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح وقبلته إلى الكعبة، وفي مسجد ذي القرنين وقبلته إليها. وفي البغوي في قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} الآية، روى ابن جريج عن ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 وعلى قولنا خلفا الإمام آمين". قال الحافظ ابن حجر: وهذا حديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه، لكن لبعضه متابع حسن في التأمين.   عباس، قال: كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، انتهى. وقد رجح الحافظ العلائي: أن الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، كما دلت عليه الآثار، قال بعضهم: وهو الأصح، واختار ابن العربي وتلميذه السهيلي أن قبلة الأنبياء بيت المقدس، قال بعضهم، وهو الصحيح المعروف، فعد صاحب الأنموذج من خصائص المصطفى وأمته: استقبال الكعبة إنما هو على أحد قولين مرجحين، نعم ذكر فيما اختص به على جميع الأنبياء والمرسلين الجمع له بين القبلتين، "وعلى قولنا خلف الإمام آمين" فإنها مختصة بنا بقيد الخلفية في الصلاة، وكذا عقب الدعاء، لكن شارك هارون في ذلك كما روى الحارث بن أسامة، وابن مردويه، عن أنس مرفوعًا: "أعطيت ثلاث خصال: أعطيت الصلاة في الصفوف، وأعطيت السلام، وهو تحية أهل الجنة، وأعطيت آمين، ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم، إلا أن يكون الله أعطاها نبيه هارون، فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن". أي: أعطي الخصلة الثالثة، فإنه كان يؤمن على دعاء موسى، كما قال تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} الآية، وفي أول الآية، وقال موسى: ربنا، فدل على أنه الداعي، وهارون يؤمن، فسماه داعيًا، لأنه لتأمينه عليه مشارك له. وفي مسند الفردوس، مرفوعًا: "الداعي والمؤمن في الأجر شريكان" فعلم أن الخصلتين الأوليين من خصوصيات هذه الأمة مطلقا، وكذا الثالثة بالنسبة لغير هارون في غير الصلاة. "قال الحافظ ابن حجر: وهذا حديث غريب لا أعرفه بهذه الألفاظ إلا من هذا الوجه" وقال شيخه الزين العراقي: دخول اليهودي عليه ثلاثًا، واستئذانه وما بعده الألفاظ لم أره في شيء منها، أي: الأحاديث غير هذا، "لكن لبعضه متابع" بكسر الباء، أي: عليه، "حسن في التأمين" متعلق بمتابع بيان لبعضه، أي: دون الجمعة والقبلة، "أخرجه ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، كلاهما من رواية سهيل" بالتصغير، "ابن أبي صالح" ذكوان المدني، أبي يزيد، صدوق، تغير حفظه بآخره. وروى له الستة، إلا أن البخاري روى له مقرونًا، وتعليقًا "عن أبيه" ذكوان السمان الزيات المدني، تابعي، ثقة، ثبت، كان يجلب الزيت إلى الكوفة، مات سنة إحدى ومائة. "وعن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا" أي: مثل حسدهم، أو مثل الذي حسدتنا "على السلام" عند التلاقي، ففيه دلالة على أنه مختص بنا دونهم، "والتأمين" أي ختم القارئ قراءته في الصلاة وغيرها، بقول: آمين أو الداعي دعاء بلفظ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 أخرجه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة كلاهما من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا على السلام والتأمين". ومنها الاختصاص بالركوع، عن علي رضي الله عنه قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: "بهذا أمرت". رواه البزار والطبراني في الأوسط. ووجه الاستدلال منه أنه عليه السلام صلى قبل ذلك الظهر، وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل، فكون الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه. قاله بعض العلماء. قال: وذكر جماعة من المفسرين في قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] أن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه لا ركوع في صلاة بني إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع   آمين، لكن خص من هذا هارون كما روى ابن ماجه بإسناد ضعيف عن ابن عباس رفعه: "ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين، فأكثروا من قول آمين". "ومنها" أي: خصائص الأمة "الاختصاص بالركوع" في الصلاة، وكأنه زاد الاختصاص زيادة تأكيد، لأن فيه نزاعًا، وميله للاختصاص، وإلا فالكلام فيه وأيضًا ضمير منها عائد له، "عن علي رضي الله عنه، قال: أول صلاة ركعنا فيها العصر، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ " الفعل الذي لم نعرفه قبل، قال: "بهذا أمرت"، رواه البزار والطبراني في" معجمه "الأوسط" الذي ألفه في غرائب شيوخه، كان يقول هذا الكتاب روحي؛ لأنه تعب عليه، "ووجه الاستدلال منه؛ أنه عليه السلام صلى قبل ذلك الظهر" فالصلاة التي ركع فيها هي عصر صبيحة الإسراء، "وصلى قبل فرض الصلوات الخمس قيام الليل" وكذا غيره مما كان يصليه نهارًا، "فكون" أي: وجود "الصلاة السابقة بلا ركوع قرينة لخلو صلاة الأمم السابقة منه" بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ويمكن بناؤه على القول الآخر، وتقدر القرينة بأنه لو كان في صلاة الأمم السابقة ركوع لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بأنه لا يصلي بدونه صلاة واحدة، لئلا تكون صلاة غيره أتم من صلاته، "قاله بعض العلماء" يعني الجلال السيوطي، كما يعلم من الشامية. "قال: وذكر جماعة من المفسرين في قوله تعالى" لبني إسرائيل: " {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} الآية، أن مشروعية الركوع في الصلاة خاص بهذه الأمة، وأنه ركوع في صلاة بني إسرائيل، ولذا أمرهم بالركوع" إظهارًا في محل الإضمار، زيادة في البيان، "مع أمة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا يعارضه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ، المفسر بأمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها. قالوا: وقدم السجود قبل الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتنبيه على أن "الواو" لا توجب الترتيب. وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] وبالسجود الصلاة والركوع الخشوع والإخبات الخضوع. ومنها الصفوف في الصلاة، كصفوف الملائكة.   محمد صلى الله عليه وسلم" إذ لو كان في صلاتهم لم يحسن أمرهم به مع قوله قبله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الآية، "وهذا يعارضه قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} الآية، المفسر" صفة، أي: إنما يعارضه على تفسيره "بأمرت بالصلاة في الجماعة، بذكر أركانها" من سجود وركوع "مبالغة في المحافظة عليها" ومريم من بني إسرائيل، فهو ظاهر في أن الركوع ليس من خواص هذه الأمة، "قالوا: وقدم السجود على الركوع، إما لكونه كذلك في شريعتهم" أي: بني إسرائيل، "أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب" بل مجرد العطف، وكلا الجوابين تقوية للمعارضة لا دفع لها؛ كما هو ظاهر، وأجيب عن المعارضة بأن المراد به من مريم ليس كذلك، بدليل ما بعده على أن المعارضة إنما تتم لو كان المفسر بهذا هم الجماعة المتقدمون، أما إن كانوا غيرهم فلا، لأنه مقبل أولئك ومثبت الخصوصية معترف بذلك بقوله: ذكر جماعة من المفسرين. "وقيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ} بتخفيف الميم {هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات {آَنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته {سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} الآية، أي: كمن هو عاص بالكفر وغيره، وفي قراءة: "أم من" بمعنى بل والهمزة، "وبالسجود الصلاة" تسمية للكل باسم البعض، "والركوع الخشوع" لا مقابل السجود، فلا معارضة على هذا التفسير أصلا، "والإخبات" عطف تفسير قال البيضاوي: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} : اطمأنوا إليه وخشعوا له من الخبت، وهي الأرض المطمئنة. "ومنها الصفوف في الصلاة كصفوف الملائكة" أي: التراص وإتمام الأول فالأول، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 رواه مسلم من حديث حذيفة. ومنها تحية الإسلام لحديث عائشة السابق.   وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، قال بعضهم: وحكمة الأمر بتسوية الصفوف، أن المصلين دعوا إلى حالة واحدة مع الحق، وهي الصلاة، فساوى في هذه الدعوة بين عباده، فلتكن صفتهم فيها إذا أقبلوا إلى ما دعاهم إليه تسوية الصفوف لأن الداعي إنما دعاهم ليناجيهم من حيث أنهم جماعة على السواء، لا يختص واحد عنهم دون آخر، فلا يتأخر واحد عن الصف، ولا يتقدم بشيء من بدنه يؤدي إلى اعوجاجه. وقال ابن العربي: شرعت الصفوف في الصلاة ليتذكر الإنسان بها وقوعه بين يدي الله يوم القيامة في ذلك المواطن المهول، والشفعاء من الأنبياء والملائكة والمؤمنين بمنزلة الأئمة في الصلاة يتقدمون الصفوف، وصفوفهم في الصلاة كصفوف الملائكة عند ربها، وقد أمرنا بذلك، وإن كانت الملائكة لا يلزم من خلل صفوفها لو اتفق أن يدخلها خلل كصفوفنا، إذ السماء ليست محلا لدخول الشياطين، وإنما تتراص الملائكة لتناسب الأنوار حتى يتصل بعضها ببعض، فتتنزل متصلة إلى صفوف المصلين، فتعمهم تلك الأنوار، فإن كان فيها خلل ودخلت فيه الشياطين أحرقتهم تلك الأنوار، "رواه مسلم من حديث حذيفة" بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فضلنا على الناس بثلاث، جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" ... الحديث، وتقدم بتمامه أول مبحث الخصائص، فيستحب انضمام بعض المصلين إلى بعض، بحيث لا يبقى بينهم فرجة ولا خلل، كأنهم بنيان مرصوص، فإن الشيطان إبليس، أو أعم إذا رأى فرجة دخلها، كما في الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفًا وصله الله، ومن قطع صفًا قطعه الله". رواه النسائي، وصححه الحاكم على شرط مسلم، أي: وصله برحمته، ورفع درجته، وقطعه بإبعاده عن ذلك وعن الثواب، فالجزاء من جنس العمل. "ومنها تحية الإسلام" أي: السلام عند التلاقي؛ لأنه فتح باب المودة وتأليف للقلوب، مؤد لكمال الإيمان، وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". "لحديث عائشة السابق" قريبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حسدتنا اليهود على شيء ما حسدتنا على السلام والتأمين" ففيه أنه شرع لنا دونهم، وفي مسلم عن أبي ذر في قصة إسلامه: وكنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال: "وعليك السلام ورحمة الله". للطبراني والبيهقي عن أبي أمامة، رفعه: "إن الله جعل السلام تحية لأهل ملتنا، وأمانا لأهل ذمتنا"، ولأبي داود عن عمران بن حصين: كنا نقول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 ومنها الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد   في الجاهلية أنعم الله بك عينًا وأنعم صباحًا، فلما جاء الإسلام نهينا عن ذلك. ورجاله ثقات، لكنه منقطع. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان، قال: كانوا يقولون في الجاهلية: حييت مساء، حييت صباحًا، فغير الله ذلك بالسلام، ففي هذا كله أنه خاص بهذه الأمة دون من تقدمهم، لكن عورض بحديث الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "خلق الله آدم على صورته، وطوله ستون ذراعًا، ثم قال له: اذهب، فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله". الحديث. قال القرطبي: فيه دليل على تأكيد السلام، وأنه من الشرائع القديمة التي كلف بها آدم، ثم لم ينسخ في شريعة، انتهى، وجمع بأن المراد بالذرية بعضهم، وهم المسلمون، أو المراد تحية ذريته من جهة الشرع، وكلاهما تعسف، وقد ذكر المعارضة في الفتح وما تنزل للجمع. "ومنها الجمعة" بضم الميم على المشهور، وقد تسكن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج الكسر أيضًا، سمي بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة، بفتح المهمة، وضم الراء، وبالموحدة، لأن خلق آدم جمع فيه أصح الأقوال. قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون" زمانًا، "السابقون" أي: الأولون منزلة "يوم القيامة" والمراد أن هذه الأمة وإن تأخر وجودها في الدنيا عن الأمم الماضية، فهي سابقة لهم في الآخرة؛ بأنهم أول من يحشر، وأول من يحاسب، وأول من يقضى بينهم، وأول من يدخل الجنة. وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق". وقيل: المراد بالسبق هنا فضيلة، اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، وإن سبق بسبب قبله، لكن لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقًا، وقيل: المراد بالسبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا. قال الحافظ: والأول أقوى. "بيد" بموحدة، فتحتية ساكنة مثل غير وزنًا ومعنى، وبه جزم خليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة، وقال الشافعي: معنى بيد من أجل، واستبعده عياض، ولا بعد فيه، إذ المعنى إنا سبقنا بالفضل، مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما وقع في فوائد ابن المقري بلفظ نحن الآخرون في الدنيا، ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أتوا الكتاب من قبلنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه   وفي الموطأ رواية سعيد بن عقير عن مالك، بلفظ: "ذلك أنهم أوتوا الكتاب"، وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير، فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف، وقال الطبري: هي للاستثناء، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى: نحن السابقون للفضل، غير "أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا" أي: التوراة والإنجيل، فاللام للجنس، قال: ووجه التأكيد فيه ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن تأخر في الوجود، وبهذا التقرير يظهر قوله: نحن الآخرون مع كونه أمرًا واضحًا. وقال القرطبي: المراد بالكتاب التوراة، وفيه نظر لقوله: وأوتينا من بعدهم، فأعاد الضمير على الكتاب، فلو كان المراد التوراة لما صح الإخبار، ولأنا إنما أوتينا القرآن، وسقط من الأصل، وأوتيناه من بعدهم، وهي ثانية في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان، شيخ البخاري، فيه أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وكذا مسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد، وذكره البخاري تامًا بعد أبواب من وجه آخر، عن أبي هريرة: "ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم" كذا للحموي، ورواه الأكثر بإسقاط الجلالة، أي: فرض تعظيمه، وأشير إليه بهذا، لكونه ذكر في أول الكلام عند مسلم من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا". قال ابن بطال: ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه، فتركوه لأنه لا يجوز لأحد ترك ما فرض عليه وهو مؤمن، وإنما يدل، والله أعلم, أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، وكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة، ومال عياض إلى هذا، ورشحه بأنه فرض عليهم بعينه، لقيل: فخالفوا بدل "فاختلفوا فيه" وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحًا، فاختلفوا هل يلزم بعينه، أم يسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك، فأخطئوا انتهى، ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح، عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية، قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم عن السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: أن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا فاجعله لنا، فجعل عليهم، وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} الآية، وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون: سمعنا وعصينا، قاله في فتح الباري. قال المصنف: ويشهد له بقوله: هذا يومهم الذي فرض عليهم، فإنه ظاهر، أو نص في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد"   التعيين، وذكر أبو عبد الله الأبي عن بعض الآثار، أن موسى عين لهم يوم الجمعة، وأخبرهم بفضله، فناظروه بأن السبت أفضل، فأوحى الله: "دعهم وما اختاروا"، أي: بأن قالوا هو يوم فراغ وقطع عمل، فإن الله فرغ من خلق السماوات والأرض، فينبغي انقطاعنا عن العمل فيه للتعبد، قالت النصارى: الأحد لأنه يوم الخلق الموجب الشكر والتعبد، ووفق الله هذه الأمة للصواب، فعينوا الجمعة، لأن الله خلق الإنسان للعبادة، وكان خلقه يومها، فالعبادة فيه أحق، لأنه أوجد سائر الأيام ما ينفع الإنسان، وفي الجمعة أوجد نفس الإنسان، فالشكر على نعمة الوجود، "فهدانا الله له" بالنص عليه، أو بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن ينزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يومًا يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل في ذلك، فهلم، فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله، ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] الآية، وهذا وإن كان مرسلا، فله بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وغير واحد من حديث كعب بن مالك، قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة ... الحديث، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها، ثم وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني، ولذا جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما حكاه ابن إسحاق وغيره. وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق، وقيل: في حكمة اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب الاشتغال بها، ولأن الله أكمل في الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة، ذكره الحافظ. "فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا" أي: السبت، "والنصارى بعد غد" أي: الأحد, وفي رواية ابن خزيمة: "فهو لنا، ولليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد". والمعنى: أنه لنا بهداية الله، ولهم باختيارهم، وخطئهم في اجتهادهم. قال القرطبي: غدا منصوب على الظرف، متعلق بمحذوف، تقديره اليهود يعظمون غدًا، وكذا قوله بعد غد، ولا بد من هذا التقدير، لأن ظرف الزمان لا يكون خبرًا من الجنة، وقال: ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني، كقولك: غدًا التأهب، وبعد غد الرحيل، فيقدر هنا مضافان، يكون ظرفا الزمان خبرين عنهما، أي: تبعية اليهود غدًا، وتبعية النصارى بعد غد. انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 رواه البخاري. ومنها ساعة الإجابة التي في الجمعة، واختلف في تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين   قال الحافظ: وسبقه إلى نحو ذلك عياض وهو أوجه من كلام القرطبي، وفيه فرضية الجمعة، كما قال النووي لقوله: فرض عليهم، فهدانا الله له، فإن التقدير فرض عليهم وعلينا، فضلوا وهدينا، وفي رواية لمسلم، بلفظ: كتب علينا، وفيه إن الهداية والإضلال من الله، كما هو قول أهل السنة، وإن سلامة الإجماع من الخطأ، مخصوص بهذه الأمة، وإن استنباط معنى من الأصل يعود عليه بالإبطال باطل، وإن القياس مع وجود النص فاسد، وإن الاجتهاد في زمن الوحي جائز، وإن الجمعة أول الأسبوع شرعًا، ويدل عليه تسمية الأسبوع كله: جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع: سبتًا، كما في حديث أنس في الاستسقاء: فمطرنا سبتًا، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود، فتبعوهم في ذلك، وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السالفة، زادها الله تعالى. انتهى. "رواه البخاري" ومسلم، والنسائي عن أبي هريرة. "ومنها: ساعة الإجابة التي في" يوم "الجمعة" المشار إليها بحديث الصحيحين، من طريق مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة، فقال: "فيها ساعة لا يوافقها مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى فيها شيئًا إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها، وقوله: شيئًا، أي: مما يليق بالمسلم سؤاله من ربه. وفي رواية لمسلم، كالبخاري في الطلاق: "يسأل الله خيرًا"، وفي ابن ماجه من حديث أبي لبابة: "ما لم يسأل حرامًا"، ولأحمد عن سعد بن عبادة: "ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم"، وهو خاص على عام للاهتمام به، فقطيعة الرحم من الإثم. وروى البزار وأبو يعلى، عن أنس مرفوعًا: "أتاني جبريل في يده مرآة بيضاء، فيها نكتة سوداء، قلت: ما هذه؟ قال: الجمعة فرضها عليك ربك لتكون لك عيدًا ولقومك؟ قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة". وحقيقة الساعة هنا جزء من الزمان مخصوص ويطل على جزء من اثني عشر من مجموع النهار أو على جزء ما غير مقدر من الزمان، فلا يتحقق أو على الوقت الحاضر. وفي حديث جابر مرفوعًا عند أبي داود وغيره بإسناد حسن ما يدل للأول، ولفظه: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيها ساعة" ... إلى آخره، قال ابن المنير: الإشارة إلى تقليلها للترغيب فيها والحض عليها ليسارة وقتها وغزارة فضلها. "واختلف في تعيينها على أقوال تزيد على الثلاثين" وقال غيره: على نحو خمسين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 ذكرتها في "لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار".   قولا، "ذكرتها في لوامع الأنوار"، اسم كتاب للمصنف "في الأدعية والأذكار"، وقد سردها في فتح الباري ثنتين وأربعين قولا، هل رفعت، وكذب أبو هريرة قائله: أو في جمعة واحدة من كل سنة أو مخفية في جميع اليوم، أو تنتقل يوم الجمعة، ولا تلزم ساعة: لا ظاهرة ولا مخفية، أو عند أذان الغداة، أو من الفجر إلى طلوع الشمس، أو منه كذلك، ومن العصر للغروب، أو في هذين الوقتين، وما بين النزول من المنبر حتى يكبر، أو أول ساعة بعد طلوع الشمس، أو عند طلوعها، أو آخر الساعة الثالثة من النهار، أو الزوال، حتى يصير الظل نصف ذراع، أو كذلك حتى يصير ذراعًا، أو بعد الزوال بقليل إلى ذراع، أو إذا زالت الشمس، أو إذا أذن المؤذن للجمعة، أو من الزوال حتى يدخل الرجل في الصلاة, أو منه حتى يخرج الإمام، أو منه إلى الغروب، أو ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، أو عند خروجه، أو ما بين خروجه إلى انقضاء الصلاة، أو ما بين حرمة البيع وحله، أو ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة، أو ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، ويمكن اتحاد هذا القول مع اللذين قبله، أو عند التأذين، وعند تذكير الإمام، وعند الإقامة، أو إذا أذن وإذا رقى، وإذا أقيمت وهذا مثل ما قبله، أو إذا أخذ الخطيب في الخطبة، أو عند الجلوس بين الخطبتين، أو عند نزوله من المنبر، أو حين الإقامة حتى يقوم الإمام في مقامه، أو من إقامة الصف إلى تمام الصلاة، أو هي الساعة التي كان عليه السلام يصلي فيها الجمعة، ومغايرته لما قبله من جهة إطلاقه وتقييد هذا، أو من صلاة العصر إلى الغروب، أو في صلاة العصر أو بعده لآخر وقت الاختيار، أو بعده مطلقًا، أو من وسط النهار إلى قرب آخره، أو من الصفرة للغروب، أو آخر ساعة بعد العصر، أو من حين يغيب نصف قرص الشمس، أو تدليها للغروب إلى تكامل غروبها، وبسط الكلام عليها بأدلتها، مع بيان الصحة، أو الضعف، أو الرفع، أو الوقوف، والإشارة إلى مأخذ بعضها بما يصلح أنه تأليف مفرد. قال: وليست كلها متغايرة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره، ثم نقل ابن المنير الجمع، بأن ساعة الإجابة واحدة منها لا بعينها، فيصادفها المجتهد في الدعاء في جميعها، وليس المراد من أكثرها، أنها تستوعب جميع الوقت الذي عين، بل إنها تكون في أثنائه؛ لقوله: يقللها. وقوله في رواية أخرى: "وهي ساعة خفيفة"، وفائدة ذكر الوقت؛ أنها تنتقل فيه، فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلا، وانتهاؤه انتهاء الصلاة، وكان كثيرًا من القائلين عين ما اتفق له وقوعه فيها من ساعة في أثناء وقت من الأوقات، فبهذا التقريب يقل الانتشار جدًا، ولا شك أن أرجح الأقوال حديث أبي موسى، وحديث عبد الله بن سلام، وما عداهما إما ضعيف الإسناد، أو موقوف، استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف، ولا يعارضهما حديث أبي سعيد؛ أنه صلى الله عليه وسلم أنسيها بعد أن علمها؛ لاحتمال أنهما سمعا ذلك منه قبل أن ينسى، أشار إليه البيهقي وغيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 ......................................   فأما حديث أبي موسى، فروى مسلم، وأبو داود، عن أبي موسى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة". وأما حديث ابن سلام، فروى الإمام مالك، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، عن أبي هريرة، أنه قال لعبد الله بن سلام، أخبرني، ولا تضن عليّ، فقال عبد الله بن سلام: "هي آخر ساعة من يوم الجمعة" قال أبو هريرة: قلت: كيف تكون آخر ساعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي"، وتلك ساعة لا يصلى فيها، فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي"، قال أبو هريرة: فقلت: بلى، قال: هو ذلك. ولذا استشكل قوله في حديث أبي هريرة السابق وهو قائم، وكان ابن وضاح يأمر بطرحه لأنه لو كان ثابتًا عند أبي هريرة لاحتج به على ابن سلام، ولم يعارضه بأنها ليست ساعة صلاة، وقد ورد النص على الصلاة، وأجابه بالنص الآخر؛ أن منتظر الصلاة في حكم المصلي، وسلم له أبو هريرة الجواب، وارتضاه وأفتى به بعده، وأجيب بحمل الصلاة على الدعاء، أو الانتظار وحمل القيام على الملازمة، أو المواظبة، ولفظ: "وهو قائم"، ثابت عند أكثر رواة الموطأ، وهي زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه. واختلف السلف في أي الحديثين أرجح، فقال مسلم: حديث أبي موسى أجد شيء من هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف، فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح، بل الصواب، وجزم في الروضة، بأنه الصواب، ورجح أيضًا بكونه مرفوعًا صريحًا، وفي أحد الصحيحين، ورجح آخرون قول ابن سلام كإسحاق بن راهويه وأحمد، فقال: أكثر الأحاديث عليه. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب. وروى سعيد بن منصور، بإسناد صحيح، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناسًا من الصحابة اجتمعوا، فتذاكروا ساعة الجمعة ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. وحكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني كان يختاره، ويحكيه عن نص الشافعي، وأجابوا بأن الترجيح بما في الصحيحين، أو أحدهما إنما هو حيث لا يكون مما انتقده الحفاظ؛ كحديث أبي موسى هذا؛ فإنه أعل بالانقطاع والاضطراب، وبينهما بما يطول، ثم قال: واختار صاحب الهدى انحصارها في أحد الوقتين المذكورين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر؛ لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت، وعلى الآخر في وقت آخر، وهذا كقول ابن عبد البر: الذي ينبغي الاجتهاد في الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبق إلى نحو ذلك الإمام أحمد، وهو أولى في طريق الجمع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 ومنها: أنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله تعالى إليهم، ومن نظر إليه لم يعذبه، أبدًا، وتزين الجنة فيه، وخلوف أفواه الصائمين.   وقال ابن المنير: إذا علم أن فائدة إبهام هذه الساعة كليلة القدر بعث الدواعي على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بين لاتكل الناس على ذلك وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها، انتهى. وقال السيوطي: هنا أمر، وهو أن ما أورده أبو هريرة على ابن سلام وارد على حديث أبي موسى أيضًا لأن حال الخطبة ليست ساعة صلاة، ويتميز ما بعد العصر، بأنها ساعة دعاء، وقد قال: "يسأل الله شيئًا"، وليس حال الخطبة ساعة دعاء لأنه مأمور فيها بالإنصات، وكذا غالب الصلاة، ووقت الدعاء منها إما عند الإقامة، أو في السجود أو التشهد، فإن حمل الحديث على هذه الأوقات اتضح، ويحمل قوله: وهو قائم يصلي على حقيقته في هذين الموضعين، وعلى مجازه في الإقامة، أي: قائم يريد الصلاة، وهذا تحقيق حسن, فتح الله به، وبه يظهر ترجيح رواية أبي موسى على قول ابن سلام لإبقاء الحديث على ظاهره من قوله: يصلي ويسأل، فإنه أولى من حمله على انتظار الصلاة؛ لأنه مجاز بعيد، ويوهم أن انتظار الصلاة شرط في الإجابة، ولأنه لا يقال في منتظر الصلاة قائم يصلي، وإن صدق أنه في صلاة، لأن لفظ قائم يشعر بملامسة الفعل، انتهى. وفي الفتح: فإن قيل ظاهر الحديث حصول الإجابة لكل داع بالشرط المتقدم مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف تتفق مع الاختلاف؟ أجيب: باحتمال أن ساعة الإجاب متعلقة بفعل كل مصل، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة، ولعل هذه فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة، ويحتمل أنه عبر عن الوقت بالفعل، فيكون التقدير وقت جواز الخطبة أو الصلاة ونحو ذلك، قال: وقول صاحبنا العلامة شمس الدين الجزري في الحصن الحصين: وأذن لي في روايته عنه: الذي أعتقده أنها وقت قراءة الفاتحة في صلاة الجمعة، إلى أن يقول آمين، جمعًا بين الأحاديث التي صحت، يخدش فيه أنه يفوت على الداعي حينئذ الإنصات لقراءة الإمام. انتهى. "ومنها: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله تعالى إليهم" أي: الأمة المحمدية نظر رحمة وغفران، "ومن نظر إليه" كذلك "لم يعذبه أبدًا" لأن الكريم لا يرجع فيما أعطى، ولا أكرم منه سبحانه، "وتتزين الجنة فيه" تبشيرًا للصائمين، فإذا علموا ذلك بخبر الصادق، زاد نشاذهم، وتلقوه بمزيد القبول والمحبة، وإعلامًا للملائكة، أنه بمنزلة عظيمة عند الله، "وخلوف" بضم الخاء وفتحها خطأ، وقيل: لغة قليلة، أي: تغير ريح "أفواه الصائمين" لخلو معدتهم عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة في كل يوم وليلة حتى يفطروا، وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا. رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.   الطعام، "أطيب عند الله" أي: في الآخرة؛ كما جزم به العز بن عبد السلام؛ لأن في رواية لمسلم يوم القيامة، أو في الدنيا والآخرة معًا، كما جزم به ابن الصلاح لأن رواية ابن حبان: "لخلوف فم الصائم حين يخلف أطيب عند الله" وروى الحسن بن سفيان من حديث جابر: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا"، قال: "وأما الثانية فإنهم يمسون، وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك"، فكل واحد من الحديثين صريح في أنه وقت وجود الخلوف في الدنيا، يتحقق وصفه بذلك، قال: وقد ذكر العلماء شرقًا وغربًا معنى ما ذكرته، ولم يذكر أحد تخصيصه بالآخرة، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدارين، وأما ذكر يوم القيامة في رواية مسلم، فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة، طلبًا لرضا الله حيث يؤمر باجتنابها، واجتلاب الرائحة الطيبة للمساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في تلك الرواية لذلك؛ كما خص في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} الآية، وأطلق في باقي الروايات نظرًا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين، "من ريح المسك" اختلف في معناه؛ لأنه تعالى منزه عن استطابة الروائح، فقال الماوردي: هو مجاز؛ أنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة لنا، فاستعير ذلك لتقريب الصوم من الله، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم، أي: أنه يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم. وقيل: إن ذلك في حق الملائكة, إنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك. وقيل: المعنى أن الله يجزيه في الآخرة بكونه نكهته أطيب من المسك كما يأتي المكلوم، وريح جرحه يفوح مسكًا. وقيل: المعنى أن الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المطلوب في الجمع والأعياد، ومجالس الذكر والخير، وصححه النووي. ونقل القاضي حسين في تعليقه: إن للطاعات يوم القيامة ريحًا يفوح، قال: فرائحة الصيام فيها بين العبادات كالمسك، "وتستغفر لهم" أي: للصائمين "الملائكة في كل يوم وليلة حتى يفطروا" حين انقضاء الشهر، "وإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا". وزاد في رواية للبيهقي، وأحمد والبزار: قيل: يا رسول الله! هي ليلة القدر، قال: "لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره عند انقضاء عمله". "رواه البيهقي بإسناد لا بأس به" أي: مقبول عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 بلفظ: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي ... وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا". رواه البزار. "وتصفد مردة الشياطين" رواه أحمد والبزار.   جابر، "بلفظ" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسًا لم يعطهن نبي قبلي أما واحدة؛ فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم، ومن نظر إليه لم يعذبه أبدًا، وأما الثانية: فإن خلوف أفوافهم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك، وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة، وأما الرابعة: فإن الله عز وجل يأمر جنته، فيقول لها: استعدي، وتزيني لعبادي، أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي، وأما الخامسة: فإنه إذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعًا". فقال رجل من القوم: أهي ليلة القدر؟ قال: "لا، ألم تر العمال يعملون، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم". وهذا لفظ رواية البيهقي. وأخرجه الحسن بن سفيان من حديث جابر أيضًا، وحسنه أبو بكر بن السمعاني في أماليه، وتبعه ابن الصلاح، وله شاهد بنحوه من حديث أبي هريرة، رواه أحمد والبزار والبيهقي، "وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا". رواه البزار, وأحمد، والبيهقي من حديث أبي هريرة المذكور، ورواه أبو الشيخ بلفظ: الملائكة بدل الحيتان، "وتصفد" تشد وتربط بالأصفاد، وهي القيود "مردة الشياطين" أي: عتاتهم، وفي حديث ابن عباس عند البيهقي: "ويقول الله: يا جبريل اهبط إلى الأرض فاصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال، ثم اقذفهم في البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد صيامهم". "رواه أحمد والبزار" من حديث أبي هريرة، فزيادة: "فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره". وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". قال القاضي عياض: يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وذلك علامة للملائكة بدخول الشهر وتعظيمه، والتصفيد ليمنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم، ويحتمل أنه مجاز عن كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم، فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء لناس دون ناس، ويحتمل أن فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عمومًا؛ كالصيام والقيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها، وكذا تغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات، ومعنى صفدت: غلت، والصفد، بفتح الفاء الغل، انتهى. ونقله النووي، ولم يزد عليه، ورجح ابن المنير الأول، وقال: لا ضرورة تدعو إلى صرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 ومنها السحور، وتعجيل الفطر، رواه الشيخان   اللفظ عن ظاهره، وكذا رجحه القرطبي، وقال: فإن قيل: فكيف ترى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيرًا، فلو صفدت لم يقع ذلك، فالجواب إنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه، وروعيت آدابه، والمصفد بعض الشياطين، وهو المردة لا كلهم؛ كما في رواية الترمذي وغيره مردة الجن، والمقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس؛ فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابًا غير الشياطين، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة، والشياطين الإنسية. وقال الحليمي: يحتمل أن المراد بالشياطين مسترقوا السمع منهم؛ لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع، فزيدوا التسلسل في رمضان مبالغة في الحفظ. وقال الطيبي: فائدة تفتيح أبواب الجنة توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وإذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق، زاد في نشاطه، وتلقاه بأريحية. "ومنها: السحور" بفتح السين وضمها، ويحصل بأقل ما يتناوله المرء من مأكول أو مشروب؛ كما في الفتح وغيره، "وتعجيل الفطر" عند تحقق الغروب، وما يفعله الفلكيون من التمكين بعد الغروب بدرجة، فمخالف للسنة، فلذا قل الخير، قاله المصنف. "رواه الشيخان" عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما علوا الفطر" زاد أبو داود، وابن ماجه، وغيرهم من حديث أبي هريرة: "لأن اليهود والنصارى يؤخرون". ولابن حبان، والحاكم من حديث سهل: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم". وليس في رواية الشيخين تصريح، بأنه من خصوصياتنا، إنما هو في غيرهما كما رأيت. وأما السحور، فروى مسلم عن عمرو بن العاصي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور". وفصل، بصاد مهملة، وقراءته بمعجمة تصحيف، ولم يخرجه البخاري، نعم رويا معًا أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" , وهذا لا تصريح فيه بالخصوصية. قال في الفتح: بفتح السين وضمها روايتان لأن المراد بالبركة الأجر والثواب، فيناسب الضم لأنه مصدر بمعنى التسحر أو البركة، كونه يقوى على الصوم وينشط له، ويخفف مشقته، فيناسب الفتح لأنه ما يتسحر به، وقيل: البركة ما تضمنه من الاستيقاظ والدعاء في السحر، والأولى أنها تحصل بجهات متعددة: اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب، والتقوي على العبادة، والزيادة في النشاط، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك، أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء ومظنة الإجابة، وتدارك نية الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام، ووقع لبعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 وإباحة الأكل والشرب والجماع ليلا إلى الفجر، وكان محرمًا على من قبلنا بعد النوم، وكذا في صدر الإسلام ثم نسخ.   المتصوفة: أن حكمة الصوم كسر شهوة البطن والفرج: والسحور قد يباين ذلك. قال ابن دقيق العيد: والصواب أن من زاد قدره حتى تعدم هذه الحكمة بالكلية لا يستحب، كتأنق المترفين في المآكل، وكثرة الاستعداد لها، وما عداه تختلف مراتبه، انتهى، وقيل: المراد بالبركة نفي التبعية. روى البزار والطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إن شاء الله إذا كان حلالا: الصائم، والمتسحر، والمرابط في سبيل الله". وذكره في الفردوس، بلفظ: "ثلاثة لا يحاسب عليها العبد: أكلة السحور، وما أفطر عليه، وما أكل مع الإخوان". وقيل: يبارك في قليله، بحيث يعين على الصوم، فروى ابن عدي: "تسحروا ولو بشربة من ماء"، وللطبراني: "ولو بتمرة، ولو بحبات من زبيب" هذا والخصوصيتان للأمة على الأمم، لا على الأنبياء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة". رواه الطيالسي بإسناد صحيح. "وإباحة الأكل والشرب والجماع" للصائم "ليلا" ولو نام "إلى الفجر" كما قال تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} الآية، "وكان محرمًا على من قبلنا بعد النوم، وكذا كان" محرمًا علينا "في صدر الإسلام، ثم نسخ" روى البخاري عن البراء: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا، فحضر، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري، كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام؟ فقالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عينه، وجاءت امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية، ففرحوا بها فرحًا شديدًا، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] . وأخرج أحمد وابن جرير عن كعب بن مالك، قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل، فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء، حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده، فأراد امرأته، فقالت: إني قد نمت، قال: وأنا ما نمت ووقع عليها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فنزلت الآية. وروى البخاري عن البراء: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 ومنها: ليلة القدر، كما قاله النووي في شرح المهذب. وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأمة أم لا؟ إن قلنا إن التشبيه الذي دلت عليه كاف "كما" في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] على حقيقته فيكون رمضان كتب على من قبلنا. وذكر ابن أبي حاتم عن ابن عمر رفعه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". وفي إسناده مجهول. وإن قلنا المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم، وهو قول الجمهور.   وروى الباري عن سهل بن سعد، قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} الآية، ولم ينزل من الفجر، فكان رجال إذا أرادوا الصوم، ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا إنما يعني الليل والنهار. "ومنها: ليلة القدر" لخبر الديلمي عن أنس، مرفوعًا: "إن الله وهب لأمتي ليلة القدر، ولم يعطها من كان قبلهم". "كما قاله النووي في شرح المهذب" وعبارته: "ليلة القدر مختصة بهذه الأمة، لم تكن لمن قبلنا"، هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم، وجمهور العلماء، قال الحافظ: وجزم به ابن حبيب من المالكية وسبقهم كلهم الحكيم الترمذي فجزم بذلك، "وهل صيام رمضان من خصائص هذه الأة" كما ذهب إليه الجمهور، منهم معاذ، وابن مسعود، وجماعة من الصحابة والتابعين، والحجة لهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض صوم رمضان، وسننت لكم قيامه" رواه النسائي والبيهقي بإسناد حسن، عن عبد الرحمن بن عوف، فهو ظاهر في الاختصاص "أم لا؟ " كما ذهب إليه جمع، منهم الحسن والشعبي. "إن قلنا: إن التشبيه الذي دلت عليه" لفظة، "كما في قوله تعالى: {كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية، على حقيقته" أي: تشبيهًا تامًا، "فيكون رمضان كتب على من قبلنا" من جميع الأمم، وعن السدي هم النصارى كتب عليهم رمضان، "وذكر" أي روى ابن أبي حاتم عن ابن عمر، رفعه: "صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم". فهذا يؤيد تمام التشبيه، ويرد على السدي تخصيصهم بالنصارى، "و" لكن "في إسناده مجهول" فهو ضعيف، لكن له شاهد في الترمذي. "وإن قلنا: المراد مطلق الصيام دون قدره ووقته" وهو شهر رمضان، "فيكون التشبيه واقعًا على مطلق الصوم" فلا ينافي اختصاصنا برمضان، "وهو قول الجمهور" من الصحابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 ومنها أن لهم الاسترجاع عند المصيبة، قال سعيد بن جبير فيما رواه ابن جرير والبيهقي وغيرهما عنه: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء عليهم السلام مثله: إنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أعطيت الأنبياء لأعطيه يعقوب عليه السلام إذ قال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] . ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، قال تعالى:   والتابعين وغيرهم. قال الزمخشري: وبالجملة، فالصوم عبادة أصلية قديمة، ما أخلى الله أمة من افتراضه عليهم. "ومنها: أن لهم الاسترجاع عند المصيبة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون"، رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس. "قال سعيد بن جبير، فيما رواه ابن جرير، والبيهقي، وغيرهما عنه: "لقد أعطيت هذه الأمة"، أي: أمة الإجابة أن يقول المصاب منهم "عند المصيبة"، أي مصيبة كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة"، رواه ابن السني، "ما لم يعط الأنبياء عليهم السلام مثله" وهو "إنا لله" ملكا وعبدا يفعل بنا ما شاء، "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجاز بنا. وروى أبو داود في مراسيله: إن مصباح النبي صلى الله عليه وسلم طفئ، فاسترجع، فقالت عائشة: إنما هذا مصباح، فقال: "كل ما ساء المؤمن فهو مصيبة". وفي الحديث: "من استرجع عند المصيبة، آجره الله فيها، وأخلف عليه خيرا". وظاهره أن المأمور به مرة واحدة فورا، وذلك في الموت عند الصدمة الأولى، وخير إذا ذكرها، ولو بعد أربعين عاما، فاسترجع، كان له أجرها يوم وقوعها، كما ورد؛ لأنه زيادة فضل، لا ينافي الطلب بفور وقوع المصيبة. "ولو أعطبت الأنبياء لأعطيه يعقوب عليه السلام، إذ قال: {يَا أَسَفَى} " الألف بدل من ياء الإضافة، أي: يا حزني {عَلَى يُوسُفَ} وهذا ظاهر في أنه من خصوصيات هذه الأمة، حتى على الأنبياء، إذ قوله: "لقد أعطيت"، لا دخل للرأي فيه، فلا يكون إلا عن بلاغ. وأما: ولو أعطيت ... إلخ، فإن كان من البلاغ فواضح، وإن كان استنبطه، فهو استظهار وتقوية لسابقه ببعض أفراده، فلا يقال: لا يلزم منه أنه لم يشرع لغيره من الأنبياء. "ومنها: أن الله تعالى رفع عنهم الإصر" الأمر الذي يثقل حمله عليهم، أي: لم يوجبه عليهم، ولم يجعله من شرعهم، لا أنه جعله عليهم، ثم رفعه "الذي كان على الأمم قبلهم" أي: على بعضهم، وهم بنو إسرائيل؛ كما "قال تعالى": {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، أي: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة، وقطع كتعيين القصاص في العمد والخطأ وقطع الأعضاء الخاطئة، وقطع موضع النجاسة، وقتل النفس في التوبة.   يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ثقلهم، {وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} فأتى بالآية دليلا على أن من قبلهم كان عليهم الإصر، فالوضع عن بني إسرائيل الذين آمنوا بالمصطفى حقيقي، وبه يستدل على رفعه عن الأمة بطريق الأولى، بمعنى أنه لم يوضع عليهم بدليل: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية، "أي: ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة" فالأغلال استعارة شبه الأمور الشاقة التي كلفوا بها بالأغلال التي تجعل في الأعناق: جمع غل، وهو طوق حديد. وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قاموا يصلون، لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما نقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة، وأوثقها إلى السارية، يحبس نفسه على العبادة "كتعيين القصاص في العمد والخطأ" لخبر البخاري: كان في بني إسرائيل القصاص، أي: تحتمه حتى في الخطأ، ولم تكن فيهم الدية في نفس أو جرح؛ وذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] الآية، فهو شرع اليهود. أما النصارى، فيتعين عندهم العفو عن القود، والمراد بالخطأ العمد، وهو أن يقصد شيئا، فيخالف لغيره ما قصد، لا ضد الصواب؛ كما زعم، لأن تعمد الإثم يسمى خطأ بالمعنى الثاني، ولا يمكن إرادته هنا. "وقطع الأعضاء الخاطئة" كاللسان في الكذب، والذكر في الزنى، وفقء العين في النظر للأجنبية، "وقطع موضع النجاسة" أخرج البخاري عن أبي وائل، قال: كان أبو موسى يشدد في البول، ويبول في قارورة، ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه، فقال حذيفة: ليته أمسك ... الحديث، أي: قطعه. قال الحافظ: ووقع في مسلم جلد أحدهم، قال القرطبي: مراده الجلد، واحد الجلود التي كانوا يلبسونها، وحمله بعضهم على ظاهره، وزعم أنه من الإصر الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود: كان إذا أصاب أحدهم، لكن رواية البخاري صريحة في الثياب, فلعل بعضهم رواه بالمعنى، انتهى. "وقتل النفس في التوبة" كما قال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية، قال الجلال: أي ليقتل البريء منهم المجرم، فأرسل سحابة سوداء لئلا يبصر بعضهم بعضًا، فيرحمه، حتى قتل منهم نحو سبعين ألفًا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 وقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح قد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وأصل الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحراك لثقله. ومنها أن الله تعالى أحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم، ولم يجعل عليهم في الدين من حرج، قال تعالى:   وروى ابن أبي حاتم عن علي، قال الذين عبدوا العجل: يا موسى ما توبتنا؟ قال: يقتل بعضكم بعضًا، فأخذوا السكاكين، فجعل الرجل يقتل أباه وأمه وأخاه، حتى قتل سبعون ألفًا، فأوحى الله إليه، فليرفعوا أيديهم فقد غفر لهم. وروى من طرق نحوه عن ابن عباس وغيره، وقول البيضاوي: أو المراد بالقتل قطع الشهوات؛ كما قيل: من لم يعذب نفسه لم ينعمها، ومن لم يقتلها لم يحيها. قال السيوطي: هذا ذكره بعض أرباب الخواطر، قال جماعة: ولا يجوز أن يفسر به بإجماع المفسرين على أن المراد القتل الحقيقي، انتهى. وفي الجليل استبعده جماعة بإجماع المفسرين على أن المراد القتل الحقيقي؛ بأن يسلم من عبد العجل نفسه للبريء ليقتلها، فلا يرد عليه قول بعضهم: أجمع المفسرون على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ لو كانوا مأمورين بذلك؛ لصاروا عصاة بتركه، "وقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح قد كتب على باب بيته إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما" وروى ابن جرير مرفوعًا: "كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيًا في الدنيا، وإلا كانت له خزيًا في الآخرة، "وقد أعطاكم الله خيرًا من ذلك ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه"، وروى البيهقي مرفوعًا: "كان بنو إسرائيل إذا أذنب أحدهم ذنبًا، أصبح وقد كتبت كفارته على أسكفة بابه، وجعلت كفارة ذنوبكم قولا تقولونه، تستغفرون، الله فيغفر لكم". "وأصل الإصر الثقل" بكسر المثلثة، وفتح القاف، وتسكن للتخفيف ضد الخفة، وأما واحد الأثقال، فبالسكون، كحمل وأحمال والثقل، بفتحتين متاع المسافر وحشمه، أو مطلق المتاع "الذي يأصر"، بكسر الصاد "صاحبه أي: يحبسه من الحراك" بفتح أوله وثانيه، "لثقله"، فلا يقدر على التحرك. "ومنها: إن الله تعالى أحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم" يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر"، رواه الطبراني برجال الصحيح، "ولم يجعل عليهم في الدين من حرج" بل سهله، "قال تعالى" {هُوَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أي: ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه، يعني من لم يستطع أن يصلي قائمًا فليصل قاعدًا، وأباح للصائم الفطر في السفر، والقصر فيه. وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا، وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه، والأروش والديات في حقوق العباد. قاله البيضاوي. وروى عن ابن عباس أنه قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة.   اجتباكم {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الآية. روى أحمد عن حذيفة: سجد صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه حتى ظننا أن نفسه قبضت، فلما فرغ، قال: "ربي استشارني" الحديث، وفيه: "وأحل لنا كثيرًا مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فلم أجد شكرًا إلا هذه السجدة"، "أي: ضيق بتكليف ما اشتد القيام به عليهم، إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، ولا عذر لهم في تركه" لعدم مشقة فعله عليهم، "يعني: من لم يستطع أن يصلي قائمًا، فليصل قاعدًا" ومن لا فمضطجعًا على ما بين في الفروع، "وأباح للصائم الفطر في السفر" وإن كان الصوم أفضل، "والقصر فيه" للصلاة، وجعله أفضل من الإتمام، بل ذهب الحنفية إلى أنه عزيمة، فلا يجوز الإتمام. زاد البيضاوي: أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، "وقيل ذلك"، أي: معنى الآية "بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجًا" بأن رخص لهم في المضائق، هكذا في البيضاوي قبل قوله: "وفتح لهم باب التوبة، وشرع لهم الكفارات في حقوقه" كالحنث في اليمين به، "والأروش والديات في حقوق العباد" دون تعين القود، "قاله البياوي" في تفسير الآية. "وروي" عند ابن أبي حاتم، "عن ابن عباس، أنه" قيل له: أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال: "بلى"، قيل: فما جعل عليكم في الدين من حرج؟ "قال: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الإصر والشدائد، وضعه الله عن هذه الأمة" بمعنى أنه لم يجعله عليهم، قال تعالى: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} الآية، قال البيضاوي: حملا مثل حملك إياه من قبلنا، أو مثل الذي حملته إياهم، فيكون صفة لإصرًا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وعن كعب، أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال: ادعوني أستجب لكم. ومنها: إن الله تعالى رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ.   أو المراد به ما كلف به بني إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، وخمسين صلاة في اليوم والليلة، وصرف ربع المال للزكاة، أو ما أصابهم من الشدائد والمحن. قال السيوطي: قول خمسين صلاة غلط، فلم يفرض على بني إسرائيل خمسون صلاة قط، بل ولا خمس صلوات، ولم تجتمع الخمس إلا لهذه الأمة، وإنما فرض على بني إسرائيل صلاتان فقط؛ كما في الحديث. وقال شيخ الإسلام: نسب التكليف بها إلى بني إسرائيل لم يفرض عليهم خمسون، بل ولا خمس صلوات، مع أن من حفظ حجة على من لم يحفظ؛ كذا قال وفيه ما لا يخفى، فكون المراد من بني إسرائيل اليهود، لا يدفع الرد بأن الخمسين لم تفرض عليهم، فليس ملحظ الرد إبهامه أنها فرضت على جميع بني إسرائيل، مع أنها إنما فرضت على اليهود منهم، فيجاب، بأنهم المراد من بني إسرائيل، وكون من حفظ حجة لا يجدي هنا؛ لأن النافي صحبه دليل نفيه، وهو قوله: كما في الحديث، يشير إلى ما في حديث المعراج في مراجعة موسى لنبينا، وفيه ما لفظه: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بهما، أخرجه النسائي من حديث أنس. "وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاثًا" لفظه ثلاث خصال، "لم يعطهن إلا الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ، ولا حرج، وأنت شهيد على أمتك، وادع أجبك، "جعلهم شهداء على الناس" يوم القيامة، بأن رسلهم بلغتهم، "وما جعل عليهم في الدين من حرج" بل سهله، وقال صلى الله عليه وسلم: "خير دينكم أيسره"، أي: ما لا مشقة فيه ولا إصر، لكن بعضه أيسر من بعض، فأمر بعدم التعمق فيه، فإنه لن يغالبه أحد إلا غلبه، وجاءت الأنبياء السابقة بتكاليف، وآصار بعضها أغلظ من بعض، "وقال: ادعوني" اسألوني "أستجب لكم" دعاءكم، وقيل: المعنى اعبدوني أثبكم بقرينة، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية، وأجاب من فسر الدعاء بالسؤال، بأن الاستكبار الصارف عنه منزل منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء؛ لأنه من أبوابها. أخرج الفريابي عن كعب: أعطيت هذه الأمة ثلاث خصال لم يعطهن الأنبياء، كان النبي يقال له: بلغ ولا حرج، وأنت شهيد على أمتك، وادع أجبك، وقال لهذه الأمة: {مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية، فاقتصر المصنف على حاجته منه. "ومنها: إن الله تعالى رفع عنهم المؤاخذة بالخطأ" أي: إثمه لا حكمه، إذ حكمه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 والنسيان، وما استكرهوا عليه، وحديث النفس، وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا أو أخطئوا في شيء عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".   الضمان لا يرتفع، أو عن حكمه على القول الثاني أو عنهما، قيل: وهو أقرب لعموم التناول وعدم المرجح، ولا ينافيه ضمان المال والدية، ونحوهما لخروجه بدليل منفصل، "والنسيان" بالكسر ضد الذكر والحفظ، ويطلق على الترك، وليس بمراد هنا، "وما استكرهوا عليه" أي: حملوا على فعله قهرًا، وخص بغير الزنا، وقتل المسلم وقطعه، فلا يبيح ذلك الإكراه، "وحديث النفس" رفع عن هذه الأمة المؤاخذة به، أي: ما يقع في قلوبهم من القبائح ظهرًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل"، رواه الشيخان. روى أحمد، ومسلم، وغيرهما، عن أبي هريرة قال: لما نزلت {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجثوا على الركب، وقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال: "أتريدون أن تقولوا، كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، بل قولوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها {آمَنَ الرَّسُولُ} الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله، فأنزل {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} الآية، إلى آخرها. وروى مسلم وغيره عن ابن عباس نحوه، وعند الفريابي عن محمد بن كعب، قال: ما بعث من نبي، ولا أرسل من رسول، أنزل عليه الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية، فكانت الأمم تأتي على أنبيائهم ورسلهم ويقولون: نؤاخذ بما تحدث به أنفسنا، ولم تعمل جوارحنا، فيكفرون ويضلون، فلما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم، فقالوا: أنؤاخذ بما تحدث به أنفسنا ولم تعمل جوارحنا، قال: "نعم، فاسمعوا وأطيعوا" فذلك قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285] الآية، فرفع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح، "وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به أو أخطئوا في شيء، عجلت لهم العقوبة، فحرم عليهم شيء من مطعم أو مشرب" عقوبة من الله لهم "على حسب ذلك الذنب" من كبر وصغر، "وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع"، وفي رواية: رفع "عن أمتي" أمة الإجابة، فقوله: أمتي دليل على أن ذلك كان على من قبلهم "الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" حديث جليل، قال بعض العلماء: ينبغي أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 رواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجه. ومنها أن الإسلام وصف خاص بهم، لا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج: 78] {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] إذ لو لم يكن خاصًا بهم لم يكن في الامتنان عليهم بذلك فائدة.   يعد نصف الإسلام؛ لأن الفعل إما عن قصد واختيار أولا، الثاني: ما يقع عن خطأ، أو نسيان، أو إكراه, وهذا القسم معفو عنه اتفاقًا، وإنما اختلف هل المعفو عنه الإثم أو الحكم، أو هما معًا؟ وهو ظاهر الحديث وما خرج عنه، كضمان الدم الخطأ وإتلاف المال خطأ ونحوهما، فبدليل منفصل، وفيه: "إن طلاق المكره لا يقع"، "رواه أحمد، وابن حبان، والحاكم، وابن ماجه" والطبراني، والدارقطني، بأسانيد جيدة، وفي بعضها كلام لا يضر، كما بينه النور الهيثمي، وتليمذه الحافظ، وحسنه النووي في الروضة، وأخرجه الطبراني عن ثوبان، بلفظ: "رفع عن أمتي" ... إلخ، وخفي على الكمال بن الهمام، فقال: هذا الحديث يذكره الفقهاء بهذا اللفظ، ولا يوجد شيء من كتب الحديث، كذا قال والكمال لله. قال البيضاوي: ومفهوم الخبر أن الخطأ والنسيان كان مؤاخذًا بهما أولًا، أي: في الأمم السابقة ولا يمتنع ذلك عقلًا، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك، وإن كان خطأ، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة؛ لكنه تعالى وعدنا التجاوز عنه رحمة وفضلا، ومن ثم أمر الإنسان بالدعاء، استدامة واعتدادًا بالنعمة. "ومنها: أن الإسلام وصف خاص بهم، ولا يشركهم فيه غيرهم إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" كما ذهب إليه جمع من العلماء، فشرفت هذه الأمة بأن وصفت بالوصف الذي كان يوصف به الأنبياء، تكريمًا لها؛ "لقوله تعالى": {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} الآية في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، وفي التوراة والإنجيل وسائر كتبه على أن ضمير هو عائد لله؛ كما قاله جمع من المفسرين، كابن عباس ومجاهد عند ابن المنذر، وعلى بن زيد عند ابن أبي حاتم، وكذا روى عن قتادة وابن عيينة ومقاتل، قالوا: {وَفِي هَذَا} ، يعني القرآن، وأيد بأنه قرئ "الله سماكم المسلمين" الآية، فلو لو يكن ذلك خاصًا به، كالذي ذكر قبله لم يكن لتخصيصه بالذكر، ولا لاقترانه بما قبله معنى، وهذا ما فهمه السلف من الآية، ولقوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، فإنه ظاهر في الاختصاص، "إذ لو لم يكن خاصا بهم لم يكن في الامتنان عليهم بذلك فائدة" لأنه لو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 وقد يجاب: بأن رضي الإسلام دينًا لهم، وتسميه إبراهيم إياها بذلك، لا ينفي اتصاف غيرهم بذلك. وفائدة ذلك: الإعلام بالإنعام عليهم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل. وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضًا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا. كما أجاب به ابن الصلاح لقوله تعالى: حكاية عن وصية يعقوب {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] .   رضيه لغيرهم ما حسن الامتنان به عليهم ولا تقديم لكم، "وقد يجاب بأن رضا الإسلام دينًا لهم" في هذه الآية، "وتسمية إبراهيم إياها بذلك" في الآية التي ساقها قبلها؛ بناء على أن الضمير لإبراهيم؛ لأنه أقرب مذكور، كما قاله جماعة، كابن زيد في أحد قوليه، قال: وهو إبراهيم ألا ترى إلى قوله: {مِنْ ذُرِّيَّتِنَا} الآية، {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} ، "لا ينفي اتصاف غيرهم بذلك" الوصف، "وفائدة ذلك" أي: الامتنان على هذه الأمة مع الاشتراك "الإعلام بالإنعام عليم بما أنعم به على غيرهم من الفضائل" ودفع السيوطي هذا الجواب بأنه جهل بقواعد المعاني؛ فإن تقديم "لكم" يستلزمه؛ كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} الآية، أن تقديم "هم" تعريض بأهل الكتاب؛ وأنهم لا يوقنون بالآخرة، وكما قال الأصفهاني في قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} الآية، أن تقديم "هم" يفيد أن غيرهم يخرجون منها، وهم الموحدون. "وقيل: لا يختص بهم، بل يطلق على غيرهم أيضًا، وهو اسم لكل دين حق لغة وشرعًا، كما أجاب به ابن الصلاح؛ لقوله تعالى حكاية عن وصية يعقوب" {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية. قال السيوطي: هذا من قول إبراهيم ويعقوب لبنيهما، وفي بني كل الأنبياء، فلا يحسن الاستدلال به على غيرهم، مع أنه لا يلزم منه طرده في أمة موسى وعيسى، لما علم أن ملة إبراهيم تسمى الإسلام، وبها بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أولاد إبراهيم ويعقوب، عليها فصح أن يخاطبوا بذلك، ولا يتعدى إلى من ملته اليهودية والنصرانية، قال: وأما قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} الآية، فجوابه أن ذلك إما على سبيل التبعية له إن لم يكونوا أنبياء، مع أن فيهم يوسف وهو نبي قطعًا، فلعله هو الذي تولى الجواب، وأخبر عن نفسه بالإصابة، وأدرج أخوته معه تغليبًا، وإن كانوا أنبياء كلهم، فلا إشكال من أدلة العموم قوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وأجاب عنه السيوطي بما حققه صاحب القول الراجح: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 إلى غير ذلك. ولأن الإيمان أخص من الإسلام، كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصًا بهذه الأمة، بل يوصف به كل من دخل في شريعة مقرًا بالله وبأنبيائه.   أن هذا الوصف يطلق على الأنبياء والبيت المذكور بيت لوط، ولم يكن فيه مسلم إلا هو وبناته، وهو نبي فصح إطلاقه عليه بالأصالة، وعلى بناته بالتغليب أو على التبعية، إذ لا مانع أن تختص أولاد الأنبياء بخصائص لا يشاركهم فيها بقية الأمة، كما اختصت فاطمة؛ بأنه لا يتزوج عليها وأخوها إبراهيم بأنه لو عاش لكان نبيًا، وذكر أمورًا استظهارًا على ذا الجواب "إلى غير ذلك" كقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} الآية، وأجاب السيوطي بحمله على التغليب؛ لأنه خاطبهم وفيهم هارون ويوشع، وهما نبيان، فأدرج بقية القوم في الوصف تغليبًا، أو يحمل على أالمراد: إن كنتم متقادين لي فيما آمركم به، قال: والتحقيق الذي قامت عليه الأدلة ما رجحناه من الخصوصية بالنسبة إلى الأمم، وأن كل ما ورد من إطلاق ذلك فيمن تقدم فإنما أطلق على نبي، أو ولده تبعًا، أو جماعة فيهم نبي غلب لشرفه، ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} الآية، فإن الحواريين فيهم أنبياء منهم الثلاثة المذكورون في قوله تعالى: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ، إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} الآية، نص العلماء على أنهم من حواري عيسى، وأحد قولي العلماء، أن الثلاثة أنبياء، ويرشحه ذكر الوحي إليهم؛ "ولأن الإيمان" لكونه التصديق القلبي "أخص من الإسلام" لأنه الانقياد للأحكام المأمور بها، فإن صحبه تصديق قلبي فمسلم فقط تجري عليه أحكام الدنيا، ولا ينفعه ذلك عند الله، "كما هو مذهب كثير من العلماء، وليس خاصًا بهذه الأمة بل يوصف به" أي: بالإيمان "كل من دخل في شريعة مقرًا بالله تعالى وبأنبيائه كما قاله الراغب" فقياس الوصف بالأخص الوصف بالأعم، وجوابه أنه قياس في معرض النصوص الظاهرة بخلافه، فلا يعتبر. وقد حكى السيوطي القولين في تأليف سماه إتمام النعمة، ورجح القول بالاختصاص، وذكر له ثلاثة وعشرين دليلا، منها ما رواه ابن راهويه، وابن أبي شيبة عن مكحول: كان لعمر على رجل حق، فأتاه يطلبه، فقال عمر: لا والذي اصطفى محمدًا على البشر، لا أفارقك، فقال اليهودي: والله ما اصطفاه، فلطمه عمر، فأتى النبي فأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل يا يهودي آدم صفي الله, وإبراهيم خليل الله، وموسى نجي الله، وعيسى روح الله، وأنا حبيب الله، بل يا يهودي تسمى الله باسمين سمى بهما أمتي هو السلام، وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن, وسمي أمتي المؤمنين" الحديث، وهو صريح في اختصاصنا بوصف الإسلام، وإلا لم يحسن إيراده في معرض التفضيل، إذ كان اليهودي يقول: ونحن وسائر الأمم كذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 كما قال الراغب.   وأخرج البخاري في تاريخه، والنسائي، وابن مردويه، عن الحارث الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا بدعوى الجاهلية، فإنه من جثا جهنم" قال رجل: وإن صام وصلى، قال: "نعم، فادعوا الله بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله". ولابن جرير عن قتادة: ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله, ويعدهم الخير حتى يجيء الإسلام، فيقول: يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فصريحه اختصاص الإسلام بنا لفرقه بينه وبين الإيمان المتعلق بأهل الأديان، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} الآية، دليل على الخصوص، وإلا لقال: الكتابيون نحن مسلمون وديننا الإسلام، وذكر في آخره قول السبكي: القصد من تكثير الأدلة أن الآية الواحدة والآيتين قد يمكن تأويلها، ويتطرق لها الاحتمال، فإن كثرت قد تترقى إلى حد يقطع بإرادتها ظاهرًا، ونفي الاحتمال والتأويل، قال: ولذا ذكرت ثلاثة وعشرين دليلا؛ لأن كلا على انفراده يمكن تأويله، وتطرق الاحتمال، فلما كثرت غلب على الظن إرادة ظاهرها، ونفي الاحتمال والتأويل، وعبرت بغلب على الظن دون القطع، لأجل ما عارضها من الآيات التي استدل بها للقول الآخر. ومنها: قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية، والجواب أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال على حقيقته، وهو الأصل لا الحال ولا الماضي الذي هو مجاز، والتقدير: إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا، ويرشحه أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن، وإنهم كانوا على قصد الأسلام به إذا جاء به صلى الله عليه وسلم لما عندهم من صفاته وقرب زمانه، وليس قصدهم الثناء على أنفسهم، بأنهم كانوا بصفة الإسلام؛ لأنه ينبو عنه المقام أو يقدر في الآية: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} الآية، توصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشحه ذكر الصلة في قوله: {قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} الآية، فدل على أنها مراده في الثانية، وحذفت كراهة لتكرارها مرتين في آية واحدة لذكرها في قوله: {آمَنَّا بِهِ} الآية، أو وصفهم به من أول أمرهم اعتبارًا بما ختم لهم من الدخول في الإسلام؛ كقول الأشعري: من كتب الله أن يموت مؤمنًا، فيسمى عند الله مؤمنًا، ولو في حالة كفر سبقت منه، وكذا عكسه فإذا وصف الكافر حال كفره بالإيمان للخاتمة، فلأن يوصف بالإسلام من كان على دين حق لما قدر له من دخوله فيه من باب أولى، انتهى. هذا ومن خصوصيات الإسلام، أنه يجب ما قبله، أي: يقطع، روى ابن سعد والطبراني، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 ومنها أن شريعتهم أكمل من جميع الشرائع المتقدمة، وهذا مما لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه. وانظر إلى شريعة موسى عليه السلام, فقد كانت شريعة جلال وقهر، أمروا بقتل نفوسهم في التوبة، وحرمت عليهم الشحوم، وذوات الظفر وغيرها من الطيبات، وحرمت عليهم الغنائم وعجل لهم في العقوبات ما عجل، وحملوا من الآصار والأغلال.   عن الزبير وجبير بن مطعم، مرفوعًا: "الإسلام يجب ما كان قبله" وفي رواية: يهدم، أي: من كفر وعصيان، وما يترتب عليهما من حقوق الله، أما حقوق عباده، فلا تسقط إجماعًا، ولو كان المسلم ذميًا والحق ماليًا، وظاهره أساء بعده أو أحسن، وأما خبر: "من أحسن في الإسلام لم يؤخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر". رواه الشيخان، فوارد على نهج التحذير. وروى مسلم عن عمرو بن العاصي، قلت: يا رسول الله تبايعني على أن تغفر لي، فقال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله". ففيه أن كل واحد بمفرده يكفر ما قبله. قال ابن تيمية: واختص صحبه صلى الله عليه وسلم باسم الأنصار والمهاجرين، فهما اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بهما، كما سماهم بالمسلمين. "ومنها: أن شريعتهم أكمل من جميع الشرائع المتقدمة" لا زيادة تشديد فيها، فيصعب القيام بها، ولا زيادة تخفيف، بل على غاية الاعتدال وخير الأمور أوسطها، "وهذا مما لا يحتاج إلى بيانه لوضوحه" لأنك إذا تدبرت في أي حكم منها وجدته معتدلا، واستظهر على ذلك بقوله: "وانظر إلى شريعة موسى عليه السلام، فقد كانت شريعة جلال، وقهر أمروا بقتل نفوسهم في التوبة" وقد امتن الله علينا بعدم ذلك، وذكرنا بهذه النعمة في قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} الآية، أي: إنه رحمنا فلم يكتب علينا ذلك، كما كتبه على بني إسرائيل، "وحرمت عليهم الشحوم" وهي الثروب وشحم الكلى من البقر والغنم، إلا ما حملت على ظهورهما ... إلخ، "وذوات الظفر" وهو ما لم تفرق أصابعه كالإبل والنعام والطيور، "وغيرها من الطيبات" بعد حلها؛ كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية، وقال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} ، أي: الإبل لما حصل له عرق النسا، بالفتح والقصر، فنذر إن شقي لا يأكلها، فحرم عليه، "وحرمت عليهم الغنائم" وعلى غيرهم سوانا، فجعلت لنا من أحل أموالنا، "وعجل لهم من العقوبات ما عجل" من عذاب وغيره، كعقابهم بتحريم ما كان لهم حلالا، "وحملوا من الآصار والأغلال" عطف تفسير، أي: التكاليف الشاقة، "ما لم يحمله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 ما لم يحمله غيرهم. وكان موسى عليه السلام من أعظم خلق الله هيبة ووقارًا وأشدهم بأسًا وغضبًا لله، وبطشًا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه. وعيسى عليه السلام كان في مظهر الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان، وكان لا يقاتل ولا يحاب، وليس في شريعته قتال ألبتة، والنصارى يحرم عليهم في دينهم القتال، وهم به عصاة، فإن الإنجيل يأمر فيه: من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا، وليس في شريعتهم مشقة ولا آصار ولا أغلال.   غيرهم" بسبب ظلمهم، "وكان موسى عليه السلام من أعظم خلق الله هيبة ووقارًا" كسحاب رزانة، "وأشدهم بأسًا" شدة، "وغضبًا لله وبطشًا بأعداء الله، فكان لا يستطاع النظر إليه" لذلك، ونبينا صلى الله عليه وسلم: وإن كان أعظم في كل ذلك منه، لكنه كان يعامل أمته بالرفق واللين، فيقدمون عليه ويكلمونه، "وعيسى عليه السلام كان في مظهر" أي: محل ظهور "الجمال، وكانت شريعته شريعة فضل وإحسان" لا من كل وجه، بل فيها بعض تشديد، لكنها تخفيف بالنسبة لشريعة موسى؛ لقوله "وكان لا يقاتل ولا يحارب، وليس في شريعته قتال البتة، والنصارى يحرم عليهم في دينهم القتال وهم به عصاة" لحرمته عليهم، "فإن الإنجيل" كتابهم، "يأمر فيه" بقوله: "من لطمك" ضربك بكفه، مفتوحة، ويكون على الخد وعلى غيره من الجسد، ولذا قال: "على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر" إشارة إلى عدم الانتقام، "ومن نازعك ثوبك فأعطه رداءك، ومن سخرك ميلا فامش معه ميلين، ونحو هذا" مما كله كناية عن المساهلة مع الناس في الأخذ والعطاء والمعاشرة؛ كما يدل عليه سوقه في مقام تخفيف شرع عيسى، لا الأمر بشيء مما ذكر حقيقة، "وليس في شريعتهم مشقة، ولا آصار، ولا أغلال" تفسيري؛ كما في شرع موسى، فلا يخالف قول ابن الجوزي: بدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع صالح ونوح وإبراهيم تثقيل، ثم جاء موسى بالتشديد والأثقال، وجاء عيسى بنحوه، وجاءت شريعة نبينا بنسخ تشديد أهل اكتاب، ولا يطلق على تسهيل من كان قبلهم، فهي على غاية الاعتدال، فقوله: وجاء عيسى بنحوه ظاهر في خلاف كلام المصنف، لكن يمكن تأويله، بأنه تشديد نسبي، وإن كان بعيدًا يأباه لفظ الإنجيل المذكور، فإن ظاهره أن لا تشديد فيها البتة، فلعل أصل العبارة: وجاء عيسى بضده فتحرفت بنحوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 وأما النصارى فابتدعوا تلك الرهبانية من قبل أنفسهم ولا تكتب عليهم. وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فكان مظهر الكمال، الجامع لتلك القوة والعدل والشدة في الله، واللين والرأفة والرحمة فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك تأتي شريعته صلى الله عليه وسلم بالعدل إيجابًا له وفرضًا، وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا، وبالشدة في موضع الشدة، وباللين في موضع اللين، ووضع السيف موضعه، ووضع الندى موضعه، فيذكر الظلم ويحرمه، والعدل ويأمر به، والفضل ويندب إليه في بعض آية، كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] الآية، فهذا عدل.   "وأما النصارى، فابتدعوا تلك الرهبانية" وهي رفض النساء واتخاذ الصوامع "من قبل أنفسهم، ولا تكتب عليهم" أي: لم يؤمروا بها؛ كما قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} الآية، وهو منقطع، أي: لكن فعلوها ابتغاء ... إلخ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا خزم، ولا زمام، ولا سياحة، ولا تبتل، ولا ترهب في الإسلام" رواه عبد الرزاق، وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام"، رواه أحمد وقال عليه الصلاة والسلام: "تزوجوا فأني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى"، رواه البيهقي. "وأما نبينا صلى الله عليه وسلم، فكان مظهر" بفتح الميم محل ظهور، "الكمال الجامع لتلك القوة، والعدل والشدة في الله، واللين والرأفة، والرحمة، فشريعته أكمل الشرائع، وأمته أكمل الأمم، وأحوالهم ومقاماتهم أكمل الأحوال والمقامات، ولذلك" المذكور من كونه مظهر ... إلخ، "تأتي" بمعنى أتت "شريعته بالعدل"، أي: الحكم المشمل عليه وهو القصد، أي: التوسط في الأمور، ثم تنوع ذلك الحكم إلى واجب وغيره؛ كما قال "إيجابًا له" أي: للعدل بمعنى الحكم، كما علم، "وفرضًا" مساوٍ "وبالفضل ندبًا إليه واستحبابًا" لا فرضًا وإيجابًا كالعفو عن الجاني، "وبالشدة في موضع الشدة" كقتال الكفار ونحوهم، "وباللين في موضع اللين" كالعفو عن الأسارى، "ووضع السيف موضعه، ووضع الندى" أي الخير "موضعه" أي: المحل اللائق به شرعًا، "فيذكر الظلم ويحرمه والعدل ويأمر به، والفضل ويندب" أي: يدعو "إليه في بعض آية؛ كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، سميت الثانية بذلك لمشابهتها للأولى صورة، وإن كانت عدلا لوقوعها جزءًا، والسيئة هي الفعلة القبيحة. قال الجلال: وهذا ظاهر فيما يقتص منه من الجراحات، قال بعضهم: وإذا قال له: أخزاك الله، فيقول له: أخزاك الله، "فهذا عدل" ولذا قال صلى الله عليه وسلم لهبار بن الأسود: "سب من سبك"، لما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، فهذا فضل {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] ، فهذا تحريم للظلم. وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، فهذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126] ندب إلى الفضل. وكذلك تحريم ما حرم على هذه الأمة صيانة وحمية لهم، حرم عليهم كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، فتحريمه عليهم رحمة، وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة، كما أشرت إليه قريبًا. وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم كيوم الجمعة، كما سأذكره إن شاء الله تعالى في.   كانوا يسبونه بعد إسلامه بما كان منه قبله، فكفوا عنه، {فَمَنْ عَفَا} عن ظلمه {وَأَصْلَحَ} الود بينه وبينه بالعفو عنه، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي: إن الله يأجره لا محالة، "فهذا فضل. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من عفا عند القدرة عفا الله عنه يوم العسرة"، رواه الطبراني، وقال: "من عفا عن دم لم يكن له ثواب إلا الجنة". رواه الخطيب. وقال عليه السلام: "من عفا عن قاتله دخل الجنة"، رواه ابن منده، أي: مع السابقين، أو بلا سبق عذاب أو هو إعلام بوفاته على الإسلام وإلا من سوء الخاتمة {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي: البادين بالظلم فيرتب عليه عقابهم، "فهذا تحريم للظلم" وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا". "وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ، هذا إيجاب للعدل وتحريم للظلم" وهو العقاب بغير مثل ما عوقبوا به، {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} عن العقاب، {لَهُوَ} أي الصبر {خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ندب على الفضل دون إيجابه فترتاح النفوس، بذكره وتسمح به، "وكذلك تحريم ما حرم الله على هذه الأمة صيانة وحمية لهم" عما يضرهم كالميتة والدم المسفوح، "حرم عليهم كل خبيث" كما قال {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} ، "وضار" كالخنزير، "وأحل لهم كل طيب" أي: مستلذ لا ضر فيه؛ كما قال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، "ونافع" للبدن والعقل، "فتحريمه عليهم رحمة وعلى من كان قبلهم لم يخل من عقوبة؛ كما أشرت إليه قريبًا" في قوله: "وقد كان بنو إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به وأخطئوا عجلت لهم العقوبة"، فحرم عليه شيء من مطعم أو مشرب، "وهداهم لما ضلت عنه الأمم قبلهم؛ كيوم الجمعة كما سأذكره إن شاء الله تعالى في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 مقصد عباداته عليه السلام، وتقدم ما يشهد له. ووهب لهم من علمه وحلمه، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم، كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله، كما كمل في كتابهم من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله، وكذلك في شريعته. فهذه الأمة هم المجتبون، كما قال إلههم: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وجعلهم شهداء على الناس، فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم، أشار إليه ابن القيم. ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة. رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، وابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبي بصرة.   مقصد عباداته عليه السلام وتقدم ما يشهد له" قريبًا، "ووهب لهم من علمه وحلمه" كمالات كثيرة لم تحصل لغيرهم، "وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وكمل لهم من المحاسن ما فرقه في الأمم" فجمعوا محاسن كل أمة، "كما كمل لنبيهم من المحاسن ما فرقه في الأنبياء قبله" وزاده عليهم "وكما كمل في كتابهم من المحاسن ما فرقه في الكتب قبله، وكذلك في شريعته فهذه الأمة هم المجتبون" أي: الذين اختارهم الله لدينه ولنصره؛ "كما قال إلههم" جل وعلا: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، أي: ضيق "وجعلهم شهداء على الناس, فأقامهم في ذلك مقام الرسل الشاهدين على أممهم أشار إليه ابن القيم"، وذكر ابن عبد السلام أنهم نزلوا منزلة العدول من الحكام فيشهدون على الناس أن رسلهم بلغتهم ما جاءوا به عن الله، قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، قال: وهذه خصيصية لم تثبت لغيرهم. "ومنها: أنهم لا يجتمعون على ضلالة" أي: محرم، باعتقاد خلاف لواقع، فيشمل كل حكم اعتقد فيه خلاف ما هو عليه في نفس الأمر، فلا يجتمعون على نفي مكروه، لا ندب مندوب، ولا إباحة مباح، بل متى اجتمعوا على حكم، كان عند الله كذلك؛ كما أفاده كلام الشيخ ولي الدين، ويأتي، ولكن قيدوا الأمة هنا بالعلماء، لأن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها يفزع في النوائب، فاقتضت الحكمة حفظها، "رواه أحمد في مسنده والطبراني" سليمان بن أحمد بن أيوب "في" معجمه "الكبير، وابن أبي خيثمة" أحمد بن زهير بن حرب البغدادي "في تاريخه" وهو كبير، قال في محمد بن سلام الجمحي: لا أعرف أغزر من فوائده، "عن أبي بصرة" بفتح الموحدة، وإسكان الصاد المهملة، واسمه حميل، بضم الحاء المهملة، ولام آخره، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 الغفاري مرفوعًا في حديث: "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها". ورواه ابن أبي عاصم والطبراني أيضًا من حديث أبي مالك الأشعري رفعه: "إن الله أجاركم من ثلاث، -وذكر منها- وأن لا تجتمعوا على ضلالة".   وقيل: بفتح أوله، وقيل: بالجيم ابن بصرة، بفتح الموحدة، ابن وقاص بن حبيب بن غفار، وقيل: ابن حاجب بن غفار "الغفاري" روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه أبو هريرة، وجماعة، وهو وأبوه وجده صحابة، قال ابن يونس: شهد فتح مصر واختط بها، ومات بها، ودفن في مقبرتها، وقال أبو عمر: كان يسكن الحجاز، ثم تحول إلى مصر، ويقال: إن عزة صاحبة كثير من ذريته، وأنكر ذلك ابن الأثير، "مرفوعًا في حديث: "سألت ربي أن لا تجتمع أمتي" أي: أمة الإجابة "على ضلالة، فأعطانيها" أي: هذه الخصلة، "ورواه ابن أبي عاصم" الحافظ الكبير، الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن النبيل، أبي عاصم الشيباني الزاهد، قاضي أصبهان، له الرحلة الواسعة والتصانيف النافعة. قال ابن أبي حاتم: ذهبت كتبه بالبصرة في فتنة الزنج فأعاد من حفظه خمسين ألف حديث. وقال ابن الأعرابي: كان من حفاظ الحديث والفقه، ظاهري المذهب، مات في ربيع الآخر سنة سبع وثمانين ومائتين، "والطبراني أيضًا" وغيرهما، كلهم "من حديث أبي مالك الأشعري". قال الحافظ في تخريج أحاديث المختصر: اختلف في أبي مالك راوي هذا الحديث؛ فإن في الصحب ثلاثة، يقال لكل منهم أبو مالك الأشعري، أحدهم راوي حديث المعازف، مشهور بكنيته، وفي اسمه خلف الثاني الحارث بن الحارث، مشهور باسمه أكثر الثالث كعب بن عاصم، مشهور دون كنيته، حتى قال المزي في ترجمته: لا يعرف له كنية، وتعقب بأن اليخين والنسائي كنوه، وذكر المزي هذا الحديث في ترجمة الثاني، ووضح لي أنه الثالث؛ لأن ابن أبي عاصم لما خرج الحديث المذكور، قال في سابق سنده، عن كعب بن عاصم الأشعري، فدل على أنه هو إلا أن يكون ابن أبي عاصم تصرف في التسمية بظنه وهو بعيد. "إن الله تعالى أجاركم" حماكم ومنعكم، وأنقذكم "من ثلاث" خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعًا، وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق، هذا ما أشار إلى حذفه، بقوله: "وذكر منها" تلو هذا ما لفظه: "وأن لا تجتمعوا على ضلالة". قال الطيبي: حرف النفي في القرآن زائد؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ} الآية، وفائدته معنى الفعل وتحقيقه، وذلك أن الإجارة إنما تستقيم إذا كانت الخلال مثبتة لا منفية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 قال شيخنا: وبالجملة، فهو حديث مشهور المتن، وأسانيده كثيرة وله شواهد متعددة في المرفوع وغيره. ومنها: إن إجماعهم حجة.   "قال شيخنا" يعني السخاوي في المقاصد: "وبالجملة، فهو حديث مشهور المتن" أي: لفظ الحديث، وإنما قال السخاوي هذا القول شيخه الحافظ في إسناده انقطاع، وله طرق لا يخلو واحد منها من مقال، لكنه قال في موضع آخر: إسناده حسن؛ لأنه من رواية أبي بكر بن عياش عن الشاميين، وهي مقبولة. قال: وله شاهد عند أحمد، رجاله ثقات، لكن فيه راوٍ لم يسم، "وأسانيده كثيرة" متعددة الطرق والمخارج، وذلك علامة القوة، فلا ينزل عن الحسن، فأخرجه أبو نعيم والحاكم، وأعله اللالكائي في السنة له، وابن منده، ومن طريقه الضياء في المختارة، عن ابن عمر رفعه: "أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة أبدًا، وإن يد الله مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار"، وكذا أخرجه الترمذي، لكن بلفظ: "هذه الأمة"، أو قال: "أمتي"، ورواه ابن ماجه، والدارقطني وغيرهما، عن أنس مرفوعًا: "أن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافًا فعليكم بالسواد الأعظم"، والحاكم عن ابن عباس، رفعه: "لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة، ويد الله مع الجماعة". وابن أبي عاصم وغيره، مرفوعا عن عقبة بن عمر الأنصاري، مرفوعًا في حديث: "عليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة"، والطبري في تفسيره عن الحسن مرسلا بلفظ أبي بصرة، "وله شواهد متعددة في المرفوع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كقوله: "أنتم شهداء الله في الأرض"، "و" في "غيره" أي: غير المرفوع، وهو الموقوف؛ كقول ابن مسعود: إذا سئل أحدكم، فلينظر في كتاب الله، فإن لم يجد، ففي سنة رسول الله، فإن لم يجد، فلينظر ما اجتمع عليه المسلمون وإلا فليجتهد، هذا، والاختلاف شامل لما كان في أمر الدين كالعقائد، أو الدنيا كالإمامة العظمى، ومعنى: "فعليكم بالسواد الأعظم". الزموا متابعة جماهير المسلمين الذين يجتمعون على طاعة السلطان وسلوك المنهج القويم، فهو الحق الواجب، والفرض الثابت الذي يحرم خلافه، فمن خالفه مات ميتة جاهلية. "ومنها: أن إجماعهم حجة" قاطعة، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، إذ الواحد منهم غير معصوم، بل كل أحد يؤخذ من قوله، ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال مالك. قال الحافظ الولي العراقي: والمراد به الاتفاق، أي: الاشتراك في القول، أو الفعل، أو الاعتقاد، أو ما في معناها من السكوت عند من يقول به، ويتناول الأمور الشرعيات واللغويات بلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 وإن اختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابًا، روى البيهقي في المدخل في حديث من رواية سليمان بن أبي كريمة، عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال:   نزاع، والعقليات والدنيويات على الراجح، "وأن اختلافهم" أي: الأمة، أي: مجتهديها في الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها "رحمة" أي: توسعة على الناس، ونعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة بجعل المذاهب كشرائع متعددة، بعث صلى الله عليه وسلم بكلها لئلا تضيق بهم الأمور، فالمذاهب التي استنبطها الصحابة فمن بعدهم من أقواله وأفعاله على تنوعها كشرائع متعددة له، وقد وعد بوقوع ذلك، فوقع، فهو من معجزاته. أما الاجتهاد في العقائد فضلال، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة، فإنما الحديث في الاختلاف في الأحكام؛ كما في تفسير البيضاوي، قال: فالنهي مخصوص بالتفرق في الأصول لا في الفروع. قال السبكي: لا شك أن الاختلاف في الأصول ضلال، وسبب كل فساد؛ كما أشار إليه القرآن، قال: وما ذهب إليه جمع؛ أن المراد الاختلاف في الحرف والصنائع، فمردود بأنه كان المناسب أن يقال: اختلاف الناس إذ لا خصوصية للأمة، فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف، فلابد من خصوصية، قال: وما ذكره إمام الحرمين، كالحليمي؛ أن المراد اختلافهم في المناصب والدرجات والمراتب، فلا ينساق الذهن من لفظ الاختلاف إليه، "وكان اختلاف من قبلهم عذابًا" ومن جملته أنه كان في شرع بني إسرائيل نسخ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه، كما في الخصائص بخلاف شرعنا فيرفع، فتصير المسألة، كالمجمع عليها، فليس لحاكم آخر نقضه، بل عليه تنفيذه، وإن كان يرى غيره أصوب على الأرجح، إلا أن يكون مما ينقض. "روى البيهقي" وفي نسخة: رواه بالضمير، والأول أصوب؛ لأنه لم يروِ الترجمة إلا أن يكون المراد بمعناه، فقد ذكر السمهودي, وغيره أن اختلاف الصحابة في معنى اختلاف الأمة "في المدخل" إلى السنن الكبرى "في حديث من رواية سليمان بن أبي كريمة عن جويبر" تصغير جابر، ويقال اسمه: جابر وجويبر لقب ابن سعيد الأزدي، أبي القاسم، نزيل الكوفة، راوي التفسير، مات بعد الأربعين ومائة، "عن الضحاك" بن مزاحم الهلالي الخراساني، صدوق، مات بعد المائة، روى له الأربعة. "عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله، فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 "واختلاف أصحابي لكم رحمة".   فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم". "واختلاف أصحابي لكم رحمة" ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي بلفظه سواء، فاقتصر المصنف على حاجته منه، والأوجه أن المراد اختلافهم في الأحكام، ويؤيده ما رواه البيهقي في المدخل، عن عمر بن عبد العزيز: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة؛ وكذا قول يحيى بن سعيد الآتي: أهل العلم ... إلخ، وقول مالك لما سأله الرشيد الخروج معه إلى العراق، وأن يحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان الناس على القرآن، أما حمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه؛ لأن الصحابة افترقوا في الأمصار، فعند كل أهل مصر علم صريح في أن المراد الاختلاف في الأحكام، وما نقله ابن الصلاح عن مالك؛ أنه قال في اختلاف الصحابة: مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد، وليس كما قال ناس فيه توسعة، فإنما هو بالنسبة إلى المجتهد؛ لقوله "فعليك بالاجتهاد"، فالمجتهد مكلف بما أدى إليه اجتهاده، فلا توسعة عليه في اختلافهم، وإنما التوسعة على المقلد، فقوله: اختلاف أمتي وأصحابي رحمة للناس، أي: المقلدين. وفي قول مالك: مخطئ ومصيب، رد على القائل إن المجتهد يقلد الصحابة دون غيرهم؛ كما أفاده السمهودي، ثم لا يرد على هذا كله نهي الله عن الاختلاف بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الآية، وبقوله: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية، لأن المنهي عنه الاختلاف على الرسل فيما جاءوا به. قال ابن العربي وغيره: إنما ذم الله كثرة الاختلاف على الرسل كفاحًا بدليل خبر: "إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة اختلافهم على أنبيائهم"، أما هذه الآية، فمعاذ الله أن يدخل فيها أحد من العلماء المختلفين، لأنه أوعد الذين اختلفوا بعذاب عظيم، والمعترض موافق على أن اختلاف الأمة في الفروع، مغفور لمن أخطأ منهم، فتعين أن الآية فيمن اختلف على الأنبياء، فلا تعارض بينها وبين الحديث، وفيه رد على المتعصبين لبعض الأئمة على بعض، وقد عمت به البلوى. قال الذهبي: وبين الأئمة اختلاف كثير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات، وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابًا، وتجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل، فإذا رأيت فقيهًا خالف هذين أورد حديثًا أو حرف معناه، فلا تبادر لتغليطه، وقد قال علي لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل، يا هذا إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله، وما زال الاختلاف بين الأئمة في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكل على تعظيم البارئ وأنه ليس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 وجويبر: ضعيف جدًا، والضحاك عن ابن عباس: منقطع. وهو كما قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في مباحث القياس بلفظ: "اختلاف أمتي رحمة للناس". قال: وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما: إسحاق.   كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأزكى العلم لمن دونه وتنبيه الأغفل الأضعف، فإن داخلها هو من الأكمل وانكسار من الأصغر فذاك دأب النفوس الزكية في بعض الأحيان غفلة عن الله، فما الظن بالنفوس الشريرة، انتهى. "وجويبر ضعيف جدًا، والضحاك عن ابن عباس منقطع" لأنه لم يسمع منه، والضحاك كثير الإرسال، وقد عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب العلم والحلم، بلفظ: "اختلاف أصحابي رحمة لأمتي"، قال: وهو مرسل ضعيف. "وهو كما قال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: حديث مشهور على الألسنة" لفظ المقاصد: قرأت بخط شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر، أي حديث "واختلاف أصحابي لكم رحمة"، معنى حديث مشهور على الألسنة، وبهذا يتضح قوله: "وقد أورده ابن الحاجب في المختصر" الأصولي في مباحث القياس بلفظ: "اختلاف أمتي رحمة للناس" وإنما كان بمعناه؛ لأن اختلاف الصحابة في معنى اختلاف الأمة، كما أفصح به غيره، وكذا أورده نصر المقدسي في كتاب الحجة له، والبيهقي في الرسالة الأشعرية، ولم يذكرا له سندًا، ولا صحابيًا، وكذا إمام الحرمين والقاضي حسين. قال السيوطي: ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إليها، "قال" الحافظ: "وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة؛ أنه لا أصل له" بهذا اللفظ، "لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا" مصدر ميمي، أي: استطرادًا لمناسبة. "وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن" بكسر الجيم: اسم فاعل من مجن مجونًا، طلب وغلظ، ومنه الماجن لمن لا يبالي قولا وفعلا كأنه صلب الوجه، "والآخر ملحد" طاعن في الدين، قال بعض الأئمة: وهم في زماننا الباطنية المدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا، وأنهم يعلمون الباطن، فأحالوا بذلك الشريعة، لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن، وقال أبو عبيدة: ألحد إلحادًا، جادل ومارى، ذكره المصباح، "وهما إسحاق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 الموصلي، وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعًا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، قال: ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه نص في عزو الحديث، ولكن أشعر بأن له أصلا عنده. ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، أشار إليه شيخنا في المقاصد الحسنة. ومنها أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم عذابًا.   الموصلي" بفتح، فسكون وكسر المهملة، نسبة إلى مدينة بالجزيرة، الماجن المغني في الدولة العباسية، "وعمرو بن بحر الجاحظ" لقب لعمرو الملحد لجحظ كان بعينيه، وكان قبيح الشكل جدًا حتى قيل فيه: لو يمسخ الخنزير مسخًا ثانيا ... ما كان إلا دون قبح الجاحظ رجل ينوب عن الجحيم بوجهه ... وهو القذى في عين كلا ملاحظ "وقالا جميعًا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، قال" الحافظ: "ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه نص في عزو الحديث، ولكن أشعر بأن له أصلا عنده" وهو من كبار الحفاظ، "ومن حديث" عطف على قوله: من رواية سليمان، أي: وروى البيهقي أيضًا في المدخل من حديث "الليث بن سعد" بن عبد الرحمن الفهمي، المصري، الإمام، الثقة، الثبت، الفقيه، المشهور، مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري، المدني، ثقة، ثبت، من رجال الجميع، مات سنة أربع وأربعين ومائة أو بعدها، "قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا" لأنه بحسب فهم الأدلة في الأحكام الاجتهادية، "أشار إليه شيخنا" السخاوي "في المقاصد الحسنة" في الأحاديث المشهورة على الألسنة. "ومنها: أن الطاعون" فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله، ووضعوه دالا على الموت العام، كالوباء، ذكره الجوهري، "لهم شهادة" أي: سبب لكون الميت به شهيدًا، وظاهرًا يشمل الفاسق، فيكون شهيدًا، لكنه لا يساوي مرتبة مسلم غير فاسق في أنه يغفر له جميع ذنوبه، وإنما يغفر له غير حق الآدمي، أخذًا من خبر: إن الشهداء يغفر لهم كل ذنب إلا الدين، قال شيخ الإسلام زكريا وهو ظاهر، "ورحمة" رحم بها المؤمنين، وهل المراد بهم الكمل أو أعم احتمالان، "وكان على الأمم عذابًا" ففيه مزيد عناية بهذه الأمة، حيث جعل ما كان عذابًا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 رواه أحمد والطبراني في الكبير، عن حديث أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورجال أحمد ثقات ولفظه: "الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين".   لغيرهم وبلاء رحمة لهم؛ لحصول الشهادة لهم به، وأن العادة لا تؤثر بنفسها؛ لأنه كان بلاء بنفسه لمن تقدم، ثم عاد بنفسه وصفته رحمة، والصفة واحدة لم تتغير، "رواه أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" مشهور بكنيته، قيل: اسمه أحمر براء آخره، وقيل: سفينة، قال في الإصابة: والراجح أنه غيره. ووقع في الاستيعاب أحمر بن عسيب، وتعقب: ويحتمل أن كنيته وافقت اسم أبيه، "ورجال أحمد ثقات، ولفظه: "الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز" بكسر الراء، أي: عذاب "على الكفار" ووقع في بعض الأصول رجس، بسين بدل الزاي، والمعروف بالزاي. وروى أحمد والبخاري عن عائشة: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فقال: "الطاعون كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد"، وسر التعبير بمثل أن من لم يمت به له مثل أجره، وإن لم يحصل له درجة الشهادة نفسها. قال الحافظ: ويؤخذ منه أن من اتصف بالصفات المذكورة، ثم مات بالطاعون له أجر شهيدين، ولا مانع من تعدد الثواب بتعدد الأسباب، كمن يموت غريبًا، أو نفساء بالطاعون، والتحقيق أنه يكون شهيدًا بوقوعه له، ويضاف له مثل أجر شهيد لصبره، فإن درجة الشهادة شيء وأجرها شيء، قال: ويؤخذ منه أن من لم يتصف بذلك لا يكون شهيدًا؛ وإن مات بالطاعون، وذلك ينشأ من شؤم الاعتراض الناشئ عن الضجر والسخط للقدر, وفي الصحيحين مرفوعًا: "الطاعون رجز أو عذاب، أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها". قال الخطابي: أحد الأمرين تأديب وتعليم، والآخر تفويض وتسليم، وروى أحمد برجال ثقات عن عائشة مرفوعًا: "الطاعون غدة كغدة البعير المقيم به، كالشهيد والفار منه كالفار من الزحف". وروى الطبراني وأبو نعيم بإسناد حسن، عن عائشة مرفوعًا: "الطاعون شهادة لأمتي، ووخز أعدائكم من الجن غدة كغدة الإبل، تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدًا، ومن أقام به، كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كالفار من الزحف". وروى الحاكم، عن أبي موسى مرفوعًا: "الطاعون وخز أعدائكم من الجن"، وخز بفتح الواو وسكون المعجمة، ثم زاي: أي: طعن، وفي النهاية تبعًا للهروي، إخوانكم، قال الحافظ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 ومنها أنهم إذا شهد اثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة. ومنها أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرًا.   ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة، ولا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة، وعزاه بعض لمسند أحمد، والطبراني وابن أبي الدنيا، ولا وجود له فيها. قال السيوطي: وأما تسميتهم إخوانًا في حديث المطعم، فباعتبار الإيمان، فإن الأخوة في الدين لا تستلزم الاتحاد في الجنس. "ومنها: أنهم إذا شهد اثنان منهم" عدلان، لا نحو فاسق ومبتدع، "لعبد بخير" بعد موته؛ بأن أثنيا عليه بخير، فليس المراد الشهادة عند القاضي، ولا لفظ أشهد بخصوصه، "وجبت له الجنة" قال الحافظ: أي ثبتت، أو هو في صحة الوقوع كالواجب، إذ لا يجب على الله شيء، بل الثواب فضل، والعقاب عدل، لا يسأل عما يفعل، والمراد مع السابقين الأولين، أو من غير سبق عذاب، وإلا فكل من مات مسلمًا دخلها، ولا بد شهد له أحد، أم لا. روى أحمد والبخاري والنسائي عن عمر، مرفوعًا: "أيما مسلم شهد له أربعة أدخله الله الجنة" قيل: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة"، قيل: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد. قال النووي: في معناه قولان: أحدهما: أن هذا الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل، وكان ثناؤهم مطابقًا لأفعاله، فيكون من أهل الجنة، فإن لم يكن كذلك، فليس هو مراد بالحديث. والثاني: وهو الصحيح المختار، أنه على عمومه وإطلاقه، وإن كل مسلم مات فألهم الله تعالى الناس أو معظمهم الثناء، عليه كان ذلك دليلا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك، أم لا؟ لأنه وإن لم تكن أفعاله تقتضيه فلا تتحتم عليه العقوبة، بل هو في المشيئة، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه، دل ذلك على أنه شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وجبت وأنتم شهداء الله"، ولو كان لا ينفعه ذلك إلا أن تكون أعماله تقتضيه، لم يكن للثناء فائدة، وقد أثبت صلى الله عليه وسلم له فائدة، انتهى، وترك الشهادة بالشر لفهم حكمه قياسًا أو اختصارًا، وهو أظهر؛ كما قال الحافظ، وبه صرح حديث أنس في الصحيحين مرفوعًا: "من أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض". "وكانت الأمم السالفة إذا شهد منهم مائة" لحديث أبي يعلى، أن الأمم السابقة المائة، أمة إذا شهدوا لعبد بخير وجبت له الجنة، وأن أمتي الخمسون، منهم أمة، فإذا شهدوا لعبد بخير وجبت له الجنة. "ومنها: أنهم أقل الأمم عملا، وأكثرهم أجرًا" لخبر مالك، وأحمد، والبخاري، عن ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 وأقصرهم أعمارًا، وأوتوا العلم الأول والآخر، وآخر الأمم فافتضحت الأمم عندهم ولم يفتضحوا. ومنها: أنهم أوتوا الإسناد، وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة.   عمر مرفوعًا: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار، عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملا! قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء". قال السيوطي: والمراد تشبيه من تقدم بأول النهار إلى الظهر والعصر في كثرة العمل الشاق والتكليف، وتشبيه هذه الأمة بما بين العصر والليل في قلة ذلك، وتخفيفه، وليس المراد طول الزمن وقصره، إذ مدة هذه الأمة أطول من مدة أهل الإنجيل. قال إمام الحرمين: الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي لضرب الأمثال، "وأقصرهم أعمارًا" رحمة من الله بهم، وعطفًا عليهم أخرهم في الأصلاب حتى أخرجهم إلى الأرحام بعد نفاذ الدنيا، وجعل أعمالهم قصيرة ليقل التباسهم بالدنيا وتدنسهم بها، وكان الأمم الماضون أعمارهم، وأجسادهم، وأرزاقهم أضعاف ذلك، كان أحدهم يعمر ألف سنة، وحبة القمح ككلية البقر، والرمانة يحملها عشرة، وهكذا، فلطف الله بهذه الأمة ليأخذوا من الدنيا أرزاقًا قليلة بأجسام ضعيفة في مدة قصيرة، لئلا يأروا ويبطروا، ثم ضاعف لهم الحسنات، فجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما لا يعلمه إلا الله. "وأتوا العلم الأول" الذي أوتيه الأمم قبلهم "والآخر" الذي أوتوه، فجمع لهم ما فرق في غيرهم وزيدوا، "وآخر الأمم، فافتضحت الأمم عندهم" بما قص عليهم في القرآن من وقائع بعضهم الشنيعة، ومخالفتهم، وتعنتهم على أنبيائهم، وكفى بقول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} , {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} الآية، وغير ذلك، "ولم يفتضحوا". "ومنها: أنهم أوتوا الإسناد" وهو حكاية طريق المتن، والسند الطريق الموصلة إلى المتن، وقد يستعمل أحدهما في الآخر, والأمر سهل، "وهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة لم يؤتها أحد من الأمم قبلهم، "وسنة بالغة من السنن المؤكدة". قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، وعنه مثل الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 وقد روينا من طريق أبي العباس الدغولي قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقات. وهذه الأمة الشريفة -زادها الله شرفًا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف   يطلب أمر دينه بلا إسناد، كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم، وقال سفيان الثوري: الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح، فبأي شيء يقاتل؟ وقال الشافعي: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد، كمثل حاطب ليل. وفي تاريخ الحاكم عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: كان عبد الله بن طاهر إذا سألني عن حديث فذكرته له بلا إسناد سألني عن إسناده، ويقول: رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزمنى. فإن إسناد الحديث كرامة من الله تعالى لأمة محمد، وقيل في قوله تعالى: {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} : إسناد الحديث، وقال بقية: ذاكرت حماد بن زيد بأحاديث، فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة، يعني إسنادًا. "وقد روينا من طريق" الإمام "أبي العباس" محمد بن عبد الرحمن "الدغولي" بفتح الدال المهملة، والغين المعجمة، فواو، فلام، نسبة إلى دغول رجل، ويقال للخبز الذي ليس رقيقًا بسرخس دغول. قال ابن الأثير: فلعل بعض أجداد المنتسب كان يخبزه، "قال: سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة، وشرفها، وفضلها، بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، إنما هو صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها" أي: نقلوها "عن غير الثقات". قال ابن حزم: نقل الثقة حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال شيء خص به المسلمون دون جميع الملل، أما مع الإرسال والإعضال، فيوجد في اليهود، لكن لا يقربون به من موسى قرينًا من نبينا، بل يقفون حيث يكون بينهم وبينه أكثر من ثلاثين نفسًا، وإنما يبلغون به إلى مانوح وشمعون. وأما النصارى، فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق، "وهذه الأمة الشريفة زادها الله شرفًا بنبيها إنما تنص" أي: تروي "الحديث عن الثقة المعروف في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 في زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول مجالسة لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا وأكثر، حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه ويعدوه عدًا، فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه. وقال أبو حاتم الرازي: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله تعالى آدم أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذا.   زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم" لكن هذا الحصر إنما يكون لرواة الصحيح، والحسن؛ إذ الضعيف بأنواع قد رووه كثيرًا، "ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ، فالأحفظ، والأضبط فالأضبط" لما حفظ في صدره، بأن يثبت ما سمعه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، أو بكتابه، بصيانته عنده منذ سمع فيه، وصححه إلى أن يؤدي منه، "والأطول مجالسة لمن فوقه" أي: شيخه "ممن كان أقصر مجالسة" له؛ فإن قدم السماع من أقسام العلو النسبي، "ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهًا" تارة "وأكثر" أخرى، "حتى يهذبوه من الغلط والزلل، ويضبطوا حروفه، ويعدوه عدًا" ويبينوا الألفاظ التي اختلفت فيها الرواة، وعذر أصحاب الحديث في تكثير طرق الحديث، الواحد ليعتمد عليه، إذ المقبول ما اتصل سنده، وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة، والإعراض عن ذلك يستلزم ترك العمل بكثير من الأحاديث، اعتمادًا على ضعف الطريق التي فيها مقال، وقد قال عبد الله بن جعفر بن خالد: سألت إبراهيم بن سعيد الجوهري، ابغدادي، يعني شيخ مسلم، وأصحاب السنن، عن حديث لأبي بكر الصديق، فقال لجاريته: أخرجي لي الجزء الثالث والعشرين من مسند أبي بكر، فقلت: لا يصح لأبي بكر خمسون حديثًا فمن أين ثلاثة وعشرون جزءا؟ فقال: كل حديث لا يكون عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم، "فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه" فإنه إذا استودع شيئًا حفظه. "وقال أبو حاتم" محمد بن إدريس بن داود "الرازي" الحنظلي، عن أحمد وقتيبة، وخلق، وعنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وآخرون، قال الخطيب: كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورًا بالعلم، مذكورًا، بالفضل، وثقه النسائي وغيره، قال ابن يونس: قدم مصر قديمًا، وكتب بها، وكتب عنه، مات بالري سنة خمس، وقيل سنة سبع وسبعين ومائتين، "لم يكن في أمة من الأمم مذ" أي: حين "خلق الله آدم أمناء" جمع أمين، "يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 الأمة. ومنها: أنهم أوتوا الأنساب والإعراب، قال أبو بكر محمد بن أحمد: بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب، انتهى. وهو مروي عن أبي علي الجياني.   الأمة" وهذا رواه ابن عساكر، عن الرازي المذكور بلفظ: "لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أمة يحفظون آثار نبيهم وأنساب خلفهم كهذه الأمة". وفي تاريخ ابن عساكر أيضًا، عنه: "لم يكن في أمة من الأمم أمة يحفظون آثار نبيهم غير هذه الأمة" فقيل له: ربما رووا حديثًا لا أصل له، قال علماؤهم: يعرفون الصحيح من السقيم، فروايتهم للواهي للمعرفة ليتبين لمن بعدهم أنهم ميزوا الآثار فيه وحفظوها. وأخرج الحاكم، وأبو نعيم، وابن عساكر، عن علي مرفوعًا: "إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده؛ فإن يك حقًا كنتم شركاء في الأجر، وإن يكن باطلا كان وزره عليه"، وفيه شرف أصحاب الحديث، ورد على من كره كتابته من السلف، والنهي عنه في خبر آخر منسوخ أو مؤول. "ومنها: أنهم أوتوا الأنساب" أي: معرفتها "والإعراب" أي: الإبانة والكلام الفصيح، وكل منهما مما يتنافس فيه المتنافسون، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منساة في الأثر"، رواه أحمد، والترمذي، والحاكم صحيحًا عن أبي هريرة، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم: "علم النسب علم لا ينفع، وجهالة لا تضر"، رواه أبو نعيم وغيره عن أبي هريرة؛ لأن المنهي عنه الاسترسال فيه، بحيث يشتغل به عما هو أهم منه، كما يفيده قوله: "وجهالة لا تضر". أما علمه بقدر ما يصل به رحمه، فمحبوب مطلق، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، ثم انتهوا وتعلموا من العربية ما تعرفون به كتاب الله، ثم انتهوا" رواه ان زنجويه. "قال أبو بكر محمد بن أحمد" بن عبد الباقي، بن منصور البغدادي، الحافظ، الإمام، القدوة، كان فاضلا، حسن القراءة للحديث، ورعًا، ثبتًا، زاهدًا، ثقة، قائمًا باللغة، علامة في الأدب، مات في ثاني ربيع الأول، سنة تسع وثمانين وأربعمائة، "بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها من قبلها من الأمم الإسناد، والأنساب والإعراب، انتهى، وهو مروي عن أبي علي" الإمام، الحافظ، الثبت، الحسين بن محمد الأندلسي، "الجياني" بفتح الجيم، والتحتية الثقيلة، ونون. بلدة كبيرة بالأندلس، ولد في محرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، وأخذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم. ولا تزال طائفة منهم ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله. رواه الشيخان.   عن الباجي، وابن عتاب، وابن عبد البر، وخلق، ولم يخرج من الأندلس، وكان من جهابذة الحفاظ، بصيرًا باللغة، والعربية، والشعر، والأنساب صنف في كل ذلك، ورحل إليه الناس، وتصدر بجامع قرطبة، وأخذ عنه الأعلام مع التواضع والصيانة، توفي ليلة الجمعة، ثاني عشر شعبان، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. "ومنها: أنهم أوتوا تصنيف الكتب، ذكره بعضهم" قال ابن العربي في شرح الترمذي: لم يكن قط في أمة من الأمم من انتهى إلى حد هذه الأمة من التصرف في التصنيف والتحقيق، ولا جاراها في مداها من التفريع والتدقيق، وتصنيف الكتب، وتدوين العلوم، وحفظ سنة نبيهم، أي: أقواله وأفعاله، فتدوين العلوم، وتصنيفها، وتقرير القواعد، وكثرة التفريع وفرض ما لم يقع، وبيان حكمه، وتفسير القرآن والسنة، واستخراج علوم الأدب، وتتبع كلام العرب أمر مندوب إليه، وأهله خير الخليقة. وقال العراقي في شرح المحصول: من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن الواحد من أمته يحصل له في العمر القصير من العلوم والفهوم ما لم يحصل لأحد من الأمم السابقة في العمر الطويل، ولهذا تهيأ للمجتهدين من هذه الأمة من العلوم، والاستنباطات، والمعارف ما تقصر عنه أعمارهم انتهى. وقال قتادة: أعطى الله هذه الأمة من الحفظ ما لم يعطه أحدًا من الأمم، خاصة خصهم بها، وكرامة أكرمهم بها، انتهى. "ولا تزال طائفة منهم" أي: من أمة الإجابة "ظاهرين" أي: غالبين "على الحق" منصورين على من خالفهم، واحتمال أن المراد بالظهور الشهرة، وعدم الاستتار بعيد، "حتى يأتي أمر الله" وهو وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا قليلا. وفي مسلم عن جابر بن سمرة، رفعه: "لن يرح هذا الدين قائمًا، تقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة"، أي: إلى قرب قيامها، أو المراد: تقوم ساعتهم وهي حين تأتي الريح فتقبض روح كل مؤمن، فلا تنافي بينه وبين خبر مسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وخبر مسلم والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله". "رواه الشيخان" من حديث المغيرة بن شعبة، رفعه: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك". قال البخاري في الصحيح: والطائفة أهل العلم، وقال النووي في التهذيب: حمله العلماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 ومنها: أن فيهم أقطابًا.   أو جمهورهم على أهل العلم، وقد دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "نضر الله امرأ، سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها". وجعلهم عدولا في حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالبين وانتحال المبطلين". وهذا إخبار منه بصيانة العلم وحفظه، وعدالة ناقليه، وأنه تعالى يوفق له في كل عصر عدولا يحملونه وينفون عنه، وهو من أعلام نبوته، ولا يضر معه كون بعض الفساق يعرفون شيئًا من العلم؛ لأن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف منه شيئًا. وقال النووي أيضًا: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع الأمة، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومفسر، ومحدث، وقائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم اجتماعهم في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وتفرقهم في الأقطار، وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله بقيام الساعة. انتهى. وفيه معجزة بيته، فإن أهل السنة لم يزالوا ظاهرين في كل عصر إلى الآن، فمن حين ظهرت البدع على اختلاف نوفها من خوارج، ومعتزلة، ورافضة وغيرهم؛ لم يقم لأحد منهم دولة، ولم تستمر لهم شوكة، بل كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بنور الكتاب والسنة، وزعمت المتصوفة أن الإشارة إليهم، لأنهم لزموا الاتباع بالأحوال، وأغناهم الاتباع عن الابتداع. "ومنها أن فيهم" أي: الأمة "أقطابًا" ولا يلزم منه تعددهم في زمن واحد، فلا يخالف قوله الآتي: والغوث واحد وتصريح غيره بأن القطب واحد كلما مات أبدل، قال اليافعي في الكفاية: سمي قطبًا لدورانه في جهات الدنيا الأربع كدوران الفلك في أفق السماء، وقد سترت أحوال القطب وهو الغوث عن العامة والخاصة غيره من الحق عليه غير أنه يرى عالمًا كجاهل وأبله كفطن آخذًا تاركًا قريبًا بعيدًا سهلا عسرًا آمنًا حذرًا. وقال غيره: الأقطاب جمع قطب وهو الخليفة الباطن وسيد أهل زمانه سمي قطبًا لجمعه جميع المقامات والأحوال ودورانها عليه مأخوذ من القطب، وهو الحديدة التي تدور عليها الرحى ولا يعرف القطب من الأولياء إلا القليل جدًا، بل قال جمع: لا يراه أحد إلا بصورة استعداد الرائين فإذا رآه لم يره حقيقة. وذهب قوم إلى أن مرتبة القطبانية ثقيلة جدًا قل أن يقيم فيها أحد أكثر من ثلاثة أيام، وجمع إلى أنها كغيرها من الولايات يقيم فيها صاحبها لا ينعزل إلا بموت، وأول من تقطب بعد النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، ثم الحسن هذا ما عليه الجمهور، وذهب بعض الصوفية إلى أن أول من تقطب بعده ابنته فاطمة، قال بعضهم: ولم أره لغيره. وأول من تقطب بعد الصحابة عمر بن عبد العزيز، وإذا مات القطب خلفه أحد الإمامين لأنهما بمنزلة الوزيرين له أحدهما مقصور على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 وأوتادًا ونجباء وأبدالا. عن أنس مرفوعًا: "الأبدال أربعون رجلا   عالم الملكوت والآخر على عالم الملك، والأول أعلى مقامًا من الثاني. "وأوتادًا" أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون وهم العمد وهم حكم الجبال في الأرض، ولذا سموا أوتادًا يحفظ الله بأحدهم المشرق، والآخر المغرب، والآخر الجنوب، والآخر الشمال. وروى ابن عساكر من حديث علي الأوتاد من أبناء الكوفة، أي: أصلهم لا أنها مقرهم. وروى الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء أن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قومًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة لكن بحسن الخلق والنية وصدق الورع وسلامة القلوب للمسلمين والنصح لله في ابتغاء مرضاته بصبر وحلم ولب وتواضع في غير مذلة فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله لنفسه، واستخلصهم لعلمه يدفع الله بهم المكاره عن الأرض والبلايا عن الناس وبهم يرزقون ويمطرون. قال الحكيم: فهؤلاء أمان هذه الأمة فإذا ماتوا أفسدت الأرض وخربت الدنيا؛ وذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} "ونجباء" سبعون مسكنهم مصر ورتبتهم فوق النقباء ودون الأبدال على ما يأتي، "وأبدالا" بفتح الهمز جمع بدل سموا بذلك؛ لأنه إذا مات واحد أبدل مكانه آخر أو لأنهم أعطوا من القوة أن يتركوا بدلهم حيث يريدون، أي: أخلفوا صورة تحاكي صورتهم بحيث أن كل من رآها لا يشك في أنه هو، وهو لفظ مشترك يطلقونه على من تبدلت أوصافه الذميمة لمحمودة، ويطلقونه على عدد خاص مختلف في قدره، قاله ابن عربي. وأخرج الحاكم في كتاب الكنى له عن عطاء بن أبي رباح مرسلا، الأبدال من الموالي ولا يبغض الموالي إلا منافق، قال الحافظ ابن حجر في فتاويه: الأبدال ورد في عدة أخبار منها ما يصح وما لا. وأما القطب فورد في بعض الآثار، وأما الغوث بالوصف المشتهر بين الصوفية فلم يثبت، انتهى. عن أنس مرفوعًا: "ألإبدال أربعون رجلا" وفي حديث عبادة: ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم، وكل منهم يعكر على قول الرافعي الأصح أنها سبعة، وقيل: أربعة عشر. وجمع بين الحديثين بأن ثلاثين منهم قلوبهم على قلب إبراهيم والعشرة ليسوا كذلك؛ كما صرح به خبر الحكيم الترمذي عن أبي هريرة؛ ومرده حديث ابن مسعود: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على قلب إبراهيم". وجمع بأن البدل له إطلاقًا كما يفيده الأحاديث في تخالف علاماتهم وصفاتهم أو أنهم يكونون في زمان أربعين وفي آخر ثلاثين، ورد بقوله: ولا الأربعون، أي: ينقصون كلما مات رجل ... إلخ، أو أن تلك الأعداد اصطلاح لوقوع الخلاف في بعضهم كالأبدال فقد يكون في ذلك العدد نظروا إلى مراتب عبروا عنها بالأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد، وغير ذلك, والحديث نظر إلى مراتب أخرى والكل متفقون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه، وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة". رواه الخلال في "كرامات الأولياء". ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: "لن تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فبهم يسقون وبهم ينصرون   على وجود تلك الأعداد وبعد هذا لا يخفى، والأولى في الجمع بين الحديثين أن الإخبار بالثلاثين كان قبل أن يعلمه الله بالأربعين بدليل زيادة النساء في حديث أنس هذا، بقوله: "وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله رجلا مكانه وإذا ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة" فإذا كان عند قيام الساعة ماتوا جميعًا، "رواه" أبو محمد الحسن بن أبي طالب بن محمد بن الحسن بن علي "الخلال" بفتح الخاء المعجمة وشد اللام الحافظ البغدادي ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وسمع ابن شاذان وغيره وعنه الخطيب وعدة، قال الخطيب: كان ثقة خرج المسند على الصحيحين، مات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة "في" كتابه المؤلف في "كرامات الأولياء" وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ثم سرد أحاديث الأبدال وطعن فيها واحدًا، وحكم بوضعها وتعقبه السيوطي بأن خبر الإبدال صحيح وإن شئت قلت متواتر، وأطال في بيان ذلك مثل هذا بالغ حد التواتر المعنوي بحيث يقطع بصحة وجود الأبدال ضرورة، "ورواه" أي: حديث أنس "الطبراني في الأوسط" قال الحافظ نور الدين الهيثمي بإسناد حسن بلفظ: "لن" قال الطيبي لتأكيد النفي في المستقبل وتقريره "تخلو الأرض من أربعين رجلا مثل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام" أي: انفتح لهم طريق إلى الله على طريق إبراهيم، وفي إيثار الرحمن والخلة مزيد مقام وإيماء إلى مناسبة المقام إذ من كان مرضيًا للرحمن حقه أن ينشأ عنه صفة الرحمة من نفع البلاد والعباد، "فبهم يسقون وبهم ينصرون" على الأعداء، أي: بوجودهم أو بدعائهم وهو الأظهر فقد فسره ابن مسعود ولتفسيره مزية لأنه أدرى بما يسمع روى أبو نعيم عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عز وجل في الخلق ثلاثمائة قلوبهم على قلب آدم ولله في الخلق أربعون قلوبهم على قلب موسى ولله سبعة في الخلق قلوبهم على قلب إبراهيم، ولله في الخالق خمسة قلوبهم على قلب جبريل، ولله في الخلق ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل، ولله واحد قلبه على قلب إسرافيل فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه من العامة فيهم يحيي ويميت ويمطر وينبت ويرفع البلاء". قيل لابن مسعود: كيف يحيي ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله إكثار الأمم فيكثرون، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر". ورواه ابن عدي في كامله بلفظ: "البدلاء أربعون، اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد بدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة". وكذا يروى كما عند أحمد في المسند، والخلال، من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا. "لا يزال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن، كلما مات واحد أبدل الله تعالى مكانه   ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستقون فيسقون، ويسألون فتنبت الأرض، ويدعون فيدفع بهم أنواع البلاء، قال في الفتوحات: معناه أنهم يتقلبون في المعارف الإلهية تقلب ذلك الشخص إذا كانت واردات العلوم الإلهية إنما ترد على القلوب فكل علم لم يرد على قلب ذلك الكبير من ملك أو رسول يرد على هذه القلوب التي هي على قلبه، وربما يقول بعضهم فلان على قدم فلان، ومعناه ما ذكر. وقال اليافعي في الكفاية عن بعض العارفين: الواحد الذي على قلب إسرافيل هو القطب ومكانه في الأولياء كالنقطة في الدائرة التي هي مركز لها به يقع صلاح العالم، وقال عن بعضهم: لم يذكر أن أحدًا على قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يخلق الله في عالم الخلق والأمم أعز وألف وأشرف من قلبه، فقلوب الأنبياء والملائكة والأولياء بالإضافة إلى قلبه كإضافة سائر الكواكب إلى كامل الشمس، انتهى. وهذا يرد قول ابن عربي أحد الأوتاد على قلبه عليه السلام، وله ركن الحجر الأسود "ما مات منهم أحد إلا أبدل الله مكانه آخر" بأن إقامته في التصرف الذي كان أمر به في حياته، فلا يرد أن الأولياء يتصرفون بعد موتهم بتصرفات خاصة تمكنوا منها وفعلوها لا لكونهم مأمورين بها لزوال التكليف بالموت، رواه ابن عدي في كامله بلفظ: "البدلاء أربعون اثنان وعشرون بالشام وثمانية عشر بالعراق، كلما مات منهم أحد أبدل الله مكانه آخر، فإذا جاء الأمر". قرب الساعة وهو الريح التي تأتي بقبض روح كل مؤمن ومؤمنة "قبضوا كلهم" وليس المراد بالأمر النفخة الأولى، لأن هؤلاء من خيار الخلق وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". رواه مسلم. وقال هنا: "فعند ذلك" أي: مجيء الأمر "تقوم الساعة" وجعل قيامها بعقب موتهم؛ لأنه يقرب من قيامها والقريب من الشيء يعده العرف عنده أو المراد ساعتهم كما مر نظيره، "وكذا يروى كما عند أحمد في المسند والخلال" نسبة إلى الخل المأكول "من حديث عبادة بن الصامت مرفوعًا" بإسناد حسن: "ولا يزال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم" وفي لفظ لأحمد من حديث عبادة: "الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم". "خليل الرحمن كلما مات واحد" وفي لفظة: رجل " أبدل الله تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 رجلا". وفي لفظ الطبراني في الكبير: "بهم تقوم الأرض وبهم يمطرون وبهم ينصرون". ولأبي نعيم في الحلية، عن ابن عمر رفعه: "خيار في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر، وهم في الأرض كلها". وفي الحلية أيضًا عن ابن مسعود رفعه: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على   مكانه رجلا"، قيل: فلذا سموا أبدالا، وقيل: لأنهم بدلوا الأخلاق السيئة حسنة وراضوا أنفسهم حتى صارت محاسن أخلاقهم حلية أعمالهم، قال العارف المرسي: كنت جالسًا بين يدي أستأذي الشاذلي، فدخل جماعة فقال: هؤلاء أبدال فنظرت ببصيرتي فلم أرهم أبدالا فتحيرت، فقال الشيخ: من بدلت سيآته حسناته فهو بدل فعلمت أنه أول مراتب البدلية، وعند ابن عساكر أن ابن المثنى سأل أحمد بن حنبل: ما تقول في بشر بن الحارث؟ قال: رابع سبعة من الأبدال، وقال المرسي: جلت في الملكوت فرأيت أبا مدين معلقا بساق العرش رجل أشقر أزرق العين، فقلت: ما علومك وما مقامك؟ قال: علومي أحد سبعون علمًا ومقامي رابع الخلفاء ورأس الأبدال السبعة، قلت: فالشاذلي قال ذاك بحر لا يحاط به، فظاهر هذا كله أن مراتب الثلاثين مختلفة. "وفي لفظ الطبراني في الكبير" بإسناد صحيح من حديث عبادة الأبدال: "في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض" أي: تعمر وينتظم أمر أهلها ببركتهم ودعائهم "وبهم يمطرون وبهم ينصرون على الأعداء". "ولأبي نعيم في الحلية" بإسناد ضعيف لا موضوع كما زعم ابن الجوزي والذهبي، فغاية ما في إسناده رجلان مجهولان، وذلك لا يقتضي اوضع بحال، "عن ابن عمر" بن الخطاب "رفعه: "خيار أمتي في كل قرن خمسمائة" من الناس "والأبدال أربعون" رجلا، "فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأربعون" ينقصون "كلما مات رجل أبدل الله مكانه آخر" وبقية هذا الحديث في الحلية، قالوا: يا رسول الله دلنا على أعمالهم؟ قال: "يعفون عمن ظلمهم ويحسنون إلى من أساء إليهم ويتواسون فيما أتاهم الله". "وهم في الأرض كلها" فلا يختص وجودهم بمكان دون آخر ويؤيد هذا ما رواه الحكيم الترمذي: "إن الأرض شكت إلى ربها انقطاع النبوة، فقال تعالى: فسوف أجعل على ظهرك أربعين صديقًا كلما مات منهم رجل أبدلت مكانه رجلا". ولا يعارضه حديث: "الأبدال بالشام" لجواز أنها مقرهم ولكن يتصرفون في الأرض كلها. وفي الحلية أيضًا عن ابن مسعود رفعه: "لا يزال أربعون رجلا من أمتي على قلب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 قلب إبراهيم، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال، إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة"، قال: فيما أدكروها يا رسول الله؟ قال: "بالسخاء والنصيحة للمسلمين".   إبراهيم" أي: على حال مثل قلبه، فتخصيصه وقلبه لإفادة الصبر على البلاء بذبح الولد الاحتساب بالمولى والرضا مع التلذذ بما يرضاه الحبيب والتحبب إلى الخلق والبذل والكرم، المبادرة إلى التكاليف بأصدق الهم. "يدفع الله بهم عن أهل الأرض". كلها وخبر: "الأبدال في أهل الشام وبهم ينصرون وبهم يرزقون"، رواه الطبراني بسند حسن عن عوف بن مالك ونحوه حديث علي عند أحمد لا يخالفه، لأن نصرتهم لمن هم في جوارهم أتم وإن كانت أعم. "يقال لهم الأبدال إنهم لم يدركوها بصلاة ولا بصوم ولا بصدقة". قال: فبم أدركوها يا رسول الله؟ قال: "بالسخاء والنصيحة للمسلمين". ولا يرد هذا على قول أبي طالب في قوله يصير الأبدال أبدالا بالصمت والعزلة والجوع والسهر؛ لأن من بهذه الصفات يتصف بالسخاء والنصيحة. ولابن أبي الدنيا عن علي، قلت: يا رسول الله صفهم لي؟ قال: "ليسوا بالمتنطعين ولا بالمبتدعين ولا بالمتعمقين لم ينالوا ما نالوا بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسخاء الأنفس وسلامة القلوب والنصيحة لأئمتهم". قال ابن عربي في كتاب حلية الأبدال: أخبرني صاحب لنا قال: بينا أنا ليلة في مصلاي قد أكملت وردي وجعلت رأسي بين ركبتي أذكر الله تعالى إذ أحسست بشخص قد نقض مصلاي من تحتي وبسط حصيرًا بدلها، وقال: صل عليه فداخلني منه فزع، فقال: من يأنس بالله لم يجزع، ثم قال: اتق الله في كل حال ثم ألهمت الصبر، فقلت: بماذا تصير الأبدال أبدالا؟ قال: بالأربعة التي ذكر أبو طالب في القوت الصمت والعزلة والجوع والسهر، ثم انصرف ولا أعرف كيف دخل ولا خرج وبابي مغلق. قال ابن عربي: وهذا رجل من الأبدال اسمه معاذ بن أشرس والأربعة المذكورة هي عماد هذا الطريق وقوامه زمن لا قدم له فيها ولا رسوخ فهو تائه عن طريق الله، قال: وإذا رحل البدن عن موضع ترك فيه بدله حقيقة روحانية تجتمع إليها أرواح أهل ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي، فإن ظهر شوق شديد من أناس ذلك الموطن لهذا الشخص تجسدت لهم تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدله فكلمتهم وكلموه وهو غائب عنهم، وقد يكون هذا في غير البدن لكن الفرق بينهما أن البدن يرجع ويعلم أنه ترك غيره، وغيره البدل لا يعرف ذلك وإن تركه، لأنه لم يحكم هذه الأربعة المذكورة، قال: وفي ذلك قلت: يا من أراد منازل الأبدال ... من غير قصد منه للأعمال لا تطمعن بها فلست من أهلها ... إن لم تزاحمهم على الأحوال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 وعن معروف الكرخي: من قال اللهم ارحم أمة محمد في كل يوم كتبه الله من الأبدال. وهو في الحلية بلفظ: من قال في كل يوم عشر مرات اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب في الأبدال. وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم، ويروى في مرفوع معضل: "علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا أبدًا".   واصمت بقلبك واعتزل عن كل من ... يدينك من غير الحبيب الوالي وإذا سهرت وجعت نلت مقامهم ... وصحبتهم في الحل والترحال بيت الولاية قسمت أركانه ... ساداتنا فيه من الأبدال ما بين صمت اعتزال دائم ... والجوع والسهر النزيه العالي "وعن معروف" بن فيروز "الكرخي" بفتح فسكون فخاء معجمة نسبة إلى كرخ ببغداد الإمام شيخ السلسلة، أستاذ السري السقطي، لم يكن في العراق من يربي المريدين في زمنه مثله، حتى عرف جميع المشايخ فضله، وكان ابن حنبل وابن معين يختلفان إليه يسألاه ولم يكن مثلهما في علم الظاهر، فيقال لهما مثلكما يفعل ذلك، فيقولان: كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الصالحين". وكرامته كثيرة وكان يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشرا الحافي لا يأكل، فيقول: أخي قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، إنما أنا ضيف في دار مولاي مهما أطعمني أكلت، مات سنة إحدى ومائتين. "من قال: اللهم ارحم أمة محمد في كل يوم كتبه الله من الأبدال" إن فعل الطاعات واجتنب المنهيات أو أن قائل ذلك وإن كان مرتكبًا للحرام، يوفق للتوبة النصوح إلى أن يكون منهم، ثم لا يلزم من كتبه منهم في الأجر كونه منهم حقيقة نحو حديث: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا"، وخبر: "أعطي أجر الشهيد" "وهو في الحلية" عن معروف "بلفظ من قال في كل يوم عشر مرات: اللهم أصلح أمة محمد، اللهم فرج عن أمة محمد، اللهم ارحم أمة محمد كتب من الأبدال" مصاحبة ووصفًا بحيث يحشر معهم لا ذاتًا، فلا ينافي أن قائل ذلك يكون منهم وإن ولدهم أولاد كثيرة "وعن غيره قال: من علامة الأبدال أن لا يولد لهم" لئلا يشغلوا عما أقيموا فيه، ولا يرد على ذلك الأنبياء ونحوهم لأن البدلاء لم يصلوا إلى مقامهم، "ويروى في مرفوع" إلى النبي صلى الله عليه وسلم "معضل" بأن سقط من سنده اثنان ففوق، وهذا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء عن بكر بن خنيس بمعجمة، ونون ومهملة مصغر الكوفي صدوق له أغلاط قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "علامة أبدال أمتي أنهم لا يلعنون شيئًا" من المخلوقات "أبدًا" لأن اللعن: الطرد والبعد عن الله وهم إنما يقربون إلى الله ولا يبعدون عنه ويروى عن معاذ مرفوعًا: "ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الرضا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 وقال يزيد بن هارون: الأبدال هم أهل العلم، وقال الإمام أحمد، إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم؟ وفي تاريخ بغداد للخطيب، عن الكتاني، قال: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام.   بالقضاء والصبر عن محارم الله والغضب في ذات الله"، رواه الديلمي. "وقال يزيد" بتحتية أوله فزاي "ابن هارون" السلمي مولاهم أبو خالد الوسطى، ثقة متقن من رجال الجميع عابد، مات سنة ست ومائتين، وقد قارب التسعين "الأبدال هم أهل العلم" النافع، وهو علم الظاهر والباطن لا الظاهر وحده، "وقال أحمد" الإمام ابن حنبل: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فمن هم" قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فضل الشام له: مراد أحمد بأصحاب الحديث من حفظه وعلمه وعمل به، فإنه نص أيضًا من عمل بالحديث لا من اقتصر على طلبه، ولا ريب أن من علم سنن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بها وعلمها الناس، فهو من خلفاء الرسل وورثة الأنبياء ولا أحد أحق بأن يكون من الأبدال منه، انتهى. وقال غيره مراده من هو مثله ممن جمع بين علمي الظاهر والباطن، وأحاط بالأحكام والحكم والمعارف كسائر الأئمة الأربعة ونظرائهم، فهؤلاء خيار الأبدال والنجباء والأوتاد، فاحذر أن يسوء بأحد منهم وأن يسول لك الشيطان، ومن استولى عليه ممن لم يهتد بنور المعرفة إن المجتهدين لم يبلغوا تلك المرتبة، وقد اتفقوا على أن الشافعي كان من الأوتاد، وقيل: إنه تقطب قبل موته، "وفي تاريخ بغداد للخطيب" وتاريخ الشام لابن عساكر كلاهما، "عن الكتاني" بالفتح والفوقية نسبة إلى الكتان، وعمله الإمام المحدث المتقن أبي محمد عبد العزيز بن محمد بن علي التميمي الدمشقي محدث دمشق، ومفيدها سمع الكثير وألف وجمع. قال الذهبي: ويحتمل أن يوصف بالحفظ في زمنه، ولو وجد في زماننا لعد في الحفاظ. وقال ابن الأثير: حافظ كبير متقن: روى عن تمام بن محمد وغيره وعنه الخطيب وابن ماكولا وغيرهما، مات سنة تسع وثمانين وثلاثمائة "قال: النقباء ثلاثمائة" لعلهم الذين قال فيهم: قلوبهم على قلب آدم، "والنجباء سبعون والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة" وهم الأوتاد "والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب ومسكن النجباء مصر" المدينة المعروفة، فلا تصرف كقوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ} ، "ومسكن الأبدال الشام" أي: أكثرهم فلا يخالف ما مر أن ثمانية عشر بالعراق إن صح، ثم المراد محل إقامتهم، فلا ينافي تصرفهم في الأرض كلها كما مر في حديث: "وهم في الأرض"، "والأخيار سياحون في الأرض" لا يستقرون بمكان، "والعمد" الأوتاد "في زوايا الأرض، أي: جهاتها الأربع" واحد بالمشرق وآخر بالمغرب، وآخر بالجنوب، وآخر بالشمال. قال ابن عربي: ولكل ركن من البيت، ويكون على قلب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته، انتهى. ومنها أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم، ويخرجون منها.   إبراهيم العراق وقلب عيسى اليماني وقلب محمد له ركن الحجر الأسود. كذا قال وهو مخالف لما سبق أن قلب المصطفى لا يضارعه أحد، فلذا لم يذكر أن أحدًا على قلبه "ومسكن الغوث" وهو القطب الفرد الجامع "مكة" وقيل اليمن، رواه ابن عساكر عن أبي سليمان الداراني، والأصح أن إقامته لا تختص بمكة ولا بغيرها، بل جوال وقلبه طواف في حضرة الحق يقدس لا يخرج من حضرته أبدًا، ويشهده في كل جهة ومن كل جهة مما جاء فيه كما قال بعض المحدثين: خبر أبي نعيم مرفوعًا: "إن لله تعالى في كل بدعة كيد بها الإسلام وأهله، وليًا صالحًا يذب عنه ويتكلم بعلاماته، فاغتنموا حضور تلك المجالس بالذب عن الضعفاء وتوكلوا على الله وكفى بالله وكيلا". "فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النقباء، ثم النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد فإن أجيبوا" بخصوص تلك الحاجة "وإلا ابتهل الغوث" فلا يخاف ما ورد أن دعوة المؤمن لا ترد، لا سيما وحال هؤلاء يقتضي إجابة دعائهم دائمًا، إلا أن الإجابة قد تكون بخصوص المسئول وقد تكون بغيره، قد تدخر للقيامة، وقد تؤخر الإجابة فتشد الضرورة لحصول المطلوب في ذلك الوقت، فيبتهل الغوث لتنجيز المسئول دفعًا للضرورة ما أمكن، "فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته" لطفًا من الله بعباده, وقد زعم ابن الجوزي أن أحاديث الأبدال كلها موضوعة، ونازعه السيوطي، وقال: خبر الأبدال صحيح وإن شئت قلت: متواترًا يعني: تواترا معنويًّا كما أشار إليه بعده. وقال السخاوي له طرق عن أنس بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة، ثم ساق ما ذكره المصنف وزيادة، ثم قال: وأحسن مما تقدم ما رواه أحمد من حديث شريح، يعني: ابن عبيد قال: ذكر أهل الشام عند علي وهو بالعراق، فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين، قال: لا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "البدلاء يكونون بالشام، وهم أربعون رجلا، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا يستقي بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام العذاب". رجاله من رواة الصحيح إلا شريحًا، وهو ثقة، انتهى. وقال السيوطي حديث أخرجه أحمد والطبراني، والحاكم من طرق أكثر من عشرة، انتهى. قال السخاوي: ومما يقوي الحديث ويدل لانتشاره بين الأئمة، قول الشافعي في بعضهم: كنا نعده من الأبدال، وقول البخاري في غيره كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وكذا وصف غيرهما من النقاد والحفاظ والأئمة غير واحد بأنهم من الأبدال، ويقال: ما تغرب الشمس يومًا ويطوف بالبيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا ويطوف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض. "ومنها: أنهم يدخلون قبورهم بذنوبهم" غير معرضين عنها ولا تائبين، "ويخرجون منها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 بلا ذنوب، تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم. رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي أمة مرحومة تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها   بلا ذنوب تمحص عنهم باستغفار المؤمنين لهم"بيان لسبب خروجهم بلا ذنوب، كأنه قال: لأنها تمحص عنهم بسبب طلب المغفرة لهم، والتمحيص تنقيص الشيء شيئًا فشيئًا إلى أن يذهب، فاستغفار المؤمنين يزيل الذنوب شيئًا فشيئًا، حتى تذهب، فيخرج من قبره طاهرًا منها، وقد يكون بحسابه في قبره، ويستوفي منه فيه إما بعقابه على جميعها، أو على بعضها، مع العفو عن باقيها، فيخرج أيضًا طاهرًا منها. قال الحكيم الترمذي: إنما حوسب المؤمن في قبره ليكون أهون عليه في الموقف، فتمحص ذنوبه في البرزخ، فيخرج منه، وقد اقتص منه، وأيضًا لسرهم في المحشر حيث لم يكن عليهم ما يفتضحون به على رءوس الأشهاد، "رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمتي" أي: أمة الإجابة "أمة مرحومة" من الله، أو من بعضهم لبعض، مغفور لها من بارئها، متوب عليها من الله، بمعنى: أنه لا يتركا مصرة على الذنب، ورواه ابن ماجه والبيهقي في البعث، بلفظ: "إن هذه الأمة مرحومة". "تدخل قبورها بذنوبها" والروايتان متفقتان معنى في صدر الحديث، ولفظًا ومعنى في باقيه، "وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها باستغفار المؤمنين لها" فنزول جميعها حقيقة أو حكمًا بزوال معظمها للأدلة القطعية أنه لا بد من دخول طائفة من عصاة هذه الأمة النار، لكنه لما قل بالنسبة لما ذهب نزل منزلة العدم، حتى كأنها غفرت جميعها. وروى أبو داود وغيره: "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا في الفتن، والزلازل، والقتل، والبلايا"، ونفي عذابها في الآخرة، بمعنى أن من عذب منهم لا يحس بألم النار إلا قليلا؛ كما ورد مرفوعًا: "إذا أدخل الموحدين النار أماتهم فيها إماتة، فإذا أراد أن يخرجهم منها أمسهم ألم العذاب تلك الساعة"، رواه الديلمي ولخفة ألمها، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام". رواه الطبراني برجال ثقات، ولا تناقض بين الخبرين؛ لأنها تكون عليهم عند إحيائهم، والأمر بإخراجهم كحر الحمام اللطيف الذي لا يؤذي الجسم ولا يوهنه. وروى الدارقطني عن ابن عباس رفعه: "إن حظ أمتي من النار طول بلائها تحت التراب" وزعم أن المراد لا عذاب عليها في عموم الأعضاء؛ لأن أعضاء الوضوء لا تمسها النار تكلف مستغنى عنه، وقوله: "الفتن"، أي: الحروب والهرج بينهم، والبلايا التي منها استيفاء الحد ممن فعل موجبه، وعجلت العقوبة على الذنب في الدنيا؛ لأن شأن الأمم السالفة كان يجري على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 ومنها أنهم اختصوا في الآخرة بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم. رواه أبو نعيم عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: "وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي ولا فخر". ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء، رواه البخاري. والغرة: بياض في وجه الفرس. والتحجيل: بياض في قوائمه وذلك مما يكسبه حسنًا وجمالا. فشبه صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض في أعضاء الإنسان مما يزينه لا مما يشينه، يعني أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف، أو كانوا على هذه الصفة.   سبيل العدل وأساس الربوبية، وشأن هذه الأمة يجري على نهج الفضل، فمن ثم ظهر في بني إسرائيل السياحة والرهبانية، وعليهم في شريعتهم الأغلال والآصار، وظهرت في هذه الأمة السماحة، ففك عنهم الأغلال، ووضع عنهم الآصار؛ كما مر. "ومنها: أنهم اختصوا في الآخرة؛ بأنهم أول من تنشق عنهم الأرض من الأمم" بعد الأنبياء، "رواه أبو نعيم عن ابن عباس، مرفوعًا" في حديث، "بلفظ: "وأنا أول من تنشق الأرض عني"، قيل الأنبياء، وعن أمتي" قبل الأمم، "ولا فخر" أعظم من ذلك، أو لا أقول ذلك، افتخارًا، بل تحدثا بالنعمة. "ومنها: أنهم يدعون يوم القيامة" إلى موقف الحساب، أو الميزان، أو الصراط، أو الحوض، أو غير ذلك "غرًا" بضم المعجمة والتشديد: جمع أغر، أي: ذي غرة "محجلين من آثار الوضوء" رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، "والغرة بياض في وجه" أي: جبهة "الفرس" فوق الدرهم "والتحجيل" أصله من الحجل، بكسر الحاء: الخلخال، "بياض في قوائمه" الأربع، أو في ثلاث منها أو في غيرها، "وذلك مما يكسبه حسنًا وجمالا، فشبه صلى الله عليه وسلم النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغرة والتحجيل، ليفهم أن هذا البياض في أعضاء الإنسان مما يزينه" بفتح أوله "لا مما يشينه" دفعًا لتوهم البرص لو قال: يدعون بيضًا مثلا، "يعني: أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف" بأن يقال لهم: يا غر يا محجلون، "أو كانا على هذه الصفة" وهي النور الكائن في أعضائهم، وإن نودوا بأسمائهم، وظاهره حجة للشافعي من ندب إطالة الغرة بغسل زائد على ما وجب من اليدين والرجلين ومع الوجه مقدم الرأس، وصفحة العنق، وذهب الأئمة الثلاثة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 ومنها أنهم يكونون في الموقف على مكان عال. رواه ابن جرير وابن مردويه من حديث جابر مرفوعًا بلفظ: "أنا وأمتي على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد له أنه بلغ رسالة ربه". وعند ابن مردويه من حديث كعب قال صلى الله عليه وسلم: "أنا وأمتي على تل". ومنها: أن لهم سيما في وجوههم من أثر السجود. قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] . وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة؟، فيه قولان: أحدهما: أنها في الدنيا، قال ابن عباس في رواية أبي طلحة: السمت الحسن. وقال في رواية مجاهد: ليست السيمات بالتي ترون، هي سمة الإسلام وسيماه وخشوعه.   إلى عدم ندب ذلك، وأولوا الإطالة في قوله: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل بإدامة الوضوء". "ومنها: أنهم يكونون في الموقف" مع نبيهم "على مكان عال" عبر عنه في الحديث تارة بكوم، وأخرى بتل، "رواه ابن جرير، وابن مردويه، من حديث جابر، مرفوعًا بلفظ: "أنا وأمتي" نكون "على كوم" فهو صلة محذوف، "مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلا ود" تمنى "أنه منا" لنيل هذا المقام والاستراحة، مما في الموقف من الزحام، "وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد له أنه بلغ رسالة ربه" كما قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] الآية، قال ابن عد السلام: وهذه خصوصية لم تثبت لغيرهم. "وعند ابن مردويه من حديث كعب" من مالك الأنصاري، قال صلى الله عليه وسلم: "أنا وأمتي على تل" مكان عال، زاد في الأنموذج: ولهم نوران كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد. "ومنها: أن لهم سيما" فعلى من سامه إذا أعلمه، وقد قرئت ممدودة، "في وجوههم من أثر السجود، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ} علامتهم مبتدأ {فِي وُجُوهِهِمْ} ، خبره {مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} متعلق بما علق به الخبر، أي: كائنة، وأعرب حالًا من ضميره المنتقل إلى الخبر، "وهل هذه العلامة في الدنيا أو في الآخرة، فيه قولان، أحدهما: أنها في الدنيا". "قال ابن عباس في رواية أبي طلحة" عنه: هي "السمت الحسن" أي: السكينة والوقار، "وقال" ابن عباس "في رواية مجاهد" عنه: "ليست السيمات بالتي ترون" من الأثر في جباه الساجدين، بل "هي سمة الإسلام، وسيماه وخشوعه"، وفي البيضاوي تفسيرها بالأثر، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 وقيل: الصفرة في الوجه من أثر السجود، فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى. والقول الثاني: أنه في الآخرة يعني أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد بياضًا يوم القيامة، يعرفون بتلك العلامة أنهم سجدوا في الدنيا، رواه العوفي عن ابن عباس, وعن شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر.   قال: يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، "وقيل" هي "الصفرة في الوجه من أثر السجود، فتحسبهم مرضى وما هم بمرضى" وذلك محمود بخلاف ما إذا لم يكن للغير سجود ولا علة. روى أبو نعيم في الطب، عن أنس، رفعه: "إذا رأيتم الرجل أصفر الوجه من غير مرض ولا عبادة فذاك من غش الإسلام في قلبه" وروى الديلمي عن ابن عباس مرفوعًا: "احذروا صفر الوجوه؛ فإنه لم يكن من علة أو سهر، فإنه من غل في قلوبهم للمسلمين". "والقول الثاني: أنه في الآخرة، يعني: أن مواضع السجود من وجوههم تكون أشد بياضًا يوم القيامة" من بقية أجسادهم، "يعرفون بتلك العلامة؛ أنهم سجدوا في الدنيا، رواه العوفي" بفتح المهملة، وسكون الواو، وبالفاء عطية بن سعد بن جنادة، بضم الجيم، بعدها نون خفيفة، أبو الحسن الكوفي، صدوق، يخطئ كثيرًا، وكان شيعيًا مدلسًا، مات سنة إحدى عشرة ومائة، روى له أبو داود، والترمذي، والنسائي، وهو المراد عند الإطلاق؛ كما في الأنساب من التقريب، فليس المراد به يحيى بن يعمر، قاضي مرو، كما توهم من قول اللباب، يروي عن ابن عباس وابن عمر، "عن ابن عباس، وروى "عن شهر بن حوشب" الأشعري، الشامي، مولى أسماء بنت يزيد بن السكن، تابعي، صدوق: كثير الإرسال والأوهان، مات سنة اثنتي عشرة ومائة، روى له مسلم وأصحاب السنن: "تكون" يوم القيامة "مواضع السجود من وجوههم، كالقمر ليلة البدر" وأيد ذ القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمتي يوم القيامة غر من السجود، محجلون من الوضوء"، رواه الترمذي عن عبد الله بن بسر، بضم الموحدة، وسكون المهملة، أي: من أثر سجودهم في الصلاة، أثر وضوئهم في الدنيا، وقد سجدت الأمم قبلهم، فلم يظهر على جباههم ذلك النور، وتطهروا فلم يظهر على أطرافهم من ذلك شيء، فهو علامة هذه الأمة في الموقف، بها يعرفون، ذكره الحكيم الترمذي. ولا تنافي بين هذا الحديث وبين حديث الصحيحين: "أن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء" لأن وجه المؤمن يكسى في القيامة نورًا من أثر السجود، ونورًا من أثر الوضوء، نور على نور، فمن كان أكثر نورًا، وأكثر وضوءا في الدنيا، كان وجهه أعظم ضياء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 وقال عطاء الخراساني: ودخل في هذه الآية من حافظ على الصلوات الخمس. ومنها أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم. رواه البزار. ومنها: أن نورهم يسعى بين أيديهم. أخرجه أحمد بإسناد صحيح. ومنها: أن لهم ما سعوا، وما يسعى لهم، وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة. وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، ففيها   وأشد إشراقًا من غيره، فيكونون فيه على مراتب في عظم النور والأنوار لا تتزاحم، ألا ترى أنه لو أدخل سراج في بيت ملأه نورًا، فإذا أدخل فيه آخر وآخر تزايد النور، ولا يزاحم الثاني الأول، ولا الثالث الثاني، وهكذا. "وقال عطاء" بن أبي مسلم أبو عثمان "الخراساني" واسم أبيه ميسرة، وقيل: عبد الله صدوق، يهم كثيرًا ويرسل ويدلس، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، روى له النسائي وابن ماجه ولم يصح أن البخاري أخرج له: "ودخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس" فليس المراد النوافل فقط، فما تقرب متقرب إلى الله بأحب من أداء ما افترضه عليه. "ومنها: أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، رواه البزار" وغيره. "ومنها: أن نورهم يسعى بين أيديهم" أمامهم على الصراط، ويكون بإيمانهم، قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] الآية، أي: إلى الجنة، "أخرجه أحمد بإسناد صحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أمتي يوم القيامة من بين الأمم، أعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم"، زاد الأنموذج: "ويمرون على الصراط كالبرق والريح، ويشفع محسنهم في مسيئهم". "ومنها: أن لهم ما سعوا" أي: عملوا، فكتب لهم ثواب أعمالهم، "وما يسعى لهم" أ: يعمل لأجلهم من صدقة ودعاء وغيرهما على ما يأتي، "وليس لمن قبلهم إلا ما سعى، قاله عكرمة" رواه ابن أبي حاتم وغيره عنه. "وما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} قال البيضاوي: إلا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير، لا يثاب بفعله، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت، فلكون الناوي له كالنائب عنه، "ففيها" أي: ففي الجواب عنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 أجوبة: أحدها: أنها منسوخة، روي ذلك عن ابن عباس، نسخها قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، فجعل الولد الطفل في ميزان أبيه، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء، بدليل قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] .   "أجوبة" فالظرفية هنا اعتبارية، فلا يقال كان المتبادر فعنها، وليس من معاني عن في، فلا ترد بمعناها، فقد ذكر صاحب المغني جملة ما ذكر لعن عشرة معان ليس فيه ورودها بمعنى في، "أحدها: أنها منسوخة، روى ذلك عن ابن عباس نسخها، قوله تعالى" {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ} معطوف على آمنوا {ذُرِّيَّتُهُمْ} الكبار والصغار {بِإِيمَانٍ} من الكبار ومن الآباء في الصغار، ثم الذين آمنوا مبتدأ، والخبر قوله: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُْ} الآية، المذكورين في الجنة، فيكونون في درجتهم وإن لم يعملوا بعملهم تكرمة للآباء باجتماع الأولاد إليهم، "فجعل الولد الطفل في ميزان أبيه" أي: في درجته أو في دخول الجنة، "ويشفع الله تعالى للآباء في الأبناء، والأبناء في الآباء" أي: يأذن لكل منهم في الشفاعة فيشفع، وإذا شفع قبل شفاعته، "بدليل قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} مبتدأ، خبره {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الآية، في الدنيا والآخرة، فظان أن ابنه أنفع له فيعطيه الميراث فيكون الأب أنفع وبالعكس، وإنما العالم هو الله تعالى، ففرض لكم الميراث. أخرج ابن مردويه، وصححه الضياء المقدسي، عن ابن عباس، رفعه: "إذا دخل الرجل الجنة، سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك أو عملك، فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بالإلحاق به"، وأخرجه الطبراني، والبزار، وأبو نعيم، عن ابن عباس مرفوعًا، بلفظ: "ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه"، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} الآية، إلى قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ، قال: ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين هذا، وقد ضعف ابن عطية هذا القول بالنسخ، بأن قوله: {وَأَنْ لَيَسَ} الآية خبر، والخبر لا ينسخ؛ ولأن شروط النسخ ليس هنا، قال: اللهم إلا أن يتجوز في لفظ النسخ، وقال ابن القيم في كتاب الروح: ذهبت طائفة إلى أنها منسوخة. وروي عن ابن عباس، وهو ضعيف، ولا يرفع حكم الآية بمجرد قول ابن عباس ولا غيره أنها منسوخة، قال: والجمع بين الآيتين غير متعذر؛ كذا قال: وفيه أنه إن صح ما روي عن ابن عباس، كان حكمه الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 الثاني: أنها مخصوصة بالكافر، وأما المؤمن فله ما سعى غيره. قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره, وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه"، وقال صلى الله عليه وسلم للذي حج عنه غيره: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، وعن عائشة أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه. وقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت.   "الثاني: أنها مخصوصة بالكافر" أي: كافرًا وكافر مخصوص اختلف فيه على ما يأتي، "وأما المؤمن، فله ما سعى" أي: عمل "غيره" عنه بنيته على تفصيل وخلاف مقرر في الفروع. "قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره" عنه بالنية، "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات" عام في المكلفين بقرينة قوله: "وعليه صيام" وهذا لفظ الصحيحين، ولم يصب من عزاه لهما بلفظ صوم، "صام عنه" ولو بغير إذنه، "وليه" جوازًا لا لزومًا، وإليه ذهب الشافعي في القديم وعمل به الجمهور. وقال في الجديد: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك: لا يجوز الصوم عن الميت؛ لأنه عبادة بدنية، والمراد بوليه على الأول كل قريب أو الوارث أو عصبته، وخرج الأجنبي، فإنما يصوم بإذنه أو وليه بأجر أو دونه. "وقال صلى الله عليه وسلم للذي حج عن غيره" كما روى أبو داود، وابن ماجه، برجال ثقات، ن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، فقال: "من شبرمة"؟ فقال: أخ أو قريب لي، قال: "حججت عن نفسك"؟ قال: لا، قال: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" بضم الشين المعجمة، وإسكان الموحدة، وضم الراء، قال الحافظ في تخريج أحاديث الشرح الكبير: زعم ابن باطيس أن اسم الملبي تبيشة، ومن النوادر أن بعض القضاة ممن أدركنا صحف شبرمة، فقال: شبرمنت، بلفظ القرية التي بالجيزة، انتهى، فمن عليه حج الفرض لا يصح حجه عن غيره، فإن أحرم عنه وقع عن نفسه وعليه الشافعي، وصححه أبو حنيفة ومالك مع الكراهة، والجمهور على كراهة إجارة الإنسان نفسه للحج، لكن حمل على قصد الدنيا، أما لقصد الآخرة لاحتياجه للأجرة ليصرفها في واجب أو مندوب، فلا. وعن عائشة: أنها اعتكفت عن أخيها" شقيقها "عبد الرحمن، وأعتق عنه" بعد موته فجأة، سنة ثلاث وخمسين، وقيل بعدها في طريق مكة، "وقال سعد" بن عبادة سيد الخزرج "للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي" عمرة بنت مسعود الصحابية "توفيت" سنة خمس والنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 أفأتصدق عنها؟ قال: "نعم"، قال: فأي الصدقة أفضل؟، قال: "سقي الماء". وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته أنها حدثته عن جدته: أنها جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه، فأفتى عبد الله بن عباس: أنها تمشي عنها. ومن المفسرين من قال: إن "الإنسان" في الآية، أبو جهل، ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط، ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة، ومنهم من قال: إخبار عن شرع من قبلنا   دومة الجندل في شهر ربيع ومعه سعد، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتى قبرها، فصلى عليها، ذكره سعد، "أفأتصدق عنها، قال: "نعم"، قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: "سقي الماء" ولعله كان وقت السؤال، الناس أحوج إلى الماء من غيره لقلته في ذلك الموضع، أو لشدة حرارته، كما هو الغالب في الحجاز، وإلا فالصدقة بالطعام وإن قل عند كثرة الماء وتيسره أفضل والنبي صلى الله عليه وسلم سيد الحكماء، فيجيب كل سائل بما هو الأفضل في حقه. قال ابن القيم في كتاب الروح: وأفضل الصدقة ما صادف حاجة من المتصدق عليه، وكان دائمًا مستمرًا، ومنه قوله: "أفضل الصدقة سقي الماء" وهذا في موضع يقل فيه الماء، ويكثر العطش، وإلا فسقي الماء على الأنهار والقنى لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند الحاجة. "وفي الموطأ" للإمام مالك، "عن عبد الله بن أبي بكر" بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، المدني القاضي، مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وهو ابن سبعين سنة، "عن عمته" أم كلثوم أو أم عمرو، فهي عمته الحقيقية لا المجازية التي هي عمرة بنت حزم جد عبد الله الصحابية؛ لأنه لم يدركها؛ "أنها حدته عن جدته؛ أنها جعلت على نفسها مشيًا إلى مسجد قباء، فماتت ولم تقضه" أي: لم تفعله، "فأفتى عبد الله بن عباس أنها تمشي عنها" ففي هذا كله دلالة على أن للمؤمن ما سعى غيره، لكن هذا مذهب صحابي، وقد عقبه في الموطأ بقوله: قال يحيى: سمعت مالكًا يقول: لا يمشي أحد عن أحد، على أن الراجح أن من نذر مشيًا إلى غير بيت الله الحرام وما ألحق به، لا يجب عليه لا لعبادة ولا لغيره عند الشافعية، وقال مالك: من نذر المشي إلى المدينة أو إيلياء فليس عليه ذلك إلا أن ينوي صلاة بمسجديهما، فيركب. "ومن المفسرين من قال: إن الإنسان في الآية أبو جهل" فرعون هذه الأمة، "ومنهم من قال: عقبة بن أبي معيط" الكافر المقتول بعد انصرافهم من بدر صبرًا، "ومنهم من قال: الوليد بن المغيرة" الميت على كفره قبل وقعة بدر، فعمومها على هذه الأقوال مخصوص بواحد مختلف في تعيينه، "ومنهم من قال" الآية "إخبار عن شرع من قبلنا" لأن قبلها أم لم ينبأ بما في صحف موسى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 وقد دل شرعنا على أن الإنسان له سعيه، وما سعى له، ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب، وأهدى لهم الخير وتودد إليهم فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه. ومنهم من قال "الإنسان" في الآية للحي دون الميت. ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له، وإنما نفي ملكه لسعي غيره، وبين الأمرين فرق: فقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} : فإن   وإبراهيم، "وقد دل شرعنا على أن الإنسان له سعيه وما سعى له" وهذا قول عكرمة. "ومنهم من قال: الإنسان بسعيه في الخير، وحسن صحبته وعشرته اكتسب الأصحاب" أي: تسبب في وقوع الصحبة بينه وبين غيره، "وأهدى لهم الخير، وتودد إليهم، فصار ثوابهم له بعد موته من سعيه" لأن الدال على الخير كفاعله، وقد انتفع أصحابه منه بمعرفة الخصال الحميدة، فعملوا بها فحصل له بتسببه في حصول ذلك لهم مثل ثواب ما عملوه. "ومنهم من قال: الإنسان في الآية للحي دون الميت" يعني إن الحي لا يسقط عنه الحج مثلًا ما دام حيًا، يحج غيره عنه بخلاف ما لو فعل عنه بعد موته، فينفعه عند هذا القول. قال ابن القيم في كتاب الروح: وهذا أيضًا من النمط الأول في الفساد، وكله من سوء التصرف في اللفظ العام، وصاحب هذا التصرف لا ينفذ تصرفه في دلالات الألفاظ وحملها على خلاف موضوعها وما يتبادر إلى الذهن منها، وهو تصرف فاسد قطعًا، يبطله السياق والاعتبار، وقواعد الشرع وأدلته وعرفه، وسبب هذا التصرف السيئ أن صاحبه يعتقد قولا، ثم يرد كل ما دل على خلافه بأي طريق اتفقت له، فالأدلة المخالفة له كالصائل لا يبالي بأي شيء دفعه، وأدلة الحق لا تتعارض ولا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، انتهى. "ومنهم من قال: لم ينف في الآية انتفاع الرجل بسعي غيره له، وإنما نفى ملكه لسعي غيره"، لأن قاتل ذلك يرى أن اللام في الإنسان للملك، وو أخص من مجرد انتفاع الإنسان بمال غيره، وهو المراد هنا؛ فمن تصدق عن غيره مثلا بمال لا يصير المال مقصورا نفعه على من تصدق عنه، بحيث ينتفي ثوابه بالكلية عن المتصدق، وإليه أشار بقوله: "وبين الأمرين فرق" وإذا أردت بيانه، "فقال الزمخشري" ما يفيده "في قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، فإن قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه"، وهما سعي غيره؟ "قلت: فيه جوابان". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 قلت: أما صح في الأخبار الصدقة عن الميت والحج عنه؟ قلت: فيه جوابان. أحدهما: إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيًا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنًا مصدقًا، كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تبعًا له، وقائمًا مقامه. والثاني: إن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه له فهو في حكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه. والصحيح من الأجوبة أن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة. وقد اختلف العلماء في ثواب القراءة، هل يصل للميت؟   "أحدهما: أن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيًا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنًا مصدقًا" فالصدقة على الكافر ونحوها لا تنفعه، بل يحرم على المسلم فعل ذلك عنه، وإنما تنفعه الصدقة ونحوها إذا كان مسلمًا، فهو أس، وسبب في حصول فعل غيره له، فذلك "كان سعي غيره كأنه سعي نفسه؛ لكونه تبعًا له وقائمًا مقامه" أي: موجود الأجل وجود الإيمان منه، فنزل إيمانه الذي هو سبب في حصول ذلك له منزلة ما لو تصدق هو عن نفسه. "والثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه" أي: الغير، "ولكن إذا نواه له، فهو في حكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه" فيصل ثوابه إليه تنزيلا له منزلة المتصدق، واستبعده إمام الحرمين؛ بأنه لم يأمر به، وأوله بأنه يقع عن المتصدق، وينال الميت ببركته، ورده ابن عبد السلام؛ بأن ما ذكروه من وقوع الصدقة نفسها عن الميت حتى يكتب له ثوابها هو ظاهر السنة، "والصحيح من الأجوبة إن قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ، عام مخصوص بما تقدم من الأجوبة" فالآية محكمة، كما عليه الجمهور لا منسوخة. قال ابن عطية: والتحرير عندي أن ملاك المعنى في اللام من قوله للإنسان، فإذا حققت الشيء الذي حق لإنسان أن يقول لي، كذا لم يجز إلا سعيه، وما زاد من رحمة لشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات ونحو ذلك، فليس هو للإنسان، ولا يصح أن تقول لي كذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو له حقيقة، وسأل عبد الله بن طاهر والي خراسان، الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بفضل الله ما شاء الله. "وقد اختلف العلماء في ثواب القراءة هل تصل للميت فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي" لكن المحققون من متأخري مذهبه على الوصول، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 فذهب الأكثرون إلى المنع، وهو المشهور من مذهب الشافعي ومالك، ونقل عن جماعة من الحنفية. وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل وبه قال أحمد بن حنبل -رحمه الله- بعد أن قال: القراءة على القبر بدعة، بل نقل عن الإمام أحمد: يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك.   أي: وصول مثل ثواب القارئ للميت وأولوا المنع على معنى وصول عين الثواب الذي للقارئ، أو على قراءته لا يحضره الميت ولا بنية القارئ ثواب قراءته له، نواه ولم يدع. قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع اللهم أوصل ثواب ما قرأناه، أي: مثله، فهو المراد؛ وأن يصرح به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي، فما له أولى، ويجري ذلك في سائر الأعمال. "ومالك" لكن قال الإمام ابن رشد في نوازله: إن قرأ، ووهب ثواب قراءته لميت جاز، وحصل للميت أجره ووصل إليه نفعه، وقال أبو عبد الله الأبي: إن قرأ ابتداء الميت وصل إليه ثوابه، كالصدقة والدعاء، وإن قرأ، ثم وهبه له لم يصل؛ لأن ثواب القراءة للقارئ لا ينتقل عنه إلى غيره. وقال العلامة الشهاب القرافي: الذي يتجه أن يحصل للموتى بركة القراءة، كما يحصل لهم بركة الرجل الصالح يدفن عندهم أو يدفنون عنده، ووصل القراءة للميت، وإن حصل الخلاف فيها، فلا ينبغي إهمالها، فلعل الحق الوصول، فإن هذه الأمور معيبة عنا، وليس الخلاف في حكم شرعي إنما هو في أمر هل يقع كذلك أم لا؟ وكذلك التهليل الذي عادة الناس يعملونه اليوم، ينبغي أن يعمل ويعتمد فضل الله وجوده وإحسانه، هذا هو اللائق بالعبد، انتهى. "ونقل عن جماعة من الحنفية، وقال كثير من الشافعية والحنفية: يصل، وبه قال أحمد بن حنبل بعد أن، قال: القراءة على القبر بدعة" مكروهة، وهو أصل مذهب مالك، "بل نقل عن الإمام أحمد يصل إلى الميت كل شيء من صدقة وصلاة وحج واعتكاف وقراءة وذكر وغير ذلك" كالدعاء له، فقد صح خبر: "إن الله يرفع درجة العبد في الجنة باستغفار ولده له"، ومعنى نفعه بالدعاء حصول المدعو له إذا استجيب، واستجابته محض فضل منه تعالى، ولا يسمى في العرف ثوابًا. أما نفس الدعاء وثوابه فللداعي، لأنه شفاع أجرها للشافع، ومقصودها للمشفوع له، نعم دعاء الولد يحصل ثوابه نفسه للوالد الميت؛ لأن عمل ولده لتسببه في وجوده من جملة عمله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح، كما تنفعه الصدقة والدعاء والاستغفار بالإجماع. وقد أفتى القاضي حسين: بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن. لكن قال الرافعي وتبعه النووي: عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجرة أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة، فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة وذكروا له طريقين. أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت من قريب أو أجنبي، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة. والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم الشالوسي:   كما صرح به خبر: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، ثم قال: "أو ولد صالح" أي: مسلم يدعو له، فجعل دعاءه من جملة عمل الوالد، وإنما يكون منه، ويستثنى من انقطاع العمل إن أريد نفس الدعاء لا المدعو به. "وذكر الشيخ شمس الدين بن القطان العسقلاني: إن وصول ثواب القراءة إلى الميت من قريب أو أجنبي هو الصحيح" مع النية، وهو المعتمد عند متأخري الشافعية؛ "كما تنفعه الصدقة" عنه، "والدعاء والاستغفار" له "بالإجماع" المؤيد بصريح كثير من الأحاديث، "وقد أفتى القاضي حسين؛ بأن الاستئجار لقراءة القرآن على رأس القبر جائز" وإن قلنا بكراهة القراءة على القبر؛ لأن المكروه من الجائز، كالاستئجار للأذان وتعليم القرآن. لكن قال الرافعي، وتبعه النووي: عود المنفعة إلى المستأجر شرط في الإجارة، فيجب عود المنفعة في هذه الإجارة إلى المستأجر أو ميته، لكن المستأجر لا ينتفع بأن يقرأ الغير له، ومشهور أن الميت لا يلحقه ثواب القراءة المجردة" عن نيته بها أو الدعاء بوصول ثوابها له، "فالوجه تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة، وذكروا له طريقين". "أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت من قريب أو أجنبي، فإن الدعاء يلحقه، والدعاء بعد القراءة أقرب إلى الإجابة، وأكثر بركة". "والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم" بن أحمد بن الحسن بن محمد الفقيه "الشالوسي" بشين معجمة، ولام مضمومة، ثم سين مهملة؛ كما ضبطه ابن السمعاني وغيره، نسبة إلى شالوس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، لكن لو قرأ ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت فينتفع الميت. قال النووي في زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقًا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة. وهذا مقصود: بنفع الميت. وقال الرافعي وتبعه النووي في الوصية: الذي يعتاد من قراءة القرآن على رأس القبر قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين في عودة فائدتها إلى الميت كالحي الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدى الثواب إليه القارئ. وقال الشالوسي: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه، إذا جعل   قرية كبيرة بنواحي آمل بطبرستان، كان فقيه عصره بآمل ومدرسها، واعظًا، زاهدًا، وبيته بيت العلم والزهد، مات سنة خمس وستين وأربعمائة. قال الأسنوي: ووهم النووي في التهذيب، فأهمل سينه الأولى أيضًا، وأهل المشرق، خصوصًا ابن السمعاني أعرف ببلادهم من أهل الشام، ولا شك أن النووي هنا لم ينظر إلى ابن السمعاني ولا غيره، وإنما اعتمد على ما يتعلق به كثير من المتفقهة الذين لا اطلاع لهم على ذلك، "أنه إن نوى القارئ بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه" قال شيخنا: المعتمد أنه يلحقه ثوابها حيث قرأ بحضرته أو دعا له عقبها أو نواه بها، وإن لم يكن عنده ولا دعا له؛ "لكن لو قرأ، ثم جعل ما حصل من الأجر له، فهذا دعاء بحصول ذلك الأجر للميت، فينتفع الميت" بذلك الدعاء. "قال النووي في زيادات الروضة: ظاهر كلام القاضي حسين صحة الإجارة مطلقًا وهو المختار، فإن موضع القراءة موضع بركة وتنزل الرحمة، وهذا مقصود بنفع الميت". "وقال الرافعي: وتبعه النووي في" باب "الوصية: الذي يعتاد" مبني للمجهول "من قراءة القرآن على رأس القبر، قد ذكرنا في باب الإجارة طريقين" هما السابقان "في عود فائدتهما إلى الميت". "وعن القاضي أبي الطيب طريق ثالث، وهو أن الميت كالحي الحاضر، فترجى له الرحمة ووصول البركة إذا أهدى الثواب إليه القارئ" قريبًا أو أجنبيًا، "وقال" أبو عبد الله "الشالوسي: إذا نوى بقراءته أن يكون ثوابها للميت لم يلحقه إذا جعل ذلك قبل حصوله" أي: الثواب، "وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ، ثم جعل ما حصل من الثواب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 قبل حصوله، وتلاوته عبادة البدن فلا تقع عن الغير، وإن قرأ ثم جعل ما حصل من الثواب للميت فينفعه، إذا قد جعل من الأجر لغيره. لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت، اعترض عليه بعضهم بأنه موقوف على الإجابة. ويمكن أن يقال: الدعاء للميت مستجاب -كما أطلقوه- اعتمادًا على سعة فضل الله. وقال الرافعي وتبعه النووي: يستوي في الصدقة والدعاء، الوارث والأجنبي. قال الشافعي: وفي وسع الله أن يثيب المتصدق أيضًا. وقال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق بالصدقة عن أبويه مثلا، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئًا. وذكر صاحب العدة: أنه لو أنبط بعلمه عينًا أو حفر بئرًا، أو غرس شجرًا، أو   للميت، فينفعه إذا قد جعل من الأجر لغيره" أي: لأنه جعل بدعائه عقب القراءة شيئًا من أجرها للميت، فينفعه؛ "لكن إطلاق أن الدعاء ينفع الميت اعترض عليه بعضهم، بأنه موقوف على الإجابة" ونحن لا نعلمها، "ويمكن أن يقال" في الجواب: "الدعاء للميت مستجاب، كما أطلقوه اعتمادًا على سعة فضل الله" فلا اعتراض، وهو جواب لين. "قال الرافعي، وتبعه النووي: يستوي في الصدقة والدعاء الوارث والأجنبي" على ظاهر الأخبار. "قال الشافعي: وفي وسع الله" من فضله "أن يثيب المتصدق أيضًا، و" من ثم "قال الأصحاب: يستحب أن ينوي المتصدق الصدقة عن أبويه مثلا، فإن الله ينيلهما الثواب ولا ينقص من أجره شيئًا" وقول الزركشي: ما ذكر في الوقف يلزمه تقدير دخوله في ملكه وتمليكه الغير، ولا نظير له، رد بأن هذا يلزم في الصدقة أيضًا، وإنما لم ينظر له؛ لأن جعله كالمصدق محض فضل، فلا يضر خروجه عن القواعد لو احتيج لذلك التقدير، مع أنه غير محتاج إليه، بل يصح نحو الوقف عن الميت، وللفاعل ثواب البر، وللميت ثواب الصدقة المرتبة عليه، ذكره الرملي. "وذكر صاحب العدة؛ أنه لو أنبط" بفتح الهمزة، وإسكان النون، فموحدة مفتوحة، فطاء مهملة، أي: استخرج "بعمله عينًا، أو حفر بئرًا، أو غرس شجرًا" ويأتي الحديث نخلا؛ فكأنه لأنه غالب شجر المدينة، "أو وقف مصحفًا في حال حياته، أو فعل غيره" ذلك "عنه بعد موته يلحق الثواب بالميت". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 وقف مصحفًا في حال حياته، أو فعل غيره عنه بعد موته، يلحق الثواب بالميت. وقال الرافعي والنووي: إن هذه الأمور إذا صدرت من الحي فهي صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت، كما ورد في الخبر، ولا يختص الحكم بوقف   "وقال الرافعي والنووي: إن هذه الأمور إذا صدرت من الحي، فهي صدقات جارية يلحقه ثوابها بعد الموت؛ كما ورد في الخبر" كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا نشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، ومسجدًا بناه أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته"، رواه ابن ماجه عن أبي هريرة بإسناد حسن. وروى البزار، عن أنس مرفوعًا: "سبع يجري للعبد أجرها بعد موته وهو في قبره من علم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدًا، أو ورث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته". وروى ابن عساكر عن أبي سعيد، رفعه: "من علم آية من كتاب الله أو بابًا من علم، أنمى الله أجره إلى يوم القيامة". وروى أحمد والطبراني، عن أبي أمامة، رفعه: "أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت: من مات مرابطًا في سبيل الله" الحديث، فتحصل من هذه الأحاديث أحد عشر أمرًا تلحق بعد الموت نظمها السيوطي، فقال: إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من فعال غير عشر علوم بثها ودعاء نجل ... وغرس نخل والصدقات تجري وراثة مصحف ورباط ثغر ... وحفر البئر أو إجراء نهر وبيت للغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر وتعليم لقرآن كريم ... فخذها من أحاديث بحصر ولا يرد أن هذه أحد عشر، فينافي قوله غير عشر؛ لأنه نوع التاسع لشيئين، أو ترجم لشيء وزاد عليه، أو قال البيت الأخير بعد ذلك، ويدل له أنه بخطه في شرح ابن ماجه لم يذكر الأخير، وهو وتعليم لقرآن، ولا يعارض هذه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان"، وفي رواية: "ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة؛ لأن هذه الثلاثة في الحقيقة أمهات يرد إليها كثيرًا من الأنواع. "ولا يختص الحكم بوقف المصحف، بل يلتحق به كل من وقف" كما صرح به الحديث في قوله: "مسجدًا" ... إلخ، ومعنى قوله في الخبر: ومصحفًا ورثه بالتشديد، خلفه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 المصحف، بل يلتحق به كل من وقف، وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت، فإنها ضرب من الصدقة، لكن في التهذيب: أنه لا تجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا من الميت إلا أن يكون أوصى به. وقد روي عن علي أو غيره من الصحابة أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وعن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية. وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، وقد أنكره جماعة منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم. وحكى صاحب "الروح":   لوارثه، قال بعض: ويظهر أن مثله كتب الحديث كالصحيحين، "وهذا القياس يقتضي جواز التضحية عن الميت" بلا كراهة، "فإنها ضرب من الصدقة، لكن في التهذيب؛ أنه لا يجوز التضحية عن الغير بغير أمره، وكذا عن الميت إلا أن يكون أوصى به" وهذا هو المعتمد في المنهاج وغيره. "وقد روي عن علي أو غيره من الصحابة أنه كان يضحي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته"؛ لأنه أوصاه بذلك. روى الترمذي عن علي: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضحى عنه على أن جماعة ذكروا في خصائصه جواز التضحية عنه. "وعن أبي العباس محمد بن إسحاق" بن إبراهيم بن مهران "السراج" الثقفي، مولاهم النيسابوري، الإمام الحافظ، الثقة شيخ خراسان، صاحب المسند والتاريخ، مات سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، "قال: ضحيت عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعين أضحية" لأنه خصوصية. "وأما إهداء القراءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف فيه خبر ولا أثر، بل أنكره جماعة، منهم الشيخ برهان الدين بن الفركاح" بكسر الفاء، وإسكان الراء؛ "لأن الصحابة لم يفعله أحد منهم" وهم أحق بالاتباع، لكن اختار السبكي وغيره خلاف ذلك، وكذا أنكر البرهان القراري قولهم: اللهم أوصل ثواب ما تلوته إلى فلان خاصة، وإلى المسلمين عامة؛ لأن ما اختص بشخص لا يتصور التعميم فيه، وده الزركشي؛ بأن الظاهر خلاف ما قاله، فإن الثواب يتفاوت فاعلاه ما خصه، وأدناه ما عمه، وغيره والله تعالى يتصرف فيما يعطيه من الثواب، على أن المراد مثل ثواب ما تلوته لفلان خاصة، ومثل ذلك عامة، وهذا متصور. "وحكى صاحب الروح" الشمس بن القيم، والروح جزء نحو خمسة عشر كراسة، سماه بذلك لتكليمه فيه على الروح وما يتعلق بها: "أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه، ومنهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 أن من الفقهاء المتأخرين من استحبه ومنهم من رآه بدعة، قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك، فإن له أجره من عمل خيرًا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء. قال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصل فيه. قال في تحقيق النصرة: فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ما له من الأجر، مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة, وللرابع ثمانية وهكذا، تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف. فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون.   من رآه بدعة" مذمومة، "قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك" لكن ليس في كونه غنيًا ما يقتضي منع ذلك، بل يجوز أن يكون إهداؤها سببًا في ثواب يصل إليه زائدًا على الثواب الواصل له من كل خير عملته أمته، "وأن له أجر كل من عمل خيرا من أمته من غير أن ينقص من أجر العامل شيء" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا"، رواه مسلم أصحاب السنن، عن أبي هريرة، ومن ثم "قال الشافعي: ما من خير يعمله أحد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا والنبي صلى الله عليه وسلم أصل فيه" لأنه إنما علم بإرشاده. "قال في تحقيق النضرة" للزين المراغي المحدث: "فجميع حسنات المسلمين وأعمالهم الصالحة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ما له من الأجر مع مضاعفة لا يحصرها إلا الله تعالى، لأن كل مهتد وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر، ويتجدد لشيخه مثل ذلك الأجر" لدلالته له عليه، "ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، وللرابع ثمانية، وهكذا تضعيف كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة بعده إلى النبي صلى الله عليه وسلم". "وبهذا تعلم تفضيل السلف على الخلف" لأن السلف يحصل لهم ثواب ما عملوه، ويزيد عليه ثواب بمن أخذ منهم بواسطة أو بدونها، مضاعفًا على ما علم، فيفضلون الخلف، وهو من تأخر عنهم بذلك، "فإذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون" لعل ذلك بواسطة ما يحصل لكل عامل من المضاعفة، مضمومًا إلى بقية أعمال من دونه، مثلا ما يكتب للرابع من الثمانية يكتب للنبي مثله، مع عمل من دونه من الأول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعون، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا، كما قاله بعض المحققين، انتهى، ولله در القائل، وهو سيدي محمد وفا: فلا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته وبهذا يجاب عن استشكال دعاء القارئ له صلى الله عليه وسلم بزيادة الشرف مع العلم بكماله عليه الصلاة والسلام في سائر أنواع الشرف. فكأن الداعي لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير جزء، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول -وهو الشارع صلى الله عليه وسلم- نظير جميع ذلك كما قدرته. ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قوله: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، فثمرة الدعاء بذلك عائد إلى الداعي، لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا في الصلاة عليه -زاده الله شرفًا لديه- إن ثمرتها عائدة على المصلي أشار لنحوه الحافظ ابن حجر.   والثاني والثالث، "فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبي صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا كلما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبدًا؛ كما قاله بعض المحققين، انتهى" كلام تحقيق النصرة، "ولله در القائل، وهو سيدي محمد وفا" إمام العارفين، العالم المشهور: فا حسن إلا من محاسن حسنه ... ولا محسن إلا له حسناته لأنه الجامع لذلك والدال عليه، "وبهذا" المذكور عن تحقيق النصرة، "يجاب عن استشكال دعاء القارئ له صلى الله عليه وسلم بزيادة الشرف، مع العلم بكماله عليه الصلاة والسلام في سائر أنواع الشرف، فكان الداعي لحظ أن قبول قراءته يتضمن لمعلمه نظير جزء، وهكذا حتى يكون للمعلم الأول، وهو الشارع" صلى الله عليه وسلم "نظير جميع ذلك كما قدرته، ومن ذلك ما شرع عند رؤية الكعبة من قوله" أي: الرائي المفهوم من رؤية: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا، فثمرة الدعاء بذلك عائدة على الداعي لاشتماله على طلب قبول القراءة، وهذا كما قالوا في الصلاة عليه زاده الله شرفًا لديه أن ثمرتها عائدة على المصلي" وهذا نظيره عند من قال به، وإلا فالراجح أنها تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الكامل يقبل التكميل، "أشار لنحوه الحافظ ابن حجر" ووقع السؤال عما يقع من الداعين عقب الختمات من قولهم: اللهم اجعل ثواب ما قرئ زيادة في شرفه صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: واجعل مثل ثواب ذلك وأضعاف أمثاله إلى روح فلان، أو في صحيفته، أو نحو ذلك هل يجوز أم يمتنع لما فيه من إشعار تعظيم المدعو له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 ومن خصائص هذه الأمة أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم، رواه الطبراني -في الأوسط- من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "حرمت الجنة على الأنبياء حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي". ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون ألفًا بغير حساب رواه الشيخان   بذلك، حيث اعتنى به، فدعا له بأضعاف مثل ما دعا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب شيخنا؛ بأن الظاهر أن ذلك لا يمتنع؛ لأن الداعي لم يقصد بذلك تعظيم غيره صلى الله عليه وسلم، بل كلامه محمول على إظهار احتياج غيره للرحمة منه سبحانه، فاعتناؤه بل للاحتياج المذكور، وللإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم لقرب مكانته من الله جل وعز الإجابة بالنسبة له محققة، وغيره لبعد رتبته عما أعطيه صلى الله عليه وسلم لله، لا تحقق الإجابة له، بل قد لا تكون مظنونة، فناسب تأكيد الدعاء له وتكريره رجاء الإجابة، انتهى، وهو توجيه وجيه، لكن الأولى ترك ما يوهم ببادئ الرأي، ولا يصحح إلا بمزيد تحقيق وتدقيق. "ومن خصائص هذه الأمة: أنهم يدخلون الجنة قبل سائر الأمم" كما رواه ابن ماجه عن عمر، "وروى الطبراني في الأوسط من حديث عمر بن الخطاب، مرفوعًا" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "حرمت" أي: منعت "الجنة على الأنبياء" زاد في رواية الدارقطني: كلهم "حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" أي: أن المطيع الذي لم يعذب من أمته يدخلها قبل المطيع الذي لم يعذب من أمة غيره، والداخل للنار من أمته يدخل الجنة قبل الداخل للنار من أمة غيره، فالمراد أن جملة أمته، وتمام دخولها الجنة سابق على دخول أمة غيره، فلا يرد ما قد يتوهم أنه لا يدخل أحد من سابقي الأمم الطائفين إلا بعد خروج العاصين من الأمة المحمدية من النار، وقد أخذ من الحديث أن هذه الأمة يخفف عن عصاتها أو يخرجون قبل عصاة غيرها. قال ابن القيم: فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وإلى ظل العرش، وإلى فصل القضاء، وإلى الجواز على الصراط، وإلى دخول الجنة. "ومنها: أنه يدخل منهم الجنة سبعون الفًا" زمرة واحدة "بغير حساب" ولا عذاب، بدليل رواية: "ولا حساب عليهم ولا عذاب"، "رواه الشيخان" عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل الجنة من أمتي زمرة، هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، فقام عكاشة بن محصن الأسدي يرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: "سبقك بها عكاشة". وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، ورفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 ............................................................   أمتي، فقال جبريل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد كثير، قال: هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفًا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، وفي رواية: "هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون". وروى الشيخان أيضًا عن سهل بن سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن من أمتي الجنة سبعون ألفًا أو سبعمائة ألف متماسكين، آخذًا بعضهم ببعض، حتى يدخل أولهم وآخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". قال السبكي في شفاء الغرام: ظاهر قوله سبعون ألفًا، أنهم لا يزيدون على ذلك، وأنهم كلهم بالصفة المذكورة ورجح غيره أن المراد الكثرة باختلاف الأخبار في المقدار، فروى: "مائة ألف، ومع كل ألف سبعون ألفًا، ومع كل واحد سبعون ألفًا". وليس في الحديث نفي دخول أحد على الصفة المذكورة غير هؤلاء، كالأنبياء، والشهداء والصديقين والصالحين. قال عياض: ويحتمل أن معنى كونهم متماسكين أنهم على صفة الوقار فلا يسابق بعضهم بعضًا بل يكون دخولهم جميعًا. وقال النووي: معناه أنهم يدخلون معترضين صفًا واحدًا، بعضهم بجنب بعض، فيدخل الجميع دفعة واحدة، وفي ذلك إشارة إلى سعة الباب الذي يدخلون منه، ووصفهم بالأولية والآخرية باعتبار الصفة التي جازوا فيها الصراط، ثم هذا الحديث يخص عموم الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي، رفعه: "اتزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن علمه ما عمل فيه، وماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه"؛ لأنه وإن كان عامًا لأنه نكرة في سياق النفي، لكنه مخصوص بمن يدخل الجنة بغير حساب، وبمن يدخل النار من أول وهلة، على ما دل عليه قوله تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، الآية، قال القرطبي. قال الحافظ: وفي سياق حديث أبي برزة إشارة إلى الخصوص، لأنه ليس كل أحد عنده علم يسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم ومال دون من لا علم له ولا مال، وأما السؤال عن الجسد والعمر فعام، ويخص من المسئولين من ذكر، انتهى. وجزم ابن عبد السلام؛ بأن هذه الخصوصية لم تثبت لغير نبينا. وقال السبكي: لم يرد فيه شيء بنفي ولا إثبات في الأمم السابقة، واستظهر أبو طالب، عقيل بن عطية أن فيهم من هو كذلك، انتهى، وفيه أن الاستظهار لا دخل له هنا، إذ هو من الأشياء التي لا تكون إلا بمحض النقل. وروى الحاكم والبيهقي عن جابر مرفوعًا: "من زادت حسناته على سيئاته، فذاك الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 وعند الطبراني والبيهقي في البعث: "إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفًا لا حساب عليهم، وإني سألت ربي المزيد فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا". وبالجملة: فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم تكرمة لنبيها عليه الصلاة والسلام وزيادة في شرفه، وتفضيل فضلها وخصائصها يستدعي سفرًا بل أسفارًا، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.   يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته، فذاك الذي يحاسب حسابًا يسيرًا، ومن أوبق نفسه فهو الذي يشفع فيه بعد أن يعذب". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدخل الجنة من أمتي يوم القيامة سبعين ألفًا، ومع كل ألف سبعين ألفًا"، رواه الترمذي. "وعند الطبراني والبيهقي في البعث" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي" أمة الإجابة، وفي إضافتها إليه إخراج غيرها من الأمم من العدد المذكور "الجنة سبعين ألفًا لا حساب عليهم" أي: ولا عذاب، "وإني سألت ربي المزيد فأعطاني مع كل واحد" المراد بالمعية مجرد دخولهم الجنة بغير حساب، وأن دخولها في الزمرة الثانية أو ما بعدها، "من السبعين ألفًا سبعين ألفًا" زاد في رواية البزار من حديث أنس: "وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"، ومر في حديث ابن عباس وصف السبعين ألفًا بذلك أيضًا، فيكون الكل موصوفين به. وأخرج أحمد والديلمي عن أبي بكر، مرفوعًا: "أعطيت سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي، فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا". "وبالجملة فقد اختصت هذه الأمة بما لم يعطه غيرها من الأمم، تكرمة لنبيها عليه الصلاة والسلام، وزيادة في شرفه وتفضيل" بصاد مهملة، "فضلها" بمعجمة، "وخصائصها يستدعي سفرًا، بل أسفارًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" النبي أو أمته، "والله ذو الفضل العظيم" وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا، ولله الحمد على ما أنعم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 فهرس المجلد السابع: من شرح المواهب اللدنية الفهرس: 3 معجزة نبع الماء الطهور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم. 17 تفجر الماء ببركته وابتعاثه بمسه ودعوته صلى الله عليه وسلم. 39 تكثير الطعام القليل ببركته ودعائه صلى الله عليه وسلم. 61 إبراء ذوي العاهات وإحياء الموتى وكلامهم له وكلام الصبيان وشهادتهم له بالنبوة. 74 الفصل الثاني فيما خصه الله تعالى به من المعجزات وشرفه به على سائر الأنبياء من الكرامات والآيات البينات. 140 القسم الثاني ما اختص به صلى الله عليه وسلم مما حرم عليه. 152 القسم الثالث ما اختص به صلى الله عليه وسلم من المباحات. 185 الفصل الرابع ما اختص به صلى الله عليه وسلم من الفضائل والكرامات. 389 خصائص أمته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 المجلد الثامن المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء ... بسم الله الرحمن الرحيم المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء، وتعميمه بعموم لطائف التكريم في حضرة التقريب بالمكالمة والمشاهدة والآيات الكبرى. اعلم -منحني الله وإياك الترقي في معارج السعادات، وأولصلنا به إليه في حظائر الكرامات- أن قصة الإسراء والمعراج من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات، وأقوى الحجج المحكمات وأصدق الأنباء، وأعظم الآيات، وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعموم الكرامات.   "المقصد الخامس: في" بيان "تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء" أي: جعلها مخصوصة به لا تتجاوزه إلى غيره، والمراد به الأمور الخارقة التي اختص بها ليلته كرؤية الله والجنة، وقطعه في زمن قليل، واتساع الزمن حتى صلى بالأنبياء التي غير ذلك، فلمان كانت تلك الأمور كلها لم تتعده إلى غيره جعل المصنف همته في الترجمة بيانها؛ لأنه صار بها مقدمًا على من عداه ومقربًا في حضرة التقديس عن كل ما سواه، وقدم المعراج في الذكر لتعلقه بالحضرة الإلهية، وآخره في الترتيب مطابقة للواقع. "وتعميمه"، أي: تغطيته وستره "بعموم،" أي: كثرة "لطائف التكريم" أي: النعم التي أكرمه الله بها التي لا تحصى بجعلها شاملة كالملاءة التي تشتمل على جميع جسد من جعلت عليه طفي حضرة التقريب،" أي: المكان الذي خاطبه فيه، "بالمكالمة والمشاهدة" له سبحانه وتعالى "والآيات الكبرى" العظمى. "اعلم منحني" أعطاني، "الله وإياك الترقي في معارج السعادات" أي: المراتب المحصلة لها لمن أراد الله به الخير والمعراج عند أهل الطريق منتهى سير المقربين الذي هو عروجهم، أي: سلوكهم؛ لأن كل سالك إلى طريق كان غايته الحق بشرط فوزه منه بسعادة ما، فذلك السالك صاحب معراج وسلوكه عروج، "وأصولنا" الله "به"، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم- "إليه"، أي: إلى قرب المكانة إلى الله "في حظائر الكرامات"، أي: المحلات التي تنزل بها الكرمات وتليق بها، أو المراد بها الجنهة، وأصل الحظيرة ما يعمل للإبل من الشجر ليقيها البرد، ونحوه، "أن قصة الإسلاء والمعراج"، بزنة مفتاح السلم، وجمعه معارج ومعاريج، ويقال: معرج للواحد، بكسر الميم وفتحا "من أشهر المعجزات وأظهر البراهين البينات" الواضحات، "وأقوى الحجج" بالضم، جمع حجة "المحكمات وأًدق الأنباء"، جمع نبأ، بالهمز، وهو الخبر، "وأعظم الآيات وأتم الدلالات الدالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام بعمو الكرامات" لما اشتملت عليه من الأمور الخارقة للعادة التي تقصر العقول عن إدراك مثلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 وقد اختلف العلماء في الإسراء. هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟ احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله: ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه   "وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإسراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة"، فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا"، وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي. "احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في وقد اختلف العلماء في الإسراء. هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة؟ يقظة أو منامًا؟ أو إسراءان كل واحد منهما في ليلة، مرة بروحه وبدنه يقظة ومرة منامًا، أو يقظة بروحه وجسده؟ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش، أو هي أربع إسراءات؟ احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي -بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الرؤيا مصدر الحلمية، وأما البصرية: فالرؤية بالتاء، وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما -كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي- ورود "الرؤيا" للبصرية، ولحنوا المتنبي في قوله: ورؤياك أحلى من العيون من الغض وأجيب: بأنه إنما قال: "الرؤيا" لوقوع ذلك المرئيفي الليل، وسرعة تفضيه كأنه   "وقد اختلف العلماء" بحسب اختلاف الأخبار "في الإراء" أي: في جواب قول السائل: "هل هو إسراء واحد في ليلة واحدة،" فقيل: كان كذلك، ثم اختلف بناء على ذا القول هل كان "يقظة أو منامًا"، وعلى أنه يقظة هل إلى المسجد الأقصى فقط، أو إلى العرش منامًا، "أو" هما "إسراءان" واحد يقظة، وآخر منامًا، "كل واحد منهما في ليلة مرة بروحه وبدنه يقظة، ومرة منامًا،" وليلة اليقظة غير ليلة المنام، وبهذا فارق القول الذي قبله، "أو يقظة بروحه وجسده في المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم منامًا من المسجد الأقصى إلى العرش،" فالإسراء كان يقظة، والمعراج منامًا، عند هذا القائل، وقد علم تفريع هذا القول على اتحاد الليلة فيهما، "أو هي أربع إسراءات" يقظة كلها كما يأتي. "احتج القائلون بأنه رؤيا منام مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء وحي بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ، ليلة الإسراء، {إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} ، أهل مكة إذ كذبوا بها، وارتد بعضهم لما أخبرهم؛ "لأن الرؤيا" بالألف "مصدر الحلمية"، وهي المنامية، منسوبة إلى الحلم "بضمتين وقد تسكن اللام تخفيفًا" "وأما البصرية، فالرؤية بالتاء" بالألف "وقد أنكر ابن مالك والحريري وغيرهما، كما أفاده الشيخ بدر الدين الزركشي ورود الرؤيا" بالألف "للبصرية، ولحنوا" أبا الطيب أحمد بن الحسين "المتنبي" الشاعر المشهور "في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغض"؛ لأنه استعمل الرؤيا بالألف في البصرية التي بالتاء، "وأجيب: بأنه" لا حجة في الآية على أنه منام؛ لأنه "إنما قال: الرؤيا لوقوع ذلك المرئي في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 منام، وبأن "الرؤيا" و"الرؤية" واحدة كقربى وقربة، ويشهد له قول ابن عباس في الآية -كما عند البخاري-: هي رؤية أريها -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به، وزاد سعيد بن منصور عن سفيان في آخر الحديث: وليس رؤيا منام: ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي. وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس، وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ: "الرؤيا" على ما يرى بالعين في   الليل وسرعة تقضيه" حتى "كأنه منام"، فهو مجاز علاقته المشابهة، "وبأن الرؤيا" بالألف "والرؤية" "بالتاء" "واحدة"، يعني أن كلا منهما يستعمل موضع الآخر "كقربى وقربة"، وهذا نقله ابن دحية ولفظه. قال أهل اللغة: رأيت رؤية ورؤيا مثل قربة وقربى، "ويشهد له قول ابن عباس" وهو من أئمة اللسان "في" تفسير "الآية، كما عند البخاري: هي رؤية عين أريها -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به"، فاستعمل ابن عباس الرؤيا "بالألف" في البصرية، "وزاد سعيد بن منصور عن سفيان" بن عيينة راويه عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، "في آخر الحديث وليس منام"، فهو دليل قوي على استعمال كل منهما موضع الآخر. قال الحافظ: وقد تمسك بكلام ابن عباس هذا من قال: الإسراء منام، ومن قال: يقظة فالأول أخذه من لفظ الرؤيا لاختصاصها برؤيا المنام، والثاني من قوله: أريها ليلة الإسراء إذ لو كان منامًا كذبه الكفار ولا فيما هو أبعد منه، وإذا كان يقظة والمعراج تلك الليلة تعين كونه يقظة أيضًا إذ لم ينقل أنه نام لما وصل بيت المقدس، ثم عرج به وهو نائم، "ولم يصرح في رواية البخاري بالمرئي"، بل لفظه ما قدمه المصنف. قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وإذا كان يقظة فإضافة الرؤيا إلى العين للاحتراز عن رؤيا القلب، وقد أثبت الله في القرآن رؤيا القلب، فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] الآية، ورؤيا العين، فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى} [النجم: 17-18] . وروى الطبراني في الأوسط بإسناد قوي عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه مرتين ومن وجه آخر قال: نظر محمد إلى ربه، جعل الكلام لموسى والخلة لإبراهيم والنظر لمحمد، فإذا تقرر ذلك ظهر أن مراد ابن عباس هنا برؤيا العين جميع ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- من الأشياء في تلك الليلة. "وعند سعيد بن منصور من طريق أبي مالك هو ما أري في طريقه إلى بيت المقدس" مما يأتي بعضه، "وهذا مما يستدل به على إطلاق لفظ الرؤيا على ما يرى بالعين في اليقظة"، كما تطلق على رؤيا المنام، "وهو يرد من خطا المتنبي", ولا عبرة بإنكار ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 اليقظة، وهو يرد على من خطأ المتنبي. على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية. فقيل: أن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج، قال البيضاوي: ففسر الرؤيا بالرؤية. وقيل: رؤيا عام الحديبية، حين رأى أنه دخل مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس. وقيل: رؤيا وقعة بدر، وسأل ابن النقيب شيخه أبا العباس القرطبي فقال:   إذ من حفظ حجة خصوصًا وابن عباس من فصحاء بني هاشم وأئمة اللسان. وفي كلام الأشموني إفادة أن مصدر رأي: حلمية، أو بصرية أو علمية بالدليل، أو السمع يجيء بالألف في لغة، وأن المشهور كونها مصدرًا للحلمية؛ "على أنه اختلف المفسرون في هذه الآية" على هذه للاستدراك، وقيل: تتعلق بما قبلها من الكلام، وقيل: لا تتعلق بشيء، "فقيل: إن الرؤيا التي أريناك ليلة المعراج" كما مر عن ابن عباس. "قال البيضاوي:" وتعلق به من قال في المنام، ومن قال: كان في اليقظة، "ففسر الرؤيا" "بالألف" "بالرؤية" "بالتاء"، "وقيل: رؤيا عام الحديبية حين رأى أنه دخل" المسجد الحرام، فسافر قاصدًا "مكة فصده المشركون وافتتن بذلك ناس"، أي: تحيروا من ذلك؛ لأن رؤياه وحي حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: "أقلت لكم في هذا العام"، وفي الفتح قال هذا القائل والمراد بقوله: فتنة للناس ما وقع من صد المشركين له في الحديبية عن دخول المسجد الحرام، وهذا وإن أمكن أنه مراد الآية لكن الاعتماد في تفسيرها على ترجمان القرآن أولى. "وقيل: رؤياه وقعة بدر، وسأل ابن النقيب" الإمام المفسر العلامة المفتي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان بن حسن البلخي، ثم المقدسي الحنفي مدرس العاشورية بالقاهرة، ولد سنة إحدى عشرة وستمائة، قدم مصر فسمع بها من يوسف المخلي، وأقام مدة بالجامع الأزهر، وصنف بها تفسيرًا كبيرًا إلى الغاية، وكان إماما ابدًا زاهدًا، أمارًا بالمعروف، كبير القدر، يتبرك بدعائه وزيارته، مات بالقدس في المحرم سنة ثمان وتسعين وستمائة، ذكره الذهبي في العبر "شيخه أبا العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم "القرطبي" الأنصاري، المالكي، الفقيه المحدث، نزيل الإسكندرية، ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع الكثير وقدم الإسكندرية، فأقام بها يدرس، وصنف المفهم في شرح صحيح مسلم، واختصر الصحيحين، مات في ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، وليس المراد بابن النقيب هنا شهاب الدين بن النقيب أحمد أبو العباس، أحد علماء الشافعية؛ لأنه ولد بالقاهرة سنة اثنين وسبعمائة، ومات بها في رمضان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 الصحيح أنها رؤية عين، أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس مصارعهم التي أراه جبريل، فتسامعت به قريش فاستخروا منه. انتهى. واستدل القائلون بأنها رؤيا منام أيضًا بقول عائشة: "ما فقد جسده الشريف". وأجيب بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذا ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط، أو لم تكن ولدت بعد على الخلاف في الإسراء متى كان.   سنة تسع وستين، كما ذكر السيوطي فلم يدرك القرطبي، "فقال: الصحيح أنها رؤية عين أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأري النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس" أصحابه الحاضرين "مصارعهم،" أي: القوم الهالكين ببدر من المشركين "التي أراه جبريل،" فصار يقول قبل الوقعة واضعًا يده على الأرض: "هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان"، "فتسامعت به قريش فاستخروا" مثل سخروا، أي: هزؤوا "منه،" فلما التقى الجمعان كان كما قال "انتهى". لكن ما صححه خلاف ما صححه الشامي أنها رؤيا عين ليلة الإسراء، ونحوه للحافظ في الفتح قائلًا: وما روى ابن مردويه عن ابن عباس؛ أن المراد رؤيا الحديبية، وعن الحسن بن علي مرفوعًا، "إني أريت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: دنيا تنالهم"، ونزلت الآية، فكلاهما إسناده ضعيف. "واستدل القائلون بأنها منام أيضًا عائشة" المروي عند ابن إسحق، حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: "ما فقد جسده الشريف" ولكن أسري بروحه. قال الشامي: كذا فيما وقفت عليه من نسخ السير فقد بالبناء للمفعول، والذي وقفت عليه من نسخ الشفاء ما فقدت بالبناء للفاعل وإسناد الفعل لتاء المتكلم، كذا قال وقد حكاهما في الشفاء، روايتين، فقال أولًا: وأما قول عائشة: ما فقد جسده، فهي لم تحدث به عن مشاهدة ... إلخ" ثم قال بعد أسطر، وأيضًا قد روي حديث عائشة: ما فقدت، يعني بالبناء للفاعل، قال: ولم يدخل بها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بالمدينة، وكل هذا يوهنه، بل الذي يدل عليه صحيح قولها: إنه بجسده الشريف لإنكارها رؤيته لربه رؤية عين، ولو كانت عندها لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثابت عنها انتهى، يعني لما في متنه من العلة القادحة، وفي سنده من انقطاع وراو مجهول. وقال ابن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير: قال إمام الشافعية أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، وإنما وضع ردًا للحديث الصحيح. "وأجيب" على تقدير صحته؛ "بأن عائشة لم تحدث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجًا، ولا في سن من يضبط"؛ لأنها سنة الهجرة، وكانت بنت ثمان سنين، "أو لم تكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 وقال التفتازاني: أي ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والروح جميعًا، انتهى. واحتج القائون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] ، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.   ولدت بعد،" بالناء على الضم، أي: بعد هذه القصة، وهي ضد قبل، ويستعملان في التقدم والتأخر المتصل والمنفصل، والمراد هنا الأول، أو المراد زمن وقوعه للمحاورة والتضاد، وهو استعمال شائع "على الخلاف في الإسراء متى كان"، فعلى أنه كان بعد المبعث بعام لم تكن ولدت، وعلى أنه قبل الهجرة بعام تكون ابنة سبع، وعلى أنه قبلها بأكثر تكون أصغر من سبع. قال عياض: وإذا لم تشاهد ذلك عائشة دل على أنها حدثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها، وكان الظاهر أن يقول: فرجح خبر غيرها على خبرها، أي: لعدم ثبوته عنها كما أفصح به بعد، وقد قدمت كلامه لا لروايتها عن مجهول إذ لو ثبت لكان مرسل صحابي وهو حجة. "وقال التفتازاني" في الجواب على تقدير الصحة، "أي: ما فقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه وكان المعراج للجسد والروح جميعًا. انتهى"، وهو جواب حسن على ما فيه من كونه خلاف المتبادر من اللفظ. "واحتج القائلون بأنه بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح،" فالإسراء يقظة، والمعراج منام، "بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب به"، من الكفاء تعجب استحالة، ومن المؤمنين تعجب تعظيم "بعظيم القدرة" بالباء الجارة، وفي نسخة بالفوقية منصوب على أنه مفعول له، أي: لتعظيم قدرة الله الباهرة "والتمدح بتشريف النبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى" مكان "زائد عن المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح،" فلما لم يقع ذكر المعراج في هذا الموضع من كون شأنه أعجب وأمره أغرب بكثير من الإسراء دل على أنه كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 وأجيب: بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الامتحان على ما شاهدوه وعرفوه، من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما رأى في السماء، ولا عهد لهم بذلك. وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء به عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة. وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخه القاضي أبي بكر بن العربي،   منامًا، وأما الإسراء فلو كان منامًا، لما كذبوه ولا استنكروه لجواز وقوع مثل ذلك وأبعد منه لآحاد الناس. "وأجيب" كما ذكر ابن المنير؛ "بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الأمتحان على ما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه فيجيبهم بما عاين"، كما يأتي بيانه؛ "ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع، ولهذا لم يسألوه عما أرى في السماء، ولا عهد لهم بذلك"، عطف علة على معلول، أي: لأنه لا عهد أي: لا علم لهم به. وفي الشامي، وأجب الأئمة عن ذلك، بأنه استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء، فلما ظهرت أمارات صدقه، ووضحت له براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج فحدثهم به، وأنزله الله في سورة النجم. قال الحافظ: ويؤيد وقوع الإسراء عقب المعراج في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "أتيت بالبراق فركبت حتى أتيت بيت المقدس"، فذكر القصة إلى أن قال: "ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا"، وحديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، فلما فرغ مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج. "وقال النووي في فتاويه: وكان الإسراء عليه الصلاة والسلام مرتين: مرة في المنام، ومرة في اليقظة"، وإلى هذا ذهب المهلب شارح البخاري، وحكاه عن طائفة، وأبو نصر بن القشيري ومن قبلهم أبو سعد في شرف المصطفى قال: كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- معاريج، منها ما كان في اليقظة، ومن ما كان في المنام. "وذكر السهيلي تصحيح هذا المذهب عن شيخ القاضي أبي بكر بن العربي" واختاره؛ "وأن مرة النوم توطئة له" وتمهيد "وتيسير عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة"، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 وأن مرة النون توطئة وتيسير عليه، كما كان بدء نوبته الرؤيا الصادقة ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الإسراء سهلت عليه بالرؤيا؛ لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة، رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه. وقد جوز بعض قائلي ذلك أن تكون قصة المنام قبل المبعث، لأجل قول شريك في روايته: "وذلك قبل أن يوحى إليه"، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى. واحتج القائلون بأنه أربع إسراءات يقظة بتعدد الروايات في الإسراء، واختلف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكر الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر. وأجيب: بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى   كما قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرؤيا الصادقة، وفي رواية: الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "ليسهل عليه" بالرؤيا "أمر النبوة، فإنه أمر عظيم تضعف عنه القوى البشرية"، فقد ذكر أبو ميسرة التابعي الكبير، وغيره؛ أن ذلك وقع في المنام، وجمعوا بينه وبين حديث عائشة؛ بأن ذلك وقع مرتين كما في الفتح، "وكذلك الإسراء سهلت" قصته عليه "بالرؤيا" في النوم قبل اليقظة؛ "لأن هوله عظيم، فجاءت اليقظة على توطئة وتقدمة رفقًا من الله بعبده وتسهيلًا عليه". "وقد جوز بعض قائلي ذلك؛ أن تكون قصة المنام قبل المبعث لأجل قول شريك" بن أبي نمر "في روايته" عن أنس؛ "وذلك قبل أن يوحى إليه، وسيأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى" قريبًا مع الجواب عن إشكاله بالإجماع، على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل الوحي. "واحتج القائلون، بأنه أربع إسراءات يقظة،" كما ذهب إليه جماعة "بتعدد الروايات في الإسراء واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر، وأجيب بأنه لا يدل على التعدد؛ لأن بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه،" أو ما يذكر هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كله، وتارة يحدث المخاطب با هو أنفع له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يحصل على مطلب، ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته، بذلك ولنقله الناس على التعدد والتكرار. انتهى. وقد وقع في رواية عبثر بن القاسم الزبيدي -بموحدة ثم مثلثة بوزن جعفر- في روايته عن حصين بن عبد الرحمن، عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبي ومعه الواحد، الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا   "وقال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالقت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب"، جاء بشيء غريب لا يعرف، "وهرب إلى غير مهرب"، يعني أن ذلك لا يجد به نفعًا في دفع التعارض، "ولم يحصل على مطلب"، حذف من كلام ابن كثير في تاريخه تعليله بقوله؛ لأن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلاة، فكيف يدعي تعدد ذلك، هذا في غاية البعد، ووصله بقوله: "ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بذلك، ولنقله الناس على التعدد والتكرار،" ولم يقع ذلك. "انتهى". ونحوه في الفتح، وزاد: ويلزم أيضًا وقوع التعدد في سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك؟، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح. وقال ابن القيم: هذه طريقة ضعفاء الظاهرية الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الرواة عددوا لهم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل؛ أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارًا كيف ساغ أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه تعالى وبين موسى حتى تصير خمسًا، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين، ثم يحطها عشرًا عشرًا. "وقد وقع رواية عبثر بن القسم الزبيدي" "بضم الزاي" أبو زبيد، كذلك الكوفي الثقة من رجال الجميع، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وعبثر بفتح العين المهملة، و"بموحدة" ساكنة، "ثم مثلثة" مفتوحة، ونسخحة فمثناة تحريف، فالذي في التقريب: وفتح المثلثة "بوزن جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرحمن" السلمي، الكوفي، ثقة، روي له الجماعة وتغير حفظه في الآخر، مات سة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة. "عند الترمذي والنسائي: لما أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعل يمر بالنبي ومعه الواحد ... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا غير الذي وقع بمكة. قال في فتح الباري: والذي يتحرر في هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة، من استفتاح أبواب السماء بابا بابًا، ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفرض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها -صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام والله أعلم. انتهى.   الحديث، فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا" إسراء "غير الذي وقع بمكة"، فغير صفة محذوف. "قال في فتح الباري: والذي يتحرر من هذه المسألة أن الإسراء الذي وقع بالمدينة ليس فيه وما وقع بمكة من استفتاح أبوب السماء بابًا بابًا" بالتكرير، "ولا من التقاء الأنبياء كل واحد في سماء، ولا المراجعة مع موسى فيما يتعلق بفروض الصلوات، ولا طلب تخفيفها وسائر ما يتعلق بذلك، وإنما تكررت قضايا كثيرة سوى ذلك رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- فمنها بمكة البعض، ومنها بالمدينة بعد الهجرة البعض، ومعظمها في المنام" ضد اليقظة، "والله أعلم، انتهى". وفي فتح الباري أيضًا: وجنح الإمام أبو شامة إلى وقوع المعراج مرارًا، واستند إلى ما أخرجه البزار، وسعيد بن منصور عن أنس رفعه: بينا أنا جالس إذ جاء جبريل، فوكز بين كتفي، فقمنا إلى شجرة فيها مثل وكري الطائر، فقعدت في أحدهما، وقعد جبريل في الآخر، فارتفعت حتى سدت الخافقين.. الحديث، وفيه: ففتح لي باب من السماء، فرأيت النور الأعظم، وإذا حجاب رفرف الدر والياقوت، ورجاله لا بأس بهم، إلا أن الدارقطني ذكر له علة تقتضي إرساله، وعلى كل حال، فهي قصة أخرى، الظاهر أنها وقعت بالمدينة، لا بعد في وقوع أمثالها، وإنما المستبعد وقوع التعدد في قصة المعراج الذي وقع سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب هل بعث إليه وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، فتعين رد بعض الروايات المخلتفة إلى بعض، أو الترجيح، إلا أنه بعد في وقوع جميع ذلك في المنام توطئة، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه كما قدمته، ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: وكان الإسراء في النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة، فإن أراد تخصيص المدينة بالنوم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 وقال بعض العارفين: إن له -صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة، والذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه رؤيا رآها. انتهى. فالحق: أنه إسراء واحد، بروحه وجسده يقظة، في القصة كلها. وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، لا ينبغي العدول عن ذلك، إذ ليس في العقل ما يحيله.   ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب، فيحتمل، ويكون الإسراء الذي اتصل به المعراج، وفرضت فيه الصلاة بمكة، والآخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الإسراء بالمنام تكرر بالمدينة النبوية. "وقال بعض العارفين؛ أن له -صلى الله عليه وسلم- أربعة وثلاثين مرة" من الإسراءات "الذي أسري به منها واحد بجسمه، والباقي بروحه" دون جسده "رؤيا رآها انتهى". "فالحق" وهو الصحيح "أنه إسراء واحد برروحه وجسده يقظة في القصة كلها، وإلى هذا ذهب الجمهور من علماء المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول": الرجوع والميل "عن ذلك" الظاهر، "إذ ليس في العقل ما يحيله" حتى يعدل عنه، وإنما عده محالًا صدر من كفار قريش وبعض ضعفاء المسلمين، لتوهمهم أن قطع مثل هذه المسافة ذهابًا وإيابًا في بعض ليلة محال لبعدها، فتقطع في أيام كثيرة، ومن بعض أرباب علم الهيئة، الزاعمين أن الأفلاك لا فرجة فيها ولا تقبل الخرق والالتئام، وكلاهما خطا عقلًا ونقلًا. ألاى ترى نقل عرش بلقيس في طرفة عين مع بعد مسافته، وقد نطقت النصوص بأن للسماء أبوابًا تفتح وتغلق، فلا عبرة بأوهام الفلاسفة. قال التفتازاني: ادعاء استحالة المعراج باطل؛ لأنه إنما ينبني على أصول الفلاسفة من امتناع الخرق والالتئام على السموات، وإلا فلخرق والالتئام على السموات واقع عند أهل الحق، والأجسام العلوية والسفلية متماثلة مركبة من الجواهر الفردة المتماثلة ما يصح على كل من الأجسام ما يصح على الآخر ضرورة التماثل المذكور، فإن أمكن خرق الأجسام السفلية أمكن خرق الأجسام العلوية، والله قادر على الممكنات كلها، فهو قادر على خرق السموات وقد ورد به السمع، فيجب تصديقه. وقال البيضاوي تبعًا للرازي الاستحالة مدفعوة بما ثبت في الهندسة، أما ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل ليصل لموضع طرفها الأعلى في أقل من درجة، والأجسام كلها متساوية في قبول الإعراض، والله قادر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 قال الرازي: قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر. أما القرآن فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} ، وتقرير الدليل: أن "العبد" اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلًا بجميع الجسد والروح، ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح، وأيضًا: قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] ، والمردج: جميع الروح والجسد وكذا ههنا، في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} ، انتهى. واحتجوا أيضًا: بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى تدل دليل على خلافه.   على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما حمله، والتعجب من لوازم المعجزات. "ال الرازي" الإمام فخر الدين: "قال أهل التحقيق: الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجسده" معا يقظة "من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر" أي: الحديث، "أما القرآن، فهو قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] الآية، إلا بعد، "وتقرير الدليل أن العبد اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلا بجميع الجسد والروح" إذ لو كان مناما لقال بروح عبده. "ويدل عليه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9] الآية, ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح"؛ لأن العبد هنا محمد صلى الله عليه وسلم والناهي له عن الصلاة أبو جهل، وهو لا ينهاه عن الصلاة بروحه، "وأيضا قال سبحانه وتعالى في سورة الجن: وأنه بالفتح عطفا، وبالكسر استئنافا، والضمير للشأن {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {يَدْعُوهُ} ، يعبده ببطن نخلة، "والمراد" في تينك الآيتين "جميع الروح والجسد، وكذلك ههنا" في قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] الآية، إذ الآيات تحمل على نظيرها. انتهى. وأما الخبر فأشار إليه بقوله: "واحتجوا أيضا بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: "أسري بي"؛ لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة حتى يدل دليل على خلافه" عقلي أو شرعي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء، ولا استعبده الأغبياء. ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق. فإن قلت: ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا؟ أجيب: بأنه إنما جعل ليلًا تمكينًا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى اتخذه -صلى الله عليه وسلم- حبيبًا وخليلًا، والليل أخص زمان للمحبين لجمعهما فيه، والخلوة   قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السموت استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان منامًا لقال بروح عبده ولم يقل بعبده، وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، أي: ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها لصراحة ظاهره في أنه بجسده يقظه؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة لقد رأى من آيات ربه الكبرى، ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة، دالة على صدقه وإن كانت رؤيا الأنبياء وحيًا، وليس فيها من الأبلغية وخرق العادة ما فيه يقظة على أن ذلك إنما يعرف من صدقه وصدق خبره، "وإن ذلك لو كان منامًا لما كان فيه فتنة للضعفاء" الذين كانوا أسلموا فارتدوا فوقعوا في فتنة، أي: بلية عظيمة توقعهم في العاب لردتهم وتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، "ولا استبعده الأغبياء": جمع غبي بمعجمة، أي: الكفار ولا كذبوه، فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ "ولأن الدواب لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجسام، وقد تواترت الأخبار، بأنه أسري به على البراق" وهو دابة، فوجب كونه بالجسد والروح معًا. "فإن قلت ما الحكمة في كونه تعالى جعل الإسراء ليلًا،" مع أن غالب الفرائض كالصوم والجهاد والصبح والظهر والعصر والابتغاء من فضل الله، إنما هو بالنهار، وإن وقع جهاد ليلًا فنادر لنحو غارة، وفيه الصلاة الوسطى، والصوم الذي قال الله فيه: "كل عمر ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، ومن ثم صحح الشرف المناوي أنه أفضل من الليل، وصحح غيره تفصيل الليل. "أجيب بأنه إنما جعل ليلًا تمكينا للتخصيص بمقام المحبة؛ لأنه تعالى أتخذه عليه السلام حبيبًا وخليلًا"، فجمع له من بين المقامين، وهذا دليل لما أفهمه قوله بمقام المحبة، "والليل أخص زمان للمحبين" بفتح الباء المشددة تثنية محب، أي: أولى زمان يلخلو فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 بالحبيب متحققة بالليل. وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار، قال: ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن فضيلة الإيمان بالغيب، ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد، انتهى. وفي ذلك حكمة أخرى على طريق أهل الإشارات، ذكرها العلامة ابن مرزوق، وهي: أنه قيل؛ لأن الله تعالى لما محا آية الليل وجعل آية النهار مبصرة انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيه بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وقيل: افتخر النهار على الليل   المحب بحبيب "لجمعهما فيه"، فليس المراد بأخص هنا مقابل الأعم، ثم المحب لغة من وقعت منه المحبة، والحبيب والمحبوب من وقت عليه فغلب المحب على المحبوب، فقال المحبين، أو إشارة إلى أن المتحابين إذا صدقت محبة كل منهما لصاحبه كان محبًا ومحبوبًا باعتبارين، "والخلوة بالحبيب متحققة" بالليل من تحقق الأمر إذا ثبت، ويجوز فتح القاف اسم مفعول أي: مثبتة، والأول أولى. "وقال ابن المنير: ولعل تخصيص الإسراء بالليل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا بالغيب، وليفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، إذ الليل أخفى حالًا من النهار"، فما وقع فيه لا يطلع عليه غالبًان فكان من الغيب، وما وقع نهارًا يطلع عليه غالبًا لمشاهدته، فإذا أخبر -صلى الله عليه وسلم- عما وقع له ليلًا صدقه المؤمنون فزادوا به إيمانًا، وكذبه الكافرون فزادت فتنتهم. "قال ابن المنير": ولعله لو عرج به نهارًا لفات المؤمن من فضيلة الإيمان بالغيب"، وقد أثنى الله على الذين يؤمنون بالغيب، ففيه فضل عظيم، "ولم يحصل ما وقع من الفتنة على من شقي وجحد"، عطف علة على معلول أي: شقي بجحوده "انتهى". "وفي ذلك حكمة أخرى" ثالثة "على طريق أهل الإشارات"، وهم المحققون من الصوفية، والإشارات الحقائق التي يأخذونها من نص القرآن وغيره، ولا يقصدون أن ما أخذوه تفسير صريح النص، كما قاله العز بن عبد السلام وغيره. "ذكرها العلامة" محمد "بن مرزوق، وهي أنه قيل: لأن الله تعلى لما محا آية الليل" طمس نورها بالظلام لنكسن فيه، والإضافة للبيان، "وجعل آية النهار مبصرة"، أي: مبصرًا فيها بالضوء، وفائدة إضافة البيان تحقيق مضمون الجملة السابقة، "انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-" وذلك أعظم الجبر، "وقيل: افتخر النهار على الليل بالشمس، فقيل له: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 بالشمس فقيل له: لا تفتخر، فإن كانت الشمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء، وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- سراج، والسراج إنما يوقد بالليل، وأنشد: قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ ... ـل على بهجة النهار المنير قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري فإن قلت: أيما أفضل، ليلة الإسراء أم ليلة القدر؟ فالجواب: كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش -أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من ليلة القدر، وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها لهم خير لهم   لا تفتخر، فإن كانت شمس الدنيا تشرق فيك فسيعرج شمس الوجود في الليل إلى السماء،" وهذا أيضًا من كلام أهل الإشارات، "وقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- سراج"، كما قال تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] الآية، "والسراج إنما يوقد بالليل"، أي: إنما يحصل الانتفاع بإيقاده ليلًا، ويذم بإيقاده نهارًا. قال الفرزدق: فك والد لك يا جرير كأنه ... قمر المجرة أو سراج نهار "وأنشد" في ذلك المعنى يقول: "قلت: يا سيدي فلم تؤثر الليـ ... ـل على بهجة النهار المنير قال: لا أستطيع تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدرو إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نوري" وحاصل معنى الأبيات أنه سأل محبوبه عن حكمة زيارته ليلًا دون النهار، فقال: أنا بدر، وهو إنما يظهر أثره ليلًا ولا يستطيع تغيير ذلك الأثر، وإن في زيارته ليلًا فائدة لا تظهر لو زاره نهارًا، وهي إشراق الليل بنوره، فصار الليل في حقه كالنهار في الإضاءة والإشراق. "فإن قلت: إيما أفضل ليلة الإسراء أم ليلة القدر" التي هي خير من ألف شهر؟، "فالجواب كما قاله الشيخ أبو أمامة بن النقاش، أن ليلة الإسراء أفضل في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- من ليلة القدر،" لما أكرم به فيها من خوارق العادات التي أجلها رؤيته لله تعالى على الصحيح. "وليلة القدر أفضل في حق الأمة؛ لأنها" أي: العمل فيها "خير لهم من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم"، بإلغاء الكسر، وهو ثلاث سنين وثلث سنة، بناء على أن المراد حقيقة العدد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 من عمل في ثمانين سنة لمن قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شيء، ومن قال فيها شيئًا فإنما قال من كيسه لمرجع ظهر له استأنس به، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شيء، ولو تعلق بها نفع للأمة، ولو بذرة، لبينه لهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم- انتهى.   وهو ألف شهر، وصدر البيضاوي، بأن المراد التكثير. "وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح،" أراد به ما يشمل الحسن بدليل قوله، "ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن، ولا" يصح "إلى أن تقوم الساعة فيها شيء"؛ لأنه إذا لم يصح من أول الزمان، لزم أن لا يصح في بقيته، لعدم إمكان تجدد واحد عادة يطلع على ذلك بعد الزمن الطويل، وهذا لا يشكل عليه ما قيل أنه كان ليلة سبع عشرة، أو سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، أو سبع وعشرين من رمضان، أو من ربيع الآخر، أو من رجب، واختير وعليه العمل؛ لأن ابن النقاش لم ينف الخلاف فيها من أصله، وإنما نفى تعيين ليلة بخصوصها للإسراء وأنها أصح. "ومن قال فيها شيئًا، فإنما قال من كيسه"، أي: من عند نفسه دون استناد لنص يعتمد عليه "لمرجع ظهر له، استأنس به" لما جزم به، "ولهذا" أي: عدم إتيان شيء فيها "تصادمت الأقوال فيها وتباينت، ولم يثبت الأمر فيها على شيء ولو تعلق بها نفع للأمة ولو بذرة"، أي: شيئًا قليلًا جدًا "لبينه لهم نبيهم -صلى الله عليه وسلم-"؛ لأنه حريص على نفعهم. "انتهى" كلام أبي أمامة. زاد الشامي عقبه: ويؤخذ من قول الإمام البلقيني في قصيدته التي مدخ فيها المصطفى: فأولاك رؤيته في ليلة فضلت ... ليالي القدر فيها الرب رضاكا إن ليلة الإسراء أفضل من لية القدر، قال في الاصطفاء: ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء، ولهذا لم يجعلها ثوابًا عن عمل من الأعمال مطلقًا بل من بها على عباده يوم القيامة تفضلًا منه تعالى انتهى، لكن هذا لا يصادم كلام ابن النقاش، إذ ليس في النظم أنها أفضل في حق الأمة وإن كان فضل الزمان، والمكان لا يختص بالعمل فيهما عل ما رجحه الشهاب القرافي وغيره، فهو خاص بتلك الليلة، لا يتعداها لمماثلها كل سنة لعدم ورود شيء فيه. وفي الهدى لابن القيم، أن ابن تيمية سئل هل ليلة الإسراء أفضل أم ليلة القدر؟ فأجاب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء؟ أجاب العارف عبد العزيز المهدوي: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية لم تكن لأحد من الأنبياء، إلا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- انتهى. وإنما قال تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِه} إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به، ليعلم أن الإسراء من عبده هبة إلهية، وعناية ربانية، سبقت له عليه السلام، مما لم يخطر بسره، ولا اختلج في ضميره.   بأن القائل ليلة الإسراء أفضل إن أراد أنها ونظائرها كل عام أفضل، فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار، وإن أراد أنها بخصوصها أفضل؛ لأنه حصل له -صلى الله عليه وسلم- فيها ما لم يحصل له في غيرها، وما لم يحصل لغيره، فهو صحيح إن سلم إن إنعام الله على نبيه ليلة الإسراء أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وهذا لا يعلم إلا بوحي، ولا يجوز التلم فيه بلا علم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة، أنه خص ليلة الإسراء بأمر من الأمور. "فإن قلت: هل وقع الإسراء لغيره -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء" أم هو من خصائصه عليهم؟، "أجاب العارف عبد العزيز المهدوي: بأن مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات:" "بفتح الضاد" جمع حضرة، أي: المراتب "العلية لم تكن لأحد من الأنبياء إلا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- انتهى". وعبارة الأنموذج في الخصائص التي اختص بها على الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله لفظها، وبالإسراء وما تضمنه من اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين، ووطئه مكانًا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب، وإحياء الأنبياء له، وصلاته إمامًا بهم وبالملائكة، وإطلاعه على الجنة والنار، عد هذه البيهقي، ورؤيته آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى، ورؤيته للباري تعالى مرتين، وبركوب البراق في أحد القولين، "وإنما قال تعالى: {أَسْرَى} مأخوذ من السرى، وهو سير الليل، تقول: أسرى وسرى إذا سار ليلًا، هذا قول الأكثر. وقال الحوفي: أسرى: سار ليلًا، وسرى: سار نهارًا، وقيل: أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار من آخره، وهذا أقرب {بِعَبْدِهِ} محمد -صلى الله عليه وسلم- اتفاقًا، والضمير لله تعالى، والإضافة للتشريف، والمراد جعل البراق يسري به كما يقال: أمضيت كذا، أي: جعلته يمضي، وحذف المفعول لدلالة السياق عليه؛ ولأن المراد ذكر المسرى به لا ذكر الدابة، قاله في الفتح "إشارة إلى أنه تعالى هو المسافر به ليعلم أن الإسراء من عبده هبة إلهية، وعناية ربانية سبقت له عليه اسلام مما لم يخطر بسره ولا اختلج في ضميره،" ولعل وجه الإعلام بذلك، إنه إذا كان تعالى هو المسافر به أفاد أنه لم يكن منه فعل في الإسراء بل هو من ونعمة منه عليه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 وأدخل "باء" المصاحبة في قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} ليفيد أنه تعالى صحبه في مسراه، بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية، ويشهد له قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أنت الصاحب في السفر". وتأمل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] ، وقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِه} تلح لك خصوصية مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام الحق سبحانه وتعالى دون عموم الخلق. وقرن سبحانه وتعالى "التسبيح" بهذا الإسراء، ولينفي عن قلب صاحب الوهم   "وأدخل باء المصاحبة" على قول المبرد والسهيلي؛ لأن الفعل اللازم، إذا تعدى بالباء غيرت الباء معناه، بخلاف بقية الحروف إذا تعدى بها الفعل، فلا يغير شيء منها معناه، فلذا جعلت للمصحابة "في قوله: {بِعَبْدِه} ليفيد أنه تعالى صحبه في مسراه بالألطاف والعناية والإسعاف والرعاية"، بيان لمعنى صحبة الله لعبده لاستحالة المصاحبة الحقيقية عليه، هكذا جزم المبرد والسهيلي، أن الباء تقتضي مصاحبة الفعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة، حتى قال السهيلي: إذا قلت قعدت به، فلا بد من مشاركة ولو باليد، وبه جزم ابن دحية وابن المنير. زاد ابن دحية، "ويشهد له،" أي: لوصفه تعالى بالصحبة "قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أنت الصاحب في السفر"،" والجمهور أن الباء للتعدية وترادف الهمزة، ولا تقتضي المصاحبة، ورد على المبرد وأتباعه بقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} [البقرة: 17] الآية؛ لأن الله تعالى لا يوصف بالذهاب مع النور، وبقول الشاعر: ديار التي كانت ونحن على منى ... تحل بنا لولا نجاء الركائب أي: تحلنا، فالباء هنا للتعدية، ولم يقتضي المشاركة؛ لأن الديار لم تكن حرامًا فتصير حلالًا، ولكن الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت بزيد، "وتأمل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر} [يونس: 22] الآية، وقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِه} تلح لك خصوصية مصاحبة الرسول عليه الصلاة والسلام الحق سبحانه وتعالى دون عموم الخلق؛" لأنه أتى بباء المصاحبة في "بعبده"، وأتى بـ"في" في العموم إشارة إلى الفرق بين لطفه بعبده وبين غيره من الخق، "وقرن سبحانه وتعالى التسبيح بهذا الإسراء"، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} وأصلها التنزيه، ويطلق في موضع التعجب، فعلى الأول المعنى تنزه الله عن أن يكون رسوله كذابًا، وعلى الثاني عجب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أنه بمعنى الأمر، أي: سبحوا الذي أسرى، قاله في الفتح "ينفي عن قلب صاحب الوهم ومن يحكم عليه خياله من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 ومن يحكم عليه خياله من أهل التشبيه، والتجسيم ما يتخيله في حق الحق سبحانه من الجهة والحد والمكان، ولذا قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} يعني ما رأى في تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه سبحانه وتعالى يقول: ما أسريت به إلا لرؤيته الآيات، لا "إلي" فإني لا يحدني مكان، ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسري به إلي، وأنا عبده، وأنا معه أينما كان، ولله در القائل لا محا معنى ما ذكر: سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذي أخفاه من آياته كحضوره في غيبة وكسكره ... في صحوه والمحو في إثباته ويرى الذي عنه تكون سره ... في منعه إن شاءه وهباته   أهل التشبيه والتجسيم ما يتخليه في حق الحق سبحانه من الجهة والحد والمكان" حملًا لقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ} ، على ظاهره، فيكون معناه صاحبه في سيره من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولذلك محال في حقه. وفي البيضوي تصديره بالتسبيح للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد. "ولذا قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} ، ويعني ما رأى في تلك الليلة من عجائب الآيات، كأنه سبحانه وتعالى، يقول: ما أسريت به إلا لرؤيته الآيات، لا إلي فإني لا يحدني مكان؛" لأنه الخالق له وموجده فكيف يحده "ونسبة الأمكنة إلى نسبة واحدة، فكيف أسري به" "بضم الهمزة مضارع من أسرى"، أي: كيف أنقله من المكان الذي هو به لأحضره "إلي، وأنا عنده وأنا معه أينما كان،" أي: في أي مكان حل به، "ولله در القائل: لا محا معنى ما ذكر:" "سبحان من أسرى إليه بعبده ... ليرى الذي أخفاه من آياته" أي: ستره عن عامة خلقه، ويرى مبني للفاعل بفتح أوله أو بضمه وحذف المفعول، أي: ليريه، ومثل لذلك على طريق أهل الإشارات بقوله: "كحضوره في غيبة" يعنون بها غيبة القلب عن علم ما يجري من أحكام الخلق لشغل الحس بما ورد عليه من الحق حتى إنه قد يغيب عن إحساسه بنفسه فضلًا عن غيره، والغيبة بإزاء الحضور، والغيب بإزاء الشهادة، فيقال: الغيب عن عالم الشهادة حضور في عالم الغيب، والحضور في عالم القدس غيبة عن عالم الحس، "وكسكره"، وهو غيبة بوارد قوي "في صحوه"، وهو الرجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قوي، وذلك أن العبد إذا كوشف بنعت الجمال سكر وطرب وهام قلبه، فإذا عاد من سكره سمى صاحيًا، "والمحو" رفع أوصاف العادة "في إثباته" وهو إقامة أحكام العادة مقابل للمحو. "ويرى الذي عنه تكون سره،" السر يعني به عن حصة كل موجود من الحق بالتوجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 ويريه ما أبدى له من جوده ... بوجوده والفقد من هيآته سبحانه من سيد ومهيمن ... في ذاته وسماته وصفاته وأكد الله تعالى بقوله: {لَيْلًا} مع أن الإسراء لا يكون في اللسان العربي إلا ليلًا، لا نهارًا، "ليدفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط، ويزيل من خاطر من يعتقد من الناس أن الإسراء ربما يكون نهارًا، فإن القرآن وإن كان نزوله بلغة العرب، فإنه خاطب به الناس أجمعين، أصحاب اللسان العربي وغيرهم.   الإيجادي المنبه عليه بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [النحل: 40] الآية، "في منعه إن شاءه"، أي: المنع "وهباته": جمع هبة، ذكره كله في لطائف الأعلام، "ويريه" من الإراءة "ما أبدى": أظهر "له من جوده" تعالى عليه -صلى الله عليه وسلم- "بوجوده والفقد من هيئاته". "سبحانه من سيد" من أسمائه تعالى، كما في حديث "ومهيمن"، كما في التنزيل، المهيمن، أي: الشاهد الحافظ، أو المؤمن، أو الرقيب، أو القائم على خلقه، "في ذاته وسمائه" "بتثليث السين" لغة في الأسماء، وهو ما دل على الذات باعتبار صفة "وصفاته": جمع صفة، وهي المعنى القائم بالذات، "وأكد الله تعالى بقوله ليلًا مع أن الإسراء لا يكون في اللسان العربي إلا ليلًا لا نهارًا" وكذا سرى عند الأكثر كما مر. قال الحافظ: "ولم تختلف القراء في {أَسْرَىْ} بخلاف قوله تعالى في قصة لوط {فَأَسْر} [هود: 81] ، فقرئت بالوصل والقطع، ففيه تعقب على من قال سرى وأسرى بمعنى واحد. قال السهيلي: السرى من سريت إذا سرت ليلًا، يعني فهو لازم، والإسراء يتعدى في المعنى، لكن حذف مفعوله حتى ظن أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} جعل البراق يسري به، كما تقول: أمضيت كذا، أي: جعلته يمضي، لكن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه والاستغناء عن ذكره، إذ المقصود بالذكر المصطفى لا الدابة التي سارت به. وأما قصة لوط، فالمعنى سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى قراءة القطع، ومعنى الوصل سر بهم ليلًا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء؛ لأنه لا يجوز أن يقال: سرى بعبده بوجه من الوجوه. قال الحافظ: والنفي الذي جزم به إنما هو من هذه الحيثية التي قصد فيها الإشارة قصد فيه الإشارة إلى أنه سار ليلًا على البراق، وإلا فلو قال قائل: سرت بزيد، بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحًا "ليدفع الإشكال حتى لا يتخيل أنه أسرى بروحه فقط" دون جسده "ويزيل من خاطر من يعتقد من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 وقال البيضاوي تبعًا لصاحب الكشاف: وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء، ولذلك قرئ "من الليل" أي بعضه: كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79] وتعقبه القطب في حاشيته على الكشاف كما نبهت عليه في حاشية الشفاء. والمعاريج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام في تصاريف   الناس أن الإسراء ربما يكون نهارًا، فإن القرآن وإن كان نزوله بلغة العرب، فإنه خاطب به الناس أجمعين أصحاب اللسان العربي وغيرهم". وهذا على قول الأكثر من اختصاصه بالليل وإلا ففي الفتح ليلًا ظرف للإسراء للتأكيد، وفائدته دفع توهم المجاز؛ لأنه قد يطلق على سير النهار أيضًا. "وقال البيضاوي تبعًا لصاحب الكشاف" الزمخشري، "وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء" أي: أنه وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول: سرى فلان ليلًا إذا سار بعضه، وسرى ليلة إذا سار جميعها، كما في الفتح، "ولذلك قرئ" في الشواذ": من الليل، أي: بعضه، كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك} [الإسراء: 79] الآية". وقيل: يقال: أسرى ليلًا إذا سار أثناء الليل، وإذا سار في أوله، ويقال: أدلج منه، ومنه قوله تعالى في قصة موسى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان: 23] الآية، أي: من وسط الليل، "وتعقبه القطب في حاشيته على الكشاف، كما نبهت عليه في حاشية الشفا،" أي: نقل القطب التعقب عن غيره وأقره، فلذا نسبه إليه، وعبارته قال بعضهم، وفيه نظر؛ لأن التنكير للتقليل لا يكون إلا فيما يقبل القلة والكثرة، والليل لا يقبلهما ولا يسلم له أيضًا على تقدير أنه بالاعتبار؛ لأن هذا المعنى وهو البعض حاصل ولو لم ينكر، فإن قولك: دخل زيد البلد الليل، أو ليلًا، يفيد هذا المعنى، إذ ليس الدخول في كل الليل انتهى. قال النعماني: وفيه نظر، إذ لا نسلم أن هذا وزانه، وإنما وزانه طاف الأمير البلد ليلًا، فإن طوافه قد يكون مستغرقًا لكل الليلة، ولما استشعر صاحب الكشاف هذا استشهد بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل، ولا يسلم أيضًا كونها تبعيضية، بل يجوز أنها ابتدائية، فالسؤال باق انتهى. "والمعارج ليلة الإسراء عشرة، سبع إلى السموات" السبع، "والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام:" تصويتها "في تصاريف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية وسمع الخطاب المكافحة، والكشف الحقيقي. وقد وقع له عليه السلام في سني الهجرة العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة بهذه المعاريج العشرة، ولهذا ختمت سني الهجرة، بالوفاة، وهي لقاء الحق جل جلاله، والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق، وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهي المنزلة الرفيعة. كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس. وقد أفاد الإمام الذهبي أن الحافظ عبد الغني جمع أحاديث الإسراء في جزأين، ولم يتيسر لي الوقوف عليهما بعد الفحص الشديد. وقد صنف الشيخ أبو إسحاق النعماني -رحمه الله- في الإسراء والمعراج كتابًا جامعًا لإطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق، ولم أقف عليه   الأقدار، والعاشر إلى العرش والرفرف والرؤية" لله عز وجل، "وسمع الخطاب" منه "بالمكافحة": المخاطبة "والكشف الحقيقي، وقد وقع له عليه الصلاة والسلام في سني الهجرة": بكسر السين، جمع سلامة لسنة، وبسكون الياء، فحذفت النون للإضافة، فالتقى ساكنان الياء واللام، فحذفت الياء لفظًا لالتقاء الساكنين، فبقي هكذا سني خطأ فتكتب الياء ولا تقرأ "العشرة ما كان فيه مناسبات لطيفة بهذه المعاريج العشرة"، ويأتي ذكرها للمصنف، "ولهذا ختمت سني الهجرة"، كذا في جميع النسخ بالياء والصواب سنو بالواو؛ لأنه جمع مذكر سالم نائب فاعل، ختمت "بالوفاة، وهي لقاء الحق جل جلاله والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء، والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق"، مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وأريد به الجنس، وقرئ مقاعد صدق، والمعنى أن مجالس الجنات سالمة من اللغو والتأثيم بخلال مجالس الدنيا، فقل أن تسلم من ذلك، "وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة، وهي المنزلة الرفيعة، كما ختمت معاريج الإسراء باللقاء والحضور بحظيرة القدس، وقد أفاد الإمام الذهبي" محمد الحافظ، العالم الشهير، نسبة إلى الذهب "أن الحافظ عبد الغني" المقدسي "جمع أحاديث الإسراء في جزأين، ولم يتيسر لي الوقوف عليهما بعد الفحص" الطلب "الشديد، وقد صنف الشيخ أبو إسحاق" إبراهيم "النعماني،" تلميذ الحافظ ابن حجر "رحمه الله في الإسراء والمعراج كتابًا جامعًا للإطناب بزيادة الرقائق والإشحان بفواضل الحقائق،" أي: بزيادة بيانها، "ولم أقف عليها حال كتابتي هذا المقصد الشريف"، وقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 حال كتابتي هذا المقصد الشريف. والله تعالى يرحم شيح الإسلام والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني، فإنه جمع في كتابه "الفتح" كثيرًا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث، مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معاني كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه. وكل من صنف في شيء من المنح النبوية، والمناقب المحمدية لا يستغني عن استجناء معارف اللطائف من رياض "عياض" والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء "شفائه" والمبرئ لمعضل الأمراض. والله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء الأمة سجال رحمته ورضوانه، ويسكننا معهم في بحبوحة جنانه. وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس، وأبي بن كعب، وجابر بن   وقفت عليه، "والله تعالى يرحم شيخ الإسلام، والحافظ الشهاب ابن حجر العسقلاني فإنه جمع في كتابه الفتح كثيرًا مما تشتت من طرق حديث الإسراء وغيره من الأحاديث مع تدقيق مباحث فقهية، والكشف عن أسرار معاني كلمه وبدائع ألفاظه وحكمه"، وأكثر ما ذكره المصنف هنا منه، "وكل من صنف في شيء من المنح": العطايا: "النبوية والمناقب المحمدية لا يستغني عن استجناء معارف اللطائف من رياض عياض"، أي: فوائده المذكورة في الشفا، سماها رياضًا لكثرة نفعها، كنفع الأشجار المثمرة للعامة، "والاستشفاء من أدواء المشكلات بدواء شفائه المبرئ لمعضل" بكسر الضاد، أي: شديد "الأمراض، والله تعالى يفيض عليه وعلى سائر علماء الأمة سجال رحمته ورضوانه، ويسكننا معهم في بحبوحة" بضم الباءين، "جنانه"، أي: وسطها. "وقد وردت أحاديث الإسراء من حديث أنس" بن ملك في روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، رواه أحمد ومسلم عن ثابت، والشيخان عن شريك، وابن مردويه عن كثير بن خنيس، والنسائي وابن مردويه عن يزيد بن أبي مالك، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي عن عبد الرحمن بن هاشم، وعبد العزيز بن صهيب والطبراني عن ميمون بن سيار، وابن جرير عن كثير بن سليم، وابن مردويه عن أبي هاشم، وعلي بن زيد، وثمامة، وابن سعد، وسعيد بن منصور، والبزار عن أبي عمراني الجوني، الأحد عشر عن أنس عن المصطفى بلا واسطة، "وأبي بن كعب" رواه عن ابن مردويه عن طريق عبيد بن عمير، ومن طريق مجاهد عن ابن عباس، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 عبد الله، وبريدة، وسمرة بن جندب، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عمرو، وحذيفة بن اليمان، وشدبد بن أوس، وصهيب، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، ومالك بن صعصعة، وأبي أمامة، وأبي أيوب، وأبي حبة، وأبي   وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، بلفظ حديث عن أبي ذر حرفًا حرفًا. قال الحافظ في أطراف المسند، أنه وقع فيه تحريف، وكان في الأصل عن أبي ذر، فسقط من النسخة لفظة ذر، فظن أنه ابن كعب فأدرج في مسند أبي بن كعب غلطًا. قال الشامي: نبه الدارقطني في العلل على أن الوهم فيه من أبي حمزة أنس بن عياض، "وجابر بن عبد الله" عند الشيخين، ورواه الطبراني وابن مردويه بلفظ آخر بسند صحيح، "وبريدة" "بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية" ابن الحصيب" "بمهملتين مصغر"، رواه الترمذي والحاكم وصححه، "وسمرة بن جندب" عند ابن مردويه، "وابن عباس" عبد الله رواه أحمد، والشيخان، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن مردويه، والنسائي، والبزار بطرق كلها مختصرة "وابن عمر" رواه أبو داود والبيهقي، "وابن مسعود" رواه مسلم، وابن عرفة، وأحمد، وابن ماجه، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني، والبيهقي بطرق عندهم عنه، "وابن عمرو" بفتح العين" ابن العاصي عند ابن سعد، وابن عساكر، "وحذيفة بن اليمان" عند ابن أبي شيبة، وأحمد والترمذي وصححه، "وشداد بن أوس" عند البزار، والطبراني والبيهقي وصححه، "وصهيب" بن سنان عند الطبراني وابن مردويه، "وعلي بن أبي طالب" عند أحمد وابن مردويه، "وعمر بن الخطاب" رواه أحمد وابن مردويه، "ومالك بن صعصعة" رواه أحمد، والشيخان، وابن جرير، والبيهقي وغيرهم، "وأبي أمامة" عد ابن مردويه في تفسيره، "وأبي أيوب" الأنصاري، رواه الشيخان في أثناء حديث أبي ذر، "وأبي حبة" "بموحدة على الصحيح" الأنصاري، الألوسي، البدري، رواه ابن مردويه. قال في الإصابة: وقع ذكره في الصحيح من رواية الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي حبة البدري، عقب حديث الزهري، عن أنس، عن أبي ذر في الإسراء، وروي عنه أيضًا عمار بن عمار وحديثه عنه في مسند ابن أبي شيبة، وأحمد، وصححه الحاكم، وصرح بسماعه منه، وعلى هذا فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق أنه استشهد بأحد. قال أبو حاتم: اسمه عامر بن عبد عمرو بن عمير بن ثابت، وقال أبو عمر: يقال بالموحدة وبالنون وبالياء والصواب بالموحدة، وقيل: اسمه عامر، وقيل: مالك، وبالنون ذكره ابن عقبة وابن أبي خيثمة، وأمكر الواقدي أن يكون في البدري من يكنى أبا حبة بالموحدة، وقد خلطه غير واحد بأبي حبة بن غزية بن عمرو الخزرجي، النجاري، وفرق بينهما غير واحد، وصوبه ابن عبد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 ذر، وأبي سعيد الخدري، وأبي سفيان بن حرب، وأبي هريرة، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وفي تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفي ويشفي. وبالجملة: حديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة   البر، فقال: هذا خزرجي، وذاك أوسي، وهذا لم يشهد بدرًا، وذاك شهدها، "وأبي ذر" رواه الشيخان، "وأبي سعيد الخدري" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق هارون العبدي، وهو متكلم فيه. وقد روى البيهقي عن أبي الأزهر، قال: حدثنا زيد بن أبي حكيم، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم فقلت: يا رسول الله رجل من أمتك يقال له: سفين لا بأس به، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا بأس به". حدثنا عن أبي هارون عن أبي سعيد، عنك؛ أمك ليلة أسري بك قلت: رأيت في السماء، فحدثته بالحديث، فقال: نعم، فقلت: إن إناسًا من أمتك يحدثون عنك في الإسراء بعجائب فقال: ذاك حديث القصاص. "وأبي سفيان بن حرب" عند أبي نعيم في الدلائل، "وأبي هريرة" رواه مطولًا ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي، والحاكم، وصححه مختصرًا الشيخان، وأحمد، وابن ماجه، وابن مردويه، وابن سعد، والطبراني، وسعيد بن منصور بطرق عنه، "وعائشة" عند الحاكم وصححه، والبيهقي وابن مردويه" وأسماء بنت أبي بكر" روه ابن مردويه، "وأم هانئ" عند الطبراني، "وأم سلمة" عند الطبراني، وأبي يعلى، وابن عساكر، وابن إسحاق "وغيرهم،" فأخرجه ابن عساكر عن سهل بن سعد، والبزار، والبغوي، وابن قانع عن عبد الله أسعد بن زرارة، والطبراني عن أبي الحمراء، وابن مردويه والطبراني عن أبي ليلى الأنصاري، وسعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن قرط، وذكره ابن دحية عن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن بن عابس، وأبي سلمة وعياض. وذكره أبو حفص النسفي عن العباس بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان، وأبي الدرداء، وأبي سلمى راعي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأم كلثوم بنت المصطفى، وبلال بن حمامة، وبلال بن سعد، وابن الزبير، وابن أبي أوفى، وأسماة بن زيد. ال الشامي: ولم أقف على حديثه، فهؤلاء خمسة وأربعون صحابة رووا القصة "رضي الله تعالى عنهم أجمعين". "وفي تفسير الحافظ ابن كثير من ذلك ما يكفي ويشفي، وبالجملة حديث الإسراء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 الملحدون، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] . وقد روى البخاري، عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثه عن ليلة أسري به. "بينما أنا نائم في الحطيم" -وربما قال: في الحجر- "مضطجعًا"، إذ أتاني آت فقد -قال: سمعته يقول: فشق- ما بين هذه إلى هذه. قال: فقلت للجارود وهو   أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة الملحدون،" لاستحالته في زعمهم الكاذب، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا} منصوب بأن مقدرة، واللام مزيدة {نُورَ اللَّهِ} "، وشرعه وبراهينه " {بِأَفْوَاهِهِمْ} "، بأقوالهم فيه، " {وَاللَّهُ مُتِمُّ} " مظهر " {نُورِهِ وَلَوْ كَرَِ الْكَافِرُونَ} " [الصف: 8] الآية، ذلك وقد، ساق البرهان النعماني غالب ألفاظ الصحابة الذين رووا القصة، والمصنف اقتصر على حديث البخاري في باب المعراج، وتكلم بعده بما غالبه في فتح الباري، فقال: "وقد روى البخاري" بسنده، وهو حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام "عن قتادة" بن دعامة، وليس هذا من التعليق في شيء، "عن أنس بن مالك،" وكذا رواه مسلم والنسائي، وأخرجه البخاري في بدء الخلق من وجه آخر عن قتادة، حدثنا أنس، فزال ما يخشى من تدليس قتاده لتصريحه بالتحديث، "عن مالك بن صعصعة" بن وهب بن عدي بن مالك الأنصاري، من بني النجار ما له في البخاري ولا في غيره سوى هذا الحديث، ولا يعرف من روى عنه إلا أنس قاله في الفتح. وذكر في الإصابة الخلاف في أنه من بني عدي بن النجار، وبه جزم ابن سعد أو من بني مازن بن النجار، وبه جزم البغوي، وقال: سكن المدينة. وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثين، وذكر الخطيب في المبهمات أنه الذي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكل تمر خيبر هكذا"؟، "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- حدثه عن ليلة أسري به" فيها صفة الليلة، هكذا رواه الكشميهني والنسفي، ورواه الأكثر عن ليلة الإسراء وبين ما حدثه به بقوله، "بينما"، أي: فقال المصطفى: "بينما" وثبت في بعض نسخ البخاري قال: "بينما" بالميم، "أنا نائم في الحطيم، وربما قال: في الحجر" بكسر فسكون، والشك من قتادة كما يأتي، والمراد بالحطيم الحجر، "مضطجعًا" نصب على الحال "إذا أتاني آت" هو جبريل، "فقد" بالقاف والدال الثقيلة، "قال" قتادة: "سمعته" أي: أنسا "يقول:" فالقائل قتادة، والمقول عنه أنس، ولأحمد قال قتادة: وربما سمعت أنسا يقول: قاله الحافظ، فلم يصب من قال الظاهر أن ضمير قال لمالك بن صعصعة، "فشق ما بين هذه إلى هذه، قال" قتادة: "فقلت للجارود:" بفتح الجيم فألف فراء مضمومة فواو فدال مهملة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 "إلى جنبي: ما يعني به؟ قال: من ثغره نحره إلى شعرته. فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد".   قال الحافظ: لم أر من نسبه من الرواة ولعله ابن أبي سبرة البصري، صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته، عن أنس حديثًا غير هذا انتهى، وجزم المصنف بما تراجاه، "وهو إلى جنبي ما يعني" أنس "به"، أي: بقوله: فشق ما بين هذه إلى هذه، "قال:" يعني "من ثغره نحره" بضم المثلثة وسكون المعجمة: الموضع المنخفض بين الترقوتين "إلى شعرته" بكسر المعجمة، أي: شعر العانة، ووقع السؤال: هل كان شق صدره الشريف بآلة أم لا؟، ولم يجب عنه أحد، ولم أر من تعرض له بعد التتبع، وظاهر قوله: فشق أنه كان بآلة، ويدل له قول الملك في حديث أبي ذر خط بطنه فخاطه، وفي لفظ عتبة بن عبد حصه فحاصه. وفي حديث أنس: كانوا يرون أثر المخيط في صدره -صلى الله عليه وسلم- ذكره الشامي، وزعم بعض أن الشق في المرات كلها لم يكن بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك ألما، كما صرح في بعض الروايات؛ لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات، "فاستخرج قلبي، ثم أتيت" "بضم الهمزة" "بطست" "بفتح الطاء وبكسرها وسكون السين المهملة وبمثناة وقد تحدف"، وهو الأكثر إثباتها لغة طيئ، وأخطأ من أنكرها، قاله الحافظ "من ذهب" قبل تحريم استعماله، "مملوءة" بالجر على الصفة والتأنيث على لفظ الطست؛ لأنها مؤنثة "إيمانًا" نصب على التمييز ملئًا حقيقة، وتجسد المعاني جائز، كتمثيل الموت كبشًا، ووزن الأعمال وغير ذلك من أحوال الغيب، أو مجازًا، من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالحسي، ثم هذا لفظ البخاري في المعراج، وله في بدء الخلق بطست ملئ حكمة وإيمانًا بالتذكير باعتبار الإناء، وللمستملي والحموي ملآن بفتح الميم وسكون اللام وهمزة ونون، وللكشميهني ملأى بفتح الميم وسكون اللام وفتح الهمزة مؤنث على لفظ الطست، فزاد في هذه الرواية حكمة. قال ابن أبي جمرة فيه، إن الحكمة ليس بعد الإيمان أجل منها، ولذا قرنت معه، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] الآية، وأوضح ما قيل فيها، أنها وضع الشيء في محله أو الفهم في كتاب الله، وعلى الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان، وقد لا توجد وعلى الأول قد يتلازمان؛ لأن الإيمان يدل على الحكمة، "فغسل" بضم الغين، أي: غسل جبريل "قلبي". وفي مسلم والبخاري في الصلاة بماء زمزم؛ لأنه أفضل المياه ويقوي القلب، "ثم حشي" بضم المهملة، وكسر المعجمة إيمانًا وحكمة، "ثم أعيد" موضعه من الصدر المقدس، وللبخاري الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 "ثم أتيت بدابة، دون البغل وفوق الحمار أبيض" -فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم -يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، فاسفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال:   "في الصلاة: ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه" "ثم أتيت" بضم الهمزة، "بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض"، ذكر باعتبار كونه مركوبًا أو نظرًا للفظ البراق، وحكمة كونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك عادة. "فقال له الجارود: هو البراق" استفهام حذفت أداته "يا أبا حمزة" بمهملة وزاي، كنية أنس، "قال أنس "نعم": هو البراق بضم المواحجة وتخفيف الراء، ضبطه الحافظ وغيره، وكثيرًا ما يخطئ المتشدقون، فيقرؤنه بكسر الباء، "يضع خطوه" بفتح المعجمة المرة الواحدة وبضمنا الفعلة "عند أقصى طرفه" بسكون الراء، وبالفاء، أي: نظره، أي: يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره. قال الحافظ: والتعبير بالخطو مجاز؛ لأنه مصدر وهو لا يتصف بالوضع، "فحملت عليه" بضم الحاء مبنيًا للمفعول، "فانطلق بي جبريل أتى السماء الدنيا"،ظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء، وليس بمراد، بل هذا اختصار من الراوي، ويأتي بسطه للمصنف. وقال النعماني: ما المانع من أنه -صلى الله عليه وسلم- رقي المعراج فوق ظهر البراق بظاهر هذا الحديث انتهى، والمانع من ذلك ربطه ببيت المقدس، كما يأتي بيانه، "فاستفتح"، أي: طلب فتح باب السماء بقرع أو صوت، والأِشبه الأول؛ لأن صوته معروف، قاله الحافظ، وصرح به في رواية مسلم عن ثابت عن أنس بلفظ: "فقرع الباب. وفي حديث أبي ذر: قال جبريل لخازن السماء: افتح، فيجمع بينهما بأنه فعل القرع والصوت معًا، والتعليل بمعرفة صوته لا ينهض مع كون السماء شفافة. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في ذكر الأنبياء إلى باب من أبواب السماء الدنيا، يقال له باب الحفظة، وعليه مالك يقال له: إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك. وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي أيضًا: يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي في الدلائل وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف. "قيل: من هذا" الذي يقرع الباب؟، "قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد"، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 "ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح النبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فاسفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم   وهذا يشعر بأنهم أحسوا معه برفيق إما بمشاهده؛ لأن السماء شفافة، وإما بأمر معنوي، كزيادة أنوار ونحوها، تشعر بتجدد أثر يحسن معه السؤال بهذه الصيغة، وإلا كان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟، "قيل: وقد أرسل إليه" للعروج إلى السماء على الأظهر لقوله إليه؛ لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى، كما يأتي في المتن، "قال: نعم، قيل: مرحبًا به"، أي: لقي رحبًا "بضم الراء وفتحها وسكون الحاء وبفتحها" وسعة، وكني بذلك عن الانشراح، "فنعم" لفظ البخاري في المعراج، وله في بدء الخلق، ولنعم "المجيء جاء". قال ابن مالك: فيه شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة ن الموصوف في باب نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل هو المجيء وإلى مخصوص، بمعناها وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم، وفاعلها، فهو في هذا وشبهه موصول أو موصوف بحاء، والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء مجيء جاء، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة انتهى، فلا حذف فيه ولا تقديم خلافًا لقول المظهري المخصوص المدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير تقديره جاء، فنعم المجيء مجيئه، "ففتح" الباب، "فلما خلصت" بفتح اللام، أي: وصلت، "فإذا فيها آدم". وفي حديث أنس عن أبي ذر عند البخاري في الصلاة: "فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقلت لجبريل: من هذا"؟، "قال: هذا أبوك"، ووقع ذكر الاسم هنا في بعض النسخ، والصواب إسقاطه، إذ ليس في حديث أنس عن مالك بن صعصعة الذي هو في سياق لفظه، وإنما هو في حديث أنس عن أبي ذر، كما في البخاري، "فسلم عليه"، لأن المار يسلم على القاعد، وإن كان المار أفضل، "فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم قال: مرحبًا بالابن الصالح"، فيه إشارة إلى افتخاره، بأبوة "النبي -صلى الله عليه وسلم- "والصالح" القائم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فلذا كانت كلمة جامعة لمعاني الخير وتوارد الأنبياء على وصفة بها، وكررها كل منهم عند كل صفة. "ثم صعد بي إلى السماء الثانية، فاستفتح" جبريل بابها، "وقيل: من هذا؟ قال: جبريل: قال: ومن معك؟ قال: محمد، "قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 "المجيء جاء ففتح لنا، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردا ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".   "فنعم المجيء" مجيء جاء، أو الذي "جاء، ففتح لنا" الخازن الباب، "فلما خلصت إذا يحيى" بن زكريا "وعيسى" ابن مريم. زاد في حديث أبي سعيد عن ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما، وإذا عيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، كأنوما خرج من ديماس، أي: حمام شبهه بعروة بن مسعود الثقفي، "وهما ابنا الخالة"؛ لأن أم يحيى إيشاع، بنت فاقود أخت حنة بمهملة ونون شديدة، بنت فاقود أم مريم، وذلك أن عمران بن ماثان تزوج حنة، وتزوج زكريا إيشاع، فولدت إيشاع يحيى، وولدت حنة مريم، فتكون إيشاع خالة مريم، وحنة خالة يحيى، فهما ابنا خالة بهذا الاعتبار وليس عمران هذا أبا موسى، إذ بينهما فيما قيل ألف وثمانمائة سنة. قال ابن السكيت: يقال: ابنا خالة ولا يقال: ابنا عمة، ويقال: ابنا عم ولا يقال: ابنا خال. قال الحافظ: والسبب فيه أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الآخر لزوما بخلاف ابني العمة، "قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فلسمت عليهما فردا" علي السلام، "ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح" جبريل الباب، "قيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت، إذا يوسف قال" لي جبريل: "هذا يوسف فسلم عليه"، ولعل حكمة أمره بالسلام على كل من ورد عليه، ولم يكتف بالأمر الأول مع حصول العلم بطلب السلام على كل من مر عليه منهم، الإشارة إلى استحقاق كل منهم للتعظيم، وإن من مر على جماعة مترتبين يطلب منه السلام على كل منهم بخصوصه، "فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح"، زاد في مسلم في رواية ثابت عن أنس: "فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، أي: الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم-، كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 "ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح".   قال ابن المنير، أو المراد غير المصطفى بالمرة، ويأتي بسطه للمصنف، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء" الذي "جاء، فلما خلصت، فإذا إدريس"، زاد في حديث أبي سعيد عند ابن جرير، وابن أبي حاتم والبيهقي: قد رفعه الله مكانًا عليًا، واستشكل بأنه رأى هرون وموسى وإبراهيم في مكان أرفع منه، واجيب بأن وجهه ما ذكر كعب الأحبار؛ أن إدريس خص من بين جميع الأنبياء برفعه حيًا، رفعه الملك الموكل بالشمس، وكان صديقًا له، وكان إدريس يسأله أن يريه الجنة، فأذن له الله في ذلك، فلما كان في السماء الرابعة، رآه ملك الموت، فعجب، وقال: أمرت أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فقبضه هناك، فرفعه حيًا إلى ذلك المقام، خاص به دون الأنبياء، قاله السهيلي، وتعقبه الحافظ في كتاب الأنبياء، فقال: فيه نظر؛ لأن عيسى أيضًا رعف وهو حي على الصحيح، وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية. وروى الطبري، أن كعبًا قال لابن عباس: إن إدريس سأل صديقًا له من الملائكة، فحمله بين جناحيه، ث صعد به، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت، فقال له: أريد أن تعلمني كم بقي من أجل إدريس؟، قال: وأين إدريس؟، قال: هو معي، قال: إن هذا لشيء عجيب، أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة: فقلت: كيف ذلك وهو في الأرض، فقبض روحه، فذلك قوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] الآية، وهذا من الإسرئيليات، والله أعلم بصحته انتهى. والجواب عن السهيلي؛ أنه قيد خصوصية إدريس برفعه حيًا إلى السماء الرابعة، فلا يرد عيسى؛ لأنه رفع حيًا إلى السماء الثانية، وذكر ابن قتيبة، أن إدريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. "قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح"، قيل: فيه رد على النسابة في قولهم: إدريس جد نوح، وإلا لقال: والابن الصالح، كما قال آدم، ولا رد فيه؛ لأنه خاطبه بالأخوة نادبًا وتلطفًا، وإن كان أبا، والمؤمنون إخوة وكان وجه الخطاب بذلك لرفعه مكانًا عليًا، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 "ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا، به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي؛ لأن غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتى".   "فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قيل: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا هارون" زاد في حديث أبي سعيد عند ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي، ونصف لحيته بيضاء، ونصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرته من طولها. وفي حديث أبي هريرة عند ابن جرير، والبيهقي وغيرهما: وحوله قوم من بني إسرائيل، وهو يقص عليهم، "قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبيرل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم"، هكذا ثبت في البخاري في باب المعراج هنا، وفي السابعة قال: نعم أيضًا وسقط في الموضعين في بدء الخلق، وهو الذي وقف عليه الشارح فتجرأ وقال: لم يذكر البخاري، قال: نعم، لا في السادسة ولا في السابعة، "قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت، فإذا موسى" بن عمران، رجل آدم طوال، كأنه من رجال شنوأة، كما في البخاري عن أبي هريرة، ومسلم عن ابن عباس. وفي حديث أبي سعيد: كثير الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما، "قال: هذا موسى، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت"، بجيم وزاي حذف الضمير المنصوب، "بكى" موسى، "فقيل له: ما يبكيك؟، قال: أبكي؛ لأن غلامًا" صغير السن بالنسبة إليه، وقد أنعم الله عليه بما لم ينعم به عليه من طول عمره، "بعث من بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي"، وليس بكاؤه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 "ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبيل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل"   حسدًا، معاذ الله، فإنه منزوع عن آحاد المؤمنين في ذلك العالم، فكيف بمن اصطفاه الله، بل لا وجه تأتي في المتن. "ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟، قال: نعم، قال: مرحبًا، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال" جبريل: "هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، قال: فسلمت عليه، فرد السلام، فقال":بالفاء وحذفها روايتان في البخاري "مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح"، زاد في حديث أبي أيوب عند ابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه، وأحمد، وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأخرج الترمذي وقال: حسن، والطبراني عن ابن مسعود رفعه؛ أن إبراهيم قال: أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال لنووي: وقد من الله الكريم، فجعل لنا سندًا متصلًا بخليله إبراهيم. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وهو، أي: المصطفى، أشبه ولد إبراهيم به، ويأتي في المتن توجيه روايته لهؤلاء الأنبياء في السموات، ولهم ولغيرهم في بيت المقدس مع أن أجسادهم في قبورهم. "ثم رفعت" كذا للأكثر بضم الراء وسكون العين، وضم التاء من رفعت بضمير المتكلم، وبعده حرف الجر، وهو "إلى سدرة المنتهى"، وللكشميهني رفعت بفتح العين، وسكون التاء أي: من أجلي، وسدرة المنتهى بالرفع نائب فاعل رفعت، وكذا في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين، بأن المراد أنه رفع إليها، أي: ارتقى به، وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَة} [الواقعة: 34] الآيةأي: تقرب لهم، "فإذا نبقها" بفتح النون، وكسر الموحدة وبسكونها أيضًا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي: التحريك المعروف، وهو ثمر السدر، "مثل قلال"، قال الخطابي: بالكسر، جمع قلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 "آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، و"أما الظاهران، فالنيل والفرات. ثم رفع إلى البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت".   "بالضم" هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين فلذا وقع التمثيل بها، وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله: "إذا بلغ الماء قلتين"، "هجر" بتفح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء، وفتح التحتية بعدها لام: جمع فيل، وفي بدء الخلق مثل آذان الفيول، وهو جمع فيل أيضًا، قاله كله في فتح الباري، وقول الزركشي: الفيلة بفتح الفاء والياء سهو، قاله في المصابيح، "قال" جبريل: "هذه سدرة المنتهى"، ووجه تسميتها بذلك بينه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وإليها انتهى ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها، ينتهي ما يبسط من فوقها فيقبض منها": رواه مسلم من حديث ابن مسعود. قال الحافظ: وأورده النووي بصيغة التمريض، فقال: وحكي عن ابن مسعود، أنها سميت بذلك ... إلخ، فأشعر بضعفه عنده، ولا سيما ولم يصرح برفعه، وهو صحيح مرفوع انتهى، ويأتي بعض هذا في المتن، "وإذا أربعة أنهار" تخرج من أصلها "نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة"، ويجريان في أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض ثم يسيران فيها، وقال مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، كذا في شرح المصنف، ويأتي في المتن أبسط منه، "وأما الظاهران فالنيل" نهر مصر "والفرات" بالفوقية خطا ووقفًا، لا بالهاء نهر بغداد. قال الحافظ: هذه في القراءات المشهورة، وجاء في قراءة شاذة، أنها هاء تأنيث، وشبهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت، والتابوه، "ثم رفع إلى البيت المعمور"، زاد الكشميهني "يدخله كل يوم سبعون ألف ملك"، وتقدمت هذه الزيادة في بدء الخلق بزيادة إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم، كذا وقع مضمومًا إلى رواية قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، وهو مدرج من رواية قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة؛ لأن البخاري عقب الحديث في بدء الخلق بقوله، وقال عمام عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في البيت المعمور. قال الحافظ: ثمة يريدان هما ما فصل في سياقه قصة البيت المعمور من قصة الإسراء، فروي أصل الحديث عن قتادة، عن أنس، وقصة البيت عن الحسن البصري، وأما سعيد، وهو ابن أبي عروبة، وهشام وهو الدستوائي، فأدرجا قصة البيت المعمور في حديث أنس، والصواب رواية همام، وهي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 "بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك".   موصولة هنا عن هدبة عنه، ووهم من زعم أنها معلقة، فقد روى الحسن بن سفيان الحديث بطوله عن هدبة إلى قوله: فرفع لي البيت المعمور. فقال: قال قتادة: فحدثنا الحسن عن أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ولا يعودون فيه، وعرف بذلك مراد البخاري بقوله في البيت المعمور. وأخرج الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: ذكر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "البيت المعمور مسجد في السماء بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا، وهذا وما قبله يشعر بأن قتادة كان يدرج قصة البيت المعمور في حديث أنس، وتارة يفصلها، وحين يفصلها تارة يذكرها سندها، وتارة يبهمه انتهى". "ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن،" فشربت منه، "فقال جبريل: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك". وفي حديث أبي هريرة عند البخاري في الأشربة: ولو أخذت الخمر غوت أمتك، وفي حديث أنس عند البيهقي: ولو شربت الماء غرقت وغرقت أمتك. وفي مسلم من حديث ثابت عن أنس: أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة، ثم عرج بي إلى السماء، وجمع الحافظ بحمل، ثم على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، أو بوقوع عرض الآنية مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المدس، وسببه ما وقع له من العطش، ففي حديث شداد: فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما اللبن، والآخر عسل، فعدلت بينهما، ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي، يعني لجبريل، أخذ صاحبك الفطرة، ومرة عند وصوله إلى سدة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة". وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة أشياء من الأنهار التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، وهي الماء واللبن والعسل والخمر، كما في حديث أبي هريرة عند الطبري، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء. وجاء عن كعب أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 "ثم فرضت علي الصلاة، خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع".   وفي حديث أبي هريرة عند ابن عائذ بعد ذكر إبراهيم: "ثم انلطقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال لي جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك، فتناولت أحدها فإذا هو عسل، فشربت منه قليلًا، ثم تناولت الآخرن فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟، قلت: قد رويت، قال: وفقك الله". وفي رواية البزار: أن الثالث كان خمرًا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل، ويأتي مزيد لذلك في كلام المصنف. "ثم فرضت" بالبناء للمفعول "علي الصلاة" بالإفراد، وفي رواية: "الصلوات بالجمع"، "خمسين صلاة كل يوم"،أي: وليلة، وللنسائي عن أنس: "وأتيت سدرة المنتهى، فغشيتني ضبابة، فخررت ساجدًا، فقيل لي: إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة، فقم بها أنت وأمتك، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فرجعت". وفي حديث أنس عند ابن أبي حاتم، فمر علي إبراهيم، فلم يقل شيئًا، "فمررت على موسى"، زاد في حديث أبي سعيد: ونعم الصاحب كان لكم، "فقال: بما" ولأبي ذر: بم، "أمرت" بضم الهمزة مبني للمفعول، وفغي حديث أنس عند النسائي وغيره: ما فرض ربك عليك وعلى أمتك، "قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم"، ولمسلم عن ثابت عن أنس قال: "فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة". "قال" موسى: "إن أمتك لا تستطيع" أن تصلي، "خمسين صلاة كل يوم" وليلة "وإني والله قد جربت". وفي رواية: خبرت "الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة"، مثل المزاولة، يعني مارستهم ولقيت الشدة فيما أردت منهم. وفي رواية النسائي: فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتان، فما قاموا بها. وفي الصحيحين من رواية شريك عن أنس: وبلوت بني إسرائيل، وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا، فضعفوا وتركوه، وأمتك أضعف أجسادًا، وأبدانا وأبصارًا وأسماعًا، فالتفت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل يستشيسره فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، "فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى، فقال مثله:" إن أمتك لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 "عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، فقال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم. قال: فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي".   تستطيع إلى آخره. " فرجعت فوضع عني عشرًا" من الأربعين، "فرجعت إلى موسى"، فأخبرته، "فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا" من الثلاثين "فرجعت إلى موسى، فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات"، بالإضافة. وفي رواية بتنوين عشر، "كل يوم" وليلة، "فرجعت إلى موسى، فقال مثله: فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم"، كما في لفظ الحديث، أي: وليلة، "فرجعت إلى موسى، فقال: بم"؟ "بلا ألف" رواية أبي ذر، ولغيره بما، بألف بعد الميم، "أمرت؟، قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". وفي رواية: فسله، والأصل فسأله؛ لأنه أمر من السؤال، فنقلت حركة الهمزة إلى السين، فحذفت تخفيفًا، واستغنى عن همزة الوصل فحذفت، "قال" -صلى الله عليه وسلم- لموسى: "سألت ربي حتى استحييت، ولكني" رواية أبي ذر عن الكشميهني وغيره، ولكن "أرضى وأسلم". "قال" الحافظ: فيه حذف وتقدير الكلام، سألت ربي حتى استحييت، فلا أرجع، فإني إن رجعت صرت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضى وأسلم، "فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتني، وخففت عن عبادي". قال الحافظ: هذا من أقوى ما استدل به على أنه تعالى كلم نبيه محمدًا ليلة الإسراء بلا واسطة. وفي رواية النسائي عن أنس: "فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أنها عزمة من الله، فرجعت إلى موسى، فقال: ارجع، فلم أرجع". وفي الصحيح من طريق شريك عن أنس، فقال: "اهبط باسم الله"، قال المصنف، أي: قال جبريل لا موسى، وإن كان ظاهر السياق. "وفي رواية له"، أي: للبخاري، وكذا مسلم، كلاهما من حديث أنس عن أبي ذر: أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 وفي رواية له: "ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري ثم أطبقه". وفي رواية شريك: فحشى به صدره ولغاديده وهي بلام مفتوحة وغين معجمة، أي عروق حلقه، وفي النهاية: جمع لغدودة: وهي لحمة مشرفة عند اللهاة. والشك في قوله: وربما قال في الحجر من قتادة، كما بينه أحمد بن عفان، ولفظه: "بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة: في الحجر والمراد بالحطيم هنا: الحجر".   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل، "ففرج" بفتحان، أي: شق "صدري". وفي رواية: عن صدري، بزيادة عن لمجرد التأكيد، أو فرج مضمن معنى كشف، والمراد بالصدر القلب، أي: كشف عن قلبي ما منع الوصول إليه، وذلك بشق الصدر، "ثم غسله بماء زمزم"، قال ابن أبي جمرة: إنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك برقاء بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض، وقال السهيلي: لما كانت زمزم حفرة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جده ناسب أن يغسل بها عند دخوله حضرة القدس لمناجاته، "ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأغرفعه في صدري، ثم أطبقه"، أي: الصدر الشريف. وفي رواية مسلم: "فاستخرج قلبي، فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانًا وحكمة". "وفي رواية شريك" بن أبي نمر عن أنس عند الشيخين، "فحشى به صدره ولغاديده وهي"، أي: هذه اللفظة "بلام مفتوحة وغين معجمة، أي: عروق حلقه". "وفي النهاية" لابن الأثير: "جمع لغدودة، وهي لحمة مشرفة عند اللهاة والشك في قوله، وربما قال في الحجر" كائن "من قتادة، كما بينه" الإمام "أحمد" في روايته هذا الحديث، "عن عفان" بتشديد الفاء" ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، البصري، ثقة، ثبت روي له الجميع، مات في سنة تسع عشرة ومائتين، "ولفظه: "بينما أنا نائم في الحطيم، وربما قال قتادة في الحجر"، أي: أنه كان يحدث به تارة، فيقول: في الحطيم، وتارة يقول: في الحجر، لشكه في خصوص اللفظ الذي سمعه من أنس، وإن كان المعنى واحدًا كما قال، "والمرد بالحطيم هنا الحجر،" زاد الحافظ، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحجر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 ووقع عند البخاري في أول بدء الخلق بلفظ: "بينما أنا عند البيت" وهو أعم. وفي رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر: "فرج سقف بيتي وأنا بمكة". وفي رواية الواقدي بأسانيده: "أنه أسري به من شعب أبي طالب". وفي حديث أم هانئ -عند الطبراني- أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل، فقال: "إن جبريل أتاني". والجمع بين هذه الأقوال -كما في فتح الباري- أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه؛ لأنه كان يسكنه فنزل منزله الملك، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك فأخرجه من المسجد إلى باب   وهو وإن كان مختلفًا في الحطيم، هل هو الحجر أم لا؟، لكن المراد هنا البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد؛ لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها. "ووقع عند البخاري في أول بدء الخلق" أولية نسبة، إذ هو في باب ذكر الملائكة بعد خمسة أبواب من كتاب بدء الخلق من طريق قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة أيضًا، "بلفظ: "بينا"،بإسقاط ما المذكورة في باب المعراج، "أنا عند البيت، وهو أعم" من قوله: في الحطيم، وربما قال: في الحجر، أي: أنه محتمل لهما، ولمحل آخر من المسجد بقرب البيت. "وفي رواية الزهري عن أنس، عن أبي ذر،" عند البخاري ومسلم: "فرج" بضم الفاء وكسر الراء أي: فتح، "سقف بيتي وأنا بمكة" جملة حالية إسمية. "وفي رواية الواقدي بأسانيده، أنه أسري به من شعب أبي طالب" بكسر الشين المعجمة. "وفي حديث أم هانئ" فاخته، أو هند، أو عاتكة شقيقة علي، لها أحاديث في الكتب الستة وغيرها، "عند الطبراني؛ أنه بات في بيتها، قالت: ففقدته من الليل،" فسألته لما رجع ذهب إلى أي: محل في الوقت الذي فقدته فيه، "فقال: إن جبريل أتاني"، فذكر الحديث ... "والجمع بين هذه الأقوال،" أي: الروايات، "كما في فتح الباري، أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب" أبيها، "ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إليه"، في رواية أبي ذر: "لأنه كان يسكنه، فنزل منزلة الملك:" والإضافة تكون بأدنى ملابسة؛ ولأن البيت ينسب لساكنه، "فنزل منه الملك" جبريل، "فأخرجه من البيت إلى المسجد" الحرام، "فكان به مضطجعًا، به وأثر النعاس" فلذا قال: "أنا نائم في الحطيم، مضطعجًا"، "ثم أخرجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 المسجد، فأركبه البراق، قال: وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق أن جبريل أتاه فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع. فإن قيل: لم فرج سقف بيته عليه الصلاة والسلام ونزل منه الملك، ولم يدخل من الباب، مع قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] . أجيب: بأن الحكمة من ذلك أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة على جهة الاستقامة، ولم يعرج على شيء سواه، فكان نزوله على السقف مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن الطلب وقع على غير ميعاد، كرامة له عليه الصلاة والسلام. وهذا بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة عن ميعاد واستعداد بخلاف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فإنه حمل عنه ألم الانتظار، كما حمل عنه ألم   الملك فأخرجه من المسجد إلى باب المسحد، فأركبه البراق". "قال" في الفتح: "وقد وقع في مرسل الحسن" البصري "عند ابن إسحاق: أن جبريل أتاه، فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق، وهو يؤيد هذا الجمع"، تأييدًا قويًا، "فإن قيل: لم فرج سقف بيته عليه الصلاة والسلام، ونزل منه الملك، ولم يدخل من الباب مع قوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] "أجيب" كما قال ابن دحية: "بأن الحكمة في ذلك أن الملك انصب"، أي: نزل "من السماء، انصبابة واحدة على جهة الاستقامة، ولم يعرج على شيء سواه"، أي: من غير تعريج عن الجهة التي نزل منها إلى غيرها؛ "فكان نزوله على السقف مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن اللب وقع على غير ميعاد، كرامة له عليه الصلاة والسلام"، كما أفهمه قوله: بينما أنا نائم، إذ مجيئه له فجأة يشعر بأنه لا موعد بينهما، وكذا قوله: فرج سقف بيتي، إذ لو كان بينهما موعد لانتظر مجيئه له فيه، ولأتاه من الباب على عادة الجائي لمن ينتظره، وفيه إشارة إلى طلب الاستقامة في الأمور وإلى المبادرة إليها، وأخذها من أقرب الطرق، "وهذا بخلاف موسى عليه الصلاة والسلام، فكانت كرامته بالمناجاة" لله سبحانه وتعالى، "عن ميعاد واستعداد" بالصوم قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ، قال الجلال: أي؛ نكلمه عند انتهائها بأن يصومها، وهي ذو القعدة، فلما تمت أنكر خلوف فمه، فاستاك، فأمره الله تعالى بعشرة أخرى ليكلمه بخلوف فمه، كما قال تعالى: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] الآية، أي: من ذي الحجة، "بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، فإنه حمل عنه ألم الانتظار" الواقع لموسى مدة الصوم، حتى كلمه ربه، "كما حمل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 الاعتذار، ويؤخذ من هذا: أن مقام نبينا عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى مقام موصى عليه الصلاة والسلام مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد، ويحتمل أن يكون توطئة وتميهدًا لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التئام السقف على الفور كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته، لطفًا في حقه عليه الصلاة والسلام وتثبيتًا لصبره، والله أعلم بحقيقة السر. وقوله: مضطجعًا، زاد في بدء الخلق بين النائم واليقظان. وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد فأركبه البراق، استمر في يقظته. وأما ما وقع في رواية شريك عنده أيضًا فلما استيقظت فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أن المراد استيقظت: أفقت: يعني أنه أفاق مما كان فيه   عنه ألم الاعتذار" الذي اعتذر به موسى، أنه إنما استاك لإنكار رائحة فمه، "ويؤخذ من هذا أن مقام نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالنسبة إلى مقام موسى عليه الصلاة والسلام مقام المراد" حيث طلب للمناجاة بلا سؤال، "بالنسبة إلى مقام المريد" بقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} [الأعراف: 143] ، "ويحتمل أن يكون توطئة وتمهيد لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف، ثم التئام السقف على الفور كيفية" أي: صفة "ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمثال المشاهد في بيته لطفًا في حقه عليه السلام وتثبيتا لبصره" وفي الفتح قيل: الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجآته بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو، "والله أعلم بحقيقة السر" في ذلك، "وقوله: مضطجعًا، زاد" البخاري "في بدء الخلق بين النائم واليقظان"، أي: أن نومه قريب من اليقظة، "وهو محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج به إلى باب المسجد، فأركبه البراق استمر في يقظته" التي لا يخالطها نوم. وفي نسخة: لما أخرج به بزيادة الباء في المفعول، والأصل أخرجه فهو مبني للفاعل، "وأما ما وقع في رواية شريك عنده،" أي: البخاري أيضًا" في كتاب التوحيد في آخر الحديث، "فلما استقظت" لفظ الحديث في الصحيح: واستيقظ وهو بالمسجد الحرام، "فإن قلنا بالتعديد" للمعاريج، "فلا إشكال"؛ لأنه معراج آخر في النوم، "وإلا حمل على أن المراد استيقظت أفقت، يعني أنه أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة الملكوت"، باطن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 من شغل البال بمشاهدة الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي، فالمراد: الإفاقة البشرية من الغمرة الملكية. وقوله: "إذ أتاني آت هو جبريل عليه السلام"، وفي رواية شريك أنه جاءه ثلاثة نفر، قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ قال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم وكانت تلك الليلة -أي كانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا- فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما   الملك، "ورجع إلى العلام الدنيوي فالمراد: الإفاقة البشرية" التي يكون البشر عليها عادة "من الغمرة الملكية" التي كان عليها. وقال ابن أبي جمرة: لو قال -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقظانًا لأخبر بالحق؛ لأن نومه ويقظته سواء، وعينه أيضًا لم يكن النوم تمكن منها، ولكن تحرى الصدق في الأخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يعدل عن حقيقة اللفظ إلا لضرورة. "وقوله: إذ أتاني آت، وهو جبريل عليه السلام"، ووقع في بدء الخلق، وذكر بين الرجلين وهو مختصر، أوضحته رواية مسلم بلفظ: إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت، فانطلق بي، والمراد بالرجلين حمزة وجعفر، كان -صلى الله عليه وسلم- نائمًا بينهما. قال ابن أبي جمرة: وفيه تواضعه وحسن خلقه، إذ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك كان يضطجع مع الناس، ويقعد معهم، ولم يجعل لنفسه مزية عليهم، وفيه جواز نوم جماعة في موضع واحد، لكن بشرط أن يكون لكل واحد منهم ما يستر به جسده. "وفي رواية شريك،" عن أنس في الصحيحين: "أنه جاءه" بكسر الهمزة، وللكشميهني: إذ بدل أنه، والأولى أولى، وللحموي والمستملي؛ أنه بفتح الهمزة، وجاء بلا ضمير، "ثلاثة نفر". قال الحافظ: لم أقف على أسمائهم صريحًا، لكن في رواية الطبري: فأتاه جبريل: وميكائيل انتهى. وكذا رواه ابن جرير وأبو يعلى، ويقال: إن الثالث إسرافيل، "قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم" جبريل، "أيهم هو؟ "؛ لأنه كان نائمًا بين حمزة وجعفر كما علم، "قال: أوسطهم"، أي: الثلاثة الذين جاوه وهو ميكائيل، "هو خيرهم، فقال آخرهم:" الثالث. ولأبي ذر عن الكشميهني: أحدهم بالدال، أي: أحد الثلاثة، "خذوا خيرهم، وكانت تلك الليلة، أي: كانت تلك القصة الواقعة تلك الليلة ما ذكر هنا" بالضمير المستتر في كانت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 يرى قلبه وتنام عليه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه ... وقد أنكر الخطابي قوله: قبل أن يوحى إليه ولذلك قال القاضي عياض والنووي، وعبارة النووي: وقع في رواية شريك -يعني هذه- أوهام أنكرها العلماء، أحدها قوله: قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه، وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، قبل الوحي. انتهى، فقد صرح هؤلاء بأن شريكًا تفرد بذلك. لكن قال الحافظ ابن حجر: في دعوى التفرد نظر، وافقه كثير بن خينس -بالمعجمة ونون مصغرًا- عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب المغازي له من طريقه. قال: ولم يقع التعيين بين المجيئين،   المحذوف، وكذا خبر كان، وهذا شرح من المصنف لقوله، وكانت تلك الليلة، "فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى" هي ثالثة على ما يفيده رواية ابن مردويه عن أنس بلفظ: حتى أتوه ليلة أخرى، فقال الأول: هو هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم: فرجعوا عنه، حتى إذا كانت الليلة الثالثة رآهم، فقال الأول: هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم، فاستلقوه عن ظهره، وكان مجيء الملائكة له، "فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم،" الثابت في الروايات أنه كان يقظة، فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال، وإلا حمل على أنه كان في طرفي القصة نائمًا، وليس في ذلك ما يدل على كونه نائمًا في كلها، "فلم يكلموه" -صلى الله عليه وسلم- "حتى احتملوه،" فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل، كما في نفس حديث شريك. "وقد أنكر الخطابي قوله قبل أن يوحى إليه، ولذلك قال القاضي عياض، والنووي"، وابن حزم وعبد الحق، "وعبارة النووي: وقع في رواية شريك، يعني هذه أوهام،" أزيد من عشرة، فصلها الافظ، وأجاب عن بعضها، "أنكرها العلماء أحدها" مبتدأ خبره "قوله: قبل أن يوحى إليه، وهو غلط" من شر يك، "لم يوافق عليه، وأجمع العلماء على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء"، فكيف يكون الإسراء "قبل الوحي. انتهى" كلام النووي. "فقد صرح هؤلاء" الخطابي ومن بعده، "بأن شريكًا تفرد بذلك، لكن قال الحافظ ابن حجر في دعوى التفرد نظر، فقد وافقه كثير من خنيس "بالمعجمة ونون مصغرًا" عن أنس كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد" بن أبان بن سعيد بن العاصي، "الأموي" أبو عثمان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد الوحي، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي أو عدد سنين، وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة وسقط تشنيع الخطابي وغيره بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة، قوله في هذا الحديث نفسه: إن جبريل قال لبواب السماء إذ قال: أبعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة. ووقع في رواية ميمون بن سياه -عند الطبراني-: فأتاه جبريل وميكائيل،   البغدادي، ثقة، روى له الشيخان وغيرهما، وربما أخطأ، مات سنة تسع وأربعين ومائتين،"في كتاب المغازي له من طريقه". "قال" الحافظ مجيبًا عن إشكال قوله: قبل أن يوحى إليه، "ولم يقع التعيين بين المجييئين" أي: زمن، "فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد الوحي، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج،" فقوله: قبل أن يوحى إليه ظرف للمجيء الأول، لا لهما الذي هو منشأ التغليظ، "وإذا كان بين المجيئين مدة، فلا فرق بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي" كثيرة، "أو عدد سنين، وبهذا" التقرير "يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق" على "أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة، وقبل الهجرة،" وفي ليلته فرضت الصلاة، "وسقط تشنيع الخطابي وغيره؛ بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة". وقال الحافظ أبو الفضل بن طاهر تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم؛ أن الآفة منه شيء لم يسبق إليه، فإن شريكًا قبله أئمة الجرح والتعديل، ووثقوه ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به قال: وحديثه هذا رواه عنه سليمان بن بلال، وهو ثقة، وعلى تقدير تفرد بقوله: قبل أن يوحى إليه، فلا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث لا يسقط جميع الحديث، ولا سيما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو ترك حديث من وهم في تاريخ، لترك حديث جماعة من أئمة المسلمين انتهى. "وأقوى ما يستدل به على أن المعراج كان بعد البعثة قوله في هذا الحديث نفسه، أن جبريل قال لبواب السماء: إذ قال: أبعث" إليه لم يقع في لفظ الحديث إليه، لكن حملها على المصنف كغيره، فقال إليه للاستواء وصعود السماوات وليس الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة؛ لأنه لا يخفى إلى هذه المدة، ولاشتهار أمر النبوة في الملكوت الأعلى، "قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 فقال: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال: أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤه وهم ثلاثة نفر، وفي رواية مسلم: سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت فانطلق بي، والمراد بالرجلين: حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- نائمًا بينهما. وقوله: "فقد" بالقاف والدال الثقيلة وفي رواية فشق. "من ثغره" بضم المثلة وسكونة الغين المعجمة بعدها، راء الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين. إلى شعرته بكسر الشين المعجمة، أي شعر العانة الشريفة، وفي رواية مسلم: إلى أسفل البطن.   نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة"، ولفظه: ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل السماء من هذا؟، فقال: جبريل قالوا: ومن معك؟، قال: محمد، قال وقد بعث؟، قال: نعم. "ووقع في رواية ميمون بين سياه" بكسر السين المهملة وخفة التحتية، البصري، أبي بجر التابعي، صدوق، عابد، يخطئ، روى له البخاري والنسائي "عند الطبراني، فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا:" المطلوب "أيهم؟،" أي: الثلاثة حمزة، وجعفر والمصطفى، "وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقال": الملك الآخر الذي لم يسم، "أمرنا بسيدهم، ثم ذهبا، ثم جاؤه وهم ثلاثة نفر،" كما جاؤه أولًا، وكون هذا يقتضي أن الجائين جاؤه أولًا اثنان فقط، ليس بمراد؛ لأن الثالث لم يسم كما مر. "وفي رواية مسلم" من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس، "سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فأتيت، فانطلب بي، والمراد بالرجلين حمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- نائمًا بينهما"، من مزيد تواضعه، وأجيب أيضًا؛ بأن المراد قبل أن يوحى إليه في شأن الصلاة، ومنهم من أجراه على ظاهره، ملتزمًا أن الإسراء كان مرتين قبل النبوة وبعدها، حكاه في المصابيح. "وقوله: فقد -بالقاف والدال الثقيلة- وفي رواية: فشق" وأخرى فرج والمعنى واحد، "من ثغرة": نحره، "بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة بعدها راء" الموضع المنخفض الذي بين الرقوتين" تثنية ترقوة، بزنة فعلوة بفتح الفاء وضم اللام، وهي العظم الذي بين ثغره النحر والعاتق من الجانبين، والجمع التراقي. قال بعضهم: ولا تكون الترقوة لشيء من الحيوان إلا للإنسان، خاصة "إلى شعرته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وفي رواية البخاري: إلى مراق البطن. وفي رواية شريك: فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته -بفتح اللام وتشديد الموحدة- وهو موضع القلادة من الصدر. وقد أنكر القاضي عياض في "الشفاء" وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي قبل الوحي في بني سعد. ولا إنكار في ذلك -كما قاله الحافظ أبو الفضل العسقلاني رحمه الله- فقد تواترت الروايات به، وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم   "بكسر الشين المعجمة، أي: شعر العانة الشريفة،" أي: الشعر النابت عليها، من إضافة اسم الحال للمحل. قال الأزهري: وجماعة العانة منبت الشعر فوق قبل المرأة، وذكر الرجل والشعر النابت عليها يقال له: الإسب بكسر الهمزة، وسكون المهملة وموحدة، وقال الجوهري: هي شعر الركب بالتحري: أي: فتح الراء والكاف، منبت العانة للمرأة خاصة عند الخليل، وللرجل أيضًا عند الفراء. وقال ابن السكيت وابن الأعرابي: استعان واستحد حد عانته، وعلى هذا فالعانة الشعر النابت، وذكر الكرماني؛ أنه وقع في رواية إلى ثنته، بضم المثلثة وتشديد النون، أي: ما بين السرة والعانة. "وفي رواية مسلم إلى أسفل البطن، وفي رواية البخاري" في بدء الخلق "إلى مراق" بفتح الميم وخفة الراء فألف فقاف ثقيلة، وأصله مرافق بقافين، فأدغمت الأولى في الثانية، أي: ما سفل من بطنه ورق من جلده. "وفي رواية شريك" عن أنس، "فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته" حتى فرغ من صدره وجوفه "بفتح اللام وتشديد الموحدة -وهو موضوع القلادة من الصدره" وفيه تنحر الإبل، "وقد أنكر القاضي عياض في الشفاء"، وسبقه إلى الإنكار ابن حزم "وقوع شق صدره الشريف ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي، وقبل الوحي" يعني "في بني سعد" بن بكر، وهو عند مرضعته حليمة، وادعى ابن حزم وعياض؛ أن ذلك من تخليط شريك. قال الحافظ العراقي: وليس كذلك، فقد ثبت في الصحيحين من غير طريق شريك، وقال في المفهم: لا يلتفت لإنكاره؛ لأن رواته ثقات مشاهير، "ولا إنكار في ذلك كما قاله الحافظ أبو الفضل" أحمد بن حجر "العسقلاني رحمه الله" في الفتح، "فقد تواترت الروايات به"، فقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 في الدلائل، ولكل منها حكمة: فالأول: وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس: فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ولعل هذا الشق كان سببًا في إسلام قرينه المروي عند البزار من حديث ابن عباس، ويحتمل أن يكون الإشارة إلى حظ الشيطان المباين كالعفريت الذي أراد أن يقطع عليه صلاته وأمكنه الله منه. وأما شق الصدر عند البعث، فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب   ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة، وفي مسلم وغيره عن أنس في روايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، وفي الصحيحين من رواية أنس عن أبي ذر وله طرق أخرى. "وثبت شق الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل"، والطيالسي والحارث بن أبي أسامة، والبيهقي في الدلائل من حديث عائشة، وقدمته في المقصد الأول في المبعث النبوي، "ولكل منها،" أي: المرات الثلاث المذكورة في بني سعد، ثم عند المبعث، ثم ليلة الإسراء، "حكمة، فالأول" الذي وقع، وهو عند حليمة "وقع فيه من الزيادة، كما عند مسلم من حديث أنس"؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه، واستخرج القلب، ثم شقه، "فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان،" أي: الموضع الذي يتوصل منه إلى وسوسة الناس، ولا ينافيه قوله: "منك" لجواز تقدير مضاف، أي: من مثلك من بني آدم، وبقية خبر مسلم، ثم غسله من طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، فأعاده مكانه، وجعل الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره، فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فجاؤوا وهو منتقع اللون. قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره، "وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ على أكل الأحوال من العصمة من الشيطان" وغيره، وخلقت هذه العلقة؛ لأنها من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقت تكملة للخلق الإنساني، ونزعها كرامة ربانية أبلغ من خلقه بدونها، قاله التقي السبكي، وقال غيره: لو خلق سليمًا منها لم يطلع الآدميون على حقيقته، فأظهره الله على يد جبريل ليتحققوا كمال باطنه، كما برز لهم مكمل الظاهر. "ولعل هذا الشق كان سببًا في إسلام قرينه،" أي: صاحبه الموكل به من الجن، "المروي عند البزار من حديث ابن عباس،" رفعه: فضلت على الأنبياء بخصلتين: "كان شيطاني كافرًا، فاعانني الله عليه، فأسلم"، قال: ونسيت الأخرى، "ويحتمل أن يكون" قوله هذا حظ الشيطان منك، "الإشارة إلى حظ الشيطان المباين،" أي: خلاف القرين، "كالعفريت الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 قوي على أكمل الأحوال من التطهير. وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء فللتهيؤ للترقي إلى الملأ الأعلى، والثبوت في المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء الأسماء الحسنى، ولهذا لما لم ينفق لموسى عليه السلام مثل هذ التهيؤ لم تتفق له الرؤية، وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل؟!. ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل، لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرر في شرعه عليه السلام. ثم أن جميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من   أراد أن يقطع عليه صلاته، وأمكنه الله منه،" وقدمت لفظ الحديث قريبًا في الخصائص، وإن لفظ عفريت ظاهر في أن المراد غير إبليس، كما قال الحافظ. "وأما شق الصدر عند البعث فلزيادة الكرامة، وليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي على كمل الأحوال من التطهير،" وكذلك كان. "وأما شقه عند إرادة العروج إلى السماء، فللتهيؤ للترقي إلى الملأ الأعلى والثبوت في المقام الأسنى، والتقوى لاستجلاء" بالجيم، "الأسماء الحسنى،" يعني رؤية الله سبحانه، بدليل قوله، "ولهذا لما يتفق لموسى عليه السلام مثل هذا التهيؤ، لم تتفق له الرؤية" مع كونه سألها، "وكيف يثبت الرجل لما لا يثبت له الجبل" المذكور في قوله: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، والحافظ قال حكمة ذلك ليتأهب للمناجاة، "ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثلاثة، كما تقرر في شرعه عليه السلام،" كذا أبدى هذا الاحتمال تبعًا للحافظ، مع أنه قال في المقصد الأول. روى أبو نعيم الشق أيضًا، وهو بن عشر قال: وروى خامسة، ولا تثبت، وحكمته أن العشر قريب من سن التكليف، فشق قلبه وقدس حتى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، إلا أن يكون جعل مرتي الصبا بمنزلة المرة الواحدة. قال النعماني: وقد سن لداخل الحرم الغسل، فما ظنك بداخل الحضرة المقدسة، فلما كان الحرم من عالم الملك، وهو ظاهر الكائنات نيط الغسل له بظاهر البدن في عالم المعاملات، ولما كانت الحضرة الشريفة من عالم الملكوت، وهو باطن الكائنات، نيط لها الغسل بباطن البدن في التحقيقات، وقد عرج به لتفرض عليه الصلوات، وليصلي بملائكة السماوات، ومن شأن الصلاة الطهور، فقدس ظاهرًا وباطنًا قال: وقد رأيت في بعض المعاريج أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك. قال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن قدرة الله تعالى لا يعجزها ممكن، ولا تتوقف لعدم شيء ولا لوجوده، وليست مربوطة بالعادة إلا حيث شاءته القدرة؛ لأنه على ما يعهد ويعرف أن البشر مهما شق بطنه كله وانجرح القلب مات ولم يعش، وهذ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة، حتى أخرج القلب وغسل،   جبريل وضأه بعد غسل قلبه قلت: ليصير مطهرًا متطهرًا انتهى. "ثم إن جميع ما ورد،" وبينه بقوله: "من شق الصدر واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة" كاختراق السماوات "مما يجب التسليم له،" أي: تسليمه، فاللازم زائدة للتقوية "دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك؛" لأن القدرة إنما تتعلق بالممكن دون المستحيل، هكذا قاله القرطبي في المفهم، والطيبي، والتوربشتي والحافظ في الفتح، والسيوطي وغيرهم، ويؤيده الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره. قال السيوطي: وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك، وحمله على الأمور المعنوي، وإلزام قائله القول بقلب الحقائق، فهو جعل صراح، وخطأ قبيح، نشأ من خذلان الله تعالى لهم، وعكوفهم على العلوم الفلسفية، وبعدهم عن دقائق السنة، عافانا الله من ذلك انتهى. "قال العارف ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "فيه دليل على أن قدرة الله تعالى لا يعجزها ممكن"، أي: لا يمنعها من التعلق به، بل يجوز تعلقها بسائر الممكنات، لا بالمستحيلات، فلا تتعلق بها أصلا، ولذا قي بممكن، فلا يفهم منه أنها تعجز عن التعلق بالمستحيل؛ لأنها لا تتعلق به أصلا، فلا يلتفت إلى مثل هذا الإيهام، "ولا تتوقف"، أي: لا تتخلف عن إيجادها إرادة، "لعدم" وجود "شيء" يؤثر فيها تعلقت به، "ولا لوجوده"، أي: شيء يمنع تأثيرها فيما تعلقب به، "وليست مربوطة بالعادة"، أي: ليس تأثيرها قاصرا على ما جرت به العادة، بل عام في جميع الممكنات، "إلا حيث شاءته"، أي: ربط التأثير بالعادة "القدرة،" ونسبة المشيئة إلى القدرة تسمح، إذ المشيئة إنما تنسب للقادر لا لشيء من صفاته فهو إما على حذف مضاف، أي: ذو القدرة أو مصدر بمعنى القادر؛ "لأنه على ما يعهد ويعرف أن البشر" "بفتحتين" ذكروا أو أثنى، واحد أو جمعا، وقد يثنى ويجمع أبشارا، كما في القاموس. وفي المصباح؛ أن العرب ثنوه ولم يجمعوه من التثنية، أنؤمن لبشرين، "مهما شق بطنه كله، وانجرح القلب مات ولم يعش"، وكذا سائر الحيوان واقتصر على البشر لكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 وقد شق بطنه كذلك أيضًا وهو صغير وشق قلبه وأخرج منه نزغة الشيطان، ومعلوم أن القلب مهما وصل له الجرح مات صاحبه، وهذا النبي عليه الصلاة والسلام شق بطنه في هاتين المرتين، ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أن أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما أجرى به العادة، أن يؤثر بها موت صاحبها، فأبطل تلك العادة، وقد رمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار فلم تحرقه، وكانت عليه بردًا وسلامًا. انتهى. وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه عليه السلام بتحقيق ما أوتي من الصبر، فهو من جنس ما أكرم به إسماعيل الذبيح بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدًا وكتفًا وتلا للجبين، وإهواء بالمدية إلى المنحر فقال: {سَتَجِدُنِي إِن   المصطفى منهم لا لإخراج غيره، "وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شق بطنه المكرمة"، أنثه باعتبار الجارحة، وإلا فالبطن خلاف الظهر مذكر، "حتى أخرج القلب وغسل" وهو حي، "وقد شق بطنه كذلك"، كهذا الشق الواقع في المعراج "أيضًا، وهو صغير، وشق قلبه، وأخرج منه نزغة الشيطان"، أي: محل نزغته، أي: وسوسته الحاملة على خلاف ما أمر به كاعتراه غضب وفكر، ومعلوم أن القلب مهما وصل له الجرح، مات صاحبه، وهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- شق بطنه في هاتين المرتين" وأخرج قلبه وشق، "ولم يتألم بذلك، ولم يمت لما أراد الله تعالى أن لا يؤثر ما"، أي: شيئًا، أو الذي "أجرى به العادة أن يؤثر بها موت صاحبها، فأبطل تلك العادة"، جواب لما، ودخول فيه قليل قاله شيخنا، والأظهر أن اللام في لما تعليلية لعدم موته، فالفاء للتفريع على التعليل. "وقد رمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار، فلم تحرقه، وكانت عليه بردًا وسلامًا"، أي: إن شق الدر الشريف، وإن كان خارقًا للعادة، لا بعد فيه؛ لأنه ممكن، وقد وقع مثله للخليل حيث فعل به ما هو مهلك عادة، ولم يؤثر فيها شيء، فذكره للتقريب. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة. "وقد حصل من شق صدره الكريم إكرامه عليه السلام بتحقيق ما أوتي من الصبر"، بجعله صفة قائمة به، وكان ذلك تحقيقًا له لبروزه إلى الوجود الخارجي، "فهو من جنس ما أكره به إسماعيل الذبيح" على أحد القولين الشهيرين، والثاني إسحاق، وليت شعري، أي: اقتضاء فيمن حكى هذين القولين في الذبيح أن إبراهيم ليس له غيرهما من الأولاد، مع أن أولاده ثلاثة عشر، كلهم ذكور، كما في تاريخ ابن كثير، أو خمس منهم أناث على ما في الروض "بتحقيق صبره على مقدمات الذبح شدًا وكتفًا، وتلا" إلقاء "للجبين، وأهواء بالمدية" السكين، "إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين} [الصافات: 102] ، ووفي بما وعد الله تعالى، فأكره الله بالثناء على صبره إلى الأبد. ولا مرية أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسلم- أشد وأجل؛ لأن تلك مقدمات وهذه نتيجة، وتلك معاريض وهذه حقيقة، والمنحر مقتل وما أصابه من إسماعيل إلا صورة القتل لا فعله، وشق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه، ثم شقه ثم كذا مقاتل عديدة وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر. فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما   النحر"، يعني أنه لما تله للجبين بأن ألقاه على جنبه انقلب على جبهته، أو أنه فعل ذلك بإشارته لئلا يرى فيه تغيرًا فيرق له فلا يذبحه، "فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ، على الذبح، أو على قضاء الله، وترتيب ما ذكر على ما قبله يقتضي أن قوله ذلك بعده، وسوق الآية صريح أنه قال ذلك جوابًا لقول أبيه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} ، إلا أن تجعل الفاء في المصنف بمعنى الواو، ولفظ ابن المنير متبوع المؤلف، وقد قال: ستجدني بالواو، "ووفي بما وعد الله تعالى" بقوله: {سَتَجِدُنِي} الآية "فأكرمه الله بالثناء على صبره إلى الأبد، ولا مرية" بكسر الميم، أي: لا شك، "أن الذي حصل من صبر نبينا -صلى الله عليه وسم- أشد وأجل؛ لأن تلك" الأحوال الواقعة لإسماعيل من الشد والكتف والتل "مقدمات" للذبح، "وهذه" الواقعة للمصطفى "نتيجة" ما يفعل بمن أريد ذبحه، أو نحوه من الأثر الذي قصد ترتبه على الفعل. "وتلك معاريض"، أي: مقدمات لا حقائق، وتسميتها معاريض تجوز، إذ هي لغة التورية فشبه المقدمات بالمعاريض، واستعار له اسمه لما سبق في علم الله، أن حقيقة ما أمر به أبوه من الذبح لا يقع، "وهذه حقيقة، والمنحر مقتل"، أي: يصدق عليه، وليس مفهومهما واحدًا، إذ المنحر موضع النحر من الحلق، ويكون مصدرًا أيضًا، "وما أصابه"، أي: المنحر "من إسماعيل" ظاهره أنه أمر السكين على منحره، مع أن الفداء وقع قبل مرور السكين إليه، فقوله: "إلا صورة القتل لا فعله"، أي: الصورة التي تحصل عند إرادة القتل، "وشق صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم- واستخراج قلبه ثم شقه، ثم كذا"، أي: نزع العلقة منه وغسله، ونحو ذلك، "مقاتل عديدة": جمع مقتل "وقعت كلها، ولكن انخرقت العادة ببقاء الحياة، فهذا الابتلاء أعظم من ابتلاء الذبيح بما ذكر". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 انخرقت في إبقاء الحياة انخرقت في دقع المشاق وحمل الآلام. أجيب: بأنه ورد في حديث شق صدره: فأقبل وهو منقع اللون أو ممتقع، بالميم بدل النون، وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعالجة المذكورة محقق. انتهى. قال القاضي عياض: وأصل "انتقع" صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة. وأما قول ابن الجوزي: فشقه وما شقه عليه، فيحمل على أنه صبر صبر من لا يشق عليه. انتهى. وكذلك الابتلاء أيضًا من حيث الشق، فإن ذلك وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بعيد ما   وفي المصباح: المقتل الموضع الذي إذا أصيب لا يكاد صاحبه يسلم، والواقع للمصطفى أسباب تفضي إلى القتل، فلعل المقاتل في المصنف جمع: مقتل، بمعنى القتل، وأطلقه على سببه مجازًا، "فإن قلت: إنما يتحقق الصبر أن لو كانت هناك مشقة، فلعل العادة لما انخرقت في إبقاء الحياة"، أي: لم تؤثر إزالتها، بل استمرت بعدما يوجب إزالتها عادة، وفي نسخ في بقاء، وهي أظهر؛ لأن البقاء استمرار الحياة، وهو أثر الإبقاء، "انخرقت" أيضًا "في دفع المشاق وحمل الآلام"، فلا تتم المفاضلة المذكورة بينه وبين الذبح، "أجيب"، أي: أجاب ابن المنير، "بأنه ورد في حديث شق صدره" في بني سعد وهو صغير، "فأقبل، وهو منتقع اللون" بنون فوقية فقاف مفتوحة، أي: متغير، "أو ممتقع بالميم بدل النون" روايتان قاله ابن المنير. قال الكسائي: انتقع مبنيا إذا تغير من حزن أو فزع، قال: وكذا ابتقع بالموحدة، وامتقع بالميم أجود، قاله الجوهري، أي: مبنيا للمفعول، صرح به المجد وغيره، وفي المصباح ما يفيد بناءه للفاعل، "وهو يدل على أن الصبر على مشقة المعالجة المذكورة محقق" فتتم المفاضلة. "انتهى: ما أجيب به. "قال القاضي عياض: وأصل انتقع صار كلون النقع، والنقع الغبار، وهو شبيه بلون الأموات، وهذا يدل على غاية المشقة"، إذ لا يصير كلون الأموات إلا بعد مشقة شديدة، "وأما قول ابن الجوزي: فشقه وما شق عليه"، أي ما آلمه ذلك الشق، "فيحمل على أنه صبر صبر من لم يشق عليه"، ويحمل أيضًا على أنه ما شق عليه المشقة التي تحصل مثلها عادة من ذلك الفعل، فلا ينافي حصول مشقة دون المعتاد فنزلها منزلة العدم، "انتهى" كلام ابن المنير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 فطم، وأيضًا: فإنه كان منفردًا عن أمه ويتيما من أبيه، واختطف من بين الأطفال، وفعل به ما فعل من الأهوال تسهيلًا لما يلقاه في المآل، وتعظيمًا لما يناله على الصبر من الثواب والثناء، ولهذا لما شج وجهه الشريف وجرح وكسرت رباعيته قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، زاده الله شرفًا وفضلًا. وقوله: "ثم أتيت بطست من ذهب" إنما أتي بالطست؛ لأنه أشهر آلات الغسل عرفًا. فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه عليه السلام فكيف استعمل الطست الذهب هنا؟. أجاب العارف ابن أبي جمرة: بأن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به   وفي الشامي: اختلف هل وقع له مع ذلك مشقة أم لا؟، فقال الحافظ: من غير مشقة، وبه جزم ابن الجوزي، فقال: فشقه وما شقه عليه، وقال ابن دحية، بمشقة عظيمة، ولهذا انتقع لونه أي: صار كلون النقع، قلت: رواية انتقع لونه حكاية لما وقع في المرة الأولى وهو صغير في بني سعد، وأما ما وقع بعدها، فلم ينقل أنه تأثر لذلك. انتهى. "وكذلك الابتلاء أيضًا من حيث الشق، فإن ذلك وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- بعيد"، بلفظ التصغير، "ما فطم" بشهرين أو ثلاثة، وكان فطامه بعد عامين، "وأيضًا كان منفردًا عن أمه" في بني سعد، وأمه بمكة، "ويتيمًا من أبيه"، لموته وهو حمل على الصحيح، "واختطف من بين الأطفال" الذين كان معهم في البرية، "وفعل به ما فعل من الأهوال تسهيلًا لما يلقاه في المآل، وتعظيمًا لما يناله على الصبر من الثواب والثناء" من الكبير المتعال، "ولهذا لما شج وجهه الشريف" في أحد، "وجرح وكسرت رباعيته" بفتح الراء الموحدة وخفة التحتية، "قال: "اللهم اغفر لقومي" مغفرة تصرف عنهم عذاب الاستئصال، "فإنهم لا يعملون" رفع قدري عندك، فأعتذر عنهم بالجهل الحكمي، وإن كان عد الآيات البينات ليس بعذر، ولم يقل: يجهلون تحسينا للعبارة ليجذبهم بزمام لطفه إلى الإيمان، ويدخهلم بعظيم عفوه، حرم الأمان، "زاده الله شرفًا وفضلًا" -صلى الله عليه وسلم. "وقوله: "ثم أتيت بطست من ذهب"، إنما أتى بالطست؛ لأنه أشهر"، أي: أظهر "آلات الغسل عرفًا" من حيث إن استعماله للغسل أكثر من استعمال غيره، "فإن قلت: إن استعمال الذهب حرام في شرعه عليه السلام"، بنصه على حرمته، "فكيف استعمل الطست الذهب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 في هذه الدار، وأما الآخرة فهو للمؤمنين خالصًا، لقوله عليه السلام: "هو لهم في الدنيا وهو لنا في الآخرة"، قال: ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه عليه الصلاة والسلام وإنما كان غيره في السائق له والمتناول لما كان فيه حتى وضعت في القلب المبارك. فسوقان الطست من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام فانتفى التعارض بدليل ما قررنا. انتهى. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك لمن الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يحرم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم، ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيلحق بأحوال الآخرة، ولعل ذلك كان قبل أن يحرم الذهب في هذه   هنا"، قلت: "أجاب العارف ابن أبي جمرة، بأن تحريم الذهب"، أي: علته، "إنما هو لأجل الاستمتاع به في هذه الدار" الدنيا، "وأما الآخرة فهو للمؤمنين خالصًا لقوله عليه السلام: "هو لهم في الدنيا" الفانية، "وهو لنا في الآخرة" " الباقية، وما هنا كان الغالب أنه من أحوال الآخرة. "قال" ابن أبي جمرة: "ثم إن الاستمتاع بهذا الطست لم يحصل منه عليه الصلاة والسلام" حتى يجيء السؤال، "وإنما كان غيره في السائق"، أي: الحامل "له" حتى أحضره له، يقال: ساق الصداق إلى امرأته: حمله إليها، "والمتناول لما كان فيه حتى وضعه في القلب المبارك فسوقان" مصدر على فعلان هذا ظاهره، ولم يذكره الجوهري، ولا المجد ولا غيرهما، وإنما قالوا في مصدر ساق سوقًا، وسياقة ومساقًا، فينظر سند المصنف "الطست من هناك، وكونه كان من ذهب دال على ترفيع المقام"، أي: إعلائه، "فانتفى التعارض بدليل ما قررنا، انتهى" جواب ابن أبي جمرة، وهو مشتمل على جوابين، أحدهما مسلم وهو الأول. "و" الثاني: تعقبه الحافظ ابن حجر؛ بأنه لا يكفي أن يقال: إن المستعمل له ممن لم يحرم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه إذا كان قد حرم عليه استعماله لتنزه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم"؛ لأنه صين عما يخالف شرعه حتى قبل النبوة، يمكن أن يقال" في الجواب: "إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب": ما غاب من مشاهدة الناس، "فيلحق بأحوال الآخرة"، وهذا مستفاد من الجواب الأول لابن أبي جمرة، فأشار إلى توافقهما عليه، والحافظ لم ينقل كلامه إنما قال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 الشريعة، ويظهر ههنا مناسبات: منها أنه من أواني الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، ومنها أنه لا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة، ولا تأكله النار ولا التراب، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة، وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى وهي ثقل الوحي فيه. انتهى. قلت: قوله: "ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة"، قد جزم هو في أول الصلاة من كتابه فتح الباري: بأنه تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة. قال السهيلي: وابن دحية: إن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهابه   "ولعل ذلك كان قبل أن يحرم الذهب في هذه الشريعة"، ولا يكفي أن يقال إلى آخر ما ذكر المصنف، فقوله: ولعل جواب مستقل فهي ثلاثة، وقال: أعني الحافظ في أول كلامه: خص الذهب لكونه أعلى الأواني الحسنة، وأصفاها؛ ولأن فيه خواص ليست لغيره، ووصل هذا بقوله: "ويظهر" لها "ههنا مناسبات" للناظر في المقام، لا من خصوص ما قدمه "منها، أنه من أواني الجنة"، كما قال تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 71] ، "ومنها أنه لا تأكله النار"، وكذلك القرآن لا تأكله النار، ولا قلبنا وعاه، ولا بدنا عمل به يوم القيامة، ففيه مناسبة له، "ولا التراب" لا يأكله، ولا يغيره، وكذلك القرآن لا يستطاع تغييره، كذا في الروض. "ومنها أنه لا يلحقه الصدأ" بفتح المهملتين مهموز. ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب قلبه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من أواني أحوال الجنة"، أي: من الأواني التي تستعمل في الأحوال التي تقع في الجنة وتحتاج إلى إناء، وعبارة الحافظ: ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب ثقل الوحي، "ولا تأكله النار ولا التراب كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" "، ولا يلحقه الصدأ، بخلاف غيره، كما قال: إن القلوب لتصدأ. "وأنه أثقل من كل قلب عدل به، وفيه مناسبة أخرى، وهو ثقل الوحي فيه. انتهى" كلام الحافظ. "قلت قوله: ولعل ذلك قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة"، يشعر أنه لم يطلع فيه على شيء، وإنما ترجاه من نفسه، وينافيه أنه قد جزم هو في أول الصلاة من كتابه فتح الباري، بأنه تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة"، حيث قال: أبعد من استدل به، أي: حديث المعراج على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب؛ لأن المستعمل له الملك، فيحتاج إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 الرجس عنه ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه، فلوضاءته ونقائه وصفاته. انتهى. والمراد بقوله: ملئ حكمة وإيمانًا أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمي حكمة وإيمانًا مجازًا. والملء يحتمل أن يكون حقيقة وبجسد المعاني جائز، كما جاء أن سورة البقرة   ثبوت كونهم مكلفين بما كلفنا به وراء ذلك أن ذلك كان على أصل الإباحة؛ لأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة كما سيأتي واضحًا في اللباس انتهى. "قال السهيلي و" تلميذه "ابن دحية: أن نظر إلى لفظ الذهب ناسب من جهة إذهابه الرجس الإثم والسوء عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نظر إلى معناه فلوضاءته ونقائه وصفائه"، ولثقله ورثوبته، والوحي ثقيل، قال الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] {مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] الآية؛ ولأنه أعز الأشياء في الدنيا، والقرآن هو الكتاب العزيز. "انتهى" كلام السهيلي بهذا الذي زدته. زاد ابن دحية: ولأنه رأس الإيمان وقيمة المتلفات، فهو إذا أصل الدنيا، والإيمان أصل الدين، فوقع التنبيه على أن أصل الدنيا آلة لأصل الدين، وخادم له ووسيلة إليه، وأنه إذا قضيت الحاجة منه عدل عنه. قال بعض: ومن المناسبات خلق سرور القلب عند رؤيته، كما قال تعالى في البقرة، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين} [البقرة: 69] الآية، ويكون جعل الذهب آنية الإيمان من جنس قوله: "الدنيا مطية الآخرة" "والمراد بقوله: ملئ حكمة وإيمانًا، أن الطست جعل فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسمي حكمة وإيمانًا مجازًا". وأورد السهيلي كيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب، والإيمان عرض من الأعراض لا يوصف بها إلا محلها الذي تقوم به، ولا يجوز فيها الانتقال؛ لأنه صفة الأجسام لا الأعراض، وأجاب؛ بأنه إنما غبر عما في الطست بهما، كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر بالعلم، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه إيمانا وحكمة، ولعل الذي كان في الطست ثلجًا، وبردًا، كما في الحديث الأول، فعبر في المرة الثانية بما يؤول إليه، وعبر عنه في الأولى بصورته التي رآها؛ لأنه كان طفلًا فلما رأى الثلج في طست الذهب، اعتقده ثلجا حتى عرف تأويله بعد، وفي المرة الأخرى كان نبيًان فلما رأى طست الذهب مملوءة ثلجًا علم التأويل لحينه، أي: لوقته، واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانًا، فكان لفظه في الحديثين على حسب اعتقاده في المقامين، انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 تجئ يوم القيامة، كأنها ظلة، والموت في صورة كبش، وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك. وقال البيضاوي: لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس.   "و" هذا "الملء يحتمل أن يكون حقيقة، وبجسد المعاني جائز، كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظلة"، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف"، الحديث رواه مسلم، وأو للتنويع وتقسيم القارئين، فالأول لمن قرأهما بلا فهم معناهما، والثاني لمن قرأهما مع فهمه، والثالث لمن ضم إليهما تعليم المستفيد، وإرشاد الطالب، وبيان حقائقهما، وكشف ما فيهما، الأول عام في كل أحد، والثاني يختص بمثل الملوك، والثالث أرفع كما كان سليمان، وغمامتان "بالميم"، وغيايتان "بتحتية": كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها، كما في النهاية. قال البيضاوي: ولعله أراد ما يكون له صفاء وضوء، إذ الغيابة ضوء شعاع الشمس، "والموت"، وهو عرض يمثل "في صورة كبش" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالموت كأنه كبش أملح، حتى يوقف على السور بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، ويا أهل النار، هل تعرفون هذا؟، فيقولون: نعم، هذا الموت، فيضجع ويذبح، فلولا أن الله قضى لأهل الجنة الحياة والبقاء لماتوا فرحًا، ولو أن الله قضى لأهل النار الحياة فيها لماتوا ترحًا". وفي رواية: "فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحدًا مات فرحًا لمات أهل الجنة، ولو أن أحدًا مات حزنا لمات أه النار"، رواهما الترمذي عن أبي سعيد، والقول: إن الموت جسم لا يصح. قال الحافظ: من الأخبار الواهية في صفة البراق ما ذكره الماوردي عن مقاتل، وأورده القرطبي في التذكرة، ومن قبله الثعلبي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: الموت والحياة جسمان، فالموت ليس يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تمر بشيء، ولا يجد ريحها شيء إلا حيي، "وكذلك وزن الأعمال وغير ذلك" من أحوال الغيب. "وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرًا، كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط" بضم العين، أي: جانبه، وهذا تنظير؛ لأن الجنة والنار ليستا من المعاني التي تنتقل في الذهن، ولا صور لها خارجية، فلا يصح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان والحكمة جواهر محسوسات لا معاني؛ لأنه عليه السلام قال عن الطست: "إنه أتي به مملوءا حكمة وإيمانًا"، ولا يقع الخطاب إلا على ما يفهم ويعرف، والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ، وإنما يملأ الإناء بالأجسام والجواهر، وهذا نص من الشارع عليه الصلاة والسلام بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض. والجمع بين الحديث وما ذهبوا إليه، هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس فيها إدراك، ولا من النبوة إخبار عن حقيقتها غير محققة، وإنما هي غلبة ظن؛ لأن للعقل -بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق- حدًا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها؛ لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي ذكرها الشارع -صلى الله عليه وسلم- في الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل إلى هذه الحقيقة   جعلهما مثالين للمعاني، لكنه قصد تقريب تعقل تصور المعاني بتصوير الجنة والنار، فإنهما مع عظمهما صور له في عرض الحائط، فكما وقع خرق العادة بذلك كذلك لا بعد في تصوير المعاني بصور محسوسة خرقًا للعادة "وفائدته كشف المعنوي"، إظهاره وتصويره "بالمحسوس" أي: تصويره بصورته للتقريب. "وقال العارف ابن أبي جمرة: فيه دليل على أن الإيمان، والحكمة جواهر محسوسات، لا معاني؛ لأنه عليه السلام قال عن الطست: "إنه أتى به مملوء حكمة وإيمانًا، ولا يقع الخطاب إلى على ما يفهم ويعرف" للمخاطبين، فالمتبادر منه أنها جواهر، "والمعاني ليس لها أجسام حتى تملأ" الطست، "وإنما يلمأ الإناء بالأجسام والجواهر"، لا بالأعراض، "وهذا نص من الشارع عليه الصلاة والسلام بضد ما ذهب إليه المتكلمون في قولهم: إن الإيمان والحكمة أعراض، والجمع بين الحديث" المذكور الدال على أنها جواهر قائمة بأنفسها، "وما ذهبوا إليه" من أنها أعراض تقوم بغيرها لا بأنفسها، "هو أن حقيقة أعيان المخلوقات التي ليس للحواس فيها إدراك، ولا" ثبت من "جهة النبوة أخبار عن حقيقتها"، فلم يخبر بها أحد من الأنبياء "غير محققة، وإنما هو غلبة ظن؛ لأن للعقل بالإجماع من أهل العقل المؤيدين بالتوفيق حدًا يقف عنده، ولا يتسلط فيما عدا ذلك، ولا يقدر أن يصل إليه، فهذا وما أشبهه منها؛ لأنهم تكلموا على ما ظهر لهم من الأعراض الصادرة عن هذه الجواهر التي كذرها الشارع عليه السلام في الحديث، ولم يكن للعقل قدرة أن يصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 التي أخبر بها -صلى الله عليه وسلم- فيكون الجمع بينهما أن يقال: ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجواهر وهو الذي يدرك بالعقل، والحقيقة ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث. ولهذا نظائر كثيرة بين المتكلمين وآثار النبوة، ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه، ثم مثل بمجيء الموت في هيئة كبش أملح، ثم بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات؛ لأنها توزن، ولا يوزن في الميزان إلا جواهر. قال: وفي ذلك دليل لأهل الصوفية وأصحاب المعاملات والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم جواهر   إلى هذه الحقيقة التي أخبر بها عليه السلام، فيكون الجمع بينهما أن يقال ما قاله المتكلمون حق؛ لأنه الصادر عن الجواهر، وهو الذي يدرك بالعقل والحقيقة ما ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث" المفيد، أنها جواهر محسوسات؛ لأنه شاهدها، والتمكلمون لم يشاهدوها، فوقفوا على ما أدركته عقولهم، "ولهذا نظائر كثيرة" واقعة "بين المتكلمين، و" ناشئة عن "آثار النبوة"، بأن تكلم بها الأنبياء، أو أخذت مما جاء عنهم، "ويقع الجمع بينهما على الأسلوب الذي قررناه وما أشبهه" فيحمل كل من الكلامين المتخالفين على وجه لا يخرج عن قواعد الشرع، "ثم مثل" ابن أبي جمرة للنظائر، "بمجيء الموت في هيئة"، أي: صورة "كبش أملح، ثم" مثل "بالأذكار والتلاوة، ثم قال: لأن ما ظهر منها هنا" في دار الدنيا "معان، وتوجد يوم القيامة جواهر محسوسات؛ لأنها توزن، ولا يوزن في الميزان إلا جواهر"، لاستحالة وزن المعاني، "قال: وفي ذلك دليل لأهل الصوفة"، واحدة الصوف، أي: القطعة منه، وهم السادة الصوفية، سموا بذلك للبسهم الصوف، أو لصفاء قلوبهم، أو لغير ذلك مما هو معلوم، "وأصحاب المعاملات"، وهي عند الطائفة توجه النفس الإنساني إلى باطنها الذي هو الروح الروحاني والسر الرباني، واستمدادها منهما ما يزل به الحجب عنها، فيحصل لها قبول المراد في إزالة كل حجاب، ومنازل هذه المعاملات عشرًا: الرعاية، والمراقبة، والحرمة، والإخلاص، والتهذيب، والاستقامة، والتوكل، والتفويض، والثقة، والتسليم، سميت هذه المنازل بالمعاملات؛ لأن العبد لا تصلح له المعاملة للحق حتى يتحقق بهذه المقامات، كما في اللطائف، وقول شيخنا: هم الذين يعاملون الله تعالى بالتمادي في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح، ومنهم من يعاينه مثل الشمعة، ومنهم من يعاينه مثل المشعل وهو أقواها. ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققًا، حتى يعاين قلبه بعين بصيرته، كما يعاين كفه بعين بصره فيعرف الزيادة فيه من النقصان. فإن قلت: ما الحكمة في شق صدره الشريف ثم ملئه إيمانًا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك فيه من غير أن يفعل به ما فعل؟ أجاب العارف ابن أبي جمرة: بأنه -صلى الله عليه وسلم- لما أعطي كثرة الإيمان وقوي   الطاعات، واجتناب المنهيات، سمي ذلك معاملة أخذًا من قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] . قال البيضاوي: إقراضه مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه، أي: إقراضصا حسنًا مقرونًا بالإخلاص وطيب النفس، أو مقرضًا حلالًا طيبًا، وقيل: القرض الحسن المجاهدة والإنفاق في سبيل الله، صحيح في نفسه، لكنه غير ما يعنيه الصوفية، وإن رجع إلى بعض ما قالوا. "والتحقيق القائلين بأنهم يرون قلوبهم وقلوب إخوانهم، وإيمانهم وإيمان إخوانهم بأعين بصائرهم": جمع بصيرة، وهي قوة للقلب المنور بنور القدس، يرى بها حقائق الأشياء، وبواطنها بمثابة البصر للعين، يرى به صور الأشياء وظاهرها قاله ابن الكمال. "جواهر محسوسات، فمنهم من يعاين إيمانه مثل المصباح"، أي السراج، أي: الفتيلة الموقودة، "ومنهم من يعانيه مثل الشمعة" واحدة الشمع بفتح الميم وتسكن تخفيفًا، وقيل: الفتح، لغة العرب والسكون لغة المولدين، "ومنهم من يعاينه مثل المشعل"، كمقعد القنديل، كما في القاموس، والمراد هنا معناه العرفي، وهو الشعلة العظيمة، وإلا ساوى المصباح، ونافى قوله: "وهو أقواها"، أي: أكثر من ضوء المصباح والشمعة. "ويقولون: بأنه لا يكون المحقق محققًا حتى يعاين قلبه بعين بصيرته" قلبه، فله عين، كما أن للجسد عينًا، "ما يعاين كفه بعين بصره، فيعرف الزيادة من النقصان"، وحينئذ يكون محققًا. "فإن قلت: ما الحكمة في شق صدره الشريف، ثم ملئه"؟ بكسر الميم وسكون اللام، من عطف الاسم على الاسم، هكذا في نسخة صحيحة، وهي ظاهرة. وفي نسخة: ثم ملئ وينبغي تأويله بالمصدر ليحصل التناسب بين المتعاطفين "إيمانًا وحكمة، ولم لم يوجد الله تعالى ذلك" المذكور من الإيمان والحكمة "فيه"، أي: القلب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 التصديق إذ ذاك، أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف في جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له عليه السلام قوة الإيمان، من ثلاثة أوجه: بقوة التصديق، والمشاهد، وعدم الخوف من العادات المهلكات فكمل له عليه الصلاة والسلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل، وعدم الخفو مما سواه. ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه كان عليه السلام في العالمين أشجعهم، وأثبتهم وأعلاهم حالًا ومقالًا. ففي العلوى: كان -كما أخبر عليه السلام- أن جبريل لما وصل إلى مقامه قال: ها أنت وربك، وهذا مقامي لا أتعداه، فزج به في النور زجة، ولم يتوان ولم   "من غير أن يفعل به ما فعل" من الشق قلت: "أجاف العارف ابن أبي جمرة: بأنه عليه السلام ولما أعطى كثرة الإيمان" أي: خصاله وشعبه، أو الأسباب المحصلة لكماله، فلا يرد أن الإيمان هو التصديق، هو شيء واحد لا تعدد فيه ولا تكثر، وإنما التكثر في متعلقاته من صلاة وصوم ونحوهما. "وقوي" بضم القاف أولى من فتحها، لاحتياجه لتقدير قوي "التصديق" منه بذلك، لكل ما ورد عليه من قبل الله، "إذ ذاك" ليس هذا من الإضافة إلى المفرد، بل إلى الجملة الإسمية أو الفعلية، والتقدير إذا ذاك، كذلك، أو إذ كان ذاك كذلك "أعطي برؤية شق البطن والقلب عدم الخوف في جميع العادات الجارية بالهلاك، فحصلت له عليه السلام قوة الإيمان من ثلاثة أوجه، بقوة التصديق"،: أي: الحاصلة بزيادة الإيمان، والحكمة، "وبالمشاهدة" لشق الصدر وغسل القلب، "وعدم الخوف" المترتب على عدم حصول أذى له بعد فعل ما يهلك به عادة "من العادات"، أي: مما تجري به العادات "المهلكات": جمع عادة، وتجمع أيضًا على عادة وعوائذ، وجعل المشاهدة وعدم الخوف من قوة الإيمان بناء على أنه يزيد وينقص، فلا يرد أنهما خارجان عن التصديق الذي هو مسمى الإيمان، "فكمل له عله الصلاة والسلام بذلك ما أريد منه من قوة الإيمان بالله عز وجل وعدم الخوف، مما سواه، ولأجل ما أعطيه مما أشرنا إليه، كان عليه السلام في العالمين أشجعهم وأثبتهم وأعلاهم حالًا ومقالًا"، أي: قولًا مصدر، قال كقولًا ومقالة، "ففي" أي: فرفعة حاله وشأنه في العالم "العلوي": بضم العين وكسرها مع سكون اللام، المكان المرتفع من نسبة الكلي، وهو المكان العالي من حيث هو إلى جزئية، وهو ما وصل إليه تلك الليلة، فإنه جزئي، من جزئيات مطلق المكان. "كان كما أخبر عليه السلام أن جبريل لما وصل إلى مقامه"، أي: جبريل المشار إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 يلتفت، فكان هناك في الحضرة كما أخبر عنه ربه عز وجل بقول: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] . وأما حاله عليه السلام في هذا العالم: فكان إذا حمي الوطيس في الحرب ركض بغلته في نحر العدو، وهم شاكون في سلاحهم، ويقول: "أنا النبي لا كذب". ثم إن في العناية بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة، فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة في أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر أو   بقوله: "وما منا إلا له مقام معلوم، وهو سدرة" المنتهى التي لم يتجاوزها أحد إلا نبينا، -صلى الله عليه وسلم-، قاله النووي، "قال: ها أنت وربك وهذا مقامي" بفتح الميم، أي: موضعي، "لا أتعداه، فزج به في النور زجة، ولم يتوان، ولم يلتفت"، أي: ألقى نفسه بلا توقف لما عنده من الثبات وقوة القلب، "فكان هناك في الحضرة، كما أخبر عنه ربه عز وجل بقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ} "، ما مال بصره -صلى اله عليه وسلم- عما رآه، " {وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية، ما تجاوزه، بل أثبته إثباتا صحيحًا متيقنا، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، وما جاوزها، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا كله بقوله في الفتح. قال ابن أبي جمرة: الحكمة في شق بطنه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانًا وحكمة بغير شق، الزيادة في قوة اليقين؛ لأنه أعطى بشق بطنه وعدم تأثره بذلك، م أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذا كان أشجع الناس وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وصف بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] الآية. "وأما حاله عليه السلام في هذ العالم: فكان إذا حمي الوطيس" التنور، أي: اشتد الحرب كما فسر به حديث: "الآن حمي الوطيس"، فالأولى إسقاط قوله: "في الحرب" اللهم إلا أن يجرد عن معناه، بأن يقال: المعنى إذا اشتد الأمر "ركض بغلته"، أي: ضربها لتعدو "في نحر العدو"، أي: صدورهم فلا يهاب أحدًا منهم، ولا يمنعه من ذلك كثرتهم ولا شدتهم في الحرب، "وهم شاكون" أي: داخلون "في سلاحهم" دروعًا وغيرها، فهي محيطة بكل بدنهم، وفيه مسامحة، إذ لا يتأتى أن تكون الأسلحة لهم غير الدروع ظروفًا، فالظرفية اعتبارية فيه كما في جذوع النخل بالغ في جعل السلاح ظرفًا لهم، كأنهم لشدة تمكنهم منها واستيلائهم عليها مظروفون فيها. "ويقول: "أنا النبي لا كذب": لأن صفة النبوة يستحيل معها الكذب، فكأنه قال: أنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب، أنا ابن عبد المطلب، فركوبه البلغة مزيد ثبات؛ لأنها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 الفكر إنما هو القلب لا الدماغ، خلافًا للمعتزلة والفلاسفة. وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس عليه الصلاة والسلام بماء زمزم، فقيل: لأنه ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع، قال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل به قلبه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت، واستدل شيخ الإسلام السراج البلقيني، بغسل قلبه الشريف به على أنه أفضل من ماء الكوثر.   ليست من مراكب الحرب، بل الأمن، فالحرب عنده كالسلم، وكذا إشهار نفسه مبالغة في الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو، ومر بسط هذا في حنين ثم إن في العناية"، أي: الاهتمام "بتطهير قلبه المقدس، وإفراغ الإيمان والحكمة فيه إشارة إلى مذهب أهل السنة، في أن محل العقل ونحوه من أسباب الإدراكات كالنظر أو الفكر، إنما هو القلب لا الدماغ، خلافًا للمعتزلة والفلاسفة" وبعض أهل السنة كالحنفية، وعبد الملك بن الماجشون من المالكية، لكن مذهب الأكثرين ظاهر على إثبات القوى الباطنية، ولم يقولوا بها، فوصفها بأن لها محلًا تسمح، والمراد أنه جعل للقلب حالة يدرك بها الأمور المعقولة، وفي قوله: من أسباب الإدراك إشعار بأن المدرك هو العقل، وما عداه طريق لإدراكه، وفي العقل تعاريف نقل المجد منا جملة، وقد نقل كلامه المصنف في الفصل الثاني من المقصد الثالث. "وأما الحكمة في غسل قلبه المقدس عليه الصلة والسلام"، كما مر في رواية البخاري: ففرج صدري ثم غسله "بماء زمزم فقيل: لأن ماء زمزم يقوي القلب ويسكن الروع" بالفتح، الفزع. "قال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل به قلبه عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء، ليقوى على رؤية الملكوت": باطن الملك. وقال ابن أبي جمة: إنما لم يغسل بماء الجنة، لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة، ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأرض. وقال السهيلي: لما كانت زمزم حفرة جبريل روح القدس لأم إسماعيل جد النبي -صلى الله عليه وسلم- ناسب أن يغسل عند دخوله حضرة القدس لمناجاته. وقال غيره: لما كان ماء زمزم أصل حياة أبيه إسماعيل، وقد ربي عليها ونما قلبه وجسده وصار هو صاحبه وصاحب البلدة المباركة، ناسب أن يكون ولده الصادق المصدوق، كذلك ولما فيه من الإشارة إلى اختصاصه بذلك بعد وفاته، فإنه قد صارت الولاية إليه في الفتح، فجعل السقاية للعباس وولده، وحجابة البيت لعثمان بن شيبة، وعقبه إلى يوم القيامة. "واستدل شيخ الإسلام السراج البلقيني بغسل قلبه الشريف به"، بماء زمزم، "على أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 قال: لأنه لم يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه، وإليه يومئ قول العارف ابن أبي جمرة في كتابه "بهجة النفوس".   أفضل من ماء الكوثر، قال: لأنه لم يغسل قلبه المكرم إلا بأفضل المياه"، وتوقف السيوطي فيه بأن كونه لا يغسل إلا بأفضل المياه مسلم، ولكن بأفضل مياه الدنيا، إذ الكوثر من متعلقات دار البقاء، فلا يستعمل في دار الفناء، ولا يشكل بكون الطست الذي غسل منه صدره -صلى الله عليه وسلم- من الجنة؛ لأن استعمال هذا ليس فيه ذهاب عين بخلاف ذاك. وأجاب في الإيعاب، بأنه إذا سلم أنه لا يغسل إلا بأفضل المياه لزمه تسليم قول البلقيني، وتخصيصه بأفضل مياه الدنيا، لما ذكره لا دليل عليه، وكون ماء الكوثر من الجنة لا يقضي عدم الغسل به؛ لأن المناسب لحاله -صلى الله عليه وسلم- أن يستعمل له الأفضل مطلقًا لا بالنسبة لدار الدنيا، إذ لا أصل في الأفضل على الإطلاق أن لا يستعمل له إلا الأفضل، كذلك والفرق بينه وبين الطست بما ذكره لا تأثير له؛ لأن ذلك الوقت وقت إظهار كرامته وخرق العادة له وإلا لحرم استعمال الذهب، فلما جاز علمنا أن القصد به خرق العادة لمزيد إظهار الكرامة، وهذا مقتضى استعمال الذهب، فلما جاز علمنا أن القصد به خرق العادة لمزيد إظهار الكرامة، وهذا مقتضى لاستعمال ماء الكوثر، لو كان أفضل، فلما نزل إلى ماء زمزم اقتضى ذلك بقرينة المقام أنه أفضل منه. قال: وبهذا يرد على من نازع البلقيني أيضًا، يعني السيوطي، بخبر لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وأجاب عن الغسل به دون مائها؛ بأنه قد ألفه ونشأ عليه كجده إسماعيل، إذ هو أول ماء نبع بمكة لأجله، ووجه رد أن الخبر مخصوص والألفة لا تقتضي ما ذكر، سيما في مقام إظهار شرفه. ونازعه أيضًا بأن الحكمة الغسل به، قول الزين العراقي: إنه يقوى به على رؤية الملكوت؛ لأن من خواصه أنه يقوي القلب، ويسكن الروع، فإذا ثبت هذا لم يكن في الغسل به دلالة على أفضليته؛ لأن سلب هذا المعنى عن ماء الكوثر لا يقتضي أن ماء زمزم أفضل منه؛ لأن سبب انتفائه عنه أنه من مياه الجنة وهي لا روع فيها حتى يحتاج لسلبه، فسلبه عنده لعدم المحل القابل، لا لعجز الفاعل، وبأن الكوثر مما من الله به على نبيه، وأنزل فيه القرآن وزمزم من عطاء إسماعيل، ولم ينزل فيها ما نزل من القرآن فيه، ومن خصوصياته أن من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا، وغير ذلك انتهى. ووجه رده أن ما ذكر من الحكمة لم يثبت على أنه يكفي في تقوية قلبه، وتسكين روعه، ما وقع له من تكرر شق الصدر المنبئ عن بلوغه في قولة القلب، وسكون الروع إلى الغاية القصوى، فلا يحتاج لشيء آخر، وعلى التنزل، فكونه غسل به لأجل ذلك لا يقتضي أنه غسل به لذلك، بل يحتمل أنه لذلك، ولإظهار شرفه، فالأمران يحتمل أنهما مقصودان، فما الليل على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 وأما قوله عليه الصلاة والسلام: $"فغسل صدري" فالظاهر أن المراد به القلب كما في الرواية الأخرى، وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بأن يقال: أخبر عليه الصلاة والسلام مرة بغسل صدره الشريف ولم يتعرض لذكر قلبه، وأخبر مرة أخرى بغسل قلبه ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما معًا مبالغة في تنظيف المحل المقدس، ولا شك أن المحل الشريف كان طاهر مطهرًا، وقابلًا لجميع ما يلقى إليه من الخير، وقد غسل أولًا وهو عليه السلام طفل، وأخرج من قلبه نزغة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظامًا وتأهبا لما يلقى هناك، وقد جرت الحكمة بذلك في غير موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفًا؛ لأن الوضوء في حقه إنما هو إعظام، وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته، فكذلك   قصره على أحدهما، وكون الكوثر مما من الله به على نبينا بخلاف زمزم لا يكون صريحًا في الأفضلية، وما ذكر فيه من الخصوصية ورد في زمزم أعظم منه، وهو أن من شرب منها للأمن من العطش يوم القيامة أعطيه، كما يصرح به الحديث الصحيح، خلافًا لمن نازع فيه ماء زمزم لما شرب له، وقول ابن الرفعة والماء النابع من بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم- أشرف المياه، لا يرد على البلقيني؛ لأن قوله إلا بأفضل المياه، أي: الموجودة إذ ذاك، والنابع لم يكن موجودًا إذ ذاك، ولا يرد على ابن الرفعة الحديث الصحيح خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم؛ لأن ما نبع من أصابعه لم يكن موجودًا عند قوله ذلك انتهى. "وإليه يومئ قول العارف ابن أبي جمرة في كتابه بهجة النفوس"، اسم شرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري. "وأما قوله عليه الصلاة والسلام: $"فغسل صدري" فالظاهر أن المراد به القلب، كما في الرواية الأخرى" في البخاري عن مالك بن صعصعة: فغسل قلبي، وفي رواية مسلم: فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم، "وقد يحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع"، أي: يحصل، "الجمع" بينهما، "بأن يقال: أخبر عليه الصلاة والسلام مرة بغسل صدره الشريف، ولم يتعرض لذلك قلبه، وأخبر مرة أخرى بغسل قلبه، ولم يتعرض لذكر صدره، فيكون الغسل قد حصل فيهما" مرة لقلبه بعد إخراجه، ومرة لصدره بعد شقه، "معًا مبالغة في تنظيف المحل المقدس، ولا شك أن المحل الشريف كان طاهرًا مطهرًا، وقابلًا لجميع ما يلقى إليه من الخير"، ومنه الإيمان والحكمة، "وقد غسل أولًا وهو عليه السلام طفل، وأخرج من قلبه نزغة الشيطان، وإنما كان ذلك إعظامًا وتأهبًا لما يلقى هناك" لا لإزالة أمر مستقذر فيه لكمال خلقه، والعلقة التي أخرجت منه لم يكن للشيطان عليها لو لم تخرج سبيل، وإنما قصد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 غسل جوفه الشريف هنا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] ، فكان الغسل له عليه السلام من تعظيم شعائر الله، وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم شعائر الله، كما نص عليه بالقول. وأما قوله: " ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، وفي رواية عنده في الصلاة ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء. فظاهره: أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء. قال العارف ابن أبي جمرة: أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد   بإخراجها المبالغة في إظهار تعظيمه، وتكميله من بين أفراد أنواعه. "وقد جرت الحكمة بذلك في غير موضع"، وفي نسخة بزيادة ما للتأكيد، "مثل الوضوء للصلاة لمن كان متنظفًا"، ولو نظافة حسية، بأن غسل بدنه، وبالغ في تنظيفه، ولم يأت بأفعال الوضوء على الوجه المعتبر فيه شرعًا؛ "لأن الوضوء" الشرعي "في حقه، إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته"؛ لأن المصلي يناجي ربه، والقصد بالوضوء إعظامه، إذ ليس ثم دنس محسوس يزيله الوضوء، ولا ينافي هذا قول الفقهاء أن الحدث أمر اعتباري يقوم بالأعظاء يمنع صحة الصلاة حيث لا مرخص لجواز أنهم أرادوا بالاعتباري معنى أراده الشارع منافيًا لكمال التعيظم مع خلو الأعضاء من الدنس الحسي، "فكذلك غس جوفه الشريف هنا" ليس لعدم القابل، بل للإعظام والتأهب للمناجاة. "وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] "، أي: فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من، وذكر القلوب؛ لأنها منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما، قاله البيضاوي. "فكان الغسل له عليه السلام من تعظيم شعائر الله وإشارة لأمته بالفعل"، من الملك معه بتعظيم شعائر الله كما نصل عليه بالقول" في الآية المذكورة. "وأما قوله: "ثم أتيت بدابة دون البلغ وفوق الحمار أبيض"، ذكر باعتبار أنه مركوب أو نظر اللفظ البراق: "يضع خطوه عند أقصى طرفه" براء ساكنة وفاء، أي: نظره، "فحملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا". "وفي رواية عنده": أي: البخاري "في الصلاة، "ثم أخذ بيدي فعرج بي السماء، فظاهره أنه استمر على البراق حتى عرج إلى السماء"، وهذا الظاهر ليس بمراد لما ثبت أنه ربط البراق ببيت المقدس، ورقي السماء على المعراج كما يأتي بيانه، ومشى على ظاهره ابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 جرت العادة بأن البشر لا يمشي في الهواء، سيما وكان راكبًا على دابة من ذوات الأربع، لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان، فكما بسط تعهالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشيهم في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية، وقد سئل عليه السلام حين أخبر عن الأشقياء الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة كيف يمشون فقال عليه السلام: "الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم". انتهى. وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليه لم يذكر هنا. فأما المعراج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رقي في المعراج وهو السلم، كما وقع التصريح به في حديث عن ابن إسحاق   أبي جمرة في قوله، والقدرة كانت صالحة؛ لأن يصعد بنفسه من غير براق، لكن ركوب البراق كان زيادة في تشريفه؛ لأنه لو صعد بنفسه كان في صورة ماش، والراكب أعز من الماشي. "قال العارف ابن أبي جمرة" عقب هذا: "أفاد ذلك أنهم كانوا يمشون في الهواء، وقد جرت العادة بأن البشر لا يمشي في الهواء، سيما وكان راكبًا على دابة من ذوات الأربع"، يعني البراق، "لكن لما أن شاءت القدرة ذلك كان"، أي: شاء ذو القدرة، ففيه مضاف، أو مصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي القادر، وأنث الفعل نظرًا للفظ، فلا يرد أن القدرة صفة لا تنسب لها المشيئة، وإنما تنسب لله تعالى، "فكما بسط تعالى لهم الأرض يمشون عليها، كذلك يمشيهم في الهواء، كل ذلك بيد قدرته، لا ترتبط قدرته تعالى بعادة جارية"، أي: لا يتوقف تأثيرها على موافقة عادة، بل تؤثر في كل ممكن أراد تأثيرها فيه وإن خالف العاد. "وقد سئل عليه السلام حين أخبر عن الأشقياء" الكفار، "الذين يمشون على وجوههم يوم القيامة، كيف يمشون؟ فقال عليه السلام": "إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم" في رواية: "على أرجلهم"، "قادر على أن يمشيهم يوم القيامة على وجوههم"، والحديث في الصحيحين عن أنس. "انتهى" كلام ابن أبي جمرة. "وقد استدل بعضهم بهذا الحديث على أن المعراج، كان في ليلة غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، لكون الإسراء إليه لم يذكر هنا"، إذ ظاهر قوله: فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا، أنه استمر سائرًا به إليها، ثم إلى حيث شاء الله، ولم ينزل بيت المقدس، "فأما المعراج ففي غير هذه الرواية من الأخبار" ما يدل على "أنه لم يكن على البراق، بل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 والبيهقي في الدلائل كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويموكن أن يقال: ما وقع هنا اختصار من الراوي، والإتيان بـ"ثم" المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما: الانطلاق والعروج. وحاصله: أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وثابت البناني قد حفظ الحديث، ففي روايته عند مسلم: أنه أتى بيت المقدس فصلى به ثم عرج إلى السماء كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكبًا، مع القدرة على طي الأرض له، إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسًا له بالعادة، في مقام خرق العادة؛ لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى من يختص به بعث إليه بمركوب سني يحمله عليه في   رقي في المعراج، وهو المسلم كما وقع التصريح به في حديث عند ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل" النبوية، من حديث أبي سعيد "كما سيأتي إن شاء الله تعالى" قريبًا "ويمكن أن يقال" في الجمع "ما" الذي "وقع هنا اختصار من الراوي"، فيرد ما هنا إلى تلك الرواية، كأن يقال قوله: "حتى أتى السماء الدنيا"، ذكر غاية ما وصل به جبريل، ولم ينظر لتفاصيل، ما دون ذلك، "والإتيان بثم المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما الانطلاق" المذكور في قوله: "فانطلق بي جبريل"، "والعروج" المذكور بقوله: "حتى أتى السماء"، وفي نسخة: الإطباق "بكسر الهمزة فطاء ساكنة فموحدة ثم قاف"، أي: إطباق صدره كما كان، وفيه تعسف، "وحاصله"، أي: هذا الجمع "أن بعض الرواية ذكر ما لم يذكره الآخر". وقال النعماني: ما المانع من أنه -صلى الله عليه وسلم- رقي المعراج فوق ظهر البراق لظاهر الحديث ... انتهى، والمانع موجود، وهو أحاديث ربطه البراق بالحلقة كما يأتي. "وثاب البناني" "بضم الموحدة وبالنون"، "قد حفظ الحديث، ففي روايته عند مسلم" عن أنس، "أنه أتى إلى بيت المقدس، فصلى به، ثم عرج إلى السماء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى"، ومن قواعد المحدثين تقديم رواية من حفظ القصة وفصلها، فيرد إليه رواية من أجمل أو نقص فيها. "وقد قيل: إن الحكمة في الإسراء به راكبًا مع القدرة على طي الارض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسا له بالعادة"، حيث أسرى به راكبًا مع إمكان إيصاله بلا ركوب، بل لو أراد حضوره بغير شيء كان "في مقام العادة"، حيث قطع تلك المسافات الكثيرة ذهابًا وإيابًا في أقل زمن؛ "لأن العادة جرت أن الملك إذا استدعى"، أي: طلب من يختص به بعث إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 وفادته إليه. وفي كلام بعض أهل الإشارات: لما كان -صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون، ودرة صدقة الوجود، وسر معنى كلمة "كن" ولم يكن بد من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها رفعها إلى حضرة قدسه، والطواف بها على ندمان حضرته، أرسل إليه أعزل خدام الملك عليه، فلما ورد عليه قادمًا، وافاه على فراشه نائمًا، فقال له: "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم، قال: "يا جبريل إلى أين"؟ قال: يا محمد ارفع "الأين" من البين، إنما أنا رسول للقدم أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة، الكل مراد لأجلك، وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة،   بمركوب سني"، أي: شريف، "يحمله عليه في وفادته إليه"، فعامله بذلك تأنيسًا وتعظيمًا. "وفي كلام بعض أهل الإشارات"، أي: محقق الصوفية، "لما كان -صلى الله عليه وسلم- ثمرة شجرة الكون"، يعنون بالشجرة في اصطلاحهم الإنسان الكامل المشار إليه في آية النور، وهو الشجرة المباركة الزيتونة، التي لا شرقية ولا غربية، لاعتدالها بين طرفي الإفراط والتفريط في الأقوال والأحوال، "ودرة صدقة الوجود وسر معنى كلمة كن" السر، يعني به حصة كل موجود من الحق بالتوجه الإيجادي المنبه عليه، بقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، فقولهم: لا يحب الحق إلا الحق، ولا يطلب الحق إلا الحق، ولا يعلم الحق إلا الحق؛ إنما أشاروا بذلك إلى السر المصحب من الحق للخلق على الوجه الذي عرفت، فإنه هو الطالب للحق، والمحبب له، والعالم به، كذا في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "ولم يكن بد" فراق ومحالة، "من عرض هذه الثمرة بين يدي مثمرها، رفعها إلى حضرة قدسه والطواف": الدوران "بها على ندمان حضرته، أرسل إليه" جبريل، "أعز خدام الملك" "بكسر اللام" سبحانه "عليه، فلما ورد عليه قادمًا وافاه على فراشه نائمًا، فقال": بلسان الحال، "قم يا نائم، فقد هيئت لك الغنائم": جمع غنيمة، "فقال" بلسان حاله: "يا جبريل إلى أين؟، فقال: يا محمد ارفع الأين من البين، إنما أنا رسول للقدم"، أي: لذي القدم، وهو الحق تعالى، "أرسلت إليك لأكون من جملة الخدم، يا محمد أنت مراد الإرادة" المراد عبارة عن المجذوب عن إرادته مع تهيؤ الأمور له، فجاوز الرسوم كلها، والمقامات من غير مكابدة وهزاهز، وهذا مراد شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري بقوله: المراد هو المختطف من وادي التفرق إلى ربوة الجمع، وهذا هو الإنسان الذي اجتباه الحق واستخلصه "الكل"، أي: كل المخلوقات "مراد لأجلك" كما قال تعالى لآدم: لولا محمد ما خلقتك، رواه الحاكم مرفوعًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعرف، أنت بدر اللطائف، ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمي ذلك الحمى إلا لوصلك، وما روق كأس المحبة إلا لشربك. فقال عليه السلام: "يا جبريل فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل"؟ قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي وأطفالي؟ قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] ، قال: الآن طاب قلبي ها أنا   وروى أبو الشيخ والحاكم، وصححه عن ابن عباس: "أوحى الله إلى عيسى؛ آمن بمحمد ومر أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار"، وذكر ابن سبع وغيره عن علي: أن الله قال لنبيه: من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الموج، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب، "وأنت مراد لأجله، أنت صفوة كأس المحبة، أنت درة هذه الصدفة، أنت شمس المعارف"، هي في اصطلاح القوم عبارة عن إحاطة العبد بعينه، وإدراك ما له وعليه، كما قال الإمام الجنيد: أن تعرف ما لك وما له، "أنت بدر اللطائف": جمع لطيفة، وهي كل إشارة دقيقة المعنى، تلوحك في الفهم لا تسعها العبارة، "ما مهدت الدار إلا لأجلك، ما حمى ذلك الحمى إلا لوصلك، ما روق كأس المحبة إلا لشريك"، فسر شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين المحبة؛ بأنها تعلق القلب بين الهمة والأنس في البذل والمنع، أي: بذل النفس للمحبوب، ومنع القلب من التعرض إلى ما سواه، وإنما يكون ذلك بإقرار المحب لمحبوبه بالتوجه إليه، والأعرض عما عداه، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، فتذهب ملاحظته الثنوية، وإلى هذا المعنى أشار القائل: بقوله: شاهدته وذهلت عني غيرة ... مني عليه فذا المثنى مفرد وإنما كانت المحبة حالة بين الهمة والأنس، كما أشار إليه الشيخ؛ لأن المحب لما كان أشد الراغبين طلبًا صارت الهمة من جملة أوصافه، إذ المراد بالهمة شدة طلب القلب للحق، طلبًا خالصًا عن رغبة في ثواب، أو رهبة من عقاب، ولما كان الطلب بالهمة قد يعرى عن الأنس، ومن شرط المحب كونه مستأنسًا بمحاسن محبوبه مستغرقًا، وجب أن يكون المحب موصوفًا بالأنس، فلذا اكتفت المحبة بالهمة الأنس. "فقال عليه السلام" بلسان الحال: "يا جبريل، فالكريم يدعوني إليه، فما الذي يفعل؟، قال: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"، أي: يستر الذنب عنك، فلا تلابسه، "قال: يا جبريل هذا لي، فما لعيالي": أمتي "وأطفالي" أصحابه وآلي، "قال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 6] الآية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى ووالاحد من أمتي في النار". روى البيهقي عن ابن عباس في هذ الآية قال: رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 ذاهب إلى ربي، ثم قال جبريل: يا محمد إنما جيء بي إليك الليلة لأكون خادم دولتك، وحاجب حاشيتك، وحامل غاشيتك، وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك؛ لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبًا، أو استدعوا قريبًا وأرادوا ظهور كرامته واحترامه أرسلو أخص خدامهم وأعز قوامهم لنقل أقدامهم، فجئناك على رسم عادة الملوك وآداب السلوك، ومن اعتقد أنه يصل إليه بالخطا فقد وقع بالخطأ، ومن ظن أنه محجوب بالغطا فقد حرم العطا. انتهى. والحكمة في كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض، ولم يكن   وفي مسلم عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- تلا قول الله عن إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وعن عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك} [المائدة: 118] ، ثم رفع يديه فقال: "اللهم أمتي"، وبكى، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك "قال: "الآن طاب قلبي": لذ وزكا، "ها أنا ذاهب إلى ربي، ثم قال جبريل: يا محمد، إنما جيء بي إليك الليلة لأكون خادم دولتك وحاجب حاشيتك"، جانبك. قال المصباح: حاشية الثوب: جانبه، والجمع الحواشي، وحاشية النسب كأنه مأخوذ منه، وهو الذي يكون على جانبه كالعم وابنه، "وحامل غاشيتك" بغين وشين معجمتين، اسم لشيء نفيس يحمل أمام الأكابر، ويمشي به بين يديهم عرفًا والغشاء في الأصل الغطاء وزنًا ومعنى، "وجيء بالمركوب إليك لإظهار كرامتك؛ لأن من عادة الملوك إذا استزاروا حبيبًا": طلبوا زيارته، "أو استدعوا قريبًا، وأرادوا ظهور كرامته واحترامه، أرسلوا أخص خدامهم، وأعز قوامهم لنقل أقدامهم"، أي: الذين أرسل إليهم، وجمعه حملًا على أن المراد بالحبيب الجنس الصادق بالواحد والمتعدد، "فجئناك على رسم عادة الملوك"، تأنيسًا بالعادة "وآداب السلوك"، وهو في اصطلاح الطائفة عبارة عن الترقي في مقامات القرب إلى حضرات الرب فعلًا وحالًا، وذلك بأن يتحد باطن الإنسان وظاهره فيما هو بصدده، مما يتكلفه من فنون المجاهدات، وما يقاسيه من مشاق المكابدات، بحيث لا يجد في نسفه حرجًا من ذلك، "ومن اعتقد أنه يصل إليه بالخطأ": بالضم، جمع خطوة، ما بين القدمين، "فقد وقع في الخطأ": بالفتح خلاف الصواب، "ومن ظن أنه محجوب بالغطاء" بغين معجمة، "فقد حرم العطاء انتهى". "والحكمة في كون البراق"، الذي أعد له وتعلق علمه تعالى بأنه سيسري به عليه، "دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض" أو فيه حذف، أي: الحكمة في المجيء له بالبراق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 على شكل الفرس، إشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراء الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة، وذكره بقوله: أبيض، باعتبار كونه مركوبًا، أو عطفًا على لفظ البراق. واختلف في تسميته بذلك، فقيل: من البريق، وقال القاضي عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود، وقيل: من البرق؛ لأنه وصف بسرعة السير، ويحتمل أن يكون مشتقًا. ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه -بسكون الراء وبالفاء- أي يضع رجله عند منتهى ما يرى بصره، وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره في   الموصوف بما ذكر، فلا يدر أنه ليس المراد بيان حكمة خلق البراق على هذه الصورة، فحق العبارة الحكمة في المجيء له بالبراق دون فرس مثلًا، "ولم يكن على شكل الفرس" التي هي أشرف الدواب المركوبة، "إشارة" خبر الحكمة، "إلى أن الركوب كان في سلم وأمن، لا في حرب وخوف"، فإن الحرب هي التي يعتد لها نحو الفرس، وصورة البراق لم يعهد عليه قتال البتة، "أو لإظهار المعجزة"، أي: المبالغة في إظهارها "بوقوع الإسراء الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة"، لكن البياض لا دخل له فغي الحكمتين، فلعل ذكره لبيان الواقع، أو لإظهار السرور؛ لأن البياض يختار عادة لإظهاره، "وذكره بقوله: أبيض باعتبار كونه مركوبًا أو عطفًا" لغويا، أي: ميلًا، يقال: عطفت على كذا، ملت له، "على لفظ البراق"، على بمعنى إلى، ولفظ الفتح أو بالنظر للفظ البراق. "واختلف في" اشتقاق "تسميته بذلك" لقوله الآتي، ويحتمل أن لا يكون مشتقًا، "فقيل" مشتق "من البريق" اللمعان، أي: سمي بذلك للمعان بدنه لصفاء بياضه، "وقال القاضي عياض: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود". قال الحافظ: ولا ينافيه وصفه في الحديث بأنه أبيض؛ لأن البرقاء من الغنم معدودة في البيض. انتهى. ولكن اعترض بأن هذا الوصف لم يثبت للبراق، وما يأتي أن صدره ياقوتة حمراء ضعيف. "وقيل": مشتق "من البرق" ما يلمع من السحاب؛ "لأنه وصف بسرعة السير" فأشبه البرق في سيره، "ويحتمل أن لا يكون مشتقًا"، فلا يلاحظ في تسميته أخذه من مادة أصلًا، وإنما هو اسم له، "ووصفه بأنه يضع خطوه عند أقصى طرفه بسكون الراء وبالفاء" أي: نظره، "أي: يضع رجله"، بيان للمراد بخطوه، فليس المراد نفس المصدر "عند منتهى ما يرى بصره"، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السماوات في سبع خطوات. انتهى. وفي حديث ابن مسعود عد أبي يعلى والبزار -كما أفاده في الفتح-: "إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه". وفي رواية لابن سعد عن الواقدي بأسانيده: "له جناحان"، قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره.   فالطرف بمعنى البصر، فقوله: أقصى طرفه، في المكن الذي هو غاية منتهى ما يصل إليه بصره. "وقال ابن المنير: يقطع ما انتهى إليه بصره في خطوة واحدة، قال: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء، فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات"، أخبار عما وصف به في حالة عروجه؛ لأنه يرى كل سماء، وهو فيما دونها. "انتهى" كلام ابن المنير، وهو مبني على أنه عرج به على البراق أخذا بظاهر الحديث، والصحيح خلافه. "وفي حديث ابن مسعود عند أبي يعلى والبزار، كما أفاده في التح ما لفظه: "إذا أتى"، بمعنى أقبل، "على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه"، فلا مشقة على راكبه في صعود ولا هبوط. "وفي رواية لابن سعد" محمد، "عن الواقدي" محمد بن عمر بن واقد، "بأسانيده: له جناحان". "قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها لغيره"، وهو عجب مع قول الشامي قوله: "له جناحان في فخذيه يحفز بهما"، رواه ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر عن الحسن البصري مرسلًا، ورواه ابن سعد من طريق الواقدي، وابن عساكر من حديث جماعة من الصحابة، ويحفز بفتح التحتية وسكون المهملة وكسر الفاء فزاي: يحث بهما رجليه على سرعة السير. قال ابن الأثير: الحفز الحث والإعجال، ولعل سر كونهما في فخذيه لثقل مؤخر الدابة، أو؛ لأن ذلك جار على هذا الأمر في خرق العادة، أو؛ لأنهما لو كانا في جنبيه على العادة لكانا تحت فخذي الراكب، أو فوقهما، ويحصل له مشقة بضمهما ونشرهما خصوصًا مع السرعة العظيمة انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 وعند الثعلبي -بسند ضعيف- عن ابن عباس في صفة البراق: له خد كخد إنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء. وفي رواية أبي سعد في "شرف المصطفى"، فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل. وفي رواية معمر عن قتادة عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حملك على هذا، ما   "وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس في صفة البراق له خد كخد إنسان، وعرف" "بضم المهملة وإسكان الراء وقد تضم وبالفاء" "كعرف الفرس"، وهو شعره النابت في محدب رقبته، "وقوائم كالإبل"، أي: كقوائمها، "وأظلاف": بمعجمة: جمع ظلف بالكسر، للبقرة والشاة بمنزلة القدم لنا، "وذنب كالبقر" عائد لهما، أي: لها أظلاف كالبقر وذنب كالبقر، "وكان صدره ياقوتة حمراء" تشبيه بليغ، أي: كياقوتة لا أن ذاته ياقوتة بالفعل، هذا إن قرئ كان بالفعل، فإن قرئ بالتشديد والهمز، فهو تشبيه حقيقي، لكن ظاهر السياق الأول. "وفي رواية أبي سعد" هكذا في نسخة صحيحة بأداة الكنية وإسكان العين، واسمه عبد الرحمن بن الحسن الأصفهاني، النيسابوري، الحافظ المشهور، الثقة، المتوفى سنة سبع وثلاثمائة، وقد وصفه الذهي في تاريخه الحافظ، وأغفله من طبقات الحفاظ، والسهيلي يكنيه أبا سعيد بالياء، ورده مغلطاي بأنه إنما هو سعد بسكون العين، ويقع في نسخ ابن سعد، وهي خطأ لقوله: "في شرف المصطفى"، إذ هذا الكتاب إنما هو لأبي سعد عبد الرحمن، لا لابن سعد محمد، والذي في التفح وغيره أبي سعد، "فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام": بكسر الزاي مقود "البراق ميكائيل"، ولا ينافي ذلك أن جبريل كان راكبًا معه كما يأتي؛ لأنه أمسك ركابه حتى ركب، فركب أمامه. نعم يعارضه رواية: وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، رواه سعيد بن منصور والطبراني وابن مردويه، فإنه ظاهر في عدم الركوب، إلا أن يكون ذلك إخبارًا عن مبدأ سيره، ثم ركب جبريل قدامه رفقًا به، والعلم لله. "وفي رواية معمر عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجًا ملجمًا" حالان من البراق، "فاستصعب عليه"، أي: عسر وامتنع، "فقال له جبريل: ما حملك على هذا"؟، يعني أي: شيء أغراك بهذا، أي: ما منعك من الانقياد له، مع أنه أعظم من يستحق غاية التعيظم؛ لأنه "ما ركبك خلق"، أي: مخلوق، "أكرم على الله منه"، بل هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 ركبك خلق أكرم على الله منه، قال: فارفض عرقًا، أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب وصححه ابن حبان. وذكر ابن إسحاق عن قتادة: أنه لما شمس وضع جبريل -عليه السلام- يده على معرفته وقال: أما تستحيي وذكر نحوه، لكنه مرسل؛ لأنه لم يذكر أنسا. وفي رواية وثيمة عند ابن إسحاق: "نعست حتى لصقت بالأرض فاستويت عليها". في رواية للنسائي وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك عن أنس نحوه موصولًا، وزاد: وكانت تسخر للأنبياء قبله، ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق.   أكرم من ركبك على مفاد النفي عرفًا، وإن صدق لغة بالمساواة، "قال: فارفض" سال وجرى، "عرقا" منصوب على التمييز من الفاعل، ولهذا ورد مخففًا، والمعنى خجل من الاستصعاب وعرق من خجل العتاب، قاله في الآيات الباهرة، "أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، وصححه ابن حبان" من حديث أنس، وأخرجه أبو داود، والطبراني والبيهقي، وصححه من حديث شداد بن أوس. "وذكر ابن إسحاق" حيث قال: حدثت "عن قتادة؛ أنه لما شمس" بفتح المعجمة والميم فسين مهملة، أي: منع ظهره من ركوبه بامتناعه، "وضع جبريل عليه السلام يده على معرفته": بفتح فسكون ففتح موضع نبات العرف، أي: الشعر النابت على عنقه، "وقوال: أما تستحيي" وذكره نحوه"، فقال: "أما تستحيي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبكك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه، فاستحيا حتى ارفض عرقًا، ثم قر حتى ركبته"، "لكنه مرسل؛ لأنه لم يذكر أنسا"، إنما قال قتادة: حدثت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لما دنوت منه لأركبه شمس فذكره. "وفي رواية وثيمة" بمثلثة وتحتية وميم "عند ابن إسحاق: نعست" الدابة، كذا في النسخ، وهو تصحيف فالذي في الفتح وغيره، فارتعشت "حتى لصقت بالأرض، فاستويت عليها". "وفي رواية للنسائي وابن مردويه" بفتح الميم ويكسر، كما مر "من طريق يزيد" بتحتية فزاي، "ابن أبي مالك" عبد الرحمن الهمداني بالسكون، الدمشقي، القاضي، صدوق ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه "عن أنس نحوه موصولًا، وزاد وكانت تسخر للأنبيء قبله ونحوه في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن إسحاق" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء، خلاف لمن نفى ذلك، كابن دحية، وأول قول جبريل: "فما ركبك أكرم على الله منه" أي: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه؟ فيكون مثل قول امرئ القيس: على لاحب لا يهتدي لمناره فيفهم أن له منارًا لا يهتدي له، وليس المراد: إلا أنه لا منار له البتة، فتأمله. وقد جزم السهيلي بأن البراق إنما استصعب عليها لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله. قال النووي: قال صاحب مختصر العين، وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق، قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح، انتهى وقد تقدم النقل بذلك. قال في الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء.   محمد صاحب السيرة، "وفيه دلالة على أن البراق كان معدًا لركوب الأنبياء خلافًا لمن نفى ذلك كابن دحية، وأول قول جبريل: فما ركبك أكرم على الله منه، أي: ما ركبك أحد قط، فكيف يركبك أكرم منه"، فيكون من نفي الموصوف، فينتفي ذلك الوصف بانتفائه، وهي طريقة معلومة خرجوا عليها قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] ، أي: لا سؤال، فلا إلحاق، ولم يرد إثبات السؤال، ونفي الإلحاف بدليل يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، إذ التعفف لا يجامع المسألة، وقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] : لا شافع، فلا شفاعة بغير عمد ترونها، أي: لا عمدة، فلا رؤية، "فيكون مثل قول امرئ القيس على لاحب" بمهملة وموحدة، طريق واضح، "لا يهتدي لمناره"، أي: عمله، "فيفهم أن له منارًا لا يهتدي له، وليس المراد إلا أنه لا منار له البتة"، فالمراد نفي المنار من أصله لا إثبات منار انتفى عنه الاهتداء "فتأمله"؛ لأن شرط التخريج على هذا إذا وجد ما يدل عليه، وليس كذلك هنا، كيف "وقد جزم السهيلي؛ بأن البراق إنما استصعب عليه لبعد عهد ركوب الأنبياء قبله"، فصرح بأنه ليس خاصًا به، وهو من الحفاظ الكبار، وهو مثبت فيقدم على نفي تلميذه ابن دحية وإن وافقه ما "قال النووي: قال صاحب مختصر العين" الزبيدي، "وتبعه صاحب التحرير: كان الأنبياء يركبون البراق". "قال" النووي متعقبًا لهما، "وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. انتهى. وتقدم النقل بذلك قريبًا". "قال في الفتح: ويؤيده ظاهر قوله: فربطته"، أي: شددته "بالحلقة التي تربط" بكسر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 انتهى، فليتأمل فإنه ليس فيه فربطته التي تربطه بها الأنبياء، وإنما قال: تربط بها الأنبياء وسكت عن ذكر المربوط ما هو؟ فيحتمل -كما قال ابن المنير- أن يكون غير البراق، ويحتمل أن يريد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أي تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى، انتهى. ولكن وقع التصريح بذلك في حديث أبي سعيد عند البيهقي ولفظه: "فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه". وقد وقع عند ابن إسحاق من رواية وثيمة في ذكر الإسراء أيضًا: "فاستصعب البراق وكانت الأنبياء تركبها قبلي وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة". وفي مغازي ابن عائذ، من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب قال: البراق هي الدابة التي كان يزور إبرهيم عليها إسمعيل، وعلى ذلك فلا يكون ركوب   الباء وضمها لغة "بها الأنبياء، انتهى، فليتأمل، فإنه ليس فيه، فربطته بالحلقة التي تربطه بها الأنبياء" بالضمير، "وإنما قال: تربط بها الأنبياء، وسكت عن ذكر المربوط ما هو، فيحتمل كما قال ابن المنير أن يكون غير البراق"، ويصير تقديره ترتبط بها الأنبياء دوابهم، وذلك لا يستلزم كون البراق مركوبًا لهم، وهذا لا يرد على الحافظ؛ لأنه لم يقل: يؤيده قوله، إنما قال: ظاهر قوله، ولا شك أن ظاهره ربط البراق؛ لأنه المحدث عنه، وأما هذا الاحتمال فبعيد وأبعد منه قوله. "ويحتمل أن يريد ارتباط الأنبياء أنفسهم بتلك الحلقة، أي: تمسكهم بها، ويكون من جنس العروة الوثقى"، وهو متمسك المححق من النظر الصحيح؛ والرأي: القويم، كما في البيضاوي. "انتهى" كلام ابن المنير، ثم استدرك المصنف تعقبه على الحافظ؛ بأن الروايات يفسر بعضها بعضًا، فتعين أن المراد تربط بها البراق لا الدواب ولا أنفسهم، قال: "لكن وقع التصريح بذلك في حديث أبي سعيد عند البيهقي، ولظفه: "فأوثقت"، أي: ربطت "دابتي بلحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه، وقد وقع عند ابن إسحاق" في المبتدأ "من رواية وثيمة في ذكر الإسراء أيضًا، فاستصعب البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن ركبت في الفترة" التي بينه وبين عيسى، وهي ستمائة على الصحيح. "وفي مغازي ابن عائذ من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب، قال البراق: هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل". وفي أوائل الروض للسهيلي: أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 البراق من خصائصه -صلى الله عليه وسلم. نعم قيل: ركوبه مسرجًا ملجمًا لم يرو لغيره من الأنبياء عليهم السلام. فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه؟ أجيب: بأنه تنبيه على أنه لم يذلل قبل ذلك، إن قلنا: إنه لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد إن قلنا: إنه ركب قبله. ويحتمل أن يكون استصعابه تيها وزهوًا بركوبه -صلى الله عليه وسلم- وأراد جبريل "أبمحمد تستعصب"؟ استنطاقه بلسان الحال أنه لم يقصد الصعوبة وإنما تاه زهوًا لمكان الرسول عليه السلام منه، ولهذا قال: فارفض عرقًا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبريًا   وبولدها. وفي كتاب مكة للفاكهي والأزرقي: أن إبراهيم كان يحج على البراق، فهذه آثار يشد بعضها بعضًا، وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك لم أر الإطالة بإيرادها قاله الحافظ، "وعلى ذلك" كله، "فلا يكون ركوب البراق من خصائصه -صلى الله عليه وسلم". قال النعماني: ولعل النافي ركوب غيره لم يستحضر هذه الأحاديث والآثار؛ لأنه اقتصر على الحديثين، ولم أر نصًا ينفي ركوب غيره من الأنبياء عليه، ومعارضه النص بتأويل قول جبريل فيه نظر، بل ورد ما يدل على أن غير الأنبياء ركبه. ففي أوائل روض السهيلي: أن إبراهيم حمل هاجر على البراق لما سار إلى مكة بها وبولدها، وفيه أيضًا عن الطبري أوحى إلى أرمياء أن اذهب إلى بختنصر، فأعلمه أني قد سلطته على العرب، فاحمل معدًا على البراق، كي لا تصيبه النقمة، فإني مستخرج من صلبه نبيًا كريمًا أختم به الرسل، فحمله معه على البراق إلى أرض الشام انتهى. "نعم، قيل: ركوبه مسرجًا ملجما لم يروا لغيره من الأنبياء عليهما السلام"، فيحمل القول بأن ركوبه من خصائصه على ركوبه مسرجًا ملجمًا لا مطلقًا، فلا ينافي أن غيره ركبه لا بهذه الصفة، "فإن قلت: ما وجه استصعاب البراق عليه، أجيب"، أي: أجاب ابن المنير، "بأنه"، أي: وجهه، "تنبيه": إعلام، "أنه لم يذلل قبل ذلك إن قلنا: إن لم يركبه أحد قبله، أو لبعد العهد به، إن قلنا: إنه ركب قبله"، وهم قولان، أرجحهما الثاني كما علم، "ويحتمل أن يكون استصعابه تيهًا" بكسر الفوقية، وسكون التحتية، تكبرًا "وزهوا" عطف تفسير. ففي القاموس: الزهو: التيه والفخر "بركوبه -صلى الله عليه وسلم- وأراد جبريل" بقوله: "أبمحمد تستصعب استنطاقة بلسان الحال، أنه لم يقصد الصعوبة، وإنما تاه زهوًا لمكان الرسول عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، ومثل هذا رجفة الجبل به حتى قال: "أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان"، فإنها هزة الطرب لا هزة الغضب. وكذا البراق لما قال له جبريل: اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه أقر فاستقر وخجل من ظاهر الاستصعاب، وتوجه الخطاب فعرق حتى غرق. ووقع في حديث حذيفة عند الإمام أحمد قال: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق فلم يزل على ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس، وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاده، ويحتمل أن يكون قوله: "هو وجبريل" متعلقًا مرافقته في السير، لا في الركوب. وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق بمرافقته في السير، لا في الركوب، وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا مدخل لغيره فيها.   السلام منه"، أي: لوجوده عنده وإرادته ركوبه، "ولهذا قال: فارفض عرقًا، فكأنه أجاب بلسان الحال متبريًا من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب"، أي: عتاب جبريل له، "ومثل هذا رجقه الجبل" تحركه "به، حتى قال": كما في الصحيح عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحدًا، وأبو بكر، وعمر وعثمان، فرجع بهم، فقال: "أثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق" أبو بكر، "وشهيدان" عمر وعثمان، "فإنهما هزة الطرب": الفرح، "لا هزة الغضب"، فلذا قر الجبل وسكن، "وكذا البراق لما قال له جبريل: أسكن فما ركبك أحد أكرم على الله منه أقر فاستقر": سكن "وخجل من ظاهر الاستصعاب، وتوجه الخطاب" إليه بالعتاب، "فعرق حتى غرق" أي: عمه العرق، فشبه عمومه له بالغرق في الماء. "ووقع في حديث حذيفة" بن اليمان "عند الإمام أحمد، قال: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبراق، فلم يزل على ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا إلى بيت المقدس، وهذا لم يسنده حذيفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد"، ولم تبلغه الأحاديث التي فيها نزوله في أماكن قبل بيت المقدس. "ويحتمل أن يكون قوله: "هو وجبريل" متعلقًا بمرافقته في السير، لا في الركوب" إلى بيت المقدس دون نزول قبله، فلا يخالفه أحاديث نزوله قبله في أماكن، "وقال ابن دحية معناه: وجبريل قائد أو سائق، أو دليل، قال: وإنما جزمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كارمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا مدخل لغيره فيها"، وتبعه ابن المنير وغيره، والتعليل لا ينهض، فإن من جملة كرامته إكرام صاحبه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 وقد تعقب الحافظ ابن حجر التأويل المذكور: بأن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود: أن جبريل حمله على البراق رديفًا له، وفي رواية الحارث في مسنده: أتي بالبراق فركبه خلف جبريل فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه، والله أعلم. انتهى. وقد وقع غير هذه الرواية بيان ما رآه في ليلة الإسراء، فمن ذلك: ما وقع في حديث شداد بن أوس -عند البزار والطبراني، وصححه البيهقي في الدلائل- أنه أول ما أسري به مر بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل   "وقد تعقب الحافظ ابن حجر"، فقال: يرد "التأويل المذكور؛ بأن في صحيح ابن حبان من حديث ابن مسعود، أن جبريل حمله على البراق رديفًا له"، أي: جاعلًا له خلفه. "وفي رواية الحارث" بن أبي أسامة "في مسنده" عن ابن مسعود: "أتي بالبراق فركبه خلف جبريل"، وكأنه لسرعة السير، وكونه ليلًا، وكونها دابة غير مألوفة، فخفف عليه لئلا ينزعج، فلم يجعله أمامه، "فسار بهما، فهذا صريح في ركوبه معه، والله أعلم انتهى". ومعلوم تقديم صريح المنقول على مقتضى العقول، "وقد وقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه ليلة الإسراء"، قبل إتيانه بيبت المقدس، فلا يحسن إبقاء قول حذيفة استمرا على ظهر البراق حتى انتهيا إلى بيت المقدس على ظاهره، وكذا قوله في حديث مالك بن صعصعة: "ثم أتيت بدابة، فحملت عليها، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا"، لا يليق بقاؤه على ظاهره؛ لأنه مجمل، فيقضي عليه المفصل الأحاديث المذكور فيها ما رآه في ذهابه وإيابه وفي السماوات، ولما كانت ما صيغة عموم تغيد استيعاب جميع ما رآه، أتى بقوله: "فمن ذلك" لإفادة أنه لم يستوعب ذلك. "ما وقع في حديث شداد بن أوس عند البزار والطبراني، وصححه البيهقي في الدلائل؛ أنه أول ما"، أي: شيء رآه ليلة "أسري به، مر بأرض ذات نخل"، فهو أول المرئيات، أو سماه أول باعتبار قطع المسافة سريعًا، فلا يقال: بين مكة ويثرب مسافة طويلة، فلا يصدق الخبر على المبتدأ، وهو أول فعلى هذا فالخبر جملة قوله مر.. إلخ، بتقدير أنه واسمها ضمير الشأن، أو يجوز نصب أول على أنه ظرف متعلق بمر، فما مصدرية، واسم إن ضمير للنبي -صلى الله عليه وسلم- أي: أنه مر أول إسرائه بأرض، والأولية نسبية أي: إنه عد المرور أول إسرائه مع تأخره لقصر سيره فيه، وقرر شيخنا أن هذا أحسن. "فقال له جبريل": أنزل فصل"، فنزل، "فصلى"، ثم ركب "فقال له: أتدري أين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 فصل، فصلى، فقال له: أتدري أين صليت؟ صليت بيثرب، ثم مر بأرض بيضاء فقال: انزل فصل، فصلى، فقال له جبريل: صليت بمدين، ثم مر ببيت لحم فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى، فقال صليت حيث ولد عيسى.   صليت"؟، فقلت: الله أعلم، هكذا في حديث شداد نفسه قبل قوله: "صليت بيثرب"، صليت بطيبة، هكذا جمع بينهما في حديث شداد، فيثرب؛ لأنها إنما كانت مشهورة بهذا الاسم، فقصد إخباره بالمحل وطيبة، للإشارة إلى أنها تسمى به بعد حلوله فيها. وفي حديث أنس عند النسائي: أتدري أين صليت؟، صليت بطيبة وإليها المهاجر "بفتح الجيم"، فجبريل تبرع بإخباره بذلك بعد سؤاله، هل يدري المحل صلى فيه أولًا قاصدًا إدخال السرور عليه، ولم يسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه على الظاهر المتبادر. "ثم مر بأرض بيضاء، فقال: انزل فصل، فصلى"، ثم ركب، "فقال له جبريل": أتدري أين صليت؟، قال: "لا"، قال: "صليت بمدين" عند شجرة موسى، كما في خبر شداد، ومدين: "بفتح الميم، والتحتية، وإسكان المهملة بينهما" بلد ابالشام، تلقاء غزة، سميت باسم بانيها مدين بن إبراهيم ويحتمل أن المراد بشجرة موسى الشجرة التي كلمه الله عندها لما خرج من عند شعيب، بعد انقضاء الأجل، قاصدًا مصر، فنودي منها: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القص: 30] ، أو المراد الشجرة التي أوى بعد سقي الغنم للمرآتين المذكورة في قوله: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} [القصص: 24] ، فإنه كان ظل سمرة، قاله ابن عطية عن ابن عباس، وعلى هذا، ففي إطلاق مدين على بقعتها تجوز؛ لأنها بالطور، وليس هو مدين، لكنه لقربه منه سماه بذلك. وفي حديث شداد تلو قوله: عند شجرة موسى، ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال له: انزل فصل، ففعل، ثم ركب، فقال: أتدري أين صليت؟، قال: "لا"، قال: صليت بطور سيناء، حيث كلم الله موسى، فصرح بأنه صلى في الموضعين عند الشجرة وعند الجبل، وكلمه الله عندهما معًا، لكن بين التكليمين لموسى مدة طويلة، فالتكليم الأول الذي نبئ فيه كان عمره أربعين سنة، كما في ابن عطية، والثاني كان بعد غرق فرعون واستقرار الأمر لموسى بعد الأمر بالصوم وانقضاء مدة الوعد المذكورة في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] ، "ثم مر ببيت لحم: بلام مفتوحة، فمهملة ساكنة، قرية من الشام، بلقاء بيت المقدس، والمصنف اختصر الحديث، وإلا فلفظ حديث شداد عند من عزاه لهم عقب قوله: "حيث كلم الله موسى" الآية، ثم بلغ أرضًا بدت له قصور، "فقال له جبريل: انزل فصل، فصلى"، ثم ركب، وانطلق البراق يهوي به، "فقال" له جبريل: أتدري أين صليت؟، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 وفي حديث أنس عند البيهقي في الدلائل: لما جاء جبريل بالبراق إليه -صلى الله عليه وسلم- فكأنها أصرت أذنيها، فقال لها جبريل: مه يا براق، فوالله ما ركبك مثله، فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق، فقال: "ما هذه يا جبريل"؟ قال: سر يا محمد، فسار ما شار الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه منحنيًا متنحيا عن الطريق يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر، وأنه مر بجماعة فسلموا عليه فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: أردد عليهم السلام، فرد، الحديث، وفي آخره فقال له جبريل: أما العجوز التي رأيت جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز،   قال: "لا"، قال: "صليت" ببيت لحم، "حيث ولد عيسى" بن مريم. "وفي حديث أنس عند البيهقي في الدلائل: لما جاء جبريل بالبراق إليه -صلى الله عليه وسلم- استصعب عليه، "فكأنها" بسبب ذلك "أطرت أذنيها"، أي: جمعت بينهما، فهو مفرع على محذوف، وأصل الصر الجمع والشد، كما في النهاية، "فقال لها جبريل: معه"، أي: انكفي عن هذا واتركيه وانقادي له، "يا براق، فوالله ما ركبك مثله" "بكسر الكاف" ليناسب أصرت، وإن جاز فتحها، "فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو بعجوز على جنب الطريق": ناحيتها، سقط من البيهقي عن أنس، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، "فقال: "ما هذه يا جبريل:، قال: سر يا محمد"، أمره بالسير خشية أن يسمع سؤالها رقة عليها لسنها، لما جعل الله في قلبه من الرأفة والرحمة، "فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا هو بشيخ يدعوه منحنيًا" من شدة الكبر "متنحيا"، مصروفًا، مباعدًا "عن الطريق، يقول: هلم يا محمد، فقال له جبريل: سر" يا محمد، لئلا يرق له لسنه، فيقبل عليه. "و" في حديث أنس المذكور: "أنه بجماعة" في مسيره ذلك. ولفظه: وبينما هو يسير، إذ لقيه خلق من خلق الله تعالى، "فسلموا عليه، فقالوا: السلام عليك يا أول" من أسمائه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه أول الأنبياء خلقًا، وأول من قال: بلى يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} ، والأول عودًا، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وأول شافع، وأول مشفع، "السلام عليك يا آخر"؛ لأنه آخر الأنبياء بعثًا، "السلام عليك يا حاشر"؛ لأنه يحشر الناس على قدميه، أي: يقدمهم وهم خلفه، أو يسبقهم، فيحشر قبلهم، والثلاثة من أسمائه، كما مر في مقصدها، "فقال: له جبريل: أردد عليهم السلام، فرد ... الحديث""، أسقط منه، ثم لقيه الثانية، فقال له مثل ذلك، ولقيه الثالثة، فقال له مثل ذلك. "وفي آخره، فقال له جبريل: أما العجوز التي رأيت جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 والذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، أما لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، قال الحافظ عماد الدين بن كثير: في ألفاظه نكارة وغرابة. وفي رواية: أنه -صلى الله عليه وسلم- مر بموسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره، قال أنس: ذكر كلمة فقال: أشهد أنك رسول الله، ولا مانع أن الأنبياء عليهم السلام يصلون في   إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، والذي دعاك إبليس"، أراد أن تميل إليه، كما في نفس الحديث، "والعجوزالدنيا"، أي: أنها صورت لها بصورة عجوز إشارة إلى قرب انقضائها، وإلا فهي نقيض الآخر، لا صورة لها يرى فيها. "أما" "بالتخفيف" "لو أجبتها، لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة"، تجعلها نصب أعينهم، وعبادتهم دون الله، فلا يرد الله، فلا يرد أن كثيرًا من أمته، بل أكثرهم يبتغون الدنيا، ويتهالكون عليها؛ لأنهم وإن فعلوا ذلك، لكن لأغراض قامت عندهم مع اعتقاد كمال قدرة الله ووحدانيته، فلا يصدق عليهم اتباعهم للدنيا، "وأما الذين سلموا عليك، فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام"، سلموا عليه ثلاثًا، زيادة في المحبة. "قال الحافظ عماد الدين بن كثير في ألفاظه"، أي: هذا الحديث: "نكارة وغرابة"، لمخالفته لما في حديث أبي سعيد: أن جبريل أجابه بقوله: لو أجبتها ... إلخ، لما تمثلت بامرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة، خلقها الله، وأما حين تمثلها بعجوز -فأجابه بأنه لم يبق من الدنيا ... إلخ، ومن جهة تفرده بذكر لقائه لهؤلاء الثلاثة في ذهابه إلى بيت المقدس قبل دخوله. "وفي رواية" عند أبي يعلى الموصلى عن أنس، بلفظ: "أنه -صلى الله عليه وسلم- مر بموسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره". "قال أنس" روايه، "ذكر كلمة، فقال: أشهد أنك رسول الله"، بيان لكملة، ويحتمل أن الجملة غيرها، وقوله: أشهد ... إلخ، ناشئ عنها، والحديث في مسلم والنسائي وغيرهما عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره". وفي حديث ابن مسعود عند الحسن بن عرفة، والطبراني وأبي نعيم وغيرهم، رجل طوال سبط آدم، كأنه من رجال شنوأة، وهو يقول برفع صوته: أكرمته وفضلته، فدفعنا إليه، فسلمنا عليه، فرد السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل؟، قال: هذا أحمد، قال: مرحبًا بالنبي الأمي العربي، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، ودعا له بالبركة، وقال: سل لأمتك اليسر، ثم أبعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 قبورهم؛ لأنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [ألاعراف: 169] ، فهم يتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر، وسيأتي الإشارة إلى ذلك في حجة الوداع إن شاء الله تعالى. وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني والبزار: أنه عليه الصلاة والسلام مر علي قوم يزرعون ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون، في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين، ثم أتى على قوم ترضخ   عنا، فقلت: "ما هذا يا جبريل": قال: هذا موسى بن عمران، قلت: "ومن يعاتب"؟ قال: يعاتب ربه، قلت: "أيرفع صوته على ربه"؟، قال: إن الله قد عرف له حدته، فذكر الحديث، وفيه: أنه لقي إبراهيم في طريقه، ثم دخل الأقصى، وصلى بالأنبياء. قال النعماني: وفيه غرابة، "وبلا مانع أن الأنبياء عليهم السلام يصلون في قبورهم" الصلاة الشرعية، التي كانوا يصلونها في الحياة الدنيا؛ لأنهم إلى الآن في الدنيا؛ لأنهم إلى الآن في الدنيا، وهي دار تعبد، وقيل: المراد الصلاة اللغوية، أي: يدعون الله ويذكورنه ويثنون عليه، وجزم القرطبي الأول؛ لأنه ظاهر الحديث. "لأنهم {أَْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون} [الأعراف: 169] حياة حقيقة، والصلاة تستدعي جسدًا حيًا، سواء قلنا: إنها الشرعية، أو اللغوية، ولا يلزم من كونها حقيقة أن تكون الأبدان معها، كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب ونحوهما من صفات الأجسام التي نشاهدها؛ لأن ذلك عادي لا عقلي، وهذه الملائكة أحياء ولا يحتاجون إلى ذلك. "فهم يتعبدون بما يجدون من دواعي أنفسهم"، فتعبدهم بذلك لذة، أي: لذة، "لا بما"، أي: شيء، "يلزمون به"؛ لأنه لا تكليف بعد الموت، "كما يلهم أهل الجنة الذكر"، ويجدون اللذة القوية، ولا تكليف في الجنة، "وسيأتي الإشارة" القليلة "إلى ذلك في حجة الوداع إن شاء الله تعالى"، وسبق في الخصائص بأبسط مما في الموضعين. "وفي حديث أبي هريرة عند الطبراني، والبزار"، والبيهقي، وابن جرير، وأبي يعلى؛ "أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم يزرعون ويحصدون" بكسر الصاد وضمها "في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال لجبريل: "ما هذا"؟، قال: هؤلاء المجاهدون، في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمائة ضعف، وما أنفقوا من شيء، فهو يخلفه"، إخبار عن حالهم، ولم يقصد القرآن، فلا بد أن التلاوة: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ"، وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] "، والمراد أن ما يتنعمون به من فواقكه وغيرها، إذا نفذ في ذلك الوقت، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 رؤسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤسهم عن الصلاة المكتوبة، ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم، قال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر، ولحم نيئ في قدر خبيث، فجعلوا يأكلون من   جيء لهم بغيره على التوالي، وبذلك يتميزون عن غيرهم من أهل الجنة، أو أنه إخبار بأنه ما أنفقه المجاهدون يعوضون به في الدنيا سريعًا، ولا يؤخر ثوابهم للآخرة. "ثم أتى على قوم ترضخ"، أي تشدخ، كما في التقريب، وفي المصباح: تكسر "رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم" بضم أوله وفتح الفاء وشد الفوقية، أي: لا يخفف عنهم "من ذلك" الرضخ "شيء"، أو هو بفتح الياء وضم الفوقية مخففًا، أي: لا يرتفع عنهم ذلك، ولا يسهل، "فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة"، بالتساهل فيها، إما بتركها أصلًا، أو بإخراجها عن وقتها، كلا أو بعضها، "ثم أتى على قوم أقبالهم رقاع": جمع قبل، كأعناق وعنق، وهو من كل شيء خلاف دبره، قيل: سمي قبلًا؛ لأن صاحبه يقابل به غيره، "وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام" الذي في رواية البزار، والبيهقي وغيرهما، كما تسرح الإبل والغنم، "يأكلون الضريع": الشوك اليابس، أو نبات أحمر، منتن الريح، يرمي به البحر، "والزقوم": ثمر، شجر كريه الطعم، قيل: لا يعرف في شجر الدنيا، وإنما هي في النار، يكره أهل النار على أكلها، كما قال تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64] ، وفي القاموس: الزقوم كتنور الزبد بالتمر، وشجرة بجنهم، ونبات بالبادية، له زهر ياسميني الشكل، وطعام أهل النار. وأخرج ابن جرير عن قتادة، قال: قال أبو جهل: زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد، فأنزل الله: حين عجبوا أن يكون في النار شجرة: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} . "ورضف جهنم": بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء الحجارة المحماة، واحدها رضفة بسكون الضاد وتفتح: "قال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون زكاة أموالهم، وما ظلمهم الله" شيئًا، "وما الله بظلام"، أي: بذي ظلم "للعبيد"، فيعذبهم بلا ذنب. "ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج": مستو "في قدر، ولحم نيئ"، بالهمز، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: "ما هؤلاء يا جبريل"؟ قال جبريل: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالًا طيبا، فتأتي رجلًا خبيثًا فتبيت عنده حتى تصبح، ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، قال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، وهو يريد أن يحمل عليها، ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة، قال: ثم أتى على   وزان حمل كل شيء شأنه أن يعالج بطبخ، أو شيء لم يطبخ، فيقال: لحم نيئ والإبدال والإدغام عامي "في قدر خبيث" بالرفع نعت لحم، "فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث، ويدعون النضيج، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟، قال جبريل: هذا الرجل من أمتك، تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح"، ولعله قيد بأمته؛ لأن لغيرهم عذابًا أعظم من هذا، أو؛ لأن الغرض إعلامه بما أعد لمرتكبي ذلك لينكفوا عنه، "والمرأة تقم من عند زوجها حلالًا طيبًا، فتأتي رجلًا خبيثًا عنده، حتى تصبح"، ولعل التقييد بذلك؛ لأنه الأغلب، والمراد الزنا، وإن لم يكن بيات حتى الصباح، ويؤيده أن الحافظ اختصر الحديث بقوله: قال: هؤلاء الزناة. "ثم أتى على رجل قد جمع حزمة": بضم فسكون ما حزم من أي شيء، وفي فتح الباري: حزمة حطب، "عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها" أي: بضم إليها غيرها، "قال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده"، أي: في جهته، "أمانات الناس، لا يقدر على أدئها"، أي: الخروج من عهدتها، فدخل فيها ما تحت يده كوديعة، وما وكل على بيعه، وما تحت يده من مال يتيم ونحوه، وما فوض إليها كإمامة، وخطابة وغيرهما من المناصب الشرعية، مما لا يوصف بكونه تحت يده حسا، "وهو يريد أن يحمل"، أي: يزيد "عليها" ما يحتاج إلى حمله معها، مع عدم قدرته على حمل الأولى. "ثم أتى على قوم تقرض": تقطع "ألسنتهم وشفاههم": جمع شفة مخففة "بمقاريض": حمع مقراض بكسر الميم، "من حديد، كلمات قرضت عادت كما كانت، لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: "ما هذا يا جبريل"؟:، قال: هؤلاء خطباء الفتنة"، أي: الذين يقولون ما لا يفعلون، فيفتنون الناس بذلك لعدم مطابقة قولهم لفعلهم، وأسقط من الرواية خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون، والمراد بالخطباء كل من تصدى لتعليم العامة ما طلب منهم، ونهيهم عما نهوا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 جحر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها. ثم أتى على واد فوجد فيه ريحًا طيبة باردة، كريح المسك، وسمع صوتًا، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول: رب آتني بما وعدتني، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي، ومرجاني وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي، ومراكبي، وعسلي   فدخل العالم الواعظ وغيرهما. "قال: ثم أتى على جحر": بضم الجيم وسكون المهملة، ثقب مستدير، "صغير يخرج منه ثور عظيم": بمثلثة، ذكر البقر، "فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج، لا يستطيع، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة"، من سخط الله، "ثم يندم عليها، فلا يستطيع أن يردها" لعدم إمكانه. "ثم أتى على واد، فودد فيه ريحًا طيبة باردة، كريح المسك، وسمع صوتًا، فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت الجنة، تقول" بلاسان القال على الظاهر المتبادر، فلا مانع من أن يخلق لها إدراك ونطق، "رب آتني" بالمد، "بما وعدتني"، بزيادة الباء في المفعول، كقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] ؛ لأن آتى يتعدى بنفسه، كقوله: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك} [البقرة: 251] ، "فقد كثرت غرفي": بالضم، جمع غرفة، وهي العلية، "واستبرقي" ثخين الديباج، وفي البيضاوي: ثخين الحرير، "وحريري" عطف عام على خاص، "وسندسي" رقيق الديباج، "وعبقري"، قيل: هو الديباج، أو البسط الموشية، أو الطنافس الثخان، وأصله فيما قيل: إن عبقر قرية يسكنها الجن، فيما يزعمون، فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريبًا، مما يصعب علمه ويدق، أو شيئًا عظيما في نفسه، نسبوه إليها، فقالوا: عبقري. وفي القاموس: العبقري الكامل في كل شيء، والسيد الذي ليس فقوه شيء، وعليه فالمراد هنا، وكثرت نفائسي الكاملة من ثياب وغيرها، ويكون من ذكر العام بعد الخاص، "ولؤلؤي" بهمزتين، وبحذفهما، وبإثبات الأولى دون الثانية، "ومرجاني"، قال الأزهري وغيره: هو صغار اللؤلؤ. قوال الطرسوسي: هو عروق حمر، تطلع من البحر كأصابع الكف، قال: وهكذا شاهدناه بمغارب الأرض، "وفضتي، وذهبي وأكوابي": جمع كوب إناء لا عروة له ولا خرطوم، "وصحافي": جمع صحفة إناء كالقصعة، "وأباريقي" جمع أبريق إناء له عروة وخرطوم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 ومائي ولبني وخمري، فائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا، ولم يشرك بي شيئًا، ولم يتخذ من دوني أنددًا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جازيته، ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله، لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين، قالت: قد رضيت، ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا، ووجد ريحا منتنة فقال: "ما هذا يا جبريل"؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول: رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حري، فآتني بما وعدتني، قال: لك كل   "ومراكبي": ما يركب، "وعسلي، ومائي، ولبني وخمري" بالأنهار الأربعة، "فأتني بما وعدتني". "قال: لك كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي، وبرسلي، وعمل صالحًا" الطاعات، "ولم يشرك بي شيئًا"، بل لا يرائي أحدًا بعبادته لي، وحلمناه على هذا ليغاير قوله: "ولم يتخذ من دوني اندادًا" شركاء يخصهم بالعبادة، "ومن خشيني"، خافني مع الإجلال، "فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني" بإنفاقه في سبيلي لأجلي، "جازيته" جزاء مضاعفًا، كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ، "ومن توكل علي كفيته، إنني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد"، الوعد بالبعث والجزاء، "وقد" للتحقيق "أفلح" فاز "المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين"، أي: المقدرين، بزنهة اسم الفاعل، ومميز أحسن محذوف للعلم به، أي: خلقًا "قلت" الجنة: "قد رضيت ثم أتى على واد، فسمع صوتًا منكرًا" ينكره سامعه لعدم سماع نظيره في الأصوات المعتادة لشناعته وقبحه، "ووجد ريحًا منتنة": بضم الميم وكسر التاء اسم فاعل من أنتن كذا، ويجوز كسر الميم للاتباع، وضم التاء اتباعًا للميم، قليل كما في المصباح، "فقال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا صوت جهنم تقول" بلسان القال: "رب آتني ما وعدتني، فقد كثرت سلاسلي": جمع سلسلة، "وأغلالي": قيودي، "وسعيري": ناري، وسعرتها وأسعرتها: أوقدتها، وحميمي": مائي الحار غاية الحرارة، "وغساقي": بخفة السين وتثقيلها، أي: ما يسيل: ويخرج مني، لشدة حرارتي. وفي البيضاوي وغيره: الغساق أن يسيل من صديد أهل النار، فإنهم يذوقونه، "وعذابي وقد بعد قعري، واشتد حري، فآتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة"، عطف عام على خاص؛ لأن المشرك إذا جمع مع الكافر أريد به من جعل لله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل جبار عنيد لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت، قال: فسار حتى أتى بيت المقدس. وفي رواية أبي سعيد عند البيهقي: "دعاني داع عن يميني: انظرني أسألك، فلم أجبه، ثم دعاني آخر عن يساري كذلك فلم أجبه، وفيه: إذا امرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه أن جبريل قال له: أما الداعي الاول فهو داعي اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك، وأما الثاني فداعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا، وفيه: أنه صعد إلى السماء الدنيا ورأى فيها آدم، وأنه رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم نتن عليها ناس يأكلون، قال   شريكًا كعباد الأوثان، والكافر يشمل ذلك وغيره، "وكل جبار" كافر "لا يؤمن بيوم الحساب" يوم القيامة"، "قالت: قد رضيت، قال: فسار حتى أتى بيت المقدس"، وفي نسخة: أتيت، أي: فسار بي حتى أتيت. "وفي رواية أبي سعيد" الخدري سعد بن مالك بن سنان، "عند البيهقي"، وابن جرير، وابن أبي حاتم، مردويه: "دعاني آخر عن يساري": يا محمد، انظر لي أسألك، كما في الرواية، واختصرها بقوله: "كذلك، فلم أجبه، وفيه"،أي: حديث أبي سعيد المذكور، وبينما هو يسير "إذا امرأة حاسرة": كاشفة "عن ذراعيها" اسم فاعل من حسر، إذا كشف، "وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى، فقالت: يا محمد، انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، وفيه"، أي: الحديث المذكور، "أن جبريل قال له: أما الداعي الأول" الذي هو عن يمينه، "فهو داعي اليهود، ولو أجبته لتهودت أمتك"، لعل حكمة ذلك لو وقع أن الله جعل إجابته سببًا لذلك في سابق علمه، وكذا يقال في قوله. "وأما الثاني فداعي النصارى، ولو أجبته لتنصرت أمتك، وأما المرأة فالدنيا"، أما أنك لو أجبتها، اختارت أمتك الدنيا على الآخرة، هكذا في حديث أبي سعيد، المذكور وتصورت له أيضًا بصورة عجوز، إشارة إلى قلة ما بقي منها كما مر. "وفيه": أي: الحديث المذكور، "أنه صعد إلى السماء الدنيا، ورأى فيها آدم، وأنه" بعد اجتماعه، بآدم، مضى هنيهة، و"رأى أخونة": جمع خوان بكسر المعجمة وضمها، الذي يؤكل عليه، وقال الخليل: هو المائدة "عليها لحم طيب، ليس عليها أحد" يأكل منها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 "يا جبريل: ما هذا"؟ قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام، وفيه: أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر، وأن جبريل قال له: هم أكلة الربا، وأنه مر بقوم مشارفهم كالإبل يلتقمون حمرًا، فيخرج من أسافلهم، وأن   "وأخرى عليها لحم نتن، عليها ناس يأكلون"منها، "قال: يا جبريل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام"، وفي لفظ عند البيهقي أيضًا وغيره: فإذا هو بأقوام على مائدة لحم عليها شوى كأحسن ما رؤي من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف، يأكلون منها، ويدعون اللحم، فقال: "من هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء الزناة، يحلون ما حرم الله عليهم، وتركوا ما أحل الله لهم. "وفيه"، أي: حديث أبي سعيد المذكور؛ "أنه مر بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خر": سقط من قيام، "وأن جبريل قال له" جوابًا لقوله: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: "هم أكلة الربا"، أي: الذين يتناولون من الأموال ما أخذوه على وجه الربا، وهو خاص بالمطعومات والنقود، إذا أخذت بالعقد المسمى بعقد الربا، بأن اشتمل أحد العوضين يه على زيادة، أو تأخير في البدلين، أو أحدهما، وخرج بذلك المأخوذ بعقود فاسدة، كفقد رؤية، أو شرط فاسد مع انتفاء الربا عنها، فلا يكون لفاعها ذلك الوصف، وإن أثم، ولم يملك ما أخذه. وقد أفاد المصنف أنه اختصر الحديث، وهو كذلك، ولفظه في هذه الجملة، ثم مضى هنيهة، فإذا هو بقوم بطونهم مثال البيوت، فيه الحيات ترى من خارج بطونهم، كلما نهض أحدهم خر، يقول: اللهم لا تقم الساعة، وهم على سابلة آل فرعون، فتجيء السابلة فتطؤهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى، فقال: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: هؤلاء من أمتك، الذين يأكلون الربا، لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والسابلة أبناء السبيل المختلفة، وجعلوا بطريق آل فرعون يمرون عليهم غدوا وعشيًا؛ لأن آل فرعون هم أشد الناس عذابًا، يطؤنهم فضلًا عن غيرهم من الكفار، وهم لا يستطيعون القيام، ومعنى ذلك؛ أن الله وقف أمرهم بين أن ينتهوا، فيكون جزاء لهم، وبين أن يعودوا ويصروا، فيدخلهم النار واستشكل بأن هذه الحالة إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة، فآل فرعون قد دخلوا أشد العذاب، وإنما يعرضون على النار غدوا وعشيًا في البرزخ، وإن كانت هذه الحال التي رآهم عليها، فأي: بطون لهم، وقد صاروا عظامًا ورفاتا، ومزقوا كل ممزق، وأجيب بأنه إنما رآهم في البرزخ؛ لأنه حدث عما رأى، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت، وفيه تصحيح لمن قال: الأرواح أجسادًا لطيفة، قابلة للنعيم والعذاب، فخلق الله تعالى في تلك الأرواح من الألم ما يجده من انفتخ بطنه حتى وطئ بالأقدام، ولا يستطيع معه قيامًا، ولا دليل فيه على أنهم أشد عذابًا من آل فرعون، بل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 جبريل قاله له: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا، وأنه مر بنساء يعلقن بثديهن وأنهن الزواني، وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم فيطعمون، وأنهم الغمازون اللمازون.   فيه دليل على أن آل فرعون وغيرهم من الكفار الذين لا يأكلون الربا يطؤونهم ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم ينادي منادي الله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ، ذكره السهيلي؛ "وأنه مر بقوم مشافرهم": بفتح الميم، وخفة المعجمة، فألف ففاء مكسورة فراء، أي: شفاههم، "كالإبل"، لفظ الرواية: كمشافر الإبل، وعبر عن شفاههم بذلك مجازًا، إذ يقال: شفة الإنسان، ومشفر البعير: وجحفل الفرس، "يلتقمون جمرًا، فيخرج من أسافلهم". وفي رواية: يجعل في افواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى؛ "وأن جبريل قال له" جوابًا لقوله: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: "هؤلاء: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا، إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] ، كما في بقية جواب جبريل. "وأنه مر بنساء يعلقن بثديهن": بضم المثلثة، ويقال بكسرها وكسر المهملة، جمع ثدي يذكر ويؤنث، فيقال: هو الثدي، وهي الثدي، وهو معروف، "وأنهن الزواني"، يجوز أنه رأى أرواحهن، وقد خلق فيها من الآلام ما يجده من هذه حاله، وأن يكون مثلث له حالهن في الآخرة، قاله السهيلي. ولفظ الحديث: ثم مضى هنيهة، فإذا هو بنساء معلقات بثديهن، ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعهن يضججن إلى الله، فقال: "من هؤلاء يا جبريل"؟، قال: هؤلاء اللاتي يزين ويقتلن أولادهن. "وأنه مر بقوم يقطع من جنوبهم اللحم، فيطعمون، وأنهم الغمازون"، كذا في نسخ بغين معجمة، أي: المشيرون بأعينهم أو حواجبهم لمعايب الناس، ولما فيه ضررهم، لكن لفظ الرواية: الهمازون، بالهاء بدل الغين، وهم الذين يغتابون الناس بلا مواجهة، "اللمازون": العيابون، كما في الشامي، أي: الذين يكسرون من أعراض الناس. قال البيضاوي: اللمز: الكسر كالهمز، شاعا في كسر أعراض الناس، والطعن فيهم. ولفظ الحديث: ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم، فيلقمون، فيقال له: كل كما كنت تأكل لحم أخيك، فقال: "يا جبريل من هؤلاء"؟، قال: هؤلاء الهمازون، من أمتك اللمازون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 وفي حديث أبي هريرة -عند البزار والحاكم- أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتي هناك بأرواح الانبياء فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم: لقد فضلكم محمد. وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس: ثم بعث له آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة. وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى: ونشر لي رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى. وفي رواية أبي سملة ثم حانت الصلاة فأممتهم، أخرجه مسلم.   "وفي حديث أبي هريرة عند البزار، والحاكم" والبيهقي: "أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ببيت المقدس" قبل صعوده كما هو، سياق الحديث عند الثلاثة ولفظه: ثم صار إلى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى صخرة بيت المقدس، ثم دخل، فصلى "مع الملائكة"، ويأتي أنه صلى بالأنبياء أيضًا، "وأنه أتى هناك بأرواح الأنبياء، فأثنوا على الله -وفيه"، أي: الحديث، "قول إبراهيم"، لما أثنى نبينا على ربه، بعد ثناء الأنبياء، "لقد فضلكم محمد"، أي: زاد عليكم، وتميز بما أثنى به على ربه، قال ذلك إبراهيم إظهارًا لشرف المصطفى وفضله، وليس ضميرًا فيه عائدًا لما أثنوا به كما توهم؛ لأن ثنائهم إنما كان على الله، والمصنف، اختصر الحديث هنا، وسنذكره تامًا عن قريب. "وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم، عن أنس"، عند الطبراني والبيهقي، "ثم بعث له آدم"، أي: أمر بالمجيء إليه، "فمن دونه" من الأنبياء، كما في نفس حديث أنس، "فأمهم تلك الليلة"، أي: صلى بهم إمامًا. "وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى، ونشر"، أي: سيق "لي رهط من" جملة "الأنبياء"، وجمعوا حولي، عبر عن ذلك بالنشر إشارة إلى كثرتهم وتفرقهم، "منهم: إبراهيم وموسى وعيسى"، أو المعنى: أخرجوا من قبورهم عبر عنه بالنشر، تشبيهًا له ببعثهم من قبورهم وسعيهم إلى المحشر وحضورهم فيه، ويحتمل أن المراد جميع الأنبياء، مأخوذ من نشر الراعي غنمه نشرًا، من باب قتل إذا بثها، ولا ينافيه لفظ رهط من الأنبياء، لجواز أن من للبيان، وسماهم رهطًا، نظرً لقلتهم بالنسبة لغيرهم من الناس، هذا وإن كان بعيدًا لكن الحامل عليه الجمع بينه وبين قوله في الحديث: قبله آدم، فمن دونه من الأنبياء. "وفي رواية أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدًا -صلى الله عليه وسلم. وفي رواية ثابت البناني عن أنس عند مسلم قال: "فربطته"، يعني البراق، بالحلقة -وهي بإسكان اللام على الأشهر- التي تربط به الأنبياء بتذكير الضمير، إعادة على معنى الحلقة وهو الشيء، والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير- قال عليه السلام: "ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم   أبي هريرة، رفع، "ثم حانت الصلاة"، أي: دخل وقتها، ويأتي للمصنف الخلاف في أنها الصبح، أو العشاء، ويأتي تضعيفهما، وأن الأظهر أنها من النفل المطلق، أو من الفرض الذي كان قبل الخمس، فالمراد بحانت الصلاة، دخل الوقت المأمور بالصلاة فيه، "فأممتهم": صليت بهم إمامًا، "أخرجه مسلم". "وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط: ثم أقيمت الصلاة"، أي: تهيؤا وقاموا لها، لا الإقامة المشروعة الآن؛ لأنها إنما شرعت بالمدينة، "فتدافعوا"، أي: منع كل نفسه الإمامة بعد أن طلب منه أن يكون إمامًا، وطلب من غيره التقدم عليه، "حتى قدموا محمدً -صلى الله عليه وسلم"، لا ينافيه حديث ابن مسعود الآتي: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل بيدي، فقدمني، فصليت بهم المفيد، ظاهره أنهم لم يتدافعوا، ولم يقدموه؛ لأن انتظار من يؤم لا ينافي تدافعهم، أي: قول بعضهم لبعض تقدم أنت مثلًا، ولما قدمه جبريل رضوا به، فنسب هنا تقديمه إليهم لرضاهم به وسرورهم. وفي رواية ثابت البناني عن أنس"، رفعه "عن مسلم"، قال: "أتيت بالبراق"، فوصفه، "قال": "فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته" "فربطته، يعني البراق"، تفسير من المصنف لإسقاطه أول الحديث كما ترى، "بالحلقة، وهي بإسكان اللام على الأشهر"، وقد تفتح لامها وتكسر، أو ليس في الكلام حلقة بفتح اللام، إلا جمع حالق، أو لغة ضعيفة، حكاه القاموس: "التي تربط به الأنبياء" البراق، كما رواه البيهقي لأدوابهم، كما توهمه بعض، وقد تقدم. قال النووي: قوله به كذا في الأصول، "بتذكير الضمير إعادة"، أي: إرجاعًا للضمير، مذكرًا حملًا "على معنى الحلقة، وهو"، أي: المعنى "الشيء"، وإلا فكان الظاهر أن يقول بها؛ لأن الحلقة مؤنثة تأنيثًا لفظيًا. وقال غيره: روي بالتأنيث والتذكير في مسلم والشفاء، "والمراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، قاله صاحب التحرير"، أي: بابه المعهود المعروف، وإن كان للمسجد أبواب متعددة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 "خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة". أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة، وبه نبت اللحم ونشز العظم،   وعند البيهقي، والطبراني والبزار من حديث شداد: ودخل المدينة، من بابها اليمني، ودخل المسجد من باب يميل فيه الشمس والقمر. وروى الواسطي في فضائل بيت المقدس عن الوليد بن مسلم، قال: حدثني بعض أشياخنا، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى عن يمين المسجد، وعن يساره نورين ساطعين، فقال: "يا جبريل ما هذان النوران"؟، قال: أما الذي عن يمينك فإن محراب أخيك داود، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم. "قال عليه السلام" في رواية مسلم، عن ثابت، عن أنس: "ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين"، غير الصلاة التي صلاها بالأنبياء: كما صرح به في حديث ابن مسعود الآتي، ومن ثم قيل: يحتمل أنها تحتية المسجد وأنها غيرها، "ثم خرجت" بعد صلاته بالأنبياء، الواقعة بعد هذين الركعتين، كما صرح به حديث أبي هريرة، ثم حانت الصلاة، فأممتهم، رواه مسلم. وعند ابن إسحاق، عن أبي سعيد، فصلى بهم، أي: الأنبياء ثم أتي بإناء فيه لبن ... إلخ، فعرض الأواني إنما كان بعد صلاته بالأنبياء، ففي هذا السياق اختصار، فليس المراد أنه خرج من المسجد بعد صلاة الركعتين، بل بعد صلاته بالأنبياء. "فجاءني جبيل عليه اللام بإناء من خمر، وإناء من لبن"، فلم يقع في رواية مسلم هذه، وإناء من عسل، خلاف ما يوجد في نسخ سقيمة من المصنف، وإناء من عسل بعد قوله: من خمر، نعم هو ثابت في غير ما رواية، فلس النزاع في أنه أتي بإناء فيه عسل، إنما هو في العز. ولمسلم ما ليس فيه في روايته من طريق ثابت عن أنس مرفوعًا بلا وسطة، "فاخترت"، وفي رواية، فأخذت، "اللبن، فقال جبيل: اخترت" وفي رواية: أخذت "الفطرة" "بكسر الفاء". قال ابن دحية: تطلق الفطرة على الإسلام، كخبر كل مولود يولد على الفطرة، وتطلق على أصل الخلقة، كقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] ، و {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يوسف: 101] ، أي: مبدئ خلقهما، وقول جبريل: اخترت الفطرة، "أي: اخترت اللبن الذي عليه"، أي: بسببه، "بنيت الخلقة"، وبين بناءها عليه بقوله: "وبه نبت اللحم ونشز": "بزاي منقوطة" أي: ارتفع "العظم" وغلظ، "واخترته؛ لأنه الحلال الدائم"، هو "في دين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 واخترته؛ لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام بخلاف الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر. وقال النووي: المراد بالفطرة هنا، في قول جبريل: أخذت الفطرة الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه -والله أعلم-: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا طارهًا سائغًا للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث، وجالبة الأنواع الشر في الحال والمآل. انتهى.   الإسلام" فاستتر الضمير الفاعل، وحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، أي الدائم حله كـ {عِيشَةٍ رَاضِيَة} [الحاقة: 21] ، "بخلاف الخمر، فحرام فيما يسقر عليها الأمر". وقد روى أبو يعلى، والبزار من حديث أبي هريرة: أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء، فشرب منه قليلًا، وفي لفظ: فلم يشرب منه شيئًا، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن، فشرب منه حتى روي منه، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب، قال: "لا أريده قد رويت"، فقال جبريل: أما إنها ستحرم على أمتك". قال ابن دحية أيضًا: وقد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أنه شعار العلم في التعبير، كما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت كأني أتيت بقدح من لبن، فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: يا رسول الله ما أولته، قال: العلم" والإسراء، وإن كان يقظة، إلا أنه ربما وقعت في اليقظة إشارة إلى حكم الفأل، فيعبر كما يعبر في المنام، ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل الحسن، فكأنه لما لمئ قلبه إيمانا وحكمة، أردف ذلك بالعلم مطلقًا ويجعل الله تعالى شرب ذلك اللبن سببًا في ترادف العلوم، وإشحان القلب النبوي بأنوارها. "وقال النووي: المراد بالفطرة هنا في قول جبريل: أخذت الفطرة الإسلام والاستقامة"، وبه فسرت الآية، أي: بملة الإسلام، فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه، لأدى بهم إليها، وفسرت أيضًا بخلقته التي خلقهم عليها، وهي قبولهم للحق، وتمكنهم من إدراكه، وبالعهد المأخوذ من آدم وذريته. "قال: ومعناه، والله أعلم، اخترت علامة الإسلام، و"علامة "الاستقامة" بالجر، ففيه حذف مضاف، إذ شرب اللبن ليس هو هما، "قال: وجعل اللبن علامة لكونه سهلًا طيبًا" لذيذًا، "طاهرا" لا يشوبه شيء من الفرث والدم من لون، أو طعم أو ريح، وهو بينهما "سائغا للشاربين" سهل المرور في حلقهم، لا يغص به، "سليم العاقبة" في الحالة والمآل، وهذا كله تعليل لجعله علامة الإسلام والاستقامة. "أما الخمر، فإنها أم الخبائث" كما ورد مرفوعًا عند القضاعي، بلفظ الخمر أم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 وقال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة لكون أول شيء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفًا له أولًا، انتهى. وإذا كانت الخمرة مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة والإسراء كان بمكة، فما وجد تعيينه عليه السلام لأحد المباحين، وما وجه عد ذلك صوابًا وعد الآخر خطأ، وهما سواء في الإباحة؟ فيحتمل أن يكون توقاها تورعًا وتعريضًا بأنها ستحرم، وأنه لما وافق الصواب في علم الله تعالى قال له جبريل: أصبت الفطرة، أو أصبت أصاب الله   الخبائث، أي: أصلها الذي تنشأ عنه لحملها الشارب على مجاوزة الحدود، "وجالبة لأنواع الشر في الحال والمآل. انتهى". وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته"، رواه الطبراني. "وقال القرطبي" شارح مسلم في المفهم: "ويحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة، لكونه أول شيء يدخل جوف المولود، ويشق أمعاءه، والسر"، أي: السبب "في ميل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره لكونه مألوفًا أولًا"، ولكونه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، "انتهى" كلام القرطبي بما زدته. وحقيقة السر ما يكتم، وهو خلاف الإعلان، فإطلاقه على السبب مجاز مرسل من تسمية الجزئي باسم الكلي، "وإذا كانت الخمر مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة، والإسراء كان بمكة"، وجواب إذا الشرطية قوله: "فما وجه تعيينه عليها سلام لأحد المباحين"، باختياره الشرب منه، "وما وجه عد ذلك صوابًا، وعد الآخر خطأ، وهما سواء في الإباحة"، وفرع على ذلك بجواب شرط هو، وإذا أردت بيان الوجه، "فيحتمل أن يكون توقاها تورعًا" لما في تنافي تناوله الغائلة المتوقعة، وإن كان مباحًا، ولا خلاف أن مثل هذا الورع يثاب عليه، قال ابن المنير، "وتعريضًا بأنها ستحرم"، ولعل سبب التعريض، انه أوحى إليه بذلك، ولو بالإلهام، فتركها تنبيهًا على أن حلها لا يستمر، "وأنه لما وافق الصواب في علم الله تعالى، قال له جبريل: أصبت الفطرة، أو أصبت، أصاب الله بك، كما رويا" الأول في الصحيح، والثاني في غيره. قال ابن المنير: فدل قول جبريل ذلك على أن اختيار الخمر خطأ عصم منه -صلى الله عليه وسلم-، وأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 بك، كما رويا، وإن قلنا: أنها كانت من خمر الجنة، فيكون سب تجنبها صورتها ومضاهاتها الخمر المحرمة، أي في علم الله تعالى، وذلك أبلغ في الورع. ويستفاد منه: أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره، ولو ماء قراحًا، وضاهى به الخمر في الصورة وهيأه في الهيآت التي يتعاطاها أهل السماعات الشهوات من الاجتماعات فقد أتى منكرًا، وإن كان لا يحد عليه، قاله ابن المنير.   المسألة اجتهادية؛ لأن الخمر لم تكن حرمت، قال: وفيه دليل على المذهب المشهور لمالك والشافعي، وغيرهما أن المسائل الاجتهادية لله فيها حكم معين، من أصابه فقد أصاب الحق، ومن أخطأه الحق، خلافًا للقول؛ بأن حكم الله على كل مجتهد ما غلب على ظنه انتهى. وفيه إفادة وجه، كون اختيار الخمر خطأ، وهو أن حكم الله فيها تحريمها بعد أبدًا، وإن كانت مباحة حينئذ لأمور خفيت علينا، ثم الخمر المحضرة، أنها من خمر الدنيا، وأنها من خمر الجنة التي لا يصدعون عنهان ولا ينزفون، فإذا قلنا: من خمر الدنيا، فوجه تجنبها ما تقدم. "وإن قلنا: إنها"، أي الخمر المحضرة له، "كانت من خمر الجنة، فيكون سبب تجنبها، صورتها، ومضاهاتها" مشابهتها "الخمر المحرمة، "أي: في علم الله تعالى، وذلك أبلغ في الورع"، فإن قلت: فيلزم اجتنابها في الجنة تورعًا من صورتها، قلت: لا يلوم؛ لأن الجنة ليست دار تكاليف، قاله ابن المنير. "ويستفاد منه؛ أن من اتخذ من ماء الرمان أو غيره" شيئًا يستعمله على الصفة المعتادة بين شربة الخمر، "ولو ماء قراحًا": صرفا، "وضاهى به الخمر في الصورة وهيأه في الهيئات التي يتعاطاها أهل السماعات"، لفظ ابن المنير أهل الشهوات من الاجتماعات، فقد أتى منكرًا، وإن كان لا يحد عليه". قال، أعني ابن المنير: وقد نص العلماء على هذا، فينبغي أن يؤخذ من حديث الإسراء كما بيناه، "قاله ابن المنير" في المقتفى فيما لخصه المصنف منه فأحسن، وإلا فهو قد أتى بعبارة طويلة استطرد فيها فوائد نفيسة على عادته، وأورد قبل ذك إحضار الخمر واللبن، هل أريد إباحتها معًا أو أحدهما؟، لا بعينه، وعلى كل فمشكل؛ لأنه إن كان المراد إباحتهما معًا، كما لو أحضرت طعامين لضيف، وأبحتهما له، فما معنى اختياره لأحدهما، وتصويت جبريل له، وإن كان في أحدهما لا بعينه، بحيث يكون الآخر ممنوعًا، لزم التخيير بين ممنوع ومباح، وذلك لا يتصور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 وينظر فيما يعمله كثير من فقراء اليمن بمكة المشرفة وجدة وغيرهما من ماء قشر اللبن ويسمونه بالقهوة، وهو اسم من أسماء الخمر. وفي حديث ابن عباس -عند أحمد-: فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين في أحدها لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن. وفي رواية البزار: بثلاث أوان، وأن الثالث كان خمرًا، وأن ذلك وقع ببيت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل. وفي حديث شداد بن أوس: "فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني   قال: والذي يرفع الإشكال؛ أن المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحم، وتحليل ما يحل إلى اجتهاده -صلى الله عليه وسلم-، وسداد نظره المعصوم، فلما نظر فيهما أداه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن، فوافق الصواب في حكم الله تعالى، فقال له جبريل: أصبت، وفيه اجتهاده فيما لم يوح إليه فيه، وهي مسألة خلاف، وهذا الحديث يحقق الجواز مع اتفاق المسلمين على أن اجتهاده معصوم، من الخطأ بخلاف غيره من العلماء. "وينظر فيما يعلمه كثير من فقراء اليمن بمكة المشرفة وجدة": بضم الجيم، ساحل البحر بمكة، "وغيرهما من ماء قشر البن"، ثم صاروا بعد ذلك يعملونه من البن أيضًا، ويسمونه بالقهوة، وهو اسم من" أشهر "أسماء الخمر"، هل يحرم تناوله لتسميتهم بالخمر، فكأنهم شهبوه بها، وجوابه لا حرمة؛ لأنه لا يشرب على الهيئة التي يشرب عليها الخمر، ومجرد تسميته قهوة لا يقتضي أن يعطى حكمها. "وفي حديث ابن عباس عند أحمد؛ فلما أتى المسجد الأقصى، قام يصلي، فلما انصرف" من صلاته بالأنبياء، "جيء بقدحين، في أحدهما لبن، وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن"، وهاذ موافق لرواية مسلم؛ أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ومر لفظه قريبًا. "وفي رواية البزار" من حديث أبي هريرة، أنه جيء له "بثلاث أوان، وأن الثالث كان خمرًا، وأن ذلك وقع ببت المقدس، وأن الأول كان ماء، ولم يذكر العسل"، وأخرجه ابن عائذ من هذا الوجه في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال لي جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك، فتناولت إحداها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر، فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت، قال: ألا تشرب من الثالث، قلت: قد رويت، قال: وفقك الله". "وفي حديث شداد بن أوس" عند البزار، والطبراني، والبيهقي: "فصليت" في جانب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 "من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن والآخر عسل، ثم هداني الله فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدي -يعني لجبريل-: أخذ صاحبك الفطرة". وقد كان إتيانه بالأواني مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤية الأنهار الأربعة. وممن صرح بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير، وعلى هذا فيكون   "من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشد ما أخذني، فأتيت بإناءين أحدهما لبن، والآخر عسل"، فعدلت بينهما، هكذا في الحديث قبل قوله: "ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يدين" أسقط من الرواية، متكئ على منبر له، "يعني لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة"، وإنه لمهدي، كما في بقية حديث شداد. وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين: أتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة أسري به بإيلياء بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك. وفي حديث أنس عند البيهقي: فعرض عليه الماء والخمر واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، لو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغويت أمتك. قال الحافظ: ويجمع بين هذا الاختلاف في عدد الآنية وما فيها، بحمله على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، فلعله عرض عليه من كل نهر إناء، انتهى، وسيأتي هذا في كلام المصنف. وأما الاختلاف، أن عرض الأواني في بيت المقدس، أو بعد سدرة المنتهى، والبيت المعمور، فالجمع بينهما ما ذكره بقوله: "وقد كان إتيانه بالأواني مرتين، مرة عند فراغه من الصلاة" ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، قاله الحافظ، "ومرة عند وصله إلى سدرة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة" التي رآها تخرج من أصل سدرة المنتهى، وفي هذا أعمال لجميع الروايات لصحتها كلها، وهو أولى من جمع الحافظ أيضًا بحمل، ثم في رواية مالك بن صعصعة؛ أنه أتى بالأواني بعد سدرة المنتهى. ورفع البيت المعمور له على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا. "وممن صرح" على طريق الترجي؛ "بأنه كان مرتين الحافظ عماد الدين بن كثير"، لا الجزم كما يوهمه المصنف، فعبارة الشامي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 تكرار جبريل عليه السلام بالتصويب حيث اختار اللبن تأكيدًا للتحذير مما سواه. وقد أنكر حذيفة ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه، أخاف أن يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة؟ وكذا أنكر حذيفة أيضًا صلاته عليه السلام ببيت المقدس. وتعقبه البيهقي وابن كثير: بأن المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفي ذلك، فهو أولى بالقبول.   قال السيهلي، وابن دحية، وابن المنير، وابن كثير والحافظ: ولعله قدم مرتين، أي: جمعا بين الروايات، "وعلى هذا، فيكون تكرار جبريل عليه السلام للتصويب، حيث اختار اللبن تأكيدًا للتحذير مما سواه"، أي: اللبن، وذلك السوي هو الخمر خاصة، "وقد أنكر حذيفة"، بن اليمان رضي الله عنهما "ربط البراق بالحلقة، فروى أحمد والترمذي من حديث حذيفة قال: يحدثون أنه ربطه"، أي: البراق، "أخاف أن يفر منه"، كذا في النسخ الصحيحة، بهمزة الإنكار، ومثلها في الفتح، والنعماني، والشامي والغيطي، فيما في نسخ: خاف بحذفها سهو من قلم المصنف أو نساخه. "و" الحال أنه "قد سخره له عالم الغيب والشهادة" فكيف يخاف أن يفر منه، وتجويز أن خاف بلا همزة، حكاية عن كلام المحدث عنهم، وأنه رد عليهم بقوله، وقد ممنوع، إذ جميع الذين حدثوا بأنه ربطه، لم يقل أحد منهم أنه خاف أن يفر منه، والجواب عما وجه به إنكار ربطه؛ أنه لم يفعل ذلك خوفًا. قال النووي في ربط البراق: الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل، إذا كان الاعتماد على الله. وقال السهيلي: فيه من الفقه التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحة التوكل، وأن الإيمان بالقدر لا يمنع الحزم من توقي المهالك. كما روي عن وهب بن منبه، "وكذا أنكر حذيفة أيضًا" في هذا الحديث "صلاته عليه السلام ببيت المقدس"، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه، كما كتبت عليكم الصلاة في البيت العتيق. "وتعقبه البيهقي وابن كثير، بأن المثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق والصلاة في بيت لمقدس"، وهم جمهور الصحابة "معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول" من النافي؛ لأنه لم يصحبه دليل نفيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد البراق"، ونحوه للترمذي. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: "حتى أتيت ببيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء ترطبها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس،   قال الحافظ: والجواب عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله: كتب عليكم الفرض، وأن أراد التشريع، فنلتزمه، وقد شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الرحل، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث. "ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لما كان ليلة أسري بي، فأتى جبريل الصخرة"، بالفاء، في جواب لما، وهو قليل، أجازه ابن مالك ورده ابن هشام "التي ببيت المقدس" التي كانت قبلة. قال البرقي في غريب الموطأ: هي من غرائب الدنيا، فإن جميع المياه تخرج من تحتها، وهي صخرة صماء في وسط المسجد الأقصى، كجبل بين السماء والأرض، معلقة لا يمسكها إلا الله، وفي أعلاها موضع قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ركب البراق ليلة الإسراء، فمالت من تلك الجهة من هيبته، وفي الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذا مالت، وكان بعضها أبعد من الأرض من بعض، وتحتها غاز عليه باب يفتح لمن يدخله للصلاة والدعاء. "فوضع أصبعه فيها، فخرقها، فشد بها البراق، ونحوه للترمذي"، وابن حبان والحاكم، وصححه عن بريدة، قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لما أنتهينا إلى بيت المقدس ليلة أسري بي، قال جبريل: بأصبعه، فخرق بها الحجر، وشد به البراق"، والمراد بالحجر صخرة بيت المقدس: كما في رواية البزار، فلذا اختار سياقه لصراحته، والجمع بين هذا وبين قوله في حديث أنس عند مسلم: "فربطته بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء"، ما قاله بعضهم؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- ربطه أولًا بالحلقة تأدبًا واتباعًا للأنبياء، فأخذه جبريل وحله من الحلقة، وخرق الصخرة وشده بها، كأنه يقول: أنت لست ممن يكون مركوبه بالباب، بل أنت أعلى وأغلى، قلا يكون مركوبك إلا في داخل المحل، وهذا أمر مشاهدج في العادة بين الكبراء، وأما جواب الطيبي؛ بأن المراد بالحلقة الموضع الذي كان فيه الحلقة، وقد اشتد، فخرقه جبريل فرده النجم؛ بأن الحلقة وموضعها الباب، والذي خرقه جبريل بأصبعه إنما هو الصخرة، وهي داخل المسجد بعيدة عن الباب انتهى. "وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربطها فيه، فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 فصل كل واحد منا ركعتين. وفي رواية ابن مسعود نحوه، وزاد: "ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن فأقيمت الصلاة فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل فقدمني فصليت بهم". وفي حديث ابن مسعود أيضًا -عند مسلم-: "وحانت الصلاة فأممتهم". وفي حديث ابن عباس، عند أحمد: لما أتى -صلى الله عليه وسلم- الأقصى قام يصلي، فإذا   واحد منا ركعتين" غير الصلاة التي صلاها بالأنبياء كما هو صريحه. قال بعضهم: يحتمل أنهما تحية المسجد، ويحتمل غير ذلك، أي: ككونهما من صلاة الليل، أو القصد بهما شغل البقعة. قال ابن دحية: وفيه دليل على أن الصلاة لم تزل معهودة قبل أن تفرض، ومعهودة مثنى مثنى. قال النعماني: وقد فرضت الصلاة قبل الهجرة ركعتين. "وفي رواية ابن مسعود" عند الحسن بن عرفة وأبي نعيم "نحو، وزاد" ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ثم دخلت المسجد، فعرفت النببين ما بين قائم وراكع"، أي: خاشع كخشوع الراكع، فلا يرد أن الركوع من خصائص الأمة، وما صلاه المصطفى قبل الإسراء لا ركوع فيه، وكذا ظهر عقب الإسراء، وأول صلاة بركوع العصر بعدها، "وساجد، ثم أذن" كذا في النسخ، وفيها سقط، فليس هذا من رواية ابن مسعود، إنما هو عن أنس، ففي فتح الباري بعد قوله: "وساجد، ثم أقيمت الصلاة فأممتهم"، وفي رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم: "فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن -أي: أعلم بطلب الصلاة- فأقيمت الصلاة"، أي: تهيئوا لها، وشرعوا فيها، فلا يرد أن الأذان والإقامة إنما شرعًا بالمدينة، والإسراء كان بمكة، "فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا"، وفي نسخة: ننتظر وهي بمعنى ننتظر، كقوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} ، أي: ما ينتظرون، "فأخذ بيدي جبريل، فقدمني، فصليت بهم" إمامًا. "وفي حديث ابن مسعود أيضًا عند مسلم: "وحانت الصلاة"، دخل وقت طلبهم بها، "فأممتهم": صليت بهم إمامًا. "وفي حديث ابن عباس عند أحمد: فلما أتى -صلى الله عليه وسلم" المسجد "الأقصى، قام يصلي" بعد انتظارهم من يؤمهم، وتقديم جبريل للمصطفى، "فإذا النبيون أجمعون يصلون معه"، كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 النبيون أجمعون يصلون معه. وفي حديث أبي سعيد: "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه إلى صخرة، ثم دخل فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا   في الحديث قبله، فليس المراد ظاهره؛ أنه قام يصلي وحده، فاقتدوا به؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضًا، فإن قيل: كيف يصلي الأنبياء وهم أموات في الدار الآخرة، وليست دار عمل، أجاب عياض، وتبعه السبكي؛ بأنهم كالشهداء، بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فلا يستبعد أن يحجوا ويصلوا، وأن يتقربوا إلى الله ما استطاعوان؛ لأنهم وإن ماتوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انطقع العمل، وحاصله أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور، وبأن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها والخضوع لله، ولذا أصح عن أهل الجنة أنهم يسبحون ويدعون ويقرؤون القرآن، كما في الحديث: "إنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس"، وهو معنى قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية، وانظر إلى سجوده -صلى الله عليه وسلم- وقت الشفاعة، أليس ذلك عبادة وعملًا، وعلى كلا الجوابين لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدة البرزخ، وقد صح عن ثابت البناني التابعي أنه قال: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا أن يصلي في قبره، فأعطني ذلك، فرأي بعد موته يصلي في قبره، وتكفي رؤيته -صلى الله عليه وسلم- قائمًا يصلي في قبره؛ ولأن جميع الأنبياء لم يقبضوا حتى خيروا في البقاء في الدنيا وبين الآخرة، ولا شك أنهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة، ثم انتقلوا إلى الجنة، فلو لم يعلموا أن انتقالهم إلى الله أكمل لما اختاروه، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوت عليهم زيادة فيما يقوب إلى الله لما اختاروه. انتهى. "وعن أبي سعيد" الخدري، "ثم سار حتى أتى بيت المقدس، فربط فرسه"، أي: البراق، سماه فرسًا، تجوزًا لقرب صورته منها، ولا؛ لأن الفارس يطلق على مقابل الماشي، سواء ركب فرسًا، أو بغلًا، أو حمارًا؛ وتجويز أن جبريل ركب معه فرسًا لا يصح لحديث؛ أنه ركب معه على البراق، وقد جاء تسمية البراق فرسًا في ر واية أخرى؛ أنه أتى بفرس؛ فحمل عليه، وضمن ربط معنى ضم، فعداه بإلى في قوله "إلى صخرة"، أو إلى بمعنى الباء، أو عند كقوله: أشهى إلي من الرحيق السلسل والمراد بالصخرة هنا الحلقة التي بالباب، لا التي بداخل المسجد، بدليل قوله: "ثم دخل، فصلى مع الملائكة"، إمامًا بهم على المتبادر، فضمير صلى للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاته ركعتين، وهو وجبريل كما مر قريبًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 معك؟ قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين، قالوا: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ثم لقوا أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا، وأعطاني ملكًا عظيمًا، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردًا وسلامًا.   وترجيح ضمير صلى بجبريل، وأن المعنى صلى مع الملائكة لما وجدهم يصلون بعيد جدًا، بل يمنعه ما رواه الواسطي عن كعب، فأذن جبريل، ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين، فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالملائكة والمرسلين، "فلما قضيت الصلاة"، بالنباء للمفعول، أي: تمت، وفرغوا منها، "قالوا: يا جبريل من هذا معك"؟، خبر بعد خبر، أو حال، "قال: هذا محمد رسول الله خاتم النبيين" والرسل، "قالوا: وقد أرسله إليه"، أي: طلب للحضور، لا أرسل إليه بالوحي، أم لا لقوله لهم رسول الله، "قال: نعم، قالوا: حياه الله"، أي: أبقاه، وسلمه وملكه ما أعظمه وأكرمه "من أخ"، فمن متعلق بمحذوف، أو مبنية للضمير، أو زائدة، وجعلواه أخا لهم؛ لأن المراد أخوة الإيمان، "ومن خليفة" لله تعالى لعمارة الأرض وسياستها، وتكميل النفوس البشرية، وتنفيذ الأوامر الإلهية، لا لاحتياجه تعالى، بل لقصور الخلق عن التلقي بلا واسطة فنعم الأخ، ونعم الخليفة، ثم لقوا"، أي: المصطفى واملائكة ببيت المقدس بعد انقضاء الصلاة "أرواح الأنبياء" متشكلة بصور أجسادهم، "فأثنوا"، أي: الأنبياء "على ربهم"، وتجويز أن المثنى الملائكة لملاقاتهم الأنبياء، كما يقول: من رأى صالحًا، الحمد لله الذي من علي بلقائك، يمنعه قوله، "فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلًا" صفيًا خالص المحبة له، "وأعطاني ملكًا عظيمًا". قال ابن دحية: لا يعهد لإبراهيم ملك عرفي، فإما أن يراد بالملك الإضافة إليه نفسه، لقهره عظماء الملوك، وناهيك بنمروذ وقد قهره الله لحليله وعجزه عنه، وغاية الملك العظيم قهر الملك العظيم، فالقاهر أعظم من المقهور قطعًا، أو يراد الإضافة إلى بنيه وذريته نحو ملك يوسف، ولهم جرًا، كملك داود وسليمان، والكل من ولد إبراهيم، وفي التنزيل: {آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] ، والإشارة هنا إلى ذريته، وإما أن يراد ملك النفس في مظنة الاضطرار مثل ملكه لنفسه، وقد سأله جبريل: ألك حاجة؟ قال: "أما إليك فلا"، "وجعلني أمة": إمامًا جامعًا لخصال الخير، وفضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة، والجامع لذلك أمة لقيامه مقام الجماعة، كأنه اجتمع فيه ما تفرق في غيره، كقوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد الله الذي كلمني تكليمًا، واصطفاني، وأنزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن معي والطير وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.   وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد "قانتًا" مطيعًا، "ثؤتم": يقتدى "بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردًا": ذهبت حرارتها: فلم تحرق غير وثاقه، وبقيت إضاءتها، "وسلامًا" سلم من الموت ببردها، "ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليمًا" بلا واسطة "واصطفاني"، واختارني على أهل زماني. قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، "وأنزل علي التوراة" فيها هدى ونور، وسماها الله تعالى الفرقان لفرقها بين الحق والباطل، والحلال والحرام، وبصائر للناس، وهدى ورحمة، "وجعل هلاك فرعون" على يدي، "ونجاة بني إسرائيل على يدي"، يتنازعه هلالك ونجاة، "وجعل من أمتي قومًا يهدون" الناس "بالحق، وبه يعدلون" ويحكمون، "ثم إن داود أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكًا عظيمًا" في بني إسرائيل، ولم يجتمعوا على نبي قبله، "وعلمني الزبور": كتاب الله المنزل عليه، "وألان في الحديد"، فكان في يدي كالعجين، "وسخر لي الجبال، يسبحن معي" بالعشي، وقت صلاة العشاء، والإشراق وقت صلاة الضحى، وهو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها. وفي التنزيل: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] ، أي: سبحي معه، قاله مجاهد: رواه الفريابي، وعن الضحاك: هو التسبيح، بلغة الحبشة، قال ابن كثير: فيه نظر، فالتأويب لغة الترجيح، وقال وهب: نوحي معه، وذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها، أو بحملها إياه على التسبيح، إذا تأمل فيها، وقيل: سيري معه حيث سار والتضعيف للتكثير، "والطير"، قال تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] ، للتسبيح معه لأمره به، إذا وجد فترة لينشط للتسيبح، "وآتاني الحكمة" النبوة والإصابة في الأمور، "وفصل الخطاب"، البيان الشافي في كل قصد. وفي البيضاوي: وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، أو الكلام الملخص الذي ينبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد الله الذي سخر لي الرياح، وسخر لي الشياطين، يعملون ما شئت من محاريب وتماثيل، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلًا، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والجن، والطير وآتاني ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، وجعل لي ملكًا طيبًا ليس علي فيه حساب.   المخاطب على المقصود من غير التباس، يراعى في مظان الفصل والوصل، والعطف والاستئناف، والإضمار والإظهار، والحذف والتكرار، ونحوها. "ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح"، ذللها لطاعتي إجابة لدعوتي، تجري بأمره رخاء: لينة من الرخاوة، لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته، كالمأمور المنقاد حيث أصاب، أي: أراد، "وسخر لي الشياطين يعملون" لي "ما شئت من محاريب": أبنية مرتفعة يصعد إليها بردج كالقصور، سميت بها؛ لأنها يذب عنها ويحارب عليها، "وتماثيل": جمع تمثال، وهو كل شيء مثلثه بشيء، أي: صورًا من نحاس وزجاج ورخام، ولم يكن اتخاذ الصور حرامًا في شريعته. وأسقط المصنف من حديث أبيس سعيد: وجفان كالجوابي وقدور راسيات، وكذا هو ثابت في حديث أبي هريرة عند البيهقي وغيره، وهو موافق للقرآن، فكأنه سقط من قلم المصنف سهوًا، والجوابي: جمع جابية وهي حوض كبير: يجتمع على الجفنة ألف رجل يأكلون منها، وقدور راسيات ثابتات لها قوائم، لا تحرك عن أماكنها: تتخذ من الجبال باليمن يصعد إليها بالسلاليم. "وعلمني منطق الطير"، أي: فهم أصواته، "وآتاني من كل شيء" يؤتاه الأنبياء والملوك "فضلًا" مبينًا ظاهرًا، "وسخر لي جنود الشياطين، أي: أعوانا هم الشياطين، فهو من إضافة الأعم إلى الأخص، أو إضافة بيانية، "والإنس والجن" ظاهره أنهم غير الشياطين، وهو كذلك باعتبار الإيمان، فمن كفر من الجن يقال له: شيطان، كما في حياة الحيوان وغيرها، "والطير" أسقط من الحديث: وفضلني عل كثير من عباده المؤمنين، قبل قوله "وآتاني ملكًا لا ينبغي"، لا يكون "لأحد من بعدي"، أي: سواء، ولو في حياتي، كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] ، أي: سواء، "وجعل لي ملكًا طيبًا ليس علي فيه حساب" ولا عقاب، كما في الرواية، لعصمته من الظلم المؤدي إلى ذلك، فهو وإن اتسع ملكه بحيث تجري العادة في مثله بترتب الحساب والعقاب، لم يحصل فيه شيء يقتضيهما للملوك، لا سيما الجبابرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعلني مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل. قال: وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على ربه فقال: كلكم أثنى على ربه وأنا أثني على ربي: فأٌول الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرًا   "ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه، فقال: الحمد الله الذي جعلني كلمته"، أي: مكونًا بها، وهي قوله تعالى: كن من غير واسطة أب ولا نطفة، "وجعلني مثل آدم"، كشأنه في خلقه من غير أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، وأوقع في النفس "خلقه"، أي: آدم، أي: قالبه "من تراب، ثم قال له: كن" بشرًا، "فيكون"، أي: فكان، وكذلك عيسى قاله له: كن من غير أب، فكان، والجملة مفسرة للتمثيل، مبينة لما به الشبه، "وعلمني الكتاب" الخط، أو جنس الكتب الإلهية، "والحكمة"، أي: العلوم وتهذيب الأخلاق، "والتوراة" النازلة قبله على موسى، "والإنجيل" المنزل على عيسى، "وجعلني أخلق"، أصور "من الطين كهيئة الطير"، مثل صورته والكاف اسم مفعول، "فأنفخ فيه"، الضمير للكاف، أو للطين، أو للطير، وهكذا بالتذكير في آل عمرا، وبالتأنيث في المائدة، عائدًا للهيئة، وهنو تفنن على عدة العرب في التفنن في الكلام، "فيكون طيرًا بإذن الله"، أي: بإرادته، "وجعلني أبرئ": أشفي "الأكمه" الذي ولد أعمى: "والأبرص": وخصا؛ لأنهما داء أعياء، وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفًا بالدعاء، بشرط الإيمان، "وأحيي الموتى بإذن الله"، بإرادته، فأحيا عاذر صديقا له، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وسام بن نوح، ومات في الحال، "ورفعني" إليه من الدنيا بلا موت، "وطهرني": بعدني من الذين كفروا، "وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم" المطرود، "فلم يكن للشيطان علينا سبيل": قال -صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد: فيستهل صارخًا إلا مريم وابنها"، رواه الشيخان. "قال: وإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أثنى على ربه، فقال: "كلكم" يا هؤلاء الذين أثنوا، "أثنى على ربه، وأنا أثني على ربي، فأقول: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين" المسلمين، لسعادتهم في الدارين في معاشهم ومعادهم، والكافرين، بأمنهم من الخسف، والمسخ والاستئصال، "وكافة للناس"، بيان لعموم رسالته، فهو إما صفة مصدر، أي: إرساله كافة، أي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 "ونذيرًا، وأنزل علي الفرقان، فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي أمة وسطًا، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا".   عامة كفتهم عن الخروج منها، فهو مفعول مطلق لأرسلني، أو اسم فاعل حال من الياء، أي: حال كوني كافا للناس، فالتاء للمبالغة وكونه حالًا من الناس، مقدمًا على صاحبها المجرور قول ضعيف، "بشيرًا"، أي: مبشرؤًا بالخير لمن آمن وأتقى، "ونذيرًا": منذرًا، محذرًا من كفر وعصى، وهو حال مترادفة، أو متداخلة حمدًا، لا على ما أنعم عليه، ثم ثنى بماله من المنافع والفوائد، وبعبارة كافة، أي: جامعًا في الإنذار والإبلاغ من الكف، بمعنى الجمع، ومنه كف الثواب، وهو جمعه بالخياطة، والهاء للمبالغة، كعلامة ونحوها، وقيل: معناه مانعًا ورادعًا من الكفر، وسائر المعاصي من الكف، بمعنى المنع، والهاء للمبالغة أيضًا، ونصب كافة على الوجهين حال من المفعول في أرسلني، "وأنزل علي الفرقان": من أسماء القرآن؛ لأنه فرق بين الحق والباطل، وهذا عام لغة، وعليه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] ، ثم خص عرفًا بالقرآن، فصار علمًا له بالغلبة، وأصله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده، وهو مصدر بمعنى الفارق، أو المفرق آياته، أو إنزاله "فيه تبيان كل شيء": بكسر التاء البيان الشافي، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، أي: يحتاج إليه من الأمور المهمة الشرعية، تفصيلًا في بعض، وإجمالًا في بعض، وأحاله على الرسول عغليه السلام في أمره باتباعه بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وعلى الإجماع بقوله، ويتبع غير سبيل المؤمنين وهو شامل للقياس والاجتهاد، كما في الكشاف وغيره. "وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس" كم في الكتاب العزيز: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 110] ، "وجعل أمتي أمة وسطًا"، أي: خيارًا عدولًا، جامعين بين العمل والعلم، وسائر الصفات التي بين التفريط والإفراط. "وجعل أمتي هم الأولون" في دخول الجنة، "والآخرون" في الوجود، وهم ضمير مبتدأ مفيد للحصر، لا ضمير فصل؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: الأولين، "وشرح لي صدري": وسعه بالعلم والإيمان والحكمة واليقين: بحيث لا أحزن على أمر من أمور الدنيا، أو شقه وملأه بالأنوار، كما مر، "ووضع عني وزري": طهر قلبي من حظ الشيطان، وعصمني فلا أرتكب ذنبًا، ولذا قال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [القلم: 2] ، فسوى بينهما لعدم وقوعهما، أو خفف أعباء النبوة والتبليغ بإفاضة منته علي، والجملتان في غاية التناسب، "ورفع لي ذكري": جعلني مذكورًا في الملأ الأعلى، وجعل اسمي طراز الجنان، ومقرونا باسمه تعالى على كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، ثم ذكر أنه عرج به إلى السماء الدنيا، ومن سماء إلى سماء، ذكره القاضي عياض في "الشفاء" مختصرًا من حديث أبي هريرة من غير عزو. ورواه البيهقي من حديث أبي سعيد الخدري، وهذا لفظه.   لسان، وعلى المنابر في إقامة وأذان، قال حسان: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن: أشهد "وجعلني فاتحًا" لأبوب الإيمان والهداية إلى الصراط المستقيم، ولبيان أسباب التوفيق، وما استغلق من العلم، أو هو من الفتح بمعنى الحكم، فجعله حاكمًا كما في خلقه، ففتح ما انغلق بين الخصمين، بإحيائه الحق وإيضاحه، وإماتته الباطل وإدحاضه، أو فاتحًا بالشفاعة يوم القيامة، "وخاتمًا" للنبيين، أي: آخرهم بعثًا. "فقال إبراهيم: بهذا"، أي: بمجموع ما ذكر، وبكل واحدة منها لا بالأولى فقط، كما زعم "فضلكم محمد"، أي: زاد فضله عليكم، وقدم المعمول للحصر، وقال هذا إبراهيم خطابًا للأنبياء إذاعة لفضله لما سمع ثناءه، "ثم ذكر" في هذا الحديث؛ "أنه عرج به إلى السماء الدنيا": القريبة إلينا من بين السبع سموات، "ومن سماء إلى سماء، ذكره القاضي عياض في الشفاء مختصرًا"، بمعنى أنه لم يذكر ثناء الأنبياء، بل قال: فأثنوا على ربهم، وذكر كلام كل واحد منهم، وهم: إبراهيم وموسى، وعيسى، وداود، وسليمان؛ ثم ذكر كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "كلكم" .... فذكره بلفظ المصنف هنا "من حديث أبي هريرة من غير عزو" لمخرج، وقد أخرجه أبو يعلى، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه والبيهقي، كلهم من حديث أبي هريرة، فما يوهمه قول المصنف، "ورواه"، أي: الحديث الذي ذكره أولًا بقوله. وعن أبي سعيد: ثم سار حتى أتى بيت المقدس إلى هنا، لا قوله: ثم عرج به إلى السماء، كما زعمه من لم يقف على شيء. "البيهقي من حديث أبي سعيد" الخدري، "وهذا لفظه": من أن البيهقي لم يروه عن أبي هريرة، وأن عياضًا، وهم في نسبته له، ليس بمراد، وروى أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، مرفوعًا: "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم، وموسى وعيسى، فتذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى، فقال: أما وجبتها، فلا يعلم بها أحد إلى الله، وفيما عهد إلى ربي أن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني، ذاب كما يذوب الرصاص، فيهكله الله إذا رآني، حتى إن الحجر والشجر ليقول: يا مسلم إن تحتي كافرًا، فتعال فاقتله، فيهلكهم الله، ثم ترجع الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 وفي رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أنس: لما بلغ بيت المقدس، فبلغ المكان الذي يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذي به فغمز جبريل بأصبعه فثقبه ثم ربطها، ثم صعدا، فلما استويا في سرحة المسجد قال جبريل: يا محمد، هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: "نعم"، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة   إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم لا يطؤون على شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم ترجع الناس إلي فيشكونهم، فأدعوا الله عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم، فينزل الله المطر، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر، ثم تنسف الجبال، وتمد الأرض مد الأديم، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك، فإن الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها، ليلًا أو نهارًا، وتجوى "بالجيم": أي تنتن وقوله: فيهلكه الله إذا رآني، أي: على يدي، بقتلي له بعد هروبه، لا بمجرد رؤيته، وقوله: حتى إن الشجر غاية لمقدر، ففي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، مرفوعًا: "فإذا انصرف، أي: من الصلاة خلف المهدي، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون وراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى، وساج، فإنا نظر إليه الدجال ذاب، كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هارًا، ويقول عيسى: إن لي فيك ضربة لن تسبقني، فيدركه عند باب لد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل، تتوافى به دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم، لا تنطق، إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله". "وفي رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن أنس: لما بلغ بيت المقدس، فبلغ"، أي: فسار حتى بلغ، "المكان الذي يقال له باب محمد" الآن بعد دخوله -صلى الله عليه وسلم- منه، ويحتمل أنه كان معروفًا عندهم قبل المعراج، وبهاذ الاسم من الأنبياء والكتب القديمة، "أتى إلى الحجر" جواب لما "الذي به" وهو الصخرة المعروفة، "فغمز جبريل بإصبعه، فثقبه، ثم ربطها" أي: الدابة، وهو البراق، وفي نسخة: ثم "صعدا" أي: مرا بعد ربط البراق، وإلا فلا معنى للصعود هنا، وأكثر النسخ بإسقاطها وهي ظاهرة. "فلما استويا في سرحة" بسين مهملة وراء وحاء، أي: فناء "المسجد"، أي ساحته التي في وسطه، وفي نسخة: صراحة المسجد بصاد مهملة، وهي ظاهرة، أي: ساحته وفي نسخة: عرضه المسجد، أي: ساحته التي لا بناء فيها، ونقل الشامي هذا الحديث بعينه، بلفظ: في صخرة المسجد، أي: عندها. "قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين": بكسر العين جمع عيناء، حسنة العينين واسعتهما، والحور: النساء البيض، اللواتي بأعينهن حور، وهو شدة بياض بياضها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 "فسلم عليهن: قال: فسلمت عليهن فرددن علي السلام، فقلت: لمن أنتن؟ ققلن: خيرات حسان، نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرًا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، قال: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيدي فقدمني فصليت بهم، فلما انصرفت قال لي جبريل: أتدري من صلى خلفك؟ قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله". قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس، ثم صعد منهم إلى السماء من ذكر أنه عليه السلام رآه في السماوات ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء، فهبطوا أيضًا، والأظهر أن   وسواد سوادها، وقيل: الحور اسوداد المقلة كلها، كعيون الظباء، قالوا: ولا حور في الإنسان وإنما قيل ذلك في النساء على التشبيه، "قال: "نعم"، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة"، فإنهن من الحور العين، "فسلم عليهن، قال" -صلى الله عليه وسلم-: فانطلقت، "فسلمت عليهن، فرددن علي السلام، فقلت: لمن أنتن؟، فقلن: خيرات" أخلاقًا، "حسان" وجوها: جمع حسناء، وقيل: خيرات: جمع خيرة بفتح فسكون، وهي الحوارء، "نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا" بفتح الياء والراء، أو بضم الياء وكسر الراء، أي: لم يصبهم درن، وهو الوسخ، "وأقاموا، فلم يظعنوا"، يرتحلوا من محل لآخر، فتصيبهم مشقة الظعن، "وخلدوا، فلم يموتوا، قال: ثم انصرفت" من عند الحور، "فلم ألبث إلا يسيرًا حتى اجتمع ناس كثير، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة"، تقدم المراد بهما؛ "قال: فقمنا صفوفًا ننتظر من يؤمنا، فأخذ جبريل عليه السلام بيدي، فقدمني، فصليت بهم، فلما انصرفت" من السلاة، "قال لي جبريل: أتدري من صلى خلفك؟، قلت: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه الله" تعالى، أي: أوحي إليه بشرع، فشمل الأنبياء والمرسلين لقوله في الحديث السابق: "فإذا النبيون أجمعون يصلون معه"، ثم ظاهر سياق هذا الحديث يخالف قوله في الرواية السابقة، ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة، فأممتهم. "قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس قبل العروج. قال الشامي: وهو الذي تظافرت به الروايات، واستظهره الحافظ "ثم صعد منهم إلى السماء من ذكر أنه عليه السلام رآه في السموات" آدم، فيحيى وعيسى، فيوسف، فإدريس، فهارون فموسى فإبراهيم، "ويحتمل أن يكون صلى بهم بعد أن هبط من السماء فهبطوا أيضًا" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 صلاته بهم في بيت المقدس كان قبل العروج. انتهى. وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العرج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى. وقد اختلف في هذه الصلاة، هل هي فرض أو نفل؟ وإذا قلنا: إنها فرض، فأي صلاة هي؟ قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون العشاء، وإنما يتأتى على قول من قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم قبل عروجه إلى السماء، وأما على قول من قال:   للصلاة معه. قال الشامي: وصححه ابن كثير، وقوله: والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العوج، انتهى" ظاهره أنه من كلام عياض، وليس كذلك. إنما هو للحافظ، ذكره في فتح الباري بعد كلام عياض، وكذا عزاه له تلميذه النعماني، ثم الشامي، ثم الغيطي. "وقال ابن كثير: صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك، ولا مانع منه، انتهى"، وهذا منابذ لنقله عن ابن كثير نفسه، ومن قوله: الظاهر أنه بعد رجوعه إلى ما يأتي بعد أسطر، وقد نسب النعماني ما هنا لنفسه، وتبعه الشامي فعزا له. "وقد اخلتف في هذه الصلاة"؛ هل هي الشرعية المعروفة، أو اللغوية؟، وصواب الأول؛ لأن النص يحمل على حقيقته الشرعية قبل اللغوية ما لم يتعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب حمله على الشرعية، وعلى هذا اختلف "هل هي فرض"؟، ويدل عليه، كما قال النعماني حديث أنس عند ابن أبي حاتم المتقدم قريبًا للمصنف، "أو نفل، وإذا قلنا: إنها فرض، فأي: صلاة هي؟، قال بعضهم: الأقرب أنها الصبح، ويحتمل أن تكون العشاء، وإنما يتأتى على قول من قاله: إنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بهم قبل عروجه إلى السماء. وفي النعماني: إنما يتأتلى على أن الإسراء من أول الليل، لكن قال بعض رواة حديث الإسراء: إنه بعد صلاة العشاء، "وأما على قول من قال: صلى بهم بعد العروج، فتكون الصبح"؛ والاحتمالان، كما قال الشامي ليسا بشيء، سواء قلنا: صلى بهم قبل العروج أو بعده؛ لأن أول صلاة صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخمس مطلقًا الظهر بمكة باتفاق، ومن حمل الأولية على مكة، فعليه الدليل، قال: والذي ظهر أنها كانت من النفل المطلق، أو كانت من الصلاة المفروضة عليه قبل ليلة الإسراء، وفي فتاوى النووي ما يؤيد الثاني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 صلى بهم بعد العروج فتكون الصبح. قال ابن كثير: ومن لناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، والظاهر أنه بعد رجوعه إليهم؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل من يسأل جبريل عنهم واحدًا بعد واحدًا، وهو يخبره بهم، ثم قال: وهذا هو اللائقق؛ لأنه أولًا كان مطلوبًا إلى الجناب العلوي، ليفرض الله عليه وعل أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين، ثم أظهر شرفه عليهم بتقدمه في الإمامة. وفي رواية ابن إسحاق: أنه عليه السلام قال: "لما فرغت مما كان في بيت   "قال ابن كثير: ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس"، فهو الواجب القبول، "والظاهر أنه بعد رجوعه إليهم؛ لأنه لما مر بهم في منازلهم" من السماوات "جعل من يسأل جبريل عنهم واحدًا بعد واحد، وهو يخبره بهم"، فلو رآهم قبل العروج ما حسن السؤال ولا الجواب، ولكن هذا عقلي يدفعه قوله: ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين قائم، وراكع وساجد، والسؤال عنهم بعد ذلك في السماوات لا يستلزم أنه لم يرهم قبل، لجواز اختلاف الصفة. وقد نقل الحافظ، أن رؤيته الذين صلوا ببيت المقدس تحتمل الأرواح خاصة، والأرواح بأجسادها، وأما في السماء، فمحمولة على الأرواح إلا عيسى، لما أثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك، ويأتي ذلك للمصنف. "ثم قال" ابن كثير: "وهذ هو اللائق؛ لأنه أولًا كان مطلوبًا إلى الجناب العلوي، ليفرض الله عليه وعلى أمته ما يشاء، ثم لما فرغ مما أريد به اجتمع هو وإخوانه من النبيين"، وهذا أيضًا عقلي لا ينهض حجة في المدعي؛ لأنه قدم على هذا الأمر العظيم الذي ليس في طوق بشر يناسبه بالانتقال من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وما رآه في سيره من الآيات، ثم دخوله الأقصى وصلاته ركعتين، فناسب أن يجتمع بإخوانه ليزيد إيناسه بالاجتماع بجنسه "ثم أظهر شرفه عليهم بتقديمه في الإمامة"، ثم ثناء من أثنى منهم على ربه، وزيادة ثنائه عليهم، وقول إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، فيتلقى المعراج بقلب قوي، فلا يكون عنده وحشة في العالم العلوي. "وفي رواية ابن إسحاق"، عن أبي سعيد، "أنه عليه السلام قال: "لما فرغت مما كان في بيت المقدس" من صلاته الركعتين، وصلاته بالأنبياء وثنائهم على الله، "أتي بالمعراج" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 "المقدس، أتي بالمعراج، ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر، فأصعدني صاحبي جبريل فيه حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء". وفي روياة كعب: "فوضعت له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب حتى عرج هو وجبريل". وفي "شرف المصطفى" أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه منضد باللؤلؤ عن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة. وفي رواية أبي سعيد -عند البيهقي- "ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت حين يشق   الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، كما في الرواية الآتية، "ولم أر قط شيئًا أحسن منه، وهو الذي يمد إليه الميت عينيه إذا احتضر"، ولو كان الميت أعمى، كما في شرح الصدور، فالميت يكشف له إذا احتضر عن المعراج، فيراه، فيمد عينه إليه، فإذا قبضت روحه، صعدت فيه إلى حيث شاء الله، "فأصعدني صاحبي جبريل فيه، حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء"، أي: الدنيا، كما مر في الحديث. "وفي رواية كعب" عند الواسطي في فضائل بيت المقدس؛ "فوضعت له مرقاة من فضة، ومرقاة من ذهب"، وهو المعراج، "حتى عرج هو وجبريل" عليها، والمرقاة موضع الرقي، ويجوز فتح الميم على أنه موضع الارتقاء، وكسرها تشبيها باسم الآلة، كالمطهرة، وأنكره أبو عبيد وقال: لم تقله العرب. "وفي" رواية لابن سعد في كتاب "شرف المصطفى؛ أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس"، قال -صلى الله عليه وسلم: "الفردوس أعلى الجنة ووسطها، وفوقه عرض الرحمن، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس" رواه ابن ماجه، وصححه الحاكم. "وأنه منضد اللؤلؤ"، أي: جمع عليه بحيث عمه بجعل بعضه فوق بعض، "وعن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة". "وفي رواية أبي سعيد عند البيهقي: ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم تر الخلائق أحسن من المعراج، أما رأيت الميت"، استفهام قصد به تقرير المبالغة في حسنه، "حين يشق بصره"، أي: تنفتح عيناه عند الاحتضار انفتاحًا لا يرتد عما رآه، قال المجد: شق بصر الميت، نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، ولا تقل شق الميت بصره فأفاد أنه لازم، وفسره الفقهاء بيشخص بصره، ولعله إشارة إلى أنه صار كالشاخص الذي لا يتحرك من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 "بصره طامحًا إلى السماء، فإن ذلك عجبه بالمعراج". وقد تقدم في حديث البخاري السابق: "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاسفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم". ولم يقل جبريل عليه السلام: أنا، حيث قال له: من هذا؟ إنما سمى نفسه فقال: جبريل؛ لأن لفظ "أنا" فيه إشعار بالعظمة، وفي الكلام السائر: أول من قال: "أنا" إبليس فشقي، وأيضًا فقوله: "أنا" مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان. وعلى هذا ف ينبغي للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟ لا يقول: "أنا"، بل   شدة نظره للمعراج الذي تعرج روحه عليه، وترى بصرية حالة كونه، "طامحًا"، أي: رافقًا بصره إلى السماء، "فإن ذلك"، أي: سببه "عجبه بالمعراج، وقد تقدم في حديث البخاري السابق" عن مالك بن صعصعة "فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح، قيل: من هذا؟، قال: جبريل: قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟، قال: نعم، ولم يقل جبريل عليه السلام: أنا حيث قال له: من هذا؟، إنما سمى نفسه، فقال جبريل"، واقتصر عليه؛ لأنه ليس في الملائكة من تسمى بهذا الاسم غيره؛ "لأن لفظ أنا فيه إشعار بالعظمة" التي لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر سمي لسمو مقامي، قاله ابن الجوزي. قال بعضهم: وعادة العارفين المتقنين، أن يذكر أحدهم اسمه بدل قوله أنا، ولا في نحو إقرار، بحق، فالضمير أولى، "وفي الكلام السائر" الجاري بين الناس، "أول من قال أنا إبليس، فشقي"، وقال فرعون: أنا ربكم الأعلى فتعس، "وأيضًا، فقوله أنا مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان"، والضمير إذا عاد وتعين مضمره كان أعرف المعارف، والمستأذن محجوب عن المستأذن عليه، غير متعين عنده، فكأنه أحاله على جهالة، كما في ابن المنير وغيره. "وعلى هذا فينبغي للمستأذن إذا قيل له: من أنت؟، أن لا يقول: أنا، بل يقول: فلان"، ويصف نفسه بما يميزه عن غيره، فلا يكفي أن يقول محمدًا مثلًا، إلا إذا كان معروفًا للمخاطب بذلك الاسم، وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الذي استأذن عله، فقال: "من هذا؟، فقال: أنا، فقال -صلى الله عليه وسلم: أنا أنا" إنكارًا عليه، قاله ابن المنير وغيره. وقال بعض المحققين: ذهبت طائفة من العلماء، وفرقة من الصوفية إلى كراهة إخبار الرجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 يقول: فلان. وفي رواية للبخاري ومسلم: فعرج، وهو بفتح العين بمعنى صعد. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء يقال له: باب الحفظة، وعليه مالك يقال له: إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك.   عن نسفه بأنا، تمسكا بظاهر الحديث حتى قالوا: كلمة أنا لم تزل مشؤومة على أصحابها، وزادوا أن إبليس إنما لعن بقولها، وليس كما قالوا، بل النهي عنه لما صحبه من النظر إلى نفسه بالخيرية: ولا تنكر إصابة الصوفية في دقائق علومهم، وإشاراتهم في التبري من الدعاوي الوجودية، لكن الذي أشاروا إليه بهذا راجع إلى معان تتعلق بأحوالهم دون ما فيه من التعلق بالقول، كيف وقد ناقض أقوالهم نصوص كثيرة، وهم أشد الناس فرارًا من مخالفتها، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] ، {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} [الأعراف: 143] ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} [ص: 86] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم"، والحاصل كما قال بعض الأفاضل؛ أن ذلك يتفاوت بتفاوت الأحوال والمقامات، فالمتردد في الأحوال، المتحول في الفناء والتلوين ينافي حاله أن يقول أنا، ومن رقي إلى مقام البقاء بالله، وتصاعد إلى درجات التمكين فلا يضره. "وفي رواية البخاري" ففي الصلاة وغيرها، "ومسلم" في الإيمان من حديث أنس، عن أبي ذر: "فعرج" بي جبريل إلى السماء الدنيا، بدل قوله في رواية ابن صعصعة: فانطلق، "وهو بفتح العين" والفاء والراء، "بمعنى صعد". "وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي" وابن إسحاق: "حتى انتهى إلى باب من أبواب السماء، يقال له: بال الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل"؛ وهو صاحب سماء الدنيا، كما في رواية البيهقي عن أبي سعيد. وفي حديث جعفر بن محمد عند البيهقي معضلًا أيضًا: يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا يوم مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعلوم أن علم ذلك بإخباره عليه السلم به قبل موته؛ لأن هذا لا مدخل فيه للرأي. "تحت يده اثنا عشر ألف ملك"، ينقادون لأمره ونهيه كالجند، زاد في رواية ابن إسحاق: مع كل ملك اثنا عشر ملك، وروى ابن جرير والبيهقي في الدلائل من حديث أبي سعيد: وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مائة ألف. وفي رواية للبزار: تحت يده سبعون ألف ملك، تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، ولعل المراد التكثير، فلا يخالف مائة ألف، ولعل الإثني عشر ألفًا رؤساء السبعين ألفًا، وكذا الإثنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 وفي رواية شريك -عند البخاري أيضًا- ثم عرج به إلى سماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا: من هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك قال: محمد. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، فيستبشر به اهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، أي على لسان من شاء كجبريل. ووقع في هذه الرواية أيضًا أنه رأى في سماء الدنيا النيل والفرات عنصرهما. وظاهرها يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: وإذا في أصلها أربعة أنهار. ويجمع بينهما: بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض.   عشر ألفًا الذين مع كل ملك رؤساء على باقي المائة ألف، فلا خلف، والله أعلم. "وفي رواية شريك" بن عبد الله المدني، عن أنس، "وعند البخاري أيضًا، ثم عرج" جبريل "به"، بالنبي -صلى الله عليه وسلم- "إلى سماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها، فناداه أهل سماء الدنيا"، أي: جنسهم الصادق بالحفظة للباب: "من هذا"؟، الذي يدق الباب. وفي حديث أبي ذر: فلما جئت إلى السماء، قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال: من هذا؟، "قال: جبريل قالوا: ومن معك؟، قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟، قال: نعم، قالوا: مرحبًا وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء"، سقطت الفاء من رواية الأصيلي، وزاد الدنيا، "لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعملهم، أي: على لسان من شاء، كجبريل" عليه السلام، "ووقع في هذه الرواية"، أي: رواية شريك عن أنس "أيضًا، أنه رأى في سماء الدنيا النيل والفرات، عنصرهما" بضم المهملتين، بينهما نون ساكنة أصلهما الذي تميزا به عن نهري الجنة، فينزلان إلى سمءا الدنيا، ثم ينزلان إلى الأرض بدل مما قبله. ولفظ رواية شريك: فإذ هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان: فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟، قال: هذا الني والفرات عنصرهما، "وظاهرها"، أي: هذه الرواية "يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المتنتهى، وإذا في أصلها أربعة أنهار"، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ما هذان يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، "ويجمع بينهما؛ بأن أصل نبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض" وجمع ابن دحية، بأنه رأى هذين عند سدرة المنتهى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 ووقع في هذه الروياة أيضًا: ثم مضى به في السماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، وأنه الكوثر. وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر من الجنة، والجنة فوق السماء السابعة، ويحتمل أن يكون تقديره: ثم مضى في سماء الدنيا إلى السابعة فإذا هو بنهر. ثم إن قوله في الحديث: "استفتح" دلالة على أنه صادف أبواب السماء مغلقة، والحكمة في ذلك -والله أعلم- التنويه بقدره عليه السلام، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتحة لم يتحرر أنها فتحت   مع نهري الجنة، ورآههما في السماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بالعنصر عنصر انشتارهما السماء الدنيا، وكان الحافظ لم يرتضه لقوله، كذا قال ابن دحية انتهى، وتبعه المصنف فيما يأتي وجمع غيره بأن منبعهما من السدرة، وإذا نزلا إلى الأرض، يسلكان أولًا على الجنة، فيدخلانها، ثم ينزلان إلى الأرض بعد ذلك، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله قريبًا. "ووقع في هذه الروياة أيضًا: ثم مضى به في السماء الدنيا، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، وأنه" فسره جبريل بقوله: هذا "الكوثر"، ولفظه عقب زبرجد، فضرب يده، فإذا هو مسك، قال: "ما هذا يا جبريل"؟، قال: هذا الكوثر الذي خبا لك ربك، "وهو مما استشكل من رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة، والجنة فوق السماء السابعة، ويحتمل الجمع برد رواية شريك إلى هذا، وهو "أن يكون" هناك حذف "تقديره: ثم مضى في سماء الدنيا إلى السابعة، فإذا هو بنهر"، كذا ذكره الحافظ، واستبعده تلميذه القطب الخيضري في الخصائص، بأن بين الأولى والسابعة خمس سماوات، كل منها له صفة غير صفة الأخرى، ولها أبواب وخدام غير الأخرى، فإطلاق المسير إليها بعيد، وذكرها بعد السادسة مما يبعده أيضًا لكن قد يقال من غير استبعاد؛ أن أصل الكوثر في الجنة، وجعل الله تعالى منه فرعًا في السماء الدنيا، عجل لنبيه رؤيته استبشارًا؛ لأنها أول المراتب العلوية بعد السفلية، ويؤيد هذا قول جبريل: خبا لك ربك انتهى. "ثم إن قوله في الحديث: استفتح، دلالة" صريحة "على أنه صادف أبواب السماء مغلقة"، وأصرح منه قوله في حديث أبي ذر: قال جبريل لخازن السماء: افتح، وكذا ضربه الباب. "والحكمة"، كما قال ابن المنير "في ذلك، والله أعلم، التنويه بقدره"، أي: إظهاره ورفعه "عليه السلام، وتحقيق أن السماوات لم تفتح أبوابها إلا من أجله، ولو وجدها مفتحة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 لأجله، فلما فتحت له تحقق غليه السلام أن المحل مصون، وأن فتح له كرامة وتبجيل. وأما قوله في الحديث: "أرسل إليه"؟ وفي رواية وقد "بعث إليه"؟ فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر لقوله: "إليه"؛ لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى. وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله تعالى عليه بذلك، أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن من الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه. قيل: إن الله تعالى أراد أراد إطلاع نبيه على أنه معروف عند الملأ الأعلى،   لم يتحرر"، أي: لم يعلم "أنها فتحت لأجله"، ولا بد، بل كان يحتمل أنها مفتوحة دائمًا، وأنها فتحت لغيره، تصادف مجيئه بعده، "فلما فتحت له تحقق عليه السلام أن المحل مصون، وأن فتحه له كرامة وتبجيل": تعظيم وقال ابن دحية: وإنما لم تهيأ له بالفتح قبل مجيئه، وإن كان أبلغ في الإكرام؛ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها لا تزال كذلك، ففعل ذلك ليعلم أن ذلك فعل من أجله؛ ولأن الله تعالى أراد أن يطلعه على كونه معروفًا عند أهل السماوات. "وأما قوله في الحديث: أرسل إليه"، بهمزة واحدة، ولأبي ذر: أأرسل بهمزتين، الأولى للاستفهام، والثانية للتعدية، وهي مضمومة، وللكشميهني أوأرسل، بواو مفتوحة بين الهمزتين. "وفي رواية" لشريك عن أنس: "وقد بعث إليه، فيحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعرود إلى السماء" والإسراء، "وهو الأظهر لقوله: إليه"، إذ لو كان المراد أصل البعثة، لم يحتج لقوله إليه؛ "لأن أصل بعثه قد اشتهر في الملكوت الأعلى"، فلا يخفى عليهم إلى هذه المدة. قال الحافظ: بعدها استظهر هذا تبعًا لابن المنير وغيره: ويحتمل أن يكون خفي عليه أصل إرساله لاشتغاله بعبادته، قال: ويؤيده رواية شريك: وقد بعث إليه. انتهى، وقد يقال: لا تأييد فيه؛ لأن المراد البعث الخاص للإسراء وصعود السماوات، لا عن أصل البعثة. "وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله تعالى عليه بذلك، أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى"، إذ لا قدرة له على ذلك حتى يأذن، "وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه"، فليس سؤالًا حقيقيًا. "وقيل: إن الله تعالى أراد اطلاع نبيه على انه معروف عند الملأ الأعلى؛ لأنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 لأنهم قالوا: وقد بعث إليه؟ أو: أرسل إليه؟ فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلًا؟ ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبًا به ولنعم المجيء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته؛ ولأن هذا أحسن ما يكون من حسن الخطاب والترفيع، على المعروف من عادة العرب. وأما قوله: "من معك"؟ فيشعر بأنهم أحسوا به عليه الصلاة والسلام، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما لأمر معنوي كزيادة أنوارها ونحوه، قاله الحافظ ابن حجر. ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبي جمرة، حيث قال في "بهجته": الثاني أن يكون سؤالهم له لما رأوا حين رأوا إقبالهم عليه من زيادة الأنوار وغيرها من   قالوا: وقد بعث إليه"، بحذف همزة الاستفهام، للعلم بها، "أو أرسل إليه"، بحذفها وإثباتها روايتان كما علم، "فدل على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له" -صلى الله عليه وسلم- "وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد مثلًا، ولذلك أجابوا بقولهم: مرحبًا به، ولنعم المجيء جاء، وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالته وتحقيق رسالته؛ ولأن هذا أحسن ما يكون من حسن الخطاب والترفيع": المبالغة في إظهار قدره وشرفه بين الملائكة، بناء "على المعروف من عادة العرب"، فيمن خاطبوه بذلك، وهذا ذكره ابن أبي جمرة. وذكر ابن المنير: أن موقع قول الخازن، وقد بعث إليه استنطاق جبريل بالسبب الموجب للإذن، والفتح؛ لأن مجرد قوله: معي محمد، لا يوجب الإذن إلا بواسطة البعث من الله تعالى، ويلزم منه الإذن في إزالة الموانع وفتح أبواب السماء، فلم يتوقف الخازن على أن يوحى إليه بالفتح؛ لأنه لزم عنده من البعث الإذن. "وأما قوله: من معك، فيشعر بأنهم أحسوا به عليه الصلاة والسلام"، لفظ الحافظ؛ بأنهم أحسوا عه برفيق، "وإلا لكان السؤال بلفظ أمعك أحد؟، وهذا الإحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة" لا تحجب ما وراءها، "وإما لأمر معنوي، كزيادة أنوار ونحوها، قاله الحافظ ابن حجر" في فتح الباري: "ولعله أخذه من كلام العارف ابن أبي جمرة، حيث قال في بهجته"، أي: كتابه بهجة النفوس وتحليلها بمعرفة ما لها وعليها، وهو اسم شرحه على الأحاديث التي انتخبها من البخاري. "الثاني: أن يكون سؤالهم له" لجبريل، "لما رأوا حين رأوا إقبالهم عليه" على جبريل "من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 المآثر الحسان زيادة على ما يعهدونه منه، قال: وهذا هو الأظهر، كأنهم قالوا: من الشخص الذي من أجله هذه الزيادة التي معك؟ فأخبرهم بما أردوا وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه، انتهى. وقد قال بعض العلماء: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت فإذا هو عروس المملكة. وأما قولهم له: "مرحبًا به ولنعم المجيء جاء" فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التي سبقته للسماء مبشرة بقدومه، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء فنعم المجيء مجيئه، وإنما لم يقل الخازن: مرحبًا بك،   زيادة الأنوار وغيرها"، بيان لما رأوا "من المآثر الحسان، زيادة على ما يعهدونه منه، قال: وهذا هو الأظهر" من احتمال أن ذلك؛ لأن السماء شفافة، "كأنهم قالوا: من الشخص الذي من أجله هذه الزيادة التي معك فأخبرهم بما أرادوا، وهو تعيين الشخص باسمه حتى عرفوه. انتهى. "و" يؤيده أنه "قد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] ، أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة" لشدة أنواره "وأما قولهم له: مرحبًا به"، أي: أصاب رحبًا وسعة، كنى بذلك عن الانشراح، وأخذ منه ابن المنير جواز رد السلام بغير لفظه، وتعقب بأن مرحبًا به ليس ردًا؛ لأنه كان قبل فتح الباب، والسياق يرشد إليه وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة. "ولنعم المجيء جاء، فيحتمل أن يكونوا قالوه لما عاينوه من بركاته عليه السلام التي سبقته للسماء مبشرة بقدومه"، وفيه دللة على أن للحاشية إذا فهموا من سيدهم عزمًا إكرام وافد أن يبشروه بذلك، وإن لم يأذن لهم فيه، ولا يكون إفشاء سر؛ لأن الخازن أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- حال استدعاء؛ أنه استدعاء إكرام وإعظام، فعجل بالبشرى والفراسة الصادقة عند أهلها، وفي محلها تحصل العلم، كما يحصله الوحي، قاله ابن المنير. "وفيه تقديم وتأخير، والتقدير جاء، فنعم المجيء مجيئه" كذا قاله بعض الشراح وخرجه ابن مالك في التوضيح على وجه لا تقديم فيه ولا تأخير، فقال: في هذا الكلام شاهد على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف في باب، نعم؛ لأنها تحتاج إلى فاعل على المجيء وإلى مخصوص بمعناها، وهو مبتدأ مخبر عنه بنعم وفاعلها فهو في هذا الكلام، وشبهه موصول أو موصوف بجاء والتقدير نعم المجيء الذي جاء، أو نعم المجيء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 بصيغة الخطاب، بل قال به بصيغة الغيبة؛ لأنه حياة قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب، ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيمًا له؛ لأن "هاء" الغيبة ربما كانت أهم من كاف الخطاب. وأما قوله في الحديث: فإذا رجل قاعد عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت: لجبريل: "من هذا"؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة التي عن   مجيء جاء، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مخبر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفة أولى من كونه نكرة، نقله في الفتح، وقدمته في شرح الحديث. "وإنما لم يقل الخازن: مرحبًا بك، بصيغة الخطاب، بل قال به بصيغة الغيبة؛ لأنه حياه قبل أن يفتح الباب، وقبل أن يصدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- خطاب"، ولهذا قال الملك لجبريل: ومن معك؟، فخاطبه بصيغة الخطاب؛ لأن جبريل خاطب الملك، فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب من الجانب، قاله ابن المنير. "ويحتمل أن يكون حياه بصيغة الغيبة تعظيمًا له؛ لأن هاء الغيبة ربما كانت أهم من كاف الخطاب"، لما فيها من إجلال المخاطب على مخاطبه؛ لأنه لم ينزل نفسه أهلًا لخطابه، لجلالته عليه، وهذان الاحتمالان ذكرهما ابن المنير. "وأما قوله في الحديث" ليس يعني به حديث مالك بن صعصة الذي قدمه؛ لأنه ليس فيه ذكر النسم، كما في البخاري ومسلم، وإنما عني به حديث أنس عن أبي ذر عند البخاري أول كتاب الصلاة، ولفظه: "فلما فتح علونا السماء الدنيا، "فإذا"" بالفاء وللأصيلي وابن عساكر بدونها، "رجل قاعد عن يمينه أسودة" أشخاص: جمع سواد، كأزمنة جمع زمان، "وعن يساره أسودة، إذا نظر قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة "يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال" ذلك الرجل القاعد: "مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح". وفي رواية شريك: فقال: مرحبًا وأهلًا يا بني، نعم الابن أنت، والصالح القائم بما يلزمه من حقوق الله، وحقوق العباد فهي صفة جامعة لمعاني الخير، فوصفه بها مكررًا مع النبوة، والبنوة إشارة إلى أنه جمع بين صلاح الأنبياء وصلاح الأبناء، كأنه قال مرحبًا بالنبي التام في نبوته، والابن البار في نبوته وفيه افتخار بأبوته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولجمع الصلاح لخلال الخير، اقتصر الأنبياء على وصفه بالصالح وتواردوا على ذلك، وكررها كل منهم عند كل صفة، ولم يقولوا بالنبي الصادق، أو الأمين، قال بعضهم: وصلاح الأنبياء غير صلاح الأمم، فصلاح الأنبياء صلاح كامل؛ لأنهم يزول بهم كل فساد، فلهم صلاح خاص لا يتناول عموم الصالحين؛ لأن كثيرًا من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى. فالأسودة: بوزن أزمنة، مفرد سواد، هي الأشخاص. والنسيم: بالنون والسين المفتوحتين جمع نسمة، وهي الروح. وقد قال القاضي عياض: جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟   الأنبياء تمنى أن يلحق بالصالحين، ولا يتمنى الأعلى أن يلحق بالأدنى، فهذا يحقق أن صلاح الأنبياء غير صلاح الأمم، ومن دونهم الأمثل فالأمثل، فكل واحد يستحق اسم الصلاح على قدر ما زال به، أو منه من الفساد. "قلت لجبريل: "من هذا"؟، قال: هذا آدم"، ظاهره أنه سأله عنه بعد أن قاله له آدم مرحبًا ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة فتحمل هذه عليها، إذ ليس في هذه أداة ترتيب كذا في فتح الباري، وتبعه الشامي، أي: لأنه لم يقل هنا، فقلت لجبريل، بالفاء، إنما قال قلت: فيحمل على أن القول وقع قبل قول آدم مرحبًا، والمراد بالعكس المخالفة، فلظ رواية ابن صعصعة: "فلما خلصت، فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح". "وهذه الأسودة التي عن يمينه وشماله نسيم بنيه": أرواحهم، "فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك" سرورًا، "وإذ نظر قبل شماله بكى" حزنًا، "فالأسودة بوزن أزمنة مفرد سواد" بوزن زمان، "هي الأشخاص" من كل شيء وتطلق بمعان آخر، "والنسيم: بالنون والسين المفتوحتين، جمع نسمة" بزنة قصب وقصبة "وهي الروح" بيان للمراد بها هنا، وإلا ففي المصباح النسم والنسمة نفس الريح، ثم سميت به النفس بالسكون. قال الحافظ: وحكى ابن التين؛ أنه رواه شيم: "بكسر الشين المعجمة وفتح الياء آخر الحروف بعدها ميم"، وهو تصحيف وظاهره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل. "وقد قال القاضي عياض: جاء أن أرواح الكفار في سجين": مكان يعذبون فيه أسفل السافلين، كما في ابن المنير وفي المصنف: في سجين الأرض السابعة، وفي القاموس: سجين موضع فيه كتاب الفجار، وواد في جهنم. "وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة"، روى الطبراني والبيهقي بسند حسن عن أم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 وأجاب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا، فوافق عرضها مرور النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدل على كونهم في النار في أوقات دون أوقات، قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] . واعتراض: بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص القرآن. والجواب عنه: ما أبداه هو احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار كانت في جهة شماله: وكان يكشف له عنهما، ولا يلزم من رؤية آدم لها -وهو في السماء- أن تفتح لها أبواب السماء ولا تلجها. وفي حديث أبي هريرة عند البزار: فإذا عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر وإذا نظر عن   مبشر، وكعب بن مالك، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حيث شاءت، ونسمة الكافر في سجين"، وسئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أرواح المؤمنين، فقال: "في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت"، قالوا: وأرواح الكفار، قال: "محبوسة في سجين"، رواه الطبراني "يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا" مع أرواح الكفار في سجين الأرض السابعة. "وأجاب"عياض: "بأنه يحتمل أنها تعرض على آجم أوقاتًا، فوافق": صادف "عرضها مرور النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويدل على أن كونهم في النار في أوقات دون أوقات قوله" تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر: 46] صباحًا ومساء، "واعترض بأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء، كما هو نص اقرآن" في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} "والجواب عنه ما أبداه هو، احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار كانت في جهة شماله، كان يكشف له عنهما"، وحين مر المصطفى على آدم كشف له عن ذلك، فرأى ما رآه آدم، وإلى هنا جواب عياض، كما في الفتح. زاد المصنف: "ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء؛ أن تفتح لها أوبا السماء ولا تلجها"، فلا اعتراض على عياض، وإن كان الحافظ في الفتح، إنما ذكر هذا عقب احتمال؛ أن المراد من خرجت من أجسادها حين خروجها، لا أنها مستقرة ولا يلزم إلى آخر ما هنا، ويأتي كلامه. "وفي حديث أبي هريرة عند البزار"،وأبي يعلى، وابن جرير والبيهقي: "فإذا عن يمينه"، أي: آدم، "باب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 شماله حزن، وهذا -لو صح- لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم، ولكن سنده ضعيف، قاله الحافظ ابن حجر.   استبشر، وإذا نظر عن شماله حزن، وهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم"، لعدم احتياجه لتأويل؛ لأن المستفاد منه رؤية البابين حين مروره على آدم، وهو لا يستلزم أن عنده شيئًا من النسم التي رآها عند آدم، لجواز أنه رآها من الأبواب، "ولكن سنده ضعيف، قاله الحافظ ابن حجر" في كتاب الصلاة ببعض تصرف من المصنف. وفيه أيضًا قبل ذكر هذا الحديث الضعيف، ويحتمل أن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه، ويحزن إذا نظر إلى من على يساره، بخلاف التي في الأجساد، فليست مرادة قطعًا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرها، فليست مرادة أيضًا فيما يظهر، وبهذا يندفع الإيراد، ويعرف أن قوله: نسم بنيه عام مخصوص، أو أريد به الخصوص انتهى، وهو مبني على أن الأرواح كلها خلقت قبل الأجساد، كما جزم به، ثم إذا أراد الله إحياء شخص أرسل الروح التي سبق في علمه أنها معدة لذلك الجسد. وقال في الفتح هنا في باب المعراج: وظهر لي الآن احتمال آخر، وهو أن يكون المراد من خرجت من الأجساد حين خروجها إلا أنها مستقرة، ولا يلزم من رؤية آدم لها، وهو في السماء أن تفتح لها أبواب السماء، ول تلجها. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي ما يؤيده ولفظه: "فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليها أرواح ذريته الفجار، فيقول: روح خبيثة، اجعلوها في سجين"، ويظهر منه ومن حديث أبي هريرة عدم اللزوم المذكور، وهذا أولى مما جمع به القرطبي في المفهم؛ أن ذلك حالة مخصوصة. ا. هـ، وهو مخصص للأرواح بالخارجة من الأجساد حين الموت لا مطلقًا، فهو أيضًا عام مخصوص، أو أريد به الخصوص، وأجاب بعضهم عن الإشكال بحمل الأسودة التي عن شماله على العصاة من الموحدين، لا على الجاحدين، وعضده ببكاء آدم رحمة لهم، ولا يرحم الكفار. وتعقبه ابن المنير، بأن المؤمنين، برهم وفاجرهم، مطيعهم وعاصيهم من أهل اليمين، وقد فسر الله أصحاب الشمال بالكفار، فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 41] ، وهذا إنما هو لكافر لا حظ له في الإيمان، ولا حجة في بكاء آدم؛ لأنه ليس فيه استغفار لهم، ولا خلاف أن من مات أبوه كافرًا، وهو مسلم، لا يحمر عليه البكاء عليه، لا سيما الطبيعي والرقة الطبيعية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 وأما قوله في الحديث: "ثم صعد بي، حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، فقيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت عليهما فردًا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى قوله: ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، قال: فسلمت عليه فرد   وقال ابن دحية: فإن قيل: كيف يكون نسم السعداء كلهم في السماء، وقد كان حين الإسراء جماعة من الصحابة في الأرض وهم من السعداء، فالجواب أن آدم إنما رآهم في مواضعهم ومقارهم في الأرض، ولكنه يراهم من الجانب الأيمن، فالتقييد للنظر لا للمنظور. ا. هـ، وتبعه ابن المنير وهو واضح. وقال السهيلي: فإن قيل: كيف رأى عن يمينه أرواح أصحاب اليمين، ولم يكن إذا ذاك منهم إلا نفر قليل، ولعله لم يكن مات تلك الليلة منهم أحد. وظاهر الحديث يقتضي أنهم جماعة، فالجواب أن الإسراء إن كان منامًا، فتأويله أن ذلك سيكون وإن كان يقظة، فمعناه أن أرواح المؤمنين رآها هنالك؛ لأن الله يتوفى الخلق في منامهم، فصعد بالأرواح إلى هنالك، فرآها، ثم أعيدت إلى أجسادها انتهى، وهو مبني على تخصيص الأرواح بالخارجة من الأجساد بالموت، ولو بالنوم. "وأما قوله في الحديث"، أي: حديث مالك بن صعصعة، "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية"، كذا في رواية أبي ذر، للبخاري ولغيره: "ثم صعد بي إلى السماء"،وهي التي قدمه المصنف، "فاستفتح فقيل: من هذا؟، قال: جبريل، قيل: ومن معك؟، قال: محمد، قيل وقد أرسله إليه؟، قال: نعم"، أرسل إليه، "فقيل: مرحبًا بن، فنعم المجيء جاء، ففتح" الخازن الباب، "فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى، وهما ابن الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلمت عليهما، فردا" علي السلام، "ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، إلى قوله: ثم صعد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟: قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟، قال: نعم، قال: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء فلما خلصت" "فتح اللام، وصلت "فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم، فسلم عليه، قال: فسملت عليه، فرد السلام، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 "السلام وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح". فهذه الرواية موافقة لروية ثابت عن أنس عن مسلم: أن في السماء الأولى؛ آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم. وخالف ذلك ابن شهاب الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر -كما في أول الصلاة من البخاري أيضًا- أنه لم يثبت كيف منازلهم، وقال فيه: وإبراهيم في السماء السادسة. وفي رواية شريك عن أنس أن إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة، بتفضيل   الصالح"، وقصد المصنف زيادة البيان لطول العهد لفظ الحديث، وإلا فالأوجز لو قال، وأما ما ذكره في الحديث من أماكن الأنبياء في السماوات. "فهذه الرواية موافقة لرواية ثابت" البناني، "عن أنس عند مسلم" وفيه: "أن في السماء الأولى آدم، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم" فهذا بيان للموافقة محكي بالمعنى. "وخالف ذلك ابن شهاب الزهري في روايته، عن أنس، عن أبي ذر، كما في أول الصلاة من البخاري أيضًا". وقد خرج مسلم حديثه أيضًا في الإيمان، وذكر "أنه لم يثبت" من الإثبات، أبو ذر، "كيف منازلهم"، أي: لم يعين أبو ذر، لكل نبي سماء، والمراد منازل الجميع، فلا ينافي أنه قال آدم في السماء الدنيا. "وقال فيه: وإبراهيم في السماء السادسة"، ولفظ البخاري، قال أنس: فذكر، أي: أبو ذر أنه وجد في السماوات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. "وفي رواية شريك، عن أنس" في الصحيحين: ثم عرج به إلى السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء، قد سماهم وعيت منهم "أن إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة، ولم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى"، أي: بسبب أن له فضل كلام الله إياه، وفيه دلالة على أن شريكا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 كلام الله تعالى، وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم أيضًا كما صرح به الزهري. ورواية من ضبط أولى، لا سيما من اتفاق، قتادة وثابت، وقد وافهما يزيد بن أبي مالك عن أنس، إلا أنه خالف في إدريس وهارون فقال: "هارون في الرابعة، وإدريس في الخامسة". ووافقهم أبو سعيد الخدري إلا أن في روايته: يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة. والمشهور في الروايات: أن الذي في السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك في حديث مالك بن صعصعة: بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور.   ضبط كون موسى في السابعة، فيتعين أحد الجموع الآتية. "وسياقه يدل على أنه لم يضبط منازلهم"، أي: جميعهم، وإلا فقد صرح بقوله: وعيت، أنه ضبط أربعة، "أيضًا، كما صرح به الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب في حديث أبي ذر. "ورواية من ضبط أولى"، أحق بتقديمها على من لم يضبط، "لا سيما" مع ما حصل فيها من القوة "من" أجل "اتفاق"، ولفظ الفتح مع اتفاق فلا يحتاج لهذا التعسف "قتادة" بن دعامة عند الشيخين، "وثابت" البناني عند مسلم، "وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك"، هو ابن عبد الرحمن، نسب إلى جده الهمداني "بالسكون" الدمشقي، القاضي، صدوق، ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها، ولنه أكثر من سبعين سنة، روى له أبو داود، والنسائي وابن ماجده، "عن أنس: إلا أنه خالف في إدريس وهارون، فقال: "هارون في الرابعة"، فوافق شريكا في ذلك، "وإدريس في الخامسة"، فخالف قتادة وثابتًا في أنه في الرابعة، وشريكا في أنه في الثانية، "ووافقهم أبو سعيد الخدري" عند ابنه مردويه، وكان الأولى وافقهما بتثنية الضمير، عائدًا على قتادة وثابت وجمعه قد يوهم موافقه أبي ذر، وشريك، وليس بمراد، فإن رواية أبي سعيد إنما وافقت رواية قتادة وثابت "إلا أن في روايته يوسف في الثانية، وعيسى ويحيى في الثالثة"، وجمع باحتمال الانتقال لا التعدد؛ لأنه خلاف الصحيح. "والمشهور في الروايات" كلها، غير روايتي أبي ذر وشريك، "أن الذي في السابعة هو إبراهيم. قال الحافظ: وهو الأرجح، "وأكد": قوى "ذلك في حديث مالك بن صعصعة، بأنه كان مسندًا ظهره إلى البيت المعمور". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 فمع التعدد: فلا إشكال. ومع الاتحاد فقد جمع: بأن موسى كان حالة العروج في السادسة وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط: كان موسى في السابعة؛ لأنه لم يذكر في القصة أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة، كما كلمه موسى عليه السلام، والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو الذي خاطبه في ذلك، كما ثبت في جميع الروايات. ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة فأصعد معه إلى السابعة تفضيلًا   قال الحافظ: وهو في السابعة، بلا خلاف، وما جاء عن علي أنه في السادسة عند شجرة طوبى، فإن ثبت، حمل على البيت الذي في السادسة بجانبه شجرة طوبى، لأنه جاء عنه؛ أن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة، وكل منهما معمور بالملائكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره، أن البيت المعمور في السماء الدنيا، فإن محمول على أول بيت يحاذي الكعبة من بيوت السماوات، "فمع التعدد"، أي: مع القول بتعدد المعراج، "فلا إشكال" بين الثابت المشهور في الروياات أنه في السابعة، وبين روايتي أبي وشريك؛ أذرنه في السادسة يحمل كل على مرة، "ومع الاتحاد" الذي هو الصحيح وقول الجمهور. "فقد جمع بأن موسى كان حالة العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط كان موسى في السابعة"؛ بأن يكون صعد معه أو بعده، لأجل المراجعة في مر الصلاة؛ "لأنه لم يذكر في القصة، أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة"، لكن لا يلزم من عدم الكلام أن يكون في السادسة حين الرجوع الذي هو تمام الجمع بين الروايتين، إذ تركه وإن كان في السابعة؛ لأن الخليل شأنه التسليم لخليله، "كما كلمه موسى عليه السلام"، وجزاه عنا خيرًا، "والسماء السابعة هي أول شيء انتهى إليه حالة الهبوط"، مما هو أعلى منها. "فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو ال ذي خاطبه في ذلك"، أي: أمر الصلاة، "كما ثبت في جميع الروايات"؛ لأن شأن الكليم التكلم، ولا بأس بهذا الجمع، لكن قد علمت أن تمامه بوجوده إبراهيم حين رجع في السادسة، وأن تعليله بعدم تكلمه في الصلاة لا ينهض بل قد يخدش فيه قوله في حديث أنس عند أبن أبي حاتم ثم انجلت عنه السحابة، وأخذ بيده، فانصرف سريعًا، فأتى على إبراهيم، فلم يقل شيئًا، فظاهر هذا أنه مر على إبراهيم قبل موسى. "ويحتمل" في الجمع أيضًا، "أن يكون لقي موسى في السادسة، فأصعد معه إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة، قاله في فتح الباري، وقال: إن النووي أشار إلى شيء من ذلك. وفي رواية شريك عن أنس في قصة موسى: "لم أظن أن أحدًا يرفع علي". قال ابن بطال: فهم موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر: لقوله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم، وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك.   السابعة، تفضيلًا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك مع كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة"، وهو قريب من الاحتمال قبله، ولم يعرج في هذا أيضا على رواية: وإبراهيم في السادسة: "قاله في فتح الباري". "وقال: إن النووي أشار إلى شيء من ذلك"، وجمع الكرماني في كتاب الصلاة، بأنه رأى إبراهيم في السادسة: ثم ارتقى إبراهيم إلى السابعة، ليراه في مكانين تعظيمًا له، وتبعه شيخ الإسلام زكريا، وهو عندي أولى من الاحتمالين. "وفي رواية شريك، عن أنس في قصة موسى": تلو قوله بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب "لم أظن" فيما مضى، "أحدا يرفع علي"، لا في الماضي ولا في المستقبل، ولفظ الصحيح: لم أظن أن يرفع على أحد. قال المصنف: بضم التحتية وفتح الفاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أن ترفع على أحدًا بالنصب وفتح الفوقية. "قال ابن بطال: فهو موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى له في الدنيا دون غيره من البشر، لقوله تعالى": تعليل لفهم اختصاصه، {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ، أن المراد بالناس هنا: البشر كلهم"، من في زمنه ومن تقدمه ومن تأخره، "وأنه استحق بذلك أن لا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدًا عليه الصلاة والسلام بما أعطاه من المقام المحمود وغيره، ارتفع على موسى وغيره بذلك"، فكان المراد بالناس ناس زمانه، لا جميع البشر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 وفي حديث أبي سعيد قال موسى: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم الخلق على الله، وهذا أكرم على الله مني، زاد الأمور في روايته: ولو كان هذا وحده لهان علي، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله. وفي حديث مالك بن صعصعة: "ولما جاوزته -بقي موسى- يبكي، فنودي: ما يبكيك؟ قال: رب، هذا غلام بعثته من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي". ولم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان اسفًا على ما فاته من   "وفي حديث أبي سعيد" عند البيهقي وغيره، "قال موسى: تزعم بنو إسرائيل إني أكرم الخلق على الله، وهذا أكرم على الله مني"، وأخرج البزار، والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال موسى: تزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله، وهذا رجل من بني آدم خلفني في دنيا، وأنا في أخرى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن مع كل نبي أمته. "زاد" سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي بن أمية، "الأموي" بفتح الهمزة، على غير قياس، وضمها على القياس وهو الأشهر عندهم، كما في المصباح نسبة لجده الأعلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وجزم الجوهري بالفتح، ثم قال: وربما ضموا "في روايته" لحديث المعراج في مغازيه، "ولو كان هذا وحده لهان علي، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله"، ومعلوم أن هذا من الغبطة لا الحسد، معاذ الله. "وفي حديث مالك بن صعصعة: "ولما جاوزته بقي موسى يبكي، فنودي" لفظ الحديث، كما مر: فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك"؟، وكذا هو لفظ البخاري في المعراج، وبدء الخلق وكذا لفظ مسلم وغيره، "ما يبكيك"؟، قال": قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن قائل ذلك له الباري تبارك وتعالى، يدل على هذا قوله في الجواب، "رب هذا غلام بعثته من بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي"، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه مر بموسى عليه السلام يرفع صوته، فيقول: "أكرمته وفضلته، فقال جبريل: هذا موسى قلت: من يعاتب؟ قال: يعاتب ربه، قلت: ويرفع صوته على ربه؟، قال: إن الله قد عرف له حدته". قال العلماء: "ولم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله"، مفعول مطلق حذف عامله، أي: أعوذ، أي: أعتصم بالله معاذا من توهم أن بكاءه حسدًا، "فإن الحسد في ذلك العالم منزوع من آحاد المؤمنين فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان آسفًا على ما فاته من الأجر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم، المستلزمة لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبي مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة. وقال العارف ابن أبي جمرة: قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرأفة والرحمة لأمتهم، وركبهم على ذلك، وقد بكى نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "هذا رحمة وإنما يرحم الله من عباه الرحماء"، والأنبياء   الذي يترتب عليه رفع الدرحات له بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزمة لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبي مثل أجر كل من تبعه"، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، "ولهذا كان من أتبعه في العدد دون من أتبع نبينا -صلى الله عليه وسلم- مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة، وقال العارف ابن أبي جمرة: قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرأفة والراحمة لأمتهم وركبهم"، أي: ركب بنيتهم في أصل خلقتهم، مجبولة "على ذلك"، حتى كأنهم خلوقا من الرأفة والرحمة، "وقد بكى نبينا فقيل له: ما يبكيك"؟. روى الشيخان عن أسامة: أرسلت بنت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ أن ابني قد احتضر، فأشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، ويقول: "إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت ورجال: فدفع إليه الصبي، فأقعده في حجره، ونفسه تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟، "قال: "هذا رحمة" جعلها الله في قلوب عباده، "وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"، روي بالنصب مفعول يرحم، على أن ما في إنما كافة، أو أداة حصر، وبالرفع خبر أن على أنها موصولة بمعنى الذين، والرحماء جمع رحيم من صيغ المبالغة، فمقتضاه أن رحمة الله تختص بالمتصف بالرحمة الكاملة، لخلاف من فيه رحمة ما. لكن قضية خبر أبي داود الراحمون يرحمهم الله، شموله له، ورجح، وإنما بولغ في الأول؛ لأن ذكر الجلالة دال على العظمة، فناسب فيه التعيظم والمبالغة. وقال شيخنا: لعل مراد الحديث أنه يرحم، كثير الرحمة رحمة تامة، بحيث تمنع من قامت به من العذاب، فلا يرد أن يرحم الكافر بتخفيف العذاب عنه، وبتأخيره في سعة عيش وصحة، وغيرهما إلى وقت قبض روحه، وقد يخفف عنه عذاب غير الكفر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم، فلأجل ما كان بموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته؛ لأن هذا وقت إفضال وكرم وجود لعل أن يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة. فإن قال قائل: كيف يكون هذا، وأمته لا تخلو من قسمين: قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذي مات على الإيمان لا بد له من دخول الجنة، والذي مات على الكفر لم يدخل الجنة أبدًا فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ؛ لأن الحكم فيهم قد مر ونفذ. قيل: إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرًا وقدر أن ينفذ على كل الأحوال، وقدر قدرًا وقدر أن لا ينفذ، ويكون رفعه بسبب دعاء أو صدقة أو غير ذلك، فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف ...   "والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم فلأجل ما كان بموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذ ذاك رحمة منه لأمته؛ لأن هذا وقت إفضال وكرم وجود، فرجًا" حصول ما يتمناه من الثواب لأمته، فقال: "لعل أن يكون"، والرجاء يستعمل بمعنى التمني والخوف؛ لأن الراجي يخاف أن لا يدرك ما يترجاه، "وقت القبول والإفضال"، أي: الزيادة من النعم والخير على العباد، فيرحم الله أمته ببركة هذه الساعة"؛ لأن لله أوقاتًا يتجلى فيها بالرحمة على العباد، فلا يرد فيها سائلًا ولا يمنع راجيًا "فإن قال قائل: كيف يكون هذا": الواقع من موسى "وأمته لا تخلو من قسمين" جملة حالية، مقررة للإشكال، "قسم مات على الإيمان، وقسم مات على الكفر، فالذي مت على الإيمان لا بد له من دخول الجنة"، وإن كثر عصيانه في الدنيا، "والذي مات على الكفر لا يدخل الجنة أبدًا" {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ، "فبكاؤه لأجل ما ذكر لا يسوغ؛ لأن الحكم فيم قد مر ونفذ"، عطف تفسير، "قيل" في الجواب: "إن الله تعالى قدر قدره على قسمين، فقدر قدرًا، وقدر أن ينفذ على كل الأحوال"، فلا بد من وقوعه، "وقد قدرًا، وقدر أن لا ينفذ"، أي: أن لا يوجد خارجا، ولكن "يكون رفعه بسب دعاؤه أو صدقه، أو غير ذلك" مما علق عليه في الأول، وحصل ذلك المعلق عليه، "فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة، طمع" في ذلك، وقال: "لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدره الله تعالى، وقدر ارتفاعه بسب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى؛ لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم، ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم، فطمع الكليم لعل أن يحلق لأمته نصيبًا من هذا الخير العظيم وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: "إن لله نفحات فتعرضوا لنفحات الله"، وهذه نفحة من النفحات فتعرض لها موسى، فكان أمرًا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت   قدره الله تعالى، وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع إليه، وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى؛ لأنه وقت أسرى فيه بالحبيب الكريم ليخلع عليه خلع": بكسر ففتح، جمع خلعة، بزنة سدرة وسدر: "القرب والفضل العميم، فطمع الكليم، لعل أن يلحق لأمته نصيبًا من هذ الخير العظيم". "وقد قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: إن لله نفحات، فتعرضوا"، أي: تصدوا، أو من التعرض، وهو الميل إلى الشيء من أحد جوانبه، "لنفحات الله"، أي: اسلكوا طرقها حتى تصير عادة، وطبيعة وسجية، وتعاطوا أسبابها، وهو فعل الأوامر، وتجنب المناهي، رجاء أن تهب من رياح رحمته نفحة بسعدكم، أو المعنى تعرضوا لها بطلبكم منه. قال الصوفية: التعرض للنفحات: الترقب لورودها بدوام اليقظة والانتباه من سنة الغفلة، حتى إذا مرت، نزلت بفناء القلوب. قال بعضهم: ومقصود الحديث إن لله فيوضًا ومواهب، تبدو لموامعها من أبواب خزائن الكر والمنن في بعض الأوقات، فتهب فورتها ومقدماتها، كالأنموذج لما وراءها من مدد الرحمة، فمن تعرض لها مع الطهارة الظاهرة والباطنة، بجمع همة وحضور قلب، حصل له منها في دفعة واحدة، ما يزيد على النعم الدارة في الأزمنة الطويلة على طول الأعمال، فإن خزائن الثواب بمقدار على طريق الجزاء، وخزائن المنن، النفحة منها تفوق، فما يعطى على الجزاء له مقدار ووقت معلوم، ووقت النفحة مبهم في الأزمنة، والساعات ليداوم على الطلب بالسؤال، كما في ليلة القدر، وساعة الجمعة، فقصد أن يكونوا متعرضين له في كل الأوقات قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبهم، وفي وقت التصرف في أشغال الدنيا، فإنه إذا دام أوشك أن يوافق الوقت الذي ينفخ فيه فيسعد بسعادة الأبد، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات، تصيب من يشاء من عباده"، الحديث، أخرجه البيهقي من حديث أنس وأبي هريرة. "وهذه نفحة من النفحات"، عطية من العطيات، قال المصباح: النفحة: العطية، وقيل: مبدأ شيء قليل من كثير، وفي المصباح: نفح الطيب: فاح، ونفحت الريح: هبت، "فتعرض لها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 القدرة بأنها فيه تؤثر، وما كان قضاء نافذا لا تؤثر فيه ولا ترده الأسباب، حتم قد لزم. وفي بكائه عليه الصلاة والسلام وجه آخر، وهو البشارة لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وإدخال السرور عليه، وذلك قول موسى عليه السلاة والسلام - الذي هو أكثر الأنبياء أتباعًا: إن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتي. وأما قول موسى عليه الصلاة والسلام: لأن غلامًا ولم يقل غير ذلك من الصيغ، فإشارة إلى صغر سنه بالنسبة إليه. وفي القاموس: الغلام، الطار الشارب، والكهل ضد. وقال الخطابي: العرب تسمي الرجال المستجمع السن غلامًا، ما دامت فيه   موسى، فكان أمرًا قد قدر، والأسباب لا تؤثر إلا بما سبقت القدرة؛ بأنها فيه تؤثر" من تعليقه على سبب وقوعه، "وما كان قضاء نافذًا لا تؤثر فيه، ولا ترده الأسباب"؛ لأنه "حتم قد لزم"، ومثال ذلك دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، أن يظهر عليهم عدو من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما، وأن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها، فأستجيب له في الاثنتين دون الثالثة، وقيل له: هذا أمر قدرته، أي: أنفذته، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدره الله، وقدر أن لا ينفذه بسبب الدعاء، والثالثة من القدر الذي قدره، وقدر إنفاذه على كل الأحوال لا يرده راد. "وفي" حكمة "بكائه"، أي: موسى، "عليه الصلاة والسلام: وجه آخر: وهو البشارة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وإدخال السرور عليه"، بكثرة أمته المستلزمة لكثرة أجره، "وذلك قول موسى عليه الصلاة والسلام، الذي هو أكثر الأنبياء أتباعًا، أن الذين يدخلون الجنة من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يدخلها من أمتي"، فكباؤه حين جاوزه المصطفى، وقبل أن يبعد عنه، لأجل أن يسمعه هذه البشارة، إذ لو لم يكن لذلك لترك لبكاء حتى يبعد عنه، فلا يسمعه، ولم يبك حين كان معه، بل رحب به وأثنى عليه، ودعا له بخير لئلا يشوش عليه. "وأما قول موسى عليه الصلاة والسلام: لأن غلامًا، ولم يقل غير ذلك من الصيغ"، كرجلًا، أو نبيًا، "فإشارة إلى صغر سنه"، أي: المصطفى، "وبالنسبة إليه"، إلى موسى، "وفي القاموس: الغلام الطار"، أي: النابت، "الشارب، والكهل ضد"، فيحتمل أنه استعمله بمعنى الكهل لاستعماله فيه وفي الكهل. "وقال الخطابي: العرب تسمى الرجال المستجمع السن"، أي: البالغ مبلغ الرجال، بأن بلغ أشده، واستوت لحيته "غلامًا، ما دامت فيه بقية من القوة في الكهولة"، إشارة إلى مدحه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 بقية من القوة في الكهولة. قال في فتح الباري: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص، حتى إن الناس في قدومه المدينة لما رأوه مردفًا أبا بكر، أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر والله أعلم. انتهى. وقد ذكرت ذلك في الهجرة من المقصد الأول.   بقوة الشاب مع أنه كهل. وقال ابن أبي جمرة: العرب إنما يطلقون على المرء غلامًا إذا كان سيدًا فيهم، فلأجل ما في هذا اللفظ من الاختصاص على غيره من ألفاظ الأفضلية، ذكره موسى دون غيره تعظيمًا للنبي -صلى الله عليه وسلم. "قال في فتح الباري: ويظهر لي أن موسى عليه السلام، أشار إلى ما أنعم الله به على نبينا عليه السلام، من استمرار القوة في الكهولة، إلى أن دخل في سن الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعتراه في قوته نقص"، وهذا غير كلام الخطابي؛ لأنه قال بقية من القوة، وهذا صرح ببقاء قوته كلها، "حتى أن الناس في قدومه المدينة لما رآوه مردفًا أبا بكر" على راحلته، وإن كان له راحلة، إكرامًا له، أو على راحلة أخرى، قال تعالى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِين} [الأنفال: 9] ، أي: يتلو بعضهم بعضًا، قاله الداودي. ورجح ابن التين الأول، وقال: لا يصح الثاني؛ لأنه يلزمه منه أن يمشي أبو بكر بين يديه -صلى الله عليه وسلم- ورده الحافظ؛ بأنه إنما يلزم ذلك لو جاء الخبر بالعكس، فأما، ولفظه وهو مردف أبا بكر فلا. وفي البخاري من وجه آخر، عن أنس، فكأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- على راحلته، وأبو بكر ردفه، "أطلقوا عليه اسم الشاب، وعلى أبي بكر اسم الشيخ". قال أنس: أقبل -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي -صلى الله عليه وسل- شاب لا يعرف، الحديث في البخاري، "مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر"، بأزيد من عامين؛ لأنه استكمل بمدة خلافته عمر المصطفى، "والله أعلم انتهى. وقد ذكرت ذلك"، أي: حديث أنس المذكور "في الهجرة من المقصد الأول". قال الحافظ: وقد وقع من موسى في هذه القصة من مراعاة جانب النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه أمسك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وقد وقع في حديث أبي هريرة عند الطبري في ذكر إبراهيم: "فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي". وفي رواية مسلم من حديث ثابت عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فإذا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذ هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، إلى يوم القيامة وفيه، فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطي   عن جميع ما وقع له حتى فارقه النبي -صلى الله عليه وسلم- أدبًا معه وحسن عشرة، فلما فارقه بكى، وقال ما قال. انتهى. "وقد وقع في حديث أبي هريرة عند الطبري" محمد بن جرير، "في ذكر إبراهيم"، فإذا هو برجل أشمط"، أي: أبيض الرأس يخالط سواده، "جالس عند باب الجنة على كرسي"، وفي حديث أبي سعيد: "فإذا بإبراهيم خليل الرحمن مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال". "وفي رواية مسلم من حديث ثابت" البناني، "عن أنس، ثم عرج" بالبناء للفاعل وضمير، "بنا" للمصطفى، وجبريل، ويجوز بناؤه للمفعول، "إلى السماء السابعة، فإذا إبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور". قال أبو عبيدة: معنى المعمور: الكثير الغاشية، ويقال له الضراح "بضم المعجمة"، واهمًا لها غلط بين، كما في ربيع الأبرار، سمي به؛ لأنه ضرح عن الأرض، أي: بعد. قال الحافظ: فيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظهر وبغيره؛ لأن البيت المعمور كالكعبة في أنه قبلة من كلة جهة، وقد أسند إبراهيم ظهره إليه. انتهى. وقال التلمساني قيل: فيه دلالة على أن الأفضل في غيره الصلاة إسناد الظهر للقبلة، وقيل: الأفضل استقبالها، ولعل إبراهيم أسند ظهره ليتوجه للمصطفى ويخاطبه. انتهى. وقد يقال: إنما دل على الجواز لا على أنه أفضل، كيف وفي الحديث: "أشرف المجالس ما استقبل به القبلة" رواه الطبراني. "وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك"، للعبادة، "ثم لا يعودن إليه"؛ لأن حجة مرة، كفرض الحج علينا، أو لإشغال غير دخوله، هذا في مسلم، وزاد ابن إسحاق من حديث أبي سعيد إلى يوم القيامة، هكذاب بينه في الفتح، فما أوهمه قوله: "إلى يوم القيامة" من أنه في رواية مسلم خطأ نشأ عن سقط، ثم وجدت في نسخ صحيحة عدمها، ووقعت هذه الزيادة عند البخاري في بدء الخلق، مضمومة إلى رواية قتادة عن أنس، عن مالك بن صعصعة، بلفظ: "إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم"، وهي مدرجة من رواية قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 شطر الحسن. وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وأبي هريرة عند الطبري: "فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله: قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وهذا ظاهره أن يوسف عليه السلام كان أحسن من جميع الناس، لكن روى   بينه في الفتح، وإليه أشار البخاري، وقد قدمته، وآخر روي بالرفع بتقدير ذلك آخر، والنصب على الظرف. قال عياض: والرفع أجود، قال الحافظ: واستدل به على أن الملائكة أكثر المخلوقات؛ لأنه لا يعرف من جميع العوالم من يتحدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفًا، غير ما ثبت من الملائكة في هذا الخبر. انتهى. ويأتي مزيد لهذا في المصنف، وسئل علي عنه، فقال: "بيت في السماء السابعة بحيال البيت، حرمته كحرمة هذا في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه"، أخرجه ابن راهويه، وحكمه الرفع، إذ لا يقال رأيا. "وفيه"، أي: حديث ثابت، المذكور عن أنس: ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فذكر مثل الأول، "ففتح لنا"، "فإذا أنا بيوسف، وإذا هو قد أعطى شطر الحسن"، أي: نصفه، والناس كلهم بعده شركاء في النصف الآخر، هذا ظاهر ببادي الرأي، لكن الحقيقة والمراد منه أنه أوتي شطر الحسن الذي أوتي المصطفى جملته، قاله ابن المنير. وقال بعض شراح المصابيح: المراد بالشطر البعض؛ لأن الشطر، كما يراد به نصف الشيء قد يراد به بعضه مطلقًا. قال الطيبي: وقد يراد به الجهة أيضًا، نحو: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 150] ، أي: جهة من الحسن، ومسحة منه، كما يقال على وجهه مسحة ملك، ومسحة جمال، أي: ظاهر، ولا يقال ذلك إلا يقال ذلك إلا في المدح. "وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي، وأبي هريرة عند الطبري" محمد بن جرير: "فإذا أنا برجل"، يعني يوسف، "أحسن ما خلق الله، قد فضل"، زاد، "الناس بالحسن، كالقمر ليلة البدر"، أربعة عشر، وهو أعلى ما يكون البدر "على سائر الكواكب، وهذا ظاهره؛ أن يوسف عليه السلام، كان أحسن من جميع الناس، لكن" هذا الظاهر ليس بمراد، إذ لا نزاع أن المصطفى أحسن منه. وقد "روى الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه، حسن الصوت، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 الترمذي من حديث أنس: "ما بعث الله نبيًا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا"، فعلى هذا يحتمل حديث المعراج على أن االمراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم- ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه. وحمل ابن المنير حديث الباب على أن المراد: أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا -صلى الله عليه وسلم. وأما قوله في الحديث عن إدريس: ثم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والولد، وقال ابن المنير: وفي طريق شاذة: مرحبًا بالابن الصالح، وهذه هي القياس؛ لأنه جده الأعلى.   وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا"، فصرح بأنه أحسن من يوسف وغيره. "فعلى هذا يحمل حديث المعراج"، المذكور من رواية أبي سعيد، وأبي هرير، "على أن المراد غير النبي -صلى الله عليه وسلم"، فلا تعارض بينه وبين حديث أنس المذكور. "ويؤيده قول من قال" من أهل الأصول، "أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامهن وحمل ابن المنير حديث الباب"، المروي في مسلم، "على أن المراد، أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا"، أي: أوتي جملته، كما عبر به ابن المنير قائلًا، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بلغ الغاية، ويوسف عليه السلام بلغ نصفها، قال: ويحقق هذا حديث ما بعث الله نبيًا، فذكره أو المراد به البعض، أو الجهة، كما مر عن الطيبي وغيره. "وأما قوله في الحديث عن إدريس، ثم قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح"، فسماه بالأخ، مع أنه جد له أعلى؛ لأنه إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، فكان قياسه أن يقول بالابن، كما قال إبراهيم وآدم، "فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والد"، فلا إشكال في خطابه له بالأخوة؛ لأنه، كما هو والده نسبًا أخوه في النبوة والإسلام، وعدل للأخوة تلطفًا وتأدبًا. "وقال ابن المنير: وفي طريق شاذة: مرحبًا بالابن الصالح"، هكذا ذكره في الفوائد من معراجه، وقال قبل ذلك في أوائله أكثر الطرق على أنه خاطبه بالأخ، وقال لي ابن أبي الفضل: صحت لي طريق أنه خاطبه بالابن الصالح، انتهى وكأنه بين مراه أولًا، فالشاذ ما خلف فيه الثقة غيره، "وهذه هي القياس"، وإن قال بعضهم: في صحتها نظر؛ "لأنه جده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 وقيل: إن إدريس الذي لقيه ليس هو الجد المشهور، ولكنه إلياس، فإن كان كذلك ارتفع الإشكال. فإن قلت: لم يكن هؤلاء الانبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات دون غيرهم من الأنبياء؟ وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه؟ ولم كان في السماء الثانية بخصوصها اثنان؟ أجيب عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، بأنهم أمروا بملاقاة   الأعلى"، إذ هو سبط شيث، كما علم، وجد أبي نوح بن لمك "بفتح اللام وإسكان الميم وكاف"، ابن متوشلخ "بفتح الميم، وشد الفوقية مضمومة وسكون الواون وفتح المعجمة، واللام آخره معجمة"، ابن خنوخ، وهو إدريس، سمي به لكثرة درسه للحف؛ على أنه عربي مشق من الدراسة، وقيل: سرياني. "وقيل: إن إدريس الذي لقيه ليس هو الحد المشهور، ولكنه إلياس" بن ياسين، سبط هارون أخي موسى، بعث بعده، ويسمى إدريس أيضًا؛ لأنه قرئ إدريس وإدراس مكان إلياس. وفي البخاري، يذكر عن ابن مسعود، وابن عباس؛ أن إدريس هو إلياس، واختار هذا القول ابن العربي وتلميذه السهيلي، لحديث المعراج حيث سماه أخا، "فإن كان كذلك ارتفع الإشكال"، وإن كان هو الجد الأعلى، فيحمل على أخوة النبوة والإسلام؛ لأنها تجمع الوالد والولد، وإنما خص إبراهيم ونوح، وآدم بالأبوة لعرف خاص، كما يشتهر الإنسان بأحد أجداده دون من سواه من الأعلين والأدنين، كاشتهار محمد بن إدريس بالشافعي، نسبة إلى أحد أجداده شافع، وهكذا أسماء القبائل كلها، يشتهر واحد من طبقة الأجداد، فينسب إله الأولاد دون من فوقه وتحته، هذا بقية كلام ابن المنير. "فإن قلت: لم كان هؤلاء الأنبياء" الثمانية، المذكورون في حديث مالك بن صعصعة: آدم فيحيى وعيسى، فيوسف، فإدريس، فهارون، فموسى، فإبراهيم "عليهم الصلاة والسلام في السماوات دون غيرهم من الأنبياء"، لعل المراد أنه إنما وجد هؤلاء دون غيرهم في السموات وإلا، فكونه مر على هؤلاء لا يلزم منه أن لا يكون فيها غيرهم، ولا يأتي نص بنفي كون غيرهم فيها. "وما وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء تخصه، ولم كن في السماء الثانية بخصوصها اثنان" يحيى وعيسى، "أجيب عن الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء بأنهم أمروا بملاقاة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 نبينا -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحقه، ومنهم من فاته. وقيل: إشارة إلى ما سيقع له -صلى الله عليه وسلم- مع قومه، من مظير ما وقع لكل منهم: فأما آدم عليه السلام فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي خرج منه.   من فاته" على عرف الناس، إذا تلقوا الغئب مبتدرين للقائه، فلا بد غالبًا أن يسبق بعضهم بعضًا، ويصادف بعضهم اللقاء، ولا يصادف بعضهمن وإلى هذا أشار ابن بطال. قال السهيلي: فلم يصنع شيئًا، انتهى لكن هذا الجواب لا يطابق سؤال المصنف إلا بتقدير مضاف، أي: لم كان انتظار هؤلاء لملاقاة النبي في السماوات، فحذف المضاف لفهمه من الجواب. وفي فتح الباري اختلف في حكمة اختصاص كل منهم بالسماء التي التقاه بها، فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه من أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زيفه السهيلي، فأصاب، انتهى، فلو أتى المصنف بهذا كان أفيد مما ذكره، وأسلم من الإيراد. "وقيل": الحكمة في الاقتصار على المذكورين، "إشارة إلى ما سيقع له -صلى الله عليه وسلم- مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم"، ووجه الإشارة؛ أن رؤيته لصورهم كالفال، فتفسر رؤية كل واحد بما يشبه ما وقع له، فهو تنبيه على الحالات الخاصة بهم، وتمثيل بما سيقع للمصطفى مما اتفق لهم مما قصه الله عنهم في كتابه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب الفأل الحسن، ويستدل به على حسن العاقبة، وبالضد من ذلك، والفأل في اليقظة نظير الرؤيا في المنام، وهل التعبير يقولون: من رأى نبيًا من الأنبياء بعينه في المنام، فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي من شدة أو رخاء أو غير ذلك من الأمور التي أخبر بها عن الأنبياء في القرآن والحديث، أشار إلى هذا ابن المنير وغيره. "فأما آدم عليه السلام، فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة" التي كان فيها في أمن الله وجواره، "إلى الأرض بما سيقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من الهجرة" من مكة، وهي حرم الله وأمنه، وقطانها جيران الله؛ لأن فيها بيته "إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما ألفه من الوطن، ثم كان عاقبة كل منهما أن يرجع إلى وطنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 وبعيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة من عداوة اليهود، وتماديهم على البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه. وبيوسف، على ما وقع له مع إخوته على ما وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من قريش، من   الذي خرج منه"، فآدم رجع إلى السماء بعد أن أهبط منها، والمصطفى رجع إلى مكة لما فتحها وصارت في يده، وهذا معنى كلام السهيلي، وزاد تلميذه ابن دحية، وتبعه ابن المنير؛ أن فيه تنبيهًا على أنه يقوم مقامه في مبدأ الهجرة؛ لأن مقام آدم التهيئة، والنشأة وعمارة الدنيا بأولاده، وكذا كان مقام المصطفى أول سنة من الهجرة مقام تنشئة الإسلام، وتربية أهله، واتخاذ الأنصار لعمارة الأرض كلها بهذا الدين الذي أظهره الله على الدين كله، وزوي الأرض لنبيه حتى أراه مشارقها ومغاربها. وقال -صلى الله عليه وسلم: "ليبلغن ملك أمتي ما زوى لي منها"، واتفق في ذلك في زمن هشام بن عبد الملك، جيء إليه خراج الأرض شرقًا وغربًا، وكان إذا نشأت سحابة يقول: أمطري حيث شئت، فسيصل إلي خراجك "وبعيسى ويحيى على ما وقع له أول الهجرة"، وهي ثاني حاله له، والأولى بمكة "من عداوة اليهود وتماديهم" بالدال، أي: استمرارهم. وفي نسخ: تماليهم باللام، أي: تعاونهم أو اجتماعهم "على البغي عليه وإرادتهم وصول السوء إليه"، وهذا لفظ الفتح قائلًا: إنه لخصه من السهيلي، وهو محتاج لبيان، ولفظ السهيلي واضح، وهو: ثم رأى في الثانية عيسى ويحيى، وهما الممتحنان باليهود، أما عيسى، فكذبته اليهود وآذوه، وهموا بقتله، فرفعه الله، أما يحيى، فقتلوه، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان، وكانت محنته فيها باليهود آذوه، وظاهروه عليه، وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه، فنجاه الله، كما نجى عيسى، ثم سموه في الشاة، فلم تزل تلك الأكلة تعاوده حتى قطعت أبهره. وقال ابن دحية: كانت حالة عيسى ومقامته معالجة بني إسرائيل والصبر على معالجة اليهود وحيلهم ومكرهم، وطلب عيسى الانتصار عليهم بقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه} ، أي: مع الله، قال الحواريون: نحن أنصار الله، فهذه كانت حالة نبينا صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة، ففيها طلب الأنصار إلى بدر العظمى، فأجابوه ونصروه، فلقاؤه لعيسى في السماء الثانية، تنبيه على أنه سيلقى مثل حاله ومقامه في السنة الثانية من الهجرة. "وبيوسف على ما وقع له مع أخوته، على ما وقع لنبينا -صلى الله عليه وسلم- من قريش": أقاربه، "من نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك يوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 نصبهم الحرب له، وإرادتهم إهلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار عغليه السلام إلى ذلك يوم الفتح بقوله لقريش: كما قال يوسف: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، أي العتقاء.   الفتح، بقوله لقريش" بعد الخطبة: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم"؟، قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت، فقال: "أقول كما قال" أخي "يوسف لا تثريب": عتب "عليكم اليوم"، خصه بالذكر؛ لأنه مظنة التثريب، فغيره أولى، "يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء" "بضم المهملة وفتح اللام وقاف" جمع طليق. قال المصنف في فتح مكة أي: الذين أطلقوا فلم يسترقوا، ولم يؤسروا، والطليق الأسير إذا أطلق، فتفسيره هنا بقوله، "أي: العتقاء": جمع عتيق بمعنى معتوق، فيه تجوز؛ لأن حقيقة العتيق من أزيل عنه الرق، وهؤلاء لم يسترقوا، لكن لما كان المصطفى متمكنا منه، ورفعه عنهم، شبههم بمن أزيل عنه الرق، وأطلق عليه اسمه، ثم هذا الذي ذكره المصنف إلى قوله: "اليوم يغفر"، هو ما ذكر في الفتح؛ أنه لخصه من السهيلي. وأما لفظه في الروض، فهو: وأما لقاؤه ليوسف في الثالثة، فيؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف، وذلك أنه ظفر بأخوته بعد إخراجه من بين ظهرانيهم، فصفح عنهم، وقال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم} [يوسف: 92] ، وكذا نبينا أسر يوم بدر جملة من أقاربه الذين أخرجوه، فيهم عمه العباس، وابن عمه عقيل، فمنهم من أطلق، ومن من فدى، ثم ظهر عليهم عام الفتح، فقال: أقول، كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم} . انتهى. وال ابن دحية: مناسبة لقائه ليوسف في الثالثة، أن الثالثة من الهجرة اتفقت فيها غزوة أحد، وكانت على المسلمين، لم يصابوا بنازلة قبلها ولا بعدها مثلها، فإنها كانت وقعة أسف وحزن، وأهل التعبير يقولون: من رأى أحدًا اسمه يوسف، آذن ذلك من حيث الاشتقاق، ومن حيث قصة يوسف بأسف يناله. قال ابن دحية: فإن كان يوسف النبي، فالعاقبة حميدة والآخرة خير من الأولى، ومما اتفق في أحد من المناسبة شيوع قتل المصطفى، فناسب ما حصل للمسلمين من الأسف على فقد نبيهم، ما حصل ليعقوب من الأسف على يوسف، لاعتقاد أنه فقد إلى أن وجد ريحه بعد تطاول الأمد. ومن المناسبة أيضًا بين القصتين؛ أن يوسف كيف وألقي في غيابة الجب حتى أنقذه الله على يد من شاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى. وبهارون إذ رجع قومه إلى محبته بعد إن آذوه.   قال ابن إسحاق: وأكبت الحجارة على جبهته -صلى الله عليه وسلم- من قريش حتى سقط لجنبه في حفرة، كان أبو عامر الفاسق حفرها مكيدة للمسلمين، فأخذ علي بيده -صلى الله عليه وسلم-، واحتضنه طلحة حتى قام، "وبإدريس على رفيع منزلته عند الله تعالى"، لفظ الروض، ثم لقاؤه لإدريس في الرابعة، وهو المكان الذي سماه الله مكانًا عليًا، وهو أول من خط بالقلم، فكان ذلك مؤذنا بحالة رابعة، وهو علو شأنه -صلى الله عليه وسلم- حتى أخاف الملوك، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأى ما رأى من خوف هرقل، لقد أمر ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الأصفر، وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الأرض، فمنهم من أتبعه على دينه، كالنجاشي وملك عمان، ومنهم من هادنه، وأهدى إليه وأتحفه، ما أوتي إدريس. انتهى، ولا يفهم من قوله بحالة رابعة وقوع الكتابة إلى الملوك في رابعة الهجرة، كما ظن ابن المنير، فقال: فلعل ذلك صادف السنة الرابعة، مطابقًا للقاء إدريس في السماء الرابعة. انتهى، فإنه سهو عجيب، فإن كتابته للملوك كانت أو السنة السابعة، كما تقدم في المكاتبات. قال ابن المنير: واختلف هل رفع إدريس بعد الوفاة، أو رفع حيًا كعيسى، وفي المكان العلي هل هو السماء الرابعة، أو الجنة، فإن كان هو الجنة فقد شاركه المصطفى بلقائه فيها، وزاد عليه في الارتفاع إلى أعلى الجنان، وأرع الدرجات انتهى ملخصًا. "وبهارون إذ رجع قومه إلى محبته بعد أن آذوه"، ولفظ الروض: ولقاؤه في الخامسة لهارون المحبب في قومه، يؤذون بحب قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه. وقال تلميذه ابن دحية: ما نال هارون من بني إسرائيل من الأذى، ثم الانتصار عليهم، والإيقاع بهم، وقصر التوبة فيهم على القتل دون غيره من العقوبات المنحطة عنه، وذلك أن هارون عندما تركه موسى في بني إسرائيل، وذهب للمناجاة، تفرقوا على هارون وتحزبوا عليه، وداروا حول قتله، ونقضوا العهد، وأخلفوا الموعد، واستصغروا جانبه، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم، وكانت الجناية العظمى الصادرة منهم عبادة العجل، فلم يقبل الله منهم التوبة إلا بالقتل، فقتل في ساعة واحدة سبعون ألفًا، كان نظير ذلك في حقه -صلى الله عليه وسلم- ما لقيه في خامسة الهجرة من يهود قريظة، والنضير وقينقاع، فإنهم نقضوا العهد وخربوا الأحزاب، وجمعوها، وحشدوا، وحشروا، وأظهروا عداوة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأرادوا قتله، وذهب إليهم قبل الوقعة بزمن يسير، يستعينهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله: " لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر". وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور، بما ختم الله له -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره من إقامة نسك الحج، وتعظيم البيت الحرام.   في دية قتيلين، فأظهروا إكرامه، وأجلسوه تحت جدار، ثم تواعدوا أن يلقوا عليه رحى، فنزل جبريل، فأخبره بمكرهم الذي هموا به، فمن حينئذ عزم على حربهم وقتلهم، وفعل الله تعالى ذلك، وقتل قريظة بتحكيمهم سعد بن معاذ، فقتلوا شر قتلة، وحاق المكر السيئ بأهله، ونظير استضعاف اليهود لهارون استضعافهم للمسلمين في غزوة الخندق. "وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله": "لما آثر ناسًا ليؤلفهم في قسمة غنائم حنين"، فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله، فتغير وجهه، ثم قال: فمن يعدل إن لم يعدل الله، ورسوله ثم قال: "لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر"، رواه الشيخان. ولفظ السهيلي: ولقاؤه في السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها، وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم، وكذلك غزا -صلى الله عليه وسلم- تبوك من أرض الشام، وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيرًا وافتتح مكة، ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه. وقال ابن دحية: يؤذن لقاؤه له في السادسة بمعالجة قومه، فإن موسى ابتلي بمعالجة بني إسرائيل، والصبر على أذاهم، وما عالجة المصطفى في السنة السادسة: لم يعالج قبله ولا بعده مثله، ففيها افتتح خيبر وفدك وجميع حصون اليهود، وكتب الله عليهم الجلاء، وضربهم بسوط البلاء، وعالج -صلى الله عليه وسلم- في هذه السنة، كما عالج موسى من قومه، أراد أن يقيم الشريعة في الأرض المقدسة، وحمل قومه على ذلك، فتقاعدوا عنه، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} ، وفي الآخر سجلوا بالقنوط: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} ، فغضب الله عليهم، وحال بينهم وبينها، وأوقعهم في التيه، وكذلك أراد -صلى الله عليه وسلم- في السادسة أن يدخل بمن معه مكة، يقيم بها شريعة الله وسنة إبراهيم، فصدوه فلم يدخلها في هذا العام، فكان لقاؤه لموسى تنبيهًا على التأسي به، وجميل الأثر في السنة القابلة. "و" وقع التنبيه "بإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما ختم الله له -صلى الله عليه وسلم- في آخر عمره في إقامة نسك الحج وتعظيم البيت الحرام" ولفظ الروض: ثم لقاؤه في السابعة لإبراهيم لحكمتين إحداهما: أن البيت المعمور بحيال الكعبة، وإليه تحج الملائكة، كما أن إبراهيم هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 وأجاب العارف ابن أبي جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء: بأن الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء، وأول الآباء،   الذي بنى الكعبة، وأذن في الناس بالحج إليها، والثانية؛ أن آخر أحواله -صلى الله عليه وسلم- حجه إلى البيت الحرام، وحج معه ذلك العام نحو من تسعين ألفًا، ورؤية إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج؛ لأنه الداعي إليه، والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة. وقال ابن دحية: مناسبة لقيه لإبراهيم في السابعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، ودخل مكة وأصحابه، ملبين معتمرين محييًا لسنة إبراهيم، ومقيمًا لرسمه الذي كانت الجاهلية أماتت ذكره وبدلت أمره، ورؤيته لإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، إشارة إلى أنه يطوف بالكعبة في السابعة، وهي أول دخلة دخل مكة بعد الهجرة، والكعبة في الأرض قبالة البيت المعمور. قال: وفي قوله: فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفًا، لا يرجعون إليه، إلى آخر الدهر، إشارة إلى أنه إذا دخل البيت الحرام لا يرجع إليه؛ لأنه لم يدخله بعد الهجرة إلا عام الفتح، ثم لم يدخله في حجة الوداع، واعلم أن ما ذكره المصنف تبع فيه الحافظ، وقال في آخرها: هذه مناسبات لطيفة أبداها السهيلي، فأوردتها منقحة ملخصة. وقد زاد ابن المنير في ذلك أشياء أضربت عنها، إذ أكثرها في المفاضلة بين الأنبياء، والإشارة في هذا المقام عندي أولى من تطويل العبارة. انتهى، وقال ابن دحية: لا بأس بما ذكه هذا الإمام، يعني شيخ السهيلي، لكن يحتاج إلى تنبيهات، منها إجراؤه لذلك، كالتعبير، فإنه يوهم أن الإسراء كان منامًا، والصحيح أنه يقظة، والذي يرفع الإشكال، أن الفأل في اليقظة: نظير الأحلام، فيكون تعبير الفألأ ببيان ما يدل عليه يقظة، كتعبير الأحلام بما تدل عليها منامًا، فعلى هذا يصح كلامه، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب الفأل الحسن، ويستدل به على حسن العاقبة، وبالضد من ذلك. ومنها أنه لم يذكر للمستوى ولا لما بعده نظيرًا، إما لتعذر استنباط المناسبة، أو لانقطاع الفكرة دون، ذلك انتهى، أو؛ لأن الأولى ترك ذلك، كما أفصح به السهيلي نفسه عقب ذكر المناسبات، إذ قال: وكان الحزم ترك التكلف لتأويل ما لم يرد فيه نص عن السف، ولكن عارض هذا ما يجب من التفكر في حكم الله وتدبر آياته، قال: ولولا مسارعة للناس إلى إنكار ما جهلوه، وغلظ الطباع عن فهم كثير من الحكمة، لأبدينا من سر هذا السؤال أكثر مما كشفنا. "وأجاب العارف ابن أبي جمرة عن وجه اختصاص كل واحد منهم بسماء"، الذي هو ثاني أسئلة المصنف، وفيه جواب الثالث، وهو لم كان في الثانية بخصوصها اثنان: "بأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 وهو الأصل، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة. وأما عيسى فإنما كان في السماء الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا انمحت شريعة عيسى عليه السلام إلا بشريعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأنه ينزل في آخر الزمان لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على شريعته ويحكم بها، ولهذا قال عليه السلام: "أنا أولى الناس بعسيى"، فكان في الثانية لأجل هذا المعنى. وإنما كان يحيى عليه السلام معه هناك؛ لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معًا.   الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء وأول الآباء"، فناسب مقام الأولية، "وهو الأصل"، فكان الأول في الأولى، "ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة" في مبدأ العالم العلوي. "وأما عيسى، فإنما كان في السماء الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء" من حيث الزمن "إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- و"؛ لأنه "لا انمحت شريعة عيسى عليه السلام إلا بشريعة سيدنا محمد؛ ولأنه ينزل في آخر الزمان، لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على شريعته، ويحكم بها"، ووجه جعل هذا حكمة كونه في الثانية، أن عيسى لما شابه المصطفى في ثاني أحواله، وهي حكمه بشريعته، وكونه واحدًا من أمته، ناسب أن يكون في السماء الثانية، وأول أحوال عيسى كونه رسولًا إلى بني إسرائيل، "ولهذا" المذكور من الحكم الثلاث. "قال عليه السلام" في الصحيحين وغيرهما: "أنا أولى الناس"، أي: أخصهم "بعيسى" ابن مريم، وأقربهم إليه؛ لأنه بشر بأنه يأتي من بعده، فالأولوية هنا من جهة قرب العهد، كما أنه أولى الناس بإبراهيم؛ لأنه أبوه، ودعا به، وأشبه الناس به خلقًا وملة، وبين وجه الأولوية بقوله في بقية الحديث: ليس بيني وبينه نبي، كأنه قال: لأنه ليس ... إلخ، وضعف هذا الحديث ما ورد؛ أن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين بعد عيسى؛ لأن في إسنادهما مقالًا، وهذا صحيح بلا شك، إلا أن يجاب بأنها بعثا بتقرير شريعة عيسى لا شريعة مستقلة، ذكره الحافظ وغيره. "فكان في الثانية لأجل هذا المعنى"، وفي فتح الصفا؛ لأنه خلق ثان كخلق آدم، أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، "وإنما كان يحيى عليه السلام معه هناك؛ لأنه ابن خالته، وهما كالشيء الواحد، فلأجل التزام أحدهما بالآخر كانا هناك معًا"، أدق من هذا قول ابن المنير: السر في ذلك أن عيسى لم يلقه بعد موته لرفعه حيًا صيانة له، وذخيرة إلى وقت عوده إلى الأرض قائمًا بشرع المصطفى، غير مجدد شرعًا، فهو في حكم الأحياء، ومقامه في السماء ليس على معنى السكنى الدائمة، بخلاف غيره من الأنبياء، ويحيى هو المقيم في السماء أسوة غيره من الأنبياء، واختص مقامه عند عيسى؛ لأنهما ابنا الخالة، وكانا لدتين، وكانت أم يحيى تقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 وإنما كان يوسف عليه السلام في السماء الثالثة؛ لأن على حسنه تدخل أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة، فأري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له عليه السلام فيسر بذلك. وإنما كان إدريس عليه السلام في السماء الرابعة؛ لأنه هناك توفي ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر. وإنما كان هارون عليه الئلام في السماء الخامسة؛ لأنه ملازم لموسى عليه   لأم عيسى وهما حاملتان: إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك، أي: سجود تحية، فكان بينهما اتحاد منذ كانا، فلما عرض لعيس الصعود إلى السماء جعل عند يحيى. "وإنما كان يوسف عليه السلام في السماء الثالثة؛ لأن على حسنه تدخل أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- الجنة"، وهي ثالث دورها، الدنيا، فالبرزخ، فالجنة، فناسب كونه في الثالثة، "فأري له هناك لكي يكون ذلك بشارة له عليه السلام، فيسر بذلك"، وفي فتح الصفا: ويوسف في الثالثة، باعتبار أن جعله في خزائن الأرض كان مرتبة ثالثة له؛ لأنه بعد خروجه من السجن، وذلك بعد رفعه من الجب. "وإنما كان إدريس عليه السلام في السماء الرابعة؛ لأنه هناك توفي، ولم تكن له تربة في الأرض على ما ذكر" عن كعب الأحبار: أن الملك الموكل بالشمس، كان صديقًا لإدريس، فسأله أن يريه الجنة، فإذن الله له في ذلك، فرفعه فلما كان في السماء الرابعة رآه ملك الموت فعجب، وقال: أمرت أن أقبض روحه في السماء الرابعة، ققضبه. قال السهيلي: ولكون رفعه حيًا إلى ذلك المقام خاصا به، قال تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57] ، فلا ينافي رؤيته إبراهيم وموسى في مكان أعلى منه، ومر عن الحافظ؛ أن هذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحته، وأن رفعه وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية. وقال ابن المنير: اختلف في إدريس هل رفع إلى السماء بعد موته كغيره من الأنبياء، أو إنما رفع حيًا، وهو إلى الآن حي كعيسى، وجاء في القصص، أن إدريس أحبته الملائكة لكثرة عبادته، فسأل ملك الموت أن يذيقه الموت ليهون عليه، فأذاقه، ثم حيي، فسأل أن يورده الناء ليزداد رهبة، فأوردها، ثم أخرج، فسأل أن يدخل الجنة ليزيد رغبة، فأدخلها، فقيل له: اخرج، قال: لا يارب إني ذقت الموت ووردت النار ودخلت الجنة، وقد وعدت من دخلها على ذلك أن لا يخرج منها أبدًا، فأوحى الله إلى الخازن أن دعه، فبإذني فعل ما فعل، فبقي في الجنة في السماء الرابعة على هذا الوجه انتهى، فتأمله. "وإنما كان هارون عليه السلام في السماء الخامسة؛ لأنه ملازم لموسى عليه السلام، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 السلام، لأجل أنه أخوه وخليفته في قومه، فكان هناك لأجل هذا المعنى، وإنما لم يكن مع موسى في السماء السادسة؛ لأن لموسى مزية وحمرة وهي كونه كليمًا واختص بأشياء لم تكن لهارون فلأجل هذا المعنى لم يكن معه. وإنما كان موسى في السماء السادسة لأجل ما اختص به من الفضائل؛ ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء أتباعًا بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم. وإنما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لأنه الخليل والأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي عليه السلام بلقياه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وهو اختراق الحجب، وأيضًا؛ لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام فكان الخليل فوق الكل لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل لأجل ما اختص مما زاد به عليهم، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ   لأجل أنه أخوه" ووزيره "وخليفته في قومه"، لما ذهب إلى المناجاة، "فكان هناك لأجل هذا المعنى، وإنما لم يكن مع موسى في السماء السادسة؛ لأن لموسى مزية وحرمة، وهي كونه كليمًا، واختص بأشياء لم تكن لهارون، فلأجل هذا المعنى لم يكن معه" تكرار لزيادة البيان. "وإنما كان موسى في السادسة، لأجل ما اختص به من الفضائل؛ ولأنه الكليم، وهو أكثر الأنبياء اتباعًا بعد نبينا -صلى الله عليه وسلم"، فكان فهيا للإشعار بالقرب. "وإنما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة؛ لأنه الخليل والأب الأخير" للمصطفى، "فناسب أن يتجدد للنبي عليه السلام بلقياه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وهو اختراق الحجب"، كما أنس بأبيه آدم في أول عالم السماوات، ثم في وسطها بأبيه إدريس؛ لأن الرابعة من السبع وسط معتدل، "وأيضًا؛ لأنه الخليل، ولا أحد أفضل من الخليل إلا الحبيب، والحبيب ها هو قد علا ذلك المقام، فكان الخليل فوق الكل، لأجل خلته وفضله، وارتفع الحبيب فوق الكل، لأجل ما اختص مما زاد به عليهم"، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا بقوله، وأيضًا، فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين، أو أدنى. "قال الله تعالى: " {تِلْك} " مبتدأ " {الرُّسُل} " صفة، والخبر " {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} " بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، " {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّه} " كموسى، " {وَرَفَعَ بَعْضَهُم} " أي: محمدًا " {دَرَجَات} " [البقرة: 253] "، على غيره بعموم الدعوة، وختم النبوة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 بَعْضَهُمْ دَرَجَات} [البقرة: 253] فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة وهي درجة الرسالة، والنبوة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة ترفيعًا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول، انتهى فليتأمل. وقد اختلف في رؤية نبينا -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام، فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم إلا عيسى، لما ثبت أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك. وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة، ويحتمل: الأجساد بأرواحها.   به، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة، "فحصل لهم الكمال والدرجة الرفيعة، وهي درجة الرسالة والنبورة، ورفعوا بعضهم فوق بعض بمقتضى الحكمة" الإلهية، "ترفيعًا للمرفوع دون تنقيص بالمنزول"، وفي نسخة: للمنزول بلام بدل الموحدة، أي: النازل عن غيرة في الفضل "انتهى، فليتأمل". "وقد اختلف في" صفة "رؤية نبينا -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام" في السماوات ولهم ولغيرهم في بيت المقدس، مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض، "فحمله بعضهم على رؤية أرواحهم" متشكلة بصور أجسادهم، "إلا عيسى لما ثبت أنه رفع بجسده"، سواء قلنا رفع حيا عند الأكثرين، أو بعد أن توفي على ظاهر: {إِنِّي مُتَوَفِّيك} ، للاتفاق على رفعه بجسده. "وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك"، أي: رفع بجسده حيًا، ثم مات أم لا على قولين تقدمًا، "وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل الأرواح خاصة"، دون الأجساد ويؤيده حديث أبي هريرة عند الحاكم والبيهقي، فلقي أرواح الأنبياء وفي دليل على تشكل الأرواح بصور أجسادها في عالم الله، "ويحتمل الأجساد بأرواحها"، بأن يكون أسرى بأجسادهم من قبورهم لملاقاة النبي -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة تشريفًا وتكريمًا، ويؤيده حديث أنس عند البيهقي، وبعث له آدم، فمن دون من الأنبياء، فأمهم. وعند البزار والطبراني: فنشر لي الأنبياء من سمى الله تعالى، ومن لم يسم، فصليت بهم. قال الحافظ: واختاره بعض شيوخنا، واحتج بما في مسلم، مرفوعًا: "رأيت مسوى ليلة أسرى بي قائمًا يصلي في قبره". فدل على أنه أسري به لما مر به، وقلت، وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن لروحه اتصالًا بجسده في الأرض، ولذلك تمكن من الصلاة فيها، وروحه مستقرة في السماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 وقيل: يحتمل أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبر في الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصرة، والبصيرة ما أدرك به ذلك، ويشهد له رؤيته عليه الصلاة والسلام رآهما من ذلك الموضع، أو مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما. وقيل: يحتمل أن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا، رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكرامًا لنبيه عليه السلام وتعظيمًا له حتى يحصل له من قبلهم ما أشرنا إليه من الأنس والبشارة وغير ذلك مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن.   "وقيل": أي: قال ابن أبي جمرة رؤيته لهؤلاء الأنبياء "يحتمل" وجوها: أحدها: أنه يحتمل "أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبر الأرض على الصورة التي أخبر بها من الموضع الذي ذكر أنه عاينه فيه، فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدراك به ذلك"، لكن قد يبعده، فإذا فيها آدم إلخ ... لا سيما قوله: "فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور"، فإن الأصل الحقيقة، وكون المعنى، فإذا في وجودي في السماء عاينت آدم في قبره، ثم يقال مثله في البقية، مجاز بعيد جدًا بلا داعية، وكيف يقال: عاينت وأنا في السماء السابعة إبراهيم في قبره، وهو مسنده ظهره إلى البيت المعمور. "ويشهد له رؤيته عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض الحائط": "بضم العين وإسكان الراء" جانبه وناحيته، "وهو محتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام رآهما في ذلك الموضع" حقيقة، بأن كشف له عنهما، وأزيلت الحجب التي بينه وبينهما. قال ابن أبي جمرة: كما يقال: رأيت الهلال من منزلي من الطاق، والمراد من موضع الطاق، "أو مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما"، لكن هذان الاحتمالان ظاهران في ذا الحديث، وإجراء مثلهما في حديث المعراج لا يظهر لبعده. "وقيل": أي: قاب ابن أبي جمرة أيضًا، "يحتمل" أن يكون -صلى الله عليه وسلم- عاين أرواحهم هناك في صورهم، "وأن يكون الله سبحانه وتعالى لما أراد بإسراء نبينا رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكرامًا لنبيه عليه السلام، وتعظيمًا له حتى يحصل له من قبلهم" بكسر ففتح، جهتهم، "ما أشرنا إليه من الإنس والبشارة وغير ذلك، مما لم نشر إليه ولا نعلمه نحن"، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 وكل هذه الوجوه محتملة، ولا ترجيح لأحدها على الآخر إذ القدرة صالحة لكل ذلك. انتهى. وأما قوله في الحديث: "ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال   وهذا الاحتمال هو عين قوله أولًا، ويحتمل الأجساد بأرواحها غايته أنه مبسوط عنه، فهو كالشرح له، وبقي احتمال رابع، وبه جزم أبو الوفاء بن عقيل، أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي رآها المصطفى فيها متشكلة بصور أجسادهم، لكنه إنما يظهر في الذين رآهم في السماوات، لا في بيت المقدس. "وكل هذه الوجوه محتملة" "بضم الميم الأولى وفتح الثانية"، أي: قريبة، "وإما بكسر الثانية"، فالواقعة نفسها، كما صرح به بعضهم، "ولا ترجيح لأحدها على الآخر"، من حيث الاحتمال في حد ذاته، "إذ القدرة صالحة لكل ذلك"، أما بالنظر لما يشهد له من خارج، فيرجع. "انتهى"، يعني كلام ابن أبي جمرة، وإن لم يفصح به، وأوله ما قد علمته، وما قبله أتى به المصنف من فتح الباري، وفيه رد على ما أطال به ابن القيم في كتاب الروح من ترجيح أن رؤيته إنما هي لأرواحهم فقط، إذ الأجساد في الأرض قطعا إنما تبعث يوم القيامة، ولو بعثت قبل ذلك لكانت انشقت عنهم الأرض قبلها، وكانت تذوق الموت عند نفخ الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعًا، وبأنها لو بعثت الأجساد لم تعد إلى القبور، بل كانت في الجنة مع أنها محرمة على الأنبياء حتى يدخلها نبينا، وهو أول من يستفتح باب الجنة، ولا تنشق الأرض عن أحد قبله إلى آخر ما أطال به، مما لا حجة له فيه، وجوابه كما أملاني شيخنا أنه إنما يتم ما قاله، لو كانت أرواحهم مفارقة لأجسادهم في قبورهم، وليس كذلك، بل هم أحياء في قبورهم بحياة حقيقية يأكلون ويشربون ويتمتعون فيها، وخروجهم من قبورهم، ومجيئهم لها ليس الخروج المقتضي للبعث، بل هو كخروج الإنسان من منزله لحاجة يقضيها، ويعود إليه، فلا يعد بذلك مفارقًا له، والذي يعد به مفارقًا هو الذي بحيث لا يعود إليه، بل يقوم للقيامة، وبهذا سقط كلامه. "وأما قوله في الحديث: ثم رفعت"، رواه الأكثر بضم الراء، وسكون العين وضم التاء، ضمير المتكلم بعده حرف الجر، وهو "إلى سدرة المنتهى"، وللكشميهني: رفعت، بفتح العين وسكون التاء، أي: السدرة لي، أي: من أجلي. وكذا في بدء الخلق، ويجمع بين الروايتين بأنه رفع إليها، أي: ارتقى به، وظهرت له، والرفع إلى الشيء يطلق على التقريب منه، وقد قيل في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَة} [الواقعة: 34] ، أي: تقرب لهم، "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وبسكونها أيضًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران فقلت: وما هذا يا جبريل: قال: أما الباطنان فنهران في   قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في الرواية، أي: التحريك، وهو ثمر السدر، "مثل قلال"، قال الخطابي: بالكسر، جمع قلة بالضم، هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين "هجر": بفتح الهاء والجيم، بلدة لا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، كما في الفتح، وقدمته. قال النعماني: وأما ثمرها، فهل هو كالثمار المأكولة، وأنه يزول، ويعقبه غيره، وهل الزائل يؤكل أو يسقط، لم أر من ذكر هذا، ولا يمنته أن يكون كذلك، وأنه تأكله الطيور التي تسرح في الجنة، والروح على قول من يقول: إنهم صنف على صورة الإنسان، لهم أيد وأرجل ورؤوس، وأنهم يأكلون الطعامن وليسوا من الملائكة. قال ابن عباس: ما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، وقال أبو صالح: وليسوا بناس، ولا بالملائكة، وعن بعضهم: أن الملائكة لا يرونهم، وليس بينه وبين قول ابن عباس هذا تناف، فإنه لا يلزم من نزولهم معهم رؤيتهم لهم انتهى. "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتحها غلط زاعمه، وفتح التحتية: جمع فيل، وفي بدء الخلق الفيول: جمع فيل أيضًا، والتشبيه في الشكل فقط لا في الكبر ولا في الحسن، فلا تنافي رواية تكاد الورقة تغطي هذه الأمة. "قال" جبريل: "هذه سدرة المنتهى"، ولعل سبب إخباره أنه -صلى الله عليه وسلم- كان عالمًا بوجودها قبل الرؤية، فكأنه قال هذه سدرة المنتهى التي علمت بوجودها. قال الرازي: وإضافته إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه كقولك: أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو روح من الأرواح، أو من إضافة المحل إلى الحال فيه، ككتاب الفقه، فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم، أو من إضافة الملك إلى مالكه، كشجرة زيدن فالمنتهى إليه محذوف، تقديره سدرة المنتهى إليه. قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] ، فالمنتهى إليه هو الله تعالى، وإضافتها إليه كإضافة البيت للتشريف والتعظيم. "وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران"، قال ابن أبي جمرة: يحتمل الحقيقة، فهذه الأنهار تنبع من أصل الشجرة نفسها، فتكون الشجرة طعمها نبق، وأصلها ينبع منه الماء، والقدرة لا تعجز عن هذا، ويحتمل أنه تسمية الشيء، بما قاربه، فتكون الأنهار تنبع قريبًا من أصل الشجرة. انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 الجنة"، وأما الظاهران: فالنيل والفرات. وفي رواية عند البخاري أيضًا: "فإذا في أصلها -أي سدرة المنتهى- أربعة أنهار". وعند مسلم: "يخرج من أصلها". وعنده أيضًا من حديث أبي هريرة: "أربعة أنهار من الجنة، النيل والفرات وسيحان وجيحان". فيحتمل: أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة. ووقع في رواية شريك، كما عند البخاري في التوحيد: أنه رأى في سماء   "فقلت: وما هذا يا جبريل؟، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة"، قال ابن أبي جمرة فيه: إن الباطن أجل من الظاهر؛ لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم". "وأما الظاهران فالنيل" نهر مصر، "والفرات" بالفوقية في حال الوصل والوقف نهر الكوفة. "وفي رواية عند البخاري أيضًا" في بدء الخلق: "فإذا في أصلها، أي: سدرة المنتهى، أربعة أنهار"، فيفسر قوله في المعراج: وإذا أربعة أنهار، أي: في أصلها، إذ الحديث واحد. "وعند مسلم: "يخرج من أصلها" فقوله في أصلها، معناه يخرج منه، "وعنده"، أي: مسلم، "أيضًا من حديث أبي هريرة: "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات وسيحان" من السيح، وهو جري الماء على وجه الأرض، وهو نهر العواصم بقرب مصيصة، وهو غير سيحون نهر بالهند، أو السند، "وجيحان" نهر أذنة وجيحون نهر بلخ، وينتهي إلى خوارزم، وزعم أنهما هما وهم. فقد حكى النووي الاتفاق على أنهما غيرهما، لكن نازعه السيوطي في دعوى الاتفاق، "فيحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من أصلها، فيصح أنها من الجنة" بهذا الاعتبار، فلا يعارض حديث المعراج. "ووقع في رواية شريك، كما عند البخاري في" كتاب "التوحيد" من صحيحه "أنه رأى في سماء الدنيا نهران يطردان": بالتشديد يجريان: "فقال له جبريل": جوابًا لقوله: "ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 الدنيا نهران يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما. والجمع بينهما: أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في سماء الدنيا دون نهري الجنة، وأراد بـ"العنصر" عنصر انتشارهما بسماء الدنيا كذا قال ابن دحية. وروى ابن أبي حاتم عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم قال: "ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة، حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي   هذان النهران يا جبريل؟، قال: "هما النيل والفرات، عنصرهما"": بضم العين والصاد المهملتين، أصلهما بدل من النيل والفرات، "والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة"، الباطنين، "ورآهما في سماء الدنيا دوزن نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر انتشارهما بسماء الدنيا"، لا أصلهما الحقيقي، فإنه من أصل السدرة، فلا تنافي بين الأحاديث، "كذا قال ابن دحية": كأنه تبرأ منه لعدم تعين ما قال: لجواز أن يراد أصل نبعهما من تحت السدرة، ومقرهما في سماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض، كما تقدم للمصنف، وهو في المعنى قريب من جمع ابن دحية، أو عينه. وقال النعماني: يجوز أن عنصرهما مبتدأ يتعلق به خبر سابق لم يتقدم له ذكر من حيث اللفظ، لكن من حيث العهد، فيكون المعنى هذا النيل والفرات، فيتم الكلام، ثم يكون عنصرهما ما كنت رأيت عند سدرة المنتهى يا محمد، فاكتفى بهذا العهد السابق عن إعادة الكلام، انتهى وهو مع تعسفه لا يصح؛ لأن رؤيته ذلك في سماء الدنيا قبل رقيه للسدرة فلا عهد هنا. "وروى ابن أبي حاتم عن أنس، أنه -صلى الله عليه وسلم- بعد أن رأى إبراهيم، قال: "ثم انطلق" جبريل "بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت" بخاء معجمة، جمع خيم، كسهم وسهام، وهو مثل الخيمة. وفي نسخة: جام بالجيم، بلا ياء، أي: إناء والمراد الجنس، فيصدق بالأواني الكثيرة "واللؤلؤ والزبرجد": بفتح الزاي ودال مهملة، جوهر معروف، ويقال: هو الزمرد، "وعليه طير خضر" هو "أنعم"، فهو خبر مبتدأ محذوف، "طير رأيت"، وهو اسم تفضيل من نعم بالضم نعومة؛ لأن ملمسه، يعني أن ملمس هذه الطيور ألين من ملمس سائر الطيور، وفي رواية: أنعم طير أنت راء. "قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك". وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: وإذا فيها عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، وسيأتي   رضراض": بفتح الراء، وسكون الضاد المعجمة، آخره مثلها، حصى صغار، "من الياقوت والزمرد": بزاي، فميم، فراء ثقيلة مضمومات، آخره ذال معجمة ومهملة، كما في القاموس، وقال: إ نه الزبرجد معرب، "ماؤه أشد بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء، فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك"، فجمع الأوصاف الثلاثة الحسنة. "وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: وإذا فيها"، أي: السماء السابعة، "عين تجري يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: نهر الرحمة". قال الحافظ: فيمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان، المذكوران، في الحديث، وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر. انتهى، وفيه مسامحة؛ لأن ما روي عن مقاتل صريح في أن أحد النهرين السلسبيل، والآخر الكوثر. وحديث أبي سعيد صريح في أن السلسبيل هو الأصل، ويخرج منه نهران، أحدهما الكوثر، فهو فرع منه لا قسيم له، فحق العبارة. وروي عن مقاتل: بإسقاط لفظ كذا، ويكون مقابلًا لتفسيرهما بما في حديث أبي سعيد، ثم قال الحافظ عقب ما نقلته عنه: وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان، والنيل والفرات، من أنهار الجنة"، فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار، أصلها من الجنة، وحيئذ لم يثبت لسيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل صدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان، فهما غير سيحان وجيحان. قال النووي في هذا الحديث: إن أصل النيل والفرات من الجنة، وأنهما يخرجان من أصل السدرة، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد، وقول عياض الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لقوله: "إن النيل والفرات يخرجان من أصلها"، وهما يخرجان من الأرض، فليزم منه أن أصل السدرة في الأرض متعقب؛ لأن خروجهما من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، والحاصل أن أصلهما من الجنة، ويجران أولًا من أصلها، ثم يسيران إلى أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 المقصد السادس: في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره مدخل ... المقصد السادس: في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره في ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره، وشهادته له بصدق   المقصد السادس: "في" بيان "ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره" بيان لما، أي: بيان مقداره وشرف رتبته "ورفعة" أي: أعلاه، "ذكره" بين الناس بأمرهم بالثناء عليه فيه، وقرن اسمه باسمه محمد رسول الله، وجعل طاعته طاعته، من يطع الرسول فقد أطاع الله، وخطابه بألقاب يا أيها النبي، يا أيها الرسول، "وشهادته له" أي: إخباره، والشهادة خبر قاطع، كما في القاموس "بصدق نبوته" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 نبوته، وثبوت بعثته، وقسمه تعالى على تحقيق رسالته، وعلو منصبه الجليل ومكانته، ووجوب طاعته، واتباع سنته، وأخذه تعالى له الميثاق على سائر النبيين فضلًا، ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه، والتنويه به في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل وغير ذلك.   أي: بوجودها وتحققها في نفسها، لتحقق أنها وحي من الله، والمراد بصدقه عليه السلام في دعواها، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45] ، فجعله شاهدًا على أمته بإبلاغهم الرسالة، وهذا من خصائصه، ومبشرًا لأهل الطاعة، ونذيرًا لأهل المعصية، وداعيًا إلى توحيد الله، وسراجًا منيرًا يهتدى به للحق، "وثبوت بعثته" كالدليل على تحقق نبوته، "وقسمه تعالى على تحقيق رسالته" بنحو: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1] ، "وعلو منصبه" حسبه وشرفه "الجليل" العظيم، "ومكانته" عظمته، يقال: مكن فلان مكانة، بزنة ضخم ضخامة: عظم وارتفع، فهو مكين، أو استقامته، يقال: الناس على مكانتهم، أي: على استقامتهم، "ووجوب طاعته" بنحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] ، "واتباع سنته" طريقته بنحو قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [آل عمران: 31] ، "وأخذه تعالى له الميثاق على سائر" أي: جميع "النبيين فضلًا" أي: إحسانًا "ومنة" أي: إنعامًا، "ليؤمنن به إن أدركوه، ولينصرنه" بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] ، "والتنويه" أي: الرفع والتعظيم "به في الكتب السالفة" بذكر اسمه، ونعته فيها "كالتوراة والإنجيل" كما في الصحيح عن عبد الله بن عمر؛ أنه صلى الله عليه وسلم موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، الحديث في التنزيل عن الإنجيل، ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وفي نسخ: والتوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام، تنبيهًا على عظم قدرهما حتى كأنهما نوع مغاير لما عطف عليه "بأنه صاحب الرسالة والتبجيل" متعلق بقوله، والتنويه به بعد تعلقه بالأول، والمعنى رفع ذكره؛ بأنه صاحب الرسالة، وهذا أظهر من كونه بدلًا منه "وغير ذلك". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 تمهيد: اعلم أطلعني الله وإياك على أسرار التنزيل، ومنحنا بلطفه تبصرة تهدينا إلى سواء السبيل، أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة إلى علو محله الرفيع ومرتبته، ووجوب المبالغة في حفظ الأدب معه، وكذلك الآيات التي فيها ثناؤه تعالى عليه وإظهاره عظيم شأنه لديه، وقسمه تعالى بحياته، ونداؤه بـ"الرسول" و"النبي" ولم يناد باسمه بخلاف غيره من الأنبياء، فناداهم بأسمائهم إلى غير ذلك مما يشير إلى أنافة قدره العلي عنده، وأنه لا مجد يساوي مجده، ومن تأمل القرآن العظيم وجنده طافحًا بتعظيم الله تعالى   تمهيد: "اعلم" أمر يصدر به ما يعتني به من الكلام، "أطلعني الله وإياك على أسرار التنزيل" بمعنى المنزل، وهو القرآن، والكتب المنزلة، فيشمل جميعها، "ومنحنا" وهبنا "بلطفه تبصرة" أي: تنويرًا في قلوبنا، وهي رؤية الأشياء بعين البصيرة، بحيث لا يقتصر منها على رؤية ظاهرها، بل تعير إلى ما يؤول إليه باطنها، كذا في لطائف الأعلام "تهدينا إلى سواء السبيل" الطريق، ومعمول اعلم؛ "أنه لا سبيل لنا أن نستوعب الآيات الدالة على ذلك، وما فيها من التصريح والإشارة" أي: من حيث دلالتها على ذلك، فلا ينافي أن الآيات الدالة محصورة معدودة في أنفسها، بل حروف القرآن كلها محصورة مضبوطة، واحتمال أن المراد بالآيات معناها اللغوي، وهو العلامات الدالة على نبوته وغيرها، مما ثبت له من الكمالات، مدفوع بأن الترجمة فيما ورد في آي التنزيل لا في مطلق العلامات، "إلى علو محله الرفيع" أي: لشريف، "ومرتبته، ووجوب المبالغة في حفظ الأدب معه" كقوله: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] ، "وكذلك الآيات التي فينا ثناؤه تعالى عليه، وإظهاره عظيم شأنه لديه" عنده، "وقسمه تعالى بحياته" بقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ، اتفق المفسرون على أنه قسم من الله بمدة حياته صلى الله عليه وسلم، حكاه عياض، ومراده مفسر، والسلف، فإنه كما قال ابن القيم: لا يعرف بينهم في ذلك نزاع، ولم يوفق الزمخشري في قوله: إنه خطاب من الملائكة للوط، ويأتي إن شاء الله تعالى بسطه عند حكاية المصنف ذلك، "ونداؤه بالرسول والنبي، ولم يناد باسمه بخلاف غيره من الأنبياء" "فناداهم بأسمائهم" يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا لوط، يا موسى، يا عيسى، "إلى غير ذلك مما يشير إلى أنافة" أي: زيادة، "قدره" من أنافت الدراهم على مائة، زادت عليها "العلي" الرفيع "عنده" تعالى، "وأنه لا مجد يساوي مجده" شرفه وكرمه في ذاته وأصوله، "ومن تأمل القرآن العظيم وجده طافحًا" ممتلئًا، أي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويرحم الله ابن الخطيب الأندلسي حيث قال: مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي وإذا كتاب الله أثنى مفصحًا ... كان القصور فصار كل فصيح وهذا المقصد -أكرمك الله- يشتمل على عشرة أنواع:   دالًا دلالة ظاهرة بكثرة، بمعنى ناطقًا، فلذا عداه بالباء في قوله: "بتعظيم الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويرحم الله ابن الخطيب" أبا عبد الله محمد بن جابر "الأندلسي، حيث قال: مدحتك آيات الكتاب" كلها صريحًا، أو استلزامًا بذمها لمخالفه، ودلالتها على إكرامه بنزولها عليه مع اشتمالها على ما فات به غيرها من الكتب السماوية، "فما عسى، يثني على علياك" أي: شرفك، "نظم مديحي" أي: فأي: شيء يترجى به أن يليق الثناء به على شرفك التام بالنسبة لما أثنى الله عليك، "وإذا كتاب الله أنثى مفصحًا" عليك، "كان القصور" أي: العجز، "فصار": "بضم القاف" أي: غاية "كل فصيح" أنه يعترف عن الإتيان ببعض وصافك، "وهذا المقصد أكرمك الله" جملة دعائية "يشتمل على عشرة أنواع". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 النوع الأول: في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] . قال المفسرون: يعني موسى عليه الصلاة والسلام، كلمه بلا واسطة، وليس   النوع الأول في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره، وجليل مرتبته وعلو درجته على الأنبياء وشريف منزلته" هي والرتبة متقاربان بمعنى علو القدر، "قال الله تعالى: {تِلْكَ} مبتدأ {الرُّسُلُ} صفة والخبر {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} بتخصيصه بمنقبه ليس لغيره {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] . "قال المفسرون" أي: جمهورهم: "يعني موسى عليه الصلاة والسلام كلمه بلا واسطة" وقيل: المصطفى كلمه ليلة المعراج، "وليس نصًا في اختصاص موسى بالكلام". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 نصًا في اختصاص موسى بالكلام، وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا كما مر. فإن قلت: إذا ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم، كما اشتق منه لموسى؟ أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل فيطرد، بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة فلا يطرد، وحينئذ فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين، وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله   لأنه إنما قال منهم، فلا يفهم منه؛ أنه لم يكلم غيره، ""وقد ثبت أنه تعالى كلم نبينا أيضًا، كما مر" ليلة المعراج. وقد قال السيوطي: من جملة من كلم من الأنبياء آدم، كما في الحديث، "فإن قلت إذا" بمعنى حيث "ثبت أنه عليه السلام كلمه ربه بلا واسطة، وقام به هذا الوصف، فلم لم يشتق له من الكلام اسم الكليم" بمعنى المكالم، كالجليس بمعنى المجالس، والأنيس بمعنى المؤانس، والنديم بمعنى المنادم، وهو كثير، "كما اشتق منه لموسى، أجيب: بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق، كاسم الفاعل" مثل القائم والضارب، فيطرد بمعنى: أن كل من قام به ذلك الوصف يشتق له منه اسم، "وجوبًا لملاحظة أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، وقد يكون للترجيح فقط، كالكليم والقارورة، فلا يطرد" وحاصله مع الإيضاح، كما قال شيخنا: إن المشتق، وهو ما دل على ذات مبهمة، باعتبار حدث معين قد يكون اشتقاقه لما فهم فيه من المصدر الذي اشتق منه ذلك اللفظ، فلاحظ أن صحة استعماله بالنظر لمبدأ الاشتقاق دون غيره، فإذا اشتق على هذا الوجه وجب إطلاقه على كل ما صدق عليه الضارب والقائم، فإن كلًا منهما يصدق على من اتصف بالضرب والقيام، وقد يكون إطلاقه على معنى، وتخصيصه به؛ باعتبار أثر قام به حمل المستعمل على ملاحظته في أصل وضع اللفظ لذلك المعنى، فوضعه، وهذا من الأسماء المشبهة للصفات، وليس منها، والكليم من هذا النوع، فلا يلزم من إطلاقه على موسى لكلام الله إطلاقه على غيره ممن كلمه الله تعالى. "وحينئذ، فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه اسم، كما حققه القاضي عضد الدين" عبد الرحمن بن أحمد إلا يجيء المحقق التحرير، يروي تصانيف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 المولى سعد الدين التفتازاني. وقوله: رفع بعضهم درجات يعني محمدًا صلى الله عليه سولم رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه: بالذات في المعراج. وبالسيادة على جميع البشر. وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله. قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفي لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، انتهى.   البيضاوي عن زين الدين الهنكي، عنه، وروى عنه محمد بن يوسف الكرماني، شارح البخاري، "وهذا ملخصه وتحريره، كما قاله" تلميذه "المولى سعد الدين التفتازاني" بفتح الفوقيتين والزاي وسكون الفاء، نسبة إلى تفتازان: قرية بنواحي نسا، ولعل حكمة عدم إطلاقه على المصطفى مع ظهور دلالته على كلامه؛ أن قومه أنكروا الإسراء أصلًا، فلم يسم كليمًا حذرًا من إنكارهم، إذ سمعوه، وتكلمهم بما لا يليق في حقه، ولا دليل قطعي يرد عليهم، فاقتصر على ما ظهر لهم كالإسراء، فإنه وصف لهم بيت المقدس وغيره، فتحققوا صدقه وإن أنكروه عنادًا. "وقوله: ورفع بعضهم درجات، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، رفعه الله تعالى من ثلاثة أوجه بالذات في المعراج" إلى مقام لم يصل إليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، "وبالسيادة على جميع البشر" لقوله: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، "وبالمعجزات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أوتي من المعجزات ما لم يؤت نبي قبله" قال عياض: ولأنه بعث إلى الأحمر والأسود، أي: لعموم بعثته. "قال الزمخشري: وفي هذا الإبهام" بقوله بعضهم، "من تفخيم فضله وإعلاه قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس" فهو وإن عبر عنه بالبعض المقتضى لإبهامه، معلوم متميز عن سائر من عداه، ومتعين فيه. قال التفتازاني: في التعبير عنه باللفظ المبهم تنبيه على أنه من الشهرة بحيث لا يذهب الوهم إلى غيره في هذا المعنى، ألا ترى أن التنكير الذي يشعر بالإيهام كثيرًا ما يجعل علمًا على الإعظام والإفخام، فكيف اللفظ الموضوع لذلك، "انتهى" كلام الزمخشري، وقد أحسن فيه، لكنه أساء في قوله بعده، ويجوز أن يريد إبراهيم، أو غيره من أولي العزم من الرسل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 وقد بينت هذه الآية وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] أن مراتب الأنبياء والرسل متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين: بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين رد عليهم: وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة. وتوقف بعضهم فقال: السكوت أفضل. والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلف: أن الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما.   وقد قال بعض المحققين: لم يصب الزمخشري في تجويزه، أن المراد بالبعض غيره؛ لأن المستحق للتفضيل على الوجه المذكور هو أفضل الأنبياء بإجماع المسلمين، وتأييده بخبر ابن عباس تذاكرنا فضل الأنبياء، فذكرنا نوحًا، وإبراهيم، وموسى وعيسى، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يكون خيرًا من يحيى بن زكريا" مدفوع بأن المراد؛ أن في كل نبي نوع فضيلة تخصه، فلا وجه لتخصيص بعضهم بالامتياز من تلك الجهة، فالمنفي في قوله: "لا ينبغي" إلخ، الخيرية من جميع الوجوه. "وقد بنيت هذه الآية، وكذا قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، بتخصيص كل منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد بالإسراء، وسليمان بالملك، "أن مراتب الأنبياء والرسل" وفي نسخة: الرسل والأنبياء، أي: الذين ليسوا برسل أو هو عطف عام على خاص، "متفاوتة، خلافًا للمعتزلة القائلين؛ بأنه لا فضل لبعضهم على بعض، وفي هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] ، و {لَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} ، "رد عليهم" على سبيل الصراحة، وقال قوم: آدم أفضل لحق الأبوة" وليس بشيء؛ لأنها بمجردها لا تقتضي فضله عليهم مطلقًا، وكم من فرع فضل أصله لخصوصيات شرف بها على الأصل، بل كثيرًا ما تشرف الأصول بفرعها: وكم أب قد علا بابن ذوي شرف ... كما علا برسول الله عدنان "وتوقف بعضهم" لتعارض الأدلة عليه، "فقال: السكوت أفضل" لعدم القاطع عند ذا البعض، "والمعتمد ما عليه جماهير السلف والخلئف، أن الرسل أفضل من الأنبياء"؛ لأن الرسالة تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي، كالعلم والعبادة، خلافًا لمن قال: النبي أفضل؛ لأن النبوة الوحي بمعرفته تعالى وصفاته، فهي متعلقة به من طرفيها، والرسالة: الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة به من أحد الطرفين، وأجيب بأنها تستلزم النبوة، فهي مشتملة عليها؛ لأنها كالرسول، وأخص من النبوة التي هي أعم، كالنبي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 قال بعض أهل العلم -فيما حكاه القاضي عياض-: والتفضيل المراد لهم هنا في الدنيا، وذلك بثلاثة أحوال: أن تكون آياته ومعجزاته أظزهر وأشهر، أو تكون أمته أزكى وأكثر، أو يكون في ذاته أفضل وأظهر، وفضله في ذاته راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته واختصاصه من كلام أو خلة أو رؤية أو ما شاء الله من ألطافه، وتحف ولايته واختصاصه، انتهى. فلا مرية أن آيات نبينا صلى الله عليه وسلم ومعجزاته أظهر وأبهر وأكثر وأبقى وأقوى، ومنصبه أعلى ودولته أعظم وأوفر وذاته أفضل وأظهر، وخصوصياته على جميع   "وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض بشهادة هاتين الآيتين وغيرهما، قال بعض أهل العلم" بالكتاب والسنة، "فيما حكاه القاضي عياض" في الشفاء: "والتفضيل المراد لهم هنا" عطف على مقدار وعلى ما تقدم، وهنا إشارة لما ذكر قبله "في الدنيا" متعلق بالتفضيل، "وذلك بثلاثة أحوال" وفي نسخة أوجه، "أن تكون آياته ومعجزاته أظهر" وفي نسخة أبهر، أي: أقوى، وأغلب من بهر ضوء القمر الكواكب عليها، أو هو بمعنى أظهر "وأشهر" كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا حية، "أو تكون" بالنصب "أمته أزكى" أتقى وأطهر لبعدهم عن التلبس بما لا يليق، "وأكثر" من غيرهم، "أو يكون في ذاته أفضل" بزيادة علمه وخصاله المحمودة، "وأظهر" بمعجمة، أي: أشهر، وبمهملة أتقى وأنقى، "وفضله في ذاته" ونفسه "راجع إلى ما خصه الله تعالى به من كرامته" أي: إكرام الله له بما آثر، ومناقب عظيمة وهبها له، "واختصاصه" بالجر معطوف على مدخول إلى "من كلام" بلا واسطة لموسى والمصطفى، وهو بيان لاختصاصه بمعنى ما خصه به، "أو خلة" لإبراهيم والمصطفى، "أو رؤية" عيانًا لنبينا صلى الله عليه وسلم، "أو ما شاء الله" أراده لهم غير ما ذكر "من ألطافه" بفتح الهمزة، أي: عطاياه، "وتحف" بفاء، آخره "ولايته" أي: تحف أولاها لهم، هكذا في الشفاء، بالفاء فقط، وفسرها شارحها بما ذكر. وقال شيخنا: كان المراد بها ما ميز به تعالى ولايته عن ولاية غيره من الخواص والمزايا التي لم تثبت لغيره. وفي بعض نسخ المصنف: وتحقق ولايته بقافين، أي: ثبوتها بلا ريبة ولا تردد، لكثرة الأدلة المثبتة لها، "واختصاصه" بما اختصهم به من قرة أعين لا يعلمها إلا هو. "انتهى". "فلا مرية" "بالكسر"، لا شك "أن آيات نبينا ومعجزاته أظهر وأبهر" بموحدة، أغلب، "وأكثر وأبقى" بالموحدة، "وأقوى" أشد، "ومنصبه" حسبه وشرفه "أعلى، ودولته أعظم وأوفر، وذاته أفضل وأظهر" بالمهملة، "وخصوصياته على جميع الأنبياء أشهر من أن تذكر". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 الأنبياء أشهر من أن تذكر، فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين، وتأمل حديث الشفاعة في المحشر، وانتهائها إليه، وانفراده هناك بالسؤدد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة"، رواه ابن ماجه، وفي حديث أنس عند الترمذي: "أنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر". لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف.   فقد جمعت فيه الأحوال الثلاثة وزيادة، "فدرجته أرفع من درجات المرسلين، وذاته أزكى وأفضل من سائر المخلوقين" إنسًا وملكًا، "وتأمل حديث الشفاعة" إضافة لأدنى ملابسة لذكرها فيه "في المحشر" "بفتح الشين وكسرها"، "وانتهائها إليه" بعد تنصل رؤساء الأنبياء منها " "وانفراده هناك بالسؤدد" أي: السيادة، "كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد" يكون جمعًا، وواحدًا، والمراد الأول "آدم، وأول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة" أي: أول من يعجل أحياؤه، مبالغة في إكرامه، وتخصيصًا بتعجيل جزيل إنعامه، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني. "وفي حديث أنس عند الترمذي" مرفوعًا: "أنا أول الناس خروجًا، إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي" "وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي" إخبار بما منحه من السودد والإكرام، وتحدث بمزيد الفضل والإنعام "ولا فخر" حال مؤكدة، أي أقول ذلك غير مفتخر به فخر تكبر، أتى به دفعًا لتوهم إرادة الافتخار به. قال القرطبي: إنما قال ذلك؛ لأنه مما أمر بتبليغه لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، وليرغب في الدخول في دينه، ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظيم محبته في قلوب متبعيه، فتكثر أعمالهم وتطيب أحوالهم، ويحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع. "لكن هذا لا يدل على كونه أفضل من آدم، بل من أولاده، فالاستدلال بذلك على مطلق أفضليته عليه السلام على الأنبياء كلهم ضعيف" تبع التفتازاني في شرح العقائد، وقد تعقب بأن المراد سيد جنس الآدميين، فلا يخرج آدم؛ لأن المراد من ولد آدم كافة البشر، بدليل قوله في حديث أبي هريرة: "أنا سيد الناس"، وقوله في حديث أبي سعيد: آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي، وقد لوح المصنف بعد قليل بمعنى هذا التعقب بقوله، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم، وبأن دخول آدم أولوي؛ لأن في ولده من هو أفضل منه، وبأن ذلك من الأسلوب العربي على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 واستدل الشيخ سعد الدين التفتازاني لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه. واستدل له الفخر الرازي -في المعالم- بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] ، فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا فيكون تاركًا للأمر، وإذا   حد {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13] ، لدخول داود لزومًا، أو قصدًا، وعبر عنه بذلك لإرادة التنصيص على دخول آله معه. "واستدل الشيخ سعد الدين" مسعود بن عمر بن عبد الله "التفتازاني" الشافعي، قال الحافظ في الدرر الكامنة: ولد سنة ست عشرة وسبعمائة، وأخذ عن القطب والعضد، وتقدم في الفنون، واشتهر ذكره وطار صيته، وله تصانيف انتفع بها الناس، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، "لمطلق أفضليته عليه الصلاة والسلام" عى جميع الأنبياء، "بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، قال: لأنه لا شك أن خيرية الأمم بحسب كمالهم في الدين، وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتبعونه" وهذا إنما ذكره التفتازاني سندًا للإجماع على فضل المصطفى، وتعقب، بأنه لا يصح سندًا له؛ لأن خيريتهم في الدنيا بزيادة نفعهم، للغير لحديث: "خير الناس أنفعهم للناس"، وهذا هو الظاهر لحديث البخاري، عن أبي هريرة، قال في الناس: "ناس يأتون بهم والسلاسل في أعناقهم حتى يدخلون الإسلام"، وخيريتهم في الآخرة، بكثرة ثوابه لحديث البخاري: "لكم الأجر مرتين"، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء"، والسر في ذلك؛ أنهم صدقوا الأنبياء كلهم بخلاف جميع الأمم، فإنما صدق كل منهم نبيه ومن قبله، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله لهرقل: "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين". قال الكرماني وغيره: مرة للإيمان بنبيهم، ومرة للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والخيرية بأحد هذين المعنيين للأمة لا تدل على أفضلية رسولهم. انتهى، وفيه تأمل. "واستدل له الفخر الرازي في المعالم" أي: معالم التنزيل، اسم تفسيره، "بأنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة" في سورة الأنعام، "ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى} هم {اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ} طريقهم التوحيد والصبر، {اقْتَدِهِ} "بهاء السكت" وقفًا ووصلًا وفي قراءة بحذفها وصلًا، "فأمره أن يقتدي بأثرهم، فيكون إتيانه به واجبًا، وإلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم، وبأن: دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة وصلت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى. وقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلا   فيكون تاركًا للأمر" وهو محال، "وإذا أتى بجميع ما أتوا به من الخصال الحميدة، فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضل منهم"؛ لأن الواحد إذا فعل مثل فعل الجماعة كان أفضل منهم، قيل عليه: لا شك أنه أفضل من كل واحد منهم، ومن الجميع أيضًا، لكن في هذا الدليل خفاء؛ لأنه لا يلزم من إتيانه بكل ما أتى به كل واحد منهم إلا مساواته للمجموع، لا أفضليته عليهم، وكأنه الداعي للعز بن عبد السلام على قوله: "إنه أفضل من كل واحد منهم، لا من جميعهم، فتمالأ جماعة من علماء عصره على تكفيره، فعصمه الله، بل قد يتوقف في المساواة أيضًا؛ لأنك لو أنعمت على أربعة فأعطيت واحدًا دينارًا، وآخر دينارين، وآخر ثلاثة، وآخر أربعة، لزاد صاحب الأربعة على كل واحد دون جميع ما لغيره، ولو أعطيته ستة لساواهم، ولو أعطيته عشرة زاد عليهم، فينبغي أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ساواهم في العمل، وزاد عليهم، بأنه أعلم منهم بالله، وأكثر من جميعهم خصائص ومعجزات، وهذا التفضيل في القرب والمنزلة، وهو أكثر ثوابًا، وأمته أكثر من جميع الأمم، وأجرهم له إلى يوم القيامة، ولو كانت للناس مساكن بعضها فوق بعض، لكان الذي فوق الأخير أعلى من الجميع، وفي آية تلك الرسل إيماء لهذا، حيث أبهم وعبر برفع الدرجات دون أن يسميه، ويقول: إنه أعظم وأفضل. انتهى. "وبأن دعوته عليه الصلاة والسلام في التوحيد والعبادة، وصلت إلى أكثر بلاد العالم، بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوته صلى الله عليه وسلم أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء، فوجب أن يكون أفضل من سائر الأنبياء. انتهى" استدلال الرازي. "وقد روى الترمذي" وقال: حسن صحيح، وأحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم "عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم مجموع له الناس، فيظهر سودده لكل أحد عيانًا ووصف نفسه بالسودد، المطلئق المفيد، للعموم في المقام الخطابي، فيفيد سيادته على جميع أولاد آدم حتى أولي العزم واحتياجهم إليه، وتخصيص ولد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 تحت لوائي. وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا -عند البخاري-: "أنا سيد الناس يوم القيامة"، وهذا يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده بل أفضل من الأنبياء، بل أفضل الخلق كلهم. وروى البيهقي في فضائل الصحابة، أنه ظهر علي بن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب" فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟ قال: "أنا سيد العالمين وهو سيد العرب"، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.   آدم ليس للاحتراز، فهو أفضل حتى من خواص الملائكة بإجماع من يعتد به، "ولا فخر" بل إنما قلته شكرًا، كقول سليمان: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} ، أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس في الدنيا، وإن كان فيه فخرًا الدارين، أولًا افتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الرتبة، "وبيدي لواء" بالكسر والمد، علم "الحمد" والعلم في العرصات مقامات لأهل الخير والشر، نصب في كل مقام لكل متبوع لواء، يعرف به قدره وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، ولما كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلائق أعطى أعظم الألوية، لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون، فهو حقيقي ولا وجه لحمله على لواء المال والكمال، "ولا فخر" لي بذلك فخر تكبرًا، ولا فخر بالعطاء، بل بالمعطي، "وما من نبي" يومئذ "آدم، فمن سواه إلا تحت لوائي". قال الطيبي: آدم فمن سواه اعتراض بين النفي والاستثناء، وآدم بالرفع يدل، أو بيان من محله، ومن موصولة، وسواه صلته، وصح؛ لأنه ظرف، وآثر الفاء التفصيلية في، فمن للتريب على منوال الأمثل فالأمثل، وبقية هذا الحديث: "وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أو شافع ولا فخر". "وفي حديث أبي هريرة، مرفوعًا عند البخاري" ومسلم والترمذي وأحمد": "أنا سيد الناس يوم القيامة" وهل تدرون مم ذلك؟، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فذكر حديث الشفاعة بطوله، "وهذا" المذكور من حديثي أبي سعيد وأبي هريرة، "يدل على أنه أفضل من آدم عليه السلام ومن كل أولاده، بل أفضل من الأنبياء" إضراب انتقالي لدفع توهم، أن المراد بأولاده من عد الأنبياء، "بل أفضل الخلق كلهم"؛ لأنه من ناس، إذا تحرك، فشمل الملائكة حتى أمين الوحي بإجماع حتى من المعتزلة، وجهل الزمخشري مذهبه، كما حققه جماعة من المحققين. "وروى البيهقي في فضائل الصحابة؛ أنه ظهر على ابن أبي طالب من البعد، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست يا رسول الله بسيد العرب؟، قال: "أنا سيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 وقد روى هذا الحديث -أيضًا- الحاكم في صحيحه عن ابن عباس، لكن بلفظ: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب"، وقال: إنه صحيح ولم يخرجاه. وله شاهد من حديث عروة عن عائشة، وساقه من طريق أحمد بن عبيد عن ناصح قال: حدثنا الحسين بن علوان -وهما ضعيفان- عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت: فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟ فقال": وذكره. وكذا أورده من حديث عمر بن موسى الوجيهي -وهو ضعيف أيضًا- عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب" فقالت عائشة: ألست سيد العرب"؟ وذكره.   العالمين، وهو سيد العرب، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء" والملائكة؛ لأن العالم ما سوى الله. "وقد روى هذا الحديث أيضًا الحاكم في صحيحه" المستدرك من طريق أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، "عن ابن عباس" مرفوعًا، "لكن بلفظ: "أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب". "وقال" الحاكم: "إنه صحيح ولم يخرجاه" أي: البخاري ومسلم، مع أن إسناده على شرطهما، "وله شاهد من حديث عروة" بن الزبير، "عن" خالته "عائشة، وساقه" أي: رواه الحاكم، "من طريق أحمند بن عبيد بن ناصح" أبي جعفر النحوي، يعرف بأبي عصيدة، قيل: إن أبا داود حكى عنه، مات بعد السبعين ومائتين. "قال: حدثنا الحسين بن علوان، وهما ضعيفان" لكن اقتصر في التقريب على أن أحمد بن عبيد، لين الحديث، "عن هشام بن عروة، عن أبيه، عائشة" مرفوعًا "بلفظ: "ادعوا لي سيد العرب"، قالت" عائشة: "فقلت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟، فقال: وذكره، وكذا أورده" الحاكم "من حديث عمر بن موسى الوجيهي" بفتح الواو وكسر الجيم، نسبة إلى وجيه، "وهو ضعيف أيضًا عن أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي، "عن جابر، مرفوعًا: "ادعوا لي سيد العرب"، فقالت عائشة: ألست سيد العرب؟، وذكره" ورواه أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي، رفعه: "ادع سيد العرب"، يعني عليًا، فقالت له عائشة: ألست سيد العرب؟، فقال: أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 قال شيخنا: وكلها ضعيفة، بل جنح الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع. انتهى. ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه، حاشاه الله من ذلك، وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه، وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه، وكذلك العبد إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور، فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل فطل، وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير عجب ولا فخر، بل هو فرح بفضل الله   "قال شيخنا" السخاوي: "وكله ضعيفة، بل جنح": مال "الذهبي إلى الحكم على ذلك بالوضع" انتهى، ولم يتبين لي ذلك، إذ ليس فيها وضاع ولا كذاب ولا متهم، والحاكم إنما أورد حديث عائشة من الطريقين، وإن كان فيهما ضعف، شاهد الحديث ابن عباس الذي صححه؛ لأن زواته من رجال الصحيح. "ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" عجبًا وافتخارًا على من دونه والفخر ادعاء العظم والمباهاة، "حاشاه من ذلك" إذ هو سيد المتواضعين، "وإنما قاله إظهارًا لنعمة الله عليه" لقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث} [الضحى: 11] ، "وإعلامًا للأمة بقدر إمامهم ومتبوعهم عند الله، وعلو منزلته لديه، لتعرف نعمة الله عليهم وعليه"، وليعتقدوا فضله على من سواه. قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه، لما يترتب عليه من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حق في نفسه، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد، فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه صلى الله عليه سولم مشافهة حصل له العلم به، كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التوتر المعنوي، لكثرة أخبار الآحاد به. "وكذلك العبد" أي: عبد من عباد الله الكاملين، "إذا لاحظ ما هو فيه من فيض المدد، وشهده من عين المنة ومحض الجود، وشهد مع ذلك فقره إلى ربه في كل لحظة، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، أنشأ له ذلك في قلبه سحائب النور" وفي نسخة: السرور والنور أولى، "فإذا انبسطت هذه السحائب في سماء قلبه، وامتلأ أفقه بها أمطرت عليه وابل: الطرب مما هو فيه من لذيذ السرور، فإن لم يصبه وابل" مطر شديد "فطل" مطر خفيف، والمعنى أنه يزكو وينمو، كثر المطر، أو قل، "وحينئذ يجري على لسانه الافتخار من غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] فالافتخار على ظاهره، والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها: من أنت مولاه حاشًا ... علاه أن يتلاشى والله يا ر وح قلبي ... لا مات من بك عاشا قوم لهم أنت ساق ... لا يرجعون عطاشا لا قص دهر جناحًا ... له وفاؤك راشا بك النعيم مقيم ... لمن وهبت انتعاشا ومن بحولك يقوى ... لن يضعف الدهر جاشا عبد له بك عز ... فكيف لا يتحاشى حاشا وفاؤك يرمي ... من أنت مولاه حاشا   عجب ولا فخر، بل هو فحر بفضل الله وبرحمته، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} {فَبِذَلِكَ} الفضل والرحمة، {فَلْيَفْرَحُوا} فالافتخار" كائن "على ظاهره" بحسب اللفظ "والافتقار والانكسار في باطنه، ولا ينافي أحدهما الآخر، وإلى هذا المعنى يشير قول العارف": هو من أشهده الحق نفسه، وظهرت عليه الأحوال والمعرفة حاله، هكذا ذكره الشيخ، فالعالم عنده أعلى مقامًا من العارف خلافًا للأكثرين، وقد قرر ذلك في الفتوحات ومواقع النجوم "الرباني سيد علي الوفائي في قصيدته التي أولها: من أنت مولاه" ناصره ومعينه "حاشا، علاه" رفعته "أن يتلاشى" يخس بعد رفعته، "والله يا روح" حياة "قلبي، لا مات من بك عاشا" بل يحيا حياة طيبة، "قوم لهم أنت ساق، لا يرجعون عطاشًا" بل غاية من الري "لا قص" بمهملة ثقيلة "دهر جناحًا، له وفاتك راشا" أصلح حاله ونفعه، "بك النعيم مقيم، لمن وهبت انتعاشًا" أي: رفعة وجبرًا وذكرًا حسنًا. قال المجد: نعشه الله، كمنعه ورفعه، كأنعشه ونعشه، وفلانًا جبره بعد فقره، والميت ذكره ذكرًا حسنًا، "ومن بحولك" قوتك "يقوي، لن يضعف الدهر" بالنصب "جاشا" أي نفسًا. قال المجد: الجأش نفس الإنسان، وقد لا يهمز "عبد له بك عز" قوة ومنعة، "فكيف لا يتحاشى" يكرم ويعظم "حاشا وفاؤك يرمي، من أنت مولاه حاشا" أي: تنزيها له أن يفعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 فإن قلت: ما الجمع بين هاتين الآيتين، وبين قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] .   ذلك "فإن قلت: ما الجمع بين" كل من "هاتين الآيتين" {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [البقرة: 253] الآية، {لقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] الآية، فإن كلًا منهما صريح في التفضيل وعدم التفريق في قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] الآية، دال على التسوية، كجملة أحاديث، كما قال: "وبين قوله تعالى" خطايا للمؤمنين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} من القرآن {وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيم} من الصحف العشر، {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} أولاد يعقوب، {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى} من التوراة، {وَعِيسَى} من الإنجيل، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} من الكتب والآيات، {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} فنؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كاليهود والنصارى، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] وأورد أن بين إنما تقع على اثنين، كجلست بين زيد وعمرو، وأحد في الآية مفرد؛ لأنه بمعنى واحد لا بعينه، فكيف صح دخول بين عليه، وأجيب بأ، هـ باعتبار معطوف حذف لظهوره، أي: بين أحد منهم وبين غيره، وفيه دلالة صريحة على تحقيق عدم التفريق بين كل فرد منهم وبين من عداهم، كائنًا من كان، بخلاف ما لو قيل: لا نفرق بينهم، وأجاب الكشاف؛ بأن أحد في معنى الجماعة بحسب الوضع. قال التفتازاني: لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة كل، أو في كلام غير موجب، وهذا غير الأحد اللذي هو أول العدد في مثل: {قُلْ هُوَ اللَّه} [الإخلاص: 1] ، قال: وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي على ما سبق إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم، لا نفرق بين رسول من الرسل، إلا بتقدير عطف، أي: رسول ورسول، وقال في: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، من زعم أن معنى الجمع في أحد أنه نكرة في سياق النفي، فقد سها، وإنما معناه ما ذكر في كتب اللغة؛ أنه اسم لمن يصلح أن يخاطب، فحين أضيف بين إليه، أو أعيد ضمير جميع إليه، أو نحو ذلك، فالمراد به جمع من الجنس الذي يدل عليه الكلام، فمعنى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ} ، بين جمع من الرسل، ومعنى، "فما منكم من جماعة"، ومعنى: {لَسْتُنَّ كَأَحَد} [الأحزاب: 32] الآية، كجماعة من جماعات النساء، انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 والحديث الثابت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم اليهودي وقال: أي خبيث، وعلى محمد؟   "والحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: استب" أي: سب "رجل من المسلمين" قال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق، أخرجه سفيان بن عيينة في جامعه، وابن أبي الدنيا في كتاب البعث، ويعكر عليه أن في رواية للشيخين من حديث أبي هريرة أيضًا، وأبي سعيد؛ أنه من الأنصار، إلا أن كان المراد، المعنى الأعم، فإن الصديق من أنصاره صلى الله عليه وسلم، بل هو رأس من نصره ومقدمهم وسابقهم، قاله الحافظ في الفتح، زاد في المقدمة: أو يحمل، على تعدد القصة، لكن لم يسم من اليهود غير واحد. "ورجل من اليهود" أي: سب كل منهما الآخر بمعنى غيره، قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا اليهودي، وزعم ابن بشكوال أنه فنحاص، وهو "بكسر الفاء وسكون النون ومهملتين" وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي بكر في لطمه إياه قصة أخرى في نزوله قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] ، "فقال اليهودي في قسمه" أي: حلفه. وفي رواية للشيخين عن أبي هريرة، فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين, وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده فلطم وجه اليهودي. وفي رواية لهما أيضًا: بينما يهودي يعرض سلعته أعطى فيها شيئًا كرهه، فقال: "لا، والذي اصطفى موسى على العالمين" وفي رواية لهما على البش، فقال ذلك ردًا على المسلم فيما قاله، وأكده بالقسم، "فرفع المسلم يده" عند ذلك، أي: سماعه قوله، لما فهمه من عموم لفظ العالمين، أو البشر، فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أنه أفضل، وقد جاء ذلك مبينًا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال له: أي خبيث أعلى محمد، نفدل على أن لطمه عقوبة له على كذبه عنده، قاله الحافظ. "فلطم اليهودي" وفي رواية لهما: فلطم وجه اليهودي وقال: أتقول هذا ورسول الله بين أظهرنا. وفي رواية للإمام أحمد: فلطم عين اليهودي، وقوله: "وقال: أي خبيث" "بفتح الهمزة وسكون الياء" حرف نداء، "وعلى محمد" هذه الجملة أدخلها المصنف في حديث أبي هريرة، وليست منه، فقد أخرجه مسلم في الفضائل، والبخاري في الخصومات، والرقاق، والتوحيد وأحاديث الأنبياء مختصرًا ومطولًا، وليس فيه هذه الجملة، إنما هي عنده في مواضع عن أبي سعيد، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 فجاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى على المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء" وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء". وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء". وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم مرفوعًا ما ينبغي لعبد أن يقول: "أنا خير من يونس بن متى". وحديث أبي هريرة عند الشيخين، من قال: "أنا خير من يونس بن متى فقد   فقال: ضرب وجهي رجل من الأنصار، فقال: ادعوه، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف: والذي اصطفى موسى على البشر، قلت: أي خبيث أعلى محمد صلى الله عليه وسلم، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال: "لا تخيروا بين الأنبياء" الحديث، وأخرجه مسلم بنحوه. وقد صرح الحافظ، كما رأيت؛ بأن هذه الجملة من حديث أبي سعيد، "فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى" ضمنه معنى اعترض، فعده بقوله: "على المسلم" وهذا نقل بالمعنى، وإلا فلم تقع هذه اللفظة في الصحيحين، لا في حديث أبي هريرة، ولا في حديث أبي سعيد. ولفظ البخاري في الأشخاص في حديث أبي هريرة: فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بما كان من أمره وأمر المسلم، وكذلك في أولى روايته في أحاديث الأنبياء. ولفظه في الثانية: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدًا، فما بال فلان لطم وجهي؟، فقال: "لم لطمت وجهه"، فذكره، فغضب صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، وكذا أخرجه مسلم في الفضائل باللفظين من طريق، "فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء". "وفي رواية" لهما: "لا تفضلوا بين الأنبياء" وفي رواية: "لا تخبروني على موسى"، "وحديث أبي سعيد الخدري عند البخاري" في التفسير والتوحيد والخصومات، "ومسلم" في الفضائل: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخيروا بين الأنبياء" بأن تقولوا" فلان خير من فلان"، "وحديث ابن عباس عند البخاري ومسلم" أيضًا في الفضائل، "مرفوعًا: "ما ينبغي" ما يصح، ولا يجوز "لعبد" من عباد الله، "أن يقول: أنا خير من يونس" يحتمل أن يكون رجوع أنا إلى القائل، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ في التفسير: والأول أولى، لكنه قال في أحاديث الأنبياء: حديث عبد الله بن جعفر عند الطبراني: "لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا".. إلخ، يؤيد رجوعها للنبي صلى الله عليه وسلم، وللطبراني في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 كذب". أجاب العلماء: بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} يعني: في   حديث ابن عباس: "ما ينبغي لأحد"، وللطحاوي، أنه سبح الله في الظلمات، فأشار إلى جهة الخيرية، انتهى. "ابن متى" بفتح الميم، والفوقية الثقيلة، وألف مقصورة، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، ورده الحافظ بقوله في بقية هذا الحديث، ونسبه إلى أبيه، ففيه رد على من زعم أنه اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه، وذكره الطبري، وتبعه ابن الأثير في الكامل، والذي في الصحيح أصح، وقيل: سبب قوله ونسبه إلى أبيه؛ أنه كان في الأصل يونس ابن فلان، فنسبه الراوي، وكنى عنه بفلان، وذلك سبب نسبته إلى أمه، فقال الذي نسي يونس بن متى، وهي أمه، ثم اعتذر، فقال: ونسبه، أي: شيخه إلى أبيه، أي: سماعًا، فنسيته، ولا يخفى بعد هذا التأويل، وتكلفه. انتهى، بل يرده ما في الثعلبي عن عطاء: سألت كعب الأحبار عن متى، فقال: هو أبو يونس، واسم أمه برورة، أي: صديقة بارة قانتة، وهي من ولد هارون. انتهى. فقول السيوطي: التأويل عندي أقوى، وإن استبعده الحافظ، فيه نظر. قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس. "وحديث أبي هريرة عند الشيخين: " من قال أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب" هذا لفظ البخاري في التفسير مختصرًا بلا واو أوله، فزيادتها في نسخ خطأ، ولم يخرجه مسلم بهذا اللفظ. وقد أحسن السيوطي: فعزاه في الزوائد للبخاري، والترمذي وابن ماجه. نعم أخرجه مسلم والبخاري في آخر الحديث السابق، بلفظ: "ولا أقول: إن أحد أفضل من يونس بن متى"، ورواه البخاري أيضًا مختصرًا، بلفظ: "لا ينبغي للعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى". وفي رواية مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال يعني الله: لا ينبغي لعبد لي، وقال ابن المثى: لعبدي أن يقول: أنا خير من يونس بن متى، ومسلم رواه عن شيوخه ابن أبي شيبة، وابن بشار ومحمد بن المثنى، فلذا بين اختلاف لفظهم، فالأولان بلام، والثالث بدونها، والإضافة لياء المتكلم. "أجاب العلماء؛ بأن قوله عز وجل: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، يعني في الإيمان، بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 الإيمان بما أنزل إليهم والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه، والتسوية بينهم في هذا لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض. وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة. فقال بعضهم: أن نعتقد أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة، ونكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا، قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا فصحيح، وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقيم.   أنزل إليهم، والتصديق بأنهم رسل الله وأنبياؤه" عطف عام على خاص، على أن الرسول أخص من النبي، ومرادف على تساويهما، وإن كلا منهما إنسان أوحى إليه بشرع، وأمر بتبليغه، أو المعنى التصديق بأن منهم رسلًا وأنبياء ليسوا برسل، "والتسوية بينهم في هذا" المذكور من الإيمان بما أنزل إلخ، "لا تمنع أن يكون بعضهم أفضل من بعض" كما هو نص الآيتين بسبب خواص ترجع من قامت به على غيره بالنظر، لتلك الخصوصية. "وأجابوا عن الأحاديث بأجوبة" سبعة أو ثمانية، "فقال بعضهم: أن" مخففة من الثقيلة، "نعتقد" بالرفع، أي: إنا نعتقد "أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض في الجملة" وجاز حذف اللام مما دخلت عليه لظهور المراد، كقوله: إن الحق لا يخفى على ذي بصيرة، ولكن عدم الفصل بينها وبين الفعل الغير الناسخ نادر، والمضارع أندر من الماضي، كما في: أن يزينك لنفسك وأن يشينك لهيه، ويحتمل قراءته بفتح الهمزة، "ونكف" نمتنع "عن الخوض في تفصيل" تبيين "التفصيل بآرائنا"؛ لأنه هجوم على عظيم. "قال ابن ظفر: فإن أراد هذا القائل: إنا نكف عن الخوض في تفصيل التفضيل بآرائنا" المجردة عن فهم كتاب، أو سنة، "فصحيح"، وبهذا الإيراد إن هذا عين ما قاله ذلك البعض، فكيف يجعله احتمالًا فيه. "وإن أراد أنا لا نذكر في ذلك ما فهمناه من كتاب الله، وروي لنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو رأى أيضًا، لكن في فهم الدليل من غير أن تكون دلالته عليه قطعية، "فسقيم" أي: ضعيف؛ لأن الأخبار على غلبة الظن، وما أدى إليه الاجتهاد لا يمتنع، ومحصله أن التفضيل بالرأي: المحض مجمع على منعه، وبالدليل لا وجه لمنعه، وما أحسن اختصار الحافظ لهذا بقوله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 وقال آخر: نفضل من رفع الله درجته بخصائص الحظوة والزلفى، ولا نخوض في تفضيل بعضهم على بعض في سياسة المنذرين والصبر على الدين، والنهضة في أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلال، فإن كلا منهم قد بذل في ذلك وسعه الذي لا يكلفه الله تعالى أكثر منه. وقال الآخر -مما ذكره القاضي عياض-: إن نهيه عليه السلام عن التفضيل كان قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل إذ يحتاج إلى توقيف، وإن من فضل بلا علم فقد كذب. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفي هذا نظر. انتهى.   قال العلماء: إنما نهى عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل. "وقال آخر: نفضل" أي: نعتقد فضل "من رفع الله درجته" منزلته "بخصائص الحظوة" بضم الحاء المهملة وكسرها ومعجمة، المحبة ورفع المنزلة، "والزلفى" القربى مصدر بمعنى التقريب، "ولا نخوض" لا نتكلم "في تفضيل بعضهم على بعض" عبر عن المتكلم بالخوض لما فيه من المشقة بلوم الدنيا، وعقوبة الأخرى. وفي القاموس: خاض الماء دخله، والغمرات اقتحمها، "في سياسة" أمر ونهي "المنذرين" بفتح الذال، القوم الذين أرسلوا إليهم وبينوا لهم عواقب الفواحش، "والصبر على الدين" أي: القيام به، وهو هنا ما شرع من الأحكام التي من جملتها: وجوب تبليغ ما أمروا به، ومنع المخالفين لهم، الخارجين عن الطاعة، "والنهضة" أي: السرعة "في أداء الرسالة، والحرص على هدى الضلال" بضم الضاد وشد اللام، جمع ضال، ويجوز فتحها، والتخفيف بتقدير أهل الضلال، والأول أولى، "فإن كلًا منهم قد بذل في ذلك وسعه الذي لا يكلفه الله أكثر منه"؛ لأنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وقال الآخر مما ذكره القاضي عياض" في الشفاء: "إن نهيه عليه الصلاة عن التفضيل كان قبل أن يعلم" بالبناء للفاعل، أو المفعول، أي: يعلمه الله، "أنه سيد ولد آدم، فنهى عن التفضيل، إذ يحتاج إلى توقيف" أي: إعلام به وأذن فيه، فلا يقدم عليه بالعقل، "وإن من فضل بلا علم" بل بالرأي: المجرد، "فقد كذب"؛ لأنه لا يطابق ما في نفس الأمر، والجملة حالية، أو استئنافية فيه، مقوية لما قبلها. "قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وفي هذا" الذي قاله الجماعة الآخرون "نظر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 ولعل وجه النظر في جهة معرفة المتقدم تاريخًا من ذلك، ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن وجه النظر -من جهة- أن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة، وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر، فيبعد أنه لم يعلمه بهذا إلا بعد هذا. وقال آخر: إنما قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع ونفي التكبر والعجب. قال القاضي عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض. وقيل: لا نفضل بعضهم تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص بعضهم أو الغض منه.   انتهى، ولعل وجه النظر من جهة معرفة المتقدم تاريخًا من ذلك" يعني أنه يتوقف على العلم بتقدم النهي على العلم بأنه سيد ولد آدم ولم يعلم التاريخ، أو فيه مضاف، أي: جهة جهل معرفة إلخ، "ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: أن وجه النظر من جهة، إن هذا من رواية أبي سعيد" الخدري، "وأبي هريرة" الدوسي، "وما هاجر أبو هريرة إلا عام خيبر" بالمعجمة وراء آخره على الصواب في المحرم سنة سبع، ونسخة حنين تصحيف، "فيبعد أنه لم يعلمه" الله تعالى "بهذا إلا بعد هذا" بل أعلمه فضله قبل ذلك. قال السبكي: وفي حديث الإسراء ما يدل عليه. انتهى، ومن جملته قول إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، "وقال آخر: إنما قاله صلى الله عليه وسلم على طريق التواضع" لين الجانب، وخفض الجناح، "ونفي التكبر" إظهارًا لعظمة، "والعجب" بضم فسكون، استحسان النفس والمدح لها. "قال القاضي عياض: وهذا لا يسلم من الاعتراض"؛ لأنه عد الإخبار بخلاف الواقع الذي هو كذب مذموم تواضعًا، قيل: ولأن نفي التكبر والعجب يقتضي ثبوتهما له، وأنه مع من علم من حاله كيف يتوهم فيه ما لا يتوهم في صالحي أمته، ولا يخفى أنه اعتراض ساقط، فإن التواضع صفة محمودة، وهو من شأنه صلى الله عليه وسلم، كذا في شرح الشفاء. وقال شيخنا: لأنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يفتخر من باب التحدث بالنعمة، بل المطلوب منه أن يظهر فضله لأمته، ليقوي إيمانهم به، ولئلا يجهلوا مقام فيضلوا. "وقيل": مما ذكر عياض أيضًا: "لا نفضل بعضهم تفضيلًا يؤدي" بضم التحتية وفتح الهمزة وشد الدال، يجر ويوصل "إلى تنقيص بعضهم" تفعيل من النقص، أي: يقتضي وصفهم بما فيه نقص، "أو الغض منه" بفتح الغين والضاد المعجمتين، أي: انتقاصه، كما في القاموس وغيره، فهو مساو لما قبله، ولا يصلح أنه عطف تفسير؛ لأنه إنما يكون بالواو إلا أن تكون، أو استعملت بمعنى الواو مجازًا، فعوملت معاملتها. وقد ورد هذا الجواب؛ بأنه إن أريد مطلق النقص، فهذا لا يقوله مسلم، وإن أريد نقص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 وقيل: منع التفضيل إنما هو في حق النبوة والرسالة، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها على حد واحد، لا تتفاضل، وإنما التفاضل فيزيادة الأحوال والخصوص والكرامات والرتب، وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل، وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة عليها، ولذلك كان منهم رسل وأولو عزم، انتهى، وهذا قريب من القول الثاني.   بعضهم عن بعض في الفضل، فلا معنى لأفعل التفضيل إلا ذلك. "وقيل" مما ذكره عياض أيضًا: "منع التفضيل" بين الأنبياء والرسل، "إنما هو في حق النبوة والرسالة" نفسها لا الأنبياء والرسل، "فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها"، أي: النبوة "على حد واحد" فرتبتها وقدرها متحد فيهم، إذ هي شيء واحد، "لا تتفاضل" أي: لا يزيد بعضها على بعض، "وإنما التفاضل في زيادة الأحوال" أي: العوارض الطارئة عليها، "والخصوص"، أي: ما خص به بعضهم دون بعض، "والكرامات" التي أكرم الله بها بعضهم، "والرتب" الدنيوية والأخروية، "وأما النبوة نفسها فلا تتفاضل". قال السنوسي في شرح عقائده: ويدل عليه منع أن يقال لفلان النبي النصيب الأقل من النبوة، ولفلان النصيب الأوفر منها، ونحوه من العبارات التي تقتضي أن النبوة مقولة بالتشكيك، ولا شك أن امتناع ذلك معلوم من الدين بالضرورة بين السلف والخلف، فدل على أن حقيقة النبوة من المتواطئ المستوى إفراده، ولا يلتفت لمن خالف مقتضاه لوضوح فساده. "وإنما التفاضل بأمور أخرى زائدة عليها" ليست من نفس حقيقتها، كما تبين، وفي ذكره ذلك في النبوة دون الرسالة إيماء إلى الفرق بينهما. "ولذلك" المذكور من أن التفاضل لأمر زائد، "كان منهم رسل وأولو عزم" أي: شدة وقوة وتصميم على تنفيذ ما يراد به وبغيره. "انتهى، وهذا قريب من القول الثاني" وليس عينه لاختلاف ملحظهما. وفي فتح الباري قال العلماء: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك من يقوله برأيه، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلًا إذا قلنا أنه أفضل من المؤذن لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان، وقيل: النهي إنما هو في حق النبوة نفسها لقوله: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} ، ولم ينه عن تفضيل الذوات لقوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] . وقال الحليمي: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 وقال ابن أبي جمرة في حديث يونس: يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطيب الري؛ لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس؛ لأن النبي صلى الله عليه سولم أسري به إلى فوق السبع الطباق، ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" وقال عليه السلام: "آدم ومن دونه تحت لوائي"، وقد اختص صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تفضلوني على يونس بن متى" إلا بالنسبة إلى القرب من الله   وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأن المخايرة، إذا وقعت بين دينين لم يؤمن أن يخرج أحدهما إلى الأزراء بالآخر، فيفضي إلى الكفر، فأما إذا كان التخيير مستندًا إلى مقابلة الفضائل ليحصل الرجحان، فلا يدخل في النهي، ثم قال: أعني في الفتح، في قوله: "ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس". قال العلماء: إنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعًا، إن كان قاله بعد أن علم أنه أفضل الخلق، وإن قاله قبل علمه، فلا إشكال. وقيل: خص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسد هذه الذريعة. انتهى، وذكرته برمته لحسن تلخيصه، وإن تكرر بعضه مع ما ذكره المصنف. "وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء، "في حديث يونس، يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن خطي الري" الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التميمي، البكري، الطبرستاني، الرازي، بحر العلوم، ناصر السنة، الورع، الدين، صاحب التصانيف الكثيرة، تفقه على أبيه وغيره، ولد سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفي بهراة يوم عيد الفطر يوم الاثنين سنة ست وستمائة، مر بعض ترجمته أيضًا، كان أبوه خطيبًا بالري: بفتح الراء وشد التحتية، مدينة مشهورة من أعلام البلاد، كانت أعظم من أصبهان والنسبة إليها بزيادة زاي؛ "لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به إلى فوق السبع الطباق" أي السماوات "ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصه؛ لأنه يوم ظهور ذلك كل الظهور. "وقال عليه السلام: آدم ومن دونه تحت لوائي" فالمراد بولد آدم جنس البشر، كما تقرر، فدخل آدم، "وقد اختص صلى الله عليه وسلم بالشفاعة الكبرى التي لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن يكون قوله عليه الصلاة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 سبحانه، والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروي عن الإمام دار الهجرة مالك بن أنس وعزي نحوه لإمام الحرمين. وقال ابن المنير: إن قلت: إن لم يفضل على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين في تفضيل الحق فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى على الحضيض الأدنى، فكيف لا نفضله عليه   والسلام: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، إلا بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه والبعد، فمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أسري به لفوق السبع الطباق واخترق الحجب، ويونس عليه الصلاة والسلام وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى على حد واحد. انتهى. وهو مروي عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس" وهو حمل حسن لا يرد عليه شيء، "وعزي نحوه لإمام الحرمين" أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني. ذكر القرطبي في التذكرة: أن القاضي أبا بكر بن العربي، قال: أخبرني غير واحد أن إمام الحرمين سئل هل الباري في جهة؟، فقال: لا هو متعال عن ذلك، قيل: ما الدليل عليه؟، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، قيل: ما وجه الدليل منه؟، قال: لا أقول حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينًا، فقام رجلان، فقالا: هي علينا، فقال: لا يتبع بها اثنين؛ أنه يشق عليه، فقال واحد: هي علي، فقال: إن يونس رمى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، كما أخبر الله، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وارتقى به صعدًا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وناجاه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر، فالله سبحانه قريب من عباده، يسمع دعاءهم ولا يخفى عليه حالهم، كيفما تصرفت من غير مسافة بينه وبينهم. انتهى. "وقال ابن المنير" في معراجه: "إن قلت: إن لم يفضل" نبينا صلى الله عليه سولم "على يونس باعتبار استواء الجهتين بالنسبة إلى وجود الحق تعالى، فقد فضله باعتبار تفاوت الجهتين في تفضيل الحق" سبحانه، "فإنه تعالى فضل الملأ الأعلى" أي: السماوات "على الحضيض الأنى" أي: الأرض عند الأكثرين؛ لأنه لم يعص فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها، أو وقعت نادرة، فلم يلتفت إليها، وقيل: الأرض أفضل؛ لأنها مستقر الأنبياء ومدفنهم، ونسب للأكثر أيضًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة بلا إشكال. ثم قال: قلت لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكاني فعلى هذا يحمل جمعًا بين القواعد، انتهى. واختلف هل البشر أفضل من الملائكة؟ فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بني آدم، وهو الأنبياء، أفضل من خواص الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش، والمقربون.   وصحح الأول، ومحل الخلاف، كما قال السراج البلقيني: فيما عدا قبور الأنبياء فهي أفضل اتفاقًا. "فكيف لا نفضله عليه الصلاة والسلام على يونس، فإن لم يكن التفضيل بالمكان فهو بالمكانة" الرفعة وعلو المنزلة، "بلا إشكال، ثم قال" تلو السؤال بلا فاصل "قلت: لم ينه عن مطلق التفضيل، وإنما نهى عن تفضيل مقيد بالمكان يفهم منه القرب المكاني" الذي يتعالى الله منه، "فعلى هذا يحمل جمعًا بين القواعد انتهى"، وهو في معنى ما قال إمام الحرمين ومالك وغيرهما. "و" قد "اختلف" في جواب قول السائل: "هل البشر أفضل من الملائكة" أم الملائكة أفضل، ثالثها الوقف واختاره الكيا الهراسي، ومحل الخلاف في غير نبينا صلى الله عليه وسلم أما هو فأفضل الخلق إجماعًا، لا يفضل عليه ملك مقرب ولا غيره، كما ذكره الرازي، وابن السبكي، والسراج البلقيني، والزركشي، وما في الكشاف من تفضيل جبريل. قال بعض المغاربة: جهل الزمخشري مذهبه، فإن المعتزلة مجمعون على تفضيل المصطفى، نعم قيل: إن طائفة منهم خرقوا الإجماع، كالرماني، فتبعهم. "فقال جمهور أهل السنة والجماعة: خواص بني آدم، وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة" واختاره الإمام فخر الدين في الأربعين. وفي المحصل قال ابن المنير: وفضلهم باعتبار الرسالة والنبوة لا باعتبار عموم الأوصاف البشرية بمجردها، وإلا لكان كل البشر أفضل من الملائكة، معاذ الله. وذكر الإمام فخر الدين: أن الخلاف في التفضيل بمعنى أيهما أكثر ثوابًا على الطاعات، ورد بذلك احتجاج الفلاسفة على تفضيل الملائكة بأنها نورانية علوية، والجسمانية ظلمانية سفلية، وقال: هذا لم يلاق محل النزاع، وبهذا يزول الإشكال في المسألة، "وهم جبريل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 والكروبيون والروحانيون، وخواص الملائكة أفضل من عوام بني آدم -قال التفتازاني: بالإجماع بل بالضرورة- وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة. فالسجود له أفضل من الساجد، فإذا ثبت تفضيل الخواص على الخواص لآدم ثبت تفضيل العوام على العوام، فعوام الملائكة خدم عمال الخير، والمخدوم له.   وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل" ملك الموت، "وحملة العرش" وهم أربعة، أو ثمانية، تقدم تحريره في المعراج، "والمقربون والكروبيون" بفتح الكاف وخفة الراء، كما مر، "والروحانيون" بضم الراء وفتحها، أما الضم؛ فلأنهم أرواح ليس معها ماء ولا نار ولا تراب، ومن قال هذا قال: الروح جوهر، ويجوز أن يؤلف الله أرواحًا، فيجسمها ويخلق منها خلقًا ناطقًا عاقلًا، فيكون الروح مخترعًا، والتجسيم بضم النطق والعقل إليه حادثًا من بعد، ويجوز أن أجساد الملائكة على ما هي عليه اليوم مخترعة، كما اخترع عيسى وناقة صالح, وأما الفتح، فبمعنى أنهم ليسوا محصورين في الأبنية والظلل، ولكنهم في فسحة وبساط، وقيل: ملائكة الرحمة روحانيون بفتح الراء، وملائكة العذاب الكروبيون من الكرب، قاله الحليمي والبيهقي. "وخواص الملائكة" وهم المذكورون "أفضل من عوام بني آدم" يعني أولياء البشر، وهم من عدا الأنبياء، كما في الحبائك، أي: الصلحاء، كما يأتي "قال التفتازاني: بالإجماع، بل بالضرورة" لعصمتهم جميعهم. قال السيوطي: لكن رأيت لطائفة من الحنابلة؛ أنهم فضلوا أولياء البشر على خواص الملائكة، وخالفهم ابن عقيل من أئمتهم، وقال: إن ذلك شناعة عظيمة عليهم، "وعوام بني آدم أفضل من عوام الملائكة" وهم غير خواصهم في أحد القولين، وجزم به الصفار والنسفي كلاهما من الحنفية. وذكر البلقيني: أنه المختار عند الحنفية، ومال إلى بعضه، وهو أنه قد يوجد ن أولياء البشر من هو أفضل من غير الخواص من الملائكة، وذهب الأكثرون إلى تفضيل جميع الملائكة على أولياء البشر، وجزم به ابن السبكي في جمع الجوامع، وفي منظومته، فذكر المصنف ثلاث صور استدل لها بقوله: "فالمسجود له أفضل من الساجد" وهو الملائكة، أي: أن مجموع البشر أفضل من مجموع الملائكة، كما أشار له بقوله: "فإذا ثبت تفضيل الخواص" وهم الأنبياء، "على الخواص" من الملائكة بالسجود "لآدم، ثبت تفضيل العوام على العوام" وهذا صريح في تفضيل المجموع، وأورد الرازي في الأربعين: لم لا يقال: السجدة كانت لله وآدم، كالقبلة سلمنا أنها لآدم، لكن لم لا يكون من السجود التواضع والترحيب، سلمنا أنها وضع الجبهة على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 فضل على الخادم؛ ولأن المؤمنين ركب فيهم الهوى والعقل، مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى ولا سبيل للشيطان عليهم. فالإنسان -كما قاله في شرح العقائد- يحصل الفوائد والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق، والموانع من الشهوة والغضب وسنوح الحاجات الضرورية الشاغلة عن اكتساب الكمالات، ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع   الأرض، لكنها قضية عرفية، يجوز أن تختلف باختلاف الأزمنة، فلعل عرف ذلك الوقت؛ أن من سلم على غيره وضع جبهته على الأرض، وتسليم الكامل على غيره أمر معتاد، قال: والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن ذلك السجود، لو لم يدل على زيادة منصب السجود له على المساجد لما قال إبليس: أرأيتك هذا الذي كرمت علي، فإنه لم يوجند شيء آخر يصرف هذا الكلام إليه سوى هذاالسجود، فدل على اقتضائه ترجيح المسجود له على الساجد. "فعوام الملائكة خدم عمال الخير" وهم صلحاء المؤمنين، "والمخدوم له فضل على الخادم"، وهذا استدلال للصورة الثالثة، وعطف على، فالسجود له أفضل من الساجد باعتبار المعنى، أي: فبنو آدم من حيث هم أفضل؛ لأن هذا النوع مسجود له في الجملة؛ "ولأن المؤمنين" من حيث هم "ركب فيهم الهوى" بالقصر، أي: الميل إلى الشيء، ثم استعمل في الميل المذموم نحو: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّك} ، "والعقل" عبر به دون الشهوة، وإن كان أظهر في بيان المشقة الحاصلة للمؤمنين في العبادة، لبيان ما حصل به الاشتراك بين الآدمي والبشر، وقد أوضح ذلك الفخر في الأربعين، فقال: الملائكة لهم عقول بلا شهوة، والبهائم لهم شهوة بلا عقل، والآدمي له عقل وشهوة، فإن رجحت شهوته على عقله كان أخس من البهيمة، قال تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ، فقياسه لو رجح عقله على شهوته وجب أن يكون أفضل من الملك. انتهى. وذكر نحوه البيهقي، وزاد: ألا ترى من ابتلى من الملائكة بالشهوة كيف وقع في المعصية، وذكر قصة هاروت وماروت، وساقها من ثلاثة طرق، فكان المصنف عبر عن الشهوة بالهوى لتسببه عنها، "مع تسليط الشيطان عليهم بوسوسته، والملائكة ركب فيهم العقل دون الهوى" لعدم الشهوة، "ولا سبيل للشيطان عليهم" لعصمتهم، فهذه الآفة غير حاصلة للملائكة، "فالإنسان، كما قاله" التفتازاني "في شرح العقائد" للنسفي، "يحصل الفوائد والكمالات العلمية والعملية مع وجود العوائق والموانع من الشهوة، والغضب، وسنوح الحاجات" أي: ظهورها وعروضها "الضرورية" التي لا بد منها، "الشاغلة عن اكتساب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 الشواغل والصوارف أشق وأدخل في الإخلاص فيكون أفضل. والمراد بعوام بني آدم -هنا- الصلحاء لا الفلسفة، كما نبه عليه العلامة كال الدين بن أبي شريف المقدسي، قال: ونص عليه البيهقي في الشعب وعبارته: قد تكلم الناس قديمًا وحديثًا في المفاضلة بين الملائكة والبشر، فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من   الكمالات" من علم وعمل، ومع ذلك بحصلهما، "ولا شك أن العبادة وكسب الكمال مع الشواغل والصوارف" أي: الموانع، وهي لازمة للشواغل، وكأنه جمع صارف أو صارفة، أي: أمر صارف، أو خصلة صارفة؛ لأن فواعل يجمع قياسًا على فاعل وفاعلة، والمسموع صروف كفلس وفلوس على ما في المصباح. "أشق وأدخل في الإخلاص، فيكون" الإنسان "أفضل" وفي الأربعين: لأن طاعة البشر أشق؛ لأن الشهوة والغضب والحرص والهوى من أعظم الموانع عن الطاعات، وهذه صفات موجودة في الشر، مفقودة في الملائكة، والفعل مع المانع أشق منه مع غير المانع؛ ولأن تكاليف الملائكة مبنية على النصوص، قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} [الأنبياء: 27] ، وتكاليف البشر بعضها مبني على النصوص، وبعضها على الاستنباط، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار} [الحشر: 2] وقال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، والتمسك والاجتهاد والاسنباط في معرفة الشيء أشق من التمسك بالنص، والأشق أفضل نصًا وقياسًا، أما النص، فقوله صلى الله عليه وسلم: "أجرك على قدر نصبك"، وحديث: "أفضل العبادات أحمزها" أي: أشقها، وأما القياس، فلو اشتركت الطاعات السهلة والشاقة في الثواب لخلا تحمل الشاقة عن الفائدة، وتحمل الضرر الخالي عن الفائدة محظور قطعًا، فكان يجب حرمة الشاقة فلما لم يكن كذلك علم أن الأشق أكثر ثوابًا. "والمراد بعوام بني آدم هنا" في هذا المبحث "الصلحاء" لا ما اشتهر أنهم مقابل العلماء، وما في الأصول؛ أنهم خلاف المجتهدين "لا الفسقة" جعلهم في مقابلة الصلحاء، يقتضي أن كل من لم يرتكب كبيرة، ولم يصر على صغيرة من صلحاء المؤمنين، وإن لم يصل درجة الأولياء، وهو قد ينافي تعريف الولي بالقائم بحق الله والعباد، لكن من هذه صفته قليل. "كما نبه عليه العلامة كمال الدين بن أبي شريف المقدسي، قال: ونص عليه البيهقي في الشعب، وعبارته: قد تكلم الناس قديمًا وحديثًا في المفاضلة بين الملائكة والبشر" الإنسان سمي به لظهور بشرته، يطلق على الإنسان واحده وجمعه، وقد يثني ويجمع على الإبشار، كما في القاموس، "فذهب ذاهبون إلى أن الرسل من البشر" الذي يدعون الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 الأولياء من الملائكة. انتهى. وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة إلى تفضيل الملائكة، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وأبي عبد الله الحليمي، وتمسكوا بوجوه: الأول: أن الملائكة أرواح مجردة كاملة بالعقل مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات كالشهوة والغضب، وعن ظلمات الهيولي والصورة، قوية على الأفعال   إلى الحق، ويبلغونهم ما نزل إليهم، "أفضل من الرسل من الملائكة" وهم الذين يتوسطون بين الله وبين الأنبياء، فهم رسل بالمعنى اللغوي، كقوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1] ، أما الاصطلاحي، وهو إنسان حر ذكر، أوحي إليه بشرع، وأمر بتبليغه، فلا يكونون رسلًا، إذ لا شيء من الملائكة بإنسان، "والأولياء من البشر". قال السيوطي: وهم من عدا الأنبياء. "أفضل من الأولياء من الملائكة" وهم من عد خواصهم، كما أفاده السيوطي. "انتهى" كلام البيهقي. وإنما يوافق دعواه بتأويل أولياء البشر بالصلحاء الذين لا كبيرة لهم ولا إصرار على صغيرة، لا بما عرفه التفتازاني؛ أنه العارف بالله، وصفاته حسبما يمكنه المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات، "وذهبت المعتزلة والفلاسفة وبعض الأشاعرة" أي: أهل السنة، كأبي إسحاق الإسفراييني، والحاكم أبي عبد الله، "إلى تفضيل الملائكة، وهو اختيار القاضي أبي بكر" محمد بن الطيب "بن الباقلاني" بتخفيف الللام والنون، نسبة إلى بيع الباقلاء، "وأبي عبد الله الحليمي" واختاره أيضًا الإمام فخر الدين في المعالم، وأبو شامة. قال البيهقي: وأكثر أصحابنا ذهبوا إلى القول الأول، والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معخرفة الشيء على ما هو به. انتهى. "وتمسكوا بوجوه" نحو عشرين، اقتصر منها على أربعة: "الأول" وهو أضعفها، "أن الملائكة أرواح مجردة". قال الآمدي: هذا غير مسلم، بل أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذا المفهوم ليس بمسلم، "كاملة بالعقل" بمعنى أنها "مبرأة عن مبادئ الشرور والآفات، كالشهوة والغضب" والخيال والوهم، "وعن ظلمات الهيولي". قال المجد: القطن، وشبه الأوائل طينه العالم به، أو هو في اصطلاحهم موصوف بما يصف به أهل التوحيد الله تعالى، أنه موجود بلا كمية وكيفية، ولم يقترن به شيء من سمات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 العجيبة عالمة بالكوائن ماضيها وآتيها من غير غلط. والجواب: أن مبنى ذلك على الأصول الفلسفية دون الأصول الإسلامية. الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193] ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم. والجواب: أن التعليم إنما هو من الله والملائكة إنما هم مبلغون.   الحديث، ثم حلت به الصفة، واعترضت به الأعراض، فحدث منه العالم، "والصورة" قالوا: وهذه الصفات هي الحجب القوية عن تجلي نور الله، ولا كمال إلا بحصول ذلك التجلي، ولا نقص إلا بحصول ذلك الحجاب، فلما كان هذا التجلي حاصلًا لهم أبدًا، والأرواح البشرية محجوبة عن ذلك التجلي في أكثر الأوقات، علم أنه لا نسبة لكمالهم إلى كمال البشر، والقول؛ بأن الخدمة مع كثرة العوائق أعلى منها بلا عوائق، كلام خيالي؛ لأن المقصود من جميع العبادات والطاعات حصول ذلك التجلي، فأي: موضع كان فيه التجلي أكثر، وعن المعاوق أبعد كان فيه الكمال والسعادة أتم، ولذا قال تعالى في الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، "قوية على الأفعال العجيبة" لا تستثقل حمل الأثقال، ولا تستصعب نقل الجبال، والرياح تهب بتحريكها، والسحاب تعرض وتزول بتصرفاتها، والزلازل تطوى بقوتها، "عالمة بالكوائن، ماضيها وآتيها من غير غلط"؛ لأنهم ناظرون إلى اللوح المحفوظ أبدًا، فيعملون ما وجد في الماضي، وما سيوجد في المستقبل، "والجواب أن مبنى ذلك" الذي احتجوا به "على الأصول الفلسفية" إذ هم القائلون؛ بأنهم أرواح مجردة، "دون الأصول الإسلامية" القائلين بأنهم أجسام ذات أرواح، والتفاوت في هذا غير مسلم عندنا. وأما في باقي الصفات المذكورة، فغير مسلمة على ما عرف من أصولنا، قاله الآمدي. "الثاني: أن الأنبياء مع كونهم أفضل البشر" باتفاق الفريقين، "يتعلمون ويستفيدون منهم بدليل قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] أي: جبريل، "وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 31] ، ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم، والجواب أن التعليم إنما هو من الله، والملائكة إنما هم مبلغون" فلا يلزم تفضيلهم على الأنبياء؛ لأن مجرد كونهم وسائط في التبليغ لا يقتضي التفضيل، ألا ترى أن السلطان لو أرسل إلى الوزير مثلًا رسالة مع بعض أتباع السلطان، لا يلزم منه أن الرسول أفضل من الوزير، ولا مساو له، ولا يلزم أيضًا كون المعلم أعلم، كما ادعوه. قال الآمدي: آدم كان أعلم منهم، لقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، الآيات، والمراد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 الثالث: أنه اطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء، وما ذاك إلا لتقدمهم في الشرف والرتبة. والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود، أو؛ لأن وجودهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتقديم أولى. الرابع: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من عيسى، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان، ولا يقال: السلطان، ولا الوزير، ثم لا   أصحاب الأسماء، وهي المسميات لقوله: {ثُمَّ عَرَضَهُم} ، ولو أراد الأسماء لقال: ثم عرضها، كما قاله ثعلب، ولو سلم أنهم أعلم، فإنما يدل على اختصاصهم بالأعلمية، ولا يلزم أن يكونوا أفضل عند الله، بمعنى أكثر ثوابًا وأرفع درجة. "الثالث: أنه اطرد في الكتاب والسنة تقديم ذكرهم على الأنبياء" كقوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، "وما ذاك إلا لتقدمهم في الشرف والرتبة"؛ لأن العرف شاهد بفضيلة المتقدم في الذكر، والأصل تنزيل الشرع عليه، ويدل عليه قول عمر للقائل: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا ... لو قدمت الإسلام لأعطيتك "والجواب: أن ذلك لتقدمهم في الوجود" لا للدلالة على الفضيلة، بدليل أنه تعالى قدم ذكرهم على كتبه، والكتب على الرسل، والكتب إن كانت هي الكلام القديم النفساني، فهي أفضل من الملائكة، وإن كانت العبارات والكتابات الدالة، فالرسل أفضل منها باتفاق وقد أخر الرسل عنها في الذكر، قاله الآمدي. "أو؛ لأن وجودهم أخفى" لعدم رؤيتنا لهم، ولذا استدلوا على وجودهم بالأدلة السمعية، كذكرهم في الكتب السماوية، وأخبار الأنبياء بهم، "فالإيمان بهم أقوى، وبالتقديم أولى"؛ لأن الله أثنى على الذين يؤمنون بالغيب، أي: بما غاب عنهم. "الرابع: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِف} يتكبر ويأنف {الْمَسِيحُ} الذي زعمتم أنه إله عن {أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] ، عنده، أن يكونوا عبيد الله، "فإن أهل اللسان يفهمون من ذلك أفضلية الملائكة من" أي: على "عيسى، إذ القياس في مثله الترقي من الأدنى إلى الأعلى، يقال: لا يستنكف من هذا الأمر الوزير، ولا السلطان، ولا يقال: السلطان ولا الوزير" إذ لا يحسن ذلك لاقتضائه زيادته على السلطان، ولا كذلك، فدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 قائل بالفرق بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام. والجواب: أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنا له؛ لأنه مجرد لا أب له، وكان يبرئ   على فضل الملائكة على الأنبياء، ثم أجابوا عن قصور الدليل على فضلهم على عيسى، فلا يلزم ذلك على بقية الأنبياء بقولهم، "ثم لا قائل بالفرق" وفي نسخ: بالفصل، بصاد مهملة، أي: التمييز "بين عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام" فثبت الدليل بقياس المساواة، لكن قد اعترض الفخر هذا الاستدلال بوجوه، بأن محمدًا أفضل من المسيح، ولا يلزم من فضل الملائكة عليه فضلهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن قوله: {وَلَا الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ} ، صيغة جمع تتناول الكل، فتفيد أن مجموعهم أفضل من المسيح، لا أن كل واحد أفضل منه؛ ولأن الواو حرف عطف، فتفيد الجمع المطلق لا الترتيب، فأما المثال المذكور، فليس بحجة؛ لأن الحكم الكلي لا يثبت بالمثال الجزئي، ثم هو معارض بسائر الأمثلة، كقولك: ما أعانني على هذا الأمر لا عمرو ولا زيد، فلا يفيد فضل المتأخر في الذكر، ومنه قوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ} [المائدة: 2] ، فلما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها، ثم تحقيق المسألة، إذا قيل: هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا السلطان، فنحن نعلم بعقولنا أن السلطان أعظم درجة من الوزير، فعرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة، وإنما عرفناها بالعقل، لا بمجرد الترتيب، فلا يمكننا أن نعرف أن المراد في: {وَلَا الْمَلَائِكَة} ، بيان المبالغة، إلا إذا عرفنا قبل ذلك أن الملائكة أفضل من المسيح، وحينئذ تتوقف صحة الدليل على صحة المطلوب وهو دور. "والجواب" على تقدير أن الآية دالة على أن منصب الملك أعلى من المسيح، لكنها لا تدل على أن تلك الزيادة في جميع المناصب، بل في بعضها، فقولك: لا يستنكف من خدمة هذا العالم الوزير، ولا السلطان، إنما يفيد أن السلطان أكمل منه في بعض الأشياء وهي القدرة والسلطة، ولا يفيد زيادته على الوزير في العلم والزهد، فإذا ثبت هذا، فنحن نقول بموجبه، وهو أن الملك أفضل من البشر في القدرة والقوة والبطش، فإن جبريل قلع مدائن قوم لوط، والبشر لا يقدر على ذلك، فلم قلتم بفضل الملك على البشر في كثرة الثواب الذي هو محل الخلاف في المسألة، وكثرته إنما تحصل بنهاية التواضع والخضوع، ووصف العبد بذلك لا يلائم صيرورته مستنكفًا عن العبودية لله، بل يناقضها، فامتنع كون المراد من الآية هذا المعنى، أما اتصافه بالقدرة الشديدة، والقوة الكاملة، فمناسب للتمرد وترك العبودية، وذلك "أن النصارى استعظموا المسيح بحيث يرتفع" وفي نسخة: يرتفع، أي: يتعالى، "من أن يكون عبدًا من عباد الله، بل ينبغي أن يكون ابنًا له" كما قال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 20] الآية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، بخلاف سائر العباد من بني آدم، فرد عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك المسيح ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأصعب وأعجب من إبراء الأكمه، والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى فالترقي والعلو إنا هو في أمر التجرد وإظهار الآثار القوية لا في مطلق الشرف والكمال، فلا دلالة على الآية على أفضلية الملائكة البتة. انتهى.   "لأنه مجرد لا أب له؛ و" لأنه "كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، بخلاف سائر العباد من بني آدم، فرد" الله "عليهم بأنه لا يستنكف من ذلك"، أي: عبودية الله، "المسيح، ولا من هو أعلى منه في هذا المعنى، وهم الملائكة، الذين لا أب لهم، ولا أم، ويقدرون بإذن الله تعالى على أفعال أقوى وأصعب وأعجب من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى بإذن الله تعالى"، الذي شاهدتموه من المسيح، "فالترقي والعلو إنما هو في أمر التجرد" من الأب والأم، "وإظهار الآثار القوية" كالشدة والقوة والبطش، "لا في مطلق الشرف والكمال" المؤدي إلى كثرة الثواب، ومزيد الرفعة عند الله، "فلا دلالة في الآية على أفضلية الملائكة البتة. انتهى" ما أورده من هذا المبحث، وليس المراد انتهى ما في الشعب؛ لأنه ليس فيها ذلك، وقدم قوله انتهى يعني ما في الشعب قبل قوله وذهبت. والقول الثالث الوقف، حكاه الكلاباذي عن جمهور الصوفية، قال شارحه القونوي: وهو أسلم الأقوال، والسلامة لا يعدلها شيء، كيف وأدلة الجانبين متجاذبة، وليست المسألة مما كلفنا الله تعالى بمعرف الحكيم فيها، فالصواب تفويض علمها إلى الله، واعتقاد أن الفضل لمن فضله الله ليس بشرف الجوهر، ليقال الملائكة أفضل؛ لأن جوهرهم أشرف، فإنهم خلقوا من نور، وخلق البشر من طين، وأصل إبليس وجوهره، وهو النار أشرف وأصفى من جوهر البشر، وما أفاده ذلك فضلًا، ولا بالعمل، ليقال عمل الملائكة أكثر؛ لأن إبليس أكثر عملًا أيضًا. وقال في منع الموانع عن والده: المسألة ليست مما يجب اعتقاده ويضر الجهل به، ولو لقي الله ساذجًا منها بالكلية، لم يأثم. قال القاضي تاج الدين: فالناس ثلاثة: رجل عرف أن الأنبياء أفضل واعتقده بالدليل، وآخر جهل المسألة ولم يشتغل بها، وهذان لا ضرر عليهما، وثالث قضى بأن الملك أفضل، وهذا على خطر، وهل من فضل الأنبياء على خطر: فالساذج أسلم منه، أو؛ لأنه لإصابة الحق إن شاء الله ناج من الخطر، هذا موضع نظر، والذي كنت أفهمه عن الوالد أن السلامة في السكوت، وأن الدخول في التفضيل بين هذين الصنفين الكريمين على الله بلا دليل قاطع دخول في خطر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 ثم الملائكة بعضهم أفضل من بعض، وأفضلهم الروح الأمين جبريل، المزكى من رب العالمين، المقول فيه من ذي العزة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20] فوصفه بسبع صفات، وهو أفضل الملائكة الثلاثة -الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق- وهم: ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.   عظيم، وحكم في مكان أسنا أهلًا للحكم فيه، وجاءت أحاديث مشيرة إلى عدم الدخول في ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، ونحوه، ولا خلاف أنه أفضل منه، فلعله إشارة إلى أنكم لا تدخلوا في أمر لا يعنيكم، وما للسوقة والدخول بين الملوك، أعني بالسوقة أمثالنا، وبالملوك الأنبياء والملائكة انتهى. وقد بسط في الحبائك المسألة، "ثم إن الملائكة بعضهم أفضل من بعض" فأعلاهم درجة حملة العرش، الحافون حوله، فأكابرهم كالأربعة، فملائكة الجنة والنار، فالموكلون ببني آدم، فالموكلو بأطراف هذا العالم، كذا ذكر الرازي، "وأفضلهم الروح الأمين جبريل المزكى" صفة بمنزلة التعليل، كأنه قال: لأنه المزكى "من رب العالمين، المقول فيه من ذي العزة" سبحانه {إِنَّهُ} أي: القرآن، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} على الله، أضيف إليه القرآن بنزوله به {ذِي قُوَّةٍ} أي: شديد القوة، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} أي: الله {مَكِينٍ} ذي مكانة {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: تطيعه الملائكة في السماوات، وثم إما متعلقة بمطاع، أو بقوله: {أَمِينٍ} [التكوير: 20] ، على الوحي، "فوصفه بسبع صفات" على ما قاله الزمخشري، وهو ظاهر بجعل عند ذي العرش صفة مستقلة لا متعلقة بما قبلها ولا بما بعدها، وعدها الرازي سنة، فجعلها متعلقة بقوله: {ذِي قُوَّة} ، "وهو أفضل الملائكة الثلاثة الذين هم أفضل الملائكة على الإطلاق، وهم ميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل" كما قال كعب الأحبار: جبريل أفضل الملائكة، نقله النعماني، وكأن هذا لم يصح عند السيوطي، فقد قال في الحبائك: سئلت هل الأفضل جبريل، أو إسرافيل؟، والجواب: لم أقف على نقل في ذلك لأحد من العلماء والآثار متعارضة، فحديث الطبراني عن ابن عباس، مرفوعًا: ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل، وأثر وهب أن أدنى الملائكة من الله جبريل، ثم ميكائيل، يدل على تفضيل جبريل، وحديث ابن مسعود، مرفوعًا: "أن أقرب الخلق من الله إسرافيل، صاحب الصور، جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره". وحديث عائشة، مرفوعًا: "إسرافيل ملك الله، ليس دونه شيء"، وأثر كعب: أن أقرب الملائكة إلى الله إسرافيل، وأثر الهذلي ليس شيء من الخلق أقرب إلى الله من إسرافيل. وحديث ابن أبي جبلة: "أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل"، وأثر ابن سابط: "يدبر أمر الدنيا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء، وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض، ومحمد صلى الله علي وسلم أفضل الأنبياء والرسل، كما تقدم. وأول الأنبياء آدم وآخرهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فأما نبوة آدم فبالكتاب الدال على أنه قد أمر ونهي، مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا السنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا.   أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، إلى أن قال: وأما إسرافيل، فأمين الله بينه وبينهم، أي: وبين الثلاثة، وأثر خالد بن أبي عمران وإسرافيل بمنزلة الحاجب، كل ذلك يدل على تفضيل إسرافيل انتهى. "وكذلك الرسل أفضل من الأنبياء" الذين ليسوا برسل لزيادتهم بالرسالة، والأنبياء بعضهم أفضل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] . قال الإمام الرازي: أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، وأن محمدًا أفضل الكل، "وكذلك الرسل بعضهم أفضل من بعض" بنص الآية، "ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والرسل" نصًا وإجماعًا، "كما تقدم" قريبًا، ويليه إبراهيم، كما نقل بعضهم عليه الإجماع، وفي الصحيح: خير البرية إبراهيم، خص منه المصطفى، فبقي على عمومه، كذا في النقاية. وقال التفتازاني في شرح المقاصد: اختلف في الأفضل بعد المصطفى، فقيل: آدم لكونه أبا البشر، وقيل: نوح لطول عبادته ومجاهدته، وقيل: إبراهيم لزيادة توكله واطمئنانه، وقيل: موسى لكونه كليم الله ونجيه، وقيل: عيسى لكونه روح الله وصفيه. انتهى. وجزم ابن كثير في تاريخه؛ بأن إبراهيم أفضل بعد محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم. "وأول الأنبياء آدم" أي: والرسل أيضًا، فالصحيح أنه مرسل إلى بنيه، كما دل عليه حديث أبي ذر، "وآخرهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فأما نبوة آدم فالبكتاب الدال على أنه قد أمر" بنحو: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] ، "ونهى" بنحو: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَة} ، "مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا السنة" دلت على نبوته، كحديث أبي ذر الآتي، "والإجماع" من الأمة عليها، "فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا" لمخالفة الإجماع والنص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 وقد اختلف في عدد الأنبياء والمرسلين، والمشهور في ذلك ما في حديث أبي ذر عند ابن مردويه في تفسيره، قال: قلت يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال: قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: "ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قال قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: "آدم"، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم وشيت ونوح وخنوخ -وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم-، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر"،   "وقد اختلف في عدد الأنبياء، والمرسلين، والمشهور في ذلك ما في حديث أبي ذر عند ابن مردويه في تفسيره" وعبد بن حميد، والحاكم في المستدرك، وابن عساكر، والحكيم الترمذي في النوادر. "قال" أبو ذر: "قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا"، قال: قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم؟، قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر" هم "جم" أي: جمع "غفير" أي: كثير، "قال: قل: يا رسول الله من كان أولهم"؟ أي: الرسل، "قال: "آدم"، قال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث" ابنه "ونوح وخنوخ" بفتح المعجمة، وضم النون، وسكون الواو، ثم معجمة، بوزن ثمود عند الأكثر، وقيل: بزيادة ألف في أوله، وسكون المعجمة الأولى، وقيل: كذلك، لكن بحذف الواو، وقيل: كذلك، لكن بدل الخاء الأولى هاء، وقيل: كالثاني، لكن يدل المعجمة مهملة، "وهو إدريس" سرياني، وقيل: عربي مشتق من الدراسة، لكثرة درسه الصحف، ولا يمنع الحديث كون لفظ إدريس عربيًا، إذا ثبت أن له اسمين، "وهو أول من خط بالقلم" وذكر ابن إسحاق؛ أن له أوليات كثيرة، منها أنه أول من خاط الثياب، ذكره كله الحافظ، "وأربعة من العرب: هود" بن عبد الله بن رباح بن حرث بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وسماه في التنزيل أخا عاد، لكونه من قبيلتهم، لا من جهة أخوة الدين، هذا هو الراجح في نسبه، وأما ابن هشام، فقال اسمه عابر بن أرفخشد بن سام، "وصالح" بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود بن عابر بن إرم بن سام، "وشعيب" بن سليل بن يشجن بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم، وقيل: شعيب بن صفور بن عنقاء بن ثابت بن مدين، وقول ابن إسحاق: يشجن بن لاوى بن يعقوب لا يثبت، "ونبيك" محمد صلى الله عليه وسلم "يا أبا ذر"، ففي هذا الحديث؛ أن شعيبًا من العرب العارية، وقيل: إنه من بني عنزة بن أسد، ففي حديث سلمة بن سعيد العنزي؛ أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فانتسب إلى عنزة، فقال: نعم الحي عنزة، مبغي عليهم، منصورون، رهط شعيب، وأختان موسى، أخرجه الطبراني، وفي أسانيده مجاهيل. "وأول نبي من بني إسرائيل موسى" قد يستشكل هذا، بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 "وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى، وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك يا أبا ذر"، وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان في كتابه "الأنواع والتقاسيم" وقد وسعه بالصحيح. وخالفه ابن الجوزي فذكره في الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام. قال الحافظ بن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث، والله أعلم. وروى أبو يعلى عن أنس مرفوعًا: "كان من خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي، ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله تعالى على أسمائهم في القرآن: آدم وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب، وموسى وهارون ويونس، وداود وسليمان   قَبْلُ بِالْبَيِّنَات} [غافر: 34] ، سواء قلنا: إنه ابن يعقوب، أو ابن أفرايم بن يوسف بن يعقوب، وكلاهما قبل موسى، وهما من بني إسرائيل، الذي هو يعقوب، إلا أن يقال: المعنى أول نبي أمر جميع من يأتي من أنبيائهم بعده باتباع شرعه والدعاء إليه. "وآخرهم عيسى، وأول النبيين" على الإطلاق "آدم، وآخرهم نبيك يا أبا ذر". "وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم" محمد "بن حبان" بكسر المهملة وشد الموحدة، "في كتابه الأنواع والتقاسيم، وقد وسعه بالصحيح" وكذا صححه الحاكم، "وخالفه ابن الجوزي، فذكره في الموضوعات، واتهم به إبراهيم بن هشام" الغساني. "قال الحافظ ابن كثير: ولا شك أنه قد تكلم فيه" أي: إبراهيم، "غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث" فقال أبو حاتم: إنه غير ثقة، وكذبه أبو زرعة الرازي، "والله أعلم" بصحته في نفس الأمر وعدمها. "وروى أبو يعلى" وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف، "عن أنس، مرفوعًا: "كان من خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي" لا يعارض ما قبله بفرض صحتهما؛ لأن الأخبار بالأقل لا ينافي الأكثر لدخوله فيه، ولعله أوحى إليه بهذا، فأخبر به، ثم بالأول، وما ينطق علن الهوى، "ثم كان عيسى ابن مريم، ثم كنت أنا والذين نص الله على أسمائهم في القرآن: وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم، ولوط وإسماعيل وإسحاق" ولذا إبراهيم، "ويعقوب" بن إسحاق، "ويوسف" بن يعقوب، وكذا حفيده يوسف بن أفرايم بن يوسف في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَات} ، في أحد القولين، والثاني: أنه ابن يعقوب، وحكى النقاش والماوردي؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 وإلياس واليسع، وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين والله أعلم. قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} . روى ابن جرير من حديث أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل   أنه رسول من الجن بعث إليهم، قال السيوطي: وهو غريب جدًا، "وأيوب". قال ابن إسحاق: والصحيح أنه من بني إسرائيل، ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أبيض. وقال ابن جرير: هو أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق. وحكى ابن عساكر: أن أمه بنت لوط، وأن أباه آمن بإبراهيم، فعلى هذا كان قبل موسى، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب. وقال ابن أبي خيثمة: بعد سليمان ابتلى وهو ابن سبعين سنة سبع وسنين، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: ثلاث سنين. وروى الطبراني: أن مدة عمره ثلاث وتسعون سنة. "وشعيب، وموسى، وهارون" أخوه، شقيقه، وقيل: لأمه، وقيل: لأبيه، حكاهما الكرماني في عجائبه، "ويونس، وداود، وسليمان" ابنه، "وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى" ولده، "وعيسى" ابن مريم، "وكذا ذو الكفل" نبي، "عند كثير من المفسرين" وقيل: هو ابن أيوب في المستدرك. عن وهب: بعث الله بعد أيوب ابنه بشرًا نبيًا، وسماه ذا الكفل، وأمره بالدعاء إلى توحيده، وكان مقيمًا بالشام عمره حتى مات، وعمره خمس وستون سنة، وكفل مائة نبي، فروا إليه من القتل، وتكفل بصيام جميع النهار، وقيام جميع الليل، وأن يقضي بين الناس، ولا يغضب، فوفى بذلك، وقيل: هو إلياس، وقيل: يوشع، وقيل: زكريا، وقيل: اليسع، وإن له اسمين، وقيل: اسمه ذو الكفل، وقيل: لم يكن نبيًا، بل رجلًا صالحًا يتكفل بأمور فيوفي بها، "والله أعلم" بذلك. ومن جملة المختلف في نبوته لقمان وذو القرنين، وكذا الخضر، لكن لم يفصح باسمه في القرآن. "قال الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الإنشراح: 4] ، واستأنف بيانيًا، فقال: "روى ابن جرير" محمد الطبري، الحافظ، أحد الأعلام في تفسيره، وأبو يعلى، والطبراني "من حديث أبي سعيد" الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل، فقال: إن ربي وربك" المحسن إلي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 "فقال: إن ربي وربك يقول: تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي". وذكره الطبراني، وصححه ابن حبان.   وإليك، بجليل التربية، المزكي لي ولك بجميل التزكية، وإضافة رب للتشريف، فكما تفيده إضافة العبد إليه تعالى تشريفه، فكذا إضافته إليه تعالى تفيده، بل ذلك أقوى إفادة له، "يقول": زاد في رواية لك تنبيهًا على كمال العناية، ومزيدًا لوجاهة عنده والرعاية، "تدري" استفهام حذفت أداته تخفيفًا لكثرة وقوعها فيه، وفي رواية: أتدري بإثباتها، وهو غير حقيقي لاستحالته على علام الغيوب، بل تقريري ليقر بعدم علمه، فيعلمه من لدنه أي: أتدري جواب "كيف" أي: على أي: حال، ومعنى "رفعت ذكرك" وكيف في محل نصب حال من المفعول على القاعدة المشهورة، إن وقعت بعد كلام تام فحال، وإلا فخبر، وليست منصوبة بتدري؛ لأن لها الصدر، فتدري معلق عن الجملة بعده، كقوله: وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وزعم أن كيف خرجت عن الاستفهام، أي: أتدري كيفية الرفع، وهذا من الانبساط مع المحبوب لأجل زيادة اتوجه والانتظار، نكتة أعجمية مع أن لفظ كيفية لم تسمع من العرب، كما صرح به أهل اللغة. "قلت": وفي رواية: فقلت: "الله أعلم"، وكان هذا إخبار من جبريل عما وقع من المخاطبة بينه وبين الله قبل نزوله، والله عالم بأنه يجيب برد العلم إليه، فكأنه قال: إذا أجابك فقل، "قال: إذا ذكرت" "بضم التاء، والضمير لله" "ذكرت" "بفتحها" خطاب للمصطفى والفعل مجهول فيهما. وفي رواية: لا أذكر إلا ذكرت "معي" بصيغة الحصر، وأي: رفع أعظم من ذلك، وأفادت هذه الرواية الثانية؛ أن الحصر هو المراد في الأولى، أي: إذا ذكرت، فاللائق أو المطلوب أن تذكر معي، فمن لم يذكرك ترك المطلوب، وفيه رد العلم إلى الله، ورد على من كرهه مطلقًا أو عقب ختم نحو الدرس، ولا إيهام فيه خلافًا لزاعمه، بل هو في غاية التفويض المطلوب، وقد قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، وقال علي: ما أبردها على كبدي، إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم، ولا يعارضه ما في البخاري؛ أن عمر سأل الصحب عن سورة النصر، فقالوا: الله أعلم، فغضب، وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم؛ لأنه فيمن جعل الجواب به ذريعة إلى عدم إخباره عما سئل عنه، وهو يعلم، وفي المعالم أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن الآية، فقال: قال الله، فكأنه بعد السؤال جاء وقال: {إِنَّ رَبِّي} إلخ، وقوله: قال الله، نقل بالمعنى، هكذا قال بعض المحققين، ثم قد وقع في بعض نسخ الشفاء: الله ورسوله أعلم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 وروينا عن الإمام الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح: معناه لا أذكر إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قال الإمام الشافعي يعني -والله أعلم- ذكره عند الإيمان بالله، والأذان، قال: ويحتمل أن يكون المراد ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية انتهى. وقيل: رفعه بالنبوة، قاله يحيى بن آدم الكوفي.   فإن صحت رواية، فالمراد به جبريل؛ لأنه من رسل الملائكة، يرسل بالوحي للأنبياء والرسل، وتفضيله عليه في خصوص هذا العلم؛ لأنه علمه قبل أن يبلغه إليه. "وذكره" أي: رواه أيضًا "الطبراني" سليمان بن أحمد، وإسناده حسن، وفي نسخة الطبري: ولا فائدة فيها، إذ هو ابن جرير الذي نسبه له أولًا، "وصححه ابن حبان" وكذا صححه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة. "وروينا عن الإمام الشافعي، قال: أخبرنا ابن عيينة" سفيان، "عن" عبد الله "بن أبي نجيح" بفتح النون وكسر الجيم وحاء مهملة، يسار المكي، أبي يسار الثقفي، مولاهم، ثقة، من رجال الجميع، ورمي بالقدر، وربما دلس، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة أو بعدها، "معناه" أي: ورفعنا لك ذكرك، "لا أذكر" مجهول المتكلم، "إلا ذكرت" مجهول المخاطب "معي" في قول "أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله" وفي التفسير بهذا إشارة إلى أن الحصر هو المراد بما قبله. "قال الإمام الشافعي، يعني والله أعلم، ذكره عند الإيمان" بالله تعالى، "وفي الأذان" كما أشار له ابن أبي نجيح، فلا يرد على الحصر، أن الكافر كثيرًا ما يذكر الله وحده، بل والمؤمن كثيرًا ما يقول: لا إله إلا الله مقتصرًا عليها، وكثيرًا ما يذكر الله، ولا يطلب ذكره صلى الله عليه وسلم كسمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، والتسمية في الوضوء والأكل والشرب. "قال" الشافعي: "ويحتمل أن يكون المراد ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف عن المعصية" بأن يتذكر في نفسه؛ أن فعلها والكف عن ضده سببه تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم الثواب الحاصل للمطيع، والعقاب الحاصل للعاصي، فيصلي عليه جزاء لتبليغه، وتحمل أعباء الرسالة. "انتهى" قول الشافعي. "وقيل" معناه: "رفعه بالنبوة" الخاصة، وهي رسالته إلى جميع الخلائق، وبقاء شرعه إلى يوم الدين، وكونها رحمة للعالمين، فلا يرد أن وصف النبوة شاركه فيه الأنبياء، فلا يكون مرفوعًا بها عليهم، أو المراد بها سبقه بالنبوة جميع الأنبياء، وكونه أول الأنبياء في الخلق، أو على من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 وعن ابن عطاء: جعلتك ذكرًا من ذكري، فمن ذكرك ذكرني، وعنه أيضًا: جعلت تمام الإيمان بذكري معك. وعن جعفر بن محمد الصادق: لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية.   في عصره، والفضل للمتقدم، "قاله يحيى بن آدم" بن سليمان، "الكوفي" أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقة، حافظ، فاضل، روى عنه أحمد وغيره، وروى له الستة، ومات سنة ثلاث ومائتين. "وعن ابن عطاء" بلا إضافة، هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء البغدادي، الزاهد، الآدمي: "بفتحتين" نسبة إلى بيع الأدم، له لسان في فهم القرآن، يختص به صحب الجنيذ وغيره، ومات سنة تسع أو إحدى عشرة وثلاثمائة. "جعلتك" أي: ذكرك "ذكرًا من ذكري" أو جعلت ذاتك مبالغة حتى كان من رأى ذاته ذكر الله، أو المعنى كان ذكرك عين ذكري، لعدم انفكاكه عنه غالبًا، أو هو مثله في التقرب به والأجر، أو هو معدود من أفراده؛ لأن كل مطيع لله ذاكره، "فمن ذكرك ذكرني" الفاء تفسيرية، أو تفريعية، "وعنه أيضًا: جعلت تمام الإيمان بذكري معك" وفي نسخة من الشفاء: بذكرك معين وهذه واضحة، والأولى مخالفة لقاعدة أن مع تدخل على المتبوع غالبًا، وقد تجيء لمطلق المصحابة، كما هنا، أي: جعلته يحصل بذكر الله مصحوبًا بذكره عليه السلام، بأن يأتي بالشهادتين على الوجه المعروف، وجعله تمام الإيمانن إما؛ لأن الإيمان عنده تصديق القلب واللسان، كما هو قول لأهل السنة، وأما من يقول مجرد التصديق، فباعتبار أنه لا يعتد به بدونه، ولا تترتب عليه الأحكام، ما لم يأت به لسانًا. "وعن جعفر بن محمد" الباقر بن علي زين لعابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، "الصادق" صفة لجعفر لصدقه في مقاله أبي عبد الله الهاشمي، ففي، إمام، صدوق، روى له مسلم، وأصحاب السنن، ومات سنة ثمان وأربعين ومائة، "لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية" صيغة مصدر من الرب، والياء للمصدرية، فلا بد معها من تاء التأنيث، يعني لا يعترف أحد برسالتك إلا بعد أن يعترف بربوبية الله ووحدانيته، لوجوب معرفة الله عقلًا قبل ذلك، لئلا يلزم الدور، كما ذهب إليه الماتريدية، أو سمعًا، كما ذهب إليه غيرهم، وقيل: المراد أو أراد ذلك، أو عبر بالماضي عن المضارع مبالغة في تحقق وقوعه، ولا يشكل الأول بعدم مقارنة الحال للعامل، لتقدم الإيمان بالله، أو إرادته على الإيمان بالرسول، وأما التلفظ بما يدل على ذلك، فذكره عقبه بلا فاصل بعده، مقارنًا عرفًا، ومثله يكفي عند النحاة، فلا حاجة لجعل الحال مقدرة، ودعوى عدم اختصاصه صلى الله عليه وسلم بذلك مدفوعة، بأن هذه المقارنة في الأذان، والإقامة والخطب، والصلاة والإيمان، وهذا كله مختص بهذه الأمة، فتختص المقارنة على هذه الصفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 قال البيضاوي: وأي رفع مثل أن قرن اسمه باسمه في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته، انتهى، يشير إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَه} ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} [آل عمران: 132] . وقول قتادة: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله انتهى.   بنبيها لاختصاصها به، دون من عداه من الأمم والرسل، وهذا في غاية الظهور. "قال البيضاوي: وأي: رع مثل أن قرن اسمه باسمه في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته"، وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة، وخاطبه بالألقاب، وإنما زاد ذلك ليكون أيها ما قبل إيضاح، فيفيد المبالغة. "انتهى" كلام البيضاوي بما زدته، فاقتصر المصنف على حاجته منه هنا لأجل شرحه بقوله. "يشير" البيضاوي "إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] فجعل طاعته طاعته، {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين؛ ولأن الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه، أو؛ لأن التقدير، والله أحق أن يرضوه والرسول، كذلك قاله في الأنوار. {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} [آل عمران: 132] ؛ لأنه بمعنى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُول} ، فجمع بينهما بواو العطف المشتركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه الصلاة والسلام، قاله عياض، واعترض المشركة، ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه عليه الصلاة والسلام، قاله عياض، واعترض بأنه لا مانع أن يقال: أطع الله، والقاضي كقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] الآية، حتى قال بعض: إنه وهم، وما أظن أحدًا منعه، وأجيب بأنه أراد أنه منهي عنه تنزيهًا وأد بالورود الحديث، بما يدل على رعاية الأدب في اللفظ، وترك ما يوهم خلافه، وأطلق نفي الجواز اعتمادًا على تصريح الخطابي وغيره بالكراهة، ولا دلالة في آية: {وَأُولِي الْأَمْر} ، لاحتمال الجواز بالتبعية، ولذا لم يكرر أطيعوا مرة أخرى، كما لم تكرر اللام في عامتهم في حديث: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". "و" يشير إلى "قول قتادة" بن دعامة، عند ابن أبي حاتم، والبيهقي، "رفع الله ذكره" صلى الله عليه وسلم "في الدنيا والآخرة، فليس خطيب" يخطب على جهة الكمال، وفي الحديث: "كل خطبة ليس فيها شهادة، فهي كاليد الجذماء"، "ولا متشهد" أي: آت بكلمة الشهادة في غير الخطبة والصلاة، "ولا صاحب صلاة" المراد بها الفرد الكامل المتبادر، فلا ترد صلاة الجنازة، "إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 فهو مذكور معه في الشهادة والتشهد، ومقرون ذكره بذكره في القرآن والخطب والآذان، ويؤذن باسمه في موقف القيامة. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رفعه: "لما نزل آدم عليه السلام بالهند استوحش فنزل له جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين"، الحديث.   يقول" مستثنى من أعم الأحوال، أي: ليس في حال من الأحوال إلا قائلًا: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. انتهى" قول قتادة. وأورد أن أمر الآخرة لا يعلم بالمقايسة، فرفع ذكره في الدنيا لا يستلزم رفعه في الآخرة، وأجيب؛ بأهنه أخذه من إطلاق الآية، والحديث: "ورفع ذكره في الدنيا عنوان رفعه في الأخرى"، ووجه التفريع، أن من رفع ذكره في الدارين حقيق بأن يشهد له بذلك، فهو بيان لبعض الأحوال التي تفعل في الدنيا، وليس فيها شيء من أحوال الآخرة، وإن شمله قوله في الدنيا والآخرة لما ذكره ولغيره، فيندرج فيه ما يفعل في الآخرة، "فهو مذكور معه" تفريع على قول قتادة، "في الشهادة" دخولًا في الإيمان، وثناء عليه بعده، "والتشهد"؛ لأن الشهادة من جملة ألفاظه الواردة فيه، سواء كان بلفظ حديث ابن مسعود: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"، أو بلفظ حديث غيره: "وأن محمدًا رسول الله"، "ومقرون ذكره بذكره في القرآن" أي: مصاحب له، فالمقارنة المصاحبة، كما قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي "والخطب" الشرعية الكاملة، "والأذان، ويؤذن باسمه في موقف القيامة" إظهار الرفعة قدرة في ذلك الموطن. روى ابن زنجويه عن كثير بن مرة الخضرمي، مرفوعًا: "يبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي على ظهرها بالأذان، فإذا سمعت الأنبياء وأممها، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك". "وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة رفعه: "لما نزل آدم عليه السلام بالهند استوحش": حصل له وحشة لانفراده، "فنزل له جبريل عليه السلام فنادى بالأذان: الله أكبر، الله أكبر مرتين، أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمدًا رسول الله مرتين"، الحديث ورواه أيضًا الحاكم وابن عساكر، وحكمة ذلك التنويه باسمه في عهد آدم، ومصاحبته لاسم الله، وأن الأذان ينفع المستوحش الحزين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 وكتب اسمه الشريف على العرش، وعلى كل سماء، وعلى الجنان، وما فيها. رواه ابن عساكر. وأخرج البزار عن ابن عمر مرفوعًا: "لما عرج بي إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبًا: محمد رسول الله". وفي الحلية عن ابن عباس رفعه: "ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها لا إله لا الله محمد رسول الله". وأخرج الطبراني من حديث جابر مرفوعًا: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وعزاه الحافظ ابن رجب في كتاب   وقد روى الديلمي عن علي: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينًا، فقال: "يا ابن أبي طالب ما لي أراك حزينًا، فمر بعض أهلك يؤذن في أذنك، فإنه دواء للهم، فجربته فوجدته كذلك"، وقال كل من رواته: جربته، فوجدته كذلك. "وكتب اسمه الشريف على العرش"، أي: على ساقه، كما قدمه في الأسماء، أي: قوائمه. ولابن عدي: لما عرج بي، رأيت مكتوبًا على ساق العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله أيدته بعلي. "وعلى كل سماء" أي: السماوات السبع، "وعلى الجنان وما فيها" من قصور وغرف، وعلى نحور الحور العين، ورق شجرة طوبى، وسدرة المنتهى، وأطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، "رواه ابن عساكر" عن كعب الأحبار، وهو من الإسرائيليات، وقيل: إنه موضوع، وقدمه في الأسماء والمعجزات، وأعاده هنا لبيان رفع الذكر. "وأخرج البزار عن ابن عمر، مرفوعًا: "لما عرج بي إلى السماء، ما مررت بسماء إلا وجدت اسمي فيها مكتوبًا محمد رسول الله"، وكتب مع أنه مشهور في السماوات بأحمد أكثر ليحصل به الرد ممن علم ذلك على منكري رسالته، وإنما يعرف بينهم بمحمد دون أسمائه. "وفي الحلية عن ابن عباس، رفعه: "ما في الجنة شجرة عليها ورقة إلا مكتوب عليها" أي: الورقة، "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وكل من هذين شاهد وبيان لقوله في حديث كعب: "على كل سماء وعلى الجنان". "وأخرج الطبراني من حديث جابر، مرفوعًا: "كان نقش خاتم سليمان بن داود عليهما السلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله". ويروى عن عبادة بن الصامت، مرفوعًا عند الطبراني أيضًا: أن فص خاتم سليمان بن داود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 أحكام الخواتيم لجزء أبي علي الخالدي، وقال: إنه باطل موضوع. وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسمًا، كما بينت ذلك في أسمائه صلوات الله وسلامه عليه، وصلى عليه في ملائكته، وأمرالمؤمنين بالصلاة عليه، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] فأخبر عبادة بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر   كان سماويًا، ألقى إليه، فوضعه في أصبعه، وكان نقشه: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي، "وعزاه" أي: نسبه "الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن "في كتاب أحكام الخواتيم لجزء أبي علي الخالدي، وقال: إنه باطل موضوع" وتعقب بأنه شديد الضعف لا موضوع، "وشق اسمه الكريم من اسمه تعالى، كما قال حسان" بن ثابت، "وشق" بالبناء للفاعل، عطفًا على قوله قبل: وضم الإله اسم النبي إلى اسمه أي: أخذ "له" اسمًا، حروفه "من اسمه ليجله"، ليعظمه "فذو العرش محمود، وهذا محمد، وسماه من أسمائه الحسنى بنحو سبعين اسمًا كما بينت ذلك في أسمائه صلوات الله وسلامه عليه" من المقصد الثاني، "وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة" والتسليم "عليه" من جملة ما رفع به ذكره، "فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ} ، اختلف المفسرون وغيرهم في أن الواو عائدة على الله تعالى وملائكته، أو على ملائكته فقط، وخبر الجلالة محذوف، أي: أن الله يصلي وملائكته يصلون، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون لعلة التشريك، حكاه عياض، أي: التسوية بين الله وملائكته في لفظ واحد، وهو ضمير الواو لما فيه من عدم رعاية التعظيم {عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] خصه بالتأكيد وتنوين التعظيم، أي: تسليما، عظيما، تعريضا لمن لم يسلم، أو؛ لأن المراد تسليما لا كتسليم غيره من الأمة، والصلاة لا يشاركه فيها الأمة، فيفهم منها في نفسها التعظيم بلا تأكيد، أو؛ لأن التسليم لم يثبت لله والملائكة، فهو في معرض المساهلة في الجملة، "فأخبر عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ العلى؛ بأنه يثني عليه عند ملائكته المقربين، وأن الملائكة تصلي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا. وكتبه نبيًا وآدم بين الروح والجسد، وختم به النبوة والرسالة، وأعلن بذكره الكريم في الأولين والآخرين، ونوه بقدره الرفيع حين أخذ الميثاق على جميع النبيين، وجعل ذكره في فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع على المنابر، وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر، ونشر ذكره في الآفاق شرقًا وغربًا، بحرًا.   عليه، ثم أمر العالم السفلي" أي: المؤمنين، "بالصلاة والتسليم عليه" وكل ذلك إبانة لفضله، ورفعًا لذكره، "فيجتمع الثناء عليه من أهل العالمين": بفتح اللام والميم، تثنية العالم "العلوي، و" والعالم "السفلي جميعًا"، وقد أورد على هذا؛ أن المؤمنين شاركوه في ذلك، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] الآية، ومثله كثير في الأحاديث، كحديث: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف"، وأجيب؛ بأن الآية الأولى نزلت أولًا من غير مزاحم فيها، مع التأكيد بأن والاسمية، وتمييزه بمجموع ما ذكر، فبان بها فضله، ورفعه على غيره. وقد أخرج عبد بن حميد عن مجاهد، قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} ، قال أبو بكر: يا رسول الله ما أنزل الله عليك خيرًا إلا أشركنا فيه، فنزلت: {هوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} . وقال الإمام الرازي: صلاة الملائكة على المؤمنين بطريق التبعية لصلاته تعالى عليهم، فتأخر ذكرها، وصلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الأصالة، ففيها تفضيله على غيره، كما إذ قيل يدخل فلان وفلان، فإنه يدل على تقديم الأول، بخلاف فلان وفلان يدخلان. انتهى، ولا يرد بأن الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب؛ لأن ملحظه؛ أن التقديم الذكري يشعر بالاهتمام، والتقديم لا من حيث الواو. "وكتبه نبيًا وآدم بين الروح والجسد" كما مر مبسوطًا في المقصد الأول، "وختم به النبوة والرسالة" فلا نبي بعده، ولا رسول، "وأعلن بذكره الكريم" أي: أظهره "في الأولين والآخرين، ونوه" رفع "بقدره الرفيع" العالي، "حين أخذ الميثاق على جميع النبيين" كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] ، "وجعل ذكره في فواتح الرسائل وخواتمها، وشرف به المصاقع" بالصاد المهملة والقاف، الخطباء الفصحاء البلغاء، جمع مصقع بكسر الميم، "على المنابر" جمع منبر من النبر، وهو الارتفاع، "وزين بذكره أرباب الأقلام والمحابر" جمع محبرة بفتح الميم والباء، أو فتحها وضم الباء، أو كسرها وفتح الباء؛ لأنه آلة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 وبرًا، حتى في السماوات السبع وعند المستوى وصريف الأقلام، والعرش والكرسي، وسائر الملائكة المقربين من الكروبين والروحانيين والعلويين والسفليين، وجعله في قلوب المؤمنين بحيث يستطيبون ذكره فترتاح أرواحهم، وربما من طرب سماع اسمه أشباحهم. وإذا ذكرتم أميل كأنني ... من طيب ذكركم سقيت الراحا كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة، فهم يتمسكون في الفريضة بأمري، وفي السنة بأمرك، وجعلت طاعتي طاعتك، وبيعتي بيعتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك،   أجودها الأولى، "ونشر ذكره في الآفاق" النواحي "شرقًا وغربًا، بحرًا وبرًا، حتى في السموات السبع، وعند المستوى، وصريف الأقلام" تصويتها، "والعرش، والكرسي، وسائر": بمعنى جميع "الملائكة المقربين من الكروبين"، بالتخفيف، سادة الملائكة، "والروحانيين" "بفتح الراء وضمها"، "والعلويين"، أي: الملازمين للسماوات، "والسفليين" من عداهم كالموكلين بحفظ بني آدم ومصالحهم، "وجعله في قلوب المؤمنين بحيث يستطيبون ذكره" ويتلذذون به، "فترتاح أرواحهم، وربما تميل من طرب سماع اسمه أشباحهم" أجسادهم، وأنشد لغيره قوله: وإذا ذكرتم أميل كأنني ... من طيب ذكركم سقيت الراحا قال المجد: الراح: الخمر، كالرياح "بالفتح" والارتياح؛ "كأنه تعالى يقول: أملأ الوجود كله" علويه وسفليه، "من أتباعك، كلهم يثنون عليك، ويصلون عليك، ويحفظون سنتك" وقد قال: "إلا أني أوتيت الكتاب"، ومثله معه، الحديث رواه أحمد وأبو داود، "بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة" مما سنه، كتكبيرة الإحرام معها رفع اليدين، والفاتحة معها السورة، وهكذا "فهم يتمسكون في الفريضة بأمري، وفي السنة بأمرك"؛ لأنه من أمري، "وجعلت طاعتي طاعتك" في نحو قولي: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، "وبيعتي بيعتك" إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، وأتى بهما على القلب للمبالغة، "فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك" على اختلاف القراءات الواردة عنك متواترة وغيرها، ويوجهون ما قد يخفى من جهة اللسان بأوجه متعددة، أو وجه هؤلاء هم القراء. "والمفسرون يفسرون معاني فرقانك" بما ورد عنك، وعن أصحابك، وتابعيهم، وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 والوعاظ يبلغون بليغ وعظك، والملوك والسلاطين يقفون في خدمتك ويسلمون عليك من وراء الباب، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين. وقال تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] . اعلم أن للمفسرين في قولين، أحدهما: أنها من حروف التهجي، والثاني أنها كلمة مفيدة. وعلى القول الأول: قيل معناها، يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة، وقيل: "الطاء" في الحساب بتسعة والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشرة، ومعناها: يا أيها البدر، وهذه الأقوال لا يعتمد عليها إذ هي، كما قال المحققون،   استنبطوه من اللغة، واستخرجوه من علوم البلاغة، "والوعاظ" المذكرون، "يبلغون بليغ وعظك" من إضافة الصفة للموصوف، أي: وعظك البليغ، "والملوك والسلاطين يقفون في خدمتك، ويسلمون عليك من وراء الباب" ادبًا واحتشامًا، "ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق أبد الآبدين، والحمد لله رب العالمين" على ذلك الفضل العظيم. "وقال تعالى: {طه، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1-2] من الشفاء والتعب، أو الشقاوة على ما يأتي. "اعلم أن للمفسرين في قولين أحدهما: أنها" أي: هذه اللفظة، وإلا فهي حرفان، "من" أسماء "حروف التهجي والثاني: أنها كلمة مفيدة" أي: مركبة، لا مقطعة، من أسماء حروف التهجي. "وعلى القول الأول: قيل معناها" الذي أريد بها، "يا مطمع"، بزنة مقعد "الشفاعة للأمة" أي: يا من هو محل تطمعها في الشفاعة لها، "ويا هادي الخلق إلى الملة"، يحتمل أن الاسم مركب من مجموع النداءين، وأن كل واحد منهما مسمى لمجموع الطاء والهاء، ومقتضى قول عياض، وقيل: هي حروف مقطعة لمعان الأول، فالطاء للأول، والهاء للثاني. "وقيل: الطاء في الحساب بتسعة، والهاء بخمسة، فالجملة أربعة عشر، ومعناها: يا أيها البدر" ذكره معرفًا باللام، إشارة إلى أنه الكامل المنير، السالم من العوارض، "وهذه الأقوال" استعمل الجمع في اثنين؛ لأنه الذي قدمه بناء على أنهما أقله، فهو حقيقة، أو مجاز من استعمال الكل في البعض، بناء على أن أقله ثلاثة "لا يعتمد عليها، إذ هي، كما قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 من بدع التفسير، ومثلها قول الواسطي، فيما حكاه القاضي عياض في "الشفاء"، أراد: يا طاهر يا هادي. وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: أحدهما، أن معناه: يا رجل، وهو مروي عن ابن عباس الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة. قال سعيد بن جبير: بلسان النبطية، وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشة. وقال البيضاوي: إن صح أن معناه: يا رجل فلعل أصله: يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب والاختصار، انتهى. قال الكلبي: لو قلت في "عك" يا رجل، لم يجبك حتى تقول: طه.   المحققون من بدع" بكسر، فسكون، أي: غريب "التفسير" الذي لا سند له سوى هذا التوهم العقلي. وفي نسخة المفسرين: والمعنى واحد، وتجوز قراءته بفتح الدال، جمع بدعة، اسم من الابتداع، وهو الاستخراج والأحداث بلا أصل. "ومثلها قول الواسطي" أبي بكر محمد بن موسى، الإمام العارف، من كبار أتباع الجنيد، "فيما حكاه القاضي عياض في الشفاء: أراد يا طاهر، ويا هادي" فالطاء من طاهر، والهاء من هادي، وقيل: الطاء قول القراءة، والهاء هيئاتها، وقيل: طوبى والهاوية، وقيل: قسم بطوله وهدايته عليه السلام، وهي أيضًا من البدع، وقيل: طه اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وقيل: من أسماء الله، حكاهما عياض والمصنف في المقصد الثاني، قائلًا: المعتمد أنها من أسماء الحروف. "وأما على قول من قال: إنها كلمة مفيدة، ففيه وجهان: "أحدهما: أن معناه يا رجل" أي: معناه رجل، وحرف النداء مقدر معه، "وهو مروي عن ابن عباس" عند البيهقي، "والحسن" البصري، "ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة" والكل من التابعين المفسرين. "قال سعيد بن جبير بلسان النبطية" أي: المنسوبة إلى النبط، قوم كانوا ينزلون سواد العراق، "وقال قتادة: بلسان السريانية، وقال عكرمة: بلسان الحبشة" ولا يشكل عليهم قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] ؛ لأن المراد عربي الأسلوب، لا الكلمات، أو هو اسم للجملة، وهي كثيرة، فلا يخرجه لاشتماله وبينهما؛ لأنه لا يلزم من نزوله بها؛ أن جميعه بلغته الجواز اشتهار تلك اللغة في تلك الأماكن، "وقال البيضاوي: إن صح أن معناه يا رجل، فلعل أصله يا هذا، فتصرفوا فيه بالقلب" للياء طاء، والاختصار" أي: الاقتصار على الهاء من هذا. "انتهى". "قال الكلبي: لو قلت في عك" بفتح العين وشد الكاف، قال الجوهري: هو عك بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 وقال السدي: معنى طه يا فلان. وقال الزمخشري: لعل "عكا" تصرفوا في "يا هذا" كأنهم في لغتهم قالبون "الياء" "طاء" فقالوا: في "يا طا" واختصروا هذا فاقتصروا على "ها" وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به: إن السفاهة طه في خلائقكم ... لا قدس الله أخلاق الملاعين انتهى.   عدنان، أخو معد، وهو اليوم باليمن، "يا رجل لم يجبك حتى تقول طه"؛ لأنها لغتهم، ولا يعلمون لفظ يا رجل. "وقال السدي" بضم السين وشد الدال: "معنى طه، يا فلان" كناية عن اسم الإنسان دون قصد واحد بعينه، نحو: رأيت زيدًا، فقلت له يا فلان افعل كذا، بخلاف يا رجل، القصد به يا هذا، لذكره من بني آدم. "وقال الزمخشري: لعل عكا تصرفوا في يا هذا، كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء" الأحسن أن يقول ياء بلا أل؛ لأن الكلمة المركبة من حرفين فصاعدًا، إنما ينطق بلفظها، لا بحروف هجائها، والياء إنما هي اسم لأحد حروف التهجي. "فقالوا في يا طا" أي: ذكروا بدل لفظ يا لفظ طا، ففي للبدل، وكذا في الكشاف بني، ويقع في بعض نسخ المصنف بإسقاط في على حذف مضاف، أي: بدل يا طا. "واختصروا" لفظ "هذا" بحذف الذال، "فاقتصروا على ها" مضمومة إلى طا، فصار طه بالقصر؛ لأن أسماء حروف التهجي ما لم تلها العوامل، موقوفة، خالية من الإعراب، لفقد موجبه، لكنها قابلة إياه، معرضة له، إذا لم تناسب مبني الأصل، ولذا قيل ق وص مجموعًا فيهما بين الساكنين، ولم يعامل معاملة أين وما ولا، قاله في الأنوار. "وأثر الصيغة ظاهر لا يخفى في البيت المستشهد به" وهو: "إن السفاهة طه" أي: يا رجل "في خلائقكم" أي: طبائعكم، "لا قدس الله أخلاق الملاعين": جمع ملعون، أي: مطرود، كما في القاموس وغيره. وقول بعض: سموا ملاعين؛ لأنهم يلعنون الناس كثيرًا، لا يناسب اللغة، ولم يذكر المجد أن أخلاق من جموع خليقة، فيحتمل أنه جمع خلق، كعنق وأعناق، فيكون هجاهم أولًا بأن طبيعتهم مجبولة على السفاهة، ثم دعا على خلقهم. "انتهى" كلام الزمخشري. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 قال في البحر: وكان قد قدم أن "طه" في لغة "عك" في معنى يا رجل، ثم تخوض وتجر على "عك" بما لا يقوله نحوي، وهو أنهم قلبوا "الياء" "طاء" وهذا لا يوجد في لسان العرب قلب "الياء" التي للنداء "طاء"، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرار "ها" التي للتنبيه، انتهى. وقيل: معناه يا إنسان. وقرئ طه بإسكان الهاء، على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه. فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا، وأن الأصل "طاء" فقلبت همزته هاء، كما قالوا "هياك" في:   ورده البيضاوي، فقال: الاستشهاد بالبيت ضعيف، لجواز أن يكون قسمًا، كقولهم: "حم لا ينصرون"، انتهى، أي: أن السفاهة وحق طه، أو وقسمي طه، كقوله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق: "إن لقيتم الليلة، فقولوا: حم لا ينصرون"، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي والحاكم، وصححه عن البراء بن عازب. "قال" أبو حيان "في البحر" تفسيره الكبير: "وكان" الزمخشري، "قد قدم أن طه في لغة عك في معنى يا رجل، ثم تخوض" تكلف الخوض بمبالغته بما تكلفه، "وتجرأ" أسرع بالهجوم بلا توقف "على عك، بما لا يقوله نحوي، وهو أنهم قلبوا الياء طاء، وهذا لا يوجد في لسان"، أي: لغة "العرب قلب الياء التي للنداء طاء، وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرار" أي: إبقاء" "ها التي للتنبيه" كذا في النسخ الصحيحة، وهو ما في النهر، فما في بعض النسخ، وأقرت تصحيف. "انتهى". "وقيل: معناه يا إنسان" حكاه عياض وغيره، فإن صحبت هذه التفاسير، فهو مشترك، والوجه الثاني أنها كلمة دالة على الطلب، "و" يدل عليه؛ أنه "قرئ" شاذًا "طه" وبه قرأ الحسن البصري، "بإسكان الهاء، على أنه أمر له صلى الله عليه وسلم؛ بأن يطأ الأرض بقدميه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه" لاستراحة من طول القيام، "فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا" حتى لا يتعب، فيحتاج للاستراحة. أخرج عبد بن حميد، عن الربيع بن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل، ورفع الأخرى، فأنزل الله: {طه} . وأخرج ابن مردويه عن علي، قال: لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1-2] ، قام الليل كله، حتى تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلًا ويضع أخرى، فهبط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 إياك، و"هرقت" في: أرقت. ويجوز أن يكون الأصل من وطأ على ترك الهمزة، فيكون أصله "طا" يا رجل ثم أثبت الهاء فيه للوقف. وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل "طه": طاها، والألف مبدلة من الهمزة والهاء كناية عن الأرض. لكن برد ذلك: كتبها على صورة الحرف. وأما قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فذكروا في سبب نزولها أقوالًا: أحدها: أنا أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل بعثت رحمة للعالمين"، فأنزل الله تعالى هذه الآية ردًا عليهم، وتعريفًا له صلى الله عليه وسلم، بأن دين الإسلام   عليه جبريل، فقال: طه، طا الأرض بقدميك يا محمد، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معًا، "وأن الأصل طاء، فقلبت همزته هاء، كما قالوا هياك" بكسر الهاء "في إياك، وهرقت في أرقت، ويجوز أن يكون الأصل من وطأ على ترك الهمزة". قال الطيبي: بأن قلبت ألفًا، وبني الأمر عليه، وإذا بني عليه، "فيكون أصله طا يا رجل، ثم أثبت الهاء فيه للوقف" أي: السكت، فصار طه، "وعلى هذا يحتمل أن يكون أصل طه طاها، والألف مبدلة من الهمزة، والهاء كناية عن الأرض" أي: الضمير راجع إليها، لعلمها، من قرينة الحال، والضمير يسمى كناية عند النحاة، ويحتمل أنه أراد أن الهاء وحدها ضمير، كما عليه بعض النحاة، أو أن ها اسم لحرف مأخوذ من ها اسم للضمير، فهي كناية اصطلاحية عنه، لا أنه ضمير، "لكن يرد ذلك" كما قال البيضاوي: "كتبهما على صورة الحرف"، وتعقب بأن رسم المصحف غير قياسي، كما رسم المؤمنون بأن ألف في الإمام. "وأما قوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ لْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، فذكروا في سبب نزولها أقوالًا" منها ما تقدم. وأخرج البزوار عن علي، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه، يقوم على كل رجل، حتى نزلت: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} . "أحدها" ما عند ابن مردويه، بمعناه عن ابن عباس؛ "أن أبا جهل" فرعون الأمة، "والوليد بن المغيرة، ومطعم بن عدي، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك" ومرادهم ضد السعادة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "بل بعثت رحمة للعالمين" فكيف أشقى أنا، "فأنزل الله تعالى هذه، ردًا عليهم وتعريفًا له صلى الله عليه وسلم بأن دين الإسلام والقرآن هو" أي: المذكور "السلم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 والقرآن هو السلم إلى نيل كل فوز، والسبب في إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها. وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل: أبق على نفسك، فإن لها عليك حقًا. اي ما أنزلنا عليك القرآن لتنتهك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة. ووي أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام. وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل. وتعقب: بأنه بعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن فعل شيئًا من ذلك فلا بد أن يكون فعله بأمر الله تعالى، فإذا فعله عن أمره فهو من باب السعادة لا من باب الشقاء. وثالثها: قال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد، لا تشق نفسك، ولا تعذبها   فلا يرد أن القياس هما السلم "إلى نيل كل فوز، والسبب في إدراك كل سعادة، وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها" وأي. شقاوة مثل الخلود في جهنم. "وثانيها: أنه" كما رواه ابن مردويه عن علي، بمعناه أنه "صلى الله عليه وسلم" لما نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} "صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فقال له جبريل": بأمر الله "ابق على نفسك، فإن لها عليك حقًا. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتنتهك" تتعب وتؤلم "نفسك بالعبادة" الزائدة، "وتذيقها المشقة العظيمة"، بالسهر وقيام الليل، "وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة" السهلة التي لا تعب فيها، "وروي أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام" مبالغة في امتثال الأمر. "وقال بعضهم: كان يسهر طول الليل" في ابتداء أمره، حتى أمر بالتخفيف، "وتعقب بأنه بعيد؛ لأنه صلى الله عليه سولم إن فعل شيئًا من ذلك، فلا بد أن يكون فعله بأمر الله تعالى" وهذا ممنوع؛ لأنه فعل ذلك لتحقق مدلول ما أمر به من قيام الليل على الوجه الأتم، لا للأمر به بخصوصه، ويمنع تعقبه أيضًا بقوله؛ "فإذا فعله عن أمره، هو من باب السعادة لا من باب الشفاء" بل هو التباس، إذ الرد على أنه من باب الشقاء، بمعنى إتعاب النفس على هذا، لا ينافي أن الإتعاب المذكور للسعادة، وإنما يقال من باب السعادة لا الشقاء على الوجه الذي قبله في الرد على أبي جهل ومن معه، هكذا أملاني شيخنا. "وثالثها: قال بعضهم" ظاهره أنه سبب لنزول الآية، لقوله أولًا: ذكروا في سبب نزلوها أقوالًا ولا كذلك، فإنما هذا فهم في الشقاء، إذ السبب لا يكون احتمالًا، بل نقل مجرد، وقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 بالأسف على كفر هؤلاء، فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به من آمن، فمن آمن وأصلح فلنفسه، ومن كفر فلا يحزنك كفره، فما عليك إلا البلاغ وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} . ورابعها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان صلى الله عليه وسلم مقهورًا مع أعدائه" الكفار" "فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة" بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، أي: لتبقى شقيًا، بل تصير معظمًا مكرمًا، زاده الله تعالى تعظيمًا وتكريمًا.   قال: "يحتمل أن يكون المراد لا تشق نفسك ولا تعذبها بالأسف" الحزن والحسرة "على كفر هؤلاء" فهو كقوله: لا تذهب نفسك عليهم حسرات، "فإنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر": تعظ "به من آمن فمن آمن وأصلح" عمل الصالحات من الفرائض وغيرها، "فلنفسه"؛ لأن ثمرته عائدة عليه، وإن كان للنبي أجره أيضًا، "ومن كفر فلا يحزنك كفره"، لا تهتم لكفره، "فما عليك إلا البلاغ"، وليس عليك هداهم، ولكن الله يهدي من يشاء، "وهذا كقوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِع} قاتل {نَفْسَكَ} ولعل الإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا، وكقوله: "ولا يحزنك كفرهم". "ورابعها" وهو من نمط الثالث لا سبب النزول، كما يوهمه المصنف، "أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان صلى الله عليه وسلم مقهورًا مع أعدائه" الكفار، "فكأنه تعالى قال: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة" التي هي قهر الأعداء، "بل يعلو أمرك ويظهر قدرك، فإننا ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، أي: لتبقى شقيًا" متعبًا مقهورًا، والشقاء شائع بمعنى التعب، ومنه أشقى من رائض المهر، أي: أن معالجة المهارة شقاوة لما فيها من التعب، "بل تصير معظمًا مكرمًا، زاده الله تعالى تعظيمًا وتكريمًا" كما إلى هذه الإشارة بقوله: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 3] ، أي: لكن تذكيرًا لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالأنوار، أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف، فإنه المنتفع به، ومن خشي صار المصطفى لديه معظمًا مكرمًا كما وقع ذلك للصحابة حتى كانوا عنده، كأنما على رؤوسهم الطير، ولا يحدون النظر إليه، وكان أحب إليهم من أنفسهم. قال البيضاوي: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} ، خبر طه إن جعلت مبتدأ على أنه مؤول بالسورة، والقرآن فيه واقع موقع العائد، وجواب إن جعلت مقسمًا به، ومنادى له إن جعلت نداء واستئناف إن كانت جملة فعلية او اسمية بإضمار مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] السورة. قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: في هذه السورة كثير من الفوائد. منها: أنها كالمتممة لما قبلها من السور، وذلك؛ لأن الله تعالى جعل سورة والضحى في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم، وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته وهي قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ   قال تبعًا للكشاف: وانتصاب إلا تذكرة على الاستثناء المنقطع، ولا يجوز أن يكون بدلًا من محل لتشقى لاختلاف الجنسين، يعني أن نصب تذكرة نصبة صحيحة ليست بعارضة، والنصبة التي في لتشقى بعد نزع الخافض عارضة كما قال أبو حيان، ولا يجوز أن يكون مفعولًا له لأنزلنا، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الكاف، أو القرآن، أو مفعول له، على أن لتشقى متعلق بمحذوف هو صفة للقرآن، أي: ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه. "وقال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الَْوْثَر} [الكوثر: 1] ، أكده مع ضمير العظمة، إيماء إلى عظمة المعطي والمعطى، وتشويقًا ونفيًا للشبهة فيه "السورة". "قال الإمام فخر الدين" محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، الطبرستاني، الرازي، "ابن الخطيب" بالري، مر بعض ترجمته غير مرة، "في هذه السورة كثير من الفوائد، منها: أنها كالمتممة لما قبلها من السور" المتعلقة به صلى الله عليه وسلم، وليس القصد بها بيان الأحكام، فلا يرد أن ما ذكره دليلًا على ذلك بعض السور لا جميعها، على أنه، كما قال شيخنا في التقرير: لم تظهر زيادة الكوثر على تفسيره، بما هو أعم من النهر على قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فإنه شامل لما شمله الكوثر، أو أشمل، "وذلك؛ لأن الله تعالى أنزل" وفي نسخة: جعل، "سورة والضحى في مدح نبينا صل الله عليه وسلم وتفصيل أحواله" أي: جنسها، فلا ينافي في أن ما ذكره في هذه السورة مشتمل على جميعها لزومًا، "فذكر في أولها" أي: أحواله "ثلاثة أشياء تتعلق بنوبته" أي: ترتبط بها، وتترتب عليها كالثمرة لهان وليس المراد التعلق النحوي، ولا المعنوي، المقتضي لكون هذه من معنى النبوة، إذ ليست من معناها، "وهو قوله: {مَا وَدَّعَك} أي: تركك {رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أبغضك، حذف مفعوله اختصارًا للعلم به، وللجري على نهج الفواصل، ولئلا يخاطبه بالبغض، وإن كان منفيًا، أو ليعم نفسه وأصحابه وأمته. روى الشيخان وغيرهما عن جندب بن عبد الله، قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة، أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله، {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 ...........................................   إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1] . وروى سعيد بن منصور والفريابي، عن جندب، قال: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد ودع محمد، فنزلت وهذه المرأة هي العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب. روى الحاكم برجال ثقات عن زيد بن أرقم، قال: مكث صلى الله عليه وسلم أيامًا لا ينزل عليه، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودعك وقلاك، فأنزل الله: {وَالضُّحَى ............ } الآيات. وفي الصحيح أيضًا، عن جندب: قالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأ عنك، فنزلتك {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . قال الحافظ: هي زوجته خديجة، كما في المستدرك أيضًا، وأعلام النبوة لأبي داود وأحكام القرآن للقاضي إسماعيل، وتفسير ابن مردويه من حديث خديجة نفسها، فخاطبته كل واحدة منهما بما يليق بها. وروى سنيد في تفسيره: أن قائل ذلك عائشة، وهو باطل؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجة. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك، فنزلت. وأخرج أيضًا عن عكرمة: أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع جزعًا شديدًا، فقالت خديجة: إني أرى ربك قد قلاك مما ترى من جزعك، فنزلت وكلاهما مرسل، رجاله ثقات. قال الحافظ: والذي يظهر أن كلًا من أم جميل وخديجة قالت ذلك، لكن أم جميل قالته شماتة، وخديجة قالته توجعًا. وروى ابن أبي شيبة والطبراني بسند فيه من لا يعرف عن خولة خادم رسول الله صلى الله عليه سولم أن جروًا دخل بيته تحت السرير، فمات، فمكث صلى الله عله وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي، فقال: "يا خولة، ما حدث في بيت رسول الله، جبريل لا يأتيني"، فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته، فأوهيت بالمكنسة تحت السرير، فأخرجت الجرو، فجاء صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة، فأنزل الله: {وَالضُّحَى} إلى قوله: {فَتَرْضَى} ". قال الحافظ: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ مردود بما في الصحيح. {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ؛ لأنها باقية، خالصة من الشوائب، وهذه فانية، مشوبة بالمضار، واللام لابتداء مؤكدة، أو جواب قسم، ففيه تعظيم آخر، أي: كما أعطاك في الدنيا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 فَتَرْضَى} ثم ختمها كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا} أي عن علم الحكم والأحكام {فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} . ثم ذكر في سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} أنه تعالى   يعطيك في الآخرة ما هو أعلى وأكثر، فلا تبال بما قالوه، فهو وعد فيه تسلية بعد ما نفى عنه ما يكره، فهو تحلية بعد تخلية، وقيل: المعنى لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال، {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، وعد شامل لما أعطاه من كمال النفس وظهور الأمر، وإعلاء الدين، ولما ادخر له مما لا يعرف كنهه سواه واللام للتأكيد، وقول الزمخشري، وتبعه البيضاوي: اللام للابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ والتقدير، ولأنت سوف، رده ابن الحاجب وغيره، بأن فيه تكلفين، وهما تقدير محذوف، وخلع اللام عن معنى الحال، لئلا يجتمع دليلان حال، واستقبال قال: وليست للقسم؛ لأنها إنما تدخل على المضارع مؤكدًا بالنون. قال ابن هشام: وهو ممنوع، بل تارة تجب اللام وتمتنع النون، وذلك مع الفعلين كالآية، ومع تقدم المعمول بين اللام والفعل نحو: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ، ومع كون الفعل للحال نحو: {لَا أُقْسِم} ، وتارة يمنعان، وذلك مع الفعل المنفي نحو تالله تفتؤ، وتارة يحبان نحو وتالة لأكيدن، "ثم ختمها" أي: الأحوال المتعلقة بنبوته، "كذلك بأحوال ثلاثة فيما يتعلق بالدنيا" من حيث النبوة، لكن تعلق الثلاثة الأول بالنبوة من حيث كونها حاصلة بها، والثلاثة الثانية بمعنى: أن سببها إكرامه بالنبوة وإن كان أولاها حصل قبل النبوة، والاثنان بعد النبوة، ولو أسقط كذلك، فإن التنبيه على تعلقها بالنبوة، "وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْك} " منت الوجود بمعنى العلم، {يَتِيمًا} مفعوله الثاني، أو المصادفة ويتيمًا حال، أي: لا أب لك، وقيل: لا مثل لك، {فَآوَى} بأن ضمك إلى عمك أبي طالب، {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} ، أي: عن علم الحكم" "بكسر ففتح" جمع حكمة، أي: معرفة العلل والأسباب، فقوله: "والأحكام" عطف مسبب على سبب، وليس الحكم مفرد الأحكام؛ لأنه يصير ما بعده مرادفًا، ولا ينافي ذلك أن بعض الأحكام تعبدي؛ لأنه بالنسبة لنا، أما هو صلى الله عليه وسلم، فكان عارفًا بالعلة {فَهَدَى} أي: هداك إلى معرفتها، وهذا أحد تفاسير في الآية، كما يأتي للمصنف، {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} ذا عيال {فَأَغْنَى} [الانشراح: 8] بما حصل لك من ربح التجارة، كذا قصره البيضاوي، ولم يجعله شاملًا لذلك، ولغيره من مبدئه إلى نهاية ما حصل له، أو يقصره على ما حصل له من الغنائم والفتوحات؛ لأن ربح التجارة حصل به أصل الغنى، وما بعده حصل به الزيادة بعد اطمئنان النفس بالأول، فكانت النعمة في الحقيقة هي الربح؛ لأنها التي حصل بها دفع الحاجة، هذا ولم يذكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 شرفه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشياء وهي: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} أي: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق، {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك} أي عناءك الثقيل {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وهكذا سورة سورة، حتى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} أي أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة التي كل واحدة منها   المصنف من أحواله بقية السورة، مع أنها خطاب له لعدم دلالتها على مدحه صريحًا، إذ ليست أوصافًا قائمة به يمدحه بتعدادها، ولا صفات كمالية قائمة به، ولا على تعداد النعم التي أنعم بها عليه، وإنما هي أمر له ونهي، وكلاهما لا يعد من النعم الصريحة، وإن ترتب عليه الامتثال بفعل المأمور وترك المنهي، وهما من أعظم النعم، ولا يرد، قوله أولًا جعل سورة والضحى في مدح نبينا؛ لأن المراد معظمها، أو كلها، ولكن ما تركه هنا مستلزم للكمال؛ لأن كونه منهيًا مأمورًا مقتض لامتثاله، وهو كمال استلزامًا لا صراحة. "ثم ذكر في سورة: {أَلَمْ نَشْرَح} ، أنه تعالى شرفه عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشياء، وهي: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، استفهم عن الشرح على وجه الإنكار مبالغة في إثبات الشرح، فكأنه قيل: شرحنا، ولذا عطف عليه، ووضعنا اعتبارًا للمعنى، قاله الكشاف. قال الطيبي: أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكره ثبت؛ لأن الهمزة للإنكار، ولم نفي إذا دخل عليه النفي عاد إثباتًا، ولا يجوز جعل الهمزة للتقرير. انتهى. أي: لأن التقرير سؤال مجرد، إذ هو حمل المخاطب على الاعتراف بأمر استقر عنده ثبوته، أو نفيه، فلا يحسن، عطف ووضعنا عليه، "أي: ألم نفسحه حتى وسع مناجاة الحق، ودعوة الخلق" فالمراد به ما يرجع إلى المعرفة والطاعة، فكأنه قيل: ألم نفتح ونوسع صدرك بالإيمان والنبوة، والعلم والحكمة، وبه جزم البغوي، وتقدم غير ذلك. {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَك} أي: عناءك" "بفتح المهملة والمد" أي: خضوعك "الثقيل" القوي الذي كنت فيه قبل ظهور أمرك، أو المشقة التي كنت فيها بمعاداة الكفار لك، فوضعنا ذلك بإظهارك عليهم بقتل من قتل، وهداية من اهتدى، فالعناء يكون بمعنى الخضوع، وبمعنى المشقة، {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} : أثقله، ويأتي للمصنف في النوع العاشر معنى الآية {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} مر الكلام عليه، "وهكذا سورة سورة حتى قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، أي: أعطيناك هذه المناقب" جمع منقبة "بفتح الميم" الفعل الكريم، كما في المصباح. وفي المختار بوزن المتربة ضد المثلثة، انتهى، فالقاف مفتوحة، فقراءته بكسرها على هذا خطأ، "المتكاثرة، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها" بأسرها، أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، وإذا أنعمنا عليك بهذه النعم فاشتغل بطاعتنا ولا تبال بقولهم. ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ، وإما بالمال وهو قوله: {وَانْحَرْ} . وتأمل قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} كيف ذكره بلفظ الماضي، ولم يقل: سنعطيك، ليدل على أن الإعضاء حصل في الزمان الماضي، قال صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد". ولا شك أن من كان في الزمان الماضي عزيزًا مرعي الجانب أشرف ممن سيصير كذلك، كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا يا أيها العبد الكريم، إنا لم نعطك هذا الفضل العظيم لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساننا من غير موجب.   بجوانبها: جمع حذفور، كعصفور، كما في القاموس، "وإذ" تعليلية "أنعمنا عليك بهذه النعم". وفي نسخة: وإذا للظرفية المجردة، والفاء في "فاشتغل بطاعتنا" زائدة على النسختين، والتعليل أظهر، "ولا تبال بقولهم": ساحر، كاهن، مجنون، وغير ذلك، "ثم إن الاشتغال بالعبادة إما أن يكون بالنفس، وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أمر بالصلاة مطلقًا، أو التهجد، وكان الظاهر، فأشكر، فعدل عنه؛ لأن مثل هذه النعمة العظيمة ينبغي أن يكون شكرها كذلك، وأعظم ذلك العبادة، وأعظمها الصلاة، "وإما بالمال، وهو قوله: {وَانْحَرْ} أمر بتقريب البدن؛ لأن النحر يختص بها وفي غيرها، يقال: ذبح، "وتمل قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} كيف ذكره بلفظ الماضي، ولم يقل: سنعطيك" بلفظ المضارع، "ليدل" صلة ذكره، "على أن الإعطاء حصل في الزمان الماضي" كما "قال عليه الصلاة والسلام: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد"، رواه أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهما، ومر الكلام عليه أول الكتاب. "ولا شك أن من كان في الزمان الماضي عزيزًا، مرعي الجانب، أشرف ممن سيصير، كذلك كأنه تعالى يقول: يا محمد قد هيأنا": يسرنا وسهلنا "أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، فكيف أمرك بعد وجودك واشتغالك بعبوديتنا"، استفهام تفخيم وتعظيم، أي: فاعتقد من الكمالات التي تحصل لك بعد وجودك ما شئت، فإنها لا نهاية لها. "يا أيها العبد الكريم إنا لم نعطك هذا الفضل العظيم" المعبر عنه بالكوثر، "لأجل طاعتك، وإنما اخترناك بمجرد فضلنا وإحساننا من غير موجب"، مرتب على ما قبل الاستفهام، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 واختلف المفسرون في تفسير الكوثر على وجوه. منها: أنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف، روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أسير في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك إذفر" رواه البخاري.   أي: هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في هذا الوجود، لا لأجل طاعتك المتأخرة، بل فضلًا، وليس مرتبًا على الاستفهام لئلا يكون فيه بعض تناف. "واختلف المفسرون في تفسير الكوثر على وجوه" وصلت إلى نحو عشرين قولًا، "منها: أنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور المستفيض عند السلف والخلف" ودليله أنه "روى أنس" بن مالك؛ "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما" "بالميم" "أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر" وللترمذي: إذ عرض لي نهر، أي: ظهر، وللبخاري في التفسير عن أنس، قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر، "حافتاه" "بحاء مهملة وخفة الفاء" جانباه؛ لأنه ليس أخدودًا، أي: شقا مستطيلًا في الأرض، يجري فيه الماء حتى يكون له حافتان، ولكنه سائل على وجه أرض الجنة، ومعلوم أنه ليس عامًا في جميعها، فما جاوز ما انتهى سيلانه إليه هو جانبه. روى أبو نعيم والضياء عن أنس، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض، لا والله إنها لسائحة على وج الأرض"، "قباب" "بكسر القاف وخفة الموحدة" جمع قبة، وللترمذي: حافتاه فيهما لؤلؤ مثل القباب، فالمراد في جانبيه مثل قباب "الدر المجوف": "بفتح الواو مشددة" صفة للدر، وهو كبار اللؤلؤ حقيقة، وتجويز أن مثله في الحسن والنضارة، خلاف الظاهر بلا داعية، "قلت: ما هذا يا جبريل؟، قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك"، وعطف على مقدر، أي: فنظرت له، "فإذا طينه مسك" إذ المفاجأة إنما تترتب على النظر لا على أعطاك ربك، ويدل له رواية الترمذي عن أنس، قال: أي: المصطفى: ثم ضرب، أي: جبريل، بيده إلى طينه فاستخرج مسكًا، أي: إظهار الشرف المنعم به، وسماه طينًا جريًا على العادة في كون مقر الماء طينًا، كما قال الدلجي وغيره، فلا بد من تقدير في قوله: طينه مسك، ليصح الحمل، وهو هنا في المبتدأ، أي: فإذا مادة ما تحت مائه مسك، ولا يقدر في الخبر، أي: مثل مسك؛ لأنه خلاف الظاهر من الأحاديث؛ أنه يجري على المسك، ولا يعارضه حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي، ومجراه على الدر والياقوت؛ لأنهما فوق طينه الذي هو مسك، كما أن الأنهار تجري على طين وحصى، فهذا حصاه جواهر وطينه مسك، "أذفر" "بمعجمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 وقيل: الكوثر أولاده، فإن هذه السورة إنما نزلت ردًا على من عابه عليه الصلاة والسلام بعدم الأولاد، وعلى هذا فالمعنى: أنه يعطيه نسلًا يبقون على ممر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت. ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبي من الأنبياء غيره. وقيل: الكوثر خير الكثير. وقيل: النبوة، وهي من الخير الكثير.   ساكنة"، أي: شديد الرائحة الطيبة، ويطلق أيضًا على الكريهة، وليس بمراد هنا، وأما بمهملة، فخاص بالمنثنة، "رواه البخاري" في الرقاق بهذا اللفظ، عن شيخيه أبي الوليد هشام بن عبد الملك، وهدبة بن خالد، كلاهما عن همام، عن قتادة، عن أنس، ثم قال في آخر طينه، أي: بالنون، أو طيبه، أي: بموحدة شك هدبة، أي: ولم يشك أبو الويد أنه بالنون. قال الحافظ وغيره: وهو المعتمد، ففي البعث للبيهقي من طريق عبد الله بن مسلم عن أنس بلفظ: "ترابه مسك"، ورواه في التفسير إلى قوله: "هذا الكوثر"، وأخرجه مسلم أيضًا، كما قدم في المعراج والترمذي. "وقيل: الكوثر: أولاده" من فاطمة؛ لأن عقبه إنما هو منها، ويؤيده قوله الآتي: "فانظر كم قتل من أهل البيت"، "فإن هذه السورة إنما نزلت ردًا على من عابه عليه الصلاة والسلام بعدم" أي: بفقد "الأولاد" كالعاصي بن وائل، قال: لما مات القاسم، لقد أصبح محمد أبتر، فنزل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، عوضًا عن مصيبتك بالقاسم، رواه يونس في زيادات المغازي. ولابن جرير عن شمر بن عطية: كان عقبة بن أبي معيط يقول: لا يبقى لمحمد ولد وهو أبتر، فأنزل الله فيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} . وللطبراني بسند ضعيف عن أبي أيوب: لما مات إبراهيم مشى المشركون بعضهم إلى بعض، فقالوا: إن هذا الصابئ قد بتر الليلة، فأنزل الله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، إلى آخر السورة، فإن صح هذا كله، فقد تعدد السبب، والنزول بمكة والمدينة، إذ موت إبراهيم بها. "وعلى هذا، فالمعنى أنه" تعالى "يعطيه" صلى الله عليه وسلم "نسلًا يبقون على ممر الزمان" فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، "فانظر كم قتل من أهل البيت" مع الحسين وبعده، "ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يتفق ذلك لنبي من الأنبياء غيره" مثل هذا. "وقيل: الكوثر: الخير الكثير" الذي أعطاه اليه إياه، قاله ابن عباس، رواه البخاري وغيره، فهو وصف مبالغة في المفرط الكثرة، فيشمل النبوة والقرآن والخلق الحسن العظيم، وكثرة الأتباع، والعلم، والشفاعة، والمقام المحمود وغيرها، مما أنعم به عليه، لكن أورد عليه أن أراد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 وقيل: علماء أمته، وقيل: الإسلام، ولا ريب أنهما من الخير الكثير، فالعلماء ورثة الأنبياء، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وأما "علماء أمتي كأنبياء بني   ابن عباس بهذا بيان ما وضع له لغة، أو بيان معنى عام خص في الآية، فلا كلام فيه، وإن أراد تفسير الآية فالنص النبوي جاء بخلافه، كما مر ويأتي. "وقيل: النبوة وهي من الخير الكثير" الذي أعطيه، "وقيل: علماء أمته" وجعل البيضاوي مجموع أولاده والاتباع العلماء لا واحد العلة، قول آخر لم يذكره المصنف. "وقيل: الإسلام ولا ريب"، لا شك "أنهما" أي: الإسلام والعلماء "من الخير الكثير" الذي فسر به ابن عباس الكوثر، فلا يقصر عليهما ولا على النبوة ولا غيرها، بل يعم شرف الدارين، "فالعلماء ورثة الأنبياء"؛ لأن الميراث ينتقل للأقرب، وأقرب الذين فازوا بالحسنيين العلم والعمل، وحازوا الفضيلتين الكمال والتكميل، ولا رتبة فوق رتبة النبوة، فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة، ولذا اشتغلت الملائكة وغيرهم من المخلوقات بالاستغفار والدعاء لهم إلى يوم القيامة. وروى ابن عدي وأبو نعيم والديلمي عن علي، رفعه: العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي وروثة الأنبياء، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] . قال الكشاف: ما سماهم ورثة الأنبياء، إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة؛ لأنهم القوام بما بعثوا من أجله. وقال الغزالي: لا يكون العالم وارثًا إلا إذا طلع على جميع معاني الشريعة، حتى لا يكون بينه وبينه إلا درجة النبوة، وهي الفارق بين الوارث والموروث، إذ هو الذي حصل له المال واشتغل بتحصيله، واقتدر عليه، والوارث هو الذي لم يحصله، لكن انتقل إليه وتلقاه عنه. انتهى. "كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي" وابن ماجه والبيهقي، كلهم عن ابي الدرداء، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر الكواكب، وأن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه الترمذي وغيره بالاضطراب في سنده. قال السخاوي: لكن له شواهد يتقوى بها، ولذا قال شيخنا: له طرق يعرف بها أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 إسرائيل" فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الدميري والزركشي، أنه لا أصل له. نعم روى أبو نعيم في فضل العالم العفيف بسند ضعيف عن ابن عباس رفعه: أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد. وقيل: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع. وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه: أحدها أن العلم هو الخير الكثير، والثاني: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة أو على نعم الدنيا، قال: والأول غير جائز؛ لأنه قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، والجنة سيعطيها لا   للحديث أصلًا، وقد أخرجه الديلمي عن البراء بن عازب، رفعه: "العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا"، وأورده أيضًا بلا سند عن أنس، مرفوعًا: "العلماء ورثة الأنبياء، وإنما العالم من عمل بعلمه". "وأما" خبر "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فإنهم كانوا يدعون إلى شريعة موسى من غير أن يأتوا بشرع مجدد، وكذا علماء هذه الأمة يدعون إلى الشريعة المحمدية. "فقال الحافظ ابن حجر، ومن قبله الدميري والزركشي: أنه لا أصل له". زاد بعضهم: ولا يعرف في كتابه معتبر. وسئل عنه الحافظ العراقي: فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو حديث صحيح. وعن عبد الله بن عمرو، مرفوعًا: "أكرموا حملة القرآن، فمن أكرمهم فقد أكرمني، ومن أكرمني فقد أكرم الله، وألا فلا تنقصوا حملة القرآن حقوقهم، فإنهم من الله بمكان، كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء إلا أنه لا يوحى إليهم"، رواه الديلمي، وقال: إنه غريب جدًا. قال السخاوي: وفيه من لا يعرف، وأحسبه غير صحيح. "نعم، روى ابو نعيم في" كتاب "فضل العالم العفيف بسند ضعيف، عن ابن عباس، رفعه: "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد"؛ لأنهم لما قاموا مقام الأنبياء في الأمرين استحقوا أن يكونوا أقرب الناس من درجتهم. "وقيل: الكوثر: كثرة الأتباع والأشياع" "بمعجمة وتحتية عطف" مساو، "وعن بعضهم: المراد بالكوثر العلم، وحمله عليه أولى لوجوه"، أي: ثلاثة. "أحدها: أن العلم هو الخير الكثير" الذي يتفرع عنه سعادة الدارين. "و" الوجه "الثاني: إما أن يحمل الكوثر على نعم الآخرة، أو على نعم الدنيا، قال" ذلك البعض: "والأول غير جائز" إن حمل على حقيقة اللفظ؛ "لأنه قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم، والثالث: أنه لما قال {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال عقبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} والشيء الذي يتقدم على العبادة هو المعرفة؛ ولأن "الفاء" في قوله فصل للتعقيب، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم. وقيل: الكوثر الخلق الحسن، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: "ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة". رواه الطبراني. وعن ابن عباس: جميع نعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم. وبالجملة: فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي، فوجب حملها على الكل، ولذا روي أن سعيد بن جبير لما روى هذا القول   الْكَوْثَرَ} بصيغة الماضي، "والجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا" إبقاء للفظ أعطينا على حقيقته، "وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا، هو العلم والنبوة، فوجب حمل اللفظ على العلم" كأنه قصره عليه مع اشتراكه مع النبوة في أنهما أشرف ما وصل إليه؛ لأن العلم مترتب عليها، فكأنه المقصود بالوحي، وثمراته كثيرة بخلاف النبوة، فخاصة به عليه الصلاة والسلام. "و" الوجه "الثالث: أنه لما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قال عقبة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، والشيء الذي يتقدم على العبادة هو المعرفة" أي: العلم بالأحكام، فيفيد أنه المراد؛ "ولأن الفاء في قوله فصل، للتعقيب، ومعلوم، أن الموجب"، أي: السبب المقتضي "للعبادة ليس إلا العلم"، فيفيد أنه المراد، لكن هذا كله استنباط عقلي لا يلاقي تفسيره صلى الله عليه وسلم بأنه نهر في الجنة. "وقيل: الكوثر: الخلق الحسن"؛ لأن به سعادة الدارين، "كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث: "ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة"، رواه الطبراني" والبزار، "وعن ابن عباس" أن الكوثر "جميع نعم الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم"، فشمل النبوة والعلم، وجميع ما مر وغيره من النعم التي لم تذكر. "وبالجملة، فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي، فوجب حملها على الكل، ولذا روي أن سعيد بن جبير لمغا روى هذا القول"، إن الكوثر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 عن ابن عباس قال له بعضهم: إن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. قال الإمام فخر الدين بن الخطيب: قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى في الدنيا من النبوة والقرآن والذكر العظيم   جميع النعم، "عن ابن عباس" لكن الذي رواه البخاري من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب، عن سعبد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد: إنا ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه، "قال له بعضهم"، هو أبو بشر جعفر بن أبي وحشية، واسمه إياس: "إنا ناسًا" وفي رواية: أناسًا "بضم الهمزة" وسمي منهم أبو إسحاق السبيعي وقتادة "يزعمون" يقولون، "أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه"؛ لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، فلا تنافي، لكن صرح صلى الله عليه وسلم؛ بأنه نهر في الجنة، كما في مسلم، ويأتي، وكما مر عن الصحيحين في حديث المعراج؛ أن جبريل قال له: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك. وفي الصحيح عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود؛ أنه سأل عائشة عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، قالت: نهر أعطيه نبيكم في الجنة، شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم، فأي معدل عن هذا على أنه قد ورد عن ابن عباس تفسيره بالنهر. فكأن بلغه عن المصطفى، فرجع عن الاستنباط. أخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه قبل الأنبياء، وما ذكر في عمقه لا يخالفه ما رواه ابن أبي الدنيا. عنه أيضًا أنه سئل: ما أنهار الجنة، أفي أخدود؟، قال: لا، ولكنها تجري على أرضها، لا تفيض ههنا ولا ههنا؛ لأنه أجيب؛ بأن المراد أنها ليست في أخدود، كالجداول ومجاري الأنهار في الأرض، بل سائحة على وجه الأرض مع عظمها وارتفاع حافاتها، فلا ينافي ما ذكر في عمقها. "قال الإمام فخر الدين بن الخطيب" الرازي: "قال بعض العلماء: ظاهر قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} ، يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر، فيجب أن يكون الأقرب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 والنصر على الأعداء. وأما الحوض وسائر ما أعده الله له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه؛ لأن ما ثبت بحكم وزعد الله فهو كالواقع، إلا أن الحقيقة ما قدمناه؛ لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه الكوثر في حال نزول هذه السورة بمكة، ويحتمل أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بشيء يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء مع أن الصبي في ذلك الحال ليس أهلًا للتصرف. انتهى. وقد روينا في صحيح مسلم من حديث أنس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا ما يضحكك أضحك الله   حمله على ما آتاه الله تعالى في الدنيا من النبوة، والقرآن، والذكر العظيم، والنصر على الأعداء" والآيات البينات. "وأما الحوض" الذي له في القيامة، وهو أحد ما قيل في تفسير الكوثر، كما في الشفاء، "وسائر ما أعده الله له من الثواب" في الآخرة، "فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه؛ لأن ما ثبت بحكم وعد الله، فهو كالواقع"؛ لأنه لا يخلف وعده، وجوازه لا يوجب الحمل عليه، ولا يرجحه؛ لأنه إذا حمل عليه بخصوصه، أو على ما يشمله كان مجازًا، وإذا حمل على ما أعطيه في الدنيا فقط كان حقيقة، وهي مقدمة على المجاز ما أمكنت، حيث لا مانع، وقد علم أن المانع تفسيره صلى الله عليه وسلم؛ بأنه نهر في الجنة، "إلا أ، الحقيقة ما قدمناه" في قوله: فيجب أن يكون الأقرب.. إلخ؛ لأن ما أعطاه في الدنيا ثبت إعطاؤه له بالعقل، فاستعمال الإعطاء حقيقة فيه، بخلاف أمور الآخرة؛ "لأن ذلك وإن أعد له، فلا يصح أن يقال على الحقيقة، أنه أعطاه الكوثر في حال نزول هذه السورة بمكة"، وإنما يصح أن يقال ذلك على المجاز، إما؛ لأنها ستعطي، أو؛ لأنه تعالى قدر في علمه أنها له، فعبر عنها بأعطينا. "ويحتمل أن يجاب عنه؛ بأن من أقر لولده الصغير بشيء، يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء، مع أالصبي في ذلك الحال ليس أهلًا للتصرف. انتهى. وعليه يحمل أعطي على ما أعطاه من أمور الدنيا والآخرة، ولا يكون مجازًا؛ لأن من وهب شيئًا لولده الصغير، وقبله له صار ملكًا حقيقيًا للصغير، فما هنا كذلك. "وقد روينا في صحيح مسلم" وسنن أبي داود والنسائي، "من حديث أنس: بينما" "بالميم" "رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا"، أي: بيننا، وأظهر زائدة، "إذ أغفي إغفاءة"، أي: نام نومة خفيفة، "ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما يضحكك؟، أضحك الله سنك يا رسول الله" قال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 سنك، يا رسول الله؟ قال: "نزلت علي سورة آنفًا فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} . ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك".   الأبي: عبروا بالضحك عن التبسم لوضوح البسم منه صلى الله عليه وسلم، فعبروا عنه بالضحك، "قال: نزلت علي سورة آنفًا" أي: قريبًا، "فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، فهم منه فاهمون أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي. قال في الإتقان: والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وأجاب الرافعي؛ بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر، المنزلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم، "فسره لهم، أو الإغفاء ليست نومًا، بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي". قال في الإتقان: والأخير أصح من الأول؛ لأنه قوله: أنزل علي آنفًا، بدفع كونها نزلت قبل ذلك. "ثم قال: "أتدرون ما الكوثر؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه نهر" داخل الجنة، كما رآه المصطفى ليلة المعراج، كما مر في حديث أنس في الصحيح، "وعدنيه ربي" بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، "عليه خير كثير" منه قوله سابقًا: حافتاه قباب الدر، وطينه مسك أذفر، "وهو حوض"، أي: نهر في الجنة، يسيل في حوض، "ترد عليه أمتي يوم القيامة" وفي رواية لأحمد: ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض. وفي مسلم عن أبي ذر: أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة، قال المصنف: ويطلق على الحوض كوثر، لكونه يمد منه. وقال الحافظ: وهذا النهر هو الذي يصب في الحوض، فهو مادة الحوض، كما جاء صريحًا في البخاري، "آنيته عدد النجوم" ولأحمد من رواية الحسنن عن أنس: أكثر من عدد نجوم السماء. وفي الصحيحين من حديث ابن عمرو: "وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبدًا"، "فيختلج" "بضم التحتية، وسكون المعجمة، وفتح الفوقية"، واللام، وبالجيم مبني للمفعول" أي: يجتذب ويقتطع $"العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي" فلم أخرج منهم، "فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك" من الردة عن الإسلام والمعاصي، فيمنعون من الحوض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 وهذا تفسير صريح منه صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر -هنا- الحوض، فالمصير إليه أولى، وهذا هو المشهور كما تقدم. فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه بما أفاضه عليه من نعمه الجسيمة. وقد جرت عادة الله تعالى مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: {يَا آدَمُ اسْكُن} [البقرة: 35] {يَا نُوحُ اهْبِط} [هود: 48] {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه} [القصص: 30] ، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} .   حتى يطهروا من ذنوبهم، وأحضر المرتدون" زيادة لتنكيلهم، وحسرتهم، "وهذا تفسير صريح منه صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالكوثر هنا الحوض" أي: النهر الذي يصب في الحوض بدليل قوله نهر، "فالمصير إليه أولى" أي: أحق وأوجب. وقول الشارح: أي: من حيث الاعتبار، فلا ينافي ما قدمه من أنه واجب فيه، أنه لم يقدم ذلك، إنما قدم الوجوب في تفسيره بغير ذلك، "وهذا هو المشهور، كما تقدم" في قوله: إنه نهر في الجنة، وهذا هو المشهور المستفيض عند السلف والخلف، وهذا صريح في تأويل قوله الكوثر: الحوض بما قلناه؛ لأنه الذي قدمه. وقد قيل: إن المراد به الحوض الذي في القيامة على ظاهر الحديث، فلا تأويل، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات الكثيرة، وقيل: المعرفة، أي: العلوم اللدنية التي أفاضها عليه بلا واسطة، فكأنها كوثر، وقيلك تخفيفات الشريعة، وقيل: كثرة الأمة، ومغايرته لكثرة الأتباع بحمله على أصحابه لكثرتهم على اتباع غيره عن المرسلين جدا، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: الدعوات المجابات له، وقيل: كلمة التوحيد لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وقيل: الخمس صلوات التي خصت بها أمته، فهذه عشرة، والمصنف حكى عشرة، فتلك عشرون أصحها الأول. "فسبحان من أعطاه هذه الفضائل العظيمة، وشرفه بهذه الخصال العميمة، وحباه" بموحدة "بما أفاضه عليه من نعمه" جمع نعمة، "الجسيمة، وقد جرت عادة الله تعالى مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، أن يناديهم بأسمائهم الأعلام نحو: {يَا آدَمُ اسْكُن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ، وبدأ به؛ لأنه أبو البشر المقدم عليهم، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} ، وكذا يا إبراهيم، وقد صدقت الرؤيا، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّه} ، {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ، {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} ، {خُذِ الْكِتَاب} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 [المائدة: 110] ، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال فقال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول. ولله در القائل: ودعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا عبيده بأفضل ما أوجد لهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه، وأقرب إليه ممن دعاه باسمه   "وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فناداه بالوصف الشريف من الإنباء والإرسال" الدال على التعظيم والملاطفة لمنزلته عنده، "فقال: يا أيها النبي، يا أيها الرسول" يا أيها المزمل، يا أيها المدثر، فلم يذكر باسمه في النداء تعظيمًا، وذكر في الخبر، كقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول} ، {ُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه} ، {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ؛ لأنه ورد مورد التعيين والإعلام؛ بأن صاحب هذا الاسم هو الرسول، وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] الآية، لما لم يورد هذا المورد لم يذكر اسمه. "ولله در القائل: ودعا جميع الرسل كلا باسمه ... ودعاك وحدك بالرسول وبالنبي دعا: نادى، ومراد المصنف خطاب الله تعالى له في القرآن باسمه، فلا يرد عليه، كما توهم خطابه بقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت} [القصص: 56] الآية، وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] الآية، وقوله في المحشر: ارفع رأسك وقل تسمع يا محمد ولم يقل: يا أيها النبي، أو يا أيها الرسول، وإن قيل: حكمته أنه أخصر، ففيه سرعة إجابته، وتطويل الكلام لا يناسب مقام الإذن في الشفاعة، وقد سرى هذا التشريف ببركته إلى أمته. ففي الخصائص: إن الله شرفهم بخطابهم في القرآن، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وخاطب الأمم السالفة بيا أيها المساكين. "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا"، نادى "عبيده بأفضل ما أوجد لهم" أعطاهم، "من الأوصاف العلية، والأخلاق السنية" بمعنى العلية فحسنه اختلاف اللفظ، "ودعا آخرين" وفي نسخة: غيرهم "بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق" "بضمتين" "من الأخلاق" دل دعاؤه لذلك البعض على "أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم"، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 العلم، وهذا معلوم بالعرف: أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه. انتهى. وانظر ما في نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] من ذكر "الرب" تعالى وإضافته إليه صلى الله عليه وسلم، ومال في ذلك من التنبيه على شرفه واختصاصه وخطابه، وما في ذلك من الإشارة اللطيفة، وهي أن المقبل عليه بالخطاب، له الحظ الأعظم، والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها إذا هو في الحقيقة أعظم خلفائه. ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه، وجعله أفضل أنبيائه، أم بهم ليلة إسرائه، وجعل آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه، وفي دار تكليفه وجزائه. وبالجملة، فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته، وتعظيم   فالمقدر جواب، إذ؛ لأن لفظ أن الفرد لا يقع جوابًا لإذا، وجملة، إذا من الشرط والجواب خبر أن السيد.. إلخ. "وهذا معلوم بالعرف؛ أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبلاغة في تعظميه واحترامه. انتهى" إذا العدول عن الاسم العلم يقتضي ذلك عرفًا، ولذا قال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . "وانظر" نظر تأمل وتدبر في المعاني المستنبطة من الألفاظ، "ما في نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية، من ذكر الرب تعالى" المشعر بمزيد الرأفة "وإضافته" أي: رب، "إليه صلى الله عليه وسلم" بقوله: ربك، "وما في ذلك من التنبيه على شرفه" بإضافته إليه، "واختصاصه وخطابه، وما في ذلك من الإشارة اللطيفة، وهي أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها"، وهي هنا خلافة الله في الأرض، فلا ريب أن له النصيب الأوفى منها، "إذ هو في الحقيقة أعظم خلفائه، ألا ترى إلى عموم رسالته ودعائه" الخلق إلى ذلك: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] "وجعله أفضل أنبيائه"، بدليل أنه "أم بهم ليلة إسرائه" بتقديم جبريل له، والحق في الإمامة للأفضل، "وجعل آدم فمن دونه" أي: فمن بعده، "يوم القيامة تحت لوائه، فهو المقدم في أرضه وسمائه، وفي دار تكليفه" الدنيا "وجزائه" الاخرة" وبالجملة فقد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره ما يقضي بأنه استولى على أقصى درجات التكريم، ويكفي إخباره تعالى بالعفو عنه ملاطفة قبل ذكر العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، وتقديم ذكره على الأنبياء تعظيمًا له، مع تأخره عنهم في الزمان في قوله تعالى: {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] وأخباره بتمني أهل النار طاعته في قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، وهذا بحر لا ينفد وقطر لا يعد.   تضمن الكتاب العزيز" القوي الغالب، "من التصريح بجليل رتبته وتعظيم قدره"، أي: رتبته وشرفه، "وعلو منصبه"، بزنة مسجد العلو والرفعة، كما في المصباح كغيره، "ورفعة ذكره ما يقضي بأنه استولى على أقصى درجات التكريم" أي: أعلاها، "ويكفي إخباره تعالى بالعفو عنه ملاطفة" معاملة وشفقة، والماعلة مجازية لتنزيل استحقاقه بمنزلة فعله، أو هي لأصل الفعل بلا مشاركة، "قبل ذكر العتاب في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فقدم عفا الله عنك، دعامة تقصد بها الملاطفة، إذ هو خبر معناه: لا عهدة عليك، وليس المعنى أن الإذن ذنب يتعلق به العقوبة؛ لأن مسامحته لهم مع أذاهم إسقاط للحظوظ، فهو عتب بلطف، لا ملامة فيه، أي: قد بلغت في الامتثال والاحتمال الغاية، وزدت في طاعة الله ومحبته، والرفق بالبر والفاجر ما أجحف بك، فهو من عتب الحبيب من حيفة على نفسه، وتخفيف لا تعنيف، ومدح لا قدح، ويأتي بسط هذا إن شاء الله. "و" يكفي في ذلك أيضًا "تقديم ذكره على الأنبياء تعظيمًا له" إذ التقديم يعطيه، "مع تأخره عنهم في الوجود في قوله تعالى": {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} قيل معناه: تبليغ الرسالة وتصديق بعضهم بعضًا، وقيل: أن يعلنوا بنبوة المصطفى، ويعلن هو بأنه لا بني بعده، ففيها تفضيل له من وجوه، منها: أنه ذكر النبيين جملة، ثم خص بالذكر بعضهم تشريفًا لهم، وقدمه صلى الله عليه وسلم عليهم تشريفًا على تشريف، وهؤلاء الخمسة هم أولوا العزم في قول، وإخباره بتمني أهل النار طاعته في قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا} للتنبيه، {لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66] ، وهذا بحر لا ينفد" "بفتح الفاء: لا يفرغ "وقطر "بفتح القاف وسكون الطاء"، أي: مطر "لا يعد" لكثرته، أو "بضم القاف"، أي: إقليم لا يمكن عد نواحيه وبلاده لكثرتها، جوازهما شيخنا في التقرير، واقتصر في الحاشية، على الفتح؛ لأنه أظهر والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 النوع الثاني: في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين فضلًا ومنة ليؤمنن به إن أدركوه ولينصرنه قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} الآية [آل عمران: 81] . أخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه، من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضًا، قال الحسن وطاوس وقتادة.   "النوع الثاني": "في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين"، عداه بعلى، إشارة إلى أنه ألزمهم به، وعداه فيما يأتي بمن، إشارة إلى أنهم التزموه "فضلًا" أي: إحسانًا "ومنة" أي: إنعامًا، "ليؤمنن به إن أدركوه، ولينصرنه" على عدوه، "قال الله تعالى: {وَإِذْ} أي: حين متعلق بمقدر، أي: اذكر، وقيل: بأقررتم وإن أخر عنه {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} عهدهم كلهم، أو مع أممهم وأنبياء بني إسرائيل {لَمَا} "بفتح اللام للابتداء"، أو توكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق، وكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين، أي: للذي {آتَيْتُكُم} إياه، وفي قراءة: آتيناكم، {مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} من الكتاب والحكمة، وتنوين رسول، وإبهامه للتعظيم، والمراد محمد صلى الله عليه وسلم، أو للتميم على القولين الآتين للمصنف، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] جواب القسم إن أدركتموه، وأممهم تبع لهم في ذلك. "أخبر تعالى" في الأزل، كما حكاه المصنف أول الكتاب، "أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه" صفة نبي، ولا يرد أنه قاصر على الرسل، مع أن المتبادر العموم، لجواز أن معناه: أوحى إليه، والبعث يطلق على الإيحاء، "من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن يصدق بعضهم بعضًا" على نبوته، ومعناه، كما في البغوي: أنه أخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده، وينصره إن أدركه وأن يأمر قومه بنصره، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد، انتهى. فليس معنى هذا القول يصدق بعضهم بعضًا على نبوة المصطفى، وأنهم من أتباعه ومؤمنون به كما توهم، إذ لو كان كذلك ما صح قول المصنف الآتي: أن ذا القول لا يخالف قول علي وابن عباس، إذ هو عينه على ذا الفهم، "قاله الحسن" البصري، "وطاوس" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم. وعن علي بن أبي طالب وابن عباس: ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم -وهو حي- ليؤمنن به ولينصرنه. وما قاله قتادة والحسن وطاوس لا يضاد ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه. وقيل معناه: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه، واحتج له بأن الذين   اليماني، "وقتادة" السدوسي، الثلاثة من التابعين. "وقيل معناه: أنه تعالى أخذ الميثاق من النبيين وأممهم، واستغنى بذكرهم عن ذكر الأمم"؛ لأنهم تبع لهم، فهو من الاستغناء بذكر الملزوم عن لازمه، ولا يراد أنه خاص بالرسل؛ لأنهم هم الذين لهم أمم، أم النبيون فلا أمم لهم، لجواز أن يراد بأممهم الأناس الموجودون في زمانهم، وأطلق عليهم أممهم من حيث وجودهم في زمانهم، وإن لم يرسلوا إليهم، فالنبي وإن لم يأمر بشرع، يجب عليه أن يخبر بنبوته، لئلا يحتقر ولا يمتنع عليه الوعظ ونحوه، ومنه أخباره للناس بالإيمان بمحمد إذا جاء، أو الأنبياء. "وعن علي بن أبي طالب"، عند ابن جرير وغيره، "وابن عباس" عند ابن جرير وابن عساكر، ووقع للزركشي، وابن كثير، والحافظ في الفتح في كتاب الأنبياء: أنهم عزوه لصحيح البخاري. قال الشامي: ولم أظفر به، فيه "ما بعث الله نبيًا من الأنبياء" وفي رواية: لم يبعث الله نبيًا من آدم، فمن بعده، "إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهو" أي: ذلك النبي "حي ليؤمنن به ولينصرنه"، ويأخذ العهد بذلك على قومه، هذا بقية المروي عن علي وابن عباس، كما قدم، ثم هو موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا؛ لأنه إخبار عن غيب، فلا مجال للرأي، فيه، ويحتمل أنهما قالاه فهمًا للآية، والظاهر الأول، ولذا اقتصرت عليه أول الكتاب، "وما قاله قتادة والحسن وطاوس" من أن المعنى أخذ على كل نبي أن يؤمن بمن بعده "لا يضاد" لا يخالف "ما قاله علي وابن عباس، ولا ينفيه، بل يستلزمه"؛ لأنه صدق بعضهم بعضًا، لزم أن يكونوا مأمورين بالإيمان بالمصطفى ونصره، "ويقتضيه" عطف تفسير. "وقيل معناه: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم، بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه" وعلى هذا، فإضافة الميثاق إلى النبيين إضافته للفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، قاله البيضاوي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات، والميت لايكون مكلفًا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذًا على الأمم، قالوا: ويؤكد هذا، أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم. وأجاب الفخر الرازي: بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] وقال في   "واحتج له بأن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه، وكان الأنبياء عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأموات" لا يرد عيسى وإدريس على حياتهما، والخضر على حياته ونبوته؛ لأن الحكم للأكثر، "والميت لا يكون مكلفًا، فتعين أن يكون الميثاق مأخوذًا على الأمم، قالوا: ويؤكد" أي: يقوى "هذا" القول؛ "أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق، أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين" بقوله تعالى بعد ذلك: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [آل عمران: 82] ، "وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء" أي: لا يجوز عليهم، "وإنما يليق بالأمم" لجوازه عليهم. "وأجاب الفخر الرازي" وفي نسخة: وأجاب القفال، والظاهر فسادها، وفي أخرى: وأجيب، "بأن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم" كما قال: "لو كان موسى حيًا ما وسعه"، إلا اتباعي، "ونظيره قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم الله تعالى؛ أنه لا يشرك قط، ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض" والمراد به تهييج الرسل، وإقناط الكفرة والإشعار على حكم الأمة، والخطاب باعتبار كل واحد. "وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّل} النبي، {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بأن قال علينا ما لم نقله، سمي الافتراء تقولًا؛ لأنه قول متكلف، والأقوال المفتراة أقاويل، تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كأضاحيك، {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44] ، أي: نياط قلبه بضرب عنقه، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك ممن يغضبون عليه، وهو أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ، مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} [الأنبياء: 27] وبأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} [النحل: 50] ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير. وإذا نزلت هذه الآية على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا في جملة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبًا على أممهم من باب أولى. فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء، أقوى في تحصيل المقصود. وقال السبكي في هذه الآية: إنه عليه الصلاة والسلام على تقدير مجيئهم في زمانه يكون مرسلًا إليهم. فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: "وبعثت إلى الناس كافة" لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم   يأخذ القتال بيمينه، ويكفحه بالسيف، ويضرب جيده، وقيل: اليمن بمعنى القوة، قال البيضاوي. "وقال في الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي: الله، أي: غيره، "فذلك نجزيه جهنم" كذلك، كما جزيناه نجزي الظالمين، "مع أنه تعالى أخبر عنهم؛ بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْل} لا يأتون بقولهم إلا بعد قوله: وبأنهم {يَخَافُون} أي: الملائكة حال من ضمير يستكبرون، {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} حال من هم، أي: عاليًا عليهم بالقهر، "فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير، وإذا نزلت هذه الآية" {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين} ، "على أن الله أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد، لو كانوا في الأحياء، وأنهم لو تركوا ذلك" فرضًا وتقديرًا: "لصاروا في جملة الفاسقين" حاشاهم، "فلأن يكون الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واجبًا على أممهم من باب أولى"؛ لأنه إذا أمر المتبوع بذلك، فكيف بالتابع، "فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المقصود" بالتعظيم له، لشموله للأمم بالأخروية، بخلاف حمله على الأمم. "وقال السبكي" الكبير في رسالة صغيرة، سماها التعظيم والمنة في: {لَيُؤْمِنَنَّ بِه} [آل عمران: 81] ، "في هذه الآية" أفادت "إنه عليه الصلاة والسلام على تقدير مجيئهم" أي: النبيين "في زمانه، يكون مرسلًا إليهم، فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته" مع بقاء الأنبياء على نبوتهم، "ويكون قوله عليه الصلاة والسلام" في حديث رواه الشيخان وغيرهما: "وبعثت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا، وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم. وفي أخذ المواثيق -وهي في معنى الاستحلاف، ولذلك دخلت "لام" القسم في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} - لطيفة: وهي كأنها أيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء، ولعل أيمان الخلفاء أخذت من هنا. فانظر هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنبياء، ولهذا ظهر ذلك في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه،   إلى الناس كافة" قومي وغيرهم من العرب والعجم، "لا يختص به الناس" الكائنون "من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضًا" وذكر نحوه البارزي في توثيق عرا الإيمان، وادعى بعض أن ما ذكره السبكي غريب، لا يوافقه عليه من يعتد به، والجمهور على أن المراد بالكافة ناس زمنه، فمن بعدهم إلى يوم القيامة، ودفعه شيخنا لما ذكرته له بأنه لا ينافي كلام الجمهور، إلا إذا أريد التبليغ بالفعل، أما إذا أريد بالبعث اتصافه بكونهم مأمورين في الأزل؛ بأن يتبعوه إذا وجد، كما هو صريح كلامه، فلا يخالفه واحد فضلًا عن الجمهور. "وإنما أخذ المواثيق على الأنبياء ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم" مع بقائهم على النبوة والرسالة، ولذا لما أثنى على ربه في المعراج، قال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، "وفي أخذ المواثيق" خبر مقدم، "وهي في معنى الاستحلاف" "بحاء مهملة"، أي: طلب اليمين، قال ذلك؛ لأن الميثاق لغة العهد، "ولذلك دخلت لام" جواب "القسم في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّه} وجواب الشرط محذوف إن جعلت ما بمعنى الشرط، وقرئ بفتح اللام، أما على قراءة لما بكسرها، وجعل ما مصدرية، فهو جواب القسم في: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّه} ، إلخ. "لطيفة "مبتدأ مؤخر، "وهي كأنها إيمان البيعة التي تؤخذ للخلفاء" على الناس بالطاعة، "ولعل إيمان الخلفاء أخذت من هنا، فانظر" نظر تدبر وتأمل، "هذا التعظيم العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم من ربه تعالى، فإذا عرف هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم نبي الأنياء" أي: مبعوث إليهم لأخذ الميثاق عليهم بإيمانهم به، أن أدركوه، والمراد بالنبوة هنا الرسالة، أي: أنه رسول إلى جميع الأنبياء، أي: أوحي إليه بتبليغهم عن الله تعالى حتى لو اجتمع بواحد منهم في زمانه كان مرسلًا إليه، مع بقائه على رسالته ونبوته، "ولهذا ظهر ذلك في الآخرة" أي: كونه نبي الأنبياء، "جميع الأنبياء" بالرفع بدل من ذلك، أو بيان له "تحت لوائه"، كما قاله في أحاديث، "و" ظهر "في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم، ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليه السلام عليهم ورسالته إليهم معنى حاصل لهم في حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه. وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل وتوقفه على أهلية الفاعل، فههنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من جهة ذات النبي الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم لزمهم اتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى عليه السلام في آخر الزمان على شريعته، وهو نبي كريم على حاله، لا كما يظن بعض الناس أن يأتي واحدًا من هذه الأمة، نعم هو واحد من هذه الأمة لمال قلنا من اتباعه للنبي، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة، وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق   الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلى بهم" إمامًا، "ولو اتفق مجيئه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى" وباقي الأنبياء والمرسلين، "وجب عليهم وعلى أممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ الله الميثاق عليهم، فنبوته عليه السلام عليهم ورسالته إليهم، معنى حاصل لهم في حياتهم، وإنما أمره يتوقف على اجتماعهم معه، فتأخر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه، وفرق بين توقف الفعل على قبول المحل" وهو ذاته صلى الله عليه وسلم من حيث قابلة للرسالة؛ بأن يوحى إليها، "وتوقفه على أهلية الفاعل" وهو أمر بالتبليغ؛ لأنه يفعل ما أمر به من تبليغ ما أمر به، ويأمر وينهى، وهي ذاته، فتطلق عليها محلًا وفاعلًا باعتبارين، "فههنا لا توقف من جهة الفاعل، ولا من جهة ذات النبي الشريفة، وإنما هو من جهة وجود العصر" الزمن "المشتمل عليه، فلو وجد في عصرهم، لزمهم إتباعه بلا شك، ولهذا يأتي عيسى في آخر الزمان على شريعته" أي: نبينا، بمعنى أنه مأمور بالعمل بها، كلونه مأمورًا بأتباعه، "وهو نبي كريم على حاله لا كما يظن بعض الناس؛ أنه يأتي واحدًا من هذه الأمة" ليس متصفًا بنبوته، وحذف هذه الصفة تأدبًا، قال السيوطي: وسبب هذا الظن تخيله ذهاب صفة النبوة منه، وهو فاسد؛ لأنه لا يذهب أبدًا ولا بعد موته. "نعم، هو واحد من هذه الأمة لما قلنا من اتباعه للنبي، وإنما يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة" وأخذه لها من النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة؛ لأنه اجتمع به غير مرة، فلا مانع أنه تلقى منه أحكام شريعته، المخالفة لشرع الإنجيل، لعلمه بأنه ينزل في أمته، ويحكم فيهم بشرعه، وإلى هذا أشار جماعة من العلماء، أو يتلقاها عنه، إذا نزل؛ لأنه يجتمع به في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 به كما يتعلق بسائر الأمة، وهو نبي كريم على حاله لم ينقص منه شيء. وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم، وتتفق مع شرائعهم في الأصول؛ لأنها لا تختلف، وتقدم شريعته فيما عساه يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذا الأمة هذه الشريعة، والأحكام تختلف باختلاف   الأرض، كما صرح به في أحاديث، فلا مانع أن يأخذ عنه ما احتاج إليه من أحكام شرعه، ذكره السيوطي، وتقدم له مزيد في خصائص الأمة. "وكل ما فيهما من أمر ونهي، فهو متعلق به، كما يتعلق بسائر الأمة" من حيث كونه مأمورا بهما كغيره، وفي نسخة: لا، كما يتعلق بلا النافية، أي: لأن تعلقه به قطعي من حيث إنه إذا اجتهد في أخذ شيء منهما كان قطعيًا مطابقًا للواقع، بخلاف أخذ غيره من الأمة، فظني قد لا يصيب فيه، "وهو نبي كريم على حاله، لم ينقص منه شيء" إذ النبوة لا تذهب بالموت فكيف بمن هو حي، "وكذلك لو بعث النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه، أو في زمان موسى وإبراهيم ونوح وآدم، كانوا مستمرين على نبوتهم ورسالتهم إلى أممهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نبي عليهم، ورسول إلى جميعهم، فنبوته ورسالته أعم وأشمل وأعظم"، لكونها للأنبياء والأمم جميعًا، بخلاف غيره، فكل إلى أمته. "وتتفق مع شرائعهم في الأصول؛ لأنها لا تختلف" كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] ، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث: "والأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شيء ودينهم واحد" رواه الشيخان، وعلات بفتح المهملة وشد اللام وفوقية، أي: ضرائر من رجل واحد. "وتقدم شريعته فيما عساه" يختلف، أو "يقع الاختلاف فيه من الفروع، إما على سبيل التخصيص، وإما على سبيل النسخ، أو لا نسخ ولا تخصيص، بل تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأوقات بالنسبة إلى أولئك الأمم ما جاءت به أنبياؤهم، وفي هذا الوقت بالنسبة إلى هذه الأمة هذه الشريعة" التي جاء بها عليه السلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 الأشخاص والأوقات، وبهذا بان لنا معنى حديثين كانا خفيًا عنا. أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة، كنا نظن أنه من زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم". والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد"، كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك، وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده الشريف   "والأحكام تختلف باختلاف الأشخاص والأوقات" كعادم الماء لمرض أو سفر فرضه التيمم، واعترض بأن النصوص العقلية والنقلية ناطقان بخلافه، كقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] ، وما هي معناها من الآيات، والأنبياء مع تعظيمهم له، ومحبتهم ليسوا مكلفين بأحكام شرعه، وإلا لم يكونوا أصحاب شرع، فالمحبة والتعظيم معنى، والتعبد بشرعه معنى آخر، ولا عبرة بظنهما أمرًا واحدًا، وقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِه} ، دون بشرعه، مناد عليه، فما تبجح به السبكي واستحسنه هو ومن بعده لا وجه له عند من له أدن بصيرة نقادة، وكيف يتأتى ما قاله مع قوله تعالى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فإن عكسه، وقد طلب موسى أن يكون من أمته، فأجابه الله بقوله: استقدمت واستأجر ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال. انتهى، وتعسفه لا يخفى، فإن قوله ذلك من جملة مدخول له في قوله: لو بعث في زمان عيسى أو موسى إلى آخره، فسقط جميع ما قاله، ومن أقوى تعسفه قوله: ليسوا مكلفين بأحكام شرعه، فإنه لم يدع تكليفهم به، بل إن شعائرهم على تقدير وجوده في أزمانهم شرع له فيهم. "وبهذا بان" ظهر واتضح "لنا معنى حديثين كانا خفيا" أي: بعد إدراكهما "عنا، أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت إلى الناس كافة"، كنا نظن أنه في زمانه إلى يوم القيامة، فبان أنه جميع الناس أولهم وآخرهم. "والثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد والبخاري في التاريخ، وأبو نعيم وغيرهم: "كنا نظن أنه بالعلم، فبان أنه زائد على ذلك" على ما شرحناه يعني بقوله أولصا أنه قد جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد يكون قوله: "كنت نبيًا" إشارة إلى روحه وحقيقة من الحقائق، والحقائق تقصر عقولنا عن معرفته، وإنما يعلمها خالقها، ومن أمده بنور إلهي، ويؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقته صلى الله عليه وسلم قد تكون من حين خلق آدم، أتاها ذلك الوصف، بأن يكون خلقها متهيئة لذلك، وإفاضة عليها من ذلك الوقت، فصار نبيًا، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت، وإن تأخر جسده المتصف بها، إلى أن قال: فقد علم أن من فسره بعلم الله؛ بأنه سيصير نبيًا لم يصل إلى هذا المعنى؛ لأن علمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم وتأهلهم لسماع كلامه لا بالنسبة إليه ولا إليهم، لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف فههنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم وقبولهم سماع الخطاب والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه. وهذا كما يوكل الأب رجلًا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤًا، فالتوكيل صحيح وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل التوقف أي توقت التصرف على وجود الكف، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل، انتهى.   محيط بجميع الأشياء، ووصفه صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت ينبغي أن يعلم منه أمر ثابت له في ذلك الوقت، ولو كان المارد مجرد العلم لم تكن له خصوصية؛ بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد؛ لأن جميع الأنبياء يعلم الله نبوتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بد من خصوصية له لأجلها، أخبر بهذا الخبر ليعرف قدره عند الله. انتهى. "وإنما يفترق الحال بين ما بعد وجود جسده الشريف وبلوغه الأربعين، وما قبل ذلك بالنسبة إلى المبعوث إليهم، وتأهلهم لسماع كلامه، لا بالنسبة إليه، ولا إليهم لو تأهلوا قبل ذلك، وتعليق الأحكام على الشروط قد يكون بحسب المحل القابل، وقد يكون بحسب الفاعل المتصرف، فههنا التعليق إنما هو بحسب المحل القابل، وهو المبعوث إليهم، وقولهم سماع الخطاب، والجسد الشريف الذي يخاطبهم بلسانه، وهذا كما يوكل الأب رجلًا في تزويج ابنته إذا وجدت كفؤًا، فالتوكيل صحيح، وذلك الرجل أهل للوكالة، ووكالته ثابتة، وقد يحصل التوقف، أي: توقف التصرف" الأظهر في التعبير بقوله، والتصرف متوقف، "على وجود الكفء، ولا يوجد إلا بعد مدة، وذلك لا يقدح في صحة الوكالة وأهلية التوكيل" وهذا المثال ظاهر في حديث: "بعثت إلى الناس كافة". "انتهى"، كلام السبكي في رسالته، وهي نحو ورقتين، كما ذكر المصنف سواء بسواء، فمن كتب على قوله والأوقات، إلى هذا انتهى كلام السيوطي، لم يقف على رسالته فرجم بالغيب، والله تعالى أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 النوع الثالث: في وصفه تعالى له بالشهادة وشهادته له بالرسالة قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- عند بناء البيت الحرام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا ُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129] . فاستجاب الله دعاءهما، وبعث في أهل مكة منهم رسولًا بهذه الصفة من   "النوع الثالث": "في" بيان ما يدل على "وصفه تعالى له" صلى الله عليه وسلم، "بالشهادة" على وحدانية الله وغيرها، مما يأتي في: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} [الأحزاب: 45] ، "وشهادته" تعالى "له بالرسالة" أي: إخباره بذلك، فالشهادة خبر قاطع، كما في القاموس، وغيره. "قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام" أي: ما وقع منهما من الألفاظ الحادثة، المنزلة على المصطفى، وإيجادها متأخر عن بعثته، فلا يرد أن كلامه تعالى قديم سابق على قولهما، فكيف يكون حكاية لما قالاه "عند" تمام "بناء البيت" إذ الدعاء إنما كان بعد أن فرغا من بنائه "الحرام"، أي: الكعبة، إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ} للقول، {الْعَلِيمُ} بالفعل، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} منقادين {لَكَ} اجعل {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} أولادنا {أُمَّةً} جماعة {مُسْلِمَةً لَكَ} ومن للتبعيض، وأتى به لتقدم قوله له: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124] الآية، {وَأَرِنَا} علمنا {مَنَاسِكَنَا} شرائع عبادتنا، أو حجنا، {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعًا وتعليمًا لذريتهما، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} أي: أهل البيت، {رَسُولًا مِنْهُمْ} من أنفسهم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} القرآن، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} الغالب {الْحَكِيمُ} في صنعه، "فاستجاب الله دعاءهما" بقولهما: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، "وبعث في أهل مكة منهم رسولًا بهذه الصفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء" أفاد أن المبتدئ بالدعاء إبراهيم، فوافقه إسماعيل، فلذا خص إبراهيم في الخبر الآتي، لكونه المبتدئ به، وزعم أن الدعاء كان من إبراهيم وضم إليه إسماعيل لمشاركته له في الدعاء، بتأمينه عليه أو غيره فاسد؛ لأن التأمين من خصوصية هذه الأمة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدعاء. فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا المراد به محمد صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب من وجوه: أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة. الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى"، قالوا: وأراد بالدعوة هذه الآية، وبشارة عيسى هي ما ذكر في سورة الصف من قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] , الثالث: إن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما   كما مر في الخصائص، قال صلى الله عليه وسلم: "وأعطيت آمين، ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها نبيه هارون، فإن موسى كان يدعو الله ويؤمن هارون"، رواه ابن مردويه وغيره. "فإن قلت: من أين علم أن الرسول هنا، المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فالجواب من وجوه" ثلاثة. "أحدها: إجماع المفسرين وهو حجة" قوية. "الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام" في حديث أخرجه الطيالسي والحارث والديلمي وابن عساكر: "أنا دعوة أبي إبراهيم" أي: صاحب دعوته، إذ لا يصح الإخبار بالمصدر، "وبشارة" أخي "عيسى" وفي رواية ابن عساكر: وكان آخر من بشر بي عيسى بن مريم، وفائدة إخبار المصطفى بذلك بعد علمه ثبوت وقوعه، مقدرًا له بذلك في الأزل، التنويه بشرفه وكونه مطلوب الوجود، تاليًا للآيات، معلمًا للكتاب والحكمة، مطهرًا للناس من الشرك، معروفًا عند جميع الأنبياء، "قالوا": ليس مراده التبري، بل الحكاية عن كل العلماء، "وأراد بالدعوة هذه الآية" وخصه؛ لأنه المبتدئ كما مر، "وبشارة عيسى هي" هكذا في النسخ الصحيحة خبر بشارة، وفي نسخة سقيمة وهي بزيادة واو، ولا يحس عطف بشارة على قوله هذه الآية؛ لأن المعنى عليه يصير حاصله أراد ببشارة عيسى ولا يخفى ما فيه "ما ذكر في سورة الصف من قوله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] سماه به؛ لأنه مسمى به في الإنجيل؛ ولأنه أبلغ من محمد، بشر عيسى قومه بذلك، ليؤمنوا به عند مجيئه، أو ليكون معجزة لعيسى عند ظهوره. "الثالث: أن إبراهيم إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين كانوا بها وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة" من ذرية إبراهيم وإسماعيل "إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم" فتعين أنه المراد، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة إلا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد امتن الله تعالى على المؤمنين ببعث النبي منهم على هذه الصفة فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} الآية، [آل عمران: 164] ، فليس لله تعالى منه على المؤمنين أعظم من إرسال محمدًا صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم؛ لأن النعمة به صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله تعالى الذي رضيه لعباده. وقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحي. وقرئ في الشوا من أنفسهم -بفتح الفاء- يعني من أشرافهم؛ لأنه من بني   "وقد امتن الله تعالى"، وفي نسخة: من، وهما بمعنى أنعم مطلقًا، أو على من لا يطلب، ويكون بمعنى تعداد النعم "على المؤمنين، ببعث النبي منهم على هذه الصفة، فقال: {لَقَدْ مَن} أنعم {اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولا يحمد المن إلا من الله تعالى؛ لأنه بمنه بذكر العبد، فيبعثه على الشكر، فيثيبه، ومن الخلق قبيح مطلقًا، ولذا قال لنبيه: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر} [المدثر: 6] ، فالمن إذا حرام عليه، مكروه لغيره، وقيل بحرمته أيضًا، {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من جنسهم يعرفون حاله، وأنه ما قرأ ولا درس، وقد جاءه العلم دفعة، فقص سير الأولين والآخرين على ما هي عليه، فيعلم العاقل أنه أمر خارق من عند الخالق، كل ذلك إبلاغ في ظهور حجته ووضوح معجزته، فكيف يليق أن يجعل المقتضى مانعًا، فيلحدون ويجحدون، قاله ابن المنير في تفسيره. {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآن {وَيُزَكِّيهِمْ} ، يطهرهم من الذنوب، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن، بالنصب، أي: اقرأ أو اذكر، "فليس لله تعالى منة على المؤمنين أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق" الإسلام، أو العقائد، "وإلى طريق مستقيم" من الشرائع، "وإنما كانت النعمة على هذه الأمة بإرساله أعظم النعم؛ لأن النعمة به صلى الله عليه وسلم تمت بها مصالح الدنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله تعالى" أحكامه وفرائضه، "الذي رضيه" اختاره "لعباده" كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، وقوله: {مِنْ أَنْفُسِهِم} ، يعني أن بشر مثلهم، وإنما امتاز عليهم بالوحي" لا ملك ولا أعجمي، "وقرئ في الشواذ: من أنفسهم "بفتح الفاء"، يعني من أشرافهم" وإذا كان من أشرفهم كان منهم ضرورة؛ "ولأنه من بني هاشم وبنو هاشم، أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم" وقد مر تفاصيل ذلك في المقصد الأول، وكذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 هاشم، وبنو هاشم أفضل قريش، وقريش أفضل العرب، والعرب أفضل من غيرهم. ثم قيل: لفظ المؤمنون عام، ومعناه خاص في العرب؛ لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده، وخص المؤمنين بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون به أكثر، فالنعمة عليهم أعظم. فإن قلت: هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشرًا، ومن العرب، شرط في صحة الإيمان، وهو من فروض الكفاية. أجاب الشيخ ولي الدين بن العراقي: أنه شرط في صحة الإيمان. قال: فلو قال شخص: أؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة، أو من الجن، أو لا أدري أو هو من العرب أو العجم،   قرئ، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية، "بفتح الفاء"، كما مر أيضًا. "ثم قيل: لفظ المؤمنون عام، ومعناه خاص في العرب"؛ لأن المراد المؤمنين منهم، وفي الظرفية تسمح، إذا التخصيص إنما هو بكون المؤمنين من العرب، لا بكون المؤمنين فيهم، ولو من غيرهم، ويمكن تعلق في العرب بمقدر، كالدليل معناه خاصًا، أي: وإنما كان مخصوصًا بالعرب؛ لأن بعثه فيهم، ويحتمل تعلقه بمعناه تجوزًا لا حقيقة، إذ العموم والخصوص من عوارض الألفاظ دون المعنى؛ "لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا وقد ولده" "بفتحات"، أي: له عليه ولادة، إما بكونه جدة، أو جدًا. وفي البغوي قيل: أراد العرب؛ لأنه ليس حي منهم إلا وله فيهم نسب إلا بني تغلب، دليله هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم، وقيلك أراد جميع المؤمنين، ومعنى قوله من أنفسهم بالإيمان، والشفقة بالنسب، دليله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، "وخص المؤمنين بالذكر" مع أن نعمة البعثة عامة؛ "لأنهم هم المنتفعون به أكثر، فالنعمة عليهم أعظم" فلا ينافي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأحزاب: 45] ، "فإن قلت: هل العلم بكونه صلى الله عليه وسلم بشرًا، ومن العرب شرط في صحة الإيمان، وهو من فروض الكفاية" على الأبوين مثلًا، فإذا علم أحدهما ولده المميز ذلك سقط طلبه عن الآخر. "أجاب الشيخ ولي الدين" أحمد "بن" عبد الرحيم "العراقي"، الحافظ، ابن الحافظ: "أنه شرط في صحة الإيمان، قال: فلو قال شخص أؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق، ولكن لا أدري هل هو من البشر، أو من الملائكة، أو من الجنن أو لا أدري، أو هو من العرب، أو العجم، فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن" لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفًا عن سلف، وصار معلومًا بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فلو كان غبيًا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره. انتهى. فإن قلت: هل هو عليه الصلاة والسلام باق على رسالته إلى الآن؟ أجاب أبو المعين النسفي: بأن الأشعري قال: إنه عليه الصلاة والسلام الآن   الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] ، وقال تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَك} [هود: 31] ، "وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفًا عن سلف، وصار معلومًا بالضرورة عند الخاص والعام، ولا أعلم في ذلك خلافًا، فلو كان غبيًا" "بمعجمة فموحدة" جاهلًا قليل الفطنة، "لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه، فإن جحده" أي: المعلوم بالضرورة "بعد ذلك حكمنا بكفره"؛ لأن إنكاره كفر، أما إنكاره أليس ضروريًا، فليس كفرًا، ولو جحده بعد التعليم على ما اقتضاه شراح البهجة لشيخ الإسلام زكريا. "انتهى" جواب الولي. وتعقبه بعض شراح مسلم بقول الحليمي في منهاجه الإيمان به صلى الله عليه وسلم، أي: التصديق بأنه رسول إلى الإنس والجن إلى قيام الساعة، يتضمن الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، فلذا اكتفي به في المقارنة للإيمان بالله تعالى، ومن آمن به صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أدري أكان بشرًا، أم ملكًا، أم جنيًا، لم يضره ذلك إن كان ممن لم يسمع شيئًا من أخباره سوى أنه رسول الله، كما لو يعلم أنه كان شابًا، أو شيخًا مكيًا، أو عراقيًا، أو أعجميًا؛ لأن شيئًا من ذلك لا ينافي الرسالة، لإمكان اجتماعهما، بخلاف ما لو قال: آمنت بالله، ولا أدري أجسم هو أم لا؟؛ لأن الجسم لا يمكن أن يكون إلهًا، فتبين بذلك أن معرفته صلى الله عليه وسلم ليست شرطًا في صحة ابتداء الإيمان، وإنما هي واجبة بعد ذلك لأجل أن لا يقع في شيء ما ينقص مقامه الشريف، فليتأمل. انتهى. "فإن قلت: هل هو عليه الصلاة والسلام باق على رسالته إلى الآن"، بعد الموت إلى الأبد؟. "أجاب أبو المعين" ميمون بن محمد بن سعيد بن مكحول "النسفي" الحنفي، صاحب التبصرة، في علم الكلام والتمهيد لقواعد التوحيد وغيرهما، وهو غير صاحب الكنز عبد الله بن أحمد، وغير صاحب التفسير عمر بن محمد، وغير صاحب العقائد البرهان محمد بن محمد، وكلهم حنفيون من نسف: "بفتح النون والمهملة وبالفاء" مدينة بما وراء النهر، "بأن الأشعري قال: إنه عليه الصلاة والسلام الآن في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى" قضيته أن وصفه بأنه رسول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 في حكم الرسالة، وحكم الشيء يقوم مقام أصل الشيء، ألا ترى أن العدة تدل على ما كان من أحكام النكاح. انتهى. وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية بعد موته عليه الصلاة والسلام حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته؛ لأن المتصف بالنبوة والرسالة، والإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن بإجماع انتهى. وتعقب: بأن الأنبياء أحياء في قبورهم، فوصف النبوة باق للجسد والروح معًا. وقال القشيري: كلام الله تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أو بلغ عني، وكلامه تعالى قديم، فهو عليه الصلاة والسلام قبل أن يوجد كان رسولًا. وفي حال كونه وإلى الأبد رسولًا، لبقاء الكلام وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذي هو   انقطع بموته، لكن بقاء حكمها نزل منزلة بقائها، فهي باقية حكمًا لا حقيقة. "وقال غيره: إن النبوة والرسالة باقية" كل منهما، أو لاتحادهما في صفة الإيحاء فكأنهما شيء واحد، أو بناء على اتحادهما، فلا يرد أن الأولى للمطابقة باقيتان، "بعد موته عليه الصلاة والسلام حقيقة، كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته؛ لأن المتصف بالنبوة والرسالة والإيمان هو الروح، وهي باقية لا تتغير بموت البدن بإجماع. انتهى". "وتعقب" هذا التعليل، "بأن الأنبياء أحياء في قبورهم" كما صرحت به الأحاديث "فوصف النبوة باق للجسد والروح معًا" أي: الاتصاف بالنبوة مع الرسالة، وإن انقطع العمل بشرائعهم سوى شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم. "وقال القشيري: كلام الله تعالى" النفسي، الأزلي، لا الألفاظ الدالة عليه، "لمن اصطفاه أرسلتك، أو بلغ عني، وكلامه تعالى قديم، فهو عليه الصلاة والسلام قبل أن يوجد كان رسولًا"، بقوله: "أرسلتك" أبو بلغ عني، "وفي حال كونه" أي: وجوده خارجًا بعد تكوينه وإيجاده رسولًا، وإن تأخر الأمر بالتبليغ إلى بعد الوحي، وتقدم تقريبه، بأن من أقر لولده الصغير بشيء يصح أن يقال: أعطاه ذلك الشيء، مع أن الصبي في هذا الحال ليس أهلًا للتصرف، وفي نسخة: وفي حال موته، وعليها يكون ساكتًا عن حال وجوده للعلم به، "وإلى الأبد رسولًا لبقاء الكلام، وقدمه، واستحالة البطلان على الإرسال الذي هو كلام الله تعالى" وهذا ظاهر على ما هو الراجح من أن كلامه تعالى الأزلي، يتنوع حقيقة إلى أمر ونهي، وخبر واستخبار وغير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 كلام الله تعالى. ونقل السبكي في طبقاته، عن ابن فورك أنه قال: إنه عليه السلام حي في قبره، رسول الله أبد الآباد على الحقيقة لا المجاز. {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] . والمراد بالأميين: العرب، تنبيهًا لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النبوة، كما كان عند أهل   "ونقل السبكي في طبقاته عن ابن فورك" "بضم فسكون" "أنه عليه السلام حي في قبره، رسول الله أبد الآباد" أي: في جميع الأزمنة، الصادق بما بعد موته إلى قيام الساعة، "على الحقيقة لا المجاز"، لحياته في قبره، يصلي فيه بأذان وإقامة. قال ابن عقيل الحنبلي: ويضاجع أزواجه ويستمتع بهن أكمل من الدنيا. وحلف ذلك، وهو ظاهر ولا مانع منه. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} نسبًا محمدًا صلى الله عليه وسلم، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} القرآن، {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم من الشرك، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} القرآن {وَالْحِكْمَةَ} ما فيه من الأحكام، {وَإِنْ} مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي: وإنهم {كَانُوا مِنْ قَبْلُ} قبل مجيئه {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} بين. "والمراد بالأميين العرب" سموا بذلك؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، وكانت الكتابة معدومة فيهم إلا نادرًا لا حكم له، ثم أطلق على من كتب منهم، ومن لم يكتب تغليبًا، والأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ الخط، وإن قرأ ما حفظه بالسماع من غيره، وقيل: الذي يقرأ ولا يكتب. "تنبيهًا لهم على قدر هذه النعمة وعظمها حيث كانوا أميين، لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النبوة"، لا يراد أنه كان عندهم بقايا من شرع إبراهيم، كالحج والغسل من الجنابة؛ لأنهم لهما اشتغلوا عنها بعبادة الأصنام، وغيروا البقايا عن وجهها، كأنها لم تكن عندهم، "كما كان عند أهل الكتاب" بقايا قليلة، "فمن الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم" أي: الذين آمنوا منهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 الكتاب، فمن الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم. وفي كونه عليه الصلاة والسلام منهم فائدتان: إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضًا أميًا كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لو يزل أميًا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه.   "وفي كونه عليه الصلاة والسلام منهم فائدتان: إحداهما: أن هذا الرسول كان أيضًا أميًا، كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط، ولم يخطه": يكتبه "بيمينه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} تقرأ {مِنْ قَبْلِهِ} أي: الكتاب المذكور في قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [العنكبوت: 47] الآية، أي: القرآن، {من الْكِتَابَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، الجارحة التي يكتب بها، وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكناية، "ولا خرج عن ديار قومه" عطف على قوله: لم يقرأ، أي: خروجًا يقتضي تعلم شيء من غيره، كما أفاده قوله: "فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم" فلا يرد خروجه مع عمه، وفي تجارة خديجة؛ لأنه لم يقم فيهما إقامة تقتضي التعلم منهم، "بل لم يزل أميًا بين أمة" طائفة "أمية" لا تقرأ ولا تكتب، كيوم ولدتها أمهاتها على جبلتها، وتطرف من قال: من أعجب الأشياء إني امرؤ ... عمي خالي وأبي أمي "لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره، ثم جاء بعد ذلك"، أي: حضرا، وظهر، وبعث "بهذا الكتاب المبين" اسم فاعل من أبان، بمعنى البين الواضح، أو بمعنى المظهر للشرائع وما فيها، والموضح لها، "وهذه الشريعة الباهرة" الغالبة، الفاضلة، على غيرها من الشرائع، "وهذا الدين القيم" هو أبلغ من المستقيم، باعتبار الوزن؛ لأنه صفة مشبهة تدل على الثبوت والدوام، والمستقيم أبلغ باعتبار صيغته الدالة على الطلب، فكأنه نفسه الذي يطلب قوامه، "الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها؛ أنه لم يقرع" أي: يصل "العالم ناموس" رسول صاحب سر يبلغهم ما جاء به عن الله "أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه" وامتنان وثناء عظيم. "الفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم، وهم الأميون، خصوصًا أهل مكة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 الفائدة الثانية: التنبيه على أن المبعوث منهم وهم الأميون، خصوصًا أهل مكة، يعرفون نسبة وشرفه وصدقه وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفًا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع الكذب على الناس ثم يفتري الكذب على الله عز وجل؟ هذا هو الباطل. ولهذا سأل هرقل عن هذه الأوصاف واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة.   يعرفون نسبه وشرفه وصدقه، وأمانته وعفته، وأنه نشأ بينهم معروفًا بذلك، وأنه لم يكذب قط، فكيف كان يدع"، أي: يترك "الكذب على الناس، ثم يفتري" يقول "الكذب على الله عز وجل" من تلقاء نفسه، "هذا هو الباطل" والاستفهام إنكاري، "ولهذا سأل هرقل" "بكسر الهاء وفتح الراء، وإسكان القاف على المشهور" لا ينصرف للعلمية والعجمة. وحكى الجوهري وغيره: سكون الراء وكسر القاف "عن هذه الأوصاف، واستدل بها على صدقه فيما ادعاه من النبوة والرسالة"، فقال: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، إلى أن قال: وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا، فسيملك موضع قدمي هاتين. "وقد قال الله تعالى خطابًا له"، خطاب شفقة وتسلية {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] ، واستشكل ظاهره؛ لأن كذب القول يستلزم كذب قائله إلا أن يكون ناقلًا غير ملتزم للصحة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكره على أنه حق من عند الله، وأجيب بأن المراد ليس قصدهم تكذيبك؛ لأنك عندهم موسوم بالصدق، وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، أو لا يعتقدونك كاذبًا، وإنما ينسبون الكذب، لما جئت به عنادًا، أو لا يقولون عادتك الكذب لكننا ننكر النبوة، فلا يلزم أن تكون كذابًا، أو أنك غير متعمد للكذب، بل تخيلت أمرًا باطلًا، فالتكذيب المنفي بالنسبة لافتعاله وتعمده، فلا يكون عيبًا، قيل: وهذا أحسن التأويلات، وقيل: لا يخصونك بالتكذيب، وقيل: لا يكذبونك في السر ونقل ابن الجوزي عن قتادة: لا يكذبونك بحجة، بل بهتانًا وعنادًا. وقال عياض: ففي هذه الآية منزع لطيف المأخذ، من تسليته تعالى له صلى الله عليه وسلم وألطافه في القول؛ بأن قرر عنده أنه صادق عندهم، وأنهم غير مكذبين له، معترفين بصدقه قولًا واعتقادًا، وكانوا يسمونه قبل النبوة الأمين، فدفع عنه بهذا التقرير ارتماض نفسه بسمة الكذب، ثم جعل الذم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 وقد قال الله تعالى خطابًا له: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} [الأنعام: 33] . ويروى أن رجلًا قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب. وروى أن المشركين كانوا إذا رأوه عليه السلام قالوا: إنه لنبي. وعن علي: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت   لهم بتسميتهم جاحدين ظالمين، فحاشاه من لو صم، وطوقهم بالمعاندة، بتكذيب الآيات حقيقة الظلم، إذا الجحد إنما يكون ممن علم الشيء، ثم أنكره، كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] . انتهى. "ويروN أن رجلًا" هو الحارث بن عامر بن نوفل، كما عند النسائين عن ابن عباس. وروى ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن أناسًا من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن نتبعك تتخطفنا الناس، فنزلت، {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى} ، فلعل الحارث هو المبتدي، "قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط، فنتهمك اليوم، ولكنا إن نتبعك نتخطف من أرضنا، فنزلت هذه الآية"، ظاهره أن المراد؛ فإنهم لا يكذبونك، وقد علم من رواية النسائي وابن جرير، أنها: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] ، "رواه أبو صالح" مشهور بكنيته، واسمه ميزان البصري، مقبول من أواسط التابعين، خرج له الترمذي "عن ابن عباس رضي الله عنهما". "وعن مقاتل: كان الحارث بن عامر" بن نوفل بن عبد مناف: ووقع في الأنوار تسمية أبيه عثمان، وهو خلاف الروايات؛ أنه عامر، "يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب" ووقع في الأنوار؛ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نحن نعلم أنك على الحق، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب، وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا، فرد الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] . "وروي أن المشركين كانوا إذا رأوه عليه السلام، قالوا: إنه لنبي" ويتعللون بالأنفة عن اتباعه حتى لا يكونوا تابعين، ويأتي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. "و" روى الترمذي والحاكم "عن علي، قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب بما جئت به" وفي نسخة مصححة من الشفاء: ما جئت بدون الباء، "فأنزل الله تعالى" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 به، فأنزل الله تعالى الآية. والمعنى: أنهم ينكرونه مع العلم بصحته. إذ الجحد لغة هو الإنكار مع العلم. فإن قلت: فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [الأنعام: 34] . أجيب: بأنه على طريق الجحد، وهو يختلف باختلاف أحوالهم في الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله، فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرًا وعنادًا كأبي جهل. فيكون المراد بقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، قومًا مخصوصين منهم لا   لفظ روايتهما، فأنزل الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} ، "والمعنى أنهم ينكرونه مع العلم بصحته، إذ الجحد لغة" كما صرح به الجوهري والمجد وغيرهما، "هو الإنكار مع العلم" فهو محض عناد وبغي، "فإن قلت: فما الجمع بين هذا" {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ، وبين قوله تعالى: تلو هذه الآية {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِك} ، فإن مفادها أنهم كذبوا؛ لأنها تسلية له، إذ قوله: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] ، معناه: فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا بإهلاك من كذبك، كما أهلكنا من كذب الرسل من قبلك، ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين، أي: ما فيه تسلية لك، قيل: كان الأولى المعارضة بقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] الآية، لصراحتها في التكذيب، دون هذه، ورده شيخنا تقريرًا؛ بأن ما سلكه المصنف أولى؛ لأن هذه الآية صرح فيها بالقضية الشرطية، فلا تستلزم التكذيب بالفعل بخلاف، ولقد كذبت تستلزمه. "أجيب بأنه" أي: التكذيب الصادر منهم "على طريق الجحد" لعلمهم بصدقه، وكذبوه عنادًا واستكبارًا عن الاتباع، فهم مصدقون في نفس الأمر، وإن كذبوا ظاهرًا، "وهو يختلف باختلاف أحوالهم في الجهل، فمنهم من وقع منه ذلك لجهله" لا جحدًا، "فحيث علم آمن، ومنهم من علم وأنكر كفرًا وعنادًا، كأبي جهل، فيكون المراد بقوله: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} قومًا مخصوصين منهم" وهم الذين كذبوا جهلًا، ثم آمنوا، أو المكذبون عنادًا، إذ هم مصدقون باطنًا، "لا كلهم، وحينئذ فلا تعارض" بين الآيتين. وفي الشفاء: من قرأ لا يكذبونك بالتخفيف، معناه لا يجدونك كاذبًا. وقال الفراء والكسائي: لا يقولون: إنك كاذب، وقيل: لا يحتجون على كذبك ولا يثبتونه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 كلهم، وحينئذ فلا تعارض. وروي أن أبا جهل لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكة فصافحه فقيل له: أتصافحه؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعًا لبني عبد مناف؟ فأنزل الله الآية، رواه ابن أبي حاتم. والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته، وكيف يليق بكمال الله تعالى أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده. ويعلي كلمته ويرفع شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة   ومن قرأ بالتشديد، فمعناه لا ينسبونك إلى الكذب، وقيل: لا يعتقدون كذبك. انتهى، ومر له مزيد. "وروي؛ أن أبا جهل لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج مكة، فصافحه، فقيل له: أتصافحه" وأنت تعاديه، "فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعًا لبني عبد مناف، فأنزل الله الآية" {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَك} ، والجمع بين هذا وحديث علي؛ أنه صافحه وقال: له: إنا لا نكذبك. إلخ، وقال لسائله: والله إني.. إلخ، "رواه ابن أبي حاتم". ونقل البغوي وغيره عن السدي، قال التقي الأخنس بن شريق: وأسلم بعد ذلك وأبو جهل، فقال: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟، فإنه ليس هنا أحد يسمع كلامك غيري، فقال أبو جهل: والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسبقاية، والحجابة، والندوة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل الله هذه الآية، وفي الشفاء: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبه قومه حزن، فجاءه جبريل، فقال: ما يحزنك، قال: "كذبني قومي، فقال: إنهم يعلمون أنك صاد"، فأنزل الله هذه الآية، قال السيوطي: لم أجد هذا. "والقرآن كله مملوء بالآيات الدالة على صدق هذا الرسول الكريم، وتحقيق رسالته" نبوتها "وكيف" استفهام إنكاري على من ينسب الكذب للنبي، أي: لا "يليق بكمال الله تعالى أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب"، مع قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] ، "ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصروه على ذلك، ويؤيده" ويقويه، "ويعلي كلمته، ويرفع شأنه" أمره "ويجيب دعوته" أي: جنسها، "ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلة": ألفاظ متقاربة، "ما يضعف عنه قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر، ساع في الأرض بالفساد، ومعلوم أن شهادته" اطلاعه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 ما يضعف عنه قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه، مفتر ساعٍ في الأرض بالفساد. ومعلوم أن شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء، وقدرته على كل شيء وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك كل الإباء، ومن ظن ذلك به وجوازه عليه فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته كصفة القدرة وصفة المشيئة. والقرآن كله مملوء من هذه الطريق، وهذه طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله. وإذا تدبرت القرآن رأيته ينادي على ذلك وبيديه ويعيده لمن له فهم وقلب واع عن الله تعالى. قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ   "سبحانه على كل شيء"، كما قال: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [سبأ: 47] ، "وقدرته على كل شيء، وحكمته، وعزته، وكماله المقدس"، المطهر عما لا يليق به، "يأبى ذلك كل الإباء" أشد الامتناع، "ومن ظن ذلك به، وجوزه عليه، فهو من أبعد الخلق عن معرفته إن عرف منه بعض صفاته، كصفة القدرة وصفة المشيئة" أي: أن جميع الناس يدركون كثيرًا من صفاته ويقرون بها، ومن حق من عرف شيئًا منها أن يعترف بما ظهر له من الأدلة باتصافه صلى الله عليه وسلم بجميع صفات الكمال اللائقة بالأنبياء. "والقرآن كله مملو من هذه الطريق، وهذه طريق الخاصة، بل خاصة الخاصة الذين يستدلون بالله" أي: بذاته وصفاته، "على أفعاله، وما يليق به أن يفعله وما لا يفعله" وليس الحكم مقصورًا على الذات من غير اعتبار، صفة زائدة عليها، كما تقول المعتزلة، "وإذا تدبرت القرآن" أي: تأملت معانيه وتبصرت ما فيه، "رأيته ينادي على ذلك، ويبديه ويعيده لمن له في وقلب واع عن الله تعالى" يتفكر به في حقائقه، فالمنتفع بالقرآن المتأهل لأمره ونهيه هو الجامع بين الحفظ والفهم، وإتعاب النفس في تأمل ألفاظه ومعانيه. "قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّل} الرسول الكريم {عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} بأن قال عنا ما لم نقله، {لَأَخَذْنَا} لنلنا {مِنْهُ} عقابًا {بِالْيَمِينِ} بالقوة والقدرة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} نياط القلب، وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه، {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} هو اسم ماء ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد، وهو في الأصل نعت له، فلما قدم عليه أعرب حالًا {عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44] ، مانعين، خبر ما، وجمع؛ لأن أحدًا في سياق النفي، بمعنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سننه في المتقولين عليه. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ههنا انتهى جواب الشرط. ثم أخبر خبرًا جازمًا غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ   الجمع وضمير عنه للنبي، أي: لا مانع لنا عنه من حيث العقاب، "أفتراه سبحانه وتعالى يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل"، ثم يقر من يكذب عليه، لا "بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده، كما جرت بذلك سنته" عادته "في المتقولين عليه" فذلك دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم. "وقال تعالى: {أَمْ} بمعنى بل، {يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} بنسبة القرآن إلى الله، {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ، ههنا انتهى جواب الشرط" وهو فإن يشأ الله، والقصد به كما في البيضاوي استبعاد الافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختومًا على قلبه، جاهلًا، بربه، وأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك تجترئ بالإفتراء عليه، وقيل: يختم على قلبك، يمسك القرآن والوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر عليه، فلا يشق عليه إذا هم انتهى. "ثم أخبر خبرًا جازمًا غير معلق، {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24] ، فهو كما في البيضاوي استئناف لنفي الافتراء عما يقول؛ بأنه لو كان مفتري لمحقه، إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه، أو بقضائه لا مرد له. "وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظموه حق عظمته، أو ما عرفوه حق معرفته، {إِذْ قَالُوا} للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد خاصموه في القرآن، {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 92] . قال ابن عباس: قائل ذلك اليهود، وقال مجاهد: مشركو قريش، وقال السدي: فنحاض اليهودي، وقال سعيد بن جبير: مالك بن الصيف، أخرجهما ابن أبي حاتم، "فأخبر أن من نفي عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي، ولا عظمه كما يستحق" في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] ، فأخبر أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره، ولا عرفه كما ينبغي ولا عظمه كما يستحق، فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة؟ وهذا في القرآن كثير يستدل تعالى بكماله المقدس وأوصافه وجلاله على صدق رسوله، وعلى وعده ووعيده، ويدعو عباده إلى ذلك. وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، قُلْ   الرحمة والإنعام على العباد، فإن الوحي والبعث من عظائم رحمته وجلائل نعمته، أو ما قدروه في السخط على الكفار، وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة. "فكيف من ظن أنه ينصر الكاذب المفتري عليه، ويؤيده ويظهر على يديه الآيات والأدلة، وهذا" أي: تعظيمه صلى الله عليه وسلم بالآيات الدالة على كماله "في القرآن كثير" وذلك؛ لأنه "يستدل" بزيادة السين والتاء، أي: يدل "تعالى" خلقه" "بكماله المقدس، وأوصافه، وجلاله على صدق رسوله" فيما جاء به، "وعلى وعده ووعيده" مثلًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] ، دل بكونه خالقًا للناس، منعمًا عليهم، بجعل الأرض فراشًا، والسماء بنا.. إلخ، على أن من قدر على ابتداء هذه الأحوال لا يعجز عن بعثهم بعد فناء أجسادهم، ومن لازم ذلك صدق الرسول في أخباره عن الله بالبعث والإعادة، "ويدعو عباده إلى ذلك" أي: تصديقه فيما جاء عليه الصلاة والسلام، أو الإشارة راجعة للصدق بتقرير مضاف، أي: إلى اعتقاد صدق رسوله. "وقال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله" مثل ناقة صالح، وعصا موسى، ومائدة عيسى، وهم الذين قالوا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7] ، فرد عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} فيما طلبوا {أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَاب} القرآن {يُتْلَى عَلَيْهِم} فهو آية مستمرة لا انقضاء لها، بخلاف ما ذكر من الآيات، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الكتاب {لَرَحْمَةً} لنعمة عظيمة {وَذِكْرَى} عظة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] الآية، لمن همه الإيمان دون التعنت. وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والدارمي عن يحيى بن جعدة، قال: جاء ناس من المسلمين يكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء بهم نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره" إلى غيرهم، فنزلت: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا} ، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} بصدقي، وقد صدقني بالمعجزات، أو بتبليغ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 51-52] ، فأخبر سبحانه أن الكتاب الذي أنزله يكفي من كل آية، ففيه الحجة والدلالة على أنه من الله تعالى، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب، ثم قال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء كانت شهادته أعظم شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام محيط بالمشهود به، وهو سبحانه وتعالى يذكر علمه عند شهادته وقدرته، وملكه عند مجازاته، وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده. فتأمل ورود   ما أرسلت به إليكم، ونصحي، ومقابلتكم إياي بالتكذيب والتعنت {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فلا يخفى عليه حالي وحالكم {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِل} ، وهو ما يعبد من دون الله {وَكَفَرُوا بِاللَّهِ} منكم {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} [العنكبوت: 52] في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان. "فأخبر سبحانه؛ أن الكتاب الذي أنزله يكفي من" أي: بدل، "كل آية" لانقضائها بخلافه، "ففيه الحجة، والدلالة على أنه من الله تعالى، وأن الله سبحانه أرسل به رسوله، وفيه بيان ما يوجب لمن اتبعه السعادة، وينجيه من العذاب" بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، "ثم قال: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، فإذا كان سبحانه عالمًا بجميع الأشياء" المعبر عنها بما في السموات والأرض "كانت شهادته أعظم شهادة وأعدلها، فإنها شهادة بعلم تام، محيط بالمشهود به" بخلاف شهادة غيره، فليس لها هذا الوصف، إذ قد يخفى عليه ما يمنعه من الشهادة بما شاهده لو علمه، "وهو سبحانه وتعالى، يذكر علمه عند شهادته" فهذا حكمة قوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، بعد قوله: {شَهِيدًا} مع أنه مقطوع، محقق الحصول عند كل أحد. "و" يذكر "قدرته وملكه عند مجازاته" لإفادته أنه لا يعجزه شيء، "وحكمته عند خلقه، وأمره ورحمته عند ذكر إرسال رسله، وحلمه عند ذنوب عباده" تنبيهًا لهم على التوبة، وأن لا يقنطوا، "فتأمل ورود أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر، والثواب والعقاب" يظهر لك من أسرارها العجب العجاب، وحاصله أن من عادته تعالى إذا ذكر أمرًا تقصر عن إدراكه العقول، ذكر أنه إنما أخبر عنه بعلم تام وقدرة كاملة، فليس إخباره عن شيء، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 أسمائه الحسنى في كتابه، وارتباطها بالخلق والأمر والثواب والعقاب. وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] .   كإخبار بعض البشر عما شاهده؛ لأنه قد يخفي عليه ما يمنعه الشهادة لو علمه، أو من المجازة عليه. "وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [الحج: 8] تيسيره أطلق له؛ لأنه من أسبابه، وقيد به إشارة إلى أنه أمر صعب، لا يتأتى إلا بمعونته تعالى، قاله البيضاوي وغيره. وقال العز بن عبد السلام في مجاز القرآن: إذنه مشيئته وإرادته؛ لأن الغالب في الإذن أن لا يقع إلا بمشيئة، واعتبار الملازمة الغالبة تصحيح المجاز، أو بأمر التكوين، فإن الأمر يلازمه مشيئة الآمر غالبًا. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّه} بأمره [البقرة: 251] ، وقوله: {كُنْ} ، وهو من مجاز التمثيل، شبه سهولة الأشياء في قدرته بسهولة هذه الكلمة على الناطق بها، تفهيمًا لسرعة نفوذ مشيئته وقدرته فيما يريده، ويعبر بالإذن عن التيسير والتسهيل، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] ، أي: بتيسيره وتسهيله، إذ لا يحسن أن يقال دعوته بإذني، ولا قمت وقعدت بإذني، ولذا قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالإذن هنا الأمر، أي: يدعوكم إلى الجنة والمغفرة، بأمره إياكم بطاعته، وكلاهما من مجاز الملازمة. انتهى. {سِرَاجًا} أحوال مقدرة {مُنِيرًا} قال عياض: جمع الله له في هذه الآية ضروبًا من رتب الأثرة، وجملة أوصاف من المدحة، فجعله شاهدًا على أمته، بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه، ومبشرًا لأهل طاعته، ونذيرًا لأهل معصيته، وداعيًا إلى الله بإذنه إلى توحيده وعبادته وسراجًا منيرًا يهتدى به إلى الحق. وقال ابن عطية: هذه أرحى آية في القرآن؛ لأنه أمره بتبشير المؤمنين بالفضل الكبير، وقد فسره في آية أخرى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22] الآية، "أي: شاهدًا على الوحدانية" أي: اتصافه تعالى؛ بأنه واحد أحد، لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولم يقيد الشهادة، فشملت الشهادة بها في الدنيا والآخرة. وفي البيضاوي: شاهدًا على من بعثت إليهم، بتصديقهم وتكذيبهم، ونجاتهم وضلالهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 أي شاهدًا على الوحدانية، وشاهدًا في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهدًا في الآخرة بأحوال الدنيا، وبالطاعة وبالمعصية والصلاح والفساد، وشاهدًا على الخلق يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُول   وكذا تقدم عن عياض؛ فجعلا ذلك صلة الشهادة، وجعلا صلة داعيًا إلى الإقرار بالله وتوحيده، وما يجب الإيمان به من صفاته، وهو خلاف ما ذكر المصنف. "وشاهدًا في الدنيا بأحوال الآخرة" أي: بما يكون فيها ذاتًا، أو صفة، "من الجنة والنار، والميزان والصراط، وشاهدًا في الآخرة بأحوال الدنيا، و" ذلك بأن يشهد للمطيع "بالطاعة" وعلى العاصي، "بالمعصية" فهو بيان للمراد بالشهادة، "والصلاح" الواقع من المطيع "والفساد" من العاصي، وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن أعمال أمته تعرض عليه، كما ثبت في الحديث، واستشكل مع حديث الصحيح: "ليذاد رجال عن حوضي، كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم بدلوا وغيروا بعدك، فأقول سحقًا سحقًا". وفي رواية: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وأجيب بأنها إنما تعرض عليه عرضًا مجملًا، فيقال: عملت أمتك شرًا عملت أمتك خيرًا، أو أنها تعرض عليه دون تعيين عاملها، قاله الأبي. "وشاهدًا على الخلق يوم القيامة" بإبلاغ أنبيائهم وتزكية أمته، "كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية. روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد، مرفوعًا: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟، فيقول: نعم، أي: رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟، فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، فيقول لنوح: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، والوسط العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم". وروى أحمد والنسائي وابن ماجه، عن أبي سعيد، رفعه: "يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك، فيقال له: هل بلغت قومك؟، فيقول: نعم، فيدعي قومه، فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: من يشهد لك؟، فيقول: محمد وأمته، فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟، فيقولون: نعم فيقال: وما علمكم؟، فيقولون: جاء نبينًا، فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا وصدقناه، فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} " [البقرة: 143] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] . كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرف من قبلنا، إنا أرسلناك شاهدًا بوحدانيتنا ومشاهدًا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتنذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا، وداعيًا الخلق إلينا، وسراجًا يستضاء بك، وشمسًا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من اتبعك وخدمك وقدمك، فبشر بفضلنا وطولنا عليهم وإحساننا لديهم. ولما كان الله تعالى قد جعله عليه الصلاة والسلام شاهدًا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيًا، فالله تعالى لم يجعل النبي في مسألة الوحدانية مدعيًا   قال البيضاوي: وهذه الشهادة وإن كانت لهم، لكن لما كان الرسول كالرقيب المؤتمن على أمته عدي بعلي، وقدمت الصلة للدلالة على اختصاصهم يكون الرسول شهيدًا عليهم، وطالبهم بالبينة، وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين. انتهى، ولإظهار فضل هذه الأمة على رؤوس الأشهاد. قال أبو الحسن القابسي: أبان الله فضل نبينا وفضل أمته بهذه الآية، وفي قوله: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] ، وكذلك قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] الآية. "كأنه تعالى يقول: يا أيها المشرف" "بالفاء" بالنبوة "من قبلنا إنا أرسلناك شاهدًا بوحدانيتنا، ومشاهدًا كمال فردانيتنا، تبشر عبادنا عنا، وتنذرهم مخالفة أمرنا، وتعلمهم مواضع الخوف منا"، وهي المعاصي، "وداعيًا الخلق إلينا"، أي: إلى ما يجب إلينا، "وسراجًا يستضاء بك" من ظلمات الجهل، ويقتبس من نورك أنوار البصائر، "وشمسًا تبسط شعاعك يستضاء بك" من ظلمات الجهل، ويقتبس من نورك أنوار البصائر، "وشمسًا تبسط شعاعك على جميع من صدقك وآمن بك، ولا يصل إلينا إلا من أتبعك وخدمك وقدمك" على جميع الخلق، بأن علم كمالك الذي تتميز به على غيرك، وأذن له، "فبشر" يا أيها المشرف من قبلنا المؤمنين "بفضلنا" أنعامنا عاجلًا وآجلًا، "وطولنا" أي: إحساننا "عليهم" بترك عقابهم، فتغاير العطف، لكن يصير "وإحساننا لديهم" تفسيريًا، وفي نسخة: فبشره بضمير عائد على لفظ من، وحذفه أولى. "ولما كان الله تعالى قد جعله عليه الصلاة والسلام شاهدًا على الوحدانية، والشاهد لا يكون مدعيًا، فالله تعالى لم يجعل النبي في مسألة الوحدانية مدعيًا لها؛ لأن المدعي من يقول شيئًا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أدعى النبوة" قبل نزول هذه الآية، حيث أخبر أن الله بعثه، ولم يعرف بها قبل الدعوة، فأتى بخلاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 لها؛ لأن المدعي من يقول شيئًا على خلاف الظاهر، والوحدانية أظهر من الشمس، والنبي صلى الله عليه وسلم كان ادعى النبوة، فجعل الله تعالى شاهدًا له في مجازاة كونه شاهدًا له تعالى فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1] ، ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] ، فاستشهد على رسالته بشهادة الله   ظاهر حاله قبل، "فجعل" جواب لما أدخل عليه الفاء، "الله تعالى شاهدًا له في مجازاة كونه شاهدًا له تعالى، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} التلاوة، يعلم {إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ولا يصح أن يشهد تفسير ليعلم؛ لأن علم الشيء لا يستلزم الشهادة به، لكن في القاموس شهد الله أنه لا إله إلا هو، أي: علم الله، أو قال، أو كتب، "ومن هذا قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} قيل: هم رؤساء اليهود، {لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها، {وَمَنْ عِنَْهُ عِلْمُ} مرتفع بالظرف، لاعتماده على الموصول، أو مبتدأ، والظرف خبره {الْكِتَابِ} القرآن [الرعد: 43] ، وما ألف عليه من النظم المعجز، أو علم التوراة، وهو ابن سلام وأضرابه. قال سعيد بن جبير: هو جبريل، وقال عكرمة: هو عبد الله بن سلام، رواهما ابن أبي حاتم، وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، وقال قتادة: كنا نتحدث أن منهم ابن سلام، وسلمان الفارسي، وتميمًا الدارمي، أخرجهما ابن جرير، وقيل: المراد علم اللوح المحفوظ، وهو الله. قال الطيبي: فيلزم عطف الشيء على نفسه، فأول الزمخشري وغيره اسم الذاب بما يعطيه من معنى استحقاق العبادة، لكونه جامعًا لمعاني الأسماء، فقال: "كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيدًا بيننا"، فيخزي الكاذب منا، ويؤيده قراءة من قرأ ومن عنده بالكسر خبر، والمبتدأ علم. قال الأزهري: لا يكون إلهًا حتى يكون معبودًا وخالفًا ورازقًا ومدبرًا، فأتى بالموصول ليتوافق المعطوف والمعطوف عليه. "فاستشهد على رسالته بشهادة الله له"، وأمره بقول ذلك، إذ لا يجحد باطنًا، "وكذلك قوله تعالى" حين قالت قريش: يا محمد لقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا ما يشهد لك أنك رسول الله، فنزلت على ما قال الكلبي، وتبعه البغوي وغيره. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير، عن ابن عباس: أن ثلاثة من اليهود جاءوا، فقالوا: يا محمد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 له. وكذلك قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] ، وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه} [المنافقون: 1] ، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه} [الفتح:   ما نعلم مع الله إلهًا غيره، فقال: لا إله إلا الله بذلك بعثت، وإلى ذلك أدعوا، فأنزل لله في قولهم: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ} آي: موجود {أَكْبَرُ شَهَادَةً} ، تمييز محول عن المبتدأ، {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 9] ، على صدقي، فهو الجواب؛ لأنه تعالى إذا كان التشهد كان أكبر شيء شهادة. قال الطيبي: فهو من أسلوب الحكيم، يعني فشهادته معلومة لا كلام فيها، وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم، مبين لدعواي، وإذا ثبت أنه شيهد له، لزم أن أكبر شيء شهادة شهيد له. ونحوه قوله التفتازاني، كأنه قيل: معلوم أن الله هو الأكبر شهادة، ولكن الأنسب بالمقام هو الإخبار بأن الله شهيد لي، لينتج مع قولنا: الله أكبر شهادة أن الأكبرة شهادة شهيد لي. قال أبو حيان: هذا الوجه أرجح مما قدمه الزمخشري؛ أن المعنى قل الله أكبر شهادة، ثم ابتدأ شهيد، أي: هو؛ لأن فيه إضمارًا وآخرًا، والأول لا إضمار فيه مع صحة معناه. "وقوله تعالى" روى ابن إسحاق عن ابن عباس: دخل جماعة من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إلي والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعم ذلك، فأنزل الله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} يبين نبوتك {بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} من القرآن المعجز، {أَنْزَلَهُ} ملتبسًا {بِعِلْمِهِ} أي: عالمًا به، أو فيه علمه، {وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أيضًا لك، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] ، على ذلك. قال البيضاوي: استدرك على مفهوم ما قبله، وكأنه لما تعنتوا عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، واحتج عليهم بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} [النساء: 163] ، قال: إنهم لا يشهدون، ولكن الله يشهد، أو أنهم أنكروه، ولكن الله يثبت، ويقرره بما أنزل إليك من القرآن المعجز، الدال على نبوتك. روى ابن جرير عن ابن عباس لما نزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك} قالوا: ما نشهد لكن فنزلت، "وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُه} [المنافقون: 1] ، فلا يضرك قول المنافقين ذلك بألسنتهم، مخالفًا لما في قلوبهم، وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] جملة مبينة للمشهود به، ويجوز أن يكون رسول الله صفة، ومحمد خبر محذوف، أو مبتدأ، والذين معه معطوف عليه، وخبرهما أشداء على الكفار رحماء بينهم، كما في الأنوار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 29] ، فهذا كله معه تعالى شهادة لرسوله قد أظهرها وبينها، وبين صحتها غاية البيان بحيث قطع العذر بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم بكونه سبحانه شاهدًا لرسوله. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] . فيظهر ظهورين: ظهورًا بالحجة والبيان، وظهورًا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخالفيه ويكون منصورًا. ومن شهادته تعالى أيضًا ما أودعه في قلوب عباده من التصديق الجازم، واليقين الثابت والطمأنينة بكلامه ووحيه، فإن الله فطر القلوب على قبول الحق   "فهذا كله معه تعالى شهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم، قد أظهرها وبينها وبين صحتها غاية البيان، بحيث قطع العذر" "بسكون الذال وتضم" للاتباع، أي: منع الأشياء التي تكون سببًا لطلب ما يزل اللوم عن الفاعل "بينه وبين عباده، وأقام الحجة عليهم، بكونه سبحانه شاهدًا لرسوله" صلى الله عليه وسلم. "وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ملتبسًا به، أو بسببه، ولأجله، {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى} جنس {الدِّينِ كُلِّهِ} ينسخ ما كان حقًا، وإظهار فساد ما كان باطلًا، وتسليط المسلمين على أهله، إذا ما من أهل دين إلا وقد قهرهم المسلمون، وفيه تأكيد لما وعده من الفتح، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] الآية" على أن ما وعده كائن، أو على نبوته بإظهار المعجزات، أو على أنك مرسل، كما قال محمد رسول الله، "فيظهر ظهورين: ظهورًا بالحجة والبيان" بحيث لا يستطيع المعاند ردهما، بل يخادعون أنفسهم بالتشغيب والتكذيب والإفتراء والمباهتة والرضا بالدنية، كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْف} [البقرة: 88] الآية، وفي أكنة مما تدعون إليه وغير ذلك، "وظهورًا بالنصر والغلبة والتأييد حتى يظهر على مخاليفه ويكون منصورًا" كما قال: "هو الذي أيدك بنصره لينصرك الله نصرًا عزيزًا" [الفتح: 3] . "ومن شهادته تعالى أيضًا ما أودعه في قلوب عباده، من التصديق الجازم، واليقين الثابت، والطمأنينة بكلامه" سبحانه، "ووحيه" إلى أنبيائه، "فإن الله فطر" خلق "القلوب" مشتملة "على قبول الحق، والانقياد له، والطمأنينة، والسكون إليه، ومحبته وفطرها على" أعاد العامل تنبيهًا على أن كلًا من قبول الحق، و "بغض الكذب والباطل" مقصود بالذات "والنفور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 والانقياد له، والطمأنينة والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة على حالها لما آثرت على الحق سواه، ولما سكنت إلا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيره. ولهذا ندب الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علمًا ضروريًا ويقينًا جازمًا أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًا كسائر الأمور الوجدانية كاللذة والألم أنه من عند الله، تكلم به حقًا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصًا من مدارج السالكين. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:   عنه، وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفطرة" "بالكسر" الخلقة "على حالها لما آثرت" قدمت "على الحق سواء، ولما سكنت" اطمأنت "لا إليه، ولا اطمأنت إلا به، ولا أحبت غيرهن ولهذا ندب" دعا "الحق سبحانه إلى تدبر القرآن، فإن كل من تدبره أوجب له علمًا ضروريًا، ويقينًا جازمًا أنه حق، بل أحق كل حق، وأصدق كل صدق، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن} يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي، {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، لا يصل إليها ذكر، ولا ينكشف لها أمر، وقيل: أم منقطعة، والهمزة للتقرير ونكر قلوب؛ لأن المراد قلوب بعض منهم، أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها، كأنها مبهمة منكورة، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها، مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة، وقرئ أقفالها على المصدر، قاله البيضاوي. "فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائق القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علمًا ضروريًا، كسائر الأمور الوجدانية" "بكسر الواو" كاللذة والألم، إنه من عند الله، كلم به حقًا، وبلغه رسوله جبريل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد. انتهى ملخصًا من مدارج السالكين" للعلامة ابن القيم في شرح منازل السائلين لشيخ الإسلام الهروي. "وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] ، حال من الضمير في إليكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 158] . ففي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين. وقالت العيسوية من اليهود وهم أتباع عيسى الأصفهاني: إن محمدًا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بني إسرائيل. ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية؛ لأن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب يتناول كل الناس، ثم قال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثًا إلى جميع الناس. وأيضًا: فلأنًا نعلم بالتواتر أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى الثقلين. فإما أن   قال المفتي: لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلى الله عليه وسلم، وشرف من يتبعه من أهلهما ونيلهم لسعادة الدارين، أمر عليهالصلاة والسلام ببيان أن تلك السعادة غير مختصة بهم، بل شاملة لكل من تبعه كائنًا من كان، ببيان عموم رسالته للثقلين مع اختصاص سائرالرسل بأقوامهم، وإرسال موسى إلى فرعون، وملئه بالآيات التسع، إنما كان لأمرهم بعبادة رب العالمين، وترك العظمة التي كان يدعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، وأما العمل بأحكام التوراة، فمختص ببني إسرائيل. انتهى. "ففي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الثقلين" الإنس والجن، سيما بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهم وقدرهم، أو؛ لأنهما مثقلان بالتكليف، ووجه الدلالة أن الناس وإن غلب استعماله في الإنس، لكنه اسم للإنس والجن؛ لأنه مشتق من ناس ينوس، إذا تحرك فيطلق عليهما وبهما، فسر في صدور الناس. "وقالت العيسوية من اليهود، وهم أتباع عيسى" المنقول لغيره أبي عيى "الأصفهاني"، زاد في نسخة: النصراني، ولا ينافيها قوله أولا من اليهود، لجواز أنه كان نصرانيا، ثم تهود، فتبعته تلك الطائفة: "إن محمدا صادق مبعوث إلى العرب، غير مبعوث إلى بني إسرائيل، ودليلنا على إبطال قولهم في هذه الآية؛ لأن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} خطاب عام "يتناول كل الناس" العرب، وبني إسرائيل وغيرهم، فتخصيصه بالعرب من أين، "ثم قال" بأمر الله تعالى قل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} وهذا يقتضي كونه مبعوثا إلى جميع الناس، اقتضاء ظاهرا، لا سيما مع قوله جميعا، فهو قريب من الصريح. "وأيضا" دليل ثان في الرد على العيسوية: "فلأنا نعلم بالتواتر أنه كان يدعي"، أي: يذكر "أنه مبعوث إلى الثقلين، فإما أن نقول أنه كان رسولا حقا، أو كان كذلك" من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 نقول: إنه كان رسولًا حقًا، أو ما كان كذلك، فإن كان رسولًا حقًا امتنع الكذب عليه، ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه، فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقًا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل. وإذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} من الناس من يقول: إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك. أما الأولون فقالوا: دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول إلى الناس إذا كانوا من جملة المكلفين، فإذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولًا إليهم، وذلك؛ لأنه عليه السلام قال: "رفع القلم   إرخاء العنان للخصم للزوم الحجة له، "فإن كان رسولٌا حقًا" كما اعترفت به أيها الخصم، "امتنع الكذب عليه"، لاستحالته على الرسول، "ووجب الجزم بكونه صادقًا في كل ما يدعيه" ومنه أنه رسول إلى بني إسرائيل، "فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية" لما يقل بصريحها، لاحتمال أن أل فيها للجنس، ولكن يمنعه، أو يبعد التأكيد بقوله جميعًا؛ "أنه كان يدعي أنه مبعوث إلى جميع الثقلين، وجب كونه صادقًا، وذلك يبطل قول من يقول: إنه كان مبعوثًا إلى العرب فقط، لا إلى بني إسرائيل" وعبر بيدعي؛ لأن الإدعاء قول يخالف الظاهر، كما قدمه، وهذا وإن طابق الواقع بحسب نفس الأمر، لكنه مخالف للظاهر، فلذا أتى بالأدلة والبراهين لإثبات رسالته. "وإذا ثبت هذا، فنقول قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم جَمِيعًا} ، من الناس من يقول: إنه عام دخله التخصيص، ومنهم من أنكر ذلك". "أما الأولون" ترك عديله إما لظهوره، أي: وأما المنكرون، فقالوا: هو باق على عمومه، والتكليف، ووصول خبر الرسالة ليس شرطًا في الرسالة، وإنما هو شرط في المؤاخذة بما بلغه. "فقالوا: دخله التخصيص من وجهين: الأول: أنه رسول الله إلى الناس، إذا كانوا من جملة المكلفين" لا مجانين وصبيانًا، "فإذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولًا إليهم، وذلك؛ لأنه عليه السلام قال" كما رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، عن علي وعمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاث" كناية عن عدم التكليف؛ لأنه يلزم منه الكناية، وعبر برفع إشعارًا؛ بأن التكليف لازم لبني آدم، لا ينفك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 "عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستقيظ، وعن المجنون حتى يفيق". والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه، حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:   عنهم إلا عن ثلاثة، "عن الصبي" الطفل، ولو مراهقًا "حتى يبلغ" وفي رواية: حتى يكبر، وأخرى: حتى يشب، وأخرى: حتى يحتلم. قال السبكي: ليس في روايتي "حتى يكبر"، وحتى يبلغ من البيان ما في رواية حتى يحتلم، فالتمسك بها لبيانها أولى؛ لأن حتى يبلغ مطلق، وحتى يحتلم مقيد، فيحمل عليه، فإن الاحتمال بلوغ قطعًا، وعدم بلوغ السن ليس ببلوغ قطعًا، "وعن النائم حتى يستيقظ" من نومه، "وعن المجنون" زاد في رواية: المغلوب على عقله "حتى يفيق" وفي رواية: حتى يبرأ، أي: بالإفاقة، وفي أخرى: حتى يعقل، وفي أخرى: وعن المبتلى حتى يبرأن أي: المبتلي بداء الجنون. قال ابن حبان: والمراد برفع القلم ترك كتابة الشر عليهم دون الخير. قال الزين العراقي: وهو ظاهر في الصبي دون المجنون والنائم؛ لأنهما في حيز من ليس قابلًا لصحة العبادة منهم لزوال الشعور، فالمرفوع عن الصبي قلم المؤاخذة، لا قلم الثواب، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة لما سألته: "ألهذا حج؟، قال: "نعم" واختلف في تصرف الصبي، فصححه أبو حنيفة ومالك بإذن وليه مراعاة للتميز، وأبطله الشافعي مراعاة للتكليف. "والثاني: أنه رسول الله إلى كل من وصله خبر وجوده، وخبر معجزاته وشرائعه حتى يمكنه عند ذلك متابعته. أما لو قدرنا" قد يشعر بعدم وجوده والمصرح به في الفروع والأصول، خلافه "حصول قوم في طرف من أطراف الأرض لم يبلغهم خبره، وخبر معجزاته وشرائعه حتى لا يمكنهم عند ذلك متابعته، فلا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته" ويكونون من الناجين في الآخرة لعذرهم بعدم بلوغ الدعوة، ولكن لا يصلي عليهم؛ لأنه إنما يصلى على المحقق إسلامه، ولا يجوز لعنهم؛ لأنهم لعدم تكذيبهم في معنى المسلم، كما قال الغزالي: أنه التحقيق لا مسلم، كما عبر به بعض، أو على الفطرة، كما عبر به آخر، واختار السبكي التعبير بناج. "وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "والذي نفسي بيده" أقسم تقوية للحكم، "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة" التي وجد فيهم إلى قيام الساعة، "ولا يهودي، ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه مسلم. ومفهومه: أنه من لم يسمع به ولم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، على ما تقرر في الأصول أنه لا حكم قبل الشرع على الصحيح، وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ   نصراني" عطف خاص على عام، لإفادة عموم بعثته، "ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" الخالدين فيها، "رواه مسلم" وأحمد. "ومفهومه أن من لم يسمع به، ولم تبلغه دعوة الإسلام، فهو معذور" فيكون ناجيًا "على ما تقرر في الأصول أنه لا حكم قبل الشرع على الصحيح"، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ؛ ولأن الغافل لا يكلف، لقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} ، ثم اختلف هل نجاة من لم تبلغه الدعوة ودخوله الجنة غير متوقفة على الامتحان، أو متوقفة عليه، لورود أحاديث كثيرة؛ بأنهم يمتحنون يوم القيامة ببعث رسول إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسامًا، ومن لم يدخلها سحب إليها. "وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم" لجعله من لم يؤمن برسالته من أهل النار، وإنما يكون كذلك بموته كافرًا، وكفره يستدعي نسخ الشريعة التي هو متمسك بها، والله أعلم. "وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} اليهود والنصارى {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ} الدين، وحذف لظهوره أو ما كتمتم من الكتاب، كآية الرجم، وصفته صلى الله عليه وسلم، وحذف لتقدم ذكره، ويجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان، والجملة في موضع الحال، أي: جاءكم رسولنا مبينًا {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل} ، متعلق بجاء، أي: على حين فتور من الإرسال وانقطاع من الوحي، فتعلق على فترة بجاءكم تعلق الظرفية، كقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} كراهة أن تقولوا ذلك، وتعتذروا به، فهو في موقع المفعول له، {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف، أي: لا تعتذروا بما جاءنا بأن تقولوا ذلك، قاله الكشاف. قال التفتازاني: أي: بمحذوف تفصح عنه الفاء، وتفيد بيان سببه، كالتي تذكر بعد الأوامر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19] . خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول. بل هو المعقب لجميعهم، ولهذا قال تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي من بعد مدة متطاولة، ما بين إرساله وعيسى ابن مريم. وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، فقال النهدي وقتادة في رواية عنه:   والنواهي بيانًا لسبب الطلب، لكن كمال حسنها وفصاحتها أن تكون مبنية على التقدير، منبئة عن المحذوف، بخلاف قولك: أعبد ربك، فالعبادة حق له، ولكون مبنى الفاء الفصيحة على الحذف اللازم، بحيث لو ذكر لم يكن بتلك الفصاحة، تختلف العبارة في تقدير المحذوف، فتارة أمرًا أو نهيًا، كما في هذه الآية، وتارة شرطًا، كقوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث} [الروم: 56] ، وتارة معطوفًا عليه، كقوله: فانفجرت {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [المائدة: 19] فيقدر على الإرسال تترًا، كما فعل بين موسى وعيسى إذا كان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وعلى الإرسال على الفترة، كما فعل بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، "خاطب الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدًا خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول" بيان لخاتم النبيين، "بل هو المعقب لجميعهم"، أي: الجائي بعدهم، "ولهذا قال تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُل} ، أي: من بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم" والفترة لغة من فتر الشيء إذا سكنت حدته، سميت المدة التي بين الأنبياء فترة، الفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. "وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، فقال النهدي" "بفتح النون وإسكان الهاء" أبو عثمان عبد الرحمن بن مل "بلام ثقيلة، والميم مثلثة"، مشهور بكنيته، من كبار التابعين، مخضرم، ثقة، عابد، روى له الجميع، مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر، "وقتادة" بن دعامة الأكمة التابعي، المشهور "في رواية عنه ستمائة سنةن ورواه البخاري" من حديث أبي عثمان النهدي "عن سلمان الفارسي" قال: فترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة. قال الحافظ: أي: المدة التي لم يبعث فيها رسول من الله، ولا يمتنع أن ينبأ فيها نبي يدعو إلى شريعة الرسول الأخير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وعن قتادة: أنها خمسمائة وستون سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة ويضع وثلاثون سنة، وعن الشعبي -فيما ذكره ابن عساكر- تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة، قال: وكانت هي الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمد آخر النبيين من بني آدم على الإطلاق، كما في البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أنا أولى الناس   "وعن قتادة: أنها خمسمائة وستون سنة" أخرجه عبد الرزاق بن معمر عنه، لكن لم يقل: وستون سنة، كما في الفتح، قال: وعن الكلبي: خمسمائة وأربعون، "وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة. وعن الشعبي" عامر بن شراحيل، "فيما ذكره ابن عساكر"، عنه: "تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة". "قال الحافظ عماد الدين بن كثير: والمشهور أنها ستمائة سنة" خلافًا لنقل ابن الجوزي الإتفاق على ذلك، فإنه تعقب بوجود الخلاف، "قال: وكانت هي الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد آخر النبيين من بني آدم"، بيان للواقع، "على الإطلاق، كما في البخاري" في أحاديث الأنبياء، وكذا مسلم، كلاهما "من حديث أبي هريرة، مرفوعًا" بلفظ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم". وفي رواية للبخاري: "بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة"، ولفظ مسلم: "في الأولى، والآخرة"، قال الحافظ: أي: أخصهم به، وأقربهم إليه؛ لأنه بشر بأنه يأي من بعده، فالأولوية من جهعة قرب العهد، كما أنه أولى الناس إبراهيم من جهة قوة الاقتداء، زاد السيوطي: ولأنه أبوه ودعا به، وأشبه الناس به خلقًا وملة. انتهى. وقول الكرماني: التوفيق بين الحديث، وبين قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [الأعراف: 68] ، إن هذا الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم متبوعًا، والآية واردة في كونه تابعًا، رده الحافظ؛ بأن مساق الحديث كمساق الآية، فلا دليل على هذه التفرقة، والحق أن لا منافاة ليحتاج إلى الجمع، فهو أولى بكل منهما من جهة، وأسقط المصنف من هذه الرواية عند البخاري ومسلم، والأنبياء، أولاد علات؛ "لأنه ليس بيني وبينه نبي" لم تقع لفظه؛ لأنه في الصحيحين، ولذا قال السيوطي: ليس.. إلخ، بيان لجهة الأولوية. وقال الحافظ: قوله: ليس بيني وبينه نبي، هذا أورده كالشاهد لقوله: إنه أقرب الناس إليه، وتبعه المصنف. وفي رواية لهما: والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، والعلات: "بفتح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 بابن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي" وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له: خالد بن سنان، كما حكاه القاضي وغيره. والمقصود: أن الله بعث محمدًا على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم والنفع به أعم. وفي حديث عند الإمام أحمد مرفوعًا: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" وفي لفظ مسلم: "من أهل الكتاب" فكان   المهملة" الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة، ثم أخرى، كأنه عل منها بعدما كان ناهلًا من الأخرى، والعلل الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات الأخوة من الأب وأمهاتهم شتى، فقوله: أمهاتهم إلخ، من باب التفسير كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19] ، ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلف فروع الشرائع، وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة. "وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي، يقال له: خالد بن سنان" العبسي، "كما حكاه القاضي" عياض، وفي نسخة: القضاعي "وغيره". ومن فتح الباري: استدل به على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية، المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى، وإن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين وكانا بعد عيسى، والجواب أن هذا احديث يضعف ما ورد من ذلك، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال، أو المراد أنه لم يبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة، وإنما بعث بعده بتقرير شريعة عيسى. "والمقصود أن الله بعث محمدًا على فترة من الرسل، وطموس" مصدر طمس، محى ودرس "من السبل" أي: ذهاب الشرائع وعدم العلم بشيء منها، "وتغير الأديان" بتحريف ما يدل عليها وتبديله، "وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان" جمع صليب للنصارى، "فكانت النعمة به أتم، والنفع به أعم". "وفي حديث عند الإمام أحمد، مرفوعًا: "إن الله نظر إلى أهل الأرض" نظر غضب، "فمقتهم" أبغضهم أشد البغض، لقبح ما ارتكبوه، والمراد من هذا ونحوه غايته "عجمهم" "بفتحتين"، وفي لغة بضم فسكون، خلاف العرب، "وعربهم إلا بقايا من بني إسرائيل" فلم يمقتهم لتمسكهم بالحق. "وفي لفظ مسلم: من أهل الكتاب" بدل قوله: من بني إسرائيل، ومعناهما واحدًا، "فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم فهدى به الخلائق، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء، والشريعة الغراء، صلوات الله وسلامه عليه. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] .   صلى الله عليه وسلم، فهدى به الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات" الكفر "إلى النور" الإيمان "وتركهم على المحجة" "بفتح الميم" "البيضاء"، أي: الطريقة الواضحة بنيانه لهم الحق من الباطل، "والشريعة الغراء، صلوات الله وسلامه عليه". قال الإمام الرازي: كان العالم مملوء من الكفر والضلال، أما اليهود، فكانوا في المذاهب الباطلة من التشبيه والإفتراء على الأنبياء وتحريف التوراة، وأما النصارى، فقالوا بالتثليث، والابن والأب والحلول والاتحاد، وأما المجوس، فأثبتوا الهين، وأما العرب، فانهمكوا في عبادة الأصنام والفساد في الأرض، فلما بعث صلى الله عليه وسلم انقلت الدنيا من الباطل إلى الحق، ومن الظلمة إلى النور، وانطلقت الألسنة بتوحيد الله، فاستنارت العقول بمعرفة الله، ورجع الخلق من حب الدنيا إلى حب المولى. انتهى. "وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} "بضم الفاء"، في قراءة الجمهور، أي: منكم، وقرئ شاذًا "بفتح الفاء" أي: من خياركم وأشرفكم. وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} "بفتح الفاء"، وقال: "أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا وحسبًا، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح"، {عَزِيزٌ} شديد {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن تهتدوا {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} شديد الرحيم {رَحِيمٌ} يريد لهم الخير والرأفة مع الرحمة حيث وقعت مقدمة لا للفاصلة، كما قال البيضاوي ومن تبعه لوقوعه كذلك في غير الفواصل. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] ، بل؛ لأن أصل معنى الرأفة التلطف والشفقة، كما صرح به القرطبي في شرح الأسماء، فقال: قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} الآية، حيث ذكر الوصفان، قدم الرؤوق على الرحيم في الذكر، وسببه أن الرحمة في الشاهد إنما تحصل بمعنى المرحوم من فاقته وضعفه وحاجته، والرأفة تطلق عندنا على ما يحصل الرحمة من شفقة على المرحوم". وقال المشايخ: الرؤوق المتعطف، والذي جاد بلطفه ومن يعطفه. انتهى، "أي: عزيز عليه عنتكم، أي: إثمكم بالشرك والمعاصي" بيان للمراد بالعنت، وإلا فهو لغة المشقة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 أي: عزيز عليه عنتكم، اي إثمكم بالشرك والمعاصي. قال الحسن: عزيز عليه أن تدخلوا النار، حريص عليكم أن تدخلوا الجنة، ومن حرصه صلى الله عليه وسلم علينا أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، وفهمنا إياه على قدر منزلته، بل على قدر منزلتنا، وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله: لم يمتحنا بما تعيا العقول به ... حرصًا علينا فلم نرتب ولم نهم أي لم نتحير ولم نشك فيما ألقاه إلينا. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم. ومن حرصه عليه السلام على هدايتنا أنه كان كثيرًا ما يضرب المثل بالمحسوس ليحصل الفهم، وهذه سنة القرآن، ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من   والخطأ، "قال الحسن" البصري: "عزيز عليه أن تدخلوا النار" من عزا إذا صعب وشق، قال الشاعر: يعز علينا أن نفارق من نهوى "حريص عليكم أن تدخلوا الجنة" والحرص فرط الشدة، أو الشح على الشيء، أن يضيع، والمراد هنا شدة الطلب لما يريده ويحبه، "ومن حرصه صلى الله عليه وسلم علينا" على الرفق بنا "أنه لم يخاطبنا بما يريد إبلاغه إلينا، و" يريد "فهمنا إياه على قدر منزلته" بأن يأتي بالألفاظ المتناهية في البلاغة والقرابة خشية عدم فهمنا للمراد منهما، "بل على قدر منزلتنا" بالألفاظ المتداولة بين الناس، وإن نزلت في الرتبة عن غيرها ليسهل فهمها علينا، ويتضح المراد منها. "وإلى هذا أشار صاحب البردة بقوله: لم يمتحنا" لم يبتلنا "بما" أي: بخطاب، "تعيا العقول" أي: تقصر عن فهمه لغموضه، فلا نهتدي إلى المراد "به، حرصًا علينا" أن لا نضل، "فلم نرتب ولم نهم، أي: لم نتحير" تفسير لنرتب، "ولم نشك فيما ألقاه إلينا" بل تحققناه لسهولته، "وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} أي: للرحمة، {لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، والإنس والجن وغيرهم "ولا رحمة مع التكليف بما لا يفهم" بل هو عقاب. "ومن حرصه عليه السلام على هدايتنا أنه كان كثيرًا ما يضرب المثل بالمحسوس، ليحصل الفهم" كقوله: $"لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير من أن يكون لك حمر النعم". "وهذه سنة القرآن" عادته المستمرة أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما، "ومن تتبع الكتاب والسنة رأى من ذلك العجب العجاب" البالغ فيما يتعجب منه، لاشتماله على الأشياء البالغة في زيادة البيان والإيضاح والرفق بالمؤمنين، "ولما ساوى سبحانه وتعالى بين الناس" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 ذلك العجب العجاب، ولما ساوى الله سبحانه وتعالى بين الناس في حرص رسوله عليه السلام على إسلامهم، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم. وقال: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولم يقل: من أزواجكم، فقيل: يحتمل أن يكون مراده: أنه منا بجسده المنفس، لا بروحه المقدس، ويرحم الله القائل: إذا رمت مدح المصطفى شغفًا به ... تبلد ذهني هيبة لمقامه فأقطع ليلي ساهر الجفن مطرقًا ... هوى فيه أحلى من لذيذ منامه إذا قال فيه الله جل جلاله ... رؤف رحيم في سياق كلامه فمن ذا يجاري الوحي والوحي معجز ... بمختلفيه نثره ونظامه   مؤمنهم، وكافرهم، "في حرص رسوله عليه السلام على إسلامه، خص المؤمنين برأفته ورحمته لهم" المستفادة من التقديم، كأنه قيل: بالمؤمنين لا بغيرهم. "وقال: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولم يقل: من أرواحكم، فقيل: يحتمل أن يكون مراده" على مغايرة النفس للروح، "أنه منا بجسده المنفس" "بالتشديد" للمبالغة، أي: المكرم، ولرعاية "لا بروحه المقدس" المطهر، وإن كان أصل المنفس "بالتخفيف"، "ويرحم الله القائل: إذا رمت": قصدت "مدح المصطفى شغفًا": ولوعًا طبه" ومحبة له "تبلد" من البلادة: عدم الذكاء والفطنة، أي: انكسرت حدة "ذهني" ويرد عن الأوصاف اللائقة بمقامه. وفي نسخة: تبدد، أي: تفرق، "هيبة لمقامه"؛ لأني أرى الأوصاف قاصرة عنه، فيعلوني الخجل عند إرادة مدحه، "فأقطع ليلى ساهر الجفن" أي: جنسه "مطرقًا" "بكسر الراء وفتحها" "هوى" القصر، أي: ميلًا، "فيه أحلى من لذيذ منامه"، إذ السهر في هوى المحبوب ألذ، "إذا قال فيه الله جل جلاله: رؤوف رحيم" وهما من أسمائه "في سياق كلامه" ومعنى إذا الظرفية المجردة لا الشرط؛ لأن القول تحقق من الله، فلا يليق جعله مستقبلًا، ويجوز أن إذا منون، أي: لأجل هذا، فمن ذا يجاري" يأتي بما يشابه "الوحي" بثنائه على المصطفى نثرًا، أو نظمًا، "والوحي معجز بمختلفيه" "بالفاء متعلق بيجاري" "نثره ونظامه" أي: نظمه، والمعنى أن الوحي معجز للكلام نثرًا كان، أو نظمًا، فلا يمكن مشابهته لأحد. "تنبيه": إيقاظ وتبيين، "وأما قول القاضي عياض بعد ذكره الآية" {لَقَدْ جَاءَكُمْ} في الشفاء، بما لفظه، أعلم الله تعالى المؤمنين، أو العرب، أو أهل مكة، أو جميع الناس على اختلاف المفسرين من المواجه بهذا الخطاب؛ أنه بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، يعرفونه ويتحققون مكانته، ويعلمون صدقه وأمانته، ولا يتهمونه بالكذب، وترك النصيحة لهم لكونه منهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 تنبيه: وأما قول القاضي عياض بعد ذكره الآية. "ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة، وأثنى عليه بمحامد كثيرة، من حرصه على هدايتهم، ورشدهم وإسلامهم، وشدة ما يعنتهم ويضربهم في دنياهم وأخراهم،   وأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة، أو قرابة، وكونه من أنفسهم وأرفعهم وأفضلهم على قراءة الفتح، "ثم وصفه بعد"، أي: بعد الإعلام المذكور، "بأوصاف حميدة"، أي: محمودة عند الله والناس، أو حامدة على التجوز في النسبة، "وأثنى عليه بمحامد" جمع محمدة "كثيرة" والنثاء بها، لا يغاير الوصف بصفات حميدة، ولا يعاب مثله في مقام الخطابة، مع أنه لما كانت أوصاف جمع قلة، عقبه بجمع الكثرة دفعًا للإيهام، والأول مطابق لظاهر الآية، والثاني لما تضمنته مما لا يحصى، "من حرصه" بيان لما قبله من الأوصاف وما بعده، أي: من فرط شدته "على هدايتهم" أي: دلالتهم، والمراد طلب تأثيرها لا مجردها، "ورشدهم" أي: صلاحهم ظاهرا وباطنًا ليغاير الهداية، كما يقتضيه ظاهر العطف، فلا يفسر بضد الغي؛ لأنه الهداية، "وإسلامهم" مغاير لما قبله، فلذا عطف بالواو، وجعل ذلك كله متعلق الحرص، لدلالة السياق عليه ولقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُم} [النحل: 37] ، فالقرآن يفسر بعضه بعضًا، والحرص لا يتعلق بالذوات، فإن قيل: لم قدم عياض هذه الصفة، وهي حريص عليكم مع تأخرها في الآية، أجيب: بأنه لما كانت العزة منشأ لحرصه قدمت في الآية على وفق الواقع لبيان حاله في ابتداء أمره، فلما حكاه عياض بيانًا لمحامده، قدم المقصود بالذات الذي هو الحمد، أو؛ لأن المقام مقام مدح، وهو في الحرص أتم وأكمل، وسياق الآية للامتنان، وهو كونه يعز عليه حالهم، فأشار إلى تفاوت المقامين، ولا يرد أن المنة في الحرص أتم؛ لأن مسلك الآية على الترقي، وما هنا بخلافه للتفنن. "وشدة ما يعنتهم" روي بسكون العين وخفة النون من الإعنات، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} ، وروي بفتح العين وتثقيل النون، وهما لغتان، أعنت وعنت، بمعنى المشقة والوقوع فيها، ويجيء بمعنى الإثم والفساد والهلاك. "ويضربهم" "بفتح الياء وضم الضاد" وروي بضم الياء وكسر الضاد، مضارع أضر؛ لأنه يقال: ضره وأضر به، ومعناهما أوقعه في الضرر، "في دنياهم وأخراهم" الدنيا تقال في مقابل آخره، وأخرى، كما عبر به، "وعزته عليه" عطف تفسير على شدة، كقوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} [يوسف: 86] ، وكان المناسب لعطف التفسير تأخير الأشهر الأظهر، فيقول: عزته وشدته، لكنه عكس للمبادرة، للمراد حتى يسلم السامع من عنت الانتظار، ولا حاجة لجعل الشدة غير العزة للتنازع في عليه، فإن التفسير لا ينافي التنازع، وبقية كلام عياض: ورأفته ورحمته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 وعزته عليه". فهو وإن كان المقصد منه صحيحًا، ففي ظاهره شيء؛ لأنه يوهم أن قوله: "وشدة ما يعنتهم" معطوف على متعلق المصدر الذي هو "الحرص" فيكون مخفوضًا به. ومما يقوي هذا التوهم قوة إعطاء الكلام، أن الضمير الأول من قوله: "وعزته عليه" عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير الثاني عائد على الله تعالى، فلا تبقى "الشدة" إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر. ولا يخفى ما في هذا. وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف أي: وكراهة شدة ما يعنتهم، ونحو ذلك من المضافات. والأولى أو الصواب، إن شاء الله تعالى أن تكون "الشدة" معطوفة على   بمؤمنيهم. "فهو وإن كان المقصد منه صحيحًا، ففي ظاهره شيء؛ لأنه يوهم أن قوله: وشدة ما يعنتهم، معطوف على متعلق المصدر الذي هو الحرص" بيان للمصدر، ومتعلقه قوله على هدايتهم، "فيكون مخفوضًا به" فيصير المعنى من حرصه على شدة ما يعنتهم، وهذا فاسد. "ومما يقوي هذا التوهم قوة إعطاء الكلام؛ أن الضمير الأول من قوله: وعزته عليه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير الثاني عائد على الله تعالى، فلا تبقى الشدة إلا أن تكون معطوفة على متعلق المصدر"، أي: قوله على هدايتهم، "ولا يخفى ما في هذا" من الفساد الموهم خلاف المراد، "وقد تأوله بعض العلماء على حذف مضاف" مجرور، معطوف على الحرص المجرور بمن، "أي: وكراهة شدة ما يعنتهم، ونحو ذلك من المضافات" المصححة للمراد. قال في النسيم: لا حاجة إلى تقدير؛ لأن معنى شدته عليه إنه صعب شاق عليه، فيراد به أنه مكروه تأباه نفسه، فالمعنى من حرصه على هدايته، ومن كراهته لما يضرهم، وصاحب المواهب لم يخف عليه العطف، ولكن أوقعه التقدير فيما وقع فيه. انتهى. وكأنه لم ير بقية الكلام وهو قوله: "والأولى" من تأويله على حذف مضاف، "أو الصواب" على إبقائه على ظاهره, "إن شاء الله تعالى أن تكون الشدة معطوفة على نفس المصدر الذي هو الحرص"، وكان هذا أولى من تقدير المضاف لما فيه من الاحتياج لتقدير الأصل عدمه، "ويكون قوله: عزته معطوفًا على وشدة، والضمير فيه راجع إلى الموصول، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 نفس المصدر الذي هو "الحرص" ويكون قوله: "وعزته" معطوفًا على "وشدة" والضمير فيه راجع إلى الموصول وهو "ما" في قوله: "ما يعنتهم" والهاء الثانية في "عليه" عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . يجوز أن يكون "رحمة" مفعولًا له، أي لأجل الرحمة، ويجوز أن ينصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أي: ذا رحمة، أو بمعنى: راحم. قال السمين. قال أبو بكر بن طاهر -فيما حكاه القاضي عياض-: زين الله تعالى   وهو ما في قوله: ما يعنتهم" أي: الذي، "والهاء الثانية في عليه عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى". والمعنى وصفه وأثنى عليه بمحامد من شدة الذي يعنتهم وعزة الذي يعنتهم على المصطفى. "وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} ، يجوز أن يكون" قوله: "رحمة مفعولًا له أي: لأجل الرحمة"، وللعالمين متعلق به، أي: إلا لترحم بك العالمين، بهدايتك إياهم لسعادة الدارين. وفي الصحيح قيل: يا رسول الله ادع على المشركين؟، فقال: "وإني لم أبعث لعانًا إنما بعثت رحمة"، "ويجوز أن ينصب على الحال" من الكاف "مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف، أي: ذا رحمة" وليس للعالمين متعلقًا بأرسلنا؛ لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا في الاستثناء المفرغ نحو: ما مررت إلا بزيد، والمعنى إلا لأرحم العالمين بالبناء للفاعل، لا للمفعول كما زعم، "أو بمعنى راحم" اسم فاعل، "قاله السمين" الشيخ شهاب الدين أحمد بن يوسف بن عبد الدائم الحلبي، النحوي، نزيل القاهرة، مات سنة ست وخمسين وسبعمائة، له إعراب القرآن، وأيضًا تفسير كبير في عدة أجزاء. "قال أبو بكر بن طاهر" بن مفوز بن أحمد بن مفوز المعافري، الشاطبي، كما جزم به البرهان الحلبي في المقتفى والشمني وغيرهما، "فيما حكاه القاضي عيا" في الشفاء، "زين الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة"، استعارة مكنية، بجعلها كالحلة والخلعة البهية والزينة: ما يتزين به لباسًا وغيره، وإضافته للرحمة بيانية، أو من إضافة الأعم للأخص، كلجين الماء، وقيل: الزينة هنا اللباس، أي: ألبسه الله رحمة رحمانية شاملة له، وفيه إشارة إلى أنها منة من الله بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 محمدًا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب، انتهى. وقال ابن عباس: رحمة للبر والفاجر؛ لأن كل نبي إذا كذب أهلك الله من كذبه. ومحمد صلى الله عليه وسلم أخر من كذبه إلى الموت أو إلى القيامة. وأما من صدقه فله الرحمة في الدنيا والآخرة.   عليه، غير الحلية البشرية، "فكان كونه" أي: وجوده، فهي تامة لا خبر لها، وتقدير من ربنا قبيح، "رحمة" خبر فكان، والفاء فيه للتفسير والتفصيل، "وجمع شمائله" جمع شمال "بالكسر". قال الأزهري: الشمال خلقه الرجل، أي: خلقه، وجمعه شمائل، ورجل كريم الشمائل، أي: في أخلاقه ومخالطته. انتهى، فعطف، "وصفاته رحمة" عام على خاص؛ إذا لم يخصص الصفات بالظاهرة، والشمائل بخلافها. وقال شراح الشفاء: صفاته تشتمل غضبه وظاهر مرآه؛ لأنه لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لله، وغضبه للإصلاح، وهو رحمة في ذاته، وأما مرآة الحسن، فإنه لمحبته والتصديق به، ألا ترى أن عبد الله بن سلام لما رآه آمن به، وقال: لما رأيت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، "فمن أصابه شيء من رحمته" أي: اهتدى بهدايته؛ لأن من يهتد، كمن لم تصبه الرحمة، كما أن من شرب الماء ولم يرو، كأنه لم يشرب، "فهو الناجي" أي: السالم، "في الدارين" الدنيا والآخرة "من كل مكروه" يصيب من لم يهتد في الدنيا، كقتل وسبي وأخذ جزية، وفي الآخرة العذاب المخلد، وأما أسقام الدنيا وآلامها التي تصيب المؤمن فلا تعد مكروهة بعد العلم بما فيها من تكفير السيئات ونيل الحسنات، "والواصل فيهما إلى كل محبوب"، أما في الآخرة، فغني عن البيان, وأما في الدنيا، فإن كان ذا غنى ونعمة فظاهر، وإلا فالمؤمن العقال إذا صبر وقام بوظائف العبودية في دنيا سريعة الزوال كان ما أصابه من المكروه لإيصاله للنعم الأخروية محبوبًا عنده. "انتهى" كلام ابن طاهر. "وقال ابن عباس: رحمة للبر" أي: المؤمن "والفاجر" أي: الكافر؛ "لأن كل نبي" من سبق "إذا كذب" "بشد الذال" مبني للمجهول، "أهلك الله من كذبه، ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر من كذبه إلى الموت، أو إلى القيامة" فتأخير عذاب الدنيا عنهم بنحو الاستئصال والخسف والمسخ والعذاب النازل من السماء رحمة، فلا يرد عليه من قتل من الكفار في غزوات المصطفى، "وأما من صدقه"، أي: آمن به، "فله الرحمة في الدنيا والآخرة" وإن عذاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 وقال السمرقندي: رحمة للعالمين يعني: الجن والإنس. وقيل: لجميع الخلق للمؤمنين رحمة بالهداية، ورحمة للمنافقين بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب لما بعد الموت.   العاصي فمآله إلى الجنة مع خفة عذابه عن الكفار بمراحل، بلا لا مشابهة. وعن ابن عباس أيضًا عند الطبري وغيره: وهو رحمة للمؤمنين والكافرين، إذا عرفوا مما أصاب غيرهم من الأمم الكاذبة. "وقال" أبو الليث "السمرقندي" نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الفقيه، الحنفي، الإمام المشهور، له التصانيف، كالتفسير، والنوازل، وخزانة الفتاوى، وتنبيه الغافلين، والبستان توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، منسوب إلى سمرقند، مدينة بفارس بما وراء النهر. قال التلمساني المصحح في النسخ، بفتح السين والراء وسكون الميم، والمعروف فتح الميم وسكون الراء، وتبع قول المجد إسكان الميم وفتح الراء، لحن، وفيه نظر، وهو معرب شمركند، وشمر اسم رجل، وكندة بمعنى قرية "رحمة للعالمين، يعني الجن والإنس" تفسير للآية بجنس العقلاء من الثقلين، بقرينة جمع المذكر السالم، وإن كان جمع عالم، وهو كل ما يعلم به الصانع من العقلاء وغيرهم، فالمفرد أعم من جمعه، فخص ثم جمع بجعله صفة أو ملحقًا بها؛ لأن فاعل بالفتح اسم آلة، كالخاتم والقالب، وقيل: غلب العقلاء، أو جعل اسمًا لذي العلم من الثقلين، أو هما والملك، أو الإنس. "وقيل: لجميع الخلق" مقابل لما اختاره. قال الشريف الجرجاني: يطلق على كل جنس لا فرد، فهو للقدر المشترك بين الأجناس، فيصح إطلاقه على كل جنس وعلى مجموعها، وإذا عرف بلام الاستغراق شمل كل فرد من جنس، كالأقاويل، فمن فسره بجميع الخلق، فعلى الأصل، ومن فسره بالإنس والجن فعلى بعض الوجوه، أو خصه؛ لأنه صلى الله عليه سولم مبعوث إليهما، ومن فسره بالمؤمن والكافر أراد أنه يشملهما، لا أن معناه ذلك. انتهى. وآخذ في بيان ما به تكون الرحمة على مختاره، فقال "للمؤمنين" بل من للعالمين، أو متعلق بمقدر، أي: أرسله، وعلى الأولن وهو الظاهر هو بيان لمختاره، وعلى الثاني يصلح لهما، وفي نسخة للمؤمن بالإفراد، "رحمة بالهداية" الزائدة على هداية الإيمان، أو لمن قدر إيمانه "ورحمة للمنافقين". وفي نسخة: للمنافق بالإفراد على إرادة الجنس، "بالأمان من القتل" مطلقًا بخلاف الكفار، فإنما يأمن بجزية، أو أمان، "ورحمة للكافرين". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 فذاته عليه السلام رحمة تعم المؤمن والكافر كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ، وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة مهداة" رواه الديلمي والبيهقي في "الشعب" من حديث أبي هريرة. وقال بعض العارفين: الأنبياء كلهم خلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة، ولقد أحسن القائل: غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الروح فائدة الدهر هو النعمة العظمى هو الرحمة التي ... تجلى بها الرحمن في السر والجهر فبيانه عليه السلام ونصحه رحمة، ودعاؤه واستغفاره رحمة، فرزق ذلك من   وفي نسخة بالإفراد، "بتأخير العذاب لما بعد الموت" وأما عذاب الدنيا بالقحط وغيره، فلا يختص بطائفة، أو المراد الاستئصال والمسخ والخسف والزنديق، سواء أدخل في المنافق، أو الكافر عذابه مؤخر أيضًا، فالظاهر اشتراكهما فيه، وتمييز المنافق بإجراء أحكام الإسلام عليه ظاهرًا، أو يقال: أراد في كل قسم ذكر رحمة مخصوصة من غير تخصيص، "فائدته عليه السلام رحمة تعم المؤمن والكافر، كما قال تعالى: {وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ؛ لأن العذاب إذا نزل عم، ولم تعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها. "وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا رحمة مهداة" "بضم الميم" معطاة من الله بلا عوض، "رواه الديلمي والبيهقي في الشعب" للإيمان "من حديث أبي هريرة" ورواه الحاكم، وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي، ومر شرحه في الأسماء الشريفة. "وقال بعض العارفين: الأنبياء كلهم خلقوا من الرحمة، ونبينا صلى الله عليه وسلم عين الرحمة" أعلاها وأجلها. "ولقد أحسن القائل" غنيمة عمر الكون بهجة عيشه ... سرور حياة الروح فائدة الدهر هو النعمة العظمى هو الرحمة التي ... تجلى بها الرحمن في السر والجهر ومعنى البيتين ظاهر، "فبيانه" أي: ظهوره أو تبيينه "عليه السلام ونصحه رحمة" أي: كل واحد منهما، "ودعاؤه واستغفاره" كل منهما "رحمة" سواء في حياته وبعد مماته، كما قال صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم ومماتي خير لكم، أما حياتي فأبين لكم السن وأشرع لكم الشرائع، وأما موتي، فإن أعمالكم تعرض علي، فما رأيت منها حسنًا حمدت الله، وما رأيت منها سيئًا استغفرت الله لكم" رواه البزار وغيره بسند جيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 قبله، وحرمه من رده. فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف واستباحة الأموال؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند، ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله تعالى: الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ثم قد يكون سببًا للفساد. وثانيهما: أن كل نبي من الأنبياء قبل نبينا إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وقد أخر الله عذاب من كذب نبينا إلى   "فرزق ذلك من قبله"، بأن آمن به، وإن عاصيًا، "وحرمه من رده"، فلم يؤمن به نسأل الله الثبات على الإيمان، "فإن قلت: كيف كان رحمة، وقد جاء بالسيف"؟ قال تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّار} [التوبة: 73] ، أي: بالسيف، "واستباحة الأموال" بالغنائم التي لم تحل لأحد قبله، ومنها استرقاق الذراري والنسائي، "فالجواب من وجهين". "أحدهما: أنه إنما جاء بالسيف لمن استكبر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر" فعذابه إنما جاء من نفسه، كعين جرت فانتفع بها قوم وكسل آخرون، فهي رحمة لهما، وهو صلى الله عليه وسلم لم يرد ضررًا لأحد، وقد اجتهد في نفع كل أحد، وإيصال تلك الرحمة إليه، ولكن من يضلل الله فما له من هاد. "ومن أوصاف الله تعالى الرحمن الرحيم، ثم هو منتقم من العصاة"، ولا تنافي بين الوصفين، فكذا لا تنافي بين بعثه بالسيف وكونه رحمة، "وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاء} مطرًا {مُبَارَكًا} [ق: 9] ، كثير البركة والمنافع، "ثم قد يكون سببًا للفساد" بإهلاك الزرع وغيره، والقصد أنه لا مانع من وصف الشيء بالشيء، وضده لاختلاف من يقع عليه الأمران. "وثانيهما: أن كل نبي من الأنبياء قبل نبينا، إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف"، كقارون، "والمسخ" قردة، كأصحاب أيلة بدعاء داود، وخنازير، كأصحاب المائدة بدعاء عيسى، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 71] ، "والغرق" كقوم نوح وفرعون وقومه، وبالريح العاصف فيها حصباء، كقوم لوط، وبالصيحة، كثمود، وقال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] "وقد أخر الله عذاب من كذب نبينا إلى الموت، إو إلى يوم القيامة" فتأخيره رحمة؛ لأنه لم يجمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 الموت، أو إلى يوم القيامة. لا يقال: إنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} [التوبة: 14] وقال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِين} [الأحزاب: 73] ؛ لأنا نقول: تخصيص العام لا يقدح فيه. وفي "الشفاء" للقاضي عياض: وحكى أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت، لثناء الله تعالى علي بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} " [التكوير: 40] . انتهى. وذكر السمرقندي في تفسيره بلفظ: وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "يقول   عليهم عذابين، كالأمم السابقة، "لا يقال: إنه تعالى قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ} بقتلهم {بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} أي: يذلهم بالأسر والقهر، "وقال عالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73] ؛ "لأنا نقول: تخصيص العام" وهو العالمين من رحمة للعالمين ببعض إفراده، وهو المنافق والمشرك، "لا يقدح فيه"؛ لأنه يكفي في عمومه صدقه على غير ما خصص به. "وفي الشفاء للقاضي عياضك وحكي" بالبناء للمجهول كما قال البرهان؛ "أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء"؟ فيه إشارة إلى أنه مرحوم مقرب، وإنما السؤال عن رحمة نالته من رحمة المصطفى، كما أفاده اسم الإشارة، قال: نعم، كنت أخشى العاقبة" أي: سوءها، أو المراد بالعاقبة السيئة بجعل التعريف للعهد بقرينة الخشية، فإنها بمعنى الخوف، وإنما يكون في المكروه، والعاقبة ما يعقب الشيء ويحصل منه خيرًا كان أو شرًا، "فأمنت" "بفتح الهمزة المقصورة، وكسر الميم الخفيفة، مبني للفاعل من الأمن ضد الخوف"، وضبطه "بضم الهمزة مبني للمفعول"، خلاف المشهور، ثم إن كان بشد الميم، فظاهر، وإن كان بتخفيفها، فركيك جدًا؛ لأنه إن كان من ضد الخيانة، فلا يناسب المقام، أو من الأمن، فكذلك؛ لأن مفعوله الثاني من المعاني، لا الذوات، فيحتاج لتقدير وحذف، أي: أمنت سوء عاقبتي، ولا داعي له "لثناء الله تعالى علي قوله": {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، عند الله في علمه، أو في حكمه وقضائه؛ لأن ثناءه يقتضي رضاه وقبوله، وهو لا يرضى، ويقبل الأمن، كان مرحومًا مقربًا، فلما علم ذلك من القرآن الذي هو رحمة نازلة بالمصطفى اطمأن خاطره وأمن سوء الخاتمة. "انتهى". نقل عياض: قال السيوطي: ولم أجده مخرجًا في شيء من كتب الحديث. "وذكر السمرقندي في تفسيره بلفظ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: "يقول الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 "الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فهل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم، كنت أخشى عاقبة الأمر فأمنت بك، لثناء الله تعالى علي في قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} " [التكوير: 21] . وهذا يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذي عليه الجمهور، خلافًا لمن زعم أن جبريل أفضل واستدل: بأن الله وصف جبريل بسبعة أوصاف من أوصاف الكمال في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ   "تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فهل أصابك من هذه الرحمة شيء؟ قال: نعم كنت أخشى عاقبة هذا الأمر" أي: خاتمته، "فآمنت بك لثناء الله تعالى علي في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 21] ، ولا يعارض هذا ما روي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟، قال: وما لي لا أبكي، فوالله ما جفت لي عين منذ خلق الله النار، مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها"، أخرجه أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني بلاغًا. وأخرج ابو الشيخ عن عبد العزيز بن أبي داود، قال: نظر الله إلى جبريل وميكائيل، وهما يبكيان، فقال الله: ما يبكيكما وقد علمتما أني لا أجور؟، قالا: يا رب إنا لا نأمن مكرك، قال: هكذا فافعلا، فإنه لا يأمن مكري إلا كل خاسر"؛ لأنه كلما زاد القرب زاد الخوف، فالمقرب لا يزال خائفًا ممن يهابه، أو؛ لأنه من عظمة الله تعالى قد يذهل عن الأمان. "وهذا يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من جبريل، وهو الذي عليه الجمهور" بل حكى الرازي عليه الإجماع، وكذا ابن السبكي والبلقيني والزركشي، وقال: إنهم استثنوه من الخلاف في التفضيل بين النبي والملك، "خلافًا لمن زعم" وهو الزمخشري في الكشاف، "أن جبريل أفضل" وقد قال بعض علماء المغاربة: جهل الزمخشري مذهبه، فإن المعتزلة مجمعون على أنه أفضل من جبريل. نعم قيل: إن طائفة منهم خرقوا الإجماع، كالرماني، فتبعهم الكشاف جهلًا. "واستدل بأن الله وصف جبريل بسبعة أوصاف من أوصاف الكمال في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي: جامع لأنواع الخبر، ففيه شهادة له بعلو، الرتبة وليس المراد كريم عند مرسله، كما قيل به في {أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وإن أجيز هنا للاستغناء عنه بعند ذي العرش، {ذِي قُوَّة} على تبليغ ما حمله من الوحي، وعلى اقتلاع المدائن والجبال، وإهلاك صيحته كل من سمعها، وهبوطه إلى الأرض، وصعوده في طرفة عين إلى غير ذلك، {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} صفة مستقلة عنده؛ لأنه عدها سبعًا، لا متعلقة بما قبله، ولا ربما بعده، وإلا فهي ستة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، ووصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} . ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مساويًا لجبريل في صفات الفضل أو مقاربًا له لكان وصف محمدًا بمثل ذلك. وأجيب بأنا متفقون على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى ما ذكر في هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجماع، وإذا ثبت أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل آخر زائدة فيكون أفضل من جبريل. وبالجملة: فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني، وإذا ثبت بالدليل القرآني أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم، والله أعلم.   وقد عدها الرازي ستة، فعلقها بما قبلها، {مَكِينٍ} أي: متمكن المنزلة عند ربه، رفيع المحل عنده، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في السماء: {أَمِينٍ} على الوحي، "ووصف محمدًا صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما تبهته الكفرة، "ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم مساويًا لجبريل في صفات الفضل، أو مقاربًا له لكان وصف محمدًا بمثل ذلك". قال البيضاوي: وهو استدلال ضعيف، إذ المقصود منه نفي قولهم، إنما يعلمه بشر أفترى على الله كذبًا، أم به جنة، لا تعداد فضلهما، والموازنة بينهما. "وأجيب: بأنا متفقون على أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى"، القرآن طافح بها: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، {إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54] ، {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 22] إلى غير ذلك، "سوى ما ذكر في هذه الآية، وعدم ذكر الله تعالى لتلك الفضائل هنا لا يدل على عدمها بالإجماع"؛ لأنه، لم يقصد المفاضلة بينهما، "وإذا ثبت أن لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى زائدة" على هذه السبع التي تشبث بها جاهل المعتزلة، "فيكون أفضل من جبريل" وهو إجماع حتى من المعتزلة أيضًا، كما مر. "وبالجملة، فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة" بقطع الهمزة "على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني"، بل هو موصوف بها ضرورة؛ أنه لا يصح نفيها عنه، "وإذا ثبت بالدليل القرآني؛ أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، والملائكة من جملة العالمين، وجب أن يكون أفضل منهم" حتى جبريل، "والله أعلم" ولهذا ونحوه حذر جماعة من أكابر العلماء، كالسبكي من قراءة الكشاف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] . وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس، كما قدمنا ذلك في أسمائه الشريفة من المقصد الثاني. وبذلك وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم: فروى الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا، فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل   "وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} ". قال ابن عطية: أذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس منافقين وغيرهم، من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة دعية زيد بن حارثة؛ لأنهم كانوا استعظموا أن يتزوج زوجة ابنه، فنفى القرآن تلك النبوة، وأعلم أنه عليه السلام ما كان أبا أحد من المعاصرين له حقيقة، ولم يقصد بهذه الآية أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في الحسن والحسين إلى أنهما ابنا بنته، ومن احتج بذلك تأول معنى البنوة على غير ما قصد بها، " {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} وقرئ بالرفع، أي: هو، وقرأ عاصم وأبو عمرو ونافع، بالنصب عطفًا على أبا، ولكن بالتخفيف، وقرأت فرقة، لكن بالتشديد، ورسول اسمها، والخبر محذوف، {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} " "بكسر التاء" قراءة الجمهور، بمعنى أنه ختمهم، أي: جاء آخرهم، وقرأ عاصم بفتح التاء، أي: أنهم ختموا به، فهو كالخاتم والطابع لهم. "وهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بطريق الأولى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس" فليس كل نبي رسولًا، "كما قدمنا ذلك في أسمائه الشريفة من المقصد الثاني، وبذلك وردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم". "فروى الإمام أحمد" بن حنبل "من حديث أبي بن كعب" الأنصاري الخزرجي، سيد القراء، من فضلاء الصحابة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي" مبتدأ "في النبيين" متعلق به، وفي حديث جابر: "ومثل الأنبياء"، بالعطف والخبر، "كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة" "بفتح اللام وكسر الموحدة ونون"، ويجوز كسر اللام وسكون الموحدة: قطعة طين تعجن، وتعد للبناء من غير إحراق، فإن أحرقت، فهي آجرة "لم يضعها، فجعل الناس يطوفون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 "الناس يطوفون بالبنيان ويتعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي، وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث أنس بن مالك مرفوعًا: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي". رواه الترمذي وغيره. وفي حديث جابر مرفوعًا: "مثلي ومثل الأنبياء، كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها فنظر قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، وأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء عليهم السلام". رواه أبو داود الطيالسي،   "بالبنيان ويتعجبون" بفوقية بعد التحتية، "منه" أي: من حسنه وكماله، "ويقولون" وددنا "لو تم موضع هذه اللبنة" فلو للتمني، فلا جواب لها، أو جوابهما محذوف لعلمه من المذكور، أي: أتم حسنها وكمالها، "فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة" وفي رواية أحمد عن أبي هريرة: "ألا وضعت ههنا لبنة، فيتم بنيانك". "ورواه الترمذي عن بندار" "بضم الموحدة وإسكان النون ودال مهملة فألف فراء بلا نقط" لقب محمد بن بشار بن عثمان العبدي، البصري أبي بكر، ثقة روى عنه الأئمة الستة وابن خزيمة وغيرهم، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وله خمس وثمانون سنة، "عن أبي عامر" عبد الملك بن عمرو القيسي، "العقدي" "بفتح المهملة والقاف" ثقة، مات سنة أربع، أو خمس ومائتين، روى له الجميع. "وقال" الترمذي: "حديث حسن صحيح" عن أبي بن كعب. "وفي حديث أنس بن مالك، مرفوعًا: "أن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي" قيل: ومن لا نبي بعده، يكون أشفق على أمته، كوالد ليس له غير ولد، "رواه الترمذي وغيره" كالإمام أحمد، والحاكم بإسناد صحيح. "وفي حديث جابر، مرفوعًا" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلي" مبتدأ، "ومثل الأنبياء" عطف عليه، "كمثل رجل" خبر، "بنى دارًا فأكملها وأحسنها" وفي رواية همام عن أبي هريرة عند مسلم، كمثل رجل ابتنى بيوتًا فأحسنها وأجملها وأكملها، "إلا موضع لبنة" من زاوية من زوايها، "فكان من دخلها فنظر، قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة". وفي رواية الشيخين: "فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها، ويقولون: لولا موضع هذه اللبنة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 وكذا البخاري ومسلم بنحوه. وفي حديث أبي سعيد الخدري: "فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة". رواه مسلم.   وفي حديث أبي هريرة: يقولون: "هلا وضعت هذه اللبنة". وفي رواية همام: "ألا وضعت ههنا لبنة، فيتم بنيانك" قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء"، ولمسلم: "جئتم، فختمت الأنبياء، عليهم السلام". وفي حديث أبي هريرة، قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"، "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود، "الطيالسي" "بفتح الطاء والتحتانية" نسبة إلى الطيالسة المعروفة، البصري، الثقة، الحافظ، المصنف، مات سنة أربع، وقيل: ثلاث ومائتين، روى له مسلم والأربعة، "وكذا البخاري ومسلم، بنحوه" عن جابر، وأخرجاه أيضًا من حديث أبي هريرة، وسياقه، أتم، وقدمه المصنف في الخصائص. "وفي حديث أبي سعيد الخدري: "فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة"، رواه مسلم" فيه شيء؛ لأن مسلمًا لم يسق لفظه، بل أحال به على حديث أبي هريرة الذي رواه من ثلاثة طرق، فقال: حدثنا ابن أبي شيبة وأبو كريب، قالا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل النبيين"، فذكر نحوه هذا لفظ مسلم، وقد علمت ثبوتها في حديث أبي هريرة، وأورد أن المشبه به واحد، والمشبه جماعة، فكيف صح التشبيه، وأجيب بأنه جعل الأنبياء كرجل واحد؛ لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذا الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان، وبأنه من باب التبيه التمثيلي، وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه، ويشبه بمثله من أحوال المشبه به، فكأنه شبه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس بيت أسست قواعده ورفع بنيانه، وبقي منه موضع يتم به صلاح ذلك البيت، وزعم ابن العربي؛ أن اللبنة المشار إليها كانت في أس الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لا نقضت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور. قال الحافظ: وهذا إن كان منقولًا فحسن، وإلا فليس يلازم. نعم ظاهر السياق أن اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها. وفي رواية مسلم: "إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها"، فظهر أن المراد أنها مكملة محسنة، وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها ناقصًا، وليس كذلك؛ فإن شريعة كل نبي بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية مع ما مضى من الشرائع الكاملة، وفي الحديث ضرب الأمثال للتقريب للإفهام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون". فمن تشريف الله تعالى له ختم الأنبياء والمرسلين به، وإكمال الدين الحنيفي له، وقد أخبر الله في كتابه، ورسوله في السنة المتواترة عنه، أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال، ولو تحذلق وتشعبذ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات، فكلها محال وضلالة   "وفي حديث أبي هريرة عند مسلم" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، "وأرسلت إلى الخلق كافة" إرساله عامة محيطة بهم؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، "وختم بي النبيون" أي: أغلق باب الوحي والرسالة وسد لكمال الدين، وتصحيح الحجة، فلا نبي بعده، ومر الحديث في الخصائص. "فمن تشريف الله تعالى له ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيفي"، المائل عن الباطل للحق "له، وقد أخبر الله تعالى في كتابه ورسوله في السنة المتواترة عنه؛ أنه لا نبي بعده، ليعلموا"، أي: المخبرون، "أن كل من ادعى هذا المقام بعده، فهو كذاب" كثير الكذب، "أفاك" كذاب مبالغ فيه، "دجال" كذاب، قال ثعلب: الدجال: هو المموه، يقال: سيف مدجل، إذا طلي مذهب. وقال ابن دريد: كل شيء غطيته فقد دجلته، واشتقاق الدجال من هذا؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، "ضال" لم يهتد، فالألفاظ الأربعة متقاربة، وقد علم صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبر به. ففي الصحيحين، مرفوعًا: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون، كذابون، قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله"، "ولو تحذلق" "بفوقية فمهملة فمعجمة" أظهر الحذق، وادعى أكثر مما عنده، ومثله حذلق بلا تاء "وتشعبذ" "بالذال المعجمة بعد الموحدة" أتى بما يرى لإنسان منه ما لا حقيقة له، كالسحر، ويقال له أيضًا شعوذ: "بالواو" بدل الموحدة، "وأتى بأنواع السحر". قال ابن فارس: وهو إخراج الباطل في صورة الحق، ويقال: هو الخديعة، وسحره بكلامه، استمالة برقته وحسن ترتيبه. وقال الإمام فخر الدين: هو في عرف الشرع كل أمر يخفى سببه, ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع. قال تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ، وإذا أطلق ذم فاعله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 عند أولي الألباب. ولا يقدح في هذا نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعده؛ لأنه إذا نزل من السماء كان على دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه، مع أن المراد: أنه آخر من نبئ. قال ابن حبان: من ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله والله أعلم.   والطلاسم، والنيرنجيات" "بكسر النون وإسكان التحتية وفتح الراء فنون ساكنة فجيم فتحتية فألف ففوقية". قال المجد: النيرنج "بالكسر" أخذ كالسحر، وليس به، "فكلها محال" باطل، "وضلالة" زوال عن الحق، "عند أولي الألباب" العقول، "ولا يقدح في هذا نزول عيسى ابن مريم عليه السلام بعده؛ لأنه إذا نزل من السماء كان على دين نبينا محمد" صلى الله عليه وسلم، "ومنهاجه" طريقه في شرعه، فهو واحد من أمته، "مع" أنه لا يرد هذا أصلًا، إذ "أن المراد أنه آخر من نبئ" وأرسل، فلا يضر وجود واحد بعد، أو أكثر ممن نبئ، أو أرسل قبله. "قال ابن حبان: من ذهب إلى أن النبوة مكتسبة لا تنقطع، أو إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله" لتكذيب القرآن، وخاتم النبيين، "والله أعلم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 النوع الرابع: في التنويه به صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة كالتوراة والإنجيل بأنه صاحب الرسالة والتبجيل قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] .   "النوع الرابع في التنويه به": أي: التعظيم ورفعة شأنه "صلى الله عليه وسلم" بذكره "في الكتب السالفة، كالتوراة والإنجيل؛ بأنه صاحب الرسالة والتبجيل" متعلق بقوله في التنويه، أي: رفع ذكره بأنه صاحب، وهذا أظهر من كونه بدلًا منه. "قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} باسمه وصفته، بحيث لا يشكون أنه هو، ولذا عدل عن يجدون اسمه أو وصفه مكتوبًا، فتضمن ذلك إخباره تعالى بذكره في الكتابين قبل وجوده، تعظيمًا له وحثًا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 وهذا يدل على أنه لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول مقاله، فلما قال لهم عليه السلام هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورًا في التوراة والإنجيل. وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته. لكن أهل الكتاب كما قال الله تعالى: {يَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون} [البقرة: 146] ، و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] ، وإلا فهم -قاتلهم الله- قد عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم كما عرفوا أبناءهم، ووجدوه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، لكن حرفوهما وبدلوهما ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.   اإتباعه إذا وجد. روى أبو نعيم في الحلية عن وهب بن منبه، قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مائتي سنة، ثم مات فأخذوه، فألقوه على مزبلة، فأوحى الله إلى موسى أن أخرج فصل عليه، قال: يا رب بنو إسرائيل يشهدون أنه عصاك مائتي سنة، فأوحى الله إليه، هكذا كان إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم محمد صلى الله عليه وسلم قبله، ووضعه على عينيه، وصلى عليه، فشكرت له ذلك، وغفرت هل وزوجته سبعين حوراء، "وهذا يدل على أن لو لم يكن مكتوبًا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات" لهم عن اتباعه، "والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله" بل في الزيادة، "و" لا فيما "ينفر الناس عنه قبول مقاله" فكيف بأرجح الخلق عقلًا، "فلما قال لهم عليه السلام: هذا" المذكور من كتابة اسمه، وصفه بالنبي الأمي، "دل على أن ذلك النعت" أي: الوصف الذي وصف لهم به نفسه "كان مذكورًا في التوراة، والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته، لكن أهل الكتاب، كما قال تعالى: {يَكْتُمُونَ الْحَق} نعت محمد صلى الله عليه وسلم {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنه الحق، {يُحَرِّفُونَ} يبدلون {الْكَلِمَ} الذي في التوراة من نعت محمد وغيره، {عَنْ مَوَاضِعِهِ} التي وضعه الله عليها، "وإلا فهم قاتلهم الله قد عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما عرفوا أبناءهم" كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [البقرة: 146] . قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لقد عرفته صلى الله عليه وسلم حين رأيته، كما أعرف ابني، ومعرفتي لمحمد أشد، "ووجدوه عندهم مكتوبًا في التوراة والإنجيل، لكن حرفوهما وبدلوهما" عطف تفسير {ْلِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} بأقوالهم، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} يظهره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ذلك، "فدلائل نبوة نبينا في كتابيهما بعد تحريفهما طافحة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 فدلائل نبوة نبينا في كتابيهما -بعد تحريفهما- طافحة، وأعلام شرائعه ورسالته فيهما لائحة، وكيف يغني عنهم إنكارهم، وهذا اسم النبي بالسريانية "مشفح"، فمشفح، محمد بغير شك، واعتباره أنهم يقولون "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد، شفحا، فمشفح: محمد؛ ولأن الصفات التي أقروا بها هي وفاق لأحواله وزمانه، ومخرجه ومبعثه وشريعته صلى الله عليه وسلم، فليدلونا على من هذه الصفات له، ومن خرجت له الأمم من بين يديه، وانقادت له   أي: ظاهرة، مالئة لكتابيهما من طفح الإناء امتلأ "وأعلام شرائعه ورسالته فيهما لائحة" فالباقي بعد التحريف كافٍ في بيان صدقه وإظهاره رسالته عليه السلام، "وكيف يغني عنهم إنكارهم وهذا اسم النبي بالسريانية" كما جزم به عياض وغيره. "مشفح" بضم الميم وشين معجمة وفاء شديدة مفتوحتين، ثم حاء مهملة، مرفوع في النسخ الصحيحة، وفي كثيرها مشفحًا، بالنصب على الحال، أي: جاء حال كونه مشفحًا أو بتقدير يرى مشفحًا، لكن قال الدلجي: مشفح ممنوع الصرف للعلمية والعجمة. وبالفاء جزم ابن دحية، وقال: أنه بوزن محمد، ومعناه وروى، كما قال المصنف بالقاف، وبه جزم الشمني والدلجي، وقال: القاف مفتوحة أو مكسورة، واقتصر المجد على الفتح، فقال: مشفح، كمعظم. قال الحافظ البرهان: لا أعرف صحته ولا معناه، أي: سواء كان بالفاء أو بالقاف، وقال الدلجي: لا أعرف له معنى، ولعل مرادهما لا يعرفان هل معناه شافع، أو صاحب الحوض، أو اللواء، أو نحو ذلك، فلا ينافي قول عياض وابن دحية وغيرهما. وتبعهم المصنف بقوله: "فمشفح محمد بغير شك" أي: معناه محمد، وهو ثابت في كتبهم بهذا الوصف، "واعتباره" أي: دليله؛ "أنهم يقولون "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا الحمد لله، وإذا كان الحمد" أي: معناه في لغتهم "شفحا، فمشفح محمد"، وقد يقال: لا يلزم من التعبير عن الحمد لله بشفحا لاها أنه مشفح اسم لمحمد، لجواز أن يراد به اسم آخر، كمحمود أو ممدوح ونحوه. إلا أن يقال: وجه الملازمة أنه إذا ثبت أن الحمد معناه الشفح، كان مصدرًا واسم المفعول المأخوذ من الحمد مصدرًا، هو محمد، فيكون مشفح بمعنى محمد؛ "ولأن الصفات التي أقروا بها" أيك بورودها في كتبهم "هي وفاق" أي: مطابقة "لأحواله وزمانه ومخرجه ومبعثه وشريعته صلى الله عليه وسلم" فإن أنكروا أنه هو، "فليدلونا على من هذه الصفات له" قامت به هذه الصفات هو النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 واستجابت لدعوته، ومن صاحب الجمل الذي هلكت بابل وأصنامها به؟ إذ لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، لم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره -وهو يقرعهم به- دليل على اعترافهم له؟ فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} ، ويقول حكاية عن المسيح: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] . ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71] ، ويقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [البقرة: 146] ، وكانوا يقولون لمخالفيهم   ولزمتهم الحجة، "ومن خرجت له الأمم"، أي: جاءت له طائعة مذعنة "من بين يديه" وقوله: "وانقادت له واستجابت" أجابت "لدعوته"، بيان للمراد به، "ومن صاحب الجمل الذي هلكت بابل" بلد في سواد العراق، ينسب إليه السحر والخمر، "وأصنامها به إذ" وفي نسخة على أنا "لو لم نأت بهذه الأنباء" الأخبار "والقصص من كتبهم" وجواب لو قوله: "لم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك" وفي نسخ: ألم يك بهمزة الاستفهام الإنكاري، وعليها، فجواب لو محذوف، أي: لا يضرنا ذلك، أو كنا في غنية عنه، لكن حذف الهمزة أولى؛ لأن ذكرها لا يحصل المقصود من إلزامهم الحجة. وقد يقال: بل يحصله بضميمة قوله: "وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره" بالنصب، "وهو يقرعهم": يثربهم ويوبخهم "به دليل على اعترافهم له، فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} باسمه وصفته، ويقول حكاية عن المسيح، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا} في حال تصديقي لما تقدمني من التوراة، وبتذكيري {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} والعامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال لا الجار؛ لأنه لغو إذ هو صلة للرسول، فلا يعمل، قاله البيضاوي، "ويقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُون} تخلطون {الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} بالتحريف والتزوير، {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: نعت النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه حق، "ويقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} أي: محمد عليه السلام، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} بنعته في كتبهم. قال ابن سلام: بل معرفتي لمحمد أشد، "وكانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال: هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 عند القتال: هذا نبي قد أظل مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون في كتابهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدًا وخوفًا على الرياسة. ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بني إسرائيل، فلما بعثه الله من العرب، من نسل إسماعيل عظم ذلك عليهم، وأظهروا التكذيب، فلعنة الله على الكافرين. وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما في أيديهم، ويقول: "من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدونني عندكم مكتوبًا" وهم لا يجدونه كما ذكر؟! أوليس ذلك مما يزيدهم عنه بعد استفهام إنكاري، وقد كان غنيًا أن يدعوهم بما ينفرهم، وأن يستميلهم بما يوحشهم. وقد أسلم من أسلم من علمائهم كعبد الله بن سلام،   نبي قد أظل" أي: قرب "مولده، ويذكرون من صفته ما يجدون في كتابهم". أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء، وداود بن سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا نبي نعرفه، وما هو الذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، "فلما جاءهم ما عرفوا كروا به حسدًا وخوفًا على الرياسة" وجواب لما الأولى دل عليه جواب الثانية، "ويحتمل أنهم كانوا يظنون أنه من بني إسرائيل، فلما بعثه الله من العرب من نسل إسماعيل، عظم" شق "ذلك عليهم وأظهروا التكذيب" بغيًا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، "فلعنة الله على الكافرين" أي: عليهم، وأتى بالمظهر للدلالة على أنهم لعنوا لكفرهم، فاللام للعهد، ويجوز أنها للجنس، ويدخلون فيه دخولًا، أوليًا؛ لأن الكلام فيهم، "وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم، وما في أيديهم، ويقول: "من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدونني عندكم مكتوبًا" باسمي وصفتي، "وهم لا يجدونه كما ذكر" في كتبهم، "أو ليس ذلك مما يزيدهم عنه بعد استفهام إنكاري، وقد كان غنيًا" عن "أن يدعوهم بما ينفرهم" عن اتباعه، "و" عن "أن يستميلهم بما يوحشهم". "وقد أسلم من أسلم من علمائهم، كعبد الله بن سلام" بالتخفيف، الإسرائيلي أبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 وتميم الداري، وكعب، وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوي. وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج فلقيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ابن سلام عالم أهل يثرب"؟ قال نعم: قال: "ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد   يوسف حليف بني الخزرج، قيل: كان اسمه الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، له أحاديث وفضل، مات بالمدينة سنة ثلاث وأربعين، "وتميم" من أوس بن خارجة "الداري" أبي رقية بقاف مصغر، صحابي مشهور سكن بيت المقدس بعد عثمان، مات سنة أربعين، "وكعب" بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار، كان يهوديًا من أحبارهم، من أهل اليمن، وأدرك الزمن النبوي، قيل: وأسلم فيه، وقيل: في خلافة أبي بكر، وقيل: عمر، وهو الراجح، وسكن الشام، ومات في خلافة عثمان، وقد زاد على المائة، وفي نسخة: وكم أسلم، ومعناها التكثير، لكن الثلاثة الذين ذكرهم قليل، فالمراد أن المسلمين من علمائهم كثير، لكن ليسوا من أضراب ابن سلام فلم يذكرهم، واقتصر على عظمائهم، "وقد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوي" واعترفوا بثبوتها في كتبهم، "وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق" والطبراني وأبو نعيم في الدلائل، كلهم "من طريق محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الل بن سلام" صدوق، من السادسة، ومنهم من زاد بين حمزة ويوسف محمدًا، روى له ابن ماجه "عن أبيه" حمزة بن يوسف، ويقال أن يوسف جده، واسم أبيه محمد، مقبول من السابعة. روى له ابن ماجه، كما في التقريب "عن جده" يوسف بن عبد الله بن سلام الإسرائيلي، المدني، أبي يعقوب، صحابي صغير. وقد ذكره العجلي في ثقات التابعين، وقوله: "عبد الله بن سلام أنه" يقتضي أن المراد جده الأعلى فيكون منقطعًا؛ لأنه لم يدركه. وفي رواية الطبراني وأبي نعيم، عن أبيه: ان عبد الله بن سلام، وهو منقطع أيضًا، "لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج فلقيه" ولأبي نعيم والطبراني: أنه قال لأخبار يهود: إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم عهدًا، فانطلق إلى رسول الله وهو بمكة، فوافاه بمنى والناس حوله، فقام مع النبي، "فقال له النبي صلى الله عليه وسلم" لما نظر إليه: "أنت" عبد الله "بن سلام، عالم أهل يثرب" فهو من معجزاته حيث أخبره بذلك بمجرد رؤيته له، "قال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: "$ادن"، فدنا منه كما في الطبراني وأبي نعيم، فقال: "ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد صفتي في كتاب الله" التوراة، وفي رواية: "أنشدك بالله، أما تجدوني في التوراة رسول الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 "صفتي في كتاب الله"؟ قال: انسب ربك يا محمد، فارتج النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1-4] ، فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وإن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا   "قال: انسب ربك يا محمد" وفي رواية: انعت لنا ربك "فارتج" بالبناء للمفعول ومخففًا، أي: لم ينطق "النبي صلى الله عليه وسلم" بجواب، ويقال: ارتج بهمزة وصل وتثقيل الجيم، وبعضهم يمنعها، وربما قيل: ارتتج، وزان اقتتل بالبناء للمفعول أيضًا، كما في المصباح. وفي رواية: فارتعد صلى الله عليه وسلم حتى خر مغشيًا عليه، "فقال له جبريل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خبر ثان {اللَّهُ الصَّمَدُ} المقصود في الحوائج على الدوام، أو الذي لا جوف له، كما للطبراني عن بريدة، وبه قال كثير من المفسرين، قال ابن عطية: كأنه بمعنى المصمت. وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وفي هذا التفسير كله نظر؛ لأن الجسم في غاية البعد عن صفات الله تعالى، فما الذي تعطينا هذه العبارات، قال: والصمد في كلام العرب السيد الذي يصمد ئغليه في الأمور ويستقل بها، وأنشدوا: ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد وبهذا تفسر هذه الآية؛ لأن الله موجود الموجودات، وإليه يصمد، وبه قوامها، ولا غنى بنفسه إلا هو تبارك وتعالى. انتهى. {لَمْ يَلِدْ} ؛ لأنه لم يجانس، ولم يفتقر إلى ما يعينه، أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه، {وَلَمْ يُولَدْ} ؛ لأنه لا يفتقر إلى شيء، ولا يسبقه عدم، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} مكافئًا ومماثلًا، فله متعلق بكفؤا قدم عليه؛ لأنه محط القصد بالنفي، وأخر أحد، وهو اسم يكن عن خبرها رعاية للفاصلة، "فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان" كلها، بإبطال باطلها، ونسخ حقها. وفي رواية الطبراني وأبي نعيم؛ فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم انصرف إلى المدينة، وكتم إسلامه، وقضية هذا؛ أنه أسلم بمكة قبل الهجرة، لكن هذا حديث ضعيف، متكلم فيه، معارض بما في البخاري؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر أتاه ابن سلام، وقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فسأله، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائله، فقال: أشهد أنك رسول الله. الحديث، وفيه قد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فسلهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، وأنه سألهم عنه، فاعترفوا بما قال: فلما قال لهم: إني أسلمت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس   كذبوه، وقالوا يه ما ليس فيه، ومن ثم لم يعرج الحافظ على رواية ابن عساكر ومن معه، هذه بل جزم في الفتح والإصابة؛ بأنه أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وغلط من قال: أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعامين. وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس لقدومه، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام"، الحديث، ومحال على من أسلم قبل ذلك أن يشك بعد ذلك، وأنه يسأله امتحانًا ليعلم، أهو نبي أم لا؟، وقد اختلف في أن سورة الإخلاص مكية أو مدينة، وأخرج الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن أبي ابن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، إلى آخرها. وأخرج الطبراني وابن جرير، مثله من حديث جابر، فاستدل به على أنها مكية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن اليهود جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منهم كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، وروى ابن جرير عن قتادة، وعن المنذر عن سعيد بن جبير مثله، فاستدل بهذا على أنها مدنية، ولابن جرير عن أبي العالية، قال: قال قادة الأحزاب: انسب لنا ربك، فأتاه جبريل بهذه السورة، قال في اللباب: وهذا يبين المراد بالمشركين في حديث أبي: فتكون السورة مدنية، كما دل عليه حديث ابن عباس، وينتفي التعارض بين الحديثين، لكن روى أبو الشيخ في العظمة، عن أنس أتت يهود خيبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النهار والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك، فلم يجبهم فأتاه جبريل بهذه السورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} انتهى. نعم بقية الحديث ثابتة عن ابن سلام، علقها البخاري تلو حديث ابن عمر، والآتي، وأخرجها الدارمي، ويعقوب بن سفيان، والطبراني، وهو قوله: "وإني لأجد صفتك في كتاب الله" يعني التوراة، ففي رواية الجماعة عنه: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على أمتك بما يفعلون لهم وعليهم، مقبولًا عند الله، {وَمُبَشِّرًا} لمن أجابك بالثواب {وَنَذِيرًا} ، مخوفا لمن عصاك بالعذاب، "أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل" أي: على الله، لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله في السر والجهر، والصبر على انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق، واليقين بتمام وعد الله، فتوكل على الله، فسماه الله المتوكل، "ليس بفظ" سيئ الخلق جاف. وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، إذ لو جرى على نسق الأول، لقال: لست بفظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا. وقوله: "ليس بفظ ولا غليظ" موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ولا   "ولا غليظ" قاسي القلب، "ولا سخاب" "بسين مهملة وخاء معجمة ثقيلة" لغة أثبتها الفراء وغيره بالصاد، أشهر من السين، بل ضعفها الخليل، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه، ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وفيه ذم أهل السوق، الذين يكونون بالصفة المذمومة من صخب ولغط، وزيادة مدحه لما يبيعونه، وذم لما يشترونه، والإيمان الحانثة، ولذا كانت شر البقاع لما يغلب على أهلها من هذه الأحوال المذمومة، وقيد بالأسواق، والمراد نفيه عنه مطلقًا؛ لأنه إذا انتفى في المحل المعتاد فيه، انتفى في غيره بالطريق الأولى، وهذا أبلغ وأفصح من الإطلاق؛ لأنه نفي بدليل نحو قوله: لا ترى الضب بها ينحجر، فهو من نفي المقيد دون قيده، "ولا يجزي بالسيئة مثلها" أي: السيئة، "ولكن يعفو ويصفح" يعرض ما لم تنتهك حرمات الله، "ولن يقبضه" يميته "الله حتى يقيم به الملة العوجاء" ملة إبراهيم، فإنها اعوجت في الفترة، فزيدت، ونقصت، وغيرت عن استقامتها، وأميلت بعد قوامها، وما زالت كذلك حتى أقامها صلى الله عليه وسلم بنفي الشرك وإثبات التوحيد، كما قال: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله، فالمراد كلمة التوحيد. هكذا فسر شراح الحديث قاطبة: الملة العوجاء بملة إبراهيم، وكذا ابن الأثير في النهاية، قائلًا: إن العرب كانوا يزعمون أنهم على ملته، وأبعد من قال؛ أنها الملة التي رآها خارجة عن الحق، فأزال اعوجاجها، وإن لم تنسب إلى إبراهيم، كملة اليهود والنصارى، فإنهم حرفوا وبدلوا، ولم يتركوا ما نسخ من شرعهم، فجاهدهم حتى اهتدى من اهتدى، وقتل من قتل، "ويفتح به" بالنبي. وفي رواية البخاري بها، أي: بكلمة التوحيد "أعينا عميًا" "بضم العين وسكون الميم صفة لا عين، أي: عن الحق، "وآذانًا صمًا" عن استماع الحق، "وقلوبًا غلفًا" "بضم المعجمة وسكون اللام صفة قلوبًا جمع أغلف، أي: مغطى ومغشى، "وقوله: ليس بفظ ولا غليظ، موافق لقوله تعالى: {فَبِمَا} زائدة، أي: فبـ {رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: سهلت أخلاقك حيث خالفوك {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} جافيًا، فأغلظت لهم {لَانْفَضُّوا} تفرقوا {مِنْ حَوْلِكَ} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 يعارض قوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة: 73] ؛ لأن النفي محمول على طبعة الكريم الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة، أو النفي بالنسبة إلى المؤمنين والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين كما هو مصرح به في نفس الآية. "وقلوبًا غلفًا": أي مغشاة مغطاة، واحدها: أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره. وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أم الدرداء -أو امرأة أبي الدرداء- قالت: قلت لكعب، كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفًا فيها: محمد رسول الله اسمه المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في   [آل عمران: 159] "ولا يعارض" هذا "قوله" تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] ؛ "لأن النفي محمول على طبعه الكريم الذي جبل عليه، والأمر محمول على المعالجة" لنفسه، على خلاف ما طبع عليه، "أو النفي بالنسبة إلى المؤمنين، والأمر بالنسبة إلى الكفار والمنافقين، كما هو مصرح به في نفس الآية" ذكر الجوابين الحافظ والثاني، كما قاله شيخنا أظهر لموافقة الآية، وإن كان الأول من حيث عمومه شاملًا لعصاة المؤمنين إذا فعلوا منكرًا، ولا سيما إذا ظهر منهم التصميم عليه، "وقلوبًا غلفًا، أي: مغشاة مغطاة، واحدها أغلف، ومنه غلاف السيف وغيره" والمعنى: أن قلوبهم كانت محجوبة عن الهداية، فأزال صلى الله عليه سولم حجابها وكشف غطاءها. "وأخرج البيهقي وأبو نعيم، عن أم الدرداء، أو امرأة أبي الدرداء" شك من الراوي في اللفظ الذي قاله شيخه، وإن اتحد المعنى، ولأبي الدرداء زوجتان، تكنى كل منهما بذلك إحداهما الكبرى واسمها خيرة بنت أبي حدود، صحابية، من فضلاء النساء وعقلائهن، وذوات الرأي: منهن، مع العبادة والنسك، ماتت قبل زوجها بالشام في خلافة عثمان، والثانية الصغرى اسمها هجيمة أو جهيمة، ثقة، فقيهة، ماتت سنة إحدى وثمانين، وهي التي روى لها أصحاب الكتب الستة، لا صحبة لها ولا رؤية، وذكر في الإصابة للكبرى حديثين، سمعتهما من النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما يحتمل أنها التي "قالت: قلت لكعب بن مانع الحميري، المعروف بكعب الأحبار: "كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟، قال: كنا نجده موصوفًا فيها محمد رسول الله" كما في القرآن، "اسمه المتوكل" الذي يكل أمره إلى الله، فإذا أمره بشيء نهض بلا جزع، وفي التنزيل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، "ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق" التي هي محل السخب وارتفاع الأصوات، ففي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 الأسواق، وأعطي المفاتيح، ليبصر الله به أعينًا عورًا، ويسمع به آذانًا صمًا، ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف. وفي البخاري: عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} ،   غيرها أولى، "وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينًا عورًا" وهو الفاقد إحدى عينيه، ولكون الفتح والأبصار مجازًا عن الهداية، عبر تارة بعميًا، وأخرى بعورًا: جمع أعور، صفة أعينًا، "ويسمع به آذانًا صمًا" عن سماع الحق، "ويقيم به ألسنة معوجة" جمع لسان "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له" أي: ومحمد رسول الله، ففيه اكتفاء نحو سرابيل تقيكم الحر، أي: والبرد "يعين المظلوم" على الظالم، "ويمنعه من أن يستضعف" بأن ينصره، بحيث يصير فيه قوة تحمله على أن يدفع عن نفسه، "وفي البخاري" في البيوع، ثم في تفسير الفتح، طعن عطاء بن يسار" الهلالي، أبي محمد المدني، مولى ميمونة. ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة أربع وتسعين, وقيل: بعدها، روى له الستة، "قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاصي" الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، "فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي: في التوراة بدليل الجواب، فإن السؤال يعاد في الجواب صراحة، أو ضمنًا، وهو من القواعد الأصولية، "قال" عبد الله: "أجل" "بفتح الهمزة والجيم، وباللام حرف جواب كنعم، فيكون تصديقًا للمحبر، وإعلامًا للمستخبر، ووعدًا للطالب، فيقع بعد نحو قام زيد، ونحو أقام زيد، واضرب زيدًا فيكون بعد الخبر، وبعد الاستفهام والطلب. وقيل يختص بالخبر، وهو قول الزمخشري وابن مالك، وقيد المالقي الخبر بالمثبت، والطلب بغير النهي. وفي القاموس: أجل كنعم، إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم أحسن منه في الاستفهام، وهذا قاله الأخفش، كما في المعنى، وغيره قال الطيبي: أجل في الحديث جوابًا للأمر على تأويل: قرأت التوراة هي وجدت صفة رسول الله فيها، فأخبرني، قال: أجل "والله إنا لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن" أكده بمؤكدات الخلف بالله، والجملة الإسمية، ودخول أن عليها، ودخول لام التأكيد على الخبر، وإنما سأله عما في التوراة؛ لأنه كان يحفظها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا   وقد روى البزار من حديث ابن لهيعة، عن وهب: أن عبد الله بن عمرو بن العاصي رأى في المنام في إحدى يديه عسلًا، وفي الأخرى سمنًا، وهو يلعقهما، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: له تقرأ الكتابين التوراة والقرآن فكان يقرؤهما، فالنهي عن قراءتها ليس على إطلاقه لوقوعه في الزمن النبوي لكثير من الصحابة بلا إنكار، فهو مقيد بمن لم يميز المنسوخ والمحرف منها، ويضيع وقته في الاشتغال بها، أما غيره فلا يمنع، بل قد يطب لإلزامهم فيما أنكروه منها. وقد أخرج الدارمي ويعقوب بن سفيان في تاريخه، والطبراني عن عطاء بن يسار عن ابن سلام مثله، وعلقمة البخاري، قال الحافظ: ولا مانع أن يكون عطاء حمله عن كل منهما، فقد أخرجه ابن سعد عن زيد بن أسلم، قال: بلغنا أن عبد الله بن سلام، كان يقول: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} بدل من بعض، أو بيان له {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} لأمتك المؤمنين بتصديقهم، على الكافرين بتكذيبهم، وانتصاب شاهدًا على الحال المقدر من الكاف أو من الفاعل أي: مقدرًا أومقدرين شهادتك على من بعثت إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي: مقبولًا عند الله لهم وعليهم، أو شاهدًا للرسل قبله بالبلاغ {وَمُبَشِّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين، أو مبشرًا للمطيعين بالجنة، ونذيرًا للعصاة بالنار، "وحرزًا" بكسر المهملة، وإسكان الراء، ثم زاي، أي: حصنًا "للأميين" أي: للعرب؛ لأن أكثرهم لا يقرؤون ولا يكتبون، يتحصنون به عن غوائل الدهر، أ, سطوة العجم وتغلبهم، فخصهم لذلك أولًا رسالة بين أظهرهم، أو لشرفهم، أو من مطلق العذب ما دام فيهم، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، أو من عذاب الاستئصال، فلا يرد أن دعوته عامة، وجعله نفسه حرزًا، مبالغة لحفظه لهم في الدارين، "أنت عبدي" الكامل في العبودية "ورسولي" فقدم العبودية لشرفها، فإن له بها مزيد اختصاص، ولذا اقتصر عليها في الإسراء وإنزال الكتاب، وليست بالمعنى العام الذي يتصف به كل مخلوق، بل بالخاص الذي رضيه له حتى أطلعه على حظائر قدسه، وجعله رسولًا مبلغًا عنه، وكفاء جميع مؤناته، فقال: أليس الله بكاف عبده، فإن الملك لا يرضى بوقوف عبده بباب غيره، واحتياجه لسواه، وإهانة أحد له، فإنه هو الذي يؤدبه، كما قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي، فلذا قال: "سميتك المتوكل" دون جعلتك أو وصفتك، المنادى بشدة توكله الذي صيره علمًا له، ففيه أشعار بشدة توكله، الساري في أمته صلى الله عليه وسلم، وخطابه بما في التوراة خطاب للحاضر في العلم، وبالماضي في أرسلناك لتحققه، أو حكاية لما يقال في المستقبل؛ أو لاستحضار الآتي، وعبر بما يعبر به عنه في الآتي: "ليس بلفظ" سيئ الخلق، جاف، "ولا غليظ" قاسي القلب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسية السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا   بل ملته سمحة، ولا ينافيه وقوع الغلظة اللائقة أو الواجبة أحيانًا؛ لأنها لا تنافي حسن الخلق أو المراد نفيهما، بحسب الخلقة أو في غير محلهما، وقول النسوة لعمر: أنت أفظ أغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس القصد به التفضيل، بل أصل الفعل، أو من قبيل العسل أحلى من الخل، أي: غلظتك يا عمر أشد من رقته صلى الله عليه وسلم، واختاره في المصابيح، ثم يحتمل أن يتكون هذه آية أخرى في التوراة، لبيان صفته، وأن تكون حالًا من المتوكل، أو من الكاف في سميتك، ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة حتى لا يواجهه بمثله، وإن كان منفيًا، "ولا سخاب" بشد الخاء بعد السين، ويقال: بالصاد، وهو أفصح، وادعى بعض أنه روى بهما، أي: لا يرفع صوته على الناس لسوء خلقه ولا يكثر الصياح عليهم "في الأسواق" بل يلين جانبه ويرفق بهم، وهو من نفي المقيد بدون قيده، ففيه دخوله صلى الله عليه وسلم الأسواق تواضعًا وتركًا لعادة الجبارين من الملوك، وردًا لقول الكفرة: ما لهذا الرسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويحتمل أنه من نفي القيد والمقيد معًا، كما قال الطيبي: المراد نفي السخابية وكونه في الأسواق. انتهى على معنى نفي اعتياد دخوله في الأسواق، كأرباب الدنيا، بل إنما يدخلها لحاجة، فلا يشكل ما قاله بأنه خلاف الواقع والمبالغة للنسبة، كخياط أو بذي سخب، كما في: وما ربك بظلام في أحد الوجوه أو على بابها، لثبوت أصل الخسب له في محله، كخطبة وتلبية ونحوهما، "ولا يدفع" هكذا الرواية في البخاري في المحلين، فنسخة: ولا يجزي تصحيف "بالسيئة السيئة" هو كقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَة} [المؤمنون: 96] ، وخلقه القرآن. وقد قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ولذا قال: "ولكن يعفو" يمحو ويزيل السيئة من ظاهر وخاطره، "ويغفر" يستر السيئة، ولا يلزم منه إزالتها، أو يعفو تارة، ويستر أخرى، فلا يفضح، فيقول في خطبته: ما بال أقوام يفعلون كذا، أو هما متساويان، فالثاني تأكيد، ونقل القرطبي عن بعضهم؛ لأن الغفر ستر، لا يقع معه عقاب ولا عتاب، والعفو إنما يكون بعد عقاب أو عتاب، فإن استعمل في غيره فهو مجاز. وفي نسخة: ويصفح، "ولن يقبضه" يميته "الله" وأصله أخذ المال واستيفاؤه، أطلق على الموت بتشبيه الحياة والروح بالمال، كما قيل: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الإنفاق في غير واجب أو هو من استعمال المقيد في المطلق، ثم شاع حتى صار حقيقة فيه، "حتى يقيم به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 صمًا وقلوبًا غلفًا. وعند ابن إسحاق: ولا صخب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال   الملة العوجاء"، ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها؛ لأنهم ذرية إسماعيل بن إبراهيم، وكانوا يزعمون؛ أنهم على ملته الحنيفية، والحنيف من يوجد الله تعالى ويعبده؛ لأن الحنف في اللغة الاستقامة، قاله ابن الأثير "بأن يقولوا" أي: أهلها: "لا إله إلا الله" اقتصر عليها، وجعلها إقامة الملة؛ لأن العوج الواقع عموده الشرك وعبادة الأصنام، يستقيم بها، أو أنهم يأتون بكلمة التوحيد التي هي عبارة عن لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة، أو اكتفاء، كسرابيل تقيكم الحر، "ويفتح به"، أي: بالنبي، كذا وقع بتذكير الضمير هنا تبعًا للشفاء مع عز، وكليهما للبخاري، والذي فيه في الموضعين بها، أي: كلمة التوحيد "أعينًا عميًا" "بضم فسكون". وفي رواية القابسي: أعين عمي بالإضافة، ولا تنافي بين هذا وبين قوله: وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم؛ لأنه دل إيلاء الفاعل المعنوي، حرف النفي على أن الكلام في الفاعل، وذلك أنه تعالى نزله لحرصه على إيمانهم منزلة من يدعي استقلاله بالهداية، فقال له: أنت لست بمستقل بها، بل إنك لتهدي إلى صراط مستقيم بإذن الله وتيسيره، وعلى هذا، فيفتح معطوف على يقيم، أي: يقيم الله بواسطته الملة العوجاء؛ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بواسطة هذه الكلمة أعينًا عميًا، "وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا" "بضم وسكون". وفي رواية أبي ذر: ويفتح بها أعين عمي، وآذان صم، وقلوب غلف "بضم أوله مبني للمفعول، ورفع أعين وآذان وقلو على النيابة". "وعند" محمد "بن إسحاق بن يسار: بدل قوله ولا سخاب "ولا صخب" "بكسر الخاء". صفة مشبهة تفيد المبالغة، باعتبار إفادة الثبوت هكذا في عدة نسخ صحيحة، موافقة لما عند ابن إسحاق والشفاء عنه، فلا عبرة بنسخ ولا صخاب "في الأسواق" وعنده زيادة هي:، "ولا متزين" بزاي منقوطة من الزينة. وروى بدال من الدين، وروى متزي بلا نون من الزي، والهيئة "الفحش": القبح وزنا ومعنى فعلًا كان أو قولًا، أي: لا يتجمل، أو لا يتدين، أو لا يتلبس به، ولا يرد أن ظاهره يوهم أنه قد يأتي به غير متجاوز، أو غير متزين به؛ لأنه لا مفهوم له لحرية، على عادة أرباب الفحش في المباهاة، به، أو هو استعارة تهكمية، أو التزين بمعنى الاتصاف تجريدًا، أو المراد: لا يرى الفحش زينة، فهي مكنية، وهذا من آياته؛ لأنه نشأ بين قوم يتزينون بالفواحش، كالقتل والزنا والطواف عراة، فأتى بما يخالف عادتهم، "ولا قوال" فعال صيغة مبالغة، أي: كثير لقول "للخنا" "بمعجمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 للخنا، أسدده بكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، التقوى ضميره، والحكمة معقوله, والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته،   ونون مقصورة" قبيح الكلام، وهذا مع ما قبله يفيد أنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم شيء منه قليل ولا كثير؛ لأن الفحش بمعناه، أو فعال للنسبة، كتمًا رأى ليس بذي قول للخنا، ولما ذكر صفات التخلية، بقوله: ليس بفظ، إلى هنا ذكر صفات التحلية بطريق وعد من لا يخلف وعده، مستأنفًا لمقصد أعلى مما قبله، ولذا لم يعطفه، أو في جواب سؤال هو، فما تفعل به بعد أن صنته عن النقائص، فقال: "اسدده" أوفقه للسداد، وهو الصواب، واقصد من القول والعمل "بكل جميل" حسن صورة كان، أو معنى يليق به، "وأهب" بفتحتين" أعطي "له كل خلق "بضمتين وتسكن اللام" السجية والطبيعة، "كريم" عزيز نفيس، "ثم اجعل" مضارع المتكلم، وهو الله "السكينة" "بالفتح والتخفيف" الوقار والطمأنينة، وفيها لغة بالكسر والتشديد، حكاها في المشارق، وبها قرئ شذا "لباسه"، أي: ما يظهر عليه من الخشوع والتثبت، فشبه المعقول بالمحسوس تقريبًا للفهم، ومبدأ هذا الوقار يلوح للقلب في مراقبته، فلذا قال تعالى: {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلوبِ الْمُؤْمِنِين} [الفتح: 4] ، فلكل وجهة، "و" اجعل "البر" الطاعة والإحسان، أي: زيادته، والخير والرحمة "شعاره": لباسه الذي يلي جسده، سمي به؛ لأنه لابس شعره وبدنه، ويقابله الدثار، وهو ما يتغطى به، ولما كانت السكينة ظاهرة فيه صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، ويراها كل أحد، برًا وفارجًا، جعلها لباسًا، والبر والخير والرحمة، وإن لازمه أيضًا وعم أحواله إنما يقف عليه المؤمنون ببصائرهم، جعله شعارًا، فانظر حسن موقعه مع ما قبله وما بعده أيضًا، وهو "والتقوى ضميره"؛ لأن الضمير ما يضمر في القلب وينوي في الخاطر، بحيث لا ينسى، فتأمل كيف انتقل من الظاهر للخفي، ثم الأخفى مع ما فيه من شبه اللف والنشر مع الأمور السلبية والتقوى ما بقي العذاب في الآخرة، ولها مراتب: أولها التبري عن الكفر، والثاني: التنزه عن كل ما يؤثم، والثالث: التنزه عما يشغل السر عن الله، وبهذا علم التئامها مع الضمير "والحكمة" كل كلام جامع لما يرشد إلى الحق، فيشمل المواعظ والأمثال لانتفاع الناس بها، وتطلق على القرآن والعلوم الشرعية، والقضاء بالعدل، وبه فسر ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، "معقوله" مصدرًا واسم مفعول، فالمراد إنها تعقله وإدراكه، أو ما يعقله، كان حكم ومواعظ وعلوم نافعة؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، "واجعل "الصدق والوفاء طبيعته" أي: إن الله جبله أنه لا ينطلق بغير ما وافق الواقع، وإذا عاقد أحدًا أو عدلًا يخلفه، "والعفو والمعروف" ما يعرفه ويألفه العقلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 وأحمد، أهدى به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة،   ولذا قيل: المعروف كاسمه "خلقه" وفي المصباح: المعروف الخير والرفق والإحسان، ومنه قولهم: من كان آمرًا بالمعروف فليأمر بالعروف، أي: من أمر بخير فليأمر برفق، "والعدل" القصد في الأمر ضد الجور "سيرته" طريقته الحميدة. وفي التنزيل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل: 90] ، قال ابن عطية: العدل فعل كل مفروض من العقائد والعبادة، وأداء الآمانات، والإنصاف والإحسان فعل المندوب. وفي البغوي: العدل بين العبد وربه إيثار حقه على حظ نفسه، واجتناب الزواجر، وامتثال الأوامر، وبينه وبين نفسه منعها عما فيه هلاكها والتصبر، وبينه وبين غيره بذل النصيحة وترك الخيانة، وإنصافهم من نفسه، والصبر على أذاهم، وجعل العدل سيرته صلى الله عليه وسلم، لا ينافي أن يكون الإحسان سيرته فيم حل يليق به، ولا أن يكون العفو طبيعة له أيضًا لمصحلة تليق بالمقام "والحق شريعته" بنصبهما عطف على مفعول اجعل، كما هو في نسخ الشفاء الصحيحة المقروءة، لا يرفعهما لاقتضاء تعريف الطرفين الحصر، فيفهم أن شرائع غيره باطلة، وليس كذلك، وأنه وجه؛ بأن المراد الحق الكامل الذي لا ينسخ، أو في زمانه لا غيرها لنسخها بشريعته وبغير ذلك؛ لأن هذا إنما يحتاج إليه لو ثبت رواية. "والهدى إمامه" "بكسر الهمزة"، كما ضبطه الحافظ البرهان، أي: مقتداه ومتبعه، وهو كناية عن ملازمته له وعدم انفكاكه عنه، ويجوز أن يراد بالإمام الطريق، كما قيل في قوله: وإنهما لبإمام مبين، وضبطه بعضهم "بفتح الهمز"، بمعنى قدام، فالمراد بطريق الكناية؛ أنه ملاحظ له، كما يقال: في ضده أنه ظهري وخلف ظهري، والهدى الدلالة بلطف، ولذا اختصت بالخير، وقيل: تعريفه للعهد، أي: هدى الأنبياء، لقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ، أي: ما اتفقوا عليه من التوحيد والأصول للفروع، "والإسلام ملته" بنصبهما على الصحيح، أي: أنه اسم لملته، أي: دينه خاصة دون الأمم على أحد القولين، وعلى الآخر بالعموم، لكل دين حق، فالمراد الكامل ليكون من خصائصه التي تميز بها عن غيره وكماله بنسخ غيره، وكونه سمحًا بين اللين والشدة، وغير ذلك. وفي التنزيل: هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا، "واجعل "أحمد" اسمه، وبه سماه في الكتب قبل وجوده، ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، ولما ذكر صفاته الموصوف بها في نفسه ذكر صفاته التي لوحظ فيها غيره، جوابًا لسؤال: هل تنفع بهذا الطاهر المطهر، الكامل في نفسه غيره؟، فقال: "أهدى" "بفتح الهمزة" مضارع هدى "به" بسببه، أو هديه "بعد الضلالة" بمعنى الضلال سلوك غير الطريق الموصلة، وقيل: إنما فصله لعلو رتبة الهداية، سواء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير   كانت الإيصال أو الدلالة الموصلة، وفيه تقوية لمدحه السابق، والمراد الهداية إلى ما به النجاة، وإلى ما به يكمل الناجي، فلذا قال: "واعلم" "بضم الهمزة وشد اللام"، كما في المقتفى "به بعد الجهالة" "بفتح الجيم مصدر"، كالجهل ضد العلم، وهو الاعتقاد الذي لا يطابق الواقع، "وأرفع به بعد الخمالة" "بفتح الخاء المعجمة والميم"، أي: الخفاء، وادعى بعض أنه لا يقال خمالة، بل خمولة. وفي الصحاح: الخامل: الساقط الذي لا نباهة له، وقد خمل يخمل خمولًا. وفي الجمهرة: رجل خامل الذكر بين الخمول والخمولة، وهو ضد النبيه والنابه. وفي القاموس: خمل ذكره وصوته خمولًا: خفي، وأخمله الله، فهو خامل، ساقط، لا نباهة له، جمعه خمل محركة. وأجيب بأن ثبوت الخمالة في هذا الحديث الصحيح شاهد لصحتها، وإن كانت على غير قياس أو لمشاكلة الضلالة والازدواج معها، والمراد برفعه جعل الدين والتوحيد بعد ما ترك في الفترة، لغلبة الجهل مشهورًا شائعًا، فهو مجاز، كقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك} [الانشراح: 4] ، "وأسمي": روى "بضم الهمزة وفتح السين والتشديد"، وبه ضبطه في المقتفى، وروى بضم الهمزة وسكون السين به" بسببه "بعد النكرة" "بضم فسكون وبفتح فكسر" خلاف المعرفة، وتطلق بمعنى المجهول، أي: أعرف الناس بسببه، أو بما أوحيه إليه الناس المجهولين، أو أعرفهم ما جهلوه من التوحيد، أو أعرف الناس ما لم يعرفوه من الأنبياء وقصصهم، والأولى التعميم، كما قيل: "وأكثر" "بضم الهمزة وسكون الكاف وكسر المثلثة مخففة وبفتح الكاف وشد المثلثة يتعدى بالهمزة والتضعيف"، "به بعد القلة" أي: أكثر به الأرزاق مطلقًا، أو على من اتبعه، أو أكثر أمته بعد قلتها، أو بعد عدمها، لورود القلة بمعنى العدم، لكنه بعيد هنا، أو المراد قواعد الملة بعد اعوجاجها، فأعاد منها ما نقص بكلمة التوحيد، وهو تكلف مستغنى عنه لتقدم معناه، "وأغني": أعطى الغني "به بعد العيلة" "بفتح فسكون": الفقر، أي: ما كانوا عليه في الابتداء، ففتح لهم الفتوحات والممالك، وأحل لهم الغنائم، "وأجمع به" الناس "بعد الفرقة" الافتراق، وتنافر القلوب، والعداوة المؤدية للحروب وترك الديار، كما كان بين الأوس والخزرج من الحروب قبل الإسلام، فلما جاء الله به ألف بين قلوبهم، وسل أحقادهم وضغائنهم، وصيرهم أخوة، "وأؤلف" أجمع "به بين قلوب مختلفة" وذلك يستلزم التأليف بين الذوات، وكونه بسبب المصطفى؛ لأنه السبب الظاهري، والمؤلف الحقيقي هو الله، فلا ينافي إسناد التأليف إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 أمة أخرجت للناس. وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قدم الجارود فأسلم وقال: والذي بعثك   سبحانه في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] ، "وأهواء" جمع هوى، وهو ميل النفس لما تحبه وتشتهيه "متشتتة" متفرقة، أي: اجعل مهويهم واحدًا، متفقًا محمودًا، وإن غلب إطلاقه على المذموم، كما قال: ولئن اتبعت أهواءهم، "وأمم" جمع أمة، فرقة من الناس "متفرقة" بتقديم التاء على الفاء من التفرق، وبتقديم الفاء على التاء من الافتراق روايتان: يعني أن كل أمة كانت على دين واعتقاد وطريقة، منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم يهودي ونصراني، ومنهم غير ذلك، فنسخ الله بشرعه صلى الله عليه وسلم جميع الشرائع، وجعل الدين دينًا واحدًا قيمًا، من حاد عنه هلك وشقي في الدارين, وإن حمل قوله وأجمع به بعد الفرقة على جميع العقائد والملل على التوحيد، أو الأعم كان ما بعده عطف تفسير له، "وأجعل أمته": الذين أجابوه "خير أمة أخرجت": أوجدت وخلقت أو أخرجت من العدم "للناس". وفي التنزيل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة} ، أي: أنه تعالى قضى بذلك وقدره أزلًا، وفي عالم الذر، وقيل: المراد كنتم مذكورين في الأمم الذين قبلكم، موصوفين بذلك لخيرية نبيكم ودينكم، أو لما بينه، بقوله: تأمرون. إلخ. ومر الكلام فيه، "وأخرج البيهقي عن ابن عباس، قال: قدم الجارود" بن المعلى، ويقال: ابن عمرو بن المعلى العبدي أبو المنذر، ويقال: أبو غثان، بمعجمة ومثلثة على الأصح، ويقال: "بمهملة وموحدة"، اسمه بشر بن خنش "بمهملة ونون مفتوحتين، ثم معجمة" وقيل: مطرف، وقيل: غير ذلك لقب الجارود؛ لأنه غزا بكر بن وائل، فاستأصلهم، قال الشاعر: فدسناهم بالخيل من كل جانب ... كما جرد الجارود بكر بن وائل وحكى ابن السكن: أن سبب تلقيبه بذلك أن إبل عبد القيس جريت، وبقيت للجارود بقية من إبله، فتوجه بها إلى قديد بن سنان وهم أخواله، فجربت إبل أخواله، فقال: الناس جردهم بشر، فلقب الجارود، "فأسلم". قال ابن إسحاق: وكان نصرانيًا وحسن إسلامه، وكان صلبًا على دينه، قال في الإصابة: قدم الجارود سنة عشر في وفد عبد القيس الأخير، وسر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. روى الطبراني عن أنس: لما قدم الجارود وافدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرح به وقربه وأدناه وروى الطبراني أيضًا عن الجارود، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن لي دينًا، فلي إن تركت ديني ودخلت في دينك أن لا يعذبني الله، قال: "نعم"، "وقال" الجارود: "والذي بعثك بالحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 بالحق لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول. وأخرج ابن سعد قال: لما أمر إبراهيم الخليل بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر إبراهيم بأرض عذبة سهلة إلا قال: أنزل ههنا يا جبريل، فيقول: لا، حتى أتى مكة فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع ولا زرع، قال: نعم ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك الذي تتم به الكلمة العليا.   لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول" عيسى ابن مريم، وقتل الجارود بأرض فارس بعقبة الطير، فصار يقال لها: عقبة الجارود، وذلك سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وقيل: قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن، وقيل: بقي إلى خلافة عثمان، قال أبو عمر: من محاسن شعره: شهدت بأن الله حق وشاء بي ... ثبات فؤادي بالشهادة والنهض فأبلغ رسول الله عني رسالة ... بأني حنيف حيث كنت من الأرض فإن لا تكن داري سرت بي فيكم ... فإني بكم عند الإقامة والخفض واجعل نفسي عند كل ملمة ... لكم خصة من دون عرضكم عرضي وابنه المنذر كان من رؤساء عبد القيس بالبصرة، مدحة الأعشى وغيره، وحفيده الحم هو الذي يقول فيه الأعشى: يا حكم بن المنذر بن الجارود ... سرادق المجد عليك ممدود أنت الجواد ابن الجواد المحمود ... نبت في الجود وفي بيت الجود والعود قد ينبت في أصل العود قال: وكان الحجاج يحسد الحكم على هذه الأبيات، "وأخرج ابن سعد، قال: لما أمر إبراهيم الخليل بإخراج هاجر" بالهاء، ويقال: بالألف والجيم من أرض الشام حين غارت منها سارة زوجه، "حمل على البراق، فكان لا يمر إبراهيم بأرض عذبة"، أي: عذب ماؤها، "سهلة" لينة، يمكن زرعها، "إلا قال: انزل" "بصيغة المضارع وحذف همزة الاستفهام" أي: انزل "ههنا يا جبريل، فيقول: لا" ولم يزل كذلك "حتى أتى مكة" فالغاية لمقدر، "فقال جبريل: انزل يا إبراهيم، قال: حيث لا ضرع" "بفتح الضاد وسكون الراء" وهو لذات الظلف، كالثدي للمرأة، "ولا زرع" قال ذلك تعجبًا من أمره له، بنزوله في موضع قفر، أي: كيف أنزل في أرض لا أنيس بها، ولا ما يتأتى به المعيشة، "قال" جبريل: "نعم: ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك إسماعيل، "الذي تتم به الكلمة العليا" وهي كلمة الله، وفي ذلك تسلية له وترغيب بنزول تلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 وفي التوراة -مما اختاروه بعد الحذف والتحريف والتبديل، مما ذكره ابن ظفر في "البشر" وابن قتيبة في "أعلام النبوة": تجلى الله من سينا، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران. فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى. و"ساعير" هو الجبل الذي كلم الله فيه عيسى، فظهرت فيه نبوته. وجبال "فاران" وهو اسم عبراني -وليست ألفه الأولى همزة- هي جبال بني هاشم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في أحدها وفيه فاتحة الوحي، وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها: أبو قبيس، والمقابل له قعيقعان إلى بطن الوادي، والثالث:   الأرض، "وفي التوراة مما اختاروه" أي: العلماء "بعد الحذف والتحريف والتبديل" الواقع من اليهود، يحرفون الكلم عن مواضعه، "مما ذكره" العلامة محمد "بن ظفر" "بفتح الظاء المعجمة والفاء" "في" كتاب "البشر" "بكسر ففتح" بخير البشر "بفتحتين"، وابن قتيبة في كتاب "أعلام النبوة تجلى" ظهر "الله من سينا" بالقصر جبل بالشام. كذا في القاموس: "وأشرق" بالقاف" "من ساعير". قال ابن ظفر: كناية عن ظهور أنوار كلامه، "واستعلن من جبال فاران" "بفاء فألف فراء فألف فنون". قال ابن ظفر: أي: ظهر أمره وكتابه وتوحيده وحمده، وما شرعه رسوله من الأذان والتلبية، "فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى" واصطفاه وأرسله، "وساعير هو الجبل الذي كلم الله في عيسى" بمعنى أنزل عليه الإنجيل ونبأه فيه، كما يأتي عن ابن قتيبة، لا أنه كلمه فيه، ككلامه لموسى في الجبل، كما يوهمه هذا الكلام وعبارة البشر، وساعير جبل بالشام، منه ظهرت نبوة المسيح، وإليه بشير قوله: "فظهرت فيه نبوته، وجبال فاران" الإضافة من إضافة الكل إلى الجزء، كأن هذه الجبال اشتهرت بذلك، وإلا فلا معنى للإضافة هنا، مع أن فاران أحدها، "وهو اسم عبراني" "بكسر العين المهملة" نسبة إلى العبرانية، وهي لغة اليهود "وليست ألفه الأولى"، التالية للفاء "همزة، هي جبال بني هاشم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث" "بفتح التحتية والفوقية والحاء المهملة والنون الثقيلة ثم مثلثة، يتعبد الليالي ذوات العدد "في أحدها، وفيه فاتحة الوحي" ابتداء إنزاله عليه، فهو جبل حراء، "وهو أحد ثلاثة جبال، أحدها أبو قيس" "بضم القاف وفتح الباء" "والمقابل له قعيقعان" "بقافين بعد كل عين مهملة، وبعد الأولى تحتية، آخره نون بعد ألف" بصيغة التصغير، جبل يشرف على الحرم من جهة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 الشرقي فاران، ومنفتحه الذي يلي قعيقعان إلى بطن الوادي، وهو شعب بني هاشم، وفيه مولده صلى الله عليه وسلم على أحد الأقوال. قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض؛ لأن تجلي الله من سينا، إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، ويجب أن يكون إشراقه من "ساعير" إنزاله على المسيح الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل، بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه نصارى، فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب في   الغرب "إلى بطن الوادي، والثالث: الشرقي فاران" المعروف بحراء، "ومنفتحه" بميم فنون ففاء ففوقية فمهملة فهاء، أي: المحل الذي يصعد منه إليه، ويهبط "الذي يلي قعيقعان إلى بطن الوادي، وهو شعب بني هاشم، وفيه مولده صلى الله عليه وسلم على أحد الأقوال" والثاني: بردم بني جمح بمكة، والثالث: بزقاق المدكك بمكة، والرابع: وهو شاذ، أنه ولد بعسفان، والصحيح الذي عليه الجمهور؛ أنه ولد بمكة، واختلف في عين المحل على الأقوال الثلاثة، "قال ابن قتيبة: وليس بهذا غموض" "بمعجمتين أوله وآخره"، أي: خفاء؛ "لأن تجلي الله من سينا إنزاله التوراة على موسى بطور سينا"، قال: في الأنوار جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، وقد يقال له طور سينين، ولا يخلو أن يكون الطور اسمًا للجبل، وسينا اسم بقعة أضيف إليها، أو المركب منها علم له، كامرئ القيس، ومنع صرفه للتعريف والعجمة، أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف؛ لأنه فيعال، كديماس من السنا بالمد، وهو الرفعة، وبالقصر، وهو النور، "ويجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإنجيل، وكان المسيح يسكن من ساعير أرض الخليل" إبراهيم، "بقرية تدعى" تسمى "ناصرة" وبها ولد على ما في البشر، "باسمها تسمى من اتبعه نصارى" جمع نصران، كندامى: جمع ندمان، "فكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح" الإنجيل والنبوة، "فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وهي جبال مكة" الثلاثة المتقدمة، "وليس بين المسلمين وأهل الكتاب في ذلك اختلاف في أن فاران هي مكة" بدل من قوله في ذلك لبيان اسم الإشارة، لكن هذا يخالف ما قدمه أن فاران ليس مكة، بل جبل من جبالها إلا أن يقال: هو اسم للجبل وسميت مكة باسمه لقربها منه، وفي البشر، وفاران هي مكة، لا يخالف في ذلك أحد من أهل الكتاب، وفي التوراة: وربي، أي: إسماعيل في برية فاران، فمكة هي منشأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 ذلك اختلاف في أن فاران هي مكة. وإن ادعى أنها غير مكة قلنا: أليس في التوراة: إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران؟ وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح، أوليس "استعلن" و "علن" بمعنى واحد، وهو ما ظهر وانكشف. فهل تعلمون دينًا ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه. وفي التوراة أيضًا -مما ذكره ابن ظفر- خطابًا لموسى، والمراد به الذين اختارهم لميقات ربه الذين أخذتهم الرجفة خصوصًا، ثم بني إسرائيل عمومًا: والله ربك يقيم نبيًا من إخوتك، فاستمع له كالذي سمعت ربك في حوريت يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود أسمع صوت الله ربي لئلا أموت، فقال الله تعالى:   إسماعيل وحيث ربي، وفي جبال فاران أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، "وإن ادعى"، عن معاند "إنها غير مكة، قلنا: أليس في التوراة إن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران" فإن قالوا: بلى، طلبنا منهم تعيين ذلك المحل، "وقلنا" لهم: "دلونا على الموضع الذي استعلن الله"، أي: أظهر النبوة "منه، واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتاب بعد المسيح" ابن مريم، "أو ليس استعلن وعلن بمعنى واحد"، وسين الأول للتأكيد، "وهو ما ظهر وانكشف، فهل تعلمون دينًا ظهر ظهور الإسلام، وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشوه" أيك انتشر واتسع، وبهذا غاير: ظهر، "وفي التوراة أيضًا مما ذكره ابن ظفر" في الصنف الذي لاينكر أهل الكتاب مجيئه في التوراة، "خطابًا لموسى، والمراد به" أي: الخطاب، "الذين اختارهم" موسى ممن لم يعبد العجل "لميقات ربه" بأمره، أي: للوقت الذي وعده بإتيانهم فيه ليعتذروا من عبادة أصحابهم العجل، "الذين أخذتهم الرجفة" الزلزلة الشديدة. قال ابن عباس: لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، قال: وهو غير الذين سألوا الرؤية وأخذتهم الصاعقة "خصوصًا، ثم" خاطب "بني إسرائيل عمومًا، والله ربك يقيم نبينا من أخوتك، فاستمع له" ما يخاطبه قومه تعنتًا، كما قال تعالى: إخبارًا عنهم {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] ، أي: هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة، أو يوحي إلينا أنك رسوله، أو تأتينا آية حجة على صدقه، والأول استكبار، والثاني جحود، كما في الأنوار، فهو تسلية لموسى عليه السلام، "كالذي سمعت ربك في حوريث" "بحاء مهملة أوله وفوقية آخره". قال في القاموس: موضع ولا نظير لها، أي: لهذه الكلمة "يوم الاجتماع حين قلت: لا أعود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 نعم ما قالوا: وسأقيم لهم نبيًا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه لهم كل شيء أمرته به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمي فإني أنتقم منه. قال: وفي هذا الكلام أدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: فقوله: "نبيًا من إخوتهم"، وموسى وقومه من بني إسحاق، وإخوتهم من بني إسماعيل، ولو كان هذا النبي الموعود به من بني إسحاق لكان من أنفسهم لا من إخوتهم. وأما قوله: "نبيًا مثلك" وقد قال في التوراة: لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى، وفي ترجمة أخرى، مثل موسى لا يقوم في بني إسرائيل أبدًا. فذهبت اليهود إلى أن هذا النبي الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل؛ لأن يوشع لم يكن كفؤًا لموسى عليه السلام، بل كان خادمًا له في حياته، ومؤكدًا لدعوته بعد   أسمع صوت الله ربي لئلا أموت، فقال الله تعالى: نعم، ما قالوا، وسأقيم لهم نبيًا مثلك من أخوتهم واجعل كلامي في فمه، لهم كل شيء أمرته". وفي نسخة: آمره "به، وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمي، فإني أنتقم منه" وجوز شيخنا في التقرير، أن يكون هذا من باب، {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّين} ، أي: استمتع له إذا وجد وأنت حي، كسماعك لربك، وهذا بعيد جدًا، ولذا لم يذكره في الشرح. "قال" ابن ظفر: "وفي هذا الكلام أدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم" من ثلاثة أوجه بينها، فقال: "فقوله" لفظه منها قوله: "نبينا من أخوتهم، وموسى وقومه من بني إسحاق، وإخوتهم من بني إسماعيل، ولو كان هذا النبي الموعود به من بني إسحاق لكان من أنفسهم لا من أخوتهم" كما قال عز وجل إخبارًا بدعوة إبراهيم لولد إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} ، وكما قال سبحانه مخاطبًا لعرب {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم} ، هذا تركه المصنف من كلام ابن ظفر، "وأما" لفظه، ومنها "قوله: نبيًا مثلك، وقد قال في التوراة: لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى" من أنفسهم، فلا ينافي أنه قام فيهم مثل موسى، بل أجل، وهو محمد عليه السلام لعموم دعوته؛ لأنه من بني إسماعيل أخوتهم لا من أنفسهم، فلا خلف بين هذا وقول التوراة السابق، وسأقيم لهم نبيًا مثلك. "وفي ترجمة أخرى مثل موسى لا يقوم في بني إسرائيل أبدًا" من أنفسهم، "فذهبت اليهود إلى أن هذا النبي الموعود به هو يوشع بن نون، وذلك باطل؛ لأن يوشع لم يكن كفؤًا لموسى عليه السلام، بل كان خادمًا له في حياته، ومؤكدًا لدعوته" وداعيًا إليها "بعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه كفؤ موسى؛ لأنه يماثله في نصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة. وقوله تعالى: "اجعل كلامي في فمه" فإنه واضح في أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل صحفًا ولا ألواحًا؛ لأنه أمي، لا يحسن أن يقرأ المكتوب. وفي الإنجيل -مما ذكره ابن طغر بك في "الدر المنتظم" قال يوحنا في إنجيله عن المسيح أنه قال: أنا أطلب لكم من الأب أن يعطيكم "فار قليط" آخر يثبت   وفاته، فتعين أن يكون المراد به محمدًا صلى الله عليه وسلم فإنه كفؤ موسى؛ لأنه يماثله في نصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام"، أي: إظهارها والمجيء بها، وإن كان أصلها من الله، "وإجراء النسخ على الشرائع السالفة و" منها "قوله تعالى: "اجعل كلامي في فمه" فإنه واضح في أن المقصود به محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو" زائدة لم تقع في ابن ظفر، إنما قال على "ما سمعه، ولا أنزل صحفًا ولا ألواحًا" كما أنزلت عليك يا موسى؛ "لأنه أمي، لا يحسن أن يقرأ المكتوب" مدة حياته. وبقية كلام ابن ظفر، وقوله: أيما رجل لم يطع من تكلم باسمي، فإني أنتقم منه، دليل على كذب اليهود في قولهم: إن الله أمرنا بمعصية كل نبي دعانا إلى دين يتضمن نسخًا لبعض ما شرعه موسى، هكذا مع قطعنا أنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، فإن أهل الكتابين عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما عرفوا أبناءهم، وجدوه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، وإنما يذكر ما أظهروه، ورضوا التفسير له بما حكيناه عن تراجمهم، بلفظهم الذي اختاروه وأثبتوه في كتبهم، ليكون ذلك أقطع لعذرهم، وأحسم لروغانهم، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم أتى اليهود، فقال: أخرجوا إلى أعلمكم، فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور، فقال له صلى الله عليه وسلم: "أنشدك الله الذي أطعم أسباطكم المن والسلوى، وظلل عليهم الغمام، أتعلم أني رسول الله"، فقال ابن صوريا: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون من هذا ما أعرف، وإن نعتك لبين عندهم، ولكن القوم حسدوك؛ لأنك عربي، قال: فأسلم، قال: إني أكره خلاف قومي، وعسى أن يسلموا فأسلم، انتهى. "وفي الإنجيل -مما ذكره ابن طغر بك" "بضم الطاء المهملة وسكون المعجمة وضم الراء وفتح الموحدة"، ثم كاف علم مركب عن طغرو بك الإمام، العلامة، المحدث سيف الدين عمر بن أيوب الحميري، التركماني، الدمشقي، الحنفي "في" كتاب "الدر المنتظم" في مولد النبي صلى الله عليه وسلم "قال يوحنا في إنجيله" أضافه إليه؛ لأن عيسى لم تظهر دعوته في عصره، وإنما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقتلوه. وهو عند ابن ظفر بلفظ: إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي فيعطيكم "فار قليط" آخر يكون معكم الدهر كله. قال: فهذا تصريح بأن الله تعالى سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منا به، وتكون شريعته باقية مخلفة أبدًا، فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟ انتهى. ولم يذكر فصول "الفارقليط" -كما أفاده ابن طغر بك- سوى يوحنا، دون غيره من نقلة الإنجيل. وقد اختلف النصارى في تفسير "الفارقليط". فقيل هو: الحامد، وقيل: هو المخلص.   أخذ الإنجيل عنه أربعة من الحواريين متى ويوحنا وقيسر ولوقا، فتكلم كل واحد من هؤلاء بعبارة لملاءمة الذين تبعوا دعاءهم، ولذا اختلفت الأناجيل الأربعة اختلافًا شديدًا، قاله في المنتقى "عن المسيح أنه قال: أنا أطلب لكم من الأب أن يعطيكم فارقليط". قال المصنف في المقصد الثاني: وأما البارقليط والفارقليط "بالموحدة وبالفاء بدلها وفتح الراء والقاف وبسكون الراء مع فتح القاف" وبفتح الراء مع سكون القاف وبكسر الراء وسكون القاف غير منصرف للعلمية والعجمة، "آخر يثبت معكم إلى الأبد" آخر الدهر، ببقاء دينه إلى القيامة، "روح الحق" أضافه إليه ليميز روحه عن سائر المخلوقات بما خصه الله به من الكمالات، "الذي لن يطيق العالم أن يقتلوه" وإن أراد بعضهم ذلك، "وهو عند ابن ظفر" في البشر "بلفظ"، ومما ترجموه في الإنجيل؛ أن عيسى قال: "إن أجبتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي" أي: ربي، كما يأتي "فيعطيكم فارقليط آخر، يكون معكم الدهر كله" ببقاء شريعته إلى انقضاء الدهر. "قال" ابن ظفر: "فهذا تصريح بأن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه"، أي: عيسى، "وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منا به، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدًا" إلى يوم القيامة، كما هو مفاد قوله الدهر كله، "فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم" صاحب النبوة الخاتمة. "انتهى، ولم يذكر فصول" أي: أنواع المسائل التي ذكر فيها "الفارقليط، كما أفاده ابن طغر بك سوى يوحنا دون غيره، من نقلة الإنجيل" ومن حفظ حجة. "وقد اختلف النصارى في تفسير الفارقليط" قال ابن ظفر: والذي صح عندي من ذلك عنهم؛ أنه الحكيم الذي يعرف السر، "فقيل: هو الحامد، وقيل: هو المخلص" "بشد اللام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم، وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح في الإنجيل: إني جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل الأب أن يعطيهم "فارقليط" آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر. وإن تنزلنا معهم على القول بأنه: الحامد، فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا. قال ابن ظفر: وفي الإنجيل -مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذي يسمعونه ليس هو لي، بل الأب الذي أرسلني بهذا الكلام لكم، وأما "البارقليط" روح القدس الذي يرسله أبي باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم. فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحًا في أن "الفارقليط" رسول يرسله الله   اسم فاعل"، "فإن وافقناهم على أنه المخلص أفضى بنا الأمر إلى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم" من الهلاك، بإخراجهم من الكفر إلى الإيمان، "وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح في الإنجيل: إني جئت لخلاص العالم، فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل الأب أن يعطيهم "فارقليط" آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر" وهو محمد صلى الله عليه وسلم، "وإن" "بكسر فسكون شرطية" "تنزلنا معهم" ووافقناهم "على القول بأنه: الحامد" وجواب الشرط هو: "فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا" الذي هو الحامد. "قال ابن ظفر" محمد في البشر: "وفي الإنجيل -مما ترجموه- ما يدل على أن الفارقليط: الرسول، فإنه قال: إن هذا الكلام الذي يسمعونه ليس هو لي، بل الأب" أي: الرب "الذي أرسلني بهذا الكلام لكم" لفظ ابن ظفر: كلمكم بهذا وأنا معكم، "وأما البارقليط" روح القدس، الذي يرسله أبي باسمي، فهو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم" "بالتثقيل" "كل ما قلته لكم" لفظه جميع ما أقول لكم، فهذا يفهم منه أن الفارقليط الرسول، "فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحًا في أن "الفارقليط رسول يرسله الله تعالى، وهو روح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 تعالى، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما قاله المسيح عليه السلام، وكل ما أمرهم به من توحيد الله. وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة. وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين، إشارة إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم عتزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون: نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى. وأما قوله: "يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه عما افتري في أمره.   القدس، وهو يصدق" بشد الدال المكسورة "بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله" وعبده "وليس بإله"، كما زعموا فضلوا، "وهو يعلم الخلق كل شيء، ويذكرهم كل ما"، أي: شيء "قاله" لهم "المسيح عليه السلام، وكل ما أمرهم به" المسيح "من توحيد الله" بنحو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] ، فهل جاء بهذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم. "وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة، و" ومع ذلك "ليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين" يقولها المتكلم "إشارة إلى الرب سبحانه وتعالى؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم، يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم" وهو شيخه، "ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية" "بضم الراء"، "ولم عتزل بنو إسرائيل" يعقوب "وبنو" "عيصو" "بكسر العين المهملة وإسكان الياء ومهملة" "يقولون: نحن أبناء الله بسوء فهمهم عن الله تعالى". زاد ابن ظفر: واختلال بصائرهم في التلقي عن أنبيائه، وقد قرأت في التوراة مما أساؤوا الترجمة عنه، فنظر الرب وسخط حين أغضبه بنوه وبناته، وقال: سأعرض بوجهي عنهم، وأنظر إلى ما يصير عاقبتهم؛ لأنهم خلف أعوج، أبناء ليس لهم إيمان. "وأما قوله يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى له" لعيسى، "بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه" وتنزيهه "عما افترى في أمره" لفظ ابن ظفر، عما افتراه في أمره اليهود، وعبارة المصنف أشمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 وفي ترجمة أخرى للإنجيل، أنه قال: "الفارقليط" إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث. وهو عند ابن طغر بك بلفظ: فإذا جاء روح الحق، ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بل ما يسمع من الله، ويخبرهم بما يأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم. فقوله: "ليس ينطق من عنده" وفي الرواية الأخرى: "ولا يقول من تلقاء نفسه بل يتكلم بكل ما يسمع" أي: من الله الذي أرسله، وهذا كما قال تعالى في صفته صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] . وقوله: "وهو يمجدني" فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه -عليهما السلام- مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك. قال ابن ظفر: فمن ذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق، وتحريف الكلم   "وفي ترجمة أخرى للإنجيل أنه قال: الفارقليط إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه" واستأنف قوله "ما" أي: الذي "يسمع" من ربه بواسطة الوحي في أغلب الأحوال هو الذي "يكلمهم به ويسوسهم" يدبرهم ويقوم بأمرهم "بالحق، ويخبرهم بالحوادث" والغيوب التي كانت وتكون إلى يوم القيامة، "وهو عند ابن طغر بك، بلفظ: فإذا جاء روح الحق ليس ينطق من عنده"، بجر الظرف بمن، "بل يتكلم بكل ما يسمع" أي: "يسمعه "من الله" بالوحي، "ويخبرهم بما يأتي وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم، فقوله: ليس ينطق من عنده" مبتدأ وعطف عليه قوله. "وفي رواية الأخرى" التي فوق هذه، "ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع من الله الذي أرسله، وهذا كما قال تعالى" في القرآن "في صفته صلى الله عليه وسلم {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} هوى نفسه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} جملة معترضة لبيان أن ما في الإنجيل موافق للقرآن وعطف على المبتدأ أيضًا، فقال: "وقوله: وهو يمجدني" وحذف الخبر، وهو دليل على أن المقول فيه ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعلل هذا الخبر المقدر، بقوله: "فلم يمجده حق تمجيده إلا" بمعنى غير "محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه وبرأ أمه" مريم "عليهما السلام مما نسب إليهما، وأمر أمته بذلك". قال ابن ظفر" محمد في البشر، "فمن ذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، من ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولله در أبي محمد عبد الله الشقراطسي حيث قال في قصيدته المشهورة: توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل أخبار أحبار تلك الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا في الأعصر الأول ويعجبني قول العارف الرباني أبي عبد الله بن النعمان حيث قال: هذا النبي محمد جاءت له ... توراة موسى للأنام تبشر وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرًا لأحمد معرب ومذكر ويرحم الله ابن جابر محمدًا حيث قال: لمبعثه في كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلي فجاء به إنجيل عيسى بآخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول   وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس" من عرض الدنيا، وانتصابهم أربابًا من دون الله، "ومن ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر بالغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم" فوقعت كما قال: وما لم يقع لا بد من وقوعه، كما قال: "ولله در أبي محمد عبد الله الشقراطسي حيث قال في قصيدته" اللامية "المشهورة": توراة موسى أتت عنه فصدقها ... إنجيل عيسى بحق غير مفتعل أخبار أحبار تلك الكتب قد وردت ... عما رأوا ورووا في الأعصر الأول ويعجبني قول العارف الرباني أبي عبد الله بن النعمام حيث قال: هذا النبي محمد جاءت له ... توراة موسى للأنام تبشر وكذاك إنجيل المسيح موافق ... ذكرًا لأحمد معرب ومذكر ويرحم الله ابن جابر محمدًا حيث قال: لمبعثه في كل جيل علامة ... على ما جلته الكتب من أمره الجلي فجاء به إنجيل عيسى بآخر ... كما قد مضت توراة موسى بأول والأبيات الستة غنية عن الشرح، وقد اعترض على المصنف وغيره ممن أكثر النقل عن التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب المنسوخة، فالاشتغال بها ينافي الغرض من نسخها، وقد حرم الفقهاء قراءتها والنظر فيها، وأنها محرفة مبدلة، ثم اختلفوا هل التحريف بالزيادة والنقص بتأويلها وتفسيرها بغير المراد منها، وأجيب؛ أنه لا مانع من قراءتها للعارف الفطن لمعرفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 وفي الدلائل للبيهقي عن الحاكم -بسند لا بأس به- عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث، وأنه أرسل إليهم ليلًا، قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا قال: هذا آدم عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر   النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولا لزامهم بما أنكروه وكيف يحرم لمثل هذا. وقد قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [المائدة: 43] ، ووقع في أحاديث النقل عنها وقال التجاني في شرح الشفاء: إذا وجد فيها ما يقوم النظر على عدم تبديله، وأفاد النظر فيه مقصدًا شرعيًا، فلا يبعد أن يباح النظر فيه والاشتغال به. "وفي الدلائل للبيهقي عن" شيخه "الحاكم" أبي عبد الله، المشهور "بسند لا بأس به عن أبي أمامة الباهلي"، صدى بالتصغير ابن عجلان، الصحابي، المشهور، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين، "عن هشام بن العاص الأموي" "بضم الهمزة" نسبة إلى أمية على القياس، وبفتحها على خلافه، وهو الأشهر عندهم، تقدم مرارًا، "قال: بعثت أنا ورجل آخر" من قريش، كما في نفس رواية البيهقي، أي: في زمن الصديق "إلى هرقل" "بكسر الهاء وإسكان الراء وفتح القاف" على المشهور "صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فذكر الحديث" وهو فنزلنا على جملة فدعوناه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود، فسألناه عن ذلك، قال: حلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام، فقلنا له: والله لنأخذن مجلسك هذا، ولنأخذن ملك الملك الأعظم، أخبرنا بهذا نبينا، قال: لستم بهم، ثم ذكر قصة دخولهم على هرقل، "وأنه أرسل إليهم ليلًا" واستخلى بهم "قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح واستخرج" أي: أخرج "حريرة سوداء، فنشرها فإذا فيها صورة حمراء، وإذا رجل" أي: وإذا تلك الصورة صورة رجل، "ضخم العينين عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان" "بالضاد المعجمة" خصلتان من الشعر، "أحسن ما خلق الله تعالى، قال: أتعرفون هذا؟، قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 وأخرج حريرة فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، والله إنه قام قائمًا ثم جلس وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه لآخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم. الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم. قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال.   فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة" عظيم الرأس، "حسن اللحية، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام، ثم فتح بابًا آخر وأخرج حريرة، فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا فيها -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعرفون هذا"؟ أسقط من رواية البيهقي، فبكينا، "قلنا: نعم، محمد رسول الله ونبينا، والله إنه" أي: هرقل "قام قائمًا، ثم جلس" تعظيمًا لصورته، "وقال: إنه لهو؟ قلنا: نعم، إنه لهو كأنك تنظر إليه، فأمسك ساعة" مدة من الزمن "ينظر إليها، ثم قال: أما" بالفتح والتخفيف، "والله إنه لآخر البيوت، ولكن عجلته لكم لأنظر ما عندكم" من العلم بنبيكم "الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان وغيرهم". "قال: فقلنا له: من أين لك هذه الصور؟ فقال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده فأنزل عليه صورهم" إجابة لسؤاله، "فكان في خزانة آدم" أي: ذلك المنزل من صورهم مع صورة آدم "عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال" النبي عليه السلام، ثم تنقلت إلى أن وصلت إلى هرقل. وفي بقية خبر البيهقي: ثم قال هرقل، لو طابت نفسي بالخروج من ملكي لوددت أني كنت عبدًا لأميركم حتى أموت، قال: فلما رجعنا حدثنا أبا بكر، فبكى، ثم قال: لو أراد الله به خيرًا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يعرفون نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال في الإصابة: وقد تقدم فيترجمة عدي بن كعب نحو هذه القصة، لكن فيها أنه هشام بن العاصي السهمي، فالله أعلم، وقال فيما تقدم: لا أعرف نسب عدي بن كعب، روى المعافى في الجليس عن عبادة بن الصامت، قال: بعثني أبو بكر ومعي عمرو بن العاصي وأخوه هشام بن العاصي وعدي بن كعب ونعيم بن عبد الله إلى ملك الروم، فدخلنا على جبلة، فذكر قصة طويلة نحو ورقتين، وإسناده ضعيف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 وفي زبور داود عليه السلام، من مزمور أربعة وأربعين: فاضت النغمة من شفتيك، من أجل هذا باركك الله إلى الأبد، تقلد أيها الجبار سيفك، فإن شرائعك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك. فهذا المزمور ينوه بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنعمة التي فاضت من شفتيه هي القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه والسنة التي سنها. وفي قوله: "تقلد سيفك أيها الجبار" دلالة على أنه النبي العربي، إذ ليس يتقلد السيف أمة من الأمم إلا العرب، وكلهم يتقدلونها على عواتقهم.   وقد أخرجها البيهقي عن هشام بن العاصي الأموي، "وفي زبور داود عليه السلام من مزمور": مفرد مزامير، كمزمار "أربعة وأربعين" أي: المتمم لها، وهي ما كان يتغنى به من الزبور وضروب الدعاء، "فاضت النغمة من شفتيك، من أجل هذا باركك" أي: جعلك "الله" مباركًا، وفي ابن ظفر، عن الزبور مخاطبًا المصطفى لتنزيله منزلة الموجود، لتحققه عنده: فاضت الرحمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك "إلى الأبد تقلد" أمر "أيها الجبار" من أسمائه صلى الله عليه وسلم، لجبره الخلق على الحق وصرفهم عن الكفر، أو لإصلاحه أمته بالهداية والتعليم، أو لقهر أعدائه، أو لعلو منزلته على الخلق وعظيم خطره، ونفى تعالى عنه جبرية التكبر، فقال: وما أنت عليهم بجبار "سيفك" أي: اجعل حمائله على عاتقك، واجعله كالقلادة، وفيه إشارة إلى أنه سيؤمر بالجهاد، "فإن شرائعك": جمع شريعة "وسنتك". كذا في النسخ، والذي قدمه المصنف في الأسماء، ومثله في الشفاء، وابن ظفر وابن دحية؛ فإن ناموسك وشرائعك، والمراد بالناموس الوحي النازل عليك، ويحتمل أن شرائع عطف تفسير، ولذا وحد الخبر في قوله: مقرونة بهيبة يمينك" أي: بالخوف من سيفك، فكنى عنه بذلك، أو تجوز باليمين عما فيه، "وسهامك مسنونة، وجمع الأمم يخرون تحتك"، باملعجمة من الخرور، وهو السقوط، أي: يخضعون ويذلون لك، "فهذا المزمور ينوه يرفع "بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالنعة التي فاضت من شفتيه هي القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه" أي: القرآن "والسنة التي سنها"، إذ لا ينطق عن الهوى. "وفي قوله: تقلد سيفك أيها الجبار دلالة على أنه النبي العربي، إذ ليس يتقلد السيف أمة من الأمم إلا العرب، وكلهم يتقلدونها على عواتقهم" بخلاف غيرهم، فيجعلونها في أوساطهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 وفي قوله "فإن شرائعك وسنتك" نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه. و"الجبار" الذي يجبر الخلق بالسيف على الحق ويصرفهم عن الكفر جبرًا. وعن وهب بن منبه قال: قرأت في بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لأنزلن على جبال العرب نورًا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إساعيل نبيًا عربيًا أميًا يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بي ربًا، وبه رسولًا، ويكفرون بملل آبائهم ويفرون منها، قال موسى: سبحانك وتقدمت أسماؤك، ولقد كرمت هذا النبي وشرفته، قال الله: يا موسى، إني أنتقم من عدوه في الدنيا والآخرة، وأظهر دعوته على كل دعوة، وأذل من خالف شريعته، وبالعدل زينته، وللقسط أخرجته، وعزتي لأستنقذن به أممًا   "وفي قوله: فإن شرائعك وسنتك نص صريح على أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه" قهرًا على من خالف، "والجبار الذي يجبر الخلق بالسيف على الحق" وهو التوحيد، "ويصرفهم عن الكفر"، وهو ما خالف الإيمان والتوحيد، "جبرًا" عليهم، كما قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، "وعن وهب بن منبه" "بضم الميم وفتح النون وكسر الموحدة الثقيلة" ابن كامل اليماني، أبي عبد الله الأبناري "بفتح الهمزة وسكون الباء بعدها نون"، تابعي، ثقة، رواه له الشيخان وغيرهما، مات سنة بضع عشرة ومائة، "قال: قرأت في بعض الكتب القديمة، قال الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لأنزلن على جبال العرب" أهل مكة وما حولها "نورًا يملأ ما بين المشرق والمغرب، ولأخرجن من ولد إسماعيل" بن إبراهيم "نبيًا" رسولًا، "عربيًا أميًا" لا يقرأ ولا يكتب، "يؤمن به عدد نجوم السماء ونبات الأرض، كلهم يؤمن بي ربًا، وبه رسولًا، ويكفرون بملل" "بامين: جمع ملة "آبائهم، ويفرون منها" من الفرار، أي: يهربون. "قال موسى" بن عمران عليه السلام: "سبحانك" تنزيهًا لك عما لا يليق بك، "وتقدمت أسماؤك، ولقد كرمت": فضلت "هذا النبي وشرفته" على من سواه، "قال الله: يا موسى، إني أنتقم من عدوه": الكفار "في الدنيا"، بالقتل والأسر، والإجلاء والقحط، والسنين وغير ذلك "و" في "الآخرة" بالعذاب المخلد، "وأظهر دعوته على كل دعوة"، وسلطانه ومن اتبعه على البر والبحر، وأخرج لهم من كنوز الأرض، هذا تركه المصنف من البشر قبل قوله: "وأذل من خالف شريعته" ولو كان له سلطان، فهو أبدًا ذليل، خائف من سطوة الإسلام وعزه، "وبالعدل" الإنصاف "زينته وللقسط" أي: العدل "أخرجته" فلا يحكم ولا يأمر إلا به، "وعزتي لأستنقذن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وأختمتها بمحمد، فمن أدركه ولم يؤمن به ولم يدخل في شريعة فهو من الله بريء. ذكر ابن ظفر وغيره.   به أممًا من النار، فتحت الدنيا بإبراهيم وختمتها بمحمد"، مثل كتابه الذي يجيء به، فاعقلوه يا بني إسرائيل، كمثل السقاء المملوء لبنًا، يمخفض فيخرج زبدًا، بكتابه أختم الكتب، وبشريعته أختم الشرائع، هذا أسقطه المصنف من كتاب البشر قبل قوله: "فمن أدركه ولم يؤمن" يصدق "به" باطنًا، "ولم يدخل في شريعته" ظاهرًا، "فهو من الله بريء". "ذكره ابن ظفر" في البشر "وغيره" وبقيته: أجعل أمته يبنون في مشارق الأرض ومغاربها مساجد، إذ ذكر اسمي فيها ذكر اسم ذلك النبي معي، لا يزول ذكره من الدنيا حتى تزول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 النوع الخامس: في آيات تتضمن أقسامه تعالى على تحقيق رسالته وثبوت ما أوحى إليه من آياته وعلو رتبته الرفيعة ومكانته وهذا النوع -أعزك الله- لخصت أكثره من كتاب أقسام القرآن للإمام العلامة ابن   النوع الخامس: في آيات تتضمن أقسامه تعالى على تحقيق رسالته": ثبوتها "وثبوت ما أوحى إليه" مستفاد من سابقه؛ لأنه متى تحققت رسالته قطع بصدقه في كل ما يقول، وقد أخبر؛ بأن القرآن من الله، فيكون حقًا، لكنه أراد التنبيه على أنه أقسم عليه بخصوصه اعتناء بشأنه، وسئل ما معنى القسم منه سبحانه مع أن القصد به تحقيق الخبر وتوكيده، فإن كان لأجل المؤمن، فهو مصدق بمجرد الأخبار بلا قسم، وإن كان للكافر، فلا يفيد فيه، وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت توكيد أمر، وأجاب القشيري؛ بأن الله أقسم لكمال الحجة وتوكيدها؛ لأن الحاكم يفصل إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر الله تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة، فقال: {شْهِدُ اللَّه} ، وقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} ، "من آياته" القرآن، وهو الظاهر من استدلاله عليه، بقوله الآتي: إنه لقرآن كريم ويحتمل ما هو أعم، ودليله {وَالنَّجْم} إلى قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ} ، "وعلو" أي: ارتفاع "رتبته" منزلته "الرفيعة" العلية الشريفة، فهو من الوصف بالمساوي حسنه اختلاف اللفظ، وهو سائغ شائع، كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، "ومكانته" أي: مرتبته المعنوية، وهي الرفعة فهو عطف تفسير والمكان معروف إذا زيدت فيه الهاء أريد به المرتبة المعنوية كالمنزل والمنزلة، "وهذا النوع أعزك الله" جملة معترضة دعائية، "لخصت أكثره من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 القيم، مع زيادات من فرائد الفوائد. فاعلم أن الله تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه الموصوفة بصفاته، وبآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه من عظيم آياته. ثم تعالى تارة يذكر جواب القسم وهو الغالب وتارة يحذفه. وتارة يقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على أن الجزاء والوعد   كتاب أقسام القرآن للإمام العلامة ابن القيم" محمد بن أبي بكر، "مع زيادات من فرائد"، أي: نفائس "الفوائد" وغرائبها، وهي الجواهر النفيسة، فهي من إضافة الصفة للموصوف، أي: الفوائد النفيسة، كالجواهر أو حقيقية. وإذا أردت ذلك، "فأعلم أن الله تعالى أقسم بأمور على أمور، وإنما أقسم بنفسه"، أي: بالألفاظ الدالة على ذاته، "الموصوفة بصفاته"، وذلك في سبعة مواضع من القرآن {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَق} [يونس: 53] ، وقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن: 7] ، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُم} [مريم: 68] ، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] ، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون} [النساء: 65] ، {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] ، {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] . والباقي كله أقسم بمخلوقاته، كما قال: "و" أقسم "بآياته المستلزمة لذاته وصفاته" لدلالة إلا آيات على الصانع، وأورد: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله أجيب؛ بأن المراد بنحو، قوله: والقلم ورب القلم. وكذا الباقي، وبأن العرب كانت تعظم هذه الأشياء، أو تقسم بها، فنزل القرآن على ما تعرفه، وبأن الأقسام إنما يكون بما يعظمه المقسم ويجله، وهو فوقه والله تعالى ليس فوقه شيء، فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته؛ لأنها تدل على بارئ وصانع، "وأقسامه ببعض مخلوقاته دليل على أنه" أي: ذلك البعض "من عظيم آياته" من إضافة الصفة للموصوف. قال ابن القيم: والقسم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} وأما على جملة طلبية، كقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق المقسم به والمقسم عليه، ويراد بالمقسم توكيده وتحقيقه، "ثم تعالى تارة بذكر جواب القسم، وهو الغالب، وتارة يحذفه، وتارة يقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على أن الجزاء والوعد" بالخير، "والوعيد" بالشر "حق". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 والوعيد حق. فالأول: كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 75-79] . والثاني: كقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1-3] . والثالث: كقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 10] ، إلى قوله: {إِنَّ الدِّينَ لَوَاقِع} . وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق، ثبت أن القرآن حق، وثبت المعاد، ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به. وفي هذا النوع خمسة فصول.   "فالأول" وهو أن القرآن حق، "كقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} بزيادة لا {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بمساقطها لغروبها، {وَإِنَّهُ} ، أي: القسم بها {لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، {إِنَّهُ} ، أي: المتلو عليكم {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد، أو حسن مرضى في جنسه {فِي كِتَابٍ} مكتوب {مَكْنُونٍ} مصون، وهو المصحف، {لَا يَمَسُّهُ} خبر بمعنى النهي {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 75] ، أي: الذين طهروا أنفسهم من الأحداث، ويأتي بسط هذا. "والثاني: كقوله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 1] ، أي: طريق الأنبياء قبلك التوحيد والهدى، والتأكيد بالقسم وغيره رد لقول الكفار لست مرسلًا. "والثالث، كقوله: {وَالذَّارِيَاتِ} الرياح تذر التراب وغيره {ذَرْوًا} [الذاريات: 1] الآية، إلى قوله: {إِنَّ الدِّينَ} الجزاء بعد الحساب {لَوَاقِع} [الذاريات: 6] الآية، لا محالة، "وهذه الأمور الثلاثة" القرآن والرسول والمعاد، المعبر عنه أولا بالجزاء والوعد والوعيد "متلازمة، فمتى ثبت أن الرسول حق ثبت أن القرآن حق"؛ لأن الرسول اخبر بأنه من عند الله، ومحال على الرسول الكذب، "وثبت المعاد" الرجوع يوم القيامة الذي أخبر به، "ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به، ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به" لاستحالة خلاف صدقه مع حقيقتهما، "في هذا النوع خمسة فصول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 الفصل الأول: في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه من الفضل العميم قال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1-4] . {ن} من أسماء الحروف كـ {الم} و {المص} و {ق} . واختلف فيها، فقيل: هي أسماء للقرآن، وقيل: أسماء للسور. وقيل: أسماء لله، ويدل عليه أن عليًا رضي الله عنه كان يقول:   "الفصل الأول": في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم وحباه" بموحدة أعطاه بلا أجر، فلم يحتج إلى أن يقول به، ولا إلى تبيينه، وأما قوله: "من الفضل العميم" فبيان لما المستفادة من العطف، "قال الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} . قال ابن عطية: معناه يكتبون سطورًا، فإن أراد الملائكة، فهو كتب الأعمال وما يوزن به، وإن أراد بني آدم، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها، {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، أي: انتفى الجنون عنك بسبب إنعام ربك عليك بالنبوة وغيرها، وهذا رد لقولهم: إنه مجنون، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} ثوابًا {غَيْرَ مَمْنُونٍ} منقطع، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1] الآية، أتى بعلي إشارة لاستعلائه عليه، لكونه مجبولًا عليه بغير تكلف، {ن} من أسماء الحروف كـ {الم} و {المص} و {ق} ، واختلف فيها، فقيل: هي أسماء للقرآن" قاله مجاهد: رواه ابن جرير وقتادة، ورواه عبد بن حميد، أي: أن فاتحة كل سورة ابتدأت بنحو هذه الأحرف اسم للقرآن بتمامه ولذا أخبر عنها بالكتاب في قوله: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} ، والقرآن في قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1] . "وقيل: أسماء للسور" وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل وسيبويه، قاله اإمام الرازي، وقد نقض هذا القول بأمور أحسنها أن أسماء السور توقيفية، ولم يرد مرفوعًا ولا موقوفًا عن أحد من الصحابة، ولا التابعين أن هذه أسماء للسور، فوجب إلغاء هذا القول ونقضه الرازي، بأنها لو كانت أسماء لها لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت بغيرها، كسورة البقرة وآل عمران، "وقيل: أسماء لله"، قاله ابن عباس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 يا {كهيعص} [مريم: 1] ، {حم، عسق} [الشورى: 1-2] ، كما قيل: ولعله أراد يا منزلهما. وقيل: إنه سر استأثر الله بعلمه، وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة ما يقرب منه، ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله، لم يقصد بها إفهام غيره، إذ يبعد الخطاب من الله بما لا يفيد.   أخرجه ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي، بإسناد صحيح، "ويدل عليه، أن عليًا رضي الله عنه كان يقول: يا {كهيعص} يا {حم، عسق} . أخرجه ابن ماجه في تفسيره عن فاطمة بنت علي بن أبي طالب إنها سمعته يقول: يا كهيعص اغفر لي، "كما قيل": إن قول على ذلك يدل على أنها أسماء الله، "ولعله أراد يا منزلهما"، كما قال البيضاوي، فلا يدل على ذلك، قال السيوطي: يرده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله: {كهيعص} ؛ أن معناه يا من يجير ولا يجار عليه، ومثله ما أخرجه عن شهب، قال: سألت مالكًا أينبغي لأحد أن يسمى بيس، قال: لا، يقول الله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} يقول: هذا اسمي تسميت به. وكذا حديث: إن أتيتم الليلة، فقولوا: حم ولا ينصرون، "وقيل: إنه سر" أي: أمر خفي "استأثر الله بعلمه". أخرجه أبو الشيخ وابن المنذر عن داود بن أبي هند، قال: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرًا، وإن سر هذا القرآن فواتحه، فدعها وسل عما بدا لك. "وقد روي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة" فحكاه الثعلبي وغيره عن أبي بكر وعلي وكثير، وحكاه السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود، ونقله الرازي عن ابن عباس "ما يقرب منه". وحكاه القرطبي عن الثوري والربيع بن خيثمة وابن الأنباري وأبي حاتم وجماعة من المحدثين، واختاره ومال إليه الرازي، "ولعلهم أرادوا أنها أسرار بين الله ورسوله لم يقصد بها إفهام غيره" لا أنه أمر انفرد بعلمه تعالى، كما قد يقتضيه لفظ استأثر، "إذ يبعد الخطاب من الله" لرسوله "بما لا يفيد" وهذه عبارة البيضاوي في أول البقرة وما ترجاه، جزم به العلم السخاوي، فقال: المروي عن الصدر الأول في التهجي أنها أسرار بين الله وبين نبيه صلوات الله عليه، وقد يجري بين المحترمين كلمات معميات، تشير إلى سر بينهما، وتفيد تحريض الحاضرين على استماع ما بعد ذلك، وها معنى على قول السلف: حروف التهجي ابتلاء لتصديق المؤمنين وتكذيب الكافرين، هذا وهي أعلام توقظ من رقدة الغفلة بنصح التعليم، وتنشط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 وهل المراد بقوله هنا: {ن} اسم الحوت، وهل المراد به الجنس أو اليهموت وهو الذي عليه الأرض. وقيل: المراد به الدواة وهو مروي عن ابن عباس، ويكون هذا قسمًا بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق وتارة بالكتابة. قيل: إن "نون" لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به الله. رواه معاوية بن قرة مرفوعًا.   في إلقاء السمع على شهود القلب للتعظيم. انتهى. "وهل المراد بقوله هنا {ن} اسم الحوت" أو غيره فيه خلاف، فحذف عديل هل لعلمه من قوله الآتي، وقيل: المراد الدواة، "و" على القول بأنه الحوت "هل المراد به الجنس" يعني، أي: حوت كان "أو اليهموت، وهو الذي عليه عليه الأرض"، وبهذا علم سقوط دعوى زيادة هل الثانية. "وقيل: المراد به الدواة" عللة البيضاوي؛ بأنه بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادًا من الحبر يكتب به، "وهو مروي عن ابن عباس" وقتادة والضحاك. قال ابن عطية: فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب أو تكون لفظة أعجمية عربت، وقال الشاعر: إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم فمن قال: إنه اسم الحوت جعل القلم الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات، وجعل ضمير يسطرون للملائكة، ومن قال: اسم للدواة جعل القلم هذا المتعارف بين الناس، ونصر ذلك ابن عباس، وجعل الضمير في يسطرون للناس، "ويكون هذا قسمًا بالدواة والقلم" الذي يكتب به، "فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق، وتارة بالكتابة" وفي ابن عطية، فجاء القسم على هذا بمجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان وفطنة الفطنة ونعمة من الله عامة. انتهى. "قيل: إن نون" بالفتح بلا تنوين اسم أن، أو بالسكون على الحكاية، وقرئ بالفتح والكسر، ص "لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يأمرهم به الله، رواه معاوية بن قرة" "بضم القاف وشد الراء" ابن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري، التابعي، الثقة، من رجال الجميع، مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وهو ابن ست وسبعين سنة، "مرفوعًا" مرسلًا، "وعلى المروي عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 وأقسم الله تعالى بالكتاب وآلته هو القلم الذي هو إحد آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه، وكتب به الوحي، وقيد به الدين، وأثبت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به بمصالح العباد في المعاش والمعاد، وأقام به في الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه، وواعظًا تشفي مواعظه القلوب من السقم، وطبيبًا يبرئ بإذن باريه من أنواع الألم على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود في كل أقواله، وأفعاله مما عمصته أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له بقوله   ابن عباس؛ أن المراد به الدواة، فقد "أقسم تعالى بالكتاب" أي: بمجموع أمر الكتاب، كما مر عن ابن عطية، وهو الدواة "وآلته" أي: الكتاب بمعنى المكتوب "هو القلم" وأبعد من قال، أي: في قوله: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1] ، وفي قوله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ؛ لأن بقية السياق ترده، وأقواه قوله على تنزيه نبيه بقوله: ما أنت "الذي هو أحد آياته" هذا لا يظهر على قوله السابق بالدواة والقلم. إلخ. نعم هو ظاهر على أنه الذي خط في اللوح، لكن قد علمت أن ابن عطية إنما فرعه عن أن ن اسم للحوت، وإن من قال: اسم للدواة جعل القلم هذا المتعارف، "وأول مخلوقاته" في أحد القولين، والأصح أن للعرش خلق قبله، كما مر، "الذي جرى به قدره وشرعه وكتب به الوحي"، أي: بالقلم لا بالمعنى السابق الذي كتب به الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه استخدام، ويحتمل رجوعه إليه بالمعنى الأول على ضرب من المجاز، بأن يراد بالوحي الموحى، أي: كتب به الوحي، ويؤيد الاستخدام قوله، "وقيد به الدين" أي: حفظه بكتابة ما يدل عليه، "وأثبت به الشريعة، وحفظت به العلوم، وقامت به مصالح العباد في المعاش" والمعاد، فإن هذه كلها صفات للقلم الذي يخط به الناس، لا سيما قوله، "وأقام به في الناس أبلغ خطيب" بكتابة ما حصل للخطيب به الرفعة على غيره، واتصافه بقوله: "وأفصحه وأنفعه لهم، وأنصحه وواعظًا، تشفي مواعظه القلوب من السقم" وبالجملة فقد لفق المصنف بين القولين في القلم، "وطبيبًا يبرئ" بضم التحتية وبالهمز من أبرئ الله من المرض "بإذن باريه" أي: الذي يبري القلم للكتابة به، والياء أصلية أو منقلبة عن واو؛ لأن في المصباح بريت القلم بريًا من باب رمي، فهو مبري، وبروته لغة "من أنواع الألم" أي: المرض، وذكر صلة قوله: وأقسم "على تنزيه نبيه ورسوله محمد المحمود" الممدوح "في كل أقواله وأفعاله"، وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم "مما عمصته" "بفتح العين المعجمة وكسر الميم وفتحها وفتح الصاد مهملة ومعجمة": احتقرته وعابته "أعداؤه الكفرة". وقال ابن حبيب في غريب الموطأ: الغمض، بضاد معجمة تصغير النعمة وتحقيرها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} [القلم: 2] . وكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة عن معارضته، وكلت عن مماثلته، وعرفهم عن الحق بما لا تهتدي إليه عقولهم، بحيث أذعنت له عقول العقلاء، وخضعت له ألباب الألباء، وتلاشت في جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له، والانقياد والإذعان طائعة مختارة، فهو الذي يكمل عقولها كما تكمل الطفل برضاع الثدي. ثم أخبر تعالى عن كمال شريعة نبيه في دنياه وآخرته فقال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أي: ثوابًا غير منقطع، بل هو دائم، ونكر الأجر للتعظيم، أي   وبصاد مهملة إذا صغر الناس وازدرى بهم، واستحسن هذا الفرق بعد أن قال أنهما سواء، الآية، "وتكذيبهم له" بالحر، عطف على مان أي: نزهه عن تكذيبهم له، وهو وقاع "بقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون} ؛ لأن معنى الآية بسبب أنه تعالى أنعم عليك بكمال العقل والمعرفة، فأفادت تنزيهه عن الكذب، وأن تكذيبهم له كلا تكذيب لعدم الاعتداد به مع قيام الدليل على خلافه، "وكيف يرمى بالجنون" استفهام إنكاري، وهو أن يكون ما بعد أدلته عير واقع، ومدعيه كاذبًا، "من أتى بما عجزت العقلاء قاطبة"، أي: جميعًا "عن معارضته، وكلت" أعيت وعجزت "عن مماثلته، وعرفهم عن الحق" سبحانه "بما لا تهتدي إليه عقولهم، بحيث أذعنت": انقادت "له عقول العقلاء" ولم تستعص عليه، "وخضعت": ذلت "له ألباب" جمع لب، بزنة قفل وأقفال "الألباء" جمع لبيب، بزنة أشحاء وشحيح، أي: عقول وأصحاب العقول الراجحة، "وتلاشت" أي: خست حتى صارت بمنزلة العدم "في جنب ما جاء به، بحيث لم يسعها إلا التسليم له والانقياد والإذعان"، عطف خاص على عام؛ لأنه انقياد بلا استعصاء، بخلاف مطلق الانقياد، فقد يكون معه استعصاء، "طائعة مختارة، فهو الذي يكمل" "بشد الميم المكسورة" "عقولها كما تكمل الطفل برضاع الثدي، ثم" بعد أن نزهه وبرأه، "أخبر تعالى عن كمال شريعة نبيه في دنياه وآخرته" لفظ الشفاء، ثم أعلمه سبحانه، بما له عنده من نعيم دائم وثواب غير منقطع، لا يأخذه العد، ولا يمن به عليه، "فقال" بالفاء لتفرعه على ما قبله من الأخبار، أو تفصيل له في الجملة، {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} ، وعطفه أولًا بثم، إشارة إلى بعد ما بين الأمرين، تعبه السريع الانقطاع، ونعيمه الدائم، الواقع في مقابلة تكذيبهم له، والأجر المضاف على عمله، وصبره على طعنهم ورميهم بما لا يليق، ففيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: لا تحزن، فقد تبين كذبهم بداهة، فلا نقص يعود عليك مما قالوه، فلك نعيم مؤيد في مقابلته، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 أجرًا عظيمًا لا يدركه الوصف ولا يناله التعبير. ثم أثنى عليه بما منحه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن" ومن ثم قال ابن عباس وغيره: أي على دين عظيم، وسمي الدين خلقًا؛ لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة، وأقوال مطابقة للحق، تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكسب النفس بها أخلاقًا حسنة هي   ولصبر على الشدائد والمقاساة في التبليغ، ففيه تثبيت وتخصيص، "أي: ثوابًا" تفسير لأجرًا "غير منقطع، بل هو دائم" تفسير قوله {غَيْرَ مَمْنُونٍ} . وفي ابن عطية اختلف في معنى ممنون، فأكثر المفسرين أنه الواهن المنقطع، وقيل: ضعيف، وقيل: غير ممنون عليك، أي: لا يكدره من به، وقال مجاهد: معناه غير مضر ولا محسوب، أي: بغير حساب. انتهى. "ونكر الأجر للتعظيم، أي: أجرًا عظيمًا، لا يدركه الوصف، ولا يناله التعبير" المتعارف للناس، أي: يقصر عن أدائه لكثرته، وأتى بتأكيدات أربع للاهتمام والتقرير والإنكار وزيادته، فأكد المجموع بالمجموع، أو هي موزعة على ما ذكروا، إن لم يكن صلى الله عليه وسلم منكرًا؛ لأنه قد يراعي حال السامع، كما في التعريض، "ثم أثنى عليه" مدحه "بما منحه" أعطاه من مواهبه السنية، "فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] الآية، مؤكدًا بأن مع القسم واللام واسمية الجملة تتميمًا للتعظيم، "وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته، ولقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: كان" أحسن الناس خلقًا كان "خلقه القرآن" يرضي لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ثم قالت: اقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون} ، إلى العشر، فقرأ السائل، فقالت: هكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره مطولًا، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود، عنها بلفظ: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، "ومن ثم قال ابن عباس وغيره" تفسيرًا لقوله على خلق، "أي على دين عظيم، وسمي الدين خلقًا؛ لأن الخلق" الحسن "هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية"، صالحة نامية، "وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل" الإنصاف "والحكمة" وهي تحقيق العلم وإتقان العمل، وتطلق على أمور، "والمصلحة" التي يقتضيها، "وأقوال مطابقة للحق" لا كذب فيه أصلًا، "تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها. وهذه كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة من القرآن، فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلًا وتبيينًا، وعلومه علوم القرآن، وإرادته وأعمال ما أوجبه وندبه إليه القرآن، وإعراضه وتركه لما منع القرآن، ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته فيما كرهه، فيه ومحبته فيما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين عائشة لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها: "كان خلقه القرآن"، وفهم السائل عنها هذا المعنى فاكتفى به واشتفى. ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم قال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّيكُمُ}   فتكتسب النفس بها أخلاقًا حسنة، هي أزكى": أنمى "الأخلاق وأشرفها وأفضلها" عطف تفسير، وهذا كله بيان للمراد بالخلق الحسن في استعمالهم، وهي آثار تترتب عليه، إذ الخلق الطبيعة، وهذه الكمالات ليست نفس الطبيعة، وتكون حسنة وقبيحة. قال ابن الأثير: الخلق "بضم اللام وسكونها" الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافه، معانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة، وأوصافها ومعانيها، ولها أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، "وهذه" الأخلاق الحميدة "كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة" أي: المأخوذة "من القرآن فكان كلامه مطابقًا للقرآن تفصيلًا وتبيينًا" تفسيري، "وعلومه علوم القرآن، وكانت "إرادته وأعماله ما أوجبه" طلبه طلبًا جازمًا، "وندبه" طلبه طلبًا غير جازم "إليه القرآن، إعراضه وتركه لما منع القرآن" منه، "ورغبته فيما رغب فيه، وزهده فيما زهد فيه، وكراهته فيما كرهه" بخفة الراء، ليناسب قوله بعد أحبه "فيه ومحبته فيما أحبه، وسعيه في تنفيذ أوامره، فترجمت أم المؤمنين عائشة، لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول، وحسن" فعل ماض عطف على فترجمت "تعبيرها" أو هو بضم الحاء وسكون السين والجر عطف على الكمال والأول أظهر" "عن هذا كله، بقولها: كان خلقه القرآن، وفهم السائل عنها هذا المعنى، فاكتفى به واشتفى" من داء الجهل، بمعنى أنه زوال ما كان عنده من التوقف الحامل على السؤال، حتى كأنه برئ من دائه، ومر مزيد لشرح هذا في الفصل الثاني من المقصد الثالث. "ولما وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم، قال" مسليًا له عما قالوه في حقه بما وعده من عقابهم وتوعدهم: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون} [القلم: 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 الْمَفْتُونُ} أي فسترى يا محمد وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظمًا في القلوب، ويصيرون أذلاء مغلوبين وتستولي عليهم بالقتل والنهب.   قال أبو عثمان المازني: هنا تم الكلام، واستأنف قوله: {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] الآية. قال الأخفش: بل هو عامل في الجملة المستفهم عنها في معناها، أي: أيكم الذي فتن بالجنون والباء زائدة، قاله قتادة وأبو عبيدة معمر. وقال الحسن والضحاك: المفتون بمعنى الفتنة، فالمعنى بأيكم الجنون، على أن المفتون مصدر كالمعقول، أي: العقل. وقيل: المعنى بأي: الفريقين منكم المجنون، أبفريق المؤمنين أو بفريق الكافرين أي: في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهذا معنى قول الأخفش: المعنى بأيكم فتنة المفتون. قال ابن عطية: وهذا قول حسن، قليل التكلف، "أي: فسترى يا محمد، وسيرى المشركون كيف عاقبة أمرك، فإنك تصير معظمًا في القلوب، ويصيرون أذلاء" جمع ذليل، "مغلوبين، وتستولي عليهم بالقتل والنهب" تفسير لقوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 الفصل الثاني: في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه وأظهره من قدره العلي لديه قال الله: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} السورة [الضحى: 1-3] .   الفصل الثاني: "في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه"، الأظهر على إنعامه، كما عبر به قريبًا؛ لأن ما فعله الله مع رسوله هو حقيقة الأنعام وما قام به صلى الله عليه وسلم هو المنعم به إلا أن يقال أنه من حيث صدوره عن الله تعالى، فيساوي ما بعده، "وأظهره من قدره العلي لديه" عنده. "قال الله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1] ، معناه سكن واستقر ليلًا تامًا، وقيل: معناه أقبل وقيل: أدبر وأقبل، والأول أصح، يقال: بحر ساج، أي: ساكن، ومنه قول الأعشى: وما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدعامصا وطرف ساج إذا كان ساكنًا غير مضطرب النظر، قاله ابن عطية، والمراد سكون الأصوات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 أقسم الله تعالى على إنعامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه في الآخرة فهو قسم على النبوة والمعاد.   أو أصحابه {مَا وَدَّعَكَ} قرأ الجمهور بشد الدال من التوديع، وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام بتخفيف الدال بمعنى تركك. وكذا قرأ مقاتل وابن أبي عيلة، وفي الحديث: "لينتهن قوم عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين"، أخرجه مسلم وغيره، ولينتهن "بضم الياء التحتية وفتح الفوقية والهاء"، ليدل على واو الضمير المحذوفة، إذ أصله لينتهونن، وفي الحديث أيضًا: "شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره"، وقال الشاعر: فكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعًا من الذي ودعوا فلا عبرة بزعم النحاة، أن العرب أماتت ماضي يدع، ومصدر واسم الفاعل استغناء بترك، لوروده عن سيد الفصحاء قراءة وحديثًا للماضي، ومصدرا في الحديث الصحيح، وفي شعر العرب، وما هذا سبيله يجوز القول بقلة استعماله، ولا يجوز القول بالإماتة. وقال الطيبي يحمل كلام النحاة على قلة استعماله مع صحته قياسًا، لكن قال السيوطي، رواه الطبراني الحديث بإسناد حسن، بلفظ: "لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة، لا يأتونها، أو ليطعن الله على قلوبهم"، فعلم أن الرواية الأوى من تغيير الرواة، لا من لفظ النبوة. ا. هـ، الآية، فإن سلم له ذلك، فكيف يصنع في القراءة والبيت العربي، مع أن أصل هذا الكلام التابع فيه لأبي حيان، مردود بأنه يرفع الوثوق بالحديث أصلًا، إذ كل لفظة يحتمل أنها من تغيير الرواة، فالوجه الجمع بأن يكون صلى الله عليه وسلم نطق باللفظين، ويؤيده اختلاف المخرج {رَبُّكَ وَمَا قَلَى} أي: ما أبغضك، "السورة" بالنصب بتقدير اقرأ أو أذكر، "أقسم الله تعالى على إنعامه على رسوله صلى الله عليه وسلم وإكرامه له"، أي: توقيره واللطف به، "وإعطائه ما يرضيه" في الدارين، "وذلك متضمن لتصديقه له" في دعواه: الرسالة، "فهو قسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد" جميعًا من قوله، والآخرة خير بناء على أن المراد بها القيامة. قال ابن عطية: يحتمل أن يريد الدنيا والآخرة، وهذا تأويل ابن إسحاق وغيره، ويحتمل أن يريد حالته في الدنيا قبل نزول السورة وبعدها، فوعده الله على هذا التأويل بالنصر والظهور انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 وأقسم الله تعالى بآيتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته ووحدانيته، وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، وفسر بعضهم -كما حكاه الإمام فخر الدين- الضحى بوجهه صلى الله عليه وسلم والليل بشعره، وقال: ولا استبعاد فيه. وتأمل مطابقة هذا القسم فيه، وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل، للمسقم عليه وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة   وقيل: أحولك الآتية خير من السابقة في الدارين، "وأقسم الله تعالى بآيتين عظيمتين من آياته"، كما قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَار} [فصلت: 37] ، "دالتين على ربوبيته ووحدانيته وحكمته ورحمته" بيان لكونهما من الآيات، "وهما الليل" بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} والنهار، بقوله: {وَالضُّحَى} ففسره بقول قتادة الضحى هنا النهار، وكله وأيد بقوله أن يأتيهم بإسناد ضحى في مقالة بياتًا، وهو مجاز، إذ الضحى ارتفاع الضوء وكماله وبه فسر مجاهد، فخصه؛ لأن النهار يقوي فيه، أو كلم الله موسى فيه، وألقي السحرة سجدًا، "وفسر بعضهم كما حكاه الإمام فخر الدين الضحى بوجهه صلى الله عليه وسلم، والليل بشعره" وعليه فمعنى {إِذَا سَجَى} اشتد سواده، وظهر بزوال غبار نحو السفر عنه، ففيه استعارة. "وقال" الرازي: "ولا استبعاد فيه"؛ لأن وجهه صلى الله عليه سولم كان شديد النور، بحيث يقع نوره على الجدر إذا قابلها، وكأن الشمس تجري في وجهه، وكان شعره شديد السواد، فلا يبعد إطلاق الضحى والليل عليهما، لكن حيث كان ذلك مجازًا احتاج إلى قرينة تصرف معناهما عن الحقيقة، إلا أن يقال: إن قائل ذلك استند إلى قرينة حالية وقت نزول الآية، "وتأمل مطابقة هذا القسم فيه وهو نور الضحى" مشعر بأنه آثره لشدة ضوئه، فهو إشارة للقول الآخر "الذي يوافي" يأتي "بعد ظلام الليل للمقسم عليه، وهو نور الوحي الذي وافاه" أي: أتاه "بعد احتباسه عنه" مدة خمسة عشر يومًا لما قال: أخبركم غدًا، ولم يقل: إن شاء الله حتى أرجف أهل مكة، وقالوا: قد قلاه ربه وتركه، قاله ابن عباس عند ابن إسحاق، وقال مجاهد: إثنا عشر، وقال التيمي وابن عطية: وإنما أبطى عليه ثلاثة أيام، وقيل: أربعة، وقيل: أربعين، "حتى قال أعداؤه" المشركون: "ودع محمدًا ربه" والصحيح في سبب نزولها ما في الصحيحين وغيرهما، عن جند بن عبد الله، قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} وهذه المرأة هي العوراء بنت حرب امرأة أبي لهب، رواه الحاكم برجال ثقات، عن زيد بن أرقم، وفي الصحيح أيضًا عن جندب، قالت امرأة: يا رسول الله ما أرى صاحبك إلا أبطأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 احتباسه واحتجابه. وأيضًا فإن الذي اقتضته رحمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدًا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم، ومعايشهم لا يتركهم في ظلمة الغي والجهل بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم بالمقسم عليه. وتأمل هذه الجزالة والرونق الذي على هذه الألفاظ، والجلالة التي في معانيها. ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه، فالتوديع: الترك، والقلى: البغض،   عنك فنزلت: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، قال الحافظ: هي زوجته خديجة، كما في المستدرك وغيره، فخاطبته كل واحدة منهما بما يليق بها، والعوراء قالته شماتة، وخديجة توجعًا، وقصة إبطاء الوحي بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية غريب، بل شاذ، مردود بما في الصحيح، وتقدم لهذا مزيد قريبًا، "فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي، ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه"، فهذه مناسبة بين القسم والمقسم عليه، "وأيضًا" مناسبة أخرى، "فإن الذي اقتضته رحمته" الذي امتن بها في قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص: 73] ، "أن لا يترك عبادة في ظلمة الليل سرمدًا" إلى يوم القيامة، "بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم"، كما قال: ولتبتغوا من فضله، "لا يتركهم في ظلمة الغي والجهل، بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط القسم بالمقسم عليه" بكل من المناسبتين، "وتأمل هذه الجزالة" العظمة والحسن، "والرونق" الحسن، فهو مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ. ولذا قال: "الذي على هذه الألفاظ" اقتصارًا على وصف لرونق المساوي لما قبله معنى، حتى كأنهما اسم واحد، "والجلالة": العظمة "التي في معانيها" لكثرتها مع وجازة لفظها، "ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه" أي: قطعه قطع المودع، وقرئ بالتخفيف، أي: تركك كما في الأنوار، "أو قلاه" أبغضه، "فالتوديع الترك" لعله بيان المراد من الآية إذ الترك معنى الوداع مخففًا، وأما بالتثقيل، فتشييع المسافر، كما في اللغة، ولذا غاير البيضاوي في تفسير القراءتين كما رأيت، لكن في النسيم الوداع له معنيان في اللغة الترك وتشييع المسافر، وكلهم فسروه بالترك، ولما رأوا صيغة التفعيل تفيد زيادة المعنى، والمبالغة فيه تقتضي الانقطاع التام، قالوا: المبالغة في النفي لا في المنفي، أو النفي القيد، والمقيد ويجوز أن يفسر بتشييع المسافر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 أي: ما تركك منذ اعتنى بك، وما أبغضك منذ أحبك، وحذف "الكاف" من "قلى" اكتفاء بكاف ودعك؛ ولأن رءوس الآيات بالياء فأوجب اتفاق الفواصل حذفها. وهذا يعم كل أحواله، وإن كان حالة يرقيه إليها هي خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة هي خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقربه به عينه وتفرح به نفسه،   على طريق الاستعارة، ففيه إيماء إلى أن الله تعالى لم يتركه أصلًا، فإنه معه أينما كان، وإنما الترك لو تصور من جانبه ظاهر مع دلالته بهذا المعنى على الرجوع والتوديع، إنما يكون لمن يحب ويرجى عوده، وإليه أشار الجرجاني، بقوله: إذا رأيت الوداع فاصبر ... ولا يهمنك البعاد وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع عادوا فقوله: {وَمَا قَلَى} ، مؤكدًا له، وهذا لم أر من ذكره مع غاية لطفه، "والقلى" "بكسر القاف والقصر"، وقد يمد "البغض"، مصدر قلي بوزن رمى، "أي: ما تركك منذ اعتنى بك" وهو من أول أمره تفسير ما ودعك، "وما أبغضك منذ أحبك"، تفسير للقلا، وفي الشفاء، أيك ما تركك وما أبغضك وقيل: ما أهملك بعد أن اصطفاك وزعم شارح أن المشهور الثاني واختار الأول لمناسبته لما قبله، والإهمال عدم التقييد مع الترك، فهو ترك مخصوص "وحذف الكاف من قلى اكتفاء بكاف ودعك" فهو اختصار للعلم به؛ "ولأن رؤوس الآي بالياء، فأوجب اتفاق الفواصل حذفها"، ولئلا يخاطبه بالبغض، وإن كان منفيًا، أو ليطعمه وأصحابه وأمته، واستحسن، "وهذا يعم كل أحواله، وأن كل حالة يرقيه إليها هي خير له مما قبلها" إذ كأنه قيل: ما ودعك لبغض، وسترى منزلتك، ففيه إفادة الترقي في الأحوال في الدنيا، "كما أن الدار الآخرة هي خير له مما قبلها" كما قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ، واللام للابتداء مؤكدة، أو جواب قسم، ففيه تعظيم آخر، أي: كما أعطاك في الدنيا يعطيك في الآخرة مما هو أعلى وأكثر، فلا تبال بما قالوه، فهو وعد فيه تسلية بعدما نفي عنه ما يكره، فهو تحلية بعد تخلية، "ثم وعده" بقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، "بما تقر" "بفتح القاف الفوقية" "به عينه" أي: تسكن "وبتحتية أوله وشدة القاف مكسورة ونصب عينه"، يقال: قرت العين وأقر الله العين. قال في فتح الباري: قرة العين يعبر بها عن المسرة ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه؛ لأن عينه قرت، أي: سكنت حركاتها عن التلفت لحصول غرضها، فلا تتشوف شيء آخر، فكأنه مأخوذ من القرار، وقيل: معناه أنام الله عينك، وهو يرجع إلى هذا، وقيل: بل هو مأخوذ من القر، وهو البرد، أي: أن عينه بارة لسروره ولذا قيل: دمعة السرور باردة، ودمعة الحزن حارة، ومن ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 ويشرح به صدره، وهو أن يعطيه فيرضى. وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر والظفر بأعدائه يوم بدر وفتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجًا، والغلبة على بني قريظة والنضير، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وما قذف في قلوب أعدائه من الرعب، ونشر الدعوة، ورفع ذكره وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه   قيل في ضده: أسخن الله عينه، "وتفرح" "بفتح الراء مع فتح أوله فوقية وبضمه تحتية مع كسر الراء" "به نفسه": يسرها ويرضيها، والفرح لذة القلب بنيل ما يشتهي ويتعدى "بالهمزة والتضعيف"، "وبشرح به صدره" يوسعه ويملؤه نورًا، "وهو أن يعطيه فيرضى، وهذا يعم ما يعطيه من القرآن" النازل عليه بعد هذه الآية، "والهدى والنصر": العون والتقوية، "والظفر بأعدائه" يقال: ظفر بعدوه، وأظفرته به وأظفرته عليه، بمعنى وأصله الفوز والفلاح "يوم بدر" بقتل سبعين وأسر سبعين، "وفتح مكة" وحل القتال له فيها ساعة من نهار، وصار أعظم أهلها عليه أحوجهم إليه، "ودخول الناس في الدين" دين الله "أفواجًا" جماعات، بعدما كان يدخل فيه واحدًا بعد واحد، وذلك بعد فتح مكة، جاءه العرب من أقطار الأرض طائعين، "والغلبة على بني قريظة" بقتل رجالهم وسبي ذريتهم ونسائهم، "والنضير" بإجلائهم وجعلها خالصة له، "وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب" وفي غيرها، كبعث زيد والأمراء إلى موته من أرض الشام، وبعث أسامة ابنه بعد ذلك إلى محل قتل أبيه، فخرج بعد الوفاة النبوية، فنصره الله وقتل قاتل أبيه، فاقتصر على العرب لكثرتها فيها، "وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن"، ففتح في أيام الصديق بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، ثم في أيام عمر البلاد الشامية كلها وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى، وفر إلى أقصى مملكته، وفر هرقل إلى القسطنطينية، ثم في زمن عثمان مدائن العراق وخراسان والأهواز، وبلاد المغرب كلها، ومن المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، ومزق ملكه بالكلة، ثم امتدت الفتوحات بعده إلى الروم وغيرها، ولم تزل تجدد إلى الآن ولله الحمد، وقد فتح صلى الله عليه وسلم المدينة بالقرآن، وخيبر ومكة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكاملها وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان، والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، "وما قذف في قلوب أعدائه من الرعب" مسيرة شهر من كل جهة؛ لأنه لم يكن بينه وبين أعدائه أكثر من شهر، "ونشر الدعوة" تفرقها وعمومها للخلق، "ورفع ذكره" فلا يذكر الله إلا ويذكر معه صلى الله عليه وسلم، "وإعلاء كلمته" على كل كلام، فهذا كله مما أعطاه له في الدنيا، "وما يعطيه بعد مماته" من الرحمات النازلات على قبره، والرضوان الذي لا يتناهى لدوام ترقياته ومضاعفة أعماله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 في موقف القيامة من الشفاعة والمقام المحمود، وما يعطيه في الجنة من الوسيلة والدرجة الرفيعة والكوثر. وقال ابن عباس: يعطيه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك وفيها ما يليق بها. وبالجملة: فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه عليه الصلاة والسلام كل ما يرضيه. وأما ما يفتريه الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهو من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه   فيه، فإنه حي يصلي في قبره بأذان، وإقامة، وله ثواب أعمال أمته مضاعفًا، "وما يعطيه في موقف القيامة من الشفاعة"، أي: جنسها، فيشمل الشفاعات الخاصة به كلها، "والمقام المحمود" هو مقام الشفاعة العظمى، الذي يحمده فيه الأولون والآخرون أو كل مقام يتضمن كرامة محمودة، وعلى هذا يكون بمعنى ما قبله، "وما يعطيه في الجنة، من الوسيلة" أعلى منزلة في الجنة فقوله: "والدرجة الرفيعة"، عطف تفسير، "والكوثر" نهر في الجنة، أعطانيه ربي، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فلا معدل عنه. "وقال ابن عباس" في تفسير هذه الآية "يعطيه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابها المسك، وفيها ما يليق بها" من الأزواج والخدم. رواه ابن جرير وغيره، ومثله لا يقال إلا عن توقيف، فهو في حكم المرفوع، وهذا تفصيل بعض ما أعطاه، "وبالجملة فقد دلت هذه الآية على أنه تعالى يعطيه عليه الصلاة والسلام كل ما يرضيه" مما لا يعلمه على الحقيقة إلا هو، "وأما ما يفتريه" بفاء من الافتراء، أي: الكذب، أو بالغين بالمعجمة، وبعد الراء موحدة من الغرور، وهذا أولى وإن كان ظاهر سياقه الأول، "الجهال من أنه لا يرضى، وواحد من أمته في النار"، روى الديلمي في الفردوس عن علي، قال: لما نزلت قال صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار". وأخرجه أبو نعيم في الحلية موقوفًا على علي، قال: في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، قال: ليس في القرآن أرجى منها، ولا يرضى صلى الله عليه وسلم أن يدخل أحد من أمته النار، وقوله: ولا يرضى موقوف لفظًا، مرفوع حكمًا، إذ لا مدخل للرأي: فيه، "أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار"، كما روي عن علي موقوفًا، وحكمه الرفع، كما علم، "فهو من غرور الشيطان" أي: خداعه "لهم ولعبه بهم" حيث حملهم على الافتراء، أو على الغرور بما لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 صلوات الله عليه سرضي بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسوله صلى الله عليه وسلم حدًا يشفع فيهم -كما يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير- ورسوله عليه السلام أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن تدخل أحدًا من أمتي النار او تدعه فيها، بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذن له ورضيه.   يفهموا معناه، "فإنه صلوات الله عليه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى"، إذ رضاه تابع لرضاه، "وهو سبحانه وتعالى يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة" المسلمين، "ثم يحد" "بضم الحاء" "لرسوله صلى الله عليه وسلم حدًا" أي: يقدر له جماعة، ويميزهم عن غيرهم، "يشفع فيهم كما يأتي إن شاء الله تعالى في المقصد الأخير" فلا يدع أحدًا منهم، ولا يزيد على من أذن له في الشفاعة فيه، "ورسوله عليه السلام أعرف به وبحقه من أن يقول: ألا أرضى أن تدخل أحدًا من أمتي النار، أو تدعه فيها" هذا ظاهر جدًا في أنه أراد أنه من الافتراء الكذب لا الغرور، "بل ربه تبارك وتعالى يأذن له، فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذن له ورضيه" ومقام الرضا بما يريده الله، والتسليم مقام عظيم للسالكين، فكيف لا يكون لسيد المرسلين. وقد رد العلامة الشريف الصفوي في شرح الشفاء وتبعه في النسيم على المصنف، التابع لابن القيم بأنه جراءة وسوء أدب، والوجه توجيه الحديث لوروده بطرق وإن ضعفت، ولا يبعد أن يكون عذاب العصاة غير مرضي لله تعالى، فلا يرضى له رسوله أيضً؛ لأن رضاه على وفق رضا ربه، والرضا بالمقضي قد يكون مذمومًا، فإذا لم يرض بعصيانهم ودخولهم النار، بعدهم رضا ربه به يدخلهم الله الجنة، ولو بالآخرة للوعد به، والرضا بفعل الله إنما يجب من حيث إنه فعل المولى الحكيم لا من حيث هو في ذاته، والمنفي في الحديث الثاني، فهو لا يرضى بدخول أحد من أمته النار من حيث هو في ذاته، لا من حيث أنه مراد الله، فلا إشكال أو الرضا مجاز عن ترك الطلب، أي: لا أترك طلب العفو وواحد من أمتي في النار، ولا يلزم منه عدم الرضا حقيقة، وكم طلب صلى الله عليه وسلم لأمته أمورًا، وهو في مقام الرضا دائمًا، وإذا وعد بالرضا فلا بد من إدخالهم الجنة لا ترك الطلب، فافهمه فإنه دقيق، فلا ينبغي أن يجترئ أحد على إبطال الروايات بأوهام الشبهات، وهذا محصل ما في شرح المواقف من أن للكفر نسبة إلى الله، باعتبار فاعليته له وإيجاده، ونسبة إلى العبد، باعتبار محليته واتصافه به، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية، والرضا باعتبار النسبة الأولى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 ثم ذكره سبحانه بنعمه عليه من إيوائه بعد يتمه، فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم من قولهم: درة يتمية، أي: ألم يجدك   وقال بعض الشراح: يجوز أن المراد نفي الرضا بالدخول على وجه الخلود، وإنما قال: أن يدخل دون أن يخلد، قصد الإرادة نفي الرضا بالخلود على نهج المبالغة والاستدلال، أو أن المراد: ولا يرضى أن يعصي الله أحد من أمته، فعبر بالمسبب عن السبب إلا أن السياق يأباه انتهى. أو لا يرضى دخولهم النار دخولا يشدد عليهم العذاب، بل يكون خفيفا، لا تسود وجوههم، ولا تزرق أعينهم، كما وردت به الأحاديث، فهو تعذيب كتأديب الحشمة، بل قال صلى الله عليه وسلم: "إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمام". أخرجه الطبراني، برجال ثقات عن الصديق، وللدارقطني في الأفراد عن ابن عباس، رفعه: "أن حظ أمتي من النار، طول بلائها تحت التراب". وفي تفسير السبكي: أطلقت الأمة وجوب الرضا بالقضاء، وشاع على ألسنة العلماء والعوام، وورد مرفوعًا: يقول الله: من لميرض بقضائي، فليطلب ربا سواي، وفي شامل إمام الحرمين، لم يثبت عندنا وجوب الرضا بالقضاء، فإن الإنسان إذا اعترته الآلام، واكتنفته الأسقام، لا يجب عليه في الدين أن يطمئن إليها ويرضى بها، ولا عليه أن يكرهها ويبدي قلقا منها، يقول: لا ينطوي على اعتراض، قال: والخبر من الآحاد، لا تقوم به الحجة في القطعيات، ثم يعارضه استعادة النبي صلى الله عليه وسلم من قضاء السوء. انتهى. "ثم ذكره" بشد الكاف، أي: جعله "سبحانه" متذكرا "بنعمه عليه"، أي: ذكره بتفصيلها أو تفضيلها بالضاد وإن كان ذاكرًا لها، وكيف ينسى مثله، وقد قام حتى تورمت قدماه، وقال: أفلا أكون عبدا شكورًا. وقال بعض الشراح: المراد إعلامه بما أنعم به عليه، أو لاشتغاله بتذكير النعم العظيمة المتجددة، أو النعم كلها على الإجمال، قد يغفل عن تفصيلها، أو التذكير بمعنى الوعظ، لئلا يغفل، نحو: فذكر بالقرآن "من إيوائه" إلى عمه أبي طالب، حتى كان عنده أعز من بنيه "بعد يتمه" بموت أبيه وأمه حبلى به على الصحيح، وقيل: بعد أن ولد بقليل، "فقال: {أَلَمْ يَجِدْكَ} ، من الوجود بمعنى العلم {يَتِيمًا} مفعوله الثاني، أو المصادفة، ويتيما حال {فَآَوَى} بالمد وقرئ بالقصر بمعنى، رحم تقول أويت فلانا، أي: رحمته، قاله ابن عطية، وقيل: معنى الآية أواه الله إلى نفسه، ولم يحوجه لحمايةأحد وإيوائه، وهو بمعنى قول جعفر الصادق: يتم صلى الله عليه وسلم لئلا يكون عليه حق لمخلوق، "وذهب بعضهم إلى أن معنى اليتيم" عديم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 واحدا في أرض قريش عديم النظير فآواك إليه وأغناك بعد الفقر. ثم أمره سبحانه وتعالى أن يقابل هذه النعم الثلاثة بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم، وأن ينهر السائل، وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة التحدث بها. وقيل: المراد بالنعمة النبوة، والتحدث بها: تبليغها.   النظير "من قولهم: درة يتيمة" أي: لا نظير لها، وتسمى فريدة أيضا لانفرادها عن نظائرها، "أي: ألم يجدك واحدا في أرض قريش"، بل في جميع الخلق، "عديم النظير، فآواك إليه" لانتفاء من يكافئك أو يدانيك، بحيث تركن إليه. قال التجاني: وهذا قول ضعيف، حكاه صاحب المشرع الروي، وجعله في الكشاف من بدع التفاسير، "وأغناك بعد الفقر". قال ابن عطية: قال: مجاهد معناه بما أعطاك من الرزق، وقيل: فقير إليه، فأغناك به، والجمهور: على أنه فقر المال، لمعنى فيه صلى الله عليه وسل، أنه أغناه بالقناعة والصبر وحببا إليه، وقيل: بالكفاف لتصرفه في مال خديجة، ولم يكن كثير المال، ورفعه الله عن ذلك، وقال: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنه غنى النفس، "ثم أمره سبحانه وتعالى أن يقابل هذه النعم الثلاث" التي لم يشر المصنف إلى وسطاها؛ لأنه سيتكلم عليه في إزالة الشبهات "بما يليق بها من الشكر، فنهاه أن يقهر اليتيم" بقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} ، في مقابلة {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى} ، "وأن ينهر السائل" بقوله {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} معناه أن يرده ردا جميلا أما بعطاء أو بقول حسن، "وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فإن من شكر النعمة التحدث بها" وبإظهار الملابس والمطاعم والمراكب ونحوها، فلذا أتى بمن التبعيضية. وفي ابن عطية قوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} بإزاء، أي: مقابل {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ، على قول أبي الدرداء، والحسن وغيرهما. إن السائل هنا السائل عن العلم والدين، بإزاء قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} وقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ومن قال: السائل هو سائل المال، المحتاج، جعلها بإزاء {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} وجعل {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} بإزاء {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} "وقيل: المراد بالنعمة النبوة والتحدث" بالجر عطفا على النعمة، أي: والمراد بالتحدث "بها تبليغها" للناس وهذا قول مجاهد والكلبي. وقال آخرون: بل هو عام في جميع النعم، وكان بعض الصالحين يقول: لقد أعطاني الله كذا، وصليت البارحة كذا، وذكرت الله كذا، فقيل له: مثلك لا يقول هذا، فقال: إن الله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وأنتم تقولون: لا تحدث وقال صلى الله عليه وسلم: "التحدث بالنعمة شكر"، وقال: "من أسديت إليه يدا فذكرها، فقد شكرها، ومن سترها فقد كفرها"، ذكره ابن عطية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 الفصل الثالث: في قسمه تعالى على تصديقه عليه الصلاة والسلام فيما أتى به من وحيه وكتابه وتنزيهه عن الهوى في خطابه: قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1-3] . أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي.   "الفصل الثالث": في قسمه تعالى على تصديقه عليه الصلاة والسلام فيما أتى به من وحيه "مصدر بمعنى اسم المفعول"، فقوله: "وكتابه" خاص على عام، "وتنزيهه عن الهوى في خطابه"، أي: نطقه، "قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفا له وتنبيها للاعتبار به، حتى تؤول العبرة إلى معرفة الله تعالى، وقيل: المعنى: ورب النجم، وفيه قلق مع لفظ الآية {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} والضلال يكون بلا قصد وألغي كأنه شيء يكتسبه ويريده {وَمَا يَنْطِقُ} صاحبكم {عَنْ الْهَوَى} [النجم: 1] ، أي: بهواه وشهوته، وقيل: ما ينطق القرآن المنزل عن هوى وشهوة، ونسب النطق إليه من حدث أنه يفهم منه الأمور، كما قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] وأسند النطق إليه وإن لم يتقدم له ذكر لدلالة المعنى عليه. ذكره ابن عطية: "أقسم تعالى بالنجم على تنزيه رسوله، وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه" الكفار "من الضلال والغي"، فنفى عنه أن يكون ضل في هذا السبيل لتي أسلكه إياها. قال الرازي والنسفي: أكثر المفسرين أن لا فرق بين الضلال والغي، وبعضهم قال: الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد. قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} وتحقيق الفرق؛ أن الضلال أعم استعمالا في الوضع، تقول: ضل بعيري ورحلي، ولا تقول: غوى، والمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا مستقيما، والغواية أن لا يكون إلى المقصد طريق مستقيم، ويدل عليه؛ أنه يقال للمؤمن الذي ليس على طريق السداد سفيه غير رشيد، ولا يقال: ضال، فالضال كالكافر، والغاوي كالفاسق، وكأنه تعالى قال: "ما ضل"، أي: ما كفر، ولا أقل من ذلك فما فسقئ، ويؤيده {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} إذ يقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 واختلف المفسرون في المراد بالنجم بأقاويل معروفة. منها: "النجم" على ظاهره، وتكون "أل" لتعريف العهد في قول، ولتعريف الجنس في آخر، وهي النجوم التي يهتدي بها. فقيل: الثريا إذا سقطت وغابت، وهو مروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية. والعرب إذا أطلقت النجم تريد بها الثريا. وعن ابن عباس في رواية عكرمة: النجوم التي ترمى بها   الضلال كالعدم، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة، ويحتمل أن معنى ما ضل ما جن، فإن المجنون ضال، وعلى هذا، فهو كقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، وقيل: معنى ما غوى: ما خاب لما طلب، قال: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما أي: من خاب في طلبه لامه الناس، فيجوز أن هذا إخبار عما بعد الوحي، وأن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي: كان أبدا موحدا لله تعالى، وهو الصحيح. "واختلف المفسرون في المراد بالنجم بأقاويل معروفة": جمع أقوال، جمع قول، فهو جمع الجمع، عبر به للدلالة على كثرتها، والباء متعلقة بالمفسرين، أو بمقدر من جنسه؛ لأنه يقال: فسره بكذا، فيتعدى بالباء، وهو وإن كان بعيدا أظهر من تقدير اختلافا مصحوبا بأقاويل "منها النجم على ظاهره" سمي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجم، يقال: نجم السن والقرن والنبت، إذا طلع قاله ابن عادل والقرطبي، وزاد: ونجم فلان ببلد كذا. إذا خرج على السلطان، "وتكون أل لتعريف العهد في قول": والمعهود الثريا أو غيرها كما يأتي "ولتعريف الجنس في آخر، وهي النجوم التي يهتدى بها" في ظلمات البر والبحر، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة، قائلا: بأنه من إطلاق الواحد على الجمع، ونقله ابن عطية والماوردي عن الحسن، وقاله غيرهما عن مجاهد، وبه رد قول ابن جرير، هذا التأويل له وجه، ولكن لا أعلم أحدا من أهل التأويل قاله، "فقيل: الثريا" بالمثلثة تفريع على أن أل للعهد، "إذا سقطت وغابت" تفسير لهوى، وهويها مغيبها، وهو مروي عنابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة" سالم مولى بني العباس، سكن حمص، وأرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق، قد يخطئ، مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، "وعطية" بن سعد العوفي، الكوفي، صدوق، يخطئ كثيرا، وكان شيعيا مدلسا، مات سنة إحدى عشرة ومائة، و"العرب إذا أطلقت النجم تريد بها الثريا"، قال الشاعر: طلع النجم عشاء ... فابتغى الراعي الكساء وفي الحديث: "ما طلع نجم قط، وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع"، رواه أحمد وأورد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع، وهذا قول الحسن، وعن السدي الزهرة، وعن الحسن أيضا النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقيل: المراد به النبت الذي لا ساق له، و"هوى" أي سقط على الأرض. وقيل: القرآن، رواه الكلبي عن ابن عباس؛ لأنه نزل نجوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: هو محمد صلى الله عليه وسلم "إذا هوى" أي نزل من السماء ليلة المعراج.   الثريا، واختار هذا القول ابن جرير والزمخشري، وقال السمين: إنه الصحيح؛ لأن هذا صار علما بالغلبة، وقال عمر بن أبي ربيعة: أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء "وعن ابن عباس في رواية عكرمة بن عبد الله البربري، أراد "النجوم التي ترمى بها لاشياطين، إذا سقطت في آثارها"؛ لأن الهوى السقوط من علو، قاله الراغب "عند استراق السمع وهذا قول الحسن"، البصري، وهو تفريع على أن أل جنسية، "وعن السدي" "بضم السين وشد الدال المهملتين" إسماعيل بن عبد الرحمن الكوفي، صدوق، يهم، مات سنة سبع وعشرين ومائة، "الزهرة" بزنة رطبة نجم في السماء الثالثة. وكذا قال سفيان الثوري: على أن أل عهدية: "وعن الحسن" البصري "أيضا: النجوم إذا سقطت يوم القيامة" فهو بمعنى قوله: وإذا الكواكب انتثرت على إنها جنسية. وقيل: المراد الشعري على أنها عهدية، "وقيل: المراد به النبت الذي لا ساق له" ومنه: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} الآية، "وهوى، أي: سقط على الأرض" وهذا قول الأخفش، "وقيل: القرآن، رواه الكلبي" محمد بن السائب، "عن ابن عباس؛ لأنه نزل نجوما" أي: أجزاء مقدرة في أوقات، قاله ابن عطية، وفي ابن القيم، أربع آيات وثلاث آيات، والسورة "على رسول الله صلى الله عليه وسلم" في ثلاث وعشرين سنة، أو عشرين "بالفاء" مدة الفترة، "وهو قول مجاهد ومقاتل والضحاك" وهوى بمعنى نزل. وفي هذا القول بعد وتحامل على اللغة قاله ابن عطية، "وقال جعفر" الصادق، لصدقه في مقاله "بن محمد" الباقري، لبقره العلم، "ابن علي" زين العابدين "بن الحسين" السبط، "وهو محمد صلى الله عليه وسلم، إذا هوى، أي: نزل من السماء ليلة المعراج". قال النعماني: ويعجبني هذا التفسير لملاءمته من وجوه، فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 وأظهر الأقوال: -كما قاله ابن القيم- أنها النجوم التي ترمى بها الشياطين، ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله تعالى آية وحفظًا للوحي من استراق الشياطين، على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدًا بين يدي الوحي، حرسًا له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه. وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله: بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويًا، ولا عهد في القرآن بذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه.   لما هدى إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلة الصلاة من الدين، ومنها أنه أضاء في السماء والأرض، ومنها التشبيه بسرعة السير، ومنها أنه كان ليلًا، وهو وقت ظهور النجم، فهو لا يخفي على ذي بصر، وأما أرباب البصائر، فلا يمترون، كالصديق رضي الله عنه، وعن جعفر أيضًا أنه قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الشفاء، أي: لإشراقه بالأنوار الإلهية، وهو منبعها ومنبع الهداية، وإن كان فيه خفاء، وأبعد منه أنه الصحابة، لحديث: أصحابي كالنجوم، حكاه التجاني، وهو يهم موتهم، "وأظهر الأقوال، كما قاله ابن القيم؛ أنها النجوم التي ترمى بها الشياطين"؛ لأنها تبعد الشياطين عن أهل السماء، والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض، فناب أن يقسم برجمها عند البعثة، "ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية، الظاهرة، المشاهدة" بالبصر، "التي نصبها الله تعالى آية وحفظًا للوحي من استراق الشياطين" السمع، فيزيدون فيه، فيكون ما زادوه باطلًا، "على أن ما أتى به رسوله حق وصدق، لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه" "عطف متساوٍ"، "بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدًا" أي: رصدًا له "بين يدي الوحي" يمنعهم عن استماعه "حرسًا له" منهم عطف تفسير لرصدًا، "وعلى هذا، فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور"؛ لأن المقسم به هو النجم الذي قصد بسقوطه حفظ الوحي، والمقسم عليه هو نفس الوحي، "وفي المقسم به دليل على المقسم عليه" فإن النجوم التي ترمى بها الشياطين آيات من آيات الله، يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله، بها ظهر دينه وشرعه، وأسماؤه وصفاته، وجعلت هذا النجوم المشاهدة حرسًا لهذه النجوم الهاوية، هذا أسقطه من ابن القيم قبل قوله مبينًا لخفاء ما عدا القول الذي استظهره، "وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى، ولا تسمية نزوله هويًا" "بضم الهاء وفتحها"، "ولا عهد في القرآن بذلك" أي: تسميته بالنجم، "فيحمل" بالنصب "هذا اللفظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 وليس بالبيت تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت. وليس بالبيت أيضًا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة. بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلًا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث، فإنه تعالى إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، ثم إنه بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى. فإن قلنا: إن المراد النجوم التي للاهتداء فالمناسبة ظاهرة، وإن قلنا: إن المراد الثريا؛ فلأنه أظهر النجوم عند الرائي؛ لأنه لا يشتبه بغيره في السماء، وهو ظاهر لكل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بما منح من الآيات البينات؛ ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت من المغرب قرب أوان الخريف فتقل الأمراض، والنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر قل الشرك والأمراض القلبية.   عليه" بل قال ابن عطي: إنه تحامل على اللغة مع بعده، "وليس بالبين" أيضًا "تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت"؛ لأنه تخصيص بلا مخصص، لكن فيه أن العرب إذا أطلقت النجم، تعني الثريا والقرآن، وأراد بلغتهم، فهو وجه التخصيص، "وليس بالبين أيضًا القسم بالنجوم عند انتشارها" تساقطها متفرقة "يوم القيامة، بل هذا مما يقسم الرب عليه" لا به، "ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلًا لعدم ظهوره للمخاطبين، ولا سيما منكرو البعث، فإنه تعالى إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه" فيذكر الدليل لمن هو بصدد الإنكار. قال ابن كثير: وهذا القول له اتجاه، "ثم إنه بين المقسم به والمقسم عليه من المناسبة ما لا يخفى" كلام مستأنف غرضه، به توجه الأقوال التي أسلفها، وإن استظهر واحدًا منها واستبعد غيره، "فإن قلنا: أن المراد النجوم التي للاهتداء، فالمناسبة ظاهرة"؛ لأنه يهتدى بها في معرفة الطرقات وغيرها. وبالمصطفى من ظلمات الجهل ومعرفة الحق من الباطل، فأقسم بها لما بينهما من المناسبة والمشابهة، قال الرازي: "وإن قلنا أن المراد الثريا؛ فلأنه أظهر النجوم عند الرائي؛ لأنه" لكونه له علامة "لا يشتبه بغيره في السماء، وهو ظاهر لكل أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بما منح" أي: أعطي "من الآيات البينات" فأقسم به؛ "ولأن الثريا إذا ظهرت من" جهة "المشرق" وقت الفجر، "حان" أي: قرب "إدراك الثمار" أي: طيبها، "وإذا ظهرت من المغرب قرب أوان الخريف، فتقل الأمراض" معناه إنها تظهر بعيد الغروب، بحيث يكون ابتداء ظهورها بين المغرب والعشاء، وتستمر ظاهرة إلى الفجر، "والنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر قل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 وإن قلنا: إن المراد بها القرآن فهو استدلال بمعجزته صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى، وإن قلنا: المراد به النبات، فالنبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوى العقلية أولى بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل. وتأمل كيف قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم} ولم يقل: محمد، تأكيدًا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهو أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غي ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمرًا واحدًا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى بقوله عز وجل: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُم} [المؤمنون: 69] . ثم نزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يصدر عن هوى فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِق   الشرك والأمراض القلبية" وأدركت الثمار الحكمية، والحكمية هذا بقية المناسبة التي أبداها الإمام الرازي، "وإن قلنا: أن المراد بها القرآن، فهو استدلال بمعجزته صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته، وأنه ما ضل ولا غوى". زاد الرازي: فهو كقوله: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، "وإن قلنا: المراد به النبات فالنبات به نبات، القوى الجسمانية" أي: المتعلقة بالجسم "بكسر الجيم"، وهو كل شخص مدرك، وقال أبو زيد: الجسم الجسد، "و" به "صلاحها والقوى العقلية"، وهي الصفة التي يميز بها الإنسان الحسن من القبيح، "أولى": أحق "بالصلاح، وذلك بالرسل وإيضاح السبل"، وبعد أن أبدى الرازي هذه المناسبات، قال: ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي في السماء؛ لأنه أظهر عند السامع، وقوله: إذا هوى دال عليه، ثم بعده القرآن لما فيه من الظهور، ثم الثريا، "وتأمل كيف، قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم} ولم يقل محمد تأكيدًا لإقامة الحجة عليهم؛ بأنه صاحبكم" الذي نشأ بين ظهرانيهم، "وهم أعلم الخلق به، وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب، ولا غي، ولا ضلال، ولا ينقمون" "بكسر القاف وفتحها"، لا يعيبون "عليه أمرًا واحدًا قط، وقد نبه تعالى على هذا المعنى، بقوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] الآية، {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} بالأمانة والصدق وحسن الخلق، وكمال العلم مع عدم التعلم، والاستفهام للتقرير بالحق من صدق النبي، ومجيء الرسل للأمم الماضية، ومعرفة رسولهم بما ذكر، فهم له، منكرون دعواه لأحد هذه الوجوه، إذ لا وجه له غيرها، فإن إنكار الشيء قطعًا أو ظنًا إنما يتجه إذا ظهر امتناعه بحسب النوع، أو الشخص، أو بحسب ما يدل عليه أقصى ما يمكن، فلم يوجد، "ثم نزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يصدر عن هوى" بالقصر المحبة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 عَنِ الْهَوَى} ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نفي نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به، فيتضمن هو الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد، لا الغي والضلال.   الأصل، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها نحو الشيء، ثم استعمل في ميل مذموم، نحو: اتبع هواه. قال الرازي: وأحسن ما يقال في تفسيره أنه المحبة، لكن من النفس الأمارة، وحروفه تدل على الدنو والنزول والسقوط، ومنه الهاوية، فالنفس كانت دنية، وتركت المعالي، وتعلقت بالسفاسف، فقد هوت، فاختص الهوى بالنفس الإشارة بالسوء. قال الشعبي: إنما سمي هوى؛ لأنه يهوى بصاحبه، "فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وهذا ترتيب في غاية الحسن، عبر أولًا بالماضي، وهنا بالآتي، أي: ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون، وما غوى حين اختلى بنفسه، وما ينطق عن الهوى الآن حين أرسل إليكم وجعل شاهدًا عليكم، فلم يكن أولًا ضالًا غاويًا، وصار الآن منقذًا من الضلال ومرشدًا وهاديًا، "ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نفي نطقه عن الهوى أبلغ" من نقي نطقه به، "فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى وإذا لم يصدر عن هوى، فكيف ينطق به، فيتضمن هو" أي: نفي صدوره عن الهوى "الأمرين" بالنصب مفعول "نفي الهوى" بالنصب أيضًا بدل مفصل من مجمل، أو الرفع بتقدير، وهما نفي، ولا يصح جره بدلًا من الأمرين؛ لأنهما منفيان لا نفيان "عن مصدر النطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق ومصدره"، أي: محله الذي يصدر عنه هو "الهدى والرشاد، لا الغي والضلال" فعن على بابها. قال النحاس: وهو أولى، أي: ما يخج نطقه عن رأيه بدليل إن هو.. إلخ، وقيل: بمعنى الباء، أي: ما ينطق بالهوى، وما يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إنه تقول القرآن من تلقاء نفسه. قال: ابن القيم نفي الله عن رسوله الضلال المنافي للهدى، والغي المنافي للرشاد، ففي ضمن هذا النفي الشهادة له صلى الله عليه سولم بأنه على الهدى والرشد، فالهدى في علمه، والرشد في عمله، وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد، وبهما سعادته وصلاحه، إلى أن قال: فالناس أقسام، ضال في علمه، غاوٍ في قصده وعمله، وهو لا شرار الخلق، وهم مخالفو الرسل، ومهتدي في عمله، وهؤلاء هم الأمة العصبية، ومن تشبه بهم، وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به، وضال في علمه، ولكن قصده الخير، وهو لا يشعر، ومهتد في علمه، راشد في قصده، وهم ورثة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي: ما نطقه إلا وحي يوحى، وهذا أحسن من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن، فإنه نطقه بالقرآن والسنة، وإن كليهما وحي يوحى، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] وهما القرآن والسنة، وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياها.   الأنبياء، وإن كانوا أقل عددًا، فهم الأكثرون عند الله قدرًا، وصفوته من خلقه، "ثم قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . قال الرازي: هذا تكملة للبيان؛ لأنه لما قيل {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، كان قائلًا قال: فماذا ينطق، أعن الدليل والاجتهاد؟، فقال: لا إنما ينطق عن الله بالوحي وهذا أبلغ مما لو قيل: هو وحي يوحى، وكلمة إن استعملت مكان ما للنفي، كما استعملت ما للشرط مكان أن، "فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل، أي: ما نطقه إلا وحي يوحى" صفة لنفي المجان، أي: هو وحي حقيقة، لا مجرد تسمية، كقولك: هذا قول يقال، قاله في اللباب، "وهذا أحسن من جعل الضمير عائدًا إلى القرآن" ووجه إلا حسنية، بوله: "فإن نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يوحى"، أي: لإفادته أن السنة من الوحي، بخلاف عودة على القرآن، فلا يفيد ذلك، "قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية، وهما القرآن والسنة" تفسير الحكمة في أحد الأقوال، ومنه أخذ منع اجتهاده. وأجيب بأنه إذا اجتهد وافق الواقع، ولا يقع منه خطأ، ويقر عليه، وينبه على أنه حق، فصار بمنزلة الوحي، "وذكر الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو، والفقيه، الثقة، الجليل، المتوفى سنة سبع وخمسين ومائة، "عن حسان بن عطية" المحاربي، مولاهم الدمشقي، ثقة، فقيه، عابد، مات بعد العشرين ومائة، "قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، يعلمه إياها". أخرجه الدارمي بإسناد صحيح عنه وهو مرسل؛ لأن حسان بن عطية من صغار التابعين، وله شواهد كثيرة، منها: ما أخرجه أحمد عن أبي أمامة رفعه: "ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل الحيين ربيعة ومضر"، فقال رجل: يا رسول الله، وما ربيعة من مضر؟، فقال: "إنما أقول ما أقول"، وإسناده حسن. وروى أبو داود وابن حبان، مرفوعًا: "إلا أني أوتيت الكتاب وما يعدله، فرب شبعان على أريكته يحدث بحديثي، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما كان فيه من حلال استحللناه، وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي، والقرآن بما يعلم أنه مضاد لأوصاف الشياطين معلمي الضلال والغواية فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وهو جبريل، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم به فضيلة ظاهرة. وهذا نظير قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين} [التكوير: 20] كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى. ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه. وأن القلب صدق العين، وليس كمن رأى شيئًا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك. وفي حديث الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، والله الموفق والمعين. وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} إلى قوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم} [التكوير: 15] .   "كان فيه من حرام حرمناه، ألا وإنما حرمه رسول الله مثل ما حرم الله"، "ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي والقرآن بما يعلم" "بضم الياء وكسر اللام"؛ "أنه مضاد لأوصاف الشياطين معلمي الضلال والغواية" "بفتح الغين، وفي لغة بكسرها"، على ما في المصباح، ونفاها في القاموس، "فقال: {عَلَّمَهُ} أي: صاحبكم {شَدِيدُ الْقُوَى} وهو جبريل، أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة، ولا شك أن مدح المعلم مدح للمتعلم. فلو قال: علمه جبريل ولم يصفه لم يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم به فضيلة ظاهرة"، وأيضًا ففيه الوثوق، بقول جبريل؛ لأن قوة الإدراك شرط في الوثوق بقول القائل، وكذا قوة الحفظ والأمانة، فقال: ذلك ليجمع هذه الشروط، "وهذا نظير قوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين} [التكوير: 20] الآية، "كما سيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى" قريبًا، "ثم أخبر سبحانه وتعالى عن تصديق فؤاده" صلى الله عليه وسلم "لما رأته" أبصرته "عيناه، وأن القلب" المعبر عنه بالفؤاد "صدق العين، وليس كمن رأى شيئًا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد، وعلم أنه كذلك، وفي حديث الإسراء مزيد لما ذكرته هنا، والله الموفق والمعين" لا غيره. "وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} بدون ياء لجميع القراء إلا يعقوب، فأثبتها {الْكُنَّسِ} [التكوير: 15] الآية، "إلى قوله: {وَمَا هُوَ} أي: القرآن {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم} ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 أي: لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أو: فاقسم، و"لا" مزيدة للتأكيد، وهذا قول أكثر المفسرين بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} . قال الزمخشري: والوجه أن يقال: هي للنفي، أي أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم في أحوالها الثلاثة: في طلوعها وجريانها وغربوها، وبانصراف الليل وبإقبال النهار عقيبه من غير فصل، فذكر سبحانه حالة   مرجوم بالكواكب واللعنة، وغير ذلك نفي لقول قريش: إن محمدًا كاهن، "أي: لا أقسم، إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم"، فلا ليست بزائدة عند كثير من المفسرين؛ لأن الأصل عدم الزيادة، "أو فأقسم، ولا مزيدة للتأكيد" والتقوية، "وهذا قول أكثر المفسرين"، وهو أنسب بالمقام، وبما عقد له الفصل، "بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] الآية، إذ الآيتان في بيان شأن القرآن، فهما متوافقتان في المعنى. "قال الزمخشري: والوجه"، أي: المتجه "أن يقال: هي للنفي" لا زائدة، "أي: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظامًا له، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي بأقسامي به كلا إعظام" ولم أوهم اللفظ ما ليس بمراد دفعه، بقوله: "يعني أنه يستأهل"، أي": يستحق "فوق ذلك" وفي ابن عطية: لا إما زائدة، وأما رد لقول قريش: ساحر كاهن ونحوه، وتكذيبهم نبوته صلى الله عليه وسلم، ثم ابتدأ ما بعده، "أقسم سبحانه وتعالى بالنجوم في ألآحوالها الثلاثة في طلوعها" المفهوم من الخنس؛ لأنها الكواكب التي تظهر ليلًا، "وجريانها" في سيرها، بقوله: الجوار، "وغروبها" المفهوم من قوله: الكنس، أي: السيارات التي تختفي تحت ضوء الشمس من كنس الوحش، إذا دخل كناسه، وهو بيته المتخذ من أصان الشجر، كما في الأنوار، وفي ابن عطية جمهور المفسرين أن الجوار الدراري السبعة: الشمس، والقمر، وزحل وعطارد، والمريخ، والزهرة، والمشتري. وقال علي بن أبي طالب: المراد الخمسة دون الشمس والقمر، وذلك؛ لأن هذه الخمسة تخنس في جريانها، أي: تتقهقر وترجع فيما ترى العين، وهي جوار في السماء، وهي تكنس في أبراجها، أي: تستتر. وقال علي أيضًا، والحسن وقتادة: المراد النجوم كلها؛ لأنها تخنس وتكنس بالنهار حتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 ضعف هذا وإدباره، وحالة قوة هذا وإقباله، يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه، وذلك من آياته ودلائل ربوبيته أن القرآن قول رسول كريم، وهو هنا جبريل؛ لأنه ذكر صفته قطعًا بعد ذلك بما يعنيه به.   تختفي. وقال ابن مسعود، والنخعي، وجابر بن زيد، وجماعة: المراد بالخنس الجوار الكنس: بقر الوحش؛ لأنها تفعل هذه الأفعال في كناسها، وهي المواضع التي تأوي إليها من الشجر والغيران ونحوه. وقال ابن عباس والحسن أيضًا والضحاك: هي الظباء، وذهب هؤلاء في الخنس إلى أنه صفة لازمة؛ لأنه يلزمها الخنس، وكذا في بقر الوحش أيضًا. انتهى. "وبانصرام الليل"، أي: ذهابه المفهوم من قوله: إذا عسعس، "وبإقبال النهار عقيبه" "بالياء لغة" في عقب "من غير فصل"، المفهوم من قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} [التكوير: 18] . قال ابن عطية: عسعس الليل في اللغة إذا كان غير مستحكم الظلام، فقال الحسن: ذلك وقت إقباله، وبه وقع القسم، وقال زيد بن أسلم، وابن عباس، وعلي، ومجاهد، وقتادة: ذلك عند إدباره، وبه وقع القسم، ويرجع هذا قوله بعد {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس} ، فكأنهما حالان، ويشهد له قول علقمة: حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا وقال المبرد: أقسم بإقبال الليل ودباره معًا، قال الخليل: يقال: عسعس الليل، وسعسع إذا أقبل وأدبر وتنفس الصبح، استطاروا تسع ضوؤه، قال علوان بن قيس: وليل دجوجي تنفس فجره ... لهم بعد ما خالوه لن يتنفسا "فذكر سبحانه حالة ضعف هذا" أي: الليل "وإدباره" من حيث إنه لا يهتدى فيه إلى المصالح الدنيوية، وليس محلًا للسعي والتردد، "وحالة قوة هذا" أي: الصبح، "وإقباله يطرد ظلمة الليل بتنفسه، فكلما تنفس"، أي: زاد نوره "هرب الليل وأدبر بين يديه"، وفي تنفسه قولان: أحدهما: أن في إقبال الصبح روحًا ونسيمًا، فجعل ذلك نفسًا على المجاز الثاني؛ أنه شبه الليل بالمكروب، المحزون، فإذا جعل له التنفس وجد راحة، فكأنه يخلص من الحزن، فعبر عنه بالتنفس، فهو استعارة لطيفة، كما في الخازن، "وذلك من آياته ودلائل ربوبيته" ولذا أقسم به "أن القرآن قول" معمول أقسم، تفسير للضمير في {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} وقول بمعنى مقول، ورسول بمعنى مرسل. قال ابن عطية: وكريم صفة تقتضي وقع المرام، "وهو هنا جبريل" عند جمهور المتأولين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 وأما "الرسول الكريم" في سورة "الحاقة" فهو محمد صلى الله عليه وسلم، فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري أخرى، وإضافته إليهما إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ "الرسول" يدل على ذلك، فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، فهذا صريح في أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه عن الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبريل. وقد وصف الله تعالى رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم يعطي أفضل العطايا، وهي العلم والمعرفة والهدى والبر والإرشاد، وهذا غاية الكرم. وذي قوة، كما قال في النجم: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} فيمتنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه، وروي أنه رفع قريات قوم   وقال آخرون: هو محمد صلى الله عليه وسلم في الآية كلها، والأول أصح؛ "لأنه ذكر صفته قطعًا بعد ذلك بما يعنيه به" على وجه لا يحتمل المراد غيره، "وأما الرسول الكريم في سورة الحاقة فهو محمد صلى الله عليه وسلم" لا جبريل؛ لأنه قال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} ، ولا بقول كاهن والمشركون ما كانوا يصفون جبريل بالشعر والكهانة على ما يأتي، "فأضافه" أي: القول "إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري أخرى، وإضافته إليهما" غير حقيقية، بل "إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء من عندهما، ولفظ الرسول يدل على ذلك، فإن الرسول هو الي يبلغ كلام من أرسله". "فهذا صريح في أنه كلام من أرسل جبيل ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، فجبريل تلقاه عن الله" تلقيًا روحانيًا "بضم الراء" لا يكيف، "ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبريل، وقد وصف الله تعالى رسوله الملكي في هذه السورة"، أي: التكوير؛ "بأنه كريم، يعطي أفضل العطايا، وهي العلم والمعرفة والهدى والبر والإرشاد، هذا غاية الكرم"، نهايته التي ما بعدها غاية، "وذي قوة، كما قال في النجم {عَلَّمَهُ} أي: صاحبكم {شَدِيدُ الْقُوَى} ن [النجم: 5] الآية، العلمية والعملية، "فيمتنع بقوته الشياطين أن يدنوا منه" أي: من القول بأن يريدوا منع جبريل، من إيصاله إلى الرسول، أو منع الرسول من تبليغه للخلق، "وأن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه" شيئًا، ولو قل بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه. "وروي" مما يدل على قوته "أنه رفع قريات" "بفتح الراء جمع تصحيح لقرية، بسكون الراء قياسًا"؛ لأن ما كان اسمًا يجمع على فعلات "بالفتح"، كجفنة وجفنات، وما كان صفة يجمع بالسكون، كصعبة وصعبات، والمتبادر من المصباح أنها اسم؛ لأنه قال: القرية كل مكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 لوط على قوادم جناحه حتى سمع أهل السماء نباح كلابها وأصوات بنيها. {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} أي: متمكن المنزلة، وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم. مطاع، في ملائكة الله تعالى المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، ثم أمين على وحي الله ورسالته، فقد عصمه الله من الخيانة والزلل.   اتصلت به الأبنية واتخذ قرارًا، ويقع على المدن وغيرها، والجمع قرى على غير قياس، أي: جمع التكسير، والتصحيح قريات "قوم لوط على قوادم جناحه" وهي أربع أو عشر ريشات في مقدم الجناح الواحدة، قادمة، كما في القاموس "حتى سمع أهل السماء نباح كلابها" "بضم النون" أصواتها "وأصوات بنيها" وصياح ديكاتها، ثم قلبها عليهم. روى ابن عساكر عن معاوية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما أحسن ما أثنى عليك ربك {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ، ما كانت قوتك وما كانت أمانتك، قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن قوم لوط، وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل، سوى الذرارين فحملتها من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهن، فقلبتهن، وأما أمانتي، فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره". وقال: محمد بن السائب الكلبي: من قوة جبريل أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الماء الأسود، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم قلبها، ومن قوته أيضا أنه أبصر إبليس يكلم عيسى ابن مريم على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفخه بجناحه نفخة ألقاه بأقصى جبل الهند، ومن قوته أيضًا: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين، ومن قوته أيضًا: هبوطه من السماء على الأنبياء، وصعوده في أسرع من طرفة عين {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} الآية، اختلف في تعلق عند ذي العرش، فقيل: متعلق بما قبله، وقيل: متعلق بمكين، "أي: متمكن المنزلة" أيك عظم مبجل، رفيع المقدار عنده، "وهذه العندية عندية الإكرام والتشريف والتعظيم" لاستحالة الحقيقة في الله تعالى: "مطاع في ملائكة الله تعالى المقربين، يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، ثم" بفتح المثلثة وشد الميم، اسم إشارة للمكان بمعنى هناك، أي: في السماء، كما دل عليه قوله عند ذي العرش، وإشارة البعيد والمقام، ونحوه قول الكشاف: مطاع عند ذي العرش في ملائكته، ويجوز تعلقه بقوله: "أمين" أو بهما "على وحي الله ورسالته" وخصه بذلك؛ لأن المقام يقتضيه، وهو مؤتمن عليه وعلى غيره. ولذا فسر بمقبول القول، مصدق فيما يقول: "فقد عصمه الله من الخيانة والزلل، فهذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوًا وجلالة، فقد تولى الله تزكيته بنفسه، ثم نزه رسوله البشري وزكاه مما يقول فيه أعداؤه فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كاذبون. ثم أخبر عن رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج يرى بالعيان ويدرك بالبصر، خلافًا لقوم؛ حقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في العيان، وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وأتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل أهم من تقريره لرؤية ربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته عليه الصلاة والسلام لجبريل هي   خمس صفات" بناء على أن العندية والمكان ليسا بصفتين حقيقتين، فلم يعدهما هنا، ولحظ الزمخشري أن كلا منهما دال على صفة كمال، فعدها سبعًا، وتبعه المصنف في موضعين تقدمًا، وعدها الرازي ستة، فجعل قوله: عند ذي العرش، متعلقًا بقوله: ذي قوة، "تتضمن تزكية سند القرآن، وأنه سماع محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك بهذا السند علوًا وجلالة، فقد تولى الله تزكيته بنفسه" أي: ذاته، وفي إطلاق النفس على الله تعالى مقال، "ثم نزه رسوله البشري وزكاه مما يقول فيه أعداؤه" الكفرة، "فقال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] ، "وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه" استكبارًا وعنادًا، "فهم يعلمون" تحقيقًا "أنهم كاذبون" وإنما حملهم عليه البغي والعناد، "ثم أخبر عن رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام"، بقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} ، قال ابن عطية: ضمير رآه لجبريل، وهذه الرؤية كانت بعد أمر غار حراء حين رآه على كرسي بين السماء والأرض، وقيل: هي رؤيته عند سدرة المنتهى في الإسراء، وسمي ذلك الموضع أفقًا تجوزًا وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية ثالثة بالميدنة، وليست هذه ووصفه بالمبين؛ لأنه روى أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس، قاله قتادة، وأيضًا فكل أفق فهو في غاية البيان، "وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج، يرى بالعيان" بكسر العين "ويدرك بالبصر خلافًا لقوم حقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في العيان وهذا مما خالفوا فيه جميع الرسل وإتباعهم، وخرجوا به عن جميع الملل، ولهذا كان تقرير" إثبات وبيان "رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل أهم من تقريره لرؤية ربه تبارك وتعالى، فإن رؤيته عليه الصلاة والسلام لجبريل هي أصل الإيمان، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 أصل الإيمان لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعًا، وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه وتعالى أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا تتوقف عليها البتة. ثم نزه سبحانه وتعالى رسوليه كليهما صلى الله عليهما وسلم، أحدهما بطريق النطق، والثاني بطريق اللزوم عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذي يوجب التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: إذاعتها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان.   لا يتم إلا باعتقادها، ومن أنكرها كفر قطعًا" لجحده ما انبنى عليه الإيمان، "وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع" خلاف بين العلماء من الصحابة، فمن بعدهم "لا يكفر جاحدها بالاتفاق. وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره، فنحن إلى تقرير" إثبات " رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب سبحانه وتعالى أعظم من رؤية جبريل، فإن النبوة لا تتوقف عليها البتة"، بقطع الهمزة، وقد ضعف أيضًا كون ضمير رآه لله تعالى؛ بأنه قول غريب، لم ينقل عن أ؛ د ممن يعتمد عليه، ويأباه كل الآباء قوله: {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} ، سواء كان نواحي السماء، أو حيث تطلع الشمس، إذ لم يقل أحد أنه رأى ربه بالأفق، وأجيب بأن رؤيته بالأفق كاستوى على العرش، والمراد بالأفق الذي فوق السماء السابعة، أو المراد به المنزلة العالية، كما أشار إليه الإمام الرازي. وقولهم: لم يقل به أحد يرده أنه روى عن ابن مسعود، "ثم نزه سبحانه وتعالى رسوليه كليهما صلى الله عليهما وسلم، أحدهما بطريق النطق، والثاني بطريق اللزوم"، إذ يلزم من نفيه عن أحدهما صريحًا، نفيه عن الآخر؛ لأنه تلقاه منه أو عنه "عما يضاد" يخالف "مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة" "بكسر المعجمة وشد النون"، "والبخل" تفسير، "والتبديل والتغيير الذي يوجب التهمة، فقال: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} "، أي: ما غاب عن الحس الذي أخبر به، أو ما هو وسائر الأنبياء على أخبار الغيب، فيشمل الذات والصفات والقرآن ويستدل به على غيره أو المراد ما غاب عن علمكم فيشمل أخباره عن المشاهد، والغائب "فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين: إذاعتها من غير كتمان، وأدائها وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان"، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 والقراءتان كالآيتين، فتضمنت إحداهما -وهي قراءة الضاد- تنزهه عن البخل، فإن الضنين: البخيل، يقال: ضننت به أضن، بوزن: بخلت به أبخل ومعناه، وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله، وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم. وأجمع المفسرون على أن الغيب ههنا: القرآن بالوحي. قال الفراء: يقول تعالى: يأتيه غيب من السماء وهو منفوس فيه، فلا يضن به عليكم. وهذا معنى حسن جدًا، فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفس شيء وأجله. وقال أبو علي الفارسي: المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانًا.   إذا لو فرض زيادة أو نقص أو كتم ما حصل المقصود، "والقراءتان كالآيتين، فتضمنت أحداهما، وهي قراءة الضاد" قراءة نافع وعاصم وحمزة وابن عامر، "تنزهه عن البخل، فإن الضنين البخيل، يقال: ضننت به أضن" "بفتح الضاد"، "بوزن بخلت به أبخل، ومعناه" عطف على بوزن فبابه فرح. زاد المصباح: وفي لغة من باب ضرب، "وقال ابن عباس: ليس ببخيل بما أنزل الله" بل يبلغه، "وقال مجاهد: لا يضن عليهم بما يعلم"، وهو قريب من تفسير ابن عباس، أو أعم إن خص ما أنزل بالقرآن، "وأجمع المفسرون على أن الغيب ههنا القرآن بالوحي". "قال الفراء": يحيى بن زياد بن عبد الله الأسدي، أبو زكريا الكوفي، نزيل بغداد النحوي المشهور. ومات سنة سبع ومائتين، قيل له الفراء؛ لأنه كان يفري الكلام، وهو صدوق في الحديث، علق عنه البخاري، "يقول تعالى: "يأتيه غيب من السماء وهو منفوس" أي: مرغوب "فيه، فلا يضن" "بفتح الضاد وتكسر"، لا يبخل "به عليكم، وهذا معنى حسن جدًا، فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس، ولا سيما عمن لا يعرف قدره، ومع هذا فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يبخل عليكم بالوحي، الذي هو أنفس شيء وأجله". "وقال أبو علي" الحسن بن أحمد "الفارسي" الإمام المشهور، المتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: "المعنى: يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به، ويظهره ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه، حتى يأخذه عليه حلوانًا" بضم فسكون عطاء اسم من حلوته أحلوه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 وأما قراءة من قرأ بظنين بالظاء فمعناه: المتهم، يقال: ظننت زيدًا بمعنى اتهمته وليس هو من الظن الذي هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين، والمعنى: وما هذا الرسول على القرآن بمتهم، بل هو أمين فيه لايزيد فيه ولا ينقص منه. وهذا يدل على أن الضمير فيه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي بالأمانة ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون} ثم قال: وما هو: أي وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل فنفي سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38] . أقسم تعالى بالأشياء، ما يبصر منها وما لا يبصر، وهذا أعم قسم وقع في القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما   "وأما قراءة من قرأ بظنين بالظاء" كأبي عمرو، والكسائي، وابن كثير: "فمعناه: المتهم، يقال: ظننت زيدًا بمعنى اتهمته" فيتعدى إلى مفعول واحد، "وليس هو من الظن الذي هو الشعور والإدراك، فإن ذلك يتعدى إلى مفعولين"، كظننت زيدًا قائمًا، "والمعنى: وما هذا الرسو على القرآن بمتهم" فالنفي فيه، كالنفي في لا ريب فيه، "بل هو أمين فيه لايزيد فيه ولا ينقص منه، وهذا يدل على أن الضمير فيه"، أي: قوله هو "يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي" جبريل "بالأمانة ثم قال: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُون} " يعني محمدًا بإجماع، "ثم قال: وما هو: أي وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل" على القراءتين. ورجح أبو عبيدة قراءة الظاء مشالة بأن قريشًا لم تبخل محمدًا صلى الله عليه وسلم، وإنما كذبته، "فنفى سبحانه عن رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك كله، وزكى سند القرآن أعظم تزكية" فلا يطلب بعد تزكية الله تزكية؛ لأنها أعظمها، "والله يقول الحق" ماله حقيقة عينية مطابقة له الآية، "وهو يهدي السبيل" سبيل الحق، "وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} "، تشاهدون بالبصر " {وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} المغيبات {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} " [الحاقة: 38] ، "أقسم تعالى" تصريح بأن لا زائدة للتأكيد، قيل: نافية، أي: لا أقسم بذلك، وإن كان يستحق أن يقسم به لوضوح الأمر عن الاحتياج إلى قسم واستغنائه عن التحقيق بالقسم، وقيل: فلا رد لما تقدم من أقوال الكفار، واستأنف أقسم وقرأ الحسن، فلا قسم بلام القسم "بالأشياء، ما يبصر منها وما لا يبصر، وهذا أعم قسم وقع في القرآن، فإنه يعم العلويات والسفليات، والدنيا والآخرة، وما يرى وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 لا يرى ويدخل في ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسي واللوح والقلم، وكل مخلوق، وذلك كله من آيات قدرته وربوبيته، ففي ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى وهو كلامه تعالى، لا كلام شاعر ولا مجنون ولا كاهن، وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنه القرآن حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود، ويكفي الإنسان من جميع ما يبصره وما لا يبصره "نفسه" ومبدأ خلقه   لا يرى"، دخل فيه الخالق وصفاته تعالى، كما في الخازن غيره. "ويدخل في ذلك الملائكة كلهم والجن والإنس والعرش والكرسي واللوح والقلم، وكل مخلوق" وحيث شمل ذلك كله، فالحمل عليه أولى من الحمل على بعضه، فقيل: الدنيا والآخرة، أو ما على ظهر الأرض وبطنها، أو الأجساد، والأرواح، أو الإنس والجن، أو الخلق والخالق، أو النعم الظاهرة والباطنة، أو ما أظهره الله من مكنون غيبه، واللوح والقلم، وجميع خلقه، وما لا تبصرون ما استأثر بعلمه، فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه، "وذلك كله من آيات قدرته وربوبيته، ففي ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما لا يرى آية ودليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قد يتوقف فيه بأن كثيرًا من المخلوقات ليس فيه دلالة على ذلك، كذات السماء مثلًا، اللهم إلا أن يقال: الأقسام بها دليل عظمتها، وكمالها، ففيها دلالة على صدق المصطفى من حيث الأخبار عن الله أنه إنما خلق السماوات وغيرها لأجله صلى الله عليه وسلم، أو أن الأقسام بكل واحدة منها من حيث تعلق الأقسام به يثبت صدقه فيما جاء به، "وأن ما جاء به هو من عند الله تعالى وهو كلامه تعالى، لا لام شاعر ولا مجنون ولا كاهن" كما زعموا، "وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها وما لا يرى حق، كما قال"، أي: ونظير ذلك قوله تعالى: " {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ} " أي: ما توعدونه " {لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} " [الذاريات: 23] ، يرفع مثل صفة، وما زائدة، وبفتح اللام مركبة مع ما المعنى مثل نطقكم في حقيته، أي: معلوميته عندكم ضرورة صدوره عنكم، فوجه التنظير بهذه الآية، أنه أقسم برب السماء والأرض على أن ما توعدوه حق، كما أن نطقكم الذي تأتون به حق لا تشكون فيه، "فكأنه سبحانه وتعالى يقول: إنه" أي: "القرآن" الذي رجع إليه ضمير إنه لقول رسول كريم "حق كما أن ما تشاهدونه من الخلق وما لا تشاهدونه حق موجود"، فلا وجه للإنكار، "ويكفي الإنسان من"، كذا في بعض النسخ الصحيحة من التي للبدل، وهو الصواب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 ونشأته وما يشاهده من أحواله ظاهرًا وباطنًا، ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لا تخالط بشاشة الإيمان قلبه. ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه وافترى لما أقره ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته يأبى أن يقر من تقول عليه وافترى عليه، وأضل عباده واستباح دماء   الواقع في أصله ابن القيم، وفي غالب النسخ مع، ولا معنى لها، إذ المعنى بدل "جميع ما يبصره ولا يبصره نفسه" كما قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ، أي: وفي أنفسكم أيضًا آيات من مبدأ خلقكم لي، منتهاه وما في تركيب خلقكم من العجائب، أفلا تبصرون ذلك فتستدلون به على صانعه وقدرته "ومبدأ خلقه ونشأته وما يشاهده من أحواله ظاهرًا وباطنًا"، إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإنسان له نظير تدل ذاته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال الغريبة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، كما في البيضاوي، "ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب". كذا في نسخ صحيحة متعددة، وهو الذي في أصله ابن القيم خلاف ما في بعضها أبين دلالة الرب، فإنه خطأ نشأ عن سقط "وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم تخالط بشاشة الإيمان"، أي: طلاقة الوجه والتلطف بالضعفاء وحسن السيرة مع المؤمنين "قلبه" من إضافة المسبب إلى السبب، أي: لم تخالط البشاشة الناشئة عن الإيمان قلبه أو شبه الإيمان بإنسان حسن الأخلاق، كامل التودد والصدقة لإخوانه، وأثبت له ما هو من خواصه، وهو البشاشة تخييلًا، "ثم" بعد أن أثبت بالقسم أنه قول رسول كريم، ونفى عنه أقوال الكفرة، بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، "أقام سبحانه البرهان" الدليل "القاطع على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله"، بقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} ، قال الكشاف: سمي الإفتراء تقولًا؛ لأنه قول متكلف، والأقوال المفتراة أقاويل تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك، "وأنه لو تقول عليه وافترى" عطف تفسير "لما أقره، ولعاجله بالإهلاك" أي: عجل إهلاكه، "فإن كمال علمه وقدرته وحكمته يأبى أن يقر من تقول عليه" ما لم يقل، "وافترى عليه وأضل عباده، واستباح دماء من كذبه، وحريمهم" نساءهم "وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 من كذبه وحريمهم وأموالهم، فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأقدر القادرين أن يقر على ذلك، بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم، بسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلًا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي؟ بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشده له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك. والمراد بالرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه وسلم -كما قدمته-؛ لأنه لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم} ذكره بعده "إنه ليس بقول شاعر ولا كاهن" والمشركون ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة.   وأقدر القادرين أن يقر على ذلك" لا فهو استفهام بمعنى النفي، "بل" إضراب انتقالي لا إبطالي، "كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بهم" أي: المكذبين له "بسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلًا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي" استفهام بمعنى النفي أيضًا: أي: لا يكون ذلك، "بل" للإضراب الانتقالي أيضًا، "كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره" على ما فعله فيهم من سفك دمهم وغيره، "وبالآيات" المعجزات، "المستلزمة لصدقه، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية" علامة ومعجزة "على انفرادها مصدقة له، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله، فمن أعظم المحال وأبطل الباطل، وأبين البهتان" أي: افتراء الكذب، "أن يجوز على أحكم الحاكمين أن يفعل ذلك" ففي ذلك كله أبين الدلالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، "والمراد بالرسول الكريم هنا محمد صلى الله عليه وسلم" في قول جماعة من أهل التفسير، "كما قدمته" في الآية التي قبل هذه، وأضيف إليه؛ لأنه بلغه، وقال جماعة منهم: هو جبريل، والأول أصح؛ "لأنه لما قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم} ذكره بعده "إنه ليس بقول شاعر ولا كاهن" والمشركون ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة، وأجيب بأنه يصح إرادة جبريل من حيث إن المشركين كانوا يصفون القول نفسه بأنه شعر وكهانة وإن لم يلحظوا قائله. قيل: ذكر الإيمان مع نفي الشاعرية، والتذكير مع نفي الكاهنية؛ لأن عدم مشابهة القرآن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 75-77] .   الشعر لا ينكره إلا معاند، بخلاف مباينة الكهانة، فتتوقف على تذكر أحواله صلى الله عليه وسلم ومعاني القرآن النافية لطريقة الكهنة، ومعاني أقوالهم وأنت خبير بأن ذلك أيضًا مما يتوقف على قائل قطعًا. كذا في بعض التفاسير والله أعلم، "ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ} قيل: لا زائدة، والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، نحو: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَاب} ، فهي مؤكدة تعطي في القسم مبالغة ما، وهي كاستفتاح كلام، مشبهة في القسم إلا في سائر الكلام، القسم وغيره، ومنه قوله فلا، وأبى أعدائه لا إخوانها، المعنى، وأبى أعدائها، وله نظائر، وقرأ الحسن: فلا أقسم، بلا ألف، أي: فلا أنا أقسم، وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة، نافية كأنه، قال: لا صحة لما يقوله الكفرة، ثم ابتدأ أقسم {بِمَوَاقِعِ} بالجمع قراءة الجمهور، وقرأ عمرو بن مسعود، وابن عباس، وأهل الكوفة وحمزة والكسائي، بموقع، بالإفراد مرادًا به الجمع، ونظيره كثير، ومنه أن أنكر الأصوات لصوت الحمير، جمع من حيث إن لكل حمار صوتًا مختصًا، وأفرد من حيث إن الأصوات كلها نوع " {النُّجُومِ} ". قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم: هي نجوم القرآن التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك؛ لأنه نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل: إلى البيت المعمول جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على المصطفى نجومًا مقطعة في عشرين سنة. قال ابن عطية: ويؤيده عود الضمير في أنه إلى القرآن، فإنه لم يتقدم ذكره إلا على هذا التأويل، ومن قال بغيره، قال: الضمير عائد على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره لشهرة الأمر ووضوح الحق، كقوله: حتى توارت وكل من عليها. وقال جمهور المفسرين النجوم هنا الكواكب المعروفة واختلف في مواقعها، فقال مجاهد وأبو عبيدة: مواقعها عند غروبها وطلوعها. وقال قتادة: مواضعها من السماء. وقيل: مواضعها عند الانقضاض أثر الجن. وقال الحسن: مواقعها عند الانكدار يوم القيامة. انتهى، وهو ظاهر في أن للإضافة على بابها، وأن الأقسام، إنما هو بمواقعها لا بذواتها، وتجويز أنه من إضافة الصفة للموصوف، أي: بالنجوم حين سقوطها خلاف الأصل، وظاهر اللفظ، وكلام المفسرين: " {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} " تأكيد للأمر وتقييد من المقسم به لا اعتراض، بل معنى قصد التتميم به، وإنما الاعتراض " {لَوْ تَعْلَمُونَ} " وقيل: أنه اعتراض، وأن لو تعلمون اعتراض في اعتراض، والتحرير ما ذكرناه، قاله ابن عطية: " {عَظِيمٌ} " أي: من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم، " {إِنَّهُ} " أي: المتلو عليكم " {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} "، هو الذي وقع القسم عليه، ووصفه بالكرم إثباتًا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 فقيل: المراد بـ"الكتاب" اللوح المحفوظ. قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13-16] ، قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه أنها مثل الذي في "عبس"، قال: ومن المفسرين من قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر، والأول أرجح؛ لأن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تتنزل به الشياطين، وأن محله لا تصل إليه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210] وأيضًا: فإن قوله: {لَا يَمَسُّه} بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى، ولو كان   لصة المدح له، ودفعًا لصفات الحطيطة عنه، " {فِي كِتَابٍ} " مكتوب " {مَكْنُونٍ} " مصون " {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} الآية"، تنزيل من رب العالمين. واختلف في الكتاب بعد الاتفاق على أن المكون المصون، كما قال ابن عطية: "فقيل: المراد بـ"الكتاب" اللوح المحفوظ". "قال ابن القيم: والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله": {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه} ، " {فِي صُحُفٍ} خبر ثان؛ لأنها وما قبله اعتراض {مُكَرَّمَةٍ} عند الله، " {مَرْفُوعَةٍ} " في السماء، " {مُطَهَّرَةٍ} " منزهة عنه مس الشياطين، " {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ"} ، كتبه، ينسخونها من اللوح المحفوظ، " {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} " مطيعين لله وهم الملائكة. "قال مالك" الإمام: "أحسن ما سمعت في هذه" الآية في كتاب مكنون، "إنها مثل الذي في" صورة عبس، استدلال لما صححه. "قال" ابن القيم: "ومن المفسرين من قال: إن المراد أن المصحف لا يمسه إلا طاهر" من الحديث، "والأول أرجح" عند غيره، يعني اللوح المحفوظ، إذ هو الأول في كلامه، ولا يخالفه قوله في الثاني؛ أنه الصحيح؛ لأنه عند نفسه، ويؤيد ذلك قول ابن القيم الخامس، أي: من التراجيح؛ أن وصفه بكونه مكنونًا نظير وصفه بكونه محفوظًا، فقوله: {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} ، كقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} ، الآية؛ "لأن الآية سيقت تنزيهًا للقرآن أن تتنزل به الشياطين، وأن محله لا تصل إليه، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} " بالقرآن " {الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي} " بصلح " {لَهُمْ} " أن ينزلوا به، " {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} " ذلك، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فترجح كون المراد ما بأيدي الملائكة. "وأيضًا فإن قوله: {لَا يَمَسُّه} بالرفع، فهذا خبر لفظًا ومعنى، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 نهيًا لكان مفتوحًا. ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي، والأصل في الخبر والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي، انتهى ملخصًا. وهذا الذي قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة منهم داود بن علي بأنه يجوز من المصحف للمحدث. وأجاب ابن الرفعة في "الكفاية" عن أدلته المزخرفة فقال ما نصه: القرآن لا يصح مسه، فعلم أن المراد به الكتاب الذي هو أقرب المذكورين، ولا يتوجه النهي إلى اللوح المحفوظ؛ لأنه غير منزلن ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون   ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي"، فقال: إنه خبر بمعنى النهي، وضمة السين ضمة إعراب، وقيل: هو نهي، وضمة السين ضمة بناء لا إعراب، "والأصل في الخبر، والنهي حمل كل منهما على حقيقته، وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي" بل الموجب موجود، وهو اجتماع النفي والإثبات. "انتهى" ما أراد نقله من كلام ابن القيم حال كونه "ملخصًا" بمعنى محذوفًا منه ما لم يرد نقله، وإلا فهو قد ذكر كلامًا طويلًا، من جملته عشرة أوجه في ترجيح أنه الذي بأيدي الملائكة، منها الوجهان المذكوران في المصنف، "وهذا الذي قاله ابن القيم قد تمسك به جماعة، منهم: داود بن علي بن خلف، الحافظ، المجتهد، أبو سليمان الأصفهاني، البغدادي، فقيه أهل الظاهر، ولد سنة اثنتين ومائتين، وأخذ عن إسحاق وابي ثور، وسمع القعنبي، وحدث عنه ابنه محمد وزكريا الساجي، وصنف التصانيف، وكان بصيرًا بالحديث صحيحه وسقيمه، إمامًا، ورعا، ناسكًا، زاهدًا، كان في مجلسه أربعمائة طيلسان، مات في رمضان سنة ثمانين ومائتين، "بأنه يجوز من المصحف للمحدث"؛ لأن الآية لم ترد فيه إنما وردت في اللوح، أو الذي بأيدي الملائكة، لكن ولو قلنا بذلك لا دلالة فيها على جواز مس المصحف للمحدث، إذ هو مسكوت عنه. "وأجاب ابن الرفعة في الكفاية" شرح التنبيه للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، كتاب واسع كبير، "عن أدلتهم المزخرفة" أي: المزينة بما يروجها، "فقال ما نصه القرآن لا يصح مسه" وإنما يمكن من النقوش الدالة عليه، "فعلم أن المراد به الكتاب الذي هو أقرب المذكورين" وهما القرآن الكريم والكتاب المكنون، "ولا يتوجه النهي إلى اللوح المحفوظ"، ولا إلى صحف الملائكة؛ "لأنه غير منزل، ومسه غير ممكن، ولا يمكن أن يكون المراد بالمطهرون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 المراد بالمطهرون الملائكة؛ لأنه قد نفى وأثبت وكأنه قال: يمسه المطهرون ولا يمسه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع، فعلم أنه أراد: بالمطهرين الآدميين، وبين ذلك ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتاب عمرو بن حزم المروي في الدارقطني وغيره: "ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر" ثم قال، فإن قيل: قد قال الواحدي أن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم لم يكن فيها دليل؛ لأن قوله: لا يمسه بضم السين، ليس نهيًا عن المراد ولو كان نهيًا لكان بفتح السين، فهو إذًا خبر. قلنا: أما قول أكثر المفسرين فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل.   الملائكة؛ لأنه قد نفي" بقوله: لا يمسه، "وأثبت" بقوله: إلا المطهرون، "وكأنه قال: يمسه المطهرون، ولا يسمه غير المطهرين، والسماء ليس فيها غير مطهر بالإجماع" فحمله على الملائكة يلزم منه انقسامهم لمطهر وغيره، وهو خلاف الإجماع، "فعلم" بذلك، "أنه أراد بالمطهرين الآدميين". وتعين أنه أراد بكتاب المصحف، "ويبين ذلك" ويزيده وضوحًا "ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتاب عمرو" "بفتح العين" "ابن حزم" بن زيد بن لوذان الأنصاري يكنى أبا الضحاك، شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على نجران، وروى عنه كتابًا، كتبه له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك، وعنه ابنه محمد وجماعة، قال أبو نعيم: مات في خلافة عمر، وكذا قال إبراهيم بن المنذر، ويقال: بعد الخمسين قال في الإصابة: وهو أشبه بالصواب، ففي مسند أبي يعلى برجال ثقات؛ إنه كلم معاوية في أمر بيعته ليزيد بكلام قوي، وفي الطبراني وغيره أنه روى لمعاوية ولعمرو بن العاصي حديث: "يقتل عمارًا الفئة الباغية". "المروي في الدارقطني وغيره" كأبي داود، والنسائي، وابن حبان، والدارمي: "ولا تمس القرآن إلا وأنت على طهر" فهذا نص صريح في المطلوب، وإن احتملت الآية، "ثم قال" ابن الرفعة: "فإن قيل: قد قال: الواحدي: إن أكثر أهل التفسير على أن المراد اللوح المحفوظ، وأن المطهرين الملائكة، ثم لو صح ما قلتم" إن المراد المصحف، والمطهرون بنو آدم، "لم يكن فيها دليل" على حرمة مسه للمحدث؛ "لأن قوله: لا يمسه بضم السين، ليس نهيًا عن المراد، ولو كان نهيًا لكان بفتح السين، فهو إذا خبر" لا دلالة فيه على الحرمة، "قلنا: أما قول أكثر المفسرين، فهو معارض بقول الباقين، والمرجع إلى الدليل". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أن نقول: اللفظ لفظ الخبر ومعناه النهي، وهو كثير في القرآن، قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 223] ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] . انتهى. وأجاب العلامة البساطي في شرحه لمختصر الشيخ خليل: بأن يمسه مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة، وقالوا: إنه مذهب البصريين، ومنهم ابن الحاجب في "شافتيه" انتهى. وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبي الشهير بـ"السمين"، مع زيادة إيضاح وفوائد فقال في "لا" هذه وجهان، الثاني: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} [آل عمران: 174] ولكنه أدغم، ولما أدغم   وهو إنما دل على أن المراد المصحف، فلا نظر إلى كثرة القائلين بخلافه، "وأما كون المراد بالآية الخبر، فجوابه: أنا نقول اللفظ لفظ الخبر، ومعناه النهي" وهو أبلغ في النهي من النهي الصريح، "وهو كثير في القرآن". وكذا السنة، "قال الله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} بسببه؛ بأن تكره على إرضاعه إذا امتنعت، فلفظه خبر، ومعناه النهي، " {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} " [البقرة: 233] ، إذ معناه لتتربص المطلقات، ولا تبادر بالنكاح قبل انقضاء الإفراء. "انتهى" كلام ابن الرفعة. "وأجاب العلامة البساطي" قاضي المالكية شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، شيخ الإسلام، ولد سنة ستين وسبعمائة، وبرز في الفنون، ودرس في الشيخونية وغيرها، وصنف تصانيف، ومات في رمضان، سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة، "في شرحه لمختصر الشيخ خليل" بن إسحاق، العلم الشهير في الآفاق، "بأن يمسه مجزوم، وضم السين لأجل الضمير، كما صرح به جماعة وقالوا: إنه مذهب البصريين ومنهم"، أي: الجماعة "ابن الحاجب في شافيته. انتهى" كلام البساطي. "وقد ذكر هذا العلامة شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود الحلبي، الشهير بالسمين" صاحب إعراب القرآن، وله أيضًا تفسير كبير، تقدم بعض ترجمته "مع زيادة إيضاح وفوائد، فقال: في لا هذه" في لا يمسه "وجهان" الأول: إنها نافية، "الثاني: أنها ناهية، والفعل بعدها مجزوم؛ لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك" الجزم "فيه، كقوله تعالى: {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} " [آل عمران: 174] ، حيث ظهر الجزم فيه بفك الإدغام، "ولكنه أدغم" في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 حرك آخره بالضم لأجل "هاء" ضمير المذكر الغائب، ولم يحفظ سيبويه في هذا إلا الضم. وفي الحديث: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفًا. قال: وبهذا الذي ذكرته يظهر فساد رد من رد بأنه لو كان نهيًا لكان يقال: لا يمسه بالفتح؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل الهاء في هذا النحو، لا سيما على رأي سيبويه فإنه لا يجيز غيره. والله أعلم.   لا يمسه، "ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، ولم يحفظ سيبويه في هذا إلا الضم". "وفي الحديث" الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه، قال: "أنا" "بكسر الهمزة" "لم نرده عليك" لعله من العلل، "إلا أنا" بفتح الهمزة" "حرم" "بضم الحاء والراء" أي: محرمون. زاد في رواية للنسائي: لا نأكل الصيد، قال المصنف: نرده "بفتح الدال" رواية المحدثين، وذكر ثعلب في الفصيح، لكن قال المحققون من النحاة: أنه غلط، والصواب: ضم الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء، فكان ما قبلها ولي الواو، ولا يكون ما قبل الواو إلا مضمومًا، كما فتحوها مع المؤنث، نحو: نردها مراعاة للأنف، وجوز الكسر أيضًا، وهو أضعفها، ففيها ثلاثة أوجه، وللحموي والكشميهني: لم نردده بفك الإدغام، فالدال الأولى مضمومة، والثانية مجزومة، وهو واضح. انتهى، "وإن كان القياس جواز فتحه تخفيفًا" وبه جاءت الرواية، فهي صحيحة للتخفيف، وليست بغلط. "قال" السمين: "وبهذا الذي ذكرته يظهر فساد رد من رد؛ بأنه لو كان نهيًا لكان يقال: لا يمسه بالفتح؛ لأنه خفي عليه واز ضم ما قبل الهاء في هذا النحو"، أي: ما في هذا ونحوه من آخر كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر، "لا سيما على رأي: سيبويه، فإنه لا يجيز غيره" بقي أن ابن عطية قال: القول بأن لا يمسه نهي قول فيه ضعف؛ لأنه إذا كان خبرًا، فهو في موضع الصفة، وقوله: تنزيل صفة أيضًا، فإذا جعلناه نهيًا جاء بمعنى أجنبي معترض بين الصفات، وذلك لا يحسن في وصف الكلام، فتدبر وفي مصحف ابن مسعود: ما يمسه وهو مما يقوي ما رجحته من الخبر، الذي معناه حقه وقدره؛ أن لا يمسه إلا طاهر. انتهى. وأجاب شيخنا لما ذكرته له؛ بأن تضعيفه بما ذكر إنما هو في سياق قصد به كله معنى واحد، أما إذ قصد به معنيان أو أكثر، فلا يضر ما قاله، "والله أعلم" بما أراد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 الفصل الرابع: في قسمه تعالى على تحقيق رسالته قال الله تعالى: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1-2] . اعلم أن كل سورة بدأ الله تعالى فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن إلا "ن". ثم إن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أمورًا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا إن كشف الله له سر ذلك. واختلف المفسرون في معنى يس على أقوال: أحدها: أنه يا إنسان، بلغة طيئ، وهذا قول ابن عباس والحسن وعكرمة   "الفصل الرابع": "في قسمه تعالى على تحقيق"، أي: إثبات "رسالته" صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى " {يس} "، أمال حمزة والكسائي الياء غير مفرطين، والجمهور يفتحونها، ونافع وسط في ذلك {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ، المحكم فعيل بمعنى مفعل، أي: أحكم في مواعظه وأوامره ونواهيه، ويحتمل أنه بناء فاعل، أي: ذي الحكمة، أو الحكيم صاحبه، "اعلم أن كل سورة بدأ الله تعالى فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر"، كقوله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] الآية، وينبغي أن المراد به ما يعم لفظه وما تضمن معناه، نحو {الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت: 1] ، {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1] ، ونحوهما. "أو الكتاب {الم ذَلِكَ الْكِتَاب} [السجدة: 1] ، "أو القرآن" أو هما {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1، 2] "إلا سورة "ن" فليس في أوائلها ذلك صريحًا لكن تقدم من جملة الأقوال: إن مبنى يسطرون، يكتبون القرآن وغيره، فعليه تكون {ن} كغيرها، "ثم إن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أمورًا تدل على إنها غير خالية عن الحكمة، لكن علم الإنسان لا يصل إليها إلا أن كشف الله له سر ذلك" بأن يطلعه عليه، وهذا بناء على أنه أريد بها ما خفي لا ما استأثر الله بعلمه، إذ لا يطلع عليه أحدًا. "واختلف المفسرون في معنى {يس} على أقوال أحدها: أنه يا إنسان بلغة طيئ؛ لأنهم يقولون: يا إيسان، بمعنى يا إنسان، ويجمعونه على إيا سين، فهذا منه، وقالت فرقة: قوله يا حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف، فأقيم مقامه، قاله ابن عطية، "وهوقول ابن عباس" عند ابن أبي حاتم، والثعلبي، "والحسن" البصري، "وعكرمة" البربري، "والضحاك، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل: بلغة الحبشة، وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبي أنها بالسريانية. قال الإمام فخر الدين: وتقريره هو أن تصغير إنسان: أنيسين وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال يس، وعلى هذا فيكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} [يس: 3] . وتعقبه أبو حيان: بأن الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان: أنيسيان -بياء بعدها ألف- فدل على أن أصله: إنسيان؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ولا نعلم أنهم قالوا في تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم؛ لأنه منادى مقبل عليه، ومع ذلك فلا يجوز؛ لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. انتهى.   وسعيد بن جبير، وقيل: بلغة الحبشة" حكي عن ابن عباس أيضًا، ومقاتل، "وقيل: بلغة كلب، وحكى الكلبي" محمد بن السائب؛ "إنها بالسريانية". "قال الإمام فخر الدين" الرازي: "وتقريره" أي: هذا المقول؛ إن معناه يا إنسان بأي: لغة مما ذكر، "وهو أن تصغير إنسان أنيسين، وكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز" لكثرة النداء به، "وقال: {يس} "، وعلى هذا"، أي: يا إنسان بسائر ما قيل فيه، "فيكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم"، ويؤيده حديث: "لي عند ربي عشرة أسماء"، وعد منها " {طه} " و" {يس} "، "ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} "؛ لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بلا نزاع، فيقوي قول يس كذلك، وتبع الزمخشري الإمام على هذا. "وتعقبه أبو حيان بأن الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان، بيء" بعد السين، و"بعدها ألف، فدل على أن أصله إنسيان؛ لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها" فيعرف به كما يعرف بالجمع، "ولا نعلم أنهم قالوا في تصغيره: أنيسين، وعلى تقدير أنه يصغر كذلك" ورودًا عن العرب، "فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم؛ لأنه منادى، مقبل عليه" فكان قياسه ضم النون، وقرأه الجمهور بسكون النون وإظهارها، وإن كانت النون الساكنة تخفي مع الحروف، وإنما هي مع الانفصال، وحق هذه الحروف المقطعة أن تظهر، وقرأ عاصم وابن عامر بخلاف، عنهما " {يس وَالْقُرْآنِ} "، بإدغام النون، في الواو، وقرئ بنصب النون وبضمها، "ومع ذلك" وجه ثالث "فلا يجوز؛ لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. انتهى" كلام أبي حيان، واعتراضه الأول معارضه بنقل الرازي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 قال الشيخ شهاب الدين السمين: وهذا الاعتراض الأخير صحيح، فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعًا، ولذلك يحكى أن ابن قتيبة لما قال في "المهيمن" إنه مصغر من "مؤمن" والأصل: مؤيمن، فأبدلت الهمزة هاء، قيل له: هذا يقرب من الكفر، فليتق الله قائله، انتهى. وقيل معنى يس: يا محمد، قاله ابن الحنيفة والضحاك.   وتبعه الزمخشري والبيضاوي، والمثبت مقدم على النافي، ولا يرد بقوله المنقول عن العرب؛ لأنه باعتبار علمه، وجواب الثاني؛ أنه ينوي ضمه، كما في الأسماء المبنية على الكسر، كسيبويه، فنطق به بالسكون، مع أنه منادى نظرًا إلى أنه لما كان بصورة الحرف أبقى على ما يلفظ به الحرف. "قال الشيخ شهاب الدين السمين: وهذا الاعتراض الأخير" الثالث "صحيح فقد نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعًا"، كأسماء الله تعالى وأنبيائه، لإيهامه التحقير، وإن جاء للتعظيم في قوله دويهية؛ لأنه إنما جاء فيما يجوز تصغيره تلطفًا منهم، كما قيل: ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير وأجاب شيخنا عنه بأن التصغير يراد لغير التحقير، كالشفقة والمحبة، فيحمل اللفظ عليه، سيما مع وجود القرينة الدالة على ذلك، وقد يرد بأنه إنما ورد لغيره فيما يجوز تصغيره، إلا أن يقال: المنع إنما هو إذا وقع من غير الله، أما منه بقصد الملاطفة ونحوها، فلا يمتنع، لكن يرد بأنه ليس نصًا منه تعالى على ذلك، إنما هو على هذا التفسير، ولي بمتعين خصوصًا والمذاهب المنصور في أسماء الحروف، التي في أوائل السور؛ أنها مما استأثر الله بعلمه، "ولذلك يحكى أن" عبد الله بن مسلم "بن قتيبة" الدينوري "لما قال في المهيمن": بكسر الميم الثانية وفتحها، أي: المراقب "أنه مصغر من مؤمن، والأصل مؤيمن، فأبدلت الهمزة هاء" كراهة اجتماع همزتين في كلمة؛ لأن أصله مؤمن، وقلبت الأولى هاء لاتحاد مخرجهما، "قيل له: هذا يقرب من الكفر"؛ لأن أسماء الله وما في معناها من الأسماء العظيمة لا يناسبها التصغير؛ لأنه ينافي التعظيم، "فليتق الله قائله. انتهى". ومع ذلك، فهو تكلف لا حاجة إليه مع سماع أبنية يلتحق بها، والياء أصلية لا مبدلة، "وقيل: معنى يس يا محمد"؛ لأنه وضع له ابتداء، أو بواسطة، "قاله ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب، الهاشمي أبو القاسم المدني، ثقة، روى له الجميع، اشتهر بأمه، مات بعد الثمانين، "والضحاك" بن مزاحم، "وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية" رفيع بن مهران التابعي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 وقيل: يا رجل، قاله أبو العالية. وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. وعن أبي بكر الوراق: يا سيد البشر. وعن جعفر الصادق: أنه أراد يا سيد، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه من مزيد   "وقيل: هو اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة" وقيل: من أسماء السور، وهما من الأقوال المشتركة في أوائل جميع السور، "وعن أبي بكر الوراق" محمود بن الحسن: "يا سيد البشر، وعن جعفر الصادق" لصدقه في مقاله بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب؛ "أنه أراد: يا سيد، مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم" بفتح الطاء منصوب بدل مما قبله، أو مصدر فعل مقدر أي: خاطبه به مخاطبة مخصوصة به، قيل: فعلى هذا، فهو اكتفاء ببعض الكلمة عن باقيها، وهو مذهب للعرب، حكاه سيبويه وغيره، يقولون: ألاتا، بمعنى تفعل، فيقول: بلى فأي: أفعل، فيكتفون عن الكلمة ببعض حروفها. وفي الحديث: "كفي بالسيف شا" أي: شاهدًا. وقال التجاني: التحقيق أنهم يكتفون ببعض حروف الكلمة، معبرين باسم بعض حروفها، كقولهم قلت لها: قفي، فقالت: {ق} ، أي: وقفت، فيحتمل {يس} ، أن يكون عبر عنه بإسمين من أسماء حروفه لا بمسماه، كما قال الرازي: وإن كانت العرب قد تكتفي ببعض الكلمة، كقوله: كانت مناها بأرض لا يبلغها، أي: مناياها، وقوله: درس المنا بمتالع فأبان، أي: المنازل، ونظائره كثيرة. وفي بديع الاكتفاء للنواحي، قال علماء البديع: الاكتفء أن يدل موجود الكلام على محذوفه، وهذا الحد صادق على نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} ، على أحد القولين فيه، ثم قسمه إلى الاكتفاء بكلمة نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر} الآية، أي: والبرد، وإلى الاكتفاء ببعض الكلمة، وهذا الثاني مما اخترعه المتأخرون من أهل البديع، وأكثر منه الشعراء المتأخرون، والتزموا فيه التورية، كقوله الدماميني: يقول مصاحبي والروض زاه ... وقد بسط الربيع بساط زهر تعال نباكر الروض المفدى ... وقم نسعى لى روض ونسر أي: نسرين، وقول الحافظ ابن حجر: دع يا عذول رقى الملام فمذ سرى ... عني الحبيب فنيت دام له البقا والطرف مذ فقد الرقاد بكى مما ... يحكي الغمام فليس يهدي بالرقا أي: الرقاد: واستشكل بأنه لا يجوز الترخيم في غير المنادى لمخالفة القياس، فكيف يعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 تمجيده وتعظيمه ما لا يخفى. وعن طلحة عن ابن عباس: أنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه. وعن كعب: أقسم الله به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام: يا محمد إنك لمن المرسلين. ثم قال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} وهو رد على الكفار حيث قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] فأقسم الله باسمه وكتابه: إنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده.   محسنًا مع إخلاله بالفصاحة، فلا يخرج القرآن عليه وإن كان فيه تورية، اللهم إلا أن يقولوا: إنه مقيس مغتفر في الشعر، وما في القرآن ليس منه، بل من ذكر حرف من كلمة إيماء إلى بقيتها لا من الترخيم، وهو ما أشار إليه المفسرون، "وفيه من مزيد تمجيده" إعزازه وتشريفه، "وتعظيمه" إجلاله "ما لا يخفى" لوصفه بالسيادة، المفيدة للعموم في المقام الخطابي، فيفيد تفوقه على من سواه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم واسطة كل خير. "و" روى ابن جرير، "عن طلحة، عن ابن عباس أنه" أي: {يس} "قسم" بمعنى مقسم به أو جعله قسمًا لتضمنه له أو مبالغة "أقسم الله به، وهو من أسمائه" أي: الله تعالى: "وعن كعب" بن مانع، المعروف بكعب الأحبار {يس} قسم "أقسم الله به قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام" أي: بمقدار ألفي عام، إذ قبل خلقهما لا أعوام؛ لأن الزمان مقدار حركة الفلك، أو المراد مجرد الكثرة، أو عدم النهاية مجازًا، أو باعتبار أن الفلك الأعظم، وهو العرش مخلوق قبلهما، لقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، ونظر في هذا؛ بأن مجرد تقدم العرش لا يقتضي تقدم الزمان بالمعنى المتعارف، واستشكل أيضًا؛ بأن كلام الله قديم، فلا قبلية فيه ولا بعدية، وخلقهما محدث. وأجيب بأن المراد إبرازه في اللوح المحفوظ، المكتوب فيه جميع الكائنات، أو أنه أطلع عليه ملائكته قبلهما بهذا المقدار، وهو مناسب هنا لإفادة إظهار علم قدره في الملأ الأعلى، ومثل هذا ورد كثيرًا في الحديث، فتضعيف ما هنا بمجرد الإيراد، وأنه إن صح ترك علمه إلى الله، إذ مثله لا يقال: بالرأي: لا يسمع، فالتضعيف إنما هو من جهة الإسناد، "يا محمد إنك لمن المرسلين" بيان للمخاطب، وليس؛ لأنه لا يناسب إن الله أقسم به. ولذا ذكر جواب القسم توضيحًا لمراده، وليس مراده أنه جواب مقدر للقسم بيس حتى يلزم عليه اجتماع قسمين من غير عطف على جواب، وقد أباه النحاة، كما في الكشاف، وقال: إن العرب تكرهه، "ثم قال: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ، وهو رد على الكفار، حيث قالوا" للنبي صلى الله عليه وسلم {لَسْتَ مُرْسَلًا} ، فأقسم الله باسمه وكتابه إنه لمن المرسلين بوحيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 وعلى طريق مستقيم من إيمانه، أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق. قال النقاش: لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له صلى الله عليه وسلم.   إلى عباده" بكسر إن لتقدير القول، والحكاية بالمعنى، أي: قائلًا إنه ولذا لم يقل: إنك "وعلى طريق مستقيم من إيمانه" بيان للطريق وأن المراد بها التوحيد، أو هي تعليلية وزاد الواو إشارة إلى أنه خبر ثان، مقصود، مقسم عليه، لا متعلق بالمرسلين، أي: من أرسل على هذه الطريقة، فالقسم على أمرين، كما قال قبله؛ أن الإرسال على أمرين: رسالته والشهادة بهدايته، لا على أمر واحد، هو أنه صلى الله عليه وسلم رسول مهدي على طريقة مستقيمة، ولا حال كما قيل؛ لأنه قريب من هذا، وإن كان جعله قيدًا ينافي القصد؛ لأن هذا أوضح وأتم في المدح، "أي: طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق" "بفتح همزة"، أي: وسكون الياء مخففة، تفسير، للطريق المستقيم وهذا أعم من الإيمان، فهو تفسير ثان، وشد الياء على أن معناه طريق، وأي طريق؛ لأنه اعوجاج ولا عدول.. إلخ. تفسير لعدم الاعوجاج مخالف للرواية، والظاهر، وإن جاز، "قال النقاش" الحافظ أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الموصلي، البغدادي، المقري، المفسر، ضعيف في الحديث، وحاله في القراءات، أمثل وأثنى عليه أبو عمرو الداني، وزعم الجعبري أن المضعف له غالط، وتقدم قبل هذا بعض ترجمته، "لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة" أي: بسببها، أو الباء، بمعنى على "في كتابه إلا له صلى الله عليه وسلم" كما في هذه الآية، وإ، دلت على أن غيره مرسل أيضًا، لكن المقسم عليه بالقصد الذاتي رسالته عليه الصلاة والسلام ولم يقل: رسول أو مرسل، وهو أخصر لتثبيت رسالته، وأنه عريق فيها على نهج قوله: {كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين} ؛ لأن فلانًا من العلماء، أبلغ من العالم، أي: لم يذكر هذا القسم في القرآن لغيره، تشريفًا له وتعظيمًا، ولشدة إنكار قومه لرسالته، فلذا أكد بتأكيدات. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 الفصل الخامس: في قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده   إلى عباده" بكسر إن لتقدير القول، والحكاية بالمعنى، أي: قائلًا إنه ولذا لم يقل: إنك "وعلى طريق مستقيم من إيمانه" بيان للطريق وأن المراد بها التوحيد، أو هي تعليلية وزاد الواو إشارة إلى أنه خبر ثان، مقصود، مقسم عليه، لا متعلق بالمرسلين، أي: من أرسل على هذه الطريقة، فالقسم على أمرين، كما قال قبله؛ أن الإرسال على أمرين: رسالته والشهادة بهدايته، لا على أمر واحد، هو أنه صلى الله عليه وسلم رسول مهدي على طريقة مستقيمة، ولا حال كما قيل؛ لأنه قريب من هذا، وإن كان جعله قيدًا ينافي القصد؛ لأن هذا أوضح وأتم في المدح، "أي: طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق" "بفتح همزة"، أي: وسكون الياء مخففة، تفسير، للطريق المستقيم وهذا أعم من الإيمان، فهو تفسير ثان، وشد الياء على أن معناه طريق، وأي طريق؛ لأنه اعوجاج ولا عدول.. إلخ. تفسير لعدم الاعوجاج مخالف للرواية، والظاهر، وإن جاز، "قال النقاش" الحافظ أبو بكر محمد بن الحسن بن أحمد الموصلي، البغدادي، المقري، المفسر، ضعيف في الحديث، وحاله في القراءات، أمثل وأثنى عليه أبو عمرو الداني، وزعم الجعبري أن المضعف له غالط، وتقدم قبل هذا بعض ترجمته، "لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة" أي: بسببها، أو الباء، بمعنى على "في كتابه إلا له صلى الله عليه وسلم" كما في هذه الآية، وإ، دلت على أن غيره مرسل أيضًا، لكن المقسم عليه بالقصد الذاتي رسالته عليه الصلاة والسلام ولم يقل: رسول أو مرسل، وهو أخصر لتثبيت رسالته، وأنه عريق فيها على نهج قوله: {كَانَتْ مِنَ الْقَانِتِين} ؛ لأن فلانًا من العلماء، أبلغ من العالم، أي: لم يذكر هذا القسم في القرآن لغيره، تشريفًا له وتعظيمًا، ولشدة إنكار قومه لرسالته، فلذا أكد بتأكيدات. "الفصل الخامس": "في قسمه تعالى" بمعنى الأقسام، وهو الإيتان بالقسم، ويكون بمعنى المقسم به، والمراد الأول "بمدة حياته" صلى الله عليه وسلم فيه تمسح، إذ القسم إنما وقع بنفس الحياة، ولا يصح أن تكون الإضافة بيانية؛ لأن المدة ليست نفس الحياة، وأجاب شيخنا؛ بأنه من إضافة الصفة للموصوف، أي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون} [الحجر: 72] . العمر والعمر واحد، ولكنه في القسم يفتح للكثرة الاستعمال، فإذا أقسموا قالوا: لعمرك القسم. قال النحويون: ارتفع قوله: لعمرك بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى، قسمي، فحذف الخبر؛ لأن في الكلام دليلًا عليه, وباب القسم يحذف منه الفعل نحو: تالله لأفعلن، والمعنى: أحلف بالله، فتحذف "أحلف" لعلم المخاطب بأنه حالف. قال الزجاجي: من قال: لعمر الله كأنه حلف ببقاء الله فيحذف أحلف،   بحياته، القائمين به في الزمن الذي كان فيه، أو ببقائه حقيقة، أو حكمًا، فشمل هذا الزمن "وعصره وبلده" قدم العصر؛ لأن المواهب الخاصة وأنواع الاهتداء إنما نشأت عن عصره، لا عن خصوص البلد؛ ولأن زيادة تشريف البلد إنما حصلت في عصره، فالاعتناء به أهم، وآخره في الترتيب رعاية لترتيب المصحف، إذ سورة البلد مقدمة على العصر، فزعم بعض أن الصواب تقديم البلد على العصر، لتقدمه عليه في الترتيب ساقط، وأيضًا الواو لا تقتضي ترتيبًا ولا شرفًا، فلا يقال في مثله الصواب، بلا ولا الأنسب. "قال الله تعالى: " {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ} " أي: قوم لوط " {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} " غفلتهم، وغلبة الهوى والشهوة عليهم، حتى صاروا سكارى، لا يميزون الخطأ من الصواب " {يَعْمَهُون} " [الحجر: 72] ، يتحيرون لعمي بصائرهم، "العمر" بالفتح"، "والعمر" "بالضم" واحد، ولكنه في القسم يفتح" أي: يلزم الفتح، وإلا حسن لو عبر به "لكثرة الاستعمال" علة للفتح، أي: بمعنى أن الكثرة يطلب لها التخفيف، والفتح خفيف، فخصوه بالقسم وإن استعمل في غيره قليلًا، والضم أكثر، "فإذا أقسموا قالوا لعمرك" لأفعلن، ومنه الآية، وقوله: "القسم" خبر مبتدأ محذوف، أي: هو القسم، أو منصوب لجعله مقدرًا، وليس من جملة اليمين، والأظهر لو استغنى عنه، بقوله: "قال النحويون: ارتفع قوله: {لَعَمْرُكَ} ، بالابتداء، والخبر محذوف، والمعنى قسمي" فسد جواب القسم مسد الخبر، "فحذف الخبر؛ لأن في الكلام دليلًا عليه" لسد جواب القسم مسده، "وباب القسم يحذف منه الفعل نحو تالله لأفعلن، والمعنى أحلف بالله، فتحذف أحلف لعلم المخاطب" بأنه حالف" من ذكر القسم. "قال الزجاجي" "بفتح الزاي وشد الجيم" أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق، صاحب الجمل والأمالي وغير ذلك، مات بطبرية سنة تسع وثلاثين وقيل: سنة أربعين وثلاثمائة، نسبة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفات ذاته. وعن مالك: لا يعجبني الحلف بذلك. وقام الإمام الشافعي وإسحاق: لا يكون يمينًا إلا بالنية، وعن أحمد كالمذهبين، والراجح عند الشافعي. واختلف فيمن المخاطب في الآية على قولين: أحدهما: أن الملائكة قالت للوط عليه السلام -لما وعظ قومه وقال: هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أي يتحيرون، فكيف يعقلون قولك، ويلتفتون إلى نصيحتك؟! والثاني: أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى أقسم بحياته، وفي هذا   إلى شيخه الزجاج غبراهيم بن محمد البغدادي: "من قال لعمر الله، كأنه حلف ببقاء الله، فيحذف أحلف"، جواب سؤال، حاصله الحلف بالعمر، ظاهر في غيره تعالى؛ لأن الحياة القائمة به صفة لها غاية يعبر عنها عدة العمر، وأما سبحانه، فهو حي أزلًا وأبدًا، لا يقال في مدة حياته: إنها مقدرة بمدة حلف بها، فأجاب بصرف العمر في حقه تعالى للبقاء، وهو صفة له لا نهاية لها، "ومن ثم قال المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين؛ لأن بقاء الله من صفات ذاته" الثمانية، المنظومة في قوله: حياة وعلم قدرة وإرادة ... وسمع وأبصار كلام مع البقا "وعن مالك" رواية: "لا يعجبني الحلف بذلك" لظاهر حديث من كان حالفًا، فليحف بالله، "وقال الإمام: الشافعي وإسحاق" بن راهويه: "لا يكون يمينًا إلا بالنية"، لاستعمال الحياة في غيره كثيرًا، ورد بأنه مضاف لله تعالى، وتعقب هذا شيخنا؛ بأن صريح متن البهجة وشرحها أن صفاته تعالى تنعقد بها اليمين، نوى بها اليمين أو أطلق، "وعن أحمد" روايتان "كالمذهبين، والراجح عند، الشافعي" تنعقدان نواها، "واختلف فيمن المخاطب في الآية على قولين": "أحدهما: أن الملائكة قالت للوط عليه السلام لما وعظ" ذكر وخوف "قومه، وقال: هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين" ما تريدون من قضاء الشهوة، فتزوجوهن، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، أي: يتحيرون" لعمي بصائرهم، والعمه في البصيرة، والعمى في البصر، "فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك" وقدم الكشاف ذا القول؛ لأنه المناسب عنده للسياق. "والثاني: أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى أقسم بحياته"، وقدمه البيضاوي. وقال عياض: اتفق عليه أهل التفسير، ومراده أهله الذين هم أهله، وهم مفسرو السلف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض. قال ابن عباس: ما خلق الله، وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ   قال ابن القيم: أكثر المفسرين عن السلف والخلف، بل لا يعرف في السلف، فيه نزاع أنهذا قسم من الله بحياة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب بحياته، وهذه مزية لا تعرف لغيره، ولم يوفق الزمخشري لذلك، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط؛ وأنه من قول الملائكة له، فقال: هو على إرادة القول، أي: قالت الملائكة للوط: لعمرك إنهم لفي سكرتهم، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه الطيب، لا أهل التعطيل والاعتزال. انتهى. فما أوهمه المصنف من تساوي القولين مخالف لكلام أصله، إلا أن يقال لما رأى قوله: وليس في اللفظ ... إلخ. اقتصر على مجرد حكايتهما بلا ترجيح، لكن قد علم إضراب أصله، بقوله: بل ظاهر اللفظ، إلخ، وعليه، فقيل: ضمير أنهم لقريش، والجملة اعتراض، كما في البيضاوي. وقال التجاني: أنه بعيد لانقطاع الآية به عما بعدها وما قبلها، "وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه"، أي: منزلة وقدر "عريض"، مجاز بمعنى عظيم، كدعاء عريض. قال البيضاوي: أي: كبير مستعار مما له عرض متسع للإشعار بكثرته واستمراره، وهو أبلغ من الطول؛ لأنه أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه، كذلك فما ظنك بطوله. "قال: ابن عباس: ما خلق" أوجد "الله، وما ذرأ، وما برأ" "بالهمز" فيهما، وذكرهما للتأكيد؛ لأنها بمعنى، وقد يفرق بينهما بالاعبار، بأن يكون ذرأ من الذرية، وبرأ بمعنى صور، أي: لم يوجد "نفسًا أكريم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم" أشرف منه ذاتًا ونسبًا وصورة، ومثل هذه العبارة تفيد عدم المساواة عرفًا، "وما سمعت الله أقسم" أي: ماعلمت من إطلاق السبب على مسببه. وقيل: إنه هنا من النواسخ الداخلة على المبتدأ والخبر على أن المفعول الأول مصدر الخبر المضاف إلى المبتدأ، وإليه ذهب الرضي وغيره في فعل السماع الداخل على الذوات، كسمعت زيدًا يقول كذا، بشرط كون الخبر مما يسمع، والتقدير ما سمعت أقسام الله "بحياة أحد" والجملة مبينة للمقدر، لكن فيه؛ أنهم شرطوا كون السماع بلا واسطة "غيره" بالجر صفة أحدًا وبدل منه، وبالنصب على الاستثناء، قيل: وهو أحسن للصراحة في أنه أقسم بالنبي، ولم يقسم بغيره، بخلاف الخفض، فإنما يفيد أنه لم يقسم بغيره، وليس فيه أنه أقسم به ولا وجه له، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 يَعْمَهُونَ} يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا إنهم لفي سكرتهم يعمهون. ورواه ابن جرير. ومراده بقوله: "سمعت الله"؛ سمعت كلامه المتلو في الكتب المنزلة. ورواه البغوي في تفسيره بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه سولم، وما أقسم بحياة أحد غيره، وذلك يدل على أن أكرم خلق الله على الله، وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلامًا معترضًا في قصة لوط. وقال القرطبي: وإذا أقسم الله بحياة نبيه فإنما أراد بيان التصريح لنا: أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته.   فإنه يفيدهما على الوجهين بقرينة السياق، وتلاوة الآية، "قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، يقول: وحياتك، وعمرك، وبقائك في الدنيا" وفي الشفاء معناه: وبقائك يا محمد، وقيل: وعيشك، وقيل: وحياتك "إنهم لفي سكرتهم يعمهون، رواه" محمد "بن جرير"، الحافظ الشهير، "ومراده بقوله: سمعت الله، سمعت كلامه المتلو في الكتب المنزلة"، وعلى لسان نبيه. "ورواه البغوي في تفسيره" من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس، "بلفظ: وما أقسم الله بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه وسلم، وما أقسم بحياة أحد غيره"، أتى به مع استفادته مما قبله، لاشتماله على النفي والاستثناء، فكأنه قال: أقسم بحياته لا بحياة غيره؛ لأن دلالته على النفي بالمفهوم، وبعض الأئمة، كالحنفية يجعله مسكوتًا عنه، فنفي ذلك بالتصريح به، "وذلك يدل على أنه أكرم خلق الله على الله"، وذلك بإجماع، والكرم صفة جامعة لكل خير وإن خصه العرب الطارئ الآن بالجود، فليس بمراد هنا وحده، "وعلى هذا فيكون قسمه تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلامًا معترضًا في قصة لوط" تسلية للمصطفى عن أذية قومه له، وهو واضح بجعل ضمير "إنهم" لقريش، أما على أنه لقوم لوط، فلا يظهر جعله اعتراضًا، إذ هو من جملة ما يتعلق بقوم لوط. نعم. لا يمنع ذلك أن القسم بحياة المصطفى، فغايته أنه تأكيد لحيرة قوم لوط وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية، أو لتشبيه الماضي بالحال. "وقال القرطبي: وإذا أقسم الله بحياة نبيه، فإنما أراد بيان التصريح لنا انه يجوز لنا أن نحلف بحياته"، ولا دلالة فيه على ذلك، فإنما المراد التعظيم، والله تعالى له أن يقسم بما شاء، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ} ، والمقرر في مذهب القرطبي قولان مشهوران: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم تنعقد يمينه وتجب الكفارة بالحنث، واحتج أحمد بكونه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة. قال ابن خويز منداد واستدل من جوز الحلف به عليه الصلاة والسلام بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم أن يحلفوا به صلى الله عليه وسلم حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذاإذا جاء صاحبه وقال له: احلف لي بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} الآية [البلد: 1، 2] .   فذهب الأكثرون إلى حرمة الحلف بالنبي والكعبة، وكل معظم شرعا، وشهره بهرام في شامله، والأقلون إلى كراهة الحلف بذلك، وشهره التاج الفاكهاني. وحجة كل قوله صلى الله عليه وسلم: فمن كان حالفا، فليحلف بالله، أو ليصمت، رواه الشيخان، ومحل الخلاف: إذا كان الحالف صادقا وإلا حرم اتفاقا، بل ربما يكون بالنبي كفرا. "وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: فيمن أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم تنعقد يمينه، وتجب الكفارة بالحنث"، ومذهب مالك والشافعي، والجمهور لا تنعقد ولا كفارة، "واحتج أحمد بكونه صلى الله عليه وسلم أحد ركني الشهادة" ولا حجة فيه، إذ لا يلزم منذلك انعقاد اليمين به، بل ولا جواز الحلف به، لا سيما مع النهي الصريح عنه صلى الله عليه وسلم. "قال" أبو بكر محمد بن أحمد، المعروف بأنه "ابن خويز منداد" "بضم الخاء وكسر الزاي، وفتح الميم، وسكون النون ودالين بينهما ألف"، ويقال: خواز منداد، تفقه على الأبهري وله كتاب كبير في الخلاف، وكتاب في أصول الفقه، وكتاب في أحكام القرآن وعنده شواذ، عن مالك، وله اختيارات مخالفة للمذهب، ولم يكن بالجيد النظر، ولا قوي الفقه. قال الباجي: لم أسمع له في علماء العراق ذكرا، وكان يجانب الكلام، وينافر أهله حتى يؤدي ذلك إلى منافرة المتكلمين من أهل السنة، ويحكم على جميعهم بأنهم من أهل الأهواء، قاله في الديباج، "واستدل من جوز الحلف به عليه الصلاة والسلام؛ بأن أيمان المسلمين جرت من عهده صلى الله عليه وسلم، أن يحلفوا به" وهذا بفرض تسليمه لا دلالة فيه على الجواز، إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره، "حتى إن أهل المدينة إلى يومنا هذا، إذا جاء" من يريد التحليف "صاحبه" الذي يريد تحليفه، "وقال له: احلف" لي "بحق صاحب هذا القبر، أو بحق ساكن هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم" كان ذلك عنده غاية في تغليظ اليمين. "وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1، 2] ، من إقامة الظاهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 أقسم تعالى بالبلد الأمين، وهو مكة أم القرى وهو بلده عليه الصلاة والسلام، وقيده بحلوله فيه إظهارا لمزيد فضله، وإشعارا بأن شرف المكان بشرف أهله قاله البيضاوي. ثم أقسم بالوالد وما ولد، وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل، وما ولد: محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تتضمن السورة الإقسام به في موضعين، وقيل: المراد به   مقام المضمر، فلم يقل به استعظاما لحلوله فيه، "الآية" أتلها. "أقسم تعالى بالبلد الأمين"، فلا زائدة لإفادة التأكيد والتحسين، وإن كان حذفها لا يغير أصل المعنى، فاندفع قول الإمام الرازي: إنه مانع من الانتظام، وموهم جعل الإثبات نفيا، ويلزمه عدم الاعتماد على القرآن، مع أن لا تأتي زائدة مع القسم كثيرا، وقد تزاد في غيره أيضا. وقد ذهب بعض المفسرين والنحاة إلى أنه لا يصلق على مثله زائد، بل يقال: صلة تأدبا، وهو حسن، ويحتمل كلام المصنف أنه حمل، لا على أنها واقعة جواب قسم مقدر، أي: ولله؛ لأنا أقسم ويؤيده القراءة الشاذة: لا أقسم، بلام الابتداء، "وهو مكة أم القرى، وهو بلده عليه الصلاة والسلام، وقيده بحلوله فيه إظهارا لمزيد فضله"، فالمعنى أقسم به، والحال إنك مقيم به لشرفك وعظمتك عندي، "وإشعارًا بأن شرف المكان بشرف أهله"، وفيه إيماء إلى أن القسم بقوله: {وهذا البلد الأمين} ، لكونه فيه، فلا تنافي بين الآيتين، فإذا كان فيه، فهو حقيق بالإقسام به، كما قيل: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا "قاله البيضاوي" غير مقتصر عليه، بل حكى بعده ما يأتي لمصنف، لكنه لم ينقله عنه لوجوده في كلام من تقدمه "ثم أقسم بالوالد وما ولد" آثر ما على من لمعنى التعجب، كقوله: والله أعلم بما وضعت، أو؛ لأن كثيرا منالنحاة زوجوه، أو لتأويله بالمبهم، أي: الولد الكامل، الذي لا يدرك كنه ذاته، أو لاطراده فيما قصد به المعنى الوصفي، كالمولود هنا نظرا للصفة، فإنها ليست منجنس العقلاء، قال في حواشي الكشاف: التفرقة بين من وما إنما هي إذا أريد الذات، وأما إذا أريد الوصف، فيجوز ذهابا إلى الوصف، وقد خفي هذا على بعض الأفاضل، "وهو فيما قيل: إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تتضمن السورة الأقسام به في موضعين" أحدهما: في البلد التي هي محله فإذا القسم بمكانه قسم به صلى الله عليه وسلم، أبلغ من القسم بذاته وحياته. والثاني قوله: وما ولد، وزعم أنه لما أقسم بوالده، وهو في أصله، فكأنه أقسم به في غايةالبعد، اللهم إلا أن يقال لما قصد تعظيمه بالقسم بوالده، كأنه أقسم بصفة من صفاته، وهي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 آدم وذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين. وإنما أقسم تعالى بهم؛ لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنظر واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وكل ما في الأرض من مخلوق خلق لأجلهم، وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة، ومرجع العباد إلى آدم.   شرف حسبه. "وقيل: المراد به" أي: بوالد "آدم و" بما ولد: "ذريته، وهو قول الجمهور من المفسرين" فما ولد عام شامل لجميع أولاده، لا يختص بمفرد منهم فالقسم على هذا بنوع الإنسان، "وإنما أقسم تعالى بهم" وإن كان فيهم فسقة وكفار للتعليل المذكور بقوله؛ "لأنهم أعجب خلق الله على وجه الأرض" إذ خلقهم في أحسن تقويم، "لما فيهم من البيان" النطق المبين عن المقاصد "والنظر" الاستدلال، "واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء" أريد بهم ما يشمل المرسلين "والدعاة" جمع داع، كالعلماء والأولياء والصلحاء، فالكل يدعون "إلى الله تعالى والأنصار لدينه" بالسيف والحجة، "وكل ما في الأرض من مخلوق خلق لأجلهم" كما قال تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . "وعلى هذا، فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان" آدم، خصه لشرفه وكونه أصلهم، "فمرجع البلاد إلى مكة"؛ لأنها أمها "ومرجع العباد إلى آدم"؛ لأنه أصلهم، ولو قال: ومرجع غير بني آدم إليهم، وفسر أصل السكان بآدم وذريته، كان أوفق بتفسير الولد والوالد؛ بأنهم آدم وذريته، ثم ظاهر هذا التفسير: ولو كان فيهم فسقة وكفار، من حيث تعليله بما ذكر ولا ضير فيه. وفي الخازن: أقسم بآدم، وبالأنبياء والصالحين من ذريته؛ لأن الكافر وإن كان من ذريته، فلا حرمة له حتى يقسم به. انتهى. وفيه نظر؛ لأن الإقسام لم يلاحظ فيه الحرمة فقط، بل كونه أعجب الخلق على الأرض، كيف وقد قال ابن عباس: الوالد والولد هنا على العموم، فهي أسماء جنس، يدخل فيها جميع الحيوا. وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة: والد معناه كل من ولد وانسل، وما ولد لم يبق منه إلا العاقر، الذي لم يلد البتة. وقيل: المراد نوح وجميع ولده، وقيل: إبراهيم وجميع ولده، حكى ذلك ابن عطية وغيره، وقيل: الوالد محمد صلى الله عليه وسلم، الحديث: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد والولد، أمته أو ذريته"، "وقوله" تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 وقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ} هو من الحلول، ضد الظعن، فيتضمن إقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع واشتمل على خير العباد، فقد جعل الله تعالى بيته هدى للناس، ونبيه صلى الله عليه وسلم إماما وهاديا لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه. وقيل: المعنى وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش، وقد استحل فيه قومك حرمتك. وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد. وعن قتادة: وأنت حل أي لست بآثم، وحلل لك أن تقتل بمكة من شئت.   {وَأَنْتَ حِلٌّ} ، هو من الحلول" الإقامة "ضد الظعن" أي: الارتحال، وهو أحد مصادر حل، وفي الأخبار به المذاهب الثلاثة، إما أن يؤول بالمشتق، أو بتقدير مضاف، أي: ذو حل أو مبالغة، كزيد عدل. وفي القاموس: حل المكان وبه يحل ويحل حلا وحلولا، وحللا محركة نادر نزل به، "فيتضمن أقسامه تعالى ببلده المشتمل على عبده ورسوله، فهو خير البقاع" حتى المدينة، أو إلا المدينة، الخلاف الشهير، "واشتمل على خير العباد" بالإجماع، "فقد جعل الله تعالى بيته" الكعبة "هدى للناس، ونبيه صلى الله عليه وسلم إماما" قدوة "وهاديا لهم" إلى صراط مستقيم، "وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه". وفي الشفاء: قيل: لا أقسم به إذا لم تكن فيه، أي: بعد خروجك منه، حكاه مكي، وقيل: لا زائدة، أي: أقسم به، وأنت به يا محمد حلال، أو حل لك ما فعلته فيه على التفسيرين. "وقيل: المعنى وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين، الذي يأمن فيه الطير والوحش" تفسير الأمين، فهو إسناد مجازي، كعيشة راضية، "وقد استحل فيه قومك حرمتك" وفيه تثبيت له وتعجيب مما جرى عليه، وإشارة إلى علة عدم القسم، فسقط الاعتراض بإن الحال يقتضي عدم القسم بعد الخروج، فيتنافيان. وهذا كما قال ابن عطية يتجه على أنه قسم، وعلى نفيه، أي: لا أقسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء وكفرهم، "وهذا مروي" عند الثعلبي وغيره، "عن شرحبيل" "بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون المهملة" "ابن سعد" المدني، مولى الأنصار، تابعي، صدوق، اختلط بآخره، مات سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقد قارب المائة. روى له أبو داود وابن ماجه، "وعن قتادة" بن دعامة الأكمه، المفسر، التابعي: "وأنت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 وذلك أن الله تعالى يفتح عليه مكة وأهلها، وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وغيره، وحرم دار أبي سفيان. فإن قلت: هذه السورة مكية، {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} إخبار عن الحال، والواقعة التي ذكرت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجيب: بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى مستقبل، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] .   حل، أي: لست بآثم" بالمد؛ لأن حل له معان ضد الحرمة والإقامة بالمكان، والاسم منهما حل بالكسر، وحلال بمعنى جائز ومقيم، "وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت، وذلك أن الله تعالى" وعده بأنه "يفتح عليه مكة وأهلها" أي: ويعطيه أهلها، "وما فتحت على أحد قبله، فأحل ما شاء وحرم ما شاء، فقتل" أي: أمر بقتل "ابن خطل" "بفتح المعجمة والمهملة" هلال، أو عبد الله، "وهو متعلق بأستار الكعبة، وقتل "غيره" كما تقدم في فتح مكة، "وحرم دار أبي سفيان" صخر بن حرب، أي: جعل لها حرمة؛ بأن أعطى الأمان من دخلها، بقوله: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، أو حرم قتل من دخلها، وعلى هذا، ففي الآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي: إن أخرجوك منها، فستعود لها، وتفعل فيها ما تريد، وتثبيت ووعد بالنصر، والأول على أنه قسم، والثاني على انتفائه، أو كل منهما جار على التفسيرين. وقيل: المعنى وأنت حلال، أي: غير محرم بها، إشارة إلى دخولها يوم الفتح حلالًا، فإن قلت: هذه السورة مكية" عند جمهور المفسرين، وبالغ النسفي، فحكي عليه الاتفاق، وينقضه قول ابن عطية. وقال قول: هي مدنية {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} إخبار عن الحال، و" عن "الواقعة" "والجر عطفا"، ويحتمل الرفع، أي: الحال الواقعة "التي ذكرت في آخر مدة هجرته إلى المدينة، فكيف الجمع بين الأمرين" المتنافيين بحسب الظاهر. "أجيب بأنه قد يكون اللفظ للحال، والمعنى" بالحال "مستقبل، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} "، أي: ستموت ويموتون، فلا شماتة بالموت، فأطلق الحال، وأراد الاستقبال، لكن استشكل هذا؛ بأنه يلزمه اختلاف زمني الحال، وعاملها إلا أن يقال الجملة معترضة لا حالية، فتضمن وعدا فيه مبالغة، بتنزيل المستقبل المحقق منزلة الحال لا الماضي، كما يدل له قول عياض، أو حل لك ما فعلت فيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 وعلى كل حال فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله صلى الله علي وسلم ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء، ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك فقال: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} . وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1] .   "وعلى كل حال، فهذا متضمن للقسم ببلد رسول الله صلى الله عليه وسلم" بجعل لا زائدة، "ولا يخفى ما فيه من زيادة التعظيم"، حيث أقسم ببلده، بقيد كونه فيه دفعًا لتوهم أن المكان أشرف، أو أن شرفه مكتسب منه. "وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم" وأقره عليه: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن أقسم بحياتك دون سائر الأنبياء" في قوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} ، وهذا إن صح دليل لقول الجمهور؛ أنه قسم بالمصطفى لا بلوط؛ لأن عمر قاله للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه، فهو نص في محل النزاع: "ولقد بلغ من فضيلتك عنده أن أقسم بتراب قدميك، فقا: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد} ، ففيه إشارة إلى أن هذا القسم أدخل في تعظيمه من القسم بذاته وبحياته. قال عياض: في الشفاء: والمراد بالبلد عند هؤلاء مكة. وقال الواسطي: أي: يحلف بهذا البلد الذي شرفته الآية، بمكانك فيه حيًا وبركتك ميتًا، يعني المدينة، والأول أصح؛ لأن السورة مكية، وما بعده يصححه قوله: {حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} ، ونحوه قول ابن عطاء في تفسيره قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} . قال: أمنها الله لمقامه فيها وكونه بها، فإن كون أمان حيث كان. انتهى. لكن تعقبه الدلجي وغيره بأن القائل لا يسلم أن السورة مكية، والبلد عنده في الموضعين المدينة، والإشارة فيهما لها، وحل بمعنى حال مقيم، فكيف يقام عليه الدليل بما لا يسلمه. "وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ} اسم جنس {لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1] ، نقصان وسوء حال، وذلك بين غاية البيان في الكافر؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين، وأما المؤمن وإن كان في خسر في دنياه، في هرمه وما يقاسيه من شقاء هذا الدار، فذلك معفو عنه في جنب فلاحه في الآخرة، وربحه الذي لا يفنى، ومن كان في مدة عمره في التوصي بالحق والصبر، والعمل بحسب الوصاة، فلا خسر معه، وقد جمع له الخير كله، وقرأ علي: والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان، وفي مصحف عبد الله: والعصر لقد خلقنا الإنسان، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 اختلف في تفسير العصر على أقوال: فقيل: هو الدهر؛ لأنه مشتمل على الأعاجيب؛ لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم وغير ذلك. وقيل: ذكر العصر الذي بمضيه ينقضي عمرك، فإذا لم يكن في مقابلته كسب صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل. إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل   وعن علي: لفي خسر، وأنه فيه إلى آخر الدهر {إِلَّا الَّذِين} ، وقرأ عاصم والأعرج {لَفِي خُسْر} بضم السين وقرأ سلام أبو المنذر: {وَالْعَصْر} ، بكسر الصاد {والصبر} ، بكسر الباء، وهذا لا يجوز إلا في الوقف على نقل الحركة، وعن أبي عمرو {بالصبر} ، بكسر الباء إشمامًا، وهذا أيضًا لا يكون إلا في الوقف، قاله ابن عطية رحمه الله، "اختلف في تفسير العصر على أقوال، فقيل": عن ابن عباس: "هو الدهر"، يقال فيه: عصر، وعصر "بضم العين والصاد". قال امرؤ القيس: وهل يعمن من كان في العصر الخالي؛ "لأنه مشتمل على الأعاجيب" المختلفة؛ "لأنه يحصل فيه السراء" "بالفتح والمد" الخير والفضل، "والضراء" "بفتح المعجمة والمد" نقيض السراء، "والصحة" في البدن حالة طبيعية، تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي، واستعيرت للمعاني، كصحة الصلاة إذا أسقطت القضاء، وصح العقد إذا ترتب عليه أثره، وصح إذا طابق الواقع، "والسقم" "بضم فسكون مصدر سقم" كقرب، "وبفتحتين مصدر سقم كفرح طال مرضه" "وغير ذلك". "وقيل: ذكر العصر" مبني للمجهول إشارة إلى قول آخر في العصر، أي: قال بعضهم: المراد بالعصر هنا هو "الذي بمضيه" أي: انقضائه "ينقضي عمرك" أيها الإنسان، "فإذا لم يكن في مقابلته كسب" للطاعات "صار ذلك عين الخسران، ولله در القائل: إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى نقص من الأجل يعني أنه لا فرح بانقضاء الأيام حقيقة وإن كانت في شدة؛ لأنها نقص من أجل الإنسان، وقال قتادة: العصر العشي، وقال أبي بن كعب: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن العصر، فقال: أقسم ربك بآخر النهار، وقيل: اليوم والليل، ومنه قول حميد: ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما أي: قصدا، وقيل: بكرة وعشية، وهما الإيرادان وقال مقاتل: العصر الصلاة الوسطى، أقسم بها، حكاه ابن عطية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 وفي تفسير الإمام فخر الدين والبيضاوي وغيرهما: أنه تعالى أقسم بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الرازي: واحتجوا له بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من الفجر إلى الظهر بقيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من الظهر إلى العصر بقيراط، فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى المغرب بقيراطين فعملتم، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل أجرًا، فقال الله تعالى: وهل   "وفي تفسير الإمام فخر الدين الرازي، والبيضاوي وغيرهما؛ أنه تعالى أقسم بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم" وهذا الموافق للترجمة؛ أنه أقسم بمدة حياته وعصره وبلده. "قال الإمام الرازي: واحتجوا له"، أي: لهذا القول، "بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم" من اليهود والنصارى، والمثل في الأصل بمعنى النظير، ثم استعمل لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة لإرادة زيادة التوضيح والتقرير، فإنه أوقع في القلب، وأقمع للخصم، ليرى المتخيل محققًا والمعقول محسوسًا ولذا أكثر الله في كتابه الأمثال وفشت في كلام الأنبياء والمعنى مثلكم مع نبيكم، ومثل من قبلكم مع أنبيائكم "مثل رجل استأجر أجراء" "بضم الهمزة وفتح الراء جمع أجير". وفي رواية كرجل استأجر عمالًا: جمع عامل، "فقال: من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط". زاد في رواية: قيراط، فذكره مرتين ليدل على تقسيم القراريط على جميعهم؛ لأن العرب إذا أرادت تقسيم الشيء على متعدد كررته، كما يقال: أقسم هذا المال على بني فلان درهمًا درهمًا: كما في الفتح: "فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط"، قيراط بالتكرير أيضًا، كما في رواية، وهو نصف دانق، والمراد هنا النصيب، "فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من العصر إلى المغرب بقيراطين، فعملتم" أيتها الأمة المحمدية، "فغضبت اليهود والنصارى" أي: الكفار منهم، "وقالوا: نحن أكثر عملًا"؛ لأن الوقت من الفجر إلى الظهر أكثر من وقت العصر إلى الغروب، وتمسك به بعض الحنفية؛ على أن وقت العصر من مصير ظل كل شيء مثليه؛ لأنه لو كان من مصير مثله لكان مساويًا لوقت الظهر. وقد قالوا: نحن أكثر عملًا، فدل على أنه دون وقت الظهر، وأجيب بمنع المساواة، وذلك معروف عند علماء هذا الفن أن مدة بين الظهر والعصر أطول من مدة بين العصر والمغرب، وما نقله بعض الحنابلة من الإجماع، على أن وقت العصر ربع النهار محمول على التقريب، إذا فرعنا على أن وقت العصر مصير الظل مثله، كما قال الجمهور، وأما على قول الحنفية؛ فالذي من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 نقصتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء، فكنتم أقل عملًا وأكثر أجرًا. رواه البخاري. قالوا: فهذا الحديث دل على أن العصر هو عصره صلى الله عليه وسلم الذي هو فيه،   الظهر إلى العصر أطول قطعًا، وعلى التنزل لا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل جهة؛ وبأن الخبر إذا ورد في معنى مقصود، لا يؤخذ منه المعارضة، لما ورد في ذلك المعنى بعينه مقصودًا في أمر آخر؛ وبأنه ليس في الخبر، نص على أن كلا من الطائفتين أكثر عملًا، لصدق أن كلهم مجتمعين أكثر عملا من المسلمين، وباحتمال أن أطلق ذلك تغليبًا، وباحتمال أن ذلك قول اليهود خاصة، فيندفع الاعتراض من أصله، كما جزم به بعضهم، وتكون نسبة ذلك للجميع في الظاهر غير مرادة، بل هو عموم أريد به الخصوص وبأنه لا يلزم من كونهم أكثر عملًا أن يكونوا أكثر زمنًا، لاحتمال أن عمل زمنهم أشق، ويؤيده قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] ، ومما يؤيده أن المراد كثرة العمل وقلته، لا بالنسبة إلى طول الزمن وقصره، اتفاق أهل الأخبار على أن المدة التي بين عيسى ونبينا دون المدة التي بين نبينا وقيام الساعة؛ لأن جمهور أهل الأخبار قالوا: مدة الفترة بين عيسى ونبينا ستمائة سنة، وثبت ذلك في البخاري عن سلمان وقيل: إنها دون ذلك حتى قال بعضهم: إنها مائة وخمس وعشرون سنة ومدة المسلمين بالمشاهدة أكثر من ذلك، فلو تمسكنا بأن المراد التمثيل بطول الزمانيين وقصرهما، للزم أن وقت العصر أطول من وقت الظهر، ولا قائل به، فدل على أن المراد كثرة العمل وقلته، كما قاله في الفتح: وأقل أجرًا، فقال الله تعالى: وهل نقصتكم من أجركم" الآية، الذي شرطه لكم شيئًا. وفي رواية: هو ظلمتكم من حقكم "شيئًا، قولوا: لا". لم تنقصنا شيئًا، وإنما لم يكن ظلمًا؛ لأنه تعالى شرط معهم شرطًا، وقبلوا أن يعملوا به، "قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء" من عبادي. قال الطيبي: ما ذكر من المقاولة والمكالمة، لعله تخييل وتصوير، ولم يكن حقيقة؛ لأنه لم يكن ثمة هذه الأمة، اللهم إلا أن يحمل ذلك على حصوله عند إخراج الذر، فيكون حقيقة. قال صلى الله عليه وسلم: "فكنتم أقل عملًا وأكثر أجرًا" ممن كان قبلكم، "رواه البخاري" من حديث ابن عمر في الصلاة، والإجارة وفضل القرآن، وفي ذكر بني إسرائيل، وفي التوحيد، بألفاظ متقاربة ليس في محل منها بهذا اللفظ، وإنما هو لفظ مسلم. وأخرجه البخاري، بنحوه من حديث أبي موسى، لكن ظاهر سياقهما أنهما قضيتان، وحاول بعضهم الجمع بينهما، فتعسف كما في الفتح، "قالوا: فهذا الحديث دل على أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 فيكون على هذا أقسم تعالى بزمانه في هذه الآية، وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} ، وبعمره في قوله: لعمرك، الآية، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم الظرف فكيف حال المظروف، قال: ووجه القسم كأنه تعالى قال: ما أعظم خسرانهم إذا أعرضوا عنك. انتهى.   العصر هو عصره صلى الله عليه وسلم، الذي هو فيه، فيكون على هذا أقسم الله تعاىلى بزمانه في هذه الآية، وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} سواء قلنا؛ أنه مكة أو المدينة، إذ كل مكانه، "وبعمره في قوله: {لَعَمْرُك} ، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب": ثبت، وحق "تعظيم الظرف" بالأقسام به، "فكيف حال المظروف" استفهام تعجيب. "قال" الرازي: "ووجه القسم كأنه تعالى قال": "ما أعظم خسرانهم إذ أعرضوا عنك" انتهى كلام الرازي وهو وجيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 النوع السادس: في وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالنور والسراج المنير اعلم أن الله تعالى قد وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بـ"النور" في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] ، وقيل: المراد القرآن.   العصر هو عصره صلى الله عليه وسلم، الذي هو فيه، فيكون على هذا أقسم الله تعاىلى بزمانه في هذه الآية، وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد} سواء قلنا؛ أنه مكة أو المدينة، إذ كل مكانه، "وبعمره في قوله: {لَعَمْرُك} ، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب": ثبت، وحق "تعظيم الظرف" بالأقسام به، "فكيف حال المظروف" استفهام تعجيب. "قال" الرازي: "ووجه القسم كأنه تعالى قال": "ما أعظم خسرانهم إذ أعرضوا عنك" انتهى كلام الرازي وهو وجيه. النوع السادس: "في وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالنور والسراج": المصباح، جمعه سرج، ككتاب وكتب "المنير" وصف به للتأكيد، أو؛ لأن بعض السرج لا يضيء إذا رق فتيله وقل زيته، وقد قيل ثلاثة تضني: رسول يضيء وسراج لا يضيء ومائدة ينتظر إليها من يجيء، "اعلم أن الله تعالى قد وصف رسوله صلى الله عليه وسلم بالنور" أي: أخبر عنه بأنه نور "في قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم} الخطاب لأهل الكتاب في قوله: يا أهل الكتاب وهو شامل للتوراة والإنجيل، وكانوا يخفون ما فيها من صفات النبي صلى الله عليه وسلم " {مِنَ اللَّهِ نُور} " هو محمد صلى الله عليه وسلم " {وَكِتَابٌ مُبِين} " قرآن بين ظاهر. "وقيل: المراد" بالنور "القرآن"، وعليه فالعطف للتفسير، وقوله: يهدي به الله في موقعه، وعلى الأول أفرده مع تغايرهما وعطفهما بالواو لرجوعه لهما معًا باعتبار المذكور، أو؛ لأنهما معًا كالشيء الواحد وهداية أحدهما عين هداية الآخر، فإن خلقه القرآن، وما أفاده المصنف من ترجيح الأول هو الصحيح، فق اقتصر عليه الجلال، وقد التزم الاقتصار على أرجح الأقوال، وبه جزم عياض في محل وساوى بينهما في آخر، وتبعه المصنف في الأسماء الشريفة، وفسر النور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 وصفه عليه الصلاة والسلام أيضًا بـ"السراج المنير" في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] . والمراد: كونه هاديًا مبينًا كالسراج الذي يرى الطريق ويبين الهدى والرشاد، فبيانه أقوى وأتم وأنفع من نور الشمس، وإذا كان كذلك وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من المشس، فكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنور العقلية لسائر الأنفس البشرية، وكذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] .   أيضًا بالإسلام، "وصفه عليه الصلاة والسلام أيضًا بالسراج المنير في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} على من أرسلت إليهم " {وَمُبَشِّرًا} " من صدقك بالجنة، " {وَنَذِيرًا} " منذرًا من كذبك بالنار، " {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} " إلى طاعته " {بِإِذْنِهِ} " أي: أمره فهو على ظاهره؛ لأن أمره إذن له أو المراد به الإرادة، فإنه كثيرًا ما يتجاوز به عنها وعن الأمر، كما في مجاز القرآن لابن عبد السلام، وفسر أيضًا بتوفيقه وتيسيره، " {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} " [الأحزاب: 46] ، يستضاء به من ظلمات الجهالة، ويقتبس من نوره أنوار البصائر، "والمراد كونه هاديًا مبينًا كالسراج يرى الطريق"، أي: يكون سببًا في إراءتها، فالإسناد مجازي "ويبين الهدى والرشاد" الصلاح، وهو خلاف الغي والضلال، وهو إصابة الصواب، "فبيانه أقوى وأتم وأنفع من نور الشمس"؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل والشمس إنما يتبين بها ما يدرك بحاسة البصر من الألوان ونحوها فهو تفريع على قوله يبين الهدى، "وإذا كان كذلك وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس، فكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيرها ولا تستفيد من غيرها، فكذا. نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر" أي: لجميع "الأنفس البشرية" ولم يقل ولا تستفيد من غيرها، كما قال في الشمس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يستفيد الوحي من جبريل، ولذا وقع تشبيهه بالسراج؛ لأنه في غاية الوضوح والبلاغة؛ لأنه يستضيء من الوحي ويضيء للناس بما أتاهم به، ففيه من البلاغة ما ليس في قوله: شسمًا وقمرًا. قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال علماؤنا: سمي سراجًا؛ لأن السراج الواحد يؤخذ منه السرج الكثيرة ولا ينقص من ضوئه شيء، وكذلك سرج الطاعات أخذت من سراجه صلى الله عليه وسلم ولم ينقص من أجره شيء "وكذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج، حيث قال: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] ، وفي قراءة سرجًا بالجمع، أي: نبرات وخص القمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 وكما وصف الله تعالى ورسوله بأنه نور، وصف نفسه المقدسة بذلك فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [النور: 35] ، فليس فيهما إلا الله، ونوره المقدس هو سر الوجود والحياة والجمال والكمال، وهو الذي أشرق على العالم فأشرق على العوالم الروحانية، وهم الملائكة، فصارت سرجًا منيرة، يستمد منها من دونها بوجود الله، ثم سرى النور إلى عالم النفوس الإنسانية، ثم طرحته النفوس على صفحات الجسوم، فليس في الوجود إلا نور الله الساري إلى الشيء منه بقدر قبوله ووسع استعداده ورحب تلقيه. والنور في الأصل: كيفية يدركها الباصر أولًا، وبواستطها سائر المبصرات،   منها بالذكر لنوع فضيلة، "وكما وصف الله تعالى رسوله بأنه نور وصف نفسه المقدسة، بذلك فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [النور: 35] . قال ابن عباس وغيره: أي: هادي أهلهما، قال الرازي: في شرح الأسماء وهو حسن، إلا أن تفسيره به في الأسماء التسعة والتسعين لا يجوز؛ لأنه يصير محض تكرار، وأجيب: بجواز أن الهادي أعم، كما قالوه في الرؤوف الرحيم، أو يعتبر به هداية بالغة إلى حد لا يتناهى، فتحصل به المغايرة في الجملة، كالرحمن الرحيم، فلا وجه لقوله: لا يجوز؛ لأن له نظائر في الأسماء، وفي حواشي الكشاف معنى نور السماوات والأرض هادي العالمين، مبين ما يهتدون به ويتخلصون من ظلمات الكفر ولضلال بوحي منزل ونبي مرسل، "فليس فيهما إلا الله ونوره المقدس" أي: المراد به "هو سر الوجود" أي: إيجاده العالم " والحياة والجمال والكمال" وفي الأنوار أصل الظهور هو الوجود، كما أن أصل الخفاء هو العدم والله موجود بذاته، موجد لما عداه، "وهو الذي أشرق على العالم" كله، وهو ما سوى، لكن وقع ذلك الإشراق على وجوه متنوعة، "فأشرق على العوالم" "بكسر اللام" جمع عالم "الروحانية" بضم الراء"، فهو من عطف المفصل على المجمل نحو توضأ فغسل وجهه، "وهم الملائكة، فصارت سرجًا، "بضمتين" "منيرة يستمد" "بفتح أوله" "منها من دونها "فاعل" "بوجود الله، ثم سرى النور إلى عالم النفوس الإنسانية، ثم طرحته النفوس على صفحات الجسوم"، أي: جوانبها: جمع جسم، "فليس في الوجود إلا نور الله الساري إلى الشيء منه بقدر قبوله ووسع استعداده ورحب تلقيه" "بضم الراء وفتحها"، وعطفه على ما قبله كالمسبب على السبب، فالاستعداد هو الأسباب التي يكون اجتماعها فيه سببًا، لحصول المعرفة وقبول ما يلقى إليه، ورحب التلقي قوة قبوله لما يلقي إليه وحسن استماعه له، "والنور في الأصل" عند الحكماء لا اللغة، فإنه الضوء وأصله من نار ينور إذا نفر ومنه نوار للظبية، وبه سميت المرأة فوضع للضوء لانتشاره أو لإزالته الظلام فكأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 كالكيفية الفائضة من النيرين -الشمس والقمر- على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما، وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم، بمعنى: ذو كرم، أو بمعنى منور السماوات والأرض، فإنه تعالى نورهما بالكواكب، وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم؛ لأنهم يهتدون به في الأمور، ويؤيد هذا التأويل قراءة علي بن أبي طالب وزيد بن علي وغيرهما نورًا فعلًا ماضيًا، والأرض بالنصب. وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} أي: مثل هداه سبحانه وتعالى. وأضاف النور السماوات والأرض، إما دلالة على سعة إشراقه، وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وإما لإرادة أهل السماوات والأرض، أنهم   ينفر منه "كيفية" أي": صفة، لكن لفظ كيفية لم يسمع من العرب، كما صرح به أهل اللغة "يدركها الباصر أولًا، و" يدرك "بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفية الفائضة من النيرين الشمس والقمر على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما. وبعضهم زعم أنه أجرام صغار تنفصل من المضي وتتصل بالمستضيء، "وهو بهذا المعنى لا يصح إطلاقه على الله" لاستحالته إذ هو عرض أو جسم، وكلاهما محال عليه "إلا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم بمعنى ذو كرم"، فمعنى الله نور، أي: ذو نور، "أو بمعنى منور السماوات والأرض" فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم الفاعل، "فإنه تعالى نورهما بالكواكب وما يفيض عنها من الأنوار، وبالملائكة والأنبياء" وذلك مأخوذ "من قولهم للرئيس الفائق في التدبير"، وهو فعل الأمر عن فكر وروية، "نور القوم؛ لأنهم يهتدون به في الأمور، ويؤيد هذا التأويل قراءة علي بن أبي طالب زيد بن علي" بن الحسين بن علي "غيرهما نور فعلًا ماضيًا" مفتوح النون، والواو ومشددة، "والأرض بالنصب" مفعول. وأدعى الغزالي أنه حقيقة؛ لأن النور معناه الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وهو ميل لقول الإشراقيين، قال: شارح حكمة الإشراق الله نور السماوات والأرض، لا بمعنى منورهما على ما يقوله بعض المفسرين هربًا من إطلاق اسم النور عليه، بمعنى أنه محض النور البحث، وأن سائر الأنوار تشرق من نوره، كذا قال، "وقوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} " [النور: 35] ، أي: مثل هداه سبحانه وتعالى. وفسره البيضاوي بالصفة العجيبة، "وأضاف النور إلى السماوات والأرض، إما دلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له، السماوات والأرض، وإما لإرادة أهل السماوات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 يستضيئون به. وعن مقاتل: أي مثل الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صدر عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح نظير الإيمان والنبوة في قلب محمد صلى الله عليه وسلم. وعن غيره: المشكاة نظير إبراهيم، والزجاجة نظير إسماعيل عليهما، والمصباح جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والشجرة: النبوة والرسالة. وعن أبي سعيد الخراز: المشكاة: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعل الله في قلب محمد صلى الله عليه وسلم.   والأرض" وأضاف النور إليهم لأجل "أنهم يستضيئون به" والإضافة تجيء لأدنى ملابسة. "وعن مقاتل، أي: مثل الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كمشكاة" كوة غير نافذة، والكوة بفتح الكاف وضمها اسم ما لا ينفذ، قيل: معربة من الحبشية، وقيل: هي القنديل، وقيل: موضع الفتيلة منه، وقيل: معلاقة، "فيها مصباح" قنديل أو الفتيلة، مأخوذ من الصباح أو الصباحة، "فالمشكاة نظير صدر". كذا في جميع النسخ والأولى صلب "عبد الله والزجاجة" مثلثة الزاي، والضم أعرفها وأفصحها، "نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والمصباح نظير الإيمان والنبوة في قلب محمد صلى الله عليه وسلم وعن غيره"، أي: غير مقاتل "المشكاة نظير إبراهيم، والزجاجة نظير إسماعيل عليهما السلام، والمصباح جسد محمد صلى الله عليه وسلم، والشجرة النبوة والرسالة" التي يتوقد منها المصباح، ونحوه قول من قال: المشكاة أبدان آبائه، والزجاجة أصلابهم، والمصباح نوره المستودع فيهم، "وعن أبي سعيد الخراز" إبراهيم، وقيل: أحمد بن عيسى البغدادي، قال الخطيب: كان أحد المشهورين بالورع والمراقبة وحسن الرعاية، وحدث يسيرًا صحب السقطي وذا النون وغيرهما. قال الجنيد: لو طالبنا الله بتحقيقة ما عليه أبو سعيد لهلكنا، أقام كذا كذا سنة، ما فاته ذكر الحق تعالى بين الخرزتين. وقال السلمي: الخراز، إمام القوم في كل فن من علومهم وأحسنهم كلهم ما خلا الجنيد، فإنه الإمام لذلك، فإن جماعة يقولون الخراز قمر الصوفية، فأفاد أن أمثلهم مطلقًا الجنيد، فهو الشمس، والخراز القمر، مات سنة سبع وسبعين ومائتين، وقيل: غير ذلك: "المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعل الله في قلب محمد صلى الله عليه وسلم". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 وعن كعب وابن جبير: النور الثاني هنا محمد صلى الله عليه وسلم. وعن سهل بن عبد الله: مثل نور نبوة محمد إذ كان مستودعًا في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا وكذا، وأراد بالمصباح قلبه وبالزجاج صدره، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان والحكمة. توقد من شجرة مباركة، أي من نور إبراهيم، وضرب المثل بالشجرة المباركة.   "وعن كعب" بن ناتع، بفوقية، المعروف بكعب الأحبار، "وابن جبير" سعيد أحد الأعلام، "النور الثاني هنا" في قوله: مثل نوره "محمد صلى الله عليه وسلم" بطريق المجاز الأول هو الله، أضيف لجميع مخلوقاته للتعميم، والثاني مضاف لله تعالى للتشريف والتعظيم، والثالث في قوله {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} إضافته، كلجين الماء أتى به بيانًا للتشبيه الذي بنيت عليه الاستعارة، فالمعنى أنه نور عم نوره جميع مخلوقاته، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بأوفر اسم منه، فسماه باسمه وألبسه حلية، كما ألبسه الرأفة والرحمة. "وعن سهل بن عبد الله" بن يونس بن عيسى التستري، بفوقيتين أولهما مضمومة، وفتح الثانية بينهما مهملة ساكنة، مدينة معروفة، الصالح المشهور، الذي لم يسمع الدهر بمثله علمًا وورعًا، وله كرامات، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل غير ذلك: "مثل نور نبوة محمد إذ كان مستودعًا" "بفتح الدال" في الأصلاب"، أي: أصلاب آبائه، وضمير كان راجع لنور أو لمحمد نفسه، ورجع بأنه كان في صلب آبائه لا نوره، ورد بأن نوره كان ظاهرًا في جباههم من آدم لأبيه عبد الله، كالقمر ليلة البدر، والمستودع في الأصلاب مادة جسمه، والنور تابع لتلك المادة، "كمشكاة صفتها كذا وكذا" كناية عن قوله فيها مصباح.. إلخ، فإنها استعملت كذلك، أي: صفة نوره كصفة نور مشكاة فيها مصباح "وأراد بالمصباح قلبه وبالزجاجة صدره" والمشكاة جسده الشريف، "أي: كأنه" أي: صدره الشريف "كوكب دري" أي: مضيء "بضم الدال وكسرها، وفتحها مع الهمزة، وبدونها مشدد الياء"، قيل: أنه منسوب إلى الدر لحسنه وصفاته "لما فيه" أي: الصدر "من الإيمان والحكمة" وجعل ذلك في الصدر بواسطة القلب، ولا يبعد عود الضمير للقلب والحكمة العلم النافع. وقيل: المراد بها هنا النبوة، كقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النخل: 125] ، "توقد" المصباح بالماضي، وفي قراءة بمضارع أوقد مبنيًا للمفعول بالتحتانية، وفي أخرى بالفوقانية، أي: الزجاجة "من شجرة مباركة، أي: من نور إبراهيم"؛ لأن النسب شبيه بالشجرة، وإبراهيم جده صلى الله عليه وسلم، وهو دعوته، "وضرب المثل" وهو كلام شبه مضربه بمورده، وضربه ذكره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 وقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي تكاد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبين للناس قبل كلامه، حكى هذا الأخير القاضي أبو الفضل اليحصبي والفخر الرازي، لكنه عن كعب الأحبار. وعن الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي. قال عبد الله بن رواحة: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر   كذلك بمعنى نباته "بالشجرة المباركة" على استعارة التمثيلية؛ لأنه شبه ظهور نبوته المتصلة بأبيه إبراهيم، وشبه المتصل به بمصباح أضاء بزيت من شجرة مباركة، واقتصر على أجزاء التمثيل لظهور ما فيه، وفائدة التمثيل كما في الكشاف إبراز المعقول في هيئة المحسوس ليتضح ويرسخ في الأذهان، ولذا كثر في الأحاديث والكتب الإلهية. "وقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] ، ولو لم تمسسه نار، "أي: تكاد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبين" مضارع بأن أي: اتضح "للناس قبل كلامه" أي: تكليمه ودعواه النبوة وتحديه كذا الزيت والكلام يأتي مصدرًا بمعنى التكليم، كقوله: فإن كلاميها شفاء لما بيا، أو المراد ما يتكلم به فيقدر مضاف، أي: قبل إيراد كلامه الذي يتكلم به، وقيل: أن يوحى إليه، "حكي هذا الأخير" من قوله. وعن سهل "القاضي أبو الفضل" عياض "اليحصبي" "بفتح التحتية وسكون المهملة وتثليث الصاد مهملة" نسبة إلى يحصب بن مالك أبي قبيلة باليمن، "والفخر الرازي، لكنه" أي: الرازي، إنما حكاه "عن كعب الأحبار" لا عن سهل بن عبد الله، فإن صح النقلان فيكونان معًا، قالاه، وفي شرح الشفاء للتجاني؛ أنه تأويل بعيد عن ظاهر القرآن، والصحيح ما عليه جمهور المفسرين أنه تعالى ضرب هذا مثلًا لنوره، وتمثالًا لقصور أفهام الخلق، إذ لولاه ما عرف الله، قال: وما أشبه هذا بتأويل الفضل قول الفرزدق: أخذنا بأطراف السماء عليكم ... لنا قراها والنجوم الطوالع لما سأله الرشيد عنه، فقال: أراد بالقمرين إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم عليهما، وبالنجوم الطوالع أنت وآبائك، فقال له الرشيد: أحسنت. انتهى. "وعن الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة": العلم النافع "قبل الوحي" به إليه، "قال عبد الله بن رواحة" الخزرجي الأمير الشهيد بمؤتة: لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 لكن التفسير الأول في هذه الآية هو المختار؛ لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 34] . فإذا كان المراد بقوله: {مَثَلُ نُورِه} أي مثل هداه كان مطابقًا لما قبله.   وقال نفطويه: يكاد ذريتها يضيء هذا مثل ضربه الله لنبيه، يقول: يكاد نظره يدل على نبوته، وإن لم يتل قرآنًا، كما قال ابن رواحة: وذكر هذا البيت، "لكن التفسير الأول في هذه الآية هو المختار؛ لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] الآية، بفتح الياء وكسرها في هذه السورة، بين فيها ما ذكر أو بينته، "فإذا كان المراد بقوله: {مَثَلُ نُورِه} [النور: 35] ، أي: مثل هداه كان مطابقًا لما قبله" بخلافه على ما بعده من التفاسير، فلا يطابق ما قبله ونحن في غنية عن ذلك، فقد سماه الله نورًا في قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] وسماه سراجًا منيرًا في آية الأحزاب كما أشار إلى ذلك عياض يذكر هاتين الآيتين بعد آية النور، وبعض تلك التفاسير والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 النوع السابع: في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] . وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] .   النوع السابع: "في" ذكر "آيات تتضمن"، أي: تدل لا التضمن المنطقي "وجوب طاعته"، أي: الانقياد له بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فطاعة اسم مصدر أطاعه إذا انقاد له فيما أمر به قولًا أو فعلًا إذا كان الأمر بصيغة أفعل، وأما مادة، أمر فتحتمل الوجوب والندب، فتكون طاعته في المندوب مندوبة، فوجوبه على هذا الانقياد إلى أمره ولو مندوبًا والعمل به، فقوله: "واتباع سنته" بالجر عطفًا على طاعته، والنصب على وجوب من عطف الخاص على العام. "قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] ، قال عطاء: باتباع الكتاب والسنة، رواه ابن أبي حاتم، وقدم طاعة الله تمهيدًا لوجوب طاعة رسوله، وإشارة إلى أن طاعته تعالى بطاعة رسوله، وهما شيء واحد، ولذا أفرد الضمير في قوله: {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] . "وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} " الآية، أتبع الوعيد، بقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ، بالوعد بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] الآية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] . قال القاضي عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله، وقرن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] . يعني: من أطاع الرسول لكونه رسولًا مبلغًا إلى الخلق أحكام الله فهو في   ترهيبًا عن المخالفة وترغيبًا في الطاعة، ولعل وعسى في أمثال ذلك دليل على عزة المطلوب، وأن العبد دائر بين الرجاء والخوف. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} فيما يأمركم به من التوحيد، {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أعرضوا عن الطاعات، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] ، من إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: لا يحبهم، بمعنى أنه يعاقبهم. "قال القاضي عياض: فجعل طاعته طاعة رسوله" تشبيه بليغ، وجعل عينه ادعاء، فلا ينافي الآية؛ لأن الشرط والجزاء متغايران نظرًا لما في نفس الأمر، ولكل مقام مقال، والأولى تأخير هذا عن الآتية؛ لأنها التي صرح فيها بأن طاعته طاعته، ولفظ عياض: وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} [النساء: 80] ، "وقرن طاعته بطاعته" في قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، ونحوه مما أمر فيه بطاعة الله ورسوله معًا، "ووعد على ذلك بجزيل"، أي: عظيم أو كثير "الثواب" بنحو قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} ، "وأوعد على مخالفته بسوء العقاب" أي: أشده: "وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} . روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله". فقال المنافقون: لقد قارف الشرك، وهو ينهي عنه ما يريد إلا أن تتخذه ربًا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم، فنزلت. كذا في الكشاف، قال الحافظ ولي الدين العراقي في حواشيه، لم أقف عليه، هكذا ونقله السيوطي عن البيضاوي ولم يزد عليه، "يعني من أطاع الرسول لكونه رسولًا مبلغًا"، علة غائية، أي: وغاية أمر الرسول كونه مبلغًا، "إلى الخلق أحكام الله"؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فلا مفهوم لهذه العبارة، "فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله"، أي: هو مبلغ حقيقة، والآمر هو الله، كما في الكشاف قال الطيبي: هذا التعليل يفيده لفظ الرسول؛ لأنه من وضع المظهر موضع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 الحقيقة ما أطاع إلا الله, وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله. {مَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فإن أحدًا من خلق لا يقدر على إرشاده. وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي، وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة لله، وأيضًا وجب أن يكون معصومًا في جميع أحواله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله: {وَاتَّبِعُوه} [الأعراف: 158] . والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير، فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة له, وانقياد لحكم الله تعالى.   المضمر للإشعار بعلية إيحاب الطاعة له، ويدل عليه السياق، وهو قوله: {وَمَنْ تَوَلَّى} وكان مقتضى الظاهر، ومن تولى فقد عصى الله في مقابلة قوله: فقد أطاع الله، فوضع ذلك موضعه، ليدل على المبالغة، "وذلك" المذكور من الطاعة "في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله"، إذ لو أخذ له ما أطاع رسوله، {وَمَنْ تَوَلَّى} أعرض عن طاعته فلا يهمنك {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] الآية، حافظًا لأعمالهم، بل نذيرًا وإلينا أمرهم فنجازيهم، وهذا، قبل الأمر بالقتال، كما في الجلال فشار إلى أن جواب الشرط محذوف، والمذكور دليل عليه، وهذا أحد وجهين، الثاني: إنه المذكور باعتبار ما دل عليه، "فإن من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق" المستقيم، "فإن أحدًا من خلق الله لا يقدر على إرشاده"، جواب الشرط، وجملة الشرط وجوابه علة لكونه ما جعل عليهم حفيظًا في أعمالهم، بحيث يلجئهم للطاعة، ويمنعهم عن العصيان، وأشار إلى تحقق ذلك وعدم احتمال خلافه، بالتأكيد بأن، "وهذه الآية من أقوى الأدلة على أن الرسول معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله؛ لأنه لو أخطأ في شيء منها" وأقر عليه، فأمر به أو نهى عنه، ولم يكن كذلك في نفس الأمر، "لم تكن طاعته طاعة لله" بل مخالف لأمره أو نهيه "وأيضًا وجب أن يكون معصومًا في جميع أحواله؛ لأنه تعالى أمر بمتابعته" الأنسب أن يقول باتباعه ليطابق دليله "في قوله: {وَاتَّبِعُوه} لكنه أشار إلى أن المفاعلة قد ترد لأصل الفعل، فقال: "والمتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير" ومنه المتابعة في علوم الحديث، "فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وأفعاله" وجودًا أو عدمًا، "إلا ما خصه الدليل" به "طاعة له" بالآية منطوقا ومفهومًا؛ لأن مفهوم من يطع الرسول، من عصاه فقد عصى الله، "وانقياد لحكم الله تعالى" عطف تفسير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} الآية [النساء: 69] . وهذا عام في المطيعين لله تعالى من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام في المعية في هذه الدار، وإن فاتت فيها معية الأبدان. وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن ثوبان، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان   "وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} فيما أمرا به، {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق " {وَالشُّهَدَاءِ} القتلى في سبيل الله " {وَالصَّالِحِينَ} " [النساء: 69] الآية، غير من ذكر "الآية" أي: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} . أي: رفقاء في الجنة؛ بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم. قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام: باعتبار منازلهم في العلم والعمل، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المجاوزون حد الكمال إلى درجة التكميل، ثم صديقون صعدت نفوسهم تارة إلى مراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى إلى معارج القدس بالرياضة والتصفية، حتى اطلعوا على ما لم يطلع عليه غيرهم، ثم شهداء بذلوا نفوسهم في إعلاء كلمة الله وإظهار الحق، ثم صالحون صرفوا أعمارهم في طاعته، وأموالهم في مرضاته. انتهى. "وهذا عام في المطيعين لله تعالى من أصحاب الرسول ومن بعدهم، وعام في المعية في هذه الدار" الدنيا لعموم اللفظ، "وإن فاتت فيها معية الأبدان"، وذلك فيمن آمن في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم يره، ومن آمن بعده إلى يوم القيامة بقيد الطاعة، "وقد ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن ثوبان" بفتح المثلثة والموحدة، ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم، وضم الدال المهملة الأولى، وقيل: ابن جحدر، بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة، "مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال في الإصابة: يقال: إنه من العرب من حكم ابن سعد بن حمير، وقيل: من السراة، اشتراه ثم أعتقه، فخدمه إلى أن مات، ثم تحول إلى الرملة، ثم حمص، ومات بها سنة أربع وخمسين، قاله: ابن سعد وغيره. وروى ابن السكن، عن يوسف بن عبد الحميد، حدثني ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت، فقال: في الثالثة نعم، ما لم تقم على باب سدة، أو تأتي أميرًا فتسأله. وروى أبو داود، عن أبي العالية عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل لي أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه يومًا وقد تغير وجهه ونحل جسمه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقال: يا رسول الله، ما بي وجع، غير أن إذا لم أرك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة بحيث لا أراك هناك؛ لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين، وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية. وذكر ابن أبي حاتم الضحى عن مسروق، قال أصحاب محمد: يا رسول الله   "لا يسأل الناس وأتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، وكان لا يسأل أحدًا شيئًا، "كان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه" ولذا ألزمه حضرًا وسفرًا، "فأتاه يومًا وقد تغير وجهه ونحل جسمه" بفتح الحال، وفي لغة بكسرها، وأخرى بضمها مبنيًا للفاعل، فهو لازم، أي: قام بجسمه المرض، ويعدىء، بالهمزة، فيقال: أنحله المرض. وفي القاموس: نحل، كمنع وعلم ونصر وكرم نحولًا ذهب من مرض أو سفر، "فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله، فقال: يا رسول الله ما بي وجع" حصل به نحولي، وتغير وجهي، "غير أني إذا لم أرك اشتقتك" ضمنه معنى طلب فعداه بنفسه، وإلا فاشتاق، إنما يتعدى بحرف الجر، وبالتضعيف على أن المنقول في غيره عن ثوبان اشتقت إليك، "واستوحشت وحشة عظيمة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة" أي: فكرت في أمرها، "بحيث" الذي في غيره: فخفت "لا أراك هناك"؛ لأنه ظهر لي بالفكر، أما عدم رؤياك بالمرة أو قلتها؛ "لأني إن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين" فتتعذر رؤيتي لك أو تقل، "وإن أنا لم أدخل الجنة، فحينئذ لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية". قال الشيخ ولي الدين: هذا ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسناد ولا راوٍ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن اللبي. وروى الطبراني في معجمه الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن الشعبي، وابن جرير عن سعيد بن جبير، كل منهم يحكي عن رجل، فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. انتهى. فإن ثبت، فالرجل المبهم ثوبان، وذكر ابن ظفر عن مقاتل بن سليمان أن المبهم عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري، فإن ثبتا، فلعلهما معًا ذكرصا ذلك والعلم لله، "وذكر"، أي: روى "ابن أبي حاتم" الحافظ، ابن الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي، "عن أبي الضحى" مسلم بن صبيح، بالتصغير الهمداني، الكوفي، العطار، مشهور بكنيته، تابعي، ثقة، فاضل، من رجال الجميع، مات سنة مائة، "عن مسروق" بن الأجدع بن مالك الهمداني، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو قد مت لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية. وذكر عن عكرمة مرسلًا: أتى فتى صغير السن لرسول الله فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا ويوم القيامة، لا نراك؛ لأنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت معي في الجنة". فيها أيضا روايات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام. لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات، إلا أن سبب نزول هذه   الوداعي، أبي عائشة الكوفي، ثقة فقيه، عابد مخضرم، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين، من رجال الجميع، قال: "قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك" اعتذارًا عن كثرة ملازمتهم له، المقتضية للملال عادة، "فإنك لو قد" "بفتح فسكون "مت" بضم الميم"، ضبطه بعض العلماء الموثوق بهم، وتجويز ضم القاف وشد الدال مكسورة وسكون الميم، أي: قدمت علينا، أي: سبقتنا تحاشيا عن خطابه، بلفظ مت أدبًا، وأنه أولى خلاف المتبادر "لرفعت فوقنا ولم، نرك، فأنزل الله": {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "الآية" وفي هذا إن قائلي ذلك جمع كثير لقوله أصحاب محمد، "وذكر" بالبناء للفاعل، أي: ابن أبي حاتم أيضًا بسنده "عن عكرمة" مولى ابن عباس "مرسلًا، قال: أتى فتى" أي: "صغير السن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله إن لنا منك نظرة في الدنيا"، أي: إنا نراك ونتمتع برؤيتك فيها، وعبر بالوحدة لقصر المدة، "ويوم القيامة لا نراك؛ لأنك في الجنة، في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية" وللطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت إنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريل بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول} ، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت معي في الجنة" إن شاء الله، كما هو بقية رواية عكرمة. وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن المسيب ومسروق والربيع وقتادة والسدي، "وفيها أيضًا روايات أخر" بنحوها "ستأتي إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام" وهو السابع التالي لهذا. "لكن قال المحققون: لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن، سبب نزول هذه الآية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 الآية يجب أن يكون شيئًا أعظم من ذلك، وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ، فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين، وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عنده تعالى. ثم إن ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُول} أنه يكتفي بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة، لكن لا بد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الكفار والفساق؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة. قال الرازي: قد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة مشرع بكون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، وإذا ثبت هذا فنقول قوله: {وَمَنْ   يجب أن يكون شيئًا أعظم من ذلك"، أي: أنه لا ينحصر في تسلية المحبين له والتخفيف عنهم، بل يشمل ذلك وغيره، "وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فإنا نعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ"، أي: لا يكون قاصرًا عليه خلافًا لزاعمه، "فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين"، خصهم لوقوع الثواب بعد الأمر المستفاد من قوله: {مَنْ يُطِع} ، إذ لا طاعة فرع الأمر أو النهي، وكلاهما خاص بالمكلف، إذ لا خطاب يتعلق بفعل غيره، وصحة عبادة الصبي وإثابته عليها لا لأمره بها، بل ليعتادها، فلا يتركها إن شاء الله ذلك، "وهو" أي: الأمر الأعظم، "أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز": ظفر "بالدرجات اعالية، والمراتب": المنازل "الشريفة عنده تعالى، ثم إن ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} ، أنه يكتفي بالطاعة الواحدة؛ لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في جانب الثبوت حصول ذلكا لمسمى مرة واحدة"، فإذا قيل: صل مثلًا برئ من عهدة الطلب بصلاة واحدة؛ لأن الأمر بالشيء لا يقتضي فورًا ولا تكرارًا، أو خرج بالثبوت النهي، فامتثاله إنما يحصل بترك جمع المنهيات، "لكن لا بد أن يحمل على غير ظاهره، وأن تحمل الطاعة على فعل جميع المأمورات وترك جميع المنهيات، إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الكفار والفساق؛ لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة" وذلك غير مراد، فوجب حمله على غير ظاهره. "قال الرازي" الإمام فخر الدين: "قد ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقب الصفة" كقوله هنا: فأولئك مع الذين ... إلخ، بعد قوله: ومن يطع "مشروع بكون ذلك الحكم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 يُطِعِ اللَّهَ} أي في كونه إلهًا، وطاعة الله في كونه إلهًا هي معرفته والإقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته، فصارت هذه الآية تنبيهًا على أمرين عظيمين من أحوال المعاد. فالأول: أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراف الروح بأنوار معرفة الله، فكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب، وإلى الفوز بالنجاة أوصل. والثاني: أن الله تعالى ذكر في الآية السابقة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجسيم، ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فهذا هو المراد من هذه المعية وقد ثبت   معللًا بذلك الوصف، وإذا"، أي: حيث "ثبت هذا" وتقرر في الأصول، "فنقول قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} ، أي: في كونه إلهًا، وطاعة الله في كونه إلهًا هي معرفته" بالآية الدالة عليه، "والإقرار" الاعتراف "بجلاله": عظمته "وعزته": غلبته "وكبريائه" عظمته. قال تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، "وصمديته" احتياج الخلق إليه على الدوام، "فصارت هذه الآية تنبيهًا" أي: منبهة "على أمرين عظيمين من أحوال المعاد، فالأول أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله"، المؤدية إلى الإيمان به وطاعة أمره، "فكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر، وصفاؤها أقوى كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل" أكثر وصولًا، "والثاني: إن الله تعالى ذكر في الآية السابقة" على هذه اآية، "وعد" مصدر "أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجسيم". وفي نسخة الجزيل، بقوله: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا، وإذا لآتيناهم الآية، "ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كون الكل في درجة واحدة؛ لن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز" بدلالة النصوص الكثيرة، فالمراد كونهم في الجنة "بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 وصح بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر، وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية، وقد ثبت وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مع من أحب"، وثبت أيضًا أنه قال: "إن المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم منزلًا إلا وهم معكم حبسهم   بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك"، إذ لو عجزوا عنه لتحسروا، ولا حسرة في الجنة، "فهذا هو المراد من هذه المعية" لا المساواة في المنزلة، "وقد ثبت وصح" أتى به ليبين أن مراده بالثبوت الصحة للخلاف في علوم الحديث: هل لفظ ثبت يختص بالصحيح أو يشمل الحسن؟ قال السيوطي: وهل يخص بالصحيح الثابت ... أو يشمل الحسن نزاع ثابت وزعم أن الثبوت لا يستلزم الصحة، لجواز أنه مع ثبوته ضعيف، أو حسن عقلي، لم يقله أحد "عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال" كما أخرجه الشيخان من حديث أنس وابن مسعود وأبي موسى: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تقول في رجل أحب قومًا ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"، زاد الترمذي من حديث أنس: "وله ما اكتسب"، وفي لفظ قال رجل: يا رسول الله متى قيام الساعة؟، قال: "إنها قائمة، فما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها من كثير إلا أني أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت ولك ما اكتسبت"؟، قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام ما فرحوا به، فقيل: المراد من أحب قومًا بإخلاص فهو في زمرتهم، وإن لم يعمل عملهم، لثبوت التقارب مع قلوبهم، وقيل: بشرط عمله بمثله أعمالهم، لحديث: "من أحب قومًا على عملهم لثبوت التقارب مع قلوبهم"، وقيل: بشرط عمله بمثله أعمالهم، لحديث: "من أحب قومًا على أعمالهم حشر معهم يوم القيامة". وروى العسكري عن الحسن: لا تغتر يا ابن آدم، بقوله: أنت مع من أحببت، فمن أحب قومًا اتبع آثارهم، واعلم أنك لن تلحق بالأخيار حتى تتبع آثارهم، وحتى تأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي على مناهجهم، حرصًا على أن تكون منهم. وقال ابن العربي: يريد صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالطاعة والأدب الشرعي، وفي الآخرة بالمعاينة والقرب الشهودي، فمن لم يتحقق بهذا وادعى المحبة، فهو كاذب، "وثبت أيضًا" في البخاري، عن أنس؛ "أنه" صلى الله عليه وسلم "قال" حين رجع من غزوة تبوك، فدنا من المدينة: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا نزلتم منزلًا" وفي رواية: "ولا قطعتم وادي "إلا وهم معكم" بالقلوب والنيات، قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟، قال: "وهم بالمدينة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 العذر، فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هي بالسر والروح لا بمجرد البدن، فهي بالقلب لا بالقالب، ولهذا كان النجاشي معه صلى الله عليه وسلم وهو أقرب الناس إليه، وهو بين النصارى بأرض الحبشة، وعبد الله بن أبي من أبعد الخلق عنه، وهو معه بالمسجد، وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرًا من طاعة أو معصية أو شخص من الأشخاص فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه، فالأرواح تكون يوم القيامة مع الرسول صلى الله عليه سولم وأصحابه رضي الله عنهم، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية والمكانية بعد عظيم. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31] . وهذه الآية الشريفة تسمى: آية المحبة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة   "حبسهم العذر" عن الغزو معكم، "فالمعية والصحبة الحقيقية إنما هو بالسر والروح" وفي شرحه للبخاري بالسير بالروح، "لا بمجرد البدن، فهي بالقلب لا بالقالب"، ونية المؤمن خير من عمله، فتأمل هؤلاء كيف بلغت بهم نيتهم مبلغ أولئك العاملين بأبدانهم، وهو على فرشهم في بيوتهم، فالمسابقة إلى الله تعالى وإلى الدرجات العوالي بالنيات والهمم، لا بمجرد الأعمال، "ولهذا كان النجاشي" "بفتح النون والجيم" أصحمة ملك الحبشة "معه صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب الناس إليه، وهو" أي: النجاشي "بين النصارى بأرض الحبشة وعبد الله بن أبي" ابن سلول رأس المنافقين، "من أبعد الخلق عنه، وهو معه بالمسجد" النبوي، لكونه معه قالبًا لا قلبًا، "وذلك أن العبد إذا أراد بقلبه أمرًا من طاعة أو معصية، أو" أراد أمرًا من "شخص من الأشخاص، فهو بإرادته ومحبته معه لا يفارقه" إذ كل مهتم بشيء منجذب إليه بطبعه شاء أو أبى، وكل امرئ يصبوا إلى مناسبة، رضا أم سخط، فالنفوس العلية تنجذب بذاتها وهمها وعملها إلى أعلى، والنفوس الدنية تنجذب بذاتها إلى أسفل، ومن أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين هو، ومع من هو في هذا العالم، "فإن الروح إذا فارقت البدن تكون مع الرفيق الذي كانت تنجذب إليه، "فالأرواح" العلية كلها "تكون يوم القيامة"، وفي الدنيا "مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وبينها وبينهم من المسافة الزمانية" بتأخر وجودها عن وجودهم، "والمكانية" بطول المسافة "بعد عظيم" في الزمان والمكان، ولا يكون ذلك مانعًا من المعية في الدارين، والله أعلم. "وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، أي: يثبكم " {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} " [آل عمران: 31] ، "وهذه الآية الشريفة تسمى آية المحبة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 الله فأنزل الله آية المحبة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} وقال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم، فما لم تحصل المتابعة فلا محبة لكم حاصلة، ومحبته لكم منتفية، فجعل سبحانه اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة، فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون متابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم ودل على   بدليل أنه "قال بعض السلف"، زعم أنه الحسن البصري، لقوله: قال أقوام على عهد نبينا: والله يا محمد إنا لنحب ربنا، فأنزل الله الآية. رواه ابن المنذر، وليس فيه، فأنزل آية المحبة، فلا يصح أنه المراد "ادعى قوم محبة الله" قيل: هم وفد نجران لما قالوا: إنما نعبد المسيح حبًا لله. رواه ابن إسحاق، وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل: هم اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: قريش لما قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله لفى، وبه جزم الجلال. وروى ابن جرير، وابن المنذر عن الحسن مرسلًا؛ أنهم أقوام زعموا على عهد نبينا حب الله، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقًا من العمل، "فأنزل الله آية المحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وقال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، بالجزم في جواب الطلب، والراجح فيه أنه في جواب شرط مقدر تقديره هنا: "إن اتبعتموني يحببكم الله"، "إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها أو فائدتها"، أي: باتباع الرسول، فإن اتباعه علامة على حبه لله تعالى، وثمرة محب الله للعبد مغفرته له، كما أفاده قوله: "فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل" "بكسر السين" أي: الله تعالى نبيه ليبلغ الخلق "لكم" متعلق بمحبة، "فما" مصدرية ظرفية "لم تحصل المتابعة" أي: مدة انتفاء حصولها، "فلا محبة لكم حاصلة" منكم لله، "ومحبته لكم منتفية"، أي: لايحبكم بمعنى: لا يثيبكم، "فجعل سبحانه اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام مشروطًا بمحبتهم لله، وشرطًا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود تحقق شرطه"، وهو اتباع الرسول، "فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة"؛ لأنها مشروطة بمتابعة رسوله، "فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله, وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم فيستحيل حينئذ ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يكون شيء أحب إليه من الله ورسوله، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفر لصاحبه البته ولا يهديه الله، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ   متابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم" لاستحالة وجود المشروط بدون شرطه "ودل" جعله اتباع الرسول مشروطًا بمحبتهم "على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره" أي: علامة عليه، أو جعلها نفس المحبة مبالغة، "ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، كما في الحديث: "فلا يكون شيء أحب إليه من الله ورسوله". قال الطيبي: فسر المتكلمون محبة العبد لله؛ بأنها محبة طاعته أو ثوابه وإحسانه، وأما العارفون، فقالوا: العبد يحب الله لذاته، وأما حب طاعته وثوابه فدرجة نازلة، والقول الأول ضعيف، وذلك لا يمكن أن يقال في كل شيء، أنه إنما محبوبًا لأجل معنى آخر، فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوبًا لذاته، فكما يعلم أن اللذة محبوبة لذاتها، كذلك يعلم أن الكمال محبوب لذاته، وأكمل الكمالات لله تعالى، فيقتضي كونه محبوبًا لذاته من ذاته. قال صاحب الفرائد: وهذا أبلغ أنواع الحب، فعى هذا حب العبد لله حقيقة، بل المحبة الحقيقية مستحقة لله، إذ كل ما يحب من المخلوقات، فإنما يحب لخصوص أثر من آثار وجوده، وفي الأحياء الحب ميل الطبع إلى الشيء المستلذ، فإن قوي سمى عشقًا، ولا يظن قصره على مدركات الحواس الخمس، حتى يقال: إن الله تعالى لا يدرك بها ولا يتمثل في الخيال، فلا يحب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سمي الصلاة قرة عين، وجعلها أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ، والبصيرة الباطجنة أقوى من البصر الظاهر، والقلب أشد إدراكًا من العين، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار، فيكون لا محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية، التي تجل عن أن تدركها لحواس أتم وأبلغ، فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلا ما في إدراكه لذة، فلا ينكر إذن حب الله إلا من قعد به القصور في درجة البهائم. انتهى. وأما محبة الله للمتبعين، فهي رضاه عنهم، وإثباتهم، وكشف الحجب عن قلوبهم، والتجاوز عما فرط منهم، كما أشار إليه بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} الآية، وعبر عن ذلك بالمحبة استعارة أو مشاكلة لاستحالة المعنى الحقيقي عليه، "ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما، فهذا هو الشرك الذي لا يغفر لصاحبه البتة، ولا يهديه الله" واستدل على هذا، بقوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ، فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم أو رجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة احد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه. انتهى ملخصًا من كتاب "المدارج"، وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ   "قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} أقرباؤكم، وفي قراءة وعشيراتكم، " {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} " عدم نفاقها، " {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} "، فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد، " {فَتَرَبَّصُوا} ": انتظروا " {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} " تهديد لهم، " {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} " [التوبة: 24] . "فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء" غلب العقلاء على غيرهم، وسمي من اقترن بالعاقل باسمه تجوز الان أحدًا إنما يستعمل في العاقل "على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم، أو رجاءه والتوكل": الاعتماد "عليه على خوف الله ورجائه، والتوكل عليه، أو معاملة أحد منهم على معاملة الله ورسوله، فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه" أنهما أحب، "فهو كذب منه، وإخبار بما ليس هو عليه" عطف تفسير، وفيه إشارة إلى أن محبة غيرهما، المنهي عنها هي المحبة الاختيارية دون الطبيعية، فإنها لا تدخل تحت التكليف. "انتهى ملخصًا من كتاب المدارج" أي: مدارج السالكين لابن القيم إلى منازل السائرين لشيخ الإسلام الأنصاري الهروي، "وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام". فذكر الحديث وتكلم عليه مبسوطًا هناك، "وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . أي إلى الصراط المستقيم، فجعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، الإيمان بالرسول واتباعه، تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو من الضلالة، فكل ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا اتباعه إلا ما خصه الدليل. وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] يعني القرآن، فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب متعين على كل أحد، لا يتم إيمان إلا به ولا يصح إسلام إلا معه، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13] أي ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين، وإنا أعتدنا للكافرين سعيرًا. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .   الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته" القرآن، " {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} " [الأعراف: 158] الآية، ترشدون، "أي: إلى الصراط المستقيم" صراط الله، "فجعل رجاء الاهتداء" من العبا؛ لأن صيغ الرجاء الواقعة في القرآن مصروفة إلى العباد، يعني أن المؤمن يرجو أنه من المهتدين، "أثر" عقب "الأمرين الإيمان بالرسول واتباعه تنبيهًا على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو في الضلالة، فكل ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام" من قول أو فعل أو غيرهما "يجب علينا اتباعه، إلا ما خصه الدليل" به، فلا يجب، بل يجزم تارة، كالزيادة على أربع، وتارة يكره كالوصال. "وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّ ُرِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8] ، يعني القرآن"، سماه نورًا؛ لأنه بإعجازه طاهر بنفسه، مظهر لغيره مما فيه شرحه وبيانه، فيستضاء به من ظلمات الجهل ويقتبس منه أنوار الهداية والفضل، "فالإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب متعين على كل واحد لا يتم إيمان إلا به، ولا يصح إسلام إلا معه"، لاستحالة وجود إيمان أو إسلام بدون ذلك شرعًا. "قال الله تعالى: {مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا} أعددنا وهيأنا " {لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} " [الفتح: 13] ، نارًا شديدة، "أي: ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فهو من الكافرين، وإنا اعتدنا للكافرين سعيرًا"، إشارة إلى أن جواب الشرط محذوف، والمذكور علة له؛ لأن الاعتاد لا يترتب على عدم الإيمان بهما، بل الكفر وجزاؤه السعير، "وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 معناه: فوربك، كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} و"لا" مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما في {لِئَلَّا يَعْلَم} ، ولا يؤمنون جواب. أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره، ويرضى بجميع ما حكم به، وينقاد له ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الحكم بما يوافئق أهواءهم أو يخالفها، كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، وهذا يدل على   روى الشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلًا في شراج الحرة، فقال صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك واستوعي للزبير حقه"، وكان أشار إليهما بأمر، لهما فيه سعة، قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في، نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّك} ... إلخ. "معناه: فوربك، كقوله تعالى: {فََرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِين} [الحجر: 92] الآية، "ولا مزيدة للتأكيد لمعنى القسم، كما في {لِئَلَّا يَعْلَم} [الحديد: 29] الآية، أهل الكتاب أي: ليعلم لا لتظاهر لا في قوله لايؤمنون؛ لأنها تزاد أيضًا في الإثبات، كقوله: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] ، قاله في الكشاف. قال التفتازاني: إن قيل: لا يجوز أن تكون مزيدة لمظاهرة، لا في لا يؤمنون، ومعاونتها والتنبيه من أول الأمر على أن المقسم به نفي، فالجواب أن مجيئها قبل القسم، سواء كان الجواب، نفيًا أو إثباتًا، يدل على أنها لتأكيد القسم، لا لمظاهرة النفي في الجواب، وذلك؛ لأن الأصل إجراء المحتمل على المحقق، والمشكوك على المقطوع، واتحاد منهج اللفظ على اتحاد منهج المعنى، وترك التصرف في الحرف، وبهذا يندفع اعتراض صاحب التقريب، بجواز أن يكون في النفي لمظاهرة النفي، وفي المثبت لتأكيد معنى القسم، وتجويز أنه في النفي لتأكيده، وفي الإثبات لتأكيده ليس على ما ينبغي. انتهى. "ولا يؤمنون جواب" للقسم، "أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة؛ أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أموره"؛ لأنه عبر بما شجر وما من صيغ العموم، "ويرضى بجميع ما حكم به" بقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الآية، "وينقاد له ظاهرًا وباطنًا، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها" هذا المقصود. وذكر الموافق للتعميم، "كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده" قسم كان صلى الله عليه سولم يقسم به كثيرًا، "لا يؤمن أحدكم" إيمانًا كاملًا، ونفي اسم الشيء بمعنى الكمال مستفيض في كلامهم، فالمراد نفي بلوغ حقيقته ونهايته، وخصوا بالخطاب؛ لأنهم الموجودون حينئذ والحكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 أن من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنًا، وعلى أنه لا بد من حصول الرضى بحكمه في القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن في القلب بأن الذي يحكم به عليه الصلاة والسلام هو الحق والصدق، فلا بد من الانقياد باطنًا وظاهرًا، وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام. ثم إن ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس؛ لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه، وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره. وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضي ضد مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين الله تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يتلفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص تسليمًا كليًا، قاله الإمام فخر الدين.   عام، "حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" الهوى بالقصر ما يهواه العبد ويحبه ويميل إليه، فحقيقته شهوة النفس، وهو ميلها لملائمها، ويستعمل في عرف الشرع في الميل إلا خلاف الحق، كقوله: ولا تتبع الهوى فيضلك، "وهذا" الحديث "يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنًا" أصلًا، بل كافرًا إن اعتقد بطلانه، أو أنه ليس من الله، أما إن اعتقد حقيقته وتألم منه في نفسه لمشقته فمؤمن ناقص، "وعلى أنه لا بد من حصول الرضا بحكمه في القلب، وذلك بأن يحصل الجزم والتيقن في القلب بأن الذي يحكم به عليه الصلاة والسلام هو الحق والصدق، فلا بد من الانقياد باطنًا وظاهرًا. ذكر هذا وإن تقدم معناه قريبًا؛ لأن شرح للحديث، فمراده أنه دل على ما دلت عليه الآية، "وسيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء الله تعالى في مقصد محبته عليه الصلاة والسلام" وهو السابع، "ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس"، سواء كان جليًا أو خفيًا، كما أجازه الرازي، وقيل: المنع في الخفي لضعفه بخلاف الجلي؛ "لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه" بالخفض، "وأنه لا يجوز العدول عنه إلى غيره، وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} ضيقًا أو شكا " {مِمَّا قَضَيْتَ} " به "مشعر بذلك؛ لأنه متى خطر بقلبه قياس يقتضي ضد مدلول النص، فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين الله تعالى؛ أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم إلى النص": ينقاد لحكمه "تسليمًا كليًا" من غير معارضة، "قاله الإمام فخر الدين" الرازي بعدما كان يقول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس، وبه صرح العلامة التاج بن السبكي في جمع الجوامع.   بالجواز، "وجوز غيره تخصيص الكتاب والسنة بالقياس" المستند إلى نص خاص ولو خبر واحد، سواء كان القياس جليًا أو خفيًا على المختار، "وبه صرح العلامة التاج" عبد الوهاب "بن علي "السبكي في جمع الجوامع" في مبحث التخيص، وأجاب شيخنا في التقرير عن استدلال الرازي بهذه الآية، بأنا لا نسلم أن معارضته بالقياس حرج كما ادعى، وإنما هو تردد في فهمه: هل هو موافق أم لا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 النوع الثامن: فيما تتضمن الأدب معه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] .   النوع الثامن: "فيما" موصول أو نكرة موصوف، أي: الآيات التي تتضمن، أو في آيات "تتضمن"، أي: تدل، أو تستلزم لا خصوص دلالة التضمن الاصطلاحية "الأدب"، بحذف مضاف، أي: طلب الأدب "معه صلى الله عليه وسلم" في جميع، الأقوال والأفعال. "قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] الآية، وجه تضمنها الأدب، النهي عن الشيء أمر بضده، وهو طلب التأخر وهو أدب. روى البخاري عن ابن الزبير: قدم ركب من تميم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر، ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، حتى انقضت الآية. وروى ابن المنذر عن الحسن: أن ناسًا ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم أن يعديوا ونزلت الآية. وأخرج الطبراني عن عائشة: أنا ناسًا كانوا يتقدمون الشهر، فيصومون، فنزلت. وأخرج ابن جرير عن قتادة، قال: ذكر لنا أن ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، فنزلت ولا شك أن الأصح الأول؛ لأنه مروي البخاري، ويحتمل تعدد الأسباب. وقد قال الرازي: الأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل، ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 فمن الأدب لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهي ويأذن كما أمر الله بذلك في هذه الآية، وهذا باق إلى يوما لقيامة لم ينسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته، لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، حتى يقضيه الله على لسانه.   وتقدم واستبداد بالأمر، وإقدام على فعل غير ضروري بلا مشاورة، "فمن الأدب أن لا يتقدم بين يديه" أي: عنده، سواء كان تجاهه، أو عن يمينه، أو يساره أو خلفه "بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف"، ويداوم على ذلك "حتى يأمر هو، وينهى ويأذن كما أمر الله بذلك في هذه الآية". وظاهر هذا؛ أنه من قدم لازمًا بمعنى تقدم، وفي النوار، أي: لا تقدموا أمرًا، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما لا يمكن أو تركه؛ لأن المقصود نفي التقدم رأسًا، أو لا تتقدموا منه مقدمة الجيش لمتقدمهم، ويؤيده قراءة يعقوب: لا تقدموا، وفي ابن عطية: قال ابن زيد: معنى لا تقدموا لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء هذا ظاهر في أن معناه التقدم الحسي. "وهذا" النهي عن التقدم "باق إلى يوم القيامة لم ينسخ" سواء كان التقدم حقيقة أو حكمًا، "فالتقدم بين يدي سنته" الواردة عنه بإسناد صحيح أو حسن، ولا معارض راجح "بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته"، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، "لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم"، وقد علم التقدم أعم من كونه حقيقة أو حكمًا، فلا يرد أنه ينتهي بوفاته صلى الله عليه وسلم، فيتعذر النسخ بوفاته الانقطاع الوحي فلا يحسن بل لا يصح تفريعه على ما قبله. "قال مجاهد" عند البخاري في تفسير لا تقدموا، "لا تفتاتوا" أي: لا تسبقوا "بشيء على رسول الله صلى الله عليه وسلم" بل أمهلوا وامتنعوا عن العمل فيه بشيء "حتى يقضيه الله على لسانه" فاعملوا به، فالغاية لمقدر. قال الزركشي: الظاهر أن هذا التفسير على قراءة ابن عباس ويعقوب "بفتح التاء والدال" والأصل لا تتقدموا، فحذف إحدى التاءين. قال الدماميني: بل هو متأت على القراءة المشهورة أيضًا، فإن قدم بمعنى تقدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 وقال الضحاك: لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى. وانظر أدب الصديق -رضي الله عنه- معه عليه الصلاة والسلام في الصلاة. أن تقدم بين يديه كيف تأخر فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه مقامة والإمامة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه، وقد أومأ إليه أن أثبت مكانك، سعيًا إلى قدام بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام   قال الجوهري: وقدم بين يديه، أي: تقدم، "وقال الضحاك" أي: "لا تقضوا أمرا دون رسول الله" أي: دون أمره "صلى الله عليه وسلم" بل انتظروا أمره، "وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى" فأمروا حينئذ بأمره ونهيه، "وانظر أدب الصديق رضي الله عنه معه عليه الصلاة والسلام في الصلاة" أي: فيما فعله فيها؛ "أن تقدم بين يديه" أن مصدرية "بفتح الهمزة وتقدير اللام" أي: لأن تقدم علة لقوله: "كيف تأخر" مقدم عليه، أي: انظر كيف تأخر لتقدمه الحاصل بين يديه، أي: في غيبته صلى الله عليه وسلم، فقدم بعد إحرام أبي بكر، وفي نسخة: إذ لكن إصلاحًا ولا حاجة إليه، فإن بهذا التقدير كإذ. روى مالك والشيخان من طريقه، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف وحانت الصلاة، فجاء المؤذن إلى أبي بكر، فقال: أتصلي للناس؟، فأقيم، قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت أبو بكر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن أمكث مكانك فرفع أبو بكر يديه وحمد الله على ما أمر به صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر حتى استوى في الصف، وتقدم صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، ثم انصرف، فقال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك، "فقال": أبو بكر "ما كان لابن أبي قحافة" "بضم القاف وخفة الحاء المهملة" عثمان بن عامر أسلم في الفتح، ومات سنة أربع عشرة في خلافة عمرو، عبر بذلك دون أن يقول: ما كان لي أو لأبي بكر تحقيرًا لنفسه "أن يتقدم". وفي رواية: أن يصلي "بين يدي رسول الله"، وفي رواية: أن يؤم النبي "صلى الله عليه وسلم"، ففيه إن من أكرم بكرامة، تخير بين القبول والترك إذا فهم أن الأمر ليس على اللزوم، وكان القرينة التي بينت ذلك لأبي بكر أنه صلى الله عليه وسلم شق الصفوف حتى انتهى إليه، ففهم أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام والتنويه بقدره، فسلك هو طريق الأدب، ولذا لم يرد صلى الله عليه وسلم اعتذاره "كيف أورثه مقامه والإمامة" الخلافة "بعده، فكان" بمعنى صار "ذلك التأخر إلى خلفه، والحال أنه "قد أومأ" أشار "إليه أن أثبت مكانك". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 تنقطع فيها أعناق المطي. ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن لا ترفع الأصوات فوق صوته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] . قال الرازي: أفاد أنه ينبغي أن لا يتكلم المؤمن عنده صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده؛ لأن العبد داخل في قوله تعالى: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض} ؛ لأنه للعموم، فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض. قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] ، والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه، حتى لو كانا في مخمصة   وفي رواية: فأشار إليه يأمره أن يصلي، وأخرى: فدفع في صدره ليتقدم، فأبى "سعيًا" خبر كمان "إلى قدام"، أي: كان في المعنى شروعًا وعملًا في طلب التقدم عبد الله بسبب أدبه مع نبيه، فنال "بكل خطوة إلى وراء" فهو متعلق بمقدر "مراحل" مفعول المقدر "إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي"، ولا توصل إليها، "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم؛ أن لا ترفع الأصوات فوق صوته"؛ لأنه يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام، ومن خشي قلبه ارتجف وضعفت حركته الدافعة، فلا يخرج منه الصوت بقوة، ومن لم يخف بالعكس، "كما قال تعالى: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} " إذا نطقتم " {فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} " إذا نطق، " {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} " إذا ناجيتموه، " {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} " بل دون ذلك إجلالًا له. قال المصنف: وليس المراد بنهي الصحابة عن ذلك؛ أنهم كانوا مباشرين ما يلزم منه الاستخفاف والاستهانة، فكيف وهم خير الناس، بل المراد؛ أن التصويت بحضرته مباين لتوقيره وتعزيره. "قال الرازي: أفاد أنه ينبغي أن لا يتكلم المؤمن عنده صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده"، بل يكون صوته دون صوته مع سيده؛ "لأن العبد داخل في قوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] ؛ "لأنه للعموم" فيشمل ذلك، "فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم، كما يجهر العبد للسيد، وإلا كان قد جهر له كما يجهر بعضكم لبعض" فيدخل في النهي، "قال: ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: " {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} " [الأحزاب: 6] الآية، "والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كانا في مخمصة". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده لا يلزمه أن يلقي نفسه في التهكلة لإنجاء سيده، ويجب لإنجاء النبي صلى الله عليه سولم، فكما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره؛ لأن عند خلل القلب مثلًا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضًا بخلاف العبد والسيد، انتهى. إذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبًا لحبوط الأعمال فما الظن برفع الآراء، ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به. واعلم أن في الرفع والجهر استخفافًا قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة.   مجاعة، "ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات، لا يجب عليه بذله لسيده، ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو علم العبد أن بموته ينجو سيده، لا يلزمه أن يلقي نفسه في التهكلة" أي: الهلاك لإنجاء سيده، "ويجب لإنجاء النبي صلى الله عليه وسلم" على كل أحد، "فكما أن العضو الرئيس أولى بالرعاية من غيره" بقاء الاستئناف، وعلل الأولوية بقوله: "لأن عند خلل القلب مثلًا لا يبقى لليدين والرجلين استقامة" حذف المشبه، أي: كذلك تجب رعايته صلى الله عليه وسلم وفداؤه على المؤمنين بأنفسهم، إذ لو لم يدفع الهلاك عنه وقدم غيره لهلك ذلك الغير، وأشار إلى هذا المعنى بفاء التعليل، فقال: "فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضًا"، ويحتمل أن الفاء زائدة، والمعنى أن رعايته وتقديمه على النفس مشبهة بالعضو الرئيس في رعايته وتقديمه على بقية الأعضاء، "بخلاف العبد والسيد. انتهى" كلام الرازي. "إذا كان رفع الأصوات فوق صوته موجبًا لحبوط الأعمال" أي: فسادها وهدرها مصدر لحبط من باب فرح، وفي لغة من باب ضرب، وبهذا قرئ شاذًا، كما قال تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُم لَا تَشْعُرُونَ} ، أي: خشية ذلك بالرفع والجهر المذكورين، "فما الظن برفع الآراء": جمع رأي، "ونتائج الأفكار" ما يظهر لها تشبيهًا بنتائج الحيوان، وهو ما يلده "على سنته وما جاء به". "واعلم أن في الرفع والجهر استخفافًا" بحسب الصورة "قد يؤدي إلى الكفر المحبط، وذلك إذا انضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة"، وإلا فالرفع والجهر لا يلزمهما الاستخفاف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 وروي أن أبا بكر رضي الله عنه، لما نزلت هذه الآية قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار، وقد روى وأن عمر كان إذا حدثه حدثه كأخي السرار ما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد روي أن أبا جعفر أمير المؤمنين ناظر مالكًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قومًا فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية ومدح قومًا   "وروي أن أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية، قال: والله يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي" أي: صاحب "السرار" "بكسر السين مصدر سارة"، أي: الكلام الخفي الذي يراد كتمه. وفي البخاري عن ابن أبي مليكة: كاد الخيران أن يهلكا أبا بكر وعمر، رفعا صوتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه، ركب بني تميم فأنزل الله: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . قال: ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر. "وقد روي؛ أن عمر كان إذا حدثه حدثه كأخي السرار، ما كان يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بعد" نزول "هذه الآية حتى يستفهمه"، وفي الاعتصام من البخاري؛ فكان عمر بعد ذلك إذا حدثه يحدثه كأخي السرار، لا يسمعه حتى يستفهمه، ففي تعبيره بروي في هذا شيء، وفيهما وفي غيرهما نزل؛ {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّون} . "وقد روي" فيما أسنده القاضي عياض من طريق أبي الحسن علي بن فهراي، مؤلف فضائل مالك بسنده؛ "أن أبا جعفر" المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، "أمير المؤمنين"، ثاني الخلفاء من بني العباس، ولي الخلافة اثنتين وعشرين سنة، وكان محدثًا، فقيهًا، بليغًا، حافظًا للقرآن والسنة، جماعًا للأموال، فلذا لقب أبا الدوانيق، مات سنة ثمان وخمسين ومائة بقرب مكة محرمًا بالحج وله ثلاث وستون سنة، "ناظر" مفاعلة من النظر، بمعنى الفكر، لا لأن كلا منهما ينظر في كلام من يجادله "مالكًا" الإمام في مسئلة فرفع صوته "في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولم يذكروا ناظره فيه؛ لأنه لا يترتب عليه فائدة هنا، "فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قومًا، فقال: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] الآية". روى ابن جرير عن قتادة، قال: كانوا يجهرون له بالكلام ويرفعون أصواتهم، فنزلت: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ} الآية، وذم قومًا، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَات} الآية. وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًا، فاستكان لها أبو جعفر. ومن الأدب معه أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضًا، قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] وفيه قولان للمفسرين. أحدهما: لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا، بل قولوا: يا نبي الله يا رسول الله مع التوقير والتواضع، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي: دعاءكم الرسول.   "ومدح قومًا" كالعمرين وثابت بن قيس وغيرهم، "فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُم} " [الحجرات: 3] "الآية، وذم قومًا" أي: بني تميم "فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُم} " أي: حجرات نسائه بأن أتوها حجرة حجرة، فنادوه أو تفرقوا عليها متطلبين له؛ لأنهم لم يعلموه بأيها مناداة الإعراب، بغلظة وجفاء أكثرهم، لا يعقلون محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، إذ العقل يقتضي حسن الأدب، وفيه تسلية وتلميح بالصفح عنهم "الآية، وإن حرمته ميتًا كحرمته حيًا" إذ هو حي في قبره، فيجب أن يراعى بعد مماته ما كان له في حياته، "فاستكان": خضع وذل "لها"، لهذه المقالة والموعظة. وفي نسخة له، أي: لمالك أي: لقوله "أبو جعفر" المنصور، لوضوح استدلاله، "ومن الأدب معه أن لا يجعل دعاؤه كدعاء بعضنا بعضًا. "قال تعالى: {لَا تَجْعَلُو دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] ، بأن تنادوه باسمه، بل قولوا: يا نبي الله يا رسول الله بلين وتواضع وخفض صوت. روى أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس، قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القسم فأنزل الله {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} ، فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله، "وفيه قولان للمفسرين". "أحدهما: لا تدعوه" وفي نسخة تدعونه على أنه خبر بمعنى النهي "باسمه، كما يدعو" ينادي "بعضكم بعضًا، بل قولوا: يا نبي الله يا رسول الله". وهذا ما دل عليه سبب النزول المذكور "مع التوقير" الإجلال "والتواضع" وخفض الصوت لآية الحجرات، "فعلى هذا" القول "المصدر مضاف إلى المفعول، أي: دعاءكم الرسول" أي: نداءكم له، "والثاني: أن المعنى لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 والثاني: أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا، إن شاء أجاب وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها البتة، فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة، فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي دعاءه إياكم، وقد تقدم في الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعي أن الصلاة لا تبطل بإجابته صلى الله عليه وسلم. ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد، أو رباط، لم يذهب أحد مذهبًا في حاجة له حتى يستأذنه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] . فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا لحاجة عارضة لم   بعضًا، إن شاء أجاب، وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد": فراق ومحالة "من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها البتة" "بقطع الهمزة"، "فإن المبادرة إلى إجابته واجبة، والمراجعة بغير إذنه محرمة"، أي: الرجوع عن تمام ما ندب إليه، لقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنقال: 24] ، "فعلى هذا المصدر" في دعاء الرسول "مضاف إلى الفاعل، أي: دعاءه إياكم" ولو في الصلاة. "وقد تقدم في الخصائص من المقصد الرابع عن مذهب الشافعي"، وهو المعتمد في مذهب مالك "أن اصلاة لا تبطل بإجابته صلى الله عليه وسلم"، وقال جماعة: تجب الإجابة، وتبطل الصلاة، "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط". وفي الإكليل قال ابن أبي مليكة: الآية في الجهاد والجمعة والعيدين، وقال عطاء: أمر عام، وقال مقاتل: طاعة يجتمعون عليها. أخرجها ابن أبي حاتم: "لم يذهب أحد مذهبًا في حاجة" عرضت "له حتى يستأذنه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ، ففيه وجوب استئذانه قبل الانصراف عنه في كل أمر يجتمعون عليه. قال الحسن: وغيره صلى الله عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس. قال ابن الفرس: ولا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الانصراف، واختلف في صلاة الجمعة، إذا كان له عذر كالرعاف وغيره، وقيل: يلزمه الاستئذان سوءا كان إمامه الأمير أم غيره، أخذًا من الآية، "فإذا كان هذا مذهبًا"، أي: سببًا يقصد، مقيدًا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين، أصوله وفروعه، ودقيقه وجليله، هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أنه لا يستشكل قوله، بل تستشكل الآراء بقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال مخالف، يسميه أصحابه معقولًا، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم وهو عين الجراءة عليه. ورأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه صاحبه آراء أذهانهم، فيوحد التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل   لحاجة عارضة، لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه ودقيقه": قليله "وجليله" كثيره، "هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} العلماء {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] الآية، ذلك فإنهم يعلمونه "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن لا يستشكل قوله"، الثابت عنه بلا معارض راجح، بقوله أيضًا، ونحوه: "بل تستشكل الآراء بقوله: ولا يعارض نصه بقياس"؛ لأه فاسد الاعتبار مع وجود النص، "بل تهدر": تطرح "الأقيسة وتلقى": عطف تفسير لتهدر "لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال" أي: ظن "مخالف، يسميه أصحابه معقولًا، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول"، أي: مصروف إلى غيره، "ولا يتوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد"، بل يقبل، ثم تارة يعمل به، وتارة لا لقيام دليل غيره على عدم العمل به، "فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وهو عين الجرأة" بزنة غرفة وضخامة، أي: الهجوم بلا توقف، وذلك مذموم "ورأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد": الإذعان "لأمره، وتلقى خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله خيال" ظن" "باطل يسميه صاحبه" معقولًا، أو يسميه شبهة، أو شكا، أو يقدم عليه "آراء" الرجال، "وزبالات أوساخ "أذهانهم": جمع ذهن، وهو الذكاء والفطنة، كما في المصباح، "فيوجد التحكيم"، أي: يجب على كل أحد أن يجعل الحاكم هو النبي صلى الله عليه وسلم، "والتسليم والانقياد والإذعان" من أذعن: انقاد فهو عطف مساوٍ، "كما وحد المرسل" "بكسر السين"، وهو الله سبحانه "بالعبادة"، فجعله مستحقا لها دون غيره، "والخضوع والذل" عطف تفسير، "والإنابة" الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يتحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، انتهى، ملخصًا من "المدارج" والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه صلى الله عليه وسلم فليراجع.   والرجوع "والتوكل" عليه في جميع الأمور، "فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل"، وهو الله عز وجل، "وتوحيد متابعة الرسول، فلا يتحاكم إلى غيره" بالعدول عنه وطلب الحكم من غيره، "ولا يرضى بحكم غيره، انتهى ملخصًا من المدارج" للعلامة ابن القيم "والقرآن مملوء بالآيات المرشدة إلى الأدب معه صلى الله عليه وسلم فليراجع" وفيما ذكر كفاية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 النوع التاسع: في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه صلى الله عليه وسلم ترفيعًا لشأنه قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1-2] لما قال المشركون: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}   النوع التاسع: "في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة"، أطلق النفس عليه تبعًا لقول إمام الحرمين أنه الصحيح، وقيل: إنما يجوز للمشاكلة نحو تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، ورد بقوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة، وخبر أنت، كما أثنيت على نفسك، وتقدير كتب رب نفوسكم، ولا تحصى نفسي بعيد "على عدوه"، يحتمل أن يريد المفرد وعمومه من الإضافة استغراق المفرد أشمل عند أهل البيان، ويحتمل أن يريد الجمع، فإن لفظ عدو يقع لغة على الواحد المذكر والمؤنث، والمجموع "صلى الله عليه وسلم ترفيعًا" مفعول لأجله وتضعيفه للمبالغة، إذ هو متعد بدونه "لشأنه" أمره وخطبه. "قال تعالى: " {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} "، أي: الملائكة، ومر الكلام فيه مبسوطًا " {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} " [القلم: 1] ، أي: انتفى عنك الجنون، بسبب إنعامه عليك بالنبوة وغيرها. "لما" حين "قال المشركون: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن في زعمه " {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} "، أي: لتقول قولهم، بدعواك أنه نزل عليك لا الجنون الحقيقي للقطع بعدمه، فلا يريدونه لئلا يكذب من قاله: "أجاب تعالى" الأولى، فأجاب بالفاء، إذ الجملة الأولى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 [الحجر: 6] ، أجاب تعالى عنه عدوه بنفسه من غير واسطة، وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من سب حبيبه تولى بنفسه جوابه، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم بنفسه منتصرًا له؛ لأن نصرته تعالى له أتم من نصرته وأرفع لمنزلته، ورده أبلغ من رده وأثبت في ديوان مجده. فأقسم تعالى بما بما أقسم به من عظيم آياته على تنزيه رسوله وحبيبه وخليله مما غمصته أعداؤه الكفرة، به وتكذيبهم له بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} "وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون"، هو أو هم؟ وقد علموا هم   كافية، وكأنه تركها؛ لأنها بيان لتعظيمه؛ بأنه أجاب "عنه عدوه بنفسه من غير واسطة"، وتوطئة لقوله: "وهكذا سنة الأحباب" أي: عادتهم، "فإن الحبيب إذا سمع من سب حبيبه، تولى بنفسه جوابه" وفرع على هذا قوله: "فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم بنفسه منتصرًا له؛ لأن نصرته تعالى" التي تولاها بنفسه "له أتم من نصرته" عليه الصلاة والسلام لنفسه، كقتال العدو وإن كان لله، أو المعنى لو فعل. وروى ابن أبي حاتم عن وهيب بن الورد، قال: يقول الله تعالى: ابن آدم، إذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفس. ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن وهيب، قال: بلغني أنه مكتوب في التوراة، فذكره، "وأرفع لمنزلته": مقداره العلي، "ورده" تعالى على عدوه بتكذيبهم "أبلغ من رده" لنفسه صلى الله عليه وسلم بإقامة الحجة، وإن كانت ليست لنفسه، بل الله، والمراد لو كان له رد ونصرة، كما مر، "وأثبت" أعظم وأقوى ثباتًا "في ديوان مجده" شرفه من أن يثبته هو بنفسه، فما أمضاه الله، لا نقض له، فاستعار لمجده ديوانًا يثبت فيه، فإذا أثبته الله حكان أتم وأكبر ثباتًا، وهكذا هو باقٍ إلى الأبد، "فأقسم تعالى بما أقسم به من عظيم آياته" أجمله، ليأتي على الخلاف السابق في تفسيره "على تنزيه رسوله وحبيبه وخليله مما غمصته" "بفتح الغين المعجمة والميم، وبكسر الميم أيضًا وصاد مهملة" أي: احتقرته وعابته "أعداؤه الكفرة به، وتكذيبهم له، بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} "، بدل من قوله من عظيم آياته يدل بعض من كل، أو متعلق بتنزيه "وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون"، فيه إشارة إلى أن الباء زائدة، وهو أحد وجوه سبقت "هو أو هم"، واقتصر على الأعداء، مع أن الآية {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون} [القلم: 5] ؛ لأن القصد إخباره بأنهم سيعلمون ذلك، وأما ذكره عليه السلام فيها، فلأنه أدعى للقبول في مقام المحاجة، نحو: وأنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، وقول حسان: أتهجوه ولست به بكفء ... فشركما لخيركما فداء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 والعقلاء ذلك في الدنيا، ويزداد علمهم به في البرزخ، وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة بحيث تتساوى الخلق كلهم في العلم به. وقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] . ولما رأى العاصي بن وائل السهمي النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد، وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاصي قالوا: من ذا الذي كنت تحدث معه، قال: ذلك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة، فرد الله تعالى عليه، وتولى جوابه بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] أي عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير. ولما قالوا: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ: 8] قال الله تعالى: {بَلِ الَّذِين   "وقد علموا هم والعقلاء" من غيرهم "ذلك" أي: أنهم المفتونون لا هو "في الدنيا" متعلق بعلموا، "ويزداد علمهم به في البرزخ": القبر، "وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة، بحيث تتساوى الخلق كلهم في العلم به، وقال تعالى": عطف على بقوله: {مَا أَنْت} من عطف الفعل على اسم يشبه الفعل، وهو المصدر، والمعهنى قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، وبقوله: " {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} " [التكوير: 22] ، فقال: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس} .. إلخ. "ولما رأى العاصي بن وائل السهمي" أحد المستهزئين الميت على كفره "النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج من المسجد، وهو" أي: العاصي "يدخل، فالتقيا عند باب بني سهم": بطن من قريش، "وتحدثا وأناس من صناديد": جمع صنديد، وهو السيد الشجاع أو الحليم، أو الجواد، أو الشريف، كما في القاموس، "قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاصي، قالوا له: من ذا الذي كنت تحدث"، بحذف إحدى التاءين "معه، قال: ذلك الأبتر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة"، وهو القاسم أول من مات من ولده، أو عبد الله روايتان: "فرد الله تعالى عليه، وتولى جوابه بقوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} " [الكوثر: 3] ، "أي: عدوك ومبغضك هو الذليل الحقير"، الذي لا عقب له ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك فيها ما لا يدخل تحت الوصف، ولا يرد أن العاصي أعقب عمرًا وهشامًا؛ لأنهما لما أسلما انقطع عقبه منهما، فصارا من أتباع المصطفى وأزواجه أمهاتهما، "ولما قالوا": أي: الذين كفروا على جهة التعجب لبعض هل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [سبأ: 8] . ولما قالوا: {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] أجاب الله تعالى عنه فقال: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1-3] . ولما قالوا: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} رد الله تعالى عليهم فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} فصدقه ثم ذكر وعيد خصمائه فقال: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ} [الصافات: 36- 38] . ولما قالوا: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] ، رد الله عليهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ   ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق أنكم لفي خلق جديد {أَفْتَرَى} "بفتح الهمزة للاستفهام واستغنى بها عن همزة الوصل" {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} في ذلك، {أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] الآية، جنون، تخيل ذلك به، "قال الله تعالى": ردًا عليهم: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} المشتملة على البعث والعذاب " {فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} " [سبأ: 8] ، من الحق في الدنيا. قال البيضاوي: رد الله عليهم ترديدهم، وأثبت لهم ما هو أفظع من القسمين وهو الضلال البعيد عن الصواب، بحيث لا ترجى الخلاص منه وما هو مؤداه من العذاب، "ولما قالوا {لَسْتَ مُرْسَلًا} [الرعد: 43] الآية، "أجاب الله تعالى عنه" بالإقسام، "فقال: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يس: 1] الاية، ومرت مباحث ذلك، ولم يجعل الجواب من بقية الآية وهي {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] ومن عنده علم الكتاب، أي: على صدقي لعدم صراحتها في الرد، "ولما قالوا {أَئِنَّا} بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين " {لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} " [الصافات: 36] ، أي: لأجل قول محمد "رد الله تعالى عليهم، فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] " الجاثين به، وهو لا إله إلا الله، "فصدقه، ثم ذكر وعيد خصمائه، فقال: {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} "، "ولما قالوا": ما حكى الله عنهم بقوله: {أَمْ يَقُولُون} هو " {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} " [الطور: 30] الآية، حوادث الدهر، فيهلك كغيره من الشعراء، وقيل: المنون الموت، "رد الله عليهم، بقوله: " {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي} " يسهل {لَهُ} الشعر {إِنْ هُوَ} ، أي: الذي أتى به {إِلَّا ذِكْرٌ} عظة {وَقُرْآنٍ مُبِين} [يس: 69] الآية، مظهر للأحكام وغيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 مُبِين} [يس: 69] . ولما حكى الله عنهم قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] سماهم الله تعالى كاذبين بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] . وقال: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6] . ولما قالوا: يلقيه إليه شيطان قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين} [الشعراء: 210] ، وما ينبغي لهم وما يستطيعون. ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] قال الله تعالى: تكذيبًا لهم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] .   وذكر وعيدهم، بقوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70] ، "ولما حكى الله عنهم قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} كذب {افْتَرَاهُ} محمد {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} من أهل الكتاب "سماهم الله تعالى كاذبين، بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان: 4] ، كفرًا وكذبًا، أي: بهما، "وقال" ردًا لقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] الآية، {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} الغيب {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 6] الآية، "ولما قالوا: "يلقيه إليه الشيطان"، قال الله تعالى: لهم {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِين} كما زعم المشركون أنه من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة {وَمَا يَنْبَغِي} يصلح {لَهُمْ} أن ينزلوا به {وَمَا يَسْتَطِيعُون} [الشعراء: 210] الآية، ذلك أنهم عن السمع لكلام الملائكة لمعزولون، أي: محجوبون بالشهب "ولما تلا عليهم نبأ" خبر "الأولين" الآية، قال النضر بن الحارث"، الكافر، المقتول بعد بدر، المشتري لهو الحديث: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} ؛ لأنه كان يأتي الحيرة يتجر، فيشتري كتب أخبار الأعاجم، ويحدث بها أهل مكة، ويقول: إن محمدًا يحدثكم أحاديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث فارس والروم، فيستملحون حديثه، ويتركون استماع القرآن {إِنْ} ما {هَذَا} القرآن {إِلَّا أَسَاطِيرُ} أكاذيب {الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 83] . "قال الله تعالى: تكذيبًا لهم {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} في الفصاحة والبلاغة {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ولو كان بعضهم لبعض ظهير [الإسراء: 88] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 ولما قال الوليد بن المغيرة: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24] ، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] . تسلية له عليه الصلاة والسلام. ولما قالوا: محمد قلاه ربه، فرد الله عليهم بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] . ولما قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] . ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات، وقالوا: ما همته إلا النكاح، رد الله تعالى عليهم عن رسوله ونافح عنه فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس   أي: معينًا، "ولما قال الوليد بن المغيرة" المخزومي الميت على كفره: " {إِنْ} " ما " {هَذَا} " القرآن " {القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} " ينقل عن السحرة. " {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] الآية، كما قالوا: إنما يعلمه بشر، "قال الله تعالى: " {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رٍَسُول إِلَّا قَالُوا} " هو " {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} " [الذاريات: 52] . الآية، "تسلية له عليه الصلاة والسلام"؛ لأن المعنى مثل تكذيبهم لك، بقولهم: إنك ساحر أو مجنون، تكذيب الأمم قبلهم لرسلهم، بقولهم: ذلك، "ولما قالوا: محمد قلاه ربه": أبغضه، "فرد" بالفاء في جواب لمبالغة قليلة "الله عليهم بقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] . ما أبغضك "ولما قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] الآية، لولا أنزل إليه ملك، فيكون معه نذيرًا، أو يلقى إليه كنز، أي: من السماء ينفقه ولا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش، أو تكون له جنة يأكل منها، أي: من ثمارها، فيكتفي بها، "قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان: 20] الآية، فأنت مثلهم في ذلك، وقد قيل لهم كما قيل لك، وكسرت إن؛ لأن المستثنى محذوف، أي: إلا رسلًا إنهم، أو جملة إنهم حالية اكتفى فيها بالضمير، "ولما حسدته أعداء الله اليهود على كثرة النكاح والزوجات"؛ لأنه صفة كمال لا يقدرون عليها، وعبروا عن هذا، "وقالوا: ما همته إلا النكاح" لإيهام الاعتراض والتوبيخ، خلاف ما أبطنوه من الحسد الذي هو تمني زوال نعمة المحسود، "رد الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] . ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولًا من البشر بقولهم الذي حكاه الله عنهم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94] وجهلوا أن التجانس يورث التآنس، وأن التخالف يورث التباين. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] ، أي لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر وجب أن يكون رسولهم من البشر.   عليهم عن رسوله، ونافح" "بالفاء والحاء المهملة"، أي: منع ودافع "عنه، فقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاس} " أي: محمدا صلى الله عليه وسلم " {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} " من النبوة وكثرة النساء، أي: يتمنون زواله عنه، ويقولون: لو كان نبيًا لاشتغل عن النساء، " {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ} " جد محمد صلى الله عليه وسلم، كموسى وداود، وسليمان " {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ": النبوة " {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} " [النساء: 54] الآية، فكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسيمان ألف ما بين حرة إلى سرية، "ولما استبعدوا أن يبعث الله رسولًا من البشر، بقولهم: الذي حكاه الله عنهم، " {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا} " أي: قولهم منكرين " {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} " [الإسراء: 94] ، وجهلوا أن التجانس يورث التوانس"، فيمكن مخاطبته والفهم عنه، "وأن التخالف" في الجنس "يورث التباين"، فلا يمكن ذلك، فمن حكمة الله جعل الرسول بشر إلا ملكًا. "قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95] الآية، يحتمل أنه حال من رسولًا، وأنه مفعول، وكذلك بشرًا، والأول أوفق، "أي: لو كانوا ملائكة، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة، لكن لما كان أهل الأرض من البشر، وجب أن يكون رسولهم من البشر"، لتمكنهم من الاجتماع به واللقى معه، وأما الإنس، فعامتهم عماة عن إدراك الملك والتلقف منه، فإن ذلك مشروط بنوع من التناسب والتجانس، قال البيضاوي، وفي الشفاء أي: لا يمكن في سنة الله إرسال الملك إلا لمن هو من جنسه، أو من خصه الله واصطفاه، وقواه على مقاومته، كالأنبياء والرسل، وفي الآية الأخرى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} ، أي: جعلناه على صورة رجل ليتمكنوا من رؤيته، إذ لا قدرة للبشر على رؤية الملك، "فما أجل هذه الكرامة"، أي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 فما أجل هذه الكرامة، وقد كان الأنبياء إنما يدافعون عن أنفسهم، ويردون على أعدائهم، كقول نوح عليه السلام: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَة} [الأعراف: 61] ، وقول هود {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَة} [الأعراف: 67] وأشباه ذلك.   الإكرام من الله لنبيه، حيث كان هو الراد عنه، لا الأمر الخارق للعادة، "وقد كان الأنبياء إنما يدافعون عن أنفسهم ويردون على أعدائهم، كقول نوح عليه السلام" رادًا لقولهم له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِين} ، [الأعراف: 60] الآية، قال: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَة} [الأعراف: 61] فنفيها أبلغ من نفيه، "وقول هود" دفعًا لقولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الآية، قال: " {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَة} " الآية جهالة، "وأشباه ذلك" من دفعهم عن أنفسهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 فهرس المجلد الثامن : 3 المقصد الخامس: في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بخصائص المعراج والإسراء 271 المقصد السادس: ما ورد في آي التنزيل من عظيم قدره ورفعة ذكره 273 تمهيد 274 النوع الأول في ذكر آيات تتضمن عظم قدره ورفعة ذكره 343 النوع الثاني في أخذ الله تعالى له الميثاق على النبيين 352 النوع الثالث في وصفه تعالى له بالشهادة وشهادته له بالرسالة 399 النوع الرابع في التنويه به صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة 432 النوع الخامس في آيات تتضمن إقسامه تعالى على تحقيق رسالته 435 الفصل الأول في قسمه تعالى على ما خصه به من الخلق العظيم 442 الفصل الثاني في قسمه تعالى على ما أنعم به عليه 478 الفصل الثالث في قسمه تعالى على تصديقه عليه الصلاة والسلام 483 الفصل الخامس في قسمه تعالى بمدة حياته صلى الله عليه وسلم وعصره وبلده 497 النوع السادس في وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالنور والسراج المنير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 504 النوع السابع في آيات تتضمن وجوب طاعته واتباع سنته 520 النوع الثامن فيما تتضمن الأدب معه صلى الله عليه وسلم 529 النوع التاسع في آيات تتضمن رده تعالى بنفسه المقدسة على عدوه صلى الله عليه وسلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 المجلد التاسع تابع: المقصد السادس: ما ورد في آي التنزيل من عظم قدره ورفع ذكره النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه ... بسم الله الرحمن الرحيم النوع العاشر: في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه عليه الصالة والسلام متشابهات قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] . اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل لحظة واحدة قط، وهل هو جائز عقلًا على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- قبل النبوة. قالت المعتزلة: هو غير جائز عقلًا لما فيه من التنفير. وعند أصحابنا: أنه جائز في العقول، ثم يكرم الله من أراده بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع لنبي، قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ   "النوع العاشر": "في إزالة الشبهات" جمع شبهة، وهي ما يرى دليلًا، وليست بدليل، لفساد القيا أو لغير ذلك "عن آيات وردت في حقه عليه الصلاة والسلام، متشابهات" محتملات، لا يتضح مقصودها لإجمال أو مخالفة ظاهر، إلا بالفحص والنظر، أو دل القاطع على أن ظاهرها غير مراد، ولم يدل على المراد، وتطلق المتشابهات أيضًا على ما استأثر الله بعلمه، وليس بمراد هنا. قال الله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] أي: منها هذه الآية، لأن القواطع دلت على أن ظاهرها ليس بمراد، وأفاد هذا بنقل الإجماع، بقوله: "اعلم أنه قد اتفق العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم ما ضل لحظة واحدة "قط"؛ بأن ظن بالله ما هو محال عليه، "وهل هو" أي الضلال المفهوم من قوله: ما ضل "جائز عقلًا على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل النبوة، قالت: المنزلة هو غير جائز عقلًا لما فيه" أي: تجوزير تلبسهم به وظهوره عليهم "من التنفير" عن اتباعهم بعد الوحي وإجابتهم للإيمان والطاعة، ولا يخفى أن هذه علة باردة، فالتنفير فعل المنفر، وأي فعل في تجويز العقل، فالتجويزات العقلية لا يلزم منها شيء البتة، فالعقل يجوز انقلاب البحر دمًا والحجر ذهبًا، ونحو ذلك قرره شيخنا، "وعند أصحابنا" أهل السنة "أنها جائز في العقول" وهو أبلغ في اتباعهم، لأنه حيث جاز عقلًا، ولم يقع علم أنهم مصطفون عند الله صادقون فيما أخبروا به عنه "ثم يكرم الله من أراده بالنبوة" بالعصمة من ابتدائه إلى منتهاه فحذف صلة يكرم ولذا عدل عن أن يقول ثم يكرمهم "غلا أن الدليل السمعي، قام على أن هذا الجائز لم يقع النبي" من الأنبياء أصلًا قال الله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] ، "قاله الإمام فخر الدين" الرازي: ويقال عليه الآية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] قاله الإمام فخر الدين. وقال الإمام أبو الفضل اليحصبي في "الشفاء": والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله تعالى وصفاته، والتشكيك في شيء من ذلك، وقد تعاضدت الأخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والإيمان، بل على إشراق أنوار المعارف، ونفحات ألطاف السعادة،   في حق نبينا، فكيف صح جعلها دليلًا على جميع الأنبياء إذ لا يلزم من نفي ذلك عنه نفيه عنهم، ثم هي إنما سيقت في مقام نفي ما نسبه المشركون إليه، وكان بعد النبوة، والجواب: أما الأول، فالعلة في نفسي الضلال العصمة لإكرام الله تعالى له بالنبوة، وهذه العلة يشاركه فيها جميع الانبياء، فالآية نص فيه وقياس في باقيهم، وأما الثاني، فالأفعال بمنزلة النكرات والنكرة، نعم فكأنه قال: ما صدر منه ضلال لا قبل النبوة ولا بعدها. "وقال الإمام أبو الفضل" عياض "اليحصبي" العلم الشهير "في الشفاء": وأما عصمتهم من هذا الشيء قبل النبوة، فللناس فيه خلاف، "والصواب" أي: القول الموافق للواقع، وللأدلة الدالة على أن خلافة خطأ من قائله، "أنهم معصومون" محفوظون، مصونون "قبل النبوة من الجهل بالله تعالى" أي: بوجود ذاته "وصفاته" فلا يجهلون شيئًا منها "و" معصومون أيضًا من "التشكيك" لأنفسهم "في شيء من ذلك". وفي نسخة: أو التشكيك بالعطف بأو الفاصلة، أي: لا يقع في نفسهم شك في الذات ولا في صفة من صفاتها، لأن فطرتهم جبلت على التوحدي والإيمان، وأما قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ، فالمراد به ما لا يعلم بالوحي، كوجوب الصلاة ونحوه من فروع الشريعة، "وقد تعاضدت" أي: تفوت مأخوذ من العصد، وهو ما بين المرفق إلى الكتشف، ولكون عمل الإنسان واعتماده بذلك، قيل: عضدته بمعنى قويته، قاله الراغب. وقال التلمساني: أي قوي بعضها بعضًا، تفاعل من اثنين لقيام كل واحد من الأخبار مع صاحبه حتى حصلت القوة التامة بذلك "الأخبار والآثار" بمعنى، وقيل: الخبر المرفوع والأثر، قول الصحابي ومن دونه، والمراد بها ما اشتهر من أحوالهم وصفاتهم المأثورة، المعروفة عند كل أحد، "عن الأنبياء" كلهم والمرسلين بأسرهم، وليس المراد أنه نقل عنهم، بل عرف عنهم وفي حقهم، فلم يصب من قدر، وعن غيرهم "بتزيههم" أي تبرئتهم "عن هذه النقيصة" بصاد مهملة أي: الصفة المنقصة لمن اتصف بها "منذ ولدوا" إلى آخر عمرهم، "ونشأتهم" بالجر عطف على تنزيههم، أي: وبنشأتهم، أي: ابتداء خلقهم لا زمن شبابهم، كما توهم "على التوحيد" وهو عدم الشرك "والإيمان" بالله وبكل ما يجب الإيمان به، "بل" للانتقال على سبيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 ولم ينقل احد من أهل الأخبار أن أحدًا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وغشراك قبل ذلك، ومستند هذا الباب النقل. ثم قال: وقد استبان بما قررناه ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله جملة بعد النبوة عقلًا وإجماعًا، وقبلها سمعًا ونقلًا، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحي قطعًا، عقلاً وشرعًا، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله   الترقي "على إشراق"، أي: شدة ظهور "أنوار المعارف" في أحوالهم وأقوالهم: أي: معرفة ذات الله وصفاته، وكل ما يتعلق به، "ونفحات" جمع نفحة، وهي الروائح الطيبة التي تفوح "ألطاف السعادة" أي: كونهم سعداء الدارين، فشبه ما يلوح منهم من أماراتها برائحة طيب، يعبق، فيملأ الكون، "ولم ينقل أحد من أهل الأخبار" عن أحد غيره "أن أحدًا نبئ" بهمز آخره، أي: صيره الله نبيًا "واصطفى " أي: اصطفاه الله واختاره "ممن عرف بكفر وإشراك" عطف خاص على عام "قبل ذلك، أي: نبوته واصطفائه، و"ومستند" اسم مفعول، أي: ما يستند إليه ويعلم به "هذا الباب" أي: باب معرفة أحوال الأنبياء، "النقل" عن الأخبار والآثار، ويؤيدهخ العقل الدال على أنه تعالى لا يختار من خلقه لنبوته إلا من كان كذلك، فليس المراد الحصر، وقد عقبه عياض بما يدل على موافقة العقل للنقل، "ثم قال" بعد كلام طويل في الأجوبة عن آيات وأحاديث: ليس المراد ظاهرها. "وقد استبان" أي: تبين: والسين للتأكيد لا الطلب، ولأن ما يثبت من شأنه أن يناقش فيه "بما قررناه" الباء للسببية، فإذا تأملته بأن لك "ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته" بأن ينفي وجود ذاته، أو يتردد فيه، أو ينفي شيئًا من صفاته، أو يعتقد شيئًا منها على خلاف حقيقته، وكذا سائر الأنبياء، "أو" استبان لك عصمته من "كونه" أي: وجوده وخلقه، كسائر الأنبياء "على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك" أي: ذاته وصفاته "كله جملة" فلا يجهل شيئًا من ذلك أصلاً لا سيما "بعد النبوة عقلًا" وشرعًا لقضائه بحيازته جميع الشرف والكمال، لأنه تعالى لا يصطفي غلا من هو كذلك، "وإجماعًا" من كل المسلمين "وقبلها سمعًا ونقلًا" في الأحاديث الصحيحة، والجمع بينهما للتوكيد، والمنصوبات تمييز، "ولا بشيء" عطف على قوله بشيء قبله"، أي: ولا كونه على حالة تنافي العلم بشيء "مما قرره من أمور الشرع" الذي أمر بتبليغه، "وأداه" أوصله وبلغه "عن ربه من الوحي قطعًا" مقطوعًا به، متيقنًا بلا خلاف "عقلًا وشرعًا، لأنه منافٍ لإرساله به وأمره بتبليغه، فكيف يجوز عليه جهل شيء منه، فالأنبياء معصومون من ذلك لدلالة المعجزات على علمهم وصدقهم فيما بلغوه عن الله، وإلا كان افتراء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 وأرسله، قصدًا أو غير قصدًا، واستحالة ذلك عليه شرعًا وإجماعًا، ونظرًا وبرهانًا، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعًا، وتنزيهه عن الكبائر إجماعًا، وعن الصغائر تحقيقًا، وعن استدامة السهو والغفلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضا وغضب، وجد ومزح، ما يجب لك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد ضنين، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يجوز أو   على الله، وهو باطل عقلًا وشرعًا، "وعصمته" بالجر عطف على عصمته الأولى "عن الكذب" لمنافاة المعجزة له، "وخلف القول" لئلا يتهم في تبليغه "منذ نبأه الله وأرسله" فلم يصدر عنه شيء منه، وهو مستحيل "قصدًا" بأن يقول ما يخالفما أرسل به اختيارًا "أو غير قصدًا، فلا يقع ذلك منه سهوًا ونسيانًا، وإليه ذهب أبو إسحاق الإسفرايني، وجوزه الباقلاني لعدم منافاته للمعجزة، لأنه لا يقر عليه، "واستحالة ذلك" الكذب والخلف "عليه شرعًا وإجماعًا ونظرًا وبرهانًا". وفي نسخة: أو قبل قولهنظرًا وهي أحسن، لأن المعنى أن استحالة ذلك شرعًا وإجماعًا مما دل عليه النظر، والدليل العقلي "وتنزيهه" أي: تبرئته "عنه قبل النبوة قطعًا" لتواتره، فكان يسمى الأمين، لأنه مأمونن قولًا وفعلًا، "وتنزيهه عن الكبائر إجماعًا" لرفعة قدره عنها، "عن الصغائر تحقيقًا" إثباتًا بالدلائل المفيدة لذلك، فالتحقيق إبات المسألة بدليلها، أو أمرًا محققًا، ولتجويز بعضهم لها لم يقل إجماعًا أو قصدًا بقرينة، قوله: "وعن اساتدامة السهو والغفلة" عطف تفسير لبعد ساحة التبليغ عنها، فإن وقع نبه عليه بسرعة، ولله در القائل: يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو من كل قلب غافل لاهي قد غاب عن كل شيء سره فسها ... عما سوى الله فالتعظيم لله "و" عن "أستمرار الغلط والنسيان عليه" حفظًا له بإيقاظ قلبه وتنبهه "فيما شرعه للأمة"، لأن استمراره منافٍ لتشريعه له، "وعصمته" بالجر، ويجوز رفعه خبره كائنة "في كل حالاته من رضا وغضب وجد" "وبكسر الجيم ضد الهزل"، "ومزح" فإن مزح لا يقول إلا حقًا "ما يجب لك" بدل من قوله ما هو الحق، ويجوز أن ما لتأكيد القلة في الحالات الأربع، ويجب مستأنف، ولفظ الشفاء: فيجب عليك "أن تتلقاه" أي: تأخذه وتعلمه "باليمين" أي: بالقبول واليمن والبركة، لأنه يؤخذ بها ما ينتفع به لسهولة العمل بها عادة، والعرب تقول لها يتمدح به أخذه باليمين، قال الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين "وتشد عليه يد لضنين" البخيل وزنًا، ومعنى من الضنة، وهي شدة البخل، أي تحرص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 يتسحيل عليه، ولا يعرف صور أحكامه لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، ولا ينزهه عما لا يجوز أن ياضف إليه، فيهلك من حيث لا يدري، ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل صاحبه دار البوار. وقداستدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر، بالمصير إلى امتثال   على حفظ ما ذكر من تنزيه قدره عما ذكر، كحرص البخيل على ما في يده لشدة بخله وخوفه من ذهابه، وفيه مع اليمين مراعاة النظير، وفسر بالقوة ولا يناسب هنا، "فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم" اعتقاده، "أو يجوز أو يستحيل عليه" أي: يمتنع في حقه شرعًا وعقلًا وعادة، "ولا يعرف صور أحكامه" أي: الحكم المتصور في حقه من وجوب وجواز وحرمه، "لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه"، فيقع فيما لا يجوز اعتقاده، "ولا ينزهه عما لا يجوز أن يضاف" أي: ينسب "إليه" ويوصف به، "فيهلك" أي: يقع في أمر هو سبب هلاكه في الدارين "من حيث لا يدري" لجهله، "ويسقط في هوة" "بضم الهاء وشد الواو"، وهو العميق، كالبئر "الدرك" "بفتحتين"، وقد تسكن الراء ما ينزل به إلى "الأسفل" من دركات المنازل "من النار" أي: نار جهنم، فالتعريف للعهد، وهي هنا مجاز عن محلها، ويستعمل كثيرًا بهذا المعنى، وهو عبارة عن قابه أشد العقاب في الآخرة بسبب ما ذكره، ولذا علله بقوله: "إذ ظن الباطل به" أي: ما لا يصح في حقه "واعتقاده" على طريق الجزم "ما لا يجوز عليه" شرعًا وعقلًا، "يحل" "بضم الياء وكسر الحاء وشد اللام"، وفاعله ضمير ما ذكر من الظن والاعتقاد، أي: يحل "صاحبه" أي: ذلك الاعتقاد "دار البوار" "بفتح الموحدة" الهلاك، يعني جهنم، هو من أسمائها، أي: يجعله حالاً فيها، وضبط البرهان يحل، بفتح أوله وضم ثانيه، وصاحبه فاعل، وهو جائز أيضًا، وطلب الرواية في مثل هذا عناء بلا طائل، فنطق عياض باحد الضبطين لا يمنع الثاني، فهو كلام لا حديث يمنع بغير ما روي به. قال: في الشفاءك ولهذا احتاط على الرجلين اللذين رأياه ليلًا في المسد مع صفيه، فقال لهما: إنها صفية، ثم قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا فتهلكا، ثم قال بعد طول جوز جماعة من السلف ويغرهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين الصغائر على الانبياء، وذهب طائفة إلى الوقف، وذهب المحققون من الفقهاء والمتكلمين إلى عصمتهم منها كالكبائر، ثم بعد كلام قليل ما حكاه المصنف، بقوله: "وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم"، أي: فعل مثلها اقتداء بهم، فلو وقع ذلك منهم، أو جاز فعله الناس، وظنوه شرعًا، فلذا عصموا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 أفعالهم واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقًا، وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب ملك والشافعي وأبي حنيفة من غير التزام قرينة بل مطلقًا عند بعضهم، وإن اختلفوا في حكم ذلك، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم، غذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة والإباحة والظر والمعصية، انتهى. واختلف في تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة: أحدها: أي وجد ضالًا عن معالم النبوةب، وهو مروي عن ابن عباس   منها، لأن ذنب العظيم عظيم، وإن قال: "واتباع آثارهم وسيرتهم مطلقًا" سواء كانت ضرورية أم جبلية، كالقيام والقعود، والأككل والشرب، فإنا نتأسى بهم، وفيه، وإن كان مباحًا أرجح من الظاهر، "وجمهور الفقهاء على ذلك"، أي: اتباع آثارهم مطلقًا إن لم يعلم أنه خصوصية لهم "من أصحاب" أي: كبار مذهب "ملك والشافعي، وأبي حنيفة، من غير التزام" قيام "قرينة" تدل على أنه فعله للتشريع والاقتداء به فيه "بل" يقتصدي بفعله "مطلقًا" من غير التزام قرينة المشروعية "عند بعضهم، وان اختلفوا" بعد القول "في حكم ذلك"، فذهب كثير من الفقهاء والمحدثين وأكثر الشافعية إلى استحباب اتباعه في الأمور الجبلية، كغيرها. وذهبجماعة إعلى أنه مباح أحسن من غيره، وحكى أبو الفرج، وابن خويز منداد عن ملك، الوجوب، وبه قال أكثر أصحابنا، وأكثر أهل العراق، وابن سريج والاصطخري، وابن خيران، عن الشافعية، هذا ملخص ما حذفه المصنف من الشفاء قبل موته: "إذ ليس كل فعل من أفعاله" كغيره منهم "يتميز مقصده" أي: ما قصده به "من القربة" بأن يكون واجبًا أو مندوبًا، "والإباحة" بأن لا يترتب عليه ثواب، ولا عقاب، أو مدح، أو ذم، "والحظر" بالمشالة، أي: المنع شرعًا، لكونه محرمًا أو مكروهًا، أو خلاف الأولى والمكروه "انتهى" ما نقهل عن عياض. وقال عقبة: ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعراضا، وما كان ينبغي للمصنف حذف هذا، لأنه من جملة الدليل وما كان يزيد به الكتاب، "واختلف في تفسير هذه الآية على وجوه كثيرة". "أحدها: أي: وجدك ضالًا عن معالم النبو" أي: مظانها وهي ما أنزل عليه من القرآن وغيره، وما ظهر عليه من الآيات، فالمعالم، جمع معلم مظنة الشيء وما يستدل به عليه، كما في القاموس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 والحسن والضحاك وشهر بن حوشب، ويؤيده قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] أي ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، قاله السمرقندي وقال بكر القاضي: ولا الإيمان الذي هو الفرائض والأحكام، فقد كان عليه الصلاة والسلام قبل مؤمنًا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فازداد بالتكاليف إيمانًا، وسيأتي آخر هذا النوع مزيد لذلك إن شاء الله. الثاني: من معنى قوله تعالى: ضالًا ما روي مرفوعًا مما ذكره الإمام فخر الدين الرازي أنه عليه الصلاة والسلام قال: ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي   وزاد المصنف في معالم الشفاء: لعله إشارة إلى أن النبوة نفسها الأخبار بها كأن قيل له: أنت نبي، أو وجد ما يدل على اتصافه بالنبوة منغير وحي بشرع لا يفيد هداية وإنما يفيدها الآثار الآتية من الشرع التي يعمل بها وإن لم يؤمر بتبليغها قرره شيخنا، "وهو مروي عن ابن عباس، والحسن" البصري "والضحاك، وشهر بن حوشب" وقال به ابن جرير: لأن الضلال لغة العدول عن الاستقامة وضده الهداية، فكل عدول ضلال سواء كان عمدًا أم لا فمعناه غير مهتدٍ لما سبق لك من النبوة فهداك إليها، كقوله: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] ويؤيده قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] الآية، أي: ما كنت تري قبل الةوحي أن تقرأ القرآن" أي: لا تعرف قراءته ولا دراسته "ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان" قيل وهذا في غاية البعد، لأنه تقدير بلا قرينة تدل عليه ووجه بأن تعريف الإيمان عهدي والمراد إيمان أمته أي: لا تدري كيف يؤمن قومك، وبأي طريق يدخلون في الإيمان وبعده لا يخفي، "قاله السمرقندي" الإمام أبو الليث الحنفي. "وقال بكر" بن العلاء "القاضي" القشيري، المالكي: "ولا الإيمان الذي والفرائض والأحكام" الشرعية التي كلف بها علمًا وعملًا "فقد كان عليه الصلاة والسلام قبل" أي: قبل النبوة "مؤمنًا بتوحيده": أي: بأنه منفرد بالألوهية لا شريك له، "ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فازداد بالتكليف"، أي: بسبب ما كلف به من الفرائض "إيمانًا، وسيأتي آخر هذا النوع مزيد لذلك إن شاء الله" فإنه ذكر هنا للتأكيد. "الثاني: من معنى قوله تعالى: {ضَالًّا} ما روي مرفوعًا مما ذكره الإمام فخر الدين الرازي، مما يفد أنه على حقيقته، فإنه يقال ضل الرجل الطريق، وضل عنه، زال عنه فلم يهتد إليه، فهو ضال، وذلك "أنه عليه الصلاة والسلام، قال: ضللت" بفتح اللام من باب ضرب لغة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 حتى كاد الجوع يقتلني فهداني الله. الثالث: يقال: ضل الماء في اللبن إذا صار مغمورًا فمعنى الآية، كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه. الرابع: أن العرب تسمي الشجرة الفريدة في الفلاة ضالة، كأنه تعالى يقول: كانت تلك البلاد كالمفازة ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان بالله تعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة في مفازة الحمد. الخامس: قد يخاطب السيد والمراد قومه، أي وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك.   نجد وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50] ، وفي لغة لاهل العالية من باب تعب، أي: تهت وغبت "عن جدي عبد المطلب" واصل الضلالة الغيبة ومنه، قيل للحيوان الضائع: ضالة "وأنا صبي حتى كاد" قارب "الجوع يقتلني فهداني الله" وردني إليه. وفي سيرة ابن إسحاق زعموا أن أمه السعدية لما قدمت به مكة ضل منها في الناس فأتت جده فأخبرته فقام عند الكعبة، فدعا الله أن يرده فوجدجه ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش، فأتيا به إلى عبد المطلب، فأخذه على عنقه وطاف وعوذه ودعا له، ثم أرسله إلى آمنة. ويروى أن عبد المطلب تصدق بألف ناقة كوماء وخمسين رطلًا من ذهب وجهز حليمة أفضل الجهاز. "الثالث: يقال ضل الماء في اللين غذا صار مغمورًا" من تقديم الدليل على المدلول، وإذا كان كذلك، "فمعنى الآية كنت مغمورًا بين الكفار بمكة فقواك الله حتى أظهرت دينه الرابع أن العرب تسمى الشجرة الفريدة في الفلاة" الأرض لا ماء فيها، والجمع فلا مثل حصًا وحصاة وجمع الجمع أفلاء مثل سبب وأسباب "ضالة"، كأنه تعالى يقولك كانت تلك البلاد" مكة وما حولها، "كالمفازة" الموضع المهلك مأخوذ من فوز بالتشديد إذا مات لأنها مظنة الا الموت. وقيل: ما فازا، إذا نجا وسلم، سميت به تفاؤلًا بالسلامة "ليس فيها شجرة تحمل ثمر الإيمان باللهتعالى ومعرفته إلا أنت، فأنت شجرة فريدة في مفازة الحمد" ولم يذكر الجوهري وإتباعه هذا وما قبله من معاني ضل، لكن اللغة والسعة "الخامس قد يخاطب السيد والمراد قومه" لاستحالة وصف السيد، بذلك الوصف أو باستعمال اسمه في اسم قومه مجازًا، "أي: وجد قومك ضالين فهداهم بك وبشرعك" عطف تفسير لقوله بك، المعبر به عن ذاته، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 السادس: أي محبًا لمعرفتي، وهو مروي عن ابن عطاء، والضال: المحب، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] أي محبتك القديمة، ولم يريدوا هنا في الدين، إذ لو قالوا ذلك في نبي الله لكفروا. السابع: أي وجدك ناسيًا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة، فهداه الله تعالى إلى كيفية الثناء حتى قال: لا أحصي ثناء عليك. الثامن: أي وجدك بين أهل الضلال فعصمك من ذلك وهداك للإيمان وإلى إرشادهم.   وأسند الهداية غليها مبالغة في مدحه حتى كأن ذاته نور يهتدي به بمجرد رؤيته صلى الله عليه وسلم، وجعله شرعه لظهوره على يديه ومجيئه به. "السادس": ضالًا، "أي: محبًا لمعرفتي" بفتحتين، الصوفي له لسان في فهم القرآن يختص به، ولما كان هذا خلاف المشهور لغة بينه ابن عطاء نفسه، بقوله: "والضال المحب كما قال تعالى وعن أخوة يوسف خطابًا لأبيهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] ، "أي: محبتك القديمة" ليسوف لا تنساه، وهذا منقول عنقتادة وسفين، فلا يضر عدم وجوده ي الصحاح واتباعه، فاللغة واسعة "ولم يريدوا هنا" في هذه الآية ضلالة "في الدين" بأن يعتقدوا خطأه في دينه باعتقاده خلافه، أو إصراره على ما ينافيه "إذ لو قالوا ذلك في نبي الله" يعقوب "لكفروا" بنسبته إلى ما لا يجوز عليه وتحقيره، لكن عدم إرادة ذلك لا يستلزم حمله على المحبة، لجواز أن يريدوا لفي تحيرك عما يوصلك إلى العلم بحال يوسف أو نحو ذلك. وفي الأنوار: لفي ذهابك عن الصواب قديمًا بالإفراط في محبة يوسف وإكثار ذكره والتوقع للقائه. "السابع: أي: وجدك ناسيًا فذكرك، وذلك ليلة المعراج نسي ما يجب أن يقال بسبب الهيبة" من الله تعالى: "فهداه الله تعالى إلى كيفية" أي: صفة "الثناء" الذي فضل به الأنبياء "حتى قال: لا أحصي لثناء" أي: لا أستوعب ولا أبلغ الواجب في الثناء "عليك" أنت، كما أثنيت على نفسك. "الثامن: أي وجدك بين أهل الضلال، فعصمك" عن الانتظام في سلكهم والتبلس بشيء من ضلالهم، كعبادة الأصنام "من ذلك" أي: الضلال وموافقة أهله فيه، "وهداك للإيمان" به ومعرفته، إذ جعله فطرة لك وأودع فيك ما يرشدك له بعقلك السليم، ثم أرشدك له بالوحي، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 التاسع: أي وجدك متحيرًا في بيان ما أنزل إاليك، فهداك لبيانه، كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وهذا مروي عن الجنيد. العاشر: عن علي أمير المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة الغلام من قريش كان يرعى غنما بأعلى مكة، لو حفظت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما   "وإلى إرشادهم" أفعال من الرشد ضد الغي وهو قريب من الهداية، كما قال الراغب، وأفاد بقوله: فعصمك أنه من قبل الشرع ولم يستفد هذا من الخامس، فبهذا غايره ولا يرد أن قوله فيه فهداهم بشرعك يفيد عصمته لاستحالة أن يهديهم مع موافقتهم، لأن شرعه متأخر، فقد كان بينهم قبله أربعين سنة، ثم هذا التأويل مروي عن السدي وغير واحد، كما قال عياض: فالضلال بمعناه المشهور، وليس متصفًا به، ولكونه بين أهله أطلق عليه مجاز العلاقة المجاورة. "التاسع: أي: وجدك متحيرًا" واقعًا في الحيرة " في بيان ما أنزل إليك" من القرآن، "فهداك لبيانه" بإظهاره وبيان ما خص من معانيه في حال تبليغه لأمته، "كقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} القرآن لما فيه من التذكير والمواعظ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية، مما خفي عليهم، فالضلال التحير فيما شق عليه في ابتداء أمره، "وهذا مروي عن الجنيد" أبي القسم بن محمد النهاوندي، شيخ المشايخ، العلم المشهور رحمه الله. "العاشر: عن علي أمير المؤمنين أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما هممت بفتح الميم الأولى بابه نصر، وهو أول العزم "بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون" ضمنه معنى يتمسكون، فعداه "به" أو الباء زائدة في المفعول "غير مرتين، كل ذلك يحول": يحجز ويمنع "الله بيني وبين ما أريد" من ذلك، "ثم ما هممت بعدهما بشيء حتى أكرمني الله برسالته" وبين المرتين، فقال: "قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى غنمًا بأعلى مكة" لبعض قريش: أود "لو حفظت لي غنمي" فلو لتتمني ما لها جواب أو محذوف، أي: لكان ذلك جميلًا منك "حتى أدخل مكة" وصريحه أنه رعاها قبل البعثة. ويؤيده حديث أبي هريرة عند البخاري مرفوعًا: ما بعث الله نبيًا إلا رعي الغنم، فقال أصحابه: وأنت؟، قال: كنت أرعاها قراريط لأهل مكة. وفي رواية ابن ماجة: كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط، قال المصنف: كغيره، والحكمة في إلهامهم ذلك قبل النبوة ليحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 يسمر الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير فجلست أنظر إليهم فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك فضرب الله على أذني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته.   فزعم أن رعيهم لها إنما كان بعد البعثة تهور، وتمسكه لذلك بالحديث المذكور أعجب، منشؤه عدم الوقوف على شيء، "فأسمر بها" "بضم الميم"، أي: أتحدث. قال المجد: وسمر سمر، أو سمورًا لم يتم، والسمر محركة الليل وحديثه، وفي خطبته، إذا ذكر المصدر، فالفعل بزنة كتب، "كما يسمر" "بفتح أوله وضم الميم" يتحدث "الشباب، فخرجت حتى أتيت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا" "بمهملة وزاي وفاء بزنة فلس"، أي: لعبًا من باب التجريد، استعمل العزف في مطلق اللعب من استعمال المطلق في مقيده، فعلق به قوله: "بالدفوف": جمع دف، آلات يضرب بها، وإلا فالعزف اللعب بالدف "بضم الدال وفتحها"، "والمزامير": جمع مزمار "بكسر الميم"، "فجلست أنظر غليهم، فضرب الله على أذني"، أي: بعث عليهما النوم، "فنمت" فلم أسمع شيئًا، "فما أيقظني إلا مس الشمس" أي: حرها، "ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، فضرب الله على أذني، فما أيقظني إلا مس الشمس" فلم أسمع شيئًا، "ثم ما هممت بعدهما بسوء حتى أكرمني الله برسالته" فكأنه عبر بضالًا عن هذا الهم مرتني، وأنه هداه بصرفه عن ذلك، بإلقاء النوم عليه، إشارة إلى عنايته به من صغره ومنعه من سماع لغط الجاهلية ولعبهم وغنائهم، وإن لم يكن ذلك حينئذٍ ضلالًا، لأنه صانه من قبل البعثة عما يخالف الشرع. وقيل: معناه وجدك ضالًا لم يعرفك أحد بالنبوة حتى أظهرك الله، فهدى بك السعداء. وقيل: وجدك ضالًا بين مكة والمدينة فهداك إلى المدينة وقيل: وجدك قائمًا بأعباء الرسالة وتبليغها، فهدي بك ضالًا. وعن جعفر بن محمد: وجدك ضالًا عن محبتي لك في الأزل، أي: لا تعرفها، مننت عليك بمعرفتي. وقيل: ناسيًا فهداك، كقول موسى {وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20] وقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] ، أي: تنسى. وقرأ الحسن بن علي: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أي: اهتدى بك، حكاها في الشفاء، ثم قال: لا أعلم أحدًا من المفسرين، قال: فيها ضالًا عن الإيمان، وقد قال ابن عباس: لم يكن له ضلالة معصية انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 وأما قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 2-3] . فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين المجوزين للصغائر على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث، إن التزموا ظواهرها أفضت بهم -كما قال القاضي عياض- إلى تجوزيز الكبائر، وخرق الإجماع، وما لا يقول به مسلم، فكيف وكل ما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون في معناه، وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه، وجاءت أقاويل فيها للسلف   وفي الكشاف من قال: إنه كان على أمر قومه أربعين سنة، أن اراد خلوه عن الأمور السمعية فنعم، وإن أراد على كفرهم ودينهم، فمعاذ الله، فإنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها عن الكبائر والصغائر البتة، فما بالك بالكفر والجهل بالله، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيءء وكفى نقيصة عند الكفار أن يسبق منه كفر انتهى. "وأما قوله تعالى": قسيم لمقدر أول النوع، أي: منها ما ذكره بقوله: قال الله تعالى: {وَوَضَعْنَا} حططنا {عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ} أثقل: {ظَهْرَكَ} [الانشراح: 2] ، "فقد احتج بها جماعة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين" أي: علماء الكلام الباحثين عن العقائد، سموا بذلك لأن مسألة كلام الله من أجل مباحثة، أو لكثرة دور الكلام فيه بين السلف "المجوزين" بلا واو في نسخ، وهي ظاهرة، وفي نسخة بالواو كأكثر الأصوليين "للصغائر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" حيث أبقوها على ظاهرها أن الوزر هو الإثم، "وبظواهر كثيرة من القرآن والحديث" أتى بظواهر إشارة إلى أنها ليست بحجة في الباطن "إن التزموا ظواهرها"، بأن قالوا: بلزوم اعتقاد الظاهر منها "أفضت بهم" أوصلتهم، "كما قال القاضي عياض: إلى تجويز الكبائر" عليهم عمدًا، "وخرق الإجماع" أي: مخالفة ما أجمع عليه الناس من قولهم: خرق المفازة إذا قطعها، فأريد به لازمه وهو المجاوزة "وما لا يقول به مسلم" أي: أفضت بهم إلى رأي: لم يقله أحد من المسلمين، لأن الآيات والأحاديث التي احتجوا بها، كما تشمل الكبيرة من حيث أنه إثم وذنب، وتشمل كل ما أجمع على أنه لا يقع منهم، مع أنهم لا يقولون بجواز وقوع الكبيرة منهم عمدًا، إذ لم يقله إلا الحشوية، ولا عبرة بهم ولا بجواز خرق الإجماع، وأما سهو فأجازه بعضهم، واختلف في أن امتناعه سمعي أو عقلي، كما مر، "فكيف" يسوغ لهم الاحتجاج بتلك الظواهر، "وكل ما احتجوا به منها مما اختلف المفسرون في معناه" فطرقته الاحتمالات فسقطت به الدلالات، "وتقابلت": تخالفت وتعارضت "الاحتمالات في مقتضاه" من تجويز وقوع ما خرج به عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 بخلاف ما التزموه في ذلك. فإذا لم يكن مذهبهم إجماعًا، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديمًا، وقامت الدلائل على خطأ قولهم، وصحة غيره، وجب تركه والمصير إلى ما صح، انتهى. وقد اختلف في هذه الآية: فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي صوت كصوت المحامل والرحال، وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقداره. وقيلك المراد منه تخفيف أعباء البنوة التي يثقل الظهر القيام بأمرها، وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها، فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها   صلاحيته للحجة "وجاءت أقاويل" جمع اقوال، جمع قول، فهو جمع الجمع، "فيها للسلف بخلاف ما التزموه في ذلك" الذي استدلوا به، "فإذا لم يكن مذهبهم" في تجويزها عليهم "إجماعًا" أي: مجمعًا عليه لكثرة من خالفهم، "وكان الخلاف فيما احتجوا به قديمًا" لا حادثًا بعد انعقاد الإجماع حتى يكون خلافًا لا يعتد به "وقامت الدلائل على خطأ قولهم" بتجويزها عليهم، "وصحة غيره" في عدم الجواز "وجب تركه والمصير إلى ما صح" من عدم التجويز، غذ العبرة بالأدلة لا بكثرة القائلين. انتهى كلام عياض متعة الله برؤيته في الرياض. "وقد اختلف في هذه الآيبة، فقال أهل اللغة: الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض، أي: صوت كصوت المحامل والرحال" وكلما حملته ثقيلًا، فإنه ينتقض تحته. قال عباس بن مرداس: وأنقض ظهري ما تطوقت منهم ... وكنت عليهم مشفقًا متحننا قال ابن عطية، وصدر بقوله: أي: هزيلًا من الثقل، "وهذا مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقداره" أي: من مقادير ما كلفه، "وقيل: المراد منه تخفيف أعباء" "بالفتح" أثقال "النبوة" جمع عبء "بالكسر" ويفتح الثقل من كل شيء تنزيلًا للمعقول منزلة المحسوسات "التي يثقل الظاهر القيام بأمرها" فهو مجاز عن أتعاب صاحبه، بحيث يصير كالحامل على ظهره ما يثقل عليه، بحيث تناله مشقة عظيمة من ذلك، وفسر القيام بقوله: "وحفظ موجباتها، والمحافظة على حقوقها فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط" تفسير لوضع "عنه ثقلها" بفتح القاف "بأن يسرها عليه حتى تيسرت له" وهذا عزاه عياض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 بأن يسرها عليه حتى تيسرت له. وقيل: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل، وكان لا يقدر على منعهم غلى أن قواه الله وقال له: {اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] . وقيل: معناه عصمناك عن الوزر الذي أنقض ظهرك لو كان ذلك الذنب حاصلًا، فسمي العصمة "وضعًا" مجازًا، ومن ذلك ما في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة فضرب الله على أذنه فما أيقظه إلا حر الشمس من الغد. وقيل: ثقل شغل سرك وحيرتك وطلب شريعتك، حتى شرعنا لك ذلك. وقيل معناه: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت وحفظ عليك، ومعنى أنقض أي كان ينقضه، قال القاضي عياض: فيكون المعنى على قول من   للماوردي والسلمي. "وقيل: الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل" لطريقة إبراهيم"، وكان لا يقدر على منعهم إلى أن قواه الله، وقال له: {اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} في التوحيد، والدعوة برفق ونحو ذلك، فالوزر على هذه الاقوال الثلاثة مجاز بمعنى الثقل. "وقيل: معناه عصمناك" أي: منعناك وحفظناك "عن" ملابسة "الوزر الذي أنقض ظهرك لو كان ذلك الذبن حاصلًا، فسمي العصمة وضعًا مجازًا". "ومن ذلك ما في الحديث؛ أنه عليه الصلاة والسلام حضر وليمة فيها دف ومزامير قبل البعثة" ليلة إحدى المرتين السابقتين لقوله هناك غير مرتين، "فضرب الله على أذنه" بالإفراد على إرادة الجنس، "فما أيقظه" نبهه "إلا حر الشمس من الغد". "وقيل": معناه "ثقل شغل سرك" أي: قلبك أو خواطر قلبك، "وحيرتك": تحيرك في ابتداء أمرك "وطلب شريعتك" "بالرفع" أي: طلبك من الله ما يثبت بالوحي، لتعمل به "حتى شرعنا لك ذلك" بوالحي فاطمأن قلبك وذهبت حيرتك حكي معناه القشيري، كما في الشفاء. "وقيل معناه خففنا عنك ما حملت" أي: كلفت حمل أثقاله من دعوة الخلق تبليغا أمانة الرسالة التي لم تطق حملها الجبال، "بحفظنا لما استحفظت" أي: نحن حفظنا ما أمرناك بحفظه عليك مما عسرك عليك القيام به، وجعلنا لك قوة وصبرًا، صير أثقاله خفيفة، "وحفظ عليك"، أي: منع عن الضياع، فأديته على أتم وجه يمكن أداؤه به، ودفع ما ورد عليه أنه إذا خفقها لم تنقض ظهره، بقوله: تبعًا لعياض، "ومعنى أنقض" ظهره على هذا، "أي: كاد" أي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 جعل ذلك لما قبل النبوة: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور فعلها قبل نبوته وحرمت عليه جعل بعد النبوة فعدها أوزارًا وثقلت عليه وأشفق منها. وقيل: إنها ذنوب أمته صارت عليه كالوزر، فأمنه لله من عذابهم في العاجل بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ووعده الشفاعة في الآجل. وأما قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] . فقال ابن عباس: أي أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان.   قرب "ينقضه" أي: يعيه ويثقله، ولم ينقضه بالفعل، ويجوز إبقاؤه على ظاهره، وأنه أنقضه بالفعل، لكنه خفف عنه، فكأنه لم ينقضه. "قال القاضي عياض" مبينًا وجه دفع ما ذكره لم تمسكوا به: "فيكون المعنى" لوضعنا عنك إلى آخره "على قول من جعل ذلك" الوضع مصروفًا "لما قبل النبوة، اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم" خبر يكون "بأمور فعلها قبل نبوته"، أي: اعتناءه ببيان الله لحكمها حتى لا يكون عنده هم وغم "وحرمت عليه بعد النبوة" ولم يكن مكلفًا بها قبلها "فعدت أوزارًا" بعدما حرمت باعتبار ما بعد النبوة، "وثقلت عليه، وأشفق" خاف "منها" من المؤاخذة بها لشدة مراقبته وخشيته لله، فمعنى وضعها على هذا، إعلامه بعدم المؤاخذة بها؛ وأنها ليست وزرًا عليه يخافه، لأنه لم يكن مكلفًا بتركها. "وقيل: إنها ذنوب أمته صارت عليه كالوزر" بجعل المعقول كالمحسوس "فأمنه اله من عذابهم في العاجل بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأفال: 33] ، "ووعده الشفاعة في الآجل"، بنحو قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] ، وقيل حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية، كاه مكي "واما قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] "فقال ابن عباس: في إزالة الشبهة عن ظاهره المقتضى وقوع ذنوب من عليه بغفرانها، مع أنه لا ذنب، "أي: إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب، أن لو كان" أي: وجد فهي تامة، فهو على طريق الفرض تطمينًا له، فلم يرد أنه وقع ذنب غفر، بل لو فرض وقوعه وقع مغفورًا. وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن يقول: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} ، سر بذلك الكفار، فأنزل {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع وما لم يقع، أي أنك مغفور لك. وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبري واختاره القشيري. وقيل: ما تقدم لأبيك آدم عليه السلام، وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندي والسلمي عن ابن عطاه.   "وقال بعضهم: أراد غفران ما وقع" قبل النبوة مما لا يؤاخذ به، لأنه لا شرع يلتزم أحكامه، ولا يصح أن المراد من الصغائر عند مجوزها، لأن السياق في دفع شبهة من جعل هذه الاآية دليلًا على وقوع الصغائر، "وما لم يقع" بفرض وقوعه، "أي: إنك مغفور لك" في الحالين، فغاير كلام ابن عباس، لأنه فرض وتقدير لا غير، وهذا على تجويز الوقوع، لكن إن وقع مغفورًا فهو كغيره من الأنبياء، إن وقع منهم لم يؤاخذوا به قطعًا بخلاف الأمة فتحت المشيئة. "وقيل: المراد" بما تقدم "ما كان" وقع منه "عن سهو وغفلة"، و"المراد بما تأخر، ما صدر عن "تأويل"، أي: بيان لمعنى يحتمله النص فيحمله عليه باجتهاده، ثم تبين له أن الصواب أو الأولى خلافه، لأن التأويل بيان ما يؤل إليه فيناسب ما تأخر، كما في شرح الشفاء، فلا حاجة لجعل الواو بمعنى، أو "حكاه الطبري" محمد بن جرير، "واختاره القشيري" عبد الكريم بن هوازن، ولعل المراد بغفران الثلاثة مع أن آحاد الأمة لا يؤاخذ بها عدم المؤاخذة باللوم على سبب الغفلة والسهو والنسبة إلى التقصير، بسبب التأويل المبني على شبهة لو فرض وقوعها بخلاف غيره، فمؤاخذ بذلك. "وقيل: ما تقدم لأبيك آدم عليه السلام، وما تأخر من ذنوب أمتك"، فاللام للتعليل، أي: غفر لآدم لألك لما توسل بك، ولكونك في صلبه، ولأمتك لدعائك، ولأنك رحمة لهم، "حكه السمرقندي والسلمي" "بضم ففتح" "عن" أحمد "بن عطاء" الأدمي، وحكاه الثعلبي عن عطاء الخراساني. قال السيوطي: وهو ضعيف، أما أولًا فلأن آدم نبي معصوم لا ينسب إليه ذنب البتة، فهو تأويل يحتاج إلى تأويل، انتهى. وتأويله، بأن المراد بتقدير أنه ذنب، أو سماه ذنبًا مجازًا وإن كان في الحقيقة ليس بذنب من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، قال: وأما ثانيًا: فلأن نسبة ذنب الغير إلى غير من صدر منه بكاف الخطاب لا يليق، وأما ثالثًان فلأن ذنوب الأمة كلها لم تغفر بل منهم من يغفر له، ومنهم من لا يغفر له، انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وقيل: المراد أمته. وقيل: المراد بالذنب ترك الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيآت المقربين، وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل. وقال السبكي: قد تأملتها -يعني الآية- مع ما قبلها وما بعدها فوجدتها لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب،   والجواب عن الثاني: أن اللام في الآية للتعليل، كما قلنا لا للتعدية، وعن الثالث: بأن من لا يغفر له يخفف عنه بالنسبة لما يؤاخذ به غيره على ذلك الذنب من بقية الأمم، فكأنه غفر له، "وقيل المارد أمته" أي: يغفر الله لأمتك ما صدر ويصدر، فالمراد بخطابه خطاب أمته وغضافة الذنب له لأدنى ملابسة؛ لأنه يسوءه ما يسوءهم وهو الشفيع لهم، قال شيخنا: والمراد بالمغفرة على هذا ما رفع العذاب عنهم مطلقًا بالعفو، فلا يعاقبهم على شيء، أو بتخفيفه عنهم، وذلك في حق من عذب للتطهير مما اقترفه، وقال غيره: المراد أن رحمة الله لهذه الامة أكثر من غيرها. "وقيل: المراد بالذنب ترك الأولى" وعد ذنبًا لرفعة مقامه ونزاهته، فلا يفعله كما لا يفعل الذنب الحقيقي، نعم إن كان القصد من فعل خلاف الأولى، أو المكروه بيان أنه جائز لا إثم فيه، فعله وجوبًا إن تعين طريقًا للتعليم، فيثاب عليه ثواب الواجب، "كما قيل" قائله سعيد الخراز. رواه عن ابن عساكر في ترجمته "حسنات الأبرار سيآت المقربين" لأنه كلما ارتقى درجة عدمًا قبلها سيئة، "وترك الأولى ليس بذنب، لأن الأولى وما يقابله مشتركان في إباحة الفعل" وما أبيح ليس بذنب، فأطلق عليه اسمه مجازًا. وفي التحفة: استغفرك، أطلب منك المغفرة" أي: ستر ما صدر مني من نقص ذنبًا كان أو غير ذنب، فهي لا تستدعي سبق ذنب لافًا لمن زعمه. قال شيخنا: فلا حاجة إلى الاعتذار عن تسمية خلاف الأولى ذنبًا تعلقت به المغفرة، وفيه نظر لتصريح الآية بلفظ ذنب، فحمله على خلاف الأولى يحتاج للاعتذار، ولفظ استغفرك ليس فيه من ذنبي، فإنما يتأتى ما قال: لو قيل ليغفر لك فقط. "وقال السبكي" في تفسيره: "قد تأملتها يعني الآية" بذهني "مع ما قبلها" وهو: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، "وما بعدها" وهو: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} ، إلى قوله: {نَصْرًا عَزِيزًا} "فوجدتها لا تحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يكون هناك ذنب"، حاشى لله، "ولكنه أريد أن يستوعب في الآية جميع أنواع النعم من الله على عباده الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 ولكنه أريد أن يستوعب في الآية جميع انواع النعم -من الله على عباده- الأخروية، وجميع النعم الأخروية شيآن: سلبية وهي غفران الذنوب، وثبوتية وهي لا تتناهى، أشار إليها بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] ، وجميع النعم الدنيوية شيآن: دينية أشار إليها بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] ، ودنيوية وهي قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] ، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه المتفرقة في غيره، ولهذا جعل ذلك غاية للفتح المبين الذي عظمه وفخمه   الأخروية" صفة النعم "وجميع النعم الأخروية" إظهار في مقام الإضمار ليتبين غاية البيان، "شيآن سلبية، وهي غفران الذنوب"، أي: من حيث هي، وإن لم يكن للمخاطب ذنب، لأنه لو لم يذكر غفرانها لكان فيه ترك استيعاب جميع أنواع النعم، "وثبوتية، وهي لا تتناهى، أشار إليها" إلى الثبوتية، بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ} ، وجميع النعم الدنيوية شيآن: دينية أشار إليها بقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا} طريقًا {ُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] يثبتك عليه، وهو دين الإسلام "ودنيوية" وإن كانت هناك المقصود بها الدين. هذا أسقطه من السبكي قبل قوله: وهي قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] ، الآية، لا ذل معه، وقدم الأخروية على الدنيوية وقدم في الدنيوية الدينية على غيرها تقديمًا للأهم فالأهم، هكذا في تفسير السبكي قبل قوله: "فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى عليه، المتفرقة في غيره"، ثم يحتمل رجوع جوابه بآخرة الأمر إلى قول ابن عباس: أن لو كان ضرورة الخطاب والإضافة في الآية، والأظهر أن مراد السبكي أن المعنى منعك من الذنب فلا تواقعه، إذ الغفر الستر والغطاء، وعلىهذا فلا حاجة إلى تقدير أن لو كان. وقد قال العلامة البرماوي في شرح البخاري: المعنى والله أعلم، أي: حال بينك وبين الذنوب فلا تأتيها، لان الغفر الستر، وهو إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وبين عقوبته، فاللائق بالأنبياء الأول، وبأممهم الثاني: انتهى. ونحوه قول بعض المحققين: المغفرة هنا كناية عن العصمة، فمعنى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخرن ليعصمك فيما تقدم من عمرك وفيما أخر منه. قال السيوطي: وهذا القول في غاية الحسن، وقد عد البلغاء من أساليب البلاغة في القرآ، أنه يكنى عن التخفيفات بلفظ المغفرة والعفو والتوبة، كقوله تعالى عند نسخ قيام الليل: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرؤوا ما تيسر منه" وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] ، وعند نسخ تحريم الجماع ليلة الصيام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 بإسناد إليه تعالى بنون العظمة، وجعله خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لك. وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم، ولم يكن ذنوب ألبتة. ثم قال: وعلى تقدير الجواز لا شك ولا ارتاب أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم،   {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} "ولهذا جعل ذلك أية للفتح المبين" وهو صلح الحديبية، أو مكة، نزلت مرجعة من الحديبية عدة له بفتحها، وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، أو فتح خيبر، أو غير ذلك أقوال: أرجحها عند قوم الأول، وتقدم بسطه في غزوة الحديبية "الذي عظمه وفخمه بإسناده إليه تعالى بنون العظمة" بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح: 1] ، "وجعله خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لك" كأنه قيل لا لغيرك، واشار بهذا إلى جواب؛ أن المغفرة ليست سببًا، للفتح إذ السبب ما يلزم من وجوده وجود غيره، والمغفرة التي هي عدم المؤاخذة بالذنب لا تستدعي الفتح، وحاصل الجواب إن اللام علة غائية، أي: أن الفتح لما فيه من مقاساة الأهوال مع الكفار جعل سببًا للمغفرة وإتمامًا للنعمة والنصر العزيز. وفي البيضاوي: علة للفتح من حيث أنه تسبب عن الجهاد والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة قهرًا ليصير ذلك بالتدريج اختيارًا، وتخليص الضعفة من أيدي الظلمة. "وقد سبق إلى نحو هذا ابن عطية" لفظ السبكي: وبعد أن وقعت على هذا المعنى، وجدت ابن عطية قد وقع عليه، فقال بعد أن حكي قول سفين الثوري: ما تقدم قبل النبوة وما تأخر، يريد كل شيء لم يعمله، وهذا ضعيف، "وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم"، وهو استيعاب جميع أنواع النغم، "ولم يكن" له "ذنوب البتة" وأجمع العلماء على عصمة الانبياء من الكبائر والصغائر التي هي رذائل، وجوز بعضهم الصغائر التي ليست برذائل، واختلفوا: هل وقعت من محمد صلى الله عليه وسلم أو لم تقع؟ وحكى الثعلبي عن عطاء الخراساني: ما تقدم من ذنب آدم وحواء، أي: ببركتك، وما تأخر من ذنوب أمتك بدعائك. وقال بعضهم: ما تقدم قوله يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد"، وما تأخر قوله يوم حنين: "لن نغلب اليوم من قلة"، وهذا كله معترض، هذا كلام ابن عطية برمته. قال السبكي: وقد وفق فيما قال: فقول المتن، "ثم قال" أي: السبكي لا ابن عطية، كما توهم، فإنه خلاف الواقع إذ ابن عطية ليس فيه كما رأيت قوله: "وعلى تقدير الجواز لا أشك ولا أرتاب أنه لم يقع منه صلى الله عليه وسلم" والذي أوقعه في هذا الوهم، أن السبكي لما نقل قول ابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 وكيف يتخيل خلاف ذلك {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] . وأما الفعل: فاجماع الصحابة على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير لم يكن عندهم في ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله في السر والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم استحيي من الله أن يخطر بباله خلاف ذلك، انتهى. وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}   عطية، اختلفوا هل وقع من محمد ... إلخ. عقبه بقوله: قلت لا أشك، فظن أن قلت من جملة نقله، وليس كذلك، بل زيادة فصلها بلفظ قلت: "وكيف يتخيل خلاف ذلك" أسقط من قول السبكي وأحواله عليه السلام منقسمة إلى قول وفعل، أما القول، فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] أي: هو نفسه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . "وأما الفعل" قسيم قول السبكي: أما القول، وكأنه أسقط من المصنف سهوًا أو من نساخه، "فإجماع الصحابة على اتباعه والتأسي": الاقتداء "به في كل ما" أي: شيء "يفعله أعماله" مجرور بحتى "في السر والخلوة، يحصرون على العلم بها وعلى اتباعها، علم بهم أو لم يعلم" كابن عمر لما سأل بلالا: هل صلى المصطفى لما دخل الكعبة؟ ولما رآه يقضي الحاجة مستقبلًا، فأفتى بذلك وغير ذلك مما وقع له ولغيره، "ومن تأمل أحوال الصحابة معه صلى الله عليه وسلم" وما عرفوه وشاهدوه منه في جميع أحواله من أوله إلى آخره، "استحى من الله أن يخطر" "بضم التحتية" من أخطر ليكون من فعله "بباله خلاف ذلك" لا بفتحها من خطر لصدقه بخطوره دون فعله، ومثله لا يؤاخذ به "انتهى" كلام السبكي رادًا به قول الزمخشري: معنى الآية جميع ما فرط منك. وقال مقاتل: ما كان في الجاهلية، وقال سفيان الثوري: ما عملت في الجاهلية وما لم تعمل، وردهما السبكي بأنه صلى الله عليه وسلم ليست له جاهلية. وقيل: ما كان قبل النبوة، ورده بأنه معصوم قبلها وبعدها، وقيل: ما تقدم حديث مارية وما تأخر امرأة زيد، قال: وهذا باطل، فمنم اعتقد أن في قصتهما ذنبًا فقد أخطأ، وقيل: غير ذلك مما زيف كله، وللسيوطي في ذلك وريقات، سماها القول المحرر، وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 [الأحزاب: 1] . فلا مرية أنه صلى الله عليه وسلم أتقى الخلق، والأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس اجلس، ولا للساكت اسكت، ولا يجوز عليه أن لا يبلغ، ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين، حاشاه الله من ذلك، وإنما امره الله بتقوى توجب استدامة الحضور. وأجاب بعضهم عن هذا أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى، ومرتبته، حتى كن حال عليه الصلاة والسلام فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فكان له في كل ساعة تقوى تتجدد.   روى جرير عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، دعوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوفه المنافقون واليهود، وإن لم يرجع قتلوه، فأنز الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} "فلا مرية": لا شك في صرفها عن ظاهرها، وذلك "انه صلى الله عليه وسلم اتقى الخلق" بالنصوص القطعية والإجماع، "والأمر بالشيء لا يكون إلا عند عدم اشتغال المأمور بالمأمور به، إذ لا يصلح أن يقال للجالس إجلس، ولا للساكت اسكت"، فأمره بالتقوى، أمر بتحصيل الحاصل، وهو محال، "ولا يجوز عليه أن يبلغ" ما أوحى إليه، "ولا أن يخالف أمر ربه، ولا أن يشرك، ولا أن يطيع الكافرين والمنافقين"، لا عقلًا ولا نقلًا، "حاشاه الله من ذلك"، وهذا كله تصوير للإشكال، "و" الجواب أنه "إنما أمره الله بتقوى توجب استدامة الحضور" في مقام المشاهدة والقرب اللائق بكماله فأمره باستدامة ذلك أمر بما لم يكن حاصلًا، وأجاب عياض بأنه ليس في الآية أنه أطاعهم، والله سبحانه ينهاه عما شاء، ويأمره بما شاء، كما قال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] وما كان طردهم وما كان من الظالمين، أنتهى. وهو منع للإشكال من أصله، وأن ابتناءه إنما هو على عرف أمر الخلق وخطابهم، والله تعالى ليس كذلك، فله أن ينهى من لم يقع منه خلافه، ويأمر بما لم يتصور من المأمور خلافه، وهذا جواب حسن، ويأتي في المتن بمعناه. "وأجاب بعضهم عن هذا" الإشكال "أيضًا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يزداد علمه بالله تعالى ومرتبته" منزلته العلية، "حتى كان" بالتشديد "حاله عليه الصلاة والسلام فيما مضى بالنسبة إلى ما هو فيه" الآن مما تجدد "ترك للأفضل" خبر كان، "فكان له في كل ساعة تقوى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 وقيل: المراد دم على التقوى. فإنه يصح أن يقال للجالس: أجلس ههنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أي دم على ما أنت عليه. وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] ولم يقل بما تعمل. وأما قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] . فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمره صلى الله عليه وسلم، ونسبته إلى ما نسبوه إليه، مع ما أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق العظيم، أتبعه بما يقوي قلبه ويدعوه إلى التشديد مع قومه، وقوي قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة   تتجدد" فلتورثه زيادة العلم وغيره من الكمالات، فكان معنى اتقِ الله دم على طلب الازدياد من العلوم والكمالات. "وقيل: المراد دم" واظب "على التقوى، فإنه يصح أن يقال للجالس: إجلس ههنا إلى أن آتيك، وللساكت: قد أصبت فاسكت تسلم، أي: دم على ما أنت عليه". قال ابن عطية: معناه دم على التقوى، ومتى أمر آخر بشيء وهو ملتبس به، فإنما منا، الدوام في المستقبل على مثل الحال الماضية. "وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء {خَبِيرًا} [النساء: 94] الآية، "ولم يقل بما تعمل" وعلى الأول، فقال ابن عطية: هو تسلية له صلى الله عليه وسلم، أي: لا عليك منهم ولا من إيمانهم، فالله عليم بمن يتبعك، حكيم في هدى من شاء وإضلال من شاء، ثم أمره باتباع ما يوحى إليه، وهو القرآن الحكيم، والاقتصار على ذلك وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} ، توعد ما، وقرأ أبو عمرو وحده {تَعْمَلُونَ} "بالتاء"، والتوعد على هذه القراءة للكافرين والمنافقين أبين، وأما قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 8] ، قال ابن عطية: يريد قريشًا، لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو عبدت آلهتنا وعظمتها لعبدنا إلهك وعظمناه، وودوا أن يداهنهم ويميل إلى قولهم فليميلوا هم أيضًا إلى قوله ودينه، والمداهنة الملاءمة فيما لا يحل، والمداراة الملاينة فيما يحل "فاعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمره صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى ما نسبوه إليه" من الجنون، نافيًا ذلك عنه بالقسم، بقوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1، 2] ، "مع ما أنعم الله به عليه من الكمال" الظاهر لكل أحد "في أمر الدين والخلق العظيم"، بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3، 4] ، "ابتعه بما يقوي قلبه ويدعوه إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 الكفار، فإن هذه اسورة من أوائل ما نزل فقال: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} والمراد رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم، فنهاه الله أن يطيعهم، هذا من الله تهييج للتشديد في مخالفتهم. وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] ، الآية. فاعلم أن المفسرين اختلفوا فيمن المخاطب بهذا: فقال قوم المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: المخاطب به غيره. فأما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه. الأول: أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والمراد به غيره، كقوله تعالى:   التشديد مع قومه" المكذبين بالدين، "وقوي قلبه بذلك مع قلة العدد" الذين معه من المسلمين "وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، فقال: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} الآية، فنهاه وإن كان لم يقع منه طاعة لهم، تقوية لقلبه ليذهب عنه خوفهم المضعف للقلب، فيظهر دين الله بلا خوف. "والمراد: رؤساء الكفار من أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دينهم" على أن يميلوا إلى دينه، فلم يفعل "فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله تهييج للتشديد في مخالفتهم" لأن النهي عما لم يقع يقوي تصويبه والمداومة على عدمه. وأما قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} من القصص فرضًا، {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ} التوراة {مِنْ قَبْلِكَ} فإنه ثبات عندهم، يخبرك بصدقه، "الآية" إشارة إلى أن الشبهة في تمامها أيضًا وهو: {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 94، 95] ، "فاعلم أن المفسيرن اختلفوا فيمن المخاطب بهذا، فقال قوم: المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم" ولا ضير فيه، لأنه شرط لم يقع نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، أو على سبيل الفرض، وهذا أحسن. وقال آخرون: المخاطب به غيره، فأما من قال بالأول، فاختلفوا على وجوه: الأول أن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد به غيره". قال بكر بن العلاء: ألا تراه يقول: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} ، وهو كان المكذب بلفظ اسم المفعول كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فطلقوهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ، وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وكقوله لعيسى ابن مريم: {قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ومثل هذا معتاد، فإن السلطان إذا كان له أمير، وكان تحت راية ذلك الأمير جمع، فأراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير ليكون ذلك أقوى تأثيرًا في   لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، الآية، فإن المخاطب بذلك هو، والمراد غيره، لأنه إذا طلق إنما يطلقهن لعدتهن. وقول البيضاوي: خص النداء وعم الخطاب بالحكم، لأنه إمام أمته، فنداؤه كندائهم، أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة علم وكيف، وفيه {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} فيكون في حقه من تحصيل الحاصل. ورد شيخنا كلام المصنف لظاهر البيضاوي بأن المراد غيره بخصوصه، فيصدق بما إذا كان المراد هو وغيره، لأنه مع غيره، وغيره بخصوصه لا يليق لما علم، وكقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، أي: يفسد ويسقط عن الاعتبار، ويبطل من حبطت الدابة إذا أفرطت في المرعى حتى ماتت وانتفخت، وجعل هذه الآية مشبهًا بها، لأنها أظهر في التعليق بالمحال، لأن الخطاب فيها للرسل كلهم، إذ أولها {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} ، وأفرد، لأن المراد كل واحد منهم وهم مبرؤن عن الشرك فالمراد أممهم ممن يجوز عليه الشرك تعريضًا وتهييجًا لحميتهم حتى ينتهوا عنه، وكقول لعيسى ابن مريم: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، صفة لإلهين أو صلة اتخذوني، ومعنى دون المغايرة تنبيهًا على أن عبادة الله مع عبادة غيره كلا عبادة، فمنعبده مع عبادتهما، كأنما عبدهما ولم يعبده، أو القصور، فإنهم لم يعتقدوا استحقاقهما للاستقلال بالعبادة، وغنما زعموا أنها توصل إلى عبادة الله، وكأنه قيل: اتخذوني وأمي إلهين متوصلين بنا إلى عبادة الله، قاله البيضاوي، ففي التنظير بهذه الآية شيء، فإنه لم يخاطب عيسى مريدًا غيره، بل توبيخ الكفرة لا خطابهم خصوصًا، وذلك يوم القيامة، "ومثل هذا معتاد" واقع كثيرًا في القرآن، وكلام العرب، وهو باب واسع يسمونه التعريض والتلويح. وله نكات ومقاصد جليلة، كحمله على الإذعان والقبول وإطفاء نار الغضب والحمية، "فإن السلطان إذا كان له أمير، وكانت تحت راية ذلك الأمير جمع، فأراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص" بها دون الأمير، "فإنه لا يوجه خطابه إليهم، بل يوجهه إلى ذلك الأمير، ليكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 قلوبهم. الثاني: قال القراء: علم الله تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاك، ولكن هذا كما يقول الرجل لولد: إن كنت ابني فبرني، ولعبده: إن كنت عبدي فأطعني. الثالث: أن يقال لضيق الصدر شاك، يقول: إن ضقت ذرعًا بما تعاني من تعنتهم وأداهم فاصبر واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم، وكيف كان عاقبة أمرهم من النصر، فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما فيه، أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته، أو يكون على سبيل الفرض والتقدير، لا إمكان   ذلك أقوى تأثيرًا في قلوبهم" فيبادروا بفعل الأمر، "الثاني: قال القراء" لقب ليحيى بن زياد الكوفي، نزيل بغداد، النحوي المشهور، المتوفى سنة سبع ومائتين، لأنه كان يفري الكلام فريًا، "علم الله تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاكٍ". قال عياض: احذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك له فيما أوحي إليه، وأنه من البشر، فمثل هذا لا يجوز حمله عليه، بل قد قال ابن عباس وغيره: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل، ونحوه. عن ابن جبير والحسن، وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أشك ولا أسأل، وعامة المفسرين على هذا، "ولكن هذا كما يقول الرجل لولده، إن كنت ابني فبرني، ولعبده: إن كنت عبدي فأطعني" في التنظير بهذا نظر، فإنما يقول الرجل ذلك لولده وعبده إذا استشعر منهما نوع تقصير في حقه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا تقصير عنده في حق الله تعالى، تى يخاطبه بما يوهم لو ما حاشاه من ذلك. وقد يجاب بأن التنظير به من حيث أنه يخاطب به مع عمله أنه لا شك عنده من غير ملاحظة لوم على تقصير، وإن كان هو عليه السلام ينسب التقصير لنفسه، بنحو قوله: لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك. "الثالث: أن يقال لضيق صدرك شاك" فالمعنى أنه "يقول إن ضقت ذرعًا" صدرًا "بما تعاني" تقاسي "من تعنتهم وأداهم، فاصبر واسأل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء على أذى قومهم" وقد قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ، "وكيفل كان عاقبة أمرهم من النصر" على الكافرين، "فالمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة، وأن القرآن مصدق لما" أي: المعاني التي اشتمل عليها ما جاء في الكتب، فضمير "فيه" راجع "لما"، وصح ذلك رعاية للفظ ما، وإن كان مدلولها متعددًا "أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام" إثارته، "وزيادة تثبيته". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 ووقع الشك له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: "والله لا أشك ولا أسال". وأما الوجه الثاني - وهو أن المخاطب غيره صلى الله عليه وسلم فتقريره: أن الناس كانوا في زمانه فرقًا ثلاثة: المصدقون به، والمكذبون له، والمتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: فإن كنت في شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فاسأل الله أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وهذا مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ، و {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] ، و {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] فإن المراد "بالإنسان" هنا الجنس، لا إنسان   قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن من خالطته شبهة في الدين، ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، "أو يكون على سبيل الفرض والتقدير" أي: إن فرض وقدر وقوع ذلك منك "لا إمكن وقوع الشك له" لأن هذه الشرطية غير ممكنة، "ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: "والله لا أشك ولا أسأل" رواه ابن جرير عن قتادة مرسلًا، لكن بدون قسم. وقيل: المراد قل للشاك إن كنت في شك من ديني، وفي السورة نفسها ما يدل على هذا التأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] . وقيل: هو تقرير، كقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ، وقد علم سبحانه أنه لم يقل ذلك. وقيل: معناه ما كنت في شك فاسأل تزدد طمأنينه وعلمًا إلى علمك، ويقينًا إلى يقينك. وقيل: معناه إن كنت تشك فيما شرفناك وأعطيناك وفصلناك به فسلهم عن صفتك في الكتب، ونشر فضائلك، وقيل: المراد إن كنت في شك من اعتقاد غيرك فيما أنزلناه، حكاه في الشفاء. "وأما الوجه الثاني: وهو أن المخاطب غيره صلى الله عليه وسلم فتقريره أن الناس كانوا في زمانه فرقًا ثلاثة" فريق منهم "المصدقون به" وفريق منهم "المكذبون له" وفريق منهم "المتوقفون في أمره، الشاكون فيه" صفة كاشفة لمعنى المتوقفون، "فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب، فقال: فإن كنت في شك أيها الإنسان مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأسال أهل الكتاب ليدلوك على صحه نبوته، فليس هو مخاطبًا أصلًا، "وهذا مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] ، حتى عصيته {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الانشقاق: 6] جاهد في عملك إلى لقاء ربك، وهو الموت، ومثل قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 8] الآية، دعانا، وفي نسخة: وإذا مس الإنسان ضر، بالواو، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 بعينه، فكذا هنا، ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] . وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] . أي في أنهم لا يعلمون ذلك، أويكون المراد: قل لمن امترى يا محمد، لا تكونن من الممترين فليس الخطاب له وأنه صلى الله عليه وسلم يخاطب به غيره، وقيل غير ذلك.   وهي آية قبل هذه في سورة الزمر، جواب شرطها: دعا ربه منيبًا إليه، "فإن المراد بالإنسان هنا" في الآيات الثلاث "الجنس لا إنسان بعينه، فكذا هنا" في {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} خطاب لكل من يصح أن يحبط عمله وأن يشرك لا لمخاطب بعينه، "ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم، حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذبون، فقال: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [يونس: 95] الآية. وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} ملتبسًا {بِالْحَقِّ} ونسب العلم لجميعهم لعلهم أحبارهم به، وتمكن باقيهم من ذلك بأدنى تأمل {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] ، الشاكين فيه، أي: من هذا النوع، فهو أبلغ من لا تمتر، وحذف جواب أما - للعلم به من السوابق واللواحق: وهو، فليس المراد أنه صلى الله عليه وسلم شك فليما ذكر أول الآية، وهي {فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} بل المعنى، "أي: في أنهم لا يعلمون ذلك" وصوابه إسقاط لا، فالمعنى لا يستقيم على وجودها. ولفظ الشفاء: أي: في علمهم بأنك رسول الله، وإن لم يقروا بذلك، وليس المراد به شكه صلى الله عليه وسلم فيما ذكر في أول الآية، وفي الأنوار: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل بجحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج، كقوله: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} "أو يكون المراد: قل لمن امترى يا محمد؟ " متعلق بقل قدم عليه متعلقة "لا تكونن من الممترين" في أن القرآن نزل عليك من الله، وأيدك بمعجزاته، "فليس الخطاب له، وإنما المراد "أنه صلى الله عليه وسلم يخاطب به غير" من الكفار. قال عياض: ويدل على قوله أول الآية {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] الآية، "وقيل غير ذلك"، فقيل: الخطاب له والمراد غيره، ولاقصد تقرير الكفار بأنه حق، وقيل: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 وأما قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] . فقال القاضي عياض: لا يلتفت إلى قول من قال: لا تكونن ممن يجهل أن الله تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى، وذلك لا يجوز على الأنبياء، والمقصود وعظمهم أن لا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين، وليس في الآية دليل على كونه على تلك الصفة التي نهاه الله على الكون عليها، فأمره الله تعالى بالتزام الصبر على إعراض قومه، ولا تحرج عند ذلك فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر. حكاه أبو بكر بن فورك. وقيل: معنى الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم لا له، أي فلا تكونا من الجاهلين، حكاه أبو   الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحتهن فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه. وأما قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ} أي: جعل الناس كلهم مجتمعين، متفقين "على الهدى" بهدايتهم للعقائد الحقة واتباع الشريعة اللازمة، فلا يضل أحد منهم عن الطريق المستقيم "فلا تكونن من الجاهلين" [الأنعام: 35] ، فنهيه عن ذلك يوهم أنه لم يحط به وهو منزه عنه، "فقال القاضي عياض: لا يلتفت" بالبناء للمجهول، أي: لا يتوجه التفات نظر "إلى قول من قال" من المفسرين: "لا تكونن ممن يجهل أن الله تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى"، بإسناد الجهل بمشيئة الله إليه، إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله تعالى"، وهي قدرته وعلمه، "وذلك لا يجوز على الأنبياء" لعلمهم الله وصفاته "والمقصود" أي: المعنى المراد "وعظمهم" أي: الأمة، أي: إرشادهم وتنبيهم على "أن لا يشتبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين" أي: لا يتصفوا بصفاتهم من عدم الصبر والحرص على سرعة المراد، كما هو شأن الجهلة، "وليس في الآية دليل على كونه على تلك الصفة التي نهاه الله على الكون عليها" وعليه، فالخطاب له والمراد غيره، "فأمره الله تعالى بالتزام الصبر على إعراض قومه" بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] ، المختومة بالنهي، فالمراد بالأمر ما يلزم النهي، وقد أمر بالصبر صريحًا في آيات، كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] الآية، "ولا تحرج" من الحرج، وهو ضيق الصدر "عند ذلك" أي: عند إعراضهم، عنه هكذا ذبطه شراح الشفاء ويقع محرفًا في نسخ المصنف ولا يرج عن ذلك من الخروج فمشى عليه الشارح، فقال: اي: والتزام عدم خروجه عن ذلك، "فيقارب" حاله "حال الجاهل بشدة التحسر" التأسف والندم بسبب إعراضهم "حكاه أبو بكر بن فورك" "بضم الفاء"، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 محمد مكي، قال: ومثله في القرآن كثير، وكذلك قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 116] يضلوك عن سبيل الله فالمراد غيره، كما قال تعالى: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 149] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وما أشبه ذلك فالمراد غيره، وأن هذه حال من أشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا، هذا والله ينهاه عما شاء ويأمره بما يشاء، كما قال تعالى له: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] وما طردهم عليه السلام وما كان من   العلامة الشهير. تقم غير مرة. "وقيل: معنى الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم لا له" فهو تعريض، "أي: فلا تكونوا من الجاهلين" أي: ممن اتصف بصفاتهم، "حكاه أبو محمد" وفي نسخة أبو بكر، وهي خطأ، فكنيته أبو محمد "مكي" "بالميم" ابن أبي طالب، تقدم أيضًا. قال مكي: "ومثله في القرآن كثيرًا" يخاطب المصطفى، والمراد أمته، "وكذلك قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} وهم الكفار بمافقة ما هم عليه {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مع أنه علم أنه لا يطيعهم، "فالمراد غيره" وإن كان الخطاب له، فهو تعريض، "كما قال تعالى: خطابًا لغيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] فهو يؤيد أن المراد بالخطاب في تلك الآية غيره، لأن القرآن يفسر بعضه، وقوله تعالى: {إِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ} بربط {عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] ،وقد علم أنه لا يشاء ذلك، فالمراد غيره. والتنظير بهذه بناءً على أن المراد الربط المذموم، أما على أن المعنى يربط بالصبر على أذاهم، وبالصبر على قولهم: إفتراه وغيره، وقد فعل، فليست مما الكلام فيه {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقد علم سبحانه انه لا يشرك، فالمراد غيره، "وما أشبه ذلك"، كقوله: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} [يونس: 106] ، فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين، وقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء: 75] وقوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} "فالمراد غيره" تعريضًا وإيقاظًا، "وأن هذه حال من أشرك" بالله لا حاله "والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا" فلابد من تأويله "هذا، والله" سبحانه "ينهاه عما شاء" وإن لم يمكن وقوعه منه، "ويأمره بما شاء" وإن استحال عليه تركه نحو اتق الله أن يعامل نبيه بما يمتنع أن يعامل به غيره "كما قال تعالى له: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ، أي: يعبدونه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 الظالمين. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] . فليس بمعنى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: 7] ، وإنما المعنى: لمن الغافلين عن قصة يوسف عليه السلام، إذ لم تخطر ببالك، ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا. وأما قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] الآية. فمعناه: يستخفنك بغضب يحملك على ترك الإعراض عنهم.   [الأنعام: 52] ، وما كان "طردهم عليه السلام" عن مجلسه، "وما كان من الظالمين" أي: ممن ظلمهم بطردهم، لأنه لم يقع منه ذلك. روى ابن حبان والحاكم عن سعد بن أبي وقاص، قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة، وأنا وعبد الله بن مسعود وأربعة، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اطردهم، فإن نستحي أن نكون تبعًا لك كهؤلاء، فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {وَلَا تَطْرُدِ} الآية إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] . وفي حديث ابن مسعود عند أحمد، وغيره أن الاربعة خباب وصهيب وبلال وعمار، وإنما هم بذلك رجاء إسلام قومه، مع أن ذلك لا يضر أصحابه لعلمه بأحوالهم ورضاهم بما يرضاه. وأما قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] ، "فليس بمعنى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا} أي: دلائل وحدانيتنا {غَافِلُونَ} [يونس: 7] ، تاركون النظر فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم عن هذه الغفلة، "وغنما المعنى لمن الغافلين عن قصة يوسف عليه السلام، إذ لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط، فلم تعلمها إلا بوحينا" والغفلة عن مثل ذلك مما لا يعلم إلا بالنقل لا نقص فيه، وفي التعبير بالغفلة إشارة إلى شدة استعداده للعلم بما لم يعلم، حتى كأنه كان عالمًا به ونسيه. روى ابن جرير، عن ابن عباس، قال: قالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنز الله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} . وروى ابن مردويه، عن ابن مسعود، مثله: وأما قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} من الشيطان الرجيم [الأعراف: 200] ، مع عصمته من تسليطه عليه بأذية، أو وسوسة، وإن كانت أن الشرطية لا تقتضي الوقوع، "فمعناه يستخفنك بغضب، يحملك على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 والنزغ: أدنى حركة تكون، كما قاله الزجاج. فأمره الله أنه متى يحرك عليه غضب على عداوة، أو رام الشيطان من إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لم يجعل له سبيل إليه أن يستعيد به تعالى منه، فيكفي أمره، ويكون سبب تمام عصمته، إذ لم يسلط عليه بأكثر من التعرض له، ولم يجعل له قدرة عليه. وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك ويلبس عليه، لا في أول الرسالة ولا بعدها بل لا يشك النبي أن ما يأتيه من الله   ترك الإعراض عنهم"، فهي راجعة لقوله قبلها {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أي: لا تكافئ السفهاء الذين أغضبوك بمثل أفعالهم وأعرض عنهم فهذه الآية كما قيل جامعة لمكارم الأخلاق. ولذا قال له جبريل لما سأله عنها: إن الله تعالى أمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، لا من شي تسببه، فالغضب على الجاهل، وجزاؤه بمثل فعله تأديبًا له، لا بعد من نزغ الشيطان والاستعاذة مشروعة عند الغضب، فليست الآية منسوخة بآية القتال، كما قيل: "والنزغ أدنى": أقل "حركة تكون"، توجد "كما قاله الزجاج". وفي الأنوار: النزغ والنسغ والنخس الغرز، شبه وسوسته الناس إغراء لهم على المعاصي وإزعاجًا بغرز السائق ما يسوقه، وقيل: النزغ في الآية الإفساد، فأصل معناه الطعن، ثم شاع استعماله في كل مفسد، كقوله: من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي، أي: أفسد ما بيني وبينهم، وقيلك معناه يغرينك ويحركنك، والنزغ أدنى الوسوسة، "فأمره الله أنه متى يحرك عليه غضب على عدوه" لسوء ما وقع منه "أو رام الشيطان من إغرائه" "بغين معجمة" وراء، أي: إيقاعه "به" كحثه على قتله وقراءته"، بغين وزاي" معجمتين تصحيف، "وخواطر أدنى" أقل "وساوسه": جمع وسواس، "ما لم يجعل له سبيل إليه"، لعصمته مفعول رام "أن يستعيذ به تعالى منه" فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجين، ولا يطيعه ويفعل بنزغه، "فيكفي أمره" بصرفه عنه "ويكون" ذلك "سبب تمام عصمته" لأنها من مجرد الخاطر نهاية الحفظ والمنع، إذ الخطور بالبال لا يصرفها، "إذ لم يسلط" الشيطان "عليه بأكثر من التعرض له" فضلًا عن التمكن منه وإيصال أذيته له "ولم يجعل له قدرة عليه" فيرجع خائبًا خاسرًا، "وكذلك لا يصح أن يتصور له الشيطان في صورة الملك" بأن يتمثل بمثاله، ويقول: أنا ملك، أرسلني الله إليك لحفظ الله تعالى له عنه "ويلبس" بزنة يخلط، ومعناه "عليه" أمره لا يقع ذلك "لا في أول الرسالة" أيك أول دعوة الخلق إلى الله "ولا بعدها" الظاهر بعده، أي: بعد الأول. وأسقط من عياض قوله: والاعتماد في ذلك دليل المعجزة أي: اعتماده في أن ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 هو الملك ورسوله حقيقة إما بعلم ضروري يخلقه الله له أو ببرهان يظهر لديه كما قدمته في المقصد الأول عند البعثة، لتتم كلمة ربك صدقًا وعدلًا لا مبدل لكلماته. وأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] الآية. فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين: أن التمني المراد به هنا: التلاوة وإلقاء الشيطان فيها إشغاله بخواطر وأذكار من أمور الدنيا للتالي حتى   وحي، دليل على أنه معجزة له، أو هو يعتمد على ما ظهر له من المعجزة، كتسليم الحجر والشجر "بلا لا يشك النبي" أي: نبي كان نبينا وسائر الأنبياء "إن ما يأتيه من الله هو الملك ورسوله" إليه "حقيقة" بلا شك "إما بعلم ضروري يخلقه الله له" بديهي لا يحتاج لدليل لعدم تردده فيه "أو ببرهان" دليل قطعي "يظهر لديه" مما يشاهده من الآيات، كنطق الحجر وتسليم الشجر "كما قدمته في المقصد الأول عند" ذكر "البعثة" وكل ذلك "لتتم كلمة ربك" بتبليغ أحكامه ومواعيده "صدقًا" في خبره له ومواعيده "وعدلًا": ما حكم به من الأحكام التي بلغها، وهما تمييزان محولان عن الفاعل، أو حالان: "لا مبدل لكلماته" أي: لا يمكن تغييرها، ولا تنسخ بعدما بلغت غاية لا تبل الزيادة عليها. ولذا كانت شريعته صلى الله عليه وسلم آخر الشرائع، وهذا تعليل لحفظه من تصور الشيطان بصورة ملك، فيكون ما يلقيه تخليطًا قابلًا، ولذا عقبه بقوله: وأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} عطف عام على خاص، فيفيد أن المراد بالإرسال الإيحاء، وفائدة ذكره النبي غير الرسول، لا سيما من لا أتباع له أن كل نبي يجب عليه إعلام غيره بأنه نبي، لئلا يحتقر وحينئذٍ فيتطرق لسماع تلاوته ووعظه فيلقي الشيطان ذلك للتلبيس {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فظاهره أن الشيطان يخلط عليهم الوحي عند التلاوة، فيخالف ما قبله. وأجيب عن ذلك بأجوبة "فأحسن ما قيل فيها ما عليه جمهور المفسرين" أي: اكثرهم "أن التمني المراد به هنا التلاوة" كقول حسان: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] ، أي: تلاوة وليس تمنى هنا تفعل من منى قدر، كقوله: لا تأمنن وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 يدخل عليه الوهم والنسيان فيما تلاه، أو يدخل غير ذلك على أفهام السامعين من التحريف وسوء التأويل ما يزيله الله وينسخه ويكشف لبسه ويحكم آياته، قاله القاضي عياض، وقد تقدم في المقصد الأول مزيد ذلك. قال في الشفاء: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حين نام عن الصلاة يوم الوادي: "إن هذا وادٍ به شيطان" فليس فيه ذكر تسلطه عليه ولا وسوسته له، بل   أي: ما قدره لك المقدر، والتمني أمر يقدره المرء في نفسه، والظاهر تفسير التلاوة هنا بالقراءة لتشمل المواعظ والحكم، والأذكار والدعاء، فإن الشيطان كما يتسلط على قارئ القرآن يتسلط على الذاكر ونحوه وإن كانت القصة إنما كانت عند قراءته لسورة النجم التي هي سبب نزول {وَمَا أَرْسَلْنَا} الآية. كذا قال الشارح: ولا دخل في ذلك للاستظهار مع كون النص التمني، والأمنية المفسر بالتلاوة، فلا يقاس عليه غيره، وتعليله بتسلط الشطيان على الذاكر ونحوه من حيث هو لا ينهض هنا، كما لا يخفى، "و" أن "إلقاء" فنصبه عطفًا على التمني، وخفضه على ضمير به، أي: والمراد بإلقاء "الشيطان فيها" أي: أمنيته، أي: متلوه، "إشغاله" الذي في الشفاء شغله، بزنة ضرب وهي الفصحى. قال تعالى: {شَغَلَتْنَا} [الفتح: 11] ، لكن في القاموس شغله، كمنعه شغلًا، ويضم وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو ردية، والمصدر مضاف للفاعل، أي: إشغال الشيطان التالي "بخواطر" أمور دنيوية تخطر على قلبه، فتشغله عما تلاه، "وأذكار" "بذال معجمة، جمع ذكر، بالكسر والضم"، أحاديث قلبية، فيساوي نسخة، وافكار "بالفاء" "من أمور الدنيا" بيان لهما ِ"للتالي" صفة الخواطر، وأذكار، أي: كائنة وعارضة، أو متعلق بأشغال "حتى يدخل" الشيطان "عليه الوهم"، بفهم غير المراد من المتلو "والنسيان" الواو بمعنى، أو "فيما تلاه" بناءً على جواز ذلك على الأنبياء، أما على الأصح من منعه، فيقال: حتى يدخل على إفهام السامعين، "أو يدخل" غير ذلك" الوهم والنسيان "على أفهام السامعين" وبين الغير، بقوله: "من التحريف" لما تلاه عليهم، "وسوء التأويل" الناشئ عن تحريف ما سمعوه، "ما يزيله الله" مفعول إلقاء، "وينسخه" يحوله من الباطل إلى الحق، "ويكشف لبسه": يزيله ويبينه، "ويحكم آياته": يحققها ويظهرها، "قاله القاضي عياض" في الشفاء. وقد تقدم في المقصد الأول مزيد لذلك" بفرائد نفيسة، "قال في الشفاء" بعد هذا بقليل "وأما قوله عليه الصلاة والسلام حين نام عن الصلاة يوم الوادي"، لما عاد من خيبر أو من الحديبية أو بطريق تبوك روايات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 إن كان بمقتضى ظاهرة فقد بين عليه السلام بأمر ذلك الشيطان بقوله: إن الشيطان أتى بلالًا، فلم يزل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام، فاعلم أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة الفجر، هذا إن جعلنا قوله "إن   وقد اختلف: هل كان النوم مرة أو مرتين، ورجحه عياض وتبعه النووي، ومر هذا مبسوطًا في خيبر وغيرها، "إن هذا واد به شيطان" لفظ الموطأ، ولمسلم: أن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان "فليس فيه" صريحًا "ذكر تسلط عليه" إذ لا يقدر على قرب سرادق حمايته وعصمته "ولا وسوسته له" لعصمته ونزاهته عن مثله، "بل إن كان" ذكر في الحديث مايوهم تسلطه عليه "بمقتضى ظاهره" قبل التأمل فيه، فهو انتقال عن لفظ "صريحًا" المقدر، فكأنه قيل: سلمنا أنه ليس صريحًان فهو ظاهر في ذلك، والشبهة يكتفي إيرادها بمقتضى الظاهر، فدفع ذلك بأنه لا يصح الحمل هنا على مقتضى الظاهر، لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن ذلك الظاهر ليس بمراد، كما أفاده بقوله: "فقد بين" كشف "عليه السلام أمر ذلك الشيطان" بقوله: فيما رواه ملك عن زيد بن أسلم مرسلًا؛ "إن الشيطان أتى بلالًا" وهو قائم يصلي نفلًا بالسحر، فأضجعه. وفي حديث أبي قتادة في الصحيحين: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: يا رسول الله لو عرست بنا، فقال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فقال بلال: أنا أوقظكم، ونام رسول الله وأصحابه. وفي مسلم: فصلى بلال ما قدر له، ثم استند إلى راحلته وهو مقابل الفجر، فغلبته عيناه. وفي حديث زيد بن أسلم، ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بالل ورقدوا "فلم يزل يهديه" بضم التحتية، وسكون الهاء، وكسر الدال مخففة وياء ساكنة. قال ابن عبد البر: أهل الحديث يرون هذه اللفظة بلا همز، واصلها عند أهل اللغة الهمز، وقال في المطالع: هو بالهمز، أي: يسكنه وينومه من هدأت الصبي غذا وضعت يدك عليه لينام، ورواه المهلب بلا همز على التسهيل، ويقال أيضًا: يهدنه بنون، وروى يهدهده من هدهدت الأم ولدها لينام، أي: حركته "كما يهدي الصبي" الصغير في مهده "حتى نام" بالل، وفي هذا تأنيس لبلال واعتذار عنه، وأنه ليس باختياره، "فأعلم" النبي صلى الله عليه وسلم الناس بهذا القول؛ "أن تسلط الشيطان في ذلك الوادي إنما كان على بلال الموكل بكلاءة" "بكسر الكاف وفتح اللام والمد والهمز" أي: بحراسة "الفجر"، وقد تبدل همزته، كما في النهاية وغيرها، وفي لغة "بفتح الكاف واللا" والقصر، وضمن معنى المراقبة، أي: مراقبة طلوع الفجر ليوقظهم. وقيل المراد كلاءة صلاة الفجر بتقدير مضافولهوجه وجيه، "هذا" المذكور أن ظاهره تسلط الشيطان، وصرفه إلى بلال "إن جعلنا قوله: إن ذها وادٍ به شيطان تنبيهًا" مفعول له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 هذا وادٍ به شيطان"، تنبيهًا على سبب النوم عن الصلاة، وأما إن جعلناه تنبيهًا على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به، وهو دليل مساق حديث زيد بن أسلم فلا اعتراض به في هذا الباب، لبيانه وارتفاع إشكاله. قال عياض: وأما قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1-2] ، الآيات، فليس فيها إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام. بل إعام الله تعالى له بأن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى، وأن الصواب والأولى كان لو كشف له   "على سبب النوم عن الصلاة"، وهو تنويم الموكل بحراسة الوقت. "وأما أن جعلناه تنبيهًا على سبب الرحيل عن الوادي وعلة لترك الصلاة به" مع أن الأصل في قضاء الفائته بعذر المبادرة بفعلها، وقد أمرهم بالارتحال، "وهو دليل" أي: مدلول، أي: ما يستفاد من "مساق" "بفتح الميم"، مصدر بمعنى سياق، كما في النسيم، أو بمعنى سوق، كما في الأنوار. "حديث زيد بن أسلم" في الموطأ، قال: عرس صلى الله عليه وسلم ليلة بطريق مكة، ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة، فرقد بلال، ورقدوا حتى استيقظوا، وقد طلعت عليهم الشمس، فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي، وقال: إن هذا وادٍ به شيطان، فركبوا حتى خرجوا من ذلك الواد، ثم أمرهم أن ينزلوا ويتوضئوا، أمر بلالًا أن يؤذن بالصلاة ألأو فيقيم، فصلى بالناس الحديث. وعلى ما يفيده سيقاه هذا "فلا اعتراض به في هذا الباب" المعقود في أن الشيطان لا تسطل له على الأنبياء "لبيانه" أي: حديث زيد ووضوح دلالته على ما ذكر "وارتفاع إشكاله" أي: زواله أصلًا، حتى استغنى عن الجواب لعدم احتماله ما يخالفه، "قال عياض" بعد هذا بكثير وأما قوله تعالى: {عَبَسَ} كلح وجهه، {وَتَوَلَّى} أعرض عنه {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} الآيات التي أخرها {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} التي استدل بها مجوزوا الصغائر على الأنبياء لما شعر به ظاهرها من وقوع شيء عوتب عليه، "فليس فيها إثبات ذنب له عليه الصلاة والسلام", ولا تجويزه عليه "بل إعلام الله تعالى له" صلى الله عليه وسلم "بأن ذلك المتصدي" اسم مفعول نائبه "له"، أي: أقبل عليه وتوجه له، واصله مقابلة الشيء كما يقابله الصدى، وهو الصوت الراجح إليه من جبل ونحوه، كما قاله الراغب، وفي التعبير به نكتة، وهي أن كلام هؤلاء لا عبرة به، كما قال المتنبئ: أنا الطائر المحكي وغيري هو الصدى "ممن لا يتزكى" أي: لا يسلم، فيطهر من دنس الشرك، أي: باعتبار ما في نفس الأمر أو قرائن الأحوال الدالة على فرط عناده وبعده عن الحق، ويدل للأول قوله: أعلام الله، وقوله: "وأن الصواب والأولى كان لو كشف له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 حال الرجلين لاختار الاقبال على الأعمى وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل وتصديه لذلك الكافر كان طاة لله، وتبليغًا عنه، واستئلافًا له، كما شرعه الله له، لا معصية ولا مخالفة له، وما قصد الله تعالى عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين، وتوهين أمر الكافر عنده، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:   حال الرجلين" ابن أم مكتوم، ومن كان عنده من المشركين، واقتصر على الأقل، وإلا فالكفرة كانوا جماعة، أو المتكلم معه منهم واحد، وحالهما عدم تزكي الكافر وانتفاع الاعمى، "لاختار الإقبال على الأعمى" دون غيره. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أبن أم مكتوم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، وكرر ذلك، ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه، فنزلت، وأخرج الترمذي والحاكم، عن عائشة قالت: أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الآية، في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجل من عظماء المشركين، فجعل يعرض عنه ويقبل على الآخر، فيقول: أترى بما أقول: بأسًا، فيقول: لا، فنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} . وروى أبو يعلى مثله عن أنس، وفي ابن عطية، قيل: الجرل الوليد بن المغيرة، وقيل: عتبة وقيل: شيبة، وقيل: العباس، وقيل: أمية، وقيل: أبي بن خلف، وقال ابن عباس: كان في جمع منهم عتبة والعباس، وأبو جهل. انتهى. وعلى أن العباس فيهم لا ينافي أنه تزكى، لأن المعنى لا يتزكى في وقت الإعراض عن الأعمى، وإنما تزكى العباس بعد بكثير "وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما "بكسر اللام التخفيف، أو فتحها والتشديد"، "فعل" من العبوس والإعراض، "وتصديه لذلك الكافر كان طاعة لله وتبليغًا عنه" فهو فعل حسن وأمر لازم له، "واستئلافًا" استمالة "له" للكافر رجاء إسلامه" كما شرعه الله له" وفرصه بالتبليغ ولين الجانب لمن يدعوه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} "لا معطية ولا مخالفة له"، أي: لما شرعه، وذكر هذا بعد قوله أولًا، فليس فيه إثبات ذنب تنبيهًا على أنه ليس مباحًا فقط، بل طاعة واجبة، "وما قصة الله تعالى عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين وتوهين" بالرفع عطف على أعلام أي: تضعيف "أمر الكافر عنه" وأنه لا قدر له يعتد به، "والإشارة إلى الأعاض عنه، بقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7] ، وفي إلقاء الكلام له بدون الخطاب إكرام له صلى الله عليه وسلم عن أن يواجه بالعتب، لا مبالغة في العتب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 7] ، أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم، إن عليك إلا البلاغ. وقد كان ابن مكتوم يستحق التأديب والزجر، لأنه -وإن فقد بصره- كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان يعرف بواسطة استماع تلك الكلمات شدة اهتمامه عليه السلام بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه عليه السلام بعد سماعه إيذاء له عليه السلام وذلك معصية عظيمة. فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية وأن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين، وقد كان عليه الصلاة والسلام مأذونًا له في تأديب أصحابه، لكن ابن أم مكتوم بسبب عماه   لأن فيه بعض أعراض، كما زعم ابن عطية "أي: ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام، أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم" لأنه كان شديد الحرص على إسلام قريش وأسماعهم، لما جبله الله عليه من الرأفة والرحمة، "أن تعرض عمن أسلم بالاشتغال بدعوتهم" إلى الإسلام "أن" ما "عليك إلا البلاغ" وقد فعلت، وأما قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} فضميره لابن أم مكتوم. وقيل للكافر، أي: إذا طمعت في أن يزكى بالإسلام أو يذكر فتنفعه، أي: تفر به الذكرىإلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن، ورجح الأول بأن ما في القرآن من يدريك، فهو مما أعلمه الله به وما فيه من إدراك مما لم يعلمه به وأيضًا فالكافر لم يسبق له ذكر صريح. زاد عياض: وقيل: المراد {عَبَسَ وَتَوَلَّى} الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم قاله أبو تمام، انتهى. وتعقب بأنه قول في غاية الضعف، بعيد من السياق، مخالف لقول المفسرين، أنه النبي صلى الله عليه سلم وزاد المصنف على الشفاء قوله: "وقد كان ابن أم مكتوم يستحق التأديب والزجر" بحسب ظاهر الحال، إذ في قطع كلامه إيذاء له، "لأنه وإن فقد بصره كان يسمع مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم شدة اهتمامه عليه السلام بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه عليه السلام بعد سماعه إيذاءً له عليه السلام، وذلك معصية عظيمة" واعتذر عنه بأنه شدة حرصه على طلب ما ينفعه من النبي صلى الله عليه وسلم واشتغاله به صرفه عن معرفة أنه كان مشغولًا بتأليف الكفار، "فثبت أن فعل ابن أم مكتوم كان ذنبًا ومعصية، وأن الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الواجب المتعين" إذ هو مأمور بالإبلاغ والدعوة برفق، "وقد كان عليه الصلاة والسلام مأذونًا له في تأديب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 استحق مزيد الرفق به. وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية. فروى ابن أبي حاتم عن مسعر عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة، وكذا قال مورق العجلي وغيره. وقال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم أنزل الذي في سورة النور، فرخص له في أن يأذن لهم إنشاء فقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] ، ففوض الأمر إلى رأيه عليه الصلاة والسلام.   أصحابه، لكن ابن أم مكتوم بسبب عماه استحق مزيد الرفق به" فذكره الله في كتابه بلفظ الأعمى، وأنه جاءه يسعى، أي: يمشي مع عجزه إلى إشارة لذلك، وللصفح عنه، وذكر من فضله أنه يخشى: أي: الله تعالى، وأنه يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى. وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رآه بعد ذلك، قال: مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي، وبسط له رداءه، واستخلفه على المدينة مرارًا، قال أنس: رأيته يوم القادسية ومعه راية سوداء، وعليه درع، قيل: استشهد بها، وقيل: بل شهدها ورجع، فمات بالمدينة، ولم يسمع له بذكر بعد عمر، ومر بعض شيء من مناقبه في غير موضع رضي الله عنه. وأما قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، في التخلف عن الغزو الآية، فروى ابن أبي حاتم مسعر" "بكسر الميم وسكون السين، وفتح العين المهملتين"، "عن عون" "بالنون" ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، الزاهد، الفقيه، الثقة، المتوفى في حدود الستين عد المائة: "قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا، بدأ بالعفو قبل المعاتبة" الصورية لما يأتي أن الخطاب به يدل على التعظيم، ثم لا ينافيه قوله الآتي: لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، لأنهم لما رأوه في غاية الملاطفة ولم يظهر منه لوم لم يعدوه معاتب، لأن شأنها أن تكون على جهه لوم من المعاتب، ولذا قال: لم يعدوه ولم ينسب إليهم، نفي المعاتبة من أصلها. "وكذا قال مورق" "بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء الثقيلة وقاف" "العجلي" أبو المعتمر البصري، تابعي، ثقة، عابد، مات سنة اثنتين ومائة نسبة إلى عجل بن بكر بن وائل "وغيره". "وقال قتادة: عاتبه الله تعالى كما تسمعون" في براءة "ثم أنزل الذي في سورة النورن فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أمرهم، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] بالانصراف، "ففوض الأمر إلى رأيه عليه الصلاة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 وقال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسرى، فعاتبه الله كما تسعمون. وأما قول بعضهم إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب لأنه تعالى قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} والعفو يستدعي سالفة ذنب، وقول الآخر: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} استفهام بمعنى الإنكار، فاعلم أنا لا نسلم أن قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يوجب ذنبًا، ولم لا يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توقيره وتعظيمه، كما يقول الرجل لغيره، إذا كان عظيمًا عنده: عفا الله عنك، ما صنعت في أمري، ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي، فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل، وليس عفا هنا بمعنى: غفر، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: "عفا الله عنك عن صدقة الخيل والرقيق" ولم تجب عليهم قط، أي لم   والسلام" لكن إنما يتم هذا إن كان التفويض سابقا على الإذن، أما إن كان بعده، كما يشعر به تعبيره بثم، فلا يظهر ذلك. "وقال عمرو": بفتح العين "ابن ميمون" بن مهران الجزري، ثقة، فاضل، من رواة الجماعة، مات سنة سبع وأربعين ومائة، "اثنتان فعلهما النبي صلى الله عليه وسلم، لم يؤمر فيهما بشيء" أي: لم يبين له فيهما شيء، لا يطلب فعل ولا ترك "إذنه للمنافقين" في التخلف عن الغزو، "وأخذه الفداء من الاسرى" ببدر، "فعاتبه الله كما تسمعون" في القرآن. "وأما قول بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه وقع من الرسول ذنب، لأنه تعالى قال: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} والعفو يستدعي سالفة" بلام وفاء، أي: سابقة "ذنب". هذا قول من يجهل لغة العرب، كما يأتي: "وقول الآخر" ممن يجوز الصغائر عليهم، قوله تعالى: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} استفهم بمعنى الإنكار، والإنكار يقتضي ذلك "فاعلم أنا لا نسلم أن قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يوجب ذنبًا، إذ لم يتقدم فيه نهى من الله حتى يكون ذنبًا، ولا عده الله عليه معصية، ولفظ عفا لا يقتضي ذلك ولا يستلزمه، "ولم لا يقال أن ذلك يدل على مبالغة الله تعالى في توقيره وتعظيمه" تفسير "كما يقول الرجل لغيره إذا كان عظيمًا عنده عفا الله عنك ما صنعت في أمري" آتيًا بالعفو قبل الاستفهام، حتى لا يبدأ به خطابه تعظيمًا، "ورضي الله عنك، ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا" "بفتح الهمزة أداة استفتاح" "عرفت حقي فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا زيادة التعظيم والتبجيل" تحاشيًا عن جعل الاستفهام أول كلامه للمعظم، عنده "وليس عفا هنا" في الآية" "بمعنى غفر" أي: ستر، وترك المؤاخذة "بل" بمعنى لم يلزمك شيئًا في الإذن، "كما قال صلى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب، قال: ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنبًا. وأما الجواب عن الثاني فيقال: إما أن يكون صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} إنكارًا عليه، وإن قلنا إنه صدر عنه ذنب - وحاشاه الله من ذلك- فقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يدل على حصول العفو، وبعد حصول العفو يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} يدل على كون   الخيل والرقيق، ولم تجب عليهم" زكاة في خيل ورقيق "قط، أي: لم يلزمكم ذلك" فليس معناه إسقاط ما كان واجبًا ولا ترك عقوبة هنا. وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن علي، مرفوعًا بلفظ: قد عفوت لكم عن زكاة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة.. الحديث بطوله، فنازع بعضهم عياضًا، متبوع المصنف، بأنه لم يقف عليه بلفظ عفا الله لكم، وتعقب بأن عياضًا من الحفاظ، وقف عليه، ومثله لا يقرع له العصا، "ونحوه" أي: ما ذكره "للقشيري" بلفظه من قوله: وليس عفا، وبمعناه من أول قوله: فاعلم، ولفظه عند عياض؛ ومعنى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} ، لم يلزمك ذنبًا. قال الداودي: روي أنها تكرمة، وقال مكي: هو استفتاح كلا مثل أصلحك الله وأعزك، وحكى السمرقندي، أن معناه عافاك الله. قال القشيري: "وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لا يعرف كلام العرب"، فيقف على معانيه الواردة في لغتهم، كعدم اللزوم الوارد في كلام أفصح العرب، وأصل معنى العفو الترك، وعليه تدور معانيه، "ومعنى عفا الله عنك، أي: لم يلزمك ذنبًا، وأما الجواب عن الثاني، فيقال" على طريق المنزل مع الخصم "إما أن يكون صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ذنب أم لا؟ فإن قلنا: أمتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: لم أذنت لهم إنكارًا عليه" إذ من لم يذنب لا ينكر عليه فعله، "وإذن قلنا أنه صدر عنه ذنب، وحاشاه الله من ذلك" أي: نزهة، فقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} يدل على حصول العفو وبعد حصول الفعو، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، إذ بعد العفو كأنه لم يقع منه "فثبت أنه على جميع المقادير" أي: التقديرين المذكورين بناءً على أن الجمع ما زاد على الواحد، "يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 الرسول مذنبًا، وهذا جواب شاف كافٍ قاطع، وعند هذا يحمل قوله لم أذنت لهمعلى ترك الاولى والأكمل، بل لم يعد هذا أهل العلم معاتبة، وغلطوا من ذهب إلى ذلك قال نفطويه: ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان مخيرًا، فلما أذن لهم اعلمه الله أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم، وأنه لا حرج عليه في الإذن لهم.   يدل على كون الرسول مذنبًا" كما ادعى ذلك البعض. "وهذا جوا شافٍ" من هذا الداء العضال، وهو نسبة ذنب إلى أفضل الخلق، "كافٍ" في دفع شبهة الخصم، "قاطع" لها أصلًا لما فيه من التنزل معه، "وعند هذا يحمل قوله: لم أذنت لهم على ترك الأولى، والأكمل" فقط لا على الإنكار، "بل لم يعد هذا أهل العلم" أي: أحد منهم "معاتبة" بفعل خلاف الأولى، "ولغطوا من ذهب إلى ذلك" من المفسرين، "فقال نفطويه": "بنون ففاء فطاء مضمومة فواو ساكنة، فياء مفتوحة عند أصحاب الحديث، لأنهم لا يحبون، وبه وعند الأدباء "بفتح الطاء والواو وسكون الياء" وهو لقب لإبراهيم بن محمد الأزدي، النحوي، لدناءة منظرة، مات سنة ثلاث وعشرين وقيل: أربع وعشرين، وثلاثمائة، "ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معاتب بهذه الآية، وحاشاه" الله "من ذلك" أي: برأه ونزهه وأصل معناه جعله في حشي، أي: جانب "بل كان مخيرًا" في الإذن وتركه، وقد كن له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل فيه شيء، فكيف، وقد قال الله تعالى له: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} هكذا في كلام نفطويه، أي: فتعليق الأمر بالمشيئة صريح في أنه مخير "فلما أذن لهم أعلمه الله" بما لم يطلع عليه، "أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا" ولو أمروا بخلاف القعود "لنفاقهم" وهم يدعون بالاستئذان أنه لو لم يأذن ما تخلفوا، فإذا ظهر كذبهم وانكشف مغطاهم لزم شق العصا وما يترتب عليه، فكان ما فعله أولى وأصوب، "و" أعلمه "أنه لا حرج" لا وزر ولا إثم "عليه في الإذن لهم" بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} حيث لم يلزمك أن لا تأذن حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين، أي: لو صبرت لتبين لك أمرهم، فهو إشارة إلى كمال الرفق به صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يقع منه تقصير يقتضي العتاب، ولا خطأ في الاجتهاد، ولا ارتكاب خلاف الأولى، وما أحلى قول ابن المنير في تفسيره {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] ، دعامة في الكلام، يقصد بها ملاطفة المخاطب، وهو عادة العرب في التلطف بتقديم الدعاء لاستدعاء الإصغاء أو خير معناه لا عهدة عليك، فهو تخصيص وتمييز، لا أن الإذن ذنب يتعلق به العفو، لأن في تحمله ومسامحته لهم مع أذاهم حملًا للمشقة على نفسه، وإسقاطًا للجظوظ، فهو عتب عليه بلطف لا ملامة فيه، أي: قد بلغت في الامتثال والاحتمال الغاية، وزدت ما أجحف بك في محبة الله وطاعته، والرفق بالبر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 وأما قوله تعالى في أسارى بدر {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68] . فروى مسلم من إفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون وأسر سبعون، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أباب بكر وعمر وعليًا، فقال أبو بكر: يا نبي الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا. فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت   والفاجر، وأين هذا من التخطئة التي بزغ بها الزمخشري، عرق العجمة لإساءة الادب على المصطفى، وأراد بعضهمأن يصلح، فأفسد، فقال: بدأ بالعفو قبل العتب، ولو عكس انقطع نياط قلبه، وكله ذهول عن عتب الحبيب في خيفه على نفسه، وهو تخفيف لا تعنيف، ومدح لا قدح، وهذا كما قيل له إذ جهد وجد في العبادة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى} ، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} . "وأما قوله تعالى في أسارى بدر" {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ} "بالتاء والياء" {لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} حطامها بأخذ الفداء {وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} [الأنفال: 67] أي: ثوابه بالقتل إلى قوله: {عَظِيمٌ} فروى مسلم في إفراده" عن البخاري فهو من الثالثة من مراتب الصحيح "من حديث عمر بن الخطاب، قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقتل منهم سبعون، وأسر سبعون" مثله في حديث البراء عند البخاري، وابن عباس عند مسلم، ووافقهم آخرون، وبه جزم ابن هشام محتجًا له، بقوله: قد أصبتم مثليها لاتفاق علماء التفسير، على أن الخطاب لأهل أحد، وإصابتهم مثليها يوم بدر، وإن اتفق أهل السير على أن القتلى خمسون، يزيدون قليلًا أو ينقصون، وعدهم ابن إسحاق خمسين. زاد الواقدي: ثلاثة أو أربعة، وابن هشام زيادة على ستين، لأنه لا يلزم من عدم معرفة أسماء من قتل على التعيين، أن يكونوا جميع القتلى "استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر، وعليًا". وفي رواية أحمد، عن أنس، فقال: إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، "فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم، والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه منهم قوة" أي: مقويًا "لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله" للإسلام" فيكونوا لنا عضدًا": ناصرين، فحاصله أنه رأى عدم القتل استبقاء للقرابة، ولرجاء إسلامهم مع أخذ الفدية، مراعاة للجيش ليقووا على الكفار "فقال صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، فهوي ما هوى أبو بكر ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبكِ للذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة فأنز الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} .   الخطاب، قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريب لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل": أخيه، شقيقه، "فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه": يعني العباس: "فيضرب عنقه" أي: يقتله "حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة" "بفتح الهاء والواو فألففدال مهملة فهاء"، ميل ورجوع "للمشركين". زاد في راوية: هؤلاء أئمة الكفر وصناديد قريش وأئمتهم وقادتهم، فأضرب أعناقهم، ما أرى أن تكون لك أسرى، فإنما نحن رعايا مؤلفون "فهوى" "بكسر الواو"، أحب "ما هوى أبو بكر، ولم يهو ما قلت" لماجبل عليه من الرأفة والرحمة في حال إيذائهم له، فكيف في حال قدرته عليهم، ولم يذكر أيًا عن علي، لأنه لم يظهر له مصلحة حتى يذكرها، أو لأنه لما رأى أن المصطفى هوى قول أبي بكر، رآه أنه الصواب، فسكت عليه، "فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق، وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ " لأن عمر ما تغير رأيه "فإن وجدت بكاء" أي: سببًا له، بحيث تطاوعني عيني في نزول الدمفع "بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت"، أي: تشبهت بالباكين موافقة لكما، وإن لم يسل دمع، "فقال النبي صلى الله عليهوسلم: أبك للذي عرض"، أي: أظهر لي، يقال: عرض له أمر إذا ظهر "أدنى" أقرب "من هذه الشجرة لجشرة قريبة منه فأنزل الله تعالى". وفي حديث ابن مسعود عند أحمد والترمذي: فنزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {عَظِيمٌ} . وفي حديث أنس عند أحمد فأنزل الله {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 وقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} : أي يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الغسلام ويستولي أهله. وليس في هذا إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام فكأنه عز وجل قال: ما كان هذا لنبي غيرك كما قال عليه الصلاة والسلام: "أحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي قبلي". وأما قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} فقيل المراد بالخطاب من أراد   عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقالك صلى الله عليه وسلم: إن كان ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، وقوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} أيك يكثر القتل ويبالغ فيه، حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله" على البلاد ويل: معنى يثخن: يتمكن في الأرضن وما كان نفي للكون، وجاء بمعنى لا يليق ولا ينبغي أن يأتي به، وبه سر المستدل بالآية على الصغائر وقد رده، بقوله: "وليس في هذا إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خص به" إكرامًا له، "وفضل به من بين سائر" باقي"الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه عز وجل، قال: ما كان هذا؟ " أي: لم يقع "لنبي غيرك، كما قال عليه الصلاة والسلام: أحلت لي الغنائم". وفي رواية المغانم: "ولم تحل لنبي قبلي"، قيل: ليس في الآية دليل على ما قال المصنف، بخلاف الحديث، ورد بأن الفداء في معنى الغنائم، لأنه مال مأخوذ من الكفرة، فذكرل الحديث إشارة إلى أنه يؤيد هذا التأويل، وفي المسائل الأربعين للرازي، العتاب وقع هنا على ترك الأولى، لأن الأفضل في ذلك الوقت الإثخان وترك الفداء قطعًا للأطماع، ولوا أنه خلاف الأولى، ما فوضه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وفي حواشيه للقرافي الصواب إنه فوض الاجتهاد في أمر الاسرى له، ففوضه لأصحابه، فرأى عمر القتل، وكان هو المصلحة، وهو من إحدى موافقاته، واجتهاد الصحابة لم يؤد للمصلحة، فخلص عمر ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم لبذل جهده في اجتهاده، فله الأجر. ولذا قال: عرض علي عذابكم دون عذابي، لخروجه عن موجبه ببذل جهده وإلى هذا ذهب فحول العلماء جمعًا بين ظاهر الاية وما يجب لمقامه صلى الله عليه وسلم من العصمة، وأما قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} "فقيل" في الجواب: "المراد بالخطاب من أراد ذلك منهم" أي: الصحابة: "وتجرد": خلص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 ذلك منهم وتجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا عليه أصحابه. بل قد روي عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو. ثم قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} فاختلف المفسرون في معنى هذه الآية: فقيل معناه: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم، فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية. وقيل: لولا إيمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق، فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم على الغنائم.   وتمحض "غرضه" بمعجمتين، أي: قصده "لعرض" بمهملة "الدنيا وحده"، أي: منفردًا عن قصد ثواب الآخرة، وهو مؤكد لما قبله، "والاستكثار منها" بأخذ ما يناله، "وليس المراد بهذا" الخطاب "النبي صلى الله عليه وسلم" لشرف نفسه عن النظر لها، "ولا عليه" "بكسر العين وإسكان اللام وخفة الياء"، أي: معظم "أصحابه" كأبي بكر، وأن أشار بالفداء، فلرجاء الإسلام والتقوى على الكفار ومراعاة القرابة، كما مر، "بل" إضراب انتقالي. "قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر، واشتغل الناس بالسلب" "بفتحتين" ما يسلب، أي: يؤخذ من القتلى من لباس ونحوه، "وجمع الغنائم عن القتال" متعلق باشتغل "حتى خشي عمر أن يعطف" يرجع "عليهم العدو" كارًا، "ثم قال تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] ، تقدم على هذه القصة بإحلال الغنائم والاسرى لكم {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ، "فاختلف المفسرون" في معنى هذه الأية، فإن أردت بيان معناه "فقيل: معناه" كما نقله الطبري عن محمد بن علي بن الحسين "لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدًا إلا بعد النهي لعذبتكم" على ما أخذت من الفداء، إذ لو كان منهيًا عنه محرمًا لاستحق بمخالفته العذاب، فامراد بالكتاب حكم الله الذي كتبه وقدهر، "فهذا" التفسير "ينفي": يمنع "أن يكون أمر الأسرى" أي: فداؤهم "معصية لعدم النهي عنه. "وقيل": المعنى "لولا إيمانكم بالقرآن، وهو الكتاب السابق"، المراد في قوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} ، "فاستوجبتم به الصفح": عدم المؤاخذة "لعوقبتم على" أخذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم. وهذا كله ينفي الذبن والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} . وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام قد خير في ذلك، وقد روي عن علي قال: جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا، وهذا دليل على أنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه.   "الغنائم" وما في حكمها من الفداء. قال عياض: ويزاد هذا القول تفسيرًا وبيانًا بأن يقال: لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن، وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم كما عوقب من تعدى، أي: تجاوز ما نهى عنه، فالكتاب على هذا القرآن وسبقه تقدمه أزلًا، أو لتقدم ما نزل. "وقيل: لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ" المكتوب فيه جميع ما هو كائن، "إنها" أي: الغنائم "حلال لكم" الانتفاع بها والتصرف فيها، "لعوقبتم"على أخذها، "وهذا كله ينفي الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص"، فلا دليل فيها على تجويز الصغائر على الأنبياء، وأصرح من ذلك ما قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفعال: 69] ، أي: انتفعوا به لا خصوص الأكل وذكره لكثرته وغلبته واستدل به الأكثر على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة. "وقيل: بل كان عليه الصلاة والسلام قد خير في ذلك" أخذ الفداء والقتل فلما أخذ قيل كان الأولى خلافه، "و" يدل على أنه خير أنه "قد روى" عن الترمذي والنسائي وابن حبان والحكم، بإسناد صحيح، فما كان ينبغي تعبيره. يروى: "عن علي، قال: جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر" أي: زمنه، "فقال: خير أصحابك في الأسارى أن شاؤا الفداء"فليفدوا "على أن يقتل منهم في العام المقبل" التالي لهذا العام أي: إن الله قدر عليهم إن أخذوا الفدا يقتل من الصحابة "مثلهم" سبعين، "فقالوا": نختار "الفداء، ويقتل منا" مثلهم رغبة في الشهادة. وعند ابن سعد من مرسل قتادة، فقالوا: بل نفاديهم فنقوى به عليهم، ويدخل القابل منا الجنة سبعون، ففادوهم، "وهذا دليل على أنههم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه" فلا ذنب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، فكلهم غير عصاة ولا مذنبين. وقال القاضي بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادي في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان وصاحبه، فما   ولا معصية "لكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين" وهو الفداء باجتهاده، وهو جائز بحضرته عليه الصلاة والسلام "مما كان، الأصلح" للإسلام "غيره من الأثخان والقتل" الذي هو أعز الوجهين بيان لغيره "فعوتبوا على ذلك" أي: اختيار غير الاصلح "وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم" وهو عمر، "فكلهم غير عصاة ولا مذنبين" لأن كلا منهم اختار ما أدى إليه اجتهاده ظانًا أن الخير فيه. قال عياض: وإلى نحو هذا أشار الطبري، وقوله صلى الله عليه وسلم: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر، غشارة إلى أن هذا من تصويب رأيه، ورأى من أخذ بمأخذه في إعزاز الدين وإظهار كلمته وإبادة عدوه، وأن هذه القصة لو استوجبت عذابًا لنجا عمر، وعينه، لأنه أول من أشار، بقتلهم ولكن الله لم يقدر عليهم ذلك لحله لهم فيما سبق. وقال الداودي: الخبر بهذا لم يثبت، ولو ثبت لما جاز أن يظن أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بما لا نص فيه ولا دليل من نص، ولا جعل الأمر فيه إليه، وقد نزهه الله عن ذلك، هكذا في الشفاء قبل قوله: "وقال القاضي بكر" بن محمد "بن العلاء" بن محمد البصري، ثم المصري، أحد كبار المالكية والمحدثين، له تصانيف جليلة، تقدمت ترجمته، "أخبر الله تعالى نبيه في هذه الأية أن تأويله وافق ما كتب له من إحلال الغنائم والفداء"، وكيف لا يكون الفداء حلالهم قبل ذلك، "وقد كان صلى الله عليه وسلم قبل هذا"، أي: غزوة بدر "فأدى في سرية عبد الله بن جحش" الأسدي، ابن عمته عليه الصلاة والسلام أميمة، أحد السابقين الأولين، استشهد بأحد "التي قتل فيها" عمرو "بن الحضرمي" بسهم رماه به واقد بن عبد الله، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله في سرية يعترض عبر قريش، فنزلوا بطن نخلة، وقتل ابن الحضرمي، وأسر الحكم وعثمان بن عبد الله "بالحكم بن كيسان" متعلق بفادي لا بقتل، وكان الأولى حذف الباء، وأسره المقداد بن الأسود، فأراد ابن جحش قتله، فقال المقداد: دعه، تقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، واستشهد ببئر معونة، "وصاحبه" عثمان بن عبد الله ذهب حين فدى إلى مكة، فمات بها كافرًا، "فما عتب الله ذلك عليهم"، فلو كان ممنوعًا لعتب" "وذلك قبل بدر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 عبت الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من ام، فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل وبصيرة على ما تقدم قبل ذلك فلم ينكره الله عليه. لكن الله تعالى أراد لعظم أمر بدروكثرة أسرارها -والله أعلم- إظهار نعمته وتأكيد منته بتعريفهم ما كتب في اللوح المحفوظ من حل ذلك لا على وجه عتاب أو إنكار أو تذنيب قاله القاضي عياض رحمه الله تعالى. وأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا،   بأزيد من عام"، هذا سهو، لأن السرية كانت في رجب، وقيل: في جمادى الآخرة، وبدر في رمضان، كلاهما في ثانية الهجرة، فبينهما أقل من ثلاثة أشهر، وقد تعقبوا الشفاء، متبوع المصنف بهذا، ومثله لا يخفى عليهما، ولكن الكمال لله، "فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى كان على تأويل" باجتهاد منه ومن أصحابه، "وبصيرة" جريًا "على ما تقدم قبل"، أي: قبل "ذلك" الفعل "مثله، فلم ينكره الله عليه، لكن الله تعالى أراد" وله ما كان لنبي ... إلخ. "لعظم أمر بدر" بكسرها شوكة المشركين وإرعاب قلوبهم، فلو زادوا بقتل الاسرى كان أقوى، "وكثرة أسرارها"،جمع أسير، "الله أعلم" بما أراد جملة معترضة" "إظهار نعمته" مفعول أراد، أي: ظهورها على المسلمين، "وتأكيد منته" عليهم "بتعريفهم ما كتب في اللوح المحفوظ" على أحد الوجوه السابقة قريبًا في المراد بالكتاب "من حل ذلك" لهم، "لا على وجه عتاب" أي: لوم، بل لبيان النعمة "أو إنكار" عليهم "أو تذنيب" أي: نسبتهم لذنب في فعلهم "قال القاضي عياض رحمه الله تعالى": في الشفاء من أول قوله: وليس في هذا إلزام ذنب إلى هنا وهو وجيه خلافًا لقول بعض شراحه؛ أنه تكلف لا ينبغي ارتكابه، والحق أنه عتاب من الله. وفي فتح الباري: اختلف السلف في أي الرأيين كان أصوب، فقال بعضهم: كان رأي أبي بكر، لأنه وافق ما قدر الله في نفس الأمر، ولما استقر عليه الأمر، ولدخول كثير منهم في الإسلام، إما بنفسه وإما بذريته التي ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى في حق من كتب له الرحمة، وأما من رجح الرأي الآخر، فتمسك بما وقع من العتاب على أخذ الفداء، وهو ظاهر، لكن الجواب عنه أنه لا يدفع حجة الرجحان عن الأول، بل ورد للغشارة إلى ذم من آثر شيئًا من الدنيا على الآخرة، ولو قل: "وأما قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} على الحق بالعصمة، {لَقَدْ كِدْتَ} قاربت {تَرْكَنُ} تميل {إِلَيْهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 إذ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} [الإسراء: 74] الآية. فالمعنى: لولا أن ثبتناك لقاربت أن تميل إلى إتباع مرادهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب فضلًا عن أن تركن، وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، فالعصمة بتوفيق الله وحفظه، ولو قاربت لأذقناك   شَيْئًا} ركونًا {قَلِيلًا} لشدة احتيالهم وإلحاحهم وهوص ريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما ركن ولا قارب، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ} عذاب {الْحَيَاةِ وَضِعْفَ} عذاب {الْمَمَاتِ} أي: مثلي ما يعذب غيرك في الدينا والآخرة "الآية" ثم لا تجد لك علينًا نصيرًا مانعًا منه. أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال: خرج أمية بن خلف، وأبو جهل، ورجال من قريش، فاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد تعال، فتمسح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرق لهم، فأنزل الله {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الأعراف: 73] الآية، إلى قوله: {نَصِيرًا} . قال السيوطي: هذا أصح ما ورد في سبب نزولها، وهو إسناد جيد وله شاهد. أخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال: كان صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر، فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا، فقال صلى الله عليهوسلم: وما علي لو فعلت، والله يعلم مني خلافه، فنزلت "فالمعنى، لولا أن ثبتناك لقاربت": تفسير لكدت "أن تميل إلى اتباع مرادهم" تفسير لتركن من الركون الذي هو أدنى ميل، على ما قال المفتي، وعليه فقوله: شيئًا قليلًا، كالصفة الكاشفة لمعنى تركن، "لكن أدركتك عصمتنا، فمنعت أن تقرب فضلًا عن أن تركن" وببيان المعنى حصل الجواب عن الىي، وإنها من الآيات المادحة للمصطفى، لا أنها من المتشابهات، "وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجاباتهم"، أي: قريش لما طلبوه منه، من التمسح بآلهتهم والإلمام بها على الأصح في سبب نزولها، وبه استدل من قال هذه الآيات مكية، ومن قال: إنها مدنية، استدل بما رواه ابن مردويه عن ابن عباس، أن ثقيفًا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أجلنا سنة حتى يهدى لآلهتنا فإذا قبضنا ما يهدى لها أحرزناه، ثم أسلمنا، فهم أن يؤجلهم فنزلت وإسناده ضعيف. وذكر الثعلبي بلا إسناد عن ابن عباس، أنها نزلت في ثقيف، قالوا: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالًا نفختر بها على العرب، لا نعشر، ولا نحضر، ولا نحني في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وإن تمتعنا باللات سنة، وتحرم وادينا كمكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك، فقل: إن الله أمرني. قال الولي العراقي: لم أقف له على إسناد "مع قوة الداعي إليها" لشدة احتيالهم وقوة خدعهم، وكونه في مقام التلطلف بهم والحرص على إيمانهم "فالعصمة بتوفيق الله وحفظه" عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 ضعف الحياة وضعف الممات، أي ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ الخطير أخطر، وقد أعاذه الله تعالى من الركون إلى أعدائه بذرة من قلبه. ومما يعزى للحريري مما يؤيد ذلك قوله: أنحوي هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لسان جرهم وثمود إذا استعملت في صورة الجحد اثبتت ... وإن اثبتت قامت مقام جحود وفسر الأول وهو النفي المثبت بنحو {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] وقد فعلوا والثاني وهو الثبوت المنفي بنحو قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} قالوا: وهو صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن.   مقاربة ذلك، "ولو قاربت لأذقناك ضعف" عذاب "الحياة وضعف" عذاب "الممات" تفسير لقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ} "أي: ضعف ما يعذب في الدارين" الدنيا والآخرة "بمثل هذا الفعل غيرك، لأن خطأ" أي: ذنب "الخطير" الشريف "أخطر" أعظم من غيره، لأنه لشرفه حقه أن لا يقرب مما يلام عليه، بل يصون نفسه عن الفهوات وإن صغرت، "وقد أعاذه الله تعالى" أي: عصمه "من الركون إلى أعدائه" أي: أعدء الله "بذره من قلبة" أي: بشيء قليل صغير جدًا كالذرةى فضلًا عما فوقها. "ومما يعزى للحريري مما يؤيد ذلك" أي: إن كاد نا، بمعنى قرب "قوله": ملغزًا: " انحوى هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لساني جرهم وثمود" جرهم: بضم الجيم، حي من اليمن، وثمود قوم صالح، وخصهما زيادة في التعمية: "إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود" "وفسر الأول، وهو النفي المثبت، بنحو {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] لغلاء ثمن البقرة، "وقد فعلوا" بنص، فذبحوها. "الثاني: وهو الثبوت المنفي، بنحو قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} ، قال: أي: العلماء كلهم، "وهو صلى الله عليه وسلم ثبت قلبه ولم يركن" بنص قوله: {ثَبَّتْنَاكَ} وأيده بذلك وإن كان ضعيفًا لاشتهاره، كما في شرح الكافية والمغني، وقالا: إن من زعممهم لم يصب، بل حكم كاد حكم سائر الأفعال، فمعناها منفي إذا صحبها حرف نفي، وثابت إذا لم يصحبها، فإذا قيل: كان زيد يبكي، معناه: قارب البكاء، فمقاربة البكاء، ثابتة، وإذا قيل: لم يكد يبكي، فمعناه: لم يقارب البكاء، فمقاربته منفية، ونفسه منتف انتفاء أبعد من انتفائه عند ثبوت المقاربة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 وأما قوله تعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44، 45، 46] . فالمعنى: لو افترى علينا بشيء من عند نفسه لاخذنا منه باليمين وقطعنا نياط قلبه وأهلكناه، وقد أعاذه الله تعالى من التقول عليه. فإن قلت: لا مرية أنه يعفي للمحب ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفي لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر: وغذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم ذو المحاسن والإحسان الأكبر، فما هذه العقوبة المضاعفة والتهديد الشديد الوارد إن وقع منه ما يكره، وكم منه   وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44] ، أي: افترى، سمي تقولا، لأنه قول متكلف، والأوال المفتراة أقاويل تحقيرًا لها، كأنها جمع أفعوله من القول، كالأضاحيك {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} بالقوة والقدرة، {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] الآية، نياط القلب، وهو عرق متصل به إذا انقطع مات صاحبه، "فالمعنى: لو افترى علينا بشيء من عنده نفسه" كما زعم الكفار بنحو: إن هذا إلا إفك افتراه "لأخذنا": لنلنا "منه" عقابًا "باليمين، وقطعنا نياط قلبه، وأهلكناه، وقد أعاذه الله تعالى من التقول عليه"، أفلا تعقون أنه تنزل من رب العالمين، فالآية من جملة مدحه، إذ فيها القسم على تصديقه بجميع الموجودات، وأنه لا يمكنه الافتراء عليه" فإن قلت: لا مرية" لا شك "أنه يعفي للمحب":اسم مفعول المحبوب أو اسم فاعل، أي: لمن أحب غيره، ولا شك أنه عليه السلام محب لله ومحبوب له، ولصاحب المحاسن والإحسان العظيم ما لا يعفي لغيره، ويسامح مما لا يسامح به غيره، كما قال الشاعر: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وفي القرآن إشارة إليه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] ، "ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو الحبيب الأعظم" من كل حبيب، "ذو المحاسن والإحسان الأكبر" الفائق على كل محسن، "فما هذه العقوبة المضاعفة" بقوله: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} إلخ. "والتهديد الشديد في قوله: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ} إلخ، "الوارد" كل منهما، "إن وقع منه ما يكره" "بكسر الهمزة وسكون النون شرط"، "وكم من راكن إلى أعدائه"أي: الله تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 راكن إلى أعدائه ومتقول عليه تعالى من قبل نفسه لم يعبأ به كأرباب البدع ونحوهم؟ فالجواب: أنه لا تنافي بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه بالأنعام وخصه بمزيد القرب والإكرام اقتضت حاله من حفظ مرتبة القرب والولاية والاختصاص أن يراعي مرتبته من أدنى تشويش وقاطع، فلشدة الاعتناء به ومزيد تقريبه واتخاذه لنفسه واصطفائه على غيره تكون حقوق وليه وسيده عليه أتم ونعمه عليه أكمل وأعم، فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذاغفل أو أخل بمقتضى مرتبته نبه بما لم ينبه عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضًا، فيجتمع في حقه الأمران، وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدم تناقضهما فالواقع شاهد بذلك، فإن الملك يسامح خاصته وأولياءه بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويؤاخذ بما لا يؤاخذ به غيرهم، وأنت إذا كان لك عبدان أو ولدان أحدهما أحب إليك من الآخر وأقرب إلى قلبك وأعز عليك عاملته بهذين الأمرين،   حقيقة، فضلًا عن مقاربته "ومتقول" "بكسر الواو، اسم فاعل كاذب" "عليه تعالى من قبل" جهة "نفسه لم يعبأ" لم يبال "به، كاربابالبدع ونحوهم" من الخوارج وغيرهم. "فالجواب، أنه لا تنافي بين الأمرين، فإن من كملت عليه نعمة الله، واختصه منها بما لم يختص به غيره، وأعطاه منها ما لم يعط غيره، فحباه" "بموحده" "بالأنعام، وخصه بمزيد القرب" المعنوي "والإكرام" وهذا بمعنى ما قبله، فهو اطناب" "اقتضت حاله من حفظ مرتبة القرب والولاية، والاختصاص أن يراعي مرتبته، فيباعد نفسه "من أدنى": أقل "تشويش وقاطع" عن الله، "فلشدة الاعناء به ومزيد تقيبه، واتخاذه لنفسه، واصطفائه": اختياره "على غيره، تكون حقوقه وليوسيدهعليه أتم، ونعمه عليه أكمل وأعم" من غيره "فالمطلوب منه فوق المطلوب من غيره، فهو إذا غفل" "بفتح الفاء، كنصر، وفي لغة بكسرها"، "أو أخل بمقتضى مرتبته" منزلته السنية، "نبه بما لم ينب عليه البعيد، مع كونه يسامح بما لم يسامح به ذلك البعيد أيضًا، فيجتمع في حقه الأمران" عظم مايصدر منه لمنافاته لمرتبته، والمسامحة لمحبته وشدة نصحه لمحبوبه، وإذا أردت معرفة اجتماعهما وعدما تناقضهما، فالواقع" في عرف الآدميين "شاهد بذلك، فإن الملك" السلطان "يسامح خصاته وأولياءه" الموالين له والمعاضدين "بما لم يسامح به من ليس في منزلتهم، ويؤاخذ بما لم يؤاخذ به غيرهم" ممن دونهم "وأنت كان لك عبدان أو ولدان، أحدهما: أحب إليك من الآخر وأقرب إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته عليك، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه، وإتمام نعمك عليه اقتضت معاملته بما لا يعامل به من دونه من التنبيه وعدم الإهمال. وإذا نظرت إلى محبته لك وطاعته وخدمته وكمال عبوديته ونصحه، وهبت له وسامحته وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره. فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه. وقد ظهر اعتبار هذا المعنى في الشرع، حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج، إذا تعداه الزنا الرجم، وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد، وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه وأتم نعمته عليه ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق - الذي لم يجعل له هذه النعمة- نصف ذلك، فسبحان من بهرت حكمته في خلقه. فلله سر تحت كل لطيفة فأخو البصائر غائص يتعقل انتهى ملخصًا.   قلبك وأعز عليك، عاملته بهذين الأمرين"، المسامحة والمؤاخذة"، واجتمع في حقه المعاملتان بحسب قربه منك، وحبك له وعزته عليك، فإذا نظرت إلى إكمال إحسانك إليه وإتمام نعمة عليه، بمعنى حسنه اختلاف اللفظ، "اقتضت" تلك الحالة التي هي النظر لكمال الإحسان "معاملته بما لا يعامل به من دونه به من التنبيه وعدم الإهمال" بيان لما، "وإذا نظرت إلى محبته ولك وطاعته، وخدمته وكمال عبوديته، ونصحه" لك في أمورك "وهبت له وسامحته، وعفوت عنه بما لا تفعله مع غيره، فالمعاملتان بحسب ما بينك وبينه، وقد ظهر اعتبار هذا المعنى" العرفي "في الشرع حيث جعل حد من أنعم عليه بالتزويج إذا تعداه إلى الزنا الرجم" لأن الذي مع المزني بها مع زوجته "وحد من لم يعطه هذه النعمة الجلد" لأنه معذور بالنسبة للمتزوج، فكفي جلده في عقوبته، "وكذلك ضاعف الحد على الجلد" لأنه معذور بالنسبة للمتزوج، فكفي جلده في عقوبته، "وكذلك ضاعف الحد على الحر الذي قد ملكه نفسه، وأتم نعمته عليه، ولم يجعله مملوكًا لغيره، وجعل حد العبد المنقوص بالرق الذي لم يجعل له هذه النعمة نصف ذلك" كما قال: فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب "فسبحان من بهرت" "بفتح الموحدة والهاء" غلبت وظهرت "حكمته في خلقه" وما أحسن قول القائل:"فلله سر تحت كل لطيفة" أي: رفق بالعبد لا يعلمه إلا هو سبحانه "فأخو البصائر" الناظر بعين البصيرة "غائص" أي: غارق في المعاني والأفكار التي يتوصل بها إلى معرفة كماله عز وجل "يتعقل"، أي: يستعمل عقله فيما يوصل إليه "اهـ" هذا الجواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 وأما قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] . فقيل: معناه ما كنت تدري الإيمان على التفصيل الذي شرع في القرآن. وقال أبو العالية: هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان، لأنه كان قبل الوحي لا يقدر أن يدعو إلى الإيمان بالله تعالى. وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وقبل البلوغ، حكاه الماوردي والواحدي والقشيري. وقيل: إنه من باب حذف المضاف، أي ما كنت تدري أهل الإيمان، أي من الذي يؤمن، أبو طالب، أبو العباس، أو غيرهما. وقيل: المراد به شرائع الإيمان ومعالمه وهي كلها إيمان، وقد سمى الله   "ملخصًا" حال. وأما قوله تعالى: ما كنت تدري ما الكتاب" القرآن "ولا الإيمان" مع ما مر أنه صلى الله عليه وسلم كان عالمًا بالله وصفاته قبل النبوة "فقيل: معناه ما كنت تدري الإيمان على التفصيل الذي شرع في القرآن"، فلا ينافي أنه كان يدريه إجمالًا. وقال أبو العلية: رفيع ابن مهران التابعي الكبير "هو بمعنى الدعوة إلى الإيمان" فيكون على حذف مضاف، "لأنه كان قبل الوحي لا يقدر أن يدعو" الناس "إلى الإيمان بالله تعالى" فلا ينافي علمه بأنه إله واحد. وقيل: معناه أنه ما كان يعرف الإيمان حين كان في المهد وقبل البلوغ" فلا ينافي عرفانه بعد ببصيرته. حكاه الماوردي: على بن حبيب القاضي أبو الحسن البغدادي البصري، نسب أبوه لعمل الورد أو بيعه، والقياس الوردي صاحب التصانيف الجليلة مات سنة خمسين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة "والواحدي" أبو الحسن علي المفسر تلميذ الثعلبي" و"القشيري" الإمام المشهور صاحب الرسالة. وقيل: أنه من باب حذف المضاف أي: ما كنت تدري أهل الإيمان أي: من الذي يؤمن أبو طالب" عبد مناف "أو العباس أو غيرهما" فلا ينافي أنه مؤمن بالله وصفاته، وقد يدل له بقية الآية، ولكن جعلناه نورًًا نهدي به من نشاء من عبادنا. وقيل: المراد به أي: الإيمان "شرائع الإيمان ومعالمه، أي: ما يدل عليه فهو على حذف مضاف أيضًا "وهي كلها إيمان وقد سمى الله الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 الصلاة إيمانًا بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عامًا والمراد الخصوص، كما قاله ابن قتيبة وابن خزيمة. وقد اشتهر في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان ويحج ويعتمر. وروى أبو نعيم وابن عساكر عن علي: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم هل عبدت وثنًا قط؟ قال: لا، قيل: فهل شربت خمرًا قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذين هم عليه كفر. وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان. وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل كحج البيت والختان والغسل من الجنابة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يقرب الأوثان ويعيبها، ولا يعرف شرائع اللهالتي شرعها لعباده   إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 43] الآية، "أي: صلاتكم إلى بيت المقدس" مدة "فيكون اللفظ عامًا" وهو مطلق التصديق، "والمراد الخصوص"، وهو الشرائع والمعالم، "كما قاله ابن قتيبة" عبد الله بن مسلم "وابن خزيمة" محمد إمام الأئمة. قال بكر القاضي: فكان صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بتوحيده، ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل فزاد بالتكليف إيمانًا. قال عياض: وهذا أحسن وجهه، "وقد اشتهر في" كتب الحديث، إنه صلى الله عليه وسلم كان يوحد الله ويبغض الأوثان" كما في قصة بحيرا الراهب لما استحلفه باللات والعزى وهو صبي فقال صلى الهل عليه وسلم: لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما، فقال بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما اسألك، فقال: سل عما بدا لك، "ويحج ويعتمر" مخالفًا للمشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، فكان من توفيق الله له يقف بعرفة، لأنه موقف إبراهيم. "وروى أبو نعيم، وابن عساكر، عن علي أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل عبدت وثنًا قط" صنمًا متخذًا من حجارة أو خشب أو غيرهما. وقيل: الصنم المتخذ من الجواهر المعدنية التي تذوب والوثن المتخذ من حجدر أو خشب "قال: لا" لم أعبده قط، "قيل: فهل شربت خمرًا قط قال: لا" ما شربته "وما زلت أعرف إن الذي هم عليه" من عبادة الأوثان "كفر، وما كنت أدري ما الكتاب، ولا الإيمان، وقد ورد أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إسماعيل، كحج البيت والختان والغسل من الجنابة" وقد حلف أبو سفيان بعد وقعة بدر لا يغسل رأسه من جنابة حتى يغزو محمدًا، "وكان عليه الصلاة والسلام لا يقرب" "بفتح الراء وضمها" "الأوثان" أي: لا يدنو منها "ويعيبها" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 على لسانه، فذلك قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم، والله أعلم. المقصد السابع في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه وطريقته وفرض محبة آله وصحبه وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه.   "بفتح الياء" "و" الحال أنه حينئذٍ "لا يعرف شرائع الله التي شرعها لعباده على لسانه، فذلك قوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 54] ، هو بمعنى ما قدمه، أعاده لزيادة قوله: "ولم يرد الإيمان الذي هو الإقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا على الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون مع شركهم" وقد كانوا في الفترة فهم لا يعذبون، إذ لا يجب فيها إيمان، ولا يمنع كفر على الصحيح. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] ، ومفهومه أن منهم من مات على الإيمان، ورجح الرازي وغيره أنه لم يكن في آبائه شرك، ومر بسط ذلك في أول الكتاب "انتهى". هذا المقصد "والله أعلم" وله الحمد على ما أنعم، ونسأله إتمام الإحسان بالإتمام، وأن يجعله خالصًا له بجاه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 المقصد السابع: في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه مدخل ... المقصد السابع: في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه وطريقته وفرض محبة آله وصحبه وقرابته وعترته، وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه. وفيه ثلاثة فصول:   "المقصد السابع" "في" بيان "وجوب محبته و" بيان وجوب "أتباع سنته": طريقته التي كان عليها، وهي شاملة للواجب، والمستحب والمباح، ومعنى وجوب اتباعها اعتقاد حقية ما دلت عليه، وأن مباحًا، وأنه عن الله، وأما مباشرة الفعل، فتختلف بالوجوب والندب والإباحة والحرمة والكراهة، ولا يشكل بأن المستحب يجب بالنذر فيخالف سنته، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوفاء به كالقرآن، فهو من سنته "و" بيان وجوب "الاهتداء بهديه وطريقته" بأن يقتدي به فيما ورد عنه، وافق غيره من بقية الأنبياء، كالتوحيد، أوخالفهم كالأحكام الناسخة لشرائع من قبله، "وفرض محبة آله وصحبه" عبر بفرض، وفيما قبله بوجوب تفننا، وذكره اهتمامًا بهم لئلا يتساهل في محبته لعدم بلوغهم رتبته، ولايصح حمله على مذهب الفارقين بين الواجب والفرض، لأن المقام يأباه، إذ يصير المعنى محبة المصطفى بدليل ظني ومحبة آله وصحبه بدليل قطعي "وقرابته وعترته" "بكسر العين وإسكان الفوقية" عطف خاص على عام أو مساوٍ للقرابة. قال ابن الإعرابي: العتر ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف العرب من العترة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 الفصل الأول: في وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته صلى الله عليه وسلم اعلم أن المحبة -كما قال صاحب "المدارج" هي المنزلةالتي يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقو، وعليها تفاني المحبون، وبروح نسيمها بروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح   غير هذا، ويقال: رهطه الأدنون، ويقال: أقرباؤه، فهذا الأخير صريح في أنه عطف مساوٍ، والقولان: قبله خاص على عام "وحكم الصلاة والتسليم عليه زاده الله فضلًا وشرفًا لديه" أي: عنده والجمع بينهما أطناب، أو الأول لطلب زيادة العلوم والمعارف الباطنة، والثاني: لطلب الأخلاق الكريمة الظاهرة، أو الأول ضد النقص، والثاني: علو المجد وهوميل إلى ترادفهما، وسؤال الزيادة لا يشعر بسبق نقص لقبول الكامل زيادة الترقي في غايات الكمال، فاندفع زعم جمع امتناع الدعاء له عقب نحو ختم القرآن، باللهم اجعل ذلك زيادة في شرفه على أن جميع أعمال أمته يتضاعف له نظيرها، لأنه السبب فيها أضعافًا مضاعفة لا تحصى، فهي زيادة شرفه، وأن يسأل له ذلك، فسؤاله تصريح بالمعلوم، كما في التحفة "وفيه ثلاثة فصول": الأول: في وجوب محبته واتباع سنته والاقتداء بهديه وسيرته صلى الله عليه وسلم، اعلم أن المحبة" اللام عوض عن المضاف إليه، أي: محبة المصطفى، وبدأ ببيانها لأن الحكم على الشيء فرع تصوره، فاعتقادوجوبها إنما يكون بعد تصورها، "كما قال صاحب المدارج" أي: مدارج السالكين اسم لشرح ابن القيم على كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري، من ولد أبي أيوب الصحابي، المؤلف، الواعظستين سنة للناس، الميت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة "هي المنزلة": الرتبة العلية "التي يتنافس فيها المتنافسون" أي: يتسابقون إليها ويتزاحمون عليها؛ بأن يطلبها كل واحد، وأدًا أنه يبلغ فيها مرتبة لا يبلغها غيره. وفي القاموس: نافس فيه رغب على وجه المباراة في الكرم، كتنافس "وإليها يشخص العاملون" أي: يرفعون أبصارهم مجتهدين في تحصيلها، والمراد أنهم يجتهدون في الأعمال ويخلصون فيها، لينالوا بها تلك المرتبة السنية، وعبر عن ذلك بشخوص المبصر لما جرت به العادة إن منطلب غائبًا عنه وانتظره كثر تلفته ونظره إلى الجهة التي يأتي منها، "وإلى علمها أي: معرفتها "شمر السابقون" اجتهدوا في معرفتها والوصول إليها "وعليها تفاني" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 وقوة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيه، وتوصلهم إلى منازل لم   "بفاء ونون" "المحبون" أي: تغالبوا في فنائهم فيها، فكل يريد أن يغلب غيره فيها، بأن تزيد محبته على محبة غيره، "وبروح نسميها "بفتح الراء"،بمعنى الراء"، بمعنى الراحة، كأنهش به المحبة من حيثاللذة وانبساط النفس بها طيبة هابة، تحيا بها النفوس، واثبت لها النسيم تخييلًا، والروح بمعنى الراحة تشريحًا "بروح" بالتثقيل "العابدون" أي: وصل إليهم رائحة منها اطمأنت بها نفوسهم واستلذوا بها وارتاحوا، "فهي قوت القلوب" أي: هي للقلوب كالقوت من حيث أنها تحيا بها، وتتقوى، كما يقوي البدن بالقوت، وهو مكا يقوم به من الطعام جمعه أقوات "وغذاء" "بكسر الغين وذال معجمتين" "الأرواح": جمع روح، بالضم يذكر ويؤنث، تشبيه بليغ كسابقه، أو كل منهما استعارة نحو زيد أسد، وأضاف القوت للقلوب، لأنها من البدن، وهو ينتفع بما يؤكل، والغذاء للأرواح، لأنها لا تنتفع بما يؤكل وإنما تنتفع بالأذكار ونحوها. "وقرة" "بضم القاف" "العيون" أي: سرورها بالمحبة وسكونها عن الالتفات إلى غيرها، "وهي الحياة، التي من حرمها فهو جملة الأموات" لأنه لا يجد لذتها كالأموات، ولا عائدتها، "والنور الذي من فقده، ففي بحار الظلمات" أي: فهو كالمنغمر فيها، بحيث لا يهتدي إلى شيء ينفعه، "والشفاء" بالمد. قال ابن الجوزي في كتابه نزهة البيان: الشفاء ملائم للنفس، يزيل عنها الأذى، ويستعمل في القرآن على ثلاثة أوجه: الفرح، كقوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} أي: بسرهم والعاقبة كقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] الآية، والبيان، كقوله: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] ، "الذي من عدمه" "بكسر الدال" فقده "حلت بقلبه جميع الأسقام": الأمراض الطويلة "واللذة التي من لم يظفر": يفز "بها، فعيشه كله هموم" أحزان جمع هم، "والآم" جمع ألم، "وهي روح الإيمان" تشبيه بليغ، أي: له كالروح للأبدان، "و" روح "الأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت" تلك الأربعة "منها، فهي كالجسد الذي لا روح فيهِ" فهو بيان لوجه الشبه في الأربع، ويحتمل أنه بيان لقوله، وهي روح الحياة، إلى هنا "تحمل أثقال" أحمال "السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس": بجهدها "بالغيه" واصلين إليه على غيرها. وأخر بالغيه لرعاية السجع، "وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 يكونوا بدونها أبدًا وأصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق إلى مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي سراهم في ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معيةمحبوبهم أوفر نصيب، وقد قدر الله يوم قدر مقادير الخلق بمشيئة وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة على المحبين سابغة، لقد سبق القوم المحبين السعادة وهم على ظهور الفرش   أبدًا واصليها"، جملة مفسرة لما قبلها "وتبؤوهم": تسكنهم "من مقاعد الصدق": مجالس الحق التي لا لغو فيها ولا تأثيم "إلى مقامات" منازل رفيعة في الجنة "لم يكونوا لولا هي داخليها" وفيها تلميح لمعنى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} والتقوى بالإيمان لا تكون إلا مع محبة الرسول، "وهي مطايا القوم": جمع مطية، فعيلة بمعنى مفعولة البعير ذكرًا أو أنثى، سمي بذلك، لأنه يركب مطاه، أي: ظهره، والمطا بزنة عصا الظهر "التي سراهم" "بضم السين جمع سرية بوزن مدية ومدى". قال أبو زيد: ويكون السري أول الليل وأوسطه وآخره "في ظهورها دائمًا إلى الحبيب"، وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيهًا لها بالأجسام واتساعًا ومنه {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] المعنى إذا يمضي، وقال البغوي: إذا سار وذهب، وقال جرير: سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كل مرام "وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى" التي كانوا بها في صلب آدم، وهي الجنة "من قريب" بدون عذاب قبل دخولها للمحبة، وقال شيخنا: الأولى، أي: التي قدر أزلا حصولها لهم، بكن بأعمال يصلون بها إليها، فهي سابقة أزلًا على وجود أصحابه، ثم بعد ظهورهم في الخارج وفقهم الله ببركة المحبة إلى فعل تلك الاعمال، فوصلوا إليها في زمن قليل لا يحصل عادة في مثله ما قدر عليه من العمل، بل ولا ما يقاربه وهو تكلف مستغنى عنه، "تالله لقد ذهب أهلها" المحبة "بشرف الدينا والآخرة" وعلله بقوله: "إذ لهم من معية محبوبهم" المشار لها بقوله: "أنت مع من أحببت" "أوفر نصيب" لشمولها للدارين وإن لم يدركه في الدنيا أو كان بينهما مسافة بعيدة كما تقدم بسطه في المتن، "وقد قدر الله يوم مقادير الخلق" قبل خلق السماوات والأرض، وبخمسين ألف سنة "بمشيئته وحكمته البالغة" التامة "أن المرء مع من أحب" كما أخبر المحبوب صلى عليه علام الغيوب، "فيها لها" "بفتح اللام" "من نعمة على المحبين سابغة" "بغين معجمة" طويلة متسعة، ثم يحتمل أنه مستغاث به، وأنه مستغاث له، لأن اللام الداخلة على المستغاث له يجب فتحها إن كان ضميرًا كان هنا، فإن كان اسمًا ظاهرًا وجب كسرها، والداخلة على المستغاث به يجب فتحها مطلقًا، "لقد سبق القوم المحبين" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 نائمون، ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون. من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح في الجنة، وبذلوا أنفسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، ولقد حمدوا على الوصول مسراهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. وقد اختلفوا في تعريف المحبة، وعباراتهم وإن كثرت فليست في الحقيقة   مفعول "السعادة" فاعل، سبق فهيأت لهم أنواع النعيم. وفي نسخة: لقد سبق القوم السعاة: جمع ساع، أي: الماشين بسرعة، فالقوم فاعل، "وهم على ظهور الفش": بضمتين جمع فراش، فعال بمعنى مفعول "نائمون" والجملة حالية، "ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون" أي أنهم، فازوا بالسعادة والتقرب إلى الله بحب المصطفى وإن لم يكن لهم كثير عمل، فأشبهوا من حيث قلة العمل من وقف في سيرة بحبس دابته مثلًا، ومع ذلك حصل ما تمناه، وأنشد لغيره: من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول أي: من يتكفل لي بسير مثل سيرك السهل "أجابوا: مؤذن الشوق" أي: المعلم به والداعي له "إذ نادى بهم حي على الفلاح" أي: هلم إلى الفوز والنجاة، أو البقاء في الجنة، أي: أقبلوا إلى سبب الفلاح والبقاء "في الجنة وبذلوا أنفسهم": أعطوها "في طلب الوصول إلى محبوبهم"، وجرد البذل عن بعض معناه، فاستعمله في مطلق الإعطاء، فلذا قال: "وكان بذلهم بالرضا والسماح" مراعاة للسجع، أو دفعًا لتوهم أنه مجرد الإعطاء وإلا فهو لغة الإعطاء بسماحة وطيب نفس، "ووصلوا إليه السير بالإدلاج"، بالكسر بزنة الإكرام، أي: بسير الليل كله "والغدو" أي: الذهاب وقت الغدوة وهي ما بين الفجر والشمس أو منه، إلى الزوال "والرواح" من الزوال إلى الغروب والمعنى واصلوا سيرهم إليه ليلًا ونهارًا "ولقد حمدوا على الوصول مسراهم" عند وصولهم إلى محبوبهم، حيث ترتب على سيرهم ما قصدوه بلا تعب ومشقة. "وإنما يحمد القوم السري عند الصباح" لوصولهم إلى منازلهم المترتب على سراهم "وقد اختلفوا في تعريف المحبة" بعبارات كثيرة مختلفة، "وعباراتهم وإن كثرت" الواو للحال، لأن الواقع أنها كثيرة فين نفسها، فلا يصح أنها غائية، أو هي غائية بالنظر للواقف عليها، لا في نفس الأمر، أي: سواء كانت قليلة أو كثيرة للواقف عليها، وإن كثرت في الواقع، "فليست في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 ترجع إلى اختلاف مقال، وإنما هي اختلاف أحوال، وأكثرها يرجع إلى ثمراتها، دون حقيقتها. وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة، من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا لا يمكن التعبير عنه. وهكذا يقول صاحب مدارج السالكين - تبعًا لغيره: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة. وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها   الحقيقة ترجع إلى اختلاف مقال" في معناها، بحجيث يعتقد كل واحد في معناها غير ما اعتقده الآخر، ومقال مصدر، قال: وإنما هي" عبارات منشؤها "اختلاف أحوال" قامت بالمحبين، فكل عبر بما يليق بالمعنى الذي قام به: عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير "وأكثرها" أي: العبارات "يرجع إلى" بيان "ثمراتها" وهي ما يترتب على المحبة من الفوائد، سماها ثمرات، لمشابهتها لها في الانتفاع بها وترتبها عليها "دون حقيقتها" لاتحادها. "وقد قال بعض المحققين: حقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات" لهم، "التي لا تحد، وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا لا يمكن التعبير عنه" كلذة المجامع يمكن التعبير عن حقيقتها بعبارة، "وهكذا يقول صاحب مدارج السالكين" ابن القيم "تبعًا لغيره: والمحبة لا تحد بحد أوضح منها" أي: لا تعرف بحد يفيد أكثر مما يفيده لفظ المحبة، لأنها علقة تقوم بالمحب يدركها من نفسه، ولا يمكن أن يوصل خصوص ما قام به إلى غيره، بحيث يكشف له حقيقة ما عنده، وغايته أن يخب بأنه يحب كذا محبة قوية، لا يمكنه التخلف عنه، وليس هذا عين ما قام به، وقريب من هذا قولهم: الحسن يدرك ولا يوصف، أي: لا يبين بعبارة تحقق معناه عند المخاطب "فالحدود لا تزيدها إلا خفاء" لعدم بيانها حقيقة الماهية، "وجفاء" "بالجيم والمد" ويقصر، أي: بعدًا مأخوذ من جفاء السرج عن الفرس: رفعه كإجفاه، "فحدها وجودها" وذلك الوجود لا يمكن بيان حقيقته للغير، "ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة" فلا معنى لحدها بأخفى منها، "وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها" بكسر الجيم عطف تفسير "وعلاماتها" الدالة عليها "وشواهدها" التي تشهد بقيامها بالمحب، "وثمراتها" فوائدها "وأحكامها" التيتبنى عليها، "فحدودها": جمع حدو هو التعريف بذاتيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه السنة، وتنوعت بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك والمقام الحال. وقد وضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة: "الحاء" التي هي من أقصى الحلق، و"الباء" الشفهية التي هي نهايته، فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وأعطوا "الحب" حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماة وقوتها، وأعطوا "الحب" وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من   المعرفة، كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق، "ورسومهم": جمع رسم، وهو التعريف بخاصة من خواصه، كتعريفه بالضاحك، والمراد بهما هنا شيء واحد، وهو التعريف بالأثر "دارت على هذه السنة" "بنون"،أي: الطريقة، وبفوقية، أي: الستة المذكورة، فهي ألفاظ متقاربة، "وتنوعة بهم العبارات، وكثرت الإشارات بحسب الإدراك" أي: وصول كل إلى المعنى الذي تصوره من لفظ المحبة، "والمقام" المكان المورد فيه الكحلام الذي يريد التعبير به، "والحال" زممن إيارد ذلك الكلام، فالفرق بينهما اعتباري، وحقيقته صفة الشيء تذكر وتؤنث، فيقال: حال حسنة وحسن، "وقد وضعوا لمعناها" أي: لمعنى المحبة، وهو الحب، وجعل الحب معنى لها لاشتماله على زيادة، وإلا فالحب والمحبة لغة معناهما واحد، وهو الوداد "حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة" أحدهما: "الحاء التي هي من أقصى الحلق، و" الثاني "الباء الشفهية التي هي نهايته" أي: نهاية الصوت وفي نسخة نهاية بلا ضمير، أي: للمخارج "فللحاء الابتداء" لأنها مبدأ الصوت المشتمل على الحروف، وإن كان مخرجها أقصى الحلق، "وللباء الانتهاء" والحاصل، كما قال شيخنا: أنهم جعلوا آخر الحلق مما يلي الصدر أقصى باعتبار وضع الإنسان، لأن كل شيء لها نهايتان، فأيتهما فرضتها أوله كان مقابله آخره، هذا فيما وضع على الامتداد، كالبساط وأما ما وضع على الانتصاب، فأعلاه أوله واسفله آخر، ولذا كان أول المخارج الشفتين، وأولهما مما يلي البشرة التي هي ظاهر الجلد، وآخرها الحلق، وأوله مما يلي اللسان، وآخره بما يلي الصدر، والصوت لما كان مبدؤه من الئة يخرج منها، ثم يمر على الحلق، جعل أول المخارج بهذا الاعتبار، وأقصى الحلق وآخرها الشفتين. "وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منمه" بأن يرى المحب من المحبوب ما يدعو غلىميله إليه، فيتعلق به، بحيث لا يصير عنده سواه، "وانتهاءها إليه"، إذ هو غاية المطلوب، "وأعطوا الحب" الذي هو المصدر "حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها" "عطف مساو" "مطابقة" "مفعول لأجله"، أي: لمطابقته "لشدة حركة مسماه وقوتها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 الضمة، وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم. فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني، تطلعك على قدر هذه اللغة، وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات. وهذه بعض رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها. فمنها: موافقة الحبيب في المشهد والمغيب، وهذا موجبها ومقتضاها. ومنها: محوب المحب لصفاته وإثبات المحب لذاته، وهذا من الفناة في المحبة، وهي أن تمحى صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه وأخذه منه. ومنها: استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من محبوبك، وهو لأبي   وأعطوا الحب وهو المحبوب حركة الكسر لخفتها من الضمة، وخفة المحبوب و" خفة "ذكره على قلوبهم وألسنتهم فتأمل هذا اللطف والمطابقة، والمناسبة العجيبة بين الألفاظ والمعاني تطلعك على قدر" أي: شرف "هذه اللغة" العربية وتميزها على غيرها "وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات، وهذه بعض رسول وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها"، علاماتها التي بها يهتدي إليها "وشواهدها" أي: ما يشهد بها ويدل عليها، حتى كأنها شهدت به وأثبتته، "والكلام على ما يحتاج إلى الكلام عليه منها، فمنها موافقة الحبيب في المشهد والمغيب"، أي: في حالتي شهوده، أي: حضوره ومغيبة، "وهذا موجبها" "بفتح الجيم" "ومقتضاها" مساوٍ له في المعنى: أي: أنهما أثر المحبة، ومسبب عنها، "ومنها محو المحب لصفاته" بحيث لا يبقى له صفة، "وإثبات المحب لذاته" بدون صفة، فالمحو في أصل اطصلاحهم رفع أوصاف العادة. قال ابن عطاء: يمحو أوصافهم، ويثبت أسرارهم، ويقابل المحو الإثبات، وهو إقامة أحكام العادة، "وهذا من الفناء في المحبة، وهو أن تمحى صفات المحب وتفنى": تزول وتضمحل "في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا، لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه" أي: الفناء "وأخذه" أي: أخذ الوارد الفناء "منه"، ويسمونه فناء الفناء، وهو الفناء عن شهود هذا الفناء، بحيث يفنى عن كل ما سوى محبوبه، وحينئذٍ يدرك ذلك بالوجدان لا بالعبارة "ومنها استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من محبوبك" كما قيل: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها. والمحب الصادق لو بذل لمحبوبة جميع ما يقدر عليه لاستقله ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه. ومنها: استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الأول لكنه مخصوص بما من المحب. ومنها: معانقة الطاعة ومباينة المخالفة، وهو لسهل بن عبد الله، وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها. ومنها أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو لسيدنا ابي عبد الله القرشي، وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب   "وهو لأبي يزيد" بياء قبل الزاي، اسمه طيفور، بطاء مهملة وتحتية وفاء، ابن عيسى البسطامي، نادرة زمانه حالاً وأنفاسًا وورعًا وعلمًا وزهدًا وتقي، مات سنة إحدى وستين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة، "وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها" "بفتح الجيم" "وشواهدها" الدالة عليها، "والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله": اعتقده قليلًا، "ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه" عدة، واعتقده كثيرًا عظيمًا، "ومنها استكثارًا لقليل من جنايتك واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الأول" أي: ما قبله فهو أول نسي وإلا فهو ثالث "لكنه مخصوص بما من المحب "في الحالين، بخلاف ما قبله فمنه ومن المحبوب، فافترقا، "ومنها معانقة الطاعة" أي: التزام المحب طاعة محبوبه، بحيث يفعل كل ما أمره به، أو فهم أنه يريرده وإن لم يأمره، "ومباينة المخالفة" بأن لا يخالفه في شيء أراده منه، ولا يفعل شيئًا نهاه عنه، وهذا المعنى لازم لالتزام الطاعة، فذكره أيضًا "وهو لسهل بن عبد الله" التستري الولي الذي لم يسمح الدهر بمثله، له كرامات وتصانيف، مات سنة ثلاث وثمانين ومائتين عن ثلاث وثمانين سنة "وهو إيضاحكم المحبة، وموجبها" لا حد لها حقيقي، "ومنها أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منه شيء" وعليه أنشد: تملك بعض حبك كل قلبي ... فإن ترد الزيادة هات قلبًا "وهو لسيدنا أبي عبد الله" محمد بن أحمد بن إبراهيم "القرشي" من أعيان مشايخ المغرب ومصر، لقي نحو ستمائة شيخ، وجد واجتهد وأخذ عنه كثيرون، منهم البوني، وله كرامات كثيرة، مات ببيت المقدس سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وقيل غير ذلك، ودفن به، ثم دفن بجانبه ابن رسلان، وجربت استجاب الدعاء بين قبريهما، "وهو أيضًا من موجبات المحبة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في مرضاته ومحابه، ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه، فتأخذ منه له. ومنها: أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب، وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة. ومنها: أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وهو للشبلي، ومراده: احتقارك لنفسك واستصغارها أن يكون مثلك يحبه. ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيره، وعن المحبوب هيبة، وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما الثاني: فإن غض طرف القلب   وأحكامها" لا تعريف لها، "والمراد: أن تهب إرادتك وعزماتك" بفتح الزاي جمع عزمة، وهي الاجتهاد في الشيء والمحافظة عليه، "وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه"، والوقت عندهم عبارة عن حال في زمان الحال، لا تعلق فيه بالماضي ولا الاستقبال، فيقال: فلان وقته كذا، أي: حاله كذا، ولذا قالوا: الوقت ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا فوقتك بالدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور فوقتك السرور، وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن، فعنوا بذلك أن وقت الإنسان هو حاله الغالبة عليه، و"تجعلها"، أي: المذكورات "حبسًا"، بضمتين وتسكن الباء لغة، وقفًا "في مرضاته"، أي: مقصورة على رضاه لا تتعداه إلى غيره، "ومحابه" ما يحبه هو، "ولا تأخذ منها لنفسك إلا ما أعطاكه فتأخذه منه له" لأنه لم يبق لك منك شيء فأخذك ما أعطاك إنما هو له "ومنها أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب" حتى نفسك، وذلك عندما ينسى أوصاف نفسه في ذكر محاسن حبه، كما قيل: شاهدته وذهلت عني وغيره ... مني عليه فذا المثنى مفرد "وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه ما دامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره، فالمحبة مدخولة"، أي: مشوبة بغيرها، ومتى كانت كذلك لم تكن حقيقية. "ومنها أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك، وهو للشبلي" أبي بكر دلف بن جحدر، وقيل: اسمه جعفر بن يونس، وقيل: غير ذلك صحب الجنيد والنساج وطبقتهما، وصار أوحد وقته علمًا وحالًا، وتفقه على مذهب مالك، وكتب حديثًا كثيرًا، ثم شغلته العبادة عن الراية، مات سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة عن سبع وثمانين سنة، ودفن بمقبرة الخيزران ببغداد، "ومراده احتقارك لنفسك، واستصغارها أن يكون مثلك يحبه" لجلالته، فيغار عليه من أن ينسب له الشيء الحقير "ومنها: غض طرف المحب عما سوى المحبوب غيره"، مفعول له، "وعن المحبوب هيبة"، أي: لأجل الغيرة والهيبة "وهذا يحتاج إلى إيضاح، أما الأول فظاهر، وأما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل، ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا، وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم. ومنها: ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا ثم علمك بتقصيرك في حبه، قال الجنيد: سمعت الحارث المحاسبي يقول ذلك. ومنها: سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشد بعضهم: فأسكر القوم دورًا لكأس بينهم ... لكن سكري نشأ من رؤية الساقي ومنها: سفر القلب في طلب المحبوب، ولهج لسانه يذكره على الدوام، أما سفر القلب في طلبه فهو الشوق إلى لقائه، وأما لهج اللسان بذكره فلا ريب أن   الثاني، فإن غض طرف القلب عن المحبوب مع كمال محبته كالمستحيل"، إذ أصل معنى المحبة ميل القلب، فكيف يصرفه عنه "ولكن عند استيلاء سلطان المحبة يقع مثل هذا" بدون اختيار، كأنه لا يدري ما هو عليه، "وذلك من علامات المحبة المقارنة للهيبة والتعظيم" للمحبوب "ومنها ميلك إلى الشيء" الذي تحبه "بكليتك" بجملتك "ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه" وهذا بمعنى ما سبق عن القرشي، لكن غرض المصنف بيان العبارات، وإن رجع بعضها إلى بعض. قال الجنيد: أبو القاسم بن محمد البغدادي شيخ الطريقة، العلم الشهير: "سمعت الحرث" بن أسد البصري، "المحاسبي" قيل: له ذلك لكثرة محاسبته لنفسه، أو لأنه كان له حصى يعدها ويحسبها حال الذكر، أو لغير ذلك صحب الشافعي، وقيل: بل عاصره وكان عابدًا، زاهدًا، راسخًا في الأصول والفقه والحديث والتصوف والكلام، صنف نحو مائتي مؤلف، ومات ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين، "يقول ذلك" المذكور في معنى المحبة "ومنها" المحبة "سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه" لأنه عند الطائفة عبارة عن غيبة بوارد قوي، والغيبة عدم الإحساس، وذلك إذا كوشف بنعت الجمال, وطرب وهام قلبه، "ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة" للمحبوب "لا يوصف" بل يحل عن الوصف "وأنشد بعضهم" "فأسكر القوم دورًا لكأس بينهم ... لكن سكري نشأ من رؤية الساقي" فالصادق المحبة لا يتوقف سكره على كأس ولا غيرها بل بمجرد رؤية الحب يسكر سكرًا يجل عن الوصف، "ومنها سفر القلب" أي: توجهه "في طلب المحبوب، ولهج لسانه يذكره على الدوام" بحيث لا يفتر عنه، "أما سفر القلب في طلبه، فهو الشوق إلى لقائه"، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 من أحب شيئًا أكثر من ذكره. ومنها: الميل إلى ما يوافق الإنسان، كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك من الملاذ التي لا يخلو كل طبع سليم عن الميل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه كحب الصورة الجميلة بإدراكه بحاسته، أو يكون حبه لذلك لموافقته له من جهة إحسانه إليه وإنعامه عليه، فقد جبلت القلوب على حب   فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، وما أحسن قوله: وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ... وعفراء يوم الحشر نلتقيان وأحلى قول الآخر: إن كان يحلو لديك ظلمي ... فزد من الهجر في عذابي عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب "وأما لهج اللسان بذكره؛ فلا ريب أن من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، وهو لفظ حديث، رواه أبو نعيم، ثم الديلمي من طريق مقاتل بن حيان، عند داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب شيئًا أكثر من ذكره"، "ومنها": المحبة: "الميل إلى ما يوافق الإنسان" المحب، وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه منه أمرًا محبوبًا "كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة وغير ذلك" كالأطعمة والأشربة اللذيذة والروائح الطيبة والملابس الفاخرة "من الملاذ التي لا يخلو كل طبع سليم" من غلظ الطبع وفساد الحواس، كالمريض يحد الحلو مر الفساد ذوقه، فلا يرد نقضًا "عن الميل إليها لموافقتها له" طبعا "أو لاستلذاذه" أي: وجود لذته، وهو إدراك الملائم من حيث هو ملائم، والألم ضده، والمراد بالملائم للشيء كماله اللائق به، كالتكيف بالحلاوة للذائق ونحوه، من المحسوسات، وكتعقل الأشياء على ما هي عليه بالقوة العاقلة، وقيد الحيثية لا الشيء قد يكون ملائمًا من وجه دون آخر، فاللذة حسية، وإليها أشار بقوله: "كحب الصورة الجميلة" وعقيلة، وبينها بقوله: "بإدراكه بحاسته" بعد الوصول إليه لا قبله بمجرد تخيله بحاسة عقله وقلبه معاني لطيفة شريفة، كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف، كما في الشفاء، وفيه تسمح على رأي الحكماء؛ لأن المدرك عندهم القوى الباطنة في الدماغ لا العقل المدرك للكليات، لكن لما يثبتها أهل الشرع تسمح فيها، "أو يكون حبه لذلك لموافقته له" أي: لملائمته وموافقة طبعه "من جهة إحسانه" إنعامه وبذله وجوده "إليه". وفي نسخة له، أي: لأجل ذلك، فقوله: "وإنعامه عليه" عطف تفسير، "فقد جبلت" خلقت وطبعت "القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها" كما رواه أبو نعيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، وإذا كان الإنسان يحب منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفًا فانيًا منقطعًا أو استنفذه من مهلكة أو مضرة لا تدوم، فما بالك بمن منحه منحًا لا تبيد ولا تزول ووقاه من العذاب الأليم ما لا يفنى ولا يحول.   في كتاب الحلية، وأبو الشيخ وغيرهما كانب حبان في "روضة العقلاء" والخطيب في "تاريخ بغداد" وأخرين عن ابن مسعود، موقوفًا. وأخرجه ابن عدي والبيهقي وابن الجوزي، عنه مرفوعًا، قال السخاوي: وهو باطل موقوفًا ومرفوعًا وقول ابن عدي والبيهقي، الموقوف معروف فيه تأمل ففي سندهما: من أبهم بالكذب والوضع بسياق أجل الأعمش عن مثله، وهو أنه لما ولي الحسن بن عمارة مظالم الكوفة، فقال الأعمش: ظالم ولي مظالم، فبلغ الحسن فبعث إليه بأثواب ونفقة، فقال الأعمش: مثل هذا ولي علينا يرحم صغيرها ويجود على فقيرنا ويوقر كبيرنا فقال له رجل: ما هذا قولك بالأمس، فقال: حدثني خيثمة عن ابن مسعود، فذكره موقوفًا، وأخرجه القضاعي، مرفوعًا من جهة ابن عائشة عن محمد بن عبد الرحمن القرشي، قال: كنت عند الأعمش، فقيل: إن الحسن ولي المظالم، فقال الأعمش: يا عجبًا من ظالم ولي المظالم، ما للحائك بن الحائك والمظالم، فأتيت الحسن، فأخبرته، فقال: عليَّ بمنديل وأثواب، فوجه بها إليه، فبكرت إلى الأعمش من الغاد، فأجربت ذكره، فقال: بخ بخ، هذا الحسن بن عمارة ولي العمل وما زانه، فقلت: بالأمس تقول ما قلت واليوم تقول هذا، فقال: دع عنك هذا. حدثني خيثمة عن ابن مسعود مرفوعًا به، فقد كان رحمه الله زاهدًا، ناسكًا، تاركًا للدنيا، حتى وصفه القائل بقول: ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر عنده منهم مع فقره وحاجته، وقال آخر: أنه فقير، صبور، مجانب للسلطان، ورع، عالم بالقرآن، انتهى. وفي تذكرة ابن عبد الهادي، قال مهنأ: سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث، فقالا: ليس له أصل وهو موضوع، "وإذا كان الإنسان يحب منحه" أي: أعطاه "في دنياه" أي: حياته في الدنيا "مرة أو مرتين معروفًا"، أي: شيئًا حسنًا، "فانيًا، منقطعًا" أي: زائلًا في زمن قليل، "أو استنقذه"، نحاه "من مهلكة" أمر مهلك، "أو مضرة" "بفتح الميم والضاد" أمر يضره ويؤذيه "لا تدوم" مدة ذلك "فما بالك بمن منحه منحا لا تبيد" بكسر الموحدة وإسكان التحتية لا تذهب وتنفذ "ولا تزول" عطف تفسير من نعيم الخلد في الجنة، "ووقاه" بالتشديد والتخفيف صانه "من العذاب الأليم"، عذاب النار "ما لا يفنى ولا يحول" عنه إلى غيره، فهذا أحق أن يحب من كل شيء يحب حتى من نفسه وماله وأهله، "وإذا كان المحب يحب غيره على" أي: لأجل "ما فيه من صورة جميلة وسيرة حميدة" كملك وقاضٍ وإن كان بعيد الدار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 وإذا كان المحب يحب غيره على ما فيه صورة جميلة وسيرة حميدة، فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، فأي إحسان أجل قدرًا وأعظم خطرًا من إحسانه إلينا، فلا منة -وحياته- لأحد بعد الله كما له علينا، ولا فضل لبشر كفضله لدينا. فكيف ننهض ببعض شكره، أو نقوم من واجب حقه بمعشار عشرة، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة، وأسبغ علينا نعمة باطنة وظاهرة، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه من محبتنا له أوفى وأزكى من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين، بل لو كان في كل منبت شعرة منا محبة تامة له صلوات   عنه ولم يره، "فكيف بهذا النبي الكريم والرسول العظيم"، الذي لا أكرم ولا أعظم منه، "الجامع لمحاسن الأخلاق والتكريم، المانح" المعطي "لنا جوامع المكارم والفضل العميم، فقد أخرجنا الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"، بالإضافة البيانية فيهما أو من إضافة الأعم إلى الأخص، "وخلصنا به من نار الجهل إلى جنات المعارف والإيقان، فهو السبب لبقاء مهجنا" بضم ففتح "البقاء الأبدي" الدائم "في النعيم السرمدي" المتواصل الذي لا ينقطع، "فأي: إحسان أجل قدرًا" رتبة "وأعظم خطرًا" بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة، أي: قدرًا أو شرفًا غاير بينهما تفننًا "من إحسانه إلينا" معاشر المؤمنين، وخصهم لأنهم هم المنتفعون به وإن كان إحسانه عامًا، وأي: للتعظيم والتفخيم، كما يقال: عندي رل، أي: رجل كامل الرجولية، "فلا منة وحياته" قسمي "لأحد بعد الله كما له علينا ولا فضل لبشر" ولا لملك "كفضله لدينا" عندنا وقيد بالبشر؛ لأنه المشاهد فضله، "فكيف ننهض" نقوم بسرعة "ببعض شكره" على ما أولانا، "أو" كيف "نقوم من واجب حقه بمعشار عشرة، فقد منحنا الله به منح الدنيا والآخرة وأسبغ: أوسع وأتم "علينا" بسببه "نعمة" أي: الله "باطنة"وهي المعرفة وغيرها، "وظاهرة" حسن الصورة وتسوية الأعضاء، فاستحق صلى الله عليه وسلم أن يكون حظه" نصيبه "من محبتنا له أوفى" أتم "وأزكى" أطهر "من محبتنا لأنفسنا وأولادنا وأهلينا وأموالنا والناس أجمعين"، عطف على خاص وهو كثير، "بل" انتقال "لو كان في كل منبت" محل نبات "شعرة منا محبة تامة له صلوات الله وسلامه عليه لكان ذلك بعض ما يستحقه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 الله وسلامه عليه لكان ذلك بعض ما يستحق علينا. وقد روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده". رواه البخاري. وقدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد، من غير عكس، وفي رواية النسائي تقديم الولد على الوالد وذلك لمزيد الشفقة، وزاد في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أسن والناس أجمعين، وفي صحيح ابن خزيمة: من أهله وماله بدل   علينا". "وقد روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن" إيمانًا كاملًا "أحدكم" خطاب للحاضرين عام فيهم وفي غيرهم، بقياسهم عليهم بطريق المساواة بجامع العلة، أو تنزيلًا لهم منزلة المخاطبين، وتوجيه الكلام لجملتهم مجازًا من باب الاستعارة التمثيلية، ويؤيد عمومه رواية مسلم لا يؤمن الرجل. وفي رواية الأصيلي: لا يؤمن أحد وزعم أن في مسلم: لا يؤمن عبد وابن حبان: لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان غلط، فإنما فيهما ذلك في حديث: حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. "حتى أكون أحب" أفعل بمعنى مفعول، وهو مع كثرته على خلاف القياس، وفصل بينه وبين معموله بقوله: "إليه" لأن الممتنع الفصل بأجنبي. قاله الحافظ وقال المصنف: لأنه يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره "من والده" أي: أبيه، قال الحافظ: وهل تدخل الأم في لفظ والده، إن أريد به من له الولد، فيعم، أو اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفي عن أحد الضدين بالآخر، ويكون ما ذكر على سبيل التمثيل والمراد، إلا عزة، كأنه قال: أحب إليه من أعزته "وولده" ذكرًا أو أنثى. "رواه البخاري" من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لا يؤمن، ذكره، وهو عن أبي هريرة من أفراد البخاري، ورواه هو ومسلم من حديث أنس، "وقدم الوالد للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد من غير عكس" أو نظرًا إلى جانب التعظيم، أو لسبقه بالزمان، قاله المصنف. "وفي رواية النسائي": لحديث أنس: "تقدم الولد على الوالد، وذلك لمزيد الشفقة"، ونطق صلى الله عليه وسلم عند كل من أبي هريرة، وأنس بما رواه عنه، فلا خلف، وليس أحدهما بالمعنى لاختلاف المخرج، وأفاد الحافظ أن الروايات لم تختلف في حديث أبي هريرة "وزاد في رواية عبد العزيز بن صهيب"، بضم المهملة وفتح الحاء وسكون التحتية وموحدة، البناني بضم الموحدة نسبة إلى بنانة: بطن من قريش التابعي، كأبيه "عن أنس" عند البخاري ومسلم: "لا يؤمن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 والده وولده وذكر الوالد والولد أدخل في المعنى لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه. ولذا لم يذكر "النفس" في حديث أبي هريرة، وذكر الناس بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص. قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا، حب الاختيار لا حب الطبع. وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس والأمَّارة والمطمئنة، فإن من رجح   أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده" "والناس أجمعين" دخل في عمومه النفس على الظاهر، وقيل: إضافة المحبة إليه تقتضي خروجه منهم، وهو بعيد، وقد نص على النفس في حديث عبد الله بن هشام، كما يأتي انتهى. ووجه بعده أن اللفظ عام، وما ذكر ليس من المخصصات، وحينئذٍ فلا يخرج. "وفي صحيح" محمد "بن خزيمة" المعروف بإمام الأئمة، من طريق عبد العزيز بن صهيب، عن أنس مرفوعًا: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله" بدل والده وولده. وكذا لمسلم من طريق ابن علية، والإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد، كلاهما عن عبد العزيز، عن أنس، بلفظ: لا يؤمن الرجل، قال الحافظ: وهو أشمل من جهة، وأحدكم أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي: لا يؤمن أحد، "وذكر الوالد والولد أدخل في المعنى" أي: أنسب المعنى الذي الكلام فيه، "لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس في حديث أبي هريرة" بل قال: من والده وولده فقط، "وذكر الناس بعد الوالد والولد" في حديث أنس عند الشيخين، كما علم "من عطف العام على الخاص"، وهو كثير، كما في الفتح، فمحبة الوالد محبة إجلال ومحبة الولد رحمة وشفقة، والناس محبة إحسان، وقد ينتهي المحب في المحبة إلى أن يؤثر هوى المحبوب على هوى نفسه فضلا عن ولده، بل يحب أعداء نفسه لمشابهتهم محبوبه قال: أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ صار حظي منك حظي منهم "قال الخطابي: والمراد بالمحبة هنا حب الاختيار"، الذي يقتضي العقل إيثاره وإن خالف الطبع، كمحبة المريض الدواء "لا حب الطبع" الذي لا يدخل تحت اختيار، فإنه لا يؤاخذ به لعدم دخوله تحت استطاعته. "وقال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الإمارة"، المائلة بطبعها إلى الشهوات، وتهيم بها، وتستعمل القوى والجوارح في أثرها كل الأوقات، "والمطمئنة" بذكر الله، فإن النفس تترقى في الأسباب والمسببات إلى الواجب لذاته، فتستقر دون معرفته، وتستغنى به عن غيره، أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا، ومن رجح جانب الأمَّارة كان حبه بالعكس. وفي كلام القاضي عياض: إن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال، وتعقبه صاحب المفهم: بأن ذلك ليس مرادًا، هنا لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته. قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه، وإلى ذلك يومئ قول عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه البخاري في "الإيمان والنذور" من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال   إلى الحق، بحث لا يريبها شك، والآمنة لا يستفزها خوف ولا حزن، قاله البيضاوي: "فإن من رجح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحًا" حتى على نفسه، "ومن رجح جانب الأمارة كان حبه بالعكس"، أي: مرجوحًا "وفي كلام القاضي عياض" إشارة إلى "أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال"، باعتقاد عظمته وجلاله صلى الله عليه وسلم، وحمله على ذلك يلزم منه التنقيص عند ضد التعظيم، وهوكفر، فلذا قال: شرط في صحة الإيمان "وتعقبه صاحب المفهم" أبو العباس أحمد بن محمد القرطبي، مرت ترجمته في شرح مسلم، "بأن ذلك ليس مرادًا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته" بأن لا يحبه ولا يبغضه، أو يعظمه مع بغضه، يعني: فكما لا يلزم من الأعظمية المحبة، لا يلزم من ضدها البغضاء. قال شيخنا: هو كذلك عقلا، وأما بحسب العرف، فالعادة قاضية؛ بأن من اعتقد عظمة إنسان أحبه، "قال" صاحب المفهم: "فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه" فقط، لا أنه كافر، "وإلى ذلك يومئ قول عمر بن الخطاب في الحديث الذي رواه البخاري في" كتاب "الإيمان والنذور" من صحيحه "من حديث عبد الله بن هشام" بن زهرة بن عثمان التيمي، صحابي، صغير، مات في خلافة معاوية، وأبوه صحابي، "أن عمر بن الخطاب، قال للنبي: لأنت يا رسول الله"، لفظه عن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، والله لأنت "أحب إليَّ" "بشد الياء واللام"، لتأكيد القسم "من كل شيء" في الدنيا وغيرها، "إلا" من "نفسي التي بين جنبي" "بشد الياء" مثنى؛ لأن بين لا تضاف إلا لمتعدد، وهذا كناية عن السر الذي قامت به الحياة، وأضافه إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا. وفي رواية فقال صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال بعض الزهاد: تقدير الكلام، لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه الهلاك. وأما وقوف عمر في أول أمره، واستثناؤه نفسه؛ فلأن حب الإنسان نفسه طبع، وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. وعلى هذا   الجنبين، لجرى العادة بسلب الحياة، بسلب ما بينهما وهو القلب، وما يتعلق به من سائر الأعضاء الرئيسة، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فقال عمر": مؤكدًا بالقسم تحقيقًا لخلوص طويته في قوله: "والذي أنزل عليك الكتاب" أوحى إليك القرآن "لأنت أحب من نفسي التي بين جنبي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن" عرفت، فنطقت بكمال الإيمان، فهو متعلق بمقدر، وهو مبني على الفتح، وأل فيه لازمه، وهو الزمان الحاضر، وصرح بقوله: "يا عمر" إشارة إلى وصوله لرتبة عليه، تخصه بالنسبة لبض من عداه، أي: لا تكفيك الرتبة الأولى، ولا يليق بعلو همتك الاقتصار عليها، "فهذه المحبة ليست باعتقاد الأعظمية فقط، فإنها كانت حاصلة لعمر قبل ذلك قطعًا"، بدليل قوله أحب إليّ من كل شيء. "وفي رواية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "لا" يكمل إيمانك، "والذي نفسي بيده" أي: بقدرته، أو هو من المتشابه المفوض علمه لله، وهو أسلم وأقسم تأكيدًا، وفيه جواز الحلف على الأمر المبهم للتوكيد، وإن لم يكن هناك محلف "حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر". هذا بقية هذه الرواية في البخاري: "قال بعض الزهاد: تقدير الكلام" في قوله: لا حتى أكون، "لا تصدق في حبي حتى تؤثر رضاي على هواك، وإن كان فيه الهلاك" بالجهاد أو إماتة النفس، "وأما وقوف عمر في أول أمره واستثناؤه نفسه، فلأن حب الإنسان نفسه طبع" لا يسلم منه إلا من ملك نفسه: جاهدها، "وحب غيره اختيار بتوسط الأسباب" المؤدية إلى ذلك، "وإنما أراد عليه الصلاة والسلام منه حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع"، أي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 فجواب عمر كان أولًا بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار، فلذلك حصل الجواب بقوله: "الآن يا عمر" أي الآن عرفت فنطقت بما يجب. وإذا كان هذا شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله في محبتنا له ووجوب تقديمها على أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن بمحبة الله تعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه، ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره قدرها وصفتها، وإفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله، والشيء قد يحب من وجه   لا طريق إلى تحويلها عما تهواه، "وتغييرها عما جبلت عليه" لأنه لا يدخل تحت الاستطاعة فليس مكلفًا به، ولا مؤاخذًا بعدمه، "وعلى هذا، فجواب عمر كان أولًا بحسب الطبع" الذي جبل عليه الإنسان من ترجيح نفسه وتقديمها، "ثم تأمل، فعرف بالاستدلال؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والآخرة، فأخبره بما اقتضاه الاختيار"، الناشئ من التفكر "فلذلك حصل الجواب، بقوله" صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"، أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب"، وحال عمر أنه لا يفعل غير ما وجب عليه؛ لأنه منهي عنه؛ إذ الأمر بالشئ الموجب له نهى عن ضده، "وإذا كان هذا شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله في محبتنا له ووجوب تقديمها على أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، فما الظن" استفهام تعظيم، أي: ظن تظنه، أي: لا تظن إلا أعظم ظن، "بمحبة الله تعالى وجوب تقديمها على محبة ما سواه". وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، أخرجه الترمذي والحاكم، وصححاه عن ابن عباس: "ومحبة الله تعالى تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها"، وفي "إفراده سبحانه وتعالى بها، فإن الواجب له من ذلك أن يكون أحب إلى العبد من ولده ووالده، بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه، فيكون إلهه الحق، ومعبوده أحب إليه من ذلك كله"، ولا انفكاك لأحد عن الاحتياج إليه، "والشيء قد يحب من وجه دون وجه"، كحب العالم لعلمه، وكراهته لبخله مثلًا، "وقد يحب لغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 دون وجه، وقد يحب لغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى حده، ولا تصلح الألوهية إلا له. والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع. ومن علامات الحب المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرض الإنسان على نفسه أنه لو خير بين فقد غرض من أغراضه وفقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كانت ممكنة، فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد غرض من أغراضه فقد أصتف بالأحبية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لا فلا.   تعالى وحده". قال ابن عطاء: الله ما من وقت ولحظة إلا وهو مورد عليك فيهما نعمًا، يجب حبه وشكره عليه دائمًا فمتى فات حق وقت لا يمكن قضاؤه أبدًا؛ إذ ما من وقت إلا وله عليك فيه حق جديد، وهو الشكر، وأمر أكيد وهو الاستغفار والتجريد {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} الآية، "ولا تصلح الألوهية"، أي: العبادة "إلا له والتأله"، أي: التعبد "هو المحبة والطاعة والخضوع"، والغرض من هذه الجملة بعدما تقدم التنبيه على استحقاقه الكمال المطلق، فلا يشاركه أحد في شيء من صفاته إلا في مجرد الاسم إن اتفاق ذلك، ولما كان هذا نتيجة الأسباب المحصلة لمحبة الله تعالى، كما قال بعد أن هذا ثمرة المعرفة، عطفة بالواو في قوله: ولا تصلح، ولم يقل إذا المقتضية للعلة لما قبله، غائية أو غير غائية؛ لأن ذلك يقتضي سبق معرفة العلة الغائية، أو غيرها على الأسباب المحصلة، "ومن علامات الحب المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يعرض" "بفتح الياء وكسر الراء"، أي: يظهر ويبرز "الإنسان على نفسه أن لو خير بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، أن لو كانت ممكنة"، أي: سهلة في نفسها، بحيث يتمكن منها إذا أرادها، فليس المراد بالإمكان ما قابل الاستحالة "فإن كان فقدها أن لو كانت ممكنة أشد عليه من فقد غرض من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لا" يكن ذلك أشد، "فلا" يتصف بالأحبية المذكورة. وهذا ذكره الحافظ، وزاد: وليس ذلك محصورًا في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصرة سنته والذب في شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيها باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: وفي هذا الحديث إيماء إلى فضيلة التفكر، فإن الأحبية المذكورة تعرف به، وذلك أن محبوب الإنسان، إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد دوام بقائها سالمة من الآفات، هذا هو حقيقة المطلوب، وأما غيره فإذا حقق الأمر فيه، فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالًا ومآلًا، فإذا تأمل النفع الحاصل من جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بالمباشرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 قال القرطبي: كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من يأخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات محجوبًا بالغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤية بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم، من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات، انتهى. ملخصًا فكل مسلم في قلبه محبة الله ورسوله، لا يدخل الإسلام إلا بها، ولكن الناس متفاوتون في محبته صلى الله عليه وسلم بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته   وأما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه. "قال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبة الراجحة، غير أنهم متفاوتون" فيها بحسب الاستحضار والغفلة "فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقًا في الشهوات، محجوبًا بالغفلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اشتاق إلى رؤيته"، والشوق انجذاب النفس في الغيبة، فهو أخص من المحبة؛ لأنها تكون في الحضور والغيبة، "بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده، ويبذل نفسه": يعطيها بسهولة ويلقيها "في الأمور الخطيرة" "بمعجمة فمهملة" الشاقة الصعبة، "ويجد رجحان ذلك من نفسه وجدانًا لا تردد فيه" ولا شك، "وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره و" يؤثر "رؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكره، فيذهب إلى ذلك بدون مراعاة المذكور "لما وقر": ثبت "في قلوبهم من محبته، غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفلات، انتهى" كلام القرطبي "ملخصًا، فكل مسلم" كائن وثابت "في قلبه محبة الله ورسوله" إذ "لا يدخل الإسلام إلا بها، ولكن الناس متفاوتون في محبته صلى الله عليه وسلم، بحسب استحضار ما وصل إليهم من جهته، من وجوه النفع الشامل لخير الدارين"، وهو أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 من وجوه النفع الشامل لخير الدارين والغفلة عن ذلك، ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم. وقد روى ابن إسحاق -كما حكاه في الشفاء- أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا هو بحمد الله كما تحبين، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل، تعني: صغيرة. ورواه البيهقي في دلائله، وذكر صاحب البيان بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل   "و" بحسب "الغفلة عن ذلك" الاستحضار "ولا شك أن حظ الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى أتم؛ لأن هذا ثمرة المعرفة، وهم بها أعلم" من غيرهم والله الموفق. هذا وقد نقل المصنف بعد نحو كراس كلام سهل الذي نقله الشارح هنا عن الشفاء. "وقد روى ابن إسحاق" محمد إمام المغازي في السيرة، "كما حكاه في الشفاء: أن امرأة من الأنصار" لم تسم، ولفظ ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد "قتل أبوها وأخوها وزوجها" شهداء "يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت" لما نعوا لها "ما فعل رسول الله" هكذا في أكثر النسخ، وهو اموجود في الشفاء وابن إسحاق رسول بلا باء، وليس المراد السؤال عن فعله حقيقة، وإنما المراد السؤال عن سلامته وحياته، وعبرت بذلك تأدبًا؛ لأن الفعل يستلزم الحياة، فأريد لازمة، وفي بعض نسخ المصنف برسول الله صلى الله عليه وسلم بالباء "قالوا" فعل "خيرًا" والمراد أنه بخبر، ولذا قالوا: "هو بحمد الله كما تحبين" أي: سالم منصور مظفر، "قالت: أرونيه"، بالجمع، وهو ما رأيته في ابن إسحاق، وفي نسخة: أرنيه بالإفراد خطابًا لمن سألته "حتى أنظر إليه" فإن الخبر ليس كالعيان، قال في الراوية: فأشير لها إليه، "فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك"، أي: بعد سلامتك ورؤيتك "جلل" "بفتح الجيم واللام"، "تعني صغيرة" وفي النهاية وغيرها، أي: هين حقير، والمعنى متقارب، وفي سيرة ابن هشام: الجلل من القليل والكثير، وهو هنا من القليل، كقوله امرئ القيس: لقتل بني أسد ربهم ... إلا كل شيء سواه جلل ومن الكثير قول الحارث بن وعلة، قال: ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لأوهنن عظمى "ورواه البيهقي في دلائله" النبوية من طريق ابن إسحاق، "وذكر صاحب البيان بلفظ: لما قيل يوم أحد قتل محمد عليه الصلاة والسلام، وكثرت الصوارخ"، الصائحون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 محمد عليه الصلاة والسلام وكثرت الصوارخ بالمدينة، خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت بأخيها وابيها وابنها وزوجها قتلى، لا تدري بأيهم استقبلت، وكلما مرت بواحد منهم صريعًا قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وابنك قالت: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: أمامك، حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب. وكذا رواه ابن أبي الدنيا بنحوه مختصرًا. وقال عمرو بن العاص: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. ولما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة -بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة   "بالمدينة" من هول هذا الخبر "خرجت امرأة من الأنصار، فاستقبلت" ضمنه معنى اشتغلت، فعداه بالباء في قوله: "بأخيها وأبيها وزوجها"، فزاد ابنها على الرواية السابقة: "قتلى لا تدري بأيهم استقبلت، وكلما مرت بواحد منهم صريعًا، قالت: من هذا؟ قالوا: أخوك وأبوك وزوجك وأبنك، قالت: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم"، أي: ما لذي قام به "فيقولون: أمامك حتى ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول" أفديك "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي"، لا أكترث ولا أهتم "إذ سلمت" أنت من القتل "من عطب" "بكسر الطاء" أي: هلك. "وكذا رواه ابن أبي الدنيا" عبد الله بن محمد الحافظ، الشهير "بنحوه مختصر، وقال عمرو بن العاص" بالياء وحذفها "ما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالًا له، حتى لو قيل لي صفه ما استطعت أن أصفه. أخرجه مسلم في حديث طويل "وقال علي بن أبي طالب" وقد سئل كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أموالنا، وأولادنا، وآبائنا وأمهاتنا" "بضم الهمزة وكسرها، مع فتح الميم، وكسرها جمع أمهة"، لغة في أم، لكنها تختص ببني آدم، قال: أمهتي خندف واليأس أبي، ويقال في البهائم: أمات "و" أحب "من الماء البارد على الظمأ" بقصره أفصح من مده، أي: شدة العطش، خصه لأنه حال محبة الماء وشدة الرغبة فيه، وأعاد الجار؛ لأنه نوع آخر مما يحب، ولشدة نفعه، "و" روى البيهقي عن عروة، قال: "لما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 وتشديد النون- من الحرم ليقتلوه قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكه وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من الناس يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا. وروي -مما ذكره القاضي عياض- أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من أهلي ومالي، وإني لأذكرك فما أصبر حتى أجيء   أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة" بن معاوية بن عبدي بن معاوية بن عامر بن بياضة الأنصاري، البياضي، شهد بدرًا وأحدًا "بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة وتشديد النون" وقد تسكن المثلثة وتخفف النون وهاء تأنيث، اسم والده من قولهم دثن الطائر إذا طار حول وكره، ولم يسقط عليه أو من دثن إذا اتخذ عشا، وكان قد أسر يوم الرجيع مع خبيب بن عدي، فاشترى صفوان بن أمية زيد أو غيره خبيبًا، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث؛ فحبسا بمكة حتى خرجت الأشهر الحرم، فخرجوا بهما "من الحرم" تعظيمًا له؛ لأنهم كانوا لا يقتلون فيه، واجتمع هو وخبيب في الطريق فتواصوا بالصبر والثبات على ما يلحقها من المكاره "ليقتلوه" بالتنعيم. "قال له أبو سفيان بن حرب" وهو يومئذٍ مشرك: "أنشدك" بفتح الهمزة وضم الشين: أسألك "بالله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه، وإنك في أهلك فقال زيد": مؤكد بالقسم "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه" مقيم "تصيبه شوكة"، أي: أقل شيء من الأذى فضلًا عما قلتم، "وإني جالس في أهلي" سالم من الأذى، "فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا من النس"، ما نافية لا تعجبية، وإن كان مراده التعجب من شدة حبهم له "يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا"، مفعول المصدر، وهو حب، ثم قتله نسطاس مولى صفوان، وأسلما بعد رضي الله عنهما. وفي رواية: أنهم ناشدوا بذلك خبيبًا فقال: والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه، ولا خلف، فقد يكونون قالوه لخبيب، وقاله أبو سفيان لزيد، ومر بسط القصة في المغزي. "وروى" عند الطبراني في الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس "مما ذكره القاضي عياض أن رجلًا" ثوبان أو عبد الله بن زيد على ما يأتي "أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لأنت" "اللام في جواب قسم مقدر" "أحب إليّ من أهلي ومالي، وإني لأذكرك"، أي: أتذكرك في ذهني وأتصورك، أو أذكر اسمك وصفاتك فهو من الذكر "بالكسر أو الضم" "فما أصبر" أي: لا أستطيع الصبر عنك، أي: عن رؤيتك لشدة حبي لك، "حتى أجيء فأنظر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك، فانزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] فدعا به فقرأها عليه. قال: وفي حديث آخر: كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه لا يطوف، فقال: "ما بالك"؟ قال: بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر إليك، فإذا كان يوم القيامة رفعك الله بتفضيله، فأنزل الله الآية.   إليك" فيطمئن قلبي، وتقر عيني برؤيتك "وإني ذكرت موتي وموتك" أي: مكاني ومكانك بعد الموت، "فعرفت": تحققت "إنك إذا دخلت الجنة" بعد الموت "رفعت" إلى الدرجات العلا "مع النبيين" صلوات الله عليهم أجمعين، "وإن دخلتها" أنا "بضم التاء" "لا أراك" بعد الدخول؛ لأنك في مقام لا يصل إليه غيرك، وعبر في جانبه صلى الله عليه وسلم بإذا لتحقق دخوله الجنة، ورفعته فيها وفي جانبه هو؛ بأن لعدم جزمه في نفسه بذلك، "فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} " بامتثال أمره ونهيه، ويلزمه محبته له أيضا، ولم تذكر لتحققها لذكر الرجل لها والعلم بخلوصه فيها، " {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} " بنعيم الجنة وعالي مراتبها، ففيه تبشير له بمرافقة أكرم خلق الله وأقربهم، وأرفعهم منزلة " {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} " بيان للمنعم عليهم بما أخفي لهم من قرة أعين " {وَحَسُنَ أُولَئِكَ} " تعجب أي: ما أحسنهم " {رَفِيقًا} " [النساء: 69] ، تمييز، ولم يجمع لوقوعه على الواحد وغيره، أو لإرادة كل واحد منهم "فدعا به" طلب حضوره "فقرأها عليه" جوابًا له وتبشيرًا، والمراد بالمعية والمرافقة كونه في الجنة يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم متى شاء، لا التسوية في المنزلة. "قال": عياض: "وفي حديث آخر كان رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ملازمًا لمجلسه "ينظر إليه" أي: يديم النظر إلى وجهه الوجيه "لا يطرف" "بفتح الياء وسكون الطاء وكسر الراء المهملتين وفاء" أي: لا يصرف طرفه عن النظر إليه، أو لا يطبق أحد جفنيه على الآخر، ويغض بصره، وظاهر قول بعضهم، أي: لا يغض بصره مطرقًا راميًا ببصره إلى الأرض، أنه من أطرق "بضم أوله وقاف"، وهو صحيح أيضًا. قال بعضهم: لكني لا أعرف هل هو رواية أو تحرف عليه أو تسامح في تفسيره: "فقال" له صلى الله عليه وسلم: "ما بالك؟ " أي: ما شأنك حتى تحد النظر وتديمه كالمبهوت، "قال": أفديك "بأبي أنت وأمي، أتمتع من النظر"، لفظ الشفاء: بالنظر "إليك" أي: أتلذذ بإدامة نظري في وجهك ما دام ممكنًا في الدنيا لأنتفع به وأتزوده منه، "فإذا كان" وجد "يوم القيامة رفعك الله" إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 وذكره البغوي في تفسيره بلفظ: نزلت -أي الآية- في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما غير لونك"؟ فقال يا رسول الله، ما بي من مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وأني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية، وكذا ذكره الواحدي في "أسباب النزول"، وعزاه الكلبي عن ثوبان. وقال قتادة: قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يكون الحال في الجنة وأنت في الدرجات العلا ونحن أسفل منك فكيف نراك؟ فأنزل الله الآية.   الدرجات العالية في الجنة، "بتفضيله" لك على جميع خلقه، والباء للسببية "فأنزل الله الآية" المذكورة، "وذكر البغوي" محبي السنة الحسين بن مسعود، أحد الحفاظ "في تفسيره" بلا عزو، "بلفظ: نزلت، أي: الآية في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم" اشتراه وأعتقه، فلازمه حضرًا وسفرًا، وخدمه حتى مات، فتحول إلى الرملة، ثم حمص، فمات بها سنة أربع وخمسين، "وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه"، وعند الثعلبي: تغير وجهه، ونحل جسمه "يعرف الحزن في وجهه"، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غير لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض" مطلق علة، "ولا وجع" أي: مرض مؤلم، ويقع أيضًا على كل مرض، ولا يراد هنا للمغايرة، "غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة" أي: حصل لي انقطاع بعد قلب عن الود وعدم استئناس، "حتى ألقاك" فتزول وحشتي، ثم ذكرت الآخرة" أي: فكرت في أمرها "فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين" في أعلى الدرجات، "وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك" فتقل رؤيتي لك، بدليل قوله: "وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية" المذكورة. "وكذا ذكره الواحدي في" كتاب "أسباب النزول، وعزاه الكلبي" محمد بن السائب، "عن ثوبان" الصحابي، المذكور، وذكره شيخه الثعلبي في تفسيره بلا إسناد، ولا راوٍ، "وقال قتادة" كما أسنده ابن جرير. "قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يكون الحال في الجنة، وأنت في الدرجات العلا، ونحن أسفل منك فكيف نراك، فأنزل الله الآية" المذكورة "وذكره ابن ظفر" محمد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 وذكره ابن ظفر في "ينبوع الحياة" بلفظ: إن عامر الشعبي قال: إن رجلًا من الأنصار أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من نفسي ومالي وولدي وأهلي، ولولا أني آتيك فأراك لرأيت أن أموت أو قال أن سوف أموت، وبكى الأنصاري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك"؟ قال: بكيت أن ذكرت أنك تموت ونموت، وترفع مع النبيين، ونكون نحن إن دخلنا الجنة دونك، فلم يحر النبي صلى الله عليه وسلم إليه، بمعنى أي: لم يرجع إليه يقول، فأنزل الله الآية. قال: وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الذي رأى الأذان. وذكر أيضًا: أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل في جنة له فأتاه ابنه فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي فقال: اللهم أذهب بصري تى لا أرى بعد حبيبي محمدًا أحدًا، فكف بصره.   "في ينبوع الحياة" اسم تفسيره، وأسنده البيهقي "بلفظ: أن عامر" بالنصب، وإن رسم بصورة الرفع بلا ألف على لغة ربيعة، أو حذفت الألف للتخفيف، كقوله: ولا أذكر الله إلا قليلًا، ولا يختص ذلك بالضرورة خلافًا، فالزاعمة، وفي نسخة: بالألف، ولعلها اصطلاح، وإلا فالنسخ القديمة بدونها، وكذا في نسخة الشيخ الجارحي، تلميذ المصنف، وعليها خط المؤلف "الشعبي"، التابعي، فهو مرسل، "قال: إن رجلًا من الأنصار"، فهو غير ثوبان؛ لأنه ليس من الأنصار، ويأتي أنه ابن زيد "أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: والله لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من نفسي ومالي وولدي وأهلي، ولولا أني آتيك فأراك لرأيت أن أموت، أو قال: أن سوف أموت" شك من الراوي "وبكى الانصاري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبكاك"؟ قال: بكيت" لأجل "أن ذكرت أنك تموت" "بالتاء" أنت، "ونموت" "بالنون أوله نحن"، "وترفع" أنت "مع النبيين، ونكون نحن إذا دخلنا الجنة دونك" فتتعذر، أو تقل رؤيتنا لك، "فلم يحر" "بفتح التحتية وضم الحاء المهملة وبالراء" من حار إذا رجع "وبضم الياء وكسر الحاء" من أحار. الجواب رده "النبي صلى الله عليه وسلم إليه، بمعنى" ومقتضى قوله: "أي: لم يرجع إليه" أنه بالضبط الأول؛ إذ هو تفسير ليحر، "يقول": تفسير لقوله، بمعنى: "فأنزل الله الآية، قال" ابن ظفر "وذكر مقاتل بن سليمان مثل هذا، وقال: هو" أي: الرجل الأنصاري، "عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري"، الخزرجي "الذي رأى الأذان" مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: استشهد بأحد، "وذكر" ابن ظفر "أيضًا، أن عبد الله بن زيد هذا كان يعمل في جنة" بستان "له فأتاه ابنه، فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، فقال: اللهم أذهب بصري حتى لا أرى بعد حبيبي محمد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 واعلم أنه لا يجتمع في القلب حبان، فإن المحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، فليختر المرء لنفسه أحدى المحبتين فإنهما لا يجتمعان في القلب، والإنسان عند محبوبه كائنًا ما كان كما قيل: أنت القتيل بأي من أحببته ... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي ولبعض الحكماء: كما أن الغمد لا يتسع لعضبين فكذلك القلب لا يتسع لمحبتين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شيء سواه، فمن   أحدًا، فكف بصره" عمي. وفي الحديث: إن منكم معشر الأنصار من لو أقسم على الله لأبره، وفي تفسير القرطبي؛ أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ الآية على الرجل، دعا الله أن يعميه حتى لا يرى أحدًا غيره في الدنيا، فعمي مكانه، وتقدم مزيد لهذا النوع السابع من المقصد السادس، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيد في المقصد العاشر. "واعلم أنه لا يجتمع في القلب حبان، فإن المحبة الصادقة"، أي: الخالصة التي لا يشوبها رياء ولا مداهنة، ويعرف بالقرائن والأحوال، وصفها بذلك تنزيلًا لدلالتها على صدق صاحبها منزلتها، ووصف غير العاقل بالصدق، وهو الإخبار بما يطابق الواقع، كثير في كلامهم، ومنه صدق القتال إذا قوي واشتد، "تقتضي توحيد المحبوب" أي: جعله واحدًا، بحيث لا تتعلق محبته بغيره، فإذا تعلق قلب إنسان بمحبة شخصين لم تكن محبته لواحد منهما صادقة، فإن أراد صدقها، "فليختر المر لنفسه إحدى المحبتين" المتعلقتين بالشخصين، بالاقتصار على محبة واحد منهما، "فإنهما لا يجتمعان في القلب والإنسان عند محبوبه"، منقاد إليه، مسلم له جميع أموره، فيصير معه كعبد عامل بمقتضى العبودية من انقياده إلى سيده ظاهرًا وباطنًا وحرصه على طاعته وفعل مراده، وإن لم يأمره "كائنًا ما كان، كما قيل" قائله ابن الفارض: "أنت القتيل، بأي من أحببته"، لاستيلاء الحب عليك، فنقني في حبه بالانقياد له، فتصير كالميت الذي لا قدرة له على فعل شيء، فكأن المحبوب أزال شعور المحب لاستفراغه في هواه، "فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي"، أي: من تعده صافيًا في الدين، بحيث يحملك على ملازمة الطاعة سرا وإعلانا، وليس المراد من نختار؛ لأنه يصير في غاية الركة، كأنه قال: اختر من تختار، "ولبعض الحكماء: كما أن الغمد" "بكسر الغين المعجمة" "لا يتسع لعضبين": "بفتح المهملة وإسكان المعجمة" تثنية عضب، وهو السيف القاطع تسمية بالمصدر، فهو أخص من مطلق السيف، "فكذلك القلب لا يتسع لمحبتين، ولذلك لازم إقبالك على من تهواه إعراضك عن كل شيء سواه، فمن داهن في المحبة" أي: أظهر خلاف ما يبطن "أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 داهن في المحبة أو داجى، فقد عرض لمدى الغيرة أوداجًا، فمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام -بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء- لا يتم الإيمان إلا بها؛ إذ محبته من محبة الله تعالى. وقد حكي عن أبي سعيد الخراز -مما ذكره القشيري في رسالته- أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني فإن محبة الله شغلتني عن محبتك، فقال لي: يا مبارك من أحب الله فقد أحبني.   داجى"، بأن دارى، والمراد بها الأخذ للشيء والتوصل إليه بحيلة، "فقد عرض لمدى" "بضم الميم" جمع مدية السكين "الغيرة أوداجًا": جمع ودج، أي: العروق المكتنفة ثغرة البحر يمينًا وشمالًا، والمعنى: من لم يخلص المحبة عرض نفسه لأسباب الهلاك، الناشئة من غيرته على حبه لعدم وصوله لمراده منه، فيصاب بأسباب قاتلة كالمدى في شدة تأثيرها في البدن، "فمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل تقديمه في الحب على الأنفس والآباء والأبناء لا يتم الإيمان إلا بها". أي: لا يوجد ولا يكمل، فاستعمله بمعنى الوجود فيما قبل الإضراب، وبمعنى الكمال فيما بعده، "إذ محبته من محبة الله تعالى"، الواجبة لذاته، كما مر. "وقد حكي عن أبي سعيد" إبراهيم، وقيل: أحمد بن عيسى البغدادي، "الخراز": بالخاء المعجمة وشد الراء فألف فزاي منقوطة، نسبة إلى خرز جلود القرب، ونحوها من أئمة القوم وجلة المشايخ، قيل: وهو أول من تكلم في علمي الفناء والبقاء، وقيل: فيه قمر الصوفية صحب السري، وذا النون المصري، وبشر الحافي وغيرهم. قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد لهلكنا أقام كذا وكذا، سنة ما فاته ذكر الله بين الخرزتين. مات سنة سبع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين ومائتي، ومرت ترجمته أيضًا، "مما ذكره القشيري" أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن، الإمام العلامة، المفسر، المحدث، الولي، الذي ما رأى الراءون مثله، مر بعض ترجمته "في رسالته أنه" أي: أبا سعيد "قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله أعذرني" "بكسر الهمزة، وسكون العين، وكسر الذال المعجمة، وهمزته وهمزة وصل من عذر، كضرب، وبفتح الهمزة، وكسر الذال، وهمزته همزة قطع من أعذروهما، لغتان سوى بينهما المجد، ولم نر ضم الهمزة وكسر الذال، وهمزته همزة قطع من أعذروهما، لغتان سوى بينهما المجد، ولم نر ضم الهمزة والذال، والمعنى، أقبل عذري، فلا تؤاخذني بتقصيري، وارفع اللوم عني، "فإن محبة الله شغلتني عن محبتك، فقال لي: يا مبارك": اسم مفعول من البركة، وهي الزيادة والتنمية، هذا أصله لغة، ثم استعمل عرفًا في قليل الفطنة، فيحتمل أنه المراد هنا دفعًا لتوهمه، أن محبة الله تنافي محبته، ويعد المشتغل بها مقصرًا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 وقيل إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه صلى الله عليه وسلم يقظة، ولابن أبي المجد سيدي إبراهيم الدسوقي. ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه ولا تعبان بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه وكذلك كل حب في الله، كما في الصحيحين، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب   في حبه عليه الصلاة والسلام، مع أنها عينها، كما قال: "من أحب الله فقد أحبني"؛ لأني الداعي إلى الله، الموصل إليه. "وقيل: إن ذلك وقع لامرأة من الأنصار معه صلى الله عليه وسلم يقظة"، فإن ثبت فلا منافاة، كما لا يخفى، "ولابن أبي المجد" العارف بالله تعالى، "سيدي إبراهيم الدسوقي"، الشريف، الحسينيد، وقد ذكر نسبه في اللواقح، فقال إبراهيم بن أبي المجد بن قرش بن محمد بن أبي النجاء بن زين العابدين بن عبد الخالق بن محمد بن أبي الطيب بن عبد الله الكاتم بن عبد الخالق بن أبي القاسم بن جعفر الزكي بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي الزاهد بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي، تفقه على مذهب الشافعي، ثم اقتفى آثار الصوفية وجلس في مرتبة الشيخوخة، وحمل الراية البيضاء، وعاش ثلاثًا وأربعين سنة، ولم يغفل قط عن امجاهدة للنفس والهوى والشيطان، حتى مات سنة ست وسبعين وستمائة، "ألا يا محب المصطفى زد صبابة" "بفتح الصاد" شوقًا، أو رقته وحرارته، أو رقة هوى "وضمخ" "بمعجمتين بينهما ميم" الطخ "لسان الذكر" لله تعالى الذي تستعمله "منك بطيبه"، بإثناء عليه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم "ولا تعبان" أي: لا تهتم ولا تبال "بالمبطلين"، الزاعمين أن ذلك يشغل عن الله تعالى "فإنما علامة حب الله حب حبيبه" وزعمهم باطل، كيف، وقد قال: أحبوني لحب الله "وكذلك كل حب في الله، ولله كما في الصحيحين". البخاري في الإيمان والأدب، ومسلم في الإيمان، عن أبي قلابة "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث" مبتدأ، خبره جملة "من كن" أي: حصلن "فيه"، فهي تامة "وجد"، أي: أصاب، ولذا اكتفى بمفعول واحد، أعني "حلاوة الإيمان"، وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأن التنوين عوض عن المضاف إليه، أي: ثلاث خصال، أو لأنه صفة موصوف محذوف، وهو مبتدأ حقيقة، أي: خصال ثلاث، أو لأن الجملة الشرطية صفته، والخبر "أن يكون الله ورسوله أحب"، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"، فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربًَّا، وعلق وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به، وهوكونه سبحانه أحب الأشياء إلى   بالنصب خبر يكون "إليه مما سواهما" ولم يثن أحب ليطابق خبر كان اسمها؛ لأن أفعل التفضيل إذا وصل بمن، فهو مفرد مذكر دائمًا، ولا تجوز المطابقة لمن هوله "وأن يحب المرء" حال كونه "لا يحبه إلا الله تعالى"، وللنسائي من رواية طلق بن حبيب عن أنس، وأن يحب في الله ويبغض في الله. قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء، نقله الحافظ "وأن يكره أن يعود" أي: العود "في الكفر كما يكره أن يقذف" "بضم أوله وفتح ثالثه، أي: مثل كراهة القذف "في النار". زاد البخاري من وجه آخر بعد أن أنقذه الله منه، قال الحافظ: والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء، بأن يولد على الإسلام ويستمر، أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وعلى الأول، فيحمل قوله يعود على معنى الصيرورة، بخلاف الثاني، فالعود فيه على ظاهره. وفي رواية قتادة، عن أنس، عند مسلم والبخاري في الأدب: وحتى أن يقذف في النار أحب إليه ن أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، وهي أبلغ من هذه الرواية؛ لأنه سوى فيها بين الأمرين، وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه من نار الأخرى، فإن قيل لِمَ عدي العود بقي ولم يعده بالي، فالجواب أنه ضمنه معنى الاستقرار، كأنه قال: يستقر فيه، ومثله قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89] انتهى. وزعم العيني أنه تعسف، وإنما "في" هنا بمعنى "إلى" كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ، أي: لتصيرن إلى ملتنا، ومنعه شيخنا في قراءة البخاري بأنه لا تعسف، فكل من الطريقين مسلوك، وذلك لأن الفعل إذا عدي بحرف لا يتعدى به، جاز تأويل الفعل بما يتعدى به، كتأويل يؤمنون بالغيب بيعترفون، وتأويل الحرف مع بقاء الفعل على حقيقته، كالمثال الذي ذكره، بل قال بعضهم: التأويل في الفعل أولى "فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربا"، بقوله صلى الله عليه وسلم: "ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا"، الحديث الآتي قريبًا، وطعم الإيمان، بمعنى حلاوة الإيمان؛ لأن الثلاثة لا توجد إلا ممن صح إيمانه وانشرح صدره، قال عياض، "وعلق" في هذا الحديث "وجدان حلاوته بما هو موقوف عليه، ولا يتم إلا به، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 العبد هو ورسوله، فمن رضي الله ربًّا رضيه الله له عبدًا. ومعنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في الدين، ويؤثر ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قاله النووي. وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلالة، والخلاص من النار، إنما كان بالله على لسان رسوله. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "حلاوة الإيمان" استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرًّا،   إلى العبد هو" تعالى "ورسوله" عليه السلام "فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدًا"، بمعنى أثابه جزيل الثواب، "ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في الدين"، فاستعمال الحلاوة فيه مجاز مرسل من ذكر الملزوم وإرادة اللازم "ويؤثر" لفظ الفتح، وإيثار "ذلك على أعراض الدنيا ومحبة العبد لله تحصل"، أي: تتحقق وتوجد "بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول، قاله النووي": بمعنى أن فعل الطاعة علامة على محبة العبد، فليس عين المحبة، بل هو مسبب عنها، كما أشار إليه البيضاوي، في إن كنتم تحبون الله. "وقال غيره: معناه أن من استكمل الإيمان علم أن حق الله ورسوله آكد عليه من حق والده وولده وجميع الناس؛ لأن الهدى من الضلالة والخلاص من النار إنما كان بالله على لسان رسوله"، فكأن حمله على معنى الحديث قبله: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". "وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "حلاوة الإيمان" كما قال الحافظ "استعارة تخييلية، فإنه شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه"، ولا يتعين هذا فيجوز أنه شبه اللذة الحاصلة من التلبس بالإيمان بحلاوة الحلو، واستعار له اسمه، فتكون استعارة تصريحية، ويجوز أنه مجاز مرسل أطلق الحلاوة وأراد لازمها عند تناولها، وهو اللذة"، وفيه تلميح إلى قضية المريض والصحيح؛ لأن المريض الصفراوي"، الذي غلب خلط الصفراء على مزاجه، "يجد طعم العسل مرًّا" لفساد مزاجه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما، نقص ذوقه بقدر ذلك. وقال العارف ابن أبي جمرة واختلف في الحلاوة المذكورة هل هي محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى وهم الفقهاء ومن شابههم، وحملها   "والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه، وكلما نقصت الصحة شيئًا ما" قليلًا "نقص ذوقه بقدر ذلك". زاد الحافظ: فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوى به استدلال البخاري على الزيادة والنقص أي: للإيمان، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إنما عبر بالحلاوة؛ لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الإمر واجتناب النهي، وزهرتها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرتها عمل الطاعات، وحلاوة الثمرة جني الشجرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها. انتهى. وقال البيضاوي: المراد بالحب العقلي، الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفس، كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله، فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرن على الاتمار بأمره، بحيث يصير هواه تبعًا له، ويتلذذ به تلذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة؛ لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة، وإنما جعل هذه الثلاثة عنوانًا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه وأن ما عداه وسائط، وأن الرسول هو الذي يبين مراد ربه، اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه، فلا يحب إلا ما يحب، ولا يحب من يحب إلا من أجله، وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينًا، يخيل إليه الموعود، كالواقع، فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة، وأن العود في الكفر إلقاء في النار، انتهى ملخصًا. وشاهد هذا الحديث من القرآن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] ، ثم هدد على ذلك، وتواعد بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} فإن فيه إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فالأول من الأول، والثاني من الثاني. انتهى كله من فتح الباري. "وقال العارف ابن أبي جمرة": بجيم وراء، "واختلف في الحلاوة المذكورة" في قوله حلاوة الإيمان "هل هي محسوسة أو معنوية، فحملها قوم على المعنى"، بمعنى: أن من وجدت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 قوم على المسحوس وأبقوا اللفظ على ظاهره من غيره أن يتأولوه وهم أهل الصفة، أو قال أهل الصوفة. قال: والصواب معهم في ذلك والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل. قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح وأهل   فيه جزم بالإيمان وانقاد إلى أحكامه، "وهم الفقهاء ومن شابههم" من أهل المعقولات "وحملها قوم على المحسوس، وأبقوا اللفظ على ظاهره من غير أن يتأولوه، وهم أهل الصفة" "بضم الصاد وشد الفاء" السادة الصوفية، سموا بذلك لجريهم على نحو ما كان عليه أهل الصفة، وهي ظلة في مؤخر المسجد النبوي، يأوي إليها المساكين من الانقطاع إلى الله وعبادته، والإعراض عن الدنيا، "أو قال أهل الصوفة" للبسهم الصوف تقشفًا وإعراضًا عما تنعم به الأغنياء. "قال" ابن أبي جمرة: "والصواب معهنم في ذلك والله أعلم؛ لأن ما ذهبوا إليه أبقوا به لفظ الحديث على ظاهره من غير تأويل"، والأصل أنه لا يعدل عن الحقيقة، ما وجد إليها سبيل، والمتبادر من هذا أنها أمر يدرك حلاوته بالفم، كما يدرك حلاوة السكر والعسل ونحوهما، وهذا شيء لا يدركه إلا من وصل إلى ذلك المقام، فلا يليق اعاء أنه غير مراد، بل المراد ما يأتي أنه أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه، كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة؛ لأن الآتي كلام ابن القيم حملا له على المعنى؛ إذ هو لم يذكر القول بأنها محسوسة فلا يرد إليه، وكذا ما نقلناه آنفًا من نفس كلام ابن أبي جمرة، المصرح بأن التعبير بإطلاق الحلاوة إنما هو على وجه التشبيه، أي: يجد في قلبه حلاوة تشبه الحلاوة المأكولة بالفم، إنما هو تقرير للقول بأنها معنوية، وما لنا وللتكلم فيما لا نعرفه ولا يمكننا تخيله: وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار "قال: ويشهد إلى ما ذهبوا إليه أحوال الصحابة والسلف الصالح" كالتابعين "وأهل المعاملات" وهي منازل عشرة ينزلها السائرون إلى الحق عز اسمه، وهي الرعاية والمراقبة والحرمة والإخلاص، والتهذيب والاستقامة، التوكل والتفويض، والثقة والتسليم، سميت بالمعاملات؛ لأن العبد لا يصلح له معاملة الحق إلا بأن يتحقق بهذه المقامات، فالمعاملة عندهم عبارة عن توجه النفس الإنساني إلى باطنها، الذي هو الروح الروحاني والسر الرباني، واستمدادها منهما ما يزيل الحجب عنها، ليحصل لها قبول المدد في المقابلة إزالة كل حجاب، وهذا إنما يصح لعبد يملك ناصية الزهد، ثم الورع، ثم الحزن، فمن ملك ناصية هذه الثلاثة استحق أن يصير من أهل المعاملات، وأهم ما عليه أن يتحقق بأعم مقاماتها وأهمه، وهو الإخلاص؛ إذ لا تصبح المعاملة بدونه، ثم المراقبة، ثم التفويض، قاله في الأعلام بإشارات أهل الإلهام، "فإنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 المعاملات، فإنهم حكوا عنهم أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة. فمن ذلك: حديث بلال حين صنع به ما صنع في الرمضاء إكراهًا على الكفر، وهو يقول أحد أحد، فمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان. وكذلك أيضًا عند موته، أهله يقولون: واحرباه، وهو يقول: واطرباه، غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه، فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء وهي حلاوة الإيمان. ومنها حديث الصحابي الذي سُرق فرسه بليل وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك فقال: ما كنت فيه ألذ من   حكوا عنهم؛ أنهم وجدوا الحلاوة محسوسة، فمن ذلك حديث بلال"، بن رباح، أحد السابقين الأولين "حين صنع به ما صنع في الرمضاء": "بفتح الراء وسكون الميم وضاد معجمة والمد" أرض اشتد وقع الشمس فيها، سواء كان فيها رمل أو حصى أو غيرهما. روي أنهم كانوا يلصقون ظهره برمضاء البطحاء في الحر، ولأحمد عن أبي ذران بلالاً، هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة "إكراهًا على الكفر، وهو يقول أحد أحد"، مرفوع منون، كذا أحفظه، وكذا في أصلنا من ابن ماجه خبر مبتدأ محذوف، أي: الله أحد، كأنه يشير إلى أنه لا يشرك بالله شيئًا، ويحتمل أنه غير منون، أي: يا أحد، قاله في النور "فمزج": خلط "مرارة العذاب": مشقته وألمه "بحلاوة الإيمان، وكذلك أيضًا" وقع له ذلك "عنه موته أهله، يقولون": أي زوجته، كما في الشفاء والمصنف في المقصد الأول، ولفظه: وهذا كما وقع له عند موته، كانت امرأته تقول: "واحرباه": روي بفتح الحاء والراء المهملتين، والموحدة من الحرب بفتحتين، وهو كما في النهاية نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، فكأنها لتفجعا نهبت وسلبت. وروي بفتح الحاء والزاي، وبضم الحاء وسكون الزاي، وروى واحوباه، بحاء مفتوحة وواو ساكنة فموحدة من الحوب الإثم، والمراد ألمها بشدة جزعها وقلقها في المصيبة، فهي تتفجع على نفسها، أو من الحوبة بمعنى رقة القلب، وهو تكلف، "وهو يقول: واطرباه": أي: فرحاه، والواو للندبة، والألف والهاء مزيدة في آخره، كأنه يستغيث بطربه، ويدعوه في سكرات الموت لما تيقنه من الثواب وملاقاة الأحباب، كما أشار إليه بقوله: "غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه": أصحابه، والمراد بغدا الزمان المستقبل بعد الموت، "فمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء، وهي حلاوة الإيمان"، أي: من جملة حلاوته "ومنها حديث الصحابي الذي سرق فرسه بليل، وهو في الصلاة، فرأى السارق حين أخذه، فلم يقطع لذلك صلاته، فقيل له في ذلك"، أي: ليم على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 ذلك، ولا ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك. ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه من قبل العدو، وقد أقبل فرآهما، فكبل الجاسوس القوس ورمى الصحابي فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه وقال: لولا أني خفت على المسلمين ما قطعت صلاتي. وما ذاك إلا لشدة ما وجد فيها من الحلاوة حتى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح. قال: ومثل ذلك حكى عن كثير من أهل المعاملات، انتهى. وحديث هذين الصحابيين ذكره البخاري في صحيحه في باب "من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" بلفظ: ويذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة "ذات الرقاع" فرُمي رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته. وقد   عدم اتباع السارق وتخليصها منه، "فقال: ما كنت فيه ألذ من ذلك ولا ذاك إلا للحلاوة التي وجدها محسوسة في وقته ذلك" إذ لو كانت معقولة معنوية ما قدمها على ضياع فرسه "ومنها حديث الصحابيين اللذين جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه من قبل العدو"، أي: من جهته "وقد أقبل" العدو "فرآهما فكبل" "باللام بزنة ضرب والتشديد مبالغة" "الجاسوس القوس" أي: أوتره، عبر عنه بالتكبيل مجازًا تشبيهًا لابتار القوس بوضع القيد في رجل الأسير، لمبالغته في إبتاره، ليتمكن من قوة الرمي، وفي نسخة: فكبد بالدال، أي: جعل النشاب في وسط القوس، "ورمى الصحابي فأصابه، فبقي على صلاته ولم يقطعها، ثم رماه ثانية فأصابه، فلم يقطع لذلك صلاته، ثم رماه ثالثة فأصابه، فعند ذلك أيقظ صاحبه". "وقال: لولا إني خفت على المسلمين ما قطعت صلاتي"، أي: ما اختصرتها؛ لأنه لم يقطعها بالفعل "وما ذاك": أي: عدم قطعها واعتذاره "إلا لشدة ما وجده فيها من الحلاوة حتى أذهبت عنه ما يجد من ألم السلاح". "قال: ومثل ذلك حكي عن كثير من أهل المعاملات انتهى". كلام ابن أبي جمرة. "وحديث هذين الصحابيين ذكره البخاري في صحيح في باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين" من كتاب الوضوء "بلفظ: ويذكر عن جابر" بن عبد الله الصحابي ابن الصحابي؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع، فرُمي" "بضم الراء مبنيًّا للمفعول" "رجل" هو عباد بن بشر "بسهم، فنزفه الدم" "بفتح الزاي والفاء" أي: خرج منه دم كثير حتى يضعف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 وصله ابن إسحاق في المغازي قال: حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن أبيه مطولًا، وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزمية وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق، قال في فتح الباري، وشيخه "صدقة" ثقة،   قاله الجوهري، وفي أفعال ابن طريف يقال: نزفه الدم وأنزفه. إذا سال منه كثيرًا حتى يضعفه، فهو نزيف ومنزوف "فركع وسجد، ومضى في صلاته" فلم يقطعها. قال الحافظ: أراد البخاري بهذا الحديث الرد على الحنفية في أن الدم السائل ينقض الوضوء، فإن قيل: كيف مضى في صلاته مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه، واجتناب النجاسة فيها واجب، أجاب الخطابي: باحتمال أن الدم جرى من الجرح على سبيل الدفق، بحيث لم يصب شيئًا من ظاهر بدنه وثيابه وفيه بعد، ويحتمل أن الدم أصاب الثوب، فقط فنزعه عنه، ولم يسل على جسمه إلا قدر يسير معفو عنه، ثم الحجة قائمة به على أن خروج الدم لا ينقض، ولو لم يظهر الجواب عن كون الدم أصابه. "وقد وصله ابن إسحاق في المغازي" في غزوة ذات الرقاع، "قال: حدثني صدقة بن يسار" الجزري، نزيل مكة، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة "عن عقيل بن جابر" بن عبد الله الأنصاري، المدني، مقبول "عن أبيه" جابر الصحابي "مطولًا" قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فأصبنا امرأة رجل من المشركين، فلما قفل صلى الله عليه وسلم، أتى زوجها وكان غائبًا، فحلف لا ينتهي حتى يصيب في أصحاب محمد دمًا، فخرج يتبع أثره صلى الله عليه وسلم فنزل منزلًا، فقال: "من رجل يكلؤنا ليلتنا"؟، فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقالا: نحن يا رسول الله، قال: "فكونا في فم الشعب"، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد نزلوا إلى شعب من الوادي، فقال الأنصاري للمهاجري: أي الليل تحب أن أكفيك، أوله أم آخره، قال: بل أكفني أوله، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل، فلما رأى شخص الرجل، عرف أنه ربيئة القوم، فرمى بسهم فوضعه فيه، فنزعه ووضعه، وثبت قائمًا ثم رماه بسهم آخر فوضعه فيه فنزعه ووضعه وثبت قائمًا ثم عاد له بالثالث فوضعه فيه فنزعه فوضعه ثم ركع وسجد، ثم أهب صاحبه، فقال: اجلس فقد أثبت، فوثب، فلما رآهما الرجل عرف أنه قد نذرا به، فهرب، ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدماء، قال: سبحانه الله ألا أهببتني أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها، فلما تابع عليَّ الرمي ركعت، فآذنتك، وايم الله لولا أن أضيع ثغرًا أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنقدها. "وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كلهم من طريق ابن إسحاق"، محمد إمام المغازي، "قال في فتح الباري: وشيخه صدقة ثقة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 وعقيل -بفتح العين- لكني لا أعرف راويًا عنه غير صدقة، ولهذا لم يحزم به البخاري، أو لكونه اختصره، أو للاختلاف في ابن إسحاق وأخرجه البيهقي في الدلائل من وجه آخر، وسمي أحدهما: عباد بن بشر الأنصاري، والآخر عمار بن ياسر من المهاجرين، والسورة الكهف. وإنما قال: "أحب إليه مما سواهما" ولم يقل "ممن" ليعم من يعقل ومن لا يعقل. وفي قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية، وأما قوله للذي خطب فقال: "ومن يعصهما" "بئس الخطيب أنت".   روى له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وعقيل "بفتح العين" وكسر القاف"، وإن كان مقبول الرواية، "لكني لا أعرف راويًا عنه غير صدقة"، فيكون مجهول العين، وهو مردود عند الأكثر، "ولهذا لم يجزم به البخاري" بل أتى بصيغة التمريض، بقوله: يذكر على عادته فيما لم يصح عنده "أو لكونه اختصره"، وهو مسوغ للتمريض، "أو للاختلاف في ابن إسحاق"، فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه. "وأخرجه البيهقي في الدلائل" النبوية "من وجه آخر وسمي أحدهما": أي: الرجلين المبهمين في رواية ابن إسحاق، "عباد بن بشر الأنصاري"، وهو الذي رُمي بالسهام، "و" سمي الرجل "الآخر عمار بن ياسر من المهاجرين" وسمي "السورة" التي كان يقرؤها عباد في صلاته "الكهف" فحصل بهذه الطريق تقوية، رواية ابن إسحاق، مع بيان المبهم في روايته من الرجلين والسورة، "وإنما قال: "أحب إليه مما سواهما"، ولم يقل ممن، ليعم من يعقل ومن لا يعقل" لأن ما موضوعة لهما بخلاف من، فموضوعة للعاقل. قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وقال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} قال البيضاوي: لما استعمل ما للعقلاء، كما استعمل من لغيرهم كان استعماله حيث اجتمعا أولى من إطلاق من تغليبًا للعقلاء "وفي قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية"، أي: يجوز جمع الله ورسوله في ضمير واحد، "وأما قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب"، قال الحافظ برهان الدين في المقتفى: لا أعرفه، وقال بعض الحفاظ: إنه ثبات بن قيس، وقال الطوفي: هو عدي بن حاتم. روى مسلم وأبو داود عن عدي بن حاتم، أن خطيبًا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم "فقال": من يطع الله ورسوله فقد رشد، "ومن يعصهما" فقد غوى، فقال صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت"، قل: "ومن يعص الله ورسوله فقد غوى"، ورشد بفتح الشين المعجمة وكسرها، كما قال المصنف على مسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 فليس من هذا؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح، وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر، قال: "ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه". وقيل: إنه من الخصائص، فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك، وإلى هذا مال ابن عبد السلام. ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب، أن تثنية   "فليس من هذا؛ لأن المراد في الخطب الإيضاح" واجتناب الرمز، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، لتفهم كما في الصحيح، "وأما هنا، فالمراد الإيجاز": الاختصار "في اللفظ ليحفظ" إذ القليل يسهل حفظه وهذا صوبه النووي قائلًا: وهذا هو الفرق بين الحديثين، حديث من يعصهما كان في خطبة، وحديث مما سواهما كان في تعليم حكم، فتقليل اللفظ فيه أولى؛ لأنه أقرب إلى الحفظ "ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر، قال": كما رواه أبو داود عن ابن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقال في خطبته: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه"، واعترض بأن هذا الحديث إنما ورد أيضًا في خطبة النكاح، وأجيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضًا الإيجاز، فلا نقض، وثَمَّ أجوبة أخرى، منها دعوى الترجيح، فيكون خبر المنع أولى،؛ لأنه عام، والآخر يحتمل الخصوصية، ولأنه ناقل، والآخر مبني على الأصل، ولأنه قول، والآخر فعل ورد بأن احتمال التخصيص في القول أيضًا حاصل، بل ليس فيه صيغة عموم أصلًا. هكذا في الفتح قبل قوله: "وقيل: إنه من الخصائص فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه ولم ولا يمتنع منه؛ لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية" بينهما؛ لأنه لفظ واحد متصل، لا سيما إذا لوحظ العدول عن العطف، الدال على التفاوت والتبعية، ولذا قال له: قل ومن يعص الله ورسوله "بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك"، لأنه يعطي مقام الربوبية حقه، "وإلى هذا مال ابن عبد السلام" الشيخ عز الدين. زاد الحافظ: ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر، هو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة، فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر، وكلام الذي خطب جملتان، فالأولى إقامة الظاهر فيهما. "ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين هذا الحديث وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلًا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك، ويشير إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد. وأما الأمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول، انتهى ملخصًا من كلام البيضاوي والطيبي، كما حكاه في فتح الباري. وفي الصحيح: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد   للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة منهما، فإنها وحدها لاغيه" متروكة، لا اعتداد به "إذ لم ترتبط بالأخرى، فمن يدعي حب الله مثلًا ولا يحب رسوله، لا ينفعه ذلك"، كعكسه، "ويشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، فأوقع متابعته مكتنفة" "بفتح النون" اسم مفعول من اكتنفه القوم أحاطوا به "بين قطري" تثنية قطر، أي: جانبي "محبة العباد لله، ومحبة الله للعباد"، والإضافة بيانية، يعني؛ أنه جعل المتابعة محاطًا بها طرفان، أحدهما: محبة الله، والآخر محبة رسوله، وعليه فبين هنا بمعنى الباء؛ لأن بين ظرف لا يظهر معناها إلا بإضافتها لمتعدد "وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية" "بفتح الغين المعجمة" اسم من غوى غيًا من باب ضرب انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد "إذ العطف في تقدير التكرير"، والاستقلال لقيام الواو مقام تكرار العامل، أو تقديره معها، "والأصل استقلال في كل من المعطوفين في الحكم، ويشير إليه قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، فأعاد أطيعوا في الرسول، ولم يعده في أولي الأمر؛ لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول، انتهى ملخصًا من كلام البيضاوي والطيبي"، كلاهما في شرح المصابيح، "كما حكاه في فتح الباري" وزاد وهنا أجوبة أخرى فيها نظر، منها: أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، ومنها: أن له أن يجمع بخلاف غيره، انتهى. "وفي الصحيح" لمسلم من إفراده، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 رسولًا نبيًّا. قال في المدارج: فأخبر أن للإيمان طمعًا، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب. وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان وحصوله للقلب ومباشرته له بالذوق تارة وبالطعم أخرى، ويوجد الحلاوة تارة، كما   يقول: "ذاق طعم الإيمان"، قال عياض: أي: عرف الله سبحانه واستحلى الإيمان "من رضي بالله ربًّا" فالرضا دليل على هذه المعرفة، قال لأبي: لأنه تسبب عنها، ووجود السبب يدل على وجود المسبب، ثم الرضا يكون بمعنى القناعة وبمعنى الإيثار، وهو المراد؛ لأن الأول مشترك بين جميع الناس؛ إذ من لم يقنع بالله ربًّا ليس من الإسلام في شيء، واستحلاء الإيمان من صفة الخواص، فإنما يدل عليها ما هو من صفتهم، فالمعنى عرف الله، واستحلاء الإيمان به من أثره، فإن قيل: هذان هما الغاية، فلو أريد ألم يعبر عنهما بالذوق، وهو مبدأ الفعل؛ إذ لا يعبر عن غاية الشيء بمبدئه، قلت: الذوق إنما هو مبدأ الفعل إذ استعمل في المحسوسات، كذوق الطعام، أما إذا استعمل في المعاني، كما هنا، فإنما هو كناية عن كمال الإدراك، والرضا بالله يستلزم الرضا عنه، انتهى. وقال الراغب: الذوق، وجود الطعم في الفم، وأصله فيما يقل تناوله، فإذا كثر، يقال له الأكل، واستعمل في القرآن بمعنى الإصابة، أما في لرحمة نحو {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} ، وأما في العذاب، نحو {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56] ، وقال غيره: ضرب الذوق مثلًا لما ينالونه من الخير عند المصطفى "وبالإسلام دينًا" بأن لم يسع في غير طريقه. قال الطيبي: لا يخلو أما أن يراد به الانقياد، كما في حديث جبريل، أو مجموع ما يعبر بالدين عنه، كخبر بني الإسلام على خمس، ويؤيد الثاني اقترانه بالدين؛ لأنه جامع باتفاق، وعلى التقديرين هو عطف عام على خاص. وكذا قوله: "وبمحمد رسولا" بأن لم يسلك إلا ما يوافق شرعه، ومن كان هذا نعته فقد وصلت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه، شبه الأمر الحاصل الوجداني من الرضا بالأمور المذكورة بمطعوم يلتذ به، ثم ذكر المشبه به، وأراد المشبه، ورشح بقوله: ذاق، فإن قيل الرضا بالثالث مستلزم للأولين، فلم ذكرهما، قلنا للتصريح، بأن الرضا بكل منها مقصود "ونبيًّا"، كذا في النسخ عطف لازم على ملزوم؛ لأن الرسالة مستلزمة للنبوة، ولكن ليس في مسلم ونبيًَّا، ولم يتكلم شارحاه النووي والأبي على أنها راوية، وقد نسبه السيوطي لأحمد ومسلم والترمذي بدون ونبيًّا، فكأنها دخلت على المصنف من حديث آخر. "قال في المدارج" لابن القيم "فأخبر أن للإيمان طعمًا، وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم طعم الطعام والشراب"، أي: بإدراكه لذة الإيمان وسهولة ما بني عليه من فعل الطاعات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 قال "ذاق". وقال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان"، ولما نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل قال: "إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى"، وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا طعام وشراب حسي للفم، وسيأتي تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في الصوم، من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام. والمقصود أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم، وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". وللإيمان طعام وحلاوة يتعلق بهما ذوق ووجد، ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحالة، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه   واجتناب المعاصي، فعبر بالذوق عن الإدراك، وبالطعم عن السهولة، واطمئنان النفس بما يقتضيه الإيمان مجازًا. "وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن إدراك حقيقة الإيمان والإحسان، وحصوله للقلب، ومباشرته له بالذوق" متعلق بعبر "تارة بالطعم أخرى، ويوجد" "بفتح السكون" مصدر "الحلاوة تارة، كما قال: ذاق" طعم الإيمان "وقال" في الحديث الذي قبله: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" ولذا قال الطيبي: مجاز قوله ذاق طعم الإيمان مجاز قوله: وجد حلاوة الإيمان، وكذلك موقعه كموقعه؛ لأن من أحب أحدًا يتحرى ماضيه ويؤثر رضاه على رضا نفسه "لما نهاهم عن الوصال" في الصوم "قالوا": مستفهمين "أنك تواصل، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى" بما يغذيني به ربي من معارفه، وما يفيض على قلبي من لذة مناجاته، وقرة عيني بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، المغني ذلك عن غذاء الأجسام مدة: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب ويليها عن الزاد "وقد غلظ" أي: قوي "حجاب من ظن أن هذا" الذي يطعمه ويسقاه حين الوصال "طعام وشراب حسي للفم"، يؤتى له من الجنة؛ لأنه لم يدرك الأمور على حقيقتها، فعبر عن ذلك بالغلظ والحجاب مجازًا، "وسيأتي تحقيق الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في الصوم من مقصد عباداته عليه الصلاة والسلام"، وأن الجمهور على أنه مجاز عن لازم الطعام والشراب، وهو القوة، كأنه قال: أعطى قوة الطاعم الشارب، "والمقصود" هنا "أن ذوق حلاوة الإيمان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كذوق حلاوة الطعام إلى الفم"، فهو على التشبيه، أي: وجد في فعله حلاوة تشبه الحلاوة والمأكولة، "وذوق حلاوة الجماع إلى اللذة، كما قال عليه الصلاة والسلام" لامرأة رفاعة: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، وللإيمان طعم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 ويجد حلاوته. وقال العارف الكبير تاج الدين بن عطاء الله: فيه يعني في هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى تتنعم بملذوذات المعاني كما تتنعم بملذوذات الأطعمة، وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا لأنه لما رضي بالله ربًّا استسلم له وانقاد لحكمه، وألقى قياده إليه، فوجد لذاذة العيش وراحة التفويض، ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله، وإذا كان له الرضا من الله أوجده الله حلاوة ذلك ليعلم ما من به عليه، وليعلم إحسانه عليه، ولما   وحلاوة يتعلق بها ذوق ووجد" أي: إدراك، "ولا تزول الشبه والشكوك إلا إذا وصل العبد إلى هذه الحال، فيباشر الإيمان قلبه حقيقة المباشرة، فيذوق طعمه ويجد حلاوته" المعنوية، المشابهة للحسية. "وقال العارف الكبير تاج الدين" أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله"، نسبة إلى جده الأعلى لشهرته به الجذامي، الإسكندراني، الإمام، المتكلم على طريقة الشاذلي، الجامع لأنواع العلوم من تفسير وحديث ونحو وأصول وفقه، على مذهب مالك، وصحب في التصوف الشيخ أبا العباس المرسي، وكان أعجوبه زمانه فيه، وأخذ عنه التقي السبكي، واختصر تهذيب المدونة للبرادعي في الفقه، وألف التنوير والحكم وغير ذلك، ومات بالمدرسة المنصورية في القاهرة في ثالث جمادى الآخرة، سنة تسع وسبعمائة ودفن بالقرافة ذكره السيوطي وابن فرحون، في طبقات المالكية وغيرهما. ولا نزاع في أنه مالكي وذكر ابن السبكي له في طبقات الشافعية، لقوله: أراه كان شافعيًّا وليس كما ظن "فيه، يعني في هذا الحديث إشارة إلى أن القلوب السليمة من أمراض الغفلة والهوى"، إضافة أعم إلى أخص، أو بيانية "تتنعم بملذوذات المعاني، كما تتنعم بملذوذات الأطعمة" تشبيه بمطلق اللذاة، فلا ينافي أن لذتهم أقوى قال إبراهيم بن أدهم: والله إنا لفي لذة لو علمها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف. وقال الجنيد: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم. وقال عتبة الغلام: كابدت الصالة عشرين سنة، ثم استمتعت بها بقية عمري، "وإنما ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا؛ لأنه ما رضي بالله ربًّا" أعاده مظهرًا تلذذًا بذكره: أعد ذكر نعمان لنا أن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع "استسلم له وانقاد لحكمه"، عطف تفسير، "وألقى قياده" "بكسر القاف" "إليه" أي: أطاعه وأذعن له، فهي ألفاظ متقاربة "فوجد لذاذة" "بالفتح بزنة سلامة مصرد لذيذ لذاذًا ولذاذة بالفتح" "العيش وراحة التفويض، ولما رضي بالله ربًّا كان له الرضا من الله" جزاء من جنس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 سبقت لهذا العبد العناية خرجت له العطايا من خزائن المنن، فلما واصلته أمداد الله وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام، فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته لصحة إدراكه وسلامة ذوقه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبالإسلام دينًا" لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي مما رضي به المولى، ولازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكون له وليًّا، وأن يتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناة وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، فمن رضي بالله استسلم له، وانقاد ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم تابعه، ولا يكون واحد منها إلا بكلها؛ إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا، أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بين لا خفاء فيه، انتهى ملخصًا. واعلم أن محبة الله تعالى على قسمين: فرض وندب. فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال الأوامر والانتهاء عن المعاصي،   العمل، "وإذا كان له الرضا من الله أوجده الله حلاوة ذلك، ليعلم ما من" "بشد النون": أنعم "به عليه، وليعلم إحسان الله عليه"، فيزداد شكره، فيزيد ثوابه، "ولما سبقت لهذا العبد العناية" الحفظ "خرجت له العطايا من خزائن المنن"، جمع منه "فلما واصلته أمداد الله": زياداته "وأنواره عوفي قلبه من الأمراض والأسقام": الأمراض المهلكة، "فكان سليم الإدراك، فأدرك لذاذة الإيمان وحلاوته، لصحة إدراكه وسلامة ذوقه"، مما يغير طعمه عليه، "وقوله صلى الله عليه وسلم: "وبالإسلام دينًا" لأنه إذا رضي بالإسلام دينًا فقد رضي مما رضي به المولى" تبارك وتعالى، كما قال: ورضيتت لكم الإسلام دينًا "ولازم من رضي بمحمد نبيًّا أن يكونه له وليًّا"، مواليًا، "وأن يتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه زهدًا في الدنيا وخروجًا عنها، وصفحًا عن الجناة", بضم الجيم جمع جان، أي: المذنبين ذنبًا يؤاخذ به، "وعفوًا عمن أساء إليه، إلى غير ذلك من تحقيق المتابعة قولًا وفعلًا وأخذًا وتركًا وحبًّا وبغضًا، فمن رضي بالله استسلم له وانقاد، ومن رضي بالإسلام عمل له، ومن رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم" رسولًا "تابعه" متابعة تامة، "ولا يكون" لا يوجد "واحد منها إلا بكلها إذ محال أن يرضى بالله ربًّا ولا يرضى بالإسلام دينًا أو يرضى بالإسلام دينًا ولا يرضى بمحمد نبيًّا، وتلازم ذلك بين لا فخاء فيه. انتهى ملخصًا" كلام ابن عطاء الله. "واعلم أن محبة الله تعالى"، كما نقله في فتح الباري عن بعضهم "على قسمين فرض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 والرضى بما يقدره، فمن قوع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله، حيث قدم هوى نفسه، والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها، فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية، أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم. والندب: أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع في الشبهات، والمتصف بذلك عموم الأوقات والأحوال نادر. وفي البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى   وندب، فالفرض المحبة التي تبعث على امتثال الأوامر" المفيدة للفرضية، وأطلقها؛ لأن إطلاقها على غير الواجب مجاز، كما حققه المحلى لا مشترك، "والانتهاء عن المعاصي والرضى بما يقدره" أي: بقدره أن حمل على التقدير الأزلي، أو يقدره حالًا ومآلًا أن حمل على التعلق التنجيزي والصلوحي، "فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب"، عبر عن الأمرين المتقدمين بواحد، وأن تحته فردين إشارة إلى تلازمهما، وإن اختلفا بحسب المفهوم، وما صدقهما؛ إذ الأول هو الفعل الذي طلبه الشارع طلبًا حازمًا، والثاني الفعل الذي نهى عنه نهيًا جازمًا، "فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه" حيثية تعليل، فهو تعليل للتعليل، فإن قيل: يلزم عليه تعليل الشيء بنفسه؛ لأن المعنى: أن الوقوع في المعصية سببه فعلها، الذي هو اتباع هوى نفسه، فالجواب أنه دفع ذلك بقوله: "والتقصير يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها"، ووجه الدفع أن التقصير الذي هو سبب العصيان ليس ناشئًا عن اتباع هوى نفسه، الذي هو المعصية فقط؛ إذ هواها لا يختص بالمعصية، فيحمل على أمر مباح ليصح مغايرة السبب للمسبب "فيورث" ذلك الاسترسال والاستكثار "الغفلة" عما يحمله على امتثال الأمر واجتناب النهي، لغفلته عن الرغبة في الثواب والخوف من العقاب، "المقتضية للتوسع في الرجاء" لرحمة الله، كأن يقوم في نفسه أنه وإن أكثر من الشبهات لا يناله مكروه، "فيقدم" بذلك، أي: يجترئ "على المعصية" ويرجو المغفرة. زاد في الفتح: "أو تستمر الغفلة فيقع، وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم" وإليه يشير حديث: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" "والندب أن يواظب على النوافل ويجتنب الوقوع في الشبهات"، وهي ما ليس بواضح الحل والحرمة، مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب، فبعضها يعضده دليل الحرام، وبعضها يعضده دليل الحلال، "والمتصف بذلك عموم الأوقات والأحوال نادر". زاد المحافظ: وكذا محبة الرسول على قسمين كما تقدم، ويزاد أن لا يتلقى شيئًا من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 أنه قال: "ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه -وفي رواية: بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه- ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته".   المأمورات والمنهيات إلا من مشكلته، ولا يسلك إلا طريقته، ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضين ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك انتهى. "وفي البخاري" في الرقائق "من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال" لفظه: حدثني محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي" وللكشميهني عبد "بحذف الياء" "بمثل أداء ما افترضته عليه" عينًا أو كفاية، وظاهره اختصاصه بما ابتدأ الله فرضه، وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر للتقييد، بقوله: افترضت إلا أن يوجه من جهة المعنى الأعم، قاله الحافظ. "وفي رواية "بشيء أحب"، بالفتح صفة لشيء، فهو مفتوح في موضع جر، وبالرفع بتقدير هو أحب "إليَّ من أداء ما افترضت عليه" أي: تأديته لا المقابل للقضاء فقط، بل المراد فعل ما افترض عليه، "ولا يزال" بلفظ المضارع، وللحموي والمستملي، وما زال "عبدي" بإضافة التشريف "يتقرب إلي بالنوافل" مع الفرائض، كالصلاة والصيام "حتى أحبه"، بضم أوله، أي: أرضى عنه، "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها" "بضم الطاء وكسرها" روايتان: وبهما قرئ أم لهم أيد يبطشون بها، أي: تأخذ بقوة، "ورجله التي يمشي بها". زاد في حديث عائشة عند أحمد والبيهقي في الزهد، "وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به". وفي حديث أنس عند أبي يعلى وغيره: "ومن أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا"، وقوله: "فبي يسمع وبي يبصر، وبي يبطش وبي يمشي". ليست هذه الجمل في رواية البخاري: "ولئن سألني"، زاد في حديث عائشة عبدي "لأعطيننه" ما سأل مما يعود بنفع عليه، كصحة وتوفيق إلى طاعه، "ولئن استعاذني"، قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 ويستفاد من قوله: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما   المصنف: بالنون بعد الذال المعجمة في الفرع كأصله، وبالموحدة في غيرهما "لأعيذنه" مما يخاف. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي في الزهد: وإذا استنصرني نصرته. وفي حديث حذيفة عند الطبراني: ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة، وفيه: أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبًا لله تعالى، لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع وإظهار العبودية، "وما ترددت عن" بمعنى في أو ضمن تردد معنى تأخر؛ لأنه لازمه "شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن"، تشبيه بليغ بحذف الأداة، ولم يقل نفس عبدي للاستغناء بوصف الإيمان، أي: ما أخرت وما توقفت توقف المتردد في أمر أنا فاعله إلا في قبض نفس المؤمن، حتى يسهل عليه ويميل قلبه مشوقًا إليه، لانخراطه في سلك المقربين، والتبوء في عليين، أو إزالة كراهة الموت مما يبتلى به من نحو مرض وفقر، فأخذه المؤمن عن حب الحياة شيئًا فشيئًا بهذه الأسباب يشبه فعل المتردد، فعبر به مجازًا؛ لأن حقيقة التردد التحير، بأن يظهر له ما يقتضي الفعل وما يقتضي الترك، فينشأ من ذلك الحيرة لمريد الفعل لتعارض مقتضاهما عنده، والله منزه عن ذلك، كما يأتي "يكره الموت" لصعوبته وشدته ومرارته وشدة ائتلاف روحه لجسده وتعلقها به، ولعدم معرفته بما هو صائر إليه بعده "وأنا أكره مساءته" بفتح الميم والمهملة بعدها همزة ففوقية، أي: أن أفعل به ما يحزنه، والجملة في موضع التعليل للتردد، وهو استئناف بياني، كأنه جواب سؤال. قال الذهبي في الميزان حديث غريب جدًّا: لولا هيبة الجامع الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد القطواني لغرابة لفظه، ولأنها مما تفرد به شريك، وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولأخرجه من عند البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد. قال الحافظ: ليس في مسند أحمد جزمًا، وإطلاق أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد مردود، وشريك شيخ شيخ خالد، فيه مقال أيضًا، لكن للحديث طرق يدل مجموعها على أن له أصلًا، فرواه أحمد في الزهد وابن أبي الدنيا، والبيهقي في الزهد من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة، عن عائشة، وذكر ابن حبان وابن عدي أن عبد الواحد تفرد به. وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث، لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد، عن عروة وقال: لم يروه عن عروة إلا يعقوب وعبد الواحد. وأخرجه الإسماعيلي من حديث علي والطبراني والبيهقي، عن أبي أمامه بسند ضعيف، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 افترضته عليه" أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى. وعلى هذا فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة ولا تنتجها الفرائض؟ وأجيب: بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها ويؤيده: أن في رواية أبي أمامة "ابن آدم، إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك"، أو يجاب: بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة لا لخوف   وأبو يعلى والبزار والطبراني عن أنس، وفي سنده ضعف، والطبراني عن حذيفة مختصرًا، وسنده حسن غريب، وابن ماجه وأبو نعيم في الحلية، عن معاذ بن جبل مختصرًا، وسنده ضعيف، وأحمد في الزاهد، وأبو نعيم في الحلية، عن وهب بن منبه مقطوعًا انتهى. وهو أصل عظيم في السلوك إلى الله تعالى والوصول إلى معرفته ومحبته؛ لأن المفترض إما باطن وهو الإيمان، وظاهر وهو الإسلام، أو مركب منهما وهو الإحسان، المتضمن مقامات السالكين، كالإخلاص والزهد، والتوكل والمراقبة، فقد جمع هذا الحديث الشريعة والحقيقة، "ويستفاد من قوله: وما تقرب إلي عبدي بشيء" من الطاعات "أحب إليَّ من أداء ما افترضته عليه، أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله تعالى"، أي: فعلها لا مقابل القضاء، كما مر، فالمراد اللغوي، فشمل النذر أخذًا للافتراض بالمعنى الأعم؛ لأن من نذر شيئًا فرض الله عليه الوفاء به، فلا ينافي قوله مما افترضته، ومر أن الحافظ نظر فيه، وأشار إلى الجواب بنحو هذا، "وعلى هذا" المستفاد "فقد استشكل كون النوافل تنتج المحبة" لأنه تعالى جعلها مرتبة على كثرة النوافل، "ولا تنتجها الفرائض" لأنه سبحانه جعلها أحب الأشياء إليه، ولم يذكر سبب الأحبية، فلم تترتب المحبة على أداء الفرائض. "وأجيب بأن المراد من النوافل إذا كانت مع الفرائض، مشتملة عليها ومكملة لها"، لا مطلقًا فإنما انتجت المحبة من حيث الاشتمال والتكميل. "ويؤيده أن في رواية أبي أمامة" الباهلي، عند الطبراني، والبيهقي مرفوعًا: "ابن" "بفتح الهمزة وكسرها" "آدم إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضته عليك"، فلا يعتد بالنوافل بدون الفرائض. قال ابن أبي جمرة: إنما سميت نافلة؛ لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فلو لم تؤد الفريضة لا تحصل، ومن أداها، ثم زاد النفل وأدامه، محضت منه إرادة التقرب، وقد جرت العادة، بأن التقرب يكون غالبًا بغير ما وجب على المتقرب، كهديه وتحفة، بخلاف ما يجب عليه، أو يقتضي ما لزمه، ومما يحقق ذلك أن جملة ما شرع له النفل جبره الفرض، فالمراد من التقرب بالنفل، أن يقع ممن أدى الفرض، لا ممن أخل به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 العقاب على الترك، بخلاف الفرائض. وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، وداوم على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى إياه. وقد استشكل أيضًا: كيف يكون الباري جل وعلا "سمع العبد وبصره" إلخ. وأجيب بأجوبة: منها: أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى: كنت كسمعه وبصره في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يحب هذه الجوارح.   قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النفل، فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض، فهو مغرور، انتهى. "أو يجاب، بأن الإتيان بالنوافل لمحض المحبة، لا لخوف العقاب على الترك"فاستحق محبة الله، لكونه لا في مقابلة شيء، "بخلاف الفرائض"، ففعلها مانع من العقاب على تركها، فهو في مقابلة عوض، وإن كانت أفضل. "وقال الفاكهاني" عمر بن علي بن سالم اللخمي، المالكي، الشهير بتاج الدين الفاكهاني الفقهي، الفاضل، المتفنن في الحديث والفقه والأصول، والعربية والأدب، والدين المتين، والصلاح العظيم، والتخلق بأخلاق الأولياء، وصحب منهم جماعة، وحج غير مرة، وولد بالإسكندرية سنة أربع، وقيل: سنة ست وخمسين وستمائة، ومات بها سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، وله مصنفات عديدة. "معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض، ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما"، وبين الفاكهاني نفسه ذلك الغير، فقال في شرح الأربعين: من صلاة في الليل، أو في النهار، لا سيما التوابع للمفروضات، أو صيام أو صدقة، أو حج تطوع، أو جهاد غير متعين، أو إصلاح بين اثنين، أو جبر خاطر يتيم، أو إغاثة مسلم أو تيسير على معسر أو فعل خير من حيث الجملة "أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى إياه" أي: أوصله لها، فالباء زائدة للتوكيد. "وقد استشكل أيضًا كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره ... إلخ". يعني: ويده ورجله، مع أن السمع عرض؛ إذ هو قوة منبثة في مقعر الصماخ، والله تعالى ذات، والذات لا تقوم في العرض، بل العكس مع استحالة حلوله الحق تعالى في غيره، فتضمن السؤال أمرين، كما لا يخفى. "وأجيب بأجوبة، منها: أنه ورد على سبيل التمثيل والمعنى: كنت كسمعه وبصره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 ومنها: أن المعنى أن كليته مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به. ومنها: أن المعنى، كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه. ومنها: انه على حذف مضاف، أي حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. قاله الفاكهاني. قال: ويحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله: وهو: أن يكون بمعنى مسموعه؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل: فلان أملي، بمعنى: مأمولي، والمعنى: أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يتلذذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي، ولا ينظر   في إيثاره أمري، فهو يحب طاعتي، ويؤثر خدمتي، كما يحب هذه الجوارح"، فهو من التشبيه البيلغ، كزيد أسد. "ومنها أن المعنى أن كليته"، أي: جملته لا الكلية المنطقية، التي هي الحكم على جميع الأفراد المقابلة للكلي، وهو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وللكل وهو ما كان ذا أجزاء "مشغولة بي، فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به", ولا يبطش إلا لمرضاتي، ولا يمشي إلا فيما يقربه إلى. "ومنها: أن المعنى كنت له في النصرة" "بضم النون" الإعانة والتقوية" "كسمعه وبصره، ويده ورجله في المعاونة"، بيان للنصرة "على عدوه"، وهذا أيضًا على جهة التمثيل، لكنه من جهة أخرى، فغاير الأول. "ومنها: أنه على حذف مضاف، أي: حافظ سمعه الذي يسمع به، فلا يسمع إلا ما يحل سماعه، وحافظ بصهر كذلك"، أي: فلا يبصر إلا لحلال، "إلخ"، يعني: وحافظ يده وحافظ رجله كذلك، والدليل على المضاف الاستحالة، "قاله" أي: هذا الجواب الرابع "الفاكهاني" في شرح الأربعين، ولم يذكر فيه سواه، وسوى ما نقله بقوله. "قال" الفاكهاني: "ويحتمل" في الحديث "معنى"، فهو فاعل، أو يحتمل الحديث معنى، فهو نصب المفعولية، والأول أظهر، والخطب سهل "آخر، أدق من الذي قبله، وهو أن يكون" سمعه "بمعنى مسموعة؛ لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول، مثل فلان أملي بمعنى مأمولي"، فأمل مصدر أمل يأمل، من باب طلب، واسم مفعوله مأمول، واسم فاعله آمل، وعبارة الفاكهاني: قالوا: أنت رجائي بمعنى مرجوي "والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري"، سماع تلذذ، "ولا يتلذذ إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيمال فيه رضاي، ورجله كذلك. وقال غيره: اتفق العلماء -ممن يعتد بقوله- على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها، ولهذا وقع في رواية: "فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"، قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقال الخطابي: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء، والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وعن أبي عثمان الحيرى -أحد أئمة الطريق- قال: معناه كنت أسرع إلى   بتلاوة كتابي، ولا يأنس إلا بمناجاتي" في الصلاة وغيرها "ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي، ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي"، كمدها بالصدقة ونحوها، وعبر هنا بالمد إشارة إلى أن المراد مطلق حركة يده، لا حقيقة المد، وفي الحديث بالبطش لشرفه، وهو الأخذ بقوة "ورجله كذلك"، لا يسعى بها إلا فيما فيه رضاي. "وقال غيره"، وهو الطوافي: "اتفق العلماء ممن يعتد بقوله" بأفراد الضمير على لفظ من، وهو أكثر، كقوله: ومنهم من يؤمن به "على أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد"، مصدر مضاف لمفعوله، أي: عن نصرة الله عبده، "وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها"، أي: أن أفعاله لا توجد إلا بإرادته وأقداره عليها، لا أنه بمنزلة الآلة الحقيقية. "ولهذا وقع في رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، قال" ذلك الغير، "والاتحادية" نسبة إلى الاتحاد، وهو تصيير الذاتين ذاتًا واحدة، وهو محال لأنه إن كانت عين كل واحدة منهما موجودة في حال الاتحاد، فهما اثنتنان لا واحدة، وإن عدمت واحدة، فليس ذلك باتحاد، بل عدم إحداهما، وإن عدمتا كان عدم الاتحاد أظهر، "زعموا أنه على حقيقته، وأن الحق عين العبد"، محتجين بمجيء جبريل في صورة دحية، "تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا"، وللشيخ قطب الدين القسطلاني كتاب بديع في الرد عليهم. "وقال الخطابي: عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح" "بضم النون" الظفر بالقصد "في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان" أي: تصرفاته في أعماله "كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع وعينه في النظر، ويده في اللمس ورجله في المشي، كذا أسنده عنه البيهقي في "الزهد". وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه، من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات، أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد لنفسه، والمحب، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صرفًا. وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة، لقوله في بقية الحديث ولئن سألني، زاد في رواية عبد الواحد عبدي، انتهى ملخصًا.   "وعن أبي عثمان" سعيد بن إسماعيل النيسابوري "الحيرى" بحاء مكسورة وراء مهملتين، بينهما تحتية ساكنة"، نسبة إلى الحيرة، محلة بنيسابور غير المدينة المعروفة بالكوفة، وأصله من الري، وصحب قديمًا يحيى بن معاذ الرازي، وشاه بن شجاع الكرماني، ثم رحل إلى نيسابور قاصدًا أبا حفص الحداد، فأخذ عنه طريقته، وزوجه ابنته "أحد أئمة الطريق". قال أبو نعيم: كان بالحلم منتطقًا، وللمريدين نصيحًا مشفقًا، وقال الخطيب، كان مجاب الدعوة وكان يقول: من أمر السنة على نفسه قولًا وفعلًا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى عليها نطق بالبدعة، وإن تطيعوه تهتدوا مات بنيسابور سنة ثمان وتسعين ومائتين، وقيل: غير ذلك "قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الاستماع، وعينه في النظر، ويده في اللمس، ورجله في المشي، كذا أسنده" أي: رواه "عنه البيهقي في" كتاب "الزهد، وحمله بعض أهل الزيغ": الضلال والميل عن الحق إلى الباطل "على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبارة الظاهرة والباطنة حتى تصفى من الكدورات أنه" تأكيد لقوله: إن العبد أعاده لطول الفصل وهو وراد في الفصيح، كقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] ، والخبر قوله: "يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفنى عن نفسه جملة، حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه، الموحد"، "بالحاء المهملة" "لنفسه المحب، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدمًا صرفًا"، وهذا ضلال مبين، "وعلى الأوجه" السبعة السابقة "كلها، فلا متمسك فيه للاتحادية، ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث: ولئن سألني، زاد في رواية عبد الواحد"، بن ميمون عن عروة، عن عائشة "عبدي"، فإن كلا من سألني، وعبدي نص في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 وقال العلامة ابن القيم: تضمن هذا الحديث الشريف الإلهي -الذي حرام على غليظ الطبع كثيف القلب فهم معناه والمراد به- حصر أسباب محبته في أمرين، أداء الفرائض، والتقرب إليه بالنوافل، وأن المحب لا يزال يكثر في النوافل حتى يصير محبوبًا لله، فإذا صار محبوبًا لله أوجبت محبة الله له محبة أخرى منه لله فوق المحبة الأولى، فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه، وملكت عليه روه، ولم يبق فيه سعة لغير محبوبة ألبثة، فصار ذكر محبوبة وحبه ومثله الأعلى مالكًا لزمام قلبه، مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبة الصادق في   نفي الاتحاد والوحدة المطلقة "انتهى ملخصًا". "وقال العلامة بن القيم" شمس الدين محمد بن أبي بكر: "تضمن هذا الحديث الشريف الإلهي" المنسوب إلى الإله تعالى مما تلقاه المصطفى عنه بلا واسطة أو بها "الذي حرام" أي: ممنوع، فالحرمة لغة المنع ومنه، وحرام على قرية "على غليظ الطبع"، شديده في التباعد عن الحق وعدم الانقياد له، "كثيف القلب"، المراد هنا معنى ما قبله، فهو مساوٍ له، حسنه اختلاف اللفظ، فحرام خبر مقدم، والمبتدأ "فهم معناه و" فهم "المراد به"، فهو بالجر عطف على معناه، وإن اتحدا معنى، كسابقه لاختلاف اللفظ، وقوله "حصر" بالنصب مفعول تضمن "أسباب محبته" تعالى لعبده، فالمصدر مضاف لفاعله "في أمرين، أداء الفرائض والتقرب إليه بالنوافل"، بدل من أمرين ولا يقرأ قوله، والمراد بالرفع مبتدأ خبره حصر، ويعترض عليه، بأن الظاهر حذفه؛ لأن حصر مفعول تضمن؛ إذ لا ملجئ لذلك، فالكلام صحيح بجر المراد، وهو الظاهر أو المتعين "و" تضمن أيضًا "أن المحب لا يزال يكثر في النوافل حتى يصير محبوبًا لله"، فالسبب الثاني هو المحقق لصيرورة العبد محبوبًا لله، بحيث يكون سمعه ... إلخ. "فإذا صار محبوبًا لله أوجبت"، أثبتت "محبة الله له محبة أخرى منه"، أي: العبد "لله فوق المحبة الأولى"، الحاصلة منه قبل "فشغلت هذه المحبة" الثانية "قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه"، وهو الله عز وجل "وملكت" أي: قصرت تلك المحبة "عليه"، أي: على المحبوب "روحه"، أي: لمحب، بحيث لا تجاوزه للتعلق لغيره، "ولم" الأولى، فلم "بالفاء" "يبق فيه سعة لغيره محبوبه البتة، فصار ذكر محبوبه وحبه" "بضم الحاء والرفع" "ومثله" "بفتحتين"، وصفه "الأعلى" العجيب الشأن، كالقدرة العامة والحكمة التامة، "مالكًا لزمام قلبه" خبر، أي: صار ما ذكر مانعًا لقلبه من التلفت إلى غيره، ففيه استعارة بالكناية، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 محبته التي قد اجتمعت قوى محبته كلها له، ولا ريب أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه وإن أبصر أبصر بمحبوبه، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ونفسه، وأنيسه وصاحبه. والباء -هنا- باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها، ولا تدرك بمجرد الأخبار عنها والعلم بها، فالمسألة حالية لا علمية محضة. قال: ولما حصلت الموافقة من العبد لربه في محابه، حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" أي   وتخييلية، شبه القلب بالبعير الممنوع من استرساله مع هواه استعارة بالكناية، وإثبات الزمام له تخييل، "مستوليًا على روحه استيلاء المحبوب على محبه، الصادق في محبته، التي قد اجتمعت قوى محبته كلها له"، فسمع محبه وبصره وغيرهما. من بقية المعاني صارت حافظة للمحب مانعة من لحوق ضرر به مقوية له على مطلوبه من زيادة القرب ودوامه، فكأنها مختصة به، لا تتجاوزه إلى غيره، "ولا ريب"، شك "أن هذا المحب إن سمع سمع بمحبوبه، وإن أبصر أبصر بمحبوبه، وإن مشى مشى به، فهو في قلبه ونفسه وأنيسه وصاحبه"، ويقرب من هذا جواب العارف والأستاذ علي بن وفي؛ بأن معنى كنت سمعه ... إلخ أن ذلك الكون الشهودي مرتب على ذلك الشرط، الذي هو حصول المحبة، فمن حيث الترتب الشهودي جاز الحدوث، المشار إليه بقوله: كنت سمعه، لا من حيث التقدير الوجودي، وقال في الفتوحات لابن العربي: المراد به انكشاف أمر لمن تقرب إليه تعالى بالنوافل، لا أنه لم يكن الحق تعالى سمعه قبل التقرب، ثم كان تعالى عن ذلك وعن العوارض الطارئة، وهذه من غرر المسائل الإلهية، نقلهما في اليواقيت والجواهر، "والباء هنا" في قوله: فبي يسمع ... إلخ "باء المصاحبة، وهي مصاحبة لا نظير لها"؛ لأن الأصل في الصحبة إطلاقها على من حصل له رؤية ومجالسة، ووراء ذلك شروط للأصوليين، وتطلق مجازًا على من تمذهب بمذهب إمام، كأصحاب الشافعي، ولا يصح حملها هنا على شيء من ذلك، "ولا تدرك بمجرد الإخبار عنها والعلم بها"؛ لأنها لا نظير لها، تصور به في الخارج، فإنما يدركها من قامت به، كالملاحة تدرك ولا توصف، بعبارة تحصل حقيقتها وصورتها للمخاطب، "فالمسألة: حالية" أي: حال من أحوال النفس، يدركها من قامت به "لا علمية محضة" أي: ليست متعلقًا للعلم، بحيث يصورها بما يميزها من غيرها خارجا. "قال" ابن القيم: "ولما حصلت الموافقة من العبد لربه في محابه" جمع حب، كمحاسن جمع حسن على غير قياس، "حصلت موافقة الرب لعبده في حوائجه ومطالبه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري، والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما سألني أن أفعله به، وفيما يستعيذني أن يناله. وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه وتعالى في إماتة عبده لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته ولكن مصلحته في إماتته، فإنه ما أماته إلا ليحييه، ولا أمرضه إلا ليصحه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه آدم إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا   فقال: "ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"، أي: كما وافقني في مرادي، بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي، فأنا أوافقه في رغبته" فيما عندي، "ورهبته": خوفه مني "فيما سألني أن أفعله به" عائد لرغبته"، "وفيما يستعيذني أن يناله"، عائد لرهبته، ففي وعده المحقق، المؤكد بالقسم إيذان بأن من تقرب إليه بما مر لا يرد دعاءه وأن الكمل يطلب منهم الدعاء. وقال الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق، أقوى ما قاله الشراح بحسب الظاهر في هذا الحديث: كنت سمعه، فلا يسمع ما لم يأذن الشرع بسماعه، ولا يبصر ما لم يأذن في النظر إليه، ولا يبطش إلا ما أذن ببطشه، ولا يسعى إلا فيما أذن بالسعي إليه، وبحسب الباطن: لا يزال العبد يتقرب إلى الله بأنواع الطاعات وأصناف الرياضات، ويترقى من مقام إلى أعلى منه حتى يحبه الله، فيجعل سلطان حبه غالبًا عليه حتى يسلب منه الاهتمام بكل شيء غير تقربه إليه، فيصير منخلعًا عن الشهوات، ذاهلًا عن اللذات، مستغرقًا بملاحظة جناب قدسه، بحيث ما لاحظ شيئًا إلا لاحظ ربه، ولا التفت إلى شيء إلا رأى ربه، وهذا آخر درجات السالكين، وأول درجات الواصلين، فيكون بهذا الاعتبار سمعه وبصره، وهذا نفس محجوب، والذائق يقول: العبد يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يكون الرب، صفات عبده المذكورة لتحصل له المناسبة الصفتية بين المحب والمحبوب، فإنها لا بد منها ولذا جعل السبب فيه أداء النوافل، فإن الله فاعل مختار، ليس عليه إيجاب لأحد النوافل ليست بإيجاب، فكان ذلك مناسبة أخرى بين المحب والمحبوب، وهذا يسمى قرب النوافل، وثمة قرب الفرائض، وهو أعظم من قرب النوافل، انتهى. "وقوي أمر هذه الموافقة من الجانبين حتى اقتضى تردد الرب سبحانه وتعالى في إماتة عبده؛ لأنه يكره الموت، والرب تعالى يكره ما يكره عبده، ويكره مساءته فمن هذه الجهة يقتضي أن لا يميته، ولكن مصلحته في إماتته"، فتفصل بفعل المصلحة، "فإنه ما أماته إلا ليحييه" الحياة الأبدية، "ولا أمرضه إلا ليصحه" "بضم التحتية وكسر الصاد"، أي: يزيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 سواه انتهى. وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ، ولكن له تأويلان. أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، أو فاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع عنه مكروهًا، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرًا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه، ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله؛ لأن الله قد كتب الفناء على خلقه، واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في قبض نفس عبدي المؤمن، كما في قصة موسى عليه السلام، وما كان من   مرضه، يصونه من أهوال الآخرة وآلامها، أو ليزيل عنه المكروهات الدنيوية ويثيبه وهذا أظهر، "ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا منعه إلا ليعطيه، ولم يخرجه من الجنة في صلب أبيه آدم إلا ليعيده إليها على أحسن أحواله، فهذا هو الحبيب على الحقيقة لا سواه انتهى". كلام ابن القيم. "وقال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز"؛ إذ لا يكون إلا ممن لا يعلم العاقبة فيتعارض عنده مقتضى الفعل والترك، فيتحير في أيهما أولى ليفعله، والله لا يخفى عليه شيء، فيستحيل التردد منه، "والبداء" "بفتح الموحدة والدال المهملة والمد" ظهور مصلحة كانت خفيت "عليه في الأمور غير سائغ" لأنه محال أن يظهر له شيء كان عنه غائبًا، "ولكن له"، أي: الحديث "تأويلان". "أحدهما: أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه، وفاقة تنزل به، فيدعو الله فيشفيه منها، ويدفع": يزيل "عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله، كتردد من يريد أمرًا، ثم يبدو له فيه، فيتركه ويعرض عنه"، فليس من التردد الحقيقي في شيء "ولا بد له من لقائه"، أي: الموت، "إذا بلغ الكتاب": المكتوب من العمر "أجله" {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34] ، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] "لأن الله قد كتب الفناء على خلقه" {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] ، "واستأثر بالبقاء لنفسه"، فكل شيء هالك إلا وجهه. "والثاني: أن يكون معناه: ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله، كترديدي إياهم في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 لطمه عين ملك الموت، وتردده إليه مرة بعد أخرى. قال: وحقيقة المعنى -على الوجهين- عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه. وقال الكلاباذي ما حاصله: إنه غير عن صفة الفعل بصفة الذات، يعني باعتبار متعلقها، أي عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبة للموت، فيقبض على ذلك. قال: وقد يحدث الله تعالى في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق   قبض نفس عبدي المؤمن"، فأطلق التردد، وأراد لازمه، وهو الترديد، وأضاف تعالى ذلك لنفسه؛ لأن ترددهم عن أمره "كما في قصة موسى عليه السلام" في الصحيحين، عن أبي هريرة، مرفوعًا في أحاديث الأنبياء: "أرسل ملك الموت إلى موسى، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله عليه عينه، وقال: ارجع، فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: ثم ماذا؟، قال: الموت، قال: فالآن" الحديث "وما كان من لطمه عين ملك الموت" ففقأها، كما في رواية مسلم؛ وكأن موسى ظنه آدميًّا، تسور عليه منزله بغير إذنه، ليوقع به مكروهًا، ويحتمل أنه علم أنه ملك الموت، ودافعه عن نفسه باللطمة المذكورة، والأول أولى، ويؤيده أنه جاء إلى قبضه، ولم يخيره، وقد علم موسى أنه لا يقبض حتى يخير، ولهذا لما خيره، قال: الآن. وعند أحمد، كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا. "وتردده إليه مرة بعد أخرى" أي: ثانية بعد الأولى. "قال" الخطابي: "وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد، ولطفه به، وشفقته عليه" ألفاظ متقاربة "وقال الكلاباذي": "بفتح الكاف والموحدة فألف فذال معجمة" نسبة إلى كلاباذ محلة كبيرة ببخارى، الحافظ، الإمام أبو نصر أحمد بن محمد بن السين بن الحسن بن علي بن رستم البخاري، سمع الهيثم بن كليب الشاشي ومعه جعفر المستغفري. قال الحاكم: كان من الحفاظ حسن المعرفة والفهم، متقنًا، ثبتًا، لم يخلف مثله بما وراء النهر، وحدث ببغداد في حياة الدارقطني، وكان يثني عليه، ومات في جمادى الآخرة، سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، عن خمس وثمانين سنة، "ما حاصله أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، يعني باعتبار متعلقها، أي: عن الترديد، بالتردد وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب" "بفتحتين وبضمتين وبضمة" أي: داء وبلاء "إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت فيقبض على ذلك" فسماه ترددًا مجازًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت، فضلًا عن إزالة الكراهة عنه، انتهى. وبالجملة: فلا حياة للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش إلا عيش المحبين الذين قرت أعينهم بحبيبهم وسكنت نفوسهم إليه واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففي القلب طاقة لا يسدها إلا محبة الله ورسوله ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها هموم وغموم وآلام وحسرات. قال صاحب المدارج: ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية حتى يعرف الله تعالى ويهتدي إليه بطريق توصله إليه، ويحرق ظلمات الطبع بأشعة البصيرة، فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب إليها بكليته، ويزهد في   "قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده، والشوق إليه، والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلًا عن إزالة الكراهة عنه انتهى". وقال الجنيد: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته، وليس المعنى أني أكره له الموت؛ لأن الموت يورده إلى رحمه الله ومعرفته. وقال غيره: لما كانت مفارقة الروح للجسد لا تحصل إلا بألم عظيم جدًّا، والله تعالى يكره أذى المؤمن، أطلق على ذلك الكراهة ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة؛ لأنها تؤدي إلى أرذل العمر وتنكيس الخلق والرد إلى أسفل سافلين، وفي ذلك دلالة على شرف الأولياء ورفعة منزلتهم حتى لو تأتى أنه تعالى لا يذيقه الموت الذي حتمه على عبادة لفعل، ولهذا المعنى ورد لفظ التردد، كما أن العبد إذا كان له أر لا بد له أن يفعله بحبيبه، لكنه يؤلمه فإن نظر إلى ألمه كف عن الفعل، وإن نظر إلى أنه لا بد له منه لمنفعته، أقدم عليه، فعبر عن هذه الحالة في قلبه بالتردد، فخاطب الله الخلق بذلك على حسب ما يعرفونه ودلهم على شرف الولي عنده، "وبالجملة فلا حياة" لذيذة محمودة "للقلب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله، ولا عيش" محمود "إلا عيش المحبين، الذين قرت أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه وتنعموا بمحبته، ففي القلب طاقة"، أي: اشتياق وتلهف واحتراق على عدم وصوله إلى مطلوبه، شبه ذلك بطاقة مفتوحة يدخل منها ما يؤلم المحب في جسده، وأنه "لا يسدها" أي: يمنع عنه ذلك الاحتراق والتلهف "إلا محبة الله ورسوله، ومن لم يظفر بذلك، فحياته كلها هموم وغموم، وآلام وحسرات"، فهي حياة كلا حياة. "قال صاحب المدارج" ابن القيم: "ولن يصل العبد إلى هذه المنزلة": المرتبة "العلية والمرتبة السنية"، مساوٍ حسنة اختلاف اللفظ، "حتى يعرف الله تعالى، ويهتدي إليه بطريق توصله إليه"، وهي اتباع الكتاب والسنة، "ويحرق ظلمات الطبع بأشعة"، أي: أنوار "البصيرة" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 التعلقات الفانية، ويدأب في تصحيح التوبة، والقيام بالمأمورات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات الظاهرة والباطنة، ثم يقوم حارسًا على قلبه فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله، ولا بخطرة فضول لا تنفعه، فيصفو لذلك قلبه بذكر ربه ومحبته والإنابة إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه، إلى فضاء الخلوة بربه وذكره ربه كما قال. وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليًا فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه وأستاذه ومعلمه وشيخه وقدوته، كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه، فيطالع سيرته ومبادئ أموره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه وحركاته وسكونه، ويقظته ومنامه، وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك   للقلب، كالبصر للعين، "فيقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة، فينجذب"، يُقبل "إليها بكليته" جملته "ويزهد في التعلقات الفانية"، كما في الحديث: ازهد في الدنيا يحبك الله، "ويدأب" يجهد ويتعب نفسه "في تصحيح التوبة" المأمور به بها في {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] الآية، "والقيام بالمأمورات الظاهرة"، كالصلاة، "والباطنة"، كالحب لله ولرسوله، "وترك المنهيات الظاهرة" كالغيبة، "والباطنة" كالحسد "ثم يقوم حارسًا على قلبه، فلا يسامحه بخطرة يكرهها الله" بل يتوب منها في الحال "ولا بخطرة فضول لا تنفعه" لأنه إذا سامحه من ذلك انتقل إلى ما فوقه، وهكذا، وإذا فعل ما ذكر "فيصفو لذلك قلبه بذكر، ومحبته والإنابة": الرجوع "إليه، ويخرج من بين بيوت طبعه ونفسه إلى فضاء الخلوة بربه، وذكره ربه كما قال: "وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليًا فأراد الشاعر بالبيوت: الطبع والنفس، بدليل ترجيه لا البيوت الحقيقية؛ إذ لا اعتداد بالخروج منها مع بقاء الطبع "فحينئذٍ يجتمع قلبه وخواطره، وحديث نفسه على إرادة ربه، وطلبه، والشوق إليه، فإذا صدق في ذلك رزق محبة الرسول، واستولت روحانيته على قلبه، فجعله إمامه" الذي يقتدي به "وأستاذه" أي: معلمه، كلمة أعجمية؛ لأن السين والذال المعجمة لا يجتمعان في كلمة، ومعناها الماهر بالشيء العظيم "ومعلمه وشيخه وقدوته" ألفاظ متقاربة "كما جعله الله نبيه ورسوله وهاديه"، الدال عليه، "فيطالع سيرته ومبادئ" أوائل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 مما منحه الله به مما ذكرت بعضه، حتى يصير من بعض أصحابه، فإذا رسخ في قلبه ذلك فتح عليه بفهم الوحي المنزل عليه من ربه بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه المختص به منها، من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها، كما يجتهد في تحصيل الشفاء من المرض المخوف. ولمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام علامات: أعظمها الاقتداء به، واستعمال سنته، وسلوك طريقته، والاهتداء بهديه وسيرته، والوقوف عندما حد لنا من أحكام شريعته. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، فجعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آية محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه، وقد قال الحكيم -وهو محمود الوراق-   "أموره، وكيفية نزول الوحي عليه، ويعرف صفاته وأخلاقه وآدابه"، رياضيات نفسه ومحاسن أخلاقه "وحركاته وسكوته ويقظته ومنامه وعبادته ومعاشرته لأهله وأصحابه، إلى غير ذلك مما منحه"، أعطاه وخصه "الله به مما ذكرت بعضه" فيما سبق "حتى يصير كأنه معه من بعض أصحابه، فإذا رسخ في قلبه ذلك فتح عليه بفهم الوحي، المنزل عليه من ربه، بحيث إذا قرأ السورة شاهد قلبه ماذا أنزلت فيه، وماذا أريد بها، وحظه" نصيبه "المختص به منها من الصفات والأخلاق والأفعال المذمومة، فيجتهد في التخلص منها، كما يجتهد في تحصيل الشفاء من المرض المخوف" بل أقوى للعاقل؛ لأن المرض كفارة، وهذه موبقة، "ولمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام علامات" دالة عليها "أعظمها الافتداء به": اتباعه "واستعمال سنته"، أي: طريقته، فعطف "وسلوك طريقته" تفسيري وكذا "والاهتداء بديه وسيرته"، ولا ضير في ذلك؛ لأن المقام أطناب، وسنته شاملة للتأسي به، في الاقتداء به في الشدائد والحروب وغيرهما، وليس مخصوصًا بالعبادات التي سنها، "والوقوف عندما حد"، أي قدر "لنا من أحكام شريعته" سميت الأحكام حدًّا، لمنعها عن الإقدام على ما يخالفها من قول أو فعل أو عزم، فالحد لغة المنع، فإذا أمر أو نهى، فقد منع من ضده. "قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] "فجعل متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم آية"، أي: علامة "محبة العبد ربه، وجعل جزاء العبد على حسن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 كما أفاده المحاسبي في كتاب "القصد والرجوع": تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وهذه المحبة تنشأ من مطالعة العبد منة الله عليه من نعمه الظاهرة والباطنة، فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة، ومن أعظم مطالعه منة الله تعالى على عبده منه تأهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى في قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرقت له ذاته، فرأى في نفسه وما أهلت له من الكمالات والمحاسن، فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت عنه ظلمات نفسه وطبعه؛ لأن النور والظلمة لا يجتمعان إلا ويطرح أحدهما الآخر، فوقعت   متابعة الرسول محبة الله تعالى إياه" وغفرانه، وأشار بحسن إلى أن مجرد الاتباع لا يكون علامة إلا إذا كان على أكمل الوجوه، بحيث يتحقق فيه معنى حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه" إلخ. ن "وقد قال الحكيم": الذي ينطق بالحكمة، "وهو محمود" بن الحسن "الوراق، كما أفاده الحارث بن أسد "المحاسبي" بكسر السين لمحاسبته نفسه، أو لغير ذلك، مر ضبطه وبعض ترجمته قريبًا جدًّا "في كتاب القصد والرجوع"، أحد تصانيفه، وهي نحو مائتين، وقال غيره إنه لمنصور الفقيه، بليغ، كان في أول الدولة العباسية: "تعصي الإله وأنت تظهر حبه، هذا لعمري" أي: حياتي "في القياس بديع": غريب عجيب، مخالف لأنواع القياس "لو كان حبك صادقًا لأطعته، إن المحب" بكسر الهمزة لأنها تعليلية "لمن يحب مطيع" لا يعصيه أصلًا، ويقع في بعض النسخ بيت ثالث، وهو هذا: في كل يوم يبتديك بنعمة ... منه وأنت لشكر ذاك تضيع بضم الفوقية من أضاع، كذا إذا أهمله، وأكثر النسخ، كما في الشفاء بدون هذا الثلاث، "وهذه المحبة تنشأ من مطالعة العبد" أي: نظره "منة الله": نعمه التي أنعم بها "عليه" ومعرفة قدرها، وأنها لا تكون إلا منه "من نعمه الظاهرة والباطنة "بيان لمنة الله تعالى "فبقدر مطالعة ذلك تكون قوة المحبة، ومن أعظم مطالعة منة الله تعالى على عبده، منة" تمييز "تأهله لمحبته ومعرفته ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا نور يقذفه الله تعالى في قلب ذلك العبد، فإذا دار ذلك النور أشرق له ذاته، فرأى في نفسه" أمرًا عظيمًا، تقصر عنه العبارة" "و" رأى فيما أهلت له من الكمالات والمحاسن، ما لا يمكنه التعبير عنه، فالمفعول محذوف فيهما، "فعلت به همته، وقويت عزيمته، وانقشعت"، انكشفت "عنه ظلمات نفسه وطبعه؛ لأن النور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 الروح حينئذٍ بين الهيئة والأنس إلى الحبيب الأول. نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل وبحسب هذا الاتباع توجب المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن أن تحب الله، بل الشأن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا، وأطعته أمرًا، وأجبته دعوة، وآثرته طوعًا، وفنيت عن حكم غيره بحكمه، وعن محبة غيره من الخلق وعن طاعة غيره بطاعته، وإن لم تكن كذلك فلا تتعن فلست على شيء.   والظلمة لا يجتمعان" لا يدخل أحدهما على الآخر "إلا ويطرح" يزيل ويذهب "أحدهما الآخر، فوقعت الروح حينئذٍ بين الهيبة والأنس إلى الحبيب الأول"، يتنازعه كل من الهيئة والأنس، ويحتمل تعلقه بوقعت، وبين الهيبة والأنس حال، يعني أنه وقع بين أمرين متضادين، فالهيبة تقتضي الفزع والخوف ممن يهابه، والإنس يقتضي انشراح النفس وانبساطها ممن تأنس به، وأنشد لغيره: "نقل فؤادك حيث ئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول" "كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل" نقل "بالنون" ومن الهوى متعلق به، أي: نقل فؤادك وعلقه بمن تهوى من كل ما تميل نفسك إليه، فإنك وإن فعلت ذلك لا بد لك من الرجوع إلى الحبيب الأول، لمعرفة مقامه بالميل إلى غيره "وبحسب" أي: بقدر "هذا الاتباع توجب" "بضم التاء وفتح الجيم وموحده"، أي: تحصل وتوجد "المحبة والمحبوبية معًا، ولا يتم الأمر إلا بهما، فليس الشأن" الأمر العظيم المرتب عليه سائر الكمالات؛ "أن تحب الله" فقط، "بل الشأن أن يحبك الله، ولا يحبك إلا إذا اتبعت حبيبه" صلى الله عليه وسلم "ظاهرًا وباطنًا، وصدقته خبرًا"، أي: فيما وصل إليك من أخباره، "وأطعته أمرًا"، أي: فيما أمر به، "وأجبته دعوة" أي: أجبت دعوته حيث دعاك "وآثرته طوعًا"، أي: فضلت طاعته وقدمتها على كل شيء لأن من فضل شيئًا قدمه على غيره، فلا يرد أن معنى الإيثار التفضيل، والمراد هنا التقديم، كقوله: {َيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] ؛ لأن التقديم لازم للتفضيل، فاللفظ هنا مستعمل فيهما، والأنصار لما فضلوا المهاجرين قدموهم على أنفسهم غاية التعظيم، حتى إن بعض من كان له زوجتان، عرض إحداهما على المهاجري الذي أخى المصطفى بينه وبينه، "وفنيت عن حكم غيره" فلم تجعل لنفسك وجودًا، ولا انقيادًا له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 وتأمل قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] أي الشأن في أن الله يحبكم، لا في أنكم تحبونه، وهذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب. وقال المحاسبي في كتاب "القصد والرجوع": وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه، ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذٍ يدخل حب الإيمان في القلب كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه وتنعيمًا وسرورًا له، وقرة عين في حقه وتنعيمًا لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجسمانية، فلا يجد في أوراد العبادة كلفة. وفي الترمذي عن أنس مرفوعًا: "ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني   "بحكمه" فقصرت نفسك عليه، "وعن محبة غيره من الخلق" بحبه "وعن طاعة غيره بطاعته" في أوامره ونواهيه "وإن لم تكن كذلك، فلا تتعن" "بفوقيتين وعين مفتوحات وشد النون" أي: لا تتعب نفسك في أمر تتوهم به الوصول إليه "فلست على شيء" من المحبة المقتضية لإقباله عليك، ورفعه إياك في المحل الأعلى "وتأمل قوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي: الشأن" بالرفع بيان لحاصل المعنى "في أن الله يحبكم لا في أنكم تحبونه، وهذا لا ينالونه إلا باتباع الحبيب" عليه الصلاة والسلام. "وقال المحاسبي في كتاب القصد والرجوع: وعلامة محبة العبد لله عز وجل اتباع مرضاة الله" أي: رضاه "والتمسك بسنن" جمع سنة "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان ووجد طعمه" باتباع مرضاة الله والسنن، "ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه، فاستحلى اللسان ذكر الله تعالى، وما والاه" مما فيه طاعة لله، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا إن أريد بالذكر ذكر اللسان، "وأسرعت الجوارح إلى طاعة الله، فحينئذٍ يدخل حب الإيمان في القلب، كما يدخل حب الماء البارد الشديد برده في اليوم الشديد الحر للظمآن الشديد العطش، فيرتفع عنه تعب الطاعة لاستلذاذه بها، بل تبقى الطاعات غذاء" "بمعجمتين والمد" "لقلبه" أي: كالغذاء له "وسرورًا له، وقرة عين في حقه، وتنعيمًا لروحه، يلتذ بها أعظم من اللذات الجثمانية" "بضم الجيم ومثلثة" نسبة إلى الجثمان، وهو الجثة. وفي نسخة: بالسين والجيم مكسورة، أي: أعظم من اللذات الحاصلة للشخص من تناوله ما يلتذ به "فلا يجد في أوراد العبادة كلفه". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 كان معي في الجنة". وعن ابن عطاء: من ألزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه. وقال أبو إسحاق الرقي -من أقران الجنيد: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم. وعن غيره: لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة.   "وفي الترمذي، عن أنس مرفوعًا" ولفظه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قدرت أن تمسي وتصبح ليس في قلبك غش لأحد فافعل"، ثم قال: "يا بني، وذلك من سنتي"، "ومن أحيا سنتي" بالإفراد على الأشهر، وبالجمع، "فقد أحبني" أي: علم محبته لي، أي: أظهرها وعمل بها وحث عليها، فشبه إظهارها بعد ترك الأخذ بها بالإحياء، ثم اشتق منه الفعل، فجرت الاستعارة في المصدر أصلية، ثم سرت إلى الفعل تبعًا، ولذا قالوا: السنن كسفينة نوح، اتباعها يدفع البلاء عن أهل الأرض، والسنة إنما سنها لما علم في خلافها من الخطأ والزلل، ولو لم يكن إلا أن الله وملائكته وحملة عرشه يستغفرون لمتبعها لكفى، فقد أحبني، أي: علم حبه لي، "ومن أحبني كان معي في الجنة"؛ لأن المرء مع من أحب. وفي رواية، "فقد أحياني ومن أحياني"، أي: أظهر ذكري ورفع أمري، فجعله بمنزلة الإحياء، كما قيل: ويحسبه قد عاش آخر دهره ... إلى الحشر أن أبقى الجميل من الذكر "وعن" أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل "بن عطاء" الآدمي "بفتحتين"، تقدم "من ألزم نفسه آداب السنة، نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب" لله تعالى "في أوامره ونواهيه، وأفعاله وأخلاقه". "وقال أبو إسحاق" إبراهيم بن داود القصار "الرقي"، "بفتح الراء وشد القاف" نسبة إلى الرقة مدينة على طرف الفرات، من كبار مشايخ الشام، وصحب أكثر المشايخ بها، وكان ملازمًا للفقر، مجردًا فيه محبًا لأهله، وقال: حسبك من الدنيا شيئان: صحبه فقير وحرمة ولي، وقال: الأبصار قوية، والبصائر ضعيفة، وهو "من أقران الجنيد" وابن الجلاء إلا أنه عمر طويلًا، حتى مات سنة ست وعشرين، وثلاثمائة، "علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم" المتابعة التامة، "وعن غيره لا يظهر" وفي نسخ: بالواو، أي: قال: ما مر عن الرقي وزاد، ولا يظهر "على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة، فأما من أعرض عن الكتاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 فأما من أعرض عن الكتاب والسنة، ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول عليه الصلاة والسلام بدعواه علمًا لدنيا أوتيه فهو من لدن الشيطان والنفس وإنما يعرف كون العلم لدنيا روحانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى، فالعلم اللدني نوعان: لدني رحماني ولدني شيطاني، والمحك هو الوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما قصة موسى مع الخضر فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني إلحاد وكفر، يخرج عن الإسلام، موجب لإراقة الدم، والفرق: أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأمورًا بمتابعته،   والسنة ولم يتلق العلم من مشكاة الرسول" أي: الأحاديث الواردة عنه "عليه الصلاة والسلام"، وعبر عنها بالمشكاة تشبيهًا لها بالكوة التي يصل النور منها إلى إنسان ببيت، إذا ورد عليه فيه انكشف ما كان خفيًّا عنه بسببه، "بدعواه علمًا لدنيا أوتيه، فهو من لدن الشيطان"، أي: من عنده "و" من عند "النفس، وإنما يعرف كون العلم لدنيا روحانيًّا بموافقته لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى، فالعلم اللدني"، الآتي لصاحبه من عند غيره "نوعان": أحدهما: "لدني رحماني" من عند الرحمن تبارك وتعالى، سمي لدنيا لحصوله من الله، لا من كسب العبد "و" ثانيهما: "لدني شيطاني" من عنده لعنه الله "والمحك" "بالكاف" المميز لذلك "هو الوحي، ولا وحي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم"، فما وافقه كان لدنيا رحمانيًّا، وما لا فشيطانيًّا. قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، قال ابن عربي: يريد أنه نتيجة عن العمل عليهما، وهما الشاهدان العدلان. وفي نسخة: المحل باللام، أي: الذي يتلقى منه العلم عن الله هو الوحي، أي: الكتاب والسنة فما تلقى عن غيرهما، ولم يخرج على قواعدهما، فهو من وسوسة الشيطان، يجب صرفه حالًا، والحكم بأنه ليس من الله، "وأما قصة موسى مع الخضر"، وقوله تعالى: {آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] ، "فالتعلق بها في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني الحاد، وكفر يخرج عن الإسلام موجب لإراقة الدم". وهذا جواب سؤال هو، لا يلزم أن ما أخذ من غير الوحي يكون من الشيطان، لجواز أنه علم غيبي من الله به على عبده، فأوصله إليه من غير طريق الوحي، بدليل قصة الخضر. "و" الجواب: "الفرق أن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولم يكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 ولو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه، ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم، ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه. فمن أدعى أنه مع محمد كالخضر مع موسى، أو جواز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى. وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه. والعلم اللدني الرحماني هو ثمرة العبودية والمتابعة لهذا النبي الكريم، عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة بأمر يختص به صاحبه كما قال علي بن أبي طالب، وقد سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، إلا فيما يؤتيه الله عبدًا، في كتابه، فهذا هو العلم اللدني الحقيقي.   الخضر مأمورًا بمتابعته" ودليل ذلك أنه "لو كان مأمورًا بها لوجب عليه أن يهاجر إلى موسى ويكون معه"، ولم يفعل؛ لأنه لم يؤمر بذلك، "ولهذا قال له: أنت موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم"، فرسالته خاصة بهم "ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، فرسالته عامة للجن والإنس في كل زمان، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه"، كما في الحديث "فمن ادعى أنه مع محمد، كالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه"، لكفره بهذه الدعوى، "وليشهد شهادة الحق"، أي: يعتقد خلاف دعواه باطنًا، ويأتي بالشهادتين ظاهرًا ليعود إلى الإسلام، "فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء الله تعالى، وإنما هو من أولياء الشيطان وخلفائه ونوابه" في الضلال والإضلال. "والعلم اللدني الرحماني هو ثمرة العبودية، والمتابعة لهذا النبي الكريم عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وبه يحصل الفهم في الكتاب والسنة، بأمر يختص به صاحبه، كما قال علي بن أبي طالب" أمير المؤمنين "وقد سئل" والسائل له أبو جحيفة، كما في الصحيح، وقيس بن عباد "بضم العين وخفة الموحدة"، والأشتر النخعي، وحديثهما في سنن النسائي، "هل خصكم" أهل البيت النبوي، أو الجمع للتعظيم "رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس" من أسرار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 فاتباع هذا النبي الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور، ورياض النفوس، ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين. ومن علامات محبته: أن يرضى مدعيها بما شرعه، حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه ولم يسلم له. قال شيخ المحققين وإمام العارفين، تاج الدين بن عطاء الله الشاذلي، أذاقنا   علم الوحي، كما تزعم الشيعة، "فقال: لا إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه" القرآن من فحوى الكلام، ويدركه من باطن المعاني التي هي غير الظاهر من نصه، ومراتب الناس في ذلك متفاوتة، وفيه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه، ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة "فهذا هو العلم اللدني الحقيقي، فاتباع هذا النبي الكريم حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصدور ورياض النفوس" جمع روضة، وهي الموضع المعجب بالزهور، جعل اتباعه كرياض مزهرة مثمرة للنفوس، الالتذاذ ها كلذة رائي الرياض بها، "ولذة الأرواح، وأنس المستوحشين، ودليل المتحيرين ومن علامات محبته أن يرضى مدعيها" عبر به دون محب؛ لأنه إذا ثبت أنه محب لا يحتاج لعلامة "بما شرعه" صلى الله عليه وسلم أمرًا ونهيًا، سماه شارعًا لمجيئه على يده وتبليغه، وإن كان الشارع حقيقة هو الله تعالى. وفي نسخة: بما شرعه الله، أي: ما جاء به رسوله وبلغه، لقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] فمآلهما واحد، لكن الأولى أنسب بما الكلام فيه، "حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضى" أي: ضيقًا أو شكًا. "قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} لا مزيدة للتأكيد، ونفي لما تقدمها، أي: ليس كما زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وقيل: لا الثانية زائدة، والقسم معترض بين حرفي النفس {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أي: يرجعوا لحكمك ويرضوا به {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من المشاجرة، وهي المخاصمة، وأصل معناه الاختلاط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه واختلاطها {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} ضيقًا مما حكمت به، أو من حكمك أو شكا من أجله، فإن الشاك في ضيق من أمره {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، أي: ينقادوا لحكمك، وأكده ليفيد الانقياد ظاهرًا، وباطنًا "فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه ولم يسلم له" بقوله: لا يؤمنون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 الله حلاوة مشربه: في هذه الآية دليل على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًا وبغضًا، ويشتمل ذلك على حكم التكليف وحكم التعريف، والتسليم والانقياد واجب على كل مؤمن في كليهما. فأحكام التكليف، الأوامر والنواهي المتعلقة باكتساب العباد. وأحكام التعريف هو ما أورده عليه من فهم المراد. فتبين من هذا: أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بالأمرين الامتثال لأمره، والاستسلام لقهره. ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد   "قال شيخ المحققين وإمام العارفين": جمع عارف، وهو من أشهده الحق نفسه وظهرت عليه الأحوال المعرفة، حاله هكذا ذكره الشيخ فالعالم عنده أعلى مقامًا، من العارف خلافًا للأكثر، فإن العالم من أشهده الله ألوهيته، ولم يظهر عليه حال العلم حاله، وقد قرر ذلك في الفتوحات وكتاب مواقع النجوم. وفي نسخ المعرفين: وهي أبلغ؛ لأنه الدال على ما يوصل إلى ذلك، فيلزم أن يكون عارفًا، وتلميحًا بقول شيخه المرسي: لأجعلنك سيد الطريقتين "تاج الدين" أحمد بن محمد بن عبد الكريم "بن عطاء الله الشاذلي" السكندري، ثم المصري، وبها مات سنة تسع وسبعمائة، ودفن بالقرافة بقرب بني الوفاء، ومن نظمة. أعندك عن ليلى حديث محرر ... لا يراده يحيا الرميم وينشر فعهدي بها العهد القديم وإنني ... على كل في هواها مقصر "أذاقنا الله حلاوة مشربه" في كتاب التنوير في إسقاط التدبير، "في هذه الآية دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على نفسه قولًا وفعلًا، وأخذًا وتركًا، وحبًّا وبغضًا، ويشتمل ذلك" المذكور "على حكم التكليف وحكم التعريف والتسليم" مبتدأ، "والانقياد" عطف كائن "على كل مؤمن في كليهما"، أي: حكمي التكليف والتعريف، "فأحكام التكليف الأوامر والنواهي، المتعلقة باكتساب العباد" أي: ما دل على الأحكام المستفادة منهما؛ إذ الأوامر ليست هي الأحكام التي يأتي بها المكلف؛ لأنه إنما يأتي بالمأمور، "وأحكام التعريف هو ما أورده عليه من فهم المراد، فتبين من هذا؛ أنه لا يحصل لك حقيقة الإيمان إلا بالأمرين: الامتثال لأمره والاستسلام لقهره"، أي: لما قهرك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 الجرح في نفسه، حتى أقسم على ذلك بالربوبية الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم رأفة وعناية وتخصيصًا ورعاية؛ لأنه لم يقل: فلا والرب، وإنما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ففي ذلك تأكيد بالقسم، وتأكيد في القسم، علمًا منه سبحانه بما في النفوس منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه، فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه، والانقياد لأمره، ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته حتى يذعنوا لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما وصفه به ربه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] وأكد ذلك بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} .   عليه وألزمك به من المطلوبات والمنهيات، "ثم إنه سبحانه لم يكتف بنفي الإيمان عمن لم يحكم، أو حكم ووجد الحرج في نفسه"، بل بالغ في ذلك "حتى أقسم على ذلك"، فهو غاية لمقدر "بالربوبية الخاصة برسوله"، أي: المضافة إليه صلى الله عليه وسلم وجعلها خاصة به؛ لأن الرب في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، وهي وإن كانت شاملة لجميع العالمين، لكن تربية الحق لحبيبه لا يوازيها تربيته لغيره؛ لأنه بلغه أعلى الكمالات التي لم يبلغها لأحد سواه "رأفة وعناية" اهتمامًا "وتخصيصًا ورعاية؛ لأنه لم يقل: فلا والرب، إنما قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ففي ذلك تأكيد" لما أخبر به "بالقسم، وتأكيد في القسم" نفسه، بإضافة ربوبيته إليه؛ تعظيمًا له وتنويهًا لمقامه، وإنما أكد بذلك "علمًا منه"، أي: لعلمه "سبحانه بما في النفوس، منطوية عليه من حب الغلبة ووجود النصرة" على غيرها. "سواء كان الحق عليها أو لها، وفي ذلك إظهار لعنايته برسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جعل حكمه حكمه، وقضاءه قضاءه"، عطف مساوٍ للإشارة إلى أن مدلول "يحكموك" و"قضيت" واحد، "فأوجب على العباد الاستسلام لحكمه والانقياد لأمره" عطف تفسير. قال في الشفاء: يقال: سلم واستسلم وأسلم، إذا انقاد "ولم يقبل منهم الإيمان بإلهيته"، أي: بأنه آله "حتى يذعنوا" ينقادوا "لأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما وصفه به ربه" تبارك وتعالى، حيث قال، أو قائلًا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، أي: هوى نفسه {إِنْ} ما {هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فحكمه حكم الله، وقضاؤه قضاء الله، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 وفي الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره، وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: {وَرَبَّكَ} فأضاف نفسه إليه، كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 1، 2] فأضاف الحق سبحانه نفسه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضاف زكريا إليه ليعلم العباد فرق ما بين المنزلتين وتفاوت ما بين الرتبتين. ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم بالظاهر فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج -وهو الضيق- من نفوسهم في أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار، ووجود الأغيار، فعنه يكون الحرج وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع العليم، ممدودة بوجود فضله العظيم، مهيآت لواردات أحكامه مفوضة له في نقضه وإبرامه، انتهى.   يُبَايِعُونَ اللَّهَ} لأنه المقصود ببيعته، "وأكد ذلك بقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوَْ أَيْدِيهِمْ} ، حال واستئناف مؤكد له على سبيل التخييل، قاله البيضاوي "وفي الآية إشارة أخرى إلى تعظيم قدره وتفخيم أمره صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى: {وَرَبَّكَ} فأضاف نفسه تعالى "إليه" عليه الصلاة والسلام، "كما قال في الآية الأخرى: {كهيعص، ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} ، فأضاف الحق سبحانه نفسه، في الآيتين "إلى محمد صلى الله عليه وسلم" فقال في الأولى: وربك وفي الثانية: ربك "وأضاف زكريا إليه"؛ لأنه بدل من عبده أو بيان له، فكان المعنى: ذكر رحمة ربك زكريا، الذي هو عبده "ليعلم" "بضم التحتية وسكون العين وكسر اللام" الله "العباد، فرق ما بين المنزلتين"، منزلة نبينا ومنزلة زكريا، فإن في إضافة رب إلى المصطفى غاية التعظيم، "وتفاوت ما بين الرتبتين" عطف تفسير، فالرتبة لغة المنزلة والمكانة، "ثم إنه تعالى لم يكتف بالتحكيم بالظاهر، فيكونوا به مؤمنين، بل اشترط فقدان الحرج، وهو الضيق من نفوسهم في أحكامه صلى الله عليه وسلم، سواء كان الحكم بما يوافق أهواءهم أو يخالفها، والثاني ظاهر وأما الأول، فلأنه لا يلزم من كونه الحكم موافقًا لهاه أن لا يشق عليه لما في الإلزام به من مشقة التكليف المترتب على فعله أو تركه عقوبة لا العفو، ويقرب ذلك أن الرجل قد يهوى زواج امرأة، لكن يمنعه كثرة نفقتها مثلًا، فإلزامه بتزوجها وإن وافق هواه، لكنه يشق عليه، فإذا أخذها للأمر ناله حرج في نفسه، "وإنما تضيق النفوس لفقدان الأنوار ووجود الأغيار، فعنه" أي: عما ذكر من الأمرين "يكون الحرج، وهو الضيق، والمؤمنون ليسوا كذلك؛ إذ نور الإيمان ملأ قلوبهم فاتسعت وانشرحت، فكانت واسعة بنور الواسع" الذي وسع علمه ورحمته كل شيء، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 وقال سهل بن عبد الله: من لم ير ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، ويرى نفسه في ملكه لم يذق حلاوة سنته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه". وروينا عن السيد العارف بالله تعالى الكبير أبي عبد الله القرشي أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شيء. انتهى. فمن آثر هذا النبي الكريم على نفسه، كشف الله له عن حضرة قدسه، ومن معه بلا اختيار ظهرت له خفايا حقائق أسرار أنسه.   أو الغني الذي وسع غناه معاش عباده، ورزقه كافة خلقة "العليم" لكل معلوم، أو البالغ في العلم، فعلمه شامل لجميع المعلومات، محيط بها، سابق على وجودها "ممدودة" أي: مقواة في أنفسها "بوجود فضله العظيم" زيادة على إشراقها بأنوار قدسه، مأخوذة من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه، "مهيآت لواردات أحكامه"، وهي ما يرد على القلب من الخواطر المحمودة من غير عمل العبد، وتطلق أيضًا على كل ما يرد على القلب، سواء كان وارد قبض، أو بسط، أو حزن، أو فرح، أو غير ذلك من المعاني، قاله الكاشي: "مفوضة له في نقضه وإبرامه انتهى". كلام ابن عطاء الله. "وقال سهل بن عبد الله" التستري: "من لم ير" أي: يعمل ويتيقن "ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم" بفتح الواو وكسرها نفوذ حكمه وسلطانه "عليه في جميع أحواله" بأن لا يخالفه في أمر من الأمور، "وير نفسه في ملكه" بكسر الميم حتى كأنه مملوكه، "لم يذق حلاوة سنته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم" أي: لا يكمل إيمانه "حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فإنه يدل على تلذذه بالاقتداء به، وإنما يلتذ بذلك إذا أحبه، فإن المحب لا يخالف محبوبه، فيترك مراده لمراده وبهذا دل على الأحبية، وطابقة العلة معلولها. "وروينا عن السيد العارف بالله تعالى، الكبير" محمد بن أحمد بن إبراهيم "أبي عبد الله القرشي"، الأندلسي، ثم المصري، ثم المقدسي، وبه توفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة، والدعاء عند قبره مجاب، ولقي نحو ستمائة شيخ، وجد واجتهد، وأخذ عنه كثيرون، وله كرامات، "أنه قال: حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، ولا يبقى لك منك شيء، انتهى". وهو من ثمراتها وعلاماتها، "فمن آثر هذا النبي الكريم على نفسه" بأن قدم ما فيه رضاه، بامتثال أمره واجتناب نهيه، مطمئنًا بقبول ما جاء عنه زيادة على الإيمان "كشف الله له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام نصر دينه بالقول والفعل، والذب عن شريعته، والتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار، والحلم والصبر والتواضع وغيرها، مما ذكرته في أخلاقه العظيمة، وتقدم في كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبًا. فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وآثر ذلك على أغراض الدنيا الفانية يا هذا أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح فما للمفلس الجبان وسومها بدم المحب يباع وصلهم تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فينفقها بالنسيئة المعسرون لقد أسيمت للعرض في سوق من يزيد فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر الباطلون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا فدارت السلعة   عن حضرة قدسه"، فصار يعبد الله كأنه يراه، "ومن كان معه بلا اختيار" لشيء تميل إليه نفسه، مخالف لما طلب منه، "ظهرت له خفايا: حقائق أسرار أنسه، ومن علامات محبته عليه الصلاة والسلام نصر دينه بالقول والفعل" مجاهدة الكفار لإعلاء كلمة الله "والذب": "بمعجمة وموحدة" المنع والطرد "عن شريعته" برد ما يخالفها ودفع الشبه الواردة عليها، وتفسير أحاديثه وبيانها، والانقياد لها، "والتخلق بأخلاقه في الجود" فقد كان أجود الناس، "والإيثار" تقديم الغير عليه في أمور الدنيا، "والحلم، والصبر، والتواضع" فقد بلغ في كل منها الغاية القصوى، أفلا أقل من التخلق به في بعضها: ومتى تفعل الكثير من الخير إذا كنت تاركًا لأقله "وغيرها مما ذكرته في أخلاقه العظيمة، وتقدم في كلام العارف ابن عطاء الله مزيد لذلك قريبًا" جدًّا فوق هذا، "فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات، وتحمل المشاق في الدين، وآثر ذلك على أعراض الدنيا الفانية، يا هذا أول نقده من أثمان المحبة بذل الروح". سئل الجنيد عن العشق، فقال: لا أدري ما هو، لكن رأيت رجلًا أعمى عشق صبيًّا، وكان الصبي لا ينقاد له، فقال الأعمى: يا حبيبي إيش تريد مني؟ قال: روحك، ففارق روحه حالًا، "فما للمفلس الجبان" ضعيف القلب "وسومها": طلب شرائها "بدم المحب، يباع وصلهم" الأحباب، "تالله ما هزلت": ضعفت، "فيستامها" يقال: سام واستام، بمعنى "المفلسون، ولا كسدت" بفتحتين"، لم تنفق لقلة الرغبات فيها، "فينفقها": يروجها "بالنسيئة" التأخير "المعسرون" الفقراء، "لقد أسميت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 بينهم ووقعت في يد قوم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] . لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فتأخر أكثرهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54] فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعه {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من أجرى على يده عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وإن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان، من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: قد صارت   النفوس"، إعطائها بسماحة "فتأخر البطالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمنًا فدارت السلعة بينهم، ووقعت في يد قوم أذلة"، عاطفين "على المؤمنين أعزة" أشداء "على الكافرين لما كثر المدعون للمحبة، طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لا دعى الخلي" من المحبة "حرفة" بالكسر اسم من الاحتراف الاكتساب "الشجي" الحزين "فتنوع المدعون في الشهود"، كل بما قدر عليه، فتعارضت الشهادة "فقيل: لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة" بإضافته إلى قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [العمران: 31] ، فتأخر أكثرهم" لعدم اتباعه الكامل، "وثبت اتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة" المذكورة "بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} فيه "فتأخر أكثر المحبين" لمشقة الجهاد عليهم، "وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا": أقبلوا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} بأن يعذلوها في طاعته، "فلما عرفوا عظمة المشترى" سبحانه وتعالى: "وفضل الثمن، وجلالة من أجرى على يده" صلى الله عليه وسلم "عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة" المشتراه، "وأن لها شأنًا": أمرًا عظيمًا، "فرءوا من أعظم الغبن: أن يبيعوها لغيره بثمن بخس" ناقص "فعقدوا معه بيعة الرضوان من غير ثبوت خيار"، بل بتا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات مدخل ... ال مقصد الثامن: في طلبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات   "المقصد الثامن:" "في طبه صلى الله عليه وسلم" "بكسر الطاء اسم مصدر من طبه طبًّا بالفتح" إذا داواه، والمراد بيان أنه كان يصف ما يتداوى به من الأمراض البدنية والقلبية "لذوي الأمراض" "بفتح الهمزة جمع مرض بالفتح". قال البيضاوي: هو حقيقة فيما يعرض للبدن، فيخرجه عن الاعتدال الخاص به، ويوجب الخلل في أفعاله، ومجاز في الأعراض النفسانية التي تخل بكمالها، كالجهل وسوء العقيدة، والحسد والضغينة، وحب المعاصي؛ لأنها مانعة من نيل الفضائل، أو مؤدية إلى زوال الحياة الحقيقية الأبدية، زاد في نسخة: والأعراض: "بفتح الهمزة" ما ينشأ عن المرض من الآلام والأورام، وأكثر النسخ بحذفها، وهو المطابق لما مر من الديباجة، فمراده بالمرض ما يشمل ما نشأ عنه، "والعاهات" أي الآفات: جمع عاهة في تقدير فعله "بفتح العين" وتعبيره" أي تفسيره "الرؤيا" مصدر عبر بالتشديد للمبالغة، وأنكرها الأكثرون وقالوا: المسموع التخفيف، كقوله تعالى: تعبرون، لكن أثبتها الزمخشري اعتمادًا على بيت أنشده المبرد: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 اعلم أنه لا سبيل لأحد إلى الإحاطة بنقطة من بحار معارفه، أو قطرة مما أفاضه الله عليه من سحائب عوارفه، وأنت إذا تأملت ما منحه الله تعالى به من جوامع الكلم، وخصه به من بدائع الحكم، وحسن سيره، وحكم حديثه، وإنبائه بأنباء القرون السالفة والأمم البائدة، والشرائع الدائرة، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى مع الخضر، ويوسف مع إخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، وأشباه ذلك، وبدء الخلق، وأخبار الدار الآخرة، وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى، وإظهار أحوال الأنبياء وأممهم، وأسرار علومهم ومستودعات سيرهم، وإعلامه بمكتوم وإعلامه شرائعهم، ومضمنات كتبهم وغير   وتبعه في القاموس، "وإنبائه بالأنبياء" أي إخباره بالأخبار "المغيبات" الأمور التي ستقع قبل وقوعها بإلهام أو وحي، "اعلم أنه لا سبيل" لا طريق "لأحد" توصله "إلى الإحاطة بنقطة من بحار معارفه" أي إلى حقيقة شيء من معارفه التي هي كالبحار؛ لأنه إنما يحيط من الأشياء بالظواهر، ولا يصل عقل إلى حقيقة البواطن وإضافة البحار إلى المعارف من إضافة المشبه به للمشبه، "أو قطرة مما أفاضه الله عليه من سحائب عوارفه" إذ لا طريق إلى شيء من الحقائق التي أوتيها، فالمراد منه، كالمراد مما قبله، "وأنت إذا تأملت ما منحه الله تعالى به" أي أعطاه وضمنه معنى خص، فعداه بالباء "من جوامع الكلم" أي الكلم الجوامع للمعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم" واختصر لي الكلام اختصارًا، "وخصه به من بدائع الحكم" التي لم يسبق بها، "وحسن سيره" جمع سيرة، "وحكم حديثه وإنبائه بأنباء" إخباره بأخبار "القرون السالفة" الأمم الماضية التي لم يصل علمها إلينا إلا منه صلى الله عليه وسلم، وهو بهذا المعنى يخالف المغيبات بتفسيره المتقدم، فهما متغايران "والأمم البائدة" أي الهالكة "والشرائع الدائرة" أي التي نسيت وترك العمل بها، حتى كأنها محيت، بحيث لم يبق لها أثر، "كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى" الكليم بن عمران "مع الخضر" المختلف في نبوته، وصحح جمع نبوته "ويوسف" نبي الله "مع إخوته" وليسوا بأنبياء على الصحيح، "وأصحاب الكهف" الغار في الجبل، مر لي الإلمام بشيء من قصتهم في المقصد الأول، "وذي القرنين" اسمه الصعب، والأصح أنه كان رجلًا صالحًا لا نبيًّا، كما قيل: وهو الأكبر، وذو القرنين الأصغر اسمه الإسكندر كافر، والحق أن الذي في القرآن هو الأول، وإليه أشار البخاري بذكره قبل إبراهيم ومر بسط ذلك في الأول "وأشباه ذلك، وبدء الخلق وأخبار الدار الآخرة وما في التوراة" كتاب موسى "والإنجيل" كتاب عيسى، "والزبور" كتاب داود، "وصحف إبراهيم" العشرة، "و" صحف "موسى" غير التوراة، "وإظهار أحوال الأنبياء وأممهم، وأسرار علومهم ومستودعات" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 ذلك مما صدقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك فضلًا عما أضافه من العلم ومحاسن الآداب والشيم، والمواعظ والحكم، والتنبيه على طرق الحجج العقليات، والرد على فرق الأمم ببراهين الأدلة الواضحات، إلى فنون العلوم التي اتخذ أهلها كلامه فيها قدوة، وإشاراته حجة، كاللغة والمعاني والبيان والعربية، وقوانين الأحكام الشرعية، والسياسات العقلية،   محفوظات "سيرهم، وإعلامه بمكتوم شرائعهم ومضمنات كتبهم، وغير ذلك مما صدقه فيه العلماء بها" من أخبارهم، "ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها" لحقيتها وثبوتها عندهم، "بل أذعنوا" أي انقادوا "لذلك" ولم يستعصوا، "فضلًا" زيادة "عما أضافه من العلم" وانتصابه على المصدر. قال أبو حيان: لم أظفر بنص على أن مثل هذا التركيب من كلام العرب "ومحاسن الأدب" رياضة النفس ومحاسن الأخلاق. قال أبو زيد الأنصاري: الأدب يقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال نحوه الأزهري: فالأدب اسم لذلك، والجمع آداب، كسبب وأسباب، "والشيم" "بكسر المعجمة وفتح الياء" جمع شيمة، كسدرة وسدر الطبيعة التي خلق عليها الإنسان "والمواعظ" أي أمور الترغيب والترهيب، "والحكم" جمع حكمة، أي جوامع الكلم المحكمة، المرشدة لتكميل النفوس بالملكات الفاضلة: "والتنبيه على طرق الحجج العقليات" أي الإرشاد إلى نصب الأدلة العقلية، كيفية إلزام الخصم بها، نحو: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم، "والرد على فرق الأمم" الضالة من عباد الكواكب وغيرهم "ببراهين الأدلة الواضحات" الظاهرات لسهولة ألفاظها، بحيث يفهمها كل من يسمعها، ويحفظها لقلتها، مع دلالتها على معانيها المبهمة الكثيرة، فليس فيها اختصار مخل، ولا عبارة مغلقة "إلى فنون" أي أنواع "العلوم" متعلق بقوله، أو لا إضافة "التي اتخذ أهلها كلامه فيها قدوة" "مثلثة القاف"، "و" اتخذوا "إشاراته حجة" على ما يستنبطونه منها، "كاللغة والمعاني والبيان والعربية" "من عطف الكل على بعض أجزائه أو العام على الخاص"، فإنهم قسموه إلى اثني عشرة قسمًا: لغة وصرف واشتقاق ونحو ومعان وبيان وعروض وقافية وخط وقرض الشعر وإنشاء الرسائل والخطب والمحاضرات، ومنه التواريخ. قال السيوطي: والمراد بالمحاضرات ما تحاضر به صاحبك من نظم أو نثر أو حديث أن نادرة أو مثل سائر، وأما البديع، فجعلوه ذيلًا لا قسمًا برأسه، وقد يطلق علم العربية، ويراد به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 ومعارف عوارف الحقائق القلبية، إلى غير ذلك من ضروب العلوم، وفنون المعارف الشاملة لمصالح أمته، كالطب والعبارة والحساب وغير ذلك مما لا يعد ولا يحد. قضيت بأن مجال هذا الباب في حقه عليه الصلاة والسلام ممتد، تنقطع دون نفاده الأدلاء، وأن بحر علمه ومعارفه زاخر لا تكدره الدلاء. وهذا المقصد -أعزك الله- يشتمل على ثلاثة فصول:   النحو فقط، "وقوانين الأحكام الشرعية" أي قواعدها التي يستخرج منها أحكام جزئيات موضوعاتها "والسياسات العقلية" أي الآداب والتدبيرات المستفادة من العقل، "ومعارف عوارف الحقائق القلبية" هي عشر مقامات، ينزلها السائرون إلى الله تعالى، سميت حقائق لأن المنازل منازل تحقيق، من جهة أن السائرين فيها، إلى الله عند نزولهم فيها وتحققهم بها يظهر لهم حقيقة كل شيء وسره عند إتمامها، فتظهر لهم الحقائق كما هي علية في حضرة العلم، بلا تغيير ولا تبديل، وأول هذه المقامات العشرة المكاشفة، ثم المشاهدة، ثم المعاينة، ثم الحياة، ثم القبض، ثم البسط، ثم السكر، ثم الصحو، ثم الاتصال، ثم الانفصال قاله في لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام، "إلى غير ذلك من ضروب العلوم" أي أصنافها، "وفنون المعارف الشاملة لمصالح أمته، كالطب والعبارة" "بكسر العين مصدر عبر الرؤيا مخففًا فسرها" "والحساب، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحد" لعدم إمكان واحد منهما، "قضيت" جواب قوله أولًا، وأنت إذا تأملت، أي حكمت، "بأن مجال" "بجيم" أي ميدان "هذا الباب" أي امتداد الفكر "في حقه عليه الصلاة والسلام" ممتد متسع جدًّا، "تنقطع دون نفاده" "بدال مهملة"، أي فراغه "الأدلاء" نجمع دليل، وهو ما يفيد المعنى ويحصله، "وأن بحر علمه ومعارفه زاخر" بزأي وخاء معجمتين" أي ممتلئ طافح "لا تكدره الدلاء" جمع دلو، "وهذا المقصد أعزك الله يشتمل على ثلاثة فصول" الطب والتعبير والإنباء بالمغيبات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود من مرض من أصحابه، حتى لقد عاد غلامًا   "الفصل الأول:" "في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات: اعلم" قبل الشروع في المقصود، "أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود من مرض من أصحابه" العظيم منهم وغيره، والمراد بالأصحاب هنا مطلق الاجتماع ولو كفارًا، لئلا يخرج من عادهم وهم كفار، كأبي طالب وابن أبي المنافق والغلام، فإنه كان حين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأول وكان يهوديًّا، كما روى البخاري وأبو داود من حديث أنس: أن غلامًا من اليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقعد عند رأسه، فقال: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار".   عيادته يهوديًّا، كما أفاده بقوله: "حتى لقد عاد غلامًا كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمه" أبا طالب، "وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم الأول وكان يهوديًّا" ولم يسلم الثاني، والله يهدي من يشاء، "كما روى البخاري" في الجنائز والجهاد والطب، "وأبو داود" وكذا النسائي "من حديث أنس" بن مالك "أن غلامًا من اليهود". قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق الموصولة على تسميته إلا أن ابن بشكوال ذكر أن صاحب العتبية حكى عن زياد شيطون أن اسم هذا الغلام عبد القدوس، وهو غريب ما وجدته عند غيره، ووقع للمصنف في الطب أن اسمه عبدوس، وهو تصحيف، "كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد عند رأسه، فقال: "أسلم"، فنظر إلى أبيه وهو نده" لفظ البخاري، وفي رواية أبي داود: عند رأسه أخرجه عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، وكذا للإسماعيلي عن أبي خليفة عن سليمان "فقال أطع أبا القاسم" لتحققه صدقه وإن كان يهوديًّا، "فأسلم" في رواية النسائي عن إسحاق بن راهويه عن سليمان المذكور، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، "فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" في رواية أبي داود وأبي خليفة: "أنقذه بي من النار"، وفي الحديث جواز استخدام المشرك وعيادته إذا مرض، وفيه حسن العهد، وفيه استخدام الصغير وعرض الإسلام على الصبي، ولولا صحته منه ما عرضه عليه، وفي قوله: "أنقذه بي من النار" دلالة على صحة إسلامه، وعلى أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه؛ أنه يعذب. انتهى. ووجه صحة إسلام الصبي ظاهر من عرضه عليه، كما قال، ولأن الغلام الابن الصغير وإطلاقه على الرجل مجاز، كما في المصباح وغيره، ولا يرده قول القاموس الغلام الطار الشارب، والكهل ضد أو من حين يولد إلى أن يشب لما علم من استعماله المجازات كثيرًا، وتجويز أن المراد بالغلام الصغير لا يقيد كونه صبيًّا، وقد يشعر به قوله: أنقذه من النار ممنوع، فالأصل الحقيقة، وقد فهمها منه البخاري، فترجم عليه في الجنائز باب: إذا أسلم الصبي، فمات هل يصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام؟، وترجم في الجهاد باب، كيف يعرض الإسلام على الصبي؟ نعم دلالته على أن الصبي إذا عقل الكفر ومات عليه أنه يعذب، لعله كان قبل أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 وكان صلى الله عليه وسلم يدنو من المريض، ويجلس عند رأسه، ويسأله عن حاله ويقول: "كيف تجدك"؟. وفي حديث جابر عند البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فواجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي فأفقت، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، وعند أبي داود: فنفخ في وجهي فأفقت. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر لا أراك ميتًا من وجعك هذا". وفي حديث أبي موسى عند البخاري مرفوعًا: "أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني".   يعلم صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعذب، وأنه في الجنة، كما في الأصح من عشرة أقوال: "وكان صلى الله عليه وسلم يدنو" يقرب "من المريض ويجلس عند رأسه" تواضعًا وشفقه على خلق الله، "ويسأله عن حاله، ويقول: "كيف تجدك" أي كيف تجد نفسك على أي حالة. "وفي حديث جابر" بن عبد الله الأنصاري "عند البخاري" في التفسير والطب والفرائض، "ومسلم والترمذي وأبي داود، قال: مرضت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر" الصديق عام حجة الوداع، "وهما ماشيان، فوجداني أغمي علي" وفي رواية: لا أعقل شيئًا، "فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم" الوضوء الشرعي، "ثم صب وضوءه" أي الماء الذي توضأ به "علي، فأفقت" من ذلك الإغماء، "فإذا النبي صلى الله عليه وسلم" موجود عندي، وبقية الحديث، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي؟، فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث. "وعند أبي داود: فنفخ في وجهي فأفقت، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا جابر لا أراك ميتًا من وجعك هذا" وفيه علم من أعلام النبوة، فإنه مات بالمدينة بعد سنة سبعين من الهجرة، عن أربع وتسعين سنة، وفيه أن وضوء العائد للمريض إذا كان إمامًا في الخير يتبرك به، وإن صبه ماء وضوئه يرجى نفعه، وقيل: كان مرض جابر الحمى المأمور بإبرادها بالماء، وصفه ذلك أن يتوضأ الرجل المرجو خيره وبركته ويصب فضل وضوئه عليه، ولا تتوقف مشروعية العيادة على علم المريض بالعائد؛ لأن وراء ذلك جبر خاطر أهله، وما يرجى من بركة دعاء العائد ووضع يده على المريض، والمسح على جسده والنفث عليه عند التعويذ. "وفي حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "عند البخاري" في الطب، "مرفوعًا" اختصار لقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني" "بعين مهملة ونون مكسوة خفيفة، أي خلصوا الأسير بالفداء" وجمع المرضى لكثرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 وعنده من رواية البراء: أمرنا صلى الله عليه وسلم بسبع، وذكر منها عيادة المريض. وعند مسلم: "خمس تجب للمسلم على المسلم"، فذكرها منها. قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب، يعني الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير ويحتمل أن يكون على الندب على التواصل والألفة. وعند الطبري: يتأكد في حق من ترجى بركته، ويسن في من يراعي حاله، ويباح فيما عدا ذلك.   أنواع المرضى واختلافها وأفراد الجائع والعاني؛ لأن كلا منهما صفة واحدة وإن كثرت أفرادهما، "وعنده" أي البخاري، وكذا عند مسلم "من رواية البراء" بن عازب: "أمرنا" رسول الله "صلى الله عليه وسلم بسبع، وذكر منها عيادة المريض"، أي زيارته، ولفظه، أمرنا بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض وإتباع الجنائز وتشميت العاطس ورد السلام وإجابة الداعي وإبرار القسم ونصر المظلوم، ونهانا عن خواتم الذهب وعن الحرير والاستبرق والديباج والميثرة الحمراء والقسي وآنية الفضة والميثرة "بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بلا همز" وقال النووي: بالهمز، وهي وطاء كانت النساء تصنعه لأزواجهن في السروج، يكون من الحرير والديباج وغيرهما، والنهي واقع على ما هو من الحرير والقسي "بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة" ثياب تنسب إلى القس بساحل بحر مصر، وفي أبي داود؛ أنها ثياب من الشام، أو من مصر مصبغة فيها أمثال الأترج. "وعند مسلم" في كتاب الأدب من صحيحه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خمس تجب للمسلم على المسلم" أي تطلب طلبًا مؤكدًا يقرب من الواجب، "فذكرها منها" ولفظه خمس تب للمسلم على أخيه المسلم: زاد السلام وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وعيادة المريض واتباع الجنائز، وله وجه آخر "حق المسلم على المسلم ست"، فذكر الخمسة، وزاد: "وإذا استنصحك فانصح له"، وليس المراد الحصر، ففي حديث آخر: "للمسلم على المسلم ثلاثون حقًّا". "قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر" في قوله: وعودوا المرضى محمولًا "على الوجوب، يعني" وجوب "الكفاية، كإطعام الجائع وفك الأسير" المذكورين معه، "ويحتمل أن يكون" محمولًا "على "الندب" حثًّا "على التواصل والألفة" "بضم الهمزة" الأنس والمحبة والاجتماع، "وعن الطبري: يتأكد" فعل العيادة، أو هو بفوقيتين، فلا يقدر فعل "في حق من ترجى بركته" لينال منها المريض، "ويسن في" حق "من يراعي حاله" أي المريض؛ بتعهده فيما يحتاج إليه، كشراء دواء وتهنئة حاجته منه، "ويباح فيما عدا ذلك" المذكور من الحالين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 وهو فرض كفاية عند الحنفية، كما قال أبو الليث في "مقدمته". واستدل بعموم قوله: "عودوا المرضى" على مشروعية العيادة في كل مرض، لكن استثنى بعضهم: الأرمد، ورد: بأنه قد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم، قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني، رواه أبو داود وصححه الحاكم. وأما ما أخرجه البهيقي والطبراني مرفوعًا: ثلاثة ليس لهم عيادة، الرمد والدمل والضرس، فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير. ويؤخذ من إطلاقه أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه. وهو قول   وقد تجب، كأن علم به ضررًا يزول بعيادته، وتحرم إن أدت إلى ضر يلحقه، كتضرره بدخوله عليه، أو رؤية محارمه، وتكره إن ترتب على دخوله أمر يكرهه المريض، "وهو فرض كفاية عند الحنفية، كما قال أبو الليث" أحمد بن عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل النسفي، الفقيه، الواعظ، مات سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة "في مقدمته" المشهورة، "واستدل بعموم قوله: "عودوا المرضى" على مشروعية العيادة في كل مرض، لكن استثنى بعضهم الأرمد" أي وجع العين، "وورد بأنه قد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم" بن زيد الأصناري، الخزرجي، مات سنة ست أو ثمان وستين، "قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني" "بشد الياء على التثنية" قاله ابن رسلان، "رواه أبو داود" سليمان بن الأشعث، "وصححه الحاكم" محمد بن عبد الله النيسابوري. "وأما ما أخرجه البهيقي" في الشعب، "والطبراني" في الأوسط، وابن عدي من حديث مسلمة بن علي الخشني، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي جعفر، ع أبي هريرة، "مرفوعًا: "ثلاثة ليس لهم عيادة" أي لا تندب عيادتهم، لا إنها لا تجوز في رواية "ثلاث لا يعاد صاحبهن" "الرمد" أي وجع العين، "والدمل" "بضم الدال وفتح الميم مثقلة ومخففة" الخراج الصغير، وإن تعدد، "والضرس" أي الذي به وجع الضرس وغيره من الأسنان، وفي رواية: وصاحب الضرس وصاحب الدمل، "فصحح البيهقي أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير" لأنه أخرجه من طريق هقل، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، وجعله من قوله لم يجاوزوه، قال: أعني البيهقي، وهو الصحيح، فقد قال زيد بن أرقم: رمدت، فعادني النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ثبت النهي أمكن أن يقال: إنها لكونها من الآلام التي لا ينقطع صاحبها غالبًا بسببها، وقال الحافظ: تصحيحه وقفه لا يوجب الحكم بوضعه، إذ مسلمة، وإن كان ضعيفًا لم يخرج بكذب، فجزم ابن الجوزي بوضعه، وهم، "ويؤخذ من إطلاقه" أي قوله: عودوا المرضى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 الجمهور، وجزم الغزالي في "الأحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث. وهذا حديث ضعيف تفرد به مسلمة بن علي، وهو متروك، قال أبو حاتم هو حديث باطل.   "أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور" من العلماء، زاد الحافظ: وإنها لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها طرفي النهار، "وجزم الغزالي في الإحياء، بأنه لا يعاد إلا بعد ليال ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه" في الجنائز من سننه، وابن أبي الدنيا في المرض والكفارات، والبيهقي في الشعب، كلهم من حديث مسلمة بن علي، قال: حدثنا ابن جريج عن حميد الطويل، "عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث" من الأيام تمضي من ابتداء مرضه، قيل: ومثل العيادة تعهده وتفقد أحواله، قال الزركشي: وهذا يعارضه أنه عاد زيد بن أرقم في رمده قبلها. انتهى. ويمكن أن ذلك أغلب أحواله، فلا معارضة إن صح الخبر، "و" لكن "هذا حديث ضعيف" جدًَّا "تفرد به مسلمة" بفتح الميمين "ابن علي" بضم العين مصغرًا، وكان يكره تصغير اسمه، وإنما صغر في أيام بني أمية مراغمة من الجهلة، كما في التبصير، وهو الخشني "بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين" الدمشقي، مات قبل سنة تسعين ومائة، "وهو متروك" أي تركوا الرواية عنه لضعفه، وما روى له إلا ابن ماجه. "قال أبو حاتم: هو حديث باطل" موضوع، ونقله الذهبي في الميزان وأقه، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وتعقبوا بأنه ضعيف فقط لا موضوع؛ فإن مسلمة لم يجرح بكذب، كما قاله الحافظ، فلا التفات لمن غر بزخرف القول، فقال: هو موضوع، كما قال الذهبي وغيره، لكنه إذا راج على البيهقي وابن ماجه، فلا ملام على من راج عليه بعدهما، فهذا كلام فارغ لا يتمشى على القواعد، فإن المدار على الإسناد، فإن تفرد به كذاب أو وضاع، فحديثه موضوع، وإن كان ضعيفًا فالحديث ضعيف فقط، ودعوى رواجه غير مسموعة؛ لأن دأب المحدثين إذا أبرزوا الحديث بسنده، فقد برءوا من عهدته، على أن مسلمة لم يتفرد به، كما زعم المصنف، فقد أخرجه أبو يعلى في مسنده من حديث عباد بن كثير، عن ثابت عن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبًا عاله، وإن كان شاهدًا أزاره، وإن كان مريضًا عاده، وعباد ضعيف. وأخرج الديلمي من حديث أبي عصمة عن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، عن أنس، رفعه: "المريض لا يعاد حتى يمرض ثلاثة أيام"، وأبو عصمة ضعيف، فقد تابع عباد مسلمة في شيخ شيخه حميد، في روايته عن أنس، وتابعه أيضًا الحارث في روايته عن أنس، فأين التفرد وله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 ولا نطيل بإيراد ما ورد في فضل العبادة خوف الملل، ويكفي حديث أبي هريرة، مما حسنه الترمذي مرفوعًا: "من عاد مريضًا ناداه مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلًا"، وهذا لفظ ابن ماجه. وفي سنن أبي داد عن أنس مرفوعًا: "من توضأ فأحسن الوضوء، وعاد أخاه المسلم محتسبًا، بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفًا". وفي حديث أبي سعيد عن ابن حبان في صحيحه مرفوعًا: "خمس من   شاهد من طريق آخر، رواه الطبراني في الأوسط من طريق نصر بن حماد، وأبو الحارث الوراق عن روح بن جناح، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث، ونصر ضعيف. قال ابن عدي: ومع ذلك، فيكتب حديثه، قال السخاوي: وهذه الطرق يتقوى بعضها ببعض، ولذا أخذ بمضمونها جماعة، فقال النعمان بن أبي عياش الرزقي، أحد التابعين الفضلاء، من أبناء الصحابة، فيما أخرجه في الشعب، وابن أبي الدنيا: عيادة المريض بعد ثلاث. وقال الأعمش عند البيهقي: كنا نقعد في المجلس، فإذا فقدنا الرجل ثلاثة أيام سألنا عنه، فإن كان مريضًا عدناه، وهذا يشعر باتفاقهم على هذا، وليس في صريح الأحاديث ما يخالفه، وما رواه الطبراني، عن ابن عباس: عيادة المريض أول يوم سنة، فما كان بعد ذلك فتطوع، ورواه البزار بلفظ، ما زاد بعد ذلك فنافلة، فيحتمل أن مراده أول مرة، وقوله سنة يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم على الصحيح، "ولا نطيل بإيراد ما ورد في فضل العبادة خوف الملل، ويكفي حديث أبي هريرة" عند الترمذي واب ماجه، "مما حسنه الترمذي مرفوعًا" أي قال: قال صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضًا" زاد في رواية الترمذي: "أو زار أخا له في الله"، "ناداه مناد من السماء، طبت وطاب ممشاك وتبوأت" أي سكنت "من الجنة منزلًا" نسب السكنى إليه مبالغة؛ لأنه جزاء لفعله، "وهذا لفظ ابن ماجه" وكذا هو لفظ الترمذي، لكن بالزيادة المذكورة، ورواه ابن حبان بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عاد الرجل أخاه، أو زاره، قال الله: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت منزلًا في الجنة". "وفي سنن أبي داود عن أنس، مرفوعًا: "من توضأ فأحسن الوضوء" بفعل سننه وفضائله وتجنب مكروهاته، "وعاد أخاه المسلم محتسبًا" أجره على الله، "بوعد من جهنم مسيرة سبعين خريفًا" أي عامًا، ويحتمل أن المراد التكثير. "وفي حديث أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري، "عن ابن حبان في صحيحه" برجال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 علمهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضًا، وشهد جنازة وصام يومًا وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة". وعند أحمد عن كعب مرفوعًا: "من عاد مريضًا، خاض في الرحمة، فإذا جلس عنده استنقع فيها". زاد الطبراني: "وإذا قام من عنده فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج". ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخص يومًا من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتًا من الأوقات، وترك العيادة يوم السبت مخالف للسنة، ابتدعه يهودي طبيب لملك قد مرض وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضي لسبته فمنعه، فخاف على استحلال سبته، ومن سفك دمه، فقال: له إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت، فتركه   ثقات، "مرفوعًا: "خمس" من الخصال "من علمهن في يوم" أي يوم جمعة "كتبه الله" أي قدر أوامر الملائكة أن تكتب له أنه "من أهل الجنة" وهذا علامة على حسن الخاتمة، وبشرى له بذلك: "من عاد مريضًا" أي زاره في مرضه، ولو أجنبيًّا، "وشهد جنازة" أي حضرها وصلى عليها، "وصام يومًا" وفي رواية أبي يعلى: وصام يوم الجمعة، أي تطوعًا، "وراح إلى الجمعة" إلى محل صلاتها، "وأعتق رقبة" أي خلصها من الرق لوجه الله، وظاهره أنه لا يكتب له ذلك إلا بفعل الخمس في يوم واحد يكون يوم جمعة، أي جمعة كانت، وعند أحمد عن معاذ مرفوعًا: "خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنًا على الله؛ من عاد مريضًا، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازيًا، أو دخل على إمامه يريد تعزيزه وتوقيره، أو قعد في بيته وسلم الناس منه وسلم من الناس". "وعند أحمد عن كعب" بن مالك، "مرفوعًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من عاد مريضًا خاض في الرحمة" حال ذهابه لعيادته، "فإذا جلس عنده استنقع فيها" أي شملته وعمت جميع أجزائه "زاد الطبراني" في روايته لهذا الحديث: "وإذا قام من عنده، فلا يزال يخوض فيها حتى يرجع من حيث خرج" أي حتى يعود إلى مكانه الذي جاء منه للعيادة، فأفاد الحديث خوضه فيها ذاهبًا وراجعًا، والاستنقاع مدة جلوسه عنده، "ولم يكن صلى الله عليه وسلم يخص يومًا من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتًا من الأوقات" ولكن جرت العادة بها طرفي النهار، كما مر عن الحافظ، ومن آدابها عدم تطويل الجلوس عنده، فربما شق على المريض أو على أهله، "وترك العيادة يوم السبت مخالف للسنة ابتدعه يهودي طبيب لملك" سلطان "قد مرض، وألزمه بملازمته، فأراد يوم الجمعة أن يمضي لسبته، فمنعه، فخاف على استحلال سبته" إن جاء، "ومن سفك دمه" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده. ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوي: أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا، ولعل الحكمة في ذلك أن المريض يتضرر بطول الليل في الشتاء، وبطول النهار في الصيف، فيحصل له بالعبادة استرواح. وينبغي اجتناب التطبب من أعداء الدين، من يهودي ونحوه، فإنه مقطوع بغشه سيما إن كان المريض كبيرًا في دينه أو علمه، خصوصًا إن كان هذا العدو يهوديًّا؛ لأن قاعدة دينهم: أن من نصح مسلمًا فقد خرج عن دينه، وأن من استحل السبت فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه، ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل في عموم النهي فيمن قتل نفسه بشيء. وقد كثر الضرر في هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى يرحم القائل:   إن لم يجئ، "فقال له: إن المريض لا يدخل عليه يوم السبت فتركه الملك، ثم أشيع ذلك، وصار كثير من الناس يعتمده" ويعتقد أنه يضر المريض. "ومن الغريب ما نقله ابن الصلاح عن الفراوي" بضم الفاء نسبة إلى فراوة بلدة قرب خوارزم "أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا، ولعل الحكمة في ذلك" إن صح "أن المريض يتضرر بطول الليل في الشتاء، وبطول النهار في الصيف، فيحصل له بالعيادة استرواح" أي راحة في نفسه بالزيادة "وينبغي اجتناب التطيب من أعداء الدين، من يهودي ونحوه" نصراني، "فإنه مقطوع بغشه" للمسلمين، "سيما إن كان المريض كبيرًا في دينه أو علمه" فإنهم يتقربون بالسعي في فقد المسلمين له، "خصوصًا إن كان هذا العدو يهوديًّا؛ لأن قاعدة دينهم" الباطل؛ "أن من نصح مسلمًا فقد خرج عن دينه" وقد حكي أن الإمام المازري مرض، فكان يطلبه يهودي، فقال له يومًا: يا سيدي مثلي يطب مثلكم، وأي قربة أجدها أتقرب بها في ديني مثل أن أفقدكم للمسلمين، فشفي وقرأ الطب، فكان يفزع إليه فيه، كما يفزع إليه في الفقه رحمه الله، "وإن من استحل السبت، فهو مهدر الدم عندهم، حلال لهم سفك دمه" والمسلمون يستحلونه، فيعملون فيه ما يرى اليهودي تحريمه، "ولا ريب أن من خاطر بنفسه يخشى عليه أن يدخل في عموم النهي فيمن قتل نفسه بشيء، وقد كثر الضرر في هذا الزمن بأهل الذمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى يرحم القائل:" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا خرجوا أطباء وحسابًا لكي ... يتقسموا الأرواح والأموالا ومما كان يفعله عليه الصلاة والسلام ويأمر به تطييب نفوس المرضى وتقوية قلوبهم، ففي حديث أبي سعيد الخدري، قال صلى الله عليه وسلم: إذا دخلتم على مريض فنفسوا له في أجله، فإن ذلك يطيب نفسه، مثل أن يقول له: لا بأس عليك، طهور إن شاء الله، ووجهك الآن أحسن، وما أشبه ذلك. وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه في مرضه، وأن المرض كفارة، فربما أصلح ذلك قلبه، وأمن من خوف زلل ونحوه. وقال بعضهم: في هذا الحديث نوع شريف جدًّا من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعش   "لعن النصارى واليهود فإنهم ... بلغوا بمكرهم بنا الآمالا" "خرجوا أطباء وحسابًا لكي ... يتقسموا الأرواح والأموالا" "ومما كان يفعله عليه الصلاة والسلام ويأمر به تطييب نفوس المرضى، وتقوية قلوبهم" كما في البخاري عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل على مريض يعوده، قال: "لا بأس طهور إن شاء الله". "ففي حديث أبي سعيد اخدري" عند الترمذي وابن ماجه، بإسناد ضعيف، "قال صلى الله عليه وسلم إذا دخلتم على مريض" تعودونه، "فنفسوا له في أجله" أي وسعوا له وأطمعوه في طول الحياة، أو اذهبوا حزنه فيما يتعلق بأجله، قال الطيبي: في أجله متعلق بنفسوا مضمنًا معنى التطميع، أي طمعوه في طول أجله، واللام للتأكيد والتنفيس التفريج، "فإن ذلك يطيب نفسه" فيرتاح، وقد قيل للرشيد وهو عليل: هون عليك وطيب نفسك، فإن الصحة لا تمنع من الفناء، والعلة لا تمنع من البقاء، فارتاح لذلك، ولفظ الحديث عند الترمذي وابن ماجه: فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب بنفس المريض "مثل أن يقول له: لا بأس عليك طهور إن شاء الله" "بفتح الطاء، أي مطهر من الذنوب"، "ووجهك الآن حسن، وما أشبه ذلك" مما يدخل السرور عليه، "وقد يكون من هذا أن يذكر له الأجور الداخلة عليه في مرضه، وأن المرض كفارة" للذنوب، "فربما أصلح ذلك قلبه وأمن من خوف زلل ونحوه". "وقال بعضهم" هو ابن القيم "في هذا الحديث نوع شريف جدًّا من أشرف أنواع العلاج، وهو الإرشاد إلى ما يطيب نفس العليل من الكلام الذي تقوى به الطبيعة، وتنتعش الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 به القوة، وينبعث به الحار الغريزي، ويساعد على دفع العلة أو تخفيفها الذي هو غاية تأثير الطب. وفي تفريج نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال السرور عليه تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها، فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي. وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له، ولطفهم بهم، ومكالمتهم إياهم. قال في الهدي: وكان صلى الله عليه وسلم يسأل المريض عن شكواه، وكيف يجد، وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئًا وعلم أنه لا يضره أمر له به، ويضع يده على جبهته، وربما وضعها بين ثدييه، ويدعو له، ويصف له ما ينفعه في علته، وربما كان يقول   به القوة، وينبعث به الحار الغريزي، ويساعد على دفع العلة، أو تخفيفها، الذي هو غاية تأثير الطب" بالأدوية، "وفي تفريج نفس المريض وتطييب قلبه وإدخال السرور عليه": بالكلام "تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها" "الواو بمعنى"، أو "فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك، فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي، وقد شاهد الناس كثيرًا من المرضى تنتعش قواهم بعيادة من يحبونه ويعظمونه، ورؤيتهم له ولطفهم بهم ومكالمتهم إياهم" ولا يعارض ذلك ندب التنبيه على الوصية؛ لأنه يقول مع ذلك: الوصية لا تنقص الأجل، بل العامل بالنسبة ترجى له البركة في عمره، وربما تكون الوصية بقصد امتثال الشرع سببًا لزيادة العمر، ونحو ذلك "قال في الهدي" النبوي لابن القيم: "وكان صلى الله عليه وسلم يسأل المريض عن شكواه وكيف يجد" نفسه. روى أحمد والترمذي عن أنس، قال: دخل صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده وهو في الموت، فسلم عليه، فقال: "كيف تجدك"؟، قال: بخير يا رسول الله، أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "لم يجتمعا في قلب رجل عند هذا الموطن إلا أعطاه الله رجاءه وآمنه مما يخاف"، "وعما يشتهيه، فإن اشتهى شيئًا وعلم أنه لا يضره أمر له به، و" كان "يضع يده على جبهته" ففي حديث سعد بن أبي وقاص: ثم وضع يده على جبهته بعد مسح يده على وجهي وبطني، ثم قال: "اللهم اشف سعدًا وأتمم له هجرته"، فما زلت أجد برده على كبدي، "وربما وضعها بين ثدييه ويدعو له". ففي الصحيحين عن عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى مريضًا، أو أتي به إليه، قال: "أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك"، "ويصف له ما ينفعه في علته" مرضه، وربما توضأ وصب على المريض من وضوئه، كما في حديث جابر المتقدم قريبًا، "وربما كان يقول للمريض: "لا بأس عليك" هو "طهور" "بفتح الطاء، أي مطهر لك من ذنوبك" "إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 للمريض: "لا بأس عليك، طهور إن شاء الله تعالى"، وربما كان يقول: "كفارة وطهور". وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا يضع يده على المكان الذي يألم ثم يقول: "بسم الله". رواه أبو يعلى بسند صحيح. وأخرج الترمذي بسند لين من حديث أبي أمامة رفعه من تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته ويسأله كيف هو، وعند ابن السني بلفظ: كيف أصبحت أو كيف أمسيت؟ وإذا علمت هذا، فاعلم أن المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان. فأما طب القلوب ومعالجتها فخاص بما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ربه   شاء الله تعالى" دعاء لا خبر، "وربما كان يقول: "كفارة وطهور" وفيه استحباب مخاطبة العائد للعليل بما يسليه من ألمه، وتذكيره بالكفارة لذنوبه والتطهير لآثامه. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم إذا عاد مريضًا يضع يده على المكان الذي يألم" "بفتح اللام"، أي يتوجع منه، "ثم يقول: "بسم الله" أداويك، "رواه أبو يعلى بسند صحيح" وفي نسخ بسند حسن، "وأخرج الترمذي بسند لين" أي ضعيف، قال الترمذي: إسناده ليس بذاك، وقال في موضع آخر فيه علي بن زيد ضعيف، "من حديث أبي أمامة" صدى بن عجلان، "رفعه من تمام عيادة المريض" أي مكملاتها ومتمماتها "أن يضع أحدكم" يعني العائد "يده على جبهته" حيث لا عذر، "ويسأله كيف هو" أي كيف حاله، وبقية رواية الترمذي، وتمام تحيتكم بينكم المصافحة. "وعند ابن السني، بلفظ" ويقول له: "كيف أصبحت" إذا عاده في الصباح، "أو كيف أمسيت" إذا عاده في المساء، فإن ذلك ينفس عن المريض، هذا بقية رواية ابن السني. قال ابن بطال: في وضع اليد على المريض تأنيس له، وتعرف لشدة مرضه ليدعو له بالعافية على حسب ما يبدو له منه، وربما رقاه ومسح على ألمه بما ينتفع به العليل إذا كان العائد صالحًا، وقد يعف العلاج، فيعرف العلة، فيصف له ما يناسبه. "وإذا علمت هذا فأعلم أن المرض نوعان، مرض القلوب" أي فسادها بنحو الحسد وسوء العقيدة، وهو مجاز، "ومرض الأبدان" خروجها عن الاعتدال، وهو حقيقي، ولكل منهما طب ودواء يعالج به؛ "فأما طب القلوب" هكذا في أكثر النسخ، وهي المناسبة لقوله الآتي، وأما طب الأجساد، ولأن القصد ذكر الطب لا المرض، "ومعالجتها" عطف تفسير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 تعالى، لا سبيل لحصوله إلا من جهته، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه، وأن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سبيل إلى تلقي ذلك إلا من جهة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم، ومنه ما جاء به غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث هاديًا وداعيًا إلى الله وإلى جنته، ومعرفًا بالله، ومبينًا لأمته   وفي نسخة: فأما مرض القلوب، وهي أنسب بما قبلها، لكن القصد ذكر الطب لا المرض إلا أن يقدر مضاف أي فأما طب مرض القلوب أو أن نفس معرفة مرضها لا يكون إلا من جهته كالرياء والشرك الخفي ونحو ذلك، وعلى هذا، فمعالجتها عطف مغاير، "فخاص بما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى" أي مقصور عليه، لا يعلم إلا من جهته، إما نصًّا كالأحاديث الواردة فيما يصلح القلوب ويمنعها من الاعتقادات الباطلة والجهالات، وإما استنباطًا، كالأحكام التي استنبطها الأئمة من الأحاديث قياسًا عليها، أو استخراجًا من القواعد التي دلت عليها الأحاديث، "لا سبيل لحصوله إلا من جهته" كالصفة اللازمة لما قبله، وعلله بقوله: "فإن صلاح القلوب أن تكون" أي كونها "عارفة بربها وفاطرها" فاتصافها بذلك عين صلاحها، وخص الرب والفاطر إشارة إلى نعمتي الإيجاد والتدبير، فإنه أنعم عليهم بالإيجاد، ثم بتدبير مصالحهم والقيام بها أبدًا ما بقوا، "وبأسمائه وصفاته وأفعاله" أي أنه متى تعلقت إرادته بشيء كان، "وأحكامه" التي شرعها من إيجاب وندب وغيرها "و" صلاح القلوب أيضًا، "أن تكون مؤثرة لرضاه ومحابه" أي أنها تحرص على ذلك وتقدمه على غيره، وإن كان فيه غاية المشقة عليها، "متجنبة لمناهيه ومساخطه" جمع مسخط، كمقعد ضد الرضا، وهو الغضب، وهو ارتكاب ما نهى عنه، فالمراد منهما واحد، أو أنه من عطف المسبب على السبب، "ولا صحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك" المذكور من كونها عارفة ... إلخ. "ولا سبيل إلى تلقي ذلك إلا من جهة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم" هذا غير قوله أولًا: لا سبيل إلى حصوله؛ لأنه وجوده نفسه، والثاني قبوله وأخذه عنه، فاختلف السبيلان. "وأما طب الأجساد، فمنه ما جاء في المنقول عنه صلى الله عليه وسلم" فيجب اعتقاد حقيقته، وأنه إن تخلف حصول الشفاء عنه، فذلك لمانع قام بالمريض أو الدواء، "ومنه ما جاء عن غيره" ولم يكن كل طب الأجساد منه، "لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث" هاديًا، فالتعليل لمقدر فهم من السياق، "وداعيًا إلى الله وإلى جنته، ومعرفًا بالله" ما يجب له وما يستحيل عليه وغير ذلك من العقائد، "ومبينًا لأمته مواقع رضاه" النافعة لهم، "وآمرًا لهم بها، و" مبينًا لهم، "مواقع سخطه" الضارة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 مواقع رضاه وآمرًا لهم بها، ومواقع سخطه وناهيًا لهم عنها، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم، وأخبار تخليق العالم، وأمر المبدأ والمعاد، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها وأسباب ذلك. وأما طب الأجساد فجاء من تكميل شريعته، ومقصودًا لغيره، بحيث إنه إنما يستعمل للحاجة إليه، فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها، ودفع أسقامها وحميتها مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد، وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع، وفسد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًّا، وهي مضرة زائلة، تعقبها المنفعة الدائمة التامة. وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب في القلوب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر. وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا   لهم "وناهيا لهم عنها" بوحي الله وأمره له بذلك، "ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل، وأحوالهم مع أممهم" أي مخبرهم بأحوال الأنبياء مع أممهم، أو بأخبار الأنبياء الذين صدرت منهم الأخبار إلى أممهم، كقول صالح: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] ، "وأخبار تخليق" أي خلق "العالم" كأخباره عن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والأرض بعد ذلك دحاها، والجبال أرساها "وأمر المبدأ والمعاد" الرجوع يوم القيامة، "وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها، وأسباب ذلك" المذكور من شقاوة وسعادة، ولما نشأ من الحصر؛ بأنه إنما بعث هاديًا ... إلخ سئل هو: فلما تكلم على كثير من أمور الطب، أجاب عنه بقوله: "أما طب الأجساد، فجاء من تكميل شريعته، و" وجاء "مقصودًا لغيره" لا لذاته، "بحيث إنه إنما يستعمل للحاجة إليه" أي عند الحاجة إليه "فإذا قدر الاستغناء عنه كان صرف الهمم إلى علاج القلوب وحفظ صحتها ودفع أسقامها وحميتها" "بكسر الحاء" منعها "مما يفسدها هو المقصود بإصلاح الجسد" ويجوز كما يفهم من هذا الكلام، أنه قسيم لمقدر، أي: فأما طب القلوب وإصلاحها فهو المقصود من شرعه، وأما طب الأجساد ... إلخ. وبهذا جزم في الشرح، وجوز الأول في تقريره، "وإصلاح الجسد بدون إصلاح القلب لا ينفع" بل قد يضر، "وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدًّا" لأنه إنما يترتب عليها وفات غرض دنيوي لا يؤثر خللًا في الدين، "وهي مضرة زائلة" "مصدر ميمي بمعنى الضرر"، "تعقبها المنفعة الدائمة التامة" بالخلود في جنات النعيم؛ "وإذا علمت هذا، فاعلم أن ضرر الذنوب في القلوب، كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها" أي أنواعها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 وسببه الذنوب والمعاصي، فللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلا الله. فمنها: حرمان العلم، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور، وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي ومنها: حرمان الرزق، ففي المسند: "وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".   "في الضرر، وهل في الدنيا والآخر شر وداء" "بالفتح والمد" مرض، "إلا وسببه الذنوب والمعاصي" بمعنى الذنوب، فحسن العطف اختلاف اللفظ، "فللمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة والمضرة" الضرر "بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله". "فمنها حرمان العلم" أي أن المعاصي سبب في حصول ذلك وقيامه بالعبد، "فإن العلم نور يقذفه الله في القلب" وفائدته امتثال الأوامر واجتناب النواهي، "والمعصية تطفئ ذلك النور" فيكون إما سببًا لحرمانه، بحيث لا يدرك شيئًا منه، وإما سببًا لعدم ترتب فائدته عليه، بل قد يكون علمه الذي حصله ضررًا عليه في الدارين، "وللإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: "شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي" وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي" وذكر ابن القيم: لما جلس الشافعي بين يدي مالك وقرأ عليه، أعجبه ما رأى من وقور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه، فقال: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تظلمه بالمعصية، "ومنها: حرمان الرزق" الحلال، أو البركة فيه، "ففي المسند" لأحمد، والظاهر أن المراد الحديث المسند، أي المرفوع لقول مغلطاي: إذا كان الحديث في أحد الستة لا يجوز لحديثي نقله من غيرها. انتهى. وهذا الحديث أخرجه النسائي وابن ماجه وأحمد وأبو يعلى وابن منيع والطبراني والضياء في المختارة والعسكري عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء يرد القضاء، وأن البر يزيد في العمر" "وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17، 18] . ويروى عن ابن مسعود رفعه: "إن الرجل ليذنب الذنب، فيحرم به الشيء من الرزق، وقد كان هبيئ، وأنه لينذب فينسى به الباب من العلم قد كان علمه، وأنه ليذنب، فيمنع به قيام الليل" وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ويعارضها ما أخرجه الطبراني عن أبي سعيد، رفعه: "إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 ومنها: وحشة يجدها العاصي في قلبه، بينه وبين الله تعالى، لا يوازيها ولا يقارنها لذة أصلًا. ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه، أو متعسرًا عليه. ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة يحس بها، كما يحس بظلمة الليل البهيم إذا أدلهم، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات والأمور المهلكة وهو لا يشعر، وتقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه، يراه كل أحد.   الرزق لا تنقصه المعصية، ولا تزيده الحسنة، وترك الدعاء معصية". وعند العسكري بسند ضعيف، عن ابن مسعود، رفعه: "ليس أحد بأكسب من أحد قد كتب الله النصيب والأجل، وقد قسم المعيشة والعمل، والرزق مقسوم وهو آت على ابن آدم على أي سيرة سارها، ليس تقوى تقي بزائدة، ولا فجور فاجر يناقصه، وبينه وبينه ستر وهو في طلبه". وعند ابن أبي الدنيا وغيره مرفوعًا: "إن الرزق ليطلب العبد، كما يطلبه أجله"، وفي ذا المعنى أحاديث، ويمكن الجمع بينها كما أشرت إليه؛ بأن الذي يحرمه الرزق الحلال أو البركة فيه أو صرفه في وجوه الخير ونحو ذلك، فلا معارضة. وأسلفت في مراتب الوحي شيئًا من ذلك، "ومنها: وحشه يجدها العاصي في قلبه بينه وبين الله تعالى لا يوازيها" أي يقابلها، يقال: وازاه موازاة، أي حاذاه، "ولا يقارنها" "بالنون"، أي لا يجتمع معها "لذة أصلًا" بالعبادات وإن فعلها. قال وهيب ابن الورد لمن سأله: أيجد طعم العبادة من عصى الله سبحانه؟، قال لا، ولا من هم بالمعصية. "ومنها: تعسير أموره عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقًا دونه" بحيث لا يصل إليه بوجه، "أو متعسرًا عليه" بحيث يناله تعب في الوصول إليه. "ومنها: ظلمة يجدها في قلبه حقيقة، يحس بها كما يحس بظلمة الليل البهيم" الأسود "إذا أدلهم" أي اشتد سواده وكثفت ظلمته، "وكلما قويت الظلمة ازدادت حيوته حتى يقع في البدع" الأمور القبيحة المخالفة للشرع، وإن أطلقت البدع على غير القبيح، فليس المراد هنا كما هو بين، "والضلالات والأمور المهلكة، وهو لا يشعر، وتقوى هذه الظلمة حتى تعلو الوجه وتصير سوادًا فيه يراه كل أحد" بحاسة البصر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 ومنها: أن يوهن القلب والبدن. ومنها: حرمات الطاعة، وتقصير العمر، ومحق البركة، ولا يمتنع زيادة العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب، وقيل: تأثير المعاصي في محق العمر إنما هو بأن حقيقة الحياة هي حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره، فالبر والتقوى والطاعات تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها. وبالجملة: فالعبد إذا أعرض عن الله، واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة. ومنها: أن المعصية تورث الذل. ومنها: أنها تفسد العقل، فإن للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل. ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ   "ومنها: أنه يوهن القلب والبدن" يضعفهما. "ومنها حرمات الطاعة وتقصير العمر ومحق البركة" وأجاب عن سؤال: هو أن الأجل مكتوب، فكيف يتأتى نقصه أو زيادته، بقوله: "ولا يمتنع زيادة، العمر بأسباب، كما ينقص بأسباب" باعتبار ما في صحف الملائكة، أما باعتبار علم الله، فلا يزيد ولا ينقص. "وقيل: تأثير المعاصي في محق العمر، إنما هو بأن" أي بسبب أن "حقيقة الحياة هي حياة القلب، فليس عمر المرء إلا أوقات حياته بالله، فتلك ساعات عمره" النافعة له، "فالبر والتقوى والطاعات تزيد في هذه الأوقات التي هي حقيقة عمره، ولا عمر له سواها؛ وبالجملة، فالعبد إذا أعرض عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقة" التي تحصل له نفع الدارين. "ومنها: أن المعصية تورث الذل" أي كونه يصير ذليلًا محتقرًا بين الناس، وإن لم يطلعوا على ما فعله "ومنها: أنها تفسد العقل" فيرى الصواب خطأ، والخطأ صوابًا، "فإن للعقل نورًا، والمعصية تطفئ نور العقل" فيصير كالمجنون. "ومنها: أنها تزيل النعم" كما اشتهر، ومعناها صحيح، ولم أقف عليه. قال السخاوي: "وتحل النقم" "بضم التاء وكسر الحاء من أحله" كذا أنزله به، "فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب" كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، بسبب المعاصي، والفاء؛ لأن ما شرطية أو مضمنة معناه، ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية، {وَيَعْفُو عَنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وللقد أحسن القائل: إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم   كَثِيرٍ} من الذنوب، فلا يعاقب عليها، والآية مخصوصة بالمجرمين، فإن أصاب غيرهم، فلأسباب آخر، منها: تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه، قال البيضاوي: "ولقد أحسن القائل" هو أبو الحسن الكندي القاضي فيما أسنده عنه البيهقي: "إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن الذنوب تزيل النعم" وفي رواية فإن المعاصي بدل الذنوب. "وحطها بطاعة رب العباد ... فرب العباد سريع النقم" حطها بحاء وطاء مهملتين، أي أحفظها، وبقية القصيدة: وإياك والظلم مهما استطعت ... فظلم العباد شديد الوخم وسافر بقلبك بين الورى ... لتبصر آثار من قد ظلم فتلك مساكنهم بعدهم ... شهود عليهم ولا تتهم وما كان شيء عليهم أضر ... من الظلم وهو الذي قد قصم فكم تركوا من جنان ومن ... قصور وأخرى عليهم أطم صلوا بالجحيم وفات النعيم ... وكان الذي نابهم كالحلم وقد يشهد لصدر الأبيات قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عظمت نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه، فمن لم يحتمل تلك المؤنة فقد عرض تلك النعمة للزوال"، رواه البيهقي وأبو يعلى والعسكري عن معاذ، وللطبراني والبيهقي عن ابن عمر، رفعه: "إن لله أقوامًا اختصهم بالنعم لمنافع يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم"، وللبيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "ما من عبد لله عليها نعمة أسبغها عليه إلا جعل إليه شيئًا من حوائج الناس، فإن تبرم بهم فقد عرض تلك النعمة للزوال"، قال السخاوي: وبعضها يؤكد بعضًا. وعن الفضيل بن عياض: "أما علمتم أن حاجة الناس إليكم نعمة من الله عليكم، فاحذروا أن تملوا النعم فتصير نقمًا" أخرجه البهيقي. "ومن عقوباتها أنها تستجلب مواد هلاك العبد في دنياه وآخرته" أي أسباب هلاكه، ومادة الشيء ما يكون الشيء حاصلًا مع بالقوة فيتسبب حصوله عنها كالآلة التي تركب منها السرير مثلًا "فإن الذنوب هي أمراض متى استحكمت قتلت، ولا بد كما أن البدن لا يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 هي أمراض متى استحكمت قتلت ولا بد، كما أن البدن لا يكون صحيحًا إلا بغذاء يحفظ قوته، واستفراغ يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته، وحمية يمتنع بها من تناول ما يؤذيه ويخشى ضرره فكذلك القلب، لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان والأعمال الصالحة يحفظ قوته، واستفراغ بالتوبة النصوح يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة، وحمية توجب له حفظ الصحة، وتجنب ما يضادها، وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة، والتقوى اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة، فما مات منها فات من التقوى بقدره. وإذا تبين هذا فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية، وتوجب التخليط المضاد للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح. فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الأخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمي لها، كيف تكون صحته وبقاؤه ولقد أحسن القائل:   صحيحًا إلا بغذاء" "بمعجمتين ممدود" "يحفظ قوته، واستفراغ" أي علاج "يستفرغ" يخرج "المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة التي متى غلبت عليه أفسدته" فتؤدي إلى الأمراض أو الهلاك عادة، "وحمية يمتنع بها من تناول ما يؤذيه، ويخشى ضرره" من مرض أو هلاك، "فكذلك القلب لا تتم حياته إلا بغذاء من الإيمان" من بيانية أو تبعيضية، أي: أشياء هي الإيمان "والأعمال الصالحة" أو بأمور هي بعض مكملات الإيمان، والأعمال الصالحة "تحفظ قوته" وإطلاق الغذاء على ذلك مجاز؛ لأنه لغة ما يتغذى به من الطعام والشراب، "واستفراغ بالتوبة النصوح" لغة من النصح، وهو صفة التائب، فإنه ينصح نفسه بالتوبة، وصفت به على الإسناد المجازي مبالغة في النصح، أو من النصاحة، وهي الخياطة، كأنها تنصح ما خرق الذنب. قال البيضاوي: "يستفرغ المواد الفاسدة والأخلاط الرديئة، وحمية" عن المعاصي "توجب له حفظ الصحة وتجنب ما يضادها، وهي عبارة عن ترك استعمال ما يضاد الصحة والتقوى، اسم متناول لهذه الأمور الثلاثة" الغذاء والاستفراغ والحمية، "فما فات منها فات من التقوى بقدره" فتكون ناقصة؛ "وإذا تبين هذا، فالذنوب مضادة لهذه الأمور الثلاثة، فإنها تستجلب المواد المؤذية وتوجب التخليط المضاد" المخالف "للحمية، وتمنع الاستفراغ بالتوبة النصوح، فانظر إلى بدن عليل قد تراكمت عليه الإخلاط ومواد المرض، وهو لا يستفرغها ولا يحتمي لها" مراده تقريب المعقول بالمحسوس، أي تأمل بدن عليل موصوف بما ذكر، "كيف تكون صحته وبقاؤه" استفهام توبيخي بمعنى النفي، أي لا تكون له صحة ولا بقاء، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طاري وكان أولى بك أن تحتمي ... عن المعاصي خشية النار فمن حفظ القول بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهي، واستفرغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطالبًا، ولا للشر مهربًا، وفي حديث أنس: "ألا أدلكم على دائكم ودوائكم، ألا إن دائكم الذنوب، ودواؤكم الاستغفار". فقد ظهر لك أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الوحي.   والقلب العليل شبيه بالبدن العليل، فإذا تراكمت عليه الخطايا، بحيث اشتدت غفلته وإعراضه عن الله، وما تدارك ما يوقظه من تلك الغفلة، بل تمادى على ضلاله، كيف يرجى قربه من الله واندراجه في الصالحين، لا يكون ذلك إلا أن يحفه الله بالرحمة، فيوفقه إلى عمل صالح يكون سببًا لنجاته، "ولقد أحسن القائل": "جسمك بالحمية حصنته ... مخافة من ألم طاري وكان أولى بك أن تحتمي ... عن المعاصي خشية النار" "فمن حفظ القوة بامتثال الأوامر، واستعمل الحمية باجتناب النواهي، واستفراغ التخليط بالتوبة النصوح، لم يدع للخير مطلبًا" أي لم يترك شيئًا من الأسباب التي تسوق إلى الرحمة والقرب من الله، "ولا للشر مهربًا" بزنة جعفر: موضع يذهب إيه الفأر خوفًا، أي لم يترك سببًا من الأسباب التي تدفع الشر عنه، وتبعده عن النار وعذابها؛ بل إذا اتقى هرب الشر عنه كما يفر الخائف من عدو يريد البطش به. "وفي حديث أنس" قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أدلكم على دائكم" "بفتح الدال ممدود" أي مرضكم "ودوائكم" شفائكم من المرض "بفتح الدال والمد"، وحكى الجوهري وغيره "كسر الدال لغة" وهي شاذة، قاله عياض: "ألا إن داءكم الذنوب" لأنها سبب إلى دخول النار، وذلك أعظم من كل المراض، وفي التنزيل: ولعذاب الآخرة أشق، "ودواؤكم الاستغفار" أي التوبة والإقلاع عن الذنوب، والندم والعزم على أن لا يعود: وهذا الحديث رواه البيهقي عن أنس مرفوعًا. قال المنذري: وقد روي عن قتادة من قوله، وهو أشبه بالصواب، "فقد ظهر لك" مما ذكر "أن طب القلوب ومعالجتها لا سبيل" طريق "إلى معرفته إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، بواسطة الوحي" بملك أو غيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 وأما طب الأجساد فغالبه يرجع إلى التجربة. ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات، مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجته طبيب. ونوع يحتاج إلى النظر والفكر، كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة وإما برودة، وكل منهما، إما إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم الواحد منها بضده، والدفع قد يقع من خارج البدن، وقد يقع من داخله وهو أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق السبب والعلامة. فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه، أو عكسه، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء: حفظ الصحبة والاحتماء عن المؤذي.   "وأما طب الأجساد، فغالبه يرجع إلى التجربة، ثم هو نوعان: نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر، بل فطر الله على معرفته الحيوانات" عاقلة وغيرها، "مثل ما يدفع الجوع والعطش والبرد والتعب، وهذا لا يحتاج فيه إلى معالجة طبيب" لمعرفة الحيوانات كلها له، "ونوع يحتاج إلى النظر والفكر، كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال، وهو إما حرارة وإما برودة، وكل منهما إما" مائل "إلى رطوبة أو يبوسة، أو إلى ما يتركب منهما، وغالب ما يقاوم" يقابل ويعالج "الواحد منها بضده" وقد يعالج بموافقة لخاصية فيه على زعم الحكماء، "والدفع قد يقع من خارج البدن" كالأدهان والاستحمام بالأدوية، "وقد يقع من داخله، وهو أعسرهما، والطريق إلى معرفته بتحقيق" أي معرفة "السبب" الذي حدث منه المرض، "والعلامة" التي يستدل بها على معرفته، وفي نظم ابن سينا: فإن أصل الطب أن تدري المرض ... والسبب الحادث منه والعرض "فالطبيب الحاذق" الماهر في علم الطب، "هو الذي يسعى في تفريق ما يضر" "بضم الياء من أضر رباعيًّا" ولذا عداه بالباء في قوله: "بالبدن" ويتعدى بنفسه ثلاثيًَّا، نحو: لن يضروكم إلا أذى "جمعه" فاعل يضر "بفتح فسكون" "أو عكسه" أي جمع ما يضر بالبدن تفريقه، "وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه" أي زيادة ما يضر بالبدن نقصه، "ومدار ذلك على ثلاثة أشياء حفظ الصحة والاحتماء عن المؤذي واستفراغ المادة الفاسدة" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 واستفراغ المادة الفاسدة وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن: فالأول: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وذلك أن السفر مظنة النصب، وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر، وكذلك القول في المرض. والثاني: وهو الحمية، من قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} [النساء: 29] فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد، وقال تعالى في آية الوضوء {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج. والثالث: من قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] فإنه   بإخراج الدم والإسهال والقيء، "وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن، فالأول قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] ، أي مسافر "فعدة" أي فعليه عدد "من أيام آخر" يصومها بدله، "وذلك أن السفر مظنة النصب" بفتحتين التعب، "وهو من مغيرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد، فأبيح الفطر، وكذلك القول في المرض" ففي هذا الإشارة إلى حفظ الصحة، "والثاني، وهو الحمية من قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم} " [النساء: 29] ، فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد" واحتج بذلك عمرو بن العاصي، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه أبو داود وغيره. "وقال تعالى في آية الوضوء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6] ، مرضًا يضره الماء " {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} " أي مسافرين وأنتم جنب، أو محدثون، " {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} " المكان المعد لقضاء الحاجة، أي أحدث، {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وفي قراءة بلا ألف، وكلاهما بمعنى من اللمس، وهو الجس باليد، قاله ابن عمر، وقال ابن عباس: هو الجماع، {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تطهرون به بعد الطلب والتفتيش، وهو عائد لما عدا المرضى {فَتَيَمَّمُوا} اقصدوا {صَعِيدًا طَيِّبًا} طاهرًا، "فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهو تنبيه على الحمية عن كل مؤذ له من داخل أو خارج" فهو أصل الحمية؛ "والثالث" مأخوذ "من قوله تعالى" {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم، لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس تحت الشعر؛ لأنه إذا حق رأسه تفتحت المسام فخرجت تلك الأبخرة منها. فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه. فقد أرشد الله تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده. وفي الصحيحين من حديث عطاء عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".   يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} كقمل وصداع، فحلق في الإحرام، {فَفِدْيَة} عليه من صيام لثلاثة أيام أو صدقة أو نسك، "فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منه منه المحرم" بقوله: ولا تحلقوا رؤوسكم، "لاستفراغ" أي لأجل إخراج "الأذى الحاصل من البخار المحتقن" المحتبس المجتمع "في الرأس تحت الشعر؛ لأنه إذا حلق رأسه تفتحت المسام، فخرجت تلك الأبخرة منها" فترتاح، "فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه" من باب قياس لا فارق، "فقد أرشد الله تعالى عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده" وقد قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . "وفي الصحيحين من حديث عطاء" بن أبي رباح: "بفتح الراء والموحدة" "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء" أي مرضًا، وللإسماعيلي: من داء بزيادة من "إلا أنزل له شفاء" أي دواء، وجمعه أشفية، وجمع الجمع آشاف، وشفاء يشفيه أبرأه، وطل له الشفاء، كأشفاه، قاله المصنف، فإذا استعمله المريض، وصادف المرض حصل له الشفاء، سواء كان الداء قلبيًّا أو بدنيًّا. انتهى. قال الكرماني: أي ما أصاب الله أحدًا بداء إلا قدر له دواء، أو المراد بإنزالهما إنزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض من الدواء والداء. انتهى. قال المصنف: فعلى الأول المراد بإنزال التقدير، وعلى الثاني إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي مثلًا، أو إلهام لغيره. انتهى. وقيل: معنى الإنزال إعلامه عباده، ومنع بأن الحديث أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك، كما يصرح به خبر علمه، من علمه وجهله من جهله. وقيل: عامة الأدواء، والأدوية بواسطة إنزال الغيث الذي تتولد به الأغذية والأدوية وغيرهما، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا". وعند أحمد من حديث أنس: "إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا". وعند البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم عن أسامة بن شريك، رفعه: "تداووا عباد الله، فإن الله   وهذا من تمام لطف الرب بخلقه، كما ابتلاهم بالأدواء أعانهم عليها بالأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية. "وأخرجه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، عن ابن مسعود رضي الله عنه" عن النبي صلى الله عليه وسلم، "بلفظ: "أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء". قال بعضهم: الداء علة تحصل بغلبة بعض الأخلاط، والشفاء رجوعها إلى الاعتدال، وذلك بالتداوي، وقد يحصل بمحض لطف الله بلا سبب. وقال ابن سينا: الداء هيئة ناسخة للصحة، تخرج البدن عن المجرى الطبيعي، وعرفه غيره بأنه المخرج للبدن عن المجرى الطبيعي، بتناول أو غالب من الأخلاط. قال الرازي: وهذا أوجه لعمومه، "فتداووا" وجوبًا في الأمراض القلبية، وندبًا أو إباحة في الأمراض البدنية، إن لم يترتب على ترك التداوي هلاك أو ترك واجب، وإلا وجب التداوي، وقد يحرم، كقدح عين أدى للصلاة مستلقيًا عند جمع من المالكية، وصحح بعضهم: وهو مذهب الشافعية جوازه. "وعند أحمد من حديث أنس" مرفوعًا: "إن الله حيث خلق الداء" ظرف مكان بالاعتبار أي قدره وأوجده في بدن أو عضو، "خلق الدواء فتداووا" فإن أصيب الدواء واستعمل على وجه برئ. "وعند البخاري في" كتاب "الأدب المفرد، وأحمد وأصحاب السنن" الأربعة، "وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، عن أسامة بن شريك" الثعلبي "بمثلثة ومهملة"، صحابي تفرد بالرواية عنه زياد بن علاقة على الصحيح، "رفعه" فقال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده، كأن على رءوسهم الطير، فسئل عن التداوي، فقال: "تداووا عباد الله" كذا في كثير من النسخ بدون يا، ومثله في الجامع. وفي بعض النسخ: يا عباد الله، ومثله في شرح المصنف للبخاري: فلعلهما روايتان، وصفهم بالعبودية إيذانًا بأن التداوي، لا يخرجهم عن التوكل الذي هو من شرطها، أي تداووا ولا تعتمدوا في الشفاء على التداوي بل كونوا عباد الله متوكلين عليه، "فإن الله لم يضع داء إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحدًا وهو الهرم" وفي لفظ "إلا السام" -وهو بمهملة مخففًا- الموت، يعني إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه. واستثناء الهرم في الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيهًا بالموت، والجامع بينهما نقص الصحة، أو لقربه من الموت وإقضائه إليه، ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى: لكن الهرم لا دواء له. ولأبي داود، عن أبي الدرداء، رفعه: "إن الله عز وجل جعل كل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام".   وضع له شفاء" وهو سبحانه لو شاء لم يخلق داء، وإذا خلقه لو شاء لم يخلق له دواء، وإذا خلقه لو شاء لم يأذن في استعماله، لكن أذن، فمن تداوى، فعليه أن يعتقد حقًّا ويوقن يقينًا بأن الدواء لا يحدث سقما ولا يولده، كما أن الداء لا يحدث سقمًا ولا يولده، لكن الباري سبحانه يخلق الموجودات واحدًا عقب آخر على ترتيب هو أعلم بحكمته "إلا داء واحدًا" وفي رواية: غير داء واحد، قال أبو البقاء: لا يجوز في غير هنا إلا النصب على الاستثناء من داء، "وهو الهرم" "بفتحتين" أي الكبر، وليس في الرواية لفظ، وهو كما في شرحه كالفتح والجامع. قال أبو البقاء: الهرم يجوز رفعه بتقدير هو، وجره على البدل من داء المجرور بغير، ونصبه على إضمار، أعني، "وفي لفظ "إلا السام"، وهو بمهملة مخففًا الموت، يعني: إلا داء الموت، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه، واستثناء الهرم في الرواية الأولى إما لأنه جعله شبيهًا بالموت" أي بدائه وداء الموت لا دواء له، فكذا الهرم لمشابهته له في نقص الصحة كما قال، "والجامع بينهما نقص الصحة" في الجملة، وإن كان في المشبه به انتهاؤها دون المشبه، أي الهرم، فلا يقال: الموت مزيل للصحة من أصلها، لا منقص لها، "أو لقربة من الموت وإقضائه إليه" لأن الموت يعقبه، كما يعقب الداء، قاله ابن العربي، وجعله أولى من انقطاع الاستثناء، وهو عطف على قوله لأنه جعله. "ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعًا، والمعنى، لكن الهرم لا دواء له" فلا ينجح فيه التداوي، "ولأبي داود عن أبي الدرداء" عويمر العجلاني، "رفعه" فقال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل جعل لكل داء دواء" لطفًا منه بخلقه، "فتداووا" متوكلين على الله، "ولا تداووا بحرام" بحذف إحدى التاءين في تداووا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 وفي البخاري: "إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم"، فلا يجوز التداوي بالحرام. وروى مسلم عن جابر، مرفوعًا: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى". فالشفاء متوقف على إصابة الداء الدواء بإذن الله تعالى. وذلك أن الدواء قد   "وفي البخاري" تعليقًا عن ابن مسعود، وبين الحافظ؛ أنه جاء من طرق صحيحة إليه "إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم" من الأمراض القلبية والنفسية، أو الشفاء الكامل المأمون الغائلة "فيما حرم" بالبناء للفاعل، ويجوز للمفعول "عليكم" لأنه سبحانه وتعالى لم يحرمه إلا لخبثه عناية بعباده وحمية لهم وصيانة عن التلطخ بدنسه، وما حرم عليهم شيئًا إلا عوضهم خيرًا منه، فعدولهم عما عوضه لهم إلى ما منعهم منه يوجب حرمان نفعه؛ ومن تأمل ذلك هان عليه ترك المحرم المردي، واعتاض عنه النافع المجدي والمحرم، وأن أثر في إزاله المرض، لكنه يعقب بخبثه سقمًا قلبيًّا أعظم منه، فالمتداوي به ساع في إزالة سقم البدن بسقم القلب، وبه علم أنه لا تدافع بين الحديث. وآية: أن في الخمر منافع، وحمل المنافع في الآية على منفعة الأتعاظ، أي أن من رأى حالته اتعظ به، فإن السكران هو والكلب واحد، يلحس في ذا مرة، وذا مرة تكلف بارد، "فلا يجوز التداوي بالحرام" وقد روى الطبراني في الكبير، وأبو يعلى عن أم سلمة، قالت: نبذت نبيذًا في كوز، فدخل رسول الله صلى اله عليه وسلم وهو يغلي، فقال: "ما هذا"؟ قلت: اشتكت ابنة لي، فنقعت لها هذه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم". "وروى مسلم" في الطب، والإمام أحمد "عن جابر مرفوعًا: "لكل داء" "بفتح الدال ممدود"، وقد يقصر "دواء" أي شيء مخلوق مقدر له، "فإذا أصيب دواء الداء" بالبناء للمفعول، والأصل، فإذا أصاب المريض دواء الداء المناسب له، سواء أصابه بتجربة أو أخبار عارف، واستعمله على القدر الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي "برأ بإذن الله تعالى" لأن الشيء يداوى بضده غالبًا، لكن قد يدق حقيقة المرض وحقيقة طبع الدواء، فيقل الفقه بالمتضادين، ومن ثم أخطأ الأطباء، فمتى كان مانعًا بخطأ أو غيره، تخلف البرء، فإن تمت المضادة حصل البرء لا محالة، فصحت الكلية واندفع التدافع، هذا أحد محملي الحديث. وقيل: هو عام مخصوص، والمراد، لكل داء يقبل الدواء، "فالشفاء متوقف على إصابة" أي ملاقاة "الداء الدواء بإذن الله تعالى" بحيث لا يكون بينهما حائل، ولا ثم مانع كما يأتي "وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية" أي الصفة، كاستعماله على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجح، بل ربما أحدث داء آخر. وفي رواية علي عند الحميدي في كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك بعث الله عز وجل ملكًا ومعه ستر فيجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء، فإذا أراد الله برأه أمر الملك فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء فينفعه الله تعالى به. وفي حديث ابن مسعود رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا نزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله" رواه أبو نعيم وغيره.   جوع أو شبع مفرطين، أو أخطأ في تركيبه، كاختلال بعض أجزائه، أو أوقد عليه إلى حد يفسده، أو لم يوقد عليه إلى حد استوائه المطلوب له، "أو الكمية" أي المقدار، ككون المناسب للمرض درهمين، فاستعمل أكثر أو أقل، "فلا ينجح" "بنون فجيم فمهملة" أي لا يظهر أثره، "بل ربما أحدث داء آخر" ثار من ذلك الدواء. "وفي رواية علي" أمير المؤمنين، "عند الحميدي في كتابه المسمى بطب أهل البيت: ما من داء إلا وله دواء، فإذا كان كذلك" أي لكل داء دواء وأطلع الله المريض على دواء مرضه، واستعمله على الوجه المطلوب في استعماله، ولكن يرد الله شفاءه حالًا بذلك الدواء، "بعث الله عز وجل ملكًا" فهو مرتب على مقدر دل عليه ما بعده، وأحاديث آخر، وإلا فقوله: بعث لا يترتب بظاهره، على أن لكل داء دواء، "ومعه ستر" بكسر السين له وسكون الفوقية" شيء يستر به، "فيجعله بين الداء والدواء، فكلما شرب المريض من الدواء لم يقع على الداء" لوجود الستر، "فإذا أراد الله برأه أمر الملك، فرفع الستر، ثم يشرب المريض الدواء، فينفعه الله تعالى به" أي يبرأ بإذن الله. "وفي حديث ابن مسعود، رفعه: "إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه" بإلهام الله تعالى له واطلاعه عليه، "وجهله من جهله" بإخفاء الله تعالى عنه إياه، فإذا شاء الله الشفاء يسر ذلك الدواء، ونبه مستعمله بواسطة أو دونها، فيستعمله على وجهه، وفي وقته فيبرأ، وإذا أراد هلاكه أذهله عن دوائه، وحجبه بمانع فهلك، وكل ذلك بمشيئته وحكمه، كما سبق في علمه؛ ولقد أحسن القائل: والناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور "رواه أبو نعيم وغيره" كالنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه، ورواه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد. وأما قوله "لكل داء دواء" فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة، والأدواء التي لا يمكن طبيب معرفتها، ويكون قد جعل الله لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلًا؛ لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله تعالى. ولهذا علق صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء، وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدواء فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء، والدواء   الحاكم أيضًا من حديث أبي سعيد، بزيادة، إلا السأم وهو الموت، "وفيه إشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد" لقوله: جهله من جهله. "وأما قوله" صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء"، فيجوز أن يكون على عمومه حتى يتناول الأدواء القائلة" كالسم، "والأدواء التي لا يمكن طبيب معرفتها" لخروجها عن قواعد علمه، "ويكون قد جعل الله لها أدوية تبرئها، ولكن طوى علمها عن البشر، ولم يجعل لهم إليها سبيلًا" طريقًا يهديهم إليها، "لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله تعالى" كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} جزم القرطبي، فقال: هذه كلية صادقة العموم؛ لأنها خبر عن الصادق، عن الخالق جل وعلا ألا يعلم من خلق، فالداء والدواء، والشفاء والهلاك فعله، وربط الأسباب بالمسببات حكمته وحكمه، وكل ذلك بقدر لا معدل نه. انتهى. "ولهذا علق صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء" بقوله: "إذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله"، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده. قال المازري رحمه الله: فيه بيان واضح؛ لأنه قد علم أن الأطباء يقولون: المرض خروج الجسم عن المجرى الطبيعي، والمداواة رده، وحفظ الصحة بقاؤه عليه، فحفظها يكون بإصلاح الأغذية وغيرها، ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض، وبقراط يقول: الأشياء تداوى بضدها، ولكن قد يدق ويغمض حقيقة المرض، وحقيقة طبع الدواء فيقل الفقه بالمضادة، ومن هنا يقع الخطأ من الطبيب، فقد يظن الطبيب العلة عن مادة حارة، فتكون عن غير مادة أو عن مادة، باردة، أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها، فلا يحصل الشفاء؛ فكأنه صلى لله عليه وسلم نبه بآخر كلامه على ما قدر يعارض به أوله، فيقال: قلت: لكل داء دواء، وكثير من المرضى يداوون، فلا يبرءون، فقال: إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة، لا لفقد الدواء، وهذا واضح. "وقد يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من دائه بدواء فيبرأ، ثم يعتريه بعد ذلك الداء والدواء" يستعمل ولا يقدر، يعتريه كما هو ظاهر "بعينه" تأكيد للدواء، ويقدر مثله في الداء، أي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 بعينه فلا ينجع، والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الداء، فرب مرضين تشابهًا، ويكو أحدهما مركبًا، لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبًا، فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدًا لكن يريد الله أن لا ينجع، وهنا تخضع رقاب الأطباء. وفي مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى إثبات الأسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات، والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك. وقد سئل الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب "القصد" من تأليفه: هل   والدواء الذي يستعمله هو الدواء الأول بعينه، "فلا ينجع" أي: يظهر أثره، "والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الداء، فرب مرضين تشابها، ويكون أحدهما مركبًا" من حرارة وبرودة، مثلًا، "لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبًا" بل من حرارة فقط أو برودة فقط، "فيقع الخطأ من هناك، وقد يكون متحدًا، لكن يريد الله أن لا ينجع، وهنا تخضع رقاب الأطباء" ولذا قيل: إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفع نحب قد أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرئ غيره فيما مضى وقال آخر: إن الطبيب لذو عقل ومعرفة ... ما دام في أجل الإنسان تأخير حتى إذا ما انقضت أيام مدته ... حار الطبيب وخانته العقاقير "وفي مجموع ما ذكرناه من الأحاديث الإشارة إلى أن إثبات الأسباب" وترتيب مسبباتها عليها، لأمره بالتداوي "وإن ذلك لا ينافي التوكل" على الله؛ لأن التداوي من قدر الله، ففيه حجة على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية، وقال: كل شيء بقضاء وقدر، فلا حاجة للتداوي، وحجة العلماء هذه الأحاديث ونحوها، ويعتقد أن الله هو الفاعل، وأن التداوي أيضًا من قدر الله، فلا ينافي التوكل، "كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب الشفاء ودفع المضار وغير ذلك" كالأمر بقتال الكفار وبالتحصن، ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير، والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أواقتها، ولا بد من وقوع المقدورات. "وقد سئل الحارث بن أسد المحاسبي" "بضم الميم وكسر المهملة"، سمي بذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 يتداوى المتوكل؟ قال: نعم، قيل له: من أين لك ذلك؟ قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين، الذي لم يلحقه لاحق، ولا سبقه في التوكل سابق، محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم. قيل له: ما تقول في خبر النبي صلى الله عليه وسلم: "من استرقى واكتوى برئ من التوكل" قال: برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم في حديث آخر فقال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب"، وأما من سواهم من المتوكلين فمباح لهم الدواء والاستقراء. فجعل المحاسبي التوكل بعضه أفضل من بعض. وقال في "التمهيد": إنما أراد بقوله: "برئ من التوكل" إذا استرقى الرقى المكروهة في الشريعة، أو اكتوى وهو يعلق رغبته في الشفاء بوجود الكي، وكذلك   لكثرة محاسبته لنفسه، مرت ترجمته مرارًا "في كتاب القصد، من تأليفه: هل يتداوى المتواكل، قال: نعم، قيل له: من أين لك ذلك؟، قال: من وجود ذلك عن سيد المتوكلين الذي يلحقه لاحق" أي لم يبلغ أحد ممن بعده مقامه في التوكل، "ولا سبقه في التوكل سابق، محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم" فإنه تداوى كثيرًا، وأمر به، "قيل له: ما تقول في خبر النبي صلى الله عليه وسلم" الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي؟، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حبان والحاكم عن المغيرة بن شعبة، مرفوعًا: "من استرقى واكتوى برئ من التوكل" لفظه عند المذكورين: "من اكتوى واسترقى، فقد برئ من التوكل"، "قال:" معناه "برئ من توكل المتوكلين الذين ذكرهم في حديث آخر، فقال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب" "هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون". أخرجه الشيخان وغيرهما، يعني: بئ من توكل الخواص المعرضين عن أسباب الدنيا، الذين لا يلتفون إلى شيء من علائقها؛ "وأما من سواهم من المتوكلين، فمباح لهم الدواء والاسترقاء، فجعل المحاسبي التوكل بعضه أفضل من بعض" ولا يشكل عليه استدلاله على تداوي المتوكلين بوجوده من سيدهم؛ لأنه فعله لئلا يشق على من لم يبلغ درجة الخواص، ولأنه مشرع. "وقال" أبو عمر يوسف بن عبد البر "في التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، "إنما أراد" صلى الله عليه وسلم بقوله "بقوله: برئ من التوكل إذا استرقى الرقى المكروهة في الشريعة" وهي ما كان بغير اللسان العربي، وما لا يعرف معناه، لجواز كونه شركًا، وبغير أسماء الله وصفاته وكلامه في الكتب المنزلة؛ أما الرقي بالقرآن وأسماء الله تعالى وصفاته، والرقى المروية، فلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 قوله: "لا يسترقون" معناه الرقى المخالفة للشريعة، و "لا يكتوون" وقلوبهم معلقة بنفع الكي ومعرضه عن الله تعالى وعن أن الشفاء من عنده. وأما إذا فعل ذلك على ما جاء في الشريعة، وكان ناظرًا إلى رب الدواء، يتوقع الشفاء منه، وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح لله تعالى، وإتعاب نفسه وكدها في خدمة ربه، فتوكله باق على حاله لا ينقص منه الدواء شيئًا، استدلالًا بفعل سيد المتوكلين إذ عمل بذلك في نفسه وفي غيره، انتهى.   تخرج عن التوكل، بل هو باق على حاله لا ينقص منه شيء، وقد قال صلى الله عليه وسلم للذي رقى بالفاتحة، وأخذ أجرًا من أخذ برقية باطل، فقد أخذت برقية حق، وقال: اعرضوا علي رقاكم فعرضوها، فقال: لا بأس بها إنما هي مواثيق، كأنه خاف أن يقع فيها شيء مما كانوا يتلفظون به ويعتقدون من الشرك في الجاهلية، "أو اكتوى وهو يعلق رغبته في الشفاء بوجود الكي" باعتماده عليه ذاهلًا عن التوكل على الله الذي يخلق عنده الشفاء، "وكذلك قوله: "لا يسترقون" معناه الرقى المخالفة للشريعة، "ولا يكتوون" وقلوبهم معلقة بنفع الكي، ومعرضة عن الله تعالى، وعن أن الشفاء من عنده" فهذا هو البريء من التوكل؛ "وأما إذا فعل ذلك على ما جاء في الشريعة، وكان ناظرًا إلى رب الدواء، ويتوقع الشفاء منه" وإن استعماله إنما هو امتثالًا لربط الأسباب بمسبباتها، "وقصد بذلك استعمال بدنه إذا صح" من دائه "لله تعالى، وإتعاب نفسه وكدها في خدمة ربه، فتوكله باق على حاله، لا ينقص منه الدواء شيئًا" منه "ستدلالًا بفعل سيد المتوكلين، إذ" تعليلية "عمل بذلك في نفسه و" في "غيره. انتهى" كلام التمهيد، وهو نفيس؛ ونحوه قول البيهقي في الشعب: برئ من التوكل؛ لأنه ركب ما يستحب التنزه عنه من الاكتواء، لما فيه من الخطر ومن الاسترقاء، بما لا يعرف من كتاب الله تعالى، وذكره لجواز أن يكون شركًا، فقد روينا الرخصة فيه بما يعلم من كتاب الله تعالى، أو ذكره من غير كراهة، وإنما الكراهة فيما لا يعلم من لسان اليهود وغيرهم، أو استعملها معتمدًا عليها، لا على الله تعالى فيما وضع فيها من الشفاء، فصار بهذا أو بارتكابه المكروه، بريئًا من التوكل، فإن لم يوجد واحد من هذين وغيرهما من الأسباب المباحة، لم يكن صاحبها بريئًا من التوكل، انتهى. وقال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي برئ من التوكل؛ لأنه يريد دفع القدر، وهو لا يدفع، والثاني: كي الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي شرع التداوي فيه؛ فإن كان لأمر محتمل، فخلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار، لأمر غير محقق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 وقد تبين أن التداوي لا ينافي التوكل، بل لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. وحكى ابن القيم: أنه ورد في خبر إسرائيل، أن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: يا رب ممن الداء؟ قال: مني، قال: ممن الدواء؟ قال: مني قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أرسل الدواء على يديه. قال: وفي قوله صلى الله علي وسلم: "لكل داء دواء" تقوية لنفس المريض والطبيب، وحث على ذلك الدواء، والتنفيس عليه، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله تعلق قلبه بروح الرجاء، وبرد من حرارة اليأس، وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية   "وقد تبين، أن التداوي لا ينافي التوكل، بل" هو من جملته، إذ "لا يتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة" أي تعاطي "الأسباب التي نصبها الله تعالى، مقتضيات" "بكسر الضاد" "لمسبباتها قدرًا وشرعًا" وذلك أنه إذا باشرها وترتبت عليها مسبباتها، علم أن ذلك لحكمة منه تعالى، حيث خلق الشفاء عند مباشرتها، فكمل بذلك اعتقاده أن الله هو المنفرد بالإيحاد، وأن لا فعل لغيره، "وأن تعطيلها" أي الأسباب بعدم العمل بها واعتقاد أن لا يحصل أثر عند مباشرتها، "يقدح في نفس التوكل" إذ لو صدق في التوكل لعمل ما أمر به من السبب معتمدًا على الله، "كما يقدح في الأمر" بها، "والحكمة" في خلق الشفاء عندها. "وحكى ابن القيم: أنه ورد في خبر إسرائيلي أن الخليل" إبراهيم "عليه الصلاة والسلام قال: يا رب ممن الداء" المرض "قال: مني، قال ممن الدواء، قال: مني، قال" فإذا كان منك، "فما بال الطبيب" أي حاله وما يحصل منه حتى يعالج المريض ليصح، أو يحفظ صحته، أو نحو ذلك مما يحصل بفعله وحاصله: فأي حاجة للطبيب؛ "قال: رجل أرسل الدواء على يديه" ليس هو الفاعل بنفسه، وإنما فعله بإجرائي ما هو سبب لإزالة المرض ونحوه. "قال" ابن القيم: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء" تقوية لنفس المريض والطبيب" المعالج، "وحث على ذلك الدواء والتنفيس عليه" أي كشف الكربة عنه، "فإن المريض إذا استشعرت نفسه؛ أن لدائه دواء يزيله، تعلق قلبه بروح الرجاء" أي بالأثر المصلح لبدنه الذي يترتب على الدواء الذي يستعمله لما رجاه من حصول النفع به، سمي ذلك الأثر روحًا، تشبيهًا بروح الحياة، "وبرد" "بضم الراء وفتحها" "من حرارة اليأس" أي سكنت حرارته "وانفتح له باب الرجاء، وقويت نفسه وانبعثت حرارته الغريزية، وكان ذلك سببًا لقوة الأرواح الحيوانية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 والطبيعية، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته. انتهى. فإن قلت: ما المراد بالإنزال في قوله في الأحاديث السابقة "إلا أنزل الله له دواء" وفي الرواية الأخرى "شفاء" فالجواب: أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير، ويحتمل أن يكون المراد أنزل علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم. وأين يقع طب حذاق الأطباء، الذي غايته أن يكون مأخوذًا من قياس أو مقامات وحدس وتجربة، من الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما ينفعه ويضربه، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إل ما جاء يه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ههنا من الأدوية التي تشفي الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله تعالى   والنفسانية والطبيعة، ومتى قويت هذه الأرواح قويت القوى التي هي حاملة لها، فقهرت المرض ودفعته" بإذن الله. "انتهى" وهذا مشاهد. "فإن قلت ما المراد بالإنزال في قوله في الأحاديث السابقة: "إلا أنزل الله له دواء"، وفي الرواية الأخرى شفاء" وهما بمعنى، على ما ذكر المصنف كما مر؛ "فالجواب أنه يحتمل أن يكون عبر بالإنزال عن التقدير" أي قدر الله تعالى له دواء، "ويحتمل أن يكون المراد أنزل علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وسلم" وغيره من الأنبياء، وبالإلهام لغيرهم، أو المعنى: أنزل الغيث الذي تتولد منه الأغذية والأدوية وغيرهما، أو معنى الإنزال إعلام عباده، ورد بأنه أخبر بعموم الإنزال لكل داء ودوائه، وأكثر الخلق لا يعلمون ذلك، ومر هذه كله "وأين يقع" استفهام إنكاري، أي لا يقع "طب حذاق الأطباء، الذي غايته أن يكون مأخوذًا من قياس أو مقامات" كذا في نسخ، ولعله معاناة، وفي نسخ: أو مناطات، أي متعلقات، "وحداس وتجربة" مولعا "من الوحي الذي يوحيه الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما ينفعه ويضره، فنسبة ما عند حذاق الأطباء من الطب إلى هذا الوحي، كنسبة ما عندهم من العلوم، إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم" وهي لا تعد شيئًا بالنسبة إلى الوحي، "بل ههنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض" من في من الأدوية بيانية لما في قوله: "ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجربتهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله تعالى والتوكل عليه، والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء، والتوبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 والتوكل عليه والانكسار بين يديه، والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك -والله- مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية. ولا ريب أن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء، لصدوره عن الوحي ومشكاة النبوة، وطب غيره أكثره حدس أو تجربة، وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك لمانع قام بالمستعمل، من ضعف اعتقاد الشفاء به وتلقيه بالقبول. وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن العظيم، الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به لقصوره في اعتقاده والتلقي بالقبول، بل لا يزيد المنافق إلا رجسًا إلى رجسه، ومرضًا إلى مرضه، فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة.   والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، وقد جربت ذلك، والله مرات، فوجدته يفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية" ذكر ذلك، وأقسم عليه محدثًا بنعمة الله تعالى، وحثًّا على تلقي ما جاء في ذلك من الأحاديث بالقبول، فمن فعله ولم ينجح معه، فلمانع قام به، كما قال: "ولا ريب أن طب النبي صلى الله عليه وسلم متيقن البرء" باستعماله، "لصدوره عن الوحي ومشكاة البوة" أي من جهة النبوة، "وطب غيره أكثره حدس أو تجربة" يخطئ ويصيب، "وقد يتخلف الشفاء عن بعض من يستعمل طب النبوة، وذلك مانع قام بالمستعمل من ضعف اعتقاد الشفاء به، و" ضعف "تلقيه بالقبول" لا لأنه قد يتخلف في نفسه؛ لأنه محال، "وأظهر الأمثلة في ذلك القرآن العظيم، الذي هو شفاء لما في الصدور، ومع ذلك فقد لا يحصل لبعض الناس شفاء صدره به، لقصوره في اعتقاده، و" قصور "التلقي بالقبول؛ بل لا يزيد المنافق إلا رجسًا إلى رجسه" كفرًا إلى كفره، لكفره به، "ومرضًا إلى مرضه" ضعف اعتقاده، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَة} [التوبة: 127] ، إلى أن قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] ، "فطب النبوة لا يناسب إلا الأبدان الطيبة" الطاهرة من ضعف الاعتقاد ونحوه، "كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية" بكمال القبول والاعتقاد، "فإعراض عن طب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 والقلوب الحية. فإعراض عن طب النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع. وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض على ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الإلهية والروحانية. والثاني: بالأدوية الطبيعية. والثالث: بالمركب من الأمرين.   النبوة" إلى التلقي عن الأطباء وعملهم بما يصفون، "كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن، الذي هو الشفاء النافع" وهم ملومون على ذلك غير معذورين؛ وإذا أعرضوا عن القرآن القطعي، لم يستبعد إعراضهم عن الطب النبوي الظني، وإن كانوا ملومين فيهما، ونازع شيخنا؛ بأنه لا يلزم من إعراضهم عن القرآن، وإن كانوا غير معذورين، إعراضهم عن الطب النبوي، لجواز أن إعراضهم عن القرآن؛ لأنه في أعلى طبقات البلاغة، تقصر عقولهم عن إدراكه، ومن ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النمل: 44] بخلاف ما جاء به صلى الله عليه وسلم، فهو قريب من أفهامهم؛ لأنه من جنس كلام البشر، فحقهم التمسك به وعدم الإعراض عنه، لعلمهم أنه حق، ولفهمهم معناه. انتهى. وفيه: أن الاستشفاء بالقرآن لا يتوقف على إدراك معناه، فلا دخل لكونه في أعلى طبقات البلاغة هنا؛ إذ مجرد تلاوته أو كتابته كافية في الاستشفاء. "وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض على ثلاثة أنواع: أحدها بالأدوية الإلهية والروحانية، والثاني بالأدوية الطبيعية" أي التي توافق طبيعة المريض، وهي مزاجه المركب من الأخلاط الأربعة، "والثالث بالمركب من الأمرين" بأن يدعو بدعاء ومعه دواء يوافق الطبيعة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 "النوع الأول:" "في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الإلهية" اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ولا أعظم ولا أنجع في إزالة الداء من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ القلوب جلاء، كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . ولفظه "من" -كما قال الإمام فخر الدين- ليست للتبعيض بل للجنس، والمعنى، وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضًا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر وذلك المرض الروحاني نوعان: الاعتقادات الباطلة والأخلاق المذمومة، وأشدها فسادًا الاعتقادات الفاسدة في   "النوع الأول:" "في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الإلهية" "اعلم أن الله تعالى لم ينزل من السماء شفاء قط أعم" أي أشمل، "ولا أنفع، ولا أعظم، ولا أنجع" أي أشد تأثيرًا "في إزالة الداء من القرآن، فهو للداء شفاء، ولصدأ". "بالهمز والقصر" وسخ "القلوب" أي ما يعلوها من ظلمة الذنوب، فإطلاق الصدأ عليه مجاز، "جلاء" "بكسر الجيم والمد" كشف لها، وعبر في الأول بشفاء، وفي الثاني بجلاء، تنبيهًا على أن الثاني ليس داء قائمًا بالعضو، لكنه لتغطيته للقلب، بحيث يمنع من وصول ما ينفع من حلول الحق فيه، طلب جلاؤه منه لينتفع بما يصل إليه من المواعظ والأحكام، واقتصر في قوله الآتي: الذي هو القرآن شفاء من الأمراض على الشفاء، إشارة إلى أن الصدأ كالداء الذي يقوم بالعضو، فزواله شفاء، "كما قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ، استدلال على قوله، فهو للداء شفاء؛ وأما دلالته على كونه أعظم، فلعله من قرينة خارجية، أو من التنوين في شفاء المفيد للتعظيم، مع دعوى أنه لا أعظم منه، واستفادة الأمرين، أعني شفاء، وجلاء من قوله شفاء وقوله: ورحمة للمؤمنين زيادة على مدعاه، "ولفظة من، كما قال الإمام فخر الدين" الرازي: "ليست للتبعيض" لئلا يكون بعضه ليس شفاء، مع أنه كله شفاء؛ "بل للجنس، والمعنى: وننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن" كأنه لوحظ أن المراد بالقرآن معناه اللغوي، الشامل لكل منزل، كالتوراة والإنجيل والزبور، وللذكر، وأن القرآن بالمعنى الشرعي نوع من هذا الجنس ضرورة؛ أن المنزلة على المصطفى نوع من الجنس. وقال البيضاوي: من للبيان، فإنه كله كذلك، وقيل: للتبعيض، والمعنى. أن منه ما يشفي المرض، كالفاتحة وآيات الشفاء. انتهى. ولا يخفى أن البيان يستدعي مبينًا اسم مفعول، وهو قوله: ما هو شفاء، وقدم عليه البيان اهتمامًا بشأنه وتعظيمًا له، "شفاء من الأمراض الروحانية" وهي ما لا تؤثر ظاهرًا في الجسم، سمي روحانيًّا لتعلقه بالروح الذي هو قوام البدن، فإطلاق المرض عليه مجاز، نحو: في قلوبهم مرض، "وشفاء أيضًا من المراض الجسمانية" "بكسر الجيم" التي تظهر في الجسم. "أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية، فظاهر، وذلك المرض الروحاني نوعان" النوع الأول: "الاعتقادات الباطلة، و" النوع الثاني: "الأخلاق المذمومة" كما يأتي، "وأشدها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 الإلهية والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة. ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخط في هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني. وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض: فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية. وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرًا من الأمراض. وإذا اعتبر الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقى   فسادًا الاعتقادات الفاسدة في الإلهية" كاعتقاد بعض الفلاسفة، أنه تعالى لا يعلم الجزئيات، وكنفي المعتزلة الصفات الذاتية عنه، ونحو ذلك، "والنبوات والمعاد" كنفيه أصلًا، أو نفي المعاد الجسماني، "والقضاء والقدر والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة، ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخط في هذه المطالب، والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب، لا جرم" بمعنى حقًّا، والعامل فيه "كان" والمعنى: كان حقًّا "القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني" ويحتمل أنه معمول للكاشفة. قال شيخنا: ولعله الأقرب لقربه منه، ولأن الأصل عدم تقديره مؤخرًا، قال الفراء: لا جرم في الأصل، بمعنى: لا بد ولا محالة، ثم كثرت، فحولت إلى معنى القسم، وصارت بمعنى حقًّا، ولذا يجاب باللام نحو لا جرم، لأفعلن. "وأما الأخلاق المذمومة" قسيم لمقدر، فهم من الكلام السابق، "فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريفها وما فيها من المفاسد" ومشتمل على "الإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض، فثبت أالقرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية" تفريع على ما قدمه، أنه شفاء للاعتقادات الفاسدة والأخلاق المذمومة. "وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرًا، من الأمراض" كما شوهد كثيرًا "وإذا اعتبر" كذا في نسخ: بمعنى اعتد، وفي أخرى: اعترف، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد أفلا تكون قراءة القرآن العظيم المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا. ويتأيد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله". ونقل عن الشيخ أبي القاسم القشيري -رحمه الله. أن ولده مرض مرضًا شديدًا حتى أشرف على الموت، واشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فشكوت إليه ما بولدي فقال: أين أنت من آيات الشفاء؟ فانتبهت فأفكرت فيها فإذا هي في ستة مواضع من كتاب الله، وهي قوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] .   وهي أنسب "الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات؛ بأن لقراءة الرقى المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارًا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد، أفلا تكون قراءة القرآن العظيم" ينبغي أن تجعل الفاء في أفلا مؤخرة، والأصل فألا، لتكون الفاء داخلة على جواب الشرط، أما جعلها في محلها عاطفة على مقدر بعد الهمزة، كما هو أحد المذهبين، فيرد عليه؛ أن جواب الشرط إذا كان طلبيًّا يجب اقترانه بالفاء، وهو هنا كذلك؛ لأن الاستفهام طلب "المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة الشياطين سببًا لحصول النفع في الدين والدنيا، ويتأيد ما ذكرنا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من لم يستشف بالقرآن" أي من لا يعتد بطلب كونه شافيًا، لاعتقاده عدم الشفاء به، وبهذا حسن تفريع الجواب، بقوله: "فلا شفاه الله" وسقطت معارضته لأحاديث الأمر بالدواء. "ونقل عن الشيخ أبي القاسم" عبد الكريم بن هوازن "القشيري" العلم الشهير، صاحب الرسالة "رحمه الله: أن ولده مرض مرضًا شديدًا حتى أشرف منه على الموت، واشتد عليه الأمر، قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فشكوت إليه ما بولدي، فقال: أين أنت من آيات الشفاء" أي التي ذكر فيها الشفاء، والاستفهام تعجبي من شكوى مرض ولده، ولم يستعمل آيات الشفاء المزيلة للمرض، والغرض منه إرشاده إلى استعمالها، لا إنه تعجب حقيقي، ولا توبيخه؛ لأنه قبل ذلك لم يكن عالمًا بأنها سبب للشفاء، "فانتبهت فأفكرت فيها، فإذا هي في ستة مواضع من كتاب الله، وهي قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} " مما بهم " {وَشِفَاء} " الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 557] . {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] . {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [فصلت: 44] . قال: فكتبتها ثم حللتها بالماء وسقيته إياها فكأنما نشط من عقال، أو كما قال. وانظر رقية اللديغ بـ"الفاتحة" وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع.   دواء " {لِمَا فِي الصُّدُور} " [يونس: 57] ، من العقائد الفاسدة والشكوك، " {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا} " أي النحل " {شَرَابٌ} " هو العسل، " {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه} " بالبياض والحمرة، وغيرهما، " {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} " من الأوجاع، قيل لبعضها، كما دل عليه تنكير شفاء، أو لكلها بضميمته إلى غيره. قال السيوطي: وبدونها بنيته وقد أمر به النبي صلى الهل عليه وسلم من استطلق بطنه " {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} " من الضلالة " {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} " به، " {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} " من الأمراض " {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى} " من الضلالة " {وَشِفَاءٌ} " من الجهل، "قال: فكتبتها" على هذا الترتيب الموافق لترتيب القرآن، كما هو ظاهره، قال شيخنا: ولعله ليس بشرط من حصول المقصود بها، فلو قرأها أو كتبها على غير هذا الترتيب، لم يمنع من حصول الشفاء بها، انتهى. والأظهر خلافه، فإن للترتيب تأثيرًا عندهم، "ثم حللتها بالماء وسقيته إياها، فكأنما نشط من عقال" ما يعقل به البعير، "أو كما قال" شك، ولعله اختار ذلك على مجرد تلاوتها، ليصل أثر الحروف لبدن المريض، فيكون أبلغ. وفي الكواكب الدرية في ترجمة القشيري المذكور: مرض له ولد، بحيث أيس منه، فرأى الحق تعالى في النوم، فقال: أجمع آيات الشفاء واقرأها عليه، أو اكتبها في إناء واسقه إياه، ففعل فعوفي، انتهى. فلعل الواقعة تعددت في الولد نفسه، أو في غيره، فإنه كان له عدة أولاد، ولعله نسي الرؤيا الأولى حتى رأى الثانية منهما، فأخبر بهما جميعًا تحدثًا بنعمة رؤية الله ورسوله، "وانظر" نظر تأمل وتدبر "رقية اللديغ" "بدال مهملة وغين معجمة" "بالفاتحة، وما فيها من السر البديع والبرهان الرفيع" تجد تحقيق كون القرآن شفاء من جميع الأدواء والعلل، "وتأمل قوله عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 وتأمل قوله عليه السلام في بعض أدعيته: "وأن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، وشفاء صدري" أي فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله. وفي حديث علي عند ابن ماجه مرفوعًا: "خير الدواء القرآن". وههنا أمر ينبغي أن يتفطن له، نبه عليه ابن القيم، وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التي يستشفى بها، ويرقى بها، هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي قبول المحل، وقوة همة الفاعل وتأثيره، فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل، أو لعدم قبول المحل المنفعل، أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء، وقد يكون لمانع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا   السلام في بعض أدعيته، وأن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي وشفاء صدري" يأتي الحديث تامًّا في طبه من داء الهم والكرب، عن مسند أحمد، لكن بلفظ: أن تجعل بلا واو، "أي فيكون" القرآن "بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء ويعيد البدن إلى صحته واعتداله". "وفي حديث علي" أمير المؤمنين، "عند ابن ماجه مرفوعًا، "خير الدواء القرآن" أي خير الرقية ما كان بشيء من القرآن لأنه دواء القلوب والأرواح والأبدان، وكلام الرحمن الذي فضله كفضل الله تعالى على خلقه، وفيه آيات مخصوصة، تعرفها الخواص لإزالة الأمراض والأعراض، وممن اعتنى بذلك الغزالي وغيره، "وههنا أمر ينبغي أن يتفطن، له نبه عليه ابن القيم، وهو أن الآيات والأذكار والأدعية التي يستشفى" يطلب الشفاء "بها" من الله "ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعي" تتطلب "قبول المحل" يعني المرقي بها "وقوة همة الفاعل وتأثيره" بمزيد صلاحه وتقواه "فمتى تخلف الشفاء، كان لضعف تأثير الفاعل" كسيف قاطع في يد ضعيف أو جبان، "أو لعدم قبول المحل المنفعل" أي الذي من شأنه أن يتأثر بقبول الدواء أو الذي يظهر فيه أثر الدعاء عادة، فلا ينافي قوله لعدم قبول المحل، فالمريض الذي أيس منه، إذا رقي أو دعي له، فتخلفه لعدم قبول المريض، فالفاعل ذلك معتد إذ اللائق بمن رأى علامات الموت ترغيبه في الآخرة والتوبة والرجاء وتحسين الظن بالله ونحو ذلك، "أو لمانع قوي فيه، يمنع أن ينجع فيه الدواء" بالأدوية الإلهية، كتراكم الذنوب، "كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية، فإن عدم تأثيرها لعدم قبول الطبيعة لذلك الدواء" وإن كان في نفسه نافعًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 أخذت الدواء بقبول تام كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول، وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء في نفس فعالة، وهمة مؤثرة أثر في إزالة الداء. وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في رفع المكروه، وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف أثره عنه، إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، وأما الحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والسهو واللهو، وقد روى الحاكم حديث:   "وقد يكون نافع قوي يمنع من اقتضائه أثره، فإن الطبيعة إذا أخذت الدواء بقبول تام، كان انتفاع البدن به بحسب ذلك القبول" بخلاف ما إذا لم تقبله، فلا يظهر أثره، بل قد يضرها، "وكذلك القلب إذا أخذ الرقى والتعاويذ بقبول تام، وكان الدواء في نفس فعالة وهمة مؤثرة أثر في إزالة الداء، وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في رفع المكروه وحصول المطلوب، ولكنه قد يتخلف أثره عنه إما لضعفه" أي الدعاء "في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان" كما قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] أي بالتشدق ورفع الصوت، وقد فسره زيد بن أسلم بالجهر، وأبو مجاز بسؤال منازل الأنبياء، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالشر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم، وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما، عن سعيد بن أبي وقاص، أنه سمع ابنًا له يدعو ويقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها، وأعوذ بك من النار وسلاسلها، وأغلالها، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء"، وقرأ هذه الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، "وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء" بأن يرى أن جميع الأفعال منه، وأنه لا شريك له في شيء منها، حتى لو جرى على يده شفاء أو نحوه، كان ذلك إنما هو بخلق الله لما حصل على يده من الشفاء أو غيره. "وأما الحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم" كما في حديث: فأنى يستجاب له، "ورين الذنوب على القلوب" أي: الصدأ الحاصل عليها من ارتكاب الذنوب، وأشير إلى ذلك في خبر؛ أن العبد إذا أذنب ذنبًا حصل في قلبه، نكتة سوداء حتى يسود قلبه فذلك السواد الذي يشبه الصدأ هو المعبر عنه بالرين، "واستيلاء الغفلة والسهو واللهو، وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه. ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه ويمنه نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب، والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة، كثلث الليل الأخير، مع الخضوع والانكسار، والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة ورفع اليدين، والبداءة بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد، بعد التوبة والاستغفار والصدقة، وألح في المسألة، وأكثر التعلق والدعاء، والتوسل إليه   روى الحاكم" في الدعاء والذكر من مستدركه، ومن قبله الترمذي في الدعوات، وقال: غريب وضعفه النووي والعراقي والحافظ: "حديث" أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة، "واعلموا أن الله لا يقبل" وفي رواية، لا يستجيب "دعاء" "بالمد" "من قلب غافل" "بالإضافة ويجوز عدمها وتنوينهما" "لاه" أي: لا يعبأ بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه، مشغول بما أهمله من أمر دنياه. قال الإمام الرازي: أجمعت الأمة على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل النفع، عديم الأثر، قال: وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة، ولا بحالة مخصوصة، "ومن أنفع الأدوية الدعاء، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل". وقد روى أبو الشيخ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "الدعاء يرد البلاء" ورواه الديلمي، بلفظ: "يرد القضاء". وروى الترمذي، عن ابن عمر رفعه: "أن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل"، وللطبراني عن عائشة، مرفوعًا: "الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وأن الدعاء والبلاء ليعتلجان إلى يوم القيامة"، وللترمذي، وقال حسن غريب، عن سلمان مرفوعًا: "لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر"، ولأحمد والطبراني، وصححه ابن حبان والحاكم، عن ثوبان، رفعه: "لا يرد القدر إلا الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله"، "وهو سلاح المؤمن" كما رواه أبو يعلى والحاكم عن علي، مرفوعًا: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض"، "وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب" مع الله، "والجمعية بالكلية على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة، كثلث الليل الخير" وساعة يوم الجمعة، وسماع الأذان "مع الخضوع والانكسار والذل والتضرع، واستقبال القبلة، والطهارة، ورفع اليدين والبداءة بالحمد والثناء على الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد بعد التوبة" الندم والعزم على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا، لا سيما إن دعا بالأدعية التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم. ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما ينوب الإنسان. وأما الرقى فاعلم أن الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى، هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله   عدم العود، "والاستغفار والصدقة وألح في المسألة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" رواه الطبراني وغيره. "وأكثر التملق والدعاء والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا" لجمع شروط الدعاء وآدابه، "لا سيما إن دعا بالأدعية التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم" كدعوة ذي النون، والله لا إله إلا هو الحي القيوم، "ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما ينوب الإنسان" بشرط غلبة ظن الإجابة، بحيث تكون أغلب على القلب من الرد؛ لأن الداعي إذا لم يكن جازمًا، لم يكن رجاؤه صادقًا، وإذا لم يصدق الرجاء لم يخلص الدعاء؛ إذ الرجاء هو الباعث على الطلب، ولا يتحقق الفزع بدون تحقق الأصل، ولأن الداعي إذا لم يدع الله على يقين أنه يجيبه، فعدم إجابته إما لعجز المدعو، أو نحله، أو عدم علمه بالابتهال، وذلك كله على الحق تقد محال، ولذا قال: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة. قال الكمال بن الهمام: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح، والاشتغال بتحرير النغم إظهارًا للصناعة النغمية، لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة، بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم أن قصده إعجاب الناس به، فكأنه يقول: اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء، كما يفعله قراء هذا الزمان يصدر ممن فهم معنى الدعاء، والسؤال، وما ذاك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله مطلبه، بتحرير النغم من رفع وخفض وتطريب وترجيح، كالتغني نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب؛ إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني، فاستبان أن ذلك من مقتضيات الخيبة والحرمان. انتهى. "وأما الرقى" "بضم الراء وفتح القاف جمع رقية اسم للمرة من التعويذ"، "فاعلم أن الرقي" "بفتح الراء وسكون القاف مصدر رقي، أي التعويذ، ويصح ضم الراء وفتح القاف"، بتقدير أن الرقي الحاصلة "بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 تعالى، لكن لما عز هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسماني. وفي البخاري، من حديث عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات وهي الفلق والناس والإخلاص فيكون من باب التغليب، أو المراد الفلق والناس. وكذلك كل ما ورد التعويذ في القرآن، كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين} [المؤمنون: 97] . وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود: أن رسول   كان على لسان الأبرار" جمع بر، وهو الصادق، أو المتقي "من الخلق" بأن يصدر منهم قراءة أو كتابة، "حصل الشفاء بإذن الله تعالى، لكن لما هذا النوع" أي: قل لقلة أهله "فزع" "بفتح الزاي وكسرها، أي لجأ" "الناس إلى الطب الجسماني" بالأدوية. "وفي البخاري" ومسلم، كلاهما في الطب "من حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفث" "بضم الفاء وكسرها بعدها مثلثة، أي ينفخ نفخًا لطيفًا أقل من النقل" "على نفسه في المرض الذي مات فيه" كالمرض الذي قبله، فاستمر ذلك ولم ينسخ "بالمعوذات" "بكسر الواو". قال عياض: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة، أو الهواء الذي ماسه الذكر، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وفيه تفاؤل بزوال الألم وانفصاله، كانفصال ذلك النفث. وبقية الحديث: فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، أمسح بيد نفسه لبركتها، فسألت الزهري كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه، وقائل: سألت معمرًا، راوية عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال بعضهم: لعله صلى الله عليه وسلم لما علم أنه آخر مرضه، وارتحاله عن قرب ترك ذلك، "وهي" أي المعوذات "الفلق والناس والإخلاص، فيكون من باب التغليب" أي أطلق على الإخلاص اسم التعويذ لوقوعها مع المعوذتين، "أو المراد القلق والناس" فقط، إما مجازًا من باب تسمية الجزء باسم الكل، أو بناء على أن أقل الجمع اثنان، وفي أنه حقيقي أو مجازي، كالتغليب قولان: وقد روى ابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر، عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قرأ على نفسه بقل هو الله أحد والمعوذتين، وهذا يرجح أو يقنن التغليب، ولذا قال الحافظ المعتمد؛ أنه تغليب، لا لأن أقل الجمع اثنان، أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يتعوذ بها من السورتين، "وكذلك كل ما ورد من التعويذ في القرآن" فإنه من الطب الروحاني، "كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين} [المؤمنون: 97] ، نزغاتهم مما يوسوسون به. "وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث" عبد الرحمن بن حرملة، عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقي إلا بالمعوذات، ففي سنده عبد الرحمن بن حرملة، قال البخاري: لا يصح حديثه. على تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقية بالفاتحة. وأما حديث أبي سعيد عند النسائي: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما، وحسنه الترمذي، فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية، ولا سيما مع   "ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقي إلا بالمعوذات، ففي سنده عبد الرحمن بن حرملة" بن عمرو الأسلمي، المدني، مات سنة خمس وأربعين ومائة. "قال البخاري: لا يصح حديثه" فلا يرد على قولنا: وكذلك كل ما ورد من التعويذ في القرآن، "وعلى تقدير صحته" لأن مسلمًا روى له، كأصحاب السنن الأربعة. وفي التقريب: أنه صدوق، ربما أخطأ، "فهو منسوخ بالإذن في الرقية بالفاتحة" أي إقرار الذي رقي بها على ذلك، وقوله: "وما يدريك أنها رقية، خذوها"، أي الشياه "واضربوا لي معكم بسهم"، كما في الصحيحين. هذا ولفظ الحديث عند من عزاه لهم لتكميل الفائدة، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال: الصفرة، وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكعاب، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم، وعزل الماء لغير محله، وفساد الصبي غير محرمه، والصفرة الخلوق بالزعفران، والتبرج، أي تبرج النساء في غير محلها "بفتح الحاء وتكسر" وهو تزين المرأة لزوجها، والكعاب: جمع كعب، وهو فصوص النرد، وعزل الماء، قال الخطابي: هو أن يعزل الرجل ماءه عن فرج المرأة، وهو محل الماء. قال في النهاية: وفيه التعريض بإتيان الدبر، وفساد الصبي، أي فطمه قبل أوانه، أو وطء المرضع، فيعرضها للحمل، فيفسد الصبي، وربما قطع اللبن بحملها، وغير محرمه معناه لم يبلغ بالكراهة. التحريم عائد إلى فساد الصبي فقط. "وأما حديث أبي سعيد عند النسائي" والترمذي وابن ماجه: "كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان" أي يقول أعوذ بالله من الجان، كما جزم به بعض الشراح، "وعين الإنسان" من ناس ينوس إذا تحرك، وذلك يشترك فيه الإنس والجن، وعين كل ناظر، "حتى نزلت المعوذتان" الفلق والناس، "فأخذ بهما وترك ما سواهما". "وحسنه الترمذي" فقال: حسن غريب، وصححه الضياء في المختارة، "فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية" أي أن التعوذ بهما أولى من التعوذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 ثبوت التعوذ بغيرهما. وإنما اجتزأ بهما لما اشتملنا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلًا. وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط: - أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته. - وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره. - وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.   بغيرهما، "ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما" هكذا قاله الحافظ: يعني من القرآن وغيره، وقال غيره: وترك ما سواهما مما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، لما ثبت أنه كان يرقي بالفاتحة تارة، وبالمعوذتين أخرى، وكلام الحافظ أحسن، "وإنما اجتزأ بهما" "بجيم، ثم زاي فألف"، أي اكتفى بهما، لكونهما كافيتين عما سواهما، كما أرشد إلى ذلك، بقوله: "لما اشتملنا عليه من جوامع الاستعاذة" فهذه النسخة مساوية لنسخة اختارهما، أي قدمهما ورجحهما على غيرهما، وليس المراد على الأولى؛ أنه اكتفى بهما وإن لم يكونا كافيتين، بدليل السياق والتعليل، "من كل مكروه جملة وتفصيلًا" إذ الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه في الأشباح والأرواح، والاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا أظلم، أو القمر إذا غاب تتضمن الاستعاذة من شر ما انتشر فيه من الأرواح الخبيثة، والاستعاذة من شر النفاثات تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن، ومن شر حاسد تتضمن الاستعاذة من شر النفوس الخبيثة المؤذية. والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر الإنس والجن، المشار له بقوله الوسواس، أي الذي يوسوس للآدمي عند غفلته عن ذكر الله، الخناس: الذي يخنس عند ذكر الله، من الجنة والناس، بيان للشيطان الموسوس أنه جني وإنسي، لقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِن} [الأنعام: 122] ، أو من الجنة، بيان له، والناس عطف على الوسواس، واعترض الأول؛ بأن الناس، لا يوسوسون في صدور الناس إنما يوسوس في صدورهم الجن. وأجيب بأن الناس يوسوسون أيضًا بمعنى يليق بهم في الظاهر، ثم تصل وسوستهم إلى القلب، وتثبت فيه بالطريق المؤدي إلى ذلك. "وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط" الأول: "أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، و" الثاني: أن تكون "باللسان العربي" ولم يقيده بما يفهم معناه؛ لأن الغالب على لسان العرب فهمه لمستعمله، "أو بما يعرف معناه من غيره" لا من لا يعرف، لجواز كونه شركًا، "و" الثالث: "أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 واختلفوا في كونها شرطًا، والراجح أنه لا بد من اعتبارها. وفي صحيح مسلم من وحديث عوف بن مالك: قال كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ترى في ذلك؟ فقال: "عرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقي إذا لم يكن فيه شرك". وله من حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي، فجاء آل عمرو بن   تعالى"، وهذا الشرط لا بد منه للجواز، فإن انتفى لم يجز، بل ربما جر إلى الكفر، "واختلفوا في كونها" أي اجتماع الثلاثة "شرطًا" ليحصل المقصود بها أولًا "والراجح أنه لا بد من اعتبارها" ليحصل المقصود؛ لأنه عند انتفائها قد يحصل، وقد لا يحصل، وهو الغالب، هكذا قال في الحاشية، وقال في تقريره قوله: وأجمعوا يخالف قوله، واختلفوا إلا أن يؤول؛ بأن معناه شرطًا في الجواز، كما دل عليه قوله بعد، والشرط الثالث لا بد منه، أي للجواز، فالثلاثة لحصول القصد، ولكن الثالث للجواز أيضًا، فإذا انتفى انتفى الجواز، بل ربما جر إلى الكفر. انتهى، وفيه شيء مع قوله: أجمعوا على جواز. "وفي صحيح مسلم" وأبي داود "من حديث عوف بن مالك" الأشجعي، صحابي مشهور من مسلمة الفتح وسكن دمشق ومات سنة ثلاث وسبعين، "قال: كنا نرقي" "بفتح النون وسكون الراء" "في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى" لنا "في ذلك" أنفعله أم نتركه؟ وفيه استفهام العالم عما جهل حكمه، "فقال: اعرضوا" "بكسر الهمزة والراء بينهما عين مهملة ساكنة" وهي همزة وصل تسقط في الدرج وتثبت في الابتداء مكسورة، أي أبرزوا "على رقاكم" لأني العالم الأكبر، المتلقي عن معلم العلماء ومفهم الحكماء ومفهم الحكماء، فلما عرضوها عليه، قال: "لا بأس بالرقي"، أي جائزة "إذا لم يكن فيه" أي فيما رقي به "شرك" أي شيء يوجب اعتقاده الكفر، أو شيء من كلام أهل الشرك، الذي لا يوافق أصول الإسلام، ولذا منع الرقي بالسرياني والعبراني، ونحوهما مما جهل معناه خوف الوقوع في ذلك، وفيه أن على المفتي أن يسأل المستفتي عما أبهمه في السؤال قبل الجواب، وجواز الرقي بما لا ضرر فيه، وإن كان بغير أسماء الله وكلامه، لكن إذا فهم معناه، والحث على السعي في إزالة المرض والضرر عن المسلمين بكل ممكن جائز. "وله" أي لمسلم بمعنى روى أيضًا "من حديث جابر" بن عبد الله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي" خوف الوقوع في محذور، فجاء آل عمرو بن حزم بن يزيد الأنصاري، الصحابي المشهور، قال في مقدمة الفتح، وفي موطأ ابن وهب التصريح بعبارة بن حزم من آل عمرو، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 حزم بن يزيد الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، قال: "اعرضوها علي"، قال: فعرضوا عليه، فقال: "ما أرى بأسًا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه". وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك فإنه يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطًا. والشرط الأخير لا بد منه.   "فقالوا: يا رسول الله إنه" أي الشأن والحال، "كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب" وإنك نهيت عن الرقي. هذا سقط من قلم المصنف، وهو في مسلم وغيره، قال النووي: أجاب العلماء عنه بأجوبة، أحدها كان نهي أول، ثم نسخ ذلك وأذن فيها، وفعلها واستقر الشرع على الإذن، والثاني: أن النهي عن الرقي المجهولة، والثالث: أن النهي كان لقوم يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة، "قال: "اعرضوها علي" قال: فعرضوا عليه" الرقية التي كانوا يرقون بها، "فقال: "ما أرى بأسًا من استطاع" منكم "أن ينفع أخاه" من الدين، "فلينفعه" ندبًا مؤكدًا، وقد يجب في بعض الصور، وحذف المنتفع به لإرادة التعميم فيشمل كل ما ينتفع به من رقية، أو علم، أو جاه، أو مال، أو نحو ذلك. فقول الفردوس: يعني بالرقية فيه نظر، وفيه قوله منكم الساقطة من قلم المصنف، إشارة إلى أن نفع الكافر أخاه بنحو صدقة عليه لا يثاب عليه في الآخرة، وهو ما عليه جمع، والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة. وفي رواية لمسلم أيضًا عن جابر قال: لدغت رجلًا منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله أرقى، فقال: "من استطاع"، فذكره. قال التوربشتي: كأن السائل عرف أن من حق الإيمان اعتقاد أن المقدور كائن لا محالة، ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء ويأمر بالتداوي وبالاتقاء عن مواطن المهلكات، فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحب حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا: ففيم العمل، "وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها" لأن نفعها يبعدها عن التأدية إلى الشرك، "لكن دل حديث عوف" المذكور؛ على "أنه مهما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك فإنه يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطًا" ولو جربت منفعتها، "والشرط الأخير" هو أن يعتقد أنها لا تؤثر بذاتها "لا بد منه". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 وقال قوم: لا يجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين: لا رقية إلا من عين أو حمة. وأجيب: بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس أو نحو ذلك؛ لاشتراكهما في كونهما ينشأان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، يلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبي داود من حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: أو دم، وفي مسلم من حديث أنس أيضًا رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في   فإن اعتقد أن تأثيرها بذاتها لم يجز الرقي بها، بل ربما أدت إلى الكفر. "وقال قوم: لا يجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين" عند البخاري موقوفًا: "لا رقية إلا من عين" يصيب العائن بها غيره إذا استحسنه عند رؤيته، "أو حمة" "بضم الحاء المهملة وخفة الميم". قال في النهاية: وقد تشد، وأنكره الأزهري، وهي السم، وتطلق على إبرة العقرب للمجاورة؛ لأن السم يخرج منها، وأصلها حمو أو حمى بوزن صرد والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة أو الياء. وقال الخطابي: الحمة اسم ذوات السموم، وقد تسمى إبرة العقرب، والزنبور حمة؛ لأنها مجرى الشم، وكذا رواه مسلم عن بريدة بن الحصيب موقوفًا عليه، لكن رواه أبو داود، وصححه الحاكم من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. "وأجيب؛ بأن معنى الحصر فيه؛ أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية" من الأمراض والأوجاع، لورود الرقية في ذلك، "فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل" "بفتح الخاء المعجمة وسكون الموحدة" جنون، وشبهه كالهوج والبله والخبل "بفتح الباء أيضًا" الجنون، كما في المصباح، "أو مس" من جن غير عقله، وصيره كالمجنون، "أو نحو ذلك؛ لاشتراكهما في كونهما ينشأان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، ويلتحق بالسم" الحاصل من لدغة العقرب "كل ما عرض للبدن من قرح" "بفتح القاف وضمها"، "ونحوه من المواد السمية" فتطلب الرقية من ذلك كله. "وقد وقع عند أبي داود" وصححه الحاكم "من حديث أنس" عن النبي صلى الله عليه وسلم "مثل حديث عمران" الموقوف عله، "وزاد" من حديث أنس: "أو دم" لا يرقأ، هذا بقيته عند أبي داود، فبان بهذه الزيادة أن الحصر ليس بمراد. "وفي مسلم من حديث أنس أيضًا: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 الرقية من العين والحمة والنملة وفي حديث آخر والأذن، ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تعلمين هذه -يعني حفصة- رقية النملة"؟. والنملة: قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد. وقيل: المراد بالحصر يعني الأفضل، أي لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف أقطع إلا ذو الفقار.   والحمة والنملة" فزيادة النملة تعطي أن الحصر ليس بحقيقي. "وفي حديث آخر: والأذن" أي وجع الأذن، فهذه ثلاث، ورد النص عليها الدم والنملة والأذن، فليس الحصر بمراد، "ولأبي داود من حديث الشفاء" بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء والمد"، كما قاله ابن الأثير وغيره، وضبطها ابن نقطة وغيره بالقصر، وهو المعتمد "بنت عبد الله" بن عبد شمس القرشية العدوية، لها أحاديث، وهي غير الشفاء بنت عوف التي حضرت ولادته صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" لها: "ألا تعلمين هذه -يعني حفصة-" بنت عمر أم المؤمنين، "رقية النملة" فقالت: بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدًا، اللهم اكشف الباس رب الناس، ترقي بها على عود سبع مرات، وتقصد مكانًا نظيفًا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق، وتطليه على النملة، ذكر المصنف فيما يأتي. وفي النهاية قيل: إن هذا الكلام لعب وممازحة، كقوله للعجوز: "لن يدخل الجنة عجوز"، وذلك أن رقية النملة شيء كانت تستعمله النساء، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال: تأبين حفصة؛ لأنه ألقى إليها سرًّا، فأفشته. انتهى. "والنملة" "بفتح النون" وإسكان الميم "قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد" كالساق، سمي بذلك لأن صاحبه يحس ف مكانه، كأن نملة تدب عليه وتعضه، وقال الخطابي: هي قروح تخرج في الجنبين، ويقال: إنها قد تخرج في غير الجنب، ترقى فتذهب بإذن الله تعالى. "وقيل: المراد بالحصر" في حديث، لا رقية إلا من عين أو حمة، "يعني الأفضل، أي لا رقية أنفع" ولا أولى من رقية هذين، لما فيهما من زيادة الضرر، "كما قيل" في شرح خبر: لا سيف إلا ذو الفقار، الذي أخرجه الحسن بن عرفة عن أبي جعفر الباقر، قال: نادى ملك من السماء يوم بدر: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي؛ أن معناه: "لا سيف أقطع إلا ذو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما. وروى أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود: "رفعه إن الرقى والتمائم والتولة شرك". والتمائم: جمع تميمية وهي خرزة أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات. والتولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر. وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند   الفقار" اسم لأحد أسيافه صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي أن السيوف كثيرة، وفي نسخة: بحذف أقطع، ولعلها لا تصح لقوله: كما قيل: نعم. لو قال كما في خبر لتعين حذفها. "وقال قوم، المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء" لئلا يقع به فيسيء اعتقاده، ولأنها طب روحاني، وأطباء الأدوية الجسمانية ينهون عن استعمال الدواء بلا مرض، "والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما" وله وجه. "وروى أبو داود وابن ماجه" والإمام أحمد، "وصححه الحاكم" وأقره الذهبي "عن ابن مسعود، رفعه: "إن الرقى والتمائم" "بفوقية فميمين بينهما همزة"، "والتولة" "بكسر التاء وضمها" "شرك" أي: من الشرك سماها شركًا؛ لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودًا في الجاهلية، وكان مشتملًا على ما يتضمن الشرك، ولأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها ويفضي إلى الشرك، قاله البيضاوي، وقال الطيبي: المراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير، وذلك ينافي التوكل والانخراط في زمرة الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. "والتمائم: جمع تميه، وهي" في الأصل "خرزوة أو قلادة تعلق في الرأس" للأولاد لدفع العين، ثم توسعوا فيها، فسموا بها كل عوذة، "كانوا في الجاهلية يعتقون أن ذلك يدفع الآفات" بذاته، فلذا أطلق عليه اسم الشرك. "والتولة بكسر المثناة" الفوقية وضمها كما في ابن رسلان "وفتح الواو واللام مخففًا، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها" إليها، "وهو ضرب من السحر". وفي القاموس: التولة: كهمزة السحر، أو شبهة وخرزة تحبب معها المرأة إلى زوجها، كالتولة، كعنبة فيهما، "وإنما كان ذلك من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه. فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولا خلاف في مشروعية الفزع واللجا إليه سبحانه وتعالى، في كل ما وقع وما يتوقع. وقال بعضهم: المنهي عنه من الرقى هو الذي يستعمله المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي له بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم، والتعوذ بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها بالطبع لبني آدم تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من شوب الشرك. وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء الأمة.   من عند غير الله" وهكذا كان اعتقادهم، "ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه" ولا من عقلها تبركًا بذكر الله، عالمًا لا أنه لا كاشف إلا الله، "فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى" ففيه رد على القوم الذين حملوا النهي على ما قبل الوقوع، "ولا خلاف في مشروعية الفزع واللجا" عطف تفسير إليه سبحانه وتعالى في كل ما وقع وما يتوقع" فهذا الاتفاق يرد أيضًا على أولئك القوم. "وقال بعضهم: المنهي عنه من الرقي هو الذي يستعمله المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي له بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه" يخلطه المعزم وغيره "من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم" عتاتهم الخارجين عن الطاعة، "ويقال: إن الحية لعداوتها بالطبع لبني آدم تصادق الشياطين، لكونهم أعداء بني آدم فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين، أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء" أي أسماء الشياطين "سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقي ما لم يكن بذكر الله وأمائه، خاصة" وكتابه من ذكر "وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من شوب الشرك، وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء الأمة" يريد وبغير أسمائه وذكره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية؛ مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى شرك. والثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحب. والثالث: ما كان بأسماء غير الله تعالى من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله، وبما يعرف من ذكر الله، فقلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما تعرف من كتاب الله وذكر الله. وفي الموطأ: أن أبا بكر قال لليهودية التي كان ترقي عائشة: أرقيها   "وقال القرطبي: الرقي ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية؛ مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى شرك، والثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز" اتفاقًا، "فإن كان مأثورًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، "فيستحب" فعله، "والثالث: ما كان بأسماء غير الله تعالى من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات. كالعرش". "قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به" كأن وصفه بأوصافه تقتضي تعظيمه حتى استحق أن يتبرك به، ويجعل ذكره سببًا لشفاء المريض، "فينبغي أن يجتنب، كالحلف بغير الله تعالى" المختلف في كراهته وحرمته. "وقال الربيع" بين سليمان: "سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وبما يعرف من ذكر الله، فقلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين، قال: نعم إذا رقوا بما تعرف" "بفتح التاء وكسر الراء" يا ربيع "وبضم التاء فتح الراء" صفة لما، أي برقية تعرف "وبتحتية مبني للمفعول" "من كتاب الله" لعل المراد به ما يعظمونه، كغير المبدل من التوراة والإنجيل، ويحتمل العموم، ويقيد واز تمكينهم من القرآن بمن رجي إسلامه منهم. قال شيخنا: "وذكر الله" تعالى، "وفي الموطأ" في كتاب الجامع، عن يحيى بن سعيد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 بكتاب الله. قال النووي وقال القاضي عياض: واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم، بالجواز قال الشافعي والله أعلم. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم، رقية الذي يصاف بالعين. روى مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين". أي أن الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، وهو من جملة ما تحقق كونه. قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف من المبتدعة   الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن؛ "أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة" لفظه: أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: "أرقيها بكتاب الله" القرآن والتوراة إن كانت معربة بالعربي، أو أمن تغييرهم لها. "قال النووي: وقال القاضي عياض، واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم" بالجواز وعدمه، "وبالجواز قال الشافعي، والله أعلم" بالصواب من القولين، "وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم" تعليل للكراهة "رقية الذي يصاب بالعين" أي هذا بيان ما يرقى به المصاب بالعين، وأنها حق "روى مسلم" في الطب من صحيحه، والإمام أحمد، "عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر" "بفتحتين" أي: لو فرض أن لشيء قوة بحيث يسبق القدر "لسبقته العين" لكنها لا تسبق القدر، فكيف غيرها، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة. قال القرطبي: فلو مبالغة في تحقيق إصابة العين جرى مجرى التمثيل؛ إذ لا يرد القدر شيء، فإنه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته، ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه فهو كقولهم: لأطلبنك ولو تحت الثرى ولو صعدت السماء وقال البيضاوي معناه أن إصابة العين لها تأثير ولو أمكن أن يعاجل القدر شيء فيؤثر في إفناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر لسبقته العين "أي أن الإصابة بالعين شيء ثابت موجود" تفسير لقوله: حق، "وهو من جملة ما تحقق كونه" أي وجوده بالفعل، لا أنه بطريق الإمكان. "قال المازري" بفتح الزاي وكسرها نسبة إلى جزيرة بصقلية" كما في الديباج وغيره، وتقدم مرارًا "أخذ الجمهور بظاهر الحديث" من تأثيرها بإرادة الله وخلقه، "وأنكره طوائف من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 لغير معنى؛ لأن كل شيء ليس محالًا في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فهو من مجوزات العقول. فإذا أخبر الشارع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى. وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة. وقد اشتكى بعض الناس هذه الإصابة فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ وأجيب: بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون. وقد نقل عن بعض من كان معيانًا أنه قال: إذا رأيت شيئًا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد. ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد.   المبتدعة لغير معنى" كقول بعض الطبائعيين: لا شيء إلا ما يدركه الحواس الخمس، وما عدا ذلك لا حقيقة له، وهذا لا معنى له، "لأن كل شيء ليس محالًا في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فهو من مجوزات العقول" أي من الأمور التي تقول العقول بإمكانها، وكل ما جوزته وجاء في السنة وجب قبوله والأخذ بظاهره، كما أشار له بقوله: "فإذا أخبر الشارع بوقوعه، لم يكن لإنكاره معنى" سوى العناد والمكابرة، "وهل من فرق بين إنكارهم هذا" أي إصابة العين استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا فرق بين إنكارهم هذا "و" بين "إنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة" ومعلوم أنه لا يعبأ به، بل قد يكون كفرًا. "وقد اشتكى بعض الناس هذه الإصابة، فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ " اسم مفعول من عانه، إذا أصابه بالعين تقول، كما في الفتح: عنت الرجل أصبته بعينك، فهو معين ومعيون؛ "وأجيب بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعون" فيحصل له الضرر بتقدير الله. "وقد نقل عن بعض من كان معيانًا" "بكسر الميم شديد الإصابة بالعين كعيون" "أنه قال: إذا رأيت شيئًا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني" أي فإذا خرجت قد تصل إلى بدن المعيون، "ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد" وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها، كما في الفتح، "ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء" "بالمد مؤنس أرمد، كحمراء مؤنس أحمر" "فيرمد" ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 وقال المازري: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد. وهو كإصابة السم من نظر الأفعى، وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه. وإن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقية أو لا؟ وهو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه. ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم جواهر لطيفة غير مرئية ينبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق الباري الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم فقد أخطأ بدعوى القطع، ولكنه   "وقال المازري: زعم بعض الطبائعين أن العائن ينبعث" يخرج "من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك" يموت "أو يفسد" جسمه أو عقله، "وهو كإصابة السم من نظر الأفعى" حية رقشاء، دقيقة العنق، عريضة الرأس، لا تزال مستديرة على نفسها، لا ينفع منها ترياق ولا رقية، فالمراد أن جنسًا من الأفاعي إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن، وعبارة المازري عقب قوله: فيهلك أو يفسد، قالوا: ولا يمتنع هذا، كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب، تتصل باللديغ فيهلك، وإن كان غير محسوس لنا، فكذا العين، وهذا غير مسلم لأنا بينا في علم الكلام أن لا فاعل إلا الله، وبينا فساد القول بالطبائع، وأن المحدث لا يفعل في غيره شيئًا، فبطل ما قالوه، ثم المنبعث من العين إن كان عرضًا فباطل لأنه لا يقبل الانتقال وإن كان جوهرًا فباطل أيضًا لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسد لبعضها بأولى من عكسه، فبطل ما قالوه. "وأشر" المازري "إلى منع الحصر في ذلك" أي خروج سمية من عين العائن "مع تجويزه" خروجها، لا على سبيل القطع، "وإن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة: أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى، أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقة" تخرج من العين، ولفظ المازري خفية، أي غير ظاهرة، "أو لا هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه" إذا لا مستند لذلك، وإنما هو من مجوزات العقل، وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وإضافته إلى الله. "ومن قال ممن ينتمي" ينتسب "إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم" هناك "جواهر لطيفة غير مرئية ينبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق الباري" سبحانه "الهلاك عندها، كما يخلق الهلاك عند شرب السم" وعند قطع الرأس، "فقد أخطأ بدعوى القطع" إذ لا دليل عليه، "ولكنه جائز أن يكون عادة ليس ضرورة ولا طبيعة" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 جائز أن يكون عادة ليس ضرورة ولا طبيعة. انتهى. وهو كلام سديد. وليس المراد بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون. وقد أخرج البزار بسنده عن جابر رفعه: "أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس". قال الراوي: يعني العين. وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، كذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه. وكثير من   ألجأ العقل إليها. "انتهى" كلام المازري، "وهو كلام سديد" أي صواب، لموافقته مذهب أهل السنة. وقال ابن العربي: الحق أن الله تعالى يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يرفعه قبل وقوعه بالرقية، "وليس المراد بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة" أن إصابة العين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها، ثم تؤثر في غيرها، وقيل: إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه، كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به، كما في الفتح؛ "بل" المراد "ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون" بخلق الله تعالى. "وقد أخرج البزار" والبخاري في التاريخ، والطيالسي والحكيم الترمذي "بسنده" قال الحافظ، وتبعه السخاوي بسند حسن وصححه الضياء "عن جابر، رفعه: "أكثر من يموت" من أمتي، كما في البزار وغيره، فكأنه سقط من قلم المؤلف ""بعد قضاء الله وقدره" أي بعد تحتمها فيما سبق، فهو حال من الخبر، أو المبتدأ عند سيبويه ""بالنفس". "قال الراوي: يعني العين" لأنه جاء صريحًا عند من عزيناه لهم بلفظ بالعين، قال الحكيم الترمذي: وذلك لأن هذه لأمة فضلت باليقين على سائر الأمم، فحجبوا أنفسهم بالشهوات، فعوقبوا بآفة العين، فإذا نظر أحدهم بعين الغفلة، كانت عينه أعظم، والذم له ألزم، {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} ، فلما فضلهم الله باليقين لم يرض منهم أن ينظروا إلى الأشياء بعين الغفلة، وتتعطل منة الله عليهم وتفضيله لهم؛ "وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه" أي يستحيي منه "من الخجل" هو كالاستحياء، "فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك" النظر، "وكذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم" "بفتح الياء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه. وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين، وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وكيفيتها وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة. والحاصل: أن التأثير بإرادة الله وخلقه ليس مقصورًا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجه الروح، كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي، إن صادف البدن -لا وقاية له- أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء انتهى ملخصًا من فتح الباري وغيره. قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوي لهذه العلة، فمن التعوذات والرقى:   والقاف"، يمرض "بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين" لفظ الفتح، ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، أي نسبة مجازية، "وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح والأرواح مختلفة في طبائعها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها" صفتها "الخبيثة، والحاصل أن التأثير بإرادة الله وخلقه" وعبارة الفتح، والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله تعالى السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور، "ليس مقصورًا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح" وهذا الحادث بلا مماسة العين بشيء من أجزاء المعيون، "كالذي يحدث" في البدن "من" لشفاء من المرض ونحوه بسبب "الأدعية والرقي والالتجاء إلى الله تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن" حال كونه، "لا وقاية له" أي غير متحصن بشيء يمنع من تأثير العين، كالأدعية وخشب شجر المخيط. قال السخاوي: بلغني أن الولي العراقي لم يكن يفارق رأسه، فتبعته "أثر فيه" الضرر بخلق الله، "وإلا لم ينفذ فيه السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء. انتهى ملخصًا من فتح الباري وغيره". "قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوي" الوارد في الأحاديث من الرقي بالأدعية ونحوها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 الإكثار من قراءة المعوذتين والفاتحة وآية الكرسي، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.   "لهذه العلة" أي إصابة العين، "فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين" لحديث عائشة السابق: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، ولحديثها أيضًا: كان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، ثم يقرأ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. رواه البخاري. "والفاتحة" لحديث الصحيحين في الذي رقى اللديغ بالفاتحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما أدراك أنها رقية"؟. وروى البيهقي في الشعب، عن جابر، رفعه: "ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن"؟ قلت: بلى، قال: "فاتحة الكتاب"، قال راويه: وأحسبه قال: "فيها شفاء من كل داء". وله ولسعيد بن منصور، عن أبي سعيد مرفوعًا: "فاتحة الكتاب شفاء من السم"، وللديلمي عن عمران بن حصين، مرفوعًا: "في كتاب الله عز وجل ثمان آيات للعين، لا يقرؤها عبد في دار فتصيبهم في ذلك اليوم عين إنس أو جن فاتحة الكتاب سبع آيات وآية الكرسي"، هكذا في نسخة صحيحة بخط الحافظ ابن حجر من الفردوس للديلمي، فأوهم السخاوي في قوله، فذكر منها الفاتحة وآية الكرسي، والصواب أن يسقط قوله، فذكر منها لإبهامه أنه بقي ست آيات، مع أنه بين أن السبع الفاتحة وآية الكرسي الثامنة، بقوله صلى الله عليه وسلم: "فاتحة الكتاب سبع آيات وآية الكرسي"، يعني الثامنة، "وآية الكرسي" سميت بذلك لذكره فيها. روى الديلمي، عن أبي إمامة: سمعت عليًّا يقول: ما أرى رجلًا أدرك عقله في الإسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} إلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} ، فلو تعلمون ما هي، أو ما فيها لما تركتموها، على حال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي قبلي"؛ قال علي: فما بت ليلة منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرأها، قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من علي، ثم سلسلة الباقون إلى الديلمي، وفي خبر سيدة البقرة آية الكرسي، أما إن فيها خمس كلمات، في كل كلمة خمسون بركة. "ومنها: التعوذات النبوية، نحو: أعوذ بكلمات الله" صفاته القائمة بذاته، وقيل: العلم؛ لأنه أعم الصفات، وقيل: القرآن، وقيل: جميع ما أنزله على أنبيائه؛ لأن الجمع المضاف إلى المعارف يعم "التامة" أي الفاضلة التي لا يدخلها نقص "من كل شيطان وهامة" "بشد الميم" ما له سم يقتل، كالحية، قاله الأزهري، وجمعها هوام مثل دابة ودواب، وقد يطلق على ما لا يقتل، كالحشرات، كقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "أيؤذيك هوام رأسك"؟، يعني القمل على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن. وإذا كان يخشى ضرر عينه وغصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه. كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "ألا برَّكت عليه".   الاستعارة بجامع الأذى، "ومن كل عين لامة" أي مصيبة بسوء، وهي كل ما يخاف من فزع وشر، قاله المجد. وفي النهاية: أي ذات لمم، ولذا لم يقل ملمة، واللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان، أي يقرب منه ويعتريه؛ "ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات" بالجمع، وفي السابقة بالإفراد. قال الحكيم الترمذي: وهما بمعنى، فالمراد بالجمع الجملة، وبالواحدة ما تفرق في الأمور والأوقات، ووصفها بالتمام إشارة إلى أنها خالصة من الريب والشبه، وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا، "التي لا يجاوزهن" لا يتعداهن "بر" "بفتح الياء" تقي محسن، "ولا فاجر" مائل عن الحق، أي لا ينتهي علم أحد إلى ما يزيد عليها "من شر ما خلق وبرأ وذرأ" قيل: هما بمعنى خلق. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقال: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْض} [الملك: 24] . وقال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُم} [البقرة: 54] ، فذكر الثلاثة لإفادة اتحاد معناها، وقيل: البرء والذرء يكون طبقة بعد طبقة وجيلًا بعد جيل، والخلق لا يلزم فيه ذلك، "ومن شر ما ينزل من السماء" من العقوبات، كالصواعق، "ومن شر ما يعرج فيها" مما يوجب العقوبة، وهو الأعمال السيئة، "ومن شر ما ذرأ" خلق "في الأرض" على ظهرها، "ومن شر ما يخرج منها" مما خلقه في بطنها، "ومن شر فتن الليل والنهار" الواقعة فيهما وهو من الإضافة إلى الظرف "ومن شر طوارق الليل والنهار" جمع طارق، وهو الحادث الآتي بالليل، وإطلاقه على الآتي نهارًا على سبيل الاتساع "إلا طارقًا" نصب؛ لأنه استثناء متصل من كلام موجب، فهو منصوب. وفي نسخة: بالجر بدلًا من طوارق؛ لأنه نفي معنى، أي فلا يصيبني شيء من طوارق الليل إلا طارق "يطرق" "بضم الراء" أي ياتي "بخير يا رحمن" وفي ختمه بذلك مزيد الاستعطاف. "وإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه" لأنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، "كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة" بن كعب بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 ومما يدفع إصابة العين: قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل ذي نفس أو عين حاسد. الله يشفيك: بسم الله أرقيك. وعنده أيضًا من حديث عائشة: كان جبريل يرقي النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل   مالك العنزي "بنون ساكنة وزاي منقوطة" حليف الخطاب، أسلم قديمًا، وهاجر وشهد بدرًا، ومات ليالي قتل عثمان، "لما عان سهل" "بسكون الهاء" "ابن حنيف" "بضم المهملة وفتح النون وسكون التحتية وبالفاء" ابن واهب الأنصاري، الأوسي، البدري، مات في خلافة علي. "الأ" "بالفتح والتشديد"، بمعنى هلا، وبها جاء في بعض طرقه: "بركت عليه" أي قلت بارك الله فيك، فإن ذلك يبطل ما يخاف من العين ويذهب تأثيره، قاله الباجي. "ومما يدفع إصابة العين قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله" كما قال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى شيئًا فأعجبه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره"، رواه البزار وابن السني عن أنس، ففيهما استحباب هذا الذكر عند رؤية ما يعجب. واستدل مالك بالآية على استحبابه لكل من دخل منزله، كما قاله ابن العربي، وأخرج ابن أبي حاتم، عن مظرف قال: كان مالك إذا دخل بيته قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قلت له: لم تقول هذا؟، قال: ألا تسمع الله تعالى يقول: وتلا الآية. وأخرج عن الزهري مثله، "ومنها: رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم" في الطب عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت، قال: "نعم"، قال: "بسم الله أرقيك" "بفتح الهمزة" من رقى يرقي، كرمى يرمي "من كل شيء يؤذيك، من شر كل ذي نفس أو عين حاسد". قال عياض: يحتمل أن يريد بالنفس نفس الحيوان، ويحتمل أن يريد بها العين؛ لأن النفس تطلق على العين، يقال: أصابته نفس، أي عين، والنافس العائن، وتطلق النفس والعين على أشياء أخر ليست مراده هنا "الله يشفيك" "بفتح أوله" يعافيك، "بسم الله أرقيك" ختمه بما بدأه به، ليكون أنجع، فإن في تكرار الرقية نفعًا مشاهدًا، "وعنده" أي مسلم "أيضًا" في الطب "من حديث عائشة: "كان جبريل يرقي النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى" أي مرض، والشكاية المرض، وليس المراد أنه أخبر بما يجد من الألم والاستقراء، يدل أن تداويه أو أكثره، إنما هو بالرقي لا بأدوية؛ لأن الأدوية إنما تستعمل في الأمراض التي من قبل فساد المزاج، ومزاجه صلى الله عليه وسلم خير الأمزجة، قاله أبو عبد الله الأبي: "بسم الله" لفظ مسلم، قال: بسم الله "يبريك". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 ذي عين. وأخرى مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا". وظاهر الأمر الوجوب، وحكى المازري فيه خلافًا وصحح الوجوب، وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى.   قال القرطبي: الاسم هنا المسمى، فكأنه قال: الله يبريك، كما قال: سبح اسم ربك الأعلى، أي سبح ربك، والاسم في الأصل عبارة عن الكلمة الدالة على المسمى، والمسمى هو مدلولها إلا أنه يتوسع، فيوضع الاسم موضع المسمى مسامحة، فتدبر هذا، فإنه موضع كثر فيه الغلط وتاه فيه كثير من الجهال، "ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد" خصه بعد التعميم لخفاء شره، "ومن شر كل ذي عين" عطف خاص على عام؛ لأن كل عائن حاسد، ولا عكس، فلما كان الحاسد أعم، كان تقديم الاستعاذة منه أهم، قال عياض: فيه دليل على أن الحسد يؤثر في المحسود ضررًا ما في جسمه، بمرض أو في ماله، وذلك بإذن الله سبحانه. وقال ابن القيم: أعاذه من الحاسد؛ لأن روحه مؤذية للمحسود، مؤثرة فيه أثرًا بينًا، لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين. "وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين" أعاده لأنه ترك سابقًا بقينه، وهي: "وإذا استغسلتم" أي إذا طلب منكم أيها المتهمون بأنكم عنتم غسل الأعضاء الآتي بيانها، "فاغسلوا" ندبًا أو وجوبًا، وهو الأصح كما يأتي، ولأحمد والطبراني، وصححه الحاكم من حديث ابن عباس: العين حق تستنزل الحالق "بحاء مهملة" الجبل العالي. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "العين حق"، وزاد أحمد برجال الصحيح من حديثه، ويحضرها الشيطان وحسد اب آدم، وحديث: "العين حق تدخل الرجل القبر والجمل القدر"، رواه أبو نعيم وابن عدي من حديث أبي ذر، وفي إسنادهما مقال، "وظاهر الأمر" في قوله: فاغسلوا "الوجوب" لأنه الأصل فيه. "وحكى المازري: فيه خلافًا" بالوجوب والندب "وصحح الوجوب" وتبعه القرطبي، فقال: هو خطاب للعائن إذا فهم أنه أصاب بالعين، فيجب عليه الغسل، ويبعد "وقال" المازري: ويبعد الخلاف فيه "متى خشي الهلاك، وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به، فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى" قال: وبهذا التقرير يرتفع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي: أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كان بشعب الخرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة قال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل -أي صرع- وسقط إلى الأرض. فأتى   الخلاف. وقال ابن عبد البر: الأمر للوجوب؛ لأن الأمر حقيقته الوجوب، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينفعه ولا يضره، لا سيما إذا كان بسببه، وكان هو الجاني عليه، فواجب على العائن الغسل، "ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال". "قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع" وفي نسخة: وقعت: أي صفة الاغتسال "في حديث سهل بن حنيف" "بضم ففتح" "عند أحمد والنسائي" سقط من قلم المصنف قول الحافظ، وصححه ابن حبان من طريق الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وبه يصح قوله "إن أباه" أي أبا أبي أمامة وهو سهل بن حنيف، أما على السقط ففاسد، إذ تصير الصحبة لحنيف، ولا صحبة له، إنما هي لابنه سهل، "حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كان بشعب الخرار" "بفتح الخاء المعجمة والراء الأولى الشديدة" موضع قرب الجحفة، قاله ابن الأثير وغيره، وقال ابن عبد البر: موضع بالمدينة، وقيل: من أوديتها. انتهى. لكن يؤيد الأول قوله "من الجحفة: اغتسل سهل بن حنيف" وفي رواية مالك عن محمد بن أبي أمامة، عن أبيه، فنزع، أي سهل جبة كانت عليه، "وكان أبيض حسن" أي مليح "الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم" أي ما رأيت في يوم جلدًا في البياض والحسن كهذا الجلد، "ولا جلد مخبأة" "بضم الميم وخاء معجمة وموحدة وهمز" وهي المخدرة المكنونة التي لا تراها العيون ولا تبرز للشمس فتغيرها، يعني: أن جلد سهل كجلد المخبأة إعجابًا بحسنه. وفي رواية الك المذكورة: ولا جلد عذارء بدل مخبأة، فكأنه جمع بينهما، فاقتصر كل راو على ما سمعه، أو أحدهما بالمعنى، لكن لا شك أن مخبأة أخص، "فلبط سهل" "بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة"، "أي صرع وسقط إلى الأرض" وزنًا ومعنى. وقال ابن وهب: لبط: وعك، وكأنه فسره برواية مالك بلفظ: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، جمعًا بين الروايتين لاتحاد القصة والمخرج، ولا يتعين لجواز أن سقوطه من شدة وعكه، وهذا أولى إبقاء للفظين على حقيقتهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل تتهمون من أحد"؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرًا، فتغيظ عليه، فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت". ثم قال: "اغتسل له"، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم كفأ القدح ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس.   زاد في رواية: حتى ما يعقل لشدة الوجع، "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد مالك عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، فقيل له: يا رسول الله هل لك في سهل بن حنيف؟ والله ما يرفع رأسه "فقال: "هل تتهمون من أحد"؟ عانه، "قالوا:" نتهم "عامر بن ربيعة" وكأنهم لما قالوا ذلك ذهب صلى الله عليه وسلم إلى سهل لتثبت الخبر منه. ففي رواية مالك، عن محمد بن أبي أمامة، عن أبيه: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أن سهلًا وعك، وأنه غير رائح معك، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أن عامر بن ربيعة، "فدعا عامرًا، فتغيظ عليه، فقال: "علام" أي لم، وفيه معنى الإنكار "يقتل أحدكم أخاه" في الإسلام، أي يكون سببًا في قتله بالعين، زاد في رواية: وهو غني عن قتله، "هلا إذا رأيت ما يعجبك برت" به، كما هو الرواية، قال أبو عمر: أي قلت: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك فإذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة. وقال الباجي: أي قلت: بارك الله فيك، وللنسائي وابن ماجه عن أبي إمامة، وابن السني عن عامر بن ربيعة، كلاهما مرفوعًا: "إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه، فليدع له بالبركة". وروى ابن السني، عن سعيد بن حكيم قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئًا بعينه، قال: "اللهم بارك فيه ولا تضره"، "ثم قال: "اغتسل له" ولمالك عن محمد: توضأ له، وظاهر أنه ليس المراد الوضوء ولا الغسل الشرعيين، بل الصفة التي بينها، بقوله: "فغسل" عامر "وجهه ويديه" وفي رواية بدل هذا، وظاهر كفيه "ومرفقيه" زاد في رواية: وغسل صدره "وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح" زاد في رواية، قال: وحسبته قال: وأمر فحسًا منه حسوات، "ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره" وظاهره، أو صريحه أن الصاب غير العائن. ووقع عند ابن ماجه عن أبي أمامة: ثم دعا صلى الله عليه وسلم بماء، فأمر عامرًا أن يتوضأ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه "ثم كفأ" "بالهمز"، أي قلب "القدح، ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس" لزوال علته. قال المازري: المراد بداخلة إزاره الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن: "بفتح الحاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 قال المازري: وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج. انتهى. وزاد القاضي عياض: أن المراد ما يلي جسده من الإزار. وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل: أراد وركه لأنه معقد الإزار. ورأيت مما عزي لخط شيخنا الحافظ أبي الخير السخاوي: قال ابن بكير راويه عن مالك، إنه كناية عن الثوب الذي يلي الجلد. وقال ابن الأثير في النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته العين من أحد جاء إلى العائن بقدح فيه ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه في القدح ثم يغسل وجهه فيه، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على يده اليمنى، ثم يدخل يده   المهملة وسكون القاف موضع الإزار، وقيل: الحاضرة فقط، وهذا التفسير نقله ابن عبد البر عن ابن حبيب، وقال نحوه ابن وهب عن مالك. "قال المازري": "وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج" والجمهور على الأول. "انتهى" كلام المازري. "وزاد القاضي عياض: أن المراد ما يلي جسده من الإزار" بيان لما، فداخلة الإزار على قوله هي القطعة من الإزار التي تلاقي البدن، "وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد" أي أنه يغسل من بدنه ما ستره الإزار، فما قبله فسرها بما يلاقي البدن من الثوب، وهذا بما يلاقيه الثوب من البدن. "وقيل: أراد وركه" بفتح الواو وكسرها وسكون الراء، وبفتحها وكسر الراء ما فوق الفخذ مؤنثة، كما في القاموس، فقوله: "لأنه معقد الإزار" وجهه أنه لما كان قريبًا من محل عقده سماه معقدًا، "ورأيت ما عزى لخط شيخنا الحافظ أبي الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي". "قال ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي، مولاهم المصري، وقد ينسب إلى جده ثقة في الليث، وتكلموا في سماعه من مالك مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين وله سبع وسبعون سنة "راويه" أي الحديث "عن مالك" وهو من جملة رواة الموطأ؛ "إنه كناية عن الثوب الذي يلي الجلد". "وقال ابن الأثير في النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته العين من أحد جاء إلى العائن بقدح فيه ماء، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض" بغرفة منه "ثم يمجه في القدح، ثم" يأخذ منه ماء "يغسل وجهه فيه" أي القدح مرة واحدة، "ثم يدخل يده اليسرى" في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى المستعمل على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن الله تعالى، انتهى. قال المازري: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه.   القدح، "فيصب على يده اليمنى" صبة واحدة، "ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على يده اليسرى" واحدة "ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن" واحدة، "ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على مرفقه الأيسر" صبة واحدة، "ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على قدمه اليمنى" واحدة "ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على قدمه اليسرى" صبة واحدة "ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى" صبة واحدة فيهما، "ثم يغسل داخل إزاره، ولا يوضع القدح بالأرض" حتى يفرغ، "ثم يصب ذلك الماء المستعمل" فاعل يصب "على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة، فيبرأ بإذن الله تعالى. انتهى" كلام النهاية. وأصله من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري، وقال: إنه من العلم. رواه ابن أبي شيبة. قال ابن عبد البر: وهو أحسن ما فسر به؛ لأن الزهري راوي الحديث، زاد عياض: أن الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه، واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل، قال: وجاء من رواية عقيل عن الزهري مثله، إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، وفيه في غسل القدمين، أنه لا يغسل جميعهما، وإنما قال: ثم يفعل مثل ذلك من طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه، واليسرى كذلك. انتهى. وهو أقرب لقول الحديث: وأطراف رجليه، وهذه الصفة تنفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام، فقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يدفعه، بقوله: ألا بركت عليه، وفي رواية فليدع بالبركة كما مر. "قال المازري: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه" قال: وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة، أو متفلسف؛ فالرد عليه أظهر؛ لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله: الخواص. قال ابن القيم: ومن علاج ذلك والاحتراز عنه، ستر محاسن من يخاف عليه العين، بما يردها عنه، كما ذكره البغوي في كتاب شرح السنة: أن عثمان بن عفان رأى صبيًّا مليحًا، فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال في تفسيره، ومعنى دسموا نونته: أي سودوا نونته، والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصغير.   "وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع، قلنا: الله ورسوله أعلم" يعني أنه من التعبد كغيره من الأحكام التعبدية، "وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة" فوجب قبوله وإن لم يعقل معناه، "أو متفلسف، فالرد عليه أظهر؛ لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل" عنده "بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص" أي أنه تفعل بخاصية فيها، فليكن ذلك على قوله مثله، وهذا مجاراة للخصم وإن لم يقل به. وقال ابن القيم: هذه الصفة لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر بها، ولا من شك فيها، أو فعلها مجربًا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها، بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصة، فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية، بوضع اليد على بدن الغضبان، فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة من نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصًا، وفيه أيضًا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذًا، فتطفأ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء. انتهى. "قال ابن القيم: ومن علاج ذلك" أي دفع العين قبل حصولها "والاحتراز عنه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، كما ذكره البغوي" المتأخر، محيي السنة، صاحب التفسير "في كتاب شرح السنة أن عثمان بن عفان رأى صبيًّا مليحًا" أي حسنًا، "فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال" البغوي "في تفسيره" أي تفسير هذا اللفظ في كتاب شرح السنة: "ومعنى دسموا نونته، أي سودوا نونته، والنونة النقرة التي تكون في ذقن الصغير" "بفتح الذال والقاف" مجتمع اللحيين من أسفلهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 وذكر عن أبي عبد الله الساجي أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، فكان في الرفقة رجل عائن فلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتي سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبد الله، فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى. فقال: دلوني عليه، فوقف عليه فقال: بسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير. فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها. انتهى.   "وذكر" وأخرجه ابن عساكر وغيره "عن أبي عبد الله" واسمه سعيد بن يزيد "الساجي" "بسين مهملة وجيم" نسبة إلى الساج الخشب، كان له آيات باهرة وكرامات ظاهرة، "أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة" نشطة خفيفة، "فكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتي سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين" "بالنون" أي ترصد "غيبة" أي وقت غيبة، "أبي عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه" فدلوه على مكانه، "فوقف عليه، فقال بسم الله حبس" "بفتح فسكون"، كما سمعته من الوالد مرارًا ناقلًا له عن شيخه الأجهوري، فهو مبتدأ خبره بسم الله، أي منع "حابس" أي مانع تأثير ضرر عين العائن، "وحجر يابس" يصيب العائن، "وشهاب قابس" كوكب يحرق العائن، "رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه" ممن هو لى شكله، أو المراد أحب الأشياء إليه، فيصدق ببعض أجزائه كعينيه، "فارجع البصر هل ترى من فطور" صدوع وشقوق، "ثم ارجع البصر كرتين" كرة بعد كرة "ينقلب" يرجع "إليك البصر خاسئًا" ذليلًا لعدم إدراك خلل، "وهو حسير" منقطع عن رؤية خلل، "فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها" لفك العين عنها. "انتهى" وهذا من المجربات في إزالة أثر العين. ومما يدفع العين أيضًا ما ذكره القاضي حسين، أحد أئمة الشافعية، قال: نظر بعض الأنبياء إلى قومه يومًا فاستكثرهم وأعجبوه، فمات منهم في ساعة سبعون ألفًا، فأوحى الله إليه أنك عنتهم، ولو أنك إذ عنتهم حصنتهم لم يهلكوا، قال: وبأي شيء أحصنهم، فأوحى الله إليه، تقول: حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبدًا ودفعت عنكم السوء بلا حول ولا قوة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 وفي حديث هذا الباب من الفوائد: أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين قد تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الإصابة بالعين قد تقتل. وقد اختلف في جريان القصاص بذلك: فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئًا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا. انتهى. ولم تتعرض الشافعية للقصاص، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبًا ولا يعد   إلا بالله العلي العظيم. قال المعلق عن القاضي: وكانت عادة القاضي حسين إذا نظر إلى أصحابه فأعجبه سمتهم وحسن حالهم حصنهم بهذا. "وفي حديث هذا الباب: من الفوائد أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال" على الوجه المتقدم، "وإن الاغتسال من النشرة" "بضم النون" رقية يعالج بها المجنون والمريض، كما في القاموس: "النافعة" وتأتي للمصنف صفتها في الكلام على السحر، "وإن العين قد تكون مع الإعجاب، ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح" إذ لا شك أن عامر بن ربيعة من الصالحين؛ إذ هو من أهل بدر، وأسلم قديمًا، "وإن الذي يعجبه الشيء يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه" من قوله: ألا بركت، "وأن الإصابة بالعين قد تقتل" لقوله: علام يقتل أحدكم أخاه. "وقد اختلف في جريان القصاص بذلك، فقال القرطبي: ولو أتلف العائن شيئًا ضمنه، ولو قتل، فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه، بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا" وأما عندنا، فيقتل قتل بسحره أم لا؛ لأنه كالزنديق "انتهى" كلام القرطبي بما زدته. "ولم تتعرض الشافعية للقصاص" أي لم يقولوا به، فلا ينافي قوله: "بل منعوه" وإلا فمنعهم القصاص تعرض، "وقالوا: إنه" أي النظر الذي يصيب به "لا يقتل غالبًا، ولا يعد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 مهلكا. وقال النووي في "الروضة": ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام، دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلًا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة، وأيضًا: فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه في معناه، والفرق بينهما عسر. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم: أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره   مهلكًا". "وقال النووي في الروضة: ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف" يقتص من العائن "ولم يقع منه فعل أصلًا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة" "عطف تفسير، لحسد"، "وأيضًا: فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين. انتهى". لكن يقال عليه لما حصل زوال الحياة بالإصابة بالعين وإن لم يتعين في الأصل طلب بما يطلب به من أزال الحياة بالضرب مثلًا. "قال الحافظ ابن حجر: ولا يعجر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه في معناه" أي العائن، فإن السحر ليس بمنضبط ولا عام، والذي ينشأ عن حصول مكروه لا يتعين في زوال الحياة، "والفرق بينهما عسر". قال شيخنا: ويمكن الفرق بأن الساحر يحصل منه أفعال يضاف إليها القتل عادة، كالعزائم التي يقصد بها القتل، ولذا قالوا: يثبت السحر، بقوله: قتلته بسحري، وسحري يقتل غالبًا، أو بالقسم الفلاني، وشهد عدلان كانا يعرفان السحر وتابا أن هذا القسم يقتل غالبًا انتهى وتعسفه لا يخفى. "ونقل ابن بطال" العلامة أبو الحسن علي، "عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس" مخالطتهم، "وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه" أعطاه "ما يقوم به" وجوبًا من بيت المال وكف أذاه عن الناس، "فإن ضرره أشد من ضرر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر من مخالطة الناس وأشد من ضرر الثوم الذي منع أكله من حضور الجماعة. قال النووي: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه ذكر رقيته صلى الله عليه وسلم. زاد المصنف هنا وفي شرحه في التي كان يرقى بها عن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: قل اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقمًا. رواه البخاري. وقوله: "اذهب الباس": بغير همزة للمواخاة، وأصله الهمز.   المجذوم الذي منعه عمر" بن الخطاب والعلماء بعده "من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم" بضم المثلثة "الذي منع آكله" أي منعه النبي صلى الله عليه وسلم "من حضور الجماعة" بالمسجد لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بإبعادها إلى حيث لا يتأذى بها، هذا بقية نقل ابن بطال. "قال النووي" تبعًا لعياض، "وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه" فيعمل به، "ذكر رقيته صلى الله عليه وسلم" هذه الترجمة للبخاري بلفظ: باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم. "زاد المصنف هنا، وفي شرحه في التي كان يرقى بها" غالبًا من الرقى العامة، لا في داء بعينه، فلا يرد أن ما كان يرقى به لا يختص بهذه "عن عبد العزيز" بن صهيب البناني بموحدة ونونين، البصري، مات سنة ثلاثين ومائة، "قال: دخلت أنا وثابت" بن أسلم البناني أبو محمد البصري، مات سنة بضع وعشرين ومائة وله ست وثمانون سنة "على أنس بن مالك فقال ثابت: يا أبا حمزة" بمهملة وزاي كنية أنس، "اشتكيت" بضم التاء، أي مرضت. وفي رواية: إني اشتكيت، "فقال أنس: ألا" "بتخفيف اللام للعرض والتنبيه "أرقيك" بفتح الهمزة "برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم" من إضافة المصدر إلى فاعله، أي بالرقية التي كان يرقى بها، وحديث مسلم السابق في المصنف يدل على أن الإضافة في مثل هذه للمفعول، كما في الفتح، "قال" ثابت: "بلى" ارقني، "قال: قل اللهم رب الناس مذهب" بضم الميم وكسر الهاء "الباس" الشدة "اشف" بكسر الهمزة "أنت الشافي" فيه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن ما لم يوهم نقصًا، وكان له أصل في القرآن كهذا، ففيه: وإذا مرضت فهو يشفين، "لا شافي إلا أنت" إذ لا ينفع الدواء إلا بتقديرك، "شفاء" بالنصب على أنه مصدر اشف، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي هو "لا يغادر سقمًا" بفتحتين وبضم ثم سكون "رواه البخاري" في الطب. "وقوله: أذهب" كذا في النسخ تبعًا للفتح، مع أن المصنف قدمه بلفظ: مذهب، وضبطه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 وفي قوله: "لا شافي إلا أنت" إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله وإلا فلا ينجع. وقوله: "لا يغادر" -بالعين المعجمة- أي لا يترك. وفي البخاري أيضًا عن مسروق عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس اذهب البأس، واشفه وأنت الشافعي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا". وقوله "يمسح بيده" أي على الوجع.   في شرحه "بضم الميم" "البأس بغير همز للمواخاة" لقوله الناس، "وأصله الهمز". زاد المصنف في شرحه، وفي الفرع "بالهمز على الأصل". "وفي قوله: لا شافي إلا أنت إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله، وإلا فلا ينجع" جواب الشرط الأول، وجواب الثاني، وهو: وإلا محذوف، أي نجع، أي إن لم يصادف لم ينجع، وإن صادف نجع. "وقوله: لا يغادر -بالغين المعجمة- أي لا يترك سقمًا إلا أذهبه. "وفي البخاري أيضًا" تلو هذا الحديث، وبعده بباب "عن مسروق" بن الأجدع بن مالك الهمداني، الوادعي، الكوفي، الفقيه، العابد، المخضرم، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين "عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ" "بضم الياء وكسر الواو الثقيلة وذال معجمة"، أي يطلب من الله عصمة "بعض أهله". قال الحافظ: لم أقف على تعيينه، "يمسح بيده اليمنى" على الوجع، على طريق التفاؤل لزوال ذلك الوجع قاله الطبري، وظاهر الحديث: كان المسح بحائل أم لا، لكن الأولى بلا حائل إلا لمانع، ككون المرض بالعورة، "ويقول: "اللهم رب الناس أذهب" "بهمزة مفتوحة قبل الذال" "البأس". قال المصنف: "بالهمز في فرع اليونينية، والمشهور حذفه ليناسب سابقه" "واشفه" "بكسر الهاء" أي العليل، أو هي هاء السكت، "وأنت الشافي بإثبات الواو في الكلمتين للحموي والمستملي، وحذفها فيهما للكشميهني، "لا شفاء" "بالمد مبنى على الفتح والخبر محذوف، أي حاصل لنا أو له "إلا شفاؤك شفاء" أي اشف "شفاء لا يغادر سقمًا" "التنوين للتقليل". "وقوله: يمسح بيده، أي على الوجع" تفاؤلًا لزوال ذلك الوجع، "وقوله: إلا شفاؤك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 وقوله "إلا شفاؤك" بالرفع بدل من موضع: لا شفاء. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي يقول: "امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت". رواه البخاري أيضًا. وفي صحيح مسلم، عن عثمان بن أبي العاص، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله، ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".   بالرفع بدل من موضع لا شفاء". وقال في المصابيح: الكلام في عرابه، كالكلام في لا إله إلا الله, ولا يخفى أنه بحسب صدر الكلام نفي لكل إله سواه تعالى، وبحسب الاستثناء إثبات له وللألوهية؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، لا سيما إذا كان بدلًا، وأنه يكون هو المقصود بالنسبة، ولهذا كان البدل الذي هو المختار في كل كلام تام غير موجب بمنزلة الواجب في هذه الكلمة الشريفة، حتى لا يكاد يستعمل لا إله إلا الله بالنصب، ولا إله إلا إياه، فإن قيل: كيف يصح، مع أن البدل هو المقصود، والنسبة إلى المبدل منه سلبية فالجواب إنما وقعت النسبة إلى البدل بعد النقض بإلا، فالبدل هو المقصود المعتبر في المبدل، منه لكن بعد نقضه ونفي النفي إثبات. "وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي" "بفتح أوله وكسر القاف" وهو بمعنى قوله في الرواية قبله: كان يعوذ، حال كونه "يقول: امسح" أي أزل، وهو بمعنى الرواية قبله: أذهب "البأس" الضرر "رب الناس، بيدك الشفاء" لا بيد غيرك، "لا كاشف له" أي المرض "إلا أنت" وهو بمعنى قوله: اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، "رواه البخاري أيضًا" تلو الحديث قبله من الباب المذكور، وهذا من إفراده عن مسلم. "وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي، الطائفي، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، ومات بالبصرة في خلافة معاوية، "أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم". وفي الموطأ قال عثمان: وبي وجع قد كاد يهلكني، "فقال" له "النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك" اليمنى "على الذي تألم" "بفتح اللام" "من جسدك". وفي رواية الطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان الذي تشتكي، فامسح بها سبع مرات، وفي الموطأ، فقال: امسحه بيمينك سبع مرات، "وقل: بسم الله" أي هذا اللفظ "ثلاثًا" من المرات، "وقل سبع مرات: أعوذ" أعتصم "بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 وإنما كرره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة.   وجعي هذا، كما زاده في حديث أنس عند الترمذي، وحسنه، والحاكم، وصححه عن محمد بن سالم، قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد إذا اشتكيت، فضع يدك حيث تشتكي، ثم قال: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا، ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترًا، قال: فإن أنس بن مالك حدثني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني بذلك. وفي رواية الطبراني والحاكم عن عثمان أنه يقول ذلك في كل مسحة من السبع. ومعنى أحاذر: أخاف، زاد في رواية الموطأ: قال عثمان: فقلت ذلك، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم، وهذا من الأدوية الإلهية والطب النبوي، لما فيه من ذكر الله والتفويض إليه والاستعاذة بعزته وقدرته. قال بعضهم: ويظهر أنه إذا كان المريض نحو طفل، أن يقول من يعوذه من شر ما يجد ويحاذر، وأن يقول: أعيذك، قال شيخنا: ويحتمل أن يقول هذا اللفظ مطلقًا، تبركًا بالمروي، ويلاحظ أن المعنى ما أجده بهذا المريض وأخافه عليه، لكن يؤيد الأول حديث البخاري عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق"، "وإنما كرره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء" الطبيعي "لإخراج المادة" أي لاستقصاء إخراجها، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها، وقد حض صلى الله عليه وسلم على السبع في غير ما موضع، بشرط قوة اليقين وصدق النية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الفزع والأرق المانع من النوم:] عن بريدة قال: شكا خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل.   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الفزع والأرق المانع من النوم: الفزع: الخوف والأرق، "بفتحتين" السهر بالليل، ولم يذكر تحت الترجمة شيئًا للفزع، فلعله أراد الأرق ونحوه من كل ما يحذر، ومنه الفزع، وربما يشعر به قول الحديث: من شر خلقك كلهم، ويحتمل؛ أنه بيض لذكر حديث للفزع فنسي، وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أروع في منامي، فقال له صلى الله عليه وسلم: "قل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون"، "عن بريدة" ابن الحصيب "بالتصغير فيهما وحاء وصاد مهملتين" الأسملي، الصحابي المشهور، "قال: شكا خالد" بن الوليد المخزومي سيف الله "إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 من الأرق، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السماوات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جارًا من شر خلقك كلهم جميعًا أن يفرط علي أحد منهم أو يبغي علي، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك". رواه الترمذي.   النبي صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق" السهر، ثم يحتمل أنه أراد الليل كله أو معظمه، كخبر: لا يضع العصا عن عاتقه، "فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت" "بقصر الهمزة" على الأفصح، قال شيخ الإسلام وغيره: إن كان أوى لازمًا كما هنا، فالقصر أفصح وإن كان متعديًا، كالحمد لله الذي آوانا، فالمد أفصح، عكس ما وقع لبعضهم "إلى فراشك" أي انضممت إليه ودخلت فيه لتنام، "فقل" استحبابًا: "اللهم رب السماوات السبع وما أظلت" أي سترت، "ورب الأرضين السبع"، كما في الترمذي، فسقط من المصنف: "وما أقلت" أي حملت، "ورب الشياطين وما أضلت" أغوت، وعبر بما إرادة للعموم، نحو: لله ما في السماوات وما في الأرض، "كن لي جارا" أي مجيرًا، مؤمنًا لي مما أخاف "من شر خلقك كلهم جميعًا" جمع بين التأكيدين زيادة في التأكيد، "أن يفرط" "بضم الراء، أي يتعدى" "علي أحد منهم" بكلام أو غيره، يؤذيني "أو يبغي علي" أي يظلمني ويعتدي "عز" غلب "جارك" من أجرته، "وجل" عظم "ثناؤك" "بالمد" مدحك، فلا يمكن إحصاره، "ولا إله غيرك" يرجى لكشف الضر وإجابة الدعاء، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، "رواه الترمذي" في سننه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 [ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى] : في المسند مرفوعًا: "ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: "إنا لله وإنا إليه   ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى: "في المسند" يطلق، كما في الألفية على المرفوع وعلى المتصل، وهو المراد بقوله: "مرفوعًا" ولا ينبغي أن يريد مسند أحمد لئلا يعاب بقصر العزو له، مع أن هذا الحديث أخرجه أحمد ومسلم ومالك وأصحاب السنن، عن أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ما من أحد" وفي رواية: ما من مسلم، وأخرى: ما من عبد. قال الطيبي: نكرة وقعت في سياق النفي، وضم إليها من الاستغراقية لإفادة الشمول "تصيبه مصيبة" أي مصيبة كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة"، رواه ابن السني. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها". قال في الهدى النبوي: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عالجته وأجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته. أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.   قال الباجي: لفظ مصيبة موضوع في أصل كلام العرب لكل من ناله خير أو شر، لكن خص في عرف الاستعمال بالرزايا والمكاره، "فيقول" زاد في رواية، كما أمره الله، أي بالثناء والتبشير لقائله المقتضى ندبه، والمندوب مأمور به على المختار في الأصول، "إنا لله" ملكًا وعبيدًا يفعل بنا ما يشاء "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجازينا، "اللهم أجرني" "بقصر الهمزة وضم الجيم وسكون الراء". قال عياض: يقال أجر "بالقصر والمد"، والأكثر أنه مقصور لا يمد، أي أعطني أجري وجزاء صبري وهمي "في مصيبتي، واخلف" "بقطع الهمزة وكسر اللام" "لي خيرًا منها إلا أجره الله" أثابه وأعطاه الأجر "في مصيبته، واخلف له خيرًا منها" فينبغي لكل من أصيب بمصيبة أن يفزع إلى ذلك تأسيًا بكتاب الله وسنة رسوله. قال ابن جريج: ما يمنعه أن يستوجب على الله ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها، صلوات الله ورحمته والهدى، قاله أبو عمر بن عبد البر. وبقية الحديث قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها: فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم. "قال" ابن القيم "في الهدي النبوي: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته" الدنيا، "وآجلته" الآخرة، "فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق" أي اتصف "العبد بمعرفتهما، تسلي عن مصيبته" وصبر "أحدهما" أي الأصلين؛ "إن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير" وقد ضربت المثل بالعارية أم سليم لزوجها أبي طلحة لما مات ابنه منها أبو عمير وتحته في جانب البيت، وكان أبو طلحة خارجًا عنه، فلما جاء قال: كيف الغلام؟، قالت: هدأت نفسه، وأرجو أنه استراح، وقربت له العشاء، فتعشى، ثم تطيبت وتعرضت له حتى واقعها، فلما أراد أن يخرج، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا قد أعاروا أهل البيت عارية، فطلبوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات وبالسيئات، فإذا كانت هذه الحالة بداية العبد ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء. قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير في إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وإن سرور الدنيا أحلام نوم، أو ظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور. قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا.   عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟، قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني، واسترجع، ثم صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بما كان منهما، فقال: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما". وفي رواية اللهم بارك لهما، فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة، قال بعض الأنصار: فرأيت له تسعة أولاد، كلهم قد قرءوا القرآن، كما مر ذلك مبسوطًا في الصحيحين وغيرهما. "والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ويجيء ربه فردًا" كما قال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] ، "كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن" يأتي "بالحسنات" إن كان محسنًا، "وبالسيئات" إن كان مسيئًا، "فإذا كانت هذه الحالة بداية العبد ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى" أي يحزن "على مفقود، ففكره في مبدئه، ومعاده" عوده يوم القيامة، "من أعظم علاج هذا الداء، قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي" الاقتداء "بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وإن سرور الدنيا أحلام نوم" تشبيه بليغ بحذف الأداة، "أو ظل زائل" عن قريب، "إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا" زمنًا طويلًا، "وإن متعت قليلًا" بشيء من زهرتها "منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرة" "بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة" أي نعمة وسعة "إلا ملأتها عبرة" "بفتح المهملة" الدمع قبل أن يفيض، أو تردد البكاء في الصدر، أو الحزن بلا بكاء: جمعها عبرات، كما في القاموس، "ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور". "قال ابن مسعود" عبد الله الصحابي: "لكل فرحة ترحة" "بفتح الفوقية وسكون الراء"، هم: "وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا" "بفتحتين"، أي هما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب} : والكرب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرضين ورب العرش الكريم"، رواه الشيخان. وقوله: "عند الكرب" أي عند حلول الكرب.   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الهم والكرب بدواء التوجه: إضافة بيانية، أي بدواء هو التوجه "إلى الرب" الهم الفكر فيما يتوقع حصوله من أذى حزن، كما في السبل، وفي القاموس: الهم: الحزن، جمعه هموم، "والكرب" الحزن بالنفس، كالكربة بالضم، والإضافة بيانية فيهما، أي من داء هو الهم والكرب، أو المراد بالداء الأثر الحاصل من الهم، من نحو سهر ومرض وصفرة ونحول، فالإضافة حقيقية. "عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب" "بفتح الكاف وسكون الراء فموحدة" وهو ما يدهم الإنسان، فيأخذ بنفسه، فيغمه ويحزنه: "لا إله إلا الله العظيم" المطلق، البالغ أقصى مراتب العظمة، الذي لا يتصوره عقل، ولا يحيط بكنهه بصيرة، ولا شيء يعظم عليه، "الحليم" الذي لا يستفزه غضب، ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام، فيؤخره مع القدرة عليه، "لا إله إلا الله رب العرش العظيم" "بالجر" "لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرضين، ورب العرش الكريم" "بجره"، كالعظيم قبله نعت للعرش في رواية الجمهور. ونقل ابن التين عن الداودي؛ أنه رواه برفع العظيم والكريم نعتان للرب، أو نعتان للعرش، على أنه خبر مبتدأ محذوف، قطع عما قبله للمدح، ورجح بحصول توافق القرائن، ورجح بعضهم الأول، بأن وصف الرب بالعظيم والكريم أولى من وصف العرش بهما، وتعقب بأن وصف ما يضاف للعظيم بالعظيم أقوى من تعظيم العظيم، وقد نعت الهدهد عرش بلقيس؛ بأنه عرش عظيم، ولم ينكر عليه سلميان، ووصف العرش بالكرم؛ لأنه الرحمة تنزل منه، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين. قال الطيبي: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب؛ لأنه يقتضي التربية، "رواه الشيخان" في الدعوات بهذا اللفظ من طريق هشام، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، "وقوله عند الكرب، أي عند حلول الكرب" أي نزوله وقيامه به، "وعند مسلم" من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 وعند مسلم: كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب. وعنده أيضًا: كان إذا حزبه أمر -وهو بفتح المهملة والزاي- أي هجم عليه أو غلبه. قال الطبري: معنى قول ابن عباس "يدعو", وإنما هو تهليل وتعظيم، يحتمل أمرين: أحدهما، أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء، كما عند عبد بن حميد "كان إذا حزبه أمر قال ... " فذكر الذكر المأثور، وزاد، ثم دعا. قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة وقد سئل عن الحديث الذي فيه "أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه   طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يدعو بهن" أي بالكلمات المذكورة بعطف التفسير، بقوله: "ويقولهن عند الكرب" فذكره بمثل حديث هشام، غير أنه قال رب السماوات والأرض، قاله مسلم، أي أنه أسقط رب قبل الأرض، وهذا على عادة مسلم في تحري الألفاظ، "وعنده أيضًا" من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي العالية، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا حزبه أمر" فذكر مثله، "وهو بفتح المهملة والزاي" المنقوطة وموحدة، "أي هجم عليه أو غلبه" وهما متقاربان. "قال الطبري: معنى قول ابن عباس: يدعو، وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين". "أحدهما أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء" ولا يبعده قوله يدعو بهن؛ لأن المراد يدعو ملتبسًا أو متوسلًا بهن، "كما عند" "بالنون" "عبد" بلا إضافة "ابن حميد" أحد الحفاظ، أي كما رواه في مسنده، بلفظ: "كان إذا حزبه أمر ال فذكر الذكر المأثور" أي: لا إله إلا الله إلى آخره، "وزاد: ثم دعا" وكذا هو عند أبي عوانة في مستخرجه، بلفظ: ثم يدعو، ورواه الطبراني في الكبير، وزاد في آخره: اصرف عني شر فلان، أي يعينه باسمه، فإن له أثرًا بينًا في دفع شره. "قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش" سليمان بن مهران، "عن إبراهيم" النخعي، "قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء" أي قدمه عليه، فالظرف بيان للمقدم عليه، "استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء" في الاستجابة وعدمها. "ثانيهما: ما أجاب به" سفيان "ابن عيينة، وقد سئل عن الحديث الذي فيه أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث" وقد رواه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 دعاء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضك الثناء   ابن أبي شيبة عن علي، مرفوعًا: "أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، "فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم" فيما يرويه "عن ربه عز وجل" بواسطة الملك أو بدون واسطة، وجهان في جميع الأحاديث الإلهية: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" تصريح الدعاء. "وقال أمية بن أبي الصلت" عبد الله بن ربيعة الثقفي: كان يتعبد في الجاهلية ويؤمن بالبعث، وينشد في ثنائه الشعر المليح، ويطمع في النبوة، وأدرك الإسلام ولم يسلم، ومات في حصار الطائف سنة ثمان كافرًا. وفي مسلم عن الشريد بن سويد: أنه أنشد النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية مئة بيت، وفي ابن عساكر وغيره مرفوعًا: "آمن شعر أمية بن أبي الصلت وكفر قلبه" "في مدح عبد الله بن جدعان" "بضم الجيم وإسكان الدال، ثم عين مهملتين، فألف، فنون" ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي، يكنى أبا زهير، وهو أحد من حرم الخمر في الجاهلية، وابن عم عائشة، ولذا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك؟، فقال: "لا. إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". رواه مسلم: "أأذكر حاجتي أم قد كفاني" يحتمل أن الاستفهام تقريري والظاهر أنه استفهام إنكاري أي لا أذكرها بل قد كفاني "حياؤك" بفتح المهملة والتحتية والمد، عن ذكر حاجتي، "إن شيمتك" "بمعجمة" طبيعتك التي خلقت عليها "الحياء" المقتضى مزيد الكرم، المغني عن ذكر الحاجة، ويحتمل أنه "بكسر الحاء وموحدة فيهما" أي عطاؤك بلا عوض "إذا أثنى عليك" أي مدحك "المرء يومًا" قطعة من الزمان لا حقيقة اليوم، "كفاه من تعرضك" "مصدر مضاف لمفعوله"، أي كفاه من سؤاله لك، أو من طلب معروفك "الثناء" أي ثناؤه عليك، وأنشده غير المصنف من تعرضه الثناء، وهو ظاهر، والمعنى على الضبط الأول: إن الثناء عليك يحملك على البحث عن حاجة المثنى والتقيد بأمره، فيكفيه ذلك عن ذكرها. وعلى الثاني: إن عطاءك بمعنى إعطائك، يغني ذا الحاجة عن السؤال، ويجعل مجرد الثناء كافيًا، بل لا يحتاج إليه، فإن مجرد علمك بالحاجة كاف في بذل معروفك، فليس القصد بالثناء إلا مجرد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 فهذا المخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق. ثم إن حديث ابن عباس هذا -كما قال ابن القيم- قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز عن المسيء، ووصفه بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوي والسفلي والعرش والكرسي، الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها، والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل   الحضور عندك، وبعد البيتين: كريم لا بغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تيم وأنت لها سماء "فهذا المخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق" وأيد الاحتمال الثاني بحديث سعد بن أبي وقاص، رفعه: دعوة ذي النون إذ دعا، وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له. أخرجه الترمذي والنسائي، وفي لفظ للحاكم: فقال رجل: كانت ليونس، خاصة أم للمؤمنين عامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم تسمع إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين} " [الأنبياء: 88] ، "ثم إن حديث ابن عباس هذا كما قاله ابن القيم" ف زاد المعاد في هدى خير العباد، "قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية" بكلمة الإخلاص، وكونه رب كل شيء، وذلك أصل التنزيهات الجلالية، "ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم" بقوله: العظيم الحليم، "وهاتان الصفتان" أي التوحيد والوصف "مستلزمتان لكمال القدرة" من لفظ العظيم؛ لأن العظمة دالة على كمال القدرة "والرحمة والإحسان والتجاوز عن المسيء" بقوله: الحليم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية، "ووصفه بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوي والسفلي والعرش والكرسي". كذا في بعض النسخ، وفي أكثرها سقوطه والكرسي، وهو الذي في الهدي "الذي هو" أي العرش "سقف المخلوقات" لارتفاعه عن جميعها، فهو مظل على جميل العالم، كالسقف، "وأعظمها" جرمًا، "والربوبية التامة تستلزم توحيده، وإنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجه محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور وما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى أو أحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها هذا الحديث وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وإنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها. قال ابن بطال: حدثني أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم فقال له شيخ: إن أبا بكر بن علي قد سعي به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفيته بالتسبيح لا يفتر، فقال لي   وسلب كل نقص وتمثيل عنه" وذلك أصل التنزيهات الجلالية، كما قاله الطيبي؛ "وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه" إذ الحليم الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، كما مر، "فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب" إذا ورد عليه ما سبق عند علمه بكمال العظمة ... إلخ "أولى أو أحرى" عطف مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ، "ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها هذا الحديث وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق وخروج القلب منه إلى سعة البهجة" أي إلى السعة الحاصلة للداعي بسبب ما قام به من البهجة "والسرور، إنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه" أي في ذاته "أنوارها وباشر قلبه حقائقها" لا من لم يصل إلى ذلك. "قال ابن بطال" العلامة المحدث أبو الحسن علي شارح البخاري: "حدثني أبو بكر الرازي" "قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم" الحافظ أحمد بن عبد الله الأصبهاني، صاحب الحلية وغيرها، "فقال له شيخ: إن أبا بكر بن علي" لفظ ابن بطال، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي، عليه مدار الفتيا، "قد سعى به عند السلطان، فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفيته بالتسبيح" أي تنزيه الله تعالى "لا يفتر" عنه فهو منه كغيره من الملائكة، كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل، كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 النبي صلى الله عليه وسلم قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه، قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يمكث إلا قليلًا حتى أخرج. وفي حديث علي عند النسائي وصححه الحاكم: لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أن شدة أن أقولها: "لا إله إلا الله الكريم العظيم، سبحان الله تبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين"، وفي لفظ: "الحليم الكريم" في الأول، وفي لفظ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي لفظ "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحانه، تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين". أخرجها كلها النسائي.   لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، "فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه" بخلاصه من السجن، "قال: فأصبحت، فأخبرته" بهذا المنام "فدعا به، فلم يمكث إلا قليلًا حتى أخرج" من السجن. "وفي حديث علي عند النسائي: وصححه الحاكم" وابن حبان: "لقنني" خاطبني شفاهًا، وفهمني "رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة، وأمرني إن نزل بي كرب" حزن يأخذ بنفسي، "أو شدة" من نحو مرض، "أن أقولها" وهي: "لا إله إلا الله الكريم" المعطي فضلًا، "العظيم" الذي لا شيء يعظم عليه، "سبحان الله" تنزيهًا له عما لا يليق بعلي قدره، "تبارك الله" تعالى وتكاثر خيره، "رب العرش العظيم" "بالجر فقط" هنا صفة للعرش لا بالرفع لتقدم وصف الله تعالى به، "والحمد لله رب العالمين" أي ملك جميع الخلائق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم، وكل منها يطلق عليه عالم، يقال عالم الإنس وعالم الجن، إلى غير ذلك، وغلب في جمعه "بالياء والنون" أولو العلم على غيرهم، وهو من العلامة؛ لأنه علامة على موجده. "وفي لفظ: "الحليم الكريم" في الأول" أي أنه أبدل العظيم بالحليم. "وفي لفظ" أي رواية "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العليم" لكل معلوم، أو البالغ في العلم، فعلمه تعالى شامل لجميع المعلومات، محيط بها، سابق على وجودها، "العلي" فعيل من العلو، وهو البالغ في علو مرتبته إلى حيث لا رتبة إلا وهي منحطة عنه، "العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له" أعاده ليكون أنجع وأغلب. "وفي لفظ: "لا إله إلا الله، الحليم الكريم، سبحانه تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين"، أخرجها كلها النسائي" أحمد بن شعيب المصري، أبو عبد الرحمن، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم". وعنده أيضًا من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: "يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث". قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير قوله: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" في رفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة "الحياة" متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، صفة "القيومية" متضمنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا كان الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم، والحياة   أحد الحفاظ، فينبغي للمكروب، أن يأتي بجميع هذه الروايات؛ لأنها كلها فيها حث أكيد، واختلاف ألفاظها إن كان من الرواة، فيتأكد ذكر جميعها حتى يصادف لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان نطق بجميعها في أوقات، فيتعين التأسي به في ذكر جميعها. "وروى الترمذي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر" أقلقه وأزعجه، "رفع طرفه" بصره "إلى السماء" متسغيثًا متضرعًا، "فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم" من أبنية المبالغة، والقيم معناه: القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله، والقيوم: القائم بنفسه مطلقًا لا بغيره، ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به، "وعنده أيضًا من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه" "بحاء مهملة وزاي وموحدة مفتوحات" "أمر" أي هجم عليه، أو غلبه، أو نزل به هم، أو غم، وفي رواية: حزنه "بنون"، أي أوقعه في الحزن، يقال: أحزنني الأمر وحزنني، فأنا محزون، ولا يقال: محزن. ذكره ابن الأثير، "قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" مما نزل بي؛ "قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير قوله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث في رفع هذا الداء" الكرب الذي نزل به "مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال" لأن معنى القيوم: الدائم القائم بتدبير الخلق وحفظه على أحسن الأحوال وأجمعها، "ولهذا كان الاسم الأعظم الذي إذا دعي به" الله سبحانه "أجاب: وإذا سئل به أعطى، هو اسم الحي القيوم" في أحد الأقوال، والإضافة بيانية، أي الاسم الذي هو الحي القيوم، "والحياة التامة" صفة "تضاد جميع الآلام والأسقام، ولهذا لما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 التامة تضاد جميع الآلم والأسقام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات. فالتوسل بصفة "الحياة والقيومية" له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال. فلهذا الاسم "الحي القيوم" تأثير عظيم خاص في إجابة الدعوات وكشف الكربات ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم". وروى أبو داود عن أبي بكر الصديق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت". وفي هذا الدعاء -كما قاله في زاد المعاد- من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده، والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه كله ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده، مما له تأثير في دفع   كملت حياة أهل الجنة، لم يلحقهم هم، ولا غم، ولا حزن، ولا شيء من الآفات، فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة" أي يخالفها "ويضر بالأفعال" "بضم أوله من أضر لتعديه بالباء" فإن تعدي بنفسه، فمن ضر نحو: لن يضروكم، "فلهذا الاسم الحي القيوم تأثير عظيم خاص في إجابة الدعوات وكشف الكربات، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء، قال: "يا حي يا قيوم" كما في الحديث قبله. "وروى أبو داود" في الأدب، وأحمد والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان، وصححه "عن أبي بكر الصديق" كذا في النسخ والذي في أبي داود: ومن ذكرت معه إنما هو عن أبي بكرة، واسمه نفيع ن الحارث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوات المكروب" المغموم المحزون، أي الدعوات النافعة له، المزيلة لكربه، وكأنه جمعها لاشتمالها على أفراد، كأنها محيطة بجميع دعوات المكروب، لاشتمالها على ما هو جامع لكشف كل كرب، أو المراد: أن هذا من جملتها "اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" ختمه بهذه الكلمة الحضورية الشهودية إشارة إلى أن الدعاء إنما ينفع المكروب ويزيل كربه إذا كان مع حضور وشهود، ومن شهد فيه بالتوحيد والجلال مع جمع الهمة وحضور البال، فهو حري بزوال الكرب في الدنيا، والرحمة ورفع الدرجات في العقبى. "وفي هذا الدعاء، كما قاله في زاد المعاد" في هدي خير العباد؛ "من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه كله، ولا يكله إلى نفسه" ولا أقل قليل، لقوله: طرفة عين، "والتوسل إليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 هذا الداء. وكذا قوله في حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود مرفوعًا: "كلمات الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا". وفي مسند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي   بتوحيده" شيء عظيم "مما له" "بميمين"، متعلق بما قدرنا "تأثير" نفع زائد على غيره "في دفع هذا الداء". وفي نسخة: ما له "بميم واحدة، وهو المبين المقدم عليه بيانه" أي في هذا الدعاء شيء عظيم له تأثير من تحقيق الرجاء إلى آخره؛ "وكذا قوله في حديث أسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر الخثعمية، صحابية لها أحاديث، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين، "عند أبي داود، مرفوعًا: "كلمات الكرب" الدعوات النافعة له بشرط صدق النية وخلوص الطوية: "الله" "بالرفع مبتدأ والخبر" "ربي لا أشرك به" أي بعبادته "شيئًا" من الخلق برياء أو طلب أجر، كمن يسره أن يطلع على عمله، أو المراد: لا أشرك بسؤاله أحدًا غيره، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 20] . وقد رواه بأتم منه ابن أبي الدنيا، عن أسماء بنت عميس، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصابه غم أو سقم أو شدة أو لأواء أو أزل، فقال: الله الله ربي، لا أشرك به، كشف ذلك عنه"، ورواه الخطيب عنها مرفوعًا: "إذا أنزل بأحدكم غم، أو هم، أو سقم، أو لأواء وأزل، فليقل: الله الله ربي، لا أشرك به شيئًا ثلاث مرات". وللطبراني في الأوسط، عن عائشة مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم هم أو لأواء، فليقل: الله الله ربي، لا أشرك به شيئًا". وللنسائي عن عمر بن عبد العزيز، مرسلًا، مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم هم، أو حزن، فليقل سبع مرات: الله الله ربي، لا أشرك به شيئًا"، وذكر الجلالة مرتين استلذاذًا بذكره واستحضارًا لعظمته وتأكيدًا للتوحيد، فإنه الاسم الجامع للصفات الجلالية والجمالية والكمالية. "وفي مسند الإمام أحمد" وابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم، "من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدًا" أي مسلمًا، ففي رواية الثلاثة. المذكورين: ما أصاب مسلمًا قط "هم" فكر فيما يتوقع حصوله من أذى "ولا حزن" "بضم فسكون"، "فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك" "برفع ابن صفة ثانية لعبدك، فهو من تعدد الصفات، بحذف العاطف، فتكتب الألف والمراد بالعبد والأمة الجنس الصادق بجميع أصوله، وبهذا يظهر قوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 بيدك، ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزن وهمه، وأبدله مكانه فرحًا". وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعي وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده، يصرفها كيف يشاء، وإثبات القدر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها، والله سبحانه وتعالى عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، ثم توسله   الآتي: وعبودية آبائه وأمهاته، "ناصيتي بيدك" الناصية قصاص الشعر، جمعها النواصي، كما في المصباح. وفي القاموس: وقصاص الشعر مثلثة، حيث ينتهي منبته من مقدمه ومؤخره، ولم يرد الناصية خاصة، فهو كخبر الخيل في نواصيها الخير "ماض" أي: نافذ "في حكمك" لا انفكاك لي عنه، ولا حيلة في دفعه، "عدل في قضاؤك" حكمك، لا جور فيه ولا ظلم، "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك" أي جنسه، فيصدق بجميع كتبه المنزلة، "أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت" اختصصت "به في علم الغيب عندك" فلم يطلع عليه أحدًا، "أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي" لأرتع في زهور معارفه "ونور صدري". وفي رواية ابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم: ونور بصري بدل صدري، فينبغي للداعي أن يجمع بينهما، "وجلاء" "بكسر الجيم والمد"، أي كاشف "حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحًا" أي سرورًا. وفي رواية الثلاثة الذين ذكرتهم: "إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحًا"، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلم هذه الكلمات، قال: "بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن"، "وإنما كان هذا الدعاء" المذكور "بهذه المنزلة" الرتبة العلية، "لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعي وعبودية آبائه وأمهاته" وذلك صفة الإنسان الحقيقية، "وإن ناصيته" أي: جملته "بيده" قدرته، "يصرفها" أي يقلبها "كيف يشاء" وعبر عن ذلك بالناصية، إشارة إلى أنه بمنزلة الأسير الذي يجره آسره بشعر رأسه، ليفعل به ما يريده، "وإثبات" "بالجر عطف على عبودية الداعي" "القدر" "بفتحتين" "وإن أحكام الرب تعالى نافذة" "بالمعجمة" "في عبده، ماضية فيه" هو بمعنى ما قبله، حسنه اختلاف اللفظ، "لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها" عنه بوجه، "والله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 بأسماء الرب تعالى التي سمى بها نفسه، ما علم العباد منها، وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله تعالى، وأقربها تحصيلًا للمطلوب، ثم سؤاله أن يجعل القرآن العظيم لقلبه ربيعًا، كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذي هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد، وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها، فإذا صدق العليل في استعمال هذا الدواء أعقبه شفاء تامًّا. وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة   سبحانه وتعالى عدل في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده" لأنه المالك الحقيقي، "ثم توسله" "بالجر عطفًا على اشتماله المجرور باللام، أو على الاعتراف" "بأسماء الرب تعالى التي سمى بها نفسه، ما علم العباد منها وما لم يعلموا، ومنها ما استأثربه في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل" وهي ما يتقرب به إلى الشيء، "وأحبها إلى الله تعالى، وأقربها تحصيلًا للمطلوب، ثم سؤاله" "بالجر عطف على توسله"، وهي أولى من نسخة: ثم سأله "أن يجعل القرآن العظيم لقلبه ربيعًا، كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان" أي يسعى وينشط، فهو تشبيه بليغ، أو استعارة، "وأن يجعله لصدره كالنور الذي هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد، وأن يجعله شفاء همه وغمه، فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء" يزيله بحيث لا يبقى له أثر، "ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع" جمع طبع، وهو الصدأ والدنس، كما في القاموس، "والأصدية" جمع صدأ، وهو الوسخ الذي يعلو الحديد، فهما متقاربان، ولذا أفرد الضمير في قوله: "وغيرها" لأن المراد منها شيء واحد، وهو الآثار التي تكون في الثياب ونحوها من الدنس، "فإذا صدق العليل في استعمال هذا الدواء، أعقبه شفاء تامًّا" وصدقه باليقين التام، وصدق النية وخلوص الطوية، وأن لا يقصد به التجربة؛ لأن قاصد ذلك عنده شك. "وفي سنن أبي داود" في الصلاة، "عن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سفيان الصحابي بن الصحابي، "قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد" النبوي، "فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة" غير منسوب ولا مسمى، ويجوز أنه أبو أمامة بن ثعلبة الحارثي، لكن أفرده ابن منده، وتبعه أبو نعيم بالترجمة، عنه وعن الباهلي، فهو غيرهما، كما أشار إليه في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة"، فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، فقال: "أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى عنك دينك"، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت، اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". قال: ففعلت ذلك   الإصابة، "فقال: "يا أبا أمامة ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة"، فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، فقال: "أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك"، قلت: بلى يا رسول الله" علمني، "قال: "قل إذا أصبحت" دخلت في الصباح، "وإذا أمسيت" دخلت في المساء، فصريحه المبادرة لقول ذلك أول الليل وأول النهار: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" "بفتح الحاء المهملة والزاي" كما ضبطه المصنف كغيره، وهو الرواية: مصدر حزن كتعب، وهو المناسب، لكونه مستعاذًا منه من الاسم الذي هو الحزن "بضم فسكون". وفي البخاري: البخل، والبخل واحد مثل الحزن، والحزن، أي "بضم فسكون فيهما، وبفتحتين فيهما، وليس العطف لاختلاف اللفظين مع اتحاد المعنى" كما ظن، بل الهم في أمر يتوقع، والحزن فيما وقع قبل، والهم من الحزن الذي يذيب لإنسان، فهو أشد من الحزن، وهو خشونة في النفس، فالفرق بينهما بالشدة والضعف، "وأعوذ بك من العجز" القصور عن فعل الشيء ضد القدرة، فهو ما لا يستطيعه الإنسان، "والكسل" ترك الشيء والتراخي عنه مع كونه يستطيعه، "وأعوذ بك من الجبن" "بضم الجيم وسكون الموحدة" الخوف والخور من تعاطي الحرب ونحوها، خوفًا على المهجة، "والبخل" ضد الكرم، "وأعوذ بك من غلبة الدين" أي استيلائه وكثرته، "وقهر الرجال" غلبتهم. وقال التوربتشي: غلبة الدين: أن يثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله، وقهر الرجال: الغلبة؛ لأن القهر يراد به السلطان، ويراد به الغلبة، كما هنا لما في رواية، وغلبة الرجال، كأنه أراد هيجان النفس من شدة الشبق وإضافته إلى المفعول، أي يغلبهم ذلك إلى هذا المعنى سبق فهمي، ولم أجد في تفسيره نقلًا. وقال بعضهم: قهر الرجال جور السلطان، وقال الطيبي: من مستهل الدعاء إلى قوله، والجبن يتعلق بإزالة الهم، والآخر بقضاء الدين، فعليه قوله: وقهر الرجال إما أن يكون إضافته إلى الفاعل، أي قهر الدائن إياه وغلبته عليه بالتقاضي، وليس معه ما يقضي دينه، أو إلى المفعول؛ أن لا يكون له أحد يعاونه على قضاء دينه من رجاله وأصحابه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 فأذهب الله همي، وقضي ديني عني. وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزدوجان: فالهم والحزن أخوان، والعجز والكسل أخوان، والجبن والبخل أخوان، وضلع الدين وقهر الرجال أخوان، فحصلت الاستعاذة من كل شر.   "قال" أبو أمامة: "ففعلت ذلك" أي لازمت هذا الدعاء صباحًا ومساء، "فأذهب الله همي وقضى ديني عني". قال في الإصابة: ظاهر سياق أول الحديث أنه من حديث أبي سعيد، وآخره أنه من رواية أبي أمامة، هذا وقد أخل المزي بترجمته في التهذيب والأطراف، وأغفله أبو أحمد الحاكم في الكنى. انتهى. ولا مخالفة، والحديث إنما هو من رواية أبي سعيد، وقول الأنصاري: قلت: بلى يا رسول الله، ما نقل أبي سعيد عنه بتقدير قال: قلت كما صرح بلفظ قال: ففعلت، ولذا أغفله المزي في كتابيه؛ لأنه لم يرو الحديث، إنما الراوي أبو سعيد، "وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزودوجان" أي متشاكلان، "فالهم والحزن أخوان" إذ المكروه الوارد على القلب إن كان من مستقبل يتوقعه أحدث الهم، أو من ماض أحدث الحزن، "والعجز والكسل أخوان" لأن التخلف عن أسباب الخير، إن كان لعدم قدرة فالعجز، أو لعدم إرادته فالكسل، "والجبن والبخل أخوان" لأن عدم النفع، إن كان بالبدن فالجبن، أو بالمال فالبخل، "وضلع الدين" "بفتح المعجمة واللام" أي ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله، حيث لا يجد وفاء، لا سيماء مع المطالبة، "وقهر الرجال أخوان" فإن استيلاء الغير إن كان بحق فضلع الدين، أو بباطل فقهر الرجال، "فحصلت الاستعاذة من كل شر" وهذا قالوه في حديث البخاري وغيره، عن أنس رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال"، فأتى به المصنف وإن كان لفظ حديثه وغلبة الدين؛ لأنه بمعنى ضلع لدين. قال بعض العارفين: يجب التدقيق في فهم كلام النبوة ومعرفة ما انطوى تحته من الأسرار، ولا يقف مع الظاهر، فالمحقق ينظر ما سبب حصول القهر من الرجال، فيجده الحجاب عن شهود كونه سبحانه هو المحرك لهم حتى قهروه، فيرجع إلى ربه، فيكفيه قهرهم، والواقف مع الظاهر لا يشهده من الحق، بل من الخلق، فلا يزال في قهر، ولو أن شهد الفعل من الله، لزال القهر ورضي بحكم الله، فما وقعت الاستعاذة إلا من سبب القهر الذي هو الحجاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 وفي سنن أبي داود -أيضًا- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب". وإنما كان الاستغفار له تأثير في دفع الهم والضيق لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب، وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كثرت همومه فليكثر من قول: لا حول   "وفي سنن أبي داود أيضًا" والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، "عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار" أي داوم عليه، وفي رواية أحمد والحاكم: من أكثر من الاستغفار "جعل الله له من كل هم فرجًا" "بفتح الفاء والراء والجيم"، أي كشفًا وخلوصًا منه، "ومن كل ضيق مخرجًا" من ذلك الضيق، "ورزقه من حيث لا يحتسب" يخطر بباله، مقتبس من قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] ، لأن من داوم الاستغفار وقام بحقه، كان متيقنًا وناظرًا إلى قوله تقدس: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11] . قال الحكيم الترمذي: أشار بالإكثار إلى أن الآدمي لا يخلو من ذنب أو عيب ساعة، والعذاب عذابان: أدنى وأكبر، فالأدنى عذاب الذنوب، فإذا كان الإنسان متيقظًا على نفسه، فكلما أذنب أو عاب تبعهما استغفارًا، لم يبق في وبالهما وعذابهما، وإذا لها عن الاستغفار تراكمت ذنوبه، فجاءت الهموم والضيق والعسر والعناء والتعب، فهذا عذابه الأدنى، وفي الآخرة عذاب النار؛ وإذا استغفر تنصل من الهم، فصار له من الهموم فرج، ومن الضيق مخرج، ورزقه من حيث لا يحتسب، "وإنما كان الاستغفار له تأثير في دفع الهم والضيق؛ لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل أمة" على "أن المعاصي والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب" نحو: الغل والحسد والكبر واحتقار الناس، "وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار" لا ينجع فيها غيرهما. "وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كثرت همومه فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله" ولا حد للإكثار، وحد بعضهم أقله بثلاثمائة. "وثبت في الصحيحين: أنها كنز من كنوز الجنة" ففيهما كالسنن الأربع عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 ولا قوة إلا بالله. وثبت في الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة، وفي الترمذي: أنها باب من أبواب الجنة، وفي بضع الآثار: أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله. وروى الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل فقال: يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرًا".   أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة". قال الكرماني: أي كالكنز في كونه نفيسًا مدخرًا، مكنونًا عن أعين الناس، وقال الطيبي: هذا التركيب ليس باستعارة لذكر المشبه، وهو الحوقلة، والمشبه به وهو الكنز، ولا التشبيه العرفي، لبيان الكنز بقوله: من كنوز الجنة، بل هو من إدخال الشيء في جنس، وجعله أحد أنواع على التغليب، فالكنز إذًا نوعان: المتعارف وهو المال الكثير، يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، والثاني غير المتعارف، وهو هذه الكلمة الجامعة، المكتنزة بالمعاني الإلهية، لما أنها محتوية على التوحيد الخفي؛ لأنه إذا نفيت الحيلة والاستطاعة عما من شأنه ذلك، وأثبت لله على سبيل الحصر بإيجاده واستعانته وتوفيقه، لم يخرج شيء من ملكه وملكوته. "وفي الترمذي: أنها باب من أبواب الجنة" أي أن المكثر لها له باب، أحد أبوابها الثمانية يدعى للدخول منه. "وفي بعض الآثار: إنه ما ينزل ملك من السماء، ولا يصعد إلا بـ"لا حول ولا قوة إلا بالله" أي بقولها. "ورو الطبراني" وابن صصرى في أماليه "من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما كربني أمر" "بفتح الكاف والراء" أي شق علي "إلا تمثل لي جبريل" أي جاءني بصورته المثالية، "فقال: يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك" أي الألوهية، "ولم يكن له ولي من" أجل "الذل" أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر، "وكبره تكبيرًا" عظمه عظمة تامة من اتخاذ الولد والشريك والذل، وكل ما لا يليق به، وترتيب الحمد على ذلك، للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد، لكمال ذاته وتفرده في صفاته. روى أحمد عن معاذ الجهني: مرفوعًا: "آية العز الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ... " إلخ السورة، أمره جبريل أن يثق بالله ويسند أمره إليه في استكفاء ما ينوبه مع التمسك بقاعدة التوكل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 وفي كتاب ابن السني من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة عند الكرب أغاثه الله عز وجل". وعنده -أيضًا- من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} " [الأنبياء: 87] .   وعرفه؛ أن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يتوكل عليه وحده، ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون. وعن بعض السلف: أنه قال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ذكره الزمخشري. "وفي كتاب ابن السني" "بضم السين وشد النون" الحافظ أبي بكر، أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري، صاحب التصانيف "من حديث أبي قتادة" الحارث، ويقال: عمرو أو النعمان بن ربعي "بكسر الراء وسكون الموحدة فمهملة" الأنصاري، السلمي، المدني، شهد أحدًا وما بعدها، ولم يح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر. "عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة" لله ما في السماوات إلى آخرها "عند الكرب أغاثه الله عز وجل" أي فرج كربه وأزاله، "وعنده" أي ابن السني "أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، أحد العشرة، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه" كربه، قدم على الإخبار بها حثًّا عليها وتنويها بنفعها، ليلقى البال لها "كلمة أخي يونس" بن متى، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، {أَنْ} أي بأن {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} أي أنت القادر على حفظ الإنسان حيًّا في بطن الحوت، ولا قدرة لغيرك على ذلك، ثم أردفه بقوله: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} في ذهابي من بين قومي بلا إذن، تصريحًا بالعجز والإنكسار وإظهارًا للذلة والافتقار. قال الحسن: ما نجا إلا بإقراره على نفسه بالظلم، وإنما قبل منه ولم يتقبل من فرعون حين قال: لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل؛ لأن يونس ذكرها في الحضور والشهود، وفرعون ذكرها في الغيبة تقليدًا لبني إسرائيل، ذكره الإمام الرازي، ثم المنادى به، لا إله إلا أنت ... إلخ, وما قبله إخبار عن صفة ما كان يقوله يونس وقتًا وصفة، فنبه صلى الله عليه وسلم بذكر الآية بتمامها على بيان صفته التي كان عليها وقت الدعاء من التضرع والتذلل، وإن وقته كان شديد العظم كربه، وهذا قد رواه الترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا، عن سعد بن أبي وقاص، رفعه: "ألا أخبركم بشيء، إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا، دعا به ربه ففرج عنه"، قالوا: بلى قال: "دعاء ذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 وعند الترمذي: لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له. وروى الديملي في مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد -يعني الصادق- قال: حدثني أبي عن جدي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء: "اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك بها صبري، فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بليته صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدًا، ويا ذات النعمة التي لا تحصى   النون، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". "وعند الترمذي" أيضًا والنسائي والحاكم، عن سعد مرفوعًا: "دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، "لم يدع بها رجل مسلم" بنية صادقة صالحة "في شيء قط إلا استجيب له" وفي رواية: إلا استجاب الله له، أي لأنها لما كانت مسبوقة بالعجز والانكسار ملحوقة بهما، صارت مقبولة: أم من يجيب المضطر إذا دعاه، فإن قيل: هذ ذكر لا دعاء، أجيب؛ بأنه ذكر يفتتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء، أو هو كما ورد: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، كما مر. "وروى الديلمي في مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد، يعني الصادق" لصدقه في مقاله من سادات آل البيت، "قال: حدثني أبي" محمد الباقر، "عن جدي" علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب مرسلًا؛ لأن جده تابعي؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه" "بفتح الحاء المهملة والزاي والموحدة" أي هجم عليه، أو غلبه "أمر" هم، أو غم، "دعا بهذا الدعاء: "اللهم احرسني" "بضم الراء" احفظني "بعينك التي لا تنام واكنفني" أي استرني "بركنك الذي لا يرام" لا يقدر على طلبه، "وارحمني بقدرتك علي" لأن ذلك شأن الكرم الرحمة مع القدرة، "فـ" بسبب ذلك "لا أهلك، وأنت رجائي" أي مرجوي في جميع أموري، "فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري" أي قيامي بواجبها من الطاعات، "وكم من بلية ابتليتني بها قل لك بها صبري، فيا من قل عند نعمته شكري، فلم يحرمني" "بفتح أوله وضمه وكسر الراء" أي يمنعني من نعمه من حرم، كضرب وأحرم، "ويا من قل عند بليته صبري، فلم يخذلني" "بضم الذال" يترك نصرتي، "ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني" "بفتح الياء والضاد"، يكشف مساوئ، فأفتضح، وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم واستغراقه في شهود الجلال، وإلا فمن يشكر ومن يصبر إذا لم يشكر ولم يصبر هو، وأي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 عددًا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد وبك أدرأ في نحور الأعداء والجبارين، اللهم أعني على ديني بالدنيا، وعلى آخرتي بالتقوى واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حظرته علي، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لي ما لا ينقصك، واغفر لي ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا، ورزقًا واسعًا، والعافية من البلايا، وشكر العافية -وفي رواية وأسألك تمام العافية وأسألك دوام العافية: وأسألك الشكر على العافية - وأسألك الغنى عن الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".   خطيئة له فضلًا عن خطايا، وهو أيضًا من باب التعليم لأمته "يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدًا" بل هو دائم، "ويا ذا النعمة التي لا تحصى عددًا". وفي نسخة: النعماء، والأولى أنسب؛ لأنها التي يتعلق بها العد، وأما النعماء، فصفة له تعالى بمعنى الأنعام، لا يتعلق بها العد؛ لأن الصفة لا تعدد فيها ولا تكثر، "أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وبك أدرأ" "بفتح الهمزة وسكون الدال وبالراء" أدفع "في نحور الأعداء والجبارين" العتاة المتكبرين، "اللهم أعني على ديني بالدنيا، وعلى آخرتي بالتقوى، واحفظني فيما غبت عنه" من الأفعال لتي لا استحضرها، أو من الأهل والمال. وفي نسخة: فيما غبت عني، بالتثقيل وفتح تاء الخطاب، والمعنى واحد، "ولا تكلني إلى نفسي فيما حظرته" "بحاء مهملة وظاء معجمة، أي منعته" "علي" بل إلى توفيقك لئلا أوقع فيما حظرته، " يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لي ما لا ينقصك" وصوله إلي، وهو عفوك. وفي نسخة: ما لا ينفعك، والمعنى عليهما: هب لي ما لا ينقص شيئًا من قدرك، ولا ينفعك شيء منه، لو لم توصله لي، "واغفر لي ما لا يضرك" وهو الذنوب، "إنك أنت الوهاب" كثير النعم، دائم العطاء: صيغة مبالغة من الهبة، وهي العطية بلا سبب سابق، ولا استحقاق ولا مقابلة ولا جزاء، "أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا" لا جزع فيه، "ورزقًا واسعًا، والعافية من البلايا، وشكر العافية" "مصدر جاء على فاعله، كناشئة الليل بمعنى نشوء الليل". "وفي رواية: "وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية" أي السلامة من الأسقام، "وأسألك الشكر على العافية" أعادها مظهرة؛ لأن مقام الدعاء يطلب فيه البسط؛ لأنه مقام خطاب وخضوع، "وأسألك الغنى" "بكسر الغين والقصر" "عن الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ختم بها الدعاء لما فيه من التوحيد الخفي كما مر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الفقر} : عن ابن عمر: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن الدنيا أدبرت عني وتولت قال له: "فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبه يزرقون، قل عند طلوع الفجر: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، استغفر الله مائة مرة تأتيك الدنيا   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الفقر: أي مداواته قولًا أو فعلًا، بأن يفعل ما هو سبب للشفاء أو يأمر به، ومثله يقال في نظائره، والإضافة في داء الفقر بيانية، "عن ابن عمر أن رجلًا قال: يا رسول الله إن الدنيا أدبرت عني" بعد الغنى، ويحتمل أنه فقير من أول أمره، والأول أولى لاحتياج الثاني لتأويل أدبرت، بمعنى: لم تأتني، وبعده لا يخفى، لا سيما مع قوله: "وتولت" إذ حقيقة الإدبار والتولي إنما يكون بعد المجيء. وفي رواية المستغفري: قلت ذات يدي، "قال له: "فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق، وبه" أي التسبيح "يرزقون" "استفهام" أي كيف يغيب عنك علم ذلك، والقصد من الاستفهام حثه على قول ذلك ليأتيه الغنى، وعبر من الملائكة بالصلاة التي أريد بها مطلق الثناء، لجزمهم باتصافه تعالى بجميع صفات الكمال، وليس أحد منهم يصفه بخلاف ذلك، مع اعترافهم بأنهم ما عبدوه حق عبادته، وفي الخلائق بالتسبيح؛ لأنهم من حيث هم بقطع النظر عن المؤمنين ينسبون إليه ما لا يليق به، كالشريك، فناسب التعبير بالتسبيح الذي هو التنزيه عما لا يليق، "قل عند طلوع الفجر" وفي رواية المستغفري ما بين الفجر إلى أن تصلي الصبح، وهي مفسرة للعندية، فالحديث واحد: "سبحان الله" أي تنزيهه عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل، "وبحمده" "الواو للحال" أي أسبحه ملتبسًا بحمدي له، أو عاطفة، أي أسبحه وأثني عليه بحمده، أو الحمد مضاف للفاعل، والمراد لازمه، أي ما يوجبه من التوفيق، وعلى العطف، فهي جملة أخرى، والتسبيح إشارة إلى صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام، وقدم التسبيح؛ لأنه من التخلي بمعجمة على التوحيد؛ لأنه من التحلي "بمهملة" "سبحان الله العظيم" كرر هذه تأكيدًا، ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين، ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو: سبحان وسبح بلفظ الأمر، وسبح بلفظ الماضي، ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقول بخلاف الكمالات، فإنها تقصر عن إدراك حقائقها. قال بعض المحققين: حقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السنة، كما في العالم؛ لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، فأما علمه، فلا سبيل إليه، قاله الحافظ "استغفر الله". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 صاغرة"، فولى الرجل فمكث ثم عاد فقال: يا رسول الله لقد أقبلت علي الدنيا فما أدري أين أضعها. رواه الخطيب في رواية مالك.   قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] أي بطيب عيش وسعة رزق إلى أجل مسمى هو الموت، ويؤت كل ذي فضل، أي عمل فضله، أي جزاءه في الآخرة "مائة مرة تأتيك" كذا في جميع النسخ "بالياء" على أنه جواب إذا مقدره، وهي غير جازمة، أي فإنك إذا فعلت ذلك تأتيك، وإلا فالواجب حذفها؛ لأنها في جواب الأمر، أو يقال هو لم يقصد به الجزاء "الدنيا صاغرة" ليلة حقيرة، والمراد بسهولة بلا تعب ولا مشقة. زاد في رواية المستغفري: راغمة، "فولى الرجل، فمكث" مدة "ثم عاد، فقال: يا رسول الله لقد أقبلت علي الدنيا" بكثرة، "فما أدري أين أضعها" من كثرتها، "رواه الخطيب" أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، الحافظ "في رواة مالك" أي في كتابه المؤلف فيمن روي عن مالك الإمام، فبلغ بهم ألفًا إلا سبعة رووا عن مالك وزاد عليه غيره كثيرًا، وكذا رواه المستغفري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الحريق] : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الحريق: روى ابن السني وابن عدي وابن عساكر من طريق ابن لهيعة، والطبراني في الدعاء من طريق عبد الرحمن بن الحارث، كلاهما "عن عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي، السهمي، صدوق، مات سنة ثمان عشرة ومائة، "عن أبيه" شعيب، صدوق، ثبت سماعه من جده عبد الله، فالضمير في "عن جده" لشعيب، وإن عاد على عمرو ابنه حمل على جده الأعلى الصحابي، فالحديث متصل، وقد اختلف في الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وأصح الأقوال أنها حجة مطلقًا إذا صح السند إليه. قال ابن الصلاح: وهو قول أكثر أهل الحديث حملًا للجد عند الإطلاق على الصحابي عبد الله بن عمرو دون ابنه محمد، والد شعيب لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك، فقد قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وأبا خيثمة وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: ما تركه أحد منهم وثبتوه، فمن الناس بعدهم، وقول ابن حبان: هي منقطعة؛ لأن شعيبًا لم يلق عبد الله مردود، فقد صح سماع شعيب بعدهم، وقول ابن حبان: هي منقطعة؛ لأن شعيبًا لم يلق عبد الله مردود، فقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، كما صرح به البخاري في التاريخ وأحمد، وكما رواه الدارقطني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه". فإن قلت ما وجه الحكمة في إطفاء الحريق بالتكبير، أجاب صاحب زاد المعاد: بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهي مادة الشيطان التي خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان إعانة عليه   والبيهقي في السنن بإسناد صحيح. وذكر بعضهم: أن محمدًا مات في حياة أبيه، وإن أباه كفل شعيبًا ورباه، وقيل: لا يحتج به مطلقًا، وقيل: إن أفصح بأن جده عبد الله قبل وإلا فلا، وقيل: إن استوعب ذكر آبائه بالرواية عنهم صريحًا قبل، وإلا فلا. انتهى ملخصًا من شرح زين الحفاظ على ألفيته التي اقتصر فيها على الأصح بقوله: والأكثر احتجوا بعمرو حملًا ... له على الجد الكبير الأعلى "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الحريق فكبروا" أي قولوا: الله أكبر، وكرروا كثيرًا، وينبغي الجهر به مخلصًا لله، ممتثلًا لأمر رسوله، متسحضرًا ما لله من عظيم القدرة، "فإن التكبير يطفئه" "بضم الياء"، إذا صدر عن كمال إخلاص وقوة يقين، وتخصيصه للإيذان بأن من هو أكبر من كل شيء حري بأن يقهر النار ويطفئها. قال النووي: ويسن أن يدعو معه بدعاء الكرب، وفي تفسير لطبري: إذا كتب أسماء أهل الكهف في شيء وألقي في النار أطفئت، وينبغي أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنه يصرف عنه البلاء، وأن يقول ما قال إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، وهذا الحديث رواه البيهقي من الوجه المذكور، بلفظ: استعينوا على إطفاء الحريق بالتكبير، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطبراني، بلفظ: اطفؤا الحريق بالتكبير، ومن حديث ابن عباس عند ابن عدي، بلفظ: إذا رأيتم الحريق فكبروا، فإنه يطفئ النار، ومن حديث ابن عباس وجابر، بلفظ: إذا وقعت كبيرة أو هاجت ريح عظيمة، فعليكم بالتكبير، فإنه يجلي العجاج الأسود، فانجبر بذلك ما فيه من ضعف ابن لهيعة، مع أنه لم ينفرد به، بل تابعه عبد الرحمن بن الحارث، كما علم. "فإن قلت ما وجه الحكمة في إطفاء الحريق بالتكبير" قلت: "أجاب صاحب زاد المعاد" في هدي خير العباد؛ "بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهي مادة الشيطان التي خلق منها" أي إنها أعظم الأجزاء التي خلق منها، إلا أنها متمحضة من النار، بل العناصر الأربعة مجتمعة فيه، لكن لما غلبت النار على بقية العناصر جعل مخلوقًا منها. وفي البيضاوي: من نار السموم، ومن نار باعتبار الغالب، كذا قال شيخنا: "وكان فيه" أي الحريق، أي لهب النار "من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 وتنفيذ له، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدي الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يهلك بني دم، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض بالبغي والفساد، وكبرياء الله تعالى تقمع الشيطان وفعله، فلهذا كان تكبير الله له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله تعالى لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار التي هي مادة الشيطان. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى. ولقد جربت ذلك بطيبة في سنة خمس وتسعين وثمانمائة فوجدت له أثرًا عظيمًا لم أجده لغيره، ولقد شاع وذاع رؤية طيور بحريق طيبة الواقع في ثالث عشر رمضان في سنة ست وثمانين وثمانمائة، معلنة بالتكبير.   إعانة عليه" أي على وجود الحريق؛ بأن يتسبب في إيصال النار إلى نحو الحطب، فيحصل الحريق، "وتنفيذ له" أي جعله مؤثرًا فيما يصل إليه فيفسده، "وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدي الشيطان" أي صفته التي هو عليها، "وإليهما يدعو" الناس، "وبهما يهلك بني آدم فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض بالبغي والفساد، وكبرياء الله تعالى تقمع" أي تذل "الشيطان وفعله" فتمنعه الفساد، "فلهذا" جواب: لما كان الحريق دخلته الفاء على القليل، ولو حذف، فلهذا، واقتصر على قوله: "كان تكبير الله له أثر في إطفاء الحريق" لكان أولى لاحتياجها لمقدر تدخل عليه تكون علة للجواب، مقدمة على معلولها، والأصل: فكان تكبير الله له أثر في إطفاء الحريق، لهذا "فإن كبرياء الله تعالى لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار" سكون لهبها، المؤدي إلى طفئها، "التي هي مادة الشيطان، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى" كلام ابن القيم. "ولقد جربت ذلك بطيبة" لما احترقت "في سنة خمس وتسعين وثمانمائة، فجدت له أثرًا عظيمًا لم أجده لغيره، ولقد شاع وذاع رؤية طيور" بيض "بحريق طيبة" أي وقت حريقها، أي حريق مسجدها فقط، ولم يصل إلى جوف الحجرة شيء من هدم هذا الحريق، "الواقع في" الثلث الأخير من ليلة "ثالث عشر رمضان في سنة ست وثمانين وثمانمائة، معلنة" تلك الطيور "بالتكبير" كالذي يكفها عن بيوت الجيران، وذلك عبرة وموعظة أبرزها الله تعالى للإنذار، فخص بها حضرة النذير صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت؛ أن أعمال أمته تعرض عليه، فلما ساءت ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازي بها في موضع عرضها، قاله الشريف السمهودي، وبسط القصة في تاريخه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 [ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يطب به من داء الصرع] : في الصحيحين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك". فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف   ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يطب به: بكسر الطاء وضمها، كما في القاموس، أي يداوي به "من داء الصرع" مرض يشبه الجنون، "في الصحيحين: إن امرأة" روى البخاري في الطب ومسلم في الأدب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟، قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء "أتت النبي صلى الله عليه وسلم" اسمها سعيرة "بمهملات مصغر" الأسدية، كما في تفسير ابن مردويه، وهو عند المستغفري في الصحابة، وأخرجه أبو موسى في الذيل. قال المستغفري في كتابه: شعيرة "بالشين المعجمة والصحيح بالمهملة" قال في الإصابة: وذكرها ابن منده، وتبعه أبو نعيم "بالمعجمة والقاف" ويقال: بكاف بدل القاف، والصواب: أنها "بمهملتين". وفي البخاري عن عطاء: أنه رأى أم زفر، تلك امرأة طويلة على ستر الكعبة "بكسر السين"، أي جالسة عليها معتمدة، ففي حديث ابن عباس عند البزار؛ أنها قالت إني أخاف الحب أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها. وذكر ابن سعد وعبد الغني في المبهمات، عن الزبير بن بكار، عن سليمان بن عبد الله، عن شيخ من أهل مكة، قال: هي أم زفر ماشطة خديجة، العجوز التي قال صلى الله علي وسلم: "إنها كانت تغشانا زمن خديجة"، وكلام أبي عمر يقتضي أنهما واحدة، وقال أبو موسى: إنه محتمل، قال في الإصابة، وهو بعيد، والعلم عند الله، "فقالت: إني أصرع". وفي رواية للطبراني والخطيب: إني امرأة أغلب على عقلي، "وإني أتكشف" "بفتح الفوقية والشين المعجمة المشددة" ولأبي ذر: أنكشف "بنون ساكنة بدل الفوقية، وكسر المعجمة مخففة، "فادع الله لي" أن يشفيني من ذلك الصرع، "قال: "إن شئت صبرت" على ذلك، "ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك" من ذلك الصرع. وفي رواية المستغفري من وجه آخر، عن عطاء: إن ابن عباس قال له: ألا أريك أمرأة من أهل الجنة، فأراني حبشية عظيمة، فقال: هذه سعيرة الأسدية، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن بي هذه، تعني الريح، فادع الله أن يشفيني مما بي، فقال: "إن شئت دعوت الله يعافيك مما بك ويثبت لك حسناتك وسيئاتك، وإن شئت فاصبري ولك الجنة"، "فقالت: اصبر". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 فدعا لها. قال العلامة ابن القيم: الصرع صرعان، من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الردية، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء. فأما علاج صرع الأرواح الخبيثة فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإنه   والجنة، كما زاده في رواية المستغفري، "قالت: فإني أتكشف" روي بالوجهين السابقين أيضًا، "فادع الله" زاد أبو ذر لي: "أن لا أنكشف" بالوجهين أيضًا، "فدعا لها" صلى الله عليه وسلم بعدم الكشف، وتجويز أنه دعا بزوال الصرع خلاف الواقع، ولعبد الرزاق عن الحسن؛ أنها كانت تخنق في المسجد، فجاء إخوتها النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوا ذلك إليه، فقال: "إن شئتم دعوت الله فبرئت، وإن شئتم كانت كما هي، ولا حساب عليها في الآخرة"، فخيرها إخوتها، فقالت: دعوني كما أنا فتركوها؛ فإن صح هذا، فكأنهم لما أخبروها عنه، جاءت لتسأله بنفسها، وتسمعه وتسأله أن لا تنكشف، وإلا فما في الصحيحين أصح. ووقع في رواية عن ابن عباس: وفي سعيرة نزلت، ولا تكونوا كالتي نفضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، كانت تجمع الصوف والشعر والليف، فتغزل كبة عظيمة، فإذا ثقلت عليها نقضتها، فقال الله: يا معشر قريش، لا تكونوا مثل سعيرة فتنقضوا أيمانكم بعد توكيدها، أخرجها ابن خزيمة قائلًا: أنا أبرأ إلى الله من عهدة هذا الإسناد. "قال العلامة ابن القيم: الصرع صرعان من الأرواح الخبيثة الأرضية" يعني الشياطين، لاستحسان تلك الصورة الإنسية، أو المجرد إيقاع الأذية، "وصرع من اأخلاط الردية" بسبب انحباسها من شدة تعرض في بطون الدماغ ومجاري الأعصاب المحركة، فيمنع الأعضاء الرئيسة عن انفصالها منعًا غير تام، أو بخار رديء يسرع إليه منبعض الأعضاء، فلا يبقى الشخص معه منتصبًا، بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة. "والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، فأما علاج صرع الأرواح الخبيثة، فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه" بأن يكون صرعه خفيفًا له معه شعورًا، ويكون في ابتدائه قبل غيبوبته، أو بعد الإفاقة، لئلا يعود عليه، فلا يرد أنه لا يتأتى له ذلك مع قيام العارض به، "وصدق توجهه إلى فاطر" خالق "هذه الأرواح وبارئها" "عطف مساوٍ" حسنه اختلاف اللفظ، "والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ" توافق "عليه القلب واللسان" بأن ينطق مع حضور القلب واعتقاد حقية ما يقوله بلسانه؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 هذا نوع المحاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بالأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًّا. والثاني: من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه، أو يقول: بسم الله أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اخرج عدو الله أنا رسول الله". وكان بعضهم يعالج ذلك بآية الكرسي ويأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين. قال: ومن حدث له الصرع وله خمسة وعشرون سنة وخوصًا بسبب دماغي أنس من برئه، وكذلك إذا حصل له في صغره واستمر به إلى هذه السن. قال:   "فإنه هذا" العلاج لدفع الصارع عنه "نوع المحاربة والمحارب، لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح، إلا بالأمرين؛ أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًّا" فإن فقدا أو أحدهما لم ينتصف "والثاني من جهة المعالج فيه بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا" أي صدق التوجه والتعوذ الصحيح، وحال المعالجين أنهم يجتهدون في علاجهم ويتفاوتون فيه، فيكون في بعضهم قوة وشدة، "حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه" فالغاية لمقدر دل عليه السياق، "أو يقول: بسم الله، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله" هكذا في نسخ، بلفظ: يقول مضارعًا فيهما، أي إن بعض المعالجين يكتفي بقوله: اخرج لشدة قوته وتمكنه، وبعضهم يضم إليه ما يؤثر في الإزالة؛ بأن يقول: بسم الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: ونحوهما مما عهد استعماله لعلاج المصروع. وفي نسخة: بموحدة، أي أن بعضهم يكتفي بقوله: اخرج، أو يكتفي بقول: بسم الله ونحوه، ولا يستعمل العزائم القوية التأثير لشدتها عليهم، "قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اخرج عدو الله" "بالنصب نداء بحذف الأداة"، "أنا رسول الله"، وكان بعضهم يعالج ذلك بآية الكرسي، ويأمر بكثرة قراءة المصروع" آية الكرسي، إذا كان أهلًا للقراءة، ليدفع عن نفسه، "و" يأمر "من يعالجه بها" أي بكثرة قراءتها، "وبقراءة المعوذتين" "بكسر الواو"، قل أعوذ برب الفلق وتاليها. "قال" ابن القيم: "ومن حدث له الصرع وله خمس وعشرون سنة" أي بلغ ذلك السن، "وخصوصًا بسبب دماغي ليس من برئه، وكذلك إذا حصل له في صغره واستمر به إلى هذا السن" أي بلوغ خمس وعشرين، "قال: فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف بجواز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة. ولقد جربت الإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى مع قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى آخر سورة الفتح في ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا. ومن الغريب قصة غزال الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف واستغثت به صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجيء إلي بصارعها في المنام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فوبخته وأقسم أن لا يعود إليها، فاستيقظت وما بها قلبه ومن ثم لم يعد إليها فلله الحمد.   وتنكشف، بجواز أن يكون صرعها من هذا النوع، فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة". روى عبد الرزاق عن طاوس: كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين، فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها أم ظفر، فضرب صدرها، لم تبرأ، ولم يخرج شيطانها، فقال صلى الله عليه وسلم: "هو بغيتها في الدنيا، ولها في الآخرة خير"، "ولقد جربت الإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى" في إزالة الصرع "مع" قراءة "قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] ، إلى آخر سورة الفتح، في ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا" زال عنهما الصرع، "ومن الغريب قصة غزال الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف" بطريق مكة بعد رجوعي من الزيارة الشريفة لقصد مصر في سنة خمس وثمانين وثمانمائة، واستمر بها الصرع أيامًا، "واستغثت به صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجيء إلي بصارعها في المنام، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فوبخته، وأقسم أن لا يعود إليها". وفي المقصد الأخير: فأتاني آت في منامي ومعه الجني الصارع لها، فقال لقد أرسله لك النبي صلى الله عليه وسلم، فعاتبته وحلفته أن لا يعود إليها، "فاستيقظت وما بها قلبه" "بفتح القاف واللام والموحدة، أي وجع"، "ومن ثم" أي من هذا الوقت، "لم يعد إليها، فلله الحمد". وفي المقصد الأخير: ولا زالت في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة في سنة أربع وتسعين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 [ذكر دوائه صلى الله عليه وسلم من داء السحر] : قال النووي: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعليمه وتعلمه فحرام، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر فاعله واستيب منه، ولا يقتل عندنا، وإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله. والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق؛ لأن الساحر عنده كافر، كما ذكرنا، وعندنا: ليس بكافر، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق. قال القاضي عياض: ويقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروي عن جماعة   ذكر دوائه صلى الله عليه وسلم من داء السحر: الدواء: "بالفتح والمد" ما يداوى به "ويكسر الدال اسم مصدر" والمراد هنا ما يشمل الأشياء التي يداوى بها والمداوة، فإنه صلى الله عليه وسلم بين للناس ما يداوى به، وتداوى هو أيضًا لإزالة السحر، عنه "قال النووي: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع". وفي الصحيح مرفوعًا: "اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر"، "وقد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا، بل معصية كبيرة" فليس السحر عندهم على المعتمد كفرًا بذاته، بل بما ضم إليه، "فإن كان فيه قول" مما يكفر به قائله، "أو فعل" كعبادة شمس ونحوها، "يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا" يكون كفرًا بمجرده، "وأما تعليمه وتعلمه فحرام" ولو قصد به دفع ضرورة السحر عن نفسه، أو عن غيره، أو معرفة حقائق الأشياء عند الأكثر لخوف الافتتان والإضرار، "وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر فاعله" فقط لفعله الحرام، ولا استتابة؛ لأنه لم يكفر، "واستتيب منه" إن كفر به، "ولا يقتل عندنا" أي الشافعية، "وإن تاب قبلت توبته" كالمرتد. "وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب" أي لا تطلب منه التوبة، "و" إن تاب "لا تقبل توبته، بل يتحتم قتله" لأنه لا تعرف توبته حتى تقبل منه، "والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق" "بزنة قنديل"، قيل: هو المنافق، والأكثر أنه الذي لا يتمسك بدين، وفي القاموس الزنديق "بالكسر" من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة ولا بالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، "لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا، وعندنا ليس بكافر". قال الماوردي: مذهب الشافعي أنه لا يكفر بالسحر، ولا يجب به قتله، ويسأل عنه، فإن اعترف معه بما يوجب كفره كفر بمعتقده لا بسحره، وكذا لو اعتقد إباحته كفر باعتقاده لا بسرحه، فيقتل حينئذ بما أنضم إلى السحر لا بالسحر، "وعندنا تقبل توبة المنافئق والزنديق" وعند مالك لا. "قال القاضي عياض: ويقول مالك قال أحمد بن حنبل، وهو مروي عن جماعة من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 من الصحابة والتابعين. قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانًا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبًا فعليه القصاص. وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية في ماله لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني. قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى. واختلف في السحر: فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له، وهو اختيار أبي جعفر الإستراباذي من الشافعية، وأبي بكر الرازي من الحنفية وطائفة.   الصحابة والتابعين، قال أصحابنا" الشافعية: "فإذا قتل الساحر بسحره إنسانًا" ذكر أو أنثى، "واعترف" حقيقة "أنه مات بسحره، وأنه يقتل غالبًا" وحكمًا، كقتله بنوع كذا، وشهد عدلان تابا؛ أنه يقتل غالبًا، فهذا عمد، "فعليه القصاص" حيث وجدت المكافأة، "وإن قال مات به، ولكنه قد يقتل، وقد لا يقتل، فلا قصاص، وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية في ماله لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني، قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى". قال شيخنا: قد يتصور بأن يتوب اثنان من السحرة، ويشهدا على الساحر؛ بأنهما شاهداه، يستعمل القسم الفلاني لقتل فلان، وهو يقتل غالبًا، أو بأن يقر بأنه قتل بالقسم الفلاني، فيشهدان عليه؛ بأن ذلك القسم يقتل غالبًا. "واختلف في السحر، فقيل: هو تخييل فقط" أي يخيل إلى المسحور أنه يفعل الشيء ولم يفعله، "ولا حقيقة له" وإليه ذهب المعتزلة، "وهو اختيار أبي جعفر الإستراباذي" "بكسر الهمزة والفوقية وسكون السين المهملة وفتح الراء والموحدة فألف فمعجمة"، "من الشافعية" ذكره العبادي وبالغ في مدحه، وقال: لم أقف على تاريخ وفاته، "وأبي بكر" أحمد بن علي بن الحسين "الرازي" الإمام الحافظ، "من الحنفية" له تصانيف "وطائفة" كالبغوي، واحتجوا بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ، قال المصنف: ولا حجة فيها، أي الآية؛ لأنها وردت في هذه القصة، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 قال النووي، والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال: إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون بأن له حقيقة اختلفوا: هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعًا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا وعكسه، فالذي عليه الجمهور هو الأول. قال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر؛ لأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو مزج بين قوى   "قال النووي والصحيح" وهو مذهب أهل السنة، "إن له حقيقة" ويكون بالقول والفعل، ويؤلم ويمرض ويقتل ويفرق بين الزوجين، "وبه قطع" أي جزم "الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب" كقوله: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه؛ إذ لو كان تخييلًا ما حصلت الفرقة به، "والسنة الصحيحة المشهورة" وهي كثيرة. "قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: لكن محل النزاع" بين الفريقين: "هل يقع بالسحر انقلاب عين" كجعل البشر جمادًا أو حمارًا، "أو لا" يقع ذلك، "فمن قال: إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون؛ بأن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط، بحيث يغير المزاج، فيكون نوعًا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة، بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا، وعكسه" الحيوان جمادًا، "فالذي عليه الجمهور هو الأول". قال الدميري: والثاني: واضح البطلان؛ لأنه لو قدر على هذا القدر أن يرد نفسه إلى الشباب بعد الهرم، وأن يمنع نفسه من الموت. "قال المازري" في شرح مسلم "جمهور العلماء على إثبات السحر" أي إن له حقيقة؛ لأن الله ذكره في القرآن العزيز، وأنه يتعلم، وأنه مما يكفر به ومما يفرق به بين المرء وزوجه، وفي الحديث أنه أشياء دفنت وأخرجت، وكيف يتعلم ما لا حقيقة له، هذا كله في كلام المازري وعطف عليه قوله ولأن العقل، وفي غالب نسخ المصنف بحذفها تعليل لما اقتصر عليه من كلام المازري، وهو "لأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق" مضموم بعضه إلى بعض، تشبيهًا بلفق الثوب، "أو تركيب أجسام" كما وقع لسحرة فرعون، "أو مزج" أي خلط "بين قوى على ترتيب مخصوص" فيخلق الله عند الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 على ترتيب مخصوص. ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء من مزج بعد العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعًا. وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكره الله في قوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] ، لكون المقام مقام تهويل. فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره الله تعالى. قال المازري: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصًّا في منع الزيادة، وإن قلنا إنها ظاهرة في ذلك. ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، أن السحر يكون بمعاناه أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد من سحره، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبًا   ذلك التأثير، "ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء" مهرتهم، العارفين بغوامض الطب ودقائقه، "من مزج" خلط "بعد العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده، فيصير بالتركيب نافعًا". "وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكره الله في قوله: يفرقون به بين المرء وزوجه" بأن يحدث الله عنده النشوز والاختلاف، وبغض كل منهما للآخر ابتلاء منه، "لكون المقام مقام تهويل" أي تفريع، "فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره الله تعالى" وهو لم يذكره. "قال المازري: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك" قيد بالعقل لأنه في مقام الرد على الموافقين على مقتضى العقل، فلا يرد عليه أنه وقع في الخارج ما يزيد على ذلك بكثير. وقد حكى القرافي وغيره: أنه لم يبلغ أحد في السحر إلى الغاية التي وصل إليها القبط أيام دلوكا ملكة مصر بعد فرعون، فإنهم وضعوا السحر على البرابي، وصوروا فيها صور عساكر الدنيا، فأي عسكر قصدهم أتوا إلى ذلك العسكر المصور، فما فعلوه به من قلع الأعين وقطع الأعضاء وقع نظيره للعسكر القاصد لهم، فتحامتهم العساكر، وأقاموا ستمائة سنة، والنساء هن الملوك والأمراء بمصر بعد غرق فرعون وجنوده. "قال: والآية ليست نصًّا في منع الزيادة، وإن قلنا: إنها اهرة في ذلك" أي منع الزيادة، "ثم قال" المازري: "والفرق بين السحر" على قول الأشاعرة: إن به يقع خرق العادة، "والمعجزة" للنبي، "والكرامة" للولي "أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال، حتى يتم للساحر ما يريد من سحره، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبًا اتفاقًا" بدون قصد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 اتفاقًا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي. ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على يد فاسق، ونقل نحوه النووي في "زيادة الروضة" عن المتولي. وينبغي أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكًا بالشريعة متجنبًا للموبقات، فالذي يظهر على يديه من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر. وقال القرطبي: والسحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجود تركيبها وأوقاتها، وأكثره تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم   "وأما المعجزة، فتمتاز عن الكرامة بالتحدي" لأن النبي يتحدى بها ويعجز بها الخلق، فتدل على صدقه، والولي والساحر لا يتحديان بها، ولا يعجزان بها الخلق، ولو تحديا بها لم تنخرق لهما العادة، وأيضًا يفرق بين الولي والساحر؛ بأنه يكون إخراقها له دليل فسقه وكفره، والولي لا يكون ذلك علمًا على ذلك فيه، هذا أيضًا كلام المازري. "ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق" أي لا يظهر أثره، كذا قال شيخنا: "وإن الكرامة لا تظهر على يد فاسق" وإنما تقع على يد ولي عامل بالطاعات، مجتنب للمعاصي، فلو وقعت على يد فاسق، فقد تكون معونة من الله تعالى له واصطفاء بتوفيقه للمتوبة، وقد تكون استدراجًا والعياذ بالله تعالى. "ونقل نحوه النووي في زيادة الروضة عن المتولي: وينبغي أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكًا بالشريعة" عاملًا لما أمرت به، "متجنبًا للموبقات" أي المهلكات من المعاصي، "فالذي يظهر على يديه من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر" وهذا مفاد الإجماع المذكور. "وقال القرطبي" في شرح مسلم: دل القرآن في غير ما آية، والسنة في غير ما حديث؛ على أن السحر موجود وله أثر في المسحور، فمن كذب بذلك، فهو كافر مكذب لله ولرسوله، ومنكر لما علم بالعيان، ثم إن منكره في السر زنديق، وفي الظاهر مرتد، كذا في القرطبي قبل قوله: "والسحر حيل صناعية، يتوصل إليها بالإكتساب، غير" "نصب استثناء" "أنها لدقتها" أي غموضها وخفاء معناها، "لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته" أي السحر "الوقوف على خواص الأشياء، والعلم بوجوه تركيبها وأقواتها" أي أزمانها التي تركب فيها، "وأكثره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] ، مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالًا وعصيًّا. وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام" أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى أنها تسعى لم يكن سعيًا حقيقيًّا، وإنما كان تخييلًا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة وقد ملئت زئبقًا، وكذلك الحبال كانت من آدم محشوة زئبقًا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابًا وجعلوا لها آزاجًا وصلوها نارًا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركها؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى.   تخييلات بغير حقيقة" كعلم السيمياء، "وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} . في فنه روى أنهم ألقوا حبالًا غلاظًا وخشبًا طوالًا، كأنها حيات ملأت الوادي، وركب بعضها بعضًا، كما في البيضاوي، "مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالًا وعصيًا" بخلاف العصي، فإنها انقلبت حقيقتها خرقًا للعادة وإظهارًا للمعجزة، هذا بقية كلام القرطبي. "وقال أبو بكر الرازي في الأحكام: أخبر الله تعالى: أن الذي ظنه موسى أنها تسعى" بقوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، "لم يكن" ما ظهر من سعيها "سعيًا حقيقيًّا، وإنما كان تخييلًا" سحروا أعين الناس واسترهبوهم، أي خوفوهم حيث صيروها حيات تسعى، "وذلك أن عصيهم كانت مجوفة، قد ملئت زئبقًا" "بكسر الزاي والبناء، بينهما همزة ساكنة، ويجوز تخفيفها"، "وكذلك الحبال كانت من أدم" أي جلد "محشوة زئبقًا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابًا" جمع سرب "بفتحتين" بيت في الأرض لا منفذ له، "وجعلوا له آزاجًا" جمع أزج "بفتح الألف والزاي وجيم" مثل سبب وأسباب: بيت بيني طولًا، كما في المصباح. وفي القاموس: ضرب من الأبنية، ويجمع أيضًا على أزج "بضمتين" وأزجة كفيلة "وصلوها نارًا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركها؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي" جمع عصا، "صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى" تمشي، "ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى". وفي البيضاوي: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 قال القرطبي: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض، وبإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانًا، أو عكسه، بسحر الساحر. وقد ثبت في البخاري من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟   ضربت عليها الشمس اضطربت، فخيل إليها أنها تتحرك. انتهى. ولا مخالفة لجواز أنهم ملئوا أجوافها بالزئبق، ولطخوها به من خارج أيضًا، ووضعوا الأسراب في محل الشمس، وصلوها نارًا زيادة في الإرهاب. "قال القرطبي" عقب ما مر، عنه: "والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب، كالحب والبغض، وبإلقاء الخير والشر" والتفرقة بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، كما في القرطبي أيضًا، "و" تأثيرًا "في الأبدان بالألم والسقم" كل ذلك مدرك بالمشاهدة، وإنكاره معاندة، هكذا في القرطبي: "وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانًا: أو عكسه بسحر الساحر" كما مر بيانه. "وقد ثبت في البخاري" ومسلم "من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر" بالبناء للمجهول" "حتى إن" "مخففة من الثقيلة، أي أنه" "كان ليخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما فعله". وفي رواية لهما أيضًا: أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن، "حتى إذا كان ذات ليلة" من إضافة المسمى إلى الاسم، أو ذات مقحمة، "عند عائشة" لفظ البخاري: حتى إنه كان ذات يوم، أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، قال المصنف: بالشك من الراوي، والمستدرك منه هو قولها: وهو عندي، أي لكنه لم يكن مشتغلًا بي، بل بالدعاء، أو من قولها: كان يخيل إليه، أي أن السحر أثر في بدنه، لا في عقله وفهمه، بحيث إنه توجه إلى الله تعالى، ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم، قاله في الكواكب. وفي رواية للبخاري أيضًا: حتى إذا كان ذات يوم بلا شك، بل بالجزم بيوم، فليس فيه رواية بالجزم بليلة، كما فعل المصنف "دعا ودعا" أي كرر الدعاء. وفي رواية للبخاري أيضًا: دعا الله ودعاه، وفي مسلم: فدعا، ثم دعا، ثم دعا بالتكرير ثلاثًا، وهو المعهود من عادته، قال عياض: أي أظهر العجز والافتقار إلى الله، لعلمه أنه لا يكشف الضر إلا هو سبحانه، "ثم قال: يا عائشة "أشعرت" "بفتحات وبضم العين أيضًا، وكسر تاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطه وجف طلع نحلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان"،   الخطاب، "أي أعلمت "أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه" قال عياض: أي أجابني فيما دعوته، فسمى الدعاء استفتاء، والجواب فتيًا؛ لأن الداعي طالب، والمجيب مسعف، فاستعير أحدهما للآخر. زاد غيره: أو المعنى أجابني عما سألته عنه؛ لأن دعاءه كان لأن يطلعه على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر. زواد في رواية: قلت: وما ذاك، قال: "أتاني رجلان" قال القرطبي: أي ملكان في صورة رجلين، وظاهره أنه في اليقظة، ويحتمل في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي. انتهى. وقال المصنف في قوله: ما وجع الرجل إشعار بوقوع ذلك في المنام؛ إذ لو كان يقظة لخاطباه وسألاه. وفي رواية الإسماعيلي: فانتبه من نومه ذات يوم، لكن في حديث ابن عباس، عند ابن سعد: فهبط عليه ملكان، وهو بين النائم واليقظان. وفي رواية الطبراني: أتاني ملكان، وعند ابن سعد: بسند منقطع أنهما جبريل وميكائيل، "فقعد أحدهما عند رأسي" هو جبريل، كما جزم به الدمياطي، "والآخر" ميكائيل "عند رجلي" "بشد التحتية مثنى"، "فقال: أحدهما" جبريل أو ميكائيل لصاحبه. وفي رواية: فقال: الذي عند رأسي للآخر وعند الحميدي: فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: قال الحافظ وكأنها أصوب، "ما وجع الرجل" أي ما مرضه، "قال: مطبوب" أي مسحور، يقال: طب الرجل إذا سحر، فكنى بالطب عن السحر، كما كنى بالسليم عن اللديغ. قال ابن الأنباري: الطب من أسماء الأضداد، يقال للعلاج والسحر، وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب، أي حاذق، سمي طبيبًا لفطنته، قال عياض: "قال من طبه" أي سحره. "قال لبيد" "بفتح اللام وكسر الموحدة" "ابن الأعصم" "بمهملتين" بوزن الأحمر، زاد في رواية للشيخين، اليهودي من بني زريق "بضم الزاي وفتح الراء وقاف"، وفي طبقات ابن سعد؛ أن متولي السحر أخوات لبيد، وكن أسحر منه وأنه هو الذي دفنه، "قال: في أي شيء" طبه، "قال: في مشط" "بكسر الميم وضمها وسكون ثانيه" ويجوز الضم، والجمع أمشاط: الآله التي يمشط بها. وفي رواية القابسي: مشاط الحديد، وغلط قاله الحافظ، وفي القاموس: المشط مثلثة: آلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: "يا عائشة كأن ماءها نقاعة   يمتشط بها، وفي القرطبي: "بضم الميم" وأحد الأمشاط التي يمتشط بها، ويطلق على نبت صغير يقال له نبت الذئب، وعلى سلاميات ظهر القدم والعظم العريض من الكف، فيحتمل أن الذي كان فيه أحد الأربعة، "ومشاطة" "بضم الميم وفتح المعجمة مخففة، فألف، فطاء مهملة" ما يخرج من الشعر عند التسريح، وللبيهقي من حديث ابن عباس من شعر رأسه، ومن أسنان مشطه، وفي رواية للبخاري: ومشاقة "بالقاف بدل الطاء" قال الحافظ: وهما بمعنى، وقيل: بالقاف ما يمشط من الكتان. انتهى. وفي البخاري: يقال المشاطة، أي: بالطاء ما يخرج من الشعر إذا مشطوا لمشاقة، أي: بالقاف من مشاقة الكتان، "وجف طلع نخلة" "بضم الجيم وشد الفاء" الغشاء الذي يكون على الظلع، ويطلق على الذكر والأنثى، فلذا قيده بقوله: "ذكر" بالتنوين، كنخلة، على أن لفظ ذكر صفة لجف، وللمستملي وجب بموحدة بدل الفاء بمعنى واحد. وقال القرطبي: إنه بالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري، قاله شمر، وللكشميهني: وجف "بالفاء" طلعة "بتاء تأنيث"، قاله المصنف. "قال: وأين هو قال في بئر ذروان" "بفتح المعجمة وسكون الراء" وفي رواية لهما: ذي أروان "بفتح الهمزة وسكون الراء" وصوبه أبو عبيد البكري والأصمعي. قال المصنف: وكلاهما صحيح، وعلى الأول: هو من إضافة الشيء لنفسه، قيل: والأصل أوان، ثم لشدة الاستعمال سهلت الهمزة، فصارت ذروان "بمعجمة بدل الهمزة" وهي بئر كانت معروفة بالمدينة في بستان بني رزيق. زاد في رواية: تحت راعوفة في بئر ذروان "براء فألف" في رواية الأكثر، ولبعضهم "بلا ألف فعين فواو ففاء" حجر يترك في البئر عند الحفر، ثابت لا يستطاع قلعه، يقوم عليه المستقي والناظر فيها، وقيل: في أسفل البئر، يجلس عليه الذي ينظفها، لا يمكن قلعه لصلابته؛ "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه". وعند ابن سعد عن ابن عباس: فبعث إلى علي وعمار، فأمرهما أن يأتيا البئر، وعنده أيضًا من مرسل عمر بن الحكم، فدعا جبير بن إياس الرزقي، وهو ممن شهد بدرًا فدله على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه، قال: ويقال إن الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي. قال الحافظ: ويجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك، وباشر بنفسه، فنسب إليه؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولًا، ثم توجه فشاهدها بنفسه، "فجاء" صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع، "فقال: "يا عائشة كأن ماءها نقاعة" "بضم النون وتخفيف القاف" "الحناء" "بكسر المهملة والمد" يعني أن ماء البئر أحمر، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 الحناء، وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين"، فقلت يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرًّا"، فأمر بها فدفنت. وفي رواية للبخاري أيضًا: فأتى البئر حتى استخرجه فقال: "هذه البئر التي رأيتها"، قالت عائشة: أفلا تنشرت؟ قال: "أما الله شفاني، وأكره أن أثير على الناس   كالذي ينقع فيه الحناء، أي أنه تغير لرداءته، أو لما خالطه مما ألقي فيه، "وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين" في التناهي في كراهتها وقبح منظرها. ويحتمل أن يريد رءوس الحيات، فالعرب تسمي بعض الحيات شيطانًا، وهي حية قبيحة المنظر هائلة جدًّا، "فقلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته، قال: "قد عافني الله" منه، "فكرهت أن أثور" "بضم الهمزة وفتح المثلثة وكسر الواو مشددة" "على الناس فيه". وللكشميهني: منه "شرًّا" من تذكر المنافقين السحر وتعلمه ونحو ذلك، فيؤذي المسلمين وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة. "فأمر بها" أي بالبئر "فدفنت" "بالبناء للمجهول"؛ "في رواية للبخاري أيضًا: فأتى" صلى الله عليه وسلم "البئر حتى استخرجه" فهذه معارضة للتي قبلها، ولرواية: أفلا أخرجته، قال: "لا"، قال المهلب: اختلف الرواة على هشام في إخراج السحر المذكور، فأثبته سفيان بن عيينة، وجعل سؤال عائشة عن النشرة، ونفاه عيسى بن يونس، وجعل سؤالها عن الاستخراج، ولم يذكر الجواب، وصرح به أبو أسامة ولفظه، فقلت: يا رسول الله أفاخرجته؟، قال: "لا"، والنظر يقتضي ترجيح رواية سفيان لتقدمه في الضبط، ويؤيده: أن النشرة لم تقع في رواية أبي أسامة وزيادة سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم، ولا سيما أنه كرر استخراج السحر في روايته مرتين، يعني بالمرة الأولى في قوله: قال: فاستخرج، فبعد من الوهم، وزاد ذكر النشرة، وجعل جوابه صلى الله عليه وسلم عنها بدلًا عن الاستخراج، وقد يجمع بأن الاستخراج المنفي في رواية أبي أسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان؛ فالمثبت هو استخراج الجف من البئر، والمنفي استخراج ما حواه، قال: وكأن السر في ذلك أن لا يراه الناس فيتعلموا السحر. انتهى من فتح الباري. "فقال" صلى الله عليه وسلم لعائشة: "هذه البئر التي رأيتها" "براء فهمزة مفتوحتين"، وفي رواية: "أريتها" "بضم الهمزة وكسر الراء" وحذف المصنف من هذه الرواية؛ فكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين، قال: فاستخرج، وهو مبني للمجهول، وفاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المصنف، "قالت عائشة: أفلا تنشرت" أي فعلت النشرة وهي الرقية التي يعالج بها المريض، "قال: "أما الله شفاني" عبارة المصنف في شرحه: أما والله "بتخفيف الميم"، والله جربوا والقسم ولابن عساكر وأبوي ذر والوقت: أما والله، بالتشديد فقد شفاني. انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 شرًّا". وفي حديث ابن عباس عند البيهقي في الدلائل -بسند ضعيف- في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت سورة الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة. وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس أن عليًّا وعمارًا لما   فما ساقه هنا لا يوافق رواية منهما، "وأكره أن أثير على الناس شرًّا" بتذكر السحر، وقد وقع في رواية لمسلم: أن عائشة قالت: أفلا أحرقته؟، قال القاضي عياض: كذا في جميع النسخ، قيل: صوابه أخرجته، كما في الرواية الأخرى؛ لأنه المناسب لقوله: "كرهت أن أثير على الناس شرًّا"، أي بإخراجه؛ لأنه إذا أخرج فقد يوقف على عقه فيتعلم، وكفى بذلك شرًّا، قال: وعندي إن أحرقته صواب، ولا يعترض بما تقدم؛ لأنها تعني بحرقها حين يخرجها، بل أحرقتها أظهر للذي أرادت من إتلاف عينه وإبطال عمله، وما يتوقع من شره مع بقائه لم يغير. وقال القرطبي: عندي أن رواية أحرقته أولى، وتعني لبيدًا صانع السحر، فأجابها بأنه يثير شرًّا بين المسلمين واليهود لما كان لهم من العهد والذمة، فلو قتلته لثارت فتنة، وتحدث الناس: أن محمدًا يقتل من عاهد. انتهى، وهذا فيه بعد، وكلام عياض أظهر. "وفي حديث ابن عباس عند البيهقي في الدلائل" النبوية "بسند ضعيف" لأن فيه الكلبي، عن أبي صالح، وهما ضعيفان، "في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه وجدوا وترًا" "بفتح الواو والفوقية". "فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت سورة الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة" ولفظ البيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مرض صلى الله عليه وسلم مرضًا شديدًا، فأتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه ما ترى قال: طب، قال: وما طب؟، قال: سحر، قال: من سحره؟، قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: أين هو؟، قال: في بئر آل فلان تحت صخرة في ركية، فأتوا الركية فانزحوا ماءها وارفعوا الصخرة، ثم خذوا الركية فاحرقوها، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم بعث عمار بن ياسر في نفر، فأتى الركية، فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الركية وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت عليه هاتان السورتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} [الفلق: 1] ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} [الناس: 1] ، وفي سياقه نكارة ومخالفة لحديث الصحيحين ظاهرة. "وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع، عن ابن عباس: أن عليًّا وعمارًا لما بعثهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه. وفي رواية ذكرها في فتح الباري: فنزل رجل البئر فاستخرجه وأنه وجد في الطلعة تمثالًا من شمع تمثال النبي صلى الله عليه وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة. وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد أن الأعصم، وكان حليفًا في بني رزيق، وكان ساحرًا، فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدًا فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعل لك جعلًا على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثًا دنانير.   النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر، وجدا طلعة" لنخلة، "فيها إحدى عشرة عقدة، فذكر نحوه" من نزول السورتين وانحلال العقد بقراءتهما. "وفي رواية ذكرها في فتح الباري: فنزل رجل البئر فاستخرجه، وإنه وجد في الطلعة تمثالًا" بكسر الفوقية، أي صورة "من شمع" بفتح الميم، وتسكن الذي يستصبح به، "تمثال النبي صلى الله عليه وسلم" بالنصب بدل من تمثالًا، "وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين" بكسر الواو، "فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا" في بدنه، "ثم يجد بعدها راحة" وهذا كالذي قبله صريحة في أنه استخرج ما حواه الجف، فيتأكد الجمع المتقدم. "وقد بين الواقدي" محمد بن عمر بن وافد "السنة التي وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه" تلميذه محمد "بن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم" المدني، صدوق "مرسل" لأن عمر من أواسط التابعين، "قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة، ودخل المحرم سنة سبع، جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفًا في بني زريق" بتقديم الزاي مصغر، "وكان ساحرًا، فقالوا: أنت أسحرنا" أعلمنا بالسحر، "وقد سحرنا محمدًا، فلم نصنع شيئًا" ينكؤه، "ونحن نجعل لك جعلًا على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه" بوزن يمنعه، "فجعلوا له ثلاثًا دنانير" فسحره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة، وفي رواية وهيب عن هشام ستة أشهر. ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعون يومًا من استحكامه. وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث صلى الله عليه وسلم فيها في السحر، حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري: أنه لبث سنة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولًا بالإسناد الصحيح فهو المعتمد. وقال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويزها بعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أن جبريل يكلمه وليس هو ثَمَّ، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء.   ومر أن عند ابن سعد أن متولي السحر أخوات لبيد، وكن أسحر منه، وأنه هو الذي ألقاه في البئر. "ووقع في رواية أبي ضمرة" بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم أنس بن عياض الليثي، والمدني "عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة". "وفي رواية وهيب" بالتصغير ابن خالد بن عجلان البصري، "عن هشام" بن عروة، راوي حديث الباب، عن أبيه، عن عائشة: أقام "ستة أشهر" في السحر، "ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعون يومًا من استحكامه" إتقانه وشدته. "وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به" أي وجدته، وأصل معناه الفوز والفلاح "في جامع معمر عن الزهري" مرسلًا "إنه لبث سنة". "قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولًا" عند أحمد والإسماعيلي "بالإسناد الصحيح، فهو المعتمد" إذ الموصول مع صحة إسناده مقدم على المرسل عند التعارض. "وقال المازري" في شرح مسلم: "أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة" أي شرفها ورفعتها، "قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل" وهذه كلمة حق أريد بها باطل، "وزعموا أن تجويزها" أي فعلة السحر بهم، والأظهر تجويزه "بعدم" يبطل "الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أجبريل يكلمه، وليس هو، ثم" بفتح المثلثة وشد الميم، أي هناك موجودًا، "وأنه يوحى إليه، ولم يوح إليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 قال المازري: وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله عز وجل، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعرض للبشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، انتهى. وقال غيره: لا يلزم من أنه يظن أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت ليقظة قلبه وسلامة ذهنه، فلا يبقى على هذا للملحد حجة. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور، أنه يظهر   بشيء". "قال المازري: وهذا كله مردود" وباطل، "لأن الدليل" وهو المعجزات، كما في كلام المازري "قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله عز وجل، وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل" لا يلتفت إليه؛ "وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة" بضم فسكون، أي معرض "لما يعرض للبشر، كالأمراض". وقد صح أنه كان يوعك كما يوعك رجلان زيادة في أجره، "فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له" وعليه يحمل الحديث، فلا طعن فيه مع صحته باتفاق "مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. انتهى" ما نقله من المازري. وبقيته: وقد قال بعض الناس معنى الحديث أنه يخيل إليه أنه وطئ إحدى زوجاته ولم يطأ، وقد يخيل للإنسان في المنام مثل هذا، فلا يبعد أن يتخيله صلى الله عليه وسلم في اليقظة. وقال بعض أصحابنا: يمكن أن يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة خياله، فتكون اعتقاداته كلها على السداد، فلا يبقى لاعتقاد الملحد طريق، وهذا هو معنى قوله: "وقال غيره لا يلزم من أنه يظن أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله؛ أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر، يخطر ولا يثبت ليقظة قلبه وسلامة ذهنه، فلا يبقى على هذا للملحد حجة" فكان اللائق أن المصنف يقول: ونقل عن بعض أصحابه لإبهامه أن المازري لم يذكره، لا سيما مع فصله بلفظ. انتهى. "وقال القاضي عياض" في الشفاء وفي شرح مسلم: ظهر لي ما هو أجلى وأبعد عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 له من نشاطه ومن سابق عادته الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى "حتى كاد ينكر بصره" أي صار كالذي ينكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء تخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم: أنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام في خبر من الأخبار أنه قال قولًا فكان بخلاف ما أخبر. قال بعضهم: وقد سلك النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر به، واحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون   مطاعن الملحدة من نفس الحديث، ففي بعض طرقه سحره يهود حتى كاد ينكر بصره، وفي بعضها حبس عن عائشة سنة، وعند البيهقي عن ابن عباس: مرض صلى الله عليه وسلم وحبس عن النساء والطعام والشراب، فدلت هذه الطرق أن السحر إنما تسلط على ظاهر جسده، لا على عقله، فـ"يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور" في قوله: يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن "أنه يظهر له من نشاطه" أي طيب نفسه للعمل، كما في الأساس، "ومن سابق عادته" قبل السحر "الاقتدار" "بالرفع فاعل يظهر أي قدرته" "على الوطء، فإذا دنا" قرب "من المرأة فتر" "بفاء ففوقية ضعف" "عن ذلك" فلم ينهض له "كما هو شأن المعقود" الممنوع عن الجماع بالسحر وتسميه العامة المربوط وهذا جواب سؤال هو: إذا قلت: إن السحر لم يؤثر إلا في ظاهر بدنه، يرد عليك أن تخيل ما لم يقع واقعًا، يقتضي خللًا في الذهن والإدراك؛ وحاصل الجواب أنه لا يقتضيه كما كرره، "ويكون قوله في الرواية الأخرى" وهي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب وعروة: سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوه في بئر، "حتى كاد" أي قارب "ينكر بصره" أي: ما أبصر، أو ينكر نفس رؤيته لتأثير السحر، "أي صار كالذي ينكر بصره" لا أنه أنكره حقيقة، "بحيث إنه إذا رأى الشيء تخيل أنه على غير صفته" للضعف الطارئ في بصره من السحر، "فإذا تأمله عرف حقيقته" لأن تميزه باق على حاله، لم يطرأ عليه شيء. "ويؤيد جميع ما تقدم" من الأجوبة "أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في خبر من الأخبار" المروية في قصة السحر "أنه قال قولًا، فكان بخلاف ما أخبر" إلى هنا كلام عياض بمعناه. "قال بعضهم: وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض" التسليم "وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم" "عطف تفسير" "لأمر ربه واحتسب الأجر"، عند الله "في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي" خاف "من تماديه أن يضعفه عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 عبادته جنح إلى التداوي. فقد أخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه، يعني حين طب، ثم جنح إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال. وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والتوجه، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله معمورًا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا كان غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال؛ لأن الأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها، اتنهى ملخصًا. ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم مقامه، وصدق توجهه إلى الله وملازمة ورده، ولكن يمكن الانفصال عن   فنون"، أي أنواع "عبادته جنح إلى التداوي". "فقد أخرج أبو عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي، الإمام المشهور، الثقة الفاضل، المصنف، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين، "من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري، المدني، ثم الكوفي، ثقة من كبار التابعين، مات سنة ثلاث وثمانين، "قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه، يعني حين طب" أي سحر، "ثم جنح إلى الدعاء" فدعا ربه مرارًا، "وكل من المقامين" التفويض وتعاطي الأسباب "غاية في الكمال" فلذا سلكهما. "وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة" بضم النون "مقاومة السحر الذي هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والتوجه" إلى الله، "فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان" أي قوة "تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة" حتى قال الفخر الرازي: لا يظهر تأثير السحر إلا على فاسق، "ولهذا كان غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال؛ لأن الأرواح الخبيثة" يعني الشياطين "إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها". "انتهى ملخصًا ويعكر عليه حديث الباب؛ وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه إلى الله وملازمة ورده" من صلاة وذكر وتلاوة وغير ذلك؛ "ولكن يمكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإن ما وقع به عليه الصلاة والسلام لبيان تجويز ذلك عليه. وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال: أن في كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فتدق بين حجرتين ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقلاقل، ثم يحسو منه ثلاث حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه ما كان به، وهو جيد للرجل إذا احتبس عن أهله. وممن صرح بجواز النشرة، المزني عن الشافعي، وأبو جعفر الطبري وغيرهما.   الانفصال" أي التخلص والتباعد "عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب" كما يؤخذ من قوله غالب ما يؤثر؛ "إن ما وقع به صلى الله عليه وسلم لبيان تجويز ذلك عليه" ويمكن الانفصال أيضًا؛ بأنه إنما قال سلطان، أي قوة وشدة، والذي وقع له صلى الله عليه وسلم ليس بسلطانه؛ إذ لم يغير شيئًا من عقله، ولا نقص شيء من عبادته، مع أن الذي سحر به كان بالغًا في القوة، بحيث لو فعل مثله بغيره من ضعفاء القلوب، لاشتد مرضه وأقعد واختل عقله وترك العبادة؛ وكذا قول الرازي: لا يظهر تأثيره إلا على فاسق، أي كل الظهور المخل بالعقل. "وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه" بن كامل اليماني، التابعي المشهور؛ "أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فتدق بين حجرتين، ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقلاقل" أي قل هو الله أحد والمعوذتان، "ثم يحسو" يملأ فمه "منه ثلاث حسيات"، يبتلعها، "ثم يغتسل به" أي بالباقي بعد الحسو، "فإنه يذهب عنه ما كان به" من السحر، "وهو جيد للرجل إذا احتبس" أي منع "عن" جماع "أهله، وممن صرح بجواز النشرة المزني" إسماعيل، "عن الشافعي" الإمام، "وأبو جعفر" محمد بن جرير "الطبري وغيرهما" كالشعبي ويحيى بن سعيد، وجاءت بها آثار، واستدل لجوازها يقول عائشة: أفلا تنشرت، فلم ينكر عيها، وإنما قال: "أما الله فقد شفاني". وقال الحسن البصري: هي من السحر، وفي أبي داود عن جابر: النشرة من عمل الشيطان، وأجيب؛ بأن المراد بها التي كانت الجاهلية تعالج بها وتعتقد تأثيرها. وقد نقل الطيبي عن بعضهم: أن النشرة نوع من الرقي والعلاج، يعالج بها من يظن أنه مس من الجن، وفي الحديث: لعل طبًا، أي سحرًا أصابه فنشره، أي رقاه بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} [الفلق: 1] ، ويقال أيضًا: نشره إذا كتب له نشرة، قاله أبو عبد الله الأبي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 قال ابن الحاج في "المدخل": كان الشيخ أبو محمد المرجاني أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه فيجدون على ذلك الشفاء، وأخبر رحمه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاها له في المنام، وقال: إنه مرة رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك في هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهي هذه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} [التوبة: 128] ، إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] ، إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يكتب: اللهم أنت المحيي وأنت المميت، وأنت الخالق وأنت البارئ وأنت المبلي، وأنت الشافي، خلقتنا من ماء مهن، وجعلتنا في قرار مكين إلى قدر معلوم، اللهم إني أسألك بأسمائك الحسني وصفاتك العلا، يا من بيده الابتلاء والمعافاة، والشفاء والدواء، أسألك بمعجزات نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، وبركات خليلك إبراهيم وحرمة كليمك موسى عليه السلام، اللهم أشفه.   "قال ابن الحاج في المدخل: كان الشيخ أبو محمد المرجاني أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه، فيجدون على ذلك الشفاء" بإذن الله، "وأخبر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها له في المنام، وقال" أيضًا؛ "أنه مرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك" استفهام تقرير لينبهه على عظم فائدتها وتلقيها بالقبول التام "في هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهي هذه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم} أي منكم محمد صلى الله عليه وسلم، {عَزِيزٌ} شديد {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي عنتكم ولقاؤكم المكروه، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن تهتدوا {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} شديد الرحمة {رَحِيمٌ} بهم يريد لهم الخير، إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} مر أن هذه إحدى آيات الشفاء {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} ، إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين" أي وسورة المعوذتين، "ثم يكتب: اللهم أنت المحيي وأنت المميت، وأنت الخالق وأنت البارئ وأنت المبلي" بالأمراض ونحوها، "وأنت الشافي" منها "خلقتنا من ماء مهين" ضعيف، وهو المني، "وجعلتنا في قرار مكين" أي حريز، وهو الرحم "إلى قدر معلوم" وهو وقت الولادة، "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى" تأنيث الأحسن، "وصفاتك العلا" المرتفعة عن جميع الصفات، "يا من بيده الابتلاء" الاختيار والامتحان بالأمراض "والمعافاة" منها، "والشفاء والدواء، أسألك بمعجزات نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وبركات خليلك إبراهيم وحرمة كليمك موسى عليه السلام، اللهم اشفه" عافه مما به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 [ذكر رقية تنفع لكل شكوى} : عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئًا فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطبيين أنزل رحمة من عندك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله". رواه أبو داود في سننه.   ذكر رقية تنفع لكل شكوى: أي مرض، "عن أبي الدرداء" عويمر الأنصاري، الصحابي الجليل، أول مشاهده أحد، مات في خلافه عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك، "قال: سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئًا" أو اشتكاه أخ له، هكذا لفظ الحديث عند أبي داود، فسقط من المصنف أو نساخه واو للتنويع، "فليقل" بعد وضع يده على الوجع قياسًا على ما سبق: "ربنا" جوز شيخنا رفعه خبر مبتدأ، أي أنت ربنا، ونصبه منادى، أي: يا ربنا، والمتبادر على رفعه أنه مبتدأ خبره "الله" وصفته "الذي في السماء تقدس اسمك" أي تنزه، ويؤيد النصب كاف الخطاب في اسمك؛ إذ الأصل عدم الالتفات، وخص التنزيه بالسماء، لكون تمامه إنما هو فيها، وإن وجد منه في الأرض فليس كالسماوات، فإن سكانها ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وأما الأرض فأكثرها كفار وعبدة أوثان، لا يقدسون اسمه حق تقديسه، "أمرك في السماء والأرض" نافذ، "كما رحمتك في السماء" عامة في أهلها من الملائكة وغيرهم، "فاجعل رحمتك في الأرض" عامة، كالسماء. وحكمة ذلك أن ظهور الرحمة في السماء، كالمحقق الظاهر لكل أحد، لسلامة أهلها من الذنوب والبلايا، فسأل أن يجعلها في الأرض بحفظ أهلها من الذنوب، وبمغفرة ما اقترفوه منها، "واغفر لنا حوبنا" بالضم، أي ذنبنا العظيم، وقرئ شاذًّا "بالفتح" مصدر حاب حوبًا، وقيل: الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم، "وخطايانا أنت رب الطبيين" جمع طبيب، أي المداوين، وفي بعض النسخ: المطببين، أي الطالبين للطب، أي الدواء، لكن الذي رأيته في النسخ الصححية من غير المصنف هو الأول، "أنزل رحمة من عندك وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ بإذن الله"، رواه أبو داود في سننه" والنسائي. كما يأتي قريبًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 [رقيته صلى الله عليه وسلم من الصداع] : روى الحميدي في "الطب" عن يونس بن يعقوب عن عبد الله قال: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الصداع "بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الكبير وأعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار". ورواه ابن السني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأصاب أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ورم في رأسها، فوضع رسول الله عليه الصلاة والسلام يده على ذلك من فوق الثياب فقال: "بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم الله". صنع ذلك ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك، فقالت ذلك ثلاثة أيام. فذهب الورم. رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقي.   رقيته صلى الله عليه وسلم من الصداع: بزنة غراب وجع الرأس ويأتي للمصنف قريبًا بسط حقيقته، "روى الحميدي" أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي، صاحب الجمع بين الصحيحين "في الطب" النبوي، "عن يونس بن يعقوب" "عن عبد الله" "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الصداع" فيقول "بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الكبير" عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول، أو معناه أكمل الموجودات وأشرفها، وعلى الوجهين هو من أسماء التنزيه، "وأعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار" "بفتح النون وفتح العين المهملة" فار منه الدم أو صوت لخروج الدم، كما في القامس، "ومن شر حر النار، ورواه ابن السني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما" فله طريقان، "وأصاب أسماء بنت أبي بكر" الصديق "رضي الله عنهما ورم في رأسها، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ذلك من فوق الثياب" لأنه لم تمس يده الشريفة يد امرأة غير حلائله، "فقال: "بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك" هذه المذكورة، ويحتمل دعوته إلى الإسلام والشرائع، فإنها أعظم منزلة عند الله، أي بدعوة نبيك العباد إليك التي حصل بها الهدى وتحمل بسببها المشاق، توسل إلى الله تعالى بتلك الحالة ليكون أنجع في الإجابة، كما في قصة أصحاب الكهف "الطيب" بوزن سيد أي الطاهر أو الزكي لأنه لا أطيب منه "المبارك" العظيم البركة وهي لفظ جامع لأنواع الخير "المكين" "فعيل من المكانة"، أي ذي الرفعة والشرف "عندك" ومن ذلك أن قرنت ذكره بذكرك، "بسم الله" صنع ذلك" المذكور من وضع اليد والقول "ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك فقالت ذلك" الدعاء "ثلاثة أيام" في كل يوم ثلاث مرات، "فذهب الورم، رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقي". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 [رقيته صلى الله عليه وسلم من وجع الضرس] : روى البيهقي أن عبد الله بن رواحة شكا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجع ضرسه، فوضع عليه الصلاة والسلام يده على خده الذي فيه الوجع وقال: "اللهم أذهب عنه سوء ما يجده وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك"، سبع مرات، فشفاه الله قبل أن يبرح. وروى الحميدي أن فاطمة رضي الله عنها أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام تشكو ما تلقى من ضربان الضرس، فأدخل سبابته اليمني فوضعها على السن الذي تألم، فقال: "بسم الله وبالله، أسألك بعزك وجلالك وقدرتك على كل شيء، فإن مريم لم تلد غير عيسى من روحك وكلمتك، أن تشفي ما بفاطمة بنت خديجة من الضر كله"، فسكن ما بها.   رقيته صلى الله عليه وسلم من وجع الضرس: بالكسر: السن مذكر ما دام له هذا الاسم، فإن قيل فيه: سن، فؤنث، فالتذكير والتأنيث باعتبار لفظين وتذكير الأسماء وتأنيثها سماعي، كما في المصباح وغيره. "روى البيهقي أن عبد الله بن رواحة" الخزرجي، البدري، الأمير الشهيد بمؤتة "شكا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجع ضرسه، فوضع عليه الصلاة والسلام يده على خده الذي فيه الوجع وقال: "اللهم أذهب عنه سوء ما يجده وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك"، سبع مرات، فشفاه الله قبل أن يبرح"، أي يزول من مكانه. "وروى الحميدي أن فاطمة رضي الله عنها أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام تشكو ما تلقى من ضربان الضرس"، أي شدة وجعه، "فأدخل سبابته اليمنى، فوضع يده على السن الذي تألمه"، أي يقوم بها الألم، وهو الوجع، وعبر بالذي نظر الآن المحدث عنه الضرس، وهو مذكر، وإلا فالأولى التي؛ لأن السن مؤنثة سماعا، "فقال: "بسم الله وبالله، أسألك بعزك وجلالك وقدرتك على كل شيء"، ومن ذلك وجود عيسى من غير أب، " فإن مريم لم تلد غير عيسى"، فهو تعليل لمقدر "من روحك" أضافه إليه تعالى تشريفا له "وكلمتك"، أي قول كن، ولم يقل ولدت عيسى من روحك، لئلا يوهم انها ولدت غير عيسى من غير روحه، "أن تشفي ما بفاطمة بنت خديجة" لم يقل بنتي؛ لأنه مقام تضرع وانكسار، فنسبها إلى أمها كأنها أجنبية منه، ليكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 ومن الغريب: ما شاع وذاع عن شيخنا المحب الطبري إمام مقام الخليل بمكة، ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجوع ضرسه، ويسأل عن اسمه واسم أمه وعن المدة التي يريد المألون أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين مثلًا بالوتر، قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر. ومما جرب أن يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] ، وإن شاءت كتب {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13] .   الدعاء أنجع "من الضر كله، فسكن ما بها" ومناسبة ذكر مريم دون غيرها من النساء ما بينها وبين فاطمة من الفضل، فكأنه قال: كما أكرمت مريم بتلك العجيبة أكرم فاطمة بذهاب وجعها. "ومن الغريب ما شاع وذاع عن شيخنا المحب" قاضي القضاة محمد بن الإمام رضي الدين "الطبري" المكي، المتوفى آخر ليلة الأربعاء، ثامن عشر صفر، سنة أربع وتسعين وثمانمائة بمكة، كما في شرح المصنف للبخاري، وليس هو المحب الطبري، الحافظ أحمد المشهور؛ لأنه متقدم على المصنف بزمان، مات سنة أربع وتسعين وستمائة، "إمام مقام الخليل بمكة". وفي شرحه البخاري إمام الحرم، الشريف المكي: وما هنا أخص، "ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجود ضرسه، ويسأل عن اسمه واسم أمه، وعن المدة التي يريد المألوم أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين، مثلًا بالوتر قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر" بمكة، ولم يبين أكان يقرأ أو يقول شيئًا مع وضع يده، أو بمجرد وضعه يذهب الله تعالى الألم كرامة له. "ومما جرب أن يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُم} خلقكم {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} القلوب {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون} ما مزيدة، والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جدًّا على هذه النعم، "وإن شاءت كتب" مع هذه الآية أو بدونها {وَلَهُ مَا سَكَن} أي حل {فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار} أي كل شيء فهو ربه وخالقه ومالكه، {وَهُوَ السَّمِيع} لما يقال، {الْعَلِيم} بما يفعل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 [رقية لعسر البول] : روى النسائي عن أبي الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أباه احتبس بوله، فأصابه حصاة البول، فعلمه أبو الدرداء رقية سمعها من النبي عليه الصلاة والسلام: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب المتطببين فأنزل شفاء من شفائك، ورحمة من رحمتك على هذا الوجع. فيبرأ بإذن الله" أمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرأ. وقد تقدم هذا في رقية الشكوى العامة من حديث أبي داود.   رقية لعسر البول: أي احتباسه، "روى النسائي عن أبي الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أباه احتبس بوله" امتنع من الخروج، "فأصابه حصاة البول، فعلمه أبو الدرداء رقية سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "من اشتكى منكم شيئًا، أو اشتكاه أخ له، فليقل": "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك" تنزه عما لا يليق بعلي كما لك، "أمرك" نافذ "في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا ذنوبنا" الكبائر. وفي الرواية السابقة: حوبنا "وخطايانا" الصغائر، "أنت رب المتطببين" "بموحدتين: جمع متطبب، وهو الطالب للدواء"، "فأنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على هذا الوجع، فيبرأ بإذن الله"، وأمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرأ، وقد تقدم هذا في رقية الشكوى العامة من حديث أبي داود" أي روايته عن أبي الدرداء مرفوعًا بدون قصة الرجل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 [رقية الحمى] : عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة وهي موعوكة، وهي تسب الحمى، فقال: "لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن لو شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله عنك"، قالت: فعلمني، قال: قولي: "اللهم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق   رقية الحمى: "عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهي موعوكة" أي قام بها الوعك وهو الحمى، "وهي تسب الحمى، فقال: "لا تسبيها، فإنها مأمورة" من الله تعالى بالقيام بك، فلا ذنب لها، "ولكن لو شئت علمتك كلمات، إذا قلتهن" هكذا في نسخ متعددة صحيحة "بتاء فوقية تليها هاء" وفي بعض النسخ: قلتيهن بزيادة تحتية بين التاء التي هي الفاعل، والهاء التي هي المفعول، إما للإشباع، أو لغة ردية، ولا يصح أن تكون التاء للتأنيث والياء هي الفاعل؛ لأن ياء الفاعل لا تكون مع الماضي، "أذهبها الله عنك"، قالت: فعلمني، قال: "قولي اللهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 من شدة الحريق، يا أم ملدم، إن كانت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلهًا آخر" قال فقالتها فذهبت عنها، رواه البيهقي. وقد جرب ذلك -كما رأيته بخط شيخنا- ولفظه: اللهم ارحم عظمي الدقيق وجلدي الرقيق، وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم، إن كنت آمنت بالله واليوم الآخر، فلا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم ولا تفوري على الفم، وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله إلهًا آخر، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله. ويكتب للحمى المثلثة -مما ذكره صاحب الهدي- على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرت، بسم الله مرت. بسم الله قلت، ويأخذ كل يوم ورقة   جلدي الرقيق" أي ارحمه، "وعظمي الدقيق" "بالدال"، أي ليس بغليظ "من شدة الحريق"، أي لهب الحمى، "يا أم ملدم" "بكسر الميم وإسكان اللام، فدال مهملة مفتوحة فميم". قال في النهاية: كنية الحمى، والميم الأولى زائدة، وألدمت عليه الحمى أي دامت، وبعضهم يقولها بالذال بالمعجمة: "إن كنت آمنت بالله العظيم، فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلهًا آخر" فيه جواز الدعاء على المشركين بالأمراض. "قال" أنس: "فقالتها" أي هذه الكلمات، "فذهبت عنها، رواه البيهقي، وقد جرب ذلك" فليس تأثير هذا الدعاء خاصًّا بعائشة، "كما رأيته بخط شيخنا" بمخالفة قليلة في اللفظ، "ولفظه: اللهم ارحم عظمي الدقيق" "بالدال" "وجلدي الرقيق" "بالراء، وكل منهما معناه خلاف الغليظ" "وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله واليوم الآخر" "يوم القيامة" "فلا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، ولا تغوري على الفم، وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله إلهًا آخر" لعله يرتدع فيوحد الله، "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله". "ويكتب للحمى المثلثة" التي تلازم ثلاثة أيام، ثم تقلع، ثم تأتي كذلك ثلاثًا "مما ذكره صاحب الهدي" ابن القيم فيه "على ثلاث ورقات لطاف" أي صغار: "بسم الله فرت" "بالفاء" أي ذهبت بسرعة، "بسم الله مرت" أي جازت، بمعنى أنها لا تستقر. "بسم الله قلت" "بالقاف" أي عدمت؛ لأن القلة قد تنتهي إلى العدم، "ويأخذ كل يوم ورقة، ويجعلها في فمه، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 ويجعلها في فمه ويبلعها بماء. وقد رخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. قال ابن الحجاج في "المدخل": وقد كان الشيخ أبو محمد المرجاني لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية، فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها فيبرأ بإذن الله تعالى، وكان المكتوب فيها، أزلي لم يزل، ولا يزال، يزيل الزوال، وهو لا يزال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . وقال المروزي: بلغ أبا عبد الله أني حممت فكتب لي من الحمى رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله، يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين، اللهم رب جبريل   ويبلعها بماء" بحيث يزيل الماء صورة الحروف حتى لا يلاقي النجاسة في الباطن، قاله شيخنا بناء على مذهبه؛ أن الباطل نجس معفو عنه، أما على مذهبنا أنه طاهر ولا يحكم له بالنجاسة حتى يخرج، فلا يحتاج إلى إزالة الماء صورة الحروف، "وقد رخص جماعة من السلف في كتابه بعض القرآن، وشربه وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه" أي القرآن. "قال ابن الحجاج في المدخل، وقد كان الشيخ أبو محمد المرجاني لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية" أي زاوية الشيخ، "فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها، فيبرأ بإذن الله تعالى، وكان المكتوب فيه أزلي". قال صاحب مختار الصحاح: الأزل القدم، يقال: أزلي ذكر بعض أهل العلم؛ أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا بالاختصار، فقالوا: يزلي، ثم أبدلت الياء ألفًا؛ لأنها أخف، "لم يزل ولا يزال يزيل الزوال" أي الإعراض، "وهو لا يزال" باق، "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". زاد في نسخة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، "وقال المروزي" أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد بن إبراهيم ثقة حافظ: "بلغ أبا عبد الله" أحمد بن حنبل "إني حممت، فكتب لي من الحمى" أي من أجلها "رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله، يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا" وهو الحرق، "فجعلناهم الأخسرين" في مرادهم، ومناسبتها للحمى أنها من فيح جهنم، كما في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك أي كبريائك إله الحق آمين. ومما جرب للخراج، ونقله صاحب زاد المعاد، أن يكتب عليه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105، 106، 107] . ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض، أو شيء نظيف، حديث ابن عباس: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد الله رب العالمين، وكأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] .   الحديث "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، أي كبريائك إله الحق" منادى بحذف الأداة "آمين" ختم بها الدعاء رجاء للإجابة. "ومما جرب للخراج" بضم الخاء المعجمة وخفة الراء فألف فجيم، قال في المصباح، كغراب بئر الواحدة خراجة، "ونقله صاحب زاد المعاد" ابن القيم فيه: "ن يكتب عليه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَال} كيف تكون يوم القيامة، {فَقُلْ} لهم: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} بأن يفتتها كالرمل السائل، ثم يطيرها بالرياح {فَيَذَرُهَا قَاعًا} منبسطًا {صَفْصَفًا} مستويًا {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} انخفاضًا {وَلَا أَمْتًا} ارتفاعًا. "ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال" بالخاء المعجمة نسبة إلى الخل "عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض" "بجيم فألف فميم"، قال في المقدمة: إناء معروف من فضة أو غيرها، وهو مستدير قعر له غالبًا. انتهى. ومعلوم أن أحمد لا يكتب في إناء فضة، "أو شيء نظيف" إن لم يكن جامًّا أبيض. "حديث ابن عباس" كلمات الفرج "لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين" مر شرحه قريبًا، ويزيد على كتابة هذا الحديث كتابة قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} أي الساعة {لَمْ يَلْبَثُوا} في قبورهم {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} إلا عشية يوم أو بركته، وصح إضافة الضحى إلى العشية لما بينهما من الملابسة؛ إذ هما طرفا النهار وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 قال الخلال: أخبرنا أبو بكر أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين فقال: قل له يجيء بجام واسع وزعفران. قال المروزي: ورأيته يكتب لغير واحد. وفي "المدخل": يكتب في آنية جديدة: اخرج أيها الولد من بطن ضيق إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذي جعلك في قرار مكين إلى قدر معلوم، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] ، إلى آخر السورة، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وتشربه النفساء، ويرش منه على وجهها. قال الشيخ المرجاني: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح في قوته. انتهى. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى عليه السلام على امرأة وقد اعترض ولدها في بطنها فقالت: يا كلمة الله ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه   العذاب في الآخرة لطوله، {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا في ظنهم {إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وكتابه هذا كله في الجام وضاح إن كان كبيرًا يسع ذلك، وإلا كتب عليه وعلى جوانبه. "قال الخلال" الحسن بن علي بن محمد أبو علي، ثقة حافظ، نزيل مكة، وبها مات، "أخبرنا أبو بكر" أحمد بن علي بن سعيد بن إبراهيم الثقة الحافظ: "أن أبا عبد الله" أحمد بن حنبل، "جاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله تكتب" خبر بمعنى الطلب أو نقدر الهمزة، أي تكتب "لامرأة قد عسر عليها ولدها" أي خروجه. وفي نسخة: الولادة "منذ يومين، فقال قل له يجيء بجام" إناء أبيض، أو نظيف "واسع وعفران، قال المروزي: ورأيته يكتب لغير واحد، وفي المدخل" لابن الحاج: "يكتب في آنية جديدة أخرج أيها الولد من بطن ضيق" بالتذكير؛ لأن البطن مذكر "إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذي جعلك في قرار مكين إلى قدر معلوم {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل} إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ويمحى بالماء "وتشربه النفساء" أي التي تعسرت عليها الولادة، سماها نفساء تفاؤلًا؛ بأن الولد يخرج فتصير نفساء، "ويرش منه على وجهها". "قال الشيخ المرجاني: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح" أي ولد "في وقته انتهى". "وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى عليه السلام على امرأة، وقد اعترض ولدها في بطنها، فقالت يا كلمة الله" أي يا من هو مكون بكلمة الله وأمره الذي هو، كن بلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 فقال عيسى: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس خلصها، قال: فرمت بولدها قال: فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها. ومما يكتب أيضًا لذلك، ويكون في إناء نظيف: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 1-4] وتشرب الحامل منه وترش على بطنها فتضع سريعًا. ومما يكتب للرعاف على جبهة المرعوف {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44] ولا يجوز كتبها بدم الراعف كما يفعله بعض الجهال، فإن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام الله. ومما يكتب لعرق النسى: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب كل شيء، ومليك كل شيء، وخالق كل شيء، أنت خلقتني وخلقت عرق النسى فيَّ فلا   واسطة أب ولا نطفة، "ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه، فقال عيسى: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس، خلصها، قال: فرمت بولدها" أي ولدته، "قال: فإذا عسر على المرأة ولدها" أي خروجه، "فأكتبه لها، ومما يكتب أيضًا لذلك ويكون في إناء نظيف {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت، وَأَذِنَتْ} سمعت وأطاعت في الانشقاق {لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي حق لها أن تسمع وتطيع، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت} زيد في سعتها كما يمد الأديم، ولم يبق فيها بناء ولا جبل، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} من الموتى على ظهورها، {وَتَخَلَّتْ} عنه، "وتشرب الحامل منه وترش على بطنها، فتضع سريعًا" بإذن الله. "ومما يكتب للرعاف" خروج الدم من الأنف، ويقال: هو الدم الخارج نفسه "على جبهة المرعوف، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارًا وبحارًا، {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} أمسكي عن المطر، فأمسكت {وَغِيضَ} نقص {الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي تم أمر هلاك قوم نوح، "ولا يجوز كتبها بدم الراعف، كما يفعله بعض الجهال فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله" عز وجل. "ومما يكتب لعرق النسى" بزنة حصى عرق في الفخذ، والتثنية نسيان، كما في المصباح: "بسم الله الرحمن الرحم، اللهم رب كل شيء، ومليك كل شيء، وخالق كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 تسلطه علي بأذى، ولا تسلطني عليه بقطع، واشفني شفاء لا يغادر سقمًا، لا شافي إلا أنت. وأما حفيظة رمضان لا آلاء إلا آلاؤك يا الله، أنت سميع عليم محيط به علمك كعسلهون، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] إلى آخرها. قال شيخنا: اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب وجملة بلدان أنها حفيظة رمضان، تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر. وهذه بدعة لا أصل لها، وإن وقعت في كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم بورودها في حديث ضعيف، وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدًّا، حتى وهو قائم على المنبر في أثناء خطبته حين يرى من يكتبها انتهى.   شيء، أنت خلقتني وخلقت عرق النسى فيَّ، فلا تسلطه عليَّ بأذى، ولا تسلطني عليه بقطع، واشفني شفاء لا يغادر" أي لا يترك "سقمًا، لا شافي إلا أنت" فلا يكون إلا بمشيئتك. "وأما حفيظة رمضان" أي الألفاظ التي تكتب فيه للحفظ، فهي "لا آلاء إلا آلاؤك" "بالمد فيها" أي: لا نعم إلا نعمك، "يا الله أنت" وفي نسخة: إنك "سميع عليم محيط به علمك، كعسلهون" "بكاف فعين مهملة مفتوحتين، فسين مهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فهاء فواو فنون"، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} ، وقوله "إلى آخرها" لم يقع في كلام شيخه. "قال شيخنا" السخاوي في المقاصد: هذه ألفاظ "اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب، وجملة بلدان إنها حفيظة رمضان" أضيفت إليه لوقوع كتبها فيه، "تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر، وهذه بدعة لا أصل لها وإن وقعت في كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم بورودها في حديث ضعيف. وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدًّا حتى وهو قائم على المنبر في أثناء خطبته حين يرى من يكتبها" ليرجع عن هذه البدعة. "انتهى" كلام شيخه. وفي التحفة: جزم أئمتنا وغيرهم بحرمة كتابة وقراءة الكلمات الأعجمية التي لا يعرف معناها، وقول بعض: كعسلهون: حية محيطة بالعرش رأسها على ذنبها لا يعول عليه؛ لأن مثل ذلك لا مدخل للرأي فيه، فلا يقبل فيه إلا ما ثبت عن معصوم على أنها بهذا المعنى لا تلائم ما قبلها في الحفيظة، وهو لا آلاء إلا آلاؤك يا الله، كعسلهون، بل هذا اللفظ في غاية الإيهام، ومن ثم قيل إنها اسم صنم أدخلها ملحد على جهلة العوام، وكأن بعضهم أراد دفع ذلك الإيهام، فزاد بعد الجلالة محيط به علمك، كعسلهون، أي كإحاطة تلك الحية بالعرش، وهو غفلة عما تقرر أن هذا لا يقبل إلا ما صح فيه عن معصوم، وأقبح من ذلك ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمس في هذه الجمعة عقب صلاتها، زاعمين إنها تكفر صلوات العام، أو العمر المتروكة، وذلك حرام لوجوه لا تخفى. انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 [ذكر ما يقي من كلام بلاء] : عن أبان بن عثمان عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات حين يمسي لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي". قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج، فجعل الذي يسمع منه الحديث ينظر إليه، فقال مالك تنظر إلي فوالله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما   ذكر ما يقي، "أي يحفظ قائله" من كل بلاء: فلا يصل إليه بلاء، وهذه غير قوله سابقًا رقية تنفع كل شكوى؛ لأن تلك تزيل ما حل به من المرض؛ "عن أبان بن عثمان" بن عفان الأموي المدني، الثقة، مات سنة خمس ومائة، "عن أبيه" ذي النورين، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات حين يمسي" أي حين يدخل وقت المغرب، "لم تصبه فجأة" "بضم الفاء والمد" وفي لغة بزنة تمرة، أي بغتة "بلاء حتى يصبح" يدخل وقت الصبح، "ومن قالها" ثلاث مرات "حين يصبح" يدخل وقت الصبح، "لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي" فينبغي المحافظة عليها مساء وصباحًا. "قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج" "بالفاء والجيم" مرض يحدث في أحد شقي البدن طولًا فيبطل إحساسه وحركته، وربما كان في الشقين، ويحدث بغتة، "فجعل الذي يسمع منه الحديث ينظر إليه" نظر تعجب، كأنه يقول لم جاءك هذا العارض، "فقال" أبان: "مالك تنظر إلي، فوالله ما كذبت على عثمان" يعني أباه، "ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني" يعني الفالج "غضبت" "بغين فضاد معجمتين فموحدة"، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 أصابني غضبت فنسيت أن أقولها. رواه أبو داود، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعنده: فكان أباه قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال له أبان: ما تنظر إلي، أما إن الحديث كما حدثتك ولكن لم أقله يومئذ ليمضي الله قدره.   "فنسيت" بسبب الغضب "أن أقولها". وفي نسخة: عصيت "بمهملتين وتحتية من العصيان"، أي فعلت ما كان سببًا للنسيان، وهو المعصية، وسماه معصية وإن لم يكن كذلك على عادتهم من عدم التقصير ما أمكن، فيعدون نحو خلاف الأولى عصيانًا. "رواه أبو داود، ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وعنده" أي الترمذي: "فكان أبان قد أصابه طرف فالج" أي بعضه، "فجعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إليَّ أما" "بالفتح وخفة الميم"، "إن الحديث كما حدثتك، ولكن لم أقله يومئذ" أي يوم أصابه "ليمضي" أي لينفذ "الله قدره" السابق في علمه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 [ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء] : وذكر أبو محمد عبد الله بن محمد المالكي الأفريقي، في كتابه "أخبار أفريقية" عن أنس بن مالك مرفوعًا: "من قال: بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات برئ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وعوفي من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها الجنون والجذام والبرض والريح". ويشهد له ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة   ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء: "ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد المالكي، الأفريقي" بفتح الهمزة نسبة إلى أفريقية، من كبار بلاد المغرب، كذا في اللب وفي المراصد إفريقية: "بالكسر اسم لبلاد واسعة ومملكة يسيرة" "في كتابه أخبار أفريقية، عن أنس بن مالك مرفوعًا: "من قال بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات برئ" أي عوفي "من ذنوبه" بمحوها عنه "كيوم ولدته أمه" فيصير بلا ذنب، "وعوفي من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها: الجنون والجذام والبرص والريح" أي ما يصيبه من الأرواح الخبيثة، "ويشهد له" أي يقويه ويدل على أن له أصلًا "ما رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من قول لا حول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 والسلام: "أكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها من كنز الجنة". قال مكحول: فمن قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابًا من الضر أدناها الفقر. وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم". ومن ذلك في الأمان من الفقر: عن أبي موسى قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من قال لا حول   ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها من كنز الجنة" أي ثوابها نفيس مدخر في الجنة، كما يدخر الكنز ويحفظ في الدنيا، فإن الأكمل إنما طريقه التشبيه، شبه نفس ثواب مدخر في الجنة أنفس: مال مدخر تحت الأرض في أن كل واحد منهما معد للانتفاع به بأبلغ انتفاع. "قال مكحول" الشامي أبو عبد الله، ثقة، فقيه، كثير الإرسال، مات سنة بضع عشرة ومائة؛ "فمن قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ" "بفتح الميم والجيم"، أي لا متحصن "من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابًا من الضر، أدناها الفقر". وفي نسخة: أدناهن، والأولى أولى؛ لأن جمع الكثرة فيما لا يعقل إفراد الضمير الراجح إليه أولى من جمعه. قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بمتصل؛ إذ مكحول لم يسمع من أبي هريرة. قال المنذري: ورواه النسائي والبزار مطولًا ورفعًا، ولا منجا من الله إلا إليه، ورواتهما ثقات محتج بهم، ورواه الحاكم، وقال: صحيح ولا علة له، وفي رواية له، وصححها أيضًا قال: "يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة"؟، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "تقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه". "وروى الطبراني" في الوسط، والحاكم "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسم: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء" مائة إلا واحدة، "أيسرها الهم". قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقب بأن فيه بشر بن رافع ضعيف، "ومن ذلك من الأمان من الفقر عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة في كل يوم لم يصبه فقرًا أبدًا"، رواه ابن أبي الدنيا". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 ولا قوة إلا بالله مائة مرة في كل يوم لم يصبه فقر أبدًا". رواه ابن أبي الدنيا. وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أبطأ عليه رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله". وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب يرفعه: "من قال كل يوم وليلة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، مائة مرة كان له أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى، واستقرع به باب الجنة". قال بعض رواته: لو رحلتم في هذا الحديث إلى الصين ما كان كثيرًا. ذكره عبد الحق في كتاب الطب النبوي.   عبد الله بن محمد الحافظ. "وروى الطبراني" في الأوسط "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "من ألبسه الله نعمة، فليكثر من الحمد لله، ومن كثرت ذنوبه فليستغفر الله"، "ومن أبطأ عليه رزقه" أي تأخر عليه مجيئه، "فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" فإن رزقه يأتيه بسهولة من حيث لا يعلم، وترك المصنف أول الحديث اقتصارًا على مراده منه. "وعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر، "عن أبيه" محمد بن علي، "عن جده" زين العابدين علي بن الحسين "عن علي بن أبي طالب، يرفعه: "من قال كل يوم" وكل "ليلة لا إله ئإلا الله الملك الحق المبين مائة مرة، كان له" ذلك "أمانًا من الفقر وأنسًا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى" "بكسر المعجمة" ضد الفقر، أي طلب فتحه "واستقرع به باب الجنة" أي توسل إلى قرع بابها ليفتح له. "قال بعض رواته: لو رحلتم في هذا الحديث إلى الصين" مملكة بالمشرق بعيدة، منها الأواني الصينية "ما كان كثيرًا، ذكره عبد الحق" بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي، الحافظ، الفقيه، المالكي، الزاهد، الورع، صاحب التصانيف العديدة، مات سنة إحدى وثمانين وخمسمائة "في كتاب الطب النبوي" وأخرجه أبو نعيم والديلمي والخطيب في رواة مالك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 [ذكر دواء داء الطعام] : روى البخاري في تاريخه عن عبد الله بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام: بسم الله خير الأسماء في الأرض وفي السماء لا يضر مع اسمه داءً، جعل فيه رحمة وشفاء. لم يضره ما كان.   ذكر دواء داء الطعام: "روى البخاري في تاريخه عن عبد الله بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام" قبل أن يأكل منه "بسم الله خير الأسماء" الكائنة "في الأرض وفي السماء لا يضر مع اسمه داءً، جعل فيه رحمة وشفاء، لم يضره" ذلك الطعام "ما كان" ولو كان شأنه أن فيه ضررًا ببركة اسم الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 [ذكر داء أم الصبيان] : عن علي قال: قال رسول الله عليه الصلاة السلام: من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان. رواه ابن السني، وذكره عبد الحق في "الطب النبوي". وأم الصبيان: هي الريح التي تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها. وسر التأذين -كما قاله صاحب تحفة الودود في أحكام المولود- أن يكون أول ما يقرع سمع المولود كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالثقلين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حين يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع الشيطان ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه.   ذكر داء أم الصبيان: "عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولد له مولود" ذكر أو أنثى، "فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان"، رواه ابن السني، وذكره عبد الحق في الطب النبوي" وإسناده ضعيف، "وأم الصبيان هي الريح التي تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها". قال بعضهم: كذا قيل، وأولى منه قول الحافظ ابن حجر: أم الصبيان هي التابعة من الجن، "وسر" أي حكمة "التأذين، كما قاله صاحب تحفة الودود" أي ذي الود وفي نسخة: المودود "بميم قبل الواو" لمناسبة قوله "في أحكام المولود" وهو العلامة ابن القيم: "أن يكون أول ما يقرع سمع المولود كلماته" أي المذكور من الأذان والإقامة، "المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالثقلين، له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو: كان يرصده حين يولد، فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع الشيطان ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه" بالمولود، فيقل ضرره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 النوع الثاني: في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الطبيعية [ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يعالج به الصداع والشقيقة] : اعلم أن الصداع ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه أحد جانبي الرأس لازمًا سمي شقيقة -بوزن عظيمة- وسببه أبخرة مرتفعة إلى الدماغ، أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذًا أحدثت الصداع، وإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة تشبيهًا ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله.   "النوع الثاني:" "في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الطبيعية" أي الموافقة للطبيعة، سواء عالج بها نفسه أو غيره، وأل في النوع عهدية، والمعهود ما عبر عنه سابقًا بالأدوية الطبيعية فذكر هنا إيضاحًا. ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يعالج به الصداع والشقيقة: بمعجمة وقافين عطف خاص على عام، كما يفيده قوله: "اعلم أن الصداع ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد جانبي الرأس لازمًا" زاد في الفتح: أو في مقدمه، "سمي شقيقة بوزن عظيمة" أي كما يسمى صداعًا، ومفهومه: أن غير الملازم لا يسمى شقيقة، لكن الحافظ لم يقيده بلازمًا، "وسببه أبخرة مرتفعة إلى الدماغ" من المعدة، "أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع" تصعد من المعدة "إلى الدماغ، فإن لم تجد" تلك الأبخرة أو الأخلاط "منفذًا" تخرج منه، كانسداد مسام الشعر، "أحدثت الصداع، وإن مال" البخار، أو المرتفع "إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة" فالمحدث هو الألم، وهو غير المائل، "وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة" أي الداء المسمى بالبيضة، وهي وجود الألم في جميع الرأس، "تشبيهًا ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كلها" كذا في جميع النسخ مؤنثًا، باعتبار أنه بضعة من الجسد، أو باعتبار الهامة، وإلا فالواجب كله؛ إذ الرأس مذكر اتفاقًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 وأسباب الصداع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء والاستفراغ والسهر وكثرة الكلام، ومنها ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بشيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد. وأما الشقيقة: فهي في شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف   وفي الفتح: وإن ملك قمة الرأس، وهو ظاهر في أنها أعلاه؛ لأن القمة "بكسر القاف" أعلى الرأس، كما في القاموس، ويحتمل أن يراد بها كل الرأس، فيوافق ظاهر المصنف. "وأسباب الصداع كثيرة، منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة" نفسها، "أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها" بكسرة الأكل، "ومنها ما يكون من الحركة العنيفة الشديدة، كالجماع والقيء والاستفراغ" للجهد في دم وإسهال ونحوهما. وفي الفتح: والاستفراغ الناشئ عن جماع أو حمام أو غيرهما، "والسهر" الكثير، "وكثرة الكلام" لا سيما العالي، "ومنها: ما يحدث من الأعراض النفسانية: كالهم والحزن والجوع" المفرط "والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس، كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ" "بكسر الصاد المهملة، وزن كتاب" أي الجلد الأسفل الذي تحت الجلد، الذي عليه شعر الرأس، وهو الذي يعبر عنه الفقهاء بالسمحاق، ولعل إضافته للدماغ مع أن بينه وبين العظم قبل الدماغ، الجلدة التي تسمى خيطة الدماغ، لقربه من الدماغ في الجملة، أو لكونه حافظة في الجملة، "أو حمل شيء ثقيل يضغط" "بفتح أوله وسكون الضاد وفتح الغين المعجمتين" من باب نفع، أي يعصر "الرأس" أي كأنه يعصره بحيث يصيره كأن أجزاءه انضم بعضها إلى بعض، لشدة ثقل ذلك الشيء عليه، "أو تسخينه" بالخفض عطفًا على ضربة "بشيء خارج عن الاعتدال" كلبس ثقيل برأسه، أو دهنه بشيء زائد في التسخين، أو أكل العقاقير المسخنة بقوة، فعدل عن قول الفتح أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال لإفادة التعميم، وأن اللبس كالمثال، "أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد" لا في الحر. "وأما الشقيقة، فهي" الكائنة "في شرايين الرأس" "بشين معجمة مفتوحة فراء فألف فتحتيتين فنون، جمع شريان بفتح المعجمة وكسرها مع سكون الراء" أي العروق النابضة، أي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 من الرأس. وعلاجها بشد العصابة. وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "وارأساه" وأنه خطب وقد عصب رأسه. فعصب الرأس ينفع في الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس. وفي البخاري من حديث ابن عباس: احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه من شقية كانت به. وقد جاءت مقيدة في بعض طرق ابن عباس نفسه، فعند أبي داود الطيالسي في مسنده من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه. وقد قال الأطباء: إنها نافعة جدًّا.   المتحركة "وحدها" دون غيرها، "وتختص بالموضع الأضعف من الرأس، وعلاجها بشد العصابة" "بكسر العين" ما عصب به، كالعصب والعمامة كما في القاموس. "وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة" بن الحصيب بتصغيرهما "أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة، فيمكث اليوم" تارة، "واليومين" أخرى، "لا يخرج" لما فيه من الوجع زيادة في أجره. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "وفي الصحيح" عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "وارأساه" فيه أن ذكر الوجع ليس شكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكما من شاك وهو راض، فالمعول في ذلك على القلب، لا على نطق اللسان، وقد بسط المصنف هذا المعنى في المقصد الأخير، "وإنه خطب" فيمرض موته، أي وعظ الناس وأوصاهم، "وقد عصب رأسه" أي شدة بعصابة، "فعصب الرأس ينفع في الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس" بتخفيف الوجع. "وفي البخاري من حديث ابن عباس: "احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به" زاد في رواية عند البخاري بماء يقال له: لحى جمل، أي بمنزل فيه ماء يسمى لحى "بفتح اللام وسكون المهملة" والإفراد، وفي رواية لحيا بالتثنية، وجمل "بفتح الجيم والميم" موضع بطريق مكة ند عقبة الجحفة، وأطلق في قوله: في رأسه، "وقد جاءت مقيدة بما في بعض طرق" حديث "ابن عباس نفسه، فعند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي، في مسنده من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه" وكذا جاء في حديث عبد الله بن بحينة عند البخاري بهذا اللفظ، فتحمل عليه روايته المطلقة "وقد قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضًا في الأخدعين والكاهل. أخرجه الترمذي وحسنه، وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم. وقد قال الأطباء: الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف. وقد ورد في حديث ضعيف جدًّا، أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: الحجامة في الرأس تنفع في سبع؛ من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين. وعمر متروك، رماه الفلاس وغيره بالكذب. وروى ابن ماجه في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء،   الأطباء: إنها" أي الحجامة في وسط الرأس "نافعة جدًّا، وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضًا في الأخدعين" "بخاء معجمة ودال وعين مهملتين"، قال أهل اللغة: عرقان في سالفة العنق، كما في الترغيب، وفي المصباح: هما عرقان في موضع الحجامة، "والكاهل" ما بين الكتفين، وفي المصباح: مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق، وهو الثلث الأعلى، وفيه ست فقرات، قال أبو زويد: الكاهل من الإنسان خاصة، ويستعار لغيره وهو ما بين كتفيه، وقال الأصمعي: هو موصل العنق، وفي الكفاية: هو الكتد. "أخرجه الترمذي، وحسنه أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم" كلهم عن أنس، ولفظ الترمذي: كان يحتجم في الأخدعين والكاهل، ولفظ أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ثلاثًا في الأخدعين والكاهل. "وقد قال الأطباء: الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف، وقد ورد في حديث ضعيف جدًّا أخرجه ابن عدي من طريق عمر" "بضم العين" "ابن رباح" "بكسر الراء وتحتانية"، العبدي، البصري، الضرير، "عن عبد الله بن طاوس" بن كيسان اليماني، ثقة، فاضل، من رجال الجميع، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، "عن أبيه" طاوس، يقال: إنه لقب واسمه ذكوان الفارسي، فقيه، ثقة، فاضل، مات سنة ست ومائة، "عن ابن عباس رفعه: الحجامة في الرأس تنفع من سبع: من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين، وعمر" بن رباح "متروك رماه الفلاس" "بالفاء" الصيرفي اسمه عمرو "بفتح العين" ابن علي الباهلي، البصري، ثقة، حافظ، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، روى له الستة. "وغيره بالكذب" في الحديث، فلهذا ترك. "وروى ابن ماجه في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صدع" "بشد الدال مبني للمفعول"، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع. وفي صحته نظر. وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن عن مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع فيه الحناء نفعًا ظاهرًا. قالوا: وإذ دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم جميع الأعضاء. وفي تاريخ البخاري وسنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكا إليه أحد وجعًا في رأسه إلا قال له "احتجم"، ولا شكا وجعًا في رجليه إلا قال له "اختضب بالحناء". وفي الترمذي عن علي بن عبد الله عن جدته -وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: ما كان يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة ولا نكتة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء.   قال المجد: صدع بالضم تصديعًا، ويجوز في الشعر صدع، كعنى، فهو مصدوع، فقصر التخفيف على الشعر "غلف" "بفتح المعجمة واللام مخففة ومثقلة"، أي ضمخ "رأسه بالحناء" "بالكسر والمد"، "ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع، وفي صحته نظر". "وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة" أي قوية، "ولم يكن" ناشئًا "عن مادة يجب استفراغها" فلا ينجع فيه استفراغ هذه المادة، وإذا كان من برد لم ينفع فيه الحناء، بل يزيده لبردها، "وإن كان كذلك" أي حارًا لم ينشأ عن مادة، "نفع فيه الحناء نفعًا ظاهرًا" لأن المرض يعالج بضده، "قالوا: وإذا دق وضمدت" "بخفة الميم وشدها مبني للمجهول، أي شدت "به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس، بل يعم جميع الأعضاء" أي وجعها كلها. "وفي تاريخ البخاري وسنن أبي داود" والترمذي وابن ماجه، كلهم عن سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكا إليه أحد وجعًا في رأسه إلا ال له: "احتجم"، ولا شكا وجعًا في رجليه إلا قال له: "اختضب" الرواية أخضبهما "بالحناء". قال الترمذي: حديث غريب، إنما نعرف من حديث قائد. "وفي الترمذي عن علي بن عبد الله" بن أبي رافع: كذا وقع مكبرًا، قال الحافظ: والصواب عبيد الله، يعني مصغرًا ابن أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، "عن جدته" سلمى أم رافع زوج أبي رافع، صحابية لها أحاديث، "وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ما كان يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة" "بالقاف" واحدة القروح، التي تخرج في الجسد، "ولا نكتة" "بضم النون وسكون الكاف وفوقية" أي: أثر يسير "إلا أمرني أن أضع عليها الحناء" "بالمد". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للرمد] : وهو مرض حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها، وسببه، انصباب أحد الأخلاط وأبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان -بالخاء المعجمة والنون- أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة، وإن لم ينحدر وطلب نفاذًا فلم يجد أحدث الصداع، كما تقدم. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة.   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للرمد: لعله لم يقل لداء الرمد؛ لأنه لا يسمى مرضًا عرفًا، "وهو مرض حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها" الظاهر، كما زاده الحافظ "وسببه انصباب أحد الأخلاط" أمزجة الإنسان الأربعة، "وأبخرة" الواو بمعنى أو، وفي نسخ: بأو "تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع" الحاصل من الأخلاط أو الأبخرة "إلى الخياشيم" جمع خيشوم: بزنة فيعول أقصى الأنف "أحدث الزكام" بضم الزاي، وهو تحلب فضول رطبة من بطني الدماغ المقدمين إلى المنخرين، وقد زكم كعنى، كما في القاموس، "أو" اندفع "إلى العين، أحدث الرمد، أو إلى اللهاة" بفتح اللام: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم، "والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النزلة" بفتح النون، وهي كالزكام "أو إلى القلب أحدث الشوصة" بشين معجمة مفتوحة فواو ساكنة فصاد مهملة وجع في البطن، أو ريح يتعقب في الأضلاع، أو ورم في حجابها، من داخل، واختلاج العروق قاله القاموس، "وإن لم ينحدر وطلب نفاذًا" بالذال المعجمة أي خروجًا، "فلم يجد" منفذًا "أحدث الصداع، كما تقدم" أول الكلام. "وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج الرمد بالسكون والدعة" بفتح المهملتين الراحة، فقوله: "وترك الحركة" عطف سبب على مسبب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 وفي سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر فقال: "ادن وكل"، فأخذت تمرًا، فأكلت، فقال: "تأكل تمرًا وبك رمد"؟ فقلت: يا رسول الله، أمضغ من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حمى إلى علي من الرطب لما أصابه الرمد. وفي البخاري من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين". والكمأة: نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد في الأرض من غير أن يزرع.   "وفي سنن ابن ماجه عن صهيب" بن سنان الرومي، الصحابي الشهير، يقال اسمه عبد الملك، وصهيب لقب، مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، "قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر، فقال: "ادن وكل"، فأخذت تمرًا، فأكلت، فقال" أ "تأكل" "فهمزة الاستفهام مقدرة"، ويأتي في النوع الثالث، ذكره بالهمزة "تمرًا وبك رمد" والاستفهام للتوبيخ، ولا ينافي أمره له بالأكل لأنه عنده الخبز، فيصدق بالأكل، منه فقط، أو علم أنه لا يضره أكل التمر، وإنما قصد بالاستفهام المباسطة، "فقلت: يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى" فيه أن رمده كان بإحدى عينيه فقط، "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" تعجبًا؛ لأنه إن كان يضربه لم يفده المضغ من ناحية العين التي لا رمد بها. "وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حمى إلى علي من الرطب لما أصابه الرمد" لأنه حار كالرمد فيقوي ضرره. "وفي البخاري" ومسلم والترمذي، "من حديث سعيد بن زيد" بن عمرو بن نفيل العدوي، أحد العشرة، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الكمأة" "بفتح الكاف وسكون الميم وهمزة مفتوحة" وفي العامة من لا يهمزه واحدة الكمء "بفتح فسكون فهمز" مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الأعرابي، فقال: الكمأة الجمع، والكمء الواحد على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى جبأة وجب، وقيل: الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر والعساقل "بمهملتين وقاف ولام" السراب، وكأنه أشار إلى أن محمل وجدان إلا كمؤ الفلوات "من المن" "بفتح الميم وشد النون" زاد في رواية أبي نعيم من حديث أبي سعد: والمن من الجنة، "وماؤها شفاء للعين" أي لدائها، كذا لأكثر رواة البخاري، وكذا عند مسلم، وللمستملي: من العين، أي من داء العين، "والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 وروى الطبراني من طريق بن المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هو جدري الأرض، فبلغه ذلك فقال: "إن الكمأة ليست جدري الأرض، لا إن الكمأة من المن".   الأرض من غير أن يزرع". زاد الحافظ: قيل: سميت بذلك لاستتارها، يقال: كمأ الشهادة إذا كتمها، ومادة الكمأة من جوهر أرض بخارى، يحتقن نحو سطح الأرض ببرد الشتاء، وينميه مطر الربيع، فيتولد ويندفع متجسدًا، ولذا كان بعض العرب يسميها جدري الأرض تشبيهًا لها بالجدري مادة وصورة؛ لأن مادته رطوبة تندفع غالبًا عند الترعرع، وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهرة. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن" الحديث. "وروى الطبراني من طريق" محمد "بن المنكدر عن جابر، قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها، وقالوا: هو جدري الأرض" لمشابهته للجدري مادة وصورة، "فبلغه" صلى الله عليه وسلم "ذلك: فقال: "إن الكمأة ليست جدري الأرض، ألا" "بالفتح والتخفيف" "إن الكمأة من المن". قال الحافظ: هذا الحديث والذي قبله، يعني حديث أبي هريرة، كل منهما صريح في أنه سبب لقوله: الكمأة من المن الحديث، العرب تسمي الكمأة أيضًا نبات الرعد؛ لأنها تكثر بكثرته، ثم تنفطر عنها الأرض، وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، وأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة، وهي باردة رطبة في الثالثة، رديئة للمعدة بطيئة الهضم. زاد بعضهم: أكلها يورث القولنج والسكت والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررًا من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب، ثم صلقت بالماء والملح والصعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذا كان ماؤها شفاء للعين. وقال ابن البيطار: الغذاء المتولد منه غليظ وليس برديء، الكيموس وينفع المعدة الحارة؛ لأنه بارد رطب وماؤه يجلو البصر، وإذا ربي به الأثمد نفع جدًّا ودفع نزول الماء. وقال ابن خالويه: يعصر ماؤه ويخلط به أدوية، فيكتحل به، وقال ابن العربي: الصحيح أنه ينفع من وجع العين مفردًا ومركبًا، وقال غيره: إن كان عن حرارة نفع مفردًا، وإلا مركبًا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 واختلف في قوله: "من المن"، فقيل: من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوًا، ومنه الترنجبيل فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوًا بغير علاج. وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبيل الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غر تكلف ببذر ولا سقي، وإنما   "واختلف في قوله: من المن" أي في المراد به على ثلاثة أقوال: "فقيل: من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل" لأن في رواية لمسلم: من المن الذي أنزل على بني إسرائيل "وهو الطل الذي يسقط على الشجر" أي شجر البلوط. قال المصنف: المن كل طل ينزل من السماء على شجر أو حجر وينعقد عسلًا، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبيل، والمعروف بالمن ما وقع على شجر البلوط، معتدل، نافع للسعال الرطب والصدر والرئة، "فيجمع ويؤكل حلوًا، ومنه الترنجبيل، فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوًا بغير علاج". قال الحافظ عقب هذا: والقول الثاني: إن المعنى أنها من المن الذي امتن الله تعالى به على عباده عفوًا بغير علاج، قاله أبو عبيد وجماعة. "وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجيل الذي يسقط على الشجر" وهذا ينبت في الأرض، "وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي" فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، فيقع على الشجر فيتناولونه، ثم أار، يعني الخطابي إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل، كان أنواعًا منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الأرض فتكون الكمأة منه؛ وهذا هو القول الثالث، وبه جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه، فقالوا: المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط، بل كان أنواعًا من الله عليهم بها، من النبات الذي يوجد عفوًا، ومن الطير الذي يسقط عليهم من غير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على الشجر، والمن مصدر بمعنى المفعول، أي ممنون به، فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب، كان منا محضًا، وإن كانت جميع نعم الله على عبيده منها منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن، لكونه لا صنع لأحد فيه، فجعل سبحانه وتعالى قوتهم في التيه الكمأة، وهي تقوم مقام الخبز، وأدمهم السلوى، وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطل الذي ينزل على الشجر، فكمل بذلك عيشهم، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض، الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر. وقال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفًا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين: أحدهما أن يخلط في الأدوية التي يكتحل بها، حكاه أبو عبيد، ثانيهما: أن تشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها؛ لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة وتبقي النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة فلا ينجع. وقال آخر: تجعل الكمأة في قدر جديدة ويصب الماء عليها، ولا يطرح   المن"، فأشار إلى أنها فرد من أفراده، فالترنجبيل كذلك فرد من أفراد المن، وإن غلب استعمال المن عليه عرفًا، ذكره الحافظ، ثم قال قوله: وماؤها شفاء للعين. قال الخطابي: "وإنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة؛ لأنها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال يجلو البصر" والعكس بالعكس كما في كلام الخطابي عند الحافظ، زاد بعضهم: ويجلو البصيرة أيضًا. "وقال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفًا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين، أحدهما أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها" كالأثمد والتوتيا، "حكاه أبو عبيد". قال الحافظ: ويصدق على هذا القول، أن بعض الأطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر، "ثانيهما: أن تشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل" "بكسر الميم" المرود، "فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها؛ لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة وتبقي النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها، وهي باردة يابسة، فلا ينجع". زاد الحافظ، وحكى إبراهيم الحربي، عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكيت أعينهما، فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها، فهاجت أعينهما ورمدا. قال ابن الجوزي: وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة، فاكتحل بها، فذهبت عينه. "وقال آخر: تجعل الكمأة في قدر جديدة ويصب الماء عليها، ولا يطرح فيها ملح، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 فيها ملح، ثم يؤخذ غطاء جديد نقي فيجعل على القدر، فما جرى على الغطاء من بخار الكمأة فذلك الماء الذي يكتحل به. وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربي به الأثمد كان من أصلح الأشياء للعين إذا اكتحل به وحده يقوي أجفانها، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل، وقال أيضًا: إذا اكتحل بماء الكمأة بميل من ذهب تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة في البصرة كثيرة.   ثم يؤخذ غطاء جديد نقي" "بنون فقاف" "من" الدنس، "فيجعل على القدر، فما جرى" أي سال "على الغطاء من بخار الكمأة، فذلك الماء الذي يكتحل به". "وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربي به الأثمد كان من أصلح الأشياء للعين، إذا اكتحل به وحده يقوي أجفانها ويزيد الروح الباصر قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل" ووصف الروح بالباصر بناء على أن القوى التي في البدن تسمى أرواحًا، فيقال: الروح الباصر والروح السامع والروح الشام، كما قاله ابن القيم. "وقال" ابن واقد: "أيضًا إذا اكتحل بماء الكمأة بميل من ذهب، تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة في البصر كثيرة" ولم يذكر المصنف القول الثاني، وهو: أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض فتربى به الأكحال، حكاه ابن الجوزي، عن أبيبكر بن عبد الباقي: فتكون الإضافة إضافة الكل لا إضافة جزء، كأنه يقول ابن القيم: هذا أضعف الوجوه. قال الحافظ: وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفًا نظر، فقد حكى عياض عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلًا، وهو: إن كان لتبريد ما بالعين من الحرارة، فماؤها مجردً شفاء، وإلا فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي، فقال الصحيح: إنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحًا. نعم، جزا الخطابي بمال ابن الجوزي، فقال: تربى بالتوتيا وغيرها من الأكحال، ولا تستعمل صرفًا؛ لأنه يؤذي العين، وقال النووي: الصحيح، بل الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقًا، فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى، فذهب بصره حقيقة، فكحل عينيه بماء الكمأة مجردًا، فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين، الكمال بن عبد الدمشقي، صاحب صلاح، ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادًا في الحديث وتبركًا به، فنفعه الله به، قلت: الكمال المذكور هو كمال الدين عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر، يعرف بابن عبد بغير إضافة الحارثي، الدمشقي، من أصحاب أبي طلفر الخشوعي، سمع منه جماعة من شيوخ شيوخنا، عاش ثلاثًا وثمانين سنة، ومات سنة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحي وابن سينا وغيرهما، قال: والذي يزيل الإشكالات عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت في الأصل سليمة من المضار، عرض لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر لنيته والعكس بالعكس والله أعلم.   اثنتين وسبعين وستمائة قبل النووي بأربع سنين، وينبغي تقييد ذلك بمن عرف من نفسه قوة اعتقاد في صحة الحديث والعمل به، كما يشير إليه آخر كلامه، وهو ينافي قوله أولًا مطلقًا. وقد أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح إلى قتادة، قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ، أو خمسًا، أو سبعًا فعصرتهن، فجعلت ماءهن في قارورة، فكحلت بها جارية لي، فبرئت. انتهى. "وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحي" "بفتح الميم وكسر المهملة وسكون التحتية"، كما يفيده كلام التبصر "وابن سيناء وغيرهما، قال: والذي يزيل الإشكالات عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت في الأصل سليمة مع المضار، ثم عرض لها الآفات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج، وغير ذلك من الأسباب التي أراد الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها؛ بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة واستعمال كل ما وردت به السنة، بصدق ينتفع به من يستعمله ويدفع الله عنه الضرر لنيته، والعكس بالعكس، والله أعلم" بالنيات، وهذا الحديث جاء عن جمع صحابة أبو سعد الخدري، جابر عن أحمد، والنسائي وابن ماجه وابن عباس وعائشة عند أبي نعيم في الطب النبوي، ورواه ابن السني عن صهيب، رفعه: "عليكم بماء الكمأة الرطبة، فإنها من المن، وماؤها شفاء للعين". قال عبد الملك بن عمير: فحدثت بهذا الحديث شهر بن حوشب، فلقيني بعد، فقال: الحديث الذي حدثتني به، لقد أخذ ابنا لي من هذا الجذري، فشرب عيناه ما شاء الله منه حتى ذهبت عيناه فأخذت الكمأة، فقطرت في عينيه قطرة قطرة، وعرفت أن الله عز وجل وتر يحب الوتر، حتى إذا كان الغد قطرت فيه ثلاثًا ثلاثًا، حتى إذا كان الغد قطرت فيه خمسًا خمسًا، حتى بلغت أحد عشر، فكأن ليس بعينيه نكبة. وقال المستغفري: قال علي بن الجهم: دعاني المتوكل أمير المؤمنين، فقال: قد أكثرت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 .......................................   من الأدوية لعيني، فلا تزداد إلا رمدًا، فسل العلماء هل يعرفون حديثًا في ذلك؟ قال: فمضيت إلى أحمد بن حنبل، فسألته، فقال: روى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" قال: فرجعت إلى المتوكل، فأخبرته، فقال: ادع لنا يوحنا بن ماسويه، فدعوته، فقال له المتوكل: كيف يستخرج ماء الكمأة؟، قال: أنا أستخرج ذلك، فأخذ الكمأة، فقشرها ثم سلقها، فانضجت أدنى النضج، ثم شقها وأخرج ماءها بالميل، فكحل به عين المتوكل، فبرأت في الدفعة الثانية، فعجب يوحنا، وقال: أشهد أن صاحبكم كان حكيمًا، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من العذرة] : وهي -بضم المهملة وسكون الذال المعجمة- وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبًا، وقيل: هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو في الخرم الذي ينزل بين الأنف والحلق، وهو الذي يسمى سقوط اللهاة، وقيل: هو اللهاة والمراد وجعها سمي باسمها، وقيل: هو موضع قريب من اللهاة، واللهاة -بفتح اللام- اللحمة التي في أقصى الحلق. وفي البخاري، من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية -أسد خزيمة- وهي   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من العذرة: "وهي بضم" العين "المهملة وسكون الذال المعجمة: وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبًا" قيلك سميت بذلك؛ لأنها تخرج غالبًا عند طلوع العذرة، وهي خمسة كواكب تحت الشعرى العبور، ويقال لها أيضًا: العذارى، وطلوعها يقع في وسط الحر. "وقيل: هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو" تخرج "في الخرم الذي ينزل من الأنف والحلق" عبارة غيره، أو في الخرم الذي بين الأنف والحلق، "وهو الذي يسمى سقوط اللهاة". "وقيل: هو اللهاة" نفسها، "والمراد وجعها، سمي باسمها" تسمية للحال باسم المحل، "وقيل: هو موضع قريب من اللهاة، واللهاة: "بفتح اللام" اللحمة التي في أقصى الحلق" ويجمع على لهى ولهيات، مثل حصاة وحصى وحصيات، وعلى لهوات أيضًا، على الأصل كما في المصباح. "وفي البخاري" ومسلم وأبي داود وابن ماجه، "من حديث أم قيس" يقال: اسمها آمنة "بنت محصن" "بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ونون" "الأسدية، أسد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 أخت عكاشة، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها قد أعلقت عليه من العذرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تدغرون أولادكن بهذا العلاق؟ عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب" يريد الكست وهو العود الهندي.   خزيمة" بن مدركة بن إلياس بن مضر، احترازًا عن أسد ربيعة وغيره، وتلو هذا البخاري: وكانت من المهاجرات الأول، اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم، "وهي أخت عكاشة" بالتشديد" ابن محصن، أحد من يدخل الجنة بغير حساب "أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها". قال الحافظ: لم أعرف اسمه، "قد أعلقت" وفي رواية: علقت "بشد اللام بدون ألف"، وصوب الحافظ وغيره الأول، وهما في البخاري، أما مسلم، فإنما فيه أعلقت بالألف، وهما بمعنى: لكن اللغويون إنما يقولون: أعلقت، أفاده عياض "عليه". وفي رواية للبخاري، عنه: وصوب ابن الأعرابي عليه، وهو ما في مسلم، وقال الخطابي: المحدثون يقولون عليه والصواب عنه، أي دفعت عنه، ومعنى أعلقت عليه أو ردت عليه العلوق، أي ما عذبته به "من العذرة". وقال النووي: أي عالجت رفع لهاته بإصبعها، وقال عياض: فسره سفيان برفع الحنك بالإصبع، وأبو عبيد برفع اللهاة وكل متقارب، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام" بدون ألف بعد الميم وفي رواة: بالألف، أي لأي شيء "تذغرن أودلاكن بهذا العلاق" "بكسر العين وفتحها"، وفي رواية: الإعلاق، وهما بمعنى، ولكن أهل اللغة إنما يذكرون الإعلاق رباعي، وتفسيره غمز العذرة، قال عياض، أي لأنه مصدر أعلقت. وقال القرطبي: هو الأشهر لغة، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز العلاق، وقال ابن الأثير، يجوز على أن العلاق اسم المصدر الذي هو الإعلاق، كما قالوا في العطاء أنه اسم المصدر الذي هو الإعطاء، قال القرطبي: والرواية في العلاق "بكسر العين" انتهى. وضبطه النووي بفتحها، فهما روايتان، وفي الكلام معنى الإنكار، أي على أي شيء تعالجن هذا الداء بهذه الآفة والمداوة الشنيعة، فلا تفعلن ذلك، ولكن "عليكم" "بالميم"، ورواه الكشميهني: عليكن "بالنون" وهما باعتبار الأشخاص والأنفس، قاله المصنف: "بهذا العود الهندي" يعني: استعملوه على ما يأتي بيانه، "فإن فيه سبعة أشفية" جمع شفاء، أي أدوية، "منها ذات الجنب" أي الألم العارض فيه من رياح غليظة مؤذية، وتسمى الشوصة، وقال الترمذي: هي السل. قال القرطبي: وفيه بعد، والمعروف الأول، وفي الرواية للشيخين: فإن فيه سبعة أشفية من سبعة أدواء، منها: ذات الجنب، يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب، أي بأن يصب الدواء في أحد شقي الفم، ويسعط ابتداء كلام بيان لصفة التداوي، "يريد" صلى الله عليه وسلم "الكست الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 وقوله: "تدغرن" خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر: غمز الحلق. عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه، دمًا، فقال: "ما هذا؟ به العذرة، أو وجع في رأسه"، فقال: "ويلكن لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطًا هنديًا فلتحله   "بضم الكاف وسكون السين المهملة والتاء المثناة آخره"، وفي الطريق الآتي: "بالقاف، ثم السين، ثم الطاء، وهما لغتان"، "وهو العود الهندي". قال ابن العربي: القسط نوعان: هندي، وهو أسود، وبحري، وهو أبيض؛ والهندي أشدهما حرارة، وقال القرطبي: البحري الأبيض أحد نوعي العود الهندي، قال الحافظ: كذا وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنين، فإما أن يكون ذكر السبعة، فاختصر الراوي، أو اقتصر عليه السلام على الاثنين، لوجودهما حينئذ دون غيرهما. وقد ذكر الأطباء: من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول، ويقتل ديدان الأمعاء، ويدفع السم وحمى الربع والورد، ويسخن المعدة ويحرك شهوة الجماع، ويذهب الكلف طلاء، فذكروا أكثر من سبعة. وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحي، وما زاد عليها بالتجربة، فاقتصر على ما هو بالوحي لتحققه، وقيل: ذكر ما يحتاج إليه دون غيره؛ لأنه لم يبعث بتفاصيل ذلك، قلت: ويحتمل أن تكون السبعة أصول صفة التداوي به؛ لأنها إما طلاء أو شرب أو تكميد أو تنطيل أو تبخير أو سعوط أو لدود؛ فالطلاء يدخل في المراهم ويخل بالزيت ويلطخ، وكذلك التكميد والشرب يسحق ويجعل في عسل أو ماء أو غيرهما، وكذا التنطيل والسعوط يسعط في زيت ويقطر في الأنف، وكذا الدهن والتبخير واضح، وتحت كل واحد من السبعة منافع لأدواء مختلفة، ولا يستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم. "وقوله: تدغرن خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة" المفتوحة مضارع دغر، كمنع، "والدال المهملة" قال القرطبي: لا يجوز غيره، "والدغر غمز الحلق" قال القرطبي: والمراد به هنا رفع الحنك، وأصله الدفع، ونهى عن ذلك لما فيه من تعذيب الصبي، ولعله يزويد في وجعه. "و" أخرج أحمد وأصحاب السنن، "عن جابر بن عبد الله، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها صبي" صغير، "يسيل منخراه دمًا، فقال: "ما هذا"؟ الذي بهذا الصبي "قالوا: به العذرة أو وجع في رسه، فقال: "ويلكن" كلما تقال لمن وقع في هلكة، ولا يترحم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 بماء ثم تسعطه إياه". فأمرت عائشة فصنع ذلك للصبي فبرأ. الحديث. وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمزة اللهاة، وبالعلاق: وهو شيء يعلقونه على الصبيان، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن   عليه بخلاف ويح، "لا تقتلن أولادكن" أي لا تفعلن ما يكون سببًا لقتلهم، "أيما امرأة" بزيادة ما لإفادة التعميم، "أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه، فلتأخذ قسطًا" "بضم القاف وبالطاء". قال البخاري: وهو الكست، يعني بالكاف والفوقية، قال: مثل الكافور والقافور، ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله بن مسعود: قشطت. قال القرطبي: وهذا من التعاقب بين الحرفين، "هنديًا" يجلب من الهند، وهو نوعان: أسود وأبيض، ويقال له: بحري، وهو المراد هنا لحديث زيد بن أرقم: "تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت" هذا مفاد كلام القرطبي، وفي شرح المصنف البحري، ما يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، وزاد بعضهم: ثالثًا، يسمى بالقسط المر، وهو كثير ببلاد الشام، خصوصًا السواحل، قال في نزهة الأفكار: وأجودها البحري، وخيار الأبيض الخفيف، الطيب الرائحة، وبعده الهندي، وهو أسود خفيف، وبعده الثالث: وهو ثقيل، ولونه كالخشب البقس، ورائحته ساطعة، وأجود ذلك كله ما كان جديدًا، ممتلئًا غير متآكل بلدغ اللسان، وكل دواء مبارك نافع، "فلتحله بماء" أي تحكه على حجر بالماء، كذا في المرقاة. وقال القرطبي: أي يدق ناعمًا "ثم تسعطه" "بفتح التاء والعين وبضم العين من سعط، كمنع ونصر، وبضم التاء وكسر العين من أسعط"، "إياه" أي تصبه في أنفه. قال القرطبي: وهل يسعط به مفردًا أو مع غيره، يسأل عن ذلك أهل المعرفة والتجربة، ولا بد من النفع به إذا لا يقول صلى الله عليه وسلم إلا حقًّا "فأمرت عائشة، فصنع ذلك للصبي فبرأ، الحديث". قال في المرقاة: وقد حصل هذا المرض لولدي، وألح به، فأرادوا أن يغمزوا حلقه على طريقة النساء، فمنعتهن من ذلك تمسكًا بالحديث، واستعملت له القسط، فشفي منه سريعًا، ولم يعاوده بعد ذلك، ووصفته لجماعة فبرءوا منه، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة وبالعلاق" "بكسر العين وفتحها" "وهو شيء يعلقونه على الصبيان" كالعوذة، وهذا بيان لمراده هنا، وإلا فالعلاق لغة ما يعلق بها لشيء ثم تفسيره مخالف لقوله في شرح البخاري: أعلقت عليه من العذرة، أي رفعت حنكه بإصبعها، ففجرت الدم، وفي الفتح والنهاية وغيرهما أنه كانت عادة النساء إذا أصاب الصبي العذرة، تعمد المرأة إلى خرقة تفتلها فتلًا شديدًا وتدخلها في أنفه، وتطعن ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم. والسعوط: ما يصب في الأنف. وقد استشكل معالجتها -أي العذرة- بالقسط مع كونه حارًا، والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان، وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجاز حار؟ وأجيب: بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تجفيف للرطوبة وقد يكون نفعه في هذا الداء بالخاصية، وأيضًا فالأدوية الحارة قد تنفع من الأمراض الحارة بالعرض كثيرًا، بل وبالذات أيضًا، وقد ذكر ابن سينا في معالجة سقوط اللهاة بالقسط مع الشب اليماني، على أنا لو لم نجد شيئًا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجًا عن القواعد الطبيعية.   الموضع، فيفنجر منه دم أسود، وربما أقرحه، وذلك الطعن يسمى دغرًا، فمعنى تدغرن أولادكن، أنها تغمز حلق الولد بإصبعها، فترفع ذلك الموضع وتكبسه بهذا العلاق. زاد في النهاية: وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقًا، كالعوذة، "فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم" فإنه يصل إلى العذرة فيقضها؛ لأنه حار يابس، "والسعوط" "بفتح السين وضم العين المهملتين" "ما يصب في الأنف" أما بضم السين، فالفعل الذي هو سب الدواء في الأنف. "وقد استشكل معالجتها أي العذرة بالقسط مع كونه حارًا" يابسًا، "والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجاز حار" فكيف يعالج الشيء بما يقويه. "وأجيب: بأن مادة العذرة" أصلها الذي تولدت منه "دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تجفيف للرطوبة" البلغمية، "وقد يكون نفعه في هذا الداء" أي المرض "بالخاصية" وإن كان حارًا، "وأيضًا فالأدوية الحارة قد تنفع من الأمراض الحارة بالعرض كثيرًا، بل وبالذات أيضًا". "وقد ذكر ابن سينا في معالجة سقوط اللهاة بالقسط" الباء زائدة، ولم تقع في الفتح "مع الشب اليماني، على أنا لو لم نجد شيئًا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجًا عن القواعد الطبيعية" أي لكان الشفاء مع وجود سبب منعه أمرًا خارقًا للعادة. وقال النووي: اعترض من في قلبه مرض، فقال: أجمع الأطباء على أن مداواة ذات الجنب بالقسط خطر جدًّا، لفرط حرارته. قال المازري: وقد كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، فقد ذكر جالينوس؛ أن القسط ينفع من وجع الصدر، وذكر بعض قدماء الأطباء أنه يستعمل لجذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره، وهذا يبطل ما زعمه المعترض الملحد. انتهى. والمازري أطال النفس في ذكر منافع القسط التي تطابق عليها الأطباء في كتبهم، ثم قال فأنت ترى هذه المنافع التي ذكرها الأطباء، فتعلم أنه ممدوح شرعًا وطبًّا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء استطلاق البطن] : في الصحيحين من حديث سعيد بن أبي عروبة أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه -وفي رواية استطلق بطنه- فقال: "اسقه عسلًا"، فسقاه فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا،   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء استطلاق البطن: "في الصحيحين" والترمذي والنسائي، كلهم في الطب، "من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن أبي المتوكل" علي بن دآود، ويقال ابن داود "بضم الدال بعدها واو فهمزة" الناجي "بنون وجيم" البصري، ثقة، من رجال الجميع وأوساط التابعين، مات سنة ثمان ومائة، وقيل: قبلها، "عن أبي سعيد" سعد بن مالك "الخدري" الصحابي ابن الصحابي: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي" قال الحافظ: لم أقف على اسم واحد منهما "يشتكي بطنه" أي وجع بطنه من إسهال حصل له من تخمة. "وفي رواية" للشيخين أيضًا من حديث قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، فقال: إن أخي "استطلق" "بفتح الفوقية واللام" "بطنه" "بالرفع، وضبطه في الفتح مبنيًَّا للمفعول، أي تواتر إسهال بطنه" قال المصنف: وكذا قال القرطبي في المفهم، هو بضم التاء مبنيًّا للمفعول، فهو الرواية الصحيحة، فيكون أصله استطلق هو بطنه، فالسين زائدة لا للطلب. قال الحافظ: استطلق، بضم المثناة وسكون الطاء المهملة وكسر اللام، بعدها قاف، أي كثر خروج ما فيه، يريد الإسهال، ولمسلم من طريق سعيد بن أبي عروبة: قد عرب بطنه، بمهملة، فراء مكسورة، فموحدة، أي فسد هضمه لاعتلال المعدة، ومثله ذرب "بذال معجمة بدل العين" وزنا ومعنى؛ "فقال: "اسقه عسلًا" صرفًا أو ممزوجًا، وعند الإسماعيلي: اسقه العسل، واللام عهدية، والمراد عسل النحل، لكونه المشهور عندهم، قال الحافظ: أي عند النحاة الذي هو الإشارة إلى معهود في الذهن، لا عند البيانين؛ أنه الإشارة إلى حصة غير معينة؛ لأنه حينئذ لا يفيد أنه النحل إلا أن يراد النحل، ويراد بالحصة باعتبار القدر منه، "فسقاه" العسل فلم ينجع، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 فقال: "صدق الله وكذب بطن أخيك". وفي رواية لمسلم فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: "اسقه عسلًا"، فقال: سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال: "صدق الله". وفي رواية أحمد عن يزيد بن هارون فقال في الرابعة: "اسقه عسلًا"، قال فأظنه، قال: فسقاه فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك". قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك، أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى: كذب بطن أخيك،   فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، "فقال: إني سقيته" العسل، "فلم يزده إلا استطلاقًا" بعد السقي، ففي السياق حذف مستفاد من هذا، "فقال: "صدق الله" في قوله: فيه شفاء للناس، "وكذب" أخطأ "بطن أخيك" حيث لم يصلح لقبول الشفاء، لكثرة المادة الفاسدة التي فيه، ولذا أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فلما كرر ذلك برأ، كما في الرواية الأخرى أنه سقاه الثانية والثالثة، فإن ما ساقه المصنف، لفظ رواية قتادة عن أبي المتوكل، التي ذكرها بقوله: وفي رواية استطلق بطنه ففيها اختصار عند البخاري. أما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن أبي المتوك التي صدر بها، فهي تامة، ولفظها، فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: "اسقه عسلًا"، ثم أتى الرجل الثانية، فقال: "اسقه عسلًا"، ثم أتاه الثالثة فقال: "اسقه عسلًا"، ثم أتاه، فقال: فعلت، فلم يبرأ، فقال: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، فسقاه فبرأ؛ فبين أن قوله: "صدق الله" إنما كان بعد أن جاء ثلاث مرات. "وفي رواية لمسلم: فقال له ثلاث مرات" إني سقيته، فلم يزده إلا استطلاقًا، "ثم جاء الرابعة، فقال: "اسقه عسلًا"، فقال: سقيته، فلم يزده إلا استطلاقًا" لجذبه المادة، وكونه أقل من كميته، "فقال: "صدق الله" "وكذب بطن أخيك". "وفي رواية أحمد، عن" شيخه "يزيد بن هارون" السلمي، مولاهم الواسطي بإسناده "فقال في الرابعة: اسقه عسلًا، قال: فأظنه قال: فسقاه فبرأ" "بفتح الراء والهمز بوزن قرأ" وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقولها "بكسر الراء بوزن علم، كما في الفتح"، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك" ففي هاتين الروايتين؛ أنه قال ذلك بعد الرابعة. قال الحافظ: والأرجح أنه قاله بعد الثالثة، وفي رواية: فسقاه فعافاه الله سبحانه. "قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب" الذي هو الإخبار، بخلاف الواقع عمدًا، أو سهوًا، أو جهلًا، لكن لا إثم فيهما، إنما هو في العمد "في موضع الخطأ" الذي هو خلاف الصواب قولًا أو فعلًا، "يقال: كذب سمعك، أي زل، فلم يدرك حقيقة ما قيل له" بل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 أي لم يصلح لقبول الشفاء بل ذل عنه. وقال الإمام فخر الدين الرازي: لعله صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع كونه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا سيظهر نفع بعد ذلك كان جاريًا مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ. وقد اعترض بعض الملحدة فقال: العسل مسهل، فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟ وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَم   أدرك الحكم على خلاف ما ألقي إليه وليس هو حقيقة الكذب؛ إذ الإخبار فيه بخلاف الواقع فهو دليل على إطلاق الكذب في موضع الخطأ. زاد عياض: وكذا يقولون كذب بصرك إذا لم يدرك ما رأى، قال الشاعر: كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالًا "فمعنى كذب بطن أخيك، أي يصلح لقبول الشفاء، بل ذل عنه" قال بعضهم فيه: إن الكذب قد يطلق على عدم المطابقة في غير الخبر. قال في المصابيح: هو على سبيل الاستعارة التبعية، وفيه إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، "وقال الإمام فخر الدين الرازي: لعله صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي" كأنه لم يقل بالوحي؛ لأنه ينشأ عنه أنوار تشرق في صدره، بل في جميع بدنه، يظهر بها من المعاني اللطيفة والأسرار الخفية ما تقصر العبارة عن بيانه، "أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال، مع كونه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا؛ بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان جاريًا مجرى الكذب" بحسب ظاهر الحال، وإلا فإذا كان الغرض علمه بالوحي أنه لا يصلح الآن، وإذا كرر صلح، يكون البرء متوقفًا على تكرر السقي، فهو متوقع، "فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ" اي كذب. "وقد اعترض بعض الملحدة" هذا الحديث، "فقال: العسل مسهل" "بضم فسكون" من أسهل، أي مطلق للبطن، "فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال" مع أنه يزيده، وقد يؤدي إلى هلاكه. "وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله" لأنه أطلق في محل التقييد، "بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] ، وجه الشبه أن هؤلاء بادروا إلى إنكار نفع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف، والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع: منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته فوصف له صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لاسيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم   العسل من الإسهال، كما أن المشركين بادروا إلى إنكار كون القرآن منزلًا من عند الله، لعدم وصولهم إلى فهم معانيه وما يراد به؛ "فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن" لمن قام به، فليس علاج الشيخ كعلاج الصبي، "والعادة" أي ما يعتاد له فعله من مشي وركوب وسهر ونوم ولبس وغير ذلك، "والزمان" فليس دواؤه في نحو الصيف، كدوائه في نحو الشتاء، "والغذاء المألوف" إذ قد يحدث المرض بمخالفته، فعلاجه برده إلى المألوف، "والتدبير" أي التأمل في صفة استعمال الدواء بمعرفة قدره وصفة تركيبه وغير ذلك، ككونه يستعمل بعد غليه بالنار، أو تسخينه فقط، بحيث يزول برده، أو باردًا، "وقوة الطبيعة" على القدر الذي يجعل من الدواء لها؛ "و" اتفقوا "على أن الإسهال يحدث من أنواع، منها: الهيضة" أي المرض الناشئ من اجتماع فضول في المعدة، هذا المراد هنا بدليل قوله: "التي تنشأ عن تخمة" "بوزن رطبة" أي فساد المعدة من الأخلاط المجتمعة فيها كما يأتي. "واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها" فلا يستعمل لها قابض لئلا تحتبس تلك الفضول فيتولد منها مزيد الضرر، "فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة"، وحبسه عنه ضرر واستعجال مرض، "فكان هذا الرجل، كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته، فوصف له صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة، من أخلاط لزجة" "بزاي وجيم"، أي متعلقة بها "تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل" "بكسر المعجمة وميم ساكنة"، "كخمل المنشفة" "بكسر الميم اسم آلة" "فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها، وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو" يزيل "تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك" نافع "مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفسده في أول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 يفسده في أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررًا آخر، فكأنه شرب منه أولًا مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات برأ بإذن الله تعالى. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "كذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء، نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها. وقال بعضهم: إن العسل تارة يجري سريعًا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضًا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعة لها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهل، فإنكار وصفه بالمسهل مطلقًا قصور من المنكر.   مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء" المرض "إن قصر عنه" "بفتحتين مخففًا"، كعقد، ومشددًا، أي عجز، كما في القاموس: "لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أو هي" أضعف "القوة وأحدث ضررًا آخر، فكأنه" أي الرجل "شرب منه أولًا مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات برأ بإذن الله تعالى" "بزنة قرأ" لغة أهل الحجاز ولغة غيرهم، كعلم" والسياق في المرض، أما في الدين، فبالثاني فقط. "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "كذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء، نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها" فشفي لما استفرغت. "وقال بعضهم": هو صاحب كتاب المائة في الطب، كما في الفتح: "إن العسل تارة يجري سريعًا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء" أكثره "ويدر البول فيكون قابضًا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعة لها" "بذال معجمة وعين مهملة" أي يؤثر فيها كتأثير النار أما بمهملة فمعجمة، فلذوات السموم، كالعقرب، "حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهل، فنكار وصفه" أي العسل "بالمسهل مطلقًا قصور من المنكر". وقال القرطبي في المفهم: اعترض بعض زنادقة الأطباء هذا، فقال: أجمع الأطباء على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال، وهذا كلام جاهل، بدليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وبصناعة الطب التي ينتمي إليها، أما الأول، فلأن من علم صدقه بدليل المعجزة، حقه إذا وجد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 وقال ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المسهل أربعة أقوال: أحدها: أن حمل الآية على عمومها في الشفاء أولى، وإلى ذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: صدق الله، أي في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول فشفي بإذن الله تعالى. الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها. الثالث: أن الموصوف له ذلك كان به هيضة، كما تقدم تقريره.   من كلامه ما يقصر عن إدراكه أن يعلم أن القول حق في نفسه، وينسب القصور إلى نفسه، ثم إن كان الصادق بين كيفية العمل بذلك الشيء، فليبحث عنه، فإذا انكشف له، علم أن ذلك هو الذي أراد الصادق، وهذا إنما يخاطب به علماء الطب المسلمون؛ وأما بيان جهله بصناعة الطب، فإنه حاد في النقل، حيث أطلق في محل التقييد، ونقل إجماعًا لا يصح، وبيان ذلك ما قاله الإمام المازري: الأشياء التي يفتقر فيها إلى تفصيل، فلما يوجد فيها مثل ما يوجد في صناعة الطب، فإن المريض المعين يجد الشيء دواء في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه، فينتقل علاجه إلى شيء آخر بسبب ذلك، وذلك مما لا يحصى كثرة؛ وقد يكون الشيء شفاء في حالة، وفي شخص، فلا يطلب الشفاء به في سائر الأحوال، ولا في كل الأشخاص، والأطباء مجمعون على أن العلة الواحدة يختلف علاجها باختلاف السن، فذكر نحو ما في المصنف، ثم قال: وبه علم جهالة المعترض، ولسنا نستدل على صدقه صلى الله عليه وسلم بصدق الأطباء، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم، وإنما خرجنا على ما يصح من قواعدهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يكذب، وبينا به جهالة المعترض بالصفة التي ينتمي إليها. انتهى. "وقال ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المسهل" "بضم، فسكون، ففتح"، أي الشخص المسهل "أربعة أقوال، أحدها: إن حمل الآية على عمومها في الشفاء أولى" بالقبول، "وإلى ذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: صدق الله، أي في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها المسهول "بالقبول، فشفي بإذن الله تعالى". "الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم" أي العرب "من التداوي بالعسل في الأمراض كلها" وهذا ضعيف كما يأتي، بل باطل؛ إذ لو كان كذلك ما حسن استدلاله صلى الله عليه وسلم، بقوله: صدق الله. "الثالث: أن الموصوف له ذلك كان به هيضة، كما تقدم تقريره" وهو وجيه، واقتصر عليه المازري وغيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 الرابع: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغ، فلعله شربه أو لا بغير طبخ، انتهى. والثاني والرابع ضعيفان. ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: عليكم بالشفاءين العسل والقرآن أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم أيضًا موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر علي: إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته شيئًا من صداقها درهمًا فليشتر به عسلًا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجمع هنيئًا مريئًا مباركًا، أخرجه   "الرابع": يحتمل "أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ، انتهى. والثاني والرابع ضعيفان" قد علم ضعف الثاني، ولعل وجه الرابع احتياجه إلى قرينة تدل عليه، أو أن القرينة دلت على خلافه. "ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: عليكم" أي ألزموا التداوي "بالشفاءين العسل" لعاب النحل، أو طل خفي يقع على الزهر وغيره، فتلقطه النحل، وقيل: بخار يصعد في الجو، فيستحيل ويغلظ بالليل، ويقع عسلًا، فتجنيه النحل وتغتذي به، فإذا شبعت جنت منه مرة أخرى، ثم تذهب به إلى بيوتها وتضعه فيها؛ لأنها تدخر لنفسها غذاءها، وقيل: إنها تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة، فيقلب الله تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلًا، ثم إنها تقيء ذلك، فهو العسل، وأصلحه الربيعي، ثم الصيفي، وأما الشتائي فرديء، وما يؤخذ من الجبال والشجر أجود مما يؤخذ من الخلايا، وهو بحسب مرعاه، ومن العجب أن النحل يأكل من جميع الأزهار، ولا يخرج منه إلا حلو، مع أن أكثر ما يجنيه مر، وله زهاء مائة اسم "والقرآن" جمع في هذا احديث بين الطب البشري والإلهي، وبين الفاعل الطبيعي والروحاني، وطب الأجساد وطب الأرواح، والسبب الأرضي والسماوي، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} . "أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين، "وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم أيضًا موقوفًا" على ابن مسعود "ورجاله رجال الصحيح" وقال البيهقي في الشعب الصحيح، موقوف على ابن مسعود، "و" يؤيده أيضًا "أثر علي" كرم الله وجهه: "إذا اشتكى" أي مرض "أحدكم، فليستوهب" يطلب "من امرأته" أن تهبه "من صداقها درهمًا، فليشتر به عسلًا، ثم يأخذ ماء السماء" أي المطر، "فيجمع" دواء "هنيئًا مريئًا مباركًا" لبركته من العسل الذي فيه شفاء للناس، ومن ماء السماء الذي قال تعالى فيه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] . "أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن" عن علي موقوفًا عليه، "وروينا عنه" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن. وروينا عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهمًا عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلًا فليشربه فإنه شفاء. قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره، أي من وجوه: قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [الإسراء: 82] وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل: 69] .   أي عن علي "رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله" أي آية كانت "في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهمًا" من صداقها، كما في الرواية قبلها، فيحمل المطلق على المقيد، "عن طيب نفس منها" فإن خلا عن ذلك لم يفد، "فليشتر به عسلًا فليشربه فإنه شفاء". "قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره" أي أثر علي، "أي" إنه شفاء "من وجوه" أربعة: الأولى: "قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [الإسراء: 82] وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] " كثير البركة، وهذا الوجه الثاني، "وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] "، تمييز محول عن الفاعل، أي إن طابت أنفسهن عن شيء من الصداق فوهبنه لكم، "فكلوه هنيئًا" طيبًا "مريئًا"، محمود العافية، لا ضرر فيه، وهذا الوجه الثالث. "وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل: 69] " وهذا رابع الوجوه، وضمير فيه للعسل، وقول مجاهد للقرآن. صحيح في نفسه، لكن ليس هو الظاهر من سياق الآية؛ لأنها إنما فيها ذكر العسل، ولم يتابع مجاهد على قوله هذا، ثم قيل: المراد بالآية الخصوص، أي شفاء من بعض الأدواء، ولبعض الناس، قال القرطبي: لأن شفاء نكرة في سياق الثبوت، فلا تعم، وجعلها بعض أهل الصدق على العموم، فكانوا يستشفون به في كل الأمراض لصدق القرآن، وكان ابن عمر لا يشتكي قرحة ولا شيئًا إلا جعل عليه العسل، فقيل له في ذلك، فقال: أليس الله تعالى يقول: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل: 69] ، ومرض عوف بن مالك الأشجعي، الصحابي، فقال: ائتوني بماء، فإن الله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ، ثم قال: ائتوني بعسل، وتلا الآية، ثم قال: ائتوني بزيت، وتلا من شجرة مباركة، فخلط ذلك بعضه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 ..................   ببعض، وشربه فعوفي. وعن أبي وجزة "بجيم وزاي" أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى به، وهذا عمل بمطلق القرآن، وأصله صدق النية والله أعلم. قال ابن بطال: يؤخذ من قوله: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، الألفاظ لا تحمل على ظاهرها؛ إذ لو كان كذلك لبرأ العليل من أول شربة، فلما لم يبرأ إلا بعد التكرار، دل على أن الألفاظ تفتقر إلى معانيها. قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا الانتزاع. نعم يؤخذ منه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى فيها الداء، أي المرض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من يبس الطبيعة] : بما يمشيه ويلينه روى الترمذي وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بماذا كنت تستمشين؟ " قالت: بالشبرم، قال: حار حار ثم قالت: استمشيت بالسنى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن شيئًا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنى"، قال أبو عيسى هذا حديث غريب، وقد ذكره البخاري في   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من يبس الطبيعة: وهي المزاج المركب من الأخلاط، والإضافة لامية "بما يمشيه" أي اليبس، أي يسهله "ويلينه" تليينًا دون الإسهال، فالعطف مغاير لا تفسير، وعدل عن وصف الطبيعة بالتمشية؛ لأن الذي يتصف بها، وإنما هو يبسها لا نفسها الذي هو المزاج، ثم الطب الدواء النافع، فذكره النهي عن الشبرم تبعًا للإقرار على السنى، أو أراد بالطب ما يشمل دفع المضرة. "روى الترمذي وابن ماجه في سننه" وأحمد والحاكم "من حديث أسماء بنت عميس" "بمهملتين مصغر" "قالت: قال" لي "رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بماذا" أي بأي دواء "كنت تستمشين" أي تطلبين مشي بطنك، أي إخراج ما فيه، "قالت: "بالشبرم" "بضم الشين المعجمة والراء، بينهما موحدة ساكنة، وآخره ميم" وقد يفتح أوله، "قال: حار حار" أي شديد الحرارة، فالثاني تأكيد لفظي، ويحتمل أن الثاني، "بجيم وشد الراء اتباع لحار بمهملتين" كما في النهاية، يقال: حار جار، ويقال حار يار بمثناة تحتية على الاتباع أيضًا، "ثم قالت: استمشي بالسنى" "بفتح السين والنون والقصر" وقد يمد لا تحصى منافعه، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن شيئًا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنى" مبالغة في كثرة منافعه. "قال أبو عيسى" الترمذي: "هذا حديث غريب" وصححه الحاكم وأقره الذهبي، "وقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس مثل ما ذكره الترمذي. وذكر أبو محمد الحميدي في كتاب "الطب" النبوي له أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والشبرم فإنه حار حار، وعليكم بالسنى فتداووا به، فلو دفع الموت شيء لدفعه السنى". وحكى عبد الحق الإشبيلي في كتاب "الطب" له أن المحاسبي ذكر في كتابه المسمى بـ"المقصد والرجوع إلى الله تعالى" أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب السنى بالتمر. وفي سنن ابن ماجه، من حديث عمرو بن بكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: سمعت عبد الله بن حرام، وكان ممن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين يقول   ذكره" أي رواه "البخاري في تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس، مثل ما ذكره الترمذي" أي بلفظه، "وذكر أبو محمد" اسمه محمد بن أبي نصر فتوح "الحميدي" الحافظ صاحب الجمع بين الصحيحين "في كتاب الطب النبوي له؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والشبرم" أي احذروا استعماله، "فإنه حار حار، وعليكم بالسنى، فتداووا به، فلو دفع الموت شيء لدفع السنى" لكنه لا يدفعه، فلا يدفعه السنى. "وحكى عبد الحق الإشبيلي" "بكسر الهمزة والموحدة وسكون الشين المعجمة والتحتية قبل اللام نسبة إلى إشبيلية" من أمهات بلاد الأندلس، حافظ كبير، مصنف، ففيه، "في كتاب الطب، له أن المحاسبي" "بكسر السين" الحارث بن أسد "ذكر في كتابه، المسمى بالمقصد والرجوع إلى الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب السنى بالتمر" أي وضعهما في الماء وشربه، كما يفيده شرب، أي ليبس الطبيعة، كما هو ظاهر السياق ويوضعهما في الماء يندفع اجتماع حارين، المنهي عنه عند الأطباء لضرره. "وفي سنن ابن ماجه" والحاكم، كلاهما في الطب "من حديث عمرو بن بكر بن إبراهيم بن أبي عبلة" "بفتح المهملة وسكون الموحدة" واسمه شمر "بكسر المعجمة" ابن يقظان الشامي، يكنى أبا إسماعيل، تابعي صغير، ثقة، من شيوخ مالك ورجال الصحيحين، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة، "قال: سمعت عبد الله بن حرام" كذا في النسخ، وصوابه كما في الإصابة والتقريب عبد الله بن أم حرام، وهو عبد الله بن عمرو، وقيل: ابن كعب الأنصاري، نزل بيت المقدس، وهو آخر من مات من الصحابة بها، وزعم ابن حبان أن اسمه سمعون، له هذا الحديث: "وكان ممن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين" أي إليهما، وفي نسخة: للقبلتين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: "عليكم بالسنى والسنوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام"، قيل: يا رسول الله وما السام؟ قال: "الموت". قالوا: والشبرم: قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التي منع الأطباء من استعمالها لخطرها وفرط إسهالها. وأما السنى، فهو نبت حجازي، وأفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حار يابس في الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء، ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع من الوسواس   أي: الكعبة وبيت المقدس، "يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بالسنى والسنوت". قال ابن الأثير: يروى "بضم السين والفتح" أفصح، وفي الدر "بفتح السين" أفصح من ضمها، قال ابن الجوزي: "وبضم النون"، وفي القاموس: السنوت كتنور وسنور، "فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام" "بمهملة من غير همز" "قيل: يا رسول الله، وما السام؟، قال: "الموت" فيه: أن الموت داء من جملة الأدواء، وقال الشاعر: كذاك الموت ليس له دواء قال الحاكم: حديث صحيح، ورده الذهبي بأن عمرو بن بكر اتهمه ابن حبان، وقال ابن عدي: له مناكير، "قالوا: والشبرم قشر عرق شجرة" وفي النهاية حب يتداوى به، وقيل: هو الشيح، وفي القاموس الشبرم، كقنفذ، ويفتح: شجر ذو شوك، يقال: ينفع من الوباء ونبات آخر له حب كالعدس، وأصل غليظ ملآن لبنًا، والكل مسهل، واستعمال لبنه خطر، وإنما يستعمل أصله مصلحًا؛ بأن ينقع في الحليب يومًا وليلة، ويجدد اللين ثلاث مرات، ثم يجفف وينقع في عصير الهندباء والرازيانج، ويترك ثلاثة أيام، ثم يجفف ويعمل منه أقراص مع شيء من التربذ والهليلج والصبر؛ فإنه دواء فائق، "وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التي منع الأطباء من استعمالها، لخطرها وفرط إسهالها" وإنما أجازوه بالتدبير الذي رأيته عن القاموس، ولم يكتف بقوله: إياكم والشبرم، قصدًا للجمع بين السنة وبين ما تطابقت عليه الأطباء، ولدفع توهم أنه أريد بالحديث نهي أهل الحجاز لحرارة أرضهم. "وأما السنى، فهو نبت حجازي، أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة" أي الفساد، أي لا ضرر فيه، "قريب من الاعتدال، حار يابس في الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء" زاد القاموس: والبلغم، وزاد غيره: والدم، فهو موافق للأخلاط الأربعة، بعضها بالطبع، وبعضها بالخاصية على زعم الأطباء، "ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع من الوسواس السوداوي" أي الناشئ من غلبة خلط السوداء يقبض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 السوداوي. قال الرازي: السنى والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان من الجرب والحكة، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم. وأما السنوات، فقيل هو العسل، وقيل: رب عكة السمن يخرج خطوطًا سودًا على السمن، وقيل: حب يشبه الكمون وليس به، وقيل: هو الكمون الكرماني، وقيل: إنه الرازيانج، وقيل: إنه الشبت، وقيل: إنه العسل الذي يكون في زقاق السمن. قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب، أي: يخلط السنى مدقوقًا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردًا، لما في العسل والسمن من إصلاح السنى وإعانته على الإسهال.   "قال الرازي: والسني والشاهترج" "بشين معجمة وجيم" بالفارسية ملك البقول، ويسميه أهل مصر هاتراج، "يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب" بفتحتين خلط غليظ يحدث تحت الجلد من مخالطة البلغم الملح للدم، يكون معه بثور، وربما حصل معه هزال لكثرته، "والحكة" "بكسر الحاء داء يكون بالجسد" وفي كتب الطب: هي خلط رقيق يحدث تحت الجلد، ولا يحدث منه مدة، بل شيء كالنخالة، وهو سريح الزوال، "والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم" باختلاف الأمزجة، ولا يزاد على سبعة. "وأما السنوت، فقيل: هو العسل" النحل، "وقيل: هو رب عكة السمن، يخرج خطوطًا سودًا على السمن" فتلك الخطوط هي السنوت، "وقيل: حب يشبه الكمون، وليس به" أي وليس هو الكمون، "وقيل: هو الكمون الكرماني" "بكسر الكاف عند الأكثر، وصحيح ابن السمعاني فتحها وسكون الراء فيهما" "وقيل: إنه الراز يانج، وقيل: إنه الشبت" "بفوقية" المعروف، "وقيل: إنه العسل الذي يكون في زقاق السمن" "بكسر الزاي" السقاء الذي يجعل فيه. "قال بعض الأطباء: وهذا" القول الأخير "أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب" في تفسير قوله: عليكم بالسنى والسنوت، "أي يخلط السنى" حال كونه "مدقوقًا بالعسل" متعلق بيخلط، "والمخالط للسمن، ثم يعلق فيكون أصلح من استعماله" أي السنى "مفردًا لما في العسل والسمن من إصلاح السنى وإعانته على الإسهال" لأن رطوبتهما تقاوم اليبس الذي في السني فتصلحه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للمفؤود] : وهو الذي أصيب فؤاده بمرض، فهو يشتكيه كالمبطون. روى أبو داود عن سعد قال: مرضت مرضًا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: "إنك رجل مفؤود، فائت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلد بهن الفؤاد".   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للمفؤود وهو الذي أصيب فؤاده: أي قلبه "بمرض، فهو يشتكيه كالمبطون، روى أبو داود" من طريق مجاهد: "عن سعد" ابن أبي وقاص، أحد العشرة، "قال: مرضت مرضًا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني" يزورني، فوضع يديه على ثديي" تثنية ثدي "حتى وجد بردها على فؤادي" قلبي: "فقال: "إنك رجل مفؤود" أي تشتكي فؤادك، "فائت الحارث بن كلدة" "بفتح الكاف واللام"، ابن عمرو الثقفي، طبيب العرب، ذكره في الإصابة في القسم الأول، وقال: روى ابن إسحاق لما أسلم أهل الطائف، تكلم نفر منهم في العبيد الذين نزلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقهم، فقال: أولئك عتقاء الله، وكان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة، قال غيره: وكان فيهم الأزرق مولى الحارث، ثم ذكر حديث أبي داود هذا، ثم قال: وقال ابن أبي حاتم: لا يصح إسلامه، وهذا الحديث يدل على جواز الاستعانة بأهل الذمة في الطب، قلت: وجدت له رواية في أمالي المحاملي. وفي التصحيف للعسكري من طريق شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن الحارث بن كلدة، وكان أطب العرب، وكان يجلس في مقناة له، فقيل له في ذلك، فقال: الشمس تثفل الريح وتبلي الثوب وتخرج الداء الدفين. قال العسكري: المقناة "بالقاف والنون" الموضع الذي لا تصيبه الشمس، وقوله: تثفل، بمثلثة وفاء مكسورة، أي تغيره، وروى الحربي في غريب الحديث، وعبد الملك بن حبيب في كتاب الطب النبوي، له أن عمر سأل الحارث بن كلدة: ما الدواء؟ قال: الازم، يعني الحمية، وروى أنه لما احتضر اجتمع الناس إليه، فقالوا: أوصنا، فقال: لا تتزوجوا إلا شابة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا نضيجة، ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنورة في كل شهر، فإنها مذهبة للبلغم، ومن تغدى فلينم بعده، ومن تعشى فليمش أربعين خطوة. انتهى ببعض اختصار "من ثقيف، فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة" أي التمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 وهذا الحديث من الخطاب العام الذي أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم. والتمر لأهل المدينة كالحنطة لغيرهم. و"اللدود": ما يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم. وفي التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما تمر المدينة، ولا سيما العجزة، وفي كونها سبعًا خاصية أخرى تدرك بالوحي. وفي الصحيحين "من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية لم يضره   المسمى بذلك، "فليجأهن" "بفتح الفاء وسكون اللام وفتح التحتية والجيم والهمز وضم الهاء وشد النون"، أي فليدقهن، وبه سميت الوجيئة، وهو تمر يبل بلبن، ثم يدق حتى يلتئم، كما في النهاية، وفي نسخة: فليحلهن، أي ينقعهن في الماء "بنواهن" ليخرج خاصيته، ولكنها تصحيف مخالف للنهاية، "ثم ليلد بهن الفؤاد". وفي رواية ابن منده: مرض سعد، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني لأرجو أن يشفيك الله"، ثم قال للحارث بن كلدة: "عالج سعدًا مما به"، فذكر الحديث، فكان سعدًا لما أتى الحارث جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو لقيه من غير مجيء، فقال له: عالج إلى آخره، فلا خلف، ثم حاصله، أنه صلى الله عليه وسلم وصف الدواء، وإنما أمر الحارث بصنعه وتركيبه فقط. "وهذا الحديث من الخطاب العام، الذي أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم، والتمر لأهل المدينة" لكونه غذاء لهم، "كالحنطة لغيرهم" كأن الخطاب العام مأخوذ من قوله: فإنه رجل متطبب، ثم وصف له الدواء، فيفيد عمومه، حتى كأنه قيل: هذا دواء لكل مفؤود، مع أن المراد مفؤود خاص، كالمدني، وإلا فليس في الحديث خطاب عام البتة؛ لأنه إنما وصف لشخص مدني في مرضه، "واللدود" "بفتح اللام ومهملتين "ما" أي الدواء الذي "يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم" أي يصب من أحد جانبي فم المريض، وبضم اللام الفعل، كما في الفتح وغيره، زاد في المفهم، أو أدخل من هناك بإصبع "وفي التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما تمر المدينة، ولا سيما العجوة" نوع من أجود تمر المدينة. قال القزاز: إنه مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، "وفي كونها سبعًا، خاصية أخرى تدرك بالوحي" لا بغيره؛ إذ لا مدخل للعقل في ذلك. "وفي الصحيحين" البخاري في الأطعمة والطب، ومسلم في الأطعمة، وأبو داود في الطب، والنسائي في الوليمة، كلهم من حديث عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصبح" "بفوقية مفتوحة وصاد مهملة وموحدة مشددة"، أي أكل صباحًا قبل أن يأكل شيئًا، وأصل الصبوح والاصطباح تناول الشراب صبحًا، ثم استعمل في الأكل؛ لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 ذلك اليوم سم ولا سحر".   شرب اللبن عند العرب بمنزلة الأكل، زاد في رواية للشيخين: كل يوم "بسبع" "بجر" سبع بالموحدة، رواه أبو ذر "تمرات عجوة" "بتنوينهما مجرورين"، فالثاني عطف بيان أو صفة، ورواه الأكثر سبع بدون باء، وتمرات بالتنوين، وعجوة "بالنصب عطف بيان أو صفة"، وروى تمرات عجوة، بإضافة تمرات لتاليه من إضافة العام للخاص "من تمر العالية" أي القرى التي في الجهة العالية من المدينة، وهي جهة نجد، "لم يضره" "بضم الضاد المعجمة وشد الراء" من الضرر، وفي رواية: يضره "بكسر الضاد وسكون الراء" من ضاره يضيره ضيرًا إذا أضره، "ذلك اليوم سم" "بتثليث السين"، "ولا سحر" وفي رواية: بتقديم سحر على سم، وفي أخرى: لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل. قال المصنف: ومفهومه أن السر الذي في أكل العجوة من دفع ضرر السم والسحر يرتفع إذا دخل الليل. قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على حكم من تناول ذلك أول الليل، هل يكون كمن تناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى الصباح؟، قال: والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول الليل؛ لأنه حينئذ يكون الغالب أن تناوله على الريق، فيحتمل أن يلحق به من تناوله أول الليل على الريق، كالصائم. قال تلميذه شيخنا الحافظ السخاوي: وقع في حديث الباب من رواية فليح، عن عامر بن سعد، قال وأظنه قال: وإن أكلها حين يمي لم يضره شيء حتى يصبح، رواه أحمد في مسنده؛ بل وقع عند الطبراني في الأوسط من حديث أبي طوالة، عن أنس، عن عائشة مرفوعًا: "من أكل سبع تمرات من عجوة المدينة في يوم" الحديث، وفيه: من أكلهن ليلًا لم يضره انتهى. ثم قوله: من تمر العالية، ثبت في بعض طرق حديث سعد، وسقط من أكثرها، وفي مسلم عن عائشة، مرفوعًا: "إن في عجوة العالية شفاء، وإنها ترياق أول البكرة"، ورواه أحمد، بلفظ: في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم. وفي أبي داود عن جابر وأبي سعيد، والنسائي عن جابر، مرفوعًا: "العجوة من الجنة، وهي شفاء من السم"، أي: وذلك ببركة دعوته صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، لا لخاصية في التمر، ثم هل ذلك خاص بزمنه صلى الله عليه وسلم أو عام؟، قولان رجح بعضهم الأول، وقال الخطابي: وصف عائشة ذلك بعده صلى الله عليه وسلم يرد قول من قال: إن ذلك خاص بزمنه. نعم، من جربه وصح معه عرف استمراره، وإلا فهو مخصوص بزمانه، وأما التخصيص بالسبع، فقال النووي: لا يعقل معناه، كأعداد الصلوات ونصب الزكاة. وقال القرطبي: الشفاء بالعجوة من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني، قال: ومن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 .....................................................   أئمتنا من تكلف لذلك؛ بأن السموم إنما تقتل لإفراط بردها، فإذا داوم على التصبح بالعجوة، تحكمت فيه الحرارة، وأعانتها الحرارة الغريزية، فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم، لكن هذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة، بل خصوصية العجوة مطلقًا، بل خصوصية التمر، فإن في الأدوية الحارة ما هو أولى من التمر، فتخصيص السبع لا يعلمه إلا الله، ومن أطلعه الله عليه. انتهى. وأيضًا، فإن سلم ذلك في السلم لم يفد في السحر. قال القرطبي: وقد جاء ذلك في مواطن كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "صبوا علي من سبع قرب"، وقوله: "غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا"، وجاء هذا العدد في غير الطب، كقوله تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ} [يوسف: 43] الآية، وحديث سبع كسني يوسف، وكذا السبعون والسبعمائة، فما جاء من هذا العدد مجيء التداوي، فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله ومن أطلعه عليها، وما جاء في غيره، فالعرب تضع هذا العدد للكثر، لا لإرادة عدد بعينه ولا حصر. قال المصنف: وقول ابن القيم إذا أديم أكل العجوة على الريق، يجفف مادة الدود ويضعفه، أو يقتله، فيه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم، لكن سياق الحديث يقتضي التعميم؛ لأنه نكرة في سياق النفي؛ ويبقى القول في السحر، فالمصير إلى أن ذلك من سر دعائه صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، ولكونه غرسه بيده الشريفة أولى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 [ذكرطبه صلى الله عليه وسلم لداء ذات الجنب] : في البخاري مرفوعًا: "عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، ومنها ذات الجنب". وفي الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال: قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت".   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء ذات الجنب: "في البخاري" ومسلم، مرفوعًا" عن أم قيس بنت محصن، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بهذا العود الهندي" أي استعملوه، "فإن فيه سبعة أشفية" أي أدوية: جمع شفاء، كدواء وأدوية، وجمع الجمع: أشاف، "منها: ذات الجنب" وأنه يسعط به من العذرة، فأخبر بسبعة وذكر ثنتين، إما لأنهما الموجودان حينئذ دون غيرهما، أو هو اختصار من الراوي، كما مر، "وفي الترمذي" والحاكم، وصححه "من حديث زيد بن أرقم، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا من ذات الجنب بالقسط" "بضم القاف" وفي لغة بالكاف بدل القاف "البحري". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 واعلم أن ذات الجنب ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأعضاء، وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعًا. فالأول هو ذات الجنب الحقيقي، الذي تكلم عليه الأطباء، ويحدث بسببه خمسة أمراض، الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري.   قال المازري: القسط صنفان بحري وهندي، والبحري هو القسط الأبيض، ويؤتى به من بلاد المغرب، وهو أفضل من الهندي وأقل حرارة منه، وقيل: هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة، والهندي أشد حرًّا، وتعقبه القرطبي بأن البحري الأبيض أحد نوعي العود الهندي، فكيف يؤتى به من بلاد المغرب، والفرض أنه هندي إلا أن يعني بالمغرب المغرب من بلاد الهند. انتهى. وبه يعلم أنه لا تنافي بين هذا الحديث وبين قوله في الحديث السابق: يريد الكست، وهو العود الهندي، وقوله في حديث جابر المار أيضًا، فليأخذ قسطًا هنديًّا؛ لأن المراد به أحد نوعي الهندي، وهو الأبيض البحري، كما في هذا الحديث؛ لكن في شرح المصنف؛ أن البحري يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، "والزيت" المسخن؛ بأن يدق ناعمًا ويخلط به، ويدلك به محله، أو يلعق؛ فإنه نافع له محلل لمادته، مقو للأعضاء الباطنة، مفتح للسدد وغير ذلك. قال بعض العلماء: على المريض والطبيب أن يعمل على أن الله أنزل الداء والدواء، وأن المرض ليس بالتخليط وإن كان معه، وأن الشفاء ليس بالدواء، وإن كان عنده، وإنما المرض بتأديب الله والبرء برحمته، حتى لا يكون كافرًا بالله مؤمنًا بالدواء، كالمنجم إذا قال: مطرنا بنوء كذا، ومن شهد الحكمة في الأشياء ولم يشهد مجريها، صار بما علم منها أجهل من جاهلها. "واعلم أن ذات الجنب ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن" أي الداخل "للأعضاء" أي فيها بحيث جعل كالبطانة، والمراد: الأعضاء الرئيسة، كالقلب والكبد ونحوهم، "وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات" بكسر الصاد وتخفيف الفاء جمع صفاق. قال في القاموس: ككتاب الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر، أو ما بين الجلد والمصران، أو جلد البطن كله، "والعضل" جمع عضلة "بفتح المهملة والمعجمة" كل عصبة معها لحم غليظ، "التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعًا، فالأول" الذي هو ورم حار إلى آخره، "هو ذات الجنب الحقيقي، الذي تكلم عليه الأطباء، ويحدث بسببه خمسة أمراض: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 ويقال لذات الجنب أيضًا: وجع الخاصرة، وهو من الأمراض المخوفة؛ لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهو من سيئ الأسقام. والمراد بذات الجنب هنا الثاني؛ لأن القسط وهو العود الهندي هو الذي يداوي به الريح الغليظة. وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحي أنه قال: العود حار يابس قابض، محبس للبطن، ويقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح ويفتح السدد، ويذهب فضل الرطوبة، نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضًا إذا كان ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة.   الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري" أي تحرك العروق تحركًا شديدًا لأعلى وأسفل، حركة تشبه حركة المنشار. "ويقال لذات الجنب أيضًا وجع الخاصرة" مقتضى المقابلة أن يقول: وقد تطلق ذات الجنب على وجع الخاسرة، "وهو من الأمراض المخوفة؛ لأنها تحدث بين القلب والكبد" تعليل مبني على التفسير الأول، الذي هو المعنى الحقيقي لذات الجنب، "وهو من سيئ الأسقام" ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما لدوه في مرضه، ظنا منهم أن به ذات الجنب: "ما كان الله ليسلطها علي"، أي ما كان الله مريدًا لأن يسلطها علي رحمة بي ورأفة علي. "والمراد بذات الجنب هنا الثاني" المذكور بقوله: وقد يطلق على ما يعرض ... إلخ، "لأن القسط، هو العود الهندي هو الذي يداوى به الريح الغليظة". "وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحي" من فضلاء الأطباء؛ "أنه قال: العود حار، يابس، قابض، محبس" "بضم، فسكون، فكسر" أي مانع "للبطن" من الإسهال، وهو عطف بيان لقابض، "ويقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، ويفتح السدد ويذهب فضل الرطوبة" أي زيادتها، "نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ، قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضًا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة" أي نقصانها. قال المازري: اعترض بعض الملحدة على هذا الحديث، وقال القسط: لا ينفع من ذات الجنب لشدة حرارته والتداوي به خطر، وهذا باطل؛ فقد ذكر بعض قدماء الأطباء أن ذات الجنب الحادثة من البلغم، علاجها بالقسط. وذكر ابن سينا وغيره؛ أن شربه ينفع من وجع الصدر، وقال جالينوس: ينفع من وجع الكبد والجنبين. وقال بعض القدماء: إنه يستعمل لإسخان عضو وجلب خلط من باطن الجسد إلى ظاهره، وبهذه وصفه ابن سينا وهذا كله يبين كذب هؤلاء الملحدة، وقد تطابق الأطباء على أن يدر البول والطمث، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف إذا طلي به، وينفع من ضعف الكبد والمعدة وبردهما، ومن حمى الورد والربع، ومن النافض لطوخًا بالزيت، ومن البرد الكامن والفالج والاسترخاء، فأنت ترى هذه المنافع التي ذكرها الأطباء، فصار ممدوحًا طبًّا وشرعًا. انتهى ملخصًا وقدمته بنحوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء الاستسقاء] : عن أنس قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم. فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من ألبانها وأبوالها"، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل، وحاربوا الله   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء الاستسقاء: "عن أنس" بن مالك رضي الله عنه، "قال: قدم رهط من عرينة" "بضم العين وفتح الراء المهملتين" حي من قحطان، "وعكل" "بضم العين وسكون الكاف، فلام" حي من تيم الرباب، وعند أبي عوانة عن أنس: أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، ولا يخالف رواية البخاري في الجهاد والديات عن أنس أن ناسًا من عكل ثمانية، لاحتمال أن الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب "على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة" "بجيم وواوين" أي أصابهم الجوى، وهو داء الجوف إذا تطاول، أو كرهوا الإقامة بها لما فيها من الوباء، أو لم يوافقهم طعامها، "فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل الريف؛ وله في أخرى؛ أن ناسا كان بهم سقم، قالوا: يا رسول الله، آونا وأطعمنا، فلما صحوا، قالوا: إن المدينة وخمة، والظاهر؛ أنهم قدموا سقامًا من الهزال الشديد والجهد من الجوع مصفرة ألوانهم، فلما صحوا من السقم أصابهم من حمى المدينة، فكرهوا الإقامة بها، ولمسلم عن أنس: وقع بالمدينة الموم "بضم الميم وسكون الواو" وهو ورم الصدر، فعظمت بطونهم، فقالوا: يا رسول الله إن المدينة وخمة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبل الصدقة، فشربتم من ألبانها وأبوالها" لزال عنكم هذا المرض، أو لو للتمني، فلا يحتاج للجواب، وفي رواية: فاشربوا بالأمر الصريح، وأخرى: فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا، أي لأنهم أبناء سبيل، وفي رواية: الحقوا بإبل رسول الله، وفي أخرى: هذا نعم لنا تخرج فاخرجوا فيها، وجمع بأن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعثه صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى، طلب هؤلاء الخروج، فأمرهم بالخروج مع راعيه، فرخص لهم في الشرب من إبل الصدقة؛ لأنهم أبناء سبيل كما علم، وأما لقاحه فبإذنه، "فلما صحوا عمدوا" "بفتح الميم" قصدوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504 ورسوله، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا. رواه الشيخان.   وفي رواية للبخاري: فانطلقوا وشربوا، وفي أخرى: وصحوا، وأخرى، وسمنوا ورجعت إليهم ألوانهم، وكفروا بعد إسلامهم، وعمدوا "إلى الرعاة فقتلوهم" "بضم الراء" جمع راع كقضاة وقاض. قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعيه صلى الله عليه وسلم، وفي ذكره بالأفراد، وكذا لمسلم، لكن عنده في رواية: ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم "بصيغة الجمع" فيحتمل أن لإبل الصدقة رعاة، فقتل بعهضم مع راعي اللقاح النبوية، فاقتصر بعض الرواة عليه، وذكر بعضهم معه غيره، ويحتمل أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوز في الإتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار راعيه صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح أبي عوانة: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل، ولم أقف على اسم الآخر. انتهى. "واستاقوا الإبل" ساقوها من السوق، وهو السير العنيف، "وحاربوا الله ورسوله" أي فعلوا فعلم المحارب، "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم" "بالمد"، أي وراءهم عشرين فارسًا، أميرهم كرز بن جابر على الصحيح "بضم الكاف وسكون الراء وزاي منقوطة"، ومرت القصة مبسوطة في المغازي، "فأخذوا" وللبخاري: فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، "فقطع" "بخفة الطاء" "أيديهم وأرجلهم". زاد الترمذي والإسماعيلي من خلاف، وبه رد الحافظ قول الداودي: فقطع يدي كل واحد ورجليه، "وسمل أعينهم" "بفتح المهملة والميم ولام مخففًا، أي فقأها بحديدة محماة". قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أنه سمر "بالراء وخفة الميم"، وفي رواية لمسلم: باللام، قال الخطابي: السمل فقء العين بأي شيء كان، وبالراء لغة فيه، ومخرجها متقارب، وقد يكون من المسمار، يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت، قلت: وقع التصريح بالمراد عند البخاري في الجهاد وفي المحاربين، ولفظه: ثم أمر بمسامير فأحميت، ثم كحلهم بها، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف رواية اللام؛ لأنه فقء العين بأي شيء كان. انتهى. "وألقاهم في الشمس حتى ماتوا" وكانوا قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، كما عند ابن سعد، فيكون ما فعل بهم قصاصًا كما أشار إليه أنس، بقوله: "إنما سمل صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة"، رواه مسلم، ومال إليه جماعة، وإسناد الفعل في جميع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجاز، والمراد أمر، كما صرح به في روايات أخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 505 واعلم أن الاستسقاء مرض مادي، سببه مادة غريبة باردة تحلل الأعضاء فتربو بها، إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط. وأقسامه ثلاثة: لحمي، وهو أصعبها، وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن، بمادة بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء. وزقي: وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة مائية ردية يسمع لها عند الحركة خضخضة كالماء في الزق، وهو أرادأ أنواعه عند أكثر الأطباء. وطبلي: وهو الذي تنتفخ معه البطن بمادة ريحية، إذا ضربت عليه سمعت له صوتًا كصوت الطبل. وإنما أمرهم عليه الصلاة والسلام بشرب ذلك؛ لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينًا وإدرارًا وتلطيفًا وتفتيحًا للسدد، إذا كان أكثر رعيها الشيخ والقيصوم   "رواه الشيخان" واللفظ لمسلم وزاد في رواية: قال سلام: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بهذا الحديث، فبلغ الحسن البصري، فقال: وددت أنه لم يحدثه بهذا، وللإسماعيلي: فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام على المنبر، فقال: حدثنا أنس، فذكر الحديث، وقال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل، وسمر الأعين في معصية الله، أفلا نفعل مثل ذلك في معصية الله؟ "واعلم أن الاستسقاء مرض مادي" أي سببه مادة تفسد الجسد، كما قال: "سببه مادة غريبة باردة تحلل الأعضاء فتربو" أي تزيد "بها إما الأعضاء الظاهرة كلها" بأن تنفتح مثلًا بسبب تلك المادة، "وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط، وأقسامه ثلاثة: لحمي، وهو أصعبها" من جهة شدته في البدن، "وهو الذي يربو" يزيد "معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو"، أي تنتشر "مع الدم في الأعضاء، و" الثاني: "زقي" "بزاي وقاف"، "وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة مائة ردية، يسمع لها عند الحركة خضخضة" أي تحرك واضطراب، "كالماء في الزق" والمراد: أثر الخضخضة، وهو القاموس، "وهو أردأ أنواعه عند أكثر الأطباء" من حيث تعسر دوائه وعلاجه، "وطبلي: وهو الي تنتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضربت عليه سمعت له صوتًا كصوت الطبل" وهو أخفها، "وإنما أمرهم عليه الصلاة والسلام بشرب ذلك" اللبن والبول، "لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينًا وإدرارًا وتلطيفًا وتفتيحًا للسدد إذا". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 506 والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء خصوصًا إذا استعمل بحراراته التي يخرج بها من الضرع، مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن. وأما ضعف المعدة فذكر ابن الحاج في المدخل: أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتًا بالمصطكى بعد دقها ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز، يفعل ذلك سبعة أيام   وفي نسخة: إذ "كان أكثر رعيها الشيح" "بالكسر": نبت معروف "والقيصوم" "فيعول" من نبات البادية، قال في القاموس: وهو صنفان أنثى وذكر، النافع منه أطرافه، وزهره مر جدًّا، ويدلك البدن به للناقض، فلا يقشعر إلا يسيرًا، ودخانه يطرد الهوام، وشرب سحيقه نبأ نافع لعسر النفس وللبول والطمث ولعرق النساء، وينبت الشعر ويقتل الدود "والبابونج" زهرة معروفة كثيرة النفع، "والأقحوان" "بالضم" البابونج، كما في القاموس، فالعطف مرادف "والإذخر" "بكسر الهمزة والخاء" نبات معروف ذكي الريح، وإذا جف أبيض، "وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء، خصوصًا إذا استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل، وهو حار، كما يخرج من الحيوان" أي وقت خروجه قبل أن يبرد، "فإن ذلك" أي ضم بول الفصيل إلى اللبن "مما يزيد في ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن" فيخرج الداء الذي فيه. "وأما ضعف المعدة" مستأنفًا ليس سيمًا لشيء، وناسب ذكره عقب الاستسقاء؛ لأنه قد يكون سببًا في ضعفها إذا برئ؛ إذ سببه المادة المفسدة للمعدة، "فذكر ابن الحاج في المدخل؛ أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد" عبد الله بن محمد القرشي، "المرجاني" الإمام القدوة، الواعظ المفسر، أحد الأعلام في الفقه والتصوف، قدم مصر ووعظ بها، واشتهر في البلاد وامتحن، وأفتى العلماء بتكفيره، فلم يؤثروا، فعملوا عليه الحيلة، فقتل بتونس سنة تسع وسبعين وستمائة، كما في اللواقح، "النبي صلى الله عليه وسلم" في المنام، "وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتًا بالمصطكى" "بالفتح والضم ويمد في الفتح فقط"، علك رومي أبيض نافع، والمقعدة، قاله القاموس، وفي المصباح: "بضم الميم وتخفيف الكاف"، والقصر أكثر من المد. وقال ابن خالويه: يشدد فيقصر، ويخفف فيمد، وحكى ابن الأنباري: فتح الميم والتخفيف والمد، وحكى ابن الجواليقي ذلك، لكنه قال: والقصر، وكذا قال الفارابي، لكنه قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 507 ففعله فبرئ. ومرض بعض الناس ببرد المعدة فرأى الشيخ المرجاني أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، أوقية ونصف أوقية عسل نحل، ودرهمان شونيز، ومثلهما أنيسون، ونصف أوقية من النعنع الأخضر، ومن القرنفل درهم، ومن القرفا نصف درهم، وشيء من قشر الليمون، مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار، فاستعمله فبرئ. ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء: شونيز ثلاثة دراهم ومن خزامي درهمين ونصف، ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامي ومثله من الغليا، ووزن درهم من البلوط وهو ثمرة الفؤاد، وأوقية من الزيت المرقي يجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار وزن درهمين على الريق، وعند النوم وزن درهم   مصطكي: بالتاء والميم أصلية، وهي رومية معربة "بعد دقها، ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز" "بفتح الشين" الحبة السوداء على الأشهر، "يفعل ذلك سبعة أيام، ففعله فبرئ" ببركة المصطفى، "ومرض بعض الناس ببرد المعدة، فرأى الشيخ المرجاني أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهذا الدواء، أوقية ونصف عسل نحل ودرهمان شونيز ومثلهما آنيسون ونصف أوقية من النعنع" "بزنة جعفر وهدهد"، أو كجعفر، وهم للجوهري بقل معروف أنجع دواء للبواسير، ضمادًا بورقة، وضماده بملح لعضة الكلب وللسعة العقرب، واحتماله قبل الجماع يمنع الحبل، ويقال: نعناع أيضًا كما في القاموس "الأخضر، ومن القرنفل درهم، ومن القرفا نصف درهم، وشيء من قشر الليمون مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار فاستعمله فبرئ". "ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهذا الدواء شونيز" "بالجر بدل من هذا الدواء"، "ثلاثة دراهم، ومن خزامي درهمين ونصف" بجره أيضًا عطف على شونيز قدم عليه متعلقة، وهو من خزامي، وهو ظاهر، فلا وجه لمن قال صوابه درهمان، "ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامي، ومثله من الغليا" أي من كل منهما ثلاثة دراهم "ووزن درهم من البلوط" "بفتح الموحدة وضم اللام مشددة"، "وهو ثمرة الفؤاد" أي المسمى بذلك، وفي القاموس: البلوط كتنور شجر كانوا يغتذون بثمره قديمًا، بارد يابس، ثقيل، غليظ، ممسك للبول، وبلوط الأرض: نبات ورقه كالهندباء، مدر، مفتح، مضمر للطحال، "وأوقية من الزيت المرقي، يجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به، وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار" أي أوله "وزن درهمين على الريق، وعند النوم وزن درهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 508 ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك قال في النوم لذلك الشخص الذي أخبره بهذا الدواء إنه ينفع لأدواء وهي: الريح، وسلس الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، والنفاس، ولتعقد الرياح. والزيت المرقي: صفته أن تأخذ شيئًا من الزيت الطيب، وتجعله في إناء نظيف وتحركه بعود وتقرأ عليه الإخلاص والمعوذتين، و {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن} إلى آخر السورة. وحصل لآخر قولنج، فرأى الشيخ المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم وصف من الزيت المرقي، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، ويعمل له التلبينة ويستعملها بعد أن يفطر على ذلك،   ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك قال في النوم لذلك الشخص الذي أخبره بهذا الدواء" على لسان المرجاني: "إنه ينفع لأدواء" أمراض عديدة، "وهي: الريح، وسلس الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، والنفاس، ولتعقد الرياح. والزيت المرقي: صفته أن تأخذ شيئًا من الزيت الطيب، وتجعله في إناء نظيف وتحركه بعود وتقرأ عليه الإخلاص والمعوذتين، و {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن} إلى آخر السورة" والظاهر أن هذه الصفة معلومة عندهم، إلا أنها علمها النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الشخص الذي قال له: إنه ينفع لأدواء عديدة، بدليل أنه في وصفه للمرجاني قال: والزيت المرقي، فيفيد أن صفة رقيته بهذا كانت معلومة عندهم قبل ذلك. "وحصل لآخر قولنج" "بضم القاف وفتح اللام"، قال في القاموس: وقد تكسر لامه، أو هو مكسور اللام، "وبفتح القاف وبضم": مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثقل والريح، "فرأي الشيخ" المرجاني "النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم وصف من الزيت المرقي، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، ويعمل له التلبينة" "بفتح الفوقية وسكون اللام وكسر الموحدة، وسكون التحتية ونون مفتوحة فهاء"، وقد تحذف، "ويستعملها بعد أن يفطر على ذلك، والتلبينة حساء" "بفتح الحاء والسين المهملتين والمد"، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 والتلبينة حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيه عسل، ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله فبرئ بعد أن أعيا الأطباء. ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الإلية والزيت المرقي، ورقيق البيضة، ويخلط ذلك كله، ويمده على الموضع ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل بعدما يدق دقًَّا ناعمًا حتى يعود مثل الدقيق؛ ففعله فبرئ. وشكا بعض الناس الدوخة في رأسه فرأى الشيخ النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فأشار إلى هذا الدواء: قرنفل وزنجبيل وقرفة وجوزة طيب وسنبل، من كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ثم يطبخ ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، فيكون عسل النحل غالبًا عليه، ففعله فبرئ، انتهى. وهذا وإن كان منامًا فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجاني لذلك.   "يعمل" أي يطبخ "من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيها عسل" وربما عمل لبن، سميت بذلك تشبيهًا لها باللبن في بياضها ورقتها، "ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله، فبرئ بعد أن أعيا الأطباء". وفي الصحيحين، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تأمر بالتلبية للمريض وللمحزون على الهالك، وتقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن التلبينة تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن" "بضم الفوقية وكسر الجيم وشد الميم، وبفتح الفوقية وضم الجيم"، وفي رواية: "التلبينة مجمة لفؤاد المريض" الحديث. قال القرطبي: روي مجمة "بفتح الميم والجيم، وبضم الميم وكسر الجيم"، أي تريح قلبه وتسكنه وتقويه، "ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ" المرجاني، "فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الإلية، والزيت المرقي ورقيق البيضة" المسمى عرفًا بياض البيض، "ويخلط ذلك كله ويمده على الموضع" الموجوع، "ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل" نبات بالبادية له حب أسود، وقيل: حب كالسمسم "بعد ما يدق ناعمًا حتى يعود مثل الدقيق، ففعله فبرئ" "بكسر الراء وفتحها" "وشكا بعض الناس الدوخة في رأسه، فرأى الشيخ" المرجاني "النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فأشار إلى هذا الدواء، قرنفل وزنجبيل وقرفا وجوزة طيب وسنبل، من كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ويطبخ، ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، ويكون عسل النحل غالبًا عليه، ففعله فبرئ. انتهى" كلام المدخل، "وهذا" كله "وإن كان منامًا فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجاني لذلك" فلا بأس بالعمل به بصدق النية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 510 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء عرف النسا] : وهو بفتح النون والمهملة، المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله. قيل: وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه. وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزاء". رواه ابن ماجه. وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، وهو أنفعه لهم؛ لأن   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء عرق النسا. وهو بفتح النون والمهملة: والقصر "المرض الحال بالعرق" أي عرق الفخذ، "والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله" المناسب لتفسيره، أن يقول من إضافة المحل إلى الحال فيه، وفي القاموس: أن النسا اسم للعرق نفسه لا للمرض؛ إذا قال: النسا عرق من الورك إلى الكعب، ويثنى نسوان ونسيان، قال الزجاج: لا تقل عرق النسا؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه. انتهى. فيؤول إذا أضيف بأنه من إضافة المسمى إلى الاسم، "قيل: وسمي بذلك؛ لأن ألمه ينسي ما سواه" فهو من النسيان، وقيل: من النسء التأخير؛ لأنه يطول ويتأخر برؤه، "وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب". "عن أنس" بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دواء عرق النسا إليه شاة" "بفتح الهمزة وإسكان اللام مخففًا". قال ابن السكيت وجماعة: ولا تكسر الهمزة، ولا يقال ألية بالتشديد، والجمع أليات، مثل: سجدة وسحدات، والتثنية أليان، "بحذف التاء على غير قياس"، وبإثباتها في لغة على القياس "أعرابية" "التاء في شاة للوحدة، فيصدق بالذكر والأنثى، لكن في رواية: بألية، كبش ليس بالعظيم ولا بالصغير، وفي أخرى: كبش أسود، فتحمل رواية شاة على الذكر الأسود الذي ليس بكبير ولا صغير؛ لأن المطلق يحمل على المقيد، "تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء" متساوية، "ثم يشرب على الريق في كل يوم جزاء". "رواه ابن ماجه: وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم" من غيرهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 511 هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال. والإلية فيها الخاصيتان: الإنضاج والتليين. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفي تعيين الشاة الأعرابية، قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها؛ لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيخ والقيصوم ونحوهما، وهذا إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها، بعد أن تلطفه تغذية، وتكسبها مزاجًا ألطف منها ولا سيما الإلية.   لأن للمجاورة تأثيرًا، "وهو أنفعه لهم؛ لأن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة" أي متعلقة، "فعلاجها بالإسهال والإلية، فيها الخاصيتان، الإنضاج" وهو تهيئته للحالة التي يسهل خروجه بعدها، من أنضجت اللحم إذا سويته بالطبخ "والتليين، وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها وخاصية مرعاها؛ لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيخ والقيصوم ونحوهما، وهذه" الأعشاب "إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن تلطفه" أي تلطف تلك الأعشاب لحمها "تغذية" "بالرفع اسم صار"، "وتكسبها مزاجًا ألطف منها، ولا سيما الإلية". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الورم] : والخراجات بالبط والبزل، يذكر عن علي رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعوده، بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله، بهذه معدة فقال: "بطوا عنه"، قال علي: فما برحت حتى بطت، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد.   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الورم: أي الغلظ من المرض، وجمعه أورام، والفعل ورم يرم "بكسر الراء فيهما" "والخراجات" "بخاء معجمة وجيم"، مخففًا: جمع خراج كغراب "بالبط" أي الشق "والبزل" "بموحدة، وزاي عطف مرادف"، يقال: بزل الشيء إذا ثقبه وأخرج ما فيه، "ويذكر عن علي رضي الله عنه، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعوده بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله بهذه معدة" "بكسر الميم" قيح غليظ، "فقال: "بطوا" أي شقوا "عنه" أي عما احتبس فيه، "قال علي: فما برحت" أي زلت من مكاني "حتى بطت والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد" أي حاضر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 [ذكر طبه عليه الصلاة والسلام بقطع العروق والكي جميعًا] : روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا وكواه عليه. وأخرج مسلم عن جابر: لما رمي سعد بن معاذ في أكحله، جسمه النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الطحاوي، وصححه الحاكم عن أنس قال: كواني أبو طلحة في   ذكر طبه عليه الصلاة والسلام بقطع العروق والكي جميعًا: كما في الحديث الأول، وبالكي وحده كما في بقية الأحاديث التي ساقها، ولم يذكر الطب بقطع العرق وحده، وسواء كان ذلك في نفسه بناء على تسليم أنه اكتوى، أو لغيره بإرشاده لمن يفعله في نفسه أو غيره. "روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب" بن قيس الأنصاري، النجاري، سيد القراء، من فضلاء الصحابة، "طبيبًا فقطع له عرقًا" أي فصده "وكواه عليه". وفي رواية لمسلم أيضًا، عن جابر، قال: رمى أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أمر بكيه. قال القرطبي: فيه دلالة على أنه لا يلي عمل الشيء إلا من يغرفه، وعلى جواز الكي إذا صحت منفعته أو دعت إليه حاجة، والنهي عنه إنما هو إذا وجد عنه غنى، ولذا لا يقال أن أبيا المشهود؛ بأنه أقرأ الأمة، وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ليسا من السبعين ألفًا الذين لا يكتوون. "وأخرج مسلم عن جابر: لما رمي" "بضم الراء مبني للمجهول" "سعد بن معاذ" يوم الخندق "في أكحله" "بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الحاء المهملة" عرق في الذراع يفصد، قال الخليل: هو عرق الحياة، ويقال له نهر الحياة، في كل عضو منه شعبة، له اسم آخر، وإذا قطع في اليد لم يرقا الدم. قال أبو حاتم: يقال له في اليد الأكحل، وفي الفخذ النسا، وفي الظهر الأبهر "جسمه" أي قطع دمه بالكي "النبي صلى الله عليه وسلم" بيده بمشقص، ثم ورمت الثانية فحسمه، هذا بقية الحديث في مسلم: "بميم مكسورة ومعجمة ساكنة، فقاف، فمهملة" نصل السهم الطويل. "وروى الطحاوي، وصححه الحاكم عن أنس قال: كواني أبو طلحة" زيد بن سهل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 513 زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وعند الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة. وروى مسلم عن عمران بن حصين قال: كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت فعاد. وفي رواية: إن الذي كان انقطع عني رجع إلي، يعني تسليم الملائكة. وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا، الحديث.   الأنصاري زوج أم أنس "في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" لمرض اقتضى العلاج بالكي. "وعند الترمذي؛ أنه صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة" الأنصاري، الخزرجي، قديم الإسلام، شهد العقبات الثلاثة، ومات قبل بدر باتفاق، قال الواقدي: في شوال على رأس تسعة أشهر من الهجرة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بالبقيع، "من الشوكة" هي حمرة تعلو الوجه، بلفظ: واحدة الشوك. "وروى مسلم عن عمران بن حصين" بمهملتين" مصغر ابن عبيد الخزاعي أبي نجيد "بنون وجيم"، مصغر من فضلاء الصحابة وفقهائهم، وكان مجاب الدعوة، بعثه عمر إلى البصرة ليفقه أهلها، فأقام إلى أن مات بها سنة اثنتين وخمسين. وقيل: سنة ثلاث وأبوه صحابي، "قال: كان يسلم علي" "بالبناء للمفعول، أي كانت الملائكة تسلم علي "حتى اكتويت" قبل وفاته بسنتين، كما رواه الحارث بن أبي أسامة، "ثم تركت الكي، فعاد" رجع إلي تسليم الملائكة. وعند الدارمي عن مطرف، قال عمران بن حصين: إني محدثك بحديث؛ أنه كان يسلم علي، وأن ابن زياد أمرني فاكتويت، فاحتبس عني حتى ذهب أثر الكي. "وفي رواية" لمسلم، أيضًا عن عمران: "إن الذي كان انقطع عني" بسبب الكي "رجع إلي، يعني تسليم الملائكة" أي الحفظة، قال أبو عمر: يقول عنه أهل البصرة؛ أنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حى اكتوى، ففقده ثم عاد إليه؛ ومراد المصنف من سياق هذا معارضته للأحاديث قبله، الدالة على الجواز، ويأتي له الجمع قريبًا، وليس مراده الاستدلال به على الترجمة، وترجى أن وجه الدلالة إقراره صلى الله عليه وسلم له بعد فعله فاسد؛ لأن عمران إنما اكتوى قبل موته بسنتين، كما رواه الحارث، وذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة. "وروى أحمد وأبو داود والترمذي" بسند قوي، "عن عمران" رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي، فاكتوينا، فما أفلحنا ولا أنجحنا" أي ما ظفرنا بمطلوبنا، وإنما اكتووا مع النهي؛ لأنهم فهموه على الكراهة، أو على خلاف الأولى، كما قاله المتن بعد أسطر. وفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 وإنما يستعمل الكي في الخلط الباغي الذي لا تنقطع مادته إلا به، ولهذا وصفه صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنه، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولذا كانت العرب تقول في أمثلتها: آخر الدواء الكي. والنهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى، لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح. وقال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى. لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع، والثاني: كي   لفظ: فلم تفلحن ولم تنجحن، أي الكيات، ونجح كمنع. "الحديث" كذا في النسخ: فيقتضي أن له بقية مع أنه ليس له بقية، وقد أحسن في شرحه تبعًا للحافظ، فلم يقل الحديث، "وإنما يستعمل الكي في الخلط الباغي" أي المتجاوز في خروج الدم، يقال: بغى الجرح إذا تراخى إلى الفساد، ومنه البغي الظلم والاعتداء والفساد، "الذي لا تنقطع مادته إلا به" أي الكي، "ولذا وصفه صلى الله عليه وسلم، ثم نهى عنه" فقال الشفاء في ثلاثة: "شربة عسل وشرطة محجم وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي"، رواه البخاري، عن ابن عباس: "إنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم" "بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة" الإشراف على الهلاك وخوف التلف، "ولذا كانت العرب تقول في أمثلتها: آخر الدواء الكي" وآخر الطب الكي. قال السخاوي: كلام معناه أنه بعد انقطاع معرفة الشفاء يعالج به، ولذا كان أحد ما حمل عليه النهي عن الكي وجود طريق مرجو للشفاء سواه، "والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث" السابقة وغيرها من جوازه والنهي عنه، فيجمع بينها بذلك. "وقيل: إنه" أي النهي "خاص بعمران" يعني: ومن شابهه في مرضه، بدليل قوله: وأنهى أمتي عن الكي، "لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه" حملًا له على التنزيه؛ "فلم ينجح" لم يظفر بزوال الباسور ولا ينافي ذلك ما رواه الحارث في مسنده عن الحسن عن عمران أنه شكا بطنه، فلبث زمانًا طويلًا، فدخل عليه رجل، فأمره بالكي، فاكتوى قبل وفاته بسنتين، وكان يسلم عليه، فلما اكتوى فقده، ثم عاد إليه؛ لأن وجع بطنه نشأ من اشتداد الباسور؛ لأنه يحبس الريح والغائط. "وقال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 515 الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي شرع التداوي له، فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق. وحاصل الجمع: أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، ولهذا وقع الثناء على تاركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء. وقال بعضهم: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم الداء بطبعه فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوى التعذيب بالنار لأمر مظنون.   من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع" إذ لا بد من وقوعه. "والثاني: كي الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي شرع التداوي له" أي بالكي، "فإن كان الكي لأمر محتمل، فهو خلاف الأولى، لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق" إذ الشفاء بالدواء محتمل، فلا ينبغي فعله. "وحاصل الجمع" بين الأحاديث "أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع" لجواز إن تركه خوفًا من الألم لا لمنع الفعل، "بل يدل على أن تركه أرجح من فعله" لأن تركه مع الإخبار بأن فيه شفاء، وحرص النفس على الخلاص من المرض دليل على أن الترك لمرجح عنده، "ولهذا وقع الثناء على تاركه" في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون". "وأما النهي عنه، فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما" أي عن كي "لا يتعين طريقًا إلى الشفاء" فما نكرة موصوفة. "وقال بعضهم: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عنه مع إثباته الشفاء فيه" بقوله: "الشفاء في ثلاث ... " الحديث المار قريبًا. ورواه البخاري أيضًا ومسلم منه حديث جابر بلفظ: "إن كان في شيء من أدويتكم شفاء، ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار، وما أحب أن أكتوي"، "إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم" أي يقطع "الداء بطبعه، فكرهه لذلك" لأنه اعتقاد باطل، فالشافي إنما هو الله تعالى، فهو الذي يحسمه، "ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار لأمر مظنون" فهو مكروه، أو خلاف الأولى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 516 قال في فتح الباري: ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ: روى أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد. قال الحافظ ابن حجر: والثابت في الصحيح في غزوة أحد أن فاطمة أحرقت حصيرًا فحشت به جرحه، وليس هذا الكي المعهود. انتهى.   "قال في فتح الباري: ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبري" محمد بن جرير "أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ: روى أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد. قال الحافظ ابن حجر" تعقبًا عليهما: "والثابت في الصحيح" البخاري "في غزوة أحد" وفي غيرها، ومنه في الطب، وبوب عليه باب حرق الحصير ليسد به الدم، "أن فاطمة أحرقت حصيرًا فحشت به جرحه، وليس هذا الكي المعهود. انتهى". يعني فإن كان ذلك مراد من قال: اكتوى، لم يصح إلا بتأويل؛ أنه أطلق الكي على الحشو برماد الحصير مجازًا، وقد جزم ابن التين؛ بأنه اكتوى، وابن القيم بأنه لم يكتو، ولفظ الصحيح عن سهل بن سعد: لما كسرت على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة، وأدمي وجهه، وكسرت رباعيته، كان علي يختلف بالماء في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة، عمدت إلى حصير، فأحرقتها وألصقتها على جرحه، فرقا الدم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الطاعون: قال الخليل بن أحمد: الطاعون الوباء، وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة، وقال القاضي أبو   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الطاعون: بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالًّا على الموت العام، كالوباء، ويقال: طعن، فهو مطعون، وطعين إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح، هذا كلام الجوهري، "قال الخليل بن أحمد" الأزدي الفراهيدي أبو عبد الرحمن البصري، اللغوي، صاحب العروض والنحو، صدوق، عالم، عابد، مات بعد الستين ومائة، وقيل: سنة سبعين أو بعدها" "الطاعون: الوباء". "وقال ابن الأثير" في النهاية: في طعن " الطاعون المرضى العام والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة" فمفهوم هذا تغايرهما، وقال في وبأ الوباء: "بالقصر والمد والهمزة" الطاعون والمرض العام، فجعلهما جزأين من جزئيات الوباء، فمفهومه تساويهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 بكر بن العربي: الطاعون المرض الغالب الذي يطفئ الروح، سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، وقال أبو الوليد الباجي: هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس. وقال القاضي عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض فسميت طاعونًا لشبهها بها في الهلاك. وقال النووي في تهذيبه: هو بئر وورم مؤلم جدًّا يخرج مع لهب، ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالبًا في مراق البدن والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث مرضًا قتالًا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الآذان، أو عند الأربية، وسببه ورم رديء: يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو، ويغير ما يليه،   "وقال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الفقيه الحافظ: "الطاعون المرض الغالب الذي يطفئ الروح" أي يزيل قوته، وهو مجاز عن قتله، "سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله". "وقال أبو الوليد" سليمان "الباجي" الحافظ الفقيه: "هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس" فلا يعم ولا يختص بجهة. "وقال القاضي عياض: أصل الطاعون القروح" جمع قرح "الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت" عموم الأمراض "طاعونًا لشبهها بها" أي القروح "في الهلاك" لمن حلت به، "وقال النووي في تهذيبه" أي كتاب تهذيب الأسماء واللغات، "هو بئر" "بموحدة، فمثلثة، فراء" أي خراج صغير "وورم مؤلم جدًّا، يخرج مع لهب، ويسود ما حوله، أو يخضر، أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية" نسبة إلى البنفسج، كسفرجل، والمكرر منه اللامان، وزنه فعلل، كما في المصباح: "كدرة" متغيرة، "ويحصل معه خفقان" اضطراب قلب "وقيء، ويخرج غالبًا في مراق البدن" أي ما لان منه، "والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد" أي باقيه قسيم قوله غالبًا. "وقال ابن سيناء: الطاعون مادة سمية تحدث مرضًا قتالً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن" "بمعجمة وموحدة ونون" وهي الأرفاغ والآباط "من البدن" الواحد، مغبن كمسجد، "وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الآذان، أو عند الأربية" "بضم الهمزة وإسكان الراء وكسر الموحدة وتحتية مشددة". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 518 ويؤدي إلى القلب كيفية ردية فيحصل القيء والغثيات والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء: فهو فساد جواهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده. والحاصل: أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم وانصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونًا بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت. والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء، أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى   قال الجوهري: أصل الفخذ، وأصله أربوة، فاستثقلوا التشديد على الواو، أي: فقلبوها ياء، "وسببه ورم رديء يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه" إلى سواد أو خضرة أو حمرة كدرة، "ويؤدي إلى القلب كيفية ردية فيحصل القيء والغثيات والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قل من يسلم منه" من الموت، "وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة" بالواو والهمز، وتقلب الهمزة ياء، "ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وبالعكس، وأما الوباء، فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده" أي زيادته وقوته، "والحاصل" أي حاصل المقام لا حاصل كلام ابن سينا "أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان ادم وانصباب الدم إلى عضو، فيفسده" ولا ينافيه أنه وخز الجن، لجواز أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادة السمية، ويهيج الدم بسببها أو ينصب. وقال الكلاباذي: يحتمل أن الطاعون قسمان: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة، أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجن، وقسم يكون من وخز الجن، كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضًا من طعن الإنس، "وإن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة الموت" كما أشار إليه عياض، وإن كانا متغايرين، "والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية" قط. "وقد قالت عائشة: دخلنا" وفي رواية: قدمنا "المدينة، وهي أوبأ أرض الله، وقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 519 أرض الوباء. والطاعون: من طعن الجن، وإنما لم تتعرض له الأطباء لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف من الشارح، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو مثلهم في مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد لا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب بقتل بلا مرض، فدل على أنه طعن الجن. كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك. منها حديث أحمد والطبراني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه   بلال: أخرجونا" أي كفار قريش "إلى أرض الوباء" ومر الحديثان في الهجرة، "والطاعون من طعن الجن، وإنما لم تتعرض الأطباء، لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف في الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم" لكنها منقوضة، كما أشار إليه بقوله: "ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن" وقد عبر في شرحه للبخاري بالاستدراك، فقال: لكن "وقوعه غالبًا في أعدل الفصول" من العام، وهو فصل الربيع، "وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء" وذلك يبطل قول الأطباء أنه من فساد الهواء أو وباء البلاد، "و" أيضًا، "لأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى" في ساعة واحدة، "والطاعون يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين" فبطل كونه من فساد الهواء، "بأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشهادة أنه يصيب الكثير ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو مثلهم في مزاجهم" وأيضًا "لو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، لا يتجاوزه" إلى ما سواه، "ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه طعن الجن، كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك، منها: حديث أحمد والطبراني وصححه الحاكم "عن أبي بكر" اسمه عمرو أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 520 قال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة". قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع في الألسنة، وهو في النهاية تبعًا لغريبي الهروي بلفظ "وخز إخوانكم" ولم أره بلفظ "إخوانكم" بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة، لا في الكتب المشهورة ولا في الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم. انتهى.   عارم "بن أبي موسى الأشعري" ثقة، من رجال الجميع، مات سنة ست ومائة، وكان أسن من أخيه أبي بردة، "عن أبيه" عبد الله بن قيس الأشعري، "قال: سألت عنه" أي الطاعون "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هو وخز" "بفتح الواو وسكون المعجمة، بعدها زاي" "أعدائكم من الجن" أي كفارهم، قال أهل اللغة: الوخز الطعن إذا كان غيرنا، فذو وصف طعن الجن بأنه وخز؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثر في الباطن أولًا، ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أولًا، ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ، كما في الفتح، "وهو لكم شهادة" أي لكل مسلم وقع به، أو وقع في بلد هو فيها. ففي البخاري عن عائشة؛ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد. "قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع" هذا الحديث "في الألسنة، وهو في النهاية تبعًا لغريبي الهروي" أي كتابه المؤلف في غريبي القرآن والحديث "بلفظ: وخز إخوانكم ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل، البالغ" الغاية "في شيء من طرق الحديث المسندة" المروية بالأسانيد، "لا في الكتب المشهورة" كالستة والمسانيد العشرة والمعاجم، "ولا في الأجزاء المنثورة". "وقد عزاه بعضهم" هو صاحب كتاب آكام المرجان في أحكام الجان، كما في شرح المصنف "لمسند أحمد والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم. انتهى". قال المصنف: فإن قلت: فإذا كان الطعن من الجن، فكيف يقع في رمضان والشياطين تصفد فيه وتسلسل؟ أجيب: باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان، ولم يظهر التأثير إلا بعد دخوله، وقيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 521 وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا   غير ذلك. "وفي الصحيحين" البخاري في ذكر بني إسرائيل، والطب، وترك الحيل، ومسلم في الطب، وكذا النسائي "من حديث أسامة بن زيد" الحب بن الحب، "قال" وقد سأله سعد بن أبي وقاص: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟، فقال أسامة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطاعون رجز" "بالزاي" على المعروف، أي عذاب، ووقع لبعض الرواة رجس "بسين مهملة بدل الزاي". قال الحافظ المحفوظ: "بالزاي"، والمشهور أن الذي بالسين الخبيث، أو النجس، أو القذر، ووجه عياض؛ بأن الرجس يطلق على العقوبة أيضًا. وقد قال الفارابي والجوهري والراغب: الرجس العذاب، ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] ، "أرسل على طائفة من بني إسرائيل" لما كثر طغيانهم، "وعلى من كان قبلكم" كذا في نسخ المصنف: "بالواو" والذي في الصحيحين إنما هو بأو. قال الحافظ: بالشك من الراوي، وفي رواية ابن خزيمة بالجزم، بلفظ: رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل، والتنصيص عليهم أخص، فإن كان ذلك المراد، فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي، أحد صغار التابعين، عن سيار أن رجلًا كان يقال له: بلعام، كان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أؤامر ربي، فمنع، فأتوه بهدية، فقبلها، وسألوه ثانيًا، فقال: حتى أؤامر ربي، فلم يرجع إليه بشيء فقالوا: لو كره لنهاك، فدعا عليهم، فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل، فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم، أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، فكان فيمن خرج بنت الملك، فأرادها بعض الأسباط وأخبرها بمكانه، فمكنته من نفسها، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفًا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح، فطعنهما، وأيده الله، فانتظمهما جميعًا، وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق. وذكر الطبري أيضًا هذه القصة عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضر بنحوه، وسمى المرأة كشتاء: "بفتح الكاف وسكون المعجمة وفوقية" والرجل زمري: "بكسر الزاي وسكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 522 سمعت به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه".   الميم وكسر الراء" رأس سبط شمعون، والذي طعنهما فنحاص "بكسر الفاء وسكون النون، ثم مهملة فألف فمهملة" ابن هارون وقال في آخره: فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفًا، والمقلل يقول عشرون ألفًا، وهذه الطريق تعضد الأولى. وذكر ابن إسحاق في المبتدأ أن بني إسرائيل لما كثر عصيانهم، أوحى الله إلى داود فخيرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط سنتين، أو العدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام، فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا، فاختار الطاعون، فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفًا، وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله، فرفعه، وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أنه المراد بقوله: أو من كان قبلكم من ذلك، ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال: أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشًا، ثم يخضب كفه في دمه، ثم يضرب به على بابه، ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك فقالوا: إن الله يبعث عليكم عذابًا، وإنا ننجوا منه لهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفًا، فقال فرعون عند ذلك لموسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَك} ، فدعا، فكشفه عنهم، وهذا مرسل جيد الإسناد. وأخرج عبد الرزاق في تفسيره، وابن جرير عن الحسن في قوله تعالى: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243] ، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم، فأقدم من وفقنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام، ومن غيرهم في قصة فرعون، وتكرر بعد ذلك لغيرهم. انتهى. "فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه" لأنه تهور وإقدام على خطر وإلقاء إلى التهلكة، كمن أراد دخول دار، فرأى فيها حريقًا تعذر طفؤه، فعدل عن دخولها لئلا يصيبه، وليكون ذلك أسكن للنفس وأطيب للعيش، ولئلا يقعوا في اللوم المنهي عنه بلوم أنفسهم فيما لا لوم فيه؛ لأن الباقي والناهض لا يتجاوز واحد منهم أجله، "وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه" لأنه فرار من القدر، فالأول تأديب وتعليم، والثاني تفويض وتسليم. قال ابن عبد البر: النهي عن الدخول لدفع ملامة النفس، وعن الخروج للإيمان بالقدر. انتهى. والأكثر على أن النهي عن الفرار منه للتحريم، وقيل: للتنزيه، ومفهوم الحديث جوازه لشعل عرض غير الفرار، وحكى عليه لاتفاق. قال الحافظ: ولا شك أن الصور ثلاث: ومن خرج لقصد الفرار محضًا، فهذا يتناوله النهي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 523 وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكمًا. منها: أن الطاعون يكون في الغالب عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا فلا يليق بالعاقل. ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره، أو الكبر حيًّا وميتًا. وأيضًا: فلو شرع الخروج. فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء. وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخلافه. وقد جمع الغزالي بين الأمرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر   لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة، لا لقصد الفرار أصلًا، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثلًا، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه في أثناء تجهزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلًا، فلا يدخل في النهي. الثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك، أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون، فهذا محل النزاع، كأن تكون الأرض التي وقع بها وخمة، والأرض التي يتوجه إليها صحيحة، فتوجه بهذا القصد إليها، فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحض القصد للفرار، وإنما هو لقصد التداوي. انتهى. "وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكمًا، منها: أن الطاعون يكون في الغالب عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع، فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا، فلا يليق بالعاقل" فعله؛ إذ لا فائدة فيه، "ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره" من الأمراض، "أو الكبر" ضائع المصلحة لفقد من يتعهده "حيًّا" بالقيام بما يحتاجه، "وميتًا" بتجهيزه ودفنه، "وأيضًا" من الحكم، "فلو شرع الخروج فخرج الأقوياء، لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء" الذين لا يقدرون على الخروج. "وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف" بنحو قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] ، "لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخلافه، وقد جمع الغزالي بين الأمرين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 524 البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي سيقع به لا يسلم غالبًا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرض لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم. ومنها: ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها ويصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الردية التي حصل تكيف بدنها بها فأفسدته فمنع من الخروج   فقال: "إنما نهى عن الخروج كالدخول، مع أن سببه الطبي من الهواء، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر وترك التوكل في نحو مباح؛ لأن "الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق" له، فإذا كان فيه عفونة بدأ، "فيصل إلى القلب والرئة، فيؤثر في الباطن، ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي سيقع به لا يسلم" وفي نسخة: لا يخلص "غالبًا مما استحكم به" أي من أجل ما استحكم عنه من الداء. قال الغزالي: لكنه توهم الخلاص، فيصير من جنس الموهومات كالطيرة، فلو تجرد هذا المعنى لم يكن منهيًّا عنه، "و" لكنه "ينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم، فتضيع مصالحهم" أحيانًا وأمواتًا، وعبارة الغزالي: لو رخص للأصحاء في الخروج لم يبق بالبلد إلا من طعن، فيضيع حالهم فيكون هلاكهم محققًا وخلاصهم منتظرًا، كما أن صلاح الأصحاء منظر، ولو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت، ولو خرجوا لو يقطع بالخلاص، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وينعكس هذا فيمن لم يدخل البلد، فإن الهواء لم يؤثر بباطنه، ولا بأهل البلد حاجة إليه، فإن لم يبق في البلد إلا مطعون وافتقروا لمتعهد، وقدم عليهم لم ينه عن الدخول، بل يندب للإعانة، ولأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين، كما يؤخذ من تشبيه الفرار هنا بالفرار من الزحف؛ لأن فيه كسرًا لقلوب البقية وسعيًا في إهلاكهم. انتهى. وهو نفيس، "ومنها: ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها ويصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم بل" إضراب انتقالي، "وربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الردية التي حصل تكيف بدنها بها، فأفسدته، فمنع من الخروج لهذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 525 لهذه النكتة. ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع في اللو المنهي عنه. وقال العارف بن أبي جمرة: البلاء إنما يقصد به أهل البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب.   النكتة" وهي متعلقة بنفس من يريد الخروج. "ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت" بالطاعون، "والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع في اللو" "بالفتح وشد الواو" "المنهي عنه" بقوله صلى الله عليه وسلم: "إياك ولو فإن لو، من الشيطان". رواه مسلم، ووقع عند بعض رواته بلفظ: اللو "بالتشديد"، قال عياض والمحفوظ خلافه. نعم روى النسائي وابن ماجه مرفوعًا: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن غلبك أمر، فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللو، فإن اللو تفتح عمل الشيطان"؛ وللطبراني مرفوعًا: "أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قدر الله وما شاء فعل فإن لو مفتاح الشيطان"، والجمع بين هذا وما ثبت من استعماله صلى الله عليه وسلم لو، كقوله: لو سلك الناس واديًا، لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما قاله النووي، الظاهر أن النهي عن إطلاقها فيما لا فائدة فيه، أما من قالها تأسفًا على ما فات من طاعة الله، أو ما هو متعذر عليه منها، ونحو: هذا فيجوز، وعليه أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، وقيل غير ذلك، وقد ترجم البخاري في كتاب التمني ما يجوز من اللو إشارة إلى ذلك، "وقال العارف بن أبي جمرة" "بجيم وراء": "البلاء إنما يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة" "بفتح الميم"، "فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب" أي إلى ترك التعب فيما لا فائدة فيه. قال ابن عبد البر: يقال ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت، ولم يبلغني عن أحد من حملة العلم أنه فر منه، إلا ذكر المدائني أن علي بن زيد جدعان هرب منه إلى السبالة، فكان يجمع كل جمعة ويرجع، فإذا رجع صاحوا به فر من الطاعون، فطعن فمات بالسبالة. انتهى. لكن نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي وقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة، منهم: علي والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق، وأنهما كانا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 526 وقال ابن القيم: جمع صلى الله عليه وسلم للأم في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه، كمال التحرز منه، فإن في الدخول في الأرض التي هو فيها تعرضًا للبلاء وموافاة له في محل سلطانه، وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشدنا الله إليها، وهي حمية عن الأمكنة والأهوية والمؤذية، وأما نهيهه عن الخروج من بلده ففيه معنيان. أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله تعالى والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا.   يفران منه. ونقل ابن جرير: أن أباه موسى الأشعري كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون، وعن عمرو بن العاصي؛ أنه قال: تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال حملًا للنهي على التنزيه، وخالفهم الأكثر، وقالوا: إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها، إن لم يعطف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون غدة كغدة البعير المقيم بها، كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف"، رواه أحمد برجال ثقات. وروى الطبراني وأبو نعيم بإسناد حسن، مرفوعًا: "الطاعون شهادة لأمتي ووخز أعدائكم من الجن غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدًا، ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف". "وقال ابن القيم: جمع صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال" أي غاية "التحرز منه، فإن في الدخول في الأرض التي هو فيها تعرضًا للبلاء وموافاة" أي إتيانًا "له في محل سلطانه" قوته وشدته، "وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل" إضراب انتقالي لا إبطالي؛ كأنه قيل: وأيضًا "تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشدنا الله إليها" بنحو قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية. "وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه" أي ففي حكمته "معنيان". "أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله تعالى" أي الاعتماد "والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا" بها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 527 والثاني: ما قاله أئمة الطب أنه يجب على من كان يحترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه، والخروج من أرض الوباء والسفر منها لا يكون إلا بحركة شديدة، وهي مضرة جدًّا. هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، انتهى.   "والثاني: ما قاله أئمة الطب: إنه يجب على من يحترز عن الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة" أي الزائدة نسبة إلى الفضل، وهو الزيادة، "ويقلل الغذاء" بأن لا يشبع، "ويميل إلى التدبير المجفف" للرطوبة الزائدة "من كل وجه، والخروج" مبتدأ "من أرض الوباء، والسفر منها" عطف عليه، والخبر، "لا يكون إلا بحركة شديدة، وهي مضرة جدًّا، هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما. انتهى" كلام ابن القيم. وبه يظهر مطابقة الحديث لقول الترجمة: طبه من الطاعون، وإلا فظاهر الحديث ليس فيه طب منه، إنما فيه نهيه عن الخروج والدخول؛ وحاصل الجواب أنه نهي شرعي مشتمل على طب بدني، كما علم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السلعة] : أخرج البخاري في تاريخه، والطبراني والبيهقي عن شرحبيل الجعفي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكفي سلعة، فقلت: يا رسول الله هذه السلعة قد أذتني، تحول بيني وبين قائم السيف أن أقبض عليه وعنان الدابة، فنفث في كفي، ووضع كفه على السلعة   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السلعة: "أخرج البخاري في تاريخه، والطبراني والبيهقي" وابن السكن "عن شرحبيل الجعفي" سمي ابن منده وابن فتحون أباه عبد الرحمن، وقال العسكري شرحبيل بن أوس، وقال: ابن السكن ابن عقبة، "قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكفي سلعة" "بكسر السين وفتحها وسكون اللام، وبفتحتين وبكسر السين وفتح اللام كعنبة، كما في القاموس، أي شيء كالغدة في كفه يتحرك بالتحريك. قال الأطباء: هي ورم غليظ غير ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه لها غلاف ويقبل الزيادة؛ لأنها خارجة عن اللحم، فتكون من قدر حمصة إلى قدر بطيخة، "فقلت: يا رسول الله هذه السلعة قد أذتني تحول" خبر بعد خبر كالعلة لأذيتها له؛ كأنه قيل: لأنها تحول "بيني وبين قائم السيف أن أقبض" أي أضم "عليه" أصابعه، "وعنان الدابة" "بكسر العين لجامعها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها وما أرى أثرها. ومسح صلى الله عليه وسلم وجه أبيض بن جمال وكان به القوباء فلم يمس من ذلك اليوم ومنها أثر، رواه البيهقي وغيره.   أي يحول بينه وبين أن يقبض عليه أيضًا، وأسقط من لفظ الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: "ادن" فدنوت، "فنفث في كفي" ليحصل الشفاء ببركة ريقه الشريف، "ووضع كفه على السلعة، فما زال يطحنها بكفه" أي يدلكها، وعبر بالطحن عن الدلك مجازًا "حتى رفعها" أي ما زال يكرر الدلك إلى أن رفع كفه "عنها" أي السلعة، "وما أرى أثرها" لزواله والكف مؤنثة من الإنسان، وغيره قال ابن الأنباري: وزعم من لا يثوب به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكيرها ممن يوثق بعلمه، لكن في شرح البهجة أن تذكيرها لغة قليلة، "ومسح صلى الله عليه وسلم وجه أبيض بن حمال" "بالمهملة وشد الميم المأربي، بسكون الهمزة وكسر الراء بعدها موحدة". قال البخاري وابن السكن: له صحبة وأحاديث يعد في أهل اليمن، "وكان به القوباء" "بضم القاف وفتح الواو، وقد تخفف بالسكون والمد" داء معروف. زاد في رواية: فالتقمت أنفه، "فلم يمس من ذلك اليوم، ومنها: أثر" لزوالها ببركة اليد الميمونة، "رواه البيهقي وغيره" كأبي داود والترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، كما في الإصابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحمى] : روى البخاري من حديث مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد". واختلف في نسبتها إلى جهنم، فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحمى: "روى البخاري" ومسلم، وكلاهما "من حديث مالك" عن نافع، عن ابن عمر، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: "الحمى من فيح جهنم" "بفتح الفاء وسكون التحتية فحاء مهملة" وفي حديث رافع بن خديج في الصحيحين: من فور بالراء بدل الحاء. وفي رواية للبخاري: عنه: من فوح بالواو بدل التحتية، وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرها ووهجه، "فأطفئوها" "بقطع الهمزة وكسر الفاء، بعدها همزة مضمومة" "بالماء البارد" شربًا، وغسل أطراف أو جميع الجسد على ما يليق بالزمان والمزاج والمكان. "واختلف في نسبتها إلى جهنم، فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة. وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم، تنبيهًا للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها. قوله "فأطفئوها" الحمى حظ المؤمن من النار.   المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها" في الدنيا "بأسباب تقتضيها" نذيرًا للجاحدين وبشيرًا للمقربين، "ليعتبر العباد بذلك" فالتعذيب بها يختلف باختلاف محله، فيكون للمؤمن تكفيرًا لذنوبه وزيادة في أجوره، وللكافر عقوبة وانتقامًا، وإنما طلب ابن عمر كشفه، كما في البخاري عقب هذا الحديث، قال نافع: وكان عبد الله يقول: اللهم اكشف عنا الرجز، أي العذاب مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله؛ إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه من غير أن يصيبه شيء يشق عليه، "كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها" الله سبحانه "في هذه الدار" الدنيا "عبرة" تذكيرًا ووعظًا "ودلالة" على ما عنده تعالى. "وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم" في كونه مذيبًا للبدن ومعذبًا له، "تنبيهًا للنفوس على شدة حر النار، وإن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها" لتتعظ النفوس فتبعد عن الأسباب الموجبة للنار. زاد المصنف في شرح البخاري: والأول أولى، قال الطيبي: من ليست بيانية حتى تكون بسببها، كقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، فهي إما ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية، أي بعض منها، قال: ويدل لهذا التأويل ما في الصحيح: اشتكت النار إلى ربها، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها، كذلك الحمى حرارة غريزية تشتغل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العرق إلى جميع البدن. "قوله: فأطفئوها بهمزة قطع" مفتوحة "أمر من الإطفاء" الرباعي. "وروى الطبراني" مرفوعًا: "الحمى حظ المؤمن من النار" أي نار جهنم، فإذا ذاق لهيبها في الدنيا لا يذوق لهيب جهنم في الأخرى، أي أنها تكفر ما يوجب النار وتسهل عليه الورود حتى لا يشعر به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 530 وفي رواية نافع عن ابن عمر، عند الشيخين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" بهمزة وصل والراء مضمومة   أصلًا. قال ابن القيم: ليس المراد أنها هي نفس الورود المذكور في القرآن؛ لأن سياقه يأبى حمله على الحمى قطعًا؛ لأنه تعالى وعد عباده كلهم بورود النار، فالحمى للمؤمن تكفر خطاياه، فتسهل عليه الورود، فينجي منه سريعًا. انتهى. وهو رد لقول مجاهد في تفسير الآية: الحمى في الدنيا حظ المؤمن من الورود في الآخرة، رواه ابن أبي حاتم والبيهقي عنه، وقال الزين العراقي: إنما جعلت حظه من النار لما فيها من البرد والحر المغير للجسم، وهذه صفة جهنم، فهي تكفر الذنوب فتمنعه من دخول النار. انتهى. يعني دخول عذاب لا الورود، هذا ولفظ الطبراني في الأوسط، عن أنس مرفوعًا: "الحمى حظ أمتي من فيح جهنم" ورواه في الكبير عن أبي ريحانة، رفعه: "الحمى كير من جهنم، وهي نصيب المؤمن من النار". نعم، رواه ابن أبي الدنيا والعقيلي من حديث عثمان: "الحمى حظ المؤمن من النار يوم القيامة"، ورواه البزار عن عائشةٍ، والقضاعي والديلمي عن ابن مسعود، رفعه: "الحمى حظ كل مؤمن من النار"؛ وقول الحافظ أبي بكر بن العربي، قال بعض الغافلين: الحمى حظ المؤمن من النار، فهو مستثنى من هذا، أي الآية، فقال: وهذه غفلة عظيمة، بل لا بد لكل أحد من الصراط فتلقح النار قومًا، ونقف دون آخرين، والكل وارد عليها. انتهى. مراده أن جعل الحديث نفس الورود لمن حلت به الحمى، فستثنى من الآية من نزلت به غفلة بدليل فحوى كلامه، لا إنه لم يقف على الحديث، كما ظنه بعضهم فتعجب منه، بأن للحديث طرقًا عديدة لا تخفى على من له أدنى ممارسة بالحديث. "وفي رواية نافع عن ابن عمر عند الشيخين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم" الذي في البخاري في الطب، إنما هو باللفظ السابق من رواية مالك عن نافع، وفيه: قبله في صفة جهنم من بدء الخلق من رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، مرفوعًا: "الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء": فإنما فيه أنه قال: فأبردوها بدل قوله في الأولى: فأطفئوها، وكذا رواه مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله، عن نافع بلفظ: فأبردوها، ورواه من طريق مالك عن نافع باللفظ الأول، وهو: فأطفئوها، وكذا رواه من طريق محمد بن زيد عن ابن عمر، ورواه من وجه آخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 531 على المشهور وحكي كسرها الراء. وفي رواية ابن ماجه بالماء البارد. وفي رواية همام عن أبي جمرة عند البخاري، قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فاحتبست أيامًا، فقال: ما حبسك؟ قلت: الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم"، شك همام. قال ابن القيم: قوله "بالماء" فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو   شدة الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء"؛ فلم أجد في واحد من الصحيحين بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف، "فأبردوها بالماء بهمزة وصل والراء مضمومة على المشهور" في الرواية من بردت الحمى أبردها بردًا، بوزن قتلها أقتلها قتلًا، أي أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة: إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد هبني بردت ببرد الماء ظاهرة ... فمن النار على الأحشار تتقد "وحكي كسرها"، أي "الراء" مع وصل الهمزة، وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء من إيراد الشيء إذا عالجه فصيره باردًا، مثل أسخنته إذا صيرته سخنًا، وأشار إليها الخطابي، وقال الجوهري: إنها لغة ردية، وقول أبي البقاء: الصواب وصل الهمزة وضم الراء، زاد القرطبي: وأخطأ من زعم قطعها فيه نظر بعد ثبوتها رواية عند عياض والخطابي، فيكفي في توجيهها أنها لغة وإن كانت ردية بعنى مخالفة للقياس. "وفي رواية ابن ماجه" من حديث أبي هريرة لا ابن عمر كما يوهمه المصنف: "بالماء البارد" شربًا وغسل أطراف؛ لأن البارد رطب ينساغ لسهولته، فيصل للطافته إلى أماكن العلة من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة. "وفي رواية همام" بن يحيى، "عن أبي جمرة" بجيم وراء نصر بن عمران بن عصام الضبعي "بضم المعجمة وفتح الموحدة، بعدها مهملة" البصري، نزيل خراسان، مشهور بكنيته، ثبت من رجال الجميع، مات سنة ثمان وعشرين ومائة. "عند البخاري" في وصفه جهنم، "قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة" وفي رواية أحمد: كنت أدفع الناس عن ابن عباس، "فأخذتني الحمى، فاحتبست أيامًا" عن المجيء له، "فقال: ما حبسك" أي منعك، "قلت: الحمى، قال: أبردها" عنك "بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم"، شك همام" "بفتح الهاء وشد الميم" ابن يحيى البصري، راوي الحديث عن أبي جمرة. "قال ابن القيم: قوله بالماء فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح، والثاني: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 532 الصحيح. والثاني: أنه ماء زمزم. ثم قال بعد أن روى حديث أبي جمرة هذا، وراوي هذا قد شك فيه، ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم؛ إذ هو متيسر عندهم، وأمر غيرهم بما عندهم من المياه، انتهى. وتعقب: بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام: فأبردوها بماء زمزم ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم. قال ابن القيم: واختلف من قال: إنه على عمومه: هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن الذي حمل من قال إن المراد به الصدقة أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى. ولم يفهم وجهه، مع أن لقوله وجهًا حسنًا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقًا، انتهى. وقال الخطابي وغيره: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث، بأن   أنه ماء زمزم" لحديث: فأبردوها بماء زمزم بدون شك، وبه جزم ابن حبان، فقال: إن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، "ثم قال" ابن القيم "بعد أن روى" أي نقل "حديث أبي جمرة هذا، وراوي هذا قد شك فيه" فليس بقيد، "ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم؛ لأنه متيسر عندهم، وأمر غيرهم بما عندهم من المياه. انتهى". "وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان" "بشد الفاء ونون"، والصرف على أنه من عفن، ومنعه على أنه من عف ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، البصري، ثقة، ثبت، "عن همام" بن يحيى المذكور: "فأبردوها بماء: زمزم، ولم يشك". "وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم" فتعين أنه خطاب لأهل مكة خاصة، أما غيرهم فمطلق الماء. "قال ابن القيم: واختلف من قال إنه على عمومه" في جميع المياه، "هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن الذي حمل من قال" وهو ابن الأنباري: كما نقله عنه الخطابي؛ "أن المراد به الصدقة أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمي، ولم يفهم وجهه" أي وجه استعماله فيها، "مع أن لقوله" المراد الصدقة "وجهًا حسنًا، وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش" حرارته "عن الظمآن بالماء البارد، أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقًا. انتهى". وهو إن كان حسنًا، لكن رده الحافظ بأن صريح الأحاديث يرده، "وقال الخطابي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 533 قال اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار ويعكس الحرارة التي في داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف. وقد غلط بعض من ينسب إلى العمل، فانغمس في الماء لما أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولًا سيئًا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث. والجواب: أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولًا: من أين حملت الأمر على الاغتسال، وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلًا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصده عليه الصلاة   وغيره" كالمازري بمعناه: "اعترض بعض سخفاء الأطباء" "بسين وخاء معجمة، أي رقيقي العقل ناقصة" "على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام" أي يضم بعض أجزائها إلى بعض، فيسدها "ويحقن البخار، ويعكس الحرارة التي في داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف" الموت، وزعم إجماع الأطباء على ذلك، كما في كلام المازري. "وقد غلط بعض من ينسب إلى العمل" بالأحاديث، كذا في جميع ما رأينا من نسخ المتن، والذي في الفتح إلى العلم بتقديم اللام، "فانغمس في الماء لما أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولًا سيئًا" قبيحًا "لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث". "والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب" أي شاك "في صدق الخبر، فيقال: له: أولًا من أين حملت الأمر على الاغتسال، و" الحال أنه "ليس في الحديث الصحيح يان الكيفية" الصفة، "فضلًا عن اختصاصها بالغسل، فحمله عليه تحرض ونسبة ما لم يقله إليه، "وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء" إشارة إلى أن الأمر إرشادي، "فإن أظهر الوجود، أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء، أو صبه إياه على جميع بدنه يضره، فليس هو المراد" لاستحالة أن يأمر بما فيه ضرر. وفي قوله: كل محموم تنكيت على المرتاب؛ إذ صناعة الطب لا تقتضي ذلك لكل محموم، بل بعض المحمومين ينفعهم، فيحمل الحديث عليه ولا يجعل عامًّا، لكنه قصد إرخاء العنان مع الخصم، "وإنما قصده عليه الصلاة والسلام استعمال الماء على وجه ينفع، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 534 والسلام استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهذا كله وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت الصديق رضي الله عنها: فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئًا من الماء بين ثدييه وثوبه، فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي، ولا سيما مثل أسماء التي كانت تلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها. وقد ذكر أبو نعيم وغيره، من حديث أنس رفعه: "إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر". وقال المازري: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل   فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به" ولا يرد الحديث الصحيح بالعقل السخيف، "وهذا كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق". "وقد ظهر من الحديث الآخر؛ أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية" أي صفة "مخصوصة" تقدمت، "وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما" المروي في الموطأ والصحيحين عن أسماء أنها كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها أخذت الماء فصبته بينها وبين جيبها، قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء، ففسر معناه بقوله: "فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئًا من الماء بين ثدييه وثوبه" لأن الجيب ملاصق للصدر، "فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها" وتقدمت: "والصحابي" "مبتدأ خبره مقدر، أي أعلم، وأما أعلم، المذكور في قوله، "ولا سيما مثل أسماء التي كانت ممن يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أعلم بالمراد" "فخبر" مثل لقوله: "من غيرها" بالتأنيث، هكذا قرره شيخنا، وهو أحسن من قوله في الحاشية: أعلم خبر قوله: والصحابي، وأنث في قوله: من غيرها، لكون القصة مع أسماء، فكأنها المراد من الصحابي، وكان الأولى أن يقول من غيره. "وقد ذكر" أي روى أبو نعيم وغيره" كالطبراني والحاكم بسند قوي "من حديث أنس، رفعه: "إذا حم أحدكم" "بالضم والتشديد" أصابته الحمى، $"فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر" أي قبيل الصبح، فهذا الحديث المرفوع يؤيد فعل أسماء، فيكون المراد بالإبراد الرش لا الاغتسال، كما فهم المعترض. "وقال المازري" في الرد عليه: "لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 535 حتى إن المريض يكون الشيء دواء له في ساعة فيصير داء له في الساعة الأخرى التي تليها لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلًا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير. فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف، وقوة الطباع. ويحتمل أن يكون هذا في وقت مخصوص فيكون من الخواص التي أطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب. وجعل ابن القيم خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خاصًّا لأهل الحجاز وما والأهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة عن شدة حرارة الشمس. قال: وهذا ينفعها الماء البارد شربًا واغتسالًا؛ لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق   التفصيل" أي التبيين، "حتى إن المرض يكون الشيء دواء في ساعة، فيصير داء له في الساعة الأخرى التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه، مثلًا: فيتغير علاجه" ولذا قيل: الطب وقتي، وأن من تسامح المعالج قوله: يستعمل الدواء الفلاني في اليوم الآتي، "ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن" للمريض "والزمان" الواقع فيه المرض "والعادة والغذاء المتقدم، والتأثير المألوف وقوة الطباع". وفي كلام المازري: وأيضًا فالأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها؛ بأن يسقى الماء الشديد البرد. نعم، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والغسل على ما قالوه، أو قريب منه. "ويحتمل أن يكون هذا في وقت مخصوص، فيكون من الخواص التي اطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب" لأنه معجز خارج عن قواعدهم. "وجعل ابن القيم خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث" بقوله: فأبردوها بالماء، أو فأطفئوها بالماء، "خاصًّا لأهل الحجاز وما والأهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة عن شدة حرارة الشمس. قال: وهذا ينفعها الماء البارد شربًا واغتسالًا؛ لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 536 إلى جميع البدن وهي قسمان: عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإذا كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم، لا تقلع غالبًا في يوم ونهايتها إلى ثلاث، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية، فهي حمى دق، وهي أخطرها. وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهي بعدد الأخلاط الأربعة: صفراوية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الأفراد والتركيب. وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول. فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج وغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر. وقد قال جالينوس: لو أن شابًّا خشن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم واستحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لانتفع بذلك.   في العروق إلى جميع البدن" وحاصله أنه ينفع لبعض الحميات دون بعضها، فيحمل عليه الحديث وهو وجيه، "وهي" أي الحمى "قسمان". "عرضية، وهي الحادثة عن ورم، أو حركة، أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ" الحر "الشديد" وإن كان في ظل "ونحو ذلك". "ومرضية، وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإذا كان مبدأ تعلقها بالروح، فهي حمى يوم لا تقلع غالبًا في يوم" صوابه كما في الفتح؛ لأنها تقلع، ومثله للمصنف في الشرح، وهو واضح؛ لأن على ما هنا كان اللائق تسميتها حمى يومين، "ونهايتها إلى ثلاث، وإن كانت تعلقها بالأعضاء الأصلية، فهي حمى دق، وهي أخطرها" أشدها في الخطر بمعجمة فمهملة، أي الهلاك، "وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهي بعدد الأخلاط الأربعة: أعني صفرواية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب. ا. هـ". "وإذا تقرر هذا، فيجوز أن يكون المراد النوع الأول" أي الصفراوية، "فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج" بمثلثة وجيم "وبغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر". "وقد قال جالينوس" في كتابه حيلة البرء، حكيم مشهورة، عاش سبعًا وثمانين سنة، منها ستين سنة مداومًا على معرفة صناعة الطب وعلامات الدواء، "لو أن شابًّا خشن اللحم خصب البدن" ناميه، "ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد" صبه عليه، "أو سبح" عام "فيه وقت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 537 وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته، كما في الحديث: "صبوا علي من ماء سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" وفي المسند وغيره من حديث الحسن عن سيرة يرفعه "الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل، وصححه الحاكم، ولكن قال: في إسناده راو ضعيف. وعن أنس يرفعه: "إذا حم أحدكم فليسن على رأسه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال". رواه الطحاوي وأبو نعيم في الطب.   القيظ" شدة الحر "عند منتهى الحمى، لانتفع بذلك" لإذهابه آثار العفونة. "وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته" أي مرض موته، "كما في الحديث: "صبوا" لفظ الصحيح هريقوا، ومعناه صبوا "علي من ماء سبع قرب لم تحلل" "بضم الفوقية وسكون المهملة وفتح اللام الأولى" "أوكيتهن" جمع وكاء، الخبط الذي يربط به ربة، وحكمة السبع؛ أن له خاصية في دفع ضرر السم، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هذا أوان انقطاع أمري من ذلك السم"، يريد سم الشاة التي أكل منها بخيبر. "وفي المسند" للإمام أحمد "وغيره، من حديث الحسن" البصري، "عن سيرة" بن جندب، "يرفعه: "الحمى قطعة من النار" أي نار جهنم، جعلها الله في الدنيا، "فأبردوها عنكم بالماء البارد"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حم" "بالضم والتشديد" "دعا بقربة من ماء، فأفرغها على رأسه، فاغتسل وصححه الحاكم". "ولكن قال" غيره "في إسناده: راو ضعيف" فسقط من قلم المصنف فاعل، قال: إذ كون الحاكم يصححه، ويقول في إسناده ضعيف من المحال: فدع عنك ما يقول في العقل من الاحتمال، "وعن أنس يرفعه: "إذا حم أحدكم" أي أصابته الحمى، "فليسن" "بضم السين المهملة وشد النون"، وروي "بشين معجمة"، وترجى الضياء المقدسي أنه تصحيف، وليس كما قال: ففي النهاية: الشن بالمعجمة الصب المتقطع، وبالمهملة الصب المتصل، وهذا يؤيد رواية الإعجام، إذ المعنى: فليرش "على رأسه من الماء البارد" رشا متفرقًا، ويؤيده أن ذا الحديث بعينه ورد بلفظ: فيرش كما مر قريبًا جدًّا، وأيد أيضًا بما تقدم أن أسماء كانت ترش على بدن المحموم. وقال العسكري: بمهملة، ويقال: بمعجمة "من السحر" أي قبيل الصبح "ثلاث ليال" فإنه نافع في الصيف، في القطر الحار في الحمى العرضية، أو الغب الخالصة، الخالية عن الورم والعتق والأعراض الردية والمواد الفاسدة، فتطفئها بإذن الله تعالى إذا كان فاعل ذلك من أهل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 538 وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن المرقع، رفعه: "الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض، فبردوا لها الماء في الشنان وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء". قال: ففعلوا فذهب عنهم الحمى. وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم الحمى وهي قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار، ويستقبل جريته،   الصدق واليقين. "رواه الطحاوي وأبو نعيم في الطب" النبوي، والنسائي وأبو يعلى والطبراني والحاكم، وقال: على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وقال الحافظ: سنده قوي، وقال شيخه الهيثمي: رجاله ثقات. "وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن المرقع" "بضم الميم وفتح الراء وكسر القاف المشددة وعين مهملة" السلمي، صحابي سكن مكة وشهد فتح خيبر، "رفعه: "الحمى رائد الموت" أي رسوله الذي يتقدمه، كما يتقدم الرائد قومه، فهي مشعرة بقدومه، فليستعد صاحبها له بالمبادرة إلى التوبة والخروج من المظالم، والاستغفار والصبر وإعداد الزاد، ولا ينافيه عدم استلزام كل حمى للموت؛ لأن الأمراض كلها من حيث هي مقدمات للموت ومنذرات به، وإن أفضت إلى سلامة جعلها الله تذكرة لابن آدم يتذكر بها الموت. وقد روى أبو نعيم عن مجاهد: ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده، حتى إذا كان آخر مرض يمرضه، أتاه ملك الموت، فقال: أتاك رسول بعد رسول، فلم تعبأ به، وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا، "وهي سجن الله في الأرض" للمؤمن، حبس بها عبده إذا شاء، ففتروها بالماء، هكذا زاد البيهقي وغيره من مرسل الحسن البصري، رفعه: وهو تفسير من المصطفى ولا عطر بعد عروس، "فبردوا لها الماء في الشنان" "بكسر المعجمة" جمع شن بفتحها القربة البالية، "وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء"، قال: ففعلوا، فذهب عنهم الحمى" وهذا الحديث رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب، والديلمي والقضاعي من حديث أنس، ورواه العسكري، وزاد بيان السبب عن أنس، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وكانت مخضرة من الفواكه، وقع الناس فيها، فأخذتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيها الناس الحمى رائد الموت"، فذكر. "وقد أخرج التمذي من حديث ثوبان" الهاشمي، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، مات بحمص سنة أربع وخمسين، "مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم الحمى، وهي قطعة من النار" حقيقة أو مجازًا، "فليطفئها عنه بالماء" لأن الماء يطفئ النار، واستأنف بيانيًّا في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 539 وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله". قال الترمذي: غريب، وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه.   جواب سؤال مقدر: ما معنى الإطفاء؟، فقال: "يستنقع في نهر جار، ويستقبل جريته، وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك" لم يقل اشفني؛ لأن المقام مقام استعطاف وتذلل، ولا وصف أصدق من وصف العبودية، "وصدق رسولك" فيما أخبر أنه شفاء من الحمى "بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس" ظرف لقوله: يستنقع، "ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ، فخمس" ينغمس فيها، فخمس خبره محذوف، "وإلا فسبع، وإلا فتسع" من الأيام، "فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله" وهذا يحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، ويحتمل أنه خارج عن قواعد الطب، داخل في قسم المعجزات الخارق للعادة، ألا ترى كيف قال فيه صدق رسولك، وبإذن الله، وقد شوهد وجرب، فوجد كما نطق به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، قاله الطيبي، وقال الزين العراقي: عملت بهذا الحديث، فانغمست في بحر النيل، فبرئت منها، قال ولده: ولم يحم بعدها. ولا في مرض موته. "قال الترمذي" حديث "غريب، وفي سنده سعيد" "بكسر العين" "ابن زرعة" الحمصي، الجرار "بجيم ومهملتين" الخزاف "بمعجمة وزاي"، من أواسط التابعين، "مختلف فيه" أي في تضعيفه وتوثيقه، وفي التقريب أنه مستور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحكة وما يولد القمل} : لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة رخص صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما في البخاري عن قتادة أن أنسًا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحكة وما يولد القمل: الحكة: "بكسر الحاء" نوع من الجرب، ولم يذكر ما يتولد منه القمل، فلعله أراد أن سبب الترخيص في الحزير أنه يمنع ما يولد القمل، "لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، رخص صلى الله عليه وسلم" أي أباح "للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما في البخاري" في الجهاد واللباس ومسلم في اللباس من طريق سعيد، "عن قتادة" بن دعامة: "أن أنسًا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف" الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 والزبير بن العوام في قميص من حرير من حكة كانت بهما. وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني القمل- فأرخص لهما في لبس الحرير، قال فرأيته عليهما في غزاة. وفي رواية رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في الحرير. وفي رواية رخص، أو رخص لحكة كانت بهما.   القرشي، الزهري، "والزبير بن العوام في" لبس "قميص من حرير من" أجل "حكة كانت بهما" ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يخص من شاء بما شاء، والحديث ظاهر في تخصيصهما بذلك. وفي رواية لمسلم: في القميص الحرير في السفر من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما، "وفي رواية" للبخاري من طريق همام، عن قتادة، عن أنس "أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير شكيا" "بالياء" وفي رواية: شكوا "بالواو" وصوبها ابن التين؛ لأن لام الفعل واو، كقوله تعالى: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] ، وأجيب بأن في الصحاح يقال: شكيت وشكوت "إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني القمل" لم يتعرض الحافظ، ولا المصنف لبيان فاعل، يعني: "فأرخص" "بفتح الهمزة وإسكان الراء"، "لهما في لبس الحرير، قال" أنس: "فرأيته عليهما في غزاة" ظاهرة أن لبسهما له إنما هو لأجل القمل، وصادف بقاؤه عليهما إلى وجود الغزواة؛ لكن ترجم عليه البخاري في الجهاد باب الحرير في الحرب، وتبعه الترمذي، فترجم عليه ما جاء في لبس الحرير في الحرب، أخذًا من قوله في غزاة، وجعل الطبري جوازه في الغزو، ومستنبطًا من جوازه للحكة، فقال: دلت الرخصة في لبسه بسبب الحكة؛ أن من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكة، كدفع سلاح العدو ونحو ذلك، أنه يجوز. "وفي رواية" للبخاري أيضًا، من طريق يحيى القطان: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أس: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في" لبس "الحرير"، ولم يذكر في هذه الرواية العلة والسبب، فهو محمول على السابقة، وظاهر الروايات أنه لا فرق بين أبيض وغيره، ووقع عند أبي نعيم في الطب، عن عبد الرحمن أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص له في لبس قميص من حرير أبيض. "وفي رواية" للبخاري أيضًا، من طريق غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس: "رخص" "بفتح الراء والخاء مبنيًّا للفاعل"، "أو رخص" "بضم الراء وكسر الخاء مبنيًّا للمفعول"، والشك من الراوي. وقد أخرجه أحمد عن غندر، بلفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللبخاري في اللباس من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 541 ويحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، أو أن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى المسبب. قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه: أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكان للقمل وما في بمعنى ذلك. وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث حجة عليه، انتهى. وتعقب قوله: "لما فيه من البرودة" بأن الحرير حار.   طريق وكيع، عن شعبة: رخص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير "لحكة كانت بهما" وقد رجع ابن التين الرواية التي فيها الحكة على الرواية التي فيها، يعني القمل، وقال: لعل أحد الرواة تأوله فأخطأ، "و" جمع الداودي، فقال: "يحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين" زاد الحافظ: "أو أن الحكة حصلت من القمل، فنسبت العلة إلى السبب، وتارة إلى المسبب" ولفظ الحافظ: وتارة إلى سبب السبب. "قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه" كأبي يوسف؛ "أنه يجوز لبس الحرير" للرجل للضرورة، كما "إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكذا للقمل، وما في معنى ذلك" كدفع الحر والبرد، ثم المشهور عند القائل بالجواز أنه لا يختص للسفر. وقال بعض الشافعية: يختص لورود الرخصة فيه، والمقيم يمكنه التداوي. وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يستحب في الحرب، قال المهلب: لإرهاب العدو مثل الرخصة في الاختيال فيه، "وقال مالك" وأبو حنيفة: "لا يجوز" لبسه للرجل مطلقًا "وهذا الحديث حجة عليه. انتهى". ولا حجة فيه؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، فتحتمل التخصيص، وهو المتبادر من قول أنس: رخص للزبير وعبد الرحمن، أي لا لغيرهما، وبه قال جماعة؛ لأن له أن يخص من شاء بما شاء، كترخيصه في النياحة لأم عطية، ولأبي بردة في التضحية بعناق من معز، وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن، ولا تصح تلك الدعوى، وتعقبه الحافظ بأن عمر جنح إلى ذلك، فروى ابن عساكر، عن ابن سيرين أن عمر رأى على خالد بن الوليد قميص حرير، فقال: ما هذا، فذكر له خالد قصة عبد الرحمن، فقال: وأنت مثل عبد الرحمن أو لك مثل ما لعبد الرحمن، ثم أمر من حضره فمزقوه، رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا. "وتعقب قوله لما فيه من البرودة؛ بأن الحرير حار" بالمشاهدة، "والصواب أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 542 والصواب: أن الحكمة فيه إنما هي لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل. وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخنًا للبدن، وربما برد البدن بتسميته إياه. وقال الرازي: الأبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن، ويربي اللحم، وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتاب باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير لبس فيها من اليبس والخشونة كغيرها صارت نافعة من الحكة؛ لأن الحكة -كما قدمته- لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص عليه الصلاة والسلام لهما في لباس الحرير لمداواة الحكة.   الحكمة فيه إنما هي لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل" ويمكن الجواب عنه؛ بأنه لم يدع أنه بارد، وإنما قال: لما فيه من البرودة، وذلك لا يمنع أنه مشتمل على كل منهما، إلا أن الحرارة أغلب، لكن هذا عقلي، والحرارة والبرودة لا يجتمعان في لباس ولا مأكول، إنما يقال حار رطب، أو حار يابس، وكذا يقال في بارد، أما حار بارد فلا يجتمعان في شيء واحد. "وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه" أي الحرير "ملبوس كان معتدل الحرارة" لأنه حار رطب "في مزاجه" أي طبعه "مسخنًا للبدن، وربما برد البدن بتسمين إياه" أي أحدث فيه البرد بسبب التسمين، فلذا وصفه للحكة. "وقال الرازي: الأبريسم" "بفتح السين وضمها" الحرير، أو معرب كما في القاموس، وفي المصباح: معرب، وفيه لغات كسر الهمزة والراء والسين، وابن السكيت يمنعها، ويقول: ليس في الكلام افعيلل "بكسر اللام"، بل بالفتح مثل اهليلج واطريفل، والثانية فتح الثلاثة، والثالثة كسر الهمزة وفتح الراء والسين، "أسخن من الكتان، وأبرد من القطن، ويربى" "بموحدة بعد الراء، أي يزيد "اللحم" أي يسمنه، "وكل لباس خشن، فإنه يهزل" "بضم الياء وكسر الزاي"، "ويصلب" "بضم الياء وكسر اللام المشددة وموحدة" أي ييبس "البشرة" ويجففها، "فملابس الأوبار" "بموحدة" جمع وبر للبعير، كالصوف للغنم، أي المتخذة منها، "والأصواف" المتخذة من صوف الغنم "تسخن وتدفئ" البدن لحرارتها ويبسها، "وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن" لأنه لا يبس فيها، فثياب الكتاب باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن، وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير ليس فيها شيء من اليبس والخشونة، كغيرها صارت نافعة من الحكة لأن الحكة كما قدمته لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص عليه الصلاة والسلام لهما في لباس الحرير لمداواة الحكة" لكونها معتدلة الحرارة وخلوها من اليبس والخشونة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 543 [ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذي أصابه بخيبر] : تقدم في غزوتها قصة اليهودية التي أهدت إليه الشاة المسمومة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال: "ما هذه"؟ فقالت: هدية، وحذرت أن تقول من الصدقة فلا يأكل. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، ثم قال: "أمسكوا"،   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذي أصابه بخيبر: السم معروف، ويثلث، والجمع سموم وسمام، قاله القاموس، والأكثر فتح سينه، "تقدم في غزوتها" أي خيبر "قصة اليهودية" وهي زينب بنة الحارث، كما سماها ابن إسحاق وموسى بن عقبة، "التي أهدت إليه الشاة المسمومة" مبسوطة، وأنها أسلمت، كما قال الزهري وسليمان التيمي. "وقد روى عبد الرزاق" بن همام بن نافع الحميري، مولاهم أبو بكر الصنعاني، ثقة، حافظ، له تصانيف، مات سنة إحدى عشرة ومائتين، وله خمس وثمانون سنة، "عن معمر" بن راشد الأزدي، مولاهم البصري، نزيل اليمن، ثقة، ثبت، فاضل، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب أحد الأعلام، "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري، المدني، ثقة، من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات في خلافة سليمان؛ "أن امرأة يهودية" هي زينب. وفي أبي داود أنها أخت مرحب اليهودي، وبه جزم السهيلي، وعند البيهقي أنها بنت أخي مرحب، "أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة"، أي عنزا، كما في رواية "مصلية" بفتح الميم وسكون الصاد"، أي مشوية "بخيبر" بعدما افتتحها، وبنى بصفية، "فقال: "ما هذه"؟ فقالت: هدية وحذرت" "بفتح الحاء وكسر الذال المعجمة، أي خافت" ويجوز ضم الحاء وشد الذال، أي خوفت "أن تقول من الصدقة، فلا يأكل،" وهو خلاف ما أرادته، "فأكل النبي صلى الله عليه وسلم" أي مضغ منها مضغة على ما عند ابن إسحاق، ثم لفظها أو ابتلعها على ما عند غيره، وجمع بينهما بأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 544 ثم قال للمرأة: "هل سميت هذه الشاة"؟ قالت: من أخبرك؟ قال: "هذا العظم"، لساقها، وهو في يده، قالت: نعم، قال: "لِم"؟ قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك والناس، وإن كنت نبيا لم يضرك. قال: فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا على كاهله. وقد ذكروا في علاج السم أن يكون بالاستفراغات والأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء فليبادر إلى الدواء   ابتلع ما انفصل منها بريقه دون اللحمة، "وأكل أصحابه" الذين كانوا معه حينئذ، وكانوا ثلاثة على ما روى، وسمي منهم بشر بن البراء، "ثم قال: "أمسكوا" أي كفوا عن الأكل، فإنها مسمومة. وفي رواية: ارفعوا أيديكم، "ثم قال للمرأة: "هل سميت هذه الشاة"؟ قالت: من أخبرك؟ قال: "هذا العظم" لساقها" ما بين الركبة والقدم مؤنثة، "وهو" أي العظم "في يده" وهذا مخالف لرواية أبي داود عن جابر, والبيهقي عن أبي هريرة، قال: "أخبرتني هذه في يدي" للذراع، والجواب أن المراد بالساق هنا الذراع؛ لأن الشاة لما كانت تمشي على أربع أطلق على ذراعها اسم الساق، وقد جاء عند ابن إسحاق وغيره؛ لأنها سألت، أي عضو من الشاة أحب إليه، قيل: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت باقي الشاة، ثم جاءت بها، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع، فانتهش منها، فلما ازدرد لقمته، قال: "ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة"، "قالت: نعم، قال: "لِمَ"؟ وفي رواية "ما حملك على ذلك"؟ "قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك" نحن "والناس، وإن كنت نبيًّا لم يضرك". وعند ابن سعد، قالت: قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي، ونلت من قومي، فقلت: إن كان نبيا، فسيخبره الذراع، وإن كان ملكا استرحنا منه. وتقدم عن صحيح البخاري أنه جمع اليهود، فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما"، قالوا: نعم، قال: "ما حملكم على ذلك"؟، قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك، ونسب الجعل لهم؛ لأنهم لما علموا به حين شاورتهم، وأجمعوا لها على سم معين، كأنهم جعلوه، ولذا قالوا: نعم، وكأنه جمعهم وسألهم بعدما سألها، فأجابوه بمثل ما أجابته به. "قال: فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة على كاهله" أي بين كتفيه، كما في رواية: حجمه أبو هند، أو أبو طيبة بالقرن والشفرة، ويحتمل أنهما جميعا حجماه، فقد روي أنه احتجم بين كتفيه في ثلاثة مواضع. "وقد ذكروا في علاج السم أن يكون بالاستفراغات والأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله" تزيله تفسير للمعارضة، "إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء" الذي نص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 الكلي، وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا والزمان حارا، فإن القوة السمية تسري في الدم، فتبعثه في العروق والمجاري، حتى تصل إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته، فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم، بل إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله، أو تضعفه. ولما احتجم صلى الله عليه وسلم احتجم على الكاهل؛ لأنه أقرب إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليا بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله تعالى من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة زاده الله فضلا وشرفا.   الأطباء على إبطاله فعل السم بأن لم يجده أصلا، أو عدم إفادته بعد استعماله، "فليبادر إلى الدواء الكلي" أي الذي يعم السم وغيره، كإخراج الدم، فله دخل في علاج جميع الأمراض، "وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا" كالحجاز، "والزمان حارا" كالصيف، "فإن القوة السمية تسري في الدم فتبعثه" أي تدخله "في العروق والمجاري" المواضع التي يسري منها الدم إلى العروق، "حتى تصل" القوة السمية "إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم، خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته، فإن كان استفراغا تاما" بأن خرج مع الدم السم، وأثره بتمامه، "لم يضره السم، بل إما أن يذهب" رأسا، "وإما أن يضعف، فتقوى عليه الطبيعة، فتبطل فعله أو تضعفه، ولما احتجم صلى الله عليه وسلم احتجم على الكاهل؛ لأنه أقرب إلى القلب" فيه إفادة أنه احتجم في مقدم أعلى الظهر الذي يلي العنق، فيكون هو المراد برواية بين كتفيه، "فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليا، بل بقي أثرها مع ضعفه" أي الأثر "لما يريد الله من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة، زاده الله فضلا وشرفا" وذلك لا ينافي أنه أقر قول اليهود: وإن كنت نبيا لم يضرك؛ لأن المراد الضرر على الوجه المعتاد في السم، ويدل لبقاء الأثر قول عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"، رواه البخاري تعليقا، ووصله البزار والحاكم والإسماعيلي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 546 فهرس الجزء التاسع: من شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني الفهرس ... فهرس الجزء الناسع: من شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني الفهرس: 3 النوع العاشر في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه 58 المقصد السابع في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه 59 الفصل الأول في وجوب محبته واتباع سنته 159 الفصل الثاني في حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنية 239 الفصل الثالث في ذكر أخبار دالة على محبة أصحابه عليه الصلاة والسلام 329 المقصد الثامن في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات 332 الفصل الأول في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات 366 النوع الأول في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الإلهية 405 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الفزع والأرق المانع من النوم 406 ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من مر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى 409 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب 427 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الفقر 428 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الحريق 431 ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يطب به من داء الصرع 434 ذكر دوائه صلى الله عليه وسلم من داء السحر 453 ذكر رقية تنفع لكل شكوى 454 رقيته صلى الله عليه وسلم من الصداع 455 رقيته صلى الله عليه وسلم من وجع الضرس 456 رقية لعسر البول 457 رقية الحمى 464 ذكر ما يقي من كل بلاء 465 ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء 467 ذكر دواء داء الطعام 469 النوع الثاني في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الطبيعية 474 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للرمد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 549 481 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من العذرة 486 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء استطلاق البطن 494 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من يبس الطبيعة 498 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للمفئود 501 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء ذات الجنب 505 الاستسقاء 511 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء عرق النسا 512 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم في الورم 513 ذكر طبه عليه الصلاة والسلام بقطع العروق والكي جميعا 517 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الطاعون 528 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السلعة 529 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحمى 540 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الجنة وما يولد القمل 544 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذي أصابه بخيبر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 550 المجلد العاشر تابع المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات تابع الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات ... بسم الله الرحمن الرحيم تابع المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات تابع الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات النوع الثالث: في طبه عليه الصلاة والسلام بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية: "ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من القرحة والجرح وكل شكوى": عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: "بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا". وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: "بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا". رواه البخاري. وفي رواية مسلم: كان إذا اشتكى الإنسان، أو كانت به قرحة أو جرح قال بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، الحديث.   "النوع الثالث": "في طبه عليه الصلاة والسلام بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية: ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من القرحة والجرح وكل شكوى" أي مرض، "عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض" بأي مرض كان: "بسم الله" هذه "تربة أرضنا" المدينة خاصة لبركتها، أو كل أرض "وريقة" بالواو, وفي رواية أبي ذر للبخاري ولغيره: بريقة "بالباء متعلقة بمحذوف خبر ثان" "بعضنا يشفى سقيمنا". زاد في رواية: غير أبي ذر بإذن ربنا، "وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية" للمريض "بسم الله، تربة أرضنا، وريقة بعضنا". قال المجد: الريق بالكسر: الرضاب، وماء الفم والريقة أخص جمعه أرياق، "يشفى سقيمنا بإذن ربنا" رواه", أي المذكور من الرواتين "البخاري" في الطب، الأولى عن شيخه ابن المديني، عن ابن عيينة، عن عبد ربه بن سعيد, عن عمر، عن عائشة، والثانية عن شيخه صدقة بن الفضل، عن ابن عيينة بإسناده المذكور. "وفي رواية مسلم" عن شيخه ابن أبي عمر، عن سفيان عن عبد ربه، عن عمرة، عن عائشة: "كان إذا اشتكى الإنسان" ذكرا أو أنثى، "أو كانت به قرحة" واحدة القروح، "أو جرح، قال: بإصبعه" في موضع الحال من فاعل، قال: "هكذا، ووضع سفيان" بن عيينة راوي الحديث مبينا معنى الإشارة، بقوله: هكذا "سبابته بالأرض ... الحديث" بقيته، ثم رفعها قال: "بسم الله"، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 وقوله: "تربة أرضنا" خبر مبتدأ محذوف، أي هذه تربة أرضنا. وقوله: "يشفى سقيمنا" ضبط بوجهين، بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع، وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية. قال النووي: معنى الحديث: أنه أخذ من ريق نفسه، على أصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب فعلق بها شيء منه، ثم مسح به الموضع العليل أو الجرح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح. وقال القرطبي: زعم بعض علمائنا أن السر في أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي فيه الألم، ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه، مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها. وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، ولا سيما من الصائم والجائع.   فذكره، إلا أنه ما كان ينبغي للمصنف حذف قوله: ثم رفعها، لأنه من تتمة ما بين سفيان بفعله معنى الإشارة، ولذا أتى الحافظ به، وقوله: "تربة أرضنا" خبر مبتدأ محذوف، أي هذه تربة أرضنا، وقوله: "يشفى سقيمنا ضبط"، "أي روي "بوجهين بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع" نائب الفاعل، ويقدر فيه: بهما يشفى سقيمنا، "وبفتح أوله" وكسر الفاء، "على أن الفاعل مقدر" أي ضمير مستتر يعود على ما ذكر من التربة والريقة، "وسقيمنا بالنصب على المفعولية" وعزاها المصنف لرواية أبي ذر عن الكشميهني، وصدر بالأولى، فهي رواية الأكثر. "قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب، فعلق" "بكسر اللام" لصق "بها شيء منه" أي التراب، "ثم مسح به الموضع العليل، أو الجرح" حالة كونه، "قائلا الكلام المذكور في حالة المسح"، فجمع بين الطب الإلهي والطبيعي، وفي الفتح قوله: "ريقة بعضنا" يدل على أنه كان يتفل عند الرقية. "وقال القرطبي" أبو العباس في شرح مسلم: "زعم بعض علمائنا" يعني المازري: "أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي فيه الألم، ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها" عبارة القرطبي: وإدمالها، واختصاص بعض الأرض بتحليل الأوجاع والأورام، هكذا في كلام المازري. "وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، ولا سيما من الصائم والجائع", وإن لم يكن صائما لبعد عهده بالأكل والشرب، وذلك بانفراده في الأجسام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 وتعقبه القرطبي: بأن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق، وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله صلى الله عليه وسلم وأما وضع الأصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك، ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها. وقال التوربشتي: كأن المراد بالتربة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان   الرخصة، وأما في القوية، فقد يضاف إليها في علاج الأورام الحطة الممضوغة وأشباهه من المحللات المنضجات، وخص ذلك بعضهم بأرض المدينة تبركا بتربتها لفضلها، والصواب ما ذكرناه، هذا كله كلام المازري. "وتعقبه القرطبي: بأن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يعلق" بفتح اللام، أي يلصق "بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله صلى الله عليه وسلم, وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء" إضافة بيانية، أي هي إخفاء "آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة". "وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج" الطبع الذي يتألف منه الجسد "ودفع الضرر" عنه، "فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن ستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها" لبعد المسافة، "حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه" إنائه الذي يجعل فيه الماء "ليأمن من مضرة ذلك" الماء المختلف، "ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد" أي تقتصر "العقول عن الوصول إلى كنهها، "أي حقيقتها. "وقال التوربشتي" شارح المصابيح -بضم الفوقية ثم واو ساكنة ثم راء مكسورة ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 الحال: إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ثم أبدعته من ماء مهين، فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته. وقال النووي: قيل المراد "بأرضنا" أرض المدينة لبركتها، و"بعضنا" ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا بريقه وفيه نظر. وفي حديث عائشة عند أبي داود والنسائي: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض، فقال: "اكشف الباس رب الناس"، ثم أخذ ترابا من بطحان فجعله في قدح ثم نفث عليه، ثم صبه عليه، قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث تفرد به الشخص المرقي.   موحدة مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم فوقية- نسبة إلى توربشت من شيراز، ذكره السبكي في الطبقات، قاله في اللب وضبط في السبل الراء بالفتح، ولعله سبق قلم: "كأن المراد بالتربة الإشارة" إلى فطرة آدم، والريقة الإشارة "إلى النطفة" التي خلق منها الإنسان، هذا لفظ التوربشتي، كما في الفتح وشرح المصنف للبخاري، فسقط ذلك من قلم المصنف، "كأنه تضرع بلسان الحال", وتعرض بفحوى المقال، فقال: "إنك اخترعت الأصل الأول" آدم "من التراب ثم أبدعته", لفظه: ثم أبدعت بنيه "من ماء مهين" ضعيف, "فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته" من الأمراض. "وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة لبركتها، وبعضنا ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا بريقه" وتربة المدينة، "وفيه نظر" إذ لا دليل على التخصيص وإن نحا إليه الطيبي، فقال في شرح المشكاة إضافة تربة أرضنا، وريقة بعضنا تدل على الاختصاص، وأن تلك التربة والريقة مختصان بمكان شريف يتبرك به، بل بذي نفس شريفة، قدسية، طاهرة، زكية عن أوصاف الذنوب وأوساخ الآثام، فلما تبرك بسم الله الشافي، ونطق بها ضم إليها تلك التربة، ولريقة وسيلة إلى المطلوب، ويعضده أنه صلى الله عليه وسلم بزق في عين علي، فبرئ من الرمد، وفي بئر الحديبية, فامتلأ ماء. "وفي حديث عائشة عند أبي داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس" "بفتح الشين المعجمة والميم الثقيلة وسين مهملة" الأنصاري، الخزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد، قدمته قبل هذا الموضع، وهو مريض، فقال: "اكشف الباس" بغير همز للمواخاة، لقوله: "رب الناس"، "ثم أخذ ترابا من بطحان" بضم الموحدة، وحكي فتحها وسكون الطاء المهملة فيهما، وقيل: بفتح أوله وكسر الطاء" ونسب عياض الأول للمحدثين، والثالث للغويين واد بالمدينة، "فجعله في قدح، ثم نفث" تفل قليلا "عليه" أي الماء، "ثم صبه عليه" أي: على ثابت. "قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث تفرد به الشخص المرقي" أي أنه اختص بفعله معه على هذه الصفة، وليس المراد تفرد بروايته؛ لأنه لم يروه، إنما روته عائشة كما ترى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 "ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من لدغة العقرب": عن عبد الله بن مسعود قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعن الله العقرب، ما تدع نبيا ولا غيره"، ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح، ويقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حتى سكنت، رواه ابن أبي شيبة في مسنده. وقال ابن عبد البر: رقى صلى الله عليه وسلم من العقرب بالمعوذتين، وكان يمسح الموضع   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من لدغة العقرب: بدال مهملة فغين معجمة، "عن عبد الله بن مسعود، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، إذ سجد، فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعدما أتم صلاته، إذ هو اللائق بحاله وتحمله المشاق، وهذا الإمام مالك لدغته العقرب ست عشرة مرة في درس حديثه وما قطعه، فكيف بالمصطفى في صلاته، وقد جاء في حديث علي: فلما فرغ، أي من صلاته، قال: "لعن الله العقرب" أي طرده عن الرحمة "ما تدع نبيا ولا غيره" زاد في حديث علي: "إلا لدغتهم" وهذا تعجب منها، لأن كثيرا من الحيوان يخلق فيه قوة تمييز، فمقتضى الأمر أنها لا تلدغ الأنبياء. وفي حديث عائشة عند ابن ماجه: "لعن الله العقرب ما تدع المصلي وغير المصلي، اقتلوها في الحل والحرم". وروى أبو يعلى عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم لا يرى بقتلها في الصلاة بأسا، "ثم دعا بإناء فيه ماء وملح، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح"، ويقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "والمعوذتين حتى سكنت" اللدغة، أي ألمها، "رواه ابن أبي شيبة في مسنده"، ورواه البيهقي والطبراني في الصغير بإسناد حسن عن علي بنحوه، لكنه قال: ثم دعا بماء وملح ومسح عليهما، وقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] والمعوذتين، "و" لذا "قال ابن عبد البر: قى صلى الله عليه وسلم نفسه لما لدغ "من العقرب بالمعوذتين، وكان يمسح الموضع" الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 بماء فيه ملح. وهذا طب مركب من الطبيعي والإلهي، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأصول الثلاثة التي هي مجامع التوحيد، وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر أن يقرأ بهما عقب كل صلاة. رواه الترمذي. وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة الأخرى التي تليها. وقال: "ما تعوذ المتعوذون بمثلهما". وأما الماء والملح فهو الطب الطبيعي، فإن في الملح نفعا كثيرا من السموم ولا سيما لدغة العقرب، وفيه من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها من البدن، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب استعمل صلى الله عليه وسلم الماء والملح لذلك.   لدغ "بماء فيه ملح" كما في حديث علي، فليست الرقيا لغيره، "وهذا طب مركب من الطبيعي والإلهي، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأصول الثلاثة لتي هي مجامع التوحيد", وهي توحده في ذاته وصفاته، فلا تعدد له بحيث يكون معه إله، ولا رتكب في ذاته، لأنه من عوارض الجسم وهو محال عليه، وصمديته، أي كونه مقصودا لجميع الخلق في حوائجهم، ومستغنيا عما سواه, {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وقدمه وبقاؤه، فلم يسبق بعدم بحيث يكون متولدا عن غيره، ولا يلحقه الفناء، فلا يحتاج إلى من يخلف عنه، فهو موجود أزلا وأبدا. "وفي المعوذتين: الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا"، تقدم بيان ذلك في النوع الأول، "ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر" الجهني، الصحابي، الفقيه، الفاضل، مات قرب الستين "أن يقرأ بهما عقب كل صلاة، رواه الترمذي" عن عقبة، "وفي هذا" أي أمره المذكور "سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة الأخرى التي تليها", وظاهره، ولو حصل له عذر، كنوم منعه من الصلاة أياما، ولا مانع من ذلك، كذا قال شيخنا. "وقال" صلى الله عليه وسلم: "ما تعوذ" أي: اعتصم "المتعوذون بمثلهما". "وأما الماء والملح، فهو الطب الطبيعي، فإن في الملح نفعا كثيرا من السموم، ولا سيما لدغة العقرب". قال ابن سينا: يتضمد به مع بزر الكتان للسعة العقرب، "وفيه من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها من البدن، ولما كان في لسعها" بمهملتين "قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب استعمل صلى الله عليه وسلم الماء والملح لذلك" تنبيها على أن علاج السميات بالتبريد والجذب. وفي البخاري عن عائشة: رخص صلى الله عليه وسلم في الرقية من كل ذي حمة "بضم ففتح مخففا"، أي ذي سموم. وفي السنن عن أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك إن شاء الله". وفي التمهيد عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن من قال حين يمسي: سلام على نوح في العالمين لم يلدغه عقرب، وفي تفسير القشيري عن بعض التفاسير: أن الحية والعقرب أتيا نوحا، فقالتا: احملنا، فقال: لا أحملكما، لأنكما سبب الضرر، فقالتا احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدًا ذكرك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 "ذكر الطب من النملة": وهي بفتح النون وإسكان الميم، قروح تخرج في الجنب، وسمي نملة لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه. وفي حديث مسلم عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة.   ذكر الطب من النملة: "وهي بفتح النون وإسكان الميم قروح تخرج في الجنب" وقد تكون على غيره، قال ابن قتيبة وغيره: زعمت المجوس أن ولد الرجل من أخته إذا خط على الرمل شفي صاحبها، وفيه قال الشاعر: ولا عيب فينا غير عرف لمعشر ... كرام وأنا لا نخط على الرمل والنملة أيضا التميمة، وحكى الهروي: فيها الضم، والنملة بالكسر المشية المتقاربة، قاله عياض. "وسمي" هذا المرض "نملة؛ لأن صاحبه يحس" بضم الياء وكسر الحاء من أحس الشيء علم به، وبفتح الياء وضم الحاء من حس، كنصر لغة "في مكانه، كأن نملة تدب" "بكسر الدال" تسير "عليه وتعضه" "بفتح العين" في الأكثر، وحكى ابن القطاع ضمها. "وفي حديث مسلم عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة" بضم المهملة وخفة الميم" أي ذوات السموم، "والعين والنملة" أي أذن فيها بعد النهي عنها، كما أشعر به قوله: رخص لأنه صلى الله عليه وسلم كان نهى عن الرقى لما عسى أن يكون فيها من ألفاظ الجاهلية، ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 وروى الخلال أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي في الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة قالت: يا رسول الله إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة، فأريد أن أعرضها عليك، فعرضتها عليه، فقالت: بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدا، اللهم اكشف الباس رب الناس. قال: ترقي بها على عود سبع مرات، وتقصد مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه على النملة.   رخص لهم فيها إذا عريت عن ذلك. "وروى الخلال" "بالخاء المعجمة وشد اللام" "أن الشفاء" "بكسر المعجمة وفاء خفيفة، والمد" عند ابن الأثير في الجامع، والقصر عند ابن نقطة، ورجح "بنت عبد الله" بن عبد شمس، القرشية، العدوية، قيل: اسمها ليلى أسلمت قبل الهجرة وبايعت، وهي من المهاجرات الأول وعقلاء النساء وفضلائهن وكان صلى الله عليه وسلم يزورها ويقيل عندها في بيتها، واتخذت له فراشا وإزارا ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها حتى أخذه منهم مروان وهي أم سليمان بن أبي حثمة، ولها أحاديث "كانت ترقي في الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" بعد هجرته بقليل، "وكانت قد بايعته بمكة" على الإسلام، "قالت: يا رسول الله إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة، فأريد أن أعرضها عليك". زاد في رواية ابن منده، قال: "فاعرضيها". "فعرضتها عليه" بسكون التاء لا بضمها لقوله: "فقالت": أهو بضمها، وقولها: فقالت التفات، ويؤيده رواية ابن منده قالت: فعرضتها عليه، فقال: "ارقي بها وعلميها حفصة"، وهذه بضم التاء قطعا "بسم الله ضلت" النملة بضاد معجمة أي تاهت عن طريق قصدها "حتى تعود" ترجع "من أفواهها ولا تضر أحدا، اللهم اكشف الباس رب الناس، قال: ترقي بها" لعل هذا إخبار من الراوي عن صفة فعلها وحذف النون منه ومن تقصد؛ لأنه إخبار عن فعل المؤنثة الغائبة "على عود" زاد في رواية أبي نعيم: كريم ولعل معناه اهر نظيف "سبع مرات، وتقصد مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه" "بفتح التاء وكسر اللام" "على النملة", وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم من حديث الشفاء بتمامه، ومن قبله ابن منده، إلى قوله: ترقي ورويا أيضا عنها، قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا قاعدة عند حفصة، فقال: "ما عليك أن تعلمي هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 "ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من البثرة": روى النسائي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: "عندك ذريرة؟ " فقلت: نعم، فدعا بها فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله، ثم قال: "اللهم مطفئ الكبير، ومكبر الصغير، أطفئها عني". فطفئت.   ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من البثرة: بموحدة ومثلثة، أي الخراج الصغير. "روى النسائي" من طريق عبد الله بن زيد الجرمي "عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" هي عائشة كما في التقريب: "أنه قال لها": "عندك" بتقدير همزة الاستفهام، أي: أعندك "ذريرة". "بذال معجمة مفتوحة وراء مكسورة، فتحتية ساكنة، فراء، فهاء": نوع من الطيب معروف، كما في مقدمة الفتح. قال الزمخشري: هي فتات قصب الطيب، وهو قصب يؤتى به من الهند، كقصب النشاب، زاد الصفاني: وأنبوبه محشوه من شيء أبيض مثل نسج العنكبوت، ومسحوقة عطر إلى الصفرة والبياض، "فقلت: نعم" عندي، "فدعا بها"، أي طلبها، "فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله، ثم قال: "اللهم مطفئ الكبير". "بطاء مهملة، ففاء" أي: مذهبه استعارة من أطفأت النار إذا أخمدتها، "ومكبر الصغير أطفئها" أخمدها وأذهبها "عني". "فطفئت" خمدت وذهبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 "ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حرق النار": روى النسائي عن محمد بن حاطب قال: تناولت قدرا، فأصاب كفي من مائها، فاحترق ظهر كفي، فانطلقت بي أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أذهب الباس رب الناس"، وأحسبه قال: و "اشف أنت الشافي" ويتفل.   ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حرق النار: "روى النسائي عن محمد بن حاطب" بن الحارث بن معمرة القرشي، الجمحي, صحابي صغير ولد قبل أن يصلوا إلى الحبشة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن أمه، وعن علي، ومات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين وأبوه صحابي، مات بالحبشة، فقدمت به أمه المدينة مع أهل السفينة، "قال: تناولت قدرا" "بكسر القاف مؤنثة" وقيل: يذكر ويؤنث، "فأصاب كفي من مائها، فاحترق ظهر كفي، فانطلقت بي أمي" هي أم جميل، بفتح الجيم بنت المجلل "بجيم ولامين" القرشية، العامرية، من السابقات إلى الإسلام، وبايعت وهاجرت إلى الحبشة الهجرة الثانية. روى الإمام أحمد عن محمد بن حاطب، عن أمه أم جميل بنت المجلل، قالت: أقبلت بك من الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت طبيخا، ففني الحطب، فذهبت أطلبه، فتناولت القدر، فانكفأت على ذراعك، فذهبت بك "إلى النبي صلى الله عليه وسلم", فقلت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي باسمك، وقد أصابه هذا الحرق، قالت: فمسح على رأسك، وتفل في فيك، ودعا لك بالبركة، فقال: "أذهب الباس رب الناس". "وأحسبه" أي أظنه "قال: "واشف أنت الشافي"، ويتفل" على موضع الحرق، والجملة حالية، أي: فقال ذلك، والحال أنه يتفل، وفي نسخة: وتفل، أي فقال, وتفل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 "ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية": وهي قسمان: حمية عما يجلب المرض، وحمية عما يزيده فيقف على حاله. فالأولى: حمية الأصحاء. والثانية: حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن الزائد، وأخذت القوى في دفعه. والأصل في الحمية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فحمى المريض من استعمال الماء   ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية: بكسر الحاء وسكون الميم، أي المنع من تناول ما يضر، "وهي قسمان: حمية عما يجلب المريض" قبل أن يأتي "وحمية عما يزيده فيقف على حاله، فالأولى حمية الأصحاء، والثانية حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن الزائد" أي زيادته، "وأخذت" "بمعجمتين ففوقية" أي شرعت "القوى في دفعه" وإن قرئ: أحدث "بمهملتين فمثلثة" فمعناه: أحدث القوى شيئا، أي سببا في دفعه، ولم يذكر أن من أنواع الحمية ما يكون سببا لإزالة المرض إلا أن يؤخذ من هذا، لأنه يترتب على الحمية المانعة من زيادة المرض زواله، لكن من نفس القوى لا من خصوص الحمية، على أنه قد يقال: إنهم لا يكتفون في دفع المرض بمجرد الحمية، بل يستعملون معها أدوية لإزالته, فلذا لم يذكره. "والأصل في الحمية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، فحمى المريض، أي: منعه "من استعمال الماء؛ لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 لأنه يضره، كما وقعت الإشارة لذلك في أوائل هذا المقصد. وقد قال بعض فضلاء الأطباء: رأس الطب الحمية. والحمية للصحيح عندهم في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض، لأن التخليط يوجب الانتكاس، والانتكاس أصعب من ابتداء المرض. والفاكهة تضر بالناقه من المرض، لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة، وفي سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر، فقال: "ادن وكل". فأخذت تمرا فأكلت، فقال: "أتأكل تمرا وبك رمد"؟. فقلت: يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففيه الإشارة إلى الحمية وعدم التخليط، وأن الرمد يضر به التمر.   يضره، كما وقعت الإشارة لذلك في أوائل هذا المقصد"، وأنه تنبيه على الحمية من كل مؤذ له من داخل أو خارج. "وقد قال بعض فضلاء الأطباء: رأس الطب الحمية، والحمية للصحيح عندهم" أي الأطباء "في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه" بالنون والقاف، أي الذي برئ من المرض، لكنه في عقبه، والمراد الحمية المطلقة للصحيح عن كل شيء ولو وافق مزاجه، فلا ينافي قوله أولا "حمية الأصحاء" "وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض؛ لأن التخليط يوجب الانتكاس" أي معاودة المرض، "والانتكاس أصعب من ابتداء المرض"؛ لأنه يأتي على قوة، والانتكاس يأتي على ضعف، "والفاكهة تضر" "بضم الفوقية وكسر الضاد" "بالناقه من المرض، لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة". "وفي سنن ابن ماجه، عن صهيب" بن سنان الرومي، "قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر"، فقال: "ادن وكل"، فأخذت تمرا فأكلت، فقال: "أتأكل تمرا وبك رمد؟ " استفهام وتوبيخ، وأمره بالأكل صادق بالخبز أو علم أنه لا يضره أكل التمر، وإنما قصد المباسطة بالاسفهام، "فقلت: يا رسول لله أمضغ من الناحية الأخرى" أي ناحية العين التي لا رمد فيها، لأنه كان بإحدى عينيه، "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" تعجبا؛ لأنه لا يفيده المضغ من تلك الناحية في دفع ضرره إن كان يضره، وهذا الحديث بعزوه قدمه المصنف في النوع الثاني استدلالا على طبه للمرض، وأعاده هنا لقوله: "ففيه الإشارة إلى الحمية وعدم التخليط، وأن الرمد يضر به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 وعن أم المنذر بنت قيس الأنصارية قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي، وهو ناقه من مرض، ولنا دوال معلقة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وقام علي يأكل منها، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "إنك ناقه"، حتى كف. قالت: وصنعت شعيرا وسلقا فجئت به فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من هذا فأصب فإنه أنفع لك"، رواه ابن ماجه. وإنما منعه صلى الله عليه وسلم من أكله من الدوالي لأن في الفاكهة نوع ثقل على المعدة، ولم يمنعه من السلق والشعير لأنه من أنفع الأغذية للناقه، ففي ماء الشعير التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة. فالحمية من أكبر الأدوية للناقه قبل زوال الداء لكي تمنع تزايده وانتشاره. وقال ابن القيم: ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى منه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشيء اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع   التمر" لحرارته، فيقوى الرمد، "وعن أم المنذر بنت قيس" بن عمرو "الأنصارية" من بني النجار، يقال اسمها سلمى، وضعفه في الإصابة، "قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي" ابن عمه، "وهو ناقه من مرض" كان به، "ولنا دوال" أشجر عنب "معلقة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وقام علي يأكل منها، فطفق"، أي شر "النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "إنك ناقه" حتى كف" عن الأكل، "قالت" أم المنذر: "وصنعت شعيرا وسلقا" "بكسر السين وإسكان اللام "بقل معروف، فجئت به، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من هذا فأصب، فإنه أنفع لك" , وفي رواية أبي داود: فإنه أوفق لك، "رواه ابن ماجه" وأبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب، "وإنما منعه صلى الله عليه وسلم من أكله من الدوالي، لأن في الفاكهة نوع ثقل على المعدة" فلا تتحمله معدة الناقه، "ولم يمنعه من السلق والشعير؛ لأنه من أنفع الأغذية للناقة، ففي ماء الشعير التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة", والسلق يجلو ويحلل ويلين ويفتح السدد ويسر النفس، "فالحمية من أكبر الأدوية للناقه قبل زوال الداء" عنه، "لكي تمنع تزايده وانتشاره" فيه. "وقال ابن القيم: ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى منه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشيء اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه،" أي دفعه "لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء, ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة وعلم أنها لا تضره. ففي هذا الحديث -يعني حديث صهيب- سر طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه وإن كان نافعا في نفسه. فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره، وكذلك العكس.   تتلقيانه بالقبول" "بفتح القاف وضمها لغة" "والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء" وهذا معلوم بالمشاهدة، "ولهذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا، وهو أرمد على تناول", أي: أكل "التمرات اليسيرة، وعلم أنها لا تضره" لاشتداد شهوته إليها. "ففي هذا الحديث يعني حديث صهيب سر طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق، وكان فيه ضرر ما، أي: قليل، "كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه، وإن كان نافعا في نفسه، فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره، وكذلك بالعكس" وبهذا التوجيه الوجيه علم أنه لا حاجة إلى قول من قال: "هذا مبني على التوكل، وأنه تعالى هو الشافي، وقد روى ابن ماجه عن ابن عباس، قال: عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال: "ما تشتهي"، قال: خبز بر، فقال: "من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه" ثم قال: "إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا فليطعمه". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 "ذكر حمية المريض من الماء": عن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء". قال الترمذي: حديث حسن غريب.   ذكر حمية المريض من الماء: "عن قتادة بن النعمان" بن زيد بن عامر الأنصاري الظفري "بمعجمة وفاء مفتوحتين"، شهد بدرا ومات سنة ثلاث وعشرين على الصحيح، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "إذا أحب الله العبد" , وفي رواية: "عبدا" بالتنكير "أحماه" وفي رواية: "حماه" بدون ألف، أي منعه "الدنيا" أي حال بينه وبين شهواتها، ووقاه أن يتلوث بزهرتها؛ لئلا يمرض قلبه بداء محبتها وممارستها، ويألفها ويكره الآخرة، "كما يظل" أي يستمر "أحدكم يحمي" يمنع "سقيمه الماء" أي شربه إذا كان يضره، فهو سبحانه يزوي الدنيا عمن أحبه حتى لا يتدنس بها وبقذارتها، ولا يشرق بغصصها، كيف وهي للكبار مؤذية، وللخواص داعية، وللعارفين شاغلة، وللمريدين حائلة، ولعامة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 وروى الحميدي مرفوعا: "لو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم". وللطبراني في الأوسط عن أبي سعيد مرفوعا: "من شرب الماء على الريق انتقصت قوته". وفيه محمد بن مخلد الرعيني، وهو ضعيف.   المؤمنين قاطعة، والله لأوليائه ناصر ولهم منها حافظ، وإن أرادوها. "قال الترمذي" بعد أن رواه: "حديث حسن غريب"، ورواه الحاكم وصححه، وأقره الذهبي، "وروى الحميدي مرفوعا: "لو أن الناس" حتى الأصحاء "أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم" صلحت وحسنت، وللماء حالة مشهورة في الحماية عند الأطباء، بل هو منهي عنه للصحيح أيضا إلا بأقل ممكن، فإنه يبلد الخاطر ويضعف المعدة، فلذا نبه على التقلل منه. "وللطبراني في الأوسط عن أبي سعيد" الخدري سعد بن مالك بن سنان، مرفوعا: "من شرب الماء على الريق انتقصت" لغة في نقصت "قوته" أي: ذهب منها شيء، "وفيه محمد بن مخلد الرعيني" بضم الراء وعين مهملة ونون" نسبة إلى ذي رعين من أقيال اليمن، "وهو ضعيف" لكن ليس هذا من أحاديث الأحكام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 "ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية من الماء المشمس خوف البرص": روى الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه يورث البرص. وروى الدارقطني هذا المعنى مرفوعا من حديث عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف.   ذكر طبه: وفي نسخة: أمره "صلى الله عليه وسلم بالحمية من الماء المشمس خوف البرص", أي ما سخنته الشمس. "روى الدارقطني" بإسناد صحيح "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص،" لأن الشمس بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء كالهباء، فإذا لاقت البدن بسخونتها قبضت على مسام الشعر، فيحدث منها البرص، والظاهر أن عمر قاله توقيفا إذ لا مجال للرأي فيه، قاله في الإيعاب. "وروى الدارقطني هذا المعنى مرفوعا من حديث عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو" أي عامر الذي في سنده "ضعيف", فلا حجة فيه، لكن تأيد بخبر عمر الموقوف عليه، ولفظ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 وكذا خرج العقيلي نحوه عن أنس بن مالك، ورواه الشافعي عن عمر. فعلى هذا يكره استعمال الماء المشمس شرعا خوف البرص، لكنهم اشترطوا شروطا: أن يكون في البلاد الحارة، والأوقات الحارة دون الباردة، وفي الأواني المنطبعة على الأصح دون الحجر والخشب ونحوهما, واستثنى النقدان لصفائهما. وقال الجويني بالتسوية، حكاه ابن الصلاح. ولا يكره المشمس في الحياض والبرك قطعا، وأن يكون الاستعمال في البدن لا في الثوب، وأن يكون مستعملا حال حرارته، فلو برد زالت الكراهة في الأصح في الروضة وصحح في الشرح الصغير عدم الزوال. واشترط صاحب التهذيب -كما قاله الجبلي- أن يكون   الحديث عند الدارقطني وأبي نعيم، عن عائشة أنها سخنت للنبي صلى الله عليه وسلم، ماء في الشمس، فقال: "لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص". "وكذا خرج العقيلي نحوه عن أنس بن مالك، ورواه الشافعي عن عمر" بن الخطاب موقوفا عليه، كرواية الدارقطني المبدأ بها، "فعلى هذا يكره" تنزيها "استعمال الماء المشمس، شرعا" لا طبا "خوف البرص، لكنهم", أي القائلين بالكراهية "اشترطوا شروطا أن يكون" استعمال ذلك "في البلاد والأوقات الحارة" كالحجاز في الصيف "دون الباردة" كالشام والحجاز في الشتاء "و" أن يكون التشميس "في الأواني المنطبعة" أي التي تقبل الطبع، بأن تتأثر وتمتد تحت المطرقة في يد الصائغ، كحديد ونحاس "على الأصح دون الحجر والخشب، ونحوهما" الخزف والجلود لانتفاء الزهومة المتولد عنها برص، "واستنثى النقدان" أي أخرج المتقدمون، وجرى عليه في أصل الروضة من ذلك الذهب والفضة "لصفائهما" أي صفاء جوهرهما، فلا ينفصل عنهما شيء. "وقال الجويني بالتسوية" بين النقدين وغيرهما في الكراهة "حكاه ابن الصلاح" وغيره، والمعتمد الأول، "ولا يكره المشمس في الحياض والبرك قطع" لفقد العلة، "وأن يكون الاستعمال في البدن", اغتسالا، أو وضوءا أو شربا "لا في الثوب", فلا يكره لبسه إذا غسل بماء مشمس قال في الإيعاب: إلا إن مس البدن، وهو رطب أخذا من قول الاستقصاء: لا معنى لاختصاصه بالبدن دون الثوب الذي هو لابسه، لأنه يصل أثر للبدن في حال لبسه رطبا، أو مع العرق. انتهى. "وأن يكون" المشمس "مستعملا حال حرارته، فلو برد" بفتح الراء وضمها" قال المجد: كنصر وكرم، أي زالت حرارته، "زالت الكراهة في الأصح" عند النووي "في الروضة، وصحح" الرافعي "في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي "عدم الزوال" لأن العلة انفصال شيء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 رأس الإناء منسدا لتنجس الحرارة، وفي شرح المهذب أنها شرعية يثاب تاركها وقال في شرح التنبيه: إن اعتبرنا القصد فشرعية وإلا فإرشادية، وإذا قلنا بالكراهة فكراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة. وقال الطبري: إن خاف الأذى حرم، وقال ابن عبد السلام: لو لم يجد غيره وجب استعماله، واختار النووي في الروضة عدم الكراهة مطلقا، وحكاه الروياني في البحر عن النص.   من أجزاء الإناء المورثة للبرص باقية، ورد بأن محل كونها تورثه إذا استعمل حارا، فإن زالت فلا قوة لها على الوصول للمسام، فلا يخاف منها تولد برص، كما شهدت بذلك قواعد الطب أنه إذا برد زال ضرره "واشترط صاحب التهذيب، كما قاله الجبلي" "بجيم وتحتية" "أن يكون رأس الإناء" أي أعلاه وفمه "منسدا" أي مغطى "لتنحبس الحرارة" فإن كان مكشوفا لم يكره لعدم انحباسها، والراجح عدم اشتراط ذلك، بل قال في نهاية المحتاج: يكره إذا كان الإناء مغطى حيث أثرت فيه الشمس السخونة، بحيث تنفصل من الإناء أجزاء سمية تؤثر في البدن، لا مجرد انتقاله من حالة إلى أخرى، وإن كان المكشوف أشد كراهة لشدة تأثيرها فيه. "وفي شرح المهذب" للنووي نقلا عن الأصحاب. ورجحه: "أنها" أي كراهة المشمس "شرعية يثاب تاركها" ولا يعاقب فاعلها، خلافا لما اختاره ابن الصلاح، تبعا للغزالي أنها إرشادية لمصلحة دنيوية، لا يتعلق بتركها الثواب، كالأمر بالإشهاد عند التبايع. "وقال" النووي "في شرح التنبيه: إن اعتبرنا القصد", أي إن قصد تارك امتثال نهي الشارع "فشرعية، وإلا" يقصد ذلك، بل خاف ضرره، "فإرشادية" لا ثواب فيها، قال السبكي: التحقيق إن فاعل الإرشاد لمجرد غرضه لا يثاب، ولمجرد الامتثال يثاب، ولهما يثاب ثوابا أنقص من ثواب من محض قصد الامتثال، "وإذا قلنا بالكراهة، فكراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة" بل تصح به اتفاقا، لأن كراهته ليست ذاتية. "وقال الطبري: إن خاف الأذى" منه بتجربة من نفسه، أو إخبار طبيب عارف "حرم" عليه استعماله. "وقال" عز الدين "بن عبد السلام: لو لم يجد غيره وجب استعماله"؛ لأنه قادر على طهور بيقين، وضرر استعماله غير محقق ولا مظنون، إلا في جنسه على ندور، فلا يباح له التيمم مع وجوده إلا لخوف ضرر، كالتيمم فيجوز. "واختار النووي في الروضة" من حيث الدليل لا المذهب "عدم الكراهة مطلقا" وإن وجدت فيه الشروط، وقال في تنقيحه: إنه الأصح، وفي مجموعه: إن الصواب الموافق للدليل، ولنص الأم حيث قال فيها: لا أكرهه إلا أن يكون من جهة الطب. قال الرافعي: أي أكرهه شرعا حيث يقتضي الطب محذور فيه، "وحكاه الروياني في البحر عن النص", أي نص الإمام الشافعي، وإليه ذهب أكثر العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، لكن اختار المتأخرون من المالكية، كالقاضي سند كراهته بالشروط، وأنها شرعية, والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 "ذكر الحمية من طعام البخلاء": عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طعام البخيل داء وطعام الأسخياء شفاء". رواه التنيسي عن مالك في غير الموطأ، كما ذكره عبد الحق في الأحكام.   ذكر الحمية من طعام البخلاء: جمع بخيل، وهو لغة: منع السائل مما يفضل عنه، وشرعا: منع الواجب، "عند عبد الله بن عمر" بن الخطاب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طعام البخيل" أعم من اللغوي والشرعي "داء" لأنه يطعم الضيف مع ثقل وتضجر وعدم طيب نفس، ولذا قيل: إنه يظلم القلب، "وطعام الأسخياء" جمع سخي، وهو الجواد الكريم "شفاء" وفي رواية: "دواء" وعبر بالمفرد في البخيل إشارة إلى حقارة البخل وأهله، وأنهم وإن كثروا فهم في الحقارة، وعدم النظر إليهم كالعدم، وفي الثاني بالجمع إشارة إلى أنهم في غاية العزة والشرف، فالواحد منهم يقوم مقام الكثير. نعم في رواية الخطيب: "طعام السخي دواء" أو قال: "شفاء وطعام الشحيح داء" وفي لفظ: "طعام الكريم"، وفي آخر: "طعام الجواد" "رواه" عبد الله بن يوسف "التنيسي" "بكسر الفوقية والنون المشددة بعدها تحتية ثم مهملة" نسبة إلى تنيس بلد قرب دمياط -بناها تنيس بن حام بن نوح- أبو محمد الكلاعي، أصله من دمشق، ثقة، متقن، من أثبت الناس في الموطأ، ولذا اعتمده البخاري فرواه عنه، مات سنة ثمان عشرة ومائتين، "عن مالك", عن نافع، عن ابن عمر "في غير الموطأ، كما ذكره عبد الحق في" كتاب "الأحكام" ولم ينفرد به التنيسي، بل تابعه روح بن عبادة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. أخرجه الدارقطني في غرائب مالك والخطيب في "المؤتلف" وفي كتاب "البخلاء" والديلمي والحاكم، وأبو علي الصدقي في عواليه، وابن عدي في كامله، لكنه قال: إنه بطل عن مالك فيه مجاهيل وضعفاء، ولا يثبت، وقال الذهبي: إنه كذب، لكن قال الحافظ الزين العراقي: رجاله ثقات، أئمة، قال ابن القطان: وإنهم لمشاهير ثقات إلا مقدام بن داود، فإن أهل مصر تكلموا فيه، وحاصل هذا أنه حديث ضعيف، وبه يصرح قول ختام الحفاظ العسقلاني حديث منكر. انتهى، والمنكر من أقسام الضعيف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 "ذكر الحمية من داء الكسل": روى أبو داود في المراسيل عن يونس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه رآه مضطجعا في الشمس، قال يونس فنهاني وقال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها تورث الكسل وتثير الداء الدفين".   ذكر الحمية من داء الكسل: "روى أبو داود في المراسيل، عن يونس" بن يزيد الأيلي, بفتح الهمزة وسكون التحتية ولام, ثقة روى له الجميع، إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ، مات سنة تسع وخمسين ومائة على الصحيح. وقيل: سنة ستين، "عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن" التيمي، مولاهم المدني، المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فروخ، ثقة، فقيه مشهور "أنه" أي ربيعة "رآه" أي يونس "مضطجعا في الشمس، قال يونس: فنهاني وقال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "إنها" أي الشمس "تورث الكسل" بفتحتين عدم النشاط، "وتثير" تحرك "الداء الدفين" أي المدفون في البدن، وظاهره ولو في الشتاء فالكون فيها منهي عنه إرشادا لضرره، وبه صرح جمع من الأطباء، وقال الحارث بن كلدة: إياكم والقعود في الشمس فإن كنتم لا بد فاعلين فتنكبوها بعد طلوع النجم أربعين يوما، ثم أنتم وهي سائر السنة، وعن ابن عباس مرفوعا: "إياكم والجلوس في الشمس، فإنها تبلي الثوب وتنتن الريح وتظهر الداء الدفين"، أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن زياد الطحان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، لكن قال الذهبي: هو من وضع الطحان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 "ذكر الحمية من داء البواسير": عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجامعن أحدكم وبه حقن خلاء، فإنه يكون منه البواسير" رواه أبو أحمد الحاكم.   ذكر الحمية من داء البواسير: جمع باسور، قيل: هو ورم تدفعه الطبيعة إلى كل موضع في البدن يقبل الرطوبة من المقعدة، والأنثيين والأشفار وغير ذلك، فإن كان في المقعدة لم يكن حدوثه دون انتفاخ أفواه العروق، وقد تبدل السين صادا، فيقال: باصور، وقيل: غير عربي، كذا في المصباح، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجامعن أحدكم" حليلته "وبه حقن" بفتح فسكون مصدر حقن، كنصر، أي احتباس "خلاء" بالمد وخاء معجمة المتوضأ، "فإنه يكون منه البواسير" أي: من احتباس البول الزائد المحوج إلى الخروج إلى الخلاء، فلعل إضافة حقن إليه للإشارة إلى أن الذي يورث البواسير هو الاحتباس الزائد، بحيث يحتاج صاحبه إلى تفريغ نفسه في المحل المعد لذلك. "رواه أبو أحمد" محمد بن محمد النيسابوري، "الحاكم،" الكبير، الحافظ، الجهبذ، محدث خراسان مع العبادة والصلاح والمشي على سنن السلف وكثرة التصانيف، سمع ابن خزيمة والبغوي الكبير، وخلقا بالعراق والشام والجزيرة، وعنه أبو عبد الرحمن السلمي، والحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الموافق له في الاسم والنسبة واللقب، وإنما افترقا في الكنية واسم الأب، وقال: إنه إمام عصره في هذه الصنعة، مات في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وله ثلاث وسبعون سنة، ومات تلميذه الحاكم سنة خمس وأربعمائة، هذا هو المنقول في غير ما كتاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 "ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحي الذباب بإغماس الثاني": عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء".   ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحي الذباب بإغماس الثاني: أي الجناح الذي لم يقدمه الذباب، وهو بمعجمة جمع ذبابة بالهاء، ويجمع أيضا على أذبة وذبان، "بالكسر وذب، بالضم"، وهو أجهل الخلق، لأنه يلقي نفسه في الهلاك ويتولد من العفونة، ولم يخلق له أجفان لصغرحدقته، ومن شأن الأجفان صقل مرآة الحدقة من الغبار، فجعل الله له يدين يصقل بهما مرآة حدقته، فلذا تراه أبدا يمسح عينيه بيديه. "عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع" سقط "الذباب في إناء أحدكم" هذا لفظ رواية البخاري في الطب، ولفظه في بدء الخلق في "شراب أحدكم"، وهو شامل لكل مائع ماء أو غيره. وفي حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان: "إذا وقع في الطعام"، والأولى أشمل، لأن الإناء يكون فيه كل شيء من مأكول ومشروب ماء أو غيره، "فليغمسه كله" فيما وقع فيه، والأمر إرشادي لمقابلة الداء بالدواء، وسقط التأكيد من رواية بدء الخلق: "ثم ليطرحه" بعد استخراجه من الإناء وللبخاري في بدء الخلق: "ثم لينزعه" ولبعض رواته: "ثم لينتزعه". "بزيادة فوقية قبل الزاي" "فإن في أحد جناحيه شفاء" بتذكير أحد عند البخاري في الطب، ولبعض رواته فيه كبدء الخلق: "فإن في إحدى"، "بكسر الهمزة وسكون الحاء مؤنثا"، إما لأن الجناح يذكر ويؤنث، أو أنث باعتبار اليد، وجزم الصغاني بأنه لا يؤنث، وصوب الأول، "وفي الآخر داء" بالتذكير وفي بدء الخلق: "والأخرى" بضم الهمزة والتأنيث وحذف حرف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 وفي رواية أبي داود: "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله". وفي رواية الطحاوي: "فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء". وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بالبعض. قال شيخ شيوخنا: لم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره. لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر، فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء.   الجر، ففيه شاهد لمن يجيز العطف على معمولي عاملين، كالأخفش، وقد استبان لك أن هذا الحديث رواه البخاري في الطب، باللفظ الذي ساقه المصنف، وكذا رواه ابن ماجه في الطب، ورواه البخاري أيضا قبل ذلك في بدء الخلق بتغيير قليل في اللفظ علمته. وفي رواية أبي داود: "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله"، زاد في رواية البزار: برجال ثقات ثلاثا مع قول بسم الله. وفي رواية الطحاوي: "فإنه يقدم السم" أي الجناح الذي فيه السم فيضعه في الإناء، "ويؤخر الشفاء" أي جناحه فلا يضعه. "وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بالبعض" أي يغمس بعضه. "قال شيخ شيوخنا" الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "لم يقع لي في شيء من الطرق" للحديث "تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء" يعني الدميري، فإنه ذكر في حياة الحيوان "أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر", وهو مناسب للداء، كما أن الأيمن مناسب للشفاء، هذا كلام الدميري، "فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء" حقيقة، فأمر الشارع، بمقابلة السمية بالشفاء، ولا بعد في حكمة الله أن يجعلهما جزئي واحد، كالعقرب بأبرتها السم، ويتداوى منه بجرمها، فلا ضرورة للعدول عن الحقيقة هنا وجعله مجازا، كما وقع لبعضهم، حيث جعله من الطب الروحاني بمعنى إصلاح الأخلاق وتقويم الطباع، بإخراج فاسدها وتبقية صالحها. قال التوربشتي: وجدنا لهذا الحديث فيما أقامه الله لنا من عجائب خلقته وبديع فطرته شواهد ونظائر، منها: النحلة يخرج من بطنها شراب نافع، وبث في إبرتها السم الناقع، والعقرب تهيج الداء بإبرتها، ويتداوى من ذلك بجرمها، وأما اتقاؤه بالجناح الذي فيه الداء، فإنه تعالى ألهم الحيوان بطبعه ما هو أعجب منه، فلينظر المتعجب من ذلك إلى النملة كيف تسعى في جمع القوت، وتصون الحب عن الندى، وتجفف الحب إذا أثر فيه الندى، ثم تقطع الحب لئلا ينبت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة والذباب كله في النار إلا النحل". وسنده لا بأس به. قال الجاحظ: كونه في النار ليس تعذيبا له بل ليعذب به أهل النار، ويتولد من العفونة. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس، وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد، وهو أكثر الطيور سفادا، وربما بقي عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك، وكانت ألحت عليه ذبابة. قال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة، فرحمة الله عليه ورضوانه.   وتترك الكزبرة، لأنها لا تنبت وهي صحيحة، فتبارك الله أحسن الخالقين. "وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر، مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة" أي غايته ذلك، وإلا فقد يموت قبل ذلك، "والذباب كله" بسائر أنواعه، فالعرب تجعل هذا الطائر والفراش والنحل والدبر والناموس والبعوض، كلها من الذباب "في النار إلا النحل". "وسنده لا بأس به". "قال الجاحظ" بجيم، فألف، فحاء مهملة، فظاء معجمة عمرو بن بحر في كتاب الحيوان له، "كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب به أهل النار، ويتولد من العفونة" كالزبل، ويكثر إذا هاجت ريح الجنوب، ويخلق تلك الساعة، وإذا هاجت ريح الشمال خف وتلاشى، "ومن عجيب أمره أن رجيعه" أي روثه فعيل بمعنى فاعل، لأنه رجع عن حاله الأولى بعد أن كان علفا أو طعاما "يقع على الثوب الأسود أبيض، وبالعكس، وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة ومبدأ خلقه منها، ثم من التوالد، وهو أكثر الطيور سفادا" "بكسر السين", أي وقوعا لى أنثاه، "وربما بقي عامة اليوم على الأنثى، ويحكى أن بعض الخلفاء" هو المأمون ابن الخليفة الرشيد العباسي، "سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ " أي: هل له حكمة؟ , وإلا فأفعال الله لا تعلل، "فقال: مذلة الملوك، وكانت ألحت" أي لازمت وتكرر ترددها "عليه" أي على ذلك الملك "ذبابة". "قال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب، فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة", وعبارة الدميري في حياة الحيوان: وفي مناقب الشافعي أن المأمون سأله: لأي علة خلق الله الذباب، فقال: مذلة للملوك، فضحك المأمون، وقال: رأيته قد وقع على جسدي، قال: نعم، ولقد سألتني عنه وما عندي جواب، فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد، فتح الله لي فيه بالجواب، فقال: لله درك، "فرحمة الله عليه ورضوانه" وقد سبقا بذلك، ففي حياة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا الإناء، وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا ينزل فيه من ذلك الوباء". رواه مسلم في صحيحه قيل: وذلك في آخر شهور السنة الرومية.   الحيوان أيضا حدث يحيى بن معاذ أن أبا جعفر المنصور ألح على وجهه ذباب حتى أضجره، فقال: انظروا من بالباب، قالوا: مقاتل بن سليمان، فقال: عليّ به، فلما دخل عليه، قال: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم ليذب به الجبابرة. انتهى. وأبو جعفر ثاني خلفاء بني العباس، والمأمون سابعهم، وفي الشفاء لابن سبع وتاريخ ابن النجار مسندا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقع على جسده ذباب أصلا، ومر في الخصائص. ذكر أمره صلى الله عليه وسلم بالحمية من الوباء النازل في الإناء بالليل بتغطيته أي ستره، "عن جابر" بن عبد الله الأنصاري، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "غطوا الإناء" أي استروه، والأمر للندب، "وأوكوا" بفتح الهمزة وسكون الواو وضم الكاف بلا همز، أي شدوا واربطوا "السقاء"، "بكسر السين والمد" القربة، أي شدوا رأسها بالوكاء، وهو الخيط مع ذكر اسم الله تعالى في الخصلتين، كما صرح به في رواية أخرى, فاسم الله هو السور الطويل العريض، والحجاب الغليظ المنيع من كل سوء. قال القرطبي: هذا الباب من الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، نحو: أشهدوا إذا تبايعتم وليس للأمر الذي قصد به الإيجاب، وغايته أن يكون من باب الندب، بل جعله جمع من أهل الأصول قسما منفردا عن الوجوب والندب، "فإن في السنة ليلة ينزل" من السماء "فيها وباء"، "بالمد والقصر" وهو أشهر مرض عظيم عام الله أعلم بحقيقته. وفي رواية لمسلم أيضا: "يوما" مكان: "ليلة". ولا منافاة بينهما، إذ ليس في أحدهما نفي الآخر، فهما ثابتان، قاله النووي: "لا يمر بإناء ليس عليه غطاء"، "بالكسر والمد" أي ستر، وهو ما يغطي به، جمعه أغطية، "أو سقاء ليس عليه وكاء"، "بكسر الواو ممدود" أي خيط مربوط به وفي رواية: بإناء لم يغط، ولا سقاء لم يوك "إلا ينزل فيه من ذلك الوباء" وخص ذلك أبو حميد الصحابي بالليل، وقوفا مع ظاهر قوله: "ليلة" لكن قال النووي: ليس في الحديث ما يدل عليه، والمختار عند أكثر الأصوليين، وهو مذهب الشافعي وغيره، أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره أما إذا لم يكن في ظاهر اللفظ ما يخالفه، بأن كان مجملا، فيرجع إلى تأويله، ويجب الحمل عليه، لأنه لا يحل حمل المحمل على شيء إلا بتوقيف. انتهى. وإنما يحسن الرد عليه برواية "يوما" المفيدة مع رواية "ليلة"، أنه يغطي ليلا ونهارا، وإلا فظاهر "ليلة" لا يخالفه، ولعله لم يسمع "يوما". "رواه مسلم في صحيحه" في الأشربة، "قيل: وذلك في آخر شهور السنة الرومية" وفي مسلم قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول، قال النووي: أي يحذرونه ويخافونه وكانون غير مصروف، لأنه علم أعجمي، وهو الشهر المعروف. انتهى. قال غيره: والظاهر أنه في أواخره إما في السابع والعشرين، أو التاسع والعشرين، وأوله خامس كيهك من الشهور القبطية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 "ذكر حمية الولد من إرضاع الحمقى": روى أبو داود في المراسيل بإسناد صحيح عن زياد السهمي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقى، فإن اللبن يشبه. وعند ابن حبيب: يعدي، وعند القضاعي بسند حسن من حديث ابن عباس مرفوعا: "الرضاع يغير الطباع".   ذكر حمية الولد من إرضاع الحمقى: مؤنث أحمق، أي فاسدة العقل، قاله الزهري، "روى أبو داود في المراسيل، بإسناد صحيح عن زياد السهمي" مجهول أرسل حديثا، ويقال: هو مولى عمرو بن العاصي من الثالثة، قاله في التقريب، "قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقى، فإن اللبن يشبه" أي: يورث شبها بين الرضيع والمرضعة. "وعند ابن حبيب: يعدي" بدل يشبه، إذ العادة جارية أن الرضيع يغلب عليه أخلاق المرضعة من خير وشر. "وعند القضاعي" وكذا ابن لال والديلمي "بسند حسن" كما قال بعض شراح القضاعي، وتعقب بأن فيه صالح بن عبد الجبار، قال في الميزان: أتى بخبر منكر جدا، وساق هذا الحديث، ثم قال فيه انقطاع, وفيه أيضا عبد الملك بن مسلمة، مدني، ضعيف، "من حديث ابن عباس، مرفوعا: "الرضاع يغير الطباع" " أي يغير الصبي عن لحوقه بطبع والديه إلى طبع مرضعته، لصغره ولطف مزاجه، والمراد حث الوالدين على توخي مرضعة طاهرة العنصر، زكية الأصل، ذات عقل ودين وخلق جميل، والطباع ما تركب في الإنسان من جميع الأخلاق التي لا يكاد يزايلها من خير وشر، كما في النهاية. وفي المصباح: الطبع بالسكون الجبلة التي خلق الإنسان عليها، وللحديث طريق ثان عند أبي الشيخ من حديث ابن عمر، مثل حديث ابن عباس: فاعتضد ومن ثلم لما دخل الشيخ أبو محمد الجويني بيته ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرضع ثدي غير أمه، اختطفه منها، ثم نكس رأسه ومسح بطنه، وأدخل أصبعه في فيه، فلم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن، قائلا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 وعند ابن حبيب أيضا مرفوعا أنه نهى عن استرضاع الفاجرة. وعن عمر بن الخطاب: أن اللبن ينزع لمن تسترضع له. وأما الحمية من البرد فاشتهر على الألسنة: اتقوا البرد فإنه قتل أبا الدرداء. لكن قال شيخ الحفاظ ابن حجر: لا أعرفه، فإن كان واردا فيحتاج إلى تأويل، فإن أبا الدرداء عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا. انتهى. وأما ما اشتهر أيضا: أصل كل داء البردة، فقال شيخنا: رواه أبو نعيم والمستغفري معا في الطب النبوي والدارقطني في العلل، كلهم من طريق تمام بن نجيح عن الحسن البصري عن أنس رفعه. وتمام ضعفه الدارقطني وغيره، ووثقه ابن معين وغيره.   يسهل عليّ موته، ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير أمه، ثم لما كبر الإمام كان إذا حصل له كبوة في المناظرة، يقول: هذه من بقايا تلك الرضعة. "وعند ابن حبيب أيضا مرفوعا أنه نهى عن استرضاع الفاجرة" أي الفاسقة، "وعن عمر بن الخطاب أن اللبن ينزع"، أي يميل بالشبه "لمن تسترضع له" أي لمرضعته في الخير وضده. "وأما الحمية من البرد" بالتدفي، "فاشتهر على الألسنة: اتقوا البرد، فإنه قتل أبا الدرداء" عويمرا العجلاني "لكن قال شيخ الحفاظ ابن حجر: لا أعرفه، فإن كان واردا فيحتاج إلى تأويل", كأن يقال: كاد يقتله. "فإن أبا الدرداء: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا. انتهى". حتى مات في خلافة عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك، "وأما ما اشتهر أيضا أصل كل داء البردة" أي قاعدته التي لو توهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعها سائره، قاله الرابغ، "فقال شيخنا" السخاوي في المقاصد: "رواه أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الحافظ، "والمستغفري" الحافظ أبو العباس جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر نسبة إلى جده، هذا ابن الفتح النسفي، صاحب التصانيف، ولد بعد سنة خمسين وثلاثمائة، ومات بنسف سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة "معا في الطب النبوي، والدارقطني في" كتاب "العلل، كلهم من طريق تمام بن نجيح" الأسدي، الدمشقي، نزيل حلب، "عن الحسن البصري، عن أنس، رفعه" به "وتمام، ضعفه الدارقطني وغيره", كبن حبان، فقال: تمام منكر الحديث يروي أشياء موضوعات عن الثقات، كان يتعمدهم، وقال ابن عدي والعقيلي: حديثه منكر، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، "ووثقه ابن معين وغيره" واعتمد في التقريب الأول، فقال: ضعيف، "ولأبي نعيم أيضا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 ولأبي نعيم أيضا من حديث ابن المبارك عن السائب بن عبد الله عن علي بن زحر عن ابن عباس مثله. ومن حديث عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رفعه: "أصل كل داء من البردة". وقد قال الدارقطني عقب حديث أنس من علله: عباد بن منصور عن الحسن البصري من قوله، وهو أشبه بالصواب. وجعله الزمخشري في "الفائق" من كلام ابن مسعود. قال الدارقطني في كتاب التصحيف: قال أهل اللغة رواه المحدثون البردة يعني بإسكان الراء، والصواب "البردة" يعني الفتح، وهي التخمة، لأنها تبرد حرارة الشهوة، أو لأنها ثقيلة على المعدة بطيئة الذهاب. من "برد" إذا ثبت وسكن.   حديث" عبد الله "بن المبارك عن السائب بن عبد الله، عن علي بن زحر" "بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة" "عن ابن عباس مثله"، أي مثل لفظ حديث أنس. "ومن حديث عمرو بن الحارث، عن دراج" "بفتح الدل المهملة والراء الثقيلة" فألف فجيم, ابن سمعان السهمي، مولاهم المصري، القاص في حديثه عن أبي الهيثم، ضعف قيل اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، وكنيته أبو السمح "بمهلتين، الأولى مفتوحة الميم ساكنة"، مات سنة عشرين ومائة, "عن أبي الهيثم" المصري، مولى عقبة بن عامر، مقبول روى له أبو داود والنسائي "عن أبي سعيد رفعه: "أصل كل داء البردة", ورواه أبو نعيم أيضا وابن السني، كلاهما في الطب من حديث علي وأبي سعيد. قال السخاوي: ومفرداتهها ضعيف, "و" قد "قال الدارقطني عقب" روايته "حديث أنس من علله" وقد رواه "عباد بن منصور،" فسقط من قلم المصنف لفظ، وقد رواه وهو ثابت عند شيخه، "عن الحسن البصري، من قوله" فلم يذكر أنسا ولا النبي صلى الله عليه وسلم "وهو أشبه بالصواب" من رفعه "وجعل الزمخشري في الفائق من كلام ابن مسعود" لا من كلام المصطفى. "قال الدارقطني في كتاب التصحيف: قال أهل اللغة: رواه المحدثون: البردة، يعني بإسكان الراء، والصواب البردة، يعني بالفتح" للراء، "وهي التخمة" سميت بذلك، "لأنها تبرد حرارة الشهوة، أو لأنها ثقيلة على المعدة بطيئة الذهاب من برد إذا ثبت وسكن", وتعقب زعم أن الصواب الفتح بأن القاموس قدم السكون، فال البردة، وتحرك التخمة، فجعل اللغة الكثيرة السكون. وقال ابن الأثير وغيره: سميت بذلك لأنها تبرد المعدة، فلا تستمرئ الطعام، وذلك بمعنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 وقد أورد أبو نعيم مضموما لهذه الأحاديث، حديث الحارث بن فضيل عن زياد بن مينا عن أبي هريرة رفعه: "استدفئوا من الحر والبرد". وكذا أورد المستغفري مع ما عنده منها حديث إسحاق بن نجيح عن أبان عن أنس رفعه: "إن الملائكة لتفرح بفراغ البرد عن أمتي، أصل كل داء البرد". وهما ضعيفان وذلك شاهد لما حكي عن اللغويين في كون المحدثين رووه بالسكون. انتهى.   قول بعض الأطباء هي إدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول، فإن بطء الهضم أصله البرد الذي بردت منه المعدة، قال في الفائق: والقصد ذم الإكثار من الطعام، قيل: لو سئل أهل القبور ما سبب قصر آجالكم، لقالوا: التخمة. "وقد أورد أبو نعيم" في الطب النبوي، "مضموما لهذه الأحاديث حديث الحارث بن فضيل" بالتصغير, الأنصاري، المدني، ثقة، من رجال مسلم، "عن زياد بن مينا" "بكسر الميم وإسكان التحتية ونون" تابعي مقبول، "عن أبي هريرة، رفعه: "استدفئوا من الحر والبرد" وكذا أورد المستغفري مع ما عنده منها" أي: من الأحاديث السابقة "حديث إسحاق بن نجيح" الملطي، نزيل بغداد، كذبوه "عن أبان" بن يزيد العطار البصري، ثقة، له أفراد، "عن أنس رفعه: إن الملائكة لتفرح بفراغ" في المقاصد بارتفاع "البرد عن أمتي أصل كل داء البرد"، وهما" أي ذا الحديث وما قبله "ضعيفان، وذلك شاهد لما حكي عن اللغويين في كون المحدثين رووه بالسكون" فيكون المراد بالبردة البرد، فيتعين سكونه، وكذا على أن المراد التخمة على ما صدر به القاموس، كما علم. "انتهى" كلام شيخه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف: إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة في   الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا أي تفسيرها، وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، قاله الراغب، وفي المدرك: حقيقة عبرت الرؤية، ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وهو عبره، ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلا، وهو مرجعها. وقال البيضاوي: عبارة الرؤيا الانتقال من الصور الخالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور، وهو المجاوزة، "يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف" للباء "إذا فسرتها، قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، "وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك" هكذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 ذلك. وأما "الرؤيا" بوزن فعلى -وقد تسهل الهمزة- فهي ما يراه الشخص في منامه. قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات يلقيها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما بأسمائها، أي حقيقتها، وإما بكناها أي بعبارتها، وإما تخليطا. وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب: إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائي قد   في نسخ صحيحة "بالواو"، لأنهما إطلاقان متقابلان بمعنيين مختلفين، خلاف ما في نسخ سقيمة بأو، والتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات وأنكروا التشديد، لكن قال الزمخشري: عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا "وأما الرؤيا بوزن فعلى" "بضم الفاء قسيم لمقدر" أي أما التعبير فمأخوذ من عبرت الرؤيا إلى آخره، "وقد تسهل الهمزة" بإبدالها واوا، ثم قد تبقى ظاهرة، وقد تقلب ياء وتدغم فيما بعدها، فيتحصل من ذلك ثلاث لغات، "فهي ما يراه الشخص في منامه" فهي كالرؤية، ففرق بينهما بتاء التأنيث، كالقربة والقربى. وقال القرطبي: الرؤيا مصدر رأى في منامه، والرؤية مصدر رأى في اليقظة، وقد تكون الرؤية مصدر رأى يقظة، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الصحيح أن الإسراء يقظة. "قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤية إدراكات يلقيها" وفي نسخة: يخلقها، وهما ظاهرتان، وفي آخر: علقها، أي أثبتها "الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما بأسمائها أي حقيقتها" بأن يخلق صورة ما يراه في المنام، كما هو موجود مشاهد في الخارج، إما حالا، وإما مآلا، كأن يرى صورة إنسان يعرفه في اليقظة على صفة خاصة، أو يخاطب بشيء معلوم، "وإما بكناها، أي بعباراتها" بأن يخلق في قلبه شيئا هو علامة على أمور يخلقها في الحال، أو كان قد خلقها فيقع ذلك، "وإما تخليطا" بأن يخلق في قلبه حقيقة ما يراه، وم هو دال على أمور تقوم به. قال: أعني ابن العربي: ونظيرها في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق، وقد تأتي مسترسلة غير محصلة. "وذهب القاضي أبو بكر" محمد "بن الطيب" الباقلاني "إلى أنها اعتقادات" أي ربط الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد. قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل التنسل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات. وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقاويلهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤايا إلى الأخلاط، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو وهكذا إلى آخره. وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله   للقلب على معنى يتصور في نفسه، فذلك الربط عقد واعتقاد، وما ربط عليه القلب من المعاني معتقد، فتصور إنسان بصورته مثلا اعتقاد، والإنسان المتصور بأنه كذا معتقد. "واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد" بخلاف الإدراك. "قال ابن العربي: والأول أولى" لأن حقيقة الرؤيا تعلق الشيء بخصوص المرئي بذاته، أو بعلامة تدل عليه وذلك إنما يكون فيما لو رآه نفسه، أما إذا تصوره بغير صورته، فإنما هو مثال انتقش في ذهنه ليس حقيقة المرئي، "والذي يكون", أي يوجد "من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل التمثيل، فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات" ولذا قالوا: التصورات لا يقع فيها الخطأ، فمن رأى شبحا من بعد فتصوره إنسانا، وليس هو كذلك، كانت الصورة الحاصلة في ذهنه صورة إنسان بلا شك، والخطأ إنما هو في الحكم على تلك الصورة بأنها إنسان، م أنها حجر أو شجر أو نحوهما. "وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولا الوقوف على حقائق لا تدر بالعقل، ولا يقوم عليها برهان" دليل عقلي، "وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقاويلهم" بسبب ذلك، "فمن ينتمي" ينتسب "إلى الطب" من غير الإسلاميين "ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط" الأمزجة الأربعة، فيستدل بالرؤيا على الخلط، "فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح" يعوم "في الماء ونحو ذلك، لمناسبة طبيعة البلغم،" إذ كل منهما بارد رطب، "ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو" وشبهه لمناسبة الصفراء في أن كلا منهما حار يابس، ولأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 العادة به لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط. ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض، والأعراض لا انتقاش فيها. قال: والصحيح ما عليه أهل السنة، أن الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها علما على أمور أخرى خلقها أو يخلقها في ثاني حال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع اليقظان، ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف.   خفتها وإيقادها يخيل إليه الطيران في الجو والصعود في العلو، "وهكذا إلى آخره" أي: وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط، كما هو لفظ المازري، "وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله العادة به، لكنه لم يقم عليه دليل" من جهة الشرع، "ولا اطردت به عادة،" لأنا نرى كثيرا ممن غلب عليه البلغم أو غيره يرى ما لا يناسب طبعه، "والقطع في موضع التجويز غلط" وجهالة، فإن نسبوا ذلك إلى الأخلاط بعادة أجراها الله فجائز، وإن أضافوه إلى فعل الأخلاط قطع بخطئهم. "ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري، أي يقع "في الأرض هو في العالم العلوي كالنقوش" وكأنه يدور بدوران الآخر، "فما حاذى بعض النفوس" بفاء وسين مهملة جمع نفس"، "منها" أي: النقوش "بالقاف والمعجمة" "انتقش فيها". "قال" المازري: "وهذا أشد فسادا من الأول" أي قول من ينتمي إلى الطب، "لكونه تحكما لا برهان عليه، والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض والأعراض لا انتقاش فيها", فبطل قولهم بوجهين. "قال" المازري: "والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات، هذا على قول ابن الطيب، أما على مختار ابن الربي، فالمناسب أن يقول إدراكات، "كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها، فكأنه جعلها علما على أمور أخرى خلقها" قبل ذلك، "أو يخلقها في ثاني حال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف" فإذا وقع في قلب النائم اعتقاد الطيران، وليس بطائر فغايته أنه اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، وكم في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسره، وتارة بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله. وأخرج الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لقي عمر عليا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب". قال الذهبي في تلخيصه: هذا حديث منكر، ولم يصححه المؤلف. وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه به في المنام". ووجد الحديث للترمذي في "نوادر الأصول" من حديث عبادة بن   اليقظة من يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، ويجعل ذلك الاعتقاد علما على غيره، هكذا في كلام المازري، "وتلك الاعتقادات تقع تارة الملك، فيقع بعدها ما يسره" أي الرائي، "وتارة بحضرة الشيطان" إبليس أو غيره، "فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله". "وأخرج الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان" المدني، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، "عن سالم بن عبد الله بن عمر" بن الخطاب، أحد الفقهاء، "عن أبيه، قال: لقي عمر عليا، فقال: يا أبا الحسن الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب" فما السر في ذلك، "قال: نعم" أجيبك: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما"، أي يثقل نومه "إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش" بأن يبقى نائما حتى تصل روحه إلى العرش، "فتلك الرؤيا التي تصدق،" أي تقطع مطابقة للواقع لانكشاف صور الأشياء لها على حقيقتها، "والذي يستيقظ دون العرش" أي قبل وصول روحه إليه، "فتلك الرؤيا التي تكذب،" أي تخبر بخلاف الواقع. "قال الذهبي في تلخيصه" لكتاب المستدرك للحاكم، لخصه تلخيصا حسنا مع تعقب عليه: "هذا حديث منكر" أي ضعيف، "ولم يصححه المؤلف" يعني لم يصرح الحاكم بقوله: صحيح، وإن رواه في المستدرك موضوعه الصحيح الزائد على ما في الصحيحين. "وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو" لأحد بأن قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه في المنام" به، "ووجد الحديث للترمذي" محمد بن علي الحكيم "في" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والتسعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واهن وفي سنده جنيد بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة. قال الحكيم: قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] قال: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي في المنام. ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنه قد يحضرها الشيطان. وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منه، ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمي قد يسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره   كتابه "نوادر الأصول من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والتسعين، وهو من روايته، عن شيخه عمر بن أبي عمر" "بضم العين" الكلاعي "بفتح الكاف"، "وهو واه" أي شديد الضعف، "وفي سنده أيضا: جنيد" بضم الجيم" مصغر "ابن ميمون، عن حمزة بن الزبير، عن عبادة" بن الصامت الصحابي، ووجد أيضا في كبير الطبراني، وأخرجه الضياء في المختارة، عن عبادة قال النور الهيثمي: فيه من لم أعرفه. "قال الحكيم" الترمذي: "قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] "قال:" معنى {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} , أي في المنام", فالحجاب هو المنام على هذا التفسير، ويؤيده ظاهر الحديث المذكور، وزعم أن معناه يكلمه ربه على لسان ملك خلاف المتبادر، "ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم" وإن قلنا: إن الله يكلم المؤمن على هذا الحديث الضعيف، "فالوحي لا يدخله خلل، لأنه محروس" أي محفوظ "بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنه قد يحضرها الشيطان" فيداخله الخلل، كما هو الأصل فيما حضره، بل الغالب عليه الكذب، سيما إذا ألقيت على يد شيطان، والله الهادي المضل. "وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكل على قصته" الثابتة في اللوح، "مثلا: فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى، أو نذارة، أو معاتبة" فإذا كان في اللوح أن فلانا يحصل له كذا، تمثل مثال على صورة ما فيه، فإذا نام ألقى ذلك المثال في قلبه، "والآدمي قد يسلط عليه الشيطان لشدة العدواة بينهما، فهو يكيده،" أي يخدعه ويمكر به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه إما بتغليظه فيها أو بغفلته عنها. وفي البخاري عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم. وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة، مع أن النبوة قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم. وأجيب: بأن الرؤيا إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز.   "بكل وجه" يقدر عليه، "ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس" "بكسر الباء" يخلط "عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، أو بغفلته عنها" رأسا. "وفي البخاري" من طريق مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا الحسنة" أي الصادقة، أو المبشرة احتمالان للباجي "من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة". قال ابن عبد البر: مفهومه أنها من غير الصالح لا يقطع بأنها كذلك، ويحتمل أنه خرج على جواب سائل، فلا مفهوم له، ويؤيده رواية: "يراها الرجل الصالح، أو ترى له"، فعم قوله: "أو ترى له" الصالح وغيره، "والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث" أي الأحلام الباطلة، جمع ضغث مبالغة في وصف الحلم بالبطلان، أو لتضمنه أشياء مختلفة، "ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم"، أي: مخالفهم وهم الفسقة، "فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم". زاد في شرح البخاري: وحينئذ فالناس على ثلاثة أقسام: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيا ما يحتاج إلى تعبير, والصالحون والغالب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم ثلاثة مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم, وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق, وكفار ويندر فيا الصدق جدا، قاله المهلب، كما في الفتح. "وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة مع أن النبوة، قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن الرؤيا إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق. وتعقب بقول مالك -كما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة. وأجيب: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم، فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة، لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشيء لا يسلتزم ثبوت وصفه، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، وفي حديث أم كرز الكعبية عند أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. وعند أحمد من حديث عائشة مرفوعا: "لم يبق بعدي من المبشرات   فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز" لا الحقيقة، فإن جزء النبوة لا يكون نبوة، كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة، "وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت، فعلمها باق" "بفتح العين واللام" أي علاماتها كالمعجزات الدالة على نبوته عليه الصلاة والسلام، كذا ضبطه شيخنا، ولا يتعين، فيصح أن يكون بكسر فسكون مفرد علوم، إذ لا شك أن علومها باقية. "وتعقب بقول مالك كما حكاه ابن عبد البر أنه سئل: أيعبر" يفسر "الرؤيا كل أحد، فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال" مالك "الرؤيا جزء من النبوة" فظاهره أن المراد جزء من حقيقة النبوة. "وأجيب بأنه لم يرد أنها نبوة باقية" حقيقة، "وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي" لا يصح "أن يتكلم فيها بغير علم" لأنه إفتاء بالجهل عن أمر مغيب وهو حرام، "فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة" من جهة الاطلاع على الغيوب، "لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه" له، "كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته" بها، "لا يسمى مؤذنا" شرعا ولا عرفا، ولا يقال: إنه أذن، وإن كان جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ يئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا، وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة. "وفي حديث أم كرز" "بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي" "الكعبية" المكية، صحابية، لها أحاديث "عند أحمد" وابن ماجه، "وصححه ابن خزيمة وابن حبان" عن النبي صلى الله عليه وسلم "قال: ذهبت النبوة،" أي انقطع الوحي بموتي، "وبقيت المبشرات" بكسر الشين المعجمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 إلا الرؤيا"، وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأبو داود أنه عليه الصلاة والسلام كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له". والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه. وقوله: "من الرجل الصالح" لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك،   جمع مبشرة اسم فاعل للمؤنث" وهي البشرى من البشر، وهو إدخال الفرح والسرور على المبشر "بالفتح" وليس جمع البشرى، لأنها اسم بمعنى البشارة، وفسرها في الخبر الآتي بالرؤيا الصالحة. "وعند أحمد من حديث عائشة، مرفوعا: لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا" أي الصالحة، كما في الحديث بعده. "وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأبي داود، أنه عليه الصلاة والسلام كشف الستارة" "بالكسر" ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف" في الصلاة "خلف أبي بكر" الصديق، فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم" بنفسه، "أو ترى له"، "بضم التاء، أي يراها له غيره "والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة، وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه". وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي، ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا، ويرد عليه الإلهام، فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء، كما في مناقب عمر: قد كان فيما مضى محدثون "بفتح الدال، أي ملهمون بفتح الهاء وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة، فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لشموله لآحاد المؤمنين، وكثرة وقوعه بخلاف الإلهام، فيختص بالبعض، ومع اختصاصه، فإنه نادر، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن يكن في أمتي أحد فعمر"، كان السر في ندور الإلهام في زمنه، وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه، وكان المناسب أن لا يقع لغيره في زمانه منه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار ذلك، مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره. قال الحافظ: "وقوله من "الرجل الصالح" لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 وحكى ابن بطال الاتفاق عليه. وقوله: "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" كذا في أكثر الأحاديث. وروى مسلم من حديث أبي هريرة: "جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة"، وعنده أيضا من حديث ابن عمر: "جزء من سبعين جزءا" وعند الطبراني: "جزء من ستة وسبعين جزءا" وسنده ضعيف، وعند ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا: "جزء من ستة وعشرين جزءا" ووقع في شرح مسلم للنووي وفي رواية عبادة: "أربعة وعشرين". والذي يتحصل من الروايات عشرة، أقلها ما عند النووي، وأكثرها من ستة وسبعين، وأضربنا عن باقيها خوف الإطالة.   "وحكى ابن بطال: الاتفاق عليه" ومر أيضا أن ابن عبد البر جوز أن الصالح لا مفهوم له، وقوله: "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، كذا في أكثر الأحاديث" أنس عند البخاري كما مر، وهو في الصحيحين من طريق قتادة، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، لكن قال الحافظ: خالف قتادة غيره، فلم يذكروا عبادة في السند، وأبو هريرة في الصحيحين، والبخاري عن أبي سعيد، وابن عمر وجابر وابن عمر، وعند أحمد وعوف بن مالك وأبو رزين عند ابن ماجه، وابن مسعود والعباس بن عبد المطلب عند الطبراني، وهو متواتر. "وروى مسلم من حديث أبي هريرة" في أثناء حديث: "جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة". "وعنده أيضا من حديث ابن عمر" بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة"، وكذا عند أحمد عن ابن عباس. "وعند الطبراني" عن ابن عمر: "جزء من ستة وسبعين جزءا". "وسنده ضعيف". "وعند ابن عبد البر من طريق عبد لعزي بن المختار" الدباغ البصري، مولى حفصة بنت سيرين, ثقة، روى له الستة، "عن ثابت، عن أنس مرفوعا": "جزء من ستة وعشرين جزءا". ووقع في شرح مسلم للنووي، وفي رواية عبادة: "أربعة وعشرين". وأشار الحافظ إلى تجويز أنه تصحيف، فعند ابن جرير، عن عبادة: "جزء من أربعة وأربعين". وابن النجار عن ابن عمر: "جزء من خمس وعشرين". والترمذي عن أبي زرين: "جزء من أربعين" وابن جرير عن ابن عباس: "جزء من خمسين". "والذي يتحصل من الروايات عشرة: أقلها ما عند النووي". قال الحافظ: إن لم يكن مصحفا، "وأكثرها من ستة وسبعين" فذكرنا منها ستة، "وأضربنا عن باقيها" أربعة "خوف الإطالة" وقد ذكرتها لك، وأي إطالة فيها، ولكن الناس فيما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة. وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل   يعشقون مذاهب. قال الحافظ: ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد، بأنه بحسب الوقت الذي حدث فيه صلى الله عليه وسلم بذلك، كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك، وذلك وقت الهجرة، ولما أكمل عشرين حدث بأربعين، ولما أكمل اثنتين وعشرين حدث بأربعة وأربعين، ثم حدث بعدها بخمسة وأربعين، ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته، وما عدا ذلك من الروايات فضعيف، ورواية خمسين تحتمل جبر الكسر، والسبعين للمبالغة. انتهى. وملحظ جمعه على تسليم الآتي أنه أوحى إليه مناما ستة أشهر، كما أفاده بقوله إن ثبت الخبر بذلك، وقد جمع غيره بغير ذلك مما فيه تعسف، وقد قال ابن العربي: تفسيره بمدة النبي صلى الله عليه وسلم باطل، لأنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا يوجد. قال: والأحسن قول الطبري العالم بالقرآن والسنة: إن نسبة هذه الأجزاء إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف الرائي، فرؤيا الصالح على عدد، والذي دونه دون ذلك. انتهى. وخدش فيه القرطبي بحمل مطلق الرؤيا على مقيدها بالرجل الصالح، ولا خدش فيه بذلك، لأن الصالح يختلف إلى أعلى ومتوسط وأدنى، وابن العربي إنما قال الذي دونه، ثم هذا على أن الصالح له مفهوم، أما على ما قال أبو عمر لا مفهوم له، فالجمع حسن. "وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما" يحصل له الشبه بالنبوة من ذلك الوجه. "وأما تفصيل النسبة، فيختص بمعرفته درجة النبوة" إذ لا يصل إلى ذلك غيره، ومن حاول ذلك لم يصب، ولئن وقع له الإصابة في بعضها لما شهد له من الأحاديث المستخرج منها، لم يسلم له ذلك في بقيتها، مع أنه ما فيه من التكلف لم يقدر أن يبلغ بالعدد إلى ثلاثين. "وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 الله للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلم جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل. وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة، فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله تعالى أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا؛ لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح. قال ابن بطال: هذا تأويل بعيد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثه صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى. وهذا الذي قاله من الإنكار في هذه المسألة سبقه إليه الخطابي فقال: كان بعض أهل العلم يقولون في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه عليه   للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلم جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل" الثاني، فلا يلزم بيان تلك الأجزاء، قال: ورجح بعض شيوخنا هذا الوجه، وقدح في القول، بأن مدة الرؤيا قبل النبوة ستة أشهر، بأنه لم يثبت، "وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة" المبدأ بها، وهي جزء من ستة وأربعين، "وأبدى لها مناسبة" واعترض، وإذا أردت بيان ذلك، "فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة" "بفتح القاف" خلاف النوم "بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا" من النبوة، "لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح" وقيل: عشرين، وقيل: خمسا وعشرين. "قال ابن بطال هذا تأويل بعيد من وجهين، أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثه صلى الله عليه وسلم" لكن قد اعترف بأنه بناه على الصحيح، فلا معنى لاستبعاده بهذا؛ "والثاني أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى", قال الحافظ: ويضاف إليه بقية الأعداد الواردة، أي: في بقائها بغير معنى، "وهذا الذي قاله من الإنكار في هذه المسألة، سبقه إليه الخطابي فقال: كان بعض أهل العلم يقولون": أفاد الجمع تعدد قائل ذلك "في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 الصلاة والسلام أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة، وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على من قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا، ولا نعلم في ذلك أثرا ولا ذكر مدعيه في ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا. وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام، ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها. وقد ذكروا في المناسبات غير ذلك مما يطول ذكره.   سنة، وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. "قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على ما قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا" عمن يقبل قوله، لأنه خبر عن غيب، "ولا نعلم في ذلك أثرا" عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابي، "ولا ذكر مدعيه في ذلك خبرا، فكأنه قاله في سبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا" لأنه اعتبار له في المعارف والعلوم، وإنما يعتبر به في العمليات وما هو وصلة إليها وأسقط المصنف من كلام الخطابي: ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه، فليلتحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة كما ثبت عنه في أحاديث كثيرة، كليلة القدر والرؤيا في أحد وفي دخول مكة، فإنه يتلفق من ذلك مدة أخرى تزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها، فدل ذلك على ضعف ما تأوله المذكور، "وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها" وبقية كلام الخطابي، وهو كقوله في حديث آخر: الهدى الصالح السمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة، فإن تفصيل هذا العدد وحصر النبوة متعذر، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من جملة هدي الأنبياء وسمتهم، فكذلك معنى حديث الباب المراد به تحقيق أمر الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء تثبته، وأنها جزء من أجزاء العلم الذي يأتيهم والأنباء التي كان ينزل بها الوحي عليهم. انتهى ملخصا. قال الحافظ: وقد قبل جماعة من الأئمة المناسبة المذكورة، وأجابوا عما أورده الخطابي، أما الدليل على كون الرؤيا ستة أشهر، فإن ابتداء الوحي كان على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق الرؤيا بالأسحار". رواه الترمذي   كما جزم به ابن إسحاق وغيره، وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل إليه وهو بغار حراء كان في رمضان وبينهما ستة أشهر، وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا. وقد قال النووي، أي تبعا لغيره: إن زمن الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر وأما ما ألزمه به من تلفيق أوقات المرائي وضمها إلى المدة فأجيب عنه بأن المراد وحي المنام المتتابع، وأما ما وقع منه في غضون وحي اليقظة، فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة، فهو مغمور في جانب وحي اليقظة، فلم يعتبر بمدته، وهو نظير ما اعتمدوه في نزول الوحي، وقد أطبقوا على تقسيم النزول إلى مكي ومدني فقط، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، ولو وقع بغير مكة، كالطائف ونخلة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو وقع بغير المدينة، كما في الغزوات وسفر الحج والعمرة حتى مكة، وهو اعتذار مقبول. "وقد ذكروا في المناسبات غير ذلك مما يطول ذكره" لا سيما وكله متعقب، ومنها: أن هذه التجزئة في طرق الوحي، إذ منه ما سمع من الله بلا واسطة والملك والإلهام والمنام وصلصلة الجرس، وقد عدها الحليمي ستا وأربعين، فتعسف وتكلف. وقال الإمام الغزالي: لا يظن أن تقدير النبي صلى الل عليه وسلم يجري على لسانه كيف اتفق، بل لا ينطبق إلا بحقيقة الحق، فقوله: ستة وأربعين جزءا من النبوة تقدير محقق، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين؛ لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو مختص بأنواع من الخواص، كل واحد منها يمكن انقسامه إلى أقسام، بحيث يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءا، بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءا من جملتها، لكن لا يرجع إلا إلى الظن والتخمين، لا أنه الذي أراده صلى الله عليه وسلم حقيقة. "وعن أبي سعيد" الخدري، "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق الرؤيا بالأسحار" أواخر الليل على المشهور، لفضل الوقت بانتشار الرحمة فيه، ولراحة القلب البدن بالنوم قبل ذلك غالبا، وخروجهما عن تعب الخواطر وتواتر التصرفات، ومتى كان القلب أفرغ كان أوعى لما يلقى إليه؛ لأن الغالب حينئذ اجتماع الخواطر والدواعي؛ ولأن المعدة خالية غالبا، فلا يتصاعد منها الأبخرة المشوشة، ولا يعارضه خبر جابر، رفعه: "أصدق الرؤيا ما كان نهارا، لأن الله عز وجل خصني بالوحي نهارا" , رواه الديلمي والحاكم في تاريخه بسنده ضعيف، لجواز أن رؤيا النهار أصدق من رؤيا الليل ما عدا وقت السحر؛ لأن الخاص يقضي على العام، أو أن أصدق في كل من الحديثين على معنى من، وهذا أولى، لأن علماء التعبير قالوا: رؤيا الليل أصدق من رؤيا النهار، وأصدقها بالأسحار، "رواه الترمذي والدارمي" وابن حبان والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 والدارمي. وروى مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا". قال الخطابي في "المعالم" في قوله: "إذ اقترب الزمان" قولان: أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استوائهما، أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا، قال: والمعبرون   وأقره الذهبي. "وروى مسلم من حديث" عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن "أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: "إذ اقترب" افتعل من القرب، وروي: "تقارب". "الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب" مبالغة، أي: لم تقرب أن تكذب، فضلا عن أن تكذب، ومنه قول ذي الرمة: إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح أي لم يقرب من البراح، "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا"، قال عياض: كان ذلك لأن غير الصادق يعتري الخلل رؤياه من وجهين: أحدهما: أن تحديثه نفسه يجري في نومه على جري عادته من الكذب، فتكون رؤياه كذلك، والثاني: أنه قد يحكي رؤياه، ويسامح في زيادة أو نقص أو تحقير عظيم، أو تعظيم حقير، فتكذب رؤياه لذلك، وبسط ذلك القرطبي كما يأتي، وخص عزوه لمسلم لزيادته: "وأصدقكم" ... إلخ، وإلا فهو في البخاري أيضا من وجه آخر، عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمنين". "قال الخطابي في المعالم" أي معالم السنن شرحه على أبي داود "في قوله: "إذا اقترب الزمان". قولان". "أحدهما" وهو قول أبي داود "أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار" بأن يكون قدر أحدهما قريبا من الآخر، "وهو وقت استوائهما أيام الربيع" أي ربيع الزمان، وهو تلو الشتاء، ومراده أنه ليس الليل في غاية الطول، ولا النهار في غاية القصر، كأوائل الشتاء، ولا عكسه كأوائل الصيف، وليس المراد باستوائهما أن يكون الليل طول النهار في جميع فصل الربيع؛ لأنه خلاف الواقع، إذ لا يستويان إلا في أول ليلة منه، واليوم التالي لها، "وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا" فلا يكون في المنام أضغاث أحلام، فإن من موجبات التخليط غلبة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار. والثاني: أن اقتراب الزمان المراد به انتهاء مدته، إذ دنا قيام الساعة. وتعقب الأول: بأنه يبعده التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع لا يختص به. وجزم ابن بطال بأن الثاني هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر عن أيوب في هذا الحديث بلفظ: "في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن".   بعض، الأخلاط على بعض ومن ثم "قل: والمعبرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار" وانفتاق الأزهار، وعند ذلك تصح الأمزجة وتنصح الحواس. والثاني: أن اقتراب الزمان المراد به انتهاء مدته إذا دنا" قرب "قيام الساعة، وتعقب الأول بأنه يبعده التقييد بالمؤمن" في الرواية الآتية، المعبر عنه في رواية مسلم بالمسلم؛ "فإن الوقت الذي تعتدل في الطبائع لا يختص به" وبعده المازري، بأن رؤيا الصالح الصدق في كل زمان. وقال ابن العربي: لا يصح التفسير الأول؛ لأنه لا أثر لاعتدال الزمان في صدق الرؤيا إلا على ما يقوله الفلاسفة من اعتدال الأمزجة حينئذ، ثم إنه وإن كان في هذا الاعتدال في الأول، لكنه حين تحل الشمس برأس الميزان عكس الأول؛ لأنه تسقط الأوراق ويتقلص الماء عن الثمار، مع أنه يتقارب فيه الليل والنهار، يعني: فحمله على أحدهما تخصيص بلا مخصص، قال: والصحيح التفسير الثاني؛ لأن القيامة هي الحاقة التي تحق فيها الحقائق، فكل ما قرب منها فهو أخص بها. انتهى. "وجزم ابن بطال بأن الثاني هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر، عن أيوب" السختياني "في" روايته "هذا الحديث" عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة "بلفظ": "في آخر الزمان لا تكذب" لفظ الترمذي: "لم تكد تكذب". "رؤيا المؤمن". والحديث واحد، فيفسر الاقتراب بآخر الزمان. قال ابن بطال: فالمعنى إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر أهل العلم، ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة كان الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء لكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء عوضوا بالرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة الآتية بالبشارة والنذارة، وقال ابن أبي حمزة: المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبا، فيقل أنيسه ومعينه، فيكرم بالرؤيا الصادقة، وفي الأبي قال بعضهم: كان ذلك عند القيامة، لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه. وقال القرطبي في "المفهم": المراد -والله أعلم- بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث، زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول، وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤيا لا تكذب، ومن ثم قال عقب هذا: "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا"، وإنما كان كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب أحواله الصدق في يقظته فإنه يستصحب ذلك في نومه فلا يرى إلا صدقا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد   العلم حيئنذ ينقطع بموت العلماء والصالحين والناهين عن المنكر، فجعل الله صدق الرؤيا زاجرا لهم وحجة عليهم. "وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي" محمد بن عبد الله الحسني الحسيني، "عند بسط العدل وكثرة الأمن، وبسط الخير" المال "والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه", وأخذوا هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، وملحظ هذا التلذذ بحسن الزمان وطيب العيش، وملحظ ما قبله الهم بتغير الزمان بالهرج ونحوه، وهو بعد المهدي وعيسى، فهو غيره قطعا، فلا اتجاه لتجويز؛ أنه بيان لمعنى القول الثاني، لا مغاير له. "وقال القرطبي في المفهم" في شرح مسلم: "المراد والله أعلم بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث" إذا اقترب الزمان "زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول", أي زمان الصحابة خير القرون، "وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤيا لا تكذب", وهذا يلي زمان المهدي لأن عيسى حين ينزل يصلي خلفه، فيجتمعان، فيكون المراد حسن الزمان في الوقتين، "ومن ثم قال عقب هذا: "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا". وإنما كان كذلك، لأن من كثر صدقه تنور قلبه" أي كثر نوره، "وانتقشت" أي ثبتت واستقرت "فيه المعاني على وجه الصحة" بحيث لا تزول عن الخاطر، فكأنها منقوشة، "وكذلك من كان غالب أحواله الصدق في يقظته، فإنه يستصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقا". ولذا لما كان صلى الله عليه وسلم أصدق العالمين، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "وهذا بخلاف الكاذب والمخلط" بالمعاصي "فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيان، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم في منامه الرؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها، فإنها لا تضره". رواه البخاري. وفي رواية مسلم: "ورؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا   وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا" كلام القرطبي. وقيل: المراد إذا اقترب أجل الإنسان بمشيئته، فإن رؤياه قلما تكذب لصفاء باطنه ونزوع الشهوات عنه، فنفسه حينئذ لمشاهدة الغيب أميل. "وعن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إذا رأى أحدكم في منامه الرؤيا يحبها". صفة الرؤيا أو حال منها، "فإنما هي من الله" لا دخل فيها للشيطان، ولا للأضغاث، "فليحمد الله عليها" بأن يقول: الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحبه قال ذلك، "وليتحدث بها"، "بتحتية ففوقية وفتح الدال المهملة" رواية أبي ذر، ورواه غيره: "وليحدث". "بكسر الدال دون فوقية"، "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان". قال عياض: نسبتها إلى الله للتكريم، والتشريف، لطهارتها من حضور الشيطان وإفساده لها، وسلامتها من الأضغاث، أي التخليط وجمع الأشياء المتضادة بخلاف المكروهة، وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وبإرادته، ولا فعل للشيطان فيها، لكنه يحضرها ويرضاها ويسر بها، فلذا نسبت إليه، أو لأنها مخلوقة على طبعه من التحذير والكراهة التي خلق عليها، أو لأنها توافقه، ويستحسنها لما فيها من شغل بال المسلم وتضرره بها، "فليستعذ بالله من شرها" أي الرؤيا، "ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره"، لأن الله جعل ذلك سببا لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسببا لدفع البلاء. "رواه البخاري" في التعبير، "وفي رواية مسلم" عن أبي قتادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا السوء". أي سوء الظاهر، أو سوء التأويل احتمالان لعياض "من الشيطان" لأنه يخيل فيها، ولأنها تناسب صفته من الكذب والتهويل وغير ذلك، "فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا، فلينفث" "بكسر الفاء وضمها"، "عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب". وقوله: "فليبشر" بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة، من البشرى. وفي حديث أبي رزين العقيلي عند الترمذي: "ولا يقصها إلا على واد -بتشديد الدال، اسم فاعل من الود- أو ذي رأي". وفي أخرى: "ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا". وفي أخرى: "لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح". وفي حديث أبي سعيد عند مسلم: "فليحمد الله عليها وليحدث بها".   ولا يخبر بها أحدًا، فإن رأى رؤيا حسنة، فليبشر". قال عياض: يحتمل حسن ظاهرها ويحتمل صحتها، "ولا يخبر بها إلا من يحب" فيخبره بشرطه الآتي، "وقوله: "فليبشر" بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة من البشرى". قال عياض: هكذا الرواية، وعند العذري، يعني أحد رواة مسلم "بالنون"، وهو تصحيف، إنما هو من البشارة، يقال: بشرت الرجل مخففا ومشددا، كأن الحافظ لم يرتضه، فقال: زعم عياض أن النون تصحيف، ووقع في بعض نسخ مسلم: فليستر بمهملة ومثناة من الستر. "وفي حديث أبي رزين" "بفتح الراء وكسر الزاي"، لقيط بن عامر "العقيلي" صحابي شهير "عند الترمذي" وأبي داود وابن ماجه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت, ولا يقصه إلا على واد" أو ذي رأي، هذا لفظه برمته، أي إلا على واحد من هذين، إما واد "بتشديد الدال" أي محب "اسم فاعل من الود" "بفتح الواو وضمها"، "أو ذي رأي" أي علم بتعبيرها، وإن لم يكن محبا، فإنه يخبرك بحقيقتها، أو بأقرب ما يعلم منه، لا أن تعبيرها يزيلها عما جعلها الله عليه، ووقع في بعض نسخ الفتح، أي ذي رأي بأي، وهو تصحيف، والنسخ الصحيحة، بأو، كما هو في الترمذي. "وفي" رواية "أخرى" له: "ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا" قال البيضاوي: معناه لا تقصها إلا على حبيب لا يقع في قلبه لك إلا خير، أو عاقل لبيب لا يقول إلا بفكر بليغ ونظر صحيح، ولا يواجهك إلا بخير. "وفي أخرى: "لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح". "وفي حديث أبي سعيد عند مسلم" صوابه عند البخاري كما قدمه: ومسلم لم يخرج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره. وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل حين يهب من نومه، ولا يذكرها لأحد أصلا. وفي البخاري من حديث أبي هريرة خامسة: وهي الصلاة، ولفظه: "من رأى شيئا يكرهه في منامه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل". لكن لم يصرح البخاري بوصله، وصرح به مسلم، وزاد مسلم سادسة: وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه فقال: عن جابر رفعه: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ   حديث أبي سعيد: "فليحمد الله وليحدث بها" غيره "وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة" أي ما يطلب فعله من رائيها "ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها" فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، "وأن يستبشر" يفرح "بها، وأن يتحدث بها، لكن لمن يحب دون من يكره", وفي نسخ: أدب بالإفراد مرادا به الجنس الصادق بالقليل والكثير، فصح الإخبار عنه بثلاثة، "وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ" يعتصم "بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل" "بضم الفاء وكسرها" "حين يهب"، "بضم الهاء"، "من نومه". قال عياض: أي يستيقظ أثر حلمه، ففي حديث أبي قتادة عند مسلم: "فليبصق على يساره حين يهب من نومه" , ثلاث مرات، "ولا يذكرها لأحد أصلا" ولو حبيبا. "وفي البخاري من حديث أبي هريرة: خامسة وهي الصلاة، ولفظه: "من رأى شيئا يكرهه في منامه، فلا يقصه"، "بضم الصاد المشددة" على أحد، وليقم فليصل، لكن لم يصرح البخاري بوصله" أي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخرج حديث إذا اقترب الزمان من طريق عوف الأعرابي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ثم قال في آخره: قال ابن سيرين: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله، فمن رأى شيئا ... إلخ. "وصرح به مسلم" في روايته الحديث المذكور من طريق أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فساقه كله مرفوعا، وزاد بعد قوله: "فليصل ولا يحدث بها الناس". ولذا قال الحافظ: غفل أبو بكر بن العربي، فقال: زاد الترمذي على الصحيحين الأمر بالصلاة: "وزاد مسلم سادسة، وهي: التحول عن جنبه الذي كان عليه" نائما، "فقال" أي روى بسنده من طريق أبي الزبير، "عن جابر رفعه" بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها" صفة الرؤيا أو حال منها، "فليبصق"، "بالصاد"، "عن يساره" أي جانبه الأيسر "ثلاثا" من المرات، "وليستعذ بالله" بجمع همة وحضور قلب وصفاء باطن وصحة توجه، فلا يكفي الاستعاذة بمجرد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 بالله من الشيطان، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه". قال النووي: وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها كما صرحت به الأحاديث. وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم ير في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحد، ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها. انتهى. ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قال القرطبي، لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها.   اللسان، كما أشار إليه بعض الأعيان. قال الحافظ: وورد في صفتها أثر صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد الرزاق، بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي، قال: إذا رأى أحدكم في منامه، ما يكره، فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله "من" شر رؤياي هذه أن يصيبني منها ما أكره في ديني أو دنياي. وقال غيره: وزاد أنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل "الشيطان" وسيئات الأحلام، رواه ابن السني: "وليتحول عن جنبه الذي كان" مضطجعا "عليه" حين رأى ذلك. "قال النووي: وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها، كما صرحت به الأحاديث، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم ير في شيء من الأحاديث، الاقتصار على واحد" بل في بعضها أربع، وفي بعضها ثلاث، وفي بعضها ثنتان، "ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها". قال الحافظ: وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 89، 99] ، فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان. "انتهى". "ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله، كما قاله القرطبي" في المفهم، "لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه" تحولا زائدا، "وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها", وهذا وإن كان وجيها، لكن ظاهر الأحاديث يأباه، لا سيما قوله: ويبصق عن يساره حين يهب من نومه، إذ المتبادر منه الإسراع به عقب النوم، وإن البصق غير بصق مضمضة الوضوء الذي يأتي به بعد ذلك للصلاة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 وذكر بعضهم سابعة: وهي قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة: ولا يقربك شيطان فمتجه، قال: وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة. وحكمة التفل -كما قال القاضي عياض- أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة، تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها، والتثليث للتأكيد. وقد ورد التفل والنفث والبصق، وقال النووي في الكلام على النفث في   المطلوبة أيضا. "وذكر بعضهم سابعة، وهي قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا" يدل عليه، "فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة" عند البخاري: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرس من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ولن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان" حتى تصبح، "فمتجه" في الجملة، وإلا فهو عند إرادة النوم، وهذا عند الانتباه منه بسبب رؤيا مكروه، فيحتاج إلى دليل خاص. "قال" الحافظ ابن حجر: "وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة", وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور، فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح، وهي مشروعة عند كل أمر يكره، وأما الاستعاذة من الشيطان، فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه، "وحكمة التفل كما قال القاضي عياض: أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا" له، كما يبصق على الشيء المستقذر، "وخصت به اليسار، لأنها محل الأقذار ونحوها" وقوله: "والتثليث للتأكيد" ليس هو من كلام القاضي، بل زاده الحافظ عقبه. قال الحكيم الترمذي: هذا التفل واصل إلى وجه الشيطان واقع عليه، فالتفل مع تعوذ الرائي بالله يرد الذي جاء به من النزغة والوسوسة، كالنار إلى وجهه، فيحترق ويصير قروحا. ورد عن الربيع بن خيثم أنه قص عليه رؤيا منكرة، فأتاه رجل، وقال: رأيت في المنام رجلا يقول: أخبر الربيع بأنه ن أهل النار، فتفل عن يساره، وتعوذ فرأى ذلك الرجل في الليلة الثانية أن رجلا جاء بكلب، فأقامه بين يديه وفي عنقه حبل وفي جبهته قروح، فقال: هذا ذلك الشيطان وهذه القروح تلك النفثات التي نفثها في وجهه الربيع. "وقد ورد التفل والنفث والبصق". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 الرقية تبعا للقاضي عياض: اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد ولا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيدة: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل: عكسه. وسئلت عائشة عن النفث في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد. قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب: فجعل يجمع بزاقه. قال القاضي عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء. وقال النووي أيضا: وأكثر الروايات في الرؤيا: "فلينفث" , وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا. وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن المطلوب منه في الموضعين مختلف، لأن المطلوب في الرقية برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان،   قال الجوهري: التفل شبيه بالبصق، وهو أقل منه أوله البزق، ثم التفل، ثم النفث ثم النفخ، وقال عياض: هنا النفث والبصق بمعنى واحد، وتقدم الكلام، على ذلك في الصلاة وفي الطب. "وقال النووي: في الكلام على النفث في الرقية تبعا للقاضي عياض، اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد، ولا يكونان إلا بريق" أي مع ريق "وقال أبو عبيدة: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث" ريق أصلا. "وقيل: عكسه" النفث بريق والتفل بدونه، "وسئلت عائشة عن النفث في الرقية" ما صفته؟ "فقالت: كما ينفث آكل الزبيب" نفثا "لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة" بكسر الباء الموحدة وشد اللام" "بغير قصد، قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب، فجعل يجمع بزاقه". "قال القاضي عياض: وفائدة التفل" في الرقية "التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء". "وقال النووي أيضا" زيادة على ما تبع فيه عياضا: "وأكثر الروايات في الرؤيا: فلينفث وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا". "وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن المطلوب منه في الموضعين" أي الرقية والرؤيا "مختلف؛ لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر، كما تقدم" قريبا، "والمطلوب هنا" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم. فالذي يجمع الثلاثة، الحمل على التفل، فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصق. وأما قوله: "فإنها لا تضره". فمعناه كما قال النووي: إن الله تعالى جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال. وأما التحول، فللتفاؤل بتحول تلك الحال كان عليها. والحكمة في قوله في الرؤيا الحسنة: "ولا يخبر بها إلا من يحب" لأنه إذا أخبر بها من لا يحب فقد يفسرها له لما لا يحب، إما بغضا فيه وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.   في الرؤيا "طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره، كما نقله هو عن عياض، كما تقدم" قريبا، "فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل، فإنه نفخ مع ريق لطيف" أي قليل، "فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصق" فتتفق الروايات. وقال الزركشي: ينبغي فعل الكل؛ لأنه زجر للشيطان، فهو من باب رمي الجمار، "وأما قوله: "فإنها لا تضره". فمعناه كما قال النووي: إن الله تعالى جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال" وسببا لدفع البلاء، "وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها" عبارة عياض، أمره بذلك تفاؤلا بتحول الرؤيا عن تأويلها المكروه، وأنها لا تضر، كذا لخصه الأبي، وقال غيره أمر بالتحول لتتم يقظته ولمجانبة مكان الشيطان، ولذا أمر الناعس يوم الجمعة بالتحول عن مكانه الأول. قال الحافظ: وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله واللجأ إليه؛ ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه عند سجوده، "والحكمة في قوله في الرؤيا الحسنة: "ولا تخبر بها إلا من تحب" هي، "لأنه إذا أخبر بها من لا يحب فقد يفسرها له بما"، أي بتفسير "لا يحب، إما بغضا فيه" أي الرائي، "وإما حسدا" للنعمة فيكيده به {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] ، "فقد تقع على تلك الصفة" إذا كان لها تأويلان أو أكثر، أحدها حسن والآخر سيئ، "أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك" المذكور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 وقد روي من حديث أنس مرفوعا: "الرؤيا لأول عابر". وهو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشي، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبي رزين العقيلي رفعه: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت". وعند الدارمي بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب، وتركني حاملا، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت وإني ولدت غلاما أعور، فقال: "خير يرجع زوجك إن شاء الله   "وقد روي من حديث أنس مرفوعا: "الرؤيا لأول عابر". وهو حديث ضعيف فيه يزيد" بن أبان "الرقاشي" بخفة القاف، ثم معجمة" أبو عمرو البصري، "القاص "بتشديد المهملة" تابعي صغير، زاهد ضعيف، مات قبل العشرين ومائة، "ولكن له شاهد". "أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم" على شرط مسلم، "عن أبي رزين" لقيط بن عامر "العقيلي، رفعه: "الرؤيا على رجل طائر" أي هي كشيء معلق برجله لا استقرار لها "ما لم تعبر" بالبناء للمجهول وتخفيف الباء" في أكثر الروايات، أي لما لم تفسر، "فإذا عبرت وقعت" تلك الرؤيا بمعنى أن يلحق الرائي أو المرئي له حكمها. قال في النهاية: يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت، كما أن الطير لا يستقر غالبا، فكيف يكون ما على رجله. وقال في جامع الأصول: كل حركة من كلمة أو شيء يجري لك فهو طائر، يقال: اقتسموا دارا وطار سهم فلان في ناحية كذا، أي خرج وجرى، والمراد أن الرؤيا على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر، وهي الأول عابر يحسن تعبيرها، وتتمة الحديث: "ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي". ومر قريا. "وعند الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن تهرام السمرقندي، الحافظ، صاحب المسند، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم، ثقة، متقن، فاضل، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة "بسند حسن عن سليمان بن يسار" الهلالي، المدني، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقة، فاضل، أحد الفقهاء، السبعة، مات بعد المائة، وقيل: قبلها. "عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف", أي يذهب ويجيء "في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملا، فرأيت في المنام أن سارية" أي: عمود "بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاما أعور" لا يبصر إلا بعين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 صالحا، وتلدين غلاما برا". فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها". وعند سعيد بن منصور من مرسل عطاء بن أبي رباح: قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني رأيت كأن جائزة بيتي انكسرت، وكان زوجها غائبا، فقال: "رد الله عليك زوجك"، فرجع سالما، الحديث. قال أبو عبيدة وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول   واحدة، "فقال": رؤياك "خير يرجع زوجك إن شاء الله صالحا" أي بحالة حسنة من ربح تجارته وصحة جسده، "وتلدين غلاما برا" بك وبأبيه وطائعا لله، "فذكرت" المرأة "ذلك ثلاثا" من المرات للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبها بما ذكر، وكأنها فعلت ذلك لتزداد طمأنينة، لأن ظاهر رؤياها مكروه، "فجاءت" مرة أخرى "ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب" عن بيت عائشة، قالت: "فسألتها" عن تعدد مجيئها، "فأخبرتني بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا" كأنها فهمت ذلك من العلامات التي يعتمد عليها في التعبير، وهي قطعا لم تسمع تعبيره صلى الله عليه وسلم للمرأة قبل ذلك، إذ لا تستبيح مخالفته، "فقعدت تبكي" لتجويزها أن تعبيره صلى الله عليه وسلم أحد تفسيرين للرؤيا، ولذا أعادها عليه، فلما فسرتها عائشة بذلك، وهي عالمة بالتعبير كأبيها رضي الله عنهما، قوي ذلك عندها فبكت، "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فسأل عن بكائه، فأخبر بسببه، فقال: "مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على خير" أي على أحسن ما يعبر به، "فإن الرؤيا تكون" تقع "على ما يعبرها صاحبها" أي العابر الذي تقص عليه. "وعند سعيد بن منصور" بن شعبة الخراساني، نزيل مكة، ثقة، له تصانيف، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل: بعدها "من مرسل عطاء بن أبي رباح"، "بفتح الراء والموحدة المخففة" واسمه أسلم القرشي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه، فاضل، كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور. "قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني رأيت كأن جائزة بيتي" أي ساريته "انكسرت وكان زوجها غائبا، فقال: "رد الله زوجك عليك". فرجع سالما", الحديث, فصدق الله تعبير رسوله صلى الله عليه وسلم. "قال أبو عبيدة وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول عالما، فعبر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 عالما، فعبر وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره. ومن آداب المعبر، ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه يكتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا شر لأعدائنا. ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع. وفي حديث ابن زمل عند الطبراني والبيهقي في الدلائل: لما قص على   وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام، ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب" بظهور قرائن تدل على أنه مصاب، "فلا ينبغي أن يسأل غيره وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده، ويبين ما جهل الأول، هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره". "ومن آداب المعبر ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا" تفريع على شيء قبله لم يتعلق به غرض المصنف، "فقصها على أخيه" أي ذكرها له ليطلب منه تفسيرها، "فليقل" الأخ "خير لنا، شر لأعدائنا، ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع" إذ معمر لم يدرك أبا موسى. "وفي حديث ابن زمل" "بكسر الزاي وإسكان الميم ولام" قال في الإصابة عبد الله بن زمل الجهني، ذكره ابن السكن وقال: روي عنه حديث الدنيا سبعة آلاف سنة، بإسناد مجهول وليس بمعروف في الصحابة، ثم ساق الحديث، وفي إسناده ضعف، قال: وروي عنه بهذا الإسناد أحاديث مناكير، قلت: وجميعها جاء عنه ضمن حديث واحد، أخرجه بطوله الطبراني في المعجم الكبير، وأخرج بعضه ابن السني في اليوم الليلة، ولم أره سمي في أكثر الكتب، ويقال: اسمه الضحاك، ويقال: عبد الرحمن والصواب الأول، والضحاك غلط، فإن الضحاك بن زمل آخر من أتباع التابعين، وقال ابن حبان: عب الله بن زمل, له صحبة، لكن لا أعتمد على إسناد خبره. انتهى. فهو صحابي قطعا، وإن كان إسناد خبره ضعيفا، فجازف صاحب القاموس في قوله: عبد الله بن زمل "بالكسر" تابعي مجهول، غير ثقة، وقول الصغاني صحابي غلط، فإنه الأولى بأن يكون هو الغالط، وصاحب الإصابة لم يذكره في قسم من ذكر في الصحابة غلطا، إنما ذكره في القسم الأول المسلم كون من فيه صحابيا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه، فقال عليه الصلاة والسلام: "خير نلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك" الحديث, وسنده ضعيف جدا، ويأتي إن شاء الله تعالى. ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل، وأن لا يقصها على امرأة، لكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة يقول: هل رأى أحد الليلة رؤيا، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، ويعبر لهم ما يقصونه، وبوب عليه البخاري: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح. قالوا: وفي إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن   "عند الطبراني" في المعجم الكبير، "والبيهقي في الدلائل" النبوية "لما قص" أي أراد أن يقص "على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه" حين قال صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح والاستغفار: هل رأى منكم أحد شيئا، قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله، "فقال عليه الصلاة والسلام: خير نلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا، الحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك الحديث وسنده ضعيف جدا، ويأتي إن شاء الله" آخر هذا الفصل. "ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل". "و" من آداب الرائي "أن لا يقصها على امرأة" لنقص عقلها، ولا على عدو، ولا على جاهل، "لكن ثبت" في البخاري وغيره، عن سمرة بن جندب "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة" أي الصبح "يقول" لأصحابه: "هل رأى أحد" منكم "الليلة رؤيا". فيقص عليه, بضم الياء وفتح القاف "ما" أي مقصوصا: "شاء الله أن يقص" "بضم الفتح". وفي رواية النسفي للبخاري: فيقص عليه من شاء الله "بفتح الياء وضم القاف" ومن فاعل، أي القاص، "ويعبر لهم ما يقصونه" أي يفسره، "وبوب عليه البخاري باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح" وقبل طلوع الشمس، أي جوازه أو ندبه، "قالوا: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس" ووجه ضعفه من حديث الصحيح ظاهر؛ لأنه كان يصلي بغلس، "وفيه" أيضا" إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير إن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة. قال المهلب: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشره بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فكيف عنها، وربما كانت إنذارا الأمر فيكون له مترقبا. قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أو النهار. قاله في فتح الباري. وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائي أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على   المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى" الساعة "الرابعة" من النهار، "ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس"، "ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة" لجواز حمله على بعد طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وبعد الاصفرار إلى الغروب ووقت الاستواء على القول بكراهة الصلاة وقته لا بعد صلاة الصبح، وإن كره النفل حينئذ لتعبيره صلى الله عليه وسلم فيه، فيخص قولهم بما عده، ولذا "قال المهلب" أبو القاسم بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة التميمي الأندلسي، من العلماء الراسخين في الفقه والحديث والعبادة والنظر، سمع الأصيلي والقابسي وأبا ذر الهروي وغيرهم، وسمع منه ابن المرابط وابن الحذاء وغيرهم أحيا صحيح البخاري بالأندلس، وشرحه ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة: "تعبير الرؤيا عند" أي بعد "صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها، لقرب عهده بها وقبل ما يعرض له نسيانها" فيقصها على وجهها، "ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه" فيعبرها على الصواب "وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذار الأمر، فيكون له مترقبا" فيكون أهون عليه من فجأته له. "قال" المهلب: "فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار، قاله في فتح الباري، وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائي أن يكون صادق اللهجة"، "بفتح الهاء وسكونها لغة" أي فصيح اللسان، أي يبين كلامه بيانا شافيا، بحيث لا يشتبه على المخاطب، "وأن ينام على وضوء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه والشمس، والليل، والتين، وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن يقول: اللهم إني أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية, اللهم أرني في منامي ما أحب. وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل. إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائي تنحصر في قسمين: أضغاث أحلام وهي لا تنذر بشيء وهي أنواع: الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك. وروى مسلم عن جابر:   على جنبه الأيمن". قال ابن الوردي: ومن ينم على الشمال لا يصح، وصح ما سواه وهو متضح، وربما صحت كرؤيا الجنب، "وأن يقرأ عند نومه والشمس والليل والتين وسورة الإخلاص" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] . وفي نسخة: وسورتي الإخلاص وهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] والأولى هي الموافقة لما نقله شارح ألفية ابن الوردي، يندب للنائم أمور، منها: استقبال القبلة وقراءة ما تيسر، والأولى الفاتحة والإخلاص لما رواه البزار وغيره عن أنس، مرفوعا: إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الآية، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "والمعوذتين" "بكسر الواو"، "وأن يقول: اللهم إني أعوذ بك من سير الأحلام"، من إضافة الصفة للموصوف، "وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة" "بفتحات" والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة، صادقة، نافعة، حافظة" لصاحبها عن أن يخلط فيها، أو يفهم منها غير ما أريد بها، غير منسية" بأن يتذكرها إذا استيقظ، "الله أرني في منامي ما أحب، وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل" بعلم الرؤيا "إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائي تنحصر في قسمين: أضغاث أحلام" تخليطها، "وهل لا تنذر" تخبر "بشيء، وهي أنواع الول تلاعب الشيطان ليحزن" "بضم الياء وكسر الزاي وفتحها وضم الزاي" الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه أو يرى أنه واقع في هول" فزع وخوف "ولا يجد من ينجده" يعينه ويخلصه منه "ونحو ذلك". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، إني حلمت أن رأسي قطع وأنا أتبعه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام". الثاني: أن يرى أن بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحالات عقلا.   "وروى مسلم" من طريق أبي الزبير، "عن جابر قال: جاء أعرابي" زاد في رواية ابن ماجه والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، "فقال: يا رسول الله إني حلمت" "بضم اللام" رأيت في منامي "أن رأسي قطع وأنا أتبعه" أمشي على أثره، وفي رواية ابن ماجه: فاتبعته فأعدته "فزجره النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال: "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام". وفي مسلم أيضا من طريق أبي سفيان، عن جابر: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج، فاشتددت على أثره، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحدث بتلعب الشيطان بك في منامك" وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب، فقال: "لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه" وله في رواية ثالثة، عن جابر: جاء رجل، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كان رأسي قطع، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدث به الناس". قال المازري والقرطبي: ليس في المنام ما يدل على أنه من الأضغاث أو تلاعب الشيطان، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن منامه هذا من الأضغاث أو تلاعب الشيطان، بوحي أو بدلالة في المنام دلته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو من تحذير الشيطان. وقيل: إن الراوي أسقط من المنام ما لو ذكره لعلم أنه من الأضغاث وإلا فأهل التأويل في قطع الرأس تأويلات، كمفارقة الرائي ما هو عليه من النعم، أو مفارقة قومه، أو زوال سلطانه، أو تغير حاله في جميع الأمور، إلا أن يكون عبدا، فيدل على عتقه، أو مريضا فيدل على شفائه، أو مديانا فيدل على قضاء دينه، أو لم يحج، فيدل على أن يحج، أو محزونا فدل على زوال حزنه أو فرحه، أو خافئا فيدل على أمنه، إلى غير ذلك مما وسعوا فيه، وكذلك ينظرون في اتباع الرأس بما يئولون به قطع الرأس في الحملة لا باعتبار هذا المنام بعينه. وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب أصول العبارة أن رجلا قال: يا رسول الله إني رأيت رأسي قطع، فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "بأيهما كنت تنظر إليه" فلبث ما شاء الله، ثم قبض صلى الله عليه وسلم، وإن النظر إليه كأنه اتباع السنة. انتهى. "الثاني: أن يرى بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحالات عقلا"؛ لأن العقل دل على عصمتهم من ذلك، فلا يمكن وقوعه، فهو من الأضغاث لا تعبير له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 الثالث: ما يحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو يغلب على مزاجه ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا، وعن الماضي قليلا. القسم الثاني: الرؤيا الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهي التي تقع في اليقظة على ما وفق ما وقعت في النوم، وقد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة التي كفلق الصبح ما لا يعد ولا يحد. قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الحديث رواه البخاري.   "الثالث: ما يحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه، كما هو في المنام" لا يعبر، لأنه منام همة، "وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة" بفعله أو قوله، "أو يغلب على مزاجه" من الأضغاث لا يؤول، "ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا" غير غالب، "وعلى الماضي قليلا" وعبر في الفتح بلفظ عن في الثلاثة والخطب سهل. "القسم الثاني: الصادقة وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور" أي قلة إنقاذا لهم من المعاصي، أو معافاة في أبدانهم، "وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم" كرؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤسهم ومقصرين. "وقد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة التي كفلق"، "بفتحتين"، "الصبح" أي شبيهة به في الضياء والوضوح، وخص بالشبة لظهوره الواضح الذي لا يشك فيه "ما لا بعد" لكثرته فلا يمكن حصره بعد "ولا يحد" لعدم إمكان حده. "قال عائشة: أول ما بدئ "بضم الموحدة وكسر المهملة فهمزة" به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" أي من أقسامه، فمن للتبعيض، وقل القزاز لبيان الجنس، كأنها قالت من جنس الوحي وليست منه، أي فهي مجاز علاقته المشابهة للوحي في أنه لا دخل للشيطان فيها، رده عياض بحديث أنها جزء من النبوة الرؤيا الصادقة في النوم" زيادة للإيضاح أو لتخرج رؤيا العين يقظة، مجازا، "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت" في بيانها مجيئا، "مثل:" فنصب نعت مصدر محذوف "فلق الصبح" في الضياء والظهور أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فالنصب على الحال والفلق الصبح لكنه لما استعمل في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام للخاص، "الحديث رواه البخاري" في مواضع ومسلم ومر بتمامه في أوائل الكتاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 وفي رواية: الصالحة. وهما بمعنى بالنسبة إلى أمور الآخر في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص. فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم رأى بقرا تذبح، ورأى في سيفه ثلما، فأول البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد، والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل، ثم كانت العاقبة للمتقين، وكان بعد ذلك النصر والفتح على جميع الخلق. وأما رؤيا غير الأنبياء، فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تفسير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا. وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري في "التعبير القادري": الرؤية الصادقة ما يقع عينه، أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما فسر. واعلم أن الناس في الرؤيا على ثلاثة درجات:   "وفي رواية" عند مسلم والبخاري في بدء الوحي: "الصالحة" بدل الصادقة، "وهما بمعنى" واحد "بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص" من الصادقة، "فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم" وغيره من الأنبياء "كلها صادقة، فالصالحة في الأصل أخص" من الصادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم رأى بقرا" "بموحدة فقاف" "تذبح، ورأى في سيفه ثلما" "بفتح المثلثة وسكون اللام" "فأول البقر ما" أي بما "أصاب أصحابه يوم أحد" من استشهاد سبعين، "والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل" حمزة سيد الشهداء، "ثم كانت العاقبة للمتقين وكان بعد ذلك النصر الفتح على جميع الخلق". "وأما رؤيا غير اأنبياء فبينهما" أي الصادقة والصالحة "عموم وخصوص" من وجه "إن فسرنا الصادقة بأنها التي تحتاج إلى تفسيره وأما إن فسرناها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقا" من الصادقة. "وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري" "بفتح الدال والنون والواو" وراء نسبة إلى الدينور من بلاد الجبل "في" كتاب "التعبير القادري: الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه" يقظة مثل ما وقع مناما، "أو ما يعبر في المنام" للرائي "أو يخبر به من يكذب" من الأنبياء وكثير من الصالحين، "والصالحة ما فسر": عبر بتعبير كتعبيره صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم. "واعلم أن الناس في الرؤيا على ثلاث درجات: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير. والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير. ومن عداهم، يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة فالغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق. وكفار: ويندر في رؤياهم الصدق جدا، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحب السجن مع يوسف عليه الصلاة والسلام، ورؤيا ملكهم وغير ذلك. وقد روى الإمام أحمد مرفوعا، وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد:   ورؤياهم كلها صدق" وغالبها لا يحتاج إلى تعبير، "ويقع فيها ما يحتاج إلى تعبير،" كرؤيا يوم أحد، "والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق" واحتياجها إلى تعبير، "وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير" بأن يقع يقظة، كما رأوا في المنام، ويندر فيها الأضغاث لشغل بال وتغير مزاج ونحو ذلك، "ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم". من جهة رؤياهم، "وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق" لا جدا، "وكفار ويندر": يقل "في رؤياهم الصدق جدا، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا". "أخرج مسلم من حديث أبي هريرة" وأوله إذا اقترب الزمان كما مر قريبا، لكن بلفظ أصدقكم "بالكاف" في الموضعين، وهو الذي رأيته في مسلم، "وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحب السجن" أحدهما يعصر خمرا، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه "مع يوسف عليه الصلاة والسلام" أي اللذين دخلا السجن معه "ورؤيا ملكهم" سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، "وغير ذلك" كما حكى أن جالينوس غلظ طحاله فعجز عن علاجه، فرأى في المنام ملكا أمره بفصد عرق بين الخنصر والبنصر فبرئ، وأنه عرض له ورم في المحل الذي يتصل منه بالحجاب، فأمره الله في المنام بفصد العرق الضارب من كفه اليسرى فبرئ وذلك لأن الكافر وإن لم يكن محلا للصدق، لكن لا يمتنع أن يرى ما يعود عليه بخير في دنياه. "وقد روى الإمام أحمد" والترمذي والدارمي "مرفوعا وصححه ابن حبان من حديث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 أصدق الرؤيا بالأسحار. وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينوري أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة، وعند محمد بن سيرين: رؤيا الليل مثل رؤيا النهار، والنساء كالرجال، وعن القيرواني: إن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه. ومن مرائيه الكريمة عليه الصلاة والسلام: شربه اللبن وتعبيره بالعلم، كما في حديث ابن عمر عند البخاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم   أبي سعيد: أصدق الرؤيا بالأسحار" سبق شرحه قريبا. "وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينوري أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها" إلى النصف الأول، "ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل،" فكلما قرب من آخره كان أسرع مما قبله، "وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر" قبيل الصبح بين الفجرين، "ولا سيما عند طلوع الفجر" الصادق. "وعن جعفر" بن محمد "الصادق: أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة" نصف النهار، أي بالنهار، فلا يخالف الحديث. "وعن محمد بن سيرين" التابعي المشهور، العالم بالتعبير: "رؤيا الليل مثل رؤيا النهار، و" رؤيا "النساء كالرجال" أي كرؤياهم. "وعن" علي "القيرواني" العابر: "أن المرأة إذا رأت ما ليس له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم" رؤيا "العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه" إن لم يكن كل أهلا، كما صرح به في الألفية، فقال: والعبد رؤياه تخص المولى ... وما ترى المرأة نال البعلا وانقل إلى الوالد رؤيا الطفل ... إن كان هؤلاء غير أهل "ومن مرائيه الكريمة عليه الصلاة والسلام شربه اللبن وتعبيره بالعلم" لا يظهر عطفه على ما قبله، فإما أن يقدر في الأول من مرئيه وتعبيراته، أو يقدر في الثاني، ومن تعبيراته تعبيره بالعلم، "كما في حديث ابن عمر عند البخاري" في العلم والمناقب والتعبير في ثلاثة مواضع. وكذا أخرجه مسلم في الفضائل من طرق كلها عند الشيخين تدور على ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" يقول: "بينا" بغير ميم، كما ضبطه المصنف في المواضع المذكورة "أنا نائم أتيت"، "بضم الهمزة"، "بقدح لبن، فشربت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي، يعني عمر". قالوا: فما أولته؟ قال: "العلم".   منه". أي من اللبن وأكثرت، "حتى إني"، "بكسر الهمزة" بعد حتى الابتدائية وفتحها على جعلها جاره "لأرى" "بفتح الهمزة" من الرؤية، ويؤيده رواية المناقب: حتى أنظر "الري"، "بكسر الراء وشد الياء" على الرواية. وحكى الجوهري: الفتح أيضا، وقيل: "بالكسر الفعل، وبالفتح المصدرية"، ورؤية الري على سبيل الاستعارة، كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم, وهو كونه مرئيا "يخرج في أظفاري" جمع ظفر وفي بمعنى على, نحو: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ، أي عليها، وتكون بمعنى يظهر عليها، والظفر إما منشأ الخروج أو ظرفه، والجملة في موضع نصب على الحال إن قدرت الرؤية بمعنى الإبصار، ومفعول ثان لأرى إن قدر بمعنى العلم، واللام للتأكيد، وعبر بصيغة المضارع، والأصل أنه ماض استحضار الصورة الحال، "ثم أعطيت فضلي" , أي ما فضل من القدح الذي شربت منه، "يعني عمر". كذا في إحدى روايات البخاري في التعبير: وكان بعض رواته شك وله في العلم. وفي الرواية الثانية في التعبر: "فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب". وفي المناقب: "ثم ناولت عمر". وفي الرواية الثالثة في التعبير: "ثم أعطيت فضلته عمر". أي فضلة اللبن. "قالوا": وفي رواية للبخاري في التعبير، فقال من حوله: "فما أولته؟ " أي عبرته، قال: "العلم"، "بالنصب" أي أولته العلم وبالرفع أي المؤول به هو العلم. وفي رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عند سعيد بن منصور: ثم ناول عمر فضله، قال: ما أولته، وظاهره أن السائل عمر، ووقع في جزء الحسن بن عرفة من وجه آخر عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أولوها" قالوا: يا نبي الله هذا العلم الذي آتاكه الله حتى إذا امتلأت فضلت منه فضلة، فأخذها عمر، قال: "أصبتم". وإسناده ضعيف، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون بعضهم أول، وبعضهم سأل، أو أن هذا وقع أولا، ثم احتمل عندهم أن يكون عنده في تأويلها زيادة على ذلك، فقالوا ما أولته، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة المنافع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي، وفيه فضل عمر، وإن من شأن عمر الرؤيا، أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير، ومنها ما يحمل على ظاهره، والمراد بالعلم هنا العلم بساسة الناس، بكتاب الله وسنة رسوله، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة، فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 وفي رواية الكشميهني: "من أظافيري". وفي رواية صالح بن كيسان: "من أطرافي". وهذه الرؤية يحتمل أن تكون بصرية، وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول: ما أخرجه الطبراني والحاكم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده في هذا الحديث: "فشربت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم". على أنه محتمل أيضا. قال بعض العارفين: الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم   الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس، بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له، فنشأت الفتن من ثم إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، استخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافا والفتن إلا انتشارا، قاله الحافظ في موضعين. "وفي رواية الكشميهني" للبخاري: "من أظافيري" جمع أظفور كأسبوع وأسابيع بدل قوله في الرواية الأولى: "في أظفاري". "وفي رواية صالح بن كيسان" عن ابن شهاب بسنده عند البخاري في التعبير: "حتى إني لأرى الري يخرج من أطرافي". بدل: "في أظفاري". وفي رواية المناقب: "يجري في ظفري" , أو: "أظفاري" بالشك. "وهذه الرؤية": "حتى لأرى الري" , "يحتمل أن تكون بصرية وهو الظاهر", ويؤيده رواية المناقب: "حتى أنظر إلى الري". "ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول" البصرية، "ما أخرجه الطبراني والحاكم من طريق أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر" تابعي صغير، وثقه العجلي، وروى له الشيخان "عن أبيه" سالم أحد الفقهاء، "عن جده في هذا الحديث: "فشربت" من اللبن "حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم". "عن أنه محتمل أيضا" لأن تكون رؤيا علمية، فلا يؤيد الأول. "قال بعض العارفين" عبارته على البخاري، قال القاضي أبو بكر بن العربي: "الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق" أي: يوجد "المعرفة من بين شك وجهل" زاد في الفتح: ويحفظ العمل عن غفلة وزلل. انتهى. والمراد من هذه العبارة أن حال الرائي من حيث هو متردد بين أن لا يعلم من حال رؤياه شيئا يؤولها به، وبين أن يتخيل شيئا منها لا يجزم به، فيتردد في المراد منها، والله قادر على أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 والذي ذكره قد يكون خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة. وقال العارف ابن أبي جمرة: تأول النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم اعتبارا بما بين له أول الأمر حين أتى بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن فقال له جبريل: أخذت الفطرة، انتهى. وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رفعه: اللبن في المنام فطرة.   يخلق المعرفة، وهي العلم المطابق للواقع فيمن أراد فيدركه ويجزم به. وفي الفتح قال ابن العربي: اللبن رزق يخلقه الله طيبا بين أخباث من دم وفرث، كالعلم يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام، "وهو كما قال لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم". وفي حديث مرفوع: "وإنما العلم بالتعلم". "والذي ذكره قد يكون خارقا للعادة، فيكون من باب الكرامة" والمراد أن خلق المعرفة قد يكون العادة من تحصيله بالتعلم، فلا يكون كرامة، وقد يكون بإلهام من الله تعالى من غير تعب، وهو اللدني، فيكون كرامة لمن أوتيها، كما إليه الإشارة بقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] . "وقال العارف ابن أبي جمرة: تأول" عبر "النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم، اعتبارا بما بين له أو الأمر حين أتى" في الإسراء "بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة. انتهى". أي: الحق الذي أمر الله به من فعل الطاعات وترك المحرمات، وقيل غير ذلك مما سبق في المعراج. وفي رواية: فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، "وقد جاء في بضع الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة" بكسر الفاء وسكون الطاء" زاد في الفتح والسنة والقرآن، "كما أخرجه البزار" بإسناد حسن "من حديث أبي هريرة رفعه: "اللبن في المنام فطرة" لأن العالم القدسي تصاغ فيه الصور من العالم الحسي لتدرك منه المعاني، ولما كان اللبن في عالم الحس من أول ما يحصل به التربية ويرشح به المولود، صيغ عنه مثال الفطرة الت بها تتم القوة الروحانية، وتنشأ عنها الخاصة الإنسانية، ذكره بعضهم. وقيل: الفطرة هنا علم التوحيد لا غيره فهو الفطرة التي فطر الحق عليها عباده حتى أشهدهم حين قبضهم من ظهورهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء. انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 وقد ذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذي أمر. وفي الحديث: إن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شرب حتى أرى الري يخرج من أظفاره. وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ووجه التعبير في الحديث بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني،   "وقد ذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا" الحديث "يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر" عراب أو جواميس "خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة" ضأن أو معز "مال وسرور وصحة جسم" وفي ألفية ابن الوردي قال: وكل ما حل من الألبان ... مال حلال كالظبا والضأن "وألبان الوحش" مما لا يتأنس من دواب البر "شك في الدين" للشارب إما حالا بأن يكون متلبسا بذلك حال الرؤيا، وإما استقبالا بأن يطرأ عليه بعد، "وألبان السباع"، "جمع سبع بضم الياء وتسكن" يطلق على كل ما له ناب ويفترس، فهو من جملة الوحوش، فشربها شك في الدين، فلعله خصه بالذكر إشارة إلى أن فيها مضرة دنيوية أيضا. ولذا قال: "غير محمودة" لشاربها "إلا أن لبن اللبوة" أنثى الأسد "مال مع عدواة لذي أمر" أي صاحب حكم، "وفي الحديث" من الفوائد: "أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شرب حتى أرى الري يخرج من أظفاره، وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله" والشدة في أمره، "بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم" فلا يرفق في القيام بالحق، وأبو بكر، وإن كان لا يقر على باطل، لكنه كان يعامل بالرفق واللين، كما هو معلوم من سيرهما، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أرأف أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر". وتقدم أن وجه اختصاصه بذلك لطول مدة خلافته بالنسبة إلى أبي بكر، "ووجه التعبير في الحديث بذلك", أي: تعبير اللبن بالعلم "من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع" بهما، "وكونهما سببا للصلح فاللبن" جعل محصلا "للغذاء البدني" وهو إصلاحه، بما يتغذى به من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 والعلم للغذاء المعنوي. ومن ذلك رؤيته صلى الله عليه وسلم القميص وتعبيره بالدين. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنهما ما يبلغ دون ذلك، ومر عليّ بن الخطاب وعليه قميص يجره". قالوا: ما أولته يا رسول الله؟   الطعام والشراب. وفي الحديث: ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن، "والعلم للغذاء المعنوي", أي يحصل ما ينتفع به في الدين من تمييز الحق من الباطل، وإطلاق الغذاء عليه مجازا تشبيها لما يحصل المنفعة في الدين بما يحصل المنفعة في البدن. وفي الحديث أيضا كما قال ابن أبي جمرة: مشروعية قص الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختيار أصحابه في تأويلها، وإن ممن أدب أن يرد الطالب علم ذلك إلى معلمه، قال: والذي يظهر أنه لم يرد منهم أن يعبروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده فسأله فأفادهم، ولذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات. "ومن ذلك" أي مرائيه وتعبيراته: "رؤيته صلى الله عليه وسلم القميص وتعبيره بالدين عن أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان "الخدري رضي الله عنه" وعن أبيه، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "بينا". "بغير ميم" وفي رواية بالميم. "أنا نائم رأيت الناس" من الرؤيا الحلمية على الأظهر، أو من الرؤية البصرية، فتطلب مفعولا واحدا وهو الناس، فجملة: "يعرضون عليّ". حال، أو علمية من الرأي، فتطلب مفعولين هما الناس, "يعرضون عليّ" أي يظهرو لي، ويجوز رفع الناس، كما قال الحافظ، ولعله بتقدير رأيت رؤيا، فقيل: ما هي؟ قال: هي الناس، وسقط لفظ على لأبي ذر وابن عساكر في التعبير، وثبت لغيره فيه كما في الإيمان وفي المناقب وفي التعبير أيضا، عرضوا علي "وعليهم قمص"، "بضم القاف والميم" جمع قميص "منها ما يبلغ الثدي" بالجمع والإفراد روايتان، يكون للرجل والمرأة خلافا لمن خصه بها، إلا أن يدعي أنه أطلق في الحديث على الرجل مجازا، "ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر علي" كذا عند البخاري في إحدى روايتيه في التعبير، وفي الثانية كالإيمان والمناقب: "وعرض علي". "عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" لطوله، كذا في الإيمان والتعبير، وفيه أيضا رواية: يجتره. قال المصنف: بسكون الجيم بعدها فوقية مفتوحة، ولابن عساكر: يجره بضم الجيم وإسقاط الفوقية، وفي المناقب: اجتره "بهمزة وصل وسكون الجيم" قالوا: ما أولته؟ أي عبرته، وللكشميهني: أولت بلا ضمير، وفي الإيمان: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 قال: "الدين". رواه البخاري. وفي رواية الحكيم الترمذي في طبقة البخاري من طريق أخرى في هذا الحديث، فقال أبو بكر: علام تأولت هذا يا رسول الله؟ قالوا و"الثدي" بالمثلثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدي، بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدا بحيث لا يصير من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها. وقوله: "ومنها ما يبلغ دون ذلك" يحتمل أن يريد به من جهة السفل، وهو الظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي المذكورة: "فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته -بالإفراد- ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه".   "بالنصب ويجوز الرفع"، "رواه البخاري" في التعبير في موضعين، وقبله في المناقب وقبله في الإيمان، ورواه مسلم في الفضائل، كلاهما من طرق تدور على ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد. "وفي رواية الحكيم الترمذي" محمد بن علي "من طبقة البخاري من طريق أخرى في" روايته "هذا الحديث: فقال أبو بكر الصديق: علام" أي على أي معنى "تأولت هذا" المنام "يا رسول الله؟ " ففيه بيان أنه السائل، فالجمع في قوله: قالوا. كأنه لما سكتوا عن سؤاله، فكأنهما "قالوا: والثدي: بضم المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء جمع ثدي بفتح ثم سكون" كما رواه أبو ذر في التعبير في الموضعين وفي المناقب، ورواه غيره في الثلاثة بالإفراد، وأما في الإيمان، فرواه أبو ذر بالإفراد، وغيره بالجمع، كما أفاده المصنف، "والمعنى أن القميص قصير جدا، بحيث لا يصير" أي لا يمتد، وفي نسخة: أي لا يستر، وفي الفتح، وتبعه المصنف في الشرح، بحيث لا يصل "من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها" والمعنى واحد على الجميع. "وقوله: "ومنها ما يبلغ دون ذلك". يحتمل أن يريد به" أي بالدون "من جهة السفل، وهو الظاهر، فيكون أطول" مما يبلغ الثدي، "ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو، فيكون أقصر" أي لم يبلغ الثدي. "ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي المذكورة": "فمنهم من كان قميصه إلى سرته -بضم السين- ومنهم من كان قميصه إلى ركبته -بالإفراد- ومنهم من كان قميصه إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 ويجوز النصب في قوله: "الدين". والتقدير: أولت الدين، ويجوز الرفع. وفي رواية الحكيم المذكورة: على الإيمان. وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] . واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وقال ابن العربي: إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل كما يستر القميص عورة البدن. قال: وأما غير عمر فالذي كان   إنصاف ساقيه" بجمع إنصاف كراهة توالي تثنيتين، "ويجوز النصب في قوله الدين" على أنه معمول أولت، "والتقدير أولت الدين، ويجوز الرفع" أي هو الدين، وظاهره استواؤهما وليس كذلك، فإن الحافظ قال: بالنصب، ويجوز الرفع، فمفاده أن الرواية بالنصب، وكذا جزم به المصنف في الإيمان وغيره. "وفي رواية الحكيم المذكورة" قال: "على الإيمان" أولته بدل قوله: قال الدين "وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه" فهو من التشبيه البليغ، لأنه يستر العورة، والدين يستره من النار، كما قال المصنف، "والأصل في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} العمل الصالح، أو السمت الحسن أو خشية الله، أو لباس الحرب، بالنصب عطفا على "لباسا"، والرفع مبتدأ خبره {ذَلِكَ خَيْرٌ} أو الخير خير وذلك صفته كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه, ولم يقل المصنف الآية، وإن وقعت في الفتح، لأن الاستدلال لا يتوقف على تمامها، وهم إنما يقولون الآية إذا كان في باقيها تمام الاستدلال. "واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده" وذلك مناسب لحال عمر فإن دينه متين وآثاره باقية. "وقال ابن العربي: إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل" فيشمل الإنسان ويحفظه ويمنعه من المخالفات، "كما يستر القميص عورة البدن" فوجه الشبه الستر والشمول، ولا يشكل ظاهره بأنه يستلزم فضل عمر على أبي بكر؛ لأن المراد بالأفضل الأكثر ثوابا والأعمال علاماته، فمن كان عمله أكثر فدينه أقوى، ومن كان دينه أقوى فثوابه أكثر، ومن كان ثوابه أكثر فهو أفضل، لأنه ليس في الحديث تصريح بالمطلوب، فيحتمل أن أبا بكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 يبلغ الثدي هو الذي يستر القلب عن الكفر ولو كان يتعاطى المعاصي؛ لأنه لا يخرج بها عن الإيمان، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذي يستر رجله عن المشي إلى المعصية، والذي يستر رجله هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص. وأشار العارف ابن أبي جمرة: إلى أن المراد بالناس في هذا الحديث: المؤمنون، لتأويله القميص بالدين، قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وكان لعمر في ذلك المقام العالي. قال: ويؤخذ من هذا الحديث، أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره فإنه يعبر بدين لابسه، قال: والنكتة في القميص أن صاحبه إذا اختار نزعه،   لم يعرض في أولئك الناس، إما لأنه عرض عليه قبل ذلك، وإما لأنه لا يعرض أصلا، أو أنه لما عرض كان عليه قميص أطول من قميص عمر، وسكت عن ذكره اكتفاء بما علم من فضله، أو لأن المراد حينئذ بيان فضيلة عمر، فاقتصر عليها، أو ذكر أبا بكر، فذهل عنه الراوي. وعن التنزل بأن الأصل عدم جميع هذه الاحتمالات، فهو معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق، وقد تواترت تواترا معنويا، فهو المعتمد، كما أفاده الحافظ في محلين. "قال" ابن العربي: "وأما غير عمر، فالذي كان يبلغ الثدي هو الذي ستر القلب عن الكفر" لقرب الثدي من القلب، "ولو كان يتعاطى المعاصي لأنه لا يخرج بها عن الإيمان، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك"، أي الثدي "وفرجه باد، هو الذي لم يسر رجله عن المشي في المعصية" بأن يمس فيها، "والذي ستر رجله هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه" فلم يفعل معصية، "والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص" لله تعالى. "وأشار العارف ابن أبي جمرة إلى أن المراد بالناس في هذا الحديث المؤمنون لتأويله القميص بالدين" وإن كان لفظ الناس عاما "قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية" أي مؤمنوها، "بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وكان لعمر في ذلك المقام العالي" الذي لا يساويه فيه من بعده. "قال: ويؤخذ من الحديث أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره، فإنه يعبر بدين لابسه" لأن المصطفى عبر الطول بالدين، فعلى قياسه: إذا كان حسنا، فلابسه حسن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 وإذا اختار أبقاه فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب، ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون سبب نقص العمل. وفي الحديث: إن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة، والقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام ويذم في اليقظة شرعا، أعني جر القميص، لما ورد من الوعيد في تطويله. ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام السوارين الذهب في يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين. روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها فقال ابن عباس ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا   الدين، وإن كان قبيحا فلابسه ناقص الدين. "قال: والنكتة في القميص أن صاحبه إذا اختار" نزعه "نزعه" "بفتحات" جواب إذا وما قدرته "بفتح فسكون" مفعول اختار، "وإذا اختار" بقاءه "أبقاه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب" أي طويله "ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان" لأنه يزيد وينقص على المذهب المنصور، "وقد يكون بسبب نقص العمل" وإن كان كامل الإيمان. "وفي الحديث" من الفوائد إفادة "أن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة والقوة والضعف" ولذا بوب عليه البخاري تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، "وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام، ويذم في اليقظة شرعا، أعني جر القميص لما ورد من الوعيد في تطويله" بنحو خبر: "لا ينظر الله إلى من يجر إزاره خيلاء". وفيه أيضا مشروعية تعبير الرؤيا وسؤال العالم بها عن تعبيرها، ولو كان هو الرائي، وفيه الثناء على الفاضل بما فيه لإظهار منزلته عند السامعين، ومحله إذا أمن عليه الفتنة بالمدح، كالإعجاب وفضيلة عمر ظاهره، "ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام السوارين الذهب في يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين". "روى البخاري" في التعبير وقبله في المغازي، "عن عبيد الله" "بضم العين" "ابن عبد الله" بفتحها" ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء، "قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها" في شأن مسيلمة الكذاب. وعند البخاري في المغازي: أن مسيلمة قدم المدينة، فأتاه صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس، وفي يده صلى الله عليه وسلم قضيب، فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب ففظعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان". فقال عبيد الله: أحدهما العنبسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة.   فقال صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت". قال عبيد الله: فسألت ابن عباس عن رؤياه التي ذكرها، "فقال ابن عباس: ذكر لي" "بضم أوله مبينا للمفعول" وإبهام الصحابي لا يقدح، والذاكر له أبو هريرة، كما في الصحيحين من طريق نافع بن جبير. قال ابن عباس: فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا" بغير ميم، قاله المصنف في المحلين "أنا نائم رأيت أنه وضع" بضم الواو "في يدي" بالتثنية "سواران"، "تثنية سوار بالكسر، ويجوز بالضم"، ولأبي ذر: إسواران "بكسر الهمزة وسكون المهملة تثنية إسوار لغة في سوار "من ذهب" من لبيان الجنس، كقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] ، فهي القلب، "ففظعتهما"، "بفاء وظاء مشالة بعدها عين مهملة"، يقال: فظع الأمر، فهو فظيع إذا جاوز المقدار، قال ابن الأثير: الفظيع الأمر الشديد، وجاء هنا متعديا، والمعروف: فظعت به وفظعت منه، فتحمل التعدية على المعنى أي خفتهما أو معنى فظعتهما اشتد عليّ أمرهما. قال الحافظ: ويؤيد الثاني رواية: فكبرا علي، "وكرهتهما" لكونهما من حلية النساء، وهو عطف مسبب على سبب، أي كرهتهما لشدة أمرهم وقبحه، "فأذن لي"، "بضم الهمزة وكسر المعجمة". وفي رواية نافع عن ابن عباس: "فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما". "فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان" أي تظهر شوكتهما ومحاربتهما، "فقال عبيد الله" "بضم العين" ابن عبد الله، المذكور في السند، "أحدهما العنبسي" "بمهملة فنون ساكنة فسين مهملة" وهو الأسود صحب صنعاء، كما في الرواية الثانية، واسمه عبهلة "بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الهاء" ابن كعب، وكان يقال له أيضا: ذو الحمار؛ لأنه كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وقول الكرماني: لأنه علم حمارا إذا قال له اسجد يخصف رأسه، يقتضي أنه بحاء مهملة، والمعروف أنه بالخاء المعجمة، بلفظ الثوب الذي يختمر به، كما أفاده الحافظ "الذي قتله فيروز" الديلمي الصحابي "باليمن" لما خرج بصنعاء وادعى النبوة، وغلب على عاملها للنبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بن أبي أمية المخزومي، وأخرجه منها، ويقال: أنه مر به، فلما حاذاه عثر الحمار، فادعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئا، فقام. روى يعقوب بن سفيان والبيهقي من طريقه من حديث النعمان بن بزرج "بضم الموحدة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 وفي رواية أبي هريرة عند الشيخين: "بينا أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض   وسكون الزاي"، ثم راء مضمومة ثم جيم قال: خرج الأسود الكذاب ومعه شيطانان، يقال لأحدهما سحيق "بمهملتين وقاف مصغر" والآخر شقيق "بمعجمة وقافين مصغر"، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، فلما مات باذان عامل النبي صلى الله عليه وسلم بصنعاء، جاء شيطان الأسود، فأخبره، فخرج في قومه حتى ملك صنعاء، وتزوج المرزبانة، زوجة باذان، فذكر القصة في مواعدتها فيروز وغيره، فدخلوا على الأسود ليلا، وقد سقته المرزبانة الخمر صرفا حتى سكر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار حتى دخلوا، فقتله فيروز واحتز رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافى بذلك عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو الأسود عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيوم أو ليلة، فأتاه الوحي، فأخبر أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفنه صلى الله عليه وسلم "والآخر مسيلمة" "بكسر اللام" مصغر ابن ثمامة، بضم المثلثة ابن كبير، بموحدة ابن حبيب بن الحارث من بني حنيفة، قال ابن إسحاق: ادعى النبوة سنة عشر، وزعم بعضهم أن مسيلمة لقب واسمه ثمامة، فيه نظر لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظا، فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، فجمع جموع كثيرة ليقاتل الصحابة، فجهز له الصديق جيشا، أميرهم خالد بن الليد، فقتل جمع من الصحابة، ثم كان الفتح بقتل مسيلمة، قتله عبد الله بن زيد بن عاصم المازني على الأشهر، وقيل: عدي بن سهل، وقيل: وحشي بالحربة التي قتل بها حمزة، وقيل: أبو دجانة، ولعل عبد الله هو الذي أصابته ضربته, وحمل عليه الباقون، ثم ما في هذه الرواية من أن النص على اسمهما من عبيد الله قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخين، من رواية نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي هريرة ولفظه: "فأولتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة". قال عياض: النص على اسمهما في هذه الرواية التي بعدها هو من النبي صلى الله عليه وسلم وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحسن، رفع: "رأيت كأن في يدي سوارين، من ذهب فكرهتهما فذهبا كسرى وقيصر". قال الحافظ: هذا إن كان الحسن أخذه عن ثبت، فظاهره يعارض التفسير بمسيلمة والأسود، فيحتمل أن يكون تعددا، والتفسير من قبله بحسب ما ظنه أدرج في الخبر فالمعتمد ما ثبت مرفوعا أنهما الأسود ومسيلمة. "وفي رواية أبي الأسود عند الشيخين" في التعبير فالبخاري عن شيخه إسحاق بن راهويه، وفي المغازي عن شيخه إسحاق بن نصر، ومسلم عن شيخه محمد بن رافع، ثلاثتهم عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبر علي وأهماني، فأوحي إلي أن أنفخهما فنفختهما، فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة".   عبد الرزاق، عن معمر، عن همام أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا" بغير ميم "أنا نائم إذ أتيت" قال الحافظ: كذا وجدته في نسخة معتمدة من طريق أبي ذر من الإتيان بمعنى المجيء، وبحذف الباء من "خزائن الأرض"، وهي مقدرة، وعند غيره: "أوتيت" بزيادة واو من الإيتاء بمعنى الإعطاء، ولا إشكال في حذف الباء على هذه الرواية، ولبعضهم كالأول، لكن بإثبات الباء، وهي رواية أحمد وإسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق يعني عند البخاري في المغازي، "فوضع"، "بضم الواو مبني لما لم يسم فاعله "في يدي" وفي رواية: في كفي "سواران" بالتثنية رفع بالألف مفعول ناب عن فاعله، ولأبي ذر: فوضع "بفتح الواو مبنيا للفاعل"، أي وضع الآتي بخزائن الأرض في يدي سوارين، نصب بالياء على المفعولية، كذا في شرح المصنف، وكان الحافظ لم ير الرواية الأولى هنا، فعزاها لرواية البخاري في المغازي، عن شيخه إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق قال: ولا إشكال فيهما، وشرح ابن التين هنا على لفظ وضع بالضم، وسوارين بالنصب، وتكلف لتخريج ذلك "من ذهب" صفة للسوارين، "فكبر"، "بضم الموحدة والإفراد" أي عظم على شأنهما وثقل. وفي رواية المغازي: كمسلم، فكبرا بالتثنية، أي عظما "علي وأهماني" أحزناني وأقلقاني "فأوحي إلي" بالبناء للمجهول، رواه الأكثر، ولبعض الرواة: "فأوحى الله إلي". قال القرطبي: أي إلهاما، أو على لسان ملك "أن انفخهما" بهمزة وصل، وكسر النون للتأكيد والجزم على الأمر، وقال الطيبي: ويجوز أن تكون مفسرة، لأن أوحي يتضمن معنى القول، وأن تكون ناصبة والجار محذوف، "فنفختهما" زاد البخاري في المغازي ومسلم: فذهبا، وفي رواية ابن عباس التي قبلها: فطارا، وزاد سعيد بن منصور من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة: فوقع واحد باليمامة، والآخر اليمن، "فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما" لأن السوارين في اليدين جميعا، فهو بينهما، قال عياض، ويأتي توجيه القرطبي "صاحب صنعاء" الأسود العنسي "وصاحب اليمامة" بتخفيف الميمين: مدينة باليمن على أربع مراحل من مكة، يعني مسيلمة الكذاب، وهذا ظاهر في أنهما كانا موجودين حين قص الرؤيا، فيخالف قوله في رواية ابن عباس التي فوق هذه: "يخرجان بعدي"، والجمع بينهما أن المراد بخروجهما بعده ظهور شوكتهما، ودعواهما النبوة ومحاربتهما، نقله النبوي عن العلماء. قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن ذلك كله ظهر للأسود بصنعاء في حياته صلى الله عليه وسلم، فادعى النبوة وعظمت شوكته، وحارب المسلمين وفتك بهم، وغلب على البلد، وآل أمره إلى أن قتل في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 قال المهلب: هذا الرواية ليست على وجهها، وإنما هي ضرب من المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليس من لبسه، لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له. وأيضا: ففي كونهما من ذهب، والذهب نهي عن لبسه دليل على الكذب، وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما فطارا، فعرف أنه لا ينسب لهما أمر، وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما من موضعهما.   حياته صلى الله عليه وسلم كما مر وأما مسيلمة، فادعى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم لكن لم تعظم شوكته، ولم تقع محاربته إلا في عهد أبي بكر، فإما أن يحمل ذلك على التغليب، وإما أن يكون المراد بقوله بعدي أي بعد نبوتي. قال العيني: في نظره نظر، لأن كلام ابن عباس يصدق على خروج مسيلمة بعده صلى الله عليه وسلم، وأما كلامه في حق الأسود، فمن حيث أن أتباعه ومن لاذ به تبعوا سبيله وقووا شوكته، فأطلق عليه الخروج بعده بهذا الاعتبار، كذا قال، وهو كلام يضحك منه، فإن قوله يصدق على خروج مسيلمة بعده تقرير لقول الحافظ، يحمل على التغليب وقوله: وأما كلامه ... إلخ، فإنما يتم أن ثبت أن أتباعه بعد قتله استمروا على ما كانوا عليه معه وأتى به، ولذا قال المصنف عقب نقله. انتهى. فليتأمل "قال المهلب: هذه الرواية ليست على وجهها" أي ظاهرها، "وإنما هي ضرب من المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين، لأن الكذب وضع الشيء في غيره موضعه" تفسير باللازم وإلا فهو لغة الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عمدا أو خطأ، "فلما رأى في ذراعيه سوارن من ذهب، وليس من لبسه" أي مما يليق به ويلبسه، ولم يسبق له لبسهما، "لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له" فهو كاذب، "وأيضا ففي كونهما من ذهب، والذهب نهي عن لبسه" تحريما "دليل على" وجود "الكذب" إذ محال أن يلبس ما نهى عنه، "وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما، فطارا، فعرف أنه لا ينسب لهما أمر، وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما عن موضعهما" وفي ذلك إشارة إلى حقارة أمرهما، لأن شأن الذي ينفخ فيه فيذهب بالنفخ أن يكون في غاية الحقارة، قاله بعضهم، ورده ابن العربي، بأن أمرهما كان في غاية الشدة، لم ينزل بالمسلمين قبله مثله، قال الحافظ: وهو كذلك، لكن الإشارة إنما هي إلى الحقارة المعنوية لا الحسية، ويتجه في تأويل نفخهما أنه قتلهما بريحه، لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسي، فأول الرؤيا عليهما ليكونا ذلك، إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت, ويحتمل أن يكون بوحي. والمراد بـ"خزائن الأرض" الذي ذكرها، ما فتح على أمته من الغنائم، ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة. وقال القرطبي: إنما كبر عليه السواران لكون الذهب من حلية النساء، وما حرم على الرجال، وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما، ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا مسلمين، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعاويهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك، فكأن الدين بمنزلة البلدين، والسوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا من الكذب، والزخرف من أسماء الذهب.   لم يغزهما بنفسه أما الأسود، فقتله فيروز الصحابي في مرض موته صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وأما مسيلمة، فقتل في خلافة الصديق. "وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسي، فأول" أي حمل "الرؤيا عليهما، فيكون ذلك إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت" أي وقعت على الوجه الذي عبرت به، "ويحتمل أن يكون" تعبيره إياها بهما "بوحي" أوحى إليه بتعيينهما، "والمراد بخزائن الأرض التي ذكرها ما فتح على أمته من الغنائم، ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة" وقال غيره: بل يحمل على أعم من ذلك. "وقال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "إنما كبر عليه السواران، لكون الذهب من حلية النساء، ومما حرم على الرجال" فلا يليق ذلك بعلي مقامه، "وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما" وعدم ثباته، "ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعناء وأهل اليمامة كانوا مسلمين، فكانوا كالساعدين" تثنية ساعد، ما بين المرفق والكتف مذكر "للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا" زورا وزخرفا "على أهلهما بزخرف أقوالهما" المفسد لعقولهما "ودعاويهما الباطلة، انخدع أكثرهم بذلك، فكأن اليدين" الشريفتين اللتين وضع فيهما السواران "بمنزلة البلدين و"كأن "السوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا" أي حسنا "من الكذب، والزخرف من أسماء الذهب" ولذا قال: "اللذين أنا بينهما"، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير، فإن كان إلى جهة السماء تعريجا ناله ضرر، وإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه. ومن ذلك: رؤيته صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء الثائرة الرأس، وتعبيرها بنقل وباء المدينة إلى الجحفة. روى البخاري من حديث عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة -وهي   "وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير، فإن كان إلى جهة السماء تعريجا" أي ارتفاعا، والتكثير للمبالغة، لكن لفظ الفتح إلى جهة السماء بغير تعريج، وتبع المصنف في الشرح، "ناله ضرر وإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه" إن كان مريضا، "وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه" زاد في الفتح: فإن كان بجناح، فهو مال أو سلطان يسافر في كنفه، وإن كان بغير جناج دل على التحذير مما يدخل فيه، وقالوا: إن الطيران للشرار دليل رديء. انتهى. وقال بعضهم: من رأى عليه سوارين من ذهب، أصابه ضيق في ذاته مدة، فإن كانا من فضة فهو خير من الذهب، وليس يصلح للرجال في المنام من الحلي إلا التاج والقلادة والعقد والخاتم. قال الحافظ في المغازي: ويؤخذ من هذه القصة منقبة للصديق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه حتى طارا، فأما الأسود فقتل في زمنه، وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتل أبو بكر، فقام مقامه صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويؤخذ منه أن السوار وسائر آلات الحلي اللائقة بالنساء تعبر للرجال بما يسوءهم ولا يسرهم، ولله أعلم. "ومن ذلك" أي مرائيه وتعبيراته "رؤيته صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء الثائرة الرأس" "بمثلثة من ثار الشيء إذا انتشر". "وتعبيرها بنقل وباء المدينة" "بالمد والقصر" مرضها العام لا الطاعون، لأنه لم يدخلها "إلى الجحفة" "بضم الجيم وسكون المهملة" الميقات المعلوم. "روى البخاري" في التعبير من ثلاثة طرق، "من حديث" موسى بن عقبة، عن سالم، "عن" أبيه "عبد الله بن عمر" رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام امرأة". وفي رواية: "كأن امرأة". "سوداء ثائرة الرأس"، "بمثلثة"، أي منتفش شعر رأسها، ولأحمد وأبي يعلى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة: "ثائرة الشعر تفلة". والمراد شعر الرأس وتفلة، "بفتح الفوقية وكسر الفاء ولام"، أي كريهة الرائحة "خرجت من المدينة" النبوية، كذا في أكثر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 الجحفة- فأولت ذلك أن وباء المدينة نقل إليها". وهذا من قسم الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء: السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة. وقال القيرواني من أهل التأويل: كل شيء غلبت السوداء في أكثر   الروايات. وفي رواية ابن أبي الزناد: أخرجت بزيادة همزة مضمومة أوله على البناء للمجهول، ولفظه: أخرجت من المدينة، فأسكنت بالجحفة وسارت "حتى قامت" أي انتصبت قائمة حين وصولها "بمهيعة" "بفتح الميم وسكون الهاء فتحتية مفتوحة فعين مهملة" وقيل: بوزن عظيمة، ثم استقرت فيها كما يفيده التعبير بأسكنت في تلك الرواية. قال الحافظ: وأظن قوله: "وهي الجحفة" مدرجا من قول موسى بن عقبة، فإن أكثر الروايات عنه خلا عن هذه الزيادة، وثبتت في رواية سليمان، يعني ابن بلال عن موسى عند البخاري، وابن جريج عن موسى عند ابن ماجه، إلا أنه قال بالمهيعة. قال ابن التين: ظاهر كلام الجوهري أن مهيعة تصرف، لأنه أدخل عليها الألف واللام، إلا أن يكون أدخلهما للتعظيم وفيه بعد، انتهى. وجزم السيوطي بأنه مدرج منه، "فأولت ذلك أن وباء المدينة نقل إليها" أي نقل من المدينة الجحفة لعدوان أهلها وأذاهم للناس، وكانوا يهودا وترجم البخاري على هذا الحديث باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة "بضم الكاف وسكون الواو، بعدها راء مفتوحة فهاء تأنيث" أي: ناحية. قال الحافظ: ظاهر الترجمة أن فاعل الإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نسبه إليه لأنه دعا به حيث قال: "اللهم حبب إلينا المدينة، وانقل حماها إلى الجحفة"، "وهذا" كما قال المهلب "من قسم الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل ووجه التمثيل أنه شق" أي قطع، أي أخذ "من اسم السوداء" جزئين "السوء والداء فتأول خروجهما بما جمع" هو، أي الجزآن "اسمها" فهو بالنصب مفعول، أو بالرفع والمفعول محذوف، أي بما جمعه اسمها، "وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة" "بفتح التحتية وضمها". "وقال" علي "القيرواني، من" علماء "أهل التأويل: كل شيء غلبت عليه السوداء في أكثر وجوهها فهو مكروه" أي رؤياه تدل على مكروه، "وقال غيره: ثوران الرأس يؤول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 وجوهها فهو مكروه، وقال غيره: ثوران الرأس يؤول بالحمى لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء لأنها أكثر اسيتحاشا. ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه في درع حصينة وبقرا ينحر وتعبير ذلك. عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت من المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة   بالحمى، لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء، لأنها أكثر استيحاشا" وعبارة الحافظ في حكاية هذا، وقيل: لأن ثوران الشعر من اقشعرار الجسد، ومعنى الاقشعرار: الاستيحاش، فلذلك يخرج ما يستوحش النفوس منه، كالحمى قلت: وكأن مراده بالاستيحاش أن رؤيته موحشة، وإلا فالاقشعرار في اللغة تجمع الشعر وتقبضه وكل شيء تغير عن هيئته، يقال: اقشعر كاقشعرت الأرض بالجدب والنبات من العطش، وقد قال القيرواني: فذكر كلامه استشهادا لما ترجاه وهو حسن. "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه في درع حصينة" صفة درع الحديد، لأنها مؤنثة عند الأكثر، "و" رؤيته "بقرا" "بالنصب" في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى: وبقر بالجر، أي: وفي بقر، أي: مع بقر "ينحر، وتعبير ذلك عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "رأيت في المنام أني أهاجر" بضم الهمزة "من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي" "بفتح الهاء" أي وهمي واعتقادي، قاله عياض وتبعه النووي، وجزم به الحافظ في الهجرة، وقال: هنا قال ابن التين: وبه رويناه والذي عند أهل مكة "بسكون الهاء" قال: ولعل الرواية على نحو قولهم في البحر بحر بالتحريك، ونهر ونهر، وشعر وشعر. انتهى. وجزم في النهاية "بسكون الهاء" ولعله رواية قليلة، وقد يشعر به قول المصنف في علامات النبوة "بفتح الواو والهاء" وقد تسكن، وبه جزم في النهاية "إلى أنها اليمامة": بلاد الجو بين مكة واليمن، "أو هجر"، "بفتح الهاء والجيم" غير مصروف، قاعدة أرض البحرين، أو بلد باليمن، قاله المصنف. وفي القاموس: مذكر مصروف، وقد يؤنث بلد باليمن واسم لجميع أرض البحرين، ورواه أبو ذر والأصيلي وابن عساكر الهجر بزيادة أل "فإذا هي" مبتدأ، وإذ للمفأجاة "المدينة" خبر "يثرب" اسمها في الجاهلية، فأتى به للبيان، أي التي تسمونها يثرب، ألا تراه قال قبل المدينة: فلا ينافي نهيه عن تسميتها بذلك، أو كان ذلك قبل نهيه، قاله عياض، قال: وفيه خروج الرؤيا على وجهها لهجرته صلى الله عليه وسلم إلى أرض بها نخل، وهي المدينة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 يثرب، ورأيت فيها بقرا، والله خير، وإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي أتانا الله بعد يوم بدر". رواه   قال القرطبي: ولم يجزم بأحد البلدين، وليس في الرؤيا ما يدل على تعيين أحدهما، وإنما ذهب وهله إلى أحدهما لكثرة ما بهما من النخل. وفي الصحيح مرفوعا: "أريت دار هجرتكم بين لابتين". قال الزهري: وهما الحرتان، قال ابن التين: رأى صلى الله عليه وسلم دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم رأى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت، قال أبو عبد الله الأبي: فإن قيل: رؤياه حق، وقد ظن أحد البلدين ولم يتفق ذلك، أجيب بحضرة الشيخ حين أورد السؤال، بأن معنى كونها حقا، أنها ليست حلما من الشيطان، وأما باعتبار المطابقة فقد لا تجب المطابقة، ولم ينكره الشيخ، وأجاب هو، بأن الوهل يحتمل أن يكون أول حركة الذهن إلى التفسير، ثم لم يتماد عليه، ثم الوهل يحتمل أنه في النوم ويحتمل في اليقظة، انتهى. ومراده بالشيخ الإمام محمد بن عرفة شيخه "ورأيت فيها" أي الرؤيا، اختصر الحديث تبعا للبخاري في التعبير، وإلا فقبل هذا في البخاري في علامات النبوة. وفي مسلم: ورأيت في رؤياي هذه سيفا، فذكر ما يأتي، وقال عقبه: ورأيت فيها "بقرا"، "بموحدة وقاف" $"والله خير" "مبتدأ وخبر". قال عياض: رويناه برفعهما، ومعناه عند الأكثر، أي ثواب الله للمقتولين خير لهم من مقامهم في الدنيا، وقيل: المعنى صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم أحد، قال الأبي: وعلى التقديرين، فارتفاعهما على المبتدأ والخبر، ويحتمل أنه على اعتبار العوض بالنصر، كما يقال: في الله عوض من كل هالك. قال عياض: وقيل فيه تقديم وتأخير، والتقدير: رأيت والله بقرا ينحر، والاسم مخفوض على القسم، وبهذا اللفظ جاء في رواية السيرة، وسمي خيرا على التفاؤل وإن كان مكروها في الظاهر، أو باعتبار عقباه، كما يقول العابر لمن قص عليه رؤياه خير، والأولى قول من قال: والله خير من جملة الرؤيا، وأنها كلمة ألقيت إليه، وسمعها عند رؤياه بدليل قوله: وإذا الخير ... إلخ. انتهى. "وإذا هم النفر"، "بفتح النون والفاء"، "من المؤمنين" الذين استشهدوا "يوم أحد". قال القرطبي: أخذ النفر من لفظ بقر مصحفا، إذ لفظهما واحد ليس بينهما إلا النقط، يعني: والتصحيف من وجوه التأويل، وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري في المواضع كلها، فإذا هم المؤمنون يوم أحد، "وإذ الخير ما جاء الله به من الخير بعد". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 البخاري ومسلم. وقد روى الإمام وغيره عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة المدينة، والبقر بَقْرًا". وهذه اللفظة الأخيرة وهي "بقر" الموحدة، وسكون القاف، مصدر بقره يبقره بقرا.   قال عياض: صحت الرواية فيها أنها بالضم مقطوعة عن الإضافة، أي بعد ما أصيبوا يوم أحد، "وثواب الصدق" أي صدق الوعد مع قريش يوم أحد على الاجتماع ببدر في العام القابل، فخرج صلى الله عليه وسلم إليها، وجبنت قريش فما خرجوا إليها "الذي أتانا"، "بالمد"، أي أعطانا "الله بعد يوم بدر" أي بدر الموعد، وهي الثالثة، وربما عبر عنها بالثانية، ولفظ الجلالة ثابت في الصحيحين، فلا عبرة بسقوطها في غالب نسخ المصنف. قال عياض: صحت رواية في بعد "بالنصب" مضافة ليوم بدر، فهما أمران مختلفان أوتيهما في وقتين مختلفين، فيستحيل أن يكون المراد بيوم بدر، الغزوة الكبرى لتقدمها على أحد في رمضان سنة اثنتين، وأحد في شوال سنة ثلاث، فتعين أنها بدر الثانية في شوال سنة أربع. "رواه البخاري" مفرقا في التعبير: وغزوة بدر، وغزوة أحد، وعلق أوله في الهجرة، وساقه تاما في علامات النبوة، لكنه في الجميع شك في رفعه، فيقول: أرى عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: قائل ذلك هو البخاري، كأنه شك هل سمع من شيخه صيغة الرفع أم لا؟ "و" أخرجه "مسلم" وأبو يعلى عن أبي كريب شيخ البخاري، فيه: فلم يترددا، بل جزما برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، "وقد روى الإمام أحمد وغيره" النسائي وابن سعد بإسناد صحيح، "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت كأني في درع حصينة" منيعة، تمنع عن لابسها الأذى، "ورأيت بقرا" فزاد على السابقة: "تنحر" وبه يتضح التأويل. وفي حديث ابن عباس: تذبح، "فأولت الدرع الحصينة المدينة" فهذا أيضا زيادة على السابق "و" أولت "البقر" "بفتحتين"، "بقرا"، "وهذه اللفظة الأخيرة، وهي بقر: "بفتح الموحدة وسكون القاف" مصدر بقره يبقره" كقتله يقتله، أي شق بطنه "بقرا" يكون فينا، قال: فكان من أصيب من المسلمين، كما زاد في حديث ابن عباس: ومنهم من ضبطها "بفتح النون والفاء"؛ لأن من وجوه التأويل التصحيف، ولفظ بقر مثل لفظ نفر "بنون وفاء" خطأ. ويؤيده رواية مسلم: وإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد كما مر، قيل: إنما أول البقر بمن قتل، لأن البقر متسلحة بقرونها، وبها يدفع ويناطح بعضها بعضا، فأشبهت رجال الحرب، وخص القتل بأصحابه، وليس في الرؤيا دليل ظاهر على تخصيصهم، لأن البقر قد يعبر بها عن أهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 ولهذا الحديث سبب جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضا والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم من طريق أبي الزناد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس في قصة أحد، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل". وفيه: "إني رأيت أني في درع حصينة" الحديث، بنحو حديث جابر، وأتم منه، وقد تقدمت الإشارة إليه في غزوة أحد من المقصد الأول. والمراد بقوله: "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر" فتح خيبر ثم مكة، أي ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين.   الحرب والبادية ومن يثير الأرض، لأنها تثيرها، ولأن الذكر منها ثور، وهذه صفة أصحابه الأنصار لاشتغالهم بالزراعة، وليست صفة غيرهم من قريش، أو لأن أصحابه الثائرين معه على الحرب، كذلك لتحريكهم جهتهم من الأرض، وقلبهم ظاهرها وباطنها. قاله عياض: "ولهذا الحديث سبب، جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضا، والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم من طريق أبي الزناد" "بكسر الزاي وخفة النون" اسمه عبد الله بن ذكوان، "عن عبيد الله" "بضم العين" "ابن عبد الله" "بفتحها" "ابن عتبة" "بضمها وإسكان الفوقية" "عن ابن عباس في قصة أحد، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا" يخرجوا "من المدينة وإيثارهم" تقديمهم "الخروج طلبا للشهادة ولبسه" صلى الله عليه وسلم "اللأمة" "بهمزة ساكنة"، ويجوز تخفيفه الدرع، "وندامتهم على ذلك" بعدما دخل بيته، وقول بعضهم: استكرهتم رسول الله، "وقوله صلى الله عليه وسلم" حين خرج وعرضوا عليه القعود "لا ينبغي" لا يجوز "لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" أو يحكم الله بينه وبين عدوه، وفيه: "إني رأيت أن في درع حصينة، الحديث بنحو حديث جابر" المذكور قبله، "وأتم منه" سياقا، "وقد تقدمت الإشارة إليه في غزوة أحد من المقصد الأول". "والمراد بقوله": "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير، وثواب الصدق الذي آتانا"، "بالمد" أعطانا "الله بعد يوم بدر". فتح خيبر وقريظة، "ثم مكة"، "أي ما جاء الله به بعد بدر الثانية" التي بعد أحد، وتسمى بدر الموعد، لتواعدهم عليها بعد فراغ غزوة أحد "من تثبيت قلوب المؤمنين" لأن الناس جمعوا لهم، فزادهم إيمانا وفرق العدو من هيبتهم، فلم يأتوها وأخلفوا الموعد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 قال في فتح الباري: وفي هذا السياق إشعار بأن قوله في الخبر: "والله خير" من جملة الرؤيا. قال: والذي يظهر لي أن لفظ "والله خير" لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هي المحررة، وأنه رأى بقرا ورأى خيرا، فأول البقر على من قتل من الصحابة، يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق في القتال والصبر على الجهاد يوم بدر وبعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد نبه عليه ابن بطال. ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه أتى برطب. روى مسلم عن أنس   "قال في فتح الباري: وفي هذا السياق إشعار، بأن قوله في الخبر" أي الحديث: "والله خير من جملة الرؤيا" زاد الفتح في المغازي، كما جزم به عياض وغيره، "قال" في الفتح هنا: "والذي يظهر لي أن لفظ الله خير لم يتحرر إيراده" من راويه، "وإن رواية ابن إسحاق": "إني رأيت والله خيرا، رأيت بقرا". "هي المحررة" والواو للقسم، وخيرا مفعول رأيت، "وأنه رأى بقرا ورأى خيرا، فأول البقر على من قتل من الصحابة يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق في القتال والصبر على الجهاد يوم بدر" العظمى، "وبعده إلى فتح مكة" وما اتصل به من حنين والطائف، ولم ينظروا إلى ما وقع في أحد، وفي هذا تورك على قول عياض: يستحيل أن المراد غزوة بدر الكبرى لتقدمها على أحد، لأنه لا يمتنع أنها المراد، وأن الرؤيا مؤولة بثواب القتال الواقع قبلها وبعدها، إلى آخر المغازي، كما أشار إليه بقوله: "والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد" بل يم جميع المغازي "نبه عليه ابن بطال". قال الحافظ عقبه: ويحتمل أن يريد ببدر بدر الموعد، لا الواقعة المشهورة، السابقة على أحد، فإن بدر الموعد كان بعد أحد، ولم يقع فيها قتال، وكان المشركون لما رجعوا من أحد، قالوا: موعدكم العام المقبل بدر، فخرج صلى الله عليه وسلم ومن انتدب معه إلى بدر، ولم يحضر المشركون، فسميت بدر الموعد، فأشار بالصدق إلى أنهم صدقوا الموعد ولم يخلفوه، فأثابهم الله تعالى على ذلك بما فتح عليهم بعد ذلك من قريظة وخيبر وما بعدهما. انتهى. وهذا الذي قدمه المصنف باختصار، بقوله: والمراد ... إلخ. هو مختار عياض كما قدمته، ومر في المغازي أن غزوات بدر ثلاثة: الأولى في طلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة، فرجع ولم يلق حربا، والثانية: الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية, وبدر القتال، والثالثة: بدر الموعد، "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام، أنه أتي برطب" في المنام. "روى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت الليلة" الذي رأيته في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن نافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب". فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب، ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام سيفا يهزه، وتعبيره ما روي في حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت في رؤياي   مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كائنا"، "بنون" المتكلم ومعه غيره "في دار عقبة"، "بالقاف"، "ابن رافع"، "بالراء" الأنصاري، الصحابي، له ذكر في هذا الحديث. وأخرجه ابن منده من حديثه، لكنه صحف أباه، فقال ابن نافع، "بالنون"، وتعقبه أبو نعيم وله حديث آخر، وهو: "إذا أحب الله عبدا أحماه الدنيا" أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان، عنه رفعه، قاله في الإصابة ملخصا: "فأتينا برطب من رطب ابن طاب" نوع من أنواع تمر المدينة، منسوب إلى ابن طاب رجل من أهلها، "فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا" أخذا من لفظ رافع، "والعاقبة في الآخرة" أخذا من لفظ عقبة، "وأن ديننا قد طاب" أي قارب الاستقامة، ويناهي صلاحه لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] . وقد قيل: لعل هذه الرؤيا كانت بعد أحد والخندق واستقامة الدين، ويحتمل أنها كانت قبل تبشيرا له صلى الله عليه وسلم بما يكون من حاله وحال الدين، وتأول الرطب بالدين؛ لأنه حلو، في القلوب سهل، لأن الشريعة سمحة كملت بعد تدريج، كما أن الرطب سهل حلو، كمل بعد تدريج من الطلع، إلى أن صار رطبا، قال علماء التعبير: طرق التعبير أربعة: الاشتقاق كما تقدم، والثانية ما يعبر بمثاله ويعتبر بشكله، كدلالة متعلم الكتابة على القاضي والسلطان وصاحب السجن ورئيس السفينة، وعلى الوصي والوالد، والثالثة ما يفسره المعنى المقصود من ذلك الشيء المرئي، كدلالة فعل السفر على السفر، وفعل السوق على المعيشة، وفعل الدار على الزوجة والجارية، والرابعة: التعبير بما تقدم له ذكر في القرآن والسنة والشعر وكلام العرب وأمثالها، وكلام الناس وأمثالهم، أو خبر معروف, أو كلمة حكمة، وذلك كتعبير الخشبة بالمنافق، لقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} [المنافقون: 4] والفأرة بالفاسق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، وتعبير الزجاجة بفم المرأة لتسمية بعض الشعراء إياها بذلك، وكتعبير رؤية الأنبياء والخلفاء بما كان في أيامهم وخاص قصصهم. قاله عياض: "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام سيفا يهزه"، "بضم الهاء" من باب نصر، أي يحركه، "وتعبيره ما روي في حديث أبي موسى" السابق في وسطه، عند مسلم والبخاري في العلامات، واقتصره هنا، فذكر منه هذه القطعة، وبوب عليه: إذا رأى الشخص أنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين". رواه الشيخان. وهذه أيضا من ضرب المثل ولما كان صلى الله عليه وسلم يصول بالصحابة عبر عن السيف بهم، وبهمزة عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وبالهمزة   هز سيفا في المنام، وكذا فعل في غزوة أحد، لكن ذكر بقيته، وهي: "ورأيت فيها بقرا ... إلخ ". أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت" في رواية الكشميهني: أريت "في رؤياي هذه" التي أولها قوله: "رأيت في المنام أني أهاجر". "أني هززت"، "بفتح الهاء والزاي الأولى وسكون الثانية"، "سيفا". وفي رواية الكشميهني: سيفي بالإضافة، وهو ذو الفقار، "فانقطع صدره" , وعن ابن إسحاق: "ورأيت في ذباب سيفي ثلما". وعند ابن سعد من مرسل عروة والبيهقي في الدلائل، موصولا عن أنس: "ورأيت سيفي ذا الفقار قد انقصم". "فإذا هو" أن تعبيره "ما أصيب به المؤمنون يوم أحد" من قتل سبعين وفي رواية عروة: كأن الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه. وقال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم: قال: "وأما الثلم في لسيف، فهو رجل من أهل بيتي يقتل" ولا خلف، فإن ذلك مما أصيب به المؤمنون، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيحين أصح، "ثم هززته أخرى". قال القاضي عياض: وكذا رويناه من طريق العذري وابن هامان "بزائين" في الموضعين، يعني هذا وما قبله، قال: ووقع في طريق غيرهم في الموضعين: هززته بتشديد الزاي، وهي لغة بكر بن وائل "فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح" لمكة "واجتماع المؤمنين" وإصلاح حالهم. قال القرطبي: يعني ما يفتح الله به بعد أحد، فإنهم لم يكلوا من الجهاد، وما ضعفوا بما أصابهم فيها، بل خرجوا صبيحتها ونزلوا حمراء الأسد، مستظهرين على عدوهم، ولم يزل أمرهم مجتمعا، وإيمانهم يعلو ويقوى. "رواه الشيخان:" مسلم جزما برفعه في جملة الحديث المشتمل على ثلاثة أمور، والبخاري بهذه القطعة منه في التعبير، بلفظ: أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم "بضم الهمزة" أي أظنه، ومر قول الحافظ الشك من البخاري، ورواه مسلم وغيره جزما، عن أبي كريب محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه، "وهذه" الرؤيا كما قال المهلب "أيضا من ضرب المثل" المحتاجة إلى التعبير، "و" وجهه أنه "لما كان صلى الله عليه وسلم يصول" يثب "بالصحابة" على القتال "عبر عن السيف" أي أوله "بهم وبهمزة" أي عبر عنه "عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه" أي السيف، وهو تفسير للثلم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 الأخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم. وقال أهل التعبير: السيف يصرف على أوجه، منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، إما ولاية وإما وديعة، وإما زوجة وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، وإن سلما أو عطبا فكذلك. وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله بالأم وذوي الرحم وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده في خصومة، وربما عبر السيف بسلطان جائر. وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا فإنه يتزوج، أو ضرب   "بالقتل فيهم، وبالهمزة الأخرى، لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم" بالفتوحات والنصر، ونحوه قول القرطبي: هزه حمله إياهم على الجهاد, وإنما أول قطع صدره بمن قتل يوم أحد، لأنهم كانوا معظم عسكره وصدره إذا كان فيهم عمه حمزة وغيره من أشراف المهاجرين والأنصار، واقتبس صدر القوم بصدر السيف، وأول القطع الذي رأى فيه بقطع أعمال المقتولين. وقال عياض: هذه الرؤيا بخلاف الأولى، أي رؤيا الهجرة، لأن تلك خرجت على وجهها، وهذه أولها بما ذكر، لأن سيف الرجل أنصاره الذين يصول بهم كما يصول بسيفه، وقد يكون سيفه ولده، أو والده، أو أخاه، أو عمه، أو زوجته، وقد يدل على الولاية والوديعة، وعلى لسان الرجل وحجته، وعلى سلطان جائر، كل ذلك بحسب القرائن التي تصحب الرؤيا وتشهد لأحد هذه الوجوه، كما أول ذلك هنا بأصحابه لقرينة محاربتهم. "وقال أهل التعبير: السيف يصرف" في تعبيره "على أوجه" بحسب القرائن، "منها: أن من نال سيفا، فإنه ينال سلطانا إما ولاية، وإما وديعة، وإما زوجة" ظاهرة، عزبا كان أو متزوجا ووقع في كلام المصنف تقييده بما إذا كان عزبا، "وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم" "بنون فمثلثة" انكسر "سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف، فبالعكس" يسلم ولده وتموت زوجته، "وإن سلما أو عطبا فكذلك" أي يصابان معا إن عطب الغمد والسيف، ويسلمان جميعا إن سلما، "وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله" الحديدة التي في أسفل غمده يتعلق بالأم وذوي الرحم" كالخالة، "وإن جرد السيف وأراد قتل شخص، فهو لسانه يجرده في خصومة، وربما عبر السيف بسلطان جائر". "وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا، فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه ومن رأى سيفا عظيما فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره. ومن ذلك: رؤياه عليه الصلاة والسلام أنه على قليب. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم، رأيت أني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها   بسيف، فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما، فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره" وإن رأى أنه يجر حمائله، فإنه يعجز عنه كما في الفتح. "ومن ذلك رؤياه عليه الصلاة والسلام أنه على قليب" "بفتح القاف وكسر اللام وسكون التحتية وموحدة" بئر لم يطو، "عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "بينا" بغير ميم، كما قال المصنف في مواضع: "أنا نائم رأيت على قليب" بئر مقلوب ترابها قبل الطي، هكذا رواه سعد بن المسيب عن أبي هريرة. وفي رواية همام، عنه: على حوض أسقي الناس، وجمع بأن الحوض هو الذي يجعل بجانب البئر لتشرب منه الإبل، فلا منافاة، وكأنه كان يملأ من البئر، فيسكب في الحوض والناس يتناولون الماء لأنفسهم ولبهائمهم "وعليها دلو، فنزعت"، "بسكون العين"، "منها ما شاء الله" أن أنزع، "ثم أخذها ابن أبي قحافة"، "بضم القاف وخفة المهملة فألف ففاء" أبو بكر الصديق عبد الله ن عثمان رضي الله عنهما، "فنزع" أخرج "منها" من البئر "ذنوبا أو ذنوبين"، "بفتح المعجمة" فيهما الدلو الممتلئ، والشك من الراوي، هكذا رواه الأكثر. وفي رواية همام وأبي يونس مولى أبي هريرة عند مسلم، كلاهما عن أبي هريرة: ذنوبين بلا شك. قال الحافظ في المناقب: اتفق من شرح هذا الحديث على أن ذكر الذنوب إشارة إلى مدة خلافته، وفيه نظر؛ لأنه ولي سنتين وبعض سنة، فلو كان ذلك المراد، لقال: ذنوبين أو ثلاثة، والذي يظهر أن ذلك إشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار، وهي ثلاثة ولذا لم يتعرض في ذكر عمر إلى عدد ما نزعه من الدلاء، وإنما وصف بالعظمة إشارة إلى كثرة ما وقع في خلافته من الفتوحات، وفي الأم للشافعي: معنى قوله: "وفي نزعه ضعف" قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والازدياد، الذي بلغه عمر في طول مدته، فجمع ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 عمر بن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن لخطاب حتى ضرب الناس بعطن". وعبقري القوم: سيدهم وكبيرهم وقويهم. وفي رواية: "فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر". وفي رواية: "وأتاني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليريحني".   تفرق في كلام غيره. ويؤيده حديث ابن مسعود عند الطبراني، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما عبرتها يا أبا بكر؟ "، قال: إليّ الأمر من بعدك، ثم يليه عمر، قال: "كذلك عبرها الملك". وفيه أيوب بن جابر، وهو ضعيف، "والله يغفر له" إشارة إلى أن ضعفه المراد به الرفق غير قادح فيه، أو المراد بالضعف ما وقع في أيامه من أمر الردة واختلاف الكلمة، إلى أن اجتمع ذلك في أواخر أيامه، وتكمل في زمان عمر، وإليه الإشارة بالقوة. وفي حديث سمرة أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا من السماء دليت، فجاء أبو بكر فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فشرب حتى تضلع، ففي هذه إشارة إلى بيان المراد بالنزع الضعيف والنزع القوي، "ثم استحالت" أي تحولت الدلو "غربا"، "بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وموحدة" أي دلوا عظيما، "فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا" أي سيدا عظيما قويا "من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن"، "بفتح المهملتين آخره نون" ما يعد للشرب حول البئر من مبارك الإبل، والمراد شربت الإبل بعطن بأن بركت، والعطن للإبل كالوطن للناس، لكن غلب على مبركها حول الحوض. "وعبقري القوم سيدهم وكبيرهم وقويهم" وقيل: الأصل أن عبقر أرض تسكنها الجن فيما يزعمون، فكما رأوا شيئا فائقا غريبا مما يصعب علمه ويدق، أو ينشأ عظيما في نفسه، نسبوه إليه، ثم اتسع فيه، فسمي به السيد والكبير والقوي، وهو المراد هنا. "وفي رواية" عند البخاري، عن همام، عن أبي هريرة: "فأتى ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم يزل ينزع" يستخرج الماء من البئر بالدلو "حتى تولى الناس" أعرضوا "والحوض يتفجر" يتدفق منه الماء ويسيل. "وفي رواية" هي رواية همام المذكورة: "وأتاني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليريحني من التعب، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى ابن الخطاب فأخذ" ... إلخ، فلو قال المصنف: وفي رواية: وأتاني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليريحني، إلى أن قال في عمر: فلم يزل ينزع ... إلخ، كان أحسن، لأن كلامه يوهم أنهما روايتان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 وفي رواية موسى عن سالم عن أبيه: "رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب فاستحالت غربا، فما رأيت من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن". رواه البخاري. قال النووي: قالوا هذا المنام مثال لم جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما   "وفي رواية موسى" بن عقبة "عن سالم" بن عبد الله بن عمر "عن أبيه" مرفوعا: "رأيت الناس" في المنام "اجتمعوا" على بئر "فقام أبو بكر" في هذه الرواية اختصار. وفي رواية نافع عن ابن عمر عند البخاري قال: قال صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا على بئر أنزع منها، جاءني أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو". وفي رواية أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عن جده مرفوعا عند البخاري أيضا: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع" أبو بكر "ذنوبا أو ذنوبين" شك الراوي "وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب". وفي رواية نافع: "ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر". "فاستحالت" تحولت الدلو "غربا" أي انقلبت من الصغرى إلى الكبرى، "فما رأيت من الناس" وللكشميهيني: "فما رأيت في الناس"، وفي رواية نافع: "فلم أر عبقريا من الناس يفري"، "بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر الراء"، "فريه"، "بفتح الفاء وسكون الراء وتخفيف التحتية" ولأبي ذر: من يفري فريه "بكسر الراء وشد التحتية" أي يعمل عملا جديا صالحا عجيبا، كذا قاله المصنف هنا، لكن قال الحافظ في المناقب: روي فريه "بسكون الراء" وخطأه الخليل. انتهى. وهو مخالف لقول عياض: ضبطناه "بسكون الراء وبكسرها وتشديد الياء" وأنكر الخليل التشديد وخطأ قائله، والمعنى: يعمل عمله ويقوى قوته، وأصل الفري القطع، يقال: فلان يفري الفرى، أي يعمل العمل البالغ، ومنه: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} ، أي عظيما، يقال: فريت إذا قطعت على وجه الصلاح، وأفريت إذا فعلت الفساد، "حتى ضرب الناس بعطن", "بفتحتين"، أي رويت إبلهم. وعند البخاري في المناقب من طريق أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عن جده: حتى روى الناس، وضروبا بعطن، وهو عند أبي بكر بن أبي شيبة بلفظ: فما قب عمر حتى روى الناس وضربوا بعطن، وأقامت في مكانها حتى بركت، "رواه" أي المذكور من حديثي أبي هريرة بالروايتين، "وابن عمر "والبخاري" في مواضع من التعبير والمناقب من طرق وروى الحديثين أيضا مسلم في الفضائل من طرق. "قال النووي قالوا:" أي: العلماء ومراده العز، ولجمع لا التبري، "هذ المنام مثال لما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام في زمنه. فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم، وأميرهم المسقي لهم منها، وفي قوله: "فأخذ الدلو من يدي ليريحني" إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأن الموت راحة من كد الدنيا، وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم. وأما قوله: "وفي نزعه ضعف" فهو إخبار عن حاله في قصر مدة ولاته، وأما ولاية   جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر قواعد الدين" وفتح الله على يديه أمصار الكفر، مكة وخيبر والمدينة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالهما، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان، والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، "ثم خلفه، أبو بكر، فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم" فلما فرغ منهم أخذ في قتال الكفار، ففتح على يديه بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، "ثم خلفه عمر، فاتسع الإسلام في زمنه" ففتح على يديه البلاد الشامية كلها، ومصر والعراق وأكثر أقليم فارس، وكسر كسرى وفر إلى أقصى مملكته وفر هرقل إلى القسطنطينية، "فشبه أمر المسلمين بقليب" بئر "فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وأميرهم المسقي لهم منها". وقال البيضاوي: أشار بالبئر إلى الدين الذي هو منبع ما به حياة النفوس وتمام أمر المعاش والمعاد، والنزع منه إخراج الماء إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه. "وفي قوله: فأخذ الدلو من يدي ليريحني إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم لأن الموت راحة من كد الدنيا وتعبها" خصوصا لمثله، ولذا لما قالت فاطمة في مرض موته: واكرب أبتاه، قال صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم". "فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم" أتم قيام. وفي حديث: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة". "وأما قوله: "وفي نزعه ضعف". فهو إخبار عن حاله في قصر مدة ولايته" لأنها كانت سنتين وثلاثة أشهر، والاضطراب الذي وجد في زمنه من أهل الردة وفزارة وغطفان وبني يربوع وبعض تميم وكندة وبكر بن وائل وأتباع مسيلمة الكذاب، وإنكار بعض الزكاة، فدعا له بالمغفرة ليتحقق السامعون أن الضعف الذي وجد في نزعه هو من مقتضى تغير الزمان، لا أن ذلك منه، لكن نسب إليه إطلاقا لاسم المحل على الحال، وهو مجاز شائع في كلام العرب، فليس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس في قوله: "والله يغفر له" نقص، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، وإنما هي كلمة كانوا يقولونها. وقوله: "فاستحالت في يده غربا" أي تحولت الدلو غربا -بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة- أي: دلوا عظيمة. وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة بن جندب أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب   الضعف، وهنا في عزيمته، ولا خطأ من فضله عن عمر لقلة نزعه عن نزع عمر، بل هو إخبار عن حسن ولايته، والدعاء له بالمغفرة إعلام بأن الله جازاه على ما عاناه من حرب أهل الردة، فلا يظن أنه لتقصير وقع منه. "وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس في قوله: "والله يغفر له". نقص، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب وإنما هي كلمة كانوا يقولونها" يدعمون بها الكلام، أي يقومونه. هكذا قال النووي تبعا لقول عياض: الأشبه عندي أن قوله: "والله يغفر له". دعامة للكلام ووصلة له، وقد جاء في الحديث، أنها كلمة كان المسلمون يقولونها، يقولون: افعل هذا والله يغفر لك، مثل قولهم: تربت يمينك وقاتله الله. وقوله: "فاستحالت في يده" لم يذكرها فيما قدم، لكنها ثابتة في رواية نافع، عن ابن عمر عند البخاري "غربا"، "أي تحولت الدلو غربا بفتح المعجمة وسكون الراء، بعدها موحدة" أي: دلوا عظيمة" فتحولت من الصغر إلى الكبر. "وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة" "بضم الميم" "ابن جندب" بن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور له أحاديث، مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين "أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي" بضم المهملة وشد اللام أي أرسل "من السماء" إلى الأرض، "فجاء أبو بكر، فأخذ بعراقيها" "بكسر المهملة وفتح القاف" خشبتان تجعلان على فم الدلو، متخالفتان لربط الدلو، "فشرب شربا ضعيفا" أي قليلا، "ثم جاء عمر، فأخذ بعراقيها، فشرب حتى تضلع" "بضاد معجمة" أي ملأ أضلاعه كناية عن الشبع، "ثم جاء عثمان، فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع" أي شبع، وقد طالت مدة ولايته عن عمر، وفتح في زمانه مدائن العراق وخراسان والأهواز وبلاد المغرب بتمامها، ومن المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، "ثم جاء علي فانتشطت"، "بضم المثناة وكسر المعجمة، بعدها طاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 حتى تضلع، ثم جاء علي فانتشطت وانتضح عليه منها شيء. والعراقي: جمع عرقوة، وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان كالصليب، وقد: عرقيت الدلو إذا ركبت العرقوة فيها. وانتشطت: أي جذبت ورفعت. فهي نبذة من مرائيه الكريمة صلى الله عليه وسلم. وأما ما رآه غيره فعبر صلى الله عليه وسلم له بما يخص ويعم من أمور الدنيا والآخرة.   مهملة" أي نزعت منه، فاضطرب وسقط بعض ما فيها أو كله، "وانتضح" أي رش "عليه منها شيء" قليل. قال ابن العربي: حديث سمرة يعارض حديث ابن عمر، أو هما خبران، قال الحافظ: الثاني هو المعتمد، فحديث ابن عمر مصرح بأنه صلى الله عليه وسلم هو الرائي، يعني: وكذا حديث أبي هريرة وحديث سمرة سابقة، فنزل الماء من السماء وهو خزانته، فاسكن في الأرض كما يقتضيه حديث سمرة، ثم أخرج منها الدلو، كما دل عليه حديث ابن عمر، أي وأبي هريرة، وفي حديث سمرة إشارة إلى نزول النصرة من السماء على الخلفاء. وفي حديث ابن عمر إشارة إلى استيلائهم على كنوز الأرض بأيديهم، وكلاهما ظاهر في الفتح التي فتحوها، وفي حديث سمرة زيادة إشارة إلى ما وقع لعلي من الفتن والاختلاف عليه، فإن الناس أجمعوا على خلافته، ثم لم يلبث أهل الجمل أن خرجوا عليه، وامتنع معاوية في أهل الشام، ثم حاربه بصفين، ثم غلب بعد قليل على مصر، وخرجت الحرورية على علي، فلم يحصل له في أيام خلافته راحة، فضرب المنام المذكور مثالا لأحوالهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين. "والعراقي جمع عرقوة" "بفتح العين وإسكان الراء وضم القاف وفتح الواو، ولا تضم العين"، قال الجوهري: لأن فعلوة إنما تضم إذا كان ثانيه نونا مثل عنصرة، "وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان،" أي خشبتان تعرضان على الدلو "كالصليب، وقد عرقيت" "بتحتية ففوقية" "الدلو، إذا ركبت العرقوة فيها وانتشطت، أي جذبت" سحبت "ورفعت، فهذه نبذة" شيء قليل "من مرائيه الكريمة صلى الله عليه وسلم" وإلا فهي كثيرة جدا "وأما ما رآه غيره، فعبره صلى الله عليه وسلم له بما يخص" الرائي، "ويعم" أي يشمله ويشمل غيره "من أمور الدنيا والآخرة" فكثير لا يحصر، وإذا أردت بعضه "فقد كان" فجواب الشرط محذوف، والمذكور جواب شرط مقدر، إذ لا يظهر كونه جوابا للمذكور إلا أن يقال لما كان سببا لتفسير رؤيا الغير جعله جوابا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الصبح أقبل على أصحابه فقال: "من رأى منكم الليلة رؤيا فليقصها عليّ أعبرها له"، فيقص الناس عليه مرائيهم. وروى البخاري والترمذي عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا"؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال ذات غداة: "هل رأى أحد منكم رؤيا"؟، فقالوا: ما أحد رأى   أو يقدر فيه، فهو ما تضمنه قولي: فقد كان "صلى الله عليه وسلم إذا انفتل"، "بهمزة وصل ونون ساكنة وفاء ففوقية مفتوحتين فلام" أي التفت "من صلاة الصبح" بعد السلام وما يليه من الأذكار، ولذا لم يقل فرغ لئلا يوهم التفاته بمجرد الفراغ، "أقبل على أصحابه" أي جعل وجهه إليهم، فقال: "من رأى منكم الليلة" أي الماضية "رؤيا فليقصها علي أعبرها له"، "فيقص الناس عليه مرائيهم" أي: ما يرونه في منامهم: جمع مرأى "بفتح فسكون" وهو محل الرؤيا، فالرؤيا إدراكه في منامه، والمرأة ما تعلقت به تلك الرؤيا. "وروى البخاري" في التعبير والجنائز تاما، وروى أطرافا منه في مواضع، ومسلم قطعة من أوله، "والترمذي" تاما، "عن سمرة بن جندب" "بضم الدال وفتحها" "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم" زاد في الجنائز: الليلة "رؤيا" مقصور غير منصرف، ويكتب بالألف، ولفظ البخاري كان مما يكثر. قال الطيبي: مما خبر كان، وما موصولة، ويكثر صلته، والضمير الراجع إلى ما فاعل يقول. وقوله: أن يقول فاعل يكثر، و "هل رأى أحد منكم" هو المقول، أي رسول الله من الذين يكثر منهم هذا القول، فوضع ما موضع من تفخيما وتعظيما، كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، أو تقديره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيد تأويل الرؤيا، وكان له مساهمة فهم، لأن الإكثار من هذا القول لا يكثر إلا من تدرب فيه بإصابته، كقوله: كان زيد من العلماء بالنحو، ومنه قول صاحبي السجن ليوسف: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، أي المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلما ذلك لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن، هذا من حيث البيان، وأما من طريق النحو، فيحتمل أن قوله: "هل رأى أحد منكم من رؤيا" مبتدأ، والخبر مقدم عليه على تأول هذا القول مما يكثر رسول الله أن يقوله، ومال في الفتح إلى ترجيح الوجه السابق، والمتبادر وهو الثاني، وهو الذي اتفق عليه أكثر الشارحين "فيقص عليه من شاء الله أن يقص" "بفتح الياء وضم القاف فيهما" كذا في رواية النسفي، وفي رواية غيره: ما، وهي للمقصوص ومن للقاص، قاله كله المصنف، "وأنه قال ذات غداة" بإقحام لفظ ذات أو هو من إضافة المسمى إلى اسمه، أو من إضافة الجزء إلى الكل، وهذا أولى؛ لأن السؤال لم يقع في جميع الغداة، وعليه فهو صفة لمحذوف، أي ساعة صاحبة غداة؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 شيئا، قال: "لكني أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني فقالا لي: انطلق، فانطلقت فأتيا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه"، الحديث. وأقام عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه: "هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا"؟.   "هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "، فقالوا: ما منا أحد رأى شيئا، قال: "لكني أتاني الليلة آتيان"، "بمد الهمزة وكسر الفوقية" وعند ابن أبي حاتم من حديث علي: ملكان. وفي الجنائز: "رأيت الليلة رجلين أتياني". وقال في آخر الحديث: إنهما جبريل وميكائيل. قال الطيبي: وجه الاستدراك أنه كان يحب أن يعبر لهم الرؤيا، فلما قالوا: ما رأينا، كأنه قال: أنتم ما رأيتم، لكني رأيت. انتهى. وإيضاحه أنه استدراك على ما يتوهم من أنه لو سكت لم يكن رأى شيئا ومنشأ التوهم حبه لتعبير ما يراه هو أو غيره و"الليلة" بالنصب على الظرفية، والمعنى: أتاني في الليلة الماضية، وإلا فمعلوم أنه وقت الإخبار كان في النهار لا في الليل، "وإنهما ابتعثاني" بموحدة ساكنة ففوقية فمهملة فمثلثة فألف فنون". كذا رواه الأكثر للكشميهني انبعثا بي "بنون فموحدة وبعد الألف موحدة"، قا الجوهري: بعثه وابتعثه أرسله، وقال ابن هبيرة: معنى ابتعثاني أيقظاني، ويحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه، فرأى ما رأى في المنام، ووصفه بعد أن أفاق على أن منامه كاليقظة، لكن لما رأى مثالا كشفه التعبير دل على أنه كان مناما، "فقالا لي: انطلق"، "بكسر اللام"، "فانطلقت" لفظ البخاري في التعبير: "وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما". وفي الجنائز: "رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة". وعند أحمد: "إلى أرض فضاء، أو أرض مستوية". وفي حديث علي عند ابن أبي حاتم: "فانطلقا بي إلى السماء، فأتيا على رجل مضطجع" وفي الجنائز: مستلق على قفاه "وإذا آخر قائم عليه بصخرة" وفي الجنائز: بفهر أو صخرة بالشك. وفي حديث علي: "فمررت على ملك وأمامه آدمي، وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي"، "وإذا هو يهوي بالصخرة"، "بفتح أوله وكسر الواو" أي يسقط، يقال: هوى "بالفتح" يهوي هويا، سقط إلى أسفل، وضبطه ابن التين "بضم أوله" من الرباعي، يقال: أهوى من بعد، وهوى "بفتح الواو" من قرب "لرأسه، فتثلغ" الصخرة "رأسه"، "بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح اللام فغين معجمة" أي تشدخه، وفي الجنائز: فتشدخ به، والشدخ كسر الشيء الأجوف. وقد فسره الملكان بأنه الرجل يأخذ القرآن، فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة. وفي الجنائز: "وأما الذي رأيت تشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 ما شاء الله تعالى، ثم ترك السؤال، فكان يعبر لمن قص متبرعا. واختلف النقلة في سبب تركه السؤال: فقيل: سبب ذلك حديث أبي بكرة -عند الترمذي وأبي داود- أنه صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا"؟ , فقال رجل: أنا يا رسول الله! رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبي بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فمن حينئذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا عن رؤيا. قال بعضهم: وسبب كراهته عليه الصلاة والسلام إيثاره لستر العواقب وإخفاء المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض   يعمل بما فيه بالنهار، يعمل به إلى يوم القيامة، أي ما رأيت" الحديث، رواه البخاري مطولا في التعبير من طريق عوف، وقبله في الجنائز من طريق جرير بن أبي حازم، كلاهما عن أبي رجاء، عن سمرة بنحو ورقتين، فذكره بشرحه فيه طول، وبدونه لا فائدة فيه. "وأقام عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه" بقوله: "هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا"؟. "ما شاء الله تعالى" أي مدة مشيئته، "ثم ترك السؤال، فكان يعبر لمن قص" أي لمن ذكر ما رآه له "متبرعا" من غير أن يسأل أحدا. "واختلف النقلة في سبب تركه السؤال، فقيل: سبب ذلك حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث الثقفي، وقيل: اسمه مسروح، أسلم بالطائف، ثم نزل بالبصرة ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وخمسين. "عند الترمذي وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم" كان يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها، وأنه "قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا"؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله" رأيت رؤيا، "رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بأبي بكر ووزن". وفي رواية: ثم وزن "أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر" على عمر "ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر" على عثمان، هكذا في نسخ صحيحة، وفي بعضها: فرجح عثمان بنصبه مفعول رجح وفاعله مستتر، أي: فرجح عمر عثمان، "ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهة" ظهرت "في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي رواية: فانساء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "خلافة نبوة, ثم يؤتي الله الملك من يشاء". "قالوا: فمن حيئنذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدا عن رؤيا". "قال بعضهم: وسبب كراهته عليه الصلاة والسلام إيثاره لستر العواقب وإخفاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 في التعيين خشي أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ في الكشف من ذلك، ولله في ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة. وقال ابن قتيبة -فيما ذكر ابن المنير: سبب تركه السؤال حديث ابن زمل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال صلى الله عليه وسلم وهو ثاني رجليه: "سبحان الله وبحمده وأستغفر الله، إن الله كان توابا". سبعين مرة، ثم يقول: "سبعون بسبعمائة، لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم أكثر من سبعمائة". ثم يستقبل الناس بوجهه فيقول: "هل رأى أحد منكم شيئا؟ ". قال ابن زمل: فقلت ذات يوم: أنا يا رسول الله! قال: "خير تلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك". قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب لاحب سهل، والناس على الجادة منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى ذلك الطريق بهم على مرج لم تر عيني مثله،   المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم، مبينة لفضل بعضهم على بعض في التعيين، خشي أن يتواتر ويتوالى" يتتابع "ما هو أبلغ في الكشف من ذلك، ولله في ستر خلقه" أي المخلوقين بإيجاده "حكمة بالغة" أي تامة "ومشيئة نافذة" "بمعجمة" أي ماضية. "وقال ابن قتيبة" عبد الله بن مسلم الدينوري "فيما ذكر ابن المنير" في معراجه "سبب تركه السؤال حديث ابن زمل" "بكسر الزاي وسكون الميم ولام" الجهني، واسمه عبد الله على الأصح، صحابي جزما، كما مر عن الإصابة، وأنه لا عبرة بقول القاموس: تابعي، مجهول، غير ثقة وقول الصغاني، صحابي غلط، وأنه هو الغالط. وقد أنصف من قال فيه: لكثرة دخوله فيما لا يعنيه كثر الغلط فيه، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح، قال صلى الله عليه وسلم وهو ثاني رجليه: "سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله" "بالواو" عند ابن قتيبة، وعند غيره بلا واو، "إن الله كان توابا". "سبعين مرة"، ثم يقول: "سبعون بسبعمائة" لأن الحسنة بعشر أمثالها، "لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم أكثر من سبعمائة". "ثم يستقبل الناس بوجهه" أي يجعل وجهه إليهم، فيقول: "هل رأى أحد منكم شيئا" في منامه، "قال ابن زمل: فقلت ذات يوم: أنا يا رسول الله"، قال: رؤياك "خير تلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك". حدث بها على وجهها، "قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب" "براء مفتوحة فمهملة ساكنة فموحدة" أي: واسع "لاحب" "بلام فمهملة مكسورة" واضح "سهل" أي: لا صعوبة فيه "والناس على الجادة" "بجيم فألف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 يرف رفيقا، يقطر نداه، فيه من أنواع الكلأ، فكأني بالرعلة الأولى حين أشرفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق فلم يضلوه يمينا ولا شمالا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا في المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى آدم، إذا هو تكلم يسمو، يكاد يفرع الرجال طولا، وإذا عن يسارك رجل ربعة تار أحمر، كثير خيلان الوجه، إذا هو تكلم أصغيتم   فمهملة مفتوحة ثقيلة فتاء تأنيث،" أي وسط الطريق "منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى"، "بفتح الهمزة وإسكان المعجمة ففاء فياء تحتية" أي أشرف "ذلك الطريق بهم على مرج"، "بفتح الميم وسكون الراء وجيم" موضع ترعى فيه الدواب، "لم تر عيني مثله يرف"، "بفتح التحتية وكسر الراء ففاء"، "رفيقا" أي يكثر ماؤه "يقطر نداه فيه من أنواع الكلأ"، "بكاف فلام مفتوحتين فهمزة" عشبه ونباته ويابسه، "فكأني بالرعلة"، "براء مفتوحة فعين مهملة ساكنة فلام فتاء تأنيث" القطعة من الفرسان "الأولى حين أشرفوا"، الرواية عند ابن قتيبة الذي هو نافل عنه: أشفوا "بفتح فسكون ففاء" بمعنى أشرفوا، فذكره المصنف بالمعنى "على المرج كبروا، ثم أكبو"، أي أرسلوا "رواحلهم في الطريق, فلم يضلوه" أي لم يخرجوا عنه "يمينا ولا شمالا". زاد في رواية: فكأني أنظر إليهم منطلقين، "ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا" أشرفوا وأطلقوا "على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع"، "بضم الميم وسكون الراء وكسر الفوقية" أي الذي يخلي ركابه ترتع، أي: تسعى وترعى كيف شاءت ومنهم الآخذ الضغث"، "بكسر المعجمة وإسكان المهملة، فمثلثة" قبضة من حشيش مختلط, "ومضوا على ذلك، قال: ثم قدم عظم"، "بضم فسكون" أكثر "الناس فلما أشفوا على المرج كبروا" فرحا، "وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا في المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى" أبعد "المرج فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى"، "بقاف ونون"، قال ابن الأثير: هو السائل الأنف، المرتفع وسطه، وقيل: هو نتوء في وسط القصبة، والأول أولى بالمدح "آدم"، "بالمد" أي أسمر، "إذا هو تكلم يسمو" يعلو ويرتفع على جلسائه، "يكاد يفرع"، "بفتح الياء وسكون الفاء وفتح الراء وعين مهملة" أي: يعلو، "الرجال طولا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 إليه إكراما له، وإذا أمام ذلك شيخ كأنكم تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله. قال: فانتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سري عنه، فقال: "أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل، فذلك ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها، وأما الرعلة الثانية والثالثة -وقص كلامه- فإن لله وإنا إليه راجعون، وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني، وأما المنبر فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم فذلك موسى، نكرمه بفضل كلام الله إياه، وأما الرجل الربعة التار فذلك عيسى عليه السلام نكرمه بفضل منزلته من الله، وأما   وإذا عن يسارك رجل ربعة"، "بفتح الراء وسكون الموحدة" وقد تفتح، أي ليس بالطويل ولا بالقصير "تار"، "بفوقية فألف فراء ثقيلة"، "أي مسترخ من جوع أو غيره، "أحمر كثير خيلان" جمع خال، أي شامات "الوجه". زاد في رواية: كأنه حمم شعره بالماء، "إذا هو تكلم أصغيتم" أملتم سمعكم ورأسكم "إليه" تسمعوا كلامه "إكراما له، وإذا أمام" قدام "ذلك شيخ كأنما تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء"، "بفتح العين المهملة وسكون الجيم ففاء فهمز ومد" مهزولة "شارف"، "بمعجمة فألف فراء ففاء" أي مسنة "وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله! قال: فانتقع"، "بنون ففوقية فقاف" مبني للمجهول، أي تغير "لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة" قطعة من الزمان "ثم سري" أي كشف "عنه، فقال": "أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل فذلك" أي تعبيره "ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فلدنيا وغضارة"، "بفتح المعجمتين فألف فراء فتاء تأنيث" طيب "عيشها" ولذاته وخصبه، "لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها". كذا في رواية ابن قتيبة، وفي رواية غيره: "مضيت أنا وأصحابي، لم نتعلق منها، ولم تتعلق منا ولم نردها". "وأما الرعلة الثانية والثالثة". "وقص" أي: ذكر "كلامه". "فإنا لله وإنا إليه راجعون" أسف من تهافتهم على الدنيا وانهماكهم عليها فاسترجع "وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني" تعبير لقوله: لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج فإذا أنا بك. "وأما المنبر، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم، فذلك موسى نكرمه" نحن، أي: نعظمه "بفضل كلام الله إياه" مثله في رواية ابن قتيبة. وفي رواية غيره: "فذلك موسى إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله تعالى إياه". وهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 الشيخ الذي رأيت كأننا نقتدي به فذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الناقة العجفاء الشارف التي رأيتني أبعثها فهي الساعة عليها -أي على الأمة- تقوم، لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي". قال الراوي: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحدًا عن رؤيا، إلا أن يجيء الرجل متبرعا فيحدثه بها. رواه ابن قتيبة والطبراني والبيهقي في الدلائل وسنده ضعيف جدا. ومن غرائب ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من التعبير، أن زرارة بن عمرو النخعي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد النخع، فقال: يا رسول الله، إني رأيت في طريقي هذا رؤيا، رأيت أتانا تركتها في الحي ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك من امرأة تركتها مصرة حملا؟ " قال: نعم، تركت أمة   المناسب لتعبير قوله: إذا تكلم يعلو، "وأما الرجل الربعة التار"، "بالفوقية"، أي المسترخي "فذلك" أي تعبيره "عيسى عليه السلام" وذلك مناسب لحاله، فإنه كثير الصيام والسياحة وعبادة الله، فيسترخي من ذلك "نكرمه" نعظمه بالإصغاء إليه "بفضل منزلته من الله". "وأما الشيخ الذي رأيت كاننا نقتدي به، فذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] "وأما الناقة العجفاء الشارف الذي رأيتني أبعثها فهي الساعة عليها -أي على الأمة- تقوم, لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي، قال الراوي: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحد عن رؤيا إلا أن يجيء الرجل متبرعا" يقص منامه عليه من غير سؤال "فيحدثه بها"، أي يعبرا له. "رواه ابن قتيبة" بإسناده، واقتصر ابن المنير على عزوه له، وزاد المصنف "والطبراني" في الكبير "والبيهقي في الدلائل" النبوية، "وسنده ضعيف جدا" ولا يلزم منه أن ابن زمل ليس بصحابي، إذ ضعف الدليل لا يضعف المدلول. "ومن غرائب ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من التعبير أن زرارة"، "بضم الزاي"، "ابن عمرو"، "بفتح العين"، وسماه ابن الكلبي زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي "النخعي"، "بفتح النون والخاء المعجمة" نسبة إلى النخع قبيلة من مذحج من اليمن، "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد النخع" في نصف المحرم سنة إحدى عشرة، قاله أبو حاتم، وبه جزم ابن سعد عن الواقدي. وقال أبو عمر: قدم زرارة في نصف رجب سنة تسع، وجمع باحتمال قدومه وحده في هذا التاريخ، ثم قدم مع قومه في التاريخ المبدأ به وهو سنة قدوم قومه وكانوا آخر الوفود، "فقال: يا رسول الله إني رأيت في طريقي هذا رؤيا" زاد في رواية، هالتني، وفي أخرى، رأيت في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 أظنها قد حملت، قال: "قد ولدت غلاما وهو ابنك"، قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه؟ " قال: نعم والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به أحد، قال: فهو ذاك". قال: ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان ودملجان ومسكتان، قال: "ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته". قال: ورأيت عجوزا شمطاء، تخرج من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا". قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، آكلكم آكلكم وأهلكم ومالكم فقال   سفري هذا عجبا، "رأيت أتانا"، "بفوقية ونون" الأنثى من الحمير، ولا يقال: إتانة، قاله ابن السكيت "تركتها في الحي" وفي رواية: خلفتها في أهلي, "ولدت جديا" الذكر من أولاد المعز "أسفع" بفتح فسكون ففتح أسود مشرب بحمرة "أحوى" كالتأكيد لما قبله، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من امرأة تركتها مصرة حملا؟ "، "اسم فاعل من أصر على الشيء أقام عليه"، والمراد أن حملها محقق ثابت، "قال: نعم تركت أمة أظنها قد حملت، قال: "قد ولدت غلاما وهو ابنك" جملة استئنافية دفع بها ما قد يدخل عليه من الريبة إذا رأى اللون الغريب، "قال: فما باله أسفع أحوى", أي ما الحال الداعي إلى مجيئه بهذا اللون المخالف للون أبيه، "قال: ادن مني، فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه؟ " استفهام تقريري أريد به طلب اعترافه به ليرتب عليه الجواب، فيكون ألزم للحجة، وأمره بالقرب منه لعلمه أنه يخفيه، "قال: نعم" هو بي، ولكن "والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق، ولا علم به أحد" غيرك، فهذا من آياته صلى الله عليه وسلم "قال: "فهو ذاك" أي اللون الذي في ابنك أثر البرص الذي فيك. "قال" زرارة: "ورأيت النعمان بن المنذر" ملك العرب "وعليه قرطان"، "بضم القاف تثنية قرط، وهو ما يعلق في شحمتي الأذن "ودملجان"، "بضم الدال وضم اللام وفتحها شيء يشبه السوار "ومسكتان"، "بفتح الميم والسين المهملة سواران"، "قال: ذلك ملك"، "بضم فسكون"، "العرب، رجع إلى أحسن زيه"، "بكسر الزاي وشد الياء هيئته"، "وبهجته" حسنه لأن النعمان كان ملكا على العرب، فالمعنى عادت العرب إلى ما كانوا عليه من العز والشرف، وذهبت غلبة الفرس والعجم بظهوره صلى الله عليه وسلم "قال: ورأيت عجوزا شمطاء"، "بزنة حمراء أبيض شعر رأسها"، "تخرج من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا" فلم يبق منها إلا القليل بالنسبة للماضي، كالباقي من عمر العجوز مما مضى، "قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض، فحالت بيني وبين ابن لي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان"، قال: وما الفتنة؟ قال: "يفتك الناس بإمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس"، وخالف صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، "يحسب المسيء أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء البارد". فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة، محشوا حلاوة الحق، مكسوا طلاوة الصدق مجلوا بأنوار الوحي. والأسفع: الذي أصاب جسده لون آخر.   يقال له عمرو" بن زرارة، أورده في الإصابة في القسم الأول، وقال: صحبته محتملة، "ورأيتها تقول: لظى لظى" بزنة فتى النار أو لهبها، ولظى معرفة جهنم، كما في القاموس: "بصير وأعمى", أي أجمع الغث والثمين، فلا أترك واحدا منهما، "آكلكم آكلكم" تأكيد لفظي للأول، "أهلكم ومالكم" عطف بيان لآكلكم، وفي نسخ: آكلكم كلكم، بالتوكيد المعنوي وما بعده بالنصب بدل من الكاف، وهذا الذي في ابن المنير عن ابن قتيبة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان" سماه آخرا مع أنا قتل عثمان رضي الله عنه، باعتبار أنه لغلظ أمرها وفحشها بمنزلة ما يكون في آخر الزمان أن الذي فيه الأحكام وتزول، حتى كأنها لا أثر لها، أو المراد آخر زمان خلافة النبوة، وسماه آخر مع أنه بقي منها خلافة علي والحسن لقرب قتل عثمان من آخرها، "قال: وما الفتنة" لأنها لغة تطلق على معان، فسأله أيها أراد، "قال: "يفتك"، "بكسر التاء وضمها" يبطش "الناس بإمامهم" الخليفة ويقتلونه على غفلة، ولعل تفسيرها بالفتك متسببة عنها، لأنها الميل والخروج عن الاعتدال، وذلك يتسبب عنه البطش والقتل، "ثم يشتجرون"، "بمعجمة وجيم" أي يتنازعون "اشتجار أطباق الرأس" عظامه "وخالف صلى الله عليه وسلم بين أصابعه" لم يبينوا صفة لمخالفة، وقال مستأنفا: "يحسب المسيء أنه محسن" للإشارة إلى غلبتها، فيظن المبطل أنه محق، لأن اجتهاده أداه لذلك، "ودم المؤمن عند المؤمن أحلى" ألذ، والذي في ابن المنير وغيره: أحل من الحل ضد الحرام "من شرب الماء البارد", وكأنه لغلبة اشتباه الحال، فيظن أنه محق، فيراه أشد حلاء من شرب الماء, وخصه لغلبة حصوله من جهة حل، كالأنهار والأمصار، ونحوهما بقية الحديث كما مر في الوفدان: مات ابنك قبلك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، قال: يا رسول الله ادع الله أن لا أدركها، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها" فمات، فبقي ابنه، فكان ممن خلع عثمان. وعند ابن الكلبي وغيره: فكان أول خلق الله خلع عثمان بالكوفة، "فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة محشوا حلاوة الحق مكسوا طلاوة الصدق" مثلث الطاء الحسن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 والأحوى: الأسود ليس بالشديد. والمسكتان: السواران من ذهب. وأطباق الرأس: عظامه. والاشتجار: الاختلاف والاشتباك. فإن قلت: تعبيره عليه الصلاة والسلام السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مر. أجيب: بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، وكان السواران من زي النعمان ليسا بمنكرين في حقه ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفا، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته فجدير أن يهمه ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع في غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابهما، ولله الحمد.   والبهجة والقبول، كما في القاموس: "مجلوا بأنوار الوحي، والأسفع الذي أصاب جسده لون آخر" هذا مخالف لظاهر قول المجد: السفع: السواد يضرب إلى الحمرة، ثم قال: ومن اللون سواد أشرب حمرة، "والأحوى الأسود ليس بالشديد" في ذلك، "والمسكتان السواران من ذهب" كأنه بيان للمراد، وإلا فالذي قاله ابن سيده والجوهري: المسك بالتحريك، أي بتفحتين أسورة من ذبل أو عاج الواحدة مسكة. زاد ابن الأثير في الجامع: فإن كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب أو فضة أو غيرهما، والذبل: "بمعجمة وموحدة" شيء كالعاج، وقيل: ظهر السلحفاة البحرية، "وأطباق الرأس عظامه، والاشتجار الاختلاف والاشتباك، فإن قلت: تعبيره عليه الصلاة والسلام السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما" أي السوارين اللذين رآهما في يده الكريمتين "بالكذابين فيما مر" وذلك ضد البشرى. "أجيب" أي أجاب ابن المنير في معراجه "بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك", يجعلون لهم الأساور "ويحلونهم" بالحلي "وكان السواران من زي النعمان"، "بكسر الزاي" ليسا بمنكرين في حقه، ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفا" فلذلك عبرهما ببشرى. "وأما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته" فضلا عنه، "فجدير" حقيق "أن يهمه"، "بفتح الياء وضم الهاء"، "ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع في غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 ومن ذلك: ما روي عن قيس بن عباد -بضم العين وتخفيف الموحدة- قال: كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، فقال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة   موضعه"، وهو الكذابان، "ولكن حمدت العاقبة بذهابهما"، المأخوذ من لفظ ذهب، لأن حروفهما واحدة، "ولله الحمد" على ذلك، "ومن ذلك" أي تعبيره صلى الله عليه وسلم "ما روي عن قيس بن عباد، بضم العين" المهملة "وتخفيف الموحدة" آخره دال مهملة، الضبعي "بضم المعجمة وفتح الموحدة" أبي عبد الله البصري، ثقة، تابعي، كبير، له إدراك، قدم المدينة في خلافة عمر، ووهم من عده في الصحابة، مات بعد الثمانين، "قال كنت في حلقة"، "بسكون اللام"، "فيها سعد بن مالك" هو ابن أبي وقاص "وابن عمر" عبد الله، "فمر عبد الله بن سلام"، "بتخفيف اللام اتفاقا" الإسرائيلي، من ذرية يوسف الصديق، أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كما في الصحيح، وغلط من قال قبل الوفاة النبوية بعامين، ومات سنة ثلاث وأربعين. وللبخاري في المناقب: كنت جالسا في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخضوع، "فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة". وعند مسلم: كنت بالمدينة في ناس فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل في وجهه أثر الخشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة ثلاثا، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج. وعنده أيضا عن خرشة بن الحر: كنت جالسا في حلقة في مسجد بالمدينة وفيها شيخ حسن الهيئة، وهو عبد الله بن سلام، فجعل يحدثهم حديثا حسنا، فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا، وللنسائي: فجاء شيخ يتوكأ على عصا، فذكر نحوه. قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنهما قصتان، اتفقا الرجلين، فكأنه كان في مجلس يتحدث، كما في رواية خرشة: فلما قام ذاهبا مر على حلقة فيها سعد وابن عمر، فحضر ذلك قيس بن عباد، كما في روايته، وكل من خرشة وقيس، اتبع ابن سلام ودخل عليه منزله، وسأله فأجابه، ومن ثم اختلف الجواب بالزيادة والنقص، سواء كان زمن اجتماعهما بابن سلام، اتحد أم تعدد، "فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا"، بين في مسلم أن قائل ذلك رجل واحد، وفيه زيادة، ولفظه: ثم خرج فاتبعته، فدخل منزله ودخلت، فتحدثنا، فلما استأنس قلت له: إنك لما دخلت قبل قال رجل: كذا وكذا، وكأنه نسب القول للجماعة، والناطق به واحد لرضاهم به وسكوتهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 خضراء، فنصب فيها، وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف -والمنصف الوصيف- فقال: ارقه، فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". رواه البخاري.   عليه. وفي رواية خرشة: فقلت: والله لأتبعه، فلأعلمن مكان بيته، فانطلق حتى كان يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقال: ما حاجتك يابن أخي؟ فقلت: سمعت القوم يقولون لما قمت: من سره أن ينظر إلى الرجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا، فأعجبني أن أكون معك، "فقال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" إنكار منه على من قطع له بالجنة، فكأنه ما سمع حديث سعد بن أبي وقاص: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، رواه الشيخان، وكأنهم هم سمعوه، ويحتمل أن يكون هو أيضا سمعه، لكنه كره الثناء عليه بذلك تواضعا، ويحتمل أن يكون إنكار منه على من سأله عن ذلك، لكونه فهم منه التعجب من خبرهم، فأخبره بأن ذلك لا عجب فيه لما ذكر له من قصة المنام، وأشار بذلك القول إلى أنه لا ينبغي لأحد إنكار ما لا علم له به إذا كان الذي أخبره به من أهل الصدق. وفي رواية خرشة: فقال: الله أعلم بأهل الجنة، وسأحدثك مم قالوا ذلك فذكر المنام، وهذا يقوى باحتمال أنه أنكر عليهم الجزم، ولم ينكر أصل الأخبار، بأنه من أهل الجنة، وهذا شأن الخائف المراقب المتواضع. وفي رواية النسائي: الجنة لله يدخلها من يشاء، زاد ابن ماجه: الحمد لله، "إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة خضراء" أي وسطها، فعند البخاري في المناقب: رأيت كأني في روضة، ذكر من سمعتها وخضرتها كذا وكذا وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء. قال الكرماني: يحتمل أن يراد بالروضة جميع ما يتعلق بالدي وبالعمود الأركان الخمسة، وبالعروة الوثقى الإيمان، "فنصب فيها"، "بضم النون وكسر المهملة فموحدة" وللمستملي والكشميهني: قبضت "بفتح القاف والموحدة، فضاد معجمة ساكنة، فتاء المتكل"، "وفي رأسها عروة". وفي رواية المناقب في مسلم: في أعلاه، أي العمود عروة، فيعلم منه أن ضمير رأسها للعمود، وأنثه وهو مذكر باعتبار الدعامة، "وفي أسفلها منصف"، "بكسر الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة وبالفاء" ويقال أيضا بفتح الميم. حكاه عياض وغيره، "والمنصف الوصيف" مدرج في الخبر، وهو تفسير من ابن سيرين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 وفي رواية خرشة: بينما أنا نائم أتاني رجل فقال لي: قم، فأخذ بيدي فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد -بجيم ودال مشددة جمع جادة وهي الطريق المسلوك- عن شمالي، قال: فأخذت لآخذ فيها -أي أسير- فقال: لا تأخذ فيها فإنها طريق أصحاب الشمال. وفي رواية النسائي من طريقه: فبينا أنا أمشي إذ عرض لي طريق عن شمالي، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها.   بدليل قوله في رواية مسلم: فجاءني منصف، قال ابن عود: والمنصف الخادم، كذا قال الحافظ. وفي البخاري في المناقب: قال لي خليفة: حدثنا معاذ، حدثنا ابن عون عن محمد، حدثنا قيس عن ابن سلام، قال: وصيف مكان منصف، والوصيف الخادم الصغير، ذكرا كان أو أنثى، "فقال" المنصف: "ارقه"، "بهاء السكت" وفي رواية بإسقاطها، "فرقيته"، "بكسر القاف على الأفصح" وحكى فتحها، كذا قال الحافظ وقال عياض: روي "بكسر القاف وفتحها، والفصيح الكسر" أي صعدت "حتى أخذت بالعروة" وفي المناقب: كمسلم، فقيل لي: ارقه، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، "فقصصتها" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: $"يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". تأنيث الأوثق العقد الوثيق من الحبل الوثيق المحكم، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد، المخصوص حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده، والمعنى: وهو آخذ من الدين عقدا وثيقا لا تحله شبهة. "رواه البخاري" في التعبير، ومسلم في الفضائل، كلاهما من طريق قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن قيس بهذا اللفظ مختصرا، وأخرجاه في المناقب من طريق عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، كان يتيما في حجر عمر. قال أبو داود: له صحبة، وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين، مات سنة أربع وسبعين، وروايته عند مسلم، عنه، عن ابن سلام: وسأحدثك مم قالوا: ذلك: "بينا أنا نائم أتاني رجل، فقال لي: قم، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد، بجيم ودال مشددة" زاد عياض: ومخففة "جمع جادة، وهي الطريق المسلوك" البين "عن شمالي، قال" عبد الله بن سلام: "فأخذت لآخذ فيها، أي أسير، فقال: لا تأخذ فيها، فإنها طريق أصحاب الشمال". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 وفي رواية مسلم: فإذا جواد منهج على يميني، فقال لي خذ ههنا، فأتى بي جبلا فقال لي: اصعد، قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت، حتى فعلت ذلك مرارا. وفي رواية ابن عون: فقال: "تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، عروة الوثقى، لا تزال متمسكا بالإسلام حتى تموت". وفي رواية خرشة عند النسائي وابن ماجه قال: "رأيت خيرا، أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء". زاد مسلم: "ولن تناله". وهذا علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن عبد الله بن سلام لم يمت   "وفي رواية النسائي من طريقه" أي خرشة، عن ابن سلام: "فبينا أنا أمشي إذ عرض لي طريق عن شمالي، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها" أي فلا تسلكها. "وفي رواية مسلم" المذكورة عن خرشة، عن ابن سلام عقب قوله الشمال، "فإذا جواد منهج على يميني". قال القرطبي: يرفع منهج على الصفة، أي ظاهر واضح، "فقال لي: خذ" أي سر "ههنا، فأتى بي جبلا، فقال لي: اصعد، قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت" سقطت على استي، كما في مسلم متصلا بقوله: "حتى فعلت ذلك مرارا" قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا، رأسه في السماء وأسفله في الأرض، فقال لي: اصعد فوق هذا، قلت: كيف أصعد هذا ورأسه في السماء، قال: فأخذ بيد، فزجل بي "بزاي وجيم"، أي رفعني، وروي "بحاء مهملة"، بمعناه، قال القرطبي: ورواية الجيم أصح وأولى، قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة، ثم ضرب العمود فخر, وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه كما في مسلم. "وفي رواية" عبد الله "بن عون" البصري، عن محمد بن سيرين، عن قيس بن عباد، عن ابن سلام، عند الشيخين، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تلك الروضة روضة الإسلام" , أي جميع ما يتعلق بالدين، "وذلك العمود عمود الإسلام" أي أركانه الخمسة، أو كلمة الشهادة وحدها، "وتلك العروة عروة الوثقى" أي الإيمان. قال في المفهم: معنى الوثقى القوية التي لا انقطاع لها، وأضيفت عروة هنا إلى صفتها، كمسجد الجامع وصلاة الأولى، ورواه أبو ذر: وتلك العروة الوثقى بدون عروة الثانية، "لا تزال متمسكا بالإسلام" لفظ الصحيحين من هذه الطريق: "فأنت على الإسلام". نعم في مسلم في رواية خرشة: "ولن تزال متمسكا به"، "حتى تموت" وذلك الرجل عبد الله بن سلام. هذا بقية هذه الرواية عندهما، وهو يحتمل أنه قوله، ولا مانع أن يخبر بذلك ويريد نفسه، ويحتمل أنه من كلام الراوي، قاله الحافظ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 شهيدا، وإنما مات على فراشه في أول خلافة معاوية بالمدينة. وقولهم إنه من أهل الجنة، أخذوه من قوله لما ذكر طريق الشمال: إنك لست من أهلها. وإنما قال: "ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" على سبيل التواضع وكراهية أن يشار إليه بالأصابع، خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره. وقال القيرواني: الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. انتهى.   "وفي رواية خرشة عند النسائي وابن ماجه، قال" صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام، لما قص عليه: "رأيت"، "بفتح التاء"، " خيرا" فيستحب قول ذلك للعابر. "أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء". "زاد مسلم" من رواية خرشة: "ولن تناله". "وهذا علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عبد الله بن سلام لم يمت شهيدا وإنما مات على فراشه في أول خلافة معاوية بالمدينة" سنة ثلاث وأربعين. "وقولهم: إنه من أهل الجنة أخذوه من قوله: لما ذكر طريق الشمال إنك لست من أهلها", ومن كان كذلك فهو من أهل الجنة، أو من قوله صلى الله عليه وسلم: "فأنت على الإسلام حتى تموت". ومن مات عليه فهو من أهلها. قال الأبي: قوله في رواية مسلم: وسأحدثك لم ذلك، أي قالوا ذلك، نص في أنه فهم عنهم، أنهم قالوه مستندين للرؤيا، وإنما فيها أنه يموت على الإسلام وهو يستلزم دخول الجنة، وفهموا أنه دخول أولي، وكأنه هو لم يره أوليا، "وإنما قال: ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم على سبيل التواضع وكراهية" بكسر الهاء وخفة الياء"، "أن يشار إليه بالأصابع خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره". قال عياض: لا نقطع بالجنة إلا لمن أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من أهلها، أو أخبر أه يموت على الإسلام، فهؤلاء إن بلغهم حديث سعد، فما قالوا ذلك إلا عن علم، وإنكاره عليهم يحتمل أنه لم يبلغه حديث سعد، أو بلغه ولم يذكره تواضعا وتسترا. قال الأبي: والثاني أظهر، لأنه وإن لم يبلغه حديث سعد، فالرؤيا تدل على دخوله الجنة مطلقا لا دخولها أولا، أي مع السابقين، ومراد أولئك أنه يدخلها دخولا أوليا. انتهى. وتقدم احتمال أنه إنكار على سائله، لفهمه منه التعجب من خبرهم، بأن ذلك لا عجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة، تدل لمن تمسك به على قوته في دينه، وإخلاصه فيه. ومن ذلك، ما رواه البخاري عن أم العلاء وهي امرأة من نسائهم، بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريت لعثمان بن مظعون بعد موته في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "ذلك عمله يجري له". وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيء من عمله بقي له ثوابه جاريا   فيه للرؤيا، فلا ينبغي لأحد إنكار ما لا يعلم إذا أخبره أهل الصدق. قال المصنف: ويحقق هذا قوله: فاستيقظت، وإنها لفي يدي، أي حقيقة من غير تأويل على ظاهر اللفظ، وتكون رؤياه هذه كشفا كشفه الله له كرامة. انتهى. وفيه تورك على قول الحافظ، أي إن الاستيقاظ كان حين الأخذ من غير فاصل، ولم يرد أنها بقيت في يده في حال يقظته، ولو حمل على ظاهره لم يمتنع في قدرة الله، لكن الذي يظهر خلافه، ويحتمل أن يريد أن أثرها بقي في يده بعد الاستيقاظ، كأن يصبح فيرى يده مقبوضة. "وقال القيرواني" على المعابر في كتاب البستان: "الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها" زيادة على غيرها، "وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف، وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. انتهى". باعتبار الرائي والزمان والمكان، "وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة" التي لا تعرف من أي نوع هي، "تدل لمن تمسك بها على قوته في دينه وإخلاصه فيه" لأن أصل العروة الشيء المتعلق به، حبلا كان أو غيره. وقيل: هي شجرة تبقى على الجدب سميت عروة، لأن العرب تتعلق بها إلى زمان الخصب. "ومن ذلك ما رواه البخاري" في مواضع من طرق، كلها عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، "عن" أمه "أم العلاء"، "بفتح العين والمد" اسمها، كنيتها بنت الحارث بن ثابت بن خارجة بن ثعلبة، وهي أم خارجة الراوي عنها، فعند أحمد والطبراني عن سالم أبي النضر، عن خارجة بن زيد، عن أمه، عن عثمان بن مظعون: لما قبض قالت أم خارجة: طبت أبا السائب ... الحديث، فلا يلزم من كونه أبهمها في رواية الزهري أن تكون أخرى، فقد يبهم الإنسان نفسه فضلا عن أمه، ووقع عند أحمد بن سعد عن ابن عباس لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأته: هنيئا لك الجنة، فذكر نحو القصة وفيه نظر، فلعله امرأة بلا ضمير، وهي أم العلاء، ويحتمل أنه كان تزوجها قبل زيد بن ثابت، ويحتمل تعدد القول منهما جميعا، وهذا أظهر، "وهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 كالصدقة. وأنكره مغلطاي وقال: لم يكن له شيء من الأمور الثالثة التي ذكرها مسلم في حديث أبي هريرة رفعه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث". وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر، فهو أحد الثلاث. قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته. وقال غيره: العين الجارية عمل من صدقة أو معروف لحي أو ميت. وقال آخر: عين الماء نعمة وبركة وخير، وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة تبكي لها أهل داره. والله أعلم.   امرأة من نسائهم" أي الأنصار، ففي رواية للبخاري امرة من الأنصار، وقائل هذا الزهري، "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى، فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال: "وما يدريك"؟. قلت: لا أدري والله. قال: "أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم"؟. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحدا بعده، قالت: "وأريت"، "بهمزة مضمومة فراء مكسورة" وفي رواية: ورأيت بتقديم الراء على الألف لعثمان بن مظعون" وفي رواية للبخاري: فأحزنني ذلك، فنمت، فأريت لعثمان "بعد موته في النوم عينا" من ماء "تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك" الذي رأيته "له" عليه السلام، "فقال": "ذلك"، " بكسر الكاف"، " عمله" الذي كان يعمله في حياه، "يجري له" ثوابه بعد موته. "وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيء من عمله بقي له ثوابه جاريا كالصدقة" فإنه كان من الأغنياء" وأنكره مغلطاي وقال: لم يكن له شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرها مسلم في حديث أبي هريرة، رفعه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث". إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. "وتعقبه الحافظ" وفي نسخة: شيخ الحافظ "ابن حجر بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر" الصديق، "فهو أحد الثلاث" في حديث مسلم، "قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته" فقد أخرج ابن سعد من مرسل أبي بردة بن أبي موسى، قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 فهذا طرف من تعبيره عليه الصلاة والسلام يهدي إلى غيره ما يشابهه، وإلا فالذي نقل عنه صلى الله عليه وسلم من غرائب التأويل، ولطائف التعبير -كما قاله ابن المنير- لا تحصره المجلدات. وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحد من هذه الأمة في علم أو عمل، هي من آثار معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم وسر تصديقه، وبركات طريقه، وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين من لطائف التعبير، مما شاع وذاع، وامتلأت به الأسماع، طبق الأرض صدقا وصوابا، وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا، قضيت بأن ما منحه صلى الله عليه وسلم من العلوم والمعارف، لا تحيط به   على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأين هيئتها، فقلن: ما لك، فما في قريش أغنى من بعلك، قالت: الحديث، ويحتمل أن يراد بعمل عثمان مرابطته في جهاد أعداء الله، فإنه مما يجري له عمله، كما ثبت في السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، عن فضالة بن عبيد، رفعه: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر". وله شاهد عند مسلم والنسائي والبزار، عن سلمان، رفعه: "رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأمن الفتانين". وله شواهد أخرى، فليحمل حال عثمان على ذلك، ويزول الإشكال من أصله، هذا بقية كلام الحافظ، ومر الكلام في غير هذا الموضع على قوله: "ما أدري ما يفعل بي ولا بكم". وعلى أن الخصال الباقية بعد الموت عشرة، وأنه اقتصر في خبر مسلم على ثلاث، لإمكان رجوع ما عداها إليها. وقال المهلب: العين الجارية في المنام تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح وإلا فلا. "وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحي أو ميت" قد أحدثه أو أجراه. "وقال آخر" وفي الفتح، وقال آخرون: "عين الماء نعمة وبركة وخير وبلوغ أمنية إن كان صاحبها" أي الذي رآها مناما "مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة تبكي لها أهل داره، والله أعلم، فهذا طرف من تعبيره عليه الصلاة والسلام، يهدى إلى غيره مما يشابهه، وإلا فالذي نقل عنه صلى الله عليه وسلم من غرائب التأويل ولطائف التعبير، كما قال ابن المنير" في المعراج: "لا تحصره المجلدات" لكثرته، "وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحد من هذه الأمة في علم أو عمل هي من آثار معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم وسر تصديقه" لنبيه، "وبركات" اتباع "طرقه وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه الإشارات، وإذا كان هذا ابن سيرين واحد من أمته عليه الصلاة والسلام نقل عنه من فن التعبير ما لا يعد فكيف به صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه.   التابعي المشهور، "من لطائف التعبير مما شاع وذاع وامتلأت به الأسماع طبق الأرض صدقا وصوابا وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا"، "بضم العين وموحدتين، أي كثير الماء"، "قضيت" جواب إذا تأملت "بأن ما منحه صلى الله عليه وسلم" من العلوم والمعارف لا تحيط به العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه" إضافة بيانية، ففي المصباح كنه الشيء: حقيقته ونهايته "الإشارات وإذا كان هذا ابن سيرين" بدل من اسم الإشارة "واحد"، "بالرفع" صفة ابن "من أمته عليه الصلاة والسلام" والخبر "نقل عنه من فن التعبير ما لا يعد" لكثرته، "فكيف به صلى الله عليه وسلم" عليه، "وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 الفصل الثالث: في إنبائه صلى الله عليه وسلم بالأنباء المغيبات اعلم أن علم الغيب يختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وغيره فمن الله تعالى، إما بوحي أو إلهام، والشاهد لهذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] ، ليكون معجزة له. واستدل به على إبطال الكرامات. وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه،   الفصل الثالث: في إنبائه "بكسر الهمزة" أي إخباره "صلى الله عليه وسلم بالأنباء" "بفتح الهمز" جمع نبأ "بالهمز" أي الأخبار "المغيبات" أي الأمور التي بعدت عنا، فلم يتعلق علمنا بها. "اعلم أن علم الغيب" أي ما غاب عنا جمعه غيوب، "يختص بالله تعالى" علام الغيوب، "وما وقع منه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم" وعلى لسان "غيره" من الأنبياء والصالحين، "فمن الله تعالى، إما بوحي" للأنبياء "أو إلهام" لغيرهم، "والشاهد لهذا" أي الدليل عليه "قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن العباد، {فَلَا يُظْهِرُ} يطلع {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} من الناس {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، "ليكون" العلم به "معجزة له" أي لمن أظهر على يديه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفي حديث مر: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي". فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع   "واستدل به على إبطال الكرامات" لأنها إذا كانت إخبارا عن غيب، فالعلم بها مناف لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، فإن المستثنى منه شامل لما يظهر على يد بعض الأولياء من اغيب. "وأجيب بتخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسطه" أي الملك "وكرامات الأولياء" الحاصلة باطلاعهم "على المغيبات" فهو متعلق بمحذوف، "إنما تكون برؤيا الملائكة" للغيوب، ويلقون ما يطلعون عليه إلى من شاء الله بوحي أو إلهام، فلا حاجة إلى تأويل رؤيا براءة الملاكئة للناس، وأن يطلعوهم على ذلك بطريق من الطرق، "كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة" أي علمنا بها "بتوسط الأنبياء". "وفي حديث مر" في غزوة تبوك: "أنه عليه الصلاة والسلام قال" لما ضلت ناقته وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم مكانها فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي" وأنه أخبرني أنها بمكان، كذا حبستها شجرة، وأرسل فأتى بها، "فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به" لتكون تلك الغيوب "أعلاما" "بفتح الهمزة" جمع علم، أي دلائل "على ثبوت نبوته ودلائل" أي علامات "على صدق رسالته" "عطف تفسير"، وقد تواترت الأخبار واتفقت معانيها على اطلاعه صلى الله عليه وسلم على الغيب، كما قال عياض، ولا ينافي الآيات الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقوله: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ، لأن المنفي علمه من غير واسطة، كما أفاده المتن، أما اطلاعه عليه بإعلام الله، فمحقق لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} . قال في لطائف المنن: اطلاع العبد على غيب من غيوب الله بنور منه، لدليل خبر: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" لا يستغرب، وهو معنى "كنت بصره الذي يبصر به"، فمن كان الحق بصره أطلعه على غيبه، فلا يستغرب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع وقول حسان بن ثابت:   وقال بعض العارفين: قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، لا ينافي قول العارف المرسي في تفسيرها، أو صديق، أو ولي، ولا زيادة فيه على النص، فإن السلطان إذا قال: لا يدخل علي اليوم إلا الوزير، لا ينافي دخول أتباع الوزير معه، فكذلك الولي إذا أطلعه الله على غيبه لم يره بنور نفسه، وإنما رآه بنور متبوعه، وما كلفنا الله الإيمان بالغيب إلا وقد يفتح لنا باب غيبه، وإلى هذا أشار الغزالي في أماليه على الإحياء، ثم قال: ويحتمل أن المراد بالرسول في الآية ملك الوحي، الذي بواسطته تنكشف الغيوب، فيرسله للإعلام بمشافهة، أو إلقاء في روع، أو ضرب مثل في يقظة، أو منام، ليطلع على الغيب من أراد، وفائدة ذلك الامتنان على من رزقه الله ذلك، وإعلامه بأنه لم يصل إليه بحوله وقوته، فلا يظهر على غيبه أحدا من عباده إلا على يدي رسول من ملائكته، أرسله لمن فرغ قلبه لانصباب أنهار العلوم الغيبية في أوديته، حتى يصل لأسرار الغيب المكنونة في خزائن الألوهية. انتهى. وهو نفيس من المهمات، والثاني: هو ما أشار إليه المصنف بقول: واستدل ... إلخ، تبعا للبيضاوي، لكن لم ينمقه هذا التنميق الحسن. "وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه" ولو ظاهرا كالمنافقين والمؤلفة، "بالاطلاع على الغيوب، حتى أن" مخففة من الثقيلة، أي أنه "كان بعضهم" أي بعض أصحابه بحسب الظاهر، وهم بعض المؤلفة قبل خلوص إسلامهم والمنافقون، "ليقول لصاحبه" أي من هو معه: إذا أراد أن يتكلم بشيء في حقه صلى الله عليه وسلم "اسكت": لا تنطق بشيء من أمره، "فوالله لو لم يكن عنده من يخبره" بما نقوله في شأنه من ملك ونحوه، "لأخبرته حجارة البطحاء" أرض مستوية يسيل فيها، وحجارتها ما فيها من الحصباء، أي أنها تخبره بما غاب عنه حقيقة، إن فرض أنه ليس عنده من يخبره غيرها، فلا داعي لجعله مبالغة في هذا المقام. روي أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأمر بلالا، بأن يؤذن فوق الكعبة، قال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا إذا لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد مؤذنا غير هذا الغراب الأسود. وقال أبو سفيان بن حرب: لا أقول شيئا، ولو تكلمت لأخبرته هذه الحصباء، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت الذي قلتم، وذكر مقالتهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما كان معنا أحد فنقول: أخبرك، ثم حسن إسلام الثلاثة بعد، فالغاية إنما تتعلق ببعض المؤلفة والمنافقين، وسماهم أصحابه بحسب الظاهر، كما أشرت إليه، فأما أصحابه المؤمنون، فإنهم جازمون بإطلاعه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد فإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد وهذا الفصل ينقسم قسمين: الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم. من ذلك: في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] ، فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب تقضي العادة بخلافه. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنعام: 7] الآية فإنها كان لقريش قافلتان:   على الغيب، لكنهم لا يتكلمون بشيء في حقه، ولا يريدون إخفاء كلام عنه حتى يأمر بعضهم بعضا بالسكوت، ولذا قصر في شفاء الغاية على المنافقين، "ويشهد له قول ابن رواحة" عبد الله الأنصاري، الأمير، الشهيد بموته من قصيدة: "وفينا رسول الله يتلو كتابه" القرآن "إذا انشق معروف من الصبح ساطع" أي مرتفع، يقال: سطع الصبح يسطع "بفتحتين": ارتفع "أرانا الهدى" يعني الإيمان "بعد العمى" أي الكفر "فقلوبنا به" أي بالهدى "موقنات أن ما قال واقع" لا محالة. "وقول حسان بن ثابت" الأنصاري في جملة قصيدة: "نبي يرى ما لا يرى الناس حوله" كرؤيته لجبريل وغيره من الملائكة، وكرؤيته الجنة والنار وغيرهما في صلاة الكسوف دون الناس وهم حوله. وقد قال: إني أرى ما لا ترون، "ويتلو كتاب الله" القرآن العظيم "في كل مشهد" محضر، "فإن قال في يوم مقالة غائب" أي مقالة أخبر بها عن أمر غائب، "فتصديقها" أي نسبتها إلى الصدق حاصل بسرعة، فيظهر "في ضحوة اليوم" الذي قالها فيه، "أو غد" أي ما يليه "وهذا الفصل ينقسم قسمين: الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم، من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه من عند الله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} " أي المنزل، ومن للبيان، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والأخبار عن الغيب، فإنكم عربيون فصحاء، مثله، "إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} " ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، "فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب" هو عدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم، وأنجز لهم ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز. ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن "السين" تعين الاستقبال، يعني كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والأخرى للمقداد بن الأسود فهزم الله المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم.   إتيانهم بسورة من مثله "تقضي العادة بخلافه" لأنهم كانوا غاية في البلاغة، مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في الفصاحة، فما فعلوا ولا قدروا، ومر بسط هذا في المعجزات. "ومن ذلك قوله تعالى": اذكر {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، العير أو النفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} تريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} ، أي البأس والسلاح {تَكُونُ لَكُمْ} " لقلة عَددها، وعُددها بخلاف النفير، "الآية فإنها" أي القصة، وفي نسخة: فإنه، أي الشأن "كان لقريش قافلتان، إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم" وهو ودهم للغنيمة دون القتال، "وأنجز لهم ما وعد" من النصر البالغ يوم بدر، "ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز" إذ هو مجرد عبث. "ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، قال الزجاج: يعني الأدبار، لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي سيفرق جمعهم ويغلبون، "وهذا إخبار عن المستقبل، لأن السين تعين الاستقبال يعني" بالجمع "كفار قريش يوم بدر" وفيه علم من أعلام النبوة، لأن الآية: نزلت بمكة، وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال. وعند ابن أبي حاتم عن عكرمة، وعبد الرزاق, عن معمر، عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت، أي جمع يهزم، أي جمع يغلب، قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في الدرع، وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، فعرفت تأويلها يومئذ، "وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف" أي تسعمائة وخمسين مقاتلا عند ابن عقبة وابن عائذ. وفي صحيح مسلم عن عمر: كانوا ألفا، وهو أولى بالصواب على أنه يمكن الجمع، بأن الخمسين غير مقاتلين، لأنهما قيدا بمقاتلا، ومر بسط ذلك، "وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] ، يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن شاء الله تعالى". قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم. ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 601] إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، وسبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين   وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رلا" على أرجح الأقوال، "وليس معهم إلا فرسان، أحدهما للزبير بن العوم، والأخرى للمقداد بن الأسود، فهزم الله المشركين ومكن المسلمين، من قتل أبطالهم" سبعين، "و" من "اغتنام أموالهم" وأسر سبعين. "ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} بسكون العين وضمها {بِمَا أَشْرَكُوا} بسبب إشراكهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة على عبادته، وهو الأصنام، "يريد ما قذف" تفسير نلقي "في قلوبهم من الخوف" تفسير الرعب "يوم أحد حتى تركوا القتال، ورجعوا من غير سبب" بحسب الظاهر، "ونادى أبو سفيان" صخر بن حرب: "يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل" أي الآتي بعد هذا، وفي نسخ: لقابل، أي لعام قابل "إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام" لعمر بن الخطاب: قل: "نعم هو موعد بيننا وبينكم إن شاء الله تعالى". "قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم" على المؤمنين "ليستأصلوهم" بالقتل، "فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم" فاستمروا راجعين. ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] ، أي أقرب أرض الروم إلى فارس، بالجزيرة التي التقى فيها الجيشان والبادئ بالغزو الفرس {وَهُمْ} أي الروم {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} . أضيف المصدر إلى المفعول به، أي غلبة فارس إياهم، {سَيَغْلِبُونَ} فارس {فِي بِضْعِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية، وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين. ومن ذلك، قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] ، فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه، بالتمني، ولو لم يعلم ذلك لخشي أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت ثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى، وروي مرفوعا: "لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي يهودي على وجه الأرض". ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ   سِنِينَ} إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بالنصر، "وسبب نزول هذه الآية أن كسرى" ملك الفرس، "وقيصر" ملك الروم "تقاتلا، فغلب كسرى قيصر، فساء" أحزن "المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب" وفارس عباد أوثان، "ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتمزيق كسرى كتابه" من باب العلة الغائية، وإلا فالآية مكية، والكتابة إليهما وإلى غيرهما من الملوك إنما كانت سنة سبع من الهجرة، "وفرح المشركون به" وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وهذا السبب رواه ابن أبي حاتم عن الزهري بلاغا، "فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين" من غلبة فارس على الروم. "ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] تعلق بتمنيه الشرطان على أن الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنها لكم، ومن كانت له يؤثرها والموصل إليها، فتمنوه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94] "فأخبر" بالبناء للمفعول النبي، أي أخبره الله "أنهم لا يتمنون الموت بالقلب، ولا" يتمنونه "بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا" فنفى عنهم تمنيه في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: {أَبَدًا} ، وبقوله: {لَنْ} ، "فأخبر" صلى الله عليه وسلم بذلك الذي أوحي إليه، "فوجد مخبره، كما أخبره فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت"، أي العذاب الأليم بعده "لسارعوا إلى تكذيبه بالتمني", إذ هم أحرص شيء على تكذيبه لو قدروا "ولو لم يعلم ذلك" صلى الله عليه وسلم "لخشي أن يجيبوا إليه، فيقضى عليه بالكذب،" فظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية. هذا وعد من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد،   بذلك معجزته، وبانت حجته بصدق خبره عن الغيب. "قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب، وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى", بل هو أن يقول: ليت كذا، ولو كان بالقلب لقالوا تمنينا، هذا كلام البيضاوي، وهو اختصار لقول الكشاف: إن قلت التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه، قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنٍ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه. قال القطب في حواشيه: استدل على أن التمني ليس من أفعال القلوب، بأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه أن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز لإلزام من لم يقبل الدعوى، والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقا، ويمكن أن يقال التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبداً معجزة، طلب دفعها بتمنيهم، والدفع إنما يكون بأمر ظاهر. "وروي مرفوعا: لو تمنوا الموت لغص" "بفتح المعجمة والصاد المهملة"، أي مات، كما جز به التلمساني وضبطه غيره "بضم المعجمة وفتح المهملة المشددة"، وهما لغتان، "كل إنسان منهم بريقه" أي رضاب فمه، وخصه لأنه إذا جف فمه أسرع هلاكه، "فمات مكانه" سريعا، "وما بقي يهودي على وجه الأرض"، كذا ساق الحديث البيضاوي، وأشار محشيه الحافظ السيوطي، إلى أنه لم يرد بهذ اللفظ، فقال: أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه" ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفا: "لو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات"، وللبيهقي عنه، رفعه: "لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه". انتهى. وأخرجه أحمد بسند جيد عن ابن عباس، مرفوعا: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا" وأخرجه البيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، رفعه: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه"، وبهذا اللفظ الأخير، أورده في الشفاء وقال: يعني يموت مكانه، وقدمت هذا وما قبله في وجوه إعجاز القرآن. "ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكما فيهم، وقد فعل ذلك فيهم ولله الحمد والمنة، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعد أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أصحمة رحمه الله. ثم لما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعد خليفته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فلمَّ شعث ما   فِي الأَرْضِ} ، بدلا من الكفار، {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] من بني إسرائيل بدلا عن الجبابرة، "الآية" سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه في تفسيره والدارمي، ومن طريقه الطبراني والضياء في المختارة، والحاكم، وصححه عن أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، "هذا وعد من الله لرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس" قادتهم، "و" يجعلهم "الولاة" أي الحكام "عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع" وتذل "لهم العباد" وهذا كالتفسير لقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ، وهو الإسلام، بأن يظهره على جميع الأديان، ويوسع لهم في البلاد فيملكونها، {وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ} "بالتخفيف والتشديد"، " {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس" الكفار " {أَمْنًا} وحكما فيهم"، "لفظا ومعنى"، "وقد فعل تعالى ذلك فيهم، والحمد لله والمنة"؛ لأن وعده عز وجل متحتم الوقوع، "فإنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع بين البصرة وعمان, "وسائر جزيرة العرب". قال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى تهامة طولا، وأما العرض فما بين يبرين إلى منقطع السماوة. وقال الأصمعي: هي ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، وأما العرض فمن جدة وما والاها من شاطئ البحر إلى ريف العراق "وأرض اليمن بكمالها", وهو إقليم كبير معروف، "وأخذ الجزية من مجوس هجر"، "بفتحتين" إقليم معلوم، "ومن بعد أطراف الشام" كأيلة وغيرها، "وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس" مع أنه لم يسلم واحدة منهما "وملوك عمان"، "بضم العين وتخفيف الميم" موضع باليمن، أما عمان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 وهي عند موته عليه الصلاة والسلام وأطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه الله واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق. فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق   "بالفتح والتشديد" بلدة بطرف الشام من بلاد البلقاء، فلا تراها هنا، "والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أطحمة رحمه الله" دعاء لأصحمة كما هو ظاهر، إذ هو الذي أسلم، وكان رد المهاجرين إلى الحبشة، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم موته وصلى عليه، أما الذي تولى بعده فكافر، لم يعرف له إسلام ولا اسم، والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، "ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة" التي لا يدرك مداها، "قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلمَّ": جمع "شعث ما وهى" تفرق "عند موته عليه الصلاة والسلام" من ضعف الأمر بردة قبائل تقدم ذكرها في الرؤيا، ومنع الزكاة حتى رجعوا إلى الحق وهو جواب لما دخلته "الفاء على قلة"، "وأطد"، "بفتح الهمزة والطاء المهملة المشددة ودال مهملة ثبت"، "جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد" سيف الله، "ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة" عامر بن الجراح، أمين هذه الأمة "إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى"، "بضم الموحدة"، "ودمشق" بكسر الدال وفتح الميم وقد تكسر"، "ومخالفيها جمع مخلاف "بكسر الميم والحاء معجمة" بناء على استعمال مخلاف في غير اليمن، بمعنى الناحية، أي نواحيها "من بلاد حوران" وما والها، وتوفاه الله واختار له ما عنده ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك"، "بفتحتين" بعد الأنبياء" وبعد أبي بكر، كما زاده السخاوي "على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 أموالهما في سبيل الله، كما أمر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس وقيروان وسبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله، ورسوله، وصدق الله ورسوله. ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] ، فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان كما أخبر.   الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر": هزم "كسرى، وأهانه غاية الهوان، وتقهقر" رجع "إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية"، "بضم القاف"، "وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم". وقد قال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر حق في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية، وفي المجالسة عن ابن قتيبة: هذه الآية شاهدة لخلافة الصديق، وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ، أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بقوله: من بعد خوفهم أمنا الصحابة، لأنهم كانوا الخائفين في صدر الإسلام وقبل الهجرة المستضعفين، ثم وجدوا بعد هذا جميع ما وعدهم الله من النصر والظهور والعز، قاله في التماس السعد، "ثم لما كانت الدولة العثمانية" أي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، "امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس"، "بفتح الهمزة والدال وضم اللام" إقليم بالمغرب، "وقيروان"، "بفتح القاف والراء والواو" بلد بإفريقية "وسبتة"، "بفتح المهملة وسكون الموحدة وفوقية" مدينة "مما يلي البحر والمحيط و" فتح "من ناحية المشرق إلى أقصى بلا الصين"، بكسر الصاد: إقليم "وقتل كسرى وباد" هلك "ملكه بالكلية" تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم لما مزق كتابه: "والله ممزقه وملكه". "وفتحت مدائن العراق وخراسان"، "بضم المعجمة والتخفيف" إقليم من الري إلى مطلع الشمس "والأهواز"، "بفتح الهمزة والواو بينهما هاء ساكنة، ثم ألف فزاي" بلد مشهور "وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، وهذا ظاهر في العيان بأن دين الإسلام كما أخبر عال على جميع الأديان. ومن ذلك، قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا، فما مات عليه الصلاة والسلام وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام, إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه.   القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله" وهذا جاء به المصنف من مؤلف لطيف لشيخه السخاوي، سماه التماس السعد في الوفاء بالوعد، وقال عقب هذا: وبهذا ظهر قوله صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت في الصحيح: "إن الذي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها". وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: "أتعرف الحرة"؟. قلت: لم أرها، سمعت بها. قال: "فوالذي نفسي بيده ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقوله: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والدين والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب". "ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] ، الذل والهوان {وَالْمَسْكَنَةُ} أي أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لهم وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته، "فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان، كما أخبر" الله تعالى، ومن ذلك أنه ليس لهم مملكة قط، بل هم مبددون في البلدان. "ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ} يعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} جميع الأديان المخالفة له {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، ذلك "وهذا ظاهر في العيان"، "بكسر العين" المشاهدة، "بأن دين الإسلام كما أخبر"، بأنه يظهره "عال" مرتفع "على جميع الأديان" باعتبار زاعميها {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} . "ومن ذلك" الإخبار بالغيب "قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] نبيه صلى الله عليه وسلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 القسم الثاني: في ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرءان العزيز فكان كما أخبر به في حياته وبعد مماته. أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد رفع لي الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه". وعن حذيفة قال: قام فينا رسول الله عليه الصلاة والسلام مقاما، فما ترك شيئا في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال   على أعدائه "والفتح" فتح مكة "إلى آخرها" أي السورة، "فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا": جماعات بعدما كان فيه واحد واحد، بعد فتح مكة جاءته العرب من أقطار الأرض طائعين، "فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه" تتبعه والكشف عنه. "القسم الثاني" بيان "ما" أي شيء كثير "أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرآن العزيز" الغالب على غيره، "فكان" فوجد بعد إخباره "كما أخبر" أي على الوجه الذي أخبر "به" بعضه وقع "في حياته" بعضه وقع "بعد مماته" على طبق ما قال. "أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد رفع" أي أظهر وكشف "لي الدنيا"، بحيث أحطت بجميع ما فيها، "فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه" إشارة إلى أنه نظر حقيقة، دفع به احتمال أنه أريد النظر العلم، ولا يرد أنه إخبار عن مشاهدة، فلا يلاقي الترجمة، لأن إخباره بذلك إخبار عن غيب عن الناس ثم يعلم باعتبار صدقه ووجوب اعتقاد ما يقوله أن كل ما علمه الناس بعده من جملة ما رآه رفعت له الدنيا صلى الله عليه وسلم. "وعن حذيفة" بن اليمان رضي الله عنهما، "قال: قام" أي خطيبا، فعبر بالقيام عن الخطبة، لأن الخطيب يخطب قائما "فينا"، أي الصحابة، أي قام ونحن عنده، فالظرفية مجازية "رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما"، "بفتح الميم" اسم لموضع القيام، ومنه: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} ، أي لا موضع، أما على قراءة "ضم الميم" فالمراد موضع الإقامة أو نفس الإقامة، بجعله مصدرا من أقام، "فما ترك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. رواه أبو داود. وروى مسلم من حديث ابن مسعود في الدجال: فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ".   شيئا" يكون كما في أبي داود، أي يوجد ويحدث بعده من فهم أحوال المسلمين، ومن يتولى أمورهم بعده، وما يكون بعده من الفتن، والحرب، فيكون تامة، والجملة صفة "شيئا"، "في مقامه ذلك" من وضع الظاهر موضع المضمر، لكمال العناية به "إلى قيام الساعة" القيامة "إلا حدث به" أي ذكر أنه سيوجد، والفعل في تأويل الاسم، كقولهم: أنشدك الله لا فعلت، والاستثناء متصل لدخول المحدث به في "شيئا"، وقيل: منقطع بمعنى لكن، "حفظه" أي ما حدث به "من حفظه" أي استمر على حفظه بعض من سمعه لاعتنائهم به، "ونسيه من نسيه" ممن سمعه، أي لم يداوموا بذكرهم له فنسوه، وأفرد ضمير حفظه ونسيه رعاية للفظ "شيئا"، "قد علمه أصحابي هؤلاء" الحاضرون عنده من الصحابة، "وأنه" أي الشأن "ليكون" يوجد "منه الشيء" في الخارج، "قد نسيته" لطول العهد "فأراه" بعد وجوده، "فأعرفه فأذكره" أي أتذكره وأستحضره، "كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه" فيه تقديم وتأخير أي كما أن الرجل إذا غاب عنه رجل كان يعرف وهه وسمته، وهو في مخيلته، لكنه لم يذكره، فإذا رآه تذكره وعرفه، فليس إذا متعلقا بيذكر، بل ينسى المعلوم من الكلام، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها تمثيليا "ثم قال حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي" هذا الحديث "أم تناسوه"، أي أظهروا نسيانه خوف الفتنة، لا لقلة الاهتمام به، كما زعم، بل لأنه من الأسرار التي لا ينبغي أن يحدث بها كل أحد، "والله" أقسم للتأكيد "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد"، "بقاف ودال مهملة" ومن زائدة، أي محرك "فتنة" محاربة وإيقاع ضرر بالمسلمين، كالحجاج وغيره الذين معهم جند تتبعهم، كما يتبع الجمل والفرس من يقوده، وفيه استعارة بالكناية، شبه الفتنة بخيل تقاد بمقاودها، وأثبت لها القائد تخييلا، "إلى أن تنقضي الدنيا" تتم وتنتهي مدتها، ويخرب العالم "يبلغ" يصل "من معه" من أتباعه، والضمير للقائد "ثلاثمائة فصاعدا إلا" قد "سماه لنا" صلى الله عليه وسلم "باسمه واسم أبيه وقبيلته" التي عرف بها أعم من كونها منها نسبا أو حلفا أو مقيما عندهم أو غير ذلك، بحيث لم يبق فيه شبهة، والجملة صفة قائد فتنة، أي أنه إنما ذكر منهم من جمعه ثلاثمائة، فأزيد، فإن نقص عنها لم يذكره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 فوضح من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته.   "رواه أبو داود" من طريق أبي وائل، عن حذيفة به، وروى صدره الشيخان، حتى قوله: عرفه، ولذا عزاه المصنف لأبي داود لزيادة، ثم قال حذيفة إلى آخر الحديث. "وروى مسلم" في أواخر صحيحه، في كتاب الفتن، "من حديث ابن مسعود في" أمر "الدجال" من طريق أبي قتادة العدوي، عن يسير بن جابر "بضم التحتية فسين مهملة مصغر" أو يقال أصله أسير، فسهلت الهمزة، قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيري، ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئا، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجتمعون لأهل الشام، ويجتمع لهم أهل الشام، قلت: الروم، يعني قال: نعم، ويكون عند ذلكم القتال ردة شديدة "بفتح الراء" أي هزيمة، فيشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لا يرى مثلها، وإما قال لم ير مثلها، حتى أن الطائر ليمر بجنبتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتا، فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك، فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، "فيبعثون عشرة فوارس طليعة"، "بطاء مهملة بوزن فعيلة" القوم، يبعثون أما الجيش، يتعرفون طلع العدو "بالكسر" أي خبره. "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم" التي يركبون عليها، "هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ" أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، هكذا في مسلم بالشك لبذلهم نفوسهم في نصر دين الله تعالى، وقوله: ليس له هجيري "بكسر الهاء والجيم مشددة والقصر"، أي شأن ودأب، وقوله: فيشترط المسلمون ضبط بوجهين "بتحتية ثم فوقية، وفتح الشين والراء المشددة، فطاء وبتحتية فشين ساكنة، ففوقية فطاء مهملة"، والشرطة "بضم المعجمة" أول طائفة من الجند تتقدم للقتال، ومعنى نهد بدال مهملة نهض، والدبرة "بفتح المهملة وسكون الموحدة" أي الهزيمة على الروح، وقوله فما يخلفهم، أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما. ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه عليه الصلاة والسلام ينتهي مددها. ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات. وفي حديث أنس عند أحمد والبخاري: أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد أحدًا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه برجله وقال له: "اثبت   يتجاوزهم، "فوضح" انكشف وانجلى "من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح"، "بمهملتين بينهما نون"، أي ظهر وعبر به تفننا، إذ هو بمعنى وضح "من خواطر الأبرار الأخيار أنه صلى الله عليه وسلم عرفهم" أعلمهم "بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه" أي وجب وجوبا لا يمكن إسقاطه، "فلا سبيل إلى فوته" بل لا بد منه. "وقال أبو ذر" في حديث رواه أحمد والطبراني وغيرهما: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ذهب عنا وانتقل إلى الآخرة "و" الحال أنه "ما يحرك طائر جناحيه في" جو "السماء إلا ذكرنا منه علما" أي عرفنا بعلامات فيه تدل على أشياء تقصد من طيرانه على الصفة التي هو عليها، كذا في الشرح. وقال غيره: أي ذكر لنا من طيرانه علما يتعلق به، فكيف بغيره مما يهمنا في الأرض، وهذا تمثيل لبيان كل شيء تفصيلا تارة، وإجمالا أخرى، والمعنى لم يدع شيئا إلا بينه لنا، بحيث لا يخفى علينا شيء بعده، وقد كان خطب قبل وفاته خطبا، أطال فيها مرة من الصباح إلى الظهر ومرة من الظهر إلى قبيل الغروب، لم يدع شيئا إلا بينه لأصحابه. وفي رواية: إلا ذكر لنا منه علما، "ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين" وعطف على ما فهم مما سبق أنه فيما يتعلق بأحوال الدنيا مما يمكن علمها والاطلاع عليها قوله: "وأما علم عوارف المعارف الإلهية، فتلك لا يتناهى عددها، وإليه صلى الله عليه وسلم ينتهي مددها" لا إلى غيره، إذ لا يصل إلى ذلك، "ومن ذلك" الغيب الذي أخبر به قبل وقوعه "ما رواه الشيخان" من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، "عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي"، "بفتح النون" واسمه أصحمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام. ومن ذلك: ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي   "للناس" أي أخبرهم بموته "في اليوم الذي مات فيه" في رجب سنة تسع، قاله ابن جرير وجماعة، وقيل: مات قبل الفتح، وفيه جواز الإعلام بالجنازة ليجتمع الناس للصلاة، والنعي المنهي عنه هو ما يكون معه صياح، خلافا لزاعم أنه الإعلام بالموت للاجتماع، فإن شهود الجنائز خير، والدعاء إلى الخير خير جماعا، قاله ابن عبد البر. وفي رواية للبخاري: نعى لنا النجاشي يوم مات، فقال: "استغفروا لأخيكم". "وخرج بهم إلى المصلى" مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع، أي بقيع بطحان، أو المراد موضع معد للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، قاله الحافظ. وفي الصحيحين عن جابر، مرفوعا: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه" وللبخاري: "فقوموا، فصلوا على أخيكم أصحمة"، ولمسلم: "مات عبد الله صالح أصحمة". وفي الإصابة: جاء في بعض طرق حديث أبي هريرة: أصبحنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل، فقال: إن أخاك أصحمة النجاشي، قد توفي، فصلوا عليه، فوثب ووثبنا معه حتى جاء المصلى، "فصف بهم" لازم والباء بمعنى مع"، أي صف معهم، أو متعد والباء زائدة للتوكيد، أصفهم، لأن الظاهر أن الإمام متقدم فلا يوصف بأنه صاف معهم إلا على المعنى الآخر، قاله الحافظ، "وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات" إشاعة لموته على الإسلام، لأن بعض الناس لم يعلم بأنه أسلم. وفي صحيح ابن حبان، عن عمران بن حصين: فقاموا وصلوا خلفه وهم لا يظنون، إلا أن جنازته بين يديه. وفي صحيح أبي عوانة، عن عمران: فصلينا خلفه ونحن لا نرى، إلا أن جنازته قدامنا. وذكر الواحدي: بلا سند، عن ابن عباس قال: كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي، حتى رآه وصلى عليه، وعلى هذا فصلاته كصلاة الإمام على ميت رآه، ولم يره المأموم، ولا خلاف في جوازها، وقد أشبعت الكلام على هذا الحديث في شرح الموطأ، ولله الحمد. "وفي حديث أنس عند أحمد والبخاري" وأبي داود والترمذي والنسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد"، "بكسر العين" علا "أحدا" الجبل المعروف بالمدينة، ولمسلم عن أبي سعيد، وأحمد بإسناد صحيح عن بريدة حراء، وجمع بتعدد القصة لما في مسلم، عن أبي هريرة أنه كان على حراء ومعه المذكورون هنا، وزاد: وعلي وطلحة والزبير "ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف" أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 نفسي بيده لتنفقن في سبيل الله، قال النووي قال الشافعي وسائر العلماء: معنا لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، فأعلمنا عليه الصلاة والسلام بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، فكان كما قال، فأما كسرى فانقطع ملكه بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق، واضمحل بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأما قيصر فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده واستقرت للمسلمين, ولله الحمد. وقد وقع ذلك في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب كما قدمته. وقال عليه   تحرك واضطرب "بهم الجبل، فضربه برجله" الشريفة صلى الله عليه وسلم، "وقال له": "اثبت أحد" منادى بحذف الأداة ونداؤه خطابه، وهو يحتمل المجاز والحقيقة، وهو الظاهر، ويؤيده ضربه برجله، "فإنما عليك نبي وصديق"، "بكسر الصاد وشد الدال" ملازم للصدق. وفي الطبراني: برجال ثقات أن عليا كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق، "وشهيدان" عمر وعثمان. قال ابن المنير: قيل: حكمة ذلك أنه لما رجف أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى لما حرفوا الكلم، وأن تلك رجفة الغضب، وهذه رجفة الطرب، ولذا نص على مقام النبوة والصديقية والشهادة التي توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانه، فأقر الجبل بذلك فاستقر وتقدم لهذا مزيد، "فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا هلك كسرى"، "بكسر الكاف" على الأفصح، وقد تفتح لقب لكل من ملك الفرس، أي إذا مات كسرى أنوشروان بن هرمز، "فلا كسرى بعده" بالعراق، "وإذا هلك" مات "قيصر" لقب لكل من ملك الروم، والمراد هرقل، "فلا قيصر بعده" بالشام، "والذي نفسي بيده لتنفقن"، "بضم الفوقية وسكون النون وكسر الفاء وضم القاف"، " كنوزهما" مالهما المدفون، أو الذي جمع وادخر "في سبيل الله" عز وجل، وقد وقع ذلك. وفي نسخة: الناصرية "بفتح الفاء والقاف" مصلحة، ورفع كنوزهما قاله المصنف. "قال النووي: قال الشافعي" الإمام "وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام" فلا يشكل ببقاء مملكة الفرس مدة، لأن آخرهم قتل في زمن عثمان، وببقاء مملكة الروم إلى الآن، "فأعلمنا صلى الله عليه وسلم، بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، فكان كما قال، فأما كسرى، فانقطع ملكه بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق" فرق جيشه في البلاد كل تفريق، "واضمحل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم" لما مزق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 الصلاة والسلام لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى"؟ , فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه وقال: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة. ومن ذلك: إخباره عليه الصلاة والسلام بالمال الذي تركه عمه العباس عند أم الفضل، بعد أن كتمه، فقال: ما علمه غيري وغيرها وأسلم كما تقدم ذلك في غزوة بدر من المقصد الأول.   كتابه إليه أن يمزق ملكه كل ممزق، وأحسن القائل: وكسر كسرى بتمزيق الكتاب فقد ... أذاقه الله تمزيقا بتمزيق "وأما قيصر، فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده" الشامية كلها وما والاها، "واستقر للمسلمين ولله الحمد" وإنما بقي ملكه في غيرها، لأنه قبل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجله، وكاد أن يسلم. انتهى. قال الشافعي: وسبب الحديث أن قريشا كانوا يأتون الشام والعراق تجارا، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهم لدخولهم في الإسلام فقال، النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك تطييبا لقلوبهم، وتبشيرا لهم، بأن ملكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين. وقال الخطابي: معناه: فلا قيصر بعده يملك مثل ما ملك، وذلك أنه كان بالشام وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نسك إلا به، ولا يملك على الروم أحد إلا إذا كان دخله إما سرا وإما جهرا فانجلى عنها قيصر، واستفتحت خزائنه، ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعده. "وقد وقع ذلك في خلافة سيدنا عمر كما قدمته" وعاش قيصر إلى سنة عشرين على الصحيح، وقيل مات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والذي حارب المسلمين بالشام ولده، ولقبه أيضا قيصر وأما كسرى بن هرمز الذي كتب إليه صلى الله عليه وسلم، فهلك في زمنه وتولى ابنه شيرويه، ثم هلك عن قرب، فأمروا عليهم بنته توران، فقال صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". "وقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه البيهقي "لسراقة" المدلجي، الذي تعرض له ليرده عن الهجرة، فساخت قوائم فرسه، فطلب الأمان: "كيف بك" جواب عما أبهم من الأحوال، وهو استخبار يتضمن التعجب من حاله التي هو عليها، لأن كل أحد لا ينفك عن حال من الأحوال إذا طرأ عليه ما لم يعهد مثله ونال ما لم ينال أمثاله، فكني عنه بما ذكر، وفيه من البلاغة ما لا يخفى "إذا لبست" أي وضعت ساعديك "سواري كسرى"، "مثنى سوار بضم السين وكسرها" ومثل هذا يسمى لبسا في اللغة، "فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه" أي سراقة تحقيقا للمعجزة، وهذا جاء على القلب، والأصل ألبسه إياهما، "وقال" عمر: "الحمد لله" على تصديق كلمة النبوة وإعزاز دينه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 وإخباره عليه الصلاة والسلام بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة. وبموضع ناقته حين ضلت وكيف تعلقت بخطامها في الشجرة. ولما رجع المشركون يوم الأحزاب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". فلم يُغْزَ رسول الله عليه الصلاة والسلام. وبعث عليه الصلاة والسلام جيشا إلى مؤته، وأمر عليهم زيد بن حارثة ثم قال: "فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة". فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر، فكشف له حتى   وزوال شوكة أعدائه وما فتح الله على يديه "الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة" أعرابي بدوي من بني مدلج متقشف. وفي رواية البيهقي أنه وضعهما في يديه، فبلغا منكبيه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك، ثم قال له: قل: الله أكبر الله أكبر وحمدًا لله على منه بنعمة الفتح وإعزاز الدين، وكبر تعظيما لمالك الملك الذي يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فتبارك الله الذي بيده الملك، الذي قصم من نازعه رداء كبريائه، فلا سلطان إلا سلطانه, ولا عز لغير من أعزه، وليس في هذا استعمال الذهب وهو حرام؛ لأنه إنما فعله تحقيقا لمعجزة الرسول من غير أن يقرهما، فإنه روي أنه أمره، فنزعهما وجعلهما في الغنيمة، ومثل هذا لا يعد استعمالا. "ومن ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام بالمال" أي الذهب "الذي تركه عمه العباس" لما خرج إلى بدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطم بها المشركين، فأخذت منه في الحرب "عند أم الفضل" زوجته لتربية الأولاد إن مات "بعد أن كتمه" وسأل أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: تتركني أتكفف قريضا، فقال: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة". "فقال: ما علمه غيري وغيرها" وما يدريك؟ فقال: "أخبرني ربي". "وأسلم كما تقدم ذلك في غزوة بدر" العظمى "من المقصد الأول". "وإخباره صلى الله عليه وسلم بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة" لما عزم على فتحها، ومر ما فيه من الإشكال، وجوابه ثمة "وبموضع ناقته حين ضلت" ببعض طريق تبوك، فقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم أين هي، فقال: "إني لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها". "وكيف تعلقت بخطامها في الشجرة" فقال: "وهي في الوادي في شعب كذا وكذا, وقد حبستها شجرة بزمامها, فانطلقوا حتى تأتوني بها". كما مر، "ولما رجع" انصرف "المشركون يوم الأحزاب، قال صلى الله عليه وسلم: "الآن" , أي من الآن "نغزوهم" نقصدهم بالحرب، "ولا يغزونا" لا يقصدونا به، فكان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 نظر إلى معتركهم فقال: "أخذ الراية زيد بن حارثة حتى استشهد". فصلى عليه, ثم قال: "استغفروا له, ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب حتى استشهد". فصلى عليه، ثم قال: "استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فاستشهد". فصلى عليه، ثم قال: "استغفروا لأخيكم". فأخبر أصحابه بقتلهم في الساعة التي قتلوا فيها، ومؤته دون دمشق بأرض البلقاء. وعن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام صبيحة اليوم الذي قتل فيه جعفر وأصحابه فقال: "يا أسماء! أين بنو جعفر"؟. فجئت بهم، فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه بالدموع فبكى، فقلت: يا رسول الله! أبلغك   كذلك، "فلم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد، فإنه اعتمر في سنة فصدوه، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، فغزاهم وفتح مكة، "وبعث صلى الله عليه وسلم جيشا" عدته ثلاثة آلاف "إلى مؤتة"، "بضم الميم وسكون الواو بغير همز عند الأكثر، وعند الأقل بالهمز"، "وأمر عليهم زيد بن حارثة" حبه ومولاه أبا أسامة، "ثم قال: "فإن أصيب" أي قتل "فجعفر بن أبي طالب" أميرهم، "فإن أصيب فعبد الله بن رواحة الأمير، فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم". كما هو بقية الحديث، "فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فكشف له حتى نظر إلى معتركهم"، "بضم الميم وفتح الراء" موضع العراك والمعاركة، أي: القتال، وفي نسخة: معركتهم، "فقال: "أخذ الراية زيد بن حارثة" أي حملها على العادة أن حاملها الأمير، وقد يدفعها لمقدم عسكره وإلا فهي معه من حين دفعها له صلى الله عليه وسلم بالمدينة، كما قدم المصنف، أنه عقد لواء أبيض، ودفعه إلى زيد "حتى استشهد" طعنا بالرماح، "فصلى عليه" أي دعا له، "ثم قال": "استغفروا له، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب" فقاتل على فرسه فأحاط به القتال، فنزل عنها وقاتل "حتى استشهد" بضربة رجل من النصارى، فقطعه نصفين "فصلى عليه" دعا له "ثم قال": "استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فاستشهد". "فصلى عليه" دعا له، فليس المراد صلاة الجنازة، إذ هم شهداء معركة، "ثم قال": "استغفروا لأخيكم". "فأخبر أصحابه بقتلهم في الساعة التي قتلوا فيها، ومؤتة دون دمشق بأرض البلقاء"، "بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف والمد" مدينة معروفة هناك. قال عياض: وبينه عليه السلام وبينهم مسيرة شهر أو أزيد، واعترض بأن بين المدينة ومؤتة نحو عشر مراحل يعرف ذلك من سلك طريقها، لكنه لم يعرفه لبعد بلاده، ورد بأنه يقتضي أنه قاله من عند نفسه بلا ثبت وليس كذلك، فإنه يختلف باختلاف الأحوال، كالماشي، وسير الجمال بأحمالها بخلاف الفرسان، وبطول الأيام وقصرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 عن جعفر شيء؟ قال: "نعم قتل اليوم"، رواه يعقوب الإسفراييني في كتابه دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق والبغوي. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". فكان كذلك امتدت في المشارق والمغارب ما بين أقصى الهند إلى أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه، وذلك ما لم يملكه أحد من الأمم. ومن ذلك: إعلامه قريشا بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها   "وعن أسماء بنت عميس"، "بمهملتين" مصغر زوجة جعفر، "قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة اليوم الذي قتل فيه جعفر وأصحابه" ثلاثة عشر بجعفر، وقدمت أسماءهم بغزوة مؤتة، وأن الكفار كانوا أكثر من مائتي ألف، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصابوا غنيمة، وفي هذا مزيد عز ظاهر للإسلام كما لا يخفى، "فقال": "يا أسماء أين بنو جعفر"؟ عبد الله ومحمد وعون، "فجئت بهم، فضمهم وشمهم، ثم ذرفت"، "بفتح الذال والراء وبالفاء" أي سالت "عيناه بالدموع، فبكى، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر", زاد في رواية ابن إسحاق وأصحابه: "شيء؟ قال": "نعم قتل اليوم". وعند ابن إسحاق: "نعم أصيبوا هذا اليوم". "رواه يعقوب الإسفراييني"، "بكسر الهمزة وسكون السين وفتح الفاء والراء وكسر التحتية بلا همز" نسبة إلى إسفرايين بليدة بنواحي نيسابور "في كتابه دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق" محمد في السير، "والبغوي" الكبير عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، عاش مائة وثلاث سنين. "ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "زويت"، "بضم الزاي مبني للمجهول"، أي جمعت "لي الأرض" وضم بعضها لبعض لأطلع على جميعها، كما جزم به عياض، وجوز بعض أنه كناية عن رفع الحجب وسعة الاطلاع والخروج من صفة البشر إلى صفة غيره، والمراد غالب الأرض، أطلق عليه اسم الكل مبالغة في الكثرة والإسراع، ثم يحتمل أن ذلك ليلة الإسراء أو غيرها من الليالي أو الأيام، "فرأيت مشارقها ومغاربها" كناية عن جميعها، كما في قوله: {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ، أو الجمع باعتبار تعدد المطالع، أو أنه لم يذكر الجنوب والشمال؛ لأن معظم امتداد هذه الأمة في جهتي المشرق والمغرب، "وسيبلغ ملك أمتي ما زوي" ضم وجمع "لي منها" أي الأرض أو المشارق والمغارب، وهذا الحديث أخرجه مسلم عن ثوبان، مرفوعا: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض". الحديث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 على بني هاشم، وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم لله، فوجدوها كما قال عليه الصلاة والسلام. ومن ذلك: ما رواه الطبراني في الكبير، والبزار من حديث ابن عمر قال: كنت جالسا مع النبي عليه الصلاة والسلام في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله! جئنا نسألك فقال: "إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت". فقالا: أخبرنا يا رسول الله! فقال الثقفي للأنصاري: سل. فقال: أخبرني يا رسول الله! فقال: "جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك   قال عياض: إنهما الذهب والفضة كنزا كسرى وقيصر ملكي الشام والعراق، لأنه في حديث آخر أضاف الدرهم إلى العراق، وكانت مملكة كسرى والدينار إلى الشام وهي مملكة قيصر، "فكان كذلك امتدت" اتسعت أو انتشرت "في المشارق والمغارب ما بين أقصى أرض الهند إلى أقصى أرض المشرق إلى بحر طنجة"، "بفتح الطاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم" بلد بساحل بحر المغرب "حيث لا عمارة"، "بكسر العين"، "وراءه" أي ليس بعده بلاد ولا جزائر معمورة، "وذلك" الذي امتد لهذه الأمة "ما" أي قدر "لم يملكه أحد من الأمم" السالفة. "ومن ذلك إعلامه قريشا بأكل الأرضة"، "بفتح الهمزة والراء والضاد المعجمة" دويبة "ما في صحيفتهم", وفي نسخة: ما في الصحيفة وهو موصول مفعول أكل الصدر، والأرضة فاعل، أي إعلامه أن الأرضة أكلت الحروف المكتوبة في الصحيفة، "التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم لله، فوجدوها كما قال عليه الصلاة والسلام" وسبقت القصة مفصلة في المقصد الأول. "ومن ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، والبزار" واللفظ له برجال ثقات، كما قال المنذري، ورواه ابن حبان بنحوه: كلهم "من حديث ابن عمر" عبد الله، "قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد منى" هو مسجد الخيف، "فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلما" فرد عليهما ولم يذكره؛ لأنه معلوم، "ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك" كل عن سؤال، "فقال": "إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألاني عنه فعلت"، "بتاء المتكلم"، "وإن شئتما أن أمسك" عن الإخبار "وتسألاني فعلت". "فقالا: أخبرنا يا رسول الله". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 فيه، وعن نحرك، وعن حلاقك رأسك وما لك فيه مع الإضافة". فقال: والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك. ومن ذلك: ما روي عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو في نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس، فقد نهينا عنه، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:   زاد في حديث أنس عند البيهقي: لنزداد إيمانا ونزداد يقينا، "فقال الثقفي للأنصاري: سل" وفي رواية ابن حبان عن ابن عمر: جاء أنصاري فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن، قال: "اجلس"، وجاء ثقفي فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن، فقال: "سبقك الأنصاري"، فقال الأنصاري: إنه غريب وإن للغريب حقا، فابدأ به، فأقبل على الثقفي، فقال: "إن شئت" ... إلخ، فذكر الحديث إلى أن قال: فقام الثقفي، ثم أقبل على الأنصاري، فذكر نحوه. وفي حديث أنس عند البيهقي فقال الأنصاري للثقفي: سل، فقال: بل أنت فسله، فإني أعرف حقك، فظاهر هذا كالرواية التي ساقها المصنف، أن الأنصاري تقدم بالسؤال، وصريح رواية ابن حبان أن المتقدم هو الثقفي؛ لأنه رتب ثم بعد ذكر سؤاله، وإخبار المصطفى بما جاء يسأل عنه، وقوله: فقام الثقفي، ثم أقبل على الأنصاري، ولعل وجه الجمع أن الأنصاري لما علم أن الحق له في التقديم، وطلب تقديم الثقفي لكون غريبا، وأبى الثقفي، وقال: "بل أنت فسله، فإني أعرف حقك، أي: بسبق السؤال وسبق الإسلام، ولم يرض بذلك الأنصاري، وصمم على تقديم الثقفي عليه إكراما له لغربته ولمعرفته حقه، "فقال" الأنصاري "أخبرني يا رسول الله! فقال": "جئتني تسألني عن مخرجك" خروجك "من بيتك، تؤم" تقصد "البيت الحرام وما لك فيه" من الثواب، "وعن ركعتيك بعد الطواف فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة" بها "وما لك فيه، وعن رميك الجمار" يوم النحر وبعده "وما لك فيه وعن نحرك" هديك، "وعن حلاقك رأسك وما لك فيه مع الإضافة"، فقال: والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك" قال صلى الله عليه وسلم: "فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لم تضع ناقتك خفا، ولم ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة ومحا به عنك خطيئة، وترفع بها لك درجة، وأما ركعتاك بعد الطواف، فإنهما كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة، فكعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبكم عدد الرمال وزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الكبائر الموبقات، وأما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 "دعوني وإياه فإني أعلم ما الذي أخرجه من منزله". فقلت: يا رسول الله ما الذي أخرجني من منزلي؟ قال: "أخرجك من منزلك لتسأل عن البر وعن الشك". قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره، فقال عليه الصلاة والسلام: "البر ما استقر في الصدر، واطمأن إليه القلب، والشك ما لم يستقر في الصدر، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون". ومن ذلك: قوله لفاطمة رضي الله عنها في مرضه: "وإنك أول أهلي لحاقا   نحرك فهو خير لك عند ربك، وأما حلاق رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويمحي عنك بها خطيئة". قلت: يا رسول الله فإن كانت الذنوب أقل من ذلك، قال: "يدخر لك في حسناتك، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يقع بين كتفيك، ثم يقول اعمل لما يستقبل فقد غفر لك ما مضى". قال الثقفي: أخبرني يا رسول الله، قال: "جئت تسألني عن الصلاة، إذا غسلت وجهك انتثرت الذنوب من أشفار عينيك، وإذا غسلت يديك انتثرت الذنوب من أظفار يديك، وإذا مسحت برأسك انتثرت الذنوب عن رأسك، وإذا غسلت رجليك انتثرت الذنوب من أظفار قدميك" ... الحديث، وفيه ذكر الرجوع والسجود والصلاة والصوم، فاقتصر المصنف على حاجته منه وهو الإخبار بالغيب، أما بقية الحديث، فمعلوم عند أصحابه، فلا يقال اقتصاره يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يجبه عن سؤاله، وأن الثقفي اكتفى بسؤال الأنصاري وليس كذلك، لا سيما والثقفي هو السابق بالسؤال. "ومن ذلك ما روي"، "عن واثلة"، "بمثلثة"، "ابن الأسقع"، "بقاف" ابن كعب الليثي، نزل الشام ومات في سنة خمس وثمانين وله مائة وخمس سنين، "قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة"، "بفتح السين وسكونها"، "فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس فقد نهينا عنه"، "بضم النون للعلم بالناهي" صلى الله عليه وسلم. روى أبو داود عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة وهو عند الترمذي، وقال حسن صحيح، بلفظ: إن رجلا جلس وسط الحلقة، فقال حذيفة: ملعون على لسان محمد, أو لعن الله على لسان محمد من جلس وسط الحلقة، قال الحاكم على شرط الشيخين، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "دعني" اتركوني "وإياه" يستفاد منه أن محل النهي ما لم يكن لحاجة، " "فإني أعلم ما الذي أخرجه من منزله"، فقلت: يا رسول الله ما الذي أخرجني من منزلي"؟ , أي أخبرني به لأزداد إيمانا، قال: "أخرجك من منزلك لتسأل" , أي إرادة وصولك إليّ لتسأل "عن البر وعن الشك". "قال" واثلة: "قلت: والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 بي". فعاشت بعده ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر. وقوله عليه الصلاة والسلام لنسائه: "أسرعكن بي لحاقا، أطولكن يدا". فكانت   فقال صلى الله عليه وسلم: "البر"، "بالكسر" أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر "بالضم" في تغذية البدن، والحصر مجازي، فالمراد معظم البر "ما استقر" أي ثبت "في الصدر" المحتوي على القلب "واطمأن إليه القلب" لأنه سبحانه فطر عباده على الميل إلى الحق والسكون إليه، وركز في طبعهم حبه. قال عياض: البر مشترك بين الصلة والصدق واللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وهذه يجمعها حسن الخلق، أي يستلزمها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث النواس: "البر حسن الخلق". "والشك ما لم يستقر" يثبت ويرسخ "في الصدر" بل تحرك وخطر، ولم يمازج نور القلب ولم يطمئن إليه، "فدع" أترك "ما يريبك إلى ما لا يريبك". "بفتح الياء وضمها فيهما، والفتح أكثر" رواية: وأفصح، أي أترك ما اعترض لك الشك فيه منقلبا إلى ما شك فيه، فإذا شككت في كون الشيء حسنا أو قبيحا أو حلالا أو حراما فاركه، واعدل إلى ما تيقنت حسنه وحله والأمر للندب، لأن اتقاء الشبهات مستحب لا واجب على الأصح، لحديث: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". "وإن أفتاك المفتون"، أي جعلوا لك رخصة، وذلك لأن على قلب المؤمن نورا يتقد، فإذا ورد عليه الحق التقى هو ونور القلب فامتزجا وائتلفا، فاطمأن القلب وهش، وإذا ورد عليه الباطل نفر نور القلب، ولم يمازجه، فاضطرب القلب. قال القرطبي: وإنما أحاله في الجواب على هذا الإدراك القلبي، لعلمه بجودة فهمه وتنوير قلبه، كما في الحديث الآخر: "العلم حزار القلوب"، أي القلوب المنشرحة للإيمان، المستضيئة بنور العلم، التي قال فيها مالك: العلم نور يضعه الله حيث شاء، وهذا الجواب لا يحسن لغليظ الطبع يعيد الفهم، وإنما يحسن أن يجاب، بأن يفسر له الأوامر والنواهي وأحكام الشرع. وقال غيره: الكلام في نفوس ماتت منها الشهوات وزالت عنها حجب الظلمات، لا في النفوس المرتكبة في الكدورات المحفوظة بحجب اللذات، فإنها تطمئن إلى الشك والجهل، أو تسكن إليه وتستقر فيها، فليس لأهل التخليط من هذه العلامات شيء لأن الحق لا يثبت إلا في قلوب طاهرة، وكذا الحكمة واليقين، ونحو هذا السؤال سأله وابصة بن معبد، وأخبره صلى الله عليه وسلم بما جاء يسأل عنه. أيضا أخرج أحمد والدارمي وغيرهما عن وابصة بن معبد أنه جاء يتخطى الناس حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا وابصة تحدثني بما جئت له أو أحدثك"؟، قال: بل أنت يا رسول الله، فهو أحب إليّ، قال: "جئت تسأل عن البر والإثم"، قلت: نعم، قال: "استفت نفسك، البر ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 زينب بنت جحش لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعلي: "أتدري من أشقى الآخرين"؟.   سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والأثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتوك". وأخرج مسلم عن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وأخرج أحمد برجال ثقات، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بما يحل لي وبما يحرم، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم وصوب في البصر، ثم قال: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لا تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون". "ومن ذلك قوله لفاطمة رضي الله عنها في مرضه" الذي توفي فيه، كما في الصحيحين من طريق مسروق عن عائشة، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا بابنتي". ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فسألتها، فقالت: أسر إليّ "إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني الآن مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهلي لحاقا بي". "بفتح اللام والحاء المهملة"، وفي رواية: "لحوقا بي". وبقية الحديث: فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين"؟. فضحكت. وفي الصحيحين أيضا من رواية عروة، عن عائشة عن اطمة: سارني فأخبرني أنه يقبض في وجعه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه، فضكحت، واتفقت الروايات على أن بكاءها لإعلامه إياها بموته، وضم مسروق لذلك: كونها أول أهله لحوقا به، واختلف في سبب ضحكها. ففي رواية مسروق: إخباره أنها سيدة نساء أهل الجنة، وفي رواية عروة كونها أول أهله لحاقا به، ورجح الحافظ رواية مسروق لاشتمالها على زيادة ليست في رواية عروة، وهو من الثقات الضابطين. وللنسائي من طريق أبي سلمة، عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين، "فعاشت بعده ثمانية أشهر" في قول ضعيف. "وقيل: ستة أشهر" وهو الصحيح المشهور الذي في البخاري وغيره عن عائشة، ورجحه الواقدي قائلا: وذلك لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك"، أخرجه أحمد في المناقب. وعند ابن أبي حاتم: "الذي يضربك على هذا" وأشار إلى يافوخه، وعند المحاملي: قال علي: عهد إليّ رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لتخضبن هذه من هذه". وأشار إلى لحيته ورأسه. وعند الضحاك: "الذي يضربك على هذه فتبتل منها هذه". وأخذ بلحيته. فضربه عبد الرحمن بن ملجم, وعند الطبراني وأبي نعيم، من حديث جابر مرفوعا: "إنك مؤمر مستخلف، وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذه". وقال عليه الصلاة والسلام لمعاوية: "أما إنك ستلي أمر أمتي من بعدي، فإذا   "وقوله عليه الصلاة والسلام لنسائه" فيما رواه مسلم والنسائي، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا". قالت: فكنا نتطاول أيتنا أطول يدا، قالت: "فكانت" أطولنا يدا "زينب بنت جحش، لأنها كانت تعمل بيديها" أي تدبغ وتخرز كما في رواية، "وتتصدق" به في سبيل الله. قال عياض: معنى نتطاول نتقايس، لأنهن حملن الطول على حقيقته، فكانت سودة أطولهن يدا، أي جارحة، فكانت تظن أنها هي حتى انكشف ذلك بموت زينب، فعلم أنه إنما أراد طول اليد بالصدقة، فإنه يعبر به عن الجود والكرم، يقال: فلان طويل اليد والباع، وفي ضده: قصير اليد وجعد الأنامل. ا. هـ. وماتت بالمدينة سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين. "ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعلي" بن أبي طالب: "أتدري من أشقى الآخرين"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك". أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من أشقى الأولين"؟. قال: عاقر الناقة، قال: "فمن أشقى الآخرين"؟. قال: الله ورسوله أعلم. "وعند ابن أبي حاتم" قال: "الذي يضربك على هذا" بدل قوله: قاتلك، "وأشار إلى يافوخه"، "بتحتية وفاء وخاء معجمة". "وعند المحاملي"، "بفتح الميم الأولى وكسر الثانية" نسبة إلى بيع المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، الحافظ أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبي، البغدادي محدثها، كان فاضلا، دينا، صدوقا، صنف وجمع وكان يحضر مجلسه عشرة آلاف رجل، ولي قضاء الكوفة ستين سنة ثم استعفي، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات سنة ثلاثين وثلاثمائة. "قال علي: عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتخضبن هذه من هذه". وأشار إلى لحيته" بقوله: هذه الأولى، "ورأسه" بهذه الثانية، وأنت باعتبار الهامة وإلا فالرأس مذكر، أي يضربه على رأسه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم". قال معاوية: فما زلت أرجوها حتى قمت مقامي هذا. رواه ابن عساكر. وأخرج ابن عساكر أيضا عن عروة بن رويم: لن يغلب معاوية أبدا، وإن عليا قال يوم صفين: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية أبدا. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "يقتل هذا مظلوما", وأشار إلى عثمان رضي الله عنه. خرجه البغوي في المصابيح من الحسان والترمذي وقال: حديث غريب، وخرجه أحمد، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام فاستشهد في الدار   ضربة يسيل بها دمه حتى يبل لحيته، فشبه دمه بالخضاب الصبغ، المعروف لتغييره لونها كما يغير الخضاب، ففيه استعارة. "وعند الضحاك: "الذي يضربك على هذه" أي رأسه باعتبار الهامة، "فتبتل منها" من دمها "هذه". وأخذ بلحيته" بيان للإشارة، "فضربه" بسيف مسموم في جبهته، فوصلت إلى دماغه "عبد الرحمن بن ملجم"، "بضم الميم وسكون اللام وفتح الجيم"، جزم به النووي وغيره، وحكى بعضهم كسرها، المرادي أحد الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة. "وعند الطبراني وأبي نعيم من حديث جابر مرفوعا" أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "إنك مؤمر"، "بضم الميم الأولى وفتح الثانية شديدة" أي مولى "مستخلف"، "بفتح اللام" أي مولى الخلافة "عطف بيان على مؤمر" لأن التأمير أعم، "وإنك مقتول، وإن هذه" لحيته "مخضوبة من" دم "هذه" أي رأسه. "وقال صلى الله عليه وسلم لمعاوية": "أما إنك ستلي أمر أمتي من بعدي، فإذا كان ذلك" أي ولايتك "فاقبل"، "بفتح الموحدة"، "من محسنهم وتجاوز"، "بفتح الواو"، "عن مسيئهم" مخصوص بغير الحدود. "قال معاوية: فما زلت أرجوها" أي البشارة المذكورة "حتى قمت مقامي هذا", أي استقرت لي الخلافة، "رواه ابن عساكر" بسند ضعيف "وأخرجه ابن عساكر أيضا عن عروة بن رويم"، "بالراء مصغرا" اللخمي، صدوق، يرسل كثيرا، مات سنة خمس وثلاثين ومائة على الصحيح، وهو من صغار التابعين، الذين رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت له سماع من أحد منهم، فحديثه معضل، وهو: "لن يغلب معاوية أبدا، وأن عليا قال يوم صفين"، "بكسر المهملة والفاء الشديدة" موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات، كانت به الوقعة بين علي ومعاوية في غرة صفر سنة سبع وثلاثين، ودامت أياما كثيرة: "لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . وفي الشفاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يقتل عثمان وهو يقرأ في المصحف، وإن الله عسى أن يلبسه قميصا، وإنهم يريدون خلعه وإنه سيقطر دمه على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ". انتهى. وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من دمك على: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ". لكن قال الذهبي: إنه حديث موضوع.   أبدا،" وهو معضل كما علمت، بل قيل: إنه موضوع، ولوائح الوضع ظاهرة فيه، فإن عليا ما رجع عن رأيه، بل كان عازما على قتاله، ثم شغله عنه قتال الخوارج كما بين في التواريخ. "ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "يقتل هذا مظلوما". وأشار إلى عثمان رضي الله عنه، خرجه البغوي" محيي السنة المتأخر "في المصابيح" وجعله "من" الأحاديث "الحسان" لأنه قسم المصابيح إلى صحاح، وهو ما أخرجه الشيخان، وإلى حسان، وهو ما رواه أصحاب السنن، وتعقب بأن في السنن الضعيف "و" هذا خرجه "الترمذي وقال: حديث غريب"، فلم يصرح بأنه حسن، "وخرجه أحمد، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام" فإنه بويع بالخلافة بإجماع الصحابة بعد موت عمر في المحرم سنة أربع وعشرن، "فاستشهد في الدار" بعد عصر يوم الجمعة من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت خلافته دون اثنتي عشرة سنة بأيام، "وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية" أي سقط عليها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى أنه لم يحصل منه ما يأثم به، بل ينال عظيم الثواب بصبره. "وفي الشفاء" لعياض: "أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يقتل عثمان وهو يقرأ في المصحف، وإن الله عسى", أي أرجو منه، والرجاء منه واقع "أن يلبسه قميصا" يعني الخلافة، استعار لها اسم القميص استعارة تحقيقية، ورشحها بقوله: "وإنهم يريدون خلعه", أي عزله من الخلافة، وهم مائتان من أهل الكوفة، ومائتان وخمسون من أهل البصرة، وستمائة من أهل مصر، طلبوا ذلك منه لأمور يطول شرحها، مفصلة في التواريخ، فامتنع لما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "لعل الله يقمصك قميصا، فإن راودوك على خلعه، فلا تخلعه حتى يخلعوه". "وإنه سيقطر دمه على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي يأخذ ثأرك ممن قتلك. "انتهى". "وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان تقتل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال: "هل ترون ما أرى، إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر" فكانت فتنة قتل عثمان وتتابعت الفتن إلى فتنة الحرة وكانت لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها وقائع كثيرة موجودة في كتب التواريخ. وأخرج البيهقي عن الحسن قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلي، حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد. وأخرج أيضا عن أنس بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك في خلافة يزيد. وأخرج أيضا عن مغيرة قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام وافتض بها ألف   وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على" قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الظاهر منه أن دمه قطر على رسم هذه الآية في المصحف الذي كان يقرأ فيه، واستبعد احتمال أنه أريق دمه عند آخر تلاوة الآية، "لكن قال الذهبي: إنه حديث موضوع" وأقره السيوطي، كما أقره المصنف. "وقد روى مسلم" في الفتن، والبخاري في أواخر الحج، وفي المظالم وفي علامات النبوة، وفي الفتن فما هذا الإيهام من المصنف؟ كلاهما من طريق ابن شهاب عن عروة "عن أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف" نظر من مكان مرتفع "على أطم"، "بضم الهمزة والطاء"، "من آطام"، "بفتح الهمزة والطاء والمد"، "المدينة" أي حصن من حصونها، "ثم قال" لأصحابه: "هل ترون ما أرى؟ إني لأرى" ببصري "مواقع" أي مواضع سقوط "الفتن خلال بيوتكم" أي نواحيها بأن تكون الفتن مثلت له حتى رآها، كما مثلت له الجنة والنار في القبلة حتى رآهما وهو يصلي، أو تكون الرؤية بمعنى العلم، "كمواقع القطر" شبه سقوط الفتن وكثرتها بالمدينة، بسقوط القطر في الكثرة والعموم، "فكانت فتنة قتل عثمان" التي هي المبدأ، "وتتابعت الفتن" بعده، كالجمل وصفين والنهروان وقتل الحسين "إلى فتنة الحرة"، "بفتح الحاء المهملة والراء الثقيلة" أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار بظاهر المدينة، "وكانت" بها الوقعة "لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها وقائع كثيرة موجودة في كتب التاريخ" لا حاجة إلى الإطالة بذكرها. "وأخرج البيهقي عن الحسن"، "بفتحتين" البصري، لأنه المراد عند الإطلاق عند أهل الحديث، ونسخة: الحسين بالتصغير خطأ، لأن الحسين بن علي قتل يوم عاشوراء سنة إحدى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 عذراء. وقال عليه الصلاة والسلام لأبي موسى وهو على قف بئر أريس، لما طرق عثمان الباب: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" إشارة إلى ما يقع من استشهاده يوم الدار، بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر قال ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام فتنة، فمر رجل فقال: "يقتل فيها هذا يومئذ ظلما". قال: فنظرت فإذا هو عثمان. وإسناده صحيح.   وستين قبل وقعة الحرة بسنتين، فأخطأ من زعم أنها الصواب، لأن الحسن لم يدرك زمن الحرة، فيقال له، وكذلك أخوه الحسين، وسبب الوهم ظنه أن المراد بالحسن المكبر السبط، وهو خطأ، فإنما المراد البصيري، "قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلي حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد". "وأخرج" البيهقي "أيضا" عن أنس بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن" أي حفظته، "منهم ثلاثمائة من الصحابة". وفي البخاري عن سعيد بن المسيب أن هذه الوقعة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا، "وذلك في خلافة يزيد" أي زمن ملكه قبحه الله وعامله بعدله، وسبب ذلك أن أهل المدينة لما ظهر فسق يزيد، خلعوه، وأخرجوا عامله عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بينهم، فبعث إليهم عسكرا، عدته سبعة وعشرون ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل. "وأخرج أيضا عن مغيرة، قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة" أمير جيش يزيد "المدينة" أي أباح الجيش نهبها والقتل فيها "ثلاثة أيام، وافتض"، "بالقاف، أو الفاء مبني للمجهول"، "بها ألف عذراء" قيل: وحملت في تلك الأيام ألف امرأة من غير زوج، وبلغت القتلى من الموالي والنساء والعبيد والصبيان عشرة آلاف، ثم بعد الثلاثة أيام أخذ عليهم البيعة ليزيد على أنهم عبيده، إن شاء أعتق وإن شاء قتل، ثم سار بالجيش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فمات بقديد، واستخلف على الجيش حصين بن نمير بعهد يزيد إليه بذلك، فنزل مكة وحاصرها، ورمى الكعبة بالمنجنيق، فجاء الخبر بموت يزيد، فرحل بالجي إلى الشام. "وقال عليه الصلاة والسلام" في حديث "لأبي موسى" الأشعري، "وهو" أي النبي صلى الله عليه وسلم "على قف"، "بضم القاف وشد الفاء" دكة حول "بئر أريس": بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون التحتية فسين مهلمة" بستان بالقرب من قباء، يجوز فيه الصرف وعدمه، وأصل القف ما غلظ من الأرض وارتفع، والجمع قفاف كما في الفتح. وقال المصنف: القف حافة البئر أو الدكة التي حولها "لما طرق عثمان الباب" أي باب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 وأخبر عليه الصلاة والسلام بوقعة الجمل وصفين وقتال عائشة والزبير عليا، كما أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي عن أم سلمة قال: ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة فقال: "انظري يا حميرا أن لا تكوني أنت". ثم التفت إلى عليٍّ فقال له: "إن وليت من أمرها شيئا   الحديقة، قال أبو موسى: وبابها من جريد، فجلست عنده، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ قال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة على"، قيل: بمعنى مع، والأقرب أنها بمعنى اللام "بلوى تصيبه"،" فجئته، فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلوى تصيبك، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان، فدخل، وذلك "إشارة إلى ما يقع من استشهاده يوم الدار" وأذى المحاصرة قبل القتل مدة، ومنع الماء عنه فيها. وروي عند البيهقي: أن عثمان قال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك، فأي بلاء يصيبني، قال: "هو ذاك". "بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر" بن الخطاب، "قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة", أي أخبر بوقوعها، "فمر رجل، فقال: "يقتل فيها هذا يومئذ ظلما". قال ابن عمر: "فنظرت" تأملت الرجل الذي أشار إليه حين مر، "فإذ هو عثمان" بن عفان، "وإسناده صحيح" فصرح بأن المراد بالبلوى القتل. وفي الطبراني الكبير ن زيد بن ثابت، مرفوعا: "مر بي عثمان وعندي جيل من الملائكة، فقالوا: شهيد من الآدميين يقتله قومه، إنا نستحيي منه". "وأخبر عليه الصلاة والسلام بوقعة الجمل" يوم الخميس عاشر جمادى الأولى، وقيل: خامس عشرة سنة ست وثلاثين، أضيفت إلى الجمل الذي ركبته عائشة في مسيرها، واسمه عسكر، اشتراه لها يعلى بن أمية الصحابي بمائتي درهم على الصحيح، وقيل: بأربعمائة، وكانت حاجة بمكة، فبلغها قتل عثمان، فحضت الناس على طلب دمه، وكان أهل العقد والحل قد بايعوا عليا بالخلافة، منهم: طلحة والزبير، واستأذناه في العمرة، فخرجا إلى مكة، فلقيا عائشة، فاتفقا معها على طلب دمه حتى يقتلوا قتلته، فخرجوا في ثلاثة آلاف رجل، ألف من مكة والمدينة، ولما بلغ ذلك عليا بالمدينة، خرج إليهم خوف الفتنة في تسعمائة راكب، وبعث ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة، فصعدا المنبر، فكان الحسن في أعلاه، وعمار أسفل منه، فقال عمار كما عند البخاري: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 فارفق بها".   وعند الإسماعيلي صعد عمار المنبر، فحرض الناس في الخروج إلى قتال عائشة، وفي رواية: فقال الحسن: إن عليا يقول: إني أذكر الله رجلا رعى الله حقا إلا نفر، فإن كنت مظلوما أعانني، وإن كنت ظالما أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني، ثم نكثا، ولم استأثر بمال ولا بدلت حكما، فخرج إليه اثنا عشر ألف رجل، ومراد عمار بما قال: إن الصواب مع علي، وإن عائشة مع ذلك لم تخرج عن كونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وذلك من إنصاف عمار وشدة ورعه وصدق لهجته وتحريه قول الحق، فلم تستخفه الخصومة إلى تنقيص خصمه، بل شهد لعائشة بمزيد الفضل مع ما بينهما من الحرب، لصدور ذلك منها عن اجتهاد. "و" أخبر بوقعة "صفين" كسجين: موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات كانت به الوقعة العظمى بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين، فمن ثم احترز الناس السفر في صفر، وذلك أن عليا بايعه أهل الحل والعقد بعد قتل عثمان، وامتنع معاوية في أهل الشام، فكتب إليه علي مع جرير البجلي بالدخول في الطاعة فأبى. وذكر يحيى بن سليمان الجعفي، أحد شيوخ البخاري في تأليفه في صفين بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أأنت تنازع عليا في الخلافة، أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه، فائتوا عليا، فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية، فخرج إليه علي في أهل العراق في سبعين ألفا، فيهم تسعون بدريا وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان، وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وخرج معاوية في أهل الشام في ثمانين ألفا وخمسة آلاف، ليس فيهم من الأنصار إلا النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد، فالتقى الجمعان بصفين، فتراسلوا، فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال، ودامت الحرب مائة يوم وعشرة أيام، فقتل من أهل الشام سبعون ألفا ومن العراق عشرون ألفا، وقيل: من الشام خمسة وأربعون ألفا، ومن العراق خمسة وعشرون ألفا، وآل الأمر في معاوية ومن معه إلى طلب التحكيم، ثم رجع عليّ إلى العراق، فخرجت عليه الحرورية، فقتلهم بالنهروان، ومات بعد ذلك رضي الله عنه، وظهر بقتل عمار مع علي أنه المصيب. وقد روى ابن عساكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي ستقتلك الفئة الباغية وأنت على الحق، فمن لم ينصرك، يومئذ فليس مني". "وأخبر بقتال عائشة والزبير عليا" في وقعة الجمل ولم يكن معهم معاوية. "كما أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية أم المؤمنين، "قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين" على الخليفة، "فضحكت عائشة" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 وعن ابن عباس مرفوعا: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب، ويقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت". رواه البزار وأبو نعيم. وأخرج الحاكم وصحح البيهقي عن أبي الأسود قال: شهدت الزبير خرج يريد عليا فقال له علي: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:   تعجبا من خروج المرأة على الخليفة، فقال: "انظري يا حميراء"، "تصغير حمراء للتحبب"، وهي البيضاء المشرب بياضها بالحمرة، وهو أحسن الألوان، فهذا حديث صحيح، فيه حميراء، فيرد على زاعم أن كل حديث فيه ذلك موضوع، "أن لا تكوني أنت". "ثم التفت" صلى الله عليه وسلم "إلى علي" رضي الله عنه، "فقال": "إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها". فامتثل الأمر، فإنه لما عقر الجمل وانهزموا، حمل أخوها محمد وعبد الرحمن بن أبزى هودجها، فوضعاه بين يدي علي، فأمر بها، فأدخلت بيتا كما عند أبي شيبة بإسناد جيد. وفي رواية: أن عليا أمر بحمل الهودج من بين القتلى، فاحتمله أخوها محمد وعمار بن ياسر، وجهز علي عائشة وأخرج أخاها محمدا معها، وشيعها علي بنفسه أميالا، وسرح بنيه معها يوما. "وعن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعا" اختصارا لقوله أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب"، "بهمزة مفتوحة ودال مهملة ساكنة فموحدتين" كما ضبطه المصنف في شرح البخاري. وفي القاموس: الأدب الجمل الكثير الشعر، وبإظهار التضعيف جاء في الحديث صاحبة الجمل الأدبب. ا. هـ. وفك إدغامه لمشاكلة الحوأب، ونسخة الأحمر من تصحيف الجهال "تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب" بحاء مهملة مفتوحة فواو ساكنة فمزة مفتوحة فموحدة" وبعضهم يقول "بضم الحاء وشد الواو" والمشهور الأول اسم ماء أو قرية فيها ماء بطريق البصرة قيل: سمي باسم حوأب بنت كلب بن وبرة لنزولها به، فكان كما قال: فلما وصلت عائشة إلى حوأب وأناخوا جملها نبحتها الكلاب، فسألت عن اسمه، فقيل: الحوأب، فقالت: ردوني وأخبرت بالحديث، فقال لها الزبير: يا أم المؤمنين أصلحي بين الناس، فسارت وكان ما كان، وقيل: حلف لها بعض من معها أنه ليس بالحوأب، وليس توجهها للصلح بين علي والزبير، كما زعم، إنما هو للطلب بدم عثمان كما مر، "ويقتل حولها" لفظ رواية البزار: يقتل عن يمينها وعن شمالها "قتلى كثيرة" ثمانية آلاف، وقيل: سبعة عشر ألفا. ومن أصحاب علي نحو ألف، وقيل: من أصحابه خمسة آلاف ومن أصحابها عشرة، وقيل: من كل فريق خمسة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 "تقاتله وأنت له ظالم"، فمضى الزبير منصرفا. وفي رواية أبي يعلى والبيهقي فقال الزبير: بلى ولكن نسيت. ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". رواه البخاري، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام، لأنه لما قتل علي بن أبي طالب بايع الحسن أكثر   آلاف "تنجو" تسلم، هي "بعدما كادت" قاربت عدم النجاة، "رواه البزار وأبو نعيم" وصريحه كسابقه أن المراد عائشة، وأن الجواب الماء القريب من البصرة، وقيل: المراد بالحوأب مخلاف بالطائف قتلت به سلمى مولاة عائشة، وكانت مع نسائه لما حدثهن بذلك، وهذا لا يصح، لأنه صرح بأنها تنجو، وتلك قتلت، وبأنها صاحبة جمل، ويقتل حولها قتلى كثيرة، ولم يكن لسلمى شيء من ذلك. "وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي الأسود" الديلي "بكسر المهملة وسكون التحتية" ويقال: الدؤلي "بالضم بعدها همزة مفتوحة" البصرى، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ثقة، من رجال الجميع، فاضل، مخضرم، مات سنة تسع وستين. "قال: شهدت الزبير" بن العوام "خرج" من الصف يوم الجمل "يريد عليا" لما نادى علي وهو على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ادعوا لي الزبير، فدعي له، فأقبل، "فقال له علي: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" لما مر بنا ونحن في مكان كذا وكذا وكل منا يضحك لصاحبه، فقال: "يا زبير تحب عليا"؟. فقلت: ألا أحب ابن خالي وأنا ابن عمته وعلى ديني، فقال: "تقاتله"، وعند أبي يلى: "أما والله لا تقاتلنه". "وأنت له ظالم" لأنه لم يفعل ما يوجب قتاله، "فمضى الزبير منصرفا" تاركا للقتال. "وفي رواية أبي يعلى والبيهقي، فقال الزير: بلى ولكن نسيت", وفي رواية قال: نعم، ولم أذكر ذلك إلا الآن، فانصرف، وفي رواية: أن سبب رجوعه أنه قال لأصحاب علي: أفيكم عمار بن ياسر، قالوا: نعم، فأغمد سيفه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: "تقتلك الفئة الباغية". ولا مانع أنه قال ذلك، ثم ذكره الحديث زيادة في إعلامه، ثم سار على فرسه فقتله عمرو بن جرموز بوادي السباع غيلة وهو نائم وجاء إلى علي متقربا بذلك، فبشره بالنار، فأخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وصححه الحاكم من طرق، بعضها مرفوع كما في الفتح، وقد كانت الحرب من ارتفاع الشمس إلى العصر، فلما غلب علي نادى مناديه: لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا جريحا، ولا تدخلوا دار أحد، ثم دخل البصرة وجمع الناس وبايعهم، ورجع إلى الكوفة واستعمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 من أربعين ألفا، فبقي سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار من أرض السواد، فعلم أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه، فأجابه معاوية إلا عشرة، فلم يزل يراجعه حتى بعث إليه برق أبيض وقال: اكتب ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك، فكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيصلح   ابن عباس على البصرة. "ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحسن بن علي" خاتم خلافة النبوة، قال أبو بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، وفي رواية: ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة، ويقول: "إن ابني هذا سيد" أي شريف رئيس مسود في قومه لشرف نسبه وذاته وفضله على غيره من جهات، وكفاه فضلا وشرفا قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيه سيد "وسيصلح الله" , كذا في نسخ، والذي في البخاري في الأربعة مواضع: "ولعل الله أن يصلح". "به" أي بسببه، نعم وقع مثل ما هنا في الشفاء، لكنه لم يعزه للبخاري، فلا تعقب عليه بخلاف المصنف "بين فئتين" تثنية فئة، أي فرقتين، وقوله: "عظيمتين" كبيرتين، ثبت عند البخاري في الصلح دون باقي المواضع "من المسلمين" يعني من كان معه ومن كان مع معاوية، وفيه أنه لم يخرج أحد من الطائفتين في تلك الفتنة بقول أو عمل عن الإسلام، إذ إحداهما مصيبة، والأخرى مخطئة، وكل مأجور، واستعمل لعل استعمال عسى لاشتراكهما في الرجاء، والأشهر في خبر لعل أن لا يقترن بأن، كقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ} [الطلاق: 1] وفيه أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس، لأنه علق السيادة بالإصلاح "رواه البخاري" في الصلح، وعلامات النبوة، والمناقب والفتن، وفيه علم من أعلام النبوة ظاهر، فإنه أخبر عن غيب "فكان كما قال عليه الصلاة والسلام، لأنه لما قتل علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه، "بايع الحسن أكثر من أربعين ألفا" على الموت، وكانوا أطوع وأحب له من أبيه، كما في الاستيعاب وغيره، "فبقي سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية، وسار معاوية إليه، فلما تراءى الجمعان" نظر بعضهم إلى بعض "بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار"، "بفتح الهمزة وإسكان النون وموحدة" بلد على الفرت "من أرض السواد"، "بالفتح والتخفيف"، أي سواد العراق، "فعلم" الحسن أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب" يهلك "أكثر الأخرى" فدعاه ورعه وشفقته على خلق الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". وأخرج الدولابي أن الحسن قال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين. ومن ذلك: إعلامه عليه الصلاة والسلام بقتل الحسين بالطف، وأخرج بيده تربته وقال: فيها مضجعه، رواه البغوي في معجمه من حديث أنس بن مالك بلفظ: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي عليه الصلاة والسلام فأذن له وكان في يوم   إلى ترك الملك والنزول عنه، "فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه" علي، "فأجابه معاوية" وقد طار فرحا إلى ما طلب، لكنه قال: "إلا عشرة" فأطالبهم بما كان، منهم: قيس بن سعد، "فلم يزل يراجعه" الحسن وقال: لا أصالحك وأنت تطلب أحدًا منهم، لا قيس ولا غيره "حتى بعث إليه" معاوية "برق"، "بكسر الراء وفتحها" جلد رقيق يكتب فيه "أبيض، وقال: اكتب ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك" وعلى أن الأمر للحسن بعد معاوية، وساء ذلك أكثر الناس حتى كانوا يقولون للحسن: يا ذل المسلمين وعار المؤمنين، فيقول: العار خير من النار، "فكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". "وأخرج الدولابي"، "بضم الدال وفتحها"، "أن الحسن" بن علي رضي الله عنهما "قال: كانت جماجم العرب" ساداتهم وقبائلهم التي تنسب إليها البطون "بيدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها" أي الخلافة، وكان أحق الناس بها، كما قاله غير واحد "ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين" لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة. وفي البخاري عن الحسن البصري: استقبل والله الحسن بن على معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاصي: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية: وكان والله خير الرجلين: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني شمس، عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، أي الصلح، وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه، فذكرا له ذلك، فقال لهما: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عائت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا، قالا: نحن. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 أم سلمة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا أم سلمة احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد". فبينما هي على الباب إذ دخل الحسين واقتحم فدخل على رسول الله عليه الصلاة والسلام فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يلثمه ويقبله، فقال له الملك، أتحبه؟ قال: "نعم"، قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها. قال ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء. وخرجه أبو حاتم في صحيحه ورواه   وفي الكامل لابن الأثير: أن معاوية أرسل رسوليه المذكورين قبل وصول كتاب الحسن إليه ومعهما صحيفة بيضاء، مختوم على أسفلها، وكتب إليه معاوية أن اكتب إليّ في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها بما شئت فهو لك، وذكر ابن سعد عن عمر بن دينار، أن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فراسله وأصلح الذي بينهما، وأعطاه عهدا إن حدث به حدث والحسن حي، ليجعلن هذا الأمر إليه، وعن عبد الله بن جعفر: قال لي الحسن إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه، قلت: ما هو؟ قال: رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي الأمر لمعاوية، فقد طالت الفتنة وسفكت الدماء وقطعت السبل، فقلت: جزاك الله خيرا عن أمة محمد، فبعث إلى حسين، فقال: أعيذك، فلم يزل به حتى رضي، ثم سار الحسن إلى المدينة، وعاش بعد ذلك عشر سنين، ومات مسموما في حياة معاوية. "ومن ذلك إعلامه عليه الصلاة والسلام بقتل الحسين بالطف" بفتح الظاء المهملة وشد الفاء، موضع بناحية الكوفة على شاطئ نهر الفرات، "وأخرج بيده تربته" أي الطف، "وقال: فيها مضجعه"، "بفتح الجيم وتكسر"، والأول أقيس وأفصح، والتعبير به إيماء إلى أنه حي شهيد، لأن أصله محل يضطجع فيه النائم، "رواه البغوي" الكبير، الحافظ أبو القاسم عبد الله بن محمد "في معجمه" في الصحابة "من حديث أنس بن مالك، بلفظ: استأذن ملك القطر" هو إسرافيل الموكل به وبالنبات، كما عند البيهقي وغيره عن عبد الرحمن بن سابط، وعند أحمد وابن سعد عن عائشة رفعاه: "أخبرني جبريل أن حسينا يقتل بشاطئ الفرات". لفظ علي ولفظ عائشة: "أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه". والجمع بينهما أنهما معا أخبراه بذلك في وقتين. "ربه" تبارك وتعالى "أن يزور النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له وكان في يوم أم سلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة احفظي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد". فبينا هي على الباب" تحفظه، "إذ دخل الحسين واقتحم" دخل بسرعة، "فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه"، "بكسر المثلثة وتفتح"، "ويقبله"، "بموحدة عطف تفسير"، "فقال له الملك: أتحبه، قال: "نعم"، قال: إن أمتك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 أحمد بنحوه. والسهلة بالكسر الرمل الخشن ليس بالدقاق الناعم. وفي رواية الملاء، قالت: ثم ناولني كفا من تراب أحمر، وقال: "إن هذا من تربة الأرض التي يقتل فيها فمتى صار دما فاعلمي أنه قد قتل". قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة عندي وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث. فاستشهد الحسين كما قال عليه الصلاة والسلام بكربلاء من أرض العراق، بناحية الكوفة، ويعرف الموضع بالطف، وقتله سنان بن أنس النخعي وقيل: غيره، ولما قتلوه بعثوا برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة فجعلوا يشربون بالرأس، فبينما   ستقتله" بغيا وعدوانا، "وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فأراه" إياه، "فجاء بسهلة"، "بكسر فسكون"، "أو تراب أحمر،" شك الرواي، "فأخذته أم سلمة، فجعلته في ثوبها" أي: ثم وضعته في القارورة، كما في الرواية الآتية، "قال ثابت" البناني راويه عن أنس: "كنا نقول إنها" أي الأرض المعبر عنها بالمكان "كربلاء" وجاء في رواية: شم صلى الله عليه وسلم التراب، وقال: "ريح كربلاء". "وخرجه أبو حاتم" محمد بن حبان الحافظ "في صحيحه، ورواه أحمد بنحوه, والسهلة "بالكسر" للسين المهملة, كما في الصحاح والقاموس، وقول بعض: المعجمة سبق قلم وإسكان الهاء "الرمل الخشن ليس بالدقاق" بضم الدال "الناعم". "وفي رواية الملاء"، "بفتح الميم واللام الشديدة" عمر الموصلي، لأنه كان يملأ بجامع المسجد بالموصل احتسابا "قالت" أم سلمة: "ثم ناولني"، "كفا من تراب أحمر، وقال: "إن هذا من تربة الأرض التي يقتل فيها" الحسين، "فمتى صار دما، فاعلمي أنه قد قتل" فيه معجزة أخرى هي الإخبار بأن أم سلمة تعيش بعد قتل الحسين، "قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة عندي، وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث" وتفصيل قصته يحرق الأكباد ويذيب الأجساد، وقد أفردها خلائق بالتأليف، واختصارها أنه لما مات معاوية تولى ابنه يزيد أبى الحسين أن يبايعه، وكتب إليه رجال من الكوفة: هلم إلينا نبايعك، فأنت أحق من يزيد، فنهاه جمع, منهم: ابن عمر عن الخروج إلى الكوفة، لأنهم لو صدقوا لأخرجوا عامل يزيد من بينهم، فأبى إلا الخروج، فقالوا لا تخرج بأهلك، فأبى إلا أن يصحبهم معه، فخرج من مكة إلى العراق، فأخرج إليه عبيد الله بن زياد عامل الكوفة جيشا، فالتقيا بكربلاء، وقتل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد فكتبت سطرا بدم: أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب فهربوا وتركوا الرأس. خرجه منصور بن عمار. وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية أنها قالت: لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دما فأصبحنا وحبابنا وجرارنا مملوءة دما, وكذا روي في أحاديث غير هذه.   الحسين من عسكر ابن زياد قتلى كثيرة حتى قتل، وخذله الذين بعثوا إليه، "فاستشهد الحسين، كما قال عليه الصلاة والسلام بكربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، ويعرف الموضع أيضا بالطف" إشارة إلى الجمع بين الروايتين، وقال غيره: كربلاء قريب من الطف، "وقتله" أي باشر قتله "سنان" "بكسر السين المهملة ونونين" "ابن أنس النخعي، وقيل: غيره" يعني شمر بن ذي الجوشن الضبابي. وعند البيهقي: كسفت الشمس عن قتله كسفة أبدت الكواكب نصف النهار، وفي رواية: واستمرت ثلاثة أيام وسمعت الجن تنوح عليه، "ولما قتلوه بعثوا برأسه" أولا إلى ابن زياد، فجعل في طست، فجعل ينكت كما في البخاري، أي يضرب بقضيب في أنفه وعينيه، ثم بعث به "إلى يزيد" بن معاوية مع نساء الحسين مكشفات الوجوه كالأسرى، "فنزلوا أول مرحلة، فجعلوا يشربون بالرأس" أي جعلوه ظرفا للخمر، "فبينما هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد، فكتبت سطرا بدم": "أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب" "فهربوا وتركوا الرأس، خرجه منصور بن عمار" زاد غيره: ثم عادوا وأخذوه، أو أخذه غيرهم، وقدم به على يزيد بدمشق، فطيف به فيه وبين يديه رجل يقرأ سورة الكهف، حتى بلغ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا} ، فأنطق الله الرأس بلسان ذرب، فقال: حالي أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي. أخرجه ابن عساكر عن منهال بن عمر، وثم طيف به في البلاد إلى أن انتهى إلى عسقلان، فدفنه أميرها بها، فلما غلب الفرنج على عسقلان، استنقذ الرأس منهم الصالح طلائع رزيك وزير الفاطميين بمال جزيل، وبني عليه المشهد بالقاهرة، كما أشار لذلك القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح، ونقله عنه الحافظ ابن حجر وأقره، لكن نازع في ذلك بعضهم بأن الحافظ أبا العلاء الهمداني ذكر أن ابن معاوية أرسل الرأس إلى المدينة، فكفنه عامله بها عمرو بن سعيد بن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 وقال عليه الصلاة والسلام لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" , رواه البخاري ومسلم فكان كما قال عليه الصلاة والسلام. ومن ذلك: ما رواه أبو عمر بن عبد البر أن عبد الله بن عمر رأى رجلا مع النبي عليه الصلاة والسلام فلم يعرفه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أرأيته"؟.   العاصي، ودفنه عند قبر أمه بالبقيع، قال: وهذا أصح ما قيل، وكذا قال الزبير بن بكار، ورجحه القرطبي، بأن الزبير أعلم أهل النسب، قال: وما ذكر أنه بمشهد في عسقلان أو القاهرة فباطل لا يصح، وقيل: أعيد إلى جثته، ودفن بكربلاء بعد أربعين يوما من مقتله. وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا، قال الحاكم: صحيح. قال الذهبي: على شرط مسلم، قال الحافظ: ورد من طريق واه عن علي مرفوعا: "قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا". "وذكر أبو نعيم الحافظ" أحمد بن عبد الله الأصبهاني "في كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية، أنها قالت: لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دما، فأصبحنا وحبابنا"، "بكسر الحاء المهملة وموحدتين جمع حب وهو الخابية"، "وجرارنا"، "بكسر الجيم جمع جرة بفتحها"، "مملوءة دما، وكذا روي في أحاديث غير هذه، أي آثار، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر. "وقال عليه الصلاة والسلام لعمار" بن ياسر: "تقتلك الفئة الباغية" الخارجة على الإمام الواجب الطاعة، وهي معاوية ومن معه، "رواه البخاري ومسلم،" واللفظ له من حديث أم سلمة، أما البخاري، فرواه من حديث أبي سعيد، قال: كنا نحمل لبنة لبنة. وفي لفظ عنده: كنا ننقل لبن المجد لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، قال عمار: أعوذ بالله من الفتن، وفي لفظ عنده: "يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار" , أي إلى طاعة الله، لأن طاعة الإمام من طاعة الله، ومن رواة البخاري من قال: "ويح عمار يدعوهم" ... إلخ، وأسقط ما بينهما. وفي مسلم عن أبي سعيد: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفر الخندق، وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية"، "بضم الموحدة" في بؤس، وهو المكروه، أي ما أعظمه وأشده، وفي لفظ له: "ويس -أو يا ويس- الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 قال: نعم، قال: "ذاك جبريل، أما أنك ستفقد بصرك"، فعمي في آخر عمره.   ابن سمية، وويس: "بفتح الواو وإسكان التحتية ومهملة" كلمة ترحم كويح، "فكان كما قال عليه الصلاة والسلام" فقتل مع علي بصفين، ودفن بها سنة سبع وثلاثين عن ثلاث أو أربع وتسعين سنة. وأخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن، عن أبي سنان الدؤلي الصحابي، قال: رأيت عمار بن ياسر دعا غلاما له بشراب، فأتاه بقدح لبن، فشرب منه ثم قال: صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آخر شيء تزوده من الدنيا صبحة لبن"، ثم قال: والله لو هزمونا حتى بلغوا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، واستشكل بأن معاوية كان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، أي إلى سببها. وأجيب بأنهم ظنوا أنهم يدعونه إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم، وإن كان في نفس الأمر بخلاف ذلك، لأن الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك هو علي الذي كان عمار يدعوهم إليه، كما أرشد لذلك بقوله: "يدعوهم إلى الجنة"، أي إلى سببها، وبجعله قتلة عمار بغاة، وهذا الحديث متواتر. قال القرطبي: ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال: إنما قتله من أخرجه، فأجابه علي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قتل حمزة حين أخرجه. قال ابن دحية: وهذا من الإلزام المفحم الذي لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها. قال القرطبي: فرجع معاوية وتأله على الطلب، وقال: نحن الفئة الباغية، أي الطالبة لدم عثمان، من البغاء "بضم الباء والمد"، وهو الطالب، قال الأبي: البغي عرفا الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، ولا يخفى بعد التأويلين أو خطأهما، والأول واضح، وكذا الثاني لأن ترك علي القصاص من قتلة عثمان، الذين قاموا بطلبه ورأوه مستند اجتهادهم، ليس لأنه تركه جملة واحدة، وإنما تركه لما تقدم، أي حتى يدخلوا في الطاعة، ثم يدعو على من قتل، قال: وأيضا عدم القصاص منكر قاموا لتغييره، والقيام لتغيير المنكر إنما هو ما لم يرد إلى مفسدة أشد، وأيضا المجتهد إنما حسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده، أما إذا بينه وكان خطأ فلا، ولله در الشيخ، يعني ابن عرفة، حيث كان يقول الصحبة حصنت من حارب عليا. انتهى. وقال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة: أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي أهل الحديث والرأي, منهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المسلمين والمتكلمين، على أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين، كما هو مصيب في أهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس بن شماس: "تعيش حميدا وتقتل شهيدا". رواه الحاكم وصححه، والبيهقي وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة. ومن ذلك: قوله لعبد الله بن الزبير: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك". فكان من أمره مع الحجاج ما كان.   الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، لكن لا يكفرون ببغيهم. وقال الإمام أبو منصور الماتريدي: أجمعوا على أن عليا كان مصيبا في قتال أهل الجمل: طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، وأهل صفين معاوية وعسكره. وفي روض السهيلي: أن عاملا لعمر قال له: رأيت الليلة كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل نجوم قال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر، قال: كنت مع الآية المحمودة، اذهب لا تعمل لي عملا أبدا، وعزله فقتل بصفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد. "ومن ذلك ما رواه أبو عمر" يوسف "بن عبد البر: أن عبد الله بن عمر رأى رجلا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيته" قال: نعم، قال: "ذاك جبريل، أما"، "بالفتح والتخفيف" "إنك ستفقد بصرك". "فعمى في آخر عمره". ذكره الغزالي وجماعة: أن رؤية الملائكة ممكنة، لأنها كرامة يكرم الله بها من يشاء من أوليائه، ووقع ذلك لجماعة من الصحابة، ولما رأى ابن عباس جبريل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يراه خلق إلا عمي إلا أن يكون نبيا، ولكن يكون ذلك آخر عمرك"، رواه الحاكم، وكذا رأته عائشة وزيد بن أرقم، وخلق لما جاء يسأل عن الإيمان ولم يعموا؛ لأن الظاهر أن المراد من رآه منفردا به كرامة له، قاله بعض المحققين، وهو وجيه، ورده بأن رؤية ابن عباس ليست كذلك، بل كرؤيته لما جاء يسأل عن الإيمان وهم، لأنه لما سأل عن الإيمان رآه جميع الحاضرين بخلاف قصة ابن عباس، فانفرد برؤيته دون من حضر. "ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس بن شماس"، "بفتح المعجمة والميم الثقيلة فألف فمهملة" خطيبه، وخطيب الأنصار لما افتقده حين نزل: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، فخاف أن تكون نزلت فيه، لأنه رفيع الصوت، فدعا به، فقال: "تعيش حميدا" محمودا في أفعالك وأقوالك عند الله وعند الناس، "وتقتل شهيدا" زاد في رواية وتدخل الجنة. "رواه الحاكم وصححه، والبيهقي وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة،" وعند ابن أبي حاتم عن أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 ومن ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن هذا الدين بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون سلطانا وجبرية". وقوله: ملكا عضوضا أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضا. وفي حديث سفينة عند أبي داود والترمذي قال: قال رسول الله عليه الصلاة   كان يوم اليمامة كان في بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل وقد تكفن وتحنط، فقاتل حتى قتل، ومر مزيد لذلك في المقصد الثاني. "ومن ذلك قوله لعبد الله بن الزبير" لما احتجم وأعطاه الدم، وقال: "اذهب فواره حيث لا يراه أحد"، قال: فذهبت، فشربته ثم أتيته، فقال: "ما صنعت بالدم"؟. "قلت: غيبته"، قال: "لعلك شربت"، قلت: شربته، قال: "ويل" للتحسر والتألم "لك من الناس" إشارة إلى محاصرته وتعذيبه وقتله وصلبه، "وويل للناس منك" لما أصابهم من حربه ومحاصرة مكة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم وتخريب الكعبة، فهو بيان لما تسبب عن شرب دمه، لأنه بضعة من النبوة، نورانية قوت قلبه حتى زادت شجاعته وعلت همته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحق إمارة فضلا عن الخلافة، "فكان من أمره مع الحجاج" الثقفي لما بعثه عبد الملك بن مروان لقتاله بجيش عظيم "ما كان" من حصاره ورميه الكعبة بالمنجنيق، ثم قتله وصلبه أياما إلى غير ذلك، وجاء أنه لما شرب دمه صلى الله عليه وسلم تضوع فمه مسكا، وبقيت رائحته موجودة في فمه إلى أن صلب بعد قتله سنة ثلاث وسبعين، وكانت خلافته تسع سنين، قال الإمام مالك: وكان أحق بها من عبد الملك وأبيه مروان. "ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الدين" أي الإسلام "بدأ" بهمزة آخره، أي ابتدأ أول أمر، وبألف مقصورة أي ظهر من العدم إلى الخارج، قيل: والأول أظهر هنا "نبوة ورحمة" بالنصب حال أو تمييز، أو بنزع الخافض، أي بدأ نبوته صلى الله عليه وسلم ورحمته للعالمين بإنقاذهم من الضلال والكفر. وأمر الجاهلية في الحياة النبوية، "ثم" بعده "يكون خلافة ورحمة" زمن الخلفاء الراشدين، وفي الشفاء: ثم يكون رحمة وخلافة بتقديم الرحمة لكونها قبلهم، واستمرت زمنهم وأخرها أولا، لأنها نشأت من النبوة، "ثم يكون" الدين بعد الخلافة "ملكا"، "بتثليث الميم"، "عضوضا"، "بفتح العين المهملة ومعجمتين"، "ثم يكون"، "بتحتية" الدين "سلطانا". وفي رواية: عتوا "بضم المهملة والفوقية"، أي خروجا عن طاعة الله تعالى "وجبرية" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 والسلام: "الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" قال سعيد بن جمعان: أمسك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة علي فوجدناها ثلاثين سنة، فقيل له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك. وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل مرت به عليه الصلاة والسلام فقال: "إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتني"، قالت فلما ولدته أتيته به فأذن في   "بفتح الجيم وسكون الموحدة وفتحها، فراء مكسورة، فتحتية ثقيلة" أي قهرا وتكبرا. "وقوله: "ملكا عضوضا"، أي يصيب الرعية فيه عسف"، "بفتح العين وسكون السين المهملتين وفاء" أي أخذ بذنب الغير، "وظلم"، "عطف عام على خاص"، "كأنهم يعضون"، "بفتح الياء أي يعض بعضهم على بعض "فيه عضا"، وهو استعارة شبه ظلمهم وعسفهم بعض حيوان مفترس يعض من رآه. "وفي حديث سفينة" مولى النبي صلى الله عليه وسلم، سماه بذلك لأنه كان معه في سفر، فأعيا بعض القوم، فألقوا عليه أمتعة كثيرة، فحملها، واسمه مهران، أو رومان، أو غير ذلك، كما تقدم "عند أبي داود والترمذي" والنسائي وأحمد وأبي يعلى وابن حبان. "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "الخلافة بعدي في أمتي" قال الحافظ: أراد خلافة النبوة، وأما معاوية فمن بعده، فعلى طريق الملوك ولو سموا خلفاء. وأخرج البيهقي في المدخل عن سفينة أول الملوك معاوية "ثلاثون سنة" فلم يكن فيها إلا الأربعة والحسن بن علي ختامهم، فإن مدة الصديق سنتان وثلاثة أشهر وتسعة أيام، وعمر عشر سنين وستة أشهر ومسة أيام، وعثمان إحدى عشرة سنة وإحدى عشر شهرا وتسعة أيام، وعلي أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام، والحسن باقي الثلاثين إلى أن نزل لمعاوية في نصف جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، "ثم ملك بعد ذلك" لأن اسم الخلافة إنما هو لمن صدق عليه هذا الاسم بعمله بالسنة، والمخالفون ملوك وإن تسموا خلفاء. "قال سعيد"، "بكسر العين"، "ابن جمعان" بضم الجيم وإسكان الميم، الأسلمي، أبو حفص البصري، تابعي صغير، صدوق، له أفراد، روى له أصحاب السنن، مات سنة ست وثلاثين ومائة، "أمسك" عليك، كما في رواية أبي داود "خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة علي" أي احبس نفسك على عد خلافتهم ولا تتجاوزه لغيره، فإنا حسبناها، "فوجدناها ثلاثين سنة" يعني بمدة الحسن، كما في الشفاء، ومن لم يعدها فلأنها لم تطل، ولم يدن له ما دان للأربعة، فكأنه اندرج في خلافة أبيه، فهما كرجل واحد فهو من الأربعة، "فقيل له: إن بني أمية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى وألبأه من ريقه وسماه عبد الله وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء" قالت: فأخبرت العباس, فأتاه فذكر له ذلك فقال: "هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم". وأخرج أبو يعلى عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتظهرن الترك على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم". ومن ذلك: إخباره عليه الصلاة والسلام بعالم المدينة، أخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الناس أن   يزعمون أن الخلافة فيهم، فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك" لأنهم غيروا أمر الدين وعتوا وتجبروا، وأولهم يزيد بن معاوية. "وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل" لبابة بنت الحارث زوج العباس، ولفظ الرواية عند أبي نعيم وابن حبان، وغيرهما عن ابن عباس، قال: حدثتني أم الفضل أنها "مرت به صلى الله عليه وسلم" وهو جالس في الحجر "فقال: "إنك حامل بغلام، فإذا ولدتيه فائتني به"، قالت: فلما ولدته" قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب قبل خروج بني هاشم منه "أتيته به، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى" فيه إشكال، لأن الأذان والإقامة إنما كانا بالمدينة، اللهم إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلمات الأذان والإقامة، ولم يوح إليه أنه يدعو بهما إلى الصلاة حتى استشار أصحابه، وكانت الرؤيا ولعلم عند الله، "وألبأه"، "بفتح الهمزة وإسكان اللام، فموحدة، فهمزة" أي صب في فيه "من ريقه" كما يصب اللبأ في فم الصبي، وهو أول ما يحلب عند الولادة، "وسماه عبد الله"، وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، زاد في رواية: "فلتجديه كيسا"، "قالت: فأخبرت العباس، فأتاه فذكر له ذلك" الذي حدثته به عنه، "فقال: "هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح"، لقب أول خلفائهم عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، "حتى يكون منهم المهدي" بن المنصور أخي السفاح، وليها عشر سنين حتى مات سنة تسع وستين ومائة، "حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم" إشارة إلى بقائهم إلى آخر الزمان. "وأخرج أبو يعلى عن معاوية" بن أبي سفيان، وأوله عند أبي يعلى عن معاوية بن خديج، قال: كنت عند معاوية، فأتاه كتاب عامله، أنه وقع بالترك وهزمهم، فغضب معاوية من ذلك، ثم كتب إليه لا تقاتلهم حتى يأتيك أمري فإني "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتظهرن الترك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة". قال سفيان بن عيينة: نرى هذا العالم مالك بن أنس، وقال عبد الرزاق: ولم يعرف بهذا الاسم   على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح"، "بالكسر" نبت معروف، "والقيصوم" نبت، وهو صنفان أنثى وذكر، والنافع منه أطرافه، وزهره مر جدا، ويدلك البدن منه للنافض، فلا يقشعر إلا يسيرا، ودخانه يطرد الهوام، وشرب سحيقه نيئا نافع لعسر النفس والبول والطمث ولعرق النسا، وينبت الشعر ويقتل الدود، قاله في القاموس. قال في فتح الباري: قد ظهر مصداق هذا الخبر، وقد كان مشهورا في زمن الصحابة حديث: "اتركوا الترك ما تركوكم" وقد رواه الطبراني عن معاوية، مرفوعا وقاتل المسلمون الترك في زمن بني أمية، وكان ما بينهم وبين المسلمين مسدود إلى أن فتح ذلك شيئا بعد شيء، وكثر السبي منهم، وتنافس فيهم الملوك لما فيهم من الشدة والبأس حتى كان أكثر عسكر المعتصم منهم، ثم غلب الأتراك على الملك، فقتلوا ابنه المتوكل، ثم أولاده واحدا بعد واحد إلى أن خالط المملكة الديلم، ثم كان الملوك الساسانية من الترك أيضا، فملكوا بلاد العجم، ثم غلب على ملك الممالك آل سبكتكين، ثم آل سلجوق، وامتدت مملكتهم إلى العراق والشام والروم، ثم كان بقايا أتباعهم بالشام، وهم آل زنكي وأتباع هؤلاء وهي بيت أيوب، واستكثر هؤلاء من الترك، فغلبوهم على الشام ومصر والحجاز، وخرج على آل سلجوق في المائة الخامسة الغز، فخربوا البلاد وفتكوا في العباد، ثم كانت الطامة الكبرى بالططر، فخرج جنكيزخان بعد الستمائة، فاستعرت بهم الدنيا نارا، خصوصا المشرق بأسره حتى لم يبق بلد منه حتى دخله شرهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة المعتصم آخر خلفائهم على أيديهم في سنة أربع وستين وستمائة، ثم لم تزل بقايهم يخرجون إلى أن كان اللنك، ومعناه الأعرج، واسمه تمر "بفتح المثناة وضم الميم" وربما أشبعت، فطرق البلاد الشامية، وعاث فيها، وأحرق دمشق حتى صارت خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن أخذه الله، وتفرق بنوه بالبلاد، فظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بني قنطوراء أول من يسلب أمتي ملكهم". أخرج الطبراني عن معاوية، وهم الترك وقنطوراء "بالمد والقصر" قيل: كانت جارية لإبرهيم الخليل، فولدت له أولادا فانتشر منهم الترك، حكاه ابن الأثير واستبعده، وأما شيخنا في القاموس، فجزم به وحكى قولا آخر: أن المراد به السودان، وكأنه يعني بقوله أمتي أمة النسب لا أمة الدعوة، يعني العرب. انتهى. "ومن ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام بعالم المدينة" النبوية، "أخرج" الترمذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 غيره ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه، وقال أبو مصعب: كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعني لطلب العلم. وممن روى عنه من الأئمة المشهورين: محمد بن شهاب الزهري، والسفيانان   وحسنه، والنسائي و"الحاكم، وصححه عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم "يوشك الناس أن يضربوا" وفي رواية: "يوشك أن يضرب الناس". "أكباد الإبل" يطلبون العلم، هكذا في الرواية عند الترمذي والحاكم قبل قوله: "فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة". وفي رواية: "أفقه من عالم المدينة" وفي أخرى: "آباط الإبل" مكان "أكباد الإبل"، وفي أخرى "يلتمسون العلم" مكان "يطلبون العلم"، وفي رواية: "لا تنقضي الساعة حتى يضرب الناس أكباد الإبل من كل ناحية إلى عالم المدينة يطلبون علمه". "قال سفيان بن عيينة" الهلالي، أبو محمد الكوفي، ثم المكي الثقة، الحافظ, الفقيه، الإمام, الحجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة: "نرى هذا العالم مالك بن أنس". وفي رواية عن سفيان: كنت أقول هو ابن المسيب، حتى قلت: كان في زمنه سليمان وسالم وغيرهما، ثم أصبحت اليوم أقول: إنه مالك، وذلك أنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة. وفي رواية عن سفيان: كانوا يرونه مالك بن أنس، قال ابن مهدي: يعني بقوله: كانوا التابعين وقال غيره: هو إخبار عن غيره من نظرائه، أو ممن هو فوقه، قال القاضي عبد الوهاب: لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب، إذ ليس منهم من له إمام من أهل المدينة، فيقول: هو إمامي، ونحن نقول: إنه صاحبنا بشهادة السلف له، وبأنه إذا أطلق بين العلماء قال عالم المدينة وإمام دار الهجرة، فالمراد به مالك دون غيره من علمائها، قال القاضي عياض: فوجه احتجاجنا بهذا الحديث من ثلاثة أوجه: الأول تأويل السلف، وما كانوا ليقولوا ذلك إلا عن تحقيق، الثاني: شهادة السلف الصالح له، وإجماعهم على تقديمه يظهر أنه المراد، إذ لم يحصل الأوصاف التي فيه لغيره، ولا أطبقوا على هذه الشهادة لسواه، الثالث: ما نبه عليه بعض الشيوخ أن طلبة العلم لم يضربوا أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها إلى عالم ولا رحلوا إليه من الآفاق رحلتهم إلى مالك شعر: فالناس أكيس من أن يحمدوا رجلا ... من غير أن يجدوا آثارا حسان "وقال عبد الرزاق" بن همام الصنعاني، الحافظ الثقة، أحد تلامذة مالك: "ولم يعرف بهذا الاسم" أي عالم المدينة "غيره" من علمائها، "ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 والشافعي والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام، وصاحباه: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد، ويحيى بن يحيى شيخ البخاري ومسلم، وأبو رجاء قتيبة بن سعيد شيخ البخاري ومسلم، وذو النون المصري، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم بن أدهم. كما نقله العلامة عيسى بن مسعود الزواوي في كتاب   ضربت إليه" من شرق الأرض وغربها. "وقال أبو مصعب" أحمد بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب الزهري، المدني، الفقيه الصدوق، مات سنة ثنتين وأربعين ومائتين، وقد أناف على التسعين، وهو من تلامذة مالك: "كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعني لطلب العلم" وكان له حاجب يأذن أولا للخاصة، فإذا فرغوا أذن للعامة. "وممن روى عنه من الأئمة المشهورين محمد" بن مسلم بن عبيد الله "بضم العين" ابن عبد الله "بفتحها" ابن شهاب" القرشي "الزهري" شيخ مالك ومات قبله بخمس وخمسين سنة، "والسفيانان" ابن سعيد الثوري وابن عيينة، وهما من أقرانه، "والشافعي" الإمام، "والأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو الثقة الفقيه، "إمام أهل الشام" من أقران مالك، مات سنة سبع وخمسين ومائة قبل مالك بأزيد من عشرين سنة، "والليث بن سعد" بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، ثقة، فقيه، إمام مشهور، "إمام أهل مصر" مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة قبل مالك بقليل وهو من أقرانه. "و" روى عنه من أقرانه أيضا الإمام "أبو حنيفة النعمان بن ثابت" الكوفي، يقال أصله من فارس، ويقال: مولى بني تميم الفقيه، العلم الشهير، مات وله سبعون سنة في سنة خمسين ومائة على الصحيح قبل مالك بنحو ثلاثين سنة. ذكر السيوطي: أنه روى عنه حديثين، أخرجهما الخطيب، أحدهما من طريق القاسم بن الحكم العرني "بضم العين المهملة وفتح الراء ونون"، قال: حدثنا أبو حنيفة عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: أتى كعب بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن راعية له كانت ترعى في غنمه، فتخوفت على الشاة الموت، فذبحتها بحجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلها، وثانيهما من طريق إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عن أبي حنيفة، عن مالك، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع، عن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وصمتها إقرارها". انتهى. وقال ابن عبد البر في الحديث الثاني: قيل: رواه أبو حنيفة عن مالك، ولا يصح، لكن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 "المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك". وإخباره بعالم قريش، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله عليه الصلاة   جزم تلميذ تلاميذه عياض، بأنه رواه عنه، وزاد في تزيين الممالك ثالثا عن أبي حنيفة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "إذا صليت الفجر والمغرب ثم أدركتهما" فلا تعدهما، وقد أورد في الشفاء فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الغيب حديث ابن مسعود، رفعه: "لو كان العلم معلقا بالثريا لتناوله رجال من فارس". وفي لفظ: لتناوله رجل بالإفراد، فجزم السيوطي، بأنه أبو حنيفة، لأنه لم يبلغ من أبناء فارس في العلم مبلغه أحد، ولا مبلغ أصحابه، والمراد بفارس الفرس جنس من العجم، كان جد "الإمام" منهم لا البلد المعروف، لكن هذا على أنه منهم، أما على أنه مولى تيم، فلا يفسر به، وهما قولان، حكاهما الحافظ في تقريبه، "وصاحباه أبو يوسف" يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الكوفي، ثقة حافظ، كثير الحديث، صدوق، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة وله تسع وسبعون، "ومحمد بن الحسن" الشيباني أقام عند مالك مدة، وكان يحبه، فأسمعه ثلاثمائة حديث من لفظه، "وعبد الرحمن بن مهدي" بن حسان العنبري، أحد الحفاظ الثقات، الأثبات، "شيخ الإمام أحمد" وشخ غيره، وخصه لشهرته وجلالته، "ويحيى بن يحيى" بن بكير بن عبد الرحمن التميمي أبو زكريا النيسابوري، "شيخ البخاري ومسلم" ثقة، ثبت إمام، وهو غير يحيى بن يحيى بن كثير الليثي، الأندلسي, وقد يلتبسان على من لم يعلم، وهما معا كابن مهدي وابن الحسن من رواة الموطأ، أما أبو يوسف، فإنما روى الموطأ عن مالك بواسطة، "وأبو رجاء قتيبة بن سعيد" بن جميل "بفتح الجيم" ابن طريف الثقفي، البغلاني "بفتح الموحدة وسكون المعجمة" اسمه يحيى، وقيل: علي. ثقة، ثبت، مات سنة أربعين ومائتين عن تسعين سنة، "شيخ البخاري ومسلم" وشيخ باقي الأئمة الستة، وهو من رواة الموطأ، "وذو النون المصري" ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض النوبي، أوحد وقته علما وورعا وأدبا، ولد بإخميم، وهو أول من عبر عن علوم النازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدث علما، لم تتكلم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، ورموه عنده بالزندقة، فأحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل ورده مكرما، مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد قارب سبعين. قال ابن السبكي: كان أهل مصر يسمونه الزنديق، فلما مات أظلت الطير الخضر جنازته، ترفرف عليه إلى أن وصل إلى قبره، فلما دفن غابت، فاحترم أهل مصر قبره. انتهى. وعده بعض الحفاظ من رواة الموطأ، "والفضيل بن عياض" ابن مسعود التميمي، أبو علي الزاهد المشهور، العابد، الثقة، الإمام، أصله من خراسان، وسكن مكة ومات سنة سبع وثمانين ومائة، وقيل: قبلها، "وعبد الله بن المبارك" المروزي، الحنظلي، مولاهم، ثقة ثبت، فقيه، عالم، جواد، مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، مات سنة إحدى وثمانين ومائة وله ثلاث وستون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 والسلام: "لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما". رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفيه الجارود مجهول، لكن له شواهد عن أبي هريرة في تاريخ بغداد للخطيب وعن علي وابن عباس في المدخل للبيهقي. قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعي، لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قريش من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي، وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا موضوعا يحتج أو يستأنس به في أمر شيخه الشافعي. وأما قوله:   سنة، "وإبراهيم بن أدهم" بن منصور العجلي، وقيل: التميمي أبو إسحاق البلخي، الزاهد، صدوق، مات سنة اثنتين وستين ومائة قبل مالك بمدة، وهو من أقرانه، "كما نقله العلامة عيسى بن مسعود" بن منصور بن يحيى بن يونس "الزواوي" الفقيه، العالم، المتفنن، انتفع به الناس، وانتهت إليه رياسة المالكية بالديار المصرية. وشرح المدونة وصحيح مسلم في اثني عشر مجلدا وتاريخ نحو عشر مجلدات، ورد على ابن تيمية في مسألة الطلاق وابن الحاجب سبع مجلدات إلى كتاب الصيد وغير ذلك، ولد بالمغرب سنة أربع وستين، وستمائة، ومات بالقاهرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة. "في كتاب المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك،" قال ابن عبد البر: ألف الناس في فضائل مالك كتبا كثيرة. انتهى. والرواة عنه كثيرون جدا، بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته، ذكر عياض أنه ألف فيهم كتابا، ذكر فيه نيفا على ألف وثلاثمائة، وعد في مداركه نيفا على ألف، ثم قال: إنما ذكرنا المشاهير وتركنا كثيرا. وقال الدارقطني: لا نعلم أحدًا ممن تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك، روى عنه رجلان حديثا واحدا بين وفاتيهما نحو من مائة وثاثين سنة: الزهري، عن شيخه، توفي سنة خمس وعشرين ومائة، وأبو حذافة السهمي توفي بعد الخمسين ومائتين، رويا عنه الحديث الفريعة بنت مالك في سكنى المعتدة. "و" من ذلك "إخباره بعالم قريش، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا قريشا، فإن عالمها يملأ طباق"، "بكسر الطاء جمع طبق"، أي نواحي "الأرض"، كأنه غطاها من جميع جوانبها "علما" اللهم إنك أذقت أولها نكالا ووبالا، فأذق آخرها نوالا، هذا بقية الحديث الذي "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي" الحافظ "في مسنده، وفيه الجارود"، "بالجيم" راويه عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود "مجهول" والرواي عنه مختلف فيه كما في المقاصد، "لكن له شواهد" تقويه" عن أبي هريرة في تاريخ بغداد للخطيب" من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عالم قريش يملأ الأرض علما" أتى بصيغة التمريض احتياطا للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من الضعف. قاله العراقي ردا على الصغاني في زعمه أنه حديث موضوع، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه: لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا. وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله. رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة وبأن الله يبعث إلى   حديث وهب بن كيسان عنه، رفعه: "اللهم اهد قريشا، فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما، اللهم كما أذقتهم عذابا، فأذقهم نوالا". دعا بها ثلاث مرات، وراويه عن وهب فيه ضعف كما في المقاصد. "وعن علي وابن عباس في" كتاب "المدخل للبيهقي" وثانيهما، أي حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي، وقال: حسن بلفظ "اللهم اهد قريشا" فإن علم العالم يسع طباق الأرض. "قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعي" الإمام، "لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قرشي من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي" التعليل بهذا الغير أحمد. قال السخاوي: الحديث منطبق على الشافعي، ويؤيده قول أحمد كما في المدخل، إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرا أخذت فيها بقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش، قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عالم قريش يملأ الأرض علما"، "وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا موضوعا يحتج به أو يستأنس به في أمر شيخه الشافعي" لفظ السخاوي، به للأخذ في الأحكام بقول شيخ الشافعي. "وأما قوله: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عالم قريش يملأ الأرض علما أتى" أي فأتى. وعبارة شيخه: وإنما أورده "بصيغة التمريض" المقتضية للضعف "احتياطا للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من الضعف، قاله العراقي" الحافظ زين الدين "ردا على الصغاني في زعمه أنه حديث موضوع" ولا وجه له، فغاية ما فيه أن مفرداته ضعيفة، وبتعددها وبالشواهد يرتقي إلى درجة الحسن لغيره. "وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة، فكيف يتصور وضعه، ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة. وبذهاب الأمثل فالأمثل رواه الحاكم وصححه قال: "تذهبون الخير فالخير".   كذاب فيه ولا متهم؟ "وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق" أي غالبين من خالفهم، وفي رواية لمسلم: يقاتلون على الحق ظاهرين "حتى يأتي أمر الله" وفي رواية: حتى تأتيهم الساعة، وقال النووي: أمر الله هو الريح الذي يأتي، فيأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة، واستدل به أكثر الحنابلة وبعض من غيرهم على أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد، وعورض بحديث ابن عمر، مرفوعا عند البخاري وغيره: "أن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه، ولكن ينزعه منه بقبض العلماء بعلمهم، فتبقى ناس جهال يستفتون، فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون". وفيه دلالة على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور، لأنه صرح في رفع العلم بقبض العلماء وترئيس الجهال وإذا انتفى العلم ومن يحكم به، استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد. "رواه الشيخان" البخاري في آخر العلامات والاعتصام والتوحيد ومسلم في الجهاد "من حديث المغيرة بن شعبة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال ناس". وفي رواية: "طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". قال البخاري: هم أهل العلم. وفي الترمذي، عن البخاري، عن شيخه علي بن المديني: هم أصحاب الحديث، وقال النووي: يجوز أن الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، قال: ولا يلزم اجتماعهم بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وتفرقهم في الأقطار، وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا أتى أمر الله. انتهى. وفي مسلم عن سعد بن أبي وقاص، مرفوعا: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" قال علي بن المديني: هم العرب، لأنهم المخصوصون بالسقي بالغرب، وهي الدلو العظيمة، وقال غيره: هم أهل المغرب "بالميم" لوروده بميم في بعض الطرق. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، قاهرين لعدوهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس". والمراد بهم الذين يحصرهم الدجال فينزل عيسى إليهم فيقتله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 وبالخوارج: رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: بينما نحن عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة، فقال: يا   وفي البخاري عن معاذ وهم بالشام، وفي المفهم رواية أهل المغرب "بالميم" تدل على إبطال التأويلات فيه، قال: والمراد بالمغرب جهة المغرب، من المدينة إلى أقصى بلاد المغرب فيدخل فيه الشام وبيت المقدس، فلا منافاة بين الروايات. وأرسل الطرطوسي رسالة لأهل المغرب، ذكر فيها الحديث، وقال: هل أراكم صلى الله عليه وسلم إلا لما أنتم عليه من التمسك بالسنة وطهارتكم من البدع واقتفاء أثر السلف، وقد جمع بين هذا وبين حديث مسلم، عن عبد الله بن عمر، مرفوعا: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ... الحديث، بأن المراد بهم قوم يكونون بموضع مخصوص، ويكون بموضع آخر طائفة ظاهرون على الحق، وبأن ذلك بعد هبوب الريح بعد موت عيسى، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم، فضلا عن هذه الطائفة الكريمة، قال الحافظ: وهذا أولى ما يتمسك به في الجمع بين الحديثين. انتهى. ومر في الخصائص شيء من هذا، "و" أخبر "بأن الله يبعث" يفيض "إلى هذه الأمة على رأس" أي أول "كل مائة سنة" من الهجرة، كما صرح به السبكي وغيره، وتجويز أن المراد من المولد النبوي، أو البعثة، أو الوفاة بعيد، إذ التاريخ من الهجرة "من يجدد لها دينها" أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدع ويذلهم، قالوا: ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة. قال ابن كثير: وقد ادعى كل قوم في إمامهم، أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر أنه يعم حملة العلم من كل طائفة، وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم. وفي الفتح: نبه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط، بل الأمر فيه، كما ذكر النووي في حديث: "لا تزال طائفة"، وسبق كلامه: ولا يشترط أن يكون المجدد مجتهدا، واشترطه بعضهم: ولا أن يكون هاشميا، وأما خبر أبي داود: "المجدد منا أهل البيت"، فذاك لما ورد مرفوعا: "آل محمد كل تقي" وأسانيده وإن كانت ضعيفة، لكنها تعددت وشواهده كثيرة، "رواه الحاكم" في الفتن "وصححه" لأن رجاله كلهم ثقات، وقد رواه أبو داود في الملاحم من سننه، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في المعرفة، كلهم "عن أبي هريرة" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". "و" من ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم "بذهاب" أي موت "الأمثل، فالأمثل" أي الأفضل فالأفضل، "رواه الحاكم وصححه" والطبراني والبخاري في التاريخ، كلهم عن رويفع بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 رسول الله، اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، خبت وخسرت إن لم أعدل". فقال: عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فقال عليه الصلاة والسلام: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على   قال: "تذهبون"، "بفوقية أوله"، "الخير فالخير" بالتشديد، حتى لا يبقى منكم إلا مثل هذه، وأخذ حشفة من تمر، وأشار بها، هذا بقية الحديث. "و" أخبر "بالخوارج، رواه الشيخان من حديث أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان "الخدري" الصحابي ابن الصحابي، "بلفظ: بينما"، "بالميم" نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما"، "بفتح القاف، مصدر قسمت الشيء فانقسم، سمي الشيء المقسوم بالمصدر، والواو للحال" زاد في رواية: يوم حنين، وفي أخرى للبخاري: أن المقسوم كان تبرا، بعثه علي بن أبي طالب من اليمن، قسمه بين عيينة وأقرع بن حابس وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، وبين الحافظ أن الشك في عامر، وهم من بعض رواته، لأنه مات قبل ذلك كافرا، فالصواب أنه علقمة بن علاثة "بضم المهملة وخفة اللام ومثلثة"، "إذ أتاه ذو الخويصرة"، "بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون التحتية وكسر الصاد المهملة، بعدها راء واسمه نافع،" كما عند أبي داود، ورجحه السهيلي، وقيل: اسمه حرقوص بن زهير، وفي الرواية: وهو رجل من بني تميم، "فقال: يا رسول الله اعدل" في القسمة، "فقال" صلى الله عليه وسلم: "ويك ومن يعدل إن لم أعدل" وفي رواية للبخاري، فقال: يا رسول الله اتق الله، قال: "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، خبت وخسرت إن لم أعدل". قال المصنف: لم يضبط في اليونينية، تاءي خبت وخسرت هنا، وضبطهما في غيرهما "الضم والفتح"، على المتكلم، والمخاطب والفتح أشهر وأوجه. قال التوربتشي: هو على ضمير المخاطب، لا على ضمير المتكلم، وإنما رد الخيبة والخسران إلى المخاطب على تقدير عدم العدل منه، لأن الله تعالى بعثه رحمة للعالمين، وليقوم بالعدل فيهم، فإذا قدر أنه لم يعدل، فقد خاب المعترف، بأنه مبعوث إليهم، وخسر لأن الله لا يحب الخائنين، فضلا أن يرسلهم إلى عباده. وقال الكرماني: أي خبت أنت وخسرت لكونك تابعا ومقتديا لمن لا يعدل، "فقال عمر: يا رسول الله دعني" وفي رواية: ائذن لي فيه "أضرب" بالجزم جواب الأمر، وفي رواية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 حين فرقة من الناس". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل   فأضرب "بالنصب" بقاء الجواب "عنقه، فقال عليه الصلاة والسلام: "دعه" لا تضرب عنقه، فإن قلت: كيف منع من قتله مع أنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم". أجاب في شرح السنة بأنه إنما أباح قتلهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا للناس، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم، وأول ما نجم ذلك في زمان علي رضي الله عنه، فقاتلهم حتى قتل كثيرا منهم. انتهى. ولمسلم عن جابر: فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"، وقال الإسماعيلي: إنما ترك قتله لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام الإسلام ورسوخه في القلوب، نفرهم عن الدخول في الإسلام، وأما بعده صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ترك قتالهم إذا أظهروا رأيهم وخرجوا عن الجماعة، وخالفوا الأئمة مع القدرة على قتالهم. وفي رواية للبخاري: فسأله رجل أظنه خالد بن الوليد قتله، ولمسلم: فقال خالد بن الوليد بالجزم، وجمع بينهما، بأن كلا منهما سأل ذلك، ويؤيده ما في مسلم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: لا، ثم أدبر، فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: لا. قال في فتح الباري: فهذا نص في أن كلا منهما سأل، وقد استشكل سؤال خالد في ذلك، لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد إليها، والذهب المقسوم كان أرسله علي من اليمن، وأجيب بأن عليا لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة، فأرسل علي بالذهب، فحضر خالد قسمته، "فإن له أصحابا" ليست الفاء للتعليل، بل لتعقيب الأخبار، أي قال: دعه، ثم عقب مقالته بقصتهم، فقال: "يحقر"، "بكسر القاف" يستقل "أحدكم صلاته مع صلاتهم" لما يراه عليهم من إظهار الخشوع ونحوه، "وصيامه مع صيامهم". وعند الطبري من رواية عاصم بن شمخ، عن أبي سعيد: "تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" , ووصف عاصم أصحاب نجدة الحروي، بأنهم يصومون النهار ويقومون الليل. وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظراته للخوارج، قال: فأتيتهم، فلم أر أشد اجتهادا منهم. "يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم"، "بفوقية وقاف جمع ترقوة، بفتح فسكون وضم القاف" قال في القاموس: ولا تضم تاؤه العظيم ما بين ثغرة النحر والعاتق، يريد أن قراءتهم، لا يرفعها الله ولا يقبلها لعلمه باعتقادهم، أو لأنهم لا يفقهونها، ويحملونها على غير المراد بها، فلا يثابون عليها، أو ليس لهم حظ إلا مروره على لسانهم، فلا يصل إلى حلوقهم، فضلا عن أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله عليه الصلاة والسلام   يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب، "يمرقون" يخرجون سريعا "من الإسلام" هكذا رواه البخاري في التوحيد، ورواه في العلامات وغيره "يمرقون من الدين". قال الحافظ في المغازي، في قوله: "من الإسلام". رد على من أول الدين هنا بالطاعة، وقال: المراد أنهم يخرجون من طاعة الإمام، وهي صفة الخوارج الذين كانوا لا يطيعون الخلفاء، والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام، كما فسرته الرواية الأخرى، وخرج الكلام مخرج الزجر، وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل، "كما يخرج السهم من الرمية"، "بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، فعلية بمعنى مفعولة" وهو الصيد المرمي شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد، فيدخل فيه ويخرج منه, ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء. زاد في التوحيد: يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"، وحذف المصنف من رواية الشيخين عقب قوله: "الرمية". "ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافة، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه، لا يوجد فيه شيء، ثم ينطر إلى قذذه، فلا يوجد فيه شيء قد سبق للفرث والدم" وينظر بالبناء للمجهول في الجميع، والنصل حديدة السهم، ورصافة "براء مكسورة فمهملة ففاء"، أي عصبته التي تكون فوق مدخل النصل، جمع رصفة بحركات، ونضيه "بفتح النون" وحكي ضمها، وكسر الضاد المعجمة، فتحتية ثقيلة، فسره في الحديث بالقدح "بكسر القاف وسكون الدال"، أي عود السهم قبل أن يراش وينصل، وقيل: هو ما بين الريش والنصل، قاله الخطابي. قال ابن فارس: سمي بذلك لأنه بري حتى عاد نضوا، أي هزيلا. وحكى الجوهري عن بعض أهل اللغة: أن النضي النصل، والأول أولى وقذذه "بضم القاف ومعجمتين، الأولى مفتوحة": جمع قذة وهي ريش السهم، يقال لكل واحدة قذه، ويقال هو أشبه بالقذة، لأنها تجعل على مثال واحد، والفرث "بفاء ومثلثه" ما يجتمع في الكرش والدم، يعني لم يظهر أثرهما فيه، وكذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام، "آيتهم"، "بالمد"، أي علامتهم "رجل أسود" اسمه نافع، كما عند ابن أبي شيبة. وقال ابن هشام: ذو الخويصرة "إحدى عضديه" ما بين المرفق والكتف، "مثل ثدي المرأة"، "بفتح المثلثة وسكون الدال المهملة"، "أو" قال: "مثل البضعة"، "بفتح الموحدة وسكون المعجمة" القطعة من اللحم "تدردر"، "بفتح الفوقية والدالين المهملتين بينهما راء ساكنة وآخره راء أخرى، وأصله تتدردر، حذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي تتحرك وتذهب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 الذي نعته. وأخبر عليه الصلاة والسلام أيضا بالرافضة، أخرجه البيهقي عن علي قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "يكون في أمتي قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام".   وتجيء، وأصله حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع، "يخرجون على حين"، "بكسر المهملة وسكون الياء ونون" أي زمان "فرقة"، "بضم الفاء" أي افتراق وفي رواية الكشميهني، وهي رواية الإسماعيلي: على خير "بخاء معجمة وراء" أي أفضل، وفرقة "بكسر الفاء"، أي أفضل طائفة "من الناس" علي وأصحابه، ولأحمد وغيره: على حين فترة "بفتح الفاء وسكون الفوقية". قال الحافظ: رواية فرقة "بضم الفاء" هي المعتمدة، وهي التي عند مسلم وغيره، ويؤيدها ما في مسلم أيضا: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، تقتلها أولى الطائفتين بالحق، أخرجه هكذا مختصرا من وجهين، وفي هذا وفي قوله صلى الله عليه وسلم "يقتل عمار الفئة الباغية" دلالة واضحة على أن عليا ومن معه كانوا على الحق، وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم. "قال أبو سعيد" الخدري: "فأشهد أني سمعت هذا" الحديث "من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه" بالنهروان. وفي رواية البخاري: وأشهد أن عليا قتلهم، ونسبة قتلهم له لأنه القائم بذلك "فأمر بذلك، الرجل" الذي قال صلى الله عليه وسلم: "آيتهم" ... إلخ، "فالتمس"، "بضم الفوقية" مبنيا للمفعول، أي طلب في القتلى، "فوجد". وفي مسلم: فلما قتلهم علي قال: انظروا، فلم ينظروا شيئا، فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا، ثم وجدوه في خربة، "فأتي به". وعند الطبري: فقال علي: اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: ما كذبت ولا كذبت، فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناس من القتلى، فإذا رجل على يديه مثل سلاسل السد نور، فكبر علي والناس "حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته" يريد ما تقدم من كونه أسود ... إلخ. قال بعض أهل اللغة: النعت يختص بالمعاني، كالطول والقصر، والعمى والخرس، والصفة بالفعل كالضرب والجرح، وقال غيره: النعت للشيء الخاص والصفة أعم. وعند أحمد والطبراني والحاكم عن عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق، فقالت: حدثني عن أمر هؤلاء الذين قتلهم علي، قال: إن عليا لما كاتب معاوية، وحكَّما الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء بجانب الكوفة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 وأخبر أيضا بالقدرية والمرجئة وقال: "هم مجوس هذه الأمة"، رواه الطبراني في الأوسط عن أنس. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه بأشياء بين موته وبين الساعة، وحذر من مفاجأتها، كما يحذر من حاد عن الطاعة، وأن الساعة لا تقوم حتى تظهر   وعتبوا عليه، فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به، ثم حكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك عليا، فجمع الناس، فدعا بمصحف عظيم، فجعل يقول: أيها المصحف حدث الناس، فقالوا: ماذا إنسان، إنما هو مداد وورق ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة ورجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من امرأة ورجل، ونقموا عليَّ أن كاتبت معاوية، وقد كاتب صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمر، و {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ثم بعث إليهم ابن عباس، فناظرهم، فرجع منهم أربعة آلاف، منهم: عبد الله بن الكواء، فبعث علي إلى الآخرين أن يرجعوا، فأبوا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما، ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا، أحدا فإن فعلتم تندب إليكم الحرب. قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وفكوا الدم الحرام. "وأخبر عليه الصلاة والسلام أيضا بالرافضة" فرقة من الشيعة تابعوا زيد بن علي بن الحسين، ثم قالوا له: تبرأ من الشيخين، فأبى وقال: كانا وزيري جدي، فتركوه ورفضوه، فأرفضوا، والروافض كل جند تركوا قائدهم، والرافضة فرقة منهم. "أخرجه البيهقي عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام"، "بكسر الفاء وضمها"، يتركونه بالخروج عن الطاعة والاعتقاد الفاسد، "وأخبر أيضا بالقدرية" سموا بذلك لإنكارهم القدر، وإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم. وفي الحديث: "القدر سر الله، فلا تفشوا سر الله". رواه أبو نعيم عن ابن عمر، وابن عدي عن عائشة، مرفوعا بإسنادين ضعيفين، ورواه الديلمي، بلفظ: فلا تتكلفوا عليه "والمرجئة" القائلين بالإرجاء وهو تأخير العمل عن النية والاعتقاد، أو بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وعند البيهقي عن ابن عباس، رفعه: صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام المرجئة والقدرية، قيل: وما المرجئة، قال: الذي يقولون الإيمان قول ولا عمل، قيل: وما القدرية، قال: الذين يقولون لم يقدر الله الشر، "وقال: هم مجوس هذه الأمة" لأن إضافة القدرية الخير إلى الله والشر لغيره تشبه إضافة المجوس الكوائن إلى خالقين: خالق الخير وخالق الشر، لكن يقولون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 جملة من الأمارات في العالم، فإذا جاءت الطامة الكبرى، يطيش منها الجاهل والعالم. كما روي من رفع الأمانة والقرآن، واشتهار الخيانة وحسد الأقران وقلة الرجال، وكثرة النسوان، إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار, وقد تعين أن نلم بطرف من الآثار الصحاح والحسان. فروى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما   ذلك في الأعيان والأحداث، والقدرية يقولونه في الأحداث دون الأعيان، وتركيب الحديث من قبيل القلم أحد اللسانين، ولفظه: هذه إشارة إلى تعظيم المشار إليه وإلى النعي على القدرية والتعجب منهم، أي انظروا إلى هؤلاء كيف امتازوا من هذه الأمة المكرمة بهذه الهيئة الشنيعة، حيث نزلوا من أوج المنازل الرفيعة إلى حضيض السفالة والرذيلة، قاله الطيبي. "رواه الطبراني في الأوسط عن أنس" وأخرجه بدون ذكر المرجئة أبو داود والحاكم من حديث أبي حازم، عن ابن عمر، رفعه: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم"، ورواته ثقات لكنه منقطع، لأن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر، وإليه أشار الحاكم، فقال: على شرطهما إن صح أن أبا حازم سمع من ابن عمر. قال بعضهم: استأثر الله بسر القدر ونهى عن طلبه، ولو كشف لهم عنه وعن عاقبته لما صح التكليف، كما لا يصح عند كف الغطاء يوم القيامة، فالسعادة فضله والشقاوة عدله، وإنما ينكشف سر الله للخلائق إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها. "وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه بأشياء بين موته وبين" قيام "الساعة، وحذر من مفاجأتها" إتيانها بغتة، بمعنى أنه حذر الإنسان من الغفلة، بحيث تفجؤه على غير تأهب، وإلا ففجأتها لا يمكن التحذير منها، "كما يحذر من حاد عن الطاعة، وإن الساعة لا تقوم حتى تظهر جملة من الأمارات" العلامات الدالة على دنوها "في العالم، فإذا جاءت الطامة" الداهية التي تطم، أي تعلو على سائر الدواهي "الكبرى" أكبر الدواهي، "يطيش منها الجاهل والعالم، كما روي من رفع الأمانة والقرآن" من الصدور والمصاحف، "واشتهار الخيانة وحسد الأقران" بعضهم لبعض، "وقلة الرجال وكثرة النسوان"، بحيث يكون لخمسين امرأة قيم واحد، "إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار" وظاهر هذا أنه بيان للطامة، فالمراد بها غير المراد بها في الآية، فهي هنا المصيبة التي تعم الناس من الأشياء المذكورة، أما في الآية، فقال البيضاوي: القيامة أو النفخة الثانية أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إليها وأهل النار إليها، ويحتمل أن يقدر في المصنف مضاف نحو، فإذا جاءت مقدمات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم الرجل من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في   الطامة، "وقد تعين أن نلم" أن نذكر من ألم بالشيء إذا فعله "بطرف من الآثار الصحاح والحسان، فروى البخاري" من أفراده، عن مسلم "من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال": "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان"، "بكسر الفاء بعدها همزة مفتوحة تثنية فئة" أي جماعتان "عظيمتان" أي كثيرتان، والمراد علي ومن معه ومعاوية ومن معه لما تحاربا بصفين، "يكون بينهما مقتلة"، "بفتح الميم مصدر ميمي"، "عظيمة" أي قتل عظيم، فقتل من الفريقين سبعون ألفا، وقيل: أكثر، "دعواهما واحدة" أي دينهما، لأن كلا منهما كان يتسمى بالإسلام، أو المراد أن كلا منهما يدعي أنه المحق، وقد كان علي هو الإمام والأفضل، يومئذ باتفاق أهل السنة، ولأن أهل الحل والعقد بايعوه بعد عثمان فهو المصيب، فله أجران، ومخالفه مخطئ وليس المراد البعث بمعنى الإرسال المقارن للنبوة، بل هو كقوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] ، "دجالون" جمع دجال، يقال: دجل فلان الحق بالباطل، أي غطاه، ومنه الدجال ودجله سحره، ويقال: سمي بذلك لتمويهه وتخليطه على الناس، ويطلق أيضا على الكذب، فقوله: "كذابون" تأكيد، ولا يجمع ما كان على فعال جمع تكسير عند الجمهور لئلا تذهب المبالغة منه وإنه كان قد جاء مكسرا فهو شاذ كما قال مالك في محمد بن إسحاق، إنما هو دجال من الدجاجلة، قال عبد الله بن إدريس الأودي: ما علمت أن دجالا يجمع على دجاجلة حتى سمعتها من مالك بن أنس، "قريبا" بالنصب حال من النكرة الموصوفة. وفي رواية أحمد: قريب، بالرفع على الصفة "من ثلاثين". وفي مسلم عن جابر بن سمرة أن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا، كلهم يزعم أنه نبي، فجزم بالثلاثين، ولأبي داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن ثوبان: "وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون". "كلهم يزعم أنه رسول الله" زاد في حديث ثوبان: "وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي". وروى أبو يعلى بإسناد حسن عن ابن الزبير: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، منهم: مسيلمة والعنسي والمختار". فعين بعضهم، وجمع بينهما بأنه جبر الكسر، وقد ظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس   مصداق ذلك في آخر زمنه صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة باليمامة, والأسود باليمن, ثم خرج في خلاف الصديق طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة وسجاح التميمية في بني تميم، وفيها يقول شبيب بن ربعي: أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبت أنبياء الناس ذكرانا فقتل الأسود قبل موته صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في خلافة عمر، وقيل: أن سجاح تابت، ثم كان أول من خرج بعدهم المختار بن أبي عبيد الثقفي، غلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، فأظهر محبة أهل البيت، ودعاء الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم، فقتل كثيرا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه، فأحبه الناس، ثم زين له الشيطان، فادعى النبوة، وزعم أن جبريل يأتيه، فروى أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن رفاعة بن عبد الله، قال: كنت أبطن شيء بالمختار، فدخلت عليه يوما، فقال: دلت وقد قام جبريل قبلك من هذا الكرسي. وروى يعقوب بن سفيان بإسناد حسن عن الشعبي أن الأحنف بن قيس أراه كتاب المختار إليه يذكر أنه نبي، وروى أبو داود في السير عن إبراهيم النخعي، قال: قلت لعبيدة بن عمرو: أترى المختار منهم؟ قال: أما إنه من الرءوس. ومنهم: الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان، فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة، وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا، فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك من جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة، كمن وصفنا. وقد أهلك الله تعالى من وقع له ذلك منهم وبقي منهم من يلحقه بأصحابه، وآخرهم الدجال الأكبر، قاله في فتح الباري "و" لا تقوم الساعة "حتى يقبض العلم" بقبض العلماء، وقد وقع ذلك، فلم يبق إلا رسمه، "وتكثر الزلازل" وقد كثر ذلك في البلاد الشمالية والشرقية والغربية، حتى قيل إنها استمرت في بلدة من بلاد الروم التي للمسلمين ثلاثة عشر شهرا. وفي حديث سلمة بن نفيل عند أحمد: وبين يدي الساعة سنوات الزلازل، "ويتقارب الزمان" عند زمان المهدي، لوقوع الأمن في الأرض، فيستلذ العيش عند ذلك لانبساط عدله، فتقصر مدته؛ لأنهم يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام الشدة وإن قصرت، أو المراد يتقارب أهل الزمان في الجهل، فيكونون كلهم جهلاء، أو المراد الحقيقة، بأن يعتدل الليل والنهار دائما بأن تنطبق منطقة البروج على معدل الليل والنهار. وروى أحمد والترمذي عن أنس، مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر   كالضرمة بالنار"، "وتظهر الفتن" أي تكثر وتشتهر فلا تكتم، "ويكثر الهرج"، "بفتح الهاء وسكون الراء بعدها جيم" "وهو القتل". وعند ابن أبي شيبة: قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: "القتل". وهو صريح في أن تفسير الهرج مرفوع، ولا يعارضه كونه جاء موقوفا في غير هذه الرواية، ولا كونه بلسان الحبشة، "وحتى يكثر فيكم المال فيفيض"، "بفتح الياء والنصب عطفا على سابقه"، أي يكثر حتى يسيل "حتى يهم"، "بضم التحتية وكسر الهاء وشد الميم": يحزن "الرجل" الذي في البخاري رب المال "مفعول"، "من يقبل صدقته"، "فاعل". وفي رواية: "بفتح الياء وضم الهاء"، ورب المال "فاعل، ومن مفعوله"، كما في الفتح وغيره، "وحتى يعرضه"، "بفتح الياء" يظهره. قال الطيبي: معطوف على مقدر، المعنى: حتى يهم طلب من يقبل الصدقة صاحب المال، فيطلبه حتى يجده وتى يعرضه، "فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب"، "بفتحتين" لا حاجة "لي به" لاستغنائي عنه. قال القرطبي في التذكرة: هذا مما لم يقع، بل يكون فيما يأتي، وقال الحافظ: التقييد بقوله: فيكم يشعر بأنه في زمن الصحابة، وأما قوله: "فيفيض" ... إلخ، فهو إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز، أن الرجل كان لا يجد من يقبل صدقته لبسط عدله وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنوا، وقوله: "حتى يعرضه" ... إلخ إشارة إلى ما سيقع زمن عيسى، فيكون فيه إشارة إلى ثلاثة أحوال: الأولى: كثرة المال فقط في زمن الصحابة, الثانية: فيضه بحيث يكثر ويحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره، ووقع ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز. أخرج يعقوب ابن سفيان في تاريخه بسند جيد، عن يحيى بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، فيتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع به قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، وسبب ذلك بسطه العدل وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنوا, الثالثة: كثرته وحصول الاستغناء عنه حتى يهم صاحب المال، لكونه لا يجد من يقبل صدقته، ويزداد بأن يعرضه على غيره، ولو كان يستحق الصدقة فيأبى أخذه، وهذا في زمن عيسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون هذا الأخير عند خروج النار واشتغال الناس بالمحشر، فلا يلتفت أحد إلى شيء، بل نقصد نجاة نفسه ومن استطاع من أهله وولده، "وحتى يتطاول الناس في البنيان" بأن يكون كل ممن يبني، يريد ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها".   المراد المباهاة به في الزينة والزخرفة، أو أعم من ذلك، وقد وجد ذلك وهو في ازدياد، "وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه" لما يرى من عظم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء، واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم واستحلال الحرام، والتحكم بغير حق في الأموال والأعراض والأبدان، كما في هذه الأزمان، فقد علا الباطل على الحق، وتغلب العبيد على الأحرار من سادات الخلق، فباعوا الأحكام، ورضي بذلك منهم الحكام، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه. وقيل: ذلك لما يقع لبعضهم من مصيبة في نفسه، أو أهله, أو ماله، وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه. وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعا: "لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر، فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء". وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على الرجل، فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده، وذكر الرجل للغالب، وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضا، إلا أنه لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد، والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة، خصهم، ثم لا يلزم كونه في جميع الناس والبلاد والأزمان بل يصدق باتفاقه لبعض الناس في بعض البلاد في بعض الأزمان، وهو إخبار عما يكون لا تعرض لحكم شرعي، فلا ينافي النهي عن تمني الموت، وعلى التفسير الأول: بفساد الدين، فيجوز تمنيه ليسلم دينه، لحديث: "وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون". كما قال ابن عبد البر: "و" لا تقوم الساعة "حتى تطلع الشمس من مغربها" غاية لعدم قيامها. قال الكرماني: فإن قيل بين أهل الهيئة، أن الفلكيات بسيطة، لا تختلف مقتضاياتها، ولا يتطرق إليها خلاف ما هي عليه، قلت: قواعدهم منقوضة، ومقدماتهم ممنوعة، ولئن سلمنا صحتها، فلا امتناع في انطباق منطقة البروج على معدل الليل، بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا. انتهى. وآية ذلك أن يطول الليل حتى يكون قدر ليلتين، رواه ابن مردويه عن حذيفة، رفعه: "فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل" صفة نفسا، "أو كسبت في إيمانها خيرا"، "عطف على آمنت"، والمعنى لا ينفع الإيمان حينئذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 فهذه ثلاثة عشر علامة جمعها أبو هريرة في حديث واحد، ولم يبق بعد   نفسا غير مقدمة إيمانها، أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرا. قال الناصر بن المنير رام الزمخشري: الاستدلال بالآية على مذهبه أن الكافر والعاصي في الخلود سواء، لأنه سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركان بعد ظهور الآيات ولا يتم ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يلقب باللف، وأصله يوم يأتي بعض آيات ربك، لا ينفع نفسا إيمانها، لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا مجازا وبلاغة، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب أهل الحق، فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإن نفع الإيمان المتقدم من الخلود، فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له. انتهى. وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعا: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال, والدابة". قال الحافظ: والذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى عليه السلام، وأن طلوع الشمس من مغربها هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة. وفي مسلم عن عبد الله بن عمر، ورفعه: "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، فأيهما خرجت قبل الأخرى، فالأخرى منها قريب". وقال أبو عبد الله الحاكم: الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه. قال الحافظ: والحكمة في ذلك أن عند طلوعها من مغربها يغلق باب التوبة، فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر، تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس، كما سبق في بدء الخلق من حديث أنس. وروى عبد بن حميد والطبراني بسند صحيح عن عائشة: إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وطويت الصحف وخلصت الحفظة وشهدت الأجسام على الأعمال، وهذا موقوف وحكمه الرفع، "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما" بغير تحتية بعد الموحدة ليتبايعانه، "فلا يتبايعانه ولا يطويانه" وللحاكم عن عقبة بن عامر، رفعه: "تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع حتى تملأ السماء، ثم ينادي مناد: يا أيها الناس ثلاثا، يقول في الثالثة: أتى أمر الله". قال: "والذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب بينهما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط. وقد ظهر أكثر هذه العلامات. فأما قوله: "حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة" , فيريد فتنة معاوية وعلي بصفين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا أول خطب طرق الإسلام. وتعقبه القرطبي بأن أول أمر دهم الإسلام موت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعده موت عمر، لأن بموته عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك، وبموت عمر سل سيف الفتنة فقتل عثمان. وكان من قضاء الله وقدره ما كان وما يكون.   فلا يطويانه"، "ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته"، "بكسر اللام وسكون القاف فحاء مهملة" أي ناقته اللبون "فلا يطعمه" أي فلا يشربه، "ولتقومن الساعة وهو يليط"، "بضم التحتية وكسر اللام وسكون التحتية فطاء مهملة" أي يصلح بالطين "حوضه" فيسد شقوقه ليملأه ويسقي منه دوابه، "فلا يسقي فيه" أي تقوم القيامة قبل أن يسقي فيه، "ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته"، "بضم الهمزة" لقمته "إلى فيه" فمه "فلا يطعمها" أي تقوم الساعة قبل أن يضع لقمته في فيه، أو قبل أن يمضغها، أو يبتلعها. وعند البيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "تقوم الساعة على رجل أكلته في فيه يلوكها فلا يسيغها ولا يلفظها". وهذا كله إشارة إلى أنها تقوم بغتة، وأسرها رفع اللقمة إلى الفم. "فهذه ثلاثة عشر علامة، جمعها أبو هريرة في حديث واحد" كما سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم "ولم يبق بعد هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط" لقيام الساعة، "وقد ظهر أكثر هذه العلامات، فأما قوله": "حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة" الإسلام، أو أن كلا على الحق، "فيريد فتنة معاوية وعلي بصفين". "قال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الحافظ الفقيه: "وهذا أول خطب طرق الإسلام، وتعقبه القرطبي بأن أول أمر دهم" أي فجأ "الإسلام موت النبي صلى الله عليه وسلم" لانقطاع خبر السماء مع ما آذن به من إقبال الفتن والحوادث والكرب، فهو الخطب الكالح والرزء لأهل الإسلام الفادح، وقد سمع أبو ذؤيب الهذلي في نومه الهاتف يقول: خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام قبض النبي محمد محبوبنا ... تهمي الدموع عليه بالنسجام وهو المصيبة العامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتعز المسلمين في مصائبهم، المصيبة بي"، يعني لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 وأما قوله: "دجالون كذابون قريب من ثلاثين" فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي دجالون كذابون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة منهن سجاح وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي". أخرجه الحافظ أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب. قال القاضي عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عد من تنبأ من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن ممن اشتهر بذلك لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التواريخ عرف صحة هذا. وقوله: "حتى يقبض العلم" فقد قبض العلم ولم يبق إلا رسمه. وأما: "الزلازل" فوقع منها شيء كثير، وقد شاهدنا بعضها. وأما قوله: "حتى يكثر فيكم المال أو حتى يهم رب المال" فهذا مما لم   كل مصاب به دونها، إذ كل مصاب به عنه عوض ولا عوض عنه صلى الله عليه وسلم: "ثم بعده موت عمر" بن الخطاب "لأن بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي". وقال جمع من الصحابة: أنكرنا قلوبنا، أي لم يشاهدوا فيها تلك الأنوار التي كانت في حياته، "وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك" كرفع المنافقين رءوسهم، "وبموت عمر، سل سيف الفتنة" لأنه كان قفلها، وصح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيا، "فقتل عثمان، وكان من قضاء الله وقدره ما كان" من الحروب الكثيرة وغيرها، "وما يكون" من ذلك إلى قيام الساعة. "وأما قوله: "دجالون كذابون قريب من ثلاثين"، فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة" بن اليمان الذي أعلمه صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى قيام الساعة، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي دجالون كذابون سبعة"، "بسين فمودة"، "وعشرون: منهم أربع نسوة، منهن: سجاح" التميمية "وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي". "أخرجه الحافظ أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصبهاني، "وقال: هذا حديث غريب" تفرد به معاوية بن هشام، لكن أخرجه أحمد بسند جيد، وسبق الجمع بينه وبين حديث جابر بن سمرة وثوبان وابن الزبير من الجزم بالثلاثين؛ بأنه على طريق جبر الكسر، وأما ما رواه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر: ثلاثون كذابون أو أكثر، للطبراني عنه: "لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابا" فسندهما ضعيف، وعلى تقدير الثبوت فيحمل على المبالغة في الكثرة لا التحديد. "قال القاضي عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عد من تنبأ من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التواريخ عرف صحة هذا" قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 يقع. وقوله: "حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه" لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء وغير ذلك، مما ظهر كثير منه. وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز يضيء لها أعناق الإبل ببصرى". وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة   ولولا الإطالة لنقلنا ذلك، والفرق بين هؤلاء وبين الدجال الأكبر أنهم يدعون النبوة، وذاك يدعي الألوهية مع اشتراك الكل في التمويه والادعاء الباطل. قال الأبي: دعوى النبوة لفظ أو معنى حتى يدخل فيه ما يقع لكثير، أن يقول: قيل لي أو أذن لي، وقد كان الشيخ ينكر هذه المقالة ويقول: لا أقبلها ولا من المرجاني الذي صحت ولايته قال: وقد اختلف مم يعرف النبي أن الذي يخاطبه ملك، فكيف يصح لغيره أن يأتي بكلام فيه تعمية توهم أن الذي يقول له ذلك ملك، كذا قال وفيه نظر، لأن المراد كما مر عن الحافظ من قامت له شكوة، لا مطلق من ادعى النبوة، إذ لا يحصون كثرة، وغالبهم ينشأ له ذلك من جنون أو سوداء، وليس قول من قال من الأولياء: قيل لي أو أذن لي من دعوى النبوة في شيء، إنما هو من باب الإلهام والإلقاء في القلب المشار إليه بحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 75] . أخرجه الترمذي مرفوعا، "وقوله: حتى يقبض العلم، فقد قبض العلم ولم يبق إلى رسمه" أثره الدال عليه، "وأما الزلازل فوقع منها شيء كثير، وقد شاهدنا بعضها". "وأما قوله: حتى يكثر فيكم المال، أو حتى يهم رب المال" كذا في نسخ, وفي بعضها: الرجل موافقة لما قدم، لكن الذي في البخاري رب المال كما مر، "فهذا مما لم يقع" وقدمت تفصيله. "وقوله: حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه" ذلك "لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول" "بضمتين" "العلماء" سقوطهم وعدم حظهم، مأخوذ من خمل المنزل خمولا إذا عفا ودرس "وغير ذلك مما ظهر كثير منه". زاد عياض: أو لما يرى من البلاء والمحن والفتنة، كما قال في الحديث الآخر: "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا المقتول على أي شيء قتل" رواه مسلم، وعلى الوجهين: فقد وقع ما أخبره به صلى الله عليه وسلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وفي يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها، وارتجت الأرض بمن عليها، وعجت الأصوات لبارئها، ودامت الحركة إثر الحركة، حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة، وزلزلوا زلزالا شديدا، من جملة ثمانية عشر حركة في يوم واحد دون ليلته. قال القرطبي: وكان يأتي المدينة ببركته عليه الصلاة والسلام نسيم بارد, وشوهد من هذه النار غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن   "وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين" كليهما في الفتن، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار" أي تنفجر "من أرض الحجاز، يضيء لها أعناق الإبل ببصرى"، "بضم الموحدة وفتح الراء" مقصور، ونصب أعناق مفعول يضيء على أنه متعد والفاعل النار، أي تجعل على أعناق الإبل ضوءا، وبصرى مدينة معروفة بالشام، وهي مدينة حوران، بينها وبين دمشق نحو ثلاثة مراحل، وفي كامل بن عدي عن عمر، رفعه: "لا تقوم الساعة حتى يسيل واد من أودية الحجاز بالنار، يضيء له أعناق الإبل ببصرى"، وفي إسناده عمر بن سعيد التنوخي. قال الحافظ: ذكره ابن حبان، ولينه ابن عدي والدارقطني، وهذا ينطبق على النار المذكورة، "وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة" لا خلاف في السنة، وأما اليوم فجزم القرطبي في التذكرة، بما قال المصنف، وقال في جمل الإيجاز: اضطرب الناقلون في تحقيق اليوم الذي ابتدأت فيه، فالأكثر أن ابتداءها كان يوم الأحد، مستهل جمادى الآخرة. وقيل: ابتدأت ثالث الشهر، وجمع بأن القائل بالأول، لأنها كانت خفيفة إلى ليلة الثلاثاء بيومها، ثم ظهرت ظهورا اشترك فيه الخاص والعام، "وفي يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها" كسرها كلما أتت عليه، "وارتجت" اضطربت "الأرض بمن عليها وعجت" ارتفعت "الأصوات لبائها" خالقها، "ودامت الحركة أثر الحركة حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة"، "بفتحتين" بمعنى الهلاك "وزلزلوا" حركوا "زلزالا شديدا" من شدة الفزع، وهذا إنما نقله المصنف في شرح البخاري، عن القطب القسطلاني في جمل الإيجاز بعد يوم الثلاثاء، ولفظه، وجمع بأن القائل بالأول بأنها كانت خفيفة إلى ليلة الثلاثاء بيومها، ثم ظهرت ظهورا شديدا، واشتدت حركتها إلى آخر ما هنا، وقال عقب قوله: زلزلوا زلزالا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 فأحرقتها. قال: وقال لي بعض أصحابنا: ولقد رأيتها صاعدة في الهواء من مسيرة خمسة أيام، قال: وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جيال بصرى. وقال الشيخ قطب الدين القسطلاني: أقامت اثنين وخمسين يوما، قال وكان انطفاؤها في السامع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج. وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود، وقد نبه عليها القرطبي في التذكرة، وأفردها بالتأليف الشيخ قطب الدين القسطلاني في كتاب سماه "جمل الإيجاز بنار الحجاز" فأتى فيه من رقائق الحقائق   شديدا، فلما كان يوم الجمعة نصف النهار، ثار في الجو دخان متراكم أمره متفاقم، ثم شاع شعاع النار، وعلا حتى غشي الأبصار. انتهى فهو صريح في وقوع الاشتداد الموصوف بما ذكر في يوم الأربعاء لا في يوم الثلاثاء كما قال المصنف، فقوله "من جملة ثمانية عشر حركة في يوم واحد دون ليلته" صريحه أنه يوم الثلاثاء، والمنقول أنه يوم الأربعاء كما علم. "قال القرطبي" في تذكرته: كان بدؤها زلزلة عظيمة ليلة الأربعاء، ثالث جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة، إلى ضحوة النهار يوم الجمعة، فسكنت بقريظة عند قاع التنعيم بطرف الحرة، ترى في صورة البلد العظيم، عليها سور محيط عليه شراريف كشراريف الحصون، وأبراج ومواذن، ويرى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك نهر أحمر ونهر أزرق له دوي كدوي الرعد، يأخذ الصخور والجبال بين يديه، وينتهي بها إلى محط الركب العراقي، فاجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، وانتهت النار إلى قرب المدينة. قال: "وكان يأتي المدينة ببركته صلى الله عليه وسلم نسيم بارد، وشوهد من هذه النار" غليان البحر لفظ القرطبي "غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها". "قال" القرطبي: "وقال لي بعض أصحابنا: ولقد رأتها صاعدة في الهواء من مسيرة خمسة أيام" من المدينة، "قال: وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى" مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "تضيء لها أعناق الإبل ببصرى" وقال أبو شامة: وردت كتب من المدينة في بعضها، أنه ظهر نار بالمدينة، انفجرت من الأرض، وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، وفي آخر: سال منا واد يكون مقداره أربع فراسخ وعرضه أربعة أميال، يجري على وجوه الأرض، يخرج منه مهاد وجبال صغار. "وقال الشيخ قطب الدين القسطلاني: أقامت اثنين وخمسين يوما، قال: وكان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب.   انطفاؤها في السابع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج" أي الذي اتفق فيه ذلك، "وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود" من الاختصار. "وقد نبه عليه القرطبي في التذكرة، وأفردها بالتأليف الشيخ قطب الدين القسطلاني في كتاب سماه جمل الإيجاز بنار الحجاز، فأتى فيه من رقائق الحقائق بالعجب العجاب", ومن جملة ذلك قوله فيه: حكى لي جمع ممن حضر أن النفوس سكرت من حلول الوجل، وفتنت من ارتقاب نزول الأجل، ونشج المجاورون في الجؤار بالاستغفار، وعزموا على الإقلاع عن الإصرار والتوبة عما اجترحوا من الأوزار، وفزعوا إلى الصدقة بالأموال، فصرفت عنهم النار ذات اليمين وذات الشمال، وظهر حسن بركة نبينا صلى الله عليه وسلم في أمته، ويمن طلعته في رفقته بعد فرقته، فقد ظهر أن النار المذكورة في الحديث هي النار التي ظهرت بنواحي المدينة، كما فهمه القرطبي وغيره، ويبقى النظر هل هي من داخل كالتنفس؟ أو من خارج كصاعقة نزلت؟ والظاهر الأول، ولعل التنفس حصل من الأرض لما تزلزلت وتزايلت عن مركزها الأول، وقد تضمن الحديث في ذكر النار ثلاثة أمور: خروجها من الحجاز وسيلان واد منه بالنار وقد وجدا، وأما الثالث، وهو إضاءة أعناق الإبل ببصرى، فقد جاء من أخبر به، فإذا ثبت هذا فقد صحت الأمارات وتمت العلامات وإن لم يثبت، فتحمل إضاءة أعناق الإبل ببصرى على وجه المبالغة، وذلك في لغة العرب سائغ، وفي باب التشبيه في البلاغة بالغ، وللعرب في التصرف في المجاز ما يقضي للغتها بالسبق في الإعجاز، وعلى هذا يكون القصد بذلك التعظيم بشأنها والتفخيم لمكانها والتحذير من فورانها وغليانها، وقد وجد ذلك على وفق ما أخبر، وقد جاء من أخبر أنه أبصرها من تيماء وبصرى على مثل ما هي من المدينة في البعد، فتعين أنها المراد، وارتفع الشك والعناد، وأما النار التي تحشر الناس فنار أخرى، قاله المصنف، "والله الموفق للصواب" سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم مدخل ... المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99] .   المقصد التاسع: "في" فوائد "لطيفة" أي قليلة سهلة التناول من لطف "بالضم" صغر "من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ} "للتحقيق" {نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد بـ"اليقين" وإنما سمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن. فإن قيل: ما الفائدة في قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة؟ أجاب القرطبي تبعا لغيره: بأنه لو قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، ولما قال: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي اعبد ربك في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة في هذه العبادات, كما قال العبد الصالح: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] . وهذا مصير منه إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهي مسألة معروفة   بِمَا يَقُولُونَ} من الاستهزاء والتكذيب، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي قل سبحان الله وبحمده {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي المصلين كما قال أهل التفسير: لا خصوص لسجود؛ لأنه لا يكون مستقلا، وسجود التلاوة تابع للقراءة، وسجود الشكر على القول به، لأنه إنما يكون بسبب نعمة حصلت، فالمناسب حمله على الصلاة، لأنها تدفع ضيق الصدر لخبر: "أرحنا بالصلاة" , {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد باليقين، وإنما سمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن" تسمية مجازية، لأن اليقين اعتقاد أن الشيء كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا اعتقادا مطابقا للواقع، غير ممكن الزوال, فإطلاقه على الموت من تسمية الشيء بما يتعلق به وظاهر قول القاموس: اليقين إزاحة الشك كاليقين محركة، والموت إنه يطلق عليه حقيقة إلا أن يكون على عادته في التساهل بإدخال المجاز في الحقيقة اللغوية، "فإن قيل: ما الفائدة في قوله {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة". "أجاب القرطبي تبعا لغيره، بأنه لو قال: واعبد ربك مطلقا" بدون التقييد بالغاية، "ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا"، أي ممتثلا للأمر ومنقادا له، "ولما"، "بفتح اللام وخفة الميم"، "قال {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي لما احتيج إلى ذلك في إفادة المقصود، ويصح شد الميم، والجواب محذوف، هو علم أن المراد انقياده طول حياته، دل عليه قول: "أي اعبد ربك في زمان حياتك" كلها، "ولا تخل لحظة من لحظات"، "بفتح الحاء"، "الحياة من هذه العبادات، كما قال العبد الصالح" عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي} أمرني {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} ، وهذا مصير منه" أي القرطبي ومن تبعه "إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار" أي لا يدل على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 في كتب الأصول اختلف فيها. وهي: هل الأمر المطلق يفيد التكرار، أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منهما؟ على مذاهب: الأول: أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال، إذ لا توجد الماهية بأقل منها، وهذا مختار الإمام مع نقله له على الأقلين، ورجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما. الثاني: أنه يفيد التكرار مطلقا، كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو حاتم القزويني، فإن عين للتكرار أمدًا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمان قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات. الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح "اللمع" عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وغيرهم. وإن علق بشرط أو صفة اقتضى التكرار بحسب   طلبه، "وهي مسألة معروفة في كتب الأصول، اختلف فيها، وهي: هل الأمر المطلق" عن التقييد بشرط أو صفة "يفيد التكرار،" لظاهر قول الصحابي في الحج: أكل عام، "أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منهم على مذاهب" ثلاثة: "الأول أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه" بحيث لو كرر ما أمر به لا يقال فيه لم يمتثل، "بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به" أي طلب حصول الماهية "من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال إذ لا توجد الماهية" الحقيقة "بأقل منها، وهذا مختار الإمام" أي إمام الحرمين "مع نقله له عن الأقلين" من الأصوليين، "ورجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما". "الثاني: أنه يفيد التكرار مطلقا" سواء علق بشرط أو صفة، أو لم يعلق بذلك، لأن النهي يقتضي التكرار، فكذا الأمر بجامع أن كلا منها طلب، "كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو حاتم القزويني، فإن عين للتكرار أمدا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمان قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات", وفي نسخة من الضروريات على تقدير مضاف، أي مقتضى الضروريات والأولى أولى. "الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن أكثر أصحابنا" الشافعية: "وأبي حنيفة وغيرهم، وإن علق بشرط أو صفة" مفهوم قوله أولا المطلق، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 تكرار المعلق به، "نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] انتهى ملخصا من شرح العلامة أبي الحسن الأشموني لنظمه لجمع الجوامع للعلامة ابن السبكي. وقد روى جبير بن نفير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". رواه البغوي في شرح السنة وأبو نعيم في الحلية عن أبي مسلم الخولاني.   "اقتضى التكرار بحسب تكرار المعلق به" فالشرط "نحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فكلما وجدت الجنابة لزم التطهير، "و" الصفة نحو: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} فكلما وجد الزنا لزمت المائة. "انتهى ملخصا من شرح العلامة أبي الحسن" نور الدين علي "الأشموني"، "بضم الهمزة وسكون المعجمة" نسبة إلى أشمون بلدة بصعيد مصر، كان إماما عاما، زاهدا ورعا، متقشفا في مأكله وملبسه وفراشه. قال الشعراوي: صحبته نحو ثلاث سنين، كأنها سنة من حسن سمته وحلاوة كلامه وقلة كلامه، ولم يزل على ذلك حتى مات رحمه الله، "لنظمه لجمع الجوامع للعلامة ابن السبكي" رحمه الله، وللأشموني أيضا "نظم المنهاج" في الفقه وشرحه ألفية بن مالك المشهور. "وقد روى جبير"، "بجيم وموحدة" مصغر "ابن نفير" بنون وفاء" مصغر ابن مالك بن عامر الحضرمي، الحمصي، تابعي، ثقة جليل، مخضرم، ولأبيه صحبة، مات سنة ثمانين، وقيل: بعدها "مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين" جمع تار، إذ الدنيا يجمعها من لا عقل له كما ورد، "ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" رواه البغوي" الحسين بن مسعود بن محمد الإمام الحافظ "في شرح السنة" أحد تصانيفه المبارك له فيها لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، مات سنة ست عشرة وخمسمائة في شوال وله ثمانون سنة. "و" رواه "أبو نعيم" أحمد بن عبد الله "في الحلية" أي كتابه حلية الأولياء "عن أبي مسلم الخولاني: "بفتح المعجمة وإسكان الواو" نسبة إلى خولان بن عمرو قبيلة نزلت بالشام الزاهد، العابد، الشامي واسمه عبد الله بن ثوب "بضم المثلثة وفتح الواو، فموحدة" وقيل: غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة. واختلف العلماء في أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن. فحكى الإمام فخر الدين الرازي عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب عليَّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات.   ذلك تابعي كبير، ثقة، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية، "وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح" بقوله: {فَسَبِّحْ} ، "والتحميد" بحمد ربك، "والسجود" الصلاة "والعبادة" أعم منها. وفي البيضاوي: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد، يكفك ويكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق، وكن من الساجدين من المصلين، وعنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة. "واختلف العلماء في أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن" أشار إلى أن القلب هو المراد بالصدر في الآية، عبر بالصدر عنه مجازا لمجاورته له، وإلا فحقيقة الصدر ما نزل عن العظام عن الترقوتين إلى المعدة، وهي المنخسف تحته، "فحكى الإمام فخر الدين الرازي عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية" أي العالم الذي يتعلق به علم الرب تعالى مما غاب عن إدراكنا، "ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية" أي بجملتها "حقيرة" عنده، "وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها"، "بكسر الفاء" عدمها مصدر لفقد "بفتح فسكون"، "ووجدانها"، "بكسر الواو" مصدر وجد ووجود أيضا في لغة، "فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها" لحقارتها، "وعند ذلك يزول الحزن والغم، وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع"، "بكسر الزاي وفتحها" التجأ "إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب علي عبادتك، سواء أعطيتني الخيرات" التي تسر، "أو ألقيتني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِه} [مريم: 65] . فأمره تعالى عليه السلام بالعبادات والمصابرة على مشاق التكاليف في الإنذار والإبلاغ. فإن قلت: لم لم يقل: واصطبر على عبادته، بل قال: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ؟ فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القِرْن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أي: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازي وكذا البيضاوي. وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] . فأول درجات السير إلى الله تعالى، عبودية الله، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا   في المكروهات" إذ هذا من حقيقة العبودية. "وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر عليها، "فأمره تعالى عليه السلام بالعبادات والمصابرة على مشاق التكاليف في الإنذار والإبلاغ" كأنه قصر المشقة على ذلك، لأنه لا يشق عليه غيره من العبادات، وإن تورمت قدماه من القيام، "فإن قلت: لم لم يقل واصطبر على عبادته" مع أن المعنى على ذلك، "بل قال: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، قلت: "فالجواب" عبر بذلك، "لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن"، "بكسر القاف وسكون الراء" المقاوم في علم، أو قتال، أو غير ذلك "في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه، والمعنى" هن "أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها، قاله الفخر الرازي" وحاصله: أن اللام للتعليل ومفعول اصطبر محذوف، أي اصطبر على المكاره والمشاق لأجل العبادة، "وكذا البيضاوي" بلفظ: إنما عدي "باللام" لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق، كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك. "وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي علم ما غاب فيهما، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ} "بالبناء للفاعل" يعود "وللمفعول" يرد {الْأَمْرُ كُلُّهُ} فينتقم ممن عصى، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ثق به، فإنه كافيك، "فأول درجات السير إلى الله تعالى" أي السعي في طلب الوصول إلى القرب منه عز وجل "عبودية الله" بالاجتهاد فيها، "وآخرها التوكل عليه" بأن يفوض جميع أموره إليه مخلصا، بحيث لا يعتمد على غيره في أمر ما، حتى لو سأل غيره في شيء لاحظ أن المسئول لا فعل له، وأن الله هو المعطي، فإن أراد وصول شيء للعبد على يد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إلي ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه ألبتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد في الله تعالى أقرب كان جهاده في الله أعظم، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة، ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه رضي الله عنهم فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم. ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: القرب   بعض خلقه ألهمه فعله وأقدره عليه "وإذا كان العبد لا يزال مسافرا" أي مشغولا بالعبادة "إلى" لقاء "ربه" ففيه استعارة تصريحية تبعية، شبه الاشتغال بالطاعة بسفر إنسان إلى مقصد يريده، واشتق منه الوصف بمسافر "لا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة" أي ما يوصله إليها، كاجتهاده في الطاعات وكثرة النوافل، فالعابد كأنه جعل طاعته مودية للوصول إلى الله، كطعام المسافر يوصله إلى مقصده، "لا يستغنى عنه البتة"، "بقطع الهمزة"، "ولو أتى بأعمال الثقلين" الإنس والجن "جميعا، وكلما كان العبد إلى الله تعالى أقرب" قربا معنويا، "كان جهاده في الله أعظم" من غيره، "قال تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لله، ومن أجله أعداء الله الظاهرة كأهل الزيغ، والباطنة كالقوى والنفس. روى البيهقي في الزهد، وضعف إسناده عن جابر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال: "قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد نفسه". "حق جهاده" أي جهادا فيه، حقا خالصا لوجهه، فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه يختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله ومن أجله، قاله البيضاوي تبعا للزمخشري. قال الطيبي: يعني أن أصل المعنى: جاهدوا في الله جهادا حقا، فهو يفيد أن هناك جهادا واجبا، والمطلوب منهم الإتيان به، فإذا عكس وأضيفت الصفة إلى الموصوف بعد الإضافة إلى الله تعالى، أفاد إثبات جهاد مختص بالله، والمطلوب القيام بواجبه وشرائطه على وجه التمام بقدر التوسع والطاقة، "ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة ومحافظة عليها، إلى أن توفاه الله تعالى وتأمل أصحابه" أي أحوالهم "رضي الله عنهم، فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب" المعنوي من الله "مقاما، عظم جهادهم" لأنفسهم ولأعداء الله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 الحقيقي ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل زاعما بذلك سقوط التكليف عنه, وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان, فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال حبة ما دام قادرا عليه. وقد اختلف العلماء: هل كان عليه الصلاة والسلام قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشيء، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأنه لو كان كذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة، ولاحتجوا به عليه، ولم   "واجتهادهم" في الطاعات، "ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف، حيث قال: القرب الحقيقي ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة، ويريح الجسد والجوارح من كد" أي تعب "العمل، زاعما بذلك سقوط التكليف عنه، وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية، وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس" أكاذيبها "وخدع الشيطان" ما يخدع به الإنسان ليضله، "فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال حبة ما دام قادرا عليه" بإجماع. "وقد اختلف العلماء هل كان عليه الصلاة والسلام قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ " قيل: صوابه أو لا، لأن أم لا تعادل هل، وفيه نظر، "فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشيء" من شرائع من قبله، "وهو قول الجمهور" كالباقلاني وغيره من المحققين. قال عياض: فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ولا متصورة في حقه حينئذ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر والنواهي، وتقرر الشريعة "واحتجوا بأنه لو كان ذلك لنقل" إلينا بعده "ولما أمكن كتمه وستره في العادة" الجارية بين الناس في مثله أن من تعبد بشرع يظهره وينقله من اطلع عليه نقلا مستفيضا لا يخفى، "إذ كان" نقله وعدم كتمانه "من مهم أمره" أي تعبده بشرع غيره عند أهل ذلك الدين، "وأولى"، أي أحق "ما اهتبل"، "بهاء ففوقية فموحدة مبني للمفعول"، أي اعتنى واهتم "به من سيرته" وصفاته المأثورة، "ولفخر به أهل تلك الشريعة" بأن من أهل ملتهم أشرف الأنبياء، "ولاحتجوا به عليه" أي لاستدل أهل تلك الشريعة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لاتباعه، بأنك كنت على شريعتنا، فلم تنهانا عنها الآن، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 يؤثر شي من ذلك جملة. وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا. والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى. وذهب آخرون إلى الوقف في أمره عليه الصلاة والسلام وترك قطع الحكم عليه بشيء من ذلك، إذ لم يحل الوجهين منها العقل، وهذا مذهب الإمام أبي المعالي إمام الحرمين وكذا الغزالي والآمدي. وقال آخرون: كان عاملا بشرع من قبله. ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟ فوقف بعضهم على التعيين وأحجم، وجسر بعضهم على التعيين وصمم، ثم   وتأمرنا بترك ما كنت توافقنا فيه "ولم يؤثر" أي ينقل "شيء من ذلك" المذكور من النقل والظهور والافتخار "جملة" أي أصلا، وكثيرا ما تستعمل بمعنى كافة وعامة، "وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا" أي بدليل عقلي لا دخل للنقل فيه "قالوا" معللين لذلك: "لأنه يبعد أن يكون متبوعا" مقتدى به فيما شرعه الله، وأمره بدعوة الناس إليه "من عرف تابعا" لشرع غيره متعبدا به قبل بعثته. قال عياض: وبنوا هذا على التحسين والتقبيح العقليين، وهي طريقة غير سديدة، "والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى" أحق وأظهر لوجهين، أحدهما: ابتناء الثاني على قول ضعيف كما قاله عياض، والثاني: أن العقل يجوز أنه تابع باعتبار، ومتبوع باعتبار آخر، وإنما يمتنع في جهة واحدة. "وذهب آخرون" وفي الشفاء طائفة "إلى الوقف في أمره عليه الصلاة والسلام" أي التوقف من غير تعيين لطرف، "وترك قطع الحكم عليه بشيء من ذلك" الحال، المتعلق بعبادته قبل البعثة "إذ لم يحل الوجهين منها" أي المسألة "العقل" أي لم يعده محالا لتساويهما عنده في الإمكان. زاد عياض: ولا استبان عندها، أي الطائفة في أحدهما طريق النقل، "وهذا مذهب الإمام أبي المعالي" عبد الملك الجويني إمام الحرمين، وقوله: "وكذا الغزالي والآمدي" زيادة على ما في الشفاء. "وقال آخرون" في الشفاء: وقالت فرقة: "وكان عاملا بشرع من قبله" من الأنبياء، "ثم اختلفوا هل يتعين ذلك الشرع" بتعيين صاحبه "أم لا" فيقال: كان على شرع لم يعلم،"فوقف بعضهم على التعيين وأحجم"، "بحاء فجيم" أي تأخر ولم يجسر عليه لعدم دليل قام عنده على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 اختلفت هذه الفرقة المعينة فيمن كان يتبع فقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى. فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة. والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، وأبعدها مذهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل -كما قدمناه- لكنه ولم يخف جملة، ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقي عليه منها شيء، فقد   التعيين، "وجسر" تجرأ، وأقدم "بعضهم على التعيين وصمم" عزم وتمادى على ذلك ولم يرجع عنه، "ثم اختلفت هذه الفرقة المعينة فيمن كان يتبع، فقيل: نوح،" لأنه أول رسول إلى أهل الأرض كما في الصحيح، أي بالإهلاك والإنذار لقومه، فلا يرد أن أول الرسل آدم، لأن رسالته كانت كالتربية لبنيه، "وقيل: إبراهيم" لأنه أفضل الرسل بعد نبينا، "وقيل: موسى" لأنه كليم الله وكتابه أجل الكتب قبل وجود القرآن، "وقيل: عيسى" لأنه أقرب الرسل زمانا إليه، "فهذه جملة المذاهب" المنقولة "في هذه المسألة والأظهر", أي الأقوى دليلا "فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر "محمد بن الطيب الباقلاني، وهو قول الجمهور المنقول أولا، وقد وصف أبو بكر في الشفاء، بأنه سيف السنة ومقتدى فرق الأمة إشارة إلى ترجيحه، وأنه لا ينبغي العدول عنه، ولأنه مالكي على مذهب عياض، لا شافعي كما وهم، "وأبعدها مذهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل" إذ مثله لا يخفى "كما قدمناه لكنه" لم ينقل، فدل على عدمه، "ولم يخف،" أي يستر "جملة" على الناس، "ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء" قبله، فهو أقربهم إليه، ولا نبي بينهما، فهو أولى به، كما ذهب إليه من عينه "فلزمت شريعته ما جاء بعده" لأنه المتبادر ببادي الرأي قبل، التأمل وعند التأمل لا يلزم من جاء بعده، "إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى" وإنما كانت لبني إسرائيل كما في التنزيل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [الصف: 6] ، "بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم" فإنها عمت الثقلين إجماعا والملائكة على أحد القولين ورجح، ومقابل الصحيح إن دعوة بعض من قبله عامة أيضا، لقول نوح: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، إذ لو لم يرسل لهم ما استحقوا الهلاك بمخالفته، وهذا إن سلم فهو عموم نسبي لا حقيقي، كما لنبينا عليه الصلاة والسلام. "انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض" في الشفاء "وهو كلام حسن بديع" في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 قيل: شريعة آدم عليه السلام أيضا، وهو محكي عن ابن برهان، وقيل: جميع الشرائع. حكاه صاحب "المحصول" عن المالكية. وأما قول من قال: إنه كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم، وعول في إثبات مذهبه على قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع. وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: {أَنِ اتَّبِعْ} كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ولم تكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول. وقد سمى الله تعالى   الحسن "لكن قوله: فهذه جملة المذاهب فيه نظر، لأنه بقي عليه منها شيء فقد قيل: شريعة آدم عليه السلام أيضا" لأنه الأب الأول، "وهو محكي عن ابن برهان" "بفتح الموحدة" أحمد بن علي بن برهان الفقيه، صاحب الفقيه. "وقيل: جميع الشرائع" بأن يتعبد بما شاء منها بالإلهام "حكاه صاحب المحصول عن المالكية". "وأما قول من قال إنه كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم، وعول في إثبات مذهبه على قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَينَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، فهذا قول ساقط مردود لا يصدر مثله إلا عن سخيف" أي رقيق "العقل" أي ناقصه، "كثيف" غليظ "الطبع" لا يفهم شيئا، "وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد" أي الإيمان بالله وحده وما يتعلق بالعقائد الحقة مما يشترك فيه جميع الأنبياء "لأنه لما وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية، بأنه ما كان من المشركين، "فلما قال: {أَنِ اتَّبِعْ} كان المراد منه ذلك،" أي التوحيد لا اتباع شريعته، "ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فالمراد بهداهم ما اتفقوا عليه من التوحيد دون فروع الشرائع، فإنه لا يضاف للكل، وقد قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] الآية، "وقد سمى الله فيهم من لم يبعث" أي لم يرسل بشريعة خاصة، وأمر بدعوة الناس إليها، "ولم تكن له شريعة" جديدة "تخصه، كيوسف بن يعقوب" بن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 جماعة منهم في هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى. فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: {أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التي صح حصول المتابعة فيها.   إسحاق بن إبراهيم، "على قول من يقول: إنه ليس برسول" وإنما هو نبي على شريعة أبيه يعقوب، أو على ملة إبراهيم، والجمهور على أنه رسول بعث إلى القبط، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] ، فإن المراد يوسف بن يعقوب، والقائل بأنه ليس برسول، قال: المراد في الآية حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب "وقد سمى الله تعالى جماعة منهم" سرد أسماءهم على التوالي "في هذه الآية" ثم أمره بالاقتداء بهم "وشرائعهم مختلفة، لا يمكن الجمع بينها" حتى يؤمر باتباعهم جميعا في فروع الشرائع العلمية التعبدية، "فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى" القلبية التي لم يختلف فيها ونحوها من أصول الدين، وهذا أورده عياض ردا على من قال: كان يتعبد قبل البعثة على شريعة إبراهيم، فأورده المصنف ردا على من قال: كان بعدها على شريعته، لأنه أهم بالاعتناء برده، وكلاهما حسن، ولما كان ساقطا صادرا عن قلة العقل، لم يعتن عياض برده، وإنما قال عقب قوله: بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا، ولا حجة أيضا للآخرين، أي القائلين بأنه كان قبل البعثة متبعا لشريعة إبراهيم في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] ، ولا للآخرين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} فحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد، كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقد سمى فيهم من لم يبعث ... إلخ ما ذكر المصنف هنا بالحرف، وقال بعده: هل يلزم من قال بمنع الاتباع بهذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا أو يخالفون بينهم، أما من منع الاتباع عقلا، فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية، وأما من مال إلى النقل فأينما تصور له وتقرر تبعه، ومن قال بالوقف فعلى أصله، ومن قال بوجوب الاتباع لمن قبله فليلتزمه بمساق حجته في كل نبي. ا. هـ. "فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية" العقلية والنقلية "وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: {أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى" الذي هو التوحيد، "فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 أجاب الفخر الرازي: بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن. وقد قال صاحب الكشاف: لفظة "ثم" في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قِبَل أن هذه الآية دلت على تباعد النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله بها. انتهى. ومراده بالمدائح: المذكورة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120] .   كما قال ذلك البليد القليل العقل. "أجاب الفخر الرازي بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة" كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ، "وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى", والمجادلة مع كل واحد بحسبه "بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن" كما وقع لإبراهيم من الاستدلال بالكوكب، ثم القمر، ثم الشمس. "وقد قال صاحب الكشاف لفظة "ثم" في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة" عليه من الله تعالى "اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قِبَل"، "بكسر ففتح" أي جهة "أن هذه الآية دلت على تباعد" أي ارتفاع "النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله بها. انتهى". "ومراده" أي الزمخشري "بالمدائح المذكورة في قوله: إن إبراهيم كان أمة" إماما قدوة، جامعا لخصال الخير التي لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص عديدة، كقوله: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد "قانتا لله" مطيعا فيما يأمره، "حنيفا" مائلا عن الباطل إلى الدين القيم، "ولم يك من المشركين" كما زعمت قريش أنهم على ملة إبراهيم، "شاكرا لأنعمه" ذكر بلفظ القلة، تنبيها على أنه لا يخل بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة "اجتباه" اصطفاه "وهداه إلى صراط مستقيم" في الدعوة إلى الله، "وآتيناه في الدنيا حسنة" بأن حببه للناس حتى أن أرباب الملل، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 وقال ابن العراقي في شرح تقريب الأسانيد: وليت شعري كيف تلك العبادة؟ وأي أنواعها؟ وعلى أي وجه فعلها؟ يحتاج ذلك لنقل ولا أستحضره الآن. انتهى. وقال شيخ الإسلام البلقيني في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام كان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من تنسك قريش في الجاهلية أن يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وحمل بعضهم التعبد على التفكر. قال: وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع: وهي الانعزال عن الناس، كما صنع إبراهيم عليه السلام باعتزاله قومه والانقطاع إلى الله تعالى، فإن "انتظار   يتولونه ويثنون عليه، أو رزقه أولادا طيبة وعمرا طويلا في السعة والطاعة والثناء الحسن في كل أهل الأديان، "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" الذين لهم الدرجات العلى في الجنة، كما سأله بقوله: وألحقني بالصالحين. "وقال ابن العراقي" أحمد ولي الدين بن عبد الرحيم الحافظ ابن الحافظ "في شرح تقريب الأسانيد: وليت شعري كيف تلك العبادة" التي كان يتعبد بها صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، "وأي أنواعها، وعلى أي وجه فعلها، يحتاج ذلك لنقل، ولا أستحضره الآن. انتهى". "وقال شيخ الإسلام" سراج الدين أبو حفص عمر "البلقيني"، "بضم فسكون فكسر"، "في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، لكن روى ابن إسحاق وغيره" كالبيهقي "أنه عليه السلام كان يخرج إلى حراء" الجبل المعروف بمكة "في كل عام شهرا من السنة" وهو رمضان، كما رواه البيهقي "يتنسك" أي يتعبد "فيه، وكان من تنسك قريش في الجاهلية أن يطعم" المتنسك "من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة" يعني: فيحتمل أن يكون تنسكه لله في حراء كذلك، "وحمل بعضهم" كابن المرابط: "التعبد على التفكر" في مصنوعات الله. "قال" البلقيني: "وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع، وهي الانعزال عن الناس" لأنه عبادة لا سيما من كان على باطل، "كما صنع إبرايم عليه السلام باعتزاله قومه" قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] ، "والانقطاع إلى الله تعالى" عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 الفرج عبادة" كما رواه علي بن أبي طالب مرفوعا، وينضم إلى ذلك الأفكار، وعن بعضهم: كانت عبادته في حراء التفكر. انتهى. وقد آن أن أشرع فيما قصدته على النحو الذي أردته, وقد اقتصرت من عباداته عليه الصلاة والسلام على سبعة أنواع:   الخلق والراحة من أشغال الدنيا وفراغ القلب، وناهيك بهذا من عبادة "فإن انتظار الفرج عبادة" كما رواه علي بن أبي طالب، مرفوعا" أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي والديلمي عن علي، رفعه: "انتظار الفرج من الله عبادة"، "وينضم إلى ذلك الأفكار،" أي التفكير الذي قاله بعضهم كما مر فقوله: "وعن بعضهم كانت عبادته في حراء التفكر" تكرار. "انتهى" كلام البلقيني. وفي شرح المصنف للبخاري: وإنما كان يخلو بحراء دون غيره، لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وسنه، فتبعه على ذلك، فكان يخلو بمكان جده، وكان الزمن الذي يخلو فيه شهر رمضان، فإن قريشا كانت تفعله كما كانت تصوم يوم عاشورا. ا. هـ. "وقد آن" كحان وزنا ومعنى، أي قرب "أن أشرع" أي دخل وقت شروعي "فيما قصدته على النحو" الوجه "الذي أردته" عبر به تفننا وفرارا من تكرار اللفظ بعينه، "وقد اقتصرت من عباداته عليه الصلاة والسلام على سبعة أنواع" "بسين فموحدة". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 النوع الأول: في الطهارة وفيه فصول: الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به اعلم أن الوضوء بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذي يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمي به لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا. وقد استنبط بعض العلماء -كما جاء في فتح الباري- إيجاب النية في الوضوء من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أي، لأجله. وقال ابن القيم: لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه ألبتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى. قلت: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم، وأما كونه عليه السلام أتي بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازي في "المعالم" اعلم أنا إذا أردنا البحث في أمر من الأمور: هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلنا في إثباته طرق:   النوع الأول: في الطهارة لغة النظافة، أي النقاء من الدنس والنجس، "وفيه فصول" ستة: الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه وهو طهارة لغوية، "ومقدار ما ان يتوضأ به" سماه طهارة تجوزا، لأنها لما كانت تفعل به أطلقها عليه. "اعلم أن الوضوء بالضم" للواو "الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما" وحكي في كل منهما الأمران، "وهو مشتق من الوضاءة"، "بالهمز" وزن ضخامة الحسن والبهجة، "وسمي به لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا". "وقد استنبط بعض العلماء كما حكاه في فتح الباري إيجاب النية" القصد، وهو عزيمة القلب، قاله النووي، وقال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض صحيح من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا وخص الشرع بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه "في الوضوء، من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لأجلها" أن ترتيب الوضوء على القيام إليها مشعر بأنه لأجلها، "ومثله قوله" أي القائل، إلا أن لفظ الفتح قولهم: "إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله". "وقال ابن القيم: لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أول وضوئه: نويت رفع الحدث ولا غيرها" أي غير هذه النية من النيات المعتبرة، "لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى". "قلت: أما التلفظ بالنية، فلا نعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم"، كما قال: "وأما كونه عليه السلام أتى بها، فقد قال الإمام فخر الدين الرازي في المعالم" أي معالم التنزيل اسم تفسيره: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 الأول: أنا أردنا أن نقول إنه عليه السلام توضأ مع النية والترتيب، قلنا، لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضروري حاصل بأنه أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، فوجب أن يجب علينا مثله. والطريق الثاني: أن نقول: لو أنه عليه السلام ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا: "إنما الأعمال بالنية وإنما   "اعلم أنا إذا أردنا البحث في أمر من الأمور أنه هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم" أم لا؟ "فلنا في" وفي نسخة: إلى "إثباته طرق" أراد ما فوق الواحد، إذ لم يذكر إلا طريقين، أو ترك ما زاد عليهما اختصارا. "الأول: إذا أردنا أن نقول" جوابا لمن قال "إنه عليه السلام" له "توضأ مع النية والترتيب أم لا؟ "قلنا: لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب" يلازم ويدوام "على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي" بالجر صفة"، "ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عن النية والترتيب والشك" الحاصل من عدم ورود دليل على ذلك "لا يعارض اليقين" الحاصل من أنه لا يمكن تركه الأكمل طول عمره، "فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، فوجب أنه يجب علينا مثله" لكن ثبوت إتيانه بذلك لا ينتج الوجوب كما هو ظاهر، إذ قد يتركه لبيان أنه لا يجب، فهذا الدليل ينتج عدم الوجوب. "والطريق الثاني: أن نقول لو أنه عليه السلام ترك النية والترتيب وجب علينا تركه،" أي المذكور منهما "للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله،" لكن ثبوت ذلك لا يدل على وجوب الفعل، لأنه يفعل السنة، وليس تركه مثل هذا يوجب علينا الترك لما علم أنه يترك ما لم يجب، لإفادة أنه ليس بواجب، كما أنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز، ويثاب على ذلك. "وفي الصحيحين وغيرهما" كأحمد والترمذي وابن ماجه ومالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن "من حديث عمر، مرفوعا": "إنما الأعمال بالنية" بالإفراد في معظم الروايات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 لكل امرئ ما نوى". قال البخاري: "فدخل في الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم   على الأصل لاتحاد محلها وهو القلب، كما أن مرجعها واحد، وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فمتعلقة بالظواهر وهي متعددة، فناسب جمعها، أو في رواية: بالنيات "بالجمع" باعتبار تنوعها، لأن المصدر إنما يجمع باعتبار تنوع، أو باعتبار مقاصد الناوي، كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده، أو اتقاء وعيده. وفي رواية للبخاري: "الأعمال بالنية"، بالإفراد فيهما وحذف "إنما" ولابن حبان: "الأعمال بالنيات" بحذفها وجمع الأعمال، "وإنما لكل امرئ ما نوى"، أي الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت، لأن النساء شقائق الرجال. وفي القاموس: المرء "مثلث الميم" الإنسان أو الرجل، وأتى بهذه الجملة بعد سابقتها مع اتحاد معناهما، لأن التقدير: وإنما لكل امرئ ثواب ما نوى، فالأولى نبهت على أن الأعمال لا تعتبر إلا بالنية، والثانية على أن للعامل ثواب العمل على قدر نيته، ورد بأن الأعمال حاصلة بثوابه للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الثانية، وقيل: معنى الثتنية حصر ثواب الأجر المرتب على العمل لعامله، ومعنى الأول صحة الحكم وإجراؤه، ولا يلزم منه ثواب، فقد يصح العمل ولا ثواب عليه، كالصلاة في الثوب المغصوب على أرجح المذاهب، قاله ابن عبد السلام، وتعقب باقتضائه أن العمل نيتين: نية يصح بها في الدنيا ويحصل بها الاكتفاء ونية بها يحصل الثواب في الآخرة، إلا أن يقدر في ذلك وص النية إن لم يحصل صح ولا ثواب، وإن حصل صح وحصل الثواب، فلا إشكال, وقيل: الثانية تفيد اشتراط تعيين المنوي، فلا يكفي نية الصلاة بلا تعيين بل لا بد من تعيينها بالظهر أو العصر مثلا، أو أنها تفيد منع الاستنابة في النية، لأن الجملة الأولى لا تقتضي منعها بخلاف الثانية، ولا يرد نية ولي الصبي في الحج، فإنها صحيحة، وحج الإنسان عن غيره والتوكيل في تفرقة الزكاة، لأن ذلك وقع على خلاف الأصل في الوضع، وقال القرطبي: الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فذكر الحكم بالأولى، وأكده بالثانية تنبيها على سر الإخلاص، وتحذيرا من الرياء المانع منه وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضاعفها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريات. "قال البخاري" في آخر كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، "فدخل فيه" أي في الكلام "الإيمان" على رأيه، لأنه عنده عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب. "والوضوء" لأنه عمل "والصلاة" فتجب نيتها باتفاق، "والزكاة" فلا بد من نيتها. نعم إن أخذها الإمام من الممتنع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 والأحكام". وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لا يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما. وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة. ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية. واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود به. وقوله: "إنما الأعمال بالنيات". ليس المراد منه نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال, لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات   سقطت ولو لم ينو صاحب المال، لأن السلطان قائم مقامه، "والحج", وإنما ينصرف إلى من حج عن غيره لدليل خاص، وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة، "والصوم" فتلزم نيته عند الأئمة الأربعة إلا أن تعيين الرمضانية لا يشترط عند الحنفية، "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات. "وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لا يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما، وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة، كالصلاة" وسجود التلاوة ومس المصحف، "ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية" وأجابوا بأنها طهارة ضعيفة، فتحتاج إلى تقويتها بالنية، ورد بأن قياسه على التيمم غير مستقيم، فإن الماء خلق مطهرا، فتحتاج إلى تقويتها بالنية، ورد بأن قياسه على التيمم غير مستقيم، فإن الماء خلق مطهرا، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، والتراب ليس كذلك، فكان التطهير به تعبدا محضا، فاحتاج إلى النية، أو التيمم ينبئ لغة عن القصد، فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء ففسد قياسه على التيمم، قاله المصنف. "واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة، المصرحة بوعد الثواب عليه, فلا بد من قصد ميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود به" ولا يكون ذلك مع عدم النية. "وقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، ليس المراد به نفي ذات العمل، لأنه قد يوجد بغير نية" كأن يأتي بأفعال الوضوء بدونها، "بل المراد نفي أحكامها، كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى، لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه", لأنه إذا انتفت صحته لم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 بالصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة. وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوا قدروا كمال الأعمال, ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى.   يحصل به المقصود من سقوط الطلب عن المكلف، فأشبه ما انتفت ذاته بأن لم يفعل في عدم حصول القصد بكل منهما، بخلاف ما انتفى كماله، كمن ترك تسبيح الصلاة، فالفائت ثوابه الخاص مع سقوط الطلب عن المكلف، "ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل، نفي الذات" لوجود العمل بلا نية، "بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة". زاد الحافظ: قال شيخنا شيخ الإسلام، يعني البلقيني: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله: فمن كانت هجرته ... إلخ، وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل، ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان، فتدخل الأقوال. قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث بتناولها، وأما التروك، فهي وإن كانت فعل كف، لكن لا يطلق عليها لفظ العمل، وقد تعقب على من سمى القول عملا، لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا، فقال قولا لا يحنث. وأجيب: بأن مرجع اليمين إلى العرف والقول لا يسمى عملا في العرف، ولهذا يعطف عليه، والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] ، بعد قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ، وأما عمل القلب فالنية، ولا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل والمعرفة، وفي تناولها نظر. قال بعضهم: هي محال، لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف، يلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة، وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله، إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا. "وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال" إذ لا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقدر كل ما يوافق رأيه، "ورجح الأول، لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها, ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا, نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات النفقة. وأما قوله -أي البخاري- "فدخل في الإيمان" فتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة البخاري: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية الله وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة لله فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم   أولى" للأكثرية، "وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية" أي وجوبها في شيء من الأعمال، "وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل" كالوضوء، "وأما المقاصد" كالصلاة، "فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء" أي قالوا لا تشترط، "كما تقدم، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا" نظرا لكونه وسيلة، فلم يناقض أصله بخلاف الحنفية، فاشترطوها فيه، فتناقضوا كما مر. "نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل" هل هو شرط أم لا؟ "كما هو معروف في مبسوطات النفقة" فلا حاجة إلى الإطالة به. زاد الحافظ: الظاهر أن الألف واللام معاقبة للضمير، والتقدير: الأعمال بنياتها، وعلى هذا، فيدل على اعتبار نية العمل من كونه صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا, ظهرا مثلا أو عصرا, مقصورة أو غير مقصورة، وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والرجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين، لأن ذلك هو مقتضى القصر. "وأما قوله -أي البخاري- فدخل فيه الإيمان، فتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة البخاري، أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب من خشية الله" أي الخوف منه "وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة" بكونها "لله" لا لأمر آخر، "فلا تحتاج إلى نية تميزها" بل لا يمكن النية فيها كما أشار إليه بقوله الآتي: ومتى فرضت النية مفقودة استحالت حقيقته، "لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 عن الحمية. وقوله أيضا: "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص. وقد ذكر ابن المنير ضابطا -لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه- فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل فعل ظهرت فائدته، ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب. قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة. قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه   عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال، كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة، كالصوم عن المحبة" عن الأكل لضره. "وقوله أيضا: والأحكام أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات، فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها" واستأنف بالرفع قوله: "وكل صورة لم تشترط فيه النية، فذلك لدليل خاص". "وقد ذكر ابن المنير ضابطا" مميزا "لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه" وفي نسخة: وما لا يشترط، فلا يقدر مميزا، لكن الذي في الفتح مما لا يشترط، "فقال: كل عمل لا يظهر له فائدة عاجلة" كالصلاة لا يظهر لفعلها فائدة تترتب عليها حالا، "بل المقصود به طلب الثواب" في الآخرة "فالنية مشترطة فيه" فلا يصح بدونها "وكل فعل ظهرت فائدته ناجزة وتقاضته"، "بقاف وضاد معجمة" أي طلبته "الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما" بين الطبيعة والفعل، كالأكل والشرب والجماع مما منفعته ناجزة، كشبع وري وكسر شهوة، "فلا تشترط فيه النية إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب" لقصد التقوي على العبادة بالأكل والشرب وحصول ولد صالح، أو عفة نفسه، أو المرأة بالنكاح، فيتوقف على النية. "قال" ابن المنير: "وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة" بين الأمرين، "قال: وأما ما كان من المعاني المحضة، كالخوف والرجاء، فهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي. وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء، والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وقد اختلف العلماء في الوقت الذي وجب فيه الوضوء. فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية. ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وقال: وهذا مما لا   لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا", فلا يصح اشتراطها فيه, ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي" لا يمكن تخلفه، وحذف من كلام ابن المنير المنقول في الفتح ما لفظه، ويقاربه أنه لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل. "وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء "بتحتية"، "والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود، والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى". "ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري" آخر كتاب الإيمان وما قبله في شرح أو حديث فيه. "وقد اختلف العلماء في الوقت الذي وجب فيه الوضوء، فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} محدثين كما قدر الأكثرون، وقال آخرون: الأمر عام بلا تقدير، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب، وقيل: كان واجبا، ثم نسخ فصار مندوبا، ويدل له حديث عبد الله بن الغسيل الآتي {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية ووجه التمسك من كون الآية نزلت بالمدينة، وهو تمسك ضعيف. "ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة" بمكة، "وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وقال" ابن عبد البر: "وهذا مما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 يجهله عالم بالأخبار. وقال الحاكم في المستدرك: أهل السنة قامت بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: "ائتوني بوضوء". فتوضأ. قال الحافظ ابن حجر: وهذا يصلح أن يكون ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم به الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة. ورد عليه بما أخرجه عبد الله بن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي   لا يجهله عالم بالأخبار", وهذا مما يضعف القول بأن الوضوء أول ما فرض بالمدينة. "وقال الحاكم في المستدرك: أهل السنة قامت بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة" الزهراء سيدة النساء "على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: "ائتوني بوضوء"، "بالفتح" ما أتوضأ به "فتوضأ". "قال الحافظ ابن حجر: وهذا يصلح أن يكون ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ" فلا يصح ردا عليه، إذ لا يلزم من فعله الوجوب. "قد جزم" أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد "بن الجهم" المروزي نسب لجد أبيه لشهرته به "المالكي" الفقيه، المحدث. قال الخطيب: له مصنفات حسان محشوة بالآثار، يحتج لمذهب مالك ويدر على مخالفيه، وكتب حديثا كثيرا وكتبه تنبئ عن مقدار علمه. روى عن إسماعيل القاضي وجعفر الفريابي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم، وعنه الأبهري والدينوري، مات سنة تسع وعشرين، وقيل: ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، "بأنه كان قبل الهجرة مندوبا". "وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة" ويرد عليه حديث فاطمة السابق، "ورد عليه" أيضا "بما أخرجه عبد الله بن لهيعة"، "بفتح اللام وكسر الهاء" ابن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري قاضيها، عالم صدوق، احترقت كتبه فاختلط، ورواية ابن المبارك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 الأسود عن عروة أن جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال: عن الزهري عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا, ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة. قيل له: كيف كنتم   وابن وهب، عنه: أعدل من غيرهما. روى له أبو داود والترمذي وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين "في" كتاب "المغازي التي يرويها عن أبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن سد بن عبد العزى الأسدي المدني، يتيم عروة، ثقة من رجال الجميع، مات سنة بضع وثلاثين ومائة "عن عروة" بن الزبير: أن جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي وهو مرسل" لأن عروة تابعي كبير "ووصله "أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه" زيد بن حارثة الصحابي، أحد من قيل أنه أول من أسلم. "وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين"، "بكسر الراء وسكون المعجمة"، "ابن سعد" ابن مفلح المهري "بفتح الميم وسكون الهاء" أبي الحجاج المصري، ضعيف رجح أبو حاتم عليه ابن لهيعة. وقال ابن يونس: كان صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، مات سنة ثمان وثمانين ومائة وله ثمان وسبعون، خرج له الترمذي وابن ماجه "عن عقيل"، "بضم العين" ابن خالد بن عقيل "بالفتح" الأيلي "بفتح الهمزة فتحتية ساكنة فلام" الأموي، مولاهم ثقة، ثبت من رجال الجميع، سكن المدينة، ثم الشام ثم مصر، مات سنة أربع وأربعين ومائة على الصحيح، "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب "نحو، ولكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند" بل قال عن عروة عن أسامة. "وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث" بن سعد الإمام "عن عقيل موصولا" عن الزهري، عن عروة، عن أسامة، عن أبيه: "ولو ثبت لكان على شرط الصحيح" للشيخين "لكن المعروف رواية ابن لهيعة" عن أبي الأسود، عن عروة مرسلا "وعن" عمرو بن عامر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 تصنعون؟ قال: يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث. رواه البخاري وأبو داود والترمذي. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمي. وروى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تفعله، فقال: "عمدا فعلته يا عمر". يعني لبيان الجواز.   الأنصاري، عن "أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة" وعند النسائي عن عمرو بن عامر أنه سأل أنسا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة؟ قال: نعم، قال الحافظ: أي مفروضة زاد الترمذي من طريق حميد، عن أنس طاهر، أو غير طاهر وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث الصحيح عن سويد بن النعمان: خرجنا عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، إلى أن قال: ثم صلى لنا المغرب، ولم يتوضأ يدل على أن المراد الغالب. وقال الطحاوي: يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه، ثم نسخ يوم الفتح لحديث بريدة، يعني الآتية، ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا، ثم خشي أن يظن وجوبه، فتركه لبيان الجواز. قال الحافظ: وهذا هو الأقرب، وعلى تقدير، الأول، فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد، فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان، "قيل له" لفظ البخاري، قلت: "كيف كنتم تصنعون", قال الحافظ: القائل عمرو بن عامر، والمراد الصحابة، "قال" أنس: "يجزي"، "بضم أوله" من أجزأ، أي يكفي، وللإسماعيلي: يكفي "أحدنا"، "بالنصب" مفعول فاعله "الوضوء ما لم يحدث" ولابن ماجه: وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد "رواه البخاري وأبو داود والترمذي" والنسائي وابن ماجه، "وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة" استحبابا، وإلا لما وسعه ولا وسع غيره أن يخالفه، ولأن الأصل عدم الوجوب قاله المصنف "رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي الحافظ، صاحب المسند، ثقة، فاضل، متقن، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي. "وروى مسلم" وأبو داود والترمذي "عن بريدة"، "بضم الموحدة" مصغر, بن الحصيب "بمهملتين" مصغر, أبي سهل الأسلمي رضي الله عنه "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح" فتح مكة "صلى الصلوات" الخمس، كما زاده في رواية أبي داود والترمذي، فأغرب من قال، أي جمع بين صلاتين "بوضوء واحد فقال له عمر" بن الخطاب: "فعلت شيئا لم تكن تفعله". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 وفي رواية أحمد وأبي داود، من حديث عبد الله بن أبي عامر الغسيل، أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عند الوضوء إلا من حدث. واختلف العلماء في موجب الوضوء: فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا: ورجحه جماعة من الشافعية وقيل إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة".   وفي رواية: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، "فقال: عمدا" أي قصدا "فعلته" وفي لفظ: صنعته "يا عمر، يعني لبيان الجواز" للناس، وخوف أن يعتقد وجوب ما كان يفعل من الوضوء لكل صلة، وقيل: إنه ناسخ لوجوب ذلك، وتعقب بقول أنس: كان خاصا به دون أمته، وأنه كان يفعله للفضيلة، كذا في شرح المصنف لمسلم. "وفي رواية أحمد وأبي داود من حديث عبد الله" بن حنظلة "بن أبي عامر" الراهب الأنصاري، له رؤية وأبوه غسيل الملائكة، قتل يوم أحد وأم عبد الله جميلة بنت عبد الله بن أبي، استشهد عبد الله يوم الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكان أمير الأنصار بها، كما في التقريب كغيره، فكأنه سقط من قلم المصنف أو نساخه: ابن حنظلة، ولا يعتذر له بأنه نسبه إلى جده، لأن قوله "الغسيل" صفة لحنظلة لا لابنه عبد الله الراوي، وإسقاطه يوهم أنه صفة له كما ظنه من لم يراجع غزوة أحد، "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا" كان "أو غير طاهر فلما شق" صعب "ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عند الوضوء إلا من حدث", أي ناقض للوضوء، لكن نومه ليس بناقض كما مر في الخصائص. "واختلف العلماء في موجب الوضوء" وكذا الغسل، واقتصر على الوضوء، لأن الكلام فيه، "فقيل: يجب بالحدث" أي الناقض "وجوبا موسعا" إلى القيام إلى الصلاة، "وقيل" يجب "به وبالقيام إلى الصلاة معا" فلا يجب بالحدث وحده، ولا بالقيام لها وهو متوضئ، "ورجحه جماعة من الشافعية" وغيرهم، "وقي: بالقيام إلى الصلاة حسب" أي فقط، وأورد عليه أنه لو دخل وقت الصلاة ولم يرد فعلها، بل قصد تركها أو أخرها إلى خروج الوقت، لا يجب عليه الوضوء تلك المدة لعدم قيامه إلى الصلاة. وأجيب بأن المراد القيام لها بالفعل أو بالخطاب، وهو بدخول الوقت يخاطب بالصلاة، وبكل ما تتوقف عليه، "ويدل له ما رواه أصحاب السنن، عن ابن عباس، مرفوعا: "إنما أمرت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبي عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن عن عائشة مرفوعا: "ثلاث هي علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل". وقد روى أحمد في مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي". وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكي عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه.   بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية، "وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبي عامر هذا" المذكور آنفا: "من قال بوجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم" من قوله: فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، "لكن" لا متمسك فيه، لأن "في إسناده محمد بن إسحاق" بن يسار صاحب المغازي, "وقد رواه بالعنعنة، وهو مدلس، وإن كان صدوقا فلا يقبل منه حتى يصرح بالسماع، "والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح". "وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في السنن، عن عائشة مرفوعا: "ثلاث هن علي فرائض وهن لكن سنة: الوتر والسواك وقيام الليل"، فهذا شاهد لحديث ابن حنظلة، وقد صححه ابن خزيمة وغيره إما تساهلا وإما لأنهم وقفوا على طريق صرحت بالسماع، ولذا اعتمد المالكية والشافعية وجوبه عليه. "وقد روى أحمد في مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة"، "بمثلثة"، "ابن الأسقع"، "بالقاف"، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت" على لسان جبريل، أو بإلهام، أو برؤيا المنام "بالسواك" أمر ندب "حتى خشيت أن يكتب" أي يفرض "علي" وهذا وإن كان إسناده حسنا، لكن قال المنذري وغيره: فيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة مدلس، وقد رواه بالعنعنة، وقد جعله المصنف في مقصد الخصائص من حجج، من لم يجعل السواك واجبا عليه، لأنه ظاهر في عدم الوجوب، وحاول شيخنا الجمع بينه وبين الحديث قبله: "ثلاث هي علي فرائض" بما حاصله أنه واجب عليه لكل صلاة، مستحب له فيما عدا ذلك، والذي خشي أن يكتب عليه وجوبه عند القيام من نوم ودخول منزل ونحوهما مما يطلب فيه، وهو محتمل على بعده. "وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا" معشر الأمة "لكن حكي عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 واتفقوا على أنه يستحب مطلقا، ويتأكد في أحوال: منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة. ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، لكن قد يقال: المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء. ومنها: عند قراءة القرآن، كما جزم به الرافعي. ومنها: عند تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعي. ومنها: عند دخول المنزل، كما جزم به النووي في زوائد الروضة، لما روى   بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة، ونوزع فيه" بأنه لا دليل عليه. "واتفقوا على أنه يستحب مطلقا" في كل وقت فعل فيه أراد الصلاة أم لا، "ويتأكد" استحبابه "في أحوال منها عند الوضوء" والغسل والتيمم "وإرادة الصلاة، ومنها عند القيام من النوم لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة" بن اليماني "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص"، "بفتح التحتية وضم المعجمة وسكون الواو وصاد مهملة" يدلك "فاه بالسواك، لكن قد يقال المراد قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك، أو عند الوضوء" فلا يدل على أنه للقيام من النوم، ويدل على ذلك أن في رواية لمسلم كان إذا قام للتهجد. وقال الولي العراقي: يحتمل وجهين، أحدهما: أن معناه إذا قام للصلاة بدليل الرواية الأخرى، الثاني: إذا انتبه وفيه حذف، أي من نوم الليل، ويحتمل أن من لابتداء الغاية من غير تقدير حذف نوم. انتهى. وقد يؤيد الثاني رواية أحمد وأبي داود عن عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار إلا تسوك قبل أن يتوضأ" فإن ظاهره أنه كان يتسوك قبل شروعه في الوضوء، إذ يستحب في السواك للوضوء كونه قبل المضمضة، وهذا غير الاستياك عند الاستيقاظ. وقال بعضهم: الكلام في مقتضى هذا الحديث، فإن نظر إليه مع قطع النظر عن رواية مسلم، أفاد ندبه بمجرد الانتباه، وإن روعيت الرواية الأخرى، لأن الروايات تفسر بعضها لم يفد ذلك لكن له دليل آخر، "ومنها عند قراءة القرآن كما جزم به الرافعي، ومنها عند تغير الفم" بأكل أو شرب أو كثرة كلام، ولو بذكر الله، "سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان كما ذكره الرافعي، ومنها عند دخول المنزل كما جزم به النووي في زوائد الروضة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك. ومنها: عند إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد في "الرونق" وروى فيه ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه. وفيه: حرام بن عثمان، متروك. ومنها: عند الانصراف من صلاة الليل، لما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك.   لما روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه" كلهم في الطهارة "من حديث" شريح بن هانئ عن "عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك" لأجل السلام على أهله، إذ السلام اسم شريف، وليطيب فمه الطيب لتقبيل أهله زيادة في حسن العشرة وتعليم الأمة، لا لتغير فمه بصمت أو كلام كما زعم، لأنه صلى الله عليه وسلم المنزه المبرأ عن أن يلحقه شيء من ذلك، ولأنه كان يبدأ بالنافلة أول دخوله بيته، ولأنه كما قال عياض والقرطبي: لا يفعله ذو مروءة بحضرة الناس، ولا ينبغي فعله في المسجد ولا في المحافل، قيل: المراد بالدخول ليلا، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن شريح بن هانئ: سألت عائشة بأي شيء كان يبدأ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليك بيتك ليلا، قالت: بالسواك، ويختم بركعتي الفجر، وألفاظ الخبر الواحد يفسر بعضها بعضا. وقد حكى ابن منده الإجماع على صحة هذا الحديث، وتعقبه مغلطاي بأنه إن أراد إجماع العلماء قاطبة فمتعذر، أو إجماع الأئمة فغير صواب، لأن البخاري لم يخرجه، فأي إجماع مع مخالفته، كذا قال ولا طائل تحته، فالمراد إجماع علماء الحديث، وعدم إخراج البخاري له ليس فيه أنه لم يقل بصحته، فإنه لم يخرج في جامعه كل ما صح عنده، فقد صح عنه: أحفظ من الصحيح مائة ألف حديث، والذي في جامعه لم يبلغ نصف عشرها "ومنها عند إرادة النوم كما ذكره الشيخ أبو حامد "الإسفراييني "في الرونق" اسم كتاب، "وروى فيه ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه"، "بزنة مقعد" كما في القاموس، "وفي حرام"، "بمهملتين مفتوحتين"، كما في التبصير "ابن عثمان" المدني "متروك" هالك، "ومنها عند الانصراف من صلاة الليل لما رواه ابن ماجه" والنسائي وأحمد "من حديث ابن عباس بإسناد صحيح" كما قال الحافظ، وقال المنذري: رواته ثقات، وقال الحاكم على شرطهما، وتعقبه مغلطاي، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين" بالتكرير، "ثم ينصرف فيستاك" وعند أبي نعيم بإسناد جيد عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يستاك بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووي في شرح المذهب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال في شرح تقريب الأسانيد: وما أدري ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزءا منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة، لأنه لا يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم. قال النووي في شرح المذهب: المختار إجزاؤه مطلقا. قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في اللباب والبغوي واختاره في البحر. انتهى. وقد أطبق الشافعي على استحباب "الأراك". روى الطبراني من حديث أبي خيرة الصنابحي -وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك فقال: "استاكوا بهذا".   كل ركعتين من صلاة الليل. قال الولي العراقي: ومقتضاه أنه لو صلى صلاة ذات تسليمات كالضحى والتراويح، يستحب أن يستاك لكل ركعتين، وبه صرح النووي: "ويجزئ بكل خشن ولو بأصبع غيره الخشنة" المتصلة لا المنفصلة، لا بأصبعه، ولو متصلة على الأصح في المنهاج. "وقد جزم النووي في شرح المذهب ودقائق المنهاج، أنه يجزئ بها قطعا". "قال" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد: وما أدري ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره، وكونه جزءا منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة" التي هي المقصود بالسواك من أصبع غيره، "لأنه لا يتمكن بها" أي أصبعه "أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم" أي حقا. "قال النووي في شرح المذهب المختار" عنده من حيث الدليل وإن كان خلاف ما اعتمده في المنهاج "إجزاؤه مطلقا" بأصبع غيره أو بأصبعه، "قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في الباب والبغوي واختاره في البحر" للروياني. "انتهى". "وقد أطبق أصحاب الشافعي" وغيرهم "على استحباب الأراك روى الطبراني والدولابي وأبو أحمد الحاكم "من حديث أبي خيرة"، "بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية فراء فتاء تأنيث"، قال الخطيب: لا أعلم أحدًا سماه وهو العبدي، ثم "الصنابحي"، "بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة الخفيفة نسبة إلى صنابح بن كثير بن أقصى بطن من عبد القيس كما في الإصابة والفتح، "وله صحبة حديثا" أوله كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس، وكنا أربعين رجلا نسأله على الدباء والنقير ... الحديث. ثم "قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة في دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به أسنانه. والحديث في الصحيحين وليس فيه ذكر الأراك. وفي بعض طرقه عند البخاري: ومعه سواك من جريد النخل. وقد روى أبو نعيم في كتاب السواك، من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، وروى البيهقي أيضا من حديث ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا. الحديث.   فيه: ثم أمر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك، فقال: "استاكوا بهذا" فقلنا: يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك، فقال: "اللهم اغفر لعبد القيس، أسلموا طائعين غير مكرهين، إذ قعد قوم لم يسلموا إلا خزايا موتورين". "وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة في" قصة "دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر "الصديق "في مرضه صلى الله عليه وسلم" الذي توفي فيه "ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة" لما نظر صلى الله عليه وسلم إليه، "فطيبته" بمضغة ونفضه، "ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به"، "بهمزة فمهملة فوقية دلك "أسنانه، والحديث في الصحيحين, وليس فيه ذكر الأراك"، فذكره في رواية الحاكم وهو وهم أو شذوذ. "وفي بعض طرقه عند البخاري: ومعه سواك من جريد النخل" فصرح بخلاف ما روى الحاكم والحديث واحد، ولفظ البخاري في هذه الطريق، عنها: توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذ مرض، فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: "في الرفي الأعلى، في الرفيق الأعلى". ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أن له حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولينها، فسقطت يده، أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة. "وقد روى أبو نعيم في كتاب السواك من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله" وفي نسخة: النبي "صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا" بقية رواية أبي نعيم، ولا يستاك طولا، هذا وفي إسناده عبد الله بن حكيم وهو متروك كما في المقاصد، وعورض بذكر الطول في خبر آخر، وجمع بأنه في اللسان والحلق طولا وفي الأسنان عرضا. "وروى البيهقي" في السنن "أيضا" وكذا العقيلي "من حديث" سعيد بن المسيب عن "ربيعة بن أكثم"، "بمثلثة" الخزاعي "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا الحديث" بقيته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 قال أصحابنا: والمرد بقوله: "عرضا" عرض الأسنان في طول الفم. وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث: كان يعجبه التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وسواكه. وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمين، وإن قلنا بالثاني فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى. رواه أبو داود بإسناد صحيح. قال في شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن في الاستياك، وأما كونه يفعل   ويشرب مصا ويتنفس ثلاثا، ويقول: "هو أمنا وأمرأ وأبرأ"، قال في الإصابة: إسناده إلى ابن المسيب ضعيف. وقال ابن السكن: لم يثبت حديثه، وفي المقاصد سنده ضعيف جدا، بل قال ابن عبد البر: ربيعة. قتل بخيبر، فلم يدركه سعيد، وقد رواه البيهقي والبغوي والعقيلي وابن عدي وابن منده وابن قانع والطبراني من حديث ثبيت بن كثير، وهو ضعيف، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز بدل ربيعة. قال ابن عبد البر في التمهيد: ولا يصحان من جهة الإسناد. "قال أصحابنا: والمراد بقوله عرضا عرض الأسنان" ظاهرا وباطنا كما قال بعضهم "في طول الفم وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم: بيمينه لحديث: كان" صلى الله عليه وسلم "يعجبه التيمن في ترجله" تسريح شعره "وتنعله" لبس نعله، "وطهوره" وضوئه وغسله، فيبدأ بالعضو الأيمن من اليدين والرجلين، والشق الأيمن في الغسل، "وسواكه" فيسوك الجهة اليمنى قبل اليسرى، "وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات، فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمين، وإن قلنا بالثاني، فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه"، "بالمد"، "وما كان من أذى، رواه أبو داود بإسناد صحيح". "قال" الولي بن العراقي "في شرح تقريب الأسانيد وما استدل به" من حديث كان يعجبه التيمن "على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن في الترجل" أي يسرحه قبل الأيسر "والبداءة بلبس النعل" للرجل اليمنى قبل اليسرى، "والبداءة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي فقال في "المفهم" حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك في المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم. وأما مقدار ما كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل به من الماء: فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفي رواية: كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك.   بأعضاء" الجهة "اليمنى في التطهير" فيغسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى قبل اليسرى فيهما، وشق جسده الأيمن قبل الأيسر في الغسل، "والبداءة بالجانب الأيمن" من الفم "في الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه، فيحتاج إلى نقل" إذ لا تعرض فيه لليد التي كانت يفعل بها، لكنه الظاهر منه لا سيما مع قوله في الحديث وفي شأنه كله، ولذا اعتمد الشافعية والمالكية أنه باليد اليمنى خلافا لقوله: "والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه، فيكون باليسرى". "وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي فقال في المفهم" في شرح مسلم "حكاية عن مالك" الإمام "أنه لا يتسوك في المساجد، لأنه من باب إزالة القذر،" لكن لا دلالة فيه على التسوك بالشمال، إذ لا يلزم من كراهة مالك السواك بالمساجد لئلا تتقذر بالخارج من الفم بالسواك وإن كان طاهرا، كون التسوك نفسه بالشمال، بل باليمين إكراما للفم، كإدخال الأكل وإن كان ذا رائحة كريهة كثوم، "والله أعلم" بالحكم فيه. "وأما مقدار ما كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل به من الماء، فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع" لفظ مسلم. وفي البخاري: كان يغسل جسده، أو كان غتسل بالصاع، قال الحافظ: الشك من البخاري أو من شيخه أبي نعيم لما حدثه به، فقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي نعيم، فقال: كان يغتسل، ولم يشك، ثم إنه ربما اقتصر على الصاع، وهو أربعة أمداد، وربما زاد "إلى خمسة أمداد" فكأن أنسا لم يطلع على أنه اغتسل بأكثر، لأنه جعلها النهاية، وفي مسلم عن عائشة، أنها كانت تغتسل والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وهو الفرق. قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع، وفي مسلم أيضا، عنها: كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد، فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، "ويتوضأ بالمد" وهو إناء يسع رطلا وثلثا بالبغدادي، قاله جمهور العلماء، وقال بعض الحنفية: رطلين. "وفي رواية" عن أنس "كان" صلى الله عليه وسلم "يغتسل بخمس مكاكيك"، "بميم فكاف فألف فكافين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 رواه البخاري ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذي وعنده أيضا: أنه صلى الله عليه وسلم قال: يجزئ في الوضوء رطلان من ماء. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد رواه أبو داود. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد. والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووي مائة   بينهما تحتية ساكنة جمع مكوك "ويتوضأ بمكوك"، "بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة وسكون الواو آخره كاف مجرور بالباء" أي مد كما تفسره الرواية قبله، "رواه البخاري ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين،" فقوله: أولا يتوضأ بالمد أغلبي، إذ الرطلان أزيد من المد عند الجمهور، "ويغتسل بالصاع". "ورواه الترمذي وعنده أيضا؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: يجزئ"، "بضم أوله، أي يكفي"، "في الوضوء رطلان من ماء" أي فأقل بدليل فعله، "وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" بضم الميم "رواه أبو داود". وفي مسلم عن سفينة مثله، ولأحمد بإسناد صحيح عن جابر مثله، وفي الباب عن أم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وهو أكثر ما جاء عن الصحابة في تقدير وضوئه وغسله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو يعلى والطبراني بإسناد ضعيف، عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد. وروى ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن زيد أنه رآه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلث مد، فجعل يدلك ذراعيه، ودلك أذنيه، يعني حين مسحهما وثلث بالإفراد، ولأبي داود عن أم عمارة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد بالتثنية وجمع بين هذه الروايات بأنها كانت اغتسالات ووضوءات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، فليس المراد التحديد بالصاع والمد خلافا لمن حدد بهما، كابن شعبان من المالكية وبعض الحنفية، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا. "و" في البخاري والترمذي وابن ماجه، "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم وميمونة" أم المؤمنين "كانا يغتسلان من إناء واحد" من الجنابة، ورواه مسلم عن ابن عباس، قال: أخبرتني ميمونة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، لكن قال البخاري: كان ابن عيينة يقول أخيرا عن ابن عباس، عن ميمونة، والصحيح ما رواه أبو نعيم، يعني شيخه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم. وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الإسراف فيه. ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا الإسراف يا سعد"؟. قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كانت على نهر جار". رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء". رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب.   الفضل أنه من مسند ابن عباس لا من مسند ميمونة، "والصاع خمسة أرطال وثلث برطل بغداد، وهو على ما قاله النووي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم،" وقيل: ثمانية أرطال، وقيل: أربعة، وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الإسراف فيه، ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذ الإسراف يا سعد؟ ". قال" مستفهما: "أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم. وإن كنت على نهر جار". "رواه أحمد" وابن ماجه "بإسناد لين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي" السهمي، "وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان"، "بفتح الواو وسكون الواو" وهو في الأصل وصف معناه المتحير من شدة العشق، سمي به هذا الشيطان لإغوائه الناس في التحير في الوضوء حتى لا يعلموا هل مس الماء العضو أم لا؟ وكم غسل مرة أو أكثر؟ ونحو ذلك من الشكوك والأوهام "فاتقوا وسوا الماء" أي احذروا وسوسة الولهان، فوضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال وسواسه في شأن الماء وإيقاع الناس في التحير، والوسواس "بالفتح اسم من وسوست إليه نفسه": إذا حدثته "وبالكسر اسم مصدر"، ويقال لما يخطر بالقلب ولما لا خير فيه وسواس. قال في النصائح: الوسوسة من آفات الطهارة، وأصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل، ومتبعها متكبر مدل بنفسه، سيئ الظن بعبادة الله، معتمد على عمله، معجب به وبقوته، وعلاجها بالتلهي عنها والإكثار من سبحان الملك الخلاق، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} . قال الحكيم الترمذي: أما القلوب التي ولجها عظمة الله وجلاله فهامت واستقرت، فقد انتفى عنهم وسواس عدوهم، ومن هنا أنب صلى الله عليه وسلم الوسوسة، فقال: "هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل حتى شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم". ثم روى حديثا أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أدخل في صلاتي، فلا أدري أعلى شفع أم على وتر من وسوسة أجدها في صدري، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن وجدت ذلك فاطعن بأصبعك هذه، يعني السبابة في فخذك اليسرى، وقل: بسم الله، فإنها سكين الشيطان أو مدية الشيطان". "رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب" وقال غريب: ليس إسناده بالقوي لا نعلم أحدًا أسنده غير خارجة بن مصعب. انتهى. وخارجة ضعيف جدا، كما قال الحافظ وغيره، وأخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق خارجة، وتعجب من ذلك ابن سيد الناس، فقال: لا أدري كيف دخل هذا في الصحيح, والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة. رواه البخاري وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب، وما زاد على ذلك للاستحباب.   الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم "مرة مرة" لكل عضو من أعضاء الوضوء، "ومرتين مرتين" كذلك، "وثلاثا ثلاثا" كذلك، "عن ابن عباس، قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فغسل كل عضو من أعضاء الوضوء "مرة مرة"، "بنصبهما على المفعول المطلق المبين للكمية" أو على الظرفية، أي: توضأ في زمان واحد، لأن كل غسلة واقعة في زمان واحد، فلو تعدد الغسل لتعدد الزمن أو على الصدر، أي توضأ مرة من التوضؤ، أي غسل الأعضاء غسلة واحدة. "رواه البخاري وأبو داود وغيرهما" كالنسائي وابن خزيمة، وهو مجمل جاء بيانه في رواية أخرى عند البخاري والنسائي وأبي داود والنسائي، وأبي داود عن ابن عباس: أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء، فأخذ غرفة من ماء، فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها، هكذا أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليسرى، ثم قبض قبضة من الماء، ثم نفض يده، ثم مسح رأسه، زاد النسائي: وأذنيه مرة واحدة، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى، فغسل بها رجله، يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، "وهو بيان لمجمل" الأمر في "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة، ولا يتعين بعدد، فبين الشارع" بفعله "أن المرة الواحدة للإيجاب وما زاد على ذلك للاستحباب" إذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 وأما حديث أبي بن كعب أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". ففيه بيان بالقول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قاله في فتح الباري. وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين وقال: "هو نور على نور". ذكره رزين. وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا. رواه أحمد ومسلم عنه. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من   هو المبين لمراد الله تعالى. "وأما حديث أبي بن كعب، أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قاله في فتح الباري" ومن تلك الطرق ما رواه الطيالسي وأحمد وأبو يعلى وابن ماجه، عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وقال: "هذه وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به", ثم توضأ مرتين مرتين، فقال: "هذا وضوء من أراد أن يضعف له الأجر مرتين"، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". "وعن عبد الله بن زيد" بن عاصم بن كعب الأنصاري، المازني، شهد أحدا وما بعدها، واختلف في شهوده بدرا، له عدة أحاديث، استشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين، وهو غير صاحب رؤيا الأذان، وغلط البخاري وغيره من زعم أنه هو واستم جد رائي الأذان عبد ربه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين"، "بالنصب فيهما على المفعول المطلق، أو الظرف، أو المصدر السابق"، "وقال: "هو نور على نور". ذكره رزين" بن معاوية الأندلسي، وإنما نسبه له لزيادة، وقال: هو نور ... إلخ، وهي ضعيفة، وإلا فالحديث في البخاري عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وفي أبي داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين، مرتين، "عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" لكل عضو "رواه أحمد ومسلم" هكذا مختصرا، أن عثمان قال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، زاد في رواية لمسلم وعنده رجال من الصحابة، أي فلم يخالفوه، وعند البيهقي: أن عثمان توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا؟ قالوا: نعم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 قبلي ووضوء إبراهيم". ذكره رزين، وضعفه النووي في شرح مسلم كما حكاه في مشكاة المصابيح. ولم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على الثلاث، بل ورد عنه ذم من زاد عليها فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" رواه أبو داود وإسناده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة. وأجيب: بأمر نسبي، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة عن الثلاث وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم بن حمد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من   "وعنه" أي عثمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء إبراهيم"، "عطف خاص على عام لشرفه"، "ذكره رزين"، "بفتح الراء وكسر الزاي" ابن معاوية في كتابه المسمى تجريد الصحاح، "وضعفه النووي في شرح مسلم كما حكاه في مشكاة المصابيح" أي ضعف زيادة، وقال: هذا وضوئي ... إلخ، "ولم يأت" كما أشار إليه البخاري بقوله: ولم يزد على الثلاث. قال الحافظ: أي لم يأت "في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على الثلاث، بل ورد عنه ذم من زاد عليها فعن عمرو" بفتح العين "ابن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي "عن أبيه" شعيب ثبت سماعه "عن جده" عبد الله الصحابي فضمير جده لشعيب أو لابنه عمرو ويحمل على الجد الأعلى فالحديث متصل على الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثم قال: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم رواه أبو داود وإسناده جيد" أي مقبول "لكن عده مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة" والنقص عنها جائز وفعله المصطفى فكيف يعبر عنه بأساء وظلم "وأجيب بأمر نسبي والإساءة تتعلق بالنقص" أي أساء من نقص عن الثلاث بالنسبة لمن علا لا حقيقة الإساءة "والظلم بالزيادة عن الثلاث" لفعله مكروها أو حراما "وقيل: فيه حذف تقديره من نقص" شيئا "من" غسله "واحدة" بأن ترك لمعة في الوضوء مرة، "ويؤيده ما رواه نعيم" بضم النون "ابن حماد" بن معاوية بن الحارث الخزاعي أبو عبد الله المروزي نزيل مصر صدوق فقيه عارف بالفرائض مات سنة ثمان وعشرين ومائتين على الصحيح، "من طريق المطلب" بشد الطاء ابن عبد الله بن المطلب "بن حنطب" بن الحارث المخزومي صدوق كثير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 واحدة أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ"، وهو مرسل رجاله ثقات. وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد. فقط، كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره. قال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه، أي لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضي الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه. وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة في الصلاة، وهو قياس فاسد. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث. وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.   التدليس والإرسال فنسبه إلى جده حنطب بسكون النون ووقع ليحيى الأندلسي في الموطأ تسميته حويطب وغلطوه "مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا" أي كل منها جائز "فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ وهو مرسل" لأن المطلب تابعي صغير "رجاله ثقات" ففيه بيان ما أجمل في حديث عمرو بن شعيب "وأجيب عن الحديث أيضا" أي حديث عمرو: "بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه بل أكثرهم يقتصر على قوله فمن زاد فقط كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره" ومن الغرائب ما حكاه أبو حامد الإسفراييني من بعض العلماء أنه لا يجوز النقص من الثلاث كأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور وهو محجوب بالإجماع، وأما قول مالك في المدونة لا أحب الواحدة إلا من العالم فليس فيه إيجاب زيادة عليها قاله الحافظ. "قال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث فإن زادكم لم أكرهه أي لم أحرمه لأن قوله لا أحب يقتضي الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره" الزيادة على الثلاث "كراهة تنزيه" وقيل يحرم، والقولان مشهوران على حد سواء عند المالكية، "وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة وهو قياس فاسد" لأن الصلاة كلها شيء واحد تفسد بدخول ما ليس منها فيها فبطلت بالزيادة، بخلاف الوضوء فكل واحد من أفعاله مستقل ولو فعل معه أجنبيا عنه لم يبطل كأكل وشرب وكلام "وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث" وقال بعض الحنفية: إن اعتقد أن الزيادة سنة أخطأ ودخل في الوعيد وإلا فلا ولا سيما إذا قصد القربة لحديث: "الوضوء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.   على الوضوء نور على نور". وهو حديث ضعيف، "وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم" من زاد على الثلاث "ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق" أي بلا قيد بل إنما يندب إن صلى بالأول فرضا أو نفلا أو فعل به فعلا يتوقف عليه كمس المصحف وسجدة تلاوة وقيل: الفرض فقط وقيل: غير ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث   الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم "عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعا بإناء" فيه ماء. وفي روية: دعا بوضوء "بفتح الواو" اسم للماء المعد للوضوء، "بالضم الذي هو الفعل، "فأفرغ" بفاء التعقيب، أي صب "على يديه" وفي رواية: على كفيه "ثلاث مرات"، "بفوقية آخره"، وفي رواية مرار "فغسلهما" قبل إدخالهما في الإناء، وهذا يحتمل أنه غسلهما مجموعتين، وهو أفضل عند الشافعية أو مفترقتين، وهو الأفضل عند المالكية، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وإن لم يكن عقب نوم احتياطا "ثم أدخل يمينه في الإناء" وأخذ منه الماء وأدخله في فيه "فمضمض" بأن أدار الماء فيه. وفي رواية: فتمضمض "بتاء بعد الفاء" واستنشق" بأن أدخل الماء في أنفه، وفي رواية: بدله، واستنثر "بفوقية فمثلثة بينهما نون ساكنة"، أي أخرج الماء من أنفه بعد الاستنشاق وثبتت الثلاثة في رواية للبخاري، وعند أبي داود وابن المنذر: فتمضمض ثلاثا، واستنثر ثلاثا واتفقت الروايات على تقديم المضمضة "ثم غسل وجهه" غسلا "ثلاثا و" غسل "يديه" لك واحدة "ثلاثا إلى" أي مع "الموفقين". وفي رواية: ثلاث مرار، "ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات" لكل رجل، "إلى" أي مع "الكعبين ثم قال" عثمان: زاد في رواية للبخاري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري.   وضوئي هذا، و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه" بشيء من الدنيا، كما زاده الحكيم الترمذي في روايته لهذا الحديث، وفي مسند أحمد والأوسط للطبراني: "لا يحدث نفسه فيهما إلا بخير". فلا يضر حديث نفسه بمعاني ما يتلوه من القرآن أو غيره، أو بأمور الآخرة، كما قرره العز بن عبد السلام وغيره. قال القاضي عياض: أي بحديث يجتلبه، لأنه أضافه إليه، فهو من كسبه، فلا تؤثر الخطرات التي لا يقدر على دفعها، وقال بعضهم: المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا. انتهى. قال الحافظ: ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد، بلفظ: "لم يسر فيهما". ورده النووي وقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طيران الحوادث العارضة غير المستقرة، نعم من لم يحصل له حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب. ا. هـ. وقال ابن دقيق العيد: يصح أن يحمل على النوعين، لأن الحديث ليس في التكليف حتى يرفع فيه العسر، وإنما فيه ترتيب ثواب مخصوص على علم مخصوص فمن حصل له ذلك العمل، حصل له ذلك الثواب، وغير بعيد أن يحصل ذلك لمن تجرد عن شواغل الدنيا وعمر قلبه بذكر الله تعالى، وقد ذكر ذلك عن بعضهم. انتهى. وروي عن سعيد: ما قمت في صلاة فحدثت نفسي فيها بغيرها، قال الزهري: رحم الله سعدا إنه كان لمأمونا على هذا ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبي "غفر له ما تقدم من ذنبه" قال الحافظ: ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن خصه العلماء بالصغائر، لوروده مقيدا بالصغائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر زاد في حسناته بنظير ذلك. "رواه البخاري" ومسلم وغيرهما من طرق تدور على ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن حمران، عن عثمان، ووقع في مسند ابن أبي شيبة ومصنفه معا من وجه آخر، إسناد صحيح عن حمران عن عثمان زيادة وما تأخر. قال الحافظ: وأصل الحديث في الصحيحين من أوجه ليس في شيء منها زيادة ما تأخر، وأخرجه أيضا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي سعيد المروزي، شيخ النسائي في مسند عثمان، له قال: ووقع للبخاري في الرقاق في آخر هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا". أي فتستكثرا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر الخطايا هي التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 وقد استدل بعضهم بقوله: "ثم أدخل يمينه" على عدم اشتراط نية الاعتراف, ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالي: مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع في المغترف منه. وبهذا قطع البغوي. وقد ذكروا في حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة. وقال النووي في قوله: "نحو وضوئي", هذا إنما لم يقل: مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره. لكن تعقبه في "فتح الباري" بأنه ثبت التعبير بها في رواية البخاري في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه: "من توضأ مثل   يقبلها الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك. "وقد استدل بعضهم بقوله: ثم أدخل يمينه على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا" لأن النية أمر قلبي لا يطلع عليه، وقوله: "وإما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها، ولا ما ينفيها" تكرار محض، إذ هو مدلول ما قبله. "قال الغزالي: مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع في المغترف منه" أما ما أخذه في يده فطهور يرفع الحدث عن اليد التي أخذ بها، "وبهذا قطع البغوي، وقد ذكروا في حكمة تأخير غسل الوجه أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف، فقدمت المضمضة والاستنشاق", وهما مسنونان "قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة" وحكمة الاستنثار تنظيف ما بداخل الأنف إعانة على القراءة، لأن تنقية مجرى النفس تصحح مخارج الحروف. "وقال النووي في قوله: نحو وضوئي هذا: إنما لم يقل: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، لكن تعقبه في فتح الباري بأنه ثبت التعبير بها في رواية البخاري في الرقاق"، "بكسر الراء وقافين" جمع رقيق وهو الذي فيه رقة وهي الرحمة ضد الغلظة. قال الكرماني: أي كتاب الكلمات المرققة للقلوب، ويال لكثير الحياء رق وجهه. وفي رواية النسفي عن البخاري كتاب الرقائق، والمعنى واحد "من طريق معاذ بن عبد الرحمن" بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي، ذكره ابن سعد وابن حبان في ثقات التابعين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 هذا الوضوء". وفي الصيام من رواية معمر: "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا". قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهر، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. انتهى.   وأبوه صحابي، وذكره ابن السكن في ترجمة والده، وقال لهما صحبة، وذكره ابن فتحون في الصحابة، ونسبه لخليفة، وقال البخاري: وسمع أبان، وروى الزهري عنه: يعد في أهل الحجاز، وقال بعضهم: سمع معاذ عمر بن الخطاب ولا يصح، وكذا قال أبو حاتم: لا يصح سماعه من عمر. قال الحافظ: فإذا لم يسمع من عمر، فكيف يدرك العصر النبوي، وحديثه في الصحيحين والنسائي "عن حمران" بضم المهملة ابن أبان مولى عثمان اشتراه زمن أبي بكر الصديق، ثقة من رجال الجميع، مات سنة خمس وسبعين، وقيل: غير ذلك. "عن عثمان ولفظه": "من توضأ مثل هذا الوضوء". وفي" كتاب "الصيام" من البخاري "من رواية معمر" عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن حمران: "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا". "قال" الحافظ: "وعلى هذا، فالتعبير بنحو من تصرف الرواة" أي الرواية بالمعنى، "لأنها" أي لفظة نحو "تطلق على المثلية مجازا" والحامل لهم على ذلك أن المثل ليس هنا عبارة عن المساواة من كل وجه لتعذره، إذ هو كما قال الأبي المساوي لمثله في جميع صفات المثل، ولا يقدر على مثل وضوئه غيره، فلفظ نحو يقتضي المقاربة دون المماثلة من كل وجه، فالثواب يترتب في ذلك على المقاربة لا على المماثلة لتعذرها، وذلك مما تقتضيه الشريعة السمحة من التوسعة وعدم التضييق. انتهى. "ولأن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهر، لكنها تطلق على الغالب" أي تطلق على ما إذا اشترك شيئان في أمر، وكان في أحدهما أكثر، وفي الآخر مستغرقا لجميع أجزائه، فيجوز إطلاق المثل على ما غلب فيه ذلك المعنى وإن لم يساو الآخر، "فبهذا تلتئم الروايتان" أي رواية: نحو, ورواية: مثل, أما رواية: "من توضأ وضوئي"، فلا منافاة بينها وبين واحدة من الروايتين، فلم تظهر نسخة الروايات بالجمع على أن الذي في الفتح الروايتان "بالتثنية"، "ويكون المتروك" مما تحصل به المماثلة "بحيث لا يخل بالمقصود" إذ لو أخل به لم يكن شيئا. "انتهى" كلام الحافظ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء، فدعا بماء فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده   قال المصنف: نعم علمه عليه السلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمها غيره، وحينئذ يكون قوله: مثل بمقتضى الظاهر. قال البرماوي في شرح العمدة، وإنما حمل نحو على معنى مثل مجازا، أو على جل المقصود، لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين باختلال شيء منها، يختل الثواب بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله صلى الله عليه وسلم، فيكتفي فيه بأصل فعل الصادق عليه الأمر. "وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أنه قيل له:" اختلف رواة الموطأ في تعيينه، فأكثرهم قال: إن رجلا قال لعبد الله بن زيد بإبهام القائل، وبعضهم قال: إن يحيى بن عمارة المازني قال لعبد الله بن زيد. وبعضهم قال: عن عمرو، عن أبيه يحيى بن عمارة أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وللبخاري من طريق وهيب، عن عمرو، عن أبيه شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد، وجمع الحافظ بأنه اجتمع عند ابن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة الوضوء، وتولى السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، فنسبته له حقيقة، وإلى أبي حسن مجاز، لأنه الأكبر وكان حاضرا، وكذا نسبته ليحيى بن عمارة مجازا لأنه ناقل الحديث، وحضر السؤال. ويؤيده رواية الإسماعيلي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: قلنا لعبد الله. فإنه يشعر بأنهم اتفقوا على سؤاله، لكن تولاه عمرو بن أبي حسن، ويزيد ذلك وضوحا رواية أبي نعيم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن زيد: "توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي وضوءا مثل وضوئه، "لأن الإرادة بالفعل أبلغ في التعليم، أو أطلق عليه وضوءه مبالغة، "فدعا بإناء" وللبخاري: فدعا بتور من ماء "بفوقية مفتوحة" الطست، أو يشبهه، أو مثل القدر من صفر أو حجارة، وللبخاري رواية في أول هذا الحديث: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر، "بضم المهملة، وقد تكسر" صنف من جيد النحاس، قيل: سمي بذلك لأنه يشبه الذهب، ويسمى أيضا الشبه "بفتح المعجمة والموحدة". قال الحافظ: والتور المذكور هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد حين سئل، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، ولفظ رواية مالك: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد: نعم. "فدعا بماء فأكفأ"، "بهمزتين" وفي رواية للبخاري: فكفأ "بفتح الكاف" وهما لغتان بمعنى: والمراد أفرغ الماء منه، أي الإناء، كما صرح به في رواية مالك، بلفظ: فأفرغ "على يديه"، "بالتثنية"، وفي رواية مالك: يده بالإفراد على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا, ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين   الجنس، والمراد بهما الكفان لا غير، "فغسلهما ثلاثا". هكذا في رواية خالد بن عبد الله عند مسلم، ووهيب، وسليمان بن بلال عند البخاري، والدارودي عند أبي نعيم، كلهم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، وفي رواية مالك، عن عمرو مرتين. قال الحافظ: وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو إملاء، فتأكد ترجيح روايته، ولا يحمل على واقعتين لاتحاد المخرج، والأصل عدم التعدد، "ثم أدخل يده" في الإناء، "فاستخرجها" منه، "فمضمض واستنشق من كف واحد"، وفي رواية: واحدة. زاد في رواية وهيب: واستنثر، "ففعل ذلك ثلاثا" بأن تمضمض واستنشق من غرفة، ثم ثانية وثالثة كذلك، وهذا المرجح عند المالكية والشافعية. وقال عياض في شرح مسلم: اختلف في المستحب عند مالك فقيل: هذه الصفة، وهو ظاهر الحديث، وقيل: أن يتمضمض ثلاثا نسقا بثلاث غرفات، ثم يستنشق كذلك، لأنهما عضوان فيأتي لكل عضو بثلاث نسقا. ويؤيده رواية أبي داود: فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وقيل: يفعلهما ثلاث مرات بغرفة واحدة، وهو دليل قوله في رواية للبخاري: فمضمض واستنشق من غرفة واحدة، ثم هو محتمل، لأن يكون جمعهما أو فصل، فمضمض ثلاثا ثم استنشق ثلاثا والجميع من غرفة. وقال الأبي: الحديث يحتمل جميع الصور، وهو أظهر في الأولى، يعني كما قال عياض هو ظاهر الحديث، وقد سقط من غالب نسخ المصنف، ثم أدخل يده إلى هنا مع ثبوته عند من عزاه لهم، "ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه" غسلا "ثلاثا" لم تختلف الروايات في هذا، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم المسح بالرأس، أن يستدل به على وجوب الترتيب لوله: ثم في الجميع، لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل، كذا قال الحافظ: ولا يلزم ذلك، لأن إسقاط الباء في قوله مسح رأسه في رواية مالك وغيره مع كونها في الآية ظاهرة في وجوب مسح جميعه، ولا سيما وقد أكده في رواية بلفظ: كله بخلاف لفظ ثم لا يفيد وجوب الترتيب، بل يتحقق بالسنية، وإلا لزم أن التثليث ونحوه واجب، لأنه مجمل في الآية أيضا. "ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين" أي مع عند الجمهور كما بينته السنة، ففي الدارقطني بإسناد حسن عن عثمان: فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما، إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي.   العضدين، وله بإسناده ضعيف عن جابر كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، وللبزار والطبراني عن ثعلبة بن عباد، عن أبيه مرفوعا: ثم يغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق، وللطحاوي، عنه: ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، "مرتين مرتين" بالتكرار، لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في ذلك. وفي مسلم عن حبان بن واسع، عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وفيه: ويده اليمنى ثلاثا، ثم الأخرى ثلاثا، فيحمل على أنه وضوء آخر لاختلاف مخرج الحديثين، "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه"، "بالباء" في رواية خالد هذه وفي رواية مالك وغيره بدونها، وزاد بعضهم: كله، "فأقبل بيديه"، "مثنى إلى قفاه"، "وأدبر" بهما، زاد في رواية وهيب عند الشيخين مرة واحدة، "ثم غسل رجليه إلى" أي مع "الكعبين" الناتئين في جنبي الرجل، على الصحيح المعروف عند أهل اللغة، "ثم قال" عبد الله بن زيد: "هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا السياق لفظ مسلم من طريق عبد الله بن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد. "وفي رواية" يعني رواية مالك، عن عمرو عن أبيه، عن ابن زيد: "فأقبل بهما" إلى جهة قفاه "وأدبر", أي رجع، كما فسره بقوله: "بدأ بمقدم"، "بفتح الدال المشددة" رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. قال الحافظ: الظاهر أن قوله بدأ ... إلخ، من الحديث: وليس مدرجا من كلام مالك فهو حجة على القائل: يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه، لظاهر قوله: أقبل وأدبر، ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وللبخاري رواية: فأدبر بيديه وأقبل، فلم يكن ظاهره حجة، لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم، فيحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي بدأ يقبل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك. "رواه" بنحوه "البخاري" من طرق "ومسلم" بلفظه: كما بينته أولا "ومالك" في الموطأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 وفي رواية لأبي داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وفي أخرى له وأدخل أصابعه في صماخي أذنيه. وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي عن عبد خير، أبي عمارة بن زيد بن خولي -بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمداني، وهو من كبار أصحاب علي بن أبي طالب، قال: أتانا علي وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور، وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من   بنحوه، ومن طريقه رواه الشيخان أيضا، "وأبو داود والترمذي والنسائي" من طريق مالك وغيره. "وفي رواية لأبي داود: ثم مسح برأسه وأذنيه، ظاهرهما وباطنهما، وفي أخرى له", أي أبي داود: "وأدخل أصابعه"، "بالجمع على إرادة الجنس"، والمراد السبابتين، لكن الذي في أبي داود: أدخل أصبعيه "بالتثنية"، "في صماخي أذنيه"، "بضم الصاد" الخرق الذي يفضي إلى الرأس، وهذا ينادي بالقصور على القرطبي في قوله: لم يجئ في حديث عبد الله بن زيد ذكر الأذنين، ويمكن أن ذلك لأن اسم الرأس يغمهما، وقد رد عليه أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي، وصححاه عن عبد الله بن زيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه. "وفي رواية أبي داود، والترمذي والنسائي عن عبد خير" بلفظ: ضد شر، ويقال: اسمه عبد الرحمن، حكاه الخطيب، قال الحافظ: لعله غير في الإسلام "أبي عمارة"، "بضم العين بدل منه"، "ابن زيد بن خولي"، "بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء"، "الهمداني" الكوفي، أدرك الجاهلية وأسلم في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ولم يصح له صحبة، روى عن الصديق وابن مسعود، وعائشة وعي وغيرهم، "وهو من كبار أصحاب علي بن أبي طالب" وعمر أزيد من مائة وعشرين سنة، كما رواه الدولابي، وذكر الإمام أحمد في الإثبات عن علي، ووثقه ابن معين والنسائي والعجلي، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين. وروى عنه ابن المسيب والشعبي وآخرون، "قال: أتانا علي وقد صلى، فدعا بطهور"، "بالفتح" ما يتطهر به، "فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا" بأن يتوضأ ونحن نراه، "فأتى بإناء فيه ماء وطست" يحتمل أنه عطف تفسير لإناء، ويحتمل أنه أتى بالماء في قدح أو إبريق ونحو ذلك، وبطست يلاقي فيه ما ينزل من الماء، "فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثا" من المرات، "ثم تمضمض واستنثر" بيده اليسرى، كما في رواية النسائي: استفعل من النثر "بنون ومثلثة" وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا. قال ابن القيم: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر مسح رأسه. وقال النووي: الأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله: مسح. واحتج الشافعي بحديث عثمان رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاث، وبالقياس على باقي الأعضاء، انتهى. وأجيب: بأنه مجمل مبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا   بريح أنفه لتنظيف داخله، ثم يخرجه بيده اليسرى، ويكره فعله بغيرها عند مالك لأنه يشبه فعل الدابة، والمشهور عند الشافعية: لا كراهة "ثلاثا فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ" الماء "فيه ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء، فمسح برأسه" جميعه "مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله اليسرى ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا" أي مثله، أو أطلقه عليه مبالغة. "قال ابن القيم: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر مسح رأسه" وبه قال أكثر العلماء، إذ ليس في شيء من طرق الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أنه كرر، بل في بعضها كحديث ابن زيد، وعلى التصريح بمرة واحد، ولذا قال ابن المنذر: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح مرة واحدة، وقال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح، كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، "وقال النووي: الأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله مسح" بدون ذكر عدد. "واحتج للشافعي" في قوله باستحباب تكرير مسحه ثلاثا، "بحديث عثمان رضي الله عنه" المروي "في صحيح مسلم" في بعض طرقه، "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" فإن ظاهره يغم مسح الرأس "وبالقياس على باقي الأعضاء. انتهى". "وأجيب: بأنه" أي حديث مسلم المذكور "مجمل مبين في الروايات الصحيحة" في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. واحتج الشافعية أيضا لما رواه أبو داود في سننه من حديث عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا والزيادة من الثقة مقبولة، وفي رواية أبي داود أيضا والترمذي من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة واحدة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما   مسلم وغيره "أن المسح لم يتكرر، فيحمل" ظاهر هذه الرواية "على الغالب، ويخص بالمغسول" لأن الحديث واحد، والمخرج وهو عثمان واحد وإن تعددت الطرق، فهذا مختصر مبين في الروايات المبسوطة، فيحمل عليها. "و" أجيب عن القياس، "بأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ" فلم يتم القياس، "وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل" لأنه إذا كرر قرب من الغسل، "إذ حقيقة الغسل جريان الماء" لا سيما عند من لم يوجب الدلك، وقد اتفق عل كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزئا، وأجيب، بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع باتفاق، فليكن العدد كذلك، ويرد بأن الاستيعاب أخف من التكرار بالمشاهدة، وإنما اتفق على الاستيعاب لاتفاق الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم استوعب. "واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود في سننه، من حديث عثمان من وجهين" أي طريقين، "صحح أحدهما ابن خزيمة، أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا، والزيادة من الثقة مقبولة،" لكن محل ذلك كما قال ابن عبد البر وغيره: ما لم يكن من لم يزد أوثق ممن زاد، فتكون الزيادة شاذة وإن صح إسنادها، وهو هنا كذلك، أو هي ما يأتي محمولة إن صحت على إرادة استيعاب المسح، لا أنها مسحات مستقلة. "وفي رواية أبي داود أيضا، والترمذي من حديث الربيع"، "بضم الراء وفتح الموحدة وكسر التحتية الشديدة، مهمة"، "بنت معوذ" بضم الميم وفتح المهملة وكسر الواو ثقيلة وذال معجمة" ابن عفراء الأنصارية النجارية، من صغار الصحابة وأبوها من شهداء بدر: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، "فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، ووضأ" أي غسل "وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة واحدة،" لبيان الجواز أو المراد فعل الست بغرفة لبيان الجواز أيضا، والمتبادر الأول، "ووضأ يديه ثلاثا، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخر رأسه، ثم بمقدمه" بيان لمرتين، فليستا مسحتين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا. وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه. وقال ابن السمعاني -كما حكاه في فتح الباري-: اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح. قال: ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة الوضوء بعد أن   بدليل أنها لم تقل: وبدأ بالواو، وثم بدؤه بالمؤخر لبيان الجواز إن صحت هذه الرواية، وقال الأبي: هذا كان لأمر أو في وقت "و" مسح "بأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما"، "بدل أو عطف بيان لأذنيه"، "ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا" لكل رجل، "وقد أجاب العلماء" الشافعية، عن أحاديث المسح مرة واحدة، بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه" ولا تأييد فيها، لأنه بين فيها معنى مرتين، بقوله: بدأ ... إلخ، وتقدير بدأ في كل مرة بعيد، فالأصل عدم التقدير ولو سلم، فهو مشترك الإلزام، فمسح مرتين لبيان الجواز، أي عدم الحرمة، لأنه يفعل المكروه في حق غيره للجواز. "وقال ابن السمعاني" في كتاب الاعتصام "كما حكاه في فتح الباري: اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا فليس في رواية مسح مرة حجة على منع" أي كراهة "التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول لأن الوضوء طهارة حكمية" ليس مقصورا على محل الحدث، بل يكون في غيره بخلاف الطهارة العينية، لا تجاوز محل حلول موجبها، كإزالة النجاسة، "ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح" إشارة إلى أن الجامع بينهما الطهارة، ورد ما سبق من منع القياس وليس بشيء، لأنه لما ورد نص القرآن بالغسل في الأعضاء والمسح في الرأس، ظهر أنه للتخفيف، فيمتنع قياسه عليها وإن اجتمعا في مطلق الطهارة الحكمية، وإلى هذا أشار ابن السمعاني نفسه، فقال كما في الفتح عقب قوله بين الغسل ولمسح ما نصه: وأجيب بما تقدم أن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار لصارت صوره صور المغسول إلى آخر ما مر. "قال:" أي صاحب الفتح لا ابن السمعاني، لأنه بعد أن انفصل عن كلام ابن السمعاني، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 فرغ: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح -إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة متعددة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى. وفي حديث عبد الله بن زيد المتقدم عند البخاري الذي ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. وفي رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. وزاد ابن الطباع بعد قوله: "ثم مسح رأسه" كله، كما هو رواية ابن خزيمة.   قال: "ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق" أي حديث "عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة الوضوء" النبوي حيث قال صلى الله عليه وسلم "بعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" لاستظهاره على الشارع، "فإن في رواية سعيد بن منصور" للحديث المذكور: "التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة" بل مكروهة، إذ لو استحبت، لم يقل من زاد على هذا فقد أساء وظلم مع كونه مسح مرة واحدة. "ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا إنها مسحات مستقلة متعددة لجميع الرأس جمعا بين الأدلة. انتهى" كلام الحافظ وهو في غاية الظهور. "وفي حديث عبد الله بن زيد المتقدم" عن البخاري وغيره في بعض طرقه، "عند البخاري الذي ذكرته قبل، ثم مسح رأسه بيديه"، "بالتثنية" وفي رواية: بالإفراد على إرادة الجنس، "فأقبل بهما" أي يديه، وفي رواية: بها بالإفراد، "وأدبر". "وفي رواية للبخاري وغيره من طريق مالك "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما" أي يديه "إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه" وهذا تكرار أعاده لزيادة قوله، "وزاد" إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي، أبو يعقوب "بن الطباع"، "بفتح الطاء المهملة والموحدة المشددة، فألف فعين مهملة"، ثقة من رواة الموطأ، روى له مسلم وأصحاب السنن، مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة ومائتين "بعد قوله: ثم مسح رأسه كله". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 وفي رواية غيره كما قدمته: "برأسه"، بزيادة الباء، الموافقة لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . قال البيضاوي: "الباء" أي في الآية مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل، وبالمنديل، ووجهه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه يقول: وألصقوا المسح برءوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رءوسكم فإنه كقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، انتهى.   قال البخاري: سئل مالك أيجزئ أن يمسح بعض الرأس، فاحتج بحديث عبد الله بن زيد، قال الحافظ: السائل له عن ذلك إسحاق بن عيسى بن الطباع، بينه ابن خزيمة من طريقه، ولفظه: سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يده إلى ناصيته، فمسح رأسه كله، فقوله "كما هو رواية ابن خزيمة", أي زيادة كله، وإلا فرواية الموطأ والشيخين وغيرهما من طريقه، مسح رأسه بدون باء خلاف ما يوهمه قوله "وفي رواية غيره: كما قدمته برأسه بزيادة الباء" بل لم تقع زيادة الباء إلا في رواية خالد، كما يفيده كلام الحافظ: "الموافقة لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ". "قل البيضاوي: الباء في الآية مزيدة" للتعدية، وبه تمسك من أوجب الاستيعاب، وقيل: موضع الدلالة من الآية والحديث، أن الآية تحتمل الكل على أن الباء زائدة، والبعض على أنها تبعيضية، فبان بفعله صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته كما في مسلم، وذلك أيضا من أدلة الاستيعاب، إذ لو م يكن واجبا ما مسح على العمامة مع الناصية، فكان ذلك لعذر، لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر. "وقيل: للتبعيض" وأنكره جماعة، حتى قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه وأجيب بأنه منقول عن الأصمعي والفارسي والمتنبي وجماعة: "فإنه" أي التبعيض "الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ووجهه"، أي دلالتها على التبعيض؛ "أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه يقول: "وألصقوا"، "بفتح الهمزة وكسر الصاد"، "المسح برءوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب" لصدقه بإلصاقه ببعض الرأس، "بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رءوسكم" بدون باء، "فإنه" يفيد الاستيعاب، "كقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 وقال الشافعي رضي الله عنه: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ والفرق بينه وبين قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجين، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع. وقد روي من حديث عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل   {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . انتهى". وقال القرطبي: الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه، وقيل: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برءوسكم الماء، فهو على القلب والتقدير وامسحوا رءوسكم بالماء. "وقال" الإمام "الشافعي رضي الله عنه: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، جميع الرأس"، "بناء على أن الباء للتعدية"، "أو بعضه"، "بناء على أنها للتبعيض"، "فدلت السنة أن بعضه يجزئ" وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، هذا أسقطه من كلام الشافعي، "والفرق بينه وبين قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم" إذ المجزئ فيه مسح جميع الوجه اتفاقا، "إن المسح فيه بدل عن الغسل" فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل، "ومسح الرأس أصل فافترق" فلا يقاس عليه "ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجلين" فقياسه استيعاب مسح أعلاه وأسفله، وبطلان صلاة تارك مسح أسفله، مع أنها صحيحة "لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع" وأصله قوله علي: لو كان الدين يؤخذ بالقياس، لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على أعلاه. "وقد روى" الشافعي "من حديث عطاء" بن أبي رباح "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه" وهذا محتمل أنه فعل ذلك حين مسح على الناصية في السفر فيكون للعذر، فسقط به الاستدلال "وهو مرسل" فلا حجة فيه بمفرده "لكنه اعتضد" تقوى "بمجيئه من وجه آخر" حال كونه "موصولا، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله" أي مجهول، ولا اسمه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند. وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه. وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك. قاله ابن حزم. قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى. واختلف في القدر الواجب في مسح الرأس، فذهب الشافعي في جماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه اسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين.   قال في التقريب أبو معقل، عن أنس: في المسح على العمامة مجهول من الخامسة، "لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة،" لكن قد علم أن حديث أنس في المسح على العمامة، وحديث عطاء في مسح مقدم الرأس من غير تعرض لمسح على العمامة، ولا لكونه في سفر، فإن لم يقل باحتمال أن حديث عطاء مختصر من هذا، كانا حديثين، فلا يعتضد أحدهما بالآخر، والشافعي لا يحتج بالمرسل وحده، وإن قلنا به سقط الاستدلال بمرسل عطاء، كما أشرت إليه آنفا، بل يكون من أدلة وجوب الاستيعاب، إذ لو لم يكن واجبا ما مسح على العمامة والناصية "وهذا مثال لما ذكره الشافعي، من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند" أي موصول. "وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور وفيه: خالد بن يزيد بن أبي مالك" الدمشقي، "مختلف فيه" قال في التقريب: ضعيف. مع أنه كان فقيها، وقد اتهمه ابن معين، أي بالكذب، "وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم" ولا حجة فيه، إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره، "قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوي المرسل المتقدم ذكره. انتهى". وقد علم ما فيه، "واختلف في القدر الواجب في مسح الرأس" بعد الاتفاق على طلب استيعابه، "فذهب الشافعي في جماعة، إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم، ولو شعرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب الاستيعاب أخذا بالاحتياط. وقال أبو حنيفة في رواية: الواجب ربعه، لأنه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. والله أعلم. وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. رواه أبو داود. وعنه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد. رواه ابن ماجه.   واحدة أخذا باليقين" بناء على أن الباء للتبعيض. "وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب الاستيعاب أخذا بالاحتياط"، ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة، وقد كان في سفر، وهو مظنة العذر، فلعله فعل ذلك لعذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر من سياق مسلم، فلو لم يكن الاستيعاب واجبا ما مسح على العمامة بعد الناصية، فهو من أدلة فرضية الاستيعاب كما قدمته، وإليه أشار القرطبي نقلا عن علمائنا. "وقال أبو حنيفة في رواية الواجب ربعه، لأنه عليه السلام مسح على ناصيته، وهو" أي ما مسح "قريب من الربع، والله أعلم" بالحق من ذلك. "وعن طلحة بن مصرف"، "بضم الميم وفتح الصاد المهملة، وشد الراء" اليامي "بتحتية" الكوفي، ثقة، فاضل، مات سنة ثنتي عشرة ومائة أو بعدها، "عن أبيه" مصرف بن عمرو بن كعب، أو ابن كعب بن عمرو اليامي، الكوفي، مجهول، قاله في التقريب، "عن جده" كعب بن عمرو بن مصرف اليامي، وقيل: هو عمرو بن كعب بن مصرف حديثه، عند أبي داود، قاله في الإصابة والتقريب. "قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق" أي يفعل ثلاثة المضمضة نسقا، ثم ثلاثة الاستشاق كذلك، لأنهما عضوان، فيأتي لكل عضو بثلاثة نسقا، ثم فصله بغرفة واحدة كما في حديثه التالي، "رواه أبو داود" في سننه، "وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد" تذكير الكف لغة قليلة، وقيل: لا يعرف تذكيرها من يوثق به، ويجمع بين هذا وما قبله بأنه رآه فصل بينهما بغرفة واحدة، بأن تمضمض منها ثلاثا على الولاء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وفي حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاث مرات. وفي حديث عبد الله بن زيد عند البخاري: أنه أفرغ من الإناء على يديه فغسلهما ثم غسل ومضمض واستنشق من كفة واحدة ثم قال: هكذا وضوء   ثم استنشق منها ثلاثا، كذلك وإن اقتضى كلام عياض أنه فصل بينهما بست غرفات، وعليه يكون رآه مرتين، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني. "وفي حديث مسلم، أن عثمان" بن عفان "دعا بإناء" فيه ماء للوضوء، "فأفرغ على كفيه"، "بالتثنية معطوف على دعا، والفاء للتعقيب" لكن، ثم فعل مقدر مفهوم من فحوى الكلام، تقديره دعا بإناء فأحضر، فأفرغ، والجار والمجرور متعلق بأفرغ "ثلاث مرار"، "بكسر الميم وتكرير الراء مرتين"، "فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء" الذي أفرغ منه على كفيه بعد غسلهما "فمضمض" بغير تاء بعد الفاء، "واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاث مرات"، "بفتح الميم آخره فوقية" قاله المصنف في شرح مسلم. "وفي حديث عبد الله بن زيد عند البخاري" ومسلم، كلاهما من طريق خالد بن عبد الله عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد "أنه أفرغ من الإناء على يديه، فغسلهما ثم غسل" أي فمه "ومضمض واستنشق" لفظ البخاري: أو مضمض. قال الحافظ: بالشك أي هل قال غسل، أي فمه، أو قال: مضمض؟ قال: وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد بسنده هذا من غير شك، ولفظه ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض واستنشق، وأخرجه الإسماعيلي من طريق وهيب، عن خالد بلا شك أيضا، فالظاهر أن الشك من مسدد شيخ البخاري، وأغرب الكرماني، فقال: الظاهر أن الشك فيه من التابعي. انتهى. فلو عزاه المصنف لمسلم، أو لهما لاستقام "من كفة واحدة" قال الحافظ: كذا في رواية أبي ذر، وفي نسخة: من غرفة واحدة، وللأكثر من كف بغير ها. قال ابن بطال: المراد بالكف الغرفة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف، ومحصله أن المراد بقوله: كفة فعلة، لا أنها تأنيث الكف، وقال صاحب المشارق، قوله: من كفة "بالضم والفتح" كغرفة وغرفة، أي من ماء ملأ كفه من الماء. زاد المصنف: وفي رواية ابن عساكر: من كف واحدة، "ثم قال" عبد الله بن زيد بعد أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: فيه أن السنة في المضمضة، والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه، ثم قال: وفي الأفضل في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه: الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق. والثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا. والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق. والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا. والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.   فرغ من وضوئه، "هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم". "قال النووي فيه" أي الحديث من الفوائد "إن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يأخذ الماء لهما بيمينه،" كما فعل صلى الله عليه وسلم كما فعل صلى الله عليه وسلم "ثم قال" النووي: "وفي الأفضل في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه، الأصح يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة، ثم يستنشق،" كما في رواية خالد المذكورة بلفظ: من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثا، فإنها صريحة في الجمع في كل غرفة، بخلاف رواية وهيب: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات، فإنه يطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية، كما نبه عليه ابن دقيق العيد. "والثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا" على ما في حديثي أبي داود وابن ماجه، "والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق" على ما في بعض الروايات "والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا، والخامس: يفصل بست غرفات" بأن يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 قال: والصحيح الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة. وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشيمه، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر". لظاهر الأمر. وحمله الجمهور ومالك والشافعي وأهل الكوفة على الندب، لقوله عليه السلام للأعرابي: توضأ كما أمرك الله، وليس في الآية ذكر الاستنشاق، والله أعلم.   بثلاث غرفات". وقال بعض المالكية: إنه الأفضل "قال" النووي: "والصحيح الأول" أعاده مع قوله أولا، الأصح لقوله: "وبه جاءت الأحاديث الصحيحة" وهو أيضا الأصح عند المالكية، بحيث حكى ابن رشد الاتفاق على أنه الأفضل. "وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور" إبراهيم بن خالد الكلبي، الفقيه: "إلى وجوب الاستنشاق وهو أن يبلغ الماء إلى خياشيمه، مستدلين بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة" في البخاري ومسلم وغيرهما": "إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر"، "بوزن يفتعل"، كذا لأبي ذر والأصيلي ولغيرهما، ثم لينتثر "بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة"، والروايتان لأصحاب الموطأ أيضا. قال الفراء: يقال: نثر وانتثر واستنثر، إذا حرك النثرة، وهي طرف الأنف في الطهارة، قاله الحافظ. وقال النووي: لينثر "بكسر المثلثة بعد النون الساكنة" على المشهور، وحكى ضمها "لظاهر الأمر" إذ الأصل فيه الوجوب، "وحمله الجمهور ومالك والشافعي وأهل الكوفة" ومنهم أبو حنيفة. وفي نسخة: مالك بلا واو، على أنه بدل من الجمهور "على الندب لقوله عليه السلام" للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله". أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، فأحاله على الآية، "وليس في الآية ذكر الاستنشاق". قال الحافظ: وأجيب باحتمال أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله باتباع نبيه، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء، أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهذا يرد على من لا يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بهما أيضا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح. وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 وعند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يمسح الماقين. وعن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، رواه الترمذي وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها. وعن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: بهذا أمرني ربي عز وجل. رواه أبو داود.   إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، قال: وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عطاء وثبت عنه أنه رجع عن وجوب الإعادة "والله أعلم" بالحكم. "وعند أبي داود: وكان عليه الصلاة والسلام يمسح الماقين"، "بقاف قبلها ألف" لغة في مؤق العين "بهمزة ساكنة" ويجوز إبدالها واوا مؤخرها، فلعل المراد بمسحهما غسلهما غسلا خفيفا. وقال الأزهري: أجمع أهل اللغة على أن الموق والماق لغتان، بمعنى المؤخر، وهو ما يلي الصدغ "وعن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته" أي يدخل الماء في خلالها بأصابعه، "رواه الترمذي وابن ماجه، وعنده" أي ابن ماجه بإسناد ضعيف "من حديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك" يعني عركا خفيفا "ثم شبك لحيته" أي خللها "بأصابعه" أي أدخل أصابعه مبلولة فيها "من تحتها" والعارض: ما نبت على عرض اللحى فوق الذقن، وقيل: عارضا الإنسان صفحتا خديه، كذا في الفائق، قال ابن الكمال: وقول ابن المعتز: كأن خط عذار شق عارضه ... عيدان آس على ورد ونسرين يدل على صحة الثاني وفساد الأول، وكأن قائله لم يفرق بين العذار والعارض. "وعن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا"، "بفتح الكاف" غرفة "من ماء، فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: "بهذا" الفعل "أمرني ربي عز وجل". رواه أبو داود والحاكم بإسناد فيه مقال. وقد قال أحمد وأبو حاتم: لا يثبت في تخليل اللحية شيء لكن قيل: أراد أن أحاديثه ليس شيء منها يرتقي درجة الصحة بذاته، وإلا فقد جاء عن أكثر من عشرة من الصحابة: لو كان كل طريق منها ضعيفا لقامت الحجة بمجموعها، فكيف وبعضها لا ينزل عن درجة الحسن، إلا أن البخاري قال: لم تثبت المواظبة، بل مجرد الفعل إلا في شذوذ من الطرق. انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 وعن أبي رافع: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حرك خاتمه. رواه ابن ماجه والدارقطني وضعفه. وعن المستورد بن شداد: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه. وعن عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى. وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنه عليه الصلاة والسلام ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ. رواه   وقد كره مالك في المدونة تخليل اللحية الكثيفة، وهو المشهور، فتخليله صلى الله عليه وسلم مع أن لحيته كثيفة لبيان الجواز. "وعن أبي رافع:" أسلم، أو إبراهيم أو غير ذلك أقوال عشرة، أصحها أسلم: "كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ" زاد في رواية: وضوءه للصلاة "حرك خاتمه" زاد في رواية: في أصبعه، أي عند غسل اليد التي هو فيها ليصل الماء إلى ما تحته يقينا. "رواه ابن ماجه والدارقطني وضعفه", وكذا ضعفه ابن عدي والبيهقي وعبد الحق وابن القطان وغيرهم، ومن ثم لم يأخذ به مالك. "وعن المستورد"، "بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء ومهملة"، "ابن شداد" بن عمر القرشي، الفهري، حجازي نزل الكوفة، ولأبيه صحبة، مات سنة خمس وأربعين: "كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره" أي بخنصر إحدى يديه، والظاهر أنها اليسرى، قاله بعض الشراح، "رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه" وقال الترمذي: حسن غريب، قال اليعمري: يشير بالغرابة إلى تفرد ابن لهيعة به عن يزيد بن عمرو وليس كذلك، فقد رواه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يزيد، كرواية ابن لهيعة، وناهيك بهما جلالة ونبلا، فالحديث إذا صحيح مشهور. "وعن عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه" فيأكل باليمين، زاد في رواية: وشرابه، "وكانت اليسرى لخلائه"، "بالمد"، "وما كان من أذى", قال الأبي: هو ما تكرهه النفس، ومنه سمي الحيض أذى. انتهى. وهذا أصل في أن ما كان من باب التكريم يفعل باليمنى، وما كان بخلاف ذلك يفعل باليسرى. "وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هو سفره لغزوة تبوك في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 البخاري ومسلم. وعن صفوان بن عسال قال: صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في السفر والحضر في الوضوء. رواه ابن ماجه. وفي ذلك جواز استعانة الرجل بغيره في صب الماء في الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل في هذين الحديثين لجواز الإعانة بالمباشرة. وقد روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فقال: "اسكبي". فسكبت عليه.   رجب سنة تسع "وأنه عليه الصلاة والسلام ذهب لحاجة له" هي التبرز "وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ" جملة اسمية وقعت حالا "رواه البخاري ومسلم" في الطهارة. "وعن صفوان بن عسال"، "بمهملتين" مثقل المرادي، صحابي، معروف، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، نزل الكوفة "قال: صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في السفر، والحضر في الوضوء". "رواه ابن ماجه وفي ذلك المذكور من حديثي المغيرة وصفوان "جواز استعانة الرجل بغيره في صب الماء من غير كراهة" خلافا لمن قال: مكروه، أو خلاف الأولى، لأنها ترفه لا تليق بالمتعبد، ورد بأنه إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله، لا يكون خلاف الأولى. وأجيب بأنه يفعله لبيان الجواز، فلا يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره. وقال الكرماني: إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته، وأجيب، بأن كل مكروه فعله خلاف الأولى من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الآخر، "وكذا إحضار الماء من باب أولى" لا كراهة فيه أصلا. قال الحافظ: لكن الأفضل خلافه "ولا دليل في هذين الحديثين لجواز الإعانة بالمباشرة" أي مباشرة المعين لغسل الأعضاء خلافا لاستدلال البخاري بحديث المغيرة على الإعانة بالمباشرة. وقد تعقبه ابن المنير بما حاصله أنه فرق بين الإعانة بالصب وبين الإعانة بمباشرة الغير لغسل الأعضاء فدل الحديثان على الأول دون الثاني، وأقره الحافظ. "وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث الربيع"، "بضم الراء وفتح الموحدة وتحتية ثقيلة"، "بنت معوذ" بن عفراء "أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء"، "بفتح الواو ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، والله أعلم. وفي الترمذي، من حديث معاذ بن جبل: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه. وعن عائشة: كانت له عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء. قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الرازي ضعيف عند أهل الحديث.   يتوضأ به" فقال: "اسكبي" صبي، "فسكبت عليه، وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين، لكونه في الحضر" فيه، أنه قال في حديث صفوان في السفر والحضر، لكن هذه العبارة جاء بها من الفتح، وإنما قالها في الحديثين اللذين أوردهما البخاري، وهما حديث المغيرة وحديث أسامة، لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب، فقضى حاجته، قال أسامة بن زيد: فجعلت أصب عليه وهو يتوضأ، وكلاهما في السفر، فلذا قال الحافظ: إن حديث الربيع أصرح، لكونه في الحضر، "ولكونه بصيغة الطلب" الأمر، بقوله: "اسكبي". قال الحافظ: لكنه ليس على شرط البخاري، نعم الأفضل أن لا يستعين أصلا "والله أعلم". وفي شرح المهذب حديث: أن عمر بادر لصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنا لا أستعين في وضوئي بأحد". باطل لا أصل له. "وفي الترمذي من حديث معاذ بن جبل: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه" يتنشف به. قال الترمذي: غريب وإسناده ضعيف، وبه جزم الحافظان العراقي والعسقلاني. "و" في الترمذي أيضا، والحاكم "عن عائشة: كانت له عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء" وفي لفظ: بعد وضوئه، فيجوز التنشف بلا كراهة، وعليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم ومالك وغيره، وذهب آخرون إلى كراهته لحديث ميمونة أنها أتته صلى الله عليه وسلم بمنديل فرده، ولقول الزهري: إن ماء الوضوء يوزن، وأجاب الأولون، بأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، وبأجوبة أخرى تأتي في فصل الغسل. "قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم" ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء هذا أسقطه من كلام الترمذي قبل قوله "وأبو معاذ" سليمان بن أرقم "الرازي" البصري راويه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "ضعيف عند أهل الحديث" كالبخاري وأبي حاتم ويحيى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 وقد احتجم صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه، رواه الدارقطني. وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. رواه البخاري ومسلم. وللنسائي: قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار. وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ فصلى. رواه أبو داود. وأتي صلى الله عليه وسلم بسويق فأمر به فثري فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض.   والنسائي وابن حبان، وبقية كلام الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه إنما كرهه لما قيل: إن الوضوء يوزن، روي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري. "وقد احتجم صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه" جمع محجم بزنة جعفر موضع الحجامة، "رواه الدارقطني" فدل على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، "وأكل" صلى الله عليه وسلم " كتف شاة" أي لحمه. وفي رواية للبخاري: معرق شاة، أي أكل ما على العرق "بفتح المهملة وسكون الراء"، وهو العظيم، ويقال له أيضا العراق "بالضم". وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة، ففي الصحيحين، عنها أنه صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ، ولا مانع من التعدد كما في الفتح، "ثم صلى ولم يتوضأ، رواه البخاري ومسلم" عن ابن عباس، وهو صريح في أنه لا وضوء مما مست النار. وأما أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة: "توضئوا مما مست النار". رواها مسلم، فمحولة على الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد، أو منسوخة كما أشار إليه بقوله "وللنسائي" وأبي داود، وصححه ابن خزيمة عن جابر "قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار", وفي رواية: مست النار، "وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا فلم يتمضمض" لبيان الجواز، فلا ينافي استحباب المضمضة لحديث الصحيحين، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، ثم دعا بماء فمضمض، وقال: إن له دسما، ولبيان أن أمره في رواية ابن ماجه: "مضمضوا من اللبن، فإن له دسما". للاستحباب. "ولم يتوضأ، فصلى، رواه أبو داود" بإسناد حسن عن أنس "وأتي صلى الله عليه وسلم" وهو سائر إلى غزاة خيبر بعدما صلى العصر "بسويق" قمح أو شعير، أو سلت مقلو، وصفه أعرابي، فقال: عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض. "فأمر به فثري"، "بضم المثلثة وشد الراء", ويجوز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 رواه البخاري ومالك والنسائي. وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم ربما توضأ. وربما لم يتوضأ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه كما في البخاري وغيره. وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابي: إنما منع قلبه ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه.   تخفيفها، أي بل بالماء ليبسه، "فأكل منه" في الرواية: وأكلنا، "ثم قام إلى المغرب فتمضمض" قبل الدخول في الصلاة وفي الرواية: وتمضمضنا، وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم، فيشغله بلعه عن الصلاة. وبقية الحديث: ثم صلى ولم يتوضأ، "رواه البخاري" في ستة مواضع، "ومالك" في الموطأ، وعن عبد الله بن يوسف عنه، رواه البخاري في الطهارة، "والنسائي" وابن ماجه، كلهم من حديث سويد بن النعمان "وكان صلى الله عليه وسلم إذ قام من النوم ربما توضأ وربما لم يتوضأ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه،" وكذلك الأنبياء، وفي مسلم، مرفوعا: "رؤيا الأنبياء وحي". "كما في البخاري وغيره" في قصة بيات ابن عباس عنده في بيت ميمونة، إذ توضأ لما قام من النوم الأول ثم تهجد، ثم نام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي، فناداه بالصلاة، فقام معه فصلى ولم يتوضأ. "وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا، بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك" لعدم نوم قلبه، "فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره". "قال الخطابي: إنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه", وكذلك الأنبياء، ولذا جاز لإبراهيم الإقدام على ذبح ولده برؤيا المنام، والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين اعلم أنه قد صرح جمع من العلماء الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا. وثانيهما: للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في "المدونة"، وبه جزم ابن الحاجب. وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل، المسح أو الغسل والذي أختاره: أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج   الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين "اعلم أنه قد صرح جمع من العلماء الحفاظ، بأن المسح على الخفين" وهو خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه، بالإجماع كما في الفتح "متواتر" أي نقله جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بلا قيد عدد على الأصح. "وجمع بعضهم: رواته، فجاوزوا الثمانين" بيان لتواتره "منهم العشرة" المبشرة بالجنة، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك، قال ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره، فقد روى عنه إثباته. "وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك" في رواية أنكرها أكثر أصحابه، "مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطؤه يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليها جميع أصحابه وجميع أهل السنة، هذا بقية كلام ابن عبد البر. "وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية" الذين نقلوا إنكاره عن مالك لأن الشافعي من أصحابه، وقد قال أبو عمر: أنكرها أكثر الصحابة، وقال الباجي: رواية الإنكار وقعت في العتبية، وظاهرها المنع، وإنما معناها أن الغسل أفضل منه. قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكا على المسح في الحضر والسفر، وقال نحوه ابن نافع، وأن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع افتائه بالجواز، وهذا مثل ما صح عن أبي أيوب الصحابي "والمعروف المستقر عندهم" أي المالكية "الآن قولان: الجواز مطلقا" للحاضر والمسافر وهو المشهور، "وثانيهما للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في المدونة، وبه جزم ابن الحاجب" وهو ضعيف، والمشهور الإطلاق، وصرح الباجي بأنه الأصح، وقال: قال أصبغ: المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أكابر أصحابه أثبت عندنا من أن نتبع مالكا على خلافه، يعني في هذه الرواية. انتهى. وقد حكى الإجماع على جوازه إلا أن قوما ابتدعوا كالخوارج، فقالوا: لم يرد به القرآن والشيعة، لأن عليا امتنع منه، ورد بأنه لم يثبت عن علي بإسناد موصول يثبت بمثله كما قاله البيهقي. وقال الكرخي من الحنفية: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين "وقال ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 والروافض. وقال النووي: مذهب أصحابنا أن الغسل أفضل من المسح لكن بشرط أن لا يترك المسح. وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} عطفا على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، وحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة، والثابت عنه خلافه. وعن عكرمة والشعبي وقتادة: الواجب الغسل أو المسح. وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما.   المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل المسح أو الغسل" للرجلين، "والذي أختاره" أنا "أن المسح أفضل لأجل" الرد على "من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض" وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه، هذا بقية كلام ابن المنذر. "وقال النووي: مذهب أصحابنا" الشافعية، وكذا المالكية "أن الغسل" للرجلين "أفضل من المسح" على الخف، "لكن بشرط أن لا يترك المسح" رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام، هذا بقية كلام النووي كما في الفتح، وهو متعين، "وقد تمسك من اكتفى بالمسح" على الرجلين نفسهما، ولم يوجب غسلهما بقوله تعالى: "وَأَرْجُلِكُمْ"، "بالجر"، "عطفا على" رءوسكم، من "قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين" إذ التقدير وامسحوا بأرجلكم. "وحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة والثابت عنه خلافه" أن المسح لا يجزئ، "وعن عكرمة والشعبي"، "بموحدة بعد المهملة"، "وقتادة: الواجب الغسل" عملا بقراءة: {وَأَرْجُلَكُمْ} "بالنصب", "أو المسح" لنفس الرجلين، عملا بقراءة الخفض، فالفرض التخيير عند هؤلاء, وليس المعنى مسح الخف بدليل سابق الكلام ولاحقه، لكن هذا الذي نقله المصنف عن الثلاثة مخالف لنقل القرطبي، عنهم أن الواجب المسح لا الغسل، وعبارته: كان عكرمة يمسح على رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل. وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، ثم قال: ألا ترى أن اتيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا، وقال قتادة: افترض الله غسلين ومسحين، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين. انتهت, فإنما نقل التخيير عن ابن جرير، فلعل للثلاثة قولين. "وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما" بين مسح نفس الرجلين ثم غسلهما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة: منها: أنه قرئ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفا على {أَيْدِيَكُمْ} . وقيل: إنه معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} ، كقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] . وقيل: المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة "الجر" على مسح الخفين، وقراءة "النصب" على غسل الرجلين.   قال القرطبي: قال النحاس، ومن أحسن ما قيل أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة الخفض، والغسل واجب على قراءة النصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. انتهى. فليس المراد الجمع بين غسل الرجلين، ثم المسح على الخفين، "وحجة الجمهور" القائلين بأن الواجب غسل الرجلين، ولا يصح مسحهما، "الأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي" قريبا إن شاء الله تعالى، فإنه بيان المراد" في الآية. زاد القرطبي: وهو اللازم من قوله في غير ما حديث وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء"، وفي رواية: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". فخوفنا بالنار من مخالفة مراد الله، ومعلوم أنه لا يعذب بالنار إلا من ترك الواجب، وأن المسح ليس شأنه الاستيعاب. "وأجابوا عن الآية بأجوبة، منها أنه قرئ" عند حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: " {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفا على {أَيْدِيَكُمْ} " وذلك نص في وجوب الغسل، وإنما قدم عليه مسح الرأس لإفادة أنه يفعل قبل غسل الرجلين، ولذا اختلف في أن الترتيب سنة أو واجب، وقد جاء عن علي أن هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. "وقيل: إنه معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} " لأن محله النصب مفعول {َامْسَحُوا} ، لكن عطفه عليه لا يعطي الغسل الذي هو المطلوب، فلا يصح جوابا للجمهور عن الآية الذي الكلام فيه، "كقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي} " فـ {جِبَالُ} مبني على الضم في محل نصب، فعطف عليه " {وَالطَّيْرَ} بالنصب" بإجماع القراء سوى الجرمي، باعتبار المحل، وعلى القول، بأنه عطف على {فَضْلًا} من قوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} لا شاهد فيه. "وقيل: المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجر" ابن كثير، وأبو عمرو, وحمزة, وشعبة عن عاصم، "على مسح الخفين وقراءة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 وجعل البيضاوي "الجر" على الجواز، قال: ونظيره كثير في القرآن كقوله تعالى: {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالجر في قراة حمزة والكسائي. وقولهم: "جحر ضب خرب" وللنحاة باب في ذلك. وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليهما ويغسلا   النصب على غسل الرجلين" جمعا ين القراءتين، فأفاد الجر مسحهما، لكن إذا كانا عليهما خفان. قال القرطبي: وتلقينا هذا القيد من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يمسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين بفعله الحال التي تغسل فيها الرجل، والحال التي تمسح فيه وهذا حسن. "وجعل البيضاوي" تبعا لطائفة "الجر على الجواز، قال: ونظيره كثير في القرآن، كقوله تعالى" {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] أي مؤلم، فأليم في الحقيقة صفة لعذاب، لا ليوم فجر للمجاورة. وقال في سورة هود: يوصف به العذاب وزمانه للمبالغة، كجد جده ونهارك صائم، " {وَحُورٌ عِينٌ} بالجر في قراءة حمزة والكسائي" للمجاورة لأكواب وأباريق وما بعده وإن كان عطفا على {وِلْدَانٌ} المرفوع في قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} ، وقيل: عطفا على {جَنَّاتِ} بتقدير مضاف، أي هم في جنات ومصاحبة حور، أو على أكواب؛ لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ} ينعمون بأكواب، وقرأ غيرهما: {وَحُورٌ} بالرفع عطفا على {وُلْدَانٌ} ، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي وفيها، أو ولهم حور، وقرئ "بالنصب" على تقدير ويؤتون حورا، ولا شاهد فيما عدا الجوار "وقولهم" أي العرب "جحر ضب خرب" بالجر لمجاورة ضب وإن كان بالرفع صفة لحجر، إذ هو الذي وصف بخرب دون ضب، "وللنحاة باب في ذلك" يعبر عنه بعضهم بالعطف على اللفظ دون المعنى، فيكون دليلا على غسل الرجلين، إذ المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار، وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة وغيرهما، وجعلوا منه أيضا قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} , بالجر، لأن النحاس الدخان، وقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] للجوار، فالمعنى محفوظ بالخفض في لوح، وقول امرئ القيس: كبير أناس في بجاد مزمل فخفض مزمل للجوار، فالمزمل الرجل وهو مرفوع، وقال زهير: لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوى في المزن والقطر قال أبو حاتم: الوجه القطر بالرفع، فجر للمجاورة "وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 غسلا يقرب من المسح. انتهى. وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال فتبرز صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة -قبل الفجر- فلما رجع أخذت أهريق الماء على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن   يقتصد"، أي يتوسط "في صب الماء عليهما، ويغسلا غسلا يقرب من المسح" دفعا لتوهم المبالغة في غسلهما بالزيادة على الثلاث لملاقاتهما الأوساخ، ورد ذلك النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لأن الجوار لا يكون في كلام يقاس عليه، وإنما هو غلط، ونظيره الأقواء. "انتهى". يعني: فلا ينبغي أن يحمل عليه أفصح الكلام، وقد أمكن غيره، وأجاب قوم عن قراءة الخفض بأن المسح في الرجلين هو الغسل حكاه ابن عطية، قال القرطبي: وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح، وبمعنى الغسل كما حكاه أبو زيد عن العرب، فيترجح أن المراد بقراءة الخفض الغسل لقراءة النصب التي لا احتمال فيها، ولكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل والتوعد على ترك غسلهما في أخبار صحاح لا تحصى كثرة، أخرجها الأئمة. انتهى. "وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك" بعدم الصرف على المشهور لوزن الفعل كتقول، "قال: فتبرز" بالتشديد، أي خرج "صلى الله عليه وسلم" لقضاء حاجته، ولابن سعد عن مغيرة: لما كنا بين الحر وتبوك ذهب لحاجته "قبل" بكسر ففتح، أي جهة "الغائط" أي المكان المطمئن الذي تقضى فيه الحاجة، فاستعمل في أصل حقيقته اللغوية، فليس المراد الفضلة، "فحملت معه إداوة" بكسر الهمزة، أي مطهرة من جلد وكان حملها بأمره. ففي رواية للشيخين، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة "قب الفجر" أي الصبح، ولابن سعد: فتبعته بماء بعد الفجر، ويجمع بأن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح، زاد في رواية للشيخين: فانطلق حتى توارى عني، ثم قضى حاجته، وعند أحمد أن الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة من جلد ميتة، فقال له صلى الله عليه وسلم: "سلها، فإن كانت دبغتها فهو طهورها". فقالت: إي والله لقد دبغتها. "فلما رجع أخذت أهريق الماء على يديه"، "بضم الهمزة وفتح الهاء وإسكانها" أي أصب، وفي رواية: فصببت عليه "من الإداوة، فغسل يديه", زاد في رواية أحمد: فأحسن غسلهما، وللبخاري: تمضمض واستنشق، "ووجهه" زاد أحمد ثلاث مرات، "وعليه جبة" هي ما قطع من الثياب مشمرا، قاله في المشارق: "من صوف" وللبخاري ومسلم: وعليه جبة شامية ضيقة الكمين، زاد أبو داود: من جباب الروم، "ذهب يحسر" بكسر السين المهملة، كما للمصنف على مسلم، وكأنه الرواية، وإلا ففي لغة "بضم السين أيضا" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين". فمسح عليهما، ثم ركب وركبت. الحديث رواه مسلم.   "عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده" بإفراد كم ويد على إرادة الجنس، ففي الموطأ: ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته، فلم يستطع من ضيق كمي الجبة فأخرجهما "من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه" لأنه كان عليه إزار تحتها، "وغسل ذراعيه"، "بالتثنية"، ولأحمد: فغسل يديه اليمنى ثلاث مرات ويده اليسرى ثلاث مرات، "ثم مسح بناصيته وعلى العمامة" لعله للعذر، إذ السفر مظنته، ففيه دلالة على وجوب الاستيعاب، إذ لو كفى البعض ما مسح على العمامة. قال المازري: استدل به الحنفية على أن الواجب الناصية، وأحمد على جوازه على العمامة، وهو رد عليهما، فيقال لأبي حنيفة: لم تقتصر على الناصية، ويقال لأحمد: لو جاز الاقتصار عليه فلم مسح الناصية، "ثم أهويت" أي مددت يدي، أو قصدت، أو أشرت، أو أومأت "لأنزع خفيه، فقال: "دعهما، فإني أدخلتهما" أي الرجلين حال كونهما "طاهرتين" من الحدثين، ولأبي داود: فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتين "فمسح عليهما" وفي هذا الرد على من زعم أن المسح عليهما منسوخ بآية المائدة، لأن هذه القصة في غزوة تبوك، وهي آخر مغازيه، وكانت سنة تسع بعد المائدة باتفاق، لأنها نزلت في غزوة المريسيع سنة ست. وقد روى الجماعة عن جرير بن عبد الله البجلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه. زاد الترمذي في رواية، فقيل له: قبل المائدة أم بعدها، فقال: ما أسلمت إلا بعد المائدة. قال الأعمش: قال إبراهيم النخعي، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. قال النسائي: كان إسلامه قبل موته صلى الله عليه وسلم بيسير، وقال غيره: بأربعين ليلة وفيه نظر، لأنه شهد حجة الوداع، وهي قبل الوفاة النبوية بنحو ثلاثة أشهر، "ثم ركب" راحلته "وركبت" راحلتي "الحديث" ذكر فيه أنهما انطلقا، فوجدا الناس قدموا ابن عوف، فأدرك صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية، وقضى الأولى بعد سلام عبد الرحمن، وتقدم في الأذان من المقصد الأول مبسوطا، "رواه مسلم" وأبو داود وغيرهما مطولا، وروى بعضه البخاري، وفيه فوائد كثيرة، ذكر جملة منها صاحب الفتح وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 وعند الترمذي من حديث المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين على ظاهرهما. وعند أبي داود من حديثه أيضا: ومسح على الجوربين والنعلين. وعنه قال: مسح صلى الله عليه وسلم على الخفين، فقلت يا رسول الله: نسيت، فقال: "بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل". رواه أبو داود وأحمد. وعن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيته عليه السلام يمسح على عمامته وخفيه. رواه البخاري وأحمد.   "وعند الترمذي من حديث المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين على ظاهرهما", فأفاد أنه لا يكفي مسح أسفله، وروي عن المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسح على أعلى الخف وأسفله، فأفادت هذه الرواية أن ذلك عادته، ورواية الترمذي: فعلها مرة في السفر، لإفادة أن ترك مسح الأسفل لا يبطل المسح بخلاف الأعلى. وقد روى أبو داود والدارقطني عن علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلاه". "وعند أبي داود من حديثه" أي المغيرة "أيضا: ومسح على الجوربين"، "مثنى جورب وزن فوعل معرب" ما كان على شكل الخف من صوف ونحوه، وحمله الفقهاء على ما إذا جلد ظاهره وهو ما يلي السماء، وباطنه وهو ما يلي الأرض، "والنعلين" أي الخفين، ولعل المعنى أنه لبسهما فوق الجوربين، ولذا قال المالكية: يجوز مسح الخف ولو على خف أو خف على جورب، قال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، "وعنه قال: مسح صلى الله عليه وسلم على الخفين، فقلت: يا رسول الله نسيت" همزة الاستفهام مقدرة، "فقال: "بل أنت نسيت" يشعر بعلم المغيرة قبل رؤيته يمسح، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم بأنه رآه قبل ذلك يمسح، أو علم بأنه بلغه من الصحابة قبل لانتشار المسح بينهم. "بهذا أمرني ربي عز وجل" بالوحي، أو بلا واسطة أو في القرآن على قراءة الخفض، "رواه أبو داود وأحمد، وعن عمرو بن أمية الضمري"، "بفتح الضاد المعجمة وإسكان الميم"، "قال: رأيته عليه السلام" اختصار لقوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم "يمسح على عمامته", أي كمل عليها بعد مسح الناصية، ففي مسلم عن المغيرة: ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، وإلى هذا ذهب الجمهور، وذهب أحمد والأوزاعي وجماعة إلى جواز الاقتصار في المسجد على العمامة تمسكا بظاهر هذا الحديث، وقياسا على الخفين فإن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 وقال علي بن أبي طالب: جعل صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم. رواه مسلم.   وأجاب الخطابي بأن الله فرض مسح الرأس، وحديث مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، وقياسه على الخف بعيد لمشقة نزعه دونها، وتعقب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه لأن من قال قبلت رأس فلان يصدق ولو على حائل، وبأن المجيزين الاقتصار على مسح العمامة شرطوا مشقة نزعها بأن تكون محنكة كعمائم العرب، ورد الأول بأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ما لم يرد نص صريح بخلافه، والنصوص وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا وفعلا بمسح الرأس، فتحمل رواية مسح العمامة على أنه كان لعذر بدليل المسح على الناصية معا كما في مسلم: سلمنا أنه حديث آخر لاختلاف المخرج، فيحتمل أنه فعله لعذر لم يمكنه مسح رأسه ولا شيء منه أصلا، وبالجملة فيه قضية فعلية تتطرق إليها الاحتمالات، ورد الثاني بأنهم ولو شرطوا مشقة نزعها لا يجامع الخف، لأنه مأخوذ من الآثار من القياس ولو كان منه لجاز المسح على القفازين في اليدين، فلا يقاس على الخفين شيء، "وخفيه رواه البخاري وأحمد" وغيرهما وأعل الأصيلي إسناده بما رده عليه فتح الباري. "وقال علي بن أبي طالب: جعل صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين" أي مدته "ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر" سفر قصر "ويوما وليلة للمقيم" وقال به الجمهور والأئمة الثلاثة، ونسب لمالك مثله في كتاب البشر، لكن أنكر أهل المذهب ذلك الكتاب، والمشهور عنه يمسح بلا توقيت ما لم يخلعه أو يجب عليه غسل أو يختل شرط من شروطه، وروى مثله عن عمرو وعن مالك أيضا من الجمعة إلى الجمعة، وحملت لى أنه ينزعه لغسلها إلا أنه أراد التأقيت، "رواه مسلم" عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاسأله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ له، فقالت: ائت عليا، فإنه أعلم بذلك مني، فأتيت عليا، فقال. فذكره, واختلف في رفع هذا الحديث ووقفه على علي. قال ابن عبد البر: من رفعه أثبت وأحفظ ممن وقفه، وقال ابن العربي: أحاديث التوقيت صحيحة وأحاديث عدمه ضعيفة، وعند ابن خزيمة عن صفوان بن عسال، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، قال الحافظ: صحيح، لكن ليس على شرط البخاري، وفي الباب عن أبي بكر صححه الشافعي وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من خصائص هذه الأمة. وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها. واختلفوا في كيفية: فمذهبنا ومذهب الأكثرين، أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين. وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها   الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم هو لغة القصد، وشرعا: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين فقط، "واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب" بقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، "والسنة" لثبوت تيممه صلى الله عليه وسلم "والإجماع" عليه من الأمة، "وهو من خصائص هذه الأمة" المحمدية، "وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر" وما نقل عن ابن مسعود وعمر أنهما منعا تيمم الجنب واستدلا بقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فثبت عنهما أنهما رجعا عن ذلك، "وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها". "واختلفوا في كيفية" التيمم، "فمذهبنا ومذهب الأكثرين" وأبي حنيفة "أنه لا بد من ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" لأحاديث وردت بذلك لا تخلو من مقال، وذهب مالك وأحمد والشافعي في القديم إلى أن الواجب ضربة واحدة، والمسح إلى الكوعين، واعترف النووي والحافظ وغيرهما بأنه الأقوى دليلا لصحة الأحاديث بذلك، وتحمل أحاديث الضربتين وإلى المرفقين على السنية جمعا بينهما. "وعن حذيفة" بن اليمان "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "فضلنا"، "بفتح الفاء والضاد وسكون اللام" أي: زدنا في الفضل أو "بضم الفاء وكسر الضاد مشددة" أي: فضلنا الله "على الناس بثلاث" من الخصال: "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" قال الزين العراقي المراد به التراص وإتمام الصف الأول فالأول في الصلاة, فهو من خصائص هذه الأمة، وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، "وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 طهورا إذا لم نجد الماء". رواه مسلم. وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا". وهذا عام، وحديث حذيفة خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فيختص الطهور بالتراب. ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ "التربة" على خصوصية التيمم بالتراب، بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب: بأنه ورد في الحديث بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره, وفي حديث علي: "وجعل لي التراب طهورا".   طهورا إذا لم نجد الماء" هذه الخصلة الثانية. قال في رواية مسلم وذكر خصلة أخرى، يعني: أبهما نسيانا أو نحوه، "رواه مسلم" وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي: "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي" والنص على عدد لا يدل على نفي ما عداه، فلا ينافي حديث مسلم عن أبي هريرة: "فضلت على الأنبياء بست"، أو لعله أطلع أولا على بعض ما خص به، ثم أطلع على الباقي، فإن خصائصه كثيرة جدا. "وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا" فزاد: ولأمتي، "وهذا عام" لقوله: "الأرض كلها" فهو حجة لمالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية, ومن وافقهم في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض وإن لم يكن ترابا، "و" لكن "حديث حذيفة" المذكور "خاص" لقوله: تربتها، "فينبغي أن يحمل العام عليه، فيختص الطهور بالتراب" كما ذهب إليه الشافعي وأحمد في رواية. وأجاب الأولون بأن شرط المخصص أن يكون منافيا للعام، ولفظ تربة أو تراب لا ينافيه، فالنص عليه ليس تخصيصا، بل من باب النص على بعض أفراد العام، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، فخصه لبيان أفضليته على غيره، وقد قلنا به لا لأنه لا يجزئ غيره، "ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة" المذكورة في حديث حذيفة "على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل ما فيه من تراب أو غيره" فيكون من أدلة التعميم. "وأجيب بأنه ورد في الحديث بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: "وجعل لي التراب طهورا" بفتح الطاء على المشهور "أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن. وعن عمارة: قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر، أنا وأنت، فأما أنت فلم   حسن" فصح الاستدلال به على التخصيص، وقد علم منع التخصيص لفقد شرطه، والصعيد اسم لوجه الأرض، وهو نص القرآن، وليس بعد بيان الله تعالى بيان. وقد قال صلى الله عليه وسلم للجنب: "عليك بالصعيد" فإنه يكفيك، فنص له على العام في وقت البيان، ودعوى أن الحديث سيق لإظهار التخصيص أو التشريف -فلو جاز بغير التراب لما اقتصر عليه في حديث حذيفة وعلي- ممنوعة، وسند المنع أن شأن الكريم الامتنان بالأعظم والسكوت عن الأدون، على أنه امتن بالكل في حديث جابر في الصحيحين، بقوله: "وجعلت الأرض مسجدا وطهورا". فقد حصل الامتنان بها تارة، وبالآخر أخرى لمناسبة اقتضاء الحال. وأما زعم أن اقتران اللفظ بالتأكيد في رواية، بقوله: كلها في المسجد دون الآخر، يدل على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر بلا تأكيد، كما في رواية جابر، فمدفوع بأن حديث جابر دل على عدم الافتراق، إذ لو أريد افتراق الحكم ما تركه فيه، وقد يكون المقام اقتضى تأكيد كون الأرض مسجدا ردا على منكر ذلك دون كونها صعيدا لثبوته بالقرآن، فلا دلالة فيه على افتراق الحكم البتة. "وعن عمارة" كذا في النسخ، والذي في الصحيحين من عدة طرق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، "قال: جاء رجل" قال الحافظ: لم أقف على تسميته، وفي رواية للطبراني، أنه من أهل البادية، وفي رواية للبخاري، أن عبد الرحمن بن أبزى شهد ذلك "إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت"، "بفتح الهمزة" أي صرت جنبا، "فلم أصب الماء"، "بضم الهمزة" أي لم أجده. قال الحافظ: هذه الرواية اختصر فيها جواب عمر وليس ذلك من البخاري، فقد أخرجه البيهقي من طريق آدم شيخه، فيه بدونها أيضا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعده من رواية ستة أنفس عن شعبة بالإسناد المذكور، ولم يسقه تاما من رواية واحد منهم، نعم ذكر جواب عمرَ مسلمٌ من طريق يحيى بن سعيد، والنسائي من طريق حجاج بن محمد, كلاهما عن شعبة، ولفظهما، فقال: لا تصل زاد السراج حتى تجد الماء، وللنسائي نحوه، وهذا مذهب مشهور عن عمر وافقه عليه ابن مسعود، ووقعت فيه مناظرة بين ابن مسعود وأبي موسى، وقيل: إن ابن مسعود رجع عن ذلك، "فقال عمار" بن ياسر أحد السابقين الأولين، هو وأبوه شهد المشاهد كلها "لعمر: أما"، "بفتح الهمزة والميم المخففة"، "تذكر" زاد في رواية: يا أمير المؤمنين "أنا" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما كان يكفيك هكذا". وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه إلى كوعيه. رواه البخاري ومسلم. واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب، وسقوط استحباب تكرار   وفي رواية: إذ "كنا في سفر" وفي رواية للشيخين: في سرية، وزاد: فأجنبنا "أنا وأنت" تفسير بضمير الجمع في كنا، "فأما أنت فلم تصل"، لأنه كان يعتقد أن التيمم عن الحدث الأصغر لا الأكبر، بدليل قوله للسائل: لا تصل حتى تجد الماء، "وأما أنا فتمعكت" في رواية: فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة "بغين معجمة" أي: تقلبت، كأنه استعمل القياس لأنه رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء، فرأى أنه إذا وقع عن الغسل يقع على صفة الغسل، "فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" لما عدت من السرية، "فقال": "إنما كان يكفيك هكذا"، "بكاف بعد الهاء"، "وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما", وفي رواية: ثم أدناهما من فيه، وهي كناية عن النفخ، وفيها إشارة إلى أنه نفخ نفخا خفيفا "ثم مسح بهما وجهه وكفيه إلى كوعيه" ففيه دلالة على أن هذه الصفة هي الواجبة في التيمم، والزيادة عليها لو ثبتت بالأمر دلت على النسخ ولزم قبولها, لكن إنما وردت بالفعل، فتحمل على الأكمل وهذا هو الأظهر من حيث الدليل. قال النووي في شرح المهذب: هذا القول وإن كان مجروحا عند الأصحاب، فهو القوي في الدليل، وأجاب في شرح مسلم، بأن المراد بيان صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، وتعقب بأن سياق القصة يدل على أن المراد جميع ذلك، لأن ذلك هو الظاهر من قوله: إنما كان يكفيك، وقياسه على الوضوء قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، وقد عارضه من لم يشترط ذلك بقياس آخر، وهو الإطلاق في آية السرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود النص، ثم سياق هؤلاء، يعني: الستة الذين رووه عن شعبة عن البخاري، يدل على أن التعليم وقع بالفعل. ولمسلم من طريق يحيى بن سعيد، والإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون وغيره، كلهم عن شعبة، أن التعليم وقع بالقول، ولفظهم: "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض". زاد يحيى: "ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك". قاله كله الحافظ، يعني: فجمع له صلى الله عليه وسلم بين التعليم بالقول والفعل، غايته أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، أو تركه اكتفاء بالفعل، لأنه أبلغ. "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، "واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب و" على "سقوط استحباب تكرار التيمم، لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف. وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد عليّ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليّ، رواه البغوي في شرح   زاد في الفتح: وعلى أن غسل رأسه بدل المسح أجزأه أخذا من كون عمار تمرغ في التراب للتيمم وأجزأه ذلك، ويستفاد من الحديث وقوع اجتهاد الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وأن المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لم يصب الحق، وإنه إذا عمل بالاجتهاد لا يجب عليه الإعادة، وفي تركه أمر عمر بقضائها متمسك لمن قال: إن فاقد الطهورين لا يصلي ولا قضاء عليه. انتهى. "وعن أبي الجهيم"، "بضم الجيم وفتح الهاء مصغر": قال الحافظ، قيل اسمه عبد الله، وحكى ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: ويقال هو الحارث بن الصمة، فعلى هذا لفظ ابن في قوله: "ابن الحارث" زائد "ابن الصمة"، "بكسر المهملة وشد الميم" ابن عمرو بن عتيك الخزرجي، لكن صحح أبو حاتم أن الحارث اسم أبيه لا اسمه، أي: فليست ابن زائدة. وقال ابن منده: عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة, فجعل الحارث اسم جده ولم يوافق عليه، وكأنه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة فيه. وفي مسلم أبي الجهم "بإسكان الهاء" والصواب أنه بالتصغير، وفي الصحابة شخص آخر، يقال له أبو الجهم، وهو صاحب الانبجانية، وهو غير هذا، لأنه قرشي وهذا أنصاري، ويقال في كل منهما بحذف الألف واللام وبإثباتها. ا. هـ. من فتح الباري "قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد" بالحركات الثلاث في الدال: الكسر لأنه الأصل والفتح لأنه أخف وهو الذي في الفرع وغيره، والضم لاتباع الراء، قاله المصنف. "عليّ حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على لجدار فمسح وجهه وذراعيه" كذا في هذه الرواية, والذي في الصحيحين: ويديه، قال الحافظ والدارقطني والشافعي: وذراعيه، وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود, لكن خطأ الحافظ رواية في رفعه، وصوبوا وقفه، وأخرجه مالك موقوفا بمعناه، وهو الصحيح، والثابت في حديث أبي جهيم، بلفظ: يديه لا ذراعيه، فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث راويها عند الشافعي، وأبي صالح عن الليث راويها عند الدارقطني من الضعف. انتهى. "ثم رد علي" السلام، زاد في رواية الطبراني في الأوسط، وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر". أي: أنه كره أن يذكر الله على غير طهارة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 السنة وقال: حديث حسن. وهذا محمول على أن الجدار كان مباحا، أو كان مملوكا لإنسان يعلم رضاه.   قال ابن الجوزي: لأن السلام من أسماء الله، لكنه منسوخ بآية الوضوء، أو بحديث عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، قال النووي: والحديث محمول على أنه كان عادما للماء حال التيمم لامتناعه حال القدرة، سواء كان لفرض أو لنفل. قال الحافظ: وهو مقتضى صنيع البخاري، يعني: ترجمته بقوله: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء لكن تعقب استدلاله به على جواز التيمم في الحضر بأنه ورد على سبب، وهو ذكر الله، فلم يرد به استباحة الصلاة. وأجيب بأنه لما تيمم في الحضر، لرد السلم مع جوازه بدون الطهارة، فمن خشي فوات الصلاة في الحضر جاز له التيمم بطريق الأولى، وقيل: يحتمل أنه لم يرد بذلك التيمم رفع حدث ولا استباحة محظور، وإنما أراد التشبه بالمتطهرين، كما يشرع الإمساك في رمضان لمن يباح له الفطر، أو أراد تخفيف الحدث بالتيمم، كما يشرع تخفيف الجنب بالوضوء، وهذا الاحتمال بعيد. "رواه البغوي في شرح السنة، وقال: حديث حسن" ورواه أيضا الشافعي والدارقطني والطبراني، وأصله في الصحيحين وأبي داود والنسائي، عن أبي الجهيم قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، يعني: نفسه، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد السلام. وفي مسلم عن ابن عمر أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه، "وهذا" أي: حته للجدار "محمول على أن الجدار كان مباحا، أو كان مملوكا لإنسان يعلم رضاه" بحته كما قاله النووي، وتبعه الحافظ وغيره، قال بعض شراح البخاري: وهو تكلف بلا فائدة لما تقرر أنه صلى الله عليه وسلم إذ احتاج إلى شيء وجب على مالكه بذله له، وإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كذا قال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم والغُسل -بضم الغين- اسم للاغتسال. وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح، حكاه ابن سيدة وغيره. وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم. وقيل: الغَسل بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء كالإشنان. وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء. وحقيقة الاغتسال: غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية. ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، [النساء: 43] . ففي الآية الأولى إجمال، وهو قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} بينه قوله في الآية   الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم "والغسل -بضم الغين- اسم للاغتسال" أي: فهو اسم مصدر "وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم وأما المصدر" أي الفعل الواقع من المغتسل، ولفظ الفتح: وإذا أريد به الفعل، "فيجوز فيه" أي: الاسم المعبر عنه "الضم والفتح، حكاه بن سيده" بكسر السين المهملة وإسكان التحتية"، "وغيره". "وقيل: المصدر بالفتح والاغتسال" الحاصل بالمصدر "بالضم" فصب الماء على البدن غَسل "بالفتح"، والأثر الحاصل منه للبدن غُسل "بالضم" ويقال فيه: اغتسال. "وقيل: الغسل بالفتح فعل المغتسل، وبالضم الماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يجعل مع الماء كالإشنان"، "بضم الهمزة وكسرها لغة". وفي شرح المصنف للبخاري: الغسل "بفتح الغين" أفصح وأشهر من ضمها مصدر بمعنى الاغتسال، وبكسرها اسم لما يغسل به وهو لغة سيلان الماء على الشيء "وحقيقة الغسل جريان الماء على الأعضاء وحقيقة الاغتسال غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية" إذ هي المميزة لذلك، "ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي: اغتسلوا، ووجه الاستفادة أن صيغة التفعل تدل عليه صريحا؛ لأن الوضوء هو الطهارة لا التطهر. "وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} أي: اجتنبوها حالة السكر، "ففي الآية الأولى إجمال، وهو قوله: {فَاطَّهَّرُوا} لأن الطهر فيها محتمل للوضوء والغسل وغيرهما، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 الثانية {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . ويؤيده قوله تعالى في الحائض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] المفسر بـ"اغتسلن" اتفاقا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد. رواه مسلم من حديث أنس. وعن أبي رافع: طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: قلت يا رسول الله! ألا تجعله غسلا واحدًا آخرا؟ قال: "هكذا   فهي من المجمل الذي لم تتضح دلالته، لكن منع ذلك بعض شراح البخاري بأن صيغة التفعل تدل على الغسل صريحا، لأن الوضوء هو الطهارة لا التطهر، وعلى الإجمال فقد "بينه قوله في الآية الثانية" في الذكر: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} لأن الاغتسال لغة تعميم البدن بالماء، "ويؤيده قوله تعالى في" شأن المرأة "الحائض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} من الدم بانقطاعه، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} المفسر" هذا الثاني: "باغتسلن اتفاقا". زاد الحافظ: ودلت آية النساء على أن استباحة الجنب الصلاة، وكذا اللبث في المسجد تتوقف على الاغتسال، "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه" يجامعهن "بغسل واحد". قال النووي: يحتمل أنه كان يتوضأ بينهما، ويحتمل أن لا؛ ليدل على جواز ترك الوضوء. انتهى. وفيه دلالة على أن القسم ليس بواجب عليه، إذ وطء المرأة في يوم الأخرى ممنوع، لكن قل: إنه وإن لم يجب عليه، لكنه التزمه تطييبا لنفوسهن، فيحتمل أن يكون بإذن صاحبة اليوم، أو في يوم لم يثبت فيه قسم، كيوم قدومه من سفر، أو في اليوم الذي بعد كمال الدور، لأنه يستأنف القسم بعد، أو من خصائصه ساعة يطوف فيها من ليل أو نهار لا حق لواحدة منهن، ثم يدخل عند صاحبة النوبة. وفي حديث أنس عند البخاري: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن إحدى عشرة امرأة، وفي رواية: وله يومئذ تسع نسوة، وجمع بأنه ضم إلى التسع أمتيه مارية وريحانة، وأطلق عليهما نساءه تغليبا وبغير ذلك، كما مر بسط ذلك في الخصائص، "رواه مسلم من حديث أنس" فزاد على رواية البخاري بغسل واحد فلذا عزاه له دونه. "وعن أبي رافع" اسمه أسلم على المشهور من عشرة أقوال سبقت، قال: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه" أي: كل من جامعها اغتسل عندها، "قال" أبو رافع: "قلت: يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا آخرا"، "بكسر الخاء"، "قال: "هكذا أزكى وأطيب وأطهر". رواه أحمد وأبو داود والنسائي" وفيه استحباب الغسل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 أزكى وأطيب وأطهر". رواه أحمد وأبو داود والنسائي. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بين الجماعين وأما الوضوء فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف: إنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر، لحديث: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا". رواه مسلم وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، فقال: المراد به غسل الفرج. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ   "وقد أجمع العلماء على أنه لا يستحب بين الجماعين" سواء كان للجامعة أولا أو لغيرها، "وأما الوضوء فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف: أنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر لحديث" أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله" أي: جامعها "ثم أراد أن يعود" إلى جماعها "فليتوضأ بينهما وضوءا" كاملا. زاد في رواية ابن خزيمة: "فإنه أنشط للعود". فدل على أن الأمر للندب والإرشاد. انتهى. ويدل له أيضا ما رواه الطحاوي عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ. "رواه مسلم" وأبو داود والترمذي وابن خزيمة، كلهم عن أبي سعيد، وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، فقال: المراد به غسل الفرج" ورده ابن خزيمة بما رواه في هذا الحديث، بلفظ: "فليتوضأ وضوءه للصلاة". وقال القاضي عياض: الجمهور على غسل الفرج خوف أن تدخل النجاسة في الفرج دون ضرورة مع ما فيه من النظافة التي بنيت عليها الشريعة وتكميل اللذة، لأن ما تعلق به من بلل الفرج وانتشر عليه من المني مفسد للذة الجماع المستأنف، ورطوبة الفرج عندنا نجسة لما يخالطها من النجاسة الجارية عليها كالحيض، والمني. وتعقبه الزواوي بأن تعليله باختلاطه بالحيض وغيره من النجاسات ليس بمحل خلاف، وإنما الخلاف لو كان مغسولا نظيفا ليس فيه إلا الرطوبة والبلة خاصة، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل" أي: شرع في الغسل، أو أراد الغسل "من الجنابة" أي: لأجلها، فمن سببية "بدأ فغسل يديه"، "بالتثنية" قبل إدخالهما في الإناء "ثم يتوضأ" ولأبي ذر: ثم توضأ "كما يتوضأ للصلاة" احترازا عن الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. رواه البخاري. ويحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام "قبل أن يدخلهما في الإناء" رواه الشافعي والترمذي وزاد أيضا: "ثم يغسل فرجه" وكذا لمسلم وأبي داود. وهي زيادة جليلة، لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه في أثناء   كاملا ولا يؤخر غسل رجليه، وهو المشهور عن مالك والشافعي "ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها،" أي بأصابعه التي أدخلها في الماء، ولمسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللبيهقي: ثم يشرب شعره الماء "أصول الشعر" أي شعر رأسه، "ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه"، "بفتح الراء" جمع غرفة على المشهور في جمع القلة، والأصل في مميز الثلاثة أنه من جموع القلة، وهذه رواية الكشميهني والأصيلي ولغيرهما: ثلاث غرف، "بضم الغين وفتح الراء" جمع كثرة، إما لقيامه مقام جمع القلة، أو بناء على قول الكوفيين إنه جمع قلة، كعشر سور وثماني حجج، "ثم يفيض"، "بضم الياء من أفاض"، أي: يسيل "الماء على جلده" أي: بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن، قاله الرافعي، "كله" أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزا، واستدل به من لم يشترط الدلك، لأن الإفاضة الإسالة. قال المازري: لا حجة فيه، لأن أفاض بمعنى غسل، فالخلاف فيه قائم قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. انتهى. ولم يظهر فيه شيء "رواه البخاري" في أول الغسل من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به ورواه مسلم من طرق عن غيره بنحوه "و" قوله: بدأ فغسل يديه: "يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما" مما قد يستقذر ويقويه حديث ميمونة كما في الفتح "ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه زيادة ابن عيينة" سفيان "في هذا الحديث عن هشام" عن أبيه عن عائشة: "قبل أن يدخلهما في الإناء. رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضا: ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم" من رواية أبي معاوية "وأبي داود" من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام ولفظ مسلم: كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، وله من طريق زائدة عن هشام: فغسل يديه قبل أن يدخل يديه في الإناء، "وهي زيادة جليلة لأن تقديم غسله يحصل به إلا من مسه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 الغسل. ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو. وإنما قدم أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى. ونقل ابن بطال: الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل. وهو مردود، فقد ذهب جماعة, منهم: أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث. وقوله: "فيخلل بها أصول الشعر" أي شعر رأسه ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن هشام -عند البيهقي- يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول   في أثناء الغسل" فينتقض الوضوء، "ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء" بعد ذلك "مع بقية الجسد" إذ لم يغسلهما بنية الفرض. قال الحافظ: ويؤيده التأكيد بقوله: كله، وعليه فينوي المغتسل الوضوء إن كان محدثا، وإلا فسنة الغسل، "ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته" في الغسل، "وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو" من أعضاء الوضوء ليقع غسله عن الجنابة، فهو جواب عما يقال: لا يصح هذا الاحتمال لانتفاء نية الجنابة فيه بناء على وجوب نيته. قال الحافظ: وإليه جنح الداودي شارح المختصر من الشافعية، فقال: يقدم غسل أعضاء الوضوء لكن بنية غسل الجنابة، "وإنما قدم أعضاء الوضوء" على هذا الاحتمال تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى" الوضوء "والكبرى" الغسل. "ونقل ابن بطال" وتلميذه ابن عبد البر: "الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل" لأنه وضوء وزيادة، "وهو مردود، فقد ذهب جماعة، منهم: أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث". "وقوله: فيخلل بها أصول الشعر، أي: شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سلمة" بن دينار، "عن هشام" بن عروة عن أبيه، عن عائشة "عند البيهقي" بلفظ: "يخلل بها شق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك. وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل. إما لعموم قوله: "أصول الشعر" وإما بالقياس على شعر الرأس. وفائدة التخليل، إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحل تعمميه بالماء، وهذا التخليل غير واجب اتفاقا، إلا إن كان الشعر متلبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله. واختلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر. ونقل عن مالك والمزني وجوبه، واحتج له ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما. وتعقب: بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة.   رأسه الأيمن، فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك" كما فعل في الأيمن، "وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول الشعر" بقطع النظر عن رواية البيهقي المذكورة، أو لأنها تعطي التخصيص، "وإما بالقياس على شعر الرأس" بجامع أن كلا شعر، "وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة" أي: الجلد، "و" فائدة "مباشرة" فهو "بالجر عطف" على التخليل "الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء" وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، كما في كلام عياض، وهو في الفتح متصلا بقوله: "وهذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر متلبدا بشيء يحول" يمنع "بين الماء وبين الوصول إلى أصوله" كصمغ ونحوه. "واختلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر، ونقل عن مالك" وهو مشهور مذهبه، "والمزني" إسماعيل تلميذ الشافعي "وجوبه" لذاته تعبدا عند مالك. "واحتج له ابن بطال: بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما" إذ كل طهارة ترفع الحدث. "وتعقب بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة" التي ادعاها البطلان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 وفي قوله في هذا الحديث: "ثلاث غرفات" استحباب التثليث في الغسل. قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردي: فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري -ومنه لخصت ما ذكرته- قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي وكذا قال القرطبي. وقالت ميمونة: وضعت له صلى الله عليه وسلم ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثا، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق   "وفي قوله في هذا الحديث: ثلاث غرفات استحباب التثليث في الغسل، قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا" يعني: في مذهبه بدليل قوله: "إلا ما انفرد به الماوردي" من الشافعية، "فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل" وإلا فمشهور مذهب مالك أن استحباب التثليث خاص بالرأس، كما هو مدلول قول الحديث: ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات. "قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ومنه لخصت ما ذكرته" من أول هذا الفصل، "قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي" في شرح الفروع، "وكذا قال القرطبي" وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم عن عائشة فإن مقتضاها أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، هذا بقية كلام الحافظ، وقوله: وحمل، يعني: القرطبي. "وقالت ميمونة" أم المؤمنين: "وضعت له" لفظها للنبي "صلى الله عليه وسلم ماء للغسل" متعلق بمحذوف، أي: كائنا أو معدا، وقولها للنبي ظرف لغو متعلق بوضعت، فلم يتعلق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد، "فغسل يديه" "بالتثنية" للكشميهني، وللمستملي وغيره: يده "مرتين أو ثلاثا" الشك من الأعمش، كما سيأتي من رواية أبي عوانة عنه، وغفل الكرماني، فقال: الشك من ميمونة، قاله الحافظ: ورده العيني بأن الذي يأتي مرة أو مرتين، ففيه خلط رواية بأخرى، كذا قال: وهو مردود بأن مجيء ذلك عنه في رواية أخرى، وإن بلفظ آخر يعين كون الشك منه دون غيره، فإنه حديث واحد، وقد رواه ابن فضيل عن الأعمش، فصب على يديه ثلاثا ولم يشك، أخرجه أبو عوانة في مستخرجه. قال الحافظ: فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم تذكر فجزم، لأن سماع ابن فضيل منه متأخر، "ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره" مع ذكر على غير قياس، وقيل: واحده مذكار، كأنهم فرقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى. قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، وقال ابن خروف: إنما جمعه مع أنه ليس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه. رواه البخاري. ولم يقيد في هذه الرواية بعدد، فيحمل على أقل مسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها. وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، لقوله: "ثم مضمض واستنشق" وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما. وأجيب: بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل   في الجسد إلا واجد بالنظر إلى ما يتصل به، يعني: من الخصيتين وحواليهما معا، وأطلق على الكل اسمه، فكأنه جعل كل جزء من المجموع، كالذكر في حكم الغسل، "ثم مسح يده بالأرض" لما لعله تعلق بها من رائحة أو لزوجة، وبدأ بالفرج لتكون طهارة الحدث بعد طهارة الخبث، وليسلم من نقض طهارة الوضوء لو مسه أثناء اغتساله. قال الحافظ: وفيه تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف لئلا يدخلهما في الماء، وفيهما ما لعله يستقذر، أما إذا كان الماء في إبريق، مثلا، فالأولى تقديم غسل الفرج لتتوالى أعضاء الوضوء، وفي رواية: ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكا شديدا، "ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه" "بالتثنية" "ثم أفاض" الماء "على جسده, ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه". قال القرطبي: كالمازري حكمة تأخيرهما ليصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء "رواه البخاري" بطرق عديدة مدارها على الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، وكذا أخرجه مسلم وأصحاب السنن، "ولم يقيد في هذه الرواية" أي رواية: عبد الواحد عن الأعمش "بعدد" بل قال: أفاض الماء على جسده، "فيحمل على أقل مسمى، وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها" ولذا ترجم عليه البخاري الغسل مرة واحدة، قاله ابن بطال وأقره الحافظ، وزعم العيني أن فيه تكلفا، قال شيخنا البابلي: ولعل وجهه أن فيه بأخرة الأمر قصر الحديث على مرة واحدة، مع أنه يتناول المرة فالأكثر, ورده شيخنا لما ذكرته له، بأنه لا تكلف فيه، والتوجيه المذكور ليس بشيء إذ المرة محققة وما زاد عليها مشكوك فيه. "وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، لقوله: ثم مضمض واستنشق وتمسك به الحنفية للقول" أي: لقلهم "بوجوبهما" في الغسل. "وأجيب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب" لتحققه بغيره، "إلا إذا كان بيانا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك. وعنها توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما. رواه البخاري. وفيه التصريح بتأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة. ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز، أو بحمله على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء، فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين. وعن مالك: إن كان المكان غير   لمجمل تعلق به الوجوب" فيدل عليه من هذه الجهة لا من مجرد الفعل "وليس الأمر هنا كذلك" بل مجرد فعل، "وعنها" من رواية سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: "توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة" احترازا عن اللغوي الذي هو غسل اليدين "غير رجليه" فأخرهما لتكون البداءة والتمام بأعضاء الوضوء، قاله المازري: "وغسل فرجه وما أصابه من الأذى" من رطوبة فرج المرأة والبول وغيرهما. قال الحافظ: فيه تقديم وتأخير، لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء، إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند البخاري، فأتى بثم الدالة على الترتيب في الجميع، ويأتي في المتن قريبا لفظ رواية ابن المبارك، "ثم أفاض عليه الماء" أي على جسده، وللدارقطني: ثم غسل سائر جسده، ولابن ماجه: ثم أفاض على سائر جسده، "ثم نحى رجليه فغسلهما، رواه البخاري" ومسلم وأصحاب السنن، "وفيه التصريح بتأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة" السابقة، حيث قالت: ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، فإن ظاهره أنه لم يؤخر غسل رجليه كما في الفتح، لا من قولها: ثم يفيض الماء على جلده كله كما وهم فيه الشارح. "ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز" بأن أطلقت الوضوء مريدة ما عدا غسل رجليه تعبيرا بالكل عن البعض، وفي شرح المصنف للبخاري حمله القائل بالتأخير على أكثر الوضوء حملا للمطلق على المقيد. وأجيب بأنه ليس من المطلق والمقيد، لأن ذلك في الصفات لا في غسل جزء وتركه، "أو بحمله على حالة أخرى" بأن يكون فعل عند كل واحدة ما روته، إذ ليس هو غسلا واحدا "وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء" في أيهما أفضل، "فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين" مطلقا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية: في الأفضل قولان، قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه. قال: ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفي فيه بغسلهما. وعن جبير بن مطعم قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا". وأشار   "وعن مالك" في رواية: "إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم" وله وجه، وبه يجمع بين الحديثين. قال المصنف: وكذا نقل عن الشافعية أيضا، "وعند الشافعية", وكذا المالكية "في الأفضل قولان". "قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه" وكذا هو المشهور عن مالك كما صرح به الفاكهاني وغيره، وبقية كلام النووي، لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك، كذا قال وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة، كرواية: توضأ وضوءه للصلاة، أو ظاهرة في تأخيرهما، كروية أبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عند مسلم، بلفظ: ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه. وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام والمحفوظ في حديث عائشة: توضأ كما يتوضأ للصلاة، يعني: فرواية أبي معاوية شاذة، قال: لكن لها شاهد عند أبي داود، عن أبي سلمة، عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه، ويوافقها أن أكثر الروايات عن ميمونة ظاهرة، أو صريحة في تأخيرهما، كحديث الباب، ورواتها مقدمون في الحفظ والثقة على جميع من رواه عن الأعمش، وقوله من "قال" إنما فعل ذلك لبيان الجواز، متعقب برواية أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، بلفظ: كان إذا اغتسل من الجنابة. الحديث، وفي آخره: ثم يتنحى فيغسل رجليه، ففيه ما يدل على المواظبة، قاله الحافظ ملخصا. "ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء" للغسل، "وتمسك به المالكية، لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى فيه بغسلها" أي الرأس أنثه وهو مذكر، باعتبار أنه قطعة من البدن، وهو تمسك ظاهر، "و" عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق، قال: حدثني سليمان بن صرد "عن جبير" "بضم الجيم وفتح الموحدة" "ابن مطعم" بن عدي الصحابي من سادات قريش "قال: قال صلى الله عليه وسلم". وفي مستخرج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 بيديه، كلتيهما رواه البخاري. وفيه عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: "مكانكم". ثم   أبي نعيم: ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة، فقال: "أما"، "بالفتح وشد الميم"، "أنا فأفيض"، "بضم الهمزة"، "على رأسي ثلاثا" , أي: ثلاث أكف، وعند أحمد: "فآخذ ملء كفي, فأصب على رأسي". "وأشار بيديه كلتيهما" كذا للأكثر، وللكشميهني: كلاهما، وحكى ابن التين أن في بعض الروايات: كلتاهما، وهي مخرجة على من يراها تثنية، وأنها لا تتغير، كقوله: قد بلغا في المجد غايتاها وهكذا القول في رواية الكشميهني، وهو مذهب الفراء في "كلا" خلافا للبصريين، ويمكن أن يخرج الرفع فيهما على القطع، وقسيم أما محذوف، وهو في مسلم من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليمان، عن جبير، قال: تماروا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: أما أنا فأغسل رأسي بكذا وكذا، فذكر الحديث، وله من وجه آخر أن السائلين عن ذلك وفد ثقيف، قاله الحافظ لثبوت القسيم في بعض طرق الحديث، لأنه حديث واحد، طوله بعض روته واختصره بعضهم، لا لأن أما تقتضي القسيم، إذ هو لا يجب لها، فقد تكون للتأكيد كما قاله الزمخشري وغيره، فلا تحتاج إلى قسيم، إذ مثله لا يجهل ذلك حتى يعترض عليه به، كما فعل العيني، لا سيما والكرماني بيده، وقد قال: إنه لا يجب لها، بل لأن الطرق يفسر بعضها بعضا كما أشار إليه، ثم قال: ودل قوله: ثلاثا على أن المراد بكذا وكذا أكثر منها، والسياق يشعر بأنه كان لا يفيض إلا ثلاثا، وهي محتملة لأن تكون للتكرار، ولأن تكون للتوزيع على جميع البدن، لكن يقوي الأول حديث جابر في البخاري: كان صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاث أكف، فيفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده. قال الحافظ: إن الثلاث للتكرار، ويحتمل أن لكل جهة من الرأس غرفة، كما في حديث القاسم عن عائشة، "رواه البخاري" ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، "وفيه" أي: البخاري، وكذا مسلم وأبو داود والنسائي، "عن أبي هريرة" قال: أقيمت الصلاة وعدلت" أي: سويت "الصفوف قياما" جمع قائم نصب حال من مقدر، أي: حال كونهم قائمين، أو مصدر على التمييز المفسر للإبهام، أي: عدلت الصفوف من حيث القيام، "فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" صريحه أنه بعد الإقامة والتعديل مع أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني". وأجيب بأنه محمول على الغالب، فما هنا من النادر أو النهي متأخر عنه، فيمكن أنه سبب النهي، "فلما قام في مصلاه"، "بضم الميم"، أي موضع صلاته "ذكر" قبل أن يكبر للصلاة كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه. وقوله: "ذكر" أي تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم الراوي بذلك من قرائن، أو بإعلامه بعد ذلك. وظاهر قوله: "فكبر" الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة. وعنده أيضا من حديث ميمونة: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا فسترته بثوب،   في رواية أخرى للبخاري "أنه جنب، فقال لنا: "مكانكم"، "بالنصب"، أي الزموه، وفيه إطلاق القول على الفعل، ففي رواية الإسماعيلي، فأشار بيده أن مكانكم، ويحتمل أن يكون جمع بين الكلام والإشارة، قاله الحافظ "ثم رجع" إلى الحجرة "فاغتسل، ثم رجع إلينا ورأسه يقطر" من ماء الغسل، ونسبة القطر إلى الرأس مجاز من باب ذكر المحل وإرادة الحال، "فكبر فصلينا معه". "وقوله: ذكر، أي تذكر لا أنه قال ذلك لفظا و" حيث لم يلفظ به "علم الراوي بذلك من قرائن" الحال "أو بإعلامه" صلى الله عليه وسلم "بعد ذلك" أي: بعد السلام من الصلاة، وهذا الثاني متعين، ففي رواية الدارقطني: فصلى بهم، فقال: إني كنت جنبا، فنسيت أن أغتسل، وإنما يصار إلى القرائن مع عدم النص، "وظاهر قوله: فكبر الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة". وقال النووي: هو محمول على قرب الزمان، فإن طال فلا بد من إعادتها، قال: ويدل على قرب الزمان في هذا الحديث قوله: "مكانكم" وقوله: خرج إلينا ورأسه يقطر. وقال القرطبي في المفهم: مذهب مالك أن التفريق إن كان لغير عذر ابتدأ الإقامة طال الفصل أم لا، وإن كان لعذر فإن طال استأنف الإقامة، وإلا بنى عليها. انتهى. "وعنده" أي: البخاري "أيضا من حديث ميمونة، قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا"، "بضم الغين" أي ماء للاغتسال، كما سبق في الرواية التي ساقها المصنف أولا عن ميمونة، بلفظ: ماء للغسل "فسترته بثوب" أي: غطيت رأس الماء، أي: ظرفه، وفيه خدمة الزوجة لزوجها وتغطية الماء، كذا أعاد ضمير سترته للماء الكرماني، وتبعه البرماوي والعيني والمصنف وغيرهم. وال المولى حسين الكفوي: الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في رواية للبخاري عن ميمونة: سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة، والحديث واحد، فترجيعهم الضمير للماء غير صحيح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب الماء على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه. وقد استدل بعضهم بقولها: "فناولته ثوبا فلم يأخذه" على كراهة التنشف بعد الغسل. ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة أو غير ذلك. قال   انتهى. بل هو صحيح، ولا ينافيه الرواية المذكورة، لأنها سترت الماء أولا حين وضعته لئلا يصيبه غبر ونحوه، فلما اغتسل صلى الله عليه وسلم سترته، فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر، فكشفه، فأخذ الماء "وصب". وفي رواية: فصب "بالفاء" "على يديه" وفي رواية: يده بالإفراد على إرادة الجنس، "فغسلهما ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه" "الفاء" هنا للتعقيب. وأما قوله في روية أخرى للبخاري إن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، فذكر الحديث، فقال الحافظ: هذه الفاء تفسيرية وليست تعقيبية، لأن غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ من الاغتسال، "فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها فتمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه" مع مرفقيه، "ثم صب الماء على رأسه وأفاض على جسده" الماء "ثم تنحى" عن مكانه "فغسل قدميه" قالت ميمونة: "فناولته ثوبا فلم يأخذه" وفي روية: فناولته خرقة، فقال: هكذا ولم يردها "بضم أوله وسكون ثالثه" من الإرادة "مجزوم بحذف الياء" والأصل يريدها، ومن فتح أوله وشد الدال فقد صحف وأفسد المعنى، وفي المطالع، أنها رواية ابن السكن، قال: وهي وهم، وقد رواه أحمد بلفظ، فقال: هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها، "فانطلق" أي ذهب "وهو ينفض يديه" من الماء جملة اسمية وقعت حالا. "وقد استدل بعضهم بقولها: فناولته ثوبا فلم يأخذه على كراهة التنشف بعد الغسل ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال" فعلية "يتطرق إليها الاحتمال" وبينه بقوله: "فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة أو غير ذلك"، إذ لم يتعين في الكراهة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ. وقد وقع عند أحمد في هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة. وقال التيمي في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل. وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف لأن كلا منهما إزالة. وقال النووي: اختلف أصحابنا في ذلك على خمسة أوجه، أشهرها: أن   "قال المهلب" بن أحمد بن أسيد بن صفرة التميمي الأندلسي، من العلماء الراسخين، المتقنين في الفقه والعبادة والنظر، روى عن الأصيلي والقابسي وأبي ذر الهروي وغيرهم، وعنه ابن المرابط وابن الحذاء وغيرهما، وولي قضاء مالقة، وأحيا صحيح البخاري بالأندلس، فقرأه تفقها وشرحه، ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، كما في الديباج وغيره، وليس هو المهلب ابن أبي صفرة التابعي، كما يوهمه نقل ترجمته هنا من التهذيب، إذ معلوم أن التابعي لم يشرح البخاري، فإنما هو شارح البخاري المهلب بن أحمد, إذ قال في شرحه: "يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع" ولا يلزم منه كراهة التنشف، "أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ" فتركه لذلك لا كراهة. "وقد وقع عند أحمد" والإسماعيلي "في هذا الحديث" من رواية أبي عوانة "عن الأعمش" سليمان بن مهران: "قال: ذكرت ذلك" الحديث "لإبراهيم النخعي، فقال: لا بأس بالمنديل" أي: لا يكره، "وإنما رده مخافة أن يصير عادة" فيشق عند عدمه تركها. "وقال التيمي" أبو القاسم أحمد بن محمد بن عمر بن ورد، بلفظ المشموم "في شرحه" للبخاري، وهو واسع جدا: "في هذا الحديث دليل على أنه" صلى الله عليه وسلم "كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل", وهذا استدلال جيد. "وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف، لأن كلا منهما إزالة", وهذا قياس ظاهر، وقد اعتل من قال بالكراهة أيضا بما جاء عن سعيد بن المسيب والزهري أنه يوزن، وتعقب بأن وزنه إنما هو في الآخرة، ولا بد من مفارقته الجسد. "وقال النووي: اختلف أصحابنا في ذلك على خمسة أوجه: أشهرها أن المستحب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 المستحب تركه، وقيل: مكروه، وقيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه في الصيف مباح في الشتاء. وفي هذا الحديث جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء، لكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في   تركه" وأن فعله خلاف الأولى، "وقيل: مكروه"؛ لأنه عبادة يكره إزالة أثرها، كدم الشهيد وخلوف فم الصائم. قال القرطبي: ولا يتم قياس ذلك على دم الشهيد، لأن إزالة دمه حرام، وإزالة الخلوف بالسواك جائزة. وقال الزواوي: القياس على الشهيد غير بين، لأن الشهيد سقط عنه التكليف بالموت، ولو جرح أحد في سبيل الله وعاش لزمه غسل دمه، مع أنه أثر عبادة، "وقيل: مباح" بلا كراهة، وهو مذهب مالك. قال النووي: في شرح مسلم وهو الذي نختاره ونعمل به لاحتياج المنع والاستحباب إلى دليل، "وقيل: مستحب" للسلامة من غبار نجس ونحوه، "وقيل: مكروه في الصيف" للترفه، "مباح في الشتاء" لضرورة البرد، وعن ابن عباس: يكره في الوضوء دون الغسل. قال المازري: حجته ما روي أن أم سلمة ناولت النبي صلى الله عليه وسلم الثوب ليتنشف به فلم يأخذه، وقال: "إني أحب أن يبقى عليّ أثر الوضوء". ولم يثبت عنده نص قاطع على الكراهة في الغسل. انتهى. أو لأن الوضوء لا يكون إلا عبادة بخلاف الغسل، فيكون لتدفٍ وتبردٍ وتنظفٍ ونحو ذلك. قال النووي: وهذا كله إذا لم تكن حاجة كبرد أو التقاء نجاسة فإن كان فلا كراهة قطعا. انتهى. وفي الذخائر: وإذا تنشف فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه ونحوهما، يعني: لما يقال أنه يورث الفقر والنسيان، "وفي هذا الحديث" أيضا "جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء" بالقياس عليه، ورجحه في الروضة وشرح المهذب، إذ لم يثبت في النهي عنه شيء، لكن الأشهر تركه، لأن النفض كالتبري من العبادة، فهو خلاف الأولى، ورجحه في التحقيق، وبه جزم في المنهاج، قال المصنف. "لكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان"، قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي" قال الحافظ: وقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 الوضوء فإنها مراوح الشيطان". قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة. رواه البخاري. وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف. وقوله: "وتوضأ للصلاة" أي توضؤا كما يتوضأ للصلاة، أي وضوءا شرعيا لا لغويا، وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة. والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة. وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد   أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا لأن يحتج به، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب" جملة حالية "غسل فرجه" مما أصابه من الأذى، "وتوضأ للصلاة". "رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف" هو الطحاوي محتجا بأن ابن عمر راوي حديث: "إذا توضأ أحدكم فليرقد". كان يتوضأ وهو جنب، ولا يغسل رجليه كما في الموطأ عن نافع عنه. وأجيب بأنه ثبت تعقيب الوضوء بالصلاة من روايته، ومن رواية عائشة: فيحمل تركه على أنه كان لعذر. "وقوله: وتوضأ للصلاة، أي: توضؤا كما يتوضأ للصلاة، أي: وضوءا شرعيا لا لغويا" كان الأنسب أن يؤخر قوله: فيه رد. إلى هنا، "وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة" إذ لا يصح مع الجنابة، "والحكمة فيه أن يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح". "ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم وهو أبو شيبة "بسند رجاله ثقات عن شداد" "بفتح المعجمة والدال الثقيلة" "ابن أوس الصحابي، قال: إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة". "وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم. ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل: غير ذلك. انتهى ملخصا من فتح الباري.   "وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب" أي: صار جنبا، "فأراد أن ينام توضأ أو تيمم" فهذا يؤيد قيام التيمم مقامه، "ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء" لا مطلقا، "وقيل: غير ذلك" في حكمة الوضوء، فقيل: لأنه أنشط إلى العود أو إلى الغسل. "انتهى ملخصا من فتح الباري" أي: جميع ما ذكره في هذا الفصل من التكلم على الأحاديث التي ذكرها بمعنى أنه أتى بما أراده منه لا التلخيص المتعارف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم اعلم أن الصلاة تحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية، وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة. وقد جمع الله تعالى للمصلين في ركعة ما فرق على أهل السموات، فلله ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود، والقيام, والقعود.   النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم أي: ذكر ما يتعلق بها من بيان مواقيتها وفرضها وغير ذلك. "اعلم أن الصلاة تحصل تحقيق العبودية،" أي: كون المصلي عبدا بانقياده لله تعالى في أوامره، كالسجود الذي حقيقته وضع أشرف الأعضاء بالأرض ولو ترابية بلا حائل، "وأداء حق الربوبية"، "بضم الراء" أي الحق الذي وجب للرب تعالى مما أمر به أو نهى عنه، أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، "وسائر" أي باقي "العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة" وهو كمال الانقياد إلى الله، "وقد جمع الله تعالى للمصلين في ركعة ما فرق على أهل السموات" من أنواع العبادات، "فلله ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود" كما جاءت به الأخبار، "واجتمع فيها أيضا من العبادات" كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى من العبوديات، وكأنه سماها بذلك باعتبار القيام بها وانقياد الشخص لها، وإلا فالمذكور من قوله من الطهارة ... إلخ، كله عبادات، وقد صرح به في قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 واجتمع فيها أيضا من العبادات ما لم يجتمع في غيرها، من الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام والركوع والسجود، والتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود إلى غير ذلك. فهي مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة، وكذا كل فرد فرد. وقد أمر نبيه بالصلاة في قوله سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت: 45] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] . وفي ذلك -كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير أمدنا الله بمدده- إشارة إلى   فهي مجموع عبادات، "ما لم يجتمع في غيرها من الطهارة والصمت" عن الكلام الأجنبي "واستقبال القبلة والاستفتاح بالتكبير والقراءة والقيام والركوع والسجود والتسبيح في الركوع والدعاء في السجود إلى غير ذلك، فهي مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة" فاضلة على غيرها، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} "والقراءة بمجردها عبادة، وكذا كل فرد فرد" مما عده كله عبادة، "وقد أمر نبيه بالصلاة في قوله سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} " القرآن تقربا إلى الله بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالكرار ما لا ينشكف له أول ما قرع سمعه، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ؛ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث أنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه. وقد روى أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: "إنه سينهاه ما تقول". ووقع في الكشاف والبيضاوي: روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه، فوصف له عليه السلام، فقال: "إن صلاته ستنهاه". فلم يلبث أن تاب، لكن قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه وتبعه السيوطي. "وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ} اصبر {عَلَيْهَا} وداوم، روى ابن مردويه عن أبي هريرة، قال: حين نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يأتي باب علي، فيقول: "الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". "وفي ذلك -كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير" في إسقاط التدبير التاج ابن عطاء الله, مر بعض ترجمته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 أن في الصلاة تكليفا للنفوس شاقا عليها، لأنها تأتي في أوقات ملاذ العباد وأشغالهم، فتطالبهم بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ عما سوى الله، فلذلك قال: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} . قال: ومما يدل على أن في القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج في الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها عن غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر به، إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير. فقد يدل على ما قلناه، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى في الآية الآخرى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . انتهى ملخصا. ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام:   "أمدنا الله بمدده- إشارة إلى أن في الصلاة تكليفا للنفوس شاقا عليها، لأنها تأتي في أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فتطالبهم بالخروج عن ذلك كله" أي تكون سببا لخروجهم عن ملاذهم وأشغالهم "إلى القيام بين يديه والفراغ عما سوى الله" بفعل الصلاة قبل خروج وقتها، "فلذلك قال {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ، قال: ومما يدل على أن في القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} " اطلبوا المعونة على أموركم {بِالصَّبْرِ} : الحبس للنفس على ما يكره {وَالصَّلَاةِ} أفردها بالذكر تعظيما لشأنها، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقيل: الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة أمروا بالصبر وهو الصوم، لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر، {وَإِنَّهَا} أي: الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الساكنين إلى الطاعة، "فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج في الصلاة إلى الصبر" الكامل، وهو أنواع أشار إليها بقوله: "صبر" بالجر بدل نكرة من معرفة، لكون النكرة موصوفة لفظا بقوله: كائن "على ملازمة أوقاتها", أو موصوفة في المعنى، "وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها" ومستحباتها، "وصبر يمنع القلوب فيها عن غفلاتها" لاشتغالها بالصلاة وإعراضها عن الدنيا، "ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فأفرد الصلاة بالذكر" بقوله: {وَإِنَّهَا} تعظيما لشأنها، "ولم يفرد الصبر به إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير"؛ لأن الصبر مذكر، "فقد يدل على ما قلناه" قد للتحقيق، "أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر" فوصف الصلاة بالكبر بمنزلة وصف الصبر به لتلازمهما، "كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} بالطاعة، فتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين، وقيل: خبر الله أو رسوله محذوف. "انتهى ملخصا". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 القسم الأول: في الفرائض وما يتعلق بها, وفيه أبواب: الباب الأول: في الصلوات الخمس وفيه فصول: الفصل الأول: في فرضها عن أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لديّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين. رواه الترمذي هكذا مختصرا، ورواه البخاري ومسلم من حديث طويل تقدم في مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث.   "ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام: القسم الأول في الفرائض وما يتعلق بها، وفيه أبواب: الباب الأول في الصلوات الخمس وفيه فصول": "الأول: في فرضها" أي: إيجابها أصلا وقدرا "عن أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسون صلاة، ثم نقصت" بأن حط منها بمراجعته صلى الله عليه وسلم بإشارة موسى عليه الصلاة والسلام خمسا خمسا، "حتى جعلت خمسا ثم نادى" الله تعالى "يا محمد إنه لا يبدل" لا يغير "القول لديّ" في ذلك، "وإن لك بهذه الخمس خمسين". قال الحافظ: هذا من أقوى ما استدل به على أنه تعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بلا واسطة، "رواه الترمذي هكذا مختصرا، ورواه البخاري ومسلم من" جملة "حديث طويل" عن أنس، عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، "تقدم في مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث" المنيفة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقوله: "وفي الخوف ركعة" محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالأخرى. وعن عائشة: فرض الله الصلاة -حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها في الحضر, وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. رواه البخاري. وعنده -في كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا. فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله في الحديث الذي قبله "وزيد في صلاة الحضر" وقعت بالمدينة. وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر في السفر   "وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم" بأن أنزله عليه وأمره أن يتكلم به "في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين" في الرباعية "وفي الخوف ركعة". "رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وقوله: وفي الخوف ركعة محمول على أن المراد ركعة مع الإمام" يقتدى به فيها، "وينفرد بالأخرى" بعدما يفارقه فيصليها وحده، فليس المراد ظاهره وإن ذهب إليه قوم. "وعن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين" بالتكرار لإفادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر، هكذا في رواية كريمة للبخاري بالتكرار، فلا إشكال فيها بخلاف ما وقع في رواية غيرها ركعتين بدون تكرار، ويوافق روايتها سائر الروايات في الصحيحين، وغيرهما، زاد في رواية لأحمد إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثا "ثم أتمها" أربعا "في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى"، "بضم الهمزة". "رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "وعنده في كتاب الهجرة من طريق معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله في الحديث الذي قبله، وزيد في صلاة الحضر وقعت بالمدينة" لم يتقدم له بهذا اللفظ، نعم هو لفظ البخاري في أول كتاب الصلاة، فقال الحافظ في شرحه هذا الكلام "وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية وبنوا عليه أن القصر في السفر عزيمة"؛ لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 عزيمة لا رخصة. واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". رواه مسلم. وأما خبر: "فرضت الصلاة   أمر بها في السفر كذلك ولم تغير "لا رخصة" لأنها الحكم المتغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأول، قال المصنف: وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أتم المسافر يكون الشفع الثاني عندنا فرضا وعندهم نفلا لنا أن الوقت سبب للأربع، والسفر سبب للقصر، فيختار أيهما شاء، ولهم قول ابن عباس المتقدم. "واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الإباحة لكن بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ترقت إلى السنة، "والقصر إنما يكون في شيء أطول منه،" وأجاب الحنفية بأنه ليس المراد بالآية قصر الذات، بل قصر الصفة كترك الاستقبال عند الخوف بدليل بقية الآية، ورده ابن جرير بأن الآية من المتصل لفظا المنفصل معنى، فقد ورد أن قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} نزل بعد قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} بسنة، فهو متعلق بما بعده، أي: بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} . "ويدل على أنه رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام" كما في مسلم عن يعلى بن أمية، قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم" والصدقة لا يجب قبولها، فالقصر ليس بواجب، وأجاب الحنفية، بأن ذلك في غير صدقة الله تعالى، كيف وقد أمر بقبولها؟ بقوله: "فاقبلوا صدقته" والأصل في الأمر الوجوب. "رواه مسلم" عن عمر كما رأيت، فأفاد صلى الله عليه وسلم، أن الشرط في الآية لبيان الواقع وقت النزول، فلا مفهوم له، وهذا جاء به المصنف من فتح الباري، وفيه أيضا بعده الذي يظهر لي، وبه تجتمع الأدلة، أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار. انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف عنا في السفر عند نزول قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ويؤيده ما ذكره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 ركعتين، أي في السفر، فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأخبار. قاله في الجموع. الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس عن جابر: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم   ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ من قول غيره: إن نزول آية الخوف كان فيها. وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية، ذكره الدولابي وأورده السهيلي، بلفظ: بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا المراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر، أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة. فائدة: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل بلا تحديد، وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ورده جماعة من أهل العلم. انتهى. "وأما خبر: "فرضت الصلاة ركعتين، أي: في السفر، فمعناه لمن أراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأخبار" فليس فيه أنه عزيمة، "قاله في المجموع" هو شرح المهذب للنووي وأوله، وأما خبر وما قبله من الفتح كما علم. الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس مرتين "عن جابر" بن عبد الله "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة" صبيحة ليلة فرضها في الإسراء كما يأتي، وجابر لم يدرك ذلك، فهو مرسل صحابي، فإما أنه تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي أدرك ذلك، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس" أي: مالت من جانب الشمال إلى اليمي إذا استقبلت القبلة، "وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه" أي: الشيء المشخص وهو جسم مشخص له شخوص وارتفاع "فصنع كما صنع" في الظهر، وبينه بقوله: "فتقدم جبريل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الصبح. ثم أتاه جبريل في اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان الظل مثلي شخصه فصنع كما   ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر" في أول وقته، "ثم أتاه حين وجبت الشمس" أي: غابت، وأصل الوجوب السقوط، والمراد سقوط قرص الشمس، وفاعل وجبت هنا مذكور، وهو الشمس، وسقط في رواية البخاري عن جابر: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت" الحديث، فقال الحافظ: فاعل وجبت مستتر وهو الشمس، ولأبي داود: والمغرب إذا غربت الشمس، ولأبي عوانة: والمغرب حين تجب الشمس، أي تسقط، وفيه أن سقوط قرصها يدخل به المغرب، ومحله ما إذا لم يحل بين رؤيتها عارية وبين الرائي حائل، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى المغرب" لأول وقتها، "ثم أتاه حين غاب الشفق" أي الحمرة التي ترى في أفق المغرب، كما في الموطأ، وعليه أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة إنه البياض الذي يليها، وتعقب بأنه مختص في اللغة والاستعمال بالحمرة، لقول أعرابي: وقد رأى ثوبا أحمر كأنه شفق. وقال المفسرون في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] إنه الحمرة، وقال الخليل بن أحمد: رقبت البياض فوجدته يبقى إلى ثلث الليل، وقال غيره: إلى نصفه، فلو رتب الحكم عليه لزم أن لا يدخل وقت العشاء حتى يمضي ثلث الليل أو نصفه ولا قائل به، والأحاديث ناطقة بخلافه "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى العشاء" أول وقتها، "ثم أتاه حين انشق الفجر", أي: ظهر والشق بالفتح انفراج في الشيء، فوصف الفجر به مجاز من إطلاق اسم المحل على الحال، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح" أول وقته، "ثم أتاه جبريل في اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه" لم يقل مثله، لأن الرجل مسماه الماهية، وهي إنما توجد في ضمن الإفراد وليست مرئية ولا ظل لها، والظل إنما هو للصورة الخارجية المعبر عنها بالشخص وهو سواد الإنسان يرى من بعد، ثم استعمل في ذاته، قال الخطابي: ولا يسمى شخصا إلا جسم مؤلف له شخوص وارتفاع، "فصنع كما صنع بالأمس" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال: "ما بين هاتين الصلاتين للصلاة وقت". رواه النسائي. وفي رواية قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفيء قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وكان ظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب   من تقدمه والنبي خلفه والناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم "فصلى الظهر" في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس، "ثم أتاه حين كان الظل مثلي"، "بالتثنية"، "شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر" في آخر مختارها، "ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب" في أول وقتها كما صلاها أمس، ففيه دلالة قوية على أن وقتها مضيق، لأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين في وقت واحد، "ثم أتاه حين غاب الشفق، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العشاء" صرح في هذه الرواية بأنه صلاها في اليومين بوقت واحد، وفي التالية لها، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل، فيجمع بينهما بأنه أتاه حين غاب الشفق في اليومين، لكن بقي عنده في الثاني بدون صلاة العشاء إلى ثلث الليل، وهذا الجمع متعين، لأن المخرج واحد وهو جابر، ويشهد له حديث ابن عباس بعده: ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، "ثم أتاه حين امتد الفجر" في أفق السماء، "وأصبح" أي: دخل في الصباح "والنجوم بادية" أي: ظاهرة "مشتبكة" مختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها. وروى أحمد: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب انتظارا للظلام مضاهاة لليهود، وما لم يؤخروا الفجر لمحاق النجوم مضاهاة للنصارى". "وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة"، أي: الصبح, ثم قال: "ما بين هاتين الصلاتين" في اليومين "للصلاة وقت"، ويأتي في حديث ابن عباس والوقت فيما بين هاتين الوقتين، "رواه النسائي" والترمذي وغيرهما. "وفي رواية" له أيضا، عن جابر "قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس" أي: مالت إلى جهة الغروب "وكان الفيء قدر الشراك"، "بكسر المعجمة" أحد سيور النعل التي على وجهها، وقدره هنا ليس على معنى التحديد، "ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وكان ظل الرجل مثله" بالإفراد، "ثم صلى المغرب حين غابت الشمس ثم صلى العشاء حين غاب الشفق" الحمرة، "ثم صلى الفجر" أي: الصبح "حين طلع الفجر، ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 الشفق، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، ثم صلى الغداة -أي الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل -شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر. وعن ابن عباس: قال صلى الله عليه وسلم: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر بي في الأولى حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين   صلى الغداة، أي الظهر" تفسيرها بهذا يخالف قوله في الحديث السابق: فصلى الغداة، أي: الصبح، وفي المصباح الغداة: الضحوة مؤنثة، وجوز ابن الأنباري تذكيرها على معنى أول النهار، وعلى هذا فإطلاق الغداة على كل من صلاتي الصبح والظهر مجاز علاقته المجاورة لقرب كل من الصلاتين لوقت الضحوة، كذا مشاه شيخنا، والذي يظهر لي أن الغداة اسم لليوم، فإنها تطلق كالغد على اليوم بتمامه تسمية للكل باسم البعض، ونصبها على الظرفية، أو بنزع الخافض، أي: في الغداة، أي: اليوم الثاني بعد اليوم الذي صلى فيه أولا، وقول المصنف، أي: الظهر بيان لمفعول صلى لا تفسير للغداة "حين كان الظل طول الرجل" وقت صلاته العصر في اليوم الأول، "ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه" بالتثنية "ثم صلى المغرب حين غابت الشمس, ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل، أو نصف الليل شك أحد رواته ثم صلى الفجر", أي: الصبح "فأسفر" وفي أبي داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبي مسعود الأنصاري: وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر. "وعن ابن عباس" قال: "قال صلى الله عليه وسلم": "أمَّني" بفتح الهمزة والميم الثقيلة صلى بي إماما "جبريل عند البيت" كذا رواه الأكثر، ورواه الشافعي والطحاوي والبيهقي عند باب البيت، وهي مبينة للمراد من الأولى "مرتين، فصلى الظهر في الأولى حين كان الفيء مثل الشراك" وقت الزوال في ذلك اليوم لا أنه أخره عن الزوال إلى أن صار كذلك كما يأتي، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره بيان المراد، ولفظه عن ابن عباس: "فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك". فقوله: "وكانت ... " إلخ, إخبار عن صفتها وقت الزوال يومئذ، "ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله" بالإفرد وفي رواية: "حين كان ظله مثله". "ثم صلى المغرب حين وجبت" أي: غابت "الشمس وأفطر الصائم" أي: جاز له الفطر، "ثم صلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إليّ جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". رواه الترمذي وغيره.   العشاء حين غاب الشفق" الحمرة، "ثم صلى الفجر حين برق الفجر" بموحدة وراء بلا نقط مفتوحتين، أي: لمع، وأما برق بكسر الراء، فمعناه تحير حتى صار لا يطرف، أو دهش حتى لا يبصر كما في القاموس وغيره، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] وقرأ نافع بالفتح، أي: لمع من شدة شخوصه. "وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان" أي: صار "ظل كل شيء مثله" بالإفراد، "كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه"، "بالثتينة"، "ثم صلى المغرب لوقت الأولى" أي: في الوقت الذي صلاها فيه في المرة الأولى، "ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إليّ"، "بشد ياء المتكلم"، "جبريل" فاعل التفت، "فقال: يا محمد هذا" زاد في رواية: "وقتك و". "وقت الأنبياء من قبلك" أي: مثل وقت من فرض عليه منهم صلاة مخصوصة بوقت، لا أنه وقت لكل الأنبياء، فلا ينافي أن الخمس من خصائص هذه الأمة، ولم تجتمع لأحد غيرهم كما مر في الخصائص، "والوقت فيما بين هذين الوقتين" موسع، ففي أي جزء أوقعها فيه لا يأثم. قال ابن عبد البر: لم أجد قوله: "هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك" إلا في هذا الحديث، يعني حديث ابن عباس، وقال ابن العربي: ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات مشروعة للأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه هذا وقتك المشروع لك يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين الأول والآخر، ووقت الأنبياء قبلك أي صلاتهم كانت واسعة الوقت وذات طرفين، مثل هذا، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة، خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها. وقد روى أبو داود في حديث العشاء: "أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم". ولا يرد عليه ما ورد أن العشاء ليونس، لأنه أجيب بأنها كانت له نافلة ولم تكتب على أمته، كالتهجد وجب على نبينا دوننا، وبغير ذلك كما مر في الخصائص. "رواه الترمذي وغيره" كأبي داود وأحمد والشافعي، وصححه الحاكم وضعفه ابن بطال، بحديث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 وقوله: "صلى بي الظهر حين كان ظله مثله" أي فرغ منها حينئذ، كما شرع في العصر في اليوم الأول، وحينئذ فلا اشتراك بينهما في وقت، ويدل له حديث مسلم: "وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم تحضر العصر". وقوله في حديث جابر: "فصلى الظهر حين زالت الشمس". يقتضي جواز فعل الظهر إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفيء مثل الشراك، كما اتفق عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة، وأما حديث ابن عباس فالمراد   الصحيحين أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر، فأنكر عليه عروة بن الزبير، وروى له حديث صلاة جبريل بالمصطفى مرة واحدة، قال: فلو كان هذا الحديث صحيحا لم ينكر عروة على عمر صلاته آخر الوقت محتجا بصلاة جبريل مع أنه قد صلى في اليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: "الوقت ما بين هذين". وأجبت باحتمال أن صلاة عمر خرجت عن وقت الاختيار وهو مصير ظل كل شيء مثليه، لا عن وقت الجواز وهو مغيب الشمس، فصحة إنكار عروة لا يلزم منها ضعف الحديث، وبأن عروة أنكر مخالفة ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصلاة في أول الوقت، ورأى أن الصلاة بعد ذلك إنما هي لبيان الجواز، فلا يلزم منه ضعف الحديث أيضا. وقد روى سعيد بن منصور عن طلق بن حبيب مرسلا، أن الرجل ليصلي الصلاة وما فاتته، ولما فاته من وقتها خبر له من أهله وماله، "وقوله": "صلى بي الظهر حين كان ظله مثله". "أي: فرغ منها حينئذ" أي: حين فراغه منها، "وقوله: كما شرع في العصر في اليوم الأول", وهذا تأويل "وحينئذ فلا اشتراك بينهما في وقت" بقدر إحداهما كما تقول المالكية، ثم اختلفوا هل في آخر وقت الظهر، أو في أول وقت العصر، مبناه: هل معنى صلى فرغ أو شرع؟ وهو ظاهر الحديث. وقال ابن العربي: بالله ما بينهما اشتراك، ولقد زلت فيه أقدام العلماء، "ويدل له حديث مسلم" عن عبد الله بن عمرو، مرفوعا: "وقت الظهر إذا زالت الشمس" زاد في رواية لمسلم: "عن بطن السماء". "ما لم تحضر العصر". "وقوله في حديث جابر: فصلى الظهر حين زالت الشمس يقتضي جواز فعل الظهر" أي: صلاتها "إذا زالت الشمس، ولا ينتظر بها وجوبا ولا ندبا مصير الفيء مثل الشراك"، "بالكسر سير النعل"، "كما اتفق عليه أئمتنا ودلت عليه الأخبار الصحيحة" وكذا اتفق عليه أئمة غيرهم إلا الكوفيين، فقالوا: لا تجب بأول الوقت. ونقل ابن بطال أن الفقهاء بأسرهم على خلاف ما نقل الكرخي عن أبي حنيفة، أن الصلاة في أول الوقت تقع نفلا. قال الحافظ: والمعروف عند الحنفية تضعيف هذا القول، قال: والحديث يقتضي أيضا أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 به أنه حين زالت الشمس كان الفيء حينئذ مثل الشراك، لأنه أخر إلى أن صار مثل الشراك. ذكره في المجموع. وقد بين ابن إسحاق في المغازي أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء. ولفظه: قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت "الأولى" -أي صلاة الظهر- فأمر فصيح بأصحابه: "الصلاة جامعة" فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه. فذكر الحديث وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما   الزوال أول وقت الظهر إذ لم ينقل أنه صلى قبله، وهذا هو الذي استقر عليه الإجماع وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة أنه جوز صلاة الظهر قبل الزوال، ومثله عن أحمد وإسحاق في الجمعة. انتهى. "وأما حديث ابن عباس، فالمراد به أنه حين زالت الشمس كان الفيء حينئذ مثل الشراك، لأنه أخر إلى أن صار مثل الشراك" وإن كان ذلك ظاهره لمخالفة غيره من الأحاديث، وهي يفسر بعضها بعضا، "ذكره في المجموع" شرح المهذب للنووي، "وقد بين" محمد "بن إسحاق" بن يسار "في المغازي أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، ولفظه" كما في الفتح: حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير. وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، قال: "قال نافع بن جبير"، "بضم الجيم" ابن مطعم بن عدي النوفلي "وغيره" فسقط من قلم المصنف أو نساخه بعض الكلام: "لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به" فيها "لم يرعه"، "بفتح الياء وضم الراء وإسكان العين" لم يفزعه "إلا جبريل نزل حين زاغت" بغين معجمة" أي: مالت "الشمس ولذلك سميت الأولى، أي صلاة الظهر" لأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الإسراء على المشهور في الأحاديث، ولابن أبي خيثمة والدارقطني وابن حبان في الضعفاء بإسناد ضعيف عن ابن عباس: لما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، فصلى به الصبح حين طلع الفجر. وفي حديث أبي هريرة عند النسائي، قال صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم". فصلى الصبح حين طلع الفجر "فأمر" صلى الله عليه وسلم، "فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة" برفعهما ونصبهما، ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه، "فاجتمعوا وصلى به جبريل، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما دعاهم بقوله: "الصلاة جامعة" لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ. واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره. ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى. وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر والشمس في حجرة عائشة لم يظهر الفيء من   الحديث، وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل" صبيحة المعراج "وبعدها بيان النبي صلى الله عليه وسلم" كما دلت عليه الأحاديث، "وإنما دعاهم بقوله: "الصلاة جامعة"؛ لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ" وإنما شرع بالمدينة. "واستدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه", أي: أبي بكر، "فإنه محمول على أنه" أي: أبا بكر "كان مبلغا فقط" والإمام النبي صلى الله عليه وسلم "كما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى" في الإمامة هكذا قال الحافظ وتعقبه السيوطي بأنه واضح في قصة أبي بكر، وأما هنا ففيه نظر، لأنه يقتضي أن الناس اقتدوا بجبريل لا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف الظاهر والمعهود مع ما في رواية نافع بن جبير من التصريح بخلافه، أي بقوله وصلى به جبريل وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، قال: والأولى أن يجاب بأن ذلك كان خاصا بهذه الواقعة؛ لأنها كانت للبيان المعلق عليه الوجوب، زاد الحافظ: واستدل به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، قاله ابن العربي وغيره، وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة وأجاب باحتمال أن الوجوب كان معلقا بالبيان، فلم يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة، قال: وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا، بل كانت تلك الصلاة واجبة عليه، لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض خلف مفترض، وقال ابن المنير: قد يتعلق به من يجوز صلاة مفترض بمفترض آخر، كذا قال: وهو مسلم له في صورة المؤداة مثلا. خلف المؤداة لا في صورة الظهر خلف العصر مثلا. انتهى رحمه الله. "وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر والشمس" أي ضوءها "في حجرة"، "بضم المهملة وسكون الجيم"، "بيت" عائشة لم يظهر الفيء" أي: الظل في الموضع الذي كانت الشمس فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 حجرتها. رواه البخاري ومسلم. وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة، وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال. رواه البخاري ومسلم.   "من حجرتها" ولا يعارضه رواية الصحيحين أيضا: والشمس في حجرتها قبل أن تظهر، أي: ترتفع، لأن المراد بظهور الشمس خروجها من الحجرة، وبظهور الفيء انبساطه في الحجرة، وذلك لا يكون إلا بعد خروج الشمس، فلا خلف بين الروايتين، "رواه البخاري ومسلم" بطرق عديدة عن عائشة، "وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية" هو من باب الاستعارة، والمراد بقاء حرها وعدم تغير لونها، والواو للحال، "فيذهب الذاهب إلى العوالي" جمع عالية ما حول المدينة من القرى جهة نجدها، أما من جهة تهامتها فيقال: السافلة. "فيأتيهم والشمس مرتفعة" دون ذلك الارتفاع لكن لم تصل إلى الحد الذي توصف فيه بأنها منخفضة، وكأن أنسا أراد بالذاهب نفسه كما يشعر بذلك رواية النسائي والطحاوي، واللفظ له عن أبي الأبيض، عن أنس، قال: كان صلى الله عليه وسلم يصلي بنا العصر والشمس بيضاء محلفة، ثم أرجع إلى قومي في ناحية المدينة، فأقول لهم: قوموا فصلوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى. قال الطحاوي: نحن نعلم أن قوم أنس لم يكونوا يصلونها إلا قبل اصفرار الشمس، فدل ذلك على أنه صلى اله عليه وسلم كان يعجلها، وقال السيوطي: بل أراد أعم من ذلك، رواه الدارقطني والطبراني عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان أبعد رجلين من الأنصار من رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أبو لبانة وأهله بقباء، وأبو عيسى ومسكنه في بني حارثة، فكانا يصليان معه صلى الله عليه وسلم ثم يأتيان قومهما وما صلوا لتعجيله صلى الله عليه وسلم بها، "وبعض العوالي" هذا مدرج من الزهري، كما بينه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في هذا الحديث، فقال: قال الزهري وبعض العوالي "من المدينة على أربعة أميال" كذا وقع هنا، أي: بين بعض العوالي والمدينة هذه المسافة، وللبيهقي موصولا، والبخاري تعليقا، وبعد العوالي، "بضم الموحدة ودال مهملة"، وللبيهقي أيضا أربعة أميال أو ثلاثة، ولأبي عوانة وأبي العباس السراج عن الزهري العوالي من المدينة على ثلاثة أميال، ووقع عند المحاملي على ستة أميال، ولعبد الرزاق عن معمر عن الزهري على ميلين أو ثلاثة، فتحصل أن أقرب العوالي مسافة ميلين، وأبعدها ستة إن كانت رواية المحاملي محفوظة، وفي المدونة عن مالك أبعد العوالي مسافة ثلاثة أميال، كأنه أراد معظم عمارتها، وإلا فأبعدها ثمانية أميال، قاله عياض، وبه جزم ابن عبد البر وخلق آخرهم صاحب النهاية، ويحتمل أنه أراد أنه أبعد الأمكنة التي كان يذهب إليها الذاهب في هذه الواقعة، قاله الحافظ ملخصا، "رواه البخاري ومسلم" من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 وفي ذلك دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم بصلاة العصر، لوصف الشمس بالارتفاع بعد أن تمضي مسافة أميال، والمراد بالشمس ضوءها. وعن سلمة بن الأكوع أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب. رواه البخاري ومسلم والترمذي. وعن رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب معه صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا، وإنه ليبصر مواقع نبله. رواه البخاري ومسلم. والنبل -بفتح النون: السهام العربية.   طرق مدارها على ابن شهاب عن أنس، "وفي ذلك دليل على تعجيله صلى الله عليه وسلم بصلاة العصر لوصف الشمس بالارتفاع" العلو "بعد أن تمضي مسافة أربعة أميال" إذ لا يمكن أن يذهب الذاهب أربعة أميال، والشمس لم تتغير إلا إذا صلى حين صار ظل كل شيء مثله، "والمراد بالشمس ضوءها" لا عينها، إذ لا يتصور دخولها في الحجرة حتى يخرج، فهو من باب المجاز، وكذا المراد في حديث أنس، إذ الذي يوصف بالارتفاع والحياة إنما هو الضوء، أما عينها فلا تزال بيضاء نقية إلى أن تغرب. "وعن سلمة بن الأكوع" الصحابي الشهير "أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت" أي: استترت "بالحجاب" شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها "رواه البخاري" من ثلاثياته، فقال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة "ومسلم" واللفظ له، فأما لفظ البخاري، فقال: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب إذا توارت بالحجاب. قال الحافظ: المراد الشمس، ولم يذكرها اعتمادا على إفهام السامعين، كقوله في القرآن حتى توارت بالحجاب، قاله الخطابي، وقد رواه مسلم من طريق حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بلفظ: إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، فدل على أن الاختصار في المتن من شيخ البخاري، وبه صرح الإسماعيلي، ورواه عبد بن حميد عن صفوان بن عيسى، وأبو عوانة والإسماعيلي من طريق صفوان أيضا، عن يزيد، عن سلمة بلفظ: كان يصلي المغرب ساعة تغرب الشمس حين يغيب حاجبها، والمراد حاجبها الذي يبقى بعد أن يغيب أكثرها، ورواية توارت أصرح في المراد، "والترمذي" وأبو داود وابن ماجه، "وعن رافع"، "بالراء"، "ابن خديج"، "بفتح المعجمة وكسر المهملة وإسكان التحتية وجيم"، قال: "كنا نصلي المغرب معه" اختصارا لقوله مع النبي "صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا" من المسجد، "وإنه ليبصر" بضم التحتية واللام" للتأكيد "مواقع" محل وقع "نبله" لبقاء الضوء، أي: المواضع التي تصل إليها سهامه إذا رمى بها، وروى أحمد بإسناد حسن عن ناس من الأنصار، قالوا: كنا نصلي مع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 أي يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها، ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث إن الفراغ منها يقع والضوء باق. وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل، رواه النسائي من حديث أنس. ويؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية. رواه أبو داود من حديث علي بن شيبان. وقال عليه السلام: "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا   النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم نرجع فنترامى حتى نأتي ديارنا، فما يخفى علينا مواقع سهامنا. "رواه البخاري ومسلم" وابن ماجه "والنبل بفتح النون" وسكون الموحدة "السهام العربية" وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، قاله ابن سيده، وقيل: واحدها نبلة مثل تمر وتمرة، "أي: يبصر مواقع سهامه إذا رمى بها" لأنهم كانوا يترامون بها في رجوعهم كما علم، "ومقتضاه المبادرة بالمغرب في أول وقتها، بحيث أن الفراغ منها يقع، والضوء باق" من قوله: ليبصر مواقع نبله، وفيه أيضا دلالة على عدم تطويلها، وأما الأحاديث الدالة على التأخير لقرب الشفق، فلبيان الجواز. "وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة" الباء للتعدية أو زائدة، أي: أخرها حتى تنكسر شدة الحر، والمراد بها الظهر، لأنها التي يشتد الحر غالبا في أول وقتها، وقد صح أبردوا بالظهر، فيحمل المطلق على المقيد، وحمل بعضهم الصلاة على عمومه بناء على أن المفرد المعرف يعم، فقال به أشهب: في العصر، وأحمد في رواية عنه في العشاء، حيث قال: تؤخر في الصيف دون الشتاء، ولم يقل به أحد في المغرب وا في الصبح لضيق وقتهما، "وإذا كان البرد عجل" الصلاة في أول وقتها" رواه النسائي من حديث أنس" بن مالك "و" كان "يؤخر العصر" أحيانا "ما دامت الشمس بيضاء نقية" بنون فقاف، أي خالصة صافية لم يتغير لونها، "رواه أبو داود من حديث علي بن شيبان" بن محرز بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم الحنفي السحيمي اليمامي أبو يحيى أحد وفد بني حنيفة له أحاديث عند البخاري في الأدب المفرد, وأبو داود "وابن حبان وابن خزيمة، منها من طريق عبد الله بن بدر، عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان" عن أبيه وكان أحد الوفد، قال: خرجنا حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبايعناه كما في الإصابة، وفي التقريب صحابي تفرد عنه ابنه عبد الرحمن. "وقال عليه السلام": "إذا قدم" بضم القاف وكسر الدال المشددة، وفي رواية: إذا وضع، وأخرى إذا حضر "العشاء" بفتح العين والمد الطعام المأكول عشية وهو ضد الغداء، زاد في رواية لابن حبان والطبراني: "وأحدكم صائم". "فابدءوا به قبل صلاة المغرب" ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 عن عشائكم". رواه البخاري ومسلم. وعند أبي داود: "ولا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره". وأعتم صلى الله عليه وسلم بالعشاء ليلة، حتى ناداه عمر: الصلاة، نام النساء والصبيان،   صلوها ليكون القلب فارغا لمناجاة الرب، "ولا تعجلوا". قال الحافظ: بضم الفوقية وفتحها والجيم مفتوحة فيهما، ويروى بضم أوله وكسر الجيم "عن عشائكم" لئلا يشتغل قلبكم به، "رواه البخاري ومسلم" من حديث أنس. "وعند أبي داود" عن جابر، مرفوعا: "لا تؤخروا الصلاة لطعام ولا غيره". ولا معارضة بينهما إذ هو محمول على من لم يشتغل قلبه بالطعام جمعا بين الأحاديث، وروته عائشة بلفظ: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء". وفي رواية عنها بلفظ: "إذا حضر"، وابن عمر بلفظ: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ منه". وكلها في الصحيحين، لكن الذي رووه في حديث عائشة، بلفظ: "وضع" أكبر كما قاله الإسماعيلي. قال الحافظ: والفرق بينهما أن الحضور أعم من الوضع، فيحمل قوله حضر، أي بين يديه لتأتلف الروايتان لاتحاد المخرج، ويؤيده حديث أنس رضي الله عنه، بلفظ: إذا قدم، ولمسلم: إذا قرب، وعلى هذا فلا يماط الحكم بما إذا حضر العشاء، لكن لم يقرب، كما لو لم يعرف، وظن قوم أن هذا من تقديم حق العبد على حق الله. قال ابن الجوزي: وليس كذلك، وإنما هو صيانة لحق الله ليدخل الخلق عبادته بقلوب مقبلة، ثم إن طعام القوم كان قليلا لا يقطع عن لحاق الجماعة غالبا، هذا وما يقع في بعض كتب الفقه: "إذا حضر العشاء والعشاء فابدءوا بالعشاء" فلا أصل له في كتب الحديث بهذا اللفظ، كما في شرح الترمذي لشيخنا أبي الفضل، لكن رأيت بخط الحافظ قطب الدين، يعني: الحلبي أخرج ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، مرفوعا: "إذا حضر العشاء وحضرت العشاء فابدءوا بالعشاء". قال: كان ضبطه فذاك، وإلا فقد رواه أحمد في مسنده عن إسماعيل، بلفظ: "وحضرت الصلاة" ثم راجعت مصنف ابن أبي شيبة، فرأيت الحديث فيه كما أخرجه أحمد. انتهى. "وأعتم"، "بفتح الهمزة والفوقية وإسكان المهملة بينهما"، "صلى الله عليه وسلم بالعشاء" أي: أخر صلاتها "ليلة" من الليالي، وكانت عادته تقديمها "حتى ناداه عمر" بن الخطاب "الصلاة" بالنصب على الإغراء، قاله المصنف، وقال الحافظ: بالنصب بفعل مضمر تقديره مثلا صل الصلاة، وساغ هذا الحذف لدلالة السياق عليه "نام النساء والصبيان" أي: الحاضرون في المسجد، وإنما خصهم بذلك لأنهم مظنة قلة الصبر عن النوم، ومحل الشفقة والرحمة بخلاف الرجال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 فخرج صلى الله عليه وسلم فقال: "ما ينتظرها من أهل الأرض أحد غيركم". قال: ولا تصلي يومئذ بالمدينة، وكانوا يصلون فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول. زاد في رواية: وذلك قبل أن يفشو الإسلام. وفي رواية: فخرج ورأسه يقطر ماء يقول: "لولا أن أشق على أمتي -أو: على الناس- لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أبي داود من حديث أبي سعيد: فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل، فقال: "خذوا مقاعدكم" فأخذنا مقاعدنا، فقال: "إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم، وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت هذه الصلاة إلى شطر الليل". وفي حديث أبي هريرة: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء   وفي حديث ابن عمر في هذه القصة: حتى رقدنا في المسجد، ثم استيقظنا، ونحوه في حديث ابن عباس، وهو محمول على أن الذي رقد بعضهم لا كلهم، ونسبة الرقاد إلى الجميع مجاز، "فخرج صلى الله عليه وسلم فقال" لأهل المسجد: "ما ينتظرها" أي: الصلاة في هذه الساعة "من أهل الأرض أحد غيركم"، "بالرفع" صفة أحد "والنصب" على الاستثناء, قاله المصنف، "قال" أي: الراوي وهو عائشة: "ولا تصلى"، "بضم الفوقية وفتح اللام المشددة" أي: العشاء في جماعة "يومئذ إلا بالمدينة" لأن من كان بمكة من المستضعفين لم يكونوا يصلون إلا سرا، وأما غير مكة والمدينة من البلاد فلم يكن الإسلام دخلها، "وكانوا" أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه "يصلون فيما بين أن يغيب الشفق" الأحمر المنصرف إليه الاسم "إلى ثلث الليل الأول"، "بالجر صفة لثلث"، وفي هذا بيان الوقت المختار لصلاة العشاء لما يشعر به السياق من المواظبة على ذلك، وقد ورد بصيغة الأمر في هذا الحديث عند النسائي، بلفظ: ثم قال: "صلوها فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل". وليس بين هذا وبين قوله في حديث أنس أنه أخرها إلى نصف الليل معارضة، لأن حديث عائشة محمول على الأغلب من عادته صلى الله عليه وسلم كما في الفتح. "زاد في رواية" عن عائشة أعتم صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء، "وذلك قبل أن يفشو الإسلام" أي في غير المدينة، وإنما فشا الإسلام في غيرها بعد فتح مكة. "وفي رواية" عن ابن عباس: أعتم صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا، ورقدوا واسيتقظوا، فقام عمر، فقال: الصلاة، "فخرج" نبي الله "ورأسه يقطر ماء" تمييز محول عن الفاعل، أي ماء رأسه، قال الحافظ: وكأنه اغتسل قبل أن يخرج، "يقول": "لولا أن أشق على أمتي -أو: على الناس " شك الراوي "لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة" ليقل حظ النوم وتطول مدة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 إلى ثلث الليل أو نصفه". صححه الترمذي. فعلى هذا: من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين فالتأخير في حقه أفضل. وقد قرر ذلك النووي في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث من الشافعية وغيرهم. وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد.   الصلاة فيكثر أجرهم، لأنهم في صلاة ما داموا ينتظرون الصلاة، "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري ومسلم" الرواية الأولى عن عائشة، والثانية عن ابن عباس، وزاد مسلم عقب حديث عائشة، قال ابن شهاب: وذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وما كان لكم أن تنزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة". وذلك حين صاح عمر، وقوله: "تنزروا"، "بفتح الفوقية وسكون النون وضم الزاي بعدها راء" أي: تلحوا، وروي بضم أوله فموحدة فراء مكسورة فزاي، يعني: تخرجوا. "وفي رواية أبي داود" والنسائي وأحمد وابن خزيمة وغيرهم "من حديث أبي سعيد" صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العتمة "فلم يخرج حتى مضى نحو من شطر الليل" أي: قريب من نصفه، "فقال": "خذوا مقاعدكم" أي اجلسوا، "فأخذنا مقاعدنا، فقال: "إن الناس قد صلوا وأخذوا مضاجعهم". أي ناموا، "وإنكم لن تزالوا في صلاة" أي: ثوابها "ما انتظرتم الصلاة، ولولا ضعف الضعيف" خلفه، "وسقم السقيم" مرض المريض أسقط من حديث أبي سعيد المذكور: "وحاجة ذي الحاجة". "لأخرت هذه الصلاة" أي: العشاء "إلى شطر الليل" أي: نصفه. "وفي حديث أبي هريرة": "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه" يحتمل الشك وغيره "صححه الترمذي" وخوف المشقة إنما يرفع طلب الراجحية، لأن الحكم باق لمن تكلفها، ففيه فضل التأخير، لأنه نبه على تفضيله بتصريحه أن ترك الأمر به إنما هو للمشقة، "فعلى هذا من وجد به قوة على تأخيرها ولم يغلبه النوم، ولم يشق على أحد من المأمومين، فالتأخير في حقه أفضل، وقد قرر ذلك النووي في شرح مسلم، وهو اختيار كثير من أهل الحديث، من الشافعية وغيرهم" ونقل ابن المنذر عن الليث، وإسحاق أن المستحب تأخير العشاء إلى قبل الثلث. "وقال الطحاوي: يستحب إلى الثلث، وبه قال مالك" في رواية "وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي في الجديد" أي: الذي قاله بمصر، "وقال في القديم" الذي قاله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 وقال في القديم: التعجيل أفضل. وكذا قال في "الإملاء" وصححه النووي وجماعة، وقالوا: إنه مما يفتى به على القديم. وتعقب: بأنه ذكره في "الإملاء" وهو من كتبه الجديدة. والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير، قاله في فتح الباري. الفصل الثالث: في ذكر كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم وفيه فروع: الفرع الأول: في صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة،   بالعراق: "التعجيل" أو الوقت "أفضل". "وكذا قال في الإملاء وصححه النووي وجماعة، وقالوا: إنه مما يفتي به على القديم، وتعقب بأنه ذكره في الإملاء، وهو من كتبه الجديدة" فليس على القديم فقط وحاصله أنه قال بالقولين في الجديد، فيترجح التعجيل بموافقة القديم، "والمختار من حيث الدليل أفضلية التأخير" ولا يعارضة فضيلة أول الوقت لما في الانتظار من الفضل "قاله في فتح الباري" وأسقط منه ومن حيث، أي: والمختار من حيث النظر التفصيل والله أعلم انتهى. والمعتمد عند المالكية والشافعية تفضيل التقديم، وقد جاء ما يدل على نسخ التأخير، روى أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي بكرة، قال: أخر النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء تسع ليال، فقال له أبو بكر، أي: الصديق، يا رسول الله! لو أنك عجلت بنا لكان أمثل لقيامنا بالليل، فكان بعد ذلك يعجل. وقال ابن بطال: لا يصلح التأخير الآن للأئمة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وقال: "إن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة". فترك التطويل عليهم بالانتظار أولى. الفصل الثالث: في ذكر كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم أي: الصفة المتعلقة بها أعم من كونها قائمة بالصلاة أو مقدمة عليها، فلا يرد عدة من جملة الصفة أقامها الله وأدامها، "وفيه فروع الأول في صفة افتتاحه صلى الله عليه وسلم" أي: وما يفعله من التكبير والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين، ولعله تجوز بالافتتاح عن مطلق السنن التي تفعل في الصلاة. "روى أبو داود" عن أبي أمامة، أو عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 قال: "أقامها الله وأدامها". وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير. رواه عبد الرزاق من حديث عائشة. وروى البخاري عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير في الصلاة. واستدل به على تعين لفظ "التكبير" دون غيره من ألفاظ التعظيم، وهو قول الجمهور، ووافقهم أبو يوسف. وعن الحنفية: تنعقد بكل لفظ يقصد به التعظيم. وقد روى البزار بإسناد صحيح، على شرط مسلم، عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر".   يقيم الصلاة" لفظ أبي داود، أن بلالا أخذ في الإقامة، "فلما قال: قد قامت الصلاة، قال" النبي صلى الله عليه وسلم: "أقامها الله وأدامها" دعاء أو خبر، والظاهر الأول، قال الشارح: وفيه دلالة على أن بلالا أقامها بمعرفته عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يفعلها بدون إشارة منه، كذا قال. "وكان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير" أي: قول: الله أكبر، فلا يجزي غيرها، ولو قال: الله الكبير. لفوت مدلول أفعل التفضيل بناء على أن معناه أكبر من أن يدرك كنه عظمته، وقيل: إنه بمعنى الكبير، فلا فرق بينهما إلا بأن المسموع المعروف في عرف الشرع واللغة: الله أكبر، والمحل محل اتباع؛ لحديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي". كما قرره عياض وغيره، "رواه عبد الرزاق من حديث عائشة" رضي الله عنها. "وروى البخاري عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح التكبير" نصب بنزع الخافض، أي: بالتكبير "في الصلاة، واستدل به على تعين لفظ التكبير دون غيره من ألفاظ التعظيم" كالعظيم والرحمن، "وهو قول الجمهور، وافقهم أبو يوسف" صاحب أبي حنيفة. "وعن الحنفية تنعقد" الصلاة "بكل لفظ يقصد به التعظيم" ومن حجة الجمهور حديث رفاعة في قصة المسيء صلاته عند أبي داود، بلفظ: لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الوضوء مواضعه، ثم يكبر، ورواه الطبراني، بلفظ: ثم يقول: الله أكبر، وحديث أبي حميد: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، فاعتدل قائما ورفع يديه، ثم قال: "الله أكبر". رواه ابن ماجه وصححه ابن خزيمة وابن حبان. "وقد روى البزار بإسناد صحيح على شرط مسلم عن علي" رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال": "الله أكبر". وهذا كخبر أبي حميد وابن عمر فيه بيان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 ولأحمد والنسائي من طريق واسع بن حبان أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر كلما وضع ورفع. وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل: شرط، وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل: سنة، قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهري. ولم يختلف أحد في إيجاب النية للصلاة. قال البخاري في أواخر الإيمان: باب ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: "الأعمال بالنية" فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة. وقال ابن القيم في الهدي النبوي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر". ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية، ولا قال: أصلي صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما، ولا أداء ولا قضاء، ولا فرض الوقت. قال:   أن التكبير قول: الله أكبر، فلو قال: أكبر الله أو غيره مما يخالف هذا اللفظ لم يعتد به، "ولأحمد والنسائي من طريق واسع بن حبان"، "بفتح المهملة والموحدة الثقيلة"، "أنه سأل ابن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال": كان يقول: "الله أكبر"، "كلما وضع ورفع، وليعلم أن تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل: شرط وهو مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية، وقيل: سنة". "قال ابن المنذر: ولم يقل به أحد غير الزهري" قال الحافظ، ونقله غيره عن سعيد بن المسيب الأوزاعي ومالك ولم يثبت عن أحد منهم صريحا، وإنما قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا: تجزئه تكبيرة الركوع، نعم نقله الكرخي من الحنفية عن إبراهيم بن علية وأبي بكر بن الأصم، ومخالفتهما للجمهور كثيرة، "ولم يختلف أحد في إيجاب النية للصلاة،" أي وجوبها تجوز الآن الإيجاب خطاب الشارع والوجوب ما يتعلق بالمكلف، وهو المراد. "قال البخاري في أواخر" كتاب "الإيمان باب ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: "الأعمال بالنية"، فدخل فيه الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة" إلى آخر كلامه، وقد سبق في أول هذا المقصد. "قال ابن القيم في الهدي النبوي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر". ولم يقل شيئا قبلها، ولا تلفظ بالنية" هذه واحدة، والثانية قوله: "ولا قال: أصلي" والثالثة "صلاة" والرابعة "كذا" أي: الصبح مثلا، والخامسة "مستقبل القبلة" والسادسة "أربع ركعات" والسابعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 وهذه عشر بدع لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أحد قط بإسناد صحيح، ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدة ألبتة بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. وقول الشافعي في الصلاة: "إنها ليست كالصيام فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر" أي تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة، ولا أحد من الصحابة. وعبارة الشافعي في كتاب المناسك: "ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأه، وليس كالصلاة، لأن في أولها نطقا واجبا" هذا نصه. قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص، وابن الرفعة في المطلب، والزركشي في الديباج وغيرهم: إنما أراد الشافعي بذلك تكبيرة الإحرام قطعا، انتهى. وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه عليه السلام تلفظ بالنية، ولا علم أحدًا من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك، بل المنقول عنه في السنن أنه قال: "مفتاح   "إماما أو مأموما" والثامنة "ولا أداء" والتاسعة "ولا قضاء" والعاشرة "ولا فرض الوقت، قال: وهذه عشر بدع" علم عدها، "لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أحد قط بإسناد صحيح، ولا ضعيف ولا مسند" أي: موصول، "ولا مرسل لفظة واحدة ألبتة"، "بقطع الهمزة", "بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحبه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة". "وقول الشافعي في الصلاة: إنها ليست كالصيام, فلا يدخل أحد فيها إلا بذكر. أي: تكبيرة الإحرام" لأنها ذكر "ليس إلا"، أي: ليس شيء غير ذلك وهذا جواب إيراد على قوله ولا الأئمة الأربعة، يخالف قول الشافعي: لا يدخل فيها إلا بذكر، فأجاب بما حاصله أن التنوين للنوعية، أي: نوع خاص منه، وهو تكبيرة الإحرام، "وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله صلى الله عليه وسلم في صلاة واحة، ولا أحد من الصحابة" استبعاد لحمل كلام الشافعي على شيء من ذلك مع جلالته ومعرفته بالسنة وأقوال الصحابة وأفعالهم، "وعبارة الشافعي في كتاب المناسك: ولو نوى الإحرام بقلبه، ولم يلب أجزأه" يعني: انعقد "وليس كالصلاة، لأن في أولها نطقا واجبا. هذا نصه". "قال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص، وابن الرفعة في المطلب، والزركشي في الديباج" أي: شرحه الصغير على المنهاج "وغيرهم: إنما أراد الشافعي بذلك" أي: قوله في أولها نطقا "تكبيرة الإحرام قطعا" لقوله واجبا "انتهى". "وبالجملة: فلم ينقل أحد أنه عليه السلام تلفظ بالنية، ولا علم أحدًا من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك، بل المنقول عنه في السنن" لأبي داود والترمذي وابن ماجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته قال له: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن". فلم يأمره بالتلفظ بشيء قبل التكبير. نعم اختلف العلماء في التلفظ بها: فقال قائلون: هو بدعة؛ لأنه لم ينقل فعله. وقال آخرون: هو مستحب؛ لأنه عون على استحضار النية القلبية، وعبادة   بإسناح حسن عن علي "أنه" صلى الله عليه وسلم "قال": "مفتاح الصلاة" أي: مجوز الدخول فيها "الطهور"، "بضم الطاء وفتحها" روايتان، كما أفاد الولي العراقي، قال: والأظهر الفتح، لأن الماء مفتاح واستعماله فتح، وقال غيره: بضمها الفعل، وبفتحها آلته، لأن الفعل لا يمكن بدون آلته "وتحريمها التكبير" أي سبب كون الصلاة محرمة ما ليس منها التكبير، وأصل التحريم المنع، سمى الدخول فيها تحريما لأنه يحرم الكلام وغيره، وتمسك به الحنفية على أن التكبير ليس من الصلاة، إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه. وأجيب بأنه قد يضاف الجزء إلى الجملة، كدهليز الدار، "وتحليلها" وهو جعل المحرم حلالا "التسليم" لتحليله ما كان حراما على المصلي، أي أنها صارت بهما كذلك، فهما مصدران مضافان إلى الفاعل. قال الخطابي فيه: إن التسليم ركن للصلاة كالتكبير، وإن التحلل إنما يكون به دون الحدث والكلام، لأنه عرف بأل، وعينه كما عين الطهور، وعرفه فانصرف إلى الطهارة المعروفة، والتعريف بأل مع الإضافة يوجب التخصيص، ففيه رد على الحنفية. وقال الطيبي: شبه الشروع في الصلاة بالدخول في حريم الملك المحمي عن الأغيار، وجعل فتح باب الحريم بالتطهير عن الأدناس والأوضار، وجعل الالتفات إلى الغير والشغل به تنبيها على التكمل بعد الكمال. "وفي الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، "أنه صلى الله عليه وسلم لما علم المسيء صلاته" هو خلاد بن رافع الزرقي، "قال له": "إذا قمت إلى الصلاة فكبر" تكبيرة الإحرام، "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" أي: الفاتحة، لأنها متيسرة لكل أحد، وعند أبي داود: "ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله"، ولأحمد وابن حبان: "ثم اقرأ بأم القرآن، ثم اقرأ بما شئت، ثم اركع". "فلم يأمره بالتلفظ بشيء قبل التكبير" وذلك دليل على أنه ليس بمطلوب. "نعم اختلف العلماء في التلفظ بها، فقال قائلون: هو بدعة، لأنه لم ينقل فعله" كما سبق، "وقال آخرون: هو مستحب، لأنه عون على استحضار النية القلبية وعبادة اللسان، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 اللسان، كما أنه عبودية القلب، والأفعال المنوية عبودية الجوارح. وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين السبكي والحافظ عماد الدين بن كثير. وأطنب ابن القيم -في غير الهدي- في رد الاستحباب، وأكثر في الاستدلال بما ذكره طول يخرجنا عن المقصود، لا سيما والذي استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها. وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين، من حديث أنس: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول: "لبيك عمرة وحجا". وفي البخاري من حديث عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وهو بوادي العقيق: "أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة". وهذا   كما أنه عبودية القلب، والأفعال المنوية عبودية الجوارح، وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي والحافظ عماد الدين بن كثير، وأطنب ابن القيم في غير الهدي في رد الاستحباب، وأكثر من الاستدلال بما في ذكره طول يخرجنا عن المقصود" من الاختصار، "لا سيما والذي استقر عليه أصحابنا استحباب النطق بها" بأن يقول: أصلي الظهر مثلا فرضا لله أربع ركعات: أداء أو قضاء مستقبل القبلة، هذا جملة ما يستحب النطق به عند الشافعية، "وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين من حديث أنس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا، يقول: "لبيك عمرة وحجا"، والجامع بينهما وبين الصلاة أن كلا عبادة لها نية، وقد نطق به في الإحرام، فيقاس عليه إحرام الصلاة. "وفي البخاري" في الحج والمزارعة والاعتصام "من حديث عمر" بن الخطاب: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بوادي العقيق" أي: فيه وهو بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال: "أتاني الليلة آت" هو جبريل "من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك" أي: وادي العقيق، وعند ابن عدي عن عائشة مرفوعا: "تخيموا العقيق، فإنه مبارك". "بخاء معجمة وتحتية" أمر بالتخييم، أي النزول به، لكن حكى ابن الجوزي عن حمزة الأصبهاني أنه تصحيف، والصواب بالفوقية وله اتجاه، لأن في معظم الطرق ما يدل على أنه من الخاتم، وقد وقع في حديث عمر: "تختموا بالعقيق، فإن جبريل أتاني به من الجنة". الحديث وأسانيده ضعيفة، "وقل عمرة في حجة" برفع عمرة للأكثر، وبنصبها لأبي ذر على حكاية اللفظ، أي: قل جعلتها عمرة، وأبعد من قال معناه عمرة مدرجة في حجة، أي: أن عمل العمرة يدخل في عمل الحج فيجزي لهما طواف واحد، ومن قال: معناه أنه معتمر في تلك السنة بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 تصريح باللفظ، والحكم كما ثبت بالنص يثبت بالقياس. لكن تعقب هذا بأنه عليه السلام قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك، وامتثالا للأمر الذي جاءه من ربه تعالى في ذلك الوادي، ولقد صلى عليه السلام أكثر من ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال: نويت أصلي صلاة كذا وكذا، وتركه سنة، كما أن فعله سنة، فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه، فنأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله، والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر. انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل.   فراغ حجه، وهذا أبعد مما قبله، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، نعم يحتمل أنه أمر أن يقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القرآن، وهو كقوله: دخلت العمرة في الحج، قاله الطبري واعترضه ابن المنير، بأنه ليس نظيره، لأنه تأسيس قاعدة، وقوله: عمرة في حجة بالتنكير يستدعي الوحدة، وهو إشارة إلى الفعل الواقع من القرآن إذ ذاك، ويؤيده رواية البخاري في الاعتصام، بلفظ: عمرة وحجة بواو العطف، قاله كله الحافظ، وعلى رواية رفع عمرة، فهي خبر مبتدأ محذوف، أي قل هذه عمرة في حجة كما في شرح المصنف، "وهذا تصريح باللفظ، والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس" إذ هو من الأدلة. "ولكن تعقب هذا بأنه عليه السلام قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك" لأن الأصح أنه كان مفردا "وامتثالا للأمر الذي جاءه من ربه تعالى في ذلك الوادي، ولقد صلى عليه السلام أكثر من ثلاثين ألف صلاة، فلم ينقل عنه أنه قال: "نويت أصلي صلاة كذا وكذا" أي: الصبح أو الظهر مثلا، "وتركه سنة" في حقنا، يعني: أن ما تركه يسن لنا تركه إن لم يقم دليل آخر على طلبه منا، "كما أن فعله سنة" يسن لنا اتباعه فيه إلا لدليل على أنه من خصائصه، "فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه، نأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتي به في الموضع الذي فعله" لأنه خلاف السنة، "والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما على الآخر" لاختلاف أحكامهما، فلا يصح القياس. "انتهى ما قاله هذا المتعقب فليتأمل" فإن في منعه القياس نظرا، فالجامع بينهما أن كلا عبادة، وعدم نقل ذلك عنه لا ينهض لاحتمال أنه كان يسير بالنية، إذ لا يطلب الجهر بها، هذا وجه أمره بالتأمل، وفيه أن كل عبادة أشار هو إلى منعه بالفرق، بينهما واحتمال إسراره يلزم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك. وفي رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضا، وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد".   منه الاحتجاج بالاحتمال مع أنه لا يحتج به عند أحد، "وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة" أي: شرع فيها "رفع يديه حتى يكونا" بتحتية، ولأبي ذر بفوقية "حذو" بحاء مهملة وذال معجمة ساكنة، أي مقابل، "منكبيه" تثنية منكب، وهو مجمع عظم العضد والكتف، وبهذا قال الجمهور ومالك والشافعي، وذهب الحنفية إلى حديث مالك بن حويرث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى كبر، ثم رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، رواه مسلم، وفي لفظ له: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه، ورجح الأول بأنه أصح إسنادا، واتفق عليه الشيخان، "ثم يكبر" للإحرام، وهذا لفظ مسلم، وبه قال الحنفية، وقال غيرهم: ثم للترتيب في الذكر لرواية البخاري يرفع يديه حين يكبر، وهو حديث واحد، وقد رواه الشيخان: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، فالرفع مقارن للتكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، كما هو قضية المقارنة، وهذا هو الأصح عند المالكية والشافعية وبه صرح أيضا في رواية أبي داود عن وائل بن حجر أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه مع التكبير، وقال صاحب الهداية من الحنفية: الأصح يرفع ثم يكبر، لأن الرفع صفة نفي الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك له، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة. قال الحافظ: وهو مبني على أن ذلك حكمة الرفع، وقيل: حكمة اقترانهما أن يراه الأصم ويسمعه الأعمى وقيل: الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة، وقيل: إلى الاستسلام والانقياد ليناسب فعله قوله: الله أكبر، وقيل: إلى استعظام ما دخل عليه، وقيل: إلى تمام القيام، وقيل: إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود، وقيل: ليستقبل بجميع بدنه. قال القرطبي: هذا أشبهها، "فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك" أي: رفع يديه حذو منكبيه مع التكبير "وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فعل مثل ذلك". "وفي رواية: وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما" أي: يديه، "كذلك أيضا" حذو منكبيه "وقال": "سمع الله لمن حمده" معنى سمع هنا أجاب، والمعنى أن من حمده متعرضا لثوابه أجابه وأعطاه ما تعرض له "ربنا ولك الحمد" الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي زائدة وعاطفة على محذوف، أي: حمدناك، أو هي واو الحال، ورجحه ابن الأثير، وفيه أن الإمام يجمع بينهما، لأن غالب أحواله صلى الله عليه وسلم الإمامة وبه قال الشافعي وجماعة أن المصلي مطلقا يجمع بينهما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 وفي أخرى: نحوه، وقال: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع من السجود. رواه البخاري ومسلم. وعند أبي داود من حديث علقمة: كان إذا قام من سجدتين، كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح وهو قطعة من حديث رواه الترمذي أيضا. وكان يكبر في كل خفض ورفع. رواه مالك.   وقال مالك وأبو حنيفة: يقول الإمام: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: ربنا لك الحمد فقط، لحديث إذا قال الإمام: "سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد". فقصر الإمام على قول ذلك، والمأموم على قول الآخر، وهذه قسمة منافية للشركة، كحديث "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وأجابوا عن هذا الحديث بحمله على صلاته صلى الله عليه وسلم منفردا، أو على صلاته النافلة جمعا بين الحديثين، والمنفرد يجمع بينهما على الأصح، "وفي أخرى نحوه" نحو ما ذكر، لأنه حديث متحد المخرج اختلف ألفاظ رواته. "وقال" أي زاد، "ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع من السجود" فقوله في رواية: ولا يفعل ذلك في السجود، أي: لا في الهوي إليه ولا في الرفع منه بدليل هذه الرواية. قال الحافظ: وهذا يشمل ما إذا نهض من السجود إلى الثالثة والرابعة والتشهدين، ويشمل ما إذا قام إلى الثالثة بلا تشهد، لأنه غير واجب، وإذا قلنا باستحباب جلسة الاستراحة، لم يدل هذا اللفظ على نفي ذلك عن القيام منها إلى الثالثة والرابعة. لكن روى الدارقطني بإسناد حسن عن ابن عمر هذا الحديث، وفيه: "ولا يرفع بعد ذلك"، فظاهره يشمل النفي عما عدا المواطن الثلاثة، "رواه البخاري ومسلم" من طرق تدور على ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر. "وعند أبي داود من حديث علمقة: كان إذا قام من سجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح" أي: إذا قام من السجدتين في الركعة الثانية عند القيام من التشهد الأول، فيوافق حديث ابن عمر الآتي قريبا، ولا يخالف ظاهره ما قبله، "وهو قطعة من حديث رواه الترمذي أيضا، وكان يكبر في كل خفض" للركوع والسجود، "ورفع" لرأسه من السجود لا من الركوع، لأنه كان يقول: "سمع الله لمن حمده". كما مر في حديث ابن عمر، "رواه مالك" عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين مرسلا، وزاد: فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله، وأخرجه أيضا عن ابن شهاب، عن أبي سلمة أن أبا هريرة كان يصلي لهم، فكبر كلما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 وقال النووي: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، واختلفوا فيما سواها. فقال: الشافعي وأحمد وجمهور العلماء من الصحابة: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع، وعند الرفع منه. وهو رواية عن مالك. وللشافعي قول: أنه لا يستحب رفعهما في موضع رابع وهو: إذا قام من التشهد الأول. وهذا القول هو الصواب، فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم   خفض ورفع، فلما انصرف قال: والله إني لأشبهكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه من طريقه الشيخان، والحكمة فيه تجديد العهد في أثناء الصلاة بالتكبير الذي هو شعار النية المأمور بها في أول الصلاة المقرونة بالتكبير، التي كان من حقها أن تستصحب إلى آخر الصلاة، قاله الناصر بن المنير. "قال النووي: أجمعت الأمة على استحباب رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام" واعترض عليه، بأن اللخمي حكى في التبصرة رواية عن مالك أنه لا يستحب، وحكاه الباجي عن كثير من متقدمي المالكية، وبأن الأوزاعي والحميدي شيخ البخاري، وابن خزيمة وداود وبعض الشافعية والمالكية قالوا بوجوبه، فأين الإجماع؟ ولذا كان أسلم العبارات قول ابن عبد البر: أجمع العلماء على جواز رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وقول ابن المنذر: ولم يختلفوا أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة. قال ابن عبد البر: وكل من نقل عنه الوجوب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي، وهذا شذوذ وخطأ، "واختلفوا فيما سواها، فقال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء: يستحب أيضا رفعهما عند الركوع وعند الرفع عنه" عملا بحديث ابن عمر، "وهو رواية عن مالك" رواها عنه ابن وهب وأشهب وأبو مصعب وغيرهم بل قال محمد بن عبد الحكم: لم يرو أحد عن مالك تلك الرفع فيهما إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع لحديث ابن عمر، وأجاب الأصيلي بأن مالكا لم يأخذ به، لأن نافعا وقفه على ابن عمر، وهو أحد الأحاديث الأربعة، التي وقفها نافع ورفعها سالم، يعني: فلما اختلفا وهما ثقتان جليلان ترك مالك في المشهور عنه القول باستحباب ذلك في المحلين، لأن الأصل صيانة الصلاة عن الأفعال، وبهذا تعلم تحامل الحافظ في قوله: لم أر للمالكية دليلا ولا متمسكا إلا قول ابن القاسم، "وللشافعي قول أنه لا يستحب رفعهما في موضع رابع، وهو: إذا قام من التشهد الأول، وهذا القول هو الصواب" أي: المشهور، لكن الحافظ نازع النووي في أن الشافعي نص عليه، بأنه قال في الأم لا نأمره برفع يديه في شيء من الذكر في الصلاة التي لها ركوع وسجود إلا في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 أنه كان يفعله. رواه البخاري. وكان صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى، رواه أبو داود. ومذهب الشافعي والأكثرين: أن المصلي يضع يديه تحت صدره فوق سرته. وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي تحت سرته.   هذه المواضع الثلاثة، وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي وهو لازم على أصله في قبول الزيادة، "فقد صح فيه حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله رواه البخاري" من رواية عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن نافع, وأبو داود من رواية محارب بن دثار، كلاهما عن ابن عمر. لكن قال أبو داود: رواه الثقفي، يعني: عبد الوهاب والليث وابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا وهو الصحيح، وحكى الإسماعيلي أن بعض شيوخه أومأ إلى أن عبد الأعلى أخطأ في رفعه، لكن له شواهد منها حديث علي وحديث أبي حميد، رواهما أبو داود وصححهما ابن خزيمة وابن حبان، وقال البخاري في جزء اليدين ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة صحيح لم يحكموا صلاة واحدة، فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم. "وكان صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى" في الصلاة، "رواه أبو داود" عن وائل بن حجر، بلفظ: ثم وضع يديه اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ من الساعد، وصححه ابن خزيمة وغيره، والرسغ: "بضم الراء وسكون المهملة، فمعجمة" المفصل بين الساعد والكف. "ومذهب الشافعي والأكثرين أن المصلي يضع يديه تحت صدره فوق سرته" لرواية ابن خزيمة عن وائل أنه وضعهما على صدره، وللبزار عند صدره. "وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي: تحت سرته" لما في زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف. قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع، ومن اللطائف، قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل عليه يديه. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف، وقاله جمهور الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك وغيره، وروى ابن القاسم عنه الرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه: التفرقة بين الفريضة، فيكره القبض والنافلة فيجوز، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 وكان عليه الصلاة والسلام يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، فقال له أبو هريرة: بأبي أنت وأمي، إسكاتتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج   "وكان عليه الصلاة والسلام يسكت بين التكبير والقراءة". قال الحافظ: ضبطناه "بفتح أوله" من السكوت، وحكى الكرماني عن بعض الروايات "بضم أوله من الإسكان" قال الجوهري: يقال تكلم الرجل ثم سكت بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم، قيل: أسكت "إسكاتة"، "بكسر أوله وزن إفعالة" من السكوت، وهو من المصادر الشاذة نحو أتيته إتيانه. قال الخطابي: معنا سكوت يقتضي بعده كلاما مع قصر المدة فيه، وسياق الحديث يدل على أنه أراد السكوت عن الجهر لا عن مطلق القول، أو السكوت عن القراءة لا عن الذكر، "فقال له أبو هريرة: بأبي أنت وأمي"، "الباء متعلقة بمحذوف اسم أو فعل" أي: أنت مفدي، أو أفديك فيه جواز قول ذلك، وزعم بعضهم، أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم "إسكاتتك"، "بكسر أوله والرفع على الابتداء". وقال المظهري "بالنصب مفعول بفعل مقدر" أي: أسألك إسكاتتك، أو على نزع الخافض، والذي في روايتنا بالرفع للأكثر وللمستملي والسرخسي "بفتح الهمزة وضم السين" على الاستفهام. وفي رواية الحميدي: ما تقول في سكتك "بين التكبير والقراءة"؟ ولمسلم: أرأيت سكوتك، وكله مشعر بأن هناك قولا، لأنه قال: "ما تقول" أي: فيه، ولم يقل: هل تقول، ولعله استدل على أصل القول بحركة الفم، كما استدل غيره على القراءة بحركة اللحية، قاله ابن دقيق العيد، "قال": "أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي منها، وهو مجاز، لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنه أراد أن لا يبقى لها منه اقتراب بالكلية. وقال الكرماني: كرر لفظ بين، لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، "اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" نقني مجاز عن زوالها ومحو أثرها، ولما كان الدنس في الأبيض أظهر من غيره من الألوان وقع التشبيه به، قاله ابن دقيق العيد: "اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 والبرد". رواه البخاري ومسلم. وعن علي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة -وفي رواية: إذا افتتح الصلاة- كبر، ثم قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من   قال الخطابي: ذكرهما تأكيدا، ولأنهما ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما الاستعمال، وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، قال: ويحتمل أن المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو، وكأنه كقوله تعالى: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة: 286] ، وأشار الطيبي إلى هذا بحثا، فقال: يمكن أن المطلوب من ذكر الثلج والبرد بعد الماء شمول أنواع الرحمة والمغفرة بعد العفو لإطفاء حرارة عذاب النار التي هي في غاية الحرارة، ومنه قولهم: برد الله مضجعه، أي رحمه ووقاه عذاب النار. انتهى. ويؤيده ورود وصف الماء بالبرودة في حديث عبد الله بن أوفى عند مسلم، وكأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها، فعبر عن إطفاء حرارتها بالغسل، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيا عن الماء إلى أبرد منه. وقال التوربشتي: خص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها منزلة من السماء، وقال الكرماني: يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث إشارة إلى الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي. انتهى. وكان تقديم المستقبل للاهتمام بدفع ما سيأتي قبل رفع ما حصل، وهذا الدعاء صدر منه صلى الله عليه وسلم على سبيل المبالغة في إظهار العبودية، وقيل: قاله على سبيل التعليم لأمته، واعترض بأنه لو أراد ذلك بالجهر به، وأجيب بورود الأمر بذلك في حديث سمرة عند البزار، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبع أحواله صلى الله عليه وسلم في حركاته وسكناته وإسراره وإعلانه حتى حفظ الله بهم الدين، وفيه مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة خلافا للمشهور عن مالك انتهى من فتح الباري. "رواه البخاري ومسلم" من حديث أبي هريرة "وعن علي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة" المكتوبة "وفي رواية" لمسلم أيضا عن علي: كان "إذا افتتح الصلاة كبر" تكبيرة الإحرام، "ثم قال" قبل الشروع في الفاتحة، وللترمذي: وقال حسن صحيح عن علي: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه، ويقول حين يفتتح الصلاة بعد التكبير: "وجهت وجهي" أي: صرفت جملتي وأخلصت نيتي في العبادة "للذي فطر السموات والأرض حنيفا" حال كوني مائلا عن جميع الأديان غير الإسلام بريئا عن كل المعبودات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك". الحديث   زاد الدارقطني في روايته مسلما، وكأنه تفسير حنيفا "وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي" الذبح في الحج والعمرة، أو الحج نفسه أو عبادتي كلها، "ومحايي ومماتي" حياتي وموتي، يعني: جميع طاعتي في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح خالصا "لله رب العالمين لا شريك له وبذلك" القول والإخلاص، "أمرت وأنا من المسلمين" المتمكنين في الإسلام، وفوضوا أمروهم لله تعالى، وفي الطريق الثانية عند مسلم، وأنا أول المسلمين كما في التنزيل لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته، وكذا في رواية جابر عند النسائي والدارقطني، "اللهم أنت الملك". زاد في بعض طرق الحديث: الحق "لا إله إلا أنت" إثبات الإلهية المطلقة لله تعالى على سبيل الحصر بعد إثبات الملك له، كذلك في قوله: أنت الملك لما دل عليه تعريف الخبر باللام ترقيا من الأدنى إلى الأعلى زاد أبو رافع عند الطبراني: سبحانك وبحمدك، وإنما أخر الربوبية في قوله: "أنت ربي" لتخصيص الصفة وتقييدها بالإضافة إلى نفسه، "وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي" حال مؤكدة مقررة لمضمون الجملة السابقة اعترافا بالتقصير، "فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر الذنوب إلا أنت" قدم قوله: ظلمت نفسي على سؤال المغفرة أدبا، كقول آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا} [الأعراف: 23] وقال ذلك تعليما وإرشادا لأمته، أو تواضعا، أو بحسب المقام، فإنه يرى مقامه بالأمس دون ما ارتقى إليه اليوم، فيستغفر من مقامه بالأمس, "واهدني لأحسن الأخلاق" أي: أرشدني لأفضلها وأكملها، "لا يهدي لأحسنها إلا أنت" وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجمع له ما تفرق في العالمين، حتى قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] , "واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت" وقد أجابه عز وجل فلم يكن له خلق سيئ قط، "لبيك" إجابة لك بعد إجابة "وسعديك" مساعدة بعد مساعدة، وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثناة، "والخير كله في يديك، والشر ليس إليك" أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة تأدبا، لأنه وإن كان بقضائه وقدره وخلقه واختراعه، لكن ليس بمحبته ورضاه بخلاف الخير، فإنه بتقديره وإرادته ورضاه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 رواه مسلم. وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال: "سبحانك الله وبحمدك،   ومحبته جميعا، فبالنظر إلى جانب المحبة والرضا يضاف إليه الخير، كما قال بيدك الخير وبالنظر إلى جانب القدرة والخلق والإرادة، يضاف إليه كلاهما، كما قال سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه} [النساء: 78] ، والمقام يقتضي ذلك، فإنه طلب للهداية لأحسن الأخلاق والصرف عن سيئها، فناسب أن يقول: الخير كله في قبضة قدرتك ليس شيء منها في يد غيرك، فأنت الهادي إليها لا يهدي إليه إلا أنت، وبهدايتك يحصل الاهتداء الذي هو العمدة في الأمور وهو الوسيلة للتقرب إليك، والشر ليس يتقرب به إليك. وقد زاد الشافعي في روايته حديث علي والمهدي من هديته، وفيه تلميح إلى ما ذكر: "أنا بك وإليك" أي: أنا أستعين بك في أداء ما وجب علي، وأتقرب بعد القيام به إليك، وقول النووي معناه التجائي وانتمائي وتوفيقي بك، تعقب بأن تقديره هذا يومئ إلى أن في الكلام تقديما وتأخيرا، والأصل وأنا إليك وبك، وهذا لا يحتاج إليه فالوجه ما سبق وأيضا سياق الكلام يدل على أنه طلب الهداية إلى أحسن الأخلاق والصرف عن مساويها، وذكر أن الخير من عنده وكله في يده، والشر ليس مضافا إليه محبة ورضا، ث ذكر أن استعانته في الأخذ بمحاسن الأخلاق والاجتناب عن الرذائل به تعالى وتقربه بتحصيل ذلك إليه، فهذا بمنزلة النتيجة لما تقدمه من الكلام، ولهذا ترك العاطف وأخرجه مخرج الاستثناء، فكأنه قيل له: إذا أعطيناك ما طلبته ما تعمل به، فقال: أستعين بك في التحصيل وأتقرب به إليك، بعد الحصول، زاد الشافعي: "لا ملجأ منك إلا إليك". وكذا في رواية أبي رافع عند الطبراني. "تباركت" تعاظمت "وتعاليت" عما تتوهمه الأوهام وتتصوره العقول "أستغفرك وأتوب إليك". الحديث. ذكر في بقيته دعاءه في الركوع والرفع منه، وفي السجود وما بين التشهد والسلام، "رواه مسلم" باللفظ الذي ساقه المصنف بالحرف من حديث علي، ورواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن علي أيضا، والنسائي والدارقطني عن جابر، والنسائي عن محمد بن مسلمة، والطبراني عن أبي رافع، وفي روايتهم بعض زيادة ونقص وعجب قول القائل، ما ذكره المصنف بيان لمجموع رواياتهم من غير بيان ما لكل واحد على انفراده مع أن المصنف إنما عزا لصحابي واحد وراو واحد، فإنما يتأتى ما زعمه لو عزا لمتعدد وأجمل، قال النووي: فيه استحباب الاستفتاح بما في هذا الحديث إلا أن يكون إماما لقوم لا يؤثرون التطويل. "وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال" بعد تكبيرة الإحرام: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك" تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه، "ولا إله غيرك". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 وتبارك اسم وتعالى جدك ولا إله غيرك" رواه الترمذي وأبو داود. وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة قال: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ بالله من الشيطان، من نفخه ونفثه وهمزه" قال ابن عمر: نفخه الكبر، ونفثه الشعر، وهمزه الموتة. رواه أبو داود. قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي عن جبير بن مطعم عن أبيه وأخرجه أيضا من وجه آخر عن عمرو بن مرة بإسناده عن جبير سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع, وذكر نحوه. انتهى. وعن محمد بن مسلمة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا   رواه الترمذي وأبو داود" ونقل الساجي عن الشافعي استحباب الجمع بينه وبين التوجه، واختاره ابن خزيمة وجماعة من الشافعية، وحديث أبي هريرة أصح ما ورد في ذلك, قاله الحافظ. "وعن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة" قال عمرو: ولا أدري أي صلاة هي, كذا في أبي داود، وهو محتمل أنه شيخه عمرو بن مرزوق، أو شيخ شيخه عمرو بن مرة، وكل بفتح العين، "قال" في افتتاحها: "الله أكبر كبيرا والحمد لله كثير، وسبحان الله بكرة" بالضم أول النهار "وأصيلا" ثلاثا كما في أبي داود، وذكرها ثلاثا باللفظ في الجملتين قبلها "أعوذ" أعتصم "بالله من الشيطان من نفخه"، "بفاء وخاء معجمة"، "ونفثه وهمزه". "قال ابن عمر" مفسرا كذا في النسخ وصوابه عمرو كما في أبي داود، أي شيخه أو شيخ شيخه، ما ابن عمر فلا ذكر له في هذا الحديث: "نفخه الكبر" أي حمله عليه "ونفثه الشعر" سمي نفثا كالشيء ينفثه الإنسان من فيه، كالرقية، قاله الهروي "وهمزه الموتة" "بضم الميم وإسكان الواو" بلا همز ضرب من الجنون كما صرح به السهيلي وغيره. قال الهروي: سمي الجنون همزا لأنه جعله من النخس والهمز، وكل شيء دفعته فقد همزته، "رواه أبو داود قال: حدثنا عمرو بن مرزوق، قال: أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عاصم العنزي، عن جبير بن مطعم، عن أبيه، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن عمرو بن مرة بإسناده عن جبير: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في التطوع، وذكر نحوه. انتهى". "وعن محمد بن مسلمة" الأنصاري: أكبر من اسمه محمد من الصحابة "قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا" لا ينافي ذلك رواية الترمذي عن علي: كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة؛ لإمكان الجمع بأنه كان يقوله في المكتوبة والتطوع عملا بالحديثين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 قال: "الله أكبر، وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين". وذكر الحديث مثل حديث جابر إلا أنه قال: "وأنا من المسلمين"، ثم قال: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك". ثم يقرأ. رواه النسائي. الفرع الثاني: في ذكر قراءته عليه الصلاة والسلام للبسملة في أول الفاتحة روي عن ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رواه أبو داود. وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك. ورواه الحاكم عن ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قال: صحيح. وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة، وعدها آية، لكن روايه عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف عن   "قال": "الله أكبر وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين". "وذكر" محمد بن مسلمة "الحديث مثل حديث جابر" عند النسائي والدارقطني بنحو حديث علي المتقدم لفظه، فأحال عليه وإن لم يتقدم نقله عن جابر "إلا أنه قال": "وأنا من المسلمين" بدل قوله: "وأنا أول المسلمين". وهما روايتان عن علي في مسلم كما مر، "ثم قال: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك". ثم يقرأ. رواه النسائي" في سننه. "الفرع الثاني: في ذكر قراءته عليه الصلاة والسلام للبسملة أو الفاتحة" أي: هل كان يقرأ بها أم لا، أو هل يجهر بها أو يسر "روي عن ابن عباس، قال: كان صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، رواه أبو داود" وضعفه كما يأتي، "وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك" أي: لا يحتج به لضعفه، "ورواه الحاكم عن ابن عباس، قال: كان صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " بدل قوله يفتتح الصلاة، "ثم قال" الحاكم "صحيح" على عادته في التساهل، إذ كيف يصح مع ضعف إسناده، ولذا ضعفه أبو داود والترمذي. "وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة هند بنت أبي أمية، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وعدها آية، لكن روايه عمر"، "بضم العين" ابن هارون بن يزيد الثقفي مولاهم "البلخي" المتوفى سنة أربع وتسعين ومائتين "وفيه ضعف" بل قال في التقريب متروك وكان حافظا، "عن ابن جريج" عبد الملك بن عبد العزيز، "عن ابن أبي مليكة" بالتصغير هو عبد الله، بفتح العين ابن عبيد الله، بضمها ابن أبي مليكة، يقال: اسمه زهير، "عنها"، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنها. وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات، إحداهن، البسملة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي أم الكتاب". ورواه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله وقال: رواته كلهم ثقات. وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها. وعن شعبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون   أي: أم سلمة: فهذا تساهل مفرط من ابن خزيمة، إذ كيف يدخل في الصحيح من في إسناده ضعيف متروك. "وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه" بفتح الميم وتكسر "في تفسيره، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات، إحداهن البسملة وهي السبع المثاني" في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} عطف عام على خاص، أو مبتدأ حذف خبره، أي: الذي أوتيته ورجحه الحافظ المجيء رواية بذلك، ومر في الخصائص بسطه "وهي أم الكتاب، ورواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه" أي: بما يقرب منه "أو مثله" أي: بما يماثله، "وقال: رواته كلهم ثقات. "وروى البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة، أنهم فسروا قوله تعالى: {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} بالفاتحة، وأن البسملة هي الآية السابعة منها" وخالفهم غيرهم في العد من الصحابة وغيرهم فلم يعدوها منها، وإنما يكون قوله الصحابي حجة إذا لم يخالفه غيره من الصحابة خصوصا، وقد تأيد بنص النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: "قسمت الصلاة بين وبين عبدي نصفي، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين". الحديث. وعدها سبعا، ولم يذكر البسملة، والحديث في مسلم وغيره: ولا عطر بعد عروس، "وعن شعبة" ابن الحجاج "عن قتادة" بن دعامة، "عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون القراءة" الذي في البخاري الصلاة، قال الحافظ: أي القراءة في الصلاة، وقد رواه ابن المنذر والجوزقي بلفظ: كانوا يفتتحون القراءة، وكذا رواه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . رواه البخاري، أي كانوا يفتتحون بالفاتحة. وفي رواية مسلم: فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . كذا أخرجه مسلم وغيره. لكنه حديث معلول أعله الحفاظ. كما هو في كتب علوم الحديث. وفي شرح ألفية العراقي لشيخنا الحافظ أبي الخير السخاوي في باب العلل ما نصه: وعلة المتن القادحة فيه كحديث نفي قراءة البسملة في الصلاة المروي   البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وقال: إنها أبين من رواية القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "بضم الدال" على الحكاية، "رواه البخاري" حدثنا حفص بن عمر عن شعبة به، "أي: كانوا يفتتحون بالفاتحة" هذا قول من أثبت البسملة في أولها، ورد بأنها إنما تسمى الحمد فقط. وأجيب: بمنع الحصر وسنده حديث: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني" رواه البخاري، وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكا بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة وتجويز أنهم يقرءون البسملة سرا ممنوع، أنه محل النزاع. وقد اختلف الرواة عن شبعة في لفظ الحديث. فرواه جماعة من أصحابه بلفظ البخاري. "وفي رواية مسلم" من طريق أبي داود الطيالسي ومحمد بن جعفر، كلاهما عن شعبة، عن قتادة عن أنس قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، "فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". وفي مسلم من رواية الطيالسي عن شعبة: فقلت لقتادة: أنت سمعته من أنس؟ قال: نعم نحن سألناه "كذا أخرجه مسلم وغيره" كالخطيب من رواية حفص بن عمر شيخ البخاري فيه عن شعبة، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة، لأنا نقول قد رواه جماعة من أصحاب قتادة باللفظين، ولا يرد أنه اضطراب من قتادة، لأن جماعة من أصحاب أنس رووه، كذلك قاله الحافظ ملخصا، "لكنه حديث معلول أعله الحفاظ كما هو" مذكور "في كتب علوم الحديث، وفي شرح ألفية العراقي" الحافظ عبد الرحيم زين الدين "لشيخنا الحافظ أبي الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي في باب العلل ما نصه" شرحا لقول النظم: وعلة المتن كنفي البسملة ... إذ ظن رواو نفيها فنقله وصح أن أنسا يقول لا ... احفظ شيئا فيه حين سئلا "وعلة المتن" أي: لفظ الحديث "القادحة فيه، كحديث نفي قراءة البسملة في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 عن أنس، إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، نفس البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه وقال: ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها. وفي لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا. والراوي لذلك مخطئ في ظنه. ولذا قال الشافعي -رحمه الله- في الأم، ونقله عنه الترمذي في جامعه: المعنى أنهم يبدءون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرءون بعدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا. ويتأكد بثبوت تسمية أم القرآن بجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} في صحيح البخاري، وكذا حديث قتادة قال: سئل أنس: كيف كانت قراءة   الصلاة، المروي عن أنس" في صحيح مسلم وغيره، "إذ ظن راو من رواته حين سمع قول أنس: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان. فكانوا يفتتحون" القراءة أو الصلاة كما مر "بالحمد لله رب العالمين"، "بضم الدال" على الحكاية "نفي البسملة، فنقله مصرحا بما ظنه، وقال: ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها" مبالغة في نفيها، إذ لا قائل بأنها إذ لم تقرأ في أول الفاتحة تقرأ في آخرها، أو أراد لا تقرأ أول السورة التي بعد الفاتحة. "وفي لفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فصار بمقتضى ذلك حديثا مرفوعا" لأن فيه النبي صلى الله عليه وسلم "والراوي لذلك مخطئ في ظنه ولذا" أي: خطئه في ظنه. "قال الشافعي رحمه الله في الأم، ونقله عند الترمذي في جامعه: المعنى أنهم يبدءون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرءون بدها، لا أنهم يتركون البسملة أصلا" وهو تأويل مخالف لظاهر الحديث، وبعد ذلك يحتاج لإثبات أنهم كانوا يبسملون، إذ غاية ما في هذا التأويل أنه لا دليل فيه على تركها، فكذا لا دليل فيه على فعلها، "ويتأكد" يتقوى "بثبوت تسمية أم القرآن بجملة الحمد لله رب العالمين في صحيح البخاري" جواب عن سؤال بسطه في فتح الباري، فقال وتعقب، يعني هذا التأويل، بأنها إنما تسمى الحمد فقط. وأجيب: بمنع الحصر، وسنده ثبوت تسميتها بجملة الحمد لله رب العالمين في البخاري، عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن". الحديث، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت مدا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يمد "بسم الله" ويمد "الرحمن" ويمد "الرحيم". أخرجه البخاري في صحيحه، وكذا صححه الدارقطني والدارمي وقال: إنه لا علة له، لأن الظاهر -كما أشار إليه أبو شامة- أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح في الصلاة بأي سورة وأجابه بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، سأله عن كيفية قراءته فيها، وكأنه لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة خصوصا وهو   وفيه: "الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني". انتهى. لكن ولو سلم أنها تسمى بذلك أيضا، فليس فيه أن البسملة منها الذي هو المدعي، وقد روى مالك في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: "إني لأرجو أن تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها". الحديث، وفيه أنه قال لأبي: "كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة" قال: فقرأت عليه {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها، فقال صلى الله عليه وسلم: "هي هذه السورة وهي السبع المثاني". الحديث، وقد قرأها أبي بلا بسملة بحضرته، فتأكد قول من قال: المراد يفتتحون بهذا اللفظ، "وكذا حديث قتادة قال: سئل أنس" "بضم السين" والسائل قتادة كما في رواية قبل هذه في البخاري عن قتادة، قال: سألت أنس بن مالك "كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كانت مدا" بغير همز، أي: ذات مد، أي: بمد الحرف الذي يستحق المد، "ثم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بسم الله" أي: اللام التي قبل هاء الجلالة، "ويمد الرحمن" أي: الميم التي قبل النون، "ويمد الرحيم" أي الحاء المد الطبيعي الذي لا يمكن النطق بالحرف إلا به من غير زيادة عليه لا كما يظن بعضهم من الزيادة عليه. نعم إذا كان حرف المد يتصل بكلمة أو سكون لازم، كأولئك والحاقة وجب زيادة المد، أو ينفصل عنها، أو سكون عارض كيا أيها والوقف على الرحيم جاز. وقد أخرج ابن أبي داود عن قطبة بن مالك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر: {ق} ، فمد هذا الحرف {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فمد {نَضِيدٌ} ، قاله المصنف. "أخرجه البخاري في صحيحه" في أواخر كتاب التفسير، "وكذا صححه الدارقطني والدارمي" في نسخه بدله والحازمي "وقال: إنه لا علة له" إطناب لعله جاء به دفعا لتوهم أن البخاري انفرد بتصحيحه، وأن مسلما لم يخرجه لعلة، وإلا فتصحيح البخاري كاف ولما كان الحديث ليس نصا في قراءة البسملة أول الفاتحة في الصلاة، إذ لا تصريح فيه بذلك، وقد قام الإجماع على استحباب ابتداء القراءة بها في غير الصلاة، فلا معنى لذكره هنا، أشار لبيان وجهه بقوله: "لأن الظاهر كما أشار إليه أبو شامة أن قتادة لما سأل أنسا عن الاستفتاح في الصلاة بأي سورة وأجابه: بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، سأله عن كيفية قراءته فيها" ولا نسلم أن هذا الظاهر، إذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 السائل أولا. وقد أخرج ابن خزيمة في صحيحه، وصحح الدارقطني أن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أو بـ {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا. قال وهذا مما يتأيد به خطأ النافي.   لا دليل في اللفظ عليه، بل الظاهر أنه سأله عن كيفية قراءته للقرآن من حيث هي، لا بقيد افتتاح الصلاة، وسأله أيضا عما كان يفتتح به الصلاة كما هو مدلول الحديثين، وإن أحدهما ليس مرتبا على الأول، ولو سلمنا ذلك فغايته التشبث بالاحتمال، فلا يفيد الدعوى أنها آية من الفاتحة تجب في الصلاة، "وكأنه" أي: أبا شامة "لم ير إبهام السائل مانعا من تعيينه بقتادة، خصوصا وهو السائل أولا" عن حديث الافتتاح، وهذا مما يتعجب منه من مثل السخاوي، ثم من المصنف في إقراره، فإنه يعطي أن السائل المبهم لم يبين مع أنه مبين في رواية قبل هذه بلصقها في البخاري، بأنه قتادة كما مر، وليس هذا مراد أبي شامة، إنما مراده ترتب السؤال الثاني على الأول توصلا إلى مراده من إثبات الابتداء بالبسملة. "وقد أخرج ابن زيمة" محمد بن إسحاق "في صحيحه، وصحح الدارقطني" أيضا "أن أبا مسلمة"، "بفتح الميم" سعيد "بكسر العين"، "بن يزيد"، "بتحتية قبل الزاي" ابن مسلمة الأزدي، البصري القصير، ثقة، من رجال الجميع، سأل أنسا: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أو بـ {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: لا أحفظ فيه شيئا، قال: وهذا مما يتأيد به خطأ النافي", لكن في فتح الباري، وأما من قدح في صحته، بأن أبا مسلمة سعيد بن يزيد سأل أنسا عن هذه المسألة، فقال: إنك لتسألني عن شيء لا أحفظه ولا سألني عنه أحد قبلك، ودعوى أبي شامة أن أنسا سأل عن ذلك سؤالين، فسؤال أبي مسلمة: هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمد؟ وسؤال قتادة: هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها؟ قال: ويدل عليه قول قتادة في مسلم: نحن سألناه. فليس بجيد، لأن أحمد روى بإسناد الصحيحين أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي مسلمة، والذي في مسلم، إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة ولم يبين صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في روايتهم عن الطيالسي، عن شعبة، أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر، عن أبي جابر، عن شعبة، عن قتادة: سألت أنسا: أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فظهر اتحاد سؤال أبي مسلمة وقتادة، وغايته أن أنسا أجاب قتادة بالحكم دون أبي مسلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي مسلمة: ما سألني عنه أحد قبلك، أو قاله لهما معا، فحفظه قتادة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة منهم حميد وقتادة، والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة، إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم عن مالك عنه، بل ومن بعض أصحاب حميد عنه، فإنها في سائر الموطآت عن مالك: صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان فكلهم كان لا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، لا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذا الذي عند سائر أصحاب حميد عنه، إنما هو في الوقف خاصة. وبه صرح ابن معين عن ابن أبي عدي حيث قال: إن حميدًا كان إذا رواه عن أنس لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه. وأما رواية قتادة، وهي من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي: أن قتادة كتب إليه أن أنسا حدثه قال: صليت، فذكره بلفظ: لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لا في أول قراءة ولا في آخرها، فلم يتفق أصحابه عنه على هذا   دونه، فإن قتادة أحفظ منه بلا نزاع. انتهى. "ولكن قد روى هذا الحديث عن أنس جماعة، منهم: حميد" الطويل البصري "وقتادة" ابن دعامة، "والتحقيق أن المعل رواية حميد خاصة" لا رواية قتادة كما قاله الجماعة، "إذ رفعها وهم من الوليد بن مسلم" الدمشقي ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية، "عن مالك" الإمام "عنه" أي: حميد، "بل ومن بعض أصحاب حميد" كابن عيينة وعبيد الله بن عمر، "عنه" أي: حميد، "فإنها في سائر الموطآت" المروية "عن" الإمام "مالك" عن حميد، عن أن: "صليت" لفظ الموطأ، قال: قمت "وراء أبي بكر وعمر وعثمان". قال الباجي: أي وقفت مستقبل القبلة القيام المعتاد في الصلاة على رجليه جميعا، فيقرنهما ولا يحركهما، "فكلهم كان لا يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " إذا افتتح الصلاة. قال ابن عبد البر: هكذا في الموطأ عند جماعة رواته فيما علمت موقوفا، "لا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، وكذا الذي عند سائر" أي باقي "أصحاب حميد عنه إنما هو في الوقف خاصة، وبه صرح" يحيى "بن معين عن ابن أبي عدي" محمد بن إبراهيم البصري، ثقة، من رجال الجميع، "حيث قال: إن حميدًا كان إذا رواه عن أنس" بلا واسطة "لم يرفعه، وإذا قال فيه: عن قتادة عن أنس رفعه, وأما رواية قتادة، وهي من رواية الوليد بن مسلم وغيره عن الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو "أن قتادة كتب إليه" أي: إلى الأوزاعي "أن أنسا حدثه" أي: قتادة "قال: صليت" خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "فذكره" عقب هذا "بلفظ: لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، لا في أول قراءة ولا في آخرها" أخرجه مسلم، "فلم يتفق أصحابه عنه على هذا اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 اللفظ، بل أكثرهم لا ذكر عندهم للنفي فيه، وجماعة منهم بلفظ: فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وممن اختلف عليه فيه أصحابه شعبة، فجماعة منهم "غندر" لا ذكر عندهم للنفي عنه، وأبو داود الطيالسي فقط حسبما وقع من طريق غير واحد عنه بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهي موافقة للأوزاعي. وأبو عمر الدوري وكذا الطيالسي وغندر بلفظ: فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . بل كذا اختلف غير قتادة من أصحاب أنس، كإسحاق بن أبي طلحة وثابت البناني باختلاف عليهما، ومالك بن دينار ثلاثتهم عن أنس بدون نفي، وإسحاق وثابت أيضا ومنصور بن زاذان وأبو قلابة وأبو نعامة كلهم عنه باللفظ النافي للجهر خاصة. ولفظ إسحاق منهم: يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .   عندهم للنفي فيه", ويقتصرون على: فكانوا يفتتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، "وجماعة منهم" يروونه، "بلفظ: فلم يكونوا يجهرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيأتي احتمال أنهم كانوا يسرون بها، "وممن اختلف عليه فيه أصحابه شعبة" بن الحجاج راوي الحديث عن قتادة عن أنس، "فجماعة منهم غندر" لقب لمحمد بن جعفر في إحدى الروايتين، عنه: "لا ذكر عندهم للنفي عنه وأبو داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي فقط حسبما وقع من طريق غير واحد، عنه، بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وهي موافقة للأوزاعي، و" رواه "أبو عمر" حفص بن عمر بن عبد العزيز "الدوري" شيخ البخاري، "وكذا الطيالسي" أبو داود "وغندر" محمد بن جعفر في الرواية الثانية، عنه "بلفظ: فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، بل كذا اختلف" فيه "غير قتادة من أصحاب أنس، كإسحاق" بن عبد الله "بن أبي طلحة" الأنصاري نسبة إلى جده "وثابت البناني"، "بضم الموحدة ونونين بينهما ألف"، "باختلاف عليهما ومالك بن دينار، ثلاثتهم عن أنس بدون نفي، وإسحاق وثابت أيضا" في الرواية الثانية عنهما، "ومنصور بن زاذان"، "بزاي فألف فذال معجمة" الواسطي، الثقفي، ثقة، ثبت، عابد، "وأبو قلابة"، "بكسر القاف والتخفيف" عبد الله بن زيد الجرمي "وأبو نعامة"، "بنون ومهملة" قيس بن عباية "بفتح المهملة وخفة الموحدة فألف فتحتية"، "كلهم عنه" أي: أنس "باللفظ النافي للجهر خاص، ولفظ: إسحاق منهم يفتتحون القراءة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الروايات -كما قال شيخنا، يعني شيخ الإسلام ابن حجر- ممكن بحمل نفي القراءة على نفي السماع، على نفي الجهر. ويؤيده: أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ} . وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس -عند ابن خزيمة- بلفظ كانوا يسرون بـ {بِسْمِ اللَّهِ} . وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب. كما أنه ظهر أن الأوزاعي -الذي رواه عن قتادة مكاتبة مع كون قتادة ولد أكمه، وكاتبه مجهول لعدم تسميته- لم ينفرد به، وحينئذ فيجاب عن قول أنس: "لا أحفظه" بأن المثبت مقدم على النافي، خصوصا وقد تضمن النفي عدم استحضار أنس لأهم شيء يستحضر. وبإمكان نسيانه حين سؤال أبي مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله: أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ} . ويحتاج إذا استقر محصل حديث أنس على نفي الجهر إلى دليل له، وإن   بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " يعني: في إحدى الروايتين عن إسحاق كما قدمه، "وحينئذ فطريق الجمع بين هذه الرويات، كما قال شيخنا، يعني" السخاوي "شيخ الإسلام ابن حجر" في فتح الباري: "ممكن بحمل نفي القراءة على نفي السماع على نفي الجهر، ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان: فلم يسمعنا قراءة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . "وأصرح من ذلك رواية الحسن عن أنس عند ابن خزيمة، بلفظ: كانوا يسرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، "وبهذا الجمع زالت دعوى الاضطراب" لفظ الفتح فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر، لأن الجمع إذا أمكن تعين المصير إليه، "كما أنه ظهر أن الأوزاعي الذي رواه عن قتادة مكاتبة مع كون قتادة ولد أكمه وكاتبه مجهول لعدم تسميته، لكن لم ينفرد به" الأوزاعي، بل تابعه جماعة عن قتادة، "وحينئذ فيجاب عن قول أنس: لا أحفظه، بأن المثبت مقدم على النافي خصوصا، وقد تضمن النفي عدم استحضار أنس لأهم شيء يستحضره، وبإمكان نسيانه حين سؤال أبي مسلمة له وتذكره له بعد، فإنه ثبت أن قتادة أيضا سأله" أي أنسا: "أيقرأ الرجل في الصلاة {بِسْمِ اللَّهِ} ؟ فقال: صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" وعثمان "فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ} " فظهر أن سؤال أبي مسلمة وقتادة سواء خلافا لدعوى أبي شامة كما قدمته، "ويحتاج إذ استقر محصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 لم يكن من مباحثنا. وقد ذكر له الشارح دليلا، وأرشد شيخنا -يعني الحافظ ابن حجر- لما يؤخذ منه ذلك. بل قال: إن قول نعيم المجمر ثم "صليت وراء أبي هريرة فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} ، وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس في الاثنتين يقول: الله أكبر، ويقول   حديث أنس على نفي الجهر إلى دليل له وإن لم يكن من مباحثنا" يعني: في مصطلح الحديث إذ بحثهم هنا إنما هو في التعليل، وفي فتح الباري بعد رده دعوى أبي شامة، وجمعه بين جواب أنس لأبي مسلمة وقتادة بأنه أجاب قتادة بالحكم دون أبي مسلمة، أو قاله لهما معا، فحفظه قتادة دونه، فإنه أحفظ منه بلا نزاع، وإذا انتهى البحث بنا إلى أن محصل نفي الجهر بالبسملة رواية أنس على ما ظهر من طريق الجمع بين مختلف الروايات عنه، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه لا لمجرد تقديم رواية المثبت على النافي، لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي صلى الله عليه وسلم مدة عشر سنين، ثم يصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة، فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة، بل لكون أنس اعترف أنه لا يحفظ هذا الحكم كأنه لبعد عهده به، ثم تذكر منه الجزم بالافتتاح بالحمد جهرا، ولم يستحضر الجهر بالبسملة، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر. ا. هـ. فسبحان الله تؤدي حمية العصبية إلى دعوى مثل هذا في أنس بمجرد انفراد أبي مسلمة بقوله عنه: لا أحفظ ما سألتني عنه، ويقدم على روايات غيره، وينسى قوله قبله بأسطر قليلة، أو قاله لهما معا، فحفظه قتادة دون أبي مسلمة، فإنه أحفظ من أبي مسلمة بلا نزاع، ثم بعد هذا التعسف الرائد غاية ما فيه نفي دلالة الحديث على نفي البسملة لا على ثبوتها، إذ الاحتمال قائم مع ما لزم على ذلك التعسف من جره إلى إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو لا يثبت به. "وقد ذكر له الشارح" للألفية مصنفها العراقي "دليلا" فقال: "وأرشد شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر لما يؤخذ منه ذلك، بل قال: إن قول نعيم"، "بضم النون" ابن عبد الله المدني مولى آل عمر "المجمر"، "بسكون الجيم وضم الميم الأولى وكسر الثانية" صفة لنعيم، ولأبيه, لأن كلا منهما كان يجمر، أي: يبخر المسجد، "ثم صليت وراء أبي هريرة، فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم قرأ بأم القرآن" فيه دليل ظاهر على أن البسملة ليست من أم القرآن "حتى بلغ {وَلا الضَّالِّينَ} سقط من المصنف أو نساخه، فقال: آمين: "وقال الناس: آمين، وكان كلما سجد وإذا قام من الجلوس في الاثنتين" أي: الركعتين الأوليين بعد التشهد الأول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 إذا سلم: "والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم" أصح حديث ورد فيه، ولا علة له. وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائي والحاكم، وقد بوب عليه النسائي: الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ولكن تعقب الاستدلال به، لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله: "أشبهكم" في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة. وأجيب: بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة، والخبر ظاهر في جميع الأجزاء فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه. ومع ذلك فيطرقه احتمال أن يكون سماع نعيم لها من أبي هريرة حال مخافتته لقربه منه. وقد قال الإمام فخر الدين الرازي في تصنيف له في الفاتحة روى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة   "يقول: الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم". وخبر قوله أن قول نعيم هو "أصح حديث ورد فيه ولا علة له، وممن صححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه النسائي والحاكم" والسراج وغيرهم، "وقد بوب عليه النسائي الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ". ولكن تعقب الاستدلال به لاحتمال أن يكون أبو هريرة أراد بقوله: أشبهكم في معظم الصلاة لا في جميع أجزائها، لا سيما وقد رواه عنه" أي: أبي هريرة "جماعة غير نعيم بدون ذكر البسملة" في الصحيحين وغيرهما، فيقدم على رواية الواحد. "وأجيب" عن الثاني: "بأن نعيما ثقة، فزيادته مقبولة"، ورد بأن محل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزد أوثق وأكثر عدا، كما قيده به ابن عبد البر وغيره وهو هنا، كذلك وأجيب عن الأول بقوله: "والخبر ظاهر في جميع الأجزاء، فيحمل على عمومه حتى يثبت دليل يخصه" وجوابه أن مادة الجواب يكفي فيها الاحتمال، وهو قائم بخلاف مادة النقض، فلا بد من التحقق، تم إلى هنا كلام الحافظ في الفتح وما بعده زيادة من السخاوي وهو: "ومع ذلك"، أي: كون زيادة الثقة مقبولة، "فيطرقه احتمال أن يكون سماع نعيم لها" أي: البسملة "من أبي هريرة" حصل "حال مخافتته،" أي: إسراره "لقربه منه" يعني: فلا يخالف رواية الجماعة عنه بدون البسملة، لكن يدفع هذا الاحتمال ما يأتي أن أبا هريرة كان يرى الجهر بها. "وقد قال الإمام فخر الدين الرازي في تصنيف له في الفاتحة: روى الشافعي بإسناده الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 فصلى بهم ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يكبر عنده الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية سرقت الصلاة، أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، أين التكبير عند الركوع والسجود، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير. ثم قال الشافعي: وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان الأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب قوته. انتهى. وهو حديث حسن أخرجه الحاكم في صحيحه والدارقطني وقال: إن رجاله ثقات. ثم قال الإمام بعد: وقد بينا أن هذا -يعني الإنكار المتقدم- يدل على أن الجهر بهذه الكلمة كالأمر المتواتر فيما بينهم.   أن معاوية" بن أبي سفيان "قدم المدينة" في خلافته، "فصلى بهم ولم يقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار" أي: الحاضرون منهم ساعتئذ: "يا معاوية سرقت الصلاة" أي: نقصت منها شيئا، وفي نسخة أسرقت بالاستفهام وعدمه أظهر هنا، لأنه توبيخ له فيما فعله، "أين {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ أين التكبير عند الركوع والسجود؟، فأعاد الصلاة مع التسمية والتكبير"؛ لأنه مجتهد، فأداه اجتهاده إلى موافقتهم حينئذ، "ثم قال الشافعي" بعد روايته هذه القصة: "وكان معاوية سلطانا عظيم القوة شديد الشوكة، فلولا أن الجهر بالتسمية والتكبير كان الأمر المتقرر عند كل الصحابة من المهاجرين والأنصار لما قدروا على إظهار الإنكار عليه بسبب قوته. انتهى" كلام الرازي. ولا دليل في القصة لما ذكر، إذ المسألة ذات خلاف، فأنكروا عليه بمذهبهم، فأداه اجتهاده إلى موافقتهم، وأعاد الصلاة دفعا لما قد يحصل مما يؤدي إلى التقاطع، خصوصا وهو يريد أن يزيل ما في نفوسهم له، إذ كان بعد الحروب الواقعة له معهم في صفين، "وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في صحيحه" يعني: المستدرك "والدارقطني، وقال: إن رجاله ثقات" لكنه ليس بمرفوع كما ترى، "ثم قال الإمام" الرازي "بعد"، "بضم الدال"، "وقد بينا أن هذا يعني الإنكار المتقدم" على معاوية "يدل على أن الجهر بهذه الكلمة" أي: البسملة "كالأمر المتواتر فيما بينهم" لكن تركه، أي الجهر لا يلزم منه بطلان الصلاة، إذ هو سنة، فإعادة معاوية والجماعة الصلاة لا يقول بها المستدلون بهذه القصة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 وكذا قال الترمذي عقب إيراده، بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث معتمر بن سليمان عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان عن أبي خالد الوالبي الكوفي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . ووافقه على تخريجه الدارقطني، وأبو داود وضعفه، بل وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك. والبيهقي في المعرفة، واستشهد له بحديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بها صوته. الحديث، وهو عند الحاكم في مستدركه أيضا، ما نصه: وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب رسول الله منهم: أبو هريرة، وابن عمر، وابن الزبير، ومن بعدهم من التابعين رأوا الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وبه يقول الشافعي. انتهى. وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذي يروم تحقيق هذه المسألة ينبغي أن   "وكذا قال الترمذي عقب إيراده بعد أن ترجم بالجهر بالبسملة حديث" مفعول إيراده "معتمر بن سليمان" التيمي البصري "عن إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان" الأشعري، مولاهم الكوفي، صدوق، "عن أبي خالد الوالبي"، "بلام مكسورة فموحدة"، "الكوفي" اسمه هرمز، ويقال: هرم. "عن ابن عباس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووافقه" أي: الترمذي "على تخريجه الدارقطني وأبو داود وضعفه، بل وقال الترمذي" نفسه الذي ترجم عليه بذلك "ليس إسناده بذاك" أي: لا يحتج به لضعفه، "و" رواه "البيهقي في المعرفة، واستشهد له بحديث سالم" بن عبد الله "الأفطس" الأموي، مولاهم الحراني، ثقة، رمي بالإرجاء. "عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد بها صوته. الحديث، وهو عند الحاكم في مستدركه أيضا ما نصه" مقول قوله وكذا قال الترمذي: وما بين ذلك اعتراض، "وقد قال بهذا عدة" أي: جماعة "من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو هريرة وابن عمر وابن الزبير ومن بعدهم من التابعين رأوا الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وبه يقول الشافعي" أي: باستحباب الجهر بها. "انتهى" كلام شارح الألفية. "وقال الشيخ أبو أمامة بن النقاش: والذي يروم تحقيق هذه المسألة" بحثه عنها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 يعرف أن هذه المسألة بعلم القراءات أمس، وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان يقرأ بها آية من الفاتحة منهم عاصم وحمزة والكسائي وابن كثير وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة كابن عامر، وأبي عمرو، ونافع في رواية عنه. وحكم قراءتها في الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن، لزمه فرضا أن يقرأ بها. ومن قرأ على قراءة من لم يرها من أم   "ينبغي أن يعرف أن هذه المسألة بعلم القراءات أمس" من بحثه عنها في الأحاديث، لأنها آحاد فلا يتمسك بها هنا، إذ القرآن لا يثبت إلا بالقطع، حتى قيل: إن كان الحق الثبوت، فالنافي أسقط آية، وإن كان النفي، فالمثبت زاد آية، والزيادة والنقص في القرآن كفر، لكن قال ابن الحاجب: قوة الشبهة من الجانبين منعت من التكفير، "وذلك أن من القراء الذين صحت قراءتهم وتواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم، منهم من كان يقرأ بها آية من الفاتحة، منهم عاصم" بن بهدلة وهو ابن أبي النجود "بنون وجيم" الأسدي، مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق في الحديث، له أوهام وهو حجة في القراءة، روى له الستة، لكن حديثه في الصحيحين مقرون، مات سنة ثمان وعشرين ومائة، "وحمزة" بن حبيب الزيات القارئ أبو عمارة الكوفي، التميمي، مولاهم صدوق، زاهد، ولد سنة ثمانين ومات سنة ست أو ثمان وخمسين ومائة، روى له مسلم والأربعة، "والكسائي" علي أبو الحسن المشهور "وابن كثير" عبد الله الداري المكي أبو سعيد القارئ، أحد الأئمة، صدوق، مات سنة عشرين ومائة، "وغيرهم من الصحابة والتابعين، ومنهم من لا يعدها آية من الفاتحة، كابن عمر" عبد الله بن عامر بن يزيد الدمشقي، المقرئ تابعي، ثقة، روى له مسلم والترمذي، مات سنة ثماني عشرة ومائة وله سبع وتسعون سنة على الصحيح، "وأبي عمرو" بن العلاء بن عمار بن العريان المازني، النحوي، اسمه زيان على الأشهر، أو العريان، وهو الأصح عند الصولي، مات سنة أربع وخمسين ومائة، "ونافع" بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، وقد ينسب لجده، صدوق في الحديث، ثبت في القراءة، مات سنة تسع وستين ومائة "في رواية عنه" وهي رواية ورش، وروى عنه قالون إثباتها قال السيوطي: فدل على أن القراءتين تواترتا عنده فقرأ بهما معا كل بأسانيد متواترة وقد قرأ نصف القراء السبعة بإثباتها، ونصفهم بحذفها، فمن قرأ بها فهي متواترة في حرفه إليه، ثم منه إلينا، ومن قرأ بحذفها، فحذفها في حرفه متواتر إليه، ثم منه إلينا، "وحكم قراءتها في الصلاة حكم قراءتها خارجها، فمن قرأ على قراءة من جعلها من أم القرآن، لزمه فرضا أن يقرأ بها" في الصلاة "ومن قرأ على قراءة من لم يرها من أم القرآن، فهو مخير بين القراءة والترك" بمعنى: أن قراءتها لا تبطل الصلاة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 القرآن فهو مخير بين القراءة والترك. فحينئذ الخلاف فيها كالخلاف في حرف من حروف القرآن، وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته ولا على منفيه. ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم تارة قرأها، وتارة لم يقرأها، هذا هو الإنصاف. ثم قال: والمتيقن الذي يجب المصير إليه، أن كلا من القولين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراءات السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله، وليست هذه أول كلمة ولا أول حرف اختلف في إثباته وحذفه، وقل سورة في القرآن ليس فيها ذلك، كلفظ "هو" في سورة الحديد {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ولفظ، "من" في سورة التوبة، في قوله: "جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"، وألفات عديدة وواوات، وهاءات كذلك، وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذي يدل على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الناس، وقوله: "إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن، فما   فلا ينافي أن مشهور مذهب مالك كراهتها في صلاة الفرض، "فيحنئذ الخلاف فيها كالخلاف في حرف من حروف القرآن وكلا القولين صحيح ثابت لا مطعن على مثبته، ولا على منفيه" عبر به للمشاكلة، وإلا فالظاهر نافيه، قال القاموس: نفاه ينفيه، وينفوه، عن أبي حيان: نحاه فنفي هو وانتفى تنحى، "ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم تارة قرأها، وتارة لم يقرأها، هذا هو الإنصاف" ويؤيده ما جاء عن ابن عباس، قال: نزلت الفاتحة مرة بمكة ومرة بالمدينة ببسملة في واحدة وبدونها في الأخرى، "ثم قال" أبو أمامة: "والمتيقن" وفي نسخة: والمستيقن بسين التأكيد لا الطلب، وحذفها ظاهر "الذي يجب المصير إليه أن كلا من القولين ثابت، لأنه لا يختلف اثنان من أهل الإسلام أن هذه القراءات السبع كلها حق مقطوع بها من عند الله" نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم "وليست هذه" أي: البسملة "أول كلمة ولا أول حرف اختلف في إثباته وحذفه، وقل سورة في القرآن ليس فيه ذلك، كلفظ: هو في سورة الحديد {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بيان لما في السورة، فإن بعضهم قرأ: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، ومنهم من قرأ بحذف هو، "ولفظ "من" في سورة التوبة" براءة، "في قوله: "جَنَّاتٍ تَجْرِي من تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ", فإنها قراءة ابن كثير وقراءة غيره بدون من، "وألفات عديدة وواوات وهاءات كذلك" قرئ بإثباتها ونفيها في السبع، "وكل هذا من نتيجة كون القرآن أنزل على سبعة أحرف، وهذا هو الذي يدل على بطلان قول من لم يجعلها من الفاتحة لموضع اختلاف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 أدري ما هذا الظن. وهذا الذي ذكرناه هو الذي يريحك من تلك الضرورات من الحالتين. ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين، الجهر والإسرار، فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره، وقد صح في الجهر أحاديث، لا مطعن فيها لمنصف نحو ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح في الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار من العصبية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان الجهر فقط. انتهى. وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر الإمام الشافعي وغلب ذكره؟ فقال: أرى ذلك لإظهار البسملة لكل صلاة.   الناس، وقوله" بالجر عطف على بطلان، "إن الاختلاف لا يثبت معه قرآن" لأن شرطه الاتفاق، وهذا إشارة إلى قول أبي بكر بن العربي: يكفيك أنها ليست من الفاتحة اختلاف الناس فيها، والقرآن لا يختلف فيه. "فما أدري ما هذا الظن" لثبوت القراءة المتواترة بالوجهين، "وهذا الذي ذكرناه هو الذي يريحك من تلك الضرورات من الحالتين" من أن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى بالظن، "ثم قال: ولا ريب أن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كلا الأمرين: الجهر والإسرار" وترك القراءة بها أصلا، كما صرح به أولا بقوله: وتارة لم يقرأها "فجهر وأسر، غير أن إسراره كان أكثر من جهره" وكذا خلفاؤه، "وقد صح في الجهر أحاديث لا مطعن فيها لمنصف، نحو: ثلاثة أحاديث، كما أنه قد صح في الإسرار بها أحاديث لا مطعن فيها لعار" أي: خال "من المعصية، ولا يلتفت لمن يقول: إن الواقع من النبي صلى الله عليه وسلم كان الجهر فقط،" لأنه خلاف الواقع. "انتهى" كلام أبي أمامة. وذكره بنحوه الحافظ ابن حجر، كما نقله عنه تلميذه البقاعي في معجمه وأشار إليه باختصار أستاذ القراء المتأخرين الشمس ابن الجزري. "وقيل لبعض العارفين: بماذا ترى ظهر الإمام الشافعي وغلب ذكره، فقال: أرى ذلك لإظهار البسملة لكل صلاة" وعلوم الشافعي وعباداته وورعه وتقواه أجل من أن يقصر سبب ظهوره على إظهار مسألة مختلف فيها قديما وحديثا، بل قصره عليها كالتنقيص له، والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 الفرع الثالث: في قراءته الفاتحة وقوله آمين بعدها كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: "آمين". ومد بها صوته، وفي رواية: وخفض بها صوته، رواه الترمذي. وفي رواية أبي داود: ورفع بها صوته، وفي رواية له: جهر بآمين. وقال ابن شهاب: وكان صلى الله عليه وسلم إذ قال: {وَلا الضَّالِّينَ} جهر بآمين، أخرجه السراج. وهو ضعيف ولابن حبان من رواية الزبيدي عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته وقال: آمين.   "الفرع الثالث: في قراءته الفاتحة، وقوله: آمين بعدها" معناه: اللهم استجب عند الجمهور، وقيل: غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، كما بسطه في الفتح "كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال: "آمين". ومد" أي: رفع "بها صوته". "وفي رواية: وخفض بها صوته" ولو صحت لأمكن الجمع بينهما بأنه كان يجهر في الجهرية ويخفض في السرية، كما هو المندوب عند الشافعية، لكن خطأ البخاري رواية خفض بها صوته "رواه الترمذي" أي: ما ذكر من الروايتين. "وفي رواية أبي داود: ورفع بها صوته" وهي مبينة لرواية مد بها، "وفي رواية له جهر بآمين، وقال ابن شهاب" محمد بن مسلم: "وكان صلى الله عليه وسلم إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} جهر بآمين، أخرجه السراج" بشد الراء نسبة إلى عمل السروج أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي، مولاهم النيسابوري الحافظ الإمام الثقة، روى عن إسحاق بن راهويه وغيره، وعنه الشيخان وغيرهما، مات في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة عن بعض وستين سنة، وهذا أخرجه السراج من رواية روح بن عبادة عن مالك عن ابن شهاب بهذا اللفظ وهو في الموطأ والصحيحين، بلفظ: قال ابن شهاب: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "آمين". لم يقل: يجهر، فرواية روح شاذة، ثم هو مرسل وقد وصله حفص بن عمر العدني، عن مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به حفص "وهو ضعيف، ولابن حبان من رواية الزبيدي"، "بضم الزاي بعدها موحدة" محمد بن الوليد الحمصي، ثقة، ثبت، من كبار أصحاب الزهري، مات سنة بضع وأربعين ومائة. "عن ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال": "آمين" مرة واحدة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 وللحميدي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة نحوه بلفظ: إذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} . ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر نحو رواية الزبيدي. وفيه رد على من أومأ إلى النسخ فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهل بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر. الفرع الرابع: في ذكر قراءته بعد الفاتحة في صلاة الغداة عن أبي برزة: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة. رواه   وفي رواية: ثلاث مرات. قال الحافظ: الظاهر أنه يعني أنه رآه في ثلاث صلوات، فعل ذلك لا أنه ثلث التأمين، "وللحميدي من طريق سعيد" بن أبي سعيد كيسان "المقبري"، "بفتح الموحدة وضمها"، "عن أبي هريرة نحوه، بلفظ: إذا قال {وَلا الضَّالِّينَ} ولأبي داود من طريق أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة، عن أبي هريرة مثله، وزاد: حتى يسمع من يليه من الصف الأول، "ولأبي داود: وصححه ابن حبان من حديث وائل بن حجر"، "بضم المهملة وسكون الجيم" ابن سعد الحضرمي، صحابي جليل، وكان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة ومات زمن معاوية "نحو رواية الزبيدي", فاعتضد مرسل الزهري بمسند أبي هريرة ووائل، "وفيه رد على من أومأ إلى النسخ، فقال: إنما كان صلى الله عليه وسلم يجهر بالتأمين في ابتداء الإسلام ليعلمهم، فإن وائل بن حجر إنما أسلم في أواخر الأمر" وأجيب: بأنه كان يجهر أحيانا لبيان الجواز. "الفرع الرابع: في ذكر قراءته بعد الفاتحة في صلاة الغداة" أي الصبح "عن أبي برزة" بفتح الموحدة فراء ساكنة فزاي مفتوحة فهاء، الأسلمي نضله، بنون مفتوحة فضاد معجمة ساكنة، فلام ابن عبيد، بضم العين: صحابي مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة وغزا خراسان، ومات بها سنة خمس وستين على الصحيح، قال: "كان صلى الله عليه سلم يقرأ في صلاة الغداة ما بين الستين إلى المائة" من الآيات، وقدرها في رواية الطبراني بالحاقة ونحوها، ولمسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالصافات، وللحاكم بالواقعة، وللسراج بسند صحيح بأقصر سورتين في القرآن، وهذا الاختلاف وغيره يرجع إلى اختلاف الأحوال. قال الكرماني: القياس أن يقول ما بين الستين والمائة، لأن لفظ بين يقتضي الدخول على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 النسائي. وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] . وعن جابر بن سمرة قال كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ونحوها، وكانت قراءته بعد تخفيفا. رواه مسلم. وعن عبد الله بن السائب قال: صلى صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة، فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى -شك الراوي، أو اختلف عليه-   متعدد، ويحتمل أن التقدير بين الستين وفوقها، فحذف لفظ فوقها لدلالة الكلام عليه، "رواه النسائي" فيه تقصير كبير، فقد رواه الشيخان معا عن أبي برزة بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يكتب، رواه البخاري فطغى عليه القلم. "وعن عمرو"، "بفتح العين"، "ابن حريث"، "بضم المهملة ومثلثة" ابن عمرو القرشي، المخزومي، صحابي صغير مات سنة خمس وثمانين "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر" أي: الصبح، {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} " أقبل بظلامه أو أدبر، "رواه مسلم" والمراد يقرأ السورة التي منها هذه الآية، بدليل أن "رواية النسائي" عن عمرو بن حريث أنه سمعه "يقرأ في الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} لففت وذهب بنورها. "وعن جابر بن سمرة" بن جنادة السوائي صحابي ابن صحابي، "قال: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر" أي: الصبح "بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} " ونحوها، كالنجم وتبارك، "وكانت قراءته بعد" بموحدة وضم الدال، أي: بعد ذلك "تخفيفا، رواه مسلم" قال الأبي: ليس معناه أنه صار بعد ذلك يخفف، بل ظاهره أن {ق} من التخفيف، فالمعنى: ثم استمر على نحو ذلك من التخفيف، ويشهد لذلك قوله في الرواية الأخرى: كان يخفف يقرأ في الفجر بـ {ق} . ا. هـ. وصحف من قرأه بفوقية من العد، وقال: أي: لا تطويلا وإن أطالها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس صوتا وأصدقهم قلبا، فقراءته يوقع سماعها في قلوب الناس رغبة. "وعن عبد الله بن السائب" القرشي، المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة، وكان قارئ أهل مكة، مات سنة بضع وستين، "قال: صلى" بنا النبي "صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة" زاد في رواية النسائي في فتح مكة، "فاستفتح سورة المؤمنين" وفي نسحة: المؤمنون، وكلاهما صحيح "حتى جاء ذكر موسى وهارون" أي: قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ} [المؤمنون: 45] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع. الحديث رواه مسلم. قال النووي: فيه جواز قطع القراءة، وجواز القراءة ببعض السورة. وكرهه مالك. وتعقب: بأن الذي كرهه مالك أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه. وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كل من الموضعين يقع في وسط آية، نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل.   "أو ذكر عيسى" أي: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً} "شك الراوي" محمد بن عباد بن جعفر راوي الحديث، عن رجال ثلاثة, عن عبد الله بن السائب كما في مسلم، "أو اختلف عليه" من رواته، فمنهم من قال: موسى وهارون، ومنهم من قال: عيسى "أخذت النبي صلى الله عليه وسلم سعلة" بفتح السين وسكون العين المهملتين من السعال، ويجوز ضم السين، ولابن ماجه: فلما بلغ ذكر عيسى وأمه أخذته سعلة، أو قال: شهقة. وفي رواية له: أخذته شرقة "بمعجمة وراء وقاف" "فركع، الحديث رواه مسلم" وغيره، وعلقه البخاري بلفظ يذكر لاختلاف في إسناده وإن لم يقدح. "قال النووي: فيه جواز قطع القراءة،" بل قال في الفتح يؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال، ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما يستحب فيه تطويلها قال: وقوله في رواية مسلم، فحذف، أي ترك القراءة، وفسره بعضهم برمي النخامة الناشئة عن السعلة، والأول أظهر لقوله: فركع ولو كان أزال ما عاقه عن القراءة لتمادى فيها، "وجواز القراءة ببعض السورة" ولو اختيارا، "وكرهه مالك. ا. هـ". "وتعقب بأن الذي كرهه مالك" كراهة تنزيه "أن يقتصر على بعض السورة مختارا، والمستدل به ظاهر في أنه كان للضرورة فلا يرد عليه، وكذا يرد على من استدل به على أنه لا يكره قراءة بعض الآية أخذا من قوله: حتى جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى، لأن كلا من الموضعين يقع في وسط آية" يعني: فيرد عليه، بأنه ظاهر في الضرورة، كما أشار إليه الحافظ بقوله: وفيه ما تقدم "نعم الكراهة لا تثبت إلا بدليل" ذكر الحافظ بعد هذا بنحو صفحة دليله، فقال: سبب الكراهة فيما يظهر أن السورة يرتبط بعضها ببعض، فأي موضع قطع فيه لم يكن كانتهائه إلى آخر السورة، فإنه إن قطع في وقف غير تام كانت الكراهة ظاهرة، وإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 وأدلة الجواز كثيرة: وفي حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في ركعتين، وأم أبو بكر بالصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها في الركعتين. وهذا إجماع منهم. وقرأ صلى الله عليه وسلم في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين كلتيهما، قال الراوي: فلا أدري أنسي أم قرأ ذلك عمدا. روه أبو داود. وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صبح يوم الجمعة {الم} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى   قطع في وقف تام فلا يخفى أنه خلاف الأولى. وقد تقدم في الطهارة قصة الأنصاري الذي رماه العدو بسهم فلم يقطع صلاته، وقال: كنت في سورة فكرهت أن أقطعها وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. ا. هـ. "وأدلة الجواز كثيرة، وفي حديث زيد بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في ركعتين" أي: ركعتي المغرب. روى ابن خزيمة عن عروة، قال: قال زيد بن ثابت لمروان: إنك لتخفف القراءة في الركعتين من المغرب، فوالله لقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعا، وأصله في الصحيح: "وأم أبو بكر" الصديق "بالصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة قرأها في الركعتين. أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر، "وهذا إجماع منهم" أي: الصحابة، "وقرأ صلى الله عليه وسلم في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} في الركعتين كلتيهما، أي: أتمها في الأولى، وأعادها في الثانية كما جاء في رواية أخرى. "قال الراوي" يعني الصحابي وهو رجل من جهينة، "فلا أدري أنسي؟ " لأنه مخالف لعادته في أنه لا يعيد السورة في الركعة الثانية "أم قرأ ذلك عمدا؟ " لإفادة أن ذلك لا يضر في الصلاة، "رواه أبو داود" عن معاذ بن عبد الله الجهني أن رجلا من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح {إِذَا زُلْزِلَتِ} وحاصل اختلاف الأحاديث بتطويل القراءة، وبتخفيفها يدل على السعة، وأنه لا حد, والتخفيف هو المشروع للأئمة والتطويل إنما أخذ من فعله صلى الله عليه وسلم وقد عارضه وقضى عليه أمره بالتخفيف، وعلله بما يوجب تأويل فعله، لأنه صلى الله عليه وسلم شرعه في معرض البيان، فيحمل تطويله على أنه لبيان الجواز، أو لأنه علم أن من وراءه ومن يدخل بعده لا يشق ذلك عليهم، ولذلك إنما فعله في بعض الأحيان، أو لأنه مأمور بتبليغ القرآن وقراءته على الناس، فحاله في ذلك مخالف لحال غيره، نقل ذلك أبو عبد الله الأبي "وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صبح الجمعة {الم} السجدة "بالنصب عطف بيان في الركعة الأولى"، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} في الركعة الثانية كما في رواية لمسلم في نفس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 15] رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة. وإنما كان يقرأهما كاملتين، وقراءة بعضها خلاف السنة. وإنما كان يقرأ بهما لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد، وخلق آدم، ودخول الجنة والنار، وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان يقع يوم الجمعة. ذكره ابن دحية في "العلم المشهور" وقرره تقريرا حسنا، كما أفاده الحافظ ابن حجر. وقال: قد ورد في حديث ابن مسعود التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على قراءتها في صبح الجمعة. أخرجه الطبراني، ولفظه "يديم ذلك" وأصله في ابن ماجه لكن بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم إرساله. قال: وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه فقال في الكلام على حديث الباب: "ليس فيه ما يقتضي فعل ذلك دائما اقتضاء قويا"، وهو كما قال بالنسبة   هذا الحديث، ويأتي مثله من حديث علي. "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي" كلهم "من حديث" سفيان الثوري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، عن الأعرج، عن "أبي هريرة" ومسلم من حديث ابن عباس مثله، وكذا ابن ماجه من حديث ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص والطبراني من حديث علي، "وإنما كان يقرأهما كاملتين" كما هو ظاهر الأحاديث "وقراءة بعضه خلاف السنة" الكاملة المطلوبة وإن كان يحصل به أصل السنة كما هو مقرر عند الشافعية، "وإنماكان يقرأ بهما" أي: حكمة تخصيصهما "لما اشتملتا عليه من ذكر المبدأ والمعاد وخلق آدم ودخول الجنة والنار وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان ويقع يوم الجمعة" كذا في نسخ وفي بعضها: كائن ويقع. وفي بعضها: لأن ذلك يقع بإسقاط كان أو كائن والواو، ومعنى الأولى على التوزيع، أي: لأن بعض ذلك وهو المبدأ وخلق آدم كن، أي: وجد والباقي يقع يوم الجمعة. "ذكره ابن دحية في العلم المشهور" اسم كتاب "وقرره تقريرا حسنا كما أفاده الحافظ ابن حجر" في فتح الباري، "وقال قد ورد" لفظه وفيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر به الصيغة من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك أو إكثاره منه، بل ورد "في حديث ابن مسعود التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على قراءتها في صبح يوم الجمعة، أخرجه الطبراني، ولفظه يديم ذلك وأصله في ابن ماجه، لكن بدون هذه الزيادة ورجاله ثقات، لكن صوب أبو حاتم" الرازي "إرساله قال" أي الحافظ: "وكأن ابن دقيق العيد لم يقف عليه، فقال في الكلام على حديث الباب ليس فيه ما يقتضي فعل ذلك دائما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 لحديث الباب، فإن الصيعة ليست نصا في المداومة، لكن الزيادة المذكورة تنص في ذلك، ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس بلفظ: "كل جمعة" أخرجه الطبراني في الكبير. وأما تعيين السورة للركعة فورد من حديث علي -الطبراني- بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة {الم، تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] ، وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} . وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السورة السجدة في الصلاة. فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض. قال القرطبي: وهو تعليل فاسد، بشهادة هذا الحديث. وقيل: لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية   اقتضاء قويا" لأن كان مع المضارع لا تقتضيه على الأصح، "وهو كما قال بالنسبة لحديث الباب، فإن الصيغة ليست نصا في المداومة لكن الزيادة المذكورة تنص في ذلك" منعه شيخنا بأن الدوام يحمل على الأكثر، لأن في رواية أنه قرأ في الثانية بـ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} فليست بنص، وفي نسخة: نصا بنصبه معمول لمحذوف مثل تكون نصا، "ولهذه الزيادة شاهد من حديث ابن عباس، بلفظ: كل جمعة أخرجه الطبراني في الكبير، وأما تعيين السورة للركعة، فورد من حديث علي" بن أبي طالب "عند الطبراني" في الأوسط، بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الصبح يوم الجمعة {الم, تَنْزِيلُ} بضم اللام على الحكاية، "وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ، وعلى المؤلف مؤاخذة لاقتضائه أن التعيين لم يقع في حديث أبي هريرة مع أنه في مسلم من طريق إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صبح يوم الجمعة بـ {الم, تَنْزِيلُ} في الركعة الأولى، وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} وباستحباب ذلك قال أكثر العلماء من الصحابة والتابعين والشافعي وأحمد، وكره مالك في المدونة أن يقرأ بسورة فيها سجدة. "وقد اختلف تعليل المالكية لكراهة قراءة السورة السجدة في الصلاة" صبح يوم الجمعة أو غيرها من بقية الصلوات جهرية أو سرية، "فقيل: لكونها تشتمل على زيادة سجود في الفرض، قال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث، وقيل: لخشية التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية" فلا كراهة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط. لكن صح من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظهر فسجد بهم فيها. رواه أبو داود والحاكم، فبطلت التفرقة. ومنهم من علل الكراهية بخشية اعتقاد العوام أنها فرض. قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلق فيأباه الحديث، لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة فينبغي أن يترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة، وهو يحصل بالترك في بعض الأوقات. انتهى. وقال صاحب "المحيط" من الحنفية: يستحب قراءتهما في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم سجد   "والسرية" فيكره، "لأن الجهرية يؤمن معها التخليط" وبه قال ابن وهب عملا بهذا الحديث "لكن صح من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فيها سجدة في صلاة الظهر فسجد بهم فيها رواه أبو داود والحاكم فبطلت التفرقة" لا بطلان لأنه صلى الله عليه وسلم يفعل المكروه لغيره لبيان الجواز، "ومنهم من علل الكراهية" بالتخفيف بزنة طواعية وفي نسخة الكراهة بلا ياء "بخشية اعتقاد العوام أنها فرض" وهذا مشاهد حتى أنهم يسألون عن صحة صلاة تاركها في صبح الجمعة. "قال ابن دقيق العيد: أما القول بالكراهة مطلقا فيأباه الحديث لكن إذا انتهى الحال إلى وقوع هذه المفسدة" وهي اعتقاد المستحب فرضا، "فينبغي أن يترك أحيانا لتندفع، فإن المستحب قد يترك لدفع المفسدة المتوقعة وهو" أي: الدفع "يحصل بالترك في بعض الأوقات. انتهى". وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: ينبغي أن يفعل ذلك في الأغلب للقدوة ويقطع أحيانا لئلا يظنه العامة سنة. "وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءتهما في صبح الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره" زاد الحافظ: وأما صاحب الهداية منهم، فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي وإيهام التفضيل، وقول الطحاوي يناسب قول صاحب المحيط، فإنه خص الكراهة بمن يراه لا يجزئ غيره أو يرى القراءة بغيره مكروهة. "قال الحافظ ابن حجر: ولم أر في شيء من الطرق التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 لما قرأ سورة {الم، تَنْزِيلُ} في هذا المحل، إلا في كتاب "الشريعة" لابن أبي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غدوت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد. الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله. انتهى. وعن علي عند الطبراني في المعجم الأوسط: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في الصبح يوم الجمعة في {الم، تَنْزِيلُ} وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد. الفرع الخامس: في ذكر قراءته في صلاتي الظهر والعصر عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم   {الم، تَنْزِيلُ} في هذا المحل إلا في كتاب الشريعة لابن أبي داود" عبد الله ابن الحافظ الكبير سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب التصانيف، رحل وسمع وبرع وساد الأقران، وكان فقيها عالما، حافظا متقنا "من طريق أخرى عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: غدوت على النبي صلى الله عليه وسلم" أي: ذهبت، فعلى بمعنى إلى أو ضمنه معنى نزلت أو نحوه "يوم الجمعة في صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد. الحديث، وفي إسناده من ينظر في حاله. انتهى". "وعن علي عند الطبراني في المعجم الأوسط" الذي في الفتح، وتبعه المصنف في الشرح في المعجم الصغير "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في الصبح يوم الجمعة في {الم، تَنْزِيلُ} وهذه الزيادة حسنة تدفع احتمال أن يكون قرأ السورة ولم يسجد" في قوله: حسنة نظر، فإن الحافظ قال: في إسناده ضعف، وتبعه المصنف في شرح البخاري، وقيل: حكمة اختصاص يوم الجمعة بقراءة سورة السجدة، فضل السجود الزائد حتى قيل: إنه يستحب لمن لم يقرأ هذه السورة بعينها أن يقرأ سورة غيرها فيها سجدة، لكن عاب ذلك على قائله غير واحد من العلماء، ونسبهم صاحب الهدى إلى قلة العلم ونقص المعرفة، لكن ثبت ذلك عن إبراهيم النخعي، الكوفي التابعي، وابن عون وابن سيرين من أهل البصرة، فلا ينبغي القطع بتزييفه، كما في الفتح والله أعلم. الفرع الخامس: في ذكر قراءته في صلاتي الظهر والعصر": عن أبي قتادة" الحارث أو النعمان بن ربعي "بكسر الراء وسكون الموحدة"، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية، وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح. رواه البخاري ومسلم. قال الشيخ تقي الدين السبكي: كان السبب في تطويله الأولى على الثانية أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الملل. انتهى.   في الركعتين الأوليين"، "بضم الهمزة وتحتيتين تثنية الأولى "بأم الكتاب". وفي رواية: بأم القرآن وأخرى بفاتحة الكتاب، "وسورتين" في كل ركعة منهما بسورة، ففي رواية: بأم الكتاب وسورة سورة "وفي الركعتين الأخريين"، "بضم الهمزة وتحتيتين" بأم الكتاب" فقط "ويسمعنا"، "بضم أوله من أسمع" الآية أحيانا" أي: في أحيان جمع حين، وهو يدل على تكرر ذلك منه، وفيه جواز قليل الجهر في السرية وليس فيه ما يفيد، أنه قرأ بعد الفاتحة شيئا في الأخريين، لأنه ينابذ ما قبله، أنه كان يقرأ بأم الكتاب، فإنما هو عائد للسورتين المقروءتين في الأوليين، ويقطع بذلك أن قوله: ويسمعنا الآية ثابت في جميع الطرق عند الشيخين، وأما قوله: وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب فثابت عندهما في طريق واحدة، "ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية" كذا لكريمة من التطويل وما نكرة موصوفة، أي: تطويلا لا يطيله في الثانية، أو مصدرية، أي: غير إطالته في الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر ما لا يطيل، ولأبي ذر عن المستملي والحموي بما لا بموحدة، كذا في الفرع وأصله، قاله المصنف، وقال الحافظ: قوله ما لا يطيل، كذا للأكثر، ولكريمة ما لا يطول، وما نكرة موصوفة أو مصدرية. وفي رواية المستملي والحموي بما لا يطيل، "وهكذا" يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الأخريين بها فقط ويطول في الأولى "في" صلاة "العصر وهكذا" يطيل في الركعة الأولى "في" صلاة "الصبح" فالتشبيه في تطويل المقروء بعد الفاتحة فقط بخلاف تشبيه العصر فأعم، "رواه البخاري ومسلم" من طريق همام عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه به، وعندهما من طريق شيبان عن يحيى بن أبي كثير بإسناده، بلفظ: وكان يقرأ في صلاة العصر بفاتحة الكتاب وسورتين وكان يطول في الأولى، أي: ويقصر في الثانية وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية وتقاس المغرب والعشاء عليها. "قال الشيخ تقي الدين السبكي", كذا هنا، والذي في الفتح تقي الدين فقط والظاهر أنه ابن دقيق العيد، لأنه علم بالاستقراء أنه إذا أطلقه فهو المراد "كان السبب في تطويله الأولى على الثانية أن النشاط في الأولى يكون أكثر، فناسب التخفيف في الثانية حذرا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 وروى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى في آخر هذا الحديث: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. وعن أبي سعيد الخدري قال: كنا نحزر -أي نقدر- قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر {الم, تَنْزِيلُ} السجدة، وفي رواية: في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من العصر على النصف من ذلك. رواه مسلم. وعن جابر بن سمرة: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] ،   الملل" السآمة "انتهى". "وروى عبد الرزاق" بن همام "عن معمر" ابن راشد "عن يحيى" بن أبي كثير "في آخر هذا الحديث فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى" ولأبي داود وابن خزيمة نحوه من رواية أبي خالد عن سفيان عن معمر وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، قال: إني لأحب أن يطول الإمام الركعة الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس وفيه استحباب تطويل الأولى على الثانية، ولا يخالف حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيح، حيث قال: أحمد، أي: طول في الأوليين، لأن المراد تطويلهما على الأخيرتين إلا التسوية بينهما في الطول. "وعن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان "قال: كنا نحزر" بكسر الزاي وضمها ضبطه النووي وغيره "أي نقدر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر {الم, تَنْزِيلُ} بضم اللام على الحكاية "السجدة" بالجر بدل والنصب بأعني والرفع خبر، أي: وهي السجدة. "وفي رواية" عن أبي عدي كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الأوليين "في كل ركعة قدر ثلاثين آية وحزرنا قيامه في" الركعتين "الأخريين قدر النصف من ذلك"؛ لأنه كان يرتل الفاتحة كما في مسلم عن حفصة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، فلا حجة فيه لمن استدل به على استحباب زائد عن الفاتحة في الأخريين، "وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من العصر على النصف من ذلك"؛ لأنه يرتل أم القرآن، وفي رواية لابن ماجه أن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة، "رواه مسلم" أي: المذكور من الروايتين. "وعن جابر بن سمرة كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر بـ {اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 وفي رواية بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي العصر نحو ذلك. رواه مسلم. وعنه: كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، رواه أبو داود والترمذي. وعن البراء: كنا نصلي خلفه صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من لقمان والذاريات. رواه النسائي. قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الأخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية. وكأنه مأخوذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها. ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين، وهو بعيد جدا. انتهى. وعن أنس: قرأ صلى الله عليه وسلم في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] رواه النسائي.   بهذه السورة "وفي رواية" عنه بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ويقرأ "في العصر نحو ذلك" أي أقل منه، "رواه" أي: المذكور من الروايتين "مسلم" أيضا، "وعنه" أي: جابر بن سمرة: "كان يقرأ في الظهر والعصر" أي في الركعتين الأوليين منهما بعد الفاتحة "بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} " أي: بهاتين السورتين. "رواه أبو داود والترمذي، وعن البراء" بن عازب الصحابي ابن الصحابي، "كنا نصلي خلفه صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من لقمان والذاريات رواه النسائي، قال ابن دقيق العيد فيه" أي: في قوله في حديث أبي قتادة: ويسمعنا الآية أحيانا "دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الإخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين" أي تيقن "ذلك لو كان في الجهرية وكأنه", أي إخباره بأنه يقرأ سورتين في الأوليين من الظهر والعصر "مأخوذ من سماع بعضها" لا بمجرده، بل "مع قيام القرينة على قراءة باقيها" لأن سماع البعض لا يعطي ذلك بدون قرينة، "ويحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين وهو بعيد جدا انتهى" لأنه ليس ثم ما شهد له. "وعن أنس: قرأ صلى الله عليه وسلم في الظهر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} , و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أي: بالسورتين، "رواه النسائي" وابن خزيمة وصححه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 وعن أبي سعيد الخدري كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. رواه مسلم. الفرع السادس: في ذكر قراءته في صلاة المغرب عن أم الفضل بنت الحارث قالت: سمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] . رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود   "وعن أبي سعيد الخدري: كانت صلاة الظهر تقام" في المسجد النبوي: "فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يأتي أهله فيتوضأ، ويدرك النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى" لأنه كان يبادر أول الوقت، فيطيل الأولى لتتوافر الجماعة، لأنها تأتي والناس في قائلتهم وتصرفاتهم، ولهذا استحب تأخير الظهر إلى أن يفيء الفيء ذراعا، وقد ورد هذا المعنى نصا في أبي داود، قال: مظننا أنه يريد أن يدرك الناس الركعة الأولى، وعنده أيضا: كان يقوم حتى لا نسمع وقع قدم، أي: حتى يتكامل الناس، قاله أبو عبد الله الأبي, "رواه مسلم" في الصحيح والله أعلم. الفرع السادس: في ذكر قراءته في صلاة المغرب نحو قول البخاري باب القراءة في المغرب، أي: تقديرها لا إثباتها، لأنها جهرية، بخلاف ما تقدم في باب القراءة بالظهر، فالمراد إثباتها، قاله الحافظ، أي: أن الجهرية يعلم بها جميع من صلى خلفه صلى الله عليه وسلم، بل ومن صلى خلف غيره، فلا حاجة للتنبيه على أصلها، وإنما المحتاج إليه مقدارها بخلاف السرية يحتاج إلى إثباتها لخفائها على المقتدي به صلى الله عليه وسلم. "عن أم الفضل" لبابة بضم اللام وموحدتين خفيفتين "بنت الحارث" الهلالية، يقال: إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة، والصحيح فاطمة بنت الخطاب أخت عمر زوج سعيد بن زيد، "قالت: سمعته صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ"المرسلات عرفا" أي: بهذه السورة "روه البخاري ومسلم" في الصلاة، كلاهما من طريق مالك "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي والنسائي" في الصلاة من رواية ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن أم الفضل، يعني لبابة أمه سمعته، وهو يقرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فقالت: يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب، فاقتصر المصنف على حاجته من الحديث، لكن يوهم قوله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 والترمذي والنسائي. وفي رواية أنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصرح عقيل في روايته عن ابن شهاب: أنها آخر صلاته صلى الله عليه وسلم ولفظه: ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله. أورده البخاري في باب الوفاة. وعنده في باب: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" من حديث عائشة: أن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كان الظهر. وجمع بينهما: بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد، والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته، كما رواه النسائي. لكن يعكر عليه رواية ابن إسحاق عن ابن شهاب في هذا الحديث بلفظ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه فصلى المغرب، الحديث رواه الترمذي.   "وفي رواية، إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم" إنها رواية ثانية ولا كذلك كما ترى، فكان الصواب إسقاط في رواية، ويقول: وإنها لآخر، "وصرح عقيل" بضم العين ابن خالد بن عقيل بالفتح الأيلي، ثقة، من رجال الجميع "في روايته عن ابن شهاب" الزهري لهذا الحديث بسنده المذكور "إنها آخر صلاته صلى الله عليه وسلم، ولفظه" عن ابن عباس، عن أم الفضل، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} "ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله أورده" أي: رواه "البخاري" مختصرا فلو ذكره المصنف بلفظه، وعقبه بقوله وفي رواية لاتجه "في باب الوفاة" النبوية آخر كتاب المغازي، وقيدت بقوله: ما صلى لنا، لإفادة أنها ليست آخر صلاته مطلقا، فلا يخالف ما صححه الترمذي عن جابر، والنسائي عن أنس أن آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر، وأفاد البيهقي أنها صلاة صبح يوم الاثنين وهي آخر صلاة صلاها, "وعنده" أي البخاري "في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به" من كتاب الصلاة "من حديث عائش أن الصلاة التي صلاه النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته كانت الظهر، وجمع بينهما بأن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في المسجد" وأبو بكر خلفه يسمع الناس، "والتي حكتها أم الفضل كانت في بيته كما رواه النسائي" في حديث أم الفضل هذه "لكن يعكر عليه" أي: الجمع المذكور "رواية" محمد "بن إسحاق" بن يسار، "عن ابن شهاب" بسنده "في هذا الحديث،" أي: حديث ابن عباس عن أمه، "بلفظ: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب، الحديث رواه الترمذي" فإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 ويمكن حمل قوله: "خرج إلينا" أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت فصلى بهم فتلتئم الروايات. وعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور. رواه البخاري ومسلم. زاد البخاري في "الجهاد": وكان جبير بن مطعم جاء في أسرى بدر. وزاد الإسماعيلي: وهو يومئذ مشرك. وللبخاري في "المغازي": وذلك   ظاهر قوله خرج من البيت إلى المسجد هذا وجه العكر، "ويمكن حمل قوله: خرج إلينا، أي من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى من في البيت، فصلى بهم" في مكان آخر من البيت، فالذي خرج منه والذي خرج إليه كلاهما من البيت، "فتلتئم الروايات" عن عائشة وأم الفضل، فأريد بالجمع ما فوق الواحد، ولا يشكل على حديث أم الفضل حديث عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب، قال: آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، فقرأ في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} لأنه صلى الله عليه وسلم مرض أياما، فسمعه عبد الله يقرأ بالسورتين، ثم لم يسمعه بعدها، فأطلق عليها آخر بالنظر لما سمعه، أو مراده آخر صلاة صلاها بالمسجد قبل مرضه، فانساغ هذا، وإلا فما في الصحيحين والموطأ أصح. "وعن جبير" بضم الجيم وفتح الموحدة، "ابن مطعم" بن عدي بن نوفل بن عبد مناف أسلم يوم فتح مكة، وقيل: قبله وكان أحد الأشراف، ومن حلماء قريش وساداتهم عارفا بالأنساب، مات سنة ثمان أو تسع وخمسين، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور, أي: بسورة الطور كلها، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن الباء بمعنى من، كقوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} ، واستدل الطحاوي لذلك بما رواه، بلفظ: فسمعته يقول: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٍ} قال: فأخبر أن الذي سمعه هو هذه الآية خاصة، فلا دليل فيه على تطويل القراءة في المغرب، قال الحافظ: وليس في السياق ما يقتضي قوله خاصة مع أن هذه الرواية بخصوصها مضعفة، وقد جاء في روايات أخر ما يدل على أنه قرأ السورة كلها، فعند البخاري في التفسير، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} إلى قوله {الْمُسَيْطِرُونَ} ، كاد قلبي يطير، ونحوه لقاسم بن أصبغ، وللطبراني وابن حبان: سمعته يقرأ {وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1, 2] مثله لابن سعد، وزاد: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. انتهى. "رواه البخاري" في الصلاة والجهاد والمغازي والتفسير "ومسلم" في الصلاة، وكذا الموطأ وأبو داود والنسائي فيها وفي التفسير وابن ماجه فيه "زاد البخاري في الجهاد وكان، أي: "جبير بن مطعم جاء في أسرى بدر" ولابن حبان في فداء أهل بدر، "وزاد الإسماعيلي، وهو يومئذ مشرك وللبخاري في المغازي" في آخر الحديث، "وذلك أول ما وقر" أي: دخل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 أول ما وقر الإيمان في قلبي. وللطبراني: فأخذني من قراءته الكرب، ولسعيد بن منصور: فكأنما صدع قلبي. وفي قوله: "سمعته صلى الله عليه وسلم" دليل على الجهر بها، وعن مروان بن الحكم: قال لي زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل؟ وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين. رواه البخاري. زاد أبو داود: قلت وما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف.   "الإيمان في قلبي" أي: مقدماته من لين القلب وظن حقيقته، "وللطبراني: فأخذني من قراءته الكرب" المشقة والصعوبة لما في السورة من النداء على الكفار وتوبيخهم "ولسعيد بن منصور، فكأنما صدع" بالتخفيف "قلبي" أي: شقه وفيه صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر بعدما أسلم، وكذا الفسق إذا أداه حال العدالة. "وفي قوله: سمعته صلى الله عليه وسلم دليل على الجهر بها" وهو مما لا خلاف فيه، "وطعن عروة بن الزبير، "عن مروان بن الحكم" بفتحتين الأموي أمير المدينة من جهة معاوية قال: "قال لي زيد بن ثابت" الأنصاري "ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل" كذا للكشميهني، وكذا في جميع الروايات عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وفي رواية للنسائي بقصار السور، ورواه الأكثر في البخاري بقصار بالتنوين عوض عن المضاف إليه، وعند النسائي من رواية أي الأسود عن عروة، عن زيد بن ثابت أنه قال لمروان يا أبا عبد الملك: القراءة في المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} وصرح الطحاوي من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد، فكان عروة سمعه من مروان عن زيد، ثم لقي زيد فأخبره، قاله الحافظ والاستفهام للإنكار، "وقد سمعت" بضم التاء وفي بعضها بفتحها كذا للمصنف وفتحها لا يصح إذ مروان لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقا إنما اختلف هل له رؤية فيعد بها في الصحابة، والصحيح أنه لا صحبة له، "النبي صلى الله عليه وسلم". وفي رواية البيهقي والإسماعيلي: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقرأ بطولى الطوليين" بتحتانيتين تثنية طولى تأنيث أطول، وهذه رواية الأكثر، ولكريمة بطول بضم الطاء وسكون الواو وجهه الكرماني، بأنه أطلق المصدر وأراد الوصف، أي: كان يقر بمقدار طول الطولين وفيه نظر، لأنه يلزم منه أنه قرأ بقدر السورتين وليس هو المراد، "رواه البخاري" وأبو داود والنسائي. "زاد أبو داود" قال: قلت "وما طولى الطوليين، قال الأعراف" وبين النسائي في رواية له، أن التفسير من قول عروة، ولفظه قال: قلت: يا أبا عبد الله وهي كنية عروة، وللبيهقي قال: فقلت لعروة وللإسماعيلي، قال ابن أبي مليكة، أي: لعروة، ولأبي داود عن ابن أبي مليكة المائدة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 وفي رواية النسائي من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين. وعن عبد الله بن عتبة: قرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بـ"حم" الدخان. رواه النسائي. وهذه الأحاديث في القراءة مختلفة المقادير، لأن "الأعراف" من السبع الطوال، "والطور" من طوال المفصل، و"المرسلات" من أوساطه. قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار   والأعراف وللجوزقي عنه الأنعام والأعراف، ولأبي مسلم الكجي عن أبي عاصم النبيل يونس والأعراف، فاتفقوا على تفسير الطولى بالأعراف، وفي الأخرى ثلاثة والمحفوظ الأنعام. قال ابن بطال: البقرة أطول السبع، فلو أرادها لقال: طولى الطول، فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف، لأنها أطول السور بعد البقرة، وتعقب بأن النساء أطول من الأعراف اعتبارا بعدد الكلمات، لأن كلمات النساء تزيد على الأعراف بمائتي كلمة، وأجيب بأنه اعتبر عدد الآيات وعدد آيات الأعراف أكثر من عدد النساء وغيرها من السبع بعد البقرة، وقال ابن المنير تسمية الأعراف والأنعام بالطوليين إنما هو لعرف فيهما لا أنهما أطول من غيرهما، قاله الحافظ. "وفي رواية النسائي من حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين" واستدل به الخطابي وغيره على امتداد وقت المغرب إلى الشفق وفيه نظر، لأن القائلين بأن لها وقتا واحدا لم يحددوه بقراءة، بل قالوا له أن يطول إلى الشفق، ومنهم من قال: ولو غاب الشفق وحمله الخطابي على أنه يوقع ركعة في أول الوقت ويديم الباقي ولو غاب الشفق، ولا خفى ما فيه، لأن تعمد إخراج الصلاة عن الوقت ممنوع ولو أجزأت، فلا يحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك. "وعن عبد الله بن عتبة" "بالفوقية" ابن مسعود الهذلي ابن أخي عبد الله بن مسعود كان صغيرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت له عنه رواية، وذكره العقيلي في الصحابة اتفقوا على ثقته وكان رفيع القدر كثير الحديث والفتيا فقيها مات سنة أربع، وقيل: ثلاث وسبعين كما في الإصابة، قال: "قرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة المغرب بـ"حم" الدخان، رواه النسائي" مرسلا كما علم وفي ابن حبان من حديث ابن عمر أنه قرأ بهم في المغرب بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحديد: 1] "وهذه الأحاديث في القراءة مختلفة المقادير، لأن الأعراف من السبع الطوال" أي: سادستها وفي السابعة خلاف مر في الخصائص، "والطور من طوال المفصل والمرسلات من أوساطه" على قول، "قال الحافظ ابن حجر: ولم أر حديثا مرفوعا فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 المفصل، إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون والإخلاص. ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه، وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعد بن سماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل. رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة وغيره. وهذا يشعر بالمواظبة على ذلك، لكن في الاستدلال به نظر، نعم حديث رافع أنهم كانوا ينتظرون بعد صلاة المغرب يدل على تخفيف القراءة فيها.   التنصيص على القراءة فيها" أي: المغرب "بشيء من قصار المفصل إلا حديثا في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه على الكافرون" بالرفع حكاية "والإخلاص، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة، فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول". "قال الدارقطني: أخطأ بعض رواته فيه", أي: في قوله قرأ بهما في المغرب إنما قرأ بهما في الركعتين بعده على المحفوظ "وأما حديث جابر بن سمرة ففيه سعيد بن سماك وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما" أي: بالسورتين "في الركعتين بعد المغرب" لا في المغرب، "واعتمد بعض أصحابنا وغيرهم" كالمالكية ممن قال باستحباب القراءة فيها بقصار المفصل "حديث سليمان بن يسار" أحد الفقهاء "عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحدا أشبه" صلاة "بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من فلان، قال سليمان: فكان" فلان "يقرأ في الصبح بطوال المفصل، وفي المغرب بقصار المفصل، رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، وهذا يشعر بالموظبة على ذلك" بناء على أن كان مع المضارع تفيد الدوام، "لكن في الاستدلال به نظر" إذ غاية ما قال أشبه ولم يقل مثلها، فقراءته ذلك لا تستلزم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما نصا إنما هو احتمال "نعم حديث رافع" بن خديج الأنصاري "إنهم كانوا ينتظرون" بفتح التحتية فنون ساكنة ففوقية مفتوحة فضاد معجمة مكسورة، أي يلعبون بالنضال، أي السهام "بعد صلاة المغرب" مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم راجعون إلى ديارهم، فما يخفى عليهم مواضع سهامهم كما مر في الأوقات، "يدل على تخفيف القراءة فيها" بحيث يقع الفراغ منها والوضوء باق، إذ لو طول فيها لما أبصروا مواضع سهامهم في عودهم، ومن فسر التناضل بالتسابق في المجيء للاقتداء به صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان يطول فيها لما تسابقوا في المجيء إليه لعلمهم بأنهم وإن تأخروا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 وطريق الجمع بين الأحاديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين، وليس في حديث جبير دليل على أن ذلك تكرر منه، وأما حديث زيد بن ثابت ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أنه صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرد زيد منه -فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أم الفضل إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات، لكونه كان في حال شدة مرضه، وهو مظنة التخفيف. وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ الطويل في المغرب، لأنه روى عقب   قليلا يدركونه في الركعة الأولى فقد سها، لأنه خلاف نص الحديث أن التناضل بعد صلاة المغرب معه وهم راجعون إلى ديارهم، وتعلقه بقول المختار انتضل القوم وتناضلوا وهو السبق زيادة سهو، لأن معناه اللعب بالسهام لا السرعة في المشي إلى الصلاة المنهي عنها، ثم بهذا علم أن نسخة ينتفلون من التنفل تحريف، "وطريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يطيل القراءة في المغرب، إما لبيان الجواز،" إذ لو واظب على التقصير لتوهم عدمه، "وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين" فيفيد جواز ذلك أيضا، "وليس في حديث جبير" ابن مطعم السابق "دليل على أن ذلك تكرر منه" لأنه إنما قال سمعته يقرأ في المغرب بالطور. "وأما حديث زيد بن ثابت، ففيه إشعار بذلك، لكونه أنكر على مراون المواظبة على القراءة بقصار المفصل ولو كان مروان يعلم" من غيره "أنه صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد" وهو لم يحتج "لكن لم يرد زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال وإنما أراد منه" أي: مروان "أن يتعاهد ذلك" بقراءته أحيانا "كما رآه" زيد "من النبي صلى الله عليه وسلم" لئلا ينسى فعله "وفي حديث أم الفضل" السابق "إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ" في المغرب "في الصحة" خلاف المرض "بأطول من المرسلات" فيوافق حديث زيد بطولى الطوليين "لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف" وقد قرأ بالمرسلات وهي طويلة هكذا رأيته في الفتح بلفظ في الصحة خلاف المرض وهو الذي يدل عليه السياق كما هو واضح، ويقع في كثير من نسخ المصنف في الصبح فإن صحت فلعل وجه الإشعار أنه لما قر فيها مع شدة مرضه وضيق وقتها بالمرسلات أشعر بأنه يقرأ بأطول منها في غيرها لسعة وقته وخص الصبح للنشاط فيها أكثر من غيره "وهو يرد على أبي داود ادعاء نسخ الطويل في المغرب لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 حديث زيد بن ثابت من طريق عروة أنه كان يقرأ في المغرب بالقصار قال: وهذا يدل على نسخ حديث زيد ولم يبين وجه الدلالة. وكيف يصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بالمرسلات. قال ابن خزيمة في صحيحه: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف القراءة. انتهى. والراجح عند النووي: أن المفصل من "الحجرات" إلى آخر القرآن.   روى عقب حديث زيد بن ثابت من طريق عروة" بن الزبير "أنه" أي: عروة "كان يقرأ في المغرب بالقصار". "قال" أبو داود: "وهذا يدل على نسخ حديث زيد، ولم يبين وجه الدلالة" قال الحافظ: وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه حمله على أنه اطلع على ناسخه، ولا يخفى بعد هذا الحمل، "وكيف يصح دعوى النسخ" بمجرد فعل عروة "وأم الفضل تقول إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ" فيها "بالمرسلات" فليس ضمير إنه للنبي صلى الله عليه وسلم كما توهمه من قال ليس فيه تصريح بأنها من قصار المفصل، فلا ينافي ما مر عن الحافظ بل الضمير لعروة، لأنه أقرب مذكور به أفصح الحافظ في توجيه الدلالة. ما رأيت "قال ابن خزيمة في صحيحه وهذا من الاختلاف المباح فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب إلا أنه إذا كان إماما استحب له أن يخفف القراءة. انتهى" كلام الحافظ، وزاد بعده، وهذا أي: كلام ابن خزيمة أولى من قول القرطبي ما ورد من تطويل القراءة فيما استقر عليه التطويل أو عكسه فهو متروك. انتهى. ونقل الترمذي عن مالك كراهة القراءة في المغرب بالطور والمرسلات ونحوهما، وعن الشافعي استحباب ذلك غريب، فالمعروف في مذهبهما أنه لا كراهة ولا استحباب، بل هو جائز كما قاله ابن عبد البر وغيره. نعم المستحب تقصيرها للعمل بالمدينة، بل وبغيرها، "والراجح عند النووي" وكذا عند المالكية "أن المفصل" أوله "من الحجرات إلى آخر القرآن" يعني من الخلاف في المراد به مع الاتفاق على أن منتهاه آخر القرآن هل هو من أول الصافات أو الشورى أو الجاثية أو الفتح أو الحجرات أو ق أو الرحمن أو النجم أو الصف أو تبارك أو سبح أو الضحى إلى آخر القرآن. أقول: قال الحافظ أكثرها مستغرب، والراجح الحجرات، ونقل المحب قولا شاذا أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 الفرع السابع: في ذكر ما كان يقرؤه في صلاة العشاء عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فما سمعت أحدًا أحسن صوتا أو قراءة منه صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتى على آية عذاب وقف وتعوذ، رواه الترمذي من حديث حذيفة. وكان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "سبحان ربي الأعلى". رواه   المفصل جميع القرآن، وأما ما رواه الطحاوي عن أبي موسى أن عمر كتب إليه اقرأ في المغرب آخر المفصل وآخر المفصل من لم يكن، فليس تفسيرا للمفصل، بل لا آخره، فدل على أن أوله قبل ذلك. الفرع السابع: في ذكر ما كان يقرؤه في صلاة العشاء "عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في" صلاة "العشاء والتين" بالواو" على الحكاية، وفي رواية: بالتين "والزيتون" أي: بهذه السورة في الركعة الأولى، ففي رواية للشيخين أيضا عن البراء أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} ، وللنسائي فقرأ في الركعة الأولى، وفي كتاب الصحابة لابن السكن في ترجمة ورقة بن خليفة رجل من أهل اليمامة، قال: سمعنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأتيناه، فعض علينا الإسلام، فأسلمنا، وأسهم لنا وقرأ في الصلاة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} . قال الحافظ: يمكن أن كانت، أي: القراءة في الصلاة التي عين البراء أنها العشاء أنه قرأ في الأولى بالتين، وفي الثانية بالقدر، وإنما قرأ فيها بقصار المفصل، لكونه مسافر والسفر يطلب فيه التخفيف، وحديث أبي هريرة في الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} محمول على الحضر، فلذا قرأ فيها من أوساط المفصل. قال البراء:"فما سمعت أحدًا أحسن صوتا أو قراءة" شك الراوي "منه صلى الله عليه وسلم" بل هو الأحسن على مدلول اللفظ عرفا وإن صدق بالمساواة لغة، "رواه البخاري ومسلم" وأصحاب السنن كلهم في الصلاة، "وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتى" في قراءته "على آية عذاب وقف" عن القراءة "وتعوذ" من العذاب، ثم يعود للقراءة، "رواه الترمذي من حديث حذيفة" بن اليمان وهو في مسلم والسنن الأربع ومسند أحمد، عن حذيفة قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا مر بآية خوف تعوذ، وإذا مر بآية رحمة سأل الله، وإذا مر بآية فيها تنزيه سبح الله، "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس. وقال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فانتهى إلى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين, ومن قرأ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى، ومن قرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ} فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله". رواه أبو داود، والترمذي إلى قوله: "وأنا على ذلك من الشاهدين". وكان صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة وعنها سأله أبو هريرة، ويسكت بعد الفاتحة، ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهي سكتة لطيفة جدا   الْأَعْلَى} قال: "سبحان ربي الأعلى" مبادرا لامتثال الأمر، "رواه أحمد وأبو داود من رواية ابن عباس" عبد الله، قال الحاكم: صحيح على شرطهما، وأقره الذهبي "وقال صلى الله عليه وسلم: "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} " أي: هذه السورة، "فانتهى إلى" آخرها بأن قرأ: " {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل" عقبها: "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين"، لأنه قول بمنزلة السؤال، فيحتاج إلى الجواب، ومن حق الخطاب أن لا يترك المخاطب جوابه، فيكون السامع كالغافل، أو كمن لا يسمع إلا دعاء ونداء، "ومن قرأ {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فانتهى إلى قوله" آخرها، بأن قرأ " {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى"، أي: هو قادر، "ومن قرأ {وَالْمُرْسَلَاتِ} ، فبلغ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقل: آمنا بالله". بالجمع في آمنا وإن كان القائل واحدًا للإشارة إلى أن الإيمان حال في جميع أجزائه، فكل جزء مؤمن كما قال عبد الله بن الزبعرى الصحابي أسلم: آمن اللحم والعظام لربي ... ثم قلبي الشهيد أنت النذير والأمر في الجميع للاستحباب، قال شيخنا: وينبغي الإسرار بذلك، لأنه من الدعاء والثناء، "رواه أبو داود" بتمامه من حديث أبي هريرة "و" رواه "الترمذي" من حديثه "إلى قوله": "وأنا على ذلك من الشاهدين" فاقتصر على سورة التين. وقد روى البيهقي والحاكم، وصححه وحسنه غيره عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} قال: بلى، وإذا قرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} قال بلى، "وكان صلى الله عليه وسلم يسكت" بفتح أوله من السكوت، وروي بضمه من الإسكات "بين التكبير والقراءة إسكاتة" بكسر أوله من السكوت من المصادر الشاذة، "وعنها" أي: عما يقوله فيها، "سأله أبو هريرة" لا عن ذاتها، ومر الحديث بتمامه قريبا في الفرع الأول "ويسكت بعد الفاتحة" ثم يقرأ السورة "ويسكت ثالثة بعد قراءة السورة، وهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 حتى يتراد إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع. وأما السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة، فينبغي تطويلها بقدرها. ذكره صاحب الهدى. وعن سمرة بن جندب إلى: سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك، وإذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه. رواه الترمذي. الفرع الثامن: في صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم عن أبي حميد الساعدي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فذكر الحديث، إلى أن قال: ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل فلا يضرب رأسه ولا يقنع. رواه أبو داود والدارمي.   سكتة لطيفة" أي: صغيرة "جدا حتى يتراد إليه النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع، وأما السكتة الأولى فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح" للصلاة، "وأما الثانية فلأجل قراءة المأموم الفاتحة" لأنه يكره سبقه بقراءتها، وقراءتها مع قراءة الإمام عند من قال يقرأها المأموم في الجهرية, "فينبغي" للإمام "تطويلها بقدرها" أي الفاتحة، "ذكره صاحب الهدى" ابن القيم. "وعن سمرة بن جندب قال: سكتتان حفظتهما عن" أي: من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل في صلاته" بعد التكبير وقبل القراءة، "وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قرأ {وَلا الضَّالِّينَ} قال: وكان يعجبه" من أعجب "إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد" يتراجع "إليه نفسه" بفتحتين مفرد أنفاس "رواه الترمذي". الفرع الثامن: في صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم "عن أبي حميد الساعدي" الصحابي المشهور، اسمه المنذر بن سعد المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمر، وشهد أحدًا وما بعدها وعاش إلى سنة ستين، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رف يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، فذكر الحديث" في صفة صلاته "إلى أن قال: ثم يركع ويضع راحتيه" أي: كفيه "على ركبتيه" في ركوعه "ثم يعتدل" فيه "فلا يصوب" أي: يخفض "رأسه ولا يقنع" بضم فسكون فكسر، أي لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره كما في النهاية، "رواه أبو داود" سليمان بن الأشعث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 الفرع التاسع: في مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم عن ابن جبير قال سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد من التابعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني عمر بن عبد العزيز- قال: فحزرنا ركوعه عشر تسبيحات، وسجوده عشر تسبيحات. رواه أبو داود. وعن البراء: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، ما خلا القيام والقعود، قريبا من السواء. رواه البخاري ومسلم. قال النووي: هذا الحديث محمول على بعض الأحوال، وإلا فقد ثبت في   "والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن. الفرع التاسع: في مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم "عن ابن جبير قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليت وراء أحد من التابعين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، يعني عمر بن عبد العزيز" وبقولنا من التابعين لا يرد أنه صلى خلف العمرين وعثمان ونحوهم، ولا شك أن صلاتهم أشبه بالصلاة النبوية من صلاة عمر بن عبد العزيز. "قال" ابن جبير: "فحزرنا ركوعه" أي: "عمر تسبيحات وسجوده عشر تسبيحات رواه أبو داود" في السنن وفيه فضيلة ظاهرة لعمر بن عبد العزيز. "وعن البراء" بن عازب قال: "كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم" اسم كان "وسجوده" عطف عليه "وبين السجدتين" عطف على ركوع بتقدير مضاف، أي: زمان ركوعه وسجوده بين السجدتين، أي: الجلوس بينهما، "وإذا رفع" أي: اعتدل "من الركوع"، ولأبي ذر: وإذا رفع رأسه من الركوع، أي: وقت رفع رأسه منه، وإذا هنا لمجرد الزمان منسلخا عن الاستقبال "ما خلا" يعني: إلا "القيام" الذي هو القراءة "والقعود" بنصبهما الذي للتشهد "قريبا" خبر كان "من السواء" بفتح السين والمد، أي: المساواة والاستثناء هنا من المعنى، كأنه قال: كان أفعال صلاته قريبة من السواء ما خلا القيام والقعود فكان يطولهما، "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والترمذي والنسائي، كلهم في الصلاة، وعزوه لمسلم فيه نوع تسمح إذ لم يقع عنده ما خلا القيام والقعود. "قال النووي: هذا الحديث محمول على بعض الأحوال وإلا فقد ثبت في الحديث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 الحديث تطويل القيام، فإنه كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بـ {الم} السجدة، وأنه كانت تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ ثم يأتي المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون، وأنه قرأ في المغرب بالطور والمرسلات، وفي البخاري: بالأعراف، فكل هذا يدل أنه كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات. وهذا الحديث الذي نحن فيه جرى في بعض الأوقات. انتهى.   تطويل القيام، فإنه كان يقرأ في الصبح بالستين" من الآيات "إلى المائة، وفي الظهر بـ {الم} السجدة"، بالجر بدل، "وأنه كانت تقام الصلاة فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يرجع إلى أهله فيتوضأ، ثم يأتي المسجد فيدرك الركعة الأولى، وأنه" صلى الله عليه وسلم "قرأ سورة المؤمنين حتى بلغ ذكر موسى وهارون" أو ذكر عيسى كما مر، "وإنه قرأ في المغرب بالطور والمرسلات". "وفي البخاري" أنه قرأ فيها "بالأعراف فكل هذا يدل على أنه كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات، وهذا الحديث الذي نحن فيه في بعض الأوقات. انتهى" قول النووي وهو مبني على أن المراد بالقيام في قوله ما خلا القيام ما يشمل الاعتدال وقيام القراءة، وفي فتح الباري قيل: المراد بالقيام الاعتدال وبالقعود الجلوس بين السجدتين، وجزم به بعضهم وتمسك به في أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين لا يطولان. ورده ابن القيم في حاشية السنن، فقال: هذا سوء فهم من قائله، لأنه قد ذكرهما بعينهما، فكيف يستثنيهما، وهل يحسن قول القائل: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد إلا زيدا وعمرا، فإنه متى أراد نفي المجيء عنهما كان متناقضا. انتهى. وتعقب بأن المراد بذكرهما إدخالهما في الطمأنينة وباستثناء بعضها إخراج المستثنى من المساواة، وقال بعض شيوخنا: معنى قوله قريبا من السواء أن كل ركن قريب من مثله، فالقيام الأول قريب من الثاني والركوع في الأولى قريب من الثانية، والمراد بالقيام والقعود اللذين استثنيا الاعتدال والجلوس بين السجدتين، ولا يخفى تكلفه، واستدل بظاهره على أن الاعتدال ركن طويل، ولا سيما قوله في حديث أنس: حتى يقول القائل قد نسي، وفي الجواب عنه تعسف. وقد روى البخاري أيضا الحديث بغير استثناء وكذا أخرجه مسلم وغيره من طرق، وقيل: المراد بالقيام والقعود للقراءة والجلوس للتشهد، لأن قيام القراءة أطول من جميع الأركان غالبا. انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام، وهديه عليه الصلاة والسلام الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى. الفرع العاشر: فيما يقوله في الركوع والرفع منه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يتأول القرآن. رواه البخاري ومسلم.   "وقال ابن القيم: مراد البراء أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال القيام والركوع والسجود، وإذا خفف" القراءة "خفف الركوع والسجود، وتارة يجعل الركوع والسجود بقدر القيام وهديه" أي: سيرته وطريقته وهيئته التي كان عليها "عليه الصلاة والسلام الغالب تعديل الصلاة وتناسبها. انتهى". وهو جواب عن الاستدلال بالحديث على تطويل الاعتدال في الرفع من الركوع وبين السجدتين، وأوضح منه قول الحافظ: أجاب بعضهم عن حديث البراء، بأنه ليس المراد بقوله: قريبا من السواء أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان وإذا خففها خفف بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بالصافات، وثبت في السنن عن أنس، أنهم خرروا في السجود قدر عشر تسبيحات، فيحمل على أنه إذا قرأ بدون الصافات اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضا ثلاث تسبيحات. انتهى. الفرع العاشر: "فيما يقوله في الركوع و" ما يقوله في "الرفع منه" فليس المراد أنه شيء واحد يقول فيهما خص الترجمة بالركوع وإن قال في الحديث الأول في ركوعه وسجوده، وفي الثاني ما يقوله في كل منهما، كما خص السجود بالثالثة ليجمع في كل منهما ما فعل فيه وإن شاركه الآخر في بعضها. "عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك" نصب بفعل محذوف لزوما، أي: أسبح سبحانك "اللهم، و" سبحت "بحمدك" فمتعلق الباء محذوف، أي: بتوفيقك وهدايتك لا بحولي وقوتي، ففيه شكر الله تعالى على هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 ومعنى "يتأول القرآن": يعمل بما أمر به فيه في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} فكان عليه السلام يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفى ما أمر به في الآية. وعنها: كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس رب الملائكة   النعمة والاعتراف بها، والواو فيه للحال أو لعطف الجملة على الجملة، سواء قلنا إضافة الحمد إلى الفاعل، والمراد منه لازمه مجازا، وهو ما يوجبه من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول، ومعناه: وسبحت ملتبسا بحمدي لك "اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، رواه البخاري" في الصلاة والمغازي والتفسير "ومسلم" وأبو داود والنسائي وابن ماجه في الصلاة، "ومعنى يتأول القرآن يعمل بما أمر به فيه" لا ما اصطلح عليه أهل الأصول من حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن كان لدليل فصحيح، أو لشبهة ففاسد، أو لا لشيء فلعب لا تأويل "في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ، فالمراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة كما بين في رواية البخاري في اتفسير مع بيان ابتداء هذا الفعل، وإنه واظب عليه ولفظه: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد إذ أنزل عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} إلا يقول فيها الحديث، وزعم أنه اختار الصلاة لهذا القول لأن حالها أفضل من غيرها مردود، فليس في الحديث أنه لم يقل ذلك خارج الصلاة، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها. "فكان عليه السلام يقول هذا الكلام البديع في الجزالة المستوفى ما أمر به في الآية" ففيه تعيين أحد احتماليها، إذ تحتمل أن التسبيح بنفس الحمد لما تضمنه الحمد من معنى التسبيح الذي هو التنزيه لاقتضاء الحمد نسبة الأفعال المحمود عليها إلى الله تعالى، فيكفي في الامتثال الاقتصار على الحمد، يحتمل أن المراد فسبح ملتبسا بالحمد، فلا يتمثل حتى يجمعهما وهو الظاهر، قاله الحافظ. "وعنها" أي عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه" في بعض الأوقات "وسجوده" هكذا في نسخة صحيحة، وهو كذلك في مسلم، وسقط في بعض نسخ المصنف: "سبوح قدوس" بضم السين والقاف وفتحهما، قال ثعلب، كل اسم على فعول مفتوح الأول إلا سبوحا وقدوسا، فالضم فيهما أكثر، ورويا بالنصب قياسا بإضمار فعل، أي أصبح سبوحا، وبالرفع وهو أكثر استعماله على الخبر، أي: ذكر لمن هو سبوح وبناؤهما للمبالغة من التسبيح والتقديس، والمعنى أنه تبارك وتعالى مطهر منزه عن صفات المخلوقين، والأظهر أنهما اسمان بمعنى مسبح ومقدس، فأما قدوس فمذكور في الأسماء الحسنى، وأما سبوح فنص على أنه من الأسماء ابن فارس والزبيدي، ذكره الأبي "رب الملائكة والروح" عطف خاص على عام، قيل: هو جيريل، وقيل: ملك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 والروح". رواه مسلم. وعن حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده "سبحان ربي الأعلى" رواه، وكان إذا رفع ظهره من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السموات الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد". رواه مسلم. قال النووي: يبدأ -يعني المصلي- بقوله: "سمع الله لمن حمده" حين   عظيم، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة، "رواه مسلم" من أفراده. "وعن حذيفة" بن اليمان "أنه صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه": "سبحان ربي العظيم" أي: ثلاثا كما في ابن ماجه والدارقطني عن حذيفة نفسه، وزاد الثاني: "وبحمده"، وفي أبي داود عن عقبة بن عامر كان صلى الله عليه وسلم إذا ركع قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده" ثلاثا، "وفي سجوده": "سبحان ربي الأعلى". رواه ... " كذا في نسخ وبيض بعده، وفي نسخة، بإسقاط رواه، وقد أخرجه الشيخان وغيرهما عن حذيفة في حديث طويل، "وكان إذا رفع ظهره" مفرد ظهور كما في نسخة صحيحة، وهو الذي في مسلم في حديث ابن أبي أوفى هذا، ويقع في النسخ رأسه، وإنما هي في مسلم في حديث أبي سعيد الآتي "من الركوع، قال": "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ملء السموات والأرض". زاد في رواية لمسلم: "وما بينهما". قال المصنف عليه بكسر ميم ملء الاسم، وبفتحها المصدر وفتح الهمزة أرجح من ضمها، وفي الأبي: الأشهر في ملء النصب على التمييز، ورجحه ابن خالويه، وحكى عن الزجاج تعين رفعه، وبالغ في إنكار النصب. قال الخطابي: هذا تمثيل وتقريب، والكلام ايقدر بالمكاييل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو قدر أن تكون تلك الكلمات أجساما تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما يملأ السموات والأرضين. وقال التوربشتي: هذا يشير إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود، فإنه حمده ملء السموات والأرض، وهذه نهاية حمد القائمين به، ثم ارتفع فأحل الأمر فيه على المشيئة، فقال: "وملء ما شئت من شيء بعد" وليس وراء ذلك الحمد منتهى، فإن حمد الله تعالى أعز من أن يعتوره الحسبان، أو يكتنفه الزمان والمكان، ولم ينته أحد من خلق الله في الحمد مبلغه ومنتهاه، وبهذه الرتبة استحق صلى الله عليه وسلم أن يسمى بأحمد. "رواه مسلم" عن عبد الله بن أبي أوفى، وظاهر قوله: إذا رفع ظهره أنه يقول التسميع بعد تمام الرفع من الركوع وليس بمراد، ولذا "قال النووي: يبدأ، يعني المصلي بقوله: سمع الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 يشرع في الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع في ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد ... إلخ. قال: وفي هذا الحديث دلالة الشافعي وطائفة: أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين "سمع الله لمن حمده" و"ربنا ولك الحمد" في حال استوائه وانتصابه. لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا. وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري. انتهى. وقال ابن القيم: كان عليه السلام إذا استوى قائما قال: "ربنا ولك الحمد"، وربما قال: "ربنا لك الحمد"، وربما قال: "اللهم ربنا لك الحمد". صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين "اللهم" و"الواو" فلم يصح. انتهى. قلت: وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -في رواية الأصيلي-   لمن حمده حين يشرع في الرفع من الركوع، ويمده حتى ينتصب قائما، ثم يشرع في ذكر الاعتدال وهو: ربنا ولك الحمد ... إلخ", فيؤول قوله: إذا رفع ظهره على معنى شرع في رفعه ابتدأ التسميع ومده إلى تمام قيامه؛ وبهذا حصل الجمع بين ظاهر هذا الحديث أن التسميع من ذكر الاعتدال وبين ما دل عليه حديث أبي هريرة وغيره أنه من ذكر الانتفال وهو المعروف. قال: وفي هذا الحديث دلالة للشافعي وطائفة أنه يستحب لكل مصل من إمام ومأموم ومنفرد أن يجمع بين "سمع الله لمن حمده" و"ربنا ولك الحمد" في حال استوائه وانتصابه", عطف تفسير, "لأنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا" والغالب كونه إماما, "وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". رواه البخاري. انتهى". وقال أبو حنيفة ومالك يقول الإمام سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم ربنا لك الحمد فقط لحديث: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد"، فقصر الإمم على قول ذلك، والمأموم على الآخر، وهذه قسمة منافية للشركة، كحديث: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". وأجابوا عن هذا الحديث بحمله على صلاته صلى الله عليه وسلم منفردا، والمنفرد يجمع بينهما على الأصح، أو على صلاة النافلة توفيقا بين الحديثين. "وقال ابن القيم: كان عليه السلام إذا استوى قائما قال: "ربنا ولك الحمد"، وربما قال: "ربنا لك الحمد" بدون واو، "وربما قال: "اللهم ربنا لك الحمد" بلا واو "صح عنه ذلك كله، وأما الجمع بين "اللهم" و"الواو" فلم يصح. انتهى". "قلت: وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة في رواية الأصيلي مرفوعا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 مرفوعا: "إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقلوا: اللهم ربنا ولك الحمد". فجمع بين "اللهم" و"الواو" وهو يرد على ابن القيم كما ترى. وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: كان إثبات "الواو" دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير: ربنا استجب، أو ما قارب ذلك، ولك الحمد، فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء، ومعنى الخبر، وإذا قيل بإسقاط "الواو" دل على أحد هذين. انتهى. وقال ابن العراقي: إسقاط "الواو" حكاه عن الشافعي ابن قدامة وقال: لأن   "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد". فجمع بين اللهم والواو، وهو يرد على ابن القيم" قوله: لم يصح "كما ترى" ولا رد فيه، لأنه إنما قال لم يصح من فعله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لهم بما يقولون، ولا يرد أن من السنة أمره، لأن كلامه فيما كان يقوله هو في صلاته على أنه لو سلم أنه يرد عليه لأمكنه أن يدعي شذوذ رواية الأصيلي هذه لمخالفته لجميع رواة البخاري الذي منهم المستملي وهو أحفظهم فإنهم رووه بدون الواو، وهو إنما نفي الصحة لا الورود، ولكن العجب منه ثم من المصنف إلى الغاية، فإنه صح الجمع بينهما من فعله صلى الله عليه وسلم ففي البخاري قبل هذا الباب بلصقه باب ما يقول الإمام ومن خلفه، وروى فيه عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: "سمع الله لمن حمده". قال: "اللهم ربنا ولك الحمد". قال المصنف بإثبات الواو، ونص أحمد فيما رواه عنه الأثرم على ثبوتها في عدة أحاديث، وفي بعض الروايات ربنا لك الحمد بحذفها. انتهى. وفي الفتح كذا ثبت بزيادة الواو في طرق كثيرة وفي بعضها بحذفها. انتهى. فكان اللائق ذكر هذا في الرد، لأنه ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم في أكثر الروايات الجمع بينهما، فسبحان من لا يسهو، "وقال الشيخ تقي الدين" بن دقيق العيد "في شرح العمدة: كان إثبات الواو دال على معنى زائد، لأنه يكون التقدير ربنا استجب، أو ما يقارب ذلك" من التقدير المناسب للمقام، "ولك الحمد" فهي عاطفة على مقدر "فيكون الكلام مشتملا على معنى الدعاء" بطلب الإجابة "ومعنى الخبر" بأنه مستحق لجميع المحامد، "وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين انتهى". قال الحافظ: وهذا بناء منه على أن الواو عاطفة، وقد قيل إنها واو الحال قاله ابن الأثير، وضعف ما عداه، وقيل: زائدة، قال الأصمعي: سألت أبا عمرو عنها، فقال: زائدة تقول العرب، يعني هذا، فيقول: نعم وهو لك بدرهم، قالوا: وزائدة. "وقال ابن العراقي" أحمد بن عبد الرحيم إسقاط الواو حكاه عن الشافعي ابن قدامة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 "الواو" للعطف، وليس هنا شيء تعطف عليه. وعن مالك وأحمد في ذلك خلاف. وقال النووي: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان، ولأمر مرجح لأحدهما على الآخر. انتهى. وعن أبي سعيد الخدري: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". رواه مسلم.   وقال: لأن الواو للعطف وليس هنا شيء تعطف عليه" وقد رأيت أنها للعطف على مقدر أو زائدة، أو للحال فلم تتعين للعطف حتى يجعل علة في إسقاطها. "وعن مالك وأحمد في ذلك خلاف" فروى ابن القاسم عن مالك إثباتها مع اللهم، وروى عنه أشهب إسقاط الواو مع إثبات اللهم، وروى الأثرم عن أحمد إثبات الواو، وقال: إنه ثبت فيه عدة أحاديث، وروى غيره عنه حذفها. "وقال النووي: كلاهما جاءت به روايات كثيرة، والمختار أنه على وجه الجواز وأن الأمرين جائزان ولا مرجع لأحدهما على الآخر. انتهى" أي: من حيث الثبوت والرد وإن كانت رواية الواو على توجيه ابن دقيق العيد أرجح، من حيث النظر، لأن ما فيه زيادة أعظم من غيره، ثم لا يرد عليه قول المصنف في شرح البخاري، قال العلماء: رواية الواو أرجح. انتهى؛ لأن رجحانها من حيث كثرة رواتها لا يرد رواية حذفها لعدم التنافي بينهما. "وعن أبي سعيد الخدري: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد" بدون واو كما في مسلم، فما يوجد في بعض نسخ المصنف بالواو خطأ من الكتاب "ملء السموات وملء الأرض"، بالنصب تمييزا أو حال أشهر من رفعه على الصفة وإن قال الزجاج أنه المتعين، "وملء ما شئت من شيء" كالعرش والكرسي وغيرهما مما لا يعلمه غيره "بعد" أي: بعدهما "أهل الثناء والمجد". قال عياض: هو لهم الجيم، أي: نهاية الشرف، ولابن ماهان والحمد بالحاء والأول أليق، لأن الحمد ذكر، أو لا وهو أعم من الثناء المجرد، وهو الذكر الجميل "أحق ما قال العبد" يحتمل الجنس، والعهد وأنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأبي "وكلنا لك عبد" أي: كل واحد منا أو جملتنا على إرادة الجنس بالعبد. "لا مانع". وفي نسخة: "اللهم لا مانع" وهما روايتان في مسلم "لما أعطيت" أي: لما أردت إعطاءه وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع له إذ الواقع لا يرتفع، "ولا معطي لما منعت ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 قوله: "ملء السموات وملء الأرض": أي حمدًا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض. ومعنى "سمع الله لمن حمده": أي أجاب، يعني: أن من حمد الله متعرضا لثوابه استجاب الله له، فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك. وقوله: "أهل": منصوب على النداء.   ينفع ذا الجد منك الجد" قال عياض أكثر روايتنا في الجيم الفتح وفسر بالبخت والحظ، أي الحظ منك في الدنيا في المال والولد لا ينفع في الآخرة، وإنما ينفع فيها العمل، وقيل: الجد الغنى، وقيل: العظمة والسلطان، ومنه قوله تعالى: {جَدُّ رَبِّنَا} ، وحكى الشيباني كسر الجيم، وضعفه الطبري، أي: ابن جرير وقال: لا أعرفه لغيره، أي: لورود الحث على العمل في الكتاب والسنة كثير المفيد أنه نافع، ولكن يمكن توجيهه بأن المعنى لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده إلا أن يكون له سابقة خير، فإن العمل لا ينجي بنفسه وإنما ينجي فضل الله لحديث: "لا يدخل الجنة أحد بعمله" وقد يكون المراد في كسب الدنيا والتحفظ من المكاره، أي لا يكسب أحد إلا ما قضى الله له، ولا يلم إلا بما أراده، وهذا أشبه بظاهر الحديث، وهو أصل التسليم وإثبات القدر، ولذا ترجم عليه البخاري وأدخله في باب القدر، أي: أدخل حديث المغيرة فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة، وهو بنحو هذا الحديث لا حديث أبي سعيد المذكور، لأن البخاري لم يروه، وقال الأبي: فمنك على الفتح بمعنى بدل، أي: لا ينفع ذا الحظ حظه بدل طاعتك، كقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} [الزخرف: 60] . أي: بدلكم، وقيل: هو بمعنى عند، أي: لا ينفع ذا الحظ حظه عندك، وقيل: المراد جد النسب، أي: لا ينفع أدًا نسبه كما قال تعالى: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101] "رواه مسلم" من أفراده "قوله: "ملء السموات وملء الأرض" أي: حمدا لو كان أجساما لملأ السموات والأرض" فهو تمثيل لكثرة عدد الحمد كما قال الخطابي، وقيل: المراد ثوابه، وقد يراد بذلك عظم الكلمة كما يقال هذه الكمة تملأ طباق الأرض، قاله الأبي. "ومعنى سمع الله لمن حمده، أي: أجاب، يعني: أن من حمد الله متعرضا لثوابه استجاب الله له فأعطاه ما تعرض له، فأنا أقول ربنا لك الحمد ليحصل ذلك" وإنما كان ذلك معناه، لأن سمع كل شيء من حمده وغيره. "وقوله: "أهل" منصوب على النداء" أي: يا أهل على الأظهر أو على المدح، ويجوز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 وقوله: "وكلنا لك عبد" بالواو، يعني: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت ... إلخ. واعترض بينهما قوله: "وكلنا لك عبد"، ومثل هذا الاعتراض قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] على قراءة من قرأ فتح العين وإسكان التاء. و"الجد" بفتح الجيم، الغنى أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقيل غير ذلك والله أعلم. وفي رواية ابن أبي أوفى عند مسلم: كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد قوله: "من شيء" بعد: "اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد".   الرفع على الخبر، أي: أنت أهل، قاله الأبي. "وقوله: "وكلنا لك عبد" بالواو، يعني: أحق قول العبد" فأحق مبتدأ وما مصدرية "لا مانع لما أعطيت ... إلخ " ويجوز أن تكون ما موصولة أو نكرة موصوفة، أي: أحق شيء قاله العبد، ويجوز أن أحق خبر لما قبله، أي: الحمد المذكور أحق كما في الأبي، "واعترض بينهما قوله: "وكلنا لك عبد" للتأكيد، وشهادة من لا ينطق عن الهوى تؤكد أن يديم الإنسان هذا الذكر، ويقع في كتب الفقهاء حق ما قال العبد كلنا لك عب، بإسقاط الهمزة والواو، وهو صحيح لغة لا رواية كما في الأبي، "ومثل هذا الاعتراض" في أن الجملة معترضة بين كلامين من متكلم واحد "قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} على قراءة من قرأ بفتح العين وإسكان التاء" لأن الاعتراض فيها بين جملتين كل منهما مستقلة بنفسها، لكنهما مقولتان لمريم، وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} إخبار بأن الله لا يخفى عليه شيء "والجد "بفتح الجيم" في الموضعين على المشهور، بمعنى "الغنى، أي: لا ينفع ذا الغنى" ضد الفقر "منك غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة وقيل": في معناه "غير ذلك" كما مر "والله أعلم". "وفي رواية" عبد الله "بن أبي أوفى"، "بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة"، "عند مسلم كان صلى الله عليه وسلم يقول بعد قوله "من شيء" بعد"، "بضم الدال"، "اللهم طهرني بالثلج والبرد""، "بفتحتين" المطر "وماء البارد" استعارة للمبالغة في تعظيم التطهير من الذنوب، فإن الأنواع الثلاثة هي المنزلة للتطهير، وهو تمثيل لأنواع المغفرة، والمعنى: اللهم طهرني بأنواع مغفرتك التي تمحو الذنوب تطهيرا لأنواع الثلاثة للحدث والخبث، وأخر الماء إشارة الشمول الرحمة بعد المغفرة لأن الماء أعم وأشمل في التطهير وخص البارد وإن كان السخن أنقى منه ليجانس ما قبله، ولأن البرودة هي المناسبة لإطفاء حرارة عذاب النار. قال عياض: والإضافة في ماء البارد من إضافة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 الفرع الحادي عشر: في ذكر صفة سجوده صلى الله عليه وسلم وما يقول فيه كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من ذكر قيامه عن الركوع يكبر، ويخر ساجدا، ولا يرفع يديه. وقد روي أنه عليه السلام كان يرفع يديه أيضا, وصححه بعض الحفاظ كابن حزم، والذي غره أن الراوي غلط من قوله: "كان يكبر في كل خفض ورفع" إلى قوله: "كان يرفع يديه في كل خفض ورفع" وهو ثقة، ولم يفطن لسبب غلطه، ووهم فصححه. نبه عليه في زاد المعاد. وكان عليه السلام يضع يديه قبل ركبتيه. رواه أبو داود.   الشيء إلى نفسه كمسجد الجامع والكوفيون يجيزونها والبصريون يمنعونها، ويؤولون ما جاء منها على حذف الموصوف، أي: مسجد الموضع الجامع. انتهى. وإضافة الشيء إلى نفسه يمنعها الفريقان، وتجوز القاضي في أنها من ذلك، وإنما هي من إضافة الموصوف إلى صفته بدليل ما مثل به، ذكره كله أبو عبد الله الأبي. الفرع الحادي عشر: في ذكر صفة سجوده صلى الله عليه وسلم وما يقول فيه "كان صلى الله عليه وسلم إذا انتهى" أي فرغ "من ذكر قيامه" الصادر "عن الركوع" أي: الواقع بعد الرفع منه "يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه" إذ أخر للسجود كما دل عليه حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما. "وقد روي أنه عليه السلام كان يرفع يديه أيضا" إذا خر للسجود، "وصححه بعض الحفاظ كابن حزم" اغترارا بثقة رجاله كما قال، "والذي غره أن الراوي غلط من قوله: كان يكبر في كل خفض ورفع، إلى قوله: كان يرفع يديه في كل خفض ورفع" أي: أنه أبدل ذلك بهذا غلطا "وهو ثقة ولم يفطن" بضم الحاء وفتحها، أي: لم يتنبه من صححه "لسبب غلطه" الذي قلناه "ووهم" حيث لم يفطن لذلك، "فصححه" اعتمادا على كونه ثقة "نبه عليه في زاد المعاد" في هدى خير العباد لابن القيم، "وكان عليه السلام يضع يديه قبل ركبته" في السجود، وأبدى له الزين بن المنير مناسبة، وهي أن يعتصم بتقديمها عن إيلام ركبتيه إذا جثا عليهما، واستحب ذلك الأوزاعي ومالك، قائلا: لأنه أحسن في خشوع الصلاة ووقارها "رواه أبو داود" وكما ورد من فعله ورد من أمره كما في السنن بإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وعورض بحديث عنه آخر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 وقال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين". رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس.   عند الطحاوي، لكن إسناده ضعيف، وقال الحنفية والشافعية: الأفضل أن يضع ركبتيه ثم يديه، وفي حديث في السنن أيضا عن وائل بن حجر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، ومن ثم قال النووي: لا يظهر ترجيح أحد المذهبين على الآخر من حيث السنة، لكن قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام من أحاديث الأحكام: حديث أبي هريرة من حديث وائل، لأن لحديث أبي هريرة شاهدا من حديث ابن عمر، صححه ابن خزيمة عن نافع، قال: كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه، ويقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وذكره البخاري معلقا موقوفا. وفي الفتح: ادعى ابن خزيمة أن حديث أبي هريرة منسوخ بحديث سعد: كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بالركبتين قبل اليدين، وهذا لو صح لكان قاطعا للنزاع، لكنه من أفراد إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه وهما ضعيفان. انتهى. "وقال" صلى الله عليه وسلم: "أمرت"، "بضم الهمزة" في جميع الروايات على البناء لما لم يسم فاعله، والمراد به الله جل جلاله، قال البيضاوي: عرف ذلك بالعرف، وذلك يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر، لأنه ليس فيه صيغة أفعل، وفي رواية أمر النبي، ولما كان هذا السياق يقتضي الخصوصية عقبه البخاري، بلفظ دال على أنه لعموم الأمة، ولفظه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ورواه مسلم عن أبيه العباس، مرفوعا: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب"، وهذا يرجح أن النون في أمرنا نون الجمع، والآراب بالمد جمع إرب، بكسر أوله وإسكان ثانيه، وهو العضو "أن أسجد على سبعة أعظم" وفي رواية: أعضاء. قال ابن دقيق العيد: سمى كل واحد عظما باعتبار الجملة وإن اشتمل كل واحد على عظام، ويجوز أنه من تسمية الجملة باسم بعضها، قاله الحافظ "الجبهة" بالخفض عطف بيان لسبعة أعظم وما عطف عليه وهو "واليدين" قال ابن دقيق العيد: المراد بهما الكفان لئلا يدخل تحت النهي عن افتراش السبع والكلب. انتهى. وفي رواية لمسلم بلفظ والكفين "والركبتين وأطراف" أصابع "القدمين" وهذه مبينة لرواية: والرجلين "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة "من حديث ابن عباس" عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يعلم أن قول ابن عباس في رواية للشيخين أيضا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نسجد ... إلخ تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم إما سماعا منه وإما بلاغا عنه، ويحتمل أنه تلقاه عن أبيه عنه صلى الله عليه وسلم، لأن مسلما روى عن العباس حديث إذا سجد العبد ... إلخ كذا في الفتح، والأصل عدم إرسال الصحابي، وكون العباس روى هذا الحديث بهذا اللفظ لا يقتضي أن ابنه تلقى عنه اللفظ المروي عنه عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 قال النووي: فينبغي للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض، ويكفي بعضها، والأنف مستحب، فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز، هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد، لأنه قال فيه "سبعة" فلو جعلا عضوين صارت ثمانية. وكان عليه السلام إذا سجد فرج بين يديه، حتى يبدو بياض إبطيه. رواه الشيخان.   النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما الظاهر في أنه بلا واسطة. "قال النووي: فينبغي للساجد أن يسجد على هذه الأعضاء كلها، وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا، فأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض" أو ما في حكم المكشوفة، كحائل خفيف عند المالكية، "ويكفي بعضها" أي: الجبهة في السجود عليه، "والأنف مستحب فلو تركه جاز، ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجز" بضم فسكون من الأجزاء، "هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين، وقال أبو حنيفة: عليهما معا لظاهر الحديث، وقال الأكثرون: بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد، لأنه قال فيه سبعة فلو جعلا عضوين صارت ثمانية". قال ابن دقيق: فيه نظر، لأنه يلزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف كما يكتفي بالسجود على بعض الجبهة، وقد احتج بهذا لأبي حنيفة في الاكتفاء بالسجود على الأنف، قال: والحق أن مثل هذا لا يعارض التصريح بذكر الجبهة وإن أمكن أن يعتقد أنهما كعضو واحد، فذاك في التسمية والعبارة لا في حكم الذي دل عليه الأمر. قال الحافظ: وجواز الاقتصار على بعض الجبهة، قاله كثير من الشافعية أخذا من قول الأم يكره الاقتصار على بعض الجبهة، وألزمهم بعض الحنفية بما مر. ونقل ابن المنذر إجماع الصحابة على أنه لا يجزئ على الأنف وحده، وذهب الجمهور إلى أنه يجزئ على الجبهة وحدها، وعن الأوزاعي وأحمد وإسحاق وابن حبيب وغيرهم: يجب أن يجمعهما وهو قول للشافعي أيضا، "وكان عليه السلام إذا سجد فرج"، "بشد الراء"، "بين يديه" أي: نحى كل يد عن الجنب الذي يليها "حتى يبدو بياض إبطيه" لأنه أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 وقالت ميمونة: جافى بين يديه، حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت. رواه مسلم. ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد على كور عمامته، ولم يثبت عنه ذلك في حديث صحيح ولا حسن، ولكن روى عبد الرزاق في المصنف عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته، وهو من رواية عبد الله بن محرر، وهو متروك. وذكر أبو داود في المراسيل أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فسجد بجبينه وقد اعتم على جبهته فحسر صلى الله عليه وسلم عن جبهته. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله, أوله وآخره، علانيته وسره". رواه مسلم من حديث أبي هريرة. وقوله: "دقه وجله" بكسر أولهما، أي قليله وكثيره.   وقال القرطبي: ليخف بذلك اعتماده عن وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته ولا يتأذى بملاقاة الأرض. وقال الناصر بن المنير: ليظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، قيل فيه إنه لم يكن عليه قميص لانكشاف أبطيه، ورد باحتمال أن القميص واسع الأكمام، أو أراد الراوي أن موضع بياضهما لو لم يكن عليه ثوب لرئي، قاله القرطبي "رواه الشيخان" عن عبد الله بن مالك ابن بحينة، "وقالت ميمونة" أم المؤمنين: "جافى بين يديه"، لفظها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجافي يديه "حتى لو شاءت بهيمة أن تمر بين يديه لمرت"، فيستحب للرجل ذلك التفريج، "رواه مسلم" وأبو داود والنسائي وابن ماجه بنحوه، "ولم يذكر عنه صلى الله عليه وسلم، أنه سجد على كور عمامته" بفتح الكاف، "ولم يثبت عنه ذلك في حديث صحيح ولا حسن، ولكن" في حديث ضعيف. "روى عبد الرزاق في المصنف عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على كور عمامته وهو من رواية عبد الله بن محرر" بمهملات الجزري القاضي "وهو متروك" روى له ابن ماجه ومات في خلافة المنصور، "وذكر أبو داود في المراسيل، أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فسجد بجبينه" أي: عليه، فالباء بمعنى على والجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجبهة وشمالها، قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما، "وقد اعتم" الرجل "على جبهته، فحسر" كشف "صلى الله عليه وسلم عن جبهته" أي: الرجل "وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه" قليله "وجله" كثيره، "أوله وآخره، علانيته" جهره "وسره"، رواه مسلم من حديث أبي هريرة وقوله: "دقه وجله" بكسر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 وعن عائشة قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود، وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". رواه مسلم.   أولهما" أي: الدال والجيم، "أي قليله" تفسير لدقه، "وكثيره" تفسير لجله. "وعن عائشة قالت فقدت" بفتح القاف، أي: عدمت "رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش" وفي رواية: وكان معي على فراش، ولأبي يعلى، عنها: كان ليلتي منه صلى الله عليه وسلم، فانسل، فظننت أنه انسل إلى بعض نسائه، فخرجت غيرى "فالتمسته". زاد في رواية: في البيت وجعلت أطلبه بيدي، "فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود" الذي في مسلم وهو في المسجد، ففيه أنها لما التمسته في البيت لم تجده، فخرجت إلى المسجد وهو صريح قوله في بعض طرق الحديث ما أخرجك، "وهما منصوبتان" وفيه أن اللمس بغير لذة لا ينقض الوضوء، واحتمال أنه كان فوق حائل خلاف الأصل، "وهو يقول" زاد أبو يعلى: "سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت"، "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" أي: بما يرضيك مما يسخطك، فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله تعالى، ثم الذي لنفسه قوله: "وبمعافاتك من عقوبتك" استعاذ بها بعد استعاذته برضاه، لاحتمال أن يرضى من جهة حقوقه، ويعاقب على حقوق غيره، "وأعوذ بك منك" قال عياض: ترق من الأفعال إلى منشئ الأفعال مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة الذي لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف، فهو محض التوحيد، وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعانة وغيرها "لا أحصي ثناء" بمثلثة فنون" والمد، أي: وصفا بمدح "عليك أنت" مبتدأ خبره "كما أثنيت على نفسك" أي: الثناء عليك هو المماثل لثنائك على نفسك ولا قدرة لأحد عليه، ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل، "رواه مسلم" وأحمد وأصحاب السنن الثلاثة وأبو يعلى بزيادة: "اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت، سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، رب هذه يدي وما جنيت على نفسي، يا عظيم يرجى لكل عظيم، فاغفر لي الذنب العظيم"، فقلت: بأبي أنت وأمي إني لفي شأن وإنك لفي شأن، فرفع رأسه فقال: "ما أخرجك"؟ , قالت: ظن ظننته. قال: "إن بعض الظن إثم، فاستغفري الله إن جبريل أتاني فأمرني أن أقول هذه الكلمات التي سمعتيها، فقوليها في سجودك، فإن من قالها لم يرفع رأسه حتى يغفر". أظنه قال له: وفي رواية فالتمسته بيدي فوقعت عليه وهو ساجد، يقول: "رب أعط نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 قال الخطابي: في هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه عليه السلام استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضى والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى استعاذ به منه لا غيره، ومعناه: الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. وقوله: "لا أحصي ثناء عليك" أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل: لا أحيط به، وقال مالك: لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء بهما عليك وإن اجتهدت في الثناء بهما عليك.   "قال الخطابي: في هذا الحديث معنى لطيف، وذلك أنه عليه السلام استعاذ بالله وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، والرضا والسخط ضدان متقابلان، وكذلك المعافاة والمعاقبة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له، وهو الله" سبحان و"تعالى"، "استعاذ به منه لا غيره" قال الأبي: الأولى أن لا يكون استعاذ به منه لحديث المرأة التي استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم فأبعدها منه وقال لها ما قال، وإنما استعاذ من عقوبته، فالتقدير: أعوذ من عقوبتك بك. انتهى. وفيه نظر، لأنه على ما قدره يتكرر في المعنى مع قوله: وبمعافاتك من عقوبتك، وليس هذا كقول المرأة: أعوذ بالله منك، لأن قصدها البعد وأن لا يقربها، والنبي صلى الله عليه وسلم قصده بقوله: "وبك منك". مزيد القرب المعنوي واللجأ إلى الله تعالى وقطع الالتفات إلى غيره، كما مر عن عياض، وإليه الإشارة بقوله، "ومعناه الاستغفار من التقصير في بلغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه" ولذا عقبه بقوله: "لا أحصي ثناء عليك" وأخذ من الحديث صحة قول سبحان من تواضع كل شيء لعظمته، وقول الخطيب يوم الجمعة: واجتمعنا متضرعين لعظمتك، وحجة المانع أن التواضع والتضرع إنما يكوننا لذاته تبارك وتعالى، قاله الأبي. "وقوله: "لا أحصي ثناء عليك" أي لا أطيقه ولا آتي" بالمد "عليه" جميعه، بل أنا عاجز عنه وإن أتيت ببعضه، أي: لا أطيق الثناء عليك بما تستحق أن يثنى به عليك. "وقيل" معناه "لا أحيط به" لأنه إنما يحاط بالمتناهي والثناء عليه لا نهاية له. "وقال مالك" الإمام: معناه: "لا أحصي نعمتك وإحسانك والثناء بهما عليك، وإن اجتهدت في الثناء بهما عليك" لأن الثناء فرع الإحاطة بالنعم، وهي لا تحصى، قاله الأبي، وقيل: معناه لا أعد، لأن أصل معنى الإحصاء العد بالحصى، كما قال: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 وقوله: "أنت كما أثنيت على نفسك": اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك إلى الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، وكما أن لا نهاية لصفاته لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه، فكل شيء اثني عليه وإن كثر وطال وبولغ فيه, فقدر الله أعظم وسلطانه أعز، وصفاته أكثر وأكبر، وفضله وإحسانه أوسع وأسبغ. انتهى. وههنا فائدة لطيفة ذكر بعض المحققين، في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وهي أن القرآن أشرف الكلام، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ في هاتين   فهو من نفي الملزوم المعبر عنه بالإحصاء المفسر بالعد وإرادة نفي اللازم، وهو استيعاب المعدود، فكأنه قيل: لا أستوعب، فالمراد نفي القدرة عن الإتيان بجميع الثناءات، أو فرد منها يفي بنعمة من نعم الله تعالى لا عدها، إذ يمكن عد أفراد كثيرة من الثناء. "وقوله: أنت كما أثنيت على نفسك اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء، فإنه لا يقدر على بلوغ حقيقته، ورد"، "بالجر عطف على العجز بتقدير الجار" أي: وبرد "الثناء إلى الجملة دون التفصيل والإحصاء والتعيين، فوكل ذلك إلى الله تعالى المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا، وكما أن لا نهاية لصفاته" سبحانه، كذلك "لا نهاية للثناء عليه، لأن الثناء تابع للمثنى عليه" بضم الميم وسكون المثلثة وفتح النون، "فكل شيء أثنى عليه وإن كثر وطال وبولغ فيه، فقدر الله أعم وسلطانه أعز وصفاته أكثر" بمثلثة "وأكبر" بموحدة، "وفضله وإحسانه واسع وأسبغ" فلا قدرة لأحد على وصفه بجميع ما يليق به. "انتهى" كلام الخطابي. قال بعضهم: وذلك أن عظمته تعالى وصفاته لا نهاية لها، وعلوم البشر وقدرتهم متناهية، فلا يتعلق واحد منهما بما لا يتناهى، وإنما يتعلق بذلك علمه الذي لا يتناهى وتحصيه قدرته التي لا تتناهى، فهو بعلمه الشامل يعلم صفات جلاله ويقدر بقدرته التامة أن يحصي الثناء عليه. انتهى. "وههنا فائدة لطيفة: ذكر بعض المحققين في" حكمه "نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود" المروي في الموطأ ومسلم من حديث علي "وهي: أن القرآن أشرف الكلام وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد. فمن الأدب مع كلام الله تعالى أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به، والله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 الحالتين، وتكون حالة القيام والانتصاب أولى به والله تعالى أعلم. وروى أبو داود: أنه صلى الله عليه وسلم سجد على الماء والطين. وكان يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه ويرفع منه رأسه قبل يديه ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وكان عليه السلام يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما في صحيح البخاري وغيره. قال النووي: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها، ولا تستحب في سجود التلاوة في الصلاة.   أعلم" وهي زهرة لا تحتمل العرك. "وروى أبو داود" في الصلاة عن أبي سعيد "أنه صلى الله عليه وسلم سجد على الماء والطين" صبح ليلة القدر، وقصر العز، ولأبي داود تقصير شديد، فالحديث فيه وفي الصحيحين والنسائي وابن ماجه مطولا، وهو في البخاري في مواضع من الصلاة والصوم والاعتكاف، ولفظه: في بعضها عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها، أي: ليلة القدر في العشر الأواخر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء، وكان سقف المسجد من جريد النخل، وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة، فأمطرنا، فصلى بنا صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهته وأرنبته تصديق رؤياه، "وكان يرفع رأسه من السجود مكبرا غير رافع يديه، ويرفع منه رأسه قبل يديه، ثم يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى" أي يقيمها، "وكان عليه السلام يجلس للاستراحة جلسة لطيفة، بحيث تسكن جوارحه سكونا بينا، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، كما" يفيد ذلك ما "في صحيح البخاري وغيره" كأبي داود والترمذي والنسائي من حديث مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا، فليس ما ذكره المصنف لفظ الحديث لا في البخاري ولا في غيره. "قال النووي: ومذهبنا استحبابها عقب السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها" وبهذا قال طائة من أهل الحديث: وعن أحمد روايتان ولم يستحبها الأكثر ومالك وأبو حنيفة، واحتج له الطحاوي بخلو حديث أبي حميد، فإنه ساقه لفظ، فقام ولم يتورك، وكذا رواه أبو داود، قال: فلما تخالفا احتمل أن ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به، فقعد من أجلها، لا أن ذلك من سنة الصلاة، وبأنها لو كانت مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص، وتعقب بأن الأصل عدم العلة، وحديث أبي حميد يدل على عدم وجوبها، فكأنه تركها لبيان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 وكان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". رواه أبو داود والدارمي من حديث ابن عباس. الفرع الثاني عشر: في ذكر جلوسه للتشهد كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للتشهد يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى. رواه مسلم. قال النووي: معناه يجلس مفترشا، وفيه حجة لأبي حنيفة ومن وافقه: أن الجلوس في الصلاة يكون مفترشا سواء فيه جميع الجلسات. وعند مالك: يسن متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من تحته ويقضي بوركه   الجواز، وأما الذكر، فإنها جلسة خفيفة جدا استغنى عنه بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة للنهوض إلى القيام. وأجيب بأن كون الأصل عدم العلة لا يمنع احتمالها، فيسقط الاستدلال، وقد تمسك من لم يقل باستحبابها بقوله صلى الله عليه وسلم: لا تبادروني بالقيام والقعود، فإني قد بدنت، فدل على أنه كان يفعله لهذا السبب، فلا تشرع إلا في حق من اتفق عليه نحو ذلك "ولا تستحب في سجود التلاوة في الصلاة" اتفاقا "وكان صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". زاد في رواية: "وارفعني". "رواه أبو داود والدارمي من حديث ابن عباس" وجاء أنه كان يقول بين السجدتين: "اللهم اغفر لي" مرتين. الفرع الثاني عشر: في ذكر جلوسه للتشهد "كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس للتشهد" أي: جنسه الصادق بالأول وغيره "يفرش"، "بضم الراء وكسرها" يبسط "رجله اليسرى وينصب" رجله "اليمنى، رواه مسلم" عن عائشة أثناء حديث، بلفظ: وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، فليس فيه إذا جلس للتشهد، وإنما هو من المصنف أتى به استدلالا على الجلوس للتشهد. "قال النووي: معناه يجلس مفترشا" أخذا من إطلاق الحديث, "وفيه حجة لأبي حنيفة ومن وافقه أن الجلوس في الصلاة يكون مفترشا" الجلوس بمعنى الجالس إطلاقا للمصدر على اسم الفاعل، أو باق على حاله بتقدير يكون فاعله مفترشا، بكسر الراء، فإن فتحت على أنه مصدر ميمي بمعنى الافتراش لم يحتج لتأويل، "سواء" أي: مستو "فيه جميع الجلسات". "وعند مالك يسن" أي: يستحب الجلوس كله "متوركا بأن يخرج رجله اليسرى من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 إلى الأرض. وقال الشافعي: السنة أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التي يعقبها السلام. والجلسات عند الشافعي أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة في كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأولى، والجلسة للتشهد الأخير، والجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة، ولو كان على المصلي سجود سهو فالأصح له أن يجلس مفترشا في تشهده فإذا سجد سجدتي السهو تورك ثم سلم. هذا تفصيل مذهبنا. واحتج أبو حنيفة: بإطلاق حديث عائشة. واحتج الشافعي: بحديث أبي حميد الساعدي في صحيح البخاري، وفيه التصريح بالافتراش في الجلوس الأول والتورك في آخر الصلاة، وحمل حديث   تحته ويقضي بوركه إلى الأرض". "وقال الشافعي: السنة" أي: الأفضل "أن يجلس كل الجلسات مفترشا إلا الجلسة التي يعقبها السلام" فيجلس متوركا، لأنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات، ولأن الأول يعقبه حركة بخلاف الثاني، ولأن المسبوق إذا رآه علم ما سبق به، "والجلسات" المطلوبة في الصلاة "عند الشافعي أربع" فلا يرد أن العاجز عن قيام الفرض يصلي جالسا، وجواز النافلة من جلوس ولو قادرا وأنه يفترش في جميع ذلك عنده، "الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة في كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير والجميع يسن" أن يأتي به المصلي حال كونه "مفترشا" أو الافتراش فيه "إلا الأخيرة ولو كان على المصلي سجود سهو، فالأصح له أن يجلس مفترشا في تشهده" سواء كان محسوبا له لكونه آخر صلاته أو أتى به تبعا لإمامه، بأن كان مسبوقا اقتدى به في الركعة الثانية أو الرابعة "فإذا سجد" أي: أراد أن يسجد "سجدتي السهو تورك" وسجد، "ثم سلم هذا تفصيل مذهبنا" أي: الشافعية. "واحتج أبو حنيفة بإطلاق حديث عائشة" فإن ظاهره شموله لجميع الجلسات. "واحتج الشافعي بحديث أبي حميد الساعدي" عبد الرحمن أو المنذر "في صحيح البخاري، وفيه التصريح بالافتراش في الجلوس الأول والتورك في آخر الصلاة" ولفظه: أنا كنت أحفظكم لصلاته صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر فذكر الحديث، إلى أن قال: فإذا جلس في الركعتين جلس على رجليه اليسرى ونصب الينى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته ولأبي داود حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها التسليم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 عائشة هذا على الجلوس في غير التشهد الأخير ليجمع بين الأحديث. انتهى. فليتأمل قول ابن القيم في الهدي النبوي: إنه لم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا كان صفة جلوسه في التشهد الأول، ولا أعلم أحدا قال به. انتهى. وقال أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحابه صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فاعرض.. فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت   ولابن حبان التي تكون خاتمة الصلاة أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر، فقد بين ذلك أبو حميد بالقول عن رؤيته فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا أن أبا حميد صلى إذ لم يقع ذلك في رواية البخاري كما زعم الشارح وإنما وقع ذلك في رواية الطحاوي وابن حبان. قالوا: فأرنا فقام يصلي وهم ينظرون وجمع الحافظ بأن وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل، "وحمل" الشافعي "حديث عائشة هذا" المقتضي للافتراش حتى في التشهد الأخير "على الجلوس في غير التشهد الأخير ليجمع بين الأحاديث. انتهى" كلام النووي. واحتج مالك بما رواه في الموطأ ومن طريقه البخاري عن ابن عمر: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، فلم يفصل بين أول وآخر، وقول الصحابي: السنة، كذا مرفوع، وحمل حديث عائشة وحديث أبي حميد على بيان الجواز، والمشهور عن أحمد اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان وقوفا مع ظاهر حديث أبي حميد. "فليتأمل قول ابن القيم في الهدى النبوي، إنه لم ينقل أحد عنه صلى الله عليه وسلم أن هذا" أي: الافتراش "كان صفة جلوسه في التشهد، ولا أعلم أحدًا قال به. انتهى". ووجه التأمل أن أبا حميد صرح بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في صحيح البخاري كما لمت، وكذا رواه كثيرون فكيف يصح نفي نقله عنه، وكيف ينفي علمه قول أحد به مع أن الشافعي استحبه وابن القيم شافعي. "وقال أبو حميد الساعدي" الأنصاري "في عشرة" هكذا لأبي داود وغيره ولسعيد بن منصور مع عشرة وفي البخاري في نفر، ولبعض رواته مع نفر، ولفظ مع يرجح أحد الاحتمالين في لفظ في، لأنها محتملة، لكون أبي حميد من العشرة أو زائدا عليهم "من أصحابه صلى الله عليه وسلم" وسمي منهم سهل بن سعد وأبو أسيد الساعدي ومحمد بن مسلمة، رواه أحمد وغيره وأبو هريرة وأبو قتادة عند ابن خزيمة وأبي داود والترمذي، ولم أقف على تسمية الباقين، قاله الحافظ "أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم". زاد في رواية أبي داود: قالوا فلم، فوالله ما كنت بأكثرنا له اتباعا. وفي الترمذي: إتيانا، ولا أقدمنا له صحبة، ولابن حبان والطحاوي قالوا: فكيف قال تتبعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 السجدة التي فيها التسليم أخرج رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم، قالوا: صدقت هكذا كان يصلي، رواه أبو داود والدارمي. وفي رواية لأبي داود: فإذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى، ونصب اليمنى، وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه الأيسر إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة. الحديث. وكان عليه السلام إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته وعقد ثلاثا وخمسين وأشار بالسبابة.   ذلك منه حتى حفظته. "قالوا: فاعرض" صلاتك علينا التي تحكي بها الصلاة النبوية، "فذكر الحديث إلى أن قال: حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم", ولابن حبان التي تكون خاتمة الصلاة: "أخرج رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر ثم سلم". وعند الطحاوي: عن يمينه سلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك، "قالوا" أي الصحابة المذكورون: "صدقت هكذا كان يصلي" فحكى الصلاة بالفعل، "رواه أبو داود والدارمي" من رواية عبد الحميد بن جعفر عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبيه قال: سمعت أبا حميد في عشرة، وفي البخاري من طريق الليث بإسناده عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالسا في نفر من الصحابة، فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد الساعدي: أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه إلى أن قال: وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته كما مر، فحكى الصلاة النبوية بالقول، ومر الجمع بينهما بأنه وصفها مرة بالقول ومرة بالفعل. "وفي رواية لأبي داود" في حكايته قول: "فإذا قعد" صلى الله عليه وسلم "في الركعتين" الأوليين للتشهد "قعد على بطن قدمه اليسرى ونصب اليمنى، وإذا كان في الرابعة أفضى بوركه الأيسر إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة" حيث أخرج قدمه اليسرى من تحت رجله الينى "الحديث" وفيه جواز وصف الرجل نفسه بأنه أعلم من غيره إذا أمن العجب وأراد تأكيد ذلك عند من سمعه لما في التعليم والأخذ عن الأعلم من الفضل، وأنه كان يخفى على كثير من الصحابة بعض الأحكام، وربما ذكره بعضهم إذا ذكر. "وكان عليه السلام" كما في مسلم من حديث ابن عمر "إذا قعد في التشهد وضع يده اليسرى" مبسوطة "على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثا وخمسين" بأن قبض الوسطى والبنصر والخنصر على وسط الكف مع وضع الإبهام على أنملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 وفي رواية مسلم: وضع يده على ركبته، ورفع أصبعه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيناه يحركها ويدعو. وفي حديث ابن الزبير عنده أيضا: كان يشير بها ولا يحركها الحديث. وعند أبي داود من حديث وائل بن حجر: مد صلى الله عليه وسلم مرفقه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة ثم رفع أصبعه فرأيته يحركها ويدعو. وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه وركوعه وفي سجوده وفي التشهد، ويستقبل بأصابع رجليه القبلة في سجوده. الفرع الثالث عشر: في ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة الأخيرة ويعلم أصحابه أن يقولوا: التحيات   الوسطى، كما قال الباجي، "وأشار بالسبابة" توحيدا لله، روى أحمد والطبراني برجال ثقات عن خفاف، قال: كان صلى الله عليه وسلم ينصب أصبعه السبابة، وكان المشركون يقولون: إنما يصنع محمد هذا بإصبعه ليسحر بها وكذبوا إنما كان يصنع ذلك يوحد بها ربه. "وفي رواية مسلم: وضع يده على ركبته ورفع أصبعه اليمنى، وقبض ثنتين وحلق حلقة" أخذ بهذا بعضهم، وأنكره بعضهم، وأخذ بحديث ابن عرم الذي قبله، وفسر بعضهم التحليق بأن يضع طرف الوسطى في عقدتي الإبهام، وفسره الخطابي برءوس أنامل الوسطى والإبهام حتى يكون كالحلقة لا يفضل من جوانبها شيء ذكره الأبي، "ثم رفع أصبعه فرأيناه يحركها" فيستحب تحريكها، لأنها مقمعة للشيطان، ويذكر بها الصلاة وأحوالها، فلا يوقع الشيطان المصلي في سهو "ويدعو" الله تعالى وفيه تحريكها دائما إذ الدعاء بعد التشهد. "وفي حديث ابن الزبير عنده" أي مسلم: "أيضا: كان يشير بها ولا يحركها الحديث" ولا يخالف ما قبله، لأنه ترك لبيان أنه ليس بواجب. "وعند أبي داود من حديث وائل بن حجر"، "بحاء مهملة مضمومة وجيم ساكنة: "مد" صلى الله عليه وسلم مرفقه اليمنى وقبض ثنتين وحلق حلقة، ثم رفع أصبعه، فرأيته يحركها ويدعو" الله تعالى، "وكان صلى الله عليه وسلم يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه وركوعه وفي سجوده وفي التشهد" أي: جنسه، "ويستقبل بأصابع رجليه القبلة في سجوده. الفرع الثلث عشر: في ذكره تشهده صلى الله عليه وسلم تفعل من تشهد، سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبا لها على بقية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،   أذكاره لشرفها "كان صلى الله عليه وسلم يتشهد دائما في هذه الجلسة" المذكورة في الفرع قبله، وقد ترجم البخاري باب التشهد في الآخرة، وروى في حديث ابن مسعود في التشهد، قال الحافظ: أي الجلسة الآخرة. قال ابن رشيد: ليس في حديث الباب تعيين محل القول، لكن يؤخذ ذلك من قوله: فإذا صلى أحدكم فليقل، فإن ظاهره، أي: أتم صلاته، لكن تعذر الحمل على الحقيقة، لأن التشهد لا يكون بعد السلام، فلما تعين المجاز كان حمله على آخر جزء من الصلاة أولى، لأنه هو الأقرب إلى الحقيقة، قلت: هذا التقدير على مذهب الجمهور أن السلام جزء من الصلاة لا أنه للتحلل منها فقط، والأشبه بتصرف البخاري أنه أشار بذلك إلى ما ورد في بعض طرقه من تعيين محل القول، "ويعلم أصحابه أن يقولوا التحيات" جمع تحية، ومعناها السلام أو البقاء أو العظمة أو السلامة من الآفات والنقص أو الملك أقوال. وقيل: ليست التحتية الملك نفسه، بل الكلام الذي يحيى به الملك وجمعت، لأنه لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية، فالمعنى التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. وقال الخطابي: ليس في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله، فأبهمت ألفاظها واستعمل منها معنى التعظيم، أي: أنواع التعظيم له. وقال المحب الطبري: يحتمل أن لفظ التحية مشترك بين المعاني المذكورة، وكونها بمعنى السلام أنسب هنا "المباركات" تلميح لقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ، وفي الموطأ في تشهد عمر بدله الزاكيات، قيل: وكأنها بالمعنى "الصلوات" الخمس، أو ما هو أعم من الفرائض والنوافل في كل شريعة، وقيل: المراد العبادات كلها، وقيل: الدعوات، وقيل: الرحمة وقيل: التحيات العبادات القولية، والصلوات العبادات الفعلية، والطيبات الصدقات المالية "الطيبات لله" أي: ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته ما كان الملوك يحيون به، وقيل: ذكر الله، وقيل: الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء، وقيل: الأعمال الصالحة وهو أعم "السلام" قال النووي: يجوز فيه وفيما بعد حذف اللام وإثباتها، وهو أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين. قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود حذف اللام، وإنما اختلف في ذلك في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم. قال الطيبي: والتعريف للعهد التقرير، أي: ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء والرسل "عليك أيها النبي ورحمة الله" أي إحسانه "وبركاته" أي زيادته من كل خير، وأما للجنس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. رواه مسلم من رواية ابن عباس.   بمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد وعمن يصدر وعلى من ينزل عليك، وإما للعهد الخارجي إشارة إلى قوله تعالى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: ولا شك أن هذه التقريرات أولى من تقرير النكرة، لأن أصل سلام عليك سلمت سلامًا ما عليك، ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه، وعدل عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره، انتهى. وذكر صاحب الإقليد عن أبي حامد أن التنكير فيه للتعظيم، وهو من وجوه الترجيح لا يقف عن الوجوه المتقدمة. وقال التوربشتي: السلام بمعنى السلامة، كالمقام والمقامة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة، والمعنى؛ أنه سالم من كل عيب وآفة ونقص وفساد، ومعنى السلام عليك الدعاء، أي: سلمت من المكاره. وقيل: معناه اسم السلام عليك، كأنه يبرك عليه باسم الله "السلام" الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء "علينا" يريد به المصلى نفسه والحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة، وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء. وفي الترمذي مصححًا عن أبي كعب؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في مسلم، ومنه قول نوح وإبراهيم كما في التنزيل. "وعلى عباد الله الصالحين" جمع صالح، والأشهر أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق عباده وتتفاوت درجاته "أشهد أن لا إله إلا الله". زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة عن أبيه وحده لا شريك له وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ، وفي حديث ابن عمر عند الدارقطني إلا أن سنده ضعيف. وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح، عن ابن عمر في التشهد: أشهد أن لا إله إلا الله. قال ابن عمر: زدت فيها وحده لا شريك له وهذا ظاهره الوقف، قاله الحافظ، يعني: ويحتمل الرفع على معنى زدت على رواية غيري، لكنه بعيد "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". وفي رواية لمسلم أيضًا: وأشهد أن محمدا رسول الله ومن رواته من حذف لفظ أشهد، ولم تختلف طرق حديث ابن مسعود في أنه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وكذا هو في حديث أبي موسى وابن عمر وعائشة المذكور، وجابر وابن الزبير عند الطحاوي وغيره. وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم التشهد إذ قال رجل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 وهو الذي اختاره الشافعي لزيادة "المباركات" لا تشهد ابن مسعود، وإن قاله القاضي عياض. وعبارة الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان أخبرنا الشافعي جوابًا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس: "فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعًا وسمعته -يعني حديث ابن عباس- صحيحًا، وروايته أكثر لفظًا من غيره -يعني من المرفوعات- أخذت به غير معنف لمن أخذ بغيره "هذا آخر كلامه، وليس فيه تصريح بالأفضلية، والعمل عند الله تعالى.   وأشهد أن محمدًا رسوله وعبده، فقال عليه الصلاة والسلام: "لقد كنت عبدًا قبل أن أكون رسولا، قل: عبده ورسوله". رجاله ثقات إلا أنه مرسل كما في الفتح. "رواه مسلم" وأصحاب السنن "من رواية ابن عباس"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، وكان يقول: فذكره، "وهو الذي اختاره الشافعي لزيادة المباركات لا تشهد ابن مسعود، وإن قاله" أي: نقله "القاضي عياض" في الشفاء عن الشافعي، فإنه سبق قلم. "وعبارة الشافعي فيما أخرجه البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان" بن عبد الجبار المرادي أبي محمد المصري، الثقة المؤذن، صاحب الشافعي، وراوي الأم وغيرها من كتبه، وقال فيه: إنه أحفظ أصحابي، روى له أصحاب السنن، مات سنة سبعين ومائتين وله ست وتسعون سنة، قال: "أخبرنا الشافعي جوابًا لمن سأله بعد ذكر حديث ابن عباس" المذكور في التشهد عن اختياره له، فأجابه بقوله: "فإنا نرى الرواية اختلفت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم" اختلافا قليلا متقارب المعنى، إنما فيه كلمة زائدة أو ناقصة، "فروى ابن مسعود خلاف هذا، فساق الكلام إلى أن قال: فلما رأيته واسعًا وسمعته، يعني: حديث ابن عباس صحيحًا، وروايته أكثر لفظًا من غيره، يعني: من المرفوعات"، لأن في الموقوفات ما هو أكثر منه لفظًا، "أخذت به"، أي: اخترته "غير معنف" أي: لا تم "لمن أخذ بغيره" مما صح، "هذا آخر كلامه وليس فيه تصريح بالأفضلية" له على غيره "والعلم عند الله تعالى" لكن قوله: أخذت به قريب من التصريح، وقال بعد أن أخرج حديث ابن عباس في الأم: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان هذا أحب إلي لأنه أكملها، ورجحه بعضهم لأنه مناسب للفظ القرآن في قوله: تحية من عند الله مباركة طيبة، وأما من رجحه بأن ابن عباس من أحدث الصحابة، فيكون أضبط لما روى، أو بأنه أفقه من رواه، أو بأن إسناده حجازي وإسناد حديث ابن مسعود كوفي، وهو مما يرجح به، فلا طائل فيه لمن أنصف، نعم يمكن أن يقال: الزيادة التي في حديث ابن عباس، وهي المباركات لا تنافي حديث ابن مسعود، ويرجح الأخذ بها، لأن أخذ ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود أفضل لأنه عند المحدثين أشد صحة. وقال مالك -رحمه الله- تشهد عمر الموقوف عليه أفضل لأنه علمه للناس   كان في الأخير، قاله الحافظ. "وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث: تشهد ابن مسعود"، وهو ما رواه أحمد والأئمة الستة، عنه قال: إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". "أفضل، لأنه عند المحدثين أشد صحة". قال الترمذي: هذا أصح حديث في التشهد، وسئل البزار عن أصح حديث في التشهد، فقال: حديث ابن مسعود جاء من نيف وعشرين طريقًا، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالا، قال الحافظ: ولا خلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم به البغوي، ومن مرجحاته أنه متفق عليه دون غيره، وأن رواته الثقات لم يختلفوا في ألفاظه دون غيره، وأنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقينا، فروى الطحاوي عنه أخذت التشهد من في رسول الله صلى الله عليه ولقنيه كلمة كلمة. وفي البخاري عنه: علمني صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة ن القرآن، ووافقه على لفظه أبو سعيد الخدري عند الطحاوي، وبثبوت الواو في "والصلوات والطيبات"، وهو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فتكون كل جملة ثناء مستقلا بخلاف حذفها، فتكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في الأول صريح، فيكون أولى، ولو قيل: إن الواو مقدرة في الثاني، وبأنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره، فمجرد حكاية ولأحمد عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس، ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. "وقال مالك رحمه الله" وأصحابه "تشهد عمر الموقوف عليه"، وهو ما رواه في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: قولوا: التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. "أفضل، لأنه علمه للناس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله. ومذهب الشافعي أن التشهد الأول سنة والثاني واجب. وجمهور المحدثين: أنهما واجبان. وقال أحمد: الأول وجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه. وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان. وعن مالك رواية بوجوب الأخير. وقد كان عليه السلام يأتي بالتشهدين.   على المنبر" النبوي والصحابة متوافرون، "ولم ينازعه أحد" منهم، "فدل على تفضيله" على غيره، وقد أورده بصيغة الأمر كما رأيت، فدل على زيادة مزينة مع عدم الإنكار، وتعقب بأنه موقوف، فلا يلحق بالمرفوع. وأجيب بأن مردويه رواه في كتاب التشهد له، مرفوعًا عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهده حديث ابن عباس فإنه قريب منه إلا أنه قال: "الزاكيات" بدل المباركات، وكأنها بالمعنى، فكل ما رجح به حديث ابن عباس يرجح به حديث عمر. "ومذهب الشافعي أن التشهد الأول سنة"، لأنه صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع لما سبحوا له كما في الصحيح، فلو كان واجبًا لرجع إليه ولما جبره بالسجود قبل السلام إلا يجبر به الواجب كالركوع وغيره. "والثاني واجب" لظاهر الأمر"، "وجمهور المحدثين أنهما واجبان" لظاهر الأمر، بقوله: فليقل: "وقال أحمد: الأول وجب يجبر تركه بالسجود، والثاني ركن تبطل الصلاة بتركه"، هكذا في بعض نسخ، ومثله له في شرحه للبخاري عن أحمد، وفي فتح الباري المشهور عن أحمد وجوبهما. "وقال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء: هما سنتان"، لأنه لم يبينهما للمسيء صلاته، وهو الصارف للأمر عن الوجوب. "وعن مالك رواية" ضعيفة "بوجوب الأخير"، رواها عنه أبو مصعب، وقال: من تركه بطلت صلاته. "وقد كان عليه السلام يأتي بالتشهدين" موظبًا عليهما فهما سنتان، "وفي الغيلانيات" أحد عشر جزءًا تخريج الدارقطني من حديث أبي محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 وفي الغيلانيات عن القاسم بن محمد قال: علمتني عائشة قالت: هذا تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وهو مثل تشهد ابن مسعود سواء. رواه البيهقي بإسناد جيد. قال النووي: وفي هذا فائدة حسنة وهي أن تشهده عليه السلام بلفظ تشهدنا، انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وكأنه يشير إلى رد ما وقع في الرافعي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في التشهد: "وأشهد أني رسول الله". وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحًا. نعم وقع في البخاري من حديث سلمة بن الأكوع قال: خفت أزواد القوم فذكر الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله".   وهو القدر المسموع لأبي طالب بن غيلان من أبي بكر الشافعي، "عن القاسم بن محمد" بن الصديق، "قال: علمتني عائشة" عمته، "قالت: هذا تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي" عدل عن الوصف بالرسالة مع أنها أعم في حق البشر ليجمع له الوصفين، لأنه وصف بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ، وقدم وصف النبوة لوجودها في الخارج، كذلك لنزول قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ، قبل قوله: {قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 2] ، "ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وهو مثل تشهد ابن مسعود سواء، ورواه البيهقي بإسناد جيد"، أي: مقبول. "قال النووي: وفي هذا فائدة حسنة، وهي أن تشهده عليه السلام بلفظ: تشهدنا"، فكان يقول: أشهد أن محمدًا عبده ورسوله، انتهى. "قال الحافظ ابن حجر: وكأنه" أي: النووي "يشير إلى رد ما وقع في الرافعي" من قوله المنقول؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في التشهد: "وأشهد أني رسول الله". وتعقبوه بأنه لم يرو كذلك صريحًا"، وفي تخريج أحاديثه للحافظ، ولا أصل لذلك كذلك، بل ألفاظ التشهد متواترة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "أشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وللأربعة عن ابن مسعود في خطبة الحاجة: "وأشهد أن محمدًا رسول الله". "نعم وقع في البخاري من حديث سلمة بن الأكوع، قال: خفت أزواد القوم، فذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوي: علمهم أن يفردوه -صلى الله عليه وسلم- بالذكر لشرفه ومزيد حقه عليهم، فإن قيل: كيف يشرع هذا اللفظ، وهو خطاب بشر مع كونه منهيًا عنه في الصلاة؟ فالجواب: أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: فما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: "عليك أيها النبي" مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبي، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين؟ أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه   الحديث" في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، "وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله" ورواه مسلم بنحوه عن أبي هريرة، وقد مر في المعجزات. زاد في التخريج وفي مغازي موسى بن عقبة معضلا أن وفد ثقيف قالوا: يأمرنا أن نشهد أنه رسول الله ولا يشهد به في خطبته، فلما بلغه قولهم قال: فإني أول من شهد أني رسول الله. وفي البخاري في الأطعمة في قصة جد نخل جابر واستيفاء غرمائه وفضل له من التمر وقوله صلى الله عليه وسلم حين بشره جابر بذلك: "أشهد أني رسول الله". انتهى. فالحاصل أنه قالها في مواطن ليس منها التشهد، "ومن لطائف التشهد ما قاله البيضاوي" في شرح المصابيح "علمهم أن يفردوه صلى الله عليه وسلم بالذكر" بقولهم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، "لشرفه ومزيد حقه عليهم"، ثم علمهم أن يخصوا أنفسهم أولا، لأن الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين إعلامًا منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملا لهم. هذا بقية كلام البيضاوي كما في الفتح، ثم فصله بكلام التوربشتي في معنى السلام وقدمته، ثم قال: "فإن قيل: كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهيًا عنه في الصلاة، فالجواب أن ذلك من خصائصه صلى الله علي وسلم" أن يقصد خطابه بذلك ونحوه، وصلاته صحيحة بخلاف ما إذا قصد خطاب غيره فتبطل "فإن قلت: فما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله: عليك أيها النبي، مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق، كأن يقول: السلام على النبي، فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين". "أجاب الطيبي بما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه الصحابة" وإن كنا لا نعلم سر ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 الصحابة. ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله تعالى: إن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات، أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة، فنهبوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابتعه، فالتفوا فإذا الحبيب في حريم الحسيب الملك حاضر، فألقوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، انتهى. وقال الترمذي الحكيم: في قوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين":   "ويحتمل أن يقال على طريق أهل المعرفة بالله تعالى أن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت، فقرت أعينهم بالمناجاة"، لأن المصلي يناجي ربه، "فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته، فالتفتوا" التفاتًا معنويًّا. "فإذا الحبيب" صلى الله عليه وسلم "في حريم الملك الحسيب" جل وعلا، وفي نسخة: في حريم الحبيب، وهي التي في الفتح "حاضر، فأقبلوا عليه قائلين: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، انتهى. زاد الحافظ: وقد ورد في بعض طرق حديث ابن مسعود ما يقتضي المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم، فيقال: بلفظ الخطاب وما بعده، فيقال: بلفظ الغيبة وهو مما يخدش في وجه الاحتمال المذكور، ففي الاستئذان من البخاري بعد أن ساق حديث التشهد عن ابن مسعود، قال: وهو بين أظهرنا، فلما قبض قلنا: السلام يعني على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أبو عوانة والسراج والجوزقي وأبو نعيم والبيهقي من طرق متعددة، بلفظ: قلنا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحذف لفظ يعني. قال السبكي: إن صح هذا دل على أن الخطاب في السلام بعده لا يجب، فيقال: السلام على النبي، انتهى. وقد صح بلا ريب ووجدت له متابعًا قويًا، قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء أن الصحابة كانوا يقولون والنبي صلى الله عليه وسلم حي: السلام عليك أيها النبي، فلما مات قالوا: السلام على النبي، وهذا إسناده صحيح، وما روى سعيد بن منصور عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم التشهد فذكره، قال: فقال ابن عباس إنما كنا نقول: السلام عليك أيها النبي إذ كان حيًّا فقال ابن مسعود هكذا علمنا وهكذا نعلم فظاهره أن ابن عباس قاله بحثًا وأن ابن مسعود لم يرجع إليه لكن سنده ضعيف ومنقطع، انتهى باختصار. "قال الترمذي الحكيم" محمد بن علي "في قوله: السلام علينا وعلى عباد الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم. وقال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر جميع المسلمين، لأن المصلي يقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرًا في خدمة الله وفي حق رسوله، وفي حق نفسه، وفي حق كافة المسلمين. ولذلك عظمت المعصية بتركها. واستنبط منه السبكي: أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله، وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين، من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، انتهى.   الصالحين، من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في صلاتهم، فليكن عبدًا صالحًا، وإلا حرم هذا الفضل العظيم". زاد الحافظ وقال الفاكهاني: ينبغي للمصلي أن يستحضر في هذا المحل جميع الأنبياء والملائكة والمؤمنين، يعني ليتوافق لفظه مع قصده، "وقال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر جميع المسلمين" بعدم نفعهم بالثواب، "لأن المصلي يقول: اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات، ولا بد أن يقول في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فيكون التارك للصلاة مقصرًا في خدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين" وغيرهم من الملائكة والجن كما مر في الحديث، فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله تعالى صالح في السماء والأرض، قال الحافظ: هو كلام معترض بين قوله: الصالحين وبين أشهد ... إلخ، قدم عليه اهتمامًا لأنه أنكر عليهم عند الملائكة واحدًا واحدًا ولا يمكن استيعابهم، فعلمهم لفظًا يشمل الجميع من غير الملائكة مع النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بلا مشقة، وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وجاء في بعض طرقه سياق التشهد متواليًا، وتأخير الكلم المذكور بعد وهو من تصرف الرواة، "ولذلك عظمت المعصية"، وفي نسخة: المصيبة، وكلاهما صحيحة "بتركها" بحيث يقتل حدًا تاركها كسلا وكفرًا عند كثيرين، "واستنبط منه السبكي أن في الصلاة حقًا للعباد مع حق الله" وهو السلام عليهم والدعاء لهم، "وأن من تركها أخل بجميع حق المؤمنين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة لوجوب قوله فيها: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" لأن التشهد الأخير واجب عند الشافعي، ومن جملته ذلك، ويحتمل أن يكون مراده بالوجوب الثبوت، سواء قلنا بالوجوب أو بالسنية، وهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير، وما في ذلك من المباحث في فضل الصلاة عليه. وعند الطبراني مرفوعًا، عن سهل بن سعد: "لا صلاة لمن لم يصل على نبيه". وكذا عند ابن ماجه والدارقطني. وعن أبي مسعود الأنصاري عند الدارقطني: "من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه". وعن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم في الصلاة فليقل: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدًا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". رواه الحاكم. واغتر قوم بتصحيحه فوهموا، فإنه من رواية يحيى بن السباق وهو مجهول   أظهر ليكون الاستنباط على جميع المذاهب، انتهى. "وتقدم الكلام على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد الأخير" عند الشافعي وطائفة وسنيته عند الأكثرين "وما في ذلك من المباحث في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم" من المقصد السابع. "وعند الطبراني مرفوعًا عن سهل بن سعد": "لا صلاة" كاملة أو مجزئة "لمن لم يصل على نبيه". "وكذا عند ابن ماجه والدارقطني" والحاكم عن سهل بن سعد، مرفوعًا: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا صلاة لمن لم يصل على النبي، ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار". "وعن أبي مسعود" عقبه بن عمرو "الأنصاري عند الدارقطني" مرفوعًا: "من صلى صلاة لم يصل فيها علي وعلى أهل بيتي لم تقبل منه" وهذا بفرض أن المراد الصلاة الشرعية لا دلالة فيه على وجوبها في الصلاة، إذ لا تجب على أهل بيته عند من قال بوجوبها عليه في الصلاة. "وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تشهد أحدكم في الصلاة"، أي: فرغ من التشهد "فليقل": "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدًا وآل محمد، كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، رواه الحاكم" في المستدرك "واغتر قوم بتصحيحه فوهموا فإنه من رواية يحيى بن السباق"، "بفتح المهملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 عن رجل مبهم، وبالغ ابن العربي في إنكار ذلك فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد من زيادته وترحم، فإنه قريب من البدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم كيفية الصلاة عليه بالوحي، ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه. قال الحافظ ابن حجر: ابن أبي زيد ذكر ذلك في الرسالة في صفة التشهد، لما ذكر ما يستحب في التشهد، ومنه: اللهم صل على محمد وآل محمد، فزاد: وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد إلى آخره. فإن كان إنكاره ذلك لكونه لم يصح فمسلم، وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدًا، مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". قال: ثم وجدت لابن أبي زيد مستندًا" فأخرج الطبري في تهذيبه، من طريق حنظلة بن علي عن أبي هريرة رفعه: "من قال اللهم صل على محمد وعلى آل   والموحدة الثقيلة"، "وهو مجهول عن رجل مبهم"، فمن أين تأتيه الصحة. "وبالغ ابن العربي" أبو بكر الحافظ "في إنكار ذلك، فقال: حذار مما ذكره ابن أبي زيد" أبو محمد عبد الله القيرواني "من زيادته وترحم، فإنه قريب من البدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم علمهم"، أي: الصحابة "كيفية الصلاة عليه بالوحي"، لأنه ما ينطق عن الهوى، "ففي الزيادة على ذلك استدراك عليه" وهو لا يجوز. "قال الحافظ ابن حجر ابن أبي زيد ذكر في الرسالة" الشهيرة في الفقه "في صفة التشهد لما ذكر ما يستحب في التشهد، ومنه: "اللهم صل على محمد وآل محمد"، فزاد: "وترحم على محمد وآل محمد، وبارك على محمد وآل محمد" إلى آخره، ومنه: كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم؛ "فإن كان إنكاره" أي: ابن العربي على ابن أبي زيد، "ذلك لكونه لم يصح، فمسلم" في الجملة، "وإلا فدعوى من ادعى أنه لا يقال: وارحم محمدًا مردودة لثبوت ذلك في عدة أحاديث، أصحها في التشهد: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". "قال" الحافظ: "ثم وجدت لابن أبي زيد مستندًا، فأخرج الطبري" محمد بن جرير "في تهذيبه"، أي: كتابه المسمى تهذيب الآثار "من طريق حنظلة بن علي" بن الأسقع الأسلمي المدني، تابعي، ثقة، من رجال مسلم والسنن "عن أبي هريرة، رفعه: من قال اللهم صل على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة وشفعت له" ورجال سنده رجال الصحيح، إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصي، الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول، وهذا كله فيما يقال مضمومًا إلى السلام أو الصلاة. وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع من ذلك ونقل القاضي عياض عن الجمهور الجواز مطلقًا، وقال القرطبي في "المفهم": إنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره. ففي "الذخيرة" من كتب الحنفية عن محمد: يكره ذلك لإبهامه النقص، لأن الرحمة غالبًا إنما تكون لفعل ما يلام عليه.   محمد" قال الحازمي: أي عظمة في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته، وأيد فضيلته بالمقام المحمود، ولما عجز البشر عن بلوغ قدر الواجب له من ذلك، شرع لنا أن نحيل ذلك لله تعالى، فنقول: "اللهم صل على محمد" وعلى آل محمد" أتباعه أو ذريته "كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وترحم على محمد" ترحمًا يليق به "وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهدت له يوم القيامة وشفعت" بفتح الفاء "له" شفاعة خاصة زائدة على عموم شفاعته، "ورجال سنده رجال الصحيح إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاصي، الراوي له عن حنظلة بن علي، فإنه مجهول"، فالحديث ضعيف، "وهذا كله فيما يقال مضمومًا إلى السلام أو الصلاة". "وقد وافق ابن العربي الصيدلاني من الشافعية على المنع من ذلك" مطلقًا، "ونقل القاضي عياض عن الجمهور الجواز مطلقًا"، سواء انضم ذلك إلى الصلاة أو السلام أو لا، وسواء كان في الصلاة أو خارجها. "وقال القرطبي في المفهم" شرح مسلم "أنه الصحيح لورود الأحاديث به، وخالفه غيره" في تصحيح ذلك، "ففي الذخيرة من كتب الحنفية عن محمد" بن الحسن صاحب أبي حنيفة: "يكره ذلك لإيهامه النقص، لأن الرحمة غالبًا إنما تكون لفعل ما يلام عليه" ولا يقع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: رحمه الله، لأنه عليه السلام قال: "من صلى علي" ولم يقل: من ترحم علي، ولا من دعا لي، وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيمًا له. فلا يعدل عنه إلى غيره. وأخرج أبو العباس السراج عن أبي هريرة: أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وباركت على إبراهيم، وآل إبراهيم إنك حميد مجيد". وفي حديث بريدة رفعه: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم".   ذلك منه صلى الله عليه وسلم: "وجزم ابن عبد البر بمنعه، فقال: لا يجوز لأحد إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول رحمه الله، لأنه عليه السلام قال: "من صلى علي" ولم يقل من ترحم علي ولا من دعا لي" ولأن الله تعالى قال: {صَلُّوا عَلَيْهِ} . "وإن كان معنى الصلاة الرحمة، ولكنه خص بهذا اللفظ تعظيمًا له، فلا يعدل عنه إلى غيره" وإن صح المعنى، كما خص سبحانه بقول: عز وجل، فلا يقال لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن كان عزيزًا جليلا. "وأخرج أبو العباس" محمد بن إسحاق "السراج عن أبي هريرة أنهم"، أي: جماعة من الصحابة "قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ " أي كيف اللفظ الذي يليق أن نصلي به عليك، لأنا لا نعلمه، ولذا عبر بكيف التي يسأل بها عن الصفة. وفي الترمذي وغيره، عن كعب بن عجرة: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ} [الأحزاب: 56] ، قلنا: يا رسول الله قد علمنا السلام، فكيف الصلاة، "فقال: قولوا: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم". البركة هنا الزيادة من الخير والكرامة، وقيل: هي بمعنى التطهير والتزكية، وقيل: تكثير الثواب، وقيل: ثبات ذلك ودوامه "إنك حميد" فعيل من الحمد، بمعنى: مفعول، وهو من تحمد ذاته وصفاته، أو المستحق لذلك، أو بمعنى حامد، أي: يحمد أفعال عباده حول للمبالغة، وذلك مناسب لزيادة الأفضل وإعطاء المراد من الأمور العظام "مجيد" بمعنى: ماجد من المجد وهو الشرف. "وفي حديث بريدة" بموحدة مصغر الأسلمي، "رفعه": "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وعلى آل إبراهيم". فصرح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 ووقع في حديث ابن مسعود عند أبي داود والنسائي: "على محمد النبي الأمي". وفي حديث أبي سعيد: "على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم". ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم. وعند أبي داود من حديث أبي هريرة: "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته". ووقع في آخر حديث ابن مسعود: "في العالمين إنك حميد مجيد". قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك ... مثله، ويزيد في آخره: في العالمين. وقال في "الأذكار" مثله، وزاد: عبدك ورسولك بعد قوله: محمد في "صل" ولم يزدها في "وبارك".   بقوله: ورحمتك. "ووقع في حديث ابن مسعود عند أبي داود والنسائي": "على محمد النبي الأمي". "وفي حديث أبي سعيد: "على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم". ولم يذكر آل محمد ولا آل إبراهيم" تقصيرًا من بعض رواته. "وعند أبي داود من حديث أبي هريرة": "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته" عطف خاص على عام. "ووقع في آخر حديث ابن مسعود: "في العالمين إنك حميد مجيد"، قال النووي في شرح المهذب: ينبغي أن يجمع" المصلي في دعائه "ما في الأحاديث الصحيحة، فيقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم"، ويقول: "وبارك مثله، ويزيد في آخره: في العالمين، وقال في الأذكار مثله، وزاد عبدك ورسولك بعد قوله: محمد في "صل" لورودها في حديث أبي سعيد، "ولم يزدها في "وبارك". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 وقال في "التحقيق والفتاوى" مثله، إلا أنه أسقط النبي الأمي. وقد تعقبه الأسنوي فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه. وقال الأذرعي: لم يُسبَق إلى ما قاله، والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات، ويقول -كما ثبت- هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة، في حديث واحد وسبقه إلى معنى ذلك ابن القيم. وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات،   "وقال" النووي "في التحقيق والفتاوى مثله، إلا أنه أسقط النبي الأمي" مع وقوعهما في حديث ابن مسعود. "وقد تعقبه الأسنوي، فقال: لم يستوعب ما ثبت في الأحاديث مع اختلاف كلامه" بل يأتي بكل حديث على ما جاء لا أنه يجمع. "وقال الأذرعي، لم يسبق" النووي "إلى ما قاله" من الجمع: "والذي يظهر أن الأفضل لمن تشهد أن يأتي بأكمل الروايات ويقول كل ما ثبت هذا مرة وهذا مرة، وأما التلفيق، فإنه يستلزم إحداث صفة في التشهد لم ترد مجموعة في حديث واحد، وسبقه إلى معنى ذلك" التعقب "ابن القيم"، وهو تعقب جيد، وقال النووي في حديث: الذكر دبر الصلاة يكبر ثلاثًا وثلاثين ويختتم المائة بلا إله إلا الله ... إلخ. وفي رواية: يكبر أربعًا وثلاثين، ينبغي أن يجمع بين الروايتين بأن يكبر أربعًا وثلاثين، ويقول معها: لا إله الله ... إلخ، وتعقبوه أيضًا بأن الأظهر أن يختم مرة بزيادة تكبيرة ومرة بزيادة لا إله إلا الله على وفق ما وردت به الأحاديث لا أنه يلفق، لأنه صفة لم ترد، "وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو في" آخر "الصلاة" بعد التشهد، ففي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعًا: "إذا تشهد أحدكم، فليقل" ذكر نحوه، وفي رواية عنده: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" فذكره. قال الحافظ فتكون هذه الاستعاذة سابقة على غيرها من الأدعية، وما ورد أن المصلي يتخير من الدعاء ما شاء يكون بعد هذه الاستعاذة وقبل السلام "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر". فيه رد على من أنكره، "وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال". بفتح الميم وخفة المهملة مكسورة فتحتية فحاء مهملة، وصحف من أعجمها يطلق على عيسى وعلى الدجال، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 اللهم وأعوذ بك من المأثم والمغرم". فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف. رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة.   لكن إذا أريد قيد به هذا هو المشهور. وقال أبو داود: عيسي مخفف والدجال مثقل، وقيل: بالتشديد والتخفيف فيهما جميعًا لقب الدجال بذلك، لأنه ممسوح العين، أو لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحًا لا عين فيه ولا حاجب، أو لأنه يمسح الأرض إذا خرج أقوال، وسمي عيسي مسيحًا، لأنه خرج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، أو لأن زكريا مسحه، أو لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، أو لمسحه الأرض بسياحته، أو لأن رجله لا أخمص لها، أو للبسه المسوح، أو هو بالعبرانية ماسحًا، فعرب المسيح أو المسيح الصديق أقوال. وذكر شيخنا مجد الدين الشيرازي في شرح المشارق في سبب تسميته مسيحًا خمسين قولا، انتهى ملخصًا. "وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات"، قال اللغويون الفتنة: الامتحان والاختبار، قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره. قال الحافظ وتطلق على القتل والإحراق والنميمة وغير ذلك "اللهم وأعوذ بك من المأثم" أي: ما يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه وضعًا للمصدر موضع الاسم، "والمغرم" أي: الدين يقال غرم بكسر الراء، أي: أدان، قيل: والمراد به ما يستدان فيما لا يجوز، أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه، فأما دين احتاجه وهو قادر على أدائه فلا استعاذة منه. قال الحافظ: ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين، وقال القرطبي: المغرم الغرم، وقد نبه في الحديث على الضرر اللاحق من المغرم، انتهى. وهو حق العباد والمأثم حق الله تعالى، "فقال له قائل" هو عائشة، ففي رواية النسائي عنها، فقلت: يا رسول الله "ما أكثر"، "بفتح الراء" على التعجب "ما تستعيد من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم"، "بكسر الراء"، "حدث فكذب"، بأن يحتج بشيء في وفاء ما عليه ولم يقم به فيصير كاذبًا، "ووعد فأخلف" كذا لأكثر. وفي رواية الحموي والمستملي: وإذا وعد أخلف، والمراد أن ذلك شأن من يستدين غالبًا كأن يقول لصاحب الدين: أوفيك يوم كذا ولم يوفه، والكذب وخلف الوعد من صفات المنافقين، "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والنسائي، كلهم في الصلاة "من رواية عائشة" من طريق الزهري، عن عروة، عنها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 قال ابن دقيق العيد: "فتنة المحيا": ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت، و"فتنة الممات": يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون أراد بها: فتنة القبر، ولا يكون مع هذا الوجه متكررًا مع قوله: "عذاب القبر"، لأن العذاب مترتب على الفتنة، والسبب غير المسبب. وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن سفيان الثوري: أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان فيشير إلى نفسه، إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له حين يسأل. وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه مغفور له ما تقدم وما تأخر. وأجيب بأجوبة، منها أنه قصد التعليم لأمته، ومنها: أن المراد منه السؤال   "قال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان"، أي: الابتلاء "بالدنيا والشهوات والجهالات، وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت وفتنة الممات، يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويجوز أن يكون أراد بها فتنة القبر" وقد صح، يعني في حديث أسماء الآتي في الجنائز أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة الدجال. هذا أسقطه من كلام ابن دقيق العيد وهو في الفتح عنه قبل قوله: "ولا يكون مع هذا الوجه متكررًا مع قوله عذاب القبر، لأن العذاب مترتب على الفتنة والسبب غير المسبب". زاد في الفتح، وقيل: أراد بفتنة المحيا الابتلاء مع زوال الصبر، وبفتنة الممات السؤال في القبر مع الحيرة، وهو من العام بعد الخاص، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا. "وأخرج الحكيم" محمد بن علي الترمذي "في نوادر الأصول عن سفيان الثوري أن الميت إذا سئل من ربك تراءى له الشيطان، فيشير إلى نفسه إني أنا ربك، فلهذا ورد سؤال التثبيت له" للميت "حين يسأل"، ثم أخرج بسند جيد إلى عمرو بن مرة: كانوا يستحبون إذا وضع الميت في القبر أن يقولوا: اللهم أعذه من الشيطن. "وقد استشكل دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه" معصوم من ذلك "مغفور له ما تقدم وما تأخر" أي: ممنوع من مواقعة ذنب، فإن الغفر الستر. "وأجيب بأجوبة منها أنه قصد التعليم لأمته" أن تدعو بذلك، "ومنها: أن المراد منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 لأمته، فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي، ومنها: سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله تعالى، وإعظامه والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقق الإجابة، لأن في ذلك تحصيل الحسنات، ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك، لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال، مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين، وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه". والله أعلم. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد التشهد: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة الدجال   السؤال لأمته، فيكون المعنى هنا أعوذ بك لأمتى"، فهو من مزيد رأفته بهم، "ومنها سلوك طريق التواضع وإظهار العبودية والتزام خوف الله تعالى وإعظامه والافتقار إليه وامتثال أمره في الرغبة إليه"، بقوله: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] ، "ولا يمتنع تكرير الطلب مع تحقق الإجابة، لأن في ذلك تحصيل الحسنات ورفع الدرجات، وفيه تحريض لأمته ملازمة ذلك، لأنه" صلى الله عليه وسلم "إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع" إلى الله تعالى، "فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة" على ذلك "وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه، فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين" قصد التعليم أو السؤال لأمته. "وقيل على الثالث: يحتمل أن يكون ذلك قبل أن يتحقق عدم إدراكه، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "إن يخرج"، "بكسر الهمزة"، "وأنا فيكم فأنا حجيجه". أي الذي أحجه وأبين دجله وكذبه دونكم "الحديث والله أعلم"، وهذا مما جاء به المصنف من فتح الباري بلا عزو. "وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد التشهد" وقبل السلام: "اللهم إني أعوذ" أعتصم "بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر"، العذاب اسم للعقوبة والمصدر التعذيب، فهو مضاف إلى الفاعل مجازًا، أو الإضافة من إضافة المظروف إلى ظرفه على تقدير في أي من عذاب في القبر، "وأعوذ بك من فتنة الدجال الأعور" العين اليمنى، وقيل: اليسرى ولا خلف، فإحداهما مطموسة والأخرى معيبة، والعور: العيب، "وأعوذ بك من فتنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 الأعور، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات". رواه أبو داود. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما بين التشهد والتسليم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت". رواه مسلم وغيره. وفي رواية له: وإذا سلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت". ويجمع بينهما: بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج الطريقين واحد. وأورده ابن حبان بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر في أنه بعد السلام، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وسيأتي الجواب عما استشكل في دعائه عليه السلام بهذا الدعاء في أدعيته صلى الله عليه وسلم.   المحيا والممات"، رواه أبو داود" وهو قريب من حديث عائشة قبله، أتي به المصنف بعده لبيان محل قوله في الصلاة، أنه بعد التشهد. "وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ما بين التشهد والتسليم": "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت" أخفيت "وما أعلنت" أظهرت، "وما أسرفت" به على نفسي "وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم" من تشاء بطاعتك فتجعلهم أنبياء وأولياء وعلماء، "وأنت المؤخر" من تشاء عن ذلك فلا يدركه التوفيق، فيصيروا فراعنة كفرة شياطين كما اقتضته حكمتك، "لا إله إلا أنت". "رواه مسلم وغيره" في حديث قدم المصنف أوله في دعاء الاستفتاح. "وفي رواية له" لمسلم "وإذا سلم قال: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت" ولم يقل بين التشهد والتسليم، "ويجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام، لأن مخرج لطريقين واحد" وهو علي رضي الله عنه "وأورده" أي: رواه "ابن حبان" من حديث علي، "بلفظ: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وهذا ظاهر في أنه بعد السلام"، ويحتمل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، فحفظ كل راو ما لم يحفظ الآخر وإن اتحد المخرج، "وسيأتي الجواب عما استشكل في دعائه عليه السلام بهذا الدعاء" ونحوه "في أدعيته صلى الله عليه وسلم" وهو النوع السابع ختام ذا المقصد ولفظه، وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ، ووجوب عصمته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 وحاصل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من المواضع التي كان يدعو بها في داخل صلاته ستة مواطن: الأول عقب نكبيرة الإحرام، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي". الحديث ونحوه. الثاني في الركوع، كما في حديث عائشة عند الشيخين: كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي". الثالث في الاعتدال من الركوع، كما في حديث ابن أبي أوفى عند مسلم أنه كان يقول بعد قوله: "من شيء بعد": "اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد". الرابع في السجود، وهو أكثر ما كان يدعو فيه، وأمر به، إلخ. الخامس: بين السجدتين: "اللهم اغفر لي ... " إلخ. السادس: في التشهد.   وأجيب بأنه امتثل ما أمره الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، ويحتمل أن يكون سؤال ذلك لأمته وللتشريع، انتهى. وهذا بعض الأجوبة الثلاثة السابقة آنفًا، وإنما نقلته لئلا يتوهم أنه شيء زائد على ما هنا؛ "وحاصل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من المواضع التي كان يدعو بها في داخل صلاته ستة مواطن" تفنن فيه أولا بمواضع، وثانيًا بمواطن: "الأول: عقب تكبيرة الإحرام كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث ونحوه" مما مر. "الثاني: في الركوع كما في حديث عائشة عند الشيخين: كان" صلى الله عليه وسلم "يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده": "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي". "الثالث: في الاعتدال من الركوع كما في حديث ابن أبي أوفى" عبد الله بن علقمة "عند مسلم أنه كان يقول بعد قوله": "من شيء بعد". "اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد". "الرابع: في السجود وهو أكثر ما كان يدعو فيه وأمر به" في قوله: "وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم". "الخامس: بين السجدتين: "اللهم اغفر لي ... " إلخ". "السادس: في التشهد" الأخير، "وكان أيضًا يدعو في القنوت، وفي حال القراءة، إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 وكان أيضًا يدعو في القنوت، وفي حال القراءة إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وتقدم كل ذلك، والله الموفق. الفرع الرابع عشر: في ذكر تسليمه من الصلاة كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده. رواه مسلم والنسائي من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه. وفي حديث ابن مسعود: كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره: "السلام عليكم ورحمة الله". رواه الترمذي، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده، وفي رواية النسائي: حتى يرى بياض خده من ههنا، وبياض خده من ههنا. الحديث.   مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ"، فتكون المواطن ثمانية، "وتقدم كل ذلك والله الموفق" لا غيره. الفرع الرابع عشر: في ذكر تسليمه من الصلاة "كان صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده" من الجهتين كما يأتي، "رواه مسلم والنسائي من حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة" العنزي حليف بني عدي أبي محمد المدني، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مات سنة بضع وثمانين، "عن أبيه" عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزي، بسكون النون حليف الخطاب، أسلم قديمًا وهاجر، مات ليالي قتل عثمان. "وفي حديث ابن مسعود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره"، فيقول: "السلام عليكم ورحمة الله". "رواه الترمذي، وزاد أبو داود: حتى يرى بياض خده". "وفي رواية النسائي: حتى يرى بياض خده من ههنا" إذا سلم من جهة يمينه، "وبياض خده من ههنا" إذا سلم من جهة يساره "الحديث". لكن دلالته على أنه كان يسلم تسليمتين لا ينهض، إذ لا صراحة فيما ساقه من هذه الأحاديث بذلك، فيحتمل أن المعنى كان يسلم عن يمينه تارة وعن يساره أخرى، لإفادة أن التيامن بالسلام ليس بواجب، ويقويه أن في الصحيحين عن ابن مسعود: لا يجعل أحدكم للشيطان جزءًا من صلاته، يرى أن حقًا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ينصرف عن يساره. لفظ البخاري ولفظ مسلم: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، ولا يعارضه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 وهذا كان فعله الراتب. رواه عنه خمسة عشر صحابيًا، وهم: عبد الله بن مسعود، وابن أبي وقاص، وسهل بن سعد، ووائل بن حجر، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو ثور، وعدي بن عمرو. هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور.   رواية مسلم عن أنس: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه، لأنه جمع بينهما: بأنه كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل من ابن مسعود وأنس بما اعتقد أنه الأكثر. قال ابن المنير: فيه أن المندوب قد ينقلب مكروهًا إذا رفع عن رتبته، لأن التيامن مستحب في كل شيء، أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقد وجوبه أشار إلى كراهته، "وهذا كان فعله الراتب، رواه عنه خمسة عشر صحابيًا" في شرحه للبخاري. ذكره الطحاوي من حديث ثلاثة عشر صحابيًا، وزاد غيره: سبعة، "وهم عبد الله بن مسعود وابن أبي وقاص" سعد بن مالك "وسهل بن سعد ووائل بن حجر"، "بحاء مهملة مضمومة فجيم ساكنة"، "وأبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة والبراء بن عازب"، وكل من حذيفة حتى البراء صحابي ابن صحابي، "وأبو مالك الأشعري" قيل اسمه عبيد، وقيل: عبد الله، وقيل: عمرو، وقيل: كعب بن كعب، وقيل: عمرو بن الحارث، صحابي، مات في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة. وفي الصحابة أيضًا أبو مالك الأشعري كعب بن عاصم، وأبو مالك الأشعري الحارث بن الحارث كما في التقريب، فكان ينبغي تمييزه، "وطلق"، "بفتح الطاء وسكون اللام"، "ابن علي" الحنفي أبو علي اليمامي له وفادة، "وأوس بن أوس" الثقفي، صحابي سكن دمشق، "وأبو ثور"، "بمثلثة" الفهمي، صحابي سكن مصر. قال أبو أحمد الحاكم: لا أعرف اسمه ولا سياق نسبه. في الصحابة أيضًا أبو ثور محمد بن معدي كرب الزبيدي كما في الإصابة، فهو إحداهما، وغلط من ظنه أبا ثور الأزدي غافلا عن نقله عن التقريب أنه من الثانية، يعني كبار التابعين كما قال في خطبته، والمصنف في تعداد الصحابة، "وعدي بن عمرو" صوابه ابن عميرة "بفتح العين المهملة وكسر الميم" ابن زرارة "بضم الزاي" الكندي، صحابي، له أحاديث في مسلم وغيره، كما في الإصابة وغيرها، "هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والجمهور، ومذهب مالك في طائفة" كثيرة من السلف، وحكاه ابن عبد البر عن الخلفاء الأربعة وابن عمر وأنس وابن أبي أوفى وجمع من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 ومذهب مالك في طائفة: المشروع تسليمه. ودليل مذهبنا ما تقدم. وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، فلم يثبت من وجه صحيح، وأجود ما في ذلك حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة، السلام عليكم، يرفع بها صوته حتى يوقظنا، وهو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه في قيام الليل، والذين رووا عنه تسليمتين رووا ما شاهدوا في الفرض والنفل، وحديث عائشة ليس هو صريحًا في الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها، ولم تنف   التابعين "المشروع"، أي: الواجب فيما يخرج به من الصلاة "تسليمة" واحدة لكل مصل إلا أن المأموم يسن له الرد على إمامه، ثم على من على يساره إن كان به معه أحد في تلك الصلاة، لأن رد السلام مشروع في الجملة وعملا بما رواه في الموطأ عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يسلم ثلاثًا إذا كان مأمومًا، فسقط قول من قال: يحتاج من زاد تسليمة ثالثة إلى دليل، فهذا دليله مع عدم الإنكار عليه. "ودليل مذهبنا ما تقدم" أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره، فإن ظاهره تسليمتين، وتقدم أنه لا دليل فيه لظروف الاحتمال. "وأما ما روي" عند ابن ماجه عن سهل بن سعد "أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، فلم يثبت من وجه صحيح" لأن في سنده عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف: لكن له شاهد عن سلمة بن الأكوع: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمة واحدة، أخرجه ابن ماجه، وللنسائي: وضعفه بأن فيه يحيى بن راشد البصري ضعيف، "وأجود ما في ذلك حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمة واحدة"، يقول: "السلام عليكم". يرفع بها صوته حتى يوقظنا من النوم، "وهو حديث معلول" وإن كان إسناده جيدا لمخالفته لأحاديث غيرها التي ظاهرها تسليمتين، "وهو في السنن" للترمذي والنسائي وابن ماجه. "لكنه في قيام الليل" أخذا من قولها: حتى يوقظنا، "والذين رووا عنه تسليمتين، رووا ما شاهدوا في الفرض والنفل" الذي كان يفعله بحضورهم، بحيث يشاهدونه فلا يرد عليهم تسليمة واحدة في قيام الليل، لأنهم لم يكونوا عنده، ثمة، لكنه يتوقف على أنهم رووا ذلك عنه في صلاة واحدة، وإلا فهو محتمل. "وحديث عائشة: ليس هو صريحًا في الاقتصار على تسليمة واحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يوقظهم بها"، فيجوز أنه كان يأتي بالأخرى سرًا، لكن هذا إنما يصح لو جعلت عائشة الإيقاظ غاية للوحدة، وهي إنما جعلته غاية لرفع الصوت، فهو صريح في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 الأخرى بل سكتت عنها، وليس سكوتها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وشطبها، وهم أكثر عددًا وأحاديثهم أصح، والله أعلم. واختلف في التسليم: فقال: مالك والشافعي وأحمد، وجمهور العلماء: إنه فرض لا تصح الصلاة إلا به. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: سنة، لو ترك صحت. قال: وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيًا للصلاة من حدث أو غيره في آخرها صحت صلاته، واحتج بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعلمه للأعرابي حين علمه واجبات الصلاة.   الاقتصار على واحدة، لأنها جعلتها صفة لتسليمة، فرفعت احتمال المجاز، فهو نص في الوحدة، ثم وصفتها ثانيًا، بأنه يرفع صوته بها رفعًا بينا حتى يوقظهم برفع صوته، فلا يصح أيضًا قوله: "ولم تنف الأخرى بل سكتت عنها"، لأن كلامها صريح في النفي وعدم السكوت عنها، "وليس سكوتها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وضبطها وهم أكثر عددًا، وأحاديثهم أصح" إسنادًا، لكن إنما ينفعهم ذلك إذا كان في أحاديثهم أنه كان يسلم في الصلاة الواحدة تسليمتين، أحدهما عن يمينه والأخرى عن يساره، أما هذه فظواهر يطرقها الاحتمال، فيسقط بها الاستدلال مع معارضة ذلك لأحاديث سعد وسلمة وعائشة الناصة على الواحدة، وهي وإن كانت مفرداتها ضعيفة، فباجتماعها تتقوى، لا سيما وحديث عائشة إسناده جيد خصوصًا، وقد اعتضدت كما قال ابن عبد البر بالحديث الحسن مفتاح الصلاة الطهور، وتحليلها التسليم، والواحدة يقع عليها اسم التسليم، والعمل المشهور المتواتر بالمدينة التسليمة الواحدة، ومثله يحتج به لوقوعه في كل يوم مرارًا وبفعل الخلفاء الأربع، وبهم القدوة، انتهى ملخصًا. "والله أعلم" بالصواب من ذلك في نفس الأمر. "واختلف في التسليم، فقال مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء أنه فرض لا تصح الصلاة إلا به"، فلو خرج من الصلاة بدون السلام بطلت. "وقال أبو حنيفة والثوري" سفيان "والأوزاعي سنة لو ترك صحت صلاته" أي: تاركه. "وقال أبو حنيفة: لو فعل منافيًا للصلاة من حدث أو غيره" كالكلام "في آخرها صحت صلاته" لتمام فرائضها عنده. "واحتج بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعلمه للأعرابي حين علمه واجبات الصلاة" إذ لو كان فرضًا لعلمه له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 واحتج الجمهور بحديث أبي داود: "مفتاح الصلاة الطهور وتحليلها التسليم". وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه. رواه أحمد. وكان لا يجاوز بصره إشارته، وكان قد جعل الله قرة عينه في الصلاة كما قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة". رواه النسائي. ولم يكن يشغله عليه السلام ما هو فيه عن مراعاة أحوال المأمومين، مع كمال إقباله وقربه من ربه وحضور قلبه بين يديه. وكان يدخل في الصلاة فيريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيتجوز في صلاته مخافة أن يشق على أمه. رواه البخاري وأبو داود والنسائي.   "واحتج الجمهور بحديث أبي داود" والترمذي وابن ماجه، بإسناد حسن عن علي بن أبي طالب أنه صلى الله عليه وسلم، قال: "مفتاح الصلاة الطهور" بضم الطاء وفتحها روايتان كما مر وتحريمها التكبير هذا أسقطه هنا، "وتحليلها التسليم" لتحليله ما كان حرامًا على المصلي، ففيه أن التسليم ركن الصلاة كالتكبير، وأنه إنما يكون به دون الحدث والكلام، لأنه عرف بأل، وعينه كما عين الطهور، وعرفه، والتعريف بأل مع الإضافة يوجب التخصيص، ففيه رد على الحنفية، قاله الخطابي. قال الحافظ: وأما حديث إذا أحدث وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته، فقد ضعفه الحفاظ. "وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه" بالهمز، أي: طامنه وخفضه ليكون أبعد من النظر إلى ما يشغله، "رواه" وبه أخذ الشافعية، "وكان لا يجاوز بصره إشارته"، أي: أصبعه التي يشار بها وهي السبابة، "وكان قد جعل الله قرة عينه في الصلاة"، أي: راحتها وسرورها، "كما قال": "وجعلت قرة عيني في الصلاة". لأنها محل المناجاة ومعدن المصافاة، "رواه النسائي" في حديث مر الكلام عليه مبسوطًا، "ولم يكن يشغله"، "بفتح أوله وثالثه" المعجم يمنعه "عليه السلام ما هو فيه من مراعاة أحوال المأمومين" فإذا حصل لهم خلل ربما نبههم عليه بعد، كما قال: "إنه لا يخفى علي ركوعكم ولا خشوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري". "مع كمال إقباله وقربه من ربه" القرب المعنوي "وحضور قبله بين يديه" نريد عناية وتكميل من الله تعالى له. "وكان يدخل في الصلاة فيريد إطالتها" أي: التطويل فيها "فيسمع بكاء الصبي" بالمد، أي صوته الذي يكون معه "فيتجوز" بجيم وزاي، يعني يخفف "في صلاته" بتقصيرها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة بنت أبي العاصي بن الربيع على عاتقة. رواه مسلم وغيره. قال النووي: وهذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمنفرد. وحمله أصحاب مالك على النافلة، منعوا جواز ذلك في الفريضة. وهذا التأويل فاسد، لأن قوله: "يؤم الناس" صريح أو كالصريح في أنه كان   "مخافة أن يشق على أمه"، أي: المشقة عليها. وفي رواية: أن تفتن أمه، أي: تلتهي عن صلاتها لاشتغال قلبها ببكائه، زاد عبد الرزاق من مرسل عطاء: أو تتركه فيضيع "رواه البخاري وأبو داود والنسائي" في الصلاة عن أبي قتادة، ورواه الشيخان وغيرهما من حديث أنس من طرق بين في بعضها عند مسلم محل التخفيف، فقال: فيقرأ بالسورة القصيرة، ولابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بسورة طويلة نحو ستين آية، فسمع بكاء صبي، فقرأ في الثانية بثلاث آيات، وفيه شفقته صلى الله عليه وسلم على أصحابه ومراعاة أحوال الكبير منهم والصغير، "وكان يؤم الناس وهو حامل أمامة" بضم الهمزة وتخفيف الميم، والمشهور في الروايات تنوين حامل ونصب أمامة، وروي بالإضافة كقراءة: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} بالوجهين "بنت أبي العاصي" لقيط أو مقسم أو مهشم أو هشيم أو ياسر "بن الربيع" بن عبد العزى بن عبد شمس، أسلم قبل الفتح وهاجر وأثنى عليه صلى الله عليه وسلم في مصاهرته، ومات في خلافة الصديق. وفي رواية بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبها إلى أمها أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وتزوجها علي بعد فاطمة بوصية منها، ولم تعقب "على عاتقه". وفي رواية لأحمد: على رقبته، "رواه مسلم وغيره" عن أبي قتادة، قا: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة على عاتقه"، وهو في الموطأ والصحيحين، عنه بلفظ: كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. "قال النووي: وهذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبية وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض والنفل للإمام والمأموم والمفرد" عملا بظاهر هذه الرواية، وكأنهم قاسوا المأموم والفذ على الإمام بطريق المساواة أو الأولى، "وحمله أصحاب مالك على النافلة، ومنعوا جواز ذلك في الفريضة" جوازًا مستوي الطرفين، بمعنى أنهم كرهوا ذلك "وهذا التأويل فاسد، لأن قوله يؤم الناس صريح، أو كالصريح" إضراب "في أنه كان في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 في الفرض. وادعى بعض المالكية أنه منسوخ، وبعضهم أنه خاص به صلى الله عليه وسلم، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمي طاهر، وما في جوفه في النجاسة معفو عنها لكونها في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعله عليه السلام للجواز، وتنبيها على هذه   الفرض" لأن المازري وعياضًا والقرطبي استبعدوا ذلك بأن إمامته في النافلة ليست بمعهودة، والاستبعاد لا يمنع الوقوع، وقد أم في النفل في قصتي مليكة وعتبان وغيرهما. وأما رواية أبي داود: بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة على عاتقة، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه، فكبر وكبرنا وهي في مكانها فقد أعله ابن عبد البر؛ بأن أبا داود رواه من طريق ابن إسحاق عن المقبري، وقد رواه الليث عن المقبري، أي: عند البخاري، فلم يقل في الظهر أو العصر، فلا دلالة فيه على أنه في فريضة، انتهى. "وادعى بعض المالكية أنه منسوخ" إشارة لقول أبي عمر لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة، ورد بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا"، لأنه كان قبل الهجرة بمدة، "وبعضهم" فيما نقله عياض؛ "أنه خاص به صلى الله عليه وسلم" لعصمته من أن تبول وهو حاملها، ورد بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوته في أمر ثبوته في غيره بلا دليل، ولا دخل للقياس في مثله، "وبعضهم" ورواه أشهب وابن نافع عن مالك "أنه كان لضرورة" حيث لم يجحد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه، لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره أكثر من شغله بحملها. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما، "وكلها مردودة ولا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك" لكنه صادق بالكراهة، لا سيما وهو يفعل المكروه لغيره لبيان الجواز، أي: عدم منعه، "وليس فيه ما يخالف الشرع، لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسه معفو عنها" راعى معنى مالا لفظها: فأتت، لأن من البيان والبيان عين المبين، فكأنه قال: والنجاسة التي في جوفه معفو عنها، "لكونها في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة"، وفي نسخة مبنية على الطهارة، وكأنه أريد بالبناء الحمل، "ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت" بأن نقصت عن ثلاث "أو" كثرت و"تفرقت" فإن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 القواعد التي ذكرتها. وهذا يرد على ما ادعاه أبو سليمان الخطابي: أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها في الصلاة، لكنها كانت تتعلق به عليه الصلاة والسلام فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه من غير فعله، قال: ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير، ويشغل القلب، وإذا كان علم الخميصة شغله فكيف لا يشغله هذا؟ هذا كلام الخطابي، وهو باطل، ودعوى مجردة، ومما يرده قوله في صحيح مسلم: "فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها" وقوله في رواية غير مسلم: "خرج حاملا أمامة وصلى" وذكر الحديث. وأما قضية الخميصة فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد،   توالت بطلت بثلاث ما لم يكن خفيفًا، كتحريك أصابعه في سبحة أو حك مع قرار الكف، كما هو مذهب الشافعية، "وفعله عليه السلام للجواز"، وهو صادق بالكراهة، "وتنبيهًا على هذه القواعد التي ذكرتها" من أول قوله، لأن الآدمي إلى هنا، لكن هذا إنما يرد على من علل بالنجاسة أو الفعل الكثير. أما من علل الكراهة بالشغل في الصلاة، فلا يرد عليه شيء من ذلك، "وهذا يرد على ما ادعاه أبو سليمان الخطابي أن هذا الفعل يشبه أن يكون بغير تعمد لحملها في الصلاة، لكنها"، أي: الصبية "كانت تتعلق به عليه الصلاة والسلام"، إذا سجد، لأنها ألفته، "فلم يدفعها، فإذا قام بقيت معه من غير فعله" فيقل العمل. "قال" الخطابي: "ولا يتوهم أنه حملها ووضعها مرة بعد أخرى، لأنه عمل كثير ويشغل القلب" وكلاهما لا يجوز في الصلاة، "وإذا كان علم الخميصة شغله، فكيف لا يشغله هذا؟ " الفعل، "هذا كلام الخطابي، وهو باطل ودعوى مجردة" عن دليل. "ومما يرده قوله في صحيح مسلم: فإذا قام حملها، وإذا رفع من السجود أعادها" فهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع منه. ولأحمد: وإذا قام حملها فوضعها على رقبته. "وقوله في رواية غير مسلم: خرج حاملا أمامة، وصلى وذكر الحديث" ولأبي داود: حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها، ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها. "وأما قضية الخميصة، فإنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يشغل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة. والصواب الذي لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا وشرع مستمر إلى يوم الدين، انتهى. وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فيجيء الحسن أو الحسين فيركب على ظهره، فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره. وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة. قال جابر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، فأدركته وهو يصلي فسلمت عليه، فأشار إلي، رواه مسلم. وقال عبد الله بن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلمت عليه، فأوما برأسه، رواه البيهقي. وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة، فإذا سجد غمزها بيده   القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة" فلا فائدة فيها أصلا فافترقا. "والصواب الذي لا يعدل عنه أن الحديث كان للبيان والتنبيه على هذه القواعد، فهو جائز لنا" أن نفعل مثله "وشرع مستمر إلى يوم الدين، انتهى" كلام النووي. "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فيجيء الحسن أو الحسين" أو للتنويع، "فيركب على ظهره فيطيل السجدة كراهية أن يلقيه عن ظهره" سريعًا فيتأذى، "وكان يرد السلام بالإشارة على من يسلم عليه وهو في الصلاة"، ففيه أنه يجب على المصلي رد السلام بالإشارة. "قال جابر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة" وكان ذلك في غزوة بني المصطلق كما في مسلم "فأدركته" لما رجعت من الحاجة "وهو يصلي، فسلمت عليه، فأشار إلي" ردًّا لسلامي، وقوله في رواية البخاري: فلم يرد علي معناه باللفظ، "رواه مسلم" والبخاري بنحوه. "وقال عبد الله بن مسعود: لما قدمت من الحبشة أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فأومأ" أشار "برأسه" لرد السلام، "رواه البيهقي"، وفيهما جواز السلام على المصلي بلا كراهة، وهو قول مالك في المدونة وأحمد والجمهور، وقال في رواية ابن وهب: يكره، وكذا قال عطاء والشعبي وجابر. "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة" اعتراض الجناز، كما في نفس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 فقبضت رجليها، وإذا قام ببسطتهما. رواه البخاري. وكان عليه السلام لا يلتفت في صلاته. في البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة قال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".   الحديث، أي: اعتراضًا كاعتراض الجنازة بأن تكون نائمة بين يديه من جهة يمينه إلى جهة يساره، كما تكون الجنازة بين يدي المصلي عليها، "فإذا سجد غمزها"، أشار أو طعن "بيده"، أي بأصبعه كما قاله البرهان الحلبي، قائلا: إن ذلك جاء في رواية، "فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتها"، قالت عائشة في رواية للشيخين: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، يعني: إذ لو كانت لقبضت رجلي عند إرادة السجود ولما أحوجته للغمز فهو اعتذار، وفيه دلالة لمذهب مالك أن لمس المرأة بلا لذة لا ينقض الوضوء، لأن شأن المصلي عدم اللذة، لا سيما النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمال الحائل الأصل عدمه أو الخصوصية، فهي لا تثبت بالاحتمال، وعلى أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها، وعليه الشافعي وأبو حنيفة ومالك مع كراهته لذلك لئلا يتذكر منها ما يشغله عن الصلاة أو يبطلها، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، "رواه البخاري" ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة بطرق عديدة وألفاظ متقاربة. "وكان عليه السلام لا يلتفت في صلاته" لأنه ينقص الخشوع، أو لترك استقبال القبلة ببعض البدن والإجماع على كراهته، والجمهور أنها للتنزيه، وقالت الظاهرية: يحرم إلا لضرورة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف جهه عنه انصرف". رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة، وزاد: "فإذا صليتم فلا تلتفتوا". "في البخاري: عن عائشة قالت: سألت رسول صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، قال": "هو اختلاس" أي: اختطاف بسرعة، وفي النهاية: افتعال من الخلسة، وهي ما يؤخذ سلبًا مكابرة وفيه نظر، وقال غيره: المختلس الذي يختطف من غير غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك، والناهب يأخذ بقوة، والسارف من يأخذ خفية، فلما كان الشيطان قد يشغل المصلي عن صلاته بالالتفات إلى شيء ما بغير حجة يقيمها أشبه المختلس "يختلسه"، "بالضمير" للكشميهني، وللأكثر: يختلس بلا ضمير "الشيطان من صلاة العبد". قال ابن بريزة: أضيف إلى الشيطان، لأن فيه انقطاعًا من ملاحظة التوجه إلى الحق سبحانه، وقال الطيبي: سمي اختلاسًا تصويرًا لقبح تلك الفعلة من المختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب تعالى والشيطان مترصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 وروى أبو داود من حديث سهل بن الحنظلية: أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من يحرسنا الليلة"؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله! قال: "اركب"، فركب فرسًا له، فقال: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه"، فلما أصبحنا ثُوِّب بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة قال: أبشروا قد جاء فارسكم. فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة، وهو يدخل في مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريب منه قول عمر رضي الله عنه إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد ونظير التفكر في معاني   وقال غيره: الحكمة في جعل سجود السهو حابرًا للمشكوك فيه دون الالتفات، وغيره مما ينقص الخشوع أن السهو لا يؤاخذ به المكلف، فشرع له الجبر دون العمد ليتيقظ العبد له فيجتنبه. "وروى أبو داود" والنسائي وغيرهما من حديث سهل بن الحنظلية، صحابي، أنصاري، أوسي، والحنظلية أمه، أو من أمهاته، واختلف في اسم أبيه؛ "أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من يحرسنا الليلة"؟. قال أنس بن أبي مرثد"، بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة، واسمه كناز، بفتح الكاف وشد النون وزاي، ابن الحصين "الغنوي" بمعجمة ونون مفتوحتين نسبة إلى غني بن يعصر، صحابي ابن صحابي. قال ابن منده: كان بينه وبين ابنه في السن عشرون سنة، ويكنى أبا يزيد، ومات سنة عشرين "أنا يا رسول الله، قال: "اركب"، فركب فرسا له، فقال: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه". قال سهل بن الحنظلية: "فلما أصبحنا ثوب" بضم المثلثة وكسر الواو ثقيلة، نودي "بالصلاة، فجعل صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى الصلاة" أتمها، "قال": "أبشروا قد جاءكم فارسكم". وفي بقية الحديث، فقال له صلى الله عليه وسلم: "هل نزلت الليلة"، قال: لا إلا مصليًا أو قاضي حاجة، فقال: "قد أوجبت، فلا عليك أن لا تعمل بعدها". قال في الإصابة: إسناده على شرط الصحيح، "فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة، وهو يدخل في مداخل العبادات كصلاة الخوف"، فلا كراهة فيه ولا يمنع الإقبال، "وقريب منه قول عمر رضي الله عنه: إني لأجهز الجيش"، أي أدبر تجهيزه "وأنا في الصلاة، فهذا جمع بين الصلاة والجهاد" ولا ضير في ذلك، "ونظيره التفكر في معاني القرآن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 القرآن واستخراج كنوز العلم منه. وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فعرض له الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه صلى الله عليه وسلم وخنقه حتى سال لعابه على يديه.   واستخراج كنوز العلم منه" فإنه لا يضر الصلاة حيث لا يذهل عن شيء منها، "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي فعرض له الشيطان" إبليس. لكن في رواية للبخاري أن عفريتا من الجن تفلت عليَّ قال الحافظ: وهو ظاهر في أن المراد بالشيطان في هذه الرواية غير إبليس كبير الشياطين "ليقطع عليه صلاته" أذية له وإن كان لا تسليط له في قول ولا فعل ولا سبيل له إلى وسوسته، ولعبد الرزاق: عرض لي في صورة هر، ولمسلم عن أبي الدرداء: جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي، ففهم ابن بطال وغيره أنه عرض على صورته التي خلق عليها، وأن رؤيته كذلك خاصة به صلى الله عليه وسلم وأما غيره فلا لآية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] مردود، "فأخذه صلى الله عليه وسلم وخنقه" خنقا شديدا "حتى سال لعابه" أي: الشيطان "على يديه" صلى الله عليه وسلم وللنسائي من حديث عائشة: فأخذته، فصرعته، خنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي. والحديث في الصحيحين والنسائي واللفظ للبخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة -أو كلمة لمحوها- ليقطع علي الصلاة، فأمكنني الله منه، فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فرددته خاسئا". أي: مطرودا وتفلت" بالفاء وشد اللام أي: عرض لي فلتة، أي: بغتة. وقال القزاز: يعني توثب، وفي رواية: "عرض لي فشد علي". قال صاحب المنتهى: كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة وهي أدنى ليلة زالت، ثم لا يشكل مع هذا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك". رواه الشيخان، لأنه ليس فيه إلا فراره من مشاركته في سلوك الطريق لشدة بأسه خوفا أن يفعل به شيئا، وهذا لا يقتضي عصمته، فلا يمنع من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل له إلى وسوسته بوجه، وتعرضه له وتفلته عليه، إنما هو من الأذى الحسي، سلمنا أن عدم تسليطه على عمر بالوسوسة يؤخر بطريق مفهوم الموافقة، لأنه إذا امتنع من سلوك الطريق، فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له، لأنه يمكن كما قال الحافظ، أن عمر حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له، لأنها في حق النبي واجبة، وفي حق غيره ممكنة. انتهى. وأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 وروى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني يبكي، وفي رواية: لصدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء. رواه أحمد. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغمض عينيه في صلاته. وعن أنس قال: كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أميطي   أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] فعنها أجوبة، أصحها أن المراد بتمنى تلا كما فسر فسره ابن عباس، كما قال تعالى: {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} أي تلاوة، فقوله: {فِي أُمْنِيَّتِهِ} ، أي تلاوته، فأخبر تعالى أن سنته في رسله أنهم إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، لا أنهم يقولون هم ذلك، كما صوبه عياض تبعا للحافظ أبي بكر محمد بن العربي القاضي تبعا لابن جرير، فليس فيه أنه يلقي إليهم الوسوسة، لكنهم لا يعلمون بما يلقي لعمصتهم، كما زعمه بعض الصوفية تعلقا بظاهر الآية، ومر الكلام عليها مبسوطا في المقصد الأول. "وروى مطرف" بضم الميم وفتح المهملة وكسر الراء ثقيلة "ابن عبد الله بن الشخير" بكسر الشين والخاء المعجمتين الثانية شديدة وسكون التحتية، وبالراء العامري الحرشي بفتح المهملتين، ثم معجمة أبو عبد الله البصري، ثقة، عابد، فاضل، مات سنة خمس وتسعين، "عن أبيه" عبد الله بن الشخير ابن عوف العامري، صحابي من مسلمة الفتح، "قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وو يصلي ولجوفه أزيز" بزايين منقوطتين بينهما تحتية ساكنة، أي: صوت "كأزيز المرجل:" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم ولام، قدر من النحاس عند غليانها "يعني يبكي" لغلبة الخشية عليه، يسيل دمعه فيسمع لجوفه ذلك ولا يرد أن شدة البكاء في الصلاة تبطلها، لأن بكاءه صلى الله عليه وسلم لم يكن بصوت، بل تدمع عيناه حتى تهملا كما قدمه المصنف في بحث ضحكه من شمائله صلى الله عليه وسلم. "وفي رواية: لصدره أزيز كأزيز الرحى" أي: صوت كصوتها "من البكاء" من خشية الله، يقال: أزت الرحى إذا صوتت، "رواه" أي: المذكور من الروايتين "أحمد" وأبو داود والنسائي، وصححه ابنا خزيمة وحبان، "ولم يكن صلى الله عليه وسلم يغمض" بضم التحتية وسكون المعجمة وميم مخففة مكسورة من أغمض إغماضا، وبضمها وفتح المعجمة وشد الميم مكسورة من غمض تغميضا "عينيه" أي: يطبق أجفانهما "في صلاته" لأنه غير مشروع، "وعن أنس قال: كان قرام"، "بكسر القاف وتخفيف الراء" ستر رقيق من صوف ذو ألوان أو رقم ونقوش "لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال" لها "صلى الله عليه وسلم: "أميطي" أي: أزيلي وزنا ومعنى "عنا قرامك هذا، فإنه" أي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 عنا قرامك هذا فإنه لا يزال تصاوير تعرض لي في صلاتي". البخاري. فلو كان يغمض عينيه لما عرضت له في صلاته، وقد اختلف الفقهاء في كراهته، والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل، وإن كان يحول بينه وبين الخشوع كأن يكون في قبلته زخرفة أو غيرها مما يشغل قلبه فلا يكره التغميض قطعا بل ينبغي أن يكون مستحبا في هذه الحالة. وقد كانت صلاته صلى الله عليه وسلم متوسطة، عارية عن الغلو كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا، وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول، إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلي بداء الوسوسة، عافانا الله منها. وهي نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب مبتدع مستنبط في أفعاله وأقواله   الشأن "لا يزال تصاوير" بغير ضمير. وفي رواية: تصاويره بإضافته إلى الضمير فضمير فإنه، قال الحافظ: يحتمل عوده للثوب "تعرض" بفتح أوله وكسر الراء تلوح، وللإسماعيلي تعرض بفتح العين وشد الراء، وأصله تتعرض "لي في صلاتي" ولم يعد الصلاة ولم يقطعها، وفي رواية للنسائي: فإني إذا رأيته ذكرت الدنيا، "رواه البخاري" في الصلاة واللباس والنسائي "فلو كان يغمض لما عرضت" تصاويره "له في صلاته. "وقد اختلف الفقهاء في كراهته" لما فيه من التعمق في الدين وعدم كراهته، "والحق أن يقال: إن كان تفتيح العين لا يخل بالخشوع فهو أفضل" اتباعا للفعل النبوي، "وإن كان يحول بينه وبين الخشوع، كأن يكون في قبلته زخرفة أو غيرها مما يشغل قلبه، فلا يكره التغميض قطعا، بل ينبغي أن يكون مستحبا في هذه الحالة" لكونه وسيلة إلى عدم ذهاب الخشوع المطلوب. "وقد كانت صلاته صلى الله عليه وسلم متوسطة عارية عن الغلو" أي: التشديد ومجاوزة الحد، قال تعالى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". رواه أحمد والنسائي: "كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا", كالتسبيح والدعاء في الركوع والسجود، "وتطويل ما السنة تخفيفه، كالتشهد الأول" وتقصير الثانية عن الأولى "إلى غير ذلك مما يفعله كثير ممن ابتلي بداء الوسوسة، عافانا الله منها، وهو نوع من الجنون، وصاحبها بلا ريب" بلا شك "مبتدع مستنبط في أفعاله وأقواله شيئا لم يفعله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الصحابة. وقد قال عليه السلام: "إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها". وعنه أيضا: "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كان محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". ومما نسب إلى إمام الحرمين: الوسوسة نقص في العقل، جهل بأحكام الشرع. ومن غرائب ما يتفق هؤلاء الموسوسين، أن بعضهم يشتغل بتكرير الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت، ومنهم من يشتغل في النية حتى تفوته التكبيرة، وربما تفوته ركعة أو أكثر، ومنهم من يحلف أن لا يزيد على هذه التكبيرة ثم يكذب. ومن العجب أن بعضهم يتوسوس في حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه، فمن لم تحصل له النية في القيام الطويل   النبي صلى الله عليه وسلم" ولم يقله "ولا أحد من الصحابة". "وقد قال عليه السلام" أثناء حديث في مسلم وغيره عن جابر ""إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم" بفتح الهاء وسكون الدال فيهما، أي أحسن الطرق طريقه وسمته وسيرته، "وشر الأمور محدثاتها" جمع محدثة، وهي ما لم يعرف من كتاب ولا سنة ولا إجماع. قال الطيبي وغيره: روي "شر" بالنصب عطفا على اسم إن وهو الأشهر، وبالرفع عطفا على محل إن مع اسمها، "وعنه" صلى الله عليه وسلم "أيضا": "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". أي صاحبها، "ومما نسب إلى إمام الحرمين: الوسوسة نقص في العقل, جهل بأحكام الشرع" إذ لو كان عاقلا أو عالما ما توسوس "ومن غرائب ما يتفق هؤلاء الموسوسين" بفتح الواو اسم مفعول، "أي: الموسوس إليهم من الشيطان، ففيه حذف وإيصال. وفي التنزيل: فوسوس إليه الشيطان "أن بعضهم يشتغل بتكرار الطهارة حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت" رأسا. "ومنهم من يشتغل في النية حتى تفوته التكبيرة، وربما تفوقه ركعة أو أكثر" وربم فاتته الصلاة مع الإمام رأسا. "ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذه التكبيرة، ثم يكذب" فيزيد، "ومن العجب أن بعضهم يتوسوس في حال قيامه حتى يركع الإمام، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 حال فراغ باله، فكيف حصل له في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة. ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير، حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه، ومنهم من يزعج أعضاءه، ويحني جبهته، ويقيم عروق عينيه، ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو، ومنهم من يغسل عضوه غسل يشاهده ويبصره، ويكبر ويقرأ بلسانه، ويسمع بأذنه، ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان في إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره، ولما سمعه بأذنه. وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل فقال: إني أكبر وأقول: ما كبرت، وأغسل العضو في الوضوء وأقول: ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة فإنها لا تجب عليك، فقال له: كيف ذلك؟ فقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق". ومن يكبر ثم يقول: ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الصلاة.   وأدركه، فمن لم تحصل له النية في القيام الطويل حال فراغ باله، فكيف حصل له في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة" وهذا بيان لوجه العجب. "ومنهم من يكثر التلفظ بالتكبير حتى يشوش على غيره من المأمومين، ولا ريب أن ذلك مكروه" بل قد يحرم. "ومنهم من يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عينيه ويصرخ بالتكبير، كأنه يكبر على العدو" في الحرب. "ومنهم من يغسل عضوه غسلا يشاهده بصره ويكبر ويقرأ بلسانه ويسمع بأذنه ويعلمه بقلبه، ومع ذلك يصدق الشيطان في إنكاره يقين نفسه وجحده لما رآه ببصره ولما سمعه بأذنه". "وقد سأل رجل أبا الوفاء بن عقيل، فقال: إني أكبر وأقول: ما كبرت، وأغسل العضو في الوضوء وأقول: ما غسلته، فقال ابن عقيل: دع الصلاة، فإنها لا تجب عليك" وليس أمرا حقيقيا، بل أتى به ليبين له خطأه، وأن حاله كالمجنون، وهذا من حسن الخطاب، إذ لو قال له ابتداء: أنت مجنون، لأنكر عليه ولم ينتفع بكلامه ولم يصغ له، "فقال له: كيف ذلك"؟ أي: لا تجب علي وأنا مكلف، "فقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال": "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق" من جنونه "ومن يكبر ثم يقول: ما كبرت فليس بعاقل، والمجنون لا تجب عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم السوية، ويقتدي بملته الحنيفة، فإن غلب عليه الأمر وضاقت عليه المسالك فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه في كشف ذلك. الفرع الخامس عشر: في ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم ليعلم أن القنوت يطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء والتسبيح، والخضوع. كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] . وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] الآية. وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .   الصلاة، فمن أراد التخلص من هذه البلية فليتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم السوية" أي: المستقيمة، وفي نسخة: السنية، أي: المرتفعة، والأولى أنسب هنا كما لا يخفى، "ويقتدى بملته الحنيفة، فإن غلب عليه الأمر وضاقت عليه المسالك، فليتضرع إلى الله ويبتهل إليه في كشف ذلك" لعل الله تعالى بفضله يكشفه والله أعلم. الفرع الخامس عشر: في ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم لفظا ومحلا "ليعلم أن القنوت يطلق على القيام" في الصلاة كما قيد به المجد والمصباح، وزاد: ومنه أفضل الصلاة طول القنوت "والسكوت" ومنه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وفي البيضاوي: ذاكرين له في القيام, والقنوت: الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقال ابن المسيب: المراد به القنوت في الصبح "ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخضوع، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلقا وعبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} خاضعون مطيعون. "وقال تعالى": {أَمْ مَنْ} "بتخفيف الميم" وفي قراءة: "آمن" بمعنى: بل والهمزة {هُوَ قَانِتٌ} قائم بوظائف الطاعات {آنَاءَ اللَّيْلِ} ساعاته: جمع أنا "بكسر الهمزة وفتحها" وأنو، وأني "بالواو والياء مع كسر الهمزة فيهما" فهي أربع لغات كما في شرح المصابيح {سَاجِدًا وَقَائِمًا} في الصلاة "الآية". "وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ} آمنت مريم {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} شرائعه {وَكُتُبِهِ} المنزلة {وَكَانَتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 والمراد به هنا: الدعاء في محل مخصوص من القيام. وعن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رعل وذكوان، عند بئر يقال لها: بئر معونة، فقتلوهم، فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدء القنوت، وما كنا نقنت. قال عبد العزيز بن صهيب: فسأل رجل أنسا عن القنوت أبعد الركوع أو عند فراغ القراءة؟ قال: بل عند فراغ القراءة "وفي" رواية "أخرى قنت شهر بعد الركوع على أحياء من العرب". وفي أخرى قنت شهرا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان،   مِنَ الْقَانِتِينَ} من القوم المطيعين، فعدل عن القانتات لذلك ولرعاية الفواصل، "والمراد به هنا الدعاء في محل مخصوص من القيام". قال الحافظ: وذكر ابن العربي، أن القنوت ورد لعشر معان، فنظمها شيخنا الحافظ زين الدين العراقي، كما أنشدنا لنفسه إجازة غير مرة: ولفظ القنوت أعدد معانيه تجد ... مزيدا على عشر معاني مرضيه دعاء خشوع والعبادة طاعة ... إقامتها إقراره بالعبودية سكوت صلاة والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح القنية "وعن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا" لحاجة كما في رواية للبخاري، وهي: أن رعلا وغيرهم استمدوه، فأمدهم بالسبعين وكان "يقال لهم: القراء" جمع قارئ لكثرة قراءتهم، أو هي الدعاء للإسلام كما عند ابن إسحاق، "فعرض لهم" للسبعين "حيان" بفتح المهملة والتحتية المشددة تثنية حي، أي: جماعة "من سليم" بضم السين أحدهما "رعل" بكسر الراء وسكون المهملة ولام، "و" الآخر "ذكوان" بفتح المعجمة وسكون الكاف آخره نون غير منصرف "عند بئر يقال لها بئر معونة" بفتح الميم وضم العين وإسكان الواو فنون فهاء. زاد في رواية للبخاري: فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، إنما نحن مجتازون في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم "فقتلوهم" إلا كعب بن زيد قيس بن مالك، فتركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى استشهد يوم الخندق، "فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة" أي: الصبح "وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت" قبل ذلك. "قال عبد العزيز بن صهيب" بضم المهملة وفتح الهاء فتحتية فموحدة، راوي الحديث عن أنس: "فسأل رجل" هو عاصم الأحول "أنسا عن القنوت، أبعد الركوع أم عند فراغ القراءة؟ قال" أنس: "بل عند فراغ القراءة" وقبل الركوع. "وفي" رواية "أخرى" في الصحيح عن أنس: "قنت شهرا بعد الركوع يدعو على أحياء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 ويقول: "عصية عصت الله ورسوله". وفي أخرى: بعث صلى الله عليه وسلم سرية يقال لهم: "القراء" فأصيبوا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهرا في صلاة الفجر. هذه رواية البخاري ومسلم. وللبخاري: كان القنوت في المغرب والفجر. وفي رواية أبي داود والنسائي: قنت في صلاة الصبح بعد الركوع، وفي أخرى: قنت شهرا ثم تركه. وفي أخرى للنسائي: قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان.   من العرب"" بفتح الهمزة وسكون الحاء جمع حي. "وفي" رواية "أخرى" في الصحيح أيضا عن أنس: "قنت شهرا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان، "ويقول: "عصية"، "بضم العين" مصغر "عصت الله ورسوله" أشد العصيان بالكفر ونقض العهد، فليس بيانا لوجه التسمية، بل بيانا لما هم عليه من الفعل القبيح. "وفي" رواية "أخرى" في الصحيح أيضا عن أنس: "بعث صلى الله عليه وسلم سرية" سبعين رجلا "يقال لهم القراء" لكثرة قراءتهم وكانوا يحتطبون بالنهار ويشترون به الطعام للفقراء وأهل الصفة ويأتون بالحطب تارة إلى حجر أزواجه صلى الله عليه وسلم ويصلون بالليل ويتدارسون القرآن، "فأصيبوا" قتلوا "فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد"، "بجيم" أي حزن "على شيء ما وجد عليهم" لأنه ما بعثهم لقتال إنما هم مبلغون رسالته وداعون إلى الإسلام، وقد جرت عادة العرب قديما، أنهم لا يقتلون الرسل، ولنقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم "فقنت شهرا في صلاة الفجر أي الصبح، "هذه رواية البخاري ومسلم" ومرت القصة في المغازي، "وللبخاري" عن أنس قال: "كان القنوت في المغرب والفجر" أي: الصبح لكونهما طرفي النهار لزيادة شرف وقتهما رجاء إجابة الدعاء. "وفي رواية أبي داود والنسائي" عن أنس: "قنت" صلى الله عليه وسلم "في صلاة الصبح بعد الركوع، وفي أخرى: قنت شهرا ثم تركه" لما نزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] . "وفي أخرى للنسائي" عن أنس: "قنت شهرا يلعن رعلا وذكوان ولحيان" بكسر اللام وفتحها، وإنما عزاه للنسائي مع أن في البخاري في المغازي عن أنس: فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، لأن في رواية النسائي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 وعن ابن عباس: قنت صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا، في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: "سمع الله لمن حمده" من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من سليم، على رعل وذكوان وعصية، ويؤمن من خلفه. رواه أبو داود. وعن ابن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: "اللهم اللعن فلانا وفلانا وفلانا" بعدما يقول: "سمع الله   بيان أن المراد بالدعاء اللعن. قال الحافظ: ومجموع ما جاء عن أنس أن القنوت للحاجة بعد الركوع لا خلاف عنه في ذلك، وأما لغير الحاجة، فالصحيح عنه أنه قبل الركوع، وقد اختلف عمل الصحابة في ذلك والظاهر أنه من الاختلاف المباح، قال: وظهر لي أن الحكمة في جعله قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أنه مظنة الإجابة كما ثبت أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين، ومن ثم اتفقوا على أن يجهر به بخلاف القنوت في الصبح، فاختلف في محله والجهر به. انتهى. "وعن ابن عباس" قال: "قنت صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا" متواليا "في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح في دبر كل صلاة" أي: قبل الفراغ منها أخذا من قوله: "إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة" وعبر بالدبر لقربه من الآخر "يدعو على أحياء" بفتح فسكون جمع حي "من سليم" بضم السين "على رعل وذكوان وعصية ويؤمن من خلفه" على دعائه "رواه أبو داود" وصححه الحاكم وهو من مرسلات الصحابة، لأن ابن عباس كان حينئذ بمكة مع أبويه فلم يشاهد ذلك، وفيه أن الدعاء على الكفار والظلمة جائز في الصلاة ولا يفسدها. "وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر" أي: الصبح بعد أن كسرت رباعيته يوم أحد، يقول: "اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا" هم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، كما رواه البخاري في غزوة أحد عن سالم بن عبد الله بن عمر مرسلا، ووصله أحمد والترمذي، وزاد في آخره: فتيب عليهم كلهم، وسمى الترمذي في روايته أبا سفيان بن حرب، وفي كتاب ابن أبي شيبة منهم العاصي بن هشام، قال في مقدمة فتح الباري وهو وهم، فإن العاصي قتل ببدر قبل ذلك، قال: ونقل السهيلي عن الترمذي فيهم عمرو بن العاصي، فوهم في نقله. انتهى. فقد رجم بالغيب من قال: لعله لعنهم لعلمه بموتهم على الكفر "بعدما يقول": "سمع الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 لمن حمده، ربنا ولك الحمد". فأنزل الله عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، رواه البخاري. وعن أبي هريرة: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الثانية، قال: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم   لمن حمده ربنا ولك الحمد". بإثبات الواو، وفي رواية: بإسقاطها، "فأنزل الله عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} " إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم و {شَيْءٌ} اسم {لَيْسَ} و {لَكَ} خبر و {مِنَ الْأَمْرِ} حال من {شَيْءٌ} ، لأنها صفة مقدمة "إلى قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} " بالكفر، "رواه البخاري" في غزوة أحد والتفسير والاعتصام، وفيه أن سبب نزولها الدعاء على هؤلاء، وعورض بما رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن أنس، قال: كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وعلي يمسحه, ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] ، فجمع الحافظ بأنه دعا على المذكورين في صلاته بعدما وقع له يوم أحد، فنزلت الآية فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم، قال: لكن يشكل ذلك بما في مسلم عن أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الفجر: "اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية" حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ووجه الإشكال أن الآية نزلت في قصة أحد وقصة رعل وذكوان بعده، ثم ظهرت لي علة الخبر، وأن فيه أدراجا، فإن قوله: حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمن بلغه بين ذلك مسلم، وهذا البلاغ لا يصح لما ذكرته، ويحتمل أن قصتهم كانت عقب ذلك، وتأخر نزول الآية عن سببها قليلا، ثم نزلت في جميع ذلك، وقال في محل آخر فيه بعد، والصواب أنها نزلت بسبب قصة أحد. انتهى. وقدمت ذلك في غزوتها، وقال صاحب اللباب: اتفق أكثر العلماء على نزولها في قصة أحد. "وعن أبي هريرة" قال: "كان" النبي "صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركعة الثانية" من صلاة الصبح، "قال: "اللهم أنج" بكسر الجيم بعد همزة القطع وهي التعدية، يقال: نجا فلان وأنجيته "الوليد بن الوليد" المخزومي أخا خالد، أسلم وعذب في الله ثم نجا وهاجر ومات في العهد النبوي، "وسلمة" بسين أوله "ابن هشام" المخزومي أخو أبي جهل، أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم مكة فمنعوه وعذبوه، ثم هاجر بعد الخندق وشهد مؤتة، واستشهد بمرج الصفراء، وقيل: بأجنادين "وعياش" بتحتية وشين معجمة "ابن أبي ربيعة" المخزومي من السابقين المعذبين في الله، "و" أنج "المستضعفين بمكة" عطف عام على خاص وهؤلاء قوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف". وفي رواية: في صلاة الفجر. وفي رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . رواه البخاري ومسلم. وعن البراء: كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح والمغرب. رواه مسلم والترمذي ولأبي داود: في صلاة الصبح ولم يذكر المغرب. وعن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف   أسلموا من أهل مكة، فعذبهم الكفار ثم نجوا ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم وهاجروا إليه. وروى الحافظ أبو بكر ابن زياد النيسابوري عن جابر قال: رفع صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الأخيرة من صلاة الصبح صبيحة خمس عشرة من رمضان، فقال: "اللهم أنج" الحديث، وفيه: فدعا بذلك خمسة عشرة يوما حتى إذا كان صبيحة يوم الفطر ترك الدعاء. "اللهم اشدد" بهمزة وصل "وطأتك" بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وفتح الهمزة، أي: بأسك وعقوبتك "على" كفار قريش أولاد "مضر اللهم اجعلها" أي: الوطاة أو السنين أو الأيام "عليهم سنين كسني يوسف" عليه السلام في بلوغ غاية الشدة وسني جمع سنة وفيه شذوذ أن تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر وكونه جمعا لغير عاقل وحكمه أيضا مخالف لجموع السلامة في جواز إعرابه كحين بالحركات على النون، وكونه منونا وغير منون منصرفا وغير منصرف، قاله المصنف: وقال شيخنا سني بكسر السين وإسكان التحتية مخففة، والأصل كسنين يوسف حذفت النون للإضافة حملا على جمع المذكر السالم. انتهى. وقد استجاب الله له فأخذهم القحط والجدب حتى أكلوا الجلود والميتة والجيف، فأتاه أبو سفيان بن حرب وكان على دنهم، فسأله أن يدعو لهم، فاستسقى لهم فسقوا كما في الصحيحين. "وفي رواية في صلاة الفجر" بعد قوله: من الركعة الثانية، "وفي رواية: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل الله تعالى عليه {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ، رواه البخاري ومسلم" بطرق وألفاظ متقاربة. "وعن البراء" بن عازب قال: "كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح والمغرب، رواه مسلم والترمذي" وروى البخاري مثله عن أنس كما مر، "ولأبي داود" عن البراء "في صلاة الصبح ولم يذكر المغرب" تقصيرا من بعض الرواة، أو حذفا لما نسخ. "وعن أبي مالك الأشجعي" الكوفي، ثقة، روى له مسلم والأربعة واسمه سعد، بسكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب -ههنا بالكوفة خمس سنين- أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث. رواه الترمذي. وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة. رواه الدارقطني.   العين, ابن طارق، مات في حدود الأربعين ومائة، "قال: قلت لأبي" طارق بن أشيم بمعجمة وزن أحمر, ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث، قال مسلم، لم يرو عنه غير ابنه "يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة خمس سنين" ظرف لصلاته مع علي "أكانوا يقنتون؟ قال، أي" بفتح فسكون نداء القريب "بني" تصغير تحبب "محدث" أي: ما كانوا يقنتون والقنوت محدث، ويحتمل أن يكون مراده أنه لم يكن من أول فرض الصلاة وإنما حدث بعد الهجرة، فهو نحو قول أنس: وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت، "رواه الترمذي" في جامعه. "وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة" حدثت بعده صلى الله عليه وسلم، ويجوز أنه أراد أنها لم تكن من أول الإسلام على نحو ما جوزناه في قول طارق محدث، ويؤيده أنه روي أن ابن عباس كان يقنت، "رواه الدارقطني" فإن ساغ هذا التأويل، وإلا فالمثبت مقدم على النافي، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا كما يأتي. وحكاه الحافظ العراقي عن الخلفاء الأربعة وأبي موسى وابن عباس نفسه والبراء وعن جماعة من التابعين والأئمة. وفي الصحيحين عن عاصم بن سليمان الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت، فقال: قد كان القنوت، قلت: قبل الركوع أو بعده، قال: قبله، قلت: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعد الركوع، فقال: كذب إنما قنت صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرا أراه كان بعث قوما يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم من المشركين وكان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم عهد، فغدروهم وقتلوهم، فقنت شهرا يدعو عليهم. وفي ابن ماجه بإسناد قوي عن أنس أنه سئل عن القنوت، فقال قبل الركوع وبعده. روى ابن المنذر عن أنس: أن بعض الصحابة قنتوا قبل الركوع وبعضهم بعده، وروى محمد بن نصر عن أنس أن أول من جعل القنوت قبل الركوع، أي دائما عثمان لكي يدرك الناس الركعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 قال بعض العلماء: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم قنت وترك، وكان تركه للقنوت أكثر من فعله، فإنه قنت عند النوازل للدعاء لقوم، والدعاء على آخرين، ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم فجاءوا تائبين، وكان قنوته لعارض. فلما زال العارض ترك القنوت. ولم يكن مختصا بالفجر، بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في صحيحه عن أنس، وذكره مسلم عن البراء، وصح عن أبي هريرة أنه قال: والله إني لأنا أقربكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقنت في الركعة الأخيرة من الصبح بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده"، قال: ابن أبي فديك: ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ثم تركه، فهذا رد على القائل بكراهة القنوت   "قال بعض العلماء: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم قنت وترك" ليفيد أنه ليس بواجب، "وكان تركه للقنوت أكثر من فعله" أي: للحاجة فلا ينافي قول أنس: لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، ويدل له قوله: "فإنه قنت عند النوازل للدعاء لقوم" بالنجاة، "والدعاء على آخرين" باللعن والقحط، "ثم تركه لما قدم من دعا لهم وخلصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم فجاءوا تائبين" فسر بذلك "وكان قنوته لعارض، فلما زال العارض ترك القنوت ولم يكن مختصا بالفجر" أي: قنوت النازلة، "بل كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب" وبقية الصلوات كما مر في حديث ابن عباس، أما لغير النازلة، فإنما كان في صلاة الصبح "ذكره" أي: رواه "البخاري في صحيحه عن أنس وذكره" أي: رواه "مسلم عن البراء" ومر آنفا، وبه تمسك الطحاوي في ترك القنوت في الصبح، قال: لأنهم أجمعوا على نسخة في المغرب فيكون الصبح، كذلك قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، وعارضه بعضهم بأنهم أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا هل ترك فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. "وصح عن أبي هريرة أنه قال: والله إني لأنا أقربكم صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" لمواظبتي له وضبطي لصفة صلاته، فأنا أعرف بها منكم، "إنه كان يقنت في الركعة الأخيرة من الصبح بعدما يقول سمع الله لمن حمده" أي: في بعض الصلوات، فلا يخالف قول أنس: كان يقنت قبل الركوع، فأفاد الفعل النبوي جوازه قبل وبعد. "قال ابن أبي فديك" بالفاء والدال المهملة مصغر نسبة إلى جد أبيه فهو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلمي، مولاهم المدني أبو إسماعيل، صدوق، روى له الجماعة، مات سنة مائتين على الصحيح، "ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك" أي: قنت "ثم تركه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها ويقولون هو منسوخ وفعله بدعة. وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه، ويقولون فعله سنة، وتركه سنة، ولا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالف للسنة، من قنت فقد أحسن ومن ترك فقد أحسن. انتهى. ومذهب الشافعي -رحمه الله- أن القنوت مشروع في صلاة الصبح دائما، في الاعتدال ثانية الصبح، لما رواه أنس: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الحياة. رواه أحمد وغيره. قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقي وأبو عبد الله محمد بن علي البلخي، وفي البيهقي العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة.   فهذا رد على القائل بكراهة القنوت في الفجر مطلقا عند النوازل وغيرها، ويقولون: هو منسوخ وفعله بدعة" ووجه أن ما فعله صلى الله عليه وسلم لا يكون بدعة، ودعوى النسخ لا دليل عليها وتركه لا يفيده، فإنه لبيان الجواز، "وأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء" الزاعمين أنه بدعة "وبين من استحبه، يقولون: فعله سنة" أي: منقول عنه صلى الله عليه وسلم "وتركة سنة" لأنه فعله وتركه، "ولا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه" يعتقدونه "بدعة ولا" يرون "فاعله مخالفا للسنة، من قنت فقد أحسن" فعل مستحبا، "ومن ترك فقد أحسن" لأنه ما ترك واجبا فهو كسائر المستحبات. "انتهى" كلام هذا البعض. "ومذهب الشافعي رحمه الله أن القنوت مشروع" أي: مستحب "في صلاة الصبح دائما في الاعتدال ثانية الصبح لما رواه أنس: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر،" أي: الصبح "حتى فارق الدنيا" بالوفاة، لكن لم يقيده بما بعد الركوع، فالدليل قاصر عن الدعوى، وقد قال الحافظ: الصحيح عن أنس أنه قبل الركوع، ولذا قال مالك إنه الأفضل، فإنما أريد منه الدلالة على مشروعية القنوت لا بقيد كونه بعد الركوع، "رواه أحمد وغيره" كعبد الرزاق والدارقطني. "قال ابن الصلاح: قد حكم بصحته غير واحد من الحفاظ، منهم: الحاكم" ف المستدرك "و" تلميذه "البيهقي وأبو عبد الله محمد بن علي البلخي، وفي البيهقي: العمل بمقتضاه عن الخلفاء الأربعة" أي: أنهم كانوا يقنتون في الصبح دائما، ولا يرد ما روي أنهم كانوا لا يقنتون، لأنه إذا تعارض نفي وإثبات قدم الإثبات، وذلك دليل على عدم النسخ، لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 وقال بعضهم: أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا: هل ترك؟ فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى. وأما حديث ابن أبي فديك عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذه الدعاء: "اللهم اهدني فيمن هديت ... " إلخ. فقال ابن القيم -في زاد المعاد: ما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحا أو حسنا، ولكنه لا يحتج بعبد الله هذا، وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت، انتهى. وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه، ورد عليه، كما قاله ابن القيم، وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد.   العمل بالمنسوخ لا يجوز اتفاقا. "وقال بعضهم: أجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح، ثم اختلفوا هل ترك" كما ترك المغرب أم لم يترك، "فنتمسك بما أجمعوا عليه حتى يثبت ما اختلفوا فيه. انتهى". ذكره هذا البعض ردا على دعوى الطحاوي نسخه، بل ثبت أنه واظب عليه حتى فارق الدنيا. "وأما حديث ابن أبي فديك" محمد بن إسماعيل "عن عبد الله بن سعيد" بكسر العين "ابن أبي سعيد" كيسان "المقبري" بضم الموحدة وفتحها أبي عبيد الليثي، مولاهم المدني، "عن أبيه" سعيد المدني الثقة من رجال الجميع، "عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من صلاة الصبح يرفع يديه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم اهدني فيمن هديت ... " إلخ، ويأتي قريبا. "فقال ابن القيم في زاد المعاد" في هدي خير العباد: "ما أبين" فعل تعجب "الاحتجاج به" أي أن دلالته على القنوت في الصبح واضحة "لو كان صحيحا أو حسنا، ولكنه" ضعيف لأنه "لا يحتج بعبد الله هذا" لضعفه "وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت،" لأنه من تساهله في التصحيح. "انتهى". "وهذا الحديث رواه الحاكم وصححه ورد عليه، كما قاله ابن القيم" كما ترى، "وقد اتفقوا على ضعف عبد الله بن سعيد," بل قال في التقريب إنه متروك وإن روى له الترمذي وابن ماجه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 وعن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات: "اللهم اهدني فيمن هديت". أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل. والصحيح: أنه لا يتعين فيه مخصوص، بل يحصل بكل دعاء. وفيه وجه أنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت". رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث الحسن بن علي قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر فذكره. وإسنادهم صحيح، قال   "وعن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح وفي وتر الليل بهؤلاء الكلمات", وهي: "اللهم اهدني فيمن هديت". "أخرجه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل" له، "والصحيح أنه لا يتعين فيه دعاء مخصوص، بل يحصل بكل دعاء" مشتمل على الثناء، "وفيه وجه" أي: قول لبعض الشافعية، "إنه لا يحصل إلا بالدعاء المشهور، وهو": "اللهم اهدني فيمن هديت" لطاعتك، "وعافني فيمن عافيت" من البلايا والفتن والأسقام، وهكذا عادة الأنبياء يسألون بعد البلاء عنهم، "وتولني فيمن توليت" نصره وتأديبه، "وبارك لي فيما أعطيت"، أي: في الذي أعطيته لي، "وقني شر ما قضيت". قال العلامة الشهاب القرافي: معناه إن الله تعالى يقدر المكروه بعدم دعاء العبد المستجاب، فإذا استجاب دعاءه لم يقع المقضي لفوات شرطه، وليس هو ردا للقضاء المبرم، ومن هذا صلة الرحم تزيد في العمر والرزق، "فإنك تقضي" بما تريد "ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت". زاد في رواية البيهقي: "فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك". وما قضاه شامل للخير والشر فكيف حمد عليه، وقد طلب الوقاية منه أولا، والجواب أن المطلوب الوقاية منه هو المقضي من مرض وغيره مما تكرهه النفس، والمحمود عليه هو القضاء الذي هو صفته تعالى، وكلها جميلة يطلب الثناء عليها، "رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث الحسن بن علي" رضي الله عنهما، "قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر فذكره وإسنادهم" أي: رواته الثلاثة "صحيح" وهو قاصر على الوتر، لكن "قال البيهقي: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح ولقنوت الوتر" كما رواه الثلاثة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 البيهقي: قد صح أن تعليم هذا الدعاء وقع لقنوت صلاة الصبح لقنوت الوتر، انتهى. وقوله: "فإنك تقضي" بالفاء. والواو في قوله: "وإن لا يذل". "وربنا" قبل "وتعاليت" إلا أن الفاء لم تقع في رواية أبي داود. وزاد البيهقي بعد قوله: "إنه لا يذل من واليت". "ولا يعز من عاديت". وزاد ابن أبي عاصم في كتاب التوبة: "نستغفرك اللهم ونتوب إليك". ويسن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ، لأن النسائي قد رواه من حديث الحسن بسند صحيح أو حسن، كما قاله في شرح "المهذب" ولفظه -أي النسائي: وصلى الله على النبي. وجزم في "الأذكار" باستحباب الصلاة على الآل والسلام. وخالفه صاحب "الإقليد" فقال: أما ما وقع في كتب أصحابنا من زيادة "وسلم" وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب فكل ذلك لا أصل له.   المذكورون. "انتهى". "وقوله: "فإنك تقضي" بالفاء والواو" أي: وبالواو في قوله: "وإنه لا يذل"، وفي رواية: بحذف الواو "وربنا" قبل "وتعاليت" بعد "تباركت"، "إلا أن الفاء لم تقع في رواية أبي داود" ووقعت في رواية غيره، "وزاد البيهقي بعد قوله: "إنه لا يذل من واليت": "ولا يعز من عاديت" بكسر العين مع فتح الياء بلا خلاف بين علماء الحديث واللغة والتصريف، قاله الحافظ السيوطي وله أبيات آخرها: وقل إذا كنت في ذكر القنوت ولا ... يعز يا رب من عديت مكسورا "وزاد ابن أبي عاصم في كتاب التوبة له": "نستغفرك اللهم ونتوب إليك". من جميع الذنوب، ولا بأس بهذه الزيادة عند الجمهور كما في الروضة، "ويسن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ" من القنوت "لأن النسائي قد رواه من حديث الحسن" بن علي "بسند صحيح أو حسن، كما قاله" النووي "في شرح المهذب، ولفظه، أي: النسائي وصلى الله على النبي وجزم في الأذكار باستحباب الصلاة على الآل والسلام، وخالفه صاحب الإقليد" هو التاج بن الفركاح عصري النووي، "فقال: أما ما وقع في كتب أصحابنا من زيادة وسلم، وما يعتاده الأئمة الآن من ذكر الآل والأزواج والأصحاب، فكل ذلك لا أصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 قلت: وعبارة النووي في "الأذكار": يستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. فقد جاء في رواية النسائي بإسناد حسن: "وصلى الله على النبي" انتهى. وتعقب: بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل، وتزيد عليه ذكر الآل والتسليم. نعم وقعت الزيادة عند "الرافعي" و"الروياني" معزوة لحديث الحسن بن علي، عند النسائي لكنها ليست عنده في رواية أحد من الرواة عنه، على أن لفظ "وصلى الله على النبي" زائد على رواية الترمذي، وهي زيادة غريبة غير ثابتة لأجل عبد الله بن علي، أحد رواته، لأنه غير معروف، وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسن بن علي، فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن علي، فقد تبين أنه ليس من شرط "الحسن" لانقطاعه أو جهالة روايه، ولم تنجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى، نعم: أصل الحديث إلى آخر "وتعاليت" حسن لاعتضاده برواية الترمذي   له" عن النبي صلى الله عليه وسلم "قلت: وعبارة النووي في الأذكار يستحب أن يقول عقب هذا الدعاء: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم، فقد جاء في رواية النسائي بإسناد حسن، وصلى الله على النبي. انتهى" كلامه. "وتعقب بأن لفظ الدعوى خلاف الدليل" كما هو ظاهر، "وتزيد عليه ذكر الآل والتسليم" فلا يصح الاستدلال به عليها للمخالفة والزيادة. "نعم وقعت الزيادة عند الرافعي والروياني معزوة لحديث الحسن بن علي عند النسائي، لكنها ليست عنده،" أي: النسائي "في رواية أحد من الرواة عنه" لا ابن السني ولا غيره، "على أن لفظ: و"صلى الله على النبي" زائد على رواية الترمذي" وأبي داود والنسائي، "وهي زيادة غريبة غير ثابتة" أي: ضعيفة "لأجل عبد الله بن علي أحد رواته، لأنه غير معروف". أي: مجهول، "وعلى تقدير أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسن بن علي" بن أبي طالب وهو مقبول الرواية "فهو منقطع، لأنه لم يسمع من جده الحسن بن علي" لأنه لم يدركه، "قد تبين أنه ليس من شرط الحسن لانقطاعه" إن كان عبد الله حفيد الحسن، "أو جهالة راويه" إن كان غيره "ولم تنجبر الزيادة بمجيئها من وجه آخر، وحينئذ فقد تبين شذوذها على ما لا يخفى" بل ضعفها. "نع أصل الحديث إلى آخر، وتعاليت حسن لاعتضاده برواية الترمذي وغيره" كلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 وغيره، بخلاف الزيادة، إذ لم تجئ في غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووي فينبغي عدها في القنوت بعضا. قال في "المجموع" عن البغوي: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه، وفي تحقيقه في باب "سجود السهو" من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهم في "صلاة الجماعة" من أنه ركن قصير، وهو ما في "المنهاج" و"الروضة" فقد يقال القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل. ويجاب: يحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوي نفسه القائل بكراهة الإطالة قائل بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده. ويسن للمنفرد والإمام برضا المحصورين، الجمع في الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: "اللهم إنا نستعينك" إلخ، والأولى تأخيره عن القنوت السابق.   قلق، إذ مقتضاه أنه ليس بحسن لذاته وهو يخالف قوله: آنفا وإسنادهم صحيح، وقد صححها الترمذي وغيره، لكنه ليس على شرط البخاري كما في فتح الباري، فأقل أحواله أنه حسن لذاته لا لاعتضاده، "بخلاف الزيادة إذ لم تجئ في غيره، وحيث سننا الصلاة على الآل على ما جزم به النووي، فينبغي عدها في القنوت بعضا" من أبعاض القنوت، وهو الراجح عند الشافعية، فيجبر تركه بالسجود. "قال في المجموع" شرح المهذب للنووي "عن البغوي: ويكره إطالة القنوت كالتشهد الأول، وهو ظاهر على ما صححه فيه" أي: المجموع، "وفي تحقيقه" كتاب في الفقه للنووي "في باب سجود السهو من أن الاعتدال ركن طويل، أما على ما صححه فيهما"، أي: الكتابين "في صلة الجماعة من أنه ركن قصير، وهو ما في المنهاج والروضة، فقد يقال"، بالفاء جواب، أما في نسخ صحيحة وفي بعضها بحذفها "القياس البطلان، لأن تطويل الركن القصير عمدا مبطل، ويجاب بحمل ذلك على غير محل القنوت، إذ البغوي نفسه القائل بكراهة الإطالة، قائل: بأن تطويل الركن القصير مبطل عمده، ويسن للمنفرد والإمام برضا المحصورين الجمع في الوتر بين القنوت السابق وبين قنوت عمر، وهو: اللهم إنا نستعينك ... إلخ والأولى تأخيره عن القنوت السابق": اللهم اهدني ... إلخ، "ويسن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 ويسن رفع يديه، رواه البيهقي بإسناد جيد. قل في "المجموع": وفي سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما: نعم، وأصحهما: لا قال البيهقي: ولا أحفظ في مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة. ومسح غير الصدر كالصدر مكروه. وقال النووي في "الأذكار": اختلف أصحابنا في رفع اليدين في القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثاني: يمسح ويرفع، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه. انتهى. ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخاري.   رفع يديه، رواه البيهقي بإسناد جيد" أي: مقبول، وتحصل السنة سواء كانتا مفترقتين أم ملتصقتين، وسواء كانت الأصابع والراحة مستويين، أو الأصابع أعلى منها، والضابط أن يجعل بطونهما إلى السماء وظهورهما إلى الأرض، كذا أفتى به الوالد ويجعل فيه، وفي غيره ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع بلاء ونحوه، وعكسه إن دعا لتحصيل شيء قاله الشمس الرملي "قال في المجموع: وفي سن مسح بهما وجهان، أشهرهما: نعم" يسن، "وأصحهما: لا" يسن لعدم ثبوت شيء فيه وهو المعتمد. "قال البيهقي: ولا أحفظ في مسحه هنا" في القنوت "عن أحد من السلف شيئا وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة" وهو المعتمد، كما جزم به في التحقيق، "ومسح غير الصدر كالصدر مكروه، وقال النووي في الأذكار: اختلف أصحابنا في رفع اليدين في القنوت ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه، أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثاني: يمسح ويرفع" استحبابا فيهما، "والثالث: لا يمسح ولا يرفع واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا: ذلك مكروه" وهو المعتمد "انتهى". "ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت، وإن كانت الصلاة سرية للاتباع، رواه البخاري" أنه كان يقنت في الصبح والمغرب والركعة الثالثة سرية، فيقاس عليها بقية السريات، ولكن إن كان قنوته في المغرب لغير حاجة فقد نسخ، وإن كان لنازلة فلا يقاس عليه قنوت الصبح المشروع لغير حاجة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلفه صلى الله عليه وسلم في ذلك. رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه في الثناء سرا أو يسكت، لأنه ثناء ذكر لا يليق به التأمين, والدعاء يشمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيأمن فيها: صرح به الطبري. وإن لم يسمع قنوت الإمام قنت معه سرا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت في مكتوبة غير الصبح، لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفي البخاري من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت في النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، مع زيادة من غيره، والله أعلم.   "قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلفه صلى الله عليه وسلم في ذلك، رواه أبو داود بإسناد حسن" وصححه الحاكم، لكنه كان في قنوت الحاجة وهي الدعاء على سليم وغيرها شهرا واحدًا في الصلوات الخمس كما مر، فلا دلالة فيه على الجهر في قنوت الصبح المستحب لغير حاجة، "ويوافقه في الثناء" من فإنك تقتضي ... إلخ "سرا أو يسكت" ولا يؤمن "لأنه ثناء وذكر لا يليق به التأمين" والموافقة أولى كما في المجموع، "والدعاء يشمل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيؤمن فيها، صرح به الطبري" الشيخ محب الدين المكي وهو المعتمد "وإن لم يسمع قنوت الإمام" لبعد أو صمم "قنت معه سرا كبقية الأذكار والدعوات" إذ الأولى إسرارها، "ولا قنوت لغير وتر وصبح" فيستحب فيه دائما "إلا النازلة من خوف أو قحط أو وباء" بالمد مرض عام، ونحوه: "أو جراد أو نحوها" أي: المذكورات، "فيستحب أن يقنت في مكتوبة غير الصبح" أما هو فيستحب القنوت فيه دائما، فلا يتقيد بكونه للنازلة "لا منذورة وصلاة جنازة ونافلة" فلا يستحب القنوت للنازلة فيها. "وفي البخاري من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم جهر بالقنوت في النازلة" وهو الدعاء لقوم بالنجاة، وعلى آخرين بالقحط. "انتهى ملخصا من شرح البهجة" لابن الوردي "لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا" بن أحمد "الأنصاري" الخزرجي "مع زيادة من غيره والله" تعالى "أعلم". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 الفصل الرابع: في ذكر سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو في الصلاة اعلم أن السهو لغة هو الغفلة عن الشيء، وذهاب القلب إلى غيره، قاله الأزهري. وفرق بعضهم -فيما حكاه القاضي عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز في الصلاة على الأنبياء عليهم السلام، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في الصلاة ولا يغفل عنها، وكان شغله عن حركات الصلاة ما في الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى. قال ابن كيكلدى: وهو ضعيف من جهة الحديث ومن حيث اللغة، أما من   الفصل الرابع: في ذكر سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو في الصلاة قبل السلام وبعده "اعلم أن السهو لغة هو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب إلى غيره" فلو غفل عن شيء ولم يخطر في قلبه خلافه فليس بسهو على هذا، "قاله الأزهري" الإمام أبو منصور، "وفرق بعضهم فيما حكاه القاضي عياض بين السهو والنسيان من حيث المعنى" كما أنهما مفترقان لفظا. "وزعم أن السهو جائز في الصلاة على الأنبياء عليهم السلام بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة" كالمرض الذي يعرض للإنسان، ولذا عده الأطباء من الأمراض الدماغية المحتاجة للعلاج وهم منزهون عنها، "والسهو إنما هو شغل بال" أي: يحصل عندما يعرض من شغل البال بأموره والنظر لغيره بحيث يتنبه له سريعا، "فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسهو في الصلاة" لمراقبته لله تعالى وتوجهه إليه، "ولا يغفل" بضم الفاء "عنها" لأنه منزه عن أن يستولي على قلبه الشريف ما يلهيه عن العبادة، "وكان شغله عن حركات الصلاة" في السجود والركوع "ما في الصلاة" من قرة عينه بمشاهدة تجليات ربه وتدبر آياته "شغلا بها لا غفلة عنها" بغيرها، فلذا كان يسهو ولا ينسى. "انتهى". "قال ابن كيكلدي" هو الإمام، الحافظ الفقيه، الأصولي النحوي، المفتي صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي العلائي المشهور، المقدسي الشافعي، ولد في ربيع الأول سنة أربع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 جهة الحديث فلما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون" وأما من حيث اللغة فقول الأزهري الماضي، ونحوه قول الجوهري وغيره. وقال في النهاية: السهو في الشيء: تركه من غير علم، والسهو عنه: تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والسهو عن الصلاة الذي ذم الله فاعله. وقد كان سهوه صلى الله عليه وسلم من إتمام نعم الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما شرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ -الآتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى- "إنما أَنسى أو أُنسى لأسن" فكان ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة.   وتسعين وستمائة، صاحب التصانيف المحررة، المتقنة النافعة، أخذ عنه الحافظ زين الدين العراقي وقال: مات حافظ المشرق والمغرب صلاح الدين في ثالث محرم سنة إحدى وستين وسبعمائة. "وهو" أي: هذا الفرق "ضعيف من جهة الحديث، ومن حيث اللغة" والتعبير بجهة وحيث تفنن وكراهة توارد الألفاظ، "أما من جهة الحديث، فلما ثبت في الصحيحين" عن ابن مسعود "من قوله صلى الله عليه وسلم": "إنما أنا بشر مثلكم" فأثبت العلة قبل الحكم وهو "أنسى" ولم يكتف به حتى دفع من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا، فقال: "كما تنسون" فكيف يتأتى ذلك الفرق، "وأما" ضعفه "من حيث اللغة، فقول الأزهري الماضي" السهو الغفلة ... إلخ. "ونحوه قول الجوهري وغيره" من أئمة اللغة، ولذا قال في الفتح: الفرق ليس بشيء، "وقال في النهاية: السهو في الشيء تركه من غير علم" بل غفلة "والسهو عنه تركه مع العلم وهو فرق حسن دقيق" بدال أوله، "وبه يظهر الفرق بين السهو الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم غير" أي: أكثر من "مرة" بأنه تركه غير عالم، "والسهو عن الصلاة الذي ذم الله فاعله" بقوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4, 5] أي: غافلون غير مبالين، قاله البيضاوي، "وقد كان سهوه صلى الله عليه وسلم من إتمام نعم الله تعالى على أمته وإكمال دينهم" الممتن عليهم بذلك في الآية الكريمة "ليقتدوا به فيما شرعه لهم عند السهو" إذ لو لم يقع ذلك منه لكان يحصل لها غاية الأسف من وقوعه، وإن بين حكمه بالقول، "وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في الموطأ الآتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى" قريبا، "إنما أنسى" أنا "أو أنسى" بضم الهمزة والتشديد، مبني لما لم يسم فاعله للعلم به، أي: ينسيني الله تعالى، أي: يوجد في النسيان "لأسن" للأمة شرعا، "فكان ينسى، فيترتب على سهوه أحكام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 واختلف في حكمه: فقال الشافعية والمالكية: مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة. وعن الحنابلة التفصيل بين الواجبات، فيجب السجود لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده. وعند الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود عند البخاري "لسيجد سجدتين" والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله عليه السلام، وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي". انتهى.   شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة" فليست أو للشك عند جماعة، وقال بعضهم للشك، وفي الشفاء: بل قد روى لست أنسى، ولكن أنسى لأسن ولا تنافي، لأن نسبته باعتبار حقيقة اللغة، وفيه: عنه باعتبار أنه ليس موجدا له حقيقة، والموجد الحقيقي هو الله، كما يقال: مات زيد وأماته الله، وفرق بين الفاعل الحقيقي بحسب عرف اللغة وبحسب نفس الأمر، كما أشار إليه عياض بما حاصله: أن معنى لا ينسى لا يقع منه سبب يقتضي إضافة النسيان إليه، بحيث ينشأ عن سبب منه، ومعنى ينسى أنه يقع منه نسيان هو أثر إدخال النسيان عليه من الله، فحيث أثبته أراد قيام صفة النسيان به، وحيث نفاه، فباعتبار أنه ليس بإيجاده ومقتضى طبعه، وإنما الموجد له الله تعالى. "واختلف في حكمه" أي: سجود السهو، "فقال: الشافعية والمالكية مسنون كله" أي: القبلي والبعدي "وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة" فإنه سنة. "وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات" غير الأركان كما في الفتح، "فيجب السجود لتركها سهوا، وبين السنن القولية، فلا يجب" السجود، "وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده" عند الحنابلة "وعند الحنفية واجب كله" قبلية وبعدية، "وحجتهم قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود عند البخاري: "ليسجد سجدتين". والأمر للوجوب" حتى يثبت الصارف عنه. "وقد ثبت من فعله عليه السلام وأفعاله في الصلاة محمولة على البيان وبيان الواجب واجب، ولا سيما قوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي". انتهى". ذكر الخلاف وهو من فتح الباري، وأقر فيه دليل الحنفية، ويقدح فيه أن من جملة أفعاله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم: فعن الأعرج عن عبد الله بن مالك ابن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم. رواه البخاري. وفي رواية له عن يحيى بن سعيد عن الأعرج عن عبد الله بن بحينة أيضا أنه   التسبيح والدعاء وهم لا يقولون بوجوب ذلك. "وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم السجود على قسمين: الأول السجود قبل التسليم" من الصلاة، "فعن الأعرج" عبد الرحمن بن هرمز، "عن عبد الله بن مالك ابن بحينة" بضم الموحدة وفتح المهملة فتحتية فنون اسم أم عبد الله، أو اسم أم أبيه مالك، فينبغي كتب ابن بجينة بالألف وهي بنت الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن مالك بن القشب، بكسر القاف وسكون المعجمة وموحدة الأزدي، أبو محمد حليف بني المطلب، صحابي معروف، مات بعد الخمسين من الهجرة، "أنه قال: صلى بنا" وفي رواية: لنا أي: بنا، أو لأجلنا "رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات" هي الظهر كما في الرواية التي تليها، "ثم قام فلم يجلس" فترك الجلوس والتشهد، "فقام الناس معه" قال الباجي: يحتمل أنهم علموا حكم هذه الحادثة، وإنه إذا استوى قائما لا يرجع إلى الجلسة، لأنها ليست بفرض ولا محلا للفرض، وأن يكونوا لم يعلموا فسبحوا، فأشار إليهم بالقيام، وقد قام المغيرة من ركعتين، فسبحوا به، فأشار إليهم أن قوموا، ثم قال: هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم "فلما قضى صلاته" أي: فرغ منها ففي رواية ابن ماجه عن يحيى بن سعيد عن الأعرج حتى إذا فرغ من الصلاة إلا أن يسلم، فدل على أن بعض الرواة حذف الاستثناء لوضوحه والزيادة من الحافظ وقبوله، فلا دلالة فيه لمن زعم أن السلام ليس من الصلاة حتى لو أحدث بعد أن جلس وقبل أن يسلم تمت صلاته. وتعقب بأن السلام لما كان للتحليل من الصلاة كان المصلي إذا انتهى إليه كمن فرغ من الصلاة "ونظرنا" أي انتظرنا، وفي رواية: ونظر الناس "تسليمه كبر قبل التسليم، فسجد سجدتين" يكبر في كل سجدة كما في رواية للبخاري "وهو جالس" جملة حالية متعلقة بقوله سجد، أي: أنشأ السجود جالسا، "ثم سلم" بعد ذلك، "رواه البخاري" ومسلم من طريق مالك وغيره عن ابن شهاب عن الأعرج به. "وفي رواية له" للبخاري من طريق مالك، وكذا لمسلم من طريق حماد بن زيد، كلاهما "عن يحيى بن سعيد" بن قيس الأنصاري "عن الأعرج" عبد الرحمن بن هرمز، "عن عبد الله بن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك. وفي روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس. ورواه مسلم أيضا. وزاد الضحاك بن عثمان عن الأعرج -عند ابن خزيمة- بعد قوله: "ثم قام فلم يجلس" فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته. وفي روية الترمذي: قام في الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.   حينة أيضا أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين" أي: من ركعتين "من الظهر لم يجلس بينهما" أي: بين اثنتين والقيام، "فلما قضى صلاته" أي: فرغ منها إلا السلام "سجد سجدتين" يكبر في كل سجدة وسجد الناس معه "ثم سلم بعد ذلك" للتحليل من الصلاة، "وفي روايته" أي: البخاري "أيضا" من طريق الليث عن ابن شهاب "عن الأعرج عنه" أي: ابن بحينة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس" مع التشهد فيه وقام الناس معه إلى الثالثة، "فلما أتم صلاته" إلا السلام "سجد سجدتين يكبر في كل سجدة" بتحتية مضمومة فموحدة مكسورة، وفي رواية: فكبر بالفاء "وهو جالس قبل أن يسلم" جملة حالية، "وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس" جبرا له بالسجدتين، "ورواه" أي: المذكور من الروايات الثلاثة "مسلم أيضا". "وزاد الضحاك بن عثمان" بن عبد الله الأزدي الحزامي، بكسر المهملة وبزاي منقوطة المدني، صدوق يهم، روى له مسلم والأربعة "عن الأعرج عند ابن خزيمة بعد قوله" في الطريق الأولى "ثم قام فلم يجلس فسبحوا به" أي: بسبب قيامه تنبيه له، أي: قالوا له سبحان الله لحديث: "من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله". "فمضى حتى فرغ من صلاته" ولم يرجع لتسبيحهم، لأنه استقل قائما. وفي حديث معاوية عند النسائي وعقبة بن عامر عند الحاكم نحو هذه القصة بهذه الزيادة. "وفي رواية الترمذي: قام في الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم" وليس في روايته شيء زائد عن روايات الصحيحين المذكورة فما فائدة ذكره؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 وفي هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان، فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شيء، أو عامدًا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، لكون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية. واستدل به أيضا على أن المأموم يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسلم المأموم. وأن سجود السهو لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو   "وفي هذا مشروعية سجود السهو وأنه سجدتان، فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شيء، أو عامدًا بطلت صلاته" إن تعمد الاقتصار عليها، "لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة" وذلك مبطل، أما لو نوى السجدتين ثم بعد الإتيان بواحدة عن له ترك الأخرى لم يضر، لأن قطع النفل جائز عند الشافعية "وأنه يكبر لهما كما يكبر في غيرهما من السجود" من قوله في الرواية الثالثة: يكبر في كل سجدة. "واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام" سواء كان لزيادة أو نقص، "ولا حجة فيه لكون جميعه كذلك،" لأنه عن نقص، فلا يلزم أن تكون الزيادة كذلك، "نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية" والرد به ظاهر، وقد تعسفوا الجواب عنه بأن المراد بالسجدتين سجدتا الصلاة، والمراد بالتسليم التسليمة الثانية، ولا يخفى ضعف ذلك وبعده، وزعم بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في قصة ابن بحينة قبل السلام سهوا، فرد بقوله: ونظرنا تسليمه، أي: انتظرنا. "واستدل به أيضا على أن المأموم يسجد مع الإمام، إذا سها الإمام وإن لم يسه المأموم، ونقل ابن حزم فيه الإجماع، لكن استثنى غيره ما إذا ظن الإمام أنه سها، فسجد وتحقق المأموم أن الإمام لم يسه فيما سجد له وفي تصورها عسر وما إذا تبين أن الإمام محدث، ونقل أبو الطيب الطبري أن ابن سيرين استثنى المسبوق أيضا ذكره الفتح، ولعل وجه عسر تصورها أن الإمام إذا ترك تسبيح السجود مثلا، فظن أنه يقتضي السجود فسجد، وعلم المأموم بأن سجوده لذلك لا يتابعه، وعلمه ذلك عسر لجواز أنه سجد لغيره إلا أن تصور بأنه كتب له، أريد السجود لترك التسبيح، "وإن سجود السهو لا تشهد بعده" إذا كان قبل السلام كما في الفتح، "وإن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد وهم الجمهور. وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به صلى الله عليه وسلم -كما في رواية بن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي. القسم الثاني: السجود بعد التسليم عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال   يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور" فإن سجد عالما لما قبل التشهد بطلت عند الشافعية، "وفيه: أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به" أي: بسبب قيامه "صلى الله عليه وسلم" تنبيها له "كما في رواية ابن خزيمة فلم يرجع" لأنها ليست بفرض ولا محلا للفرض "فلو تعمد المصلي الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعي" لأنه لا يرجع من فرض لسنة. وقال مالك والجمهور: لا تبطل، لأنه رجع إلى أصل ما كان عليه، ومن زاد في صلاته ساهيا لا تبطل، فالذي يقصد إلى عمل ما أسقطه منها أولى، وفيه أيضا أن التشهد الأول سنة إذ لو كان فرضا لرجع حتى يأتي به كما ترك ركعة أو سجدة، إذ الفرض يستوي فيه العمد والسهو إلا في الإثم. "القسم الثاني: السجود بعد التسليم عن أبي سلمة" إسماعيل أو عبد الله أو اسمه كنيته ابن عبد الرحمن بن عوف، "عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر" بالشك، وفي الموطأ: ومسلم صلاة العصر بالجزم، ولمسلم أيضا عن أبي هريرة: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر وله من وجه آخر إحدى صلاتي العشي. قال ابن سيرين: سماها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا، وللبخاري عن ابن سيرين: وأكثر ظني أنه العصر، وعند النسائي بإسناد صحيح عن ابن سيرين عن أبي هريرة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي، قال أبو هريرة: ولكن نسيت, قال الحافظ: فبين أن الشك منه، والظاهر أنه روى الحديث كثيرا على الشك، وربما غلب على ظنه أنها الظهر فجزم به، وتارة يغلب على ظنه أنها العصر فيجزم به، وطرأ الشك على ابن سيرين أيضا، وكان سبب ذلك الاهتمام بما في القصة من الأحكام، وأبعد من قال: يحمل على أن القصة وقعت مرتين. وقال الولي بن العراقي: الصواب أنها قصة واحدة، وأن الشك من أبي هريرة كما صرح به في رواية النسائي، وطرأ الشك على ابن سيرين أيضا، "فسلم من ركعتين فقال له ذو اليدين" الخرباق السلمي، بضم السين كان يكون بالبادية فيجيء فيصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم "الصلاة يا رسول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أحق ما يقول ذو اليدين" قالوا: نعم. فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقي منها، وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري. وقوله: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة. وحمله الطحاوي على المجاز، فقال إن المراد: صلى بالمسلمين, وسبب ذلك قول الزهري: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين.   أنقصت" بفتح همزة الاستفهام وفتح النون فالفعل لازم، وبضم النون فهو متعد، وفي نسخة: نقصت بلا همزة والجملة خبر الصلاة، وما بينهما اعتراض، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه" الذين صلوا معه: "أحق" مبتدأ دخلت عليه همزة الاستفهام "ما يقول ذو اليدين" ساد مسد الخبر أو أحق خبر، وتاليه مبتدأ والمستفهم عنه مقدر، أي: من أني فعلت فعلا يوهم نقصان الصلاة، "قالوا: نعم" حق ما يقول "فصلى ركعتين أخراوين" بألف فواو بعد الراء لأبي الوقت وابن عساكر على خلاف القياس، ولغيرهم أخريين بتحتيتين بعد الراء كما أفاده المصنف، "ثم سجد سجدتين" للسهو. "قال سعد" بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف راوي الحديث عن أبي سلمة عمه: "ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين، فسلم" عقبهما سهوا، "وتكلم ثم صلى ما بقي منها وسجد سجدتين" للسهو، "وقال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ: هذا الأثر يقوي القول، بأن الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها، لكن يحتمل أن عروة تكلم ساهيا أو ظانا أن الصلاة تمت، ومرسل عروة هذا مما يقوي طريق أبي سلمة الموصولة ويحتمل أن عروة حمله عن أبي هريرة فقد رواه عنه جماعة من رفقة عروة من أهل المدينة، كابن المسيب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبي بكر بن عبد الرحمن وغيرهم من الفقهاء، "رواه البخاري". "وقوله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في أن أبا هريرة حضر القصة" المذكورة "وحمله الطحاوي على المجاز، فقال: إن المراد صلى بالمسلمين، وسبب ذلك قول الزهري أن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبي هريرة بأكثر من خمس سنين" لأن إسلامه في السابعة وبدر في الثانية، "لكن اتفق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 لكن اتفق أئمة الحديث -كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهري وهم في ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذي الشمالين، وذو الشمالين، هو الذي قتل ببدر، وهو خزاعي واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم مدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبراني وغيره، وهو سلمي، واسمه الخرباق، كما سيأتي، فلما وقع عند الزهري بلفظ "فقام ذو الشمالين" وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر. وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذي الشمالين، وشاهد الأخرى وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل في طريق الجمع.   أئمة الحديث كما نقله ابن عبد البر وغيره على أن الزهري وهم" غلط "في ذلك" غلطا أوجب طرح روايته في هذا الحديث، والغلط لا يسلم منه أحد كما في كلام ابن عمر "وسببه" أي: الوهم "أنه جعل القصة لذي الشمالين وذو الشمالين" قال القاموس: كان يعمل بيديه "هو الذي قتل ببدر وهو خزاعي واسمه عمير" بضم العين مصغر عمرو بن عبد عمرو بن نضلة. "وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبي صلى الله عليه وسلم مدة، لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبي صلى الله عليه وسلم،، كما أخرجه الطبراني وغيره وهو سلمي" بضم السين "واسمه الخرباق" بكسر المعجمة "كما سيأتي" قريبا. وقد وقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة: فقام رجل من بني سليم، "فلما وقع عند الزهري، بلفظ: قام ذو الشمالين وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال: لأجل ذلك أن القصة وقعت قبل بدر" فهذا سبب الاشتباه. "وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذي الشمالين وذي اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما" أي: رواه عن غيره ولم يبينه، فهو مرسل صحابي له حكم الوصل على الصواب، "وهو قصة ذي الشمالين" لأنه لم يشاهدها "وشاهد الأخرى، وهي قصة ذي اليدين، وهذا محتمل في طريق الجمع" لأنه قريب، فهو أولى من تغليط الثقة. زاد الحافظ: وقيل: يحمل على أن ذا الشمالين كان يقال له أيضا ذو اليدين وبالعكس، فكان ذلك سبب الاشتباه ويدفع المجاز الذي ارتكبه الطحاوي ما رواه مسلم وأحمد وغيرهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة في هذا الحديث، عن أبي هريرة، بلفظ: بينما أنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 وروى البخاري أيضا عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال محمد بن سيرين: وأكثر ظني العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا أقصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: "لم أنس   أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتفق معظم أهل الحديث من المصنفين وغيرهم على أن ذا الشمالين غير ذي اليدين، ونص على ذلك الشافعي في اختلاف الحديث. "وروى البخاري أيضا" هنا وقبله في أبواب المساجد "عن ابن سيرين" محمد، "عن أبي هريرة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي" بفتح العين وكسر الشين وشد الياء الظهر أو العصر "قال محمد بن سيرين وأكثر" بالمثلثة "ظني العصر" بالنصب على المفعولية ولأبي ذر: العصر بالرفع قاله المصنف الحافظ وإنما رجح ذلك عنده، لأن في حديث عمران الجزم بأنها العصر. "ركعتين ثم سلم ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد" أي: في جهة القبلة "فوضع يده عليها" أي: على الخشبة، وفي رواية للبخاري فقام إلى خشبة معروضة، أي: موضوعة بالعرض، ولمسلم: ثم أتى جذعا في قبلة المسجد فاستند إليه مغضبا، قال الحافظ: ولا تنافي بين هذه الروايات لأنها تحمل على أن الجذع كان ممتدا بالعرض وكأنه الجذع الذي كان صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر وبذلك جزم بعض الشراح، "وفيهم أبو بكر وعمر فهابا" وفي رواية للبخاري: فهاباه بهاء الضمير "أن يكلماه" أي: غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه، كذا المصنف تبعا للفتح وفيه قلاقة، إذ لا اعتراض هنا إنما هو استفهام، فإنما هاباه احتراما وتعظيما مع علمهما أنه يبين بعد ذلك، وأما ذو اليدين فغلب عليه الحرص على تعلم العلم، "وخرج سرعان الناس" بفتح المهملات ومنهم من سكن الراء. وحكى عياض أن الأصيلي ضبطه بضم ثم إسكان كأنه جمع سريع مثل كثيب وكثبان، والمراد بهم أوائل الناس خروجا من المسجد وهم أصحاب الحاجات غالبا، "فقالوا: أقصرت الصلاة" بهمزة الاستفهام، وفي رواية للبخاري بحذفها، فتحمل تلك على هذه وفيه دليل على ورعهم إذ لم يجزموا بوقوع شيء بغير علم وهابوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوه، وإنما استفهموا لأنه زمان النسخ وقصرت بضم القاف وكسر المهملة على البناء للمفعول، أي: أن الله قصرها، وبفتح ثم ضم على البناء للفاعل، أي: صارت قصيرة. قال النووي: هذا أكثر وأرجح، "و" قال "رجل" هناك "يدعوه" أي: يسميه "النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين" وفي رواية للبخاري: وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين، "فقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 ولم تقصر"، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر. وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله! فذكر له صنيعه وخرج غضبانا يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال: "أصدق هذا"؟. قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم. رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخاري. ورواه أحمد وأبو داود.   للنبي صلى الله عليه وسلم أنسيت أم قصرت الصلاة"؟ بالبناء للفاعل أو المفعول، "فقال": "لم أنس" في اعتقادي لا في نفس الأمر، "ولم تقصر" بضم أوله وفتح ثالثه، وبفتح أوله وضم ثالثه روايتان وهو صريح في نفيهما معا، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية الموطأ ومسلم، كل ذلك لم يكن وتأييد لقول أصحاب المعاني لفظ كل إذا تقدم على النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخر، كأن يقال: لم يكن كل ذلك، ولذا أجابه ذو اليدين عند مسلم والموطأ بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية، "فقال: بلى قد نسيت" لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابي أن السهو لا يجوز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر، "فصلى ركعتين" بانيا على ما سبق بعد أن تذكر أنه لم يتمها كما رواه أبو داود في بعض طرقه، قال: ولم يسجد للسهو حتى يقنه الله ذلك فلم يقلدهم في ذلك، كذا قال المصنف: "ثم سلم ثم كبر فسجد" للسهو "مثل سجوده "للصلاة، أي قدره "أو أطول" منه، "ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد مثل سجوده أو أطول" منه، "ثم رفع رأسه من السجود وكبر" ظاهره الاكتفاء بتكبير السجود، ولا يشترط تكبير الإحرام، وعليه الجمهور قال القرطبي: لم يختلف قول مالك في وجوب السلام بعد سجدتي السهو، قال: وما يتحلل منه بسلام لا بد له من تكبيرة إحرام، ويؤيده ما في أبي داود في هذا الحديث، بلفظ: فكبر ثم كبر وسجد للسهو. "وعن عمران بن حصين" بمهملتين مصغر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاث ركعات، ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخرباق وكان في يديه طول" ولذا لقب بذي اليدين "فقال: يا رسول الله فذكر له صنيعه" فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله كما في رواية لمسلم أيضا، "وخرج" من منزله "غضبانا يجر رداءه" من العجلة "حتى انتهى إلى الناس، فقال: "أصدق هذا"؟، قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين" للسهو "ثم سلم، رواه مسلم" من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 "والخرباق" بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذي اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو على أنه كناية عن طولهما بالعمل أو بالبذل. قال الحافظ: ابن حجر: الظاهر في نظري توحد حديث أبي هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحمل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، ففي حديث أبي هريرة أن السلام وقع من ثنتين،   عن عمران بهذا اللفظ، ثم رواه من طريق عبد الوهاب الثقفي عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران قال: سلم صلى الله عليه وسلم في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله، فخرج مغضبا فصلى الركعة التي كان ترك ثم سلم ثم سجد سجدتي السهو ثم سلم "وهو من أفراده" أي مسلم. "لم يروه البخاري" فإن لم ينهض الجمع بين التعارض، ولم ينقل بالتعدد قدم ما اتفقا عليه على ما انفرد به مسلم، "ورواه أحمد وأبو داود" يعني حديث عمران المذكور. "والخرباق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة وآخره قاف هو اسم ذي اليدين، كما ذهب إليه الأكثر" وقيل: اسمه عمير بن عبد عمرو وهو غلط، ذاك ذو الشمالين كما مر، قاله في الألقاب: "وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو على أنه كناية عن طولهما بالعمل" أي: كونه يعمل بهما جميعا، "أو بالبذل" الإعطاء للشيء بلا عوض، ولفظ الحافظ وهو محمول على الحقيقة، ويحتمل أنه كناية عن طولهما بالعمل أو بالبذل، قاله القرطبي وجزم ابن قتيبة بأنه كان يعمل بيديه جميعا. "قال الحافظ ابن حجر: الظاهر في نظري توحد حديث أبي هريرة" بحديث عمران، هكذا في الفتح، فكأنه سقط من قلم المؤلف، أي أن الصحابيين رويا قصة واحدة، فليس المعنى كون حديث أبي هريرة حديثا لقصة واحدة لم تتعدد كما زعم، إذ حديث أبي هريرة وإن تعددت طرقه لا نزاع في أنه قصة واحدة. ولفظ فتح الباري، وذهب الأكثر إلى أن اسم ذي اليدين الخرباق اعتمادا على حديث عمران عند مسلم، وهذا صنيع من يوحد حديث أبي هريرة بحديث عمران، وهو الراجح في نظري "وإن كان قد جنح" أي: مال "ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة" فواحدة رواها أبو هريرة وواحدة عمران، "والحامل لهم على ذلك الاختلاف الواقع في السياقين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة، فأما الأول فقد حكى بن كليكلدي العلائي أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم في ابتداء الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله. وأما الثاني: فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزلة، لكون الخشبة كانت في جهة منزله،   ففي حديث أبي هريرة، أن السلام وقع من ثنتين، وأنه صلى الله عليه وسلم قام إلى خشبة في المسجد، وفي حديث عمران هذا أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة" فهذان الاختلافان يقويان التعدد، لا سيما مع اختلاف المخرج وهو الصحابي، "فأما الأول فقد حكى" العلامة صلاح الدين خليل "بن كليكلدي العلائي" مر بعض ترجمته "أن بعض شيوخه حمله على أن المراد به أنه سلم في ابتداء الثالثة، واستبعده" العلائي لأنه خلاف المتبادر، إذ التسليم وقع وهو جالس، فأين ابتداء الثالثة "ولكن طريق الجمع يكتفي فيها بأدنى مناسبة" إذ يمكن تصحيحه بتقدير مضاف، أي في إرادة ابتداء الركعة الثالثة فسلم سهوا قبل القيام، "وليس" حمله على ذلك "بأبعد من دعوة تعدد القصة" بل هي أبعد على مفاد النفي عرفا أو مساو على مفاده لغة، وكأنه أريد الأول لقوله، "فإنه يلزم منه كون ذي اليدين في كل مرة استفهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله" لكن لا بعد في هذا ولو لزم ما ذكر، فاستفهام ذي اليدين أولا لا يمنع استفهامه ثانيا لأنه زمان نسخ، لا سيما وقد اقتصر في حديث عمران على قوله: أقصرت الصلاة يا رسول الله كما قدمته عن مسلم، وكذلك استفهام المصطفى الصحابة عن صحة قوله أولا لا يمنع ذلك ثانيا إذ لم تقصر الصلاة، وقد سلم معتقدا الكمال، والإمام لا يرجع عن يقينه لقول المأمومين إلا لكثرتهم جدا، بل عند الشافعي ولا لكثرتهم جدا، ولا شك في أن هذا أقرب من إخراج اللفظ عن ظاهره المحوج إلى تقدير مضاف بلا قرينة، وكونها حديث أبي هريرة غير ناهض لاختلاف المخرج، أي: الصحابي، ثم ماذا يصنع بقوله: فصلى ركعة، وقوله في الرواية الثانية: فصلى الركعة التي كان ترك، وتصحيحه بجنس الركعة ينبو عنه المقام نبوا ظاهرا، فدعوى التعدد أقرب من هذا بكثير، "وأما" الاختلاف "الثاني" وهو قوله في حديث أبي هريرة: قام إلى خشبة في المسجد فوضع يده عليها، وفي حديث عمران: دخل منزله، "فلعل الراوي لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة، ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت في جهة منزله" وبعد هذا لا يخفى لما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 فإن كان كذلك وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له في سياقه، كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن خزيمة. انتهى. وعن معاوية بن حديج -بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوما فانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال: نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد. فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت: لا، إلا أن أراه، فمر بي   يلزم عليه أن عمران أخبر بالظن ومخالفته لظاهر قوله، فخرج لا سيما مع قوله في الرواية الثانية، فدخل الحجرة ثم قال: فخرج فلا ريب أن دعوى التعدد أقرب من هذا بكثير، "فإن كان كذلك" فلا خلاف بين الحديثين "وإلا فرواية أبي هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه كما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة". زاد الحافظ: ولموافقة ذي اليدين نفسه على سياقه كما أخرجه أبو بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد في زيادات المسند وأبو بكر بن أبي خيثمة وغيرهم. "انتهى" كلام الحافظ، وليس في موافقتهما لأبي هريرة ما يمنع الجمع بالتعدد الذي صار إليه ابن خزيمة وغيره قال: أعني الحافظ، وقد تقدم في باب تشبيك الأصابع ما يدل على أن ابن سيرين راوي الحديث عن أبي هريرة كان يرى التوحيد بينهما، وذلك أنه قال في آخر حديث أبي هريرة: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. انتهى. وليست دلالته على ذلك قوية إذ المراد أن عمران قال في حديثه: ثم سلم ففيه إثبات السلام عقب سجدتي السهو الخالي منه حديث أبي هريرة، وبعد ذلك هل هو متحد مع حديث أبي هريرة أو حديث آخر مسكوت عنه. "وعن معاوية بن حديج بضم الحاء المهملة" وفتح الدال المهملة وسكون التحتية "آخره جيم" الكندي، صحابي صغير، وذكره يعقوب بن سفيان في التابعين، وقال أحمد: لا صحبة له، ولعل مراده طويلة، لأنه وفد وأسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين، وإلا فقد روى أحمد والبغوي عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها". مات سنة اثنتين وخمسين: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوما فانصرف" أي: سلم وخرج من المسجد، "و" الحال إنه "قد بقي من الصلاة ركعة، فأدركه رجل، فقال: نسيت" بتقدير همزة الاستفهام، أي: أنسيت "من الصلاة ركعة، فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا، فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة" فوقع منه السهو ثم الكلام ثم البناء. قال معاوية بن حديج: "فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل" القائل نسيت، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله. رواه أبو داود والبيهقي في سننهما، وابن خزيمة في صحيحه، وعين الصلاة المغرب. وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذي اليدين، لأن المعلم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة طلحة بن عبيد الله، ومخبره في تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه عليه الصلاة والسلام في قصة ذي اليدين إنما كان في الظهر أو العصر، وفي هذه القصة إنما كان السهو في المغرب لا في الظهر ولا في العصر. وعن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو اليدين"؟ فقال الناس: نعم، فقام صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة   "قلت: لا" أعرفه "إلا أن أراه، فمر بي، فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله" التيمي أحد العشرة، وفي هذا السياق دليل على أن معاوية بن حديج شاهد ذلك فهو صحابي، "رواه أبو داود والبيهقي في سننهما وابن خزيمة في صحيحه، وعين" في روايته "الصلاة المغرب" بالنصب بدل، أي: قال صلى المغرب. "وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذي اليدين، لأن المعلم" أي: المخبر "للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة طلحة بن عبيد الله" بضم العين، "ومخبره في تلك القصة ذو اليدين" لأن "السهو منه عليه الصلاة والسلام في قصة ذي اليدين إنما كان في الظهر أو العصر" على ما مر، "وفي هذه القصة إنما السهو في المغرب لا في الظهر ولا في العصر" فافترقا لهذين الوجهين. "وعن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف" أي: سلم "من اثنتين" أي: ركعتين، "فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة"؟ بفتح القاف وضم الصاد، أي: أصارت قصيرة، وبضم القاف وكسر الصاد، أي: أقصرها الله روايتان. قال النووي: الأول أكثر وأرجح "أم نسيت يا رسول الله" فيه دلالة على ورعه، لأنه لم يجزم بشيء بلا علم، بل استفهم لأنه زمان نسخ، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق ذو اليدين"؟ فيما قال، "فقال الناس" أي: الصحابة الذين صلوا معه: "نعم" صدق، وفي رواية لمسلم قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين، "فقام صلى الله عليه وسلم" أي: اعتدل وهي كناية عن الدخول في الصلاة، "فصلى ركعتين أخريين" بتحتيتين بعد الراء، "ثم سلم، ثم كبر". قال القرطبي: فيه دلالة على أن التكبير للإحرام لإتيانه بثم المقتضية للتراخي فلو كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 أو أطول، ثم رفع. وفي رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد -يعني ابن سيرين- في سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع في غير هذه الرواية لفظ "القيام" وقد استشكل بأنه صلى الله عليه وسلم كان قائما. وأجيب: بأن المراد بقوله: "فقام" أي اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما مر. وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: "ليس في حديث أبي   التكبير للسجود لكان معه، وتعقب بأن ذلك من تصرف الرواة ففي رواية للبخاري فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد فأتي بواو المصاحبة التي تقتضي المعية وهو مردود بأن الحديث واحد وليست رواية الواو بأولى من رواية الفاء في قوله: "فسجد" المقتضية لعدم المعية، فالواو من تصرف الرواة، ويؤيده أن من عبر بالفاء أثبت وأتقن "مثل سجوده" للصلاة "أو أطول" منه، "ثم رفع" من سجوده "ثم كبر فسجد" ثانية "مثل سجوده للصلاة أو أطول" منه، "ثم رفع" من السجدة الثانية. "وفي رواية سلمة بن علقمة" التميمي أبي بشر البصري، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة، "قلت لمحمد: يعني ابن سيرين" البصري "في" بتقدير همزة الاستفهام، أي: أفي "سجدتي السهو تشهد؟ فقال: ليس في حديث أبي هريرة رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري، ورواه "مسلم ومالك" في الموطأ، أي: اللفظ الأول إذ لم يرويا قول سلمة بن علقمة المذكور "وأبو داود والترمذي والنسائي". "قال الحافظ ابن حجر: لم يقع في غير هذه الرواية لفظ القيام" المذكور بقوله: فقام "وقد استشكل بأنه صلى الله عليه وسلم كان قائما" كما في الحديث السابق، ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد. "وأجيب بأن المراد بقوله: فقام، أي: اعتدل لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما مر" زاد الحافظ: أو هو كناية عن الدخول في الصلاة، وقال ابن المنير: فيه إيماء إلى أنه أحرم، ثم جلس، ثم قام، كذا قال وهو بعيد جدا. انتهى. ولا بعد فيه فضلا عن قوته، إذ غاية ما قال فيه إيماء، "وقد يفهم من قول محمد بن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 هريرة" أنه ورد في حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقي وابن عبد البر وغيرهما. ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فزيادة أشعث شاذة.   سيرين عن التشهد ليس في حديث أبي هريرة أنه ورد في حديث غيره وهو كذلك فقد رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم من طريق أشعث" بمعجمة فمهملة فمثلثة "ابن عبد الملك" الجمراني، بضم المهملة البصري، يكنى أبا هانئ ثقة فقيه، مات سنة ثنتين وأربعين، وقيل: سنة ست وأربعين ومائتين "عن محمد بن سيرين عن خالد" بن مهران "الحذاء، بفتح المهملة وشد الذال المعجمة، قيل له ذلك لأنه كان يجلس عندهم، وقيل: لأنه كان يقول احذ على هذا النحو. ثقة يرسل، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لما قدم من الشام وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان، "عن أبي قلابة" بكسر القاف والتخفيف عبد الله بن زيد الجرمي البصري، ثقة، فاضل، كثير الإرسال. قال العجلي: فيه نصب يسير، مات بالشام هاربا من القضاء سنة أربع ومائة، وقيل: بعدها "عن أبي المهلب" الجرمي البصري عم أبي قلابة، اسمه عمرو أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية. ثقة من كبار التابعين. "عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها فسجد سجدتين" للسهو "ثم تشهد ثم سلم". "قال الترمذي: حسن غريب" أي: تفرد به راويه، "وقال الحاكم: صحيح على شرطهما" أي: الصحيحين وفيه نظر، إذ لم يرويا لأشعث، نعم علق له البخاري، "وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد" الحذاء "غير هذا الحديث" وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر كا في الفتح، "وضعفه" أي: هذا الحديث "البيهقي وابن عبد البر وغيرهما، ووهموا راويه أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين" فإن المحفوظ عنه في حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد. وروى السراج من طريق سلمة بن علقمة أيضا في هذه القصة: قلت لابن سيرين: فالتشهد، قال: لم أسمع في التشهد شيئا، وكذا المحفوظ عن خالد الحذاء بهذا الإسناد في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة عند البيهقي، وفي إسنادهما ضعف. فقد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله: أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا من فتح الباري. وفي رواية أبي سفيان عن أبي هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. وفي رواية أبي داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن   حديث عمران ليس فيه ذكر التشهد كما أخرجه مسلم، "فزيادة أشعث شاذة" وإن كان ثقة، لأن محل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق منه كما قال ابن عبد البر وغيره، ولهذا قال ابن المنذر: لا أحسب التشهد في سجود السهو يثبت. "لكن قد ورد في التشهد في سجود السهو عن ابن مسعود عند أبي داود والنسائي، وعن المغيرة" بن شعبة "عند البيهقي وفي إسنادهما ضعف، فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن" وإن كانت مفرداتها ضعيفة. "قال العلائي: وليس ذلك ببعيد" لما علم أن الاجتماع يكسب قوة، "وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله: أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا من فتح الباري" بمعنى أنه حذف منه ما لم يتعلق غرضه به لا التلخيص العرفي. "وفي رواية أبي سفيان" اسمه وهب أو قزمان، بضم القاف وسكون الزاي، قال ابن سعد: ثقة قليل الحديث، روى له الستة "عن أبي هريرة عند مسلم" من طريق مالك عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيه تصريح بحضور أبي هريرة القصة "صلاة العصر، فسلم من ركعتين، فقام ذو اليدين، فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "كل ذلك" أي القصر والنسيان "لم يكن" واحد منهما، "فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله" وهو النسيان كما قال في الرواية الأخرى: بلى قد نسيت. "وفي رواية أبي داود من طريق حماد بن زيد" بن درهم البصري، ثقة، ثبت، فقيه "عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 سيرين عن أبي هريرة في هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو. وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام في سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث. وقال أبو داود: لم يقل أحد: "كبر ثم كبر" إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الرواية. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة في هذا الحديث الجذع الذي كان عليه السلام يستند إليه قبل اتخاذ المنبر. وإنما وقع الاستفهام "هل قصرت الصلاة؟ " لأن الزمان كان زمان النسخ. وقوله: "فقال": "لم أنس ولم تقصر". صريح في نفي النسيان ونفي القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان المتقدمة "كل ذلك لم يكن" وتأييد لما قاله أصحاب المعاني أن لفظ "كل" إذا تقدمت وعقبها النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا   هشام بن حسان" الأزدي أبي عبد الله البصري، ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين، مات سنة سبع أو ثمان وأربعين ومائة، روى له الجماعة "عن ابن سيرين، عن أبي هريرة في هذا الحديث، قال: فكبر" للإحرام، "ثم كبر" للهوي "وسجد للسهو، وهذا يؤيد من قال: لا بد من تكبيرة الإحرام في سجود السهو بعد السلام" كمالك فإنه يقال: إنه واجب، لكن لا تبطل الصلاة بتركه، "والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود وهو ظاهر غالب الأحاديث، وقال أبو داود: لم يقل أحد كبر ثم كبر إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الرواية" لكنها تتأيد بما فهمه القرطبي من الرواية السابقة، "ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة في هذا الحديث الجذع الذي كان عليه السلام يستند إليه قبل اتخاذ المنبر". زاد الحافظ: وبذلك جزم بعض الشراح، "وإنما وقع الاستفهام هل قصرت لأن الزمان كان زمان النسخ" فجوز السائل وقوعه في الصلاة كما وقع نسخ القبلة في الصلاة، "وقوله": فقال: "لم أنس ولم تقصر" وهو الذي في أكثر الطرق كما في الفتح "صريح في نفي النسيان ونفي القصر، وفيه تفسير للمراد بقوله في رواية أبي سفيان المتقدمة" قريبا: "كل ذلك لم يكن". فمعناه لم أنس ولم تقصر، "وتأييد لما قاله أصحاب المعاني: إن لفظ كل إذا تقدمت وعقبه النفي كان نفيا لكل فرد لا للمجموع بخلاف ما إذا تأخرت كأن يقول: لم يكن كل ذلك" وفي شرحه للبخاري، وهذا أشمل من أن لو قيل لم يكن كل ذلك، لأنه من باب تقوي الحكم، فيفيد التأكيد في المسند والمسند إليه بخلاف الثاني إذ ليس فيه تأكيد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية بقوله: "بلى قد نسيت" لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر. وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم السهو، وهذا الحديث يرد عليهم -يعني حديث ابن مسعود- فإن فيه: "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون". وإن كان القاضي عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه. نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع في هذا الحديث من قوله: "لم أنس ولم تقصر"   أصلا، فيصح أن يقال: لم يكن كل ذلك، بل بعضه كما تقرر في علم البيان، "ولهذا أجاب ذو اليدين في رواية أبي سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه في هذه الرواية" أي رواية ابن سيرين، "بقوله: بلى قد نسيت، لأنه لما نفى الأمرين" بقوله: "كل ذلك لم يكن"، "وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه في الأمور البلاغية" أي: التي طلب منه إبلاغها للناس، "جزم بوقوع النسيان لا القصر وهو حجة لمن قال: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع" لما يترتب عليه من الفوائد. "قال ابن دقيق: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم السهو" تنزيها لمقامه عنه، "وهذا الحديث يرد عليهم، يعني حديث ابن مسعود، فإن فيه إنما أنا بشر مثلكم أنسى" وزاد: "كما تنسون" دفعا لمن يقول ليس نسيانه كنسياننا، "إن كا القاضي عياض نقل الإجماع على عدم جواز السهو في الأقوال التبليغية" التي أمر بتبليغها للأمة، لأنه يوجب التشكيك وتشبث الطاعن بها، "وخص الخلاف بالأقوال" وفرق عياض بأن الدليل قام على صدق القول، فخلافه ولو سهوا يناقضه بخلاف الأفعال فلا يناقضه ولا يقدح في النبوة، لأن الغفلة من سمات البشر، "لكنهم" أي: العلماء "تعقبوه" بأن الخلاف مطلق "نعم" استدراك لدفع كون وقوعه سهوا يناقض المعجزة، "اتفق من جوز ذلك على أن لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك إما متصلا بالفعل أو بعده كما وقع في هذا الحديث من قوله: "لم أنس ولم تقصر". ثم تبين أنه نسي ومعنى" الأولى فمعنى بالفاء "قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 ثم تبين أنه نسي. ومعنى قوله: "لم أنس" أي في اعتقادي، لا في نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره. وأما من منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة: فقيل: قوله "لم أنس" نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم تضعيفه، ويكفي فيه قوله في هذه الرواية: "بلى قد نسيت" وأقره على ذلك. وقيل: قوله: "لم أنس" على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول. وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم بلفظ "صلى   "لم أنس". أي: في اعتقادي لا في نفس الأمر" إذ الواقع أنه نسي، "ويستفاد منه أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين" ينبغي أن يراد به ما يشمل الظن لا ما اصطلح عليه الأصوليون أنه حكم الذهن الجازم القابل للتغير، وأما الراجح الذي لا جزم معه فهو الظن، قاله شيخنا: "وفائدة السهو في مثل ذلك بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثله لغيره" لأن البيان بالفعل أظهر منه بالقول لمشاهدة صفة الفعل في زمن قليل بخلاف القول فيحتاج للتفصيل، ولأنه أرفع للاحتمال، إذ لو قال من سها فليسجد سجدتين في آخر صلاته احتمل أنه أراد من سها في أمر من أموره، سواء كان في نفس الصلاة أو غيرها وإن كان بعيدا. "وأما من منع السهو مطلقا" في الأقوال والأفعال وهم جماعة صوفية، "فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة، فقيل: قوله: "لم أنس". نفي للنسيان، ولا يلزم منه نفي السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم" قريبا "تضعيفه" بأنه خلاف اللغة والحديث، "ويكفي فيه" أي: تضعيفه "قوله في هذه الرواية: بلى قد نسيت وأقره على ذلك" إذ لو كان بينهما فرق لبينه ولم يقره. "وقيل: قوله: "لم أنس". على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل لكونه أبلغ من القول". "وتعقب بحديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم" وأبي داود والنسائي وابن ماجه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك"؟ قالا: صليت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون, فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر   "بلفظ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" الظهر على الأصح أو العصر، "فزاد أو نقص شك بعض الرواة" هو إبراهيم النخعي رواية عن علقمة عن ابن مسعود، ففي البخاري قال إبراهيم لا أدري زاد أو نقص، وفي مسلم: "قال إبراهيم والوهم مني، أي: الشك، وفيه أيضا قال إبراهيم: وايم الله ما ذاك إلا من قبلي. "والصحيح أنه زاد" ففي الصحيحين من طريق الحكم عن إبراهيم عن علقمة، عن عبد الله: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر خمسا، قال الحافظ: فلعل إبراهيم شك لما حدث منصور أو تيقن لما حدث الحكم، وتابع الحكم على ذلك حماد بن أبي سليمان وطلحة بن مصرف وغيرهما، وعين في رواية الحكم وحماد أيضا، أنها الظهر، وللطبراني من رواية طلحة عن إبراهيم، أنها العصر، وما في الصحيح أصح. "فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث"، "بفتحات والهمزة للاستفهام"، "أي: أوقع "في الصلاة شيء"؟ يوجب تغيير حكمها عما عهدوه، ودل استفاهمهم عن ذلك على جواز النسخ عندهم، وأنهم كانوا يتوقعونه، "قال: "وما ذاك"؟، أي: سبب سؤالكم، وفيه إشعار بأنه لم يكن عنده شعور بما وقع منه من الزيادة، "قالوا: صليت كذا وكذا" كناية عما وقع زائدا عن المعهود، "فثنى" بخفة النون، أي: عطف "رجليه" بالتثنية، وفي رواية: بالإفراد بأن جلس كهيئة قعود التشهد "واستقبل القبلة وسجد سجدتين" للسهو، "ثم سلم" واحتد به على رجوع الإمام لقول المأمومين: لكن يحتمل أنه تذكر عند ذلك، أو أن سؤالهم أحدث عنده شكا فسجد للشك الذي طرأ لا لمجرد قولهم: "فلما أقبل علينا بوجهه، قال": "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتكم" أي: أخبرتكم "به" أي: بالحدث وفيه عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، "ولكن إنما أنا بشر مثلكم" أي: بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن المخاطبين لا بالنسبة إلى كل شيء "أنسى كما تنسون"، بهمزة مفتوحة وسين مخففة. قال الزركشي: ومن قيده بضم أوله وتشديد ثالثه فهو يناسب التشبيه، "فإذا نسيت فذكروني" في الصلاة بالتسبيح ونحوه، "وإذا شك أحدكم" بأن استوى عنده طرفا العلم والجهل "في صلاته فليتحر" بحاء مهملة وراء مشددة، أي: فليقصد "الصواب" بالأخذ باليقين فيبني عليه عند مالك والشافعي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 الصواب، فيتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين". ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله: "إنما أنا بشر مثلكم" ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له, حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: "كما تنسون". وبهذا الحديث يرد أيضا قول من قال: معنى قوله "لم أنس". إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه حيث قال: "إني لا أَنسى ولكن أُنسى لأسن". وإنكار للفظ الذي أنكره على غيره حيث قال: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا وكذا".   وقال أبو حنيفة: معناه البناء على غالب الظن فلا يلزم بالاقتصار على الأقل، وفي رواية لمسلم: فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب، وله في أخرى: فليتحر الذي يرى أنه صواب "فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين" للسهو، "ففيه إثبات العلة قبل الحكم" على نفسه بالنسيان، بقوله: "إنما أنا بشر مثلكم" أنسى، فكأنه قال: أنسى، لأني بشر مثلكم وهو من سمات البشر: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ... وأول ناس أول الناس "ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له حتى دفع قول من عساه يقول ليس نسيانه كنسياننا، فقال": "كما تنسون". فكيف يصح زعم أنه يتعمد فعل ذلك، وقد رده عياض أيضا بأنه مع ضعفه متناقض بلا طائل، لأنه كيف يكون متعمدا ساهيا في حالة واحدة؟ "وبهذا الحديث يرد أيضا قول من قال: معنى قوله: "لم أنس". إنكار للفظ الذي نفاه عن نفسه، حيث قال: "إني لا أنسى" بلا النافية في إحدى الروايتين، بدل لام التأكيد في الرواية الأخرى، وهي: "إني لأنسى أو أنسى لأسن". التي قدمها المصنف، ومر الخلاف في أن أو عليها للشك أو لغيره، والروايتان حكاهما عياض. وحكى أيضا ثالثة: "لست أنسى". "ولكن أنسى" بضم الهمزة وفتح النون وشد السين، أي: ينسيني الله تعالى "لأسن" حكما شرعيا للناس، كتعليم سجود السهو، قال عياض: ولا حجة فيه، إذ ليس فيه نفي حكم النسيان جملة، أي: جميعه، وإنما فيه نفي لفظه وكراهة لقبه، أي: اسمه، كقوله: "بئسما لأحدكم أن يقول نسيت آية كذا ولكنه نسي". أو نفي الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الصلاة عن قلبه، لكن شغل بها عنها ونسي بعضها ببعضها، "وإنكار للفظ الذي أنكره على غيره، حيث قال" كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بئسما لأحدكم" كذا في النسخ بالكاف، والذي في الصحيحين لأحدهم بالهاء، نعم في رواية لمسلم: "لا يقل أحدكم" وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس، أي: بئس شيء، و"أن يقول" مخصوص بالذم، أي: بئس شيء كائن للرجل قوله: "نسيت" بفتح النون وكسر السين مخففة "آية كذا وكذا" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث إني "لا أنسى" لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهي أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء، فإن   كذا في النسخ، والمروي في الصحيحين: "آية كيت وكيت بل هو نسي"، الحديث بتحتية ففوقية كلمتان يعبر بهما عن الجمل الكثيرة والحديث الطويل، وسبب الذم ما في ذلك من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حفظه وتذكره، فإذا قال: نسيت، كأنه شهد على نفسه بالتفريط، فتعلق الذم ترك الاستذكار والتعاهد لأنه يورث النسيان. وقوله: "بل هو نسي" بضم النون وشد السين المكسورة في جميع روايات البخاري، وأكثر الروايات في غيره وهو أضراب عن نسبة النسيان إلى النفس المسبب عن الترك، لأنه يوهم أنه انفرد بفعله، فالذي ينبغي أن يقول: أنسيت أو نسيت مبني للمفعول، أي: أن الله هو الذي أنساه، لأن نسبة الأفعال إلى خالقها إقرار بالعبودية والاستسلام للقدرة، وإن جازت نسبتها إلى مكتسبها، وقيل: معناه عوقب بالنسيان لتفريطه في تعاهده، وقيل: فاعل نسيت النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: لا يقل أحد عني أني نسيت، فإن اله هو الذي أنساني ما نسخه ورفع تلاوته، ولا صنع لي في ذلك. ورواه بعض رواة مسلم: بل نسي بخفة السين، أي: تركه الله غير ملتفت إليه، كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 9] ، أي: تركهم من الرحمة، أو تركهم في العذاب. "وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث: "إني لا أنسى" لا أصل له" يعتد به في إثبات الأحكام، وليس المراد أنه باطل لمنافاته قوله: "فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث" التفتيش "الشديد" عمن وصلها، والبلاغ من أقسام الضعيف لا الباطل معاذ الله، لا سيما من مالك "وهي أربعة، قاله ابن عبد البر" أي: قال وهي أربعة، ولم يقع في كلامه التعبير بلا أصل له كما عبر المصنف تبعا للحافظ، بل قال في شرح هذا الحديث: هو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول. وقال في أوائل شرحه: إن بلاغات مالك كلها تتبعت فوجدت موصولة إلا أربعة، أولها هذا، وثانيها في الاستسقاء: إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة، وثالثها في الصيام قول مالك سمعت ممن أثق به أنه صلى الله عليه وسلم أرى الناس قبله وما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر، رابعها: في كتاب الجامع خبر معاذ آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله علي وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس". انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 الفرق بينهما واضح جدا. وقيل: إن قوله: "لم أنس" راجع إلى السلام، أي سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أنني صليت أربعا، وهذا جيد، وكان ذا اليدين فهم العموم فقال: "بلى قد نسيت" وكأن هذا القول أوقع شكا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين. وهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده. وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارض باعتقاد المسئول   ومع كونها بلاغات فلها شواهد ترفعها عن درجة الضعف وقد بينت ذلك في شرح الموطأ في محالها ولله الحمد. وقد قال سفيان بن عيينة: إذا قال مالك بلغني فهو إسناد صحيح انتهى. فلا يضره قصور المتأخرين عن وجود هذه الأربعة موصولة إذ لعلها موصولة، في الكتب التي لم تصل إليهم، وقد قال السيوطي في حديث: "اختلاف أمتي رحمة" لعله خرج في بعض الكتب التي لم تصل إلينا، لأنه عزاه لجمع من الأجلة، كإمام الحرمين في كتبهم بدون إسناد، ولا ريب أنهم دون مالك بمراحل "وأما الآخر" أي: بئسما لأحدهم، "فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شيء، فإن الفرق بينهما واضح جدا" إذ لا يقاس غير القرآن به. "وقيل: إن قوله "لم نس" راجع إلى السلام، أي: سلمت قصدا بانيا على ما في اعتقادي أنني صليت أربعا وهذا جيد، وكان ذا اليدين فهم العموم" نسيان إتمام الصلاة والسلام ناسيا، "فقال: بلى قد نسيت، وكان هذا القول أوقع شكا احتاج معه إلى استثبات" الواقع منه بقول "الحاضرين" حين سألهم أحق ما يقول؟ "وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذي اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه" أي: في خبره "كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغاير لما في اعتقاده" من الكمال لفعله. "وبهذا يجاب من قال" يستفاد من الحديث "أن من أخبر بأمر حسي بحضرة جمع لا يخف عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ" التوافق "ولا حامل لهم على السكوت عنه، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقة" أي: المخبر مع سكوت الجمع بلا مانع، ووجه الاستفادة أنه صلى الله عليه وسلم سألهم مع سكوتهم على إخبار ذي اليدين له صلى الله عليه وسلم بأنه نسي، والجواب هو قوله: "فإن سبب عدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 خلاف ما أخبر به. وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع في العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره. وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافي سهوا. وقال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي، فيمنعه مثلا في الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل. وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن   القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به" السائل، فلا دلالة فيه على عدم القطع بصدق من كان كذلك مطلقا، إذ عدم القطع هنا لسبب، "وفيه:" أي الحديث إفادة "أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا وامتنع في العادة غفلتهم" أي: أهل المجلس المتحد "عن ذلك أنه لا يقبل خبره" حتى يوافقوه، لأنه صلى الله عليه وسلم رجع لما أخبروه بموافقة خبر ذي اليدين ففيه حجة قوية أن الإمام لا يرجع عن يقينه إلى قول المأمومين إلا لكثرتهم جدا فيرجع كما في هذه القصة. "وفيه جواز البناء على الصلاة لمن أتي بالمنافي سهوا" كالسلام، "وقال سحنون: إنما يبني من سلم من ركعتين كما في قصة ذي اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس فيقتصر" أي: يوقف "به على مورد النص" بحيث لا يتجاوزه، "وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتي العشي" الظهر أو العصر، لأنه مورد النص، "فيمنعه مثلا في الصبح" والعشاء والمغرب مع أن سحنونا يقول بالبناء لمن سلم من ركعتين فيهما، "والذين قالوا بجواز البناء مطلقا" يعني في جميع الصلوات "قيدوه بما إذا لم يطل الفصل" واختلفوا في أن قدره بالعرف أو الخروج من المسجد، أو بقدر ركعة أو قدر الصلاة التي وقع فيها السهو، "وفيه أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة خلافا للحنفية" وأما قول بعضهم أن قصة ذي اليدين كانت قبل نسخ الكلام في الصلاة فضعيف، لأنه اعتمد قول الزهري أنها كانت قبل بدر، وتقدم أنه وهم، أو تعددت القصة لذي الشمالين المقتول ببدر، ولذي اليدين الذي تأخرت وفاته بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت شهود أبي هريرة للقصة، وشهدها عمران بن حصين وإسلامه متأخر أيضا. وروى معاوية بن حديج قصة أخرى في السهو، وقع فيها الكلام ثم البناء، أخرجها أبو داود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها. وتعقب: بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذي اليدين له: "بلى قد نسيت" وقول الصحابة له: "صدق ذو اليدين" فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه، فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة. كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله عليه الصلاة والسلام: "لم تقصر". وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومئوا، كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابي، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز شائع، بخلاف عكسه، فينبغي رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهذا قوي، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق   وابن خزيمة وغيرهما وكان إسلامه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهرين. وقال ابن بطال: يحتمل أن قول زيد بن أرقم ونهينا عن الكلام، أي: إلا إذا وقع عمدا لمصلحة الصلاة، فلا يعارض قصة ذي اليدين، قاله الحافظ "واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها" لتكلمه صلى الله عليه وسلم وتكلم الصحابة "وتعقب بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا" كيف يصح هذا الحضر مع قوله: "أحق ما يقول ذو اليدين"؟، أو أصدق ذو اليدين أفيتوهم أن هذا نسيان. "وأما قول ذي اليدين له: بلى قد نسيت، وقول الصحابة له: صدق ذو اليدين، فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ في وقت يمكن وقوعه فيه" لأنه زمان تشريع، "فتكلموا ظنا أنهم ليسوا في صلاة، كذا قيل: وهو فاسد لأنهم تكلموا بعد قوله عليه الصلاة والسلام": "لم تقصر". "وأجيب بأنهم لم ينطقوا وإنما أومئوا" أشاروا "كما عند أبي داود في رواية ساق مسلم إسنادها" ولم يسق لفظها، "وهذا اعتمده الخطابي وقال: حمل القول على الإشارة مجاز شائع" أي: مستعمل "بخلاف عكسه" الإشارة على القول ليس بشائع "فينبغي رد الروايات التي فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية" ولكن في هذا من انظر ما لا يخفى، إذ رد الروايات الكثيرة المتظاهرة على التصريح بالقول مع اتفاق الشيخين وغيرهما على تخريجها بأسانيد عديدة إلى رواية واحدة، خصوصا ومسلم لم يسق لفظها مما لا يليق، فالأولى الجمع الثاني وإن قال المصنف تبعا للحافظ، "وهذا قوي أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق، وبعضهم بالإشارة" فإن الظاهر أن هذا الجمع هو القوي، لأن فيه إبقاء الروايات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 وبعضهم بالإشارة. لكن يبقى قول ذي اليدين: "بلى قد نسيت". ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة. وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته في التشهد، وهو حي، بقولهم: السلام عليك أيها النبي، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه. وعن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد في   على حقيقتها الذي هو الأصل دون دعوى المجاز. "لكن يبقى قول ذي اليدين، بلى قد نسيت" غير مجاب عنه، إذ لا يمكن فيه دعوى أنه قال ذلك بالإشارة، "ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا" لأنه الحقيقة، وقد قالوا: لا يعدل إلى المجاز ما وجد إلى الحقيقة سبيل "بأن كلامهم كان جوابا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه لا يقطع الصلاة" لوجوب إجابته. "وتعقب بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة" فقد يجب الكلام وتبطل كإنقاذ أعمى. "وأجيب بأنه ثبتت مخاطبته في التشهد وهو حي بقولهم: السلام عليك أيها النبي" ورحمة الله وبركاته "ولم تفسد الصلاة، والظاهر أن ذلك من خصائصه" زاد الحافظ: ويحتمل أن يقال ما دام النبي صلى الله عليه وسلم يراجع المصلي، فجائز له جوابه حتى تنقضي المراجعة، فلا يختص الجواز بالجواب لقول ذي اليدين، بلى قد نسيت ولم تبطل صلاته. قال المصنف: واستدل بالحديث أيضا من قال من أصحاب مالك والشافعي: إن الأفعال الكثيرة في الصلاة التي ليست من جنسها إذا وقعت على وجه السهو لا تبطلها، لأنه خرج سرعان الناس. وفي بعض طرق الصحيح أنه عليه السلام خرج إلى منزله ثم رجع، وفي بعضها أنه أتى جذعا في قبلة المسجد، واستند إليه وشبك بين أصابعه، ثم رجع الناس وبنى بهم، وهذه أفعال كثيرة، لكن للقائل بأن الكثير يبطل أن يقول هذه غير كثيرة كما قاله ابن الصلاح، وحكاه القرطبي عن أصحاب مالك والرجوع في الكثرة والقلة إلى العرف على الصحيح. "وعن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فقيل له" لما سلم: "أزيد في الصلاة" بهمزة الاستفهام الاستخباري ولمسلم وأبي دود: فلما انفتل توشوش القوم بينهم، فقال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 الصلاة؟ قال: "وما ذاك"؟. قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعدما سلم. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه: "بعدما سلم" وعبد الله هذا هو ابن مسعود. ففي هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف في ذلك: فقال مالك والمزني، وأبو ثور من الشافعية بالتفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام، وفي الزيادة يسجد بعده. وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه في النقص جبر، فينبغي أن يكون من أصل الصلاة، وفي الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها. وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ،   "ما شأنكم"؟ قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة؟ قال: لا، فتبين أن سؤالهم لذلك كان بعد استفساره لهم عن مسارتهم وهو دال على عظيم أدبهم معه صلى الله عليه وسلم، قال: "وما ذاك"؟ أي: ما سبب سؤالكم عن الزيادة، "قالوا: صليت خمسا، فسجد" بعد أن تكلم "سجدتين" للسهو "بعدما سلم" من الصلاة، "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بهذا اللفظ إلا أن مسلما لم يقل فيه بعد ما سلم وعبد الله هذا هو ابن مسعود" لأنه من رواية أهل الكوفة، وإذا أطلقوا عبد الله إنما يريدون ابن مسعود، "ففي هذه الأحاديث السجود بعد السلام". "وقد اختلف في ذلك، فقال مالك والمزني" إسماعيل "وأبو ثور من الشافعية بالتفرقة بين ما إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، ففي الأول يسجد قبل السلام، وفي الزيادة يسجد بعده". "وزعم ابن عبد البر أنه أولى" أحق بالاتباع "من قول غيره" أنه كله قبل السلام، أو كله بعده "للجمع بين" جنس "الخبرين" الدال أحدهما على القبل، والآخر على البعد مع صحتهما فوجب العمل بهما لإمكان الجمع بذلك، "قال: وهو موافق للنظر" أي: الفكر في حال المنظور فيه لإثبات حكمه، "لأنه في النقص جبر" للخلل، "فينبغي أن يكون من أصل الصلاة" قبل الخروج منها بالسلام "وفي الزيادة ترغيم" إغاظة وإذلال "للشيطان فيكون خارجها" ولذا لم يقل بالعكس في الجمع بين الخبرين، "وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح" لأحد الخبرين "و" من "ادعاء النسخ" لأحدهما لاحتياجه إلى دليل والاحتمال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها كان علة فيعم الحكم جميعا محالها فلا يتخصص إلا بنص. وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص في المعنى. وقال الخطابي: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذي اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهي عن نقصان. وأما قول النووي: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره: بل طريقة أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه   لا يكفي مع إمكان الجمع بدونه، "ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة" عن ابن عبد البر، "وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها" من زيادة أو نقص وإن لم يكن فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم "كان علة" للحكم "فيعم الحكم جميع محالها" يعني خلافا لأحمد في قصره على ما ورد، "فلا يتخصص إلا بنص" ولم يوجد، إذ فعل شيء لا يقتضي تخصيصه به وقصره عليه مع ظهور العلة فيعم الحكم. "وتعقب بأن كون السجود في الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة" في الحسر" فهو نقص في المعنى" وهذا ممنوع، فإنه لم يدع أنه للترغيم فقط كما زعم، غايته أنه لم ينظر إلى كونه نقص في المعنى، وإنما نظر إلى الحسي حتى لا يحصل التعارض، فيضطر إلى دعوى النسخ بلا دليل، أو الترجيح بلا مرجح. "وقال الخطابي: لم يرجع" أي: لم يصر "من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح" فيه أن الفرق المذكور ظاهر جدا، فضلا عن كونه لا يصح كما زعمه، "وأيضا: فقصة ذي اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهي عن نقصان" فيه نظر، بل هو عن زيادة، إذ فيه زيادة السلام والكلام والمشي. "وأما قول النووي: أقوى المذاهب قول مالك" لأنه استعمل النص فيما ورد فيه، وجمع بين الأحاديث المتعارضة، وقاس على كل ما وافقه بجامع العلة، "ثم أحمد" لقوله: يسجد بعده فيما جاء فيه، فهو أقوى ممن منعه أصل وكان دون الأول، لأه قصر عن العلة التي تعمم الحكم، "فقد قال غيره" معارضا له: "بل طريقة أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه" لفظ المنقول عن أحمد: يسجد كما سجد صلى الله عليه وسلم ففي سلامه من اثنتين بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 شيء يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم. وعند إمامنا الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا. وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد في الصلاة، وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو. وأجاب بعضهم: بما وقع في حديث ابن مسعود من الزيادة. وهي: "إذا شك   السلام لحديث ذي اليدين، وكذا إذا سلم من ثلاث بعد السلام لحديث عمران، وفي التحري بعد السلام لحديث ابن مسعود، وفي القيام من اثنتين قبل السلام لحديث ابن بحينة، وفي الشك يبني على اليقين ويسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد وابن عوف، "وما لم يرد فيه شيء يسجد قبل السلام" لأنه يتم ما نقص من صلاته. "قال" أحمد"، "ولولا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم" فكان السجود عنده فيما ورد بعده تعبديا، وكيف يزعم هذا الزاعم أنه أقوى ردا على النووي مع ظهور العلة المقتضية لعمومها في جميع محالها. وقال إسحاق بن راهويه مثله إلا أنه قال: ما لم يرد فيه شيء يفرق بين الزيادة والنقصان، فحرز مذهبه من قول مالك وأحمد، وزعم الحافظ أنه أعدل المذاهب فيما يظهر، وأما داود: فحري على ظاهريته، فقال: لا يشرع إلا في المواضع الخمس التي سجد فيها صلى الله عليه وسلم. "وعند إمامنا الشافعي: سجود السهو كله قبل السلام" وتعسفوا له الجواب عما ورد قبله بدعوى النسخ والترجيح ونحو ذلك. "وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود" السابق آنفا، "وتعقب بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد في الصلاة؟ وقد اتفق العلماء في هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله لعدم علمه بالسهو" فلا يصح الاستدلال به على أن كله بعد السلام. "وأجاب بعضهم" أي: الحنفية "بما وقع في حديث ابن مسعود" عند الشيخين "من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 أحدكم فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين". وأجيب: بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، ولفظه: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم". وبه تمسك الشافعية. وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردي الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النووي. وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل في "النهاية" الخلاف في الإجزاء عن المذهب, واستبعد القول بالجواز.   الزيادة، وهي: "إذا شك أحدكم" بأن استوى عنده الطرفان "فليتحر" أي: يقصد "الصواب، فليتم عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين" فقد صرح بأن السجود بعد السلام. "وأجيب بأنه معارض بحديث أبي سعيد عند مسلم، ولفظه" مرفوعا: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى فليطرح الشك" بأن لا يعمل عليه، "وليبن على ما استيقن" أي: تيقن، "ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم". "وبه تمسك الشافعية" لقولهم: كله قبل السلام، فطرح كل من المذهبين أحد الحديثين، "وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين" كأحمد، حيث قال: الشك على وجهين اليقين والتحري، فمن رجع إلى اليقين ألغى الشك وسجد قبل السلام على حديث أبي سعيد، وإذا رجع إلى التحري وهو أكثر الوهم سجد بعد السلام على حديث ابن مسعود. "ورجع البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده" سواء كان عن نقص أو زيادة، حملا للأخبار على أنها من الاختلاف الجائز، "ونقل الماوردي" وابن عبد البر "الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل، وكذا أطلق النووي" الإجماع، "وتعقب بأن إمام الحرمين نقل في النهاية الخلاف في الإجزاء عن المذهب" أي: مذهب الشافعي، "واستبعد القول بالجواز" وكذا نقل القرطبي الخلاف في مذهب مالك وهو خلاف قول ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك أنه لو سجد للسهو قبل السلام أو بعده لا شيء عليه، فجمع بأن الخلاف بين أصحابه والخلاف عند الحنفية أيضا. قال القدوري: لو سجد قبل السلام، روي عن بعض أصحابنا: لا يجوز لأنه قبل وقته، وقال صاحب الهداية: الخلاف في الأولوية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 ويمكن أن يقال: الإجماع الذي نقله الماوردي والنووي قبل هذه الآراء في المذاهب المذكورة والله أعلم. قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله. ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو في التطوع كالفرض.   وقال ابن قدامة الحنبلي: من ترك السجود الذي قبل السلام بطلت صلاته إن تعمد، وإلا تداركه ما لم يطل الفصل، هكذا في فتح الباري قبل قوله: "ويمكن أن يقال الإجماع الذي نقله الماوردي والنووي قبل هذه الآراء في المذاهب" الأربعة "المذكورة" لمتأخريهم والله أعلم. "قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله" وبما حذفه من كلامه الذي ذكرته يتضح جمع المذاهب ووصفها بالمذكورة "ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور سجدتان للجميع" لحديث ذي اليدين، فقد تكرر فيه سهو في أمور كل واحد منه لو انفرد طلب له السجود، ومع ذلك سجد سجدتين، ففيه أنه لا يتكرر بتكرر السهو ولو اختلف جنسه خلافا للأوزاعي. وعند ابن أبي شيبة عن النخعي والشعبي: "لكل سهو سجدتان" ورواه أحمد عن ثوبان مرفوعا وإسناده منقطع، وحمل على أن معناه: من سها، وكان شرع له السجود، أي: لا يختص بما سجد فيه الشارع. وروى البيهقي عن عائشة: "سجدتا السهو يجزيان من كل زيادة ونقصان"، "والجمهور إنه يسجد للسهو في التطوع، كالفرض" لشمول قوله في حديثي أبي سعيد وابن مسعود: إذا شك أحدكم في صلاته للفرض والتطوع وخالف عطاء وابن سيرين وقتادة، فقالوا: لا سجود سهو في النافلة. وقد اختلف في إطلاق الصلاة عليهما هل هو من الاشتراك اللفظي أو المعنوي؟ وإليه ذهب جمهور الأصوليين لجامع ما بينهما من التوافق في بعض الشروط، التي لا تنفك، ومال الرازي إلى الأول لما بينهما من التباين في بعض الشروط لكن طريقة من أعمل المشترك في معانيه عند التجرد تقتضي دخول النافلة أيضا في هذه العبارة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 الفصل الخامس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة وجلوسه بعدها وسرعة انفتاله بعدها عن ثوبان: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم. ولم يمكث مستقبل القبلة إلا بمقدار ما يقول ذلك. وقد ثبت أنه كان إذا صلى أقبل على أصحابه.   الفصل الخامس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة أي: خروجه منها بالسلام "وجلوسه" أي: مقداره "بعدها وسرعة انفتاله" بنون ففاء ففوقية، أي: انصرافه "بعدها عن ثوبان: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته" أي: خرج منها بالتسليم "استغفر" أي: طلب المغفرة من الله "ثلاثا" من المرات. زاد في رواية البزار: ومسح جبهته بيده اليمنى، قيل للأوزاعي أحد رواته، كيف الاستغفار؟ قال: يقول استغفر الله كما في مسلم، قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: استغفاره عقب الفراغ من الصلاة استغفار من رؤية الصلاة، "وقال" بعد الاستغفار: ولفظ مسلم ثم قال: والظاهر أن التراخي ليس بمراد هنا، "اللهم أنت السلام" أي: المختص بالتنزه عن النقائص والعيوب لا غيرك، "ومنك السلام" لا من غيرك، فقدم الخير للتخصيص، أي: وإليك يعود السلام، لأن غيرك في معرض النقصان، والخوف مفتقر إليك، لا ملجأ ولا ملاذ له سواك، فإذا شوهد ظاهرا أن أحدًا سلم من غيره، فهو بالحقيقة راجع إليك وإلى توفيقك إياه، قاله بعضهم، وقال التوربشتي: أرى قوله: "ومنك السلام" واردا مورد البيان لقوله: "أنت السلام"، وذلك أن الموصوف بالسلامة فيا يتعارفه الناس لما كان قد يعرضه آفة تصيبه بضرر، وهذا لا يتصور في صفاته تعالى بين أن وصفه سبحانه بالسلام لا يشبه أوصاف الخلق، فإنهم بصدد الافتقار وهو المتعالي عن ذلك، فهو السلام الذي يعطي السلامة ويمنعها ويبسطها ويقبضها، "تباركت" تعظمت وتمجدت، أو جئت بالبركة، وأصل الكلمة للدوام والثبات ومنه البركة، ولا تستعمل هذه اللفظة إلا لله تعالى عما تتوهمه الأوهام "يا ذا الجلال" العظمة "والإكرام" الإحسان، "رواه مسلم" وأحمد وأصحاب السنن الأربعة، "ولم يمكث مستقبل القبلة إلا بمقدار ما يقول ذلك، وقد ثبت أنه كان إذا صلى" صلاة، أي: فرع منها "أقبل على أصحابه". ففي البخاري وغيره عن سمرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه، قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف، فقد كان عليه السلام يسرع الانفتال إلى المأمومين، وكان ينفتل عن يمينه وعن شماله. وقال ابن مسعود: رأيته صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره، رواه الشيخان. وقال أنس أكثر ما رأيته صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه رواه مسلم.   الزين بن المنير استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين، وقال غيره: حكمة ذلك تعريف الداخل بانقضاء الصلاة، إذ لو بقي الإمام على حاله لوهم أنه في التشهد مثلا، وما اقتضاه من جعل ظهره للقبلة ليس بمراد، فقد روى أبو داود عن يزيد بن الأسود: كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف انحرف، أي: إلى جهة شقه الأيمن أو الأيسر، والأفضل جعل يمينه إلى المحراب ويساره إلى الناس عند الحنفي، وعكسه عند الشافعي، ورجح بعضهم الصفة الأولى في محراب المدينة، لأنه إن فعل الثانية استدبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو قبله آدم، فمن بعده من الأنبياء، "فيحمل ما ورد من الدعاء بعد الصلاة على أنه كان يقوله بعد أن يقبل على أصحابه بوجهه الشريف" وإقباله إنما كان بعد الاستغفار" فقد كان عليه السلام يسرع الانفتال" بنون ففاء ففوقية، أي: الانصراف "إلى المأمومين، وكان ينفتل" ينصرف "عن يمينه" كثيرا "وعن شماله" قليلا لبيان الجواز، فلا ينافي أن الأفضل التيامن. "وقال ابن مسعود" لا يجعل أحدكم للشيطان شيئا، ولمسلم: جزءا من صلاته يرى أن حقا عليه أن ل ينصرف إلا عن يمينه، لقد "رأيته صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره" استنبط منه ابن المنير أن المندوب قد ينقلب مكروها إذا خيف على الناس أن يرفعوه عن رتبته، لأن التيامن مستحب في كل شيء أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقد وجوبه أشار إلى كراهته. وقال أبو عبيدة لمن انصرف عن يساره: هذا أصاب السنة يريد والله أعلم حيث لم يلزم التيامن على أنه سنة مؤكدة أو واجب، وإلا فمن يظن أن التياسر سنة حتى يكون التيامن بدعة، إنما البدعة في رفع التيامن عن رتبته، "رواه الشيخان" عن ابن مسعود، لكن لفظ مسلم عنه: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، "وقال أنس: أكثر ما رأيته صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه، رواه مسلم" من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال: سألت أنسا كيف أنصرف إذا صليت عن يميني أو عن يساري، قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه. قال الحافظ: رواية البخاري يعني لحديث ابن مسعود لا تعارض حديث أنس، يعني: لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 وقالت أم سلمة: كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم مكث في مكانه يسيرا، قال الزهري: فنرى -والله أعلم- لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال رواه البخاري.   رواية البخاري دلت على كثرة انصرافه عن يساره وهو لا يستلزم أنه الأكثر بل يشعر بأن الأكثر، انصرافه عن يمينه وهو ما ذكره أنس، قال -أعني الحافظ: أما رواية مسلم، أي: لحديث مسعود فظاهرها التعارض، لأنه عبر في كل منهما بصيغة أفعل، وجمع النووي بينهما، بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين، وجمع الحافظ بحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد، لأن حجره صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره، وحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود، لأنه أعلم وأسن وأجل وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى ترقبه في الصلاة من أنس، وبأن في حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس في الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال، لأن حجر النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره كما مر، ثم ظهر لي أنه يمكن الجمع بوجه آخر، وهو أن من قال: كان أكثر انصرافه عن يساره نظر إلى هيئته في حال الصلاة، ومن قال: كان أكثر انصرافه عن يمينه نظر إلى هيئته في حال استقباله القوم بعد سلامه من الصلاة، فعلى هذا لا يختص الانصراف بجهة معينة، ومن ثم قال العلماء: يستحب الانصراف إلى جهة حاجته، لكن إذا استوت الجهتان في حقه فاليمين أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفل التيامن كحديث عائشة: كان يحب التيامن ... إلخ. انتهى. "وقالت أم سلمة" أم المؤمنين: "كان صلى الله عليه وسلم إذا سلم" من الصلاة "مكث في مكانه" الذي صلى فيه "يسيرا". "قال الزهري" محمد بن مسلم راوي الحديث عن هند بنت الحارث عن أم سلمة "فنرى"، "بضم النون" أي: نظن "والله أعلم" أن مكثه صلى الله عليه وسلم في مكانه "لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال" وفي لفظ: لكي ينفذ من ينصرف من النساء، وفي أخرى: لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم، "رواه البخاري" في مواضع ثلاثة متقاربة، وفي كل موضع ذكر تعليل الزهري كما ذكرت واختلاف ألفاظه من الرواة والمعنى واحد. قال الحافظ: وفي الحديث مراعاة الإمام أحوال المأمومين واحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور، واجتناب مواقع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالا فقط لا يستحب هذا المكث، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 وقالت عائشة: كان إذا أسلم لا يقعد إلا مقدار ما يقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". رواه مسلم. وهذا الحديث يتمسك به من قال إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع. والجواب: أن المراد بالنفي المذكور نفي استمراره عليه السلام جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر.   وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة، فذكر الحديث المسوق بقوله، "وقالت عائشة: كان" صلى الله عليه وسلم "إذا سلم" من الصلاة "لا يقعد" في مصلاه "إلا مقدار ما يقول": "اللهم أنت السلام" أي السلام من كل ما لا يليق بجلال الربوبية وكمال الألوهية، "ومنك" لا من غيرك، لأنك أنت "السلام" الذي تعطي السلامة لا غيرك وإليك يعود السلام، وكل ما يشاهد من سلامة، فإنه لم تظهر إلا منك ولا تضاف إلا إليك، "تباركت يا ذا الجلال" العظمة "والإكرام" الإحسان، أي: تعاظمت وارتفعت شرفا وعزة وجلالا. قال البيضاوي: إنما ذلك في صلاة بعدها راتبة، أما التي لا راتبة بعدها كالصبح فلا. قال غيره لما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقعد بعد الصبح في مصلاه حتى تطلع الشمس، "رواه مسلم" وأصحاب السنن الأربعة، "وهذا الحديث يتمسك به من قال: إن الدعاء بعد الصلاة لا يشرع" للحصر بأنه إنما كان يقعد بقدر ما يقول ذلك. "والجواب أن المراد بالنفي المذكور" بقوله لا يقعد "نفي استمراره عليه السلام جالسا على هيئته قبل السلام إلا بقدر أن يقول ما ذكر" فليس نفيا مطلقا حتى يكون حجة لعدم مشروعية الدعاء، قال الحافظ: يؤخذ من مجموع الأدلة أن للإمام أحوالا، لأن الصلاة إما أن تكون مما يتطوع بعدها أو لا، الأول اختلف هل يتشاغل قبل التطوع بالذكر المأثور عليه الأكثر أو يبدأ بالتطوع وعليه الحنفية، وحجة الجمهور حديث معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاتك حتى تتكلم أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك، ويؤيده تقييده في الأخبار الصحيحة بدبر الصلاة، وزعم بعض الحنابلة أن المراد بدبر الصلاة ما قبل السلام، تعقب بحديث ذهب أهل الدثور، ففيه يسبحون دبر كل صلاة وهو بعد السلام جزما، فكذا ما شابهه، وأما الصلاة التي لا يتطوع بعدها، فيتشاغل الإمام ومن معه بالذكر المأثور ولا يتعين له مكان، بل إن شاءوا انصرفوا وذكروا، وإن شاءوا مكثوا وذكروا، وعلى الثاني إن كان الإمام عادة أن يعلمهم أو يعظهم، فيستحب أن يقبل عليهم جميعا، وإن كان لا يزيد على الذكر المأثور فهل يقبل عليهم جميعا، أو ينفتل فيجعل يمينه من قبل المأمومين ويساره من قبل القبلة ويدعو الثاني، هو الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 وكان يقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا   جزم به أكثر الشافعية، ويحتمل أن قصر زمن ذلك أن يستمر مستقبلا للقبلة، لأنها أليق بالدعاء ويحمل الأول على ما لو طال الذكر والدعاء. انتهى. "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول" في دبر كل صلاة مكتوبة كما في البخاري ولمسلم: كان إذا فرغ من الصلاة وسلم، وله أيضا: إذا قضى الصلاة "لا إله إلا الله" بالرفع خبر لا، أو على البدل من الضمير المستتر في الخبر المقدر، أو من اسم لا باعتبار محله قبل دخولها عليه "وحده" نصب حال، أي منفردا "لا شريك له" تأكيد لوحدانيته، فالمتصف بالوحدانية لا شريك له "له الملك" بضم الميم، أي: أصناف المخلوقات "وله الحمد". زاد الطبراني من طريق آخر رواته ثقات عن المغيرة: يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير "وهو على كل شيء قدير" ولأحمد والنسائي وابن خزيمة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك ثلاث مرات. "اللهم لا مانع لما أعطيت" أي: الذي أعطيته، أي: أردت إعطاءه، وإلا فبعد الإعطاء من كل أحد لا مانع، إذ الواقع لا يرتفع "ولا معطي لما منعت" أي: الذي منعته. زاد عبد بن حميد في مسنده: ولا إرادة لما قضيت، لكن حذف قوله: ولا معطي لما منعت، ورواه الطبراني تاما من وجه آخر، وقد أجاز البغداديون ترك تنوين الاسم المطول فأجاز، وإلا طالع جبل أجروه في ذلك مجرى المضاف، كما أجرى مجراه في الإعراب. قال الجمال بن هشام: وعلى ذلك يتخرج الحديث، قال البدر الدماميني: بل يتخرج على قول البصريين أيضا بجعل مانع اسم لا مفردا مبنيا معها، إما لتركبه معها تركيب خمسة عشر، وإما لتضمنه معنى من الاستغراقية على الخلاف المعروف في المسألة والخبر محذوف، أي: لا مانع لما أعطيت واللام للتقوية، فلك أن تقول: تتعلق، وأن تقول: لا تتعلق، وكذا القول في: ولا معطي لما منعت، وجوز الحذف ذكر مثل المحذوف، فحسنه دفع التكرار، فظهر بذلك أن التنوين على رأي البصريين ممتنع، ولعل السر في العدول، عن تنوينه إرادة التنصيص على الاستغراق، ومع التنوين يكون الاستغراق ظاهرا لا نصا. انتهى. "ولا ينفع ذا الجد، منك الجد" بفتح الجيم فيهما في جميع الروايات ومعناه الغنى كما نقله البخاري عن الحسن أو الحظ، وقيل: أبو الأب: أي: لا ينفع أحدًا نسبه، وعن أبي عمرو الشيباني، أنه رواه بالكسر، وقال: معناه ذا الاجتهاد اجتهاده، وأنكره الطبري ووجهه القزاز، بأن الاجتهاد في العمل نافع، لأن الله قد دعا الخلق إليه، فكيف لا ينفع عنده، قال: فيحتمل أن المراد الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة، وقال غيره: لعل المراد لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته، وقيل: المراد السعي التام في الحرص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 الجد منك الجد". رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة. وكان يقول بأعلى صوته: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله   أو الإسراع في الهرب. قال النووي: الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور، أنه بالفتح، وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد، أو العظمة أو السلطان، والمعنى: لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك، ومن قوله: منك بمعنى البدل، كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة: 38] أي بدل الآخرة، جزم به الخطابي واختاره في المغني، وفي الصحاح: معنى من هنا عندك، أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، وإنما ينفعه العمل الصالح. وقال بعضهم: ليست للبدل ولا بمعنى عند، بل المعنى من قضائك أو سطوتك أو عذابك، وقال ابن دقيق العيد: يجب تعلق قوله منك ينتفع مضمنا معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز تعلقه بالجد، كما يقال: حظي منك كبير، لأن ذلك نافع وفيه استحباب هذا الذكر عقب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، "رواه الشيخان" البخاري في الصلاة والاعتصام والرقاق والقدر والدعوات ومسلم في الصلاة، وكذا أبو داود والنسائي، كلهم "من حديث المغيرة بن شعبة" أن معاوية كتب إلى المغيرة اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى المغيرة على كاتبه وراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان، فذكره, وفيه العمل بالمكاتبة وإجراؤها مجرى السماع في الرواية ولو لم تقترن بالإجازة والاعتماد على خبر الواحد. وعند البخاري في القدر قال: وراد، ثم قدمت بعده على معاوية، فسمعته يأمر الناس بذلك، ففيه المبادرة إلى امتثال السنن واتباعها، وزعم بعضهم أن معاوية كان سمع الحديث المذكور، وإنما أراد الاستثبات من المغيرة وكان حينئذ نائبه على الكوفة، واحتج بما في الموطأ من وجه آخر عن معاوية أنه قال على المنبر: أيها الناس إنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع الله، ولا ينفع ذا الجد منه الجد، من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ثم قال: سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعواد، "وكان يقول بأعلى صوته" لفظ مسلم: كان ابن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم، فذكر الحديث، وفي آخره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن في دبر كل صلاة، وفي رواية له: كان ابن الزبير يخطب على المنبر ويقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم يقول في دبر الصلوات أو الصلاة، فذكره ولم يقع فيه لفظ بأعلى صوته، فكأن المصنف أخذه من قوله: يهلل بهن، لأن الإهلال رفع الصوت "لا إله إل الله وحده لا شريك له" عقلا ونقلا، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، و {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن الجميل، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". رواه مسلم من حديث عبد الله بن الزبير. وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ   إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} , {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في آيات أخر، "له الملك وله الحمد" في الأولى والآخرة "وهو على كل شيء قدير لا حول" لا تحول عن المعصية "ولا قوة" على الطاعة "إلا بالل" هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هكذا أخبرني جبريل "لا إله إلا الله" أعاده تلذذا بذكره، "ولا نعبد إلا إياه" أي: نخصه بالعبادة "له النعمة" مفرد بمعنى الجمع، أي: النعم السوابغ التي لا تحصى بالعد، "وله الفضل وله الثناء" بمثلثة فنون والمد الوصف بالمدح "الحسن الجميل لا إله إلا الله مخلصين" حال مع أنه جمع، والله واحد على تقدير محذوف هو نعبده مخلصين، ومن حذف الفعل وما اتصل به من مفعول أو فاعل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] قالوا: تقديره واعتقدوا الإيمان، أي: جعلوه ملجأ لهم في عبادتهم، "له الدين" بأن لا نعبد معه غيره ولا نذكر غيره معه من أهل أو مال أو غيرهما، بل نعبده ونذكره دون كل مخلوق "ولو كره الكافرون" إفرادنا إياه بالعبادة وعادونا لذلك وأظهروا العداوة. "رواه مسلم" في الصلاة "من حديث عبد الله بن الزبير" بن العوام أمير المؤمنين. "وعن سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري أحد العشرة، "أنه كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات" الخمس، وفي رواية قال: تعوذوا بكلمات كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهن، وفي أخرى، عن سعد كان يأمر بهؤلاء الخمس ويحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي أخرى: كان سعد يأمر بخمس ويذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بهن والكل في البخاري، "ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن" عبودية وإرشادا لأمته "دبر" بضم الدال والموحدة وقد تسكن، أي: عقب "الصلاة": "اللهم إني أعوذ" أستجير وأعتصم، ولفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء، ففيه تحقيق الطلب كما قيل في غفر الله لك بلفظ الماضي. "بك" بياء الإلصاق المعنوي، إذ لا يلتصق شيء بالله ولا صفاته، لكنه التصاق تخصيص، كأنه خص الله بالاستعاذة، قال الفخر: ولم يقل بالله أعوذ مع أن تقديم المعمول يفيد الحصر عند طائفة، لأن الإتيان بلفظ الاستعاذة امتثال للأمر، وقال غيره: لأن تقديم المعمول تفنن وانبساط والاستعاذة هرب إلى الله تعالى وتذلل "من الجبن" بضم فسكون ضد الشجاعة، "وأعوذ بك من البخل" بضم فسكون، وبفتحتين بمعنى واحد، وبالثاني: قرأ الكسائي وحمزة ضد الكرم، أي: بشيء من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 بك من البخل، أو أعوذ بك من أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر". رواه البخاري. وعن زيد بن أرقم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: "اللهم ربنا ورب كل   الخير سواء كان مالا أو علما أو جاها أو نحو ذلك، والجواد إما بالنفس ويسمى شجاعة ويقابلها الجبن، وإما بالمال ويسمى سخاوة ويقابلها البخل، ولا تجتمع السخاوة والشجاعة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا في نفس تناهت في النقص، فاستعاذ منهما كما لا يخفى، "وأعوذ بك من أرذل العمر" بذال معجمة الهرم الشديد المضعف للقوة والعقل والفهم الذي فيه تناقص الأحوال من الخوف وضعف الفكر حتى لا يعلم ما كان يعلم قبل، وهو أسوأ العمر. قال الطيبي: المطلوب عند المحققين من العمر التفكر في آلاء الله ونعمائه تعالى من خلق الموجودات فيقوموا بواجب شكره بالقلب والجوارح، والخوف المنافي لهما كالشيء الرديء، فينبغي أن يستعاذ منه، وفي روايات للبخاري: "وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر". "وأعوذ بك من فتنة الدنيا" يعني: فتنة الدجال كما عند البخاري في بعض المواضع، وقائل ذلك كما عند الإسماعيلي عبد الملك بن عمير وهو راوي الحديث عن مصعب بن سعد عن أبيه، وفي إطلاق فتنة الدنيا على الدجال إشارة إلى أن فتنته أعظم الفتن الكائنة في الدنيا "وعذاب القبر" من إضافة المظروف إلى ظرفه وهو ما فيه من الأهوال والشدائد. في رواية و "أعذ بك من عذاب القبر". "رواه البخاري" في كتاب الدعوات في ثلاثة مواضع متقاربة وفي غيره وفي بعضها اختلاف بالتقديم والتأخير ولا يضر ذلك. "وعن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر" بضمتين، قال الأزهري: دبر الأمر، يعني بضمتين ودبره، يعني: بضم فسكون آخره وادعى أبو عمرو الزاهد أنه لا يقال بالضم إلا للجارحة، ورد بمثل قولهم أعتق غلامه عن دبر، أي: عقب "كل صلاة" ظاهره يشمل الفرض والنفل، لكن حمل أكثر العلماء حديث: "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين". على الفرض لقوله في رواية لمسلم مكتوبة حملا للمطلقات عليها، والظاهر أن يقال مثله في هذا الحديث، وهل يكون التشاغل بعد المكتوبة بالراتبة بعدها فاصلا بينها وبين الذكر المذكور أو لا. قال الحافظ: محل نظر، قال: ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند فراغ الصلاة، فإن تأخر وقل بحيث لا يعد معرضا، أو نسي، أو تشاغل بما ورد أيضا بعد الصلاة كآية الكرسي فلا يضر، "اللهم" يا "ربنا" ويا "رب كل شيء" في النداء بلفظ: "رب" بعد "اللهم" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 شيء، أنا شهيد أنك الرب وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة، اللهم ربنا ورب كل شيء، اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة من الدنيا والآخرة، يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب، الله أكبر الله أكبر، الله نور السموات والأرض، الله أكبر حسبي الله ونعم الوكيل، الله أكبر الله أكبر". رواه   الجامع لمعاني الأسماء مزيد الاستعطاف والتذلل، لأنه مقام دعاء "أنا شهيد" فعيل بمعنى فاعل "إنك الرب وحدك لا شريك لك" في شيء، "اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك" قدم العبودية، لأن له مزيد شرف بها، ولأنه كان عبدا قبل أن يكون رسولا كما ورد، "اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة" في الوجود والعبودية {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 92] ، وقال ابن رسلان: لأن أباهم آدم وحواء، وأنهم كلهم إخوة في الدين لا شرف لبعضهم على بعض إلا بالتقوى وزيادتها. انتهى. فحمل العباد على بني آدم ثم على المؤمنين، مع أن قوله العباد عام، لا سيما وقد أكده بكلهم، "الله ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا" أي: وفقني للإخلاص "لك وأهلي" أقاربه وأزواجه "في كل ساعة م الدنيا والآخرة" بإعطائنا فيها ثواب المخلصين "يا ذا الجلال" العظمة "والإكرام" الإحسان "اسمع واستجب" عطف تفسير، إذ المراد بطلب السماع استجابة الدعاء كما قالوا في سمع الله لمن حمده. وقال ابن رسلان: اسمع دعائي والله تعالى يسمع كل مسموع لا يغرب عن إدراكه مسموع وإن خفي، لكن المراد سماع مخصوص بالإقبال على الداعي والإحسان إليه واستجب، أي: أجب دعائي "الله أكبر، الله أكبر" مرتين كما في أبي داود، فلا عبرة بما في نسخ ثلاثا وفيه التكبير عقب الصلاة. وفي الصحيحين عن ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير، ولمسلم: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير. قال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة، لأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على ذلك ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاءها بالتكبير. وقال غيره: يحتمل أنه حاضر في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما يعرفه بالتكبير. قال ابن دقيق العيد: ويؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد "الله نور السموات والأرض" أي: منورهما أو هادي أهلهما أو منور قلوب المؤمنين أو ذو بهجة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 أبو داود وأحمد. ورأيت في كتاب "الهدي" لابن القيم: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، سواء للمنفرد والإمام والمأموم، فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أصلا، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر والعصر، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا عن السنة بعدهما. قال: وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها، وأمر بها فيها، قال: وهذا هو الأليق، بحال المصطفى، فإنه مقبل على ربه مناجيه، فإذا سلم منها انقطعت المناجاة، وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب   وجمال أو خالق النور، إذ النور عرض تعالى الله عنه "الله أكبر حسبي الله" كافي "ونعم الوكيل" هو "الله أكبر، الله أكبر" مرتين،"رواه أبو داود وأحمد" وكذا النسائي، كلهم من طريق أبي مسلم البجلي عن زيد والبزار والطبراني برجال ثقات. عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى وفرغ من صلاته مسح بيمينه على رأسه، وفي لفظ على جبهته، وقال: "بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الهم والحزن" وفي لفظ: الغم والحزن، وللبزار وأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس: ما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة مكتوبة قط إلا قال حين أقبل علينا بوجهه: "اللهم إني أعوذ بك من كل عمل يخزيني، وأعوذ بك من كل صاح يرديني، وأعوذ بك من كل أمل يلهيني، وأعوذ بك من كل فقر ينسيني، وأعوذ بك من كل غنى يطغيني". ولأبي يعلى عن أبي سعيد: كان صلى الله عليه وسلم يقول بعدما يسلم: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين"، وللطبراني عن ابن عباس: كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} إلى آخرة السورة. "ورأيت في كتاب الهدي لابن القيم، وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة سواء للمنفرد والإمام والمأموم فلم يكن ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، وخص بعضهم ذلك بصلاتي الفجر"، أي: الصبح "والعصر ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء بعده، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضا من السنة بعدهما" لأنه لا يتنفل بعدهما، فالمعنى بدلا من السنة التي تفعل بعد غيرهما. "قال" ابن القيم: "وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر به فيها" يأتي رده، "قال: وهذا هو الأليق بحال المصطفى فإنه مقبل على ربه مناجيه" في الصلاة، "فإذا سلم منها انقطعت المناجاة وانتهى موقفه وقربه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 منه وهو مقبل عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه. ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها، ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، وهي الذكر الوارد بعد المكتوبة، لا لكونه دبر المكتوبة، انتهى. وقد كان في خاطري من دعواه "النفي مطلقا" شيء لما يأتي، ثم رأيت شيخ مشايخنا إمام الحفاظ أبا الفضل بن حجر تعقبه فقال: وما ادعاه من النفي مطلقا مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ والله إني لأحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني   منه" قربا معنويا "وهو مقبل عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه" وهذا ليس بشيء، فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينصرف عن الله قط وعلى التنزل، وإن حال الصلاة أقوى فالآثار باقية فأحب أن لا يخليه من الدعاء. "ثم قال: لكن الأذكار الواردة بعد المكتوبة" كآية الكرسي والتسبيح والتحميد والتكبير، واللهم أنت السلام إلى آخره، ولا إله إلا الله إلى آخره "يستحب لمن أتى بها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يفرغ منها ويدعو بما شاء ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية وهي الذكر الوارد" بيان للعبادة الثانية، أي: المأتي بها "بعد المكتوبة لا لكونه دبر المكتوبة" فابن القيم إنما أنكر الدعاء بعد الصلاة وهو غير الذكر، إذ لا يستطيع إنكاره مع أنه في الصحيحين والسنن وغيرهما، فلو أنكره نسب إلى الجهل مع كونه من سراة المحدثين، فلا يتخيل تناف بين كلاميه كما ظنه من قال قوله، لكن الأذكار ... إلخ، أي: عند من يستعملها اعتمادا على ما رآه فلا ينافي قوله قبل، فلم يكن ذلك من هدي النبي ... إلخ، فإنه عجب إذ اسم الإشارة عائد على قوله، وأما الأدعية وما هنا أذكار، فأي تناف يظن حتى يدفع بما يؤدي إلى تجهيل مثل ابن القيم، مع أنه أثبته بقوله: الأذكار الواردة، وبقوله وهي الذكر الوارد. "انتهى". "وقد كان في خاطري من دعواه النفي" لا لكونه "مطلقا" كما فهم كثير، لأنه قيده بقوله بعد السلام مستقبل القبلة "شيء لما يأتي" من الأحاديث المصرحة بخلافه، لكن لم أقدم على رده حتى رأيت كلام الحفاظ، كما قال: "ثم رأيت شيخ مشياخنا إمام الحفاظ أبا الفضل بن حجر تعقبه، فقال: وما ادعاه من النفي مطلقا" للإمام والمأموم والمنفرد "مردود، فقد ثبت عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ والله" أقسم تأكيدا وتقوية للخبر زيادة في تبشيره، "إني لأحبك" بلام التأكيد، "فلا تدع" تترك "دبر كل صلاة" أي: عقبها "أن تقول: اللهم أعني على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". أخرجه أبو داود والنسائي. وحديث زيد بن أرقم: سمعته صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر الصلاة: "اللهم ربنا ورب كل شيء". أخرجه أبو داود والنسائي. وحديث صهيب رفعه: كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة: "اللهم أصلح لي ديني". أخرجه النسائي وصححه ابن حبان. وغير ذلك. فإن قيل: المراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد، قلت: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة، والمراد به بعد السلام إجماعا، فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه، وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة: قيل يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات، وقال: حسن، وأخرج   ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" إذ لولا إعانته تعالى ما قدر العبد على شيء. "أخرجه أبو داود والنسائي" وصححه ابن حبان والحاكم، "و" ثبت "حديث زيد بن أرقم: سمعته صلى الله عليه وسلم يدعو في دبر" أي: عقب الصلاة": "اللهم ربنا ورب كل شيء"، أخرجه أبو داود والنسائي, ومر آنفا بتمامه، "وحديث صهيب رفعه: كان صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة" بالتسليم منها "اللهم أصلح" بهمزة قطع وكسر اللام "لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معاذي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". هذا تمام الحديث الذي "أخرجه النسائي" وأبو يعلى "وصححه ابن حبان:" ونحوه في مسلم من حديث أبي هريرة لكن ليس فيه أنه كان يقوله إذا انصرف من الصلاة، فلذا لم يعزه له "و" ثبت "غير ذلك". "فإن قيل: لمراد بدبر الصلاة قرب آخرها وهو التشهد" فلا يرد ذلك على ابن القيم، "قلت: قد ورد الأمر بالذكر دبر الصلاة" بالتسبيح والتحميد والتكبير، "والمراد به بعد السلام إجماعا" لفظ الحافظ جزما، "فكذا هذا حتى يثبت ما يخالفه" ولم يثبت فتعين أنه بعده. "وقد أخرج الترمذي من حديث أبي أمامة" صدي بن عجلان، "قيل: يا رسول الله! أي: الدعاء أسمع"؟ أي: أوفق لاستماع الدعاء وأولى بالإجابة، قال: "جوف الليل الأخير" أي: دعاء جوف الليل، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا، وروي جوف بالنصب على الظرف، أي: الدعاء جوف الليل ويجوز الجر على مذهب من يرى حذف المضاف وترك المضاف إليه على إعرابه، وأما الأخير فعلى الأحوال الثلاثة يتبع جوف في إعرابه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 الطبراني من رواية جعفر بن محمد الصادق قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة، كفضل المكتوبة على النافلة. قال: وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا، وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة، وإيراده عقب السلام، وأما إذا انفتل بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ. انتهى. وكان عليه السلام حين تقام الصلاة في المسجد إذا رآهم قليلا جلس، وإذا   قال التوربشتي: "وقال الطيبي إنما يستقيم جوابا إذا أضمر في السؤال اسم مكان كما فعل في النهاية. حيث قال: أي الساعات أسمع؟ أي: أوفق لاستماع الدعاء فيه وأولى بالاستجابة، وهو من باب نهاره صائم وليله قائم أو تضمر في الجواب الدعاء كما فعله التوربشتي، "ودبر الصلوات المكتوبات" فصرح بخلاف ما نفاه ابن القيم. "وقال" الترمذي: حديث "حسن، وأخرج الطبراني من رواية جعفر بن محمد الصادق" نعت لجعفر لصدقه في مقاله وأبوه يلقب بالباقر لبقره العلم. "قال: الدعاء بعد المكتوبة أفضل من الدعاء بعد النافلة" فضلا "كفضل المكتوبة على النافلة" وهذا يدل على شهرة ذلك في التابعين وأتباعهم، ومثله إنما هو توقيف. "قال" الحافظ: "وفهم كثير من الحنابلة أن مراد ابن القيم نفي الدعاء بعد الصلاة مطلقا" سواء بقي مستقبلا وقاله عقب السلام أم لا "وليس كذلك، فإن حاصل كلامه أنه نفاه بقيد استمرار استقبال المصلي القبلة، وإيراده عقب السلام" لقوله أول كلامه: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، لكن قوله بعد، وغاية الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها ظاهر في نفس الدعاء بعدها مطلقا كما فهمه الكثير، إلا أن قوله آخرا إنه بعد فعل الأذكار الواردة يصلي على النبي ويدعو، يؤيد ما فهمه الحافظ، كما أفاده بقوله: "وأما إذا انفتل" أي: انصرف "بوجهه أو قدم الأذكار المشروعة فلا يمتنع عنده الإتيان بالدعاء حينئذ" بدليل آخر كلامه وأوله، ولا ينافيه قوله: وغاية ... إلخ، لأن مراده حيث لم ينفتل أو يذكر الوارد. "انتهى" كلام الحافظ. "وكان عليه السلام حين تقام الصلاة في المسجد" لعل المراد إذا دخل وقت الإقامة عادة وإلا فالنظر في إقامتها للإمام، فلا يقيم المؤذن إلا بإذنه، "إذا رآهم قليلا جلس" حتى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 رآهم جماعة صلى. رواه أبو داود. وقال أبو مسعود البدري: كان صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم". رواه مسلم. وقال ابن عباس: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن. رواه البخاري   يتكاملوا، "وإذا رآهم جماعة" كثيرة "صلى" بهم, "رواه أبو داود" في سننه، "وقال أبو مسعود" عقبه "بالقاف" ابن عمرو الأنصاري "البدري" لأنه شهد غزوة بدر في قول جماعة، وإليه أشار البخاري ورجحه الحافظ، وقيل: لم يشهدها وإنما نسب إليها لأنه نزلها: "كان صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة" أي: جنس المناكب بأن يمسح منكب من قرب منه "ويقول" للجميع: "استووا" أي: اعتدلوا ندبا في صفوف الصلاة، بأن تقوموا على سمت واحد، لأن تسوية الصفوف من شأن الملائكة، ولأن تقديم البعض ربما أو غر صدور الباقين وشوش خشوعهم، كما أشار إليه بقوله: "ولا تختلفوا" أي: لا يتقدم بعضكم على بعض في الصفوف "فتختلف قلوبكم". وفي رواية: صدوركم، قال الطيبي: بنصب تختلف من قبيل لا تدن من الأسد فيأكلك، وفيه أن القلب تابع للأعضاء، فإن اختلفت اختلف، وإذا اختلف فسد ففسدت الأعضاء، لأنه رئيسها "ليليني" بكسر اللامين والأولى لام الأمر وبعد الثانية يا مفتوحة وشد النون، وبحذف الياء وخفة النون روايتان ذكرهما النووي وغيره، أفصحهما حذفها للجازم، والثانية لغة صحيحة قليلة فليست بغط كما زعم الطيبي، أي: ليقرب مني من الولي وهو القرب "منكم أولو الأحلام" جمع حلم بالكسر وهو التأني والتثبت في الأمور، "والنهى" جمع نهية، بالضم وهي العقل، سمي بذلك لأنه ينهى صاحبه عن القبيح قاله في المجموع وغيره. وفي شرح مسلم: النهى العقول وأولو الأحلام العقلاء، وقيل: البالغون، فعلى الأول يكون اللفظان بمعنى ولاختلاف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيدا، وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء. انتهى. وفي الرياض: أهل الحلم هم أهل الفضل، فمعناه الفاضلون "ثم الذين يلونهم" في ذلك الوصف، قال ذلك ثلاثا كما "رواه مسلم" وأحمد والنسائي. "وقال ابن عباس" بت عند خالتي ميمونة، فذكر الحديث بطوله إلى أن قال: ثم "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي" بالليل، "فقمت عن يساره، فأخذ بيدي من وراء ظهره" صلى الله عليه وسلم "يعدلني" بضم الياء وإسكان العين وكسر الدال، "كذلك من وراء ظهره" الشريف "إلى الشق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 ومسلم. وقال أنس: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس، فجحش شقه الأيمن، فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا، فصلينا وراءه قعودا، فلما قضى الصلاة   الأيمن". وفي رواية: فتناولني من خلف ظهره فجعلني على يمينه، وفي أخرى: فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه، وفي أخرى: فأدارني من خلفه حتى جعلني عن يمينه وأخذ بأذني اليمنى يفتلها. زاد في رواية: محمد بن نصر، فعرفت أنه إنما صنع ذلك ليؤنسني بيده في ظلمة الليل، ولمسلم: فقمت إلى جنبه الأيسر، فأخذني بيده فجعلني من شقه الأيمن، فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني، وفيه رد على من زعم أن أخذ الأذن إنما كان حال إرادته من اليسار إلى اليمين تمسكا برواية للبخاري، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، لكن لا يلزم من إدارته على هذه الصفة أن لا يعود إلى مسك أذنه لما ذكر من تأنيسه وإيقاظه، لأن حاله يقتضي ذلك لصغره، "رواه البخاري" في مواضع مطولا ومختصرا "ومسلم" جامعا طرقه وألفاظه مطولا ومختصرا في صلاة الليل رحمهما الله. "وقال أنس: سقط النبي صلى الله عليه وسلم عن فرس" ركبه في ذي الحجة سنة خمس من الهجرة، كما أفاد ابن حبان، ولأبي داود وغيره عن جابر: ركب صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذع نخلة، "فجحش" بضم الجيم وكسر الحاء المهملة وشين معجمة، أي: خدش، وقيل: الجحش فوق الخدش، وحسبك أنه لم يقدر أن يصلي قائما، قاله ابن عبد البر. "شقه الأيمن" بأن قشر جلده، فالخدش قشر الجلد، وفي رواية: سلقه وهي مفسرة لمحله من الشق الأيمن، لأن الخدش لم يستوعبه، فليست تصحيفا كما زعم، "فدخلنا عليه نعوده" سمي من العائدين زيادة على أنس أبو بكر وجابر في مسلم وغيره وعمر في مصنف عبد الرزاق، "فحضرت الصلاة" المكتوبة كما في حديث جابر عند أبي داود وغيره. قال الحافظ: لكن لم أقف على تعيينها إلا أن في حديث أنس: فصلى بنا يومئذ، كأنها نهارية الظهر أو العصر، "فصلى بنا قاعدا" لأن قدمه انفكت كما رواه الإسماعيلي في حديث أنس وأبو داود وابن خزيمة عن جابر، بلفظ: فصرعه على جذع نخلة فانفكت قدمه، ولا ينافي جحش شقه لاحتمال وقوع الأمرين "فصلينا وراءه قعودا" هذه رواية الزهري عن أنس وظاهرها يخالف حديث عائشة في الصحيحين وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، ففي هذه الرواية اختصار، كأنه اقتصر على ما آل إليه الحال بعد أمره لهم بالجلوس. وفي الصحيح عن حميد عن أنس: فصلى بهم جالسا وهم قيام، وفيها أيضا اختصار، لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا". حتى قال: "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون". زاد بعض الرواة: "وإذا صلى قائما فصلوا قياما". رواه البخاري ومسلم. قال الحميدي: ومعاني سائر الروايات متقاربة وزاد البخاري قوله: "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" هو في مرضه القديم. وقد صلى في مرضه الذي مات فيه جالسا والناس خلفه قياما لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم. انتهى.   لم يذكر قوله لهم اجلسوا، والجمع بينهما أنهم ابتدءوا الصلاة قياما، فأومأ إليهم أن اجلسوا، فقعدوا، فنقل كل من الزهري وحميد أحد الأمرين، وجمعتهما عائشة، وكذا جابر في مسلم وجمع بوجهين آخرين زيفها الحافظ، "فلما قضى الصلاة" أي: أتمها بالسلام. وفي رواية: فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام" إماما "ليؤتم" أي: يقتدى "به" ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدم عليه في موقفه، بل يراقب أحواله، ويأتي على أثره بنحو فعله، ومقتضى ذلك أن لا يخالفه في شيء من الأحوال، "فإذا ركع فاركعوا". "حتى قال", حذف منه: "وإذا رفع فارفعوا، فإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" وفي رواية: "فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا". "أجمعون" بالواو في جميع طرق حديث أنس تأكيد لضمير الفاعل في قوله: فصلوا، وأخطأ من ضعفه، فإن المعنى عليه، واختلف في حديث أبي هريرة، فرواه بعض رواته أجمعن بالياء نصب على الحال، أي: جلوسا مجتمعين، أو تأكيد لضمير مقدر منصوب، كأنه قيل: أعنيكم أجمعين أفاده الحافظ. "زاد بعض الرواة: "وإذا صلى قائما فصلوا قياما". رواه البخاري ومسلم" بطرق عديدة وألفاظ متقاربة. "قال الحميدي" بضم الحاء عبد الله بن الزبير المكسي: "ومعاني سائر الروايات متقاربة" وإن اختلفت ألفاظها، "وزاد البخاري" أي: عن شيخه الحميدي المذكور، ولفظه: قال أبو عبد الله، أي: البخاري، قال الحميدي: قوله: "إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا". هو في مرضه القديم" الحاصل له قبل مرض موته، "وقد صلى في مرضه الذي مات فيه" حال كونه "جالسا والناس خلفه قياما" بالنصب على الحال، وفي رواية: قيام بالرفع، أي وهم قيام "لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمره" لفظ البخاري: من فعل النبي "صلى الله عليه وسلم" أي: فما كان قبله منسوخ الحكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف: لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد إلا قائما، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته بعد هذا قاعدا، وأبو بكر والناس خلفه قياما, وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام، والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به، لكن الصواب أن صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام.   وفي رواية: قال الحميدي: هذا منسوخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه والناس خلفه قيام لم يأمرهم بالقعود، قاله المصنف. "انتهى" كلام البخاري. "قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف" ومنهم مالك في رواية عنه ضعيفة: "لا يجوز للقادر على القيام أن يصلي خلف القاعد" لعذر "إلا قائما" فيجوز وتصح الصلاة، "واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته بعد هذا قاعدا وأبو بكر والناس خلفه قياما" فأقر الصحابة على القيام خلفه وهو قاعد، وأنكر أحمد وإسحاق وغيرهما دعوى النسخ، وقالوا: إن صلى الإمام جالسا صلى المأموم كذلك ولو قدر على القيام، قال أحمد: وفعله أربعة من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم جابر وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن فهد، بفتح القاف وسكون الهاء الأنصاري، "وإن كان بعض العلماء" المانعين صلاة القائم خلف القاعد. "زعم أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الإمام" وقد صلى قائما "والنبي صلى الله عليه وسلم مقتد به" فلا يرد نقضا على قولهم بالبطلان "لكن الصواب أنه صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام" والرواية المشهورة عن مالك بطلان صلاة المأموم قائما بالقاعد، وقاله محمد بن الحسن، وقال: ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لحديث جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعا: "لا يؤمن أحد بعدي جالسا" وتعقب بأن جابر ضعيف مع إرساله، لكن قواه عياض، بأن الخلفاء الراشدين لم يفعله أحد منهم والنسخ لا يثبت بعده صلى الله عليه وسلم لكن مواظبتهم على ترك ذلك تشهد لصحة الحديث، قال: والحجة للخصوصية أنه لا يصح التقدم بين يديه لنيه الله تعالى عن ذلك، ولأن الأئمة شفعاء، ولا يكون أحد شافعا له، ولذا قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. ولا يشكل عليه صلاته خلف عبد الرحمن بن عوف وأبي بكر، لأن محل المنع إذا أمه هو عليه السلام، أما إذا أم غيره وجاء وأبقاه، فلا منع بدليل قصتي أبي بكر وعبد الرحمن، إذ كل منهما أم غيره لغيبته، فجاء وأبقاه والحق له، وإلى نحو هذا أشار ابن عبد البر، ونقل ابن العربي عن بعض الأشياخ: أن الحال أحد وجوه التخصيص، وحاله صلى الله عليه وسلم والتبرك به وعدم العوض عنه تقتضي الصلاة معه على أي حال كان عليها، وليس ذلك لغيره ولا يرد عليه حديث: "صلوا كما رأيتموني أصلي" لأنه عام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 الباب الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة سوداء.   الباب الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة بضم الميم على المشهور وقد تسكن، وقرأ بها الأعمش، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها، وحكى الزجاج كسرها كما في الفتح، وفي المصباح: هذه اللغات إذا أضيف إليها يوم، أما إن أريد بلفظ الجمعة الأسبوع فبسكون الميم لا غير. قال الحافظ: اختلف في تسمية اليوم بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى في الجاهلية العروبة، بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة، فقيل: لأن كمال الخلق جمع فيه، ذكره أبو حذيفة في المبتدأ وإسناده ضعيف، وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه، ورد ذلك من حديث سليمان أخرجه أحمد وابن خزيمة وغيرهما في أثناء حديث وله شاهد عن أبي هريرة، ذكره ابن أبي حاتم موقوفا بإسناد قوي وأحمد مرفوعا بإسناد ضعيف، وهذا أصح الأقوال، ويليه ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بإسناد صحيح إليه في قصة تجميع الأنصار مع أسعد بن زرارة وكانوا يسمعون يوم الجمعة يوم العروبة، فصلى بهم وذكرهم، فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه، وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه، فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي، رواه الزبير بن بكار عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مقطوعا، وقيل: إن قصيا هو الذي كان يجمعهم، ذكره ثعلب في أماليه، وقيل: لاجتماع الناس للصلاة فيه، وبه جزم ابن حزم، فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى العروبة وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إن العروبة اسم قديم كان الجاهلية، وقالوا: في الجمعة يوم العروبة، فالظاهر أنهم غيروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تسمى: أول أهون جبار دبار مؤنس عروبة شيار. انتهى. "عن أنس بن مالك قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بمرآة" بزنة مفتاح آلة النظر، وجمعها مراء وزن جوار وغواش "بيضاء فيها نكتة سوداء" كذا في النسخ "بالنون" والذي في مسند الشافعي وكتة، قال أبو السعادات بن الأثير في شرحه: بفتح الواو وسكون الكاف، كالنقطة في الشيء، يقال في عينه وكتة، ويقال للبسر إذا بدأ فيه الأرطاب قد وكت توكيتا، ومعنى تشبيهه الجمعة بالمرآة البيضاء مثل في نقائه وصفائها وحسنها من بين الأيام، ويجوز أنه عني بالوكتة الساعة المخصوصة في الجمعة بالمدح تشبيها بوكتة البسر، لأن تلك النقطة التي تبتدئ بالأرطاب أشرف ما في البسرة، كما أن الساعة التي في الجمعة أشرف ساعاتها، ويجوز أن يريد بها صلاة الجمعة التي تميز بها هذا اليوم على باقي الأيام، وأن يريد بالوكتة أنها تزين المرآة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذه"؟. فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، والناس لكم فيها تبع -اليهود والنصارى- ولكم فيها خير، فيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا أستجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل! وما يوم المزيد"؟. فقال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثيب من مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور   البيضاء كما يزين الخال الوجه الحسن، فشبه الوكتة بالخال. انتهى. "فقال النبي صلى الله عليه وسلم" لجبريل: "ما هذه"؟. "فقال: هذه الجمعة فضلت" بضم الفاء مبني للمفعول، أي: ميزت "بها أنت وأمتك" بكثرة الخصال الحميدة التي أعدت لكم فيها، "والناس لكن فيها تبع اليهود والنصارى" بدل من الناس، المعنى أن لهما يومين بعد يوم الجمعة كما في الحديث الآتي: "فالناس لنا تبع اليهود غدا، والنصارى بعد غد". "ولكم فيها خير" عظيم كما يفيده التنون، "وفيها ساعة" خفيفة كما في مسلم وللشيخين، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده يقللها، "لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له" خرج بالخير غيره فلا يستجاب، ولأحمد من حديث سعد بن عبادة: ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم، وهو نحو بخير والقطعية من الإثم، فهو خاص على عام اهتماما به، وفي تلك الساعة اثنان وأربعون قولا، أرجحها قولان، أحدهما ما في مسلم وأبي داود عن أبي موسى مرفوعا: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة". والثاني أنها آخر ساعة في يوم الجمعة. رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه هو وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال: على شرط الشيخين عن عبد الله بن سلام، ورواه أبو داود والنسائي والحاكم بإسناد حسن عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها آخر ساعة بعد العصر يوم الجمعة". ورجح كلا جماعة، واختار صاحب الهدى أنها منحصرة في أحد الوقتين، وأن أحدهما لا يعارض الآخر، لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم دل على أحدهما في وقت، وعلى أحدهما في وقت آخر، وكذا قال ابن عبد البر الذي ينبغي الدعاء في الوقتين المذكورين، وسبقهما إلى نحو ذلك الإمام أحمد وهو أولى في طريق الجمع؛ وما عدا هذين القولين إما موافق لهما أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف كما بسطه في الفتح. "وهو عندنا" معشر الملائكة "يوم المزيد" الذي يقع فيه مزيد الإكرام لنا ولكم، كما بينه بقوله: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا جبريل وما يوم المزيد"؟. فقال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديا أفيح"، أي: واسعا يقال: فاح الوادي فهو أفيح على غير قياس والقياس فائح "فيه كثيب" مفرد كثب بضم الكاف والمثلثة وهو التل، ونسخة الجمع تصحيف، فالذي في المسند بالإفراد "من مسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته" تعظيما لليوم وزيادة في إكرام هؤلاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزمرذ عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله: أنا ربكم، قد صدقتكم وعدي، فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم، ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير، وفيه استوى ربك على العرش". رواه الشافعي في مسنده. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة". فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج   الملائكة بما يعطيهم من الخير فيه "وحوله" أي: الكثيب، وعلى الجمع فالضمير للوادي، لكن علم أنها تصحيف "منابر من نور عليها مقاعد النبيين" جمع نبي "وحفت تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت" من الجواهر معرب، وأجوده الأحمر الرماني نافع للوسواس والخفقان، وضعف القلب شربا ولجمود الدم تعليقا قاله القاموس "والزمرذ" بزاي أوله وذال معجمة آخره. قال المجد: بضمات وشد الراء الزبرجد معرب "عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب" كذا في النسخ والذي في المسند على ذلك الكثيب بإشارة المذكر وإفراد الكثيب، "فيقول الله: أنا ربكم قد صدقتكم" بخفة الدال وشدها "وعدي" لكم بالثواب، "فسلوني أعطكم" سؤالكم، "فيقولون: ربنا نسألك رضوانك" بكسر الراء وضمها لغة قيس وتميم بمعنى الرضا وهو خلاف السخط، "فيقول: قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد" على ما تتمنون، ولا يخطر ببالكم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، "فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم ربهم فيه من الخير" ابالغ الغاية، "وفيه استوى ربك على العرش" استواء يليق بجلاله، "رواه الشافعي في مسنده" وهو الأحاديث التي أسندها الشافعي مرفوعها وموقوفها، ووقعت في مسموع أبي العباس الأصم عن الربيع بن سليمان من كتاب الأم والمبسوط إلا أربعة أحاديث، رواها الربيع عن البويطي عن الشافعي التقطها محمد بن جعفر بن مطر النيسابوري من الأبواب لأبي العباس الأصم، وقيل: بل جردها الأصم بنفسه ولم يرتبها، ولذا وقع فيها تكرار في غير ما موضع قاله بعضهم. "وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم" قال القرطبي: خير وشر يستعملان للمفاضلة ولغيرها، فإذا كانتا للمفاضلة فأصلهما أخير وأشر بوزن أفعل، وهي هنا للمفاضلة غير أنها مضافة لنكرة، موصوفة بقوله: "طلعت عليه الشمس يوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة". وروى البيهقي في الدعوات من حديث أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". وكان يقول ليلة الجمعة: "ليل أغر ويوم الجمعة يوم أزهر".   الجمعة" أي: إنه أفضل من كل يوم طلعت عليه شمسه لما فيه من الأمور العظام والأشياء الجسام، كما أخبر عليه السلام ونص على بعضها بقوله: "فيه خلق آدم" الذي هو أصل البشر، ومن ولده الأنبياء والأولياء والصلحاء وهذه نعم عظيمة، "وفيه أدخل الجنة" وذلك أساس النعمة ورأس المنحة وهو المقام الموعود للمقبلين على الطاعة، "وفيه أخرج منها" لا للطرد، بل لقضاء أوطاره، ثم يعود إليها، قاله ابن العربي وقال الطيبي: فإن قيل دخوله الجنة فيه فضل اليوم، فما الفضل في خروجه؟ أجيب: بأنه لما كان سببا لتكثير النسل وبث عباد الله تعالى في الأرضين وإظهار عبادة الله التي خلق الخلق لأجلها، وما أقيمت السموات والأرض إلا لها وكان لا يتم ذلك إلا بخروجه منها كان أحرى بالفضل من استمراره فيها. وعند مسلم في حديث آخر عن أبي هريرة مرفوعا: "وخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة". قال ابن كثير: فإن كان يوم خلقه يوم إخراجه، وقلنا الأيام الستة كهذه الأيام، فقد أقام في الجنة بعض يوم من أيام الدنيا وفيه نظر، وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه، وقلنا: كل يوم بألف سنة، كما قال ابن عباس ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة. زاد في رواية مالك وأبي داود وغيرهما وفيه تيب عليه وفيه مات، فقبول توبته مظهر لطف الله تعالى به وكمال رحمته عليه، وفيه إرشاد لمن زل واقترف الإثم بالتوبة، وموته فيه رجوعه إلى الأوطان وهو عاقبة كل حي وفيه راحة المؤمن من تعب الدنيا، "ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة" وبه يعلم حال كل نفس وفيه الوصول إلى دار الثواب، فهو سبب لتعجيل جزاء الأنبياء والمؤمنين وإظهار كرامتهم وشرفهم فهو من الفضائل أيضا. "وروى البيهقي في الدعوات" والبزار وابن عساكر وأبو نعيم، كلهم "من حديث أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال": "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". قال ابن رجب: فيه ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرا، "وكان يقول ليلة الجمعة" نصب على الظرفية: "ليل أغر" أي: صبيح "ويوم الجمعة يوم أزهر" أي: نير مشرق، ولفظ رواية البيهقي: وكان إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم في "الهدي النبوي" لا أطيل بذكرها سيما وليست من غرضي. وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر وليلة الجمعة، ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية على سائر الأيام. وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام، قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه. انتهى. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة،   كانت ليلة الجمعة، قال: "هذه ليلة غراء ويوم الجمعة يوم أزهر" فيحتمل أنه يقول: هذا كله عند دخول الليلة وهو الظاهر، فيوم في يوم الجمعة مرفوع، ويحتمل نصبه إن كان يقوله عند دخول يومها أما ليلة الجمعة فمنصوب لا غير كما تبين من رواية البيهقي، ثم الحديث ضعفه البيهقي ثم النووي وغيرهما، فمن قال: لم يصح في فضل رجب غيره لم يصب. "وليوم الجمعة من الخواص ما يبلغ العشرين، ذكرها ابن القيم في الهدي النبوي لا أطيل بذكرها، سيما وليست من غرضي" لعل مراده ما سلم لابن القيم وإلا ففي الفتح ذكر ابن القيم في الهدي ليوم الجمعة اثنتين وثلاثين خصوصية، فسرد -أعني في الفتح- ستا وعشرين، ثم قال: وذكر فيها أشياء أخر فيها نظر وترك أشياء يطول تتبعها "وهو أفضل أيام الأسبوع، كما أن يوم عرفة أفضل أيام العام، وكذلك ليلة القدر" أفضل ليالي السنة، "وليلة الجمعة" أفضل ليالي الأسبوع، "ولهذا كان لوقفة الجمعة يوم عرفة مزية" فضيلة تميز بها "على سائر الأيام" لجمعه فضل الأسبوع والعام. "وقال أبو أمامة بن النقاش: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام" فخالف من فضل يوم رفة عليه، "قال: وغير هذا لا يسلم قائله من اعتراض يعجز عن دفعه. انتهى". وفي شرح مسلم للمصنف: صرح أئمتنا الشافعية بأن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم عرفة أفضل أيام السنة، وفي أفضل الأيام مطلقا وجهان، أصحهما يوم عرفة، ومقتضى حديث خير يوم طلعت فيه الشمس تفضيله مطلقا كما هو الوجه الثاني. "وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال": "نحن الآخرون" زمانا في الدنيا، "السابقون" أهل الكتاب وخيرهم منزلة وكرامة "يوم القيامة" في الحشر والحساب والقضاء لنا قبل الخلائق وفي دخول الجنة، وفي حديث حذيفة عند مسلم: "نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا تبع: اليهود غدا والنصارى بعد غد". رواه البخاري. وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم: "نحن الآخرون ونحن   القيامة المقضي لهم قبل الخلائق". وقيل: المراد بالسبق هنا إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو يوم الجمعة، وهو وإن كان مسبوقا بسبب قبله، لكنه لا يتصور اجتماع الأيام الثلاثة متوالية إلا ويكون يوم الجمعة سابقا، وقيل: المراد السبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب، فقالوا: سمعنا وعصينا والأولى أقوى، قاله الحافظ. "بيد أنهم" أي: اليهود والنصارى "أوتوا الكتاب" أي: التوراة والإنجيل، فاللام للجنس "من قبلنا" وفي رواية مسلم: غير أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا، وهذا شامل لجميع الكتب السماوية بدليل كل أمة، ثم خص اليهود والنصارى بالذكر، لأنهم أقرب زمانا وكتابهم أقوى تبيانا واختلافهم أوضح بطلانا. قال الحافظ: وسقط من الأصل، أي: البخاري قوله وأوتيناه من بعدهم وهي ثابتة في رواية أبي زرعة الدمشقي عن أبي اليمان شيخ البخاري، فيه: أخرجه الطبراني في مسند الشاميين، وكا لمسلم من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد ورواه البخاري تاما بعد من وجه آخر عن أبي هريرة، فقول القرطبي المراد بالكتاب فيه نظر، لقوله: وأوتيناه من بعدهم، فلو أريد التوراة ما صح الإخبار لأنا إنما أوتينا القرآن. "ثم هذا" أي: يوم الجمعة "يومهم الذي فرض الله عليهم" تعظيمه، وهذه رواية الحموي للبخاري، ورواه الأكثر الذي فرض عليهم بالبناء للمجهول، وأشير إليه بهذا، لأنه ذكر في أول الكلام عند مسلم، من طريق آخر عن أبي هريرة، ومن حديث حذيفة قالا: قال صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا". الحديث. كما أفاده الحافظ، "فاختلفوا فيه". هل يلزم تعينه أم يسوغ إبداله بغيره، فاجتهدوا فأخطئوا، "فهدانا الله له" بجهتي البيان والتوفيق، "فالناس لنا تبع" فيه "اليهود" أي: تبعية اليهود "غدا" يوم السبت، "و" تبعية "النصارى بعد غد" يوم الأحد، كذا قدره ابن مالك ليسلم من الأخبار بظرف الزمان عن الجثة وسبقه إلى نحو ذلك عياض قال الحافظ وهو أوجه من قول القرطبي نصب غدا ظرفا متعلقا بمحذوف تقديره اليهود يعظمون غدا، وكذا قوله بعد غد ولا بد من هذا التقدير، لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة ولابن خزيمة عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فهو لنا ولليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد، والمعنى، أنه لنا بهداية الله ولهم باختيارهم وخطئهم في اجتهادهم، "رواه البخاري" بهذا اللفظ أول الجمعة عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 السابقون". أي الآخرون زمانا، والأولون منزلة. والمراد باليوم: يوم الجمعة. وقوله: "بيد" -بفتح الموحدة وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة- أي: غير. وإذا عرف هذا، فقوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت،   "وفي رواية" سفيان "بن عيينة عن أبي الزناد" عبد الله بن ذكوان عن الأعرج عن أبي هريرة "عند مسلم" قال: قال صلى الله عليه وسلم "نحن الآخرون ونحن السابقون" بعطف إحدى الصفتين على الأخرى إيذانا بأن كل واحدة منهما مستقلة في بيان الفضيلة، وكرر نحن إيماء إلى أن لكل واحد من هذين الوصفين اختصاصا بهذه الأمة لا يوجد في غيرها، لا أن حصولهما جميعا مختص بهم فقط ويحصل لغيرهم واحد منهما، فهذه الأمة وإن كانت آخر الأمم صورة فهم أولهم حقيقة، قاله الولي العراقي. "أي: الآخرون زمانا والأولون منزلة", وفي نسخة: والسابقون، لكن الذي في الفتح الأولون وهي أنسب، لأن المراد تفسير السابقون في الحديث بالأولون في كل شيء يوم القيامة، "والمراد باليوم" في قوله: ثم هذا يومهم "يوم الجمعة" لذكره أولا في بعض طرق الحديث، "وقوله: بيد، بفتح الموحدة وإسكان المثناة من تحت وفتح الدال المهملة، أي: غير" وزنا ومعنى، وبه جزم الخليل والكسائي ورجحه ابن سيده، وعن الشافعي: معنى بيد من أجل، واستبعده عياض ولا بعد فيه، بل معناه أنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان، بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم، ويشهد له ما في فوائد ابن المقري عن أبي صالح عن أبي هريرة، بلفظ: نحن الآخرون في الدنيا ونحن أول من يدخل الجنة، لأنهم أوتوا اكتاب من قبلنا، وفي موطأ سعيد بن عفير عن مالك عن أبي الزناد، بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب. وقال الداودي: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى مع فنصب على الظرف، وقال الطيبي هي للاستثناء وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى: نحن السابقون للفضل، غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ووجه التأكيد ما أدمج فيه من معنى النسخ، لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن تأخر الوجود، وبهذا التقرير يظهر قوله نحن الآخرون مع كونه أمرا واضحا، قاله الحافظ، "وإذا عرف هذا فقوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ} أي: تعظيمه والتخلي فيه للعبادة {عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيه} , الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم لأجله. فإن قيل: هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد، وتم يوم الجمعة، فكان الفراغ في يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعينوا السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا، فهذان اليومان معقولان، فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيدا. فالجواب: إن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم أولى من هذا الوجه والله أعلم. قال ابن بطال: وليس المراد في الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه   أي: على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة" فناظروه وقالوا: السبت أفضل "فاختاروا السبت" فأوحى الله إليه دعهم وما اختاروا لأنفسهم "فاختلافهم في السبت كان اختلافا على نبيهم في ذلك اليوم لأجله" فإنما أمروا أولا بالجمعة صريحا، "فإن قيل: هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من السبت والأحد، وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام، وبدأ الخلق والتكوين في يوم الأحد" وختمه في يوم الجمعة، "فكان الفراغ في يوم السبت، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال" ونتفرغ للعبادة، "فعينوا السبت لهذا المعنى" فألزموا به وشدد عليهم أمره. "وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا عيدا لنا" لأن بدء الخلق موجب للشكر والعبادة، "فهذان اليومان معقولان" فعظمهما اليهود والنصارى لحكمة عقلية بزعمهم، "فما الوجه" من جهة العقل "في جعل يوم الجمعة عيدا، فالجواب أن يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام، وحصول الكمال والتمام يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم،" ألفاظ متقاربة المعاني، "فجعل يوم الجمعة يوم عيد أولى" أحق "من هذا الوجه" العقلي "والله أعلم". وقال البيضاوي: لأن الله تعالى خلق الإنسان للعبادة وكان خلقه يوم المعة، فالعبادة فيه أولى، ولأنه تعالى أوجد في سائر الأيام ما ينفع به الإنسان، وفي يوم الجمعة أوجد الإنسان نفسه والشكر على نعمة الوجود أهم وأحرى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل -والله أعلم- أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، ووكل إلى اختيارهم ليقوموا فيه لشريعتهم فاختلفوا فيه ولم يهتدوا ليوم الجمعة. كذا قال، ولكن قد روى ابن أبي حاتم عن إسماعيل السدي التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه، فأبوا، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود يوم الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم". وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] وهم القائلون: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93] .   "قال ابن بطال: وليس المراد في الحديث أنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه" أي: بالنص عليه "فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله تعالى عليه وهو مؤمن، وإنما يدل" الحديث "والله أعلم أنه فرض عليهم يوم من الجمعة، ووكل" تعيينه "إلى اختيارهم ليقوموا فيه لشريعتهم، فاختلفوا فيه" أي الأيام هو "ولم يهتدوا ليوم الجمعة" الذي هو أفضل الأيام وذهلوا عن الفضائل الواقعة فيه كخلق آدم وغير ذلك، عن تلك الحكم العقلية الثلاثة، "كذا قال" ابن بطال. قال الحافظ: ومال إليه عياض، ورشحه بأنه لو كان فرض عليهم بعينه لقيل: فخالفوا بدل فاختلفوا، وقال النووي: يمكن أنهم أمروا به صريحا، فاختلفوا هل يلزم بعينه ويسوغ إبداله بيوم آخر، فاجتهدوا في ذلك فاخطئوا انتهى. ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 124] . قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه، ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والنصارى في ذلك، "ولكن قد روى ابن أبي حاتم" بإسناد صحيح "عن إسماعيل السدي" بضم المهملة "التصريح بأنه فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا، ولفظه: "إن الله فرض على اليهود يوم الجمعة، فأبوا وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت" لفظ السدي كما في الفتح، إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا، "فجعل عليهم" وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم" فقد عهدت لهم صريحا "كما وقع لهم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْبَابَ} أي: باب القرية وهي بيت المقدس أو أريحاء {سُجَّدًا} منحنين، {وَقُولُوا} مسألتنا {حِطَّةٌ} أي: أن تحط عنا خطايانا، فقالوا: حبة في شعرة ودخلوا يزحفون على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 ويحتمل قوله "فهدانا الله له" بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد، ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة. واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ، وأنزل الله بعد ذلك: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن خزيمة من حديث   أستاههم "وهم القائلون: {سَمِعْنَا} قولك {وَعَصَيْنَا} " أمرك، "ويحتمل قوله: "فهدانا الله له" بأن نص لنا عليه، وأن يراد الهداية إليه بالاجتهاد" الذي طابق الصواب، "ويشهد للثاني ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين، قال: جمع" بالتشديد، أي: شهد الجمعة "أهل المدينة" كما يقال عيدوا إذا شهدوا العدين "قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة" أي: فرضها بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . "فقالت الأنصار" بين به سبب تجميعهم، فالفاء للسببية، "إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه نذكر الله تعالى ونصلي ونشكره" على نعمه، "فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ" ركعتين، فإن قيل المشروع حينئذ الظهر، والاكتفاء عنها بركعتين إنما يكون بتوقيف لا بالاجتهاد، فالجواب أن الصلاة فرضت أولا ركعتين كما في الصحيحين عن عائشة، وإنما زيد في صلاة الحضر بعد الهجرة إما بقليل أو بنحو عام كما مر، فالذي اجتهدوا فيه إنما هو الخطبة قبل الصلاة لا الركعتان اللتان هما الظهر، فلا ضير في تقديم حمد ووعظ قبل صلاتهما، أما على أنها فرضت أربعا كما في مسلم عن ابن عباس، فالسؤال وارد اللهم إلا أن يقال يحتمل أن أسعد علم بأنها فرضت بمكة، ولم يتمكن صلى الله عليه وسلم من إقامتها فيها على نحو ما يأتي قريبا للمصنف. "وأنزل الله بعد ذلك" أي: بعد الهجرة النبوية للمدينة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية، ففيها أن الجمعة فرض، لأن الأذان من خواص الفرائض، ولأنه لا ينهى عن المباح نهي تحريم إلا إذا أفضى إلى ترك واجب، ويضاف إلى ذلك التوبيخ على قطعها والآية مدنية، فيدل على أنها إنما فرضت بالمدينة وعليه الأكثر، وقال الشيخ أبو حامد: فرضت بمكة، قال الحافظ: وهو غريب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 كعب بن مالك قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة. فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها ثم، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدنية. انتهى. وقال ابن إسحاق: لما قدم الصلاة والسلام المدينة أقام بقباء، في بني عمرو بن عوف، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة وذلك قبل تأسس مسجده.   "وهذا وإن كان مرسلا" لأن ابن سيرين من التابعين "فله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة" وغير واحد، كما في الفتح "من حديث كعب بن مالك" الأنصاري أحد الثلاثة الذين خلفوا، "قال: كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة" بضم الزاي النجاري، شهد العقبات الثلاثة ومات في شوال سنة إحدى من الهجرة بالمدينة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم "فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة" أسعد ومن معه، "اختاروا يوم الجمعة بالاجتهاد ولا يمنع ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة فلم يتمكن من إقامتها ثم" أي: هناك، أي: بمكة لغلبة المشركين حينئذ. زاد الحافظ: وقد ورد فيه حديث ابن عباس عند الدارقطني "ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة" كما حكاه ابن إسحاق وغيره، فقد حصلت الهداية للجمعة بجهتي البيان والتوفيق. "انتهى" كلام فتح الباري بما زدته عنه من أول قوله، يحتمل قوله: فهدانا الله بلفظه وما قبله عن ابن بطال ... إلخ منه أيضا ببعض تصرف. "وقال" محمد "بن إسحاق" أمام المغازي "لما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة أقام بقباء" بضم القاف "في بني عمرو بن عوف" من الأنصار "يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم" الذي أس على التقوى، "ثم خرج يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده" صلى الله عليه وسلم "وكان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 وكان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة حين تميل الشمس. رواه البخاري من حديث أنس، وفي رواية: إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة -يعني الجمعة- وفي رواية سهل بن سعد عند البخاري ومسلم: كنا نصلي معه صلى الله عليه وسلم الجمعة ونقيل بعد الجمعة.   تميل الشمس" عن كبد السماء وفيه إشعار بمواظبته على ذلك. وأما رواية حميد التي بعدها في البخاري عن أنس: كنا نبكر بالجمعة ونقيل بعد الجمعة، فظاهره أنهم كانوا يصلونها باكر النهار، لكن طريق الجمع أولى من دعوى التعارض، والتبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته أو تقديمه على غيره وهو المراد هنا، والمعنى أنهم كانوا يبدءون بالصلاة قبل القيلولة، بخلاف ما جرت به عادتهم في صلاة الظهر في الحر، فكانوا يقيلون ثم يصلون لمشروعية الإبراد، ولهذه النكتة أورد البخاري طريق حميد عن أنس عقب طريق عثمان بن عبد الرحمن عنه قال ابن المنير: فسر البخاري حديث أنس الثاني بحديثه الأول إشارة منه إلى أنه لا تعارض بينهما. قال الحافظ: ولم يصرح البخاري برفع حديث أنس الثاني، وقد أخرجه الطبراني وابن حبان، فزادا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم، "رواه البخاري من حديث أنس" وهو من أفراده عن مسلم كحديث: كنا نبكر بالجمعة. "وفي رواية" للبخاري أيضا من أفراده: كان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا اشتد البرد بكر بالصلاة" صلاها في أول وقتها على الأصل، "وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة" قال الراوي: "يعني الجمعة" قياسا على الظهر لا بالنص، لأن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقا من غير تفصيل، ونحا البخاري إلى مشروعية الإبراد بالجمعة، ولم يثبت الحكم بذلك، وإنما قال: باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة، لأن قوله يعني يحتمل أنه قول التابعي مما فهمه، وأن يكون من نقله فرجح عنده إلحاقها بالظهر، لأنه إما ظهر وزيادة أو بدل عن الظهر، قاله ابن المنير. "وفي رواية سهل بن سعد عند البخاري" في مواضع مطولا ومختصرا، بلفظه: "ومسلم" بمعناه قال: "كنا نصلي معه صلى الله عليه وسلم الجمعة ونقيل" بفتح النون، أي: نستريح "بعد" صلاة "الجمعة" ولفظ مسلم عن سهل: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد صلاة الجمعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما فعلوا ذلك عرضا عوضا لما فاتهم من ذلك في وقته المعتاد لاشتغالهم بالتأهب للجمعة، ثم لحضورها، فلا حجة فيه لمن أخذ منه جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، بل أخذ منه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 ثم اعلم أن الخطبة شرط في انعقاد الجمعة، لا تصح إلا بها، وقال سعيد بن جبير: هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذا تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر. ولم يكن يؤذن في زمانه صلى الله عليه وسلم على المنار، وبين يديه، وإنما كان يؤذن بلال وحده بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر، كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم. وعبارة البرهان المرغيناني من الحنفية في هدايته: وإذا صعد الإمام على المنبر جلس، وأذن المؤذن بين يدي المنبر، جرى التوارث، ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان. وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعي عند أذان جلوس الخطبة،   ابن المنير أن الجمعة بعده، لأن العادة في القائلة أن تكون قبله، فأخبر الصحابي أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عوض القائلة، ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة، "ثم اعلم أن الخطبة" أي: جنسها، فشمل الخطبتين "شرط في انعقاد الجمعة لا تصح إلا بها" ويأتي ما يدل على شرط تقديمها على الصلاة. "وقال سعيد بن جبير" التابعي: "هي بمنزلة الركعتين من صلاة الظهر، فإذ تركها وصلى الجمعة فقد ترك ركعتين من صلاة الظهر" أي: حكمه حكم من ترك ذلك، ومعلوم أنه لا تصح صلاته، وهذا يتأتى على القول بأنها بدل عن الظهر فهي ظهر مقصورة، وقيل: هي فرض يومها، وهو المرجح عند الشافعية، والقول: لأن مرجحان عند المالكية، وعليه: فإذا ترك الخطبة وصلى الجمعة لا تصح أيضا، لكن لفقد شرطا الذي هو الخطبتان لا لنقص ركعتين كما يقول الأول. "ولم يكن يؤذن في زمانه صلى الله عليه وسلم على المنار" أي: المئذنة "وبين يديه، وإنما كان يؤذن بلال وحده بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر كما صرح به أئمة الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم" من المجتهدين، فهو بالرفع عطف على أئمة، "وعبارة البرها" أبي الحسن علي بن بي بكر، "المرغيناني" بفتح الميم وسكون الراء وكسر الغين المعجمة وتحتية ساكنة ونونين بينهما ألف نسبة إلى مرغينان مدينة بفرغانة بلد وراء نسا من خراسان، "من الحنفية في هدايته: وإذا صعد الإمام على المنبر جلس وأذن المؤذن بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث ولم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الأذان" دون الذي يفعل الآن قبله على المنابر، "وعبارة ابن الحاجب من المالكية: ويحرم السعي" كذا في النسخ، والذي في ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 وهو المعهود، فلما كان عثمان وكثروا أمر بالأذان قبله على الزوراء، ثم نقله هشام إلى المسجد، وجعل الآخر بين يديه. انتهى. ونحوه قال عبد الحق في "تهذيب الطالب". وأما قول ابن أبي زيد في رسالته: وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية. فقال شارحوه -الفاكهاني وغيره: يعني الثاني في الأحداث وهو الأول في الفعل، قال: وكان بعض شيوخنا يقول: الأول هو الثاني، والثاني هو الأول ومنشؤه ما تقدم.   الحاجب: ويحرم الاشتغال عن السعي، قال في التوضيح، الاشتغال بالبيع وغيره "عند أذان جلوس الخطبة" أي: جلوس الاستراحة قبلها "وهو المعهود" أي: في زمانه صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمانه يؤذن على المنار وبين يديه كما يفعل اليوم، قاله في التوضيح، ولما قرأ شيخنا هذا المحل سألني عن عبارة ابن الحاجب التي تحرفت على المصنف، وعن شرح لها فلم يكن عندي شيء، فقلت له: لعله أراد السعي في البيع والشراء والإجارة، وبين الصفوف ونحو ذلك من الأمور الممنوعة بالأذان الثاني في الفعل كما هو مذهب مالك فأمر بكتب ذلك، هذا وحذف المصنف من ابن الحاجب بعد قوله وهو المعهود قيل: مرة وقيل: مرتين وقيل: ثلاثا. قال في التوضيح: القول بأنه مرة نقله ابن القاسم عن مالك في المجموعة، ونقل في النوادر عن ابن حبيب، أنه كان المؤذنون ثلاثة واحد بعد واحد، "فلما كان" أي: صار "عثمان" خليفة فحذف الخبر، "وكثروا" أي: الناس الذين يحضرون الجمعة بالمدينة "أمر بالأذان قبله" أي قبل الأذان الذي بين يدي الخطيب "على الزوراء" بفتح الزاي وسكون الواو فراء ممدودة، "ثم نقله هشام" بن عبد الملك وكان بعد عثمان بثمانين سنة "إلى المسجد" أي: أمر بفعله فيه "وجعل الآخر" الذي يفعل بعد جلوس الخطيب على المنبر" بين يديه" مرة واحدة بمعنى أنه أبقاه بالمكان الذي يفعل فيه فلم يغيره بخلاف ما كان يفعل بالزوراء فحوله إلى المسجد على المنا، "انتهى" كلام ابن الحاجب "ونحوه" نصب مفعول فعله، "قال:" وفاعله "عبد الحق في" كتاب "تهذيب الطالب". "وأما قول ابن أبي زيد في رسالته: وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية" يعني عثمان ولو عبر به كان أولى، لأنه وإن كان أمويا لكنه ثالث الخلفاء الراشدين وبنو أمية صار علما بالغلبة على من بعد علي وابنه الحسن، "فقال شارحوه" أي: كتاب الرسالة "الفاكهاني وغيره، يعني الثاني في الأحداث وهو الأول في الفعل" الذي يفعل على المنابر. "قال" الفاكهاني: "وكان بعض شيوخنا يقول الأول" في الفعل "هو الثاني" في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 انتهى. وعبارة الزركشي -كغيره من الشافعية: ويجلس الإمام على المستراح ليستريح من تعب الصعود، ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه، فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله أذان، فلما كان زمن عثمان وكثر الناس، أمرهم بالتأذين ثانيا، ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، انتهى. وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء، رواه البخاري وقال: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة.   الأحداث "والثاني" في الفعل "هو الأول" في المشروعية، "ومنشؤه" أي: مبناه، وفي نسخ: ومفسره "ما تقدم" هو قوله، يعني الثاني ... إلخ، "انتهى" كلام الفاكهاني. "وعبارة الزركشي -كغيره من الشافعية، ويجلس الإمام على المستراح" محل الراحة وهو أعلى المنبر "ليستريح من تعب الصعود" هذا أحد القولين في تعليله والثاني للأذان، فعليه لا يسن في العيد، إذ لا أذان لها، "ثم يؤذن المؤذن بعد جلوسه" للاستراحة، "فإن التأذين كان حين يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله" أي: قبل الأذان بين يديه "أذان، فلما كان زمن" خلافة "عثمان" أي: في أثنائها "وكثر الناس" المسلمون الذين يحضرون الجمعة بالمدينة "أمرهم بالتأذين ثانيا" أي: بإحداث أذان ثان على الزوراء وإن كان الأول فعلا، "ثم يديم الجلوس إلى فراغ المؤذن. ا. هـ". "وعن السائب بن يزيد" بن سعيد الكندي، صحابي صغير، له أحاديث قليلة وحج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، ووله عمر سوق المدينة، مات سنة إحدى وتسعين، وقيل: قبلها وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، "قال: كان النداء" الذي ذكره الله في القرآن "يوم الجمعة أوله" بالرفع بدل من اسم كان، وخبرها قوله: "إذا جلس الإمام على المنبر". وعند ابن خزيمة عن السائب: كان ابتداء الأذان الذي ذكره في القرآن يوم الجمعة إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة "على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر" أي: مدة خلافتهما، "فلما كان عثمان" أي: خليفة "وكثر الناس" زاد في رواية الإسماعيلي بالمدينة، وظاهره أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته، لكن في مستخرج أبي نعيم أن ذلك كان بعد مضي مدة من خلافته. "زاد النداء الثالث" بعد دخول الوقت "على الزوراء، رواه البخاري" من أفراده عن مسلم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 وفي رواية له أيضا: أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد، وهو يفسر بما فسر به قول ابن أبي زيد السابق. وعند ابن خزيمة: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة. قال ابن خزيمة: قوله "أذانين" يريد: الأذان والإقامة تغليبا أو لاشتراكهما في الإعلام. وللنسائي: كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل أقام. وفي رواية وكيع عن ابن أبي ذئب: فأمر عثمان بالأذان الأول، ونحوه للشافعي من هذا الوجه.   من طريق ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب عن السائب وله عنده طرق تدور على الزهري عن السائب. "وقال" البخاري عقب روايته في رواية أبي ذر له وحده، "الزوراء موضع بالسوق بالمدينة" على المعتمد، وجزم ابن بطال، بأنه حجر كبير عند باب المسجد وفيه نظر لما في رواية ابن خزيمة وابن ماجه، بلفظ: زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها الزوراء وكان يؤذن له عليها، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة، وفي رواية: فأذنه مؤذن بالزوراء قبل خروجه ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت، وفي مسلم عن أنس أن نبي الله وأصحابه كانوا بالزوراء والزوراء بالمدينة عند السوق، قاله الحافظ. "وفي رواية له" للبخاري "أيضا" من طريق عقيل عن ابن شهاب عن السائب "إن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد" النبوي في أثناء خلافته "وهو يفسر بما فسر به قول ابن أبي زيد السابق" إنه الثاني في الأحداث أول في الفعل. "وعند ابن خزيمة" عن الزهري عن السائب: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة، قال ابن خزيمة قوله: أذانين يريد الأذان والإقامة تغليبا" لأنه شرعا غير الإقامة، فغلب عليها فسماها باسمه "أو لاشتراكهما في الإعلام" فلا تغليب، لأن الأذان لغة الإعلام، وفي الإقامة إعلام بدخول وقت الصلاة كالأذان، فهو حقيقة لغوية في كل منهما، "وللنسائي" عن الزهري عن السائب: "كان بلال يؤذن إذا جلس لنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل" عنه "أقام" الصلاة. "وفي رواية وكيع" بن الجراح، "عن ابن أبي ذئب" محمد بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن السائب عند ابن خزيمة: "فأمر عثمان بالأذان الأول" فعلا، "ونحوه للشافعي من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 قال في فتح الباري: ولا منافاة بينهما، لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا، وباعتبار كونه مقدما على الأذان والإقامة يسمى أولا. وأما قوله في رواية البخاري: "إن التأذين الثاني"، فمتوجه بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة. وقال الشيخ خليل في "التوضيح" واختلف النقل: هل كان يؤذن بين يديه عليه الصلاة والسلام، أم على المنار؟ الذي نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم عن مالك في "المجموعة". ونقل ابن عبد البر في كافية عن مالك أن الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم. وقال غيره: هو أصل الأذان في الجمعة، وكذا نقل صاحب "تهذيب الطالب" والمازري. وفي "الاستذكار": إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان   هذا الوجه" أي: عن وكيع ... إلخ. "قال في فتح الباري: ولا منافاة بينهما لأنه باعتبار كونه مزيدا يسمى ثالثا" قبله الأذان بين يديه ثم الإقامة فهو ثالث، "وباعتبار كونه مقدما على الأذان" بين يدي الخطيب "والإقامة يسمى أولا. "وأما قوله في رواية البخاري" المذكورة ثانيا "إن التأذي الثاني" ليوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد "فمتوجه" أي: منصرف أو منساق "بالنظر إلى الأذان الحقيقي لا الإقامة" فلا. "وقال الشيخ خليل" بن إسحاق "في التوضيح اسم شرحه على ابن الحاجب. "واختلف النقل هل كان بين يديه عليه الصلاة والسلام أو على المنار الذي نقله أصحابنا أنه كان على المنار، نقله ابن القاسم" عبد الرحمن "عن مالك في المجموعة" اسم كتاب. "ونقل ابن عبد البر في كافيه" اسم كتاب له في الفقه، "عن مالك أن الأذان بين يدي الإمام ليس من الأمر القديم، وقال غيره" أي: غير مالك "هو أصل الأذان في الجمعة" الذي كان في العهد النبوي. "وكذا نقل صاحب تهذيب الطالب" لعبد الحق "والمازري، وفي الاستذكار" اسم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 يوم الجمعة بين يدي الإمام كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر، وأن ذلك حدث في زمن هشام. قال: وهذا قول من قل علمه، ثم استشهد بحديث السائب بن يزيد المروي في البخاري السابق، ثم قال: وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: كان يؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر. انتهى. والحكمة في جعل الأذان في هذا المحل ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر فينصتون له إذا خطب. قاله المهلب. قال في فتح الباري: وفيه نظر، فإن في سياق محمد بن إسحاق عند   الشرح الصغير على الموطأ لابن عبد البر "إن هذا اشتبه على بعض أصحابنا، فأنكر أن يكون الأذان يوم الجمعة بين يدي الإمام، كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وأن ذلك حدث في زمن هشام" بن عبد الملك "قال" وفي الاستذكار، "وهذا قول من قل علمه" بالأحاديث، وكأنه يعني الداودي، وفي فتح الباري تواردت الشراح على أن معنى قول الأذان الثالث أن الأولين الأذان والإقامة، لكن نقل الداودي أن الأذان أولا كان في سفل المسجد، فلما كان عثمان جعل من يؤذن على الزوراء، فلما كان هشام، يعني ابن عبد الملك جعل من يؤذن بين يديه فصاروا ثلاثة، فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. ا. هـ. وهذا الذي ذكره يغني ذكره عن تكلف رده، فليس له فيما قاله سلف، ثم هو خلاف الظاهر، فتسمية ما أمر به عثمان ثالثا يستدعي سبق اثنين قبله، وهشام إنما كان بعد عثمان بثمانين سنة. ا. هـ. "ثم استشهد" في الاستذكار "بحديث السائب بن يزيد" بياء قبل الزاي، "المروي في البخاري السابق" قريبا، "ثم قال" بعد ذكره. "وقد رفع الإشكال فيه ابن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد، قال: كان يؤذن" بالبناء للمفعول والمؤذن بلال "بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ جلس على المنبر يوم الجمعة وأبي بكر وعمر. ا. هـ" كلام التوضيح "والحكمة في جعل الأذان في هذا المحل" أي: بين يدي الخطيب "ليعرف الناس بجلوس الإمام على المنبر، فينصتون" بضم الياء من أنصت أكثر من فتحها من نصت كضرب، أي: فهم يستمعون "له إذا خطب، قاله المهلب" وفي نسخة: فينصتوا بحذف النون عطفا على يعرف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 الطبراني وغيره في هذا الحديث: أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات. والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جمع البلاد إذ ذاك، لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهي أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج وبالبصرة زياد. وفي تفسير جويبر عن الضحاك عن معاذ: أن عمر أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا عن المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين. وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ، ولا يثبت، وقد تواردت الأخبار أن عثمان   "قال في فتح الباري: وفيه نظر: فإن في سياق محمد بن إسحاق عند الطبراني وغيره" عن الزهري "في هذا الحديث" عن السائب "أن بلالا كان يؤذن على باب المسجد، فالظاهر أنه كان لمطلق الإعلام لا لخصوص الإنصات" نعم لما زيد الأذان الأول كان للإعلام، وكان الذي بين يدي الخطيب للإنصات، هذا حذفه من كلام الفتح، ثم قال فيه بعد قليل: "والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد، إذ ذاك لكونه كان حينئذ خليفة مطاع الأمر". وفي رواية للبخاري عن السائب: فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك، ولابن خزيمة: فثبت ذلك حتى الساعة، "لكن ذكر الفاكهي" في تاريخ مكة "أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج" بن يوسف "وبالبصرة زياد" ابن أبيه، وهذا استدراك على قوله: في جميع البلاد. زاد الحافظ: وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن لا تأذين للجمعة عندهم سوى مرة. "وفي تفسير جويبر" تصغير جابر "عن الضحاك" بن زياد الراوي عن برد بن سنان عن مكحول كما في الفتح قبل قوله: "عن معاذ" بن جبل "أن عمر أمر مؤذنين" بالتثنية بدليل قوله: "أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا عن المسجد حتى يسمع الناس، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم قال عمر: نحن ابتدعناه" أي: تعدد الأذان "لكثرة المسلمين" فهذا يخالف حديث السائب، وبما أسقطه من قول الفتح عن برد بن سنان عن مكحول يتضح قوله، "وهذا منقطع بين مكحول ومعاذ ولا يثبت". قال الحافظ: أن معاذا كان خرج من المدينة إلى الشام في أول ما غزوا الشام، واستمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 هو الذي زاده فهو المعتمد. وقد روى عبد الرزاق ما يقوي هذا الأثر عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: كلا، إنما كان يدعو الناس ولا يؤذن غير أذان واحد. انتهى. لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان، فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره. ويمكن الجمع بأن الذي كان في زمن عمر بن الخطاب استمر على عهد عثمان، ثم رأى أن يجعله أذانا وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعله عمر لكونه مجرد إعلام. وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به: إنه لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأن كل ما لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا، ومنها ما يكون غير ذلك. ثم إن   إلى أن مات بالشام في طاعون عمواس. "وقد تواردت الأخبار أن عثمان هو الذي زاد فهو المعتمد" دون هذا الأثر، "و" لكن "قد روى عبد الرزاق ما يقوي هذا الأثر عن ابن جريج" عبد الملك، "قال: قال سليمان بن موسى" الأموي، مولاهم الدمشقي، صدوق، فقيه في حديثه بعض لين: "أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، فقال عطاء: "كلا" ردع عن ذلك القول: "إنما كان عثمان يدعو الناس" للصلاة "ولا يؤذن غير أذان واحد. ا. هـ. لكن عطاء لم يدرك عثمان بن عفان فرواية من أثبت ذلك عنه مقدمة على إنكاره" ولا سيما وممن أثبت السائب وهو صحابي. وفي صحيح البخاري متصلا: "ويمكن الجمع بأن الذي كان في زمن عمر بن الخطاب" ليس أذانا، بل ذكرا مجردا يدعو به الناس إلى الصلاة، "استمر على عهد عثمان ثم رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال، ففعل ذلك، فنسب إليه لكونه بألفاظ رأى أن يجعله أذانا، وأن يكون على مكان عال, ففعل ذلك، فنسب إليه لكون بألفاظ الأذان، وترك ما كان يفعل عمر لكونه مجرد إعلام"، وهذا وإن كان بعيدا يحتمل لأجل الجمع على تقدير الصحة "وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر" عبد الله، "قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، وأن يكون أراد به أنه لم يكن في زمنه علي الصلاة والسلام لأن ما لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 فعل عثمان رضي الله عنه كان إجماعا سكوتيا لأنهم لم ينكروه عليه. انتهى. وأول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه -كما قدمناه في حديث الهجرة- في بني سالم بن عوف، في بطن واد لهم، فخطبهم وهي أول خطبة خطبها بالمدينة وقال فيها. "الحمد لله أحمده، وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأومن به ولا أكفره،   يسمى بدعة، لكن منها ما يكون حسنا" كزيادة الأذان المذكور، "ومنها ما يكون غير ذلك، ثم إن فعل عثمان رضي الله عنه كان إجماعا سكوتيا، لأنهم لم ينكروه عليه. ا. هـ" ما التقطه من فتح الباري بتقديم وتأخير، وفيه أيضا: وتبين ما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات، فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو في بعض البلاد دون بعض واتباع السلف الصالح أولى. واستدل البخاري بحديث السائب على الجلوس على المنبر قبل الخطبة خلافا لبعض الحنفية، واختلف من أثبته هل هو للأذان أو لراحة الخطيب، فعلى الأول لا يسن في العيد، إذ لا أذان هناك، واستدل به أيضا على التأذين قبل الخطبة وعلى ترك تأذين اثنين معا، وعلى أن خطبة الجمعة سابقة على الصلاة، ووجهه أن الأذان لا يكون إلا قبل الصلاة، وإذا كان يقع حين يجلس الإمام على المنبر دل على سبق الخطبة على الصلاة. وزاد البخاري وأبو داود والنسائي في بعض طرق حديث السائب: ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معا، أو المراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم، أو المراد في الجمعة فلا يرد الصبح، وعرف بهذا الرد على قول ابن حبيب أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام وخطب، فإنه دعوى تحتاج إلى دليل، ولم يرد ذلك من طريق متصلة يثبت مثلها. ا. هـ. "وأول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه كما قدمناه في حديث الهجرة في بني سالم بن عوف" من الأنصار "في بطن واد لهم" في مسجد لهم، وقدم المصنف في الهجرة اسم الوادي واسم المسجد وأنه لذلك سمي مسجد الجمعة، "فخطبهم" وصلى بهم وكانوا مائة، وقيل: أربعون كما مر. "وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها": "الحمد لله أحمده" جمع بين الجملتين الاسمية والفعلية إيماء لاستحقاقه الحمدين، وقدم الاسمية لأنها أكمل واتباعا للقرآن، "وأستعينه" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة والحكمة، على فترة في الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل, من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله بنفسه، فإن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه عون وصدق على ما يبتغون من الآخرة، ومن يصل الذي بينه وبين الله من أمره في السر   أطب إعانته في جميع الأمور، "وأستغفره" أطلب منه الغفران وهو الستر على الذنب، بأن يحول بينه وبينه كما هو اللائق بمقامه، "وأستهديه" أطلب منه الهداية، أي: الدوام عليها، أو المراد طلب ذلك لأمته، "وأومن به ولا أكفره" أي لا أجحد شيئا مما يجب له، ولا أجوز ما يستحيل عليه، أتى به للرد على من يزعم أنه مؤمن به ويجعل له ولدا كاليهود، أو يشرك بعبادته أحدًا كأهل الأوثان. "وأعادي من يكفر به" لأنهما أعداؤه، والمحب يعادي عدو محبوبه، "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" تأكيد لوحده، "وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" لجميع العالمين، "أرسله بالهدى ودين الحق، والنور" القرآن "والموعظة" مواعظ القرآن، أو القول الرقيق "والحكمة" القرآن أو غيره "على فترة" انقطاع "من الرسل" إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول، ومدة ذلك ستمائة سنة كما في البخاري عن سلمان، وهو أصح ما قيل فيها "وقلة من العلم" بحيث لم يكن منه حين البعثة إلا بقايا من أهل الكتاب متفرقين في الأراضي، "وضلالة من الناس" بالكفر والمعاصي "وانقطاع من الزمان" أي: زمان الأنبياء "ودنو" قرب "من الساعة" القيامة "وقرب من الأجل" انتهاء مدة الدنيا. "من يطع الله ورسوله فقد رشد" بفتح الشين المعجمة وكسرها، "ومن يعص الله ورسوله فقد غوى" بفتح المعجمة والواو، أي انهمك في الشر "وفرط" قصر وضيع "وضل ضلالا بعيدا" صاحبه عن الحق. "أوصيكم بتقوى الله فإنه" أي: الشأن، وفي نسخة: فإنها أي: التقوى، وفي أخرى: فإن "خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه" بضم الحاء، أي: يحمله "على الآخرة" أي: على الأعمال النافعة له فيها، "وأن يأمره بتقوى الله" فإنها أقوى ما ينفعه وينجيه من العذاب "واحذورا" خافوا "ما حذركم الله بنفسه" وفي نسخة: من نفسه "فإن تقوى الله لمن عمل به" أي: بما حذر الله منه، بأن امتثل أوامره واجتنب نواهيه "على وجل"، "بفتحتين" "ومخافة من ربه عون" خبران، "وصدق على ما يبتغون" يطلبون "من الآخرة" من ثوابها والنجاة من عقابها، "ومن يصل الذي بينه وبين الله من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد، هو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] . فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاه ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما، وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وسخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب، وترفع الدرجة، فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم بكتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من   أمره في السر والعلانية" الجهر، "لا ينوي به إلا وجه الله" بأن يخلص لله فيه سرا وجهرا "يكن له ذكرا في عاجل أمره، وذخرا فيما بعد الموت" في القبر ويوم القيامة "حين يفتقر" يحتاج "المرء إلى ما قدم" في الدنيا من الأعمال الصالحة، "وما كان مما سوى ذلك" وهو السوء "يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا" غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها "ويحذركم الله نفسه" إن غضب عليكم أو يحذركم عقابه "والله رءوف بالعباد" ومنه تحذيرهم "هو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول: {مَا يُبَدَّلُ} ". ما يغير " {الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ} " أي: بذي ظلم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} " {لِلْعَبِيدِ} " فأعذبهم بغير جرم، "فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله" بالمد خلاف العاجل "في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا، ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما" نال غاية مطلوبه، "وإن تقوى الله توقي" بضم الفوقية وفتح الواو وكسر القاف المشددة، أي: تدفع "مقته" وغضبه "وتوقي عقوبته وسخطه" أي: تحفظ المتقي من مخالفة أمره، "وإن تقوى الله تبيض الوجه" كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] , "وترضي الرب وترفع الدرجة" عند الله تعالى وعند خلقه "فخذوا بحظكم" نصيبكم "ولا تفرطوا في جنب الله" أي: طاعته "فقد علمكم بكتابه ونهج لكم سبيله" أي: بين لكم طريقه الموصلة إليه، وهي الأحكام الشرعية. "ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين" أي: يظهره للخلق، "فأحسنوا" بالصدقة "كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه" الكفار "وجاهدوا في الله" لإقامة دينه "حق جهاده" باستفراغ الطاقة فيه، ونصب حق على المصدر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 حيي عن بينة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس، ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". ذكر هذه الخطبة القرطبي في تفسيره، وغيره. وقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب متوكئا على قوس أو عصا, وفي سنن ابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة   "هو اجتباكم" اختاركم لدينه، "وسماكم المسلمين ليهلك" أي: يكفر "من هلك عن بينة" أي: بعد حجة ظاهرة قامت عليه، "ويحيا" يؤمن "من حيي عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت، فإنه" أي: الشأن "من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي" يحكم "على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس" ما أراد "ولا يملكون منه، الله أكبر" أعظم وأجل من أن يملك منه، "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". "ذكر هذه الخطبة القرطبي في تفسيره وغيره" وفيها من البلاغة والفصاحة وعذوبة الألفاظ وسهولتها وقرب فهمها وقلة ألفاظها وكثرة معانيها والنطق بالقرآن قبل نزوله بلفة تارة نحو {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} فإنها في غزوة بدر، وهي بعد هذه الخطبة، وكذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا} الآية، فإن السورة مدنية كلها وهذه الخطبة قبلها، وبمعناه أخرى، كقوله: والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، فإنها بمعانيها في سورة المائدة وهي من أواخر ما نزل، وكقوله: "فإن تقوى الله تبيض الوجه" ... إلخ، فإنها في آل عمران بمعناها، وغير ذلك مما لو أراد ذو البصيرة أن يجمع جزءا حافلا في شرحها لأمكنه ولأبدع {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . "وقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب متوكئا على قوس" تارة، "أو عصا" تارة أخرى، فأو للتنويع لا للشك، وفي أبي داود: كان إذا قام يخطب، أخذ عصا فتوكأ عليها وهو على المنبر. "وفي سنن ابن ماجه" ومستدرك الحاكم وسنن البيهقي عن سعد القرظ، "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس" مناسب، لأنه من آلات الحرب، ويقع في بعض نسخ سقيمة أو سيف، ولا وجود له في ابن ماجه ولا غيره، فهي خطأ، "وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا" يرسم بالألف، لأنها منقلبة عن واو. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 خطب على عصا، وعند أبي داود بإسناد حسن: أنه صلى الله عليه وسلم قام متوكئا على قوس أو عصا. قالوا: والحكمة في التوكؤ على نحو السيف، الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، ولهذا قبضه باليسرى كعادة من يريد الجهاد به. ونازع فيه العلامة ابن القيم في "الهدي النبوي" إذ قال: إن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحي. كذا قال فالله أعلم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم. رواه ابن ماجه. وكان صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، رواه مسلم من   "وعند أبي داود بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وسلم قام متوكئا على قوس أو عصا" في خطبة الجمعة، "قالوا" تبرأ منه لرد ابن القيم له كما يأتي، "والحكمة في التوكؤ على نحو السيف" أي: السيف ونحوه من آلة الحرب، كالقوس، وتأويله بأن النحو هنا المماثل، أي: على ما يشبه السيف وليس بسيف، لأن النحو لغة المثل حتى لا يخالف ابن القيم، إنما يتم مع بعده لو كان قائل هذه الحكمة يقول بالنفي، وإنما قالوا بالإثبات بلا مستند، فأنكره ابن القيم عليهم "الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح" والسيف من أعظمه، "ولهذا قبضه باليسرى كعادة من يريد الجهاد به، ونازع فيه العلامة ابن القيم في الهدي النبوي", يعني: كتابه المسمى بزاد المعاد في هدي خير العباد، "إذ قال" ما لفظه: لم يحفظ أنه صلى الله عليه وسلم" توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى قيام الدين به وهو جهل قبيح، لأن الوارد العصا والقوس "ولأن الدين لم يقم إلا بالقرآن والوحي" وأما السيف فلمحق المشركين والمدينة التي كانت خطبته فيها إنما افتتحت بالقرآن، هذا كلامه برمته، وتبرأ منه المصنف بقوله: "كذا قال فالله أعلم". لكن قد أقره جماعة، فإنما يتم رده لو ثبت أنه توكأ على سيف، وتجويز أن ذلك هو الظاهر لحرصه على بعث السرايا، والغزو لا يجدي نفعا، إذ طلب النقل لا يدفعه تجويز العقل. "وكان صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر" للخطبة "سم" على الناس، وبه تمسك الشافعية في سنية ذلك، "رواه ابن ماجه" عن جابر وسنده ضعيف جدا كما قاله الحافظ، وقال الزيلعي: حديث واه وسأل عنه ابن أبي حاتم أباه فقال: هذا موضوع، ومن ثم لم يأخذ به مالك ولا أبو حنيفة. "وكان صلى الله عليه وسلم يخطب" يوم الجمعة حال كونه "قائما، ثم يجلس" بعد فراغه من الأولى، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 رواية جابر بن سمرة. وفي رواة له: كانت له صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما، يقرأ القرآن ويذكر الناس. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يخطب خطبتين، كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب.   "ثم يقوم فيخطب" الخطبة الثانية حالة كونه "قائما، رواه مسلم من رواية جابر بن سمرة" وزاد: فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة، واستشكل صلاته معه صلى الله عليه وسلم ألفي جمعة تثنية ألف، إذ هو محال، لأن ذلك إنما يكون في نيف وأربعين سنة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل هذا المقدار من الجمع، وأجيب: بأنه لعله اعتبر أعداد الركعات، وعد الخطبتين ركعتين، فإذا صلى معه صلى الله عليه وسلم الجمعة عشر سنين وشيئا، ولا بعد في مداومته معه، ذلك القدر حصل له ألفا صلاة جمعة بعدد الركعات بعد كل ركعة، وجعل الخطبة ركعتين، وأهل الحجاز يسمون الركعة صلاة، والصلاة ركعة، وقد أخرجه النسائي وابن ماجه بدون قوله: والله ... إلخ. "وفي رواية له" لمسلم: قبل هذه عن جابر بن سمرة، قال: "كانت له" اختصار لقوله: للنبي "صلى الله عليه وسلم خطبتان" يوم الجمعة "يجلس بينهما يقرأ" فيهما "القرآن ويذكر الناس" بآلاء الله تعالى والجنة والنار والمعاد، ويأمرهم بالتقوى ويبين مواقع رضا الله وموارد غضبه، فهو استئناف لبيان ما كان يقوله في الخطبتين، كأنه قيل: ماذا كان يقوله فيهما، ويأتي أنه كان يقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] الآية، وأنه قرأ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فليس متعلقا بقوله: يجلس بينهما وإلا نافى قوله بعده ثم يجلس، فلا يتكلم. "وفي حديث ابن عمر عند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يخطب خطبتين" وفصل ما أجمل، فقال: "كان يجلس إذا صعد المنبر" جلسة الاستراحة "حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب" الخطبة الأولى، "ثم يجلس" للفصل بين الخطبتين، "فلا يتكلم" جهرا، فلا ينافي رواية ابن حبان أنه كان يقرأ فيه، أي: الجلوس. وقال الحافظ: مفاده أن الجلوس بينهما لا كلام فيه وليس فيه نفي أن يذكر الله أو يدعوه سرا. وقال المصنف: يستحب أن يكون جلوسه بينهما قدر سورة الإخلاص تقريبا لاتباع السلف والخلف، وأن يقرأ فيه شيئا من كتاب الله للاتباع، رواه ابن حبان: "ثم يقوم فيخطب" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم من علماء الأمصار: الخطبة قائما. ونقل غيره عن أبي حنيفة: أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب. وعن مالك رواية أنه واجب فإن تركه أساء وصحت الخطبة. وعند الباقين: أن القيام شرط، يشترط للقادر كالصلاة، واستدلوا بحديث جابر بن سمرة، وبمواظبته صلى الله عليه وسلم على القيام، وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين، فلو كان القعود مشروعا في الخطبتين، ما احتيج إلى الفصل بالجلوس، ولأن الذي نقل عنه الجلوس، وهو معاوية، كان معذورا، فعند ابن أبي شيبة من طريق الشعبي: أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه.   الخطبة الثانية. "قال ابن المنذر: الذي عليه أهل العلم" سقط من قلمه "جل" قبل "أهل" وهو في الفتح "من علماء الأمصار الخطبة قائما" وجوبا، "ونقل غيره عن أبي حنيفة أن القيام في الخطبة سنة وليس بواجب". "وعن مالك رواية أنه واجب، فإن تركه أساء" أي: عصى لترك الواجب "وصحت الخطبة" لأن وجوبه ليس شرطا على هذه الرواية، "وعند الباقين" من الأئمة "أن القيام شرط" للصحة "يشترط للقادر كالصلاة". "واستدلوا بحديث جابر بن سمرة" المتقدم قريبا "وبمواظبته صلى الله عليه وسلم على القيام" كما قال جابر بن سمرة: فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، "وبمشروعية الجلوس بين الخطبتين" اتفاقا إنما الخلاف في سنيته ووجوبه، "فلو كان القعود مشروعا" أي: جائزا "في الخطبتين ما احتيج إلى الفصل بالجلوس" لكن في جعل هذا دليلا نظر، إذ القيام مشروع باتفاق والقائلون بأنه سنة أجازوا الجلوس ولم يوجبوه فلهم أن يقولوا إنما يشرع الجلوس بينهما لمن خطب قائما، "ولأن الذي نقل عنه الجلوس وهو معاوية كان معذورا" وهو أول من جلس على المنبر، "فعند ابن أبي شيبة من طريق" عامر "الشعبي أن معاوية إنما خطب قاعدا لما كثر شحم بطنه" ولحمه، وحيث كان الجلوس للعذر صحت الخطبة وجاز الاقتداء به. زاد الحافظ: وأما من احتج به بأنه لو كان شرطا ما صلى من أنكر مع القاعد فجوابه أنه محمول على أن من صنع ذلك خشي الفتنة، أو أن الذي قعد قعد باجتهاد كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكره ابن مسعود ثم صلى خلفه فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر. انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 واستدل الشافعي لوجوب الجلوس بين الخطبتين بما تقدم، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد الثناء: "أما بعد" كما قال البخاري.   وليس مراده أن أحدًا أنكر على معاوية ثم صلى معه حتى يعترض بأنه لا حاجة لذلك بعد حمله على أن كان لعذر، إنما مراده ما قدمه قبل ذلك بقرب في جملة أدلة الجمهور على وجوب القيام بقوله، وبحديث كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فأنكر عليه وتلا {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} . وفي رواية ابن خزيمة: ما رأيت كاليوم قط إماما يؤم المسلمين، يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرتين. انتهى. فكان كعبا صلى معه بعد إنكاره عليه مع كونه لا عذر له لأحد الأمرين المذكورين، ولا يشكل تنظيره بأن القيام هنا شرط عند المنكر بخلاف قصر السفر فرخصة يجوز العدول عنها إلى الإتمام، كما اعترضه بعض هذا، لأن مراده مطلق التنظير لخشية الفتنة أو الاجتهاد وإن اختلف حكم المسألتين. قال الحافظ: وروى ابن أبي شيبة عن طاوس قال: أول من خطب قاعدا معاوية حين كثر شحم بطنه، وهذا معضل يعضده ما روى سعيد بن منصور عن الحسن، قال: أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان، وكان إذا أعيا جلس ولم يتكلم حتى يقوم، وأول من خطب جالسا معاوية. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياما حتى شق على عثمان القيام، فكان يخطب قائما ثم يجلس، فلما كان معاوية خطب الأولى جالسا والأخرى قائما، ولا حجة في ذلك لمن أجاز الخطبة قاعدا، لأنه تبين أن ذلك لضرورة. انتهى. "واستدل الشافعي لوجوب الجلوس بين الخطبتين" الذي قال الأكثر والأئمة الثلاثة أنه سنة "بما تقدم" من قوله في حديث ابن عمر: ثم يجلس فلا يتكلم، "وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ". وتعقبه ابن دقيق العيد، بأن ذلك يتوقف على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخلة تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل. "وكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد الثناء" على الله تعالى: "أما بعد" كما قاله البخاري" بمعناه حيث ترجم باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد. رواه عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزين بن المنير: يحتمل أن "من" موصولة بمعنى الذي، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنها شرطية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم مساكم". ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين" ويقرن   والجواب محذوف، أي: فقد أصاب السنة، وعلى التقديرين فينبغي للخطباء أن يستعملوها تأسيا واتباعا. انتهى ملخصا. وقد ذكر البخاري في الترجمة ستة أحاديث، أولها حديث أسماء في كسوف الشمس، وفيه: فحمد الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد" ثانيها: حديث عمران بن تغلب "بفوقية فمعجمة" في قسم النبي صلى الله عليه وسلم مالا، فأعطى رجالا وترك رجالا، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد". ثالثها: حديث عائشة في صلاة الليل، وفيه: فتشهد ثم قال: "أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" رابعها: حديث أبي حميد الساعدي أنه قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد"، خامسها: حديث المسور بن مخرمة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد يقول: "أما بعد"، سادسها: حديث ابن عباس: صعد صلى الله عليه وسلم المنبر وكان آخر مجلس جلسه ... الحديث، وفيه: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد" ... الحديث في الوصية بالأنصار. قال الحافظ: وقد تتبع طرق الأحاديث التي فيها أما بعد الحافظ عبد القادر الرهاوي، فرواها عن اثنين وثلاثين صحابيا، منها ما أخرجه عن المسور بن مخرمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب خطبته، قال: "أما بعد". ورجاله ثقات، وظاهره المواظبة على ذلك، ويستفاد من الأحاديث أنها لا تختص بالخطب، بل تقال في صدر الرسائل والمصنفات. "وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب" أي: وعظ "احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه" ليتوجه الناس إلى استماع كلامه بجوامع هممهم، ويعرفون أن ذلك في الإبلاغ مهم جدا، بحيث أنه صلى الله عليه وسلم يبلغه بغاية الجد ونهاية الاجتهاد، ويبذل وسعه، لا سيما إذا كانت الخطبة مشتملة على ذكر الساعة وقربها. وفيه أن على الخطيب أن يعلي صوته ليسمع جميع من في مجلس وعظه، وأن تكون حركاته وأفعاله مطابقة لأقواله، فإن مطابقة قوله لفعله وموافقة علنه لسره هو الداعي إلى قبول أمره ونهيه والمفضي إلى استماع حلوه ومره، فإن سامع النصح إذا رأى الناصح فاعلا ما أمر به، تاركا ما نهى عنه بادر إلى قبول نصيحته، وأما اشتداد غضبه صلى الله عليه وسلم، فيحتمل كما قال عياض أن يكون لأمر خولف فيه شرعه، ويحتمل أن يريد أن صفته الغضبان برفعه صوته مبالغة في تبليغ ما يخطب. ويؤيد هذا قوله "حتى كأنه منذر جيش" أي: كمن ينذر قوما من جيش عظيم قصد الإغارة عليهم، فكما أن المنذر يرفع صوته وتحمر عيناه ويشتد غضبه على تغافلهم، كذلك حاله صلى الله عليه وسلم عند الإنذار، يقول: "صبحكم" العدو، أي: أتاكم وقت الصباح "مساكم" العدو، أي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 بين أصبعيه السبابة، والوسطى، ويقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في   أتاكم وقت المساء، والمراد الإنذار بإغارة العدو في الصباح أو المساء، "ويقول" صلى الله عليه وسلم: "بعثت أنا والساعة" بالرفع والنصب روايتان، فالنصب مفعول معه والرفع عطف على تاء بعثت وحسن للتأكيد بالضمير المنفصل "كهاتين". ويقرن بضم الراء على المشهور الفصيح، وحكي كسرها، قاله النووي بين أصبعيه السبابة والوسطى بيانا لقوله: "كهاتين" ورجح النصب، بأن التشبيه واقع في اتصال الساعة بمبعثه على أن شريعته متصلة بالساعة، وأنه لا نبي بعده، كما أنه لا أصبع بين هاتين الأصبعين وأنهما متصلتان، ورجح الرفع بأن التشبيه واقع في التفاوت الذي بين رءوس هاتين الأصبعين. والمعنى: أن قيام الساعة قرب لزمان بعثه، كقرب التفاوت بين رءوس هاتين الأصبعين، وأن الزمان المتخلل بين بعثه وقيام الساعة قليل، كما أن التفاوت بين رءوس هاتين الأصبعين قليل، ويؤيد هذا ما رواه الترمذي عن أنس رفعه: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بعض رواته بالسبابة والوسطى فما فضل إحداهما على الأخرى، فهذا صريح في أن التشبيه واقع في التفاوت بين الأصبعين لا في الاتصال وأخرج أيضا عن المستورد بن شداد مرفوعا: "بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه لأصبعيه السبابة والوسطى". ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله" القرآن، سماه حديثا لنزوله منجما لا لكونه ضد القديم "وخير الهدي هدي محمد" بضم الهاء وفتح الدال فيهما وبفتح الهاء وسكون الدال فيهما. قال النووي: ضبطناه بالوجهين، وكذا ذكره جماعة بالوجهين، قال عياض: رويناه في مسلم بالضم، وفي غيره بالفتح، وبه ذكره الهروي وفسره بالطريق، أي: أحسن الطريق طريق محمد "صلى الله عليه وسلم" يقال: فلان حسن الهدي، أي: الطريقة والمذهب، وأما على رواية الضم، فمعناه الدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . وقال {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، وإذا إضيف إلى الله فهو بمعنى التأييد والتوفيق والعصمة، كقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . قال المصنف: وعلى التحقيق يرجع الكل إلى معنى واحد إذ الكل بخلق الله وقدرته وإرادته، وإنما يضاف إلى المخلوق لأنه كاسبه وواسطة في الإيصال، قال: ويرجح رواية الفتح والسكون مناسبته لقوله: "وشر الأمور محدثاتها" بفتح الدال، فإن المراد بها التي ليس لها في الشرع أصل يشهد لها بالصحة والجواز، قال: ويرجح المشهورة، أي: ضم الهاء وفتح الدال، بأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 النار"، ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ". رواه مسلم والنسائي من حديث جابر. وفي رواية لمسلم: كانت خطبته صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: "نحمد الله ونثني عليه"، ثم يقول على أثر ذلك، وقد علا صوته، وذكر نحوه.   لما ذكر بعد كتاب علم أن المراد الإرشاد الحاصل منه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ذلك الكتاب الذي هو خير الحديث وإيضاحه وتبيينه وهي الهداية المزيلة للضلال من العالمين، "وكل بدعة ضلالة" هي لغة: ما عمل من غير مثال سابق، واستعمل في الشرع بهذا المعنى أيضا، وتنقسم إلى واجبة كعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعة، ومندوبة كتصنيف الكتب وبناء المدارس والربط، ومباحة كالتبسط في الأطعمة والأشربة، ومحرمة كالقراءة بالألحان المخرجة للقرآن، ومكروهة كأكثر الأشياء المنصوص على كراهتها. قال النووي: فالحديث من العام المخصوص ولا ينافيه تأكيده بكل، لأنها لا تمنع التخصيص، كقوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأقاف: 25] "وكل ضلالة في النار" ثم يقول" صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى" أحق "بكل مؤمن من نفسه" في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمهم، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه، أو هو أولى بهم، أي: أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم، "من" مات و "ترك مالا فلأهله" وارثه، "ومن ترك دينا" لا وفاء له، "أو" ترك "ضياعا" بفتح الضاد عيالا عالة وأطفالا لا قدرة لهم على القيام بمصالحهم، فهم محتاجون إلى كافل يقوم بهم، "فإليّ وعليّ" يحتمل أنهما راجعان إلى كل واحد من المذكورين قبلهما، أي: من ترك ضياعا فلهم المجيء إليّ ويكون القيام بمصالحهم عليّ، ومن ترك دينا فلصاحبه التوجه إليّ ويكون أداؤه عليّ، وعبر "بعليّ" الدالة على الوجوب إيماء إلى عظم أمر الضياع وشدة القيام بمصالحهم وبيان التفاوت بينه وبين أداء الدين، فإن فيه بقاء النفس وهو أقوى المهمات، وفيه إشعار بأن ذلك تبرع بالنسبة إلى الدين فلصاحبه الإبراء وتحصل المثوبة بذلك بخلاف أمر الضياع، فالقيام بمصالحهم واجب قطعا. "رواه مسلم والنسائي من حديث" عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن "جابر" بن عبد الله. "وفي رواية لمسلم" من طريق سليمان بن بلال عن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال: "كانت خطبته صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة": "نحمد الله ونثني عليه" بما هو أهله، "ثم يقول على أثر ذلك" بكسر الهمزة وسكون المثلثة، "وقد علا" ارتفع "صوته وذكر نحوه" لفظ مسلم، ثم ساق الحديث بمثله وفرق بين اللفظين عند المحدثين فإذا قالوا بمثله يريدون بلفظه وإذا قالوا نحوه أرادوا أنه بغير لفظه كما بينه في الفتح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 وفي أخرى: كان يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: "من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الحديث كتاب الله"، ثم ذكر نحو ما تقدم. وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما أخذت: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس. رواه مسلم. وعن الحكم بن حزن الكلفي قال: قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سابع سبعة، أو تاسع تسعة، فلبثنا عنده أياما، شهدنا فيها الجمعة، فقام صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، أو قال على عصا، فحمد الله وأثنى عليه، كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم   "وفي" رواية "أخرى" لمسلم أيضا من طريق سفيان عن جعفر عن أبيه عن جابر قال: "كان" صلى الله عليه وسلم " يخطب الناس" بضم الطاء "يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله". ثم ذكر نحو ما تقدم" لفظ مسلم ثم ساق الحديث بمثل حديث الثقفي. "وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان" الأنصارية صحابية مشهورة وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها، روت عنها عمرة، "قالت" لقد كان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو ثلاثة و"ما أخذت" أي: حفظت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي: السورة بتمامها "إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل" يوم "جمعة على المنبر إذا خطب الناس" قال العلماء: سبب اختيار "ق" لأنها مشتملة على ذكر الموت والبعث وأحوالهما وفيها المواعظ البليغة والزواجر الأكيدة، قاله النووي: وقال المصنف وقال المظهري: أراد به أول السورة لا جميعها لأن جميعها لم يقرأ في الخطبة، كذا قال: فليتأمل، "رواه مسلم" من طرق. "وعن الحكم بن حزن" بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي ونون "الكلفي" بضم الكاف وفتح اللام، ثم فاء من بني كلفة بن عوف بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، صحابي، قليل الحديث، قال مسلم: لم يرو عنه إلا شعيب بن زريق الطائفي، قال: كنت جالسا عند الحكم وله صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشا يحدثنا، "قال: قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة" شك الراوي، قال: فأذن لنا، فدخلنا، فقلنا: أتيناك يا رسول الله لتدعو لنا بخير، فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا وأمر لنا بشيء من تمر، والساق إذ ذاك دون قال: "فلبثنا عنده أياما شهدنا فيها الجمعة، فقام صلى الله عليه وسلم متوكئا على قوس، أو قال على عصا" شك الراوي "فحمد الله وأثنى عليه كلمات" نصب بنزع الخافض، أي: بكلمات أو ضمن أثنى معنى ذكر كلمات "خفيفات" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 قال: "يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا". رواه أحمد وأبو داود. وعن يعلى بن أمية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا} [الزخرف: 77] . رواه البخاري ومسلم. وعن أبي الدرداء: قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقال: "توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا، وصلوا الذي بينكم   أي: قليلات اللفظ "طيبات مباركات" لكثرة معانيها وبلاغة ألفاظها، "ثم قال: يا "أيها الناس إنكم لن تفعلوا أو لن تطيقوا" شك الراوي "كل ما أمرتكم به" لعجزكم عنه، "ولكن سددوا" بمهملات، أي: لازموا الصواب من القول والفعل "وأبشروا" من الله بالقبول والثواب على ذلك، "رواه أحمد وأبو داود" وأبو يعلى وغيرهم، "وعن يعلى بن أمية" التميمي حليف قريش، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} اسم خازن النار، وقرئ: "يا مال" بكسر اللام على الترخيم وفيه إشعار بأنهم لضعفهم لا يستطيعون تأدية اللفظ بتمامه، ولله در من قال: ما كان أغنى أهل نار جهنم ... عن قولهم يا مال وسط جحيم عجزوا عن استكمال لفظة مالك ... فلأجل ذا نادوه بالترخيم {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ليمتنا، قال المصنف في شرح مسلم: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقط، وأنه قرأ السورة كلها. انتهى. والثاني بعيد جدا، فإن قيل كيف نادوا مع قوله: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] أي: ساكتون سكوت يأس، أجيب بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم، "رواه البخاري" في موضعين من بدء الخلق، وفي التفسير "ومسلم" في الجمعة، "وعن أبي الدرداء، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، قال:" زاد في رواية جابر: "يا أيها الناس". "توبوا إلى الله" وإن كنتم من الكاملين قياما بحق العبودية وإعظاما للربوبية لا رغبة في الثواب ولا رهبة من العذاب، وفي رواية جابر: "توبوا إلى ربكم". "قبل أن تموتوا" والموت قد يأتي على غفلة، فالواجب تعجيل التوبة، "وبادروا" أي: سابقوا وعجلوا من المبادرة وهي الإسراع "بالأعمال الصالحة" النافعة عند الله "قبل أن تشتغلوا عنها" بنحو مرض وهموم، وللبيهقي عن أبي أمامة، رفعه: بادروا بالأعمال هرما ناغصا وموتا خالسا ومرضا حابسا وتسويفا مؤيسا "وصلوا" بكسر الصاد وضم اللام من الوصل "الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 وبين ربكم تسعدوا، وأكثروا الصدقة ترزقوا، وأمروا بالمعروف تخصبوا، وانهوا عن المنكر تنصروا، يا أيها الناس إن أكيسكم أكثركم ذكرا للموت، وأكرمكم أحسنكم استعدادا له، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور". رواه ... ورواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله مختصرا بنحوه. وفي مراسيل أبي داود عن الزهري قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله   وفي رواية جابر: يكثر ذكره لكم، فسعادتهم بكثرة ذكره لهم "وأكثروا الصدقة" زاد جابر في السر والعلانية "ترزقوا": يكثر رزقكم ويزيد ببركتها، وفي رواية جابر: تؤجروا وتحمدوا وترزقوا وتنصروا وتجبروا، "وأمروا بالمعروف تخصبوا" بضم التاء وكسر الصاد من أخصب، أي: يكثر خير أرضكم "وانهوا عن المنكر تنصروا" على عدوكم، "أيها الناس أن أكيسكم" أي: أعقلكم وأفطنكم "أكثركم ذكرا للموت" لوقوعه لا محالة، "وأكرمكم" أفضلكم "أحسنكم استعدادا له" الأعمال الصالحة وترك المخالفة "ألا" بالفتح والتخفيف "وإن من علامات العقل التجافي" بجيم وفاء التباعد "عن دار الغرور" الدنيا "والإنابة" الرجوع "إلى دار الخلود" الآخرة "والتزود لسكنى القبور" بالأعمال الحسنة "والتأهب" الاستعداد "ليوم النشور" البعث. "رواه" كذا في نسخ وبعده بياض. "ورواه ابن ماجه" والبيهقي "من حديث جابر بن عبد الله مختصرا" بدون قوله: وأمروا بالمعروف إلى هنا "بنحوه" وزاد عقب قوله: "وتنصروا وتجبروا". "واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فريضة مكتوبة من وجد إليها سبيلا، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي جحودا بها واستخفافا بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له ألا ولا حج له ألا ولا بر له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه ألا لا تؤمن امرأة رجلا ولا يؤم أعرابي مهاجرا ولا يؤم فاجر مؤمنا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسطوته". هذا تمام حديث جابر عند ابن ماجه والبيهقي. "وفي مراسيل أبي داود عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب، "قال: كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم" أي: أولها "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا"، خصها لشدتها وقوتها وتزيينها، "من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له" إذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه". وعنده أيضا عنه قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب: "كل ما هو آت قريب، لا بعد لما هو آت، يريد الله أمرا، ويريد الناس أمرا، ما شاء الله كان ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما أبعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل". وقال جابر بن عبد الله: كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب الجمعة يقول بعد أن يحمد الله ويصلي على أنبيائه: "أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم   الأمر كله في قبضته وتحت إرادته سبحانه، "وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا" للمؤمنين "ونذيرا" للعاصين "بين يدي الساعة"، أي: قدامها بقرب "من يطع الله ورسوله فقد رشد" بفتح الشين المعجمة وكسرها، "ومن يعصهما فقد غوى" بفتح المعجمة والواو، قال عياض: وقع في رواية لمسلم بكسر الواو وفتحها، والصواب الفتح وهو من الغي، وهو الانهماك في الشر، ومر أن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يجمع الله ورسوله في ضمير واحد بخلاف غيره، فلا ينافي قوله للذي خطب عنده، فقال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال صلى الله عليه وسلم: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله". رواه مسلم، وهذا المرسل قد رواه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود، قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة "الحمد لله" فذكره بلفظه إلا أنه قال: "ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا". فإنما عدل المصنف إلى المرسل لقوله أوله كان صدر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، أما المسند فصدره بأنه علمهم خطبة الحاجة، "نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه" الظاهر أنه من كلام الزهري، ويحتمل أنه من المرفوع تعليما للأمة، "وعنده" أي: أبي داود "أيضا عن" أي: الزهري، "قال: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب" بعد الحمد والثناء: "كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت"، وإن أبطأ "يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا ما شاء الله كان" وجد لا محالة "ولو كره الناس، ولا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما أبعد الله، لا يكون شيء إلا بإذن الله عز وجل". "وقال جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما: "كان صلى الله عليه وسلم إذ خطب يوم الجمعة يقول بعد أن يحمد الله" يثني عليه بما هو أهله "ويصلي على أنبيائه": "أيها الناس إن لكم معالم" أي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن العبد المؤمن بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، والذي نفسي بيده، ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". وعن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما فقال: "ألا إن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق يقضي فيها ملك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، ألا فاعملوا   مظان تستدلون بها على معرفة الحق من الباطل، أو هي جمع معلم مصدر ميمي بمعنى العلم، أي: أن لكم علوما، "فانتهوا إلى معالمكم" أي: علومكم فلا تتجاوزوها، ويوافقه قول الحسن البصري: يا أيها الناس إن لكم علما، فانتهوا إلى علمكم، "وإن لكم نهاية، فانتهوا إلى نهايتكم" فلا تعدوها، "إن العبد المؤمن بين مخافتين" وبينهما بقوله: "بين أجل قد مضى لا يدري ما الله قاض" حاكم "فيه" هل يحاسب ويعاقب على ما فعل فيه أو يعفو عنه، "وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله صانع فيه" أيوفقه فيه أم لا، "فليأخذ العبد من نفسه لنفسه" بأن يحاسبها على أفعالها ويقطع عن العصيان ويتوب "ومن دنياه لآخرته" بالأعمال الصالحة، "ومن الشبيبة قبل الكبر" المانع من كثرة العبادة، "ومن الحياة قبل الممات، والذي نفسي بيده" قسم كان يقسم به كثيرا "ما بعد الموت من مستعتب" بضم فسكون ففتح الفوقيتين بينهما عين ساكنة اسم مفعول من استعتب، أي: طلب منه الإعتاب وهو إزالة العتب وهو اللوم، "وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة" للمتقين "أو النار" للفجار، "أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم". "وعن عمرو" بن العاصي "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوما، فقال" زاد الطبراني من حديث شداد: "أيها الناس". "ألا إن الدنيا عرض "، بفتحتين متاع "حاضر يأكل منها البر" أي التقي "والفاجر" أي: العاصي ولو بالكفر، "ألا" بالفتح والتخفيف للتنبيه "وإن الآخرة أجل" في حديث شداد وعد "صادق يقضي" أي: يحكم، وبه عبر شداد "فيها ملك قادر" على كل شيء. زاد في حديث شداد: "يحق الحق ويبطل الباطل، أيها الناس كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا فإن كل أم يتبعها ولدها" هذا آخر رواية شداد. "ألا وإن الخير كله بحذافيره" أي: بجميعه "في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره" جمع حذفور كعصفور "في النار, ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر" أي: خوف، ولا تغتروا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره". رواه الشافعي، وعند أبي نعيم في الحلية نحوه. واختلف: هل يجب الإنصات، ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة، أو لا؟ وعن الشافعي: في المسألة قولان مشهوران، وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا؟ فعلى الأول يحرم، لا على   بالأعمال، فإن النافع هو المقبول ولا اطلاع عليه، ولأنه إذا وضع عدله على عبده لم يبق له حسنة، "واعلموا أنكم معروضون" كذا في نسخ بواو بين الراء والضاد من عرض. وفي نسخ: معرضون بدون الواو، منساقون من المحشر "إلى أعمالكم" ومعرضون عليها فتجازون عليها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما أفاده بقوله، "فمن يعمل مثقال" زنة "ذرة" نملة صغيرة "خيرا يره" يرى ثوابه، "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" يرى جزاءه. "رواه الشافعي، وعند أبي نعيم في الحلية نحوه" وروى بعضه الطبراني من حديث شداد كما علم. "واختلف هل يجب الإنصات ويمنع من جميع أنواع الكلام حال الخطبة أم لا" كلام مجمل يصدق بوجوبه لمن سمع، وغيره فيجري فيه الخلاف وبمن قرب من الإمام أو بعد عنه، وبما إذا كان الكلام بعد الجلوس، وبما إذا كان قبله وتحرير محل الخلاف يعلم من حكاية الأقوال الآتية، فذهب الجمهور إلى منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة ولو لم يسمعها للحديث المتفق عليه، "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت". زاد في رواية أحمد: "عليك بنفسك" ولحديث علي رفعه: "ومن دنا فلم ينصت فإن عليه كفلين من الوزر" أخرجه أحمد وغيره، لأن الوزر لا يترتب على من فعل مباحا، ولو كان مكروها كراهة تنزيه. "وعن الشافعي في المسألة قولان" في منعه وإباحته مع الكراهة "مشهوران" عنه، فلا ينافي أن أرجحهما عند أصحابه الثاني، "وبناهما بعض الأصحاب على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين أم لا، فعلى الأول يحرم" لحرمة الكلام في الصلاة "لا على الثاني" فلا يحرم، "والاني هو الأرجح عندهم" أي الشافعية، فيجوز مع الكراهة ولو لسامع، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 الثاني، والثاني هو الأرجح عندهم، فمن ثم أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام، حتى شنع من شنع عليهم من المخالفين. وعن أحمد أيضا روايتان. وعنهما أيضا: التفرقة بين من يسمع الخطبة وبين من لا يسمعها. وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلا عن قليل من التابعين. ودخل سليك الغطفاني، وهو صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال صلى الله عليه وسلم: "صليت"؟ قال:   "فمن ثم أطلق منهم إباحة الكلام شنع من شنع عليهم من المخالفين" في إطلاق الإباحة بلا كراهة لما يلزم عليه من ترك الأحاديث مع كثرتها وصحتها. "وعن أحمد أيضا روايتان" بالحرمة والكراهة، "وعنهما" الشافعي وأحمد "أيضا التفرقة بين من يسمع الخطبة" فيسن له الإنصات، "وبين من لا يسمعها" فلا، لكن الأولى أن يشتغل بالتلاوة والذكر، "وأغرب ابن عبد البر، فنقل الإجماع على وجوب الإنصات على من سمعها إلا عن قليل من التابعين" ولفظ ابن عبد البر لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات على من سمعها في الجمعة، وأنه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهال يتكلم والإمام يخطب أنصت ونحوها أخذا بهذا الحديث. وروي عن الشعبي وناس قليل أنهم كانوا يتكلمون إلا في حين قراءة الإمام في الخطبة خاصة، وفعلهم ذلك مردود عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم أنه لم يبلغهم، الحديث نقله الحافظ، وتعقبه بقوله: وللشافعي قولان، فذكر ما قدمه المصنف، ثم قال: واختلف إذا خطب بما لا ينبغي من القول، وعلى ذلك يحمل ما نقل عن السلف من الكلام حال الخطبة؟ والذي يظهر أن من نفى وجوبه أراد أنه لا يشترط في صحة الجمعة بخلاف غيره. انتهى. وفيه نظر، إذ القائلون بوجوب الإنصات لا يجعلوه شرطا في صحتها وعلى ما ظهر له يكون الخلاف لفظيا، وليس كذلك، وقد قال هو قبل ذلك -في حديث علي مرفوعا عند أحمد، "ومن قال: صه، فقد تكلم ومن تكلم فلا جمعة له" - ما نصه: قال العلماء: معناه لا جمعة له كاملة للإجماع على إسقاط فض الوقت عنه. انتهى. "دخل سليك" بمهملة مصغر، ويقع في نسخ سقيمة أبو سليك، والصواب حذف أبو، فإنه وقع في أكثر روايات الصحيحين، عن جابر: جاء رجل بالإبهام. وفي رواية لمسلم: دخل سليك وهو ابن هدبة، وقيل: ابن عمرو "الغطفاني" بفتح المعجمة، ثم المهملة بعدها فاء من غطفان بن سعد بن قيس عيلان، ووقع عند الطبراني: جاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 لا، قال: "قم فاركع ركعتين، وأسرع فيهما لتسمع الخطبة". رواه البخاري ومسلم وأبو داود. واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد. وتعقب: بأنها واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد -عند أصحاب السنن: جاء رجل -والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب- في هيئة بذة، فقال له: "أصليت"؟ قال: لا، قال: "قم فصل ركعتين" وحض الناس على الصدقة عليه ... الحديث. فأمره بأن يصلي ركعتين كي يراه بعض الناس وهو   النعمان بن نوفل، قال أبو حاتم الرازي وهو وهم من بعض الرواة في تسمية الآتي، وللطبراني أيضا عن أبي ذر، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال لأبي ذر: "صليت ركعتين"؟، قال: لا، الحديث، وفيه ابن لهيعة وشذ بقوله وهو يخطب، فالحديث المشهور عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، أخرجه ابن حبان وغيره. ومن المستغرب ما حكاه ابن بشكوال أن الداخل المذكور، يقال له أبو هدبة، فإن كان محفوظا فلعلها كنية سليك صادقت اسم أبيه، قاله الحافظ ملخصا "وهو صلى الله عليه وسلم يخطب". زاد في رواية لمسلم: يوم الجمعة، "فقال له صلى الله عليه وسلم: "صليت" كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام، وثبتت للأصيلي، وكذا لمسلم، ولفظه: أصليت يا فلان، "قال: لا" ما صليت، قال: "قم فاركع ركعتين" وفي رواية: فصل ركعتين، وزاد في رواية لمسلم: وتجوز فيما، بجيم وزاي، يعني: خفف "وأسرع فيهما لتسمع الخطبة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود" من طرق كلها عن جابر بن عبد الله "واستدل به على أن الخطبة لا تمنع الداخل من صلاة تحية المسجد" بل يستحب له فعله كما ذهب إليه أحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين. وحكي عن الحسن البصري وغيره من المتقدمين، وقال مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين: لا يصليهما، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي، حكاه عياض، "وتعقب بأنها واقعة عين" أي: مادة معينة "لا عموم لها، فيحتمل اختصاصها بسليك، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد" الخدري "عند أصحاب السنن" وغيرهم: "جاء رجل "والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب في هيئة بذة" بفتح الموحدة والمعجمة الثقيلة، أي: رثة بالية، "فقال له": "أصليت"؟ بهمزة الاستفهام "قال: لا" ما صليت قال: "قم فصل ركعتين" تحية المسجد، أو قبلية الجمعة، "وحض" "بمهملة فمعجمة" حمل "الناس على الصدقة عليه" لبذاذته "الحديث، فأمره بأن يصلي ركعتين كي يراه بعض الناس وهو قائم فيتصدق عليه" وقد فهموا ذلك فتصدقوا عليه بثوبين كما يأتي، فلا دلالة فيه على العموم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 قائم فيتصدق عليه. وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث: "لا تعودن لمثلها"، وما يضعف الاستدلال به على جواز التحية في تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس. فهذا ما عتل به من طعن في الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية، وكله مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجوزون التطوع لعلة التصدق. قال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به.   قال الحافظ: ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة، فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه" , وعرف بهذه الرواية الرد على من طعن في هذا التأويل، فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتهم ذا بذة فتصدقوا عليه، أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم، فليركع حتى يتصدق الناس عليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة. "وورد أيضا ما يؤيد الخصوصية، وهو ما أخرجه ابن حبان، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث: "لا تعودن لمثلها" لفظ ابن حبان لمثل هذا كما في الفتح، فنهيه عن العود صريح في أنه خصه بذلك للبذاذة، "ومما يضعف الاستدلال به على جواز التحية في تلك الحالة" أي: حالة الدخول والإمام يخطب، "أنهم" أي لشافعية "أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس" وسليك قعد قبل أن يصلي كما في مسلم، "فهذا" المذكور من الأوجه "ما اعتل به من طعن في الاستدلال بهذه القصة على جواز التحية" للداخل "وكل مردود، لأن الأصل عدم الخصوصية" فيه نظر، إذ لم يجزم بالخصوصية إنما أبديت احتمالا لكون القصة واقعة عين، وتأيد هذا الاحتمال بحديث أبي سعيد وغيره فهو قادح في الاستدلال "والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد" بأمره بالركوع "التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجوزون التطوع لعلة التصدق". "قال ابن المنير" في الحاشية: "لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس" وغروبها المحرم في الوقتين "وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به" من المانعين التحية والإمام يخطب واللازم ممنوع، وسنده أن المراد منع دلالة القصة على الجواز، لأنها قضية عين محتملة أنها لعلة التصدق في خصوص هذه القضية وإن لم يقولوا بها حتى في جمعة غير هذه فضلا عن طلوع شمس ونحوه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 ومما يدل على أن أمره الصلاة لم ينحصر في قصد التصدق، معاودته عليه الصلاة والسلام بأمره بالصلاة في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه، فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك. أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضا. ولأحمد وابن حبان: أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع، فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة، لا علة كاملة. وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين: أن ذلك في حق العالم العامد، أم الجاهل والناسي فلا، وحال هذا الداخل محمولة في المرة الأولى على أحدهما، وفي المرتين الأخيريتن على النسيان. والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر   "ومما يدل على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدق معاودته عليه الصلاة والسلام بأمره بالصلاة في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبان تصدق بهما عليه" بالبناء للمفعول، "فدخل بهما في الثانية، فتصدق بأحدهما، فهناه صلى الله عليه وسلم عن ذلك" التصدق بالثوب لاحتياجه للثوبين جميعا. "أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضا ولأحمد وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جمع" يحتمل أنه فعل ذلك بعد قعوده في كل من الثلاث، لظنه أن الأمر في كل مرة خاص بها أو للنسيان كما يأتي، "فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة" قد يمنع دلالته على ذلك، فإن أمره في الجمع الثانية لكونه تصدق بأحد الثوبين، وقد علم أن الذي أبقاه لا يكفيه فأمره ليتصدق عليه فلعله لم يقع، فأمره في الثالثة ليتصدق عليه فهو علة كاملة، ويكفي مثل هذا من جهة المانع، "وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووي في شرح مسلم عن المحققين أن ذلك في حق العالم العامد" لأنها نفل وهو يفوت بفوات وقته، "أما الجاهل والناسي فلا" تفوت بجلوسه، "وحال هذا الداخل" سليك "محمولة في المرة الأولى على أحدهما" الجهل أو النسيان "وفي المرتين الأخيرتين على النسيان" قد لا يسلم هذا الحمل، إذ يحتمل أنه عالم بأن الداخل والإمام يخطب لا يصلي التحية، وإن أمره في الأولى لعلة التصدق عليه، فلذا جلس في الثانية حتى أمره، فكأنه فهم أنه للصدقة عليه أيضا، فجلس في الثالثة، لا سيما وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم في الأولى، "لا تعودن لمثل هذا"، "والحامل للمانعين على التأويل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 بالإنصات والاستماع للخطبة. وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك وعن غيره من أدلة المانعين بما يطول ذكره، ثم قال: وهذه الأجوبة التي قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين". متفق عليه. قال: وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: "إذا أتى أحدكم والإمام يخطب، أو قد خرج فليصل ركعتين" متفق عليه.   المذكور، "أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر بالإنصات والاستماع للخطبة". قال ابن العربي: عارض قصة سليك ما هو أقوى منها، كقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". متفق عليه، قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى. "وقد أجاب الحافظ ابن حجر عن ذلك" بأن المعارضة التي تئول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن، أما الآية فليست الخطبة كلها قرآنا، وأما ما فيها من القرآن، فالجواب عنه كالجواب عن الحديث وهو تخصيص عمومه بالداخل، وأيضا فمصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، كقول أبي هريرة: سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه، فأطلق على القول سرا سكوت، كذا قال. "و" أجاب "عن غيره من أدلة المانعي" وهي عشرة "بما يطول ذكره" مع أنه لا كبير فائدة فيه، إذ المذاهب تقررت، إنما هو تشحيذ أذهان، "ثم قال: وهذه الأجوبة التي قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " وهو ظاهر في أن المراد بهما التحية "متفق عليه" يعني أخرجه الشيخان ولا دفع، لأنه دخله التخصيص بما إذا كان الداخل متطهرا باتفاق، وبما إذا كان وقت جواز عند قوم ودخول التخصيص يضعف الاستدلال بالعموم. "قال: وورد أخص منه في حال الخطبة، ففي رواية شعبة" بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، "عن عمرو" بفتح العين "ابن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: "إذا أتى أحدكم والإمام يخطب" يوم الجمعة، "أو قد خرج" يريد أن يخطب "فليصل ركعتين". "متفق عليه" أي: رواه مسلم والبخاري: "ولمسلم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 ولمسلم من طريق أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله: "فاركعهما وتجوز فيهما". ثم قال: "إذا أتى أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". قال النووي: هذا النص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا الحديث ويعتقده صحيحا فيخالفه. وقال العارف بالله أبو محمد بن أبي حمزة: هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل. انتهى. وقد قال قوم: إنما أمره صلى الله عليه وسلم بسنة الجمعة التي قبلها ومستندهم قوله عليه الصلاة والسلام في قصة سليك -عند ابن ماجه: "أصليت ركعتين قبل أن تجيء"؟ لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت، ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد. وتعقب بأن المانع من صلاة التحية لا يجيز التنفل حال الخطبة مطلقا،   طريق أبي سفيان" طلحة بن نافع القرشي مولاهم المكي، "عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك، ولفظه بعد قوله فاركعهما" لفظه من أوله: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: "يا سليك قم فاركع ركعتين". "وتجوز" أي: خفف وأسرع "فيهما" لتسمع الخطبة، "ثم قال" صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما". فنص على تعميم الحكم بعد أمره لسليك. ولذا "قال النووي: هذا النص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالم يبلغه هذا الحديث ويعتقده صحيحا فيخالفه" إذ لا يسعه مخالفته لا أن أعتقد عدم صحته لعلة أو شذوذ إن كان صحيحا فيخالفه، "وقال العارف بالله أبو محمد" عبد الله "بن أبي جمرة" بجيم وراء، "هذا الذي أخرجه مسلم نص في الباب لا يحتمل التأويل. انتهى". "وقد قال قوم: إنما أمره صلى الله عليه وسلم بسنة الجمعة التي قبلها" لا بالتحية، "ومستندهم قوله عليه الصلاة والسلام في قصة سليك عند ابن ماجه: "أصليت ركعتين قبل أن تجيء"؟، لأن ظاهره قبل أن تجيء من البيت" ولو أريد التحية لم يحتج إلى استفهامه، لأنه قد رآه لما دخل، "ولهذا قال الأوزاعي: إن كان صلى في البيت قبل أن يجيء فلا يصلي إذا دخل المسجد" لأنها لسنة الجمعة، وقد صلاها فلا يعيدها. "وتعقب بأن المانع من صلاة التحية" والإمام يخطب "لا يجيز التنفل حال الخطبة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 ويحتمل أن يكون معنى قوله: "قبل أن تجيء" أي إلى الموضع الذي أنت به الآن، وفائدة الاستفهام، احتمال أن يكون صلاهما في مؤخر المسجد ثم تقدم لقرب من سماع الخطبة، ويؤيده: أن في رواية مسلم "أصليت الركعتين"؟ بالألف واللام، وهي للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد، وأما سنة الجمعة التي قبلها فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة قصدا، بين الطول والتخفيف، وخطبته قصدا. رواه مسلم والترمذي من رواية جابر بن سمرة. زاد في رواية أبي داود، يقرأ بآيات   مطلقا، ويحتمل أن يكون معنى قبل أن تجيء، أي: إلى الموضع الذي أنت به الآن، وفائدة الاستفهام احتمال أن يكون صلاها في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة". "ويؤيده أن في رواية مسلم: أصليت الركعتين بالألف واللام وهي للعهد، ولا عهد هناك أقرب من تحية المسجد" كذا وقع في الفتح، ولفظ مسلم عن شيخيه قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن عمرو، عن جابر: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: "أصليت" قال: لا، قال: "قم فصل الركعتين". وفي رواية قتيبة قال: "فصل ركعتين". فبين أن اختلاف شيخيه بالتعريف والتنكير إنما هو في الأمر لا في الاستفهام، "وأما سنة الجمعة التي قبلها، فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى" في الفرع السابع في راتبة الجمعة في القسم الثاني من صلاته النافلة بما فيه طول، حاصله قول الحافظ هنا: لم يثبت فيها شيء. "وكانت صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة قصدا" أي: متوسطة "بين الطول" الظاهر "والتخفيف" الماحق، "وخطبته قصدا" بين الطول والقصر، فالتطويل في الخطبة ربما يفضي إلى الملال أو يوقعها في آخر الوقت، وهذا لا يقتضي مساواة الخطبة للصلاة، فلا ينافي ما رواه مسلم، مرفوعا: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة". ولا خلف بين الحديثين، لأن طول الصلاة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلا يشق على المأمومين، فهي حينئذ قصد، أي: معتدلة، والخطبة قصد بالنسبة إلى وضعها، فالخطبة متوسطة بالنظر إلى الخطب، وقصيرة نظرا إلى الصلاة. "رواه مسلم والترمذي من رواية جابر بن سمرة" الصحابي ابن الصحابي، مات بالكوفة بعد سنة سبعين، "زاد في رواية أبي داود" لحديث جابر بن سمرة "يقرأ بآيات من القرآن" في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 من القرآن ويذكر الناس. وله في رواية أخرى: كان لا يطيل الموعظة بها يوم الجمعة، إنما هي كلمات يسيرات. وعن عمرو ابن حريث أنه صلى الله عليه وسلم خطب وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه. رواه مسلم. قال ابن القيم في الهدي: وكان عليه الصلاة والسلام إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه، ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس، ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ منه قام صلى الله عليه وسلم فخطب من   الخطبة، "ويذكر الناس" يعظهم بما يلين القلوب، "وله" أي: لأبي داود "في رواية أخرى" وصححها الحاكم عن جابر بن سمرة، "كان" صلى الله عليه وسلم"، "لا يطيل الموعظة" أي: الأمر بالطاعة والوصية "بها يوم الجمعة" لئلا يمل السامعون، "إنما هي" أي: الموعظة هكذا في النسخ الصحيحة، هي بالتأنيث، وهو الذي في أبي داود والحاكم، فما في نسخ إنما هو تحريف وإن أمكن توجيهه بأن يقال، أي: ما يأتي به أو وعظه المفهوم من الموعظة، إنما هو "كلمات يسيرات" في الغالب، فإن عرض ما يقتضي التطويل طول، "وعن عمرو" بفتح العين "ابن حريث" بمهملة ومثلثة مصغر، ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي، المخزومي، صحابي صغير، مات سنة خمس وثمانين "أنه صلى الله عليه وسلم خطب" الناس، أي: وعظهم يوم فتح مكة كما في حديث جابر في مسلم والسنن، "وعليه عمامة سوداء" إشارة إلى السؤدد والنصر وظهوره على جميع الأديان، لأن جميع الألون ترجع إلى الأسود ولا يرجع هو إلى لون منها "قد أرخى طرفها" بالإفراد للتثنية، كما وقع في بعض النسخ، قاله عياض. وقال القرطبي شرحا للتثنية: يعني بهما لاأعلى والأسفل "بين كتفيه، رواه مسلم" ولأبي الشيخ عن ابن عمر: كان صلى الله عله وسلم يدير كور العمامة على رأسه ويغرسها من ورائه ويرخي لها ذؤابة. قال الحافظ العراقي: مقتضاه أن الذي كان يرسله بين كتفيه من الطرف الأعلى. "قال ابن القيم في الهدي" النبوي: "وكان عليه الصلاة والسلام إذا اجتمع الناس خرج إليهم وحده من غير شاويش يصيح بين يديه ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواد" كما يفعل ذلك ببعض البلاد، "فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم ثم يجلس" كما رواه البيهقي عن ابن عمر: كان إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده من الجلوس، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه ثم سلم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 غير فصل بين الأذان والخطبة، لا بإيراد خبر ولا غيره، ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات. انتهى. وينظر في قوله: ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر. وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى، "و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1] في الثانية. رواه مسلم والترمذي وأبو داود. والحكمة في قراءته صلى الله عليه وسلم بسورة الجمعة، اشتمالها على وجوب الجمعة   ضعفه ابن حبان وابن القطان وغيرهما، "ويأخذ بلال في الأذان، فإذا فرغ منه قام صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة لا بإيراد خبر" أي: حديث "ولا غيره" فالترقية بدعة مكروهة إلا أن يشترطها واقف فيعمل بها، ولا تضر في حصول سنة الأذان بين يدي الخطيب، قال في المدخل: العجب من الإنكار على مالك بعمل أهل المدينة، وهؤلاء يفعلون الترقية محتجين بعمل أهل الشام. انتهى. ولا حجة لهم في أنه صلى الله عليه وسلم قال لجرير في حجة الوداع: "استنصت الناس". كما لا يخفى، "ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان يأمر الناس بالدنو" أي: القرب "منه ويأمرهم بالإنصات" ليفهموا ما يقوله على وجهه ويعملوا به. "انتهى". "وينظر في قوله: ولم يكن يأخذ بيده سيفا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ المنبر" فإنه مخالف لما مر أنه كان يخطب متوكئا على قوس أو عصا، كيف، وفي أبي داود: كان إذا قام يخطب أخذ عصا، فتوكأ عليها وهو على المنبر. "وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الجمعة في الركعة الأولى، و" بسورة " {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} في" الركعة "الثانية، رواه مسلم والترمذي وأبو داود" من طريق عبيد الله بن أبي رافع، قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبو هريرة الجمعة، فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} ، قال: فأدركت أبا هريرة حين انصرف، فقلت: إنك قرأت بسورتين، كان علي بن أبي طلب يقرأ بهما بالكوفة، فقال أبو هريرة: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة، فيستحب قراءتهما في الجمعة للاتباع. "والحكمة" كما نقله النووي عن العلماء "في قراءته صلى الله عليه وسلم بسورة الجمعة اشتمالها على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 وغير ذلك، مما فيها من القواعد، والحث على التوكل والذكر وغير ذلك. وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها. وفي حديث النعمان بن بشير عند مسلم: وكان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] .   وجوب الجمعة، وغير ذلك" من أحكامها، كقوله: فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع، وغير ذلك "مما فيها من القواعد والحث على التوكل والذكر وغير ذلك، وقراءة سورة المنافقين لتوبيخ حاضريها منهم" أي: من المنافقين "وتنبيههم على التوبة وغير ذلك مما فيها من القواعد، لأنهم ما كانوا يجتمعون في مجلس أكثر من اجتماعهم فيها" أي: الجمعة خوفا مما صدر منه صلى الله عليه وسلم من الوعيد الشديد بتحريق بيوتهم ونحو ذلك، فإذا كانوا حاضرين يحصل لهم بسماع هذه السورة الدالة على قبح حالهم وشناعة مآلهم التوبيخ العظيم والزجر البليغ. "وفي حديث النعمان بن بشير عند مسلم" قال: "كان" صلى الله عليه وسلم "يقرأ في" صلاة "العيدين وفي" صلاة "الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى" في الأولى، "وهل أتاك حديث الغاشية" في الثانية. قال القرطبي: لعل قراءته بسورة الجمعة والمنافقين كان في أول الأمر، فلما عقل الناس أحكام الجمعة وحصل توبيخ المنافقين عدل عنهما إلى قراءة {سَبِّحْ} ، و {هَلْ أَتَاكَ} لما تضمنتا من الوعظ والتذكير ليخف على الناس. وتعقبه المصف بأن رواية أبي هريرة السابقة لقراءته صلى الله عليه وسلم لهما واختياره لقراءتهما فيها بعده، وكذا اختيار علي لهما أيضا، يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك قراءتهما في الجمعة في آخر أمره أيضا بل ربما يقرأهما وربما يقرأ غيرهما، فإن إسلام أبي هريرة متأخر، والصحابة إنما يأخذون الآخر فالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم. انتهى. وبقية الحديث عند مسلم: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين. وفي مسلم أيضا أن الضحاك بن قيس كتب إلى النعمان بن بشير يسأله، أي: شيء قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة سوى سورة الجمعة، فقال: كان يقرأ {هَلْ أَتَاكَ} وظاهره أنه كان يقرأ في الأولى الجمعة، فيكون يقرأ بذلك في أوقات وبالآخرة في أوقات بحسب المصالح وإرشاد السامعين وبيان الجواز وعدم اختصاص سورة بذلك على وجه الحتم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 وقد اختلف في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا. أحدها: تصح من الواحد، نقله ابن حزم. الثاني: اثنان كالجماعة، وهو قول النخعي وأهل الظاهر. الثالث: اثنان مع الإمام، عند أبي يوسف ومحمد والليث. الرابع: ثلاثة معه، عند أبي حنيفة وسفيان الثوري. الخامس: سبعة، عند عكرمة. السادس: تسعة، عند ربيعة. السابع: اثنا عشر، عند ربيعة أيضا في رواية. الثامن: مثله غير الإمام، عند إسحاق. التاسع: عشرون في رواية ابن حبيب عن مالك. العاشر: ثلاثون، كذلك، الحادي عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعي، واشترط كونهم أحرارا، بالغين عقلاء، مقيمين لا يظعنون شتاء ولا صيفا إلا لحاجة، وأن يكونوا حاضرين   "وقد اختلف في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وللعلماء فيه خمسة عشر قولا، أحدها تصح من الواحد" لأنه يعظ نفسه، "نقله" محمد "بن حزم" الظاهري. "الثاني: اثنان كالجماعة وهو قول النخعي" إبراهيم بن يزيد "وأهل الظاهر" داود وأتباعه. زاد الحافظ والحسن بن حيي، "الثالث: اثنان مع الإمام عند أبي يوسف" يعقوب "محمد" بن الحسن "والليث" بن سعد "الرابع: ثلاثة معه عند أبي حنيفة وسفيان الثوري الخامس: سبعة"، "بسين قبل الموحدة"، "عند عكرمة، السادس: تسعة" بفوقية قبل السين "عند ربيعة" بن أبي عبد الرحمن، "السابع: اثنا عشر عند ربيعة أيضا في رواية" فله قولان. "الثامن: مثله غير الإمام عند إسحاق" بن راهويه، "التاسع: عشرون في رواية" عبد الملك "بن حبيب عن مالك. العاشر: ثلاثون كذلك. الحادي عشر: أربعون بالإمام عند إمامنا الشافعي، واشترط كونهم أحرارا بالغين، عقلاء مقيمين لا يظعنون شتاء ولا صيفا إلا لحاجة" ثم يعودون فلا يكفي إقامتهم المجردة في حسبانهم من العدد، فتجب عليهم ولا تنعقد بهم، "وأن يكونوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة. وحجة الإمام الشافعي: ما رواه الدارقطني وابن ماجه والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة واستغفر له، قال فمكث كذلك حينا لا يسمع الأذان في الجمعة إلا فعل ذلك، فقلت: يا أبت، استغفارك لأبي أمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو؟ قال: يا بني، هو أول من جمع بالمدينة؟ قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا. وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة. خرجه الدارقطني. وروى البيهقي عن ابن مسعود: أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا.   حاضرين من أول الخطبة إلى أن تقام الجمعة،" أي: تصلى. "وحجة الإمام الشافعي ما رواه الدارقطني وابن ماجه والبيهقي في الدلائل" النبوية "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري المدني، ثقة من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، "قال: كنت قائد أبي" كعب بن مالك "حين ذهب بصره، فإذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان صلى على أبي أمامة" أسعد بن زرارة النجاري، شهد العقبات الثلاث ولا نزاع أن كنيته أبو أمامة، وممن صرح بذلك المصنف في العقبة، أي: دعا له "واستغفر له، قال: فمكث" بضم الكاف وفتحها، "كذلك حينا" زمانا "لا يسمع الأذان في الجمعة إلا فعل ذلك" الدعاء والاستغفار، "فقلت: يا أبت استغفارك لأبي إمامة كلما سمعت أذان الجمعة ما هو" أي: ما سببه، "قال: يا بني هو أول من جمع" بنا "بالمدينة". زاد في رواية البيهقي في بقيع الخضمات، "قال: قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا" نصلي أو نفعلها، ولا خفاء في إخباره بأنهم أربعون يومئذ لا دلالة فيه بوجه على انحصار صحتها في هذا العدد. "وقال جابر بن عبد الله: مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة، خرجه الدارقطني" فمفهوم فما فوق أن ما نقص لا يكون جمعة. "وروى البيهقي عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا" لا دلالة فيه أيضا على أنها لا تصح بدونهم، لأنه حكاية حال فعلية، واستشعر ذلك فتكلف دفعه، بقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 525 قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الخزرجي: قال في "المجموع": قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، ولا تتم الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه. قال: وأما خبر انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا، فليس فيه أن ابتداءها كان باثني عشر، بل يحتمل عودهم، أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة. وفي مسلم: "انفضوا في الخطبة" وفي رواية البخاري "انفضوا في الصلاة" وهي محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار. انتهى.   "قال شيخ الإسلام زكريا" بن أحمد "الأنصاري الخزرجي، قال" النووي: "في المجموع" شرح المهذب، "قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد،" كيف هذا الإجماع مع أول الأقوال أنها تصح من الواحد، "والأصل الظهر" بناء على أنها بدل، والراجح عندهم أنها فرض يومها، "ولا تتم الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت "صلوا كما رأيتموني أصلي" ولم يثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه" وهذا مع ما فيه من التعسف وبنائه على حكاية إجماع منقوضة، وعلى قول ضعيف عندهم في مقام المنع، إذ نفي ثبوت صلاته بأقل دعوى نفي بلا دليل. "قال: وأما خبر انفضاضهم" أي انصرافهم "فلم يبق إلا اثنا عشر رجلا" قيل: هم العشرة وبلال وابن مسعود، وفي رواية عمار: بدل ابن مسعود، حكاه السهيلي، وعند العقيلي عن ابن عباس، أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود، وأناسا من الأنصار، وفي مسلم: منهم جابر، وفي تفسير إسماعيل ابن أبي زاد أن سالما مولى أبي حنيفة، منهم: "فليس فيه أن ابتداءها كان باثني عشر، بل يحتمل عودهم أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة، وفي مسلم" ما معناه: "انفضوا في الخطبة" ولفظه: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، وفي رواية له: بينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم، زاد الترمذي وغيره يخطب، "وفي رواية البخاري: انفضوا في الصلاة" ولفظه: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عبير تحمل طعاما، "وهي محمولة على الخطبة جمعا بين الأخبار" فمعنى نصلي ننتظر الصلاة من تسمية الشيء بما قاربه. "انتهى" كلام المجموع ردا على من استدل على صحتها باثني عشر بهذا الحديث المتفق عليه بما ذكره من الاحتمالين البعيدين أو الممنوعين، فإن وجه الدلالة من الحديث أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر دل على أنه كاف، وبسط الجدال يطول بلا طائل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 526 الثاني عشر: أربعون غير الإمام عند إمامنا الشافعي أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة. الثالث عشر: خمسون، عند أحمد في رواية، وحكيت عن عمر ابن عبد العزيز. الرابع عشر: ثمانون، حكاه المازري. الخامس عشر: جمع كثير بغير حصر. ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل. قاله في فتح الباري، والله أعلم.   "الثاني عشر: أربعون غير الإمام عند إمامنا الشافعي أيضا، وبه قال عمر بن عبد العزيز: وطائفة" حملا لقول كعب أربعون رجلا على غير الإمام، "الثالث عشر: خمسون عند أحمد في رواية، وحكيت عن عمر بن عبد العزيز" أيضا، "الرابع عشر: ثمانون، حكاه المازري، الخامس عشر: جمع كثير بغير حصر" في عدد معين، "لعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل" إذ لم يسلم دليل من أدلة من حصر من القادح، "قاله في فتح الباري" أي: قال حكاية الأقوال المذكورة مجردة دون قوله، واشتراط كونهم إلى قوله الثاني عشر، فإنه ليس فيه، فلو حكاه على وجهه وأخر قوله واشتراط إلى آخر ما زاده لكان المناسب، "والله أعلم" بالحق من تلك الأقوال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 527 الباب الثالث: في ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى له عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] أي بالقرآن، والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن. والهجود في اللغة: النوم، وعن أبي عبيدة: الهاجد: النائم، والهاجد: المصلي بالليل، وعن الأزهري: الهاجد: النائم، وقال المازني: التهجد: الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.   الباب الثالث: في ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه وما يتعلق بذلك من الأحكام وفضل التهجد، "قال الله تعالى له عليه الصلاة والسلام: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} أي: بالقرآن، والمراد منه" أي: من الضمير في به "الصلاة المشتملة على القرآن والهجود في اللغة: النوم" فمعنى تهجدا ترك النوم بالاشتغال بالصلاة، وفي البخاري رواية أبي ذر الهروي: فتهجد به: اسهر به، قال الحافظ: وحكاه الطبري أيضا، وفي المجاز لأبي عبيدة قوله: فتهجد به، أي: اسهر بصلاة الليل، وتفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة، وهو من الأضداد، يقال: تهجد إذا سهر، وتهجد إذا نام، حكاه الجوهري وغيره، ومنهم من فرق بينهما، فقال: هجدت نمت، وتهجدت سهرت، حكاه أبو عبيدة وصاحب العين، فعلى هذا أصل الهجود النوم، ومعنى تهجدت طرحت عني النوم. "وعن أبي عبيدة" بضم أوله آخره هاء تأنيث معمر بن المثنى التيمي، مولاهم البصري، النحوي اللغوي، صدوق، إخباري، رمي برأي الخوارج، مات سنة ثمان ومائتين، وقيل بعد ذلك، وقد قارب المائة "الهاجد: النائم والهاجد: المصلي بالليل" فهو من الأضداد، "وعن الأزهري الهاجد: النائم" والجمع هجود، "وقال المازني" أبو عثمان: "التهجد: الصلاة بعد الرقاد" أي: النوم ليلا هنا وإن كان الأصح لغة أن الرقاد النوم ليلا أو نهارا للمقابلة في قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف: 18] "ثم" بعد الصلاة الأولى "صلاة" فرفع مبتدأ حذف خبره "أخرى بعد رقده" أي: نومة، "ثم صلاة أخرى" كذلك "بعد رقدة، قال: وهكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الطبري: التهجد السهر بعد نومه، ثم ساقه عن جماعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 528 وقوله: {نَافِلَةً لَك} أي عبادة زائدة في فرائضك، ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله: {فَتَهَجَّدْ} أمر، وصيغة الأمر للوجوب، فوجب كون هذا التهجد واجبا، وروى الطبري عن ابن عباس أن النافلة أي الزيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، لأنه أمر بقيام الليل، وكتب عليه دون أمته، وإسناده ضعيف. وقيل معناه: زيادة لك خالصة، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب، وتطوعه هو صلى الله عليه وسلم يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه، فكل طاعة يأتي بها عليه الصلاة والسلام سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات، وكثرة الحسنات، فلهذا سمي نافلة بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوب محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات.   من السلف. "وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} أي: عبادة زائدة في فرائضك" أي: الأمور المفروضة عليك صلاة أو غيرها خصصت بها دون أمتك، لأن النفل لغة الزيادة، فلا ينافي أنه واجب عليه زيادة في رفع درجاته، "ويمكن نصرة هذا القول" أي: تقويته ببيان دليله، "بأن قوله" تعالى: {فَتَهَجَّدْ} أمر، وصيغة الأمر للوجوب" وضعا، "فوجب كون هذا التهجد واجبا" عليه صلى الله عليه وسلم كما هو قول الأكثر ومالك. "وروى الطبري" محمد بن جرير: ونسخة الطبراني تصحيف، فالذي في الفتح الطبري، "عن ابن عباس أن النافلة، أي: الزيادة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة" دون غيره والهاء للتأكيد، "لأنه أمر بقيام الليل" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 1, 2] "وكتب" فرض "عليه دون أمته وإسناده عيف" لكن تقوى بالأمر في الآية، "وقيل: معناه زيادة لك خالصة" من الشوائب "لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب" من الصغائر، "وتطوعه هو صلى الله عليه وسلم يقع خالصا له" لا شائبة فيه من جبر واجب يفعله، إذ لا يقع خلل في شيء من عباداته، "لكونه لا ذنب عليه". زاد الحافظ: وروى معنى ذلك الطبري وابن أبي حاتم عن مجاهد بإسناد حسن، وعن قتادة كذلك، ورجح الطبري الأول، وليس الثاني ببعيد من الصواب، "فكل طاعة يأتي بها عليه الصلاة والسلام سوى المكتوبة إنما تكون لزيادة الدرجات وكثرة الحسنات" إذ لا ذنب تكفره الطاعات، "فلهذا سمي نافلة" أي: زيادة "بخلاف الأمة، فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات، فهذه الطاعات يحتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات" كما قال تعالى: {إِنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 529 وروى مسلم من طريق سعد بن هشام عن عائشة قالت: إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة تعني: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [ألمزمل: 1] فقام النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه حولا، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فرضه. وروى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق سماك عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة في أن بين الإيجاب والنسخ سنة.   الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . "وروى مسلم من طريق سعد" بسكون العين "ابن هشام" بن عامر الأنصاري المدني، ثقة، من رجال الجميع، استشهد بأرض الهند، "عن عائشة" أوله عن سعد، قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، قلت: بلى، "قالت: إن الله افترض" أي: فرض "قيام الليل في أول هذه السورة تعني" عائشة: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} "فقام النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه حولا" حذف منه، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا "حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف" في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] "فصار قيام الليل تطوعا بعد فرضه" وهذا ظاهر في أنه كان فرضا عليه وعلى الناس، وقيل: فرض عليه وحده مندوب لغيره، لأنه خصه بالخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وقيل: لم يفرض لقوله: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} ، إذ ليست صيغة وجوب. "وروى محمد بن نصر في قيام الليل من طريق سماك" بكسر السين وخفة الميم وكاف ابن الوليد الحنفي اليمامي، ثم الكوفي، "عن ابن عباس شاهدا لحديث عائشة في أن بين الإيجاب والنسخ سنة" وكذا أخرجه محمد بن نصر عن أبي عبد الرحمن السلمي, والحسن وعكرمة وقتادة بأسانيد صحيحة عنهم، وإنما احتاج حديث عائشة مع صحته إلى شاهد، لأنها خولفت، فروى ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: لما أنزل الله على نبيه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} [المزمل: 20] ، إلى قوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فخفف الله عنهم بعد عشر سنين. قال الحافظ: ومقتضى ذلك، أي: حديث عائشة ومن وافقها أن النسخ وقع بمكة، لأن الإيجاب متقدم عن فرض الخمس ليلة الإسراء وكانت قبل الهجرة بأكثر من سنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 530 وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس. وروى محمد بن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة في جيش الخبط، وكان ذلك بعد الهجرة، لكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. فوجوب قيام الليل قد نسخ في حقنا. وهل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم؟ أم لا؟ أكثر الأصحاب: لا، والصحيح: نعم، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص.   "وحكى الشافعي عن بعض أهل العلم أن آخر السورة نسخ افتراض قيام الليل إلا ما تيسر منه، ثم نسخ فرض ذلك بالصلوات الخمس" واستشكل محمد بن نصر ذلك بأن الآية تدل على أن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] إنما نزلت بالمدينة لقوله فيها: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والقتال إنما وقع بالمدينة لا بمكة والإسراء كان قبل ذلك. قال الحافظ: وما استدل به غير واضح، لأن قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} [المزمل: 20] ظاهر في الاستقبال، فكأنه سبحانه امتن عليهم بتعجيل التخفيف قبل وجود المشقة التي علم أنها ستقع. "وروى محمد بن نصر من حديث جابر أن نسخ قيام الليل وقع لما توجهوا مع أبي عبيدة" عامر بن الجراح "في جيش الخبط" بفتح المعجمة والموحدة وطاء مهملة، "وكان ذلك بعد الهجرة" بمدة، "لكن في إسناده علي بن زيد" بن عبد الله بن زهير بن عبد الله "بن جدعان" بضم الجيم وسكون الدال وعين مهملتين نسب إلى جد جده لشهرته التيمي القرشي الحجازي، ثم البصري، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة "وهو ضعيف" فلا حجة فيه لدعوى أن الآية الناسخة للوجوب مدنية وهو مخالف لما عليه الأكثر أن السورة كلها مكية، نعم ذكر النحاس أنها مكية إلا الآية الأخيرة. "فوجوب قيام الليل قد نسخ في حقنا" بإجماع، وشذ بعض التابعين فأوجبه ولو قدر حلب شاة. "وهل نسخ في حقه صلى الله عليه وسلم أم لا"؟ أكثر الأصحاب" الشافعية "لا" أي: لم ينسخ في حقه "والصحيح: نعم" نسخ "ونقله الشيخ أبو حامد عن النص" للإمام الشافعي، قال النووي: وهو الأصح أو الصحيح، ففي مسلم عن عائشة ما يدل عليه. انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 وقالت عائشة: قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وفي رواية: حتى تفطرت قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا". قالت: فلما بدن وكثر لحمه صلى جالسا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع. رواه البخاري ومسلم.   يعني: حديثها السابق ودلالته ليست بقوية لاحتماله، "وقالت عائشة" رضي الله عنها: "قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه" غلظت وانتفخت من كثرة التهجد، "وفي رواية" عن عائشة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل "حتى تفطرت" أي: تشققت "قدماه" من كثرة القيام. قال البخاري: والفطور الشقوق انفطرت: انشقت، وللنسائي عن أبي هريرة حتى تزلع قدماه، بزاي وعين مهملة، قال الحافظ: ولا اختلاف بين هذه الروايات إذ حصل الانتفاخ والورم وحصل الزلع والتشقق، "فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا". كثير الشكر، وخص العبد بالذكر إشعارا بغاية الإكرام والقرب من الله تعالى، والعبودية ليست إلا بالعبادة والعبادة عين الشكر. "قالت" عائشة: "فلما بدن" بفتح الموحدة والدال المهملة كذا رواه العذري وارتضاه أبو عبيد، أي: كبر وأسن، وقال عياض بدن بضم الدال مخففة، كذا رويناه عن الأكثر وعن العبدري بالتشديد وأراه إصلاحا، وقال أبو عبيد: من رواه بضم الدال المخففة فليس له معنى، لأنه من البدانة وهي كثرة اللحم ولم يكن صلى الله عليه وسلم سمينا ولا ينكر التخفيف فقد صحت به الرواية، وقد جاء معناه مفسرا من قول عائشة: فلما كبر وأخذ اللحم، وفي رواية أسن وكثر لحمه وقول أبي عبيد لم يكن ذلك وصفه صلى الله عليه وسلم صحيح، لأنه لم يكن في أصل خلقته بادنا كثير اللحم لنه لما أسن، وضعف عن كثير مما كان يحتمله في حال النشاط من الأعمال الشاقة استرخى لحمه، وزاد على ما كان في أصل خلقته زيادة يسيرة بحيث يصدق عليه ذلك الاسم، قاله القرطبي. وقال النووي: الذي ضبطناه ووقع في أكثر نسخ بلادنا بالتشديد "وكثر لحمه صلى جالسا فإذا أراد أن يركع قام، فقرأ" في رواية للشيخين حتى إذا بقي نحو من ثلاثين آية أو أربعين آية قام فقرأهن، "ثم ركع، رواه البخاري ومسلم" ولا يخالفه حديث عائشة في مسلم أيضا كان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا ركع وسجد وهو قاعد لحمله على حالته الأولى قبل أن يدخل في السن جمعا بين الحديثين، ولأبي داود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 532 والفاء في قوله: "أفلا أكون" للسببية، وهي عن محذوف تقديره: أأترك تهجدي؟ فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى: إن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا، فكيف أتركه؟ قال ابن بطال: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة، وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى. ومحل ذلك -كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري- ما لم يفض ذلك إلى الملال، لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل من عبادة ربه، وإن أضر ذلك ببدنه، بل صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة". كما أخرجه النسائي من حديث أنس، فأما غيره صلى الله عليه وسلم فإذا   وصححه الحاكم من أم قيس بنت محصن، أنه صلى الله عليه وسلم لما أسن وحمل اللحم اتخذ عمودا في مصلاه يعتمد عليه. "والفاء في قوله: "أفلا أكون" للسببية وهي" ناشئة "عن محذوف تقديره أأترك تهجدي" لما غفر لي "فلا أكون عبدا شكورا، والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرا فكيف أتركه؟ " كأن المعنى ألا أشكره وقد أنعم علي وخصني بخير الدارين؟ فإن شكورا من أبنية المبالغة يستدعي نعمة عظيمة. "قال ابن بطال: في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له" من الله تعالى "فكيف بمن لم يعلم بذلك فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى". "ومحل ذلك كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ما لم يفض ذلك إلى الملال" السآمة، "لأن حال النبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يمل" بفتح الميم "من عبادة ربه وإن أضر ذلك ببدنه" الشريف، "بل صح أنه عليه الصلاة والسلام قال": "حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب "وجعلت قرة عيني" بردها من الفرح والسرور "في الصلاة" لأنها محل المناجاة ومعدن المصافاة فلا يحصل له سآمة وإن شقت عليه. وفي حديث: "قال لي جبريل قد حببت إليك الصلاة فخذ منها ما شئت", "كما أخرجه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 533 خشي الملل ينبغي له أن لا يكد نفسه، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". انتهى. لكن ربما دست النفس أو الشيطان على المجتهد في العبادة بمثل ما ذكر، خصوصا إذا كبر، فتقول له: قد ضعفت وكبرت فأبق على نفسك لئلا ينقطع عملك بالكلية، وهذا وإن كان ظاهره جميلا لكن فيه دسائس، فإنه إن أطاعه فقد يكون استدراجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا، إلى أن ينقطع العمل بالكلية، وما ترك سيد المرسلين، المغفور له، شيئا من عمله بعد كبره. نعم كان يصلي بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت قدماه،   النسائي من حديث أنس" ومر الكلام عليه مبسوطا "فأما غيره صلى الله عليه وسلم" قسيم قوله: فكان لا يمل من عبادة ربه والفاء واقعة في جواب شرط مقدر هو، وحيث علم ذلك علم أن غيره ليس مثله، "فإذا خشي الملل ينبغي له أن لا يكد" بضم الكاف، أي: يتعب "نفسه" بحيث يؤدي إلى السآمة، "وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا من الأعمال" صلاة وغيرها "ما تطيقون، فإن الله لا يمل" من الثواب "حتى تملوا" من العمل وإسناد الملال إليه سبحانه على طريق الازدواج والمشاكلة والعرب تذكر أحد اللفظين موافقة للآخر وإن تخالفا معنى قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وإلا فالملال على الله محال، وقيل فيه غير ذلك. "انتهى". "لكن ربما دست" أتت بأمر خفي من دسه في التراب "النفس أو الشيطان على المجتهد في العبادة بمثل ما ذكر خصوصا إذا كبر" بكسر الباء أسن "فتقول له: قد ضعفت" بضم العين "وكبرت فأبق" بقطع الهمزة "على نفسك" ي: ارحمها "لئلا ينقطع عملك بالكلية" أي: جملة "وهذا وإن كان ظاهره جميلا" حسنا "لكن فيه دسائس" جمع دسة أمور خفية، "فإنه إن أطاعه فقد يكون استدارجا يئول به إلى ترك العمل شيئا فشيئا إلى أن ينقطع العمل بالكلية" الجملة "وما ترك سيد المرسلين المغفور له" الممنوع المستور عن الوقوع في ذنب "شيئا من عمله بعد كبره" أي: دخوله في السن، "نعم كان يصلي بعض ورده جالسا بعد أن كان يقوم حتى تفطرت" تشققت "قدماه" وفي مسلم عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان، "فكيف بمن أثقلت ظهره الأوزار ولا يأمن من عذاب النار أن يغفل" بضم الفاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 534 فكيف بمن أثقلت ظهره الأوزار، ولا يأمن من عذاب النار، أن يغفل حال شبيبته، ويتوانى عند ظهور شيبته، فينبغي للإنسان أن يستعد قبل حلول شيبه. "اغتنم خمسا قبل خمس ... وشبابك قبل هرمك". فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره، وقد قال الله تعالى منذرا لمن يدخل في الصباح: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] فكيف بقرب من دخل في الصباح، وظهر كوكب نهاره في أفق رأسه ولاح؟! قال القرطبي: ظن من سأله صلى الله عليه وسلم عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفا من الذنوب، وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا   "حال شبيبته" صباه "ويتوانى" أي: يتكاسل عند ظهور شيبته بياض شعره المؤذن بالرحيل، "فينبغي للإنسان أن يستعد قبل حلول شيبه" المؤدي إلى العجز عن الطاعة فيندم على ما فرط في جنب الله، أي: طاعته، وقد أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "اغتنم خمسا قبل خمس" أي: افعل خمسة أشياء قبل حصول خمسة أشياء إلى أن قال في الخصلة الرابعة: "وشبابك قبل هرمك" أي: اغتنم الطاعة حال قدرتك قبل هجوم عجز الكبر عليك، "فإن من شاب فقد لاح صبح سواد ليل شعره" أي: بياضه الساطع المزيل للسواد وآثاره كناية عن الموت المزيل للحياة اللازم للشيخوخة عادة فطلوع النهار بعد سواد الليل مزيل لآثاره، كما أن قوة بياض الشعر واستكمالها مزيل لسواده الذي هو علامة الشبوبية وبلوغ الآمال. "وقد قال الله تعالى منذرا لمن يدخل في الصباح" الذي أوعدوا بحلول العذاب فيه عليهم: {إِنَّ مَوِْدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب} فكيف بقرب من دخل الصباح" بالفعل كناية عن الدخول في علامات الموت "وظهر كوكب نهاره في أفق" بضم الهمزة والفاء وتسكن، أي: ناحية "رأسه ولاح" ولفظ الحديث لتتميم الفائدة عن ابن عباس، رفعه: "اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك". أخرجه البيهقي في الشعب وشيخه الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما عن ابن عباس، ورواه النسائي والبيهقي وأبو نعيم عن عمرو بن ميمون مرسلا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا" فذكره. "قال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "ظن من سأله صلى الله عليه وسلم عن سبب تحمله المشقة في العبادة" بقوله: لم تصنع هذا وقد غفر الله لك؟ "أنه إنما يعبد" بالبناء للمفعول "الله خوفا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 535 يحتاج إلى ذلك، فأفادهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طريقا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، واتصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، ومن ثم قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] . وفيه: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الاجتهاد في العبادة والخشية من ربه، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، والله أعلم. ذكر سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل: عن شريح بن هانئ قالت عائشة رضي الله عنها: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم   الذنوب وطلبا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم النبي صلى الله عليه وسلم" بجوابه لهم بقوله: "أفلا أكون عبدا شكورا"، "أن هناك طريقا آخر للعبادة وهو الشكر على المغفرة و" على "اتصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا، فيتعين كثرة الشكر على ذلك والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة" للمنعم، بأن يفعل ما أمره به، بل ما يعلم أن فيه قياما بحقه وإن لم يأمره، "فمن كثر ذلك منه سمي شكورا، من ثم قال الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} أي: المتوفر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يؤدي حقه، لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر إلى غير نهاية، ولذلك قيل: الشكور من يرعى عجزه عن الشكر، قاله البيضاوي "وفيه" أي: الحديث "ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الاجتهاد في العبادة والخشية من ربه، قال العلماء: إنما ألزم الأنبياء أنفسهم بشدة الخوف" حيث داوموا على المحافظة على شدة الخوف من الله تعالى "لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته ليؤدوا بعض شكره مع أن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد والله أعلم". "ذكر سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل" النوافل: أي ما سبق فيها مصدر بمعنى اسم المفعول. "عن شريح" بضم الشين المعجمة وآخره مهملة "مصغر "ابن هانئ" بن يزيد الحارثي المذحجي أبي المقدام الكوفي التابعي الكبير الثقة، روى له مسلم وأصحاب السنن والبخاري في الأدب المفرد، وقتل مع أبي بكرة بسجستان، ومن ذريته شريح بن هانئ الحارثي الأصغر مجهول لا رواية له في شيء من الكتب الستة، وإنما ذكره في التقريب للتميز فليس هو المراد، "قالت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 536 العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات. رواه أبو داود. وكان صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ رواه البخاري ومسلم عن عائشة. وهو يصرخ في النصف الثاني. وقالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام ينام أول الليل ويقوم آخره، فيصلي ثم يرجع إلى فراشه فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل، وإلا توضأ   عائشة رضي الله عنها: ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات" تارة، "أو ست ركعات" أخرى، فأو للتنويع لا للشك على الظاهر، "رواه أبو داود وكان صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ" أي الديك، لأنه يكثر الصياح في الليل، "رواه البخاري" في الرفاق، وفي موضعين من الصلاة "ومسلم" وأبو داود والنسائي كلهم في الصلاة "عن عائشة وهو يصرخ في النصف الثاني. قال الحافظ: وقع في مسند الطيالسي في هذا الحديث، والصارخ: الديك والصرخة: الصيحة الشديدة وجرت العادة أن الديك يصيح عند نصف الليل غالبا، قاله محمد بن نصر، قال ابن التين: هو موافق لقول ابن عباس نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، وقال ابن بطال: الصارخ يصرخ عند ثلث الليل، فكأنه كان يتحرى الوقت الذي ينادي فيه هل من سائل كذا انتهى. وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد جيد عن زيد بن خالد الجهني، مرفوعا: "لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة". وفي لفظ: "فإنه يدعوا إلى الصلاة" قال المصنف: وليس المراد أنه يقول بصراحة حقيقة الصلاة، بل جرت العادة أنه يصرخ صرخات متتابعات عند طلوع الفجر، وعند الزوال فطرة فطره الله عليها ويذكر الناس بصراخه الصلاة. وفي الطبراني مرفوعا: "إن لله ديكا أبيض ناحاه موشحان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ جناح بالمشرق وجناح بالمغرب رأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء يؤذن في كل سحر يسمع تلك الصيحة أهل السماوت والأرض إلا الثقلين، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيامة، قال الله: ضم جناحيك وغض صوتك، فتعلم أهل السموات والأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت". وله وللبيهقي وابن عدي وضعفه عن جابر رفعه: "إن لله ديكا رجلاه في التخوم وعنقه تحت العرش مطوية، فإذا كان هنة من الليل صاح سبوح قدوس فصاحت الديكة". "وقالت عائشة: كان عليه الصلاة والسلام ينام أول الليل ويقوم آخره" لفضله، ولأنه أقرب إلى الإجابة "فيصلي" حزبه، أي: أن هذا كان آخر فعله أو أغلب حاله وإلا فقد قالت عائشة: من كل الليل أوتر صلى الله عليه وسلم من أوله وآخره وأوسطه وانتهى وتره إلى السحر، "ثم يرجع إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 537 ثم خرج. رواه الشيخان. وقالت أيضا: كان عليه الصلاة والسلام ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره، وربما أوتر في الليل، وربما أوتر في آخره، وربما جهر بالقراءة، وربما خفت. وقالت أم سلمة كان يصلي بنا ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح. رواه أبو داود والنسائي، والترمذي.   فراشه" في رواية مسلم، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام، أي: ليستريح من تعب القيام وينشط لصلاة الصبح والنوم بعد قيام الليل مستحسن، لأنه يذهب تعب السهر وصفرة الوجه، "فإذا أذن المؤذن" ولمسلم: فإذا كان عند النداء الأول "وثب" بمثلثة وموحدة نهض وقام بسرعة ففيه النشاط، زاد الأسود عند مسلم: ولا والله ما قالت قام، "فإن كانت به حاجة" للغسل بأن جامع قبل أن ينام "اغتسل" وللأسود عند مسلم، عنها: فأفاض عليه الماء ولا والله ما قالت اغتسل وأنا أعلم ما تريد، قال الحافظ: وكان بعض الرواة ذكره بالمعنى وحافظ بعضهم على اللفظ، "وإلا" يكن جامع "توضأ" زاد مسلم: ثم صلى ركعتين، "ثم خرج" إلى المسجد للصلاة، وفي التعبير بثم فائدة هي أنه كان يقضي حاجته من نسائه بعد إحياء الليل بالتهجد، فإن الجدير به أداء العبادة قبل قضاء الشهوة مع أنها في حقه عبادة مطلقا، قال الطيبي: ويمكن أن ثم هنا لتراخي الأخبار، أخبرت أولا أن عادته كانت مستمرة بنوم أول الليل، وقيام آخر، ثم يتفق أحيانا أن يقضي حاجته ثم ينام في كلتا الحالتين، فإذا انتبه عند النداء الأول اغتسل إن كان جنبا وإلا توضأ، "رواه الشيخان" واللفظ للبخاري، "وقالت" عائشة "أيضا: كان عليه الصلاة والسلام ربما اغتسل في أول الليل" من الجنابة، "وربما اغتسل في آخره" بعد النوم على وضوء وإن كان جنبا كما دلت عليه الأخبار الجياد، كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وغلطوا رواية من روى كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء، وعلى تقدير صحته ففعله أحيانا لبيان الجواز. "وربما أوتر في أول الليل وربما أوتر في آخره،" وهو أغلب أحواله، "وربما جهر" أعلن "بالقراءة وربما خفت" أسر بها لبيان الجواز وإن كان الأفضل في صلاة الليل الجهر، "وقالت أم سلمة" هند أم المؤمنين: "كان" صلى الله عليه وسلم "يصلي بنا" بعد صلاة العشاء والتسبيح ما شاء، كما في رواية النسائي التالية: "ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح، رواه أبو داود والنسائي والترمذي" ولا يعارضه حديث عائشة قبله، لأن كلا منها ومن أم سلمة أخبر بما شاهده من حاله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 538 وفي رواية للنسائي: كان يصلي العتمة، ثم يسبح ثم يصلي بعدها ما شاء الله من الليل ثم ينصرف فيرقد مثل ما صلى ثم يستيقظ من نومه فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح. وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه. وكان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب". رواه أبو داود من حديث عائشة. وعنها: كان عليه الصلاة والسلام إذا هب من الليل كبر الله عشرا،   "وفي رواية للنسائي" أيضا عن أم سلمة: "كان يصلي العتمة"، "بفتحتين" العشاء، وصح النهي عن تسميتها عتمة، "ثم يسبح، ثم يصلي ما شاء الله من الليل، ثم ينصرف" من الصلاة "فيرقد مثل" أي: قدر "ما صلى ثم يستيقظ من نومه ذلك فيصلي مثل ما نام، وصلاته تلك الآخرة تكون إلى الصبح" أحيانا، فلا يخالف قوله عائشة، فإذا أذن المؤذن ... إلخ. "وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصليا، إلا رأيناه مصليا، "ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه". قال الحافظ: أي أن صلاته ونومه كان يختلف بالليل ولا يرتب وقتا معينا، بل بحسب ما تيسر له القيام، ولا يعارضه قول عائشة: كان إذا سمع الصارخ قام، فإن عائشة تخبر عما لها عليه اطلاع، وذلك أن صلاة الليل كانت تقع منه غالبا في البيت، فخبر أنس محمول على ما وراء ذلك، وعنها: من كل الليل أوتر، فدل على أنه لا يخص الوتر بوقت بعينه، "رواه النسائي" والبخاري في قيام الليل وفي الصيام عن أنس: كان صلى الله عليه وسلم لا تشاء أن تراه من الليل صليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته، "وكان إذا استيقظ" أي: انتبه "من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك اللهم" وأسبح "بحمدك، أستغفرك لذنبي" هضما لنفسه واستقصارا لعمله واعترافا بالعبودية، "وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما" عملا بقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، "ولا تزغ" تمل عن الحق "قلبي بعد إذ هديتني" أرشدتني إليه "وهب لي من لدنك" من عندك "رحمة" تثبيتا "إنك أنت الوهاب". رواه أبو داود من حديث عائشة" فيه تقصير، فقد رواه البخاري من حديثها، "وعنها" أيضا "كان عليه الصلاة والسلام إذا هب" بهاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 539 وحمد الله عشرا، وقال: "سبحان الله وبحمده" عشرا، وقال: "سبحان الملك القدوس" عشرا، واستغفر الله عشرا، وهلل عشرا، ثم قال: "اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة" عشرا، ثم يفتتح الصلاة. رواه أبو داود. وقد روى حديث قيامه بالليل ووتره عائشة وابن عباس. قال ابن القيم: وإذ اختلف ابن عباس وعائشة في شيء من أمر قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل، فالقول قول عائشة، لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل. انتهى. فأما حديث ابن عباس فرواه البخاري ومسلم بلفظ: بت عند خالتي ميمونة ليلة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قعد ينظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ   مفتوحة فموحدة ثقيلة" انتبه من النوم "من الليل كبر الله", أي: قال الله أكبر "عشرا وحمد الله" أي: قال الحمد لله "عشرا" من المرات، "وقال: "سبحان الله وبحمده" عشرا، وقال: "سبحان الملك" بكسر اللام "القدوس" وهما من أسمائه في القرآن "عشرا"، "وأستغفر الله" أي قال: "اللهم اغفر لي واهدني وارزقني" كما في رواية "عشرا، وهلل" قال: لا إله إلا الله "عشرا، ثم قال: "اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق القيامة" عشرا، ثم يفتتح الصلاة المعتادة له بالليل، "رواه أبو داود" في السنن. "وقد روى" فعل مفعوله "حديث قيامه بالليل ووتره" وفاعله "عائشة وابن عباس" وفي حديثهما بعض اختلاف. "قال ابن القيم: وإذ اختلف ابن عباس وعائشة في شيء من أمر قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل، فالقول قول عائشة لكونها أعلم الخلق بقيامه بالليل" كما اعترف بذلك ابن عباس لمن سأله عن وتره ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة. رواه مسلم. "انتهى" قول ابن القيم. "فأما حديث ابن عباس، فرواه البخاري ومسلم بلفظ: بت عند خالتي ميمونة ليلة والنبي صلى الله عليه وسلم عندها" في ليلتها، زاد في رواية: لأنظر كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، وفي أخرى فقلت لها: إذا قام فأيقظيني، "فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله" زوجه ميمونة "ساعة" مدة من الزمان "ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر" بالرفع صفة ثلث "أو نصفه" وفي رواية: فنام حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل فتردد في ذلك لخفائه عليه، لأنه كان حينئذ ابن عشر سنين فتحرى القول في الرواية وترك المسامحة فيها، وإلا فقيامه صلى الله عليه وسلم إنما كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 540 وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران: 190] حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها ثم صب في الجفنة، ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين لم يكثر وقد أبلغ، فقام فصلى، فقمت فتوضأت فقمت عن يساره، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه، فتتامت صلاته ثلاث عشر ركعة، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ، فآذنه بلال بالصلاة فصلى ولم يتوضأ. وكان يقول في دعائه:   في النصف الآخر "قعد ينظر إلى السماء" للتدبر، فقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وما فيهما من العجائب {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان "حتى ختم السورة، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها" بكسر الشين المعجمة، فنون فألف فقاف خيط يربط به فمها، "ثم صب في الجفنة" بفتح الجيم، "ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين" من غير تقتير ولا تبذير، وفسره بقوله: "لم يكثر" من الماء "وقد أبلغ" الوضوء أماكنه دون أن يصب من الماء كثيرا، "فقام فصلى فقمت فتوضأت". وفي رواية: فصنعت مثل ما صنع، "فقمت عن يساره فأخذ بأذني" اليمنى يفتلها كما في رواية: "فأدارني عن يمينه" فسر هذه الإدارة في رواية أخرى بقوله: فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني، كذلك من وراء ظهره إلى الشق الأيمن، "فتتامت" بفوقيتين، أي: تكاملت وهي رواية لمسلم أيضا "صلاته ثلاث عشرة ركعة" كذا اتفق أكثر أصحاب كريب عن ابن عباس عليه وخالفهم شيك عنه، فقال: فصلى إحدى عشرة روايتهم مقدمة لما معهم من الزيادة، ولأنهم أحفظ، وحمل بعضهم الزيادة على الركعتين بعد العشاء لا يخفى بعده لا سيما مع رواية للشيخين، فصلى ركعتين ثم ركعتين فعد ست مرات ثم أوتر، ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين خفيفتين، هكذا قال الحافظ أول كلامه وهو بغير في قوله آخره المحقق من عدد صلاته تلك الليلة إحدى عشرة، وأما ثلاث عشرة، فيحتمل أن منها سنة العشاء، ويوافقه رواية عند البخاري عن ابن عباس: كانت صلاته صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ولم يبين هل سنة الفجر منها أو لا؟ وبينها في رواية النسائي بلفظ: كان يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث ويصلي ركعتين قبل صلاة الصبح، ولا يعكر على هذا الجمع إلا ظاهر حديث الباب فيمن حمل قوله: صلى ركعتين ثم ركعتين، أي: ركعتين قبل أن ينام ويكون منها سنة العشاء، وقوله: ثم ركعتين ... إلخ، أي: بعد أن قام. انتهى. ولا يخفى ما فيه من التعسف البعيد، وأول كلامه يرده كما رأيت وهو خير من هذا، "ثم اضطجع فنام حتى نفخ، وكان إذا نام نفخ" إشارة إلى أن ذلك عادته لا أنه اتفاقي هذه الليلة، "فآذنه" بالمد أعلمه "بلال بالصلاة فصلى ولم يتوضأ" وهذا من خصائصه، لأن عينيه تنامان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 541 "اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي بصري نورا، وفي سمعي نورا، وعن يميني نورا، وعن يساري نورا، وفوقي نورا وتحتي نورا، وأمامي نورا, وخلفي نورا، واجعل لي نورا"، وزاد بعضهم: "وفي لساني نورا". وذكر: عصبي ولحمي ودمي وشعري   ولا ينام قلبه ليعي الوحي إذا أوحي إليه في المنام، "وكان يقول في دعائه" تلك الليلة، ولمسلم: فجعل يقول في صلاته أو في سجوده، وفي رواية له: فأذن المؤذن فخرج إلى الصلاة وهو يقول: ولا خلف، فقال ذلك في الصلاة الليلية وفي حال خروجه إلى صلاة الصبح: "اللهم اجعل في قلبي نورا" عظيما كما يفيده التنكير يكشف لي عن المعلومات "وفي بصري نورا" يكشف لي عن المبصرات ليتحلى بأنواع المعارف وتتجلى له صنوف الحقائق، "وفي سمعي نورا" مظهرا للمسموعات، "وعن يميني نورا وعن يساري نورا". قال الطيبي: خص القلب والبصر والسمع بفي الظرفية، لأن القلب بيت الفكر في آلاء الله والبصر مسارح آيات الله المصونة، وإلا سماع مراسي أنواع وحي الله ومحط آياته المنزلة، وخص اليمين والشمال بعن إيذانا بتجاوز الأنوار عن قلبه وسمعه وبصره إلى من عن يمينه وشماله من أتباعه "وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا" عظيما شاملا للأنوار السابقة وغيرها كأنوار الأسماء الإلهية وأنوار الأرواح العلوية وغير ذلك. وفي رواية لمسلم: أو قال واجعلني نورا، ثم رواه من وجه آخر وقال فيه: وقال واجعلني نورا ولم يشك وله في رواية أخرى بدل ذلك، وعظم لي نورا بشد الظاء المعجمة، وفي لفظ: أعظم بهمزة قطع سأل النور في أعضائه وجهاته ليزداد في أفعاله وتصرفاته ومتقلباته نورا على نور، فهو دعاء بدوام ذلك فإنه كان حاصلا له لا محالة، أو هو تعليم لأمته. وقال الشيخ أكمل الدين: أما النور الذي عن يمينه فهو المؤيد له والمعين على ما يطلبه من النور الذي بين يديه والنور الذي عن يساره فنور الوقاية، والنور الذي خلفه هو النور الذي يسعى بين يدي من يقتدي به ويتبعه، فهو لهم من بين أيديهم، وهو له صلى الله عليه وسلم من خلفه فيتبعونه على بصيرة، كما أنه المتبع على بصيرة قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] وأما النور الذي فوقه فهو تنزل نور إلهي قدسي، بعلم غريب لم يتقدمه خبر ولا يعطيه نظر وهو الذي يعطي من العلم بالله ما ترده الأدلة العقلية إذا لم يكن لها إيمان، فإن كان لها إيمان نوراني قبلته بتأويل للجمع بين الأمرين. "وزاد بعضهم" أي: رواة حديث ابن عباس عند مسلم،" "وفي لساني نورا" عقب قوله: "وفي قلبي نورا". "وذكر: عصبي" بفتح المهملتين وموحدة أطناب المفاصل "ولحمي ودمي وشعري وبشري"" ظاهر جسمه الشريف فتحصل أربع عشرة دعوة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 542 وبشري". وفي رواية: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم قرأ فيهما بأم الكتاب في كل ركعة، ثم سلم، ثم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر ثم نام، فأتاه بلال فقال: الصلاة يا رسول الله! فقام فركع ركعتين ثم صلى بالناس. وفي رواية: فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} . وفي رواية: فصلى ركعتين ركعتين حتى صلى ثمان ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن. وفي رواية النسائي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام حتى   وفي رواية لمسلم: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ تسع عشرة كلمة، قال سلمة: حدثنيها كريب فحفظت منها اثنتي عشرة ونسيت ما بقي، فذكرها وقال في آخره: "واجعل في نفسي نورا، وأعظم لي نورا". وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: "اللهم اجعل لي نورا في قبري" ثم ذكر القلب ثم الجهات الست والسمع والبصر، ثم الشعر والبشر، ثم اللحم والدم، ثم العظام، ثم قال في آخره: "اللهم أعظم لي نورا وأعطني نورا واجعلني نورا". وعند ابن أبي عاصم في آخره: "وهب لي نورا على نور". "وفي رواية: فصلى ركعتين خفيفتين ثم قرأ فيهما بأم الكتاب في كل ركعة" ثم للترتيب الذكرى بمعنى الواو، "ثم سلم، ثم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر، ثم نام فأتاه بلال، فقال: الصلاة" حضرت فهو بالرفع أو النصب، أي: أحضر الصلاة "يا رسول الله! فقام فركع ركعتين" سنة الصبح "ثم صلى بالناس" في المسجد الصبح. "وفي رواية: فقام فصلى ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر، حزرت قيامه في كل ركعة بقدر: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل} ، أي: قراءتها. "وفي رواية" عند النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: "فصلى ركعتين ركعتين" بالتكرير "حتى صلى ثمان ركعات، ثم أوتر بخمس لم يجلس بينهن"، أي: صلاها بتشهد واحد وهذه صريحة في الوصل، والرواية السابقة محتملة فتحمل على هذه، لكن عند ابن خزيمة يسلم من كل ركعتين فيحتمل تخصيصه بالثمان فلا خلف. "وفي رواية النسائي أنه صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة ركعة بالوتر"، كأنه لم يعد الركعتين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 543 استثقل فرأيته ينفخ فأتاه بلال، الحديث. وفي أخرى: فتوضأ واستاك، وهو يقرأ هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 90] ثم صلى ركعتين، ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك ثم صلى ركعتين، ثم نام ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر. ولمسلم: فاستيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات، كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاث.   الخفيفتين اللتين افتتح بهما صلاته، "ثم نام حتى استثقل" أي: استغرق في نومه، "فرأيته ينفخ فأتاه بلال الحديث". "وفي أخرى له" أي: النسائي "فتوضأ واستاك وهو يقرأ هذه الآية" أي: جنسها، فلا ينافي أنه قرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى ختم السورة، "ثم صلى ركعتين، ثم عاد فنام حتى سمعت نفخه، ثم قام فتوضأ واستاك، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم قام فتوضأ واستاك وصلى ركعتين وأوتر" بخمس ركعات، وقد صلى قبلها ست ركعات، فتكون إحدى عشرة، فنقص منها ركعتين. "ولمسلم" عن ابن عباس أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم "فاستيقظ" الفاء عطفت ما بعدها على محذوف، فقوله إنه رقد عند رسول الله معنى قول ابن عباس لا حكاية لفظه، فالتقدير أنه قال: رقدت في بيت خالتي ميمونة ورقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها، فاستيقظ "فتسوك وتوضأ" تجديدا للوضوء أو أن قلبه المقدس أحس بحدوث حدث "وهو يقول {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين، أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات" غير الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح الصلاة بهما فتبلغ ثمانية، وقوله: ست مع ما بعده من ثلاث مرات، لأنه إذا حصل في كل ركعة ركوعان صح أن يبدل ست ركعات من ثلاث مرات، أي: يفعل ذلك في ست ركعات، وثم في قوله: ثم فعل ذلك لتراخي الأخبار وتقريرا وتأكيدا لا لمجرد العطف لئلا يلزم منه أنه فعل ذلك أربع مرات، "كل ذلك يستاك ويتوضأ وهو يقرأ هذه الآيات ثم أوتر بثلاث" فالجميع إحدى عشرة وهي بعد الركعتين الخفيفتين، لأن ذكره تطويل الركعتين يدل على أنهم غير الخفيفتين فيتم العدد ثلاث عشرة فتتفق، الأحاديث ولا تختلف، كذا قاله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 544 وأما حديث عائشة، فعن سعد بن هشام قال: انطلقت إلى عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن، قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات ولا يجلس فيها إلا في الثامنة،   المصنف في شرح مسلم وفيه نظر، لأنها إنما تمت ثمانيا بالركعتين الخفيفتين، فكيف يعدهما ثانيا ويعلله بما ذكر. وقد قال في فتح الباري: زاد، أي: في هذه الرواية على الرواة تكرار الوضوء وما معه، ونقص عنهم ركعتين أو أربعا، ولم يذكر ركعتي الفجر أيضا، وأظن ذلك من حبيب بن أبي ثابت أحد رواته، فإن فيه مقالا. انتهى. "وأما حديث عائشة" قسيم قوله أولا، فأما حديث ابن عباس، "فعن سعد بن هشام" بن عامر الأنصاري ابن عم أنس بن مالك "قال: انطلقت إلى عائشة، فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بضم الخاء واللام وبسكون اللام أيضا، "قالت: ألست تقرأ القرآن، قلت: بلى، قالت: كان خلقه القرآن" في العمل بأحكامه والتأدب بآدابه والاعتبار بأمثاله وقصصه وحسن تلاوته، ويحتمل كما قال القرطبي أن تريد الآيات التي أثنت عليه صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وكقوله {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف: 157] وما في معنى ذلك قال بعضهم: وفيه إيماء إلى التخلق بأخلاق الله، فعبرت عن المعنى بقولها: ذلك استحياء من سبحات الجلال وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من وفور علمها وأدبها "قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كنا نعد" بضم النون وكسر العين من أعد، أي: نهيئ "له سواكه وطهوره" الماء الذي يتطهر به، "فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه" أي: يوقظه من النوم وما موصولة، والعائد محذوف، أي: ما شاء فيه، تعني المقدار و"من الليل" بيانية. قال الطيبي: إن قلت تقرر عند علماء المعاني أن مفعول شاء وأراد لا يذكر في الكلام الفصيح إلا أن تكون فيه غرابة، نحو قوله: ولو شئت أن أبكي دما لبكيته، وقوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى} [الزمر: 4] فأين الغرابة في قوله ما شاء أن يبعثه، قلت: كفى بلفظ البعث شاهدا على الغرابة، كأنه تعالى نبه حبيبه لقضاء نهمته من مناغاة ومناجاة بينهما ومن مكاشفات وأحوال، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] فأي غرابة أغرب من هذا، "فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات ولا يجلس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 545 فيذكر الله يحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم من الوتر وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بني. رواه مسلم. وللنسائي: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيستاك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، ويحمد الله ويصلي على نبيه ويدعو بينهن ولا يسلم، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد. زاد في أخرى: فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني, فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذه   فيها إلا في الثامنة" بالميم، "فيذكر الله يحمده ويدعوه" أي: يتشهد، فالحمد إذن لمطلق الثناء إذ ليس في التحيات لفظ الحمد، والمراد يذكر الله ويحمده ويدعو بعد التشهد "ثم ينهض" من الركعة الثامنة "ولا يسلم" منها، "ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله تعالى ويحمده" يثني عليه بالتشهد، "ويدعوه" بعد التشهد "ثم يسلم تسليما يسمعنا" ليستيقظ نائمنا "ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم من الوتر وهو قاعد" بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر وصلاة النفل قاعدا. قال أحمد: لا أفعلهما ولا أمنع فعلهما وأنكره مالك. "فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني" خطاب من عائشة لسعد، "فلما أسن" بألف، وفي معظم نسخ مسلم: سن بدونها والأول هو المشهور "صلى الله عليه وسلم، وأخذه اللحم" أي: غلب عليه حتى سمن، فضعفت حركته وقدرته على القيام "أوتر بسبع" بسين فموحدة، "وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول فتلك تسع يا بني، رواه مسلم" مطولا وفيه قصة "وللنسائي: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما" أي: للوقت الذي "شاء أن يبعثر من الليل" بيان له، "فيستاك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ويحمد الله". وقوله: "ويصلي على نبيه" زيادة على ما في مسلم "ويدعو بينهن" أي: فيهن "ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويقعد ويحمد الله ويصلي على نبيه" زيادة أيضا على ما في مسلم، فذكر رواية النسائي لهذه الزيادة في الموضعين، "ثم يسلم تسليما يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد". "زاد في أخرى: فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم أوتر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 546 اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما سلم، فتلك تسع، يا بني. وفي رواية له: فصلى ست ركعات يخيل إليّ أنه سوى بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس ثم يضع جنبه. وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين. رواه مسلم وأحمد. وعنها: كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاته العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة، فيسجد السجدة من ذلك بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين لنا الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن، حتى يأتيه المؤذن للإقامة، رواه أبو داود.   بسبع" بموحدة بعد السين، "ثم صلى ركعتين وهو جالس، بعدما سلم" حملهما بعضهم على أنهما ركعتا الفجر، وفيه: بعد "فتلك تسع"، "بفوقية فسين"، "يا بني". "وفي رواية له" للنسائي: "فصلى ست ركعات يخيل إليّ أنه سوى بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس، ثم يضع جنبه" على الأرض يستريح حتى يأتيه المؤذن. "وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين" لخفة القراءة فيهما، أو لاقتصاره على الفاتحة لينشط بهم لما بعدهما، "رواه مسلم وأحمد" ولم يروه البخاري. "وعنها" أيضا: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، ويسلم من كل ركعتين ويوتر" منها "بواحدة" فيه أن الوتر يكون واحدة وأن الركعة الواحدة صلاة، ومنعه أبو حنيفة وقال: لا تكون صلاة والحديث يرده "فيسجد السجدة من ذلك بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن" أي: فرغ "من" أذان "صلاة الفجر" الصبح "وتبين" أي: ظهر "لنا" كذا في النسخ والذي في الصحيح له "الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين" سنة الصبح، وهذا يدل على أن التبين لم يكن بالأذان وإلا لما كان لقولها وتبين له الفجر فائدة بعد قولها سكت المؤذن، "ثم اضطجع" للاستراحة من سهر التهجد "على شقه الأيمن" لأنه كان يحب التيمن "حتى يأتيه المؤذن للإقامة، رواه أبو داود" وهو في مسلم بدون قوله فيسجد السجدة إلى قوله، فإذا سكت وباقيه سواء فلم يعزه لمسلم لهذه الزيادة، نعم هو في البخاري عنا كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته، يعني: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 547 وعنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء إلا في آخرها. رواه البخاري ومسلم. وفي البخاري عن مسروق: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: سبعا وتسعا وإحدى عشرة، سوى ركعتي الفجر. وعنده أيضا، عن القاسم بن محمد، عنها: كان صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر.   بالليل فيسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة، "وعنها" أي: عائشة "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي" من الليل كما في الحديث فسقط من قلم المصنف، أي: بعضه "ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء" من الخمس "إلا في آخرها" وما قبلها كان يسلم من كل ركعتين كما في رواية أبي داود بلفظ: يصلي ثلاث عشرة ركعة بركعتيه قبل الصبح يصلي ستا مثنى مثنى ويوتر بخمس لا يقعد بينهن إلا في آخرهن، "رواه البخاري ومسلم" من طرق عن هشام عن أبيه، عنها قال أبو عبد الله الأبي: طريق هشام هذه أنكرها مالك ورواها في موطئه كالناس، وقال: منذ صار هشام بالعراق أتانا منه ما لم نعرف انتهى. ولفظ الموطأ وأخرجه البخاري من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت كان: رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، قال ابن عبد البر ذكر قوم من رواة هذا الحديث عن هشام أنه كان يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء من الخمس إلا في آخرها، رواه حمد بن سلمة وأبو عوانة ووهيب وغيرهم، وأكثر الحافظ: رووه عن هشام كما رواه مالك والرواية المخالفة له إنما حدث بها عن هشام أهل العراق وما حدث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عندهم. "وفي البخاري عن مسروق" بن الأجدع قال: سألت عائشة عن" عدد "صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" بالليل، "فقالت:" يصلي "سبعا" تارة "وتسعا" أخرى "وإحدى عشرة" وقع ذلك منه في أوقات بحسب اتساع الوقت وضيقه، أو لعذر من مرض أو غيره وكبر سن. وفي النسائي عنها: كان يصلي من الليل تسعا، فلما أسن سبعا "سوى ركعتي الفجر وعنده" أي: البخاري "أيضا عن القاسم بن محمد عنها" أي: عائشة: "كان يصلي من الليل" أي: بعضه "ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر" وهو في مسلم عن القاسم، عنها بلفظ: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويركع ركعتي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 548 قال القرطبي: أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم، حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب. وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدا، وأخبرت عن وقت واحد. والصواب: أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة، وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز. انتهى. فأما ما أجابت به مسروقا، فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة فتارة يصلي سبعا وتارة يصلي تسعا وتارة إحدى عشرة. وأما حديث القاسم عنها فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله. قيل: والحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة: أن التهجد والوتر مخصوصان بصلاة الليل، وفرائض النهار: الظهر وهي أربع، والعصر وهي أربع، والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة "ثلاث عشرة" فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. انتهى.   الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة. "قال القرطبي" أبو العباس في شرح مسلم: "أشكلت روايات عائشة على كثير من أهل العلم" لتباينها ببادي الرأي "حتى نسب بعضهم حديثها إلى الاضطراب" الموجب للضعف، "وهذا إنما يتم لو كان الراوي عنها واحدًا وأخبرت عن وقت واحد، والصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة" بحسب اتساع الوقت تارة وضيقه أخرى، والمرض والصحة ونحو ذلك "وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز" لفظ القرطبي: وليبين أن ذلك جائز "انتهى". "فأما ما أجابت به مسروقا" حين سألها، "فمرادها أن ذلك وقع منه في أوقات مختلفة، فتارة يصلي سبعا" بسين فموحدة، "وتارة يصلي تسعا" بفوقية فسين، "وتارة إحدى عشرة، وأما حديث القاسم عنها: فمحمول على أن ذلك كان غالب أحواله" وبهذا تجتمع رواياتها وتدفع دعوى اضطرابها "قيل: والحكمة في عدم الزيادة على إحدى عشرة" ركعة في تهجد الليل "أن التهجد والوتر مخصوصان بصلاة الليل وفرائض النهار الظهر وهي أربع والعصر وهي أربع والمغرب وهي ثلاث وتر النهار، فناسب أن تكون صلاة الليل كصلاة النهار في العدد جملة وتفصيلا، وأما مناسبة ثلاث عشرة، فبضم صلاة الصبح لكونها نهارية إلى ما بعدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 549 وعن زيد بن خالد الجهني أنه قال: لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة، قال: فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما،   انتهى". وهذا قد ذكره الحافظ بلفظ: وظهر لي أن الحكمة ... إلخ، فمرضه المصنف لأنه قال في شرحه للبخاري: يعكر عليه صلاة الصبح، فإنها نهارية لآية: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] ، والمغرب ليلية لحديث: "إذا أقبل الليل من ههنا فقد أفطر الصائم". فليتأمل. انتهى. وقد تأملته فوجدت ذلك لا يعكر عليه، فإنه قد صرح كما رأيت بأن الصبح نهارية وهو الصواب وعن الأعمش ليلية وهو شاذ. عن الشعبي وقت منفرد لا من الليل ولا من النهار والمغرب وإن كانت ليلية لكنها تضاف للنهار، باعتبار أنها وتره كما أفاده قوله وتر النهار ولابن خزيمة وابن حبان والبيهقي في حديث عائشة وتركت صلاة المغرب لأنا وتر النهار، أي: تركت على أصل الفرض فلم تقصر للسفر، "وعن زيد بن خالد الجهني" بضم ففتح المزني صحابي شهير مات بالكوفة سنة ثمان وستين أو سبعين وله خمس وثمانون سنة "أنه قال: لأرمقن" بضم الميم وشد النون، وأصله النظر إلى الشيء شزرا نظر العداوة، واستعير هنا لمطلق النظر وعدل عن الماضي فلم يقل رمقت نظرا لاستحضار تلك الحالة الماضية ليقررها للسامع أبلغ تقرير، أي: لأنظرن نظرا طويلا "صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة". قال المصنف: الظاهر أن زيدا لم يكن مضجعه داخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لأه غير محرم، فيحتمل أنه كان في موضع مقابل للموضع الذي كان صلى الله عليه وسلم فيه بالليل، فإما أن يكون ذلك في حجرة الحصير الذي كان في المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، وإما أن يكون في السفر، وعند أبي داود وابن ماجه في هذا الحديث: فتوسدت عتبته أو فسطاطه وهو محمول على أن ذلك كان حين سمعه قام يصلي لا قبل ذلك، لأنه من التجسس المنهي عنه، وأما ترقبه للصلاة فمن الترقب المحمود. انتهى. فجزم شيخنا بأنه كان في سفر يحتاج لنقل "قال" زيد "فصلى" رسول الله "ركعتين خفيفتين" هما الركعتان اللتان كان يفتتح بهما قيام الليل، "ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين" ثلاثا تأكيدا وإرادة لغاية الطول وانتهائه، ثم أخذ يترك شيئا فشيئا فقال، "ثم صلى ركعتين وهما دون" الركعتين "اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 550 ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة. رواه مسلم. وقوله: "ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" أربع مرات، هكذا في صحيح مسلم وموطأ مالك وسنن أبي داود، وجامع الأصول لابن الأثير. فقد كان قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل أنواعا. أحدها: ست ركعات، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بثلاث، كما في حديث ابن عباس، عند مسلم. ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم يتم إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بركعة واحدة. رواه البخاري ومسلم من   الطول، "ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" في الطول، "ثم أوتر" بواحدة، "فذلك ثلاث عشرة ركعة" ذكر هذا مع أنه مستفاد من العد لئلا يسقط ركعتان منه، "رواه مسلم" والترمذي والنسائي الثلاثة عن قتيبة عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن عبد الله بن قيس بن مخرمة أخبره عن زيد بن خالد فذكره، "وقوله: ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما" ذكره "أربع مرات" بعد الركعتين الطويلتين الواقعتين بعد الركعتين الخفيفتين، "هكذا في صحيح مسلم وموطأ مالك" عند جميع رواته إلا يحيى الأندلسي فغلط، فذكرها خمس مرات "وسنن أبي داود" عن القعنبي عن مالك به، و"جامع الأصول" الصحيحين والموطأ وأبي داود والترمذي والنسائي "لابن الأثير" أبي السعادات المبارك صاحب النهاية مراد المصنف، بذلك رد ما وقع ليحيى الأندلسي حيث ذكر وهما دون اللتين قبلهما خمس مرات بناء على ما عنده في أول الحديث: صلى ركعتين طويلتين طويلتين. قال ابن عبد البر: لم يتابعه أحد من رواة الموطأ والذي فيه عند جميعهم، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الخفيفتين وقال: طويلتين مرتين وغيره يقول ثلاثا فوهم يحيى في الموضعين، وذلك مما عد عليه من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد. انتهى. "فقد كان قيامه عليه الصلاة والسلام بالليل أنواعا، أحدها ست ركعات يسم من كل ركعتين، ثم يوتر بثلاث كما في حديث ابن عباس عند مسلم" ومر قريبا "ثانيها: أنه كان يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم يتم ورده إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بركعة واحدة، رواه" أي: مجموعه لا جميعه "البخاري ومسلم من حديث عائشة" وإلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 551 حديث عائشة. ثالثها: ثلاث عشرة ركعة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني. رابعها: ثماني ركعات، يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بخمس سردا متوالية صفة كاشفة سرد الحديث أتى به على الولاء لا يجلس إلا في آخرهن. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس. خامسها: تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الركعة الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعو، ثم ينهض ولا يسلم ثم يصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله يحمده ويدعو ثم يسلم، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم قاعدا. رواه مسلم من حديث عائشة. سادسها: يصلي سبعا كالتسع، ثم يصلي بعدها ركعتين جالسا. رواه مسلم أيضا من حديثها.   فالافتتاح بركعتين خفيفتين ليس في البخاري، وقد مر قريبا أن المصنف عزاه لمسلم وأحمد، "ثالثها: ثلاث عشرة ركعة، كذلك رواه مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني" ومر قريبا "رابعها: ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بخمس سردا" بفتح فسكون "متوالية صفة كاشفة سرد الحديث، أتى به على الولاء لا يجلس إلا في آخرهن، رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس" وسبق ما فيه "خامسها: تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الركعة الثامنة" بالميم" فيذكر الله ويحمده ويدعوه" أي: يتشهد، فالحمد إذن لمطلق الثناء إذ ليس في التحيات لفظ الحمد، أو المراد أنه يذكر الله ويحمده ويدعوه بعد التشهد، "ثم ينهض" من الركعة الثامنة "ولا يسلم" منه، "ثم" يقوم "يصلي" الركعة "التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده" أي: يتشهد "ويدعو" بعد التشهد "ثم يسلم" أسقط منه تسليما يسمعنا، "ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم قاعدا" لفظ مسلم: وهو قاعد لبيان جواز الصلاة بعد الوتر وصلاة النفل قاعدا، "رواه مسلم من حديث عائشة" في جملة حديث طويل "سادسها: يصلي سبعا كالتسع، ثم يصلي بعدها ركعتين جالسا، رواه مسلم أيضا من حديثها" فيه تسمح، فهو حديث واحد لفظها في مسلم بعد قوله وهو قاعدا، فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول، وقد قدمه المصنف قريبا على الصواب، وأجاب بعضهم عن هذا الحديث، بأن المراد بالقعود الجلوس الطويل الذي يشتغل فيه بالذكر والتحميد بعد التشهد لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 552 سابعها: كان يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن. رواه أحمد عنها. ثامنها: ما رواه النسائي عن حذيفة أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فركع فقال في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" مثل ما كان قائما، ثم جلس يقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي". فما صلى إلا أربع ركعات حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة. ورواه أبو داود، ولفظه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فكان يقول: "الله أكبر" ثلاثا، "ذو الملك والملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: "سبحان   الجلوس للتشهد فقط، فإنه يجلس بعد كل ركعتين كما في الروايات الأخرى، والمراد بالسلام بعد التاسعة التسليم الذي يرفع به صوته لإيقاظهم، لأنه قرب الصبح ووقت الوتر، لا أنه لا يسلم بعد كل ركعتين، فالمنفي في قولها لا يجلس إلا في الثامنة، ولا يسلم إلا في التاسعة الجلوس المقيد بالطول والتسليم المقيد برفع الصوت لا مطلق الجلوس والتسليم، ويؤيده رواية أبي داود في هذا الحديث، فيصلي ثمان ركعات يسوي في القراءة والركوع والسجود ويسلم تسليمة شديدة توقظنا، فبين بهذه الزيادة أن تخصيص الثمان لأجل تسوية القراءة والركوع والسجود فيها، وذكر التسليم بعد التاسعة لبيان أنه جلوس طويل، فالمنفي إنما هو صفة الجلوس لا الجلوس نفسه، وكذا في التسليم. "سابعها: كان يصي مثنى مثنى" أي: اثنين اثنين وإعادة مثنى مبالغة في التأكيد، "ثم يوتر بثلاث لا يفصل بينهن، رواه أحمد عنها" وصححه الحاكم، وفعل ذلك لبيان الجواز، فلا حجة فيه لتعين الثلاث موصولة، فإن الأخبار الصحيحة تأباه، "ثامنها، ما رواه النسائي عن حذيفة" بن اليمان "أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذات ليلة "في رمضان، فركع" صلى الله عليه وسلم "فقال في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" مثل ما كان قائما" أي: نحوا من قيامه كما يأتي "ثم جلس يقول": "رب اغفر لي, رب اغفر لي" بالتكرار، "فما صلى إلا أربع ركعات" من ابتداء صلاته "حتى جاء بلال يدعوه إلى الغداة" أي: صلاة الصبح، "ورواه أبو داود" عن حذيفة، "ولفظه، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل" أي: بعضه، "فكان يقول: "الله أكبر" ثلاثا "ذو الملك والملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة" ثم استفتح" بعد أم القرآن، "فقرأ البقرة ثم ركع فكان ركوعه نحوا" أي: قريبا "من قيامه" فأطلق المثل في السابقة على النحو إذ الحديث واحد، "وكان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم" ثم رفع رأسه من الركوع، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 553 ربي العظيم"، ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول: "لربي الحمد" ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول: "رب اغفر لي، رب اغفر لي". فصلى أربع ركعات، قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة. ورواه البخاري ومسلم عن حذيفة بلفظ: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم   فكان قيامه نحوا من ركوعه يقول" فيه "لربي الحمد" أي: بعدما قال: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد" كما في الرواية التالية، "ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده" فيه إطالة الجلوس بين السجدتين، والمرجح خلافه لأدلة أخرى، "وكان يقول" فيه: "رب اغفر لي رب اغفر لي" أي: يكرر هذا القول إلى أن يسجد الثانية، "فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام، شك شعبة" بن الحجاج أحد رواته، "ورواه البخاري ومسلم" في قوله البخاري نظر فإنه لم يروه لكونه ليس على شرطه كما في فتح الباري وتبعه المصنف على البخاري وإنما هو من أفراد مسلم "عن حذيفة، بلفظ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت" في نفسي "يركع عند المائة، ثم مضى" في القراءة ولم يركع، "فقلت" في نفسي: "يصلي بها" أي: البقرة "في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها". قال النووي قوله يصلي بها في ركعة معناه ظننت أنه يسلم بها فيقسمها على ركعتين، وأراد بالركعة الصلاة بكمالها وهي ركعتان، قال: ولا بد من هذا التأويل لينتظم الكلام بعده، وعلى هذا فقوله: ثم مضى معناه قرأ معظمها بحيث غلب على ظني أنه لا يركع الركعة الأولى إلا في آخر البقرة، فحينئذ قلت: يركع الركعة الأولى بها وقال الأبي قوله، فقلت: يركع بها انظر هذا مع قوله أولا، فقلت: يصلي بها في ركعة. وأجيب بأن المراد بالركعة التسليمة، أو أن الثاني تأكيد "ثم افتتح سورة النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرآها" حال كونه"يقرأ مترسلا" أي: بالرفق والترتيل إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل" لفظ مسلم وإذا مر بآية فيها سؤال وإذا مر بتعوذ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 554 ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم"، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: "سمع الله لمن حمده" زاد في رواية: "ربنا لك الحمد" ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: "سبحان ربي الأعلى"، فكان سجوده قريبا من قيامه. وزاد النسائي: لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكر. وقد كانت هيئة صلاته عليه الصلاة والسلام ثلاثة:   تعوذ" قال المصنف في شرح مسلم فيه استحباب تطويل قراءة نافلة الليل وأن طول القيام أفضل من كثرة الركوع والسجود، واستدلال المخالف بحديث أبي ذر مرفوعا من ركع ركعة وسجد سجدة رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة. أجيب: بأن لا دلالة فيه على أن كثرتهما أفضل من طول القيام، بل على أن الله تعالى يعطي للمصلي في كل ركوعه وسجوده، ثوابا ويحط عنه ذنوبا لا أنه تعالى لا يعطيه في طول القيام شيئا وفيه أيضا أن ترتيب السور على ما في المصحف العثماني ليس بتوقيف، بل على سبيل الاجتهاد وهذا مذهب مالك والجمهور واختيار القاضي أبي بكر الباقلاني، وأصح القولين عنده مع احتماليهما، وأما من يقول إنه توقيف واستقر الأمر على ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم في العرضة الأخيرة فيحمل فعله هذا على أنه قبلها واستقرار الأمر على ما ذكر هنا كانت السورتان في مصحف أبي، واتفق على أن للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي صلى بها في الأولى، نعم يكره ذلك في الركعة الواحدة أو لمن يتلو القرآن، وأجازه بعضهم وتأول نهي من نهى من السلف عن قراءة من قرأ منكوسا، أن ذلك فيمن يقرأ من آخر السورة آية بعد آية، كما يفعله من يظهر قوة الحفظ، اتفق على أن تأليف كل سورة وترتيب أيها توقيف من الله تعالى على ما عليه الآن في المصحف وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. انتهى. "ثم ركع فجعل يقول" في ركوعه "سبحان ربي العظيم". فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: "سمع الله لمن حمده"، زاد في رواية لمسلم: "ربنا لك الحمد" بغير واو قبل لك، "ثم قياما طويلا قريبا مما ركع". قال النووي: فيه جواز تطويل الاعتدال عن الركوع وأصحابنا يقولون: لا يجوز ويبطلون به الصلاة، "ثم سجد فقال" في سجوده: "سبحان ربي الأعلى". فكان سجوده قريبا من قيامه. "وزاد النسائي" في روايته لهذا الحديث: "لا يمر بآية تخويف أو تعظيم لله عز وجل إلا ذكره" أي: فكر في أمر ما مر به واستحضره ليزداد قربه من الله تعالى، "وقد كانت هيئة" أي: صفة "صلاته عليه الصلاة والسلام ثلاثة" من الأنواع، "أحدها أنه كان أكثر صلاته قائما، فعن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 555 أحدها: أنه كان أكثر صلاته قائما: فعن حفصة قالت: ما رأيته صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعدا، حتى كان قبل وفاته بعام فكان يصلي في سبحته قاعدا، الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائي وصححه الترمذي. الثاني: كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا. رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ: وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد. الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائما. رواه مسلم من حديث عائشة ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي جالسا، ويقرأ وهو جالس فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية قام وقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك.   حفصة" أم المؤمنين "قالت: ما رأيته" الضمير من المصنف اختصارا لقولها رسول الله "صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته" بضم السين وسكون الموحدة، سميت النافلة بذلك لاشتمالها على التسبيح من تسمية الكل اسم البعض، وخصت به دون الفريضة. قال ابن الأثير: لأن التسبيح في الفرائض نفل، وفي النوافل نوافل في مثلها "قاعدا" بل قام حتى تورمت قدماه، "حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدا" إبقاءه على نفسه ليستديم الصلاة "الحديث" بقيته: ويقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها، "رواه أحمد ومسلم والنسائي وصححه الترمذي" كلهم من طريق مالك وغيره وهو في الموطأ. "الثاني: كان يصلي قاعدا ويركع قاعدا، رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة بلفظ" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا وكان إذا قرأ قائما، ركع قائما "وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد" فيه التنفل قاعدا مع القدرة على القيام وهو إجماع. "الثالث: كان يقرأ قاعدا، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائما، رواه مسلم" وكذا البخاري، فكأن المصنف سها عنه أو سقط من نساخه "من حديث عائشة، ولفظه" أي: الحديث عندهما عنها، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي" النافلة "جالسا" قبل موته بعام، كما في حديث حفصة: "ويقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين آية" تحتمل أو الشك من الراوي أيهما، قالت عائشة وإنها قالتهما معا بحسب وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرة كذا ومرة كذا أو بحسب طول الآيات وقصرها، "قام وقرأ وهو قائم" فجمع بين ما يطيقه من القيام والجلوس إبقاء على نفسه ليستديم الصلاة "ثم ركع ثم سجد ثم يفعل في الركعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 556 وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. رواه الدارقطني. وكان عليه الصلاة والسلام يصلي ركعتين بعد الوتر جالسا تارة، وتارة يقرأ فيهما وهو جالس فإذا أراد أن يركع قام فركع. قالت عائشة: كان يوتر بواحدة، ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع. رواه ابن ماجه. وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، يقرأ فيهما: {إِذَا زُلْزِلَتِ} و"الكافرون" رواه أحمد. واختلف في هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووي في المجموع. وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى. والصواب: أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر، وجواز النفل جالسا. ولفظة "كان" لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا. وغلط من ظنهما سنة راتبة، فإنه صلى الله عليه وسلم   الثانية مثل ذلك" المذكور من القراءة وغيرها. "وعن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا" سمي بذلك لأنه جعل نفسه أرباعا تلي الأرض، ففيه فضل التربع الواقع بدل القيام، وعليه مالك في المشهور، لأنه أقوى في إراحة الأعضاء فلا يشوش على الخشوع. "رواه الدراقطني: وكان عليه الصلاة والسلام يصلي ركعتين بعد الوتر جالسا" كما في مسلم عن عائشة: كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس، وقيده المصنف بقوله: "تارة" للإشارة إلى أنه لم يداوم على ذلك فليسا بسنة إنما فعلهما لبيان الجواز، "وتارة يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع" واستدل لذلك بقوله: "قالت عائشة: كان يوتر بواحدة" مفصولة عن شفع قبلها، "ثم يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، رواه ابن ماجه" محمد القزويني. "وعن أبي أمامة" صدي بن عجلان الباهلي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما {إِذَا زُلْزِلَتِ} و"الكافرون" رواه أحمد" الإمام اب حنبل، "واختلف في هاتين الركعتين فأنكرهما مالك وكذا النووي في المجموع" شرح المهذب "وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنعه. انتهى". "والصواب أنه إنما فعلهما بيانا لجواز الصلاة بعد الوتر وجواز النفل جالسا ولفظة كان لا تفيد دواما ولا أكثرية هنا" إذ لا قرينة تدل على ذلك على قول من قال تفيدهما بالقرينة نحو كان حاتم يقري الضيف، "وغلط من ظنهما سنة راتبة" للوتر "فإنه صلى الله عليه وسلم ما داومهما" أي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 557 ما داومهما، ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده. وأما قيامه عليه الصلاة والسلام ليلة النصف من شعبان، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض، فلما رأيت ذلك قمت إليه حتى حركت إبهامه فتحرك فرجعت، فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته، فقال: "يا عائشة" أو "يا حميراء أظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس بك"، قلت: لا والله يا رسول الله، ولكني ظننت أنك قد قبضت لطول سجودك، فقال: "أتدرين أي ليلة هذه"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله عز وجل يطلع على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد   ما داوم فعلهما حتى يكونا سنة، "ولا تشبه السنة بالفرض حتى يكون للوتر صلاة بعده" راتبة كالظهر والعشاء، إذ السنة يجوز تركها رأسا بخلاف الفرض فلا جامع، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد وهو سنة فلم يصل قبله ولا بعده. "وأما قيامه عليه الصلاة والسلام ليلة النصف من شعبان" أي: ذكره بدليله، "فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل" ليلة النصف من شعبان، "صلى فأطال السجود" زيادة على عادته "حتى ظننت أنه قد قبض" أي: مات، "فلما رأيت ذلك" أي: أبصرته وعلمته "قمت إليه" وما زلت أتفقده "حتى حركت إبهامه" أي: إبهام قدمه فتحرك" إبهامه أو شخصه كله ليعلمها أنه حي فتطمئن وقد زادت في رواية: فاطمأننت، وفي أخرى: ففرحت، وفي رواية للبيهقي وضعت يدي على باطن قدميه، فكأنها حركت الإبهام مع الوضع فلا خلف، "فرجعت فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته" إشارة إلى أنه لما حركته فتحرك لم يخفف سجوده ولا رفع رأسه فورا، بل استدام إطالة السجود، "فقال: "يا عائشة". أو "يا حميراء" تصغير حمراء وهي البيضاء المشرب بياضها بالحمرة وهو أحسن الألوان والشك من الراوي: "أظننت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خاس" بخاء معجمة وسين مهملة، أي: غدر "بك" وذهب في ليلتك إلى غيرك من أزواجه، مع أن الله منحه العصمة وجعله واسطة بينه وبين خلقه، فوضع الظاهر موضع المضمر إشارة إلى أن الغدر لا ينبغي أن يظن بالأنبياء لكمال عصمتهم عنه وعن غيره من النقائص البشرية والعيوب الإنسانية، "قلت: لا والله يا رسول الله ولكني ظننت أنك قبضت لطول سجودك، فقال: "أتدرين" بهمزة الاستفهام وفي رواية: بحذفها، أي: أتعلمين، "أي" بالنصب والرفع "ليلة هذه" في الفضل وكثرة الثواب للقائم فيها، إذ هي عالمة بأنها ليلة نصف شعبان، "قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "هذه ليلة النصف من شعبان" ولها عند الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 558 كما هم". رواه البيهقي من طريق العلاء بن الحارث عنها، وقال: هذا مرسل جيد، يعني أن العلاء لم يسمع من عائشة. وقد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه، ومن أمثلها -كما نبه عليه الحافظ ابن رجب- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت فإذا هو بالبقيع، رافعا رأسه إلى السماء، فقال: "أكنت تخافين أن   شرف عظيم، كما أفاده قوله: "إن الله عز وجل يطلع على عباده" اطلاع غفران ورحمة "ليلة النصف من شعبان" لم يقل فيها وإن كان أخصر لئلا يتوهم أن اطلاعه خاص بليلة نصف تلك السنة فقط، فأشار إلى أنه في كل سنة "فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين" بكسر الحاء طالبي المغفرة والرحمة، "ويؤخر أهل الحقد" بكسر الحاء الانطواء على العداوة والبغضاء "كما هم"، أي: يتركهم بحقدهم فلا يغفر لهم حتى يتوبوا ويزيلوا عقد إصرار حقدهم، لأنهم مبغضون له بشهادة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليبغض الذين يكنزون البغضاء لإخوانهم في صدورهم". رواه الديلمي وفيه تحذير شديد وتنفير عظيم من العداوة والبغضاء وتغيير القلوب، يفيد أنه من أعظم الكبائر وأفظع القبائح لا سيما إن كانوا أقارب. "رواه البيهقي" في الشعب "من طريق العلاء بن الحارث" بن عبد الوارث الحضرمي الدمشقي صدوق فقيه رمي بالقدر، واختلط مات سنة ست وثلاثين ومائة وهو ابن سبعين سنة، روى له مسلم والأربعة "عنها" أي: عائشة "وقال" البيهقي هذا "مرسل جيد يعني أن العلاء لم يسمع من عائشة" فأراد بالإرسال الانقطاع قال البيهقي ويحتمل أن يكون العلاء أخذه عن مكحول. "وقد ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث كثيرة، لكن ضعفها الأكثرون" من المحدثين لضعف رواتها وكون بعضهم مجهولين، "وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه" تساهلا في بعضها وإطلاقا لاسم الصحيح على الحسن في بعضها بجامع الاحتجاج بهما، "ومن أمثلها" أصل معناه أفضلها، والمعنى هنا أقربها للقبول وإن كان ضعيفا، لأن ضعفه لم يشتد "كما نبه عليه الحافظ" عبد الرحمن "بن رجب" الحنبلي "حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: فقدت" بفتح القاف، أي: عدمت "النبي صلى الله عليه وسلم" ليلة كما في الرواية وفي لفظ ذات ليلة، أي: طلبته في فراشه وفي البيت ليلة نصف شعبان فلم أجده. وفي رواية للبيهقي والدارقطني عنها: كانت ليلة النصف ليلتي وكان صلى الله عليه وسلم عندي، فلما كان في جوف الليل فقدته، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، فتلفعت بمرطي، "فخرجت" من البيت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 يحيف الله عليك ورسوله". فقلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: "إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب". رواه أحمد، وقال الترمذي: إن البخاري ضعفه.   أطلبه، زاد في رواية: فتطلبته في حجر نسائه فلم أجده، "فإذا هو بالبقيع" أي: بقيع الغرقد مقبرة المدينة حال كونه "رافعا رأسه إلى السماء" يبتهل إلى الله تعالى ويستغفر لأهل البقيع، فلما رآه علم أنها ظنت أنه ذهب لبعض ضراتها، "فقال: أكنت تخافين أن يحيف" يجوز "الله عليك ورسوله" استفهام إنكاري توبيخي، وفي ذكر الله إيماء إلى أن وقوعه من رسوله محال، إذ كأنه من الله تعالى والظلم عليه محال، إن الله لا يظلم مثقال ذرة، "فقلت: يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك" أي: أزواجك، وذلك جائز لعدم وجوب القسم عليك وإن كانت تقول بوجوبه، فالوقت زمن نسخ، فجوزت أنه أبيح له بعد المنع، فلا يرد كيف تظن حيفه مع علمها بعصمته، وقد قالت في رواية: ما ذاك بي، أي: خوف الحيف. وفي أخرى: ما بي من ذلك، ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، "فقال" مجيبا لها عن خطأ، ظنها معلمها لها أنه لم يخرج من بيتها طالبا لشيء من شهوات الدنيا، وإنما هو لأمر جليل عظيم أخروي، "إن الله تعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا" أي: القربى منا. قال ابن العربي: النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته، فهو عبارة عن ملكه النازل بأمره ونهيه، فالنزول حسي صفة الملك المبعوث بذلك، أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل، فسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة، فحاصله أنه تأوله بوجهين إما أمره أو الملك أو استعارة بمعنى لطفه بالداعين وإجابتهم ونحو ذلك. وحكى الأول عن مالك وضعفه ابن عبد البر بأن أمره بما شاء من رحمته ونعمته ينزل بالليل والنهار بلا توقيت، ولو صح ذلك عن مالك لكان معناه أن الأغلب في الاستجابة ذلك الوقت، وقيل: غير ذلك ومذهب الأكثر تفويض معناه إلى الله مع اعتقاد صرفه عن ظاهره وهو أسلم، إذ التأويل المعين لا يجب كما قال البيهقي: "فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" بفتح فسكون فموحدة. زاد في رواية البيهقي في الدعوات، قيل: وما غنم كلب، قال: قبيله لم يكن في العرب أكثر غنما منهم وكلب عدة قبائل باليمن وقضاعة وبني عامر وغيرهم، ولم يبين في الحديث أيها أراد. قال بعضهم: لكن الظاهر أنه أراد التي باليمن، لأنها الأشهر يومئذ، ودل قوله: أكثر على قوله في رواية أخرى: بعدد شعر غنم كلب، ليس المراد حصر المغفرة في عدد شعرها، بل هو كناية عن كثرة المغفرة، وأصرح منه حديث فيغفر لجميع خلقه إلا كذا وكذا، "رواه أحمد" الجزء: 10 ¦ الصفحة: 560 وفي سنن ابن ماجه، بإسناد ضعيف، عن علي مرفوعا: "إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارا، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى   وابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه والبييهقي، كلهم من طريق الحجاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة. "وقال الترمذي: إن البخاري ضعفه" لفظ الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمدًا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى لم يسمع من عروة والحجاج لم يسمع من يحيى. انتهى. وهو مسلم في الثاني: وأما سماع يحيى من عروة، فنفاه أيضا أبو زرعة وأبو حاتم فيما ظنه، وأثبته ابن معين، والمثبت مقدم على النافي، وقول الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه تقصير، فقد جاء من ثلاثة أوجه غيره، كما بينه الحافظ الزين العراقي، وبالجملة فبعضها يعضد بعضا، فيرتقي إلى الحسن لغيره، ولذا قال ابن رجب، إنه من أمثلها، قال: ومن أمثلها أيضا حديث معاذ، رفعه: يطلع الله ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن، فإن ابن حبان قد صححه وكفى به عمادا. انتهى. وفيه رد على قول ابن دحية لم يصح في ليلة نصف شعبان شيء إلا أن يريد نفي الصحة الاصطلاحية، فإن حديث معاذ هذا حسن لا صحيح، وقد رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي، ورواه ابن ماجه من حديث أبي موسى بلفظ: إن الله ليطلع ... إلخ، ورواه البزار والبيهقي من حديث أبي بكر، قال الحافظ، المنذر وإسناده لا بأس به، "وفي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف" كما جزم به المنذري والعراقي مبينا وجه ضعفه، لكن ليس فيه كذاب ولا وضاع وله شواهد تدل على ثبوت أصله، "عن علي" أمير المؤمنين "مرفوعا" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان" كذا في النسخ، ووجد بخط الحافظين الزين العراقي والسيوطي: كانت "ليلة النصف من شعبان، فقوموا ليلها" أي: أحيوه بالعبادة وانصبوا أقدامكم لله قانتين، "وصوموا نهارها" استحبابا فيهما، "فإن الله تعالى ينزل" بفتح التحتية "فيها لغروب الشمس" أي: عند غروب شمس رابع عشر شعبان، أي: تواريها في مغيبها، واللام للتوقيت نحو كتبته لخمس خلون، والمعنى، أن وقت نزوله مقارن غروب الشمس "إلى سماء الدنيا" من قبيل مسجد الجامع والقياس السماء الدنيا كما في عدة أحاديث أخر نزول رحمة ومزيد لطف وإجابة دعوة وقبول معذرة لا نزول حركة وانتقال تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وبقوله: لغروب الشمس علم مزيتها على غيره من الليالي، فإن النزول الإلهي من الثلث الأخير أو من نصف الليل، "فيقول: ألا" بفتح الهمزة وخفة اللام حرف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 561 فأعافيه، ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر". انتهى.   تنبيه يدل على تحقق ما بعده، وتوكيده "مستغفر فأغفر له" ذنوبه فلا أعاقبه عليها، والظاهر أن المراد بالاستغفار المقرون بالتوبة المتوفرة الشروط، ولذا قيل: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكذابين، وروى البيهقي مرفوعا: "المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه"، فإن لم يكن توبة فالمرجو من الله المغفرة إذا سألها العبد بخلوص رغبة وكسر قلب، كما أشار إلى ذلك الغزالي، بقوله: الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان بدون شركة القلب فيه، كما يقال بحكم العادة وعند الغفلة: أستغفر الله من غير تأثر قلبه، فإنه يرجع لمجرد حركة اللسان ولا جدوى له، فإن أضيف إليه تضرع القلب وابتهاله في طلب المغفرة بإخلاص فهو حسنة في نفسها تصلح لدفع السيئة، وعليه يحمل حديث: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة". ثم قال: بل الاستغفار باللسان فقط حسنة أيضا، إذ حركة اللسان عن غفلة خير من حركته في تلك الساعة بغيبة أو فضول، سيما في الليالي الفاضلة كليلة النصف، وإنما هو نقص بالإضافة إلى عمل القلب، ولذا لما قال بعضهم لأبي عثمان المغربي: لساني يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل، قال له: أحمد الله الذي استعمل جارحة من جوارحك في ذكره، "ألا مسترزق" طالب رزق "فأرزقه" فإني أنا الكريم المتكفل بأرزاق العباد وفيه توبيخ على غفلة عن السؤال، لا سيما في مواطن الإجابة. وفي الترمذي وغيره، مرفوعا أنه "من لم يسأل الله يغضب عليه". ولأبي يلى مرفوعا: "سلوا الله في كل شيء حتى الشسع، فإن الله إن لم ييسره لم يتيسر". "ألا مبتلى فأعافيه" من بلائه، خص هذه الثلاثة بالذكر، لأنها مدار كل مطلوب، أما على جلب الملائم وهو ديني أو دنيوي، وأشار بالاستغفار إلى الأول، وبطلب الرزق إلى الثاني، وأما على دفع ما لا يلائم، وإليه أشار بسؤال العافية وزاد قوله: "ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر" قصدا لمزيد التعمم، وإشارة إلى كثرة الجود والعطاء والإفضال والإنعام في تلك الليلة والإذن فيها بالدعاء بكل نافع في الدين أو الدنيا ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، كما في حديث: ومثلهما كل ما لا يجوز الدعاء به. قال الزين العراقي: مزية ليلة نصف شعبان مع أن الله ينزل كل ليلة فيغفر لمن استغفر، ويعتق من النار من شاء أنه ذكر مع النزول فيها وصفا آخر، وهو أن يعتق من النار بعدد شعر غنم كلب، وليس ذلك في نزول كل ليلة، ولأن النزول كل ليلة موقت بشطر الليل أو ثلثه وفيها من الغروب، فحصلت المزية على تقدير صحة الحديث في باطن الأمر، وإلا فلا يصح شيء من طرقه. "انتهى". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 562 وقد كان التابعون من أهل الشام، كخالد بن معدان، ومكحول يجتهدون ليلة النصف من شعبان في العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس فيه فمنهم من قبله منهم، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء، وابن أبي مليكة عبد الله، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: إن ذلك كله بدعة. واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين: أحدهما: إنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، وكان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في   "وقد كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان"، "بفتح فسكون" الكلاعي الحمصي، سمع أبا أمامة وثوبان والمقدام وكثير بن مرة وخلقا كثيرا، يقال: لقي سبعين صحابيا وهو ثقة عابد يرسل كثيرا، روى له الجماعة، مات سنة ثلاث ومائة، ويقال سنة أربع وثمان ومائة "ومكحول" الدمشقي، ثقة، فقيه، كثير الإرسال، روي عن أنس وأبي أمامة وواثلة وغيرهم، خرج له مسلم والأربعة مات سنة بضع عشرة ومائة، زاد غير المصنف ولقمان بن عامر، "يجتهدون ليلة النصف من شعبان في العبادة، وعنهم أخذ الناس تعظيمها، ويقال: إنهم بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس فيه، فمنهم من قبله منهم" ومنهم من أباه. "وقد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء" بن أبي رباح مفتي مكة ومحدثها "وابن أبي مليكة عبد الله" بفتح العين ابن عبيد الله، بضمها ابن عبد الله، بفتحها ابن أبي مليكة، يقال: اسمه زهير التيمي المدني، ثقة، فقيه، من رجال الجميع، أدرك ثلاثين من الصحابة، "ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم" من الشافعية، والمراد بعضهم، وإلا فأكثرهم لم يتعرضوا لذلك أصلا، "وقالوا: إن ذل كله بدعة" إذ لم يأت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه. "واختلف علماء أهل الشام" القائلون بذلك "في صفة إحيائها على قولين: أحدهما أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد، وكان خالد بن معدان ولقمان بن عامر" الحمصي التابعي، روى عن أبي أمامة وغيره "يلبسون" من إطلاق الجمع على الاثنين، وإلا فالقياس يلبسان "فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون" بالعود ونحوه، "ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 563 المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المسجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله عنهم حرب الكرماني في مسائله. والثاني: أنه يكره الاجتماع لها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم. ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود، وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، إنما ثبت عن جماعة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام. انتهى ملخصا من اللطائف.   تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المسجد جماعة ليس ذلك ببدعة، نقله عنهم حرب الكرماني في مسائله، والثاني: أنه يكره الاجتماع لها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه" للأحاديث المصرحة بطلب قيامها وإن كانت مفرداتها ضعيفة، لأنه لم يشتد ضعفها، واندرجت تحت مطلق الأمر بقيام الليل. قال ابن رجب: "وهذا" أقرب وهو "قول الأوزاعي" عبد الرحمن بن عمر و"إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم". قال الحاكم: كان إمام عصره عموما وأهل الشام خصوصا، "ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة النصف من شعبان، ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد، فإنه في رواية لم يستحب قيامهما جماعة، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فعلها، واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن زيد بن الأسود وهو من التابعين، وكذلك قيام ليلة النصف من شعبان لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن" أحد من "أصحابه، إنما ثبت عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام" فيتخرج عن أحمد القولان على قياس قوليه في العيد. "انتهى ملخصا من اللطائف" لابن رجب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 564 وأما قوله تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن في ليلة القدر، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وكان ذلك في شهر رمضان، كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] . قال الحافظ ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روي عن عكرمة، فقد أبعد النجعة، فإن نص القرآن أنها في رمضان. وأما الحديث الذي   "وأما قوله تعالى في سورة الدخان: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، فالمراد بها إنزاله تعالى القرآن في ليلة القدر، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، الشرف والعظم، "وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} " من اللوح المحفوظ إلى الماء الدنيا. "قال الحافظ ابن كثير: ومن قال: إنها" أي: الليلة المباركة "ليلة النصف من شعبان، كما روي" عند ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم "عن عكرمة" في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] قال: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحجاج، فلا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد، "فقد أبعد النجعة" "بضم فسكون"، أي: أغرب في القول حيث تكلم بكلام بعيد، وأصل الانتجاع الذهاب لطلب الكلام في موضعه، "فإن نص القرآن أنها" أي: الليلة المباركة "في رمضان" لقوله: في ليلة القدر مع قوله: الذي أنزل فيه القرآن ولذا قال الجمهور: الفرق إنما يكون في ليلة القدر، وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس، قال: حتى إنك ترى الرجل يمشي في الأسواق، وقد وقع اسمه في الموتى، ثم قرأ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} إلى آخرها قال: يعني ليلة القدر ففي تلك الليلة يفرق أمر السنة إلى مثلها من قابل موقوف حكمه الرفع، لأنه لا يقال رأيا، فلا معدل عنه وتبع عكرمة شرذمة قليلة، وبالجملة فهو قول ضعيف جدا، بل قال ابن العربي وغيره: إنه باطل، وفي الكشاف قيل: أي جمعا بين القولين يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، أي نصف شعبان، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. انتهى. وروى البغوي عن ابن عباس، أنه قال: إن الله يقضي الأقضية ليلة النصف من شعبان، ثم يسلمها إلى الملائكة في ليلة القدر، وهذا إن صح يؤيد الجمع المذكور ويعكر على جمع بعضهم أن ابتداء ذلك يكون ليلة نصف شعبان وتمامه في ليلة القدر، ثم دفع ابن كثير عن نفسه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 565 رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى". فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص. انتهى. وأما قيامه عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، وهو الذي يسمى بالتراويح: جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، وسميت بذلك لأنهم أول   ما يرد على تصويب، أن الليلة المباركة ليلة القدر من حديث "تقطع الآجال من شعبان" بأنه حديث ضعيف وإن رواه البيهقي وغيره، فقال: "وأما الحديث الذي رواه عبد الله بن صالح" المصري "عن الليث" بن سعد الإمام "عن عقيل" بالتصغير ابن خالد "عن الزهري" بن شهاب، قال: أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس"، "بالفتح وإسكان المعجمة" الثقفي الأخنسي الحجازي، صدوق، له أوهام، روى له الأربعة: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان" أي: تميز وتفرد أسماء من يموت تلك اللية إلى مثلها من العام القابل عن أسماء من لم يمت في تلك المدة، لكن يسلم ذلك إلى ملك الموت في ليلة القدر، كما مر عن ابن عباس، ونقله القرطبي عنه بلفظ: أن ابن عباس قال: إن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى مدبرات الأمور في ليلة القدر، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل وميكائيل وجبرائيل وعزرائيل "حتى إن الرجل لينكح" المرأة "ويولد له" الولد، "وقد خرج اسمه في" ديوان "الموتى" وحتى إن المرأة لتنكح وتحمل وتلد، وقد خرج اسمها في ديوان الموتى، فاكتفى بأحد النظيرين عن الآخر للقطع بعدم الفارق. وظاه قوله: "تقطع الآجال" أن ذلك لا يختص بالآدميين، ولا يضر قوله: "حتى إن الرجل" ... إلخ، لأنه خص النوع الإنساني لشرفه بالقوة الفاهمة المدركة للخطاب، "فهو حديث مرسل"؛ لأن عثمان بن محمد من صغار التابعين، وقد وصله الديلمي من وجه آخر عن عثمان بن محمد المذكور، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال ابن المديني: عثمان روى عن ابن المسيب مناكير، ولذا قال: "ومثله لا يعارض به النصوص. انتهى" كلام ابن كثير، أي: لإرساله وللاختلاف في عثمان، فوثقه ابن معين وضعفه غيره. وقال بعض الحفاظ: إرساله أصح من وصله وله شاهد عن ابن مردويه بسند فيه مقال، "وأما قيامه عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان وهو الذي يسمى بالتراويح جمع ترويحة وهي المرة الواحدة من الراحة" كتسليمة من السلام، "وسميت" الصلاة جماعة في ليالي رمضان "بذلك" أي: تروايح، "لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 566 ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. فعن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. ولمسلم: قالت: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي   تسليمتين" من صلاتين وكل تسليمة من ركعتين. قال الليث: قدر ما يصلي الرجل كذا وكذا ركعة، "فعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر" أي: عشر الليالي الأواخر، إما وحدها أو بأيامها، فغلب المؤنث على المذكور، ولذا حذفت الهاء، لكن لفظ الأواخر ليس في حديث عائشة، بل في حديث علي عند ابن أبي شيبة، كما صرح به المصنف كغيره بلفظ: العشر الأخير "من رمضان أحيا الليل" استغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، أو أحيا معظمه لقولها في الصحيح: ما علمته قام ليلة حتى الصباح، "وأيقظ أهله" للصلاة والعبادة، "وجد" اجتهد في العبادة زيادة على العادة، "وشد المئزر"، "بكسر الميم وسكون الهمزة" أي: إزاره، قيل: هو كناية عن شدة جده واجتهاده في العبادة، كما يقال: فلان يشد وسطه ويسعى في كذا، وفيه نظر، فإنها عطفت شد المئزر على الجد، وهو يقتضي التغاير، والصحيح أن المراد به اعتزال النساء، وبهذا فسره السلف والأئمة المتقدمون، وجزم به عبد الرزاق عن الثوري، واستشهد بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار ويحتمل أن يراد الاعتزال والتشمير معا، فلا ينافي في شد المئزر حقيقة، ولابن أبي عاصم بإسناد مقارب عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء وللطبراني عن أنس: كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فرشه واعتزل النساء، "رواه البخاري" في الصوم، لكن بلفظ: كان إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، قال المصنف: من باب الاستعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام، أي: أحيا ليله بالطاعة، أو أحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت وأضافه إلى الليل اتساعا، لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، "ومسلم" في الصوم واللفظ له، "وأبو داود والنسائي" في الصلاة وابن ماجه في الصوم، "ولمسلم" عن عائشة، "قالت: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان" في أنواع العبادات، فللبيهقي، عنها: كان إذا دخل رمضان تغير لونه وكثرت صلاته وابتهل في الدعاء وانتسف لونه، ولابن سعد عنها، والبيهقي عن ابن عباس: كان إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل "ما لا يجتهد في غيره" من الشهور "و" يجتهد "في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 567 العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره. وفي رواية الترمذي: كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره. وعنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". وذلك في رمضان. رواه البخاري ومسلم وأبو داود.   العشر الأواخر منه" زيادة على اجتهاده فيه من أوله "ما لا يجتهد في غيره" من العشرين قبله، قيل: الأولى في غيرها، لأن العشر اسم لمجموع الليالي والأيام وهي مؤنثة تغليبا للمؤنث هنا على المذكر، لكثرة دوران العدد على ألسنة العرب، ومنه: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} كما في المصباح، وهو مردود بصحة هذا عن عائشة في مسلم، وهي من الفصاحة بمكان، واحتمال أنه من تغيير الرواة، وفيهم: من ليس بعربي يمنع الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة فلا يلتفت إليه، لا سيما وقد جاء على الأصل من تغليب المذكر. "وفي رواية الترمذي" عنها: "كان يجتهد في العشر الأواخر" جمع آخرة "ما لا يجتهد في غيره" أي: يجتهد في العبادة في رمضان ويزيد فيها في العشر الأخير، فهو بمعنى ما قبله إذ المخرج متحد، "وعنها" أي: عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه سلم صلى" صلاة الليل "في المسجد" ذات ليلة من ليالي رمضان. وفي رواية للبخاري: صلى في حجرته وليس المراد بها بيته، بل الحصير التي كان يحتجز بها بالليل في المسجد فيجعلها على باب بيت عائشة، فيصلي فيه ويجلس عليه كما جاء صريحا عند البخاري في اللباس: كان يحتجز حصيرا بالليل فيصلي عليه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، ولأحمد عن عائشة: فأمرني أن أنصب له حصيرا على باب حجرتي، ففعلت، فخرج "فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من" الليلة "القابلة" ولبعض الرواة من القابل، بالتذكير، أي: الوقت، ولأحمد من الليلة المقبلة، "فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة، فلم يخرج إليهم عليه الصلاة والسلام" رفقا بهم، "فلما أصبح" أي: خرج لصلاة الصبح، "قال" بعدما صلاها كما في الرواية التالية: "قد رأيت الذي صنعتم" من الاجتماع للصلاة "ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" فتعجزوا عنها، "وذلك في رمضان" من قول عائشة. وفي رواية: "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر". "رواه البخاري ومسلم وأبو داود". الجزء: 10 ¦ الصفحة: 568 وفي رواية للبخاري ومسلم، أنه صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى بصلاته رجال، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم فخرج عليه الصلاة والسلام في الليلة الثانية فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كان في الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فطفق رجال منهم يقولون: أفلا يخرج إليهم، حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، ثم تشهد   "وفي رواية البخاري ومسلم" عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم خرج" من حجرته "من جوف الليل فصلى بصلاته رجال" مقتدين بها، "فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع" في الليلة الثانية "أكثر منهم" برفع أكثر فاعل اجتمع، "فخرج عليه الصلاة والسلام في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج" صلى الله عليه وسلم، "فصلوا بصلاته" وفي لفظ: فصلى، فصلوا بصلاته، وفي آخر: فصُلي بصلاته، بضم الصاد مبني للمفعول وإسقاط فصلوا أيضا، "فلما كان في الليلة الرابعة عجز" أي: ضاق "المسجد عن أهله" ولأحمد: امتلأ المسجد حتى اغتص بأهله، وله أيضا: غص المسجد بأهله، "فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: أفلا يخرج إليهم:" أي: إلى القوم الذين ينتظرونه، وكأنهم أرادوا غير أنفسهم، فلم يقولوا إلينا، أو هو التفات، ولأحمد: حتى سمعت ناسا منهم يقولون: الصلاة، وله أيضا فقالوا: ما شأنه، وفي حديث زيد بن ثابت: ففقدوا صوته وظنوا أنه قد تأخر، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، وفي لفظ عن زيد: فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، رواهما البخاري. قال ابن عبد البر تفسر هذه الليالي المذكورات في حديث عائشة بما رواه النعمان بن بشير، فذكر حديثه الآتي قريبا في المتن، ثم قال: وأما عدد ما صلى، ففي حديث ضعيف عن ابن عباس أنه صلى عشرين ركعة والوتر، أخرجه ابن أبي شيبة، وروى جابر أنه عليه الصلاة والسلام صلى بهم ثمان ركعات ثم أوتر، وهذا أصح. وقال الحافظ: لم أر في شيء من طرق حديث عائشة بيان عدد صلاته في تلك الليالي، لكن روى ابن خزيمة وابن حبان عن جابر: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ثم أوتر، فلما كانت القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا حتى أصبحنا، ثم دخلنا فقلنا: يا رسول الله الحديث، فإن كانت القصة واحدة احتمل أن جابرا ممن جاء في الليلة التالية، فلذا اقتصر على وصف ليلتين "حتى خرج لصلاة الفجر" أي: الصبح، "فلما قضى الفجر" أي: أتم صلاته "أقبل على الناس" بوجهه الوجيه "ثم تشهد" في صدر الخطبة، "فقال: "أما بعد، فإنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 569 فقال: "أما بعد، فإنه لم يخف عليّ شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها". وفي رواية بنحوه ومعناه مختصرا. قال: وذلك في رمضان. قال في فتح الباري: ظاهر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع ملزم، وفيه نظر لأن وجوبه. وأجاب المحب الطبري: بأنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه: إنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم.   لم يخف عليّ شأنكم"، لفظ مسلم ولفظ البخاري: مكانكم "الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها" "بكسر الجيم مضارع عجز بفتحها" أي: تشق عليكم فتتركوها مع القدرة عليها، وليس المراد العجز الكلي، لأنه يسقط التكليف من أصله. "وفي رواية" للبخاري في الصيام "بنحوه، ومعناه مختصرا" بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى وذلك في رمضان، قال المصنف كغيره، ساقه هنا مختصرا جدا، فذكر كلمة من أوله وشيئا من آخره، وساقه تاما في أبواب التهجد. "قال: وذلك في رمضان" من قول عائشة رضي الله عنها، "قال في فتح الباري: ظاهر هذا الحديث، أنه صلى الله عليه وسلم توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها وفي ذلك إشكال" لأن المواظبة على النوافل لا تقتضي ذلك، فقد واظب على رواتب الفرائض وتابعه أصحابه ولم تفرض. "وقد بناه بعض المالكية على قاعدتهم في أن الشروع ملزم" للإتمام "وفيه نظر، لأن وجوبه" بالشروع لا يخرجه عن كونه نفل لا يلزمه أن يأتي به قبل أن يشرع فيه، والكلام هنا في خوف وجوب الابتداء به إذا وجدت المواظبة عليه. "وأجاب المحب الطبري" الحافظ أحمد المكي تبعا للباجي، "بأنه يحتمل أن يكون الله عز وجل أوحى إليه أنك إن واظبت على هذه الصلاة معهم افترضتها عليهم، فأحب التخفيف عنهم" فترك ذلك. زاد الباجي: ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن ذلك سيفرض عليهم لما جرت عادته أن ما داوم عليه على وجه الاجتماع من القرب فرض على أمته. انتهى. وتعقب بأنه واظب على رواتب وتابعه أصحابه ولم تفرض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 570 وقيل: خشي أن يظن أحد من الأمة من مداومته عليها الوجوب، قال القرطبي: أي يظنونه فرضا، فيجب على من ظن ذلك، كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو تحريمه فإنه يجب عليه العمل به. وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية، مع ما ثبت في حديث الإسراء، من أن الله تعالى قال: هن خمس وهم خمسون لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة، وهذا يدفع في صدور الأجوبة المتقدمة. وأجاب عنه الخطابي: بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها -يعني عند المواظبة- فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به، لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس، وهذا كما يوجب المرء على نفسه صلاة نذر، فتجب   "وقيل:" وهو احتمال ثالث للباجي أيضا، "خشي أن يظن أحد من الأمة" بعده "من مداومته عليها الوجوب". "قال القرطبي: أي يظنونه فرضا، فيجب على من ظن ذلك كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو تحريمه، فإنه يجب عليه العمل به" وهذا أقرب من الاحتمالين قبله. "وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس" في الفعل "وهن خمسون" في الثواب، "لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل كيف يقع الخوف من الزيادة" إذ لو وقعت كانت تبديلا وهو محال، "وهذا يدفع في صدور الأجوبة المتقدمة" أي: يرد به عليها، فتسقط شبه الأجوبة بأناس لها صدور إذا قوبلت بأقوى منها سقطت، لكن المذكور هنا جوابان فقط، والحافظ إنما ذكر هذا بعد ذكرهما، وذكر الاحتمال الذي زدته عن الباجي، وبعد ذكر قول ابن بطال: يحتمل أن هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم لما كان قيام الليل فرضا عليه دون أمته، فخشي إن خرج إليهم والتزموه معه أن يسوي بينهم وبينه في حكمه، لأن أصل الشرع المساواة بين النبي وأمته في العبادة، ويحتمل أنه خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي تاركها بترك اتباعه صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة أجوبة، قال الحافظ: بعد ذكرها وجوابي الخطابي الآتيين وذكر الحديث الإلهي وهذا يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، "وأجاب عنه" أي الإشكال "الخطابي بأن صلاة الليل كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، وأفعاله الشرعية يجب على الأمة الاقتداء به فيها يعني: عند المواظبة" لا مطلقا، "فترك الخروج إليهم لئلا يدخل ذلك في الواجب من طريق الأمر بالاقتداء به" في القرآن "لا من طريق إنشاء فرض جديد زائد على الخمس وهذا كما يوجب المرء على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 571 عليه ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع. قال: وفيه احتمال آخر، وهو أن الله تعالى قد فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمها بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها والتزمت ما استعفى لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام منه، لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم. قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابي جماعة كابن الجوزي، وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كل من الأمرين نزاع. ثم أجاب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنه يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام الليل بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة النفل بالليل، قال: ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: "حتى خشيت أن يكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم   نفسه صلاة نذر فتجب عليه، ولا يلزم من ذلك زيادة فرض في أصل الشرع" لأنه وجوب عرض بالنذر على الناذر لا مطلقا. "قال" الخطابي: "وفيه احتمال آخر، وهو: أن الله تعالى قد فرض الصلاة خمسين، ثم حط معظمهما بشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم فإذا عادت الأمة فيما استوهب لها، والتزمت ما استعفي لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام منه لم يستنكر أن يثبت ذلك فرضا عليهم" كما التزم ناس الرهبانية من قبل أنفسهم، ثم عاب الله عليهم التقصير فيها بقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] ، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يكون سبيلهم سبيل أولئك، فقطع العمل شفقة عليهم، هذا بقية كلام الخطابي. "قال الحافظ ابن حجر: وقد تلقى هذين الجوابين عن الخطابي جماعة كابن الجوزي، وهو مبني على أن قيام الليل كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم، وعلى وجوب الاقتداء بأفعاله، وفي كل من الأمرين نزاع،" أي: اختلاف بين العلماء "ثم أجاب" الحافظ "عنه" أي: الإشكال، فقال بعد قوله: وحديث هو خمس يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، وقد فتح الباري "بثلاثة أجوبة" سواها. "أحدها: أنه يحتمل أنه يكون المخوف" منه "افتراض قام الليل، بمعنى: جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة النفل بالليل، قال: ويومئ"، "بالهمزة لا بالياء" أي: يشير "إليه قوله في حديث زيد بن ثابت": "حتى خشيت أن يكتب" يفرض "عليكم" قيام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 572 به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم" فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه لهم في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون ذلك زائدا على الخمس، بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوه. وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة، فقد وقع في حديث الباب أن ذلك كان في رمضان، وفي حديث سفيان بن حسين "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" فعلى هذا يرتفع الإشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون لك قدرا زائدا على الخمس. وأقوى هذه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول. وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ليلة ثلاث   الليل، "ولو كتب عليكم ما قمتم به" لغلبة النوم والكسل "فصلوا أيها الناس في بيوتكم". "فمنعهم من التجمع في المسجد إشفاقا" أي: خوفا "عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه لهم في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم"، متعلق بقوله: أمن. "وثانيها: أن يكون المخوف افتراض قيام الليل على الكفاية لا على الأعيان، فلا يكون زائدا على الخمس" المفروضة على الأعيان، "بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوه" كصلاة الفرض جماعة أنه فرض كفاية وليس بزائد على الخمس. "وثالثها: يحتمل أن يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة" دون غيره، "فقد وقع في حديث الباب" المذكور عن عائشة "أن ذلك كان في رمضان" بقولها: وذلك في رمضان. "وفي حديث سفيان بن حسين" أحد رواة الحديث عن الزهري عن عروة، عن عائشة عند أحمد: "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر" أي: رمضان "فعلى هذا يرتفع الإشكال" من أصله، "لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة، فلا يكون ذلك قدرا زائدا على الخمس" الذي جاء منه الإشكال "وأقوى منه الأجوبة الثلاثة في نظري الأول" لاعتضاده بحديث زيد بن ثابت، ويليه الثالث لاعتضاده بأن ذلك كان في رمضان، لا سيما تصريح بعض طرق بقوله: "خشيت أن يفرض عليكم قيام هذا الشهر". "وعن النعمان بن بشير قال: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان ليلة ثلاث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 573 وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه السحور. رواه النسائي. واختلف العلماء: هل الأفضل في صلاة التراويح أن تصلي جماعة في المسجد، أو في البيوت فرادى؟ فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر بن الخطاب والصحابة، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد. فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله عليه الصلاة والسلام: "إني خشيت أن تفرض عليكم" على التجميع في المسجد، وقال: إنه أقوى الأجوبة، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لما مات حصل الأمن من ذلك، ورجح عمر التجميع لما في الاختلاف من اختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين   وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا معه ليلة سبع وعشرين". قال ابن عبد البر: وهذا الحديث يفسر به الليالي المذكورات في حديث عائشة يعني: لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، فليست غيرها "حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح وكانوا يسمونه" أي: الفلاح "السحور" وكان فيه قلبا، والأصل يسمون السحور الفلاح، "رواه النسائي" في السنن. "واختلف العلماء هل الأفضل في صلاة التراويح أن تصلى جماعة في المسجد، أو في البيوت فرادى، فقال الشافعي وجمهور أصحابه وأبو حنيفة وبعض المالكية وغيرهم: الأفضل صلاتها جماعة كما فعله عمر بن الخطاب" إذ جمعهم على أبي بن كعب "والصحابة واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر الظاهرة، فأشبه صلاة العيد" التي الأفضل فعلها جماعة. فإن قلت: قد ذكرت أن الحافظ ابن حجر حمل قوله عليه الصلاة والسلام: أني خشيت أن تفرض عليكم على التجميع في المسجد، وقال: إنه أقوى الأجوبة" وذلك يصادم التعليل المذكور، "فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم لما مات حصل الأمن ذلك" أي: خشية فرضها، "ورجح عمر التجميع لما في الاختلاف من اختلاف" وفي نسخ "من افتراق الكلمة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 574 وقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى في البيوت، لقوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"، قالوا: وإنما فعلها صلى الله عليه وسلم في المسجد لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا. وأما عدد الركعات التي كان صلى الله عليه وسلم يصليها في رمضان، فعن أبي سلمة أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: "يا عائشة! إن عيني   ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، وقال مالك وأبو يوسف" يعقوب، "وبعض الشافعية وغيرهم: الأفضل صلاتها فرادى في البيوت، لقوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" ففي المسجد أفضل، "قالوا: وإنما فعلها صلى الله عليه وسلم في المسجد" في الليالي الثلاث "لبيان الجواز، أو لأنه كان معتكفا" ومحل فضلها فرادى في البيوت عند مالك ما لم تعطل المساجد وأن ينشط إلى فعلها وحده، "وأما عدد الركعات التي كان صلى الله عليه وسلم يصليها في رمضان" فهي إحدى عشر بالوتر، "فعن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف "أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في" ليالي "رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة" أي: غير ركعتي الفجر كما رواه القاس عنها، وفيه، أن صلاته كانت متساوية في جميع السنة، ولا ينافيه حديثها: كان إذا دخل العشر يتهجد فيه ما لا يتهجد في غيره لحمله على تطويل الركعات دون زيادة العدد، "يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" أي: أنهن في نهاية من كمال الحسن والطول مستغنيان بظهور ذلك عن السؤال عنه، "ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" يعني: أربعا في الحسن والطول وترتيب القراءة ونحو ذلك، فلا ينافي أنه كان يجلس في كل ركعتين ويسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى" ومحال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه، "ثم يصلي ثلاثا" يوتر منها بواحدة والركعتان شفع، ففي مسلم عن عروة، عنها: كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة. وزاد في بعض طرق الحديث: يسلم من كل ركعتين، "قالت عائشة: فقلت" بفاء العطف على السابق "يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر"؟ بهمزة الاستفهام الاستخباري، لأنها لم تعرف النوم قبل الوتر، لأن أباها كان لا ينام حتى يوتر وكان يوتر أول الليل، فكان مقررا عندها أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 575 تنامان ولا ينام قلبي". رواه البخاري ومسلم. وأما ما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر. فإسناده ضعيف. وقد عارضه حديث عائشة هذا، وهي أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها. وقد كان الأمر من زمنه عليه السلام استمر على أن كل واحد يقوم في رمضان في بيته منفردا، حتى انقضى صدر من خلافة عمر. وفي البخاري: أن عمر خرج ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال   لا نوم قبل الوتر، فأجابها صلى الله عليه وسلم بأنه ليس كغيره، "فقال": "يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" لأن القلب إذا قويت حياته لا ينام إذا نام البدن، وإنما يكون ذلك للأنبياء، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا" ولا يعارضه نومه بالوادي، لأن رؤية الفجر تتعلق بالعين لا بالقلب كما سبق مبسوطا، "رواه البخاري ومسلم" والسنن الثلاث، كلهم من طريق مالك عن سعيد المقبري عن أبي سلمة به. "وأما ما رواه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم وهو أبو شيبة "من حديث ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان عشرين ركعة والوتر، فإسناده ضعيف" وعبر عنه بعضهم بمنكر والمنكر من أقسام الضعيف، فهما بمعنى فلا عليك من الخيالات العقلية، "وقد عارضه حديث عائشة هذا" المتفق على صحته، "وهي أعلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من غيرها" فيقدم حديثها لهذين الوجهين، "وقد كان الأمر من زمنه عليه السلام، استمر على أن كل واحد يقوم في رمضان في بيته منفردا حتى انقضى صدر،" أي: مدة نحو سنتين "من خلافة عمر" بن الخطاب كما رواه مالك عن ابن شهاب. "وفي البخاري" عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرمن بن عبد "أن عمر خرج ليلة" لفظه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة "في رمضان إلى المسجد" النبوي، "فإذ الناس أوزاع"، "بفتح الهمزة وسكون الواو فزاي فألف فعين مهملة" جماعات "متفرقون" نعت لفظي للتأكيد مثل نفخة واحدة، لأن الأوزاع الجماعات المتفرقة لا واحد له من لفظه. وقال ابن فارس والجوهري والمجد: الأوزاع الجماعات لم يقولوا متفرقون، فعليه يكون النعت للتخصيص، أراد أنهم كانوا يتنقلون في المسجد بعد صلاة العشاء متفرقين، "يصلي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 576 عمر: إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرج ليلة أخرى فإذا الناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون، يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.   الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط" ما بين ثلاثة إلى عشرة، وهذا بيان لما أجمله أولا بقوله: أوزاع "فقال عمر" والله "إني لأرى" من الرأي "لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أجمع" لفظ الموطأ: لكان أمثل، أي: لأنه أنشط لكثير من المصلين ولما في الاختلاف من افتراق الكلمة، "ثم عزم" صمم على ما رآه، "فجمعهم على أبي بن كعب" أي: جعله إماما لهم. قال الباجي وابن التين وغيرهما: استنبط عمر ذلك من تقريره صلى الله عليه وسلم: من صلى معه تلك الليالي وإنما كره لهم ذلك خشية أن تفرض عليهم، فلما مات صلى الله عليه وسلم أمن ذلك، وقال ابن عبد البر: إنما سن عمر رضي الله عنه ما رضيه صلى الله عليه وسلم ولم يمنعه من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما، فلما أمن ذلك عمر أقامها وأحياها في سنة أربع عشرة من الهجرة، "ثم خرج" لفظ الرواية عن عبد الرحمن ثم خرجت معه "ليلة أخرى، فإذا الناس يصلون بصلاة قارئهم" أي: إمامهم، قال ابن عبد البر: فيه أن عمر كان لا يصلي معهم إما لشغله بأمر النار وإما لانفراده بنفسه في الصلاة "فقال: نعمت البدعة هذه" قال الباجي: نعمت بالتاء على مذهب البصريين، لأن نعم فعل لا يتصل به إلا التاء وفي نسخ: نعمة بالهاء وذلك على أصول الكوفيين، وهذا تصريح منه بأنه أول من جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد، لأن البدعة ما ابتدأ بفعلها المبتدع ولم يتقدمه غيره، فابتدعه عمر تابعه الصحابة والناس إلى هلم جرا. انتهى. وقال ابن عبد البر: وصفها بنعمت، لأن أصل ما فعله سنة، وإنما البدعة الممنوعة خلاف السنة انتهى. فسماها بدعة، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسن لها الاجتماع ولا كانت في زمن الصديق، وهي لغة ما أحدث على غير مثال سبق وتطلق شرعا على مقابل السنة، وهي ما لم يكن في العهد النبوي، ثم تنقسم إلى الأحكام الخمسة، وحديث: "كل بدعة ضلالة" عام مخصوص، وقد رغب فيها عمر بقوله: نعمت البدعة، وهي كلمة تجمع المحاسن كلها، كما أن بئس تجمع المساوئ كلها وإذا أجمع الصحابة على ذلك مع عمر زال عنه اسم البدعة "والتي تنامون" بفوقية، أي: الصلاة وتحتية، أي: الفرقة أو الجماعة التي ينامون "عنها أفضل من" الصلاة "التي تقومون" بفوقية وتحتية كسابقه "يريد آخر الليل" فهذا تصريح منه بأن الصلاة آخر الليل أفضل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 577 وإنما اختار أبيا لأنه كان أقرأهم، كما قال عمر. وروى سعيد بن منصور من طريق عروة: أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرجال، وكان تميم الداري يصلي بالنساء. وفي الموطأ: أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان. وروى البيهقي بإسناد صحيح أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة.   من أوله، وقد أثنى الله على المستغفرين بالأسحار. وقال المفسرون في قول يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي أخرهم إلى السحر، لأنه أقرب للإجابة، "وكان الناس يقومون أوله" ثم جعله عمر آخر الليل كما قاله ابن عبد البر، "وإنما اختار أبيا لأنه كان أقرأهم" وقد قال صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم". "كما قال عمر" علي أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لنترك أشياء من قراءة أبي قاله ابن عبد البر. "وروى سعيد بن منصور من طريق عروة" بن الزبير "أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي بالرحال وكان تميم" بن أوس ابن خارجة "الداري" الصحابي الشهير، أسلم سنة تسع وأقام بالمدينة إلى أن قتل عثمان، فسكن بيت المقدس حتى مات سنة أربعين "يصلي بالنساء" ورواه محمد بن نصر في كتاب قيام الليل من هذا الوجه، فقال سليمان بن أبي حثمة بدل تميم. قال الحافظ: ولعل ذلك كان في وقتين "وفي الموطأ" عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنه قال: "أمر عمر" بن الخطاب "أبي بن كعب وتميما الداري" بالألف عند أكثر رواة الموطأ، ومنهم: ابن القاسم والقعنبي، ورواه يحيى الأندلسي ويحيى بن بكير وغيرهما الديري، بالياء، وكلاهما صواب لاجتماع الوصفين له، فبالألف نسبة إلى جده الأعلى الدار بن هانئ، وبالياء نسبة إلى دير كان فيه تميم قبل إسلامه، "أن يقوما للناس في رمضان" بإحدى عشرة ركعة، وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي وما كنا ننصرف إلا في فروغ الفجر، هذا بقيته في الموطأ إلا أنه ليس فيه لفظ في رمضان، فلعل أصل عبارة المصنف، أي: في رمضان بأي التفسيرية. "وروى البيهقي بإسناد صحيح" عن السائب بن يزيد، "أن الناس كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب في شهر رمضان بعشرين ركعة، قال الحليمي: والسر" أي: الحكمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 578 قال الحليمي: والسر في كونها عشرين أن الرواتب في غير شهر رمضان عشر ركعات، فضوعفت لأنه وقت جد أو تشمير. وفي الموطأ: بثلاث وعشرين ركعة. وجمع البيهقي بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث. وفي الموطأ: عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أنها إحدى عشرة، وقال عبد العزيز: إحدى وعشرون. والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس.   "في كونها عشرين أن الرواتب في غير شهر رمضان عشر ركعات" يعني: المؤكدة، لأن الرواتب عند الشافعية اثنان وعشرون منها عشرة مؤكدة، "فضوعفت لأنه" أي: رمضان "وقت جد أو تشمير" اعتناء بالعبادة. "وفي الموطأ" عن يزيد بن رومان أنه قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب في رمضان "بثلاث وعشرين ركعة، وجمع البيهقي بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث" بعد العشرين فلا خلف، "وفي الموطأ عن محمد بن يوسف" الكندي المدني الثقة الثبت عن السائب بن يزيد"، "بتحتية فزاي" الكندي آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة إحدى وتسعين "أنها إحدى عشرة" أي: أمر عمر أبيا وتميما بإحدى عشرة ومر لفظه قريبا. قال الباجي: لعل عمر أخذ ذلك من قول عائشة: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، "وقال عبد العزيز" بن محمد الدراوردي عن محمد بن يوسف عن السائب "إحدى وعشرون" وصححه ابن عبد البر، وزعم أن مالك تفرد بقوله: إحدى عشرة، وأنه وهم، وليس كما قال، فقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن محمد بن يوسف، فقال: إحدى عشرة، كما قال مالك، مع أن شرط الشذوذ تعذر الجمع، وقد قال ابن عبد البر نفسه: يحتمل أن يكون ذلك أولا، ثم خفف عنهم طول القيام ونقلهم إلى إحدى وعشرين، ونحوه قول البيهقي: قاموا بإحدى عشرة ثم بعشرين وأوتروا بثلاث، وكذا نحو قول المصنف. "والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال" فأمرهم أولا بإحدى عشرة ثم بإحدى وعشرين، "ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات" لأن تطويل القراءة أفضل، فأمرهم به أولا "وبالعكس" حيث تكثر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 579 وقد روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس، قال: أدركت الناس في إمارة إبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز -يعني بالمدينة- يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث. وقال مالك: هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، وليس في شيء من ذلك ضيق. وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إليّ. انتهى. وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستا وثلاثين، قال النووي قال الشافعي: لا يجوز ذلك لغيرهم، لأن لأهلها شرفا بهجرته عليه الصلاة والسلام ومدفنه، ويخالفه قول الحليمي: من اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا.   الركعات تقل القراءة تخفيفا عليهم، واستدرك بعض الفضيلة بزيادة الركعات قاله الباجي بمعناه. "وقد روى محمد بن نصر" المروزي "من طريق داود بن قيس" المدني الثقة الفاضل، "قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان" بن عفان "وعمر بن عبد العزيز، يعني: بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وقال مالك" الإمام "هو الأمر القديم عندنا" بالمدينة: "وعن الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين وليس في شيء من ذلك ضيق" لأنه نافلة، "وعنه قال: إن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن، وإن أكثروا السجود وأخفوا القراءة فحسن، والأول أحب إلي" لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة طول القنوت". "انتهى". "وهل يجوز لغير أهل المدينة صلاتها ستا وثلاثين، قال النووي: قال الشافعي لا يجوز ذلك لغيرهم لأن لأهلها شرفا بهجرته عليه السلام" إليها "ومدفنه" بها "ويخالفه: قول" الشفعي فوقه ليس في شيء من ذلك ضيق، لأنه نافلة وقد أسنده عنه البيهقي، وقول "الحليمي: من اقتدى بأهل المدينة فقام بست وثلاثين فحسن أيضا" لأنهم إنما أرادوا بما صنعوا الاقتداء بأهل مكة في الاستكثار من الفضل، لا المنافسة كما ظن بعضهم، هكذا علله الحليمي نفسه. قال المصنف: وإنما فعل أهل المدينة هذا إرادة مساواة أهل مكة، فإنهم كانوا يطوفون سبعا بين كل ترويحتين، فجعل أهل المدينة مكان كل سبع أربع ركعات وقد حكى الولي العراقي أن والده الحافظ لما ولي إمامة مسجد المدينة أحيا سنتهم القديمة في ذلك مع مراعاة ما عليه الأكثر، فكان يصلي التراويح أول الليل بعشرين ركعة على المعتاد، ثم يقوم آخر الليل في المسجد بست عشرة ركعة فيختم في الجماعة في شهر رمضان ختمتين، واستمر على ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 580 وينبغي أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة لم تصح وفاقا للقاضي حسين في فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق: أن التراويح بمشروعية الجماعة أشبهت الفرائض، قاله النووي في فتاويه، وصرح به في "الروضة". وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره. وقد صلى معه حذيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل، قال: فما صلى الركعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصلاة. أخرجه أحمد وأخرجه النسائي. وعنده أيضا: أنه ما صلى إلا أربع ركعات. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة.   عمل أهل المدينة فهم عليه إلا الآن. "وينبغي" أي: يجب "أن يسلم من كل ركعتين، فلو صلى أربعا بتسليمة لم تصح" صلاته وفاقا للقاضي حسين في فتاويه، ولو صلى سنة الظهر أو العصر أربعا بتسليمة واحدة جاز، والفرق أن التراويح بمشروعية الجماعة" فيها أشبهت الفرائض فلا تغير عما ورد، "قاله النووي في فتاويه، وصرح به في الروضة" اسم كتاب شهير للنووي. "وقد كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره" دليل ذلك أنه "قد صلى معه حذيفة" بن اليمان "ليلة في رمضان، قال: فقرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران" فيه حجة لقول الجمهور أن ترتيب السور ليس بتوقيف بل اجتهاد وصححه الباقلاني، ومن يقول أنه توقيف يحمل فعله هذا على أنه قبل العرضة الأخيرة "لا يمر بآية تخويف إلا وقف وسأل" أي استعاذ من ذلك. وفي مسلم: وإذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيه سؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، "قال" حذيفة: "فما صلى" النبي صلى الله عليه وسلم "الركعتين حتى جاءه بلال فآذنه" بالمد، أعلمه "بالصلاة" أي صلاة الصبح. "أخرجه أحمد وأخرجه النسائي وعنده" أي النسائي "أيضا أنه ما صلى إلا أربع ركعات" حتى جاءه بلال يدعوه إلى صلاة الغداة. وفي أبي داود: فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام شك شعبة، وأصل الحديث في مسلم بدون قوله في رمضان، ولذا لم يعزه له هنا وقد مر قربا، "وكان للشافعي" الإمام "في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصلاة" واحدة ليلا وأخرى بالنهار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 581 الفهرس : الصفحة الموضوع 3 النوع الثالث: في طبه عليه الصلاة والسلام بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية 7 ذكر طبه من لدغة العقرب 9 ذكر الطب من النملة 11 ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من البثرة 11 ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حرق النار 12 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية 15 ذكر حمية المريض من الماء 16 ذكر طبه بالحمية من الماء المشمس خوف البرص 19 ذكر الحمية من طعام البخلاء 20 ذكر الحمية من داء الكسل 20 ذكر الحمية من داء البواسير 21 ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحي الذباب بإغماس الثاني 25 ذكر حمية الولد من إرضاع الحمقى 28 الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا 111 الفصل الثالث: في إنبائه صلى الله عليه وسلم بالأنباء المغيبات 182 المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم 196 النوع الأول: في الطهارة 196 الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به 218 الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا 222 الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم 246 الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين 253 الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم 260 الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم 278 النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم 280 القسم الأول: في الفرائض وما يتعلق بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 583 الصفحة الموضوع 280 الباب الأول: في الصلوات الخمس 280 الفصل الأول: في فرضها 583 الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس 297 الفصل الثالث: في ذكر كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم 297 الفرع الأول: في صفحة افتتاحه صلى الله عليه وسلم 313 الفرع الثاني: في ذكر قراءته عليه الصلاة والسلام للبسملة في أول الفاتحة 329 الفرع الثالث: في قراءته الفاتحة وقوله آمين بعدها 330 الفرع الرابع: في ذكر قراءته بعد الفاتحة في صلاة الغداة 337 الفرع الخامس: في ذكر قراءته في صلاتي الظهر والعصر 341 الفرع السادس: في ذكر قراءته في صلاة المغرب 349 الفرع السابع: في ذكر ما كان يقرؤه في صلاة العشاء 351 الفرع الثامن: في صفة ركوعه صلى الله عليه وسلم 352 الفرع التاسع: في مقدار ركوعه صلى الله عليه وسلم 354 الفرع العاشر: فيما يقول في الركوع والرفع منه 362 الفرع الحادي عشر: في ذكر صفة سجوده صلى الله عليه وسلم وما يقول فيه 370 الفرع الثاني عشر: في ذكر جلوسه للتشهد 374 الفرع الثالث عشر: في ذكر تشهده صلى الله عليه وسلم 395 الفرع الرابع عشر: في ذكر تسليمه من الصلاة 411 الفرع الخامس عشر: في ذكر قنوته صلى الله عليه وسلم 427 الفصل الرابع: في ذكر سجوده صلى الله عليه وسلم للسهو في الصلاة 460 الفصل الخامس: فيما كان صلى الله عليه وسلم يقوله بعد انصرافه من الصلاة 477 الباب الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة 528 الباب الثالث: في ذكر تهجده صلوات الله وسلامه عليه 536 ذكر سياق صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 584 المجلد الحادي عشر تابع المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم تابع النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم ... بسم الله الرحمن الرحيم الباب الرابع: في صلاته صلى الله عليه وسلم الوتر قد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن. لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقًا. واحتج بعض الحنفية لما ذهبوا إليه -من تعيين الوصل، والاقتصار على ثلاث- بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد أو نقص، قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه. وتعقبه محمد بن نصر المروزي، بما رواه من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا "لا توتروا بثلاث تشبهوا بصلاة المغرب" وقد صححه   الباب الرابع: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الوتر أي فيما يتعلق به من عدد وغيره. قال ابن التين: اختلف فيه في سبعة أشياء في وجوبه، وعدده، واشتراط النية فيه واختصاصه بقراءة، واشتراط شفع قبله، وفي آخر وقته وصلاته في السفر على الدابة. زاد غيره: وفي أول وقته، وفي قضائه، والقنوت فيه، ومحل القنوت منه، وفيما يقال فيه، وفي فصله ووصله وهل يسن ركعتان بعده، وفي صلاته من قعود لكن هذا على أنه سنة، وفي أنه أفضل صلاة التطوع، أو الرواتب أفضل منه، أو خصوص ركعتي الفجر. "قد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهن" أي: صلاهن بتشهد واحد "لكن أحاديث الفصل أثبت وأكثر طرقا" إذ هو الذي رواه أكثر الحفاظ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وتلك الرواية انفرد بها بعض أهل العراق عن هشام، وقد أنكرها مالك وقال: منذ صار هشام بالعراق أتانا عنه ما لم نعرف، وقال ابن عبد البر: ما حدث به هشام قبل خروجه إلى العراق أصح عند أهل الحديث. "واحتج بعض الحنفية لما ذهبوا إليه من تعيين الوصل والاقتصار على ثلاث، بأن الصحابة أجمعوا على أن الوتر بثلاث موصولة حسن جائز، واختلفوا فيما زاد" عليها "أو نقص" عنها "قال: فأخذنا بما أجمعوا عليه وتركنا ما اختلفوا فيه" لأن الأول أقوى. "وتعقبه محمد بن نصر المروزي بما رواه من طريق عراك بن مالك" الغفاري الكناني المدني الثقة "عن أبي هريرة مرفوعا" إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق "وموقوفا" على أبي هريرة من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 الحاكم، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر وقال: لا يشبه التطوع بالفريضة. انتهى. لكن قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن، وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه، ولفظه: يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ولا يسلم إلا في آخرهن وبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات. والجمع بين هذا وبين ما تقدم من النهي عن التشبيه بصلاة المغرب، أن   طريق أخرى: "لا توتروا بثلاث تشبهوا" في فعلها "بصلاة المغرب" وهو بدل من لا توتروا المجزوم بلا الناهية، فلذا حذف النون فلم يقل: تشبهون، وقد صححه الحاكم، وبما رواه ابن نصر من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة، والأعرج عن أبي هريرة، مرفوعا نحوه وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ورواه الدارقطني، برواة ثقات، بلفظ: "لا توتروا بثلاث ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب"، وتعقبه ابن نصر أيضا بما رواه من طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهة الوتر بثلاث، وأخرجه النسائي أيضا "وعن سليمان بن يسار" أحد الفقهاء "أنه كره الثلاث في الوتر وقال: لا يشبه التطوع الفريضة، انتهى". فهذا كله يقدح في الإجماع الذي زعمه "لكن" قول محمد بن نصر لم نجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبرا ثابتا صريحا أنه أوتر بثلاث موصولة، نعم ثبت عنه أنه أوتر بثلاث لكن لم يبين الراوي هل هي موصولة أو مفصولة. انتهى. يرد عليه أنه "قد روى الحاكم من حديث عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن" فيصليهن بتشهد واحد، وقد علم موقع الاستدراك الذي لم يعلم من اختصار المصنف لما في فتح الباري، ثم ظهر لي أن المصنف جعله استداركًا على ما فهم من النهي عن الوتر بثلاث من المنع، فأفاد بالاستدراك أن النهي للتنزيه لفعله -صلى الله عليه وسلم- خلافه وليس استدراكًا على كراهة سليمان الوتر بثلاث؛ لأن دليله الحديث إذ الكراهة أقل مراتب النهي والمصطفى يفعل المكروه لغيره لبيان الجواز. "وروى النسائي من حديث أبي بن كعب نحوه، ولفظه: يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] في الأولى "و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " [الكافرون: 1] الآية في الثانية "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1] ، في الثالثة "ولا يسلم إلا في آخرهن، وبين في عدة طرق أن السور الثلاث بثلاث ركعات". قال الحافظ: ويجاب عنه، أي ابن نصر، باحتمال أنهما لم يثبتا عنده "والجمع بين هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضًا. فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهص في الثالثة من الوتر بالتكبير، ومن طريق المسور بن مخرمة: أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق ابن طاووس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن. وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين في الوتر. حتى يأمر ببعض حاجته، وهذا ظاهر أنه كان يصلي الوتر موصولًا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بني على ما مضى. وفي هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا مفصولًا. وأصرح من ذلك ما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله،   وبين ما تقدم من النهي عن التشبيه بصلاة المغرب أن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهدين، وقد فعله السلف أيضا، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن: أن عمر" بن الخطاب "كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير" يعني إذا قام من سجوده الركعة الثانية قام مكبرا من غير جلوس للتشهد "ومن طريق المسور" بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو "ابن مخرمة" بفتح الميم وإسكان المعجمة وفتح الراء "أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن، ومن طريق" عبد الله "بن طاوس عن أبيه: أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن". زاد في الفتح: ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد، عن أيوب مثله. وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية: أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب، وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور "وكان ابن عمر يسلم من الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته" رواه مالك عن نافع عنه، وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به موقوفا عقب حديثه المرفوع صلاة الليل مثنى مثنى، فأخطأ من ظنه مرفوعا، ونسبه لمالك والبخاري، فالذي في الموطأ والبخاري إنما هو ما ذكرته "وهذا ظاهر أنه" أي: بن عمر "كان يصلي الوتر موصولا، فإن عرضت له حاجة فصل ثم بنى على ما مضى، وفي هذا رد على من قال: لا يصح الوتر إلا مفصولا" كذا قال تبعا للحافظ، ودعوى أن ظاهره ذلك فيها نظر، إذ المتبادر أنه كان عادته فصله؛ لأنه عبر بكان وحرف المضارعة وحتى الغائية. نعم لو عبر "بحين" بدل "حتى" لكان ظاهره ذلك. "وأصرح من ذلك ما روى الطحاوي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمه" لا صراحة في هذا على الوصل، فضلًا عن كونه أصرح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 وإسناده قوي. وقد استدل بعضه على فضل الفصل بأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر به وفعله، وأما الوصل فورد من فعله فقط. وقد حمل المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل، مع أن كثيرًا من الأحاديث ظاهر في الفصل، كحديث عائشة "يسلم من كل ركعتين" فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع.   من سابقه، لأنه نص في الفصل، ولكن المصنف سقط منه أو من نساخه ما قال في الفتح أنه أصرح، ولفظه: وأصرح من ذلك ما روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن بكر بن عبد الله المزني، قال: صلى ابن عمر ركعتين، ثم قال: يا غلام ارحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة. وروى الطحاوي من طريق سالم، فذكره مريدًا معارضته لما قبله من الوصل، بأن ابنه سالمًا روى عنه الفصل، ويصرح بذلك قوله: ولم يعتذر الطحاوي إلى آخر ما يأتي عنه. نعم قد ينازع الحافظ في أن رواية بكر المزني أصرح في الوصل بأنه لا صراحة فيها أيضا، إذ هي محتملة له وللفصل، فبان من رواية نافع أن المراد الثاني على المتبادر منها كما بينا، وصرح به في رواية سالم فيحمل عليه؛ لأن الروايات يفسر بعضها بعضا. "وأخبر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله وإسناده قوي". زاد الحافظ ولم يعتذر عنه الطحاوي إلا باحتمال أن المراد بقوله تسليمة، أي التسليمة التي في التشهد، ولا يخفى بعد هذا التأويل. انتهى، وصريحه أن الوتر واحدة، فتأويله بأن المعنى كان يفصل بين ما يصليه شفعا من الوتر وبين الركعة الواحدة منه ليوافق مذهب من قال: الثلاثة وتر، خلاف الظاهر المتبادر. وقد استدل بعضهم على فضل الفصل بأنه -صلى الله عليه وسلم- أمر به في حديث الموطأ والصحيحين: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى". وفي الصحيحين أيضا: فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة "وفعله" كما في حديث ابن عباس وعائشة عند الشيخين "وأما الوصل فورد من فعله فقط" لبيان الجواز "وقد حمل ابن المخالف من الحنفية كل ما ورد من الثلاث على الوصل مع أن كثيرًا من الأحاديث ظاهر في الفصل" فلا يصح هذا الحمل "كحديث عائشة" عند أبي داود ومحمد بن نصر بإسناد على شرط الشيخين: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي ما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 وحمل الطحاوي هذا ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء، مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن توتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل. وقد اختلف السلف في أمرين: أحدهما: في مشروعية ركعتين بعد الوتر عن جلوس. والثاني: فيمن أوتر ثم أراد أن يتنفل في الليل، هل يكتفي بوتره الأول ويتنفل ما شاء، أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل؟ ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟ فأما الأول: فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس. وقد ذهب إليه بعض أهل العلم، وجعلوا الأمر   "يسلم من كل ركعتين، فإنه يدخل فيه الركعتان اللتان قبل الأخيرة، فهو كالنص في موضع النزاع" فيقطعه. "وحمل الطحاوي هذا" الحديث "ومثله على أن الركعة مضمومة إلى الركعتين قبلها، ولم يتمسك في دعوى ذلك إلا بالنهي عن البتيراء" بضم الموحدة ففوقية مصغر، وهو حديث ضعيف "مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن توتر بواحدة فردة ليس قبلها شيء، وهو أعم من أن يكون مع الوصل والفصل" فلا دلالة فيه لما ادعاه، وهذا الاحتمال ورد في نفس حديث البتيراء. أخرج ابن عبد البر عن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن البتيراء أن يصلي الرجل واحدة يوتر بها، وللبيهقي في المعرفة عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص، قال: سألت ابن عمر عن وتر الليل، فقال: يا بني هل تعرف وتر النهار؟ قلت: هو المغرب، قال: صدقت، ووتر الليل واحدة، بذلك أمر -صلى الله عليه وسلم- قلت: إن الناس يقولون هي البتيراء، قال: يا بني ليست تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل ركعة يتم ركوعها وسجودها وقيامها، ثم يقوم إلى الأخرى فلا يتم لها ركوعًا ولا سجودًا ولا قيامًا، فتلك البتيراء. "وقد اختلف السلف في أمرين، أحدهما في مشروعية ركعتين بعد الوتر" كائنتين "عن جلوس" اتباعا للوارد "والثاني فيمن أوتر، ثم أراد أن ينتفل في الليل هل يكتفي بوتره الأول، ويتنفل ما شاء أو يشفع وتره بركعة ثم يتنفل" وهذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة نقض الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 في قوله -صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" مختصا بمن أوتر آخر الليل. وأجاب من لم يقل بذلك بأن بالركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر، وحمله النووي على أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر، وجواز التنفل جالسا. وأما الثاني: فذهب الأكثر إلى أنه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره، عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وتران في ليلة" وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة من حديث طلق بن علي، وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر.   الوتر "ثم إذا فعل هل يحتاج إلى وتر آخر أم لا؟، فأما الأول فوقع عند مسلم من طريق أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف "عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم- كان يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس" وقد أنكر مالك. وقال أحمد: لا أفعلهما ولا أمنعهما "وقد ذهب إليه بعض أهل العلم وجعلوا الأمر في قوله -صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا". رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر "مختصا بمن أوتر آخر الليل" حتى لا يعارض حديث عائشة. "وأجاب: من لم يقل بذلك" وهم الجمهور "بأن الركعتين المذكورتين هما ركعتا الفجر" صلاهما قاعدا لبيان الجواز أو لعذر "وحمله النووي على أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان جواز التنفل بعد الوتر" مع الكراهة في حق غيره، وأن الأمر في اجعلوا ليس للوجوب "وجواز التنفل جالسا" وكل أولى من حملهما على ركعتي الفجر؛ لأنه خلاف الظاهر. "وأما الثاني" وهو نقض الوتر بركعة ثم يتنفل ما شاء، أو يتنفل بلا نقض لا قوله: ثم إذا فعل، إذ هو مرتب على القول بالنقض "فذهب الأكثر إلى أه يصلي شفعا ما أراد ولا ينقض وتره" بركعة، كما قاله الأقل: ثم يتنفل "عملا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا وتران في ليلة"، وهو حديث حسن أخرجه النسائي وابن خزيمة" وغيرهما "من حديث طلق" بفتح فسكون "ابن علي" بن المنذر الحنفي صحابي له وفادة "وإنما يصح نقض الوتر عند من يقول بمشروعية التنفل بركعة واحدة غير الوتر" تمسكا بعموم قوله -صلى الله عليه وسلم: "الصلاة خير موضوع، فمن شاء استكثر ومن شاء استقل"، صححه ابن حبان، ولكن رد عليهم بقوله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وبخبر: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ولم يتنفل بركعة إلا الوتر، ولا شاهد فيما تمسكوا به؛ لأن "أل" في الصلاة للعهد والمعهود شرعا أنها لا تنقص عن ركعتين في النافلة ما عدا الوتر، فقوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 واختلف السلف أيضا في مشروعية قضاء الوتر، فنفاه الأكثر، وفي مسلم وغيره عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر، ولا أمر بقضائه. وعن عطاء والأوزاعي: يقضي ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعية حكاه النووي في شرح مسلم، وعن سعيد بن جبير: يقضي من القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقا. وقالت عائشة: أوتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم: من كل الليل، من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.   فمن شاء استكثر، أي: زاد على الركعتين فركعتين، وهكذا ومن شاء اقتصر على ركعتين أو أربع أو نحوهما. "واختلف السلف أيضا في مشروعية قضاء الوتر" إذا فات بصلاة الصبح "فنفاه الأكثر" ومنهم مالك "و" دليله "في مسلم وغيره عن عائشة؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نام من الليل من وجع أو غيره فلم يقم من الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة" فلم يقض الوتر، إذا لو قضاه لصلى ثلاث عشرة. "وقال محمد بن نصر: لم نجد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شيء من الأخبار أنه قضى الوتر ولا أمر بقضائه" ومن زعم أنه في ليلة نومهم عن الصبح في الوادي قضى الوتر فلم يصب هكذا في كلام ابن نصر، كما في الفتح. "وعن عطاء والأوزاعي: يقضي ولو طلعت الشمس إلى الغروب، وهو وجه عند الشافعية، حكاه النووي في شرح مسلم". "وعن سعيد بن جبير: يقضي من" الليلة "القابلة، وعن الشافعية: يقضي مطلقا" وهو المعتمد عندهم تمسكا بعموم ما رواه أبو داود عن أبي سعيد مرفوعًا: "من نسي الوتر أو نام عنه فليصله إذا ذكره"، وخصه مالك والأكثر بما إذا لم يصل الصبح لأدلة أخرى "وقالت عائشة: أوتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل الليل، من أوله" بعد صلاة العشاء "وأوسطه وآخره" بحسب ما تيسر له من القيام. قال الطيبي: يجوز أن "من" في قوله: من كل الليل، تبعيضية منصوبة بأوتر، ومن الثانية بدل منها؛ لأن الليل إذا قسم ثلاثة أقسام يكون لكل قسم منها أجزاء، ويجو أن "من" الثانية بيان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 والمراد بأوله: بعد صلاة العشاء. ويحتمل أن يكون اختلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا، وحيث أوتر في وسطه لعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره فكان غالب أحواله لما عرف من مواظبته عليه الصلاة والسلام على الصلاة آخر الليل والسحر قبيل الصبح. وحكى الماوردي أنه السدس الأخير، وقيل: أوله الفجر الأول. وفي رواية طلحة بن نافع عن ابن عباس، عند ابن خزيمة: فلما انفجر الفجر قام -صلى الله عليه وسلم- فأوتر بركعة. قال ابن خزيمة: والمراد به: الفجر الأول. وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: "زادني ربي صلاة وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر". وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن   لمعنى البعضية، ويجوز أن الأولى ابتدائية والثانية بيان لكل، وهذا أوجه، ويعتبر في الكل الإفراد بمنزلة لام الاستغراق، والثانية بدل أو بيان "وانتهى وتره إلى السحر". زاد أبو داود والترمذي حتى مات "رواه البخاري ومسلم" واللفظ له، فأما البخاري فلفظه: قالت كل الليل أوتر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتهى وتره إلى السحر. وهو في مسلم أيضا، إلا أنه قال: إلى آخر الليل بدل قوله: إلى السحر. قال الحافظ: بنصب "كل" على الظرفية، وبالرفع على أنه مبتدأ والجملة خبره والتقدير أوتر فيه "وأبو داود والترمذي والنسائي، والمراد بأوله بعد صلاة العشاء" عند الجمهور سواء صلى بينه وبين العشاء نافلة أم لا، فلو أوتر قبل صلاة العشاء لم يصح سواء تعمد أو نسي، وقيل: يدخل وقته بدخول وقت العشاء، فله أن يصليه قبلها أو بعدها سواء تعمد أو سها. "ويحتمل أن يكون اخلتلاف وقت الوتر باختلاف الأحوال، فحيث أوتر أوله لعله كان وجعا" بكسر الجيم "وحيث أوتر في وسطه لعله كان مسافرًا، وأما وتره في آخره فكان" لفظ الفتح، فكأنه كان "غالب أحواله لما عرف من مواظبته عليه الصلاة والسلام على الصلاة آخر الليل" قد أمر بجعل الوتر آخرها "والسحر قبيل الصبح" بضم القاف. "وحكى الماوردي أنه السدس الأخير" من الليل "وقيل: أوله" أي: السحر "الفجر الأول". "وفي رواية طلحة بن نافع" الواسطي نزيل مكة "عن ابن عباس" عند بن خزيمة: "فلما انفجر" انشق "الفجر قام صلى الله عليه وسلم فأوتر بركعة. قال ابن خزيمة: والمراد به الفجر الأول" فهو أداء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 حذافة في السنن، وهو الذي احتج به من قال بوجوب الوتر، وليس صريحا في الوجوب. وأما حديث بريدة: "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا"، وأعاد ذلك ثلاثا. ففي سنده أبو المنيب، وفيه ضعف، وعلى تقدير قبوله فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظة "حق" بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ "واجب" بمعنى ما ثبت من طريق الأحاد. وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فتوتر، كما في البخاري. وهذا يدل على استحباب جعل الوتر آخر الليل، سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره.   لوقوعه في وقته. "وروى أحمد من حديث معاذ مرفوعا: "زادني ربي صلاة وهي الوتر، وقتها من العشاء إلى طلوع الفجر"، وفي إسناده ضعف، وكذا في حديث خارجة بن حذافة" بن غانم القرشي، السهمي، الصحابي "في السنن وهو الذي احتج به من قال بوجوب الوتر" كالحنفية "وليس صريحا في الوجوب" إذ لا يلزم كون المزيد من جنس الواحب، فيحتمل أنه زيادة في النفل: "وأما حديث بريدة: الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا" أي: على طريقتنا وسنتنا "وأعاد ذلك" المذكور كله على المتبادر "ثلاثا" للتأكيد "ففي سنده أبو المنيب" بضم الميم وكسر النن فتحتية فموحدة اسمه عبيد الله -بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها- العتكي بفتح المهملة والفوقية "وفيه ضعف؛" لأنه يخطئ وإن كان صدوقا كما في التقريب في الأسماء والشارح قصر اطلاعه على الكنى فتحير "وعلى تقدير قبوله" لكونه صدوقا وإن كان يخطئ "فيحتاج من احتج به إلى أن يثبت أن لفظه "حق" بمعنى واجب في عرف الشارع، وأن لفظ "واجب" بمعنى ما ثبت من طريق الآحاد" وأتى له بالأمرين "وقد كان عليه الصلاة والسلام يصلي وعائشة راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظها" فتقوم فتوضأ "فتوتر كما في البخاري" ومسلم وغيرهما "وهذا يدل على استحباب جعل الوتر آخر الليل سواء المتهجد وغيره، ومحله إذا وثق أن يستيقظ بنفسه أو بإيقاظ غيره" له، وإلا فالأفضل تعجيله، وعليه حمل وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة وأبي ذر وأبي الدرداء؛ أن لا ينام أحد منهم حتى يوتر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 واستدل به على وجوب الوتر، لكونه عليه الصلاة والسلام سلك به مسلك الواجب، حيث لم يدعها نائمة للوتر، وأبقاها للتهجد. وتعقب: بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب، نعم يدل على تأكيد الوتر، وأنه فوق غيره من النوافل الليلية. وفيه: استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة، ولا يختص ذلك بالمفروضة ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع إيقاظه لإدراك الجماعة، وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات. قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال: إنه واجب في الواجب، مندوب في المندوب؛ لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال فهو كالغافل، وتنبيه الغافل واجب، والله أعلم.   قاله أبو عمر، فلا معارضة بين وصيته لهؤلاء وبين قول عائشة: وانتهى وتره إلى السحر؛ لأن الأول للاحتياط والآخر لمن علم من نفسه قوة بالانتباه، كما جاء عن عمر وعلي وغيرهما أنه الأفضل، وإليه ذهب الجمهور لما في مسلم عن جابر، مرفوعا: "من طمع منكم أن يوتر آخر الليل فليوتر من آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل، ومن خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله". "واستدل به على وجوب الوتر لكونه عليه الصلاة والسلام سلك به مسلك الواجب حيث لم يدعها نائمة للوتر وأبقاها للتهجد" أي: لانقضائه نائمة "وتعقب بأنه لا يلزم من ذلك الوجوب". "نعم يدل على تأكيد أمر الوتر وأنه فوق غيره من النوافل الليلية" بل قال مالك: إنه أفضلها مطلقا "وفيه استحباب إيقاظ النائم لإدراك الصلاة ولا يختص ذلك بالمفروضة"؛ لأنه أيقظها للوتر وليس بفرض "ولا بخشية خروج الوقت، بل يشرع إيقاظه لإدراك الجماعة وإدراك أول الوقت وغير ذلك من المندوبات" صلوات كالتهجد، أو غيرها كالتسحر، أو نام وقت الوقوف بعرفة؛ لأنه وقت طلب وتضرع، أو نام أمام المصلين، أو في الصف الأول، أو محراب المسجد، أو على سطح لا حاجز له، أو بعد طلع الفجر قبل طلوع الشمس؛ لأن الأرض تعج إلى الله من نومه حينئذ، أو بعد صلاة العصر، أو خاليا في بيت وحده فإنه مكروه، أو نامت امرأة مستلقية ووجها إلى السماء، أو رجل منبطحا على وجهه، فإنها ضجعة يبغضها الله. "قال القرطبي: ولا يبعد أن يقال: إنه" أي: الإيقاظ "واجب في الواجب" كما إذا علم بأنه تام بعد دخول الوقت ولم يوكل من يوقظه، وأنه يخرج الوقت وهو نائم "مندوب في المندوب؛ لأن النائم وإن لم يكن مكلفا لكن مانعه سريع الزوال؛" لأنه إذا نبه انتبه "فهو كالغافل وتنبيه الغافل واجب، والله أعلم" بالحكم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 وعن علي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . رواه الترمذي. وعن ابن عباس: كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة. وعن عائشة: كان يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"المعوذتين". رواه أبو داود والترمذي ولأبي داود: وكان إذا سلم قال: سبحان الملك القدوس. وعند النسائي، ثلاثًا يطيل في آخرهن وفي رواية: ويرفع صوته بالثالثة وعن   "وعن علي" كرم الله وجهه: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "رواه الترمذي". قال سود بن سعيد الكوفي التابعي: يقرأ في الركعة الأولى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1] ، و {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] ، وفي الثانية: {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] ، و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 11] ، وفي الركعة الثالثة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، ولعله لبيان الجواز وإلا فالأفضل خلافه. "وعن ابن عباس: كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في كل ركعة" لبيان الجواز، وإن كان المستحب خلافه "و" هو ما جاء "عن عائشة: كان يقرأ في الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي: السورة كلها "وفي الثانية: بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " كلها "وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين" الفلق والناس "رواه أبو داود والترمذي" وعليه الجمهور ولو لمن له حزب فلا يقرأ منه خلافا لابن العربي ومن تبعه "ولأبي داود: وكان إذا سلم قال: سبحان الملك القدوس" المنزه، المطهر عما لا يليق به سبحانه. "وعند النسائي" قال: سبحان الملك القدوس "ثلاثا" من المرات "يطيل في آخرهن" أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 علي: كان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. قال ابن تيمية: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل، والوتر خاتمته، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال الذي لا يلحقه نقص، ونفي   يمد صوته بالثالثة؛ "وفي رواية: ويرفع صوته بالثالثة" مع مده على مفاد الروايتين. "وعن علي: كان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر وتره" قبل السلام على ظاهره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" أي: بما يرضيك عما يسخطك، فخرج عن حظ نفسه بإقامة حرمة محبوبه، فهذا لله تعالى، ثم الذي لنفسه قوله: "وبمعافاتك من عقوبتك" عقبها لاستعاذته برضاه، لاحتمال أنه يرضى من جهة حقه ويعاقب على حق غيره "وأعوذ بك منك" ترق من الأفعال إلى منشئها مشاهدة للحق وغيبة عن الخلق الذي هو محض المعرفة، لا يعبر عنه قول ولا يضبطه وصف، فهو محض التوحيد وقطع الالتفات إلى غيره وإفراده بالاستعاذة وغيرها "لا أحصي" لا أحصل "ثناء" بمثلثة ومد، وصفا بجميل "عليك" لعجزي عنه، إذ هو نعمة تستدعي شكرا إلى غير نهاية. قال الإمام مالك: معناه وإن اجتهدت في الثناء عليك فلن أحصي نعمك ومننك وإحسانك "أنت" مبتدأ خبره "كما أثنيت" أي: الثناء عليك هو المماثل لثنائك "على نفسك" ولا قدرة لأحد عليه، ويحتمل أن أنت تأكيد للكاف من عليك باستعارة الضمير المنفصل للمتصل "رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه" وفيه أنه لا يبلغ وصفه، وإنما يوصف بما وصف به نفسه. "قال ابن تيمية: سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل" لكونه أول النهار "والوتر خاتمته"؛ لأنه آخر الليل "وقد كان عليه الصلاة والسلام يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص" هما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] الآية و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] "وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل وتوحيد المعرفة والإرادة وتوحيد الاعتقاد، فسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة وما يجب إثباته للرب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 الولد والوالد والكفؤ، المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفي كل نقص عنه، ونفي كل شبيه، وهذه هي مجامع التوحيد العملي والاعتقادي، فلذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهي وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها ن الشرك العلمي، كما خلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} من الشرك العملي. قاله ابن القيم. وأما القنوت في الركعة الأخيرة من الوتر، في النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووي في "الأذكار" باستحبابه، ولم يذكر لذلك دليلا. وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفي الآخر راو لم يسم:   تعالى من الأحدية والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال" نعت للصمدية "الذي لا يلحقه نقص" نعت للكمال، وإنما كانت مثبتة لذلك؛ لأن الصمد السيد المصمود إليه في الحوائج من صمد إذا قصد، وهو المقصود على الإطلاق لاستغنائه عن غيره مطلقا، وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته "ونفي" بالنصب عطف على جميع، أي المثبتة له نفي "الولد والوالد والكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت إثبات كل كمال ونفي كل نقص عنه ونفي كل شبيه، وهذه هي مجامع التوحيد العملي" بتقديم الميم على اللام "والاعتقادي، فلذلك كانت" سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "تعدل ثلث القرآن" كما صح في الأحاديث "فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة أمر ونهي وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة الإخلاص للخبر" اللام زائدة أو متعلقة بمفعول أخلصت المحذوف، أي: أحكاما ثابتة للخبر "عنه وعن أسمائه وصفاته، فعدلت ثلث القرآن وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي" بلام قبل الميم "كما خلصت سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] "من الشرك العلمي" بتقديم الميم على اللام "قاله ابن القيم" في الهدى. "وأما القنوت في الركعة الأخيرة من الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان، فقال النووي في الأذكار باستحبابه ولم يذكر لذلك دليلا" وأنا أذكره إذ لا بد للاستجباب من دليل. "وقد أخرج أبو داود بإسنادين رجالهما ثقات، لكن أحدهما منقطع، وفي الآخر راو لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان. وعن الحسن بن علي قال: علمني جدي كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت". وهذا لفظ رواية شريك رواه الطبراني وغيره.   يسم" فكل منهما معلول؛ "أن عمر لما جمع الناس على أبي بن كعب كان لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان" في الوتر. "وعن الحسن بن علي" خاتم خلافة النبوة "قال: علمني جدي" صلى الله عليه وسلم "كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت" لطاعتك "وعافني فيمن عافيت" من البلايا والفتن والأسقام "وتولني فيمن توليت" نصره وتأديبه "وبارك لي فيما أعطيت" أي في الذي أعطيته لي "وقني شر ما قضيت". قال العلامة الشهاب القرافي: معناه أن الله تعالى يقدر المكروه بعد دعاء العبد المستجاب، فإذا استجاب دعاءه لم يقع المقضي لفوات شرطه، وليس هو ردا للقضاء المبرم: "إنك تقضي" بما تريد "ولا يقضى عليك؛ وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت" بكسر العين مع فتح الياء، بلا خلاف بين علماء الحديث واللغة والتصريف، قاله الحافظ السيوطي، وله أبيات آخرها: وقل إذا كنت في ذكر القنوت ولا ... يعز يا رب من عاديت مكسورا "تباركت ربنا وتعاليت"، وهذا لفظ رواية شريك، رواه الطبراني وغيره" كالبيهقي، ورواه أصحاب السنن كما مر بزيادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 الباب الخامس: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الضحى اختلفت الرواة، هل صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟ فمنهم المثبت ومنهم النافي. فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافي، جريا على القاعدة المعروفة؛ لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافين، قالوا: وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس. ويوجد عند الأقل، ومنهم من رجح رواية النافي بقرينه، ولم يعتد برواية المثبت إما لضعفها أو صرفها كما سيأتي عن صلاة الضحى. قال الحاكم: وفي الباب عن أبي سعيد، وأبي ذر، وزيد بن أرقم، وأبي هريرة، وبريدة الأسلمي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن أبي أوفى، وعتبان بن مالك، وعتبة بن عبد السلمي، ونعيم بن همار الغطفاني، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة بنت أبي بكر، وأم هانئ، وأم سلمة. كلهم شهدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى. انتهى.   الباب الخامس: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الضحى: أي فيما جاء فيها ثبوتا أو نفيا "اختلفت الرواة هل صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟، فمنهم المثبت" صلاته لها "ومنهم النافي" لها "فمن العلماء من رجح رواية المثبت على النافي جريا على القاعدة المعروفة؛ لأنها تتضمن زيادة علم خفيت على النافين، قالوا" أي: المرجحون للإثبات: "وقد يجوز أن يذهب علم مثل هذا على كثير من الناس" فينفونه لعدم علمهم به "ويوجد عند الأقل" لاطلاعه عليه بسبب اقتضى علمه به كخلوه "ومنهم من رجح رواية النافي بقرينه" اقتضت ترجيحها "ولم يعتد برواية المثبت إما لضعفها أو صرفها كما سيأتي عن صلاة الضحى.. قال الحاكم: وفي الباب" أي: باب صلاة الضحى "عن أبي سعيد" سعد بن مالك "وأبي ذر" جندب بن جنادة "وزيد بن أرقم وأبي هريرة وبريدة الأسلمي وأبي الدرداء" عويمر "وعبد الله بن أبي أوفى" بفتح فسكون "وعتبان" بكسر العين "ابن مالك وعتبة" بضمن فسكون "ابن عبد" بلا إضافة "السلمي ونعيم بن همار" بتشديد الميم آخره راء، أو هبار، أو هدار، أو خمار بالمعجمة أو المهملة "الغطفاني" صحابي، رجح الأكثر أن اسم أبيه همار كما في التقريب. "وأبي أمامة الباهلي" صدي ابن عجلان "وعائشة بنت أبي بكر وأم هانئ" فاختة "وأم سلمة" هند "كلهم" بالرفع محكي مع ما بعده، يعني أن الحاكم بعد أن عدد هؤلاء، قال: كلهم "شهدوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الضحى، انتهى". وفي فتح الباري: بعد أن ذكر في الضحى أقوالا ما نصه: قد جمع الحاكم الأحاديث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 فأما حديث أبي سعيد فأخرجه الحاكم والترمذي عن عطية بن سعد العوفي عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها. وقال الترمذي: حسن غريب، لكن قال النووي: عطية ضعيف، فلعله اعتضد. وأما حديث أبي ذر الغفاري، فرواه البزار في مسنده. وأما حديث زيد بن أرقم، فرواه مسلم بلفظ: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي من الضحى" الحديث. وأما حديث أبي هريرة فرواه البزار في مسنده بلفظ: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا في غيره. وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد السمتي ضعيف جدا. وأما حديث بريدة الأسلمي فرواه ... ". وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني.   الواردة في صلاة الضحى في جزء مفرد، وذكر لغالب هذه الأقوال مستندا، وبلغ عدد رواة الحديث في إثباتها نحو العشرين نفسا من الصحابة. انتهى. "فأما حديث أبي سعيد، فأخرجه الحاكم والترمذي عن عطية بن سعد العوفي" بمهملة وفاء أبي الحسن الكوفي، مات سنة إحدى عشرة ومائة "عنه" أي: أبي سعيد "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها ويدعها" أي: يتركها "حتى نقول: لا يصليها" وبه تمسك من قال: يستحب فعلها تارة وتركها تارة، بحيث لا يواظب عليها وهو إحدى الروايتين عن أحمد. "وقال الترمذي: حسن غريب" لكن "قال النووي: عطية ضعيف، فلعله اعتضد" حتى حسنه الترمذي، وأما تصحيح الحاكم فعلى عادته في التساهل، وفي التقريب أن عطية صدوق يخطئ كثيرا وكان شيعيا مدلسا. "وأما حديث أبي ذر الغفاري فرواه البزار في مسنده، وأما حديث زيد بن أرقم فرواه مسلم بلفظ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي من الضحى الحديث، وأما حديث أبي هريرة فرواه البزار في مسنده، بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يترك صلاة الضحى في سفر ولا غيره وإسناده ضعيف، فيه يوسف بن خالد" بن عمير البصري "السمتي" بفتح السين المهملة وسكون الميم بعدها فوقية، سمى به يوسف المذكور لسمته وهيئته، كما في اللب "ضعيف جدا" قال في التقريب: تركوه، وكذا به ابن معين وكان من فقهاء الحنفية، مات سنة تسع وثمانين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 وأما حديث ابن أبي أوفى، فرواه ابن عدي والحاكم بلفظ: قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل. قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين: هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى، كشكره يوم فتح مكة. وأما حديث عتبان بن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيته سبحة الضحى. وأما حديث عتبة بن عبد فرواه ... وأما حديث نعيم بن همار فرواه ... وأما حديث أبي أمامة فرواه. وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه، قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى أربعا، ويزيد ما شاء الله.   ومائة. "وأما حديث بريدة الأسلمي فرواه ... " ببض له المصنف "وأما حديث أبي الدرداء فرواه الطبراني، وأما حديث ابن أبي أوفى فرواه ابن عدي والحاكم، بلفظ: قال" عبد الله بن أبي أوفى: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ركعتين يوم بشر برأس أبي جهل" عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة المقتول في غزوة بدر. "قال بعض العلماء النافين لرواية المثبتين" صلاة الضحى "هذا الحديث إن كان صحيحا فهو صلاة شكر وقعت وقت الضحى كشكره يوم فتح مكة" فلا دلالة فيها على أنه نوى بها الضحى. "وأما حديث عتبان" بكسر المهملة وإسكان الفوقية فموحدة "ابن مالك، فرواه أحمد من رواية محمود بن الربيع" الخزرجي المدني، صحابي صغير جل روايته عن الصحابة "عنه" أي: عتبان؛ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيته سبحة" بضم فسكون، أي صلاة "الضحى" وقال النافون لذلك: صلاته في بيت عتبان إجابة لسؤاله أن يصلي في بيته في مكان يتخذه مصلى، فاتفق أنه جاءه وقت الضحى، فاختصره الراوي، فقال: صلى في بيته الضحى، ولذا قال أنس: ما رأيته صلى الضحى إلا يومئذ. "وأما حديث عتبة بن عبد فرواه" بيض له المصنف "وأما حديث نعيم بن همار فرواه" بيض له المصنف، وقد رواه النسائي "وأما حديث أبي أمامة فرواه" بيض له المصنف، وقد رواه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى قالت: لا إلا أن يجيء من مغيبه. وأما حديث أم هانئ، فرواه البخاري ومسلم، قالت: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات، فلم أر صلاة قط أخف منها،   ابن جرير الطبري. "وأما حديث عائشة فرواه مسلم وأحمد وابن ماجه" عنها "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى أربعا" لفظ مسلم أربع ركعات "ويزيد ما شاء الله". وفي رواية لمسلم بإسقاط الجلالة، أي من غير حصر، لكن لم ينقل أنه صلى أكثر من اثنتي عشرة ركعة. "و" في مسلم وغيره "عن عبد الله بن شقيق" العقيلي البصري "قال: سألت عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى؟، قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه" بفتح الميم وكسر الغين المعجمة، أي من سفره، وحمله النافون على أنه كان ينهي عن الطروق ليلا، فيقدم في أول النهار، فيبدأ بالمسجد فيصلي وقت الضحى. ولأحمد وأبي يعلى عن أنس أنه لم ير النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى إلا أن يخرج إلى سفر أو يقدم من سفر، وهذا يدل على أنه كان يصلي الضحى إذا قدم، فهو شهادة على نفي الرؤية لا على نفي الصلاة، فإن قيل: ليست شهادة على النفي بل على الثبوت؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، أجاب الأبي بأنه استثناء منقطع؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يصلي عند مجيئه صلاة القدوم لا صلاة الضحى. "وأما حديث أم هانئ" فأخته على الأشهر، وقيل: هند شقيقة علي بن أبي طالب "فرواه البخاري" في مواضع "ومسلم" أنها "قالت: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل بيتها يوم فتح مكة" في رمضان سنة ثمان "فاغتسل" في بيتها على ظاهر التعبير بالفاء المقتضية للترتيب والتعقيب، لكن في الموطأ، وأخرجه البخاري ومسلم من طريق مالك عن أبي النضر، عن أبي مرة أنه سمع أم هانئ تقول: ذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب الحديث. زاد في رواية لمسلم وهو بأعلى مكة، وجمع الحافظ بأن ذلك تكرر منه، وأيده بما رواه ابن خزيمة عن مجاهد عن أم هانئ؛ أن أبا ذر ستره لما اغتسل. وفي هذه الرواية أن فاطمة سترته، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة وكانت هي في بيت آخر بمكة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فيصح القولان، وأما الستر فيحتمل أن أحدهما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 غير أنه يتم الركوع والسجود. قالت في رواية أخرى: وذلك ضحى. ولمسلم: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيتها عام الفتح في ثوب واحد، قد خالف بين طرفيه. وللنسائي: أنها ذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب. فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد. ولأبي داود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة صلى سبحة الضحى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين.   ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه، انتهى، وهو حسن إلا أن قوله أولا -ظاهره أنه اغتسل في بيتها، ووقع في الموطأ ومسلم من طريق أبي مرة، عنها أنها ذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بأعلى مكة فوجدته يغتسل -عجيب، فإنه في البخاري في الغسل والصلاة وأواخر الجزية من طريق مالك كما علم، وليس في المواضع الثلاث ولا الموطأ قوله: وهو بأعلى مكة، وإنما هو في إحدى روايات مسلم "وصلى ثمان ركعات" بدون ياء بعد النون، وفي رواية: ثماني بالياء. زاد كريب عن أم هانئ: يسلم من كل ركعتين، أخرجه ابن خزيمة وفيه رد على من تمسك به في صلاتها موصولة سواء صلى ثمانيا أو أقل، وللطبراني عن ابن أبي أوفى أنه صلى الضحى ركعتين فسألته امراته، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين، وهو محمول على أنه رأى من صلاته ركعتين، ورأت أم هانئ بقية الثامن وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة "فلم أر صلاة قط أخف منها" أي من صلاته -صلى الله عليه وسلم- وللبخاري: فما رأيته صلى صلاة أخف منها "غير أنه يتم الركوع والسجود" ولمسلم عن عبد الله بن الحارث، عن أم هانئ: لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده، كل ذلك متقارب. "قالت في رواية أخرى" عند الشيخين: "وذلك ضحى" أي صلاة ضحى "ولمسلم" من طريق أبي مرة عن أم هانئ؛ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى في بيتها عام الفتح في ثوب واحد قد خالف بين طرفيه" هو الاضطباع المعروف، وهذا اللفظ يؤيد الجمع المتقدم عن الحافظ: "وللنسائي أنها ذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح فوجدته يغتسل" تنظيفا لما عليه من الغبار، كما جاء في الحديث: فجاء وعلى وجهه وهج الغبار، فأمر فاطمة، أو كان غسلا شرعيا "وفاطمة بنته تستره بثوب" جملتان حاليتان، وفيه ستر المحارم عند الاغتسال وذلك حسن "فسلمت عليه، فقال:" بعد رد السلام ولم ينكره للعلم به "من هذه؟ " يدل على أن الستر كان كثيفا وعلم أنها امرأة؛ لأن ذلك الموضع لا يدخل عليه فيه الرجال "فقلت: أنا أم هانئ" بنت أبي طالب "فلما فرغ من غسله" بضم الغين "قام فصلى ثماني ركعات ملتحفا في ثوب واحد" وعجب من عزو المصنف، ذلك للنسائي فقط مع أنه في الصحيحين بهذا اللفظ "ولأبي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 وقد استدل بحديث البخاري ومسلم على استحباب تخفيف صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربي، قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة. قلت: وروي عن ابن جبير بن مطعم عن أبيه: أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى ست ركعات. رواه الحاكم أيضا. وعن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى في السفر سبحة الضحى ثماني ركعات. رواه أحمد، وصححه ابن خزيمة والحاكم.   داود" عن كريب عن أم هانئ؛ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة صلى سبحة الضحى" بالإضافة، أي صلى نافلتها "ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين" فصلاها مفصولة. "وقد استدل بحديث البخاري ومسلم" المذكور أولا "على استحباب تخفيف صلاة الضحى وفيه نظر" كما قال الحافظ "لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح لكثرة شغله به، وقد ثبت من فعله -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الضحى فطول فيها، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة" بن اليمان. "وأما حديث أم سلمة فرواه الحاكم من طريق إسحاق بن بشر المحاربي" عنها "قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة" ليس صريحًا أن الجميع منوي به الضحى لجواز أن ما زاد على الثمان من النفل المطلق كما أومأ إليه الحافظ بقوله: استدل بحديث أم هانئ على أن أكثر الضحى ثمان ركعات، ثم ذكر ما نقله المصنف بعد قليل بقوله: واستبعده السبكي، إلى قوله: ففرق بين الأكثر والأفضل، ثم قال: ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى الإثني عشرة بتسليمة واحدة، فأما من فصل فما زاد على الثمان يكون نفلا مطلقا وتأتي عبارته. "قلت: وروي" زياد علي من عد الحاكم من الصحابة خمسة وهم: جبير وأنس وعلي وأبو بكرة وجابر، فروي "عن ابن جبير بن مطعم" بن عدي النوفلي "عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى" زاد في نسخ "ست ركعات، رواه الحاكم أيضا" ففاته عده مع كونه رواه. "وعن أنس بن مالك قال: رأيت رسول اله -صلى الله عليه وسلم- صلى في السفر سبحة" أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 وعن علي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي من الضحى، وراه النسائي في سننه الكبرى وأحمد وأبو يعلى، وإسناده جيد. وعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يصلي من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة ويوم يقدم المدينة. وعن أبي بكرة عند ابن عدي في الكامل من رواية عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبي بكرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى، فجاء الحسن وهو غلام فلما سجد ركب الحسن على ظهره. الحديث، وعمرو بن عبيد متروك. وعن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الضحى ست ركعات رواه الحاكم. قال الشيخ ولي الدين العراقي: وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة، حتى قال محمد بن جرير الطبري: أنها بلغت حد التواتر. قال ابن العربي:   صلاة "الضحى ثماني" بفتح الياء "ركعات رواه أحمد وصححه ابن خزيمة والحاكم، وعن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي من الضحى" من للتبعيض باعتبار الوقت، أي بعض الضحى، أي وقته، أو أنها بمعنى في "رواه النسائي في سننه الكبرى" وليست هي إحدى الكتب الستة. "وأحمد وأبو يعلى وإسناده جيد" أي مقبول. "وعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي من الضحى إلا يومين، يوم يقدم مكة، ويوم يقدم المدينة" فليست صلاة الضحى إنما هي صلاة القدوم من السفر، وكان يقدم ضحى؛ لأنه نهى عن الطروق ليلا. "وعن أبي بكرة" نفيع بن الحارث "عند ابن عدي في الكامل من رواية عمرو" بفتح العين "ابن عبيد" مصغر التميمي البصري المعتزلي المشهور "عن الحسن" البصري "عن أبي بكرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي الضحى فجاء الحسن" بن علي "وهو غلام فلما سجد" المصطفى "ركب الحسن على ظهره" أي ظهر جده "الحديث. وعمرو بن عبيد متروك" قال في التقريب: كان داعيا إلى بدعته اتهمه جماعة مع أنه كان عابدا. "وعن جابر بن عبد الله" رضي الله عنهما "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى ست ركعات، رواه الحاكم" والطبراني في الأوسط. "قال الشيخ ولي الدين العراقي" أحمد الحافظ صاحب التصانيف العديدة المفيدة "وقد ورد فيها أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري: أنها بلغت حد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 وهي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى مخبرا عن داود: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} فأبقى الله تعالى من ذلك في دين محمد "العصر" ونسخ صلاة الإشراق. واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة: أن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل وهو يحب أن يعمل خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم -وما سبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، رواه البخاري ومسلم ومالك   التواتر. قال ابن العربي: وهي كانت صلاة الأنبياء قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال الله تعالى مخبرا عن داود: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: 18] بتسبيحه "بالعشي" وقت صلاة العصر {وَالْإِشْرَاقِ} [ص:18] وقت صلاة الضحى، وهي أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها "فأبقى الله تعالى من ذلك في دين محمد" صلى الله عليه وسلم "العصر ونسخ صلاة الإشراق" أي وجوبها. وفي نسخ بدل نسخ وتسبيح صلاة الإشراق، أي وأبقى تسبيح. ومعلوم أن الإبقاء في العصر للوجوب، وفي الثاني للاستحباب. أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: طلبت صلاة الضحى في القرآن فوجدتها ههنا يسبحن بالعشي والإشراق. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لم أر صلاة الضحى في موضع من القرآن إلا في قوله: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] . وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ أن النبي -صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى ثم قال: "يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق". وروى ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوض عليها إلا غواص في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36] . وروى الأصفهاني في الترغيب عن عوف العقيلي في قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] ، قال: الذين يصلون الضحى. "واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة: أن" مخففة من الثقيلة أي أنه "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدع العمل وهو يحب أن يعمل" بفتح التحتية. وفي رواية: أن يعمله بالضمير "خشية" بالنصب، أي لأجل خشية "أن يعمل به الناس فيفرض عليهم" بالنصب عطفا على يعمل، وليس المراد تركه أصلا، وقد فرض عليه، أو استحب، بل ترك أمرهم أن يعملوا معه لما مر أنهم لما اجتمعوا في رمضان للتهجد معه لم يخرج إليهم في الليلة الرابعة، ولا شك أنه صلى حزبه تلك الليلة. "وما سبح رسول الله" إنما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 وأبو داود. وبحديث مورق العجلي قال: قلت لابن عمر، أتصلي الضحى؟ قال: لا، قلت: فعمر؟ قال: لا، قلت: فأبو بكر قال: لا، قلت: فالنبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أخاله. رواه البخاري. وقوله: "لا أخاله" أي لا أظنه، وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا، والخاء معجمة. وقول الشعبي: سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى. وروى عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا ابن عمر   قالت عند من عزاه لهم ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي "سبحة الضحى قط" بضم السين، أي نافلته، وأصلها من التسبيح خصت به النافلة؛ لأنه في الفريضة نافلة، فقيل لصلاة النافلة: سبحة؛ لأنها كالتسبيح في الفريضة "وإني لأسبحها" أي لأصليها؛ لأنه بلغها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها. وفي رواية: لأستحبها من الاستحباب، والروايتان لأصحاب الموطأ. قال الحافظ: ولكل وجه، ولكن الأول يقتضي الفعل، والثاني لا يستلزمه "رواه البخاري" من طريق مالك وابن أبي ذئب "ومسلم" من طريق مالك "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" من طريقه، ومالك وابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها وإن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم ... إلخ. فقد فيه المصنف وأخر وقال: ما سبح مع أن الذي قالته ما رأيته يصلي، وذلك ليس نفيا مطلقا فهذا اختصار مخل. "و" احتجوا أيضا "بحديث مورق" بفتح الواو وكسر الراء الثقيلة وبقاف، ابن مشمرج بضم الميم وفتح المعجمة وسكون الميم وكسر الراء وجيم ابن عبد الله "العجلي" أبي المعتمر البصري، ثقة عابد. مات بعد المائة وما له في البخاري عن ابن عمر سوى هذا الحديث. "قال: قلت لابن عمر: أتصلي الضحى؟ قال: لا" أصليها "قلت: فعمر؟ قال: لا" أي لم يصلها "قلت: أبو بكر؟ قال: لا، قلت: فالنبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أخاله" أي لا أظنه صلاها "رواه البخاري" من إفراده عن مسلم. "وقوله: لا أخاله، أي لا أظنه وهو بكسر الهمزة وتفتح أيضا والخاء معجمة "و" احتجوا أيضا بـ"قول الشعبي" عامر "سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى" فسماها بدعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 جالس عند حجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى، فسألناه عن صلاتهم فقال: بدعة. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة ونعمت البدعة. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئًا أحب إلي منها. قلت: وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث، بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها، وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كا تقدم، وكما ذكرته أم هانئ وغيرها. وقول عائشة: "ما رأيته صلاها" لا يخالف قولها: "كان يصليها"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يكون عندها في وقت الضحى إلا في النادر من الأوقات؛ لأنه قد يكون مسافرا، وقد يكون حاضرا، وفي الحضر قد يكون في المسجد، وقد يكون في   "وروى" عنه سعيد بن منصور بإسناد صحيح "عن مجاهد قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر جالس عند حجرة عائشة، وإذا الناس في المسجد يصلون صلاة الضحى فسألناه عن صلاتهم فقال: بدعة" أي حسنة، بدليل ما قبله وما بعده، ويأتي للمصنف قريبا ثلاث محامل في تسميتها بدعة. "وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن" عبد الله بن إسحاق بن "الأعرج" فنسب لجد أبيه البصري ثقة من رجال مسلم. "قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة" حسنة لقوله: "ونعمت البدعة"؛ لأنها تجمع المحاسن كلها. "وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم، عن أبيه قال: لقد قتل عثمان وما أحد يسبحها" أي يصلي الضحى "وما أحدث الناس شيئا أحب إلي منها"؛ لأنها عبادة "قلت: وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث" بالنفي والإثبات "بأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على أمته فيعجزوا عنها" بكسر الجيم مضارع عجز يفتحها "وكان يفعلها كما صرحت به عائشة كما تقدم، وكما ذكرته أم هانئ" وحديثها أصح شيء ورد في الباب كما نقله الترمذي عن أحمد "وغيرها" من الصحابة الذين عددهم آنفا. "وقول عائشة: ما رأيته صلاها لا يخالف قولها: كان يصليها" أربعا ويزيد ما شاء الله؛ "لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يكون عندها في وقت الضحى إلا في النادر من الأوقات؛ لأنه قد يكون مسافرًا، وقد يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 بيت من بيوت زوجاته، أو غيرها وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها بإخباره -صلى الله عليه وسلم- أو بإخبار غيره، فروت ذلك. وقول ابن عمر: "لا أخاله" توقف، وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره. وأما قوله: "إنها بدعة" فمؤول على أنه لم يبلغه الأحاديث المذكورة، أو أنه أراد أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها، أو أن إظهارها في المساجد ونحوها بدعة، وإنما سنته النافلة في البيوت والله أعلم. وبالجملة: فليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصة كما قدمناه. وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم.   حاضرًا، وفي الحضر قد يكون في المسجد، وقد يكون في بيت من بيوت زوجاته أو غيرها، وما رأته صلاها في تلك الأوقات النادرة، فقالت: ما رأيته" فإنما نفت رؤيتها "وعلمت بغير رؤية أنه كان يصليها" إما "بإخباره -صلى الله عليه وسلم" لها "أو بإخبار غيره، فروت ذلك" جزما عند مسلم، وحاصله أنها أخبرت في الإنكار عن مشاهدتها، وفي الإثبات عن غيرها. "وقول ابن عمر: لا أخاله توقف" منه؛ لأنه لم يجزم عنه بفعل ولا بترك "وكأن سبب توقفه أنه بلغه عن غيره أنه صلاها ولم يثق بذلك عمن ذكره" وقد جاء عنه الجزم بأنها محدثة. فروى سعيد بن منصور عن مجاهد عن ابن عمر أنها محدثة، وأنها لمن أحسن ما أحدثوا كما في الفتح ناقلا فيه ما قدمه المصنف قبل ذكر الجمع؛ لأنه كله فيه الجزم بأنها محدثة. "وأما قوله: إنها بدعة، فمؤول على أنه لم يبلغه الأحاديث المذكورة" إذ لو بلغته لم يسعه قول ذلك "أو أنه أراد أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يداوم عليها" فسمى المداومة عليها بدعة "أو أن إظهارها في المساجد ونحوها بدعة، وإنما سنته النافلة في البيوت، والله أعلم" بما أراد "وبالجملة فليس في أحديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول على رؤيته لا على عدم الوقوع في نفس الأمر" فيقدم عليه رواته من أثبت على القاعدة "أو الذي نفاه صفة مخصوصة" من المداومة أو الإظهار "كما قدمناه" قريبا جدا. "وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه رأى قوما يصلونها فأنكر عليهم" صلاتها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا، فتصلى في بعض الأيام دون بعض، وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام. وذهب آخرون: إلى أنها إنما تفعل لسبب من الأسباب، وأنه عليه الصلاة والسلام إنما صلاها يوم الفتح من أجل الفتح، وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح. متمسكين بما قاله القاضي عياض وغيره: أن حديث أم هانئ ليس بظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته، قال: وقد قيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه فيها. وتعقبه النووي: بأن الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود من طريق كريب عن أم هانئ أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى سبحة الضحى. ولمسلم: في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عن أم هانئ في قصة اغتساله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ثم صلى   بين الناس "وقال: إن كان ولا بد ففي بيوتكم" صلوها، وهذا يؤيد التأويل المذكور كما في الفتح. "وذهب آخرون إلى استحباب فعلها غبا" بالكسر وقتا بعد وقت كما قال "فتصلى في بعض الأيام دون بعض" بحيث لا يواظب عليها. "وكان ابن عباس يصليها يوما ويدعها عشرة أيام" الذي في الفتح عن ابن عباس كان يصليها عشرا ويدعها عشرا. وقال الثوري عن منصور: كان يكرهون المحافظة عليها كالمكتوبة. وعن سعيد بن جبير: إني لأدعها وأنا أحبها مخافة أن أراها حتما علي، انتهى. وتجويز أن ابن عباس كان يظهر فعلها يومًا ويترك إظهاره عشرة أيام بعيد. "وذهب آخرون إلى أنها إنما تفعل لسبب من الأسباب" واحتجوا بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يفعلها إلا لسبب فاتفق وقوعها وقت الضحى وتعددت الأسباب فصلاها يوم بشر برأس أبي جهل شكرا. وفي بيت عتبان إجابة لدعوته، وإذا قدم من سفر للقدوم "وأنه عليه الصلاة والسلام إنما لاها يوم الفتح" لمكة "من أجل الفتح" شكرا عليه "وكان الأمراء يسمونها صلاة الفتح" وأن سنة الفتح أن تصلى ثمان ركعات، ونقله الطبري عن فعل خالد بن الوليد لما فتح الحيرة "متمسكين بما قاله القاضي عياض وغيره أن حديث أم هانئ ليس بظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام قصد سنة الضحى، وإنما فيه أنها أخبرت عن وقت صلاته" بقولها: وذلك ضحى. "قال" عياض: "وقد قيل: إنها كانت قضاء عما شغل عنه تلك الليلة من حزبه" أي ورده الذي كان يصليه "فيها" باشتغاله بالفتح "وتعقبه النووي بأن الصواب صحة الاستدلال به" أي بحديث أم هانئ "لما رواه أبو داود" بإسناد صحيح "من طريق كريب عن أم هانئ أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى سبحة الضحى" أي نافلته "ولمسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة" بضم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 ثمان ركعات سبحة الضحى. وروى ابن عبد البر في "التمهيد" من طريق عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فصلى ثماني ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى. واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات. واستبعده السبكي. ووجه بأن الأصل في العبادة التوقف، وهذا أكثر ما ورد من فعله عليه السلام. وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبي أوفى: أنه عليه الصلاة والسلام صلى الضحى ركعتين، أخرجه ابن عدي. وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة".   الميم وشد الراء "عن أم هانئ في قصة اغتساله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح" لمكة "ثم صلى ثماني" بفتح الياء "ركعات سبحة الضحى". فالتصريح في هاتين الطريقين بسبحة الضحى، يعين أن قوله في تلك الطريق وذلك ضحى، أي صلاته، لا الإخبار عن الوقت؛ لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما مع اتحاد المخرج وهو حديث واحد. "وروى ابن عبد البر في التمهيد" لما في الموطأ من المعاني والأسانيد "من طريق عكرمة بن خالد" بن العاصي بن هشام المخزومي ثقة من رجال الصحيحين "عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت: ما هذه الصلاة؟ قال: "هذه صلاة الضحى" فهذا نص صريح لا يقبل التأويل. "واستدل به على أن أكثر الضحى ثمان ركعات" وهو المرجح عند الشافعية والمالكية "واستبعده السبكي"؛ لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على أن الثمان أكثرها "و" لكن "وجه بأن الأصل في العبادة التوقف" بأن يقتصر على الوارد ولا يتجاوزه إلى غيره إلا بدليل "وهذا أكثر ما ورد من فعله عليه السلام" فلا يزاد عليه، وما ورد عن أم سلمة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الضحى ثنتي عشرة ركعة ليس فيه أن الجميع نوى به الضحى، فيجوز أن الزائد نفل مطلق كما مر "وقد ورد من فعله دون ذلك كحديث ابن أبي أوفى أنه عليه الصلاة والسلام صلى الضحى ركعتين أخرجه ابن عدي" ومثله في حديث عتبان، وحديث عائشة: كان يصلي أربعا، وحديث جابر: أنه صلى الضحى ست ركعات. "وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام مما فيه زيادة على ذلك كحديث أنس مرفوعا: "من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا في الجنة" من ذهب" كما هو بقية الحديث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 أخرجه الترمذي واستغربه وليس في إسناده من أطلق عليه الضعف. ومن ثم قال الروياني: ومن تبعه أكثرها ثنتا عشرة ركعة. فقال النووي في شرح المهذب: فيه حديث ضعيف، كأنه يشير إلى حديث أنس، لكن إذا ضم إليه حديث أبي الدرداء رفعه، وفيه "ومن صلى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في الجنة" رواه الطبراني. وحديث أبي ذر عن البزار، وفي إسناده ضعف أيضا، قوى وصلح للاحتجاج به. ونقل الترمذي عن أحمد: أن أصح شيء ورد في الباب حديث أم هانئ، وهو كما قال، ولهذا قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة، ففرق بين الأكثر والأفضل.   قال الزين العراقي: يحتمل أن الضحى مفعول "صلى"، وقوله: ثنتي عشرة، بدل، وأن يكون الضحى ظرفًا، أي من صلى وقت الضحى "أخرجه الترمذي" وابن ماجه "واستغربه" الترمذي "و" لكن "ليس في إسناده من أطلق عليه الضعف" فيصلح للحجة وإن كان غريبا؛ لأن الغرابة لا تستلزم الضعف. "ومن ثم قال الروياني ومن تبعه أكثرها اثنتا عشرة" ركعة. "فقال النووي في شرح المهذب" جواب قوله وأما ما ورد من قوله: "فيه حديث ضعيف" فلا يعارض ما دل عليه الحديث الصحيح أن أكثرها ثمان "كأنه" أي النووي "يشير إلى حديث أنس" المذكور "لكن إذا ضم إليه حديث أبي الدرداء رفعه" أي قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "من صلى الضحى ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعا كتب من القانتين، ومن صلى ستا كفي ذلك اليوم، ومن صلى ثمانيا كتب من العابدين". "وفيه" عقب هذا "ومن صلى ثنتي عشر ركعة بنى الله له بيتا في الجنة" رواه الطبراني". قال الحافظ: وفي إسناده ضعف أيضا "و" له شاهد وهو "حديث أبي ذر عن البزار، وفي إسناده ضعف أيضا قوي وصلح للاحتجاج به" جواب "إذا" في قوله لكن إذا ضم ولس جوابها قوله رفعه كما توهمه جاهل؛ لأنه في موضع الصفة الحديث، والجواب أنه وإن صلح للحجية لكن احتمال أن الضحى ظرف قدح في الاستدلال به فمن ثم لم يقل به الجمهور. "ونقل الترمذي عن أحمد إن أصح شيء" أي حديث "ورد في الباب" أي باب صلاة الضحى "حديث أم هانئ وهو كما قال"؛ لأنه متفق عليه. "ولهذا قال النووي في الروضة: أفضلها ثمان" لصحة حديثه "وأكثرها ثنتا عشرة" عملا بحديث أنس "ففرق بين الأكثر والأفضل". قال الحافظ: ولا يتصور ذلك إلا فيمن صلى الاثنتي عشرة ركعة بتسليمة واحدة فإنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 وأجاب القائلون بأنها لا تفعل إلا بسبب عن قول أبي هريرة المروي في البخاري أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث، لا أدعهن حتى أموت، "صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى" الحديث، بأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس   تقع نفلًا مطلقا عند من يقول: إن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات، فأما من فصل فإنه يكون صلى الضحى، وما زاد على الثمان يكون نفلا مطلقا، فتكون صلاة اثنتي عشرة في حقه أفضل من ثمان لكونه أتى بالأفضل، وزاد وقد ذهب قوم منهم أبو جعفر الطبري، وبه جزم الحليمي والروياني من الشافعية أنه لا حد لأكثرها. وروي عن إبراهيم النخعي قال: سأل رجل الأسود بن يزيد كم أصلي الضحى؟ قال: كم شئت. وحديث عائشة كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله، هذا الإطلاق قد يحمل على التقييد، فيؤكد أن أكثرها اثنتا عشرة. وذهب آخرون إلى أن أفضلها أربع ركعات، حكاه الحاكم في كتابه المفرد في صلاة الضحى عن جماعة من أئمة الحديث لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك كحديث عائشة المذكور. وحديث الترذي عن أبي الدرداء وأبي ذر مرفوعًا عن الله تعالى: "ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره". وحديث نعيم بن همار عند النسائي وأبي أمامة وعبد الله بن عمرو والنواس بن سمعان عند الطبري، وعقبة بن عامر وأبي مرة الطائفي عند أحمد؛ كلهم بنحوه. وحديث أبي موسى رفعه: "من صلى الضحى أربعا بنى الله له بيتا في الجنة"، أخرجه الطبراني في الأوسط. وحديث أبي أمامة مرفوعا: "أتدرون قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} " [النجم: 37] ، قال: "وفي عمل يومه بأربع ركعات الضحى"، أخرجه الحاكم. انتهى. "وأجاب القائلون: بأنها لا تفعل إلا بسبب" كشكر على فتح ونحوه "عن قول أبي هريرة المروي في البخاري" في الصلاة والصوم ومسلم والنسائي في الصلاة "أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم" صديقي الخالص الذي تخللت صحبته قلبي فصارت في خلاله، أي باطنه ولا يعارضه حديث: "لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر"؛ لأن الممتنع أن يتخذ هو -صلى الله عليه وسلم- خليلا لا أن غيره يتخذه خليلا، ولا يقال: المخاللة تكون من الجانبين؛ لأنا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعله أراد مجرد الصحبة أو المحبة "بثلاث لا أدعهن حتى أموت" يحتمل أنه من جملة الوصية، أي: وأوصاني أن لا أدعهن، ويحتمل أنه من أخبار الصحابي عن نفسه "صوم ثلاثة أيام" بالخفض، بدل من قوله: بثلاث، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف "من كل شهر" الذي يظهر لي أنها البيض، ويأتي تفسيرها في كتاب الصوم "وصلاة الضحى" زاد أحمد كل يوم، وللبخاري في الصوم، ومسلم هنا وركعتي الضحى. قال ابن دقيق العيد: ذكر الأقل الذي يوجد التأكيد بفعله، وفيه استحباب صلاة الضحى وإن أقلها ركعتان وعدم مواظبة النبي -صلى الله عليه وسلم- على فعلها لا ينافي ندبها؛ لأنه حاصل بدلالة القول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 الحديث بالليل على الصلاة، فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل، ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر الصحابة. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبي هريرة قد ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم، ولأبي ذر فيما رواه النسائي، قال: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منهما بانشراح، ولينجبر ما لعله يقع من نقص. ومن فوائد صلاة الضحى أنها تجزي عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان ثلثمائة وستون مفصلا، كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر، قال فيه: ويجزي من ذلك ركعتا الضحى.   وليس من شرط الحكم أن يتظافر عليه أدلة القول والفعل لكن ما واظب -صلى الله عليه وسلم- على فعله مرجح على ما لم يواظب عليه، قاله كله الحافظ "الحديث" تتمته: ونوم على وتر، وللبخاري في الصوم ومسلم هنا: وأن أوتر قبل أن أنام فيه، ندب تقديم الوتر على النوم، وذلك في حق من لم يثق بالاستيقاظ، ويتناول من يصلي بين النومين "بأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلا عن قيام الليل" فإنما هو لسبب "ولهذا أمره أن لا ينام إلا على وتر، ولم يأمر بذلك أبا بكر ولا عمر ولا سائر" أي باقي "الصحابة، انتهى" الجواب. "قال الحافظ ابن حجر: وهذه الوصية لأبي هريرة قد ورد مثلها لأبي الدرداء فيما رواه مسلم" قال: "أوصاني حبيبي -صلى الله عليه وسلم- بثلاث لا أدعهن ما عشت بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر" "ولأبي ذر فيما رواه النسائي قال" الحافظ: "والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منها بانشراح ولينجبر ما لعله يقع من نقص" لم يعلم به "ون فوائد صلاة الضحى أنها تجزي" بفتح التحتية من جزى وضمها من أجزأ، أي يكفي "عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان ثلاثمائة" كذا في النسخ، ولفظ الفتح وهي ثلاثمائة وهو واضح وعلى سقوطها فهو خبر مبتدأ محذوف، أي هي ويقع في بعض النسخ الثلاثمائة بزيادة أل، وفي جوازه كلام مذكور في النحو "وستون مفصلا كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يصبح على كل سلامى صدقة فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة". "قال فيه" عقب هذا "ويجزي" ضبطه المصنف بفتح الياء وضمها "من ذلك" أي عن تلك الصدقات "ركعتا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى. وحكى الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي في شرح الترمذي: أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى، فصار كثيرا من الناس يتركها أصلا لذلك، وليس لما قالوه أصل، بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير، لا سيما مع ما وقع في حديث أبي ذر واقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين على الثلاثة المذكورة في الحديث؛ لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية، ولم يكن المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم ذلك من الصدقة عن السلامى، كما في الحديث والله أعلم.   الضحى" لفظ مسلم ركعتان يركعهما من الضحى، أي لأن الصلاة عمل بجميع أعضاء البدن فإن صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل، وفيه بيان عظيم فضل صلاة الضحى وجسيم أجرها، وفيه أن العبد لم يوجب على الله شيئا من الثواب بعمله؛ لأن أعماله كلها لو قوبلت بإزاء ما وجب عليه من الشكر على عضو واحد لم تف به. "وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب، لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها في الفضل بين الرواتب والضحى" وهو المعتمد عندهم. "وحكى الحافظ أبو الفضل عبد الرحيم العراقي في شرح الترمذي أنه اشتهر بين العوام أن من صلى الضحى ثم قطعها يعمى فصار كثير من الناس يتركها أصلا لذلك" لخوف العمى إن قطعها "وليس لما قالوه أصل" في حديث ولا أثر "بل الظاهر أنه مما ألقاه الشيطان على ألسنة العوام ليحرمهم الخير الكثير" الحاصل لمن صلى الضحى "لا سيما مع ما وقع في حديث أبي ذر" من أجزائها عن صدقات المفاصل واستعمل لا سيما بلا واو على قول من أجازه مستدلا بقول الشاعر: ف بالعقود وبالأيمان لا سيما ... عقد وفاء به من أعظم القرب فخففها وحذف الواو وفي الغنى وغيره عن ثعلب من استعملها على خلاف قوله: ولا سيما يوم بدارة جلجل فهو مخطئ "واقتصر في الوصية للثلاثة المذكورين" أبي هريرة وأبي الدرداء وأبي ذر "على الثلاثة المذكورة في الحديث" الصوم والضحى والوتر قبل النوم؛ "لأن الصلاة والصيام أشرف العبادات البدنية ولم يكن" الثلاثة "المذكورون من أصحاب الأموال فكان يجزيهم ذلك من الصدقة" فحواه أن الغني لا يجزيه الضحى، وبه صرح بعضهم "عن السلامى" بضم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 وروى الحاكم من طريق أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي الضحى بسور منها: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ} ومناسبة ذلك ظاهرة جدا والله أعلم. تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن حجر: قول عائشة في الصحيح: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى" يدل على ضعف ما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه. وقد عدها جماعة من العلماء من خصائصه -صلى الله عليه وسلم. ولم يثبت ذلك في خبر صحيح. وقول الماوردي في "الحاوي": إنه -صلى الله عليه وسلم- واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات. يعكر عليه ما رواه مسلم في حديث أم هانئ: "أنه لم يصلها قبل ولا بعد" ولا يقال: إن نفي أم هانئ لذلك يلزم منه العدم؛ لأنا نقول: يحتاج من أثبته إلى   المهملة وفتح اللام والميم مخففا، جمع سلامية، وهي الأنامل من أنملة الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على سلاميات وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: هي كل عظم مجوف من صغار العظم، وقيل: هي في الأصل عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد، قاله المصنف في شرح مسلم "كما في الحديث" السابق. زاد الحافظ: وخصت الصلاة بشيئين؛ لأنها تقع ليلا ونهارا بخلاف الصيام "والله أعلم" بمراد رسوله. "ووى الحاكم من طريق أبي الخير" مرثد، براء ساكنة فمثلثة، ابن عبد الله المصري "عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسو الله -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي الضحى بسور منها {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ} ومناسبة ذلك ظاهرة جدا والله أعلم". "تنبيه قال شيخ الإسلام ابن حجر" الحافظ من العلماء "قول عائشة في الصحيح: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسبح سبحة الضحى يدل على ضعف ما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- أن صلاة الضحى كانت واجبة عليه و" لذلك "قد عدها جماعة من العلماء من خصائص ولم يثبت ذلك في خبر صحيح" وخبر: "ثلاث هن علي فرائض ولكم تطوع النحر والوتر وركعتا الضحى"، رواه البيهقي وضعفه هو وغيره ويؤخذ منه لو صح أن الواجب عليه أقله ركعتان "وقول الماوردي في الحاوي" كتاب له في الفقه "أنه -صلى الله عليه وسلم- واظب عليها بعد يوم الفتح إلى أن مات يعكر عليه ما رواه مسلم في حديث أم هانئ أنه لم يصلها قبل ولا بعد" لكن لفظ مسلم عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ في آخر الحديث قالت: فلم أره سبحها قبل ولا بعد فإنما نفت رؤيتها "ولا يقال أن نفي أم هانئ لذلك يلزم منه العدم" أي عدم صلاته إياها في غير يوم الفتح؛ "لأنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 دليل، ولو وجد لم يكن حجة؛ لأن عائشة ذكرت أنه كان إذا عمل عملا أثبته، فلا تستلزم المواظبة على هذا الوجوب عليه. انتهى. وقال ابن العربي في "عارضة الأحوذي": أنا أبو الحسن الأزدي أنا طاهر، أنا علي، قال: أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكري، قال: أنبأنا الحسين الختني، أخبرنا أبو غسان أنبأنا قيس عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كتب علي النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها". رواه الدارقطني.   نقول يحتاج من أثبته إلى دليل، ولو وجد لم يكن حجة؛ لأن عائشة ذكرت أنه" صلى الله عليه وسلم "كان إذا عمل عملا أثبته" أي واظب عليه "فلا تستلزم المواظبة" المداومة "على هذا" الذي قالته عائشة "الوجوب علي، انتهى" كلام الحافظ. "قال ابن العربي" الحافظ أبو بكر محمد "في عارضة الأحوذي" على كتاب الترمذي قال ابن خلكان: العارضة القدرة على الكلام والأحوذي -بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الواو وكسر المعجمة وتحتية مشددة- الخفيف في الشيء لحذقه. وقال الأصمعي: الأحوذي المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عليه منها شيء. "أنا" اختصار لا خبر "أبو الحسن" وفي نسخة أبو الخير "الأزدي": قال "أنا طاهر" قال "أنا علي". "قال: أخبرنا أبو العباس عبد الله بن عبد الرحمن العسكري قال: أنبأنا الحسين الختني" بضم المعجمة وفتح الفوقية خفيفة وبعضهم يشددها، نسبة إلى ختن من بلاد الترك. قال: "أخبرنا أبو غسان" قال: "أنبأنا قيس عن جابر" بن يزيد الجعفي ضعيف رافضي "عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتب" أي فرض "علي النحر ولم يكتب عليكم" أي لم يفرض فلا ينافي ندبه "وأمرت بصلاة الضحى" أمر إيجاب بدليل قوله "ولم تؤمروا بها" وجوبا بل استحبابا "ورواه الدارقطني" وأحمد وهو ضعيف من جميع طرقه، وصححه الحاكم فذهل، قاله الحافظ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 القسم الثاني: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل وأحكامها وفيه بابان: الباب الأول: في النوافل المقرونة بالأوقات وفيه فصلان: الفصل الأول: في رواتب الصلوات الخمس والجمعة: وفيه فروع سبعة: الفرع الأول: في أحاديث جامعة لرواتب مشتركة عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي قبل الظهر، ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي في بيته ركعتين. قال: وأخبرتني حفصة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح، وبدا له   "القسم الثاني في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل وأحكامها" كمواظبة وسر وجهر وتطويل وتخفيف. "وفيه بابان: الأول: في النوافل المقرونة بالأوقات، وفيه فصلان، الفصل الأول: في رواتب الصلوات الخمس والجمعة، وفيه فروع سبعة الأول: في أحاديث جامعة لرواتب مشتركة: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته" يرجع للمغرب. قال الحافظ: فيه أن نوافل الليل في البيت أفضل من المسجد بخلاف رواتب النهار. وحكى ذلك عن مالك والثوري وفيه نظر، والظاهر أنه لم يقع عن عمد وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يتشاغل بالناس في النهار غالبا وبالليل يكون في بيته انتهى. "وبعد صلاة العشاء ركعتين" زاد ابن وهب وجماعة من رواة الموطأ في بيته "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي في بيته ركعتين" لفظ البخاري كالموطأ فيصلي ركعتين. قال المصنف حتى ينصرف من المسجد إلى بيته فيصلي فيه ركعتين. انتهى. نعم رواه يحيى بن بكير في الموطأ في بيته، وإنما النزاع في عزوه للبخاري وإن كان المعنى في بيته. "قال" ابن عمر "وأخبرتني حفصة" أخته أم المؤمنين "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح وبدا له الصبح" أي ظهر واستنار "صلى ركعتين خفيفتين" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 الصبح صلى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة. رواه البخاري. فهذه عشر ركعات؛ لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر، إلا لعارض، بأن يصلي الجمعة وسنتها التي بعدها، ثم يتبين له فسادها فيصلي الظهر ويصلي بعدها سنتها كما نبه عليه الشيخ ولي الدين العراقي. واختلف في دلالة لفظ "كان" على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه، قال: وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم يقري الضيف، وصحح الإمام فخر الدين في "المحصول" أنها لا تقتضيه، لا لغة ولا عرفا، وقال النووي في شرح مسلم،   هما ركعتا الفجر "قبل أن تقام الصلاة، رواه البخاري" في الجمعة عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع بدون قوله: وأخبرتني حفصة.. إلخ، فرواه بعد ذلك في أبواب التطوع من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعد الظهر، وسجدتين بعد العشاء، وسجدتين بعد الجمعة، فأما المغرب والعشاء ففي بيته. وحدثتني حفصة أنه كان يصلي ركعتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل عليه فيها، ورواه أيضا من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح كانت ساعة لا يدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها. حدثتني حفصة فذكره باللفظ الذي ساقه المصنف فهو وإن صدق في العزو للبخاري لكنه يوهم أنه ساقه كما ذكره، وليس كذلك كما علم "فهذه عشر ركعات" ولم تكن اثنتي عشرة بركعتي الجمعة؛ "لأن الركعتين بعد الجمعة لا يجتمعان مع الركعتين بعد الظهر إلا لعارض بأن يصلي الجمعة وسنتها التي بعدها ثم يتبين له فسادها" بشيء من المفسدات "فيصلي الظهر ويصلي بعدها سنتها كما نبه عليه" أي على هذا التصوير "الشيخ ولي الدين العراقي" على أن اجتماعهما إنما هو في الصورة إذ المعدوم شرعا كالمعدوم حسا. "واختلف في دلالة لفظ كان على التكرار، وصحح ابن الحاجب أنها تقتضيه" أي تستلزمه فليست موضوعة للدلالة على التكرار، وإنما هي موضوعة لثبوت الفعل في الماضي. "قال" ابن الحاجب: "وهذا استفدناه من قولهم: كان حاتم" الطائي "يقري الضيف" فإن ذكر ذلك في مقام المدح يقتضي التكرار، إذ المرة الواحدة لا مدح فيها. "وصحح الإمام فخر الدين" الرازي "في المحصول" اسم كتاب له في الأصول "أنها لا تقتضيه لا لغة"؛ لأن مدلولها لغة إنما هو ثبوت الفعل في الماضي والحجة له حديث كان -صلى الله عليه وسلم- يبعث عبد الله بن رواحة يخرص تمر خيبر، وإنما بعثه مرة واحدة "ولا عرفا". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 إنه المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين، وذكر ابن دقيق العيد أنها تقضيه عرفا. فعلى هذا: ففي الحديث دلالة على تكرار فعل هذه النوافل من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان هذا دأبه وعادته. وعن عائشة رضي الله عنها: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي في بيته قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس الظهر، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، الحديث، وفي آخره: وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين. رواه مسلم. فهذه ثنتا عشرة ركعة. وعنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة. وفي رواية: ولم يكن يتركهما سرا ولا علانية، في سفر ولا حضر ركعتان قبل الصبح وركعتان بعد العصر. رواه البخاري ومسلم.   "وقال النووي في شرح مسلم: إنه المختار الذي عليه الأكثرون المحققون من الأصوليين، وذكر ابن دقيق العيد أنها تقضيه عرفا" وهو الراجح "فعلى هذا ففي الحديث دلالة على تكرار فعل هذه النوافل من النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه" أي الشأن "كان هذا دأبه وعادته" عطف تفسير. "وعن عائشة رضي الله عنها" قالت: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج" إلى المسجد "فيصلي بالناس الظهر ثم يدخل" بيته "فيصلي ركعتين" فيه "وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل" البيت "فيصلي ركعتين" راتبة المغرب "ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، الحديث" ذكر في صلاته بالليل "وفي آخره وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين" قبل الصبح "رواه مسلم" عن عبد الله بن شقيق عنها "فهذه ثنتا عشرة ركعة، وعنها" أي عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع" يترك "أربعا قبل الظهر" يأتي للمصنف قريبا الجمع بينه وبين حديث ابن عمر "وركعتين قبل الغداة" أي الصبح وهما ركعتا الفجر. "وفي رواية" عن عئشة "و" صلاتان "لم يكن يتركهما سرا ولا علانية في سفر ولا حضر" وأبدلت من صلاتان المقدر وهو ملفوظ به في مسلم قولها "ركعتان قبل الصبح". وفي رواية بين النداءين أي أذان الصبح وإقامته، وفي أخرى خفيفتان بين النداء والإقامة "وركعتان بعد العصر" هما الركعتان اللتان بعد الظهر كان شغل عنهما لما أتاه ناس من عبد القيس مسلمين فصلاهما بعد العصر، وكان إذا صلى صلاة ثبتها كما في الصحيح عن عائشة، يعني داوم عليها، وهذا من خصائصه "رواه البخاري ومسلم" أي روايا حديث عائشة المذكور الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 الفرع الثاني: في ركعتي الفجر قالت عائشة: لم يكن صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. ولمسلم: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعها". وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير الفجر ويخففهما. رواه الشيخان وهذا لفظ النسائي. واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح في أول   بروايتيه إلا أن لفظ البخاري: ركعتان لم يكن يدعهما، أي يتركهما، ولفظ مسلم في آخر حديث بلفظ وصلاتان.. إلخ، وهما المراد بقولها: ركعتان؛ لأنها فسرتهما بعده بأربع "الثاني في ركعتي الفجر قالت عائشة: لم يكن صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا" أي تفقدا وتحفظا. وعند ابن خزيمة أشد معاهدة "منه على ركعتي الفجر". وفي رواية لمسلم: ما رأيته إلى شيء من الخير أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. زاد ابن خزيمة ولا إلى غنيمة "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي" وفيه دليل على عظم فضلهما. قال الطيبي على متعلقه بتعاهد، ويجوز تقديم معمول التمييز عليه والتعهد المحافظة على الشيء ورعاية حرمته، قال: والظاهر أن خبر لم يكن على شيء، أي لم يكن يتعاهد وأشد تعاهدا حال أو مفعول مطلق على تأويل أن يكون التعاهد متعاهدًا كقوله تعالى: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} [النساء: 77] ، أو أشد خشية على الوجهين. "ولمسلم" عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في شأن الركعتين عند طلوع الفجر: "لهما أحب إلي من الدنيا جميعها" وفي مسلم أيضا عن عائشة مرفوعا: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"، أي متاعها الصرف فلا يرد أن من جملة متاعها الفجر، فإن قيل: لا خصوصية للفجر بل تسبيحة أو تكبيرة خير فضلا عن ركعين نافلة فضلا عن ركعتي الفجر، أجاب الأبي بأن الخصوصية مزية النص عليهما دون غيرهما، فإنه يدل على تأكيدهما وكونهما خيرا من الدنيا لا يقتضي ذم الدنيا. انتهى. وقال الطيبي: إن حملت الدنيا على أعراضها وزهرتها فالخير، أما على زعم من يرى فيها خيرا ويكون من باب، أي الفريقين خير مقاما، وإن حمل على الإنفاق في سبيل الله فتكون هاتان الركعتان أكثر ثوابا. "وكان يصليهما إذا سكت المؤذن بعد أن يستنير" أي يضيء ويطلع "الفجر ويخففهما" زادت في رواية للشيخين حتى إني أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ "رواه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 الوقت، وبه جزم القرطبي، وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين، كما كان يصنع في صلاة الليل كما تقدم، ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل بنشاط واستعداد تام. وقد ذهب بعضهم إلى إطالة القراءة فيهما، وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبي، وأورد البيهقي فيه حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفي سنده راو لم يسم، وخص بعضهم ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل، فيستدركها في ركعتي الفجر، وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن البصري. وكان كثيرًا ما يقرأ في الركعة الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآية التي في البقرة، وفي الآخرة منهما {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . رواه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية ابن عباس.   الشيخان وهذا لفظ النسائي" وأما لفظ الشيخين فقريب منه. "واختلف في حكمة تخفيفهما فقيل: ليبادر إلى صلاة الصبح في أول الوقت وبه جزم القرطبي" في المفهم "وقيل: ليستفتح صلاة النهار بركعتين خفيفتين كما كان يصنع في صلاة الليل كما تقدم ليدخل في الفرض أو ما شابهه في الفضل" في الجملة وإلا فثواب الفرض يزيد على النفل بسبعين درجة، ويعاقب على ترك الفرض بخلاف النفل "بنشاط واستعداد تام" إذ لو طولهما لربما نقص تمام ذلك، وكان المراد التشريع إذ هو لا يسأم من العبادة ولا يأتي بها بلا نشاط. "وقد ذهب بعضهم إلى" استحباب "إطالة القراءة فيهما وهو قول أكثر الحنفية، ونقل عن الشعبي" من التابعين "وأورد البيهقي فيه" أي تطويل القراءة "حديثا مرفوعا من مرسل سعيد بن جبير، وفي سنده راو لم يسم" فهو ضعيف مع إرساله فلا حجة فيه خصوصا مع معارضة الحديث الصحيح. "وخص بعضهم ذلك بمن فاته شيء من قراءته في صلاة الليل فيستدركها في ركعتي الفجر" زاد في الفتح: ونقل ذلك عن أبي حنيفة "وأخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن الحسن البصري" وهو وجيه لولا معارضته المتفق على صحته "وكان كثيرا ما يقرأ في الركعة الأولى منهما {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية التي في البقرة وفي" الركعة "الآخرة منهما: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله: {اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] وخص هاتين الآيتين لما فيهما من ذكر الإيمان وإخلاص التوحيد ليفتتح نهاره بذلك "رواه مسلم وأبو داود والنسائي من رواية" أي حديث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 وفي رواية أبي داود، من حديث أبي هريرة {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} في الركعة الأولى، وبهذه الآية {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] أو {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] قال أبو داود: شك الراوي. وقال أبو هريرة: قرأ في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وقد روى ابن ماجه بإسناد قوي، عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت:   "ابن عباس" أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما قولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} التي في سورة البقرة، وفي الآخرة منهما: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] هذا لفظ مسلم، وفي لفظ له كان يقرأ في ركعتي الفجر: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والتي في آل عمران: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] ، فلم يقل في رواية منهما كان كثيرا ما يقرأ كما فعل المصنف. "وفي رواية أبي داود من حديث هريرة" كان صلى الله عليه وسلم يقرأ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [المائدة: 59] "في الركعة الأولى، وبهذه الآية: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق "أو: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} بالهدى {بَشِيرًا} من أجاب إليه بالجنة {وَنَذِيرًا} من لم يجب إليه بالنار {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] النار، أي الكفار لم لم يؤمنوا إنما عليك البلاغ: وفي قراءة بجزم تسأل نهيا. "قال أبو داود: شك الراوي" ولولا حرصه بذلك، لكان الظاهر أن أو للتنويع لا للشك، أي أنه تارة يقرأ بهذه وأخرى بهذه، والمراد أنه يقرأ بإحدى هاتين في الركعة الثانية فوافق أبو هريرة ابن عباس فيما كان يقرأه في الأولى وخالفه فيما يقرؤه في الثانية بحسب ما سمعه كل منهما، وليس المعنى أنه يقرأ إحدى الآيتين مع آية: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] في ركعة؛ لأنه يدفعه تقييده بقوله في الأولى، فأفاد أن إحدى الآيتين في الآخرة. "وقال أبو هريرة: قرأ" رسول الله صلى الله عليه وسلم "في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما فيهما من التوحيد ففي الأولى نفي الشريك، وفي الثانية إثبات الإلهية "رواه مسلم وأبو داود والترمذي" وهذه الأحاديث تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما تارة بهاتين السورتين وتارة بالآي السابقة. "وقد روى ابن ماجه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر، يقول: نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . ولابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين عن عائشة: كان يقرأ فيهما بهما. وللترمذي والنسائي من حديث ابن عمر: رمقت النبي -صلى الله عليه وسلم- شهرا فكان يقرأ بهما. وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه، لاحتمال أن يكون ذلك عرف بقراءته بعض السورة، ويدل على ذلك أن في رواية ابن سيرين المذكورة: "يسر فيها القراءة" وصححه ابن عبد البر. واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة، على أنه لا تتعين الفاتحة؛ لأنه لم يذكرها مع سورتي الإخلاص. وأجيب: بأنه ترك ذكر الفاتحة لوضوح الأمر   بإسناد قوي عن عبد الله بن شقيق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر" أي صلاة الصبح وهما ركعتا الفجر "ويقول: نعم السورتان يقرأ بهما في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} "، لما اشتملتا عليه من التوحيد كما مر بيانه لمصنف فيفتتح بهما صلاة النهار. "ولابن أبي شيبة من طريق ابن سيرين" محمد "عن عائشة" كان صلى الله عليه وسلم "يقرأ فيهما" أي الركعتين "بهما" أي السورتين، ولفظة كان تدل على الكثرة فهو أقوى من قول أبي هريرة قرأ بهما؛ لأن المحقق منه مرة "وللترمذي والنسائي من حديث ابن عمر: رمقت" أي نظرت "النبي صلى الله عليه وسلم" نظر تأمل لا علم فعله في صلاة الفجر "شهرا" وفي رواية: أربعين صباحا، وأخرى خمسا وعشرين مرة "فكان يقرأ بهما" زاد في الفتح وللترمذي عن ابن مسعود مثله بغير تقييد، أي بقوله: شهرًا، وكذا للبزار عن أنس، ولابن حبان عن جابر ما يدل على الترغيب في قراءتهما فيهما. "وقد استدل بعضهم بهذا على الجهر بالقراءة في ركعتي الفجر، ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ذلك عرف" للراوي "بقراءته بعض السورة" كما تقدم في صفة الصلاة من حديث أبي قتادة في صلاة الظهر يسمعنا الآية أحيانا "ويدل على ذلك أن في رواية ابن سيرين المذكورة" عن عائشة "يسر فيها القراءة، وصححه ابن عبد البر" وهو نص في الإسرار فيقدم على المحتمل. "واستدل بعضهم أيضا بهذه الأحاديث المذكورة على أنه لا تتعين" سورة "الفاتحة" أي: قراءتها في الصلاة؛ "لأنه لم يذكرها مع سورتي الإخلاص، وأجيب بأنه ترك ذكر الفاتحة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 فيها. انتهى. وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما؛ لأنه أبلغ في الراحة، بخلاف اليمن فيكون القلب معلقا فلا يستغرق، وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى. وأما ما روي أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتي الفجر ثم اضطجع فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن أفصل بين صلاتي فقال له: وأي فصل أفضل من السلام، قال: فإنها سنة، قال: بل بدعة. رواه ابن الأثير في جامعه عن رزين. وكذا ما روي من إنكار ابن مسعود، ومن قول إبراهيم النخعي: إنها ضجعة الشيطان، كما أخرجهما ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر   لوضوح الأمر فيها. انتهى". ويدل عليه أن قول عائشة: لا أدري أقرأ الفاتحة أو لا، يدل على أنه كان مقررًا عندهم أنه لا بد من قراءة الفاتحة "وكان عليه الصلاة والسلام إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع" أي: نام "على شقه الأيمن، رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب التيمن، وقد قيل: الحكمة فيه أن القلب من جهة اليسار فلو اضطجع عليه لاستغرق نوما؛ لأنه أبلغ في الراحة بخلاف اليمين، فيكون القلب معلقا فلا يستغرق" إذا نام عليه "وهذا إنما يصح بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى"؛ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه. "وأما ما روي أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتي الفجر ثم اضطجع:" نام "فقال: ما حملك على ما صنعت؟ " بفتح تاء الخطاب "فقال: أردت" بضم تاء المتكلم "أن أفصل بين صلاتي" بفتح الفوقية وشد الياء تثنية، أي صلاة الفجر والصبح "فقال له: وأي فصل أفضل من السلام؟، قال:" الرجل "فإنها" أي الضجعة "سنة، قال" ابن عمر: "بل بدعة، رواه ابن الأثير" المبارك "في جامعه" أي كتابه جامع الأصول "عن رزين" بن معاوية السرقسطي في كتابه تجريد الصحاح "وكذا ما روي من إنكار ابن مسعود" للاضطجاع "ومن قول إبراهيم النخعي: إنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 بفعله. وأرجح الأقوال مشروعية الفصل، لكن لم يداوم صلى الله عليه وسلم عليه، ولذا احتج الأئمة على عدم الوجوب، وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبي داود وغيره على الاستحباب. وفائدة ذلك: النشاط والراحة لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد. وبه جزم ابن العربي. ويشهد لهذا ما أخرجه عبد الرزاق أن عائشة كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسنة، ولكنه كان يدأب ليلته فيستريح. وفي إسناده راو لم يسم. وقيل: فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص. ومن ثم قال الشافعي: إن السنة تتأدى بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره، حكاه البيهقي.   ضجعة الشيطان" بكسر المعجمة؛ لأن المراد الهيئة وبفتحها على إرادة المرة، كذا في الفتح "كما أخرجهما" أي أخرجه عنهما "ابن أبي شيبة، فهو محمول على أنه لم يبلغهم الأمر بفعله" أي: الاضطجاع "وأرجح الأقوال مشروعية الفصل" أي الاضطجاع له "لكن لم يداوم عليه الصلاة والسلام عليه، ولذا احتج" به "الأئمة" القائلون بمشروعيته "على عدم الوجوب وحملوا الأمر الوارد بذلك عند أبي داود وغيره" الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة مرفوعا: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على جنبه الأيمن "على الاستحباب" إذ لو وجب لداوم عليه. قال الترمذي: صحيح غريب، وقال في الرياض: أسانيده صحيحة، وقال ابن القيم: هو باطل، إنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر. "وفائدة ذلك النشاط والراحة لصلاة الصبح، وعلى هذا فلا يستحب ذلك إلا للمتهجد، وبه جزم ابن العربي" محمد أبو بكر الحافظ "ويشهد لهذا" الأولى له، وعبر به الفتح "ما أخرجه عبد الرزاق: أن عائشة كانت تقول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يضطجع لسنة" أي لفعل سنة. وفي نسخة: لآلام، والمعنى عليها، أي ليجعل الاضطجاع سنة "ولكنه كان يدأب" أي يجتهد ويجد في عمله "ليلته فيستريح" من التعب ليقوم للصبح بنشاط. "وفي إسناده راو لم يسم، وقيل: إن فائدتها الفصل بين ركعتي الفجر وصلاة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 وقال النووي: المختار أنها سنة لظاهر حديث أبي هريرة، وقد قال أبو هريرة راوي الحديث: إن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي. وأفرط ابن حزم فقال: يجب على كل أحد، وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرده عليه العلماء بعده، حتى طعن ابن تيمية في صحة الحديث لتفرد عبد الواحد بن زياد به، وفي حفظه مقال، والحق: أنه تقوم به الحجة. وذهب بعض السلف إلى استحبابها في البيت دون المسجد، وهو محكي عن ابن عمر. وقواه بعض شيوخنا، بأنه لم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فعله في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب من يفعله في المسجد، أخرجه ابن أبي شيبة. وقال عليه الصلاة والسلام: "من لم يصل ركعتي الفجر، فليصلهما بعدما تطلع الشمس". رواه الترمذي من رواية أبي هريرة.   الصبح، وعلى هذا فلا اختصاص" لذلك بالمتهجد "ومن ثم قال الشافعي: تتأدى السنة بكل ما يحصل به الفصل من مشي وكلام وغيره حكاه البيهقي" عنه. "وقال النووي المختار: أنها" أي الضجعة بخصوصها "سنة لظاهر حديث أبي هريرة:" إذا صلى أحدكم الفجر فليضطجع. "وقد قال أبو هريرة راوي الحديث" المذكور؛ "أن الفصل بالمشي إلى المسجد لا يكفي" فمقتضاه أنه فهم أن السنة الضجعة بخصوصها، ولفهمه مزية "وأفرط" مجاوز الحد "ابن حزم، فقال: يجب" الاضطجاع "على كل أحد وجعله شرطا لصحة صلاة الصبح، فرده عليه العلماء بعده"؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليها فكيف تكون واجبة فضلا عن كونها شرطا لصحة الصبح "حتى طعن ابن تيمية في صحة الحديث" أي حديث أبي هريرة الذي فيه الأمر بها "لتفرد عبد الواحد بن زياد" العبدي مولاهم البصري "به" أي برواية هذا الحديث، بلفظ الأمر "وفي حفظه مقال" وإن كان ثقة، وروى له الستة، فلعله التبس عليه النعل الوارد في الصحيحين، فنقله بصيغة الأمر "والحق أنه تقوم به الحجة" لكونه ثقة وإن تفرد به. "وذهب بعض السلف إلى استحبابها في البيت دون المسجد وهو محكي عن ابن عمر، وقواه بعض شيوخنا" هذا من الفتح لا من المصنف، فالمراد بعض شيوخ الحافظ؛ "بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله" أي: الاضطجاع "في المسجد، وصح عن ابن عمر أنه كان يحصب:" يرمي بالحصباء "من يفعله في المسجد". "أخرجه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم، وهو أبو شيبة "وقال عليه الصلاة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 الفرع الثالث: في راتبة الظهر عن ابن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها. رواه البخاري ومسلم والترمذي. وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام لا يدع أربعا قبل الظهر، وركعتين قبل صلاة الغداة. رواه البخاري أيضا. فإما أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعا، وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين، وهذا أظهر. وإما أن يقال: كان يفعل هذا وهذا، فحكى كل من عائشة وابن عمر ما شاهده، والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما. وقال أبو جعفر الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله، والركعتان في   والسلام: "من لم يصل ركعتي الفجر" في وقتها قبل صلاة الصبح "فليصلهما بعدما تطلع الشمس" أي: وترتفع، كما دل عليه أخبار أخر "رواه الترمذي" وأحمد "من رواية أبي هريرة" وصححه الحاكم وأقره الذهبي. "الثالث: في راتبة الظهر، عن ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها" المراد من المعية أنهما اشتركا في أن كلا منهما صلاها لا التجميع، فلا حجة فيه من قال: يجمع في رواتب الفرائض، وفي لفظ للشيخين عن ابن عمر: حفظت من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر ركعات، فذكرهما كما مر "رواه البخاري ومسلم والترمذي" بزياد تقدمت قريبًا. "وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام" لفظها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان "لا يدع:" لا يترك "أربعا قبل" صلاة "الظهر وركعتين قبل صلاة الغداة" أي: الصبح، يعني ركعتي الفجر "رواه البخاري أيضا" وأبو داود والنسائي "فإما أن يقال" في الجمع بينه وبين حديث ابن عمر؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعا" وهو ما أخبرت به عائشة؛ لأنها في البيت "وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين" تخفيفا على الأمة وهو أخبر به ابن عمر؛ لأنه يكون معه في المسجد "وهذا أظهر" من قول من قال: يحتمل أنه يصلي في بيته ركعتين، ثم يخرج إلى المسجد فيصلي ركعتين، فرأى ابن عمر ما في المسجد دون ما في بيته، واطلعت عائشة على الأمرين وإنما كان أظهر لا رواه أحمد وأبو داود عن عائشة: كان يصلي في بيته قبل الظهر أربعا ثم يخرج كما في الفتح. "وإما أن يقال: كان يفعل هذا" تارة "وهذا" أخرى "فحكى كل من عائشة وابن عمر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 قليلها. انتهى. وقد يقال: إن الأربع التي قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة، كان يصليها بعد الزوال. وروى البزار من حديث ثوبان: إنه صلى الله عليه وسلم كان يستحب أن يصلي بعد نصف النهار، فقالت عائشة: يا رسول الله، أراك تستحب الصلاة هذه الساعة، فقال: تفتح فيها أبواب السماء، وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة، وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وعن عبد الله بن السائب: كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل الظهر، وقال: إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح. رواه الترمذي. وروى الترمذي أيضا حديث "أربع قبل الظهر وبعد الزوال تحتسب بمثلهن في السحر وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى تلك الساعة" ثم قرأ {يَتَفَيَّأُ   ما شاهده والحديثان صحيحان لا مطعن في واحد منهما". "وقال أبو جعفر" محمد بن جرير "الطبري: الأربع كانت في كثير من أحواله والركعتان في قليلها. انتهى". "وقد يقال: إن الأربع التي قبل الظهر لم تكن سنة الظهر، بل هي صلاة مستقلة كان يصليها بعد الزوال، و" دليل ذلك أنه قد "روى البزار من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم كان يستحب" السين لمجرد التأكيد، أي يحب "أن يصلي بعد نصف النهار، فقال عائشة: يا رسول الله أراك تستحب الصلاة هذه الساعة؟ فقال:" لأنها ساعة "تفتح فيها أبواب السماء وينظر الله تعالى إلى خلقه بالرحمة وهي صلاة كان يحافظ عليها آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى" أي: يحافظون على التنفل فيها وإن لم تجب عليهم، كما أن المصطفى كان يستحبها ولم تجب عليه "وعن عبد الله بن السائب" القرشي المخزومي المكي، له ولأبيه صحبة وكان قارئ أهل مكة، مات سنة بضع وستين "كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعا بعد أن تزول الشمس قبل" صلاة "الظهر، وقال: "إنها ساعة تفتح فيها" وفي نسخ: لها، أي لأجلها "أبواب السماء" حقيقة تبشيرا بقبول الأعمال ينئذ، وقيل: هو كناية عن القبول ورجح الأول "وأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح" زائد على الفرض "رواه الترمذي" ورواه ابن ماجه والترمذي أيضا، والنسائي بنحوه عن أبي أيوب. "وروى الترمذي أيضا حديث" عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع قبل الظهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48] . فهذه -والله أعلم- هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن. وأما سنة الظهر فالركعتان التي قال ابن عمر. ويوضح هذا أن سائر الصلوات سنتها ركعتان، وعلى هذا فتكون هذه الأربع وردا مستقلا، سببه انتصاف النهار وزوال الشمس. وسر هذا -والله أعلم- أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل، وأبواب السماء تفتح بعد الزوال، ويحصل النزول الإلهي بعد انتصاف الليل، فهما وقتا قرب رحمة، هذا تفتح فيه أبواب السماء، وهذا ينزل فيه الرب تبارك وتعالى عن حركة الأجسام. الفرع الرابع: في سنة العصر عن علي: قال كان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر ركعتين. رواه أبو داود. وعن علي أيضًا. كان صلى الله عليه وسلم- يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمن والمؤمنين. رواه الترمذي.   وبعد الزوال تحتسب" أي تعد "بمثلهن" فيقال: ثواب هذه يعدل ثوابهن "في السحر" قبيل الصبح أو سدس الليل الأخير كما مر "وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى في تلك الساعة، ثم قرأ تنفيأ:" تتميل {ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} : جمع شمال، أي جانبها {سُجَّدًا لِلَّهِ} حال {وَهُمْ دَاخِرُونَ} صاغرون "فهذه والله أعلم هي الأربع التي أرادت عائشة أنه كان لا يدعهن، وأما سنة الظهر فالركعتان التي قال ابن عمر" في حديثه السابق "ويوضح هذا" الذي قلته أنها ليست سنة الظهر؛ "أن سائر الصلوات سننها ركعتان" فقط "وعلى هذا فتكون هذه الأربع" وفي نسخة: الأربعة والأولى أحسن "وردا مستقلا سببه انتصاف النهار وزوال الشمس، وسر هذا والله أعلم" بحقية حكمة ذلك "أن انتصاف النهار مقابل لانتصاف الليل وأبواب السماء تفتح بعد الزوال" كما مر في الحديث "ويحصل النزول الإلهي" النظر بالرحمة "بعد الانتصاف" لليل "هما وقتا قرب رحمة، هذا" أي: بعد الزوال" تفتح فيه أبواب السماء، وهذا" أي: بعد انتصاف الليل "ينزل فيه الرب" تنزلا معنويا "تبارك وتعالى عن حركة الأجسام" التي هي الانتقال من مكان عال إلى آخر سافل. "الرابع: في سنة العصر، عن علي قال: كان صلى الله عليه وسلم قبل العصر ركعتين" تارة وأخرى أربعا، كما في الحديث بعده "رواه أبو داود" بإسناد صحيح "وعن علي أيضا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 وروى الترمذي مرفوعا أيضا حديث: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا". عن عائشة: ما كان صلى الله عليه وسلم يأتيني في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين، وفي رواية: ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط. رواه البخاري ومسلم. ولمسلم: أن أبا سلمة سألها عن السجدتين اللتين كان يصليهما بعد العصر فقالت: كان يصليهما قبل العصر، ثم إنه شغل عنهما أو نسيهما فصلاهما بعد العصر، ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها، تعني داوم عليها. ولأبي داود، قالت: كان صلى الله عليه وسلم يصلي بعد العصر ركعتين وينهى عنهما، ويواصل وينهى عن الوصال.   كان صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين، رواه الترمذي" والنسائي. "وروى الترمذي" وحسنه مرفوعا أيضا، وأحمد وأبو داود، وصححه ابن حبان حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعا" خبر أو دعاء، فينبغي فعلهما، فإن خبره حق ودعاؤه مستجاب. وروى أبو يعلى عن علي قال: ألا يقوم أحدكم فيصلي أربع ركعات قبل العصر، فيقول فيهن ما كان صلى الله عليه وسلم يقول: "تم نورك فهديت، فلك الحمد عظم حلمك فعفوت، فلك الحمد انبسطت يدك فأعطيت، فلك الحمد ربنا وجهك أكرم الوجوه وجاهك أعظم الجاه وعطيتك أفضل العطية وأهنؤها، تطاع ربنا فتشكر -أي تثيب- وتعصى ربنا فتغفر، تجيب المضطر وتكشف الضر وتشفي السقيم، وتغفر الذنب وتقبل التوبة، ولا يجزي بآلائك أحد ولا يبلغ موجبك -أي ما يجب لك من الثناء- قول قائل". "وعن عائشة: م كان صلى الله عليه وسلم يأتيني في يوم بعد" صلاة "العصر إلا صلى ركعتين، وفي رواية" عن عروة عن عائشة أيضا: "ما ترك" صلى الله عليه وسلم "ركعتين بعد العصر عندي قط، رواه" أي المذكور من الروايتين "البخاري ومسلم" فأخرجا الأولى من الأسود ومسروق، والثانية عن عروة "ولمسلم؛ أن أبا سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف "سألها" أي: عائشة "عن السجدتين" أي: الركعتين بأربع سجداتها، فهو من تسمية الكل باسم البعض مجاز "اللتين كان يصليهما بعد العصر" ما حكمهما؟ "فقالت: كان يصليهما قبل العصر ثم إنه شغل عنهما" لما أتاه وفد عبد القيس "أو نسيهما فصلاهما بعد العصر ثم أثبتهما، وكان إذا صلى صلاة أثبتها" كأنه عطف علة على معلول، أي: لأنه.. إلخ "تعني" عائشة بقبولها: أثبتها "داوم عليها" كما فسره إسماعيل بن جعفر راوي هذا الحديث عن محمد بن أبي حرملة عن أبي سلمة في مسلم "ولأبي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 وقال ابن عباس: إنما صلى عليه الصلاة والسلام ركعتين بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين اللتين بعد الظهر فقضاهما بعد العصر، ثم لم يعد لهما. رواه الترمذي. وقالت أم سلمة: سمعته صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم سألته عنهما فقال: "إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام، فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان"، الحديث. وفيه: أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما. قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته، وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي فخاص به عليه السلام قال: وقد عد   داود" عن عائشة "قالت: كان" صلى الله عليه وسلم "يصلي بعد العصر ركعتين وينهى عنهما" غيره؛ لأنهما من خصائصه "ويواصل" في الصيام "وينهى عن الوصال؛" لأنه من خصائصه. "وقال ابن عباس: إنما صلى عليه الصلاة والسلام ركعتين بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه عن الركعتين" متعلق باشتغل، ولفظ الترمذي: لأنه أتاه مال فشغله عن الركعتين "اللتين بعد الظهر، فقضاهما بعد العصر ثم لم يعد لهما" أي: لصلاتهما "رواه الترمذي" من طريق جرير عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الترمذي: حديث حسن. "وقالت أم سلمة" هند أم المؤمنين: "سمعته صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر" أي: بعدما صلاه ودخل بيتها "ثم سألته عنهما، فقال:" "يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر "إنه أتاني أناس"" وفي رواية: "ناس" "من عبد القيس بالإسلام" من قومهم كما في الصحيحين "فشغلوني عن الركعتين بعد الظهر، فهما هاتان" الركعتان اللتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلت عنهما فصليتهما الآن، وكان من عادته إذا فعل طاعة لا يقطعها أبدا "الحديث" في الصحيحين مطولا "وفيه أن ابن عباس قال: كنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عنهما" أي: عن الركعتين، وفي رواية عنها بالإفراد، أي: عن الصلاة، أي لأجلها. وفي أخرى عنه، أي: عن الفعل وهو بالضاد المعجمة والموحدة من الضرب في البخاري وأكثر رواة مسلم، ولبعضهم أصرف -بصلة مهملة- وفاء، ومعناه أمنع ولا مناة بين الروايتين، فكان يضربهم في وقت ويصرفهم في آخر بلا ضرب، أو يضرب من بلغه النهي ويصرف من لم يبلغه. "قال ابن القيم: قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي عام له ولأمته" عند من قال بقضائها "وأما المداومة على تلك الركعتين في وقت النهي، فخاص به عليه السلام" خلافًا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 هذا من خصائصه. انتهى. والدليل عليه رواية عائشة: كان يصلي ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال. لكن قال البيهقي: الذي اختص به صلى الله عليه وسلم المداومة على ذلك، لا أصل القضاء. وأما رواية ابن عباس عند الترمذي: أنه إنما صلاهما بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه. فهو من رواية جرير عن عطاء، وقد سمع من عطاء بعد اختلاطه، وإن صح فهو شاهد لحديث أم سلمة، لكن ظاهر قوله: "ثم لم يعد" لهما معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب، فيحمل النفي على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك، والمثبت مقدم على النافي. وكذا ما رواه النسائي من طريق أبي سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة، الحديث، وفي رواية له عنها: لم   لمن تمسك به على جواز التنفل بعد العصر مطلقا لم يقصد الصلاة عند غروب الشمس "قال: وقد عد هذا من خصائصه. انتهى". "والدليل عليه" أي: على عده من خصائصه "رواية عائشة" السابقة آنفا: "كان يصلي ركعتين بعد العصر وينهى عنهما ويواصل وينهى عن الوصال، لكن قال البيهقي" مثل ما قال ابن القيم: "الذي اختص به صلى الله عليه وسلم المداومة على ذلك لا أصل القضاء" فليس من خصائصه عند قوم، وعند آخرين ومنهم مالك من خصائصه أيضا. "وأما رواية ابن عباس عند الترمذي" السابقة قريبا؛ "أنه إنما صلاهما بعد العصر؛ لأنه اشتغل بقسمة مال أتاه، فهو" بالتذكير باعتبار المعنى، إذ معنى رواية حديث "من رواية جرير عن عطاء" ابن السائب "وقد سمع" جرير "من عطاء بعد اختلاطه" فلا يحتج بروايته عنه لاحتمال أنها مما سمعه بعد الاختلاط "وإن صح" في نفس الأمر "فهو شاهد لحديث أم سلمة" الظاهر في أنه لم يداوم عليهما وإنما صلاهما مرة "لكن ظاهر قوله" أي: ابن عباس "ثم لم يعد لهما معارض لحديث عائشة المذكور في هذا الباب" السابق قريبا "فيحمل النفي" في حديث ابن عباس "على علم الراوي، فإنه لم يطلع على ذلك" كأنه قال: ثم لم أعلم أنه عاد لهما "والمثبت" وهو هنا عائشة "مقدم على النافي" وهو ابن عباس هنا على القاعدة؛ لأن المثبت معه زيادة علم، "وكذا ما رواه النسائي من طريق أبي سلمة" بن عبد الرحمن "عن أم سلمة؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 أره يصليهما قبل ولا بعد. فيجمع بين الحديثين بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليهما إلا في بيته، فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة. ويشير إلى ذلك قول عائشة في رواية: ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل على أمته. ومراد عائشة بقولها: ما كان في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين، من الوقت الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر فصلاهما. ولم ترد أنه كان يصلي بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم. الفرع الخامس: في راتبة المغرب عن ابن مسعود قال: ما أحصي ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ   أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة، الحديث" ذكر في بقيته سؤالها له عن ذلك وجوابه. "وفي رواية له" أي: النسائي "وعنها" أي: أم سلمة "لم أره يصليهما قبل ولا بعد، فيجمع بين الحديثين" حديثها؛ وحديث عائشة "بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصليهما إلا في بيته" الذي لغير عائشة "فلذلك لم يره ابن عباس ولا أم سلمة"؛ لأنه لم يصلهما في بيتها إلا رمة واحدة "ويشير إلى ذلك قول عائشة في رواية" عند البخاري وغيره، قال: والذي ذهب ما تركهما حتى لقي الله، وما لقي الله حتى ثقل عن الصلاة، وكان يصلي كثيرا من صلاته قاعدا، يعني الركعتين بعد العصر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما "ولا يصليهما في المسجد مخافة أن يثقل" بضم التحتية وكسر القاف المشددة. وفي رواية: يثقل بفتح التحتية وسكون المثلثة وضم القاف، أي لأجل مخافة التثقيل "على أمته" وكان يحب ما يخفف عنهم، هذا بقية الحديث ويخفف، بضم أوله كسر الفاء الثقيلة مبني للفاعل. وفي رواية: ما خفف عنهم بصيغة الماضي "ومراد عائشة بقولها: ما كان في يومي بعد العصر إلا صلى ركعتين" وكذا قولها: لم يكن يدعها كما في الفتح "من الوقت" متعلق خبر مراد المحذوف، أي: الصلاة من الوقت ومن بمعنى البدل، أي: بدله، أو بمعنى في أي الوقت المماثل للوقت "الذي شغل عن الركعتين بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، ولم ترد أنه كان يصلي بعد العصر من أول ما فرضت الصلوات مثلا إلى آخر عمره، والله أعلم؛" لأنه إن داوم عليهما بعد مجيء عبد القيس لا قبله. "الخامس: في راتبة المغرب: عن ابن مسعود، قال: ما أحصي" ما أعد "ما سمعت" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 أَحَدٌ} رواه الترمذي. وعن ابن عباس: قال كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد، رواه أبو داود. وكان أصحابه عليه الصلاة والسلام يصلون ركعتين قبل المغرب قبل أن يخرج إليهم عليه السلام. رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أنس. وفي رواية أبي داود، قال أنس: رآنا -صلى الله عليه وسلم- فلم يأمرنا ولم ينهنا. وقال عقبة: كنا نفعله على عهده، صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري ومسلم.   أي: سماعي "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل" صلاة "الفجر" أي: الصبح، وهما ركعتا الفجر "بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] " أي: السورة كلها في الأولى "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " [الإخلاص: 1] السورة بتمامها في كل منهما "رواه الترمذي". "وعن ابن عباس قال: كان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد" أي أحيانا، فلا يخالف ما قبله، "رواه أبو داود"، ففي هذين الحديثين استحباب النفل بعد المغرب "وكان أصحابه عليه الصلاة والسلام يصلون ركعتين قبل" صلاة "المغرب قبل أن يخرج إليهم عليه "السلام". "رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث أنس" قال: كان المؤذن إذا أذن قام ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبتدرون السواري حتى يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم كذلك يصلون الركعتين قبل المغرب، ولم يكن بين الأذان والإقامة شيء، هذا لفظ البخاري. وقال: إن في رواية لم يكن بينهما إلا قليل، ولفظ مسلم عن أنس: كنا بالمدينة، فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فركعوا ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما. "وفي رواية أبي داود قال أنس: رآنا -صلى الله عليه وسلم- فلم يأمرنا" بهما "ولم ينهنا" عنهما، فهو إقرار لهم على فعلهما، وهذا بالنسبة للوقت الذي أخبر أنس أن المصطفى رآهم يصلون، وإلا فسيأتي أنه قال: صلوا قبل المغرب ركعتين، وقصر المصنف في عزوه لأبي داود وحده، ففي مسلم عن المختار بن فلفل: سألت أنس بن مالك عن التطوع بعد العصر، فقال: كان عمر يضرب بالأيدي على صلاة بعد العصر وكنا نصلي على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان -صلى الله عليه وسلم- صلاهما؟، قال: كان يرانا نصليهما فلم يأمرنا ولم ينهنا. "وقال عقبة" بن عامر الجهني لما قال له مرثد بن عبد الله: ألا أعجبك من أبي تميم يركع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 وظاهره: أن الركعتين بعد الغروب وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر أصحابه عليه، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه عليه الصلاة والسلام لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب، وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث. وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده -صلى الله عليه وسلم. وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة أنهم كانوا لا يصلونهما. فادعى بعض المالكية نسخهما، وتعقب: بأن دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت -وهو أنس- مقدمة على رواية النافي -وهو ابن عمر.   ركعتين قبل صلاة المغرب، زاد الإسماعيلي: حين يسمع أذان المغرب، فقال عقبة: إنا "كنا نفعله على عهده صلى الله عليه وسلم" قلت: فما يمنعك الآن؟، قال: الشغل "رواه البخاري" هكذا تاما "ومسلم" فيه نظر، فإنه لم يخرج حديث عقبة هذا كما صرح به الحافظ في خاتمة أبواب التطوع "وظاهره" كما قال القرطبي وغيره: "أن الركعتين بعد الغروب" للشمس "وقبل صلاة المغرب كان أمرا قرر" صلى الله عليه وسلم "أصحابه عليه، وهذا يدل على الاستحباب، وأما كونه عليه الصلاة والسلام لم يصلهما فلا ينفي الاستحباب، بل يدل على أنهما ليستا من الرواتب" المؤكدة "وإلى استحبابهما ذهب أحمد وإسحاق وأصحاب الحديث". "وعن ابن عمر: ما رأيت أحدا يصليهما على عهده -صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود من طريق طاوس عنه بإسناد حسن. "وعن الخلفاء الأربعة وجماعة من الصحابة؛ أنهم كانوا لا يصلونهما" رواه عنهم محمد بن نصر وغيره من طريق إبراهيم النخعي، عنهم وهو منقطع وهو قول مالك والشافعي "فادعى بعض المالكية نسخهما" فقال: إنما كان ذلك في الأول حيث نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، فبين لهم بذلك وقت الجواز ثم ندب إلى المبادرة إلى المغرب في أول وقتها، فلو استمرت المواظبة على الاشتغال بغيرها لكان ذريعة إلى فوات إدراك أول وقتها. "وتعقب بأ دعوى النسخ لا دليل عليها، ورواية المثبت وهو أنس مقدمة على رواية النافي وهو ابن عمر؛" لأن مع المثبت علما زائد على النافي، لكن هذا في غاية البعد، إذ ابن عمر لا شك أنه كان يصلي مع المصطفى، فلو واظبوا عليها لرآهم يوما من الدهر، فتعين الجمع بينه وبين إثبات أنس؛ بأنهم فعلوهما مدة فلم يرهم ابن عمر لعذر منعه، ثم تركوهما وابن عمر حاضر فنفى رؤيته، ولا يصح أن ينفيهما مع عدم حضوره؛ لأنه يكون من باب الحائط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: حق على كل مؤمن إذا أذن المؤذن أن يركع ركعتين. وعن مالك قول آخر باستحبابهما، وهو عند الشافعية وجه رجحه النووي ومن تبعه، وقال في شرح مسلم: قول من قال: إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها، خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير، لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها. ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما. وقال صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين" لمن شاء خشية أن يتخذها الناس سنة. رواه أبو داود. قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابهما؛ لأنه لا يمكن أن يأمر بما لم   لا يبصر، ومعلوم أنه متى أمكن الجمع تعين المصير إليه. "وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول حق" أي: أمر ثابت مؤكد: "على كل مؤمن إذا أذن المؤذن" للمغرب "أن يركع ركعتين" وهذا قول مجتهد بما أداه إليه اجتهاده فليس حجة على غيره، وقول بعضهم لو ثبت ما روي عن الخلفاء وغيرهم من تركهما لم يكن دليلا على نسخ ولا كراهة، لاحتمال أنهم منعهم الشغل كما منع عقبة فيه ما فيه؛ لأن الشغل لا يقتضي المواظبة على الترك مع كثرة عبادتهم مع أشغالهم. "وعن مالك قول آخر" ضعيف في المذهب "باستحبابهما وهو عند الشافعية وجه" أي: قول لغير الشافعي من أهل مذهبه "رجحه النووي ومن تبعه، وقال في شرح مسلم قول من قال: إن فعلهما يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقتها خيال فاسد منابذ للسنة، ومع ذلك فزمنهما يسير لا تتأخر به الصلاة عن أول وقتها" إلى هنا كلام النووي، وأما قوله: "ومجموع الأدلة يرشد إلى استحباب تخفيفهما" كما في ركعتي الفجر، فعزاه الحافظ لنفسه عقب ذكر كلام النووي. "وقال -صلى الله عليه وسلم: "صلوا قبل المغرب ركعتين" كما في أبي داود "لمن شاء" أي: وهذا الفعل لمن شاء، قال ذلك "خشية أن يتخذها الناس سنة، رواه أبو داود" عن عبد الله بن مغفل المزني، وقصر عزوه لأبي داود بقوله: ركعتين، وإلا فقد أخرجه البخاري في الصلاة والاعتصام عن عبد الله بن مغفل عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "صلوا قبل المغرب"، قال في الثالثة: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة، ولم يخرجه مسلم. قال الحافظ: وأعادها الإسماعيلي في روايته، أي: صلوا قبل المغرب ركعتين ثلاث مرات وهو موافق لقوله في رواية البخاري: قال في الثالثة "لمن شاء"، وفي مستخرج أبي نعيم: صلوا قبل المغرب ركعتين، قالها ثلاثا ثم قال: "لمن شاء". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 يستحب، بل هذا الحديث من أدل الأدلة على استحبابهما. ومعنى قوله: "سنة" أي شريعة وطريقة لازمة. وكأن المراد انحطاط رتبتهما عن رواتب الفرائض، ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية في الرواتب، واستدركهما بعضهم. وتعقب: بأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- واظب عليهما. وقال -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة بعد المغرب: "هذه صلاة البيوت"، رواه أبو داود والنسائي من حديث كعب بن عجرة. وعنه -صلى الله عليه وسلم- من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم رفعت صلاته في عليين. رواه رزين.   "قال المحب الطبري: لم يرد نفي استحبابهما؛ لأنه لا يمكن أن يأمر بما لم يستحب، بل هذا الحديث من أقوى الأدلة على استحبابهما؛" لأن أقل مراتب الأمر الاستحباب. "ومعنى قوله: سنة، أي شريعة وطريقة لازمة، وكأن المراد انحطاط رتبتهما عن رواتب الفرائض ولهذا لم يعدهما أكثر الشافعية في الرواتب واستدركهما بعضهم" على الأكثرين، ومراده النووي، فإنه صحح أنهما سنة للأمر بهما في هذا الحديث. "وتعقب بأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم واظب عليهما" بل ولم يثبت أنه فعلهما، كما أفاده جواب أنس للمختار بن فلفل في مسلم كما مر، لكن روى ابن حبان أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى قبل المغرب ركعتين، ولعله لبيان الجواز صلاهما مرة. "وقال عليه الصلاة والسلام في الصلاة بعد المغرب: "هذه صالة البيوت" " أي أن الأفضل فعلها فيها "رواه أبو داود والنسائي من حديث كعب بن عجرة" بضم المهملة وإسكان الجيم، "وعنه عليه الصلاة والسلام: "من صلى بعد المغرب ركعتين قبل أن يتكلم" بشيء من أمور الدنيا ويحتمل الإطلاق "رفعت صلاته في عليين" قيل: هو كتاب جامع لأعمال الخير الذي دون فيه كل ما عملته الملائكة ومؤمنو الثقلين، سمي به؛ لأنه سبب الارتفاع إلى الجنة، وقيل: هو مكان في السماء السابعة تحت العرش "رواه رزين" في تجريد الصحاح، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عن مكحول مرسلا، وأخرج الديلمي عن ابن عباس رفعه: "من صلى أربعا بعد المغرب قبل أن يكلم أحدا رفعت له في عليين، وكان كمن أدرك ليلة القدر في المسجد الأقصى". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 الفرع السادس: في راتبة العشاء قالت عائشة: ما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات. رواه أبو داود. وفي مسلم قالت عائشة: ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين. وتقدما أول هذا القسم، والله أعلم. الفرع السابع: في راتبة الجمعة عن نافع عن عبد لله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين. رواه البخاري ولم يذكر شيئا في الصلاة قبل صلاة الجمعة.   قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، وجاء في فضل الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة. "السادس: في راتبة العشاء، قالت عائشة: ما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى أربع ركعات" تارة "أو ست ركعات" أخرى، فليست أو للشك "رواه أبو داود" سليمان بن الأشعث. "وفي مسلم قالت عائشة: ثم يصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكذا في حديث ابن عمر عند الشيخين وتقدما أول هذا القسم" ومفاد الأحاديث أنه كان يصلي بحسب ما تيسر ركعتين وأربعا وستا إذا دخل بيته بعد العشاء، "والله أعلم". "الفرع السابع: في راتبة الجمعة" نبه بزيادة الفرع هنا على أن راتبة الجمعة ليست من الرواتب الخمس؛ لأنها بدل الظهر "عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين في بيته" عائد على المغرب "وبعد العشاء ركعتين" في بيته، كما زاده بعض الرواة "وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف" من المسجد إلى بيته "فيصلي" فيه "ركعتين، رواه البخاري" عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع به، وترجم عليه باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها "ولم يذكر شيئا في الصلاة قبل صلاة الجمعة". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 قال ابن المنير -كما حكاه في فتح الباري: كأنه يقول: الأصل استواء الظهر والجمعة حتى يدل على خلافه؛ لأن الجمعة بدل الظهر. وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي لو حذفت. انتهى. وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى. وقد روى أبو داود وابن حبان من طريق أيوب عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم   "قال" الزين "بن المنير" في الحاشية: "كما حكاه في فتح الباري كأنه" أي: البخاري "يقول: الأصل استواء الظهر والجمعة، حتى يدل دليل على خلافه؛ لأن الجمعة بدل الظهر" قال: وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، ولذلك قدمه في الترجمة على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد، قال الحافظ: ووجه العناية وورد الخبر في البعد صريحا دون القبل. "وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي سنة الجمعة في بيته بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر" على قول: "واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي لو حذفت، انتهى" كلام ابن بطال. قال الحافظ: "وعلى هذا فينبغي أن لا يتنفل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى" أي: ظن أنها التي حذفت. وقال ابن التين: لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في الحديث، فلعل البخاري أراد إثباتها قياسا على الظهر، وقواه ابن المنير بأنه قصد التسوية بين الظهر والجمعة في حكم التنفل كما قصد التسوية بين الإمام والمأموم في الحكم، وذلك يقتضي أن النافلة لهما سواء. انتهى. "وقد روي" عبارة الفتح: والذي يظهر أن البخاري أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب وهو ما رواه "أبو داود وابن حبان من طريق أيوب" السختياني "عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 كان يفعل ذلك، وقد احتج به النووي في "الخلاصة" على إثبات سنة الجمعة التي قبلها. وتعقب: بأن قوله: "كان يفعل ذلك" عائد على قوله: "ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته"، ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك. رواه مسلم. وأما قوله: "كان يطيل الصلاة قبل الجمعة" فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها، بل هو تنفل مطلق. وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها، وبالغوا في الإنكار، منهم: الإمام شهاب الدين أبو شامة؛ لأنه لم يكن يؤذن للجمعة إلا بين يديه عليه   ذلك" الذي فعله. "وقد احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها؛" لأنه فهم اسم الإشارة وهو ذلك يرجع للأمرين بتأويل المذكور، تعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك عائد على قوله: "ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته" لا على ما قبلها حتى يكون حجة له. "ويدل عليه رواية الليث" بن سعد الإمام "عن نافع عن عبد الله بن عمر؛ أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين" أي: صلى ركعتين من تسمية الكل باسم البعض "في بيته، ثم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك، رواه مسلم" وهو حديث واحد يفسر بعضه ببعض. "وأما قوله: كان" ابن عمر "يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج إذا زالت الشمس، فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة" ولا يتنفل "وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها" التي الكلام فيها "بل هو تنفل مطلق" ورد الترغيب فيه كما في حديث سلمان وغيره، حيث قال: ثم صلى ما كتب له، إلى هنا كلام الحافظ، وزاد المصنف عليه قوله: "وقد أنكر جماعة كون الجمعة لها سنة قبلها وبالغوا في الإنكار" لعدم وروده "ومنهم الإمام شهاب الدين أبو شامة؛ لأنه لم يكن يؤذن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 الصلاة والسلام وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة؛ لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة. قال ابن العراقي: ولم أر في كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة قبلها. انتهى. وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة، منها حديث عن أبي هريرة، رواه البزار، ولفظه: كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا. وأقوى ما يتمسك به في مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان". قاله في فتح الباري. وعن عطاء قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم فصلى ركعتين   للجمعة إلا بين يديه عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر، فلم يكن يصليها، وكذلك الصحابة؛ لأنه إذا خرج الإمام انقطعت الصلاة". "قال ابن العراقي: ولم أر في كلام الفقهاء من الحنفية والمالكية استحباب سنة الجمعة قبلها. انتهى". ثم عاد المصنف لكلام الحافظ وهو قوله: "وقد ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة" فلا حجة فيها "منها حديث عن أبي هريرة رواه البزار، ولفظه: كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا". قال الحافظ، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي: وهو ضعيف عند البخاري وغيره، وقال الأثرم: إنه حديث واه، ومنها عن ابن عباس مثله، وزاد: ولا يفصل في شيء منهن، أخرجه ابن ماجه بسند واه. قال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل، وعن ابن مسعود عند الطبراني مثله أيضا، وفي إسناده ضعف وانقطاع، ورواه عبد الرزاق عن ابن مسعود موقوفا، وهو الصواب. وروى ابن سعد عن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- موقوفا نحو حديث أبي هريرة، ثم قال الحافظ: "وأقوى ما يتمسك به في مشروعية الركعتين قبل الجمعة عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير، مرفوعا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان"، قاله في فتح الباري" وزاد: ومثله حديث عبد الله بن مغفل: بين كل أذانين صلاة لمن شاء، يعني المتفق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 ثم يتقدم فيصلي أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له: فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله. رواه أبو داود. وفي رواية الترمذي: قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعا. وعن ابن عمر أيضا قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بعد الجمعة ركعتين. رواه النسائي، وفي رواية أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. وفي أخرى: أن ابن عمر كان يصلي بعد الجمعة ركعتين ويطيل فيهما ويقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله. وتقدم حديث دخول سليك المسجد في يوم الجمعة، وهو -صلى الله عليه وسلم- يخطب، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "صليت"؟ قال: لا، قال: "قم فاركع ركعتين". مع ما فيه من المباحث في صلاة الجمعة والله أعلم.   عليه. "وعن عطاء" بن أبي رباح "قال: كان ابن عمر إذا صلى الجمعة بمكة تقدم" إلى محل غير الذي صلى فيه الجمعة "فصلى ركعتين، ثم يتقدم" إلى مكان غيره من المسجد "فيصلي أربعا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد، فقيل له" في ذلك "فقال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، رواه أبو داود". "وفي رواية الترمذي" عن عطاء "قال: رأيت ابن عمر صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعا" بمكة. "وعن ابن عمر أيضًا، قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يصلي بعد الجمعة ركعتين، رواه النسائي". "وفي رواية" له؛ "أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته" وتقدم هذا قريبا في حديثه عند البخاري. "وفي أخرى: أن ابن عمر كان يصلي بعد الجمعة ركعتين، ويطيل فيهما ويقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله، وتقدم حديث دخول سليك المسجد في يوم الجمعة وهو -صلى الله عليه وسلم- يخطب، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "صليت"؟، قال: لا، قال: "قم فاركع ركعتين" مع ما فيه من المباحث في صلاة الجمعة، والله أعلم" بالحكم في ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 الفصل الثاني: في صلاته عليه الصلاة والسلام العيدين وفيه فروع سبعة: الأول في عدد الركعات: عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بخرصها وسخابها. وفي رواية: خرج يوم أضحى أو فطر، وفي أخرى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفطر ركعتين. الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود   "الفصل الثاني: في صلاته عليه الصلاة والسلام العيدين" بتقدير مضاف، أي: صلاة العيدين، وثبت هذا المضاف في نسخة ولا بد منه؛ لأن العيد اسم لليوم لا للصلاة "وفيه فروع سبعة". "الأول: في عدد الركعات عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم عيد" لفظ الصحيح: يوم الفطر، فجزم في هذه الطريق بأنه الفطر كالطريق الثالث، وشك في الثانية، والجازم مقدم على الشاك "فصلى" بالناس "ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما" بالتثنية فيهما، وفي رواية: بإفراد الضمير فيهما نظرا إلى الصلاة "ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة" أي: صدقة التطوع لا صدقة الفطر كما ظن بعضهم أخذا من رواية: وبلال باسط ثوبه المشعر بأن ما يلقى فيه شيء يحتاج إلى ضم فهو لائق بصدقة الفطر المقدرة بالكيل، لكن يرده أن الذي ألقيته في ثوب بلال مما لا يجزئ في صدقة الفطر كما قال هنا "فجعلت المرأة تتصدق بخرصها" بضم الخاء المعجمة، وحكى كسرها وسكون الراء وصاد مهملة، حلقتها الصغيرة من ذهب أو فضة، وقيل: هو القرط إذا كان بحبة واحدة "وسخابها" بكسر المهملة وتخفيف المعجمة فألف فموحدة، قلادة من عنبر، أو قرنفل، أو غيره ولا يكون فيه خرز، وقيل: هو خيط فيه خرز، سمي سخابا لصوت خرزه عند الحكة مأخوذ من السخب، وهو اختلاط الأصوات، يقال بالصاد وبالسين. "وفي رواية" عن ابن عباس أيضا "خرج لفظه: خرجت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- "يوم أضحى أو فطر" شك من الراوي، أو هو من عبد الرحمن بن عابس راويه عن ابن عباس. "وفي أخرى" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم الفطر ركعتين" لا أربعا، وما روي عن علي أنها تصلي في الجاع أربعا وفي المصلى ركعتين مخالف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 والترمذي والنسائي. الثاني في عدد التكبير: عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكبر في الفطر والأضحى، في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية: خمس تكبيرات. زاد في رواية: سوى تكبيرتي الإحرام والركعوع. رواه أبو داود. وعن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم- كبر في العيد، في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الأخرى خمسا قبل القراءة. رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي.   لما انعقد عليه الإجماع "الحديث" بقيته لم يصل قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة، فجعلن يلقين في ثوب بلال تلقي المرأة خرصها وسخابها "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي" ضمير، رواه للحديث المذكور برواياته الثلاثة. "الثاني: في عدد التكبير عن عائشة -رضي الله عنها؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكبر في "صلاة عيد "الفطر و" صلاة عيد "الأضحى في" الركعة "الأولى" من كل العيدين "سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات، زاد في رواية: سوى تكبيرتي الإحرام والركوع". قال بعضهم: حكمة هذا العدد أنه لما كان للوترية أثر عظيم في التذكير بالوتر الصمد الواحد الأحد، وكان للسبعة منها مدخل عظيم في الشرع جعل تكبير صلاته وترًا، وجعل سبعا في الأولى لذلك وتذكيرا بأعمال الحج السبعة من الطواف والسعي والجمار تشويقا إليها؛ لأن النظر إلى العيد الأكبر أكثر أو تذكيرا بخالق هذا الوجود بالتفكر في أفعاله المعروفة من خلق السماوات السبع والأرضين السبع، وما فيها من الأيام السبع؛ لأنه خلقهما في ستة أيام وخلق آدم في السابع يوم الجمعة، ولما جرت عادته -صلى الله عليه وسلم- بالرفق بأمته، ومنه تخفيف الثانية عن الأولى وكانت الخمسة أقرب وترا إلى السبعة، جعل تكبير الثانية خمسا لذلك. "رواه أبو داود، وعن كثير" بفتح الكاف ومثلثة "ابن عبد الله" بن عمرو بن عوف المزني المدني ضعيف أفرط من نسبه إلى الكذب كما في التقريب "عن أبيه" عبد الله، تابعي مقبول "عن جده" عمرو بن عوف بن زيد الأنصاري المازني حليف بني عامر بن لؤي البدري، ويقال له: عمير، مات في خلافة عمر؛ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كبر في العيد في" الركعة "الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الأخرى" الثانية كبر "خمسا قبل القراءة، رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام أحد الحفاظ، والحديث وإن كان في إسناده ضعف، لكنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 الثالث في الوقت والمكان: عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة. الحديث رواه البخاري ومسلم. وفي هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى، وقال: إنه أفضل من صلاتها في المسجد، لمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس في الأمصار. وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول. ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما، الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثاني: وهو الأصح عند أكثرهم، المسجد أفضل إلا أن يضيق، قالوا: وإنما صلى أهل مكة في المسجد لسعته، وإنما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لضيق المسجد،   اعتضد بحديث عائشة قبله، وزاد في هذا أن التكبير قبل القراءة، ويوافقه قوله -صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما"، رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمرو بن العاصي. قال الترمذي في العلل: سألت عنه محمدًا، يعني البخاري، فقال: صحيح. انتهى، وما في جامع الترمذي: أنه -صلى الله عليه وسلم- كبر بعد القراءة فهو ضعيف جدا، بل فيه كذاب، ولذا قال ابن دحية: هو أقبح حديث في جامع الترمذي. "الثالث: في الوقت والمكان" الذي كان يصليه فيهما "عن أبي سعيد" بكسر العين سعد بسكونها ابن مالك بن سنان "الخدري" الصحابي ابن الصحابي "قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم" عيدي "الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة". قال المصنف: برفع أول مبتدأ نكرة مخصصة بالإضافة خبره الصلاة، لكن الأولى جعل أول خبر مقدم، والصلاة مبتدأ؛ لأنه معرفة، وإن تخصص ول فلا يخرج عن التنكير، وجملة يبدأ به في محل جر صفة شيء "الحديث" يأتي تمامه قريبا في المتن "رواه البخاري ومسلم، وفي هذا دليل لمن قال باستحباب الخروج لصلاة العيد إلى المصلى" إظهارا لجمال الإسلام والغلظة على الكفار "وقال: إنه أفضل من صلاتها في المسجد لمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على ذلك مع فضل مسجده، وعلى هذا عمل الناس في الأمصار" إلا لعذر مطر ونحوه "وأما أهل مكة فلا يصلونها إلا في المسجد من الزمن الأول" لسعته وخصوصية مشاهدة الكعبة. "ولأصحابنا الشافعية وجهان: أحدهما الصحراء أفضل لهذا الحديث، والثاني وهو الأصح عند أكثرهم المسجد أفضل إلا أن يضيق" فالصحراء أفضل "قالوا: وإنما صلى أهل مكة في المسجد لسعته، وإنما خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- لضيق المسجد" أي: مسجده بالمدينة "فدل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 فدل على أن المسجد أفضل إذا اتسع. والمراد بالمصلى المذكور، الذي على باب المدينة الشرقي. قال ابن القيم: ولم يصل -صلى الله عليه وسلم- العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد في المسجد، إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه. انتهى. ولفظ أبي داود: عن أبي هريرة قال: أصابنا مطر في يوم فطر فصلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد. زاد رزين: ولم يخرج بنا إلى المصلى. الرابع في الأذان والإقامة: عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة. رواه مسلم وأبو داود والترمذي.   على أن المسجد أفضل إذا اتسع" ودعوى الحصر في الأمرين ممنوعة، بل مع سعة مسجد مكة فيه معنى آخر هو ملاحظة الكعبة، ومع ضيق مسجد المدينة خرج لمعنى آخر وهو إظهار جمال الإسلام وإغاظة الكفار، فلا دلالة على أن إيقاعها في المسجد المتسع غير الحرم أفضل "والمراد بالمصلى المذكور" في الحديث الموضع "الذي على باب المدينة الشرقي". قال الحافظ: هو موضوع معروف بينه وبين باب المدينة ألف ذراع، قاله عمر بن شيبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكناني صاحب مالك. "قال ابن القيم: ولم يصل -صلى الله عليه وسلم- العيد بمسجده إلا مرة واحدة، أصابهم مطر فصلى بهم العيد في المسجد إن ثبت الحديث، وهو في سنن أبي داود وابن ماجه. انتهى. "ولفظ أبي داود عن أبي هريرة، قال: أصابنا مطر في يوم فطر "فصلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" النبوي لئلا يشق على الناس بالخروج في المطر "زاد رزين" في جامعه: "ولم يخرج بنا إلى المصلى" زيادة إيضاح. "الرابع: في الأذان والإقامة" أي: حكمها وهو نفيهما "عن جابر بن سمرة" الصحابي ابن الصحابي "قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيدين" الفطر والأضحى "غير مرة ولا مرتين" حال أي: كثيرًا "بغير أذان ولا إقامة، رواه مسلم وأبو داود والترمذي". وقال جابر بن عبد الله: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، رواه مسلم أيضًا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم العيد بلا أذان ولا إقامة. رواه أبو داود. الخامس في قراءته -صلى الله عليه وسلم- في صلاتي العيدين: عن أبي واقد الليثي: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} في الأولى و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} في الثانية. رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي. وعن النعمان بن بشير قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في العيدين وفي صلاة الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما. رواه مسلم ومالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.   "وعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى يوم العيد بلا أذان ولا إقامة، رواه أبو داود" وإسناده صحيح كما في الفتح، ومثله عند النسائي من حديث ابن عمر، وفي مسلم عن جابر بن عبد الله: لا أذان للصلاة ولا إقامة ولا شيء، واحتج به من قال: لا يقال أمام صلاتها شيء. وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري، قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يأمر المؤذن في العيدين فيقول: "الصلاة جامعة"، وهذا مرسل فيه مبهم، وغاية ما قالوه يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها. "الخامس: في قراءته -صلى الله عليه وسلم- في صلاتي العيدين عن أبي واقد" بالقاف "الليثي" واسمه الحارث بن عوف، أو ابن مالك، واسمه عوف بن الحارث بن أسد، المدني الصحابي: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في الفطر والأضحى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] ، في" الركعة "الأولى، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] ، في الثانية، رواه مسلم من طريق مالك وفليح بن سليمان "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي" قيل: والمناسبة في قراءتهما في العيدين لاشتمالهما على المعنى اللائق بذلك من الخروج والصدور، ففي اقتربت يوم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، وفي سورة ق {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44] ، فهاتان الآيتان مناسبتان لبروز الناس إلى المصلى، وحالهم في ذلك يشبه حال الخروج من القبور والصدور من المصلى بالمغفرة والسرور بالعيد، شبيه بالصدور من المحشر إلى الجنة، والوصول فيها إلى السرور الدائم. "عن النعمان بن بشير" رضي الله عنهما "قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في" صلاة "العيدين وفي صلاة الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] ، وربما اجتمعا" أي: الفطر أو الأضحى والجمعة "في يوم واحد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 السادس في خطبته -صلى الله عليه وسلم- وتقديمه صلاة العيدين عليها: عن ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة: رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وعن جابر: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم الفطر، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة. وفي رواية: قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة. وفي أخرى، قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيد، فبدأ بالصلاة قبل   فقرأ بهما" لفظ مسلم: وإذا اجتمعا في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين "رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي" ومر شرحه في الجمعة. "السادس: في خطبته -صلى الله عليه وسلم- وتقديمه صلاة العيدين عليها، عن ابن عمر قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة"، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي" بطرق متعددة. "وعن جابر" بن عبد الله "أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم" عيد "الفطر" إلى المصلى "فبدأ بالصلاة قبل الخطبة". وفي رواية" عن جابر أيضا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "قام" على قدميه "فبدأ بالصلاة" يوم العيد "ثم خطب الناس" بعد كما في الرواية، أي: بعد الصلاة "فلما فرغ" من الخطبة "نزل" فيه إشعار بأنه خطب على مكان مرتفع لما يقتضيه قوله: نزل. وعند ابن خزيمة: خطب -صلى الله عليه وسلم- يوم عيد على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن بالمصلى في زمانه منبر، ويدل عليه حديث أبي سعيد كما يأتي. قال الحافظ: فلعل الراوي ضمن نزل معنى الانتقال، أي: انتقل "فأتى النساء فذكرهن" بشد الكاف، أي: وعظهن "وهو يتوكأ" أي: يعتمد "على يد بلال". وزعم عياض أن وعظه النساء كان في أثناء الخطبة، وأنه كان في أول الإسلام وأنه من خصائصه، وتعقبه النووي بهذه الرواية المصرحة بأن ذلك كان بعد الخطبة والخصائص لا تثبت بالاحتمال "وبلال باسط ثوبه يلقي" بضم التحتية، أي: يرمي "فيه النساء صدقة"؛ لأنه أمرهن بها. "وفي" رواية "أخرى" عن جابر أيضا "قال: شهدت" أي: حضرت "مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العيد، فبدأ" بالهمزة، أي: ابتدأ "بالصلاة قبل الخطبة" بضم الخاء "بلا أذان ولا إقامة، ثم قام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 الخطبة، بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئا على بلال، فأمر بتقوى الله تعالى، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير: قال:   متوكئا" أي: معتمدا مع ثقل وقوة "على بلال" حال من ضمير الفاعل في قام، وثم حرف عطف ومهلة، فيحتمل أن بين الصلاة والخطبة زمنا هو مشيه من مكان الصلاة إلى مكان الخطبة، ويحتمل أن لا مهلة، كقوله: كهز الرديني تحت العجاج ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب فليس المراد تأخر اضطراب الرمح عن زمن جريان الهز في أنابيبه "فأمر" صلى الله عليه وسلم الناس "بتقوى الله تعالى وحث" بمثلثة، أي: حض الناس "على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم" عطف تفسير "ثم" بعد فراغه من الخطبة "مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن" عطف تفسير. قال الراغب: الوعظ زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. "فقال: "تصدقن" يا معشر النساء "فإن أكثركن حطب جهنم" مبالغة في تعظيم العقاب، وهو من باب الإغلاظ في النصح لمن يعلم أنه لا يؤثر فيه دون ذلك "فقامت امرأة من وسط النساء" أي: جالسة في وسطهن، ولفظ مسلم: من سطة النساء بكسر السين وفتح الطاء خفيفة وهي صحيحة، وليس المراد بها من خيار النساء، كما فسره من زعم أنه تصحيف وأن صوابه من سفلة النساء كما في رواية النسائي، بل المراد جالسة في وسطهن. قال الجوهري وغيره: يقال: وسطت القوم أسطهم سطة، أي: توسطتهم، وقال بعضهم: الأظهر أن المراد توسطها في القامة ليست بطويلة ولا قصيرة، فرواية مسلم ناظرة إلى قامتها، ورواية النسائي إلى منزلتها، وقوله: "سفعاء الخدين" بفتح السين المهملة وسكون الفاء وعين مهملة ممدودة، أي: في خديها سواد بيان لصورتها فلا تنافي "فقالت: لم يا رسول الله؟ " كن أكثر حطب جهنم "قال: "لأنكن تكثرن" بضم الفوقية وسكون الكاف وكسر المثلثة "الشكاة" بكسر الشين المعجمة والقصر، أي: التشكي من الأزواج، أي: تكتمن الإحسان وتظهرن الشكاية كثيرا "وتكفرن العشير" أي: الزوج، وهذا كالبيان لقوله: "تكثرن الشكاة"؛ لأن كثرة التشكي من الأزواج مع وجود الإحسان منهم كقربهم وستر لحقهم، ففيه ذم من يجحد إحسان ذي الإحسان، وهذه المرأة هي أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 فجعلن يتصدقن من حليهن ويلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن". رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري: فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم وينهاهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم نصرف. فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو   فقد روى الطبراني والبيهقي وغيرهما عنها أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى النساء وأنا معهن، فقال: "يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم"، فناديت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكنت عليه جريئة: لم يا رسول الله؟، قال: "لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير". "قال" جابر: "فجعلن يتصدقن من حليهن": بضم الحاء وكسر اللام وشد التحتية، جمع حلى بفتح فسكون، أي: من الأشياء التي معهن من الحلي كقرط وخاتم، فالحلي هو المتصدق به لا رأس المال، فلا حجة فيه لمن قال بوجوب زكاة الحلي "ويلقين في ثوب بلال من أقراطهن" جمع قراط، بزنة رماح جمع قرط بضم فسكون فهو جمع الجمع كما قال عياض: والقرط كل ما علق في شحمة الأذن من ذهب أو خرز "وخواتمهن" بغير تحتية بعد الفوقية، جمع خاتم بفتح التاء وكسرها وهذا بيان لقوله: من حليهن "رواه" أي: حديث جابر المذكور برواياته الثلاثة "البخاري ومسلم" واللفظ له في الرواية الثالثة. "وفي رواية أبي سعيد الخدري عند البخاري" بلفظه، ومسلم بنحوه، وقد سبق أول هذه الرواية أول الفرع الثالث، وهو كما قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى "فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف" منها "فيقوم مقابل الناس" أي: مواجها لهم، ولابن حبان: فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه، ولمسلم: فإذا صلى صلاته وسلم قام فأقبل على الناس "والناس جلوس على صفوفهم" جملة اسمية حالية "فيعظهم" يخوفهم العواقب "ويوصيهم" بسكون الواو، بما ينبغي الوصية به "ويأمرهم" بالحلال "وينهاهم" عن الحرام، ولمسلم: وكان يقول: "تصدقوا تصدقوا"، وكان أكثر من يتصدق النساء. "فإن كان يريد أن يقطع بعثا" أي: يخرج طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات "قطعه أو يأمر بشيء أمر به". ولفظ مسلم: فإن كان له حاجة يبعث ذكره للناس، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها، وتخصيص ذلك بالعيدين لاجتماع الناس هناك فلا يحتاج أن يجمعهم مرة أخرى "ثم ينصرف" إلى المدينة "فقال": وفي رواية قال "أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك" الابتداء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 أمير المدينة في فطر أو أضحى فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه، فقلت له: غيرتم والله. الحديث.   بالصلاة والخطبة بعده -صلى الله عليه وسلم- "حتى خرجت مع مروان" بن الحكم "وهو أمير المدينة" من جهة معاوية "في فطر أو أضحى" شك الراوي: "فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير" بكاف مفتوحة فمثلثة مكسورة "ابن الصلت" بفتح المهملة وسكون اللام وفوقية، ابن معاوية الكندي تابعي كبير، ولد في العهد النبوي وقدم المدينة هو وأخوته بعده، فسكنها وحالف بني جمح بن سعد، وروى بإسناد صحيح إلى نافع، قال: كان اسم كثير بن الصلت قليلا فسماه عمر كثيرا ورواه أبو عوانة فوصله بذكر ابن عمر ورفعه بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم، والأول أصح، وقد صح سماع كثير من عمر فمن بعده وكان له شرف، وذكر وهو ابن أخي جمد، بفتح الجيم وسكون الميم أو فتحها، أحد ملوك كندة الذين قتلوا في الردة، وقد ذكر ابن منده أباه في الصحابة وفي صحة ذلك نظر، وإنما اختض كثير ببناء المنبر بالمصلى؛ لأن داره كانت مجاورة للمصلى كما في حديث ابن عباس عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أتى في يوم العيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت. قال ابن سعد: كانت داره قبلة المصلى في العيدين وهي تطل على بطحان الوادي الذي في وسط المدينة. انتهى. وإنما بنى كثير داره بعده -صلى الله عليه وسلم- بمدة، لكنها لما اشتهرت في تلك البقعة وصفت المصلى بمجاورتها، اله في فتح الباري "فإذا مروان يريد أن يرتقيه، فقلت له: غيرتم والله ... الحديث" لفظ البخاري: فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجذبت بثوبه فجذبني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال أبا سعيد: قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. وفي مسلم قلت: كلا والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم، ثلاث مرات، أي: لأن ما يعلمه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يأتي مروان بل ولا أحد من العالمين بشيء يكون خيرا من سنته -صلى الله عليه وسلم، فزجره أولا بقوله: كلا، ثم بين له خطأ كلامه مؤكدا ذلك بالقسم، وفي هذا إشعار بأن مروان فعل ذلك باجتهاد منه. وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن الحسن البصري، قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان صلى بالناس، ثم خطبهم، يعني على العادة، فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك، أي: صار يخطب قبل الصلاة، وهذه العلة غير التي اعتل بها مروان؛ لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 ولابن خزيمة: خطب عليه الصلاة والسلام يوم عيد على رجليه. وهذا مشعر بأنه لم يكن في المصلى في زمانه منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد: "فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان"، ومقتضاه أن أول من اتخذه مروان. ووقع في المدونة للإمام مالك: أن أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان، كلمهم على منبر من طين بناه كثير ابن الصلت، لكنه معضل، وما في الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق داود بن قيس نحو   مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، ويحتمل أن عثمان فعل ذلك أحيانا بخلاف مروان، فواظب عليه، فلذا نسب إليه. وروي عن عمر مثل فعل عثمان عند ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بإسناد صحيح، لكن يعارضه حديث ابن عباس وابن عمر في الصحيحين أنه كان يصلي قبل الخطبة، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادرا، وإلا فما في الصحيحين أصح. وقد أخرج الشافعي نحو حديث ابن عباس عن عبد الله بن يزيد، وزاد حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعله تبعا لمعاوية؛ لأنه كان أمير المدينة من جهته، ولعبد الرزاق عن ابن جريج، عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية، ولابن المنذر عن ابن سيرين: أول من فعل ذلك زيادة بالبصرة. قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان؛ لأن كلا من مروان وزياد كان عاملا لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ بفعل ذلك وتبعه عماله. "ولابن خزيمة" في رواية مختصرة عن أبي سعيد: "خطب عليه الصلاة والسلام يوم عيد على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن في المصلى في زمانه منبر، ويدل على ذلك قول أبي سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، ومقتضاه أن أول من اتخذه مروان، ووقع في المدونة للإمام مالك" أي: عنه؛ لأن مؤلفها سحنون تلميذ تلاميذه، رواه عن ابن القاسم وغيره عنه: "أن أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان كلمهم" بدل من خطب "على منبر من طين". وفي مسلم من حديث أبي سعيد: من طين ولبن، قال ابن المنبر: اختاروا أن يكون من ذلك لا من الخشب لكونه ترك بالصحراء في غير حرز، فيؤمن عليه النقل بخلاف منبر الجامع "بناه كثير بن الصلت لكنه معضل، وما في الصحيحين أصح، فقد رواه مسلم من طريق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 رواية البخاري. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذك مرة ثم تركه ثم أعاده مروان، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد قاله شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله. السابع في أكله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر قبل خروجه إلى صلاة العيد: عن أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. رواه البخاري وقال: قال مرجأ بن رجاء حدثني عبيد الله حدثني أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم: ويأكلهن وترا. ورواه الحاكم من رواية عتبة بن حميد عنه بلفظ: ما خرج -صلى الله عليه وسلم- يوم فطر   داود بن قيس" القرشي، المدني، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري "نحو رواية البخاري" ولفظه، أعني مسلما: حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرا من طين ولبن. "ويحتمل" في طريق الجمع بين ما في الصحيحين والمدونة؛ "أن يكون عثمان فعل ذلك مرة" لعذر "ثم تركه، ثم أعاده مروان ولم يطلع على ذلك أبو سعيد، قاله شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله". زاد المصنف في شرح مسلم: وفي المدونة أيضا بناه لقمان وهو أول من أحدثه، وجمع بينهما بأن الباني هو لقمان، والآمر له ومعطيه الأجرة هو كثير؛ لأن المنبر متصل بجداره، فنسب إلى لقمان؛ لأنه المباشر، وإلى كثير؛ لأنه الآمر، والظاهر أن ذلك زمن عثمان، ومقصود أبي سعيد بيان حاله مع مروان في تقديم الخطبة على الصلاة، لا بيان أن المنبر بني في زمانه أو زمان غيره، فذكر أن في المصلى منبرا بناه كثير، وأراد مروان أن يخطب عليه قبل الصلاة، فالمفاجأة بين الإتيان إلى المصلى والوصول إلى المنبر لا بين الإتيان إليه وبناء المنبر. انتهى. "السابع: في أكله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر قبل خروجه إلى اصلاة العيد: عن أنس" قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم" عيد "الفطر حتى يأكل تمرات، رواه البخاري" من أفراده عن مسلم من طريق هشيم، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس. "وقال" البخاري تعليقا "قال: مرجأ" بضم الميم وفتح الراء وشد الجيم آخره همزة، كذا في الفرع، وأصله وضبطه في الفتح بغير همز على وزن معلى، قاله المصنف "ابن رجاء" بفتح الراء والجيم الخفيفة والمد السمرقندي البصري، مختلف في الاحتجاج به وليس له في البخاري غير هذا الموضع الواحد: "حدثني عبيد الله" بضم العين ابن أبي بكر بن أنس بن مالك قال: "حدثني أنس" يعني جده "عن النبي -صلى الله عليه وسلم:" هذا الحديث ورد "ويأكلهن وترا" وفائدة هذا التعليق تصريح عبيد الله بتحديث أنس له؛ لأن الأولى بالعنعنة "و" قد "رواه الحاكم" وابن حبان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 حتى يأكل تمرات، ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا. قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة، أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة. وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. وقيل: لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر مبادرة إلى السلامة من وسوسته. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم؛ ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به في المنام، ويرق القلب، ومن ثم   والإسماعيلي موصولا "من رواية عتبة" بفوقية "ابن حميد" الضبي البصري، صدوق له أوهام "عنه" أي: عن عبيد الله، عن أنس "بلفظ: ما خرج -صلى الله عليه وسلم- يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك" واحدة "أو أكثر" كتسع بدليل قوله: "وترا" فلم ينفرد به هشيم بل تابعه مرجا وعتبة، وكذا وصله ابن خزيمة والإسماعيلي وغيرهما من طريق أبي النضر عن مرجا، بلفظ: يخرج بدل يغدو، والباقي مثل لفظ هشيم وفيه الزيادة، وأخرجه أحمد والبخاري في تاريخه عن حرمي بن عمارة عن مرجا، بلفظ: ويأكلهن أفرادا. "قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلي العيد، فكأنه أراد سد هذه الذريعة" بذال معجمة، أي: الوسيلة إلى اعتقاد حرمة الفطر قبل الصلاة "وقال غيره: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة" ولا يعارضه ما عند ابن ماجه عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يغدي أصحابه من صدقة الفطر، لاحتمال أنه فعل ذلك تارة لبيان الجواز، أو أنه كان يغديهم ويقتصر هو على تمرات وترا من غير الصدقة. "وقيل: لأن الشيطان الذي يحبس في رمضان لا يطلق إلا بعد صلاة العيد، فاستحب تعجيل الفطر مبادرة إلى السلامة من وسوسته". ويأتي توجيه آخر عن ابن المنير: "والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم؛ ولأن الحلو مما يوافق الإيمان ويعبر به في المنام:" فمن رأى فيه أنه يأكل حلوًا عبرت بقوة إيمانه "ويرق القلب". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل. رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما. وفي الترمذي والحاكم من حديث بريدة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي، ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة. وروى الطبراني والدارقطني من حديث ابن عباس قال: من السنة أن لا يخرج يوم الفطر حتى يخرج الصدقة ويطعم شيئا قبل أن يخرج. وفي كل من الأسانيد الثلاثة مقال. وقد أخذ الفقهاء بما دلت عليه. قال ابن المنير: وقع أكله -صلى الله عليه وسلم- في كل يوم   زاد الحافظ: وهو أيسر من غيره "ومن ثم استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا" تمرا كان أو غيره "كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة" بضم القاف وشد الراء ابن إياس البصري "وابن سيرين" محمد "وغيرهما". زاد الحافظ: وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك، فقال: إنه يحبس البول، هذا كله في حق من يقدر على ذلك، وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما في الإتباع، أشار إليه ابن أبي جمرة، وأما جعلهن وترا، فقال المهلب: للإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يفعل في جميع أموره تبركا بذلك. "وفي الترمذي": وقال: غريب وأحمد وابن ماجه "والحاكم" وقال: صحيح "من حديث بريدة" بن الحصيب "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يخرج" لصلاة العيد "يوم" عيد "الفطر حتى يطعم" بفتح الياء والعين، أي يأكل، ويطلق على كل ما يساغ حتى الماء وذوق الشيء "ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي". وفي رواية: حتى يذبح، وأخرى: حتى يرجع، زاد أحمد والدارقطني: فيأكل من الأضحية. وفي رواية: من نسيكته "ونحوه عند البزار عن جابر بن سمرة". "وروى الطبراني والدارقطني من حديث ابن عباس، قال: من السنة أن لا يخرج" إلى الصلاة "يوم" عيد "الفطر حتى يخرج الصدقة" أي: صدقة الفطر "ويطعم" يأكل "شيئا قبل أن يخرج" للصلاة فيجمع بين الأمرين، وقول الصحابي: من السنة حكمه الرفع؛ لأنه إنما يعني سنة النبي -صلى الله عليه وسلم. "وفي كل من أسانيد" الأحاديث "الثلاثة مقال، وقد أخذ أكثر الفقهاء بما دلت عليه" من استحباب ذلك لاعتضاد بعضها ببعض. "قال" الزين "بن المنير: وقع أكله -صلى الله عليه وسلم- في كل يوم من العيدين في" أول "الوقت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 من العيدين في الوقت المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة، وافترقا من أخرى. وقال الشافعي في الأم: بلغنا عن الزهري قال: ما ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عيد ولا جنازة قط. وفي الترمذي عن علي قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا، وفي ابن ماجه عن سعد القرظ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى العيدين ماشيا، وفيه أيضا عن أبي رافع نحوه، والأسانيد الثلاثة ضعاف. وعن أبي هريرة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره. رواه الترمذي.   المشروع لإخراج صدقتهما الخاصة بهما، فإخراج صدقة الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وإخراج صدقة الأضحية بعد ذبحها، فاجتمعا من جهة" هي أن خروجه للصلاة في كل من العيدين في الوقت الذي يشرع فيه صدقته "وافترقا من أخرى" هي أن الوقت الذي تشرع فيه صدقة الفطر قبل الصلاة والذي يشرع فيه صدقة الأضحى بعد الصلاة. زاد الحافظ: واختار بعضهم تفصيلا آخر، فقال: من كان له ذبح استحب له أن يبدأ بالأكل يوم النحر منه، ومن لم يكن له ذبح تخير. "وقال الشافعي في الأم: بلغنا عن الزهري، قال: ما ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عيد ولا جنازة قط" تكثيرا للأجر. "وفي الترمذي عن علي، قال: من السنة" للنبي -صلى الله عليه وسلم- "أن يخرج إلى العيد ماشيا" أي: إلى جنسه الشامل للعيدين. "وفي ابن ماجه عن سعد القرظ:" بفتح القاف والراء وظاء معجمة المؤذن بقباء مولى الأنصار، عاش إلى سنة أربع وسبعين؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى العيدين ماشيا، وفيه أيضا عن أبي رافع نحوه" ولفظه: كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى العيدين ماشيا بغير أذان ولا إقامة، ثم يرجع ماشيا من طريق آخر "والأسانيد الثلاثة ضعاف" كما قال الحافظ، وقد رواه ابن ماجه أيضا عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج إلى العيدين ماشيا ويرجع ماشيا، فيعضد بعضها بعضا. "وعن أبي هريرة قال: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج يوم العيد" الفطر والأضحى "في طريق رجع في غيره، رواه الترمذي" وصححه الحاكم، وقد أخرجه البخاري بمعناه عن جابر، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كان يوم عيد خالف الطريق، أي: رجع في غير طريق الذهاب إلى المصلى، ورواه الإسماعيلي بلفظ: كان إذا خرج العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 وقد اختلف في معنى ذلك على أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: اجتمع لي منها أكثر من عشرين، وقد لخصتها وبينت الواهي منها. فمن ذلك: أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: له سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروة أو في التبرك به، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفا بذلك. وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها. وهذا يحتاج إلى دليل. وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليغيظ المنافقين واليهود، وقيل: حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما، وقيل: ليعمهم بالسرور   "وقد اختلف في معنى" أي: حكمة "ذلك على أقوال كثيرة"؛ لأن كل من ظهرت له حكمة أبداها. "قال الحافظ ابن حجر: اجتمع لي منها أكثر من عشرين" قولا "وقد لخصتها وبينت الواهي منها". قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ذكر في ذلك فوائد بعضها قريب وأكثرها دعاوى فارغة. انتهى. نقله الحافظ متصلا بقوله: "فمن ذلك أنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان" بالسعي في الطاعة "وقيل:" ليشهد "له سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره، أو في التبرك به، أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معرفوا بذلك" أي: بأنه إذا مر بطريق أثر مروره وجود رائحة المسك فيما مر فيه، وتدوم الرائحة بعد مفارقته، حتى إن من مر بعده يستدل بما يجده من رائحة المسك على أنه -صلى الله عليه وسلم- مر من ذلك المكان. "وقيل: لأن طريقه إلى المصلى كان على اليمين، فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال فرجع من غيرها" لحبه التيمن "وهذا يحتاج إلى دليل" أنها كانت على اليمين "وقيل: لإظهار شعائر الإسلام فيهما" أي: الطريقين "وقيل: لإظهار ذكر الله" في الطريقين "وقيل: ليغيظ المنافقين واليهود" أسقط من الفتح، وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه ورجحه ابن بطال. "وقيل: حذرا من كيد الطائفتين أو إحداهما" وفيه نظر؛ لأنه لو كان كذلك لم يكرره، قاله ابن التين، وتعقب بأنه لا يلزم من مواظبته على مخالفة الطريق المواظبة على طريق منها معين، لكن في رواية الشافعي عن المطلب بن عبد الله بن حنطب مرسلا أنه -صلى الله عليه وسلم يغدو يوم العيد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 به والتبرك بمروره والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء، والاسترشاد والسلام عليهم أو غير ذلك، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضا، وقيل: كان يتصدق في ذهابه فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق آخر لئلا يرد من يسأله. وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى دليل. وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام، وهذا رجحه الشيخ أبو حامد، وقيل: كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من طريقه التي يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطى في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله، وهذا اختيار الرافعي. وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطى في الرجوع أيضا، كما ثبت في حديث أبي بن كعب عند الترمذي وغيره، وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات   إلى المصلى من الطريق الأعظم ويرجع من الطريق الآخر، وهذا لو ثبت لقوى بحث ابن التين، هكذا في الفتح متصلا بقوله: "وقيل": فعل ذلك "ليعمهم بالسرور به والتبرك بمروره" وبرؤيته كما في الفتح "والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء أو التعلم والاقتداء والاسترشاد والسلام عليهم أو غير ذلك". "وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة" لأمته "والرضا" عنهم من الله "وقيل: كان يتصدق في ذهابه، فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من يسأله، وهذا ضعيف جدا مع احتياجه إلى دليل" إذ هو مجرد دعوى. "وقيل: فعل ذلك لتخفيف الزحام وهذا رجحه الشيخ أبو حامد". زاد الحافظ وأيده المحب الطبري بما رواه البيهقي في حديث ابن عمر، فقال: ليسع الناس، وتعقب بأنه ضعيف، وبأن قوله: ليسع الناس يحتمل أن يفسر بفضله وبركته، وهذا الذي رجحه ابن التين. "وقيل: كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من طريقه التي يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطى:" جمع خطوة "في الذهاب، وأما في الرجوع فليسرع إلى منزله" ليسر أهله "وهذا اختيار الرافعي". "وتعقب بأنه يحتاج إلى دليل وبأن أجر الخطى" يكتب "في الرجوع أيضا" ولفظ يكتب ثابتة في الفتح، فسقطت من المصنف أو نساخه "كما ثبت في حديث أبي بن كعب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقال ابن أبي جمرة: هو في معنى قول يعقوب لبنيه: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين. انتهى. وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور والحيض في العيدين، فأما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن دعوة المسلمين. قالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لم يكن لها جلباب، قال: "فلتعرها أختها من   عند الترمذي وغيره" أسقط من الفتح، فلو عكس ما قاله لكان له اتجاه، ويكون سلوك الطريق القريبة للمبادرة إلى فعل الطاعة وإدراك فضيلة أول الوقت. "وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن يشهد له فريقان منهم، وقال ابن أبي جمرة: هي في معنى قول يعقوب لبنيه: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 65] "فأشار إلى أنه فعل ذلك حذر إصابة العين" وهي حق، وأسقط من الفتح، وأشار صاحب الهدى إلى أنه فعل ذلك جميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. "انتهى" كلام الحافظ بن حجر بحروفه بما ذكرت أنه أسقطه منه. "وكان عليه الصلاة والسلام يخرج الأبكار" أي: يأمر كما في رواية للشيخين عن أم عطية: أمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نخرج الأبكار "والعواتق" جمع عاتق البالغة، أو التي قاربت البلوغ، أو التي ما بين أن تبلغ إلى أن تعنس ما لم تتزوج، والتعنيس طول المقام في بيت أبويها بلا زوج حتى تطعن في السن، سميت عاتقا؛ لأنها عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها "وذوات الخدور" بضم الخاء المعجمة والدال المهملة، جمع خدر وهو الستر في ناحية البيت، أو السرير المضروب عليه قبة "والحيض" بضم المهملة وشد التحتية: جمع حائض "في العيدين"، متعلق بيخرج "فأما الحيض فيعتزلن المصلى" فلا يختلطن بالمصليات، ومنعهن منع تنزيه، ولمسلم: وأمر الحيض أن يتعزلن مصلى المسلمين "ويشهدن دعوة المسلمين". وفي رواية في الصحيحين: ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، أي أن خروجهن لأجل شهود الخير ودعوة المسلمين لا لأجل الصلاة "قالت إحداهن" هي رواية الحديث أم عطية: "يا رسول الله إحدانا إذا لم يكن لها جلباب:" بكسر الجيم وسكون اللام وموحدتين بينهما ألف، ثوب أقصر وأعرض من الخمار، وهو المقنعة تغطي به المرأة رأسها، أو هو الخمار، أو الإزار كالملاءة والملحفة، أو ثوب واسع تغطي به المرأة صدرها وظهرها "قال: فلتعرها أختها" في الإسلام "من جلابيبها" جمع جلباب. وفي رواية للشيخين: من جلبابها بالإفراد على أن المعنى من جنس جلبابها بدليل رواية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 جلابيبها". رواه البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له. ولا دلالة فيه على وجوب صلاة العيد؛ لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف، فظهر أن القصد منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة في الاجتماع، وليعم الجميع البركة. وفيه: استحباب خروج النساء إلى شهود العيد، سواء كن شواب أو لا، أو ذوات هيآت أم لا، ولكن نص الشافعي في الأم يقتضي استثناء ذوات الهيآت. قال: وأحب شهود العجائز وغير ذوات الهيآت الصلاة. وأنا لشهودهن الأعياد أشد   الجمع، أو المراد تشركها معها في ثوبها، ويؤيده رواية أبي داود: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها، يعني إذا كان واسعا، ويحتمل أن المراد بقوله: ثوبها جنس الثياب، فيرجع إلى الأول ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند الستر. وقيل: إنه ذكر على سبيل المبالغة، أي: يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب، قاله الحافظ "رواه البخاري" في مواضع "ومسلم" في العيد، كلاهما من طرق "والترمذي واللفظ له" وأبو داود وغيرهم كلهم من حديث أم عطية "ولا دلالة فيه على وجوب صلاة العيد" خلافا لمن استدل به على ذلك "؛لأن من جملة من أمر بذلك من ليس بمكلف" بل من يحرم عليه الصلاة وهو الحيض "ظهر أن القصد منه إظهار شعائر الإسلام بالمبالغة في الاجتماع وليعم الجميع البركة" الحاصلة "وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيد، سواء كن شواب أم لا، أو ذوات هيئات أم لا؟ ". وقد اختلف فيه السلف، فنقل عياض وجوبه عن أبي بكر وعلي وابن عمر، والذي وقع لنا عن أبي بكر وعلي ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنهما، فالأحق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين، وقد ورد هذا مرفوعا بإسناد لا بأس به، أخرجه أحمد وأبو يعلى وابن المنذر من طريق امرأة من عبد القيس عن أخت عبد الله بن رواحة، والمرأة لم تسم والأخت اسمها عمرة صحابية، وقوله: حق يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكد الاستحباب. وروى ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى العيد من استطاع من أهل وهذا ليس صريحا في الووب أيضا، بل قد روي عن ابن عمر المنع، فيحتمل أن يحمل على حالين، ومنهم من حمله على الندب، وجزم بذلك الجرجاني من الشافعية وابن حامد من الحنابلة. "ولكن نص الشافعي في الأم يقتضي استثناء ذوات الهيئات، قال: وأحب شهود العجائز غير ذوات الهيئات الصلاة، وأنا لشهودهن الأعياد أشد استحبابا". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 استحبابا. وادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي: وأمره عليه الصلاة والسلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام، والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو. وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. وتعب: بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم، وهي شهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك.   قال الحافظ: وقد سقطت الواو من رواية المزني في المختصر، فصار غير ذوات الهيئات صفة للعجائز، فمشى على ذلك صاحب النهاية ومن تبعه وفيه ما فيه، بل قد روى البيهقي في المعرفة عن الربيع، قال: قال الشافعي: قد روى حديث فيه إن النساء يتركن إلى العيدين، فإن كان ثابتا قلت به. قال البيهقي: قد ثبت وأخرجه الشيخان، يعني حديث أم عطية هذا، فيلزم الشافعية القول به، ونقله ابن الرقعة عن البندنيجي وقال: إنه ظاهر كلام التنبيه "وادعى بعضهم النسخ فيه". "قال الطحاوي: وأمره عليه الصلاة والسلام بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد، يحتمل أن يكون في أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن إرهابا للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك" لكثرة المسلمين "وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال". "وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم وهي شهودهن الخير ودعوة المسلمين، ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- بمدة" كما في الصحيح عن حفصة بنت سيرين، قالت: كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد، فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف، فجئتها فحدثت أن زوج أختها غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثنتي عشرة غزوة، وكانت أختها معه الحديث، وفيه قالت حفصة: فلما قدمت أم عطية أتيتها فسألتها: أسمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- في كذا؟، قالت نعم، وذكرت لها الحديث، قالت المرأة: فقلت لها: الحيض؟ قالت: نعم، أليست الحائض تشهد عرفات وتشهد كذا وتشهد كذا؟، فقد أفتت به وأكدت فتواها بالقياس على عرفة والمزدلفة ورمي الجمار المعبر عنهما بكذا وكذا "ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 وأما قول عائشة: "لو رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد" فلا يعارض ذلك لندوره، إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه، مع أن الدلالة فيه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة. وفي قول الطحاوي: "إرهابا للعدو" نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف. والأولى: أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة، فلا يترتب على حضورها محظور، ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في الجامع -قاله في فتح الباري. وكان عليه الصلاة والسلام يخرج العنزة يوم الفطر والأضحى فيركزها فيصلي إليها. رواه النسائي وغيره. وإذا علمت هذا فاعلم أن للمؤمنين في هذه الدار ثلاثة أعياد، عيد يتكرر في كل أسبوع، وعيدان يأتيان في كل عام مرة من غير تكرار في السنة. فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبة فيه فشرع لهم فيه عيدًا.   "وأما قول عائشة" في الصحيحين: "لو رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد" كما منعت نساء بني إسرائيل "فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها" أي: عائشة "أفتت بخلافه مع أن الدلالة فيه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة؛" لأنها علقته على شيء لم يقع، إذ لم يرو لو رأى لاحتمل أن يزجرهن عما أحدثن ولا يمنعهن المساجد. "وفي قول الطحاوي: إرهابا للعدو نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة، فلا يترتب على حضورها محظور ولا تزاحم الرجال في الطرق ولا في الجامع، قاله في فتح الباري" في العيدين "وكان عليه الصلاة والسلام يخرج العنزة" بفتح المهملة والنون والزاي "يوم" عيد "الفطر والأضحى فيركزها" بضم الكاف، يثبتها "فيصلي إليها، رواه النسائي وغيره". "وإذا علمت هذا فاعلم أن للمؤمنين في هذه الدار ثلاثة أعياد" هي "عيد يتكرر في كل أسبوع وعيدان يأتيان في كل عام من غير تكرار في السنة، فأما العيد المتكرر فهو يوم الجمعة وهو عيد الأسبوع وهو مترتب على إكمال الصلوات المكتوبات فيه" أي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 وأما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام، وإنما يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة. فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مترتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون صيام شهر رمضان المفروض عليهم واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار، فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنب، وآخره عتق من النار يعتق الله فيه من النار من استحقها بذنوبه، شرع الله تعالى لهم عقب صيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله تعالى وذكره، وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة، وهو يوم الجوائز يستوفي فيه الصائمون أجر صيامهم ويرجعون بالمغفرة.   أسبوع "فشرع لهم فيه عيدا" سرورا بإكمال الصلوات. "وأما العيدان اللذان لا يتكرران في كل عام، وإنما يأتي كل واحد منهما في العام مرة واحدة، فأحدهما عيد الفطر من صوم رمضان وهو مترتب على إكمال صيام رمضان، وهو الركن الثالث من أركان الإسلام ومبانيه" بعد الشهادتين في قوله -صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج"، فقال رجل: والحج وصيام رمضان، فقال ابن عمر: لا صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم من طريق سعد بن عبيدة عن ابن عمر. قال الحافظ: فأقاد أن رواية حنظلة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر في البخاري بتقديم الحج مروية بالمعنى إما لأنه لم يسمع، زاد ابن عمر: على ارجل لتعدد المجالس أو حضر ذلك ونسيه. انتهى، "فإذا أكمل المسلمون صيام شهر رمضان المفروض عليهم، واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار" كما جاء في الحديث "فإن صيامه يوجب مغفرة ما تقدم من الذنب وآخره عتق من النار يعتق الله فيه من النار من استحقها بذنوبه شرع" جواب "إذا". وفي نسخة: فشرع بالفاء على القليل في جواب إذا "الله تعالى لهم عقب صيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله تعالى، وذكره وتكبيره على ما هداهم له، وشرع لهم في ذلك العيد الصلاة والصدقة وهو يوم الجوائز يستوفي فيه الصائمون أجر صامهم ويرجعون بالمغفرة" فضلا من الله سبحانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 والعيد الثاني عيد النحر: وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مترتب على إكمال الحج، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم، وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، فإن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم، ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهد، لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، وشرع للجميع التقرب إليه تعالى بالنسك بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك اليوم شكرا منهم لهذه النعم، والصلاة والنحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة في عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر أن يصلي لربه وينحر. وقد ضحى -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى الله تعالى وكبر. رواه البخاري من حديث أنس، قال: ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما،   "والعيد الثاني عيد النحر، وهو أكبر العيدين وأفضلهما وهو مترتب على إكمال الحج، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومبانيه" بعد الشهادتين "فإذا أكمل المسلمون حجهم غفر لهم" كما وعد الله تعالى "وإنما يكمل الحج بيوم عرفة، فإن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم" الذي يفوت الحج بفواته "ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم، من شهد الموسم منهم ومن لم يشهد لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة، وشرع للجميع التقرب إليه تعالى بالنسك:" العبادة "بإراقة دماء ضحاياهم، فيكون ذلك اليوم شكرا منهم لهذه النعم والصلاة والنحر الذي يجتمع في عيد النحر أفضل من الصلاة والصدقة في عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي أمره الله "أن يجعل شكره لربه على إعطائه الكوثر" نهر في الجنة "أن يصلي لربه" العيد "وينحر" الضحية "وقد ضحى -صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين" بحاء مهملة تثنية أملح وهو الذي يخالط سواده بياض، والبياض أكثر، وقال الأصمعي: هو الأغبر، وقال ابن الأعرابي: الأبيض الخالص "أقرنين" تثنية أقرن وهو الكبير القرن "ذبحهما بيده الشريفة؛ لأنه أفضل، إذ الذبح عبادة وأفضلها أن يباشرها بنفسه إن كان يحسن ذلك كالمصطفى "وسمى الله تعالى وكبر، رواه البخاري من حديث أنس". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 يقول: "بسم الله والله أكبر". وعن عائشة: أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش يطأ في سواد، ويبرك في سواد، فأتى به ليضحي به، فقال: "يا عائشة، هلمي المدية"، ثم قال: "اشحذيها بحجر" ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد"، ثم ضحى به، رواه مسلم. وعن جابر: ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين، فلما وجههما قال: "إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملة إبراهيم   "قال" أنس أيضا كما رواه البخاري وابن ماجه في الأضاحي، ومسلم والنسائي في الذبائح "ورأيته" صلى الله عليه وسلم حال كونه "واضعا قدمه" الشريفة "على صفاحهما" بكسر الصاد المهملة، وجمع وإن كان وضعه على صفحتيهما إما باعتبار أن الصفحتين من كل واحدة في الحقيقة موضوع عليهما قدمه المباركة؛ لأن إحداهما مما يلي الأخرى مما يلي الرجل، وإما أنه من باب قطعت رؤوس الكبشين. وقال في الفتح: الصفاح الجوانب، والمراد الجانب الواحد من وجه الأضحية، وإنما ثني إشارة إلى أنه فعل ذلك في كل منهما، فهو من إضافة الجمع إلى المثنى بإرادة التوزيع "يقول: بسم الله والله أكبر" وفيه وضع الرجل على صفحة عنقها الأيمن ليكون أثبت له وأمكن لئلا تضطرب الذبيحة برأسها فتمنعه من كمال الذبح أو تؤذيه. "وعن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بكبش يطأ" يمشي "في سواد" أي: قوائمه سود "ويبرك في سواد" أي أن ملاقي محل بروكه على الأرض من بدنه أسود، زاد في رواية: وينظر في سواد، أي: محاجره سود، وقد قيل: إن هذا هو المراد بالأملح، أي: أن مواضع هذه منه سود وما عدا ذلك أبيض، واختار ذلك لحسن منظره وشحمه وطيب لحمه؛ لأنه نوع يتميز به عن جنسه "فأتى به ليضحي به، فقال: "يا عائشة هلمي المدية" السكين "ثم قال: "اشحذيها" بشين معجمة فحاء مهملة فذال معجمة، سنيها "بحجر"، ففعلت" ما أمر به "ثم أخذها" أي المدية "وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، قال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى به" فأشرك آله وأمته معه في الأجر "رواه مسلم". "وعن جابر" قال: "ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوءين" بالجيم والهمز أي: مخصيين، ففيه جواز التضحية بالخصي "فلما وجههما قال: "إني وجهت وجهي: "قصدت بعبادتي "للذي فطر" خلق "السماوات والأرض"" أي الله حال كوني "على ملة إبراهيم". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 "حنيفا، وما أنا من المشركن، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبح. رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي. وفي رواية لأحمد والترمذي: ذبح بيده وقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي". فهذه أعياد المسلمين في الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب، وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب، فليس العيد من لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل بالباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب، في ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فهو سعيد، وإلا فهو مطرود بعيد. وأما أعياد المؤمنون في الجنة، فهو أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة، ويتجلى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا هو أحب   في أصل التوحيد والدعوة إليه برفق، والمجادلة مع كل أحد بحسب فهمه "حنيفا" مائلا إلى الدين القيم "وما أنا من المشركين" به "إن صلاتي ونسكي": عبادتي "ومحياي": حياتي "ومماتي" موتي "لله رب العالمين لا شريك له" في ذلك "وبذلك" أي: التوحيد "أمرت وأنا أول المسلمين" من هذه الأمة "اللهم منك" هذا المضحى به "ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر"، ثم ذبح، رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن. "وفي رواية لأحمد والترمذي" عن جابر: "ذبح" صلى الله عليه وسلم "بيده وقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي" شامل للموجودين فمن بعدهم إلى آخر الزمن، وظاهر عمومته ولو لم يضح مع القدرة وهو متجه؛ لأنها سنة لا يعصى بتركها "فهذه أعياد المسلمين في الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب" وهو لا يخلف الميعاد "فليس العيد لمن لبس الجديد" كما يظنه أبناء الدنيا "إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل باللباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب في ليلة العيد، تفرق خلع": جمع خلعة وهو ما يمنح من الثياب "العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شيء فهو سعيد". وفي نسخ: فهو له عيد "وإلا فهو مطرود بعيد" عن ذلك والعياذ بالله "وأما المؤمنون في الجنة" أي: أعيادهم "فهو أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 إليهم من ذلك وهو الزيادة، فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه. إنه يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه   ويتجلى لهم فينظرون إليه" كما ثبت في الأحاديث الصحاح "فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك، وهو الزيادة" المذكورة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] ، وزيادة فالحسنى الجنة، والزيادة هي النظر إلى الله تعالى كما في حديث مسلم: "فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه" له، وأنشد لغيره: "إن يوما جامعا شملي بهم ... ذاك عيدي ليس لي عيد سواه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 الباب الثاني: في النوافل المقرونة بالأسباب وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الكسوف الكسوف لغة: التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها.   الباب الثاني: "في النوافل المقرونة بالأسباب، وفيه أربعة فصول" "الفصل الأول: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الكسوف" بالكاف للشمس والقمر، أو بالخاء للقمر، وبالكاف للشمس. وفي مسلم عن عروة: "لا تقولوا: كسفت الشمس، ولكن قولوا: خسفت"، لكن الأحاديث الصحيحة تخالفه لثبوتها بلفظ الكسوف في الشمس من طرق كثيرة، والمشهور في استعمال الفقهاء الكسوف للشمس والخسوف للقمر، واختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح، وحكى عكسه وغلطه عياض لثبوته بالخاء في القرآن، وقيل: يقال بهما في كل منهما وبه جاءت الأحاديث، ولا شك أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف إذ "الكسوف لغة التغير إلى السواد" والخسوف النقصان أو الذل، فإذا قيل: في الشمس كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ، وكذلك القمر، ولا يلزم من ذلك ترادفهما "يقال: كسفت الشمس" بفتح الكاف، وحكي ضمها وهو نادر "إذا اسودت وذهب شعاعها" وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء وبالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال: "إنما هذه الآيات يخوف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا". رواه أبو داود والنسائي. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "يخوف الله تعالى بها عباده" رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف.   كل اللون وبالكاف لتغيره "عن قبيصة" بفتح القاف وكسر الموحدة "ابن المخارق" بضم الميم وتخفيف المعجمة ابن عبد الله الهلالي، صحابي سكن البصرة "قال: كسفت الشمس على عهد" أي: زمن "رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فخرج فزعا يجر ثوبه" زاد في رواية للبخاري: مستعجلا، وللنسائي: من العجلة، ولمسلم عن أسماء: ففزع فأخطأ يدرع حتى أدرك بردائه، يعني أنه أراد لبس ردائه فلبس الدرع من شغل خاطره بذلك، وفيه أن جر الثوب إنما يذم ممن قصد به الخيلاء "وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام ثم انصرف وانجلت" بنون وجيم، أي: صفت، وهذا محتمل أنها انجلت قبل السلام وأنها انجلت بعده، لكن في حديث عائشة في الصحيحين: وانجلت الشمس قبل أن ينصرف وهذه صريحة لا تقبل التأويل، وفي حديث أبي بكرة عند البخاري: فصلى بنا ركعتين حتى انجلت الشمس. قال الحافظ: استدل به على إطالة الصلاة حتى تنجلي، وأجاب الطحاوي بأنه قال فيه: وصلوا ودعوا، فدل على أنه سلم من الصلاة قبل الانجلاء ليتشاغل بالدعاء حتى تنجلي، وقرره ابن دقيق العيد بأنه جعل الغاية لمجموع الأمرين، ولا يلزم منه أه غاية لكل منهما على انفراده، فجاز أن يمتد الدعاء إلى غاية الانجلاء بعد الصلاة فيصير غاية للمجموع، ولا يلزم منه تطويل الصلاة، أي: عن سنتها ولا تكريرها. "ثم قال: إنما هذه الآيات" أي: الكسوف والخسوف والزلازل "يخوف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا، رواه أبو داود والنسائي" وهو بنحوه. وأبسط منه في الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس والبخاري من حديث أبي بكرة. "وفي قوله عليه الصلاة والسلام: "يخوف الله تعالى بها عباده" رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي" جرت به العادة "لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان" ذلك "كما يقولون لم يكن في ذلك تخويف" لزعمهم أنه إذا حصل للشمس أو القمر شيء من الأسباب والعلامات التي زعموها وقع الكسوف للشمس أو القمر، فإذا شاهدوه لم يخافوا؛ لأن نفوسهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 وقد رد عليهم ابن العربي وغيره، بما في حديث أبي موسى عند البخاري، حيث قال فيه: فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة، قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم تكن للأمر بالعتق والصدقة   مطمئنة بوقوعه جازمون بذلك. "وقد رد عليهم ابن العربي وغيره" لفظ الفتح وغير واحد من أهل العلم "بما في حديث أبي موسى عند البخاري" ومسلم "حيث قال فيه:" أوله كسف الشمس "فقام" النبي -صلى الله عليه وسلم- "فزعا" بكسر الزاي صفة مشبهة، ويجوز الفتح على أنه مصدر بمعنى الصفة "يخشى أن تكون الساعة" بالضم على أن كان تامة، أي: يخشى أن تحضر الساعة أو ناقصة، والساعة اسمها والخبر محذوف أو العكس، قيل: فيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهد لصورة الفزع، يحتمل أن الفزع لغير ما ذكر؛ فعلى هذا يشكل هذا الحديث من حيث إن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت، كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج، ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك، ويجاب عن هذا باحتمال أن قصة الكسوف وقعت قبل إعلام النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه العلامات، أو لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات، أو أن الراي ظن أن الخشية لذلك، وكانت لغيره كعقوبة تحدث كما كان يخشى عند هبوب الريح، هذا حاصل ما ذكره النووي تبعا لغيره. وزاد بعضهم: أن المراد بالساعة غير يوم القيامة، أي: الساعة التي جعلت علامة على أمر من الأمور، كموته -صلى الله عليه وسلم- أو غير ذلك، وفي الأول نظر؛ لأن قصة الكسوف متأخرة جدا؛ لأن موت إبراهيم كان في العاشرة باتفاق وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- بكثير من الأشراط والحوادث قبل ذلك، وأما الثالث فتحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم بذلك إلا بتوقيف، وأما الرابع فلا يخفى بعده وأقر بها الثاني، فلعله خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الكسوف والطلوع أشياء مما ذكر، وتقع متوالية بعضها إثر بعض مع استحضار قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} [النحل: 16] ، أو هو أقرب، ثم ظهر لي أنه يحتمل أن يخرج على مسألة دخول النسخ في الأخبار، فإن قيل به جاز ذلك وزال الإشكال، وقيل: لعله قدر وقوع الممكن لولا ما أعلمه الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط تعظيما منه لأمر الكسوف ليبين لمن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع، لا سيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثرها، وقيل: لعل حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط، لاحتمال أن تلك الأشراط مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع المخوف بلا شرط لفقد الشرط، قاله الحافظ. "قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع" لعل وجه التبري أنه يجوز أن يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 والصلاة معنى، يعني حديث أسماء عند البخاري "لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة في كسوف الشمس" وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا" فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر يدفع الكسوف. ومما نقض به ابن العربي وغيره أيضا أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها، وبين أهل الأرض عند اجتماعهما في العقدتين. فقال: "هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الكبير الصغير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟   علامة عادية على أمر مفزع يحدث في العالم عند حدوثه "ولو كان بالحساب لم تكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعني" الحافظ بهذا "حديث أسماء" بنت أبي بكر "عند البخاري" من أفراده: "لقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعتاقة" بفتح العين المهملة أمر ندب "في كسوف" بالكاف "الشمس" ليرفع الله به البلاء عن عباده، وهل يقتصر على العتاقة، أو هي من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، الظاهر الثاني لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] الآية، فإذا كان من التخويف فهي داعية إلى التوبة والمسارعة إلى جميع أفعال التوكل على قدر الطاقة، لما كان أشد ما يخوف به النار جاء الندب بأعلى شيء يتقى به النار، لحديث: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، فمن لم يقدر على ذلك فليعمل على الحديث العام وهو: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" ويأخذ من وجوه البر ما أمكنه، قاله ابن أبي جمرة. "وكما عنده" أي: البخاري "أيضا" وكذا مسلم "من حديث عائشة مرفوعًا: "فإذا رأيتم ذلك" أي: الكسوف "فادعوا الله" ولبعض رواة البخاري: فاذكروا الله " وكبروا وصلوا" صلاة الكسوف "وتصدقوا" بالعتق وغيره "فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف؛" لأن الصدقة تدفع العذاب أو تخففه، والدفع والتخفيف فرع عن وجود، فكأنه بين أن الكسوف يخشى منه عذاب، فأمر بالصدقة ونحوها لدفعه "وأن كل ما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يدفع به ما يخشى من أثر الكسوف" فكيف زعموا أنه سبب عادي "ومما نقض به ابن العربي وغيره أيضا" دعواهم ذلك "أنهم يزعمون أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها، وبين أهل الأرض عند اجتماعهما" الشمس والقمر "في العقدتين فقال: هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر في الجرم، فكيف يحجب الكبير الصغير" بالرفع فاعل "إذا قابله؟ أم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 وكيف يحجب الأرض نور الشمس. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله تعالى إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له". وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأوليها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. قال ابن بزيزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كروي الشكل، وظاهر الشرع يعطي   كيف يظلم الكثير بالقليل، لا سيما وهو من جنسه، وكيف يحجب الأرض نور الشمس" وهي في زاوية منها؛ لأنهم يزعمون أن الشمس أكبر من الأرض بتسعين ضعفا، هكذا في الفتح قبل قوله: "وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره: للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان" بنون بين الياء والكاف يقال: كسفت وانكسفت، وأنكرها القزاز والجوهري، حيث نسبها للعلامة، والحديث يرد عليه "لموت أحد" قاله لما مات ابنه إبراهيم وقال الناس: إنما كسفت لموته إبطالا لهذا الاعتقاد، وفائدة قوله: "ولا لحياته" مع أن السياق إنما ورد في حق من ظن أنه للموت، دفع توهم أنه لا يلزم من كونه سببا للفقد أن يكون سببا للإيجاد، فعمم الحكم لدفع هذا التوهم "ولكنهما آيتان من آيات الله" الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته، أو على تخويف عباده من سطوته وبأسه "وإن الله تعالى إذا تجلى" ظهر "لشيء من خلقه خشع له" فصرح بأن سبب الكسوف التجلي زيادة على التخويف، وكل منهما خلاف زعم أهل الهيئة أنه عادي. "وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة" أي: وإن الله.. إلخ "وقال: إنها لم تثبت" إذ الأحاديث في الصحيحين وغيرهما عن جمع من الصحابة بدونها "فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون:" أسهل "من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة. "قال" محمد "بن بزيزة" بموحدة مفتوحة وزاي مكررة، وزن سفينة الفقيه المالكي المشهور "وهذا عجب منه" أي: الغزالي "كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء، والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذي رده الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا؛ لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسي، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] . انتهى. ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، وقال: هي أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: "يخوف الله تعالى بهما عباده"، وليس بشيء؛ لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته تعالى حاكمة على كل سبب، يقتطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله   الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كروي الشكل، وظاهر يعطي خلاف ذلك، والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق في هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقف على سبب أو ربط باقتران" كما زعموا، "والحديث الذي رده الغزالي قد أثبته غير واحد من أهل العلم" بالحديث وصححوه من حيث السند "وهو ثابت من حيث المعنى أيضا؛ لأن النورية" أي كون الشيء منيرا "والإضاءة" كونه مضيا "من عالم الجمال الحسي" المشاهد بحاة البصر "فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} أي: ظهر من نوره قدر نصف أنملة الخنصر كما في حديث صححه الحاكم {لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ، أي: مدكوكا مستويا بالأرض. "انتهى" كلام ابن بزيزة. "ويؤيد هذا الحدث" أي: قوله: وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له "ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت، فبكى حتى كاد أن يموت وقال: هي أخوف لله منا" وخوفها وهي جماد يخلق الإدراك فيها، بل قد يخلق فيها حياة تدرك بها. "وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله يخوف الله تعالى بهما عباده وليس بشيء؛ لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة" كالشبع والري بالأكل والشرب "وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته تعالى حاكمة على كل سبب يقتطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله تعالى لقوة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 تعالى لقوة اعتقادهم في عموم قدرته تعالى على خرق العادة وأنه تعالى يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله: أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى. قاله في فتح الباري. وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت   اعتقادهم في عموم قدرته تعالى على خرق العادة، وأنه تعالى يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقا في نفس الأمر؛" لأن أصله مبني على تخمين وحدس "لا ينافي كون ذلك مخوفا لعباد الله تعالى، قاله في فتح الباري" رحمه الله تعالى. "وعن ابن عباس" قال الحافظ: كذا في الموطأ وفي جميع من أخرجه من طريق مالك، ووقع في رواية اللؤلؤي لسنن أبي داود عن أبي هريرة بدل ابن عباس وهو غلط. "قال: انخسفت" بنون بعد ألف الوصل ثم خاء "الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد الموطأ ومسلم: فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس معه "فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع" من الركوع "فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع" رأسه من اركوع "ثم سجد" سجدتين، فما أطال فيهما نحو الركوع، كما دلت عليه الأحاديث: "ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد" سجدتين طويلتين. قال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقياميها وركوعيها أطول من الثانية بقياميها وركوعيها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 الشمس، فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله"، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال: "إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط   وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأول وركوعه، أو هما سواء؟، قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله، وهو دون القيام الأول: هل المراد به الأول من الثانية ويرجع إلى الجميع، فيكون كل قيام دون ما قبله، ورواية الإسماعيلي تعين الثاني ولفظه الأول، فالأول أطول، ويرجحه أيضا أنه لو كان المراد بقوله: القيام الأول أول قيام من الأولى، لكان القيام الثاني والثالث مسكوتا عن مقدارهما، فالأول أكثر فائدة، قاله الحافظ "ثم انصرف" من الصلاة "و" الحال أنه "قد انجلت الشمس" قبل انصرافه، وذلك بين جلوسه في التشهد والسلام كما في حديث ابن عمر. وفي الصحيح: ثم جلس ثم جلى عن الشمس "فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان" بفتح الياء وسكون الخاء وكسر السين، ويجوز ضم أوله وفتح السين. وحكى ابن اصلاح منعه "لموت أحد ولا لحياته" بل هما مخلوقان لا تأثير لهما في أنفسهما فضلا عن غيرهما "فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت" كذا للأكثر بصيغة الماضي، وللكشميهني تناول بضم اللام بحذف إحدى التاءين وأصله: تتناول "شيئا في مقامك هذا" ولأحمد بإسناد حسن عن جابر: فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب شيئا صنعته في الصلاة لم تكن تصنعه، فذكر نحو حديث ابن عباس إلا أن في حديث جابر أنه كان في الظهر أو العصر، فإن كان محفوظا فهي قصة أخرى كما في الفتح: "ثم رأيناك تكعكعت" بكافين مفتوحتين بعد كل عين مهملة ساكنة، أي تأخرت، يقال: كع الرجل إذا نكص على عقبيه. قال الخطابي: أصله تكععت، فاستثقلوا اجتماع ثلاث عينات، فأبدلوا من إحداها حرفا مكررًا، وهذا رواية الموطأ ومسلم من طريقه وله من طريق غيره: كففت بفاءين خفيفتين، ولبعض رواة البخاري: كعكعت كالأول لكن بلا تاء أوله. "قال: "إني رأيت الجنة" رؤية عين أو علم، كما يأتي للمصنف "فتناولت منها عنقودا" أي: وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطعه "ولو أصبته" وفي رواية: ولو أخذته "لأكلتم منه" أي: من العنقود "ما بقيت الدنيا"؛ لأن ثمار الجنة لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء"، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله   مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلفت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه وبين سعيد بن منصور في روايته؛ أن التناول المذكور كان حال قيامه الثاني من الركعة الثانية "ورأيت النار" قبل رؤية الجنة، فلعبد الرزاق: عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- النار فتأخر عن مصلاه حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضا، وإذا رجع عرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه. ولمسلم من حديث جابر: "لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها"، وفيه: "ثم جيء بالجنة، وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي هذا"، وزاد فيه: "امن شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه". وفي حديث سمرة عند ابن خزيمة: "لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقون في دنياكم وآخرتكم "فلم أر منظرا"" بفتح الظاء "كاليوم" أي: الوقت الذي هو فيه "قط أفظع" أقبح وأشنع وأسوأ صفة للمنصوب، أي: لم أر منظرا مثل منظر رأيته اليوم، فحذف المرئي وأدخل كاف التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه، وبعده عن المنظر المألوف. وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا "ورأيت أكثر أهلها النساء" هذا يفسر وقت الرؤية في قوله لهن في خطبة العيد: "تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، واستشكل مع حديث أبي هريرة: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا"، فمقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة، وأجيب بحمله على ما بعد خروجهن من النار، أو أنه خرج مخرج التغليظ والتخويف، وعورض بأخباره -صلى الله عليه وسلم- بالرؤية الحاصلة. وفي حديث جابر: وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن ائتمن أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن ألحفن، وإن أعطين لم يشكرن، فدل على أن المرئي في النار منهم من اتصف بصفات ذميمة "قالوا: بم" كن أكثر أهل النار "يا رسول الله؟، قال: "بكفرهن" بموحدة، فيه وفي بم للسببية رواية البخاري من طريق مالك ومسلم من طريقه وطريق غيره، ولأكثر رواة الموطأ: لم قال: "لكفرهن"، باللام فيهما، والمعنى واحد "قيل: أيكفرن بالله؟ " بهمزة الاستفهام "قال: "يكفرن العشير" أي: الزوج، أي: إحسانه هذا هو المحفوظ عن مالك بلا واو عند جميع الرواة، عنه: إلا يحيى بن يحيى الأندلسي، فقال: ويكفرن بالواو لم يزدها غيره، قاله ابن عبد البر، فأشار إلى أنها شاذة؛ لأن المحفوظ يقابله الشاذ، وهو ما خالف الراوي فيه الملأ. وقال الحافظ: اتفقوا على أن الواو غلط منه، فإن كان المراد من تغليطه كونه خالف غيره من الرواة فهو كذلك، وأطلق على الشذوذ غلطا، وإن كان المراد فساد المعنى فليس كذلك، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط". رواه البخاري ومسلم. وقوله: "ورأيت الجنة والنار" قال القاضي عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، بأن كشف الله له عنهما، وأزال الحجب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: "في عرض هذا الحائط" -كما في رواية: في جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحي   لأن الجواب طابق السؤال، وزاد: وذلك أنه أطلق لفظ النساء، فعم المؤمنة والكافرة، فلما قيل: يكفرن بالله؟ أجاب بقوله: "ويكفرن العشير" إلخ، كأنه قال: نعم يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن من يكفرن بالله ومنهن من يكفرن الإحسان. قال: وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفرن بالله، لم يحتج إلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه. قال الكرماني: لم يعد كفر العشير -بالياء- كما عدى الكفر بالله؛ لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف. "ويكفرن الإحسان" كأنه بيان لقوله: "يكفرن العشير"؛ لأن المراد كفر إحسانه لا كفر ذاته، فالجملة مع الواو مبنية للأولى، نحو: أعجبني زيد وكرمه، والمراد بكفر الإحسان تغطيته أو جحده، ويدل عليه قوله: "لو أحسنت إلى إحداهن الدهر" نصب على الظرفية "كله" أي: مدة عمرالرجل أو الزمان مبالغة "ثم رأت منك شيئا" قليلا لا يوافق غرضها من أي نوع كان، فلتنوين للتقليل "قالت: ما رأيت منك خيرا قط" بيان للتغطية المذكورة ولو شرطية لا امتناعه. قال الكرماني: ويحتمل أنها المتناهية بأن يكون الحكم ثابتا على التعيين والمظروف المسكوت عنه أولى من المذكور، وليس المراد خطاب رجل بعينه، بل كل من يتأتي أن يخاطب فهو خاص لفظا عام معنى "رواه البخاري" عن القعنبي "ومسلم" عن إسحاق بن عيسى، كلاهما عن مالك، ومسلم أيضا من طريق حفص بن ميسرة، كلاهما عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس "وقوله: "ورأيت الجنة والنار". "قال القاضي عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين" بصرية حقيقية "بأن كشف الله له عنهما وأزال الحجب بينه وبينهما" فرآهما على حقيقتهما، وطويت المسافة بينهما "كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه" لقريش "ويكون قوله عليه السلام "في عرض" بضم العين "هذا الحائط كما في رواية في جهته وناحيته" أي أنه انكشف له عنهما من هذه الجهة "ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحي باطلاعه وتعريفه من أمورهما" أمرا "مفصلا ما لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضي: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى. واستشكل قوله: "ولو أصبته" مع قوله: "تناولت". وأجيب: بحمل "التناول" على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسي ولو أخذته لكم، حكاه الكرماني، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه، ولو أصبته، أي لو تمكنت من قطفه، ويدل   يعرفه قبل ذلك اليوم". "قال القاضي" عياض: "والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار" بفتح الالم وسكون الفاء وحاء مهملة، لهبها وتأثيرها. "انتهى". قال الحافظ: ويؤيد الحقيقة حديث أسماء عند البخاري، بلفظ: "دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها"، ومنهم من حمله على أنها مثلت له في الحائط كما تنطبع الصور في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس عند البخاري في التوحيد: "لقد عرضت علي الجنة آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي". وفي رواية: لقد مثلت، ولمسلم: "لقد صورت"، ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة؛ لأنه شرط عادي، فيجوز أن تنخرق العادة خصوصا للنبي -صلى الله عليه وسلم، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين، بل مرارا على صور مختلفة، وأبعد من قال: المراد بالرؤية رؤية العلم. قال القرطبي: لا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه -صلى الله عليه وسلم- إدراكا خاصا أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما. انتهى. "واستشكل قوله: ولو أصبته مع قوله: تناولت" إذ التناول إصابة وأخذ "وأجيب بحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسي ولو أخذته لكم، حكاه الكرماني". "قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد" إذ لا دليل عليه "وقيل: المراد بقوله: تناولت وضعت يدي عليه بحيث كنت قادرا على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه" أي: قطعه مصدر قطف كضرب ونصر "ولو أصبته أي: لو تمكنت من قطفه" بالفاء "ويدل عليه قوله في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئا، وفي حديث أسماء عند البخاري: "حتى لو اجترأت عليه" وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود؛ لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى. وفي حديث أسماء بنت أبي بكر، عند البخاري ومسلم ومالك والنسائي قال: "ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، ولقد   حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئا". "وفي حديث أسماء" بنت أبي بكر "عند البخاري" في أوائل صفة الصلاة "حتى لو اجترأت عليه، وكأنه لم يؤذن له في ذك فلم يجترئ عليه" بالهمز، وقيل: الإرادة مقدرة، أي: أردت أن أتناول ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم: "ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل"، وللبخاري من حديث عائشة: "حتى لقد رأيتني أريد آخذا قطفا من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم"، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة: " أردت أن آخذ منها قطفا أريكموه" فلم يقدر، ولأحمد من حديث جابر: "فحيل بيني وبينه". "قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود؛ لأنه من طعام" أهل "الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية، لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى". وقيل: لأنه لو رآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسا. إيمانها، وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة. وحكى ابن العربي في قانون التأويل عن بعض شيوخه أن معنى قوله: "لأكلتم منه ... " إلخ، أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائما، بحيث لا يغير عن ذوقه، وتعقب بأنه رأي فلسفي مبني على أن الدار الآخرة لا حقائق لها، وإنما هي أمثال، والحق أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلفت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، والفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه. انتهى من الفتح. "وفي حديث أسماء بنت أبي بكر" الصديق "عند البخاري" من طريق مالك وغيره "ومسلم" من طرق "ومالك" في الموطأ "والنسائي" أنها قالت: أتيت عائشة حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس! فأشارت بيدها نحو السماء، فقلت: آية! فأشارت برأسها أن نعم، قالت: فقمت حتى تجلاني الغشي، وجعلت أصب فوق رأسي ماء، فلما انصرف -صلى الله عليه وسلم- حمد الله وأثنى عليه، ثم "قال: "ما من شيء" من الأشياء "كنت لم أره إلا قد رأيته" رؤية عين حقيقة "في مقامي" بفتح الميم "هذا" صفة مقامي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم، مثل أو قريبا -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم في قبره يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد   وتعسف من جعله خبر محذوف، أي: هو هذا المشار إليه "حتى الجنة والنار" ضبط بالحركات الثالث فيهما، كما قال الحافظ وغيره، فالرفع على أن حتى ابتدائية والجنة مبتدأ محذوف الخبر، أي: مرئية والنار عطف عليه، والنصب على أنها عاطفة على الضمير المنصوب في رأيته، والجر على أنها جارة أو عاطفة على المجرور السابق، وهو شيء وإن لزم عليه زيادة من مع المعرفة، والصحيح منعه؛ لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع؛ ولأن المقدر ليس كالملفوظ به، ومفاد الأغياء أنه لم يرهما قبل، مع أنه رآهما ليلة المعراج وهو قبل الكسوف بزمان. وأجيب بأن المراد هنا في الأرض بدليل قوله: في مقامي هذا، أو باختلاف الرؤية "ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون" تمتحنون وتختبرون "في قبوركم مثل" بلا تنوين "أو قريبا" بالتنوين، وقوله: "لا أدري، أي: ذلك" أي: مثل أو قريبا "قالت أسماء" مقول فاطمة بنت المنذر بن الزبير رواية الحديث عن جدتها أسماء "من فتنة المسيح الدجال" الكذاب. قال الكرماني: وجه الشبه بين الفتنتين الشدة والهول والهموم. وقال الباجي: شبهها بها لشدتها وعظم المحنة بها وعدم الثبات معها "يؤتى أحدكم في قبره" والآتي ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير، رواه الترمذي وابن حبان، لكن قال منكر ونكير بدون أل، وذكر بعض الفقهاء؛ أن هذا اسم اللذين يسألان المذنب، واسم اللذين يسألان المطيع بشر وبشير "يقال له: ما علمك" مبتدأ خبره "بهذا الرجل"؟ محمد -صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: برسول الله لئلا يكون تلقينا للحجة. قال عياض: قيل: يحتمل أنه مثل للميت في قبره، والأظهر أنه سمي له. انتهى، يعني: لأنه المتبادر من قوله في الصحيحين عن أنس، " فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد"، وكذا في رواية ابن المنكدر عن أسماء عند أحمد. "فأما المؤمن أو الموقن" أي: المصدق بنبوته "لا أدري أي ذلك، قالت أسماء": شكت فاطمة قال الباجي: والأظهر أنه المؤمن، لقوله: فآمنا دون أيقنا، أو لقوله: لمؤمنا "فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات" المعجزات الدالة على نبوته "والهدى" الدلالة الموصلة إلى البغية "فأجبنا واتبعنا" بحذف ضمير المفعول فيهما للعلم به. وفي رواية الموطأ والبخاري: فأجبنا وآمنا واتبعنا "هو محمد ثلاثا" هكذا في رواية مسلم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته". وفي رواية: "فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا". وفي رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه في النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب.   ولفظه: فيقول: "هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا ثلاث مرات "فيقال"" له: "نم" حال كونك "صالحا" منتفعا بأعمالك، إذ الصلاح كون الشيء في حد الانتفاع "قد علمنا أن كنت لموقنًا" بالقاف، كذا رواه إسماعيل بن أبي أويس في الموطأ، ولباقي رواته لمؤمنا بالميم، وللترمذي من حديث أبي هريرة: "فيقال له نم، فينام نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، ويفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا، وينور له كالقمر ليلة البدر". وفي حديث البراء: "فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي افرشوه من الجنة وافتحوا له باب من الجنة وألبسوه من الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له مد بصره". "وأما المنافق" من لم يصدق بقلبه بنبوته "أو المرتاب" الشاك، قالت فاطمة: "لا أدري أي ذلك قالت أسماء: فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته" زاد الشيخان من حديث أنس: "فيقولان: لا دريت ولا تليت"، وفي حديث أبي هريرة: "ويفتح له باب إلى النار فيزداد حسرة وثبورا، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه". "وفي رواية" عن جابر: "فرأى امرأة" في النار "تخدشها هرة" بضم الدال جزاء لها على فعلها، معها، ولا يكون ذلك تعذيبا للهرة "ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا" ولمسلم من حديث جابر: "وعرضت علي النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". وفي رواية له: "ورأيت في النار امرأة حميرية سوداء طويلة ولم يقل: من بني إسرائيل"، فإن قيل: هذه الفعلة صغيرة فكيف عذبت عليها بالنار؟، أجيب: بأنها أصرت على فعلها، والإصرار على الصغير يصيرها كبيرة. "وفي رواية" لمسلم عن جابر: "فرأى" لفظه عقب قوله: خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة "عمرو بن مالك يجر قصبه في النار". قال الدارقطني: تقدم، أي: في مسلم في حديث يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة، أن الذي رآه في النار عمرو بن لحي الذي سبب السوائب، وهو الصواب "وكان أول من غير دين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 قوله: "قصبه" بضم القاف وسكون الصاد، أي أمعاءه. وفي رواية عائشة: ثم قال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن   إبراهيم" فنصب الأوثان وبحر البحيرة وأخواتها المذكورة في الآية "ورأى فيها سارق" متاع "الحاج يعذب" كما في حديث جابر عند مسلم: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار، وذلك حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإذا فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به". "قوله: قصبه بضم القاف وسكون الصاد" المهملة "أي: أمعاءه" جمع معي، وهي المصارين. "وفي رواية عائشة" في الموطأ والصحيحين من طريقه: "خسفت الشمس، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث في صلاة الخسوف، وفيه: ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعو الله وكبروا وتصدقوا" ثم قال: "يا أمة محمد" فيه معنى الإشفاق كما يخاطب الواحد ولده إذا أشفق عليه: يا بني، وكان قضية ذلك أن يقول: يا أمتي، لكنه أظهر لحكمة لعلها أن المقام مقام تحذير وتخويف لما في الإضافة إلى المضمر من الإشعار بالكريم، ومثله: "يا فاطمة بنت محمد" إلى أن قال: "لا أغني عنكم من الله شيئا" "والله" أتى باليمين لإرادة تأكيد الخبر وإن كان لا ريب فيه "ما من أحد أغير" بالنصب خبر ومن زائدة، ويجوز الرفع على لغة تميم، أو هو بالخفض بالفتحة صفة لأحد والخبر محذوف، أي: موجودا غير "من الله" أفعل تفضيل من الغيرة بفتح المعجمة، وهي لغة ما يحصل من الخمسة ما لا ثقة وأصله في الزوجين والأهلين، وذلك على الله محال؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص، فتعين حمله على المجاز، فثبل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم وزجر من يقصد إليهم، أطلق عليه ذلك؛ لأنه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعد عليه، فهو من تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجرا عن الفواحش من الله، وقال غيره: غيرة الله ما يغير حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في إحداهما. وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين إما ساكت وإما مؤول بأن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية فهو من مجاز الملازمة. وقال الطيبي وغيره: وجه اتصال هذه بقوله: فاذكروا الله.. إلخ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والصلاة والصدقة ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء، وخص منه الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك، وقيل: لما كان من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 يزني عبده أو تزني أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا، ألا هل بلغت". أي لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرا، ولقل ضحككم لتفكركم فيما علمتموه. وفي حديث عائشة عند البخاري: فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال: "سمع الله لمن حمده"، فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهي أدنى من القراءة   في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب العزة؛ "أن يزني عبده أو تزني أمته" متعلق بأغير، وحذف من قبل أن قياس مستمر، وتخصيصهما بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله لتنزهه عن الزوجة والأهل ممن تتعلق بهم الغيرة غالبا "والله" لفظ الموطأ والصحيحين: يا أمة محمد والله بتكرير النداء تنبيها على ما بينه من الفزع إلى الله "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا" بالفتح والتخفيف "هل بلغت" ما أمرت به من الإحذار والإنذار وغير ذلك مما أرسلت به، وهذا أعني: ألا هل بلغت من رواية مسلم من طريق عبد الله بن نمير عن هشام عن عروة عن عائشة، وليست في رواية البخاري من طريق مالك عن هشام "أي: لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها" أي: الأهوال "كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيرا ولقل ضحككم لتفكركم فيما علمتموه" قيل: معنى القلة هنا العدم والتقدير لتركتم الضحك، أو لم يقع منكم إلا نادرا لغلبة الخوف واستيلاء الحزن، وقيل: معناه لو دام علمكم كما دام علمي؛ لأن علمه متواصل بخلاف غيره، وقيل: معناه لو علمتم من سعة رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما علم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك. "وفي حديث عائشة عند البخاري" ومسلم وغيرهما قالت: خسفت الشمس في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- "فخرج إلى المسجد" لا الصحراء لخوف الفوات بالانجلاء والمبادرة إلى الصلاة مشروعة "فصف الناس" بالرفع، أي: اصطفوا، ويجوز النصب والفاعل محذوف وهو النبي -صلى الله عليه وسلم، قاله الحافظ: فأفاد أن الرواية بالرفع "وراءه" خلفه "فكبرنا" تكبيرة الإحرام "فاقترأ" أي: قرأ "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قراءة طويلة" نحوا من سورة البقرة "ثم كبر فركع ركوعا طويلا" مسبحا فيه قدر مائة آية من البقرة "ثم قال: "سمع الله لمن حمده" أي: أجاب دعاءه "فقام" من الركوع "ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة وهي أدنى" أي: أقل "من القراءة الأولى" وهي نحو من سورة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 الأولى، وزاد في رواية: "ربنا ولك الحمد". واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه. والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعا؛ لأنها أصل برأسها. وبهذا رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شيء بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، وكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين النص والقياس،   آل عمران. "وزاد في رواية" للبخاري ومسلم "ربنا ولك الحمد". قال المصنف: بالواو. "واستدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال" وهو سمع الله ... إلخ "في أول القيام الثاني من الركعة الأولى، واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه" متعلق باتفاق "وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه" فقال: لا يقرأ الفاتحة "والجواب؛ أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله فيها كان مشروعا؛ لأنها أصل برأسها" لا تقاس بغيرها "وبهذا رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف" عبارة الفتح، وقد أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه أحرى في القياس على صلاة النوافل، لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف "أشبه شيء بصلاة العيد ونحوها مما يجمع فيه من مطلق النوافل" بيان لما "فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، وكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين النص والقياس" كذا في نسخ بدل من العملين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 بخلاف من لم يعمل به. وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره، ومن زيادة ركوع في كل ركعة، وقد وردت زيادة في ذلك من طريق أخرى، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن في كل ركعة أربع ركوعات، ولأبي داود من حديث أبي بن كعب، والبزار من حديث علي: أن في كل ركعة خمسة ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة. ونقل ابن القيم في "الهدي" عن الشافعي وأحمد والبخاري: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم موت إبراهيم عليه   وفي أخرى بين العمل بالإفراد النص والقياس بدون ياء "بخلاف من لم يعمل به" فقد خالف النص "وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة في القيام وغيره" كالركوع والسجود "ومن زيادة ركوع في كل ركعة" وذلك مما يوضح أنها أصل برأسها، وقد وافق عائشة على رواية ذلك ابن عباس وابن عمرو في الصحيحين، وأسماء بنت أبي بكر عند البخاري، وجابر عند مسلم، وعلي عند أحمد، وأبو هريرة عند النسائي، وابن عمر عند البزار، وأبو سفيان عند الطبراني، وفي رواياتهم زيادة رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها، وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا: هكذا في الفتح قبل قوله: "وقد وردت زيادة في ذلك من طرق أخرى". "فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر، أن في كل ركعة ثلاث ركوعات، وعنده" أي: مسلم "من وجه" أي: طريق "آخر عن ابن عباس؛ أن في كل ركعة أربع ركوعات" ولفظه عن طاوس، عن ابن عباس: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات، وعن علي مثله. "ولأبي داود من حديث أبي بن كعب والبزار من حديث علي: أن في كل ركعة خمس ركوعات، ولا يخلو إسناد منها عن علة". قال الحافظ: وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبد البر. "ونقل ابن القيم في الهدي عن الشافعي، وأحمد والبخاري؛ أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعن في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم موت إبراهيم ابنه عليه السلام وإذا اتحدت القصة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 السلام، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح. وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووي في شرح مسلم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك. وتعقبه النووي وغيره: بأن إبطاء الإنجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه، منوي من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح الباري.   تعين الأخذ بالراجح"، وجمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدد الواقعة، فإن الكسوف وقع مرا، فيكون كل من هذه الأوجه جائزا وإلى ذلك نحا إسحاق، لكن لم تثبت عنده الزيادة على أربع ركوعات. "وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووي في شرح مسلم" إعمالا لكل الأحاديث. "وأبدى بعضهم، أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة" فصلى ركعتين "وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك" وهو خمس ركوعات على ما مر. "وتعقبه النووي وغيره، بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال، ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوي من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح الباري" ظاهر المصنف أنه لم يجب عن هذا التعقب مع أن عقبه في الفتح ما لفظه، وأجيب باحتمال أن يكون الاعتماد على الركعة الأولى، وأما الثانية فهي تبع لها، فمهما اتفق وقوعه في الأولى بسبب بطء الانجلاء يقع مثله في الثانية ليساوي بينهما، ومن ثم قال أصبغ: إذا وقع الانجلاء في أثنائها تصلى الثانية كالعادة، وعلى هذا فيدخل المصلي فيها على نية مطلق الصلاة، ويزيد في الركوع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 وعند الإمام أحمد: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما سلم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبده ورسوله، ثم قال: "يا أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي لما أخبرتموني ذلك" فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك، ثم قال: "وأيم الله لقد رأيت منذ قمت أصلي ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور   بحسب الكسوف، ولا مانع من ذلك. وأجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع، فحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا؟ فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه، ففعل ذلك مرة أو مرارا، فظنه بعض من رآه يفعل ذلك ركوعا زائدا، وتعقب بالأحاديث الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل، ولا سيما الأخبار الصريحة أنه قال: ذكر الاعتدال، ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعله -صلى الله عليه وسلم- عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصاة لا عهد بها، وهو ما فر منه. انتهى. "وعند الإمام أحمد أنه -صلى الله عليه وسلم- لما سلم" من صلاة الكسوف "حمد الله وأثنى عليه" عطف عام على خاص "وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبده ورسوله" بتقديم العبودية؛ لأن له بها مزيد اختصاص؛ ولأنه كان عبدا قبل أن يكون رسولا "ثم قال: "يا أيها الناس أنشدكم": أسألكم "بالله إن كنتم تعلمون أني قصرت عن شيء من تبليغ رسالات ربي" لعل المعنى في بيان مجمل ما أرسل به، كالصلاة والزكاة والحج ونحوها مما أجمل في القرآن، وبينه -صلى الله عليه وسلم- بالقول والفعل، كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] الآية، ما أرسل بتبليغه، وإذا بلغهم لم يكن مقصرا "لما" بالفتح والتشديد، بمعنى ألا "أخبرتموني ذلك فقام رجل: فقال: نشهد" بنون الجماعة إشارة إلى أنه متكلم عن نفسه وعن جميع الحاضرين؛ "أنك قد بلغت رسالات ربك" جميعها ولم تكتم شيئا "ونصحت لأمتك وقضيت الذي عليك"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وأيم الله" قسم "لقد رأيت منذ قمت أصلي" الكسوف "ما أنتم لاقوه من أمر دنياكم وآخرتكم وأنه" أي: الشأن "والله" أقسم للتأكيد "لا تقوم الساعة" القيامة "حتى يخرج ثلاثون كذابا". زاد في رواية: "كلهم يزعم أنه رسول الله وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"، وليس المراد من ادعى النبوة مطلقا؛ لأنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك من جنون أو سوداء، وإنما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 "الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله". وفي البخاري: قالت عائشة وأسماء: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهي ذات كثرة. والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد   المراد من قامت له شوكة، كمسيلمة والأسود "آخرهم الأعور" عينه اليمنى، وروي اليسرى، وجمع بأن إحداهما مطموسة والأخرى معيبة والعور العيب "الدجال" الذي يزعم الإلاهية "من تبعه لم ينفعه صالح من عمله"؛ لأنه كفر. "وفي البخاري" تعليقا "قالت عائشة وأسماء" بنتا الصديق: "خطب النبي -صلى الله عليه وسلم" في الكسوف، أما حديث عائشة فرواه البخاري ومسلم عنهما بلفظ: ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس، وأما حديث أسماء فأخرجاه عنها بلفظ: فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تجلت الشمس، فخطب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد". "وقد اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق" ابن راهوية "وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد" بن حنبل "ذلك" أي استحبابها. "وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه" أي: المذكور "لم ينقل، وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه وهي ذات كثرة، والمشهور عند المالكية أن لا خطبة لها مع أن مالكا" في الموطأ "روى الحديث" أي: حديث عائشة "وفيه ذكر الخطبة؛" لأنه حملها على الوعظ، فقال: يستحب الوعظ بعد الصلاة. قال العلامة بهرام: وإنما لم نقل بالخطبة، وإن سمت عائشة ما ذكره -صلى الله عليه وسلم- خطبة؛ لأن جماعة من الصحابة منه علي وابن عباس وجابر وأبو هريرة نقلوا صفة صلاة الكسوف، ولم يقل أحد منهم أنه خطب فيها، ولا يجوز أنه خطب، وأغفلوه مع نقل كل واحد ما يتعلق بتلك الحال، فوجب حمل تسمية عائشة خطبة على معنى أنه أتى بكلام منظوم فيه حمد وصلاة وموعظة على سبيل ما يأتي في الخطبة. انتهى. "وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس. وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل. انتهى. وعن المغيرة بن شعبة عند البخاري: كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله". وإبراهيم هو ابن النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة   الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس؛" لأنهم قالوا: كسفت لموت إبراهيم "وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف" لكن يرد على هذا أن القائلين بالخطبة قالوا: المستحب خطبتان كالجمعة، فلا يجزي واحدة، وليس في شيء من الأحاديث تصريح بأنه خطب خطبتين، فتعين حمل الخطبة على الوعظ المستحب بعد الصلاة، كما قال مالك: "والأصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل. انتهى" مثله في الفتح، ولعل ثم من أجاب بأن الخطبة من خصائصه حتى رد عليه بذلك، وإلا فليس لهذا تعلق بما قبله. "وعن المغيرة بن شعبة عند البخاري" ومسلم قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عله وسلم- يوم مات إبراهيم" آخر أولاده عليه السلام "فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم" بفتح الكاف والسين والفاء "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله" الدالة على عظم قدرته "لا ينكسفان" بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فكاف مكسورة "لموت أحد" كما زعموا "ولا لحياته" كما قد يتوهم "فإذا رأيتموهما" بالتثنية لبعض رواة الصحيحين، وكذا رواه الإسماعيلي، أي: إذا رأيتم كسوف كل منهما لاستحالة وقوع ذلك فيهما معا في حالة واحدة عادة وإن جاز في القدرة الإلهية. وفي رواية: فإذا رأيتموها، أي: الآيات، وفي أخرى: فإذا رأيتم بحذف المفعول، أي: شيئا من ذلك، وللإسماعيلي: فإذا رأيتم ذلك "فصلوا وادعوا الله"، وفي رواية للبخاري: "فادعوا الله وصلوا حتى ينجلي" "وإبراهيم هو ابن النبي -صلى الله عليه وسلم" من مارية القبطية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 العاشرة من الهجرة، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه وقيل: في رابع عشره، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمكة إذ ذاك في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف. نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان في آخر ذي القعدة حين رجع منها. وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض. قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان في غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما.   "وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، فقيل: في ربيع الأول" منها "وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، والأكثر على أنها وقعت في عاشر الشهر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشره" وفي هذا رد على زعم أهل الهيئة أنه لا يقع في الأوقات المذكورة، وقد فرض مالك والشافعي اجتماع عيد وكسوف، واعترضه بعض من اعتمد قول أهل الهيئة، وانتدب أهل المذهبين لدفع قول المعترض فأصابوا "ولا يصح شيء منها" أي: هذه الأقوال الثلاثة "على قول" أنه مات في "ذي الحجة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان بمكة إذ ذاك في الحج، وقد ثبت أنه شهد" أي: حضر "وفاته" أي: إبراهيم "وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح" أنه كان في ذي الحجة. "وجزم النووي بأنها كانت سنة الحديبية" واستشكل بأنه كان حينئذ بالحديبية وموت إبراهيم بالمدينة، ويجاب بأنه رجع من الحديبية في آخر ذي القعدة "فلعل ذلك كان في آخر ذي القعدة حين رجع منها، وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض". "قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في لأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة عن أنفسهما" وفيه ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشفقة على أمته وشدة الخوف من ربه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 وعن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نودي: أن الصلاة جامعة. رواه البخاري. وقوله: "أن" بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهي المفسرة. أن له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- مناديا ينادي: أن الصلاة جامعة. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام. وروى ابن حبان أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم، وأخرجه الدارقطني أيضا. وفيه: رد على من أطلق -كابن رشيد- أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصل في كسوف القمر،   "وعن عبد الله بن عمرو" بفتح العين ابن العاصي "قال: لما كسفت" بفتحات "الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نودي أن الصلاة جامعة". قال الحافظ، وللكشميهني: نودي بالصلاة جامعة بالنصب فيهما على الحكاية، ونصبت الصلاة في الأصل على الإغراء وجامعة على الحال، أي احضروا الصلاة في حالة كونها جامعة، وبرفعهما على أن الصلاة مبتدأ، وجامعة خبره ومعناه ذات جامعة، وقيل: جامعة صفة والخبر محذوف تقديره احضروها، وعن بعض العلماء: يجوز نصبهما ورفعهما، ورفع الأول ونصب الثاني وعكسه "رواه البخاري" ومسلم. "قوله؛ أن بفتح الهمزة وتخفيف النون وهي المفسرة" فالصلاة مبتدأ خبره جامعة، زاد المصنف كالحافظ: وروى بكسر الهمزة وتشديد النون والخبر محذوف تقديره إن الصلاة ذات جامعة، أي: حاضرة "وله" أي: البخاري "ولمسلم من حديث عائشة" أن النبي خسفت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فـ"بعث -صلى الله عليه وسلم- مناديا ينادي إن الصلاة جامعة" وظاهر الحديث أن ذلك كان قبل اجتماع الناس، وليس فيه أنه بعد اجتماعهم نودي الصلاة جامعة حتى يكون ذلك بمنزلة الإقامة التي يعقبها الفرض. "قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث ججة لمن استحب ذلك، وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام" أي: الكسوف. "وروى ابن حبان" عن أبي بكرة "أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين بمثل صلاتكم" النوافل المعتادة بدون زيادة قيامين وركوعين "وأخرجه الدارقطني أيضا، وفيه رد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 ومنهم من أول قوله: "صلى" أي أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين. وقال ابن القيم في "الهدي": لم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة له: أن القمر خسف في السنة الخامسة، فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقي في نظمها. وفي البخاري من حديث عائشة: جهر النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، وإذا رفع من الركعة قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف، أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. واستدل به عن الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد؛ لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم،   على من أطلق كابن رشيد" بضم الراء مصغرا؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصل في كسوف القمر، ومنهم من أول قوله صلى، أي: أمر بالصلاة جمعا بين الروايتين" بالنفي والإثبات. "وقال ابن القيم في الهدي: لم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى في كسوف القمر في جماعة، لكن حكى ابن حبان في السيرة له أن القمر خسف" بفتحات "في السنة الخامسة" من الهجرة "فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور، وقد جزم به مغلطاي في سيرته المختصرة" المسماة بالإشارة "وتبعه الحافظ زين الدين العراقي في نظمها" فيفيد قوته. "وفي البخاري" ومسلم "من حديث عائشة: جهر النبي -صلى الله عليه وسلم- في صلاة الخسوف" بالخاء "بقراءته، فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، وإذا رفع" رأسه "من الركعة قال: "سمع الله لمن حده ربنا ولك الحمد" بالواو "ثم يعاود القراءة في صلاة الكسوف أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات". قال المصنف: ينصب أربع عطفا على أربع السابق "واستدل به عن الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر". "قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد؛ لأن الإسماعيلي روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد" بن مسلم الدمشقي راوي هذا الحديث، عن عبد الرحمن بن نمر -بفتح فكسر- عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 وفي مسند أبي داود الطيالسي أنه -صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الكسوف. وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره. وقال به صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية. وقال الطبري: يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر. واحتج الشافعي بقول ابن عباس: "قرأ نحوا من سورة البقرة؛" لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير. وقد روى الشافعي تعليقا عن ابن عباس أنه صلى جنب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكسوف فلم يسمع منه حرفا، ووصله البيهقي من ثلاث طرق   الزهري، عن عروة، عن عائشة "بلفظ: كسفت" بفتحات "الشمس في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فصرح بالشمس. "وفي مسند أبي داود" سليمان بن داود "الطيالسي؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة في صلاة الكسوف" لم يذكر الحافظ هذا دليلا على أنه في كسوف الشمس، إذ لا تصريح فيه بذلك، وإنما ذكره بعد ذك في قول البخاري: تابعه سليمان بن كثير في الجهر، فقال: يعني بإسناده المذكور، وهذه المتابعة وصلها أحمد عن عبد الصمد، عن سليمان بلفظ: خسفت الشمس على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم، فأتى فكبر، فكبر الناس، ثم قرأ فجهر بالقراءة، الحديث. ورويناه في مسند الطيالسي عن سليمان بهذا الإسناد مختصرا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة في صلاة الكسوف "وقد ورد الجهر فيها عن علي مرفوعًا" إلى النبي -صلى الله عليه وسلم وموقوفا" على علي "أخرجه ابن خزيمة وغيره، وقال به صاحبا أبي حنيفة" محمد وأبو يوسف "وأحمد وإسحاق" بن راهويه "وبن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية"، ومحدثيهم "وقال الطبري" محمد بن جرير: "يخير بين الجهر والإسرار" لاختلاف الأحاديث. "وقال الأئمة الثلاثة" أبو حنيفة ومالك والشافعي: "يسر في الشمس ويجهر في القمر، واحتج الشافعي بقول ابن عباس" في الصحيحين: "قرأ نحوا من سورة البقرة؛ لأنه لو جهر لم يحتج إلى التقدير" بل كان يصرح بخصوص ما قرأ به، زاد الحافظ وتعقب باحتمال أن يكون بعيدا منه "و" لكن "قد روى الشافعي تعليقا" أي: بغير إسناد "عن ابن عباس أنه صلى إلى جنب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الكسوف فلم يسمع منه حرفا" فهذا يدفع ذلك الاحتمال "ووصله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 أسانيدها واهية. وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد فالأخذ به أولى. قال ابن العربي: الجهر عندي أولى؛ لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى ملخصا والله أعلم. الفصل الثاني: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستسقاء اعلم أن الاستسقاء طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها، كما تقول: استعطى: أي طلب العطاء. ولم يخالف أحد من العلماء في سنية الصلاة في الاستسقاء إلا أبو حنيفة محتجا بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة. واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الاستسقاء ركعتين. وأما الأحاديث التي ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على   البيهقي من ثلاث طرق أسانيدها واهية" ضعيفة جدا "وعلى تقدير صحتها فمثبت الجهر معه قدر زائد، فالأخذ به أولى" أحق لجواز أن عدم سماع ابن عباس وهو بجنبه لمانع قام به حينئذ، زاد الحافظ: وإن ثبت التعدد، فيكون فعل ذلك لبيان الجواز، وهكذا الجواب عن حديث سمرة عند ابن خزيمة والترمذي لم يسمع له صوتا أنه إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. "قال ابن العربي: الجهر عندي أولى" من السر؛ "لأنها صلاة جماعة ينادى لها ويخطب" فيه شيء إذ هو استدلال بمختلف فيه، إذا النداء والخطبة مختلف فيهما "فأشبهت العيد والاستسقاء. انتهى". كلام الحافظ ابن حجر "ملخصا، والله أعلم" بحقيقة ما فعل هل جهر أو أسر. "الفصل الثاني: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستسقاء" "اعلم أن الاستسقاء" لغة كما في الفتح: طلب سقي الماء من الغير للنفس أو للغير، وشرعا "طلب السقيا من الله تعالى عند الحاجة إليها" لحصول الجدب "كما تقول: استعطى، أي: طلب العطاء" فالسين للطلب "ولم يخالف أحد من العلماء في سنية الصلاة في الاستقساء" ركعتين "إلا أبو حنيفة" فقال: بدعة "محتجا بأحاديث الاستسقاء التي ليس فيها صلاة، واحتج الجمهور بالأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما" من طرق عديدة "أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الاستسقاء ركعتين" فهذا نص صريح في محل النزاع. "وأما الأحاديث التي ليس فيها الصلاة، فبعضها محمول على نسيان الراوي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 نسيان الراوي، وبعضها كان للخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة فاكتفي بها، ولو لم يصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة، ولا خلاف في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأن فيها زيادة علم، ولا معارضة بينهما. والاستسقاء أنواع: الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين، وبتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة، وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال ابن عباس: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الاستسقاء متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا حتى أتى المصلى، فرقى المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل   وبعضها كان للخطبة للجمعة، وتعقبه صلاة الجمعة، فاكتفى بها" كما اكتفى بخطبة الجمعة عن خطبة الاستسقاء "ولو لم يصل أصلا كان بيانا لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة ولا خلافه في جوازه، وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأن فيها زيادة علم" من راويها على من لم يروها "ولا معارضة بينهما" أي: بين الأحاديث التي لا صلاة فيها وبين التي فيها الصلاة "والاستسقاء أنواع" خمسة على ما عد. "الأول: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين" كالعيد "وبتأهب" استعداد "قبله بصدقة وصيام" استحبابا، ولا يأمر بهما الإمام "وتوبة" ويأمر بها "وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى" رجاء الإجابة، فمبني الاستسقاء الاستغفار والتوجه إلى الله بجوامع الهمة، شكا رجل إلى الحسن البصري الجدب، فقال: استغفر الله، وآخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [هود: 52] . "قال ابن عباس: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الاستسقاء مبتذلا" أي: لابسا ثوب البذلة بالكسر، وهو الثوب الخلق وما لا يصان من الثياب "متواضعا" زيادة على عادته "متخشعا متضرعا". قال القاموس: تخشع تضرع وهو الخضوع والذلة والاستكانة، والخشوع الخضوع أو قريب منه، أو هو في البدن، والخشوع في البصر والصوت والسكون والتذلل. "حتى أتى المصلى" المكان المعروف بالمدينة "فرقي" بكسر القاف وقد تفتح، أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد. رواه الترمذي وغيره. وفي حديث عبد الله بن زيد المازني، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلى يستسقي، ثم استقبل القبلة وقلب رداءه، ثم صلى. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: خرج بالناس إلى المصلى يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة واستقبل يدعو، ورفع يديه وحول رداءه.   صعد "المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيد، رواه الترمذي" وقال: حسن صحيح "وغيره" أحمد وباقي الأربعة أصحاب السنن. "وفي حديث عبد الله بن زيد" بن عاصم بن كعب الأنصاري "المازني" بكسر الزاي صاحب حديث الوضوء لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب رؤيا الأذان كما زعم سفيان بن عتبة، وقد وهمه البخاري. قال الحافظ: وقد اتفقا في الاسم واسم الأب والنسبة إلى الأنصار، ثم الخزرج والصحبة، والرواية: وافترقا في الجد والبطن الذي من الخزرج؛ لأن فخذ عاصم من مازن وفخذ عبد ربه من الخزرج. "قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المصلى:" المكان الذي يصلي فيه بالصحراء؛ لأنه أبلغ في التواضع وأوسع للناس، زاد في رواية: بالناس "يستسقي" يطلب من الله السقي بدعائه وتضرعه، فهو حل من النبي -صلى الله عليه وسلم، أي: خرج حال كونه مستسقيا، ويحتمل أن يكون يستسقي مقدرا بلام كي محذوفة، أي: خرج لكي يستسقي. وفي أكثر الروايات: فاستسقى "وقلب" ولبعض الرواة: وحول "رداءه ثم صلى" ركعتين "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، إلا أن لفظ: ثم إنما وقع في رواية لهما، وأكثر الروايات عندهما وعند غيرهما، وصلى ركعتين بالواو وهي لا تقتضي الترتيب، وفي كثير من الأحاديث: التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم- خطب بعد الصلاة، فعلم أن لفظه: ثم وهم من الراوي، قاله المصنف على مسلم. "وفي رواية" لأبي داود عن عبد الله بن زيد: "خرج بالناس إلى المصلى" حال كونه "يستسقي" أي: مستسقيا، أو لكي يستسقي "فصلى بهم ركعتين: جهر فيهما بالقراءة، واستقبل" القبلة "يدعو" الله تعالى، ففي رواية في الصحيح: وجعل ظهره إى الناس واستقبل القبلة "ورفع يديه وحول رداءه" وبين صفة التحويل بقوله: "وجعل عطافه" بكسر العين، أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد على سبب ذلك ولا على صفته -صلى الله عليه وسلم- حال الذهاب إلى المصلى، ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان قالت: شكا الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قحط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر فكبر وحمد لله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئجار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ   جانبه، وفي النهاية: العطاف والعطف الرداء، سمي عطافا لوقوعه على عطفي الرجل وهما ناحيتا عنقه "الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله" تعالى. "قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد" المذكور "على سبب ذلك ولا على صفته -صلى الله عليه وسلم- حال الذهاب إلى المصلى ولا على وقت ذهابه، وقد وقع ذلك في حديث عائشة عند أبي داود وابن حبان، قالت: شكا الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قحط امطر" بفتح القاف وسكون الحاء، أي: احتباسه مصدر قحط كنفع وتعب وعنى كما في القاموس وغيره "فأمر بمنبر، فوضع له في المصلى ووعد الناس يوما يخرجون فيه، فخرج حين بدا" ظهر "حاجب الشمس" أي: ضوءها "فقعد على المنبر" إلى هنا ما نقله الحافظ قائلا: الحديث؛ لأنه لم يتعلق غرضه بباقيه، وذكر ما في غرضه بقوله، وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأصحابه السنن: خرج -صلى الله عليه وسلم- مبتذلا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى فرقى المنبر، وفي حديث أبي الدرداء عند البزار والطبراني: قحط المطر، فسألنا نبي الله أن يستسقي لنا، فغدا نبي الله.. الحديث. انتهى، فأفاد أن حديث عائشة بين السبب ووقت الذهاب، كما بين الثاني أيضا حديث أبي الدرداء وصفته حال الذهاب عن ابن عباس، وكأن المصنف أسقطه؛ لأنه قدمه، لكنه أوهم أن الحافظ نقض ما ترجم به وليس كذلك، وأوهم أنه ذكر حديث عائشة بتمامه، ولا كذلك، وإنما المصنف اعتنى بذكره تتميما للفائدة ببيان ما دعا به، فقعد على المنبر "فكبر وحمد الله، ثم قال: "إنكم شكوتم جدب" بالدال المهملة عدم خصب "دياركم واستئخار" أي: تأخر "المطر"، فالسين للتأكيد "عن إبان" بكسر الهمز حين "زمانه" فالإضافة بيانية، وقيل: معنى إبان أول، فالإضافة على بابها "وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم" فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، ثم قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، الذي لا إله إلا هو، يفعل ما يريد، اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين، ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة -وحول- رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابا، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى ذلك وسرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله". وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين، وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين، وهل تصنع بالليل؟ استنبط بعضهم من كونه -صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار، أنها نهارية   رَبِّ الْعَالَمينَ} " أي: مالك جميع الخلق من إنس وملائكة وجن ودواب وغيرهم، وكل منها يسمى عالما، وغلب في جمعه بالياء والنون أولو العلم على غيرهم وهو من العلامة؛ لأنه علامة على موجده " {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} " أي: ذي الرحمة وهي إرادة الخير لأهله " {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} " الجزاء وهو يوم القيامة، وخص بالذكر؛ لأنه لا ملك ظاهرا فيه لأحد إلا الله تعالى لمن الملك اليوم لله، ومن قرأ مالك، فمعناه مالك الأمر كله في يوم القيامة، أي: هو موصوف بذلك دائما كغافر الذنب، فيصح وقوعه صفة للمعرفة "الذي لا إله" أي: لا معبود بحق في الوجود "إلا هو يفعل ما يريد" لا يعجزه شيء "اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزلنا علينا الغيث" أي: المطر "واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغا إلى حين" تنقضي آجالنا "ثم رفع يديه حتى بدا بياض إبطيه" لمبالغته في رفعهما "ثم حول إلى الناس ظهره" أي: جعله إليهم "واستقبل القبلة وحول رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل" عن المنبر "فصلى ركعتين فأنشأ الله سحابا" أي: غيما جمع سحابة، ويجمع أيضا على سحب وسحائب "فرعدت" أي: السحاب والإسناد مجازي "وبرقت": لمعت "ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول" لكثرة المطر "فلما رأى ذلك وسرعتهم إلى الكن" بالكسر وشد النون "ضحك حتى بدت" " ظهرت "نواجذه" بجيم وذال معجمة "فقال: "أشهد أن الله على كل شيء قدير" ومنه ما شاهدتم في الحال "وأني عبد الله ورسوله" فأجاب دعائي سريعا. "وقد حكى ابن المنذر الاختلاف في وقتها، والراجح أنه لا وقت لها معين وإن كان أكثر أحكامها كالعيد، لكنها تخالفه بأنها لا تختص بيوم معين وهل تصنع بالليل، استنبط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 كالعيد، وإلا فلو كانت تصلي بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل كمطلق النوافل. ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة. وأفاد ابن حبان أن خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة. وذكر الواقدي: أن طول ردائه -صلى الله عليه وسلم- كان ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين. وقد روى أبو داود عن عباد: استسقى -صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصة سوداء فأراد أن   بعضهم من كونه -صلى الله عليه وسلم- جهر بالقراءة فيها بالنهار أنها نهارية كالعيد، وإلا فلو كانت تصلى بالليل لأسر فيها بالنهار وجهر بالليل، كمطلق النوافل" نازعه شيخنا بأن لا دلالة في صلاتها نهارا على أنها لا تفعل بالليل، بل يدل على أنها لا تختص بالليل، وقد صرح في شرح البهجة بأن جميع الليل والنهار وقت لها كما لا تختص بيوم. "ونقل ابن قدامة الإجماع على أنها لا تصلى في وقت الكراهة" ولعل هذا الإجماع قبل حدوث الآراء في مذهب الشافعي، فلا ينافي أنها لا تختص بوقت العيد على الأصح في المنهاج، قال شارحه: ولا بوقت من الأوقات، بل تجوز ولو بوقت كراهة؛ لأنها ذات سبب. انتهى. ومذهب مالك أن وقتها من حل النافلة للزوال كالعيد، لكن لا تختص بيوم. "وأفاد ابن حبان أن خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى المصلى للاستسقاء كان في شهر رمضان سنة ست من الهجرة". "وذكر الواقدي" محمد بن عمر بن واقد؛ "أن طول ردائه -صلى الله عليه وسلم- كان ستة أذرع في" عرض "ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع، وشبرين في" عرض "ذراعين وشبر، كان يلبسهما في الجمعة والعيدين". زاد الحافظ: ووقع في شرح الأحكام لابن بزيزة ذرع الرداء، كالذي ذكره الواقدي في ذرع الإزار والأول أولى. "وقد روى أبو داود عن عباد" بفتح المهملة والموحدة الثقيلة ابن تميم بن زيد بن عاصم الأنصاري راوي الحديث عن عمه عبد الله بن زيد، ووقع في بعض نسخ ابن ماجه عن عباده، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد. قال الحافظ في الفتح: قوله عن أبيه زيادة وهي وهم، والصواب حذفه كما في النسخ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه. وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف. وزعم القرطبي تبعا لغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في الأم ما ذكرته. والجمهور على استحباب التحويل فقط، ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط. وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شيء من ذلك. واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق عباد في هذا الحديث بلفظ: وحول الناس معه. وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده. واستثنى ابن الماجشون النساء فقال: لا يستحب في حقهن.   المعتمدة من ابن ماجه. "استسقى -صلى الله عليه وسلم- وعليه خميصة" بفتح المعجمة وكسر الميم وإسكان التحتية وفتح المهملة كساء من صوف "سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه، وقد استحب الشافعي في الجديد فعل ما هم به النبي -صلى الله عليه وسلم- من تنكيس الرداء مع التحويل الموصوف" بأن يجعل الأسفل الذي على الأيسر على عاتقه الأيمن، وما على الأيمن على عاتقه الأيسر، فيحصل التحويل والتنكيس معًا. "وزعم القرطبي" في المفهم "تبعا لغيره أن الشافعي اختار في الجديد تنكيس الرداء لا تحويله، والذي في الأم ما ذكرته" من استحبابهما "والجمهور على استحباب التحويل فقط" بلا تنكيس لانفراد رواية عمارة بن غزية عن عباد في حديث عبد الله بن زيد بأنه هم بذلك "ولا ريب أن الذي استحبه الشافعي أحوط، وعن أبي حنيفة وبعض المالكية: لا يستحب شيء من ذلك التحويل والتنكيس "واستحب الجمهور أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق عباد" بن تميم عن عمه "في هذا الحديث، بلفظ: وحول الناس معه" صلى الله عليه وسلم أرديتهم. "وقال الليث وأبو يوسف: يحول الإمام وحده، واستثنى" عبد الملك "بن الماجشون النساء، فقال: لا يستحب في حقهن" وهو وجيه؛ لأنهن عورة. زاد الحافظ: ثم ظاهر قوله: فقلت: رداءه أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء وليس كذلك، بل المعنى فقلب رداءه في أثناء الاستسقاء، وقد بينه مالك في روايته المذكورة، ولفظه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 واختلف في حكمة هذا التحويل فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه. وتعقبه ابن العربي بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة بينه وبين ربه، قيل له: حول رداءك ليتحول حالك. وتعقب بأن الذي يجزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر. ورجح الدارقطني إرساله. وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن. واستدل بقوله في حديث عائشة: "ثم صلى ركعتين" بعد قوله: "فقعد على المنبر" على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، وهو مقتضى حديث ابن عباس،   حول رداءه حين استقبل القبلة. ولمسلم من رواية يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن محمد، وأنه لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وأصله للمصنف، أي: البخاري كما سيأتي بعد أبواب، وله من رواية الزهري عن عباد: فقام فدعا الله قائما، ثم توجه قبل القبلة وحول رداءه، فعرف بذلك أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء. "واختلف في حكمة هذا التحويل، فجزم المهلب بأنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه" من الجدب إلى الخصب "وتعقبه ابن العربي؛ بأن من شرط الفأل أن لا يقصد إليه، قال: وإنما التحويل أمارة" علامة "بينه وبين ربه، قيل له:" ولو بالإلهام "حول رداءك ليتحول حالك". "وتعقب بأن الذي جزم به يحتاج إلى نقل، والذي رده ورد فيه حديث رجاله ثقات، أخرجه الدارقطني والحاكم من طريق جعفر" الصادق "بن محمد بن علي" زين العابدين بن الحسين "عن أبيه" محمد الباقر "عن جابر" بن عبد الله "ورجح الدارقطني إرساله" بحذف جابر "وعلى كل حال فهو أولى من القول بالظن". زاد الحافظ: وقال بعضهم: إنما حول رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع يديه في الدعاء، فلا يكون سنة في كل حال، وأجيب بأن التحويل من جهة إلى جهة لا يقتضي الثبوت على العاتق، فالحمل على المعنى الأول أولى، فإن الاتباع أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص. "واستدل بقوله في حديث عائشة: ثم صلى ركعتين بعد قوله: فقعد على المنبر على أن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة وهو مقتضى حديث ابن عباس" السابق أيضا لقوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه، حيث قال: فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة، والمرجح عند الشافعية والمالكية الثاني. ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة وهي ركعتان ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما بـ"سبح" و"هل أتاك". وفي إسناده مقال. لكن أصله في السنن بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيدين. فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما. الثاني: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة.   خرج حتى أتى المصلى فرقي المنبر "لكن وقع عند أحمد في حديث عبد الله بن زيد التصريح بأنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكذا في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه، حيث قال: فصلى بنا ركعتين بغير أذان ولا إقامة" وكل منهما صريح، فيقدم على المحتمل "والمرجح عند الشافعية والمالكية الثاني" أي: الصلاة قبل الخطبة، وإليه رجع مالك. قال الحافظ: ويمكن الجمع بين مختلف الروايات؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين، ثم خطب، فاقتصر بعض الرواة على شيء، وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذا وقع الاختلاف، قال: وقال القرطبي: يعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها بالعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة "ولم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة، وهي ركعتان" بإجماع من قال بها "ولا ما يقرأ فيها". "وقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عباس أنه يكبر فيهما سبعا وخمسا كالعيد، وأنه يقرأ فيهما بـ {سَبِّحِ} و {هَلْ أَتَاكَ} ، وفي إسناده مقال، لكن أصله في السنن" الأربع "بلفظ: ثم صلى ركعتين كما يصلي في العيدين، فأخذ بظاهره الشافعي، فقال: يكبر فيهما" سبعا وخمسا، ولم يأخذ به غيره كمالك لضعف الرواية المصرحة بالتكبير، ولما يطرق الثانية من احتمال نقص التشبيه. زد الحافظ: ونقل الفاكهي شيخ شيوخنا عن الشافعي استحباب التكبير حال الخروج إليها كما في العيد وهو غلط منه عليه. "الثاني: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة: عن أنس أن رجلا" قال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 عن أنس: أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، قال: فرفع   الحافظ: لم أقف على تسميته في حديث، ولأحمد عن كعب بن مرة: ما يمكن أن يفسر هذا المبهم بأنه كعب، وللبيهقي مرسلا: ما يمكن أن يفسر بأنه خارجة بن حصن الفزاري، لكن رواه ابن ماجه عن شرحبيل بن السمط أنه قال لكعب بن مرة: يا كعب حدثنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استسق الله، فرفع يده، فقال: "اللهم اسقنا".. الحديث، ففي هذا أنه غير كعب، وزعم بعضهم أنه أبو سفيان بن حرب وهم؛ لأنه جاء في واقعة أخرى قبل إسلامه، وينفي زعمه قوله: يا رسول الله، فإن أبا سفيان لا يقولها قبل إسلامه، وفي رواية عن أنس: جاء أعرابي من أهل البادية "دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء" فسرها بعضه بدار الإمارة وليس كذلك، وإنما هي دار عمر بن الخطاب، سميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دينه وكان يقال لها: دار قضاء دين عمر، ثم طال ذلك، فقيل: دار القضاء، أخرجه الزبير بن بكار عن ابن عمر. وروى عمر بن شيبة عن ابن أبي فديك، عن عمه: كانت القضاء لعمر، فأمر عبد الله وحفصة أن يبيعاها عند وفاته في دين كان عليه، فباعاها من معاوية، فكانت تسمى دار القضاء، قال: وأخبرني عمي أن الخوخة الشارعة فها غربي المسجد هي خوخة الصديق، وقد صارت بعد ذلك إلى مروان وهو أمير المدينة، فلعلها شبهة من قال: إنها دار الإمارة، وجاء في تسميتها قول آخر، رواه عمر بن شية عن سهلة بنت عاصم، قالت: كانت دار القضاء لعبد الرحمن بن عوف، سميت بذلك؛ لأن عبد الرحمن اعتزل فيها ليالي الشورى حتى قضي الأمر، فباعها بنو عبد الرحمن من معاوية. قال عبد العزيز بن عمران: وكانت فيها الدواوين وبيت المال، ثم صيرها السفاح رحبة للمسجد. "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب" بالمدينة "فاستقبل" الرجل "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" حال كونه "قائما، ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال". وفي رواية: المواشي، وهي المراد بالأموال هنا لا الصامت، وفي أخرى: هلك الكراع بضم الكاف، يطلق على الخيل وغيرها، وفي رواية: هلكت الماشية، هلك العيان هلك الناس، وهو من العام بعد الخاص، والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر "وانقطعت السبل" بضمتين جمع سبيل الطرق؛ لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لأنها لا يجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها، وقيل: المراد نفاد ما عند الناس من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا"، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين "سلع" من بيت ولا   الطعام أو قلته، فلا يجدون ما يحملونه إلى الأسواق. وفي رواية: قحط المطر بفتح القاف والحاء، وحكي بضم فكسر، أي: قل، وفي أخرى: واحمر الشجر كناية عن يبس ورقها لعدم شربها الماء أو لانتثاره فيصير أعوادا بلا ورق، وكلها في الصحيح وأمحلت الأرض. قال الحافظ: وهذه الألفاظ يحتمل أن الرجل قالها كلها، وأن بعض الرواة روى شيئا مما قاله بالمعنى، فإنها متقاربة، فلا يكون غلطا كما قاله صاحب المطالع وغيره. "فادع الله" فهو "يغيثنا" يجوز ضم أوله من الإغاثة وفتحه من الغيث، ويرجح الأول قوله: "اللهم أغثنا" كذا في الفتح، وقال المصنف على مسلم الرواية بضم أوله من أغاث رباعيا، وهذه رواية الأكثر، ولأبي ذر: أن يغيثنا، وفي رواية: يغثنا بالجزم، وفي رواية: أن يسقينا، وأخرى: فاستسق ربك. "قال" أنس: "فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه" زاد النسائي: رفع الناس أيديهم معه يدعون، زاد في رواية للبخاري: حذاء وجهه، وابن خزيمة: حتى رأيت بياض إبطيه، وفي أخرى للبخاري: فمد يديه ودعا، وفي أخرى له: فنظر إلى السماء "ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" هكذا في رواية للشيخين: أغثنا، وذكر الجملة ثلاثا. وفي رواية للبخاري: "اللهم اسقنا"، وذكرها ثلاث مرات، وفي أخرى له: "اللهم اسقنا" مرتين والأخذ بالزائد أولى، ويرجحهما أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دعا دعا ثلاثا كما في البخاري وغيره، والرواية: أغثنا بالهمزة، قال قاسم بن ثابت: كذا رواه لنا موسى بن هارون، وجائز أنه من الغوث أو الغيث، والمعروف لغة غثنا من الغوث، وقال ابن القطاع: غاث الله عباده غيثا وغياثا، سقاهم المطر وأغاثهم: أجاب دعاءهم، ويقال: أغاث وغاث بمعنى والرباعي أعلى، ويحتمل أن معنى أغثنا أعطنا غوثا وغيثا. "قال أنس: ولا" بالواو للأكثر، ولأبي ذر: فلا "والله" بالفاء، وفي أخرى: وأيم الله، وحذف الفعل، أي: ولا ترى والله؛ لأنه يدل عليه قوله: "ما نرى في السماء من سحاب" مجتمع "ولا قزعة" بقاف فزاي فعين مهملة مفتوحات، أي: سحاب متفرق. قال ابن سيده: الفزع قطع من السحاب رقاق، زاد أبو عبيد: وأكثر ما يجيء في الخريف وهو بالنصب على التبعية لسحاب من جهة المحل، وبالجر على التبعية له من جهة اللفظ "وما بيننا وبين سلع" بفتح المهملة وسكون اللام، وحكي فتحها وعين مهملة جبل معروف بالمدينة "من بيت ولا دار" يحجبنا عن رؤيته إشارة إلى أن السحاب كان مفقودا لا مستترا ببيت ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب   غيره، وللبخاري: قال أنس: وإن السماء لهي مثل الزجاجة، أي: لشدة صفائها، وذلك مشعر بعدم السحاب أيضا. "قال" أنس: "فطلعت" أي: ظهرت "من ورائه" أي: سلع "سحابة" وكأنها نشأت من جهة البحر؛ لأن وضع سلع يقتضي ذلك "مثل الترس" أي: مستديرة لا مثله في القدر؛ لأن في رواية أبي عوانة: فنشأت سحابة مثل رجل الطائر وأنا أنظر إليها، وهذا يشعر بأنها كانت صغيرة. وفي رواية: فهاجت ريح أنشأت سحابا ثم اجتمع، وأخرى: فنشأ السحاب بعضه إلى بعض، وأخرى حتى ثار السحاب أمثال الجبال، أي: لكثرته، وفيه: ثم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته وكلها في الصحيح، وهذا يدل على أن السقف وكف؛ لأنه كان من جريد النخل "فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت" بالهمز رباعيا، وهذا يشعر بأنها استمرت مستديرة حتى انتهت إلى الأفق، فانبسطت حينئذ وكأن فائدته تعميم الأرض بالمطر. "قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتا" بفتح السين وسكون الموحدة وفوقية كناية عن استمرار الغيم الماطر، وهذا في الغالب، وإلا فقد يستمر المطر والشمس بادية، وقد تحجب الشمس بغير مطر. قال الحافظ: كذا رواه الأكثر بلفظ: سبتا أحد الأيام، أي: أسبوعان من تسمية الشيء باسم بعضه، كما يقال جمعة، ويقال: أراد قطعة من الزمان، قاله في النهاية. وقال المحب الطبري: أي: جمعة، وفيه تجوز؛ لأن السبت الأول لم يكن مبتدأ، ولا الثاني منتهي، وعبر أنس بذلك؛ لأنه من الأنصار وكانوا جاوروا اليهود، فأخذوا بكثير من اصطلاحهم، وإنما سموا الأسبوع سبتا؛ لأنه أعظم الأيام عند اليهود، كما أن الجمعة كذلك عند المسلمين. وقال ثابت في الدلائل: الناس يقولون: معناه من سبت إلى سبت، وإنما هو قطعة من الزمان، وصحفه الداودي فرواه: ستا، بكسر السين وشد الفوقية، ورد بأنه لم ينفرد به، فقد رواه الحموي والمستملي هنا ستا، وكذا رواه سعيد بن منصور وأحمد من وجهين آخرين عن أنس، وكان من ادعى التصحيف استبعد اجتمع قوله: ستا مع قوله في رواية للبخاري سبعا وليس بمستبعد؛ لأن من قال ستا أراد ستة أيام تامة، ومن "قال": سبعا أضاف إليها يوما ملفقا من الجمعتين، وقد رواه مالك عن شريك عن أنس، بلفظ: فمطرنا من جمعة إلى جمعة، وللبخاري عن إسحاق عن أنس: فمطرنا يومئذ، ومن الغدو من بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى. "ثم دخل رجل من ذلك الباب" الذي دخل منه السائل أولا "في الجمعة المقبلة" أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 في الجمعة المقبلة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر"، قال: فانقطعت فخرجنا نمشي في الشمس. قال   الثانية "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم" حال كونه "يخطب، فاستقبله قائما" نصب على الحال من الضمير المرفوع في استقبله لا من المنصوب "فقال: يا رسول الله هلكت الأموال" أي: المواشي بعدم الرعي، أو عدم ما يكنها لكثر الماء. وفي رواية النسائي: من كثرة الماء "وانقطعت السبل" لتعذر سلوك الطريق من كثرة الماء، ولابن خزيمة: واحتبس الركبان، وفي رواية: تهدمت البيوت، وأخرى: هدم البناء وغرق المال، فهو بسبب غير السبب الأول "فادع الله يمسكها عنا" بالجزم جواب الأمر والرفع، أي: فهو يمسكها. وفي رواية: أن يمسكها، أي: الأمطار، أو السحابة، أو السماء، والعرب تطلق على المطر سماء. وفي رواية: أن يمسك عنا الماء، وأخرى: أن يرفعها عنا، وأخرى: فادع ربك أن يحبسها عنا فضحك، وفي رواية: فتبسم لسرعة ملام ابن آدم. "قال: فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه" بالتثنية "ثم قال: "اللهم" اجعل، أو أمطر "حوالينا" بفتح اللام "ولا" تنزله "علينا" أي اصرفه عن الأبنية والدور، وهو بيان للمراد بقوله: حوالينا؛ لأنها تشمل الطرق التي حولهم، فأخرجها بقوله: "ولا علينا". قال الطيبي: في إدخال الواو هنا معنى لطيف؛ لأنه لو أسقطها لكان مستسقيا للأكام وما معها فقط، ودخول الواو يقتضي أن طلب المطر على المذكورات ليس مقصود العينة، ولكن ليكون وقاية من أذى المطر، فليست الواو مخلصة للعطف، ولكنها للتعليل، كقولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثديها، فإن الجوع ليس مقصود العينة، ولكن لكونه مانعا من الرضاع بأجرة، إذ كانوا يكرهون ذلك آنفا. انتهى. "اللهم" أنزله "على الآكام" بزنة الجبال "والظراب" بوزنه، وفي رواية للبخاري: والجبال "وبطون الأودية" أي: ما يتحصل فيه الماء لينتفع به، قيل: لم يسمع أفعلة جمع فاعل إلا أودية جمع واد وفيه نظر "ومنابت الشجر": جمع منبت بكسر الموحدة، أي: ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه؛ لأن نفس المنبت لا يقع عليه المطر، وفيه الأدب في الدعاء، حيث لم يدع برفع المطر مطلقا لاحتمال الحاجة إلى استمراره، فاحترز فيه بما يقتضي رفع الضرر وإبقاء النفع، ومنه استنبط أن من أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي أن يسخطها لعارض، بل يسأل الله رفع العارض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 شريك: فسألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري. رواه مسلم. وفي رواية له قال: فما يشير بيده إلى ناحية إلا تفرجت، حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة، وسال وادي قناة شهرا. ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود.   "قال" أنس: "فانقطعت" أي: السماء أو السحابة الماطرة، أي: أمسكت عن المطر عن المدينة، وفي رواية مالك: فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، أي: خرجت عنها كما يخرج الثوب عن لابسه، وفي رواية: فما هو إلا أن تكلم -صلى الله عليه وسلم- بذلك تمزق السحاب حى ما نرى منه شيئا، أي: في المدينة، وللبخاري: فجعل السحاب يتصدع عن المدينة، يريهم الله كرامة نبيه وإجابة دعوته "فخرجنا نمشي في الشمس". "قال شريك" بن عبد الله بن أبي نمر: "فسألت أنس بن مالك" لما حدثه بهذا الحديث "أهو" أي: السائل الثاني "الرجل الأول؟ قال: لا أدري" مقتضى هذا أنه لم يجزم بالتغاير مع أنه عبر ثانية عنه بقوله: "رجل"، الظاهر في أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، فالظاهر أن هذه القاعدة أغلبية؛ لأن أنسا من أهل اللسان وقد تعددت. وللبخاري عن إسحاق وقتادة، وغيرهما عن أنس: فقام ذلك الرجل أو غيره، ومقتضاه أنه كان يشك فيه، وله عن يحيى بن سعيد، عن أنس: فأتى الرجل فقال: يا رسول الله، ولأبي عوانة عن حفص عن أنس: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الأعرابي في الجمعة الأخرى، وأصله في مسلم، ومقتضاه الجزم بأنه واحد، فلعل أنسا كان يتردد تارة ويجزم أخرى باعتبار ما يغلب على ظنه كما أفاده الحافظ. "رواه مسلم" من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك عن أنس، وكذا رواه البخاري من طريقه ومن طريق مالك، ومن طريق أبي ضمرة، ثلاثتهم عن شريك عن أنس، ول طرق عند البخاري أكثر من مسلم، فما هذا الإيهام من المصنف أنه تفرد به. "وفي رواية له" لمسلم، وكذا البخاري هنا وفي الجمعة، كلاهما من طريق الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فبينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي، فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، وساق الحديث بمعناه. وفيه "قال" أنس: "فما يشير" -صلى الله عليه وسلم- "بيده إلى ناحية" من السماء "إلا تفرجت" بفتح الفوقية والفاء والراء المشددة والجيم، أي: إلا تقطع السحاب وزال عنها امتثالا لأمره "حتى رأيت المدينة في مثل الجوبة" بجيم وموحدة كما يأتي "وسال وادي قناة" بفتح القاف والنون المخففة: واد من أودية المدينة عليه مزارع، والإضافة بيانية، أي: واد هو قناة، أي: مسمى بهذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 وقوله: "يغيثنا" بفتح أوله، يقال: غاث الله البلاد يغيثها، إذا أرسل عليها المطر.   الاسم. ذكر محمد بن الحسن المخزومي أن أول من سماه وادي قناة تبع اليماني، وللبخاري في الجمعة من هذا الوجه، وسال الوادي قناة، وأعرب بالضم بدل على أن قناة اسم الوادي. قال الحافظ: ولعله من تسمية الشيء باسم ما جاوره، وقرأت بخط الرضي الشاطبي: الفقهاء يقولونه بالنصب والتنوين يتوهمونه قناة من القنوات، وليس كذلك، وهذا الذي أنكره جزم به بعض الشراح، وقال: هو على التشبيه، أي: سال مثل القناة "شهرا" هو من أبعد أمد المطر المصلح للأرض المتوعرة الجبلية؛ لأنه يتمكن في تلك الأيام لطولها الري فيها؛ لأنها بارتفاعها لا يثبت الماء عليها فيبقى فيها حرارة، فإذا دام سكب المطر عليها قلت الحرارة وخصبت الأرض "ولم يجئ أحد من ناحية إلا أخبر بجود" بفتح الجيم وسكون الواو المطر العزير، وهذا يدل على أن المطر استمر فيما سوى المدينة، فقد يشكل بأنه استلزم أن قول السائل هلكت الأموال وانقطعت السبل لم يرتفع الإهلاك ولا القطع وهو خلاف مطلوبه، ويمكن الجواب بأن المراد أن المطر استمر حول المدينة من الأكام والظراب وبطون الأودية لا في الطريق المسلوكة، ووقوع المطر في بقعة جون بقعة كثير ولو كانت تجاورها، وإذا جاز ذلك جاز أن يوجد لماشية أماكن تكنها وترعى فيها، بحيث لا يضرها ذلك المطر، فيزول الإشكال، أفاده الحافظ. "وقوله: يغيثنا بفتح أوله" من الغيث "يقال: غاث الله البلاد يغيثها إذا أرسل عليها المطر" كذا اقتصر هنا على الفتح مع أن الحافظ جوز ضمه من الإغاثة، ورجحه بقوله: اللهم أغثنا، وفي شرح مسلم للمصنف الراوية بضم أوله من أغاث رباعيا، وكذا قوله: اللهم أغثنا بالهمزة، والمشهور في كتب اللغة: غاث الله الناس يغيثهم بفتح أوله، وإنما يقال: أغاث في طب المعونة، فقيل: هو طلب المعونة لا الغيث، وقيل: هو طلب الغيث، والمعنى هنا: هب لنا غيثا وارزقنا غيثا، فإن قلت في المحل: ينبغي أن يطلب الغيث لا المعونة، وإدخال الهمزة على المتعدي غير فصيح لعدم الاحتياج إلى الهمزة، نص عليه الزمخشري وغيره، أجيب بأنه لما كان الواجب في كل الأحوال تفويض الأمر إلى الكبير المتعال، وهو عالم بما يصلح لعباده في كل وقت كان طلب المعونة في كشف الضر وعدم تعيين طريق الكشف من طلب غيث ونحوه غاية الأدب ونهاية حسن الطلب. وأما الوجه الثاني فغير الفصيح، إنما هو إدخال الهمزة على المتعدي واستعماله بمعناه الأول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 وقوله: من باب كان نحو دار القضاء، هي دار عمر بن الخطاب وسميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دينه. وقوله: "هلكت الأموال"، وفي رواية كريمة وأبي ذر عن الكشميهني: هلكت المواشي، وهي المراد بالأموال هنا. وفي رواية البخاري: هلك الكراع -بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفي البخاري أيضا: هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص. والمراد بهلاكهم: عدم وجد ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر. وانقطعت السبل: لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم   قبل دخول الهمزة؛ لأنه يقع مستغنى عنه، أما لو تغير المعنى بعد الدخول فهو فصيح قطعا، ولا يبعد أن يكون المعنى هنا دلنا على الغيث، أي: على طريق طلبه وكيفية تحصيله، كما قيل في الفرق بين سقيته، وأسقيته أن معنى الثاني دللته على الماء. انتهى. "وقوله: من باب كان نحو دار القضاء هي دار عمر بن الخطاب، وسميت بذلك؛ لأنها بيعت في قضاء دينه" الذي كان أنفقه من بيت المال، وكان ستة وثمانين ألفا كما في البخاري، وكتبه على نفسه وأوصى ابنه عبد الله أن يبيع فيه ما له، فباع ابنه هذه الدار من معاوية، ومر لذلك مزيد، وقول آخر في سبب تسميتها دار القضاء وأنها لا وجود لها الآن؛ لأن السفاح أول خلفاء بني العباس جعلها رحبة للمسجد. "وقوله: هلكت الأموال، وفي رواية: كريمة" بنت أحمد المروزية أحد رواة البخاري، عن الكشميهني "وأبي ذر" الحافظ عبد بلا إضافة ابن محمد الهروي، كلاهما "عن الكشميهني" بضم الكاف وإسكان المعجمة وفتح الهاء وكسرها، نسبة إلى قرية بمرو، واسمه محمد بن مكي بن محمد أحد رواة البخاري، عن محمد بن يوسف الفربري: "هلكت المواشي" بدل الأموال "وهي المراد بالأموال هنا" لا الصامت، وأطلق على المواشي الأموال؛ لأنها أعظم أموال العرب، فأطلق وأراد معظمه على أنه يحتمل أن يريد أعم من المواشي، فإن هلاك الزرع والشجر أيضا بعدم المطر، قاله المصنف على مسلم. "وفي رواية البخاري" في الجمعة: "هلك الكراع -بضم الكاف- وهو يطلق على الخيل وغيرها، وفي البخاري أيضا" عن يحيى بن سعيد، عن أنس: "هلكت الماشية هلك" ولبعض الرواة: هلكت بالتأنيث "العيال هلك الناس، وهو من ذكر العام بعد الخاص" الذي هو العيال "والمراد بهلاكهم عدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر" لا الهلاك الحقيقي، وهو معنى قوله: "وانقطعت السبل؛ لأن الإبل ضعفت لقلة القوت عن السفر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 أودها. و"الآكام" بكسر الهمزة، وقد تفتح وتمد: جمع "أكمة" -بفتحات: التراب المجتمع، وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض. و"الظراب" بكسر الظاء المعجمة، جمع "ظرب" -بكسر الراء: الجبل المنبسط ليس بالعالي. وقوله: "مثل الجوبة" بفتح الجيم، وسكون الواو، وفتح الموحدة، هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا: الفرجة في السحاب. و"الجود": المطر الغزير. وقوله: "قناة شهرا": أي جرى فيه المطر من الماء شهرا.   أو لكونها لا تجد في طريقها من الكلأ ما يقيم أودها" بواو ودال مهملة، أي: أعوجاجها المعنوي بالجوع. زاد الحافظ، وقيل: المراد نفاذ ما عند الناس من الطعام أو قلته، فلا يجدون ما يحملونه، يجلبونه إلى الأسواق "والآكام - بكسر الهمزة وقد تفتح وتمد: جمع أكمة، بفتحات" ظاهرة أنها مفردة كل منهما. وفي المصباح جمع أكمة أكام مثل جبل وجبال، وجمع الآكام أكم بضمتين مثل كتاب وكتب، وجمع أكم الآكام مثل عنق وأعناق "التراب المجتمع" قاله ابن البرقي. وقال الداودي: هو أكبر من الكدية، وقال القزاز: هي التي من حجر واحد وهو قول الخليل، "وقيل: الجبل الصغير، وقيل: ما ارتفع من الأرض" وقال الخطابي: هي الهضبة الضخمة، وقال الثعالبي: الأكمة أعلى الرابية "والظراب -بكسر الظاء المعجمة" وآخره موحدة: "جمع ظرب بكسر الراء" زاد الحافظ: وقد تسكن "الجبل المنبسط ليس بالعالي" قاله القزاز. وقال الجوهري: الرابية الصغيرة "وقوله: مثل الجوبة بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الموحدة -هي الحفرة المستديرة الواسعة، والمراد بها هنا الفرجة في السحاب" زاد الحافظ. وقال الخطابي: المراد بها هنا الترس، وضبطها الزين بن المنير تبعا لغيره بنون بدل الموحدة، ثم فسره بالشمس إذا ظهرت في خلال السحاب، لكن جزم عياض بأن من قاله بالنون فقد صحف "والجود" بفتح الجيم وإسكان الواو "المطر الغزير، وقوله: قناة شهرا، أي: جرى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 وفي هذا دليل عظيم على عظم معجزته عليه الصلاة والسلام، وهو أن سخرت السحاب له كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام؛ لأن كلامه عليه الصلاة والسلام مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها بالإطاعة له عليه الصلاة والسلام لما كان ذلك؛ لأنها أيضا -كما جاء- مأمورة حيث تسير، وقدر ما تقيم، وأين تقيم. ويرحم الله الشقراطسي فلقد أحسن حيث قال: دعوت للخلق عام المحل مبتهلا ... أفديك بالخلق من داع ومبتهل صعدت كفيك إذ كف الغمام فما ... صوبت إلا بصوب الواكف الهطل أوراق بالأرض ثجما صوب ريقه   فيه المطر من الماء شهرا" وهذا كله التقطه المصنف من فتح الباري. "وفي هذا" الحديث "دليل عظيم على عظم معجزته عليه الصلاة والسلام، وهو أن سخرت السحاب له، كلما أشار إليها امتثلت أمره بالإشارة دون كلام؛ لأن كلامه عليه السلام مناجاة للحق تعالى، وأما السحاب فبالإشارة، فلولا الأمر لها" من الله تعالى "بالإطاعة له عليه السلام لما كان" أي: وجد "ذلك؛ لأنها أيضا كما جاء مأمورة حيث تسير" أي: بالسير في المكان الذي تسير فيه "وقدر" نصب بنزع الخافض، أي: ويقدر "ما تقيم وأين تقيم". وفي الفتح فيه علم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء، وانتهاء في الاستصحاء وامتثال السحاب أمره بمجرد الإشارة، وأن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكل وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان عالما بما وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضا لربه، ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه بيانا للجواز وتقرير السنة هذه العبادة الخاصة، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة. "ويرحم الله الشقراطسي، فلقد أحسن حيث قال: دعوت للخلق عام المحل" بفتح الميم وإسكان المهملة: الجدب "مبتهلا" مجتهد في الدعاء "أفديك بالخلق من داع" في موضع نصب على التمييز "ومبتهل" عطف عليه "صعدت" بالتشديد، أي: رفعت "كفيك" أي: يديك "إذ كف الغمام" أي: ماؤه، وقيل: بضم الكاف، أي منع ماء السحاب "فما صوبت"أي: وضعت كفيك "إلا بصوب" مصدرها المطر إذا نزل إلى الأرض "الواكف" القاطر "الهطل" المنسكب، أي: ما وضعت كفيك إلا ووضعك إياهما ملتبس بالمطر، مصاحب له، مرهون به "أراق بالأرض ثجا" بفتح المثلثة والجيم الثقيلة وصبا شديدا مصدر من معنى أراق: "صوب ريقه" بشد الياء بعدها قاف، أي: الواكف، أي: أفضله أو أوله، وقد يخفف الريق كهين وهين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 فحل بالروض نسجا رائق الحلل زهر من النور حلت روض أرضهم ... زهرا من النور ضافي النبت مكتمل من كل غصن نضير مورق خضر ... وكل نور نضيد مونق خضل تحية أحيت الأحياء من مضر ... بعد الضرورة تروي السبل بالسبل دامت على الأرض سبعا غير مقلعة ... لولا دعاؤك بالإقلاع لم تزل   لكنه هنا بالتثقيل فقط للوزن "فحل" من الحلول، أي: ذلك المطر "بالروض" جمع روضة "نسجًا" مصدر في موضع الحال، أي: ناسجا "رائق" أي: معجب "الحلل" جمع حلة شبه ما يحدث عقب المطر من النبات المختلف ألوانه بالحلل "زهر" بيض مضيئة: جمع أزهر "من النور" أي الضوء، وكأنه إشارة إلى البرق "حلت" من التحلية تلك الزهر "روض أرضهم" مفعول أول، لحلت "زهرا" مفعول ثان لحلت على نزع الخافض، أي: بزهر -بإسكان الهاء وفتحها، ولكن يتعين السكون للوزن "من النور" بفتح النون "ضافي النبت:" واسعه وسابغه: وسكن ياء "ضافي" ضرورة والفتحة مقدرة فيها؛ لأنه صفة زهرا "مكتمل" تام بالجر، وحقه النصب؛ لأنه صفة زهرا باعتباره موضعه؛ لأن بنزع الخافض، فكأنه قال بزهر مكتمل كقول زهير: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئا إذا كان آتيا كأنه قال: لست بمدرك ولا سابق "من كل غصن نضير" ناعم حسن "مورق خضر، وكل نور نضيد" متراكب، أي: منصود بعضه على بعض "مونق" معجب "خضل" بمعجمتين، ندي مبتل، أي: أنه ريان بذلك المطر، وقيل: الخضل الناعم، وقيل: النعمة وهو يرجع إلى المعنى الأول؛ لأن النبت إذا كان نديا فهو ناعم، وهذا البيت مرصع كله ومجنس تجنيس المضارعة، وهو الجمع بين ألفاظ متفرقة في أكثر حروفها وذلك نضير ونضيد ومورق ومونق وخضر وخضل "تحية" بالرفع على الابتداء، أي هل أوتلك الدعوة تحية من الحيا وهو المطر والنصب على معنى حيا ذلك المطر الأرض تحية جعله لما أسدى إليها من النضارة، كالمسلم عليها، أو أقام وقعه عليها مقام التحية والإحياء "أحيت الأحياء" القبائل جمع حي "من مضر" بن نزار بن معد بن عدنان "بعد الضرورة" الحاصلة لهم من الجدب "تروي السبل" بإسكان الباء للوزن وفيه الضم أيضا، الطرق جمع سبيل "بالسبل" بفتح السين المهملة والموحدة، المطر، أي: تروي تلك التحية الطرق بالمطر، وإذا رويت الطرق كانت المزارع، وأصول الشجر أكثر ريا لقبولها كل ما يرد عليها من الماء "دامت" آثار تلك التحية "على الأرض سبعا" من الأيام؛ لأنها بقيت من الجمعة إلى الجمعة "غير مقلعة" ممسكة عن المطر "لولا دعاؤك بالإقلاع" الإمساك "لم تزل" أي: استمرت ولم تقلع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 وقوله في الحديث "سبتا": أي من السبت إلى السبت. وقوله: "ثم دخل رجل" الظاهر أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد، وفي رواية ابن إسحاق: فقام ذلك الرجل أو غيره، وفي رواية لمسلم: فتقشعت عن المدينة فجعلت تمطر حواليها وما تمطر بالمدينة قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل -وهو بكسر الهمزة وسكون الكاف: كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما يوضع على الرأس فيحيط به، وهو من ملابس الملوك   "وقوله في الحديث: سبتا، أي: من السبت إلى السبت" تجوزا؛ لأن السبت الأول لم يكن مبتدأ ولا الثاني منتهي كما مر. "وقوله: ثم دخل رجل، الظاهر" منه "أنه غير الأول؛ لأن النكرة إذا تكررت دلت على التعدد" كقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6] ، ولذا قال -صلى الله عليه وسلم: "لن يغلب عسر يسرين". "وفي رواية ابن إسحاق" بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: "فقام ذلك الرجل أو غيره" رواه البخاري هنا، وله في الأدب عن قتادة عن أنس مثله، وعنده في الجمعة عن أنس مثله، ومر قريبا أنه لما سأله شريك: أهو ذلك الرجل أو غيره؟، قال: لا أدري، وكل ذلك يقتضي أنه كان يشك. قال الحافظ: فالظاهر أن القاعدة المذكورة محمولة على الغالب؛ لأن أنسا من أهل اللسان، وللبخاري عن يحيى بن سعيد عن أنس: فأتى الرجل فقال: يا رسول الله، ومثله لأبي عوانة عن حفص عن أنس، بفظ: فما زلنا نمطر حتى جاء ذلك الرجل في الجمعة الأخرى، وأصله في مسلم، وهذا يقتضي الجزم بكونه واحدا، فلعل أنسا كان يتردد تارة، ويجزم أخرى باعتبار ما يغلب على ظنه. "وفي رواية لمسلم" وكذا البخاري، كلاهما عن ثابت عن أنس إلا أن لفظ مسلم: "فتقشعت" بفتح الفوقية والقاف والشين المعجمة المشددة والعين المهملة، أي: زالت، ولفظ البخاي: فتكشطت بفتح التاء والكاف والشين المعجمة المشددة والطاء المهملة، أي: تكشفت، ولبعض رواته: فكشطت على البناء للمفعول "عن المدينة فجعلت تمطر" بفتح أوله وضم ثالثه، ولأبي ذر، بضم أوله وكسر ثالثه "حواليها وما تمطر بالمدينة" بفتح الفوقية وضم الطاء "قطرة" بالرفع فاعل تمطر، وضبطه النووي بضم أوله ونصب قطرة. قال أنس: "فنظرت إلى المدينة وإنها لفي مثل الإكليل" ولأحمد من هذا الوجه: فتغور ما فوق رؤوسنا من السحاب حتى كأنا في إكليل "وهو -بكسر الهمزة وسكون الكاف- كل شيء دار من جوانبه، واشتهر لما وضع على الرأس فيحيط به وهو من ملابس الملوك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 كالتاج. وفي رواية له أيضا: فألف الله بين السحاب وملتنا حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله، وفي رواية له أيضا: فرأيت السحاب يتمزق كأنه الملاء حين تطوى. والملاء: بضم الميم والقصر وقد يمد جمع ملاءة وهي ثوب معروف. واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس فيه صلاة. فأما الأول فقال به الشافعي، وأما الثاني فقال به أبو حنيفة، وتعقب: بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء، لا ينافي مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت في واقعة أخرى كما تقدم، والله أعلم.   كالتاج". وفي رواية له" لمسلم "أيضا" عن ثابت عن أنس: "فألف الله بين السحاب وملتنا" بفتح الميم واللام المخففة وسكون الفوقية فنون فألف، كذا لبعض رواة مسلم. قال عياض: لعل معناه أوسعتنا مطرا، وفي بعضها: وملأتنا بالهمزة، وفي أكثرها: ومكثنا بالكاف والمثلثة، أي: على هذه الحالة من مجيء المطر من السحاب المتألف، وفي بعضها: وهلتنا بهاء ولام ثقيلة مفتوحتين، أي: أمطرتنا السماء "حتى رأيت الرجل الشديد تهمه نفسه أن يأتي أهله". قال النووي: ضبطنا تهمه بضم التاء مع كسر الهاء وبفتح التاء مع ضم الهاء، يقال: همه الشيء إذا اهتم له. "وفي رواية له" لمسلم "أيضا" عن ثابت عن أنس: "فألف الله بين السحاب وملتنا" بفتح يتمزق" بشد الزاي "كأنه الملاء حين تطوى" شبه انقشاع السحاب عن المدينة بالملاءة المنشورة إذا طويت "والملا بضم الميم والقصر وقد يمد: جمع ملاءة وهي ثوب معروف" كالملحفة والريطة. "واستدل بهذا الحديث على جواز الاستسقاء بغير صلاة مخصوصة، وعلى أن الاستسقاء ليس" لفظ الفتح لا تشرع "فيه صلاة، فأما الأول فقال به الشافعي" وكرهه سفيان الثوري "وأما الثاني فقال به أبو حنيفة، وتعقب بأن الذي وقع في هذه القصة مجرد دعاء لا ينافي مشروعية الصلاة لها، وقد ثبت في واقعة أخرى كما تقدم" فلا دلالة فيه على عدم مشروعية الصلاة "والله أعلم". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 الثالث: استسقاؤه -صلى الله عليه وسلم- على منبر المدينة. روى البيهقي في الدلائل من طريق يزيد بن عبيد السلمي قال: لما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بن حصن، والحر بن قيس، وهو أصغرهم، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار، وقدموا على إبل عجاف وهم مسنتون، فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم   "الثالث: استسقاؤه -صلى الله عليه وسلم- على منبر المدينة. روى البيهقي في الدلائل" النبوية "من طريق يزيد" بتحتية فزاي "ابن عبيد" بضم العين "السلمي" بضم السين ذكره ابن شاهين في الصحابة، وأخرج هذا الحديث ووقع له في سياقه عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السلمي، وأبو وجزة بفتح الواو وسكون الجيم بعدها زاي، وغلطه في الإصابة بأن أبا وجزة تابعي مشهور، سكن المدينة، ومات سنة ثلاثين ومائة، لكنه مشهور بالسعدي. وقد أخرج هذا الحديث الواقدي من الوجه الذي رواه منه ابن شاهين، فقال في سياقه عن أبي وجزة السعدي، وحكى المرزباني عن المبرد أبا وجزة سلمي الأصل، وإنما قيل له، السعدي؛ لأنه نزل في بني سعد، قلت: والحديث المذكور من مراسيله وهو في السنن عن أبي وجزة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي -صلى الله عليه وسلم. "قال: لما قفل" أي: رجع "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك" في رمضان سنة تسع "أتاه وفد بني فزارة" بفتح الفاء والزاي فألف فراء فتاء تأنيث قبيلة من قيس عيلان "بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن" بكسر فسكون ابن حذيفة أخو عيينة بن حصن -وهو والد أسماء- بن خارجة الذي كان بالكوفة. ذكر الواقدي أنه ارتد بعد المصطفى ومنع الصداقة، ثم تاب وقدم على أبي بكر "والحر" بضم المهملة وشد الراء "ابن قيس" بن حصن بن حذيفة الفزاري. وفي البخاري عن ابن عباس: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه لحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ... الحديث "وهو أصغرهم، فنزلوا في دار رملة بنت الحارث من الأنصار" كذا في النسخ. قال الحافظ: أبوها الحدث بدال بعد الحاء المهملتين لا براء قبلها ألف، كما عند ابن سعد وغيره، والحدث هو ابن ثعلبة بن زيد الأنصارية النجارية الصحابية زوجة معاذ بن عفراء، كانت دارها دار الوفود "وقدموا على إبل عجاف" بكسر المهملة وخفة الجيم، أي: بلغت النهاية في الهزال جمع أعجف على غير قياس حملا على نظيره، وهو ضعاف أو على ضده وهو سمان، والقياس أعجف مثل أحمر وحمر "وهم مسنتون" بميم مضمومة فمهملة ساكنة فنون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم فقالوا: يا رسول الله أسنت بلادنا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا وهلت مواشينا، فادع ربك أن يغيثنا، وتشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله!! ويلك، أنا شفعت إلى ربي، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه، لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو يئط من عظمته وجلاله كما يئط الرحل الجديد". فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليضحك من   مكسورة، أي مجدبون وإضافته إليهم، تجوز. وروى مشتيون بشين معجمة ففوقية، أي: داخلون في الشتاء وحينئذ قل طعامهم "فأتوا مقرين بالإسلام، فسألهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بلادهم" أي: عن أحوالها "فقالوا" وفي رواية: فقال أحدهم، قال في النور: لا أعرفه، وقال الحافظ: الظاهر أنه خارجة؛ لأنه كبير الوفد، ولذا سمي من بينهم. انتهى، ولا يلزم من كونه كبيرهم أن يكون هو القائل: "يا رسول الله أسنت" بفتح الهمزة وسكون المهملة ونون فوقية، أي: أجدبت "بلادنا" أصابتها السنة وي الجدب "وأجدب جنابنا" بفتح الجيم وخفة النون فألف فموحدة الفناء وما قرب من محلة القوم، فعطفه بلا تاء على أسنت من عطف الجزء على الكل، إن أريد بجنابنا ما حول بيوتنا ومباين أن أريد به ما يقرب من بلادهم وقراءته جناننا بنونين أو بنون وفوقية تصحيف، فأرض العرب لم يكن بها جنان، وفي تعبيره بأسنت وأجدب تفنن؛ لأنهما متساويان "وغرث" بفتح المعجمة وكسر الراء ومثلثة جاع "عيالنا" لقلة ما يأكلون. وفي نسخ: وغرثت بزيادة تاء، وتركها أظهر؛ لأن عيال الرجل من يعول ولو ذكورًا فهو مذكر "وهلكت مواشينا" لعدم ما تأكله "فادع ربك أن يغيثنا" بفتح أوله من الغيث، أي: يمطرنا وبضمه من الإغاثة وهي الإجابة "وتشفع:" توسل "لنا إلى ربك" بما بينك وبينه من السر، يقال: شفعت في الأمر شفعا وشفاعة طالبته بوسيلة أو ذمام "ويشفع ربك إليك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "سبحان الله" تعجبا من ذلك "ويلك" كلمة عذاب خاطبه بها زجرا وتنفيرا عن العود لمثلها، وإن عذر لقرب عهده بالإسلام "أنا شفعت إلى ربي" بفتح الفاء من باب منع كما في اللغة. قال في النور: وهو بديهي كالشمس إلا أني أخبرت أن بعض الأروام كسرها "فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه" استفهام بمعنى النفي "لا إله إلا هو العلي" فوق خلقه بالقهر "العظيم" الكبير "وسع كرسيه السماوات والأرض". قال في النور: الصواب أن الكرسي غير العلم خلافا لزاعمه ولزاعم أنه القدرة وأنه موضع قدميه، وإنما هو المحيط بالسماوات والأرض وهو دون العرش كما جاءت به الآثار "وهو" أي: الكرسي "يئط" بفتح التحتية وكسرة الهمزة وشد الطاء يصوت "من عظمته وجلاله كما يئط الرحل" بحاء مهملة "الجديد" بالجيم "فقال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليضحك" يدر رحمته ويجزل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 "شفقكم وقرب غياثكم"، فقال الأعرابي: أويضحك ربنا يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقال الأعرابي: لن نعدم يا رسول الله من رب يضحك خيرًا. فضحك -صلى الله عليه وسلم- من قوله، فقام -صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر وتكلم بكلمات ورفع يديه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فرفع يديه حتى رئي بياض   مثوبته، فالمراد لازمه أو الضحك فيه وما أشبهه التجلي والظهور حتى يرى بعين البصيرة في الدنيا، وفي الآخرة بعين البصر، يقال: ضحك الشيب إذا ظهر الشاعر: لا تعجبي يا هند من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى "من شفقكم" بفتح المعجمة والفاء بعدها قاف، أي: خوفكم، يقال: أشفقت من كذا بالألف حذرت، قال الجوهري: أشفقت عليه فأنا مشفق وشفيق، فإذا قلت: شفقت منه، فإنما تعني حذرته وأصلهما واحد. زاد في رواية: وأزلكم بفتح الهمز وسكون الزاي، يعني ضيقكم "و" من "قرب" بضم فسكون "غياثكم" أي: أن الله تعالى يضحك من حصول الفرج لكم متصلا بشدة الخوف والضيق، وهذا قاله -صلى الله عليه وسلم- قبل صعود المنبر والدعاء، فيكون علمه بالوحي فبشرهم به "فقال الأعرابي: أويضحك ربنا يا رسول الله؟، قال: "نعم"، فقال الأعرابي: لن نعدم" بفتح النون وسكون العين وفتح الدال، أي: لن نفقد "يا رسول الله من رب يضحك خيرا" لما جرت العادة به أن العظيم إذا سئل شيئا فضحك، أو نظر إلى السائل نظرة حلوة حصل ما يؤمله منه "فضحك -صلى الله عليه وسلم- من قوله؛" لأنه رضيه وأعجبه "فقام -صلى الله عليه وسلم- فصعد" بكسر العين مضارعه يصعد بفتحها "المنبر وتكلم بكلمات" أي: دعا بدعوات لم يحفظها الراوي كلها لقوله بعد كان، مما حفظ من دعائه "ورفع يديه" بالتثنية "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء" مثله في حديث أنس عند الشيخين. قال الحافظ: ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء، وهي كثيرة جمعها المنذري في جزء مفرد، أورد منها النووي في شرح المهذب قدر ثلاثين حديثا، وأفردها البخاري بترجمة في كتاب الدعوات وساق فيها عدة أحاديث، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، أما الرفيع البليغ ويدل عليه قوله: حتى رئي بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي رويت في رفع البدن في الدعاء، إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد: فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذياه، وبه حينئذ يرى بياض الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 إبطيه، وكان مما حفظ من دعائه: "اللهم اسق بلدك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مربعا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل نافعا غير ضار، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا   إبطيه، وأما على صفة اليدين في ذلك لما رواه مسلم عن ثابت عن أنس؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء، ولأبي داود عن أنس: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه. قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه جاعلا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء، وتحصيله أن يجعل بطون كفيه إلى السماء، وقال غيره: الحكمة في الإشارة بظهور الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقلب الحال ظهر البطن، كما قيل في تحويل الرداء، أو هو إشارة إلى صفة المسؤول وهو نزول السحاب إلى الأرض. انتهى. "فرفع يديه حتى رئي" براء مكسورة، فهمزة مفتوحة ممدودًا، وبضم الراء وكسر الهمزة "بياض إبطيه" وهو من خصائصه دون غيره. قال أبو نعيم: بياض إبطيه من علامات نبوته "وكان مما حفظ" بالبناء للمفعول "من دعائه: "اللهم اسق" بوصل الهمزة وقطعها ثلاثي ورباعي "بلدك" أي: أهل بلدك "وبهيمتك" أي: جنسا. قال المصباح: البهيمة كل ذات أربع من دواب البر والبحر، وكل حيوان لا يميز فهو بهيمة والجمع البهائم "وانشر رحمتك" ابسط مطرك ومنافعه على عبادك تلميح لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] "وأحي بلدك الميت" بالتخفيف والتشديد التي لا نبات بها بالمطر تلميحا لقوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] الآية: "اللهم اسقنا غيثا" مطرا "مغيثا" لنا من هذه الشدة "مريئا" محمود العاقبة لا ضرر فيه "مربعا" بضم الميم وإسكان الراء وكسر الموحدة وعين مهملة أو بفوقية بدل الموحدة من رتعت الدابة إذا أكلت ما شاءت، أو هو بفتح الميم وكسر الراء وسكون التحتية ومهملة من المراعة وهي الخصب "طبقا" بفتحتين، أي: مستوعبا للأرض منطبقا عليها "واسعا" كالتأكيد لطبقا "عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار" بزرع ولا مسكن ولا حيوان، آدمي أو بهيمة "اللهم سقيا" بضم السين "رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق" نقص وإذهاب بركة، وأتى بهذا وإن استفيد من نافعا غير ضار؛ لأنه مقام طلب من الجواد والمطلوب فيه الإطناب، والله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 على الأعداء". فقام أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا"، فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد، ثلاث مرات، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره". قال: فلا والله ما في السماء من قزعة ولا سحاب، وما بين المسجد وسلع من بناء ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت، وهم ينظرون، ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس سبتا وقام أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه. فقال الرجل: يا رسول الله -يعني الذي سأله أن يستسقي لهم: هلكت   يحب الملحين في الدعاء ولذا قال: "اللهم اسقنا الغيث" المطر بالتعريف إشارة إلا أن المطلوب بالغيث الموصوف بهذه الصفات "وانصرنا على الأعداء" الكفار بإجابة الدعاء وإقامة الحجة والغلبة في قتالهم "فقام أبو لبابة" بشير، وقيل: رفاعة، ووهم من سماه مروان "ابن عبد المنذر" الأنصاري المدني أحد النقباء، عاش إلى خلافة علي "فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد" الموضع الذي يجفف فيه التمر كالجرين فنخشى عليه الغرق "فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا، فقال: يا رسول الله إن التمر في المربد" قال ذلك "ثلاث مرات، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده": ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر "بإزاره" من عجلته لكثرة المطر وخوفه على تمره لم يتمكن من تحصيل ما يسده به غير إزاره. "قال" الراوي: "فلا والله ما في السماء من قزعة" بفتحات سحاب متفرق "ولا سحاب" مجتمع "وما بين المسجد" النبوي الذي دعا على منبره بهذا الدعاء "وسلع" الجبل المعروف بالمدينة "من بناء وا دار" يحجبنا عن رؤيته، إشارة إلى فقد السحاب "فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس" في الاستدارة "فلما توسطت السماء انتشرت، وهم" أي: الحاضرون "ينظرون" ذلك "ثم أمطرت" واستمرت جمعة، كما قال: "فوالله ما رأوا الشمس سبتا" بفتح فموحدة ساكنة ففوقية "وقام أبو لبابة عريانا" إلا من ساتر عورته "يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه" فاستجاب الله دعاء رسوله "فقال الرجل: يا رسول الله، يعني: الذي سأله أن يستسقي لهم" تقدم أن صاحب النور قال: لا أعرفه وأن صاحب الفتح استظهر أنه خارجة بن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 الأموال، وانقطعت السبل، فصعد -صلى الله عليه وسلم- المنبر فدعا ورفع يديه مدا، حتى رئي بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، على الأكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر". فانجابت السحابة عن المدينة كانجياب الثوب. و"الأطيط" صوت الأقتاب، يعني: أن الكرسي ليعجز عن حمله وعظمته عز وجل، إذ كان معلوما أن أطيط الرجل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه، وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة الله تعالى وجلاله، وإن لم يكن أطيط وإنما هو كلام تقريبي، أريد به تقرير عظمته تعالى. وقوله: "طبقا" بفتح الطاء والموحدة، أي مالئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق أي عام واسع.   حصن؛ لأنه كبيرهم، ولذا سمي دونهم، وأن ذلك ليس بلازم "هلكت الأموال" المواشي "وانقطعت السبل" الطرق "فصعد -صلى الله عليه وسلم- المنبر، فدعا ورفع يديه مدا حتى رئي بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم حوالينا" بفتح اللام وفيه حذف تقديره اجعل، أو أمطر، والمراد به صرف المطر عن الأبنية والدور "ولا علينا" بيان للمراد بحوالينا؛ لأنها تشمل الطرق، فأخرجها بقوله: "ولا علينا" "على الآكام" بكسر الهمز "والظراب" بكسر المعجمة وموحدة "وبطون الأودية" التي يتحصل فيها الماء لينتفع به "ومنابت الشجر" أي: ما حولها مما يصلح أن ينبت فيه "فانجابت" بنون فجيم خرجت "السحابة عن المدينة كانجياب الثوب" أي: كخروج الثوب عن لابسه. قال في الفتح: وقد ذكر بعض هذا الحديث، وأفادت هذه الرواية صفة الدعاء المذكور في حديث أنس والوقت الذي وقع ذلك فيه. انتهى، وفيه بعد؛ لأن الرجل الداخل في حديث أنس دخل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب خطبة الجمعة، فسأله وهو يخطب، وظاهر هذه الرواية أنهم دخلوا وهو جالس بالمسجد، فكلموه فيه، فقام فصعد المنبر ولا يلزم من شبه هذه القصة بتلك اتحادهما، لا سيما والمخرج مختلف "والأطيط صوت الأقتاب" بقاف: جمع قتب "يعني: أن الكرسي" المحيط بالسماوات والأرض "ليعجز عن مله وعظمته عز وجل، إذ كان معلوما أن أطيط" تصوت "الرجل" بحاء مهملة "بالراكب" عليه "إنما يكون لقوة ما فوقه" في التأثير "وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة اله تعالى وجلاله وإن لم يكن" يوجد "أطيط" والجملة حالية بدليل قوله: "وإنما هو كلام تقريبي" للفهم "أريد به تقرير عظمته تعالى" للعقول "وقوله: طبقا بفتح الطاء" المهملة "والموحدة" والقاف "أي: ملئا للأرض مغطيا لها، يقال: غيث طبق" بفتحتين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 و"المربد": موضع يجفف فيه التمر. و"ثعلبه" ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر. وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبي يغط، ولا بعير يئط -أي مالنا بعير أصلا؛ لأن البعير لا بد أن يئط وأنشد: أتيناك والعذراء يدمى لبابها ... وقد شغلت أم الصبي عن الطفل وألقى بكفيه الفتى لاستكانة ... من الجوع ضعفا ما يمر ولا يحلي ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العامي والعلهز الغسل فليس لنا إلا إليك قرارنا ... وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام -صلى الله عليه وسلم- يجر رداءه، حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ثم قال:   "أي: عام واسع" فكأنه قيل: مستوعبا للأرض منطبقا عليها "والمربد" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة "موضع يجفف فيه التمر وثعلبه" بمثلثة ومهملة وموحدة "ثقبه" بمثلثه وقاف "الذي يسيل منه ماء المطر". وفي القاموس: الثعلب معروف، إلى أن قال: والحجر الذي يخرج منه ماء المطر من الجرين. "وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتيناك وما لنا صبي يغط" بفتح أوله وكسر المعجمة، أي: ينام كناية عن شدة جوعه؛ لأن الغطيط إنما يقع غالبا عند الشبع "ولا بعير يئط" بفتح أوله وكسر الهمزة "أي: ما لنا بعير أصلا؛ لأن البعير لا بد أن يئط" أي: يصوت، فنفى اللازم لنفي الملزوم، لكن في الفتح والصحاح: أنه يئط من ثقل الحمل عليه، فالمعنى: لا يئط لعدم ما يحمله، وهذا أيضا يخالف مقتضى قوله: لا بد أن يئط، أي: مثقلا كان أم لا، ومر للمصنف آنفا أن الأطيط صوت الأقتاب فهو مشترك، وبه صرح الجوهري، فقال: الأطيط صوت الرحل والإبل من ثقل أحمالها ونحوه في القاموس. "وأنشد" يقول: "أتيناك" بالقصر "والعذراء" بالمد البكر "يدمي لبابها" بموحدتين "وقد شغلت أم الصبي عن الطفل" مع مزيد شفقتها عليه لشدة جوعها "وألقى بكفيه الفتى" أي: الشجاع "لاستكانة" ذل وخضوع "من الجوع ضعفا" أي: لأجل الضعف "ما يمر" ينطق بشر "ولا يحلى" ينطق بخير "ولا شيء مما يأكل الناس عندنا، سوى الحنظل العامي" نسبة إلى العام "والعلهز:" بكسر المهملة والهاء بينهما لام سكنة ثم زاي "الغسل:" بكسر المعجمة وسكون المهملة الرذل "فليس لنا إلا إليك قرارنا، وأين فرار الناس إلا إلى الرسل، فقام -صلى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 "اللهم اسقنا غيثا مغيثا مربعا غدقا طبقا نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، تملأ به الضرع وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها". قال: فما رد -صلى الله عليه وسلم- يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها، وجاء أهل البطانة يضجون: الغرق الغرق، فقال عليه الصلاة والسلام: "حوالينا ولا علينا"، فانجابت السحابة عن المدينة حتى أحدق حولها كالإكليل، وضحك -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه، ثم قال: "لله در أبي طالب، لو كان حيا لقرت عيناه". من ينشدنا قوله؟ فقال علي: يا رسول الله كأنك تريد قوله: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل   يجر رداءه" من العجلة لما جبل عليه من الرأفة والرحمة "حتى صعد" بكسر العين "المنبر، فرفع يديه" بالتثنية "إلى السماء، ثم قال: "اللهم اسقنا" عمم الطلب فلم يقل: اسقهم "غيثا" مطرا "مغيثا" لنا من هذه الشدة "مربعا غدقا" بمعجمة فمهملة كثير القطر "طبقا" بفتحتين "نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث" بمثلثة، أي: بطيء "تملأ به الضرع" للمواشي "وتنبت به الزرع وتحيي به الأرض" بالنبات "بعد موتها" يبسها تشبيها بالحيوان الذي إذا مات يبس. "قال" أنس: "فما رد -صلى الله عليه وسلم- يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأبراقها:" جمع برق ما يلمع من السحاب "وجاء أهل البطانة" أي: الساكنون خارج المدينة "يضجون" يصيحون: "الغرق الغرق" بالتكرير "فقال عليه السلام:" أنزل المطر "حوالينا ولا" تنزله "علينا، فانجابت": خرجت "السحابة عن المدينة حتى أحدق" أي: دار "حولها كالإكليل" المحيط بالشيء "وضحك -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه" فرحا بزوال الكرب عن أمته "ثم قال: "لله در أبي طالب، لو كان حيا لقرت عيناه": بردت وسكنت كناية عن السرور "من ينشدنا قوله فقال علي: يا رسول الله كأنك تريد قوله" في قصيدته الطويلة التي قالها لما تمالأت قريش على النبي -صلى الله عليه وسلم: ونفروا عنه من يريد الإسلام يذكرهم يده عليهم وبكرته من صغره، وهي ثلاثة وثمانون بيتا عند ابن إسحاق، وقال المصنف: عدة أبياتها مائة بيت وعشرة أبيات، وسبق منها جملة في أوائل المقصد الأول "وأبيض" بفتح الضاد المعجمة مجرور برب مقدرة أو منصوب بإضمار، أعني: أو أخص، والراجح أنه بالنصب عطفا على سيد المنصوب في البيت الذي قبله وهو: وما ترك قوم لا أبا لك سيدا ... بحوط الذمام غير ذرب مواكل أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أبيض "يستسقي" مبني للمفعول "الغمام" السحاب "بوجهه" أي: ذاته، أي يتوسل إلى الله به "ثمال" بكسر المثلثة وخفة الميم هو العماد والملجأ والمطعم والمغيث والمعين والكافي أطلق على كل ذلك، ويصح إرادة الجميع هنا "اليتامى عصمة للأرامل" أي: يمنعهم مما يضرهم والأرامل المساكين من رجال ونساء، ويقال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 تطيف به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل كذبتم وبيت الله نبزي محمدا ... ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل فقال -صلى الله عليه وسلم: "أجل"، رواه البيهقي. وقوله: "يدمي لبابها" أي يدمي صردها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللباب من الفرس موضع اللبب ثم استعير للناس. وقوله: "ما يمر ولا يحلي" أي ما ينطق بخير ولا شر من الجوع والضعف.   للرجال وإن لم يكن فيهم نساء، قاله ابن السكيت بنصب ثمال، وعصمة ورفعهما وجرهما على خرابيض "تطيف". وعند ابن إسحاق: تلوذ، أي: تلتجئ "به الهلاك:" جمع هالك، أي: المشرفون على الهلاك "من آل هاشم" وإذا طاف أو التجأ به هؤلاء السراة لغيرهم أحرى "فهم عنده في نعمة" يد ومنه بتقدير مضاف، أي: في ذوي نعمة، أي: سعة وخير، أو جعل النعمة ظرفا لهم مبالغة "وفواضل" عطف خاص على عام، ففي القاموس الفواضل: الأيادي الجسيمة أو الجميلة، إذ المراد بالنعمة النعم الشاملة للنعم العظيمة والدقيقة "كذبتم وبيت الله" في قولكم: "نبزي" بضم النون وسكون الموحد وكسر الزاي نقهر وتغلب "محمدًا" كذا ضبطه في سبل الرشاد. وفي النهاية أنه بتحتية، ورفع محمد نائب فاعل يبزي، ولفظه: يبزي، أي: يقهر ويغلب، أراد لا يبزي، فحذف لا من جواب القسم، وهي مرادة، أي: لا يقهر "ولما نطاعن" مجزوم بلما وحذف المفعول للتعميم، أي: نطاعنكم وغيركم "حوله" وعند ابن إسحاق دنه "ونناضل" بنونين وضاد معجمة، أي: نجادل ونخاصم وندافع عنه، أو نرمي بالسهام "ونسلمه" لكم يا معشر قريش، تفعلون به ما شئتم كما طلبتم لا "حتى نصرع حوله، و" حتى "نذهل عن أبنائنا والحلائل:" الزوجات واحدها حليلة "فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أجل" بفتح الهمزة والجيم حرف جواب بمعنى نعم، أي: أردت هذا "رواه البيهقي" في الدلائل بإسناد فيه ضعف لكنه يصلح للمتابعة، قاله الحافظ. "وقوله: يدمي لبابها، أي: يدمي صدرها لامتهانها نفسها في الخدمة حيث لا تجد ما تعطيه من" أي: الذي "يخدمها من الجدب وشدة الزمان، وأصل اللباب من الفرس موضع اللبب" بفتحتين "ثم استعير للناس" فأطلق عليها. "وقوله: ما يمر ولا يحلي، أيك ما ينطق بخير" تفسير ليحلي "ولا شر" تفسير يمر فهو لف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 وقوله: "سوى الحنظل العامي" نسبة إلى العام؛ لأنه يتخذ في عام الجدب، كما قالوا للجدب: السنة. "والعلهز" بالكسر، طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة. قاله الجوهري. و"الغسل" الرذل. قال السهيلي: فإن قلت: كيف قال أبو طالب "وأبيض يستسقي الغمام بوجهه" ولم يره قط استسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة؟ وأجاب بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب، حيث استسقى لقريش والنبي -صلى الله عليه وسلم- معه وهو غلام. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من خايل ذلك فيه، وإن لم يشاهد ذلك.   ونشر غير مرتب، وهو أولى "من الجوع والضعف" لا يستطيع النطق بشيء. "وقوله: سوى الحنظل العامي نسبة إلى العام؛ لأنه يتخذ في عام الجدب، كما قالوا للجدب السنة" بفتحتين "والعلهز بالكسر" للعين المهملة والهاء بينهما لام ساكنة وآخره زاي "طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة، قاله الجوهري" في الصحاح "والغسل" بكسر المعجمة، وإسكان المهملة "الرذل" بذال معجمة. "قال السهيلي: فإن قلت كيف قال أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه، ولم يره قط استسقى، وإنما كان ذلك منه بعد الهجرة" وأبو طالب مات قبلها "وأجاب بما حاصله: أن أبا طالب أشار إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي -صلى الله عليه وسلم- معه وهو غلام. انتهى. ولفظه في روضه: روى الخطاب حديثا فيه أن قريشا تتابعت عليهم سنو جدب في حياة عبد المطلب، فارتقى هو ومن حضره من قريش أبا قبيس، فقام عبد المطلب واعتضد النبي -صلى الله عليه وسلم، فرفعه على عاتقه وهو يومئذ غلام قد أيفع أو قرب، فدعا فسقوا في الحال، فقد شاهد أبو طالب ما دله على ما قاله. انتهى. "وقال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون أبو طالب مدحه بذلك لما رأى من مخايل ذلك فيه وإن لم يشاهد ذلك" لفظ الحافظ: وإن لم يشاهد وقوعه، وأشار المصنف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة، وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي وأجدب العيال وأنت فيهم أما تستسقي؟ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء، وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام بأصبعه وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ههنا وههنا، وأغدق السحاب وأغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:   إلى التعقب على هذا الاحتمال بقوله: "قلت: وقد أخرج ابن عساكر عن جلهمة" بضم الجيم وتفتح "ابن عرفطة" بضم العين والفاء "قال: قدمت مكة وهم" أي: أهلها "في قحط" بسكون الحاء وتفتح، أي: شدة لاحتباس المطر عنهم "فقالت قريش:" بعد أن تشاوروا، فلفظه عند ابن عساكر عن جلهمة: قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: اعمدوا اللات والعزى، وقائل منهم: اعمدوا مناة الثالثة الأخرى، فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل، قالوا: كأنك عنيت أبا طالب؟، قال: أيها، فقاموا بأجمعهم، فقمت قدققنا عليه الباب، فخرج إلينا فثاروا إليه، فقالوا: "يا أبا طالب أقحط" بالبناء للفاعل والمفعول "الوادي" أصابه القحط "وأجدب العيال وأنت فيهم" من ذرية إسماعيل وإبراهيم "أما تستسقي:" تطلب من الله السقيا "فخرج أبو طالب ومعه غلام" هو النبي -صلى الله عليه وسلم "كأنه شمس دجن" بضم المهملة الجيم وشد النون على مفاذ قول المجد كعتل الظلمة، ثم يجوز أنه منون على الوصف، أي: كسبت ظلمة، والإضافة، أي: شمس ليلة ذات ظلمة، أو ذات يوم دجن، أي: مظلم "تجلت عنه سحابة قتماء" بقاف مفتوحة فوقية ساكنة والمد تأنيث أقتم، أي: يعلوها سواد غير شديد، وهذا من بديع التشبيه، فإن شمس يوم الغيم حين ينجلي سحابها الرقيق تكون مضيئة مشرقة مقبولة للناس ليست محرقة "وحوله أغيلمة" تصغير أغلمة، إشارة إلى صغرهم؛ لأن الغلام قد يطلق على البالغ "فأخذه" أي: الغلام "أبو طالب فألصق ظهره" أي: ظهر الغلام "بالكعبة ولاذ" التجأ "الغلام بأصبعه" أي: أصبع نفسه السبابة على الظاهر؛ لأنها التي يشار بها غالبا، ولعل المعنى: أشار به إلى السماء كالمتضرع الملتجئ "وما في السماء قزعة" بفتحات قطعة سحاب "فأقبل السحاب من ههنا ومن ههنا" أي: من جميع الجهات، لا من جهة دون أخرى "وأغدق السحاب" أي: كثرة ماؤه والإسناد مجازي "واغدودق" عطف مرادف "وانفجر له الوادي" بالمطر "وأخصب النادي" بالنون أهل الحضر "والبادي" أهل البادية، أي: أخصبت الأرض للفريقين "وفي ذلك يقول أبو طالب" يذكر قريشا حين تمالؤوا عليه -صلى الله عليه وسلم- بركته عليهم من صغره لا في هذا الوقت، فلا يخالف قول ابن إسحاق؛ أنه قال: القصيدة لما تمالأت قريش على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 وأبيض يستسقى الغمام بوجهه الرابع: استسقاؤه -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء من غير صلاة. عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا عن الإسلام، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد، جئت تأمر بصلة الرحم، وإن قومك هلكوا، فادع الله، فقرأ {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] ، ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] ، يوم بدر. زاد أسباط عن   النبي -صلى الله عليه وسلم- ونفروا عنه من يريد الإسلام، وتجويز أنه قال البيت عقب الاستسقاء "وأبيض يستسقى الغمام بوجهه" أي: يطلب السقي من السحاب بذاته ثمال اليتامى عصمة للأرامل، فهذا صريح في أنه قاله عن مشاهدة، فكيف يقول الحافظ ذلك الاحتمال، ولذا تعجب منه شارح الهمزية، وقال: إنه غفل عن رواية ابن عساكر هذه إذ لو استحضرها لم يبد هذا الاحتمال. "الرابع: استسقاؤه -صلى الله عليه وسلم- بالدعاء من غير صلاة": "عن ابن مسعود أن قريشا أبطؤوا" أي: تأخروا "عن الإسلام" ولم يبادروا إليه فدعا عليهم رسول الله -صلى اله عليه وسلم" فقال: اللهم سبعا كسبع يوسف كما في البخاري، ونصب بفعل تقديره: أسألك، أو سلط وله في تفسير سورة يوسف: "اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف،" وفي تفسير الدخان: "اللهم أعني عليهم".. إلخ "فأخذتهم سنة" بفتحتين، أي: جدب وقحط "حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام". زاد في رواية: ونظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع "فجاءه أبو سفيان" صخر بن حرب الأموي والد معاوية "فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك" ذوي رحمك "هلكوا" ولبعض الرواة: قد هلكوا، أي: بدعائك عليهم "فادع الله" لهم، فإن كشف عنا نؤمن بك "فقرأ {فَارْتَقِبْ} انتظر لهم {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، ثم عادوا إلى كفرهم" فابتلاهم الله تعالى بالبطشة "فذلك قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم بدر" تفسير لها، وقيل: يوم القيامة، والعامل في يوم فعل دل عليه إنا منتقمون؛ لأن أن مانع من عمله فيما قبله، أو بدل من يوم تأتي. قال الحافظ: ولم يقع في هذا السياق تصريح بأنه عاد لهم، لكن رواه البخاري في تفسير سورة ص، بلفظ: فكشف عنهم ثم عادوا، وفي سورة الدخان من وجه آخر بلفظ: فاستسقى لهم فسقوا، ونحوه في رواية: أسباط المعلقة، يعني قوله: "زاد أسباط:" بفتح الهمزة وسكون المهملة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 منصور: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم. رواه البخاري. وأفاد الدمياطي أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور، وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك بالمدينة في القنوت كما في حديث أبي هريرة عند البخاري، ولا يلزم من ذلك اتخاذ هذه القصص، إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارا. والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: ثم عادوا فذلك قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ   وموحدة فألف فطاء مهملة. قال الحافظ: هو ابن نصر، ووهم من زعم أنه أسباط بن محمد "عن منصور" يعني: بإسناده المذكور قبله في البخاري، وهو حدثنا محمد بن كثير عن سفيان، حدثنا منصور والأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود: وقد وصله الجوزي والبيهقي من رواية علي بن ثابت عن أسباط بن نصر عن منصور وهو ابن المعتمر، عن أبي ضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أدبارًا، فذكر نحو الذي قبله، وزاد: فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة، فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا فادع الله لهم "فدعا" الله "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسقوا" بضم السين والقاف مبني للمفعول "الغيث" بالنصب مفعوله الثاني "فأطبقت" أي دامت وتواترت "عليهم سبعا" أي: سبعة أيام، وسقطت التام لعدم ذكر المميز، فإنه يجوز فيه الأمران "فشكا الناس كثرة المطر، فقال: "اللهم" أنزل المطر "حوالينا ولا" تنزله "علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم". قال الحافظ: كا في جميع الروايات في الصحيح فسقوا بضم السين والقاف وهي على لغة بني الحارث. وفي رواية البيهقي المذكورة: فأسقى الناس حولهم، وزاد المصنف: ويجوز النصب على الاختصاص، أي: أعني الناس "رواه البخاري" هنا، وفي التفسير: "وأفاد الدمياطي أن ابتداء الدعاء على قريش كان عقب طرحهم على ظهره سلى الجزور" بفتح السين المهملة والقصر "وكان ذلك بمكة قبل الهجرة، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك بالمدينة في القنوت، كما في حديث أبي هريرة عند البخاري: ولا يلزم من ذلك اتخاذ هذه القصص: إذ لا مانع أن يدعو بذلك عليهم مرارا، والظاهر أن مجيء أبي سفيان كان قبل الهجرة لقول ابن مسعود: ثم عادوا، فذلك قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} يوم بدر، ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 الْكُبْرَى} يوم بدر ولم ينقل أن أبا سفيان قدم المدينة قبل بدر. وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فقال: "وأبيض يستسقى الغمام بوجهه" لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل. وفي الدلائل للبيهقي عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب قال: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع الله لقومك فإنهم قد هلكوا. وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة، ولم يشك، فأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل فقال: استسق الله لمضر، قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك ودعوت   قبل بدر، وعلى هذا فيحتمل أن يكون أبو طالب كان حاضرا ذلك، فقال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه" البيت عن مشاهدة لذلك "لكن ورد ما يدل على أن القصة وقعت بالمدينة، فإن لم يحمل على التعدد وإلا فهو مشكل" جدا، وأفاد بيان ما قاله إنه ورد بقوله. "وفي الدلائل للبيهقي" وقيل: هذا في الفتح، وقد تعقب الداودي وغيره زيادة إسحاق بن نصر ونسبوه إلى الغلط في قوله: وشكا الناس كثرة المطر.. إلخ، وزعموا أنه أدخل حديث في حديث، وأن الحديث الذي فيه شكوى كثرة المطر، وقوله: "اللهم حوالينا ولا علينا"، لم يكن في قصة قريش وإنما هو في القصة التي رواها أنس وليس هذا التعقب عندي بجيد، إذ لا مانع أن يقع ذلك مرتين، والدليل على أن أسباط بن نصر لم يغلط، ما للبخاري في سورة الدخان عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى في هذا الحديث، فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت، فقال المضر: إنك لجريء، فاستسقى فسقوا، والقائل في: فقيل: يظهر لي أنه أبو سفيان لما ثبت في كثير من طرق هذا الحديث في الصحيحين، فجاءه أبو سفيان، ثم وجدت في الدلائل للبيهقي "عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب، قال: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتاه أبو سفيان" صخر بن حرب" فقال: ادع الله لقومك فإنهم قد هلكوا، وقد رواه أحمد وابن ماجه عن كعب بن مرة ولم يشك" بل جزم بأن الراوي لا الجائي كعب بن مرة "فأبهم أبا سفيان فقال: جاءه رجل، فقال: استسق الله لمضر" اطلب لهم منه السقيا، وإنما قال لمضر: لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدعاء بالقحط على قريش، فسرى القحط إلى من حولهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش، للإشارة إلى أن غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم، ولئلا يذكره بجرمهم، فقال: $"ألمضر لينذر جوافيهم،" كذا قال المصنف، وفيهما نظر، فإن أبا سفيان عبر بقومك وتقدم، ويأتي قريبا أنه عليه السلام دعا على مضر، سقط من قلم المصنف أو نساخه، فقال: "إنك لجريء ألمضر"؟ وهو في الفتح وبه يستقيم قوله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 الله فأجابك، فرفع يديه فقال: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا". الحديث فظهر أن الرجل المبهم المقول له: "إنك لجريء" هو أبو سفيان. لكن يظهر أن فاعل "قال: يا رسول الله استنصرت الله.. إلخ" هو كعب بن مرة راوي هذا الحديث، لما أخرجه أحمد أيضا والحاكم عن كعب بن مرة المذكور قال: "دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتيته فقلت: يا رسول الله إن الله قد نصرك وأعطاك واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا". وعلى هذا: فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشيء، وكلمة كعب بشيء فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله: "إنك لجريء" ومن قوله: "اللهم حوالينا ولا علينا". وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله: "استنصرت الله فنصرك". ولا يلزم من هذا اتحاد هذا القصة مع قصة أنس السابقة، فهي واقعة أخرى،   "قال: يا رسول الله استنصرت الله فنصرك، ودعوت الله فأجابك" فلا عليك أن تدعو لهم بالسقي، وقوله: "ألمضر"، أي: أتطلب أن أستسقي لهم مع ما هم عليه من الكفر والمعاصي "فرفع يديه" بالتثنية "فقال: "اللهم اسقنا غيثا مغيثا".. الحديث" بقيته كما في الفتح: "مريعا مريئا، طبقا عاجلا غير رائث، نافعا غير ضار"، قال: فأحيوا، فما لبثوا أن أتوه، فشكوا إليه كثرة المطر، فقالوا: قد تهدمت البيوت، فرفع يديه فقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"، فجعل السحاب يتقطع يمينا وشمالا "فظهر" بذلك "أن الرجل المبهم المقول له: إنك لجريء، هو أبو سفيان لكن يظهر" لي "أن فاعل قال: يا رسول الله استنصرت الله ... إلخ، هو كعب بن مرة راوي" هذا الحديث المذكور "لما أخرجه أحمد أيضا والحاكم عن كعب بن مرة" المذكور، ويقع في نسخ عن أبي بن كعب وهو غلط، فالذي في الفتح عن كعب "قال: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مضر، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، إن الله نصرك وأعطاك واستجاب لك" دعاءك عليهم "وإن قومك قد هلكوا ... " الحديث. "وعلى هذا فكأن أبا سفيان وكعبا حضرا جميعا، فكلمه أبو سفيان بشيء" هو: جئت تأمر صلة الرحم وأن قومك قد هلكوا "وكلمه كعب بشيء" هو: يا رسول الله.. إلخ.. "فدل ذلك على اتحاد قصتهما، وقد ثبت في هذه ما ثبت في تلك من قوله: "إنك لجريء"، ومن قوله: "اللهم حوالينا ولا علينا". زاد الحافظ: فظهر بذلك أن أسباط بن نصر لم يغلط في الزيادة المذكورة ولم ينتقل من حديث إلى حديث "وسياق كعب بن مرة يشعر بأن ذلك وقع بالمدينة لقوله: استنصرت الله فنصرك؛" لأن كلا منهما كان بالمدينة بعد الهجرة "و" لكن "لا يلزم من هذا اتحاد هذه القصة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 لأن في رواية أنس "فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا" وفي هذه "فما كان إلا جمعة أو نحوها، والسائل في هذه القصة غير السائل في تلك، فهما قصتان، وقع في كل منهم طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: "استنصرت الله فنصرك" على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصًا من فتح الباري. الخامس: استسقاؤه -صلى الله عليه وسلم- عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يدعى باب السلام نحو قذفه بحجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد. عن عمير، مولى أبي اللحم، أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستسقي رافعا يديه قبل   مع قصة أنس السابقة، فهي واقعة أخرى؛ لأن في رواية أنس: فلم ينزل عن المنبر حتى مطروا، وفي هذه فما كان إلا جمعة أو نحوها، والسائل في هذه القصة غير السائل في تلك" التي رواها أنس؛ لأنه قال: جاء أعرابي "فهما قصتان، وقع في كل منهم طلب الدعاء بالاستسقاء، ثم طلب الدعاء بالاستصحاء. وإن ثبت أن كعب بن مرة أسلم قبل الهجرة حمل قوله: "استنصرت الله فنصرك" على النصر بإجابة دعائه عليهم، وزال الإشكال المتقدم والله أعلم. انتهى ملخصا من فتح الباري" بمعنى أنه ترك منه ما لم يتعلق به غرضه، وفيه بعد هذا: وإني ليكثر تعجبي من إقدام الدمياطي على تغليط ما في الصحيح بمجرد التوهم مع إمكان التصويب مزيد التأمل والتنقيب عن الطرق وجميع ما ورد في الباب، فلله الحمد ما أعلم وأنعم. "الخامس: استسقاؤه -صلى الله عليه وسلم- عند أحجار الزيت، قريبا من الزوراء" بفتح الزاي وإسكان الواو والمد موضع بالسوق بالمدينة "وهي خارجة باب المسجد الذي يدعى باب السلام في" مكان مسافته "نحو قذفه" رمية "بحجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد" النبوي "عن عمير" بضم العين مصغر "مولى أبي اللحم" بالمد الغفاري: كان يأبى اللحم، شهد عمير مع مولاه خيبر كما في السنن الأربعة عنه، قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في، فأعطاني من طرق المتاع ولم يسهم لي، وروى مسلم عنه: كنت مملوكا فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أتصدق من مال مولاي بشيء؟، قال: نعم والأجر بينكما وعاش إلى نحو السبعين من الهجرة "أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستسقي رافعا يديه قبل" بكسر ففتح جهة "وجهه لا يجاوزهما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 وجهه، لا يجاوزهما رأسه، رواه أبو داود والترمذي. السادس: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال المنافقون: لو كان نبيا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أوقد قالوها، عسى ربكم أن يسقيكم"، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادي، فشرب الناس وارتووا. فصل: عن سالم بن عبد الله عن أبيه مرفوعا: أنه كان إذا استسقى قال: "اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلائق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاد ما لا يكشفه غيرك،   رأسه" رواه أبو داود والترمذي. "السادس: استسقاؤه عليه الصلاة والسلام في بعض غزواته، لما سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال المنافقون: لو كان نبيا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه" بني إسرائيل، والقصة في القرآن: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 60] الآية "فبلغ ذلك النبي -صلى اله عليه وسلم، فقال: أوقد، قالوها" أي: هذه المقالة، قال ذلك تعجبا منهم "عسى ربكم أن يسقيكم"، ثم بسط يديه ودعا، فما رد يديه من دعائه حتى أظلم السحاب وأمطروا إلى أن سال الوادي، فشرب الناس وارتووا". "فصل" هو الثالث من الباب الثاني الذي قال فيه، وفيه أربعة فصول، فذكر الكسوف فصلا والاستسقاء ثانيا وهذا الثالث، ويأتي الرابع بعده "عن سالم بن عبد الله" بن عمر "عن أبيه مرفوعا؛ أنه كان" صلى الله عليه وسلم "إذا استسقى قال: "اللهم اسقنا الغيث" المطر "ولا تجعلنا من القانطين" الآيسين الذين قلت فيهم: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] ، "اللهم إن بالعباد والبلاء والبهائم والخلائق من اللأواء" بالمد الشدة "والجهد" بفتح الجيم وضمها المشقة "والضنك" الضيق في كل شيء للذكر والأنثى، قاله القاموس "ما لا نشكوه إلا إليك" إذ لا يكشف الضر غيرك "اللهم أبنت لنا الزرع وأدر لنا الضرع واسقنا من بركات السماء" أي: المطر "وأنبت لنا من بركات الأرض" الزرع "اللهم رافع عنا الجهد والجوع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 "اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا". رواه الشافعي. فصل: روى أبو الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق. وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان، عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر.   "والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت" ولم تزل "غفارا، فأرسل السماء" المطر "علينا مدرارا" كثير الدرور "رواه الشافعي" الإمام رحمه الله. "فصل: روى أبو الجوزاء" بجيم وزاي أوس بن عبد الله الربعي بفتح الموحدة البصري، تابعي ثقة يرسل كثيرا "قال: قحط" بفتح الحاء وكسرها مع فتح القاف وبضمها وكسر الحاء مبني للمفعول "أهل المدينة قحطا شديدا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فاجعلوا منه كوى إلى السماء" بضم الكاف مقصور جمع كوة بالضم مثل مدية ومدى الثقبة في الحائط، أي: اجعلوا طاقات من السقف الذي على القبر الشريف، كما يفهم من قولها" حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا فمطروا" مطرا كثيرا "حتى نبت العشب" بضم فسكون "وسمنت الإبل حتى تفتقت:" اتسعت "من الشحم، فسمي عام الفتق". "وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح" واسمه ذكوان "السمان" بائع السمن "عن مالك الدار" وكان خازن عمر، وهو مالك بن عياض مولى عمر، له إدراك، ورواية عن الشيخين ومعاذ وأبي عبيد، وعنه ابناه عبد الله وعوف وأبو صالح وعبد الرحمن بن سعيد المخزومي قال أبو عبيدة: ولاه عمر كيلة عمر، فلما كان عثمان ولاه القسم فسمي مالك الدار. "قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل" هو بلال بن الحارث المزني الصحابي كما عند سيف في كتاب الفتوح "إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتى الرجل" بلال بن الحارث "في المنام، فقيل له: ائت عمر" وفي رواية ابن خيثمة من هذا الوجه، فجاءه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام، فقال له: ائت عمر فقل له: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 وفي رواية عبد الرزاق: أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس: قم فاستسق. وذكر الزبير بن بكار أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس عام الرمادة -بفتح الراء وتخفيف الميم- وسمي به لما حصل من شدة الجدب، فأغبرت الأرض جدا من عدم المطر. وذكر ابن عساكر في كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا، واشدد به الأصل وأطل به الفرع وأدر به الضرع. اللهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا، الله اسقنا سقيى وادعة بالغة طبقا، اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك، لا شريك لك، اللهم نشكو إليك سغب كل ساغب، وعدم كل   إنكم مسقون فعليك، فبكى عمر وقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه. "وفي رواية عبد الرزاق" عن ابن عباس: "أن عمرا استسقى بالمصلى، فقال للعباس" بن عبد المطلب: "قم فاستسق" فاستسقى، فذكر الحديث، وثبت بهذا أن العباس كان مسئولا وأنه ينزل منزلة الإمام إذا أمره الإمام بذلك كما في الفتح. "وذكر الزبير بن بكار" عن زيد بن أسلم عن ابن عمر "أن عمر بن الخطاب استسقى بالعباس" بن عبد المطلب "عام الرمادة" ذكر ابن سعد وغيره أن عام الرمادة كان سنة ثماني عشرة، وكان ابتداؤه مصدره الحاج منها، ودام تسعة أشهر، والرمادة "بفتح الراء وتخفيف الميم، وسمي به" العام "لما حصل من شدة الجدب" بمهملة "فاغبرت الأرض جدا من عدم المطر" فصارت كالرماد. "وذكر ابن عساكر في كتاب الاستسقاء أن العباس لما استسقى ذلك اليوم قال: اللهم إن عندك سحابا وعندك ماء، فانشر السحاب ثم أنزل منه الماء ثم أنزله علينا" والجواد الكريم يجود بما عنده، وأنت الجواد الرحيم الكريم، وما عندك لا يفنى ولا ينفد "واشدد به الأصل" للنبات وهو الأرض "وأطل به الفرع" النبات "وأدر به الضرع، اللهم تشفعنا إليك بمن لا منطق له من بهائمنا وأنعامنا" وفي ذلك مزيد الطالب بالذلة والخضوع الذي هو المطلوب؛ لأن البهائم ترحم. وفي ابن ماجه مرفوعا: "لولا البهائم لم تمطروا" "اللهم اسقنا سقيى وادعة" أي مسمرة بقدر الحاجة "بالغة طبقا" متسعة "اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك لا شريك لك" تأكيد "اللهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 عادم، وجوع كل جائع، وعري كل عار، وخوف كل خائف. وفي رواية الزبير بن بكار: أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث. فأرخت السماء مثل الجبال، حتى أخصبت الأرض وعاش الناس. وعنده أيضا: قحط الناس فقال عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد فاقتدوا يا أيها الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمه العباس، فاتخذوه وسيلة إلى الله. وفيه فما برحوا حتى سقوا، وفي ذلك يقول العباس بن عتبة بن أبي لهب:   نشكو إليك سغب" بفتح المهملة والمعجمة وموحدة جوع "كل ساغب" جائع مع التعب، أو أراد العطش؛ لأنه قد يسمى سغبا "وعدم كل عادم وجوع كل جائع" وإن لم يكن مع تعب فلا تكرار؛ لأن السغب أخص أو أريد بالسغب العطش كما رأيت "وعري كل عار وخوف كل خائف". "وفي رواية الزبير بن بكار" في كتاب الأنساب: "أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه بي القوم إليك لمكاني" قربي "من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث" المطر "فأرخت السماء" مطرا "مثل الجبال" من كثرته "حتى أخصبت الأرض وعاش الناس وعنده" أي الزبير بن بكار "أيضا" عن ابن عمرة، قال: "قحط الناس:" بفتحات أصابهم القحط. "فقال عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد" من التعظيم البالغ، وعند ابن حبان والحاكم عن عمر زيادة يعظمه ويفخمه ويبر قسمه "فاقتدوا أيها الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمه العباس فاتخذوه وسيلة إلى الله، وفيه" أي: الحديث "فما برحوا حتى سقوا" لفظ الرواية: حتى سقاهم الله. قال الحافظ: ويستفاد من هذه القصة استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوة، وفيه فضل العباس وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه. وفي البخاري عن أنس: أن مر كان إذا قحطوا استسقى بالعباس فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون "وفي ذلك يقول العباس بن عتبة" بضم المهملة وإسكان الفوقية وموحدة "ابن أبي لهب" الهاشمي وأبوه صحابي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمرا توجه بالعباس في الجدب راغبا ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر   "بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... "عشية يستسقي بشيبته عمرا توجه بالعباس في الجدب راغبا ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر التراث بضم الفوقية ومثلثة، ولعل المراد به هنا ما ورثوه عنه من العلوم والمعارف والشرف، إذ الأنبياء لا تورث، والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 القسم الثالث: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- في السفر وفي فصول: الفصل الأول: في قصره -صلى الله عليه وسلم- الصلاة فيه وأحكامه وفيه فرعان: الفرع الأول: في كم كان عليه الصلاة والسلام يقصر الصلاة تقدم هل القصر رخصة أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين، في أوائل   "القسم الثالث": من الأقسام الخمسة التي تقدم تقسيم النوع الأول من الصلاة إليها أول المقصد "في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- في السفر، وفيه فصول: الأول: في قصره -صلى الله عليه وسلم- الصلاة فيه" أي: السفر "وأحكامه" أي: القصر من جواز ووجوب "وفيه فرعان: الأول: في" جواب قول السائل "كم" أي: قدر "كان عليه الصلاة والسلام يقصر الصلاة؟ " بفتح أوله وضم الضاد من باب نصر، وبضم أوله وشد الصاد من قصر وتخفيفها من أقصر. قال الحافظ: يقال: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا وقصرتها بالتشديد تقصيرا وأقصرتها إقصارا، والأشهر في الاستعمال الأول، والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في الصبح ولا في المغرب "تقدم هل القصر رخصة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 هذا المقصد. وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أربعا، وخرج يريد مكة فصلى بذي الحليفة العصر ركعتين. رواه البخاري ومسلم. وهذا الحديث مما احتج به أهل الظاهر في جواز القصر في طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، ويقال: سبعة. وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا في سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة وطائفة شرطه ثلاث مراحل، واعتمدوا في ذلك آثارا عن الصحابة. وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر؛ لأن المراد أنه -صلى الله عليه وسلم- حين سافر إلى مكة في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا ثم سافر، فأدركته العصر وهو مسافر بذي الحليفة، فصلاها ركعتين. وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره، فلا   أو عزيمة، وما استدل به لكل من القولين في أوائل هذا المقصد" فأغنى عن إعادته. "وعن أنس بن مالك قال: صليت الظهر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة أربعا" أي: أربع ركعات "وخرج يريد مكة فصلى بذي الحليفة" بضم المهملة وفتح اللام "العصر ركعتين، رواه البخاري ومسلم". وفي رواية لهما عن أنس: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين "وهذا الحديث ما احتج به أهل الظاهر في" أي: على "جواز القصر في طويل السفر وقصيره، فإن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال، ويقال: سبعة" بسين فموحدة. "وقال الجمهور: لا يجوز القصر إلا في سفر يبلغ مرحلتين، وقال أبو حنيفة: وطائفة شرطه ثلاث مراحل واعتمدوا في ذلك آثارا عن الصحابة"، وأقوى ما تملكوا به حديث ابن عمر: لا تسافر المرأة ثلاث أميال إلا مع ذي محرم، قالوا: فما نقص عنها ليس بسفر، وتعقب بأن الحديث لم يسق لبيان مسافة القصر، بل لنهي المرأة عن الخروج وحدها، ولذلك اختلفت ألفاظه، وأقل ما ورد منها لفظ بريد، وبأن قاعدة الحنفية الاعتبار بما رأى الصحابي لا بما روى وابن عمر قصر في مسيرة يوم تام كما في الموطأ، فلو كان الحديث عنده لبيان أقل مسافة القصر لما خالفه. "وأما هذا الحديث فلا دلالة فيه لأهل الظاهر؛ لأن المراد أنه -صلى الله عليه وسلم- حين سافر إلى مكة في حجة الوداع صلى الظهر بالمدينة أربعا، ثم سافر فأدركته العصر وهو مسافر بذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 دلالة فيه قطعا. والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا. وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، وهي ستة عشر فرسخا، وهي أربعة برد. والميل من الأرض منتهى مد البصر؛ لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه. وبذلك جزم الجوهري. وقيل: حده أن تنظر إلى الشخص في أرض مصطحبة فلا تدري أهو رجل أو امرأة. أو آت. قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، وقد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز في هذه   الحليفة فصلاها ركعتين، وليس المراد أن ذا الحليفة غاية سفره فلا دلالة فيه قطعا" ولعل وجه تمسكهم بالحديث أنه قصر قبل سير أربعة برد وإلا فكيف يسوغ الاستدلال مع تصريحه بأنه خرج يريد مكة. "والأحاديث المطلقة مع ظاهر القرآن متعاضدان على جواز القصر من حين يخرج من البلد، فإنه حينئذ يسمى مسافرا" فسفره -صلى الله عليه وسلم- انعقد بمجاوزته المدينة لقصده مكة وبينهما أيام عديدة "وطويل السفر ثمانية وأربعون ميلا هاشمية" نسبة لبني هاشم، لتقديرهم لها وقت خلافتهم لا لهاشم نفسه، كما وقع للرافعي قاله شارح البهجة "وهي ستة عشر فرسخا" فارسي معرب، قاله الفراء وهو ثلاثة أميال "وهي أربعة برد" بضم الموحدة والراء وتسكن "والميل من الأرض منتهى مد البصر" فيه مسامحة؛ لأن هذا غاية الميل، ولذا قال القاموس: الميل قدر مد البصر سمي ميلا؛ "لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى" أي ينتهي "إدراكه، وبذلك جزم الجوهري، وقيل: حده أن تنظر" أي: نطرك، لكن الميل ليس نفس النظر، فإما أنه أطلق الأثر على المؤثر، أو أنه على حذف مضاف، أي: أثر نظرك "إلى الشخص في أرض مصطحبة" مستوية "فلا تدري أهو رجل أو امرأة أو ذاهب أو آت، قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وشرون أصبعا معترضة معتدلة" والأصبع ست شعيرات معترضة معتدلة. انتهى. قال الحافظ: وهذا الذي قاله هو الأشهر، ومنهم من عبر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان، وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل: ثلاثة آلاف ذراع، ذكره صاحب البيان وقيل: وخمسمائة صححه ابن عبد البر، وقيل: هو ألفا ذراع، ومنهم من عبر عن ذلك بألف خطوة للجمل "و" هذا الذراع الذي حرره النووي "قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن بمصر والحجاز في هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن. فعلى هذا فالميل بذراع الحديد خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها. وروى البيهقي عن عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أي يقصران في أربعة برد فما فوقها. وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم. ورواه بعضهم في صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس. وقد كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر عليه الصلاة والسلام فرضت أربعا.. رواه البخاري من حديث عائشة، لكن يعارضه حديث ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين. رواه مسلم. وجمع بينهما بما يطول ذكره.   فالميل بذراع الحديد" زاد الحافظ على القول المشهور: "خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا، وهذه فائدة جليلة قل من تنبه لها" وفي الفتح: نفيسة قل من نبه عليها. "وروى البيهقي عن عطاء" بن أبي رباح "أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين، أي: يقصران في أربعة فما فوقها، وذكره البخاري في صحيح تعليقا" بلا إسناد "بصيغة الجزم" فيكون صحيحا، فقال: وكان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في أربعة برد "ورواه بعضهم في صحيح ابن خزيمة مرفوعا من رواية ابن عباس" الذي في الفتح، وقد روي عن ابن عباس مرفوعا، أخرجه الدارقطني وابن شيبة من طريق عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه وعطاء عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان"، وهذا إسناد ضعيف من أجل عبد الوهاب "وقد كان فرض الصلاة ركعتين ركعتين" بالتكرار "فلما هاجر عليه الصلاة والسلام فرضت أربعا، رواه البخاري" هكذا في الهجرة وأخرجه في مواضع بنحوه، وكذا مسلم بنحوه، كلاهما "من حديث عائشة لكن يعارضه حديث ابن عباس" قال: "فرضت الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، رواه مسلم" بلفظ: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم -صلى الله عليه وسل- في الحضر أربعا، وفي السفر: ركعتين، وفي الخوف: ركعة، وله أيضا أن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة "وجمع بينهما بما يطول ذكره" ومن جملته أن هذا إخبار بما استقر عليه الفرضان، وحديث عائشة في بدء الأمر، وقوله في الخوف ركعة، أي: مع الإمام، وسكت عن الأخرى للعلم بأنه يتمها لنفسه وحده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ويؤيده ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة، وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية. ذكره الدولابي، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما. الفرع الثاني: في القصر مع الإقامة عن أنس قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة، فكان يصلي   وقال الحافظ: الذي يظهر لي وبه يجمع بينهما أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح، كما روي ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة، قالت: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب؛ لأنها وتر النهار، وعقب الحافظ هذا بقوله: "ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ويؤيده ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند" للإمام الشافعي: "أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة". قال الحافظ: وهو مأخوذ من قول غيره أن نزول آية الخوف كان فيها "وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية" بالنون "ذكره الدولابي" بفتح الدال أفصح من ضمها، زاد الحافظ وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو نحوه "وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما". قال الحافظ: فعلى هذا، فقول عائشة: فأقرت صلاة السفر، أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف؛ لأنها استمرت منذ فرضت، فلا يزم من ذلك أن القصر عزيمة، قال: وأما قول الخطابي وغيره أن قول عائشة غير مرفوع وأنها لم تشهد فرض الصلاة ففيه نظر، أما أولا فهو مما لا مجال للرأي فيه فله حكم الرفع، وأما ثانيا فعلى تقدير تسليم أنها لم تدرك القصة يكون مرسل صحابي، وهو حجة لاحتمال أنها أخذته عن النبي -صلى الله عليه وسلم، أو عن صحابي أدرك ذلك، وقول إمام الحرمين: لو ثبت لنقل متواترا فيه نظر؛ لأن التواتر في مثل هذا غير لازم. انتهى. "الفرع الثاني: في القصر مع الإقامة: عن أنس قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى مكة" أي: إلى الحج، كما في رواية مسلم "فكان يصلي ركعتين ركعتين" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قيل له: أقمتم بمكة شيئا؟ قال: أقمنا بها عشرا. رواه البخاري، ومسلم مختصرا قال: أقمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة يقصر الصلاة. وعن ابن عباس قال: أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعة عشر يقصر الصلاة. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتمنا. رواه البخاري. وفي رواية أبي داود: أنه -صلى الله عليه وسلم- أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة. قال ابن عباس: فلو أقام أكثر أتم. والرواية الأولى بتقديم التاء على السين، والثانية بتقديم السين على الموحدة. ولأبي داود، من حديث عمران بن حصين: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين. وله طريق ابن إسحاق عن   بالتكرار لإفادة عموم التثنية، زاد في رواية البيهقي إلا المغرب "حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له:" القائل يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي راوي الحديث عنه، ففي الصحيحين، قلت: "أقمتم بمكة شيئا، قال: أقمنا بها عشرا" لفظ البخاري، ولفظ مسلم: قلت: كم أقام بمكة؟، قال: عشرا "رواه البخاري ومسلم" هكذا مطولا هنا، ورواه البخاري في فتح مكة "مختصرا" بلفظ. "قال" أنس: "أقمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة" من الأيام رواية أبي ذر ولغيره عشرا "يقصر الصلاة" بضم الصاد "وعن ابن عباس قال: أقام النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد البخاري في المغازي: بمكة "تسعة عشر" يوما بليلته "يقصر الصلاة" الرباعية بضم الصاد وضبطه المنذر بضم الياء وشد الصاد من التقصير، قاله المصنف: "فنحن إذا سافرنا" فأقمنا "تسعة عشر" بفوقية فسين "قصرنا، وإن زدنا أتممنا". قال الحافظ: ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى في روايته بالمراد، ولفظه: إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر، ويؤيده قوله صدر الحديث: أقام، وللترمذي: فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا "رواه البخاري" هنا، وفي المغازي من إفراده عن مسلم، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في الصلاة. "وفي رواية أبي داود" عن ابن عباس؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- أقام سبعة عشر بمكة يقصر الصلاة، قال ابن عباس: فلو أقام أكثر أتم والرواية الأولى" أي: رواية البخاري "بتقديم التاء" الفوقية "على السين، والثانية" رواية أبي داود "بتقديم السين على الموحدة، ولأبي داود من حديث عمران بن حصين، غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس: أقام -صلى الله عليه وسلم- بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة. وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف: بأن من قال: "تسعة عشر" عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: "سبعة عشر" حذفهما، وأما رواية "خمسة عشر" فضعفها النووي في "الخلاصة" وليس بجيد؛ لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، فإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبعة عشر، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية "تسعة عشر" أرجح الروايات. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين، لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في   ركعتين؛" لأنه لم ينو الإقامة "وله من طريق" محمد "بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله" بضم العين ابن عبد الله، بفتحها ابن عتبة، بضمها ففوقية "عن ابن عباس: أقام -صلى الله عليه وسلم- بمكة عام الفتح خمسة عشر يوما يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال: تسعة عشر عد يومي الدخول والخروج، ومن قال: سبعة عشر حذفهما" ومن قال: ثمانية عشر عد أحدهما كما هو باقي جمع البيهقي في فتح الباري. "وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة، وليس" تضعيفه "بجيد؛ لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك" بكسر العين ابن مالك عن عبيد الله كذلك، أي: بلفظ خمسة عشر "وإذا ثبت أنها صحيحة فلتحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبعة عشر" بسين فموحدة "فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر" بفوقية فسين "أرجح الروايات. زاد الحافظ: وبهذا أخذ إسحاق بن راهوية، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا "وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين" ثمانية عشر "لكن محله عنده فيمن لم يزمع" بضم التحتية وسكون الزاي وكسر الميم وعين مهملة، أي: يجمع ويثبت "الإقامة" أي: ينوها "فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع" نوى "الإقامة في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها، أو: لا. ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس؛ لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس كان في حجة الوداع. وفي حديث ابن عباس: قدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -يعني مكة- لصبح رابعه، ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة، بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قاله أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه قدم في اليوم الرابع وخرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر في منى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس: لما كان الأصل في المقيم الإتمام فلما لم يجئ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أقام في حالة السفر أكثر من تلك المدة   أول الحال على أربعة أيام أتم على خلاف بين أصحابه" أي: الشافعي، ويقع في نسخ الصحابة وهو تحريف فالذي في الفتح أصحابه "في دخول يومي الدخول والخروج فيها أو لا" أي: وعدم دخولهما وهو المعتمد فلا يحسبان عندهم "ولا معارضة بين حديث ابن عباس وحديث أنس" المذكورين؛ "لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة، وحديث أنس كان في حجة الوداع" كما في مسلم. "وفي حديث ابن عباس" عند البخاري ومسلم: "قدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، يعني مكة، لصبح رابعة" يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي "ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر، فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام" بلياليها "كما قاله أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء؛ لأنه قدم في اليوم الرابع وخرج منها في اليوم الثامن، فصلى الظهر في منى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام" ثم يتم "فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا، متى تهيأ له فراغ حاجته يرحل. والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس" هي أن يقال: "لما كان الأصل في المقيم الإتمام، فلما لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 جعلها غاية للقصر. والله أعلم. الفصل الثاني: في الجمع وفيه فرعان أيضا: الفرع الأول: في جمعه -صلى الله عليه وسلم عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر في وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. وفي رواية: أنه كان إذا أراد أن يجمع بين صلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر. وفي أخرى: كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع   يجئ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أقام في حالة السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر، والله أعلم" وهذا كله اغترفه المصنف من الفتح بلا عزو، قال: وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة. "الفصل الثاني: في الجمع: وفيه فرعان أيضا" كالذي قبله. "الأول: في جمعه -صلى الله عليه وسلم" بين الظهرين وبين العشاءين "عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ" بزاي وغين معجمة، أي: تميل "الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما" في وقت العصر "فإن زاغت" مالت "الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب" مقتضاه أنه كان لا يجمع بين الصلاتين إلا في وقت الثانية منهما، وبه احتج من أبى جمع التقديم، لكن روى هذا الحديث إسحاق بن راهوية، فقال: صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل، وكذا أخرجه الإسماعيلي والحاكم في الأربعين، وفي زيادة والعصر: قدح لا يضر. "وفي رواية" عن أنس "أنه" قال: "كان" النبي -صلى الله عليه وسلم "إذا أراد أن يجمع بين صلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر" ثم يجمع بينهما كما هو بقية الرواية، أي: جمع تأخير بدليل تعبيره بثم. "وفي أخرى" عن أنس: "كان" النبي -صلى الله عليه وسلم "إذا عجل" بفتح العين وكسر الجيم أسرع وحضر "به السير" ونسبة الفعل إليه مجاز وتوسع "يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء، رواه البخاري ومسلم وأبو داود. وفي راية للبخاري: كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر، يعني: المغرب والعشاء. وفي حديث ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء، رواه البخاري. ولمسلم: جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. وله ولمالك وأبي داود والنسائي: أنهم خرجوا معه -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك،   بينهما" جمع تأخير "ويؤخر المغرب حتى يجمع بينهما وبين العشاء" زاد مسلم: حين يغيب الشفق "رواه البخاري ومسلم وأبو داود". "وفي رواية للبخاري" عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم "كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر، يعني المغرب والعشاء" يحتمل جمع التقديم والتأخير لكن يعينه حديث ابن عمر في الصحيحين: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب إلى أن يغيب الشفق حتى يجمع بينها وبين العشاء". "وفي حديث ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين صلاتي الظهر والعصر" جمع تأخير "إذا كان على ظهر سير" بالإضافة لأكثر الرواة، وللكشميهني على ظهر بالتنوين يسير بلفظ المضارع بتحتية مفتوحة أوله، قال الطيبي: ظهر سير للتأكيد كقوله: "الصدقة عن ظهر غنى"، يقع لفظ ظهر في مثل هذا اتساعا للكلام كأن السير كان مسندا إلى ظهر قوي من المطي مثلا، وقال غيره: جعل للسير ظهرا؛ لأن الراكب ما دام سائرا كأنه راكب ظهر، وفيه جناس التحريف بين الظهر وظهر "ويجمع بين المغرب والعشاء، رواه البخاري ولمسلم". عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك" سنة تسع "فجمع بين لظهر والعصر والمغرب والعشاء". قال عياض: لم تفسر في شيء من الروايات، أي: عن ابن عباس صورة الجمع، وفسرها في حديث معاذ، فذكر رواية أبي داود الآتية. "وله" أي: لمسلم في الفضائل، لا في هذا الباب من طريق مالك بن أنس. "ولمالك" في الموطأ "وأبي داود والنسائي" كلهم عن معاذ بن جبل "أنهم" أي: الصحابة "خرجوا مع -صلى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 فكان عليه الصلاة والسلام يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فأخروا الظهر يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا. وفي رواية أبي داود والترمذي من حديث معاذ بن جبل: كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك: إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب أخر المغرب حتى ينزل العشاء، ثم يجمع بينهما.   في غزوة تبوك، فكان عليه الصلاة والسلام يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" أي: جمع تأخير، كذا حمله الباجي "فأخروا الظهر" لفظ الموطأ ومسلم: فأخر الصلاة "يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا" جمع تأخير، وحمله بعضهم على الجمع الصوري، بأن صلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أوله، ورده الخطابي وابن عبد البر وغيرهما بأن الجمع رخصة، فلو كان صوريا لكان أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلا عن العامة، وصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع "ودخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا". قال الباجي: مقتضاه أنه مقيم غير سائل؛ لأنه إنما يستعمل غالبا في الدخول إلى الخباء والخروج منه، إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرا، ثم خرج عن الطريق للصلاة، ثم دخله للسير وفيه بعد، وكذا نقله عياض، واستبعده ولا شك في بعده وفيه جمع المسافر نازلا وسائرا وكأنه -صلى الله عليه وسلم- فعله لبيان الجواز، وأكثر عادته ما يدل عليه حديث أنس السابق، وقد قال المالكية والشافعية: ترك الجمع أفضل للمسافر، وعن مالك رواية بكراهته. وهذه الأحاديث تخصص الأوقات التي بينها جبريل وبينها النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي بقوله في آخرها: "الوقت ما بين هذين". "وفي رواية أبي داود والترمذي من حديث" شيخهما قتيبة بن سعيد عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة "معاذ بن جبل:" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر" جمع تقديم "فإن رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر" فيصليهما جميعا كما في الرواية "وفي المغرب" يفعل "مثل ذلك" وأوضحه فقال: "إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن ارتحل قبل أن تغيب آخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم يجمع بينهما" تأخيرا، وهذا الحديث أعله جماعة من الأئمة بتفرد قتيبة به عن الليث، بل ذكر البخاري الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 الفرع الثاني: في جمعه -صلى الله عليه وسلم- بجمع ومزدلفة عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. زاد البخاري في رواية: كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما. ولمسلم: جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين.   أن بعض الضعفاء أدخله على قتيبة، حكاه الحاكم وله طريق آخر عند أبي داود من رواية هشام بن سعد عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ وهشام مختلف فيه، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك وسفيان الثوري وقرة بن خالد وغيرهم، فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم، وبه احتج من أباه، وجاء فيه حديث آخر عن ابن عباس مرفوعا بنحوه عند أحمد وفيه راو ضعيف، وله شاهد بنحوه عند البيهقي عن ابن عباس برجال ثقات إلا أنه مشكوك في رفعه والمحفوظ وقفه، وقد قال أبو داود: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. "الفرع الثاني: في جمعه -صلى الله عليه وسلم- بجمع" أي: عرفة، قال المجد: الجمع كالمنع تأليف المتفرق، ثم قال: ويوم جمع يوم عرفة "ومزدلفة" وتسمى جمعا أيضا لاجتماع آدم وحواء بها لما أهبطا أو لغير ذلك، وهي أشهر في التسمية بجميع من عرفه. "عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا" أي: جمع بينهما جمع تأخير، كما دل على ذلك روايات أخر منها التي تليها، وإن كان ليس في اللفظ من حيث هو ما يدل عليه؛ لأن جميعا تأكيد لصلى بالمزدلفة، فأما جمعهما فلا يدل عليه، وإن كان الواقع أنه جمع بينهما للروايات الأخر؛ ولأنه إنما نفر من عرفة بعد الغروب، فلا يمكن أن يصل المزدلفة قبل العشاء "رواه البخاري" من طريق ابن أبي ذئب "ومسلم" عن يحيى، عن مالك "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" عن القعنبي، عن مالك، وهو وابن أبي ذئب عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. "زاد البخاري في رواية" لهذا الحديث: "كل واحد منهما بإقامة ولم يسبح بينهما" أي: لم ينتفل لإخلاله بالجمع الذي يجعلهما كصلاة واحدة فوجب الولاء كركعات الصلاة، ولولا اشتراط الولاء لما ترك -صلى الله عليه وسلم- الرواتب "ولمسلم" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "جمع بين المغرب والعشاء بجمع" بفتح الجيم وإسكان الميم، أي: المزدلفة "وصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين" قصرا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 وفي حديث أبي أيوب الأنصاري، عند البخاري ومسلم: جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء في المزدلفة. وفي رواية ابن عباس، عند النسائي: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة. وفي رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبي داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة، ولم يسبح بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما. الفصل الثالث: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل في السفر عن ابن عمر قال: سافرت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا   "وفي حديث أبي أيوب" خالد "الأنصاري عند البخاري ومسلم" أنه -صلى الله عليه وسلم- "جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء في المزدلفة" جمع تأخير. "وفي رواية ابن عباس عند النسائي: صلى المغرب والعشاء بإقامة واحدة" وبه قال بعض الأئمة، قال مالك والشافعي وغيرهما بإقامتين لحديث أمامة في الصحيحين، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أقيمت العشاء فصلاها واختلف هل يؤذن لكل منهما وهو قول مالك أولا وهو قول الشافعي. "وفي رواية جعفر بن محمد عن أبيه عند أبي داود: صلى الظهر والعصر بأذان واحد بعرفة ولم يسبح" أي: ينتفل "بينهما وإقامتين، وصلى المغرب والعشاء بجمع" أي: مزدلفة "بأذان واحد وإقامتين" وبه قال الشافعي في القديم وابن الماجشون واختاره الطحاوي "ولم يسبح بينهما" لئلا يخل بالجمع. "الفصل الثالث: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل في السفر" أي: بيان ما كان يفعله من صلاتها تارة وعدمها أخرى. "عن ابن عمر قال: سافرت مع النبي -صلى الله عليه وسلم" عدة أسفار في زمانه "و" سافرت مع "أبي بكر" في خلافته "و" مع "عمر" في خلافته "و" مع "عثمان" في خلافته، فالمراد أنه سافر مع كل في الزمن الذي تنسب إليه المعية بكونه متبوعا، ولا يتوهم أن المراد مجتمعين في سفر واحد؛ لأنهم إذا كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينسب إلى واحد منهم فعل، ولا أنه يكون متبوعا حتى يقول معه، وكذا إذا كان الأمير الصديق، فإنما تنسب المعية إليه، وهكذا والأحاديث صريحة في هذا. "فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين" بالتكرار، لإفادة عموم التثنية لكل منهما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، ولا يصلى قبلها ولا بعدها، وقال ابن عمر: لو كنت مصليا قبلها أو بعدها لأتممتها. رواه الترمذي. وفي رواية: صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم أره يسبح في السفر، أي يتنفل للرواتب التي قبل الفرائض وبعدها. وذلك مستفاد من قوله في الرواية الأخرى، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين. قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ يحتمل أن يريد به: لا يزيد على عدد   قال الحافظ: وفي ذكر عثمان إشكال؛ لأنه كان في آخر أمره يتم، فيحمل على الغالب، أو المراد أنه كان لا ينتفل في أول أمره ولا في آخره، أو أنه إنما كان يتم إذا كان نازلا، وأما إذا كان سائرا فيقصر، وهذا أولى. انتهى. يعني لما في مسلم عن ابن عمر: صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين حى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] مع أن مسلما روى أيضا عن ابن عمر: أن عثمان صلاها بمنى ركعتين ثمان سنين أو ست سنين، ثم أتمها بعد، وقد جمع أيضا بأنه كان يتم بمنى ويقصر في غيرها "ولا يصلي" بضم الياء وفتح اللام مشددة مبني للمفعول، أي: ما كان أحد منهم يصلي نفلا "قبلها ولا بعدها" بالإفراد، أي: الفريضة، ويقع في نسخ قبلهما: ولا بعدهما بالتثنية، فإن كانت صحيحة فالضمير للظهر والعصر. "وقال ابن عمر: لو كنت مصليا" أي: مريدا للصلاة "قبلها أو بعدها" نفلا "لأتممتها" لكني لا أريد ذلك؛ لأني لم أره -صلى الله عليه وسلم- يفعله والخير في اتباعه "رواه الترمذي" بهذا اللفظ وهو في الصحيحين بنحوه. "وفي رواية" عن ابن عند الشيخين، قال: "صحبت النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم أره يسبح في السفر" وقد قال اله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، "أي: يتنفل للرواتب التي قبل الفرائض وبعدها" سميت النافلة تسبيحا من تسمية الكل باسم الجزء لاشتمالها عليه، والتسبيح في الفريضة نافلة فناسب تسميتها به "وذلك مستفاد من قوله في الرواية الأخرى" عند البخاري عقب التي قبلها عن ابن عمر: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم "فكان لا يزيد في السفر على ركعتين". "قال ابن دقيق العيد: وهذا اللفظ" الثاني "يحتمل أن يريد به لا يزيد على عدد ركعات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 ركعات الفرض، فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القسر، ويحتمل أن يريد: لا يزيد نفلا، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك. وفي رواية مسلم: صحبت ابن عمر في طريق مكة، فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله فجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قيامًا، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، فقال: لو كنت مسبحا لأتممت. قال النووي: وأجابوا عن قول ابن عمر هذا بأن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النافلة فهي إلى خيرة المصلي، فطريق الرفق به أن تكون مشروعة، ويخير فيها. انتهى.   الفرض فيكون كناية عن نفي الإتمام، والمراد به الإخبار عن المداومة على القصر" للرباعية "ويحتمل أن يريد لا يزيد نفلا، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك" الشامل للقصر وترك التنفل. "وفي رواية مسلم" ما يدل على الثاني، فإنه أخرجه من الوجه الذي أخرجه البخاري منه، ولفظه عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال: "صحبت ابن عمر" يعني: عمه عبد الله "في طريق مكة فصلى لنا" باللام "الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله" أي: وصل منزله "فجلس وجلسنا معه فحانت" أي: وقعت "منه التفاتة" بلا قصد "فرأى ناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟، قلت: يسبحون" أي: يتنفلون "فقال: لو كنت مسبحا لأتممت" صلاتي يا ابن أخي ولم أقصر. قال المازري: وبيان الملازمة أن القصر شرع تخفيفا، فلو شرعت النافلة فيه لكان إتمام الفرض أولى، وحتج ابن عمر لما قال بقوله: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله إلى آخر ما قدمته، وذهب الجمهور إلى استحباب النوافل في السفر للأحاديث المطلقة في ندب الرواتب. "قال النووي: وأجابوا عن قول ابن عمر هذا" أي: لو كنت.. إلخ "بأن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها" أي: وجب فيعصي بتركه "وأما النافلة فهي إلى خيرة المصلي" إن شاء صلى وأثيب، وإن شاء ترك ولا شيء عليه "فطريق الرفق به أن تكون مشروعة وبخير فيها. انتهى". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 وتعقب: بأن مراد ابن عمر بقوله: "لو كنت مسبحا لأتممت" يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر التخفيف، فلذلك كان لا يصلي الراتبة ولا يتم. وفي البخاري، من حديث ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- يوتر على راحلته، وبوب عليه "باب الوتر في السفر"، وأشار به إلى الرد على من قال: "أنه لا يسن الوتر في السفر"، وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر: "لو كنت مسبحا في السفر لأتممت" كما أخرجه مسلم، فإنما أراد به راتبة المكتوبة، لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بين من سياق الحديث المذكور عند الترمذي من وجه آخر بلفظ: "لو كنت مصليا قبلها أو بعدها لأتممت" وأما حديث عائشة عند البخاري: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها فليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء.   "وتعقب بأن مراد ابن عمر بقوله: لو كنت مسبحا لأتممت، يعني أنه لو كان مخيرا بين الإتمام وصلاة الراتبة لكان الإتمام أحب إليه، لكنه فهم من القصر" الواقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلا وأمرا "التخفيف" على المسافر، وهو يتناول ترك الإتمام وترك النوافل "فلذلك كان" ابن عمر "لا يصلي الراتبة ولا يتم" في السفر. "وفي البخاري" ومسلم "من حديث ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- يوتر على راحلته، وبوب عليه" البخاري "باب الوتر في السفر وأشار به" عبارة الحافظ أشار بهذه الترجمة "إلى الرد على من قال: أنه لا يسن الوتر في السفر وهو منقول عن الضحاك، وأما قول ابن عمر: لو كنت مسبحا في السفر لأتممت" الفريضة "كما أخرجه مسلم" وأبو داود "فإنما أراد به راتبة المكتوبة لا النافلة المقصودة كالوتر، وذلك بين من سياق الحديث المذكور عند الترمذي من وجه آخر، بلفظ. لو كنت مصليا قبلها" أي: الفريضة "أو بعدها لأتممت" ومر لفظه قريبا زاد الحافظ: ويحتمل أن تكون التفرقة بين نوافل النهار ونوافل الليل، فإن ابن عمر كان يتنفل على راحلته وعلى دابته في الليل وهو مسافر، وقد قال مع ذلك ما قال، وقد جمع ابن بطال بين ما اختلف عن ابن عمر بأنه كان يمنع التنفل على الأرض ويقول به على الدابة. "وأما حديث عائشة عند البخاري: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها، فليس بصريح في فعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرت عن أكثر أحوال وهو الإقامة والرجال أعلم بسفره من النساء". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 وأجاب النووي -تبعا لغيره- بما لفظه: لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، أو لعله تركها في بعض الأوقات لبيان الجواز.. انتهى. وفي رواية الترمذي من حديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين. وفي رواية: صليت معه في الحضر والسفر، فصليت معه في الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين. وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، والعصر ركعتين ولم يصل بعدها شيئا، والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص في حضر ولا سفر، وهي وتر النهار وبعدها ركعتين. وفي حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلي.   "وأجاب النووي تبعا لغيره بما لفظه: لعل النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر، أو لعله تركها في بعض الأوقات لبيان الجواز" ولخشية اقتدائهم به، فيشتغلون بالنوافل فيفوتون مصالح السفر. "انتهى". قال الحافظ: وأظهر من هذا أن نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة، فلا يتناول ما قبلها ولا ما لا تعلق له بها من النوافل المطلقة، كالتهجد والوتر والضحى، والفرق بين ما قبلها وما بعدها أن التطوع قبلها لا يظن أنه منها؛ لأنه ينفصل عنها بالإقامة وانتظار الإمام غالبا، ونحو ذلك بخلاف ما بعدها، فإن في الغالب يتصل بها، فقد يظن أنه منها. "وفي رواية الترمذي من حديث ابن عمر، قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين" لا ينافي هذا قوله أولا: ولا يصلي قبلها ولا بعدها؛ لأنه سافر معه مرات، ففي بعضها رآه، وفي بعضها لم يره يصلي، فأخبر عنه بما رأى. "وفي رواية" عنه: "صليت معه" -صلى الله عليه وسلم "في الحضر والسفر، فصليت معه الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين والعصر ركعتين، ولم يصل بعدها شيئا؛" لأنه لا يتنفل بعدها "والمغرب في الحضر والسفر سواء ثلاث ركعات لا تنقص في حضر ولا سفر وهي وتر النهار وبعدها ركعتين". "وفي حديث أبي قتادة عند مسلم في قصة النوم عن صلاة الصبح، أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى ركعتين قبل الصبح، ثم صلى الصبح كما كان يصلي" أي: في الأداء، زاد الحافظ ولمسلم من حديث أبي هريرة في هذه القصة أيضا، ثم دعا بماء فتوضأ ثم صلى سجدتين، أي: ركعتين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 وقول صاحب "الهدي" إنه لم يحفظ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان من سنة الفجر. يرد على إطلاقه ما قدمناه في رواية الترمذي من حديث ابن عمر. وما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب قال: سافرت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرا، فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر، وكأنه لم يثبت عنده ذلك، لكن الترمذي استغربه، ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا، وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر. الفصل الرابع: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- التطوع في السفر على الدابة عن ابن عمر: كان رسول الله عليه وسلم يصلي سبحته حيثما توجهت به ناقته.   ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة. وللدارقطني وابن خزيمة عن بلال في هذه القصة، فأمر بلالا فأذن ثم توضأ فصلوا ركعتين ثم صلوا الغداة، ونحوه للدارقطني عن عمران بن حصين. "وقول صاحب الهدي" ابن القيم؛ "أنه لم يحفظ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى سنة صلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان من سنة الفجر يرد على إطلاقه ما قدمناه" قريبا "في رواية الترمذي من حديث ابن عمر" من قوله وبعدها، أي: الظهر ركعتين وبعد المغرب ركعتين "و" يرد عليه أيضا "ما رواه أبو داود والترمذي من حديث البراء بن عازب، قال: سافرت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر سفرا فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت" بزاي وغين معجمة مالت "الشمس قبل الظهر وكأنه لم يثبت عنده ذلك، لكن الترمذي استغربه" أي: قال: حديث غريب فقط ولم يضعفه. "ونقل عن" شيخه "البخاري أنه رآه حسنا" والحسن لا ينافي الغرابة؛ لأنها تأتي بمعنى التفرد "وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر" فلا ينافي عدم صلاته الرواتب؛ لأنها ليست منها على هذا الوجه. "الفصل الرابع: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- التطوع في السفر على الدابة عن ابن عمر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي" في السفر "سبحته" أي: نافلته، والتسبيح حقيقة في قول: سبحان الله، فإذا أطلق على الصلاة فهو من إطلاق اسم البعض على الكل، أو لأن المصلي منزه لله سبحانه بإخلاص العبادة والتسبيح تنزيه فيكون من باب الملازمة، وأما اختصاص ذلك بالنافلة فهو عرف شرعي "حيثما توجهت به ناقته" في جهة سفره لما علم أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 وفي رواية: يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيث كان وجهه وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . وفي رواية: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار وهو موجه إلى خيبر. وفي رواية: أنه كان يوتر على البعير، رواه مسلم. وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار، في جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت، إلا أن أحمد وأبا ثور كانا يستحبان أن يستقبل المصلي القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة. والحجة لذلك ما في حديث أنس عند أبي داود أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث   الراكب لا يترك مركوبه هملا يسير كيف اتفق فصوب طريقه بدل من القبلة. "وفي رواية" عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم "يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة" على الراحلة "حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقيل: لما حولت القبلة وأنكرت اليهود، وقيل: غير ذلك. قال الرازي: فإن قيل: أي الأقوال أقرب إلى الصواب، فالجواب أن الآية تشعر بالتخيير وإنما يثبت في صورتين إحدهما في التطوع على الراحلة، والثانية في السفر عند تعذر الاجتهاد في الظلمة أو غيرها، ففي هذين الوجهين المصلي مخير. "وفي رواية" عن عمرو بن يحيى المازني عن سعيد بن يسار، عن ابن عمر قال: "رأيته -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار وهو موجه" بكسر الجيم المشددة، أي: متوجه "إلى خيبر" بخاء مجمة آخره راء مهملة، أو قاصد أو مقابل بوجهه إليها. "وفي رواية" عن سعيد بن يسار عن ابن عمر: "أنه" صلى الله عليه وسلم "كان يوتر" يصلي الوتر "على البعير" في السفر، وإنما يجب الوتر عليه بالحضر وعلى وجوبه عليه مطلقا، فمن خصائصه أيضا فعله على البعير "رواه" أي: المذكور من الروايات الأربع "مسلم" والأخيرة رواها البخاري بلفظها والأولى والثانية عنده بنحوهما، وإنما من أفراده الثالثة. "وقد أخذ بهذه الأحاديث فقهاء الأمصار في جواز التنفل على الراحلة في السفر حيث توجهت" سواء كان إلى القبلة أو غيرها، فصوبها بدل لا يجوز العدول عنه إلا إلى القبلة "إلا أن أحمد وأبا ثور" إبراهيم بن خالد الفقيه "كانا يستحبان أن يستقبل المصلي القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة" كذا خصهما تبعا للفتح مع أن الشافعية اشترطوا الاستقبال في الإحرام إن سهل كما في البهجة وشرحها "والحجة لذلك ما في حديث أنس عند أبي داود" بإسناد حسن؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتطوع في السفر استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 توجهت ركابه. وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل، وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره -صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك. وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك. وقوله: "يصلي على حمار"، قال النووي: قال الدارقطني وغيره: هذا غلط من عمرو بن يحيى المازني، وإنما المعروف في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على راحلة أو بعير. والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم. ثم قال: في   توجهت ركابه" أي: إلى جهة قصده الذي وجهها إليه. "وذهب الجمهور إلى جواز التنفل على الدابة سواء كان السفر طويلا أو قصيرا إلا مالكا فخصه بالسفر الطويل" وهو سفر القصر "وحجته أن هذه الأحاديث إنما وردت في أسفاره -صلى الله عليه وسلم- ولم ينقل عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- سافر سفرا قصيرا فصنع ذلك" فيقصر على مورد النص ولا يتعداه إلى القصير؛ لأن الأصل استقبال القبلة، خص منه ذلك بالفعل النبوي فبقي ما عداه على الأصل. "وحجة الجمهور مطلق الأخبار في ذلك؛" لأنها ليس فيها تحديد سفر ولا تخصيص مسافة، فشملت كل ما يسمى سفرا، لكن حصول الفعل النبوي في الطويل قاض لمالك. "وقوله: يصلي على حمار، قال النووي: قال الدارقطني وغيره" كالنسائي "هذا غلط من عمرو" بفتح العين "ابن يحيى المازني، وإنما المعروف" في حديث ابن عمر "في صلاته عليه السلام" لفظ "على راحلته" كما في الصحيحين لمسلم على ناقته "أو" على "بعير" كما في رواية أخرى لهما فليست، أو للشك من الراوي كما يوهم "والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره" أي: رواه "مسلم" وكذا البخاري عن أنس. قال ابن سيرين: تلقينا أنس بن مالك حين قدم من الشام، فرأيته يصلي على حمار ووجهه ذلك الجانب، يعني عن يسار القبلة، فقلت له: رأيتك تصلي لغير القبلة، قال: لولا ني أيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله لم أفعله. قال الحافظ: هل يؤخذ منه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى على حمار، فيه احتمال نازع فيه الإسماعيلي بأنه خبر أنس إنما هو في صلاته -صلى الله عليه وسلم- راكبا تطوع لغير القبلة، فإفراد البخاري الترجمة في الحمار من جهة السنة لا وجه له عندي. انتهى، أي: بقوله: باب صلاة التطوع على الحمار، وساق حديث أنس المذكور، لكن قال الحافظ: قد روى السراج من طريق يحيى بن سعيد عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 تغليط راويه؛ لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات، لكن قد يقال: إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور، والشاذ مردود. انتهى. وعن يعلى بن مرة عن أبيه عن جده، أنهم كانوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره فانتهوا إلى مضيق فحضرت الصلاة فمطروا، السماء من فوقهم والبلة من أسفلهم، فأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته، فصلى بهم يومئ إيماء، يجعل السجود أخفض من الركوع. رواه الترمذي.   أنس، أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار وهو ذاهب إلى خيبر إسناده حسن وله شاهد عند مسلم، فذكر حديثه هذا ثم قال: فهذا يرجح الاحتمال الذي أشار إليه البخاري. "ثم قال" النووي "وفي تغليط راويه نظر؛ لأنه ثقة نقل شيئا محتملا، فلعله كان الحمار مرة والبعير مرة أو مرات" فحدث ابن عمر بكل منهما "لكن قد يقال: إنه شاذ مخالف لرواية الجمهور والشاذ مردود" وإن كان راويه ثقة. "انتهى" كلام النووي، لكن أشار الحافظ إلى دفع الشذوذ بأن عمرو بن يحيى تابعه في شيخ شيخه أنس عند السراج بإسناد حسن كما رأيت، وكذا تابعه شقران، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوجها إلى خيبر على حمار يصلي عليه، أخرجه الطبراني. "وعن يعلى بن مرة" بن وهب بن جابر الثقفي شهد الحديبية وما بعدها وأبوه مرة يقال: إن له صحبة، فإن ثبت الإسناد كما في التقريب فالصواب حذف قوله "عن أبيه عن جده" إذ لا صحبة لجده قطعا، والحديث إنما هو ليعلى نفسه كما قدمه المصنف في المقصد الأول "أنهم كانوا" أي: الصحابة "مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره، فانتهوا إلى مضيق:" محل ضيق في الطريق "فحضرت الصلاة فمطروا السماء" أي: المطر "من فوقهم والبلة" بكسر الموحدة: البلل "من أسفلهم، فأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته" ناقته الصالحة؛ لأن يرحل عليها "فصلى بهم يومئ" بالهمز "إيماء يجعل السجود" أي: الإيماء له "أخفض من" إيماء "الركوع" تمييزا بينهما وليكون البلد على وفق الأصل "رواه الترمذي" هكذا في النسخ الصحيحة خلاف ما في نسخ البيهقي، والصواب الترمذي كما مر في المقصد الأول، ومر أن بعض الناس تعلق بقوله: فأذن على أنه -صلى الله عليه وسلم- أذن بنفسه، وأن الحافظ تبعا للسهيلي رده بأن أحمد رواه من الوجه الذي رواه منه الترمذي، فقال: فأمر بلالا فأذن، فعلم أن في رواية الترمذي اختصارا وأن قوله: "أذن" معناه أمر؛ لأن المفصل يقضي على المجمل لا سيما والمخرج متحد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 القسم الرابع: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الخوف عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة، فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، قال: فهدده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه، فأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات، وللقوم ركعتان. رواه البخاري   "القسم الرابع: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الخوف" أي: صلاة الفرض فيه "عن جابر" بن عبد الله" قال: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا" بالموضع الذي سميت غزوتنا إليه "بذات الرقاع" جمع رقعة، سميت الغزوة بذلك؛ لأنهم عصبوا أرجلهم بالخرق لما رقت وقطعت الأرض جلودها من الحفاء أو لغير ذلك، وهي غزوة بني محارب وبني ثعلبة وأنمار، فليس المراد أن ذات الرقاع اسم موضع كما قد يتوهم، وقد مر ذلك موضحا في المغازي "فإذا أتينا" إذا ظرفية لا شرطية، أي: في وقت إتياننا "على شجرة ظليلة" ذا ظل "تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم" لينزل تحتها فيستظل بها. وفي رواية للبخاري عن جابر أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد فلما قفل قفل معه، فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاء، فنزل -صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بظل الشجر، ونزل -صلى الله عليه وسلم- تحت سمرة فنمنا نومة "فجاء رجل من المشركين" اسمه غورث، بمعجمة أوله ومثلثة آخره وزن جعفر، وحكي غويرث بالتصغير "وسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة فاخترطه" بخاء معجمة ساكنة وطاء مهملة، يعني سله من غمده "فقال: تخافني، فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ " زاد في رواية للبخاري ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد؟ "قال: "الله" يمنعني منك "قال: فهدده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه" بالشجرة. قال الحافظ: ظاهره يشعر أنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد وليس كذلك، ففي رواية البخاري في الجهاد بعد قوله: قلت: "الله" فشام السيف بفاء ومعجمة، أي: أغمده وهي من الأضداد شامه استله وأغمده، وكان الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه وتحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه شام السيف، وأمكن من نفسه "فأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين" لفظ البخاري ولفظ مسلم: فصلى بالطائفة، أي: الأولى ركعتين "ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 ومسلم. ولمسلم: فصففنا صفين خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي -صلى الله عليه وسلم- وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه -الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى -فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر   وللقوم ركعتان"، قال النووي: أي: صلى بالطائفة الأولى ركعتين وسلم وسلموا والثانية كذلك، فكان متنفلا وهم مفترضون. انتهى". وتعقب بأنه لم يسلم من الفرض في حديث جابر المذكور في الصحيح، فالأظهر أن معنى: وللقوم ركعتان، أي: في الجماعة والركعتان أتموهما لأنفسهم، ويكون فعل ذلك لبيان جواز الإتمام في السفر "رواه البخاري" في الجهاد وفي المغازي "ومسلم" في الصلاة "ولمسلم" هنا عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف "فصفنا" بشد الفاء، وفي رواية: "فصففنا"، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم "صفين" صف "خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: وصف مؤخر عنه "والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي -لى الله عليه وسلم- وكبرنا" عقبه "جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا" معه "جميعا" رؤوسنا، وجميعا هنا للتأكيد "ثم انحدر بالسجود" الانحدار يقتضي السرعة في الهوي، وبالسجود يتعلق بانحدار والباء للمصاحبة، أي: ملتبسا بالسجود، أو بمعنى اللام وتسمى لام التعليل "و" كذا "الصف الذي يليه" معه وهو الأقرب "وقام الصف المؤخر في نحر العدو" أي: قبل وجوههم وصدورهم من النحر الذي هو موضع القلادة من الصدر "فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود" أي: انفصل منه، والمراد الجنس فيعم السجدتين "وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي -صلى الله عليه وسلم- وركعنا جميعا" هذا يقتضي أن الحراسة إنما كانت في السجود لا غير، وأن العدو كان في جهة القبلة "ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى" صفة أخرى للصف، أو للذي، أو بدل منها "فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم السجود والصف" بالرفع "الذي يليه" موضعه رفع صفة الصف "انحدر الصف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعًا. ولمسلم والبخاري أيضا من حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى معه -صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.   المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعا" عقبه، وهذه صفة غير السابقة، صلاها مقصورة وصلوا جميعا معه، وكان العصر كما في رواية تلي هذه عند مسلم. "ولمسلم" هنا "والبخاري أيضا" في المغازي، كلاهما "من حديث" مالك عن "يزيد بن رومان" بضم الراء المدني مولى آل الزبير، مات سنة ثلاثين ومائة "عن صالح بن خوات" بفتح الخاء المعجمة والواو المشددة فألف ففوقية ابن جبير بن النعمان الأنصاري المدني، تابعي، ثقة وأبوه صحابي أول مشاهده أحد، وقيل: شهد بدر "عمن صلى معه -صلى الله عليه وسلم" قيل: هو سهل بن أبي حثمة. قال الحافظ: والراجح أنه أبوه كما جزم به النووي في تهذيبه تبعا للغزالي، وذلك لأن أبا أويس رواه عن يزيد شيخ مالك، فقال عن صالح، عن أبيه: ويحتمل أن صالحا سمعه من أبيه ومن سهل فأبهمه تارة، وعينه أخرى، لكن قوله: "يوم ذات الرقاع" يعين أن المبهم أبوه، إذ ليس في روايته عن سهل أنه صلاها معه -صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أن سهلا لم يكن في سن من يخرج في الغزاة لصغره؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مات وهو ابن ثمان سنين، كما جزم به الطبري وابن حبان وابن السكن وغيرهم، لكن لا يلزم أن لا يرويها، فروايته لها مرسل صحابي، فقوي تفسير المبهم بخوات "صلاة الخوف، أن طائفة صفت" هكذا في أكثر الأصول، وفي بعضها: صلت. قال النووي: وهما صحيحتان "معه" صلى الله عليه وسلم "و" صفت "طائفة" بالرفع، أي: اصطفوا، يقال: صف القوم إذا صاروا صفا "وجاه" بكسر الواو وضمها، أي: مقابل "العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت" حال كونه "قائما وأتموا" أي: الذين صلوا معه الركعة "لأنفسهم" ركعة أخرى "ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى" التي كانت وجاء العدو "فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا" لم يخرج من صلاته "وأتموا لأنفسهم" الركعة الأخرى "ثم سلم بهم، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف، وما ذهب إليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد علي ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب. وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وسجد سجدتين،   مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة ولكونها أحوط لأمر الحرب" إلا أن مالكا رجع عن إتمامهم لأنفسهم، ثم سلام الإمام بهم إلى ما رواه هو وغيره عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة: أن الطائفة الأولى إذا قام الإمام يتمون لأنفسهم، ثم يسلمون وينصرفون، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الركعة ويسجد بهم، ثم يسلم فيقومون فيركعون الركعة ثم يسلمون. قال ابن عبد البر: وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن الإمام لا ينتظر المأموم، وأن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام. "و" في الصحيحين واللفظ للبخاري من طريق الزهري "عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة "نجد" وفي غزوة ذات الرقاع ونجد كل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق "فوازينا" بالزاي قابلنا "العدو" قال الجوهري: يقال: آزيت، يعني بهمزة ممدودة لا بالواو، والذي يظهر أن أصلها الهمز، فقلبت واوا قاله الحافظ: "فصاففنا لهم" باللام، كذا رواه المستملي والسرخسي، ولغيرهما: فصاففناهم "فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي لنا" أي: لأجلنا أو بنا "فقامت طائفة معه" زاد في رواية تصلي "وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه وسجد سجدتين" زاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري: مثل نصف صلاة الصبح، وفيه إشارة إلى أنها كانت غيرها فهي رباعية، ويأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت العصر، قاله الحافظ: "ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل" فقاموا في مكانهم في وجه العدو "فجاؤوا" أي: الطائفة الأخرى التي كانت تحرس "فركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين". قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، فظاهره أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم ضياع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجحه رواية أبي داود عن ابن مسعود، بلفظ: ثم سلم فقام هؤلاء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا فركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين. وفي حديث جابر: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوي في شرح السنة. وعنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطريه، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة   أي: الطائفة الثانية، فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا أنفسهم ركعة ثم سلموا، قال: ورجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه، وقد جوزها الشافعي وأحمد وغيرهما، وظاهر كلام المالكية امتناعها، ونقل عن الشافعي أنها منسوخة ولم يثبت عنه. "وفي حديث جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل:" محل بين مكة والمدينة "فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوي في شرح السنة" وكذا البيهقي في المعرفة بسند فيه ضعف وانقطاع، ورواه الدارقطني بنحوه من وجه آخر فيه عنبسة بن سعيد ضعفه غير واحد. "وعنه" أي: جابر أيضا "أنه -صلى الله عليه وسلم- نزل بين ضجنان" بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف، قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلا "وعسفان" زاد في رواية مسلم عن جابر: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم" زاد الدارقطني: ومن أنفسهم "وهي العصر، فاجمعوا أمركم:" اعزموا على أمر تفعلونه "فتميلوا عليهم ميلة واحدة" بأن تحملوا عليهم فتأخذوهم "وأن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطرين" أي: طائفتين "فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم" يحرسون حتى تصلي الطائفة الأولى "وليأخذوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان. رواه الترمذي والنسائي. قال ابن حزم: وقد صح فيها -يعني صلاة الخوف- أربعة عشر وجها. وبينها في جزء مفرد. وقال ابن العربي في "القبس": جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووي نحوه في شرح مسلم ولم يبينها أيضًا. وقد بينها الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي وزاد وجها آخر، فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل. وقال صاحب "الهدي": أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعله -صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى. وهذا هو المعتمد، وأشار إليه الحافظ العراقي بقوله: يمكن تداخلها. وقد حكى ابن القصار المالكي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: أربعا وعشرين، وقال الخطابي: صلاها عليه الصلاة والسلام في أيام   حذرهم وأسلحتهم" معهم إلى أن يصلوا "فتكون لهم ركعة" مع الجماعة والأخرى أتموها لأنفسهم "ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان" كلاهما مع الجماعة "رواه الترمذي والنسائي" وأصله في مسلم. "قال ابن حزم: وقد صح فيها، يعني: صلاة الخوف أربعة عشر وجها وبينها في جزء مفرد، وقال ابن العربي في القبس" على موطأ مالك بن أنس "جاء فيها" أي: في صفتها "روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها". "وقال النووي نحوه في شرح مسلم: ولم يبينها أيضا، وقد بينها الحافظ زين الدين" عبد الرحيم "العراقي في شرح الترمذي، وزاد وجها آخر: فصارت سبعة عشر وجها، لكن" قال: "يمكن أن تتداخل، وقال صاحب الهدي: أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعله -صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى، وهذا هو المعتمد وأشار إليه الحافظ العراقي بقوله: يمكن تداخلها، وقد حكى ابن القصار" أبو الحسن علي "المالكي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي:" صلاها "أربعًا وعشرين" مرة. "وقال الخطابي: صلاها عليه الصلاة والسلام في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 مختلفة بأشكال متباينة، يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى. وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة، وفروع يطول ذكرها. حكاها في فتح الباري.   فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى". وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة وفروع يطول ذكرها، حكاها في فتح الباري. وقال السهيلي: اختلف الفقهاء في الترجيح، فقالت طائفة: يعمل منها بما هو أشبه بظاهر القرآن، وقالت طائفة: يجتهد في طلب أخيرها، فإنه الناسخ لما قبله، وطائفة: يؤخذ بأصحها نقلا وأعلاها رواة، وطائفة: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف، فإذا اشتد أخذ بأيسرها. انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 القسم الخامس: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة وفيه فروع أربعة: الفرع الأول: في عدد التكبيرات عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه. وخرج بهم إلى المصلى فصفهم وكبر عليه أربع تكبيرات. رواه البخاري ومسلم.   "القسم الخامس: في ذكر" صفة "صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة" بفتح الجيم وكسرها وهو أفصح، وقيل: بالكسر للنعش، وبالفتح للميت، ولا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت "وفيه فروع أربعة: الأول: في عدد التكبيرات: عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي" بفتح النون على المشهور، وحكي كسرها وخفة الجيم، وخطئ من شددها وتشديد الياء وحكي تخفيفها، ورجحه الصغاني وهو لقب لكل من ملك الجبشة، أي: أخبر بموته "في اليوم الذي مات فيه" في رجب سنة تسع، ففيه الإعلام ليجتمع الناس للصلاة والنعي المنهي عنه هو ما يكون معه صياح "وخرج بهم إلى المصلى" مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع، أي: بقيع بطحان، أو المراد بالمصلى موضع معد للجنائز ببقيع الفرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، قاله الحافظ: "فصفهم" قال جابر: كنت في الصف الثاني، رواه النسائي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 وعند الترمذي من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى.   ففيه أن للصفوف تأثيرا ولو كثر الجمع؛ لأن الظاهر أنه خرج معه كثير والمصلى فضاء لا يضيق بهم لو صفوا صفا واحدا، ومع ذلك صفهم، وهذا ما فهمه مالك بن هبيرة الصحابي، فكان يصف من يحضر صلاة الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلوا أو كثروا "وكبر عليه أربع تكبيرات" ففيه أن تكبير صلاة الجنازة أربع، واعترض بأن هذا صلاة على غائب لا على جنازة، وأجيب بأن ذلك يفهم بطريق الأولى "رواه البخاري ومسلم" كلاهما من طريق مالك وغيره عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه. "وعند الترمذي من حديث أبي هريرة؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة" زاد ابن أبي داود في روايته لهذا الحديث: فكبر أربعا، "فرفع يديه مع أول تكبيرة ووضع يده اليمنى على يده اليسرى". قال ابن أبي داود: لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا الحديث، وإنما ثبت أنه كبر على النجاشي أربعا وعلى قبر أربعا، وأما على الجنازة هكذا فلا إلا هذا الحديث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 الفرع الثاني: في القراءة والدعاء نقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن علي، وابن الزبير، والمسور بن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. ونقل عن أبي هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول مالك والكوفيين. وروى عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف   "الفرع الثاني: في القراءة والدعاء نقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور"، بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو "ابن مخرمة" بخاء معجمة "مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق" بن راهويه. "ونقل" ابن المنذر "عن أبي هريرة وابن عمر ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين" ومنهم أبو حنيفة. "وروى عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف" بضم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى. وفي البخاري عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك في حديث جابر عند الشافعي بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي. وعن ابن عباس قال: صلى الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب. رواه الترمذي وقال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: "السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال.   المهملة "قال: السنة" أي: العادة "في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت" أي: لا يشرك غيره معه في الدعاء له "ولا يقرأ إلا في الأولى" أي: عقب التكبيرة الأولى. "وفي البخاري" من إفراده عن مسلم "عن سعد" بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف "عن طلحة" بن عبد الله بن عوف "قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا" روي بفوقية على الخطاب، وتحتية على الغيبة "أنها سنة" وهذا من الصحابي له حكم الرفع عند الأكثر "وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك في حديث جابر عند الشافعي، بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي" قائلا: إن سنده ضعيف كما نقله عنه تلميذه الحافظ في الفتح، وبه قال أكثر الشافعية، لكن المعتمد عندهم ما جزم به في المنهاج أنها لا تعيين عقب الأولى. "وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، رواه الترمذي وقال: لا يصح هذا" الحديث "والصحيح ع ابن عباس قوله: "السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين" ولا شك في الفرق بينهما، إذ الأولى صريحة في الرفع باتفاق لو صحت بخلاف السنة فيدخلها الخلاف، هل لها حكم الرفع وهو قول الأكثر أو لا لاحتمال أنه أراد سنة غيره -صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه بقوله: "ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال" أي: احتمال أنه أراد سنة الخلفاء، أو سنة الصلاة على الجنائز. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 وعن عوف بن مالك: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظت من دعائه: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار". قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم. وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحل جوارك، فقه من فتنة القبر   "وعن عوف" بالفاء "ابن مالك" الأشجعي من مسلمة الفتح وسكن دمشق، مات سنة ثلاث وسبعين: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة، فحفظت من دعائه" من للتبعيض، فظاهره أنه دعا زيادة على هذا: "اللهم اغفر له وارحمه وعافه": سلمه من العذاب "واعف عنه وأكرم نزله" بضم النون والزاي وقد تسكن وهو ما يعد للنازل وهو الضيافة، أي: أحسن نصيبه من الجنة "ووسع مدخله" أي: قبره ومنزله في الجنة "واغسله بالماء والثلج والبرد". قال الطيبي: يمكن أن ذكرهما بعد الماء لشمول أنواع الرحمة بعد المغرفة لإطفاء عذاب النار التي هي في غاية الحرارة؛ لأن عذاب النار تقابله الرحمة، فالتركيب من باب قوله: متلقلدا سيفا ورمحا، أي: اغسل خطاياه بالماء، أي: اغفرها وزد على الغفران شمول الرحمة، ثم طلب ما عسى أن يبقى من آثار الخطايا بالتنقية، فقال: "ونقه من الخطايا كما ينقى" بضم أوله مبني للمفعول نائب الفاعل، ويروى كما نقيت "الثوب الأبيض من الدنس" وخصه؛ لأنه أشد في النقاء من غيره "وأبدله": عوضه، وروى وأبدل له هما في مسلم، فما في نسخ وأنزله تصحيف "دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله" خدما وخولا، ولا تدخل الزوجة؛ لأنه خصها بالذكر، فقال: "وزوجا خيرا من زوجه" ومفهومه أن نساء الجنة أفضل من الآدميات وإن دخلن الجنة وفيه خلاف "وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر". وفي رواية لمسلم أيضا: وقه فتنة القبر، أي: التحير في الجواب عند السؤال "ومن عذاب النار، قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لأحصل ثمرة دعائه، فلا يعارضه حديث لا يتمنين أحدكم الموت؛ لأنه كما في بعض طرقه لضر نزل به وهذا عكسه "رواه مسلم" من أفراده. "وعن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف "قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان" نسي الراوي اسمه، فعبر عنه بهذا "في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 "وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم". رواه أبو داود. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده". رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعنه: سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها". رواه أبو داود.   "ذمتك وحل" أي: نزل "جوارك" أي فيه "فقه من فتنة القبر" أي: تحيره في الجواب عند سؤال الملكين "وعذاب النار وأنت أهل الوفاء" بالوعد، وقد قلت: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، أي: في القبر لما يسألهم الملكان عن دينهم وربهم ونبيهم، فيجيبون بالصواب كما في حديث الشيخين "والحق" القول الصدق الواقع لا محالة: "اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم، رواه أبو داود". "وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا" حاضرنا "وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" لعله غاير تفننا؛ لأن ما صدقهما واحد، وإذ لا يوجد شرعا مسلم إلا وهو مؤمن، وكذا عكسه، ويحتمل وهو أظهر أنه غاير؛ لأن الأعمال بالخواتيم كما قال في حديث آخر، فالنافع عند الوفاة إنما هو التصديق القلبي بخلاف حال الحياة فينفع فيه الانقياد الظاهر. "اللهم لا تحرمنا أجره" أي: أجر الصلاة عليه وشهود جنازته أو أجر المصيبة بموته، فإن المؤمن مصاب بأخيه المؤمن "ولا تفتنا" بما يشغلنا عنك "بعده" فإن كل شاغل عن الله فتنة "رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وعنه" يعني أبا هريرة، قال: "سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أنت ربها" أي: هذه الذات أو النسمة، ويحتمل أنها كانت امرأة "وأنت خلقتها: هديتها إلى الإسلام قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها"، رواه أبو داود" فحاصل الأحاديث أنه لا يتعين دعاء مخصوص في صلاة الجنازة، والله تعالى أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 الفرع الثالث في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على القبر: عن أبي هريرة أن امرأة سوداء كان تقم المسجد، ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: "أفلا آذنتموني"؟ قال: فكأنهم صغروا أمرهم، فقال: "دلوني على قبرها"، فدلوه فصلى عليها. رواه البخاري ومسلم. زاد ابن حبان فقال في رواية حماد بن سلمة عن ثابت: "إن هذه القبور   "الفرع الثالث: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على القبر": وقال بمشروعيته الأكثر، ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم: أن دفن بلا صلاة شرع وإلا فلا. "عن أبي هريرة: أن امرأة سوداء" لفظ البخاري: أن رجلا أسود، أو امرأة سوداء، وفي رواية له: أن أسود رجلا أو امرأة، وفي أخرى له: إن امرأة أو رجلا قال: ولا أراه إلا امرأة، ولفظ مسلم: أن امرأة سوداء أو شابا. قال الحافظ: الشك فيه من ثابت؛ لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع لقوله: ولا أراه إلا امرأة، ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة: امرأة سوداء ولم يشك، وللبيهقي بإسناد حسن عن بريدة أنها أم محجن. وذكر ابن منده في الصحابة: خرقاء امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، فإن كان محفوظا فهذا اسمها وكنيتها أم محجن "كانت تقم المسجد" بضم القاف، أي: تكنسه، أي: تجمع القمامة وهي الكناسة فتخرجها منه "ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها، فقالوا: مات" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري في الجنائز، فمات، فلم يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل بذلك الإنسان، قالوا: مات، وله في أحكام المساجد: فمات، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، قالوا: مات، وعند البيهقي عن بريدة أن الذي أجابه عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق "قال: "أفلا آذنتموني" بالمد أعلمتموني "قال" أبو هريرة: "فكأنهم صغروا أمرها" أي: حقروه، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا شأنه. قال المصنف: قصته بالنصب بتقدير نحو ذكروا قصته، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف "فقال: "دلوني على قبرها، فدلوه" عليه "فصلى عليها، رواه البخاري ومسلم" كلاهما من طريق حماد بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة. "زاد ابن حبان، فقال في رواية حماد بن سلمة عن ثابت" أي: عن أبي رافع عن أبي هريرة: كذا وقع في فتح الباري مع أن هذه الزيادة عند مسلم بلفظها عقب قوله: على قبرها بلفظ: ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 "مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم". وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا. قال ابن حبان: في ترك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة. وعن عقبة بن عامر: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف، وفي رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات. رواه أبو داود والنسائي.   قال الطيبي: هذا كالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي منزلة الشفاعة له لينور قبره ويخفف من عذابه. "وأشار" ابن حبان "إلى أن بعض المخالفين" الذين لا يرون الصلاة على القبر "احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم؛" لأن تنوير القبور لا يتحقق بصلاة غيره "ثم ساق من طريق خارجة بن زيد" الأنصاري أحد الفقهاء، مات سنة مائة، وقيل: قبلها "عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليها أربعا". "قال ابن حبان" ردا على من قال خصوصية: "في ترك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة" فلا يتم استدلاله، زاد الحافظ: واستدل بخبر الباب على رد القول بالتفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه، بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك. "وعن عقبة" بقاف وموحدة "ابن عامر" الجهني "أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد" الذين استشهدوا فيها "صلاته" بالنصب، أي: مثل صلاته "على الميت، ثم انصرف" فصعد المنبر. "وفي رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين" تجوزا على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين ودون النصف؛ لأن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، ومات -صلى الله عليه وسلم- في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، قاله الحافظ وغيره، ولعله سقط من ناسخ المصنف، ثم صعد المنبر ليلا، ثم قوله: "كالمودع للأحياء والأموات" عائد لصلاته على قتلى أحد، وللأحياء لصعوده المنبر بعد صلاته، وإنما كان كذلك؛ لأنه في آخر عمره "رواه أبو داود والنسائي" في الجنائز الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم". الحديث. وفيه: الصلاة على الشهداء في حرب الكفار. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزني، وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال. وحجة الجمهور: أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد -كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة.   "ورواه الشيخان أيضا" البخاري في الجنائز وعلامات النبوة والمغازي، ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم، كلاهما عن عقبة بن عامر "بلفظ" أن النبي -صلى الله عليه وسلم "خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر" لفظ البخاري هنا، وله في المغازي كمسلم: ثم صعد المنبر أسقط من حديث الشيخين ما لفظه كالمودع للأحياء والأموات، أي: أن صعوده المنبر كالمودع للأحياء، وخروجه وصلاته على أهل أحد كالمودع للأموات "فقال: "إني فرط" " بفتح الفاء والراء "لكم" أي: سابقكم "الحديث" بقيته عند الشيخين: "وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"، والضمير لخزائن الأرض أو للدنيا المصرح بها عند مسلم والبخاري في المغازي، بلفظ: "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها "وفيه الصلاة على الشهداء في حرب الكفار"". "وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور إلى أنه لا يصلى عليهم، وذهب أبو حنيفة" والكوفيون "إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزني وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال" بالخاء المعجمة "وحجة الجمهور أنه عيه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر" بن عبد الله "وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة". قال الشافعي في الأم: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأرض. ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحرم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليه، لكن تجوز. وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة. قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم.   يصلي على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه، قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في بعض طرقه أن ذلك كان بعد ثمان سنين، فكأنه دعا لهم واستغفر حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت. انتهى. "قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، أن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأول" أي: في أول أمرهم وهو وقت موتهم "ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحرم الصلاة عليه وهو الصحيح عندهم، وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليهم، لكن تجوز وذكر ابن قدامة أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها: يصلى عليه يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة" زيادة إيضاح فإن قيل: حديث جابر لا يحتج به؛ لأنه نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات، أجيب بأن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، وإلا فتقبل باتفاق وهي قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما، وأما خبر الإثبات فيحتمل وجوها منها أن يكون من خصائصه، ومنها أن يكون المعنى الدعاء كما تقدم وغير ذلك، ثم هي واقعة عين لا عموم فيها، فكيف ينهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد تقرر، والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 الفرع الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الغائب: عن جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه"، قال: فصففنا فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه. رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات. رواه الشيخان أيضا. وعند البخاري من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة". وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت في المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس.   "الفرع الرابع: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الغائب: عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش" بفتح الحاء المهملة والموحدة بعدها معجمة "فهلم" بفتح الميم، أي: تعالوا "فصلوا عليه". "قال" جابر: "فصففنا" بفاءين "فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه" وللمستملي: ونحن صفوف "رواه البخاري" واللفظ له من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر "ومسلم" بلفظ: "مات اليوم عبد الله صالح أصحمة"، فقام فأمنا وصلى عليه، أخرجه من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر. "وعن أبي هريرة؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي" للناس "في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات، رواه الشيخان أيضا" ومر في الفرع الأول. "وعند البخاري" في هجرة الحبشة "من طريق ابن عيينة" سفيان "عن ابن جريج" عطاء، عن ابر قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: "مات اليوم رجل صالح "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"" بوزن أربعة والحاء مهملة، وقيل: معجمة، وقيل: بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بلا ألف، وقيل: ذلك، لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بميم أوله بدل الألف، فتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة، ومعناه بالعربية عطية، قاله في الإصابة. "وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت في المسجد" من حيث كونه خرج إلى المصلى "وهو قول الحنفية والمالكية" لكن المنع عندهم كراهة تنزيه "لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله. وقال ابن بزيزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، وهي لاحتمال أن يكون خرج بهم المصلى لأمر غير المذكور، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير، والدارقطني في الإفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ   "قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه" فيه "حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله". "وقال ابن بزيزة" بزاي مكررة "وغيره، استدل به بعض المالكية وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، وهي لاحتمال أن يكون خرج بهم المصلى لأمر غير المذكور، وقد ثبت" في مسلم وغيره عن عائشة "أنه عليه السلام صلى على سهيل" بضم السين مصغر "ابن بيضاء" هي أمه واسمها دعد بيضاء وصف لها وأبوه وهب بن ربيعة القرشي الفهري، مات سنة تسع، اختلف في شهوده بدرا "في المسجد". وعند مسلم على ابني بيضاء سهيل وأخيه، وعند ابن منده وأخيه سهل بالتكبير، وبه جزم في "الاستيعاب" وزعم الواقدي أن سهلا المكبر مات بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. وقال أبو نعيم: اسم أخي سهيل صفوان، ووهم من سماه سهلا، كذا قال: ولم يزد مالك في روايته على ذكر سهيل المصغر، قاله في الإصابة باختصار "فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذي يصلون عليه ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير" زاد الحافظ من طريق ثابت "والدارقطني في الإفراد" بفتح الهمزة "والبزار" زاد الحافظ من طريق حميد "كلاهما" أي: ثابت وحميد "عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] الآية، وله شاهد من حديث أبي سعد عند الطبراني في معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذي طعن بذلك كان منافقا. وقد قال البخاري: "باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد" وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل مهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد. وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوي من ناحية المشرق. انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان مهيأ للرجم. ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في   فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] ، "وله شاهد من حديث أبي سعيد عند الطبراني في معجمه الكبير" لفظ الفتح: وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد "وزاد فيه: إن الذي طعن بذلك كان منافقا" فقوله في الأول بعض أصحابه بالنظر إلى الظاهر "وقد قال البخاري: باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، وروى حديثا" عن نافع "عن ابن عمر: أن اليهود" من أهل خيبر "جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل منهم" لم يسم "وامرأة زنيا" قال ابن العربي: اسمها بسرة "فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد" هكذا رواه مختصرا. "وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوي من ناحية المشرق. انتهى، فإن ثبت ما قال" ابن حبيب فظاهر "وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان مهيأ للرجم" لفظ الفتح: يتهيأ فيه الرجم "ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض أو لبيان الجواز. واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد" كيف الدلالة مع قوله لبيان الجواز "ويقويه حديث عائشة" أنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 المسجد، ويقويه حديث عائشة: "ما صلى -صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد" أخرج مسلم، وبه قال الجمهور. ويحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا. وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلي عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فدل على أنها حفظت ما نسوه. وقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك.   أمرت أن يمر عليها بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع الناس "ما صلى" رسول الله "صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، أخرجه مسلم" وله أيضًا: إلا في جوف المسجد "وبه قال الجمهور". وقال مالك: لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت، وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث. "ويحمل المانعون الصلاة على سهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز اتفاقا، وفيه نظر؛ لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد" بن أبي وقاص "على حجرتها لتصلي عليه وقد سلم لها الصحابة ذلك، فدل" تسليمهم لها "على أنها حفظت ما نسوه" لكن في نسبة النسيان إليهم ما فيه وإن جاز لما علم من شدة حرصهم على حفظ ما فعله وقاله -صلى الله عليه وسلم، فاللائق أنهم حملوه على بيان الجواز وسلموا لها أدبا معها لكونها أم المؤمنين؛ ولأنها مسألة ذات خلاف، والمختلف فيه لا يجب إنكاره. "وقد روى ابن أبي شيبة وغيره؛ أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيبا" بضم الصاد المهلمة وفتح الهاء وإسكان التحتية وموحدة هو ابن سنان الرومي، وفي نسخة سقيمة: وأن عليا وهي خطأ، فالذي في الفتح صهيبا "صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك" وهو صادق بالكراهة. وقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: "من صلى على جنازة في المسجد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشي على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك. وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر. وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره. وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور. منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الروياني من الشافعية.   فلا شيء له" وفي سنده صالح مولى التوأمة وفيه مقال، لكن تقوى بإنكار الصحابة على عائشة، إذ لم ينكروا إلا لعلمهم أنه لا ينبغي وأنها لم تعلم ذلك، وأما جعل اللام في "فلا شيء له" بمعنى "على" كقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، فخلاف الأصل والمتبادر وإن جعلت في الآية بمعنى على لاستحالة أن الإنان يسيء لنفسه ولا استحالة هنا. "وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشي على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه، وعن الحنفية والمالكية: لا يشرع ذلك" ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء. "وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب لا ما إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر، وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم تجز" الصلاة عليه. "قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره" أي: ابن حبان، زاد الحافظ: وحجته وحجة الذي قبله الجمود على قصة النجاشي "وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور، منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه واستحسنه" أي: قال إنه حسن "الروياني من الشافعية". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له -صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضي عياض في "الشفاء" بقوله: ورفع له النجاشي حتى يصلي عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأموم، ولا خلاف في جوازها. قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال. وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف في مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدي في أسبابه أي أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه. ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي.   زاد الحافظ: وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر، وهذا محتمل إلا أني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد. انتهى وهو مشترك الإلزام، فلم يرو في الأخبار أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبو داود ومحله في اتساع الحفظ معلوم. "ومنها قول بعضهم: إنه كشف له -صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضي عياض في الشفاء بقوله: ورفع له النجاشي حتى يصلى عليه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأموم ولا خلاف في جوازها". "قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية، بأن الاحتمال كاف في مثل هذا" من جهة المانع؛ لأنه لا يطلب بدليل، إذ مادة الجواب يكفي فيها الاحتمال "وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدي في أسبابه" أي: كتابه أسباب نزول القرآن "بغير إسناد عن ابن عباس، قال: كشف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا ظنون، إلا أن جنازته بين يديه" زاد في الفتح، ولأبي عوانة: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا "ومن الاعتذارات أيضا أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره، قاله المهلب وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي". وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه، كذا في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 واستند من قال بتخصيص النجاشي بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته. قال النووي: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله. وقال ابن العربي: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد. قلنا: وما عمل به محمد -صلى لله عليه وسلم- تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا: طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف. وقال الكرماني: قولهم: "يرفع الحجاب عنه" ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا   الفتح، وأجيب بما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- رفعت له الحجب حتى شهد جنازته "واستند من قال بتخصيص النجاشي بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما، أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته". "قال النووي: لو فتح هذا الباب" لفظه باب هذا الخصوص "لا نسد كثير من ظواهر الشرع مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله" فيه نظر، إذ مثل هذا لا يلزم توفر الدواعي على نقله، والذين جوزوا التخصيص وغيره؛ لأنها قضية عين يتطرق إليها احتمالات كثيرة، إذ لم يصح أنه صلى على غائب سواه ولا ثبت عن الخلفاء الراشدين فعل ذلك بعده. "وقال ابن العربي:" أحد شيوخ المالكية من حفاظ الحديث "قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد -صلى الله عليه وسلم- تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية" وما أقبح هذا التركيب من مثله بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين باسمه بدون صلاة كآحاد الناس حمله عليه العجلة في إبداء اعتراضه الواهي الذي تخيل أنه أبطل به مذهب إمامه "قاوا: طويت له الأرض وأحضرت له الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى تلاقي" أي: تناول "ما ليس له تلاف" أي: ما لا ينبغي تناوله، وجواب هذا الهذيان ما مر أن الاحتمال يكفي في مثل هذا من جهة المانع، لا سيما وقد جاء ما يؤيده بإسنادين صحيحين عن عمران عند أبي عوانة وابن حبان فما حدثنا إلا بالثابتات. "وقال الكرماني قولهم: يرفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فائدة. انتهى ملخصا من فتح الباري. النوع الثالث: في ذكر سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة وهي لغة: النماء والتطهير. والمال ينمي بها من حيث لا يرى، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي أجرها عند الله تعالى. وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها. وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهي قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه.   الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي -صلى الله عليه وسلم" جوابه ما مر أنه يصير كالميت الذي يراه الإمام المصلي عليه ودون المأمون وهذا جائز باتفاق. وفي الفتح عقب كلام الكرماني، قلت: وسبقه إلى ذلك أبو حامد، ويؤيده حديث مجمع بن جارية بجيم وتحتانية في قصة الصلاة على النجاشي، قال: فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا أخرجه الطبراني وأصله ابن ماجه، لكن أجاب بعض الحنفية بما تقدم أنه يصير كالميت الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمون فإنه جائز اتفاقا. "فائدة" أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان أحد أصحاب الوجوه من الشافعية أنه قال: يجوز ولا يسقط الفرض. انتهى. قال الزركشي: ووجه أن فيه إزراء وتهاونا بالميت، لكن الأقرب السقوط لحصول الغرض، وظاهر أن محله إذا علم الحاضرين. "انتهى ملخصا من فتح الباري" في مواضع من كتاب الجنائز. "النوع الثالث: في ذكر سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة" من بيان مقدارها ووجوبها وما تجب فيه وهل تجب عليه "وهي لغة النماء" بفتح النون والمد الزيادة "والتطهير والمال ينمي" بكسر الميم: يكثر "بها من حيث لا يرى" لأن المرئي حسا نقصه "وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي" بفتح أوله وكسر ثالثه من باب رمي، وفي لغة من باب قعد، أي: يزيد ويكثر "أجرها عند الله تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها" وهو الزيادة والتطهير "وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه" بما وعد من الثواب عليها في الآخرة "وهي قيد النعمة" أي: مقيدة لها ومانعة من زوالها "وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه، وقد فهم من شرعه -صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 وقد فهم من شرعه -صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال، وهو النصاب. ثم جعلها -صلى الله عليه وسلم- في الأموال النامية، وهي أربعة أصناف: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم. والثاني: الزرع والثمار. والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم. والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها. وحدد -صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة: فنصاب الفضة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالًا، وأما الزرع فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة،   للمواساة" أي: الرفق بالغير على وجه الشفقة والإمرام بحيث يجعله كأنه مساو له "وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال" وقع وشأن "وهو النصاب" أي: القدر المعتبر للوجوب "ثم جعلها -صلى الله عليه وسلم- في الأموال النامية وهي أربعة أصناف: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم" بفتح القاف وكسرها، أي: عماده الذي يقوم به وينتظم "والثاني: الزرع والثمار، والثالث: بهيمة الأنعام" من إضافة الأعم إلى الأخص كشجر أراك "الإبل والبقر والغنم؛" لأن البهيمة كل ذات أربع من ذوات البر والبحر وكل حيوان لا يميز "والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها وحدد -صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف" من هذه الأربعة "بما يحتمل المواساة" وإذا أردت بيان ذلك "فنصاب الفضة" فالفاء فصيحة في جواب الشرط المقدر "خمس أواق" جمع أوقية، بضم -الهمزة وشد الياء على الأشهر- "وهي مائتا درهم بنص الحديث" ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، رواه الشيخان. وقال -صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة عن كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمس دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك" .... الحديث رواه أحمد وأبو داود عن علي، ونقل الترمذي عن البخاري أنه صحيح "والإجماع" على ذلك. "وأما الذهب فعشرون مثقالا" وهو درهم وثلاثة أسباع درهم، ولم يختلف فيه في جاهلية ولا إسلام وهو اثنتان وسبعون حبة وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال كما في شرح الروض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس. ورتب -صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال: فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به. ويليه الزروع والثمار، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه. ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه جمع السنة. ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة. ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمسة خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فصار هو الواجب. ثم إنه   قال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في نصاب الذهب شيء إلا ما روى الحسن بن عمارة عن علي رفعه: "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار"، وابن عمارة: وأجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثر خطئه، لكن عليه جمهور العلماء. "وأما الزرع والثمار فخمسة أوسق" لحديث الصحيحين: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، ولمسلم أيضا: "ليس يما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة". "وأما الغنم" وهي الضأن والمعز "فأربعون شاة والبقر" حمر وجاموس "ثلاثون بقرة" والتاء فيها، وفي شاة للوحدة ذكورا كانت أو إناثا أو مجمعة منهما "والإبل خمس" بختها وعرابها، ذكورها وإناثها "ورتب -صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها" قدرا "وأقلها تعبا الركاز" بكسر الراء وخفة الكاف وآخره زاي منقوطة "وفيه الخمس لعدم التعب فيه" كثيرا "ولم يعتبر له حولا، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به، ويليه الزرع والثمار، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر" مما يخرج منه إذا بلغ النصاب "وإلا" بأن سقي بآلة "فنصفه" أي: العشر "ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه" أي: مال التجارة "جميع السنة ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص:" جمع وقص بفتحتين وقد تسكن القاف ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه "بخلاف الأنواع السابقة" فلا وقص فيها، بل ما زاد فبحسابه "ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها" أي الإبل "شاة، فإذا صارت الخمسة خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا" من جنسها "فصار هو الواجب، ثم إنه قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها. وفي كتابه -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه في الصدقة، ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم   بحسب كثرة الإبل وقلتها، وفي كتابه -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه في الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض" لئلا يستغنوا بأخذ الأحكام منه عن مشافهته والأخذ من لفظه الذي هو أعلى من الكتاب، وأما بعده فالرجوع إلى ما في الكتاب أولى من سؤال بعضهم لبعض. ولفظ الرواية: وقرنه بسيفه حتى قبض فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، والمتبادر أنه لم يزل مقرونا بسيفه حتى قبض فأخذه أبو بكر بعده، ويحتمل كما قال ابن رسلان حتى شارف أن يقبض، كقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] ، أي: أشرفن على انقضاء العدة وقربن منها، فكان فيه "في خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان وفي خمس" بفتح السين "عشرة" بالفتح أيضا؛ لأن الاسمين يتركبان تركيب بناء قال ابن رسلان "ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه" إلى أربع وعشرين بدليل قوله: "وفي خمس وعشرين بنت مخاض" بمعجمتين أتى عليها حول ودخلت في الثاني والمخاض الحامل، أي: دخل وقت حمل أمها إن لم تحمل "إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة" بالرفع، قاله ابن رسلان، أي: على العدد المذكور، فإن كان الرواية تعين وإلا فيجوز نصبه على معنى زادت الإبل واحدة "ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين" الغاية فيه، وفي نظائره داخلة في المغيا، فلا يتغير الواجب إلا بما زاد عليها كما قال "فإذا زادت واحدة" بالرفع قاله ابن رسلان، أما رواية: أو جريا على قول إن زاد لازم وثانيها متعد لواحد وثالثها لاثنين، فإيمانا في قوله: زادتهم إيمانا حال على الثاني ومفعول ثان على الثالث "ففيها حقه" بكسر المهملة وشد القاف، وهي التي دخلت في السنة الرابعة "إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة" بفتح الجيم والمعجمة وهي الداخلة في الخامسة "إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم" لم يقيدها بالسائمة إشارة إلى أن ذكرها في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 في كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة. رواه أبو داود والترمذي من حديث سالم بن عبد الله بن عمر. وفرض -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج   حديث آخر جرى على الغالب فلا مفهوم له؛ ولأنه مفهوم صفة "في كل أربعين شاة" تمييز "شاة" مبتدأ خبره في الغنم "إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك" بمائة رابعة "ففي كل مائة شاة" بالجر "شاة" بالرفع "ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة" ففي خمسمائة خمس، وهكذا "رواه أبو داود والترمذي من حديث" سفيان بن حسين عن الزهري، عن "سالم بن عبد الله بن عمر" عن أبيه قال: كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله، وقرنه بسيفه حتى قبض، فذكره بزيادة سبقت في الكتب النبوية. قال الترمذي: حديث حسن ورواه يونس وغير واحد عن الزهري عن سالم ولم يرفعه، وإنما رفعه سفيان بن حسين. انتهى، ومراده بالرفع الوصل. قال الحافظ: وسفيان ضعيف في الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري فأرسله، أخرجه الحاكم من طريق يونس عن الزهري، وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين؛ لأنه قال عن الزهري: أقرأنيها سالم بن عبد الله فوعيتها على وجهها، فذكر الحديث، ولم يقل أن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، بل قال: ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم. انتهى، فتحسين الترمذي له باعتبار شاهده وهو حديث أنس عن أبي بكر الصديق بمعناه عند البخاري، وأبي داود والنسائي وابن ماجه. "وفرض" ألزم وأوجب عند الجمهور "صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر" وما أوجبه، فبأمر الله وما ينطق عن الهوى "صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد" أخذ بظاهره داود وحده، فأوجبها على العبد وأنه يجب على سيده أن يمكنه من الاكتساب لها كما يجب عليه تمكينه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس لحديث ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر "والحر والذكر والأنثى" ظاهره وجوبه عليها ولو ذات زوج، وقال أبو حنيفة والثوري وقال الجمهور: والثلاثة على زوجها إلحاقا بالنفقة لحديث ممن تمونون "والصغير والكبير من المسلمين" دون الكفار؛ لأنها طهرة وليسوا من أهلها، فلا تجب على كافر عن نفسه، ولا عن مستولدته المسلمة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 الناس إلى الصلاة، رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. وفي رواية أبي داود من حديث ابن عباس، فرض -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. وقال -صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء. رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل.   ولا على المسلم إخراجها عن عبده الكفار "وأمر بها" ندبا "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" أي: صلاة العيد؛ لأن القصد إغناء الفقراء عن الطلب وجاز تأخيرها إلى تمام يوم العيد، وحرم تأخيرها عنه إلا لعذر كغيبة ماله أو المستحقين "رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر" من طرق. "وفي رواية أبي داود من حديث ابن عباس: فرض -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر" أضيفت له لوجوبها بالفطر من رمضان، لكن هل المراد غروب شمسه؛ لأنه وقت الفطر منه فتجب به أو طلوع فجر العيد؛ لأن الليل ليس محلا للصوم وإنما يظهر الفطر الحقيقي بالأكل بعد الفجر فتجب به خلاف "طهرة" بضم الطاء "للصائم من اللغو والرفث وطعمة" بضم الطاء، أي: أكلة أو رزقا "للمساكين، وقال -صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره" من ملك مقرب أو جهبذ مجتهد "في" قسم "الصدقات" على مستحقيها "حتى حكم" هو تعالى "فيها فجزأها ثمانية أجزاء" في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، "رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي" بضم الصاد ودال مهملتين نسبة إلى صداء قبيلة من مذحج له صحبة ووفادة، قال: قال رجل: يا رسول الله أعطني من هذه الصدقة، فذكره ثم قال: "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك". وروى ابن سعد عن زياد المذكور مرفوعا: "إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت جزءا منها أعطيتك، وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن" "وهذا الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس أحدهما من يأخذ لحاجته فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها وكثرتها وقلتها وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل، والثاني: من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها" من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 والثاني: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون أو لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة. واعلم أن الأنبياء لا تجب الزكاة عليهم؛ لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما يجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه في أوان بذله، ويمنعونه في غير محله؛ ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والأنبياء عليهم السلام مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة بالله والمشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء   جاب وقاسم وكاتب وحاشر "والمؤلفة قلوبهم" ليسلموا أو يثبت إسلامهم، أو يسلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقوال "والغارمون" أهل الدين إن استدانوا لغير معصية أو تابوا وليس لهم وفاء "أو لإصلاح ذات البين" ولو أغنياء عندهم "والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة، واعلم أن الأنبياء لا تجب الزكاة عليهم" لا يرد عليه قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] ؛ لأن المراد بها على هذا التطهير من الرذائل؛ "لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما يجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه في أوان بذله ويمنعونه" من صرفه "في غير محله؛ ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما" أي: لإنسان، فاستعمل ما للعاقل على القليل. وفي نسخ: لمن "عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من الذنوب "والأنبياء عليهم السلام مبرؤون من الدنس لوجوب العصمة لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة" الموجب للتطهير "والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف وذلك بعد البلوغ"، والعقل "وإذا كان أهل المعرفة بالله والمشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل وأهل التوحيد" بالرفع مبتدأ "والمعرفة" عطف على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب "التنوير" للعارف الكبير أبي الفضل بن عطاء الله الشاذلي، أذاقنا الله حلاوة مشربه. تنبيه: ما حكي أن الشافعي وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعي، فقال أحمد بن حنبل للشافعي: أريد أن أسأل هذا المشار إليه في هذا الزمن، فقال الشافعي: لا تفعل، فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله تعالى، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال: فخر أحمد مغشيا عليه، ثم أفاق فقال له: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أوهما مذهبان؟ قال: نعم، أما على مذهبكم ففي الأربعين شاة   التوحيد "إنما غرفوا من بحارهم" خبر المبتدأ "واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب التنوير" في إسقاط التدبير "للعارف الكبير أبي الفضل بن عطاء الله الشاذلي أذاقنا الله حلاوة مشربه". وفي الأنموذج ذكر مالك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يملك الأموال إنما كان له التصرف والأخذ بقدر كفايته. وعند الشافعي وغيره: يملك، ثم نقل بعد قليل كلام ابن عطاء الله هذا، فقال شارحه هذا كما ترى بناه ابن عطاء الله على مذهب إمامه أن الأنبياء لا يملكون ومذهب الشافعي خلافه. "تنبيه: ما حكي أن الشافعي وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعي" من أكابر العارفين والزهاد العابدين الأمي، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أو الفقه أجاب بجواب متين، وإذا حضرت الجمعة خط على غنمه خطا فلا تتحرك ولا يعرض لها شيء حتى يعود. "فقال أحمد بن حنبل للشافعي: أريد أن أسأل هذا المشار إليه" بالولاية "في هذا الزمن" لأعلم ما عنده "فقال الشافعي: لا تفعل" خشي أن يجيبه بخلاف ظاهر الشرع فيسوء اعتقاده فيه "فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أرب ركعات، فقال: يا أحمد هذا قلب غافل عن الله تعالى يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك" فأجابه بخلاف ظاهر الشرع، لكن حصل منه اعتبار لأحمد "قال: فخري أحمد مغشيا عليه، ثم أفاق فقال له: ما تقول فيمن له أربعون شاة ما زكاتها؟، فقال: على مذهبنا" معاشر الصوفية "أو على مذهبكم" أيها الفقهاء؟ "فقال: أوهما مذهبان؟، قال: نعم، أما على مذهبكم ففي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا في "المقاصد الحسنة" عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأن الشافعي وأحمد لم يدركا شيبان الراعي والله أعلم. انتهى. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة قال: "اللهم صل على آل فلان"، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى". وراه البخاري ومسلم. واختلف في أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السير من الروضة. وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر: لما في حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكان في أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.   الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا في المقاصد الحسنة عن ابن تيمية" الحافظ أحمد "أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأن الشافعي وأحمد لم يدركا شيبان الراعي، والله أعلم. انتهى". "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة" أي: الزكاة "قال: "اللهم صل على آل فلان" ولأبي ذر على فلان بدون آل كما في الفتح: "فأتاه" بالقصر "أبو أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة اسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة "بصدقته، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" يريد أبا أوفى نفسه؛ لأن الآل يطلق على ذات الشيء، كقوله في قصة أبي موسى: "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"، وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر "رواه البخاري" في الزكاة وغيرها "ومسلم" عن عبد الله بن أبي أوفى، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين. "واختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثرون إل أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السير من الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك" أي: فرضها "كان في التاسعة وفيه نظر لما في حديث ضمام" بكسر المعجمة مخففا "ابن ثعلبة" بمثلثة. "وفي حديث وفد عبد القيس" أسقط من الفتح وفي عدة أحاديث ذكر الزكاة "ومخاطبة أبي سفيان" صخر بن حرب "مع هرقل وكان في أول السابعة وقال فيها: يأمرنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عاملا: فقال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله. وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن الرجل: الذي يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى. وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: يأمرنا، بمعنى يأمر أمته، وهو بعيد جدا. وأولى ما   بالزكاة" أسقط من الفتح، لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام "وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عاملا" يجبي الصدقات، فمر بثعلبة وسأله الصدقة وأقرأه الكتاب الذي فيه الفرائض "فقال" ثعلبة: "ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية" أي: شبيهتها "والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة" وهو استدلال قوي لو صح الحديث، "لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله" إذ لا حجة في ضعيف "وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرض كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث" سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق بسنده إلى "أم سلمة" هند "في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب" الهاشمي "قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن الرجل الذي يأمرنا" لفظ الحافظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويأمرنا "بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى. "وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد" أي: في ذلك الوقت "ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها اذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا، فقال: يأمرنا بمعنى يأمر أمته وهو بعيد جدا" إذ الأصل عدم التقدير "وأولى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 حمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سلم من قدح في إسناده- أن المراد بقول جعفر: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" أي في الجملة، ولا يلزم ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول. ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله: "أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ " وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك. ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحكام من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت   ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا إن سلم من قدح في إسناده؛" لأن سلمة بن الفضل فيه مقال، وفي التقريب أنه صدوق كثير الخطأ. انتهى. وقد رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق فلم يذكر الزكاة "أن المراد بقول جعفر يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، أي: في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس" بل مطلق صلاة "ولا بالصيام شهر رمضان" بل مطلق صيام "ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول" بل أراد مطلق صدقة أو التطهير من الرذائل والله أعلم. "ومما يدل على أن فرض الزكاة كل قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام" بالكسر مخففا "ابن ثعلبة" بمثلثة "وقوله: أنشدك الله آلله" بالمد "أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟، وكان قدوم ضمام سنة خمس" من الهجرة "وإنما الذي وقع في" السنة "التاسعة بعث العمال": جمع عامل "لأخذ الصدقات وذلك يستدعي تقديم فريضة الزكاة قبل ذلك، ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان، إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته" وهي {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] "مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي الصحابي ابن الصحابي "قال: أمرنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 فرضية الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله، إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوي عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها. رواه البخاري من حديث عائشة. وإذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟، فإن قيل: صدقة قال لأصحابه:   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فرضية الزكاة" للأموال "فلم يأمرنا" بصدقة الفطر "ولم ينهنا" عنها "ونحن نفعله" وبهذا احتج لإبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم لقولهما: إن صدقة الفطر منسوخة، والكافة على أن وجوبها لم ينسخ، وأجابوا بأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول "إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار" الكوفي اسمه عريب بفتح المهملة ابن حميد كما في الفتح "الراوي عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان". زاد في الفتح وذلك بعد الهجرة وهو المطلوب "قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر" وزاد: ووقع في تاريخ الإسلام في السنة الأولى فرضية الزكاة، وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث أم سلمة المذكور من طريق المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من طريق ابن إسحاق، لكن من طريق سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقال. "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية" إلا لعذر كما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم "ويثيب" أي: يجازي، وأصل الإثابة تكون في الخير والشر، لكن العرف خصها بالخير "عليها" بأن يعطي بدلها فيندب التأسي به، وظاهره أنه كان يقبلها من المؤمن والكافر، وقد جاء أنه قبل هدية القوقس وغيره من أهل الكتاب "رواه البخاري" في الهبة "من حديث عائشة" وكذا رواه أحمد وأبو داود في البيوع، وزاد فيه الغزالي: ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب. قال الحافظ العراقي: وفي الصحيحين ما هو بمعناه "و" كان "إذا أتي بطعام" زاد في رواية أحمد: من غير أهله "سأله عنه" من أتى به؟ "أهدية؟ " بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أهذا، وبالنصب بتقدير أجئتم به هدية "أم صدقة؟ " بالرفع والنصب "فإن قيل:" هو "صدقة" أو جئنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 "كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: "هل عندكم شيء"؟. فقالت: لا، إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التي بعثت بها إليها من الصدقة، قال: "إنها بلغت محلها". رواه البخاري ومسلم. وقوله: "محلها" بكسر الحاء، أي زال عنها حكم الصدقة وصارت حلا لنا. وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة فقال: "هو عليها صدقة، ولنا هدية"، رواه البخاري مسلم وأبو داود والنسائي.   به صدقة "قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل" هو معهم لحرمتها عليه "وإن قيل: هدية ضرب بيده" أي: مدها "فأكل معهم" دون تحاش عنه تشبيها للمد بالذهاب سريعا في الأرض فعداه بالياء، وذلك لأن الصدقة منحة لثواب الآخرة، ففيها نوه ذلك بخلاف الهدية فهي تمليك للغير إكراما، فلذا حلت له دون الصدقة "رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة" وكذا رواه النسائي. "وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة:" لفظ الحديث عن أم عطية الأنصاري، قالت: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة: فقال: "هل عندكم شيء"؟ من الطعام "فقالت: لا" شيء منه عندنا "إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة" بنون وسين مهملة وموحدة مصغرة اسم أم عطية "من الشاة التي بعثت" بفتح التاء، أي: أنت "بها إليها". ففي رواية لمسلم عن أم عطية، قالت: بعث إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة من الصدقة، فبعثت إلى عائشة منها بشيء "من الصدقة، قال: "إنها بلغت محلها"، رواه البخاري" في الزكاة في موضعين، وفي الهبة "ومسلم" في الزكاة "وقوله: "محلها" بكسر الحاء، أي: زال عنها حكم الصدقة وصارت حلا لنا" كذا جزم بالكسر هنا، وفي شرحه للبخاري مع أن الحافظ قال: أي: أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها انتقلت عن حكم الصدقة، فحلت محل الهدية، وكانت تحل له -صلى الله عليه وسلم- بخلاف الصدقة، وهذا تقرير ابن بطال بعد أن ضبطها محلها بفتح الحاء، وضبطها بعضهم بكسرها من الحلول، أي: بلغت مستقرها والأول أولى، وعليه عول البخاري في الترجمة يعني بقوله باب إذا تحولت الصدقة. انتهى. "وأتي" بضم الهمزة النبي -صلى الله عليه وسلم- "بلحم" في رواية مسلم: بلحم بقر "تصدق" بضم أوله "به على بريرة" بفتح الموحدة وكسرها الراء الأولى "فقال: "هو" أي: اللحم "عليها صدقة ولنا هدية" قدم لفظ عليها على المبتدأ لإفادة الاختصاص، أي: لا علينا الزوال وصف الصدقة وحكمها؛ لأنها صارت ملكا لبريرة ثم صارت هدية، فالتحريم ليس لذات اللحم "رواه البخاري الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 وفي حديث عائشة عند البخاري ومسلم: دخل -صلى الله عليه وسلم- وعلى النار برمة تقور، فدعا بالغداء، فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: "ألم أر برمة على النار تفور"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: "هو صدقة عليها، وهدية لنا". النوع الرابع: في ذكر صيامه -صلى الله عليه وسلم اعلم أن المقصود من الصيام إمساك النفس عن حبس عاداتها، وحبسها عن   ومسلم وأبو داود والنسائي" مختصرًا هكذا عن أنس. "وفي حديث عائشة عند البخاري ومسلم: دخل -صلى الله عليه وسلم" حجرة عائشة "وعلى النار برمة" بضم الموحدة وإسكان الراء. قال ابن الأثير: هي القدر مطلقا وجمعها برم، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز "تفور" بالفاء "فدعا بالغداء فأتي بخبز وأدم من أدم البيت" بضم الهمزة وإسكان المهملة: جمع أدام وهو ما يؤكل مع الخبز، أي: شيء كان، والإضافة للتخصيص "فال: "ألم أر برمة" بهمزة الاستفهام التقريري "على النار تفور؟ " زاد في رواية: فيها لحم "قالوا: بلى يا رسول الله لكنه لحم تصدق به" بالبناء للمفعول "على بريرة وأهدت إلينا منه وأنت لا تأكل الصدقة" لحرمتها عليك، فلذا لم نأتك به "فقال: "هو صدقة عليها وهدية لنا" منها؛ لأنه يسوغ للفقير التصرف في الصدقة بالإهداء والبيع وغير ذلك، كتصرف المالك في ملكه، فيجوز للغني ولو هاشميا أكلها وشراؤها؛ لأن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين، فإذا تغيرت صفة الصدقة تغير حكمها. قال الأبي: لا يقال: كونها أوساخ الناس ومطهرة للمال هو وصف لا تزيله الهدية بها؛ لأنا نقول: ليس وصفا ذاتيا حتى يقال: إنه لا يزول، وإنما هو وصف حكمي جعل بالشرع، وهو قد حكم بزواله. انتهى. واستدل به على جواز صدقة التطوع لأزواجه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم فرقوا بينه وبين أنفسهم ولم ينكره عليهم، بل أخبرهم أن تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه. "النوع الرابع: في ذكر صيامه -صلى الله عليه وسلم اعلم أن المقصود من الصيام إمساك" أي: منع "النفس عن حبس" أي: دنيء "عاداتها" من إضافة الصفة للموصوف، أي: عاداتها الخسيسة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العاملين، كما قال الله تعالى في الحديث الإلهي الذي رواه مسلم: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به". فأضافه تعالى له إضافي تشريف وتكريم، كما قال تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 3] مع أن العالم كله له سبحانه. وقيل: لأنه لم يعبد غيره به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرهما.   ففيه أن عادات النفس التي تألفها كلها خسيسة، فعلى الصائم المحافظة على مخالفتها بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات والاشتغال بالذكر والقرآن وأنواع القربات "وحبسها" أي: كفها "عن شهواتها" ولو مباحة "وفطامها" أي: منعها "عن مألوفاتها" من مستلذاتها "فهو لجام المتقين" المانع لهم تشبيها بلجام الدابة "وجنة" بضم الجيم مشددا وقاية "المحاربين"، لأنفسهم والشياطين "ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العالمين، كما قال الله تعالى في الحديث الإلهي الذي رواه مسلم:" لا وجه لقصر عزوه له فقد رواه البخاري، كلاهما في الصوم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له"" أي: له فيه حظ ومدخل لاطلاع الناس عليه فهو يتعجل به ثوابا من الناس، ويجوز به حظا من الدنيا. وفي رواية: كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف "إلا الصيام فهو" خالص "لي" لا يعلم ثوابه غيري "وأنا أجزي" بفتح الهمزة "به" صاحبه بلا عدد ولا حساب، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] الآية، والصابرون الصائمون في قول الأكثر؛ لأنهم يصبرون أنفسهم عن الشهوات وعند سمويه إلا الصوم فإن لا يدري أحد ما فيه. وقد اختلف في معناه مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، فقيل في معناه عشرة أوجه ذكر بعضها بقوله: "فأضافه الله تعالى له إضافة تشريف وتكريم، كما قل تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ} وأن المساجد لله "مع أن العالم كله له سبحانه". قال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التشريف والتعظيم. "وقيل:" وجه ذلك؛ "لأنه لم يعبد غيره" تعالى "به" بالصوم "فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرهما" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 قال في شرح تقريب الأسانيد: واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات فإنهم يتعبدون لها بالصيام. وأجيب: بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها. وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو، وغير ذلك من العبادات الظاهرات، قال في فتح الباري. معنى النفي في قولهم: "لا رياء فيه" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها. انتهى.   كالطواف والصدقة والذبح. "قال" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد" للنووي: "واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام، وأجيب بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها" الذي في الفتح بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب، وإنما يعتقدون أنها فعالة بنفسها وليس هذا الجواب بطائل؛ لأنهم طائفتان إحداهما تعتقد إليهة الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام وبقي ممنهم من بقي على كفره، والأخرى من دخل في الإسلام، وبقي على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم. انتهى. "وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو وغير ذلك من العبادات الظاهرات" حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ويؤيده حديث الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل: "هو لي وأنا أجزي به"، رواه البيهقي عن أبي هريرة بإسناد ضعيف ولو صح لرفع النزاع. "قال في فتح الباري: معنى النفي في قولهم: لا رياء فيه أنه لا يدخله الرياء بفعله وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ويخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار" به رياء "بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها" على وجه الرياء. "انتهى" كلام الفتح وزاد فيه: وقد حول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنية بالصوم، فقال: إن الذكر بلا إله إلا الله يمكن أن لا يدخله الرياء؛ لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيرها من أعضاء الفم، فمكن أن الذاكر يقولها بحضرة الناس ولا يشعرون منه بذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 وعن شداد أوس مرفوعا: "من صام يرائي فقد أشرك". رواه البيهقي. وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه منه حظ. وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبي معناه: أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي. أو لكون ذلك من صفات الملائكة، أو لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، بخلاف غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها،   "وعن شداد بن أوس مرفوعًا: "من صام يرائي" بأن أظهره لمن يراه من الناس وذلك إنما يكون بإخباره لهم كما علم "فقد أشرك" أي: جعل لله شريكا "رواه البيهقي" والمراد به وما شابهه أنه فعل كفعل من أشرك. "وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه" أي: مع نفسه "منه حظ" نصيب، قاله الخطابي وعياض وغيرهما، فإن أراد بالحظ الثناء عليه بالعبادة رجع لمعنى ما قبله، وبه أفصح ابن الجوزي فقال: لاحظ فيه للصائم بخلاف غيره، فله فيه حظ لثناء الناس عليه قاله الحافظ، أي: وإن أريد عدم انبساط نفسه به أصلا غالبا بخلاف غيره من العبادات فيوجد للنفس فيها حظ، كالغسل فله حظ التبرد أو التدفي، وكالحج فله حظ التنقل والتفرج على الأمكنة، وهكذا فلا يرجع إليه، بل يكون غيره وهذا هو الظاهر. "وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه" وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء. "قال القرطبي: معناه" أي: هذا القول "أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلي بمر هو يتعلق بصفة من صفاتي" فلذا توليت جزاءه "أو" يعني: وقيل: "لكون ذلك" صفة "من صفات الملائكة؛" لأنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يشتهون "أو" يعني: وقيل في معناه؛ "لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته بخلاف غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها" وهذا تعقبه القرطبي بأن صوم اليوم بعشرة، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كما في الأحاديث، وهي نصوص في إظهار التضعيف، فضعف هذا الوجه، بل بطل، ورد بأنه يكتب كذلك، وأما قدر ثوابه فلا يعلمه إلا الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 ولذا قال في بقية الحديث: "وأنا أجزي به" وقد علم أن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء، وإنما جوزي الصائم هذا الجزاء؛ لأنه ترك   "ولذا قال في بقية الحديث: "وأنا أجزي به"، وقد علم" عادة "أن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء" ولا أكرم من الله سبحانه، وقول البيضاوي: الاستثناء في قوله: "إلا الصيام" من كلام غير محكي دل عليه ما قبله، والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة إلا الصيام فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله، ولذا تولى جزاءه بنفسه ولم يكله إلى غيره تعقبه الطيبي بأنه مستثنى من كل عمل ابن آدم له وهو مروي عن الله تعالى يدل عليه قوله: قال الله. انتهى. فهذه سبعة أقوال حكاها الصنف في معناه. والثامن: أن معناه أحب العبادات إلي والمقدم عندي، ولذا قال أبو عمر: كفى به فضلا للصيام على سائر العبادات. وروى النسائي: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، لكن يعكر عليه الحديث الصحيح: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة". والتاسع: أن جميع العبادات يوفى منها مظالم العباد إلا الصيام. قال سفيان بن عيينة: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيحتمل الله ما بقي من المظالم ويدخله بالصوم الجنة، أسنده البيهقي عنه، ورده القرطبي بأن ظاهر حديث المقاصد أنه يؤخذ كبقية الأعمال، ففيه "المفلس: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ويأتي وقد شتم هذا، وضب هذا وأخذ مال هذا فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتضي ما عليه طرحت عليه سيئاتهم ثم طرح في النار". قال الحافظ: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، ويدل له حديث أحمد عن أبي هريرة رفعه: "كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به"، ورواه أبو داود بلفظ: "قال ربكم: كل العمل كفارة إلا الصوم"، لكن يعارضه حديث حذيفة في الصحيحين: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة"، ويجاب بحمل الإثبات على كفارة شيء مخصوص والنفي على كفارة شيء آخر، فإنه مقيد بفتنة المال وما ذكر معها، لكن حمله البخاري على تكفير مطلق الخطيئة، فيكون المعنى إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة بشرط خلوصه من الرياء والشوائب. العاشر: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما لا تكتب سائر أعمال القلوب، استند قائله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده. والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص، لكن وقع في رواية عند ابن خزيمة: "يدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي"، وأصرح منه ما روي " من الطعام والشراب والجماع من أجلي". وللصيام تأثير عجيب في حفظ الأعضاء الظاهرة، وقوى الجوارح الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له   إلى حديث واه جدا، أورده ابن العربي في المسلسلات، ولفظه: "قال الله تعالى: الإخلاص سر من أسراري استودعته قلب من أحب لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده"، ويكفي في رده الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها ولم يعملها، فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وأقربها إلى الصواب أنه لا رياء فيه وأنه المنفرد بعلم قدر ثوابه، ويقرب منهما أنه لم يعبد به غير الله وأنه لا يؤخذ في المظالم. انتهى ملخصًا. "وإنما جوزي الصائم هذا الجزاء؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده" كما قال في الحديث الصحيح في الموطأ: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. "والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب" في رواية البخاري بلفظ: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الصيام لي" فيكون عطف مغاير "ويحتمل أن يكون من" عطف "العام بعد الخاص" إن جعلت الشهوة عامة "لكن وقع في رواية عند ابن خزيمة: "يدع لذته" بالطعام والشراب "من أجلي ويدع زوجته من أجلي"، فهذا صريح في الأولى "وأصرح منه ما روي" عند الحافظ سموية: "يترك شهو ته "من الطعام والشراب والجماع من أجلي"" امتثالا لشرعي ذلك. قال الحافظ: قد يفهم الحصر التنبيه على الجهة التي يستحق بها الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به حتى لو صام لغرض آخر كتخمة لا يحصل له ذلك الفضل، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القوي الذي يدور معه الفعل وجودا وعدما، ولا شك أن من لم يعرض له في خاطره شهوة شيء طول نهاره ليس في الفضل، لكن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه "وللصيام" هكذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى: وللصائم، أي: ولصوم الصائم أو للصوم من حيث صومه "تأثير عجيب في حفظ الأعضاء الظاهرة "وقوى الجوارح الباطنة وحميتها" بكسر الحاء منعها "عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وقال عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري: "الصوم جنة" هي بضم الجيم، الوقاية والستر، أي: ستر من النار. وبه جزم ابن عبد البر، وفي النهاية: أي يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، وقال القاضي عياض: من الآثام. وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صاحبه من المعاصي قولا وفعلا.   المانعة له من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله:" يا أيها الذين آمنو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: الأنبياء والأمم من لدن آدم وفيه توكيد للحكم وترغيب للفعل وتطبيق للنفس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] الآية" المعاصي، فإن الصوم يكثر الشهوة التي هي مبدؤها، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "فعليه بالصوم فإنه له وجاء". "وقال عليه السلام كما في البخاري" ومسلم، كلاهما من حديث أبي هريرة: "الصوم جنة وهي، بضم الجيم" وشد النون "الوقاية" بكسر الواو "والستر، أي: ستر من النار، وبه جزم ابن عبد البر؛" لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها، وقد رواه الترمذي بلفظ: "جنة من النار"، وأحمد بلفظ: جنة وحصن حصين من النار. "وفي النهاية" لابن الأثير جنة "أي: يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات؛" لأنه يكسرها ويضعفها. "وقال القاضي عياض": جنة "من الآثام" أو من النار، أو من جميع ذلك، هذا بقية كلام القاضي، وبالأخير جزم النووي، والتفسيران متلزمان؛ لأنه إذا كف عن المعاصي كان سترا له من النار "وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا" في قوله: "إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به" "صيام من سلم صاحبه من المعاصي قولا وفعلا". ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد تخصيصه بصوم خواص الخواص، فإنه أربعة أنواع: صيام العوام وهو الصوم عن المفطرات وصيام خواص العوام وهو مع اجتناب المحرمات قولا وفعلا، وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته، وصيام خواص الخواص وهو الصوم من غير الله فلا فطر له إلى يوم لقائه. قال الحافظ: وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى. انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 واختلف: هل الصوم أفضل أم الصلاة؟ فقيل: الصوم أفضل الأعمال البدنية، لحديث النسائي عن أبي أمامة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك قال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له"، والمشهور تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعي وغيره، لقوله عليه الصلاة والسلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" رواه داود وغيره. ثم إن الكلام في صيامه -صلى الله عليه وسلم- على قسمين: القسم الأول: في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان وفيه فصول: الأول فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده عليه الصلاة والسلام فيه: اعلم أن "رمضان" مشتق من الرمض، وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا   "واختلف هل الصوم أفضل أم الصلاة، فقيل: الصوم أفضل الأعمال البدنية" وإليه أومأ أبو عمر "لحديث النسائي" بإسناد صحيح "عن أبي أمامة، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله مرني" بالنون في النسخ الصحيحة وهو الذي في النسائي، فما في نسخ: مر لي بلام بدل النون تحريف "بأمر آخذه عنك، قال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل" بكسر العين، أي: لا مثل "له" في الأعمال. وفي رواية للنسائي أيضا: "فإنه لا مثل له". "والمشهور" عند الجمهور "تفضيل الصلاة" على الصيام وغيره "وهو مذهب الشافعي وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، رواه أبو داود وغيره" وصححاه وهو نص صريح لا يقبل التأويل بخلاف خبر أبي أمامة "ثم إن الكلام في صيامه -صلى الله عليه وسلم- على قسمين: "القسم الأول: في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان وفيه فصول الأول: فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يخص به رمضان من العبادات، وتضاعف" زيادة "جوده عليه الصلاة والسلام فيه اعلم أن" لفظ ""رمضان" مشتق من الرمض" بفتح الميم، قال المصباح: يقال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك، كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع، أو لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وهو ضعيف لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع. ورمضان أفضل الأشهر، كما حكاه الأسنوي، عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام. قال النووي: وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح. انتهى. وقد اختلف السلف: هل فرض صيام قبل صيام رمضان أم لا؟ فالجمهور -وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب صوم قط قبل رمضان، وفيه وجه -وهو قول الحنفية- أول ما فرض عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. وسيأتي أدلة الفريقين   رمض يومنا يرمض رمضا من باب تعب "وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك" لموافقة الوضع الأزمنة، فقالوا: رمضان ثم كثر حتى استعملوها في الأهلة وإن لم توافق ذلك الزمن "كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع" وذلك حين أربعت الأرض، "أو لأنه يرمض" بفتح الميم "الذنوب، أي: يحرقها وهو ضعيف؛ لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع" الذي عرف منه أنه يرمض الذنوب "ورمضان أفضل الأشهر كما حكاه الأسنوي عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام". "قال النووي: وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح وإن كان قد جاء فيه أثر" أي: حديث مرفوع "ضعيف" وهو: لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان. أخرجه ابن عدي وضعفه. "وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح" زاد بعضهم: أو حسن. "انتهى" كلام النووي، وزاد: ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهة، والصواب ما ذهب إليه المحققون أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة. انتهى، وسبقه إلى نحو ذلك الباجي، فقال: إنه الصواب لقد جاء ذلك في أحاديث صحيحة، كقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء ... " الحديث. "وقد اختلف السلف هل فرض صيام قبل صيام رمضان أو لا، فالجمهور وهو المشهور عند الشافعية أنه لم يجب صوم قط قبل رمضان، وفيه وجه" أي: قول لبعض الشافعية "وهو قول الحنفية: أول ما فرض عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ" وجوبه وبقي ندبه "وسيأتي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 في الكلام على صوم عاشوراء إن شاء الله تعالى. وقد كان فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة -كما تقدم- فتوفي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسعة رمضانات. ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات؛ لأن نعم الله تعالى فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غير من الشهور، وكان جوده -صلى الله عليه وسلم- يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة. وفي حديث ابن عباس عند الشيخين قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس،   أدلة الفريقين في الكلام على صوم عاشوراء إن شاء الله تعالى، وقد كان فرض رمضان" لليلتين خلتا من شعبان "في السنة الثانية من الهجرة كما تقدم، فتوفي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسعة رمضانات". قال ابن مسعود: صمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين. رواه أبو داود والترمذي ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد. قال في التحفة: وثوابهما واحد، ومحله في الفضل المرتب على رمضان من غير نظر لأيامه، أما ما يترتب على يوم الثلاثين من ثواب واجبه ومندوبه عند سحوره وفطره فهو زيادة يفوق بها الناقص، وكان حكمه أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكمل له رمضان إلا سنة واحدة، والبقية ناقصة زيادة تطمين نفوسهم على مساواة الناقص للكامل فيما قدمناه. انتهى. "ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع" بفتح الميم والباء "الجود" أي: المحل الذي يخرج منه بكثرة تشبيها بمنبع الماء، أي: مخرجه "و" منبع "البركات؛ لأن نعم الله تعالى فيه تزد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من الشهور، وكان جوده -صلى الله عليه وسلم- يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة". "وفي حديث ابن عباس عند الشيخين" البخاري في بدء الوحي والصوم والصفة النبوية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة. فبمجموع ما ذكر في هذا الحديث من الوقت وهو شهر رمضان، والمنزل وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل، والمذاكرة وهي مدارسة القرآن، حصل له عليه الصلاة والسلام المزيد في الجود.   وبدء الخلق وفضائل القرآن، ومسلم في الفضائل "قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس:" أسخاهم على الإطلاق وهو من الصفات الحميدة. وفي الترمذي مرفوعا: "إن الله جواد يحب الجود"، وقدم هذه الجملة على ما بعدها وإن كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها "وأجود" بدون كان رواية البخاري في الصوم وهي ترجح الرفع في روايته في بدء الوحي، بلفظ: وكان أجود "ما يكون" ما مصدرية، أي: أجود أكوانه يكون "في رمضان حين يلقاه جبريل" أفضل الملائكة وأكرمهم، كذا جزم به المصنف، زاد في رواية: وكان يلقاه كل ليلة من رمضان، يعني: منذ أنزل عليه، أو من فترة الوحي إلى آخر رمضان الذي توفي بعده "فيدارسه القرآن" بعضه أو معظمه. وفي الصحيحين من وجه آخر عن ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه جبريل استمع، فإذا نطق جبريل قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قرأ "فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة" أي المطلقة شبه المعنوي بالمحسوس تقريبا لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ منها؛ لأنها قد تسكن، واستعمل أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي؛ لأن الجود منه -صلى الله عليه وسلم- حقيقي، ومن الريح مجازي وكأنه استعار للريح جودا باعتبار مجيئها بالخير فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة هي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلا أنه تفوت به المبالغة؛ لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح مطلقا. "فبمجموع ما ذكر في هذا الحديث من الوقت، وهو شهر رمضان والمنزل وهو القرآن والنازل به وهو جيريل والمذاكرة، وهي مدارسة القرآن حصل له عليه الصلاة والسلام المزيد في الجود" وهو الكرم، وفي شرح البخاري للمصنف يحتمل أن زيادة الجود بمجرد لقاء جبريل ومجالسته، ويحتمل أنها بمدارسته إياه القرآن وهو يحث على مكارم الأخلاق، وقد كان القرآن له -صلى الله عليه وسلم- خلقا يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه، فلذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 والمرسلة: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، إلى عموم النفع بجوده -صلى الله عليه وسلم، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه. ووقع عند الإمام أحمد في آخر هذا الحديث لا يسأل شيئا إلا أعطاه. وتقدم في ذكر سخائه -صلى الله عليه وسلم- مزيد لذلك. وقد كان ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة، كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يتعاهده -صلى الله عليه وسلم- في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه -صلى الله عليه وسلم- عارضه به مرتين، كما ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.   وكثرة مدارسته القرآن، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالط، لكن إضافة ذلك إلى القرآن كما قال ابن المنير: آكد من إضافتها إلى جبريل عليه السلام بل جبريل، إنما تميز بنزوله بالوحي، فالإضافة إلى الحق أولى من الإضافة إلى الخلق لا سيما النبي -صلى الله عليه وسلم- على المذهب الحق أفضل من جبريل، فما جالس الأفضل إلا المفضول فلا يقاس على مجالسة الآحاد للعلماء. انتهى. "والمرسلة: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفع بجوده -صلى الله عليه وسلم، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه" وعبر بأفعال؛ لأن الريح قد تسكن "ووقع عند الإمام أحمد في آخر هذا الحديث: "لا يسأل شيئا إلا أعطاه" وليست هذه الزيادة في الصحيح، وفيه عن جابر: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا فقال: لا، قاله الحافظ. وقد روى ابن سعد عن عائشة والبزار والبيهقي عن ابن عباس قالا: كان -صلى الل عليه وسلم- إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل. "وتقدم في ذكر سخائه -صلى الله عليه وسلم- مزيد لذلك "من المقصد الثالث "وقد كان ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس، فكان جبريل عليه السلام يتعاهده -صلى الله عليه وسلم- في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه -صلى الله عليه وسلم- عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها". قال الحافظ: وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في بدء الوحي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 قال في فتح الباري: وفي معارضة جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن في شهر رمضان حكمتان، إحداهما: تعاهده، والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما. وفي المسند، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان". وقد دل الحديث على استحباب مدارسة القرآن في رمضان والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه.   "قال في فتح الباري: وفي معارضة جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن في شهر رمضان حكمتان، إحداهما تعاهده والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه، ورفع ما نسخ، لكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضًا وإحكاما، وفي المسند" للإمام أحمد "عن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف "عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزلت صحف إبراهيم" بضمتين: جمع صحيفة، وأصلها كما قال الزمخشري قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه، وفي الصحاح الصحيفة الكتاب "في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان" أسقط من حديث المسند وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان "وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان". قال في فتح الباري: هذا الحديث مطابق لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين، أي: صبيحتها إلى الأرض أول اقرأ بسم ربك، قال في الإتقان: لكن يشكل على هذا الحديث ما لابن أبي شيبة عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان. انتهى ولا إشكال؛ لأن المقطوع لا يعارض المرفوع إذ أبو قلابة تابعي، وما قاله التابعي ولم يرفع يقال له: مقطوع وهو من أقسام الضعيف. "وقد دل الحديث" أي: حديث ابن عباس "على استحباب مدارسة القرآن في رمضان والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه" لعل معناه من حيث إن جبريل علم المنسوخ منه من غيره، فكان أحفظ حتى بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة ولفظه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير الكثير".   "وفي حديث ابن عباس" في قوله في بعض طرقه، وكان، أي: جبريل يلقاه كل ليلة "أن المدارسة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلًا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر" وفيه أن القرآن أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعله، فإن قيل: القصد تجويدا لحفظ قلنا: الحفظ كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان" إذاعة لفضله وحثا عليه "كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة، ولفظه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب": فرض "الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء" الذي في الفتح عن أحمد والنسائي أبواب الجنة وهو المناسب لقوله: "وتغلق فيه أبواب الجحيم": النار حقيقة فيهما، ففتح الجنة لمن مات فيه أو عمل عملا لا يفسد عليه، وذلك علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، وكذلك غلق أبواب الجحيم "وتغل فيه" أي: تربط "الشياطين" بالأغلال التي تربط بها اليدان والرجلان وتربط في العنق، وهو حقيقة أيضا منعا لهم من أذى المؤمنين ولا يشكل بوقوع المعاصي في رمضان كغيره؛ لأنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه وهو المغلول بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما في الترمذي: صفدت الشياطين مردة الجن والقصد تقليل الشر فيه، وهو أمر محسوس، فإن وقوعه فيه أقل من غيره بكثير أو لا يلزم من غل الشياطين أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية وقيل غير ذلك. "فيه ليلة خير من ألف شهر" ليس فيها ليلة قدر "من حرمها" أي: العمل الصالح فيها "فقد حرم الخير الكثير". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". رواه الطبراني وغيره من   قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان" قال القمولي في الجواهر: لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس، لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ أبي الحسن المقدسي: أن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه أنه مباح لا سنة ولا بدعة. انتهى. وأجاب الحافظ بعد اطلاعه على ذلك بأنها مشروعة، فقد عقد البيهقي بذلك بابا، فقال: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد تقبل الله منا ومنك، وساق ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة، لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة بما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته عن تخلفه عن غزوة تبوك، قال: فانطلقت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون: تهنيك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو يشرق وجهه من البشر: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، وللحافظ السيوطي وريقات سماها وصول الأمان بأصول التهاني، قال في أولها: طال السؤال عما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد والعام والشهور والولايات ونحو ذلك هل له أصل في السنة، فجمعت هذا الجزء في ذلك. "وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: "اللهم بارك لنا في رجب". قال المصباح: رجب من الشهور مصروف، وفي حواشي الكشاف للتفتازاني: أن رجبا وصفرا إذا أريدا من سنة بعينها منعا الصرف، أي: للعلمية والعدل عن الرجب والصفر وإلا فهما مصروفان، والظاهر من قوله: "بارك لنا رجب"، أن المراد به الشهر الذي هو فيه "وشعبان" ويستحب صومهما "وبلغنا رمضان". قال ابن رجب: فيه ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا "رواه الطبراني وغيره" كأبي نعيم والبيهقي وابن عساكر "من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 حديث أنس. وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلال رمضان قال: "هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك"، رواه النسائي من حديث أنس. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا دخل شهر رمضان: "اللهم سلمني من رمضان، وسلم رمضان لي، وسلمه مني". أي: سلمني منه حتى لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صومه من مرض أو غيره. وسلمه لي: حتى لا يغم هلاله علي في أوله وآخره، فيلتبس علي الصوم والفطر، وسلمه مني: أن تعصمني من المعاصي فيه. وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته. الفصل الثاني: في صيامه عليه السلام برؤية الهلال عن عائشة كان -صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم   حديث أنس" وضعفه البيهقي وغيره، وخطئ من قال: لم يصح في فضل رجب غيره. "وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلال رمضان قال: "هلال" بالنصب بتقدير اللهم اجعله هلال "رشد" أي: هاد إلى القيام بعبادة الحق يحدث عن ميقات الصوت والحج وغيرهما {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} "وخير" أي: بركة "هلال رشد وخير" بالتكرار "آمنت بالذي خلقك"؛ لأن أهل الجاهلية كان فيهم من يعبد القمر، فنبه بهذا على أنه مخلوق مسخر لأهل الأرض لا تصح عبادته "رواه النسائي من حديث أنس". وفي حديث أبي سعيد عن ابن السني أنه كان يقول ذلك لا يفيد هلال رمضان، ولفظه: كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك" ثلاثا، ثم يقول: "الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا". "وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا دخل شهر رمضان: "اللهم سلمني من رمضان وسلم رمضان لي وسلمه مني"، أي: سلمني مه حتى لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صومه من مرض أو غيره" تفسير للجملة الأولى "وسلمه لي حتى لا يغم" بالبناء للمفعول، أي: لا يحجب "هلاله علي" بغيم ولا غيره "في أوله وآخره فيلتبس علي الصوم والفطر، وسلمه مني بأن تعصمني من المعاصي فيه، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته" إذ هو معصوم أبدا. "الفصل الثاني: في صيامه عليه السلام برؤية الهلال، عن عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يتحفظ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 لرؤية رمضان، فإذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام. رواه أبو داود. وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له". رواه مسلم. وقوله: "فإن غم عليكم" أي: حال بينكم وبينه غيم. "فاقدروا له" من التقدير، أي: قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما، ويؤيده قوله في الرواية السابقة: "فإن غم عليه -صلى الله عليه وسلم- عد ثلاثين" وهو مفسر لـ "اقدروا له" ولهذا لم يجتمعا في رواية. ويؤيده رواية "فاقدروا له ثلاثين". قال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله عليه السلام: "اقدروا" له على أن   من شعبان" أي: يجتهد في الوصول إلى العلم بهلاله خشية عدم العلم برؤيته فيؤدي إلى الشك في هلال رمضان، ومن للتعليل والمعنى يتكلف من أجل هلال شعبان "ما لا يتحفظ من غيره لم يصوم لرؤية رمضان، فإذا غم" بضم الغين وشد الميم، أي: ستر "عليه" بسحاب أو غيره "عد ثلاثين يوما" من رؤية هلال شعبان "ثم صام، رواه أبو دود وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه" أي: الهلال ليلة الثلاثين من شعبان "فصوموا" أي: انووا الصيام، أو صوموا إذا دخل وقته وهو من فجر الغد، فالتعقيب في كل شيء بحسبه "وإذا رأيتموه" ليلة الثلاثين من رمضان "فأفطروا" من الغد وليس المراد إباحة الإفطار ليلا؛ لأنه لا يتوقف على رؤية الهلال "فإن غم عليكم" في الليلتين، أي: غطي بغيم أو غيره من غممت الشيء غطيته، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أن يسند إلى الجار والمجرور، يعني: إن كنتم مغموما عليكم وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه "فاقدروا له" بضم الدال وكسرها كما في المطالع وغيرها، وأنكر المطرزي الضم وليست حقيقة الرؤية شرطا لازما للاتفاق على أن المحبوس في مطمورة إذا علم كمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه، قاله ابن دقيق العيد: "رواه مسلم" من حديث ابن عمر بهذا اللفظ من جملة ألفاظ وهو فيه، وفي البخاري بنحوه. "وقوله: "فإن غم عليكم، أي: حال بينكم وبينه غيم" أو غيره من غممت الشيء إذا غطيته "فاقدروا له من التقدير، أي: قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما، ويؤيده قوله في الرواية السابقة، فإن غم عليه -صلى الله عليه وسلم- عد ثلاثين" يوما، وكذا جاء في بعض طرق حديث ابن عمر نفسه عند البخاري، بلفظ في: "كملوا العدة ثلاثين" "وهو مفسر لـ "اقدروا له"؛ لأن أولى ما فسر الحديث بالحديث "ولهذا" أي: كونه تفسيرا له "لم يجتمعا في رواية" واحدة "ويؤيده رواية" لمسلم عن ابن عمر نفسه: "فاقدروا له ثلاثين" أي: أكملوا له ثلاثين يوما. "قال المازري" في شرح مسلم: "حمل جمهور الفقهاء قوله عليه السلام: "اقدروا له الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى. وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة، وجمهور السلف والخلف. وفيه دليل: أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم. وقال الإمام أحمد بن حنبل في طائف: أي اقدروا له تحت السحاب، فيجوزون صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه. وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل.   على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فسره في حديث آخر" كحديث عائشة المذكور وبعض طرق حديث ابن عمر كما رأيت، وحديث أبي هريرة: "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما". وفي رواية: "فعدوا ثلاثين"، رواهما مسلم، وله وللبخاري عن أبي هريرة: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". "قالوا": ليس المراد التبري، بل أراد أن هذا التوجيه للجمهور، أي: أنهم قالوا في بيان وجه ما حملوا عليه الحديث "ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى" كلام المازري، وزاد: ولا حجة لهم في قوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ؛ لأنها محمولة عند الجمهور على الاهتداء في السير في البر والبحر "وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور السلف والخلف، وفيه دليل أنه لا يجوز صوم يوم الشك" هو ما يتحدث الناس أنه من رمضان ولم ير أو شهد به من لا تقبل شهادته "ولا يوم الثلاثين" وإن لم يقع شك بالمعنى المذكور "من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم؛" لأنها من شعبان بنص الحديث، لذا عيب على من فسر الشك بذلك، ويصام يوم الشك عادة وتطوعا ولنذر وقضاء وكفارة. "وقال الإمام أحمد بن حنبل في" أي: مع "طائفة أي: اقدروا له" أي افرضوه موجودا "تحت السحاب، فيجوزون صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه، وقال" أبو العباس "بن سريج" من الشافعية "وجماعة منهم مطرف بن عبد الله" من التابعين "وابن قتيبة" من المحدثين "وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل" لكن المصنف في عهدة قوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 الفصل الثالث: في صومه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه ابن حبان. وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدا   وآخرون، وقوله قبله وجماعة منهم، فإن الحافظ بعدما عزاه لهؤلاء الثلاثة فقط، قال: قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا. انتهى، فهو ظاهر في قصر التفسير بذلك على الثلاثة المذكورين، ولذا نقله الباجي عن الداودي، قال: لا يعلم أحد قاله إلا بعض الشافعية، يعني ابن سريج، قال: والإجماع حجة عليه، وسبقه إلى حكاية الإجماع ابن المنذر، فقال: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، ونقل ابن العربي عن ابن سريج؛ أن قوله: فاقدروا له، خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم، وأن قوله: فأكملوا العدة، خطاب للعامة. قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحسب العدد، وهذا بعيد عن النبلاء، انتهى، بل هو تحكم محجوج بالإجماع. وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه. انتهى، ونقل ابن الروياني عنه أنه لم يقل بوجوبه بل بجوازه. الله تعالى أعلم. "الفصل الثالث: في صومه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد" أي: عدل الشهادة، إذ هو المراد عند الإطلاق، فلا يكفي عبد ولا امرأة ونحوهما. "عن ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال" أي: نظروا إليه فلم يروه ورأيته أنا "فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه ابن حبان". قال المصنف: والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط في الصوم، وهذا أصح قولي الشافعي. قال البغوي وغيره: ويجب الصوم أيضا على من أخبره موثوق بالرؤية، وإن لم يذكر عند القاضي "وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله"، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 "رسول الله"، قال: نعم، قال: "يا بلال، أذن في الناس فليصوموا"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي. والمراد في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "إذا رأيتموه" رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدل على الأصح في مذهبنا. وهذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوزه بعدل. قال الأسنوي: إذا قلنا بالعدل الواحد في الصوم فلا خلاف أنه لا يتعدى إلى غيره، فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان، ولا يحل به الدين المؤجل، لا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعي هنا نقلا عن البغوي، وأقره وتبعه عليه في الروضة. وصورته: فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق فإن الطلاق والعتق يقعان. كذا نقله القاضي حسين في تعليقه عن ابن سريج وقال الرافعي: في الباب   قال: نعم، قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي" وجواب من لم يقل بعدل واحد عن هذين الحديثين؛ أنه يحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- علم ذلك فحكم بعلمه وهو من خصائصه، فسقط بها الاستدلال ورجع إلى المعلوم أن الشهادة إنما تكون بعدلين. "والمراد في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "إذا رأيتموه" رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدل على الأصح في مذهبنا" ورؤية عدلين عند غيرهم "وهذا" الخلاف محله "في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور" بمثلثة "فيجوز" أي: يثبت "بعدل عنده". "قال الأسنوي: إذا قلنا بالعدل الواحد في الصوم فلا خلاف أنه لا يتعدى إلى غيره" أي: الصيام لغير الرائي، أما هو فيثبت في حقه جميع الأحكام "فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان ولا يحل به الدين المؤجل ولا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعي هنا نقلا عن البغوي، وأقره وتبعه عليه في الروضة، وصورته فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق، فإن الطلاق والعتق يقعان، كذا نقله القاضي حسين في تعليقه عن ابن سريج، وقال الرافعي في الباب الثاني من كتاب الشهادات أنه القياس. ا. هـ". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 الثاني من كتاب الشهادات: إنه القياس. انتهى. الفصل الرابع: فيما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. واعلم أن الجمهور على عدم الفطر بالحجامة مطلقا. وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء. وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا. وقال بقول أحمد، ومن الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان. ونقل الترمذي عن الزعفراني: أن الشافعي علق القول به على صحة   "الفصل الرابع: فيما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم" من أمور قد يتوهم خدشها للصوم، كالحجامة والقبلة والإصباح بجنابة والسواك. "عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم" وذلك في حجة الوداع، كما في بعض طرقه "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي" بطرق متعددة. "واعلم أن الجمهور على عدم الفطر بالحجامة مطلقا"، أي: للحاجم والمحجوم؛ لأنها إخراج، وقد قال ابن عباس: الفطر مما دخل وليس مما خرج وحمل على الغالب؛ لأنه تعمد إخراج المني يفطر. "وعن علي" أمير المؤمنين "وعطاء" بن أبي رباح "والأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو "وأحمد" بن حنبل "وإسحاق" بن راهويه "وأبي ثور" إبراهيم بن خالد الفقيه: "يفطر الحاجم والمحجوم وأوجبوا عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا، وقال بقول أحمد ومن وافقه من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان". "ونقل الترمذي عن الزعفراني" نسبة إلى قرية الزعفرانية بقرب بغداد الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الفقيه الإمام في اللغة قال في التقريب: صدوق فاضل تكلم فيه أحمد لمسألة اللفظ، مات سنة خمس أو ثمان وأربعين ومائتين. ا. هـ، وفي التهذيب: مات في رمضان، وفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 الحديث. قال الترمذي: وكان الشافعي يقول ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة. انتهى. وقال الشافعي في "اختلاف الحديث" بعد أن أخرج حديث شداد "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان. فقال -وهو آخذ بيدي: "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم ساق حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم ثم قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلي احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس. والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. انتهى. وأول بعضهم حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" على أن المراد به أنهما   الوفيات في شعبان سنة ستين، وقال ابن السمعاني: سنة تسع وأربعين ومائتين. "أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، قال الترمذي: وكان الشافعي يقول ذلك ببغداد" وهو ما نقله عنه الزعفراني أثبت رواة القديم "وأما بمصر فمال إلى الرخصة" أي: جواز الاحتجام للصائم وأنه لا يفطر. "انتهى. وقال الشافعي في" كتاب "اختلاف الحديث: بعد أن أخرج حديث شداد" بن أوس، قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمان الفتح" لمكة "فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة" بفتح النون بدون ياء، أما معها فبإسكان الياء وفتحها "خلت من "رمضان، فقال" صلى الله عليه وسلم: "وهو آخذ بيدي" أي: بيدي شداد "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم ساق" الشافعي "حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم، ثم قال" الشافعي: "وحديث ابن عباس أمثلهما" أي: أصحهما "إسنادا؛" لأنه متفق عليه بخلاف حديث شداد ففيه كلام طويل "فإن توقى أحد" لم يقع في الفتح لفظ أحد "الحجامة: كان أحب إلي احتياطا" لئلا تضعفه فيلجأ إلى الفطر. "والقياس مع حديث ابن عباس" أي: موافق؛ ولأنها إخراج وللإجماع على أن رجلا لو أطعم رجلا طائعا أو مكرها لم يفطر الفاعل "والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. ا. هـ" فإن احتجم وسلم فلا إثم ولا قضاء عليه. وفي البخاري: أن ثابتا سأل أنسا: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟، قال: لا إلا من أجل الضعف، وفيه أن ابن عمر كان يحتجم وهو صائم، ثم تركه وكان يحتجم بالليل، أي: لما أسن خيفة الضعف وكان كثير الاحتياط، وجزم ابن عبد البر بأن حديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ؛ لأنه في فتح مكة بحديث ابن عباس؛ لأنه في حجة الوداع ولم يدرك بعد ذلك رمضان معه -صلى الله عليه وسلم- لوفاته في ربيع الأول، وسبقه لذلك الشافعي، كما رواه عنه البيهقي "وأول بعضهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 سيفطران، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، أي ما يؤول إليه. ولا يخفى بعد هذا التأويل. وقال البغوي في "شرح السنة" معناه: أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر. وقيل: معنى أفطرا: فعلا فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة. وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد "أرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجامة للصائم" وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ   حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" على أن المراد به أنهما سيفطران، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي ما يؤول إليه ولا يخفى بعد هذا التأويل". لأنه لا يلزم وصول الدم ولا ضعف القوة أبدًا. "وقال البغوي في شرح السنة معناه، أي: تعرضا للإفطار، أما الحاجم؛ فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر" والفارق بين هذا وسابقه أنه قطع بأن مآل أمرهما الفطر والبغوي لم يقطع، بل قال: تعرضا ولا يلزم من التعرض الوقوع. "وقيل: معنى أفطرا فعلا فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة" أي: الصيام. وقال ابن عبد البر: معناه ذهب أجرهما لما علمه -صلى الله عليه وسلم- من ذكر كخير من لغا يوم الجمعة فلا صلاة له، أي: ذهب أجر جمعته، وقد قيل: إنهما كانا مغتابين أو قاذفين فبطل أجرهما لا حكم صومهما. ا. هـ. "وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والحجوم" بلا ريب" فقد رواه النسائي والبيهقي بطرق عن الحسن عن أبي هريرة، وثوبان ومعقل بن يسار وعلي وأسامة والترمذي عن رافع بن خديج، وأبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون عن شداد بن أوس وثوبان، قال أحمد: والبخاري عن ثوبان أصح وصححه ابن راهويه عن شداد وصححهما معا ابن المديني، وفي بعض أسانيدهم مقال لكن باجتماع طرقه وتعدد مخارجه يرتقي إلى الصحة. "لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجامة للصائم وإسناده صحيح فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة" غالبا ليخرج المسلم فإنه أبيح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 الفطر بالحجامة، سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى. والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني، ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس عند الدارقطني ولفظه: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أفطر هذان"، ثم أرخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم". ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك. ومن أحسن ما ورد في ذلك، ما رواه عبد الرزاق وأبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه.   بدون تحريم سابق "فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما. ا. هـ" وسبقه إلى القول بالنسخ شيخه ابن عبد البر وسبقهما الشافعي كما مر. "والحديث المذكور" أي: حديث أبي سعيد "أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس عند الدارقطني، ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم" بالبناء للمفعول لرواية البخاري: أن ثابتا سأل أنسا: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ "إن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "أفطر هذان" جعفر والذي حجمه "ثم أرخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد" بضم الدال "في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم، ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح" لمكة "وجعفر كان قتل" شهيدا "قبل ذلك" في غزوة مؤتة، وقد تدفع النكارة بأنه لم يصرح في حديث أنس هذا بأنه كان في الفتح، فيحمل على أنه رآه قبله فقال ذل، وقاله أيضا بعده في الفتح كا سبق في حديث شداد. "ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبو داود" من طريق عبد الرحمن بن عابس "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري المدني، ثم الكوفي "عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وعن المواصلة" للصائم "ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه" مفعول لأجله متعلق بنهي، أي: خوفا عليهم متعلق بلم يحرمهما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 وإسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر، ورواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بلفظ: عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف، أي لئلا يضعف. انتهى ملخصا من فتح الباري. والله أعلم. وقالت عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. قالت: وكان أملككم لإربه أي لحاجته، نعني أنه كان غالبا هواه. قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمز والراء، يعنون به الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان: أحدهما أن الحاجة يقال فيها؛ الأرب، والإرب، والإربة والمأربة، والثاني: أرادت به العضو، وعنت به من   "وإسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر؛" لأنهم كلهم عدول "ورواه ابن أبي شيبة عن" شيخه "وكيع" بن الجراح "عن الثوري" سفيان بن سعيد، أي: عن ابن عابس عن ابن أبي ليلى "بلفظ: عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم" أنهم "قالوا: إنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف، أي: لئلا يضعف" لا لذاتها. "ا. هـ. ملخصا من فتح الباري. والله أعلم". "وقالت عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض أزواجه" عائشة نفسها كما في مسلم عنها: كان يقبلني وهو صائم، أو حفصة كما في مسلم أيضا، أو أم سلمة كما في البخاري، لكن الظاهر أن كلا منهن إنما أخبرت عن فعله معها "وهو صائم" جملة حالية "ثم ضحكت" تنبيها على أنها صاحبة القصة أو لغير ذلك كما يأتي "رواه البخاري" من طريق مالك ويحيى القطان "ومسلم" من طريق سفيان "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" من طريق مالك وهو والقطان، وسفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، و"قالت" كما في الصحيحين وغيرهما أيضا من طرق عنها أنها كانت إذا ذكرت أنه -صلى الله عليه وسلم- يقبل هو صائم تقول: "وكان أملككم لإربه، أي: لحاجته، نعني" عائشة "أنه كان غالبا هواه" فيملك نفسه، ويأمن من الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفس بخلافكم فلا تأمنون ذلك، فاللائق لكم الاحتراز عن القبلة والمباشرة. "قال ابن الأثير" في النهاية: "أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمزة والراء، يعنون به الحاجة" وقدمه الحافظ وقال: إنه الأشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري "وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء" وعزاه الخطابي وعياض لرواية الأكثر، قال النووي: وهو الأشهر. "وله تأويلان: أحدهما أنه الحاجة" فهما بمعنى "يقال فيها الأرب" بفتحتين "والإرب" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 الأعضاء الذكر خاصة. انتهى. ومذهب الشافعي رحمه الله والأصحاب: أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا. وقوله: "فضحكت" قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالفها في هذا، وقيل: تعجبت من نفسها، أن حدثت بمثل هذا مما يستحيا من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ في الثقة بها، أو سرورا بمكانتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبته لها.   بكسر فسكون "والإربة والمأربة" كل ذلك بمعنى، وفسر الترمذي أربه بنفسه لرواية الموطأ: وأيكم أملك لنفسه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ العراقي: وهو أولى بالصواب؛ لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث، "والثاني: أردت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة. ا. هـ". قال التوربشتي: لكن حمل الحديث عليه غير سديد لا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب، ورده الطيبي بأنها ذكرت أنواع الشهوة مرتقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة ثم ثنت بالمباشرة من نحو المداعبة والمعانقة، وأرادت أن تعبر عن المجامعة فسكنت عنها بالأرب، وأي عبارة أحسن من هذا. "ومذهب الشافعي رحمه الله والأصحاب أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته" بانتصاب الذكر مع أمن الإنزال "لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته" بأن خاف الإنزال "فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا" وكذا عند غيرهم. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا رخص فيها إلا وهو يشترط السلامة مما تولد منها، ومن علم أنه يتولد منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها. ا. هـ. "وقوله: فضحكت" المتقدم، والرواية: ثم ضحكت "قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالفها في هذا" مع أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله "وقيل: تعجبت من نفسها إن حدثت بمثل هذا مما يستحيا من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتا الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك" حذرا من كتمه "وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك"، والخجل غير التعجب "أو" ضحكت "تنبيها" للسامع "على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ في الثقة بها، أو" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام عن عروة في هذا الحديث: فضحكت فظننا أنها هي. وروى النسائي عنها قالت: أهوى إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال: "وأنا صائم" فقبلني. وقد روى أبو داود عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها ويمص لسانها، يعني وهو صائم. إسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبلع ريقه الذي خالط ريقها. وكان عليه الصلاة والسلام يكتحل بالإثمد وهو صائم. رواه البيهقي من رواية محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده. ثم قال البيهقي: إن محمدا هذا ليس بالقوي، ووثقه الحاكم وأخرج له في مستدركه. وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا حلم، ثم لا يفطر ولا   ضحكت "سرورا بمكانتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبته لهها" وملاطفته لها. "وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام عن" أبيه "عروة في هذا الحديث: فضحكت فظننا أنها هي" قائل ذلك عروة راوي الحديث عنها. وروى النسائي عنها، قالت: أهوى إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال: "وأنا صائم"، فقبلني" وقد أخذ الظاهر به بظواهر هذه الأحاديث فجعلوا القبلة للصائم سنة، وقربة اقتداء بفعله -صلى الله عليه وسلم، ورد بأنه كان يملك نفسه فليس غيره مثله. "وقد روى أبو داود عن عائشة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها ويمص لسانها" بضم الميم وفتحها "يعني وهو صائم وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبلع ريقه الذي خالط ريقها" لئلا يفطر، "وكان عليه الصلاة والسلام يكتحل بالإثمد" بكسر الهمزة والميم بينهما مثلثة ساكنة "وهو صائم"، ولذا جوزه الشافعي، ولو وجد طعم الكمل في حلقه ومنعه مالك وأحمد لضعف الحديث. "رواه البيهقي" والطبراني، كلاهما "من رواية" حبان بن علي عن أبيه "محمد بن عبد اله بن أبي رافع، عن أبيه" عبد الله "عن جده" أبي رافع "ثم قال البيهقي: إن محمدا هذا ليس بالقوي" وكذا ابنه حبان، قاله الذهبي "ووثقه الحاكم وأخرج له في مستدركه" من تساهله المعلوم، فقد قال البخاري وأبو حاتم: محمد منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس محمد بشيء ولا ابنه، ونقل في الميزان تضعيف هذا الحديث عن جمع، وقال في الفتح في سنده مقال، وفي تخريج الهداية سنده ضعيف، وقال أبو حاتم: حديث منكر. "وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا حلم" بضم الحاء وسكون اللام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 يقضي. رواه البخاري ومسلم. قال القرطبي: في هذا الحديث فائدتان، إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز، الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال غيره في قولها: "من غير الاحتلام" إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان لاستثنائه معنى. ورد: بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وأجيب: بأن الاحتلام يقع على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام. وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر. انتهى. وقال عامر بن ربيعة: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصي. رواه   لامتناعه منه، زاد في رواية: في رمضان، أي: وأولى في غيره "ثم لا يفطر" ذلك اليوم الذي يصبح فيه جنبا بل يغتسل ويصومه "ولا يقضي، رواه البخاري ومسلم" واللفظ له، وروياه من طرق عن أم سلمة وعائشة معا بنحوه وفيه قصة. "قال القرطبي" في المفهم: "في هذا الحديث فائدتان": "إحدهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز" وإن كان الأفضل الاغتسال قبل الفجر. "الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه" وهذا هو الأشهر "وقال غيره في قولها" في الرواية التي لم يسق المصنف لفظها: "من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان لاستثنائه معنى؛" لأنه لو لم يدخل فيما قبله ما صح إخراجه، وأجيب عن هذا بأنها صفة لازمة، والمعنى يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه، ويدل عليه رواية لا حلم وهو قرب من قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] ، ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق. "ورد" على قائل أن فيه دليلا على جواز ذلك "بأن الاحتلام من" تلاعب "الشيطان وهو معصوم منه، وأجيب بن الاحتلام يقع على الإنزال وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام" بل بكثرة امتلاء الجسد بالماء ونحو ذلك. "وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدًا يفطر. ا. هـ" وهو أبو هريرة، ثم رجع لما بلغه حديث عائشة وأم سلمة. "وقال عامر بن ربيعة" بن كعب بن مالك العنزي بسكون النون حليف آل الخطاب، أسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 أبو داود والترمذي. الفصل الخامس: في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: "يا بلال انزل فاجدح لنا" قال: يا رسول الله، إن   قديما وهاجر وشهد بدرا، مات ليالي قتل عثمان: "رأيته -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم يستاك ما لا أعد ولا أحصي، رواه أبو داود والترمذي" وبه وبنحوه كحديث: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، ولم يخص صائما من غيره. احتج من قال: بجواز السواك للصائم بعد الزوال، ورجحه النووي في شرح المهذب خلافا لمن كرهه تعلقا بحديث: لخلوف فم الصائم، وأجيب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية، غايته أنه يخف بالسواك. قال ابن دقيق العيد: يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم عند كل صلاة، وفي رواية: عند كل وضوء، وحديث الخلوف لا يخصصه. انتهى. "الفصل الخامس: في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام، عن عبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة واسمه علقمة ولهما صحبة "قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في شهر رمضان" لفتح مكة؛ لأنه إنما سافر في رمضان فيه وفي غزوة بدر، وابن أبي أوفى لم يشهد بدرًا، فتعين أنه سفر، الفتح قاله الحافظ: "فلما غابت الشمس" وفي رواية للشيخين: فلما غربت وهي تفيد معنى أزيد من معنى غابت، قاله الحافظ، أي: لأن غابت يحتمل أن غيبتها بسبب غيم يمنع رؤيتها "قال: "يا بلال" كذا في النسخ والذي في الصيحين: "يا فلان". قال الحافظ: لم يسم المأمور بذلك، وقد أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فسماه، ولفظه: فقال: "يا بلال"، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد بن زياد شيخ مسدد فيه، فاتفقت رواياتهم على قوله: "يا فلان"، فلعلها تصحيف، ولعل هذا سر حذف البخاري لها. وفي حديث عمر عند ابن خزيمة قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أقبل الليل ... " إلخ، فيحتمل أن المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحد، فلما كان عمر هو المقول له "إذا أقبل الليل" احتمل أنه المقول له، لكن يؤيد أنه بلال رواية أحمد، فدعا صاحب شرابه، فإن بلالا هو المعروف بخدمته -صلى الله عليه وسلم. انتهى. واعتذر شيخنا عن المصنف، فقال: لعل حكمة جزمه بقوله قال: "يا بلال"، التعويل على قوله: فدعا صاحب شرابه. انتهى، وهو اعتذار بارد؛ لأنه عزاه للشيخين وليس عندهما ولا عند الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 عليك نهارا، قال: "انزل فاجدح لنا"، قال: فنزل فجدح فأتى به فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال بيده: "إذا غابت الشمس من ههنا، وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم" رواه البخاري ومسلم. والجدح -بجيم ثم حاء مهملة- خلط الشيء بغيره. والمراد: خلط السويق   أحدهما "يا بلال" "انزل فاجدح لنا" بهمزة وصل وسكون الجيم وفتح الدال وبحاء مهملتين، أي: اخلط السويق بالماء أو اللبن بالماء لنفطر عليه، هكذا ضبطه الحافظ وغيره، فهو الرواية وإن جاز لغة فتح الهمزة وكسر الدال من أجدح. "قال: يا رسول الله إن عليك نهارًا" وفي رواية: الشمس، أي: باقية، أو انظر الشمس، وفي رواية أخرى: لو أمسيت "قال: "انزل فاجدح لنا" زاد في رواية للشيخين: قال: "لو أمسيت"، وفي أخرى: "الشمس". قال الحافظ: يحتمل أنه رأى كثرة الضوء من شدة الصحو، فظن أن الشمس لم تغرب وأنه غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروبها. قال الزين ابن المنير: يؤخذ منه جواز الاستفسار عن الظواهر لاحتمال أن لا يكون المراد ظاهرها، وكأنه أخذ ذلك من تقريره -صلى الله عليه وسلم- الصحابي على ترك المبادرة إلى الامتثال، وفيه تذكير العالم بما يخشى أنه نسيه وترك المراجعة له بعد ثلاث، وقد اختلفت الروايات في ذلك، فأكثرها أنها وقعت ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها مرة واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة، ومن ذكر الثلاث حافظ فزيادته مقبولة. "قال" ابن أبي أوفى: "فنزل" فلان "فجدح فأتى" في رواية فأتاه "به" أي: بما جدحه "فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم" منه "ثم قال:" أي: أشار "بيده" قائلا: "إذا غابت الشمس من ههنا" من جهة المغرب "وجاء الليل من ههنا" أي: من جهة المشرق، والمراد به وجود الظلمة الحسية وغيبوبة الشمس ومجيء الليل متلازمان وجمع بينهما؛ لأنهما قد يكونان في الظاهر غير متلازمين لاحتمال أنها لم تغب، بل استترت بشيء "فقد أفطر الصائم" أي: دخل وقت فطره أو صار مفطرا حكما؛ لأن الليل ليس ظرفا للصوم الشرعي، وفي رواية: فقد حصل الإفطار وهي تؤيد التفسير الأول، ورجحه ابن خزيمة وعلله بأن قوله: "فقد أفطر الصائم" خبر ومعناه الإنشاء، أي: فليفطر الصائم، قال: ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جميع الصوام واحدا، ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، إلا أن لفظ في شهر رمضان إنما وقع في رواية لمسلم، وباقي الروايات عنده كالبخاري ليس فيه ذلك. "والجدح بجيم" أوله "ثم حاء مهملة" آخره "خلط الشيء بغيره، والمراد خلط الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 بالماء وتحريكه حتى يستوي. ومعنى الحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صياما، فلما غربت الشمس أمره -صلى الله عليه وسلم- بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي تبقى معه بعد غروب الشمس، وظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرهما، فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا، لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى: "لو أمسيت" وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم الأكل فيه، مع تجويزه أنه عليه السلام لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء قاله النووي. والله أعلم. الفصل السادس: فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يجد رطبات   السويق" القمح، أو الشعير المقلو المطحون "بالماء وتحريكه حتى يستوي" زاد في شرحه للبخاري أو اللبن بالماء، وقول الداودي: معناه أحلب رده عياض. "ومعنى الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صياما فلا غربت الشمس أمره عليه السلام بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي تبقى معه بعد غروب الشمس، وظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرهما" أي: الضياء والحمرة "فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى" عند الشيخين "لو أمسيت" أي: لو أخرت إلى وقت المساء لكنت متمما للصوم، فحذف جواب لو الشرطية، أو هي للتمني فلا جواب لها "وتكريره المراجعة" ثلاث مرات "لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار" وفي نسخ على أنه كان نهارا "يحرم الأكل فيه مع تجويزه أنه ليه السلام لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء، قاله النووي" في شرح مسلم، زاد غيره: أو كان هناك غيم فلم يتحقق الغروب، إذ لو تحققه ما توقف؛ لأنه حينئذ يكون معاندا، وإنما توقفه احتياطا واستكشافا عن حكم المسألة. "والله أعلم". "الفصل السادس: فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه، عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر" إذا كان صائما "قبل أن يصلي" المغرب "على رطبات، فإن لم يجد رطبات فتمرات" أي: فعلى تمرات "فإن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 فتمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء. رواه أبو داود. وإنما خص عليه السلام الفطر بما ذكر؛ لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به، لا سيما قوة البصر. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده. قاله ابن القيم. الفصل السابع: فيما كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار عن معاذ بن زهرة: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر قال: "اللهم لك   لم يجد تمرات حسا حسوات" بحاء وسين مهملتين: جمع حسوة بالفتح المرة من الشرب "من ماء" ولو قراحا، وقد ترجم البخاري باب يفطر بما تيسر له من الماء وغيره، ولبعض رواته بالماء، وأورد فيه حديث الجدح لاشتماله على الماء وغيره، فإن لم يكن غلا الماء أفطر عليه، ففي الترمذي وغيره صحيحا مرفوعا: إذا كان أحدكم صائما فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإنه طهور والأمر للندب عند الكاف، وشد ابن حزم فحمله على الوجوب "رواه أبو داود" والترمذي وحسنه والنسائي وصححه الحاكم، وصريحه تقديم الرطب على التمر وهو على الماء، والقصد بذلك كما قال المحب الطبري أن لا يدخل جوفه أولا ما مسته نار، ويحتمل أن يريد هذا مع قليل الحلاوة تناولا "وإنما خص عليه السلام الفطر بما ذكر؛ لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع الوقى به لاسيما قوة البصر؛" لأن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا يجد الكبد فيها ما يجذبه ويرسله إلى القوى والأعضاء فتضعف، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد وأحبه إليها سيما الرطب، فيشتد قبولها فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته "وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده، قاله ابن القيم؛" لأن الماء يطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم فتتنبه بعده للطعام وتتلقاه بشهوة. "الفصل السابع: فيما كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار: عن معاذ بن زهرة" ويقال فيه: معاذ أبو زهرة، قال: "بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر" من صومه "قال" عند فطره: "اللهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 "صمت، وعلى رزقك أفطرت". وهو حديث مرسل، ومعاذ هذا ذكره البخاري في التابعين لكن قال: معاذ أبو زهرة -وتبعه ابن أبي حاتم وابن حبان- في الثقات. وذكره يحيى بن يونس الشيرازي في الصحابة، وغلطه جعفر المستغفري. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث موصولا، ولو كان معاذ تابعيا، لاحتمال أن يكون الذي بلغه له صحابيا. قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في السنن، وبالاعتبار الآخر أورده في المراسيل. وخرج ابن السني والطبراني في المعجم الكبير، بسند واه جدا عن ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم".   لك صمت وعلى رزقك أفطرت". قال الطيبي: قدم الجار والمجرور فيهما على العامل دلالة على الاختصاص وإظهارا للاختصاص في الافتتاح وإبداء الشكر المختص به في الاختتام "وهو حديث مرسل ومعاذ، هذا ذكره البخاري في التابعين" ناقلا عن يحيى بن معين أن حديثه مرسل "لكن قال معاذ أبو زهرة" وهو هو "وتبعه ابن أبي حاتم وابن حبان في الثقات" فذكراه في التابعين "وذكره يحيى بن يونس الشيرازي في الصحابة وغلطه جعفر المستغفري" في تأليفه في الصحابة، وقد ذكره البغوي فيهم، لكنه قال: لا أدري له صحبة أو لا. "قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث" المذكور "موصولا ولو كان معاذ تابعيا، لاحتمال أن يكون الذي بلغه له صحابيا، قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في السنن، وبالاعتبار الآخر" وهو أنه تابعي مع احتمال أن الذي بلغه ليس بصاحبي "أورده" أبو داود "في" كتاب "المراسيل" وقد ذكره في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا وجزم بأنه تابعي، وكذا جزم في تقريبه وقال: إنه مقبول من الثالثة، أي: أواسط التابعين. "وخرج ابن السني" بضم المهملة وشد النون "والطبراني في المعجم الكبير" والدارقطني، كلهم "بسند واه" الأكثر فيه حذف الياء ومع ذلك يقرأ بالتنوين ويحذف الياء لفظا لالتقاء الساكنين "جدا" أي: شديد الضعف من وهي الحائط إذا مال للسقوط. "عن ابن عباس" قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "اللهم لك" لا لغيرك "صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل مني" في رواية الدارقطني: "أفطرنا فتقبل منا" "إنك أنت السميع" لدعائي "العليم" بإخلاصي، قبل: لعله كان يفرد إذا أفطر وحده ويجمع إذا أفطر مع غيره، وهذا لو صح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 وعن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "ذهب الطمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". رواه أبو داود. وزاد رزين: "الحمد لله" في أول الحديث. وفي كتاب ابن السني، عن معاذ بن زهرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت". الفصل الثامن: في وصاله -صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني   كان شاهدا لحديث ابن زهرة الذي قبله. "وعن ابن عمر" بن الخطاب قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ" مهموز الآخر مقصور العطش، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] ، وإنما ذكرته وإن كان ظاهرا؛ لأني رأيت من اشتبه علي فتوهمه ممدودا، قاله في الأذكار "وابتلت العروق" لم يقل: وذهب الجوع، أيضا لأن الحجاز حار فكانوا يصبرون على قلة الطعام لا العطش، وكانوا يتمدحون بقلة الأكل لا بقلة الشرب "وثبت الأجر" تحريض على العبادة، يعني: زال التعب وبقي الأجر "إن شاء الله" ثبوته بأن يقبل الصوم ويتولى جزاءه بنفسه كما وعد أنه لا يخلف الميعاد. وقال الطيبي: قوله: "ثبت الأجر" بعد قوله: "ذهب الظمأ"، استبشار منه؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد اللذة بما أدركه ذكر تلك المشقة ومن ثم كان حمد أهل الجنة في الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن "رواه أبو داود" والنسائي وصححه الحاكم "وزاد رزين" السرقسطي" الحمد الله في أول الحديث" وعهدتها عليه، وينبغي للصائم قول ذلك سواء أفطر على رطب أو تمر أو لحم أو غيرها، إذ لم يقيده في الحديث بما إذا فطر على الماء كذا قيل. "وفي كتاب السني" وكذا شعب البيهقي "عن معاذ بن زهرة" السابق آنفا "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت" فيندب قول ذلك، قال الحافظ: وهذا محقق الإرسال، يعني: أن معاذا تابعي جزم برفعه ولم يقل: بلغني كالسابق. "الفصل الثامن: في وصاله -صلى الله عليه وسلم: عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل" لم يسم القائلون، وفي الصحيحين عن أبي هريرة: فقال رجل من المسلمين، وفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 "لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى". رواه البخاري ومسلم. وللبخاري: أنه -صلى الله عليه وسلم- واصل، فواصل الناس فشق عليهم، فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كهيئتكم، إني أظل أطعم وأسقى". وفي رواية أنس: واصل -صلى الله عليه وسلم- في آخر شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي -أو قال: لست مثلكم- إني أظل يطعمني ربي ويسقيني". وفي رواية: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كأحد منكم، إني   لفظ فقال: رجال بالجمع، وكأن القائل واحد، ونسب إلى الجمع لرضاهم به، وفيه استواء المكلفين في الأحكام وأن كل حكم ثبت له -صلى الله عليه وسلم- ثبت في حق أمته إلا ما استثنى فطلبوا الجمع بين نهيه وبين فعله الدال على الإباحة، فأجابهم باختصاصه به، حيث "قال: "إني لست كهيئتكم" أي: ليس حالي كحالكم، أو لفظ هيئة، زاد: و"المراد لست كأحدكم"، وفي رواية للبخاري: "لست مثلكم"، ولمسلم عن أبي هريرة: "لستم في ذلك مثلي"، أي: لستم على صفتي ومنزلتي من ربي "إني أطعم وأسقى" بضم الهمزة فيهما "رواه البخاري ومسلم" من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر "وللبخاري" من طريق جويرية عن نافع عن ابن عمر "أنه -صلى الله عليه وسلم- واصل" الصوم من غير فطر بالليل، زاد عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند مسلم في رمضان "فواصل الناس" أي: جنس الناس، هكذا الرواية في البخاري، وكذا في مسلم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، فنسخة ناس تحريف "فشق عليهم" الوصال لمشقة الجوع والعطش "فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كهيئتكم إني أظل" بفتح الهمزة والظاء المعجمة المشالة "أطعم وأسقى" بضم الهمزة فيهما مبنيا للمفعول. "وفي رواية أنس" بن مالك قال: "واصل -صلى الله عليه وسلم- في آخر شهر رمضان" على الصواب الموافق لبقية الحديث وهو الذي في البخاري، ووقع في أكثر نسخ مسلم في أول ما يمكن تصحيحها بأنه واصل في أوله يومين وثلاثا وفي آخره كذلك، فحكى الراوي وصاله في أوله وهو لا يدل على أن ناسا تبعوه، لاحتمال أنهم انتظروا وصله ثانيا "فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم" لعجزهم عن ذلك "إنكم لستم مثلي"، أو قال" إني "لست مثلكم" شك الراوي: "إني أظل يطعمني" بضم الياء "ربي ويسقيني" بفتح الياء من سقى وضمها من أسقى. "وفي رواية" عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل" لم يسم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 "أطعم وأسقى". رواه البخاري ومسلم. والمتعمقون: هم المتشددون في الأمر، المجاوزون الحد في قول أو فعل. وفي رواية سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني". وعن عائشة قالت: نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني". رواه البخاري ومسلم إلا أن البخاري قال: "نهى" ولم يقل: نهاهم. وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر   القائلون "قال: "لست كأحد منكم" ولبعض رواة البخاري: كأحدكم "إني أطعم وأسقى"، رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" الأولى في التمني والثانية في الصيام "ومسلم" في الصيام الأولى بلفظها، والثانية بنحوها. "والمتعمقون" هم "المتشددون في الأمر المجاوزون الحد في قول أو فعل" وهو المراد هنا، أي: المواصلون. "وفي رواية سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن" البصري: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فعبر بلفظ: أبيت. "وعن عائشة قالت: نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال رحمة لهم" نصب على التعليل، أي: لأجل الرحمة، "فقالوا: إنك تواصل، فقال: "إني لست كهيئتكم إني يطعمني" بضم أوله "ربي ويسقيني" بفتح أوله وبالياء، كقراءة يعقوب الحضرمي في الآية حالة الوصل والوقف مراعاة للأصل، وللحسن البصري في الوصل فقط مراعاة للأصل والرسم بحذف الياء كالمصحف العثماني في الشعراء، قاله المصنف "رواه البخاري ومسلم" في الصوم "إلا أن البخاري قال: نهى" رسول الله -صلى الله عليه وسلم "ولم يقل: نهاهم" وهو لفظ مسلم والمعنى واحد. "وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم" فرضا ونفلا، أسقط من الحديث في الصحيحين، فقال له رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله، فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" "فلما أبوا" امتنعوا "أن ينتهوا عن الوصال" لظنهم أن النهي للشفقة عليهم لا أنه نهي حقيقي "واصل بهم يومًا ثم يومًا" أي: يومين "ثم رأوا الهلال" لشوَّال "فقال: لو تأخر" الشهر "لزدتكم" في الوصال إلى أن تعجزوا فتسألوا التخفيف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 "لزدتكم. كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"، رواه البخاري. والوصال: هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا من غير أكل وشرب بينهما. قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في معنى قوله "يطعمني ربي ويسقيني". فقيل: هو على حقيقته، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه. وتعقب: بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله: "أظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما. وأجيب: بأن الراجح من الروايات لفظ "أبيت" دون "أظل" وعلى تقدير   منه بالترك "كالتنكيل" أي: المعاقبة "لهم". وللبخاري في التمني كالمنكل لهم بضم الميم وفتح النون وكسر الكاف مشددة ولام، أي: المعاقب لهم، ولبعض رواته هناك كالمنكر بالراء وسكون النون من الإنكار، ولآخر كالمنكي بتحتية ساكنة قبلها كاف مكسورة خفيفة من النكاية. قال الحافظ: والأول هو الذي تظافرت به الروايات خارج هذا الكتاب. "حين أبوا:" امتنعوا "أن ينتهوا" عنه "رواه البخاري" في الصوم والتعزي والتمني من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ورواه مسلم في الصوم. "والوصال هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا" فرضا أو نفلا "من غير أكل وشرب بينهما" ولا تناول بالليل مطعوما عمدا بلا عذر قاله في المجموع، وقضيته أن الجماع وغيره من المفطرات لا يخرجه عن الوصال، لكن قال الروياني: هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين. "قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في معنى قوله: "يطعمني ربي ويسقيني"، فقيل: هو على حقيقته، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا" إذ الوصال عبارة عن عدم الأكل بالليل "وبأن قوله: "أظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما"؛ لأن أظل لا يكون إلا بالنهار، والأكل فيه ممنوع. "وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" دون أظل، وعلى تقدير ثبوتها" أي: لفظة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 ثبوتها فهي محمولة على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو "أبيت" فكأن بعض الرواة عبر عنها بـ"أظل" نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون. يقولون كثيرا: أضحى فلان كذا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] فإن المراد بذلك مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل، وليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل لفظ "أظل" على المجاز، وعلى التنزل فلا يضر شيء من ذلك؛ لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره الشريف من طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية محرمة. وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعًا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة.   أظل "فهي محمولة على مطلق الكون" أي: أكون عند ربي ليلا أو نهارا "لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو أبيت، فكأن بعض الرواة عبر عنها بأظل نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيرا: أضحى فلان، كذا ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ} أي: صار {وَجْهُهُ} وقت البشارة {مُسْوَدًّا} ليلا، كانت البشارة أو نهارا كما قل. "فإن المراد بذلك مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل وليس حمل الطعام والشراب على المجاز" الذي ذهب إليه الجمهور "بأولى من حمل أظل على المجاز" إذ ليس أحد المجازين بأولى من الآخر، أو أن المجاز في أظل أقرب "وعلى التنزل" أنه لا مجاز في أظل وأنه لا يكون إلا نهارا "فلا يضر شيء من ذلك" أي: حمل الأكل على حقيقته وأنه بالنهار؛ "لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه" فتناوله غير مفطر ولو نهارا "كما غسل صدره الشريف من طست الذهب" ليلة المعراج وهو بعد البعثة باتفاق "مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية محرمة" كذا في النسخ، ولفظ الحافظ حرام وهو المناسب؛ لأنه خبر استعمال، وأبعد شيخنا النجعة فحمل غسله بطست الذهب على الواقع له قبل البعثة، فاحتاج إلى الجواب بأن أفعاله قبل البعثة تنبعث، فلم يوجد منها ما يخالف شرعة. انتهى. نعم، قيل: إن الذهب لم يكن حرم ليلة المعراج. "وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة. وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، وأكله وشربه في الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: إني لست في ذلك كهيئتكم، أي على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني ولا ينقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى. وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة. أو المعنى: أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، لا يحس بجوع ولا عطش.   كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال" حتى يجري عليه أحكامها "وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة" إذ لو أبطلتها لم تكن كرامة، فلا يبطل بذلك صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره. "وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، واكله وشربه في الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: "إني لست في ذلك كهيئتكم"، أي: على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني ولا ينقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى" وهذا قريب من كلام ابن المنير، غايته أن هذا خصه بالليل وابن المنير عمم على ظاهره. "وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي:" يعين "على أنواع الطاعة" أي: العبادة "من غير ضعف في القوة" وحاصله أنه يغطي أزيد من الطاعم الشارب ولا أكل ولا شرب "أو المعنى؛ أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس" بضم أوله وكسر الحاء من أحس على الأشهر، وبفتح الياء وضم الحاء "بجوع ولا عطش، والفرق بينه وبين الأول" أي: الذي قبله "أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 والفرق بينه وبين الأول: أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني: يعطي القوة مع الشبع والري. ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم الوصال؛ لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله عليه السلام، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجر. انتهى. ويحتمل -كما قاله ابن القيم في "الهدي" وابن رجب في اللطائف- أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين، وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغني هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل: لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد   ري، بل مع الجوع والظمأ": العطش "وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم والوصال؛ لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها" التي هي الصيام. "قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله عليه السلام، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط" بكسر الباء وضمها "على بطنه الحجر" واحدة الحجارة. "انتهى" كلام الحافظ وفيه بعده: وأنكر ابن حبان ربط الحجر، قال: لأن الله تعالى كان يطعم رسوله ويسقيه إذا واصل فكيف يتركه جائعا حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه، ثم قال: وماذا يغني الحجر من الجوع، ثم ادعى أن ذلك تصحيف ممن رواه وإنما هو الحجز بالزاي: جمع حجزة، وقد أكثر الناس من الرد عليه في جميع ذلك، ومر ذلك مبسوطا في كلام المصنف. "ويحتمل كما قاله ابن القيم في الهدي وابن رجب في اللطائف أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه" المعنوي "ونعيمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين" بردها وسرورها "وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغني هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل" في وصف النياق: "لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 إذا اشتكت من كلال السير أو عدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب الروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف محبوبه ... مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب، فكيف بالحبيب الذي لا شيء أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه بطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني". انتهى. وحكى النووي في شرح المهذب، كما قاله في شرح تقريب الأسانيد: أن معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب، قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى.   "إذا اشتكت من كلال السير أو عدها ... "روح القدوم فتحيا عند ميعاد" لها، أي: للنياق وكلال تعب وروح بضم الراء والنصب مفعول، أي: أوعدها كلال السير روح القدوم فيحصل لها مزيد قوة على السير حتى كأنها حييت بعد الموت. "ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح من كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف" بالخفض، أي: وبألطاف "محبوبه" وهو "مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب" استفهام تعجبي "فكيف بالحبيب الذي ل شيء أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني". انتهى". "وحكى النووي في شرح المهذب كما قاله في شرح تقريب الأسانيد أن معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب، قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى" وهو قريب من حاصل ما بسطه ابنا القيم ورجب، لكن الفارق بينهما أن ملحظ هذا أن الشاغل حبه البالغ -صلى الله عليه وسلم- لله تعالى، وملحظ ذاك أن الشاغل ما يفيض الله عليه به وإن رجع حاصل معناهما إلى معنى واحد، لكن الفرق بينهما بالاعتبار كما علم، وقد حكى الأبي عن أبي بزيزة أن بعض الصوفية واصل ستين يوما، قال: وواصل غيره أكثر، ومثل هذا كثير يذكر في كتب القوم. انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: "يطعمني ربي" دون أن يقول: يطعمني الله؟ أجيب: بأن التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية؛ لأن تجلي عظمة لا طاقة للبشر بها، وتجلي الربوبية تجلي رحمة وشفقة. وقد اختلف الناس في الوصال لنا، هل هو جائز أو محرم أو مكروه؟ فقالت طائفة: إنه جائز إن قدر عليه، وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي يعمر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبا الجوزاء، كما نقله أبو نعيم في الحلية. ومن حجتهم أنه عليه الصلاة والسلام واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف.   "فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: "يطعمني ربي دون أن يقول: يطعمني الله"، أجيب" عنه "بأن" آثر الرب؛ لأن "التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية؛ لأنه تجلي عظمة لا طاقة" قدرة "للبشر بها. وتجلي الربوبية تجلى رحمة وشفقة" وهي أليق بهذا المقام. "وقد اختلف الناس في الوصال لنا هل هو جائز" لنا "أو محرم أو مكروه؟، فقالت طائفة: إنه جائز إن قدر عليه" بلا كراهة "وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح" عنه" أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا" في أصل الوصال وإن لم يعلم مقدار ما واصلوا "أخت أبي سعيد" الخدري واسمها الفريعة بضم الفاء مصغر، ويقال لها الفارعة بنت مالك بن سنان صحابية لها حديث قضى به عثمان. "ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي يعمر وعامر بن عبد الله بن الزبير" ثقة عابد "وإبراهيم بن يزيد التيمي" العابد الثقة "وأبا الجوزاء" بجيم وزاي أوس بن عبد لله الربعي "كما نقله أبو نعيم في الحلية، ومن حجتهم أنه عليه الصلاة والسلام واصل بأصحابه بعد النهي، فو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 عنهم، كما صرحت به عائشة في حديثها، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر. ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال. ومن أدلة الجواز أيضا: إقدام الصحابة عليه بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما قدموا عليه. وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة، ونص الشافعي وأصحابه على كراهته، ولهم في هذه الكراهة وجهان أصحهما أنها كراهة تحريم، والثاني: أنها كراهة تنزيه. واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق جواز الوصال إلى السحر، لحديث أبي سعيد عند البخاري: عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تواصلوا" فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة عائشه، إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة،   عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها" السابق "فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال" عند هؤلاء. "ومن أدلة الجواز أيضا إقدام الصحابة عليه بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما قدموه عليه" إذ لا يليق بهم الإقدام مع فهم التحريم. "وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة ونص الشافعي، وأصحابه على كراهته ولهم في هذه الكراهة وجهان، أصحهما أنها كراهة تحريم، والثاني أنها كراهة تنزيه" وهو المشهور عند المالكية. "واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق" بن راهويه "جواز الوصال إلى السحر" قبيل الصبح "لحديث أبي سعيد" الخدري "عند البخاري" من إفراده عن مسلم، ووهم من عزاه له "عنه -صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" لفظ البخاري حتى السحر. قال المصنف: بالجر بحتى التي بمعنى إلى، وبقية هذا الحديث عند البخاري قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقين" "وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة عشائه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم، وإلا فلا يكون قربة. وقد صرح في الحديث بأن الوصال من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لست كهيئتكم". وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعا.   إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة". "وقد صرح في الحديث بأن الوصال من خصائصه -صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني لست كهيئتكم"، فلا معنى للوصال إلى السحر لحديث: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، وقالت عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- أعجل الناس فطرا، قاله أبو عمر. "وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب" قال: "قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا" أي: من جهة المشرق "وأدبر النهار" أي: ضوؤه "من ههنا" أي: من جهة المغرب وهما متلازمان ذكرهما؛ لأن أحدهما قد يكون أظهر للعين في بعض الأماكن كما لو كان في جهة المغرب، فانحجب البصر عن إدراك الغروب وكان المشرق ظاهرا بارزا، فيستدل بطلوع الليل على الغروب. قال الطيبي: وإنما قال: "وغربت الشمس" مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب لئلا يظن أنه إذا غرب بعضها جاز الإفطار. وقال المصنف: قيد بالغروب إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة الغروب لا بسبب آخر، فالأمور الثلاثة وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود شيء يغطي الشمس، وكذلك إدبار النهار، فلذا قيد بالغروب. "فقد أفطر الصائم، قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر" بالفعل "وذلك يحيل" يمنع "الوصال شرعا" فلا ينتفع المواصل بوصاله؛ لأن الليل ليس موضعا للصوم. قال الطيبي: ويمكن أن تحمل الأخبار على الإنشاء إظهارا للحرص على وقوع المأمور به، أي: إذا أقبل الليل فليفطر الصائم، وذلك أن الخيرية منوطة بتعجيل الإفطار، فكأنه قد وقع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 واحتج الجمهور للتحريم: بعموم النهي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"، وأجابوا عن قوله: "رحمة" بأن لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم، وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما، فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهي الملل من العبادة، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين، من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها، وسائر الأذكار المشروعة في نهاره وليله. وأجابوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم". إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه. وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك. ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه.   وحصل وهو يخبر عنه. "واحتج الجمهور للتحريم بعموم النهي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"، وأجابوا عن قوله" أي: الشخص الراوي وهو عائشة نهي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال "رحمة" لهم؛ "بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم" فمن رحمته أن حرمه "وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم" وهذا يأتي حتى على القول بالكراهة؛ لأن المكروه لا ثواب في فعله. "وأما الوصال بهم يوما، فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وسائر الأذكار المشروعة في نهاره وليله" لكن هذا كله لا ينتج التحريم؛ لأنه الح تعليلا للكراهة أيضا المستفادة من صاله بهم بعد النهي واحتمال فعل الحرام لمصلحة الزجر مما لا ينبغي أن يقال "وأجابوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه" وهذا قدمه بمعناه قريبا. "وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك"، ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه" وتغني عنه الأحاديث الصحيحة الدالة على الخصوصية. وقد روى الترمذي وغيره عن أبي سعيد مرفوعا: "إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 الفصل التاسع: في سحوره -صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه". رواه النسائي. وعن العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السحور في رمضان   صام فقد تعنى ولا أجر له"، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد، وقال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. والله أعلم. "الفصل التاسع: في سحوره" بفتح السين، أي: ما يؤكل وضمها، أي: نفس الفعل -صلى الله عليه وسلم- أي: في الأمر به وفعله ووقته وفائدته. "عن أبي هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: "إنها" أي: هذه الحالة التي نفعلها وهي التسحر، أو أنث مراعاة للخبر وهو "بركة"، أي: نمو وزيادة "أعطاكم الله إياها فلا تدعوه" أي: التسحر "رواه النسائي" وفيه صحابي عن صحابي، وفي معنى كونه بركة وجوه أن يبارك في القليل منه بحيث يحصل به الإعانة على الصوم، ولابن عدي عن علي مرفوعا: "تسحروا ولو بشربة من ماء"، وللطبراني عن أبي أمامة رفعه: ولو بتمرة ولو بحبات زبيب الحديث، ويكون ذلك بالخاصية كما بورك في الثريد والاجتماع على الطعام، أو المراد بالبركة نفي التبعة. وفي الفردوس من حديث أبي هريرة: "ثلاثة لا يحاسب عليها العبد: أكلة السحور وما أفطر عليه، وما أكل مع الإخوان"، أو المراد بها التقوي على الصيام وغيره من أعمال النهار. ولابن ماجه والحاكم ن جابر مرفوعا: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبالقيلولة على قيام الليل"، ويحصل به النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، أو المراد بها الأمور الأخروية، فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادة. قال عياض: قد تكون هذه البركة ما يتفق للمتسحر من ذكر أو صلاة أو استغفار وغير ذلك من زيادات الأعمال التي لولا القيام للسحور لكان الإنسان نائما عنها وتاركا، وتجديد النية للصوم ليخرج من خلاف من أوجب تجديدها إذا نام بعدها. قال ابن دقيق العيد: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب؛ لأنه ممتنع عندهم، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية. "وعن العرباض" بكسر العين "ابن سارية، قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السحور في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 قال: "هلم إلى الغداء المبارك". رواه أبو داود والنسائي. وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وذلك عند السحور: "يا أنس إني أريد الصيام فأطعمني شيئا"، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال، قال: "يا أنس انظر رجلا يأكل معي"، فدعوت زيد بن ثابت فجاء فقال: إني أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أريد الصيام"، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة. رواه النسائي. وعن زر بن حبيش قال: قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. رواه النسائي أيضا.   رمضان، قال: "هلم" قال الرضي: جاء متعديا ولازما بمعنى أقبل فيتعدى بإلى، وبمعنى أحضر في نحو قوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] ، وهو عند الخليل هاء التنبيه ركب معها لم أمر من قولك: لم الله شعثه، أي: اجمع نفسك إلينا، فلما غير معناه عند التركيب؛ لأنه صار بمعنى أقبل أو احضر بعدما كان بمعنى أجمع صار كجميع أسماء الأفعال المنقولة عن أصلها. "إلى الغذاء المبارك" في الدارين على ما رأيت "رواه أبو داود والنسائي". "وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك عند السحور: "يا أنس، إني" بشد النون بعد همزة مكسورة في نسخ صحيحة كثيرة، وفي بعضها إلي بلام بدل النون، فإن صحت فالتقدير ادن إلي، فدنا منه فقال: "أريد الصيام فأطعمني شيئا"، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء وذلك بعد ما أذن بلال؛" لأنه كان يؤذن بالليل. "قال: "يا أنس انظر رجلا يأكل معي"، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فقال: إني أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أريد الصيام"، فتسحر معه ثم قام فصلى ركعتين" الفجر "ثم خرج إلى الصلاة" أي: الصبح "رواه النسائي". "وعن زر" بكسر الزاي وشد الراء "ابن حبيش" بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وشين معجمة ابن حباشة بمهملة مضمومة فموحدة ثم معجمة الأسدي الكوفي، ثقة جليل مخضرم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة كما في التقريب. "قال: قلنا لحذيفة" ابن اليمان "أي ساعة تسحرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" سماه نهارا مجازا لقربه منه جدا بحيث طلع الفجر عقب الفراغ منه "رواه النسائي أيضا". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 وعن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس بن مالك: قلت: كما كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. والمراد آية متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة. قال ابن أبي جمرة: كان -صلى الله عليه وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر. وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر،   "وعن زيد بن ثابت: قال تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: أكلنا السحور بالفتح ما يؤكل وقت السحر، أما بالضم فهو اسم لنفس الفعل "ثم قمنا إلى الصلاة" أي: صلاة الصبح. "قال أنس بن مال: قلت" لزيد: "كم كان قدر ما بينهما؟، قال:" هو "قدر خمسين آية" برفع قدر خبر المبتدأ، ويجوز النصب خبر كان المقدرة في جواب زيد لا في سؤال أنس لئلا يصير كان واسمها من قائل والخبر من آخر. قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حلب شاة وقدر نحر جزور، فعد زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال مثلا قدر درجة أو ثلث أو خمس ساعة، قاله الحافظ "رواه البخاري" في الصلاة والصيام "ومسلم والترمذي والنسائي" وابن ماجه كلهم في الصيام. "والمراد آية متوسطة لا طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة" في قراءتها بل هي متوسطة بينهما. "قال ابن أبي جمرة" بجيم وراء في بيان حكمة تأخير السحور: "كان -صلى الله علي وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ أنه لو لم يتسحر لاتبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك صلاة الصبح" في وقتها "أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر" وهو مشقة عظيمة. "وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر فهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 فهو معارض لقول حذيفة: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. انتهى. وأجاب في فتح الباري: بأن لا معارضة، بل يحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة. الفصل العاشر: في إفطاره -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في السفر وصومه عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان. فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك   معارض لقول حذيفة: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. انتهى". "وأجاب في فتح الباري: بأن لا معارضة بل يحمل على اختلاف الحال" فتارة لا يصله بالنهار بل يكون بينهما قدر قراءة خمسين آية وهو ما أخبر عنه زيد، وتارة يصله به بأنه يطلع الفجر عقب انتهائه وهو ما أخبر به حذيفة وسماه نهارا مجازا، وأفاد قوله: إلا أن الشمس لم تطلع أن النهار لم يطلع حقيقة "فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة" حتى تأتي المعارضة. "الفصل العاشر: في إفطاره -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في السفر وصومه" "عن جابر" بن عبد الله "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة" يوم الأربعاء بعد العصر "في رمضان" سنة ثمان "فصام حتى بلغ كراع" بضم الكاف وفتح الراي مخففة فألف فعين مهملة "الغميم" بفتح الغين المعجمة وكسر الميم الأولى بعدها تحتية ساكنة: واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع جبل أسود متصل به، والكراع كل أنف سال من جبل أو حرة تشبيها بالكراع وهو ما دون الكربة من الساق "وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه"؛ بأن وضعه على راحته وهو على راحلته "حتى نظر الناس" إليه "ثم شرب" ليقتدى به "فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة" مرتين. قال عياض: وصفهم بذلك؛ لأنه أمرهم بالفطر لمصلحة التقوي على الفعل فلم يفعلوا حتى عزم عليهم بعد. قال النووي: أو يحمل على من تضرر بالصوم، قال غيرهما: أو عبر به مبالغة في حثهم على الفطر رفقا بهم. وقال الطيبي: التعريف في العصاة للجنس، أي: أولئك الكاملون في العصيان المتجاوزون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 "العصاة". زاد في رواية: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس، وافطر حتى قدم مكة. وكان   حده؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله، فمن أبى فقد بالغ في العصيان، كذا قال: ولا ينبغي هذا في حق الصحابة وقد أمكن غيره. "زاد في رواية" بعد قوله: فصام الناس "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون" أي: يتأملون، كذا في النسخ من الانتظار والذي في مسلم، وإنما ينظرون بدون مثناة "فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء" لم يختلف في حديث جابر أنه من ماء وهو الصحيح في حديث ابن عباس، وشك بعض رواته فقال: من ماء أو لبن "بعد العصر" فشرب "رواه" أي: حديث جابر بالزيادة "مسلم" من طريقين. "وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان" في غزوة فتح مكة فهو من مرسلات الصحابة؛ لأن ابن عباس لم يكن معه في الفتح وإنما أخذه من غره كما قاله أبو الحسن القابسي، فما يوجد في بعض نسخ المواهب: سافرنا مع رسول الله خطأ صراح مخالف لما في الصحيحين "فصام حتى بلغ عسفان" بضم العين وإسكان السين وفاء: قرية جامعة على أربعة برد من مكة. وفي رواية للشيخين عن ابن عباس أيضا حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى فتحتية فمهملة، فسر في نفس الحديث عند البخاري في المغازي بلفظ: الكديد الماء الذي بين قديد وعسفان. ومر عن جابر: حتى بلغ كراع الغميم، وهذه أماكن مختلفة، والقصة واحدة، وجمع عياض بأنها أماكن متقاربة وعسفان يصدق عليها؛ لأن الجميع من عملها؛ وبأنه أخبر بحال الناس ومشقتهم بعسفان وكان فطره بالكديد، وجمعه الثاني إنما يستقيم على المشهور المعروف أن عسفان على ثمانية وأربعين ميلا من مكة، والكديد على اثنين وأربعين ميلا منها لا على نقله هو أن عسفان على ستة وثلاثين ميلا من مكة، والأول معناه: أنها لتقاربها لا يضر اختلاف الرواة في تسميتها، لجواز أن كلا من الرواة سمى الموضع الذي أفطر فيه باسم، إما موضوع له حقيقة أو سماه به مجازا لقربه مما سماه به غيره "ثم دعا بإناء من ماء" زاد في رواية للشيخين: فرفعه إلى يديه، وفي أبي داود: إلى فيه، وللبخاري من وجه آخر عن ابن عباس بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته بالشك فيهما فيقدم عليه رواية من جزم بالماء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 ابن عباس يقول: صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، رواه البخاري ومسلم. ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب على من صام ولا على من أفطر، فقط صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر. قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر: فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر، وإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه، لظاهر الآية ولحديث: "ليس من البر الصيام في السفر"، وفي الحديث الآخر: "أولئك العصاة".   لأن القصة واحدة ولا دليل على التعدد كما زعم الداودي قاله الحافظ. "فشرب نهارا ليراه الناس" فيعلموا جواز الفطر "وأفطر حتى قدم" وفي رواية: دخل "مكة" واحتج به مطرف، ومن وافقه من المحدثين وهو أحد قولي الشافعي أن من بيت الصوم في رمضان في السفر له أن يفطر، ومنعه الجمهور؛ لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه وحملوا الحديث على أنه أفطر للتقوي على العدو والمشقة الحاصلة له ولهم. "وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر" فيه "فمن شاء صام" فيه "ومن شاء أفطر" لكن الصوم أفضل "رواه البخاري" في الصوم وغيره "ومسلم" في الصوم. "ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب" لفظ مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: لا تعب. قال المصنف: بفتح الفوقية وكسر المهملة "على من صام ولا على من أفطر، فقد صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر" وهذا الحديث لم يحضره ابن عباس؛ لأنه كان مع المستضعفين بمكة. انتهى، أي: أنه مرسل صحابي. "قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر، فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر وإن صامه لم ينعقد" وعزاه ابن عبد البر لعمرو ابنه وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف "ويجب قضاؤه لظاهر الآية:" {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فجعل عليه عدة. "ولحديث" الصحيحين عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، وفي الترمذي في غزوة الفتح: رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا"؟، قالوا: صائم، فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "ليس البر أن تصوموا في السفر"، وزاد بعض الرواة: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" قالوا: ما لم يكن من البر فهو من الإثم "و" يؤيده "في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصومه -صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال. وقال سعيد بن المسيب الأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا، وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي، وهو غريب، واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر، وبقوله -صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن صوم فلا جناح عليه" وظاهره ترجيح الفطر.   الحديث الآخر: "أولئك العصاة". قال ابن عبد البر: ولا حجة فيه؛ لأنه عام خرج على سبب، فإن قصر عليه لم تقم به حجة وإلا حمل على من بلغ حاله مثل حال الرجل، أي: ليس له أن يبلغ هذا بنفسه ولو كان إثما لكان عليه السلام أبعد الناس عنه، ويحتمل أن يريد ليس البر أو ليس هو البر، إذ قد يكون الفطر أبر منه في حج أو غزوة ليتقوى عليه وتكون "من" زائدة، كما يقال: ما جاءني من أحد، وما جاءني أحد. "وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء" لوقوع الأمرين منه -صلى الله عليه وسلم. "فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل" حيث قل الضرر وإلا وجب الفطر ولو للحاضر "واحتجوا بصومه -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال". "وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا" حصل ضرر أم لا؟. "وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي وهو غريب" عنه، والمعروف عنه ما سبق. "واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر" من الآية والحديثين. "وبقوله -صلى الله عليه وسلم" كما رواه مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هي" أنث باعتبار الخبر وهو "رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح" أي: لا إثم "عليه" وظاهره ترجيح الفطر"؛ لأنه وصفه بالحسن على الفطر؛ لأنه إنما نفى عنه الجناح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا، أو يجد مشقة، كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري قال: "كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن. وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة. وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث. والصحيح: قول الأكثرين. والله أعلم.   وأجاب عياض بأن قوله: "لا جناح" إنما هو جواب لقوله: فهل علي جناح، فلا يدل على أن الصوم ليس بحسن وقد وصفهما معا بالحسن في الحديث الآخر. وقال الأبي: إنما لم يدل على أن الصوم ليس بحسن؛ لأن نفي الجناح أعم من الوجوب والندب والكراهة والإباحة. "وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري" عند مسلم "قال: كنا نغزوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد" بفتح الياء وكسر الجيم، أي: لا يعترض ولا يعيب من وجد عليه غضب "الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا" كذا في نسخ صحيحة وهو الذي في مسلم "فأفطر فإن ذلك حسن" فوصفهما جميعا بالحسن "وهذا" التفصيل هو المعتمد وهو "صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة؛" لأنه نص رافع للنزاع. "وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث" من الجانبين "والصحيح قول الأكثرين" بالتفصيل "والله أعلم" أيهما أفضل حقيقة. انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 القسم الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان وفيه فصول: الأول في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر، وفطره أياما عن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم. رواه النسائي. وعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته. وفي رواية: ما كنت أحب أن أراه من الشهر.   "القسم الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان": كذا في نسخة وهي ظاهرة، وفي نسخة القسم الثاني من صومه صومه غير ... إلخ، فصومه بالرفع خبر القسم، وقوله من صومه، أي: من قسمي صومه الأعم من رمضان وغيره، فالأول رمضان كما مر وهذا الثاني. "وفيه فصول:" الفصل "الأول: في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر وفطره أياما عن أبي أمامة" صدي بن عجلان الباهلي، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسرد" أي: يتابع "الصوم، فيقال: لا يفطر" فيما بقي من الشهر "ويفطر، فيقال: لا يصوم" ما بقي من الشهر "رواه النسائي". "وعن أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن" بنون الجمع وبتحتية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة على المخاطبة ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روي بالفتح والضم معا قاله الحافظ، ويجوز نصب نظن بأن مضمرة بعد حتى ورفعه على حكاية حال ماضية، وقرئ بهما قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 214] ، "آن لا يصوم منه" بفتح الهمزة أن ونصب يصوم ورفعه؛ لأن إما ناصبة ولا نافية، وإما مفسرة ولا ناهية، قاله المصنف، وقال شيخنا: النصب على أن "أن" مصدرية والرفع على أنها مخففة من الثقيلة، أي: أنه لا يصوم منه شيئا، وأن على الوجهين بما في حيزها ساد مسد مفعولي نظن. "ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته" مصليا "ولا" تشاء أن تراه "نائما إلا رأيته" نائما، يعني أنه كان تارة يقوم أو الليل، وتارة وسطه، وتارة آخره كما كان يصوم، كذلك فمن أراد أن يراه في وقت من الليل قائما، أو وقت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته، رواه البخاري. ولمسلم: كان يصوم حتى يقال: قد صام صام، ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر. وعن ابن عباس: قال ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم. رواه البخاري ومسلم والنسائي وزادا: ما صام شهرا متتابعا غير رمضان منذ   من الشهر صائما فراقبه مرة بعد مرة، فلا بد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم، ولا أنه يستوعب الليل قائما، ولا يشكل عليه قول عائشة: كان إذا صلى صلاة داوم عليها، ولا قولها: كان عمله ديمة؛ لأن المراد ما اتخذه راتبا لا مطلق النافلة، هذا وجه الجمع بينهما، وإلا فظاهرهما التعارض قاله الحافظ. "وفي رواية" عن حميد قال: سألت أنسا عن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما كنت أحب أن أراه" أي: رؤيته "من الشهر" حال كونه "صائما إلا رأيته" صائما "ولا" كنت أحب أن أراه من الشهر "مفطرا إلا رأيته" مفطرا "ولا" كنت أحب أن أراه "من الليل قائما إلا رأيته" قائما يصلي "ولا نائما إلا رأيته" نائما "رواه البخاري" يعني: المذكور من الروايتين من طريقين، وبقية الثانية عنده: ولا مسست خزة ولا حريرة ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكا ولا عبيرة أطيب رائحة من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وترك المصنف هذا؛ لأنه ليس من غرضه هنا، وقد قدمه في شمائله. "ولمسلم" عن ثابت عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يصوم حتى يقال: قد صام صام" مرتين، وبقد في الأولى، وفي رواية بإثبات قد فيهما "ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر" بقد في الأولى لا الانية، وبإثباتهما فيهما. "وعن ابن عباس قال: ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا" وفي رواية لمسلم: شهرا متتابعا "غير رمضان" وهو موافق لقول عائشة: لم يستكمل صيام شهرا إلا رمضان، ويعارضه قولها أيضا: كان يصوم شعبان كله، فإما أن يحمل على الأكثرية، أو على أنه لم يره يستكل إلا رمضان، فأخبر على حسب اعتقاد، ويأتي بسطه في صومه شعبان. "وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر" وللطيالسي: حتى يقولوا: ما يريد أن يفطر "ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم، رواه البخاري ومسلم والنسائي" وابن ماجه، كلهم في الصوم "وزادا" بالتثنية، أي: مسلم والنسائي: "ما صام شهرًا متتابعا غير رمضان منذ" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 قدم المدينة. ففي هذا: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصم الدهر كله، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام. الفصل الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء وهو بالمد على المشهور، واختلف في تعيينه: فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس -وهو متوسد رداءه في زمزم- فقلت له: أخبرني عن صوم عاشواء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يصومه؟ قال: نعم. رواه مسلم.   بالنون، ويروى بدونها "قدم المدينة" وقراءة زاد بالإفراد تعطي أنها ليست في مسلم مع أنها فيه بلفظها "ففي هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصم الدهر كله ولا قام الليل كله وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة" وهو بهم رؤوف رحيم "وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر" أي: قدر "عليه لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر وقام ونام" فطوبى لمن اقتدى به في بعض ذلك. "الفصل الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء، وهو بالمد على المشهور" وحكي قصره، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية، ورده ابن دحية بقول عائشة: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية. قال الحافظ: ولا دلالة فيه، أي: لجواز أنها قالته بعد اشتهاره في الإسلام بهذا الاسم، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا عاشوراء وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وزاد ابن دحية عن ابن الأعرابي: خابوراء. "واختلف في تعيينه" هل هو العاشر أو التاسع "فعن الحكم" بفتحتين "ابن الأعرج" واسمه عبد الله البصري "قال: انتهت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح" بهمزة قطع وكسر الموحدة "يوم التاسع صائما" قال الحكم: "قلت" له: "هكذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يصومه؟، قال: نعم، رواه مسلم" من أفراده. قال القرطبي: يعني لو عاش لصامه، كذلك لوعده الذي وعد به لا أن صام التاسع بدل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من أظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الثالث من أيام الورود ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرا. انتهى. لكن قال ابن المنير: قوله: "إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما" يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهي الليلة العاشرة. انتهى. وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومالك وأحمد وإسحاق، وخلائق. وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس يرد عليه معنى قوله: أنه -صلى الله عليه وسلم- صام يوم   العاشر، إذ لم يسمع ذلك عنه ولا روي قط. انتهى، ونقله عنه السيوطي وأقره. "قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ويتأوله على أنه مأخوذ من أظماء الإبل؛" لأنهم يحسبون في الأظماء يوم الورود "فإن العرب تسمي اليوم الثالث من أيام الورود ربعا" نظرا لكونه صبيحة الليلة الرابعة وهم يؤرخون بالليالي، فإذا أقامت في الرعي يومين ثم وردت في الثالث قالوا: وردت بعلوان رعت ثلاثا، وفي الثالث وردت قالوا: وردت خمسا "وكذا باقي الأيام على هذه النسبة" فإذا رعت ثمانية أيام، وفي التاسع وردت، قالوا: وردت عشرا بكسر العين؛ لأنهم يحسبون في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه وأول اليوم الذي ترد فيه بعده "فيكون التاسع عاشرا. انتهى". "لكن قال ابن المنير قوله: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما" لم يتقدم بهذا اللفظ ولا هو به في مسلم، فلعله حمل عليه اللفظ الوارد وهو: وأصبح يوم التاسع صائما "يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهي اللية العاشرة. انتهى". "وذهب جماهر العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، ومن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ" من التسمية والاشتقاق. "وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد؛" لأنه خلاف المتبادر "ثم إن حديث ابن عباس" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 عاشوراء فقالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال -صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر. قاله النووي. وقال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشر؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم يضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر، وهذا قول الخليل وغيره. قال ابن المنير: والأكثر على أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله   نفسه "يرد عليه معنى قوله" في مسلم "أنه -صلى الله عليه وسلم- صام يوم عاشواء" وأمر بصيامه كما في مسلم "فقالوا" أي: الصحابة: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" فكيف تعظمه أنت؟ "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع". وفي رواية لمسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر، قاله النووي" لأن التاسع لم يبلغه، ولعله لو بلغه صامه مع العاشر كما في حديث: "فصوموا التاسع والعاشر". قال العلماء: السبب في ذلك أن لا نتشبه باليهود في إفراد العاشرة. قال القرطبي: ظاهره أنه عزم على صوم التاسع بدل العاشر، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس حتى قال لسائله عن يوم عاشوراء: إذا رأت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم الاسع صائما، وبهذا تمسك من رآه التاسع. انتهى. "وقال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر" بفتح العين "الذي هو اسم العقد واليوم يضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء، فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية، فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو اليوم العاشر وهذا قول الخليل وغيره" من أئمة اللغة، وقيل: هو تاسع المحرم، هذا بقية كلام القرطبي. "قال ابن المنير:" فعلى الأول اليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني ضاف لليلة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. وقال ابن القيم: فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس، فإنه لم لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، فاكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي بعده الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك وهو الأولى، وأما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل، وهو الذي روى "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر" وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا. انتهى فليتأمل. وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة.   الآتية، قال: "والأكثر على يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق" من العشر الذي هو العقد على ما هو المتبادر "والتسمية" بعاشوراء يعني وأخذه من إظماء الإبل بعيد. "وقال ابن القيم: فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال" في قوله: وأصبح يوم التاسع صائما "وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع، بل قال للسائل" عن صيام عاشوراء: "صم اليوم التاسع، فاكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي بعده" يسميه "الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه" ويؤيده أن السائل لم يقل ما يوم عاشوراء، أو أي يوم هو، وإنما سأله عن صيامه "وأخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كذلك" أي: تاسوعاء وعاشوراء "فإما أن يكون" صلى الله عليه وسلم "فعل ذلك" أي: صامما "وهو الأولى" لظاهر حديث ابن عباس على هذا الحمل "وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل" فأطلق عليه أنه صامه تجوزا، ولعل هذا الأولى مما قبله، وإن قال: إنه الأولى لاحتياجه إلى نقل "وهو" أي: ابن عباس "الذي روى أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر" بالجر بدل "وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا. انتهى" كلام ابن القيم "فليتأمل" إذ مع كونه خلاف المتبادر لا مساعد لحمله على هذا. "وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية" موافقة لهم كالحج، أو أذن الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي. واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء، وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه عليه الصلاة والسلام كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية قبل فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم يوم عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فوض الأمر في صيامه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة. وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السابق، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، وقد روي عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب. قاله في فتح الباري.   له "فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه" بفتحتين وبضم الهمزة وكسر الميم، روايتان اقتصر عياض على الثانية. وقال النووي: الأولى أظهر "فلما فرض رمضان" أي: صيامه في السنة الثانية في شعبان "ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه؛" لأنه ليس حتما "رواه البخاري" من طريق مالك "ومسلم" من طرق "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي" من طريق مالك وغيره "واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه عليه السلام كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية قبل فرض شهر رمضان؛" لأنه فرض في شعبان منها "فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة" هي الثاني كما علم "ثم فوض الأمر في صيامه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة". وفي نسخ الاستحباب: إذا نسخ الوجوب خلاف مشهور وعلى أنه كان للاستحباب فهو باق على استحبابه "وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السابق" كشرع إبراهيم "ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، و" لكن "قد روي" عند الباغندي "عن عكرمة أنه سئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب، قاله في فتح الباري". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وفي رواية: وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وعن سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس: من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل رواه مسلم. قال النووي: اختلفوا في حكم صوم عاشوراء في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان: فقال أبو حنيفة: كان واجبا. واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين: أشهرهما عندهم أنه لم يزل   "وعن ابن عمر" بن الخطاب: "أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية مسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض "قال" رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه" ومن شاء تركه "رواه البخاري ومسلم وأبو داود". "وفي رواية" لمسلم: "وكان عبد الله" بن عمر "لا يصومه إلا أن يوافق صومه؛" لأنه كان يكره قصد صيامه بالتعيين لحديث جاء في ذلك، قاله عياض. "وعن سلمة بن الأكوع" قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا" هو هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي، كما عند أحمد وغيره: "ومن أسلم" بزنة أحمر قبيلة من العرب معروفة، قال فيها -صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله" "يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن". وفي رواية للبخاري: ينادى "في الناس من كان لم يصم فليصم" أي: يمسك، إذ الصوم الحفيقي هو الإمساك من أول النهار إلى آخره "ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل" حرمة لليوم. وفي رواية البخاري: من كان أكل فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم، وفي لفظ له ومن لم يأكل فلا يأكل "رواه مسلم" في الصيام رباعيا وفيه تقصير، فقد رواه البخاري ثلاثيا في محلين من الصوم وفي خبر واحد. "قال النووي: اختلفوا في حكم صوم عاشوراء في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا" لظاهر الأحاديث "واختلف أصحاب الشافعي" أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبا كقول أبي حنيفة. وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه. وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: "أمر بصيامه" والأمر للوجوب، وبقوله: "فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه". ويحتج الشافعية بقوله: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه"، والشافعية أيضا يقولون: معنى قوله في حديث سلمة: "فأمره أن يؤذن في الناس من كان لم يصم فليصم إلخ". أي من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم   أهل مذهبه "فيه على وجهين، أشهرهما عندهم؛ أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان" في القرآن "صار مستحبا دون ذلك الاستحباب" أي: غير متأكد. "والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه" ورد بأن في أبي داود أنهم أتموا بقية اليوم وقضوه "وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: أمر بصيامه والأمر للوجوب" لكنه إنما يقتضيه إذا كان بصيغة أفعل، أما أمر فإنما يدل على الطلب، وهو يحتمل الوجوب والندب ويأتي رد هذا "وبقوله: فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه" فمقتضاه أنه قبل ذلك كان فرضا. "ويحتج الشافعية بقوله" -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه" فإن ظاهره أنه لم يفرض قط وأجيب بأن معاوية راويه من مسلمة الفتح، فإن كان سمعه بعد إسلامه فإنما سمعه سنة تسع أو عشر، وذلك بعد نسخه برمضان، فمعنى: لم يكتب لم يفرض بعد إيجاب رمضان، وإن كان سمعه قبل إسلامه جاز أنه قبل افتراضه ونسخه برمضان "والشافعية أيضا يقولون: معنى قوله في حديث سلمة" بن الأكوع "فأمره أن يؤذن في الناس: "من كان لم يصم فليصم إلى آخره". أي: من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم. واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب بنية في النهار ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا: أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنقل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل وغير. انتهى. وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: "لما فرض رمضان ترك عاشوراء" مع العلم أنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك   "كان لم ينو الصوم ولم يأكل، أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم"، واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب" أي: يتحقق ويوجد "نية في النهار" من وجب الشيء وجوبا ثبت "ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم" وكان عاشوراء فرضا. "وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنقل أن لا يتقدمها" فعل "مفسد للصوم من أكل وغيره. انتهى" كلام النووي. "وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه" وكونه مشتركا بين الطلب الشامل للندب، والإيجاب ممنوع ولو سلم، فقولها: فلما فرض رمضان إلى آخره دليل على أن الأمر كان للوجو للقطع بأن التخيير ليس باعتبار الندب؛ لأنه مندوب الآن "ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال" كما روى الطبراني وأبو يعلى: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعظم عاشوراء حتى يدعو برضعائه فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: لا ترضعوهم إلى الليل وكان ريقه يجزيهم "وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم" عن علقمة قال: دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل يوم عاشوراء، فقال: إن اليوم عاشوراء، فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان "ولما فرض رمضان ترك عاشوراء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 وجوبه، وأما قول بعضهم: "المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه" فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر السنة، فإن تأكيد أبلغ من هذا. انتهى. وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: "ما هذا"؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه فقال: "أنا أحق بموسى منكم"، فصامه وأمر بصيامه. وفي رواية: فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟ قالوا: هذا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن   مع العلم أنه ما ترك استحبابه، بل هو باق" إلى الآن "فدل على أن المتروك وجوبه" ويدل عليه قول ابن مسعود للأشعث، فإن كنت مفطرا فأطعم، إذ لم يبق استحبابه لقال: فأطعم بدون شرط. "وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه" إذ هو دعوى بلا دليل "بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته -صلى الله عليه وسلم، حيث قال: لئن عشت" وفي رواية: لئن بقيت، ومعناها عشت "إلى قابل لأصومن التاسع" وقوله: "والعاشر" لم يقع في رواية مسلم ولا ابن ماجه "ولترغيبه في صومه وأنه يكفر اسنة" الماضية "فإن تأكيد أبلغ من هذا. انتهى" كلام الحافظ. "وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة" فأقام إلى يوم عاشوراء من السنة الثانية، "فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال" لهم: "ما هذا"؟ الصوم "قالوا: هذا يوم صالح" ولابن عساكر: هذا يوم صالح مرتين "نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل". وفي رواية لمسلم: موسى وقومه "من عدوهم" فرعون، زاد مسلم: وغرق فرعون وقومه "فصامه" موسى، زاد مسلم: شكرا لله تعالى فنحن نصومه "فقال" صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم" للاشتراك في الرسالة والأخوة في الدين والقرابة الظاهرة دونهم؛ ولأنه أطوع وأتبع للحق منهم "فصامه وأمر بصيامه" الناس. "وفي رواية" عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء "فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟، قالوا: هذا يوم عظيم" فضله "نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق" ولبعض الرواة وغرق بلا ألف وشد الراء "فرعون وقومه، فصامه موسى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه، وفي أخرى: فنحن نصومه تعظيما له، رواه البخاري ومسلم وأبو داود. وقد أجاب صاحب "زاد المعاد" وغيره عما استشكله بعضهم في هذا الحديث -وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما قدم المدينة في شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؟ بأنه ليس في الحديث أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول، ثاني عشرة، ولكن أول علمه بذلك ووقوع القصة في اليوم الذي كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة. وقال في الفتح: غايته أن في الكلام حذفا تقديره: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا. ويحتمل أن   شكرا" لله تعالى على نجاته وقومه وإغراق عدوهم. زاد أحمد من حديث أبي هريرة: وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا "فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه" بالوحي أو تواتر النقل عنده لا تقليدا لليهود؛ لأن خبرهم لا يقبل، ويأتي بسطه في المتن. "وفي" رواية "أخرى" عن ابن عباس: فقالوا، أي اليهود: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون "فنحن نصومه تعظيما له" أي: ليوم عاشوراء "رواه البخاري" في مواضع "ومسلم وأبو داود" والنسائي في الصوم. "وقد أجاب صاحب زاد المعاد" في هدي خير العباد "وغيره عما استشكله بعضهم في هذا الحديث وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فكيف يقول ابن عباس أنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء" وذلك لا يمكن إذ عاشوراء عاشر المحرم؛ "بأنه ليس في الحديث أنه يوم قدومه وجدهم يصومونه" والتعقيب في كل شيء بحسبه تزوج فولد له "فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول ثني عشرة، ولكن أول علمه بذلك، ووقع القصة في اليوم الذي كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة. وقال في الفتح: غايته أن في الكلام حذفا" دل عليه المقام "تقديره: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع، فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما" والحذف المدلول عليه كالملفوظ به فلا إشكال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 يكون أولئك اليهود كانوا يحسبوه يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه -صلى الله عليه وسلم- المدنية. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى، لإضلالهم اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الحديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول. انتهى. وقد استشكل أيضا رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى خبر اليهود، وهو غير مقبول. وأجاب المازري: بأنه يحتمل بأنه -صلى الله عليه وسلم- أوحي إليه بصدقهم فيما قالواه، أو تواتر عنده بذلك حتى حصل له العلم بذلك. قال القاضي عياض ردا على المازري: وقد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحصل له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، فقوله: "صامه" ليس فيه أن ابتداء صومه كان حينئذ، ولو كان فيه لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره، قال: وقد قال بعضهم يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة ثم ترك   "ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون" بضم السين يعدون "يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى لإضلالهم" أي: اليهود "اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الحديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول" أن في الكلام حذفا. "انتهى" كلام الفتح. "وقد استشكل أيضا رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى خبر اليهود وهو غير مقبول؛" لأنهم كفار. "وأجاب المازري بأنه يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم بذلك" لا بمجرد إخبار اليهود. "قال القاضي عياض ردا على المازري: وقد روى مسلم" والبخاري "أن قريشا كانت تصومه" وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه "فلما قدم المدينة صامه" وأمر بصيامه "لم يحصل له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه؛" لأنه كان يصومه بمكة "وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، فقوله: صامه ليس فيه أن ابتداء صومه كان حينئذ" أي: حين قدومه المدينة "ولو كان فيه لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 صيامه حتى علم ما عند الله الكتاب منه فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث. قال النووي: المختار قول المازري، ومختصر ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش في مكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد، لا بمجرد إخبار أحادهم. انتهى. وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إليه شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه أمر بصيامه احتمل أن يكون ذلك استئلافا للهيود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما   قال عياض: "وقد قال بعضهم: يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة، ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب منه" أي: من فضل صيامه "فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث. "قال النووي: المختار قول المازري" أنه يوحي أو تواتر "ومختصر ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش بمكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه، فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد لا بمجرد إخبار آحادهم" أي: اليهود. "انتهى". "وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم" لكن مر عن عكرمة خلاف هذا "وصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير" فلا يحتاج إلى ذلك "فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه، احتمل أن يكون ذلك استئلافا لليهود" ليسلموا "كما استألفهم باستقبال قبلتهم" مدة، واستئلافهم بذلك لا يمنع أنه بوحي. وقد روي أنه أمر بالاستقبال استئلافا لليهود "ويحتمل غير ذلك، على كل حال فلم يصمه اقتداء بهم؛ فإنه كان يصومه قبل ذلك" بمكة "وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه؛" لأنه أقرب إلى الحق "ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا" إظهارا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما في حديث ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صام عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". رواه مسلم. وهذا دليل الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع. قال النووي: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى. انتهى. وفي رواية البزار من حديث ابن عباس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال -يوم عاشوراء: "صوموه وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما". ولأحمد   لعدم اعتبار ما هم عليه "كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صام عاشوراء وأمر" الناس "بصيامه قالوا" أي: الصحابة: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" فكيف تعظمه أنت؟ "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم". "وفي رواية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت" أي: عشت "إلى قابل لأصومن التاسع"، رواه" أي: المذكور من الروايتين "مسلم" في الصوم من إفراده "وهذا دليل الشافعي وأصحابه" ومالك "وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع" فصار مندوبا، وإن لم يصمه؛ لأنه عزم على صومه. "قال النووي: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث" المذكور "إشارة إلى هذا" لأنه جعله جوابا لقولهم: تعظمه اليهود "وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى ... انتهى" لإشارة الحديث إليه؛ ولأن الخلاف في أنه العاشر أو التاسع إنما حدث بعده. "وفي رواية البزار من حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم عاشوراء"، بنصب يوم بفعل يفسره قوله: "وصوموه" ويجوز رفعه "وخالفوا فيه اليهود: وصوموا قبله يوما وبعده يوما، لأحمد نحوه" وهو يؤيد أنه كي لا يشتبه باليهود "فمراتب صومه ثلاثة أدناها أن يصام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 نحوه. فمراتب صومه ثلاثة: أدناها أن يصام وحده، وأكملها أن يصام يوما قبله ويوما بعده، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث. وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين، إما بنقل العاشر إلى التاسع، وإما بصيامهما معا. والله أعلم. وفي البخاري من حديث أن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم". وهذا ظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث عليه صيامه موافقته على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى. لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أنهم يصومونه، وقد ورد ذلك صريحا في حديث مسلم كان أهل   وحده وأكملها أن يصام يوما" كذا في جميع النسخ بنصب يومان ويوجه بأن نائب فاعل يصام ضمير يعود إلى يوم عاشوراء، ونصب يوما على الحال بتقدير ضاما إليه يوما "قبله ويوما بعده، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث". "وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع" على ظاهر حديث: "لأصومن التاسع" "وإما بصيامهما معا" وهو المرجح. "والله أعلم". "وفي البخاري" ومسلم، كلاهما "من حديث" قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن "أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا" تعظيما له، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: تعظمه اليهود تتخذه عيدا "قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم" مخالفة لهم "وهذا ظاهره أن الباعث" الحامل "على الأمر بصومه مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام". "وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب" في صيامه "وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى" وقومه "لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم أنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أنهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، وهو بالشين المعجمة، أي هيئتهم الحسنة. ومحصل ما ورد في صيامه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال: إحداها: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بصيامه كما تقدم في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... الحديث. الثانية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصومونه أطفالهم، كما تقدم في حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما.   يصومونه" وبه جزم صاحب الأنموذج فقال: كان اليهود يصومون يوم عيدهم "وقد ورد ذلك صريحا في حديث مسلم" من وجه آخر عن قيس عن طارق عن أبي موسى، قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا ويلبسون" بضم التحتية "نساءهم فيه حليهم وشارتهم" فقال -صلى الله عليه وسلم: "فصوموه أنتم"، هذا باقيه "وهو بالشين المعجمة" فألف فراء ففوقية أي: "هيئتهم"، وفي شرحه لمسلم: أي: ثيابهم "الحسنة، ومحصل ما ورد في صيامه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال، إحداها: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بصيامه، كما تقدم في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... الحديث" من بقيته، وأمر بصيامه، فظاهره أنه لم يأمر بصيامه بمكة. "الثانية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به" ولم ينه عنه "صامه، وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه" فامتثلوا ذلك "حتى كانوا يصومونه" بضم الياء وفتح الصاد وشد الواو المكسورة، أي: يمنعون "أطفالهم" تناول المفطر "كما تقدم في حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما"؛ أنه صامه وأمر بصيامه، وأما تصويم الأطفال فلم يتقدم ولا هو من حديث ابن عباس، وإنما رواه مسلم عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، قالت: فكنا بعد نصومه ونصومه صبياننا ونذهب إلى المسجد، ونصنع لهم اللعبة من العهن ونذهب بها معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 الثالثة: أنه لما فرض صوم شهر رمضان ترك -صلى الله عليه وسلم- صيامه وقال: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه" ويشهد له حديث عائشة السابق. الحالة الرابعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- عزم في آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر، مخالفة لأهل الكتاب في صيامه، كما قدمناه. وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعا: "إن صوم عاشوراء يكفر سنة وإن صوم يوم عرفة يكفر سنتين". وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء. وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى ويوم عرفة منسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل. والله أعلم.   "الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك -صلى الله عليه وسلم- صيامه وقال: إن عاشوراء يوم من أيام الله" الفاضلة "فمن شاء صامه ومن شاء تركه" لأنه مستحب فقط "ويشهد له حديث عائشة السابق". "الحالة الرابعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- عزم في آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر" هو التاسع "مخالفة لأهل الكتاب في صيامه" وحده "كما قدمناه". "وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة" الحرث أو عمرو أو النعمان الأنصاري "مرفوعا" أثناء حديث "أن صوم عاشوراء يكفر سنة وأن صوم عرفة يكفر سنتين" نقل بالمعنى، ولفظ مسلم عن أبي قتادة: فذكر حديثا فيه وقال -صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله". "وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يصوم عاشوراء منسوب إلى موسى" عليه الصلاة والسلام "ويوم عرفة منسوب إل النبي -صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل". وقال العلامة زروق: ذلك لأن يوم عرفة يجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم، ويشتركان في كونهما بشهر حرام، "والله أعلم" بحقيقة الحكمة في ذلك، قال في النهاية: الاحتساب في الأعمال الصالحات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بأنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم منها طلبا للثواب فيها. وقال الطيبي: كان الأصل أن يقال: أرجو من الله أن يكفر، فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلي الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب، وأما تكفير السنة التي بعده، فقيل: إنه تعالى يحفظه عن أن يذنب فيها، وقيل: يعطي من الرحمة والثواب ما يكون كفارة السنة الآتية إن اتفق فيها ذنب، والمراد من الذنوب الصغائر، فإن لم يكن صغائر رجى التخفيف من الكبائر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 وأما ما روي: من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها، فرواه الطبراني والبيهقي في "الشعب" وفي "فضائل الأوقات"، وأبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان فقط عن أبي سعيد، والثاني فقط في الشعب عن جابر وأبي هريرة، وقال: إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه: لحديث أبي هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه، وقال: سليمان مجهول. وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه.   فإن لم يكن رفعت الدرجات. "وأما ما روي" مرفوعا: "من وسع على عياله" وهم من في نفقته "في يوم عاشوراء" وفي رواية بإسقاط في "وسع الله عليه السنة" وفي رواية: في سنته كلها" دعاء أو خبر، وذلك أن الله سبحانه أغرق الدنيا بالطوفان فلم يبق إلا سفينة نوح بمن فيها، فرد عليهم دنياهم يوم عاشوراء وأمروا بالهبوط للتأهب للعيال في أمر معاشهم بسلام وبركات عليهم وعلى من في أصلابهم، فكان ذلك يوم التوسعة والزيادة في وظائف المعاش، فيسن زيادة ذلك في كل عام ذكره الحكيم الترمذي، وذلك مجرب للبركة والتوسعة. قال جابر الصحابي: جربناه فوجدناه صحيحا. وقال سفيان بن عيينة: جربناه خمسين أو ستين سنة "فرواه الطبراني" في الأوسط "والبيهقي في الشعب وفي فضائل الأوقات، و" رواه "أبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان" الطبراني والبيهقي "فقط عن أبي سعيد" الخدري. "والثاني" البيهقي "فقط في الشعب عن جابر وأبي هريرة، وقال" البيهقي: "إن أسانيده كلها ضعيفة ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه لحديث أبي هريرة" خبر مبتدؤه "طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ" محمد السلامي البغدادي. "وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه" أي: أبي هريرة "وقال: سليمان مجهول" ورده عليه الحافظ وجزم في تقريبه بأن سليمان مقبول من الثالثة، أي: الطبقة الوسطى من التابعين "وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه" في توثيق من لم يجرح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 قال: وله طريق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر في "الاستذكار" من رواية أبي الزبير عنه، وهي أصح طرقه. ورواه هو والدارقطني في "الإفراد" بسند جيد عن عمر موقوفا عليه، والبيهقي في "الشعب" من جهة محمد بن المنتشر، قال: كان يقال .... وذكره.   "قال" العراقي: "وله طريق عن جابر على شرط مسلم، أخرجها ابن عبد البر في الاستذكار" اسم شرحه الصغير على الموطأ "من رواية أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي "عنه" أي: جابر "وهي أصح طرقه، ورواه هو" أي: ابن عبد البر "والدارقطني في الإفراد" بفتح الهمزة "بسند جيد" أي: مقبول "عن عمر" بن الخطاب "موقوفا عليه و" رواه "البيهقي في الشعب" للإيمان "من جهة" أي: طريق "محمد بن المنتشر" الهمداني الكوفي "قال: كان يقال وذكره" وهذه كلها عبارة شيخه في المقاصد الحسنة بالحرف، ولعبد الملك بن حبيب في الواضحة: لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في الأخيار مذكورا قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولا وجدنا عليه الحق والنورا من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشته في الحول محبورا فارغب فديتك فيما فيه رغبنا ... خير الورى كلهم حيا ومقبورا قال الحافظ السيوطي: هذا من هذا الإمام الجليل يدل على أن للحديث أصلا، وما يذكر من فضيلة الاغتسال فيه والخطاب والإدهان والاكتحال ونحو ذلك، فبدعة ابتدعها قتلة السين كما صرح به غير واحد، ونظم بعضهم ذلك فقال: في يوم عاشوراء عشر تتصل ... بها اثنتان ولها فضل نقل صم صل زرعا لما عد واكتحل ... رأس اليتيم امسح تصدق واغتسل ومع على العيال قلم ظفرا ... وسورة الإخلاص قل ألفا تصل وذيله شيخ شيوخنا النور الأجهوري بقوله: ولم يرد من ذا سوى الصوم كذا ... توسعة وغير هذا نبذا وكذا لا أصل للحبوب في يومه ويعزي للحافظ: في يوم عاشوراء سبع تهترس ... بر وأرز ثم ماش وعلس وحمص واللوبيا والفول ... هذا هو الصحيح والمنقول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 الفصل الثالث: في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. رواه البخاري ومسلم، وفي أخرى لهما: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله. وفي رواية الترمذي: كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله. وفي رواية أبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه   "الفصل الثالث: في" ذكر أحاديث "صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان" الدالة على فضله واستحباب صيامه، وتقدير هل وجد أم لا؟، وأنه أولى من قول الحافظ في قول البخاري باب صوم شعبان، أي: استحبابه، ومن تقدير المصنف فصل فتعسف؛ لأن موضوع المقصد في عباداته -صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها صيامه في شعبان الذي تظاهرت به الأحاديث لا السؤال عن وجوده وعدمه وأولويته على تقدير الشارحين لا تظهر. "عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط" لئلا يظن وجوبه "إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر" بالنصب ثاني مفعول رأيت "صياما" بالنصب لأكثر الرواة وروي بالخفض. قال السهيلي: وهو وهم، لعل بعضهم كتب صيام بلا ألف على رأي من يقف على المنصوب بلا ألف فتوهم مخفوضا، أو أن بعض الرواة ظن أنه مضاف؛ لأن صيغة أفعل تضاف كثيرا فتوهمها مضافة وذلك لا يصح هنا قطعا "منه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مسلم: منه صياما بتقديم منه "في شعبان" يتعلق بصياما، والمعنى: كان يصوم في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والنسائي. "وفي" رواية "أخرى لهما" عن عائشة قالت: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصومه كله" زاد في رواية مسلم متصلا بقوله: كله: كان يصوم شعبان إلا قليلا. "وفي رواية الترمذي" عن عائشة: "كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله" ببل التي للإضراب. "وفي رواية أبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه" بدل من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 شعبان، ثم يصله برمضان. وللنسائي: كان يصوم شعبان، أو عامة شعبان. وفي أخرى له: كان يصوم شعبان إلا قليلا. وفي أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله. قال الحافظ ابن حجر: أي يصوم معظمه. ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله: أن الرواية الأولى مفسرة للثانية ومخصصة لها، وأن المراد بـ "الكل" الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال. واستبعده الطيبي وقال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان.   الشهور، ويجوز رفع أحب ونصب "شعبان" خبر كان ويجوز عكسه "ثم يصله برمضان" فهذا أيضا ظاهر في صومه كله "وللنسائي" عنها: "كان يصوم شعبان أو عامة شعبان" تحتمل أو الشك والإضراب "وفي أخرى له" للنسائي، عنها: "كان يصوم شعبان إلا قليلا، وفي أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله". "قال الحافظ ابن حجر" جمعا بين الروايتين "أي: يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن" عبد الله "بن المبارك؛ أنه قال: جائز في كلام العرب" أي: لغتهم "غذا صام أكثر الشهر أن يقول" القائل في شأنه: "صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره" غير القيام. "قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك" الذي نقله عن العرب "وحاصله؛ أن الرواية الأولى" وهي قوله: إلا قليلا "مفسرة للثانية:" كان يصوم شعبان كله "ومخصصة لها، وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال، واستبعده الطيبي" فقال: كل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التحوز من احتمال البعض، فتفسيره بالبعض مناف له. انتهى، لكن الاستبعاد لا يمنع الوقوع؛ لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما والمخرج متحد وهو عائشة وهي من الفصحاء، وقد نقله ابن المبارك عن العرب: ومن حفظ حجة. "وقال" الطيبي: جمعا بينهما "يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان" وتعقب بأن قولها: كان يصومه كله يقتضي تكرار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أوائل أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى. ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب. واختلف في الحكمة في إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من صيام شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها في شعبان. أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق بن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة. قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم   الفعل، وأن ذلك عادة له على المعروف من هذه العبارة، وجزم ابن دقيق العيد بأنها تقتضيه عرفًا، لكن صحيح الرازي والنووي أنها لا تقتضيه لا لغة ولا عرفا، فجوابه مستقيم على هذا القول. "وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة" كله "على المبالغة، والمراد الأكثر" بدليل قولها: إلا قليلا "وإما أن يجمع بأن قولها الثاني:" كان يصوم شعبان كله "متأخر عن قولها الأول:" كان يصومه إلا قليلا "فأخبرت عن أوائل أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى، ولا يخفى تكلفه" لتوقفه على معرفة الأول والثاني ولا تكلف فيه، إذ هو طريق آخر في الجواب بالاحتمال. "والأول" أي: حمله على المبالغة "هو الصواب" زاد الحافظ، ويؤيده قول عائشة في مسلم والنسائي: ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان وهو مثل حديث ابن عباس في الصحيحين "واختلف في الحكمة في إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من صيام شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فيجتمع فيقضيها في شعبان". "وأشار لى ذلك ابن بطال" في شرح البخاري "وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق" محمد بن عبد الرحمن "بن أبي ليلى" فنسبه إلى جده بدليل قوله: "عن أخيه عيسى" بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي ثقة كما في التقريب، روى له أصحاب السنن الأربعة "عن أبيه" عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين ورجال الجميع "عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك" لعارض يمنعه من صيامها كسفر "حتى يجتمع عليه صوم السنة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 شعبان. وابن أبي ليلى ضعيف، وقيل: كان يضع الحديث. وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان لتعظيم رمضان". قال الترمذي: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس القوي. لكن يعارضه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم". والأولى في ذلك ما في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد أنه قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر   فيصوم شعبان، و" محمد "بن أبي ليلى ضعيف". "وقيل: كان يضع الحديث" واقتصر في التقريب على أنه صدوق سيئ الحفظ جدا. "وقيل:" في حكمة إكثاره: "كان" صلى الله عليه وسلم "يصنع" أي: يفعل "ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى" البصري، صدوق له أوهام "عن ثابت" البناني "عن أنس قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟، قال: "شعبان لتعظيم رمضان". "قال الترمذي: حديث غريب وصدقة عندهم" أي: المحدثين "ليس بالقوي" لأوهامه "لكن يعارضه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" لفظ سلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم". وفي رواية له: "صيام شهر الله المحرم"، زاد الحافظ: وقيل: حكمة ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، وهذا عكس ما مر في حكمة كونهن يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ لأنه ورد فيه أن ذلك لاشتغالهن به عن الصوم، وقيل: حكمة ذلك أنه يعقبه رمضان وهو فرض، فأكثر في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لا يفوته، أي: فلا يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان. "والأولى في" حكمة "ذلك ما في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد أنه قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر". وفي نسخة: شهرا بنصبه بنزع الخافض "الشهور ما تصوم من شعبان؟، قال: "ذاك شهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". فبين -صلى الله عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: "إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما، فصار مغفولا عنه، وكثيرا من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنه شهر حرام وليس كذلك. وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها أن تكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها: أنه أشق على النفوس؛ لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بني الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم. وقد روي في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال،   يغفل" بضم الفاء "الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين" رفعا خاصا غير الرفع العام بكرة وعشيا "فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" لكونه من أفضل الأعمال، ووعد الله أنه الذي يجزي به "فبين -صلى الله عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: "إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه" أحاط به "شهران عظيمان: الشهر الحرام" رجب "وشهر الصيام اشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه" مع رفع الأعمال فيه إلى الله "وكثيرا من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه" أي: شعبان "لأنه" أي: رجب "شهر حرام وليس كذلك". فقد روى ابن وهب بسنده عن عائشة قالت: ذكر للنبي -صلى اله عليه وسلم- ناس يصومون شهر رجب، فقال: "فأين هم من شعبان" "وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها: أن تكون" أي: الطاعة "أخفى، وإخفاء النوافل وأسرارها" عطف تفسير "أفضل لا سيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه ومنها: أنه أشق على النفوس؛ لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بني الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى" اقتدى "بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم" وأفضل العمل أشقه، ومنها: أن المنفرد بالطاعة بين الغافلين قد يرفع به البلاء عن الناس. "وقد روي في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال" أي: تنقل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 فروي -بإسناد فيه ضعف- عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان؟ قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض، فأنا أحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم. وقد روي مرسلا، وقيل: إنه أصح. وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء في النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينهما   وتفرد أسماء من يموت في تلك الليلة إلى مثلها من العام القابل، عن أسماء: من لم يمت من أم الكتاب فيكتب في صحيفة ويسلم إلى ملك الموت. "فروي" عند أبي يعلى والخطيب وغيرهما "بإسناد فيه ضعف، عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان، فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان" وفي رواية: أرى أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان "قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض" بالبناء للمفعول، ويجوز للفاعل، أي: ملك الموت روحه من شعبان إلى شعبان "فأحب أن لا ينسخ:" يكتب "اسمي إلا وأنا صائم". وفي رواية أبي يعلى: إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم، أي يأتيني كتابة أجلي، وفيه: أن كتابته في زمن عبادة يرجى لصاحبها الموت على خير، وإن من أولى تلك العبادة الصوم؛ لأنه يروض النفوس وينور الباطن ويفرغ القلب للحضور مع الله. "وفي روي مرسلا" عن التابعي بدون ذكر عائشة "وقيل: إنه أصح" من وصله بذكرها "وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر، وهو أن صيامه كالتمرين:" التعويد "على صيام رمضان لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن الصوم واعاده" عطف تفسير "ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته" تفسير لحلاوة "فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين" كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يوم صومه فليتم ذلك اليوم". "وكذا ما جاء في النهي عن صوم نصف شعبان، الثاني" في أبي داود وغيره مرفوعًا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 ظاهر، بأن يحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صيام اعتاده. وأجاب النووي عن كونه عليه السلام لم يكثر الصوم في المحرم، مع قوله: "إن أفضل الصيام ما يقع فيه" بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم في المحرم. وأما شهر رجب بخصوصه -وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووي وغيره- فلم يعلم أنه صح أنه -صلى الله عليه وسلم- صامه، بل روي عنه من حديث ابن عباس، مما صحح وقفه، أنه نهى عن صيامه. ذكره ابن ماجه لكن في سنن أبي داود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. وفي حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "صم من الأشهر   إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" "فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صوم اعتاده" كما نص عليه بقوله: إلا رجل.. إلخ. "وأجاب النووي عن كونه عليه السلام لم يكثر الصوم في المحرم مع قوله" ما معناه: "أن أفضل الصيام ما يقع فيه" وسبق لفظه قريبا "بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم" لا من أصل الصيام "أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم في المحرم" لا من أصل الصوم فيه، فإنه كان يصوم. "وأما شهر رجب بخصوصه، وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووي وغيره،" جملة معترضة بين أما وجوابها وهو: "فلم يعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- صامه، بل روي عنه من حديث ابن عباس مما صحح وقفه" على ابن عباس "أنه نهى عن صيامه ذكره" أي: رواه "ابن ماجه" عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن صيام رجب كله. قال الذهبي وغيره: حديث لا يصح فيه راو ضعيف متروك، وقد أخذ به الحنابلة، فقالوا: يكره إفراده بالصوم وهل هو صوم كله، أو أن لا يقرن به شهر آخر وجهان عندهم. "لكن في سنن أبي داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها" فيندب صومه "و" ذلك عنده، أعني أبا داود "في حديث مجيبة" بضم الميم وكسر الجيم بعدها تحتانية ثم موحدة امرأة من الصحابة، ويقال: هو اسم رجل كما في التقريب فيما يوجد في نسخة من المتن جحيفة من تصحيف الكتاب لا عبرة بها "الباهلية" بكسر الهاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 "الحرم واترك"، قالها ثلاثا. وفي رواية مسلم عن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب -ونحن يومئذ في رجل- فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم. والظاهر: أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقي الشهور. وفي "اللطائف": روي عن الكتاني أخبرنا تمام الرازي حدثنا القاضي يوسف   نسبة إلى باهلة، قبيلة "عن أبيها أو عمها" شك الراوي "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له" أي: لأبيها أو عمها: "صم من الأشهر الحرم" بضمتين جمع حرام "واترك"، قالها" أي: هذه الجملة "ثلاثا" من المرات للتأكيد. ولفظ أبي داود عن أبي السليل عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها؛ أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيئته، فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟، قال: "من أنت"؟، قال الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال: "فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة"؟، قال: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لم عذبت نفسك"؟، ثم قال: "صم شهر الصبر رمضان ويوما من كل شهر"، قال: زدني فإن بي قوة، قال: "صم يومين"، قال: زدني، قال: "صم ثلاثا"، قال: زدني، قال: "صم من الحرم واترك"، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك،" وقال: بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها. "وفي رواية مسلم عن عثمان بن حكيم:" بفتح الحاء وكسر الكاف ابن عبادة بن حنيف بمهملة ونون وفاء مصغر "الأنصاري" الأوسي، المدني ثم الكوفي "قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب ونحن يومئذ في رجب، فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى" ينتهي صومه إلى غاية "نقول: لا يفطر ويفطر حتى" ينتهي حاله إلى غاية "نقول: لا يصوم، والظاهر أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقي الشهور" إذ لم يثبت في صومه نهي ولا ندب بعينه، وإن كان أصل الصوم مندوبًا إليه، نعم حديث الباهلي قبله: قد يقتضي ندب الصوم منه. "وفي اللطائف" لابن رجب الحنبلي: "روي عن الكتاني" بفتح الكاف وشد الفوقية نسبة إلى الكتان عبد العزيز بن أحمد التميمي، الدمشقي، الصوفي، الإمام المحدث المتقن، سمع الكثير وألف وجمع "أنا" اختصار في الكتابة، لقوله: أخبرنا "تمام" بن محمد بن عبد الله بن جعفر "الرازي" الأصل ثم الدمشقي، ولد بها وسمع أباه وخلقا، وعنه جماعة: كان حافظا عالما بالحديث والرجال خيرا، قال تلميذه الكتاني: كان ثقة لم أر أحفظ منه في حديث الشاميين "أنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يوسف بن موسى السراج حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم في رجب؟ قال: نعم ويشرفه، قالها ثلاثا، أخرجه أبو داود وغيره. وعن أبي قلابة قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب. قال البيهقي: أبو قلابة هذا من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ. الفصل الرابع: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عشر ذي الحجة والمراد بها الأيام التسعة من أول ذي الحجة.   القاضي يوسف" بن يعقوب إسماعيل بن حماد بن زيد البصري ثم البغدادي الإمام الحافظ الثقة الصالح، العفيف المهاب، الشديد على الحكام، ولي قضاء البصرة وواسط "حدثنا" اختصار لحدثنا في الكتابة "محمد بن إسحاق السراج" بشدة الراء الحافظ، قال: "حدثنا يوسف بن موسى السراج، حدثنا حجاج بن منهال" بكسر الميم السلمي مولاهم البصري من رجال الجميع، قال: "حدثنا حماد بن سلمة" بن دينار من رجال مسلم "حدثنا حبيب المعلم" البصري مولى معقل بن يسار، قيل: اسم أبيه زائدة، وقيل: زيد "عن عطاء" بن أبي رباح "أن عروة" بن الزبير "قال لعبد الله بن عمر" بن الخطاب: "هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم في رجل؟، قال: نعم ويشرفه" أي: يذكر أن فيه فضلا "قالها ثلاثا" أي: ثلاث مرات "أخرجه أبو داود وغيره" من طريق حجاج بن منهال به "وعن أبي قلابة" بكسر القاف وخفة اللام وموحدة عبد الله بن زيد الجرمي بفتح الجيم وإسكان الراء البصري "قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب، قال البيهقي: أبو قلابة هذا من كبار التابعين، لا يقوله إلا عن بلاغ". قال ابن رجب: وهذا أصح ما ورد فيه، وهذا كما قال غيره لا يقتضي صحته؛ لأنهم يعبرون بمثل ذلك في الضعيف كما يقولون أمثل ما في الباب، وهذا وإن صح عن أبي قلابة فهو مقطوع، إذ المقطوع قول التابعي وفعله. وعند البيهقي عن أنس مرفوعا: "إن في الجنة نهرا يقال له رجل أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر"، ضعفه ابن الجوزي وغيره، وصرح الحافظ وغيره بأنه لم يثبت في صومه حديث صحيح. "الفصل الرابع: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عشر ذي الحجة، والمراد بها الأيام التسعة من أول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة. رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائما في العشر قط. رواه مسلم والترمذي. وهذا يوهم كراهة صوم العشر، وليس فيها كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد ثبت في صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه" يعني العشر الأول من ذي الحجة، واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لا ندراج الصوم في   ذي الحجة؛" لأن العاشر العيد وصومه حرام "عن هنيدة" بهاء ونون مصغر "ابن خالد" الخزاعي، ويقال: النخعي ربيب عمر مذكور في الصحابة، وقيل: تابعي كبير، وذكره ابن حبان في الموضعين "عن امرأته:" لم أقف على اسمها وهي صحابية "عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم" هي حفصة، قاله الحافظ. وقال المنذري: اختلف فيه على هنيدة، فمرة قال هكذا، ومرة عن حفصة ومرة عن أم سلمة "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة" ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى، هذا بقية ذا الحديث الذي "رواه أبو داود" والنسائي وأحمد وحسنه بعض الحفاظ، وقال الزيلعي: حديث ضعيف. "وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائما في العشر قط" أي: عشر ذي الحجة، والمراد به التسع كما مر "رواه مسلم والترمذي وهذا يوهم كراهة صوم العشر" أي: التسع "وليس فيها كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا" فقد روى الترمذي وابن ماجه بسند فيه مقال عن أبي هريرة مرفوعا: "ما من أيام أحب إلى الله تعالى أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" "لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة" ولما صح أنه يكفر سنتين "فقد ثبت في صحيح البخاري" في كتاب العيد عن ابن عباس "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه، يعني العشر الأول من ذي الحجة" كذا ساقه المصنف، والذي في البخاري ما العمل في أيام أفضل منها في هذه. قال الحافظ: كذا الأكثر الرواة بإبهام أيام، وفي رواية كريمة عن الكشميهني: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه، وروايتها شاذة مخالفة لما رواه أبو ذر، وهو من الحفاظ عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 العمل. واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد؟ وأجيب: بأنه محمول على الغالب. ويتأول قولها -يعني عائشة: "لم يصم العشر" على أنه لم يصمه لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل عليه حديث هيندة بن خالد الذي ذكرته. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب: ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى. وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي   الكشميهني شيخ كريمة، بلفظ: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر"، وكذا أخرجه أحمد وغيره ورواه الطيالسي في مسنده، والدارمي بلفظ: "ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة"، ورواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بلفظ: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر"، ولفظ الترمذي: "من هذه الأيام العشر" بدون يعني، وظن بعضهم أن قوله يعني تفسير من بعض رواته، لكن ما ذكرناه من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر. انتهى فلم يعز اللفظ الذي ساقه المصنف إلا لغير البخاري. "واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل" لشموله له وللصلاة والذكر والصدقة وغير ذلك "واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد وأجيب بأنه محمول على الغالب" أي: الأكثر من الأيام العشرة "ويتأول" أي: يحمل "قولها، يعني عائشة: لم يصم العشر على أنه لم يصمه" حينا "لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر؛" لأنها إنما نفت رؤيتها. "ويدل عليه حديث هنيدة بن خالد الذي ذكرته" أولا: كان يصوم تسع ذي الحجة والمثبت متقدم على النافي، وقد يقسم لتسع فلم يصمها عند عائشة وصام عند غيرها، ورد بأنه يبعد كل البعد أن يلازم عدة سنين على عدم صومه في نوبتها دون غيرها، فالجواب الأول أسد. "قال الحافظ بن حجر: وقد وقع" عند الدارمي وأبي عوانة "في رواية القاسم بن أبي أيوب" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله" العامل "في عشر الأضحى". "وفي حديث جابر" بن عبد الله المروي "في صحيحي" بالتثنية "أبي عوانة وابن حبان" مرفوعا: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 الحجة" فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك: فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين الحديث السابق وبين حديث أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة" رواه مسلم. أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه، وقال الداودي: لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد يكون منها يوم الجمعة، يعني: فيلزم تفضيل الشيء على نفسه، وتعقب: بأن المراد: كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة في غيره لاجتماع الفضيلتين فيه، والذي يظهر أن السبب في امتياز   ذي الحجة على غيرها من أيام السنة" وظهر بذلك أيضا أن المراد بالأيام في حديث ابن عباس: أيام عشر ذي الحجة، لكنه يشكل على ترجمة البخاري عليه باب فضل العلم في أيام التشريق، وأجيب بأن الشيء يشرف بمجاورة الشريف وأيام التشريق تلو أيام العشر الثابت لها الفضيلة بهذا الحديث فثبتت لأيام التشريق، وبأن شرف العشر إنما هو لوقوع أعمال الحج فيه، وباقي أعماله تقع في أيام التشريق، كرمي وطواف وغيرهما من تتماته فاشتركت معها في أصل الفضل، وبأن ختام العشر مفتتح أيام التشريق، فمهما ثبت للعشر من الفضل شاركتها فيه؛ لأنه يوم العيد بعضها، بل هو رأس كل منهما وشريفه وهو يوم الحج الأكبر. "وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعا بين الحديث السابق، وبين حديث أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة"، رواه مسلم" ومر شرحه "أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه" على مسلم. "وقال الداودي" أحمد بن نصر في شرح البخاري: "لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد" للتحقيق "يكون منها يوم الجمعة، يعني: فيلزم تفضيل الشيء على نفسه" وهو باطل "وتعقب بأن المراد كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء كان يوم الجمعة أم لا ويوم الجمعة فيه" أي: في العشر "أفضل من يوم الجمعة في غيره لاجتماع الفضيلتين فيه" أي: كونه من أيام العشر وكونه يوم الجمعة "والذي يظهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 عشر ذي الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها. وعلى هذا: يخص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى. وقال أبو أمامة ابن النقاش: فإن قلت: أيما أفضل، عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟ فالجواب: أن أيام عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي ما رئي الشيطان في يوم غير يوم بدر أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه فيه، وهو يوم عرفة، ولكون صيامه يكفر سنتين، ولاشتمالها على أعظم الأيام عند الله حرمة وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر، وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل في قوله: "ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" الحديث، فتأمل قوله: "ما من أيام" دون   أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة" بالفضل على غيره "إمكان اجتماع أمهات" أي: أصول "العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وعلى هذا هل يخص الفضل بالحاج" لأنه الذي تميزت به "أو يعم المقيم فيه احتمال" والثاني ظاهر الحديث لاسيما على رواية: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى"، فإن المتبادر منه تفضيل عمل، أي: عامل وإن لم يكن حاجا. "انتهى" كلام الحافظ. "وقال أبو أمامة ابن النقاش: فإن قلت: أيما أفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان، فالجواب أن أيام عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي ما رئي" بالبناء للمفعول "الشيطان في يوم غير يوم بدر أدحر" بفتح الهمزة وإسكان الدال وفتح الحاء وراء مهملات، أي: أبعد من الخير. قال تعالى: {مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] ، أي: مبعدا من رحمة الله تعالى "ولا أغيظ" أشد غيظا محيطا بكبده وهو أشد الحنق "ولا أحقر" أذل وأهون عند نفسه؛ لأنه عند الناس حقر أبدا "منه فيه وهو يوم عرفة" قال -صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام"، خرجه مالك "ولكون صيامه يكفر سنتين" الماضية والآتية "ولاشتمالها" أي: العشر "على أعظم الأيام حرمة عند الله وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل" صلى الله عليه وسلم "في قوله: "ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" الحديث، فتأمل قوله: "ما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 أن يقول: ما من عشر ونحوه. ومن أجاب بغير هذا التفضيل لم يدل بحجة صحيحة صريحا. الفصل الخامس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس. رواه الترمذي والنسائي.   من أيام دون أن يقول ما من عشر ونحوه" يرد عليه رواية في عشر الأضحى السابقة قريبا، وليس فيها لفظ أيام "ومن أجاب بغير هذا التفضيل. لم يدل" أي: لم يبين ما ذهب إليه "بحجة صحيحة" وهذا قد تعقب بأن الأيام إذا أطلقت دخل فيها الليالي تبعا. وفي البزار وغيره عن جابر مرفوعا: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر"، وقد أقسم الله بها في قوله: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1] ، ولو صح حديث أبي هريرة عند الترمذي قيام ليلة منها بقيام ليلة القدر لكان "صريحًا" في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة، وهذا جميع لياليه متساوية، والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين أن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها. انتهى، على أن كون ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان غير محقق، إذ في تعيينها أقوال كثيرة مرت قبل هذا الموضع. "الفصل الخامس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع" أي: ذكر الأحاديث في أيام صومه عليه السلام من الأسبوع. "عن عائشة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام الاثنين والخميس" أي: يتعمد صيامهما أو يجتهد في إيقاع الصوم فيهما؛ لأن الأعمال تعرض فيهما كما يأتي؛ ولأنه تعالى يغفر فيهما لكل مسلم إلا المتهاجرين كما رواه أحمد، ولا يشكل استعمال الاثنين بالنون مع تصريحهم بأن المثنى والملحق به يلزم الألف إذا جعل علما ويعرب بالحركات؛ لأن عائشة من أهل اللسان، فدل على أنه لغة "رواه الترمذي والنسائي" وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وأعله ابن القطان برواية عن عائشة: وهو ربيعة الجرشى وهو مجهول. قال الحافظ: وأخطأ فيه فهو صحابي، وتعقب بأن إطلاقه التخطئة غير صواب، فإنه قال في تقريبه: مختلف في صحبته، وسبقه إلى ذلك شيخه الزين العراقي، فقال في شرح الترمذي: إنه مختلف في صحبته، وذكره ابن سعد في طبقاته الكبرى في الصحابة، وفي الصغرى في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 وعن أبي قتادة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل علي". رواه مسلم. وعن أبي هريرة أن -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". رواه الترمذي. وعن أسامة بن زيد: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال:   التابعين: وكذا ذكره ابن حبان في الصحابة، وفي التابعين، وقال الواقدي: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حاتم: لا صحبة له، وذكره أبو زرعة الرازي في الطبقة الثالثة من التابعين. "وعن أبي قتادة" الحارث أو عمرو، أو النعمان الأنصاري "قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم الاثنين، فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل علي" {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ". قال الطيبي: أي فيه وجود نبيكم ونزول كتابكم وثبوت نبوته، فأي يوم أفضل وأولى للصائم منه فاقتصر على العلة، أي: سلوا عن فضيلته؛ لأنه لا مقال في صيامه فهو من أسلوب الحكيم. انتهى. والمتبادر أن السؤال عن فضيلته فالجواب طبق السؤال، إذ لا يليق سؤال الصحابي عن جواز صيامه، لا سيما إن رأى أو علم أنه -صلى الله عليه وسلم- صامه، وحاصل التنزل أنه لا بد من تقدير مضاف وهو إما فضل وإما جواز، إذ لا معنى للسؤال عن نفس الصوم، فدل الجواب على أن التقدير فضل "رواه مسلم" هكذا مختصرًا، ورواه قبله في حديث طويل عن أبي قتادة بلفظ: وسئل عن صوم الاثنين، فقال: "ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه". قال المصنف في شرحه: يحتمل أن يريد بقوله: بعثت: أنزل القرآن عليه، فإنه ما بعثت حتى أنزل عليه اقرأ، فمعناه ومعنى أنزل علي واحد، والشك من الراوي. ويحتمل أن يراد بقوله: أنزل علي سورة المدثر؛ لأنها نزلت بعد فترة الوحي. انتهى، لكن إنما يتأتى هذا لو كان، وأنزل علي بالواو، وأما وهو بأو فالمتبادر أنها شك. "وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال" أي: يعرضها ملك موكل بجمعها "على الله يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي" على الله تعالى "وأنا صائم" لما فيه من الثواب الذي لا يعلمه غيره "رواه الترمذي". "وعن أسامة بن زيد" الحب ابن الحب "قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد" تقارب "تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين، إن دخلا في صيامك" صمتهما "وإلا" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 "أي يومين"؟ قلت: يوم الاثنين والخميس، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". رواه النسائي. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وهذا   يدخله فيه، بل في فطرك "صمتهما؟، قال: "أي يومين"؟، قلت: "يوم الاثنين والخميس"، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"، رواه النسائي". "وروى علي بن أبي طلحة" سالم مولى بني العباس صدوق وقد يخطئ، أرسل عن ابن عباس ولم يره، قاله في التقريب. "عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} مراقب {عَتِيدٌ} ، حاضر "قال: يكتب" المتلقيان المذكوران في قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] . قال ابن عطية: وهما الملكان الموكلان بكل إنسان، ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيئات، فيكتب كاتب الحسنات "كل ما تكلم به" متكلم "من خير و" يكتب كاتب السيئات كل ما تكلم به من "شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت" أي أن كاتب السيئات يكتب حتى المباحات كالمذكورات "حتى إذا كان" وجد "يوم الخميس عرض قوله وعمله" على الله تعالى "فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره" وهو المباح، وهذا نقل نحوه ابن عطية عن الحسن البصري وقتادة وغيرهما، ونقل عن عكرمة أنهما يكتبان الخير والشر، وما خرج عنهما لا يكتب، قال: والأول هو الصواب وهو ظاهر هذه الآية. وروي أن رجلا قال لجمله: حل، فقال ملك اليمين: لا أكتبها، وقال ملك الشمال: لا أكتبها، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك صاحب اليمين، قال: وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه بيعيره، فإن كان في طاعة فحل حسنة، وإن كان في معصية فهي سيئة، والمتوسط بين هذين عسير الوجود، فلا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه. انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 عرض خاص في هذين الوقتين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض خاص دائم بكرة وعشيا. ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال: "إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" الحديث.   "وهذا عرض خاص في هذين الوقتين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض خاص" بكل يوم فتغايرا، وفي نسخة عرض عام وهي ظاهرة "دائم بكرة وعشيا" وفي جميع ذلك حكم: خفية وإلا فلا يخفى عليه شيء. "ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم" في الإيمان "عن أبي موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري، قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات" أي: جمل "فقال: إن الله تعالى لا ينام" أي لا يقع منه نوم "ولا ينبغي" لا يصح "له أن ينام" لأنه موت وهو الحي الدائم الباقي؛ ولأنه هواه ينزل من أعلى الدماغ يفقد معه الحس تعالى الله عن ذلك، فتعلق نفي الأول الوقوع، والثاني الصحة، فالعطف تأسيس إذ لا يلزم من نفي الوقوع نفي الصحة "يخفض القسط" بكسر القاف "ويرفعه" قيل: هو الميزان لحديث أبي هريرة عند الشيخين، وبيده الميزان يخفض ويرفع، وقيل: هو نصيب كل مخلوق من الرزق وخفضه ورفعه كنايتان عن التقليل والتكثير، وقيل: هو الشريعة يرفعها، أي يظهرها بوجود الأنبياء والعلماء ويخفضها بدرس الحق والرجوع عن اتباعه "يرفع" إلى المحل المضاف "إليه" تعظيما له الذي يقبض فيه أعمال العباد والعله سدرة المنتهى، أو إلى الملائكة الموكلين بقبض ذلك كما يقال: رفع المال إلى الملك، أي إلى زانته، أو إلى من أقامه لقبضه؛ لأنه تعالى لا يجوز تخصيصه بجهة ولا مكان "عمل الليل قبل" الأخذ في عمل "النهار" أي في آخر النهار "وعمل النهار قبل" الأخذ في عمل "الليل" أي في آخره قبل فراغه، فلا خلاف بين هذا وبين الرواية الثانية لمسلم يرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار. هكذا قرره القرطبي فجعله من مجاز الحذف بدليل الرواية الثانية ويشهد له حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر"، فإنه يقتضي أن عمل النهار يرفع بالنهار وعمل الليل بالليل، إذا جعل ما بعد الفجر من الليل، وجمع النووي بأن عمل الليل يرفع بأول النهار الذي يليه، وعمل النهار بأول الليل الذي يليه؛ لأن الملائكة إنما تصعد بعمل الليل قبل انقضائه في أول النهار وتصعد بعمل النهار بعد انقضائه في أول الليل. انتهى، وهو أيضا مجاز وكلاهما حسن "الحديث" تمامه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 وعن أم سلمة كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة، وفي أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه. رواه النسائي. وعن عائشة: كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذي. وعن كريب، مولى ابن عباس، قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثرها صياما؟ قالت: السبت والأحد، ويقول: "إنهما عيدا المشركين، وأنا أحب أن أخالفهما". رواه أحمد والنسائي، وفيه محمد بن عمر، ولا يعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد ولا يعرف حاله أيضا.   وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. "وعن أم سلمة" هند أم المؤمنين قالت: "كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم في كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس من هذه الجمعة" الأولى من الشهر، فيصوم أول اثنين منه وخميس "والاثنين من" الجمعة "المقبلة، وفي أول اثنين من الشهر، ثم الخميس" التالي له "ثم الخميس الذي يليه" من الجمعة المقبلة، أي أنه كان تارة يفعل هذا، وأخرى هذا، والبداءة بالاثنين فيهما "رواه النسائي". "وعن عائشة: كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" فبين أن صيام الثلاثة يكون في جميع الأسبوع ولم يوال الستة لئلا يشق على أمته ولم يذكر الجمعة في هذا الحديث، وذكره في حديث ابن مسعود، بلفظ: فلما كان يفطر يوم الجمعة "رواه الترمذي" وقال: حسن. "وعن كريب" بضم الكاف مصغر "مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثرها صياما؟، قالت: السبت والأحد، ويقول:" يبانا لذلك "إنهما عيدا" بالتثنية "المشركين" اليهود والنصارى "وأنا أحب أن أخالفهما"، رواه أحمد والنسائي وفيه محمد بن عمر" بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي "ولا يعرف حاله" أي أنه مجهول "ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد ولا يعرف حاله أيضا" لكونه مجهولا، كذا جزم المصنف بأنهما مجهولان، وهو خلاف قول الحافظ في التقريب أن محمدا صدوق، وعبد الله ابنه مقبول بموحدة، أي: في روايته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 وعن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي. قال بعضهم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا: ونظير هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن   "وعن عبد الله بن بسر" بضم الموحدة وإسكان المهملة الصحابي "عن أخته الصماء" بنت بسر المازنية يقال: اسمها بهيمة، لها صحبة، وحديث: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" أي لا تقصدوا صومه إلا في فرض كمن أسلم، أو أفاق من جنون أو مرض أو بلغ، ولم يبق من الشهر إلا السبت فيصومه "فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء" بكسر وحاء مهملة والمد والقصر قشر "عنبة أو عود شجرة فليمضغه" في رواية: فليمصه، وفي أخرى: فليفطر عليه. قال الحافظ العراقي: هذا مبالغة في النهي عنه؛ لأن قشر شجر العنب جاف لا رطوبة فيه البتة، بخلاف قشر غيره من الأشجار والنهي للتنزيه، وعليه الشافعية وبعض الحنفية، وذهب الجمهور ومالك وأحمد إلى أنه لا كراهة "رواه أحمد وأبو داود والترمذي" وقال: حسن "وابن ماجه والدارمي" والنسائي والحاكم وصححه، وأعل بأن له معارضا بسند صحيح، ويقول مالك: هذا الخبر كذب، ويقول النسائي: ضطرب، فقيل: هكذا عن ابن بسر عن أخته، وقيل: عن ابن بسر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، وقيل: عنه عن أبيه، وقيل: عن أخته عن أبيه عن عائشة. قل الحافظ: وبالجملة فهذا التلون، أي الاضطراب في حديث واحد بسند واحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه ويضعف ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع الطرق وهنا ليس كذلك. انتهى. وقال أبو داود: إنه منسوخ، ورجح واعترض. وقال الإمام أحمد: هذا الحديث على ما فيه يعارضه حديث أم سلمة، يعني الذي قبله، وحديث: نهي عن صوم الجمعة إلا بيوم قبله أو يوم بعده، فالذي بعده السبت وأمر بصوم المحرم وفيه السبت. "قال بعضهم:" جوابا عن هذا "لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة" السابق "فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم، وحديث: صيامه إنما هو مع يوم الأحد" ورد ذلك الأثر بأن الاستثناء هنا دليل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده. قال النووي: وأما قول مالك في الموطأ: "لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، فقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: ولم يبلغ مالكًا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه. قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة في الجمعة، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتلذذ بها من غير ملل ولا سآمة كالحاج بعرفة.   التناول وهو يقتضي أنه عم صومه على كل وجه، وإلا لما دخل المفترض حتى يستثنى، فإنه لا إفراد فيه "قالوا: ونظير هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده". "قال النووي: وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه" الاجتهاد "ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن" أي مستحب لحديث ابن مسعود: كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة، ورواه الترمذي وحسنه وصححه أبو عمر "وقد رأيت بعض أهل العلم" قيل: إنه محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم "يصومه وأراه" بضم الهمزة أظنه "كان يتحراه" يقصده. قال الباجي: أراد به الإخبار لا الاختيار لرواية ابن القاسم عنه كراهة صوم يوم موقت أو شهر "فهذا الذي قاله هو الذي رآه وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة" وهو للتنزيه "فتعين القول به ومالك معذور فإنه لم يبلغه". "قال الداودي من أصحاب مالك" أي: أهل مذهبه "ولم يبلغ مالكا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه، قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة في الجمعة وأدائها بنشاط، وانشراح لها والتلذذ بها من غير ملل ولا سآمة كالحاج بعرفة" ولا يشكل عليه أن كراهة صوم يوم للحاج لا تزول بصوم يوم قبله؛ لأن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه. والله أعلم. الفصل السادس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، وهي: ثلاث عشرة، وأربع عشرة وخمس عشرة، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول من قال: الأيام البيض، على الوصف، واليوم الكامل هو النهار بليلته. وفيه رد لقول الجاليقي: من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ. والله أعلم.   في اليوم الذي قبله اشتغالا بالتروية، والإحرام بالحج لمن لم يكن أحرم ففيه شيء من معنى يوم عرفة. "فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصيام يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، والجواب أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده، ما يجبر ما قد يحصل له من فتور أو تقصير في وظائف الجمعة بسبب صومه، والله أعلم" وهو جواب لين، والأولى التعليل بالاتباع. وفي المستدرك مرفوعًا: "يوم الجمعة عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، فقيل: علة النهي كونه عيدا لهذا الحديث. "الفصل السادس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض، وهي التي كون فيها القمر" أي يوجد أو موجودا "من أول الليل إلى آخره" فسميت بيضا لابيضاضها ليلا بالقمر ونهارا بالشمس، وقيل: لأن الله تاب فيها على آدم وبيض صحيفته "وهي" كما قال البخاري "ثلاث عشرة" أي: اليوم المتمم لها "وأربع عشرة وخمس عشرة" وللكشميهني ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وهذا باعتبار الأيام والأول باعتبار الليالي "وليس في الشهر يوم أبيض كله" بليلته "إلا هذه الأيام؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض، فصح قول من قال: الأيام البيض على الوصف واليوم الكامل هو النهار بليلته، وفيه رد على الجواليقي:" بفتح الجيم نسبة إلى الجواليق جمع جوالق بضم الجيم وكسر اللام وبالقاف "من قال: الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ. والله أعلم". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر. رواه النسائي. وعن حفصة: أربع لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر، رواه أحمد. وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقالت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: ما   هكذا قاله في فتح الباري وتعقبه العيني بأنه لا يصح قوله: اليوم الكامل هو النهار بليلته؛ لأن اليوم الكامل لغة من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا من طلوع الفجر الصادق ولا دخل لليلة في حد النهار، وقوله: ونهارها أبيض يقتضي أن بياض نهار أيام البيض من بياض الليلة، وليس كذلك؛ لأن بياض الأيام كلها بالذات وأيام الشهر كلها بيض، فسقط قوله: وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام. قال المصنف: وما قاله في الفتح سبقه إليه ابن المنير، فقال: أنكر بعض اللغويين أن يقال: الأيام البيض، وقال: إنما هي الليالي البيض، وإلا فالأيام كلها بيض وهذا وهم منه، والحديث يرد عليه، أي ما ذكره ابن بطال عن شعبة عن أنس بن سيرين عن عبد الملك بن النهال عن أبيه، قال: أمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأيام البيض وقال: "هو صوم الدهر"، قال: واليوم اسم يدخل فيه الليل والنهار وما كل يوم أبيض بجملته إلا هذه الأيام، فإن نهارها أبيض وليلها أبيض، فصارت كلها بيضا، قال: وأظنه سبق إلى وهمه أن اليوم هو النهار خاصة. انتهى. قال في المصابيح: الظاهر أن مثل هذا ليس يوهم، فإن اليوم وإن كان عبارة عن الليل والنهار جميعا لكنه بالنسبة إلى الصوم إنما هو النهار خاصة، وعليه فكل يوم يصام هو أبيض لعموم الضوء فيه من طلوع الفر إلى غروب الشمس. انتهى. "عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام" الليالي "البيض في حضر ولا سفر، رواه النسائي". "وعن حفصة" أم المؤمنين: "أربع لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعهن" أي: لم يترك شيئا منهن، فالنفي لعموم السلب لا لسلب العموم" صيام عاشوراء والعشر" من ذي الحجة، أي: التسع كا عبرت به حفصة فيما مر قريبا: كان يصوم تسع ذي الحجة "وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر، رواه أحمد" بن حنبل. "وعن معاذة" بنت عبد الله "العدوية" أم الصهباء البصرية ثقة، روى لها الجميع؛ "أنها سألت عائشة: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟، قالت: نعم" كان يصومها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 كان يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم. قال بعضهم: لعله -صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها. قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر. وقد تحصل أن صيامه -صلى الله عليه وسلم- في الشهر على أوجه: الأول: أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه، رواه النسائي. الثاني: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذي.   لأن صومها يعدل صيام الدهر "فقالت لها: من أي شهر كان يصوم؟، قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم، رواه مسلم" وبه جمع البيهقي بين أحاديث غير عائشة المعينة المختلفة التعيين، فقال: كل من رآه فعل نوعا ذكره، ورأت عائشة جميع ذلك فأطلقت: ونحوه قول المصنف. "قال بعضهم: لعله -صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها، قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها" وأصله قوله -صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فذلك صيام الدهر"، رواه مسلم. وفي الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: "وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك مثل صام الدهر". "وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر" بضم المعجمة وشد الراء، أي: أوله "وقد تحصل" مما سبق "أن صيامه -صلى الله عليه وسلم- في الشهر على أوجه:". "الأول أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر ثم الخميس" التالي له "ثم الخميس الذي يليه" من الجمعة الثانية "رواه النسائي" عن أم سلمة. "الثاني: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، رواه الترمذي" عن عائشة: "الثالث أيام البيض ثالث عشر ورابع عشر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 الثالث: أيام البيض، ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر. الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم. الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر، واختاره جماعة منهم: الحسن وهو ما رواه أصحاب السنن عن حديث ابن مسعود. قال القاضي عياض: واختار النخعي صوم ثلاث أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس. وقال ابن شعبان من المالكية: أول يوم من الشهر والحادي عشر، والحادي والعشرون، ونقل ذلك عن أبي الدرداء، وهو موافق لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمر "وصم من كل عشرة أيام يوما" وحكى الأسنوي عن الماوردي أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود وهي السابع والعشرون   وخامس عشر" كما جاء تعيينها بهذه في النسائي بسند صحيح عن جرير، رفعه: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وأيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وفي رواية: أيام البيض بلا واو. "الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم" واعتمده مالك، فاستحب ثلاثة من كل شهر بلا تعيين. "الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر واختاره جماعة منهم الحسن، وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود" مبادرة بالعبادة؛ ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له. "قال القاضي عياض: واختار النخعي" إبراهيم من التابعين: "ثلاثة أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس، وقال ابن شعبان" محمد "من المالكية: أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون، ونقل ذلك عن أبي الدرداء" عويمر "وهو موافق لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو" بن العاصي: "وصم من كل عشرة أيام يومًا" وإنما يوافق أن أريد به اليوم الأول من كل عشر، ولا دلالة في الحديث على ذلك؛ لأنه صادق بصيام يوم من الأول إلى آخر العشر. "وحكى الأسنوي عن الماوردي أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود، وهي السابع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 واليومان بعده. وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشيء أدله؛ ولأن الكسوف غالبا يقع فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها. ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع. والله أعلم. النوع الخامس: في ذكر اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر: اعلم أن الاعتكاف في اللغة: الحبس والمكث واللزوم.   والعشرون واليومان بعده" الذي في شرح المصنف للبخاري. قال الماوردي: ويسن صوم أيام السود الثامن والعشرين وتالييه، وينبغي أن يصام معها السابع والعشرون احتياطا، وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور، وليالي الثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكرًا والثانية لطلب كشف السواد؛ ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل فناسب تزويده بذلك. "وتترجح البيض بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله؛ ولأن الكسوف غالبا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة بخلاف من لم يصمها، فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها" ولا عند من يجوز صيام التطوع بغير نية من الليل، إلا أن صادف الكسوف من أول النهار، قاله الحافظ. "ورجح بعضهم صيام الثلاثة من أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع" كمرض وسفر "والله أعلم" بالحق من ذلك. "النوع الخامس:" من الأنواع السبعة "في ذكر اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه" أي قصده "ليلة القدر" أي بذل وسعه في تحصيلها "اعلم أن الاعتكاف في اللغة الحبس والمكث واللزوم" على الشيء خيرا كان أو شرا، قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وقال سبحانه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 وفي الشرع: المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة. ومقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلال عن أنسه بالخلق، ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة في القبر حين لا أنيس له. وليس بواجب إجماعا، إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم. واحتلف في اشتراط الصوم له: ومذهب الشافعي: أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر. وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم، فلا يصح اعتكاف المفطر. واحتج الشافعي باعتكافه -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأول من شوال. رواه البخاري ومسلم، وبحديث عمر: أنه قال: يا رسول الله، إني قد نذرت أن أعتكف ليلة في   يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، "وفي الشرع المكث في المسجد" للعبادة "من شخص مخصوص بنية بصفة مخصوصة ومقصوده وروحه" أي الأمر الذي به قوامه، بحيث إذا فقد كان اعتكافه كعدمه، كما أن الروح إذا فارق الحيوان عدم "عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب" بالتثقيل "منه" التقريب المعنوي "فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة في القبر حين لا أنيس له" سوى الأعمال الصالحة "وليس بواجب إجماعا إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم" كالمالكية. "واختلف في اشتراط الصوم له ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر، وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم فلا يصح اعتكاف المفطر" ويكفي الصوم ولو نفلا "واحتج الشافعي باعتكافه -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأول من شوال، رواه البخاري ومسلم" في آخر حديث عن عائشة، وأجيب بأن المعنى كان ابتداؤه في العشر الأول، وهو صادق بما إذا ابتدأ باليوم الثاني فلا دليل فيه. "وبحديث عمر" بن الخطاب "أنه قال: يا رسول الله إني قد نذرت أن أعتكف ليلة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 الجاهلية، فقال: "أوف بنذرك". رواه البخاري ومسلم، والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف. واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه. وفيه قول قديم للشافعي. وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات. وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد. وقال الجمهور: بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحبه له   في الجاهلية" فيه أن الاعتكاف من الشرائع القديمة "فقال" صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، رواه البخاري ومسلم والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بصحة الاعتكاف" وأجيب بأن في رواية لمسلم يوما بدل ليلة، وجمع ابن حبان وغيره بينهما؛ بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن قال: ليلة أراد بيومها، ومن قال: يوما أراد بليلته، وقد جاء أمره بالصوم عند أبي داود والنسائي، بلفظ: قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعتكف وصم"، وهو وإن كان في سنده مقال، لكنه انجبر برواية يوما ودعوى أنها شاذة لا تسمع، فمن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن. "واتفق العلماء على مشروطية المسجد" أي: كونه شرط صحة "للاعتكاف" لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، والمراد تجامعوهن إجماعًا، حكاه ابن المنذر، فلو صح في غيره لم يختص تحريم المباشر به؛ لأن الجماع مناف للاعتكاف بإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها. وقد روى ابن جرير وغيره عن قتادة في سبب نزولها: كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامها إن شاء ثم رجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك "إلا محمد بن عمر بن لبابه" بضم اللام وخفة الموحدتين "المالكي" من قدمائهم "فأجازه في كل مكان" وهو ضعيف "وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة فيه، وهو قول قديم للشافعي" وله وجه في النظر؛ لأن المرأة عورة ومسجد بيتها ساتر لها فلا تحرم فضيلة الاعتكاف. "وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات" الخمس لا المجهورة التي لا تقام فيها "وخصه أبو يوسف بالواجب منه" أي من الاعتكاف النذر "وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد" لإطلاق الآية، إذ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 الشافعي في الجامع. وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة، ويجب الاعتكاف بالشروع عند مالك. وخصه طائفة من السلف، كالزهري بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعي في القديم. وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجدي مكة والمدينة. وابن المسيب بمسجد المدينة. واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم. حكاه ابن قدامة. وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان. ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطبق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود. واتفقوا على فساده بالجماع. وقد كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان. رواه   لم تخص مسجدا "إلا لمن تلزمه الجمعة" بأن يجيء زمن اعتكافه "فاستحبه له الشافعي في الجامع وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة" فيجب عليه أن يخرج لها ويبطل اعتكافه على المشهور، فإن لم يخرج لها حرم عليه وفي بطلان اعتكافه قولان "ويجب الاعتكاف بالشروع" فيه "عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا" أقيمت فيه الجمعة أم لا، فالمسجد غير الجامع لا يصح الاعتكاف فيه عنده. "وأومأ إليه الشافعي في القديم وخصه حذيفة بن اليمان" الصحابي ابن الصحابي، مرت ترجمته غير ما مرة "بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجدي مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة، واتفقوا على أنه لا حد لأكثره واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم" بأن يعتكف بعض يوم هو صائم فيه؛ لأن الصيام لا يتبعض "حكاه ابن قدامة" بضم القاف. "وعن مالك: يشترط عشرة أيام وعنه يوم أو يومان، ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطبق عليه اسم لبث" بضم اللام إقامة في المسجد وهو ما زاد على قدر الطمأنينة في الصلاة "ولا يشترط القعود، واتفقوا على فساده بالجماع، وقد كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 البخاري ومسلم من حديث عائشة. وعن أبي هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه. رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة -يعني ليلة القدر- ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت   يعتكف العشر الأواخر من رمضان" كلها "رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة" كلاهما من طريق عروة ومسلم من طريق القاسم، كلاهما عنها مختصرا هكذا، وزاد في رواية لهما: حتى توفاه الله، وأخرجاه أيضا من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة مطولا وفيه قصة فلم يصب من أومأ للاعتراض على المتن به الموهم أن ما ذكره ليس في الصحيحين مختصرا مع أنه فيهما. "وعن أبي هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرا" لفظ البخاري: يعتكف في كل رمضان عشرة أيام. وعند النسائي عن أبي هريرة: كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان "فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" لفظ البخاري: فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما، وسقط لأبي ذر لفظ: يوما، أي: لأنه علم بانقضاء أجله فاستكثر من الأعمال الصالحة تشريعا لأمته أن يجتهدوا في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أعمالهم؛ ولأنه -صلى الله عليه وسلم- اعتاد من جبريل أن يعارضه بالقرآن كل عام مرة واحدة، فلما عارضه في العام الأخير مرتين اعتكف فيه مثل ما كان يعتكف، والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية والأخير منها، فدخل العشر الأوسط فيها "رواه البخاري" من أفراده عن مسلم. "وعن أبي سعيد الخدري أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول" بفتح الهمزة وشد الواو، وفي رواية: الأول بض الهمة وخفة الواو "من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما في أكثر الأحاديث العشر الأواخر وتذكيره أيضا لغة صحيحة باعتبار الأيام، أو باعتبار الوقت أو الزمان، ويكفي في صحبتها ثبوتها في هذا الحديث. "في قبة:" في خيمة "تركية" صغيرة من لبود "ثم أطلع رأسه" بفتح الهمزة وسكون الطاء، زاد في مسلم: فكلم الناس فدنوا منه "فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس": أطلب "هذه الليلة، يعني ليلة القدر، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت" بضم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 "فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر منه"، قال: فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف   الهمزة "فقيل لي:" وعند البخاري: أن جبريل أتاه في المرتين، فقال: إن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة والميم، أي: قدامك "إنها في العشر الأواخر" وصفها بالجمع؛ لأنه تصور في كل ليلة من ليالي العشر الأخير ليلة القدر ولا كذلك في الأول والأوسط، فلذا وصفهما بالمفرد "فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر". وفي رواية للشيخين: فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وإنما أمرهم بذلك لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري. وفي مسلم: "من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه "فقد رأيت" بضم الهمزة وكسر الراء مبني للمفعول، أي: أعلمت "هذه الليلة" نصب مفعولا به لا ظرفا، أي: أريت ليلة القدر، وجوز الباجي، أن الرؤية بمعنى البصر، أي أنه رأى علامتها التي أعلمت له بها وهي السجود في الماء والطين "ثم أنسيتها" بضم الهمزة، قال القفال: ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عيانا، ثم نسي في أول ليلة رأى ذلك؛ لأن مثل هذا قل أن ينسى، وإنما معناه أنه قيل له ليلة القدر ليلة كذا وكذا، فنسي كيف قيل له ثم هو هكذا بالجزم عند الشيخين، وفي رواية للبخاري: أنسيتها أو نسيتها. قال الحافظ: شك من الراوي هل أنساه غيره إياها أو نسيها هو بلا واسطة، ومنهم من ضبط نسيتها بضم أوله والتشديد فهو بمعنى أنسيتها، والمراد أنه أنسي علم تعيينها في تلك السنة. "وقد رأيتني" بضم التاء وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول وهو المتكلم، وذلك من خصائص أفعال القلوب، أي رأيت نفسي "أسجد في ماء وطين من صبيحتها" من بمعنى في قوله تعالى: من يوم الجمعة أو لابتداء الغاية الزمانية "فالتمسوها في العشر الأواخر" من رمضان "والتمسوها في كل وتر منه"، أي: أوتار لياليه وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين. "قال" أبو سعيد: "فمطرت" بفتح الميم والطاء "السماء تلك الليلة" يقال: في اللية الماضية الليلة إلى الزوال، فيقال: البارحة، وفي راية للشيخين: وما نرى في السماء فزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد "وكان المسجد على عريش" أي: مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس السقف، أي: أنه كان مظللا بالجريد والخوص، ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 المسجد، فبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. رواه الشيخان. وفي حديث عبادة بن الصامت: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، "وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، رواه البخاري.   وفي رواية: وكان السقف من جريد النخل "فوكف المسجد" أي: سال ماء المطر من سقفه فهو من ذكر المحل وإرادة الحال "فبصرت" بفتح الموحدة وضم المهملة "عيناي" ذكرهما بعد البصر للتأكيد، كقول القائل: أخذت بيدي وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهارا للتعجب من حصوله "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة" ليلة "إحدى وعشرين". وفي رواية: فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه، وأنفه فيهما الماء والطين تصديق رؤياه "رواه الشيخان" البخاري في الصلاة والاعتكاف ومسلم في الاعتكاف. "وفي حديث عبادة بن الصامت أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج" من بيته "يخبر" استئناف أو حال مقدرة؛ لأن الخبر بعد الخروج على حد فادخولها خالدين، أي مقدرين الخلود "بليلة القدر" أي: بتعيينها "فتلاحى" بفتح الحاء المهملة من التلاحي بكسر، أي: تنازل "فلان وفلان" قيل: هما عبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك، كان له على عبد الله دين فطلبه وارتفع صوتهما في المسجد، ذكره ابن دحية. قال الحافظ: ولم يذكر له مستندًا "فرفعت" أي: رفع بيانها أو علم تعيينها من قلبي فنسيتها أو رفعت بركتها تلك السنة، وقيل: المراد رفعت الملائكة لا الليلة. قال الباجي: قد يذنب البعض فتتعدى عقوبته إلى غيره فيجزى به من لا سبب له فيه في الدنيا، أما الآخرة فلا تزر وازرة وزر أخرى "وعسى أن يكون" رفعها "خيرا لكم؛" لأن إخفاءها يستدعي قيام جميع الشهر بخلاف ما لو علمت بعينها فيقتصر عليها فيقل العلم، وهل أعلم بها بعد هذا النسيان. قال الحافظ: فيه احتمال. وقال ابن عبد البر: الأظهر أنه رفع علم تلك الليلة عنه فأنسيها بعد العلم بسبب التلاحي، وقد قيل: المراء والملاحاة شؤم، ومن شؤمها حرموا ليلة القدر تلك الليلة ولم يحرموها بقية الشهر، لقوله: "فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" قيل: المراد تاسعة تبقى فتكون ليلة إحدى وعشرين، وسابعة تبقى فتكون ليلة ثلاث وعشرين، وخامسة تبقى فتكون ليلة خمس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين"، قال: فمطرت ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن أثر الماء والطين في جبهته وأنفه.   وعشرين على الأغلب أن الشهر ثلاثون، وقيل: تاسعة تمضي فتكون ليلة تسع وسبع وخمس وعشرين. وجزم الباجي بالأول وهو قول مالك في المدونة؛ لأن في حديث عبادة نفسه عند أبي داود تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة تبقى، ورجح الحافظ الأول لرواية البخاري في الإيمان حديث عبادة، بلفظ: "التمسوها في التسع والسبع والخمس"، أي: تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين. وفي رواية لأحمد: في تاسعة تبقى، كذا قال: ورواية البخاري محتملة، ورواية أحمد نص في الأول، وقد قال أبو عمر: كلا القولين محتمل إلا أن قوله: تاسعة تبقى.. إلخ، يقتضي الأول. وقد روى أبو داود، أي ومسلم عن أبي نضرة أنه قال لأبي سعيد الخدري: إنكم أعلم بالعدد منا، قال: أجل، قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة، قال: إذا مضت إحدى وعشرون فالتي تليها التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة. انتهى "رواه البخاري" في الإيمان والصوم والأدب. "ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس" بالتصغير الجهني، حليف الأنصار: شهد العقبة وأحدا ومات بالشام سنة أربع وخمسين، ووهم من قال: سنة ثمانين؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أريت" بضم الهمزة "ليلة القدر ثم أنسيتها" بضم الهمزة "وأراني" بفتح الهمزة "في صبيحتها" بفتح الصاد وكسر الموحدة ثم تحتية فحاء ففوقية. وفي رواية: صبحها " أسجد في ماء وطين"، قال" ابن أنيس: "فمطرت" وفي نسخ: فمطرنا "ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أسقط من مسلم فانصرف، أي: من الصلاة "وإن أثر الماء والطين في" لفظ مسلم على "جبهته وأنفه". قال أبو عمر: روى ابن جريج هذا الحديث وقال في آخره: فكان الجهني يمسي تلك الليلة، يعني: ليلة ثلاث وعشرين في المسجد فلا يخرج منه حتى يصبح ولا يشهد شيئا من رمضان قبلها ولا بعدها ولا يوم الفطر. وفي الموطأ وأبي داود أن ابن أنيس قال: يا رسول الله إني أكون في باديتي وأنا بحمد الله أصلي بها فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها بهذا المسجد أصليها فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان فصلها فيه". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود مرفوعا: "اطلبوها ليلة سبع عشرة". وأخرج الطبراني مرفوعا من حديث أبي هريرة: "التمسوا ليلة القدر في ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين". وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا، وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر من كلام العلماء في ذلك أكثر من أربعين قولا، كساعة الجمعة. ومذهب الشافعي: انحصارها في العشر الأخير، كما نص عليه الشافعي، فيما حكاه عنه الأسنوي. وعن المحاملي في "التجريد": إنها تلتمس في جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" فقال: وتطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان. ثم الغزالي في كتبه. وتردد صاحب "التقريب" في جواز كونها في النصف الأخير، كذا نقله عنه   "وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود مرفوعا: "اطلبوها" بهمزة وصل مضمومة، أي: ليلة القدر "ليلة سبع وعشرة" من رمضان "وأخرج الطبراني مرفوعا من حديث أبي هريرة: "التمسوها" أي: اطلبوا، فاستعير الالتماس للطلب "ليلة القدر في ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة" بموحدة بعد السين في الأول وبفوقية قبلها في الثاني "أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين" من رمضان. "وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر" في فتح الباري "من كلام العلماء في ذلك أكثر من أربعين قولا" سردها واحدا واحدا وقال: هذا ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن رده إلى بعض وإن كان ظاهرها التغاير "كساعة الجمعة" فيها اثنان وأربعون قولا سردها في الفتح. "ومذهب الشافعي انحصارها في العشر الأخير" من رمضان "كما نص عليه الشافعي فيما حكاه عنه الأسنوي وعن المحاملي" زاد في نسخة في التجريد: وتوقف فيها شيخنا في الدرس بأنه لا يعرف له كتابا يسمى "التجريد"، لا ذكره الإسنوي في الطبقات "أنها تلتمس في جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق" الشيرازي "في التنبيه، فقال: وتطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان، ثم الغزالي في كتبه" تبعه أيضا "وتردد صاحب التقريب في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 الإمام وضعفه. وحكاه ابن الملقن في "شرح العمدة". وفي المفهم للقرطبي حكاية قول: إنها ليلة النصف من شعبان. ودليل الأول: حديث أبي سعيد الذي قدمناه، قال النووي: وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادي والعشرون فلقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد: "فقد أريت هذه الليلة، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها"، فبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا. وجزم جماعة من الشافعية: بأنها ليلة الحادي والعشرين، لكن قال السبكي: إنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر، أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير. وعن ابن خزيمة -من أصحابنا- أنها تنتقل   جواز كونها في النصف الأخير، كذا نقله عنه الإمام وضعفه" أي: ضعف تردد ذلك في مذهبه وإلا فهو من جملة الأقوال. "وحكاه ابن الملقن في شرح العمدة" في الفتح، وحكى ابن الملقن أنها ليلة النصف من رمضان "و" الذي "في المفهم للقرطبي" على مسلم "حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان" وكذا حكاه غيره. "قال الحافظ: فإن ثبتا فهما قولان "ودليل الأول" أي: انحصارها في العشر الأخير "حديث أبي سعيد الذي قدمناه" أي: قوله فيه: "التمسوها في العشر الأواخر". "قال النووي: وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادي العشرون فلقوله عليه السلام في حديث أبي سعيد" المتقدم "فقد أريت هذه الليلة وقد رأيتني" أي: رأيت نفسي "أسجد في ماء وطين من صبيحتها"، فبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا" قريبا. "وجزم جماعة من الشافعية بأنها ليلة الحادي والعشرين" لصحة الحديث "لكن قال السبكي: إنه ليس مجزوما به عندهم" في نفس الأمر "لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير" في ليلة لا بعينها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر الأخير. وحاصله: قولان، ووجه، واختار النووي في الفتاوى وشرح المهذب رأي ابن خزيمة. وجزم ابن حبيب من المالكية، ونقله الجمهور، وحكاه صاحب "العدة" من الشافعية ورجحه: أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة، ولم تكن في الأمم قبلهم. وهو معترض: بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: "بل هي باقية". وعمدتهم قول مالك في "الموطأ": بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح من حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن   "وعن ابن خزيمة من أصحابنا أنها تنتقل في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر" الأواخر "وحاصله قولان" للشافعي الحادي أو الثالث والعشرون "ووجه" لابن خزيمة "واختار النووي في الفتاوى وشرح المهذب رأي ابن خزيمة" المذكور وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما في مسلم، وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين". "وجزم ابن حبيب" محمد "من المالكية" الأئمة المتقدمين "ونقله الجمهور وحكاه صاحب العدة من الشافعية ورجحه؛ أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم" وكذا جزم به ابن عبد البر، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء "وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء، فإذا ماتوا رفعت؟، قال: "بل هي باقية" كذا في نسخ بالإضراب عن السؤال. وفي نسخ: بلى على أنه رد لمجموع النفي، أي: بلى تكون مع الأنبياء ولا ترفع بموتهم، والذي نقله الحافظ والسيوطي عن النسائي عن أبي ذر: أم هي إلى يوم القيامة، قال: بل هي إلى يوم القيامة "وعمدتهم" أي: الجمهور "قول مالك في الموطأ: بلغني أنه -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية" لفظ الموطأ: أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر "فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر، كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري" وتعقب ذلك الحافظ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 حجر في "فتح الباري". قال: وقد ظهر لليلة القدر علامات؛ منها: ما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا: "ليلة القدر لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة"، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "إنها صافية، كأن فيها قمرا ساطعة، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ".   السيوطي؛ بأن حديث أبي ذر يقبل التأويل أيضا، وهو أن مراده السؤال هل تختص بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ترفع بعده بقرينة مقابلته ذلك بقوله: أم هي إلى يوم القيامة فلا يكون فيه معارضة لأثر الموطأ، وقد ورد ما يعضده، ففي فوائد أبي طالب المزكي من حديث أنس: "إن الله وهب لأمتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلهم". انتهى. "قال" أي: صاحب الفتح: "وقد ظهر لليلة القدر علامات" أكثرها لا تقع إلا بعد أن تمضي "منها ما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب" مرفوعا؛ "أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها" يوجد، ولأحمد عنه مثل الطشت بضم الشين الذي يرى كأنه جبال مقبلة على الناظر إليها، أو الذي ينتثر من ضوئها، أو الذي يرى ممتدا كالرماح بعيد الطلوع وما أشبهه كما في القاموس. "ولابن خزيمة من حديث ابن عباس، مرفوعا: "ليلة القدر" طلقة كما في الفتح، وللطيالسي: سمحة طلقة "لا حارة ولا باردة" أي: معتدلة، يقال: يوم طلق وليلة طلقة إذا لم يكن فيها حر ولا برد يؤذيان، قاله ابن الأثير: "تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة" أي: ضعيفة الضوء. "ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "إنها صافية كأن فيها قمرا ساطعة ساكنة لا حر فيها ولا برد ولا يحل" أي: لا يتفق "لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج" أي: تطلع "مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" أي: لا يمكن من ذلك أسقط من الفتح، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر، وله عن جابر بن سمرة مرفوعا: "ليلة القدر ليلة مطر وريح"، ولابن خزيمة عن جابر مرفوعا: "ليلة القدر طلقة بلجة لا حارة ولا بادرة، تضيء كواكبها ولا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها"، وله عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 وروى البيهقي في "فضائل الأوقات" أن المياه المالحة تعذب في تلك الليلة. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم من حديث عائشة. وفي البخاري عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. وجزم عبد الرزاق بأن "شد مئزره" هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري، وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد في العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر   أبي هريرة مرفوعا: "إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى"، ولابن أبي حاتم عن مجاهد: لا يرسل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء، وعن الضحاك: يقبل الله التوبة فيها من كل تائب وهي من غروب الشمس إلى طلوعها، وذكر الطبري عن قوم: أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها، وإن كل شيء يسجد فيها. "وروى البيهقي في فضائل الأوقات" عن أبي لبابة؛ "أن المياه المالحة تعذب في تلك الله" زاد الفتح: ولابن عبد البر عن زهرة بن معبد نحوه "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأخير من رمضان" بأنواع العبادات "ما لا يجتهد في غيره" أي: اجتهادا زائدا عن اجتهاده في غيره "رواه مسلم" من إفراده والترمذي وابن ماجه وأحمد "من حديث عائشة" لكن بلفظ: العشر الأواخر بدون قوله: من رمضان وإن كان هو المراد، فلو قال المصنف: يعني. "وفي البخاري" ومسلم أيضا: فما هذا الإيهام من المصنف وابن ماجه الثلاثة في الصوم، وأبي داود والنسائي في الصلاة، كلهم "عنها" أي: عائشة، قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر" زاد ابن أبي شيبة من حديث علي: الأواخر من رمضان "شد مئزره" بكسر الميم وسكون الهمزة، أي: إزاره "وأحيا ليله وأيقظ أهله" للعبادة. "وجزم عبد الرزاق بأن شد مئزره هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري" سفيان واستشهد بقول الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار وبه فسره السلف والأئمة المتقدمون وهو الصحيح. "وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد" بكسر الجيم "في العبادة" زيادة على عادته "كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له" وتفرغت "ويحتمل أن يراد به التشمير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 مئزري، أي: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة. وقوله: "وأحيا ليله" أي: سره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعا؛ لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور. فقد كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر: فمنها: إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويشهد له حديث عائشة من وجه ضعيف "وأحيا الليل كله" وفي المسند عنها أيضًا، قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر، وفي   والاعتزال معًا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز" بناء على استعمالها في لفظ واحد ومن عموم المجاز "فيكون المراد شد مئزره" ربطه "حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة" وربما يؤيده رواية مسلم: وجد وشد المئزر. قال الطيبي: قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة كما إذا قلت: فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته، كذلك لا يستبعد أنه -صلى الله عليه وسلم- شد مئزره ظاهرًا، أي: حقيقة، وتفرغ للعبادة واشتغل بها عن غيرها، أي: عن النساء. "وقوله: وأحيا ليله، أي: سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأن النوم أخو الموت" فهو استعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام "وأضافه إلى الليل اتساعا؛ لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور" وإلا فالليل لا يوصف بوت ولا حياة، كما أن البيوت ليست قبورا حقيقة. "فقد كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، فمنها إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله ويشهد له حديث عائشة من وجه" أي: طريق "ضعيف وأحيا الليل كله" وكراهة قيام جميعه محمول على الدوام عليه طول العام، أما قيام كالعشر فلا. "وفي المسند" لأحمد "عنها" أي: عائشة أنها "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين" الأول والثاني من رمضان "بصلاة ونوم، فإذا كان العشر" الأخير "شمر" اجتهد في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 حديث ضعيف عن أنس عند أبي نعيم: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضًا. ويحتمل أن تريد بإحياء الليل غالبه، وقد قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح في جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظ منها. وروي في حديث مرفوع عن أبي هريرة: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر". رواه أبو الشيخ.   العبادة "وشد المئزر" حقيقة ومجازا. "وفي حديث ضعيف عن أنس عند أبي نعيم: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام. فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا" بضم الغين وسكون الميم وضاد معجمتين، أي: نوما. "ويحتمل أن تريد" عائشة "بإحياء الليل إحياء غالبه" فلا ينافي قولها في الصحيح ما علمته: قام ليلة حتى الصباح. "وقد قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح في جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظ" أي: نصيب عظيم "منها" لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من صلى ليلة القدر العشاء والفجر في جماعة فقد أخذ من ليلة القدر بالنصيب الوافر"، رواه الخطيب عن أنس. "وروي في حديث مرفوع عن أبي هريرة: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر" أي: ثوابها "رواه أبو الشيخ" وكذا البيهقي ورواه الطبراني عن أبي أمامة، رفعه: وخص العشاء؛ لأنها من الليل دون الصبح فليس منه. وفي مسلم موفوعًا: "من يقم ليلة القدر فيوافقها غفر له ما تقدم من ذنبه"، ولأحمد عن عباة مرفوعا: "فمن قامها إيمانا واحتسابا ثم وقفت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر". قال في شرح التقريب: معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قام فيها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذك، وقول النووي: معنى الموافقة أن يعلم أنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضيه ولا المعنى يساعده. وقال الحافظ: يترجح في نظري ما قاله النووي: ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغائها وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وقد اختلف هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟، فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل: يرى الأنوار ساطعة في كل مكان حتى الظلمة، قيل: يسمع كلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وفقت له. واختار الطبري أن ذلك كله غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي. ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففي حديث أنس وعائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبي عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا. وإسناد   واختلف أيضا في حصول الثواب المرتب عليها لمن قامها، وإن لم يظهر له شيء، وقاله الطبري والمهلب وابن العربي وغيرهم: أو يتوفق على كشفها له، وإليه ذهب الأكثر، وفرعوا على اشتراط العلم أنه يختص بها شخص دون آخر وإن كانا في بيت واحد. قال الزين بن المنير: يجوز أنها كرامة لمن شاء الله، فيختص بها قوم دون قوم النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحضر العلامة ولم ينف الكرامة، وكان في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر ونحن نرى كثيرا من السنين ينقضي رمضان بلا مطر مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، ولا نعتقد أنه لا يراها إلا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع ورب قائم لم يحصل منها إلا على العبادة دون رؤية خارق، وآخر رأى الخوارق بلا عبادة والعابد أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة لاستحالة أن تكون إلا كرامة بخلاف الخارق، فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة. انتهى. "ومنها أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي" قال الأبي: الأظهر في إحيائه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان في البيت، لقوله: وأيقظ أهله، ولحديث: "صلاة أحدكم في بيته أفضل إلا المكتوبة"، وحمله ابن عبد السلام على أنه كان في المسجد. "ومنها: تأخير الفطور" أي: العشاء "إلى السحور، ففي حديث أنس وعائشة، أنه -صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر" الأواخر من رمضان "يجعل عشاءه سحورا". "ولفظ حديث عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان" أي: وجد "رمضان قام" تهجد "ونام، فإذا دخل العشر" الأواخر "شد المئزر" حقيقة "واجتنب النساء" فلم يقربهن "واغتسل بن الأذانين" ليلة الحادي والعشرين ليتلقى العشر تام التهيؤ للعبادة لا ليلة عشرين؛ لأنه منابذ لقولها: إذا دخل العشر "وجعل العشاء سحورا" مع فطره برطب أو تمر أو ماء عند الغروب "أخرجه ابن أبي عاصم". "ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه" الذي ينام عليه "واعتزل النساء" لم يقربهن "وجعل عشاءه سحورا" أي: أخره إلى وقت السحور؛ لأنه أنشط للعبادة "وإسناد الأول مقارب، والثاني" وأخرجه الطبراني "فيه حفص بن غياث" بمعجمة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 الأول مقارب، والثاني فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدي: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج في الصحيح كما قدمته. ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين: المغرب والعشاء، روي من حديث علي، وفي إسناده ضعف. النوع السادس: في ذكر حجه وعمره -صلى الله عليه وسلم: اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلي الرحماني، وإلمام بمعهد العهد الرباني، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد في تلك المواطن فخار وسمو، فإن   مكسورة فتحتية فألف فمثلثة النخعي الكوفي، ثقة، فقيه من رجال الجميع، لكن تغير حفظه قليلا في الآخر. "وقال فيه ابن عدي: أنه" أي: هذا الحديث: "من أنكره ما لقيت له، لكن يشهد له حديث الوصال المخرج في الصحيح كما قدمته" فيه نظر، إذ الشاهد أن يكون الحديث الشاهد بمعنى الحديث المشهود له وهذا ليس بمعناه، إذ الوصال عبارة عن ترك الأكل يومين فأكثر، وهذا قال: إنه تعشى وقت السحور. نعم يشهد له ويعضده حديث عائشة الذي قبله. "ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين المغرب والعشاء" بالخفض بدل. "روي من حديث علي وفي إسناده ضعف" لكن يقويه حديث عائشة الذي قال: إسناده مقارب. "النوع السادس: في ذكر حجه وعمره" بضم ففتح جمع عمرة "صلى الله عليه وسلم". "اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود" أي: القصد منه التقرب إليه تعالى، فإذا أخلص فيه وعمل بحديث: "أن تعبد الله كأنك تراه" كان بمنزلة من حل في حضرته؛ لأنه حيث صور نفسه كالرائي له اتصف بتلك الصفة "ووقوف بساحة الجود" أي: كرمه سبحانه شبهه بمال كثير بفضاء واسع، من دخله تمكن من أخذ ما شاء منه، والقصد أن المخلص به، فكان حجه مبرورا يصل إلى مراده من شمول الرحمة العامة المقتضية لغفران ذنوبه فضلا منه سبحانه "ومشاهدة لذلك المشهد العلي الرحماني وإلمام بمعهد العهد الرباني، ولا يخفى أن نفس الكون" الوجود والحلول "بتلك الأماكن شرف وعلو" للحال فيها "وأن التردد في تلك المواطن فخار وسمو" ارتفاع، فهو بمعنى علو حسنه اختلاف اللفظ "فإن المحال المحترمة لم تزل تفرغ" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 المحال المحترمة لم تزل تفرغ على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك في هذا ما يحكي في أبيات عن مجنون بني عامر حيث قال: رأى المجنون في البيداء كلبا ... فحر عليه للإحسان ذيلا فلاموه على ما كان منه ... وقالوا: لم منحت الكلب نيلا فقال: دعوا الملام فإن عيني ... رأته مرة في حي ليلى فينبغي للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى في غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.   أي: تصب بضم أوله من أفرغ "على الحال فيها من سجال" بجيم، أي: إدلاء مملوءة "وصفها بفيض غامر" بغين معجمة وحسبك في هذا ما يحكى في أبيات عن مجنون بني عامر" قيس بن معاذ أو مهدي بن الملوح العامري، شغف بحب ليلى العامرية ومنع أهلها أن يتزوجها ومنع السلطان مروان بن الحكم أن ينزل بمحل تحله ليلى، ونسب إلى الجنون لجعله الحب سبب الجنون في قوله: جننا على ليلى وجنت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها وهو من الشراء المبرزين وإمام المتيمين، ومن الغريب ما نقله ابن القيم في روضة العاشق عن الجنيد؛ أن مجنون بني عامر كان من أحباء الله تعالى، ستر شأنه بجنونه بليلى "حيث قال: "رأى المجنون في البيداء كلبا ... "فحر عليه للإحسان ذيلا فلاموه على ما كان منه ... وقالوا: لم منحت الكلب نيلا فقال: دعوا الملام فإن عيني ... رأته مرة في حي ليلى" البيداء المفازة وللإحسان، أي: لأجله "فينبغي للعبد أن يهتم بالحج ويبادر إليه، وينهض" يحرك "فاتر عزمه" أي: عزمه الفاتر "إنهاضا يحثه عليه" بالاجتهاد في أسبابه والسعي إليه وإن بعدت المسافة وناله مشقة "ولا يتوانى" يتكاسل "في غسل أدران" أوساخ "سيئات العمر بصابون المغفرة" بالحج المبرور الذي يغسلها فيزيل أثرها كما يزيل الصابون أثر الأوساخ الحسية "ولا يتكاسل عن البدار فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة" أي: المجازفة من إضافة الصفة للموصوف، أي: بركوب المخاطرة التي هي كالنافة العمياء في أن من تلبس بها وقع في الهلاك، كما أن الراكب للناقة العمياء يقع بواسطة سيرها كيف اتفق في الطرق الصعبة المؤدية إلى هلاكه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 وروى ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد الحج فليتعجل". رواه أبو داود. وفي حديث علي بن أبي طالب، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". الحديث رواه الترمذي. وخطب عليه السلام فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا". رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة.   "وروى ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد الحج" أي: قدر على أدائه؛ لأن الإرادة مبدأ الفعل وهو مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل وأراد الآخر والعلاقة الملابسة؛ لأن معنى قوله: "فليتعجل:" فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة قبل عروض مانع، والأمر للاستحباب على القول بالتراخي. قال الكشاف: التفعل بمعنى الاستقبال غير عزيز منه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار "رواه أبو داود" وأحمد والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح، وأبو صفوان مهران راوية عن ابن عباس لم يجرح، لكن قال ابن بطال: إنه مجهول، وتبعه الذهبي في المهذب والحافظ في التقريب. "وفي حديث علي بن أبي طالب؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام فلا يحج فلا" يبعد "عليه" أي: عنه لتهاونه في الدين مع قدرته أن تسوء خاتمته فيؤديه إلى "أن يموت يهوديا أو نصرانيا" والعياذ بالله "الحديث" بقيته: وذلك أن الله يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] "رواه الترمذي" وفي إسناده ضعف لكن له شواهد. وقال الأدبي: وهو محمول عند أهل السنة من جحد وجوبه؛ لأن تركه لغير عذر إنما هو معصية، ونحن لا نكفر بالذبن، وكان ابن عرفة يقول: أشد شيء فيه قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، من حيث إنه في مقابلة: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولكنه محمول على ما تقدم. انتهى. "وخطب عليه السلام فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج" في القرآن "فحجوا"، رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة" وبقيته عندهما، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟، فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال: صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 وفي رواية النسائي، من حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله كتب عليكم الحج"، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلت نعم لوجبت" الحديث. فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر.   "وفي رواية النسائي من حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله كتب" فرض "عليكم الحج"، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام؟ " بتقدير همز الاستفهام، أي: أكل عام يجب حجة على المستطيع "فقال: "لو قلت نعم لوجبت" حجة كل عام. قال القاضي عياض: فيه ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الرأفة بالأمة، وفيه أن له أن يحكم باجتهاده. قال النووي: ويجب المانع بأنه لعله كان بوحي ... "الحديث" تتمته: "ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنها حجة واحدة". وفي حديث أنس عند ابن ماجه: "لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها عذبتم". قال المازري: قيل: الأمر يقتضي التكرار، وقيل: لا يقتضيه، وقيل: بالوقف، فيما زاد على المرة الواحدة؛ لأن السائل تردد في فهم قوله: فحجوا، بين التكرار والمرة الواحدة، ولذا سأل: ولو كان عنده لأحدهما لم يسأل، ولقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: لا حاجة للسؤال عن هذا، بل أيد سؤاله وبين له، ويحتمل أن التكرار عند السائل من وجه آخر؛ لأن الحج لغة قصد فيه تكرار. قال النووي: وقد يجيب الآخر بأنه إنما سأل استظهارا أو احتياطا. قال الأبي: الخلاف المذكور في اقتضاء الأمر التكرار إنما هو في صيغة الأمر في غير الحج، أما قوله: فحجوا فلا خلاف أنه ليس للتكرار، وللإجماع على أن وجوبه مرة في العمر، والقول بالوقف فيما زاد على الواحدة مذهب الباقلاني. وفي الاحتجاج له بالحديث نظر، والقول بالتكرار إنما هو مع إمكان الفعل، وإلا لزم أن يفعل الفعل دائما. انتهى. "فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة" فيكفر جاحده "وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر" وجوبه "إلا لعارض كالنذر". قال ابن العربي: وشذ بعض فأوجبه كل عام لحديث: على كل مسلم في كل سنة أن يأتي بيت الله الحرام وروايته حرام، يعني أنه موضوع، وبعض: فأوجبه كل خمسة أعوام لخبر ابن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 واختلفوا: هل هو على الفور، أو التراخي؟ فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي، إلى أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور. واختلفوا أيضا في وقت ابتداء وجوبه فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سنته. فالجمهور على أنها سنة ست؛ لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 169] ، وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا" رواه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وقد كان قدومه على ذكره الواقدي سنة خمس، وهذا يدل -إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو   أبي شيبة وابن حبان مرفوعا: "إن الله تعالى يقول: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في التأكيد في مثل هذه المدة". "واختلفوا هل هو على الفور" فيجب بأول عام الاستطاعة "أو التراخي، فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي إلى أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها" فيجب فورًا. "وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور، واختلفوا أيضا في وقت ابتداء وجوبه، فقيل: قبل الهجرة وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست" من الهجرة "لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، "وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض" فمعنى {وَأَتِمُّوا} ائتوا تاما ولو بقي على ظاهره لم يدل على وجوب الشروع فيه، إذ يكون معناه: إذا شرعتم في الحج وأحرمتم به فأتموه، والآية إنما سيقت للدلالة على وجوبه بأن يشرع فيه ويتمه. "ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا"، رواه الطبري" محمد بن جرير، ونسخه الطبراني تصحيف "بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك، وقد وقع في قصة ضمام" بكسر الضاد مخففًا "ذكر الأمر بالحج وقد كان قدومه على ما ذكره الواقدي سنة خمس، وهذا يدل إن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 وقوعه فيها. وقالت طائفة: إنه تأخر نزل فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا: بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28] فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآية والمناداة بها إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في موسم الحج، وإردافه بعلي. وفي الترمذي من حديث جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فساق ثلاثا وستين بدنة، ثم جاء   ثبت على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها" قبل قدوم ضمام. "وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة" عند قوم "والعاشرة" عند آخرين فهو إشارة إلى قولين. "واحتجوا بأن صدر" أي: أول "سورة آل عمران نزل عام الوفود" وذلك في السنة التاسعة "وفيه قدم وفد نجران على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران وناظر أهل الكتاب" أي: أهل نجران "ودعاهم إلى التوحيد". "ويدل عليه أن أهل مكة" الذين أسلموا "وجدوا في أنفسهم" حرجا ومشقة "بما فاتهم من التجارة مع المشركين" بالامتناع من معاملتهم "لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، الآية فأعاضهم" بفتح الهمزة وعين مهملة، أي: أعطاهم "الله من ذلك" أي: بدل ما فاتهم من الربح الذي كان يحصل لهم بمبايعة المشركين ومعاملتهم "بالجزية" المأخوذة من الكفار وإن لم يكونوا مشركين "ونزول هذه الآية والمناداة بها" بمكة "إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في موسم الحج وإردافه بعلي" بن أبي طالب أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. "وفي الترمذي من حديث جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فساق" معه من المدينة "ثلاثا وستين بدنة، ثم جاء علي من اليمن ببقيتها"، أي المائة كما يأتي للمصنف، وفي الصحيحين عن علي أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى مائة بدنة، وفي مسلم وغيره عن جابر: ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 علي من اليمن ببقيتها، فيها جمل في أنفه برة من فضه فنحرها، الحديث. وعن ابن عباس: حج -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج. أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك. وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا. وقال ابن الجوزي: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان عليه السلام يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وقال جابر في حديثه الطويل -كما في رواية مسلم: مكث -صلى الله عليه وسلم- تسع   عليا فنحر ما غير "فيها جمل في أنفه برة" بضم الموحدة وفتح الراب الخفيفة وهاء حلقة "من فضة فنحرها، الحديث" وفيه إهداء الذكر. وحكي عن ابن عمر كراهته في الإبل. "وعن ابن عباس: حج -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج، أخرجه ابن ماجه والحاكم، وهو مبني على عد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج". زاد الحافظ: فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم ثالثا فبايعوا البيعة الثانية "وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك" فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله. "وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري" سفيان بن سعيد؛ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا:" جمع حجة. "وقال ابن الجوزي: حج حججًا لا يعلم عددها". "وقال ابن الأثير: كان عليه السلام يحج كل سنة قبل أن يهاجر". قال الحافظ: الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يظن أنه -صلى الله عليه وسلم- يتركه، وقد ثبت أن جبير بن مطعم رآه -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية واقفا بعرفة، وأنه من توفيق الله له وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية. انتهى. "وقال جابر" بن عبد الله "في حديثه الطويل" الذي ساق فيه حجة الوداع تامة سياقا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه فأتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي"، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على   حسنا "كما في رواية مسلم" وأبي داود: "مكث -صلى الله عليه وسلم" بالمدينة بعد الهجرة "تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة" بضم الهمزة وكسر الذال المشددة، أي: أعلموا بذلك ويجوز أن يكون بفتح الهمزة مبنيا للفاعل، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، باعتبار أنه الآمر بالتأذين؛ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاج" يجوز فيه فتح الهمزة وكسرها "فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم:" يقتدي "برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل مثل عمله". قال عياض: هذا يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم به وهم لا يخالفونه، ولذا قال جابر: وما عمل به من شيء عملنا به، ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إيهم، ومثله تعليق علي وأبي موسى إحرامهما على إحرامه -صلى الله عليه وسلم. "فخرجنا معه فأتينا ذا الحليفة" ميقات أهل المدينة على ستة أميال منها، وقيل: سبعة، حكاهما في المشارق "فولدت أسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر الصحابية الفاضلة "محمد بن أبي بكر" الصديق "فأرسلت" أسماء "إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ " الظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له رواية الموطأ؛ أن أسماء ولدت محمد بن أبي بكر، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم "قال: "اغتسلي واستثفري" بمثلثة بعد الفوقية، أي: احتجزي "بثوب" تشده على موضع الدم ليمنع السيلان، هكذا الرواية في مسلم وأبي داود المثلثة، ولبعض رواة أبي داود بالذال المعجمة بدل المثلثة، أي: استعملي طيبا لإزالة هذا الشيء عنك، أي: رائحة الدم مأخوذ من الدفر بالتحريك، وهو كل ريح ذكية من طيب أو نتن. قال المنذري: والمشهور بالمثلثة "وأحرمي" وفيه صحة إحرام النفساء والحائض وهو مجمع عليه، وصحة اغتسالهما للإحرام وإن كان الدم جاريا. قال الخطابي: وإنما أمرها بذلك وإن كان اغتسالها لا يصح للتشبه بالطاهرات، كما أمر من أكل يوم عاشوراء بإمساك بقية النهار، وقال غيره للتنبيه على أن الغسل من سنن الإحرام: "فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" أي: مسجد ذي الحليفة ركعتين سنة الإحرام عند جميع العلماء إلا أن الحسن البصري استحب كون الإحرام بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، نقله عياض وغيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 البيداء، نظرت مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به.   قال النووي: والصواب قول الجمهور، وهو ظاهر الحديث، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: هما سنة لو تركها فاتته الفضيلة ولا إثم عليه، فلو أحرم بوقت نهى لم يركعهما على المشهور، وفي وجه: يركعهما فيه، لأن سببهما إرادة الإحرام وقد وجد "ثم ركب" ناقته "القصواء" بفتح القاف والمد، وللعذري في مسلم بالضم والقصر، وهو خطأ قاله عياض. وقال ابن بري: يقال: بالفتح والمد، ويقال: بالفتح والقصر، ولا يقال في صفة الناقة: بالضم والقصر، وإنما يقال في تأنيث الأقصى، ومر الخلاف في أن القصواء غير الجدعاء والعضباء أو الكل أسماء لناقة واحدة، لقوله هنا: ركب القصواء، وقوله في آخر الحديث: خطب على العضباء. وفي غير مسلم: خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر: على ناقة خرماء، وفي آخر: مخضرمة، فهذا يدل على أنها ناقة واحدة "حتى إذا استوت به ناقته على البيداء" بالمد، أي: المكان العالي قدام ذي الحليفة بقربها إلى جهة مكة، سميت بيداء؛ لأنها لا بناء بها ولا أثر "نظرت مد بصري" هكذا في جميع الروايات في مسلم وأبي داود مد، أي: منتهى، وذكر بعض اللغويين أن الصواب مدى. قال النووي: وليس كذلك، بل هما لغتان مدى أشهر. "بين يديه من راكب وماش" فيه جواز الحج، كذلك وهو إجماع، وإنما الخلاف في الأفضل، فقال الجمهور: الركوب للاقتداء به -صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أعون على القيام بالمناسك؛ ولأنه أكثر نفقة، وبه قال مالك في المشهور: وهو الأصح عند الشافعية، ورجح طائفة من المذهبين المشي. "و" نظرت "عن يمينه مثل ذلك و" نظرت "عن ياسره مثل ذلك و" نظرت "من خلفه مثل ذلك" فهو بنصب مثل في الثلاث. قال الولي: ضبطناه بالنصب في الثلاث، ويجوز الرفع على الاستئناف، والمراد أنه حضر معه خلق كثير، وقد قيل: إنهم أربعون ألفا "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن" بضم أوله كما ضبطناه، ومعناه: الحث على التمسك بما يخبرهم به من فعله في تلك الحجة. انتهى. "وهو يعرف تأويله" على الحقيقة "وما عمل من شيء عملنا به" زيادة في الحث على التمسك بما يخبرهم به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 وفي رواية عند النسائي: قال جابر: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى أتى ذا الحليفة الحديث. وكان خروجه عليه السلام من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن كلهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول. وفي الترمذي، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد -صلى الله عليه وسلم- لإهلاله واغتسل. وفي الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة، وفي رواية قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقة عليه السلام وهو محرم، وفي رواية قالت: طيبته عند   "وفي رواية عند النسائي، قال جابر: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه حتى أتى الحليفة ... الحديث" فزاد في هذه الرواية: تاريخ الخروج "وكان خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة فصلى با العصر ركعتين" قصرًا "ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، وكان نساؤه" التسع "كلهن معه، فطاف عليهن" أي: جامعهن "كلهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه" الذي هو سنة فيه "غير غسل الجماع الأول" أي: جنسه فيشمل الاغتسالات التسع، لما ورد أنه كان من عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يغتسل عند كل واحدة. "وفي الترمذي عن خارجة بن زيد" الأنصاري المدني الفقيه الثقة "عن أبيه" زيد بن ثابت الصحابي الشهير، قال: "تجرد -صلى الله عليه وسلم" من مخيط الثياب "لإهلاله" أي: إحرامه "واغتسل" للإحرام. "وفي الصحيحين" البخاري في اللباس، ومسلم في الحج "أن عائشة طيبته" صلى الله عليه وسلم "بذريرة" بذل معجمة وراءين بينهما تحتية ساكنة نوع من الطيب مركب يجعل فيه مسك، وقيل: هو فئات طيب يجاء به من الهند وهو مما يذهبه الغسل قاله المصنف على مسلم. ولفظ الصحيحين عن عائشة، قالت: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام. "وفي رواية" للشيخين أيضا "قالت" عائشة: "كأني أنظر إلى وبيص" بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة فصاد مهملة، أي: بريق أثر "الطيب" وزعم الإسماعيلي أن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلؤلؤ، قال: وهو يدل على وجود عين باقية لا الريح فقط، وأشارت بقولها: كأني إلى قوة تحققها لذلك بحيث إنها لكثرة استحضارها له كأنها ناظرة إليه "في مفارقة عليه الصلاة والسلام:" جمع مفرق بفتح الميم وكسر الراء وفتحها كما جزم به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما، زاد في رواية: ينضخ طيبا. وفي رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم، تعني لا بقاء له. وهذا يدل على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابي عن   الجوهري، وفي المشارق يقال: بفتح الراء والميم وكسرهما. قال الولي العراقي: فإن كان كل من فتح الميم وكسرها، يقال مع كل من فتح الراء وكسرها ففيه أربع لغات. قال الجوهري: هو وسط الرأس الذي يفرق فيه الشعر، وفي المشارق هو مكان فرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر، لكن في رواية لمسلم في الحج، والبخاري في الغسل مفرق بالإفراد "وهو محرم" الواو للحال، وفي رواية لمسلم: بدله وذلك طيب إحرامه. "وفي رواية" لهما أيضًا "قالت: طيبته عند إحرامه" أي عند إرادته. "وفي رواية" للشيخين أيضًا "قالت: طيبته عند" إرادة "إحرامه، ثم طاف في نسائه" أي: جامعهن في ليلة واحدة "ثم أصبح محرما، زاد في رواية" لهما أيضا "ينضخ" بالخاء المعجمة أو المهملة روايتان "طيبا" نصب على التمييز، أي: من جهة الطيب، أي: يفور منه الطيب على رواية الإعجام ومنه عينان نضاختان، أي: تعم رائحته وتدرك إدراكا كثيرا، ورواية الإهمال معناها تقارب ذلك، وقيل: بالمعجمة أقل من المهملة، وقيل: بعكسه. "وفي رواية" للنسائي عن عائشة "طيبته طيبا لا يشبه طيبكم، تعني لا بقاء لا" كما قاله بعض رواته عند النسائي، ورده الحافظ بما لأبي داود عن عائشة: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم فنعرق، فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينهانا، فهذا صريح في بقاء عين الطيب، ولمسلم: بطيب فيه مسك، وله أيضا: كأني أنظر إلى وبيص المسك، وللشيخين: بأطيب ما أجد، وللطحاوي بالغالية الجيدة، فهذا يدل على أن قولها لا يشبه طيبكم، أي: أطيب منه لا كما فهمه القائل. انتهى. لكن ولو دل على ذلك لا حجة فيه؛ لأنه أذهب الغسل عينه "وهذا يدل على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف" يعقوب "وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 أكثر الصحابة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف. وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه. وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، رواه الدارقطني. وفي حديث أنس عند أبي داود والترمذي: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل.   من السلف والخلف" أجمع من هذا كله قول الحافظ، وهو قول الجمهور "وذهب مالك" والزهري وجماعة من الصحابة والتابعين "إلى منع التطيب قبل الإحرام بما" أي: بطيب "تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل أساء ولا فدية عليه". وفي رواية عنه: تجب، وأجابوا عن الحديث بأجوبة، منها: أنه أذهبه الغسل لرواية مسلم طيبته عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا، فقد ظهرت علة تطيبه أنه لمباشرة النساء وغسله بعده لجماعهن ثم للإحرام أذهبه، فإنه كان يتطهر من كل واحدة قبل معاودته للأخرى، وأي طيب يبقى بعد اغتسالات كثيرة، ويكون قولها: ثم أصبح محرما ينضخ طيبا فيه تقديم وتأخير، أي: طاف على نسائه ينضخ طيبا، ثم أصبح بنية الإحرام. وفي الصحيحين: أن الذي طيبته به ذريرة وهي مما يذهبها الغسل ولا تبقى عينها بعده، وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقه وهو محرم، المراد أثره لا جرمه، قال عياض بمعناه، ورده النووي بأنه تأويل مخالف للظاهر بلا دليل وهو عجيب، فإن عياضا ذكر دليله كما ترى، ومنها: أن الطيب للإحرام من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- للقاء الملائكة؛ ولأن المحرم إنما منع منه؛ لأنه من دواعي النكاح وكان هو أملك اناس لإربه ففعله، والدليل على الخصوصية مخالفة فعله لنهيه عن الطيب، وأما قول عائشة: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب الحديث السابق فلا صراحة فيه ببقاء عينه؛ لأنهن اغتسلن والغسل يذهبه. "وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي" بكسر الخاء المعجمة أكثر من فتحها والياء مشددة "وأشنان" بضم الهمزة والكسر لغة معرب، ويقال له بالعربية الحرض بضمتين "رواه الدارقطني". "وفي حديث أنس عند أبي داود والترمذي: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر" بذي الحليفة "ثم ركب راحلته:" ناقته "فلما علا" ارتفع "على جبل البيداء" بالمد فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد الكبري وغيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 وفي رواية ابن عمر، عند البخاري ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد، يعني مسجد ذي الحليفة. وفي رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره. وفي رواية: حين وضع رجله في الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذي الحليفة.   قال الولي العراقي: ضبطناه قبل في أصلنا من أبي داود بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه والذي في محفوظنا جبل بفتح الجيم والباء وهو معروف "أهل" أي: أحرم، ويعارضه حديث الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي عن أنس: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر في ذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل، وجمع بينهما بأنه أهل عند ركوب دابته الإهلال المقترن بالإحرام، ثم أهل ثانيا حين وصل إلى البيداء، ثم لا تخالف بين تصريحه في الرواية التي في المصنف بأن ركوبه بعدما صلى الظهر، وبين ظاهر رواية الجماعة، إذ ليس فيها أنه ارتحل بعد الصبح، وإنما قال: فلما ركب ولم يبين الوقت الذي وقع فيه ركوبه، وقد بينه في الرواية الأخرى فلا تعارض. "وفي رواية ابن عمر" عبد الله "عند البخاري ومسلم وغيرهما" كأبي داود والترمذي والنسائي، كلهم من طريق مالك وغيره عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها: "ما أهل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم "إلا من عند المسجد، يعني: مسجد ذي الحليفة". "وفي رواية" لمسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى عن سالم، قال: كان ابن عمر إذا قيل له: الإحرام من البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله "ما أهل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم "إلا من عند الشجرة" ولا خلف، فالشجرة سمرة عند المسجد "حين قام به بعيره" أي: ناقته. "وفي رواية" عند مسلم وابن ماجه وأبي عوانة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر: "حين وضع" -صلى الله عليه وسلم "رجله في الغرز" بفتح المعجمة وإسكان الراء وزاي منقوطة الركاب للإبل "واستوت به راحلته" أي: استقرت. قال الجوهري: استوى على ظهر دابته، أي: استقر "قائما" أي: مستويا على ناقته، أو وصفه بالقيام لقيام ناقته. وفي الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر: أهل حين استوت به راحلته قائمة "أهل من عند مسجد ذي الحليفة". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 وفي رواية جابر -عند أبي داود والترمذي- أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن في الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم. وفي حديث ابن جبير -عند أبي داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أوجب!؟ فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج -صلى الله عليه وسلم- حاجا فلما صلى بمسجده في ذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم   "وفي رواية جابر عند أبي داود والترمذي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن" بالبناء للمفعول أو الفاعل "في الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم" وقد كان ابن عمر ينكر على ابن عباس قوله في البخاري: ركب راحلته حتى استوت به على البيداء أهل، قاله الحافظ. قال: "و" قد أزال الإشكال ما "في حديث" سعيد "بن جبير عند أبي داود" من طريق ابن إسحاق: حدثني خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير "قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في" محل "إهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أوجب" أي: ألزم نفسه ما أحرم به، ومنه قول عمر؛ أنه أوجب بختيا، أي: أهداه في حج أو عمرة، كأنه ألزم نفسه به "فقال: إني لأعلم الناس بذلك أنها إنما كانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة" أي: بعد الهجرة وإلا فقد حج قبلها مرات، ويحتمل أن يريد أن المتنازع فيه حجة واحدة، فهو تقرير لسؤال سعيد بن جبير وتقوية لإشكاله، قاله الشيخ ولي الدين العراقي: "فمن هناك اختلفوا" وبين وجه اختلافهم، وأنه ليس بخلاف حقيقي، بقوله: "خرج -صلى الله عليه وسلم- حاجا فلما صلى بمسجده في ذي الحليفة ركعتيه" سنة الإحرام "أوجبه" أي: الإحرام "في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته" أي: حملته. قال ابن الأثير: يقال: استقل الشيء يستقله إذا رفعه وحمله. قال الولي: فعليه الباء في به زائدة؛ لأنه متعد بنفسه "أهل" أي: رفع صوته بالتلبية "وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا" بفتح الهمزة جمع رسل بفتحتين وأصله من الغنم والإبل عن عشرين إلى خمس وعشرين كما في النهاية، والمراد هنا أفواجا وفرقا منقطعة يتبع بعضهم بعضا "فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل" فظنوا أنه مبدأ إحرامه "فقالوا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء. قال سعيد بن جبير: فمنأخذ بقول عبد الله بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه، وهو مذهب أبي حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعي أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته. قال ابن القيم: ولم ينقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. انتهى. قلت: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم كان يركع بذي الحليفة   إنما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به راحلته، ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما علا" ارتفع "على شرف البيداء:" موضع يقرب ذي الحليفة وهي اسم لكل مفازة لا شيء بها لكنها صارت علما بالغلبة على هذا الموضع والشرف المكان العالي، وفي المشارق: البيداء هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة. قال الولي: فعلى هذا تكون إضافة الشرف للبيداء من إضافة الشيء إلى نفسه "أهل وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء" ظنا أنه ابتداء إحرامه "وأيم الله لقد أوجب في مصلاه" على نفسه الحج "وأهل" أي: لبى رافعا صوته "حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء". "قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس" وجواب من قوله: "أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه" هذا تمام الحديث في أبي داود "وهو مذهب أبي حنيفة" وهو قول ضعيف للشافعي "والصحيح من مذهب الشافعي" ومالك والجمهور؛ "أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته" وأجابوا عن حديث ابن عباس هذا بأنه ضعيف، كما قال النووي والمنذري: وإن سكت عليه أبو داود؛ لأن فيه خصيف بن عبد الرحمن، ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين وأبو زرعة، وعلى تسليم توثيقه فقد عارضه حديث ابن عمر وأنس في الصحيحين وغيرهما؛ أنه إنما أهل حين استوت به ناقته قائمة، وقد اتفق فهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل. "قال ابن القيم: ولم ينقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. انتهى، قلت: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يركع بذي الحليفة ركعتين" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل. قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث. وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، وهل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروي كل منها في البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف الناس في ذلك على ستة أقوال: أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.   سنة الإحرام "ثم إذا استوت به الناقة قائمة" قال التوربشتي: أي: رفعته مستويا على ظهرها، وتعقبه الطيبي بأن استوى إنما يعدي بعلى لا بالباء، فقوله: به حال، وكذا قوله قائمة، أي: استوت ناقته قائمة متلبسة به -صلى الله عليه وسلم "عند مسجد ذي الحليفة أهل" أي: رفع صوته بالتلبية عند الدخول في الإحرام، والمتبادر أن الركعتين للإحرام لا الظهر المقصورة. ولذا "قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام يكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب كافة العلماء إلا ما حكاه القاضي" عياض "وغيره عن الحسن البصري؛ أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانت صلاة الصبح" وتعقب بأن هذا لم يثبت "والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث" فلا يعدل عنه. "وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع وهل" الواو الزائدة، وفي نسخ: إسقاطها "كان مفردا أو قارنا أو متمتعا، وروي كل منها في البخاري ومسلم وغيرهما" فالشيخان عن ابن عمر، وجابر ومسلم عن عائشة وابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج، والبخاري من عمر، والشيخان عن أنس، ومسلم عن عمران بن حصين، وأبو داود عن البراء، والنسائي عن علي، وأحمد عن أبي طلحة أنه كان قارنا، والشيخان عن ابن عمر، وعائشة وأبي موسى وابن عباس ومسلم عن ابن عباس أنه كان متمتعا، وثم روايات أخر: لا أطيل بها. "واختلف الناس في ذلك على ستة أقوال: أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه" أي: الحج، أي: أنه استمر مفردا حتى حل منه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 الثاني: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره. الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنًا. الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين. الخامس: أنه حج حجا مفردا، اعتمر بعده من التنعيم. السادس: أنه -صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدي. واختلفوا أيضا في إحرامه على ستة أقوال: أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.   بمنى ولم يعتمر تلك السنة، قال الحافظ: وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردا. "الثاني: حج متمعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كا قال القاضي أبو يعلى وغيره". "الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن" ابتداء "قارنا" بمعنى أنه لم يحرم بالحج والعمرة معا، إنما أحرم بالعمرة واستمر عليها لأجل الهدي إلى أن أدخل عليها بالحج يوم التروية، كما قاله الطحاوي وابن حبان وغيرهما. "الرابع: أنه حج قارنا قرانا، طاف له طوافين وسعى له سعيين" وبه استدل الحنفية على أن ذلك يلزم القارن، وأجاب من اكتفى لهما بواحد بأنه لحصول الأفضل إن سلم أنه كان قارنا وسلم أنه طاف طوافين وسعيين، وإنما جاء ذلك في أحاديث ضعيفة جدا لا يقوم بشيء منها حجة والثابت في الموطأ والصحيحين والسنن عن عائشة، وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا. "الخامس: أنه حج حجا مفردا اعتمر بعده" أي: بعدما حل منه "من التنعيم" أو غيره، وزعم ابن تيمية أن هذا غلط كما يجيء. "السادس: أنه -صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحد وساق الهدي". "واختلفوا أيضا في إحرامه على ستة أقوال" مغايرة، هذا لسابقه أنهه في صفة ما فعله إلى التحلل وما هنا في صفة الإحرام وحده. "أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها" حتى فرغ منها ثم جج فهو متمتع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 الثاني: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه. الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة. الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج. الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه. السادس: أنه لبى بالحج والعمرة معا. وقد أطنب أبو جعفر الطحاوي الحنفي في الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه في زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا، واشار إليه القاضي عياض والنووي في شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.   "الثاني: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه" حتى فرغ منه. "الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة" ويأتي الخلاف هل ذلك خاص به وبأصحابه في تلك السنة فقط أو عام. "الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج" فصار قارنا. "الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا" ينتظر ما يؤمر به "ثم عينه بعد إحرامه" لما نزل عليه الحكم بذلك وهو على الصفا، كذا في الفتح، لكن قال القاضي عياض وأقره النووي: لا يصح قول من قال: أحرم إحراما مطلقا مبهما؛ لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة مصرحة بخلافه. "السادس: أنه لبى" ابتداء "بالحج والعمرة معا" فهو قارن من أول إحرامه "وقد أطنب أبو جعفر الطحاوي الحنفي في الكلام على ذلك؛ فإنه تكلم عليه في زيادة على ألف ورقة، كما ذكره عنه جماعة من العلماء" منهم عياض، وزاد وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم أخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط وأبو الحسن بن القصار البغدادي، وابن عبد البر وغيرهم. "وبينه ابن حزم في حجة الوداع" من كتاب المحلى "بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضي عياض والنووي" ناقلا كلام عياض "في شرحيهما لمسلم" جوابا لسؤال: كيف اختلف الصحابة في صفة حجته وهي واحدة، وكل يخبر عن مشاهدة في قضية واحدة "ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثر من مباحثه استيفاء كافيا" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 والذي ذهب إليه الشافعي في جماعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- حج حجا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما في الصحيحين أن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا أهل بالحج وحده، وأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج". فهذا التقسيم والتوزيع صريح في إهلاله بالحج وحده. وفي رواية لمسلم عنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده. ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج. ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج، وعن ابن عمر: أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج. رواه البخاري. قالوا: وهؤلاء لهم قرب في حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو أحسن الصحابة سياقًا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غير وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله   ويأتي قريبا للمصنف ذكر غالبه "والذي ذهب إليه الشافعي في" أي: مع "جماعة" كمالك؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- حج حجا مفردا" يعني: حجة الوداع "لم يعتمر معه. "واحتج" من رجح أنه كان مفردا "بما في الصحيحين" والسنن من طريق الموطأ "أن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع" لأنه ودع الناس فيها "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج وحده، وأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج"، فهذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده، و" به صرح "في رواية لمسلم عنها" أي: عائشة؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده، ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج" وحده على المتبادر. "ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج، وعن ابن عمر: أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج، رواه البخاري، قالوا" أي: الأئمة الذين رجحوا أنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردا "وهؤلاء" أي: الصحابة الأربع عائشة وابن عباس وجابر وابن عمر "لهم قرب" من المصطفى، وفي خط الولي العراقي عن النووي لهم مزية "في حجة الوداع على غيرهم" وفصل القرب أو المزية بقوله: "فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقا لحديث: حجة الوداع، فإنه ذكرها" أي: أفعالها مفصلة "من حين خروجه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره" وحديثه في مسلم وأبي داود مطولًا. "وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام" بكسر الخاء المعجمة "ناقته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإني كنت تحت ناقته -صلى الله عليه وسلم- يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله في خلوته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يحفظها غيره، وأخذه إياها من كبار الصحابة. واحتجوا أيضًا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على "الإفراد" مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن واحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله علي رضي الله عنه لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقرآن.   الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس"؛ أنه كان قارنا "على قوله" نفسه أنه جج مفردا "وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس" إشارة إلى صغر سنه فلم يضبط "وأني كنت تحت ناقته -صلى الله عليه وسلم- يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج" وحده، فلو كان قارنا لسمعته وقتا ما يلبي بهما لملازمتي له. "وأما عائشة فقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره، وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فهمها وعظيم فطنتها" فكيف لا يرجح قولها. "وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين، والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يحفظها غيره" أي: مبالغته في حفظها وتحرزه في ضبطها بحيث لا يفوته شيء منها "وأخذه إياها من كبار الصحابة" بعد الوفاة النبوية. "واحتجوا أيضا بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على الإفراد" بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، فأفرد كل من العمرين وعثمان مدة خلافتهم "مع أنهم الأئمة الأعلام وقادة الإسلام" أي: أزمته والحافظون له كحفظ السلطان لجيشه وحمله على ما هو الأصلح له "والمقتدى بهم" في عصرهم وبعدهم "فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل" الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستفهام للاستبعاد، أي: لا يليق أن يظن بهم ذلك "وبأنه لم ينقل عن واحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التمتع و" كراهية "الجمع بينها" أي: القرآن "حتى فعله علي رضي الله عنه لبيان الجواز" خوف اعتقاد أحد منعه؛ "وبأن الإفراد لا يجب فيه دم الإجماع" لكماله "بخلاف التمتع والقرآن" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 وذهب النووي إلى أن الصواب أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القرآن أفضل من الإفراد والذي لا يعتمر في سنته عندنا، ولم يقل أحد: إن الحج وحده أفضل من القرآن. انتهى. وقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد، ولو لم يعتمر في تلك السنة. قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القرآن بأمور. منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع. وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، وأشهر من روي عنه   فيجب لفوات الميقات وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل. قال الحافظ: وهذا ينبني على أن دم القران دم جبران، وقد منعه من رجح القران بأنه دم فضل وثواب كالأضحية، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه؛ ولأنه يؤكل منه، ودم النقص لا يؤكل منه كدم الجزاء، قاله الطحاوي. "وذهب النووي إلى أن الصواب أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران" وما مر أنه اعتمر بعد حجه من التنعيم غلط كما يأتي عن ابن تيمية. "انتهى" كلام النووي. "وقد" تعقبه الحافظ بن الخلاف ثابت قديما وحديثا، أما قديما فثبت عن عمر أنه قال: إن أتم لحجكم ولعمرتكم أن تنشؤوا لكل منهما سفرا، وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة، وأما حديثا فقد "صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة" وهو مقتضى مذهب مالك، زاد الحافظ. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن القارن يطوف طوافا واحدا وسعيا واحدا، فلذا قال: الإفراد أفضل، وعندنا أن القارن يطوف طوافين وسعيين، فهو أفضل؛ لأنه أكثر عملا. "قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور، منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع" لأنه حفظ ما لم يحفظه غيره "وبأن روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها؛ أنه -صلى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا. وبأن القران رواه عنه -صلى الله عليه - جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه. وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت". وأيضا: فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وبه ينتفي التعارض، ويؤيده: أن من   اعتمر مع حجته" لكن في ترجيحه بهذا وتعبيره بأنه ثبت درك كثير على مثل الحافظ، فإنه نفسه نقل قبل هذا بقليل جدا أن البيهقي أعل حديث أبي إسحاق عن مجاهد عن عائشة: لقد علم ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اعتمر ثلاثًا سوى التي قرنها في حجته، أخرجه أبو داود بأن أبا إسحاق تفرد عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفظ: فقالت: ما اعتمر في رجب قط وهو المحفوظ على أنه اختلف فيه على أبي إسحاق، فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا. وقال زكريا عن أبي إسحاق عن البراء انتهى، فكيف يعارض ما في أصح الصحيح عنها بحديث معلول. "وابن عمر: وقد ثبت عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج" ويأتي قريبا للمصنف ما يفيد أن هذه رواية شاذة، وأن المصرح به في الأحاديث الكثيرة عكسه. "وجابر: وقد روي عنه أنه" صلى الله عليه وسلم "اعتمر مع حجته أيضا" ولم يذكر أنه اختلف على ابن عباس. وفي مسلم وأبي داود والنسائي، عنه: أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعمرة وأهل أصحابه بحج "وبأن القرآن رواه عنه -صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه" جعله ثالثًا في الترجيح مع أن الحافظ الذي هو ناقل عنه إنما جعله من بقية الجواب الثاني فلم يقل، وبأن إنما قال: والقرآن ... إلخ، وهذا هو الواضح. "وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: "أفردت ولا تمتعت"، بل صح عنه أنه قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، وأيضا: فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف" أخذ على غير الطريق؛ بأنه نسب إليه اتساعا؛ لأنه أمر به "بخلاف من روى الإفراد، فإنه محمول على أول الحال و" لا تعسف في ذلك، إذ "به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران. وأيضًا: فإن رواية القرن جاءت عن بضعة عشر صحابيا. انتهى. وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيا، منهم من فعله، ومنهم من   ينتفي التعارض ويؤيده" أي: حمله على ذلك "أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران. "ومن روي عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين" الحج والعمرة "ويؤيده" أي: حمله على ذلك "أن من جاء عنه التمتع لما وصفه وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم جميع عمل الحج، وهذه إحدى صور القران:" جمع صورة "وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيا. انتهى" كلام الحافظ. وزاد بأسانيد جياد "وعدهم ابن القيم سبعة عشر" ففيه بيان البضع "عائشة أم المؤمنين" عند أبي داود "وعبد الله بن عباس" عند مسلم "وعمر بن الخطاب" عند البخاري: أتاني جبريل وقال: صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة "وعلي بن أبي طالب" عند النسائي "وعثمان بن عفان بإقرار لعلي" والقصة في الصحيحين "وعمران بن الحصين" في مسلم، وأنه أنكر على عمر كراهته "والبراء بن عازب" عند أبي داود والنسائي "وحفصة أم المؤمنين" عند الشيخين "وأبو قتادة" الأنصاري عند الدارقطني "وابن أبي أوفى" عند البزار، وهو بفتح الهمزة والفاء عبد الله "وأبو طلحة" عند أحمد "والهرماس" بكسر الهاء وإسكان الراء وآخره معملة "ابن زياد" الباهلي "وأم سلمة" هند أم المؤمنين "وأنس بن مالك" عند الشيخين "وسعد بن أبي وقاص" عند مالك وغيره "وجابر" عند البيهقي "وابن عمر" عند البخاري: أن بدا بالعمرة ثم أهل بالحج، "قال" الحافظ: هي رواية مرجوحة مخالفة لأكثر الأحاديث. "فهؤلاء سبعة عشر صحابيًّا" وبقي عليه حديث سراقة أنه -صلى الله عليه وسلم- قرن في حجة الوداع، رواه أحمد ومثله عن أبي سعيد عند الدارقطني. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به. فإن قيل: كيف يجعلون منهم ابن عمر وجابر، أو عائشة، وابن عباس؟ وعائشة تقول: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاري، وهذا ابن عباس يقول: أهل بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه. قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرت ثم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.   "منهم من فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه" هذا ينابذه قول الحافظ السابق قريبا؛ أنه لم يرو عنه أنه قال: "أفردت ولا تمتعت"، وقوله: "لولا أني سقت الهدي لأحللت" لا صراحة فيه أنه قارن، لكن سيأتي رواية: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى" ... إلخ، ويأتي الكلام عليها. "ومنهم من روى أمره به، فإن قيل: كيف يجعلون منهم ابن عمر وجابر، أو عائشة وابن عباس وعائشة تقول: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم، وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاري" أي: رواه. "وهذا ابن عباس يقول: أهل بالحج، رواه مسلم وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه، قيل" في الجواب: "إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت" لأجل تعارضها "فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب" أي: إفراض "أن أحاديث من ذكرت، ثم" أي: هناك يعني هؤلاء الأربعة "لا حجة فيها على القران، ولا على الإفراد" لتساقطها بالتعارض "فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا ولا تعارض بينها. انتهى" كلام ابن القيم وكل ذلك لا يدفع رجحانية الإفراد؛ لأن القاعدة أنه إذا تعارضت الأحاديث ينظر لما عمل به خلفاؤه الراشدون، فيترجح به كما قال الإمام مالك: إذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثان مختلفان، وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به وقال غيره نحوه، فهذا هو الموجب للعدول هذا على فرض تسليم أنه عليه السلام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 وهذا يقتضي رفع الشك عنها والمصير إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، وبحث مع النووي في اختياره بقوله أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه -صلى الله عليه وسلم- في عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة، وهي عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط -مع أن الأفضل خلافه- لاكتفي في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.   قال: قرنت وإلا فقد أعلها البيهقي، وأما غيرها فمحمولة على أمره لغيره كما قاله الشافعي وغيره. "وهذا" كما قال الحافظ عقب قوله: جاءت عن بضعة عشر صحابيا بأسانيد جياد، بخلاف روايتي الإفراد والتمتع "يقتضي رفع الشك عنها" لكثرتها "و" يقتضي "المصير إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني" إسماعيل تلميذ الإمام "وابن المنذر" بناء على أنه شافعي، وقد قيل: إنه مجتهد مطلق "وأبو إسحاق المروزي، ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي، وبحث مع النووي في اختياره بقوله:" الصواب الذي نعتقده "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل مستندًا إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا" فأحرم به "ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، لكونهم" أي: العرب "كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور" أي: من أعظم الذنوب والفجور الانبعاث في المعاصي. قال الحافظ: وهذا ما تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل "وتعقب" لفظ الفتح، وملخص ما تعقب أي: السبكي به كلامه، أي: النووي؛ "بأن البيان قد سبق منه -صلى الله عليه وسلم- في عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة وهي عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها وعمرة القضية" وتسمى أيضا عمرة القضاء؛ لأنه تقاضى مع قريش عليها "وعمرة الجعرانة" سنة الفتح "ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط، مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 ومذهب الشافعي ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران. فإن قلت: إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووي في شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا، فأهل بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج،   وللنووي أن يرد هذا بأنه لم يكتف بالبيان في العمر الثلاث؛ لأنه حضر معه في حجة الوداع خلق كثير لم يحضروا في واحدة من الثلاثة، ولم يكتف بأمره أصحابه؛ لأن نفوسهم لا تطيب إلا بفعله، لا سيما وأكثرهم حديث عهد بجاهلية، ويؤيده حديث ابن عباس في الصحيحين أنه لما أمرهم أن يجعلوها، أي: الحجة عمرة كبر ذلك عندهم. قال المصنف وغيره: لما كانوا يعتقدوه أولا أن العمرة فيها من أفجر الفجور. انتهى، فكأنه لما عظم عليه أردف العمرة على الحج تطييبا لخواطرهم بأنه اعتمر في أشهر الحج ولم يتحلل لسوقه الهدي. "ومذهب الشافعي ومالك وكثيرين أن أفضلها" أي: أوجه الإحرام الثلاثة "الإفراد" وهو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضا عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء "ثم التمتع" المعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضا. قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالتمتع في الآية الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قا: ومن التمتع أيضا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة. انتهى "ثم القران" وهو الإهلال بالحج والعمرة معا، ولا خلاف في جوازه أو الإهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مختلف فيه، ثم المعتمد من مذهب مالك أن القران أفضل من التمتع وما ذكره المؤلف قول أشهب واختاره عبد الوهاب واللخمي. "فإن قلت: إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عند ذلك النووي في شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا، فأهل بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج" ولم يزد هذا على ما فوقه الذي تعقبه السبكي شيئا إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته. وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه -صلى الله عليه وسلم- تمناه، فقال: "لولا أني سقت الهدي لأحللت" ولا يتمنى إلا الأفضل. وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبًا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واستمر عليه -صلى الله عليه وسلم. وأما القائلون بأنه -صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى.   نسبته لشرح المهذب، وإلا بيان المعتقدين بقوله: "وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور" من باب جد جده وشعر شاعر، أي: الانبعاث في المعاصي "كما ذكرته". روى الشيخان عن ابن عباس، قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، قال الحافظ: بفتح أوله، أي: يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية، ولابن حبان من طريق آخر عن ابن عباس، قال: والله ما أعمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون، فذكر نحوه فعرف بهذا تعيين القائلين. انتهى. "وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل" من الإفراد، ثم القران "وهو مذهب أحمد" في المشهور عنه "لكونه -صلى الله عليه وسلم- تمناه فقال: "لولا أني سقت الهدي لأحللت، ولا يتمنى إلا الأفضل، وأجيب بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه" الذين لم يكن معهم هدي حيث أمرهم بجعل الحج عمرة يحلون منها، ثم يحرمون بعد بالحج "لحزنهم على فوات موافقته" فتمنوا أن يكون معهم هدي ليوافقوه في البقاء على الإحرام "وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واتمر عليه -صلى الله عليه وسلم" لأن التمتع دائما أفضل. قال القاضي حسين: ولأن ظاهر هذا الحديث غير مراد بإجماع؛ لأن ظاهره أن سوق الهدي منع انعاقد العمرة، وقد انعقد الإجماع على خلافه في حجة الوداع. "وأما القائلون بأنه -صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها فحجتهم حديث" الصحيحين وأبي داود والنسائي عن "ابن شهاب، عن سالم، عن" أبيه "ابن عمر قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى" وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ -صلى الله عليه وسلم- فأهل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر. وقال ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها. وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه. وأجيب: بأن التمتع عندهم يشمل القران، ويدل عليه ما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى علي ذلك أهل بها جميعا.   بالعمرة ثم أهل بالحج الحديث، ففيه أنه أراد التمتع اللغوي؛ لأن هذا قران لا تمتع نبه عليه عياض وغيره. قال الحافظ: لكن جزمه بأنه بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث فهو مرجوح. "وقال ابن شهاب عن عروة" بن الزبير "أن عائشة أخبرته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر" المذكور قبله. "وقال ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها" فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هذا بقية الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. قال الأبي: لا يقال فيه أنه أحرم متمتعا؛ لأن الإشارة بهذه إلى عمرة الفسخ، ومعنى استمتعنا استمتعتم، أو يكون أدخل نفسه معهم، ولكن أقام لمانع وهو كون الهدي معه وهو قوي في تأييد جواز الفسخ. انتهى. "وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه" أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه والنسائي، كلاهما م طريق مالك "وأجيب بأن التمتع عندهم يشمل القران، ويدل عليه ما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان "فكان عثمان ينهى عن المتعة" أي: القران لتمتعه بترك التعب بالسفر مرتين "فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه" لفظ مسلم. أما البخاري فلفظه: ما تريد لي أن تنهى عن أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم "فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك" لئلا يظن الناس امتناعه "فلما رأى ذلك علي أهل بهما" أي: العمرة والحج "جميعا" وعند النسائي والإسماعيلي، فقال عثمان: تراني أنهى الناس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ووافقه عثمان على أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ فقد اتفق علي وعثمان على أنه -صلى الله عليه وسلم- تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران. وأيضًا: فإنه -صلى الله عليه وسلم- قد تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى. وفي فتح الباري عن أحمد: أن من ساق الهدي فالقران له أفضل ليوافق فعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه.   وأنت تفعله، فقال: ما كنت أدع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقول أحد "فهذا بين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم" تمتعا لغويا "وأن هذا هو الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ووافقه عثمان على أنه فعله، لكن النزاع بينهما هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ " وقد سبق أن فعل علي لبيان الجواز لا ينافي أن الإفراد أفضل. "فقد اتفق علي وعثمان على أنه عليه الصلاة والسلام تمتع، وأن المراد بالتمتع عندهم القران" إذ الإحرام بهما جميعا قران "وأيضا؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه" أي: عدم تعبه "بترك أحد السفرين. انتهى". لكن في رواية البخاري عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة. قال الحافظ: قوله: وأن يجمع بينهما يحتمل أن الواو عاطفة فيكون قد نهى عن التمتع والقران معا، ويحتمل أنه عطف تفسير؛ لأنهم يطلقون على القران تمتعا، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة، بتقديم العمرة على الحج. وقد رواه النسائي عن ابن المسيب: نهى عن التمتع فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم تسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمتع؟، قال: بلى وفيه إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره ومناظرة ولاة الأمور في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد نصح المسلمين والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص؛ لأن عثمان لم يخف عليه جواز التمتع والقران، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع ذلك، فكل منهما مجتهد مأجور. "وفي فتح الباري عن أحمد أن من ساق الهدي فالقران له أفضل ليوافق فعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه" والمشهور عن أحمد: فضل التمتع مطلقا، إلى هنا ما نقله من الفتح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 وأما من قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة والأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قال ابن تيمية. وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة، وحديثه في الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن زمن الفتح محرمًا، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما، أنه في بعض ألفاظ الصحيح "وذلك في حجته"، الثاني: أن في رواية النسائي بإسناد صحيح: "وذلك في أيام العشر" وهذا إنما كان في حجته، ولكن هذا مما أنكره الناس على معاوية   "وأما من قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردًا، ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره، فهو غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة ولا أحد من أهل الحديث، قاله ابن تيمية" الحافظ أحمد أبو العباس المشهور. "وأما من قال: إنه حج متمتعًا حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية" ثامن الحجة "بالحج مع سوق الهدي، فحجته حديث معاوية" بن أبي سفيان "أنه" أي: معاوية "قصر عن رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشقص" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف فمهملة، قال الجوهري وابن دريد: نصل طويل عريض، وقال عياض: نصل السهم الطويل غير العريض، وكذا قال النووي وابن الأثير "على المروة" بمكة. "وحديثه في الصحيحين" وأبي داود والنسائي عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره، قال: قصرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة، أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص، وفي رواية عن ابن عباس: أن معاوية قال له: أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أعرابي على المروة لحجته، أي: لعمرته، سميت حجا؛ لأن معناها القصد "ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية أسلم بعد الفتح" لمكة "والنبي -صلى الله عليه وسلم- زمن الفتح لم يكن محرما، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة" كما ادعاه النووي "لوجهين:" "أحدهما: أنه في بعض ألفاظ الصحيح وذلك في حجته" وعمرة الجعرانة كانت سنة ثمان بعد انصرافه من قسم غنائم حنين. "الثاني: أن في رواية النسائي بإسناد صحيح، وذلك في أيام العشر، وهذا إنما كان في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه اعتمر في رجب كما سيأتي، وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت" وقوله: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر"، وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله في زاد المعاد. وأما اختلاف الروايات عنه -صلى الله عليه وسلم- في إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينهما، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذي قدمته. قال البغوي: والذي ذكره الشافعي في كتاب "اختلاف الأحاديث" كلاما موجزة: "أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، وكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز في لغة الغرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى   حجته" إذ المراد عشر ذي الحجة "ولكن هذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه" صلى الله عليه وسلم "اعتمر في رجب، كما سيأتي" أن عائشة غلطته "وسائر الأحاديث الصحيحة كلها" مبتدأ خبره "تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر" سواء قيل: إنه أفرد أو قرن أو تمتع "وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، وقوله: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر" كذا رواه أبو داود والنسائي من حديث البراء وأعله البيهقي بأنه ساقه في قصة علي، وقد رواها أنس في البخاري وجابر في مسلم وليس فيهما لفظ: وقرنت "وهذا خبر عن نفسه لا يدخله الوهم ولا الغلط بخلاف خبر غيره عنه، قاله في زاد المعاد" في هدى خير العباد لابن القيم، وأوله قوله: وأما من قال: إنه حج مفردا ثم اعتمر. "وأما اختلاف الروايات عنه -صلى الله عليه وسلم- في إهلاله هل هو بالحج" وحده "أو بالعمرة أو القران والجمع بينهما" عطف على اختلاف "فكل تأول بما يناسب مذهبه الذي قدمته" من الخلاف في أي الأوجه الثلاثة أفضل من الإجماع على جواز كل كما قال غير واحد. "قال البغوي: والذي ذكره الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاما موجزه" أي: ملخصه "أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع" كما قالت عائشة وغيرها: "وكل كان يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها" أي: بالأوجه الثلاثة "وأذن فيها" ليدل على جواز جميعها، إذ لو أمر بواحد لظن أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائه، وكما روي أنه عليه السلام رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه عليه السلام كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابي نحوه. قال النووي: كان -صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعني حمله على ما أهل به أول الحال، ومن روى القران أراد أن ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوي والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد.   غيره لا يجزى "ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به" اسم فاعل "كما يجوز إضافته" أي: نسبته "إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد" القائل "أنه" أي: القائل "أمر ببنائه" وضرب الأمير فلانًا إذا أمر بضربه. "وكما روي أنه عليه السلام رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه" وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام كما في كلام الشافعي "ثم احتج" لترجيح الإفراد ولهذا الجمع الحسن "بأنه عليه السلام كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابي نحوه" نقلا عن ملخص الكتاب المذكور للشافعي، ورجح أنه أفرد الحج. قال الحافظ: وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية، وقد بسط الشافعي القول فيه في اختلاف الحديث وغيره، ورجح أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم إحراما مطلقا ينتظر ما يؤمر به، فنزل الحكم بذلك عليه وهو على الصفا. انتهى، وهذا خلاف ما نقله البغي والخطابي وعياض والنووي وغيرهم عن الشافعي؛ أنه رجح أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج. وقال عياض: به تظاهرت الروايات الصحيحة، ومن قال: أحرم إحراما مطلقا لا يصح قوله؛ لأن جابر وغيره من الصحابة مصرحة بخلافه. انتهى. "وقال النووي" فيما نقله عن عياض: "كان -صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج" وذلك خاص به وبأصحابه في تلك الحجة فقط عند الجمهور، وقال أحمد: بل عام لكل المسلمين في كل عام. "فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعني حمله على ما أهل به أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوي والارتفاق" عطف تفسير "فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد" في الطواف والسعي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره. قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض. وقالت طائفة: إنما أحرم -صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء بالعمرة والحج، واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس في صحيح مسلم سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: "لبيك عمرة وحجا" ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس بلفظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إهلاله بحج وعمرة معا.   "وقال غيره" كعياض: "أراد بالتمتع ما أمر به غيره" لأنه صرح بقوله: "ولولا أن معي الهدي لأحللت"، فصح أنه لم يتحلل. انتهى كلام عياض. "قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض" قال الحافظ: هو المعتمد، وقد سبق قديما ابن المنذر وبينه ابن حزم بيانا شافيا ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا. انتهى. والأولى الجمع الأول الذي للشافعي، ومن وافقه من أن إضافة القران والتمتع اتساعا لكونه أمر بهما، وأن الراجح أنه كان مفردا، فإن ظاهر هذا ترجيح أنه بقي على إفراده. "وقالت طائفة: إنما أحرم -صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء بالعمرة والحج" معا "واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس في صحيح مسلم: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: "لبيك عمرة وحجا"، ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس بلفظ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إهلاله بحج وعمرة معها" لكن في الصحيحين أن ابن عمر أنكر ذلك على أنس. قال الحافظ: يمكن أن محل إنكاره كونه نقل أنه أهل بهما معا، والمعروف عنده أنه أدخل أحد النسكين على الآخر. وقال البيهقي: إنه اختلف فيه على أنس، فروي عنه هكذا، وروي أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا، قال: فلعله سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم غيره كيف يهل بالقران، فظن أنه عن نفسه، ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه كان قارنا، كالطحاوي وابن حبان وغيرهما، فقالوا: أهل أولا بعمرة، ثم لم يتحلل منها حتى أدخل عليها الحج يوم التروية، لكن الجزم بأنه بدأ بالعمرة مرجوح، ثم قال: والذي يظهر لي أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهل بهما جميعا أولا، ولا ينفي أنه أهل بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة، فيجتمع القولان كما تقدم. انتهى، وهو مبني على مختاره من ترجيح الجمع الثاني. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 وأما من قال: إنه عليه الصلاة والسلام أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما في البخاري من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ -صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج. وقد تقدم في الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه. والمشكل في هذا الحديث قوله: بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج. وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: "لبيك بعمرة وحج معا". ومذهب الشافعي: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة؛ لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمي. والضعيف لا يدخل على القوي. انتهى.   "وأما من قال: إنه عليه الصلاة والسلام أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما في البخاري" ومسلم وأبي داود والنسائي "من حديث ابن عمر، قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج" تمتعا لغويا وهو القران "وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة" والدليل على أن المراد اللغوي قوله: "وبدأ -صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج" وتمتع الناس معه بالعمرة إلى الحج ... الحديث. "وقد تقدم في الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج، ثم أدخل عليه العمرة وهذا عكسه" قال الحافظ: فهو مرجوح "والمشكل في هذا الحديث قوله: فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي: لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما، فقال: "لبيك بعمرة وحج معا" لأن القارن إذا سمى قدم العمرة. قال الشيخ ولي الدين: وهذا الجواب بعيد من لفظ الحديث. "ومذهب الشافعي أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح وصار قارنا" زاد المالكية صحته: ولو أردفه بطوافها "ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة" وهو مذهب مالك "لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمي، والضعيف لا يدخل على القوي. انتهى". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 وعن ابن عباس قال: صلى -صلى الله عليه وسلم- الظهر بذي الحليفة، ثم دعى بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين. رواه مسلم وأبو داود. وفي رواية الترمذي: قلد نعلين، وأشعر الهدي في الشق الأيمن، بذي الحليفة، وأماط عنه الدم. وفي رواية لأبي داود بمعناه، وقال: ثم سلت الدم بيده، وفي أخرى بأصبعه. وعند النسائي: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين.   وأجابوا عن أحاديث إدخالها عليه، وفسخ الحج إلى العمرة؛ بأنه كان خاصا بهم في تلك السنة لضرورة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، كما صح عن بعض الصحابة التصريح بالاختصاص خلافا لأحمد ومن وافقه وقد أجاب البيهقي عن جميع الأحاديث التي فيها أنه كان قارنا أو متمتعا واحدا واحدا، وادعى في الفتح أنه لا يخفى ما في أجوبته من التعسف. "وعن ابن عباس قال: صلى" رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر بذي الحليفة:" ميقات المدينة "ثم دعى بناقته" أي: أمر بإحضارها، وفي رواية أبي داود: ببدنته، وفي نسخة منه: ببدنة بلا إضافة "فأشعرها" شق "في صفحة" أي: جانب "سنامها" شقا بالشفرة وهي السكين العريض "الأيمن" صفة صفحة، فذكره لمجاورته لسنام وهو مذكر أو على تأويل صفحة بجانب، وبه جزم النووي، فقال: وصف لمعنى صفحة لا للفظها "وسلت" ولأبي داود: ثم سلت "الدم عنها" أي: مسحه وأزاله، واصل السلت القطع "وقلدها نعلين" من النعال التي تلبس في الإحرام، أي: علقها في عنقهما، فجعلهما كالقلادة لها ليعلم أنها هدي، وفي رواية أبي داود: بنعلين وحده "رواه مسلم" واللفظ له "وأبو داود" بلفظ: بدنة وثم سلت وقال بنعلين كما علم. "وفي رواية الترمذي" لحديث ابن عباس المذكور، وقال: حسن صحيح "قلد نعلين وأشعر الهدي" مفعول قلد وأشعر "في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط:" أزال "عنه الدم". "وفي رواية لأبي داود بمعناه: وقال: ثم سلت الدم بيده" فزاد لفظ بيده "وفي أخرى" لأبي داود: "بأصبعه" يحتمل بحائل وبدونه، والنهي عن التضمخ بالنجاسة إذا كان عبثا وهذا لحاجة. "وعند النسائي: أشعر بدنه" جمع بدنة فإفرادها في السابقة على إرادة الجنس "من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها" إكراما لها؛ لأن إذا لم يمسح بقي حرمه عليها فيكره منظره وقد يؤذيها "وقلدها نعلين" أي: قلد كلا منها نعلين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 وفي أخرى: أمر ببدنه فأشعر في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين. وكان حجه -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث يساوي أربعة دراهم. رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس.   "وفي أخرى: أمر ببدنة" أي: بإحضارها "فأشعر" -صلى الله عليه وسلم "في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين" وفيه أن الإشعار سنة، وبه قال العلماء: إلا أبا حنيفة فقال مثله وخالفه صاحباه ووافقا الكافة. وحكي عن إبراهيم النخعي مثل قول أبي حنيفة وقد بالغوا في الإنكار عليه وقالوا: كيف يقال مثلة في شيء فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نهيه عن المثلة بزمان، فإنما المثلة قطع عضو من البهيمة للتعذيب أو للأكل، كما كانوا يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم والبهيمة حية فتعذب بذلك، وإنما الإشعار كالكي والوشم، فكما جاز ذلك ليعلم أنه ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنها هدي، فتتميز عن غيرها وتصان فلان يتعرض لها حتى تبلغ المحل، وفيه أنه في الصفحة اليمنى، وبه قال الشافعي والجمهور. وقال ابن عمر ومالك: تشعر في الأيسر وجاء عن أحمد كالمذهبين. قال الأبي، قيل: كان الإشعار والتقليد من عادة الجاهلية ليعلم أنه هدي خارج عن ملك المهدي فلا يتعرض له السراق وأصحاب الغارات، فلما جاء الإسلام رأى في ذلك معنى صحيحا فأقره. "وكان حجه -صلى الله عليه وسلم" راكبا "على رحل" بفتح الراء وسكون المهملة للبعير، كالسرج للفرس "رث" بفتح الراء ومثلثة، أي: بال خلق "يساوي أربعة دراهم" فضة؛ لأنه في أعظم مواطن التواضع، إذ الحج حاله تجرد وإقلاع وخروج من المواطن سفرا إلى الله تعالى، ألا ترى إلى ما فيه من الإحرام، ومعناه إحرام النفس من الملابس تشبيها بالفارين إلى الله والتذكر بموقف القيامة، فكان التواضع في هذا المقام من أعظم المحاسن، هذا مع أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة. "رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه من حديث أنس" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج على رحل رث وقطيفة كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، فلما استوت به راحلته، قال: "لبيك بحجة لا سمعة فيها ولا رياء"، هذا لفظ الشمائل ورواه قبل ذلك عن أنس، حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال: "اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة". ولفظ ابن ماجه عن أنس قال: حج النبي -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، وقال: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة"، فإنما الكلام في القطيفة التي على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجلست إلى جنب أبي بكر، وكانت زمالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبي بكر واحدة، مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ فطفق يضربه ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم ويقول: "انظروا إلى هذا المحرم ما   الرحل لا الرحل نفسه كما أوهمه المصنف، فهو من الاختصار المخل، والرواية الثانية في الشمائل لا تساوي بحرف النفي. قال المصنف على الشمائل، فرواية: كنا نرى ثمنها أربعة دراهم تسامع والتحقيق ما سبق أنها لا تساويها، وزعم تعدد القصة ممنوع؛ لأنه لم يحج إلا مرة واحدة، ثم حديث أنس هذا في إسناده ضعف "و" لكن له شاهد رواه "الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس" بإسناد ضعيف أيضا، لكن باجتماعهما تحصل القوة. "وعن أسماء بنت أبي بكر" الصديق "قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجاجا" في حجة الوداع "حتى إذا كنا بالعرج" بفتح العين وإسكان الراء المهملتين وجيم قرية جامعة علي أيام من المدينة، قاله ابن الأثير وغيره: "نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلست" أنا "إلى جنب أبي بكر" فيه أنه لا بأس بجلوس المرأة إلى جنب زوجها بحضور أبيها "وكانت زمالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبي بكر واحدة" بكسر الزاي، أي: مركوبهما وأداتهما وما كان معهما في السفر، قاله في النهاية. قال الولي العراقي: وهو مضبوط في أصلنا من سنن أبي داود بضم الزاي، ولم يذكر الجوهري هذه اللفظة أصلا، بل ذكر هو وغيره أن الزاملة بعير يستظهر به الرجل يحمل متاعه وطعامه عليه "مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ " إضافة إليه؛ لأنه القائد له الموكل على حفظه "قال: أضللته" أي أضعته، يقال: ضلل الشيء إذا ضاع وأضله، أي: أضاعه "البارحة" أي: أقرب ليلة مضت من برح إذا زال. "قال أبو بكر: بعير واحد تضله" تضيعه "فطفق" بكسر الفاء مضارعة بفتحها، أي: شرع "يضربه" تأديبا له، ففيه جواز ضرب السيد عبده للتأديب، والظاهر أن أبا بكر إنما ضربه لأجل تضييعه حوائج النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان في ذلك منتقما لغيره، قاله الولي "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم" دون الضحك وهو أوله "ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع وما يزيد على ذلك ويبتسم" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 يصنع"، وما يزيد على ذلك ويبتسم. رواه أبو داود. وخرج معه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج -كما قالت عائشة- فبين لهم عليه السلام وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج فقال: "من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل". رواه البخاري. ولأحمد: "من شاء فليهل بعمرة". ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا   ليخفض أبا بكر ويذهب غيظه "رواه أبو داود" وابن ماجه وفيه ابن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وجاء أن آل فضالة الأسلمي لما بلغهم أن زاملته -صلى الله عليه وسلم- ضلت حملوا له حقة من حيس، فوضعوها بين يديه، فجعل يقول: هلم يا أبا بكر فقد جاء الله بغداء طيب، وجعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال عليه السلام: "هون عليك فإن الأمر ليس لك ولا إلينا معك". وروي أن سعدا وأبا قيس جاءا ومعهما زاملة تحمل زادا، فقال سعد: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت، فقال: قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله فيكما. "وخرج معه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج" على ما عهدوه من ترك الاعتمار في أشهر الحج "كما قالت عائشة" في الصحيح، وعنها أيضًا: لا نرى إلا أنه الحج "فبين لهم عليه السلام وجوه الإحرام" الثلاثة "وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج، فقال: "من أحب" منكم "أن يهل بعمرة" وحدها "فليهل، ومن أحب أن يهل بحج" وحده "فليهل"، رواه البخاري" ولمسلم: ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل. "ولأحمد: "من شاء فليهل بعمرة" ومن شاء فليهل بحج "ولما بلغ" أي: وصل "صلى الله عليه وسلم الأبواء:" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد جبل بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، سمي بذلك لتبوئ السيول فيه لا لما فيه من الوباء، إذ لو كان كذلك لقيل: الأوباء أو هو مقلوب منه "أو ودان:" بفتح الواو وشد المهملة فألف فنون موضع قرب الجحفة أو قرية جامعة أقرب إلى الجحفة من الأبواء بينهما ثمانية أميال والشك من الراوي، وجزم بعض الرواة بالأبواء وبعضهم بودان "أهدى له الصعب من جثامة" بفتح الجيم والمثلثة الثقيلة ابن قيس بن ربيعة الليثي حليف قريش، وله أحاديث وآخى -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عوف بن مالك، مات في خلافة عثمان على الأصح، وقيل: في آخر خلافة عمر، وقيل: الصديق، وغلط بأن الصعب شهد فتح إصطخر في خلافه عمر كما رواه ابن السكن وجاء في أربع من أهل العراق يشكون الوليد بن عقبة لعثمان في خلافته، كما رواه ابن إسحاق "حمارا وحشيا" باتفاق الرواة عن مالك وتابعه عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". رواه البخاري ومسلم. وله في رواية: حمار وحش، وفي أخرى: من لحم حمار وحش، وفي رواية: عجز حمار وحشي يقطر دما، وفي رواية: شق حمار وحش، وفي رواية: عضو من لحم صيد.   تسعة من حفاظ أصحاب ابن شهاب "فرده" أي: الحمار "عليه" أي: الصعب "فلما رأى ما في وجهه" من الكراهة والتغير من الكسر الحاصل له برد هديته. "قال" صلى الله عليه وسلم تطييبا لقلبه: "إنا" بكسر الهمزة بوقوعها في الابتداء "لم نرده" بفتح الدال، رواه المحدثون وقال محققو النحاة: إنه غلط، والصواب ضم الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها ولي الواو ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما هذا في المذكر، أما في المؤنث مثل ردها فبفتح الدال مراعاة للألف، قاله عياض وغيره: "عليك" لعلة من العلل "إلا" لأجل "أنا" بالفتح "حرم" بضم الحاء والراء جمع حرام والحرام المحرم، أي: محرمون "رواه البخاري" عن عبد الله بن يوسف "ومسلم" عن يحيى النيسابوري، كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب "وله" أي: مسلم من طريق الليث ومعمر وصالح عن الزهري: أهديت له "حمار وحش" كما قال مالك: غايته أنه بالإضافة. "و" له "في أخرى" عن ابن عيينة عن الزهري: أهديت له "من لحم حمار وحش". "وفي رواية" لمسلم أيضا عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم "عجز حمار وحشي يقطر دما" كأنه صيد في ذلك الوقت. "وفي رواية" لمسلم عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، عن ابن عباس: أهدى "شق حمار وحش". "وفي رواية" لمسلم أيضا عن طاوس، عن ابن عباس قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له ابن عباس ليستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حرام، فقال: أهدي له -صلى الله عليه وسلم- "عضو من لحم الصيد" فرده فقال: "إنا لا نأكله، إنا حرم"، وله أيضا في رواية منصور عن الحكم: رجل حمار، فهذه الروايات صريحة في أنه عقير وأنه إنما أهدي بعضه لا كله، ولا معارضة بين رجل وعجز، وشق لحمله على أنه أهدي رجلا معها الفخذ وبعض جانب الذبيحة وعضو مبهم يرد لما بين، فمنهم من رجح رواية مالك وموافقيه. قال الشافعي في الأم حديث مالك: إن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم ... فذكره. واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش، وهو بالحجفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقي: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم. قال في فتح الباري: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رد حيا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعي في "الأم": إن كان الصعب أهدى حمارا حيا   لحم حمار. وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري لحم حمار وحش وهو غير محفوظ ونحوه للبيهقي وزاد، وقد قال ابن جريج: قلت لابن شهاب الحمار عقير، قال: لا أدري، ومنهم من جمع بحمل أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع عكسه؛ لأن إطلاق الرجل على الحيوان له لا يعهد، إذ لا يطلق على زيد أصبع ونحوه، إذ شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم، كالرقبة على الإنسان والرأس، فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وبغير ذلك كما يأتي للمصنف "ورواه أبو داود" والنسائي "وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم هل علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أهدي إليه عضو صيد فلم يقبله، وقال: "أنا حرم"، قال: نعم، فقوله: "فذكره" أي: بنحو رواية مسلم. "واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه إلا ما رواه ابن وهب" عبد الله في جامعه "والبيهقي من طريقه" أي: ابن وهب "بإسناد حسن من طريق" أي: حديث "عمرو" بفتح العين "ابن أمية" الضمري الصحيح "أن الصعب أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم" منه. "قال البيهقي: إن كان هذا" الحديث "محفوظا، فلعله رد الحي وقبل اللحم قال في فتح الباري: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رد حيا لكونه صيد لأجله ورد اللحم تارة لذلك" وهو ما في الطرق المتقدمة. "وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله" وهو ما في حديث عمرو بن أمية. "وقد قال الشافعي في الأم: إن كان الصعب أهدى حمارا حيا فليس للمحرم أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده: أنه جزم بوقوع ذلك في الجحفة، وهو في غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا لا حيا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي -صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون من أراد حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أحفره له حيا فلما رده عليه ذكاه، وأتاه بعضو منه ظنا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما   يذبح حمار وحش، وإن كان أهدى له لحما، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه" لأنه لا يجوز للمحرم لحم ما صيد له. "ونقل الترمذي عن الشافعي أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول" بموحدة بعد القاف "المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده أنه جزم بوقوع ذلك في الجحفة وهو في غيرها من الروايات، قال: بالأبواء أو بودان" فكأنه لما رده؛ لأنه محرم أهدي له بعدما حل فقبله وهذا جمع حسن. "وقال القرطبي: يحتمل" في طريق الجمع بين الروايات السابقة "أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا" بتمامه "لا حيا، ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدي حمارا، أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي -صلى الله عليه وسلم" وهذا جمع متجه، إذ ليس في رواية حمار تصريح بأنه حي إنما هو ظاهر فقط. "قال: ويحتمل أن يكون من أراد حمارًا أطلق" اسم الكل "وأراد بعضه مجازًا" من إطلاق الكل على البعض وهو سائغ ويمتنع عكسه كما مر "قال: ويحتمل أنه أحضره له حيا، فلما رد عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظنا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه" من قبوله "أن حكم الجزء حكم الكل" في أنه لا يحل للمحرم، وهذا الجمع قريب وفيه إبقاء اللفظ على المتبادر منه الذي ترجم عليه البخاري إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا حيا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 أمكن أولى من توهيم بعض الرواة. وقال النووي: قال الشافعي وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوهما، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بأذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد به المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- رده وعلل رده عليه بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.   لم يقبل مع أنه لم يقل في الحديث حيا، فكأنه فهمه من قوله: حمارًا "قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة" كما هو القاعدة عند المحدثين. "وقال النووي: قال الشافعي وآخرون: ويحرم تملك الصيد" سواء كان ملكا لغير المحرم وأخذه منه "بالبيع" أي: الشراء "والهدية ونحوهما" كالعارية والصدقة، أو كان مباحا أخذه من البادية "وفي ملكه إياه بالإرث خلاف" أرجحه عندهم أنه يملكه ولا يمؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأنه لم يملكه اختيارا ولا قصر بعدم إرساله قبل الإحرام. "وأما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد به المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه" أو تصدق به عليه "لم يحرم" أكله على المحرم "هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه" لظاهر حديث أبي قتادة: أنه صاده لأجلهم، ورد بأنه يحاج إلى تصريح بذلك. "وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا سواء صاده أو صاده غيره له قصده أو لم يقصده فيحرم مطلقا، حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] "قالوا: والمراد بالصيد المصيد فلا فرق بين أن يصيده محرم أو حلال. "ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- رده، وعلل رده عليه بأنه محرم ولم يقل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 واحتج الشافعي وموافقوه: بحديث أبي قتادة المذكور في صحيح مسلم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين: "هو حلال فكلوه". وفي الرواية الأخرى قال: "فهل معكم منه شيء"؟ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلها. ولما مر -صلى الله عليه وسلم- بوادي عسفان قال: "يا أبا بكر، أي وادي هذا"؟ قال: وادي عسفان قال: "لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف،   بأنك صدته لنا" وأجيب بأن تعليله بذلك لا يمنع كونه صيد له؛ لأن الصعب كان عالما بأنه -صلى الله عليه وسلم- يمر به فحمله على أنه صاده لأجله؛ ولأنه بين الشرط المحرم للصيد على الإنسان إذا صيد له وهو الإحرام، وقبل -صلى الله عليه وسلم- حمار البهري وفرقه على الرفاق كما في الموطأ؛ لأنه كان يتكسب بالصيد فحمله على عادته في أنه لم يصد لأجله، وعن الآية الكريمة بحملها على الاصطياد وعلى لحم ما صيد لمحرم للأحاديث المبينة للمراد بها كحديث أبي قتادة، وحديث جابر. رفعه: صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم، رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وسكت عليه أبو داود وصححه الحاكم والرواية يصاد بالألف على لغة: ألم يأتيك والأنباء تنمي. "واحتج الشافعي وموافقوه بحديث أبي قتادة" الحارث بن ربعي "المذكور في صحيح مسلم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة" وهو حمار وحش "وهو حلال قال:" أعادها الطول الفصل "للمحرمين هو حلال فكلوه" لأنه لم يصده لكم بل لنفسه، ولأحمد الطيالسي وأبي عوانة، فقال: "كلوا وأطعموني". "وفي الرواية الأخرى" في الصحيحين وغيرهما "قال" صلى الله عليه وسلم: "فهل معكم منه شيء" من لحمه "قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلها". وللبخاري: فناولته العضد فأكلها حتى تعرفها. وفي رواية: فدفعنا له الذراع فأكل منها، وجمع بأنه أكل من الأمرين. "ولما مر -صلى الله عليه وسلم- بوادي عسفان" بضم العين وإسكان السين المهملتين قرية جامعة قرب مكة "قال: "يا أبا بكر أي واد هذا"؟، قال: وادي عسفان" ظاهر الاستفهام أنه لا يعلم أنه وادي عسفان، ويحتمل أنه استنطاق، ولا يرد أن عادتهم أن يقولون في الاستنطاق: الله ورسوله أعلم؛ لأن ذلك في الأمور العلمية وهذا خبر عن محسوس، ولا يرد أنهم قالوا ذلك حين قال: "أي بلد هذا؟ أي شهر هذا"؟ وهما محسوسان؛ لأن ذلك استجلاب لما عسى أن يخبرهم بما لا يعلمون، أشار إليه الأبي وغيره. "قال: "لقد مر به هود وصالح" عليهما الصلاة والسلام "على بكرين أحمرين" أي: أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 "وأزرهما العباء وأرديتهما النمار يلبون يحجون البيت العتيق". رواه أحمد. وفي رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادي الأزرق قال: "كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي، وله جؤار إلى الله بالتلبية". ووادي الأزرق خلف أمج -بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد. ولم يعين في رواية البخاري الوادي، ولفظه: "أما موسى كأني انظر إليه إذ انحدر من الوادي يلبي".   كل واحد منهما مر في زمن مروره على بكر أحمر، إذ هو متقدم على صالح بزمان "خطامهما" بكسر المعجمة وفتح المهملة حبلهما المشدود على خطمهما، وهو مقادم أنفهما وفمهما "الليف" تواضعا لله تعالى جبلة جبل عليها الأنبياء، ونسخة خطمهما تحريف "وأزرهما العباء" بمهملة "وأرديتهما النمار": جمع نمرة بردة من صوف تلبسهما الأعراب "يلبون يحجون البيت العتيق" الكعبة "رواه أحمد" في مسنده. "وفي رواية مسلم" في أواخر كتاب الإيمان "من حديث ابن عباس: لما مر" صلى الله عليه وسلم "بوادي الأزرق" في حجة الوداع، ففي رواية لمسلم أيضا عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة، فمررنا بواد فقال: أي واد هذا؟، قالوا: وادي الأزرق الحديث، إذ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسر لمكة بعد فتحها إلا لحجة الوداع، وابن عباس قبل فتحها كان مع أبويه بمكة "قال: "كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية" الطريق في الجبل "واضعا أصبعيه في أذنيه" بالتثنية فيهما "مارا هذا الوادي وله جؤار" بضم الجيم وهمزة مفتوحة ممدودة فراء، أي: صوت مرتفع، قال تعالى: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ، أي: ترفعون أصواتكم، قال أبو نعيم: الجؤار صوت فيه استغاثة "إلى الله بالتلبية" ووادي الأزرق خلف أمج -بفتح الهمزة والميم وبالجيم- قرية ذات مزارع بينه" أي: أمج "وبين مكة ميل واحد ولم يعين في رواية البخاري الوادي، ولفظه: " أما موسى كأني أنظر إليه" جواب أما، والأصل: فكأني، فحذف الفاء وهو حجة على من قال من النحاة: لا يجوز حذفها لا أن يقال: حذفها من الراوي، وقد جوز ابن مالك حذفها في السعة وخصه بعضهم بالضرورة "إذ انحدر" بدون ألف، ولبعض الرواة بإثباتها وأنكرها بعضهم وغلط راويها. قال عياض: وهو غلط منه، إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا؛ لأنه وصفه حالة انحداره فيما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته؛ لأنه لم يأت في أثر ولا خبر أن موسى حي، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "ليهلن ابن مريم بفج الروحاء". انتهى. وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخاري الحديث في اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط فزاده؟ وفي رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط فزاد يونس؟ وتعقب أيضًا: بأن توهيم المهلب للراوي وهم منه وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع إلى السماء نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل.   مضى "من الوادي" وادي الأزرق كما علم من رواية مسلم "يلبي" بصوت عال. "قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته؛ لأنه لم يأت في أثر ولا خبر أن موسى حي وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "ليهلن ابن مريم بفج" بفاء وجيم، أي: طريق "الروحاء" بالمد. "انتهى، وهو" كما قال الحافظ "تغليط للثقات بمجرد التوهم. "وقد ذكر البخاري الحديث في" كتاب "اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه" ولفظه عن مجاهد، قال: كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال أنه قال: مكتوب بين عينيه كافر، فقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، ولكنه قال: أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل مخطوط بخلبة بضم الخاء المعجمة ولام ساكنة وموحدة، أي: ليف كأني أنظر ... إلخ، وكذا رواه مسلم من هذا الوجه بلفظه "أفيقال: إن الراوي قد غلط فزاده" بهمزة الاستفهام الإنكار. "وفي رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس" ولفظه: ثم أتى على ثنية هرشاء، فقال: أي ثنية هذه؟، قالوا: ثنية هرشاء، قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعداء عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة وهو يلبي "أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط، فزاد يونس" لأنه إذا قيل ذلك ارتفع الوثوق بالروايات الصحيحة بلا مستند بل مجرد التوهم. "وتعقب أيضا" والمتعقب الزين بن المنير في الحاشية كما في الفتح "بأن توهيم المهلب للراوي وهم منه وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؛ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع إلى السماء نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل، وأجيب:" والمجيب الحافظ "بأن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: "كأني أنظر إليه" ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلن ابن مريم بالحج". وقد اختلف في معنى قوله: "كأني أنظر إليه". فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي. وقيل: هو على الحقيقة؛ لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون. فلا مانع أن يحجوا في هذه الحالة، كما في صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى قائما في قبره يصلي. قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دوعي أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية.   المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني أنظر إليه، ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلن ابن مريم بالحج" يعني: وإن كان هذا الذي أراده ليس بشيء؛ لأنه مجرد توهم. "وقد اختلف في معنى قوله: كأني أنظر إليه، فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له، فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك ورؤيا الأنبياء وحي" قال الحافظ: وهذا هو المعتمد عندي لما سيأتي في أحاديث الأنبياء من التصريح بنحو ذلك في أحاديث أخر، وكون ذلك كان في المنام والذي قبله ليس ببعيد. "وقيل: هو على الحقيقة؛ لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون" بالأولى من الشهداء "فلا مانع أن يحجوا في هذه الحالة كما في صحيح مسلم" في المناقب "عن أنس أنه" صلى الله عليه وسلم "رأى موسى قائما في قبره يصلي". "قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون به" بلام وزاي، فالموت إنما يرفع التكليف لا العمل "كما يلهم أهل الجنة الذكر، ويؤيده؛ أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوه بين أيديهم "الآية، لكن تمام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 لكن تمام هذا التوجيه أن يقول: المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له في الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهي في القبور. قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى في اليقظة كما يرى في النوم. وقيل: كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا، كيف تعبدوا؟، وكيف حجوا؟، وكيف لبوا؟، ولهذا قال: "كأني".. وقيل: كأنه أخبر بالوحي عن ذلك، فلشدة قطعه به قال: "كأني أنظر إليه". انتهى. وقد ذكرت في مقصد الإسراء من ذلك ما يكفي والله الموفق. ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بسرف خرج إلى أصحابه فقال: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا".   هذا التوجيه أن يقول المنظور إليه: هي أرواحهم، فلعلها مثلت له في الدنيا كما مثلت:" صورت بصورة أجسادهم "له ليلة الإسراء" في أحد الوجوه "وأما أجسادهم فهي في القبور". "قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا ويرى في اليقظة كما يرى في النوم، وقيل: كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبدوا؟ وكيف حجوا؟ وكيف لبوا؟، ولهذا قال: "كأني" والإتيان بالتشبيه يفيد ذلك "وقيل: كأنه أخبر بالوحي عن ذلك فلشدة قطعه به قال: "كأني أنظر إليه" فأخبر عنهم كالمشاهد، قال الأبي: ويؤيد هذا وما قبله قوله: "وعليه جبة صوف"، إذ لا يلبس الصوف في الآخرة. "انتهى". "وقد ذكرت في مقصد الإسراء من ذلك ما يكفي، والله الموفق" لا غيره "ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء وفاء لا ينصرف للعلمية والتأنيث موضع على عشرة أميال، وقيل: أكثر، وقيل: أقل من مكة "خرج إلى أصحابه، فقال: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها" أي: حجته "عمرة فليفعل" العمرة "ومن كان معه الهدي فلا" يفعل، أي: لا يجعلها عمرة، فحذف الفعل المجزوم بلا الناهية خيرهم أولا بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناسا بالعمرة في أشهر الحج، ثم حتم عليهم الفسخ بعد ذلك وأمرهم به أمر عزيمة وكره ترددهم في قبوله ثم قبلوه. ففي مسلم عن عائشة: فدخل علي وهو غضبان، فقلت: من أغضبك أدخله الله النار؟، قال: "أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون"؟. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 وحاضت عائشة بسرف فدخل عليها -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك يا هنتاه"؟ قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: "وما شأنك"؟ قالت: لا أصلي، قال: "فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك، فعسى الله أن يرزقكيها". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. وفي رواية قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك"؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: "ما لك، لعلك   وفي البخاري عن جابر، فقال لهم: "أحلوا من إحرامكم واجعلوا التي قدمتم بها متعة"، قالوا: وقد سمينا الحج، فقال: "افعلوا ما أقول لكم". "وحاضت عائشة بسرف فدخل عليها -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي فقال: "ما يبكيك يا هنتاه"؟ بفتح الهاء وقد تسكن ففوقية فألف فهاء ساكنة كناية عن شيء لا يذكر باسمه "قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة" أي: إعمالها من طواف وسعي "قال: "وما شأنك"؟، قالت: لا أصلي" كنت عن الحيض بالحكم الخاص به، وهو امتناع الصلاة أدبا منها لما في التصريح به من الإخلال بالأدب، وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات، فكلهن يكنين عن الحيض بحرمان الصلاة، أي تحريمها أو غير ذلك "قال: "لا يضرك" بكسر الضاد وخفة التحتية من الضير، وفي رواية: يضرك بضم الضاد وشد الراء من الضرر "إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن" سلاها بهذا وخفف همها، أي: أنك لست مختصة بذلك بل كل بنات آدم يكون ذلك منهن "فكوني في حجتك" أي: اثبتي وداومي عليها "فعسى الله أن يرزقكيها" مفردة بياء متولدة من إشباع كسرة الكاف وهي في لسان المصريين شائعة، قاله في المصابيح، وفي الكرماني: يرزقكها بغير ياء، وفي بعضها: بإشباع كسرة الكاف ياء والضمير للعمرة، قاله المصنف "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي". "وفي رواية" لهؤلاء الأربعة أيضا "قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج" لفظ مسلم، ولهما: لا نرى إلا أنه الحج، وفي رواية: مهلين بالحج، ولمسلم أيضا: لبينا بالحج "حتى جئنا سرف فطمثت" بمثلثة، أي: حضت "فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك"؟، فقلت: والله لوددت" تمنيت "أني لم أكن خرجت" وفي رواية: حججت "العام، فقال: "ما لك لعلك نفست" بفتح النون وقد تضم وكسر الفاء، أي: حضت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 "نفست"؟ قلت: نعم، قال: "هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج، غير أن تطوفي بالبيت حتى تطهري". الحديث. وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، أولا كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل: إنها كانت أحرمت أولًا بالحج، وهو ظاهر هذا الحديث. وفي حجة الوداع من المغازي عند البخاري، من طريق هشام ابن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهري: ولم أسق هديا، وفي رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة.   "قلت: نعم" نفست، وأفادت الروايتان أنها قالت: نعم لا أصلي "قال: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" وأنت واحد منهن، أي: امتحنهن وتعبدهن بالصبر عليه "افعلي ما يفعل الحاج" من المناسك "غير أن لا تطوفي بالبيت" لا زائدة، إذ غير عدم الطواف هو نفس الطواف أو تطوفي مجزوم بلا: لا تطوفي ما دمت حائضا بدليل قوله: "حتى تطهري"، وأن على هذا الوجه الثاني مخففة من الثقيلة وفيها ضمير الشأن ... "الحديث". "وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة أولا كما اختلف هل كانت" أي: صارت "متمتعة أو مفردة؟ وإذا كانت متمتعة، فقيل: إنها كانت أحرمت أولا" بالحج "وهو ظاهر هذا الحديث". "وفي حجة الوداع من" كتاب "المغازي عند البخاري" وفي أبواب العمرة أيضا "من طريق هشام بن عروة عن أبيه" عنها "قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة، وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهري" عن عروة عنها "ولم أسق هديا، وفي رواية الأسود" بن يزيد النخعي "عنها قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة" أي: بالنطق، بل بالنية فقط أو إحراما مبهما لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مبهما حتى أوحى إليه بالتعيين، والأول أظه لتصريحها أنها أهلت بعمرة، فيبعد فيبعد احتمال الإبهام، قاله المازري. وقال عياض: هو الذي لا يتأول غيره؛ لأنها صرحت في غير حديث أنهم أهلوا بالحج، ولا يصح أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مبهما؛ لأن رواية جابر وغيره تخالفه. انتهى. زاد الحافظ: فادعى إسماعيل القاضي وغيره: أن هذا، يعني المروي، أنها أحرمت بعمرة غلط من عروة والصواب رواية القاسم والأسود وعروة، عنها: أنها أهلت بالحج مفردا، وتعقب بأن قول عروة عنها: أهلت بعمرة صريح، وقول الأسود وغيره عنها: لا نرى إلا الحج ليس صريحا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 ويحتمل في الجمع أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج. وقال القاضي عياض: واختلف في الكلام على حديث عائشة، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا. قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل به في رفض العمرة وجعلها حجا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف في جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك احتمال أن يكون معنى قوله: "ارفضي عمرتك" أي اتركي التحلل منها وأدخلي عليها بالحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية لمسلم: "وأمسكي عن العمرة" أي عن أعمالها.   في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما أنها ذكرت ما عهدوه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فبين لهم وجوه الإحرام فأحرمت بعمرة كما رواه عروة، وهو أعلم الناس بحديثها، ووافقه جابر عند مسلم، وكذا رواه طاوس ومجاهد عنها، قال: "ويحتمل في الجمع" أيضا "أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردا كما صنع غيرها من الصحابة" وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن وافقه "ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم" أصحابه "أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة" وعلى هذا ينزل حديث عروة: "ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج" فصارت قارنة. "وقال القاضي عياض" في شرح قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة"، وفي رواية: "ارفضي عمرتك" كما في الصحيحين وغيرهما. "واختلف في الكلام على حديث عائشة، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا". "قال ابن عبد البر: يريد" مالك: "ليس العمل به في رفض العمرة وجعلها حجا بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة" بأمره -صلى الله عليه وسلم "واختلف في جوازه من بعدهم" ويأتي للمصنف بسطه "لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: "ارفضي عمرتك"، أي: اتركي التحلل منها وادخلي عليها الحج فتصير قارنة". "ويؤيده قوله في رواية لمسلم: "وأمسكي عن العمرة"، أي: عن أعمالها" والإمساك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 وإنما قالت عائشة: "وأرجع بحج" لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين. واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها: "وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة" أخرجه أحمد. وهذا يقوي قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك قوله لها: "دعي عمرتك"، وفي رواية: "اقضي عمرتك" ونحو ذلك. واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة. لكن في رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج" حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال: "قد حللت من حجتك وعمرتك"، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: فأعمرها من التنعيم.   ليس برفض "وإنما قالت عائشة:" يرجع الناس بحج وعمرة "وأرجع بحج لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين". "واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء" بن أبي رباح "عنها: وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة، أخرجه أحمد؛" فإنه ظاهر في أنها حجة مفردة "وهذا يقوي قول الكوفيين" الحنفية ومن وافقهم؛ "أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقوله" صلى الله عليه وسلم "لها: "دعي عمرتك"، وفي رواية: "ارفضي عمرتك"، ونحو ذلك" كقوله: "انقضي رأسك وامتشطي". "واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة" أي: وحدها "فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف" فلا ينهض الاستدلال "والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث ابر: أن عائشة أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم" يوم التروية حين دخل وهي تبكي: "أهلي بالحج حتى إذا طهرت" بفتح الهاء وضمها والتاء ساكنة، فلفظ جابر: ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت "طافت بالكعبة وسعت، فقال" صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجتك وعمرتك" جميعا كما في الرواية، فهذا صريح في أن عمرتها لم تبطل ولم تخرج منها "فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "طوفك يسعك لحجك وعمرتك" فهذا صريح في أنها كانت قارنة لقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك"، وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع في رواية لمسلم: وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه. ثم قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا". وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفي منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء في رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء في   فأتيت بطواف واحد، قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن" كما في مسلم "فأعمرها" بهمزة قطع والجزم أمرا "من التنعيم، ولمسلم من طريق طاوس، عنها: فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "طوافك يسعك لحجك وعمرتك" أي يكفيك بمعنى يجزئك لهما. وفي رواية مجاهد عنها عند مسلم: فقال لها -صلى الله عليه وسلم: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك". "فهذا صريح في أنها كانت قارنة" ولم ترفض العمرة، وإنما تركت إتمام عملها "لقوله: قد حللت من حجك وعمرتك" ولقوله: "طوافك يسعك" إلى آخره "وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة" كما قالت: إني أجد في نفسي ... إلخ. "وقد وقع في رواية لمسلم" في حديث جابر الإشارة إلى ذلك، حيث قال: "وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا" خلقه كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى ُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، "إذا هويت" بفتح الهاء وكسر الواو وفتح التحتية أحبت "الشيء" ولا نقص فيه من جهة الدين كطلبها الاعتمار "تابعها" أي: وافقها "عليه" حسن عشرة، إذ هو أولى من امتثل وعاشروهن بالمعروف "ثم قال" كما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأهللنا بعمرة، ثم قال "صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من كان معه هدي" بإسكان الدال على الأفصح اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم "فليهل بالحج مع العمرة" أي: يضيفه إليها فيصير قارنا "ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" بضم التحتية وفتحها وكسر الحاء؛ لأن القارن يعمل عملا واحدا "وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج في منتهى سفرهم ودنوهم" أي: قربهم "من مكة بسرف كما جاء في رواية عائشة أو بعد طوافه بالبيت كما جاء في رواية جابر" عند الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك في الموضعين. وإن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة. وفي رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال -صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أحرم بحج فليتم حجه". وهذا الحديث ظاهر في الدلالة لأبي حنيفة وأحمد وموافقيهما، في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر. ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء، كما لو تحلل المحرم بالحج.   مسلم "ويحتمل" كما قال عياض في الجمع بينهما "تكرار الأمر بذلك في الموضوعين، وأن العزيمة" التصميم عليهم بذلك "كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة" ففعلوا. "وفي رواية" لمسلم وغيره "قالت عائشة:" خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع "فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج" فقولها في الرواية السابقة: فأهللنا بعمرة ليس إخبارا عن فعل جميع الناس، بل عن حالها وحال من كان مثلها في الإحرام بعمرة "حتى قدمنا مكة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بعمرة ولم يهد" بضم الياء، أي: لم يسق هديا إلى الحرم من الأنعام "فليحلل" بسكون اللام الأولى وكسر الثانية وفتح التحتية وضمها "ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أحرم بحج" وحده "فليتم حجه، وهذا الحديث ظاهر في الدلالة لأبي حنيفة وأحمد وموافقيهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر". "ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما؛ أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء كان ساق هديا أم لا؟، واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي" فإنه يحل باتفاق، والجامع بينهما أن كلا منهما صار حلال بالفراغ من أعمالها؛ "وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج" وحده، فإنه يحل له كل شيء وهي احتجاجات قوية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التي ذكرها مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا" فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن القصة واحدة، والراوي واحد فتعين الجمع بين الروايتين بما ذكر. والله أعلم. ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- ذا طوى -بضم الطاء وفتحها، وقيدها الأصيلي بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بي الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل. رواه البخاري. وللنسائي كان -صلى الله عليه وسلم- ينزل بذي طوى، يبيت به حتى يصلي صلاة الصبح   "وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التي ذكرها" أي: رواها "مسلم" والبخاري وأبو داود والنسائي، كلهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة "عن عائشة قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة" إخبار عن حالها ومن شابهها لا عن جميع الناس، فلا ينافي حديثها الآخر أنهم تنوعوا إلى الأوجه الثلاثة. "ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل" بلام واحدة في الصحيحين وغيرهما "بالحج مع العمرة، ثم لا يحل" بفتح الياء وضمها وكسر الحاء "حتى يحل منهما جميعا، فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة" ومن وافقه "وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج" يدخله عيها "ولا يحل حتى ينحر هديه" لأنه صار قارنًا "ولا بد من هذا التأويل؛ لأن القصة واحدة، والراوي واحد" وهو عائشة "فتعين الجمع بين الروايتين بما ذكر، والله أعلم" بالحق في ذلك "ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- ذا طوى بضم الطاء وفتحها وقيدها الأصيلي بالكسر" فهي مثلة وبه صرح المجد. وقال الكرماني: الفتح أفصح واد معروف "عند آبار الزاهر" الذي في الفتح يعرف اليوم ببئر الزاهر وهو مقصور منون وقد لا ينون، ونقل الكرماني؛ أن في بعض الروايات حتى إذا حاذى طوى بحاء مهملة بغير همز وفتح الذال، قال: والأول هو الصحيح؛ لأن اسم الموضع ذو طوى لا طوى فقط "بات بها بين الثنيتين" ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة "فلما أصبح صلى الغداة" أي: الصبح "ثم اغتسل" لدخول مكة ثم دخل مكة "رواه البخاري" وكذا مسلم من حديث ابن عمر. "وللنسائي" عنه: "كان -صلى الله عليه وسلم- ينزل بذي طوى يبيت به حتى يصلي صلاة الصبح حين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 حين يقدم إلى مكة. ومصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس في المسجد الذي بنى ثم، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة. وفي الصحيحين: أنه -صلى الله عليه وسلم- دخلها من أعلاها. وفي حديث ابن عمر في الصحيح: كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة من الثنية العليا، يعني أعلى مكة من كداء -بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة -مقبرة أهل مكة- وهي التي يقال لها: الحجون -بفتح الحاء المهملة وضم الجيم ... ولم يقع أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا في عمرة الجعرانة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم من   يقدم إلى مكة" ظرف لقوله: ينزل "ومصلى" بضم الميم، أي: مكان صلاة كما في مسلم والنسائي، فحرف من جعلها: فصلى "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك على أكمة" بفتحات تل أو ما دون الجبل أو موضع أشد ارتفاعا مما حوله "خشنة غليظة" قيد بها؛ لأنها تكون غليظة وغير غليظة "ليس في المسجد الذي بنى، ثم" أي: هناك "ولكن أسفل من ذلك على أكمة خشنة" ضد ناعمة "غليظة" ضد رقيقة، وهذا رواه مسلم بلفظه من حديث ابن عمر: إلا أنه لم يقل خشنة إنما قال: على أكمة غليظة أولا وثانيا، فلعل هذا عذر المصنف في قصر عزوه للنسائي. "وفي الصحيحين" عن عائشة "أنه -صلى الله عليه وسلم" لما جاء إلى مكة "دخلها من أعلاها" وخرج من أسفلها. "وفي حديث ابن عمر في الصحيح" للبخاري ومسلم: "كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة من الثنية العليا" بضم العين تأنيث الأعلى، زاد في رواية التي بالبطحاء "يعني: أعلى مكة من كداء بفتح الكاف والمد" وإهمال الدال والتنوين و"قال أبو عبيد: لا يصرف" للعلمية والتأنيث على إرادة البقعة "وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها: الحجون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم". قال الحافظ: وكانت صعبة المرتقى، فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل في عصرنا هذا سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع منها، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة وكل عقبة في جبل أو طريق تسمى ثنية. وبقية الحديث: وخرج من الثنية السفلى "ولم يقع أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبي. وعن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا مكة ليلا، إنكم لستم كرسول الله -صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائي. ثم دخل -صلى الله عليه وسلم- مكة لأربع خلون من ذي الحجة. ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بني عبد مناف، وهو باب بني شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام في "القواعد". وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى البيت قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا". رواه الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول.   عمرة الجعرانة" بعد انصرافه من قسم غنائم حنين؛ "فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى" أي: فعل "أمر العمرة" الطواف والسعي والحق "ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت" أي: كأنه بات بها "كما رواه أصحاب السنن الثلاثة" أبو داود والترمذي والنسائي "من حديث محرش" بضم الميم وفتح المهملة، وقيل: إنها معجمة وكسر الراء فشين معجمة "الكعبي" الخزاعي الصحابي نزيل مكة، وبه تمسك من قال: إن دخولها نهارا وليلا سواء في الفضل، وأجاب القائل بفضل النهار، بأنه دخلها في تلك المرة ليلا لبيان الجواز. "وعن عطاء" بن أبي رباح أنه "قال: إن شئتم فادخلوا مكة ليلا إنكم لستم كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه كان إماما" قدوة للناس "فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس، رواه النسائي". قال الحافظ: قضيته أن من كان إمامًا يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارًا "ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة لأربع خلون من ذي الحجة" كما في حديث: "ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بني عبد مناف وهو باب بني شيبة، والمعنى" أي: السر والحكمة "فيه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب والبيوت تؤتى من أبابها" كما في التنزيل "وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع كما قاله" العز "بن عبد السلام في القواعد" وهما حكمتان لطيفتان "وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى البيت، قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا" رواه الثوري" سفيان بن سعيد "عن أبي سعيد الشامي" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 وروى الطبراني عن حذيفة بن أسيد قال: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما، وتشريفا وبرا ومهابة". ولم يركع عليه الصلاة والسلام تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف؛ لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد. ثم استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود، وفي رواية جابر عند البخاري: "استلم الركن"، والاستلام افتعال من السلام، أي التحية، قاله الأزهري، وقيل: من السلام   مجهول من السابعة كما في التقرير "عن مكحول" الشامي ثقة، فقيه، تابعي، كثير الإرسال. "وروى الطبراني" في الكبير "عن حذيفة بن أسيد" بفتح الهمزة الغفاري، من أصحاب الشجرة، مات سنة اثنتين وأربعين "قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد بيتك هذا" أضافه إليه لمزيد التشريف، وأتى باسم الإشارة للتفخيم "تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة:" إجلالا وعظمة "وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرا ومهابة". قال الطبراني: تفرد به عمرو بن يحيى. قال الحافظ: وفيه مقال وشيخه عاصم بن سليمان وهو الكوزي متهم بالكذب، ونسب للوضع ووهم من ظنه عاصما الأحول. انتهى. "ولم يركع عليه الصلاة والسلام تحية المسجد إنما بدأ بالطواف؛ لأنه تحية البيت، كما صرح به كثير من أصحابنا" وغيرهم "وليس بتحية المسجد". وفي المقاصد حديث: تحية البيت الطواف لم أره بهذا اللفظ، وفي الصحيح عن عائشة: أول شيء بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف.. الحديث، وفيه قول عروة الراوي عنها؛ أنه حج مع أبيه الزبير، فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه "ثم استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود" أي: مسح يده عليه كما رواه الشيخان عن ابن عمر، قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يضب ثلاثة أطواف من السبع. "وي رواية جابر عند البخاري: استلم الركن" أي: الحجر الأسود "والاستلام افتعال من السلام" بالفتح "أي: التحية قاله الأزهري" أبو منصور. "وقيل: من السلام بالكسر" للسين "أي: الحجارة، والمعنى أنه يومئ بعصاه إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 -بالكسر- أي الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، وكانت عصاه محنية الرأس، وهي المراد بقوله في الحديث بـ"المحجن". واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثاني: الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان. وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن قال: "بسم الله والله أكبر"، وكلما أتى الحجر قال: "الله أكبر" رواه الطبراني.   الركن حتى يصيبه وكانت عصاه محنية" معوجة "الرأس، وهي المراد بقوله في الحديث: بالمحجن" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم ونون والحجن الاعوجاج وبذلك سمي الحجون. "واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول: له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم" أي: أساس بنائه. "وللثاني:" وهو الركن اليماني "الثانية فقط وليس للآخرين شيء منها، فلذلك يقبل الأول" كما في الصحيحين عن ابن عمر؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- قبل الحجر الأسود. وفي البخاري عن ابن عمر: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبله "ويستلم الثاني فقط" لما في الصحيح عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني "ولا يقبل الآخران ولا يستلمان" اتباعًا للفعل النبوي؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم هذا على قول الجمهور. واستحب بعضهم تقبيل اليماني أيضا، وأجاب الشافعي عن قول من قال: كمعاوية، وقد قبل الأربعة ليس شيء من البيت مجهورا، فرد عليه ابن عباس، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به، لكنا نتبع السنة فعلا أو تركا ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به. "وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر" الأسود "فاستلمه" أي: مسح يده عليه "ثم وضع شفتيه عليه طويلًا" يقبله، ومفاده استحباب الجمع بينهما "وكان إذا استلم الركن، قال: "بسم الله، الله أكبر"، وكلما أتى الحجر، قال: "الله أكبر"، رواه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 وهل كان عليه الصلاة والسلام طائفا على بعيره أم على قدميه؟ ففي مسلم عن عائشة: طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع على بعيره. وفيه عن أبي الطفيل: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره.   الطبراني" واستحب الشافعي والحنابلة وابن حبيب من المالكية أن يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك، واتبعا لسنة محمد -صلى الله عليه وسلم. وروى الشافعي عن ابن أبي نجيح، قال: أخبرت أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا، قال: قولوا: "بسم الله، والله أكبر، إيمانا بالله وتصديقا لإجابة محمد -صلى الله عليه وسلم"، ولم يثبت ذلك كما قاله ابن جماعة وصح في أبي داود والنسائي وابن سعد والحاكم وابن حبان عن عبد الله بن السائب، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بين الركنين اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". قال ابن المنذر: لا نعلم خبرا ثابتا عنه -صلى الله عليه وسلم- يقال في الطواف غير هذا. وقال غيره: لم يدع -صلى الله عليه وسلم- عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرا معينا لا يفعله ولا بتعليمه، ولذا ذهب مالك إلى أنه يسن الدعاء بلا حد، وأنكر قول الناس: "اللهم إيمانا بك" ... إلخ. وروي أنه ليس عليه العمل كما في المدونة، أي: ولم يثبت به حديث كما علم. "وهل كان عليه الصلاة والسلام طائفا على بعيره أم على قدميه، ففي مسلم عن عائشة: طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع" حول الكعبة "على بعيره" يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس، هذا لفظ مسلم بتمامه. وفي الصحيحين عن ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن. "وفيه" أي: مسلم "عن أبي الطفيل" عامر بن واثلة: "رأيته -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره" لم يقع ذلك في مسلم عن أبي الطفيل، ولفظه: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن، وإنما فيه ذلك من حديث عائشة كما مر من حديث جابر، قال: طاف -صلى الله عليه وسلم- بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف ويسألوه، فإن الناس غشوه. نعم في أبي داود عن أبي الطفيل: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على راحلته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 وقد اختلف في علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، وفي حديث جابر عند مسلم: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه. فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين. قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب. وتعقب: بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته عليه السلام كانت منوقة، أي مدربة معلمة، فيؤمن معها ما يحذر من التلويث.   "وقد اختلف في علة ذلك" أي: سببه، فإن الطواف راكبا لا يجوز بلا عذر، فمنعه مالك وكرهه الشافعي، وطواف المصطفى راكبا إنما كان لعذر اختلف فيه. "فروى أبو داود من حديث" يزيد بن أبي زياد عن عكرمة، عن "ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قدم مكة" في حجة الوداع "وهو يشتكي" أي: به مرض "فطاف على راحلته". "وفي حديث جابر عند مسلم: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه" نقل بالمعنى وإلا فلفظ مسلم: ما قد رأيت آنفا، وله في راية تلو السابقة عن جابر: طاف -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس ويشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه بفتح الشين ازدحموا عليه. "فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين" المرض ومشاهدة الناس له فيسألوه عن أمر دينهم ويأخذوا عنه مناسكهم فلا خلف بين الخبرين. قال الولي العراقي: لكن لم يصح ذلك عن ابن عباس، فإن يزيد بن أبي زياد لا يحتج به. قال البيهقي: وقد تفرد بزيادة قوله: وهو يشتكي فلم يوافق عليها. "قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد" بقياس بقية ما يأكل على البعير "إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن أبوالها لا تنجسه" ولا أرواثها ولا يؤمن ذلك من البعير، فلو كانت نجسه لما عرض المسجد له "بخلاف غيرها م الدواب" التي لا تؤكل. "وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة" إذ الفعل إنما دل الجواز للحاجة "بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول" وحيث لا يخشى يجوز "و" لا يراد أن ذلك لا يؤمن من الناقة؛ لأنه "قد قيل: إن ناقته عليه السلام كانت منوقة، أي: مدربة" مذللة "معلمة" مروضة "فيؤمن معها ما يحذر من التلويث" وهي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 قال بعضهم: وهذا كان -والله أعلم- في طواف الإفاضة، لا في طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأول، وذلك لا يكون إلا مع المشي، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أي بنفسه. وقال الشافعي: أما سعيه الذي طاف لقدومه فعلى قدميه. انتهى. ولما استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعًا. وكان ابتداء الرمل في عمرة القضية، لما قدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا   سائرة، وتعقب بأن ذلك لم يثبت إنما أبداه الحافظ احتمالا، وللصحيحين أن أم سلمة طافت على البعير لمرضها بأمره -صلى الله عليه وسلم- فترجى بعض أنه كان منوقا أيضا وليس بشيء. "قال بعضهم: وهذا" أي: طوافه راكبًا "كان والله أعلم في طواف الإفاضة لا في طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأولى" فقال في سياق حجة الوداع عند مسلم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، يعني بلا إسراع. وللشيخين عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا. قال المصنف وغيره: الطواف الأول الذي يعقبه السعي لا طواف الوداع. "وذلك لا يكون إلا مع المشي، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أي: بنفسه" على المتبادر "و" لذا قال الشافعي: أما سعيه الذي طاف لقدومه فعلى قدميه. انتهى، ولما استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه" أي: يمين نفسه فيكون البيت عن يساره "فرمل:" أسرع في مشيه بدون جري "ثلاثًا ومشى أربعًا" كما في مسلم عن جابر: "وكان ابتداء الرمل" بفتح الراء والميم هو الإسراع. وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، واصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته "في عمرة القضية" سنة سبع "لما قدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة وقد وهنتهم" بفوقية بعد النون يستعل لازما، كقوله تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] ، ومتعديا كما في الحديث، أي: أضعفتهم "حمى يثرب" بمثلثة ممنوع الصرف علم للمدينة النبوية في الجاهلية والموضوع رفع على الفاعلية "فقال المشركون" من قريش: "إنه يقدم" بفتح الدال مضارع قدم بكسرها، أي: يرد "عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا" أي: قريش "مما يلي الحجر" بكسر فسكون "وأمرهم" أي: الصحابة "النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا" بضم الميم "ثلاثة أشواط" جمع شوط، أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس. ولما كان في حجة الوداع رمل -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فكان سنة مستقلة. قال الطبري: فقد ثبت أنه عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا عليه. انتهى. قلو ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والله أعلم.   الطوفة حول الكعبة "ويمشوا" في كل واحد من الثلاثة "ما بين الركنين" اليمانيين حيث لا يراهم المشركون "ليرى المشركون" بفتح الياء والراء، وفي رواية: ليرى المشركين بضم الياء وكسر الراء "جلدهم" بفتح الجيم واللام قوتهم لهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم. "فقال المشركون" بعضهم لبعض: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم:" أضعفتهم "هؤلاء أجلد من كذا وكذا، رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والنسائي "من حديث ابن عباس" واللفظ لمسلم "ولما كان في حجة الوداع رمل -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه" كما جاء في أحاديث صحيحة "فكان سنة مستقلة" وإن زال سببه، ولذا هم عمر بتركه ورجع وفعله اتباعا للفعل النبوي، فقال: إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال شيء صنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه كما في الصحيحين، فرجع عما هم به لاحتمال أن له حكمة لم نطلع عليها، ومن جهة المعنى أن الرامل إذا رمل تذكر السبب فيذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله. "قال الطبري: فقد ثبت أنه عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل" بالإضافة "بل" تاركا "لهيئة" صفة "مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته ولم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها فلا شيء عليه. انتهى" كلام الطبري. "فلو ترك الرمل في الثلاث" الأول "لم يقضه في الأربع" الباقية "لأن هيئتها السكينة في تغير، والله أعلم" بالحكم، وحقيقة الحكمة فيه "ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من طوافه" في "المقام" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من طوافه أتى المقام، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم رجع إلى الركن الذي فيه الحجر فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، أبدأ بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز   كما رواه مسلم وأبو داود في الحديث الطويل عن جابر، بلفظ: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم "فقرأ واتخذوا" بكسر الخاء أيها الناس، وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الخاء، خبر "من مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه عن بناء البيت "مصلى" مكان صلاة بأن يصلوا خلفه ركعتي الطواف "فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما" بعد الفاتحة "بقل يا أيها الكافرون" في الأولى "وقل هو الله أحد" في الثانية "ثم رجع" بعد الصلاة "إلى الركن الذي فيه الحجر" الأسود "فاستلمه ثم خرج من الباب" المقابل للصفا أثر الركعتين "إلى الصفا، فلما دنا": قرب "من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} جبلان مبكة {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أعلام دينه: جمع شعيرة "أبدأ" بصيغة الخبر على الرواية المشهورة "بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا" اعتبارا بتقدم المبدوء به في التلاوة، الظاهر في أن حكمه مقدم على ما بعده، فلو بدأ الساعي بالمروة لم يعتد به عند الجمهور ومالك والشافعي، وأصرح منه رواية النسائي: "ابدؤوا بما بدأ الله به" بصيغة الأمر للجمع، واحتج به من قال: إن الواو لا ترتب، إذ لو رتبت لم يحتج إلى هذا التوجيه، ومن قال: ترتب لامتثاله -صلى الله عليه وسلم- ذلك "فرقي" بكسر القاف ويجوز فتحها وهي لغة، أي: صعد "عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة فوحد الله وكبره" أي: قال: الله أكبر، وقوله: "وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد" زاد في رواية أبي يحيى: "يحيي ويميت" "وهو على كل شيء قدير". قال الطيبي: يحتمل أنه قول آخر غير التوحيد والتكبير وأن يكون كالتفسير له والبيان والتكبير وإن لم يكن ملفوظا به، لكن معناه مستفاد من هذا القول، أي: لأن معنى التكبير التعظيم، قال: ووحده حال مؤكدة من الله، كقوله تعالى: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] ، وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] ، في أحد الوجهين، ويجوز أن تكون مفعولا مطلقا، ولا شريك له كذلك حال أو مصدر. ا. هـ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 "وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،" ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة. وفي حديث أبي الطفيل عند مسلم وأبي داود، قال: قلت لابن عباس، أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثر   "لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده" محمدا -صلى الله عليه وسلم- على أعدائه "وهزم الأحزاب" الذين تحزبوا عليه يوم الخندق "وحده" من غير قتال من المسلمين ولا سبب من جهتهم "ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات" سقط لفظ مثل في نسخ وهي ثابتة في مسلم وأبي داود. قال الطيبي: ثم تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر وبين تقتضي التعدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 255] ، الدعاء فتمحل من قال لما فرغ من قوله: "وهزم الأحزاب وحده"، دعا بما شاء ثم قال مرة أخرى هذا الذكر، ثم دعا حتى فعل ذلك ثلاثًا، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله: ثم دعا بين ذلك بعد قوله: قال مثل هذا ثلاث مرات، وتكون ثم للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويلزم أن يكون الدعاء مرتين. ا. هـ. "ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت" بشدة الموحدة، قال عياض: الرواية الواصلة علينا من جميع نسخ مسلم بإثبات لفظة إذا وهكذا في جميع أصول شيوخنا، واانصباب مجاز من قولهم: صب الماء فانصب، أي: انحدرت "قدماه في بطن الوادي رمل" بفتحتين وفي الموطأ سعى، أي: مشى بقوة، أي: أسرع في المشي "حتى إذا صعدنا" بكسر العين، أي: ارتفعت قدماه من بطن المسيل إلى المكان العالي "مشى" المشي المعتاد "حتى أتى المروة" ففعل على المروة كما فعل على الصفا كما في مسلم وأبي داود، أي: من الاستقبال والتوجه والتكبير والدعاء. "وفي حديث أبي الطفيل" عامر بن واثلة بمثلثة الكناني الليثي آخر الصحابة موتًا "عند مسلم وأبي داود، قال" أبو الطفيل: "قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف" أي: السعي "بين الصفا والمروة راكبًا أسنة" بهمزة الاستفهام "هو" أم لا؟ "فإن قومك يزعمون:" يقولون على غير يقين وتحقيق كما في المشارق "أنه" أي: السعي راكبا "سنة، قال: صدقوا" في أنه -صلى الله عليه وسلم- سعى راكبا "وكذبوا" في أن الركوب سنة "قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا" فإنه تناقض الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي السعي أفضل. هذا لفظ رواية. وفي أوله ذكر الرمل في طواف البيت. وعند أبي داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل، فيقيموا ثلاثة   بحسب الظاهر "قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس" في السعي بين الصفا والمروة "يقولون: هذا محمد هذا محمد" بالتكرار مرتين "حتى خرج العواتق من البيوت:" جمع عاتق، وهي البكر البالغ أو المقاربة للبلوغ، أو التي لم تتزوج، سميت بذلك؛ لأنها عتقت من استخدام أبويها فيما تستخدم فيه الصغيرة من الدخول والخروج والتصرف "قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يضرب" بالبناء للمفعول نائبه "الناس بين يديه، فلما كثر عليه" الناس "ركب" للعذر المذكور "والمشي والسعي أفضل" من الركوب "هذا لفظ رواية". فأما رواية أبي داود فيأتي لفظها: ويستفاد من هذا أنه مشى في ابتداء السعي وركب في بقيته، وهو أحسن ما جمع به بين الأحاديث المختلفة في ذلك. "وفي أوله" عند مسلم: "ذكر الرمل في طاف البيت" ولفظه عن أبي الطفيل: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف ومشى أربعة أطواف أسنة هو؟، فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم مكة، فقال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال وكانوا يحسدونه، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثا ويمشوا أربعا. "و" لفظه "عند أبي داود" قلت لابن عباس: يزعم قومك أنه -صلى الله عليه وسلم- قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وكذبوا؟، قال: صدقوا قد رمل وكذبوا ليس بسنة "أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا" اتركوا "محمد وأصحابه حتى يموتوا موت النغف:" بفتح النون والغين المعجمة وبالفاء دود في أنوف الإبل والغنم واحده نغفة. قال أبو عبيد: وهو أيضا دود أبيض يكون في النوى إذا أنقع وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف، قاله الجوهري. "فلما صالحوه على أن يجيئوا" هو -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه للعمرة، وفي نسخة من أبي داود: أن يحجوا. قال الولي العراقي: والأولى أوجه؛ لأنهم لم يحجوا تلك المرة، وإنما اعتمروا إلا أن يراد بالحج مدلوله اللغوي وهو القصد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 أيام، فقدم -صلى الله عليه وسلم- فقال لأصحابه: "أرملوا بالبيت"، وفيه: طاف -صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على بعير؛ لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، وتناله أيديهم الحديث. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر الله ووحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة"، فقالم سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله،   "من العام المقبل فيقيموا" بمكة "ثلاثة أيام، فقدم -صلى الله عليه وسلم" والمشركون من قبل قعيقعان "فقال لأصحابه: "ارملوا" بضم الميم أمر من رمل بزنة اطلبوا، أي أسرعوا في المشي مع تقارب الخطا "بالبيت" ثلاثا وليس بسنة، كذا في الرواية من قول ابن عباس على مذهبه، وخالفه غيره؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- رمل في حجة الوداع وقال: "خذوا عني مناسككم". "وفيه" أي: أبي داود في بقية هذا الحديث عقب قوله: وليس بسنة، قلت: يزعم قومك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف بين الصفا والمروة على بعير، وإن ذلك سنة، ال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا، قال: صدقوا قد "طاف" رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أي: سعى "بين الصفا والمروة على بعير؛ لأن الناس كانوا" لفظه في أبي داود وكذبوا ليس بسنة، كان الناس "لا يدفعون" بالبناء للمفعول "عنه -صلى الله عليه وسلم- ولا يصرفون عنه" بصاد وفاء كما رأيته في أبي داود بخط الولي من الصرف وهو ما في النسخ الصحيحة، فقراءته بضاد معجمة وموحدة تصحيف "فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه وتناله أيديهم ... الحديث". كذا في نسخة: مع أنه لم يبق شيء منه، واعلم أن المصنف لو قال عقب قوله: أولا هذا لفظ رواية مسلم، ولفظ أبي داود: فذكره بلفظه لكان أفيد من هذا التقطيع وما كان يزيد به الكتاب "وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقي" بكسر القاف وتفتح "عليها واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما فعل على الصفا" كما أفاده قول جابر في حديثه الطويل: حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وعقب ذلك بقوله: "حتى إذا كان آخر طوافه على المروة" كان تامة، وجوابه إذا: قوله "قال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة" أي: لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخرا وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي، أي: لما جعلت علي هديا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، فإن من ساقه لا يحل حتى ينحره، وإنما ينحره يوم النحر فلا يصح له فسخ الحج بعمرة ومن لا هدي معه يجوز له فسخه، وهذا صريح في أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متمتعا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك -صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج هكذا" -مرتين، "لا بل لأبد أبد". وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة. قال النووي: وقد اختلف في هذا الفسخ، هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟ فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج، وليس معه هدي أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها.   قال الخطابي: إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه، وفيه استعمال لو في القرب وتطيب النفوس "فمن" جواب شرط محذوف، أي: إذا تقرر ما ذكرت من أني أفردت الحج وسقت الهدي فلم أتمكن من الإحلال إلا بعد النحر، فمن "كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها" أي: الحجة "عمرة"، فقام سراقة" بضم السين وراء خفيفة وقاف ابن مالك "بن جعشم" بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها، لغة حكاها الجوهري وغيره الكناني المدلجي، تقدم مرارا وهو الذي ساخت قوائم فرسه في قصة الهجرة وأسلم في الفتح. "فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟، فشبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة" نصب بعامل مضمر، أي: جاعلا واحدة منها "في الأخرى" والحال مؤكدة "وقال: "دخلت العمرة في الحج هكذا" مرتين" هذا لفظ مسلم وأبي داود في الحديث الطويل عن جابر في الحجة النبوية، وإدخال الأصابع بعضها في بعض وتكريرها مرتين إما بالقول أو بالفعل يستدعي إدخال أحد النسكين في الآخر، ويؤيده حديث ابن عباس فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وقوله: "لا" أي: ليس لعامنا هذا "بل لأبد أبد" أي لآخر والأبد الدهر، وفي رواية: بل لا أبد الأبد "وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة" عند أحمد، والظاهر به. وقال الجمهور: معنى الحديث جواز فعل العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة، وأن القصد إبطال زعم الجاهلية منع ذلك. "قال النووي: وقد اختلف في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة" ممنوع حتى للصحابة بعدها "أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة، فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها" فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، حتى بالغ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج. ومما يستدل به الجماهير، حديث أبي ذر في مسلم: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- خاصة. يعني فسخ الحج إلى العمرة. وفي النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل لنا خاصة".   بعض الحنابلة فقال: نحن نشهد الله لو أحرمنا بحج لزمنا فرضا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ففي السنن عن البراء بن عازب أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج وأصحابه فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة، قال: اجعلوها عمرة، فقالوا: قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة، قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا"، فرددوا القول عليه فغضب ... الحديث. "وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج" وأنها من أفجر الفجور، فكسر سورة ما استحبكم في نفوسهم من الجاهلية من إنكاره بحملهم على أنفسهم. "ومما يستدل به الجماهير حديث أبي ذر في مسلم" قال: "كانت المتعة في الحج" أي: فسخ الحج إلى العمرة "لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم" في تلك السنة "خاصة" وهي حجة الوداع، فلا يجوز بعد ذلك لهم ولا لغيرهم. وعند أبي داود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال الولي العراقي: وأبو ذر لا يقول هذا إلا عن توقيف. "وفي النسائي" وأبي داود وابن ماجه من طريق عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة "عن الحارث بن بلال" المزني المدني، قال: قال في التقريب: مقبول. وقال الولي العراقي: لا نعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد أنه روى عن أبيه، وروى عنه ربيعة وليس له إلا هذا الحديث في الكتب الثلاثة، ولا نعلم أحدا وثقه فهو مجهول عينا وحالا. وقال المنذري: شبيه المجهول "عن أبيه" بلال بن الحارث المزني أبي عبد الرحمن المدني، صحابي، مات سنة ستين وله ثمانون سنة. "قال: قلت: يا رسول الله أرأيت" أي: أخبرني" فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل لنا خاصة" وأجاب الحنابلة عن هذا بقول أحمد: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 قال: وأما الذي في حديث سراقة: ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: "لا، بل لأبد أبد" فمعناه: جواز الاعتمار في أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره. فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم. انتهى.   حديث لا يثبت، وقال أيضا: لا أقول به ولا يعرف هذا الرجل، يعني الحارث بن بلال ولم يروه غير الدراوردي، وأما الفسخ فرواه أحد وعشرون صحابيا وأين يقع بلال بن الحارث منهم، وتعقب بأنه لا معارضة بينه وبينهم حتى يرجح؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة وبلال بن الحارث موافقهم، وزاد زيادة لا تخالفهم، وأما تعليله بتفرد الدراوردي به عن ربيعة، وتفرد ربيعة بن الحارث فهذا غير قادح، فإنهما ثقتان وتفرد الثقة لا يضر، ولذا سكت عليه أبو داود فهو عنده صالح، فلم يبق إلا تفرد الحارث به عن أبيه ولم يعلم توثيقه، لكن ينجبر ذلك بحديث أبي ذر، فإنه وإن لم يصرح برفعه لكنه له حكم الرفع، إذ لا يقوله إلا عن توقيف على أن ابن حبان يرى أن من لم يوثق ولم يجرح ثقة. وقد قال الحافظ في تقريبه: إنه مقبول، أي: في الرواية وهي من ألفاظ التعديل، ولذا لم يتجرأ الحافظ المنذري على أن يقول: مجهول عينا وحالا، بل قال: شبيه المجهول ولو سلم أنه لا يصلح للحجية، فحديث ابن عباس المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض.. الحديث صريح في أن سبب الأمر بالفسخ هو قصد ما استقر في نفوسهم في الجاهلية بتقرير الشرع بخلافه. وقد قال الخطابي: اتفق عوام أهل العلم على أنه إذا أفسد حجه مضى فيه مع الفساد ... ا. هـ، يعني: فإذا لم يجز فسخ الحج الفاسد، فالصحيح أولى بعدم تجويزه. "قال" النووي: "وأما الذي في حديث سراقة: ألعامنا هذا أم لأبد، فقال: لا بل لأبد أبد، فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج والقران" أي: وجواز القران "كما سبق تفسيره" في كلام النووي، وأن تفسيره بفسخ الحج إلى العمرة ضعيف، لكن تعقب بأن سياق السؤال يقوي تفسيره بذلك فإنه الظاهر منه. "فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث؛ أن فعل العمرة في أشهر الحج جائزا إلى يوم القيامة وكذلك القران" باتفاق فيهما "وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة" عند الجمهور، وقيل: وأجمع عليه الصحابة إلا ابن عباس ولم يعلم له موافق من الصحابة "والله أعلم. انتهى" كلام النووي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 وفي رواية للنسائي أيضا: لا تصح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النسائي ومتعة الحج، يعني فسخ الحج إلى العمرة، ومتعة النساء: هي نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحًا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه. وكان -صلى الله عليه وسلم- مدة مقامه بمنزله الذي نزل فيه المسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع، وخرج في الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله -صلى الله عليه وسلم- مكة وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء.   "وفي رواية للنسائي أيضًا" ومسلم، كلاهما عن أبي ذر، قال: "لا تصح المتعتان إلا لنا" معشر الصحابة في حجة الوداع "خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج، يعني: فسخ الحج إلى العمرة" والتفسير بقوله: يعني إلى آخره وقع في سياق الحديث عن مسلم والنسائي "ومتعة النساء هي نكاح المرأة إلى أجل كان ذلك مباحا ثم نسخ يوم خيبر". قال عياض: تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، وقد قال بعضهم: إنها مما تناوله الإباحة والتحريم والفسخ مرتين كالقبلة "ثم أبيح يوم فتح مكة" لطول غيبتهم عن النساء "ثم نسخ في أيام الفتح" لمكة "واستمر تحريمه إلى يوم القيامة، وقد كان فيه خلاف في العصر الأول" قبل آخر خلافة عمر "ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه" في أواخر خلافة عمر. وفي رواية لأبي داود: أنه نهى عن متعة النساء في حجة الوداع. قال القاضي عياض: الصحيح أن الواقع فيها إنما هو تجديد النهي لاجتماع الناس، وليبلغ الشاهد الغائب ولإتمام الدين والشريعة كما قرر غير شيء يومئذ ... ا. هـ. "وكان -صلى الله عليه وسلم- مدة مقامه بمنزلة الذي نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة يقصر" بضم الصاد "الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة" أي: بظاهرها "قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع" وهو يوم الأحد من ذي الحجة "وخرج في الثامن" يوم الخميس "فصلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن" يعارضه ما يأتي أنه صلى ظهر الثامن بمنى وهو الصحيح "ومن يوم" ابتداء "دخوله عليه الصلاة والسلام مكة وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح:" بألف فموحدة فطاء فحاء مهملتين مسيل واسع فيه دقاق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 وقدم علي من اليمن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "بما أهللت"؟ فقال: بما أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لولا أن معي الهدي لأحللت". رواه الشيخان من حديث أنس. وفي حديث البراء عند الترمذي والنسائي: دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب. فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأتيته فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعت"؟ وقال له: "انحر من البدن سبعا وستين، أو ستا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها بضعة". وفي رواية جابر عن مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغًا   الحصى "عشرة أيام سواء، وقدم علي" مكة "من اليمن" لأنه كان بعث إليها "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "بما أهللت"؟ أي: أحرمت، وإثبات ألف ما الاستفهامية مع دخول الجار عليها قليل، ورواه أبو ذر بحذفها على الكثير السائغ نحو: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [عم يتساءلون: 43] "فقال: بما" أي: الذي "أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" من الإحرام وتمتعت؛ لأن صاحب الهدي لا يتحل حتى يبلغ الهدي محله وهو يوم النحر "رواه الشيخان" والترمذي "من حديث أنس" بن مالك. "وفي حديث البراء" بن عازب "عند الترمذي والنسائي" وأبي داود "دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما فوجدها قد نضحت" بفتح النون والضاد المعجمة، أي: رشت "البيت بنضوح" بفتح النون وضاد معجمة وحاء مهملة ضرب من الطيب تفوح رائحته، قاله الولي العراقي "فغضب" لظنه أنها باقية على الإحرام "فقالت: ما لك فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه" أي: "كثيرا منهم "فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم" أي: بما أهل به "قال: فأتيته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعت" في الإهلال، فأخبره بأنه أهل بما أهل به "وقال له: "انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين" شك الراوي: "وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين" شك "وأمسك" لي، كما زاده في رواية أبي داود "من كل بدنة منها بضعة": بفتح الموحدة وتكسر وتضم وسكون المعجمة قطعة لنأكل منها. "وفي رواية جابر عند مسلم" وأبي داود عقب قوله المتقدم: "لا بل لأبد أبد" وقدم علي من اليمن ببدن النبي -صلى الله عليه وسلم "فوجدنا فاطمة ممن حل" وظاهر هذا أن البدن للمصطفى، وفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فقال: صدقت صدقت مرتين، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال جابر: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة. فحل: الناس كلهم وقصروا إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي.   النسائي: قدم علي من اليمن بهدي وساق -صلى الله عليه وسلم- من المدينة هديًا، فظاهره أن الهدي كان لعلي، فيحتمل أن عليا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم، فذكر كل راو واحدا منهما "ولبست" بكسر الموحدة "ثيابا صبيغا" أي: مصبوغة غير بيض، فعيل بمعنى: مفعول يستوي فيه المذكر والمؤث "واكتحلت، فأنكر ذلك عليها" لظنه أنها تابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في إحرامه، ورأى أنه باق على إحرامه. زاد في رواية أبي داود: وقال: من أمرك بهذا؟ "قالت: أبي أمرني بهذا" أي: بالإحلال الذي نشأ عنه اللبس والاكتحال لا بهما، إذ هما من المباح وهو غبر مأمور به، أو أريد بالأمر الإباحة لا طلب الفعل، وحذف المصنف من الحديث في مسلم وأبي داود، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها "فقال: "صدقت" فاطمة "صدق" "مرتين" ففاعل قال النبي -صلى الله عليه وسلم: وصدقت بسكون التاء خلاف ما يوهمه اختصار المصنف أنه بكسرها وفاعل قال علي ولم يقنع علي بقولها: أبي أمرني، وخبر الواحدة مقبول لجواز أنه فهم أنه أمرها بالإحلال ولا يلزم منه لبس الصبيغ والاكتحال لقرب زمن الإحرام الماضي والذي تنشه، أو جوز أن أمره لعموم الصحابة وأن لها أمرا يخصها؛ لأنها بضعة منه فلا تفعل إلا ما يفعله، أو فهم أنها ليست ممن لم يسق الهدي؛ لأن أباها وزوجها ساقاه هي في حكم من ساقه، وفيه جواز قول الشخص أبي ولو كان معظما وأنه ليس تنقيصا له فيؤخذ منه جواز قول الشريف جدي: يريد النبي -صلى الله عليه وسلم، قاله الولي العراقي ملخصًا ثم قال -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "ماذا قلت حين فرضت الحج"؟ " أي: ألزمت نفسك بالإحرام "قال: قلت: "اللهم إني أهل بما أهل به رسولك" ففيه جواز الإحرام بما أحرم به غيره "قال: "فإن معي الهدي لا تحل". "قال جابر: فكان جماعة" أي: جملة "الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم" من المدينة "مائة" من البدن "فحل الناس كلهم" أي: أكثرهم ومعظمهم، فهو عام أريد به الخصوص؛ لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي "وقصروا كلهم" مع أن الحلق أفضل لأجل أن تبقى لهم بقية تحلق في الحج "إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي" فلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب -صلى الله عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى -صلى الله عليه وسلم- بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا يشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، وكانت "الحمس" وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن قطين الله، أي   يحلوا "فلما كان يوم التروية" ثامن الحجة، وقوله: "وكان يوم الخميس ضحى ركب -صلى الله عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم" لم يقع ذلك في مسلم. ولأبي داود ولفظهما: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله "فصلى -صلى الله عليه وسلم- بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر" أي: الصبح كل صلاة لوقتها، وفيه ندب التوجه إلى منى يوم التروية، وكره مالك التقدم إليها قبله. وقال الشافعي: إنه خلاف السنة "ثم مكث قليلا" بمنى "حتى طلعت الشمس وأمر بقبة:" خيمة "من شعر فضربت له بنمرة:" بفتح النون وكسر الميم جبل عن يمين الخارج من مأزمي عرفة، وقوله: فضربت بالفاء والبناء للمفعول، هكذا رواه مسلم وأبو داود، وفي رواية لمسلم: تضرب. قال المصنف في شرحه صفة لقبة أو حال والتقدير أمر بضرب قبة بنمرة قبل قدومه إليها، فحذف المضاف وجعل الصفة دليلا عليه "فسار على طريق ضب" بفتح الضاد المعجمة وشد الموحدة قرية على يمين الناس اليوم، وليس في مسلم ولا في أبي داود على طريق ضب إنما فيهما: فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ولا يشك قريش، إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية" ظاهره أنه ليس لقريش شك في شيء إلا في وقوفه عند المشعر، فإنهم يشكون فيه وليس المراد ذلك بل عكسه، وهو أنهم لا يشكون في أنه -صلى الله عليه وسلم- سيقف عند المشهر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به ويقف سائر الناس بعرفة، فقال الأبي: الأظهر في إلا أنها زائدة وأن في موضع نصب على إسقاط الجار، أي: ولا يشك قريش في أنه واقف عند المشهر، ثم انفصل المصنف عن حديث جابر دون بيان إلى حديث آخر، فقال: "وكانت الحمس" بضم الحاء المهملة وسكون الميم وسين مهملة "وهم قريش ومن ودان دينها" أي: اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه واتخذ له دينا وعبادة. روى إبراهيم الحربي عن مجاهد، قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل، كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وعدوان وبني عامر بن صعصعة، وبني كنانة إلا بني بكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] .   والأحمس لغة: الشديد في دينه لما شددوا على أنفسهم، كانوا إذا أهلوا بالحج لا يأكلون لحما ولا يضربون بيتا من وبر ولا شعر، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم. وعند الحربي أيضا عن عبد العزيز بن عمران المدني، قال: سموا حمسا؛ لأنهم حمسا بالكعبة؛ لأن حجرها أبيض يضرب إلى سواد. قال الحافظ: والأول أشهر وأكثر، وذكر الحربي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب، اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس ثقيف وخزاعة وغيرهم، فعلم منه أن المراد من أمهاته قرشية لا جميع القبائل "يقفون بالمزدلة ويقولون: نحن قطين الله:" بقاف وطاء جمع قاطن "أي: جيران بيته فلا نخرج من حرمه". قال سفيان بن عيينة: وكان الشيطان قد استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون منه، رواه الحميدي في مسنده "وكان الناس كلهم يبلغون عرفات" يقفون بها "وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، رواه بهذا السياق الإسماعيلي عن سفيان بن عيينة من قوله، وظاهره أن المرد الإفاضة من عرفة، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة؛ لأنها ذكرت بثم بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عنده بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر تنبيها على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كانت الحمس يفيضون، أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفان إلى المشعر الحرام فذاكروا الله عنده ولتكن من المكان الذي يفيض فيه الناس، ذكره الحافظ وأصل الحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم عن عائشة: كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، ولهما أيضًا عن عائشة: الحمس هم الذي أنزل الله فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ... الحديث. قال الحافظ: عرف برواية عائشة أن المخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد بالناس هنا إبراهيم الخليل، وعنه المراد به الإمام وعن غيره آدم وقرئ شاذا الناسي بكسر السين بوزن العاصي، أي: أن الإفاضة من عرفات كانت في شريعتهما، قال: والأول أصح. نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره عن يزيد بن شيبان، قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 وعن جبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لي في الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن الله وفقه لذلك. وفي رواية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا.   كنا وقوفا بعرفة أتانا ابن مربع، فقال: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، يقول لكم: "كونوا على مشاعركم فإنكم من إرث إبراهيم" ... الحديث، ولا يلزم من ذلك أن المراد خاصة، بل ما هو أعم من ذلك وسببه ما حكته عائشة، وأما ثم في الآية فقيل بمعنى الواو، واختاره الطحاوي، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا إفاضتكم التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون. قال الزمخشري: وموقع ثم هنا موقعها من قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم فتأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة، فقال: ثم أفيضوا التفاوت ما بين الإفاضتين، وإن إحداهما صواب والآخر خطأ. قال الخطابي: تضمنت الآية الأمر بالوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة إنما تكون عن اجتماع قبلها، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبدأ الوقوف ومنتهاه ... ا. هـ. "وعن جبير بن مطعم" القرشي النوفلي الصحابي العالم بالأنساب "قال: أضللت حمارًا لي" أي: أضعته، أو ذهب هو، وفي الصحيحين، عنه: بعيرا لي، فيحتمل التعدد "في الجاهلية" قبل إسلامه، فتطلبته "فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت" يوم الفتح "عرفت أن الله وفقه" صلى الله عليه وسلم "لذلك" أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ إسحاق بن راهويه في مسنده. "وفي رواية" له أيضا ولابن خزيمة عن جبير: "كان رسول الله" لفظه: رأيت رسول الله "صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له" زاد محمد بن إسحاق في مغازيه: قبل أن ينزل عليه الوحي "ثم يصبح مع قومه" قريش "بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا" زاد ابن إسحاق توفيقا له من الله. وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفة، فقلت: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا، وعلم من الروايتين اللتين ساقهما المصنف أن هذا كان قبل إسلام جبير، فلذا أنكر عليه مخالفته لقومه لا كما ظن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بـ"القصواء" فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء   السهيلي أن رؤية جبير لذلك كانت في حجة الوداع فاستشكله، ثم عاد المصنف إلى حديث جابر، فقال: "ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- عرفة" أي: قربها لقوله: "وجد القبة" ولفظه عقب قوله: كما كانت تصنع قريش في الجاهلية، فأجاز، أي: جاوز رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: المزدلفة حتى أتى عرفة فوجد القبة "قد ضربت له بنمرة" وليست من عرفة "فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس" بغين معجمة مالت للزوال "أمر" صلى الله عليه وسلم "بالقصواء" بفتح القاف والمد تقدم الكلام فيها غير مرة "فرحلت" بضم الراء وكسر المهملة مخففة "له" أي: شد الرحل على ظهرها "فركب فأتى بطن الوادي" وهو عرنة بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون "فخطب الناس" ففيه أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور، فقول النووي: خالف فيها المالكية فيه نظر، إنما هو قول العراقيين منهم والمشهور خلافه، واتفق الشافعية أيضا على استحبابها خلافا لما توهمه عياض والقرطبي. "وقال: "إن دماءكم وأموالكم" زاد في بعض طرق هذا الحديث: وأعراضكم "حرام عليكم" معناه: أن دماء بعضكم على بعض حرام وأموال بعضكم على بعض حرام، وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه ومال كل واحد حرام عليه نفسه، فليس بمراد؛ لأن الخطاب للمجموع، والمعنى: فيه مفهوم ولا تبعد إرادة المعنى الثاني، أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا، قاله الولي العراقي. قال عياض: فيه أن تحريم الدماء والأموال على حد واحد ونهاية من التحريم، وفيه ضرب الأمثال وقياس ما لم يعلم على ما علم لقوله: "كحرمة يومكم هذا" يوم عرفة "في شهركم هذا" ذي الحجة "في بلدكم هذا" مكة لاتفاقهم على تحريم ذلك وتعظيمه ... ا. هـ. وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الترقي، فالشهر أقوى من اليوم وهو ظاهر في الشهر لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة حرمة البلد؛ فلأنه محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده، فحرمته لا تختص به فهو أقوى منه. قال التوربشتي: أراد أموال بعضكم على بعض، وإنما ذكره مختصرا اكتفاء بعلم المخاطبين حيث جعل أموالكم قرينة دمائكم، وإنما شبه تحريم ذلك باليوم والشهر والبلد؛ لأنهم يعتقدون أنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا،   محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفيه مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال. وقال الطيبي: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به؛ لأنهم عالمون بحرمة الثلاث، كما في قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرم ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبدا كحرمة الثلاث، ثم أتبعه بما يؤكده، فقال: "ألا" بالفتح والتخفيف "إن كل شيء من أمر الجاهلية" الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره، قاله في المفهم: "تحت قدمي" بشد الياء مثنى "موضوع" أي: مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين "ودماء" بكسر الدال وبالهمز والمد "الجاهلية موضوعة". قال الولي: يمكن أنه عطف خاص على عام لاندراج دمائها في أمورها، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه، وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك؛ لأن منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، وما يثبت وما لا يثبت "فإن أول دم أضع من دمائنا" أهل الإسلام، أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي "دم ابن ربيعة بن الحارث" بن عبد المطلب واسم هذا الابن إياس، قاله الجمهور والمحققون، وقيل: حارثة، وقيل: تمام، وقيل: آدم. قال الدارقطني: وهو تصحيف، ولبعض رواة مسلم وأبي داود دم ربيعة، وهو وهم؛ لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين، وتأوله أبو عبيد بأنه نسبه إليه؛ لأنه ولي دم ابنه وهو حسن ظاهر به تتفق الروايتان. "كان" هذا الابن طفلا "مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل" بهاء مضمومة معجمة مفتوحة، قال الولي العراقي: ظاهره أنها تعمدت قتله، وذكر الزبير بن بكار أنه كان صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد، وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه وهو مناف لقوله: فقتلته هذيل؛ لأنهم غير بني ليث، إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه. انتهى. "وربا الجاهلية موضوع" أي: الزائد على رأس المال، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وهذا إيضاح، إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا، فإذا وضع الربا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة من الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن   فمعناه وضع الزيادة، قاله النووي. قال الولي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من الخاص على العام؛ لأنه من إحداثاتهم وشرعهم الفاسد "وأول ربا أضع" مبتدأ خبره "ربانا ربا العباس" بدل منه، أو خبر محذوف، أي: هو ربا العباس "بن عبد المطلب" وهكذا الرواية في مسلم وأبي داود، فما في نسخة: أضع من ربانا بزيادة من تحريف لم يوجد في الأصول "فإنه موضوع كله" يحتمل عود ضمير أنه لربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل لجميع الربا، أي: ربا العباس موضوع؛ لأن الربا موضوع كله، قاله الولي: وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في الترخيص "فاتفقوا الله في النساء". قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على دماءكم وأموالكم، أي: فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال، وفي النساء: وهو من عطف الطلب على الخبر بالتأويل، كما عطف {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [البقرة: 179] ، على قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [يس: 55] . وقال الولي العراقي: يحتمل أن الفاء زائدة؛ لأن في رواية بدونها وأنها للسببية؛ لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن، فإذا تركه من أمر الجاهلية، قال: وفي تحتمل السببية نحو فذلكن الذي لمتنني فيه والظرفية مجازا نحو {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، أي: أن النساء ظرف للتقوى المأمور بها "فإنكم أخذتموهن بأمانة الله" أي: بأن الله ائتمنكم عليهن، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية، قاله في المفهم. وفي كثير من أصول مسلم بأمان الله بلا هاء، كما قال النووي وهو يقوي أن في قوله: أخذتموهن دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة تحت زوجها وله التصرف فيها والسلطنة عليها، ويوافقه قوله في رواية أخرى: فإنهن عوان عندكم: جمع عانية وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء، بل هي أسيرة آمنة "واستحللتم فروجهن بكلمة من الله" أي: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] . قال الخطابي: هذا أحسن الوجوه. قال المازري: ويحتمل بإباحة الله المنزلة في كتابه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم   قال عياض: قيل: هي التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ لا يحل لغير مسلم أن يتزوج مسلمة، وقيل: كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج. انتهى، أي: الصيغ التي تنعقد بها من إيجاب وقبول، ورجح هذا في المفهوم، قال: فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاتقضاء أو التخيير. وكذا النووي: فقال: المراد بإباحة الله والكلمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وهذا هو الصحيح. انتهى، ولما ذكر استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحق الأزواج؛ لأنهم المخاطبون، فقال: "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" أي: تكرهون دخوله في بيوتكم سواء كرهتم ذاته أم لا، وعبر بفرش؛ لأن الداخل يطأ فراش المنزل الذي يدخل فيه، أي: أنه ليس للزوجة أن تمكن أحدا ولو امرأة أو محرما من دخول بين زوجها إلا إذا علمت عدم كراهية زوجها لذلك. هكذا حمله القرطبي والنووي على العموم "فإن فعلن ذلك" دون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن، فلو شككن أنهم يكرهونه لم تمكن؛ لأن الأصل المنع "فاضربوهن ضربا غير" بالنصب "مبرح" بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة وحاء مهملة، أي: غير شديد شاق من البرح وهو المشقة. وقال الخطابي: معنى الحديث أن لا يأذن لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب ولا يعدونه عيبا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب وصار النساء مقصورات نهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطء الفرش هنا نفس الزنا؛ لأنه محرم على الوجوه كلها، فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح، وذكر المازري وعياض نحوه، وقال الطيبي: ظاهر قوله: أن لا يوطئن فرشكم أحدا مشعر بالكناية عن الجماع فعبر به عن عدم الإذن مطلقا. انتهى. "ولهن عليكم" وجوبًا "رزقهن وكسوتهن" بكسر الكاف وضمها لغتان مشهورتان "بالمعروف" على قدر كفايتهن دون سرف ولا تقتير "وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده" يحتمل أن إن زائدة وأنها شرطية حذف شرطها، أي: إن تمسكتم به لا تضلوا، لكن هذا تصحيف من المصنف أو نساخه، فالرواية في مسلم وأبي داود، ولفظها: "ما لن تضلوا بعده" "إن اعتصمتم به" أي: بعد التمسك به والعمل بما فيه، وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح وذلك لبيان أن هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون"؟. قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول: "اللهم   الشيء الذي تركه فيهم شيئًا جليلًا عظيما فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية، ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته، بينه بقوله: "كتاب الله" بالنصب بدل من مفعول تركت جزم به الولي، فإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه خبر محذوف، أي وهو: ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها لاندراجها تحته، فإن الكاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية "وأنتم تسألون عني". قال الطيبي: عطف على مقدر، أي: قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعا غير تارك لشيء مما بعثت به وأنتم تسألون عني يوم القيامة هل بلغت بأي شيء تجيبون، ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله: "فما أنتم قائلون"؟ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأي شيء تجيبونه، ومن ثم طابق جوابهم السؤال فأتوا بالألفاظ الجامعة، حيث "قالوا: نشهد أنك قد بلغت" الرسالة "وأديت" الأمانة "ونصحت" الأمة. وقال الولي: تسألون عني في القيامة أو البرزخ فما أنتم قائلون حين سؤالكم على الأظهر أو الآن في جوابي، ويترتب عليهما قولهم نشهد، أي: في القيامة على الأظهر أو الآن، قال: وحذف المعمول في الثلاثة يدل على تبليغ جميع ما أمر به ونصحه لجميع الناس الموجودين والذين سيوجدون "فقال:" أي أشار -صلى الله عليه وسلم "بأصبعه السبابة" حال كونه "يرفعها إلى السماء" أي: رافعًا إياها، فالحال من فاعل قال: أو مرفوعة، فالحال من السبابة. قال القرطبي: هذه الإشارة إما إلى السماء؛ لأنها قبلة لدعاء، وإما لعلو الله تعالى المعنوي؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يختص بجهة، وقد بين ذلك قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] "وينكتها إلى الناس" بفتح التحتية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية. قال عياض: كذا الرواية في مسلم وهو بعيد المعنى، قيل: صوابه ينكبها بموحدة، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد في مسلم، ومن طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في سنته بموحدة، ومن طريق أبي بكر التمار عنه بفوقية، ومعناه: يرددها ويقبلها إلى الناس مشيرا لهم وهو من نكب كنانته إذا قلبها، هذا كلامه في الإكمال. وقال القرطبي: روايتي في هذ اللفظية وتقييدي على من اعتمده من الأئمة المقتدين بضم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 "اشهد"، ثلاث مرات. ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا. وهذا الجمع المذكور يختص بالمسافرين عند الجمهور، وعند مالك والأوزاعي، وهو وجه عند الشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوي: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف.   الياء وفتح النون وكسر الكاف مشددة وضم الباء بواحدة، أي: يعدلها إلى الناس وروي ينكبها مخففة الباء والنون وضم الكاف، ومعناه يقلبها وهو قريب من الأول، وروي ينكتها بفوقية وهي أبعدها. انتهى. وفي البارع قال الأصمعي: ضربه فنكته، أي: بالفوقية، أي: ألقاه على رأسه ووقع متنكتا، وذكره الفارابي في باب قتل: فيحتمل أن يكون الحديث من هذا، والمعنى ينكسها "ويقول: "اللهم اشهد" قالها "ثلاث مرات" كذا رواه مسلم، وفي أبي داود كررها باللفظ ثلاثا ولم يقل: ثلاث مرات وبما رأيته يعلم ما يوجد في بعض نسخ المصنف ينكسها بالسين بعد الكاف تصحيف لم يجئ في رواية، وإنما هو معنى رواية ينكتها بفوقية بعد الكاف، فإن قيل: ليس في هذه الخطبة شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، أجيب بأنه -صلى الله عليه وسلم- اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول؛ لأنه أوضح واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها والخطباء بعده ليست أفعالهم قدوة، ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها، فاستحب لهم البيان بالقول وفيه حجة للمالكية وغيرهم وأن خطبة عرفة فردة، إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين، وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين فضعيف، كما قاله البيهقي وغيره. "ثم أذن بلال" بعد فراغ الخطبة "ثم أقام" بلال "فصلى" النبي -صلى الله عليه وسلم "الظهر ثم أقام" بلال "فصلى" النبي -صلى الله عليه وسلم "العصر ولم يصل بينهما" الظهر والعصر "شيئا" فلا يتنفل بينهما، وبه قال الجمهور ومالك والشافعي "وهذا الجمع المذكور" بين الظهرين "يختص المسافرين عند الجمهور" لأن سببه عندهم السفر. "وعند مالك والأوزاعي وهو وجه عند الشافعية أن الجمع بعرفة وجمع" بفتح الجيم وسكون الميم، أي: مزدلفة "للنسك فيجوز لكل أحد، قال الأسنوي: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف" تفريع على قول الجمهور، أو على قول الكل، والمعنى: لا يجوز حالة كون الجواز بلا خلاف، أي: متفقا عليه إلا للمسافر، أما للنسك ففيه الخلاف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 402 وقال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم. ولما فرغ من صلاته -صلى الله عليه وسلم- ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر   "وقال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الحاج" أي: جنسه إذ هو مفرد حجاج وحجيج "يوم التروية ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر" للرباعية "من حين خروجهم، ولما فرغ من صلاته" لفظ جابر: ثم "ركب -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف" عرفة "فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات" المفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، وقدر الطيبي منتهيا وتعقبه الأبي، فقال: إن كان الوقوف على الصخرات صح تقديره، والأظهر أنه تجوز بالبطن عن الوجه والتقدير وجعل وجه ناقته، وهذا إن كانت الصخرات في قبلته؛ لأنه إنما وقف مستقبل القبلة. وقال القرطبي: يعني أنه علا على الصخرات ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته. قال الولي العراقي: لا حاجة إلى هذا؛ لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها، أي: إلى جانبها وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليا عليها. "وجعل حبل" بفتح المهملة وسكون الموحدة ولام ما طال من الرمل، وقيل: الضخم منه، أو المراد جعل صف "المشاة:" جمع ماش، ومجتمعهم "بين يديه" وقيل: أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل والأول أشبه بالحديث، قاله عياض، ومثلا لابن الأثير، لكنه صدر بالقول الثاني وحكى الأول بقيل. وقال النووي: روي حبل بمهملة وموحدة ساكنة وروي بجيم وفتح الباء. قال عياض: الأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة، أي: مجتمعهم وحبل الرمل ما طال منه وضخم، وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث يسلك الرجالة، وتعقبه الولي العراقي بأن ما ذكره من رواية هذ اللفظة بوجهين وترتيب ذين المعنيين على هذين الوجهين، لم أره في كلام القاضي لا في الإكمال ولا في المشارق ولا في كلام غيره أيضا. ا. هـ، وفيه استحباب الوقوف عند الصخرات. قال النووي: وما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقفه -صلى الله عليه وسلم- عند الصخرات، فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان "واستقبل القبلة" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 403 دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في الموقف: "اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" رواه الترمذي من حديث علي. وفي رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة بعد قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له: اللهم لك الحمد كالذي نقول، اللهم لك   فيستحب استقبالها في الوقوف بعرفة للاتباع، ثم فصل المصنف حديث جابر بجمل ويأتي له بقية، فقال: "وكان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في الموقف" عشية عرفة "اللهم لك الحمد كالذي نقول" بالنون، أي: كالذي نحمدك به من المحامد "وخيرًا مما نقول" بالنون وهو ما حمدت به نفسك؛ لأنا لا نقدر على الثناء عليك فهو نحو قوله: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "اللهم لك صلاتي ونسكي" الذبح في الحج والعمرة أو نفس الحج، أو عبادتي كلها "ومحياي ومماتي" حياتي وموتي، يعني: جميع طاعتي في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح خالص لك "وإليك" لا إلى غيرك "مآبي" بميم فهمزة مفتوحة فألف فموحدة وبالمد مرجعي "ولك رب تراثي" بفوقية مضمومة ومثلثة، أي: ما أخلفه، فبين بهذا أنه لا يورث كحديث: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة" وأن ما يخلفه غيره لورثته من بعده "اللهم إني أعوذ بك من عذاب" أي: عقوبة "القبر" أضيف إليه لوقوعه فيه "ووسوسة الصدر" أي: حديث النفس بما لا ينبغي من أمور الدنيا، فإن قلب ابن آدم بكل واد شعبة "وشتات الأمر" أي: افتراقه "اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح" جمع: ريح "وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" سأل الله خير المجموعة؛ لأنها للرحمة، وتعوذ من شر المفردة؛ لأنها للعذاب على ما جاء في أسلوب الكتاب، نحو: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، ونحو الريح العقيم {رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ} ، وقد ترد للطيبة إذا وصفت بها، نحو: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} ، زاد في رواية: ومن شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر بوائق الدهر "رواه الترمذي من حديث علي" أمير المؤمنين، وقال: ليس إسناده بقوي. "وفي رواية ذكرها رزين" ابن معاوية السرقسطي الأندلسي في جامعه: "كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة بعد قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وبهذه الزيادة علم أنه لا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: كان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة: "لا إلا إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 "صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، وعليك يا رب ثوابي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر". وفي الترمذي: "أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وله الحمد وهو على كل شيء قدير". وكان من دعائه في عرفة أيضا -كما في الطبراني الصغير- من حديث ابن عباس: "اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى   قدير". أخرجه أحمد برجال ثقات: "اللهم لك الحمد كالذي نقول": لم يقل هنا وخيرا مما تقول تقصيرا من بعض رواته "اللهم لك صلاتي ونسكي" عام بعد خاص إن أريد به العبادات كلها ومغاير إن أريد الذبح في الحج والعمرة "ومحياي ومماتي وإليك مآبي وعليك يا رب ثوابي" فضلا منك بوعدك إثابة الطائع وأنت لا تخلف الميعاد "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر" قال ذلك اعترافا بالعبودية وخوصا للألوهية أو تعليما لأمته وإلا فهو عالم بأنه لا يعذب في قبره ولا يوسوس في صدره "ومن شتات الأمر" افتراقه "ومن شر كل ذي شر" من إنس وجن وغيرهما، كالدواب والهوام. "وفي الترمذي: "أفضل الدعاء" مبتدأ خبره "يوم عرفة". وفي الموطأ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، أي: أعظمه ثوابا وأقربه إجابة، ويحتمل أن يريد به اليوم وأن يريد به الحاج خاصة، قاله الباجي. "وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي" وفي حديث علي عند ابن أبي شيبة: أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد" زاد في حديث أبي هريرة عند البيهقي: يحيي ويميت بيده الخير "وهو على كل شيء قدير". قال ابن عبد البر: يريد أنه أكثر ثوابا، ويحتمل أفضل ما دعا به والأول أظهر؛ لأنه أورده في تفضيل الأذكار بعضها على بعض والنبيون يدعون بأفضل الدعاء. "وكان من دعائه في عرفة أيضا كما في" معجم "الطبراني الصغير" وكذا الكبير بإسناد ضعيف، كما قال الحافظ الزين العراقي وغيره "من حديث ابن عباس" قال: كان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع عشية عرفة: "اللهم إنك تسمع كلامي" أي: لا يعزب عنك مسموع وإن خفي بغير جارحة "وترى مكاني" سواء كنت في ملأ أو خلاء، وفيه أن سمعه متعلق بالمسموعات وبصره بالمبصرات، وعليه أهل السنة "وتعلم سري": ما أخفي "وعلانيتي": الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل   ما أظهر "لا يخفى عليك شيء من أمري" تأكيد لما قبله لدفع توهم المجاز أو التخصيص وفيه دلالة لقول أهل السنة؛ أن علمه يتعلق بالجزئيات والكليات "أنا البائس" بموحدة فهمزة فمهملة اسم فاعل، أي: الذي اشتدت ضرورته "الفقير" المحتاج إليك في جميع أحواله وأموره "المستغيث" المستعين، المستنصر بك فاكشف كربتي وأزل شدتي "المستجير": بالجيم الطالب منك الأمان من عذابك "الوجل" بفتح الواو وكسر الجيم، أي: الخائف "المشفق" أي: الحذر، يقال: أشفق من كذا بالألف حذر كما في المصباح. وقال الزمخشري: أنا مشفق من هذا، أي: خائف منه خوفا يرق القلب ويبلغ منه مبلغا "المقر المعترف بذنوبه" عطف بيان. قال الجوهري وغيره: أقر بالحق اعترف. وقال الزمخشري: أقر على نفسه بالذنب اعترف. "أسألك مسألة المسكين" أي: الخاضع الضعيف، سمي بذلك لسكونه للناس بكسر الميم عند جميع العرب إلا بني أسد فبفتحها، قال بعضهم: نصب مسألة بنزع الخافض أبلغ في قيام الوصف به لإثبات المسألة لنفسه في الخير، أي: أسألك وأنا كذلك، أفاد نظيره البيضاوي أو مفعول به مضاف إلى المسكين لما فيه من الذل والخضوع الموجب كل العطف عليه، وحذف الفاء من أسألك للمبادرة للمطلوب مع الاشتغال عنه بأسلوب آخر من التذلل وهو النوع الثالث، فإنه بدأ بالرب وما له على الانفراد وثنى بالعبد كذلك صريحا، وثلث بما للرب والعبد على وجه الصراحة والكناية في العبد كنظيره في قوله: "وأبتهل إليك ابتهال المذنب" أي: أتضرع إليك تضرع من أخجلته مقارفة الذنوب. قال الجوهري وغيره: الابتهال: التضرع. وقال الزمخشري: أبتهل إلى الله: تضرع واجتهد في الدعاء اجتهاد المبتهلين "الذليل" أي: الضعيف المستهان به "وأدعوك دعاء الخائف الضرير" أي: القائم به الضر. وفي رواية: المضطر وهما بمعنى: قال بعض: هو من الضرر أو من الوصف الخاص، كالعمى لمن لا يهتدي إلى خلاص وإن اهتدى لا يمكن له ذلك، بين بهذا أن العبد وإن علت منزلته فهو دائم الاضطرار؛ لأن حقيقة العبد تعطي الاضطرار، إذ هو ممكن وكل ممكن مضطر إلى ممد يمده، وكما أن الله هو الغني أبدًا، فالعبد مضطر إليه أبدا ولا يزايله هذا الاضطرار في الدنيا والآخرة حتى لو دخل الجنة، فهو محتاج إليه فيها غير أنه غمس اضطراره في المنة التي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 406 جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين ويا خير المعطين". وأتاه -صلى الله عليه وسلم- ناس من أهل نجد -وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام   أفرغت عليه ملابسها، وهذا هو حكم الحقائق، إذ لا يختلف حكمها لا في العيب ولا في الشهادة ولا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن اتسعت أنواره لم يتوقف اضطراره، وقد عتب الله قوما اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار، فلما زالت زال اضطرارهم ولما لم تقبل عقول العامة إلى تغطية حقيقة وجودهم سلط الحق عليهم الأسباب المثيرة للاضطرار ليعرفوا قهر ربوبيته وعظمة إلهيته "من خضعت لك رقبته" أي: نكس رأسه رضا بالتذلل إليك، وقال بعض الشراح: نعت آخر يجوز عوده لجهتي السؤال والدعاء وللثانية أقرب، وأسنده إلى الرقبة لظهور اختصاصه بها وإن كان الرأس الأصل، إذ لا حياة بدونها "وفاضت": سالت "لك عبرته" بفتح العين، أي: سال لك من الخوف دموعه، قيل: الفيض سيلان لا اختيار فيه "وذل" أي: انقاد لك "جسمه" بجميع أركانه الظاهرة والباطنة "ورغم لك أنفة " بكسر الغين المعجمة، أي: لصق بالرغام بالفتح وهو التراب ذلا وهوانا. وقال ابن الأعربي: رغم بفتح الغين ذل، قاله المنذري. وفي المصباح: رغم من باب قتل، وفي لغة من باب تعب كناية عن الذل كأنه لصق بالرغام هو أنا. "اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا" أي: تعبا خائبا في ذلك ولا في غيره. قال الزمخشري: من المجاز أشقى من رائض، أي: أتعب منه، ولم يزل في شقاء من أمره في تعب والباء للسببية، أو بمعنى مع والمصدر مضاف إلى مفعوله، أي: بدعائي إياك "وكن بي رؤوفا رحيما" أي: عطوفا شفوقا، أي: أوقع الوصفين بي، أي: اجعلهما ملابسين لي "يا خير المسؤولين" أي: من طلب منه "ويا خير المعطين" أي: من أعطى "وأتاه -صلى الله عليه وسلم- ناس". وعند أبي داود: ناس أو نفر. قال الولي: فيحتمل أنه شك من الراوي في اللفظ الذي قاله الصحابي، ويحتمل أنه تردد في أنهم ناس كثير، أو نفر يسير من ثلاثة إلى عشرة "من أهل نجد وهو بعرفة فسألوه" وعند أبي داود: فأمر رجلا فنادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف الحج فأمر مناديا ينادي" وعند أبي داود: رجلا فنادى "الحج عرفة" مبتدأ وخبر على تقدير مضاف من الجانبين، أي: معظمه، أو ملاكه الوقوف بها لفوات الحج به، قاله البيضاوي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 407 منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، رواه الترمذي. وفي رواية جابر عند أبي داود قال -صلى الله عليه وسلم- بعرفة: "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف وههنا أنزل علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} " [المائدة: 3] الآية كما   قال الطيبي: تعريفه للجنس وخبره معرفة، فيفيد الحصر نحو ذلك الكتاب. انتهى. وعند أبي داود: "الحج الحج يوم عرفة"، وفي رواية له: "الحج يوم عرفة". قال الولي: أي: الحج هو الحج الكائن يوم عرفة وهو الوقوف بها، فأطلق اسم الحج على أحد أركانه؛ لأنه معظمها أو لإبطال اعتقاد قريش، ومن دان بدينها أن ليس من أركان الحج؛ لأنهم كانوا يقفون بالمزدلفة كما مر، فيوم عرفة منصوب على أنه مفعول الحج الثاني، وعلى الرواية التي لم يكرر فيها لفظ الحج الظاهر؛ أن يوم عرفة مرفوع "من جاء ليلة جمع" بفتح فسكون، أي: المزدلفة وهي ليلة العيد، أي: من أدرك الوقوف ليلة النحر " قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج" ومفهومه: أن من لم يدرك ذلك فاته الحج فهو حجة لمالك، ومن وافقه أن الوقوف يوم عرفة ليس الركن، فإذا وقف به دون جزء من ليلة جمع فاته الحج، لكن في السنن وصححه الحاكم مرفوعا: "من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، ولذا قال الأكثر: مبدأ الوقوف من زوال يوم عرفة ومنتهاه طلوع فجر العيد، فأي جزء وقف فيه أدرك الحج "أيام مني ثلاثة أيام" بعد يوم النحر "فمن تعجل" النفر "في يومين فلا إثم عليه" في تعجيله، وسقط عنه مبيت الليلة الثالثة ورمى اليوم الثالث "ومن تأخر" عن النفر في الثاني حتى نفر في الثالث "فلا إثم عليه" في تأخيره بل هو أفضل، فالتخيير وقع هنا بين الفاضل والأفضل، فإن قيل: الآثم المتعجل فما بال المتأخر، أجيب بأن المتعجل لا إثم عليه في استعمال الرخصة ومن تأخر وترك الرخصة فلا إثم عليه في ترك استعمالها "رواه الترمذي" وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر بفتح التحتية والميم الديلي بكسر المهملة وإسكان التحتية صحابي نزل الكوفة. "وفي رواية جابر عند أبي داود" ومسلم، كلاهما مختصر بعد ذكر حديث جابر بطوله في حجة الوداع عن جابر "قال -صلى الله عليه وسلم" قد نحرت ههنا ومنى كلها منحر وموقف "بعرفة" فقال: "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف" ووقفت هنا وجمع كلها موقف، وفي هذا بيان شفقته -صلى الله عليه وسلم- بأمته ورفقه بهم وتنبيه لهم على مصالح دينهم ودنياهم، فذكر لهم الأكمل وهو موضع وقوفه ونحره، والجائز وهو جزء من أجزاء منى وعرفة والمزدلفة "وههنا" أي: وهو واقف بعرفة "أنزل علي" بشد ياء المتكلم -صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] بالنصر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 408 في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته -وهو محرم- فمات، فأمر رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- أن يكفن في ثوبيه ولا ميس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطي رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي. رواه البخاري ومسلم. أي يبعث على هيئته التي مات عليها. واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافًا للمالكية والحنفية، قال النووي:   والإظهار على الأديان كلها، أو بالنص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد "الآية كما في الصحيحين" البخاري في أربعة مواضع، ومسلم في موضعين. "عن عمر بن الخطاب:" أن رجلا من اليهود قال له: آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أية آية؟، قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه، أنزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة يوم الجمعة. وعند الطبراني وغيره عن كعب الأحبار أنه قال لعمر فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد. "وهناك سقط رجل من المسلمين" لم يعرف اسمه "عن راحلته" أي: ناقته التي صلحت للرحل "وهو محرم" بالحج، وفي رواية للشيخين: فوقصته ناقته وهو محرم "فمات" وهو بالقاف والصاد المهملة، أي: كسرت رقبته "فأمر -صلى الله عليه وسلم- أن يكفن في ثوبيه" زاد في رواية النسائي: الذين أحرم فيهما، ومعلوم أنهما لا يحيطان بالبدن، فلعلهما كانا إزارا ورداء "ولا يمس بطيب وأن يغسل بماء وسدر" ولفظ الصحيحين: فقال -صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب" " ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي" أي قائلا: لبيك اللهم لبيك "رواه البخاري ومسلم" مستوعبا طرقه، واختلاف ألفاظها كلاهما من حديث ابن عباس "أي: يبعث على هيئته التي مات عليها" من الإحرام. "واستدل بذلك على بقا إحرامه خلافا للمالكية والحنفية" أنه إذا مات فقد انقضى العمل، فيجوز تطييبه وتغطية رأسه ووجهه، وأجابوا عن هذا الحديث بأنها واقعة عين لا عموم فيها؛ لأنه علل ذلك بأنه يبعث يلبي وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فهو خاص بذلك الرجل، ولو أريد تعميمه في كل محرم لقال: فإن المحرم كما قال: إن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما، فالتخصيص ظاهر من التعليل، والعدول سلمنا عدم ظهوره، فوقائع الأحوال لا عموم فيها، وذلك كاف في إبطال الاستدلال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 409 يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تعطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة. ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض -صلى الله عليه وسلم- من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة"، وكلما أتى حبلا   "قال النووي: يتأول هذا الحديث" لمخالفته مذب الشافعي أن المحرم يجوز له تغطية وجهه "على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه" أي: "يحرم كما قال مالك وموافقوه "بل هو صيانة للرأس" المجمع على حرمة تغطيته "فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى" كلام النووي، وتعقبه الأبي؛ بأن هذا التعليل لا يجري على أصل الشافعي؛ لأنه لا يقول بسد الذرائع. "قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع" الرجل "المذكور عند الصخرات من عرفة" وبوب عليه البخاري المحرم يموت بعرفة، ثم عاد المصنف إلى حديث جابر، فقال: "ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص أفاض:" دفع "صلى الله عليه وسلم من يوم عرفة" ولفظ مسلم عقب قوله سابقا: واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، كذا فيه بلفظ: حتى بفوقية فتحتية غاية، ولأبي داود حين بتحتية فنون، وقيل: إنه الصواب وهو مفهوم الكلام ولحتى وجه قاله عياض. قال النووي: باحتمال أنه على ظاهره وتكون الغاية بيانًا لقوله: غربت الشمس وذهبت الصفرة؛ لأن غيابها يطلق مجازا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله: حتى غاب القرص. "وأردف أسامة" بن زيد "خلفه" ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ الحديث. قال ابن الأثير: أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها، أو دفع ناقته وحملها على الير وحذفه المصنف استغناء عنه بذكر معناه بقوله: أفاض من عرفة "وقد شنق" بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فقاف "للقصواء الزمام" أي: ضمه وضيقه عليها وكفها به، والزمام والخطام ما يشد به رؤوس الإبل من حبل أو سير أو نحوه لتقاد وتساق به، قاله عياض في المشارق، ثم فسر ذلك بقوله: "حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله" بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء فكاف: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 410 من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد. وأفاض من طريق المأزمين. وفي رواية ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع"، يعني بالإسراع. وفي رواية أبي داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة، فقال:   قطعة من جلد محشوة شبه المخدة تجعل في مقدم الرحل يضع الراكب رجليه عليها متوركا ليستريح من وضعهما في الركاب، فأراد بذلك أنه بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن السير ورحله بفتح الراء وحاء مهملة، قال المصنف، وفي نسخة من مسلم: رجله بكسر الراء بعدها جيم. "ويقول" أي: يشير "بيده اليمنى: "أيها الناس" الزموا "السكينة" الزموا "السكينة" مرتين، الرفق والوقار والطمأنينة وعدم الزحمة بالنصب على الإغراء "وكلما أتى حبلا من الحبال" بحاء مهملة مكسورة: جمع حبل التل اللطيف من الرمل الضخم "أرخى لها" للقصواء الزمام "قليلا حتى تصعد" روي بضم الفوقية رباعيا وفتحها ثلاثيا كما قال عياض، والنووي: وفي أمره بالسكينة الرفق بالناس والدواب والأمن من الإذابة خلاف العجلة، كما أن في إرخائه للقصواء الرفق بالدواب لئلا يجتمع عليها مشقة الصعود، ومشقة الشنق صلوات الله وسلامه عليه ما أرأفه وأرحمه، ثم فصل المصنف حديث جابر بجمل، فقال: "وأفاض من طريق المأزمين" بفتح الميم وإسكان الهمزة وكسر الزاي فميم فتحتية فنون تثنية مأزم: موضع معروف بين عرفة والمشعر وهو في الأصل المضيق في الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض ويتسع ما وراءه والميم زائدة، وكأنه من الأزم وهو القوة والشدة. "وفي رواية" البخاري من أفراده عن "ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام سمع" لفظ البخاري: دفع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، فسمع -صلى الله عليه وسلم- "وراءه زجرا" بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي: صياحا "شديدا" لحث الإبل "وضربا للإبل، فاشار بسوطه" إليهم "وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة" في السير برفق وعدم المزاحمة "فإن البر" أي: ما يتقرب به "ليس بالإيضاع" بكسر الهمزة وسكون التحتية المنقلبة عن الواو، وبالضاد المعجمة وآخره عين مهملة "يعني بالإسراع"، أي: السير السريع، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله: لما خطب بعرفة ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غفر له. قال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. "وفي رواية أبي داود" عن ابن عباس، قال: "أفاض" صلى الله عليه وسلم "من عرفة وعليه السكينة" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 411 "أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل"، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا. وفي رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق.   الوقار والطمأنينة "ورديفه أسامة" بن زيد "فقال" -صلى الله عليه وسلم- حين سمع الزجر وضرب الإبل: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر" أي: ما يتقرب به "ليس بإيجاف" إتعاب "الخيل والإبل" بضربها والسير السريع "فما رأيتها رافعة" بالراء، وفي رواية: بالدال وهما في أبي داود "يديها بالتثنية "عادية" بمهملتين من العدو، أي: ماشية بسرعة "حتى أتى جمعا" أي: المزدلفة، ومن قرأ غادية بإعجام الغين وقال: هذا بناء على استعماله في مطلق الذهاب وإلا فأصله الذهاب بعد الصبح وقبل الشم فقد صحفه وتعسف توجيهه، فإنما هو في أبي داود بالمهملة، وبه ضبطه شارحه ومعناه صحيح بلا تكلف، وقد حمله ابن خزيمة على حال الزحام دون غيره. "و" استدل لذلك بقوله "في رواية أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "عند الشيخين" وأبي داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك وغيره عن هشام عن أبيه عروة، قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يسير في حجة الوداع حين دفع؟، قال: "كان يسير العنق" بتفح المهملة والنون سير بين الإبطاء والإسراع. قال في المشارق: هو سير سهل في سرعة، وقال القزاز: سير سريع، وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة وانتصب العنق على المصدر المؤكد من معنى الفعل "فإذا وجد فجوة" بفتح الفاء وسكون الجيم وفتح الواو، أي: مكانا واسعا، هكذا رواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي والتنيسي وطائفة عن مالك، ورواه يحيى الأندلسي وأبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهم عن مالك، فجوة بضم الفاء وفتحها وسكون الواو وجيم. قال ابن عبد البر وغيره: هو بمعنى فجوة. "نص" بفتح النون والصاد المهملة الثقيلة، أي: أسرع. قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها وأصله غاية الشيء، يقال: نصصت الشيء رفعته، قال الشاعر: ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه أي: ارفعه إليهم وانسبه، ثم استعمل في ضرب سريع من السير. "قال هشام" بن عروة: "والنص فوق العنق" أي: ارفع منه في السرعة. قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 412 وأخرج الطبراني في المعجم عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول: "إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالف دين النصاري دينها" قال في النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله. والقلق: الانزعاج. والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل. ولما كان -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوءا خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله؟ قال: "الصلاة أمامك".   يلزم إثمة الحاج، فمن دونهم فعله لأجله الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين الوقار والسكينة عند الزحمة وبين الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة. "وأخرج الطبراني في المعجم عن سالم بن عبد الله" بن عمر أحد الفقهاء "عن أبيه؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول:" "إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالف دين النصارى دينها" تعدو بالعين والدال المهملتين، قال في المصباح: عدا في مشيه عدوا من باب قال: قارب الهرولة وهو دون الجري، وله عدوة شديدة وقلقا بفتح القاف وكسر اللام فقاف. "قال في النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله: القلق والانزعاج والوضين" بفتح الواو و"بالضاد المعجمة" المكسورة وتحتية ساكنة ونون بمعنى الموضون كقتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة "حزام الرحل" وقال الجوهري: الوضين للهودج بنزلة البطان للقتب والتصدير للرحل والحزام للسرج، وهما كالتسع إلا أنهما من السيور إذا نسج نساجه بعضه على بعض مضاعفا "ولما كان -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الطريق" وهو الشعب الذي دون المزدلفة كما في رواية للشيخين وهو شعب الأذخر بهمزة فمعجمة مفتوحتين فألف فمعجمة مكسورة فراء موضع بين المأزمين على يسار الطريق "نزل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فبال وتوضأ" بماء زمزم، كما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه عن علي بإسناد حسن "وضوءا خفيفا" قيل: معناه توضأ مرة مرة، وقيل: خفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته، وفي رواية: فتوضأ وضوء ليس بالبالغ، وفي أخرى: فلم يسبغ الوضوء "فقال له أسامة: الصلاة" بالنصب على الإغراء أو بتقدير أتذكر، أو تريد. ويؤيده رواية للشيخين: أتصلي "يا رسول الله" ويجوز الرفع بتقدير حضرت الصلاة مثلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 413 فركب حتى أتى مزدلفة، وهي المسماة بـ"جمع" بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أي دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتين، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله تعالى، أي يتقربون إليه بالوقوف بها. فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى أثر كل واحدة منهما. وفي رواية: فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام   "فقال: "الصلاة" مبتدأ خبره "أمامك" بفتح الهمزة والنصب ظرف، أي: موضع هذه الصلاة قدامك، وهو المزدلفة فهو من ذكر الحال وإرادة المحل، أو التقدير وقت الصلاة قدامك، فحذف المضاف، إذ الصلاة نفسها لا توجد قبل إيجادها، وإذا وجدت لا تكون أمامه، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها وفيه تذكير التابع ما تركه متبوعه ليفعله، أو يتعذر عنه أو يبين له وجه صوابه "فركب" القصواء "حتى أتى مزدلفة" موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم "وهي المسماة بجمع بفتح الجيم وسكون الميم" وعين مهملة "وسميت جميعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أي: دنا" قرب "منها". "وعن قتادة: إنما سميت جمعا؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتين" المغرب والعشاء "وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها" فسميت جمعا "ويزدلفون إلى الله تعالى، أي: يتقربون إليه بالوقوف بها" فسميت مزدلفة "فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها المغرب والعشاء كل واحدة منهما بإقامة" كما في حديث أسامة في الصحيحين، زاد في نسخ: "ولا صلى أثر كل واحدة منهما"، وظاهره أنه لم يؤذن لهما لاقتصاره على الإقامة، وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد في رواية. وفي حديث جابر عند مسلم: بأذان واحد وإقامتين. وبه قال الشافعي في القديم وابن الماجشون واختاره الطحاوي. وعند البخاري والنسائي عن ابن مسعود: بأذانين وإقامتين. وروى الطحاوي بإسناد صحيح؛ أن عمر كان يفعل ذلك، وبه أخذ مالك واختاره البخاري وقواه ابن عبد البر من جهة النظر؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم- جعل الوقت لهما جميعا، وكل صلاة صليت في وقتها يسن الأذان لها، إذ ليست واحدة منهما فائتة تقضي. "وفي رواية" لمسلم: فركب حتى جئنا المزدلفة "فأقام المغرب ثم أناخ الناس" رواحلهم "في منازلهم ولم يحلوا" بفتح الياء وضمها وكسر الحاء رحالهم من على رواحلهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 414 العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا. وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده عليه السلام في الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر بيده الشريف المبارك ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى. كما نبه عليه في شرح تقريب الأسانيد. وعن عباس بن مرداس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: "إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه"، قال: "أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم"، فلم يجب عشيته، فلما   "حتى أقام العشاء الآخرة فصلى" بالناس "ثم حلوا" رحالهم عن رواحلهم "وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب واجتهاده عليه السلام في الدعاء وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا" لها وجمعا لهما جمع تأخير "ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة" من التعب، وقد قال: "إن لجسدك عليك حقا" "ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة المباركة ثلاثا وستين بدنة" وباقي المائة نحره علي "وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى كما نبه عليه" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد" للنووي. "وعن عباس بن مرداس" بكسر الميم وسكون الراء ودال وسين مهملتين السلمي، أسلم بعد يوم الأحزاب، وسكن البصرة بعد ذلك؛ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة" زاد في رواية ابن أحمد: والرحمة فأكثر الدعاء "فأجيب" في رواية ابن أحمد: فأجابه الله عز وجل "إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه" وفي رواية ابن أحمد: فأجابه الله "أن قد فعلت وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضا". زاد الطبراني: "فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها" "قال: "أي رب" عبر به لاقتضاء المقام لذلك لمزيد الاستعطاف، كما عبر بأي نداء للقريب؛ لأنه سبحانه قريب، كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] "إن شئت أعطيت المظلوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 415 أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك -صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟، قال: "إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه". رواه ابن ماجه.   "من" بعض "الجنة وغفرت للظالم" فلم يجب عشيته". وفي رواية عبد الله بن أحمد: فقال: "يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيرا من مظلمته"، فلم يكن تلك العشية إلا ذا "فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل". روى ابن جرير عن ابن عمر: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية عرفة، فقال: "أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم وأعطى لمحسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله"، فلما كان غداة جمع، قال: "يا أيها الناس قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم والتبعات بينكم عوضها من عنده، أفيضوا على اسم الله تعالى"، فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا، فقال -صلى الله عليه ولم: "إني سألت ربي بالأمس شيئا فلم يجد لي به، سألته التبعة فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: ضمنت التبعات وضمنتها من عندي "قال: فضحك -صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم" بالشك من الراوي. وفي رواية ابن أحمد والطبراني: فتبسم بالجزم، وفي أبي داود: ضحك بالجزم، والظاهر أنه زاد على التبسم قليلا، فتارة غلب الراوي قربه من التبسم فأطلقه عليه، وتارة قربه من الضحك فسماه به، وتارة تردد لكونه ليس تبسما صرفا ولا ضكا. "فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها" أي: في مثلها "فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟ " دعاء له بالفرح والسرور "قال: "إن عدو الله إبليس لما" حين "علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي" ولابن أحمد: قد استجاب لي في أمتي وغفر للظالم "أخذ التراب فجعل يحثوه" بمثلثة: يلقي "على رأسه" غيظا "ويدعو بالويل" حلول الشر به "والثبور" الهلاك "فأضحكني ما رأيت من جزعه". وفي رواية ابن أحمد: "فتبسمت لما يصنع من جزعه"، وفي أخرى: "فضحكت لما رأيت من جزعه" "رواه ابن ماجه ورواه أبو داود من الوجه" أي الطريق "الذي رواه به ابن ماجه ولم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 416 ورواه أبو داود من الوجه الذي رواه به ابن ماجه ولم يضعفه. وقد جاء في بعض الروايات عن غير العباس بن مرداس: ما يبين أن المراد من "الأمة" من وقف بعرفة.   يضعفه"أي: سكت عليه، فهو عنده صالح للحجة، وقد أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق. وقد صنف الحافظ ابن حجر فيه كراسا سماه قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج، قال في أوله: إنه سئل عن حال هذا الحديث هل هو صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منكر، أو موضوع، قال: فأجبت بأنه جاء من طرق أشهرها حديث العباس بن مرداس، فإنه مخرج في مسند أحمد. وأخرج أبو داود طرقا منه وسكت عليه على رأي ابن الصلاح ومن تبعه حسن، وعلى رأي الجمهور كذلك، لكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه. ثم قال الحافظ أثناء كلامه حديث العباس بمفرده يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق لطرق ذكرها، قال: وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث ابن مرداس، وقال فيه كنانة: منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط منه أو من ولده، وهذا لا ينهض دليلا على أنه موضوع، فقد اختلف قوله ابن حبان في كنانة، فذكره في الثقات وفي الضعفاء. وذكر ابن منده: أنه قيل: إن له رؤية منه -صلى الله عليه وسلم، وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام ابن حبان أيضا، وكل ذلك لا يقتضي وضعه، بل غايته أن يكون ضعيفا ويعتضد بكثرة طرقه، وأورد حديث ابن عمر في الموضوعات أيضًا وقال فيه عبد العزيز بن أبي رواد، تفرد به عن نافع عن ابن عمر. قال ابن حبان: كان يحدث على التوهم والحسبان وهو مردود، فإنه لا يقتضي أنه موضوع مع أنه لم ينفرد به، بل له متابع عند ابن حبان في كتاب الضعفاء، هذا كلام الحافظ ملخصًا، وهو كلام متقن إمام في الفن، فلا عليك ممن أطلق عليه اسم الضعيف الذي لا يحتج به. "وقد جاء في بعض الروايات عن غير العباس بن مرداس: ما بين أن المراد من الأمة من وقف بعرفة" إلى آخر الدهر لا خوص الواقفين معه -صلى الله عليه وسلم. أخرج ابن منيع عن أنس: وقف -صلى الله عليه وسلم، فقال: "معاشر الناس أتاني جبريل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات"، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟، قال: "هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 417 وقال الطبري: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقد رواه البيهقي بنحو رواية ابن ماجه ثم قال: وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى. وقال الترمذي في الحديث الصحيح: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج   يوم القيامة"، فقال عمر: كثر خير الله وطاب. قال الحافظ: إن صح سنده إلى ابن المبارك فهو على شرط الصحيح، وقد أخرجه مسدد بن مسرهد في مسنده من وجه مرسل رجاله ثقات لكن ليس بتمامه. "وقال الطبري" محمد بن جرير بعد روايته حديث ابن عمر. "أنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها" مع العزم على أنه يوفي إذا قدر ما يمكن توفيته "وقد رواه" أي: حديث العباس بن مرداس "البيهقي" في السنن الكبرى "بنحو رواية ابن ماجه" السابقة، وكذا الطبراني في الكبير وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند لأبيه وابن عدي، وصححه الضياء كما مر وقد قالوا: إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم "ثم قال" البيهقي: "وله شواهد كثيرة" فأخرجه عبد الرزاق والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأبو يعلى وابن منيع من حديث أنس وابن جرير، وأبو نعيم وابن حبان من حديث ابن عمر، والدارقطني وابن حبان من حديث أبي هريرة، وابن منده من حديث عبد الله بن زيد، ذكر رواياتهم الحافظ في مؤلفه بنحو حديث عباس بن مرداس. "فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح" فنحن في غنية عن تصحيحه" فقد قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وظلم بعضهم بعضا دون الشرك" فيدخل في الآية. "انتهى" وهو حسن. "وقال الترمذي في الحديث الصحيح" الذي رواه هو والباري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حج" زاد في رواية: "لله"، وفي أخرى: "من حج هذا البيت"، وهما في البخاري، ولمسلم: "من أتى هذا البيت" وهو يشمل الحج والعمرة، وللدارقطني بإسناد فيه مقال: "من حج أو اعتمر" "فلم يرفث" بثليث الفاء في المضارع والماضي، لكن الأفصح فيه الفتح، وفي المضارع الضم، والرفث والجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول. وقال الأزهري: اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وخصه ابن عاس بما خوطب به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 418 من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.   النساء. وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع. قال الحافظ: والظاهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله: "فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث" "ولم يفسق" أي: لم يأت بسيئة ولا معصية "رجع كيوم ولدته أمه" أي: صار بلا ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، قاله في فتح الباري "وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد". قال شيخنا المعتمد: لا فرق بينهما في سقوط الإثم دون الحق "ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة" أو صيام أو زكاة "أو كفارة" ليمين وغيرها "ونحوها:" كنذر "من حقوق الله لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعده" أي: الحج "تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق". قال ابن خالويه: المبرور: المقبول. وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي. وقال القرطبي: الأقوال في تفسيره متقاربة، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل وتظهر علامته بآخره، فإن رجع خيرًا مما كان علم أنه مبرور. ولأحمد والحاكم عن جابر، قالوا: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام". قال الحافظ: في إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعين دون غيره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 419 وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعًا. والله أعلم. واستأذنت سودة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنته سودة. وفي رواية: فاستأذنته سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به. رواه البخاري.   "وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق" لله "كالصلاة" أو لخلقه "يستتاب" فإن تاب "وإلا قتل" فجعله مرتدا بهذا الاعتقاد "ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعا، والله أعلم" بالحكم هل تسقط التبعات أم لا؟ "و" عن عائشة قالت: "استأذنت سودة" أم المؤمنين "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة جمع" أي: المزدلفة عند السحر "وكانت ثقيلة" أي: من عظم جسمها "ثبطة" بفتح المثلثة وكسر الموحدة وطاء مهملة خفيفة، أي: بطيئة الحركة كأنها تثبط الأرض، أي: تثبت "فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة" أي: كاستئذانها، فما مصدرية، ولم يذكر في هذه الرواية بيان ما استأذنته فيه، ولذا عقبها بقوله. "وفي رواية" عن عائشة: نزلنا المزدلفة "فاستأذنته" صلى الله عليه وسلم "سودة أن تدفع" أي: تتقدم إلى منى "قبل حطمة الناس" بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين، أي: زحمتهم؛ لأن بعضهم يحطم بعضا من الزحام "وكانت امرأة بطيئة، فأذن" صلى الله عليه وسلم "لها أن تدفع". لفظ الباري: فدفعت "قبل حطمة الناس" زحمتهم، وحذف من هذه الرواية وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه -صلى الله عليه وسلم "قالت عائشة: فلأن" بفتح اللام مبتدأ "أكون استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة" جملة معترضة بين المبتدأ وبين خبره وهو "أحب إلي من مفروح به" أي: ما يفرح به من كل شيء. قال القرطبي: هو كل شيء معجب له بال بحيث يفرح به كما في الحديث الآخر: أحب إلي من حمر النعم. وقال الأبي: الشائع من كلام الفخر والأصوليين أن ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يشعر بكونه علة فيه، وقول عائشة هذا لا يشعر بأنه علة، إذ لو أشعرته لم ترد ذلك لاختصاص سودة بذلك الوصف إلا أن يقال: إن عائشة لمحت المناط ورأت أن العلة إنما هي لرد الضعف، وهو أعم من كونه لثقل جسم أو غيره، كما قال: أذن لضعفة أهله، ويحتمل أنها قالت ذلك؛ لأنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 420 وفي رواية أبي داود والنسائي: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم، تعني عندها. وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل. وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة.   شركتها في الوصف لما روي أنها قالت: سابقته -صلى الله عليه وسلم- فسبقته، فلما ربيت اللحم سبقني "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" ومسلم وغيرهما. "وفي رواية أبي داود والنسائي" مخالف لقول الولي العراقي: انفرد به أبو داود من بين الأئمة الستة، وأخرجه الحاكم وقال: على شرطهما ولم يخرجاه عن عائشة أنها قالت: "أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم سلمة" بحذف المفعول، أي: ناسا بأم سلمة، أي: أنها ذهبت مع غيرها، أو الباء زائدة، أي: أرسل أم سلمة، قاله الولي العراقي "ليلة النحر فرمت الجمرة" أي: جمرة العقبة "قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت:" طافت طواف الإفاضة "فكان ذلك اليوم" اسم كان، وخبرها "اليوم الذي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعني: عندها" كأن عائشة حذفت ذكر الخبر اعتمادا على العلم به، فاستعان بعض الرواة في إثباته بتعني، ويحتمل أنها ذكرته فسقط من أصله أو خفي عليه لبعده، أو نحو ذلك، قاله الولي. وفي رواية للبيهقي: كان يومها فأحب أن توافقه أو توافيه، واحتج به الشافعي ومن وافقه على دخول وقت الرمي بنصف الليل؛ لأن في رواية أمرها أن توافي صلاة الصبح بمكة، ولا يمكن ذلك إلا إذا وقع الرمي في أوائل النصف الثاني. وقال غيره: لا يدخل إلا بطلوع الفجر، وإنما هذا رخصة لأم سلمة خاصة، فلا يجوز لغيرها أن يرمي قبل الفجر، قاله الخطابي، ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه -صلى الله عليه وسلم، وله: أن يخص من شاء بما شاء. "وعند مسلم: بعث أم حبيبة" رملة أم المؤمنين، ولفظ مسلم عن شوال: أنه دخل على أم حبيبة، فأخبرته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بها "من جمع" مزدلفة "بليل" ولمسلم أيضا عنها: كنا نغلس من جمع إلى منى. "وفي رواية البخاري ومسلم" بمعناه "والنسائي" واللفظ له "عن ابن عباس، قال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية لمسلم: بسحر "مع ضعفة" جمع ضعيف "أهله" أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 421 وفي الموطأ والصحيحين والنسائي عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن للظعن والظعن -بالضم: النساء في الهوادج. وقد اختلف السلف في ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعي والشعبي: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون   النساء والصبيان "فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة". وعند الطحاوي عن ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: "اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى ويرموا جمرة العقبة قبل أن يصيبهم دفعة الناس". "وفي الموطأ" بمعناه "والصحيحين والنسائي" عن عبد الله مولى أسماء "عن أسماء" بنت أبي بكر الصديق "أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة" في حجة حجتها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم "فقامت تصلي" فصلت "ساعة" من الليل "ثم قالت: يا بني" تصغير تحبيب لمولاها عبد الله بن كيسان راوي الحديث "هل غاب القمر؟ " قال الأبي: الظاهر أن سؤالها عن مغيبه لطلب الستر؛ لأنه وإن لم يدفع الناس فقد يحضر الموسم من ليس بحاج، ويحتمل أنه لتعلم ما بقي من الليل لتدفع في آخره "قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟، قلت: نعم" غاب "قالت: فارتحلوا" بكسر الحاء أمر من الارتحال. وفي رواية مسلم: قالت: ارحل بي، وأسقط من الحديث: فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن للظعن" كذا رواه البخاري بالظن في قوله: أرانا بضم الهمزة، أي: أظننا، ورواه مسلم: لقد غلسنا بالجزم. وفي رواية مالك: لقد جئنا منى بغلس، فقالت: قد كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك "والظعن بالضم" للظاء المعجمة والعين المهملة وقد تسكن: جمع ظعينة "النساء في الهوادج" ثم أطلق على المرأة مطلقا قاله الحافظ. وفي شرح المصنف لمسلم: أصل الظعينة الهودج تكون فيه المرأة على البعير، سميت المرأة به مجازا واشتهر هذا المجاز حتى غلب وخفيت الحقيقة وظعينة الرجل امرأته، وفيه دلالة على أنه لا يجب البيات بالمزدلفة، إذ لو وجب لم يسقط بالعذر كوقوف عرفة. "وقد اختلف السلف في ترك المبيت بها، فقال علقمة والنخعي" إبراهيم "والشعبي" عامر، والثلاثة من التابعين: "من تركه فاته الحج" قالوا: ويجعل إحرامه عمرة كما في الفتح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف. وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. انتهى. ولما طلع الفجر صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة. وفي سنن البيهقي والنسائي صحيح على شرط مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: التقط لي حصى، فالتقط له حصيات مثل   "وقال عطاء والزهري وقتادة" التابعيون "والشافعي والكوفيون وإسحاق" بن راهويه: "عليه دم ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل" مضي "النصف" الأول من الليل. "وقال مالك:" البيات بها مستحب، و"إن مر بها فلم ينزل فعليه دم: وإن نزل" ولو بقدر حط الرحل "فلا دم عليه متى دفع. انتهى"، وحجت حديث أسماء كما علم. "ولما طلع الفجر" صبيحة المزدلفة "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الفجر" أي: الصبح "حين تبين" أي: ظهر "الصبح" كما في مسلم في حديث جابر، ولفظه: وصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع -صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح "بأذان وإقامة" وما في الصحيحين وأبي داود والنسائي عن ابن مسعود: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها. فقال العلماء: معناه قبل وقتها المعتاد في كل يوم مبالغة في التبكير ليتسع الوقت لفعل ما يستقبل من المناسك؛ لأنه كان يؤخرها في غير هذا اليوم حتى يأتيه بلالا، وليس المراد أنه صلاها قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز بإجماع، ويدل على ذلك رواية للبخاري عقب هذه عن ابن مسعود نفسه، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر. وله وللنسائي: حين بزغ الفجر، وكذا قوله: إلا بجمع أراد الوقت المعتاد؛ فإنه لما أخر المغرب فصلاها مع العشاء كان وقت العشاء وقتا لها، فلم يصلها إلا بوقتها إلا أنه غير الوقت المعتاد، وقوله: إلا بجمع. قال الولي: وكذا بعرفات أيضا في الظهرين كما عند النسائي عن ابن مسعود: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات، فلم يحفظ راوي هذه الرواية ذكر عرفات وحفظه غيره، والحافظ حجة على الناس. انتهى. "وفي سنن البيهقي والنسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم" ولذا أخرجه الحاكم في المستدرك، كلهم عن عبد الله بن عباس "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للفضل بن عباس" أكبر ولده، وبه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 423 حصى الخذف. -وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده. وفي رواية للنسائي قال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس، غداة النحر وهو عليه السلام على راحلته: "هات إلقط لي"، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: "بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأي البغوي؛ قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، ونص عليه الشافعي في   كان يكنى "غداة" ظرف لقال، أي: قال له أول "يوم النحر: التقط لي حصى، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف وهو بالمعجمتين" الأولى وهي الخاء مفتوحة والثانية ساكنة وآخره فاء، وروي بحاء مهملة وهو الرمي بالحصى بالأصابع، كانت العرب ترمي بها في الصغر لعبا تجعلها بين السبابة والإبهام من اليد اليسرى ثم تقذف بسبابة اليمنى. وقيل: تجعلها بين السبابتين وفي أن قدرها فولة أو نواة أو دون الأنملة طولا وعرضا خلاف "ولم يكسرها" من الجبل "كما يفعل من لا علم عنده" بالسنة "من لقطها". "وفي رواية النسائي" عن عبد الله بن عباس: "قال عليه السلام لابن عباس" أي: الفضل: "غداة النحر وهو عليه السلام على راحلته" ناقته القصواء "هات" بكسر التاء، أي: أعطني هذا أصله، لكن المراد هنا "ألقط" بضم الهمزة والقاف من باب نصر وناولني ما تلقطه "فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعت في يده" صلى الله عليه وسلم "قال: "بأمثال هؤلاء" فارموا "وإياكم والغلو" بمعجمة مضمومة "في الدين" أي: بالتشديد فيه، ومجاوزة الحد والعبث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها "فإنما هلك من كان قبلكم" من الأمم "بالغلو في الدين" والسعيد من اتعظ بغيره، وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء، أو ذمه على ما يستحقه، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف وإياهم نهى الله بقوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وسبب هذا النهي رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه بلغ من الصغار، ثم عله بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك، قاله بعض العلماء. "قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأي البغوي قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح" عملا بظاهر هذا الحديث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 424 "الأم" و"الإملاء" لكن الجمهور كما قال الرافعي: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمي به في الحج، وبه جزم في "التنبيه" وأقره عليه النووي في تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعي، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعي أيضا، قال في شرح "المهذب". والاحتياط أن يزيد فربما سقط منه شيء. انتهى. ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس.   "ونص عليه الشافعي في الأم والإملاء، لكن الجمهور كما قال الرافعي على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه" أي: عدم شغلهم بشيء "وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به في الحج، وبه جزم في التنبيه وأقره النووي في تصحيحه" هو من تتمة السؤال، فحاصله هل هو الراجح أو غيره. وفي نسخة: به جزم لا واو فهي جواب السؤال "لكن الأكثرون كما قال الرافعي على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعي أيضا، قال في شرح المهذب: والاحتياط أن يزيد" على ما يأخذ ليوم النحر "فربما سقط منه شيء. انتهى". ثم عاد المصنف لحديث مسلم عن جابر فقال عقب قوله سابقا: حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة. "ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- القصواء" لا يخالف بين هذا وبين قوله سابقا، وهو على راحلته هات؛ لأن ركوبه كان بعد الصبح، فلما ركب قال للفضل: هات ... إلخ، فلم يذكره جابر، كما أن ابن عباس لم يذكر وقت ركوبه فذكر كل واحد منهما ما لم يذكر الآخر "حتى أتى المشعر الحرام" بفتح الميم والعين كما في القرآن، وحكى الجوهري كسر الميم، وقيل: إنه لغة جميع العرب، وقال ابن قرقول: كسرها لغة لا رواية قبل لم يقرأ بها شاذا، وقيل: قرئ سمي المشعر؛ لأنه معلم للعبادة والحرام؛ لأنه من الحرم أو لحرمته وهو جبل من جبال المزدلفة "فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده" فهو أحق من يعمل بقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] "فلم يزل واقفا حتى أسفر" الفجر "جدا" حال، أي: مبالغا، أو صفة مصدر محذوف، أي: إسفارا بليغا "فدفع قبل أن تطلع الشمس". "وفي رواية غير جابر" وهو عمر بن الخطاب: كما رواه ابن جرير الطبري عن عمرو بن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 425 وفي رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى يطلع الشمس، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس. وفي حديث علي عند الطبري: لما أصبح -صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: "هذا الموقف وكل المزدلفة موقف"، حتى إذا أسفر دفع. وفي رواية جابر: وأردف -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس، قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع -صلى الله عليه وسلم- مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن،   ميمون، قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم قال: "وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس". ولابن جرير أيضًا: فدفع بعد صلاة القوم المغلسين بصلاة الغداة، والحديث في البخاري عن عمرو بن ممون: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خالفهم، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس، وعدل عنه المصنف للفظ الذي ذكره لصراحته، فإن قوله: ثم أفاض يحتمل عمر ويحتمل النبي عطفا على خالفهم، وهو المعتمد بدليل روايتي ابن جرير: وأشرق بفتح فسكون أمر من الإشراق وثبير منادى اسم جبل. "وفي حديث علي عند الطبري: لما أصبح -صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح" بضم القاف وفتح الزاي وحاء مهملة جبل صغير بالمزدلفة لا ينصرف للعدل والعلمية كعمر، صرح به في النهاية وهو المشعر الحرام "وأردف الفضل" بن عباس "ثم قال: هذا الموقف" الأفضل الذي وقفت فيه "وكل المزدلفة موقف حتى إذا أسرف دفع" من قزح إلى منى، فهذا أيضا صريح في أنه دفع قبل طلوع الشمس، وبهذه الأخبار أخذ الجمهور باستحباب الوقوف إلى الإسفار واستحبه مالك قبله، واحتج له بعض أصحابه بأنه -صلى اله عليه وسلم- لم يعجل الصلاة إلا ليدفع قبل الشمس، فكل من بعد دفعه من طلوعها كان أولى. "وفي رواية جابر" في حديثه الطويل في الحجة النبوية عند مسلم وغيرها، تلو قوله آنفا: قبل أن تطلع الشمس "وأردف -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس، وكان رجلا" هكذا ثبت لفظ رجلا في مسلم وأبي داود "حسن الشعر أبيض وسيما" بفتح الواو وكسر المهملة حسنا وضيئا، فوصفه بوصف من يفتن به "فلما دفع -صلى الله عليه وسلم" من المزدلفة "مرت ظعن" بضمتين نساء "يجرين" قال المصنف: بفتح الياء وضمها وسكون الجيم "فطفق:" شرع "الفضل ينظر إليهن، فوضع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 426 فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر. وفي رواية: كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم". وذلك في حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما.   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل" ليمنعه من النظر إليهن وخوفا عليه وعليهن من الفتنة "فحول الفضل وجهه إلى الشق" بكسر المعجمة "الآخر ينظر" إليهن "فحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر" من غلبة الطبع. "وفي رواية: كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية للبخاري: على عجز راحلته "فجاءته امرأة" قال الحافظ: لم تسم "من خثعم" بفتح المعجمة وسكون المثلثة وفتح المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة "تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر" المرأة "إليه". قال القرطبي: هذا النظر بمقتضى الطباع فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة. "فجعل -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" الذي ليس فيه المرأة منعا له عن مقتضى الطبع وردا إلى مقتضى الشرع. قال الأبي: الأظهر أن صرفه ليس للوقوع في المحرم كما يعطيه كلام عياض والنووي، وإنما هو لخوف الوقوع كما يعطيه كلام القرطبي وبين استفتاءها، بقوله: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي" لم يسم أيضا "شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة" صفة بعد صفة أو من الأحوال المتداخلة أو شيخا بدل؛ لأنه موصوف، أي: وج عليه الحج وحصل له المال في هذه الحال والأول أوجه، قاله الطيبي: "أفأحج" أي أيصح أن أنوب فأحج "عنه؟، قال: نعم" حجي عنه "وذلك في حجة الوداع". وفي رواية للبخاري: يوم النحر. وفي الترمذي وأحمد ما يدل على أن السؤال وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي "رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والنسائي من طرق كلها عن الزهري عن سليمان بن يسار عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 427 وقد روي أيضا من حديث عبد الله بن عباس، لكن رجح البخاري رواية الفضل؛ لأنه كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وكان عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهد في تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما في الترمذي: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمي، وأن العباس كان شاهدا. وفيه: أنه عليه السلام لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: "رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان".   عبد الله بن يسار، ثم اختلف أصحاب الزهري، فقال شعيب عنه، عن سليمان، عن ابن عباس، عن الفضل: أن امرأة .... فذكره، أخرجه الشيخان فجعله شعيب من مسند الفضل تابعه معمر عن الزهري. "وقد روي" لعله رويا بالتثنية عائدة على الشيخين، وإلا بالتعبير بروي يوهم ضعفه وأنهما لم يروياه لقوله: قبل رواه الشيخان مع أنهما روياه "أيضا" في الصحيحين "من حديث" مالك وابن عيينة وأكثر أصحاب ابن شهاب عنه عن سليمان عن "عبد الله بن عباس" قال: كان الفضل ... فذكره فجعلوه من مسند عبد الله. "لكن رجح البخاري" فيما نقله عنه الترمذي "رواية الفضل" أي: أنه من مسنده "لأنه" ظاهره أن التعليل من الترمذي وليس كذلك، فقد قال الحافظ: وكأنه رجح هذا؛ لأنه "كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وكان" أخوه "عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن" بالتشديد "الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة" ومن المعلوم أن هذا اختلاف لا يضر، ولذا أخرجه الشيخان من الوجهين، إذ محصله أنه أسنده تارة وأرسله أخرى، ومرسل الصحابي له حكم الوصل. "و" لكن ليس هذا بمتعين، فإنه "يحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، نقله تارة عن أخيه" الفضل لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده" وهذا أوجه. "ويؤيده ما في الترمذي" من حديث جابر "أن السؤال المذكور" من الخثعمية "وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي" لجمرة العقبة "وأن العباس" والدهما "كان شاهدًا" حاضرا "وفيه؛ أنه عليه السلام لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك" أي: لم، فهو استفهام حقيقي عن حكمة ذلك "قال: "رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 428 وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه. وفي هذا الحديث دلالة على جواز النيابة في الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا مالك في ذلك، ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي. وعن أحمد روايتان. انتهى. وفي رواية ابن عباس: أن أسامة قال: كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- من عرفة إلى   الشيطان". قال النووي: هذا يدل على أن وضع يده الشريفة على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها. انتهى. وبه رد الولي قول النووي نفسه في حديث مسلم السابق وحرمة النظر إلى الأجنبية وتغيير المنكر باليد لمن قدر عليه، فقال: إن أراد عند خوف الفتنة فهو محل وفاق، وإن أراد الأعم من خوفها وأمنها، ففي حالة أمنها خلاف مشهور للعلماء ولا يصح الاستدلال بالحديث على التحريم لاحتماله لكل منهما. "وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه" فحدث عن مشاهدة لا أنه أرسل الحديث. "وفي هذا الحديث دلالة على جواز النيابة في الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك في" كراهة "ذلك". قال عياض: ولا حجة فيه على الوجوب؛ لأن قولها: إن فريضة الله لا توجب دخول أبيها في ذلك الفرض إنما ظاهر الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج مع الاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع، فسألت: هل لها أن تحج عنه ويكون له في ذلك أجر؟، ولا يخالفه قوله: نعم، وفي رواية: فحجي عنه؛ لأنه ندب وإرشاد ورخصة لها أن تفعل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها "و" خلافا "لمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر" عبد الله. "ونقل ابن المنذر وغيره: الإجماع على أنه لا يجوز" أي: يحرم "أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي، وعن أحمد روايتان" كالمذهبين. "وفي رواية ابن عباس" عبد الله "أن أسامة" ابن زيد "قال: كنت ردف" بكسر الراء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 429 المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يلبي حتى رمى جمرة العقبة. رواه الشيخان وغيرهما. وفي رواية جابر: فلما أتى -صلى الله عليه وسلم- بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا. قال الأسنوي: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعي، أو العرب، كما قاله في الوسيط، فأمرنا بمخالفتهم. قال: وظهر لي فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه   وسكون الدال "النبي -صلى الله عليه وسلم" على عجز ناقته "من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف" النبي -صلى الله عليه وسلم- "الفضل" بن عباس "من المزدلفة إلى منى، فكلاهما" أي: أسامة والفضل "قال: لم يزل" أي: استمر "النبي -صلى الله عليه وسلم- يلبي حتى رمى جمرة العقبة" أي: أتم رميها، لما رواه ابن خزيمة عن الفضل: أفضت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة. قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى، وأن المراد بقوله: حتى رمى جمرة العقبة، أي: أتم رميها. وقال أبو حنيفة والشافعي: والأكثر يقطعها عند رمي أول حصاة. وعن أحمد: روايتان. وقال مالك: يقطعها إذا راح إلى مصلى عرفة. قال ابن القاسم: وذلك بعد الرواح، وراح يريد الصلاة، وإليه ذهب علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص، رواه عنهم ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة وقاله الأوزاعي والليث. قال الحافظ في ذكر أسامة: إشكال لما في مسلم عنه، وانطلقت أنا في سباق قريش على رحلي، فإن مقتضاه أن أسامة سبق إلى رمي الجمرة فيكون إخباره بالتلبية مرسلًا، لكن لا مانع أنه يرجع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجمرة أو يقيم بها حتى يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيد ذلك بحديث أم الحصين الآتي "رواه الشيخان وغيرهما". "وفي رواي جابر" في حديثه الطويل: "فلما" لفظه حتى "أتى بطن محسر" بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين موضع بين مزدلفة ومنى "حرك ناقته وأسرع السير قليلا". "قال الإسنوي: سببه" أي: الإسراع "أن النصارى كانت تقف فيه كما قاله كما قاله الرافعي، أو العرب كما قاله في الوسيط فأمرنا بمخالفتهم، قال: وظهر ليس فيه معنى آخر" في حكمته "وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت" في قول الأصح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 430 الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك. وقال غيره: وهذه كانت عادته -صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، وسمي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه، أي أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى. ثم سلك -صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. رمى من بطن الوادي، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله جابر في رواية مسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي.   خلافه وأنهم لم يدخلوا الحرم، وإنما أهلكوا قرب أوله وأن رجلا اصطاد، ثم فنزلت نار فأحرقته، ولذا تسميه أهل مكة وادي النار، قاله في التحفة: "فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك، قال غيره: وهذه كانت عادته -صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله" تعالى: عذابه ونقمت "بأعدائه" الكافرين "وسمي وادي محسر؛ لأنه الفيل حسر فيه، أي: أعيا" وكل وتعب "وانقطع عن الذهاب. انتهى". "ثم سلك -صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى:" جمرة العقبة، وهذا معنى قول الأصحاب: يذهب إلى عرفات في طريق ضب ويرجع في طريق الملزمين ليخالف الطريق تفاؤلا بتغيير الحال، قاله المصنف: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة" هذا يدل على أنه كان هناك شجرة كما في الفتح "فرماها بسبع حصيات:" بسين فموحدة "يكبر مع كل حصاة" أسقط من مسلم منها حصي الخذف. قال المصنف: كذا في معظم الروايات، ونقله عياض عن أكثر الأصول، لكنه قال: صوابه مثل حصي الخذف، بإثبات لفظة مثل، وكذا رواه غير مسلم وهو الذي في أصل ابن عيسى. وأجاب النووي بأن حصي الخذف متصل بحصيات، أي: رماا بسبع حصيات حصي الخذف، واعترض بينهما بقوله: يكبر مع كل حصاة منها. قال الأبي: يريد النووي. إن حصى الخذف بدل من حصيات، والإضافة في حصى الخذف للبيان بمعنى من مثلها في خاتم حديد، وتعقبه الهروي بأن حصى الخذف وقع مشبها به، أي: كحصى أو مثل حصى، وحذف أداة التشبيه سائغ ولم يقل أحد أنه خطأ، أو أنه يحصل منه لبس، بل قال أهل البيان: إنه أبلغ "رمى من بطن الوادي وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة" حين رماها "وكان رميه -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله جابر في رواية مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 431 وفي رواية أم الحصين، عند أبي داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة. وفي رواية النسائي: ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا. وعن أم جندب: رأيته عليه الصلاة والسلام يرمي الجمرة من بطن الوادي، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف".   "وفي رواية أم الحصين:" بمهملتين مصغر الأحمسية الصحابية لم تسم، وسمى بعض الرواة أباها إسحاق، قال أبو عمر: لم أر لغيره "عند أبي داود" ومسلم، فالعزو له أولى، فإنه رواه من طريق يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته، قالت: حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فـ"رأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ" بالمد اسم فاعل "بخطام" بكسر المعجمة: "ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره" صلى الله عليه وسلم "من الحر". وفي رواية لمسلم: من الشمس "حتى رمى جمرة العقبة". "وفي رواية النسائي" عنها: "ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه وذكر قولا كثيرا" كأنها لم تحفظه أو لم ترد التحديث به، وهو في مسلم أيضا قبل هذه بلفظ: قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع، حسبتها قالت: أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا. "وعن أم جندب" الأزدية: لم تسم وهي أم سليمان بن عمرو بن الأحوص. روى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عنها أنها قالت: "رأيته عليه الصلاة والسلام يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب" ناقته "يكبر مع كل حصاة ورجل:" مبتدأ للوصف بقوله: "من خلفه يستره" خبر، أي: من الحر. قال الولي: أو من حصاة تقع عليه، أو ممن يزاحمه وهو لا يعرفه لكثرة الناس. "فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس" ووقع في رواي لابن سعد: العباس بن عبد المطلب، والصواب الأول كما في الإصابة. ولابن سعد عن بعض الصحابة: أن الذي كان يظلله بلال، وجمع باحتمال أنهما كانا يتناوبان. "وازدحم الناس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا" بالازدحام، ولم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 432 وفي هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحل ونحوه، وقد مر أنه -صلى الله عليه وسلم- ضربت له قبة من شعر بنمرة. وفي رواية جابر عند مسلم وأبي داود قال: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلته يوم النحر، وهو يقول: "خذوا عني مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". وفي رواية قدامة عند الترمذي رأيته يرمي الجمار على ناقة له صهباء، ليس   يقصد حقيقة القتل، إذ لم يكونوا ليفعلوه، إنما أراد أذى بعضهم لبعض بالمزاحمة، فسماه قتلا مجازا بقرينة قول الراوي أولا، وازحم الناس، لكن قوله: "وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف" قد يدل على النهي عن القتل الحقيقي، بأن يرموا بحجارة كبار إذا أصابت شخصا قتلته، ولعل المراد الأمر؛ أن بناء على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، قاله الولي وأمرهم مع رميه بمثلها؛ لأنهم كلهم لم يروا رميه لكثرتهم. "وفي هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه -صلى الله عليه وسلم- ضربت له قبة:" خيمة "من شعر بنمرة" بفتح النون وكسر الميم الاستظلال بالخيمة والسقف مجمع على جوازه كاستظلاله بيده، إنما الخلاف في تظليله بنحو الثوب على رأسه بلا مماساة فأجازه الشافعي راكبا أو ماشيا. وقال مالك وأحمد: لا يجوز، وأجابوا عن حديث أم الحصين ونحوه: بأنه استظلال خفيف لا يكاد يدوم. "وفي رواية جابر عند مسلم وأبي داود، قال: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلته يوم النحر" ففيه استحباب رميها حين وصوله على الحالة التي وصلها عليها، إن راكبا فراكب، وإن ماشيا فماش، وقاله مالك والشافعي "وهو يقول: "خذوا عني منسككم". وفي رواية: "لتأخذوا" بلام مكسورة بعدها فوقية، قال النووي: هذه لام الأمر ومعناها: خذوا، وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وهي مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، فإني "لا أدري" ما يفعل بي "لعلي" مستأنف، أي: أظن أني "لا أحج بعد حجتي هذه" ويحتمل أن لعل للتحقيق كما يقع في كلام الله تعالى كثيرا. وقال النووي: فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع. "وفي رواية قدامة" بضم القاف والتخفيف ابن عبد الله بن عمار العامري الكلابي صحابي قليل الحديث، قال البغوي: سكن مكة، وقال ابن السكن: أسلم قديما، ولم يهاجر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 ضرب ولا طرد ولا إليك إليك. ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر   وكان يسكن نجدا وشهد حجة الوداع. "عند الترمذي" قال: "رأيته -صلى الله عليه وسلم "يرمي الجمار على ناقة له صهباء" بفتح المهملة وإسكان الهاء فموحدة فألف وبالمد حمراء يعلوها سواد، ولعل هذا لون القصواء التي كان عليها "ليس ضرب" للناس عنده "ولا طرد" للناس ليتنحوا عنه "ولا" قول "إليك إليك" كما يفعل عند المتكبرين "ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر" موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث. قال ابن التين: منحر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الجمرة الاولى التي تلي المسجد، فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله: هذا المنحر وكل منى منحر. "فنحر ثلاثا وستين بدنة" واحدة بدن، كذا رواه ابن ماهان في مسلم، ورواه غيره بيده. قال عياض: وكل صواب وبيده أصوب. وقال النووي: كل جرى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده الشريفة "ثم أعطى عليا فنحر ما غبر" بفتح المعجمة والموحدة والراء، أي: ما بقي من البدن وكانت مائة. وفي أبي داود عن علي: لما نحر -صلى الله عليه وسلم- بدنة نحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها، وفيه أيضا عن غرفة بن الحارث الكندي: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتى البدن، فقال: "ادعوا لي أبا حسن"، فدعي له علي، فقال: "خذ بأسفل الحربة"، وأخذ -صلى الله عليه وسلم- بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب وأردف عليا، وجمع الحافظ ولي الدين باحتمال أنه -صلى الله عليه وسلم- انفرد بنحر ثلاثين بدنة، وهي التي ذكرت في ديث علي، واشترك هو وعلي في نحر ثلاث وثلاثين بدنة وهي المذكورة في حديث غرفة بغين معجمة مفتوحة، وقيل: مهملة، وقول جابر: نحو ثلاثا وستين، مراده: كل ما له دخل في نحره إما منفردا به أو مع مشاركة علي، وجمع الحافظ بين حديثي علي وجابر بأنه -صلى الله عليه وسلم- نحر ثلاثين ثم أمر عليا أن ينحر فنحر سبعا وثلاثين، ثم نحر -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا وثلاثين، قال: فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح، أي: مع مشاركة على ليتئم مع حديث غرفة وإن لم يذكره. وذكر بعضهم أن حكمة نحره ثلاث وستين بدنة بيده أنه قصد بها سني عمره، وهي ثلاث وستون عن كل سنة بدنة، نقله عياض ثم قال: والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما رواه الترمذي، وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. انتهى. وما في الصحيحين عن أنس: نحر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده سبعة بدن، فلعلها التي اطلع هو عليها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 434 ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها. وفي رواية جابر عند مسلم: نحر عليه السلام عن نسائه بقرة. وقالت عائشة: نحر -صلى الله عليه وسلم- عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة. رواه أبو داود.   ووجهت أيضا بأنه أراد سبعة أبعرة، ولذا ألحق بها الهاء، وهذا خبر من احتمال أنه ما نحر بيده إلا سبعا؛ لأن أحاديث جابر وعلي وغرفة مصرحة بخلاف. "وأشركه" أي: عليا "في هديه" في نفس الهدي، ويحتمل في نحره: "ثم أمر من كل بدنة" من المائة "ببضعة" بفتح الموحدة وتضم وتكسر بقطعة من لحمها "فجعلت في قدر فطبخت فأكلا" أي: النبي وعلي "من لحمها وشربا من مرقها". قال المظهري: الضمير المؤنث يعود إلى القدر؛ لأنها مؤنث سماعي. قال الطيبي: ويحتمل عوده إلى الهدايا. قال النووي: قالوا: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الأكل من جميعها كلفة ومشقة، جعلت في قدر ليكون تناوله من المرق كالأكل من جميعها، واتفقوا على أن الأكل من الهدي والضحية ليس بواجب. انتهى. ونحرها قائمة، كما يدل عليه ما في الصحيحين عن زياد بن جبير: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد -صلى الله عليه وسلم، وهذا مرفوع لقوله: سنة. "وفي رواية جابر عند مسلم: نحر عليه السلام عن نسائه بقرة" أي: جنس بقرة لا بعير ولا غنم، فلا يخالف ما رواه النسائي عن عائشة، قالت: ذبح عنا -صلى الله عليه وسلم- يوم حجنا بقرة بقرة. "وقالت عائشة: نحر -صلى الله عليه وسلم- عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، رواه أبو داود" من طريق يونس عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، وأعلها إسماعيل القاضي بأن يونس تفرد بقوله واحدة، وخالفه غيره، وتعقبه الحافظ بأن يونس ثقة حافظ وتابعه معمر عند النسائي، بلفظ: ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة. وما روي عن النسائي عن عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة: ذبح عنا -صلى الله عليه وسلم- يوم حجنا بقرة بقرة، فشاذ مخالف لما تقدم. انتهى. ولا شذوذ فيه، فإن عمار الدهني بضم المهملة وإسكان الهاء ونون ثقة من رجال مسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 435 ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزله بمنى، ثم قال للحلاق: "خذ"، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. وفي رواية: أنه قال لحلاق: "ها"، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم. وفي أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه   والأربعة فزيادته مقبولة، فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره وزيادته ليست مخالفة لغيره، فإن رواية معمر: ما ذبح إلا بقرة أريد بها الجنس، أي: لا بعير ولا غنم حتى لا تخالف الرواية الصريحة أن عن كل واحدة بقرة، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع، وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم القاضي بشذوذها؛ لأنه انفرد بقوله واحدة، وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ، وإنما حكم بشذوذ روايتيه ومخالفة غيره له على القاعدة؛ أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ، بل اكتفى الحاكم بالتفرد وإن لم يخالف كما في متن الألفية. وقد رواه البخاري في الأضاحي ومسلم من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: ضحى -صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بالبقرة، ورواه مسلم أيضا عن عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن بسنده، بلفظ: أهدى. قال الحافظ: والظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحو فحمله بعضهم على الأضحية، لكن رواية أبي هريرة صريحة في أنه كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفظ: أهدى، وبان أنه للتمتع، فلا حجة فيه على قول: مالك لا ضحايا على أهل منى. "ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بعد رمي الجمرة إلى "منزله" الذي نزل فيه "بمنى" ونحر، كما في هذه الرواية: "ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار بيده إلى جانبه الأيمن" لأن الحلق هنا عبادة والتيامن فيها مستحب "ثم الأيسر". وعن أبي حنيفة: يقدم الأيسر، وأن اليمين هنا يمين الحلاق؛ لأنه من باب النزع فيبدأ فيه بالأيسر. قال الأبي: ولا يخفى عليك أنه ليس من باب النزع بل هو عبادة، وفي بعض الطرق: أضاف اليمين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر أحاديث الباب. "ثم جعل" صلى الله عليه وسلم "يعطيه" أي: شعره "الناس" للتبرك به واستشفاعًا إلى الله بما هو منه وتقربا بذلك إليه. "وفي رواة: أنه" عليه السلام "قال للحلاق: "ها" بألف بلا همز "وأشار بيده" الكريمة "إلى الجانب الأيمن" فيه حذف تقديره احلق فحلق "فقسم شعره بين من يليه" من الصحابة "ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه" أي: شعره "أم سليم" بنت ملحان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 436 الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، م قال: "ها هنا أبو طلحة"؟ فدفعه إليه. وفي أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال: "احلق الشق الآخر "، فقال: "أين أبو طلحة"؟ فأعطاه إياه. رواه الشيخان. وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه   والدة أنس. "وفي أخرى: فبدأ بالشق الأيمن" فحلقه "فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: "ههنا" بتقدير همزة الاستفهام "أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "فدفعه" أي: الشعر "إليه". "وفي أخرى:" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم "رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن" بضم فسكون "فنحرها والحجام جالس، وقال" أي: أشار "بيده عن رأسه" احلق "فحلق شقه الأيمن، فقسمه بين من يليه" من الناس "ثم قال: احلق الشق الآخر" الأيسر، فحلقه "فقال: "أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه" أي: المحلوق من الشق الأيسر "رواه" أي: المذكور من هذه الروايات "الشيخان" من طرق مدارها على محمد بن سيرين، عن أنس. وفي مسلم أيضا: تلو هذه الروايات عن أنس، قال: لما رمى -صلى الله عليه وسلم- الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقه الأيمن، فحلق ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: "احلق" فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس"، قال أبو عبد الله الأبي: إعطاؤه لأبي طلحة ليس بمخالف لقوله: "اقسمه بين الناس"، لاحتمال أن يكون أعطاه له ليفرقه ويبقى النظر في اختلاف الروايات في الجانب الأيسر، ففي الأولى؛ أنه فرقه كالأيمن، وفي الثاني؛ أنه أعطاه أم سليم، وفي الثالثة؛ أنه أعطاه أبا طلحة، وفي الرابعة؛ أنه أعطى شعر الشقين لأبي طلحة، فيحتمل أنه أعطاه أم سليم لتعطيه لزوجها أبي طلحة ليفرقه. ويحتمل أنه أعطى الشعر لأبي طلحة على أن يعطيه أبو طلحة لأم سليم لتفرقه على النساء، وذكر الشعر والشعرتين يدل على كثرة الحاضرين، وفيه التبرك بآثار الصالحين. انتهى. وليس في جمعه المذكور شفاء وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن، وفيه تخصيص الإمام الكبير بما يفرقه عليهم من عطاء وهدية ونحوهما. "وعند الإمام أحمد أنه" صلى الله عليه وسلم "استدعى الحلاق، فقال له وهو قائم على رأسه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 437 بالموسى، ونظر في وجهه، وقال: "يا معمر، أمكنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه وفي يدك الموسى"، قال: فقلت له: أما والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله علي ومنه؟، قال: "أجل". وقال البخاري: وزعموا أن الذي حلق للنبي -صلى الله عليه وسلم- معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة في صحيحه. وعند الإمام أحمد: وقلم -صلى الله عليه وسلم- أظفاره وقسمها بين الناس. وعنده أيضا: من حديث محمد بن زد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي، فلم يصبه شيء ولا صاحبه،   بالموسى ونظر في وجهه" ولفظ أحمد عن معمر: كنت أرجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع ... الحديث، وفيه فلما نحر -صلى الله عليه وسلم- هديه بمنى أمرني أن أحلقه، فأخذت الموسى فقمت على رأسه فنظر -صلى الله عليه وسلم- في وجهي "وقال: "يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه وفي يدك الموسى" عبر بالاسم الظاهر تشريفا له بالرسالة والاستفهام تعجبي. "قال" معمر: "فقلت له" عليه السلام: "أما" بالفتح والتخفيف "والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعم الله علي، ومنه؟ قال: "أجل" أي: نعم، وبقية خبر أحمد، قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أقر لك"، قال: ثم حلقت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقر بقاف وشد الراء، أي: أثبت لك حتى تحلق. "وقال البخاري: وزعموا أن الذي حلق للنبي -صلى الله عليه وسلم" وفي نسخة: النبي، أي: شعر رأس النبي، فحذف المضاف وأقم المضاف إليه مقامه "معمر بن عبد الله" بن مالك "بن نضلة" بفتح النون وإسكان المعجمة "ابن عوف" العدوي، صحابي كبير من مهاجرة الحبشة. "انتهى". "وهو عند ابن خزيمة في صحيحه" وأحمد من حديث معمر كما علم، ورواه الطبراني عن أم سلمة، قالت: حلق رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر معمر بن عبد الله العدوي، وقيل: الذي حلقه خراش بن أمية بن ربيعة الخزاعي، ثم الكلبي بموحدة مصغر نسبة إلى جد له اسمه كليب، والمشهور الأول، فقد قال ابن السكن الخراش بن أمية: حديث واحد، وهو قوله: أنا حلقت رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند المروة في عمرة القضية، وقال ابن الكلبي: حلقه فيها أو في الحديبية. "وعند الإمام أحمد: وقلم -صلى الله عليه وسلم- أظفاره" بعدما حل "وقسمها بين الناس" للتبرك. "وعنده أيضا من حديث محمد بن زيد: أن أباه حدثه أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو" -صلى الله عليه وسلم "يقسم أضاحي، فلم يصبه" أي: زيدا "شيء" من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 438 فحلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه في ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره وأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم. وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: "وللمقصرين"، رواه الشيخان. وليس فيه تعيين: هل قاله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية أو في حجة الوداع؟ قالوا: ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية.   الأضاحي "ولا صاحبه" القرشي لم يصبه شيء "فحلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه" وجعل شعره "في ثوبه، فأعطاه" أي: زيدا "شعره" أي: بعضه "فقسم منه على رجال" وبحمله على بعضه لا يخالف الأحاديث قبله، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح "وقلم أظفاره وأعطاه صاحبه" القرشي "وكان يخضب" بكسر الضاد "بالحناء" بالمد "والكتم" بفتحتين نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة ويخضب به للسواد، والوسمة بفتح الواو وكسر السين المهملة أفصح من سكونها، نبت يخض بورقه كما في المصباح. "وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا" أي: اصحابة، قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد "يا رسول الله" قل "و" اغفر "للمقصرين" فالعطف على محذوف يسمى العطف التلقيني، كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] ، قال: ومن ذريتي؟ "قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟، قال:" بعد الثالثة" "وللمقصرين"؟ فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه، ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر "رواه الشيخان" وروياه أيضا من حديث ابن عمر بطرق، إلا أن لفظه: "اللهم ارحم المحلقين" بدل اغفر، والمعنى واحد "وليس فيه تعيين هل قاله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية" كما قاله ابن عبد البر "أو في حجة الوداع، قالوا: ولم يقع في شيء من طرقه" أي: حديث أبي هريرة "التصريح" بالموضوع ولا التصريح "بسماعه ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها، ولم يشهد الحديبية" لأنه إنما جاء بعدها "وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة" بضم القاف وشد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 439 وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في "السنن" ومن طريقه الطبراني في الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي. وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث. فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذ قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل   الراء "في" كتاب "السنن" له. "ومن طريقه الطبراني في" معجمه "الأوسط، ومن حديث المسور" بكسر فسكون "ابن مخرمة" بفتح فسكون. "عند ابن إسحاق" محمد "في المغازي" ومن حديث أبي سعيد عند أحمد وابن أبي شيبة والطيالسي والطحاوي وابن عبد البر، بلفظ: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه وغيرهما. "وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم" مالك بن ربيعة "السلولي" بفتح المهملة وضم اللام الخفيفة، صحابي دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون ولدا، رواه ابن منده. "عند أحمد وابن أبي شيبة: ومن حديث أم الحصين" السلولية "عند مسلم" أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة. "ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة" بضم العين الأنصارية "عند الحارث" بن أبي أسامة. ومن حديث ابن عمر، قال: حلق -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم فقال: $"اللهم ارحم المحلقين"، الحديث رواه البخاري هكذا في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. "فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا" لأنهم خمسة من الذين عينوا الحديبية؛ لأنهم أربعة "وأصح إسنادا" لأن بعضها في الصحيحين بخلاف الحديبية، فليس شيء منها في واحد منهما. "ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه الأحاديث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 440 على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع: قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت في الحديبية، وجزم إمام الحرمين في النهاية أن ذلك كان في الحديبية، ثم قال النووي: ولا يبعد أن يكون ذلك وقع في الموضعين. انتهى. وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب. قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو -صلى الله عليه وسلم- قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعض وقصر بعض،   تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع" لكن الذي يدل منها إنما هو حديث أم الحصين. أما حديث ابن عمر وأبي هريرة عند مسلم فليس فيهما تصريح بموضع، وقد صرح في فتح الباري؛ بأنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضوع، وعين في بعض طرق حديث ابن عمر عند البخاري ولم يذكر هذه الطريق مسلم. "قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت في الحديبية، وجزم إمام الحرمين في النهاية" وكذا ابن عبد البر "أن ذلك كان في الحديبية، ثم قال النووي: ولا يبعد أن يكون ذلك وقع في الموضعين. انتهى". وقال عياض: كان في الموضعين، هكذا في الفتح قبل قوله. "وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين" وكلها صحيحة وإن كان بعضها أصح وأكثر، فلا يقتضي طرح غيره مع إمكان الجمع بالتعدد "إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك" أي: الوصول إليه بالقتال "فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم، وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال" من العمرة "توقفوا، فأشارت أم سلمة" لما دخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرها بتوقفهم وخوفه عليهم من التوقف "أن يحل هو -صلى الله عليه وسلم- قبلهم" فقالت: اخرج ولا تكلم أحدا منهم وادع الحلاق يحلق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: "لأنهم لم يشكوا". وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فقال ابن الأثير في "النهاية": كان أكثر من حج معه -صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤوسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجع -صلى الله عليه وسلم- فعل من لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى. قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابي   لك فإنهم يفعلون "ففعل فتبعوه" وحلوا "فحلق بعض وقصر بعض". في رواية الطيالسي وابن سعد لحديث أبي سعيد: إن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة فقصرا ولم يحلقا. قال الجلال البلقيني: فيحتمل أنهما اللذان قالا: والمقصرين "فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم" أي: ذكرته ثلاث مرات "قال: "لأنهم لم يشكوا" في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم. "وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج معه -صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة" لأمره "كان التقصير في أنفسهم أخف من الحق ففعله أكثرهم، فرجح -صلى الله عليه سلم- فعل من لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى". "قال الحافظ ابن حجر وفيما قاله نظر وإن تاعه" وافقه "عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا" الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى. وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي: وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "اذبح ولا حرج"، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم اشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج". قال: فما سئل عن شيء قدم أو أخر   ليبقى له شعر يحلقه في الحج "وقد كان ذلك في حقهم كذلك" فكان الأولى التقصير "والأولى ما قاله الخطابي وغيره؛ إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من اشهرة ومن فعل" وفي نسخة: زي "الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى" كلام الحافظ. "وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي" أنه قال: "وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" على ناقته كما في رواية للبخاري، ولمسلم: على راحلته "في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه" وأما رواية: من روى جلس في حجة الوداع فقام رجل، فمحمولة على أنه ركب ناقته وجلس عليها فلا تخالف "فجاء رجل" قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره: كان الأعراب يسألونه، فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم "فقال: يا رسول الله لم أشعر" بضم العين، أي: أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له، وقيل: الشعور العلم، ولم يفصح في هذه الرواية بمتعلق اشعور، وصرح به في رواية لمسلم، بلفظ: لم أشعر أن الرمي قبل الحلق "فحلقت" شعر رأسي "قبل أن أنحر" والفاء سببية، جعل الحلق مسببا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصير "فقال" صلى الله عليه وسلم: "اذبح" وفي رواية: انحر "ولا حرج" أي: لا إثم عليك. قال عياض: ليس أمرا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل؛ لأنه سأل عن أمر فرغ منه، فالمعنى افعل ذلك متى شئت، قال: ونفى الحرج بين في نفي الفدية عن العامد والساهي، وفي رفع الإثم عن الساهي، وأما العامد بالأصل أن تارك السنة عمدا لا يأثم إلا أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك. "ثم جاء رجل آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر" زاد في رواية لمسلم: أن الرمي قبل النحر "فنحرت" الهدي "قبل أن أرمي" الجمرة "قال: "ارم ولا حرج"، قال" عبد الله بن عمرو: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 إلا قال: "فعل ولا حرج". رواه مسلم. وفي رواية: حلقت قبل أن أرمي، وفي رواية: وقف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته فطفق ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل الرمي فقال -صلى الله عليه وسلم: "فارم ولا حرج"، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها   "فما سئل" صلى الله عليه وسلم "عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" لا ضيق عليك "رواه مسلم" عن يحيى بن يحيى، والبخاري في العلم عن إسماعيل. وفي الحج عن عبد الله بن يوسف، الثلاثة عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمر، وبهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم أيضا من وجوه عن ابن شهاب بنحوه، فما هذا الإيهام من المصنف أن البخاري لم يروه مع أنه رواه في مواضع. "وفي رواية" عند مسلم من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري بإسناده: "حلقت قبل أن أرمي" وقال آخر: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي. وقال مالك في الأول: الفدية لإلقاء التفث قبل شيء من التحلل، وفي تقديم الإفاضة على الرمي الدم؛ لأنه خلاف الواقع منه -صلى الله عليه وسلم، وقد قال: "خذوا عني مناسككم"، فخص هاتين الصورتين من عموم قول الصحابي: فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"، ولم يثبت عنده زيادتهما في الحديث، فلا يلزم بزيادة غيره لا سيما وهو أثبت الناس في ابن شهاب ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق كما تقرر في علوم الحديث وابن أبي حفصة الذي زادهما وإن كان صدوقا، وروى له الشيخان لكنه يخطئ، بل ضعفه النسائي. واختلف قول ابن معين في تضعيفه وتكلم فيه يحيى القطان فبطل، تعجب الطبري من مالك في حمل الحرج على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن وجب الترتيب ففي الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج، كذا قال وقد علم وجهه. "وفي رواية" لمسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن عيسى؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: "وقف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته فطفق" بكسر الفاء وفتحها شرع "ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر" فذكر متعلق الشعور "فنحرت قبل الرمي" للجمرة، والجملة معمولة للقول التقدير نحرت قبل الرمي ولم أشعر، ولكنه قدم ما يدفع عنه اللوم ويقيم له العذر وهو عدم الشعور، ولذا عبر بفاء السببية "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فارم ولا حرج"، فما سأله سائل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 إلا قال -صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج". وفي رواية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفي رواية: حلقت قبل أنحر، نحرت قبل أن أرمي وأشباه ذلك. وفي رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمي. ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة   بعض وأشباهها إلا قال -صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج" ولذا أجمعوا على الإجزاء في جميع الصور كما يأتي. "وفي رواية" للبخاري ومسلم من طريق ابن جريج عن الزهري، عن عيسى، عن ابن عمرو "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بينما هو قائم يخطب" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب "يوم النحر" بمنى على راحلته "فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب" أظن "أن كذا وكذا قبل كذا وكذا" بكاف التشبيه وذا اسم إشارة "حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك" من الأشياء التي ظن أنها على خلاف الأصل. "وفي رواية" لمسلم من طريق ابن عيينة عن الزهري بسنده، فقال رجل: "حلقت قبل أن أذبح" قال: "اذبح ولا حرج"، قال: "ذبحت قبل أن أرمي" قال: "ارم ولا حرج"، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال من أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، النحر قبل الرمي، الحلق قبل الرمي، الإفاضة قبل الرمي، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح. وللدارقطني من حديثه أيضا: السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر وأبي سعيد عند الطحاوي. وفي حديث علي عند أحمد: السؤال عن الإفاضة قبل الحلق. وفي حديثه عند الطحاوي: السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق. وفي حديث جابر عند ابن حبان وغيره: السؤال عن الإفاضة قبل الذبح. وفي حديث أسامة بن شريك: السؤال عن السعي قبل الطواف وهو محمول على من سعى بعد طواف القدوم، ثم طاف طواف الإفاضة؛ فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف، أي: الركن، فهذا ما تحرر من مجموع الأحاديث، وبقيت عدة صور لم يذكرا الرواة إما اختصارا وإما؛ لأنها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة، أفاده الحافظ. "ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعي بعده. وقد تقدم أنه -صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق. وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع. ومذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم جوب الدم لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل: "لا حرج"، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا؛ لأن اسم الضيق يشملهما. وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: "لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه   رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعي بعده" لمن لم يكن سعى بعد طواف القدوم. "وقد تقدم أنه -صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق" ثم طاف طواف الإفاضة. "وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب" وإنما اختلفوا هل هو مستحب أو واجب "وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض" أراد بالجواز الإجزاء، وبه عبر في شرحه للبخاري، إذ هو المجمع عليه، أما الجواز فمختلف فيه "إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع". فقال مالك: يجب في موضع واحد وهو تقديم الإفاضة على الرمي، وأما تقديم الحلق على الرمي، فقال: فيه فدية صيام أو إطعام أو نسك. وقال أبو حنيفة: الترتيب في الأربع واجب، فمن قدم أو أخر فعليه الدم. "ومذهب الشافعي" وأحمد في أحد قوليه. "وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث الجواز" أي: الإباحة "وعدم وجوب الدم لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل لا حرج، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا؛ لأن اسم الضيق" الذي هو معنى الحرج المنفي "يشملهما". "وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: لا حرج، أي: لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 الفدية. وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه -صلى الله عليه وسلم- حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة فلا يحوز تأخير عنه. وتمسك الإمام أحمد بقوله في الحديث: "لم أشعر" وبما في رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد: "فما سمعته يومئذ يساله عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقدم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: "افعل ولا حرج" بأنه إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وإن كان عالمًا فلا. قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب ابتاع الرسول في الحج لقوله: "خذوا عني مناسككم" وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل: "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. انتهى.   كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية" مع الإثم. "وتعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولو كان واجبا لبينه -صلى الله عليه وسلم- حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره" عن وقتها، وقد احتج الطحاوي بقول ابن عباس: من قدم شيئا من نسكه، أو أخره، فليهرق لذلك دما، قال: وهو أحد من روي أنه لا حرج، فدل على أن المراد نفي الإثم فقط، وأجيب بأن الطريق إلى ابن عباس رواها ابن أبي شيبة وفيها إبراهيم بن المهاجر وفيه مقال. "وتمسك الإمام أحمد بقوله في الحديث: لم أشعر، وفي رواية يونس عند مسلم وصالح" بن كيسان "عند أحمد" كلاهما عن الزهري بإسناده: "فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: "افعل ولا حرج" ومر هذا قريبا وأعاده لحكاية تمسك أحمد به لقوله الآخر الذي حكاه صاحب المغني عن الأثرم عنه "أنه إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه" أي: لا لوم "وإن كان عالما فلا" ينتفي عنه اللوم وهو الكراهة كما في الإقناع. "قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج، لقوله: "خذوا عني مناسككم"، وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما" أي: شيء من الأربع التي تفعل يوم النحر "وقع عنه" صلى الله عليه وسلم "تأخيره" عما قدمه السائل: "قد قرنت بقول السائل: لم أشعر فيختص الحكم بهذه الحالة" أي: عدم الشعور "وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. انتهى" ما نقله من كلام ابن دقيق العيد، وبقيته كما في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 وعن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم،   الفتح، وأيضا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة وقد علق به الحكم، فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي فما سئل ... إلخ، لإشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي تعلق بما وقع السؤال عنه، وهو مطلق بالنسبة إلى حالة السائل، والملطق لا يدل على أحد الخاصين، فلا يبقى حجة في حالة العمد. انتهى. "وعن أبي بكرة" نفيع بنون وفاء مصغر ابن الحارث الثقفي "قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر" بمنى عند الجمرة "فقال: "إن الزمان" اسم لقليل الوقت وكثيره، والمراد هنا السنة "قد استدار" استدارة "كهيئته" أي: مثل حالته، فالكاف صفة مصدر محذوف. قال الحافظ: والمراد باستدارته وقوع تاسع الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار، وفي حديث ابن عمر عند ابن مردويه: أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته "يوم خلق الله السماوات والأرض" وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا يستحلون القتال في محرم لطول مدة التحريم بتوالي ثلاثة أشهر حرام، ثم يحرمون صفر مكانه، فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه، وقيل: كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونهما صفرين ثم يحرمونهما من عام قابل ويسمونهما محرمين، وقيل: بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا، فأحلوه وجعلوا مكانه ربيعا، ثم يدور كذلك التحريم والتحليل بالتأخير على السنة كلها إلى أن جاء الإسلام، فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى المحرم الحقيقي، واختص الحج بوقت معين، واستقام حساب السنة ورجع إلى الأصل الموضوع يوم خلق الله السماوات والأرض "السنة" العربية الهلالية "اثنا عشر شهرا". ذكر الطبري في سبب ذلك عن أبي مالك، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، ومن وجه آخر: كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، فتدور الأيام والشهور لذلك، وإنما جعل الله الاعتبار بالقمر؛ لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو ظاهر مشاهد بالبصر بخلاف سير الشمس فتحتاج معرفته إلى حساب، فلم يحوجنا إلى ذلك كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا". "منها أربعة حرم" لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، أو لتحريم القتال فيها وفسرها بقوله: "ثلاث متواليات" أي: متتابعات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وقال: "أي شهر هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة"؟ قلنا:   قال ابن التين: الصواب ثلاثة متوالية، يعني: لأن المميز الشهر، قال: ولعله أعاد على المعنى، أي: ثلاث مدد متواليات. انتهى، أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه جائز فيه التذكير والتأنيث "ذو القعدة وذو الحجة" بفتح القاف والحاء قاله المصنف، ولعله الرواية "والمحرم ورجب مضر" عطف على ثلاث لا على المحرم، وأضافه إلى مضر؛ لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب ولم يكن يستحله أحد من العرب، كذا قال المصنف. وفي فتح الباري أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا يتمسكون بتعظيمه بخلاف غيرهم، فيقال: كانت ربيعة تجعل بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجل وشعبان ما ذكر في المحرم وصفر فيحلون رجبا ويحرمون شعبان، ووصفه بقوله: "الذي بين جمادى وشعبان" تأكيدا وإزاحة للريب الحادث فيه من النسيء، وقيل: الأشبه أنه تأسيس؛ لأنهم كانوا يؤخرون الشهر عن موضعه إلى شهر آخر فينتقل عن وقته الحقيقي، فالمعنى لا رجب الذي هو عندكم وقد أنسأتموه. قال الحافظ: وذكرها من سنتين لمصلحة توالي الثلاثة، إذ لو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي، قال: وأبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة حاصلها أن لها مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام ويتوسطه ويختم بها، وإنما ختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لاشتمالها على عمل مال محض، وهو الزكاة وعمل بدن محض، وذلك تارة بالجوارح وهو الصلاة، وتارة بالقلب وهو الصوم؛ لأنه كف عن المفطرات، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منها، فكان له من الأربعة الحرم شهران. "وقال: "أي شهر هذا"؟ قال البيضاوي: يريد تذكيرهم حرمة الشهر وتقريرها في نفوسهم ليبني عليها ما أراد تقريره، وقولهم: "قلنا: الله ورسوله أعلم" مراعاة للأدب، وتحرز عن التقدم بين دي الله ورسوله، وتوقف فيما لا يعلم الغرض من السؤال عنه، وذلك من حسن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار مما يعرفونه، ولذا قالوا: "فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه" إشارة إلى تفويض الأمور كلها إليه "قال: "أليس ذا الحجة" بالنصب خبر ليس، وفي رواية: ذو بالرفع اسمها والخبر محذوف، أي: أليس ذو الحجة هذا الشهر "قلنا: بلى" هو ذو الحجة "قال: "أي بلد هذا"؟ بالتذكير "قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلد الحرام" مكة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 بلى، قال: "أي بلد هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلد الحرام"؟ قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر"؟ قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم   ولفظ البخاري: في الحج، قال: "أليس بالبلدة الحرام"؟، ولفظه في الأضاحي، قال: "أليس البلدة" بالتأنيث، أي: مكة "قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليس" هو "يوم النحر" الذي ينحر فيه الأضاحي في سائر الأقطار والهدايا بمنى، فيوم بالنصب خبر ليس، ويجوز رفعه اسمها وحذف الخبر، أي: هذا اليوم "قلنا: بلى" حرف مختص بالنفي ويفيد إبطاله، وتمسك به من خص النحر بيوم العيد لإضافته اليوم إلى جنس النحر؛ لأن اللام هنا جنسية فتعم، فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم، وأجاب الجمهور: بأن المراد النحر الكامل المفضل وأل كثيرًا ما تستعمل للكمال نحو، ولكن البر وإنما الشديد الذي يملك نفسه. قال القرطبي: والتمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، وفي حديث أبي بكرة: هذا أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم، وسكتوا حتى أخبرهم. وفي البخاري عن ابن عباس، أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر، فقال: "أي يوم هذا"؟، قالوا: يوم حرام، قال: "أي بلد هذا"؟، قالوا: "بلد حرام" قال: "فأي شهر هذا"؟، قالوا: شهر حرام.. الحديث، وظاهرهما التعارض، وأجيب بأن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس، أجابوا: والذين كان فيهم أبو بكرة ردوا العلم لله ورسوله، وسكتوا حتى أخبر، فقالوا: بلى، وبأن في حديث ابن عباس اختصارا، ورواية بالمعنى، فإن بلى بمعنى يوم حرام بالاستلزام، ونقل أبو بكرة السياق بتمامه، واختصره ابن عباس وكان ذلك بسبب قرب أبي بكرة منه؛ لأنه كان آخذا بخطام الناقة كما في رواية الإسماعيلي، وباحتمال تعدد السؤال في الخطبة مرتين. ففي حديث أبي بكرة فخامة ليست في حديث ابن عباس لزيادة لفظة: "أتدرون"، فلذا سكتوا وفوضوا إليه، وأجابوا في السؤال الآخر العاري عن قوله: "أتدرون"، وأما احتمال أنه خطب مرتين يوم النحر، فتعقب بأنه إنما خطب مرة واحدة كما دل عليه صريح الأحاديث. قال القرطبي: سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم، وليقبلوا عليه بكليتهم ويستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذا قال بعده: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم": جمع عرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 "هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت"؟ قالوا:   نفسه أو سلفه. وقال التوربشتي: أنفسكم وأحسابكم، فإن العرض يقال للنفس والحسب، يقال: فلان نفى العرض، أي: بريء أن يعاب، ورد بأنه لو أريد النفوس لتكرر مع الدماء، إذ المراد بها النفوس. وقال الطيبي: الظاهر أن المراد لأخلاق النفسانية، ثم قال: والتحقيق ما في النهاية أن العرض موضع المدح والذم من الإنسان، ولذا قيل: العرض النفس إطلاقًا للمحل على الحال. انتهى، وهو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم، كذا قال الزركشي وتبعه الحافظ وغيره، وتعقبه الدماميني؛ بأن كل ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق، فالإفصاح به متعين والأولى أن يقدر في الثلاثة كلمة واحدة وهي لفظة انتهاك التي موضوعها تناول شيء بغير حق كما نص عليه القاضي، فكأنه قال: فإن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم ولا حاجة إلى تقدير مع كل واحد من الثلاثة لصحة انسحابه على الجميع، وعدم احتياجه إلى التقييد بغير الحقية. "عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" زاد في بعض روايات البخاري: إلى يوم تلقون ربكم. قال المصنف: بحر يوم من غير تنوين، ويجوز فتحه وكسره مع التنوين، والأول هو المروي. انتهى، ومناط التشبيه أن تحريم هذه الثلاثة كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم عادة لسلفهم، ولذا قدم السؤال عنها مع شهرتها بخلاف الأنفس والأموال والأعرض، فكانا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من البلد والشهر واليوم، فلا يرد أن المشبه أخفض رتبة من المشبه به؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع. "وستلقون ربكم" يوم القيامة "فيسألكم عن أعمالكم" فيجازيكم عليها "ألا" بالفتح والتخفيف "لا ترجعوا بعدي" بعد فراقي من موقفي هذا، أو بعد حياتي، وفيه استعمال رجع كصار معنى وعملا. قال ابن مالك: وهو مما خفي على أكثر النحاة، أي: لا تصيروا بعدي "كفارا" أي: كالكفار، أو لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا القتال، أو لا تكن أفعالكم شبيهة أفعال الكفار، وفي رواية: "ضلالا": جمع ضال، والمعنى واحد "يضرب بعضكم رقاب بعض" برفع بضرب جملة مستأنفة مبينة لقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا"، ويجوز الجزم. قال أبو البقاء على تقدير شرط مضمر، أي: أن ترجعوا بعدي "ألا هل بلغت" وفي رواية: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 نعم، قال: "اللهم اشهد" فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع". رواه الشيخان. وفي رواية للبخاري: "فودع الناس". ووقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة   "هل بلغت" مرتين "قالوا: نعم" بلغت "قال: "اللهم اشهد" أني أديت ما فرضته علي من التبليغ "فليبلغ الشاهد" الحاضر هذا المجلس "الغائب" عنه ما ذكر فيه أو جميع الأحكام التي سمعها "فرب مبلغ" بفتح اللام مشددة اسم مفعول بلغه كلامي "أوعى" أفهم لمعنى كلامي "من سامع" له مني. قال الحافظ: رب للتقليل، وقد ترد للتكثير، ومبلغ بفتح اللام وأوعى نعت له، والذي تتعلق به رب محذوف تقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن يكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير، والمراد رب مبلغ عني أوعى، أي: أفهم من سامع، وصرح بذلك في رواية ابن منده بلفظ: "فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد". انتهى. وقال المهلب: فيه أنه يأتي في الآخر من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدم إلا أن ذلك قليل؛ لأن رب موضوعة للتقليل. انتهى، أي: عند الأكثرين. وقال جماعة: موضوعة للتكثير، واختار في المغني أنها ترد للتكثير كثيرا وللتقليل قليلا، لكن الظاهر أنها في الحديث هنا للتقليل بقوله في رواية للبخاري: فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه، ولرواية ابن منده المذكورة "رواه الشيخان" البخاري في مواضع تاما ومختصرا، ومسلم في الديات. "وفي رواية البخاري" تعليقا، ووصله أبو داود وابن ماجه وغيرهما في آخر حديث عن ابن عمر، فطفق النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اشهد" "فودع الناس" لأنه علم أنه لا يتفق له ذلك في وقعة أخرى ولا اجتماع آخر مثل ذلك، وبقية الحديث: فقالوا: هذه حجة الوداع. "ووقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك" الوداع "ولفظه: أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له" وجعل عليها الرحل "فركب ووقف بالعقبة واجتمع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 واجتمع إليه الناس فقال: يا أيها الناس فذكر الحديث. وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه قال الشافعي ومن تبعه. وخالف ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر بمنى. ووافقهم الشافعي إلا أنه قال: بدل ثاني النحر ثالثه؛ لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر، قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف. وتعقبه الطحاوي: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج. وقال ابن بطال: إنما فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه يخطب. قال: وأما ما ذكره الشافعي: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين؛ لأن   إليه الناس، فقال: "أيها الناس" ..... فذكر الحديث" بنحوه "وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه قال الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة سابع ذي الحجة" بمكة "ويوم عرفة بها وثاني يوم النحر بمنى، ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه؛ لأنه أول يوم النفر" بفتح النون وإسكان الفاء "وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر" أي: يوم العيد "قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف" للإفاضة. "وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة ولم ينقل أحد" من رواتها كابن عمر وابن عباس وأبي بكرة؛ "أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعلمناه أنها لم تقصد لأجل الحج". "وقال ابن بطال: إنما فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك" أي: خطبة يوم النحر "من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه يخطب" فأطلق عليها اسم الخطبة "قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى. وأجيب: بأنه -صلى الله عليه وسلم- نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة، يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوي: "إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من   فليس بمتعين؛ لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة" في خطبتها، وقد ذكر المالكية الأمور الأربع في جملة ما يخبرهم به في خطبة يوم عرفة. "انتهى". "وأجيب بأنه -صلى الله عليه وسلم- نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون" ابن عباس وأبو بكرة وابن عمر "بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم" هذا واضح في رد قول ابن بطال: ظن الذي رآه أنه يخطب ولك أن تقول: هي خطبة، لكن ليست من خطب الحج المشروعة، إنما هي وصايا وتوديع كما أشار إليه أولا، إذ لا يصلح للخطيب المخبر بمناسك الحج أن يقول شيئًا مما ذكر في هذه الخطبة أتدرون، أي: بلد .... إلخ ونحوه. "وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة" له أن يقول: إن المناسك الأربع التي تفعل يوم النحر استغنى بتعليمهم إياها يوم عرفة؛ لأنه يتعسر خطبة تعلمهم ذلك يوم النحر، إذ المطلوب ساعة الوصول إلى الجمرة رميها عقب وصوله على أي حالة راكبا أو ماشيا، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، وكل ذلك قبل الزوال فهو يوم عمل وسفر لا يمكن بسهولة خطبة لتعليم فعل ذلك على الوجه الأكمل، فاكتفى بتعليم ذلك في يوم عرفة بخلاف ثاني يوم، فيوم قرار بمنى فشرع فيه تجديد التعليم. "بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن" حكمة ذلك أنه "لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب" بعد هذا في الفتح، وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه؛ أن الخطبة ثاني يوم النحر، نقلت من خطبة يوم النحر وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني بني أمية. قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان هو الثوري، عن ابن جريج، عن الزهري، قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 أسباب التحلل" فلا ينفي وقوع ذلك أو شيء منه في نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عمن يقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق. انتهى. وقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بنمعاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال   كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد، وهذا وإن كان مرسلا لكنه يعتضد بما سبق، وبأن به أن السنة يوم النحر لا ثانيه. انتهى. وكان المصنف تركه؛ لأنه قد لا يسلم له أن المراد بالأمراء بنو أمية كما ذكره بقوله، يعني بني أمية، إذ ليس ذلك في سياق الحديث، فكأنهم تركوه لفهمهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد به أنه من خطب الحج المشروعة للتعليم، وإنما هي وصايا؛ ولأنه يعكر على حكمته التي أبداها من شرع تجديد التعليم بتجدد الأسباب، إذ هو لا يقول بخطبة ثاني يوم مع أن فيه تجديدًا. "وأما قول الطحاوي إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي وقوع ذلك، أو شيء منه في نفس الأمر" لاحتمال أنه وقع، ولم ينقله الراوي اعتناء بما نقله من أمر الوصية، وغاية ما يفيده هذا الاحتجاج بالاحتمال والطحاوي إنما قال لم ينقل، وإنما يرد عليه بأنه قد نقل "بل" إضراب انتقالي "قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عمن يقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق" مع روايته لحديث ابن عمرو. "انتهى". والجواب أنه ساغ له ذلك؛ لأنه ليس فيه أنه علمهم ذلك ابتداء في تلك الخطبة، وإنما أجاب السائلين بقوله: "افعل ولا حرج"، وجواب السائل متعين في مثل ذلك. "وقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن معاذ" بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي "التيمي" نسبة إلى جده تيم المذكور، صحابي شهد فتح مكة، وهو ابن عم طلحة بن عبد الله "قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى ففتحت" بالتخفيف، وضبطه بعضهم بالتشديد "أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا" معجزة ظاهرة له -صلى الله عليه وسلم- "فطفق" بكسر الفاء وفتحها، أي: أخذ "يعلمهم مناسكهم" جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك "حتى بلغ الجمار" أي: وصل إلى ذكر حكمها، وكأنه ذكر المناسك على ترتيب وقوعها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 بحصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك. وفي رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم فقال: "لينزل المهاجرون ههنا"، وأشار إلى ميمنة القبلة، "والأنصار ههنا" وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال: "لينزل الناس حولهم". وعن ابن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة   وفعلها والجمار الأحجار الصغار، سميت حمار الحج بذلك للحصى التي يرمي بها "فوضع أصبعيه السبابتين" اليمنى واليسرى "ثم قال:" "ارموا" "بحصى الخذف" أي: الحصى اصغار، أي: مثله، والخذف أن يؤخذ حصاة بين السبابتن ويرمي بها "ثم أمر المهاجرين فنزلوا بمقدم المسجد، وأمر الأنصار أن ينزلوا من" هكذا في أبي داود، لفظ: من "وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك" ففيه تقريب أهل الفضل والعلم على حسب مراتبهم في ذلك. قال الولي العراقي: قد يسأل عن الجمع بين هذا الحديث وبين قوله عليه الصلاة والسلام: "منى مناخ من سبق"، فإنه دال على استحقاق السابق لبقعة للنزول فيها ولو كان غيره أفضل، وهو مخالف لتعيينه للمهاجرين بقعة وللأنصار بقعة، هكذا سأل وبيض للجواب. "وفي رواية عبد الرحمن بن معاذ" الصحابي المذكور فيما قبله عند أبي داود أيضا "عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم، فقال: "لينزل" بلام الأمر، كما في أبي داود "المهاجرون ههنا، وأشار إلى ميمنة القبلة والأنصار ههنا، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال: "لينزل الناس حولهم"" وفي الرواية الأولى: أنزل المهاجرين في مقدم المسجد والأنصار وراء المسجد. قال الولي العراقي: وظاهرهما التنافي، فيحتاج إلى الجمع إن أمكن وإلا تعين الترجيح، ويمكن الجمع بأنه أنزل المهاجرين في ميمنة القبلة في مقدم المسجد، وأنزل الأنصار في ميسرة القبلة وراء المسجد، ويلزم عليه أن يخلو من المسجد ميسرته بكمالها ومؤخر ميمنته، فيحصل أنه -صلى الله عليه وسلم- أخلى ذلك لنفسه. "وعن ابن أبي نجيح" الابن هو عبد الله المكي أبو يسار الثقفي، مولاهم ثقة من رجال الجميع، ورمي بالقدر، وربما دلس "عن أبيه" أبي نجيح، واسمه يسار المكي مولى ثقيف مشهور بكنيته وهو ثقة، روى له مسلم والسنن الثلاثة "عن رجلين من بني بكر، قالا: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق" ظاهره مشكل، فالجمع بين أوسط. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي خطب بمنى. رواه أبو داود. وعن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا.   ممتنع، فإما أنه وهم كان في بعض الأصول بين، وفي آخر أوسط، فجمع بينهما بعض الرواة وهما: لكن فيه أن الحكم على الإثبات بالخطأ يحتاج لدليل، وبأنه لا يصح أن يقال بين أيام التشريق لاقتضائه أن زمن الخطبة متخلل بينها لا منها وإنما يكون ذلك ليلا، ولم تقع الخطبة ليلا، وإما أن أوسط بدل من بين فهو نصب ظرفا لا مخفوض بالإضافة، ويرد هذا بالثاني مما رد به مما قبله، وإما أن المراد خطبهم في وسط أوسط أيام التشريق، أي: أن خطبته وقعت في الأوسط من أيام التشريق وكان ذلك بينه، أي: في أثنائه لا في أول النهار ولا في آخره، وفيه نظر؛ لأنه إذا خطب أثناءه صدق أنه خطب في أيام التشريق فلا يقال: خطب بينهما، قاله الولي العراقي. "ونحن عند راحلته" مثلث العين ومعناه حضرة الشيء "وهي خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي خطب بمنى" كأنهما لم يطلعا على خطبته يوم النحر أو اطلعا ولم تكن عندهما خطبة تتعلق بالحج "رواه أبو داود" وسكت عليه فهو عنده صالح، وكذا سكت عليه عبد الحق في الأحكام، وتعقبه ابن القطان ورد تعقبه. "وعن رافع بن عمرو" بفتح العين ابن هلال "المزني" صحابي ابن صحابي، سكن البصرة وعاش إلى خلافة معاوية "قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحاء" بفتح المعجمة ممدود إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده كما في النهاية، نقله الولي "على بغلة" أنثى البغال "شهباء" أي: بيضاء غلب بياضها على السواد، زاد في رواية لأبي داود في اللباس: وعليه برد أحمر "وعلي" بن أبي طالب "يعبر" بضم أوله وبالتشديد، أي: يبلغ "عنه". قال الجوهري: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه واللسان يعبر عما في الضمير، أو المراد يفسر عبارته ويشرحها مأخوذ من عبارة الرؤيا وهو تفسيرها، أو المراد يفهمها للناس من عبرت الكتاب أعبره، والأول هو الظاهر المتعين وفيه منقبة لعلي، ولا يخالف قوله: ففتحت أسماعنا الحديث السابق لاحتمال أن هذه خطبة غير تلك؛ لأنه خطب بمنى غير مرة، أو المعجزة إنما هي في حق من لم يحضر المجلس، فأما من حضره فكان يسمع السمع المعتاد، فربما يخفى عليه كلمة ونحوها لشغل أو ثقل سمع أو جهل بتلك اللغة التي خاطبهم بها -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم خلق كثير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن قال: حدثتني جدتي سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت في الجاهلية، قالت: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الرءوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيام التشريق"؟ وفي رواية: خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا.   من قبائل شتى، وهذه الخطبة غير المذكورة قبلها لقوله: على راحلته وهنا على بغلة، قاله الولي العراقي ملخصًا. "والناس بين قائم وقاعد" لكثرتهم، فكان البعيد يقف ليراه ويسمع كلامه -صلى الله عليه وسلم "رواه أبو داود أيضا" ورواه النسائي والبغوي والطبراني وغيرهم عنه مطولًا، قال: أقبلت مع أبي وأنا غلام وصيف أو فوق ذلك في حجة الوداع، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس على بغلة شهباء، وعلي بن أبي طالب يعبر عنه والناس من بين جالس وقائم، فجلس أبي وتخللت الركاب حتى أتيت البغلة، فأخذت بركاته ووضعت يدي على ركبته، فمسحت حتى الساق حتى بلغت بها القدم، ثم أدخلت كفي بين النعل والقدم فيخيل إلي الساعة أني أجد برد قدمه على كفي. "وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن" الغنوي بفتح الغين المعجمة والنون، ذكره ابن حبان في الثقات "قال: حدثتني جدتي سراء" بفتح السين المهملة وشد الراء مع المد، وقيل: القصر كما في التقريب، وفي الإصابة بتشديد الراء مقصورة، ويقال: بالمد، قاله ابن الأثير "بنت نبهان" بفتح النون وسكون الموحدة ابن عمرو الغنوية الصحابية، وروت عنها أيضا ساكنة بنت الجعد حديثا آخر، رواه ابن سعد وقال: روت أحاديث بهذا الإسناد "وكانت ربة" أي: صاحبة "بيت" ومنزل "في الجاهلية" ما قبل الإسلام، والمراد أنها كبيرة السن، أدركت الجاهلية منفردة ببيت قاله الولي العراقي. وقال ابن رسلان: ربة بيت، أي: قائمة على الضيم في الجاهلية. ا. هـ، فإن كان ذلك الواقع وإلا فالصواب ما قال الولي. "قالت: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الرؤوس" بضم الراء والهمز، سمي بذلك حادي عشر الحجة؛ لأنهم كانوا يذبحون يوم النحر ثم يطبخون الرؤوس تلك الليلة فيبكرون على أكلها "فقال: "أي يوم هذا"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيام التشريق"؟ وفيه أدب الصحابة معه وسكوتهم عن الجواب فيما يشكل عليهم. "وفي رواية: خطب أوسط أيام التشريق، رواه أبو داود أيضا" أي: المذكور من الروايتين، وسكت عليه إلا أن الأولى عنده مسندة، وأما الثانية فمعلقة، ولفظه عقب المسند، قال أبو داود: وكذلك عم أبي حرة الرقاشي أنه خطب أوسط أيام التشريق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 ثم ركب -صلى الله عليه وسلم- قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة والركن والصدر. وفي البخاري: ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى. وصله الطبراني من طريق قتادة عن أبي حسان. وقال ابن المديني في "العلل": روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحمد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثني أبو حسان عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث.   قال الولي: أخرجه أحمد عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ ودعته الناس، فذكر حديثا طويلا في خطبته وأبو حرة بضم المهملة وشد الراء المفتوحة وتاء تأنيث اسمه حنيفة، ذكره أبو حاتم وغيره، ضعفه ابن معين ووثقه أبو داود وعمه صحابي. قال البغوي: بلغني أن اسمه خزيم بن حنيفة. ا. هـ، وقيل: عمر بن حمزة، أفاده ابن فتحون. "ثم ركب -صلى الله عليه وسلم" من منى "قبل الظهر فأفاض" أي: رجع "إلى البيت فطاف طواف الإفاضة" أي: طواف الرجوع من منى إلى مكة "وهو طواف الزيارة" أي: زيارة الحاج البيت "والركن" الذي لا يجبر تركه بشيء "والصدر" بصاد ودال مهملتين مفتوحتين، قال الرافعي: والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع. "وفي البخاري يذكر" بضم أوله وفتح ثالثه "عن أبي حسان" بالصرف وعدمه مسلم بن عبد الله العدوي البصري، صدوق، رمي برأي الخوارج، قتل سنة ثلاثين ومائة، روى له مسلم حديثين عن ابن عباس غير هذا، وروى له الأربعة وعلق له البخاري. "عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى" قال الحافظ: "وصله الطبراني من طريق قتادة عن أبي حسان". "وقال ابن المديني في العلل: روى قتادة حديثا غريبا لا نعرفه عن أحمد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام ولم أسمعه منه، عن أبيه، عن قتادة: حدثني أبو حسان عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى". وقال الأثرم: قلت لأحمد: تحفظ عن قتادة هذا "الحديث"، فقال: اكتبوه من كتاب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 وأتى -صلى الله عليه وسلم- زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم"، فناولوه دلوا منها فشرب منه. وفي رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم، وفي رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين في   قلت: فإن هنا إنسانا زعم أنه سمعه من معاذ فأنكر ذلك، وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمد بن عرعرة، فإن من طريقه أخرجه الطبراني بهذا الإسناد، ولرواية أبي حسان ليس هو من شرط البخاري شاهد مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفيض كل ليلة "وأتى -صلى الله عليه وسلم" بعد فراغه من طواف الإفاضة "زمزم وبنو عبد المطلب يسقون عليها" أي: يفرقون منها بالدلاء ويصبونه في الحياض ويسقونه الناس "فقال:" لهم "انزعوا" بكسر الزاي، يقال: نزع بالفتح ينزع بالكسر، والأصل في فعل الذي عينه أو لامه حرف حلق فتح مضارعه، ولم يأت الكسر إلا في نزع ينزع والنزع الاستقاء أي: اسقوا "بني عبد المطلب، فلولا" خوفي "أن يغلبكم الناس على سقايتكم" بأن يزدحموا على النزع بحيث يغلبونكم ويدفعونكم لاعتقادهم أن النزع والاستقاء من مناسك الحج "لنزعت معكم" لكثرة فضيلة ذلك. وقيل: قال ذلك شفقة على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس، كبقاء الحجابة لبني شيبة، إذ لو استعمله الناس معهم لخرج عن اختصاصه بهم "فناولوه" صلى الله عليه وسلم "دلوا منها فشرب منه" يستحب الشرب منها والإكثار، وقد صح مرفوعا ماء زمزم لما شرب له وشربه جماعة من العلماء لمآب فوجدوها. قال ابن العربي: شربناه للعلم، فليتنا شربناه للورع، وأولى ما يشرب لتحقيق التوحيد والموت عليه. "وفي رواية ابن عباس" عند البخاري من طريق عاصم عن الشعبي أن ابن عباس حدثه، قال: سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زمزم "فشرب وهو قائم" ففيه جواز الشرب قائما، وقوله: "وفي رواية" حشو موهم أنها رواية أخرى مع أنه من جملة حديث البخاري، عقب قوله: وهو قائم، قال عاصم: "فحلف عكرمة" بالله "ما كان" صلى الله عليه وسلم "يومئذ" أي: يوم سقاه ابن عباس من زمزم "إلا على بعير" فكيف يكون قائما. وعند ابن ماجه عن عاصم، فذكرت ذلك لعكرمة بالله ما فعل، أي: ما شرب قائما؛ لأنه كان حينئذ راكبا، وإنما حلف؛ لأنه خلاف ما رواه، أعني: عكرمة عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- أتى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 رواية جابر عند مسلم. واختلف أين صلى -صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ؟، ففي رواية جابر عند مسلم: أنه عليه السلام صلى بمكة، وكذا قالت عائشة. وفي حديث ابن عمر -في الصحيحين- أنه -صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى. فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة؛ لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد؛ ولأن عائشة أخص الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها؛ ولأن سياق الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليست لغيره؛ ولأن سياق جابر لحجته -صلى الله عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقر منها ما لا يتعلق   زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه، رواه البخاري، وأجيب بأنه قد روي أبو داود عن عكرمة نفسه، عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- أناخ فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكره لنهيه عنه، لكن في البخاري عن علي أنه -صلى الله عليه وسلم- شرب قائما "لكن لم يعين فيها" أي: رواية ابن عباس لا من طريق عكرمة ولا من طريق الشعبي "حجة الوداع ولا غيرها" فتح مكة "إنما التعيين في رواية جابر عند مسلم" يعني: فلولاها لأمكن الجمع بأنه في إحداهما شرب وهو على البعير، وفي الأخرى قائما، وقد علم الجمع بإمكان أنه لما نزل وصلى شرب قائما فلا خلاف. "واختلف أين صلى؟ " النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ" أي: يوم النحر "ففي رواية جابر عند مسلم، أنه عليه السلام صلى بمكة" ولفظه: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره. "وفي حديث ابن عمر في الصحيحين؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى" فهذا تعارض "فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له" أي: مؤلة فيها "قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة" بأربعة أوجه "لأنهما اثنان وهما أولى من الواحد، و" ثانيها "لأن عائشة أخص الناس به ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، و" ثالثها: "لأن سياق جابر لحجته -صلى الله عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق و" هو "أحفظ للقصة، وضبطها حتى ضبط جزئياتها حتى أقر" بقاف وراء ثقيلة، أي: أثبت "منها ما لا يتعلق بالمناسك". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 بالمناسك، وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوءا خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت في "آذار" وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بها بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر ممنها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر في فصل آذار. ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه في حجته -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه بمكة، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارا، وفي رواية عنها: أن أخر الطواف إلى الليل، وفي رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة.   وفي نسخة: حتى أمرا منها، أي: حتى ضبط أمرا لا يتعلق بالمناسك "وهو نزوله في الطريق، فبال عند الشعب وتوضأ وضوءا خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط صلاته الظهر يوم النحر أولى و" رابعها "أيضا، فإن حجة الوداع كانت في آذار وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس ونحر بها بدنة" المائة "وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب، ثم أفاض وطاف وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى مني بحيث يدرك الظهر في فصل آذار" بهمزتين فذال معجمة فألف فراء. قال في القاموس: الشهر الادس من الشهور الرومية "ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر" بأمور أربعة: أحدهما: "بأنه لا يحفظ عنه في حجته -صلى الله عليه وسلم؛ أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه بمكة، و" الثاني: "بأن حديث ابن عمر متفق عليه" أي: رواه البخاري ومسلم "وحديث جابر من إفراد مسلم" التي انفرد بها عن البخاري فحديث ابن عمر أصح منه: فإن رواته أحفظ وأشهر" ولاتفاق الشيخين عليه. "و" الثالث: "بأن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارا". "وفي رواية" لأحمد وأبي داود والترمذي "عنها: أنه" صلى الله عليه وسلم "أخر الطواف إلى الليل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر. انتهى. ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى   وفي رواية" عند أبي داود "عنها: أنه" صلى الله عليه وسلم "أفاض" أي: طاف طواف الإفاضة "من آخر يومه" والجمع وإن أمكن بين رواياتها الثلاث بأن قولها إلى الليل، أي: إلى قربه بدليل قولها في الرائية الثانية من آخر يومه وذلك بالنهار، وهو الرواية الأولى " فلم تضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة" فتقدم رواية من ضبط. "و" الرابع: "أيضا بأن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق" بن يسار "عن عبد الرحمن بن القاسم" بن محمد، عن أبيه، عنها "وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به" أي: بروايته، فمنهم من لم يحتج به وطعن فيه كثير من الأئمة، ومنهم من احتج به بشرط أن يصح بالسماع؛ لأنه مدلس، فهنا لا حجة به اتفاقا "و" ذلك أنه "لم يصرح به بالسماع، بل عنعنه" أي: الحديث، فقال عن عبد الرحمن بن القاسم: "فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر" لأن رواته ثقات حفاظ مشاهير. "انتهى". وقد جمع النووي بين الحديثين أي: حديث جابر وابن عمر باحتمال أنه صلى الظهر بمكة أول الوقت، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى، كذا قال بناء على مذهبه من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، ثم ذكر أنه طاف قبل الزوال، قال: وما ورد عن عائشة وغيرها أنه أخر الزيارة إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة، قال: ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث. وتعقبه الولي بأن ظاهر حديث أبي داود، عنها: أفاض من آخر يومه حين صلى الظهر أنه طاف بعد صلاة الظهر، أي: حين فرغمنها لا حين شرع فيها، إذ لا يجمع بين الصلاة والطواف في زمن واحد. "ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى منى فمكث" بفتح الكاف وضمها "بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة" أي: جنسها، إذ المراد الثلاث جمرات كما صرح به بعد "إذا زالت الشمس" فورا، زاد ابن ماجه: قدر ما إذا فرغ رميه صلى الظهر. قال الولي: فذكر مكثه الليالي ورميه الجمرة بالنهار، فكان ينبغي أن يقول ليالي أيام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 والثانية، فيطيل القيام فيهما ويتضرع، ويرمي الثالثة فلا يقف عندها. رواه أبو داود من حديث عائشة. وعن ابن عمر -عند الترمذي: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا. وفي رواية أبي داود: وكان يستقبل القبلة في الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي الحديث. واستأذنه -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل   التشريق وأيامها، والجواب أنه إنما اقتصر على الليالي؛ لأن بها يقع التاريخ، وأيضا؛ فإنه أتم الليالي الثلاث بخلاف الأيام فلم يتمها، بل ارتحل في أثناء اليوم الثالث "كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة". وفي الصحيح عن ابن عمر: يكبر على أثر كل حصاة "ويقف عند الأولى" التي تلي مسد الخيف "والثانية: فيطيل القايم فيهما" إلا أنه في الأولى أكثر، ولابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء، قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة "ويتضرع" يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء، وفي الصحيح عن ابن عمر: ويدعو "ويرمي الثالثة" جمرة العقبة "فلا يقف عندها" قيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو الأصح: أن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى الثالثة فرغت العبادة، والدعاء فيها أفضل منه بعد فراغها "رواه أبو داود من حديث عائشة" قالت: أفاض -صلى الله عليه وسلم- من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فذكره، وفيه ابن إسحاق، لكن المنكر منه إنما هو أوله كما مر، وأما بقيته فله شواهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود وابن عمر. "وعن ابن عمر عند الترمذي: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رمى الجمار" الثلاث "مشى إليها ذاهبا وراجعا"، فأما الجمرة الت ترمى وحدها يوم النحر فرماها وهو راكب كما عند أحمد وغيره. "وفي رواية أبي داود" عن ابن عمر: "وكان يستقبل القبلة في الجمرتين الدنيا" قال الحافظ: بضم الدال وكسرها، أي: القريبة إلى جهة مسجد الخيف وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر "والوسطى ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي". وكذا رواه ابن مسعود في الصحيحين، ولابن أبي شيبة وغيره عن عطاء، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلو إذا رمى الجمرة وجمع الحافظ بينهما بإمكان أن التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة؛ لأنها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخيرتين، ويوضحه قوله في حديث بن مسعود: حين رمى جمرة العقبة استبطن الوادي ... "الحديث" وهو في البخاري مطولا. "واستأذنه -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى" ليلة الحادي عشر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 السقاية فأذن له، رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر، وفي رواية الإسماعيلي: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته. وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بـ"الرخصة" يقتضي أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن وبالوجوب قال الجمهور: وفي قول للشافعي، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة. ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف. ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين.   والليلتين بعدها، ووقع عند أحمد أن يبيت تلك الليلة بمنى وكأنه عنى ليلة الحادي عشر؛ لأنها تعقب يوم الإفاضة، قاله الحافظ: "من أجل السقاية" أي: سقايته المعروفة بالمسجد الحرام "فأذن له" ففيه استئذان الأمراء والكبراء في المصالح الطارئة وبدار من استؤذن إلى الإذن عند ظهر المصلحة "رواه البخاري ومسلم" وغيرهما "من حديث ابن عمر" عبد الله. "وفي رواية الإسماعيلي" عنه: "رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته" فعبر برخص "وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة" فيدل على الوجوب "وأن الإذن وقع للعلة المذكورة" السقاية "وإذا لم توجد، أو ما في معناها" كالرعاء "لم يحصل الإذن" لأن الحكم يدور مع العلة "وبالوجوب". "قال الجمهور" ومنهم مالك والشافعي وأحمد في رواية "وفي قول للشافعي وهو رواية عن أحمد" وهي الصحيحة في مذهبه "وهو مذهب الحنفية أنه سنة" واستدلوا بأنه لو كان واجبا لما رخص للعباس وفيه نظر كما علم "ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف" فمن أوجبه أوجب الدم ومن لم يوجبه فلا "ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل" وإنما اكتفى بساعة ليلة المزلفة لكثرة المشقة التي قبلها والتي بعدها، فسومح في التخفيف للمشقة "وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس" فلو عمل غيره سقاية لم يرخص له في المبيت لأجلها كما قيل به وهو جمود، وقيل: يدخل معه آلة، وقيل: فريقه وهم بنو هاشم "الصحيح العموم" فلا يختص بالعباس "والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين" قال الحافظ: وهل يختص ذلك بالماء أو يلحق به ما في معناه من الأكل وغيره محل احتمال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 وجزم الشافعي، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد. قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة. ثم أفاض -صلى الله عليه وسلم- بعد ظهر يوم الثلاثاء -بعد أن أكمل رمي أيام التشريق، ولم يتعجل في يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبلين إلى   "وجزم الشافعي بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعهده بأهل السقاية" فلا دم عليهم في ترك المبيت؛ لأنهم أصحاب أعذار فأشبهوا أهل السقاية "كما جزم الجمهور بإلحاق الرعاء" بكسر الراء والمد: جمع راع "خاصة" دون أولئك، لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق، إنما هو بالنص الذي رواه مالك وأصحاب السنن الأربع. وقال الترمذي: حسن صحيح عن عاصم بن عدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر. وفي لفظ لأبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما "وهو قول أحمد" واختيار ابن المنذر. وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء والسقاية، كما جزم به في الطراز المذهب؛ لأنهما الوارد فيهما الرخصة، وأما الخائف ومن بعده فلا إثم عليهم للعذر، وأما الدم فعليهم كمن حلق رأسه وهو محرم للعذر فلا إثم عليه، وعليه الفدية والعذر إنما يرفع الإثم لا الدم إلا فيما ورد النص فيه. "قالوا" ضمير للمالكية، فأصل العبارة في فتح الباري. وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء. قالوا: "ومن ترك المبيت لغير عذر" خاص وهو الرعاية والسقاية "وجب عليه دم عن كل ليلة". وقال الشافعي: عن كل ليلة إطعام مسكين، وقيل: عنه التصدق بدرهم، وعن الثلاث دم وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه. وعن الحنفية: لا شيء عليه، هذا بقية كلام الفتح "ثم أفاض" دفع "صلى الله عليه وسلم بعد ظهر يوم الثلاثاء بعد أن أكمل رمي أيام التشريق ولم يتعجل في يومين" لأنه الأفضل "إلى المحصب" بضم الميم وفتح الحاء والصاد الثقيلة مهملتين وموحدة "وهو الأبطح" ويقال له: البطحاء أيضا وهو مكان متسع بين مكة ومنى وهو إليها أقرب "وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 المقبرة، وهو خيف بني كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرني -صلى الله عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكني جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل: رواه مسلم. وفيه وفي البخاري، عن أنس أنه عليه السلام صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح. وفيهما من حديث أبي هريرة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من الغد يوم النحر"، وهو بمنى: "نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة"، حيث تقاسموا على الكفر، يعني بذلك   خيف بني كنانة". قال عياض: وإلى منى يضاف، ودليله قول الشافعي وهو عالم مكة وأحوازها: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاطن خيفها والناهض قال الأبي: وإنما يصح الاحتجاج به إذا جعل من منى في موضع الصفة للمحصب، أما إذا علق براكبا فلا حجة فيه، وأبين منه قول مجنون بني عامر: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج لوعات الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري قال: وظاهر قول مالك في المدونة إذا رحلوا من منى نزلوا بأبطح مكة وصلوا ... إلخ، أنه ليس من منى "فوجد" مولاه "أبا رافع" اسمه أسلم في أشهر الأقوال العشرة "قد ضرب قبته" خيمته وكانت من شعر كما مر "وكان" أبو رافع "على ثقله" بفتح المثلثة والقاف، أي: متاعه "قال أبو رافع: لم يأمرني -صلى الله عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكني جئت فضربت فيه قبته" توفيقا من الله "فجاء فنزل، رواه مسل" وأبو داود وغيرهما. "وفيه" أي: مسلم. "وفي البخاري عن أنس؛ أنه عليه السلام صلى الظهر والعصر يوم النفر" بفتح النون وإسكان الفاء الانصراف من منى "بالأبطح". قال الحافظ: لا ينافي أنه لم يرم إلا بعد الزوال؛ لأنه رمى فنفر ونزل المحصب فصلى الظهر به. "وفيهما" أي: الصحيحين "من حديث" الأوزاعي عن الزهري، عن أبي سلمة، عن "أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من الغد يوم النحر" نصب على الظرفية "وهو بمنى" أي: قال: في غداة يوم النحر حال كونه بمنى، ومقوله: "نحن نازلون غدا خيف". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس قال: ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: ليس التحصيب من أمر المناسك الذي يلزم فعله، لكن لما نزل به -صلى الله عليه وسلم- كان   وفي رواية: بخيف "بني كنانة" والمراد بالغد هنا ثالث عشر ذي الحجة؛ لأنه يوم النزول بالمحصب فهو مجاز في إطلاقه كما يطلق أمس على الماضي مطلقا، وإلا فثاني العيد هو الغد حقيقة وليس مرادًا، قاله الكرماني "حيث تقاسموا:" تحالفوا "على الكفر" حال من فاعل تقاسموا، أي: في حال كفرهم "يعني بذلك المحصب" بوزن محمد "وذلك أن قريشا وكنانة" فيه إشعار بأن كنانة من ليس قرشيا، إذ العطف يقتضي المغايرة، فيترجع القول بأن قريشًا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة. نعم لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلذا وقعت المغايرة، قاله الحافظ. "تحالفت" بحاء مهملة، والقياس تحالفوا، لكن أتى بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة "على بني هاشم وبني المطلب" أخي هاشم؛ "أن لا يناكحوهم" فلا تتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم وأخيه، ولا يزوجوا امرأة من نسائهم لأولاد أحد من الأخوين "ولا يبايعوهم" لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، ولأحمد: ولا يخالطوهم، وللإسماعيلي ولا يكون بينهم وبنه شيء وهي أعم "حتى يسلموا" بضم فسكون فكسر مخففا "إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ: يختلج في خطري أن قوله، يعني: المحصب، إلى هنا من قول الزهري أدرجه في الخبر، فقد رواه شعيب في هذا الباب، يعني باب نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة من كتاب الحج وإبراهيم ابن سعد كما للبخاري في السيرة، ويونس عنده في التوحيد، كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على المرفوع منه إلى قوله: على الكفر، ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك. ا. هـ، وبه تعلم تسامح المصنف في العزو لهما. "و" في الصحيحين أيضا "عن ابن عباس، قال: ليس التحصيب" النزول في المحصب "بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: ليس التحصيب من أمر المناسك الذي يلزم فعله" إنما هو منزل نزله للاستراحة بعد الزوال، فصلى به الظهرين والعشاءين. وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة: نزل الأبطح ليس بسنة إنما نزله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج، أي: أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوعب في ذلك البطيء والمتعذر، ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 النزول به مستحبا اتباعا له، لتقريره على ذلك. وقد فعله الخلفاء بعده، كما في مسلم. وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به، رواه البخاري. وهذا هو طواف الوداع، ومذهب الشافعي أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح: وهو قول أكثر العلماء. وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء بتركه. واختلف في المرأة إذا حاضت بعدما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن   "لكن لما نزل -صلى الله عليه وسلم- به كان النزول به مستحبا اتباعا له لتقريره" أبا رافع "على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده كما في مسلم" عن ابن عمر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح، وفيه أيضا عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة. قال نافع: وقد فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده. قال الحافظ: فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك، فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله -صلى الله عليه وسلم- لا الإلزام بذلك. "وعن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب" متعلق بقوله: صلى، وقوله: ثم رقد، عطف عليه "ثم ركب إلى البيت فطاف به" للوداع، فيستحب أن يصلي به الأربع صلوات ثم يرقد بعض الليل وإن لم يكن ذلك من المناسك، إذ لا يخلو شيء من أفعاله -صلى الله عليه وسلم- عن حكمة "رواه البخاري". وعنده نحوه من حديث ابن عمر: "وهذا هو طواف الوداع" بفتح الواو ويسمى طواف الصدر بفتح الدال؛ لأنه يصدر عن البيت، أي: يرجع إليه. "ومذهب الشافعي أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح وهو قول أكثر العلماء، وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء" يلزم "بتركه" لا دم ولا غيره. "واختلف في المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة" الذي هو الركن "هل عليها طواف الوداع أم لا؟ " وإذا وجب هل يجبر بدم أم لا؟، كما في الفتح. وفي البخاري ومسلم عن ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 عمر يقول في أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال في آخر أمره: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن. رواه الشيخان. وعن عائشة: أن صفية بنت حيي حاضت بعد أن أفاضت، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم   عن الحائض. وفي مسلم عن ابن عباس: كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت". "وكان ابن عباس يرخص لها" لفظ الصحيحين عن طاوس عن ابن عباس، قال: رخص للحائض. وفي النسائي عنه: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحائض "أن تنفر" بكسر الفاء "إذا أفاضت:" طافت للإفاضة قبل أن تحيض. "وكان ابن عمر يقول في أول أمره: أنها لا تنفر" حتى تطهر وتطوف للوداع "ثم قال في آخر أمره" قبل موته بعام، وهذا نقل بالمعنى، فلفظ الصحيح قال، أي طاوس: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعد: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن، رواه الشيخان". قال الحافظ: هذا من مراسيل الصحابة، فإن ابن عمر لم يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- يوضح ذلك ما رواه النسائي والطحاوي عن طاوس؛ أنه سمع ابن عمر يسأل عن النساء إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر، فقال: إن عائشة كانت تذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن وذلك قبل موته بعام. "وفي رواية الطحاوي: قبل موت ابن عمر بعام". "ولابن أبي شيبة؛ أن ابن عمر كان يقيم على الحائض سبعة أيام حتى تطوف طواف الوداع". قال الشافعي: كأن ابن عمر سمع الأمر بالوداع ولم يسمع بالرخصة أولا، ثم سمع الرخصة فعمل بها". "وعن عائشة: أن صفية بنت حيي" أم المؤمنين "حاضت" في أيام منى ليلة النفر من منى كما في رواية للشيخين عن عائشة، وذلك "بعد أن أفاضت" يوم النحر، كما في رواية البخاري. "فذكر" كذا في النسخ بالبناء للمفعول، وفي الصحيح: فذكرت بسكون الراء وضم التاء، أي قالت عائشة: فذكرت "ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم" ففي رواية للبخاري: فقلت: يا رسول الله إنها حائض "فقال: "أحابستنا هي"؟ بهمزة الاستفهام "فقالوا" ولفظ الموطأ: فقيل: "إنها قد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: "فلا إذا". ومعنى: "أحابستنا هي"؟ أي أمانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه -صلى الله عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني. وفي رواية: فحاضت صفية، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض. فقال: "أحابستنا هي"؟ الحديث. وهذا مشكل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: "أحابستنا هي"؟ 0 وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني؟   أفاضت" قائل ذلك نساؤه، كما في رواية للشيخين عن عائشة، أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن صفية حاضت، فقال: "لعلها تحبسنا ألم تكن طافت معكن"؟، قلن: بلى، ومنهن صفية كما للشيخين أيضًا عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لصفية: "إنك لحابستنا أما كنت طفت يوم النحر"؟، قالت: بلى "قال: "فلا" حبس علينا "إذا" بالتنوين، أي: إذا أفاضت؛ لأنها فعلت ما وجب عليها، فهذا نص في أنه ليس على الحائض طواف وداع. وما في أبي داود والنسائي مرفوعا، أنه عليها، أجاب عنه الطحاو بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا وهو في الصحيحين وغيرهما بطرق عديدة. وبحديث أم سليم في الصحيحين أيضا "ومعنى: "أحابستنا هي"؟، أي: أمانعتنا؟ " لأن الحبس لغة المنع "من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه ظنا منه -صلى الله عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان لا يتركها ويتوجه" للمدينة "ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها" جملة حالية "فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر" بضم الهاء وفتحها "وتطوف وتحل الحل الثاني" بالطواف، ففيه أن أمير الحاج يلزمه تأخير الرحيل لأجل الحائض، وقيده مالك بيومين فقط، وفيه إكرام صفية بالاحتباس لها كما احتبس بالناس على عقد عائشة. "وفي رواية" للبخاري عن عائشة: حججنا فأفضنا يوم النحر "فحاضت صفية، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله" أي: الجماع وفيه حسن أدب عائشة في العبارة "فقلت" بضم تاء المتكلم: وهو عائشة: "يا رسول الله إنها حائض، فقال: "أحابستنا هي"؟ ... الحديث، وهذا مشكل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 ويجاب عنه: بأنه -صلى الله عليه وسلم- ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له: إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن، فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى. وقالت عائشة: يا رسول الله، أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. رواه الشيخان. وفي رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها -يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا"، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت   "أحابستنا هي"؟ وقد قال: فلا إذا "وإن كان ما علم فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني" إذ هو لا يجوز "ويجاب عنه بأنه -صلى الله عليه وسلم- ما أراد ذلك" أي: الوقاع "منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن". وفي نسخة لها: أي لنسائه ومنهن صفية "فكان بانيا على أنها قد حلت" فلذا أراد وقاعها "فلما قيل له: إنها حائض، جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك" من نسائه ومنهن صفية "فأعلمته عائشة أنها طافت معهن، فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى" وهذا من الفتح. "وقالت عائشة: يا رسول الله أتنطلقون بحج؟ " منفردة عن عمرة "وعمرة" منفردة عن حج "وأنطلق" أنا "بحج" غير مفرد، وإلا فهي كانت قارنة على الأصح كا سبق "فأمر" أخاها "عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم" تطييبا لقلبها "فاعتمرت" منه "بعد الحج" في ذي الحجة "رواه الشيخان" من حديث جابر. "وفي رواية لمسلم" عن جابر "أنها" أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج"، ففعلت و"وقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت" فتح الهاء وضمها وسكون التاء "طافت بالكعبة و" سعت بين "الصفا والمروة" أو سماه طوافا مجازا "ثم قال لها، يعني: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا" فهذا صريح في أن عمرتها لم تبطل، وأنها لم تخرج منها بل صارت قارنة "فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي" حرجا من أجل "أني لم أطف بالبيت حتى حججت" فأتيت بطواف واحد "قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 حتى حججت، قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحصبة. زاد في رواية: وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا، إذا خويت شيئا تابعها عليه. وقد كانت عائشة قارنة؛ لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها. ثم ارتحل -صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى -بضم الكاف مقصورا- وهي عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان.   "فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحصبة" بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الموحدة، أي: ليلة المبيت بالمحصب. "زاد في رواية" لمسلم عن جابر: "وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا" قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] "إذا هويت" بفتح فكسر ففتح أحبت "شيئا" ولا نقض فيه من جهة الدين كطلبها الاعتمار "تابعها" أي: وافقها "عليه" حسن عشرة "وقد كانت" أي: صارت "عائشة قارنة؛ لأنها كانت قد أهلت بعمرة فحاضت" بسرف "فأمرها فأدخلت عليها الحج وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت و" سعيها "بين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها" بقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا" "فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها:" ضرائرها "بحج وعمرة مستقلتين" كما قال في بعض طرق الحديث: أيرجع صواحبي بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة؟ "فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها" ليس لها عمل ظاهر "فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها" لا عوضا عن عمرتها "ثم ارتحل -صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى -بضم الكاف مقصورًا- وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان" لجبل المعروف، زاد الفتح: وكان نشأ هذا الباب عليها في القرن السابع، وقد اختلف في ضبط كدي وكداء، فالأكثر على أن العليا التي دخل منها بالفتح والمد، والسفلى التي خرج منها بالضم والقصر، وقيل: بالعكس. قال النووي: وهو غلط. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 واختلف في المعنى الذي لأجله خالف -صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من في طريقته، وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها. وقيل غير ذلك. وفي صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي ركبا   وحكى الحميد عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعا ثالثا يقال له: كدى بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن. قال المحب الطبري: حققه العذري عن أهل اليمن بمكة، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن. "واختلف في المعنى الذي لأجله خالف -صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه" حيث دخل من العليا التي هي كداء بالفتح والمد، وخرج من السفلى التي هي كدي بالضم والقصر كما في الصحيحين وغيرهما. "فقيل: ليتبرك به كل من في طريقيه" بالتثنية "وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان" المدخول إليه "وعكسه" في الخروج "الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها، وقيل: غير ذلك" فقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- خرج منها مختفيا في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهرا، وقيل: لأن من جاء منها كان مستقبلا للبيت ويحتمل؛ لأنه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك، وسبب ذلك قول أبي سفيان بن حرب: لا أسلم حتى أرى النخيل تطلع من كداء، قال العباس: فقلت له: ما هذا؟، قال: شيء طلع بقلبي أن الله لا يطلع الخيل هناك أبدا، قال: فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل -صلى الله عليه وسلم- من كداء، فذكره. وللبيهقي عن ابن عمر قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "كيف قال حسان؟ "، فأنشد: عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع مطلعها كداء فتبسم وقال: "أدخلوها من حيث قال حسان"، قاله في الفتح. "وفي صحيح مسلم وغيره" كأبي داود والنسائي "من حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي ركبا بالروحاء" بفتح الراء وسكون الواو وحاء مهملة ممدودة. قال عياض في المشارق: من عمل الفرع بينها وبين المدينة نحو أربعين ميلا، وفي مسلم: ستة وثلاثون، وفي كتاب ابن أبي شيبة: ثلاثون ميلا، زاد في رواية أبي دود: فسلم عليهم قبل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 بالروحاء، فقال: من القوم؟ فقالوا: المسلمون فقالوا: من أنت قال: "رسول الله"، فرفعت امراة صبيا لها من محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر". ولما وصل -صلى الله عليه وسلم- لذي الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقيا، حكاه القاضي إسماعيل في أحكامه عن محمد بن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا. فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا   قوله: "فقال: "من القوم"؟، فقالوا:" نحن "المسلمون، فقالوا: من أنت؟، قال: "رسول الله" هكذا في مسلم وغيره، فما في نسخ: نحن المسلمون يا رسول الله خطأ نشأ عن سقط. قال عياض: يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه -صلى الله عليه وسلم، ويحتمل كونه نهارا لكونهم لم يروه قبل ذلك، فأسلموا في بلادهم ولم يهاجروا قبل ذلك "فرفعت امرأة صبيا لها من محفة" بكسر الميم كما جزم به النووي وغيره. وحكى عياض عن المشارق الكسر والفتح بلا ترجيح شبه الهودج إلا أنه لا قبة عليها. "فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟، قال: "نعم" له حج، وزادها على السؤال: "ولك أجر" ترغيبا لها. قال عياض: وأجرها فيما تتكلفه من أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما يجتنب المحرم. وقال عمر: وكثيرون يثاب الصبي وتكتب حسناته دون السيئات. "ولما وصل -صلى الله عليه وسلم- لذي الحليفة بات بها" حتى يصبح فيدخل المدينة كما في الصحيح. عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحلفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح. "قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدًا، وإنما كان اتفاقيا، حكاه القاضي إسماعيل في أحكامه عن محمد بن الحسن" الشيباني "وتعقبه" بأنه ليس اتفاقيا "والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا" فيفجأ الناس أهاليهم على أهبة، فقد يرى منها ما يقبح عند اطلاعه فيكون سببا إلى بغضها وفراقها، وقد جاء أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يطرقوا النساء ليلا، فطرق رجلان أهلهما فكلاهما وجد ما يكره. "ولما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله وحده" حال، أي: منفرد "لا شريك له" تأكيد لوحده، إذ المتصف بها لا شريك له "له الملك" السلطان والقدرة وأصناف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 "حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دخل المدينة نهارًا من طريق المعرس -بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، وكل من المعرس والشجرة التي بات بها -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح الباري وغيره، والله أعلم. وأما عمره -صلى الله عليه وسلم- والعمرة في اللغة: الزيارة. ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن   المخلوقات "وله الحمد" زاد في رواية للطبراني: "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير" "وهو على كل شيء قدير آيبون" بالرفع خبر محذوف، أي: نحن راجعون إلى الله، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاف المذكورة "تائبون" من التوبة وهي الرجوع عما يذم شرعًا، إلى ما يحمد شرعا قاله تواضعا أو تعليما لأمته، نحن "عابدون" نحن "ساجدون لربنا حامدون" كلها رفع بتقدير المبتدأ. وقوله: لربنا متعلق بساجدون أو بجميع الصفات على طريق التنازع "صدق الله وعده" فيما وعد من إظهار دينه وغير ذلك، وهذا في سفر العزو ومناسبته للحج والعمرة قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] "ونصر عبده" محمدا -صلى الله عليه وسلم- "وهزم الأحزاب وحده" من غير سب من الآدميين، هذا معنى الحقيقة، فإن العبد وفعله خلق لربه والكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد الكفار بلا قتال لفعل "ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرس -بفتح الراء المشددة وبالمهملتين-" العين والسين "وهو مكان معروف" على طريق من أراد الوصول إلى مكة من المدينة وهو أسفل من ذي الحليفة، فهو أقرب إلى المدينة منها "وكل من المعرس والشجرة التي بات بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة" لكن المعرس أقرب كما في الفتح. "انتهى ملخصًا من فتح الباري". "وغيره" جميع ما ذكره في مبحث الحج والذي من غيره قليل بالنسبة لما جاء به منه "والله أعلم" بالحق فيما اختلف فيه من أمور الحج. "وأما عمره" بضم ففتح: جمع عمرة "صلى الله عليه وسلم" فأربع، فترك جواب أما اكتفاء بما بعده "والعمرة" بضم العين مع ضم الميم وإسكانها وبفتح العين، وإسكان الميم "في اللغة الزيارة" وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وقيل: هي لغة القصد إلى مكان عامر. "ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما" من أهل الأثر "أنها واجبة كالحج" مرة في العمر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية. وقد اعتمر -صلى الله عليه وسلم- أربع عمر، ففي الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة   لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . قال ابن عباس: إنها لقرينتها في كتاب الله، أي: الفريضة، وكان الأصل قرينته، أي: الحج، وأجيب بأن دلالة الاقتران ضعيفة، وبأن المراد الإتمام بعد الشروع ولا نزاع فيه، وبأن الشعبي قرأ: والعمرة بالرفع، ففصل عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال. وأما حديث زيد بن ثابت مرفوعا: "الحج والعمرة فريضتان"، راه الدارقطني والحاكم. وقال الصحيح عن زيد بن ثابت من قوله: فضعيف فيه إسماعيل بن مسلم ضعفوه. "والمشهور عن المالكية أنها تطوع" أي: سنة مؤكدة "وهو قول الحنفية" لحديث الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العمرة أواجبة هي؟، قال: لا وأن تعتمر فهو أفضل، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح. وانتقد بأن الحجاج ضعيف، وأجاب الكمال بن الهمام بأنه لا ينزل عن درجة الحسن وهو حجة اتفاقا، وإن قال الدارقطني: لا يحتج بالحجاج، فقد اتفقت الروايات عن الترمذي على تحسين حديثه هذا ولم ينفرد به، فقد رواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وله طريق آخر عن جابر عند الطبراني في الصغير والدارقطني، وضعفه يحيى بن أيوب، وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا: الحج جهاد والعمرة تطوع، وأخرجه ابن قانع. وقال ابن مسعود: الحج فريضة والعمرة تطوع، أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا. "وقد اعتمر -صلى الله عليه سلم- أربع عمر" هذا دليل جواب أما، ولو عبر بالفاء كان الجواب. "ففي الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن قتادة، قال: سألت أنسا كم حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟، قال: حجة واحدة" أي: بعد الهجرة، وأما قبلها فحج مرات كما أول الحج "واعتمر أربع عمر عمرة في ذي القعدة" التي تسمى عمرة القضاء "وعمرة الحديبية" التي صد عنها باتفاق، وكان في ذي القعدة أيضا كما في الصحيحين بطرق عن أنس، لفظ بعضها: أربع عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعجبت ممن وقف على هذا، وقال: قوله: عمرة في ذي القعدة هي التي صد عنها فإنه يكون عين قوله بعده وعمرة الحديبية، إذ هي التي صد عنها باتفاق "وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة" بكسر الجيم وسكون المهملة وخفة الراء وبكسر العين وشد الراء "إذ" أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين، هذا لفظ رواية الترمذي وقال: حسن صحيح. وفي رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة الحديبية -أو زمن الحديبية- في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته. وعن محرش الكعبي: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس   حين "قسم غنيمة" بالنصب معمول قسم من غير تنوين لإضافته إلى "حنين، هذا لفظ رواية الترمذي وقال: حسن صحيح". "وفي رواية الصحيحين" عن قادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته عمرة الحديبية أو زمن الحديبية" شك بعض الرواة في اللفظ الذي قاله، وإن اتحد المعنى "في ذي القعدة" وهي التي صد عنها، ويأتي وجه تسميتها عمرة للمصنف "وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة" هي عمة القضاء التي بدأ بها في رواية الترمذي "وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة و" الرابعة "عمرة مع حجته" في ذي الحجة، واستشكل قوله: إلا التي مع حجته، بأن الصواب حذفه؛ لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها، وأجاب عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث، والرابعة عمرة في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته كانت في ذي الحجة. "وعن محرش" بضم الميم وفتح المهملة، وقيل: إنها معجمة وكسر الراء بعدها معجمة، قال في الإصابة بكسر الراء الثقيلة، وضبطه ابن ماكولا تبعا لهشام بن يوسف ويحيى بن معين، ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوبه ابن السكن تبعا لابن المديني وهو ابن سويد ابن عبد الله بن مرة الخزاعي الكعبي عداده في أهل مكة. وقال عمرو بن علي الفلاس: أنه لقي شيخا بمكة اسمه سالم، فاكترى منه بعيرا إلى منى، فسمعته يحدث بحديث محرش، فقال: هو جدي وهو محرش بن عبد الله الكعبي، فقلت له ممن سمعته، فقال: حدثني به أبي وأهلنا. انتهى. وقد تحرر بجمعه الخزاعي "الكعبي" أنه منسوب إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة "أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرًا" زاد في رواية النسائي: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة "فدخل مكة ليلا فقضى عمرته" أي: فعلها وأتمها نحو: فإذا قضيت الصلاة "ثم خرج من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 478 من الغد، خرج في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق، طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس، رواه الترمذي وقال: حديث غريب. وعن ابن عمر قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج، رواه أبو داود. وعن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال: فقلت: يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو   ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد" لليلة المذكورة "خرج في بطن سرف حتى جاء مع الطريق طريق جمع بدل من الطريق "ببطن سرف" بفتح فكسر ففاء "فمن أجل ذلك خفيت عمرته" هذه "على الناس" وكانت سنة فتح مكة "رواه الترمذي وقال: حديث غريب" في الإصابة. قال الترمذي: حسن غريب ولا يعرف لمحرش عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غيره وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما بسند حسن. "وعن ابن عمر قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية أحمد: عمرة كلها "قبل أن يحج، رواه أبو داود" وهو في صحيح البخاري عن عكرمة بن خالد أنه سأل ابن عمر عن العمرة قبل الحج، فقال: لا بأس. قال عكرمة: قال ابن عمر: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج، ولا خلاف في جواز ذلك، قاله أبو عمر. "وعن عروة بن الزبير، قال: كنت أنا وابن عمر" زاد في رواية: في المسجد "مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن" تتسوك "قال:" عروة: "فقلت: يا أبا عبد الرحمن" كنية ابن عمر "اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجب؟، قال: نعم" اعتمر فيه. وفي رواية للشيخين أيضا عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة المسجد، فإذا ابن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن كم اعتمر -صلى الله عليه وسلم؟، فقال: أربع عمر، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه، وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، قال عمرة "فقلت لعائشة: أي" نداء للقريب "أمتاه" بضم الهمزة وشد الميم ففوقية فألف فهاء مضمومة وهذا لفظ مسلم. وفي البخاري: يا أماه، قال الحافظ: كذا للأكثر بسكون الهاء، ولأبي ذر: يا أمه بسكون الهاء أيضا بغير ألف، وهذا بالمعنى الأخص؛ لأنها خالته، وبالمعنى الأعم؛ لأنها أم المؤمنين "ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟، قالت" عائشة: "وما يقول؟، قلت: يقول: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما قال: لا ولا نعم، سكت. وفي رواية أبي داود عن عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال. وفي رواية له عن مجاهد قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:   في رجب" وهذا يدل على أن عندهم علمًا، فسؤالهم امتحان ففيه جواز الامتحان، لكنه مذهب صحابي، وفي الاحتجاج به خلاف، وكان مالك إذا عرف أنه سؤال امتحان لا يجيب، ولا يحتج له بحديث أخبروني بشجرة لا يسقط ورقها؛ لأن ذلك من الشارع تعليم لما اشتمل عليه من الأحكام، وترجم عليه أبو نعيم باب إلقاء العالم المسألة على طلبته ليختبر أذهانهم، قاله أبو عبد الله الأبي، لكن في قوله: مذهب صحابي نظر، إذ هو كما رأيت إنما فعله عروة ومجاهد وهما تابعيان اتفاقا فلا حجة فيه بلا خلاف "فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن" ذكرته بكنيته تعظيما له، ودعت له إشارة إلى أنه نسي "لعمري ما اعتمر" صلى الله عليه وسلم "في رجب" بالتنوين. "وما اعتمر من عمرة إلا وأنه" أي: ابن عمر "لمعه" حاضر. وفي رواية للبخاري: ما اعتمر إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط، وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، وإنما أنكرت عليه قوله: إحداهن في رجب "وابن عمر يسمع" كلامها "فما قال: لا، ولا نعم سكت" وسكوته يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك، وبهذا أجيب عما استشكل من تقديم قول عائشة النافي على قول ابن عمر المثبت، وهو خلاف القاعدة المقررة، وهذا الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم. "وفي رواية أبي داود عن عروة، عن عائشة" أنها "قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين في ذي القعدة" هما عمرة القضية والتي قبلها "وعمرة في شوال" يعني: عمرة الجعرانة، فهذا مخالف لقول أنس: كلهن في ذي القعدة، وجمع الحافظ بأن ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، قال: ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن مجاهد عن عائشة: لم يعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة. "وفي رواية له" أي: لأبي داود وكذا لأحمد "عن مجاهد قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم؟، قال: عمرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: لقد علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع" ففي هذا أن اختلافهما في عدد العمرة وفي السابق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 عمرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: لقد علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع. وقد ذكرت الاختلاف فيما كان عليه السلام محرما به في حجة الوداع. والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك. والمشهور عن عائشة أنه عليه السلام كان منفردا، وحديثها هذا قد يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه قال: إنه عليه السلام كان قارنا مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا؛ لأنه لم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي. واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه -صلى الله عليه وسلم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمرها بنفسه.   في الشهر. قال الحافظ: ويمكن تعدد السؤال بأن يكون ابن عمر سئل أولا عن العدد، فأجاب، فردت عليه عائشة فرجع إليها، فسئل مرة ثانية، فأجاب بموافقتها، ثم سئل عن الشهر، فأجاب بما في ظنه. "وقد ذكرت الاختلاف فيما كان عليه السلام محرما به في حجة الوداع والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك، والمشهور عن عائشة أنه عليه السلام كان مفردا وحديثها هذا قد يشعر بأنه كان قارنا" لا سيما قولها سوى التي قرنها بحجة الوداع، "وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه" بزيادة اللام في المفعول "قال: إنه عليه السلام كان قارنا مع أن حديثه هذا المتقدم" لم يقدم المصنف، ذكر عن ابن عمر صريحا، وقد قدمته عن الصحيحين، بلفظ: اعتمر أربع عمر، والمصنف أخذ هذا من الفتح والإشارة في لامه عائدة لمذكور في البخاري الذي يتكلم عليه. أما المصنف فلم يذكره وذكر كلام الفتح فأوهم، وإنما دل حديث ابن عمر على أنه قارن "لأنه لم ينقل أنه عليه السلام اعتمر بعد حجته، ولم يكن متمتعا؛ لأنه اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي" فلم يبق إلا أنه قارن "واحتاج بعضهم" هو ابن بطال كما في الفتح "إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا، فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه -صلى الله عليه وسم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمرها بنفسه" وهذا بناء على الأصح عند مالك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة في حجته -صلى الله عليه وسلم- من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف. قال بعض العلماء المحققين: وفي عدهم عمرة الحديبية التي صد عنها -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاضى قرشيا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كان كذلك لكانتا عمرة واحدة. وأما حديث أبي داود عن عائشة: أنه اعتمر في شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج في شوال، ولكن إنما أحرم في ذي القعدة.   والشافعي أنه كان مفردًا "وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة في حجته -صلى الله عليه وسلم- من الجمع" بأن الإفراد إخبار عن أول أمره والقران إخبار عما استقر عليه "استغنيت عن هذا التأويل المتعسف" لأن خلاف الظاهر، لكنه مبني على الأصح عند الشافعية، والمالكية أنه حج مفردا، ومر أن الإمام الشافعي أول ما ورد بخلافه على أمره لغيره كبني الأمير المدينة، فما هنا عن عائشة وابن عمر من ذلك فلا تعسف فيه. "قال بعض العلماء المحققين" هو ابن التين كما في الفتح "وفي عدهم" أي: الصحابة عائشة وأنس وابن عمر "عمرة الحديبية التي صد عنها -صلى الله عليه وسلم" خبر مقدم على المبتدأ، وهو "ما يدل على أنها عمرة تامة" لعل المراد من حيث الثواب؛ لأنه لم يأت من أعمالها بشيء سوى الإحرام، قاله شيخنا "وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور أنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية" زاعمين بأن عمرة القضاء إنما سميت بذلك لكونها قضاء عن التي صد عنها ولا يصح ذلك "فلو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة" والصحابة الفقهاء الفهماء عدوهما ثنتين "وإنما سميت عمر القضية والقضاء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاضى قريشا فيها" على أن يأتي من العام القابل يعتمر ويقيم ثلاثة أيام "لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كان كذلك كانتا عمرة واحدة" وقد عدهما الصحابة اثنتين. "وأما حديث أبي داود عن عائشة أنه اعتمر في شوال" السابق آنفا "فإن كان محفوظا فلعله" أي: الراوي عائشة "يريد عمرة الجعرانة حين خرج في شوال، ولكنه إنما أحرم في ذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 وأنكر ابن القيم أن يكون -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رمضان، نعم قد أخرج الدارقطني من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن زيد عن أبيه عن عائشة قالت: خردت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، وقال: إن إسناده حسن. لكن يمكن حمله على أن قولها: "في رمضان" متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر -صلى الله عليه وسلم- في تلك السنة من الجعرانة، لكن في ذي القعدة كما تقدم. وأما قول ابن القيم -في الهدي أيضًا-: ولم يكن في عمره -صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة خارجًا من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة. وقد أقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أحد أنه   القعدة" حتى لا يخالف ما صح عنها وعن غيرها، أن عمره كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، وقدمت نحو هذا الجمع عن الحافظ. "وأنكر بن القيم أن يكون -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رمضان. نعم قد أخرج الدارقطني من طريق العلاء بن زهير" بن عبد الله الأزدي الكوفي ثقة، روى له النسائي "عن عبد الرحمن بن الأسود بن زيد" بن قيس النخعي من رجال الجميع "عن أبيه" الأسود الفقيه المخضرم، المكثر، التابعي الكبير، مات سنة أربع أو خمس وسبعين "عن عائشة، قالت: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت وقصر وأتممت" الرباعية، فلم ينهني، فدل على جواز الإتمام والصوم في السفر. "وقال" الدارقطني: "إن إسناده حسن". وقال ابن القيم: إنه غلط؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يعتمر في رمضان، نقله الحافظ وأجاب، وتبعه المصنف بقوله: "لكن يمكن حمله على أن قولها: في رمضان متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر عليه السلام في تلك السنة من الجعرانة" بعد الفتح بعدما غزا حنينا والطائف، ثم قسم غنائم حنين ثم اعتمر "لكن في ذي القعدة كما تقدم" قريبا، زاد الحافظ: وقد رواه الدارقطني بإسناد آخر إلى العلاء بن زهير، فلم يقل في الإسناد عن أبيه ولا قال فيه في رمضان. انتهى. "وأما قول ابن القيم في الهدي أيضا: لم يكن في عمره -صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة" حال كونه "خارجا من مكة" إلى الحل، ثم يدخل مكة بعمرة "كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها" حال كونه "داخلا إلى مكة، وقد أقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها وشرعها هي عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها، فيخرج إلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها. انتهى. فيقال عليه: بعد أن فعلته عائشة بأمره، فدل على مشروعيته. وروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سرين قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم. ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها، فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها. فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. والله أعلم.   سنة لم ينقل عنه أحد أنه اعتمر خارجا من مكة" إلى الحل "في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها وشرعها هي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر" أي: يحرم، ثم يدخل مكة فيأتي بأفعال العمرة "ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة. انتهى، فيقال عليه بعد أن فعلته عائشة بأمره، فقد دل على مشروعيته" فلا معنى لهذا الكلام. "وروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين، قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم، ومن طريق عطاء" بن أبي رباح "قال: "من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو الجعرانة فليحرم منها" وأفضل ذلك أن يأتي وقتا، أي: ميقاتا من مواقيت الحج، هذا بقية المروي عن عطاء. قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، فلا يجاوز كما لا تجاوز مواقيت الحج، أي: تعلقا بحديث ابن سيرين المذكور، قال: وخالفهم آخرون، فقالوا: ميقات العمرة الحل، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة بالإحرام من التنعيم؛ لأنه أقرب الحل إلى مكة، ثم روي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قالت: فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه. قال الطحاوي عقب هذا: "فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء" في جواز الإحرام منه، وإن كان الأفضل التنعيم لأمره لعائشة به بعد الجعرانة لإحرامه -صلى الله عليه وسلم- منها، "والله" تعالى "أعلم". الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 الفهرس : 3 الباب الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الوتر 16 الباب الخامس في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الضحى 36 القسم الثاني في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل وأحكامها 36 الفصل الأول في رواتب الصلوات الخمس والجمعة 36 الفرع الأول في أحاديث جامعة لرواتب مشتركة 39 الفرع الثاني في ركعتي الفجر 46 الثالث في راتبة الظهر 48 الرابع في سنة العصر 52 الخامس في راتبة المغرب 57 السادس في راتبة العشاء 57 السابع في راتبة الجمعة 62 الفصل الثاني في صلاته عليه الصلاة والسلام العيدين 62 الأول في عدد الركعات 63 الثاني في عدد التكبير 64 الثالث في الوقت والمكان 65 الرابع في الأذان والإقامة 66 الخامس في قراءته -صلى الله عليه وسلم- في صلاتي العيدين 67 السادس في خطبته -صلى الله عليه وسلم- وتقديمه صلاة العيدين عليها 72 السابع في أكله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر قبل خروجه إلى صلاة العيد 86 الباب الثاني في النوافل المقرونة بالأسباب -الفصل الأول في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الكسوف 112 القسم الثاني في صلاته -صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستسقاء 153 القسم الثالث في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم-في السفر الفصل الأول في قصره -صلى الله عليه وسلم- الصلاة فيه وأحكامه -الفرع الأول في كم 153 كان عليه الصلاة والسلام يقصر الصلاة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 157 الفرع الثاني في القصر مع الإقامة 161 الفصل الثاني في الجمع الفرع الأول في جمعه -صلى الله عليه وسلم- 164 الفرع الثاني في جمعه -صلى الله عليه وسلم- بجمع ومزدلفة 165 الفصل الثالث في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل في السفر 170 الفصل الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- التطوع في السفر على الدابة 174 القسم الرابع في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الخوف 180 القسم الخامس في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة الفرع الأول في عدد التكبيرات 181 الفرع الثاني في القراءة والدعاء 185 الفرع الثالث في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على القبر 189 الفرع الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الغائب 196 النوع الثالث في ذكر سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة 209 النوع الرابع في ذكر صيامه -صلى الله عليه وسلم- 216 القسم الأول في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان الفصل الأول في تخصيصه رمضان بأنواع العبادات 224 الفصل الثاني في صيامه عليه السلام برؤية الهلال 227 الفصل الثالث في صومه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد 229 الفصل الرابع فيما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم 237 الفصل الخامس في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام 239 الفصل السادس فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه 240 الفصل السابع فيما كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار 242 الفصل الثامن في وصاله -صلى الله عليه وسلم- 254 الفصل التاسع في سحوره -صلى الله عليه وسلم- 257 الفصل العاشر في إفطاره -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في السفر وصومه 262 القسم الثاني في صومه -صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان الفصل الأول في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر وفطره أياما 264 الفصل الثاني في صومه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء 282 الفصل الثالث في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان 290 الفصل الرابع في صومه -صلى الله عليه وسلم- عشر ذي الحجة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 295 الفصل الخامس في صومه -صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع 302 الفصل السادس في صومه -صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض 306 النوع الخامس في ذكر اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر 322 النوع السادس في ذكر حجه وعمره -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 المجلد الثاني عشر تابع المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم النوع السابع: من عباداته عليه الصلاة والسلام في نبذة من أدعيته وذكره وقراءته ... بسم الله الرحمن الرحيم النَّوع السابع: من عباداته -عليه الصلاة والسلام في نبذة من أدعيته وذكره وقراءته اختلف هل الدعاء أفضل, أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟ فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادة، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخّ العبادة" , وقد تواترت الأخبار عنه -صلى الله عليه وسلم- بالترغيب في الدعاء والحثّ عليه. وأخرج الترمذي وصحَّحه ابن حبان والحاكم   "النوع السابع: من عباداته -عليه الصلاة والسلام- في نبذة" بضم النون- شيء قليل "من أدعيته" جمع دعاء, "وذكره" ظاهره تغايرهما، وفي التحفة: الذكر لغةً كل مذكور، وشرعًا قول سيق لثناء أو دعاء، وقد يستعمل شرعًا أيضًا لكل قول يثاب قائله, "وقراءته" القرآن الكريم "اختلف هل الدعاء أفضل أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟ فقال الجمهور: الدعاء أفضل وهو من أعظم العبادة". "ويؤيده ما أخرجه الترمذي" في الدعوات، وقال: غريب لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة "من حديث أنس، رفعه" أي: قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" أي: خالصها؛ لأن الداعي يدعو الله عند انقطاع أمله عمَّا سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص, ولا عبادة فوقها, فكان مخها بهذا لاعتبار، وأيضًا لما فيه من إظهار الافتقار والتبري من الحول والقوة وهو سمة العبودية, واستشعار ذلة البشرية, ومتضمّن للثناء على الله, وإضافة الكرم والجود إليه. "وقد تواترت الأخبار عنه -صلى الله عليه وسلم- بالترغيب في الدعاء والحثّ عليه" كقوله -صلى الله عله وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . رواه الأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح, وصحَّحه أيضًا ابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير، وقوله: "الدعاء مفتاح الرحمة, ويدر لكم أرزاقكم، تدعون الله في ليلكم ونهاركم، فإن الدعاء سلاح المؤمن, وعماد الدين, ونور السماوات والأرض"، ولأبي الشيخ والديلمي من حديث أبي موسى: "الدعاء جند من أجناد الله، يردّ القضاء بعد أن يبرم"، وللترمذي والحاكم من حديث ابن عمر: "الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء" وسنده ليّن، ومع ذلك صحّحه الحاكم، كما قاله الحافظ, والأحاديث كثيرة جدًّا. "وأخرج الترمذي" وابن ماجه وأحمد, والبخاري في الأدب المفرد, والبزار "وصحَّحه ابن حبان والحاكم" كلهم من رواية أبي صالح الخوزي -بضم الخاء المعجمة وسكون الواو، ثم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 عنه -صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" , وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: إني لا أحمل هَمّ الإجابة, ولكن هَمّ الدعاء، فإن أتممت الدعاء علمت أن الإجابة معه. وفي هذا يقول القائل: لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله ... من جود كفك ما عوَّدتني الطلبا فالله سبحانه يحب تذلل عبيده بين يديه، وسؤالهم إياه، وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذتهم به منه، وفرارهم منه إليه. كما قيل:   زاي- عن أبي هريرة, والخوزي مختلف فيه, ضعَّفه ابن معين، وقوَّاه أبو زرعة, وظنَّ ابن كثير أنه أبو صالح السمّان وليس كما قال، فقد جزم شيخه المزي بأنه الخوزي، قاله الحافظ "عنه -صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل" لفظ الترمذي: "إنه من لم يسأل" والضمير للشأن، أي: إنَّ الحال من لم يطل "الله" من فضله "يغضب عليه"؛ لأنه إمَّا قانط أو مستكبر, وكلّ موجب للغضب، قال الطيبي: معناه إنَّ مَنْ لم يسأله يبغضه, والمبغوض مغضوب عليه, والله يحب أن يُسْأَل. وقال ابن القيم: هذا يدل على أنَّ رضاه في مسألته وطاعته، وإذا رضي تعالى فكل خير في رضاه، كما أنَّ كل بلاء ومصيبة في غضبه, والدعاء عبادة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ، فهو تعالى يغضب على من لم يسأله، كما أن ابن آدم يغضب على من سأله: الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبنى آدم حين يُسْأَل يغضب فشتان ما بين هذين، وسحقًا لمن علق بالأثر وبعد عن العين، قال الحليمي: لا ينبغي أن يُخَلَّى يوم وليلة عن الدعاء؛ لأن الزمن يوم وليلة, وما وراءهما تكرار، فإذا كان ترك الدعاء أصلًا يوجب الغضب، فأدنى ما في تركه يومًا وليلة أن يكون مكروهًا. "وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: إني لا أحمل هَمَّ الإجابة ولكن هَمَّ الدعاء" لاحتياجه إلى الإخلاص والخضوع والذلة، وذلك لا يتيسر في كل وقت, "فإذا أتممت الدعاء" أتيت به على الوجه التام "علمت أن الإجابة معه" بوعد من لا يخلف الميعاد "وفي هذا يقول القائل: لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله" بمد الهمزة وضم اللام- أرجو, "من جود كفِّك ما عودتني الطلبا" يعني: إنه اعتاد منه العطاء والإحسان متى قصده، فعلم أنه لا يريد منعه متى أتاه؛ إذ لو أراده ما أعطاه كلما أتاه, "فالله سبحانه يحب تذلل عبيده بين يديه, وسؤالهم إياه, وطلبهم حوائجهم منه, وشكواهم منه" تعالى؛ إذ هو الفاعل لما أصابهم من المكروه "إليه" سبحانه لا إلى غيره، فكأنهم يقولون: يا ربنا, أنت أصبتنا بما تعلمه، فأزله عنا "وعياذتهم:" التجاءهم واعتصامهم "به" عز وجل "منه" تعالى, "وفرارهم منه إليه" ألفاظ متقاربة المعنى "كما قيل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 قالوا أتشكوا إليه ... ما ليس يخفى عليه فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [فاطر: 60] بأنَّ آخرها دلَّ على أنَّ المراد بالدعاء هو العبادة. قال الشيخ تقي الدين السبكي: الأَوْلَى حمل الدعاء في الآية على ظاهره. وأما قوله تعالى بعد ذلك {عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أنَّ الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا: فالوعيد فيه إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كفر، وأمَّا من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنَّا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه.   قالوا: أتشكو إليه ... ما ليس يخفى عليه فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه ومعنى البيتين ظاهر "وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] "بأنَّ آخرها دلَّ على أن المراد" وفي نسخة: بدون على، أي: أفهم أن المراد "بالدعاء هو العبادة", فكأنه قال: اعبدوني أثبكم، وأجاب الأولون بأن هذا ترك للظاهر. "و" لذا قال الشيخ تقي الدين السبكي: الأَوْلَى حمل الدعاء في الآية على ظاهره" من السؤال والطلب "وأما قوله بعد ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أنَّ الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا: فالوعيد فيه بقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كفر، وأمَّا من تركه لمقصد من المقاصد" كالتسليم للقضاء, "فلا يتوجّه إليه الوعيد المذكور وإن كنَّا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه". زاد الحافظ: ودلَّ قوله تعالى بعد {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [غافر: 65] أنَّ الإجابة منوطة بالإخلاص، وقال الطيبي في حديث الدعاء: هو العبادة، ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، يمكن أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي: أي: الدعاء ليس إلّا إظهار غاية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 وقال القشيري في "الرسالة" اختلف أي الأمرين أَوْلَى, الدعاء أو السكوت والرضى؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار، وقيل: السكوت والرضى أَوْلَى لما في التسليم من الفضل. انتهى. وشبهتهم: إنَّ الداعي لا يعرف ما قُدِّرَ له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند. وأجيب بأنَّه إذا اعتقد أنه لا يقع إلّا ما قدَّره الله تعالى كان إذعانًا لا معاندة, وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به   التذلُّل والافتقار والاستكانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] ، الجملتان واردتان على الحصر، وما شرعت العبادة إلّا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] حيث عَبَّر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي, وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. انتهى، وفيه تجاسر على القرآن بقوله: عَبَّر، وبقوله: وضع, بمجرَّد احتمالٍ لاح له, فالأَوْلَى ما قبله عن السبكي. وقال البيضاوي في شرح المصابيح: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمَّى عبادته م حيث دلالته على أنَّ فاعله مقبل على الله, معرض عمَّا سواه, لا يرجو غيره, ولا يخاف إلّا منه, استدلَّ عليه بالآية، فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلّف قَبِلَ منه لا محالة وترتَّب عليه المقصود, وترتَّب الجزاء على الشرط, والمسبَّب على السبب, "وقال القشيري في الرسالة: اختلف، أي: الأمرين أَوْلَى الدعاء أو السكوت والرضا" وثالثها: إن وجد في نفسه باعثًا استحبَّ الدعاء وإلّا فلا، ورابعها: إن جمع غيره معه استحب, وإن خص نفسه فلا, "فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة" وسبق بعضها "ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار"؛ ولأنه سنته -صلى الله عليه وسلم- المتواترة عنه تواترًا معنويًّا، وقيل: السكوت والرضا أَوْلَى لما في التسليم من الفضل. انتهى". وشبهتهم" كما قال الحافظ: "إن الداعي لا يعرف ما قُدِّرَ له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة" التي قدَّرها الله "فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند" وكلاهما لا يجوز, "وأجيب بأنه إن اعتقد أنه لا يقع إلّا ما قدره الله تعالى كان" اعتقاده "إذعانًا لا معاندة فائدة الدعاء" حينئذ "تحصيل الثواب بامتثال الأمر" بالدعاء في الكتاب والسنة "ولاحتمال أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 موقوفًا على الدعاء؛ لأن الله تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى. وقد أرشد -صلى الله عليه وسلم- أمته لكيفية الدعاء فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء"، رواه الترمذي من حديث فضالة بن عبيد. وقال -عليه السلام- في رجل يدعو: "أوجب إن ختم بآمين" رواه أبو داود.   يكون المدعو به موقوفًا على الدعاء؛ لأن الله تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى". ما جاء به من الفتح بلا عزوٍ فيه أيضًا عن القشيري، وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيًا بلسانه راضيًا بقلبه، قال: والأَوْلَى أن يقال: إذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء, فالدعاء أفضل وبالعكس، قلت: القول الأَوَّل أعلى المقامات، وهو أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه, ولا يتأتَّى من كلّ أحد، بل ينبغي أن يخص به الكمَّل. قال القشيري: ويصح أن يقال: ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظّ فالسكوت أفضل. وعبَّر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أَوَّلَ الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام: 41] وإن كثيرًا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف، والجواب: إن كل داعٍ يستجاب له, لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به, وتارة بعوضه. وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم عن عبادة بن الصامت رفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلّا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها"، ولأحمد من حديث أبي هريرة: "إما أن يعجّلها له وإمّا أن يدّخرها له"، وله عن أبي سعيد رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته, وإمّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها" وصحَّحه الحاكم, وهذا شرط ثانٍ للإجابة، ولها شروط أخرى، منها: أن يكون طيب المطعم والملبس؛ لحديث: "فأنى يستجاب لذلك" انتهى. "وقد أرشد -صلى الله عليه وسلم- لكيفية الدعاء، فقال: "إذا صلى" أي: دعا "أحدكم, فليبدأ بحمد الله" وفي رواية: "بتحميد ربه" والحمد: الثناء بالجميل على الجميل، والتحميد حمد الله مرة بعد أخرى والثناء عليه" بما يتضمَّن ذلك، فهو عطف عام على خاص، فالثناء فعل يشعر بالتعظيم، كذا قاله بعضهم: وقال شيخنا: عطف تفسير, "وليصلّ على النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم ليدع بما شاء" من الدين والدنيا بما يجوز طلبه "رواه الترمذي" وأبو داود وصحَّحه ابن حبان والحاكم "من حديث فضالة" بفتح الفاء وتضم "ابن عبيد" بضم العين- الأنصاري الأوسيّ, "وقال -عليه السلام- في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 وقال: "لا يقل أحدكم إذا دعا: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة, فإن الله تعالى لا مكره له" رواه البخاري وغيره. ومعنى الأمر بالعزم: الجدّ فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه، ولا يعلّق ذلك بمشيئة الله تعالى، وإن كان مأمور في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل: معنى العزم أن يحسن الظنَّ بالله في الإجابة، فإنه يدعو كريمًا، وقد قال ابن عيينة: لا يمنعنَّ أحدكم لدعاء ما يعلم من نفسه، يعني: من التقصير، فإنَّ الله تعالى قد استجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] . وقال -عليه السلام: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم   رجل يدعو: "أوجب إن ختم بآمين" قال الحافظ في أماليه، أي: عمل عملًا وجبت له به الجنة. وقال السيوطي: الظاهر أنَّ معناه فعل ما تجب له به الإجابة "رواه أبو داود" عن أبي زهير النمري، قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة, فأتينا على رجل قد ألحَّ في المسألة، فوقف -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، فقال: "أوجب إن ختم"، فقال رجل: بأي شيء يختم؟ فقال: "بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب"، فانصرف الرجل الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجل، فقال: "اختم يا فلان بآمين وأبشر" "وقال" صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم إذا دعا" طلب من الله "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت". زاد في رواية البخاري: "اللهم ارزقني إن شئت"؛ لأنَّ التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا تأتَّى إكراه المطلوب منه، فيعلمه أنه إنما يطلبه برضاه, والله منَزَّه عن ذلك، وقيل: لأنَّ فيه صورة استغناء عن المطلوب والمطلوب منه, والأَوَّل أَوْلَى, "ولكن ليعزم المسألة, فإن الله تعالى لا مكره" بكسر الراء "له" رواه البخاري وغيره" كأبي داود عن أبي هريرة, وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه, "ومعنى الأمر بالعزم الجدّ فيه" بفتح الجيم- أي: الاجتهاد, "وأن يجزم بوقوع مطلوبه, ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى" أي: يكره كما قال النووي وهو أَوْلَى، وظاهر كلام ابن عبد البر أنه نهي تحريم وهو الظاهر، قاله الحافظ: "وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله أن يعلّقه بمشيئة الله تعالى" لأن هذا مقام غير مقام الدعاء والطلب من الله. "وقيل: معنى العزم: أن يحسن الظنَّ بالله في الإجابة, فإنه يدعو كريمًا، وقد قال ابن عيينة" سفيان: لا يمنعنَّ أحدكم لدعاء" بنصب أحد مفعول فاعله "ما يعلم من نفسه -يعني: من التقصير- فإنَّ الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس, حين قال: {أَنْظِرْنِي} أخِّرني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف: 15] وقال -عليه السلام: يستجاب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 يستجب لي" رواه الشيخان وغيرهما. وكان -عليه السلام- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك، رواه أبو داود من حديث عائشة. والجوامع: التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء على الله تعالى وآداب المسألة. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل   لأحدكم ما لم يعجل" بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة- من الاستجابة بمعنى الإجابة، قال الشاعر: فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي: يجاب دعاء كل واحد منكم؛ لأن الاسم المضاف يفيد العموم على الأصحّ "يقول: دعوت فلم يستجب لي" بضم التحتية وفتح الجيم- بيان لقوله: "ما لم يعجل"، فمن مَلّ الدعاء لم يقبل دعاؤه؛ لأنه عبادة، أجيب أم لا, فمن أكثر منه أوشك أن يستجاب له. "رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة: "وكان -عليه السلام يستحب", وللحاكم: كان يعجبه "الجوامع من الدعاء, ويَدَع" يترك "ما سوى ذلك، رواه أبو داود" بإسناد جيد "من حديث عائشة" وصحَّحه الحاكم وأقَرَّه الذهبي, "والجوامع" الكلمات "التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة" عطف تفسير "أو" التي "تجمع الثناء على الله تعالى، وآداب المسألة" أي: السؤال، وقيل: هي ما جمع مع الوجازة خيري الدنيا والآخرة نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [البقرة: 201] قيل: وهو أوجه، لكن عليه يحم قوله: ويَدَع ما سوى ذلك, على أغلب الأحوال لا كلها، فقد قال المنذري: كان يجمع في الدعاء تارة ويفصّل أخرى, "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه" ليس في مسلم لفظ في دعائه: "اللهمَّ أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري" الحافظ لجميع أموري، فإنَّ من فسد دينه فسدت جميع أموره, وخاب وخسر في الدنيا والآخرة, "وأصلِح لي دنياي التي فيها معاشي" بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه, وكونه حلالًا معينًا على طاعة "وأصلح لي آخرتي التي إليها" كذا في النسخ, والذي رأيته في مسلم، وكذا نقله عنه السيوطي وغيره: "التي فيها معادي". قال ابن الأثير وغيره، أي: ما أعود إليه يوم القيامة, وهو إمَّا مصدر ميمي أي: عودي أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر" رواه مسلم من حديث أبي هريرة. وكان يقول: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار" رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.   ظرف مكان من عاد إذا رجع، وقال الطيبي: إصلاح المعاد: اللطف والتوفيق إلى طاعة الله وعبادته. وقال الحراني: جمع في هذه الثلاثة أصول مكارم الأخلاق التي بُعِثَ لإتمامها؛ فإصلاح الدين بالتوفيق لإظهار خطاب ربه من جهة أحوال قلبه وأخلاق نفسه وأعمال بدنه فيما بينه وبين الله من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا آجلها, وإصلاح الدنيا بتجنّب الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه واستعمال الحلال الذي يصلح النفس والبدن عليه؛ لموافقته لتقويمها, وإصلاح المعاد بخوف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلّا بالتطهر منه لبعده عن حسناها, وخوف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه لحسناها, والمقصود بالزجر والنهي: الردع عمَّا يضر في المعاد, إلّا أنَّ الردع على وجهين: خطاب لمعرض ويسمَّى زجرًا، وخطاب مقبل على التفهّم ويسمى: نهيًا, فكان الزجر يزيغ الطبع, والنهي يزيغ العقل, "واجعل الحياة زيادة لي في كل خير" أي: اجعل حياتي سبب زيادة طاعتي, "واجعل الموت راحة لي من كل شر" أي: اجعل موتي سبب خلاصي من مشقة الدنيا والتخلص من غمومها وهمومها لحصول الراحة. قال الطيبي: وهذا الدعاء من جوامع الكلم. "رواه مسلم" في الدعوات "من حديث أبي هريرة" ولم يخرجه البخاري "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم انفعني بما علمتني" بالعمل بمقتضاه خالصًا لك, "وعلمني ما ينفعني" أرتقى منه إلى عمل زائد على ذلك, "وزدني علمًا" مضافًا إلى ما علمتنيه، وهذا إشارة إلى طلب المزيد في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى محل الوصال، وبه ظهر أنَّ العلم وسيلة للعمل وهما متلازمان، ولذا قالوا: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلّا في العلم, "الحمد لله على كل حال" من أحوال السراء والضراء، وكم يترتب على الضراء من عواقب حميدة ومواهب كريمة يستحق الحمد عليها، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} "وأعوذ بالله من حال أهل النار" في النار وغيرها، قال الطيبي: ما أحسن موقع الحمد في هذا المقام، ومعنى المزيد فيه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وموقع الاستعاذة من الحال المضاف إلى أهل النار تلميحًا إلى القطيعة والبعد، وهذا الدعاء من جوامع الكلم التي لا مطمح وراءها "رواه الترمذي" وقال: غريب, وابن ماجه والحاكم "من حديث أبي هريرة" وفيه موسى بن عبيدة، ضعَّفه النسائي وغيره, ومحمد بن ثابت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 وكان يقول: "اللهم متّعنى بسمعي وبصري, واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من ظلمني، وخذ منه بثأري" رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أيضًا. وكان أكثر دعائه: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" رواه الشيخان من حديث أنس. وكان يقول: "رب أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي   لم يرو عنه غير موسى, فهو مجهول العين "وكان يقول: "اللهم متّعني" أي: انفعني، زاد في رواية البيهقي: من الدنيا "بسمعي وبصري" الجارحتين المعروفتين، وقيل: أبي بكر وعمر؛ لحديث: "هذان السمع والبصر"، واستبعد بزيادة البيهقي عقب: وبصري وعقلي, "واجعلهما الوارث مني" استعارة من وارث الميت؛ لأنه يبقى بعده, "وانصرني على من ظلمني" تعدَّى وبغى عليّ, "وخذ منه بثأري" بالهمز، ويجوز إبداله تخفيفًا، أي: بحقي بأن تهلكه، وأشار به إلى قوة المخالفين حثًّا على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة. "رواه الترمذي" والحاكم "من حديث أبي هريرة", ورواه البيهقي: "وكان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم: "ربنا" وفي رواية: اللهم ربنا "آتنا في الدنيا حسنة" كصحة وعفاف وكفاف وتوفيق للخير, "وفي الآخرة حسنة" ثوابًا ورحمةً, "وقنا" بالعفو والمغفرة "عذاب النار" الذي استحقيناه بسوء أعمالنا، وقول عليٍّ -كرَّم الله وجهه: الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة, وفي الآخرة الحور، وعذاب النار امرأة السوء، وقول الحسن البصري: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة, وفي الآخرة الجنة، "وقنا عذاب النار" احفظنا من كل ذنب يجر إليها أمثلة المراد بها. قال ابن كثير: جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح, إلى غير ذلك، وأمَّا الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة, وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك، وأما النجاة من النار فهو متقضى تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات. انتهى. ولا يرد عليه أن أعلاها: رؤية الله تعالى؛ لأنَّ كلامه فيما قبل دخوله الجنة، وسبب الاختلاف في التفسير، أن حسنة نكرة في الإثبات فلا تعمّ "رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك: "وكان" صلى الله عليه وسلم- يقول: "رب أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني" ظفرني "ولا تنصر عليَّ" أعداء الدين، قال الراغب: النصر من الله معونة الأنبياء والأولياء وصالحي العباد بما يؤدي إلى صلاحهم عاجلًا وآجلًا، وذلك تارةً يكون من خارج بمن يقيضه الله فيعينه، وتارةً من داخل بأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 ولا تمكر عليّ، واهدني وانصرني على من بغى عليّ، رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، مطواعًا لك، مخبتًا إليك، أواهًا منيبًا، رب تَقَبَّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حُجَّتي، وسدِّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري". رواه الترمذي. وكان يقول: "اللهم لك أسلمت، وبك أمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلني، أنت   يقوي قلب الأنبياء والأولياء, أو يلقي الرعب في قلوب الأعداء، وعليه قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} "وامكر لي" جاز لأجلي, مَنْ فَعَل بي ما يستحق ما يجازى عليه بأن فعل بي سوءًا, "ولا تمكر عليَّ" أي: اعف عني, فلا تؤاخذني بما صدر مني، قال في النهاية: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه، وقيل: هو استدراج العبد بالطاعات فيتوهّم أنها مقبولة وهي مردودة، والمعنى: ألحق مكرك بأعدائي لا بي، وأصل المكر الخداع. انتهى. ولا يسند إلى الله على سبيل المقابلة والازدواج, والمقابلة هنا مقدَّرة؛ لأن قوله: "امكر لي" معناه: جَازِ من مكر عليّ, "واهدني" لصالح الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لصالحها, ولا يصرف سيئها إلا أنت كما في حديث آخر. وفي رواية: فاهدني ويسر هداي إليّ, "وانصرني" ظفرني "على من بغى عليّ" جار واعتدى بأن تهلكه, "رب اجعلني لك شاكرًا" أي: وفِّقني له لأقوم بما وجب عليّ من شكر نعمائك التي لا تحصى, "لك ذاكرًا" بقلبي ولساني, "لك راهبًا" خائفًا منك, "مطواعا لك" في جميع أوامرك, "مخبتًا" خاشعًا متواضعًا "إليك أوَّاهًا" كثير التأوّه من الذنوب والتأسُّف على الناس, "منيبًا" راجعًا إليك، "رب تَقَبَّل توبتي واغسل حوبتي" بفتح المهملة- أي: خطيئتي, "وأجب دعوتي, وثبّت حجتي, وسدّد لساني, واهد قلبي" خصَّه مع دخوله في قوله أولًا: "واهدني" اهتمامًا به؛ لأنه الرئيس الذي إذا صلح صلح الجسد كله, "واسلل" بمهملة ولا مين- انزع وخَرِّج برفق "سخيمة" بفتح المهملة وكسر المعجمة- أي: حقد "صدري" , وفي رواية: قلبي. "رواه الترمذي" وأبو داود والنسائي وابن ماجه, وصحَّحه الحاكم، كلهم عن ابن عباس: "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم لك أسلمت" أي: أنقذت, "وبك آمنت" أي: صدَّقت، قال النووي: فيه إشارة إلى الفرق بين الإسلام والإيمان, "وعليك" لا على غيرك "توكلت" اعتمدت في تفويض جميع أموري, "وإليك أنبت" رجعت وأقبلت بهِمَّتِي, "وبك خاصمت" أعدائي, "اللهمَّ إني أعوذ" أعتصم "بعزتك -لا إله إلا أنت- أن تضلني" بعدم التوفيق للرشد, والتوقيف على طريق الهداية والسداد، وهو متعلق بأعوذ، أي: من أن تضلني، وكلمة التهليل معترضة لتأكيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 الحي الذي لا تموت، والجنّ والإنس يموتون" رواه الشيخان عن ابن عباس. وكان يقول: "اللهم إنِّي أسألك الهدى والتُّقى، والعفاف والغِنَى". رواه مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود. وكان يقول: "اللهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللهم اغفر لي جَدِّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي،   العزة, "أنت الحي لا تموت" بلفظ الخطاب، أي: الحياة الحقيقية التي لا يجامعها الموت بحال. وفي رواية: "أنت الحي القيوم الذي لا يموت" بلفظ الغائب, "والجن والإنس يموتون" عند انقضاء آجالهم، والمراد: الخلق كلهم، لكنَّ التنصيص لإفادة الخطاب جرى مجرى الغالب من تقابلهما، يعني: وأنا أموت لأني من الإنس، ولم ينصّ على مَنْ عداهم لما ذُكِرَ, ولا حجة فيه لمن احتجَّ به على عدم موت الملائكة, مع أنه لا مانع من دخولهم في مسمَّى الجن بجامع ما بينهم من الاجتنان عن عيون الإنس، كيف وقد قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوِْ} [القصص: 88] . "رواه الشيخان" البخاري في التوحيد, ومسلم في الدعوات, "عن ابن عباس", وقصر من عزاه لمسلم وحده, "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أسألك الهدى" أي: الهداية إلى الصراط المستقيم "والتّقى" الخوف من الله, والحذر من مخالفته, "والعفاف" الصيانة عن مطامع الدنيا, "والغنى" غنى النفس والاستغناء عن الناس. قال الطيب: أطلق الهدى والتقى ليناول كل ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق, وكل ما يجب أن يتَّقى منه من شركٍ ومعصية وخلق رديء. "رواه مسلم والترمذي" وابن ماجه، كلهم في الدعوات "من حديث ابن مسعود" ولم يخرّجه البخاري: "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم" وفي رواية للبخاري: رب بدل اللهم "اغفر لي خطيئتي" ذنبي, "وجهلي" ضد العلم، وقال الكرماني: الجهل ما يجهل به، كما قالوه في الصائم لا يجهل أي: لا يرتكب ما يوقع في الجهل. انتهى. أي: لا يفعل ما يوصف معه بالجهل وإن لم يذنب به, "وإسرافي" تجاوزي الحدّ, "في أمري" كله, "وما أنت أعلم به مني" مما علمته وما لم أعلمه، بأنّ صدر سهوًا, "اللهم اغفر لي جدي" بكسر الجيم ضد الهزل, "وهزلي" بفتح الهاء ضد الجد, "وخطئي" بالهمز ضد العمد, "وعمدي" ضد السهو. ووقع في رواية للبخاري: "اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي" جمع خطيئة وعطف العمد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدّم وأنت المؤخِّر, وأنت على كل شيء قدير" رواه الشيخان من حديث أبي موسى. وكان أكثر دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي من حديث أم سلمة.   عليها, خاصّ على عام، باعتبار أن الخطايا أعمّ من المعتمد, أو من عطف أحد المتقابلين على الآخر, يحمل الخطايا على ما وقع على سبيل الخطأ, "وكل ذلك" المذكور "عندي" موجود, كالتذييل للسابق، أي: أنا متَّصف بهذه الأشياء فاغفرها لي، قاله تواضعًا وهضمًا لنفسه، أو عَدَّ فوات الكمال وترك الأَوْلَى ذنوبًا, "اللهم اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت" وهذان شاملان لجميع ما سبق؛ كقوله: "وما أسررت" أخفيت, "وما أعلنت" أظهرت، أي: ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني، قاله تواضعًا وإجلالًا لله, أو تعليمًا لأمته. وتعقَّبه الحافظ بأنه لو كان للتعليم فقط كفَى أن يأمرهم بأن يقولوا, فالأَوْلَى أنه للكل, "وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم" لمن تشاء من خلقك بتوفيقه إلى رحمتك, "وأنت المؤخِّر" لمن تشاء عن ذلك, "وأنت على كلِّ شيء قدير" جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها, وعلى كل شيء متعلق بقدير فعيل بمعنى فاعل, مشتق من القدرة وهي القوة والاستطاعة, وهل يطلق الشيء على المستحيل والمعدوم خلاف. "رواه الشيخان" في الدعوات "من حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري, "وكان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب" بتقليب أعراضها وأحوالها لا ذواتها, "ثبِّت قلبي على دينك" بكسر الدال. قال البيضاوي: إشارةً إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء، ودفع توهّم أنهم يستثنون. وقال الطيبي: أضاف القلب إلى نفسه تعريضًا بأصحابه؛ لأنه مأمون العاقبة، فلا يخاف على نفسه لاستقامته؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 2-3] ، وفيه: أن أعراض القلوب من إرادة وغيرها يقع بخلق الله, وجواز تسمية الله بما ثبت في الحديث وإن لم يتواتر, وجواز اشتقاق الاسم له من الفعل الثابت, وبقية الحديث: فقيل له في ذلك، فقال: "إنه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام, ومن شاع أزاغ"، زاد في رواية أحمد: "فنسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا, ونسأل الله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب". "رواه الترمذي من حديث أم سلمة" هند أم المؤمنين، قال الغزالي: إنما كان هذا أكثر دعائه لاطِّلاعه على عظيم صنع الله في عجائب القلب وتقلبه، فإنه هدف يصاب على الدوام من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 وكان يقول: "اللهم عافني في جسدي، وعافني في سمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين" رواه الترمذي. وكان يقول: "اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس" رواه النسائي. وكان يقول: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب   كل جانب، فإذا أصابه شيء وتأثَّر أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغيّر وصفه، وعجيب صنع الله في تقلبه لا يهتدي إليه إلا المراقبون بقلوبهم, والمراعون لأحوالهم مع الله, "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم عافني" سلِّمني من المكاره, "في جسدي"؛ لئلَّا يشغلني شاغل أو يعوقني عائق عن كمال القيام بعبادتك, "وعافني في سمعي وبصري" كذلك, "واجعلهما الوارث مني" بأن يلازماني عند الموت لزوم الوارث لمورثه، أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت، أو أراد بقاء قوتهما عند الكبر وانحلال القوى، أو أراد: اجعل تمتعي بهما في مرضاتك باقيًا، أذكر به بعد اموت, "لا إله إلا الله الحليم الكريم, سبحان الله رب العرش العظيم, والحمد لله رب العالمين" أي: الوصف بجميع صفات الكمال وسائر نعوت الجلال وحده على كل حال "رواه الترمذي" والحاكم، والبيهقي كلهم في الدعوات من حديث عائشة: "وكان" صلى الله عليه وسلم- يقول: "رب اغسل" أزل "خطاياي" جمع خطيئة, "بماء الثلج والبرد" بفتحتين- حب الغمام، أي: بالماء المنحل منهما، فالإضافة ليست بيانية، وخصَّهما لأنهما ماءان طاهران لم تمسَّهما الأيدي, ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ذكرهما آكد هنا, وإن كان الماء الجاري أبلغ عادة في إزالة الوسخ، أشار إليه الخطّابي, وقال الكرماني: جعل الخطايا بمنزلة النار؛ لأنها تؤدي إليها، فعبَّر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدًا في إطفائها، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه وهو الثلج، ثم إلى أبرد منه وهو البرد؛ لأنه يجمد ويصير جليدًا بخلاف الثلج فيذوب. انتهى. ومَرَّ لذلك مزيد في الصلاة, "ونَقِّ" بفتح النون وشد القاف, "قلبي" الذي بمنزلة ملك الأعضاء واستقامتها باستقامته, "من الخطايا" الذنوب, وهذا تأكيد للسابق, ومجاز عن إزالة الذنوب ومحو آثارها, "كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس" بفتح الدال والنون- أي: الوسخ، وخصَّ الأبيض لظهور النقاء فيه أقوى من غيره. "رواه النسائي" والحاكم وغيرهما من حديث عائشة, وهو بعض حديث طويل في الصحيحين: "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أسألك" أطلب منك "فعل الخيرات" المأمورات، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" رواه في الموطأ. وكان يدعو: "اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنًا، والشمس والقمر حسبانًا، اقض عني الدين وأغنني من الفقر، وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي، وتوفَّني في سبيلك" رواه في الموطأ.   أي: الإقدار على فعلها والتوفيق له, "وترك المنكرات" أي: المنهيات, "وحب المساكين" يحتمل إضافته إلى الفاعل, وإلى المفعول وهو أنسب بما قبله، قال الباجي: وهو من فعل القلب، ومع ذلك فيختص بالتواضع، وفيه: إن فعل الثلاثة إنما هو بفضل الله وتوفيقه, "وإذا أردت" بتقديم الدال على الراء من الإدارة، أي: أوقعت. وفي رواية: بتقديم الراء على الدال من الإرادة, "بقوم" لفظ الموطأ: في الناس, "فتنة" بلايا ومحننًا, "فاقبضني إليك غير مفتون" فيه إشارة إلى طلب العافية واستدامة السلامة إلى حسن الخاتمة. "رواه في الموطأ" بلاغًا، قال ابن عبد البر: هو حديث صحيح ثابت من حديث عبد الرحمن بن عابس وابن عباس، وثوبان، وأبي أمامة, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يدعو: "اللهم فالق الإصباح" خالقه ومظهره, "وجاعل الليل سكنًا" يسكن فيه, "والشمس والقمر" منصوبان على محل الليل، ويجوز جرهما عطفًا على لفظه, "حسبانًا" قال ابن عبد البر: أي: حسبانًا، أي: بحساب معلوم، وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان. وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] "اقض عني الدَّيْن" قال ابن عبد البر: الأظهر فيه دين الناس, ويدخل فيه دين الله بالأَوْلَى، وفي الحديث: "دين الله أحقّ أن يقضى" , "واغتنى من الفقر" وهو ما لا يدرك معه القوت، وقد أغناه كما قال: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] ، ولم يكن غناه أكثر من اتخاذه قوت سنة لعياله, والغنى كله في قلبه ثقة بربه, "وأمتعني بسمعي" لما فيه من التنعم بسماع الذكر وما يسر, "وبصري" لما فيه من التدبر برؤية مخلوقات الله, "و" أمتعنى "قوتي" بفوقية قبل الياء واحدة القوى. وروي: وقوني -بنون بدل الفوقية، قال ابن عبد البر: والأوَّل أكثر عند الرواة, "وتوفني في سبيلك" الجهاد أو جميع أعمال البر؛ من تبليغ الرسالة وغيرها، فذلك كله سبيل الله، قاله الباجي "رواه في الموطأ" عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه فذكره, "وكان -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ فيقول: " الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 وكان -صلى الله عليه وسلم- يتعوّذ فيقول: "اللهم إنِّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات" رواه الشيخان من حديث أنس، وفي رواية أبي داود: "اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن وضلع الدَّيْن وغلبة الرجال". وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجذام والبرص والجنون، وسيء   وفي لفظ للبخاري عن أنس: كنت أسمعه يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجر" بسكون الجيم- وأصله: التأخر عن الشيء, مأخوذ من العجز وهو مؤخر الشيء، وللزوم الضعف والقصور عن الإتيان بالشيء، استعمل في مقابله القدرة واشتُهِرَ فيها, "والكسل" التثاقل عن الشيء مع القدرة عليه الداعية إليه, "والجبن" خلاف الشجاعة, "والهرم" وهو أقصى الكبر, "والبخل" ضد الكرم, "وأعوذ بك من عذاب القبر" ما فيه من الأهوال والشدائد, "وأعوذ بك من فتنة المحيا" ما يعرض للإنسان في مدة حياته من الافتنان بالدنيا وشهواتها وجهالاتها, وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت, "والممات" قيل: هي فتنة القبر بسؤال الملكين, والمراد من شر ذلك؛ إذ أصل السؤال واقع لا محالة, فلا يدعى برفعه فيكون عذاب القبر مسببًا عن ذلك, والسبب غير المسبب، وقيل: المراد الفتنة قبل الموت, وأضيفت إلى الموت لقربها منه, وحينئذ تكون فتنة المحيا قبل ذلك، وقيل: غير ذلك, والمحيا والممات مصدران مجروران بالإضافة بوزن مفعل, ويصلحان للزمان والمكان والمصدر. "رواه الشيخان من حديث أنس، وفي رواية أبي داود: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" بفتح المهملة والزاي, جمع بينهما؛ لأنَّ الهمَّ إنما يكون في المتوقّع, والحزن فيما وقع، فالهمّ للمستقبل, والحزن على الماضي؛ ولأن أصل الهمّ الذوبان, يقال: أهمَّه المرض بمعنى أذابه، سُمِّيَ به ما يعتري الإنسان من شديد الغم؛ لأنه أبلغ وأشد من الحزن الذي أصله الخشونة، فليس العطف لاختلاف اللفظ مع اتحاد المعنى كما ظنّ, "وضلع الدَّيْن" بفتح المعجمة واللام ومهملة- أي: ثقله وشدته, المانع لصاحبه عن الاستواء، فإن أصل الضلع الاعوجاج والميل, وذلك حيث لا يجد مَنْ عليه الدَّيْن وفاءً, ولا سيما مع المطالبة، قال بعض السلف: ما دخل هَمّ الدَّيْن قلبًا إلّا أَذْهَبَ منه مِنَ العقل ما لا يعود إليه, "وغلبة الرجال" شدة تسلطهم بغير حق تغلبًا وجدلًا، فالإضافة للفاعل, أو هيجان النفس من شدة الشهوة، فالإضافة للمفعول, وصريح المصنّف انفراد أبي داود وليس كذلك، فقد روى البخاري عن أنس: كنت أسمعه -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والبخل والجبن, وضلع الدين, وغلبة الرجال" وكان صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجذام" كغراب, عِلَّة تحدث من انتشار السواد في البدن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 الأسقام" رواه أبو داود والنسائي من حديث أنس. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت، ومن شر ما لم أعلم" رواه مسلم من حديث عائشة. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هذه الأربعة" رواه الترمذي.   فتفسد مزاج الأعضاء وجهاتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها, "والبرص" بفتحتين- بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج, "والجنون وسيء الأسقام" , ونص على الثلاثة مع دخولها في هذه؛ لأنها أبغض شيء إلى العرب, ولهم عنها نفرة عظيمة، ولذا عدّوا من شروط الرسالة السلامة من المنفرات، فاستعاذته منها تعليمٌ للأمة أو إظهار للعبودية "رواه أبو داو والنسائي من حديث أنس" بإسناد صحيح, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت ومن ما لم أعلم". "روه مسلم" كذا في النسخ من العلم فيهما، والذي في مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، كلهم "من حديث عائشة" بلفظ: "من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل" بتقديم المي على اللام فيهما, من العمل، أي: من شر يحتاج فيه إلى العفو, "وما لم أعمل" بأن تحفظني منه في المستقبل، أو أراد شر عمل غيره، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ} خاصة, أو ما ينسب إليه افتراء ولم يعمله. وقد وقع في الإحياء بتقديم اللام ووروده عليه، لكنه لم يعزه لمسلم، فالردّ على المصنف أقوى لعزوه لمسلم ما ليس فيه, وإن كان جاء حديث آخر بتقديم اللام مرفوعًا: "اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم". رواه أبو داود الطيالسي عن جابر بن سمرة, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع" لذكر الله ولا لاستماع كلامه تعالى, وهو القلب القاسي, أبعد القلوب من الله سبحانه, "ومن دعاء لا يسمع" أي: لا يستجاب ولا يعتدّ به، فكأنه غير مسموع, "ومن نفس لا تشبع" من جمع المال أشرًا وبطرًا, ومن كثرة الأكل الجالبة لكثرة الأبخرة الجالبة للنوم, وكثرة الوساوس والخطرات النفسانية المؤدية إلى مضار الدنيا والآخرة, "ومن علم لا ينفع" أي: لا يعمل به أو لا يهذب الأخلاق الباطنة, فيسري بها إلى الأفعال الظاهرة, "أعوذ بك من هذه الأربع" أتى به مع استفادته مما قبله تنبيهًا على توكيد هذا الحكم وتقويته, وفيه تسجيع الدعاء بلا قصد، ولذا جاء في غاية الانسجام، والمكروه إنما هو المتكلّف المقصود؛ لأنه لا يلائم الضراعة والذلة. قال الطيبي: في كل من هذه القرائن إشعار بأن وجوده مبني على غايته, والغرض الغاية، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 والنسائي من حديث ابن عمرو بن العاص. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك" رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن عمرو بن العاص أيضًا. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن   فإن تعلّم العلم إنما هو للنفع به، فإذا لم ينفعه لم يخلص كفافًا، بل يكون وبالًا, وإن القلب إنما خُلِقَ ليخشع لربه, فإن لم يخشع فهو قاسٍ يستعاذ منه, {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} , وإنما يعتد بالنفس إذا تجافت عن دار الغرور, وأنابت إلى دار الخلود، فإذا كانت نهمة لا تشبع, كانت أعدى عدو للمرء، فهي أهمّ ما يستعاذ منه، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه, ولم يخشع قلبه, ولم تشبع نفسه. "رواه الترمذي والنسائي من حديث" عبد الله "بن عمرو بن العاص", ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة, والنسائي أيضًا عن أنس, وقد رواه مسلم في آخر حديث، ولفظه عن زيد بن أرقم: كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل, والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهمّ آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع, ومن قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع, ومن دعوة لا يستجاب لها" وكذا رواه أحمد والترمذي وغيرهما. "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك" أي: ذهابها مفردة في معنى الجمع؛ لأن المفرد المضاف يعمّ النعم الظاهرة والباطنة, وهي كل ملائم تحمد عاقبته، والاستعاذة من زوالها تتضمَّن الحفظ من الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيل, "وتحوّل" أي: تبدل "عافيتك" , ويفارق التحوّل الزوال، فيقال في كل ثابت لشيء ثم فارقه: زال، ولفظ أبي داود: تحويل, بزيادة تحتية, وهو تغيير الشيء وانفصاله عن غيره، فكأنَّه سأل دوام العافية وهي السلامة من الآلام والأسقام, "وفجأة" بضم الفاء والمد وفتحها والقصر- بغتة, "نقمتك" بكسر النون وقد تفتح, وسكون القاف- غضبك وعقوبتك. قال المازري: استعاذ من أخذه الأسف, "وجميع سخطك" بفتحتين- أي: الأسباب الموجبة لذلك، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها. "رواه مسلم وأبو داود" والترمذي "من حديث ابن عمرو بن العاص أيضًا" هذا وهم، فالذي فيهما وكذا الترمذي عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر، أي: بن الخطاب, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر" فقد المال أو فقر النفس, "والقلة" بكسر القاف- قلة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 أظلم أو أظلم" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أيضًا. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع, فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة, فإنها بئست البطانة" رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضًا. وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّيْن وغَلَبَة العدو، وشماتة   المال التي يخاف منها قلة الصبر وتسلط الشيطان أن يتذكَّر تنعُّم الأغنياء، أو المراد: القلة في أبواب البر ونقصان الخير, أو قلة العدد والمدد, أو الكل, "والذلة" بالكسر, "وأعوذ بك من أن أظلِم" بالبناء للفاعل، أي: أجور أو أعتدي, "أو أظلَم" بالبناء للمفعول، والظلم وضع الشيء في غير محله. رواه أبو داود" وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة", وسكت عليه أبو داود, "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق" بكسر المعجمة وقافين- النزاع والخلاف والتعادي؛ لأن كلًّا منها يكون في شق، أي: ناحية, أو هو العداوة, وفيها أيضًا المفاعلة, فتكون على بابها, "والنفاق" نفاق العمل, "وسوء الأخلاق"؛ لأن صاحبه لا يقر من ذنب إلّا وقع في آخر, والأخلاق السيئة من السموم القاتلة, والمهلكات والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن الله تعالى المقرّبة للشيطان, فحق أن يستعاذ منها. "رواه أبو داود والنسائي" في الصلاة "من حديث أبي هريرة" أيضًا، ورواه النسائي في الاستعاذة: "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع" أي: من ألمه وشدة مصابرته؛ لأنه يمنع راحة البدن, ويحلل المواد المحمودة بلا بدل, ويشوش الدماغ, ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطنة, "فإنه بئس الضجيع" أي: النائم معي في فراش واحد، سمَّاه ضجيعًا لملازمته لصاحبه في المضجع, تنبيهًا على أنَّ المراد الملازم المضر لا مطلق الجوع, "وأعوذ بك من الخيانة" مخالفة الحق بنقض العهد في السر, "فإنها بئست البطانة" بالكسر- خلاف الظهارة، ثم استعيرت لمن يخصه الإنسان بالاطِّلاع على باطن أمره، ولما كانت الخيانة أمرًا يبطنه الإنسان ويستره, سمَّاها بطانة, والخيانة خزي وهوان, وتكون في المال والنفس والعدد والكيل والوزن وغير ذلك, "رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضًا" بإسناد صحيح, وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم في حديث, "وكان" صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّيْن" ثقله وشِدَّته؛ حيث لا قدرة على وفائه، لا سيما مع الطلب, "وغلبة العدوّ" من يفرح بمصيبته ويحزن بمسرته, "وشماتة الأعداء" فرحهم ببلية تنزل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 الأعداء" رواه النسائي: وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهدم والهرم، وأعوذ بك من التردي ومن الغرق والحرق، وأعوذ بك من أن يتخبَّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا" رواه أبو داود والنسائي   بعدوهم، ختم بهذه الكلمة البديعة لكونها جامعة متضمِّنة لسؤال الحفظ من جميع ما يشمت به, وإنما قال ذلك خوفًا على أتباعه من التفرقة, وقلة انتفاع المؤلَّفة, لا لأنه يتأثّر من الشماتة مراعاةً لحظِّ نفسه لعصمته من ذلك، كذا أفاده بعض الكمل. "رواه النسائي" والحاكم وأحمد من حديث ابن عمر, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهدم" بسكون الدال- سقوط البناء ووقوعه على الشيء، وروي بفتح الدال اسم ما انهدم منه، وفي النهاية: الهدم محركًا البناء المهدوم, وبالسكون الفعل. قال ابن رسلان: يحتمل أن يراد بالهدم المستعاذ منه سقوط البناء المعقود أو المسقَّف لما يترتب عليه من فساد ما انهدم عليه من الحيوان وغيره, واحتياج مالكه إلى كلفة في تجديده, "والهرم" كِبَر السن المؤدي إلى تساقط القوى وذهاب العقل وتخبط الرأي, "وأعوذ بك من التردي" السقوط من عال كشاهق جبل أو في بئر, ونحو ذلك من الردي وهو الهلاك, "ومن الغرق" بفتح الراء على الصواب, وكسرها القياس، أي: الموت في الماء غريقًا, "والحرق" بفتحتين- الالتهاب بالنار. قال البيضاوي: استعاذ من هذه الأمور مع أنَّها شهادة؛ لأنها مجهدة مقلقة لا يثبت المرء عندها، فربما استزلَّه الشيطان: أخلَّ بدينه؛ ولأنه يعد فجأة وأخذة أسف، وقال الطيبي: لأنها في الظاهر مصائب بلايا ومحن كالأمراض السابقة المستعاذ منها، وأما ترتب ثواب الشهادة عليها فللبناء على أنه تعالى يثيب عبده المؤمن على المصائب كلها حتى الشوكة؛ ولأن الفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه, أنها متمنَّى كل مؤمن, وقد يجيب عليه توخي بهجة الشهادة والتحري فيها, بخلاق التردي وما معه، فيجب التحرز عنها, ولو سعى فيها عصى, "وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان" أي: يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني أو عقلي, "عند الموت" بنزعاته التي تَزِلّ بها الأقدام وتصرع الأحلام، وقد يستولي على المرء عند ذلك فيُضِلّه أو يمنعه التوبة, أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة، أو يؤيسه من الرحمة, أو يكره له الموت ويؤسّفه على الحياة الدنيا، فلا يرضى مما قضي عليه من الفناء, فيختم له بسوءٍ والعياذ بالله تعالى, وهذا تعليم للأمة, فإن شيطانه أسلم, ولا تسلط لأحد عليه بحالٍ, وكذلك الأنبياء لا تسلط للشيطان عليهم، فتخبيط الشيطان مجاز عن إضلاله وتسويله, "وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا" عن الحق أو عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 من حديث أبي اليسر. وكان يتعوّذ من عين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك. رواه النسائي. وكان إذا خاف قومًا قال: "اللهمَّ إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم" رواه أبو داود. وكان -صلى الله عليه وسلم- يعوّذ الحسَن والحسين, ويقول: "إن أباكما كان يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق - أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".   قتال الكفار؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يحرم عليه الفرار مطلقًا، فمن قيده بما إذًا حرَّم الفرار, إنما هو بالنظر لغيره, وأنه تعليم للأمة, "وأعوذ بك أن أموت لديغًا" فعيل بمعنى ملدوغ -بدال مهملة وغين معجمة، يستعمل في ذات سم كحية وعقرب، أمَّا بذال معجمة وعين مهملة ففي الإحراق بنار، كالكي وإعجامهما أو إهمالهما فمما خلت عنه كتب اللغة المتداولة. رواه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث أبي اليسر -بفتح التحتية والمهملة- كعب بن عمرو الأنصاري, "وكان" صلى الله عليه وسلم- يتعوّذ بالله من عين الجن والإنس, وفي رواية: كان يتعوّذ من الجانّ وعين الإنسان, فلمَّا نزلت المعوذتان -بكسر الواو مشددة- أخذ بهما, أي: صار يتعوّذ بهما وترك ما سوى ذلك" مما كان يتعوّذ به غير القرآن, لما ثبت أنه كان يرقي بالفاتحة، وكان يرقي بها تارة وبالمعوذتين أخرى, لما تضمنتاه من الاستعاذة من كل مكروه. "رواه النسائي" والترمذي وقال: حسن غريب, وابن ماجه, وصحَّحه الضياء في المختارة، كلهم عن أبي سعيد, "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا خاف قومًا" أي: شَرَّ قوم "قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم" أي: في مقابلة صدورهم؛ لتدفع عنا شرورهم, وتحول بيينا وبينهم, تقول: جعلت فلانًا في نحر العدو إذا جعلته قبالته يقاتل عنك ويحول بينك وبينه, "ونعوذ بك من شرورهم" المراد: نسألك أن تصد صدورهم عنَّا, وتدفع شرورهم وتكفينا أمورهم، وخصَّ النحر لأنَّه أسرع وأقوى في الدفع والتمكّن من المدفوع, والعدو إنما يستقبل بنحره عند مناهضة القتال, أو تفاؤلًا بنحرهم أو قتلهم. "رواه أبو داود" وأحمد الحاكم والبيهقي بأسانيد صحيحة عن أبي موسى، قال الحاكم: على شرط الشيخين, وأقرَّه الذهبي, "وكان -صلى الله عليه وسلم" يعوّذ -بذال معجمة "الحسن والحسين, ويقول: لهما: "إن أباكما" جدّكما الأعلى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام, "كان يعوّذ بها" أي: بالكلمات الآتية، ولبعض رواه البخاري: بهما -بالتثنية, "إسماعيل وإسحاق" ابنيه، وهي: "أعوذ" هذا لفظ البخاري, ووقع في الأذكار: أعيذكما "بكلمات الله" كلامه على الإطلاق أو المعوذتين أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 رواه البخاري والترمذي. وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ووجوب عصمته. وأجيب: بأنه امتثل ما أمره الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] . ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه تعالى، لما علم أنه قد غفر له، ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمنته وللتشريع،   القرآن، قاله المصنف, زاد الحافظ: وقيل: ما وعدته، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، والمراد بها قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} "التامّة" الكاملة أو النافعة أو الشافية أو المباركة أو القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب. قال الخطَّابي: استدلَّ أحمد به على أنَّ كلام الله غير مخلوق؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يحتج بمخلوق, "من كل شيطان" إنسي وجني, "وهامَّة" بشد الميم- واحدة الهوام, ذوات السموم، وقيل: كل ما له سم يقتل، فأمَّا ما لا يقتل بسمه فيقال له: السوام، وقيل: المراد: كل نسمة تهم بسوء, "ومن كل عين لامّة" بالتشديد أيضًا- التي تصيب ما نظرت إليه بسوء، وقال الخطابي: المراد بها كل داء وآفة تلم بالإنسان من جنون وخبل، وقال أبو عبيد: أصله من ألممت إلمامًا، وإنما قال: لامَّة؛ لأنه أراد أنها ذات لمم. وقال ابن الأنباري: يعني أنها تأتي في وقت بعد وقت، وقال: لامَّة؛ ليوافق لفظ هامَّة؛ لأنه أخفّ على اللسان. "رواه البخاري" في أحاديث الأنبياء, "والترمذي" وابن ماجه، كلاهما في الطب، وأبو داود في السنة والنسائي في التعوذ "وقد استشكل صدور هذه الأدعية" السابقة "ونحوها منه -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} ووجوب عصمته، وتقدَّم الكلام على هذه الآية, وأنه لا ذنب البتة، والمراد بالغفر الستر والمنع, كأنه قيل: ليستر عنك الذنب ويمنعك منه، فلا يمنع منك ذنب أصلًا, وهذا أحسن الأجوبة. "وأجيب بأنه امتثل ما أمره الله به م تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلى آخر السورة, "ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع" عطف تفسير "والشكر لربه لما علم" بكسر اللام "أنه قد غفر له, ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمته, أو للتشريع, والله أعلم", وقال الطيبي: استعاذ مما عصم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 والله أعلم. وكان -عليه السلام- عند الكرب -وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه ويغمه- يدعو: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرضين, رب العرش العظيم" رواه البخاري: وفي رواية: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم". قال الطيبي: صدّر هذا الثناء بذكر الرب؛ ليناسب كشف الكرب؛ لأنه مقتضى التربية، ومنه: التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التي تدل على تمام القدرة, والحلم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل لا يتصوّر منه.   منه ليلتزم خوف الله وإعظامه, والافتقار إليه، وليقتدي به, وليبين صفة الدعاء, "وكان -عليه السلام- عند الكرب -وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه" جملة معترضة لتفسير الكرب "يدعو" يقول: "لا إله إلا الله العظيم" المطلق البالغ أقصى مراتب العظمة، الذي لا يتصوّره عقل, ولا يحيط بكنهه بصيرة, ولا يعظم عليه شيء, "الحليم" الذي لا يستفزه غضب, ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام, فيؤخره مع القدرة عليه, "لا إله إلا الله رب السموات والأرضين, رب العرش العظيم" بجره نعت للعرش "رواه البخاري" ومسلم عن ابن عباس. وفي نسخة: رواه الشيخان وهي أصوّب, "وفي رواية" لها أيضًا عن ابن عباس، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض". وفي رواية: "ورب العرش الكريم" بجره كالعظيم قبله, صفة للعرش في رواية الأكثر، وروي برفعهما نعتان لرب, أو للعرش خبر مبتدأ محذوف قُطِعَ عمَّا قبله للمدح, وسبق شرحه مبسوطًا في الطب. "قال الطيبي: صدَّر هذا الثناء" المسمَّى دعاء؛ لأن الثناء على الكريم دعاء, ولا أكرم منه سبحانه "بذكر الرب ليناسب كشف الكرب؛ لأنه مقتضى التربية", والمراد بالتصدير ذكره مرارًا في أثنائه, إلا الابتداء به كما هو ظاهر, "ومنه التهليل المشتَمِل على التوحيد" بقوله: أوّل كل قرينة: لا إله إلا الله, "وهذا أصل التنزيهات الجلالية, والعظمة التي تدل على تمام القدرة" فلذا وصفّه بها, "والحلم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل" أي: الأحمق "لا يتصوّر منه حلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية. انتهى. وكان -عليه السلام- إذا همَّه أمر رفع رأسه إلى السماء وقال: "سبحان الله العظيم"، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة. فإن قلت: هذا ذكر ليس فيه دعاء. فالجواب: إن التعرّض للطلب تارة يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارةً بذكر أوصاف السيد من وحدانيته والثناء عليه. وقد قال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضك الثناء قال سفيان الثوري: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتُفِيَ بالثناء، فكيف بالخالق.   ولا كرم, وهُمَا" العظيم الحليم " أصل الأوصاف الإكرامية. انتهى". وتقدَّم عن ابن القيم أبسط من هذا في كلام المصنّف في الطب "وكان -عليه السلام- إذا همّه أمر" أقلقه وأزعجه "رفع رأسه" كذا في النسخ, والمتقدّم له في الطب عن الترمذي: إذا أهمَّه الأمر رفع طرفه, وهو الذي في الترمذي بلفظ: أهمَّه بالألف وتعريف الأمر, وطرفه، أي: بصره "إلى السماء، وقال" مستغيثًا متضرعًا: "سبحان الله العظيم" , وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم"، هذا باقي الحديث. "رواه الترمذي" تامًّا من حديث أبي هريرة", زاد في بعض النسخ هنا: "فإن قلت: هذا المذكور من الحديثين ذكر ليس فيه دعاء، فالجواب: إنّ التعرّض للطلب تارةً يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارةً يكون بذكر أوصاف السيد" المطلوب منه -سبحانه وتعالى, "من وحدانيته والثناء عليه" كما هنا "وقال أمية بن أبي الصلت" الذي آمن شعره وكفر قلبه "في مدح عبد الله بن جدعان" بضم الجيم وإسكان الدال ثم عين مهملتين- التيمي: "أأذكر حاجتي أم" لا أذكرها، بل "قد كفاني حياؤك -بمهملة وتحتية- عن ذكر حاجته, "إن شيمتك" بمعجمة- طبيعتك "الحياء" المقتضي مزيد الكرم المغني عن ذكر الحاجة "إذا أثنى عليك" مدحك "المرء يومًا" قطعة من الزمان, "كفاه من تعرضك" مصدر مضاف لمفعوله، أي: سؤاله لك "الثناء" أي: ثناؤه عليك. "قال سفيان الثوري" المتقدّم للمصنف في الطلب ابن عيينة: "فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفي بالثناء" عن السؤال, "فكيف بالخالق" وهذا مر في الطلب بأبسط من هذا، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" رواه أبو داود من حديث أنس. وقال -عليه السلام: "ما كربني أمر إلّا تمثَّل لي جبريل فقال: يا محمد, قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرًا" رواه الطبراني عن أبي هريرة. وتقدَّم في المقصد الثامن مزيد لذلك. وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في الضالّة: "اللهم رادَّ الضالة وهادي الضالّة أنت تهدي من الضلالة، اردد عليَّ ضالتي بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك". رواه الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر.   وقد سقط في غالب النسخ: "وكان" صلى الله عليه وسلم" "إذا كربه أمر" أي: شقَّ عليه وأهمَّه شأنه "قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" مما نزل بي. "رواه أبو داود من حديث أنس", وكذا الترمذي, "وقال -عليه السلام: "ما كربني أمر إلا تمثَّل لي" تصوّر "جبريل، فقال: يا محمد, قل: توكلت على الحي الذي لا يموت, والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا" فخيره كله لعباده، فلذا استحقّ الحمد على ذلك, "ولم يكن له شريك في الملك" الألوهية, "ولم يكن له ولي" ينصره "من" أجل "الذل" أي: لم يذل فيحتاج إلى ناصر, "وكبره تكبيرًا" عظِّمه عظمة تامَّة عن الولد والشريك، والذل وكل ما لا يليق به, أمره بأن يثق ب, ويسند أمره إليه في استكفاء ما ينوبه, مع التمسُّك بقاعدة التوكّل، وعرَّفه أن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يتوكّل عليه وحده, ولا يتوكّل على غيره من الأحياء الذين يموتون, "رواه الطبراني عن أبي هريرة. ورواه عنه أيضًا ابن مصري في أماليه، ورواه البيهقي وابن أبي الدنيا عن إسماعيل بن أبي فديك مرسلًا "وتقدَّم في المقصد الثامن" بميم فنون- وهو مقصد الطبّ النبوي "مزيد لذلك، وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول في الضالّة" أي: في دعائه لطلب ردّها، وتكرَّر ذلك منه على ما يفيده, كان مع المضارع في أحد الأقوال: "اللهم رادَّ الضالة" الإبل التي تبقى بمضيعة بلا رب للذكر والأنثى, "وهادي الضالة أنت تهدي" بفتح التاء- من هدى، أي: تنقذ وتخلص, "من الضلالة, أردد عليَّ ضالتي بعزِّك وسلطانك, فإنها من عطائك وفضلك". "رواه الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر: " ويجوز أنَّ هذا الدعاء ينفع لمن غاب عنه شيء حيوانًا كان أو غيره, وإن كان الأصل أنَّ الضالة الحيوان الضائع، ويقال لغيره ضائع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 وكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو هكذا بباطن كفَّيه وظاهرهما. رواه أبو داود عن أنس. وقال أبو موسى الأشعري -كما عند البخاري: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه. وعنده أيضًا من حديث ابن عمر: رفع -صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد". لكن في حديث أنس "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء", وهو حديث صحيح. ويجمع بينه وبين ما تقدّم "بأنَّ الرفع في الاستسقاء يخالف غيره, إما بالمبالغة إلى أن يصير اليدان في حذو الوجه مثلًا، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكّر على ذلك أنه ثبت في كلٍّ منهما حتى يُرَى بياض إبطيه، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإمَّا أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء.   ولفظه: "وكان" صلى الله عليه وسلم "يدعو هكذا بباطن كفيه" إلى السماء تارةً, إن دعا بنحو تحصيل شيء "وظاهرهما" إلى السماء تارةً, إن دعا بنحو دفع بلاء. "رواه أبو داود عن أنس" بن مالك, قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لدفع بلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء. انتهى. "وقال أبو موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري, كما عند البخاري" في المغازي, في قصة دعائه لأبي عامر عمّ أبي موسى بعد قتله شهيدًا في غزوة خيبر -بالراء: "دعا النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه" لعدم الشعر أصلًا, أو لدوام تعاهده, "وعنده" أي: البخاري "أيضًا من حديث ابن عمر" في آخر حديث مَرَّ في المغازي: "رفع -صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد" مرتين, كما في البخاري, "لكن في حديث أنس" في الصحيحين: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء. وهو حديث صحيح، ويجمع بينه وبين ما تقدَّم بأن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إمَّا بالمبالغة" في الرفع "إلى أن يصير اليدان حذو الوجه مثلًا في الداء" في غير الاستسقاء, يرفعهما "إلى حذو المنكبين", ولا يعكر على ذلك أنه" ثبت في كلٍّ منهما" حديث أبي موسى بلفظ: حتى رأيت، وحديث أنس بلفظ: "حتى يرى بياض إبطيه، بل" إضراب عن العكر, "يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإمَّا أنَّ الكفَّين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 قال الحافظ عبد العظيم المنذري: وبتعذير الجمع, فجانب الإثبات أرجح. انتهى. وروى الإمام أحمد والحاكم وأبو داود, أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حذو منكبيه. وفي رواية ابن ماجه: ويبسطهما. وهذا يقتضي أن تكونا متفرقتين مبسوطتين، لا كهيئة الاغتراف. قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء. وروى ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا ضَمَّ كفَّيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه. رواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف. وهل يمسح بهما وجهه؟ أمَّا في القنوت في الصلاة فالأصح لا، لعدم وروده   ويؤيده رواية مسلم عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى, فأشار بظهر كفيه إلى السماء، ولأبي داود عن أنس: كان يستسقى هكذا, ومد يديه وجعل بطونها مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه. "قال الحافظ عبد العظيم المنذري: وبتعذير الجمع" أي: تعذره, "فجانب الإثبات أرجح. انتهى". وعند أبي داود والترمذي, وحسَّنه عن سلمان رفعه: "إنَّ ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا" بكسر المهملة وسكون الفاء، أي: خاليتين, "وروى الإمام أحمد" والحاكم "وأبو داود، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حَذْوَ منكبيه" أي: مقابلهما. "وفي رواية ابن ماجه" ويبسطهما، وهذا يقتضي أن تكونا متفرقتين"؛ لأن كونهما حذو المنكبين يقتضي تفرقهما "مبسوطتين, لا كهيئة الاغتراف" الذي يجمعهما. "قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء", وكأنه عند الاستسقاء زاد مع ذلك, فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذياه, وبه حينئذ يُرَى بياض إبطيه. هذا بقية كلام الحافظ جاعلًا ذلك تأييدًا للجمع السابق أن المنفي الرفع البالغ. "وروى ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا ضمَّ كفَّيه" جمعهما, "وجعل بطونهما مما يلي وجهه" رواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف", وله شاهد عن أحمد عن السائب, "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا سأل الله جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه, "وهل يمسح بهما وجهه" فيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 فيه، قال البيهقي: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئًا، وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، وقد روي فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر ضعيف مستعمل عند بعضهم في الدعاء خارجها، فأمَّا فيها فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأَوْلَى أن لا يفعله. وقد دعا -صلى الله عليه وسلم- لأنس فقال: "اللهمَّ أكثر ماله وولده, وبارك له فيما أعطيته" رواه البخاري. وفي "الأدب المفرد" له، عن أنس قال: قالت أم سليم -وهي أم أنس- خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له". وفي الصحيح: إن أنسًا كان في الهجرة ابن تسع سنين، وكان وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل - وقيل: ثلاث, وله مائة وثلاث سنين. قاله خليفة وهو   تفصيل "أمَّا في القنوت في الصلاة فالأصح لا" يمسح "لعدم وروده فيه. "قال البيهقي: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئًا، وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة أنه يمسح ندبًا, وهذا قسيم قوله: أمَّا في القنوت, "وقد روي فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر ضعيف" أخرجه أبو داود عن بريدة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه, حسَّنه بعض الحفاظ, وهو "مستعمل عند بعضهم في الدعاء خارجها" فيستحبّ على المعتمد عند الشافعيه، وقال به بعض المالكية تفاؤلًا وتيمنًا بأن كفَّيه ملئتا خيرًا، فأفاض منه على وجهه "فأمَّا فيها, فعمل لم يثبت فيه خبر" عن المصطفى, "ولا أثر" عن صاحب, "ولا قياس, والأَوْلَى أن لا يفعله" تنزيهًا للصلاة عن فعلٍ لم يرد, "وقد دعا -صلى الله عليه وسلم- لأنس فقال: "اللهم أكثر" بفتح الهمزة وكسر المثلثة, "اله وولده, وبارك له فيما أعطيته" رواه البخاري" في الدعوات, ومسلم في الفضائل، كلاهما عن أنس، قال: قالت أم سليم للنبي -صلى الله عليه وسلم: أنس خادمك فادع له، فقال: فذكره, "وفي" كتاب الأدب المفرد له" للبخاري, "عن أنس قال: قالت أم سليم" بضم السين وفتح اللام, "وهي أم أنس: خويدمك" بالتصغير, تعنى: أنسًا "ألا تدعو له", قالت ذلك استعطافًا, "فقال" صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده, وأطل حياته, واغفر له" فزاده دعوتين على الثلاثة في الحديث قبله, والحديث واحد، غير أنَّ بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر. "وفي الصحيح: إن أنسًا كان في الهجرة ابن تسع سنين, وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل: وقيل: ثلاث" وتسعين, "وله مائة وثلاث سنين، قاله خليفة" ابن خياط -بخاء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 المعتمد. وأكثر ما قيل في سنِّه: إنه بلغ مائة سنة وسبع سنين، وأقلَّ ما قيل فيه: بلغ تسعًا وتسعين سنة. وأمَّا كثرة ولده، فروى مسلم, قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون على نحو المائة اليوم. وورد في حديثٍ رواه الشيخان أنَّ أنسًا قال: أخبرتني ابنتي أمينة -بضم الهمزة وفتح الميم، وسكون المثناة التحتية، بعدها نون- أنه دفن من صلبي إلى مقدِم الحجاج البصرة مائة وعشرون. وقال ابن قتيبة في "المعارف": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وخليفة بن بدر، وأنس, وزاد غيره.   معجمة وتحتية ثقيلة- العصفري البصري، شيخ البخاريّ، صدوق, إخباري علَّامة, مات سنة أربعين ومائتين "وهو المعتمد" كما قال الحافظ: "وأكثر ما قيل في سنّه أنه بلغ مائة سنة وسبع سنين" هذا يرد على قوله المصنف في شرح البخاري. وقيل: عاش مائة سنة وثلاثين سنة، وقيل: مائة وعشرين, "وأقل ما قيل فيه: بلغ تسعًا وتسعين سنة" مائة إلّا سنة, وهو آخر الصحابة موتًا بالبصرة "وأما كثرة ولده, فروى مسلم" عن إسحاق, وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة قال: حدَّثني أنس قال: جاءت بي أمّي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قد أزرتني بنصف خمارها, ورَّدتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله, هذا ابني أنيس, أتيتك به يخدمك, فادع الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده" , "قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير, وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون" أي: يبينون بالعدد، لكن لفظ مسلم: ليتعادّون على نحو المائة اليوم" بتاء ففوقية بعد التحتية، وبلفظ: اليوم. وورد في حديث رواه الشيخان: إن أنسًا قال: أخبرتني ابنتي أمينة" أي: بضم الهمزة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية بعدها نون" فها تأنيث تابعية مقبولة, روى عنها أبوها، "أنه دُفِنَ من صلبي إلى مقدم الحجاج" بن يوسف الثقفي "البصرة" أميرًا عليها, مائةٌ وعشرون" ذكورً وأناثًا، ثم مات له بعد ذلك خمسة، فعند الطبراني قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين. "وقال" محمد بن مسلم بن قتيبة" الدينوري "في" كتاب المعارف: كان بالبصرة ثلاثة من الرجال ما ماتوا حتى رأى كلّ واحد منهم من ولده مائة ذكره لصلبه: أبو بكرة، نفيع بن الحرث الثقفي الصحابي، مات بالبصرة سنة إحدى أو اثنتين وخمسين "وخليفة بن بدر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 رابعًا: وهو المهلب بن أبي صفرة وأخرج ابن سعد عن أنس قال: دعا لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر له" , فقد دفنت من صلبي مائة واثنين، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأرجو الرابعة. وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يؤتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان تفوح منه رائحة المسك. ورجاله ثقات.   وأنس، وزاد غيره رابعًا: وهو المهلب بن أبي صفرة" بضم المهملة وإسكان الفاء- واسمه: ظالم بن سارق العتكي -بفتح المهمة والفوقية- الأزدي البصري، من ثقات الأمراء, وكان عارفًا بالحرب, فكان أعداؤه يرمونه بالكذب, وهو من كبار التابعين, وله رواية مرسلة، قال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أميرًا أفضل منه، مات سنة اثنتين وثمانين على الصحيح. "وأخرج ابن سعد عن أنس قال: دعا لي النبي -صلى الله عليه وسلم" فقال: "اللهم أكثر ماله وولده" قال القاضي عياض: فيه جواز الدعاء بمثل هذا, وحجة لفضل الغنى، وذلك إذا لم يشغل عن القيام بحق الله تعالى، ولولا دعوته -صلى الله عليه وسلم- لخيف عليها الهلاك من كثرتهما؛ لأنه تعالى حذَّر من ذلك فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} يعني: في الغالب، وقال الأبي: ويحتمل أنه إنما دعا له بتكثير المال لما رأى عليه من حالة الفقر, وهو دليل ترديه بنصف الخمار, فلا دليل فيه على تفضيل الغنى, "وأطل عمره, واغفر له" , فقد دفنت من صلبي مائة واثنين, وإن ثمرتي لتحمل" بها الأشجار "في السنة" أي: كل سنة مرَّتين, لقد بقيت حتى سئمت كرهت الحياة, وأرجو الرابعة" وهي المغفرة. وفي رواية لمسلم: فدعا لي بكل خير, وكان في آخر ما دعا به لي أن قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" , قال القرطبي: قوله: دعا لي بكل خير, يحتمل أنه دعا له بهذا اللفظ, ويحتمل أن التعبير بذلك من أنس. انتهى. والثاني هو المتبادر من قوله: وكان في آخر, فإنه يشعر أن قبله دعوات, إمَّا أنه لم يحفظها أو لم يرد التحديث بها تفصيلًا، فأجملها بقوله: بكل خير. "وأخرج الترمذي عن أبي العالية" رفيع بن مهران "في ذكر أنس", لفظ الترمذي من طريق أبي خلدة قلت لأبي العالية: أَسَمِعَ أنس من النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: خدمه عشر سنين, ودعا له النبي -صلى الله عليه وسلم, وكان له بستان يؤتي" بالواو، أي: يعطي "في كل سنة الفاكهة مرتين, وفي نسخة: يأتي بالفاكهة -بالألف- أي: يجيء, والذي في الإصابة عن الترمذي عن أبي العالية: يحمل الفاكهة في السنة مرّتين, وكان فيه ريحان يفوح منه ريح المسك, ورجاله ثقات, ثم لا تعارض بين هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 ودعا -عليه الصلاة والسلام- لمالك بن ربيعة السلولي أن يبارك له في ولده، فولِدَ له ثمانون ذكرًا، رواه ابن عساكر. وأرسل -عليه الصلاة والسلام- إلى عليٍّ يوم خيبر، وكان أرمد فتفل في عينيه وقال: "اللهمَّ أذهب عنه الحر والبرد"، قال: فما وجدت حرًّا ولا بردًا منذ ذلك اليوم، ولا رمدت عيناي. وبعث -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا فقال: يا رسول الله، لا علم لي بالقضاء، فقال: " ادن مني" فدنا منه، فضرب يده على صدره وقال: "اللهم اهد قلبه وثبت   وبين ما رواه ابن ماجه برجالٍ ثقات عن عمرو بن غيلان الثقفي، والطبراني عن معاذ, والطبراني أيضًا برجالٍ ثقات عن فضالة بن عبيد مرفوعًا: "اللهمَّ من آمن بي وصدَّقني وعلم أنَّ ما جئت به هو الحق من عندك, فأقلل ماله وولده وحبّب إليه لقاءك، ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك, فأكثر ماله وولده وأطل عمره"؛ لأن فضل التقلل من الدنيا مختلف باختلاف الأشخاص، كما يشير إليه الحديث القدسي: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى .......... " الحديث، فمن الناس من يخاف عليه الفتنة بالمال والولد, وعليه ورد هذا الحديث, وإن كانت من صيغة عموم؛ لأنه يصدق بمؤمن يخاف عليه الفتنة بالمال والولد، ومنهم من لا يخاف عليه كأنس، وحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، فدعا لكلٍّ من أمته بما يصلح له, ولا تناقض بين أحاديثه، فقول الداودي أحمد بن نصران: حديث أنس يدل على بطلان هذا الحديث، وكيف يصح وهو -صلى الله عليه وسلم- يحض على النكاح والتماس الولد. ساقط، فقد أمكن الجمع, وقال الحافظ: لا منافاة بينهما؛ لاحتمال أن يكون ورد في حصول الأمرين معًا، لكن يعكر عليه حديث أنس, فيقال: كيف دعا له وهو خادمه بما كرهه لغيره، فيحتمل أنه قرن دعاءه له بذلك بأن لا يناله من قبله ضرر؛ لأن المعنى في كراهة كثرة اجتماع المال والولد إنما هو لما يخشى من الفتنة بهما, والفتنة لا يؤمن معها الهلكة. انتهى. "ودعا -عليه الصلاة والسلام- لمالك بن ربيعة" أبي مريم "السلولي" بمهملة ولامين- مشهور بكنيته, شهد بيعة الرضوان وحجة الوداع "أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون ذكرًا، رواه ابن عساكر" وابن منده "وأرسل -عليه الصلاة والسلام- إلى عليٍّ يوم خيبر وكان أرمد، فتفل" بفوقية ففاء- أقلّ من البزاق "في عينيه، وقال: "اللهم أذهب عنه الحر والبرد"، فما وجد حرًّا ولا بردًا منذ ذلك اليوم ولا رمدت عيناه" بكسر الميم وتقدَّمت القصة مبسوطة في خيبر, "وبعث -صلى الله عليه وسلم- عليًّا" زوج الزهراء "إلى اليمن قاضيًا فقال" حين أراد بعثه: "يا رسول الله, لا علم لي بالقضاء: فقال: "ادن مني" فدنا" قرب "منه فضرب" أي: وضع "يده على صدره وقال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 لسانه" قال علي: فوالله ما شككت في قضاء بين اثنين. رواه أبو داود وغيره. وعاد -صلى الله عليه وسلم- عليًّا من مرض فقال: "اللهم اشفه اللهمّ عافه" , ثم قال: "قم"، قال عليّ: فما عاد لي ذلك الوجع بعد. رواه الحاكم وصحَّحه البيهقي وأبو نعيم. ومرض أبو طالب فعاده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي, ادع ربك الذي تعبد أن يعافيني، فقال: "اللهم اشف عمي"، "فقام أبو طالب كأنَّما تسقط من عقال"، فقال: يا ابن أخي، إن ربك الذي تعبد ليطيعك، فقال: "وأنت يا عمَّاه, لئن أطعت الله ليطيعنك" رواه ابن عدي والبيهقي وأبو نعيم من حديث أنس. وتفرَّد به الهيثمي، وهو ضعيف. ودعا عليه السلام لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين، اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل". رواه البغوي وابن سعد. وفي رواية البخاري: "اللهم علمه الكتاب" فكان عالمًا بالكتاب، حبر الأمة،   اللهم اهد قلبه" بهمزة وصل, "وثبت لسانه" بشد الموحدة، أي: اجعله مستقرًّا دائمًا على النطق بالحق، أضاف الهداية للقلب؛ لأن المراد خلق الاهتداء فيه, والثبات للسان لتحركه عند النطق، فناسب الثبات بمعنى القرار "قال عليّ: والله ما شككت في قضاء بين اثنين". رواه أبو داود وغيره" كأحمد والترمذي من حديث عليّ, "وعاد -صلى الله عليه وسلم- عليًّا من مرض قال: "اللهم اشفه، اللهم عافه"، ثم قال: "قم" كأنه زال عنه المرض في الحال, فأمره بالقيام "قال عليّ: فما عاد لي لك الوجع بعد" بضم الدال, "رواه الحاكم وصحَّحه البيهقي وأبو نعيم" من حديث علي, "ومرض أبو طالب, فعاده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي, ادع ربك الذي تعبد أن يعافيني، فقال: "اللهم اشف عمي"، فقال أبو طالب: كأنما نشط" بكسر الشين "من عقال" كان معقولًا به فحلّ منه فقام سريعًا, "قال: "يا ابن أخي, إن ربك الذي تعبد ليطيعك، فقال: وأنت يا عمَّاه لئن أطعت الله ليطيعنك". "رواه ابن عدي والبيهقي وأبو نعيم من حديث أنس، وتفرَّد به الهيثم وهو ضعيف، ودعا عليه السلام لابن عباس" عبد الله، فقال: "اللهم فقهه في الدين، اللهمَّ أعط ابن عباس الحكمة" تحقيق العلم وإتقان العمل, "وعلمه التأويل" للقرآن، وقد جاء في رواية: "وعلمه تأويل القرآن". "رواه البغوي" الكبير في معجم الصحابة "وابن سعد" من حديث عمر بن الخطاب "وفي رواية البخاري" عن ابن عباس: ضمَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره، وقال: "اللهم علّمه الكتاب" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 بحر العلم، رئيس المفسرين, ترجمان القرآن، وكونه في الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى. وقال للنابغة الجعدي لما قال: ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في علم إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا   القرآن؛ لأن العرف الشرعي عليه، والمراد بالتعليم: ما هو أعمّ من حفظه والتفهّم فيه. وفي رواية للبخاري أيضًا: الحكمة بدل الكتاب، فقيل: المراد بها القرآن؛ لأن الحديث واحد، فرواه بعضهم بالمعنى، والأقرب أنَّ المراد بها الفهم في القرآن، وقيل: العمل به، وقيل السنة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية, وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل, وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة، ذكره الحافظ "فكان عالمًا بالكتاب حبر" بكسر الحاء أصح من فتحها عند أكثر اللغويين، وعند ثعلب والمحدثين الفتح، أي: عالم "الأمة, بحر العلم, رئيس المفسرين, ترجمان القرآن, وكونه في الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى" على أحد "وقال" صلى الله عليه وسلم "للنابغة" بنون وموحدة وغين معجمة- لقبه؛ لأنه ترك الشعر مدة في الجاهلية، ثم عاد إليه بعد أن أسلم، فقيل: نبغ, واسمه: قيس بن عبد الله بن عديس بن ربيعة بن جعدة، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: حبان بن قيس، وقيل: غير ذلك "الجعدي" نسبة إلى جدّه جعدة كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة "لما قال" أي: أنشده من قصيدته المطولة نحو مائتي بيت أولها: خليلي غضا ساعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا وقال ابن عبد البر: أظنه أنشدها كلها للنبي -صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتى على قوله فيها: أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابًا كالمجرة نيرا بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا غضب وقال: "أين المظهر يا أبا ليلى؟ " قلت: الجنة، قال: "أجل إن شاء الله" ثم قال: أنشدني فأنشدته. ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في علم إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا بوادر: جمع بادرة, وصفوة -بفتح المهملة وسكون الفاء، وأصدر: منع نفسه من المهالك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 "لا يف الله فاك" أي: لا يسقط الله أسنانك، وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف: قال: فأتى عليه أكثر من مائة سنة, وكان من أحسن الناس ثغرًا، رواه البيهقي وقال فيه: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة, وما ذهب له سن، وفي رواية ابن أبي أسامة: وكان من أحسن الناس ثغرًا, وإذا سقطت له سن نبتت له أخرى، وعند ابن السَّكن: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوته -صلى الله عليه وسلم.   "لا يف الله فاك" زاد في رواية: مرتين "أي: لا يسقط الله أسنانك, وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف". "قال" الراوي لهذا الحديث عن النابغة: "فأتي عليه أكثر من مائة سنة, وكان من أحسن الناس ثغرًا" بمثلثة ومعجمة، أي: أسنانًا، ففي القاموس في معاني الثغر والأسنان أو مقدمها أو ما دامت في منابتها. انتهى. وحمل ما هنا على الجميع, متعين لقوله بعده: وما ذهب له سن "رواه البيهقي وقال فيه" الراوي: "فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة, وما ذهب له سن، وفي رواية" الحرث "بن أبي أسامة" من طريق الحسن بن عبيد الله العنبري، قال: حدَّثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنشدته، فذكر القصة وقال في آخرها: "وكان من أحسن الناس ثغرًا", أي: أسنانًا, "وإذا سقطت له سن" لا يخالف قوله: وما ذهب له سن؛ لأنه لما "نبتت له أخرى" مكانها, كأنها لم تسقط. وكذا رواه السلفي في الأربعين البلدانية من طريق نصر بن عاصم الليثي عن أبيه: سمعت النابغة يقول: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكر القصة وفيها فقال: "صدقت, لا يف الله فاك"، قال عاصم: فبقي عمره أحسن الناس ثغرًا, كلما سقطت سن عادت أخرى وكان معمرًا. "وعند ابن السكن" في الصحابة والارقطني في المؤتلف والمختلف, عن كرز بن شامة: وكانت له وقادة عن النابغة، فذكر القصة بنحوها، وقال كرز: "فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد" حب الغمام "لدعوته -صلى الله عليه وسلم". وعند الخطابي في غريب الحديث, والمرهبي في كتاب العلم، وغيرهما عن عبد الله بن جراد: فرأيت أسنان النابغة كالبرد المنهل ما انقضمت له سن ولا انفلت. وحكي في الإصابة الخلاف في سنّه، فروى الحاكم عن النضر بن شميل عن المنتجع الأعرابي، قال: أكبر من لقيت النابغة الجعدي، قلت له: كم عشت في الجاهلية؟ قال: دارين، قال النضر: يعني: مائتي سنة، وقال الأصمعي: عاش مائتين وثلاثين سنة، وقال ابن قتيبة: مات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 وسقاه -عليه الصلاة والسلام- عمرو بن أخطب ماء في قدح قوارير، فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم جَمِّله" فبلغ ثلاثًا وتسعين سنة وما في لحيته ورأسه شعرة بيضاء، رواه الإمام أحمد من طريق أبي نهيك. قال أبو نهيك: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس في لحيته شعرة بيضاء. وصحَّحه ابن حبان والحاكم. وأخرج البيهقي عن أنس أن يهوديًّا أخذ من لحية النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهمَّ جَمِّله". فاسودت لحيته بعد أن كانت بيضاء. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: حلب يهودي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة، فقال: "اللهمَّ جَمِّله" فاسودَّ شعره حى صار أشد سوادًا من كذا وكذا. قال معمر: وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش   بأصبهان وله مائتان وعشرون سنة، وقال غيره: مائة وثمانون، وقيل: مائتان. قال أبو عبيدة معمر: كان النابغة ممن فكَّر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم, "وسقاه -عليه الصلاة والسلام- عمرو" بفتح العين "ابن أخطب -بمعجمة فمهملة- ابن رفاعة الأنصاري، الخزرجي، أبو زيد، مشهور بكنيته "ماء في قدح قوارير" أي: زجاج، وأما قوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 16] ، فقال البيضاوي: أي تلونت جامعةً بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها، أي: لين مَسِّها, بمعنى نعومتها, "فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم جَمِّله" فبلغ ثلاثًا وتسعين سنة وما في لحيته و" لا في "رأسه شعرة بيضاء". رواه الإمام أحمد من طريق أبي نهيك" قال: حدثني أبو زيد، قال: استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماء, فأتيته بقدح, فذكره. "قال أبو نهيك" بفتح النون- الأزدي البصري الثقة، اسمه: عثمان بن نهيك "فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس في لحيته شعرة بيضاء، وصحَّحه ابن حبان والحاكم", وقد عاش بعد ذلك، ففي رواية لأحمد أيضًا عن علباء بن أحمر عن أبي زيد بن أخطب، قال: مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهي ودعا لي, ووجدته زادنى جمالًا، قال -أي: علباء: فأخبرني غير واحد أنه بلغ بضعًا ومائة سنة أسود الرأس واللحية. "وأخرج البيهقي عن أنس أن يهوديًّا أخذ من لحية النبي -صلى الله عليه وسلم" شيئًا يحسن إزالته "فقال: "اللهمَّ جَمِّله" فاسودَّت لحيته بعد أن كانت بيضاء، وقال عبد الرزاق بن همام أحد الحفاظ: "أخبرنا معمر" بن راشد "عن قتادة" بن دعامة "قال: حلب يهودي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة، فقال: "اللهمَّ جَمِّله" فاسودَّ شعره حتى صار أشد سوادًا من كذا وكذا". "قال معمر: وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش تسعين سنة" بفوقية قبل السين "لم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 تسعين سنة فلم يشب، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود في المراسيل, والبيهقي وقال: مرسل شاهد لما قبله. وقال -صلى الله عليه وسلم- لابن الحمق الخزاعي، وقد سقاه -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ متعه بشبابه"، فمرَّت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء. رواه أبو نعيم وغيره. وجاءته فاطمة وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها -صلى الله عليه وسلم, ووضع يده على صدرها ثم قال: "اللهمَّ مشبع الجاعة لا تجع فاطمة بنت محمد". قال عمران بن الحصين: فنظرت إليها وقد علاها الدم على الصفرة في وجهها، ولقيتها بعد فقالت: ما جعت يا عمران، ذكره يعقوب بن سليمان الإسفرايني في دلائل الإعجاز. ودعا -صلى الله عليه وسلم- لعروة بن الجعد البارقي فقال: "اللهمَّ بارك له في صفقة يمينه"، قال: فما اشتريت شيئًا قط إلا وربحت فيه.   يشب، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود في المراسيل والبيهقي، وقال: مرسل شاهد لما قبله" من مرسل قتادة, "وقال -عليه الصلاة والسلام- لابن الحمق" بفتح المهملة وكسر الميم وقاف- واسمه: عمرو -بفتح العين- ابن الحمق بن كاهل "الخزاعي" الكعبي: "وقد سقاه -عليه الصلاة والسلام" لبنا "اللهمَّ متِّعه بشبابه"، فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء" يعني: إنه استكمل الثمانين لا أنه عاش بعد ذلك ثمانين، قاله في الإصابة: "رواه أبو نعيم وغيره" من حديثه, وقد سكن الكوفة ثم مصر, ثم قتل زمن معاوية ووجه إليه برأسه, "وجاءته" صلى الله عليه وسلم "فاطمة ابنته, سيدة النساء "وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها -صلى الله عليه وسلم- ووضع يده" الميمونة على صدرها، ثم قال: "اللهمَّ مشبع الجاعة" جمع جائع "لا تجع فاطمة بنت محمد"، قال عمران بن الحصين: فنظرت إليها" عقب الدعاء "وقد علاها الدم على الصفرة في وجهها, ولقيتها بعد فقالت: ما جعت يا عمران بعد الدعاء. "ذكره يعقوب بن سليمان الإسفرايني في دلائل الإعجاز, ودعا -عليه الصلاة والسلام- لعروة بن الجعد" ويقال: ابن أبي الجعد، وصوَّبه علي بن المديني, وقال ابن قانع: اسم أبي الجعد عياض، وزعم الرشاطي أنه عروة بن عياض بن أبي الجعد, وأنه نسب إلى جده كما في الإصابة "البارقي" بالموحدة والقاف- حضر فتوح الشام، ثم سيِّره عثمان إلى الكوفة, وهو أول قاض بها, وحديثه عند أهلها: لما أرسله يشتري بدينار فاشترى به شاتين, باع إحداهما بدينار وجاء به, وبالشاة الأخرى له -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم بارك له في صفقة يمينه"، قال عروة: "فما اشتريت شيئًا قط إلا ربحت فيه" والحديث مشهور في البخاري وغيره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 وقال لجرير البجلي, وكان لا يثبت على الخيل، وضرب في صدره: "اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا" قال: فما وقعت عن فرسي بعد. وقال لسعد بن أبي وقاص: "اللهم أجب دعوته" فكان مجاب الدعوة. رواه البيهقي والطبراني في الأوسط. ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة. رواه الشيخان عن أنس، زاد البيهقي من وجه آخر: قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب تحته ذهبًا أو فضة. الحديث. قال القاضي عياض: وقد فتح الله عليه ومات, فحفر الذهب من تركته بالفئوس حتى مجلت فيه الأيدي، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفًا، وكن أربعًا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إحداهنَّ؛ لأنه طلقها في مرض موته على   "وقال -صلى الله عليه وسلم "لجرير" بن عبد الله "البجلي, وكان لا يثبت على الخيل" أي: يسقط لعدم اعتياده ركوبها, وكان يخاف السقوط عنها حال جريها, "وضرب في صدره: "اللهم ثَبِّته" فدعا له بأكثر مما طلب وهو الثبوت مطلقًا, "واجعله هاديًا" لغيره "مهديًّا" في نفسه, "قال" جرير: فما وقعت عن فرس بعد" والحديث في الصحيح, "وقال لسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري: "اللهم أجب دعوته، فكان مجاب الدعوة" بعين ما يدعو به. "رواه البيهقي والطبراني في الأوسط", وهو في الترمذي من حديث ابن أبي حازم، عن سعد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" فكان لا يدعو إلّا استُجيبَ له "ودعا" صلى الله عليه وسلم "لعبد الرحمن بن عوف" الزهري "بالبركة". "رواه الشيخان عن أنس" قال: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: "مهيم"، قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، فقال: "بارك الله لك, أَوْلِم ولو بشاة" زاد البيهقي من وجه آخر. "قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب تحته ذهبًا أو فضة ..... الحديث". "قال القاضي عياض: وقد فتح الله عليه، ومات, فحفر الذهب من تركته بالفئوس حتى مجلت" بفتح الميم والجيم وتكسر الجيم- أي: تنقطت "فيه الأيدي" أي: صار فيها بين الجلد واللحم ماء. قاله الجوهري: "وأخذت كل زوجة ثمانين ألفًا وكن أربعًا، وقيل:" أخذت كل واحدة من الأربع "مائة ألف، وقيل: بل صولحت إحداهنَّ" وهي تماضر -بضم الفوقية وكسر الضاد المعجمة- الكلبية الصحابية "لأنه طلَّقها في مرض موته على ثمانين ألفًا، وأوصى بخمسين ألفًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 ثمانين ألفًا. وأوصى بخمسين ألفًا بعد صدقاته الفاشية في حياته، وعوارفه العظيمة، أعتق يومًا ثلاثين عبدًا، وتصدَّق مرة بعير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء, فتصدَّق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها. وذكر المحب الطبري مما عزاه للصفوة عن الزهري: إنه تصدق بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة. ودعا على مضر فأقحطوا حتى أكلوا العلهز -وهو الدم بالوبر- حتى استعطفته قريش. ولما تلى -عليه الصلاة والسلام: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال عتيبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم، فقال: "اللهمَّ سلط عليه كلبًا من كلابك". فخرج عتيبة مع أصحابه في عير إلى الشام حتى إذا كانوا بالشام زأر الأسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: في أي شيء ترعد؟ فوالله ما نحن وأنت في هذا إلا سواء، فقال   بعد صدقاته الفاشية" أي: الكثيرة "في حياته, وعوارفه" أي: أفعاله المعروفة, جمع عارفة "العظيمة, أعتق يومًا ثلاثين عبدًا, وتصدَّق مرة بعير" بكسر العين "فيها سبعمائة بعير وردت عليه" من تجارته "تحمل من كل شيء, فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها". "وذكر المحب الطبري مما عزاه للصفوة" لابن الجوزي "عن الزهري, أنه تصدق بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل" المغازين "على خمسمائة فرس في سبيل الله" الجهاد, "ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة" من الجمال "في سبيل الله وكان عامَّة ماله من التجارة, ودعا" صلى الله عليه وسلم "على مضر" بقوله: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" , "فأقحطوا حتى أكلوا العلهز" بكسر المهملة والهاء بينما لام ساكنة وآخره زاي "وهو الدم بالوبر, حتى استعطفته قريش" فدعا لهم "ولما تلا -عليه الصلاة والسلام: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، قال عتيبة" بالتصغير "ابن أبي لهب" وأما أخوه عتبة المكبر فأسلم في فتح مكة كما مَرَّ: "كفرت برب النجم، فقال: "اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك" فخرج عتيبة مع أصحابه في عير" إبل "إلى الشام" في تجارة "حتى إذا كانوا بالشام" بمحل يقال له الزرقاء, "زأر" بزاي فراء فهمزة- أي: صوت "أسد، فجعلت فرائصه ترعد" بضم العين وفتحها "فقيل له: في أي شيء ترعد، فوالله ما نحن وأنت في هذا إلّا سواء، فقال: إن محمدًا دعا علي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 إن محمدًا دعا علي، ولا والله ما أظلت هذه السماء من ذي لهجة أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه حتى جاء النوم، فأحاطوا به وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم، ووسَّطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق رءوسهم رجلًا رجلًا حتى انتهى إليه فمضغه مضغة، وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس، ومات. ذكره يعقوب الإسفرايني. وتقدَّم في ذكر أولاده -عليه الصلاة والسلام- قصة بنحو هذا. وعن مازن الطائي -وكان بأرض عمان- قلت: يا رسول الله، إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر والنساء، وألحت علينا السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذراري والرجال، وليس لي ولد، فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء   ولا والله ما أظلَّت هذه السماء من ذي لهجة" بفتح الهاء أفصح من سكونها، قاله الزمخشري: "أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه حتى جاء النوم" أي: وقته "فأحاطوا به" داروا حوله "وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم, ووسَّطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق:" يشمّ "رءوسهم رجلًا رجلًا حتى انتهى إليه، فمضغه مضغة وهو يقول: ألم أقل لكم أن محمدًا أصدق الناس ومات". "ذكره يعقوب الإسفرايني, وتقدَّم في ذكر أولاده -عليه الصلاة والسلام- قصة بنحو هذه" ذكر فيها أن سبب الدعاء أن عتيبة لما فارق السيدة أم كلثوم قال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك, فدعا عليه، فيحتمل تعدّد السبب, "وعن مازن" بزاي ونون- ابن العضوية -بفتح العين المهملة وضم الضاد المعجمة- ابن غراب "الطائي", ذكره ابن السكن وغيره في الصحابة, "وكان بأرض عمان: "بضم المهملة وخفة الميم- موضع باليمن، وفي خبره هذا أنه أنشد النبي -صلى الله عليه وسلم: إليك رسول الله خبت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج لتشفع لي يا خير من وطيء الحصى ... فيغفر لي ذنبي وارجع بالفلج والفلج -بضم الفاء وسكون اللام وجيم: الفوز، وتجوب -بجيم وموحدة: تقطع، وخبت -بخاء معجمة وموحدة: سارت سيرًا شديدًا، ويروى: جئت -بمهملة مضمومة ومثلثة مبني للمفعول "قلت: يا رسول الله, إني امرؤ مولع" متعلّق "بالطرب" بفتحتين- الخفة واللعب والميل إلى اللهو, "وشرب الخمر والنساء، وألحت" دامت "علينا السنون" القحط والجدب "فأذهبنَّ الأموال وأهزلنَّ" من الهزال -بالزاي- ضد السمن, "الذراري والرجال" من الجوع, وليس لي ولد, فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء" بالقصر الغيث والمطر والخصب "ويهب لي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 ويهب لي ولدًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن, وبالحرام الحلال, وأته بالحياء، وهب له ولدًا" قال مازن: فأذهب الله عني كل ما كنت أجد، وأخصبت عمان, وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لي حيان بن مازن. رواه البيهقي. ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بتبوك, صلى إلى نخلة, فمَرَّ رجل بينه وبينها, فقال -صلى الله عليه وسلم: "قطع صلاتنا قطع الله أثره" فأقعد فلم يقم. رواه أبو داود والبيهقي، لكن بسند ضعيف. وأكل عنده -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال: "كل بيمينك" قال: لا أستطيع، قال: "لا استطعت" فما رفعها إلى فِيهِ بعد. والرجل هو بسر -بضم الموحدة وسكون المهملة- ابن راعي العير -بفتح العين وسكون المثناة التحتية.   ولدًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وأته بالحياء وهب له ولدًا"، قال مازن: فأذهب الله عني كل ما كنت أجد وأخصبت عمان" أسقط من الحديث: وحججت حججًا, وحفظت شطر القرآن, "وتزوَّجت أربع حرائر, ووهب الله لي حيان" بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة تحت، كذا رأيته مضبوطًا, ولا أعرف له ترجمة، قاله في نور النبراس "ابن مازن". رواه البيهقي" في الدلائل، والطبراني وابن السكن والفاكهي في كتاب مكة، وابن قانع كلهم من طريق هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: حدَّثني عبد الله العماني، قال: قال مازن بن العضوية: فذكر حديثًا طويلًا اقتصر المصنف منه على حاجته, "ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بتبوك, صلى إلى نخلة، فمَرَّ بينه وبينها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قطع صلاتنا" أي: فعل: ما ينقص ثوابها "قطع الله أثره", ولعله فهم منه انتهاك حرمة الله، فدعا عليه لأنه كان لا ينتقم لنفسه, "فأقعد فلم يقم" أي: فلم يستطع القيام بعد. "رواه أبو داود والبيهقي, لكن بسند ضعيف. وأكل عنده -صلى الله عليه وسلم- رجل بشماله، فقال: "كل بيمينك" قال: "لا أستطيع"، قال: "لا استطعت"، فما رفعها إلى فيه بعد" فما استطاع رفعها، ذلك لا أنه تركه مع القدرة عليه، والحديث رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع، وزاد في رواية مسلم: لم يمنعه إلا الكبر، واستدلّ به عياض على أنه كان منافقًا، وزيفه النووي بأن ابن مندة وأبا نعيم وابن ماكولا وغيرهم ذكروه في الصحابة، قال في الإصابة: وفيه نظر؛ لأن كل من ذكره إنما استند لهذا الحديث، فالاحتمال قائم, ويمكن الجمع بأنه لم يكن في تلك الحالة أسلم، ثم أسلم بعد, "والرجل" المبهم في رواية مسلم "هو بسر -بضم الموحدة وسكون المهملة- كما ضبطه الدارقطني وابن ماكولا وغيرهما، وقيل: فيه بشر بالمعجمة، ذكره ابن منده ونسبه أبو نعيم إلى التصحيف، لكن في سنن البيهقي، أنه بمعجمة أصح "ابن راعي العير -بفتح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 وطلب -صلى الله عليه وسلم- معاوية بن أبي سفيان، فقيل له: إنه يأكل، فقال في الثانية: "لا أشبع الله بطنه" فما شبع بطنه أبدًا، رواه البيهقي من حديث ابن عباس، وكان معاوية رديفه يومًا فقال: يا معاوية، ما يليني منك"؟ قال: بطني؟ قال: "اللهمّ املأه علمًا وحلمًا". رواه البخاري في تاريخه. وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ثروان: "اللهم أطل شقاءه وبقاءه" فأدرك شيخًا كبيرًا شقيًّا يتمنَّى الموت. وكم له -صلى الله عليه وسلم- من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضي عياض بابًا في   العين وسكون المثناة التحتية" الأشجعي، كما سُمِّيَ بذلك في رواية الدارمي وابن حبان والطبراني عن سلمة، ولا دلالة فيه على وجوب الأكل باليمين؛ لأن الدعاء ليس لترك المستحب، بل لقصده المخالفة كبرًا بلا عذر، ومَرَّ لذلك مزيد في المقصد الثالث,: "وطلب -صلى الله عليه وسلم- معاوية بن أبي سفيان, فقيل له: إنه يأكل، فقال في الثانية: "لا أشبع الله بطنه" دعاء عليه على المتبادر، ويدل عليه قول: "فما شبع بطنه أبدًا", زعم أنه دعا له بأنَّ الله يرزقه القناعة ليس بشيء، ولا يؤيده دعاؤه له في الحديث الثاني؛ لأنهما قصتان. "رواه البيهقي من حديث ابن عباس" وفي مسلم، عنه: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "ادع لي معاوية", وكان كاتبه "وكان معاوية رديفه يومًا، فقال له: يا معاوية, ما يليني منك، قال بطني، قال: "اللهم املأه" أي: البطن؛ لأنه مذكر "علمًا وحلمًا" رواه البخاري في تاريخه, وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ثروان" بمثلثة وراء- الراعي التميمي، ذكره الدولابي في الكنَى. وأخرج عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن زكريا، عن عبد الملك بن هارون, من عنيزة، قال: حدثني أبي، سمعت أبا ثروان يقول: كنت أرعى لبني عمرو بن تميم في إبلهم، فهرب النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش، فجاء حتى دخل في إبلي، فنفرت الإبل؟ فإذا هو جالس، فقلت: من أنت؟ فقد نفرت إبلي, قال: "أردت أن أستأنس إليك وإلى إبلك"، فقلت: من أنت؟ قال: "ما يضرك أن لا تسألني؟ " قلت: إني أراك الذي خرجت نبيًّا، قال: "أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"، قلت: اخرج من إبلي فلا يبارك الله في إبل أنت فيها، فقال: "اللهمَّ أطل شقاءه وبقاءه"، فأدرك شيخًا كبيرًا شقيًّا" من الشقاء وهو التعب، لفظ الرواية المذكورة: قال هارون: فأدركته شيخًا كبيرًا "يتمنَّى الموت" فقال له القوم: ما نراك يا أبا ثروان إلا هالكًا، دعا عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: كلا, إني أتيته بعدما ظهر الإسلام، فأسلمت واستغفر لي, ولكن دعوته الأولى سبقت، وتابعه محمد بن سليمان الباغندي عن عبد الملك وعبد الملك متروك. ذكره في الإصابة: وكم للتكثير, صلى الله عليه وسلم "له من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 الشفاء ذكر فيه طرفًا منها، وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفرايني في كتابه "دلائل الإعجاز" فكم أجابه الله تعالى إلى مسئوله، وأجناه من شجرة دعائه ثمرة سؤله. وأما حديث أبي هريرة عند البخاري, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبيء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" , فقد استشكل ظاهره بما ذكرته، وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم- من الدعوات المجابة، فإن ظاهره أنَّ لكل نبي دعوة مجابة فقط. وأجيب: بأنَّ المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهي على رجاء الإجابة، وقيل: معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي: أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى" وقيل: لكل نبي منهم دعوة عامّة مستجابة في أمته، إما   عياض بابًا في الشفاء، ذكر فيه طرفًا" أي: بعضًا "منها, وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفرايني في كتابه دلائل الإعجاز: فكم" للتكثير, "أجابه الله تعالى إلى مسئوله وأجناه" بجيم ونون، أي: أعطاه من شجرة دعائه ثمرة سؤله", شبَّه الدعاء ببستان ذي شجر، فهو استعارة بالكناية، وإثبات الشجر تخييل, والثمرة ترشيح، والمعنى: إنَّ الله أعطاه ما سأل على أكمل وجه، وتهيأ ما سأله في دعائه. "وأمَّا حديث أبي هريرة عند البخاري" ومسلم وغيرهما "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل نبي دعوة" وقوله: "مستجابة" إنما وقعت في رواية أبي ذر وحده للبخاري, ولم تقع لباقي رواته, ولا هي في الموطأ الذي أخرجه البخاري من طريقه ولا في مسلم "يدعو بها" بهذه الدعوة "وأريد أن أختبيء" بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة فهمزة- أي: أدَّخِر "دعوتي" المقطوع بإجابتها "شفاعة لأمتي في الآخرة" في أهمّ أوقات حاجتهم. "فقد استشكل ظاهره بما ذكرته" من الأحاديث, وفيها كلها أنه استجيب له ما دعا به, "وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- من الدعوات المجابة" التي لا تحصى "فإن ظاهره أنَّ لكل نبي دعوة مستجابة فقط" تعليل للإشكال. وأجيب بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها, وما عدا ذلك من دعواتهم فهي على رجاء الإجابة" على غير يقين ولا وعد. "وقيل: معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي: هي "أفضل دعواته, ولهم دعوات أخرى" ليست أفضل وإن كانت مجابة. "وقيل: لكل نبي منهم دعوة عامَّة مستجابة في أمته، إما بإهلالكم وإما بنجاتهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 بإهلاكم، وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة: فمنها ما يستجاب, ومنها ما لا يستجاب. وقيل: لكل نبي منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] وقول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} [مريم: 6] وقول سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . وأما قول الكرماني في شرحه على البخاري: فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لكلّ نبي دعوة مستجابة، وإجابة الباقي في مشيئة الله تعالى، فقال العيني: هذا السؤال لا يعجبني؛ لأن فيه بشاعة، وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- مستجابة. وقوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" لا ينفي ذلك؛ لأنه ليس بمحصور. انتهى. ولم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا بشيء فلم يستجب له. وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء؛ حيث آثر أمته   وأما الدعوات الخاصة: فمنها ما يستجاب, ومنها ما لا يستجاب" بعين المطلوب لا مطلقًا، فلا يرد أن آحاد المؤمنين يستجاب لهم بإحدى ثلاث كما مَرَّ. "وقيل: لكلٍّ منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} فهذه دعوة لإصلاح دنياه, "وقول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} فهذه لنفسه, "وقول سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي} لا يكون {لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فهذه لنفسه. "وأما قول الكرماني" محمد بن يوسف "في شرحه على البخاري: فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم, قلت: لكل نبي دعوة مستجابة, وإجابة الباقي في مشيئة الله" تعالى، فيجوز أن لا يستجاب بعضها في الدنيا وأكثرها مجاب, "فقال العيني" بدر الدين محمود: "هذا السؤال لا يعجبني؛ لأن فيه بشاعة" كراهة "وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- مستجابة". "وقوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" لا ينفي ذلك؛ لأنه ليس بمحصور. انتهى" أي لم يقل: لا يستجاب لكل نبي إلّا دعوة, وهذا قد سبقه إلى نحوه بعض شراح المصابيح، وقد تعقَّبه الطيبي بأن غفلة عن الحديث الصحيح. "سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنين ومنعنى واحدة" انتهى. وبه يتعقّب أيضا قوله: "ولم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا بشيء فلم يستجب له" بل نقل كما رأيت "وفي هذا الحديث بيان فضيلة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره -صلوات الله وسلامه عليهم. وظاهر الحديث يقتضي أنه -عليه السلام- أخر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع، ويحتمل أن يكون المؤخر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ومنفعتها، وأما طليها فحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا. وقد أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- الترقي في مراتب التوحيد بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} [محمد: 19] فإنه ليس أمرًا بتحصيل ذلك العلم؛ لأنه عالم بذلك، ولا بالثبات؛ لأنه معصوم، فتعيِّن أنه يكون للترقي في مراتبه ومقاماته، إشارة إلى أنَّ العلم به تعالى, والسير إليه لا نهاية له أبدًا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية في العالم منتظم في سلك تحقيقها، وستثمر من أفنان طواياها، ولذا   نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء؛ حيث آثر أمته على نفسه" فلم يدعها لنفسه "و" "أهل بيته يدعوته المجابة" فلم يدع بها لهم "ولم يجعلها دعاء عليهم" أي: أمته "بالهلاك كما وقع لغيره" نوح -صلوات الله وسلامه عليهم", ووجه الفضيلة للمصطفى مع أن نوحًا إنما دعا بعد أن أوحي إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} , إنَّ نبينا -صلى الله عليه سلم- لما أتى له ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، قال: "لا إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله" صلى الله عليهم أجمعين, "وظاهر الحديث يقتضي أنه -عليه السلام- أخَّر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع" فيه, فهو خبر، فذلك اليوم, والعائد محذوف، ويحتمل نصب اليوم ظرفًا فلا حذف. "ويحتمل أن يكون المؤخَّر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ونفعها، وأما طلبها, فحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا" لكنَّه احتمال بعيد مخالف للظاهر, "وقد أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- بالترقي في مراتب التوحيد، بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} , فإنه ليس أمرًا بتحصيل ذلك العلم؛ لأنه عالم بذلك" فيلزم الأمر بالموجود في المأمور "ولا بالثبات" الدوام عليه؛ "لأنه معصوم" فلا يمكن منه عدم الثبات حتى يؤمر به "فتعيِّن أن يكون للترقي في مراتبه ومقاماته, إشارةً إلى أن العلم به تعالى, والسير إليه لا نهاية له أبدًا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية في العالم منتظم" داخل "في سلك تحقيقها ومستثمر" أي: مثمر, فالسين زائدة, "من أفنان" جمع فنن، أي: أغصان، أي: خواص "طواياها" أي: المراتب العلية, جميع طويّة بمعنى مطوية، أي: ما خفي من تلك المراتب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 اكتفى بعلمها له -صلى الله عليه وسلم- في الآية, فالشأن كله في تصحيح التوحيد وتجريده وتكميله، وقد قال تعالى له -عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} [المزمل: 8] وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] ؛ لأنه لا بُدَّ في أول السلوك من الذكر باللسان مدةً, ثم يزول الاسم ويبقى المسمَّى، فالدرجة الأولى هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} [المزمل: 8] والمرتبة الثانية هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّك} ، وفي استيفاء مباحث ذلك طول يخرج عن الغرض، وقد تقدَّم جملة من أذكاره مفرَّقة في الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة. كما رواه عنه أبو هريرة عند البخاري. وظاهره أنَّه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد: أنه -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجّح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من   "ولذا اكتفى بعلمها له -صلى الله عليه وسلم- في الآية، فالشأن كله في تصحيح التوحيد وتجريده" عن شوائب الشرك وتكميله" بالترقي فيه. "وقد قال تعالى له -عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} ، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي: سرًّا {تَضَرُّعًا} تذللًا {وَخِيفَةً} خوفًا منه؛ "لأنه لا بُدَّ في أول السلوك من الذكر باللسان مدة، ثم يزول الاسم ويبقى المسمَّى، فالدرجة الأولى هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} والرتبة الثانية هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وفي استيفاء مباحث ذلك طول يخرج عن الغرض", وهذا شذا عبقة صوفية. "وقد تقدَّم جملة من أذكارها مفرقة في الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك كالصيام, فلا حاجة إلى إعادتها "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة" إظهارًا للعبودية, وافتقارًا لكرم الربوبية, وتعليمًا لأمَّته, أو من ترك الأولى، أو تواضعًا، أو لأنه كان دائم الترقي في معارج القرب، فكلما ارتقى درجة ورأى ما قبلها دونها استغفر، لكن قال الفتح: إن هذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك. "كما رواه عنه أبو هريرة" قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، هذا لفظه "عند البخاري" في الدعوات, وليس فيه: والليلة, "وظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد أنه -صلى الله عليه وسلم- يقول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 طريق مجاهد عن ابن عمر, أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: إن كنَّا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" مائة مرة. ويحتمل أن يريد بقوله في حديث أبي هريرة "أكثر من سبعين مرة" المبالغة, ويحتمل أن يريد العدد بعينه، ولفظ "أكثر" مبهم، فيمكن أن يفسَّر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة، من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" لكن خالف معمر أصحاب الزهري في ذلك.   هذا اللفظ بعينه، ويرجّح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد" أي: مقبول "من طريق مجاهد عن ابن عمر، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله" أي: النسائي "من رواية محمد بن سوقة -بضم المهملة- الغنوي -بفتح المعجمة والنون الخفيفة- أبي بكر الكوفي، العابد الثقة، المرضي من رجال الجميع "عن نافع عن ابن عمر، بلفظ: إن" مخففة من الثقيلة، أي: إنا "كنَّا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس: "رب اغفر لي وتب علي إنك التواب الغفور" مائة مرة". "ويحتمل أن يريد بقوله في حديث أبي هريرة: "أكثر من سبعين مرة" المبالغة" والتكثير، فإن العرب تضع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، وقد قال أعرابي لمن أعطاه شيئًا: سبع الله لك الأجر، أي: كثره لك، ويدل عليه حديث البخاري مرفوعًا: "إن عبدًا أذنب ذنبًا، فقال: رب إني أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فغفر له"، وفي آخره: "علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به, اعمل ما شئت فقد غفرت لك". "ويحتمل أن يريد به العدد بعينه" كما قال في النهاية والمطالع: كل ما جاء في الحديث من ذكر الأسباع، قيل: هو على ظاهره وحصر عدده، وقيل: هو بمعنى التكثير, "و" لكن لفظ: "أكثر" مبهم, فيمكن أن يفسّر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة"؛ لأن الحديث يفسر بالحديث. "وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة من رواية معمر عن الزهري" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة "بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" , لكن خالف معمر أصحاب الزهري في ذلك" فإنهم إنما قالوا: أكثر من سبعين، فرواية معمر شاذة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 نعم أخرج النسائي أيضًا من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة". وأخرج النسائي أيضًا من طريق عطاء، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع الناس فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة". واستغفاره -عليه الصلاة والسلام- تشريع لأمته، أو من ذنوبهم، وقيل غير ذلك، وتقدَّم ما ينتظم في سلك ذلك. فإن قلت: ما كيفية استغفاره -صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إنه ورد في حديث شداد بن أوس، عند البخاري رفعه: سيد الاستغفار أن يقول: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على   "نعم أخرج النسائي من رواية محمد بن عمرو" بفتح العين "عن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة "بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة". وأخرج النسائي أيضًا من طريق عطاء بن أبي رباح "عن أبي هريرة, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع الناس، فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله, فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" فثبت بذلك أن حديث أبي هريرة جاء بلفظ: "مائة مرة" من غير طريق الزهري، ومن طريقه بلفظ: "أكثر من سبعين"، فقوي تفسير أكثر بالمائة, "واستغفاره -عليه الصلاة والسلام- تشريع لأمته, أو من ذنوبهم". "وقيل: غير ذلك، وتقدَّم ما ينتظم في سلك ذلك، فإن قلت: ما يفية استغفاره -عليه السلام؟ فالجواب: إنه" قد علم مما سبق أنه لم يتقيد بصفة مخصوصة، ولكن "ورد في حديث شداد بن أوس" بن ثابت الأنصاري ابن أخي حسان بن ثابت، يكنَّى أبا يعلى، مات بالشام قبل سنة ستين أو بعدها "عند البخاري" والنسائي "رفعه: سيد الاستغفار" أي: أفضله كما أشار إليه البخاري؛ حيث ترجم على هذا الحديث باب أفضل الاستغفار، ومعنى الأفضلية كما قال الحافظ: الأكثر نفعًا للمستعمل، وقال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد, وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج, ويرجع إليه في الأمور, "أن يقول" العبد، ففي رواية أحمد والنسائي: إن سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني" كذا في معظم الروايات: أنت مرة واحدة، ولبعضهم: أنت أنت مرتين, "وأنا عبدك". قال الطيبي: يجوز أن تكون حالًا مؤكدة وأن تكون مقدرة، أي: أنا عبد لك، كقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وينصره عطف قوله: "وأنا على عهدك ووعدك" أي: ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي, فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". قال: "من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقنًا بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة"، فتعيّن أن هذه الكيفية هي   عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك, وإخلاص الطاعة لك, "ما استطعت" من ذلك, وما مصدرية ظرفية، أي: مدة استطاعتي, وفيه إشارة إلى الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، وقد يكون المراد كما قال ابن بطال: بالعهد, العهد الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم أمثال الذرو, {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، فأقروا بالربوية وأذعنوا بالوحدانية، وبالوعد ما قال على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم: "إن مات لا يشرك بالله شيئًا وأدَّى ما افترض الله عليه دخل الجنة" , "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت" أبوء -بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودة- أعترف "بنعمتك علي وأبوء". زاد في رواية الكشميهني: لك "بذنبي" أعترف به أو أحمله برغمي، لا أستطيع صرفه عني, "فاغفر" في رواية بلا فاء "لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". قال الطيبي: اعترف أولًا بأنه أنعم عليه ولم يقيده؛ ليشمل جميع أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها وعدَّه ذنبًا مبالغة في التقصير وهضم النفس. قال الحافظ: ويحتمل أن قوله: "أبوء لك بذنبي" اعتراف بوقوع الذنب مطلقًا؛ ليصح الاستغفار منه, لا أنه عد ما قصّر فيه من أداء النعم ذنبًا, "قال" صلى الله عليه وسلم: "من قالها" أي: الكلمات "من النهار موقنًا" مخلصًا بها , "من قلبه" مصدقا بثوابها, "فمات من يومه" قبل أن يمسي, "فهو من أهل الجنة" الداخلين لها ابتداءً من غير دخول النار؛ لأن الغالب أن المؤمن بحقيقتها الموقن بمضمونها لا يعصي الله تعالى، أو أن الله تعالى يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار. قاله الكرماني. "ومن قالها من الليل وهو موقن" مخلص بها, "فمات قبل أن يصبح, فهو من أهل الجنة" ويحتمل أن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما تغفر له به ذنوبه، وقال ابن أبي جمرة: من شرط الاستغفار صحة النية والتوجّه والأدب، فلو أن أحدًا حصَّل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ, واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد, لكن أخلَّ بالشروط هل يتساويان؟ فالجواب: إن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، قال: وقد جمع هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمَّى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية, والاعتراف بأنه الخالق, والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه, والرجاء بما وعده به, والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه, وإضافة النعماء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 الأفضل، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل. وأما قرءاته -صلى الله عليه وسلم- وصفتها، فكانت مدًّا، يمد ب "بسم الله" ويمد بـ "الرحمن" ويمد بـ "الرحيم" رواه البخاري عن أنس.   إلى موجدها, وإضافة الذنب إلى نفسه, ورغبته في المغفرة, واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو, وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة, وأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلّا إذا كان في ذلك عون من الله, وهذا هو القدر الذي يُكَنَّى عنه بالحقيقة، فلو أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه, وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة, لم يبق إلّا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل, أو العفو بمقتضى الفضل أ. هـ. وقال الكرماني: لا شك أنّ في الحديث ذكر الله بأكمل الأوصاف, وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات, وهو أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو، أمَّا الأول فلِمَا فيه من الاعتراف بوجود الصانع وتوحيده الذي هو أصل الصفات القدسية المسماة بصفات الجلال, والاعتراف بالصفات الصنعية الوجودية المسمَّاة بصفات الإكرام, وهي القدرة اللازمة عن الخلق الملزومة للإرادة والعلم والحياة, والخامسة الكلام اللازم من الوعد والسمع والبصر اللازمان من المغفرة؛ إذ المغفرة للسموع, والمبصر لا تتصور إلّا بعد السماع والإبصار. وأما الثاني: فلما فيه أيضًا من الاعتراف بالعبودية وبالذنوب, في مقابلة النعمة التي تقتضي نقيضها وهو الشكر أ. هـ "فتعيِّن أنَّ هذه الكيفية هي الأفضل, وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل" رأسًا، بل بقوله: ويقول غيره: لا أنه يقتصر عليه وإلا خالف الأحاديث. قال الحافظ: ومن أوضح ما جاء في الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره مرفوعًا: "من قال استغفر الله الذي لا إله إلا الله هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف". قال أبو نعيم: هذا يدل على أن بعض الكبائر يغفر ببعض العمل الصالح, وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكمًا في نفس ولا مال, وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} إشارة إلى أنَّ من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب, وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب، ولأبي داود والترمذي مرفوعًا: "ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة". وأما قراءته -صلى الله عليه وسلم- وصفتها فكانت مدًّا" بغير همز، أي: ذات مد، أي: يمد الحرف المستحق للمد, "يمد بسم الله" أي: اللام التي هي قبل هاء الجلالة" ويمد بالرحمن" الميم التي قبل النون ويمد بالرحيم" أي: الحاء المد الطبيعي الذي لا يمكن النطق بالحرف إلّا به من غير زيادة عليه, لا كما يظن بعضهم من الزيادة عليه. "رواه البخاري" في التفسير "عن أنس, ونعتتها" وصفت قراءته "اسم سلمة" هند "قراءة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 ونعتها أم سلمة: "قراءة مفسرة حرفًا حرفًا. رواه أبو داود والنسائي والترمذي. وقالت أيضًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يقطع قراءته، يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف. رواه الترمذي. وقالت حفصة: كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. رواه مسلم. وقال البراء: كان يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فما سمعت أحدًا   مفسرة حرفًا حرفًا. رواه أبو داود والنسائي والترمذي" عنها, "وقالت" أم سلمة "أيضًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يقطّع -بشد الطاء- من التقطيع قراءته, أسقط من الحديث آية آية، أي: يقف على فواصل الآي "يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف, ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف" وهكذا, ولذا قال البيهقي وغيره: الأفضل الوقوف على رءوس الآي, وإن تعلقّت بما بعدها. قال البيهقي: متابعة السنة أَوْلَى مما ذهب إليه بعض القراء من تتبع الأغراض والمقاصد, والوقوف عند انتهائها، وقال الطيبي: قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} يشير إلى ملكه لذوي العلم من الملائكة والثقلين يدبر أمرهم في الدنيا، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يشير إلى أنه يتصرّف فيهم في الآخرة بالثواب والعقاب. وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} متوسط بينهما، ولذا قيل: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة, فكما جاز ذلك الوقفو يجوز هذا, فقول بعضهم: هذه الرواية لا يرتضيها البلغاء وأهل اللسان؛ لأن الوقف الحسن ما هو عند الفصل التام من أول الفاتحة إلى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وكان -صلى الله عليه وسلم- أفضل الناس غير مرضي, والنقل أَوْلَى بالاتباع. "رواه الترمذي" وقال: حسن غريب, والحاكم وقال: على شرطهما، وأقرَّه الذهبي, "وقالت حفصة" أم المؤمنين: "كان يرتل السورة" يقرأها بتمهّل وترسّل؛ ليقع مع ذلك التدبر، كما أمره تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المرسل: 4] حتى تكون أطول من أطول منها" إذا قرئت بلا ترتيل، أي: حتى يكون الزمن الذي صرفه في قراءتها أطول من الزمن الذي صرفه في قراءة الطويلة. "رواه مسلم" من طريق مالك وغيره، وهو في الموطأ, "وقال البراء" بن عازب -رضي الله تعالى عنهما": "كان" صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء والتين بالواو حكاية ولبعض الرواة بالتين والزيتون أي بهذه السورة في الركعة الأولى. ففي رواية للشيخين أيضًا عن البراء أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 أحسن صوتًا أو قراءة منه -صلى الله عليه وسلم. رواه الشيخان. فقد كانت قراءته -صلى الله عليه وسلم- ترتيلًا لا هذا ولا عجلة, بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنَّى بقراءته، ويرجع صوته بها أحيانًا، كما رجع يوم الفتح في قراءة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه: آآآثلاث مرات، ذكره البخاري. وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" وقوله: "ليس   الركعتين, والتين والزيتون وللنسائي: فقرأ في الركعة الأولى، وفي كتاب الصحابة لابن السكن عن ورقة بن خليفة, رجل من أهل اليمامة. قال: سمعنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فأتيناه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . قال الحافظ: يمكن إن كانت، أي: القراءة في الصلاة التي عين البراء أنها العشاء، أن قرأ في الأولى بالتين، وفي الثانية بالقدر. قال البراء: "فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا، أو قراءة" شكَّ الراوي منه -صلى الله عليه وسلم" بل هو الأحسن على مدلول اللفظ عرفًا، وإن صدق لغة بالمساوي. "رواه الشيخان" وأصحاب السنن, "فقد كانت قراءته -عليه الصلاة والسلام- ترتيلًا، لا هذا" بفتح الهاء، والذال المعجمة- أي: سرعة، ونصبه على المصدر، كما في النهاية وغيرها، فقوله: "ولا عجلة" تفسير "بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا" بل حديثه كذلك، كما قالت عائشة: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسرد سردكم هذا، بل كان يحدث حديثًا لو عدَّه العادّ لأحصاه, "وكان يقطع قراءته آية آية" أي: يقف على فواصل، إلّا الآي، كما مَرَّ "وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنَّى بقراءته، ويرجِّع صوته أحيانًا، كما رجَّع يوم الفتح" لمكة "في قراءة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، وحكى عبد الله بن مغفل "بميم مضمومة فمعجمة ففاء ثقيلة مفتوحتين- المزني, من أصحاب الشجرة "ترجيعه آآآثلاث مرات" الغرض منه أنه كان يقطع قراءته آية آية، كتقطيع من نطق بهذه الألفات ثلاث مرات مبينة كذا، قاله شيخنا: "ذكره" أي: رواه البخاري" في مواضع، ومسلم، وغيرهما "وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله" صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم". رواه أحمد، والبخاري، وفي كتاب خلق الأفعال، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه، وابن حبان، والحاكم, كلهم من حديث البراء، وعلقه البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد، وابن حبان أيضًا، وغيره، عن أبي هريرة، والطبراني، والدارقطني بسند حسن، عن ابن عباس، وأبو نعيم، عن عائشة بسند ضعيف، والبزار، عن عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن"، وقوله: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن" أي: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنَّى بالقرآن يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن يأذن أذانًا بالتحريك، علمت أن هذا الترجيع منه -عليه الصلاة والسلام- كان اختيارًا، لا اضطرارًا لهز الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلًا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيارًا ليتأسَّى به, وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: كان يرجّع في قراءته، فينسب "الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمَّى ترجيعًا. وقد استمع -عليه الصلاة والسلام- ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره   "وقوله" صلى الله عليه وسلم: "ليس منَّا" أي: من العالمين بسنتنا, الجارين على طريقتنا "من لم يتغن بالقرآن" أي: يحسِّن صوته به؛ لأنه أوقع في النفوس، وأدعى إلى الاستماع والإصغاء، وهو كالحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفيذه إلى أمكنة الداء، وكالأفاوية التي يطيب بها الطعام؛ ليكون الطبع أدعى قبولًا له، لكن بشرط أن لا يغيّر اللفظ، ولا يخل بالنظم، ولا يخفي حرفًا، ولا يزيد حرفًا، والإ حرم إجماعًا قال ابن أبي مليكة: فإن لم يكن حسن الصوت حسّنه ما استطاع، وهذا الحديث رواه البخاري في التوحيد، عن أبي هريرة وأحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم عن سعد بن أبي وقاص، وأبو داود، عن أبي لبابة، والحاكم عن ابن عباس، وعن عائشة, "وقوله" صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين والسنن من حديث أبي هريرة: "ما أذن" بفتح الهمزة وكسر المعجمة- كما ضبطه النووي وغيره، أي: ما استمع الله لشيء، "كاستماعه لنبي يتغنَّى بالقرآن"، أي: يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن" بفتح أوله، وكسر ثانية "يأذن" بفتح الذال "أذانًا بالتحريك" أي: فتح الهمزة، والذال مصدر، هو مجاز عن تقريب القارئ، وإجزال ثوابه، وقبول قراءته، ولا يجوز حمله على الإصغاء؛ لأنه محال عليه تعالى؛ ولأن سماعه لا يختلف "علمت أن هذا الترجيع" الواقع منه -عليه الصلاة والسلام" في الفتح "كان اختيارًا، لا اضطرارًا لهز الناقة له" كما دعاه بعضهم, فإنَّ هذا لو كان لأجل هَزّ الناقة لما كان داخلًا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه"؛ حيث قال: أأأ ثلاث مرات. وعنه أيضًا لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت لكم، كما رجع -صلى الله عليه وسلم, "ويفعله اختيارًا ليتأسَّى" يُقْتَدَى به, وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: كان يرجّع في قراءته فينسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمَّى ترجيعًا" لعدم اختياره "وقد استمع -عليه الصلاة والسلام- ليلة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا. أي: حسنته وزينته بصوتي تزيينًا. وهذا الحديث يرد على من قال: إن قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" من باب القلب, أي: زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن القلب لا وجه له. قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك تأييدًا لا شبهة فيه حديث ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل شيء حلية، وحلية القرآن حسن الصوت"، والله أعلم. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا يطول ذكره، وفصل النزاع في ذلك أن يقال: إن التطريب والتغني على وجهين. أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلّف ولا تمرين وتعليم. بل إذا خلا في ذلك وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين،   لقراءة أبي موسى الأشعري" عبد الله بن قيس, كان حسن الصوت جدًّا، وحسبك قوله -صلى الله عليه وسلم- له: "يا أبا موسى, لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" , "فلما أخبره بذلك" بقوله: "لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة" كما في رواية لمسلم. قال: لو علمت أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا، أي: حسنته وزينته بصوتي تزيينًا، وهذا الحديث يرد على من قال: إن قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" من باب القلب, أي: زينوا أصواتكم بالقرآن, فإن القلب لا وجه له" بل له وجه؛ لأنه ورد كذلك أخرج الحاكم عن البراء مرفوعًا "زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن الصوات الحسن يزيد القرآن حسنًا". "قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك" أي: حمله على أن الصوت يحسن القرآن, تأييد لا شبهة فيه حديث ابن عباس" إنما رواه البزار والبيهقي عن أنس، والطبراني عن أبي هريرة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل شيء حلية, وحلية القرآن حسن الصوت"؛ لأن الحلية حليتان: حلية تدرك بالعين, حلية تدرك بالسمع, ومرجع ذلك كله إلى جلاء القلب, وذلك على قدر نية القارئ" لكن هذا الحديث ضعَّفه ابن حبان، والذهبي، والحافظ النور الهيثمي من الوجهين، وبينوا وجه الضعف، فلا تأييد به "والله أعلم". "وقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا يطول ذكره، وفصل" أي: قطع النزاع في ذلك أن يقال التطريب، والتغني على وجهين, أحدهما ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين" اعتياد ومداومة, "ولا تعليم" من معلم, بل إذا خلى في ذلك وطبعه" مفعول معه "واسترسلت طبيعته" أي: استمرت في العمل على حالها "جاءت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 فهذا جائز, وإن أعانته طبيعته على فضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى للنبي -صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرًا. والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطيب في القراءة, ولكن النفوس تستجليه وتستملحه؛ لموافقة الطبع وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغني المحمود، وهو الذي يتأثّر به التالي والسامع. والوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، ليس في الطباع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرّن، كما يتعلّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركّبة على إيقاعات مخصوصة, وأوزان مخترعة لا تحصل إلّا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وأنكروا القراءة بها   بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز، وإن أعانته طبيعته على فضل" أي: زيادة "تحسين وتزيين" مبالغة، فيما قبله "كما قال أبو موسى للنبي -صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرًا، والحزين ومن هاجه" حرَّكه "الطرب والحب" ميل القلب للمحبوب لمعنى يستحسنه فيه, "والشوق" نزاع النفس مصدر شاقه, "لا يملك من نفسه رفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستجلبه" بجيم، وموحدة, "وتستملحه" أي: تعده مليحًا "لموافقة الطبع، وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع" بضم الميم، وكسر الباء المشددة- أي: متشبّه, "وكلف" بكسر اللام، أي: محب لذلك مولع به "لا متكلف" بكسر اللام مشددة- أي: طالب أن تكون تلك الصفة قائمة به, "فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغني المحمود الذي يتأثر به التالي" القارئ والسامع" له. "والوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع ليس في الطباع" الجبلة الت خلق عليها "السماحة به, بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلّم والتكلف، فهذه" أي: القراءة على هذه الحالة "هي التي كرهها السلف، وأنكروا القراءة بها". زاد في شرحه للبخاري عقب نحو هذا، وقد علم، مما ذكرنا أن ما أحدثه المكلفون بمعرفة الأوزان، والموسيقى في كلام الله من الألحان والتطريب، والتغني المستعمل في الغناء بالغزل على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة أن ذلك من أشنع البدع وأسوئها، وأنه يوجب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبيّن الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المكلفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها, ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بسجاياهم تارةً، وتطريبًا أخرى، وهذا أمر في الطباع، ولم ينه عنه الشارع, مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه -صلى الله عليه وسلم، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: "ليس منَّا مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن" وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر: تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار   على سامعهم النكير، وعلى التالي التعزير, "وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل مَنْ علم بأحوال السلف يعلم قطعًا بأنهم برآء" جمع براء "من القراءة بألحان الموسيقي" بكسر القاف "المكلفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها، ويسوغوها" أي يجوّزوها "ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بسجاياهم" بسين وجيم- جمع سجية، أي: بطبائعهم "تارةً", وفي نسخة: بشجى، بمعجمة وجيم مقصور- أي: حزن، وتطريب أخرى" بأن يقصدوا تحسين قراءتهم مع مراعاة الأنغام المقتضية لذلك, "وهذا أمر في الطباع، ولم ينه عنه الشارع, مع شدة تقاضي" أي: طلب "الطباع له، بل أرشد إليه، وندب إليه -صلى الله عليه وسلم", وأخبر عن استماع الله تعالى لمن قرأ به" بقوله: "ما أذن الله لشيء" الحديث "وقال: "ليس منا" أي: على سنتنا وهدينا "من لم يتغنَّ بالقرآن"، وليس المراد الاستغناء به عن غيره، كما ظنَّه بعضهم" بل معناه: مَنْ لم يحسن صوته به "ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت، والجهر به" في حديث "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن"، أي: يجهر به, "معنًى, والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء" بكسر المعجمة، والمد "الذي هو حسن الصوت بالترجيع، قال الشاعر: تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار أي: كالميدان الذي تجري فيه الخيل، فيظهر فيها الحسن من غيره يغني، أنه إذا استعمل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 وروى ابن أبي شيبة عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "تعلموا القرآن وتغنّوا به واكتبوه" الحديث. والله أعلم. وقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى الأشعري يقرأ فقال: "لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود" يعني: من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعاني، وفي طريق آخر كما تقدَّم, أن أبا موسى قال: يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا. قال ابن المنير: فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلو أشجى من المزامير   على هذا الوجه حصل به بسط نفس، كاللذة الحاصلة للمتسابقين في الميدان، لكن رجَّح النور بشتى القول، بأن المراد به الاستغناء، واعترض الأول، بأن المعنى: ليس من أهل سنتنا، أو ممن تبعنا في أمرنا، وهو وعيد، ولا خلاف بين الأمة أن قارئ القرآن مثاب في غير تحسين صوته، فكيف يجعل مستحقًّا للوعيد. قال الطيبي: ويمكن حمله على معنى التغنى، أي: ليس منا معاشر الأنبياء من لم يحسّن صوته بالقرآن، ويسمع الله منه، بل يكون من جملة من هو نازل عن مرتبتهم، فيثاب على قراءته كسائر المسلمين، لا على تحسين صوته كالأنبياء ومن تعبهم فيه. "وروى ابن أبي شيبة" وأحمد برجال الصحيح "عن عقبة بن عامر" الجهني "مرفوعًا: "تعلموا القرآن" أي: احفظوه وتفهَّموه, "وتغنَّوْا به" أي: اقرءوه بتحزن وترقيق وحسن صوت، وليس المراد قراءته بالألحان والنغمات، "واكتبوه" الحديث بقيته: "فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتًا من المخاض في العقل". "والله أعلم" بمراد رسوله, "وقد صح" في الصحيحين وغيرهما أنه -صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى الأشعري يقرأ، فقال: "لقد أوتي هذا". وفي رواية للبخاري: "يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" في حسن الصوت بالقاءة, يعني: من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعاني" فآل مقحمة؛ لأنه لم يرو أن أحدًا من آل داود أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود، والمزامير جمع مزمار -بكسر الميم- الآلة المعروفة, أطلق اسمها على الصوت للمشابهة، فشبه حسن صوته وحلاوة نغمته بصوت المزمار, "وفي طريق آخر، كما تقدم أن أبا موسى قال: يا رسول الله, لو علمت أنك تسمع لحبَّرته" حسَّنته "لك تحبيرًا: تحسينًا. "قال ابن المنبر: "فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلوا أشجى" أي: أشد "من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 عند المبالغة في التحبير؛ لأنه قد تلا مثلها وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته. وقد كان داود إذا أراد أن يتكلّم على بني إسرائيل يجوع سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يأتي النساء، ثم يأمر سليمان فينادي في الضواحي والنواحي والآكام والأودية والجبال: إن داود يجلس يوم كذا، ثم يخرج له منبرًا إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتي الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ في الثناء على الله بما هو أهله، فتموت طائفة من المستمعين، ثم يأخذ في النياحة على المذنبين فتموت طائفة، فإذا استجر الموت بالخلق قال له سليمان: يا نبي الله، قد استجر الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق، فيخر داود مغشيًّا عليه، فيحمل على سريره إلى بيته، وينادي منادي سليمان: أيها الناس، من كان له مع داود قريب أو   المزامير" في إدخال الحالة الحاصلة للسامع عند سماع المزامير "عند المبالغة في التحبير؛ لأنه قد تلا مثلها" بنصّ المصطفى, "وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته" وقد روى ابن أبي داود بسند صحيح، عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت دار أبي موسى الأشعري، فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته الصنج -بفتح الصاد المهملة، فنون ساكنة، فجيم- آلة من نحاس، كالطبقتين يضرب بأحدهما على الآخر، ويربط بموحدتين بينهما, آخره طاء مهملة- توزن جعفر, فارسي معرب, آلة كالعود والناي -بنون بغير همز- المزمار, "وقد كان داود إذا أراد أن يتكلّم على بني إسرائيل" أي: يعظهم ويذكرهم بأحوال الآخرة, "يجوع سبعة أيام، لا يأكل ولا يشرب، ولا يأتي النساء, ثم يأمر سليمان ابنه فينادي في الضواحي" بضاد معجمة, "والنواحي" عطف تفسير "والآكام، والأودية، والجبال" مَرَّ بيانها في الاستسقاء "أن داود يجلس يوم كذا, ثم يخرج له منبرًا" أي: شيئًا مرتفعًا "إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتي الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى جمع عذراء، أي: الأبكار, "والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ في الثناء على الله بما هو أهله, فتموت طائفة من المستمعين" شوقًا إليه تعالى, "ثم يأخذ في النياحة على المذنبين, فتموت طائفة" من المذنبين خوفًا منه سبحانه "فإذا استجر الموت بالخلق" أي: انتشر فيهم وكثر "قال له سليمان: يا نبي الله, قد استجر" بفوقية فجيم "الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق" أي: فرقتهم تفريقًا تامًّا، فممزق مصدر ميمي, "فيخر داود مغشيًّا عليه, فيحمل على سريره إلى بيته، وينادي سليمان: من كان له مع داود قريب، أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 حميم فليخرج لافتقاده, فكانت المرأة تأتي بالسرير فتقف على زوجها أو أبيها أو أخيها، فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود في اليوم الثاني قال: يا سليمان, ما فعل عُبّاد بني إسرائيل؟ فيقول له سليمان: قد مات فلان وفلان وهلمَّ جرا. فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا رب داود, أغضبان أنت على داود, حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفًا منك أو شوقًا إليك؟ فلا يزال ذلك دأبه إلى المجلس الآخر، وأقام داود على ذلك ما شاء الله تعالى. ولا يظنّ مما ذكرته من حال بني إسرائيل أنهم في ذلك أعلى من هذه الأمة، فأمَّا المزامير فحسبك ما ذكر من حال أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه، وأمَّا الموت من الموعظة شوقًا أو خوفًا فلنا فيه طريقان: أحدهما: أن نقول: إن القوة التي أوتيتها هذه الأمة تقاوم الأحوال الواردة عليها فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية, بل القوة الروحانية والتأييدات الإلهية, فلفرط قوة هذه الأمة إن شاء الله تعالى تقارب عند سلفها الصالح ما بين حال سماع الموعظة وحال عدم سماعها؛ لتوالي أحوال الذكر وأطوار اليقين.   حميم" أي: شقيق "فليخرج لافتقاده، فكانت المرأة تأتي بالسرير، فتقف على زوجها أو أبيها أو أخيها فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود في اليوم الثاني قال: يا سليمان, ما فعل عبَّاد" جمع عابد "بني إسرائيل، فيقول له: قد مات فلان وفلان" يسميهم بأسمائهم, "وهلمَّ جرا، فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا رب داود, أغضبان أنت على داود، حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفًا منك، وشوقًا إليك، فلا يزال ذلك دأبه" عادته "إلى المجلس الآخر, وأقام داود على ذلك ما شاء الله تعالى" أي: مدة مشيئته تعالى ذلك "ولا يظن مما ذكرته من حال بني إسرائيل" في هذه القصة "أنهم في ذلك أعلى من هذه الأمة، فأمَّا المزامير فحسبك" كافيك "ما ذكر من حال أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه", وهو واحد, "وأمَّا الموت من الموعظة شوقًا أو خوفًا, فلنا فيه طريقان: أحدهما أن نقول: إن القوة التي أوتيتها هذه الأمة" المحمدية "تقاوم الأحوال الواردة عليها، فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية" بكسر الجيم "بل القوة الروحانية" بضم الراء, "والتأييدات الإلهية" باقية مانعة لها من الفناء، فحذف الخبر للعلم به مما قبله, "فلفرط قوة هذه الأمة -إن شاء الله تعالى" للتبرك متعلق بقوله: "تقارب", ولو قال: يتقارب كان أَوْلَى" عند سلفها الصالح، ما بين حال سماع الموعظة، وحال عدم سماعها؛ لتوالي الذكر وأطوار اليقين, وقد قال بعضهم" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 وقد قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا. فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذي فرَّق بينهم وبين مَنْ قبلهم. ألا ترى أن داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام, وهما أصحاب المزامير, لم يتَّفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما في الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التي أمدَّهما بها. ولا خلاف أن داود -عليه الصلاة السلام- وإن لم يمت من الذكر أفضل ممن مات من أمته، وأمَّا نوحه على كونه لم يمت فذلك من التواضع الذي يزيده شوقًا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه, وقد رأي إنسانًا يبكي من الموعظة فقال: هكذا كنّا حتى قست القلوب. عَبَّر عن القوة بالقسوة تواضعًا، ومرتبته بحمد الله محفوظة ومنزلته مرفوعة.   علي بن أبي طالب على ما في المسايرة لابن الهمام وغيرها، أو عامر بن قيس التابعي على ما في الرسالة القشيرية، وقد يكون على أوَّل من قالها، وعامر تمثَّل بها, "لو كشف الغطاء" عن أحوال الآخرة, والحشر والنشر, والوقوف بين يدي الله تعالى، وغيرها "ما ازددت" فيها "يقينًا" ليقيني بها، فعبَّر عن حالته التي هو عليها من غلبة أحوال الآخرة على قلبه باليقين، فأخبر أنه لو عاين ذلك ما ازداد يقينًا لتحققه له، قاله الأنصاري شيخ الإسلام، وقال غيره: لأنه حصل عنده من البراهين القطعية على حقيقة التوحيد ومتعلقاته، والإيمان وصدق الرسل، فيما جاءوا به ما لا يزيد اليقين فيه عند رؤيته ذلك عيانًا,"فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذي فرّق بينهم وبين من قبلهم، ألا ترى أن داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام, وهما أصحاب المزامير" إنما صاحبها داود، كما مَرَّ, فلعلَّ نسبتها لسليمان أيضًا؛ لأنه كان يسمعها من أبيه ولم يتغير حاله "لم يتَّفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما في الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التي أمدهما" الله تعالى "بها، ولا خلاف أن داود -عليه الصلاة والسلام، وإن لم يمت من الذكر أفضل، ممن مات من أمته"؛ إذ محال أن يبلغ ولي رتبة نبي, وأما نوحه على كونه لم يمت, فذلك من التواضع الذي يزيده شوقًا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، قربى "وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه، وقد رأى إنسانًا يبكى من الموعظة، فقال: هكذا كنَّا حتى قست القلوب, عَبَّر عن القوة بالقسوة تواضعًا، ومرتبته بحمد الله محفوظة، ومنزلته مرفوعة" فليست عنده قسوة "والطريق الثاني أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 والطريق الثاني أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الأمة، مثل ما اتفق في مجلس داود -عليه الصلاة والسلام- من موت المستمعين للذكر في مجلس السماع قديمًا وحديثًا، ولأبي إسحاق الثعلبي جزء في قتلى القرآن رويناه، وعندي من ذلك جملة أريد تدوينها, بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرَّد النظر إلى المشايخ، كما حكي أن مريدًا لأبي تراب التخشبي كان يتجلى له الحق تعالى في كل يوم مرات, فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد البسطامي لرأيت أمرًا عظيمًا، فلمَّا ارتحل المريد مع شيخه أبي تراب النخشبي لأبي يزيد, ووقع بصر المريد عليه وقع ميتًا, فقال له أبو تراب: يا أبا يزيد نظرة منك قتلته، وقد كان يدعى رؤية الحق تعالى, فقال له أبو يزيد: قد كان صاحبك صادقًا، وكان   الأمة" من الأخبار والقصص "مثل ما اتفق في مجلس داود -عليه الصلاة والسلام- من موت المستمعين للذكر في مجلس السماع قديمًا وحديثا، ولأبي إسحاق" أحمد بن محمد بن إبراهيم "الثعلبي" ويقال له: الثعالبي النيسابوري, صاحب التفسير والعرائس. قال الذهبي: كان حافظًا, رأسًا في التفسير والعربية, متين الزهادة والديانة, مات سنة سبع وعشرين أو سبع وثلاثين وأربعمائة, "جزء قتلى القرآن" أي: مؤلف في بيان من قُتِلَ عند سماع القرآن, "وعندي من ذلك جملة أريد تدوينها" بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرد النظر إلى المشايخ, كما حكي أن مريدًا لأبي تراب النخشبي -بفتح النون وسكون الخاء وفتح الشين المعجمة- نسبة إلى نخشب, بلدة بما رواء النهر، واسمه: عسكر بن حصين, واشتهِرَ بكنتيه, فلم يعرف إلّا بها, جمع بين العلم والدين والزهد والتصوف والتقشّف والتوكل والتبل, ووقف بعرفة خمسًا وخمسين وقفة, وصحب حاتمًا الأصم والخواص والطبقة, وعند أحمد بن حنبل وغيره, مات سنة خمس وأربعين ومائتين, كان يتجلَّى له لذلك المريد "الحق تعالى في كل يوم مرات, فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد" اسمه: طيفور بن عيسى البسطامي, نادرة زمانه حالًا وأنفاسًا وورعًا وعلمًا وزهدًا وتُقَى, وأفردت ترجمته بتصانيف حافلة, ومات سنة إحدى وستين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة, "لرأيت أمرًا عظيمًا", فلم يزل يشوقه إليه, "فلمَّا ارتحل المريد مع شيخه أبي تراب النخشبي لأبي يزيد" فقيل: إنه في الغيضة مع السباع، وكان يأوي إليها، فقعدا على طريقه, فلمَّا مرَّ "ووقع بصر المريد عليه, وقع ميتًا, فقال له أبو تراب: يا أبا يزيد, نظرة" حصلت له "منك", أو نظرة منك إليه قتلته, وقد كان يدَّعي رؤية الحق تعالى، فقال له أيو يزيد قد كان صاحبك صادقًا، وكان الحق يتجلّى له الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 الحقّ يتجلّى له على قدر مقامه، فلمَّا رآني تجلَّى له على قدر ما رأى، فلم يطق فمات. واصطلاح أهل الطريق في التجلي معروف، وحاصله: رتبة من المعرفة جلية علية, ولم يكونوا يعنون بالتجلي رؤية البصر التي قيل فيها لموسى -عليه الصلاة والسلام, على خصوصيته {لَنْ تَرَانِي} والتي قيل فيها على العموم لا تدركه الأبصار, وإذا فهمت أنَّ مرادهم الذي أثبتوه غير المعنى الذي حصل منه الناس على اليأس في الدنيا، ووعد به الخواص في الآخرة، فلا ضير بعد ذلك عليك, ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، والله متولي السرائر. انتهى. وإذا علمت هذا, فاعلم أن السماع في طريق القوم معروف، وفي الجواذب إلى المحبة معدود موصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب في "القوت" عن جماعة من الصحابة؛ كعبد الله بن جعفر، وابن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وكذا عن   على قدر مقامه، فلما رآني تجلّى له على قدر ما رأى" لم يقل: على قدري تأدبًا، وخوفًا من رؤية نفسه فوق غيره, "فلم يطق فمات" فلا عجب "واصطلاح أهل الطريق" كما قال العلامة ابن المنير "في التجلي معروف, وحاصله رتبة من المعرفة جلية ظاهرة عليّة عالية القدر، وحالة بين النوم واليقظة سوية، والإيمان يزيد وينقص, كذا في كلام ابن المنبر, "ولم يكونوا" لفظ ابن المنبر، ولا تظنهم "يعنون بالتجلي رؤية البصر التي قيل فيها لموسى -عليه الصلاة والسلام- على خصوصيته: {لَنْ تَرَانِي} ، والتي قيل فيها على العموم: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، وإذا فهمت أن مرادم الذي أثبتوه غير المعنى الذي حصل منه الناس على اليأس في الدنيا" إلّا نبينا -صلى الله عليه وسلم- على الأصح، كما مَرَّ في المعراج, "ووعد به الخواص في الآخرة" أي: المؤمنون "فلا ضير بعد ذلك عليك، ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، والله متولي السرائر أ. هـ". قال السبكي: وكلام ابن المنبر هذا يقرب من قول شيخه العز بن عبد السلام في قواعده التجلي، والمشاهدة عبارة عن العلم والعرفان, والقوم لا يقتصرون في تفسير التجلي على العلم، ولا يعنون به الرؤية، ثم لا يفصحون بما يعنون, بل يلوحون تلويحًا، ولم يفصح القشيري بتفسيره، ولعله خاف على فهم من ليس من أهل الطريق "وإذا علمت هذا، فاعلم أن السماع في طريق القوم معروف، وفي الجواذب إلى المحبة معدود موصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب" المكي "في القوت", أي: كتابه المسمَّى قوت القلوب "عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن جعفر" الهاشمي "وابن الزبير" الأسدي "والمغيرة بن شعبة" الثقفي "ومعاوية" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 الجنيد، والسري وذو النون، واحتجَّ له الغزالي في "الإحياء" بما يطول ذكره، خصوصًا في أوقات السرور المباحة، تأكيدًا له وتهييجًا، كعرس وقدوم غائب، ووليمة وعقيقة وحفظ القرآن، وختم درس وكتاب وتأليف. وفي الصحيحين من حديث عائشة: إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنَى تدففان وتضربان، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف -صلى الله عليه وسلم- عن وجهه وقال: "دعهما يا أبا بكر, فإنها أيام عيد" , وفي رواية: دخل   الأموي, "وكذا" "عن الجنيد" شيخ الطائفة, "والسري" السقطي, "وذو النون" المصري, واحتج له الغزالي في الإحياء بما يطول ذكره, خصوصًا في أوقات السرور المباحة تأكيدًا له، وتهييجًا لعرس" زواج "وقدوم غائب ووليمة، وعقيقة" لمولود "وحفظ قرآن، وختم درس، وكتاب" وختم "تأليف" في علم شرعي، أو آلته. "وفي الصحيحين من حديث عائشة، أنَّ أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان" زاد في رواية: من جواري الأنصار، وللطبراني عن أم سلمة: إحداهما لحسَّان، وفي الأربعين للسلمي: إنهما لعبد الله بن سلام ولابن أبي الدنيا وحمامة, وصاحبتها تغنيان, وإسناده صحيح. قال الحافظ: ولم أقف على تسمية الأخرى، لكن يحتمل أنَّ اسمها زينب, ولم يذكر حمامة المصنّفون في الصحابة, وهي على شرطهم، وفي الإصابة: زينب الأنصارية, غير منسوبة، جاء أنها كانت تغني بالمدينة. رواه ابن طاهر في الصفوة عن جابر, "في أيام مِنَى تدففا" بفاءين "وتضربان" بالدف عطف تفسير، ولمسلم: تغنيان بدف، وللنسائي: بدفين، والدف -بضم الدال على الأشهر وتفتح، ويقال له أيضًا: الكربال -بكسر الكاف, وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- متغش" بغين وشين معجمتين- أي: مستتر، ولمسلم: تسجَّى، أي: التفَّ "بثوبه" إعراضًا عن ذلك؛ لأن مقامه يقتضي الارتفاع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دالّ على جوازه على الوجه الذي أقره؛ إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتًا وكيفيةً تقليلًا لمخالفة الأصل "فانتهرهما" أي: الجاريتين، أي: زجرهما "أبو بكر". وفي الرواية الثانية: فانتهرني، أي: عائشة، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أمَّا عائشة فلتقريرها، وأمَّا الجاريتان فلفعلهما, "فكشف -صلى الله عليه وسلم- عن وجهه" الثوب "وقال: "دعهما يا أبا بكر فإنها" أي: هذه الأيام "أيام عيد" , وتلك الأيام أيام مِنَى، هذا باقي الحديث، أضافها إلى العيد, ثم إلى مِنَى إشارة إلى الزمان ثم المكان، ففيه تعليل الأمر بتركهما, وإيضاح خلاف ما ظنه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعندي جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث -بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلثة- اسم حصن الأوس, وبالمعجمة تصحيف، أي: تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث، وهو حرب كان بين الأنصار، فاضطجع على الفراش وحوّل   الصديق أنهما فعلتا ذلك بغير علمه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ظنه نائمًا, فأنكر على بنته لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر بالإنكار نيابةً عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فأوضح له الحال وعرَّفه الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه يوم سرور شرعي, فلا ينكر فيه هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا زال إشكال كيف أنكر الصديق ما أقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم. "وفي رواية" في الصحيحين أيضًا عن عائشة، قالت: "دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أيام مِنَى "وعندي جاريتان" من جواري الأنصار "تغنيان", ترفعان أصواتهما "بغناء" بكسر المعجمة والمد "يوم بعاث -بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلثة- اسم حصن للأوس" كما قال أبو موسى المديني في ذيل الغريب, وصاحب النهاية, وفي كتاب أبي الفرج الأصبهاني, أنه موضع في ديار بني قريظة فيه أموالهم, وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك, ولا منافاة بين القولين، وقال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين، قال في المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف "وبالمعجمة تصحيف". قال عياض ومن تبعه: أعجمه أبو عبيد وحده، وفي الكامل لابن الأثير: أعجمها صاحب العين -يعني: الخليل وحده، وكذا حكاه البكري عن الخيل، وجزم أبو موسى في ذيل الغريب بأنه تصحيف "أي: تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث". وفي رواية في الصحيح: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، أي: قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء, وللبخاريّ في الهجرة بما تعاذفت -بمهملة وزاي وفاء- من العزف, وهو الصوت الذي له دوي، وفي رواية: تفازقت -بقاف بدل العين وذال معجمة بدل الزاي- من القذف, وهو هجاء بعضهم لبعض، ولأحمد: تذاكر أن يوم بعاث يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج, "وهو حرب كان بين الأنصار" الأوس والخزرج قبل الإسلام، سببه أن الأوس والخزرج لما نزلوا المدينة وجدوا اليهود متوطنين بها، فخالفوهم, وكانوا تحت قهرهم، ثم غلبوا على اليهود بمساعدة ملك غسّان، فلم يزالوا متفقين إلى أن قتل أوسي حليفًا للخزرج، فوقعت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة, آخرها يوم بعاث قبل الهجرة بثلاث سنين على المعتمد، وقيل: بخمس, وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد، ويقال له: حضير الكتائب، وجُرِحَ يومئذ ثم مات بعد مدة, ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان, جاءه سهم فصرعه, فهزموا بعد أن كانوا ظهروا, فكانت الغلبة للأوس "فاضطجع" صلى الله عليه وسلم "على الفراش وحوَّل وجهه" إعراضًا عن ذلك, "فدخل أبو بكر" زائرًا لابنته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني وانتهر الجاريتين وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأقبل عليه -صلى الله عليه وسلم- وقال: "دعهما". واستدلَّ جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة. وتعقب: بما في الحديث الآخر عند البخاري عن عائشة: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنّم وعلى الحداء، ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق لما فيه من تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي: قولها -يعني عائشة: "ليستا بمغنيتين" أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك. قال: وهذا منها تحرز عن الغناء   فانتهرني" زجرني لإقراري لذلك, "وانتهر الجاريتين" أيضًا لتعاطيهما "وقال: مزمارة" بكسر الميم، وضبطه عياض بضمها, وحكي فتحها، يعني: الغناء أو الدف؛ لأن المزمارة والمزمار مشتق من الزمير، وهو صوت له صفير, ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، سُمِّيَت به الآلة التي يزمر بها، وأضافها إلى "الشيطان"؛ لأنها تلهي فتشغل القلب عن الذكر، وعند أحمد، فقال: يا عباد الله, أبمزمور الشيطان "عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم", قال القرطبي: المزمور الصوت, ونسبته إلى الشيطان ذمّ على ما ظهر لأبي بكر, "فأقبل عليه -صلى الله عليه وسلم" بعد أن كشف الثوب عن وجهه "وقال: "دعهما" أتركهما، زاد في رواية في الصحيح: "إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا"، واستدلَّ جماعة من الصوية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، وتعقَّب بما في الحديث الآخر" أي: الرواية الآخرى, وإلا فهو حديث واحد "عند البخاري عن عائشة: "دخل عليَّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث, "وليستا بمغنيتين، فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ؛ لأنَّ الغناء" بزنة كتاب "يطلق على رفع الصوت وعلى الترنّم" ترجيع الصوت. زاد الحاظ: الذي تسميه العرب النصب -بفتح النون وسكون المهملة- وعلى الحداء -بضم الحاء وكسرها والدال المهملة والمد- الغناء للإبل "ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج" تحريك, "وتشويق لما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح". "قال القرطبي في المفهم "قولها، يعني: عائشة: ليستا بمغنيتين، أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز" أي: تحفظ "عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرّك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرَّمة لا يختلف في تحريمه. قال: وأمَّا ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلان المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح يقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأنَّ ذلك يثمر سني الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة. انتهى. والحق: إن السماع إذا وقع بصوت حسن، بشعر متضمِّن للصفات العلية أو   الغناء المعتاد عند المشتهرين به, وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن" المخفي, "وهذا" النوع "إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرَّمة لا يختلف في تحريمه". "قال" القرطبي: "وأمَّا ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمة، لكن النفوس الشهوانية" نسبة إلى الشهوة وهي اشتياق النفس إلى الشيء, "غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير" الصلاح والعبادة, "حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين" جمع مجنون، وفي نسخة: المجان جمع ماجن، أي: هازل، والأُولَى هي التي في الفتح عن القرطبي وهي أبلغ وأنسب بقوله: "والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة" متوافقة غير متخالفة "وتقطيعات متلاحقة" متتابعة تتبع بعضها في الانسجام. "وانتهى التواقح" بفوقية وقاف- قلة الحياء, من الوقاحة بفتح الواو, "بقوم منهم, إلى أن جعلوها من باب القرب" جمع قربة, "وصالح الأعمال" أي: الأعمال الصالحة, "وأن ذلك يثمر سني" بسين ونون، أي: مرتفع, "الأحوال, وهذا على التحقيق من آثار الزندقة" بزاي ونون وقاف, اسم من تزندق. في نسخة: الزبرقة -بالزاي وسكون الموحدة وفتح الراء وقاف- أي: التشبه بمن يحسن نفسه بأمور باطلة، والذي في الفتح الزندقة، وزاد: وقوله أهل المخزقة. "انتهى" كلام القرطبي, وسلمه الحافظ وقال: ينبغي أن عكس مرادهم ويقرأ: سني -عوض النون المكسورة- بغير همز سيء -بمثناة تحتية ثقيلة مهموزًا. انتهى. "والحق أن السماع إذا وقع بصوت حسن بشعر متضمّن للصفات العلية" لله سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 النعوت النبوية المحمدية، عريًا عن الآلات المحرمة، والحظوظ الخبيثة الغبية، والشبه الدنية، وأثار كامن المحبة الشريفة العلية، وضبط السامع نفسه ما أمكنه؛ بحيث لا يرفع صوته بالبكاء، ولا يظهر التواجد وهو يقدر على ضبط نفسه ما أمكنه, مع العلم بما يجب لله ورسوله, ويستحيل لئلّا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق، كان من الحسن في غاية، ولتمام تزكية النفس نهاية. نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوف الشبهة، وللخروج من الخلاف إلّا نادرًا. وقد نقل عن الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعلَّ مرادهم ما كان فيه تهييج شيطاني، وإذا كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقًا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأشخاص، واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب، وهو لمن يرتقي بربه ترقية مثير للكامن في النفوس من الأزل، حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} فما كان في القلب من رقة ووجد وحقيقة   "أو النعوت النبوية المحمدية عريًا" خاليًا "عن الآلات المحرمة والحظوظ الخبيثة الغبية" بغين معجمة- قليلة الفطنة, "والشبه الدنية" الخسيسة, "وأَثَار" حرَّك, "كامن" مخفي, "المحبة الشريفة العلية" المرتفعة القدر "وضبط" حفظ "السامع نفسه ما أمكنه؛ بحيث لا يرفع صوته بالبكاء ولا يظهر التواجد" الأخلاق الباطنة "وهو يقدر على ضبط" أي: حفظ "نفسه ما أمكنه مع العلم بما يجب لله ورسوله ويستحيل" في حق كل منهما, "لئلَّا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق, كان من الحسن في غاية, ولتمام تزكية النفس" تطهيرها "نهاية, نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوفه الشبهة وللخروج من الخلاف إلّا نادرًا مستثنى من تركه. "وقد نقل عن الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعلّ مرادهم ما كان فيه تهييج شيطاني" لا ملطقًا, "وإذا كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقًا بإباحة ولا تحريم" لأنه كلام, "بل يختلف ذلك بالأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب, وهو لمن يرتقي بربه ترقية". وفي نسخة: وهي لمن بقي بربه، أي: متعلقًا بمرضاة ربه, فكان بقاؤه بالتعلق بمرضاته في جميع أحواله "مثير للكامن في النفوس من الأزل حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} , فما كان في القلب من رِقَّة ووجد" شوق, "وحقيقة فهو من حلاوة ذلك الخطاب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 فهو من حلاوة ذلك الخطاب، والأعضاء كلها ناطقة بذكره، مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة، وكان الشعر متضمنًا لذكر المحبوب الحق، برز الكامن وذاعت الأسرار, سيما في أرباب البدايات. وقد شوهد تأثير السماع حتى في الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم, فقد شوهد تدلي الطيور من الأغصان على أولي النغمات الفائقة والألحان الرائقة، وهذا الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرًا يستخفّ معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافة الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراه إذا طالت عليه البوادي، وأعياه الإعياء تحت الحِمل, إذا سمع منادي الحداء يمد عنقه, ويصغى سمعه إلى الحادي، ويسرع في سيره، وربما أتلف نفسه في شدة السير وثقل الحمل، وهو لا يشعر بذلك لنشاطه. وقد حكي مما ذكره في "الإحياء" عن أبي بكر الدينوري: أن عبدًا أسود قتل جمالًا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها، وكانت محملة أحمالًا ثقيلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة، وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل   والأعضاء كلها ناطقة بذكره, مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة, وكان الشعر متضمنًا لذكر المحبوب الحق, برز الكامن, وذاعت" بذال معجمة وعين مهملة فشت أو انتشرت "الأسرار, سيما في أرباب البدايات، وقد شوهد تأثير السماع حتى في الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم, فقد شوهد تدلي الطيور من الأغصان" للأشجار "على أولي النغمات الفائقة والألحان الرائقة, وهذا الجمل" بالجيم "مع بلادة طبعه يتأثَّر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر" بسين التأكيد؛ "لقوة نشاطه في سماعه المسافة الطويلة, وينبعث فيه من النشاط" الخفة والإسراع "ما يسكره ويولهه" يحيره, "فتراه إذا طالت عليه البوادي" جمع بادية, "وأعياه الإعياء" التعب "تحت الحمل" بكسر الحاء المهملة وسكون الميم- المحمول عليه, "إذا سمع منادي الحداء يمد عنقه ويصغي" يميل "سمعه إلى الحادي, ويسرع في سيره، وربما أتلف نفسه في شدة السير وثقل الحمل وهو لا يشعر بذلك لنشاطه". وقد حكي مما ذكره في الإحياء" للغزالي, عن أبي بكر الدينوري, أن عبدًا أسود قتل جمالًا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها, وكانت محمَّلة أحمالًا ثقيلة, فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة" من سرعة السير, "وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل وقطع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 وقطع حباله, وحصل له ما غيبه عن حَسِّه، حتى خَرَّ لوجهه. فتأثير السماع محسوس، ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج، بعيد العلاج، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال. وإذا كانت هذه البهائم تتأثَّر بالنغمات، فتأثير النفوس النفسانية أَوْلى. وقد قال: نعم لولاك ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق نعم أسعى إليك على جفوني ... تداني الحي أو بعد الطريق إذا كانت تحنّ لك المطايا ... فماذا يفعل النصب المشوق فزبدة السماع تلطيف السر، ومن ثَمَّ وضع العارف الكبير سيدي علي الوفوي حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة، تنشيطًا لقلوب المريدين وترويحًا لأسرار السالكين، فإن النفوس -كما قدمناه- لها حظ من الألحان، فإذا قيلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمَّدية بهذه الأنغام الفائقة والأوزان الرائقة، بشربتها العروق، وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوي المحمدي، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف   حباله" المربوط بها, "وحصل له ما" أي: شيء "غيِّبَه عن حسِّه حتى خرَّ" أي: سقط "لوجهه" أي: عليه, "فتأثير السماع محسوس" مشاهد بحاسة البصر, "ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج" بكسر الميم- الطبع, "بعيد العلاج" معنى أنه لا ينفع فيه بسهولة, "زائد في غلظ الطبع وكثافته" بمثلثة- عطف مساوٍ حسَّنه اختلاف اللفظ, "على الجمال" الموصوفة بالبلادة, "وإذا كانت هذه البهائم تتأثّر بالنغمات، فتأثير النفوس النفسانية أَوْلَى", وأنشد المصنّف لغيره. نعم لولاك ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق نعم أسعى إليك على جفوني ... تدانى الحي أو بعد الطريق إذا كانت تحن لك المطايا ... فماذا يفعل الصب المشوق "فزبدة السماع تلطيف السر" أي: ترقيقه, "ومن ثَمَّ وضع العارف الكبير سيدي علي" بن العارف الكبير سيدي محمد "الوفوي, حِزْبَه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة تنشيطًا لقلوب المريدين وترويحًا" بالحاء المهملة "لأسرار السالكين، فإن النفوس -كما قدمناه- لها حظ" نصيب "من الألحان، فإذا قيلت" أي: ذكرت "هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية" صفات للحزب الشريف "بهذه الأنغام الفائقة والأوزان الرائقة بشربتها العروق, وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوي المحمدي فأثمرت شجرة" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 عوارف المعارف. تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرًا. والحجة في ذلك: إن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدَّعت وتحيِّرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضًا, فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج.   بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت, "تنبيه" إيقاظ. "زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن, "وأظهر تأثيرًا, والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة, ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة, "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت, والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق, والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان, "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف, شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق, فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج", وسبقه إلى معناه الجنيد, وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 المقصد العاشر : الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه -صلى الله عليه وسلم   بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت, "تنبيه" إيقاظ. "زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن, "وأظهر تأثيرًا, والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة, ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة, "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت, والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق, والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان, "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف, شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق, فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج", وسبقه إلى معناه الجنيد, وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم. "المقصد العاشر: الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته" متعلق بإتمامه, "ونقلته إلى حظيرة" بظاء معجمة مشالة "قدسة" أي: الجنة لديه, أي: عنده, وهذا عطف مسبب على سبب -صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره مقرّ الميت, وأصله مصدر قَبَرَه إذا دفنه, وهو هنا بمعنى المقبور فيه, "الشريف" شرفًا ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 وزيارة قبره الشريف, ومسجده المنيف, وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم, والدرجات العليات, وتشريفه بخصائص الزلفى في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين, وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود, وانفراده بالسؤدد في مجمع مجامع الأولين والآخرين, وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة, وتعاليه في يوم المزيد أعلى الحسنى وزيادة. وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول: اعلم -وصلنى الله وإياك بحبل تأييده, وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان, ويجلب الفجائع   ناله مكان سواه؛ بحيث كان أفضل الباقع بإجماع, "ومسجده المنيف" المرتفع في الشرف على غيره حتى المسجد الحرام أو إلا المسجد الحرام على القولين، "وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات" جمع أوله، أي: بالأمور التي يتقدم وصفه بها على جميع الخلق، ككونه أول من تنشق عنه الأرض, وأول شافع وأول مشفع, وأول من يقرع باب الجنة، وقال شيخنا: أي بفضائل الأمم المتقدمة مع أنبيائهم، أي: إنه جمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، فكان في ذلك المشهد أتَمَّ الناس فضيلة وأكملهم. انتهى. وتعسفه لا يخفى "الجامعة لمزايا" فضائل "التكريم والدرجات" المراتب "العليات, وتشريفه بخصائص الزلفى" فعلى من أزلف، أي: القربى "في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين, وتحميده بالشفاعة" العظمى العامة "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه لها فيحمده الأولون والآخرون، ولا شكَّ أنه مغاير لها وإن احتوى عليها, "وانفراده بالسؤدد" بضم السين وبالهمز- أي: السيادة، أي: المجد والشرف "في مجمع" بكسر الميم وفتحها- مفرد "مجامع", يطلق على الجمع وعلى موضع الاجتماع كما في المصباح, "الأولين والآخرين, وترقِّيه في جنة عدن" إقامة, "أرقى" أي: أعلى "مدارج" جمع درجة، وفي نسخة: معارج جمع معرج ومعراج, "السعادة" أي: أعلى مراتبها, وتعاليه في يوم المزيد" وهو يوم الجمعة في الجنة. كما رواه الشافعي كما مرَّ في الجمعة "أعلى معالى الحسنى" الجنة, وزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "وفيه ثلثة فصول". الفصل الأول: "اعلم وصلني الله وإياك بحبل تأييده, وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده" بسين مهملة "أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان, ويجلب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان. ولما كان الموت مكروهًا بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقَّة العظيمة، لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر. وأوّل ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعدّ للنقلة إلينا. وقد قيل: إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو -صلى الله عليه وسلم- بمنى في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل. سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.   الفجائع" أي: الآلام, "لإثارة الأحزان" بسبب فقد رؤيته -عليه الصلاة والسلام, ويلهب نيران الموجدة" الحزن على أكباد ذوي الإيمان, ولما كان الموت مكروهًا بالطبع لما فيه من الشدة والمشقّة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر" بضم الياء وفتح الخاء المعجمة كما في الصحيح من حديث عائشة، ويأتي في المتن: أوَّل ما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة, "فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد, ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا" جماعات, "فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ، لكلّ ما أمر بتبليغه "وما عندنا خير لك من الدنيا" كما قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية "فاستعدّ للنقلة إلينا، وقد قيل: إن هذ السورة آخر سورة نزلت يوم النحر وهو -صلى الله عليه وسلم- بمِنَى في حجة الوداع" ولذا خطب وودَّع الناس كما مَرَّ في الحج. "وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يومًا" إن كان قائل هذا يقول: نزلت يوم النحر, فلا يستقيم هذا العد إلّا على القول أنه توفي في ثاني ربيع الأول وأوّل يوم منه، أمَّا على قول الجمهور أنه توفي ثاني عشر ربيع الأوّل, فيكون عاش بعدها ثلاثًا وتسعين يومًا, والأقوال الثلاثة مَرَّت للمصنف في آخر المقصد الأول. "وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليالٍ" بفوقية فمهملة, "وعن مقاتل: سبعًا" بسين قبل الموحدة, "وعن بعضهم: ثلاثًا, ولأبي يعلى" بإسناد ضعيف "من حديث الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 ولأبي يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجّة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع. وفي حديث ابن عباس، عند الدارمي: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال: "نعيت إليّ نفسي" فبكت، قال: "لا تبكي، فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت. الحديث. وروى الطبراني من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمره الآخرة. وللطبراني أيضًا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "نعيت إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] .   ابن عمر, نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجَّة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع" فركب راحلته واجتمع الناس إليه فخطب, الحديث. وعلى تقدير صحة جميع هذه الأقوال، فيحتمل أن الرواة اختلف وقت سماعهم، فمنهم من سمعها قبل وفاته بإحدى وثمانين, ومنهم بتسع ليالٍ، وهكذا فكل أخبر عن وقت سماعه ظنًّا أنه وقت نزولها. "وفي حديث ابن عباس عند الدارمي: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال" لها حين جاءته، وفي نسخة: قال بلا واو، أي: فلمَّا جاءته قال: "نعيت إلي نفسي" ببناء نعيت للمجهول, "فبكت" أسفًا عليه, "قال: "لا تبك" وفي نسخة: لا تبكي بالياء للإشباع, "فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت ..... الحديث" وهو دالّ للقول بنزولها قبل موته بتسع أو سبع أو ثلاث لما في الصحيح, أنه دعا فاطمة في مرض موته, فسارَّها فبكت, ثُمَّ سارَّها فضحكت, إن فسرنا ما سارَّها به بنزول سورة النصر. "وروى الطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت -بضم النون- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بشأن ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة" أي: أخذ باجتهاد أشد من الاجتهاد الذي كان يجتهده قبل, "وللطبراني أيضًا من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "نعيت" بفتح النون وتاء الخطاب، أو بضمها مبني للمفعول, "إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية. أي: الدنيا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 وروي في حديث ذكره ابن رجب في "اللطائف" أنه تعبَّد حتى صار كالشن البالي. وكان -عليه الصلاة والسلام- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام, فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار. وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم, فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا في   "وروي في حديث ذكره ابن رجب في اللطائف أنه -صلى الله عليه وسلم- تعبَّد حتى صار كالشن" بفتح المعجمة وشد النون- الجلد البالي، فجرد عن بعض معناه فاستعمله في الجلد بلا قيد، فوصفه بقوله: "البالي" والله أعلم بحال هذا الحديث. فإن المفهوم من الأحاديث الصحيحة أنَّه لم يصل إلى هذه الحالة, وإن زاد في العبادة إلى الغاية, "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعرض" بفتح الياء وكسر الراء- يدارس "القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين" في رمضان, كما في الصحيحين في حديث عائشة عن فاطمة "أسرَّ إلي أن جبريل كان يعراضني القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضني الآن مرتين, ولا أراه إلا حضر أجلي"، وفي رواية للشيخين أيضًا بالجزم, ولفظه: فقالت: سارَّني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت ..... الحديث. وهو يرد على قوله أولًا أنَّ أول علمه بانقضاء أجله نزول سورة النصر، فإنها نزلت يوم النحر على أبعد ما قيل, والعرض في رمضان الذي قبله, إلّا أن يقال: الإعلام من سورة النصر ظاهر للأمر بالتسبيح والاستغفار، وقول جبريل له: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] . بخلاف معارضة جبريل, فليس فيها إفصاح بقرب أجله، لكنه فهمه من مخالفة عادته؛ حيث كرره مرتين, أو أنه لما تأخر تحديث فاطمة بهذا حتى مات, لم يعلم منه أنه أوّل ما أعلم به, والذي ظهر الإعلام به أولًا إنما هو سورة النصر "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام, فاعتكف في ذلك العام" الذي قُبِضَ فيه عشرين, وأكْثَرَ من الذكر والاستغفار"؛ لعلمه بانقضاء أجله, والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية, فيكون العشر الوسط منها، ولما عارضه مرتين اعتكف مثلي ما كان يعتكف. "وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده, أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم" سمته دعاء نظرًا لقوله: "استغفر الله" ..... إلخ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 أمتي، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره" ثم تلا هذه السورة. رواه ابن جرير وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه. وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين؛ كالمودع للأحياء واللأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني لست أخشى   فغلبت أو أرادت بالدعاء ما فيه ثناء على الله, سواء كان فيه طلب أم لا, "فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا" بفتحتين- دليلًا "في أمتي" على وفاتي, "وأني" أي: وأمرني أني "إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره"، ثم تلا هذه السورة" يعني: وقد رأيته. "رواه ابن جرير" محمد الطبري "وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق" بن الأجدع "عن عائشة نحوه" أي: نحو حديث أم سلمة, "وروى الشيخان من حديث عقبة" بالقاف "ابن عامر" الجهني "قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أُحد" زاد في رواية للشيخين: صلاته على الميت، أي: مثل صلاته، والمراد: إنه دعا لهم بدعاء صلاة الميت؛ كقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} لا أنه صلى عليهم الصلاة المعهودة على الميت؛ للإجماع على أنه لا يصلى على القبر, "بعد ثمان سنين" فيه تجوّز، لأن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق, والوفاة النبوية في ربيع الأول سنة إحدى عشرة, فيكون سبع سنين ودون النصف, فهو من جبر الكسر, "كالمودّع للأحياء والأموات" بصلاته على أهل أُحد، وخرج إليهم كما في رواية في الصحيح: خرج يومًا فصلى على أهل أُحد، ثم انصرف "ثم طلع المنبر" كالمودِّع للأحياء والأموات "فقال: "إني بين أيديكم فرط" بفتح الفاء والراء- المتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها، أي: أنا سابقكم إلى الحوض كالمهييء له لأجلكم, وفيه إشارة إلى قرب وفاته وتقدّمه على أصحابه, "وأنا عليكم شهيد" أشهد بأعمالكم، فكأنه باقٍ معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم, فهو قائم بأمرهم في الدَّارين في حال حياته وموته. وعند البزار بسند جيد عن ابن مسعود رفعه: "حياتي خير لكم, ومماتي خير لكم, تعرض علي أعمالكم, فما كان من حسن حمدت الله عليه, وما كان من سييء استغفرت الله لكم" , "وإن موعدكم الحوض" يوم القيامة, "وإني" زاد في رواية: والله "لأنظر إليه" نظرًا حقيقيًّا "وأنا في مقامي" بفتح الميم "هذا" الذي أنا قائم فيه، فهو على ظاهره, وكأنه كُشِفَ له عنه في تلك الحالة، قاله الحافظ وغيره، ويقويه رواية في الصحيح: "إني والله لأنظر إلى حوضي الآن"، قال المصنف وغيره: فيه أن الحوض على الحقيقة, وأنه مخلوق موجود الآن, "وإني قد أعطيت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها". وزاد بعضهم: "فتقتتلوا, فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم". وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: "إن عبدًا خيِّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء, وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخَيِّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:   مفاتيح خزائن الأرض" فيه إشارة إلى ما فتح لأمته من الملك والخزائن من بعده, "وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي" أي: لا أخاف على جميعكم الإشراك, بل على مجموعكم؛ لأنه قد وقع من بعضهم بعده, "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا" بحذف إحدى التاءين, "فيها" أي: الدنيا بدل اشتمال مما قبله، والمنافسة في الشيء الرغبة فيه وحب الانفراد به, "وزاد بعضهم" أي: الرواة "فتقتتلوا على المنافسة, فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" وقد وقع ما قاله -صلى الله عليه وسلم, ففتحت على أمته بعده الفتوح, وصبّت عليهم الدنيا صبًّا, وتحاسدوا وتقاتلوا, وكان ما كان، ولم يزل الأمر في ازدياد. "وعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر" قبل موته بخمس كما يأتي، وفي رواية: خطب الناس "فقال: "إن عبدًا خيِّره الله" من التخيير "بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا" زينتها "ما شاء" أن يؤتيه منها، وفي نسخة: زهرة بدون من، لكن الذي في البخاري من، وفي مسلم: بدونها, لكن لم يقل ما شاء, "وبين ما عنده" في الآخرة, "فاختار" ذلك العبد "ما عنده"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله, فديناك بآبائنا وأمهاتنا". قال أبو سعيد: "فعجبنا له", وفي رواية: لبكائه, وقال الناس" متعجبين من تفديته؛ لأنهم لم يفهموا المناسبة بين الكلامين: "انظروا إلى هذا الشيخ, يخبر رسول الله " بالرفع فاعل يخبر "صلى الله عليه وسلم عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة". كذا في نسخ، وفي آخرى: من, وهو في الصحيح من زهرة "الدنيا ما شاء, وبين ما عنده, وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا", وللبخاري في الصلاة: فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خُيِّرَ عبدًا بين ..... إلخ، وجمع الحافظ، بأنَّ أبا سعيد حدَّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره به فنقل جميع ذلك. "قال" أبو سعيد: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخَيَّر" بفتح التحتية المشددة والنصب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت إلّا خوخة أبي بكر" رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم.   خبر كان, ولفظة: هو, ضمير فصل، ورواه أبو ذر بالرفع خبر المبتدأ، أعنى: هو, والجملة في موضع نصب خبر كان, "وكان أبو بكر أعلمنا به" أي: بالنبي -صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور, فبكى حزنًا على فراقه, "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:" زاد في رواية للبخاري: "يا أبا بكر لا تبك" , "إن أمَنَّ الناس" بفتح الهمزة والميم وشد النون، أي: أكثرهم مِنَّة, "عليَّ في صحبته وماله أبو بكر" أفعل تفضيل من المنِّ بمعنى العطاء والبذل، يعني: إن أبذل الناس لنفسه وماله لا من المانية التي تفسد الصنيعة، وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المانية، وقال: تقديره: لو توجه لأحد الامتنان علي لتوجّه لأبي بكر والأول أَوْلَى، قاله الحافظ, "ولو كنت متخذًا" وقوله: من أهل الأرض, ليس في الصحيحين في حديث أبي سعيد وإنما في البخاري في حديثه في بعض طرقه "من أمتي"، وفي روايات له بدونها, نعم لفظ من أهل الأرض. رواه مسلم، لكن من حديث ابن مسعود لا من حديث أي: سعيد, "خليلًا" أرجع إليه في المهمات, وأعتمد عليه في الحاجات, وفي رواية للبخاري: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا"؛ لأنه أهلٌ لذلك لولا المانع، فإن خِلّة الله لا تسع مخالة شيء غيره أصلًا, "ولكن أخوة" بالرفع "الإسلام" جامعة بيني وبينه، ولتمامها: صرت معه لأخ، زاد في راية: ومودته أي: الإسلام. وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "ولكن أخوة الإسلام أفضل" واستشكل بأن الخلة أفضل من أخوة الإسلام, فإنها تستلزمها وزيادة، وأجيب بأن أفضل بمعنى فاضل، وبأنَّ المراد مودة الإسلام مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من مودته مع غيره, ولا يعكر عليه اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة مع أبي بكر؛ لأن رجحانه عليهم عُلِمَ من غير هذا, وأخوة الإسلام ومودته متقاربة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أكثره وأعظمه "لا يبقى" الذي في البخاري: في أزيد من موضع كمسلم لا يبقين. قال الحافظ وغيره: بفتح أوله ونون التوكيد الثقيلة, "في المسجد خوخة" بمعجمتين- باب صغير, ونسبة النهي إليها تجوّز؛ لأن عدم بقائها لازم للنهي عن إبقائها, وكأنه قال: لا تبقوها حتى تبقى، وقد رواه بعضهم بضم أوله وهو واضح، وكانوا قد اتخذوا في ديارهم أبوابًا صغارًا إلى المسجد، فأمر -صلى الله عليه وسلم- بسدِّها كلها, "إلا خوخة أبي بكر" إكرامًا له وتنبيهًا على أنه الخليفة بعده, أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب المقالة دون التطرق والتطلع إليها، رجَّحه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليالٍ. وكأنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- فهم الرمز الذي أشار به النبي -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى. وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنَّه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" , وطفق   التوربشتي بأنه لم يصح عنده أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد, وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة، وردَّه الحافظ بأنه استدلال ضعيف؛ إذ لا يلزم من كونه بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس باتفاق, وأم رومان على القول, بأنها كانت باقية يومئذ. وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أنَّ دار أبي بكر الذي أذَّن له في إبقاء الخوخة فيها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد, ولم تزل بيده حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض مَن وفد عليه، فباعها لام المؤمنين حفصة بأربعة آلاف درهم. "رواه البخاري" في موضعٍ "ومسلم" في الفضائل, "ولمسلم من حديث جندب: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" هذا بقية الحديث في مسلم، فليس بالمراد بقول ما مَرَّ من قوله: "إن عبدًا" كما زعم من لم يقف على شيء، قال الحافظ: قد تواردت الأحاديث على نفي الخلة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد. وأمَّا ما روي عن أُبَيّ بن كعب: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمسٍ دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلّا وقد اتخذ من أمته خليلًا, وإن خليلي أبو بكر, ألا وإن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا". أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، فمعارض بحديث جندب المذكور، فإن ثبت حديث أُبَيّ أمكن الجمع بينهما بأنها لما برئ من ذلك تواضعًا لربه وإعظامًا له, أذن الله تعالى له فيه في ذلك اليوم لما رأى من تشوّقه إليه, وإكرامًا لأبي بكر بذلك, فلا يتنافى الخبر أن أشار إليه المحب الطبري. وروي عن أبي أمامة نحو حديث أُبَيّ دون التقييد بالخمس, أخرجه الواحدي في تفسيره, والخبران واهيان, وكأن أبا بكر -رضي الله عنه- فهم الرمز" أي: الإشارة "الذي أشار به -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته, فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى" أسفًا وحزنًا "وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 يودع الناس، فقالوا: هذا حجة الوداع. فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى "خما" في طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: "أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حضَّ على التمسك بكتاب الله, ووصَّى بأهل بيته. قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه -عليه السلام- في آخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور. وكانت خطبته التي خطب بها المذكور في حديث أبي سعيد الذي قدمته في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر, فاستوى عليه فقال: "والذي نفسي بيده، إني   للناس: "خذوا عني مناسككم" احفظوها واعملوا بها, "فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" , وطفق أي: شرع "يودّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من حجِّه" أي: شرع في الرجوع "إلى المدينة" ليلًا في قوله: "جمع الناس بماء يدعى" يسمَّى "خُمّا" بضم الخاء المعجمة وشد الميم- غدير في طريقه بين مكة والمدينة" على ثلاثة أيام من الجحفة, يقال له: غدير خم, "فخطبهم وقال" بعد أن حمد الله وأثنى عليه، ووعظ, وذكر كما في مسلم: "أيها الناس" الحاضرون أو أعمّ, "إنما أنا بشر" وقوله: "مثلكم" ليست في مسلم, ولا في نقل السيوطي عنه, وعن أحمد وعبد بن حميد، فكأن كتابها سبقه قلمه لحفظ القرآن, "يوشك" يقرب "أن يأتيني رسول ربي" يعني: ملك الموت, "فأجيب" اي: أموت, كنَّى عني بالإجابة إشارةً إلى أنه ينبغي تلقيه بالقبول, كأنه يجيب إليه باختياره, ثم حضَّ على التمسط بكتاب الله" القرآن "ووصَّى بأهل بيته" ومَرَّ الحديث في مقصد المحبة السابع. "قال الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي: "وكان ابتداء مرضه -عليه السلام- في آخر شهر صفر" يوم الاثنين أو السبت أو الأربعاء كما يأتي, "وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور" يأتي مقابله قريبًا, "وكانت خطبته التي خطب بها المذكورة في حديث أبي سعيد الذي قدمته" آنفًا "في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في المسجد وهو معصوب الرأس بخرقة" من الصداع "حتى أهوى" ارتفع صاعدًا إلى المنبر, فاستوى" جلس "عليه، فقال: "والذي نفسي بيده" قسم كان يقسم به كثيرًا, وفيه الحلف على الأمر المحقق من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 لأنظر إلى الحوض في مقامي هذا" ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا" إلخ، ثم هبط عنه, فما رؤي عليه حتى الساعة. فلمَّا عرَّض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء، ولم يصرّح خفي المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم, فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى, وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر؛ ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته, فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" رضي الله عنه, ثم قال -صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا من أهل الأرض   غير استخلاف لمزيد التأكيد, "إني لأنظر إلى الحوض" نظرًا حقيقيًّا "في مقامي" بفتح الميم "هذا"، ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا إلى آخره" , بقيته: "وزينتها, فاختار الآخرة" فلم يفطن لها غير أبي بكر فذرفت عيناه، فبكى ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأولادنا وأموالنا يا رسول الله, ثم هبط عنه" نزل عن المنبر "فما رؤي عليه" بضم الراء وهمزة مكسورة وفتح الياء, وبكسر الراء ومد الهمزة "حتى الساعة" أي: فما قام عليه بعد في حياته, والمراد بالساعة القيامة، قاله المصنف: فلمَّا عرض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء" في الدنيا, "ولم يصرحّ, خفي المعنى على كثير ممن سمع" كلامه, ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به" زيادة على غيره {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أحد الاثنين, والآخر أبو بكر {إِذْ} بدل من إذ قبله {هُمَا فِي الْغَارِ} ثقب في جبل ثور، "وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم, فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جزعه" ضعف قوته وعدم صبره على ما حلَّ به "وأخذ في مدحه والثناء عليه" عطف مساوٍ "على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر". وفي رواية في الصحيح أيضًا: "إن من أمَنِّ الناس" فقيل من زائدة على رأي الكسائي فلا خلف، أو يحمل على أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية, لكنه مقدَّم في ذلك, بدليل السياق المتقدم والمتأخر، ويؤيده حديث أبي هريرة عند الترمذي: "ما لأحد عندنا يد إلّا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة"، فدلَّ ذلك على ثبوت يد لغيره, إلّا أن لأبي بكر رجحانًا، وحاصله: إنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه "ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا" زاد في رواية: غير ربي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام"، لما كان -صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوفًا, فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح, ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلًا أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت, إلا خوخة أبي بكر" إشارةً إلى أنَّ أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر -رضي الله عنه، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول: "مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" فولّاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا, أفلا   "لاتخذت أبا بكر خليلًا, ولكن أخوة الإسلام" أي: حاصلة، وتقدَّم أن لفظ: من أهل الأرض, ليس في الصحيحين, ولا أحدهما من حديث أبي سعيد، وإنما في بعض طرقه عند البخاري: من أمتي، وإن لفظ من أهل الأرض إنما رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله" "لما كان -صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أنه يخالل مخلوقًا، فإن الخليل مَنْ جرت محبة خليله منه مجرى الروح, ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل". قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا ومَرَّ الخلاف في مقصد المحبة: هل هي والخلة متساويان, أو المحبة أرفع, أو الخلة, "أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يبقي في المسجد خوخة إلّا" خوخة "سدت" فحذف المستثنى والفعل صفته، لكن لم يقع في الصحيحين بهذا اللفظ, فإنه إنما وقع في بعض طرقه عند البخاري: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر". أما رواية: خوخة, فليس فيها إلّا سدت, وإنما فيهما كما مَرَّ: "لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره, وذلك من مصالح المسلمين المصلين" فإبقاؤها مصلحة عامّة, "ثم أكَّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول: "مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" والمراجع له عائشة وحفصة كما يأتي, "فولَّاه إمامة الصلاة". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 نرضاه لدنيانا.   "ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا" أي: الصلاة؛ لأنها عماد الدين, "أفلا نرضاه لدنيانا", وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه الخلافة، لا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمَّهم إلّا أبو بكر، قاله الخطابي وابن بطال وغيرهما, وجاء في سد الأبواب أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب، فلأحمد والنسائي بإسنادٍ قوي عن سعد بن أبي وقاص: أمر -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي. زاد الطبراني في الأوسط برجال ثقاتٍ فقالوا: يا رسول الله, سددت أبوابنا، فقال: "ما سددتها, ولكن الله سدها"، ولأحمد والنسائي والحاكم برجال ثقاتٍ عن زيد بن أرقم: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال -صلى الله عليه وسلم: "سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي"، فتكلم ناس في ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما سدت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته". وعند أحمد والنسائي برجالٍ ثقات عن ابن عباس: أمر -صلى الله عليه وسلم- بأبواب المسجد فسدت غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب, ليس له طريق غيره، وللطبراني عن جابر بن سمرة: "أمَرَّ -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مَرَّ فيه وهو جنب", ولأحمد بإسناد حسن عن ابن عمر: لقد أعطي علي ثلاث خصال، لأن تكون لي واحدة منهن أحبَّ إلي من حمر النعم، زوَّجه -صلى الله عليه وسلم- ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر، وهذه أحاديث يقوي بعضها بعضًا, وكل طريق منها صالح للحجة فضلًا عن جموعها. وأوردها ابن الجوزي في الموضوعات, وأعلها بما لا يقدح, وبمخالفتها للأحاديث الصحيحة في باب أبي بكر، وزعم أنها من وضع الرافضة, قابلوا بها الحديث الصحيح، فأخطأ في ذلك خطأ شنيعًا فاحشًا، فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة, مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، كما أشار إليه البزار بما دلَّ عليه حديث أبي سعيد عند الترمذي, أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبًا غيري وغيرك" , والمعنى: إن باب علي كان إلى جهة المسجد, ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدِّه، ويؤيده ما أخرجه إسماعيل القاضي عن المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن لأحد أن يمرَّ في المسجد وهو جنب إلّا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد، ومحصّل الجمع أنه أمر بسد الأبواب مرتين، ففي الأولى استثنى باب علي لما ذكر، وفي الأخرى باب أبي بكر، لكن إنما يتمّ بحمل باب علي على الباب الحقيقي وباب أبي بكر على المجازي، أي: الخوخة -كما في بعض طرقه, وكأنهم لما أمروا بسدها سدوها وأحدثوا خوخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأمروا بعد ذلك بسدها، فهذا لا بأس به في الجمع، وبه جمع الطحاوي والكلاباذي, وصرَّح بأن بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد, وخوخة إلى داخل المسجد, وبيت علي لم يكن له باب إلّا من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 وكان ابتداء مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة، كما ثبت في رواية معمر عن الزهري، وفي سيرة أبي معشر: كان في بيت زينب بنت جحش، وفي سيرة سليمان التيمي: كان في بيت ريحانة، والأوّل هو المعتمد. وذكر الخطابي أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا -كما مَرَّ, وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما في الروضة، وصدَّر بالثاني، وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح. وفي البخاري قالت عائشة: لما ثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم, واشتدَّ به وجعه, استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي فأذِنَّ له، فخرج وهو بين رجلين تخطّ رجلاه في   داخل المسجد. انتهى، ملخصًا من فتح الباري. "وكان ابتداء" اشتداد "مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة, كما ثبت في رواية معمر عن الزهري" عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة: أوّل ما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة. الحديث في الصحيحين، وأما ابتداؤه الحقيقيّ فكان في بيت عائشة كما يأتي "وفي سيرة أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن، "كان في بيت زينب بنت جحش, وفي سيرة سليمان التيمي, كان في بيت ريحانة, والأوّل" بيت ميمونة "هو المعتمد" كما قال الحافظ؛ لأنه الذي في الصحيحين مسندًا. "وذكر الخطابي أنه ابتدأ به" المرض, "يوم الاثنين، وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد" شيخ الحاكم أبي عبد الله "يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا" وهو المشهور "كما مَرَّ، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما" أي: القولين "في الروضة, وصدَّر بالثاني" الذي هو اثنا عشر, "وقيل: عشرة أيام, وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه, وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح" عنه، وجمع شيخنا بجواز اختلاف أحواله في ابتداء مرضه، فذكر كلّ منهم اليوم الذي علم بحصول ما رآه من حاله وشدة مرضه التي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة: كانت سبعة أيام على ما يأتي, وما زاد عليها قبل اشتداده الذي انقطع به -صلى الله عليه وسلم. "وفي البخاري" ومسلم "قالت عائشة: لما ثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم, واشتد به وجعه" عطف تفسير, يقال: ثقل مرضه إذا اشتدَّ وركضت أعضاؤه عن الحركة، قال عياض: العرب تسمي كل مرض وجعًا "استأذن أزواجه في أن يمرَّض" بضم أوله وفتح الميم وشد الراء "في بيتي, فأذِنَّ -بفتح الهمزة وكسر المعجمة وشد النون- أي: الأزواج له -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة فقال لي عبد الله ابن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب. الحديث. وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العبّاس ورجل آخر. وفي أخرى: بين رجلين أحدهما أسامة. وعند الدارقطني: أسامة والفضل، وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو ثم موحدة, قيل: وهو اسم أمة، وقيل: هو عبد, وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان.   قال الكرماني: وروي -بضم الهمزة وكسر الذال وخفة النون- مبني للمجهول "فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض" أي: لا يقدر على تمكينها منها لشدة مرضه, "بين عباس بن عبد المطلب" عمه "وبين رجل آخر، قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها- ابن عتبة -بضمها وإسكان الفوقية- راوي الحديث عن عائشة "فأخبرت عبد الله" ابن عباس مستفهمًا للعرض عليه "بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة". وفي رواية للشيخين: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدَّثتني عائشة عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: هات, فعرضت عليه حديثها, فما أنكر منه شيئًا، غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس, "قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب" زاد الإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب له نفسًا بخير، وعند ابن إسحاق: ولكن لا تقدر أن تذكره بخير. انتهى. وذلك لما جبل عليه الطبع البشري، فلا إزراء في ذلك عليها ولا على علي -رضي الله عنهما ...... "الحديث". "وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس" أكبر ولده "ورجل آخر" هو علي -كما في بقية هذه الرواية أيضًا. "وفي " رواية "أخرى" لغير مسلم كما في شروحه "بين رجلين، أحدهما أسامة بن زيد "وعند الدارقطني أسامة والفضل" بن عباس "وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو، ثم موحدة- كما ضبط ابن ماكولا, "قيل: وهو اسم أمة" واحدة الإماء "وقيل: هو عبد " أسود ذكر, وبه جزم سيف، ويؤيده رواية ابن خزيمة: فخرج بين بريرة ورجل آخر, فوهم من ذكر نوبة في النساء الصحابيات، قاله الحافظ. "وعند ابن سعد" محمد "من وجه آخر بين الفضل وثوبان" بمثلثة مولاه -صلى الله عليه وسلم, "وجمعوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدّد، فتعدد من اتكأ عليه. وعن عائشة -رضي الله عنها، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور في بيوتكنّ، فإن شئتنّ أذنتنّ لي" رواه أحمد. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدا؟ " يريد يوم عائشة, حرصًا على أن يكون في بيت عائشة. وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري: إن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك, فقالت لهنَّ: إنه يشق عليه الاختلاف. وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة, أن دخوله -عليه الصلاة والسلام- بيتها كان يوم الإثنين، وموته يوم الإثنين الذي يليه. وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين أكون أنا غدًا"،   بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأنَّ خروجه تعدَّد، فتعدد من اتكأ عليه" وهو أَوْلَى ممن قال: تناوبوا في صلاة واحدة، هذا بقية ما ذكره الحافظ هنا في الوفاة. "وعن عائشة -رضي الله عنها, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور" أطوف عليكن "في بيوتكنّ، فإن شئتن أذنتنَّ لي" في أن أكون في بيت عائشة "رواه أحمد" وفيه مزيد لطفه وحسن عشرته، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بأنه لا يستطيع الدوران مع أنه عذر ظاهر حتى أنه علّق الإذن على مشيئتهن. "وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول" وفي رواية يسأل: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ " مرتين "يريد يوم عائشة حرصًا على أن يكون في بيت عائشة", قال ابن التين في الرواية الأخرى: إن أزواجه أذِنَّ له أن يقيم عند عائشة, فظاهره يخالف هذا، ويجمع باحتمال أنهنَّ له بعد أن صار إلى يومها، يعني: فيتعلّق الإذن بالمستقبل وهو جمع حسن، قاله الحافظ. "وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة" الزهراء "هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك" أي: الاستئذان, "فقالت لهنَّ: أنه يشق" يصعب "عليه الاختلاف" بالمجيء والرواح من حجرة إلى أخرى. "وفي رواية ابن أبي مليكة" بضم الميم- اسمه: عبد الله "عن عائشة, أن دخوله -عليه الصلاة والسلام- بيتها كان يوم الإثنين وموته يوم الإثنين الذي يليه" فاختصَّت بسبعة أيام. "وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين أكون غدًا؟: كررها أي: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة, فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن الإسماعيلي, كان يقول: "أين أنا غدًا" حرصًا على بيت عائشة، فلمَّا كان يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي. وعن عائشة: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، فقال: "بل أنا وا رأساه" ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك، ودفنتك, فقالت: لكأنِّي بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه. رواه أحمد والنسائي.   هذه المقالة "مرتين فعرف" وفي نسخة: فعرفنا على لغة أكلوني البراغيث "أزواجه أنه إنما يريد عائشة فقلن: يا رسول الله, قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة". "وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند الإسماعيلي: كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أين أنا غدًا؟ " حرصًا على بيت عائشة" أي: على أن يكون في بيتها, كما في رواية: "فلمَّا كان يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي", ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن كان يقول: "أين أنا غدًا؟ " قبل يوم عائشة، وأمر فاطمة أن تستأذنهنَّ فأخبرتهنَّ بذلك، فلمَّا كان يوم عائشة قال وهن عنده: "أين أنا غدًا؟ " وكرها، ففهم أزواجه أنه يريد عائشة، وأكَّد ذلك قول فاطمة: إنه يشق عليه الاختلاف، فوهبن أيامهنَّ لعائشة، فقال -صلى الله عليه وسلم- زيادة في تطييب قلوبهنَّ: "أني لا أستطيع ..... " إلخ. وكان ذلك في يومها كما قالت, فلمَّا كان في يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي، هكذا ظهر لي. "وعن عائشة: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة" لبعض أصحابه "بالبقيع" بموحدة- مقبرة المدينة, "وأنا أجد صداعًا في رأسي" جملة حالية, "وأنا أقول: وا رأساه" ندبت نفسها وأشارت إلى الموت، قاله الطيبي: كأنها فهمت أن وجع رأسها يتولّد منه الموت, فقال -صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى أنها لا تموت منه بالإضراب "بل أنا وا رأساه"، ثم قال مشيرًا إلى أنها لو ماتت قبله لكان خيرًا لها: "ما ضرك لو مت قبلي فغسَّلتك" بنفسي على ظاهره، ففيه أنَّ الزوج أحقّ بتغسيل زوجته, "وكفَّنتك وصليت عليك ودفنتك"، فقالت: لكأنِّي بك والله لو فعلت" أي: لو قام بي "ذلك" فهو -بضم التاء أو بفتحها خطابًا، أي: لو فعلت الغسل وما بعده "لقد رجعت إلى بيتي فأعرست، من أعرس، أي: غشي "فيه ببعض نسائك، فتبسّم -صلى الله عليه وسلم, ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه، ورواه أحمد والنسائي" من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 وفي البخاري: قالت عائشة: وا رأساه, فقال -صلى الله عليه وسلم: "ذاك لو كان وأنا حي, فأستغفر لك وأدعو لك" فقالت عائشة: وا ثكلياه، والله إنّي لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه, فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنَّى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون".   "وفي البخاري" في الطب والأحكام "قالت عائشة: وا رأساه" من الصدع ظنًّا أنه قد يتولّد منه الموت "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ذاك" بكسر الكاف، أي: موتك -كما يدل عليه السياق "لو كان وأنا حي" الواو للحال "فأستغفر لك وأدعو لك" بكسر الكاف فيهما, "فقالت عائشة: واثكلياه" بضم المثلثة وسكون الكاف وكسر اللام مصححًا عليها في الفرع بعدها تحتية خفيفة فألف فهاء ندبة، وفي بعض الأصول: بفتح اللام, ولم يذكر الحافظ ابن حجر غيرها، وتعقّبه العيني فقال: ليس كذلك؛ لأنَّ ثكلياه إمَّا أن يكون مصدرًا أو صفة للمرأة التي فقدت ولدها، فإن كان مصدرًا فالثاء مضمومة واللام مكسورة، وإن كان صفة فالثاء مفتوحة واللام كذلك، قال في القاموس: الثكل بالضم الموت والهلاك وفقدان الحبيب أو الولد. انتهى. وليست حقيقته مرادة هنا, بل هو كلام يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها, قاله المصنف, "والله إني لأظنك تحب موتي" فهمت ذلك من قوله: "لو كان وأنا حي" , "فلو كان ذلك" أي: موتي، وفي رواية: ذاك بلا لام" لظللت" بفتح اللام والظاء المعجمة وكسر اللام الأولى وسكون الثانية، أي: لدنوت وقربت "آخر يومك" من موتى حال كونك "معرسًا" بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الراء المشددة فسين مهملة- اسم فاعل, وبسكون العين وخفة الراء من أعرس بالمرأة إذا بنى بها أو غشيها "ببعض أزواجك", ونسيتني, "فقال -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه" قال المصنف: هكذا في الأصول المعتمدة التي وقفت عليها بإثبات بل الإضرابية, "لقد همت أو أردت" بالشك من الراوي "أن أرسل إلى أبي بكر" الصديق وابنه عبد الرحمن, "فأعهد" بفتح الهمزة والنصب عطفًا على أرسل: أي: أوصي بالخلافة إلى أبي بكر كراهية "أن يقول القائلون" الخلافة لفلان أو يقول واحد منهم: الخلافة لي, وأن مصدرية, والمقول محذوف, "أو يتمنَّى المتمنون" أن تكون الخلافة لهم فأعينه قطعًا للنزع، وقد أراد الله تعالى أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد, والمتمنون -بضم النون- جمع متمنٍّ بكسرها، وقال ابن التين: ضبط بفتح النون, وإنما هو بضمها؛ لأن الأصل المتمنيون بزنة المتطهرون, استثقلت الضمة على الياء فحذفت, فاجتمع ساكنان الياء والواو فحذفت الياء لذلك وضمت النون لأجل الواو؛ إذ لا يصح واو قلبها كسرة. انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 وقوله: "بل أنا وا رأساه" إضراب، يعني: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي. فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوّه المريض مكروه. قلت: تعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه   وأقرَّه الحافظ، وردّه العيني فقال: فتح النون هو الصواب وهو الأصل, كما في قوله: المسمون؛ إذ لا يقال فيه بضم الميم, وتشبيه القائل المذكور بالمتطهرون غير مستقيم؛ لأن هذا صحيح وذاك معتلّ اللام, وكل هذا عجز, وقصور عن قواعد علم التصريف. كذا قال وأقرَّه المصنّف وردَّه شيخنا بأن الصواب خلافه لما علل به, وأمَّا تشبيهه بالمسمّون فهو من اشتباه اسم الفاعل باسم المفعول، فإن النون في اسم الفاعل مكسورة, ومفتوحة في اسم المفعول, فيفعل فيها ما ذكر, وقياس اسم الفاعل من سمي المسمون بضم الميم الثانية جمع المسمَّى. وفي التقريب قال الأزهري: تميت الشيء قدرته, والفاعل متمنٍّ والجمع متمنون -بضم النون, والأصل متمنيون, ومثله قاضون وأصله قاضيون, "ثم قلت: "يأبى الله" إلّا خلافة أبي بكر "ويدفع المؤمنون" خلاف غيره لاستخلافي له في الإمامة الصغرى "أو" قال صلى الله عليه وسلم: "يدفع الله" خلافة غيره "ويأبى المؤمنون" إلّا خلافته, شك الراوي في التقديم والتأخير. وفي رواية لمسلم: "ادعو إلي أبا بكر أكتب له كتابًا, فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر" , وللبزار: "معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر"، ففيه إشارة إلى أن المراد الخلافة وهو الذي فهمه البخاري, وبوّب عليه في كتاب الأحكام باب الاستخلاف. قال الكرماني: وفائدة إحضار ابن الصديق معه في العهد بالخلافة ولم يكن له فيها دخل, أنَّ المقام مقام طيب قلب عائشة، كأنه قيل: كما أنَّ الأمر مفوّض إلى أبيك كذلك الاشتوار في ذلك بحضرة أخيك فأقاربك هم أهل مشورتي. "وقوله: "بل أنا وا رأساه" إضراب بمعنى: دعي ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي" فإنك لا تموتين في هذا الأيام من هذا الوجع, بل تعيشين بعدي، علم ذلك بالوحي. "فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد" الإمام "في" كتاب الزهد عن طاوس" بن كيسان اليماني، "أنه قال: أنين المريض" تأوه, وتوجّعه "شكوى". وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية، أنَّ تأوه" توجّع "المريض مكروه" تنزيهًا, "قلت: تعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 نهي مخصوص، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتجَّ بحديث عائشة هذا، ثم قال: فلعلّهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أَوْلَى. انتهى. قال في فتح الباري: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخّط للقضاء، وتورّث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس اتفاقًا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاكٍ وهو راض، فالمعوّل في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان. وقد تبيّن -كما نبَّه عليه في اللطائف- أن أوَّل مرضه -عليه الصلاة والسلام- كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمَّى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرَّد بذلك. وفي البخاري قالت: لما دخل بيتي واشتدَّ وجعه قال: "أهريقوا علي من   نهي مقصود" له بعينة ولم يصلح للتحريم, "وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا" فإن قوله -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه" دليل على الجواز, "ثم قال النووي: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى, فإنه لا شك أن اشتغاله" أي: المريض "بالذكر أَوْلَى. انتهى". وأما حديث المريض: أنينه تسبيح, فليس بثابت كما نقله السخاوي عن شيخه الحافظ, "قال في فتح الباري: ولعلهم أخذوه" أي: قولهم بالكراهة "بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخّط" أي: إظهار التألُّم وعدم الصبر "للقضاء" الذي أصابه مما يكرهه "وتورّث شماتة الأعداء" فرحهم. وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه" الذي يداويه "عن حاله فلا بأس به" أي: يجوز "اتفاقًا، فليس ذكر الوجع شكاية، فكم من ساكت وهو ساخط" بقلبه, "وكم من شاكٍ" بلسانه "وهو راضٍ" بقلبه, "فالمعوّل في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان"؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله. "وقد تبيّن كما نبَّه عليه في اللطائف أنَّ أوَّل مرضه -عليه الصلاة والسلام- كان صداع الأس، والظاهر أنه كان مع حمَّى، فإن الحمَّى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب" بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الضاد المعجمتين- الإجانة "ويصبّ عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرَّد بذلك" من الحمَّى. وفي البخاري قالت عائشة: لما دخل بيتي واشتدَّ وجعه قال: "أهريقوا" أي: صبوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس" فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم طففنا نَصُبّ عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. الحديث. وقد قيل في الحكمة في هذا العدد: إن له خاصية في دفع ضرر السمّ والسحر، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "هذا أوان انقطاع أبهري" أي: من ذلك السمّ. وتمسَّك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السمية التي في ريقه. وكانت عليه -صلوات الله وسلامه عليه- قطيفة، فكانت الحمَّى تصيب من يضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك, فقال: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف   علي من سبع قرب لم تحلل" بضم الفوقية وسكون المهملة وفتح اللام خفيفة "أوكيتهن" جمع وكاء وهو رباط القربة, "لعلي أعهد إلى الناس" أي: أوصي, "فأجلسناه في مخضب" بكسرالميم بزنة منبر, إناء يغتسل فيه "لحفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم طفقنا" شرعنا "نصُبّ عليه من تلك القرب" السبع, "حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ" أي: كفّوا عن الصب "الحديث" تتمته هنا في البخاري، قالت: ثم خرج إلى الناس فصلَّى لهم وخطبهم. وفي حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب في مرضه .... الحديث, وفيه آنه آخر مجلس جلسه، ولمسلم عن جندب: إن ذلك كان قبل موته بخمس. قال الحاظ: فعليه يكون يوم الخميس، ولعلّه كان بعد اختلافهم عنده, وقوله لهم: "قوموا" فلعله وجد بعد ذاك خفة فخرج, "وقد قيل في الحكمة في هذا العدد" أي: قوله: "من سبع قرب" "أنَّ له" أي: العدد "خاصية في دفع ضرر السم والسحر، وسيأتي إن شاء الله تعالى" قريبًا "أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "هذا أوان" بالفتح ظرفًا "انقطاع أبهري" بفتح فسكون "من ذلك السم" الذي أكله بخيبر, "وتمسك به بعض في أنكر نجاسة سؤر الكلب، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السمية التي في ريقه". زاد الحافظ: وقد ثبت حديث: "من تصبَّح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" , وللنسائي في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات وسنده صحيح، ولمسلم: القول لمن به وجع أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحذر سبع مرات، وفي النسائي: من قال عند مريض لم يحضر أجله أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات, "وكانت عليه -صلوات الله وسلامه عليه- قطيفة" كساء له خمل "فكانت الحمَّى تصيب من يضع يده عليه" أي: المصطفى "من فوقها" أي: القطيفة لشدة حرارة الحمَّى "فقيل له في ذلك، فقال: "إنا" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 لنا الآجر" رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا، والحاكم, وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبي سعيد الخدري. وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشدَّ عليه الوجع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وعن عبد الله قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم, وهو يوعك وعكًا شديدًا، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا، قال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كَفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها" رواه البخاري.   معاشر الأنبياء "كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر". "رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان, "وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشدّ عليه الوجع" أي: المرض، والعرب تسمي كل مرض وجعًا "من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زيادة في أجره، وهذا الحديث رواه الشيخان. "وعن عبد الله" بن مسعود قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو" أي: والحال أنه يوعك بفتح العين- يحمّ "وعكًا شديدًا" فمسسته, "فقلت: يا رسول الله, إنك توعك وعكًا" بسكون العين وفتحها "شديدًا: قال: "أجل" بفتح الجيم وسكون اللام مخفَّفة، أي: نعم "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"؛ لأنه كالأنبياء مخصوص بكمال الصبر. قال ابن مسعود: "قلت ذلك" التضاعف "إن لك لأجرين، قال: "أجل ذلك كذلك" فالبلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعم الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد, "وما من مسلم يصيبه أذى شوكة" بالرفع بدل, والتنكير للتقليل, ودونها في الحقارة، وعكس ذلك قاله في الفتح والكواكب، وفي رواية: أذى مرض فما سواه, "إلا كفَّر الله بها" وفي نسخة: به، أي: بالأذى، لكن الذي في البخاري بها، أي: بالشوكة "سيئاته" الصغائر أو الكبائر، حدث عن الكرم بما شئت "ما تحط الشجرة ورقها" وذلك زمن الخريف، فإنها حينئذ تتجرّد عنها سريعًا لجفافها وكثرة هبوب الرياح. زاد في حديث سعد بن أبي وقاص عند الدارمي، وصحَّحه الترمذي وابن حبان: "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"، قال الطيبي: تحات ورق الشجر كنايةً عن إذهاب الخطايا, شبَّه حالة المريض وإصابة المرض جسده، ثم محو السيئات عنه سريعًا, بحملة الشجر وهبوب الرياح وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها، فهو تشبيه تمثيلي لانتزاع الأمور والمتوهمة في المشبه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 والوَعْك -بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح- الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعي: الوعك الحر، فإن كان محفوظًا فلعلَّ الحمى سميت وعكًا لحرارتها. قال أبو هريرة: ما من وجع يصيبني أحبَّ إليَّ من الحمَّى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطًا من الأجر. وأخرج النسائي وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان -أخت حذيفة- قالت: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمَّى، "فقال: "إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".   من المشبه به، فوجه الشبه الإزالة الكلية سريعًا لا الكمال والنقصان؛ لأن إزالة ذنوب الإنسان سبب كماله، وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها. "رواه البخاري" في مواضع عديدة من الطب، وكذا رواه مسلم في الطب "والوعك بفتح الواووسكون العين المهملة وقد تفتح - الحمى" نفسها "وقيل: ألم الحمَّى، وقيل: إرعادها الموعوك وتحريكها إياه". وعن الأصمعي" بفتح الميم- عبد الملك بن قريب "الوعك الحرّ، فإن كان محفوظًا" عند أهل اللغة فلعل الحمَّى سميت وعكًا لحرارتها, "قال أبو هريرة: ما من وجع" أي: مرض يصيبني "أحبَّ إليَّ من الحمَّى، إنها تدخل في كل مفصل" بزنة مسجد, أحد مفاصل الإنسان "من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطًا" نصيبًا "من الأجر". "وأخرج النسائي وصحَّحه الحاكم من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة" العبسية، ويقال اسمها خولة، روى عنها ابن أخيها أبو عبيد بن حذيفة، أنها "قالت: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نساء نعوده، فإذا سقاء -بكسر السين- معلق "يقطر" ماؤه عليه من شدة ما يجد من حر "الحمَّى, فقال: "إن أشد" هكذا الرواية في النسائي وغيره أشد "الناس" بدون من قبلها, فما في نسخ: إن من لا يصح ولا من جهة المعنى؛ لأن الأنبياء أشدّ على الإطلاق، وفي تاريخ البخاري مرفوعًا: "أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي"، والذي في الإصابة: والزيادات معز، وللنسائي وغيره وبلفظ: "إن أشد الناس بلاء" في الدنيا "الأنبياء ثم الذين يلونهم" الأصفياء والصالحون "ثم الذين يلونهم" وهذا يفسره رواية الطبراني في الكبير عن فاطمة بنت اليمان نفسها مرفوعًا بلفظ: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل". قال القرطبي: أحب الله تعالى أن يبتلى أصفياءه تكميلًا لفضائلهم ورفعة لدرجاتهم عنده الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 وفي حديث عائشة: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله, إن للموت سكرات" الحديث رواه البخاري. وروى أيضًا عن عروة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم". وفي رواية: "ما زالت أكلة خيبر تعادني".   وليس ذلك نقصًا في حقهم ولا عذابًا، بل كمال رفعة مع رضاهم بجميل ما يجريه الله عليهم، وقال العارف الجيلاني: إنما كان الحق يديم على أصفيائه البلايا والمحن ليكونوا دائمًا بقلوبهم في حضرته لا يغفلون عنه؛ لأنه يحبهم ويحبونه, فلا يختارون الرخاء؛ لأن فيه بعدًا عن محبوبهم، وأمَّا البلاء فقيد للنفوس يمنعها من الميل لغير المطلوب، فإذا دام ذابت الأهوية وانكسرت القلوب، فوجدوا الله أقرب إليهم من حبل الوريد كما قال الله تعالى. وفي بعض الكتب الإلهية: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أي: على الكشف منهم والشهود, وإلا فهو عند كل عبد انكسر قلبه أم لا. "وفي حديث عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة" بضم العين وسكون اللام وفتح الموحدة- قدح ضخم من خشب "أو ركوة" بفتح الراء- من جلد, يشك عمر بن سعيد أحد رواته، كما في البخاري: "فيها ماء, فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله, إن للموت سكرات" جمع سكرة وهي الشدة ..... "الحديث" باقية، ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده. "رواه البخاري" إن عائشة كانت تقول: إن من عم الله عليّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيتي .... الحديث، وفيه: وكان بين يديه ركوة إلى آخر ما هنا. "روى" البخاري "أيضًا" لكن تعليقًا, قال الحافظ: وصله البزار والحاكم والإسماعيلي "عن عروة "بن الزبير، عن عائشة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أزال أجد ألم الطعام" أي: أحس الألم في جوفي بسبب الطعام المسموم "الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان" بالرفع على الخبرية, وهو الذي في الفرع وبالفتح لإضافته إلى مبني وهو الماضي؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد, وهو في موضع رفع خبر المبتدأ, قاله المصنف واقتصر الحافظ على قوله: أوان -بالفتح على الظرفية "وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" بفتح السين وضمها. "وفي رواية" لابن سعد بأسانيد متعددة في قصة الشاة التي سمت له بخيبر، وقال في آخرها: وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه جعل يقول: "ما زلت أكلة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 والأكلة -بالضم: اللقمة التي أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير. ومعنى الحديث: إنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانًا. والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتَّصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه. وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا من السم. وعند البخاري أيضًا قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيديه، فلمَّا اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه.   خيبر تُعادّني" بضم الفوقية وشد الدال المهملة، قاله في النهاية، أي: تراجعني ويعاودني ألم سمها في أوقات معلومة, يقال به عداد من ألم، أي: يعاوده في أوقات معلومة. انتهى. فنسخ تعاودني بزيادة واو قبل الدال تحريف, وعند ابن سعد: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادًا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" وتوفي شهيدًا. انتهى. "والأكلة -بالضم" للهمزة "اللقمة التي أكل من الشاة, وبعض الرواة يفتح الألف وهو خطأ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة, قاله ابن الأثير" في النهاية, ومعنى الحديث أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانًا", حتى ينال رتبة الشهادة, ومرَّت القصة مبسوطة في خيبر "والأبهر" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة "عرق مستبطن بالصلب متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه". هكذا نقله في الفتح عن أهل اللغة، ثم قال: وقال الخطابي: يقال: إن القلب متصل, "وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا من السم" الذي تناوله بخيبر، ومن المعجزة أنه لم يؤثّر فيه في وقته؛ لأنهم قالوا: إن كان نبيًّا لم يضره, وإن كان ملكًا استرحنا منه، فلمَّا لم يؤثر فيه تيقنوا نبوته حتى قيل: إن اليهودية أسلمت, ثم نقض عليه بعد ثلاث سنين لإكرامه بالشهادة. "وعند البخاري أيضًا قالت" عائشة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى" أي: مرض "نفث" بمثلثة، أي: تفل بغير ريق أو مع ريق خفيف "على نفسه بالمعوذات" بكسر الواو المشددة, ومسح أي: يقرأ ماسحًا "بيديه" عند قراءتها؛ لتصل بركة القرآن إلى بشرته المقدَّسة, "فلما اشتكى" مرض "وجعه", مرضه الذي توفي فيه طفقت" أي: أخذت حال كوني "أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث" بكسر الفاء "وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه" بركتها، وهذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 وفي رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها. ولمسلم: فلما مرض مرضه الذي مات فيه, جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي. وأطلقت على السور الثلاث: المعوّذات تغليبًا. وفي البخاري عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنّ به، فأبده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونقضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستنَّ به، فما رأيته استنَّ استنانًا قط أحسن منه. الحديث.   رواه البخاري في الوفاة من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة. "وفي رواية مالك" عن ابن شهاب بهذا الإسناد عند البخاري في فضائل القرآن: "وأمسح بيده -صلى الله عليه وسلم "رجاء بركتها", وفي رواية معمر عن ابن شهاب، بسنده عند البخاري في الطب: أمسح بعد نفسه, "ولمسلم" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي". وعند البخاري عن ابن أبي مليكة عن عائشة: فذهبت أعوّذه, فرفع رأسه إلى السماء وقال: "في الرفيق الأعلى" , وللطبراني من حديث أبي موسى، فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء، فقال: "لا ولكن أسال الله الرفيق الأعلى" , "وأطلقت على السور الثلاث" الإخلاص والتاليتين لها "المعوذات تغليبًا" كما قال الحافظ: إنه المعتمد, وعبارته: المراد بالمعوذات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} , {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وجمع باعتار أن أقل الجمع اثنان, أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يقع بها التعويذ من السورتين, ويحتمل أن المراد هاتان السورتان مع سورة الإخلاص, وأطلقت ذلك تغليبًا وهذا هو المعتمد. "وفي البخاري عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم, وأنا مسندته إلى صدري, ومع عبد الرحمن سواك رطب" من جريد "يستنّ" بشدّ النون- يستاك به, قال الخطابي: أصله من السنّ، أي: بالفتح- ومنه السن الذي يسن عليه الحديد, فأبده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك" من عبد الرحمن "فقضمته ونقضته" بالفاء والضاد المعجمة "وطيبته، ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستنَّ" استاك "به، فما رأيته استنَّ استنانًا قط أحسن منه .... الحديث" تمامه: فما عدا أن فرغ -صلى الله عليه وسلم- رفع يده أو إصبعه, ثم قال: "في الرفيق الأعلى" ثلاثًا، ثم قضى, وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 وقولها: "فأبده" بتشديد الدال المهملة- أي: مَدَّ نظره إليه. وقولها: "فقضمته" بكسر الضاد المعجمة- أي: لطوله, ولإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن, "ثم طيبته": أي لينته بالماء. وفي رواية له أيضًا قالت: إنَّ من نعم الله تعالى عليَّ أن جمع الله بين ريقي وريقه عند موته، دخل على عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم. وفي رواية: مَرَّ عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه -صلى الله عليه وسلم, فظننت أنَّ له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه, فاستنَّ بها كأحسن ما   "وقولها: فأبدَّه" بموحدة خفيفة "وبتشديد الدال المهملة، أي: مَدَّ نظره إليه" يقال: أبددت فلانًا النظر إذا طوَّلته إليه. وفي رواية الكشميهني: فأمدَّه بالميم، قال المصنف: وهما بمعنى, "وقولها: فقضمته" بفتح القاف و "بكسر الضاد المعجمة" أي: مضغته, والقضم الأخذ بطرف الأسنان "أي: لطوله, ولإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، ثم طيبته، أي: لينته بالماء". قال الحافظ: وحكى عياض أن الأكثر رووه بالصاد المهملة، أي: كسرته أو قطعته، حكى ابن التين رواية بالفاء والمهملة. قال المحب الطبري: إن كان بالضاد المعجمة فيكون قولها: فطيبته تكرارًا، وإن كان بالمهملة فلا؛ لأنه يصير المعنى: كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون طيبته تأكيدًا للينته. "وفي رواية له" للبخاري "أيضًا، قالت" عائشة: "إنَّ من نِعَمِ الله تعالى عليَّ" بشد الياء "أنَّ الله جمع بين ريقي وريقه عند موته, دخل عليَّ عبد الرحمن" بن أبي بكر "وبيده سواك, وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه, وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم" فيه العمل بالإشارة عند الحاجة, وقوة فطنة عائشة. وباقي هذا في البخاري: فناولته فاشتدَّ عليه، وقلت: أليِّنه لك، فأشار برأسه أن نعم، فليِّنته فأمره, وبين يديه ركوة إلى آخر ما مَرَّ. "وفي رواية" للبخاري أيضًا عن عائشة: "مَرَّ عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه -صلى الله عليه وسلم. فظننت أن له بها" بالجريدة "حاجة, فأخذتها, فمضغت رأسها ونقضتها" بفاء ومعجمة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 كان مستنًا، ثم ناولنيها, فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، أوّل يوم من الآخرة. وفي حديث خرَّجه العقيلي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب فامضيغه, ثم ائتيني به أمضغه؛ لكي يختلط ريقي بريقك"؛ لكي يهوّن علي عند الموت. قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هوّن الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له. وفي المسند عن عائشة أيضًا: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليهوَّن عليَّ الموت؛ لأني رأيت بياض كف عائشة في الجنة". وخرَّجه ابن سعيد وغيره مرسلًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيتها في الجنة، حتى ليهوّن عليَّ بذلك موتى, كأني أرى كفيها"، يعني عائشة. فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة حبًّا شديدًا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت   "ودفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما كان مستنًا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت" الجريدة "من يده" شك الراوي: "فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم" من أيامه -صلى الله عليه وسلم "من الدنيا وأول يوم" من أيامه من الآخرة" عليه الصلاة والسلام. "وفي حديث خرجه العقيلي" بضم العين- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب فامضغيه، ثم ائتيني به أمضغه؛ لكي يختلط ريقي بريقك لكي يهوّن" الأمر "عليّ عند الموت". وعند ابن عساكر: "ما أبالي بالموت مذ علمت أنك زوجتي في الجنة" , "قال الحسن" البصري: "لما كرهت الأنبياء الموت" باعتبار الطبع البشريّ, "هوَّن الله عليهم ذلك بلقاء الله, وبكل ما أحبوا من تحفة" وزان رطبة, ما اتحفت به غيرك. وحكى الصغاني: سكون الحاء أيضًا, "أو كرامة, حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك لما قد مثل له، وفي المسند" للإمام أحمد "عن عائشة أيضًا: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليهوّن" بسكون الواو- يسهل "عليّ الموت" أي: تطيب نفسي به وإن وجدت فيه شدة ومشقة؛ "لأبي رأيت بياض كف عائشة في الجنة" وخرجه ابن سعد وغيره مرسلًا" بدون ذكر عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيتها في الجنة حتى ليهوَّن عليَّ بذلك موتى كأني أرى كفيها"، يعني عائشة، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يحب عائشة حبًّا شديدًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 له بين يديه في الجنة ليهوّن عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحِبَّة، وقد سأله -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة" , فقال: من الرجال, قال: "أبوها" , ولهذا قال لها في ابتداء مرضها لما قالت: وا رأساه, وددت أن ذلك كان وأنا حي, فأصلي عليك وأدفنك، فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما. ويروى أنه كان عنده -صلى الله عليه وسلم- في مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفِّه وقال: "ما ظنّ محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه؟ " ثم تصدَّق بها كلها، رواه البيهقي. انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدَّم   حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت" صورت "له بين يديه في الجنة؛ ليهون" بسكون الواو يسهل "عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة" وقراءته بشدّ الواو تقتضي أنه خُفِّفَ عليه في قبض روحه وهو خلاف قوله: "إن للموت سكرات"، وخلاف قول عائشة: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم, "وقد سأله صلى الله عليه وسلم رجل" هو عمرو بن العاص, لما أمَّره على ذات السلاسل على جيش فيهم أبو بكر وعمر، قال: فظننت أن لي منزلة عنده، فأتاه "فقال: أيّ الناس" هكذا الرواية في الصحيحين وغيرهما، فنسخة النساء تصحيف سببه خيال يقول في العقل، أنه أنسب بالجواب, "أحب إليك" زاد في رواية: فأحبه "فقال: "عائشة" فقال: من الرجال". وعند ابن خزيمة وابن حبان عن عمرو: فقلت: إني لست أعني النساء، أني أعني الرجال، فلو كان السؤال، أي النساء, ما صح أن عمرًا يقول هذا, "قال: "أبوها" , فقلت: ثم مَنْ؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب" فعدَّ رجالًا، هذا تمامه في الصحيحين، زاد في رواية: سكت مخافة أن يجعلني في آخرهم, "ولهذا قال لها في ابتداء مرضها، لما قالت: وا رأساه: "وددت أن ذلك كان" وجد "وأنا حي, فأصلي عليك وأدفنك" فعظم" شقَّ "ذلك عليها, وظنت أنه يحب فراقها، وإنما كان -عليه الصلاة والسلام- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما، ويروى أنه كان عنده -صلى الله عليه وسلم- في مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم" أي: من عنده "بالصدقة بها، ثم يغمى عليه, فيشتغلون بوجعه, فدعا بها" أي: أمر بإحضارها "فوضعها في كفِّه وقال: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله تعالى" مصدرية "وعنده هذه"، ثم تصدق بها كلها" رغبةًَ في الأجر وإعراضًا عن الدنيا. "رواه البيهقي, انظر إذا كان هذا سيد المرسلين" بالنصب خبر كان, "وحبيب رب العالمين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وجواب إذا محذوف، أي: تبرأ من الدنيا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 من ذنبه وما تأخَّر، فكيف حال من لقي الله عنده دماء المسلمين وأموالهم المحرّمة، وما ظنه بربه تعالى. وفي البخاري من طريق عروة, عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة في شكواه الذي قبض فيه، فسارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارَّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارَّني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت. وفي رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأنَّ مشيتها مشية النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا يا بنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها. ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت   مع أنه إنما اكتسبها من أحلّ الحلال, "فكيف حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة, وما ظنه بربه تعالى" إن لم يتجاوز عنه ويرض عنه خصماؤه. "وفي البخاري" ومسلم والنسائي "من طريق عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة" بنته -رضي الله عنها "في شكواه" مرضه الذي قُبِضَ فيه" بالتذكير على معنى شكوى للكشميهني، فيها بالتأيث على لفظها, "فسارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت" سقطت بشيء، الثانية لبعض رواة البخاري, "فسألناها عن" سبب "ذلك" البكاء والضحك "فقالت:" بعد وفاته "سارَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت" حزنًا عليه, "ثم سارّني فأخبرني أني أوّل أهله" ولبعض الرواة: أول أهل بيته "يتبعه" بسكون الفوقية "فضحكت" فرحًا بقرب الاجتماع به. "وفي رواية" الصحيحين والنسائي عن "مسروق" بن الأجدع "عن عائشة" قالت: "أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها" بكسر الميم "مشية النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال لها: "مرحبًا يا بنتي" بموحدة فألف وصل فموحدة ساكنة، ويوجد في بعض أصول البخاري: "يا بنتي" بياء النداء بعدها ألف، وصوّب الأوّل, "ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله" شكّ الراوي, "ثم سارَّها" لفظه: ثم أسرَّ إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحكت؟ فقلت: ما رأيتك كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها عمَّا قال: فقالت: ما كنت لأفشي سِرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قبض، فسألتها فقالت: "أسرَّ إليَّ أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرَّة وأنه عارضني الآن مرتين, ولا أراه إلّا حضر أجلي, وأنَّك أول أهلي لحاقًا بي" فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين" فضحكت لذلك. ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة" بن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا وهديًا ودلًّا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلمَّا مرض دخلت عليه فأكبَّت عليه قبلته. واتفقت الروايتان على أنَّ الذي سارَّها به أولًا فبكت، هو إعلامه إياها بأنه يموت من مرضه ذلك، واختلفا فيما سارَّها به فضحكت، ففي رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أوّل أهله لحوقًا به، وفي رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة. وجعل كونها أوّل أهله لحوقًا به مضمومًا إلى الأوّل، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين. ومما زاده مسروق: قول عائشة: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها، عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي   عبيد الله التميمية, كانت فائقة الجمال، روى لها الجميع "عن عائشة" أم المؤمنين، "قالت: ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا" بفتح المهملة وسكون الميم وفوقية "وهديًا" بفتح فسكون "ودلًّا" بفتح الدال المهملة وشد اللام- الثلاثة عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيبة -كما في النهاية, "برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها" إجلالًا لها, وفيه مشروعية القيام, "وقَبَّلها" حبًّا لها "وأجلسها في مجلسه" تعظيمًا لها, "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا دخل عليها" في بيتها "فعلت ذلك، فلمَّا مرض دخلت" فاطمة "عليه، فأكبَّت عليه فقبَّلته" حبًّا وإشفاقًا "واتفقت الروايتان على أن الذي سارَّها به أولًا فبكت هو: إعلامه إياها بأنه يموت من مرضه ذلك، "واختلفا" أي: الروايتان "فيما سارَّها به فضحكت، ففي رواية عروة: إنه إخباره إياها بأنها أوّل أهله لحوقًا به". "وفي رواية مسروق" كما رأيت: إنه إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة, وجعل كونها أوّل أهله لحوقًا به مضمومًا إلى الأوّل" إخباره بأنه ميت من وجعه "وهو الراجح، فإن حديث مسروق" عن عائشة "يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة" عنها, "وهو" أي: مسروق "من الثقات الضابطين" فزيادته مقبولة, "ومما زاده مسروق قول عائشة: ما رأيت كاليوم" أي: كفرح اليوم "فرحًا" بفتح الراء- أو التقدير: ما رأيت فرحًا كفرح رؤيته اليوم أقرب من حزن" بضم المهملة وسكون الزاي, ولأبي ذرٍّ بفتحهما, "فسألتها عن ذلك، فقالت: ما كنت لأفشي" بضم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 فسألتها فقالت: أسرَّ إلي "أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وأنك أوّل أهل بيتي لحاقًا بي". وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: إن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هي من النساء. ويحتمل تعدد القصة. وفي رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك, بخلاف رواية مسروق, ففيها أنه ظنّ ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن. وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة, ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقًا به سببًا لبكائها ولضحكها معًا باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكر الآخر.   الهمزة "سرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي" متعلق بمحذوف تقديره: فلم تقل لي شيئًا حتى توفي, "فسألتها، فقالت: أسرَّ إلي: "إن" بكسر الهمزة "جبريل كان يعارضني" يدارسني "القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه" بضم الهمزة- أي: لا أظنه "إلا حضر أجلي, وإنك أوّل أهل بيتي لحاقًا بي". قال المصنف: بفتح اللام والحاء المهملة، قال الحافظ: وقد طوى عروة هذا كله. "وفي رواية عائشة بنت طلحة" السابقة قريبًا "من الزيادة، أنّ عائشة لما رأت بكاءها وضحكها، قالت: إن" مخففة من الثقيلة، أي: إني "كنت لأظن أن هذه المرأة" أي: فاطمة "من أعقل النساء، فإذا هي من النساء، لجمعها بين حزن وفرح؛ لكنها معذورة؛ لأنه أخبرها بما يوجب كلًّا منهما "ويحتمل تعدد القصة" جمعًا بين روايتي مسروق وعروة. "وفي رواية عروة "لفظ الفتح، ويؤيده، أي: هذا الاحتمال أنَّ في رواية عروة "الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق، ففيها أنه ظنَّ ذلك بطريق الاستنباط, مما ذكره من معارضة القرآن" مرتين "وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين" خبر عروة وخبر مسروق "إلّا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقًا به سببًا لبكائها وضحكها معًا باعتبارين" فباعتبار أسفها على بقائها بعده مدة بكت, وهو ما رواه مسروق، وباعتبار سرعة لحاقها به ضحكت, وهو ما رواه عروة "فذكر كلّ من الراويين" مسروق وعروة "ما لم يذكره الآخر", وهذا الجمع أَوْلَى من احتمال التعدد؛ لأن الأصل عدمه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الأخيرين. ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها: إن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به. وعند الطبراني -من وجه آخر- عن عائشة, أنه قال لفاطمة: "إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرًا". وفي الحديث: إخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال -صلى الله عليه وسلم، فإنّهم اتفقوا على أنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت أوّل من مات من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده، حتى من أزواجه -عليه الصلاة والسلام. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وأغمي عليه مرة فظنّوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا:   وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة" ابن عبد الرحمن "عن عائشة, في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الأخيرين" أنها أوّل أهله لحاقًا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، وهذا يؤيد الجمع الثاني. "ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها" أي: عائشة: "إنَّ سبب البكاء موته, وسبب الضحك لحاقها به" فوافق رواية عروة. "وعن الطبراني من وجهٍ آخر عن عائشة, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "إن" بكسر الهمزة "جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية" براء فزاي- مصيبة "منك، فلا تكوني أدنى" أقل "امرأة منهن صبرًا" وبهذا فضلت أخواتها؛ لأنهنَّ متن في حياته, فكنَّ في صحيفته، ومات هو في حياتها فكان في صحيفتها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله تعالى. "وفي الحديث" معجزة، وهو إخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال، فإنهم اتفقوا على أنَّ فاطمة أوّل من مات من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده" بستة أشهر على الصحيح "حتى من أزواجه -عليه الصلاة والسلام، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وأغمي عليه مرة، فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه" بإشارة أم سلمة وأسماء بنت عميس، كما رواه ابن سعد عن أبي بكر بن عبد الرحمن "فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه -بضم اللام "فقالوا: كراهية المريض للدواء". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 كراهية المريض للدواء، فلمَّا أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني؟ " فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلّا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" رواه البخاري. واللدود هو ما يجعل في جانب الفم من الدواء، فأمَّا ما يصب في الحلق فيقال له: الوجور. وفي الطبراني من حديث العباس: إنهم أذابوا قسطًا بزيت ولدّوه به. وفي قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد" ... إلخ مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم؛ لتركهم امتثال نهيه عمَّا نهاهم عنه. قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم   قال عياض: ضبطناه بالرفع، أي: هذا منه كراهية، وقال أبو البقاء: خبره مبتدأ محذوف، أي: هذا الامتناع كراهية، ويجوز النصب مفعول له، أي: نهانا لكراهية أو مصدر، أي: كرهه كراهية. قال عياض: الرفع أوجه من النصب على المصدر, "فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني" بإشارتي لكم بعدم فعل ذلك, "فقلنا" ظننا أنك إنما نهيت "كراهية المريض للدواء" لا لسبب يقتضي ترك اللد "فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد" بضم اللام مبني للمفعول، أي: إلّا فعل ذلك به تأديبًا حتى لا يعود وأنا أنظر" جملة حالية، أي: في حال نظري إليهم, "إلا العباس، فإنه لم يشهدكم" أي: لم يحضركم حال اللد فلا يلد. "رواه البخاري, واللدود" بوزن صبور "هو ما يجعل" أي: يصبّ "في جانب الفم بالمسعط "من الدواء" بيان لما, "فأمَّا ما يصب في الحلق" من الدواء "فيقال له: الوجور" بفتح الواو بعدها جيم. "وفي الطبراني من حديث العباس" بن عبد المطلب، "إنهم أذابوا قسطًا" بضم القاف العود الهندي "بزيت ولدوه به" صبوه من أحد شقي فمه "وفي قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد" .... إلخ. "مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان عمدًا "وفيه نظر؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك" أي: أمر بفعله "عقوبةً لهم؛ لتركهم امتثال نهيه عمَّا نهاهم عنه" قال الحافظ: أمَّا من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عمَّا نهاهم هو عنه، ويستفاد منه أنَّ التأويل البعيد لا يعد ربه صاحبه، ثم فيه نظر أيضًا؛ لأن اللد وقع في معارضة النهي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 القيامة وعليهم حقه, فيقعوا في خطيئة عظيمة, وتعقَّب بأنه كان يمكن أن يقع العفو؛ ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلَّا يعودوا، فكان ذلك تأديبًا لا اقتصاصًا ولا انتقامًا. قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوي. قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذي يظهر أنَّ ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب, فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر في سياق الخبر. وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت به, فأغمي عليه، فلددناه، فلمَّا أفاق قال: "كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانًا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد"، فما بقي أحد في البيت إلا لد، ولددنا ميمونة وهي صائمة.   "قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه, فيقعوا في خطيئة عظيمة", وفي الفتح، عنه: في خطب عظيم, "وتعقب بأنه كان يمكن أن يقع العفو", وبعد وقوعه لا يبقى عليهم حق يطالبون به في القيامة, "ولأنه كان لا ينتقم لنفسه" كما صحَّ, "والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلَّا يعودوا، فكان ذلك أي: لدهم "تأديبًا لا اقتصاصًا ولا انتقامًا، قيل: وإنما كره اللدود" أي: استعماله بصبِّهم في حلقه، وفي الفتح: اللد وهو أظهر, "مع أنَّه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن تحقَّق ذلك كره له التداوي" لعدم فائدته. "قال الحافظ بن حجر: وفيه نظر"؛ لاحتياج الكراهة إلى نهي مقصود, والدواء وإن لم ينفع في دفع الموت قد ينفع في تخفيف الوجع حتى يقع الموت, "والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير" في البقاء في الدنيا ولقاء الله, "والتحقيق" للموت باختياره اللقاء, "وإنما أنكر التداوي؛ لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك" المرض المسمَّى بذات الجنب, "كما هو ظاهر في سياق الخبر". "وعند ابن سعد" محمد, عن عائشة أنه "قال: كانت تأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخاصرة" أي: وجعها, "فاشتدت به, فأغمي عليه, فلددناه، فلمَّا أفاق" من الإغماء "قال: "كنتم ترون أن الله يسلط عليَّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليَّ سلطانًا" تسلطًا عليّ, "والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد"، فما بقي أحد إلا لد، ولددنا ميمونة" أم المؤمنين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 وروى أبو يعلي -بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: إنه -صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب. وجمع بينهما: بأنَّ ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا. وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثاني هو ما أثبت هنا, وليس فيه محذور كالأوّل. وفي حديث ابن عباس عند البخاري: لما حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفي البيت رجال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هلموا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده"، فقال بعضهم:   "وهي صائمة" امتثالًا لأمره وبرًّا لقسمه. وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عميس، قالت: أوَّل ما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيت ميمونة، فاشتدَّ مرضه حتى أغمي عليه، فتشاورا في لده فلدوه, فلمَّا أفاق قال: هذا فعل نساء جئن, أي: أتين من هنا، وأشار إلى الحبشة, وكانت أسماء منهنّ، فقالوا: كنا نتّهم بك ذات الجنب، فقال: "ما كان الله ليقذفني به، لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ"، قالت: فلقد التدت ميمونة وإنها لصائمة. "وروى أبو يعلي بسند ضعيف فيه ابن لهيعة،" بفتح اللام وكسر الهاء "من وجه آخر عن عائشة، أنه -صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب، وجمع" الجامع الحافظ فلفظه: ظهر لي الجمع "بينهما, بأن ذات الجنب تطلق بإزاء" أي: مقابل "مرضين، أحدهما: ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن, والآخر: ريح محتقن" أي: محتبس "بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا". "وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك: ذات الجنب من الشيطان", ولذا لم تسلط على حبيب الرحمن, "والثاني:" الريح المحتقن, "هو ما أثبت هنا, وليس فيه محذور كالأوّل" فهي المراد بذات الجنب في هذه الرواية. "وفي حديث ابن عباس عند البخاري" في مواضع، قال: "لما حضر" بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: حضره الموت، وفي إطلاق ذلك تجوّز، فإنَّ ذلك كان يوم الخميس كما عند البخاري في الجهاد وغيره, وعاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين. قاله الحافظ: "وفي البيت رجال" من الصحابة, "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هلمّوا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا" بلا نون على أنّ لا ناهية، وللكشميهني تضلون بالنون على أنها نافية "بعده، فقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله, فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني" قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وبين أن يكتب ذلك لاختلافهم ولغطهم. قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب, مع صريح أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنَّه ظهرت منه قرينة دلّت على أنَّ الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختُلِفَ اجتهادهم،   بعضهم:" هو عمر "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع, وعندكم القرآن حسبنا:" كافينا "كتاب الله", فلا نكلف النبي -صلى الله عليه وسلم- إملاء الكتاب في هذه الحالة، قال ذلك شفقة عليه, "فاختلف أهل البيت" الذين كانوا فيه من الصحابة, لا أهل بيته -عليه الصلاة والسلام، قاله الحافظ. "واختصموا" تنازعوا, "فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا" بفتح فكسر "بعده" فيه إشعار بأنَّ بعضهم كان مصممًا على الامتثال والرد على من امتنع منه, "ومنهم من يقول غير ذلك، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني" أي: عن جهتي، زاد في رواية في الصحيح: "ولا ينبغي عندي التنازع"، وفي أخرى: "عند نبي تنازع". قال الحافظ: ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر، وقد مضى في الصيام أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبرهم بليلة القدر، فرأى رجلين يختصمان، فرفعت. "قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها، راوي هذا الحديث عن ابن عباس: "فكان ابن عباس يقول: إن الرزيئة" بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ساكنة ثم همزة، وقد تسهل وتشدد الياء- أي: المصيبة "كل الرزيئة" بالنصب على التأكيد, "ما حال" أي: الذي حجز "بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب ذلك؛ لاختلافهم ولغطهم" بفتح اللام والغين المعجمة- أي: أصواتهم. "قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك" بقوله: "هلموا أكتب"، وفي رواية: "ائتوني بكتاب أكتب"؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلّت على أن الأمر ليس على التحتم, أي: القطع, "بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم" في أن كتبه أَوْلَى للإيضاح والبيان, أو تركه اكتفاء بالقرآن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 وصمَّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم. وقال النووي: اتفق العلماء على أن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عزوا عنها, فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارةً إلى تصويبه، وأشار بقوله: "حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: "إن الرزية.. إلخ"؛ لأن عمر كان أفقه منه قطعًا، ولا يقال: إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه قال أسفًا على   وصمَّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك من غير قصد جازم", وعزمه -صلى الله عليه وسلم- كان إمَّا بالوحي وإمَّا بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان العزم بالوحي فبالوحي, وإلا فبالاجتهاد أيضًا, وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات، هذا باقي كلام المازري كما في الفتح، فمعنى قوله: من غير قصد جازم: أنه قاله على وجه يفهم منه أنه لم يجزم بذلك، بل قاله مع التردد في الكتبة وتركها. "وقال النووي: اتفق العلماء على أنَّ قول عمر: حسبنا كتاب الله من قوة فقهه" أي: فهمه "ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عجزوا عنها، فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء" فيفوتهم ثواب الاجتهاد, "وفي تركه -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه"؛ إذ لو تحتَّم لأنكر عليه ولم يتركه لاختلافهم، كما لم يترك التبليغ لخالفة من مخالفه, ومعاداة من عاداه, وكما أمرهم حينئذ بقوله: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو: ما كنت أجيزهم .... " الحديث في الصحيح "وأشار بقوله: حسبنا كتاب الله إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] بناء على أن المراد به القرآن، فإنه فيه أمر الدين إمَّا مفصَّلًا وإما مجملًا، وقيل: المراد اللوح المحفوظ؛ لاشتماله على ما يجري في العلم من جليل ودقيق, لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد، ولا يحتمل أن يكون عمر قصد التخفيف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب, وقامت عنده قرينة بأنَّ ما أراد كتابته مما يستغنون عنه؛ إذ لو كان من غير هذا القبيل لم يتركه -صلى الله عليه وسلم- لأجل اختلافهم، وهذا من جملة كلام النووي المنقول عنه في الفتح. "ولا يتعارض ذلك قول ابن عباس: إن الرزيئة ...... إلخ؛ لأن عمر كان أفقه" أي: أفهم "منه قطعًا و" لكن "لا يقال" في تعليل كونه أفقه "أنَّ ابن عباس لم يكتف بالقرآن" واكتفى به عمر، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لكونه أَوْلَى من الاستنباط، والله أعلم. ولما اشتدَّ به -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" , فعاودته بمثل مقالتها، فقال: "إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس". رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له. وفي رواية: إن أبا بكر رجل أسيف. وفي حديث عروة عن عائشة عند البخاري: فمر عمر فليصلّ بالناس، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، قالت: قلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالناس، ففعلت حفصة، فقال:"   كما قال ابن بطال؛ لأن عمر لم يرد أنه يكتفي به عن بيان السنة، بل لما قام عنده من القرينة, وخشي مما يترتب على كتابة الكتاب, فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتَّب عليه شيء مما خافه, وابن عباس لا يقال في حقه: لم يكتف بالقرآن, "مع أنه حبر القرآن, وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه قال" ذلك "أسفًا", ولفظ الحافظ: ولكنه أسف "على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لونه أَوْلَى من الاستنباط, والله أعلم" لا سيما وقد بقي ابن عباس حتى شاهد الفتن, "ولما اشتدَّ به -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: "مروا" بضمتين- بوزن كلوا, "أبا بكر فليصلّ" بسكون اللام الأُولى- ويروى بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة, "بالناس" إمامًا, "فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق" بقافين, "إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء " لرقة قلبه. وفي رواية: إذا قرأ القرآن لا يملك معه, "قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فعاودته مثل مقالتها، فقال: "إنكن صواحبات يوسف" , والخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به عائشة فقط، كما أن صواحبات جمع, والمراد زليخاء فقط, "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس". رواه الشيخان وأبو حاتم، واللفظ له" من حديث عائشة. "وفي رواية" للشيخين من طريق الأسود، عنها أنها قالت: "إن أبا بكر رجل أسيف" بفتح الهمزة وكسر المهملة وسكون التحتية ففاء- أي: حزين. "وفي حديث عروة عن عائشة عند البخاري" في الصلاة والاعتصام, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء "فمر عمر فليصل بالناس, فقال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، قالت: قلت لحفصة" بنت عمر: "قولي له" صلى الله عليه وسلم: "إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء" لرقة قلبه وغلبة دمعه, "فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة" ذلك, "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مه" اسم فعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل, من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا: رقيق القلب. ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عاشة في هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن. ثم إنَّ هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهي عائشة, ووجه المشابهة بينهما في ذلك أنَّ زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك, وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف -عليه الصلاة والسلام- ويعذرنها في محبته، وإن عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة   مبني على السكون- زجر بمعنى: اكففي, "إنكن أنتن صواحب يوسف" جمع صاحبة, "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا"؛ لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاودة، وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يراجع بعد ثلاث، فلمَّا أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر وجدت حفصة في نفسها؛ لأن عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكّرت ما وقع لها أيضًا معها في قصة المغافير، قاله الحافظ. وقال ابن عبد البر فيه: إن المكترب ربما قال قولًا يحمله عليه الحرج؛ إذ معلوم أن حفصة لم تعدم من عائشة خيرًا، وإذا كان هذا في السلف الصالح, فأحرى من دونهم "الأسيف -بوزن فعيل- وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا: رقيق القلب" لتصريحها في روايات بأنه رقيق، فيحمل عليه قولها أسيف. "ولابن حبان من رواية عاصم" بن سليمان الأحول البصري, من رجال الجميع, "عن شقيق" بن سلمة الكوفي, من رجال الكل "عن مسروق, عن عائشة في هذا الحديث". "قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم, وصواحب: جمع صاحبة، والمراد:؛ إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إنَّ هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهي عائشة" وأما حفصة فإنما قالته بأمرها, ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخاء -بفتح الزاي والمد, وقيل بضمها- على هيئة المصغَّر. قال ابن كثير: والظاهر أنه لقب, "استدعت النسوة وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة, ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف -عليه الصلاة والسلام- ويعذرنها" بكسر الذال "في محبته"؛ لأنهنَّ قلن: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} "وأن عائشة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 عن أبيها؛ لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه. ومرادها زيادة على ذلك: وهو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرَّحت هي بذلك، كما عند البخاري في باب وفاته -عليه الصلاة والسلام, فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم الناس به. ونقل الدمياطي: إن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة. وقد ذكر الفاكهي في "الفجر المنير" مما عزاه لسيف ابن عمر في كتاب   أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها؛ لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه, ومرادها زيادة على ذلك: وهو أن لا يتشاءم الناس به" بشين معجمة والمد. "وقد صرَّحت هي بذلك كما عند البخاري في باب وفاته -عليه الصلاة والسلام", وكذا عند مسلم في الصلاة "فقالت: لقد راجعته" صلى الله عليه وسلم- في ذلك, "وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه" بهم "أبدًا و" ما حملني على ذلك "أن لا". زاد مسلم: أني "كنت أرى" بضم الهمزة، أي: أظن "أنه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم الناس به" بشين معجمة- أي: وما حملني عيه إلّا ظني عدم محبَّة الناس للقائم مقامه، وظني تشاءمهم به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر، هذا باقيه في الصحيحين. وفي رواية لمسلم قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأوّل من يقوم في مقامه -صلى الله عليه وسلم, فراجعته مرتين أو ثلاثًا. "ونقل الدمياطي، أنَّ الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة", وفي مسند الدارمي من وجه آخر: إن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر عمر بالصلاة, وكذا في مرسل الحسن عند ابن أبي خيثمة, قال الحافظ: لكن لم يرد أبو بكر ما أرادت عائشة بل قاله لعذره برقة قلبه, أو لفهمه منها الإمامة العظمى, وعلم ما في تحملها من الخطر, وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره, والظاهر أنه لم يطّلع على المراجعة, وفهم من أمره بذلك تفويضه سواء باشر بنفسه أو استخلف. "وقد ذكر الفاكهاني في" كتاب "الفجر المنير" في الصلاة على البشير النذير "مما عزاه لسيف بن عمر" التميمي، ويقال: الضبي الكوفي، ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ, أفحش ابن حبان القول فيه, مات في زمن الرشيد، روى له الترمذي. قاله الحافظ "في كتاب الفتوح" وله كتاب الردة "أنَّ الأنصار لما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 "الفتوح" أنَّ الأنصار لما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزداد وجعًا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس, فأعلمه -عليه الصلاة والسلام- بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك. فخرج -صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على عليّ والفضل, والعباس أمامه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس يخطّ برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر, وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "يا أيها الناس، بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خُلِّدَ نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألَا إني لاحق بربي، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأوَّلين خيرًا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} إلى آخرها, وإنَّ الأمور تجري بإذن الله، ولا يحمّلنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنَّ الله -عز وجل- لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ   يزداد وجعًا أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه -عليه الصلاة والسلام- بمكانهم وإشفاقهم" خوفهم عليه الفقد, "ثم دخل عليه الفضل" بن عباس "فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك" أي: كدخول مَنْ قبله, بأن ذكر له حال الأنصار, "فخرج -صلى الله عليه وسلم" حال كونه متوكئًا على علي والفضل, والعباس أمامه" قدَّامه, "والنبي -صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس" من الوجع "يخط برجليه" بضم الخاء "حتى جلس على أسفل مرقاة" درجة "من المنبر، وثار" اجتمع "الناس إليه" في المجلس, "فحمد الله وأثنى عليه" بما هو أهله "وقال: "يا أيها الناس, بلغني" من الثلاثة المذكورين "أنكم تخافون من موت نبيكم, هل خلد نبي قلبي فيمن بعث إليه" بالإفراد نظرًا للفظ من "فأخلد فيكم" بالنصب, وفيه تسلية لهم وتذكير بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} "ألا" بالفتح والتخفيف, "وإني لاحق بربي، ألا وإنكم لاحقون به, وأوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرًا" بأن تعرفوا حقهم وتنزلوهم منزلتهم, "وأوصى المهاجرين فيما بينهم" بالدوام على التقوى وعمل الصالحات, "فإن الله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ} الدهر, أو ما بعد الزول إلى الغروب أو صلاة العصر {إِنَّ الْإِنْسَانَ} الجنس {لَفِي خُسْرٍ} في تجارته, وتلاها "إلى آخرها", وأنه قال إلى آخرها "وإن الأمور تجري" أي: تقع "بإذن الله" أي: بإرادته, "ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله -عز وجل- لا يعجل بعجلة" أي: بسبب عجلة "أحد" , فلا فائدة في الاستعجال, بل فيه الهمّ والغمّ والنكال, "ومن غالب الله غلبه" الله, ومن خادع الله خدعه" والمفاعلة في الأمرين ليست مرادة، بل هي نحو: عافاك الله, وإنما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلكم, أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم, وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم، وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليَّ غدًا فيلكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي، يا أيها الناس, إن الذنوب تغيّر النعم، وتبدّل القِسَم، فإذا بَرَّ الناس برَّهم أئتمتهم, وإذا فجر الناس   عَبَّر بالمفاعلة تشبيهًا بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] تشبيهًا لفعل المنافقين بفعل المخادع {فَهَلْ عَسَيْتُم} فهل يتوقع منكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس, وتأمَّرتم عليهم, أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تشاجرًا على الدنيا وتجاذبًا لها, أو رجوعًا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب، والمعنى: إنهم لضعفهم في الدِّين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم, ويقول لهم: هل عسيتم. قاله البيضاوي: ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام, "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار" أي: اتخذوا المدينة وطنًا, سُمِّيَت دارًا لأنها دار الهجرة, "والإيمان" أي: ألفوه, فنصب بعامل خاص, أو بتضمين تبوّءوا معنى لزموا, أو يجعل الإيمان منزلًا مجازًا لتمكنهم فيه، فجمع في تبوءوا بين الحقيقة المجاز, "من قبلكم, أن تحسنوا إليهم" بدل من خيرًا، ثم بَيَّن أن أمره به لمكافأتهم بقوله: "ألم يشاطروكم في الثمار" بإعطائكم نصف ثمارهم, والاستفهام للتقرير, "ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم؟ " يقدموكم "على أنفسهم, وبهم الخصاصة" الحاجة إلى ما يؤثرون به, "ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين" منهم, "فليقبل من محسنهم, وليتجاوز عن مسيئهم" في غير الحدود، وعَبَّر بالجمع إشارة إلى أن المراد جنس رجلين, أو على أن أقل الجمع اثنان, "ألا" بالفتح مخففًا "ولا تستاثروا عليهم" بتقديم أنفسكم وتميزكم بالأمور الدنيوية دونهم, "ألا وإني فرط" بفتحتين سابق, "لكم" أهييء لكم حوائجكم, "وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض" في القيامة, "ألا فمن أحب أن يَرِدَه عليَّ غدًا" عَبَّر به؛ لأن كل ما هو آتٍ قريب, "فليكفف يده ولسانه إلّا فيما ينبغي" وخصَّهما؛ لأنهما أغلب ما يحصل الفعل, وإلا فباقي الأعضاء كذلك, "يا أيها الناس, إن الذنوب تغيِّر النِّعَم" كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] "وتبدِّل القِسَم, فإذا بَرَّ الناس بَرَّهم أئمتهم، وإذا فجروا عقوهم" , أي: عقَّهم أئمتهم بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 عقوهم". وفي حديث أنس عند البخاري قال: مَرَّ أبو بكر والعبّاس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون, فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منَّا، فدخل أحدهما على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم, وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر -ولم يصعده بعد ذلك اليوم, فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم, وتجاوزوا عن مسيئهم".   إليهم, وغير ذلك. "وفي حديث أنس عند البخاري، قال: مَرَّ أبو بكر" الصديق, "والعبَّاس" بن عبد المطلب, "بمجلس من مجالس الأنصار", وذلك في مرضه -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه, "وهم يبكون" جملة حالية "فقال: ما يبكيكم؟ " بأفراد، قال عند البخاري: فما في نسخة: فقالا, غير صحيحة, فقد قال الحافظ: لم أقف على الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر أو العباس، ويظهر لي أنه العباس, "فقالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منا" الذي كنَّا نجلسه معه, ونخاف أن يموت من هذا المرض ونفقد مجلسه، فبكينا لذلك, "فدخل أحدهما" ليس في البخاري، إنما فيه: فدخل فقط. قال الحافظ: كذا أفرد بعد أن ثنَّى، والمراد به من خاطبهم، وقدمت رجحان أنه العباس. انتهى، ومراده بقوله: ثنَّى، أي: في قوله: مَرَّ أبو بكر والعباس، فكان أصل المصنف، أي: أحدهما بأي التفسيرية "على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك" الذي وقع من الأنصار, "فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم، و" الحال أنه "قد عصب" بخفَّة الصاد المهملة, "على رأسه حاشية برد" بضم الموحدة وسكون الراء- نوع من الثياب معروف. وفي رواية المستملي: بردة بزيادة هاء التأنيث, وحاشية مفعول عصب, "فصعد" بكسر العين "المنير ولم يصعده" بفتحها "بعد ذلك" اليوم, "فحمد الله وأثنَى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار, فإنهم كرشي" بفتح الكاف وكسر الراء والشين المعجمة, "وعيبتي" بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة وتاء تأنيث, "وقد قضوا الذي عليهم" من الإيواء ونصره -صلى الله عليه وسلم, كما بايعوه ليلة العقبة, "وبقي الذي لهم" وهو دخول الجنة كما وعدهم -عليه السلام, فإنهم بايعوه على إيوائه ونصره على أنَّ لهم الجنة، قاله المصنف تبعًا للحافظ، ويحتمل أن الذي لهم أعمّ من الجنة التي وعدهم بها وإكرامهم في الدنيا. ويؤيده أن المراد الوصية بهم في الدنيا, وما في الرواية التي قبله وقوله: "فاقبلوا من محسنهم, وتجاوزوا عن مسيئهم" في غير الحدود "وقوله: "كرشي وعيبتي"، أي: موضع سري، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 وقوله: "كرشي وعيبتي" , أي: موضع سري, أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يجمع ثيابه في عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. يقال: عليه كرش من الناس، أي: جماعة، قاله في النهاية. وذكره الواحدي بسندٍ وصله لعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلمَّا دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فقال: "حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في بلاده وعباده, فإنه قال لي ولكم: {تلك الدار   أراد أنهم بطانته" أي: موضع سره "وموضع أمانته, والذين يعتمد عليهم في أموره". قال القزاز: المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه, "واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه, والرجل يجمع ثيابه في عيبته", وهي اسم لما يجمع فيه الثياب، وفي الفتح: ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده "وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي، يقال عليه كرش من الناس، أي: جماعة، قاله في النهاية". قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه, وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان, والعيبة مستودع الثياب, الأوّل أمر باطن, والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إراد اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة, والأوّل أَوْلَى, وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه، قاله الحافظ. "وذكره الواحدي بسندٍ وصله لعبد الله بن مسعود قال: نعى" بالنون "لنا" أي: أخبر "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه" أي: أخبر بموته "قبل موته بشهر، فلمَّا دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة، فقال: "حياكم الله" أصله الدعاء بالحياة، ثم استعمل شرعًا في دعاء خاص وهو السلام، كما قال: "بالسلام رحمكم الله" أتاكم الله رحمته التي وسِعَت كل شيء, "جبركم الله" بالجيم- أصلحكم, "رزقكم الله" الحلال على ما هو اللائق في مقام الدعاء, وإن كان الرزق أعمّ عند أهل السنة, "نصركم الله" أي: أعانكم, "رفعكم الله" أي: رفع قدركم بين العباد, ورفع أعمالكم بأن يتقبلها منكم, "آواكم الله" بالمد والقصر والمد أشهر، أي: ضمكم إلى رحمته ورضوانه, وإلى ظل عرشه يوم القيامة, "أوصيكم بتقوى الله, واستخلفه عليكم, وأحذركم الله, إني لكم منه نذير مبين" بَيِّنَ الإنذار "أن لا تعلوا" تتكبروا "على الله في بلاده" بترك ما أمركم به وفعل ما نهاكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال: "دنا الفراق، والمنقلب إلى الله , وإلى جنة المأوى"، قلنا: يا رسول الله، من يغسّلك؟ قال: "رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى"، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال: "في ثيابي هذه, وإن شئتم في بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية"، قلنا: يا رسول الله، من يصلي عليك؟ قال: "إذا أنتم غسَّلتموني وكفَّنتموني, فضعوني على سرير هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أوّل من يصلي عليّ جبريل, ثم ميكائيل, ثم إسرافيل, ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا، فصلوا علي وسلموا تسليمًا، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي، ثم نسائهم، ثم أنتم, وأقرءوا السلام على من غاب من أصحابي ومن تبعني على   عنه, "وعباده" بظلمهم, "فإنه قال لي ولكم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} أي: الجنة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} بالبغي {وَلَا فَسَادًا} بعمل المعاصي, {والعاقبة} المحمودة {للمُتَّقِين} عقاب الله بعمل الطاعات, "وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مأوى "للمتكبرين" عن الإيمان، كما قال في الآية الآخرى {مَثْوًى لِلْكَافِرِين} [العنكبوت: 68] ، الزمر: 32] ، والمراد: إن لهم فيها المأوى "قلنا: يا رسول الله, متى أجلك؟ قال: "دنا" قرب "الفراق" للدنيا "والمنقلب" الرجوع "إلى الله وإلى جنة المأوى" الإقامة, "قلنا: يا رسول الله, من يغسلك؟ بكسر السين من باب ضرب ويثقّل للمبالغة, "قال: "رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى" الأقرب فالأقرب, "قلنا: يا رسول الله, فيم نكفنك؟ قال: "في ثيابي هذه" التي علي, "وإن شئتم في ثياب بياض مصر" أي: في الثياب البيض التي جاءته من مصر. روى ابن عبد الحكم أنَّ المقوقس أهدى له -عليه الصلاة والسلام- في جملة الهدية عشرين ثوبًا من قباطي مصر، وأنها بقيت حتى كفِّن في بعضها، والصحيح ما في الصحيح عن عائشة أنه كفِّن في ثياب يمانية كما يأتي, "أو حلة يمنية" من اليمن, "قلنا: يا رسول الله, مَن يصلي عليك؟ "قال: "إذا أنتم غسَّلتموني وكفَّنتموني, فضعوني على سريري هذا على شفير" بمعجمة وفاء- أي حرف "قبري، ثم اخرجوا عني ساعة" قدرًا من الزمان, "فإن أوَّل من يصلي عليَّ جبريل، ثم ميكائيل, ثم إسرافيل، ثم ملك الموت ومعه جنود" جماعة "من الملائكة، ثم ادخلوا عليَّ فوجًا فوجًا" جماعة بعد جماعة -بفتح فسكون- مفرد أفواج, وجمع الجمع أفاويج, "فصلوا عليّ وسلموا تسليمًا، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي" علي والعبَّاس ونحوهما, "ثم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 ديني"، من يومي هذا إلى يوم القيامة، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟ قال: "أهلي مع ملائكة ربي". وكذا رواه الطبراني في "الدعاء" وهو واهٍ جدًّا. وقالت عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخيّر" , فلمَّا اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه، فلمَّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت, ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى"، فقلت: إذًا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح. وفي رواية: إنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلى ظهره يقول:   نساؤهم ثم أنتم" أي: باقي الصحابة الموجودين بالمدينة, "وأقرءوا" بلغوا "السلام" عني "على من غاب من أصحابي". قال ابن الأثير: يقال: أقرئ فلانًا السلام واقرأ عليه السلام، كأنَّه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام، ويرده: "ومن تبعني على ديني من يوم هذا إلى يوم القيامة" قلنا: يا رسول الله, من يدخلك قبرك؟ قال: "أهلي" أقاربي "مع ملائكة ربي". "وكذا رواه الطبراني في" كتاب "الدعاء, وهو واهٍ" أي: ضعيف "جدًّا" من وهي الحائط إذا مال للسقوط فلا ينتفع به, "وقالت عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح, يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا" بضم التحتية وشدة الثانية مفتوحة بينهما حاء مهملة مفتوحة- أي: يسم إليه الأمر أو يملك في أمره, أو يسلم عليه تسليم الوداع, "أو يخيّر" بين الدنيا والآخرة, والشك من الراوي، قاله المصنف. وفي رواية للبخاري: "لا يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة" , "فلما اشتكى" أي: مرض "وحضره القبض, ورأسه على فخذي, غشِّي عليه، فلمَّا أفاق شخص" بفتح المعجمتين، أي: ارتفع "بصره نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهم" اجعلني "في الرفيق الأعلى" , أو في بمعنى مع, "فقلت: إذًا لا يختارنا" من الاختيار، وللأكثر: لا يجاورنا من المجاورة, "فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا" به "وهو صحيح". وعند أبي الأسود في المغازي عن عروة، أنَّ جبريل نزل إليه في تلك الحالة فخيّره، زاد في رواية للبخاري: قالت -أي: عائشة: فكانت آخر كلمة تكلّم بها: "اللهم في الرفيق الأعلى". "وفي رواية" للبخاري عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة "أنها" سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم, و"أصغت" بسكون الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة- أي: أمالت معها "إليه قبل أن يموت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" , رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة. وما فهمته عائشة من قوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم في الرفيق الأعلى" أنه خُيِّرَ، نظير فهم أبيها -رضي الله عنه- من قوله -عليه الصلاة والسلام: "إن عبدًا خَيِّرَه الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده" , أنَّ العبد المراد هو النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قدَّمته. ذكره الحافظ ابن حجر. وعند أحمد من طريق المطّلب بن عبد الله عن عائشة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخيِّر". ولأحمد أيضًا، من حديث أبي مويهة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد, ثم الجنة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة, فاخترت   وهو مستند إلى ظهره" فسمعته "يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني" بهمزة قطع "بالرفيق الأعلى". رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة" عن عائشة, وصوابه: تقديم هذا على قوله، وفي رواية: إذ هو الذي في البخاري من هذا الطريق، أمَّا هذه الرواية فإنما رواها البخاري من طريق عباد عنها كما علم, "وما فهمته عائشة من قوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم في الرفيق الأعلى" أنه خُيِّرَ" بين الدنيا والارتحال إلى الآخرة, "نظير فهم أبيها -رضي الله عنه- من قوله -عليه الصلاة والسلام: "إن عبدًا خَيِّرَه الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده" أنَّ العبد المراد هو النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قدَّمته". "ذكره الحافظ ابن حجر" بلفظ فائدة, "وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله" بن المطلب بن حنطب المخزومي "عن عائشة، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب" الذي أُعِدَّ له في الآخرة, "ثم يُخَيِّر" بضم أوله وفتح الخاء المعجمة- بين البقاء في الدنيا والارتحال إلى الآخرة. ولأحمد أيضًا من حديث أبي مويهة" ويقال: أبو موهية وأبو موهوية, وهو قول الواقدي, مولى النبي -صلى الله عليه وسلم, كان من مولدي مزينة، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص, وهو من أقرانه، ذكره صاحب الإصابة في الكنى, ولم يذكر له اسمًا, فاسمه كنيته, "قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أوتيت" بالبناء للمفعول "مفاتيح خزائن الأرض والخلد" البقاء في الدنيا إلى انقضائها, "ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي" عاجلًا, "والجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة" حبًّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 لقاء ربي والجنة". وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس، رفعه: "خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل". وفي رواية أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عند النسائي، وصحَّحه ابن حبان، فقال: "أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل". وظاهره أنَّ الرفيق: المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين، وقال ابن الأثير في "النهاية" الرفيق" جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى, يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد   في لقاء الله وزهدًا في الدنيا, مع أن الجنة معطاة له على التخييرين. "وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس، رفعه: "خُيِّرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي" من المدائن والفتوحات, "وبين التعجيل" إلى لقاء الله تعالى, "فاخترت التعجيل" شوقًا إلى الله تعالى. "وفي رواية أبي بردة" قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث بن أبي موسى" الأشعري، المتوفَّى في سنة أربع ومائة، وقيل: غير ذلك، وقد جاوز ثمانين سنة "عن أبيه عند النسائي, وصحَّحه ابن حبان فقال" صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل". وفي رواية المطلب عن عائشة عند أحمد: فقال: "مع الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ..... " إلى قوله رفيقًا، قال الحافظ بعد ذكر هاتين الروايتين مقدمًا الثانية "وظاهره: أنَّ الرفيق المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين" في الآية, من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن الملائكة الثلاثة المذكورين في الحديث لا معهم فقط، كما أوهمه تصرف المنف. "وقال ابن الأثير في النهاية: الرفيق جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين" فهو اسم جنس تشمل الواحد فما فوقه، والمراد: الأنبياء, ومن ذكر في الآية، وقد ختمت بقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد, الإشارة إلى أنَّ أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد, نَبَّه عليه السهيلي. "وقيل: المراد به" بالرفيق "الله تعالى"؛ لأنه من أسمائه تعالى كما في مسلم عن عائشة، وأبي داود عن عبد الله بن مغفل، رفعاه: "إن الله رفيق يحب الرفق"، وعَزْوه لأبي داود وحده تقصير, "يقال: الله الرفيق بعباده من الرفق والرأفة. انتهى". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 به: حظيرة القدس. وفي كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف": لما تجلَّى له الحق ضعفت العلاقة بينه وبين المحسوسات, والحظوظ الضرورية من أداني معاني الترقيات البشرية، فكانت أحواله في زيادة الترقي، ولذلك روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "كلّ يوم لا أزداد فيه قربًا من الله فلا بورك لي في طلوع شمسه". وكلما فارق مقامًا واتصل بما هو أعلى منه لمح الأوّل بعين النقص، وسار على ظهر المحبّة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذي الجلال، والاتّصال بالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه.   وهو يحتمل أن يكون صفة ذات كالحليم أو صفة فعل، وغلط الأزهري, هذا القول لقوله: "مع الرفيق" ولا وجه لتغليطه؛ لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ، قاله الحافظ. "وقيل: المراد به" بالرفيق "حظيرة القدس" أي: الجنة، وبه جزم الجوهري وابن عبد البر وغيرهما، ويؤيده ما عند ابن إسحاق: الرفيق الأعلى الجنة، قال الحافظ بعد أن ذكر خمس روايات صحاح، كلها بلفظ الرفيق الأعلى: وهذه الأحاديث تردُّ على من زعم أن الرفيق تغيير من الراوي، وأنَّ الصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة, وهو من أسماء السماء. انتهى. وفي كلام بعضهم: الرفيق الأعلى: نهاية مقام الروح وهي الحضرة الواحدية، فالمسئول إلحاقه بالمحل الذي ليس بينه وبين أحد في الاختصاص، والقول بأنَّ المراد إلحاقة بالملائكة, ومن في الآية مردود بأن محله فوقهم، فكيف يسأل اللحاق بهم, وتعقبت بأن المراد المحل الذي يحصل فيه مرافقتهم في الجمة على اختلاف درجاتهم، ويوجد في بعض نسخ المصنف هنا, "وفي كتاب روضة التعريف بالحب الشريف: لما تجلَّى" ظهر "له الحق" تعالى ليلة المعراج, حتى رآه بعيني رأسه على الصحيح, "ضعفت العلاقة بينه وبين المحسوسات" الأشياء المشاهدة بحاسّة البصر, "والحظوظ الضرورية من أداني" أقاصي "معاني الترقيات البشرية، فكانت أحواله -عليه الصلاة والسلام "في زيادة الترقي" فلذا بادر باختيار اللقاء على البقاء شوقًا لرؤية محبوبه الذي رآه سابقًا, ولذلك روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "كل يوم لا أزداد فيه قربًا من الله فلا بورك لي في طلوع شمسه"، وكلما فارق مقامًا واتَّصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص" عن الأعلى, وإن كان كمالًا, "وسار على ظهر المحبَّة ونعمت المطية" هي "لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال" عطف تفسير للمراحل "والسفر إلى حضرة ذي الجلال, والاتصال بالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه", فبادر باختيار الموت ليظفر عاجلًا باللقاء، وإذا قيل في وجه ترديد موسى للمصطفى لية المعراج ليظفر بتكرار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلامه -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة، كونها تتضمّن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنّه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره ذلك إذا كان قلبه عامرًا بالذكر، انتهى ملخصًا. قال الحافظ ابن رجب: وقد روي ما يدل على أنه قُبِضَ ثم رأى مقعده من الجنة, ثم رُدَّت إليه نفسه, ثم خُيِّر. ففي المسند قالت -يعني: عائشة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من نبي إلّا تقبض نفسه ثم يرى الثواب, ثم ترد إليه نفسه, فيخير بين أن تُرَدّ إليه إلى أن يلحق" فكنت قد حفظت ذلك عنه، وإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت: فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذًا والله لا يختارنا، فقال: "مع الرفيق الأعلى   رؤية مَنْ قد رأي، فما بالك بمن رأى بنفسه، وقد سقط هذا من غالب نسخ المصنف, وليس من مسموعنا، وقد بينَّا وجه ذكره هنا. "قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلامه -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة كونها تتضمَّن التوحيد"؛ لدلالتها على قطع العلائق عن غيره -سبحانه وتعالى؛ حيث قصر نظره على طلب الرفيق الأعلى على كل تفسيراته, "والذكر بالقلب"؛ لأن الرفيق مفرد, وهو يستدعي تقديرًا في الكلام, كأن يقال: أسألك مجاورة الرفيق ونحوه. هذا وإن لم يذكر باللسان فهو مستحضر بالقلب, "حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنَّه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان" عند الموت؛ "لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع" كعقل اللسان عنه, "فلا يضره ذلك إذا كان قلبه عامرًا بالذكر. انتهى ملخصًا" كلام السهيلي. "قال الحافظ ابن رجب: وقد روي ما يدل على أنه قُبِضَ, ثم رأى مقعده من الجنة، ثم رُدَّت إليه نفسه, ثم خُيِّر، ففي المسند للإمام أحمد, من طريق المطّلب بن عبد الله "قالت" يعني: عائشة:" كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول" وهو صحيح: "ما من نبي" أراد به ما يشمل الرسول, "ألَّا تقبض نفسه، ثم يرى الثواب"، الذي أعدَّه الله له, "ثم ترد إليه نفسه, فيخير بين أن تُرَدّ إليه إلى أن يلحق، فكنت قد حفظت ذلك عنه" في صحته, "وإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: "قضي" أي: مات" قالت" عائشة: "فعرفت الذي قال" هو ما حفظته عنه, "فنظرت إليه حين ارتفع" بصره "ونظر" إلى جهة سقف البيت "فقلت: "إذًَا والله لا يختارنا", أي: لا يريد البقاء فينا, فقال: "مع الرفيق الأعلى في الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 والصالحين وحسن أولئك رفيقًا". وفي البخاري من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح - يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخيّر" فلما اشتكى وحضره القبض, ورأسه على فخذ عائشة, غُشِّيَ عليه، فلمَّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى". ونبَّه السهيلي على أنه النكتة في الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد، الإشارة إلى أنَّ أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد.   والصديقين" أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق, "والشهداء" القتلى في سبيل الله, "والصالحين" غير من ذكر, "وحسن أولئك رفيقًا" أي: رفقاء في الجنة، بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم, وإن كان مقرهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم. "وفي البخاري من حديث" الزهري، عن "عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة" , وصريحه أن ذلك من خواصّ الأنبياء، ولا يخالفه حديث الصحيحين: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى ..... " الحديث, للفرق بأنَّ الأنبياء تعرض عليهم، ثم يخيّرون بخلاف غيرهم فلا يخيرون, وإن كان العرض عليهم قبل الموت كما هو مفاد الحديث الصحيح، فالخصوصية أيضًا عرضه حال الحياة بخلاف غيرهم, "ثم يحيَّا" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها, "أو يخير" شك الراوي هل قال: يحيا أو قال: يخير" قاله الحافظ, "فلما اشتكى" مرض, "وحضره القبض, ورأسه على فخذ عائشة". كذا في البخاري, وكأنه التفات، وقدَّمه المصنف: على فخذي بالمعنى, "غُشِّيَ" أي: أغمي "عليه، فلمَّا أفاق شخَصَ" ارتفع بصره" بالرفع فاعل, "نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهم" اجعلني "في الرفيق الأعلى" , وفي بمعنى مع, أي: مع الجماعة الذين يحمد مرافقتهم، وهذا الحديث مَرَّ قريبًا وكأنه أعاده؛ لأنَّ ابن رجب ذكره كالمعارض لما قبله عن المسند، ويمكن الجمع بينهما بحمل قبض نفسه على شدة الاستغراق في رؤية الثواب, حتى كأنه قبض، فلا يخالف حديث البخاري الصريح في أن التخيير قبل القبض. "ونبَّه السهيلي على أن النكتة في الإتيان بهذه الكلمة" أي: لفظع الرفيق "بالإفراد, الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد", وهي نكتة في الآية والحديث جميعًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 وفي صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ورأسه في حجري. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلمَّا أفاق قال: "أسال الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل". ولما احتضر -صلى الله عليه وسلم- اشتدَّ به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي -صلى الله عليه وسلم، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت". وفي رواية: فجعل يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات". قال بعض العلماء: فيه أنَّ ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته. وقال الشيخ أبو محمد المرجاني: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو في السياق: وا حرباه، ففتح عينيه وقال:   "وفي صحيح ابن حبان، عنها" أي: عائشة "قالت: أغمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأسه في حجري، فجعلت أمسحه" أي: صدره, كما في رواية الطبراني "وأدعو له بالشفاء، فلمَّا أفاق قال" زاد الطبراني: لا، ولكن "أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وهذا يؤيد أنه خُيِّرَ قبل الموت, ولما احتضر -صلى الله عليه وسلم- اشتدَّ به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على النبي -صلى الله عليه وسلم", زيادةً في رفع درجاته. "قالت" عائشة: "وكان عنده" صلى الله عليه وسلم "قدح من ماء", أي: فيه ماء, "فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت" شدائده. "وفي رواية: فجعل يقول: "لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات" قال بعض العلماء فيه: إن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته. وقد قالت عائشة: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. "وقال الشيخ أبو محمد المرجاني: تلك السكرات سكرات الطرب" الفرح, "ألا ترى إلى قول بلال" أول من أسم في أحد الأقوال: "لما قال له أهله وهو في السياق" النزع: وا حرباه -بفتح المهملة والراء والموحدة- من الحرب -بفتحتين- نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له. وروي بضم الحاء وزاي ساكنة، وروي: وا حوباه -بفتح الحاء وسكون الواو- من الحوب وهو الإثم, والمراد ألمها بشدة جزعها عليه أو من الحوبة، أي: رقة القلب "ففتح عينيه وقال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 وا طرباه، غدًا ألقى الأحبَّة محمدًا وصحبه، فإذا كان هذا طربه, وهو في هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه. وفي حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والأنامل والقصب، فأعنِّي عليه وهوّنه عليّ". وعند الإمام أحمد والترمذي من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح, ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت".   وا طرباه, غدًا ألقى الأحبَّة محمدًا وصحبه". وفي رواية: وحزبه, "فإذا كان هذا طربه وهو في هذا الحال" السياق "بلقاء محبوبه, وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى" استفهام تعجبي، واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} لا ملك مقرَّب, ولا نبي مرسل, {مَا أُخْفِيَ} خبيء {لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، ما تَقَرّ به عيونهم. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة يرفعه، "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر". قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ .... } الآية. وأخرج الحاكم وصحَّحه عن ابن مسعود، قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدَّ الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر, ولم يعلم ملك مقرّب, ولا نبي مرسل, وأنه لفي القرآن {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} الآية "وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه"؛ إذ لا يعلم إلا الله. "وفي حديثٍ مرسل ذكره الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "اللهمَّ إنك تأخذ الروح من بين العصب" بعين مهملة "والأنامل والقصب" بالقاف- عظام اليدين والرجلين ونحوهما, "فأعنِّي عليه" أي: على أخذ الروح, أي: على المشقَّة الحاصلة عند أخذه, "وهوّنه عليّ" يسِّره وسهّله. "وعند الإمام أحمد والترمذي من طريق القاسم بن محمد عنها, أي: عائشة "قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت, فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعنِّي على سكرات الموت" شدائده, "ولما غشاه الكرب" الشدة "قالت فاطمة -رضي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 ولما غشَّاه الكرب، قالت فاطمة -رضي الله عنها: وا كرب أبتاه، فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" رواه البخاري. قال الخطابي: زعم من لا يُعَدّ من أهل العلم أن المراد بقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أنَّ كربه كان شفقة على أمته, لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشيء؛ لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة؛ لأنه مبعوث إلى مَن جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وأنَّ المراد بالكرب ما كان يجده -عليه الصلاة والسلام- من شدة الموت، وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر؛ ليتضاعف له الأجر. انتهى. وروى ابن ماجه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "إنه حضر من أبيك ما الله تعالى بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة".   الله عنها: وا كرب أبتاه" بألف الندبة والهاء ساكنة للوقف وللنسائي: واكرابه. قال الحافظ والأوّل أصوب لقوله: "فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" , وهذا يدل على أنها لم ترفع صوتها, وإلا لنهاها. "رواه البخاري" من إفراده عن أنس عن فاطمة "قال الخطابي: زعم من لا يُعَدّ من أهل العلم" لغباوة فهمه "أنَّ المراد بقوله -عليه السلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أنَّ كربه كان شفقة على أمته, لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشيء؛ لأنه كان" زائدة "يلزم" من ذلك "أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة؛ لأنه" حيّ في قبر، ومبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه", فما وجده حسنًا حمد الله عليه, وما وجده سيئًا استغفر لهم, كما ورد عنه "وإنما الكلام على ظاهره, وأن المراد بالكرب ما كان يجده -علي السلام- من شدة الموت, وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر؛ ليتضاعف له الأجر, انتهى. وملخصه: إن هذا الزعم تخيل أن شدة الموت لا تصيبه كغيره، فصرف الكرب إلى الشفقة, وما علم ما لزم عليه من انقطاعها, مع أنها لا تنقطع, وخفي عليه أنه في الآلام الحسية كغيره. "وروى ابن ماجه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "إنه" أي: الحال والشأن "حضر من أبيك" أي: عنده "ما" , وفاعل حضر محذوف، أي: أمر ليس "الله بتارك منه أحدًا لموافاة" أي: إتيان، أي: إنه مستمر لكل أحد إلى "يوم القيامة" أي: قربها هذا على ما في نسخ المصنف، وفيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 وفي البخاري من حديث أنس بن مالك: إنَّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم, لم يفجأهم إلّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة, ثم تبسَّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة, قال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأشار إليهم بيده -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم, ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.   سقط, وتقصير في العزو، فإن الحديث رواه البخاري والترمذي في الشمائل، عن أنس: لما وجد -صلى الله عليه وسلم- من كرب الموت ما وجد, قالت فاطمة: وا كرباه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم, إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة"، فسقط من قلم المصنف لفظ: ليس بعد ما وألف الموافاة. قال الشراح: ما، أي: أمر عظيم, فاعل حضر, "ليس الله بتارك منه"، أي: من الوصول إليه أحدًا، وذلك الأمر العظيم هو الموافاة يوم القيامة، أي: الحضور, ذلك اليوم المستلزم للموت قبله، وقيل: الموافاة فاعل تارك، أي: لا يترك الموت أحدًا لا يصل إليه، ثم بَيِّنَ ذلك الأمر الذي يوصّل الموت إليه كل أحد بقوله: "يوم القيامة" الواصل إليه كل ميت, وفيه ركاكة, والقصد تسليتها بأنَّه لا كرب عليه بعد اليوم، وأمَّا اليوم فقد حضره ما هو مقر عام لجميع الخلق، فينبغي أن ترضي وتسلمي. "وفي البخاري من حديث أنس بن مالك, أن المسلمين بينما هم" بميم ودونها روايتان "في صلاة الفجر" الصبح "من يوم الاثنين, وأبو بكر يصلي بهم" وفي رواية: لهم، أي: لأجلهم إمامًا, "لم يفجأهم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف, ولأبي ذر: وهم صفوف في "الصلاة، ثم تبسَّم يضحك" حال مؤكدة؛ لأن تبسّم بمعنى يضحك, وأكثر ضحك الأنبياء التبسّم، وكان ضحكه فرحًا باجتماعهم على الصلاة وإقامة الشريعة واتفاق الكلمة, "فنكص" بصاد مهملة، أي: تأخَّر "أبو بكر على عقبيه" بالتثنية؛ "ليصل الصفَّ", أي: يأتي إليه, "وظنَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة" بهم إمامًا, "قال أنس: وهَمَّ" بشد الميم "المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم" بأن يخرجوا منها, "فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأشار إليهم بيده -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر". قال الحافظ: فيه أنه لم يصلّ معهم ذلك اليوم، وما رواه البيهقي عن حميد عن أنس: آخر صلاة صلاها -صلى الله عليه وسلم- مع القوم. الحديث, وفسَّرها بأنها صلاة الصبح، فلا يصح الحديث الباب، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 وفي رواية أبي اليمان عن شعيب، عند البخاري، في "الصلاة": فتوفي من يومه ذلك. وكذا في رواية معمر عنده أيضًا في حديث أنس: لم يخرج إلينا -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال: نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب, فرفعه، فلمَّا وضح لنا وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ما نظرنا منظرًا كان أعجب إلينا من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا، قال: فأومأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يتقدَّم وأرخى الحجاب. الحديث رواه الشيخان. وعنه أنَّ أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في الصلاة، كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة،   ويشبه أنَّ الصواب أنها صلاة الظهر، وهذا الحديث في البخاري هنا من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أنس. "وفي رواية أبي اليمان" الحكم بين نافع شيخ البخاري, "عن شعيب" بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أنس "عند البخاري في الصلاة, فتوفِّي من يومه ذلك" قرب الزوال, "وكذا في رواية معمر" عن الزهري، عن أنس "عنده", أي: البخاري "أيضًا" في غير هذا الموضع, ومعمر هو ابن راشد, أحد أصحاب ابن شهاب, فنسخة أبي معمر تحريف, "وفي حديث أنس: لم يخرج إلينا -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا" من الأيام, وكان ابتداؤها من حين خرج فصلى بهم قاعدًا, "فأقيمت الصلاة, فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال: نبي الله -صلى الله عليه وسلم" من إجراء قال مجرى فعل وهو كثير، أي: أخذ "بالحجاب" الستر الذي على الحجرة, "فرفعه، فلما وضح" أي: ظهر "لنا وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فما نظرنا منظرًا" بفتح الميم والظاء المعجمة بينهما نون ساكنة- أي: شيئًا ننظر إليه "قط كان أعجب إلينا من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضح: "ظهر لنا". "قال" أنس: "فأومأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يتقدَّم" إلى الصلاة ليؤمَّهم "وأرخى الحجاب" قال الحافظ: ليس مخالفًا لقوله في أوله: فتقدَّم أبو بكر، بل في السياق حذف يظهر من قوله في رواية الزهري: فنكص أبو بكر، والحاصل أنه تقدَّم، ثم ظنَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- يخرج فتأخَّر، فأشار إليه حينئذ أن يرجع إلى مكانه .... "الحديث" تمامه" فلم يقدر عليه حتى مات -صلى الله عليه وسلم. "رواه الشيخان" ففيه أن الصديق استمرَّ خليفة على الصلاة حتى مات المصطفى, لا كما زعمت الشيعة أنه عزله بخروجه وتخلّف أبو بكر، يرد عليهم وعنه" أي: أنس "إن أبا بكر كان يصلي بهم", وفي رواية: لهم، أي: لأجلهم إمامًا في المسجد النبوي, "في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين" برفع يوم فكان تامَّة ونصبه خبر لكان ناقصة, "وهم صفوف في الصلاة" جملة حالية "كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة، فنظرنا إليه" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 فنظرنا إليه وهو قائم، كأنَّ وجهه ورقة مصحف مثلث الميم، ثم تبسَّم -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا. الحديث رواه مسلم. وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب، أنه -صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود عن عروة. وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقي من أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث، نزل عليه جبريل فقال: يا محمد, إن الله قد أرسلني إليك إكرامًا لك، وتفضيلًا لك، وخاصَّة لك، يسألك عمَّا هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا"، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك، ثم جاءه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك   لفظ مسلم: فنظر إلينا, "وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة" بفتح الراء "مصحف مثلث الميم" كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته, "ثمَّ تبسَّم -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا" فرحًا باجتماعهم على الصلاة, واتفاق كلمتهم وإقامة شريعته، ولهذا استنار وجهه الوجيه؛ لأنه كان إذا سُرَّ استنار وجهه .... "الحديث" ذكر في بقيته نحو ما مَرَّ في رواية البخاري من همهم بالخروج ونكوص أبي بكر إلى آخره. "رواه مسلم" من طريق صالح عن الزهري، قال: حدثني أنس فذكره، وفي آخره أيضًا: فتوفي من يومه ذلك, "وقد جزم موسى بن عقبة عن" شيخه "ابن شهاب بأنه -صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس" بزاي ومعجمة- أي: مالت, "وكذا لأبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن "عن عروة" بن الزبير, وجزم ابن إسحاق, بأنه مات حين اشتدَّ الضحاء, أي: بالفتح والمد- ويخدش فيه قوله: وتوفي من آخر ذلك اليوم, ويجمع بنهما بأن إطلاق الآخر بمعنى ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند النزول واشتداد الضحاء يقع قبل الزوال, ويستمر حتى يتحقّق زوال الشمس, ويؤيد هذا الجمع ما ذكره ابن شهاب وعروة أنه مات حين زاغت الشمس. كذا قال الحافظ, مع أن لفظ أنس عند الشيخين: فتوفي من يومه ذلك, ليس فيهما لفظ آخر الذي خدش به, فهو صادق باشتداد الضحاء وبالزوال, نعم جمعه بين هذين بما ذكر متجه. "وعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "عن أبيه" محمد بن عليّ بن الحسين "قال: لما بقي من أَجَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد, إن الله قد أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضيلًا لك، وخاصة" تخصيصًا "لك, يسألك عمَّا هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ " أي: تجد نفسك في هذا الوقت, "فقال: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا"، ثم أتاه في اليوم الثاني، فقال له مثل ذلك" الذي قاله في اليوم الأول "ثم أتاه في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 الموت فقال جبريل: يا محمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال: "ائذن له"، فدخل ملك الموت, فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله -عز وجل- أرسلني إليك, وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمر، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، قال -صلى الله عليه وسلم: "فامض يا ملك الموت لما أمرت به"، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا, فقبض روحه، فلمَّا توفي -صلى الله عليه وسلم- وجاءت   اليوم الثالث". وفي رواية: فلمَّا كان في اليوم الثالث هبط جبريل ومعه ملك الموت ومعهما ملك آخر يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط، يقال له: إسماعيل, موكَّل على سبعين ألف ملك، كل ملك على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل, "فقال له مثل ذلك" القول المذكور, "ثم استأذن في" اليوم الثالث "ملك الموت" وجبريل عنده, "فقال جبريل: يا محمد" وفي نسخة: يا أحمد "هذا ملك الموت يستأذن" يطلب الإذن في الدخول "عليك, ولم يستأذن على أدمي قبلك, ولا يستأذن على أدمي بعدك" فهو تخصيص لك على الجمع "قال: "ائذن له فدخل ملك الموت". وفي حديث ابن عباس عند الطبراني أنه قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, إن ربك يقرئك السلام, "فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله, إن الله -عز وجل- أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كلِّ ما تأمر" به "إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها". زاد في رواية، قال: "وتفعل ذلك يا ملك الموت؟ " قال: نعم, أمرت أأطيعك في كل ما أمرتني, "فقال جبريل: يا محمد, إن الله قد اشتاق إلى لقائك، قال -صلى الله عليه وسلم: "فامض يا ملك الموت لما أمرت به" من قبض روحي إن شئت، فإني اخترت ذلك, "فقال جبريل: يا رسول الله, هذا آخر موطئي من الأرض, إنما كنت حاجتي من الدنيا". وفي حديث أبي هريرة عند ابن الجوزي: وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك, والمنفي نزوله بالوحي المتجدّد، فلا ينافي ما ورد في أحاديث أنه ينزل ليلة القدر, ويحضر قتال المسلمين مع الكفار, ويحضر من مات على طهارة من المسلمين، ويأتي مكة والمدينة بعد خروج الدجال ليمنعه من دخولهما، وفي زمن عيسى -عليه السلام- لا بشرع جديد، وتفصيل ذلك يطول, "فقبض روحه" الزكية, "فلمَّا توفي -صلى الله عليه وسلم- وجاءت التعزية" إسناد مجازي، أي: أهل التعزية "سمعوا صوتًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 التعزية, سمعوا صوتًا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال عليّ: أتدرون من هذا؟ هو الخضر -عليه السلام. رواه البيهقي في دلائل النبوة. وفي تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي, وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره في الإحياء, وأن النووي أنكر وجود الحديث المذكور في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب, ثم قال العراقي: قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس ولم يصحّحه، ولا يصح. ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس أيضًا قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع   من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته". زاد في حديث ابن عمر عند البلاذري: فرددنا عليه مثل ذلك، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} جزاء أعمالكم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء" تسلية "من كل مصيبة, وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا" اعتمدوا, "وإياه فارجوا, فإنما المصاب". وفي لفظ: فإن المصاب "من حُرِمَ الثواب" الذي أعدَّه الله تعالى له بعدم الصبر ومزيد الجزع؛ لأنه فاته "والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته", ختم بالسلام كما بدأ به, "فقال عليّ: أتدرون من هذا" فكأنهم قالوا: لا ندري, فقال: "هو الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين "عليه السلام". رواه البيهقي في دلائل النبوة، وفي تخريج أحاديث الإحياء" للغزالي "للحافظ العراقي" زين الدين عبد الرحيم, "وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر مما ذكره في الإحياء، وأنَّ النووي أنكر وجود الحديث المذكور في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب" يعني: علماء الشافعية في كتب الفقه بلا إسناد, "ثم قال العراقي" تعقبًا على نفي النووي: "قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس ولم يصححه" أي: لم يصرح بقوله: صحيح, وإن كان موضوع كتابه المستدرك في الأحاديث الصحيحة الزائدة على الصحيحين, "ولا يصح" لضعف سنده، ولكنه وجد في كتاب مشهور من كتب الحديث, وإن كان ضعيف السند. "ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس قال: لما قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع أصحابه حوله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين في إزار ورداء، يتخطَّى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, حتى أخذ بعضادتي باب البيت, فبكى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضًا من كل فانٍ. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: عليَّ بالرجل، فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا، فقال أبو بكر: لعلَّ هذا الخضر جاء يعزينا. ورواه ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث علي بن أبي طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جده علي، والمعروف عن علي بن الحسين مرسلًا من غير ذكر علي، كما رواه الشافعي في الأم, وليس فيه ذكر للخَضِر -عليه السلام. قال البيهقي: قوله: إن الله اشتاق إلى لقائك، معناه: قد أراد لقاءك بأن يردّك من دنياك إلى معادك زيادة في قربك وكرامتك.   يبكون" بلا رفع صوت, "فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين في إزار ورداء يتخطَّى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذ بعضادتي" بكسر العين وضاد معجمة- تثنية عضادة، أي: جانبي "باب البيت، فبكى رسول الله" بنصبه مفعول بكى. "وفي نسخة: بكى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة, وعوضًا من كل فانٍ. الحديث وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر الصديق: "عليَّ بالرجل" أي: ائتوني به, "فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا، فقال أبو بكر: لعل هذا الخضر جاء يعزينا". "ورواه ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث علي بن أبي طالب, وفيه محمد بن جعفر الصادق, تُكُلِّمَ فيه, وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جدَّه علي" بن أبي طالب؛ لأنه لم يدركه، فالحديث ضعيف, وأيما كان فكيف ينكر وجوده في كتب الحديث، وقد وجد في أكثر من كتاب "والمعروف عن علي بن الحسين مرسلًا من غير ذكر عليّ" بن أبي طالب "كما" "رواه الشافعي في الأم, وليس فيه ذكر للخضر -عليه الصلاة والسلام". "قال البيهقي: قوله: إن الله اشتاق إلى لقاءك، معناه: قد أراد لقاءك" لاستحالة الحقيقي الذي هو نزاع النفس إلى الشيء في حقه تعالى, "بأن يردك من دنياك إلى معادك, زيادة في قربك وكرامتك، انتهى". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه ورأسه في حجر علي، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له: ارجع فإنَّا مشاغيل عنك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا ملك الموت, ادخل راشدًا" فلمَّا دخل قال: إن ربك يقرئك السلام, فبلغني أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده. وقالت عائشة: توفي في بيتي، وفي يومي, وبين سحري ونحري، وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي. رواه البخاري. والحاقنة: بالحاء المهملة والقاف والنون: أسفل من الذقن. والذاقنة: طرف الحلقوم. والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، وهو الصدر. والنحر: بفتح   "وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس، قال: جاء ملك الموت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه" الذي توفي فيه, "ورأسه في حجر علي، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له: ارجع فإنَّا مشاغيل عنك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا ملك الموت, ادخل راشدًا"، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام", والظاهر المتبادر أن قوله: "فبلغني أن ملك الموت لم يسلّم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده" من قول ابن عباس، والجزم بأنه من كلام الطبراني يحتاج إلى دليل؛ لأنه خلاف المتبادر, "وقالت عائشة:" إن من نِعَمِ الله عليَّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم "توفي في بيتي وفي يومي" الذي كان يدور علي فيه "وبين سحري ونحري" بفتح فسكون فيهما كما يأتي. "وفي رواية" عنها: مات "بين حاقنتي وذاقنتي" بذال معجمة وقاف مكسورة، قال الحافظ: وهذا لا يعارض حديثها السابق أن رأسه كان على فخذها؛ لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها. "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري، والحاقنة -بالحاء المهملة والقاف المكسورة "والنون" المفتوحة: "أسفل من الذقن، والذاقنة: طرف الحلقوم", وفي الفتح: الحاقنة ما سفل من الذقن، والذاقنة ما علا منه، أو الحاقنة نقرة الترقوة وهما حاقنتان، ويقال: الحاقنة: المظهر من الترقوة والحلق، وقيل: ما دون الترقوة من الصدر، وقيل: هي تحت السرة، وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم, والسحر -بفتح السين وسكون الحاء المهملتين- هو الصدر" وهو في الأصل: الرئة -كما في الفتح, "والنحر -بفتح النون وسكون الحاء المهملة" موضع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 النون وسكون الحاء المهملة. والمراد: أنه -صلى الله عليه وسلم- توفي ورأسه بين عنقها وصدرها. وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه -صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه في حجر عليّ؛ لأن كل طريق منها -كما قال الحافظ ابن حجر- لا يخلو عن شيء، فلا يلتفت لذلك والله أعلم.   القلادة من الصدر كما في الصحاح، قال الحافظ: والمراد به موضع النحر، وأغرب "الداودي فقال: هو ما بين الثديين، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر, "والمراد أنه -صلى الله عليه وسلم- توفي ورأسه بين عنقها وصدرها". وروى أحمد والبزار والحاكم بسند صحيح، عنها: لما خرجت نفسه لم أجد ريحًا قط أطيب منها، وروى البيهقي عن أم سلمة، وضعت يدي على صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم مات، فمرَّ بي جمع آكل وأتوضأ ما يذهب ريح المسك من يدي "وهذا" الحديث الصحيح "لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق، أنه -صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه في حجر علي؛ لأن كل طريق منها كما قال الحافظ ابن حجر لا يخلو عن شيء" أي: مقال في إسناده, "فلا يلتفت لذلك" لمعارضته الحديث الصحيح، لكن لفظ الحافظ لا يخلو عن شيعي -بكسر الشين- مفرد الشيعة، فلا يلتفت إليهم، أي: إلى الشيعة, إلا أنه لما بينه لم يذكر فيهم شيعيًّا، وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعًا لتوهم التعصب. روى ابن سعد عن جابر: سأل كعب الأحبار عليًّا: ما كان آخر ما تكلم به -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري, فوضع رأسه على منكبه، فقال: "الصلاة الصلاة"، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وفي سنده الواقدي وحرام ابن عثمان وهما متروكان. وعند الواقدي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "ادعوا لي أخي"، فدُعِيَ له عليّ فقال: "دن مني" قال: فلم يزل مستندًا إليَّ وإنه ليكلمني حتى نزل به وثقل في حجري، فصحت: يا عباس, أدركني فإني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعًا أن أضجعاه. فيه انقطاع مع الواقدي عبد الله فيه لين، وبه عن أبيه، عن علي بن الحسين: قبض ورأسه في حجر علي. فيه انقطاع. وعند الواقدي عن أبي الحويرث، عن أبيه عن الشعبي، مات ورأسه في حجر علي. فيه الواقدي والانقطاع, وأبو الحويرث اسمه: عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدني، قال مالك: ليس بثقة, وأبوه لا يعرف حاله. وعن الواقدي، عن سليمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن أبي غطفان: سألت ابن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي: إن أول كلمة تكلم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة: "الله أكبر" , وآخر كلمة تكلم بها: "في الرفيق الأعلى". وروى الحاكم من حديث أنس قال: "إن آخر ما تكلّم به النبي -صلى الله عليه وسلم: "جلال ربي الرفيع". ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر غائبًا بالنسخ -يعني: العالية, عند زوجته بنت خارجة- وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أذن له في الذهاب إليهما، فسلَّ عمر بن الخطاب سيفه   عباس، قال: توفي وهو إلى صدر علي، فقلت: إن عروة حدَّثني عن عائشة، قالت: توفي بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفي وأنه لمسند إلى صدر علي, وهو الذي غسَّله وأخي الفضل, وأبي أبى أن يحضر, فيه الواقدي وسليمان لا يعرف حاله, وأبو غطفان -بفتح المعجمة ثم المهملة- اسمه: سعد, مشهور بكنيته, وثَّقه النسائي. وأخرج الحاكم في الإكليل من طريق حبة العربي: أسندته إلى صدري فسالت نفسه. وحبة ضعيف، ومن حديث أم سلمة، قالت: علي آخرهم عهدًا به -صلى الله عليه وسلم. وحديث عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت أنه آخر الرجال عهدًا، ويمكن الجمع بأن يكون علي آخرهم عهدًا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فظنَّ أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجّه، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض، ولأحمد في أثناء حديث عنها، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي؛ إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت على نقرة نحري، فاقشعرَّ جلدي, وظننت أنه غشي عليه، فسجيته ثوبًا، انتهى. فلم يذكر فيها شيعيًّا، وإنما ذكر ضعف رواته كما ترى, "قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي أن أوَّل كلمة تكلّم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة" السعدية "الله أكبر"، وآخر كلمة تكلم بها "في الرفيق الأعلى". وفي حديث عائشة عند البخاري: فكانت آخر كلمة تكلم بها: "اللهمَّ الرفيق الأعلى" وروى الحاكم من حديث أنس قال: إن آخر ما تكلّم به النبي -صلى الله عليه وسلم: "جلال" أي: أختار جلال "ربي الرفيع" فقد بلغت ثم قضي، هذا بقية الحديث. وجمع بينهما بأن هذا آخريه مطلقة وما عداه آخرية نسبية, "ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر غالبًا بالسنح" بضم السين المهملة فنون ساكنة، وبضمها أيضًا فحاء مهملة "يعني: بالعالية, أي: بأقربها, على ميل من المسجد النبوي "عند زوجته" حبيبة "بنت خارجة بن زيد الخزرجية، صحابية بنت صحابي, "وكان -عليه السلام- قد أذن له في الذهاب إليها"؛ لأنه أصبح يوم الإثنين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 وتوعّد من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجثا يقبله ويبكي ويقول: توفي والذي نفسي بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيًّا وميتًا، ذكره الطبري في "الرياض". وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة, فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجَّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله ثم بكى وقال: بأبي   خفيف المرض، فقال له أبو بكر: أراك يا رسول الله قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب, واليوم يوم ابنة خارجة أفآتيها، قال: نعم، فذهب فمات في غيبته, "فسلَّ عمر بن الخطاب سيفه وتوعّد" بالقتل "من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بناءً على ما قدم عنده، وأداه إليه اجتهاده أنه لا يموت حتى يشهد على أمته بأعمالها أخذًا من قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، كما رواه ابن إسحاق عنه، ثم رجع عن ذلك كما يأتي: "وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة", وهذا قاله اجتهادًا بالقياس, ثم رجع عنه "والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم". زاد في رواية: وألسنتهم, يعني: المنافقين، وفي لفظ: لا يموت حتى يؤمر بقتال المنافقين, "فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة، فدخل فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجثا" بجيم فمثلثة برك على ركبتيه "يقبّله ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده -صلوات الله عليك يا رسول الله, ما أطيبك حيًّا وميتًا". "ذكره الطبري" محب الدين الحافظ "في" كتاب "الرياض" النضرة في فضائل العشرة "وقالت عائشة: أقبل أبو بكر" حال كونه راكبًا "على فرس من مسكنه" متعلق بأقبل, "بالسنح" منازل بني الحارث من الخزرج, "حتى نزل" عن الفرس, "فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله", الذي في البخاري هنا وقبله في الجنائز: فتيمَّم، قال المصنف: أي: قصد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجَّى" بضم الميم وفتح السين والجيم المشددة، أي: مغطّى, هذا لفظ الجنائز، وفي الوفاة مغشَّى -بضم الميم وفتح الغين والشين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. رواه البخاري. واختلف في قول أبي بكر -رضي الله عنه: "لا يجمع الله عليك موتتين". فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال؛ لأنه لو صحَّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كـ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} ، و {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها.   المشددة المعجمتين- أي: مغطّى "ببرد" لفظ الجنائز، وفي الوفاة: بثوب, "حبرة" بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة، وإضافة برد أو ثوب, وبالتنوين, فحبرة صفته، وهي ثوب يماني مخطّط أو أخضر, "فكشف عن وجهه" لبرد ثم أكبَّ عليه" لازم وثلاثيه كَبَّ متعدٍّ عكس المشهور من قواعد التصريف, فهو من النوادر, "فقبَّله" بين عينيه "ثم بكى" اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فأكبَّ عليه وقبَّله، ثم بكى حتى سالت دموعه على وجنتيه. رواه الترمذي "وقال: بأبي أنت وأمي" الباء متعلقة بمحذوف، أي: أنت مفدَّى بأبي, فهو مرفوع مبتدأ وخبر, أو فعل فما بعده نصب، أي: فديتك, "لا يجمع" بالرفع، ولفظ الجنائز: يا نبي الله، وي الوفاة: والله لا يجمع "الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك" بصيغة المجهول، وللمستملي والحموي كتب الله عليك "فقدمتها". "رواه البخاري" في الجنائز والوفاة النبوية من أفراده عن مسلم. ورواه النسائي وابن ماجه في الجنائز, "واختلف في" معنى "قول أبي بكر -رضي الله عنه: لا يجمع الله عليك موتتين، فقيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم" هو عمر "أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال" كما في البخاري في المناقب، قالت -أي: عائشة: وقال عمر: وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى ثانية؛ إذ لا بُدَّ من الموت قبل القيامة "فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كـ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون ألفًا {حَذَرَ الْمَوْتِ} وهم قوم بني إسرائيل, وقع الطاعون ببلادهم ففروا، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل -بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي، فعاشوا دهرًا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبًا إلا عاد كالكفن, واستمرَّت في أسباطهم و {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} هي بيت المقدس راكبًا على حمار ومعه سلة تين وقدح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره، إذا يحيا فيسأل ثم يموت، وهذا جواب الداودي. وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنَّى بالموت الثاني عن الكرب، أي: لا تلقى بعد هذا الموت كربًا آخر. قال في فتح الباري. وعنها: إن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبَّله, وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلمّا تكلم أبو بكر   عصير وهو عزير، وقيل: أرمياه، وقيل: غيرهما {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة على عروشها" سقوفها لما خربها بخت نصر، قال استعظامًا لقدرة الله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} ليريه كيفية ذلك، {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} الآية "وهذا أوضح" أظهر الأجوبة وأسلمها من الاعتراض. "وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره؛ إذ يحيا فيسأل ثم يموت"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يسأل, "وهذا جواب الداودي" أحمد بن نصر المالكي شارح البخاري, "وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك، وقيل: كُنِّيَ بالموت الثان عن الكرب، أي: لا تلقى بعد هذا الموت كربًا آخر" ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" "قاله في فتح الباري" في كتاب الجنائز، وتعقّب الثالث في الوفاة، فقال: وأغرب من قال: المراد بالموتة الأخرى موت الشريعة، قال هذا القائل، ويؤيده قول أبي بكر بعد ذلك في خطبته، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, "وعنها" أي: عائشة أيضًا، "أنَّ عمر قام يقوم: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بناء على ظنه الذي أداه اجتهاده إليه، وأسقط من الحديث، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك، وليبعثه الله فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم "فجاء أبو بكر" من السنح, "فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبَّله" بين عينيه "وقال: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا, والذي نفسي بيده لا يذيقك" بالرفع "الله الموتتين أبدًا"؛ لأنه يحيا في قبره ثم لا يموت كما هو أحد الوجوه المتقدمة. قال الحافظ: وهذا أحسن، ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين، يعني: في هذه الرواية، أي: المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء، فبطل تمسك من تمسك به لإنكار الحياة في القبر. انتهى. "ثم أخرج" أبو بكر من عنده -صلى الله عليه وسلم- وعمر يكلم الناس, "فقال: أيها الحالف على رسلك" بكسر الراء وسكون المهملة- هينتك، أي: اتئد في الحلف ولا تستعجل، وعبَّر بالحالف لأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية [آل عمران: 144] ، قال: فنشج الناس يبكون، رواه البخاري. يقال: نشج الباكي، أي: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.   عادتهم النداء بالحالة التي يكون الشخص عليها، كقوله -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة: "قم يا نومان" ولعلي: "قم أبا تراب" وتنبيهًا على أنه لا ينبغي الحلف في ذا المقام، لا لأنه لم يعرفه لما خرج، وإنما سمع الحلف، فأبهمه؛ لأن أبا بكر يعرف صوت عمر، ولأنه قال: اجلس يا عمر كما يأتي قريبًا "فلمَّا تكلم أبو بكر جلس عمر" بعد إبايته -كما في حديث ابن عباس الآتي، فقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس, "فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا" بالفتح والتخفيف- تنبهًا على ما بعده, كأنه قال: تنبهوا, "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أي: ستموت ويموتون فلا شماتة بالموت، فالميت بالتثقيل من لم يمت وسيموت، وأما بالتخفيف فمن حلَّ به الموت, قال الخليل: أنشد أبو عمرو: أيا سائلي تفسير ميت وميت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل فمن كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلّا من إلى القبر يحمل "وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، اختصار من المصنف، وإلّا فهي متلوة كلها عند البخاري، فقال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجعتم إلى الكفر، والجملة الأخيرة محلّ الاستفهام الإنكاري، أي: ما كان معبودًا فترجعوا، نزلت لما أشيع يوم أحد أنه -صلى الله عليه وسلم- قُتِلَ، وقال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} وإنما يضر نفسه، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} نعمة بالثبات، "قال فنشج" بفتح النون والشين المعجمة وبالجيم "الناس يبكون لتحققهم موته, ولم يبين المصنف ولا الحافظ فاعل قال: فيحتمل أنه عائشة، وذكر باعتبار الشخص, أو إنها قالته حاكية له عن عمر ويؤيده قولها أولًا: وقال عمر: والله ...... إلخ. هكذا أفاده شيخنا أبو عبد الله الحافظ البابلي. "رواه البخاري" في مناقب الصديق بهذا اللفظ: "يقال نشج" بفتحات "الباكي، أي: غُصَّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب" أي: شدة البكاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فقال الناس: يا سالم، أطلب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قال: فخرجت إلى المسجد, فإذا بأبي بكر، فلمَّا رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجَّى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاهه على فيه, واستنشى الريح، ثم سجَّاه والتفت إلي فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يا أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأنِّي لم أتل هذه الآيات قط. خرَّجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبري في "الراض" له، وقال: خرج الترمذي معناه   "وعن سالم بن عبد الأشجعي" الصحابي, من أهل الصُّفَّة, نزل الكوفة، روى له أصحاب السنن حديثين بإسناد صحيح في العطاس, وله رواية عن عمر، هي أنه "قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب، فأخذ بقائم سيفه" من إضافة الصفة للموصوف، أي: شهر سيفه "وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال" سالم: "فقال الناس: يا سالم, أطلب صاحب رسول الله" يعنون: أبا بكر "قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبي بكر، فلمَّا رأيته أجهشت" بجيم وهاء ومعجمة- أي: فزعت إليه "بالبكاء" كالصبي يفزع إلى أمه, "فقال: يا سالم, أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال" سالم: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهومسجى" يجيم بوزن مغطَّى ومعناه "فرفع" كشف وأزال البرد عن وجهه, ووضع فاهه على فيه, واستنشى "أي: شمَّ الريح, أي: ريح الموت, فعلم أنه مات, "ثم سجَّاه: غطاه بالبرد والتفت إلينا بعد خروجه من عنده فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وتلا "الآية" كلها "وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} , يا أيها الناس, من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأنِّي لم أتل هذه الآيات" بناءً على أن الجمع ما فوق الواحد "قط. خرَّجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبري في الرياض، له وقال: خرَّج الترمذي معناه بتمامه". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 بتمامه. واستنشى الريح: شمها، أي: شمَّ ريح الموت. وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجَّيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبًا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما, وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وفي حديث ابن عباس عند البخاري: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا   وأخرجه يونس بن بكير في زيادات المغازي "واستنشى الريح: شمها، أي: شمَّ ريح الموت" فعرف أنه مات -عليه الصلاة والسلام, "وعند أحمد عن عائشة، قالت: سجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبًا" نصب بنزع الخافض, "فجاء عمر" بن الخطاب "والمغيرة بن شعبة, فاستأذنا" في الدخول, "فأذنت لهما, وجذبت" سحبت "الحجاب، فنظر عمر إليه، فقال" متعجبًا: "واغشياه", ظنَّ أنه أغمي عليه إغماء شديدًا بدون موت, "ثم قاما", فلما دنوا من الباب, "فقال المغيرة: يا عمر مات" أخبره بذلك تحسرًا وتأسفًا لا أنه استفهام بحذف الأداة؛ لقوله: "قال" عمر: "كذبت"؛ إذ لو كان استفهامًا لم يسغ له تكذيبه, "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفني الله المنافقين". قال المصنف: هذا قاله عمر بناءً على ظنه؛ حيث أدَّاه اجتهاده إليه، وفي سيرة ابن إسحاق عن ابن عباس أن عمر قال له: إن الحاصل له على هذه المقالة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ} [البقرة: 143] ، فظنَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- يبقى في أمته حتى يشهد عليها, "ثم جاء أبو بكر" من النسخ, "فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال: إنا لله" ملكًا وعبيدًا يفعل بنا ما يشاء, "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجازينا, "مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وروى ابن إسحاق وعبد الرزاق والطبراني أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، قال: لا. قال: فإنه قد مات، ولم يمت حتى حارب وسالم، ونكح وطلق, وترككم على محجَّة واضحة, وهذا من موافقات العباس للصديق. "وفي حديث ابن عباس عند البخاري" هنا وقبله في الجنائز: "إنَّ أبا بكر خرج" من عند النبي -صلى الله عليه وسلم "وعمر بن الخطاب يكلم الناس" يقول لهم: لم يمت -صلى الله عليه وسلم, "فقال أبو بكر" له: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 عمر، فقال أبو بكر: أمَّا بعد, من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله -عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} قال: والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر, فتلقَّاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة, أنَّ أبا بكر مَرَّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات: ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْد} ثم أتى أبو بكر المنبر. الحديث.   اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس" لما حصل له من الدهشة والحزن، "فأقبل الناس إليه، وللكشميهني: عليه, "وتركوا عمر", وفي الجنائز: فأبى عمر، فتشهد أبو بكر، فمال إليه الناس وتركوا عمر, "فقال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَت} مضت {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} . زاد في رواية البخاري: إلى قوله الشاكرين, "قال" ابن عباس: "والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها". قال الكرماني: فإن قلت: ليس فيها أنه -صلى الله عليه وسلم- قد مات، وأجاب بأنَّ أبا بكر تلاها لأجل أنه -صلى الله عليه وسلم- قد مات، قال الحافظ: ورواية ابن السكن قد أوضحت المراد. فإنه زاد لفظ علمت. "وفي حديث ابن عمر" عبد الله "عند ابن أبي شيبة أن أبا بكر مَرَّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، قال" ابن عمر: "وكانوا أظهروا الاستبشار" الفرح، وأسقط عقب هذا لفظ: وفرحوا بموته, "ورفعوا رءوسهم فقال" أبو بكر لعمر: "أيها الرجل, إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فأخبر بأنه سيموت, فكيف تنكره، "وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أفإن مت, "ثم أتى أبو بكر المنبر ..... الحديث" تمامه: فصعد عليه, فحمد الله وأثنى عليه، فذكر خطبته: أما بعد ... إلخ. وفي البخاري أن عمر قال: والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها، أي: آية آل عمران، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي, وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمت أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 قال القرطبي أبو عبد الله المفسّر: وفي هذا أدلّ دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدّها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، واضطرب الأمر, فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التي قالها. كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب "الإنابة", عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر -رضي الله عنه- في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, واستوى على منبره -صلى الله عليه وسلم، تشهَّد ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة, وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله، ولا في عهد عهده إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولكني كنت أرجو أن   النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات. "قال القرطبي -أبو عبد الله" محمد "المفسر" أي: مؤلف التفسير, وهو تلميذ القرطبي صاحب المفهم على مسلم, "وفي هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم, فظهر عنده شجاعته وعلمه, قال الناس" أي: أكثرهم: "لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية" وفي نسخة: فكشف، أي: عن الناس اضطرابهم، ففيه وة جأشه وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العبَّاس -كما مَرَّ- والمغيرة، كما رواه ابن سعد وابن أم مكتوم, كما في مغازي أبي الأسود عن عروة، قال: إن ابن أم مكتوم كان يتلو {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقل عددًا في الاجتهاد قد يصيب ويخطيء الأكثر، فلا يتعيّن الترجيح بالأكثر، ولا سيما إن ظهر أنّ بعضهم قلد بعضًا. قاله الحافظ: "فرجع عمر عن مقالته التي قالها، كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب الإنابة عن أنس بن مالك, أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر" على الخلافة "في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, واستوى على منبره: تشهّد عمر". أخرجه ابن إسحاق في السيرة بنحوه، قال: حدثني الزهري قال: حدثني أنس قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة، وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل, "ثم قال" عمر: "أما بعد, فإني قلت لكم أمس مقالة, وأنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله" صريحًا، وإنما كنت استنبطها من قوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فظننت أنه يبقى في أمته حتى يشهد على آخر أعمالها -كما عند ابن إسحاق، عنه: "ولا في عهد عهده إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 أي: يكون آخرنا موتًا، أو كما قال, فاختار الله -عز وجل- لرسوله الذي عنده على الذي عندكم, وهذا الكتاب الذي هدى به رسوله, فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قال أبو نصر: المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت, ولن يموت حتى يقطع أيد وأرجل, وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه, وخشي الفتنة وظهور المنافقين, فلما شاهد عمر قوة يقين الصديق الأكبر, وتفوهه بقول الله -عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. انتهى. وقال ابن المنير: لما مات -صلى الله عليه وسلم- طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان   قال: ذلك دعا لتوهمهم أنه قال ذلك, فيستمر الاضطراب, "ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يدبرنا" بضم التحتية وسكون الدال وفتح الموحدة "أي: يكون آخرنا موتًا، أو كما قال" شك الراوي, "فاختار الله -عز وجل- لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب" القرآن "الذي هدى الله به رسوله، فخدوا به" اعملوا بما فيه, "تهتدوا لما هدي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فتكونوا ورثته، وفي آخر هذا الخبر عند ابن إسحاق: فبايع الناس أبا بكر البيعة العامَّة بعد بيعة السقيفة، ثم تكلّم أبو بكر ..... الحديث. "قال أبو نصر:" المذكور "المقالة التي قالها عمر ثم رجع عنا هي "قوله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت, ولن يموت حتى يقطع أيدي الرجل" رجال، يعني: المنافقين, "وكان قوله: "ذلك لعظيم ما ورد عليه, وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد عمر قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه", نطقه بقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنَّها لم تنزل قط إلّا ذلك اليوم. انتهى". وجواب: فلمَّا شاهد محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: رجع عن مقالته, "وقال ابن المنير" في معراجه: "لما مات -صلى الله عليه وسلم- طاشت" ذهبت العقول, أي: كادت تذهب؛ إذ لم تذهب بالفعل, "فمنهم من خبل" أي: قارب الخبل, أو حصلت له حالة تشبه الخبل، قال في القاموس: خبله الحزن جننه وأفسد عقله, "ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس" منع النطق, "فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى" مرض "وكان عمر ممن خبل, أي: كاد لأنه لم يخبل بالفعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس, يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلامًا، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكًا، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدًا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه، جاء وعيناه تهملان, وزفراته تتردد, وغصصه تتصاعد وترتفع، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكبَّ عليه, وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حيًّا وميتًا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنَّ موتك كان اختيارًا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك. ووقع في حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري: إنَّ أبا بكر قَبَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما مات، كما قدمنا، وكذا وقع في رواية غيره. وفي رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قَبَّل رأسه، فحدر   وكان عثمان ممن أخرس, يذهب به ويجيء ولا يستطيع كلامًا، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكًا" بزنة سحاب، أي: حركة كما في القاموس, "وأضنى عبد الله بن أنيس، فمات كمدًا" بفتح الكاف والميم- حزنًا, "وكان أثبتهم أبو بكر جاء وعيناه تهملان" بضم الميم, "وزفراته" بزاي ففاء فراء- أنفاسه "تتردد" مرة بعد مرة, "وغصصه" جمع غصة كغرف وغرفة, شجاه "تتصاعد وترتفع" عطف تفسير فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأكبَّ عليه وكشف الثوب عن وجهه، وقال: طبت حيًّا وميتًا وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك", وهو النبوة والرسالة؛ لأنك آخر الأنبياء "فعظمت عن الصفة" النعت، أي: إن كل صفة تقصر عنك, "وجللت عن البكاء"؛ لأنه لا يوازيك "ولو أن موتك كان اختيارًا" أي: لو خُيِّرنا فيه وفي فدائك "لجدنا لموتك بالنفوس، أذكرنا يا محمد عند ربك" تعالى "ولنكن من بالك". "ووقع في حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري أن أبا بكر قَبَّلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما مات" قال الحافظ: ففيه كتقبيله لعثمان بن مظعون بعد موته, جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا, "كما قدمناه مطولًا" عنهما. وقد رواه البخاري مختصرًا تلو المطول، بلفظ: عن عائشة وابن عباس، أنَّ أبا بكر قَبَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته, "وكذا في رواية غيره" أي: البخاري, "وفي رواية يزيد" بتحتية وزاي "ابن بابنوس" بموحدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة فواو ساكنة فسين مهملة، البصري، مقبول الرواية، خرَّج له أبو داود والنسائي, "عنها" أي: عائشة, "عند أحمد، أنه" أي: أبا بكر "أتاه" صلى الله عليه وسلم "من قِبَلِ رأسه، فحدر" بمهملتين أبو بكر "فاه" أي: حطّ فم نفسه من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 فاه وقَبَّل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته وقال: واخليلاه. وعند ابن ابي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقبّله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا. وعن عائشة: إنَّ أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدي كما ذكر الطبري, قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدَّم مما تضمَّن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتًا به صوته، ثم التفت إليهم, وقال لهم ما قال. وأخرج البيهقي وأبو نعيم من طريق الواقدي عن شيوخه: إنهم شَكُّوا في موته -صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه -صلى الله عليه وسلم- فقالت: قد توفي، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان   علوّ أي: قيام, "فقَبَّل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه" أي: رأس نفسه "فحدر فاه" ثانيًا: "وقَبَّل جبهته، ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته" ثالثًا, "وقال: واخليلاه". وعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر" عبد الله: "فوضع أبو بكر "فاه على جبين" هو بمعنى جبهة "رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجعل يقبّله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا" فيه جواز التفدية بهما، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها ولا تقصد معناها الحقيقي؛ إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصور. قاله الحافظ: "وعن عائشة أنَّ أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه" أي: المصطفى, "ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه". "أخرجه" الحسن "بن عرفة" بن يزيد العبدي, أبو علي البغدادي الصدوق، مات سنة سبع وخمسين ومائتين, وقد جاوز المائة "كما ذكره الطبري" في الرياض, "قال: ولا تضاد" لا تخلف "بين هذا على تقدير صحته, وبين ما تقدَّم مما تضمَّن ثباته بأن "أي: بسبب أن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتًا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال". وأخرج البيهقي وأبونعيم من طريق الواقدي" محمد بن عمر بن واقد, الأسمى عن شيوخه، أنهم شكُّوا في موته -صلى الله عليه وسلم, قال بعضهم: قد مات, وقال بعضهم: لم يمت, فوضعت أسماء بنت عميس" وكانت زوج الصديق يومئذ، وهي أم ابنه محمد وجدّة القاسم, "يدها بين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 هذا هو الذي قد عرف به موته، وأخرجه ابن سعد عن الواقدي أيضًا. ولما توفي -عليه الصلاة والسلام- قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه مَنْ إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: وقد قيل: الصواب: إلى جبريل ننعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، قال: والأوّل متوجّه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن. وزاد الطبراني: يا أبتاه, مِنْ ربه ما أدناه.   كتفيه، فقالت: قد توفي، قد رفع الخاتم من بين كتفيه " وأراد أنَّ النبوة والرسالة باقيتان بعد الموت حقيقة كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته, فلم رفع ما هو علامة، وأجيب بأنه لما وضع لحكمة وهي تمام الحفظ والعصمة، وقد تَمَّ الأمر بالموت, فلم يبق لبقائه في الجسد فائدة, "فكان هذا هو الذي عرف به موته" أي: إنه من جملة ما عرف به، وإلّا قد عرفه الصديق بشمّ ريح الموت من فمه، وبغير ذلك كما مَرَّ، أو المراد الذي عرف به للنساء. "وأخرجه ابن سعد" محمد "عن" شيخه "الواقدي أيضًا" قال: حدَّثنا القاسم بن إسحاق عن أمه عن ابنها القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن أم معاوية, أنه لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره. والواقدي متروك، وذكر مغلطاي في الزهد: إن الحاكم روى في تاريخه عن عائشة أنها لمست الخاتم حين توفي -صلى الله عليه وسلم- فوجدته قد رفع, قال الشامي: ولا أخًا له صحيحًا, "ولما توفي -عليه الصلاة والسلام- قالت فاطمة: يا أبتاه" أصله يا أبي، والفوقية بدل من التحتية، والألف للندبة والهاء للسكت, "أجاب ربًّا دعاه" إلى حضرته القدسية, "يا أبتاه, مَنْ جنة الفردوس" بفتح ميم من مبتدأ والخبر قوله: "مأواه" منزله، وحكى الطيبي عن نسخة من المصابيح: كسر الميم على نها حرف جر، قال: والأولى أَوْلَى. انتهى. وعلى الثاني: فمن للتبعيض، أي: بعض جنة الفردوس, خبر لقوله: مأواه, "يا أبتاه مَنْ إلى جبريل ننعاه -بفتح النون الأولى وسكون الثانية- وإلى جاره. "رواه البخاري" عن أنس من أفراده, "قال الحافظ ابن حجر: قد قيل: الصواب إلي" بشد ياء المتكلم "جبريل" بالرفع فاعل, "نعاه" أخبر بموته, جزم بذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، قال" الحافظ: "والأول متوجّه" أي: له وجه, هو أنه لا يلزم أن الإخبار بالموت إنما يكون لغير العالم به, بلقد يذكر للعالم به تأسفًا على ما فقده من خصاله المحمودة, وتذكيرًا لما بينهما من المحبة والوصلة, "فلا معنى لتغليط الرواة بالظنّ، وزاد الطبراني" والإسماعيلي: "يا أبتاه, مِنْ ربه ما أدناه" ما أقربه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 وقد عاشت فاطمة -رضي الله عنها- بعده -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر, فما ضحكت تلك المدة وحُقَّ لها ذلك. على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويًا وأخرج أبو نعيم عن علي قال: لما قُبِضَ -صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق نبيًّا لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وامحمداه. الحديث. كل المصائب تهون عند هذه المصيبة وفي سنن ابن ماجه: إنه -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه: "أيها الناس، إن أحدًا من الناس، أو من المؤمنين, أصيب بمصيبة فليعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي". وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله، اتق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة. ويعجبني قول   قال الحافظ: يؤخذ منه أنَّ تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفًا بها أنه لا يمنع ذكره بها بعد موته, بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرًا, وهو في الباطن بخلافه, أولًا: يتحقق اتصافه بها فتدخل في المنع, "وقد عاشت فاطمة بعده -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة وحُقَّ لها" بضم الحاء "ذلك" أي: عدم الضحك، وأنشد بيتًا لغيره. على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا أي: على هجرها له مصرًّا, جاز ما به "وأخرج أبو نعيم عن علي قال: لما قبض -صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق نبيًّا, لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وا محمداه .... الحديث. كل المصائب تهون" تسهل "عند هذه المصيبة؛ " إذ لا يساويها شيء, "وفي سنن ابن ماجه" عن عائشة "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه" الذي توفي فيه: "أيها الناس, إن أحدًا" وفي رواية: "إيما أحد من الناس أو من المؤمنين" شك الراوي, "أصيب بمصيبة فليتعزّ" يتصبر "بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي" أي: مصيبته بي, "وقال أبو الجوزاء" بجيم وزاي- أوس بن عبد الله الربعي -بفتح الموحدة- البصري، التابعي الثقة. "كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته المصيبة جاءه أخوه" في الإسلام "فصافحه، ويقول: يا عبد الله اتق الله" واصبر على ما أصابك, "فإن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 القائل: اصبر لكل مصيبة وتجلّد ... واعلم بأن المرء غير مخلّد واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد وإذا أتتك مصيبة تشجَّى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد ويرحم القائل: تذكرت لما فرّق الدهر بيننا ... فعزَّيت نفسي بالنبي محمد وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد كادت الجمادات تتصدّع من ألم مفارقته -صلى الله عليه وسلم, فكيف بقلوب المؤمنين؟ ولما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حَنَّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه. وروي أن بلالًا لما كان يؤذن بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ارتجَّ المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دُفِنَ ترك بلال الأذان.   ويعجبني قول القائل: اصبر لكل مصيبة وتجلّد ... واعلم بأن المرء غير مخلّد واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد وإذا أتتك مصيبة تشجّى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد تشجّى بفتح التاء وسكون المعجمة- تحزن بها "ويرحم الله القائل". تذكرت لما فرَّق الدهر بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد "كادت" قاربت: "الجمادات تتصدع" تنشق "من ألم مفارقته -صلى الله عليه وسلم" مستأنف لقصد الإخبار بالجزع عليه لكل موجود حتى لغير الحيوانات, "فكيف بقلوب المؤمنين، ولما فقده الجذع" واحد جذوع- النخل "الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه وصاح" صوت حتى نزل إليه والتزمه ومرَّت قصته, "كان الحسن" البصري "إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه" لأنكم عقلاء. "وروي أن بلالًَا لما كان يؤذّن بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم, وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله, ارتجَّ" بشد الجيم "المسجد", أي: أهله، أي: تحركوا واضطربوا "بالبكاء والنحيب، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب, خصوصًا من كان رؤيته حياة الألباب. لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد قد حمَّلوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد وقد كانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين بلا خلاف، وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتدّ الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء. فعند ابن سعد في الطبقات، عن علي: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين، ودُفِنَ يوم الثلاثاء، وعنده أيضًا عن عكرمة: توفي يوم الإثنين، فحُبِسَ بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضًا: عن عثمان بن محمد الأخنسي: توفي يوم الإثنين حين زاغت الشمس, ودفن يوم الأربعاء، وروي أيضًا عن أبيّ بن   فلمَّا دُفِنَ ترك بلال الأذان. ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب, خصوصًا من كانت رؤيته حياة الألباب: العقول، وأنشد: لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد رضوى -بفتح الراء- جبل بالمدينة, ويميد: يتحرك "وقد كانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين بلا خلاف, وقت دخوله المدينة في هجرته, حين اشتدَّ الضحاء" بالفتح والمد قرب الزوال, "ودفن يوم الثلاثاء، وقيل:" دفن "ليلة الأربعاء", فعند ابن سعد في الطبقات عن علي قال: "توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين", وهذا مروي في الصحيح عن عائشة وأنس, "ودفن يوم الثلاثاء". وكان رواه ابن سعد عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن, وزعم ابن كثير أنه قول غريب, وعنه أي: ابن سعد "أيضًا عن عكرمة" أنه -صلى الله عليه وسلم- توفي يوم الإثنين فحُبِسَ" أي: منع من الدفن بقية يومه وليلته "التالية له, "ومن الغد" أي: يوم الثلاثاء, حتى دفن من الليل أي: ليلة الأربعاء وزعم ابن كثير أن هذا قول الجمهور, "وعنده" أي: ابن سعد أيضًا عن عثمان بن محمد" بن المغيرة بن الأخنس "الأخنسي" بخاء معجمة ونون ومهملة- نسبة إلى جده المذكور, الثقفي الحجازي، صدوق, له أوهام. روى له الأربعة, "توفي يوم الإثنين حين زاغت:" مالت "الشمس، ودفن يوم الأربعاء" ويأتي مثله عن سهل بن سعد، فحاصل الخلاف هل دفن يوم الثلاثاء أو ليلة الأربعاء أو يوم الأربعاء، ويمكن الجمع على تقدير صحة الكل بالتجوّز في دفن يوم الثلاثاء على أنَّ معناه شرع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفي يوم الإثنين، فمكث بقية يوم الإثنين والثلاثاء حتى دُفِنَ يوم الأربعاء. وعنده أيضًا, عن صالح بن كيسان, عن ابن شهاب: توفي يوم الإثنين حين زاغت الشمس. ورثته عمَّته صفية بمراثي كثيرة منها قولها: ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برًّا ولم تك جافيا وكنت رحيمًا هاديًا ومعلمًا ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا لعمرك ما أبكي النبي لفقده ... ولكن لما أخشى من الهجر آتيا كأن على قلبي لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبي المكاويا أفاطم صلى الله رب محمد ...   في دفنه في يوم ثم تأخر لاختلافهما في المحل الذي يدفن فيه وهل يجعل له لحد أو شق، وطول الزمن بصلاتهم عليه فوجا بعد فوج حتى دفن ليلة الأربعاء، وبالتجوز في قوله: يوم الأربعاء على أن معناه في الليلة التي صبيحتها يوم الأربعاء والعلم لله. "وروي" ابن سعد "أيضا عن أبي" بضم الهمزة وموحدة وتحتية ثقيلة "ابن عباس بن "سهل" بن سعد الأنصاري، الساعدي فيه ضعف ماله في البخاري غيرحديث واحد تقدم في الحيل النبوية وروى له الترمذي وابن ماجه "عن أبيه عباس الثقة. روى له الشيخان وغيرهما "عن جده" الصحابي المشهور، قال: "توفي" صلى الله عليه وسلم "يوم الاثنين، فمكث يوم الانين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء وعنده" أي: ابن سعد "أيضا عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب، قال: توفي يوم الاثنين حين زاغت" بمعجمتين، أي مالت "الشمس" للزوال "ورثته عمته صفية بمراثي كثيرة، منها قولها:" لكن هذا إنما نسبه ابن سعد وغيره لأختها أروي بنت عبد المطلب: "ألا يا رسول الله كنت رجاءنا" بالمد "وكنت بنا برا" محسنا رفيقا "ولم تك جافيا" معرضا عنا، أو طاردا لنا "وكنت رحيما" بالخلق "هاديا ومعلما" لهم "لبيك عليك اليوم من كان باكيا" فلا لوم عليه "لعمرك" حياتك "ما أبكى النبي لفقده" أي: لمجرده "ولكنني لما أخشى من الهجر آتيا" مفعول أخشى قدم عليه متعلقة "كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت" عطف على ذكر، أي ولما خفته من بعد النبي" من الذل والاختلاف وتغير الأحوال "المكاويا:" اسم كان مؤخر جمع مكواه وهي الحديدة التي يحرق بها الجلد ونحوه. والمعنى: كأن على قلبي نيرانا من أثر المكاوي التي أحرقته لذكر محمد، وفي نسخة: المقاليا "أفاطم" بضم الميم وفتحها على لغة من ينتظر ومن لا "صلى الله رب محمد، على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 ........................ ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا فدًى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وخالي ثم نفسي وماليا فلو أنَّ رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا أرى حسنًا أيتمته وتركته ... يبكي ويدعو جدّه اليوم نائيا ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال: أرقت فبت ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل: قد قبض الرسول وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... بروح به ويغدوا جبرئيل وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحي إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالًا ... علينا والرسول لنا دليل   جدث" بجيم ودال ومثلثة- لغة تهامة، وبها جاء القرآن: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ، ولغة نجد: جدف بالفاء بدل المثلثة، أي: قبر "أمسى بيثرب ثاويًا" مقيمًا, "فدًى" القصير "لرسول الله أمي وخالتي وعمي وخالي ثم نفسي وماليا" بألف الإطلاق "فلو أنَّ رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيًا, عليك من الله السلام تحيّة، وأدخلت جنات من العدن راضيًا أرى حسنًا" ابن فاطمة "أيتمته وتركته يبكي" بالتشديد, "ويدعو جده اليوم نائيا" بالنون، أي: حال كونه بعيدًا. "ورثاه أبو سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "فقال: أرقت" سهرت, "فبت ليلي لا يزول" لا ينقضي, "وليل أخي المصيبة فيه طول" كثير, وأسعدني: أعانني "البكاء" بالمد, "وذاك فيما أصيب المسلمون به" إلى يوم القيامة "قليل، لقد عظمت مصيبتنا وجلّت" على كل مصيبة, "عشية قيل: قد قبض الرسول وأضحت أرضنا ما عراها" أصابها, "تكاد" تقرب "بنا جوانبها تميل, فقدنا الوحي والتنزيل" يحتمل أنه عطف مساوٍ وأنه مغاير يجعل التنزيل القرآن, والوحي ما عداه, "فينا يروح به" يأتي وقت الرواح من الظهر "ويغدو" يأتي وقت الغدوة أول النهار, "جبرئيل, وذاك أحق من سالت" أي: خرجت "عليه نفوس الناس أو كادت تسيل" تحتمل, أو للإضراب والتنويع, "نبي كان يجلو الشك عنا بما يوحى إليه" على لسان الملك, "وما يقول" بالإلهام والمنام ونحوهما, وكله وحي, "ويهدينا فلا نخشى ضلالًا علينا والرسول لنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 أفاطم أن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السبيل فقير أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول ورثاه الصديق بقوله: لما رأيت نبينا متجدلًا ... ضاقت عليَّ بعرضهنَّ الدور فارتاع قلبي عند ذاك لهلكه ... والعظم مني ما حييت كسير أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... فالصبر عنك لما بقيت يسير يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيبت في جدث علي صخور فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور ورثاه الصديق أيضًا بقوله: ودعنا الوحي إذ وليت عنَّا ... فودعنا من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينًا ... تضمنه القراطيس الكرام ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه: بطيبة رسم للرسول ومعهد   دليل على الهدى والصراط المستقيم "صراط الله, "أفاطم إن جزعت" بكسر الزاي- يعني: لم تصبري "فذاك عذر" لأنها مصيبة لا تشابهها مصيبة, "وإن لم تجزعي" بفتح الزاي- أي: صبرت "ذاك السبيل" لكل مخلوق, "فقبر أبيك سيد كل قبر" بل سيد جميع الأمكنة, "وفيه سيد الناس الرسول" بل سيد الخلق كلهم. "ورثاه الصديق بقوله: لما رأيت نبينا متجدلًا" ملقيًا على الجدالة -بفتح الجيم- الأرض, "ضاقت عليّ بعرضهن" أي: سعتهنّ الدور، فارتاع" جواب لما دخلته الفاء على قلة "قلبي عند ذاك لهلكه" بضم الهاء وسكون اللام- موته, "والعظم مني ما حييت" مدة حياتي "كسير, أعتيق" ينادي نفسه؛ لأنه لقبه أو اسمه "ويحك" وقعت في ورطة لا تستحقها, إن حبك -بكسر الحاء- محبوبك "قد توى" بفوقية بزنة حصى، أي: هلك, "فالصبر عنك لما بقيت يسير" أي: قلّ صبرك لموت محبوك, "يا نفسي" ليتني من قبل مهلك" أي: موت "صاحبي غيبت في جدث، قبر علي صخورٍ فلتحدثنّ" بنون التوكيد الثقيلة, "بدائع" جمع بدعة, اسم من الابتداع، كالرفعة من الارتفاع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة "من بعده تعيا بهنّ جوانح", الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر "وصدور، ورثاه الصديق أيضًا بقوله: ودعنا الوحي؛ إذ وليت عنّا فودعنا" بالتشديد "من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينًا، تضمنه القراطيس: جمع قرطاس -بكسر القاف- أشهر من فتحها ما يكتب فيه "الكرام، ولقد أحسن حسان بقوله: يرثيه بطيبة رسم" أثر "للرسول ومعهد" بفتح الهاء- منزل, معهود به الهدى والنور الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 ........................... ... مبين وقد تعفوا الرسوم وتهمد ولا تنمحي الآيات من دار حرمه ... بها منبر الهادي الذي كان يصعد وأوضح آيات وباقي معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البِلى فالآي منها تجدد عرفت بها رسول الرسول وعهده ... وقبرًا بها واراه في الترب ملحد أطالت وقوفًا تذرف العين دمعها ... على طلل القبر الذي فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد وبورك لحد منك ضمن طيبًا ... عليه بناء من صفيح منضد تهيل عليه الترب أيد وأعين   "مبين" بَيّن ظاهر لا يمكن إنكاره ما دامت الدنيا, "وقد تعفو" تدرس الرسوم غير رسمه ومعهده, و"تهمد" بهاء قبل الميم- تبلى، قالها: مَدّ البالي من كل شيء, "ولا تنمحي" تذهب الآيات من دار حرمه بفتح فسكون للوزن، وأصله -بفتحتين- "بها منبر الهادي الذي كان يصعد" بفتح العين يرقى عليه" وبها "أوضح آيات وباقي معالم" آثار, "وربع" منزل "له فيه مصلى" مكان صلاة, "ومسجد بها حجرات، كان ينزل وسطها" بالسكون "من الله نور" القرآن والوحي, "يستضاء" به من ظلمات الجهل, "ويوقد" يقتبس منه أنوار الهدى "معارف لم تطمس" أي: لم تمح "على" بعد "العهد آيها" جمع آية، فإن "أتاها البلى" بالكسر والقصر- الفناء, "فالآي منها تجدّد" ما بلي, "عرفت بها رسم الرسول وعهده" آثاره ومنزله, "وقبرًا بها واراه في الترب ملحد" بضم الميم وكسر الحاء- من الحد، أي: جعل اللحد، وبعد هذا عند ابن هشام: ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجن تسعد تذكرن آلاء الرسول وما أرى ... لها محصيًا نفسي فنفسي تبلد مفجعة قد شقّها فقد أحمد ... فظلت لا آلاء الرسول تعدد وما بلغت من كل أمر عشيرة ... ولكن لنفسي بعد هذا توجد وبعد هذا قوله: "أطالت" أي: العيون المذكورة في قوله: فأسعدت عيون, "وقوفها تذرف -بكسر الراء- العين دمعها" الذي في ابن هشام: تذرف الدمع جهدها، وأيما كانت فأخطأ من قال: أحسن من أطلت، لأنَّ أطالت للمطايا ولم تذكر, "على طل القبر الذي فيه أحمد، فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى" أقام فيها حيًّا وميتًا, "الرشيد المسدّد" هما من أسمائه -عليه الصلاة والسلام- كما مَرَّ, "وبورك لحد منك ضمن" بشد الميم "طيبًا من أسمائه "عليه بناء من صفيح" حجارة عريضة منضد بعضه فوق بعض, "تهيل" تصب "عليه الترب" مفعول فاعله "أيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 ......................... ... تباكت وقد غارت بذلك أسعد لقد غيبوا حلمًا وعلمًا ورحمة ... عشية عالوه الثري لا يوسد وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد يبكون من تبكي السموات موته ... ومن قد بكته الأرض والناس أكمد فهل عدلت يومًا رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد   وأعين تباكت، وقد غارت بذلك أسعد" أنجم, جمع سعد، وسعود النجوم عشرة، بينها القاموس: "لقد غيبوا حلمًا وعلمًا ورحمة عشية عالوه" جعلوا عليه "الثرى" التراب, "لا يوسّد" وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم، وقد وهنت" ضعفت "منهم ظهور وأعضد" جمع عضد, "يبكون من تبكي السموات موته, ومن قد بكته الأرض والناس أكمد" أشد كمدًا وهو الحزن المكتوم, "فهل عدلت يومًا رزية هالك" مصيبة ميت, "رزية يوم مات فيه محمد" كذا ثبتت هذه الأبيات في بعض نسخ المصنف، وهي من قصيدة عند ابن هشام, من زيادته على ابن إسحاق، رواها ابن هشام عن أبي زيد الأنصاري وبقيتها عنده: تقطع فيه منزل الوحي عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد يدل على الرحمان من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد إمام لهم يهديهم الحق جاهدًا ... معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا عفوّ عن الزلَّات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا بالله بالخير أجود وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد فبينا هموا في نعمة الله بينهم ... دليل به نهج الطريقة يقصد عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا عطوف عليهم لا يثنى جناحه ... إلى كتف يحنو عليهم ويمهد فبينا همو في ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت يقصد فأصبح محمودًا إلى الله راجعًا ... تبكيه جفن المرسلات ويجمد وأمست بلاد الحرم وحشًا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد قفارًا سوى معمورة اللحد ضافها ... فقيد يبكيه بلاط وغرقد ومسجده كالموحشات لفقده ... خلاء له فيه مقام ومقعد فيا جمرة الكبرى له ثم أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد فبكى رسول الله يا عين جهرة ... ولا أعرفنّك الدهر دمعك يجمد وما لك لا تبكين ذا النعم التي ... على الناس منها سابغ يتغمد فجودي عليه بالدموع وأعولي ... لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 ورثاه حسان بقوله أيضًا: كنت السواد لناظري ... فعمي عليك الناظر من شاء يعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ولما تحقَّق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- موته -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلمَّا كثروا اتخذت منبرًا لتسمعهم، فحنَّ الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه سكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من   وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد أعفّ وأوفى ذمة بعد ذمة ... وأقرب منه نائلًا لا ينكد وأبذل منه للطريف وتالد ... إذا ضنَّ ذو مال بما كان يتلد وأكرم بيتًا في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدًّا أبطحيًّا يسود وامنع ذروات وأثبت في العلا ... دعائم عز شامخات تشيد وأثبت فرعًا في الفروع ومنبت ... وعودًا كعود المزن فالعود أغيد رباه وليدًا فاستتم تمامه ... على أكرم الخيرات رب ممجد تناهت وصاة المسلمين بكفّه ... فلا العلم محبور ولا الرأي يفند أقول ولا يلقي لقولي عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبغد وليس هواي نازعًا عن ثنائه ... لعلي به في جنة الخلد أخلد مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد ورثاه حسان أيضًا بقوله: كنت السواد لناظري ... فعمي عليك الناظر من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر "لا يرد على هذا كله ما رواه ابن ماجه وصحَّحه الحاكم عن ابن أبي أوفى أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المراثي؛ لأنَّ المراد مراثي الجاهلية، وهي ندبهم الميت بما ليس فيه نحو: واكهفاه واجبلاه لا مطلقًا، فقد رثى حسان حمزة وجعفرًا وغيرهما في زمنه -صلى الله عليه وسلم- ولم ينهه, "ولما تحقق عمر بن الخطاب موته -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر الصديق: ورجع إلى قوله: قال: وهو يبكي بأبي أنت وأمي" أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بأبوي, فضلًا عن المال وغيره "يا رسول الله لقد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أنَّ أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} . الخبر ذكره أبو العباس القصَّار في شرحه لبردة الأبو صيري، ونقله عن الرشاطي في كتابه: "اقتباس الأنوار والتماس الأزهار", وذكره ابن الحاجّ في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في "الشفاء", لكنه ذكره بعضه، ويقع في كثير من نسخ الشفاء: روي عن عمر بن الخطاب   كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلمَّا كثروا اتخذت منبرًا لتسمعهم, فحَنَّ الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه سكن" أي: سكت وترك الحنين "فأمتك أَوْلَى, "أحق بالحنين" التألّم عليك حين فارقتهم" قال المجد: الحنين الشوق وشدة البكاء والطرب, أو هو صوت الطرب عن حزن أو فرح, "بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} مَرَّ شرحه "بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عنده أن" مخففة من الثقيلة، أي: إنه "بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم" أي: قدَّم ذكرك على ذكرهم فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] فبدأ به بقوله: ومنك, "بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار" من أمة الدعوة "يودون" يتمنون "أن يكونوا أطاعوك وهم" أي: والحال أنهم "بين أطباقها" جمع طبق, وهي المنزلة والمرتبة واحدًا بعد واحد, وما تراكم بعضه على بعض, "يعذّبون" بيان لما أورثهم دخولها وذكره لكشف حالهم، ولو حذف تَمَّ المعنى بدونه, "يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} , وقيل: المراد بأهل النار جميع أهلها على معنى أنهم تمنَّوا أن يكونوا من مطيعيه لرؤيتهم حسن حال أمته الذين أطاعوه، فتمنّوا أنهم أدركوا زمانه وأطاعوه، ففيه فضله على سائر الأنبياء، وإلّا فكل طائفة جهنمية تودّ لو كانت أطاعت رسولها .... "الخبر ذكره أبو العباس القصّار في شرحه لبردة الأبو صيري" صوابه: البوصيري -كما مَرَّ كثيرًا؛ لأنه نسبة إلى بوصير. "ونقله عن الرشاطي" بضم الراء، "في كتابه: اقتباس الأنوار والتماس الأزهار، وذكره ابن الحاج في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في الشفاء، لكنه ذكر بعضه، ويقع في كثير من نسخ الشفاء". "روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال في كلام بكى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بتشديد الكاف - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 رضي الله عنه- أنه قال في كلام بكَّى به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم -بتشديد الكاف من بَكَى، والصواب فيها التخفيف؛ لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر بعد موته -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، ونبهت عليه في حاشية الشفاء", والله أعلم. ويؤيد هذا قوله في الخبر نفسه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد اتبعك في عصر عمرك ما لم يتبع نوحًا في كبر سنة وطول عمره, فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. وأخرج ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي قال: بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليل،   من بكى، والصواب فيها التخفيف؛ لأن هذا الكلام إنما سُمِعَ من عمر بعد موته -صلى الله عليه وسلم- كما تقدَّم، ونبَّهت عليه في حاشية الشفاء, وأجاب بعض شراحها بأن التشديد يصحّ بحذف المفعول، أي: بكَّى به الناس النبيُّ، أي: صيّرهم باكين عليه، أو بكى نفسه كذلك، وهذا خير من دعوى الخطأ "والله أعلم". "ويؤيد هذا قوله في الخبر نفسه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد اتبعك في" أي مع "عصر عمرك" مدة النبوة ثلاث وعشرون سنة, آمن فيها أزيد من مائة وعشرين ألفًا, "ما لم يتبع نوحًا في كِبَر سنِّه وطول عمره", فلقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وما آمن معه إلا قليل، قيل: ستة رجال ونساؤهم، وقيل: تسعة وسبعون؛ زوجته المسلمة وبنوه حام وسام ويافث ونساؤهم, واثنان وسبعون من غيرهم, نصفهم رجال ونصفهم نساء, ونوح, فجملة من كان في السفينة ثمانون. "وأرج ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي" الشاعر المشهور، اسمه: خويلد بن خالد، ويقال: خالد بن خويلد, كان فصيحًا كثير الغريب متمكنًا في الشعر، وعاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام فأسلم، وعامة شعره في إسلامه, وحضر سقيفة بني ساعدة, وسمع خطبة أبي بكر, ورثى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة منها: كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح ثم انصرف إلى باديته، فأقام حتى توفي في خلافة عثمان بطريق مكة، قاله ابن منده، وقال غيره: مات بطريق إفريقية وكان غزاها، ورافق ابن الزبير لما توجَّه مبشرًا بالفتح، فدفنه ابن الزبير بيده، وقيل: مات غازيًا بأرض الروم، وقيل: بإفريقية، وقيل: في طريق مصر. وعند ابن البرقي أن أبا ذؤيب جاء إلى عمر في خلافته، فقال: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: قد فعلت, فأي العمل بعده أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: كان ذلك علي وأنا لا أرجو جنة ولا أخشى نارًا، فتوجَّه من فوره غازيًا هو وابنه وابن أخيه أبو عبيد حتى أدركه الموت في بلاد الروم والجيش سائرون، فقال لابنه: إنكما لا تتركان علي جميعًا فاقترعا، فصارت القرعة لأبي عبيد، فأقام عليه حتى واراه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 فأوجس أهل الحي خيفةً على النبي -صلى الله عليه وسلم، وبت بليلة طويلة حتى إذا كان قرب السحر نمت, فهتف بي هاتف في منامي وهو يقول: خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام فوثبت من نومي فزعًا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح, فعلمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ!! أو هو ميت، فقَدِمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا للإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ومن عجيب ما اتفق ما روي: أنهم لما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا ندري، أنجَرِّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نجرِّد موتانا, أم نغسله وعليه ثيابه، فلمَّا اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلّا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: اغسلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فقاموا وغسَّلوه عليه قميصه، يضعون الماء.   "قال: بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليل" مريض, "فأوجس" أضمر "أهل الحي خيفة" خوفًا "على النبي -صلى الله عليه وسلم، وبِتّ بليلة طويلة حتى إذا كان قرب السحر" آخر الليل "نمت، فهتف بي هاتف في منامي وهو يقول" خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالنسجام خطب، أي: أمر شديد عظيم, والنِّسجام سيلان الدمع المنسجم القوي, وهو بفتح التاء ككل ما وزنه تفعال إلا التلقاء والتسباب, "فوثبت من نومي فزعًا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلّا سعد الذابح" اسم نجم, فتفاءلت به ذبحًا يقع في العرب كما في الرواية, "فعلمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ، أو هو ميت" أي: قريب الموت, "فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج" بضاد معجمة وجيمين- صياح, "بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا للإحرام، فقلت: مه" استفهام, والهاء للسكت، أي: ما هذا؟ "فقيل: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومن عجيب ما اتفق ما روي: إنهم لما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا ندري" ما نفعل "أنجرِّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نجرِّد موتانا, أم نغسِّله وعليه ثيابه، فلمَّا اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلّا وذقنه" بفتح الذال والقاف- مجتمع لحييه, جمع القلة أذقان كسبان وأسباب، والكثرة ذقون؛ كأسد وأسود كما في المصباح, "في صدره، ثم كلّمهم مكلم من ناحية" جانب "البيت, لا يدرون من هو: اغسلوا النبي -صلى الله عليه وسلم وعليه- ثيابه، فقاموا" انتبهوا من النوم, "فغسَّلوه وعليه قميصه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 فوق القميص ويدلكونه بالقميص. رواه البيهقي في دلائل النبوة. وروى ابن ماجه بسند جيد عن علي يرفعه: "إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس". قال في النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملة. وقد روى ابن النجار: إنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "رأيت الليلة أنِّي على بئر من الجنة" فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها. وغسل -صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات؛ الأولى: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء والكافور، وغسَّله علي والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه -صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر؛ لحديث علي: "لا يغسلني إلّا أنت فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طُمِسَت عيناه". رواه البزار   يضعون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص. رواه البيهقي في دلائل النبوة", وأصله في أبي داود عن عائشة, وابن ماجه عن بريدة "وروى ابن ماجه بسند جيد" أي: مقبول "عن علي يرفعه: "إذا أنا مِتُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري" أضافها إليه؛ لأنه كان يشرب منها وبزق فيها "بئر غرس. "قال في النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملة", بئر بقباء, "وقد روى ابن النجار أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "رأيت الليلة أني على بئر من الجنة" فأصبح" أي: جاء صبيحة الرؤيا "على بئر غرس، فتوضأ منها وبزق فيها"؛ ليحصل فيها بركته, "وغسل" بالتخفيف وتشدد للمبالغة "-صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات؛ الأولى: بالماء القَراح" بفتح القاف- خالص لم يخالطه كافور ولا حنوط ولا غير ذلك, والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء والكافور" طيب معروف يكون من شجر ببلاد الهند والصين، يظلّ خلقًا كثيرًا وتألفه النمور, وخشبه أبيض هشّ, ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع, ولونه أحمر, وإنما يبيض بالتصعيد، قاله القاموس. "وغسله علي والعباس" مبتدأ, "وابنه الفضل" عطف عليه والخبر "يعينانه" في تقليب جسمه الشريف, "وقثم" بضم القاف ومثلثة مفتوحة ابن العباس, "وأسامة" بن زيد "وشقران" بضم المعجمة "مولاه -صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة" أي: مربوطة بعصابة, "من وراء الستر" حتى لا ينظرون جسده الشريف وهو يغسل, خِيفَة أن يبدو ما لم يؤذن في النظر إليه، وضمير أعينهم للعبّاس ومن بعده لا لعلي, فإنه لم يعصب عينيه "لحديث علي" أوصاني النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يغسلني إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتي إلّا طمست عيناه" بفتح الطاء والميم- زال ضوؤها وصورتها, وهو تعليل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 وأخرج البيهقي عن الشعبي قال: غسل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم, فكان يقول وهو يغسله -صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا. أخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم عن علي قال: غسلته -صلى الله عليه وسلم, فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا، وكان طيب حيًّا وميتًا. وفي رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط. قيل: وجعل علي على يده خرقة وأدخلها تحت القميص, ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه, وجمّروه عودًا وندًا. وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع في جفون النبي -صلى الله عليه وسلم, فكان علي يحسوه، وأمَّا ما روي أن عليًّا لما غسله -صلى الله عليه وسلم- امتص   لمقدَّر هو، "فإني أخشى على غيرك أن تحين منه لفتة فتطمس عيناه، وأمَّا أنت يا علي فأعرف تحرزك عن ذلك, فلا أخشى عليك". وروي أن عليًّا نودي وهو يغسله أن ارفع طرفك نحو السماء خوفًا أن يديم النظر إليه. "رواه البزار والبيهقي, وأخرج البيهقي عن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي "قال: غسل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان يقول وهو يغسله: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا". "وأخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم عن علي قال: غسلته -صلى الله عليه وسلم, فذهبت أنظر ما يكون" يوجد "من الميت" من الفضلات الخارجة بعد الموت وعند التغسيل, "فلم أر شيئًا, وكان طيبًا حيًّا وميتًا". "وفي رواية ابن سعد: وسطعت" أي: ارتفعت "ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط، قيل: وجعل علي على يده خرقة، وأدخلها تحت القميص, ثم اعتصروا قميصه وحنّطوا" أي: جعلوا الحنوط وهو كل طيب يخلط للميت خاصة "مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه" صلى الله عليه وسلم "ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه, وجمروه" بالجيم- بخروه "عودًا وندًا" بفتح النون وتكسر- طيب معروف, أو العنبر كما في القاموس. "وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "قال: كان الماء يستنقع" أي: يجتمع بكسر القاف "في جفون النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان علي يحسوه" أي: يشربه بفمه. "وأمَّا ما روي أن عليًّا لما غسله -عليه الصلاة والسلام- امتص" أي: مص، وفي نسخة: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي: ليس بصحيح. وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض سحولية. أخرجه النسائي من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف, ليس فيها قميص ولا عمامة. وليس قوله: "من كرسف" عند الترمذي ولا ابن ماجه. وزاد مسلم: أما الحلة فإنما شُبِّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفَّن فيها، فتركت الحلة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنَّها حتى أكَفّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله -عز وجل- لنبيه لكفَّنه فيها, فباعها وتصدَّق بثمنها.   اقتلص, أي: أخذ من الاقتلاص "ماء من محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي: ليس بصحيح" وأقرَّه السخاوي وغيره. "وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفِّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض" في طبقات ابن سعد عن الشعبي: إزاء ورداء ولفافة, "سحولية" بالضم والفتح. "أخرجه النسائي من راية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة" عنها, "واتَّفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بزيادة: من كرسف" قطن, "ليس فيها قميص ولا عمامة", هذا نحو قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي: بغير عمد أصلًا أو عمد غير مرئية, وليس قوله: من كرسف عند الترمذي ولا ابن ماجه". "وزاد مسلم" في روايةٍ من طريق أبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "أمَّا الحلة" بضم المهملة وشد اللام- ضرب من برود اليمن, وهي إزار ورداء, ولا تسمَّى حلة حتى تكون ثوبين, فإنما شُبِّه -بضم المعجمة وكسر الموحدة شديدة- أي: اشتبه "على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض" جمع أبيض، وزنه في الأصل بضم الفاء، كأحمر وحمر، فأبدلت الضمة كثرة لسلم الياء من قلبها واو؛ لوقوعها بعد ضمة, "سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر" الصديق "فقال: لأحسبنها حتى أكفّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها" وهذا من عائشة يدل على أنَّ قولها: ثلاثة أثواب عن علم وإيقان لا عن تخمين وحسبان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 وفي رواية له: أدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر, ثم نزعت عنه، وذكر الحديث. وفي رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم: كفن في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنَّهم ردوه ولم يكفنوه فيه, قال الترمذي: حسن صحيح. وفي رواية البيهقي: في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد. والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووي: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفي النهاية تبعًا للهروي، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار؛ لأنه يسحلها، أي: يغسلها, أو إلى سحول وهي قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلّا من قطن، وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضًا.   "وفي رواية له" لمسلم أيضًا من طريق علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "أدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية" بشد الياء، وهذه رواية العذري لمسلم. ورواه الصدقي يمانية بالألف وخفة الياء على الأفصح؛ لأن الألف بدل من ياء النسب فلا يجتمعان "كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه" صلى الله عليه وسلم, "وذكر الحديث" بنحو ما قبله. "وفي رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم: كفّن في ثوبين وبرد" بضم الموحدة, "حبرة" بكسرة المهملة وفتح الموحدة والراء- ثوب مخطّط يؤتى به من اليمن, روي بإضافة برد وتنوينه, "فقالت: قد أتي بالبرد، ولكنّهم ردوه ولم يكفنوه فيه، وقال الترمذي:" حديث "حسن صحيح، وفي رواية البيهقي:" كفن "في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد" جمع جديد, "والسحولية -بفتح السين وضمها، قال النووي: والفتح أشهر" لغة, "وهو رواية الأكثرين" لهذا الحديث. ورواه الأقَّلون بالضم, "وفي النهاية تبعًا للهروي" في الغريبين "بالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار" للثياب "لأنه يسحلها" بزنة يمنعها, "أي: يغسلها", وأصل معناه القشر والنحت, "أو إلى سحول" بالفتح "وهي قرية باليمن، وأمَّا الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي" بالنون, ولا يكون إلّا من قطن وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضًا" فيكون نسب إليها, "والكرسف -بضم الكاف وإسكان الراء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء: القطن. وقال الترمذي: روي في كفن النبي -صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. وقال البيهقي في "الخلافيات": قال أبو عبد الله -يعني الحاكم: تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد الله بن مغفل، في تكفين النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة. وعن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن علي: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفّن في سبعة أثواب، وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده، وذكر ابن حزم أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده. وقد اختلف في معنى قوله: "ليس فيها قميص ولا عمامة". فالصحيح أن معناه: إنه ليس في الكفن قميص ولا عمامة أصلًا. والثاني: إن معناه أن كفن في ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة.   وضم السين المهملتين والفاء- القطن". "قال الترمذي: روي في كفن النبي -صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة" هذا "أصح الأحاديث في ذلك، والعلم عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم" فله مرجحان, "وقال البيهقي في الخلافيات: قال أبو عبد الله -يعني:" شيخه "الحاكم" محمد بن عبد الله: "تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغفل" بمعجمة وفاء وزن محمد- في تكفين النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل" بفتح فكسر- ابن أبي طالب, صدوق, في حديثه لين, "عن ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب، اشتهر بأمه، ثقة عالم، من رجال الجميع, "عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفّن في سبعة أثواب". "وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده، وذكر ابن حزم أن الوهم فيه من ابن عقيل" عبد الله؛ لأن في حديثه لينًا، ويقال: إنه تغيّر بأخرة, "أو مِمَّن بعده" من الرواة. "وقد اختلف في معنى قوله: ليس فيها قميص ولا عمامة، فالصحيح" عند جماعة "أنه ليس في الكفن قميص ولا عمامة أصلًا، والثاني: إن معناه أنه كفِّن في ثلاثة أثواب خارج الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر في المراد. وذكر النووي في شرح مسلم أنَّ الأول تفسير الشافعي وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كفن في قميص وعمامة. انتهى. وترتَّب على هذا اختلافهم في أنه: هل يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة, واختلفوا في زيادة القميص والعمامة أو غيرهما على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو في حق النساء آكد. قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الثلاثة: إزار وقميص ولفافة. وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية, فيجب في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.   عن القميص والعمامة", قال المصنف في شرح مسلم ورجَّح كل منهما, "وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر في المراد، وذكر النووي في شرح مسلم: إن الأول تفسير الشافعي وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث. وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كفن في قميص وعمامة. انتهى", وهو مشترك الإلزام، فلم يثبت أنه لم يكفن فيهما، والحديث يحتمل الوجهين, "وترتب على هذا الخلاف" اختلافهم في أنه: هل يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا" بعد هذا "في زيادة القميص والعمامة أو غيرهما على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز" مستوي "غير مستحب" ولا مكروه. "وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء, وهو في حق النساء آكد" أشد في الاستحباب, "قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة, وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الثلاثة إزار وقيمص ولفافة، وقد أجمع المسلمون على وجوبه" أي: الكفن, "وهو فرض كفاية, فيجب في ماله" أي: الميت, "فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته"؛ لأنه من توابع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 واختلف أصحابنا في المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأوّل الرافعي في "الشرح الصغير" والمحرر", والنووي في "المنهاج", وذهب إلى الثاني: الرافعي في "الشرح الكبير", والنووي في "الروضة" و "شرح المهذب", وقال فيه: قيّد الغزالي وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه. ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعًا، ثم إنّ الواجب ثوب واحد، وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه، بخلاف الثاني والثالث, فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما. وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على أنَّ القميص الذي غسل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه. قال النووي في شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأمَّا الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كفن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان, وقميصه الذي توفي فيه، فحديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن   الحياة. "واختلف أصحابنا في المتزوجة إذا كان لها مال, هل يجب تكفينها من مالها, أو هو على زوجها، فذهب إلى الأوّل الرافعي في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي, "والمحرر, والنووي في المنهاج, وذهب إلى الثاني" وهو المعتمد عندهم "الرافعي" في الشرح الكبير" على الوجيز, والنووي في الروضة وشرح المهذّب". "وقال فيه: قيد الغزالي وجوب الكفن على الزوج بشرط إعسار المرأة, وأنكروه عليه، وذلك لأنها متى كانت معسرة، فتكفينها على زوجها قطعًا", وإنما الخلاف إذا كانت موسرة, "ثم إن الواجب ثوب واحد" يستر جميع بدنه, "وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه, بخلاف الثاني والثالث، فإنه حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما، وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على أنَّ القميص الذي غسل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه", من قولها: كفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية. "قال النووي في شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لو أُبْقِيَ مع رطوبته" بماء الغسل "لأفسد الأكفان قال: وأما الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كفن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان, وقميصه الذي توفي فيه، فحديث الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات. وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه -صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته, ثم دخل الناس عليه -صلى الله عليه وسلم- أرسالًا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد. وفي رواية: إنَّ أول من صلى عليه -صلى الله عليه وسلم- الملائكة أفواجًا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجًا فوجًا، ثم نساؤه آخرًا. وروي أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون, فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليًّا, فقال لهم: قولوا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، لبيك اللهم ربنا وسعديك، صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين،   ضعيف لا يصلح الاحتجاج به" لضعفه؛ "لأن يزيد بن زياد أحد رواته مجمَع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات", فتكون شاذَّة لو كان ثقة. "وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه" بفتح الجيم وكسرها لغة قليلة, "صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء, وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس عليه -صلى الله عليه وسلم- أرسالًا" بفتح أوله- أي: جماعات متتابعين, "يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان, ولم يؤمّ الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد" فاعل يؤم. قال ابن كثير: هذا أمر مجمَع عليه، واختُلِف في أنه تعبد لا بعقل معناه، أو ليباشر كل واحد الصلاة عليه منه إليه، وقال السهيلي: قد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يصلي عليه، فوجب على كل أحد أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضًا فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة, انتهى. وقال الشافعي في الأم: "وذلك لعظم أمره -صلى الله عليه وسلم, وتنافسهم فيمن يتولَّى الصلاة عليه "وفي رواية: إنَّ أوّل من صلّى عليه الملائكة أفواجًا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجًا فوجًا، ثم نساؤه آخرًا" على ما روي عند الطبراني وغيره بسند واهٍ أنه أخبر بذلك قبل موته وتقدَّم. "وروي أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون، فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليًّا"؛ لأنه أعلم منه بذلك، فسألوه فقال لهم: قولوا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ..... الآية" لعل حكمة الأمر بها تذكيرهم بالصلاة والسلام عليه في هذا الموطن, "لبيك اللهم ربنا" إجابة لك بعد إجابة فيما أمرتنا به من الصلاة والتسليم عليه, "وسعديك" إسعادًا بعد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 والنبيين والصدقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين, ورسول رب العالمين، الشاهد البشير, الداعي إليك بإذنك, السراج المنير، وعليه السلام. ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي في كتابه: تحقيق النصرة. ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم   إسعاد "صلوات الله البر الرحيم, والملائكة المقربين" كالأربعة, والنبيين والصديقين" أفاضل أصحاب الأنبياء, "والشهداء والصالحين, وما سبَّح لك من شيء" {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، فهو عبارة عن دوام الصلاة أبدًا, "يا رب العالمين, على محمد بن عبد الله خاتم النبيين, وسيد" أي: أفضل "المرسلين وإمام" قدوة "المتقين, ورسول رب العالمين" إلى الخلق أجمعين, "الشاهد" على أمته, وعلى الأمم بأن أنبياءهم بلغوهم, "البشير" للمؤمنين, "الداعي إليك بإذنك" بإرادتك, "السراج المنير، وعليه السلام, ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي" بفتح الميم وغين معجمة- من مراغة الصعيد, ومن أفاضل جماعة الأسنوي "في كتابه تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة, وظاهر هذا أن المراد ما ذهب إليه جماعة أنه لم يصل عليه الصلاة المعتادة، وإنما كان الناس يأتون فيدعون. قال الباجي: ووجهه أنه -صلى الله عليه وسلم- أفضل من كل شهيد، والشهيد يغنيه فضله عن الصلاة عليه، فهو -صلى الله عليه وسلم- أولى، قال: وإنما فارق الشهيد في الغسل؛ لأن الشهيد حذر من غسله إزالة الدم عنه, وهو مطلوب بقاؤه لطيبه؛ ولأنه عنوان لشهادته في الآخرة، وليس على النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تكره إزالته, فافترقا. انتهى. لكن قال عياض: الصحيح الذي عليه الجمهور, أنَّ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت صلاة حقيقية لا مجرّد الدعاء فقط. انتهى. وأجيب عمَّا اعتلّ به الأولون بأن المقصود من الصلاة عليه عود التشريف على المسلمين, مع أن الكامل يقبل زيادة التكميل، نعم. لا خلاف أنه لم يؤمّهم أحد عليه كما مَرَّ لقول علي: هو إمامكم حيًّا وميتًا، فلا يقوم عليه أحد ..... الحديث. رواه ابن سعد وأخرج الترمذي، أن الناس قالوا لأبي بكر: أنصلي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: وكيف نصلي؟ قال: يدخل قوم فيكبِّرون ويصلون ويدعون، ثم يدخل قوم فيصلون فيكبِّرون ويدعون فرادى, "ثم قالوا" بعد الفراغ من الصلاة: "أين تدفنونه؟ " فقال الناس: عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع, كما في الموطأ وغيره, "فقال أبو بكر -رضي الله عنه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما هلك" أي: مات "نبي قط, إلا يدفن حيث تقبض روحه"، وقال علي: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 يقول: "ما هلك نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه"، وقال علي: وأنا أيضًا سمعته. وحفر أبو طلحة لحد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضع فراشه حيث قُبِض. وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصحّ ما روي أنه نزل في قبره عمَّه العباس وعلي وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس. وروي أنه بُنِيَ في قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطَّى بها، فرشها شقران في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك. قال النووي: وقد نصَّ الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر. وشذَّ   وأنا أيضًا سمعته". أخرجه ابن ماجه وغيره، ورواه الترمذي، بلفظ: "ما قبض الله نبيًّا إلّا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، وفي الموطأ بلفظ: "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه"، فحفر له فيه, "وحفر أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري لحد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضع فراشه حيث قبض" وروى ابن سعد: اختلفوا في الشق واللحد، فقال المهاجرون: شقوا كأهل مكة، وقالت الأنصار: ألحدوا كما نحفر بأرضنا، فقالوا: بعثوا إلى أبي عبيدة وأبي طلحة، فأيهما جاء قبل الآخر فليعمل عمله، فجاء أبو طلحة فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد اختار لنبيه أنه كان يرى اللحد فيعجبه، فالحد له. "وقد اختلف فيمن أدخله قبره", وأصح ما روي أنه نزل في قبره عمَّه العباس وعلي وقثم" بقاف مضمومة ومثلثة مفتوحة "ابن العباس, والفضل بن العباس", ويقال: دخل معهم أوس بن خولي -بفتح المعجمة وسكون الواو، وقيل بفتحها, "وكان آخر الناس عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس" أي: إنه تأخَّر في القبر حتى خرجوا قبله. "وروي أنه بني في قبره تسع لبنات" جمع لبنة, "وفرش تحته قطيفة" بفتح القاف وكسر المهملة وسكون التحتية ففاء- كساء له خمل, "نجرانية" بفتح النون وإسكان الجيم- بلد بين اليمن وهجر, "كان يتغطَّى بها", ويروى: كان يجلس عليها، ولاخلف لجواز أنه فعل الأمرين, "فرشها شقران" بضم الشين وإسكان القاف- مولاه -صلى الله عليه وسلم- في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك. قال النووي: وقد نصَّ الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر, وشَذَّ" انفرد "البغوي من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 البغوي من أصحابنا, فقال في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأنَّ شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، انتهى. وفي كتاب "تحقيق النصرة" قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعني: القطيفة- من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة. ولما دفن -صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة -رضي الله عنها- فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وانشأت تقول: ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا   أصحابنا الشافعية, "فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك" أي: يجوز؛ "لهذا الحديث", والصواب كراهة ذلك، كما قاله الجمهور, وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك, ولم يوافقه أحد من الصحابة, ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرنا عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. انتهى" كلام النووي. "وفي كتاب تحقيق النصرة" للزين المراغي, "قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعني: القطيفة- من القبر, لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، حكاه" محمد بن الحسن "بن زبالة" بفتح الزاي وخفة الموحدة- المخزومي، أبو الحسن المدني، كذَّبوه, ومات قبل المائتين، روى له أبو داود، وفي الألفية: وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل أخرجت وهذا أثبت "ولما دفن -صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة -رضي الله عنها- فقالت: كيف طابت", لفظ البخاري من حديث أنس, عقب قولها السابق: إلى جبريل, تتعلّق، فلمَّا دفن قالت فاطمة: أطابت نفوسكم أن تحثوا" بفتح الفوقية وإسكان المهملة وضم المثلثة "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب". قال الحافظ: هذا من رواية أنس عن فاطمة، وأشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رِقَّة قلوبهم عليه؛ لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلّا أنا قهرنا على فعله امتثالًا لأمره, "وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها" هذا زائد على ما في البخاري, "وأنشأت تقول:" ماذا على من شمَّ تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنها ... صُبَّت على الأيام عدن لياليا قال رزين: ورشَّ قبره -صلى الله عليه وسلم، رشَّه بلال بن رباح بقربة، بدأ من قِبَل رأسه، حكاه ابن عساكر، وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء. ورفع قبره عن الأرض قدر شبر. وفي حديث عائشة عند البخاري قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" , لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ قبره مسجدًا. كذا في رواية أبي عوانة عن هلال "خَشي أو خُشي" على الشك. فرواية   صبَّت عليَّ مصائب لو أنها ... صبَّت على الأيام عدن لياليا الغوالي بمعجمة: جمع غالية, أخلاط من الطيب، وروي أنها قالت: أغبر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران والأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفًا عليه كثيرة الرجفان فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكل يماني "قال رزين" بن معاوية السرقسطي: "ورشَّ قبره -صلى الله عليه وسلم، رشَّه بلال بن رباح بقربة، بدأ قِبَل رأسه، حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء" حال من حصباء، يعني: إنه أخذ من الحصباء الموصوفة بما ذكر شيء ووضع على قبره "ورفع قبره عن الأرض قدر شبر, فهو مسنم. "وفي حديث عائشة عند البخاري" في موضعين من الجنائز، وفي المغازي, ومسلم في الصلاة "قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في مرضه الذي لم يقم منه", وفي رواية: الذي توفي فيه: "لعن الله اليهود والنصارى" يعني: أبعدهم عن رحمته, "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" بالجمع للكشميهني. ورواه غيره مسجدًا بالإفراد على إرادة الجنس, وهو في اليهود واضح، أمَّا النصارى، فإنما لهم نبي واحد ولا قبر له، مع أنهم لا يقولون أنه نبي، بل ابن أو إله، أو غير ذلك, على اختلاف مللهم الباطلة، وأجيب بعود الضمير على اليهود فقط, بدليل رواية الاقتصار عليهم، وبأنَّ المراد من أمروا بالإيمان بهم من الأنبياء السابقين، كنوح وإبراهيم, "لولا ذلك لأبرز قبره، غير أن خَشي" صلى الله عليه وسلم "أو خُشي" بالبناء للمفعول, والفاعل الصحابة أو عائشة، "أن يتَّخذ" بضم أوله وفتح ثالثه- قبره مسجدًا، كذا في رواية أبي عوانة" بفتح العين- اسمه: الوضاح بن عبد الله, "عن هلال" بن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 "الضم" مبهمة, يمكن أن تفسَّر بأنها هي التي منعت من إبرزاه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح, فإنها تقتضي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمرهم بذلك. وقوله: "لأبرز قبره" لكشف قبره ولم يتخذ عليه الحائل. أو المراد: لدفن خارج بيته -صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته عائشة -رضي الله عنها- قبل أن يوسّع المسجد، ولهذا لما وسّع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الكريم مع استقباله القبلة. وفي البخاري أيضًا من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار: إنه حدثه أنه رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنمًا, أي: مرتفعًا. زاد أبو نعيم في "المستخرج": وقبر أبي بكر وعمر كذلك. واستدلَّ به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك   حميد الجهني، عن عروة عن عائشة عند البخاري في الموضع الثاني, "خَشي أو خُشي على الشك", وعنده في الموضع الأول، عن شيبان، عن هلال: غير أني أخشى أن يتَّخذ مسجدًا بالجزم "فرواية الضم" للخاء "مبهمة، يمكن أن تفسر بأنها" أي: عائشة "هي التي منعت من إبرازه", بدليل رواية غير أني أخشى, "والهاء" في قولها: غير أنه "ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وهذا يقتضي أنهم فعلوا ذلك باجتهاد" منهم, "بخلاف رواية الفتح" للخاء, "فإنها تقضي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمرهم بذلك". "وقوله: لأبرز قبره، أي: لكشف قبره, ولم يتخذ عليه الحائل، أو المراد: لدُفِنَ خارج بيته -صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد" النبوي, "ولهذا لما وسّع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الكريم مع استقباله القبلة". "وفي البخاري أيضًا" في الجنائز "من حديث أبي بكر بن عياش" بتحتية وشين معجمة- ابن سالم الأسدي، الكوفي، مشهور بكينته، والأصح أنها اسمه, "عن سفيان التمار" بالفوقية- قال الحافظ: هو ابن دينار على الصحيح، وقيل: ابن زياد، والصواب أنه غيره، وكلّ منهما كوفي, وهو من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر بعض الصحابة, ولم أر له رواية عن صحابي، "أنه حدَّثه أنه رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنمًا" بضم الميم وشد النون المفتوحة "أي: مرتفعًا". "زاد أبو نعيم في المستخرج: وقبر أبي بكر وعمر كذلك" مسنمًا كلّ منهما "واستدلَّ به على أن المستحب تسنيم القبور, وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادَّعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقّب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نَصَّ عليه الشافعي, وبه جزم الماوري وآخرون. وقول سفيان التمَّار لا حجة فيه، كما قال البيهقي؛ لاحتمال أن قبره -صلى الله عليه وسلم- في الأوّل لم يكن مسنمًا. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدمًا, وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كان في خلافة معاوية. فكأنَّها كانت في الأول مسطَّحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَل الوليد بن عبد الملك صيّروها مرتفعة.   من الشافعية، وادَّعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نصَّ عليه الشافعي، وبه جزم الماوردي وآخرون"؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سطَّح قبر ابنه إبراهيم, وفِعْله حجة لا فعل غيره، وأجيب بأن الله تعالى لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وفعله هو لبيان الجواز, "وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي؛ لاحتمال أن قبره -صلى الله عليه وسلم- في الأوَّل لم يكن مسنمًا" في الأزمنة الماضية قبل رؤية التمار, "فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر" الصديق "قال: دخلت على عائشة" عمته "فقلت: يا أمه, اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم" وصاحبيه, "فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة" أي: لا هي مرتفعة كثيرًا "ولا لاطئة" أي: لاصقة بالأرض "مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء" يقال: لطِئ -بكسر الطاء، ولطأ -بفتحها، أي: لصق، وغاية ما يفيده هذا أنها لم تكن غاية في الارتفاع وهو المطلوب، فكيف يتأتَّى احتمال أنه لم يكن مسنمًا. "زاد الحاكم: فرأيت رسول الله" أي: قبره "صلى الله عليه وسلم, وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم, وعمر رأسه عند رجلي النبي -صلى الله عليه وسلم", قال أبو اليمين بن عساكر وهذه صفته: النبي -صلى الله عليه وسلم, عمر -رضي الله تعالى عنه أبو بكر -رضي الله تعالى عنه. "وهذا" أي: رؤية القاسم لها "كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة" من أين هذا الترجي, "ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَل" بكسر ففتح "الوليد بن عبد الملك, صيِّروها مرتفعة". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 وقد روى أبو بكر الآجري في كتاب "صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم", من طريق إسحاق بن عيسى بن بنت داود بن أبي هند، عن عثيم بن نسطاس المدني قال: رأيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه. ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل، لا في أصل الجواز، ورجَّح المزني التسنيم من حيث المعني، بأن المسطح يشبه ما يصنع للمجوس، بخلاف المسنّم. ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بستويتها.   وقد روى أبو بكر الآجري" بضم الجيم وتشديد الراء المهملة- نسبة إلى عمل الآجر وبيعه, وإلى درب الآجر كما في اللب الحافظ الإمام، المحدث القدوة، محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي, كان عالمًا عاملًا دينًا صاحب سنة، توفي في محرم سنة ست وثلاثمائة, في كتاب صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق "إسحاق بن عيسى" القشيري البصري، صدوق يخطى، وهو "ابن بنت داود بن أبي هند" البصري "عن عثيم" بمهملة فمثلثة مصغر, "ابن نسطاس" بكسر النون المهملة "المدني", وهوأخو عبيد مولى آل كثير بن الصلت، تابعي مقبول كما في التقريب، ونسخة بسطام تحريف "قال: رأيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمارة عمر بن عبد العزيز" على المدينة من جهة ابن عمه الوليد, "فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر" وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه", ورواه أبو نعيم بزيادة وصورة لنا. المصطفى أبو بكر عمر "ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز", فإن كلًّا جائز, "ورجَّح لمزني التسنيم من حيث المعنى، بأنَّ المسطح يشبه ما يصنع للمجوس", وفي نسخة: للجولس, والذي في الفتح للمجوس, "بخلاف المسنم", ورجَّحه ابن قدامة، بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا, وهو من شعار أهل البدع، فكان التنسيم أولى، هكذا في الفتح قبل قوله: "ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة" بفتح الفاء "ابن عبيد" بضم العين "أنه أمر بقبر فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها", وقد ردَّ على من قال: إنه صار شعار الروافض، بأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع عليها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعني: حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم, ففزعوا وظنّوا أنها قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك, حتى قال لهم عروة: والله ما هي قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، والله ما هي إلا قدم عمر، رواه البخاري أيضًا. والسبب في ذلك ما رواه الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرُفِعَ حتى لا يصلي إليه أحد, فلمَّا هدم بدت قدم ساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز, فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر وركبته, فسري عن عمر بن عبد العزيز. وروى الآجري: قال رجاء بن حيوة: فكان قبر أبي بكر عند وسط النبي -صلى الله عليه وسلم،   وعن هشام بن عروة عن أبيه، قال: لما سقط عليهم الحائط، يعني: حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمان الوليد بن عبد الملك" بن مروان, "أخذوا في بنائه، فبدت" ظهرت "لهم قدم، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك, حتى قال لهم عروة". فيه التفات، والأصل: حتى قلت لهم: "والله ما هي قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، ما هي إلّا قدم عمر". "رواه البخاري أيضًا" من طريق علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه, "والسبب في ذلك ما رواه الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرُفِعَ حتى لا يصلي إليه أحد، فلمَّا هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر وركبت، فسري عن عمر بن عبد العزيز" أي: أزيل عنه الفزع. "وروى الآجري" أيضًا عن رجاء بن حيوة، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز, وكان اشترى حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم، أن اهدامها ووسع بها المسجد، فقعد ناحية ثم أمر بهدمها، فما رأيت باكيًا أكثر من يومئذ، ثم بناه كما أراد، فلمَّا أن بني البيت على القبر, وقدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة, وكان الرمل الذي كان عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز, وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلًا أن يصلحها, ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم -يعني: مولاه, قم فأصلحها. "قال رجاء بن حيوة" بفتح المهملة وسكون التحتية وفتح الواو- الكندي، التابعي الثقة الفقيه، مات سنة ثنتي عشرة ومائة، روى له مسلم والأربعة: "فكان قبر أبي بكر عند وسط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 وعمر خلف أبي بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح. وأمَّا ما أخرجه أبو يعلى من وجهٍ آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه, وعمر عن يساره, فسنده ضعيف. انتهى مخلصًا من فتح الباري. وقد اختلف أهل السير وغيرهم في صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر في "تحفة الزائر", ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقي في البيت موضع قبر في السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى بن مريم -عليهما السلام، ويكون قبره الرابع.   النبي -صلى الله عليه وسلم, وعمر خلف أبي بكر, رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم المتقدم أنَّ أبا بكر رأسه عند كتفي المصطفى، ورأس عمر عند رجليه, "فإن أمكن الجمع بالتجوّز في الوسط بأن يراد به ما بين الكتفين, والتجوّز أيضًا على بعد في قوله: وعمر ...... إلخ. "وإلّا" يمكن لبعده جدًّا "فحديث القاسم أصحّ, فيقدَّم عليه "وأمَّا ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه -صلى الله عليه وسلم, وعمر عن يساره، فسنده ضعيف, انتهى ملخصًا من فتح الباري". "وقد اختلف أهل السير وغيرهم في صفة القبور المقدّسة على سبع روايات، أوردها أبو اليمن "بن عساكر في" كتابه "تحفة الزائر" خمسة منها ضعيفة، والصحيح منها روايتان. إحداهما ما تقدَّم عن القاسم, والأخرى: وبها جزم رزين وغيره, وعليها الأكثر، كما قال المصنف في الفصل الثاني، وقال النووي: إنها المشهورة, والسمهودي: إنها أشهر الروايات, أنَّ قبره -صلى الله عليه وسلم- إلى القبلة مقدمًا بجدارها، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي النبي -صلى الله عليه وسلم, وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر, وهذا صفتها المصطفى الصديق الفاروق ومرت واحدة من الضعيفة ولا حاجة الذكر باقيها, "ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب" أنه "قال: بقي في البيت موضع قبر في السهوة" بفتح المهملة وإسكان الهاء- قال في النهاية: بيت صغير منحدر في الأرض قليلًا شبيه بالمخدع والحزانة، وقيل: هو كالصفة يكون بين البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيهما الشيء, "الشرقية، يدفن فيه عيسى بن مريم -عليهما السلام, ويكون قبره الرابع، وفي المنتظم" اسم كتاب "لابن الجوزي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 وفي "المنتظم" لابن الجوزي, عن ابن عمر، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض، فيتزوج ويولد له, ويمكث خمسًا وأربعين سنة, ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر" كذا ذكره في "في تحقيق النصرة" والله أعلم. فإن قلت: تقدَّم أنه -عليه الصلاة والسلام- توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلِمَ أُخِّرَ دفنه؟ وقد قال لأهل بيت أخَّروا دفن ميتهم: "عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروه". فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون حيث يدفن، قال قوم: بالبقيع, وقال آخرون: بالمسجد، وقال قوم: يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: "ما دفن نبي إلا حيث يموت". ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدَّم. وفي رواية الترمذي:   عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض" آخر الزمان, "فيتزوج ويولد له, ويمكث خمسًا وأربعين سنة". وعند أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه: أنه "يمكث في الأرض أربعين سنة" وهذا أصح، وما في مسلم أنه يلبث سبع سنين فمئول بقوله فيه: "ليس بين اثنين عداوة" , "ثم يموت, فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر"، كذا ذكره في تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة, "والله أعلم" بصحته, والمنكر منه قوله: خمسًا وأربعين. "فإن قلت: تقدَّم أنه -عليه الصلاة والسلام- توفي في يوم الإثنين ودُفِنَ يوم الأربعاء، فلِمَ أُخِّرَ دفنه، وق قال لأهل بيت آخروا دفن ميتهم: "عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروه" وفي الصحيح: "أسرعوا بجنائزكم, فإنما هو خير تقدموه إليه ..... " الحديث, "فالجواب" أخروه "لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته" فأخروه حتى تيقنوه, "أو لأنهم كانوا لا يعلمون حيث يدفن, قال قوم: بالبقيع"؛ لأنه دفن فيه من مات بالمدينة في حياته من أصحابه. "وقال آخرون: بالمسجد"؛ لأنه أفضل المساجد أو من أفضلها, "وقال قوم: يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى يدفن عنده, حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: "ما دفن نبي إلا حيث يموت" , أي: في المكان الذي تقبض روحه فيه, "ذكره" أي: رواه "ابن ماجه والموطأ" أي: صاحبه, "كما تقدم" بلا عزو. وفي رواية الترمذي: "ما قبض الله نبيًّا إلّا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه, الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 "ما قبض الله نبيًّا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، ادفنوه في موضع فراشه. أو لأنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استقرَّ الأمر في الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملتهم, وكشف الله به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فنظروا في دفنه, فغسلوه وكفنوه ودفنوه. ولما قُبِضَ -صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك. إذا كان عرش الرحمن قد اهتزَّ لموت بعض أتباعه فرحًا واستبشارًا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح. ولما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحًا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفي رواية الدارمي قال أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا   ادفنوه في موضع فراشه" فحفروا له تحته, "أو لأنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة", فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الأئمة من قريش" , "فنظروا فيها حتى استقرَّ الأمر في الخلافة ونظمها", وأجمعوا "فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملتهم" جماعتهم، وقوله: "وكشف الله به الكربة من أهل الردة" لا محلَّ له هنا؛ لأن قتاله لهم إنما وقع بعد ذلك بمدة، فكيف يصح قوله, "ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فنظروا في دفنه، فغسلوه وكفنوه ودفنوه، ولما قُبِضَ -صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه المقدسة" زينة, "لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك" السلطان, "إذا كان عرش الرحمن قد اهتز" تحرك "لموت بعض أتباعه" سعد بن معاذ "فرحًا واستبشارًا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح، ولما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم" بكسر الحاء- جمع حربة, "فرحًا بقدومه، كما رواه أبو داود من حديث أنس" بن مالك. "وفي رواية الدارمي: قال أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ" أشد ضياء وهو فرط النور، "من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح" أشنع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 أظلم من يوم مات فيه الله -صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الترمذي: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة, أضاء منها كل شيء، فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه, أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا. ومن آياته -عليه الصلاة والسلام- ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى تردَّى في بئر, وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت. ومن ذلك: ظهور ما أخبر أنه كان بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه, مما ذكرت بعضه في المقصد الثامن. وفي حديث أبي موسى عند مسلم: إنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله إذا أراد بأمِّة خيرًا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمَّة عذَّبها ونبيها   "ولا أظلم:" أشد ظلمة "من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم". "وفي رواية الترمذي" في المناقب, وقال: صحيح غريب, عن أنس: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة, أضاء منها كل شيء" بحلوله فيها، وفي البخاري عن البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم, "فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا أيدينا من التراب, وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا". قال الحافظ: يريد أنهم وجدوها تغيرت عمَّا عهدوه في حياته من الإلفة والصفاء والرقة لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأييد, "ومن آياته -عليه الصلاة والسلام- بعد موته ما ذكر من حزن حماره" يعفور عليه, "حتى تردَّى:" ألقى نفسه "في بئر" لأبي الهيثم بن التيهان يوم مات -صلى الله عليه وسلم, فكانت البئر قبرًا للحمار، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وساقه المصنف في المعجزات, "وكذا ناقته، فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت، ومن ذلك ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته مما لا نهاية له ولا عد يحصيه, مما ذكرت بعضه في المقصد الثامن". وفي حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري "عند مسلم" في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم, وهو كما قال القرطبي وغيره: أحد الأحاديث الأربعة عشر الواقعة في مسلم، منقطة؛ لأنه قال في أوله: حدَّثنا عن أبي أسامة، وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعد الجوهري، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني بريد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله إذا أراد بأمة خيرًا" لفظ مسلم: "إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده" "قبض نبيها قبلها، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقرَّ عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره". وإنما كان قبض النبي قبل أمته خيرًا؛ لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد الله بهم خيرًا جعل خيرهم مستمرًّا ببقائهم, محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات, نسلًا بعد نسل, وعقبًا بعد عقب.   فجعله لها فرطًا" بفتحتين- بمعنى: الفارط المتقدّم على الماء يهيء السقي، قال الطيبي: يريد أنه شفيع يتقدم، قال بعض المحققين: والظاهر منه المرجوّ أن له -صلى الله عليه وسلم- شفاعة ونفعًا غير مأمنة يوم القيامة، فإنها لا تتفاوت بالموت قبل أو بعد، ولأن الفرط يهيء قبل الورود، ويؤيده ما نقل من حضوره عند الموت والميت, "وسلفا بين يديها" قيل: عطف مرادف أو أعمّ، وفائدة التقديم الأنس وقلة كربة الغربة ونحو ذلك, "وإذا أراد هلكة" بفتح الهاء واللام- هلاك "أمة عذَّبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره" كما وقع لأمه نوح وهود وصالح ولوطا, "وإنما كان قبض النبي قبل أمته خيرًا؛ لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد بهم خيرًا جعل خيرهم مستمرًّا ببقائهم, محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات, نسلًا بعد نسل وعقبًا بعد عقب" تعقبه بعضهم بأنه لا خفاء أن قوله: فجعله ..... إلخ، إشارة إلى علة فقوله: إنهم إذا ماتوا انقطع عملهم, والخير في بقائهم نسلًا بعد نسل مستغنى عنه, مع أن فيه ما فيه. انتهى، أي: من تعليله بخلاف ما علل به الحديث. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 الفصل الثاني: في زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام.   الفصل الثاني: في بيان حكم زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف المرتفع الزائد في الشرف على غيره, "اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات وأرجى الطاعات" عبَّر به تفننًا, "والسبيل" الطريق إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام" بكسر الراء وإسكان الموحدة وفتح القاف- أي: عقدة، قال في النهاية: الربقة في الأصل عروة من حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام, يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه, "وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسي، كما ذكره في المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة. وقال القاضي عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمَع عليها، وفضيلة مرغَّب فيها. وروى الدارقطني من حديث ابن عمر -رضي الله عنه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"، ورواه عبد الحق في أحكامه الوسطى، وفي الصغرى, وسكت عنه, وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته.   "وقد أطلق بعض المالكية وهو أبو عمران" موسى بن عيسى الفقيه "الفاسي" بالفاء إلى فاس بالمغرب "كما ذكره في المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق أنها" أي: الزيارة "واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة", طلبها بحيث أشبهت الواجب، وقد صرَّح الجمال الأفقهسي في شرح الرسالة بأنها سنة مؤكدة. "وقال القاضي عياض" في الشفاء: "إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها" أي: على كونها سنة مأثورة "وفضيلة مرغَّب فيها" بصيغة المفعول مشدَّد، أي: رغَّب السلف فيها وحثّوا عليها. "وروى الدارقطني" وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا، كلهم "من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زار قبري وجبت" أي: تحقَّقت وثبتت، فلا بُدَّ منها بالوعد الصادق, وليس بالمراد الوجوب الشرعي. وروي: حلت "له شفاعتي" أي: أخصه بشفاعة ليست لغيره لا عمومًا ولا خصوصًا تناسب عظيم عمله، إمَّا بزيادة نعيم أو تخفيف هول ذلك اليوم عنه، أو دخول الجنة بلا حساب، أو رفع درجاته بها، أو بزيادة شهود الحق والنظر إليه, أو بغير ذلك، أو المراد أنَّ الزائر يفرد بشفاعة عمَّا يحصل لغيره، ويكون إفراده تشريفًا وتنويهًا بسبب الزيارة، أو المراد ببركة الزيارة يجب دخول الزائر في عموم من تناله الشفاعة، وفائدته البشرى بموته على الإسلام, وإضافة الشفاعة له لإفادة أنها عظيمة؛ إذ هي تعظم بعظم الشافع ولا أعظم منه -عليه الصلاة والسلام, ولا أعظم من شفاعته كما قاله السبكي وغيره. "ورواه عبد الحق في أحكامه الوسطى، وفي الصغرى، وسكت عنه" أي: التكلّم في سنده بالقدح "وسكوته عن الديث فيهما" أي: الوسطى والصغرى "دليل على صحته", أراد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 وفي المعجم الكبير للطبراني: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جاءني زائرًا لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقًّا علي أن أكون شفيعًا له يوم القيامة". وصحَّحه ابن السكن. وروي -عنه صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني". ذكره ابن فرحون في مناسكه، والغزالي في الإحياء، ولم يخرجه العراقي، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار في تاريخ المدينة مما هو في معناه عن أنس بلفظ: "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلّا وليس له عذر".   بها ما قابل الضعف، فيشمل الحسن لغيره؛ كهذا الحديث المنجبر بتعدد طرقه، وإلّا فقد ضعَّفه البيهقي، وقال الذهبي: طرقه كلها لينة، لكن يتقوَّى بعضها ببعض؛ لأن ما في رواتها منهم بكذب، قال: ومن أجودها إسنادًا حديث حاطب: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي"، وقال الحافظ: حديث غريب أخرجه ابن خزيمة في صحيحه. وقال في القلب من سنده: وأنا أبرأ إلى الله من عهدته, فغفل من زعم أن ابن خزيمة صححه. وبالجملة: قول ابن تيمية موضع ليس بصواب, وقد عارضه السبكي بقوله: بل حسن أو صحيح, انتهى. ولعل ذلك لتعدد طرقه وكثرة شواهده التي منها قوله" وفي المعجم الكبير للطبراني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جاءني زائرًا لا تعمله" بضم التاء، أي: لا تحمله على العمل حاجة "إلا زيارتي" بأن لا يقصد ما لا تعلق له بالزيارة أصلًا، أمَّا ما له تعلق بها؛ كقصد اعتكاف بالمسجد النبوي وشد الرحل إليه وكثرة العبادة فيه وزيارة الصحابة ومسجد قباء, وغير ذلك مما يندب للزائر فعله، فلا يمنع قصده حصوله الشفاعة, كما نبَّه عليه في الجوهر المنظم, "كان حقًّا" أي: ثابتًا لازمًا "علي أن أكون له شفيعًا يوم القيامة، وصحَّحه ابن السَّكَن" وهو من كبار الحافظ النقاد. "وروي عنه -صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة" بفتح السين أفصح من كسرها, "ولم يفد" بفتح الياء وكسر الفاء- يأت, "إليَّ, فقد جفاني" أي: أعرض عني, "ذكره ابن فرحون" بفتح الفاء؛ لأنه على وزن فعلون كحمدون وشمعون وهو مفتوح، كما قال ابن الصلاح وغيره "في مناسكه والغزالي في الإحياء, ولم يخرجه العراقي" زين الدين بلفظه, "بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار في تاريخ المدينة مما هو في معناه عن أنس" مرفوعًا "بلفظ: "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلّا" بكسر الهمزة، وشد اللام "وليس له عذر" يعتذر به في عدم زيارتي، بمعنى: أنه يلام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 ولابن عدي في "الكامل", وابن حبان في "الضعفاء", والدارقطني في "العلل", و "غرائب مالك", وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعًا: "من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح. وعلى تقدير ثبوته، فليتأمّل قوله: "فقد جفاني" , فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع, فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفاء واجبة، وهي بالزيارة, فالزيارة واجبة حينئذ، وبالجملة فمن تمكَّن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك. وعن حاطب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زارني بعد موتي فكأنما زراني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين" رواه البيهقي عن رجل من آل   على تركها؛ لأنه فوت نفسه ثوابها العظيم بلا عذر. "ولابن عدي في الكامل, وابن حبان في الضعفاء، والدارقطني في" كتاب العلل, وكتاب "غرائب" الرواة عن "مالك وآخرين، كلهم عن ابن عمر، مرفوعًا: "من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح إسناده, وعلى تقدير ثبوته، فليتأمّل قوله: "فقد جفاني"، فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء بالمد ويقصر نقيض الصلة أذى, والأذى حرام بالإجماع, فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفا واجبة، وهي" أي: إزالة الجفا بالزيارة, فالزيارة حينئذ واجبة, ولا قائل به إلا الظاهرية، قال شيخنا: وقد يجاب بأنه ليس كل أذى حرامًا؛ لأن الأذى الخفيف يحتمل في دفع الحرمة. نعم هو مكروه. انتهى. والأَوْلَى أن المراد فعل مثل فعل الجافي لا أنه جفا، أي: أذى حقيقي؛ إذ لا يجوز أذاه -صلى الله عليه وسلم, ولا بالمباح فضلًا عن المكروه "وبالجملة: فمن تمكَّن من زيارته, ولم يزره فقد جفاه" أي: فعل فعل من جفاه كما علم, "وليس من حقه علينا ذلك" الجفا, إنما من حقه زيادة الصلة والحب. وعن حاطب بن أبي بلتعة البدري "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زارني بع موتي فكأنما زارني في حياتي"؛ لأنه حي في قبره, يعلم بمن يزوره ويرد سلامه كما مَرَّ, "ومن مات بأحد الحرمين" المكي أو المدني "بعث من الآمنين" , فلا يصد الزائر خوف موته قبل رجوعه إلى بلده؛ لأنه إن مات بعث آمنًا، ففيه بشرى لمن مات في أحدهما بالموت على الإسلام؛ إذ لا يبعث من مات على غير الإسلام آمنًا. "رواه البيهقي عن رجل من آل حاطب: لم يسمه عن حاطب" صلة رواه "وعن عمر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 حاطب لم يسمه عن حاطب. وعن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من زار قبري" أو قال: "من زارني كنت له شفيعًا وشهيدًا" رواه البيهقي وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زارني محتسبًا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة" رواه البيهقي أيضًا. قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغي: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته -صلى الله عليه وسلم- قربة، للأحاديث الواردة ذلك, ولقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] لأن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته، ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حال   -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من زار قبري" أو" قال شك الراوي: "من زارني كنت له شفيعًا" لبعض الزائرين, "وشهيدًا" لآخرين، أو شفيعًا للعاصين, شهيدًا للطائعين، وهذه خصوصية زائدة على شفاعته العامَّة, وعلى شهادته على جميع الأمم. "رواه البيهقي وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر" بن الخطاب, "وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زارني" في حياتي أو بعد مماتي حال كونه, "محتسبًا" أي: ناويًا بزيارته وجه الله تعالى طالبًا ثوابه، سمي محتسبًا لاعتداده بعمله، فجعل حال مباشرته الفعل كأنه معتد به "إلى المدينة" صلة زارني، أي: منتهيًا في مجيئه من محله إلى المدينة، ولفظ الشفاء بلا عزو والجامع عازيًا للبيهقي: "من زارني بالمدينة محتسبًا كان في جواري" بكسر الجيم أفصح من ضمها، أي: أماني وعهدي, فلا يناله مكروه أصلًا، أو المراد له: منزلة رفيعة في الآخرة، وبقية الحديث: "وكنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة". "رواه البيهقي" أيضًا تامًّا, "قال العلامة زين الدين" أبو بكر بن الحسين" بن عمر القرشي، العثماني، المصري "المراغي" بغين معجمة- نسبة إلى بلد بصعيد مصر، ثم المدني قاضي طيبة وخطيبها الشافعي, من أفاضل جماعة الإسنوي, وله تحقيق النصرة في تاريخ دار الهجرة, "وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته -صلى الله عليه وسلم- قربة" عظيمة, "للأحاديث الواردة في ذلك"؛ إذ لا تقصر عن درجة الحسن وإن كان في إفرادها مقال "ولقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] فيه التفات عن الخطاب تفخيمًا لشأنه, "الآية" {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} "لأن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته, ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حياته, وليست الزيارة كذلك, لما أجاب به بعض الأئمة المحققين". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 حياته, وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: إنَّ الآية دلَّت على تعليق وجدان الله توابًا رحيمًا بثلاثة أمور: المجيء، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع, قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكمّلت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته. وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي، وأوجبها الظاهرية، فزيارته -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة بالعموم والخصوص لما سبق؛ ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته -صلى الله عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفي النساء خلاف، والأشهر في مذهب الشافعي الكراهة. قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- والصلاة في مسجده،   تعليل لنفي القول لا للقول المنفي, "أن الآية على تعليق وجدان الله تعالى" بإضافة المصدر للمفعول "توابًا" عليهم "رحيمًا" بهم "بثلاثة أمور: المجيء واستغفارهم واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع، قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] ومعلوم بالضروة أنه يمتثل أمر الله, فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكمّلت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى" عليهم "ورحمته" لهم. "وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي, وأوجبها الظاهرية، فزيارته -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة بالعموم" لاستحباب زيارة القبور, "والخصوص لما سبق" من الأحاديث الناصَّة عليها بخصوصها, والاستنباط من الآية المذكورة, "ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- واجب", وقد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة, معروفة بينهم, لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم، ففرح به، وقال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره -صلى الله عليه وسلم, وتتمتع بزيارته، قال: نعم. "ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته -صلى الله عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفي النساء خلاف, والأشهر" وفي نسخة: الأظهر "في مذهب الشافعي الكراهة" وهو المعتمد عندهم. "قال ابن حبيب" عبد الملك "من المالكية" أتباع الإمام: واحترز بذلك عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 فإن فيه من الرغبة مالا غنى بك ولا بأحد عنه. وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه؛ لأنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل؛ لأن الشرع لم يجئ به, وهذا الأمر لا يدخله قياس؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها. وقد صحَّ أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم. فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه، كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لزمه الوفاء وجهًا واحدًا، انتهى. ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة في المسجد الحرام.   محمد بن حبيب, من المؤرخين المختلف في أنَّ حبيب اسم أبيه أو اسم أمه, "ولا تدع زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- والصلاة في مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه" بكسر الغين المعجمة والقصر بلا تنوين- على أن لا لنفي الجنس، أي: لا استغناء، ويجوز الفتح مع المد، أي: لا كفاية, وهما متقاربان, "وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف والصلاة فيه؛ لأنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها, وهو أفضلها عند مالك وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل؛ لأنَّ الشرع لم يجئ به" أي: بفضل غير الثلاثة, "وهذا الأمر لا يدخله قياس؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها" فلا يقاس عليها لعدم الجامع. "وقد صح" عند البيهقي في الشعب "أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد" بضم أوله وكسر الراء من أبرد وبالفتح وضم الراء من برد، أي: يرسل "البريد", الرسول المستعجل من الشام "للسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم". زاد في الشفاء: وعن يزيد بن أبي سعيد: قدمت على عمر بن عبد العزيز، فلمَّا ودعته قال لي: إليك حاجة, إذا أتيت المدينة ترى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فأقرئه مني السلام, "فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة، ومن نذر الزيارة وجبت عليه، كما جزم به ابن كج" بفتح الكاف وشد الجيم "من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لزمه الوفاء وجهًا واحدًا. انتهى". ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 وصحَّح النووي أيضًا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة. قال: ونصَّ عليه الشافعي في البويطي. وبه قال الحنفية والحنابلة. وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب، يتضمّن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك. ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في "شفاء السقام" فشفى صدور المؤمنين. وحكى الشيخ ولي الدين العراقي أن والده كان معادلًا للشيخ زين الدين   المالكية والحنابلة, لكنه يخرج عنه" أي: النذر "بالصلاة في المسجد الحرام، وصحَّح النووي أيضًا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة، قال: ونصَّ عليه الشافعي في" مختصر البويطي، وبه قال الحنفية والحنابلة، وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع" أي: قبيح, "عجيب, يتضمَّن منع شد الرحال للزيارة النبوية, وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردَّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في" كتابه "شفاء السقام" في زيارة خير الأنام, "فشفى صدور المؤمنين" بردّه عليه، لكن نازعه ابن عبد الهادي بأن ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه, ولم ينه عنها ولم يكرهها، بل استحَبَّها وحضَّ عليها، ومصنفاته ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم, وسائر القبور، وإنما تكلّم على شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرّد زيارة القبور، فذكر قولين للعلماء المتقدمين المتأخرين، أحدهما: إباحة ذلك, كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والثاني: أنه ينهى عنه كما نص عليه مالك، ولم ينقل عن أحد من الثلاثة خلافه، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد, واحتج ابن تيمية للثاني بحديث الصحيحين: "لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد, مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" , فأي عتب على من حكى الخلاف في مسألة بين العلماء، واحتجَّ لأحد القولين بحديث صحيح، ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى. وفي شرح مسلم للنووي عن الجويني: النهي عن شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذاهب إلى قبور الأنبياء والصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك. انتهى ملخصًا. وما نقله عن مالك: لا يعرف عنه ولا حجة له في الحديث؛ لأن المعنى لا تشد الصلاة في مسجد بدليل ذكر مساجد. "وحكى الشيخ ولي الدين العراقي: أن والده" الحافظ زين الدين عبد الرحيم "كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 عبد الرحمن بن رجب الدمشقي في التوجّه إلى بلد الخليل -عليه السلام, فلمَّا دنا من البلد قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل -عليه السلام، ثم قلت: أمَّا أنت فقد خالفت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه قال: "لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد" , وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأمَّا أنا فاتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "زوروا القبور" أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! فبهت. وينبغي لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل الله أن ينفعه بزيارته, ويسعده بها في الدارين. وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجَّل ماشيًا باكيًا. ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم -صلوات الله وسلامه عليه.   معادلًا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقي" الحنلي, "في التوجّه إلى بلد الخليل -عليه الصلاة والسلام، فلمَّا دنا" ابن رجب "من البلد، قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية". "قال" الزين العراقي والد الوالي: "فقلت: نويت زيارة قبر الخليل -عليه الصلاة والسلام، ثم قلت له: أما أنت" يا ابن رجب "فقد خالفت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، وقد شددت" بفتح تاء الخطاب "الرحل إلى مسجد رابع، وأمَّا أنا فاتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "زوروا القبور" أفقال: إلا قبور الأنبياء" استفهام توبيخي, "فبهت" بالبناء للمفعول: دهش وتحير. "وينبغي لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على معالم" جمع معلم, ما يستدل به على "المدينة الشريفة, وما تعرف به" عطف تفسير لمعالم, "فليردد الصلاة عليه والتسليم، ويسأل الله أن ينفعه بزيارته, ويسعده بها في الدارين، وليغتسل وليلبس النظيف من ثيابه "وليترحَّل" يمشي على رجليه، فقوله: "ماشيًا" حال مؤكدة "باكيًا" خضوعًا وخشية وغلبة شوق, أو سرورًا، فإنه قد يحصل منه البكاء, "ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقوا أنفسهم" أي: نزلوا مسرعين "عن رواحلهم، فلم ينيخوها, وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم -صلوات الله وسلامه عليه", لكنه استحسن فعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 وروينا مما ذكره القاضي عياض في "الشفاء" أنَّ أبا الفضل الجوهري لما ورد إلى المدينة زائرًا، وقرب من بيوتها ترجَّل ومشى باكيًا منشدًا. ولما رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لبا نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع   الأشج؛ حيث أناخ راحلته، وأخرج منها ثيابًا لبسها، ثم أتى إليه، فقال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة". "وروينا مما ذكره القاضي عياض في الشفاء أنَّ أبا الفضل الجوهري" قال: شارح الشفاء ليس هو عبد الملك بن الحسن البصري, الواعظ بمصر في حدود السبعين وأربعمائة، وكان من العلماء الصالحين, يتبرك به ويقتدى به في السلوك، وإنما هو كما في تاريخ الأندلس: عبد الله بن الحكم الترمذي الأندلسي, ذو الوزارتين، له فضل باهر وحسب وأدب, عالم بالقراءات والحديث, وله شعر رائق ونثر فائق، وارتحل للمشرق فأخذ به عن ابن عساكر, وأكثر الرواية عنه, وله رياسة في عصره، صار بها كالمثل السائر إلى أن ردت الأيام منه ما وهبت، فانقضت أيامه وذهبت، فقُتِل لما خلع سلطانه، فنهبت أمواله وكتبه, ومات شهيدًا -رحمه الله, "لما ورد إلى المدينة زائرًا, وقرب من بيوتها ترجَّل" نزل عن دابته التي كان راكبًا عليها, "ومشى" تأدبًا حال كونه "باكيًا" خضوعًا وشوقًا أو سرورًا, "منشدًا" قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة من قصيدة أولها: فديناك من ربع وإن زدتنا كربًا ... لأنك كنت الشرق للشمس والغربا إلى أن قال: "ولما رأينا رسم" آثار الديار الدارسة، والمراد هنا آثاره -صلى الله عليه وسلم- في معاهده ومساكنه, "من لم يدع" يترك "لنا فؤادًا" قلبًا، أو داخل القلب أو غشاءه, "لعرفان" بمعنى معرفة "الرسوم" جمع رسم, "ولا لبًّا" عقلًا, "نزلنا عن الأكوار" جمع كور بالضم, وهو الرحل للإبل, بمنزلة السرج للفرس, "نمشي كرامة لمن بان" أي: بعد "عنه" أي: عن الإلمام, فالضمير عائد على متأخّر وهو البدل في قوله: "أن نلمّ" أي: عن أن نلم به من ألَمَّ إذا أتى، أي: نأتي لزيارته, "ركبًا" اسم جمع لراكب الإبل، أو أعمّ، أي: ركبانًا، وحاصل معناه أنه لا يليق بالأدب لمن كان بعيدًا عن محبوبه، ثم قرب منه أن يأتي إليه راكبًا، بل ماشيًا إكرامًا له. قال بعضهم: والإلمام الإتيان قليلًا, ويكون بمعنى القرب، ومن فسّر بأن بمعنى ظهر لم يصب، ولقد أجاد في تمثّله به ونقله للمحل الأليق به، وهذا نوع من البلاغة قريب من التضمين، وهو أن يورد شعر الغير في مقام يكون أحقّ به من صاحبه، ولم يتعرّض له أصحاب البديع، إلّا أن الإمام محمدًا التوزي أورده في كتاب الغرَّة اللائحة "وأنبئت أن العلامة أبا عبد الله" محمد بن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 وثمانين وستمائة، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم، وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا لتلك الآثار، وإعظامًا لمن حلَّ تلك الديار، فأحس بالشفاء, فأنشد لنفسه في وصف الحال: ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلامًا أثرن لنا الحبا وبالتراب منها إذا كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسًا نخاف ولا كربا وحين تبدَّى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ فيها أن نلم به ركبا نسح سجال الدمع في عرصاته ... ونلثم من حب لواطئه التربا   عمر "بن رشيد" بضمّ الراء وفتح المعجمة- الفهري السبتي، المولود بها سنة سبع وخمسين وستمائة، كان إمامًا حافظًا، فقيهًا عالمًا باللغة والعربية والعروض والقراءات والأصلين، حسن الخلق، كثير التواضع، ريّان من الأدب، ماهرًا في الحديث، أخذ ببلاده عن جماعة، ثم رحل فسمع بمصر والشام والحجاز عن خلائف ضمنهم رحلته التي سماها: ملء العيبة, وهي ست ملجدات، ثم عاد إلى غرناطة, فنشر بها العلم, ومات بفاس في محرَّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة, "قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة, كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم, وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة" ميقات المدينة "أو نحوها, نزلنا عن الأكوار" الرحال, "وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل" عن راحلته وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا" طالبًا الثواب مخلصًا "لتلك الآثار, وإعظامًا لمن حلّ تلك الديار" حبيب العزيز الغفار, "فأحسَّ بالشفاء" من الرمد, "فأنشد لنفسه في وصف الحال" ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا ولو قال: بطيبة بدل بيثرب كان الأولى بمزيد الشوق والأدب, "وبالترب:" بضم فسكون- جمع تراب "منها: إذ كحلنا" بالتخفيف "جفوننا, شفينا فلا بأسًا" شدة "نخاف ولا كربًا, وحين تبدى" ظهر "للعيون جمالها, ومن بعدها عنا أذيلت" بضم الهمزة وكسر الذال المعجمة- أي: سهلت "لنا قربًا" أي: من جهة القرب حتى صرنا نراها بأعيننا, "نزلنا عن الأكوار" الرحال "نمشي كرامة لمن حلّ فيها" لعل هذه رواية ثانية, وهي أسلس من قوله في الرواية الأولى السابقة: لمن بان عنه, "أن نلمّ به" نأتي إليه "ركبًا" أي: ركبانًا، وهذا البيت من قصيدة المتنبي, فهو من التضمين، وهو أن يضمّن شعره أو نثره شيئًا من كلام غيره, من غير نسبته إليه, وهو من البديع, "نسح" بضم السين، أي: نسيل, "سجال" بكسر السين وبالجيم- جمع سجل, وهو الدلو العظيمة الدمع في عرصاته" ساحاته, "ونلثم" بفتح المثلثة أفصح من كسرها نقبل "من" أجل حب لواطئه التربا" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 وإن نفادي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملك الشرق والغربا فيا عجبًا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا وزلات مثلي لا تعدد كثرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا لما كنت سائرًا لقصد الزيارة في ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح, المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالًا لمشاهدة تلك الآثار, فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبّت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا؛ إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية: ألا مع برق يغتدي ويروح ... أم النور من أرض الحجاز يلوح وريح الصبا هبت بطيب عرفهم ... أم الروض في وجه الصباح يفوح إذا ريح ذاك الحي هب فإنها ... حاة لمن يغدو لها ويروح ترفق بنا يا حادي العيس والتفت ... فللنور بين الواديين وضوح   مفعول نلثم "وأن نفادي دونه لخسارة، ولو أن كفِّي تملك" من الملك "الشرق والغربا". وفي نسخة: تملأ، أي: ولو فرض أن كفّي ملأتهما بإيصال النوال إلى أهلها, "فيا عجبًا ممن يحب بزعمه" مثلث الزاي- القول الحق والباطل, والكذب ضد, وأكثر ما يقال فيما يشك فيه كما في القاموس: "يقيم مع الدعوى" على البعد, "ويستعمل الكذب" في دعوى الحب, "وزلات مثلي لا تعدد" بدالين "كثرة" بالنصب، أي: لأجل كثرتها لا يمكن تعدادها, "وبعدي عن المختار أعظمها ذنبًا", وحدث المصنّف عن نفسه من باب التحديث بالنعم: "ولما كنت سائرًا لقصد الزيارة في ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة, ولاح ظهر لنا عند الصباح جبل مفرح الأوراح المبشر" الجبل, وهو أحد, يقرب المزار من أشرف الديار" المدينة, تسابق الزوار إليه, وتعالوا: "ارتفعوا بالصعود عليه استعجالًا لمشاهدة تلك الآثار، فبرقت: لمعت لوامع" إضاءات "الأنوار النبوية, وهبت عرف -بفتح المهملة وسكون الراء وبالفاء- ريح "نسمات المعارف المحمدية، فطبنا" في أنفسنا وغبنا" عمَّا يدرك بالحواس في مشاهدة تلك الأنوار المحمدية؛ "إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية, ألامع برق يغتدي ويروح" يجيء وقت الغدوة والرواح, أم النور من أرض الحجاز يلوح" يظهر, "وريح الصبا هبت بطيب عرفهم" ريحهم أم الروض في وجه الصباح يفوح" أزهاره, "إذا ريح ذاك الحي هبت، فإنها حياة لمن يغدو لها" يأتي وقت الغدوة أول النهار, ويروح يأتي وقت الزوال, ترفق بنا يا حادي العيس" الإبل, والتفت, فللنور بين الواديين وضوح" ظهور "فما هذه إلّا ديار محمد, وذاك سناها يغتدي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 فما هذه إلا ديار محمد ... وذاك سناها يغتدي ويروح وإلّا فما للركب هاج اشتياقهم ... فكل من الشوق الشديد يصيح وأنت مطايا الركب حتى كأنها ... حمام على قضب الأراك تنوح وقد مدت الأعناق شوقًا وطرفها ... إلى النور من تلك الديار لموح رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ... ومدمعها في الوجنتين سفوح إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق ... خفاء فما للصب ليس يبوح ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلًا: أتيتك زائرًا وودت أني ... جعلت سواد عيني أمتطيه ومالي لا أسير على المآقي ... إلى قبر رسول الله فيه ولما وقع بصري على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح   ويروح فيه إبطاء, "وإلا فما للركب هاج" ثار "اشتياقهم، فكل من الشوق الشديد يصيح" يصون بأقصى طاقته, "وأنَّت" بشد النون- صوَّتت مطايا الركب، حتى كأنها حمام على قضب" بضم القاف وإسكان المعجمة- أغصان الأراك تنوح -بفوقية فنون- تسجع, "وقد مدت الأعناق شوقًا وطرفها" بصرها "إلى النور من تلك الديار لموح" بضم الميم- كثير النظر, "رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ومدمعها" أي: دمعها "في الوجنتين" أي: عليهما, "سفوح" أي: مصبوب, "إذا العيس" بالكسر- الإبل البيض يخالط بياضها شقرة كما في القاموس، والمراد هنا مطلق الإبل, "باحت بالغرام" الولوع بالحب "ولم تطق خفاء" بالمد، أي: إخفاءه وستره, "فما للصب ليس يبوح" بصبابته وهي الشوق، أو رقَّته, أو رقة الهوى, مع أنه عاقل بخلاف العيس "ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها, وتدانينا من معاينة رباها" بضم الراء- جمع ربوة مثلثة- المكان المرتفع, "الكريمة وأكامها" جمع أكم بزنة كتب، ومَرَّ بيانه في الاستسقاء, "وانتشقنا عرف" أي: شممنا ريح "لطائف أزهارها وبدت" ظهرت "لنواظرنا بوارق" لوامع "أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا" الهبات, "ونزل القوم عن المطايا" جمع مطية, الدابة تمطو، أي: تمد في سيرها, "فأنشدت متمثلًا وهو إنشاد شعر الغير في مقام يناسبه, "أتيتك زائرًا وودت" تمنيت "أني جعلت سواد عيني أمتطيه" أجعله مطية لي "ومالي لا أسير على المآقي" جمع المموق طرف العين مما يلي الأنف إلى قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه، "ولما وقع بصري على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات" الدموع "حتى أصابت بعض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات, وقلت: أيها المغرم المشوق هنيئًا ... ما أنالوك من لذيذ التلاق قل لعينيك تهملان سرورًا ... طالما أسعداك يوم الفراق واجمع الوجد والسرور ابتهاجًا ... وجميع الأشجان والأشواق ومر العين أن تفيض انهمالًا ... وتوالى بدمعها المهراق هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع في الآماق وقلت: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرًا ولا نسأل عن الخبر ويستحَبُّ صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف -صلى الله عليه وسلم, فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية, قال في "تحقيق النصرة" وهو استدراك حسن, قاله بعض شيوخنا. وفي منسك ابن فرحون, فإن قلت: المسجد إنما تشرَّف بإضافته إليه -صلى الله عليه وسلم, فينبغي البداءة بالوقوف عنده -صلى الله عليه وسلم, قلت: قال ابن حبيب في أوّل كتاب الصلاة:   الثرى" التراب, "والجدرات" جمع جدار, "أيها المغرم المشوق هنيئًا ما أنالوك من لذيذ التلاق, قل لعينيك تهملان سرورًا طالما أسعداك يوم الفراق" تهملان -بضم الميم وكسرها- كما أفاده القاموس: تفيضان, وأسعداك عاوناك, "واجمع الوجد" الغضب في الحب, "والسرور" الفرح, "ابتهاجًا" سرورًا, "وجميع الأشجان" أي: الحاجات, "والأشواق" جمع شوق, نزاع النفس وحركة الهوى، والمعنى: إنه يجمع بين الأمور المتضادة من شدة فرحه بلقاء محبوبه, "ومر بالعين" بضم الميم وخفة الراء مكسورة "أن تفيض انهمالًا" تأكيد لمعنى تفيض, "وتوالى" تتابع, "بدمعها المهراق" المصبوب, "هذه دارهم, وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق" وأنشد أيضًا بيتًا مفردًا: وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة" اتباعًا لأمره بالتحية، فأَوْلَى ما يتبع في مسجده, "قيل: وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف -عليه الصلاة والسلام، فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية, قال في تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة, "وهو استدراك" أي: تقييد "حسن، قاله بعض شيوخنا، وفي منسك ابن فرحون" بفتح فسكون, "فإن قلت" المسجد إنما شرف بإضافته إليه -صلى الله عليه وسلم, فينبغي البداءة بالوقوف عنده -صلى الله عليه وسلم, قلت: قال ابن حبيب" عبد الملك الأندلسي أبو مران الفقيه المشهور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 حدَّثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلِّم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: "أدخلت المسجد فصليت فيه"؟ قلت: لا، قال: "فاذهب فادخل المسجد وصلّ فيه، ثم سلِّم علي". ورخص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج: وكل ذلك واسع, ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى. وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدًا في سلامه بين الجهر والإسرار، وفي البخاري: أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربًا، ترفعان أصواتكم في مسجد   قال الحافظ: صدوق، ضعيف الحفظ، كثير الغلط, مات سنة تسع وثلاثين ومائتين, "في أول كتاب الصلاة" من الواضحة, "حدَّثني مطرف" بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء الثقيلة- ابن عبد الله بن مطرف اليساري -بفتح التحتية والمهملة, أبو مصعب المدني, ابن أخت مالك، ثقة, من رجال البخاري والترمذي وابن ماجه, لم يصب ابن عدي في تضعيفه، مات سنة عشرين ومائتين على الصحيح, وله ثلاث وثمانون سنة, "عن مالك، عن يحيى بن سعيد" الأنصاري "عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما، قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلِّم عليه وهو بفناء المسجد" بكسر الفاء والمد- أي: خارجه, "فقال: "أدخلت المسجد فصليت فيه؟ " قلت: لا، قال: "فاذهب فادخل المسجد وصلّ فيه، ثم سلِّم علي" , فإذا أمر بتقديم الصلاة على السلام فيه عليه, مع كونه بفنائه, فأَوْلَى إذا كان داخله, "ورخَّص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة, وقال ابن الحاج: وكل ذلك واسع، ولعل هذا الحديث لم يبلغهم, والله أعلم ... انتهى" كلام ابن فرحون. "وينبغي للزائر أن يستحضر ن الخشوع ما أمكنه, وليكن مقتصدًا في سلامه بين الجهر والإسرار، وفي البخاري" في الصلاة "أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال لرجلين" قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين، لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان. انتهى. وهو مفاد قوله: "من أهل الطائف"؛ إذ أهله ثقيف: "لو كنتما من أهل البلد" أي: المدينة, "لأوجعتكما" يدل على أنه كان تقدَّم نهيه عن ذلك, وفيه العذر لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله، وقوله: "ضربًا" ليس في البخاري. قال الحافظ: قوله: لأوجعتكما، زاد الإسماعيلي جلدًا من هذه الجهة يتبيّن كون الحديث له الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا ولا ميتًا. وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد, والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم, فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مصراعيْ داره إلا بالمصانع توقيًا لذلك، نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما في حياته. وينبغي للزائر أن يتقدَّم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصحابين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه الكريم, ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه -صلى الله عليه وسلم, بأن يقابل المسمار الفضة المضروب في الرخام الذي   حكم الرفع؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلّا على مخالفة أمر توقيفي, "ترفعان" جواب سؤال مقدَّر كأنهما قالا: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان، وفي رواية الإسماعيلي: برفعكما "أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم". وقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا ولا ميتًا" فوق ما يساور به الإنسان صاحبه، روي "عن عائشة -رضي الله عنها, أنها كانت تسمع صوت الوتد" بالفتح وبالتحريك، وككتف- ما رز في الأرض أو الحائط من خشب، قاله القاموس: يوتد يدق "والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة -بضم الميم وكسر الطاء وسكون الياء وبالفاء- أي: المحيطة "بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم, فترسل إليهم، لا تؤذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بدق الوتد وضرب المسمار, "قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه" أي: ما صنع "مصراعي داره إلّا" خارج المدينة, "بالمصانع" بصاد وعين مهملتين- محل بالمدينة, كان متبرز النساء ليلًا قبل اتخاذ الكنف, وهي ناحية بئر أبي أيوب, وأظنها لمعروفة اليوم ببئر أيوب, شرقي سوق المدينة ببقيع الغرقد، قاله الشريف, "توقيًا لذلك" لئلَّا يتأذَّى بسماع صوت الخشب عند صنعه لو صنعه في بيته أو خارج المسجد بقربه, "نقله ابن زبالة" بفتح الزاي- محمد بن الحسن, "فيجب الأدب معه كما في حياته"؛ إذ هو حي في قبره يصلي فيه بأذان وإقامة, كما مرَّ في الخصائص. "وينبغي للزائر أن يتقدَّم إلى القبر من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصاحبين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه الكريم، ويستدبر القبلة ويقف قباله". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 في الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم؛ لأن هناك عدة قناديل. وقد روي أن مالكًا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي: يا أبا عبد الله, أأستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم -عليه السلام- إلى الله -عز وجل- يوم القيامة. لكن رأيت منسوبًا للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: إن هذه الحكاية كذب على مالك, وأنَّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده -صلى الله عليه وسلم- قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.   بضم القاف تجاه "وجهه -صلى الله عليه وسلم, بأن يقابل المسمار الفضة المضروب في الرخام الذي في الجدار, ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم؛ لأنَّ هناك عدة قناديل", وإن كان معتبرًا في زمن التابعين، ففي الشفاء قال ابن أبي مليكة: من أحَبَّ أن يكون وجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه. "وقد روي أن مالكًا لما سأله أبو جعفر" عبد الله بن محمد "المنصور العباسي" ثاني خلفاء بني العباء: "يا أبا عبد الله" كنية مالك, "أأستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدعو, أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك, ووسيلة أبيك أدم -عليه السلام- إلى الله -عز وجل- يوم القيامة، بل استقبله واستشْفِع به فيشفعه الله، هذا بقية المروي عن مالك -كما في الشفاء, "لكن رأيت منسوبًا للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه, أنَّ هذه الحكاية كذب على مال" هذا تهوّر عجيب، فإن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه: فضائل مالك, بإسنادٍ لا بأس به، وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه, عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه، فمن أين أنها كذب, وليس في إسنادها وضَّاع ولا كذَّاب, "وأنَّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه" نفيه مردود عليه من قصوره أو مكابرته، ففي الشفاء قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فوقف فرفع يديه, حتى ظننت أنه افتتح الصلاة, فسلَّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم انصرف, "ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده -صلى الله عليه وسلم, قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهيةً لذلك" كذا قال, وهو خطأ قبيح, فإن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلًا له مستدبر القبلة, ومِمَّنْ نَصَّ على ذلك أبو الحسن القابسي, وأبو بكر بن عبد الرحمن, والعلامة خليل في مناسكه، ونقله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 وينبغي أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع, ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاضّ البصر في مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه في حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه, وسماعه لسلامه، كما هو الحال في حال حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته, ومعرفته أحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جليّ لا خفاء به. فإن قلت: هذه الصفات مختصة بالله تعالى. فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء.   في الشفاء عن ابن وهب عن مالك، قال: إذا سلَّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا, يقف وجهه إلى القبر لا إلى القبلة, ويدنو ويسلِّم, ولا يمسَّ القبر بيده. انتهى. وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور، ونقل عن أبي حنيفة، قال ابن الهمام، وما نُقِلَ عنه أنه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: من السُّنَّة أن يستقبل القبر المكرَّم, ويجعل ظهره للقبلة, وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وقول الكرماني: مذهبه خلافه ليس بشيء؛ لأنه حيّ، ومن يأتي لحيٍّ إنما يتوجَّه إليه. انتهى. ولكن هذا الرجل ابتدع له مذهبًا وهو عدم تعظيم القبور، وإنها إنما تزار للترحّم والاعتبار, بشرط ألَّا يشد إليها رحل، فصار كل ما خالفه عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه, انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نُسِبَ إليه مجازفة وعدم نصفة، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله، ثم إن نقل كلامه من أوّل، لكن رأيت ساقط في أكثر نسخ المصنف وهو أَوْلَى بالصواب، وسيعيد المصنّف قريبًا نقله, والتبري منه بقوله: كذا. قال: وينبغي أن يقف عند محاذاة أربع أذرع" وقيل: ثلاثة، وهذا باعتبار ما كان في العصر الأوّل، أمَّا اليوم فعليه مقصورة تمنع من دنو الزائر, فيق عند الشباك، قاله بعض, "ويلازم الأدب والخشوع والتواضع, غاضّ البصر في مقام الهيبة, كما كان يفعل بين يديه في حياته"؛ إذ هو حي, "ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه, وسماعه لسلامه, كما هو في حال حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته, ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جليّ" ظاهر "لا خفاء به" باطِّلاع الله تعالى على ذلك. "فإن قلت: هذه الصفات" المذكورة من معرفته إلى هنا "مختصَّة بالله تعالى، فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين" الكاملين, "يعلم أحوال الأحياء غالبًا" بإعلام الله تعالى لهم، كما في حديث: "تعرض الأعمال كل يوم الخميس والإثنين على الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 غالبًا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور في مظنَّة ذلك من الكتب. وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلّا ويعرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم. ويمثل الزائر وجهه الكريم -عليه الصلاة والسلام- في ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته وعلوّ منزلته، وعظيم حرمته، وإنَّ أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلّا كأخي السرار، تعظيمًا لما عظَّم الله من شأنه. وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة -رضي الله عنها: أن اكشفي لي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فكشفته, فبكت حتى ماتت. وحكي عن أبي الفضائل الحموي، أحد خدَّام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصًا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته.   تعالى, وتعرض على الأنبياء والآباء والآمهات يوم الجمعة, فيفرحون بحسناتهم, وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا, فاتقوا الله ولا تؤذوا أمواتكم". رواه الترمذي الحكيم, "وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور في مظنَّة ذلك من الكتب، وقد روى ابن المبارك" عبد الله: بذكره تستنزل الرحمة "عن سعيد بن المسيب، قال: ليس من يوم إلّا وتعرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- أعمال أمَّته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم" يوم القيامة, "ويمثل" يصور "الزائر وجهه -عليه الصلاة والسلام- في ذهنه، ويحضر الزائر قلبه جلال رتبته وعلوَّ منزلته وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلّا كأخي السرار" بكسر السين وراءين بينهما ألف "تعظيمًا لما عظَّم الله من شأنه". وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة -رضي الله عنها, أن اكشفي لي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكشفته، فبكت حتى ماتت" شوقًا إليه. "وحكي عن أبي الفضائل الحموي أحد خدَّام الحجرة المقدَّسة أنه شاهد شخصًا من الزوار الشيوخ أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة, فحركوه فإذا هو ميت، وكان" أبو الفضائل "ممن شهد جنازته، ثم يقول: الزائر بحضور قلب وغض طرف" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغضّ بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجَّلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جازي نبيًّا ورسولًا عن أمته، وصلى الله عليك كُلَّما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغت الرسالة, وأدَّيب الأمانة, ونصحت الأمة, وجاهدت في الله حق جهاده. ومن ضاق وقته عن ذلك أو عن حفظه, فليقل ما تيسّر منه، أو مما يحصل به الغرض. وفي "التحفة": أنَّ ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون في   بصر "و" خفض "صوت وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد" أفضل "المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر" بضم المعجمة وشد الراء "المحجَّلين" هم أمته, وهذه سيماهم ليست لغيرهم, "السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات" صفة لازمة "أمهات المؤمنين", وهل يقال لهنَّ أمهات المؤمنات أيضًا, قولان مرجحان, "السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر" أي: جميع "عباد الله الصالحين" أي: المؤمنين, "جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جزى نبيًّا ورسولًا عن أمته, وصلى الله عليك كُلَّما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون" عبارة عن استمرار الصلاة؛ إذ لا ينفك الخلائق بعضهم عن الذكر, وآخرون عن الغفلة, "أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغت الرسالة, وأدَّيت الأمانة, ونصحت الأمَّة, وجاهدت في الله حقَّ جهاده" بنفسك وبعوثك وسراياك, ما جملته نحو المائة في تسع سنين, "ومن ضاق وقته عن ذلك أو عن حفظه, فليقل ما تيسَّر" له "منه، أو" من غيره, "مما يحصل به الغرض". "وفي التحفة" أي: كتاب تحفة الزائر لابن عساكر "أن ابن عمر وغيره من السلف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 هذا جدًّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن, من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قَدِم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدَّس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. وينبغي أن يدعو، ولا يتكلّف السجع, فإنه قد يؤدي إلى الإحلال بالخشوع. وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ في "الشامل", الحكاية المشهورة عن العتبي، واسمه: محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب، وتوفي في سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزية في منبر الغرام الساكن عن   كانوا يقتصرون ويوجزون" يأتون بألفاظ قليلة جامعة لمعانٍ كثيرة, "فعن مالك إمام دار الهجرة, وناهيك به خبرة بهذا الشأن, من رواية ابن وهب" عبد الله "عنه يقول" المسلِّم أو الزائر: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته", فهذا لفظ موجز مع صحته عنه -صلى الله عليه وسلم- في التشهد، زاد مالك في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر، أي: بعد السلام عليه. وعن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا قَدِمَ من سفر دخل المسجد" فصلى ركعتين, "ثم أتى القبر المقدَّس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه", وفي الشفاء عن نافع: كان ابن عمر يسلِّم على القبر، رأيته مائة مرة وأكثر، يأتي فيقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف، انتهى. وظاهر أنَّ هذا كان دأبه وإن لم يسافر؛ لأنه لم يسافر أكثر من مائة مرة، فحدَّث نافع تارة عن حالة إذا قدم من سفر, وتارة عن حاله بدون سفر فلا يحمل عليه، وفيه إشارة إلى أن الأَوْلَى الاختصار، وقيل: يطيل ما شاء من ثناء ودعاء وتوسّل، وقيل: يختلف باختلاف الناس والأحوال, "وينبغي أن يدعو ولا يتكلّف لسجع, فإنه قد يؤدي إلى الإخلال بالخشوع، وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ في الشامل, الحكاية المشهورة عن العتبي" بضم فسكون, "واسمه: محمد بن عبيد الله" بضم العين "ابن عمرو بن معاوية بن عمرو" بفتح العين "ابن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب، وتوفي" محمد المذكور "في سنة ثمان وعشرين ومائتين". "وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزي في منبر الغرام الساكن، عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 محمد بن حرب الهلالي قال: أتيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فزرته, وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابًا صادقًا، قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي, وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكن ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ووقف أعرابي على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا, تسأل العتق لك وحدك، هلّا سألت لجميع الخلق, اذهب فقد أعتقناك من النار. إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... في رقهم أعتقوهم عتق أحرار وأنت يا سيدي أولى بذا كرمًا ... قد شبت في الرق فاعتقني من النار   محمد بن حرب الهلالي، قال: أتيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فزرته وجلست بحذائه" بمعجمة ومد بمقابله, "فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خيرة الرسل, إن الله أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] التفت عن استغفرت لهم تنويهًا بشأنه, {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا} عليهم {رَحِيمًا} بهم, "وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي, مستشفعًا بك إلى ربي، وأنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنَّ القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم وبقية هذه الحكاية: ثم استغفر وانصرف، فرقدت فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم وهو يقول: الحق الأعرابي وبشِّره بأنَّ الله قد غفر له بشفاعتي، فاستيقظت فخرجت لطلبه فلم أجده, "ووقف أعرابي على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك, فاعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا, تسأل العتق لك وحدك، هلّا سألت العتق لجميع الخلق، اذهب فقد أعتقناك من النار", وأنشد المصنف لغيره. إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... في رقهم أعتقوهم عتق أحرار وأنت يا سيدي أَوْلى بذا كرمًا ... قد شبت في الرق فاعتقني من النار وعن الأصمعي: وقف أعرابي مقابل القبر الشريف، فقال: اللهمَّ إن هذا حبيبك وأنا عبدك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 وعن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم على قبره -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا, ما أذنَّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا وقد قبلناك, فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورًا لكم. وقال ابن أبي فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة, ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان, ولم تسقط له حاجة. قال الشيخ زين الدين المراغي وغيره: الأَوْلَى أن ينادي: يا رسول الله, وإن كانت الرواية: يا محمد، انتهى.   والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، اللهمَّ إن العرب الكرام إذا مات منهم سيد أعتقوا على قبره, وإن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره. قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب, إن الله قد غفر لك وأعتقك بحسن هذا السؤال. "وعن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم" البلخي, من أجل المشايخ الزهّاد, اعتزل الناس ثلاثين سنة في قبة لا يكلمهم إلّا جوابًا بالضرورة, "على قبره -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رب, إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا, ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا وقد قبلناك، فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورًا لكم. وقال ابن أبي فديك -بضم الفاء وفتح المهملة وتحتية وكاف- محمد بن إسماعيل بن مسلم الديلمي، مولاهم المدني، مات سنة مائتين على الصحيح, وهو من رجال الجميع. وهذا رواه البيهقي عنه، قال: "سمعت بعض من أدركت" من العلماء والصلحاء "يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] إلى تسليمًا, "وقال: صلى الله عليك يا محمد, حتى يقولها سبعين مرة, ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان, ولم تسقط له حاجة" أي: لا ترد ولا تخيب، شبَّه عدم قبولها بسقوط شيء يقع من يده، وخصّ السبعين لأنها محلّ الإجابة، كما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة} [التوبة: 80] . "قال الشيخ زين الدين المراغي وغيره: والأَوْلَى أن ينادي: يا رسول الله، وإن كانت الرواية: يا محمد. انتهى" للنهي عن ندائه باسمه حيًّا وميتًا، فإن كان هذا مأثورًا عنه صحيحًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 وقد نبَّهت على ذلك مع مزيد بيان في كتاب "لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار". فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان. ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلّم على أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنَّ رأسه بحذاء منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيَّد الله به -يوم الردة- الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه، وارض عنَّا به. ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلِّم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيِّد الله به الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه، وارض عنا به.   اغتفرا تباعًا للمأثور، ولتقدم تعظيمه بقوله: صلى الله عليك، كما قيل: "وقد نبَّهت على ذلك مع مزيد بيان في كتاب لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار، فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" بأن قال الموصي: قل: السلام عليك من فلان، أو سلم لي عليه -صلى الله عليه وسلم، وتحمل ذلك, ورضي به, وجب عليه إبلاغه؛ لأنه أمانة يجب أداؤها, "فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان", وقول بعضهم: إنه سنة لا واجب؛ إذ ليس في تركه سوى عدم اكتساب فضيلة للغير فلا سبب يقتضي التحريم، ردَّ بأن المأمور حيث التزم ذلك, وقبله وجب التبليغ؛ لأنه أمانة التزم أداءها له عليه السلام, "ثم ينتقل" الزائر المسلم "عن يمينه قدر ذراع, فيسلّم على أبي بكر -رضي اله عنه؛ لأن رأسه بحذاء منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر", وهو أشهر الروايات السبع وأصحّها فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد الله به -يوم الردة- الدِّين" ومَرَّ حديث: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة" جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا, اللهمَّ ارض عنه وارض عنا به، ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع, فيسلِّم على عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد الله به الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه وارض عنا به", وما ذكره من الدعاء لهما بلفظ: السلام، ذكره جماعة من المالكية وغيرهم, وهذا بخلاف الصلاة, فتكره استقلالًا على غير نبي أو ملك، وفي موطأ مالك عن عبد الله بن دينار، قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فيصلي على قبر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 ثم يرجع إلى موقفه الأوَّل قبالة وجه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبي بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم، ويكثر من الدعاء والتضرّع، ويجدِّد التوبة في حضرته الكريمة، ويسأل الله بجاهه أن يجعلها توبة نصوحًا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- بحضرته الشريفة؛ حيث يسمعه ويردّ عليه. وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يسلِّم علي إلّا ردَّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام".   النبي -صلى الله عليه وسلم, وعلى أبي بكر وعمر. كذا رواه يحيى بن يحيى الليثي عن مالك، ورواه القعنبي وابن بكير, وسائر رواة الموطَّأ، بلفظ: فيصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم, ويدعو لأبي بكر وعمر، ففرَّقوا بين يصلي ويدعوا، وإن كانت الصلاة قد تكون دعاء؛ لأنه خص بلفظ: الصلاة عليه ..... الآية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] . وقد أنكر العلماء رواية يحيى ومن وافقه، قاله ابن عبد البر، ولعلَّ إنكارهم من حيث اللفظ الذي خالف فيه الجمهور, فتكون روايته شاذّة، وإلّا فالصلاة على غير النبي تجوز تبعًا كما هنا، وإنما اختلف فيها استقلالًا بالمنع والجواز والكراهة، وصحَّحها الأبي, "ثم يرجع إلى موقفه لأوَّل قبالة" بضم القاف "وجه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبي بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده" على هذه النعمة العظيمة من تسهيل الزيارة له, ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم, ويكثر الدعاء والتضرّع, ويجدد التوبة في حضرته الكريمة, ويسأل الله تعالى بجاهه أن يجعلها توبة نصوحًا" خالصة, "ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحضرته الشريفة؛ حيث يسمعه ويرد عليه" بأن يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حيًّا مخاطبًا له لسمعه عادة. وقد روى أبو داود بإسناد صحيح "من حديث أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم" الذي في أبي داود, وهو الذي قدَّمه المصنف في مبحث الصلاة: ما من أحد. نعم المراد مسلم, "يسلِّم عليّ" في أي محل كان، قال السخاوي: وزيادة عند قبري, لم أقف عليها فيما رأيته من طرق الحديث. "إلا رَدَّ الله عليّ روحي" قال السيوطي: كذا رواه أبو داود: علي، وللبيهقي، إلي, وهي ألطف وأنسب؛ لأن ردَّ يعدى بعلى في الإهانة، وبإلى في الإكرام، فمن الأوّل: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، ومن الثاني: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليَّ نائيًا بلغته". وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضي عياض في الشفاء" قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك, أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم. ولا شكَّ أن حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون حياته -صلى الله عليه وسلم- أكمل وأتمّ من   ولا يطرد هذا بدليل رواية: عليّ, هنا في الإكرام, "حتى" غاية لرد في معنى التعليل، أي: لأجل أن "أرد عليه السلام, عند ابن أبي شيبة", وعبد الرزاق "من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلَّى عليَّ نائيًا" بعيدًا, "بلغته" من الملك الموكَّل بقبره, بإبلاغه صلاة أمته عليه، والظاهر أنَّ المراد بالعندية قرب القبر؛ بحيث يصدق عليه عرفًا أنه عنده، وبالبعد ما عداه, وإن كان بالمسجد، قال السخاوي: إذا كان المصلي عند قبره سمعه بلا واسطة, سواء كان ليلة الجمعة أو غيرها، وما يقوله بعض الخطباء ونحوهم أنه يسمع بأذنيه في هذا اليوم من يصلي عليه, فهو مع حمله على القرب لا مفهوم له. انتهى. وتقدم لذلك مزيد في مقصد المحبة وقبله في الخصائص، وأورد أن ردَّ السلام على المسلِّم لا يختص به -صلى الله عليه وسلم, ولا بالأنبياء، فقد صحَّ مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن, ومن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه, إلا عرفه وردَّ عليه السلام"، وأجيب بأنَّ الرد من الأنبياء رد حقيقي بالروح والجسد بجملته, ولا كذلك الرد من غير الأنبياء والشهداء فليس بحقيقي، وإنما هو بواسطة اتصال الروح بالجسد، لأنَّ بينه وبينها اتصالًا يحصل بواسطة التمكّن من الرد, كون أرواحهم ليست في أجسادهم, وسواء الجمعة وغيرها على الأصح، لكن لا مانع أنَّ الاتصال في الجمعة واليومين المكتنفين به أقوى من الاتصال في غيرها من الأيام. انتهى. "وعن سليمان بن سحيم" بمهملتين- مصغَّر, المدني, مولى آل العباس، وقيل: مولى آل الحسين، تابعي، ثقة، روى له مسلم, والسنن إلا الترمذي, "مما ذكره القاضي عياض في الشفاء" وأخرجه البيهقي في حياة الأنبياء, وابن أبي الدنيا عن سليمان "قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم", ورؤياه حق "فقلت: يا رسول الله, هؤلاء الذين يأتونك فيسلِّمون عليك, أتفقه" أتفهم "سلامهم، قال: نعم" أفقهه, "وأرُدّ عليهم" عطف على معنى نعم, لا على قول السائل, وإنه من العطف التقليني كما توهم لوجود نعم؛ إذ معناها: أفقه "ولا شكَّ أن حياة الأنبياء -عليهم السلام- ثابتة معلومة مستمرة ثابتة" في الاستمرار, فلا تكرار, ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم" بالنصوص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 حياة سائرهم. فإن قال سقيم الطبع رديء الفهم: لو كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة, لما كان لرد روحه معنَى كما قال: "إلا ردَّ الله عليَّ روحي". يجاب عن ذلك من وجوه: أحدها: إن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائمًا لثبوت رد السلام دائمًا, فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه, أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائمًا؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائمًا، وهذا من نفاثات سحر البيان في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التي هي قطرة من بحار بلاغته العظمى. ومنها: إن ذلك عبارة عن إقبال خاصّ، والتفات روحانيّ يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك ردّ السلام، وهذا الإقبال يكون عامًّا شاملًا، حتى لو كان   والإجماع, "وإذا كان كذلك فينبغي" يجب "أن تكون حياته أكمل وأتم من حياة سائرهم" أي: الأنبياء -عليهم السلام, "فإن قال سقيم الطبع رديء الفهم: لو كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة, لما كان لرد روحه معنًى، كما قال" في الحديث: "إلا ردَّ الله عليَّ روحي" , فإن مقتضاه انفصالها عنه وهو الموت, "يجاب عن ذلك من وجوه، أحدها: إن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائمًا" لاستحالة خلوّ الوجود كله عن مسلِّم عليه عادة, "فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم" لصفة الحياة, "واللازم يجب وجوده عند ملزومه, أو ملزوم ملزومه" فأطلق الملزوم هنا وهو ردّ الروح، وأراد لازمه وهو صفة الحياة الملزومة لرد السلام، فكأنه قال: إلّا وجدني حيًّا, "فوصف الحياة ثابت دائمًا؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائمًا, وهذا من نفّاثات" بفتح النون والفاء المشددة ويجوز ضم النون وفتح الفاء مخففة- لكن الأوَّل أنسب بقوله: "حر البيان", والمراد: العبارات البليغة "في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة, وأجمل" بالجيم "فنون" جمع في البراعة, التي هي قطرة من بحار بلاغته العظمى" صلى الله عليه وسلم, ومنها: إن ذلك عبارة عن إقبال خاصّ, والتفات روحاني" بضم الراء- لا يكيّف يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا, وقوال -بكسر اللام- جمع قال -بفتحها؛ لأن فاعل بالفتح جمعه فواعل بالكسر "الأجساد الترابية, وتنزل إلى دائرة البشرية" عَبَّر عنه برد الروح تجوزًا للتقريب للإفهام حتى يحصل عند ذلك رد السلام, وهذا الإقبال يكون عامًّا شاملًا حتى لو كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 المسلِّمون في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف, لوسعهم ذلك الإقبال النبوي والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبّر عنه، ولقد أحسن من سُئِلَ: كيف يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ سَلَّمَ عليه من مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد, فأنشد قول أبي الطيب: كالشمس في وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا   المسلِّمون" بكسر اللام الثقيلة, "في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف" ثلاثًا؛ "لوسعهم ذلك الإقبال النبوي, والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبِّر عنه"؛ لأنه أمر لا يدرك بالعبارة, وإنما يعرفه من شاهده, ولا يقدر على التعبير عنه. وفي فتح الباري أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، أحدها: إن المراد بقوله: "ردَّ الله إلي روحي" أن رد روحه كانت ساقة عقب دفنه, لا أنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد. الثاني: سلمنا, لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه. الثالث: إن المراد بالروح الملك الموكَّل بذلك. الرابع: المراد بالروح النطق، فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه. الخامس: إنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلَّم عليه رجع إليه فهمه؛ ليجيب مَنْ يسلِّم عليه، واستشكل ذلك من جهة أخرى, وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة -عليه والسلام- في سائر أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة، وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. انتهى. بلفظه: والجوب الأوّل للبيهقي, واعترض بأنه خلاف الظاهر، واعترض الثالث بأن الإضافة في روحي تأباه، وأجيب بأنه لما كان ملازمًا مختصًّا به صحَّت إضافته إليه، بل قيل: إنه أقرب الأجوبة، وقد أطلق الروح على الملك في القرآن والسنَّة، واعترض الرابع بأن استعارة الروح للنطق بعيدة وغير مألوفة, ولا رونق لها يليق بالفصاحة النبوية، ولو سلم كان ركيكًا؛ لأن قوله: حتى أراد يأباه، وتعقّب بأنه لا بعد ولا ركاكة؛ لأنه للتقريب للإفهام كما قال، بل علاقة المجاز كما قال ابن الملقن وغيره: إن النطق من لازمه وجود النطق بالفعل أو بالقوة, وهو في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت, مستغرق في مشاهدته، مأخوذ عن النطق بسبب ذلك، ومن الأجوبة أنَّ رد الروح مجاز عن المسرَّة، فإنه يقال لمن سر عادت له روحه، ولضده ذهبت، فهو عبارة عن دوم سروره -صلى الله عليه وسلم- بالسلام عليه؛ لأن الكون لا يخلو عن مسلِّمٍ عليه، بل قد يتعدَّد في آنٍ واحد ما لا يحصى وأن رد الروح عبارة عن حضور الفكر كما قيل في خبر: إنه ليغان على قلبي, "ولقد أحسن من سئل كيف يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ سَلَّم عليه في مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد، فأنشد قول أبي الطيب" أحمد المتنبي في ممدوحه ناقلًا له إلى من هو اللائق به: كالشمس في وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 ولا ريب أن حاله -صلى الله عليه وسلم- في البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل -عليه السلام- يقبض مائة ألف روح في وقت واحد, ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- حي يصلي ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال في حضرة اقترابه، متلذذًا بسماع خطابه، وقد تقدَّم الجواب عن قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} في أواخر الخصائص من المقصد الرابع. وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم   كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا ولا ريب أن حاله -صلى الله عليه وسلم- في البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل" اسم ملك الموت على ما اشتُهر "عليه السلام, يقبض مائة ألف روح" أو أزيد في وقت واحد, ولا يشغله" بفتح أوله وثالثه على الأفصح "قبض عن قبض, وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى, مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- حي" في قبره "يصلي ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال في حضرة اقترابه" أي: دنوه "متلذذًا بسماع خطابه". وكذا كان شأنه وعادته في الدنيا, يفيض على أمته من سبحات الوحي الإلهي مما أفاضه الله عليه، ولا يشغله هذا الشأن وهو شأن إفاضة الأنوار القدسية على أمته عن شغله "بالحضرة الإلهية "وقد تقم الجواب عن قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] في أواخر الخصائص من المقصد الرابع" عن السبكي, بما حاصله: إن موته لم يستمر, وأنه أحيي بعد الموت حياة حقيقية, ولا يلزم منه أن يكون البدن معها كما في الدنيا من الحاجة إلى طعام وشراب, وغير لك من صفات الأجسام التي نشاهدها، أي: لأنَّ ذلك عادي لا عقلي, والملائكة أحياء ولا يحتاجون إلى ذلك. "وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة" بفتح الحاء والراء المهملتين- أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار, كانت بها الوقعة المشهورة بين عسكر يزيد بن معاوية وبين أهل المدينة بسبب أنهم خلعوا يزيد, وولوا على المهاجرين عبد الله بن مطيع, وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة, وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بينهم، فبعث لهم يزيد جيشًا عدته سبع وعشرون ألف فارس, وخمسة عشر ألف راجل، فظفروا, فأباحوا المدينة ثلاثة أيام قتلًا ونهبًا وزنًا, وغير ذلك, وقتل فيها خلق كثير من الصحابة وغيرهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 يؤذّن في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلّا بهمهمة يسمعها من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ: قال سعيد -يعني: ابن المسيب: فلمَّا حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة في القبر المقدَّس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعني: ليالى أيام الحرة. وقد روى البيهقي وغيره: من حديث أنس أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" , وفي رواية: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور".   وفي البخاري عن ابن المسيب، أنها لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا "لم يؤذن في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم" لعدم تمكّن أحد من دخول المسجد من الخوف, "ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد, وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم", "وذكره ابن النجار وابن زبالة" بفتح الزاي "بلفظ" أنَّ الأذان ترك في أيام الحرة ثلاثة أيام, وخرج الناس وسعيد بن المسيب في المسجد. "قال سعيد -يعني ابن المسيب" فاستوحشت فدنوت من القبر, "فلمَّا حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر" الشريف, يحتمل من ملك موكّل بذلك, إكرامًا له -عليه السلام, ويحتمل غير ذلك, فصليت ركعتين" نفلًا "ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر" اكتفاءً بذلك؛ لعلمه أنه حق، إلّا أن قوله: فلمَّا حضرت الظهر يقتضي أنه علم دخول الوقت قبل سماع الأذان, وصريح لرواية الأولى أنه لا يعرف الوقت إلا بسماع الهمهمة من القبر. فإما ن يئول: حضرت الظهر, على معنى بسماع الأذان، وإمَّا أن المراد بالحضر في الوقت غير الظاهر كالظهر, "ثم مضى" أي: استمرَّ "ذلك الأذان والإقامة في القبر المقدَّس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال -يعني: ليالي أيام الحرة، كرامةً له وتأنيسًا لاستيحاشه بانفراده في المسجد. "وقد روى البيهقي" في كتاب حياة الأنبياء وصحَّحه, "وغيره" كأبي يعلي والبزار وابن عدي "من حديث أنس, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" تلذذًا وإكرامًا. "وفي رواية" للبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, أحد فقهاء الكوفة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة" من موتهم, "ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 وله شواهد في الصحيح, منها: قوله في صحيح مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم: "مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره" , وفي حديث أبي ذر في قصة المعراج: أنه لقي الأنبياء   قال الحافظ: ومحمد سيء الحفظ، وذكر الغزالي ثم الرفعي حديثًا مرفوعًا: "أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث ولا أصلّ له" إلا أن أخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه, وليس الأخذ بجيد، لأن روايته قابلة للتأويل. قال البيهقي: إن صحَّ، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلّا هذا القدر، ثم يكونون مصلين بين يدي الله تعالى. انتهى كلام الحافظ. وفي جامع الثوري ومصنف عبد الرزاق, عن ابن المسيب, أنه رأى قومًا يسلِّمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين يومًا حتى يرفع، ولا يصح هذا عن ابن المسيب، كما قال شيخنا, بأنه لا يتركني على حالتي؛ بحيث لا يقوى تعلق الروح بالجسد على وجه يمنع من ذهاب الروح بعد تعلقها بالجسد؛ حيث شاءت متشكلة بصورة الجسد، وأمَّا الجسد فهو باقٍ إلى يوم القيامة، وقوله: "ما يمكث نبي" يعني: غير المصطفى, فغيره من الأنبياء إنما يقوى تعلق أرواحهم بأجسادهم بعد الأربعين, ومع ذلك هو صادق بأن يكون بعدها بزمن طويل أو يسير، وبهذا الجمع يندفع التعارض. انتهى. لكن قوله: هو صادق لا يصح؛ لأنه خلاف قول الخبر: "لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة" , وخلاف قول ابن المسيب: ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين، فإن صريحهما أن حدَّ المكث لا يزيد على الأربعين بقليل فضلًا عن الكثير "وله شواهد" أي: للحديث الأوّل كما في الفتح. قال البيهقي: وشاهد الحديث الأوّل "في الصحيح منها قوله في صحيح مسلم" عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "مررت بموسى" ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر "وهو قائم يصلي في قبره" هذا لفظ مسلم, فاختصره المصنف كما ترى، قيل: المراد الصلاة اللغوية, أي: يدعو الله ويذكره ويثني عليه, وقيل: الشرعية. قال القرطبي: ظاهره أنه رآه رؤية حقيقية في اليقظة, وأنه حي في قبره, يصلي الصلاة التي كان يصليها في الحياة وذلك ممكن, وفي الفتح: فإن قيل: هذا خاصّ بموسى, قلنا: له شاهد عند مسلم أيضًا عن أبي هريرة رفعه: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسرايط". ... الحديث وفيه: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء إلى أن قال: "فحانت الصلاة فأممتهم". قال البيهقي: وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه لقيهم ببيت المقدس. "وفي حديث أبي ذر" ومالك بن صعصعة في الصحيحين، في قصة المعراج أنه لقي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 في السموات، وكلموه وكلمهم. وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة في مقصد معجزاته، وفي مقصد الإسراء والمعراج. وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ, ويحتمل أن يكونوا في البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبالله التوفيق. وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] حياة الشهيد، ثبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى، والذي عليه جمهور العلماء أنَّ الشهداء أحياء حقيقية، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان.   الأنبياء في السموات وكلموه" وجمع البيهقي بين هذه الروايات بأنه رأى موسى قائمًا في قبره، ثم اجتمع به هو ومن ذكر من الأنبياء في السماوات, فلقيهم النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم اجتمعوا في بيت المقدس، فحضرت الصلاة فأمَّهم. قال: وصلواتهم في أوقات مختلفة في أماكن مختلفة لا يرده العقل, وقد ثبت به النقل, فدلَّ على حياتهم "وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة من مقصد معجزاته, وفي مقصد الإسراء والمعراج, وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء -عليهم السلام- ليس" المذكور على سبيل التكليف؛ لانقطاعه بالموت, "إنما هو على سبيل التلذذ" بها, فهو من النعيم. وفي مسلم مرفوعًا: "إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس" , ويحتمل أن يكونوا في البرزخ ينسحب" ينجر "عليهم حكم الدنيا"؛ لأنه قبل يوم القيامة, وكل ما قبله يعد من الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف" بل من عند أنفسهم لزيادة الأجر, "وبالله التوفيق، وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الآية "حياة الشهداء فاعل ثبت "ثبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى؛ لأنه فوقهم درجات. قال السيوطي: وقلّ نبي إلّا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة, فيدخلون في عموم الآية "والذي عليه جمهور العلماء أنَّ الشهداء أحياء حقيقة, وهل ذلك للروح فقط, أو الجسد معها, بمعنى عدم البلى" بالكسر مع القصر والفتح مع المد "فيه قولان", وفيما نقله المصنف في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 وقد صحَّ عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح, وكانا مَمَّن استُشْهِدا بأحد, ودفنا في قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت, فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة. وروي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال في شهداء أحد: "والذي نفسي   الخصائص عن السبكي: عود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى, فضلًا عن الشهداء, فضلًا عن الأنبياء, وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أنَّ البدن يصير حيًّا كحالته في الدنيا أو حيَّا بدونها, وهي حيث شاء الله تعالى، فإنَّ ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي، فهذا مما يجوّزه العقل، فإن صحَّ به سمع أتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء, ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًّا. "وقد صحَّ" عند ابن سعد "عن جابر" وهو في الموطأ من وجه آخر "أنَّ أباه" عبد الله بن عمرو -بفتح العين- ابن حرام بن ثعلبة الخزرجي، العقبي، البدري, "وعمرو" بفتح العين "ابن الجموح" بفتح الجيم وخفة الميم وإسكان الواو ومهملة- ابن زيد بن حرام بن كعب الخزرجي, من سادات الأنصار وأشرافهم وأجوادهم, "وكانا ممن استشهدا بأحدٍ ودفنا في قبر واحد" بأمره -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اجمعوا بينهما, فإنهما كانا متصادقين في الدنيا" كما عند ابن إسحاق "حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا" زاد في الموطأ: كأنهما ماتا بالأمس, "وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت" نحيت "يده عن جرحه" ثم أرسلت, فرجعت كما كانت, دليل على الحياة, وكان بين ذلك, أي: حفر السيل قبرهما "وبين أحد, ولفظ الموطأ: وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة". وفي الصحيح عن جابر: كان أبي أول قتيل, ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته, فجعلته في قبر على حدة، وظاهره يخالف حديث الموطأ هذا. وجمع ابن عبد البر بتعدد القصة, ونظر فيه الحافظ بأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه وحده في قبر بعد ستة أشهر، وحديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ستة وأربعين سنة، فإمَّا أنَّ المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أنَّ السيل جرف أحد القبرين حتى صارًا واحدًا. "وروي عنه -عليه السلام- أنه قال في شهداء أحد: "والذي نفسي بيده" إن شاء نزعها، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 بيده, لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه". رواه البيهقي عن أبي هريرة. وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا من الصلاة علي في الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء" رواه أبو داود وابن ماجه. ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه". وقد ثبت أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمًّا قاتلًا من ساعته, حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه -صلى الله عليه وسلم- معجزة، فكان به ألم   وإن شاء أبقاها, "لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه" السلام, "رواه البيهقي عن أبي هريرة" رضي الله عنه. "وقد قال ابن شهاب" محمد بن مسلم الزهري: "بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا من الصلاة عليَّ في الليلة الزهراء" , وفي نسخة: الغراء، لكن الذي في الشفاء: الزهراء, وهي المناسبة لقوله: "واليوم الأزهر" يعني: ليلة الجمعة ويومها، والمراد بالزهراء والأزهر الأبيض المستنير؛ لأن الزهر لا يطلق لغةً على غير النور الأبيض, وإن شاع بعد ذلك في مطلقه, ونورهما لبركتهما وما في ذلك اليوم من العبادة التي خُصّ بها, وساعة الإجابة, وغير ذلك, "فإنهما" أي: الليلة واليوم "يؤديان عنكم" بضم التحتية وفتح الهمزة وكسر المهملة المشددة، أي: يوصّلان صلاتكم إلي ويبلغانها لي، وإسناد ذلك للزمان مجاز، أي: تؤدي الملائكة فيهما, وكونهما يخلق لهما النطق بالأداء بعيد, وإن جاز، لكن التصريح بعده يحمل الملك يبعده أو يمنعه, "وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء"؛ لأنهم أحياء فلا تبلى أجسادهم, وهذا جواب سؤال مقدَّر، كأنه قبل: كيف يكون لمن مات وأكلته الأرض كما صرح به في حديث آخر، وإن -بكسر الهمزة, والجملة حالية أو بفتحها بتقدير: وبلغنا أن الأرض، وقيل: إنه بيان لخاصة أخرى والأول أَوْلَى. "رواه أبو داود وابن ماجه" وزاد في الشفاء بعد قوله: "أجساد الأنبياء, وما من مسلم يصلي علي إلا حملها ملك حتى يؤديها ويسميه، حتى إنه يقول: إن فلانًا يقول لك كذا وكذا". "ونقل ابن زبالة" بفتح الزاي "عن الحسن" البصري: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كلمه روح القدس" جبريل -عليه السلام, "لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه" إكرامًا له بالنبوة، وسرى ذلك الإكرام إلى بعض أتباعه كالعالم والشهيد والمؤذّن المحتسب. وقد ثبت أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا؛ لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمًّا قاتلًا من ساعته, حتى مات منه بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة "ابن البراء" بن معرور, "وصار بقاؤه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 السم يتاعهده إلى أن مات به، ولذا قال في مرض موته -كما مَرَّ: "مازالت أكلة خيبر تعادّني حتى كان الآن قطعت أبهري". والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعّب منهما الشرايين، كما ذكره في الصحّاح. قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوّة والشهادة, انتهى. وقد اختلف في محل الوقوف للدعاء, فعند الشافعية أنه قبالة وجهه -كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء، ففي الشفاء قال مالك -في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا   صلى الله عليه وسلم- معجزة، فكان به ألم السمّ يتعاهده أحيانًا إلى أن مات به، ولذا قال في مرض موته -كما مَرّ: "ما زالت أكلة خيبر" بضم الهمزة ولا يصح فتحها؛ لأنها لقمة واحدة, "تعادّني" بشد الدال المهملة- تأتي مرة بعد أخرى, "حتى كان الآن قطعت أبهري" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة, "والأبهران عرقان يخرجان من القلب تتشعّب منهما الشرايين، بمعجمة وتحتيتين- العروق النابضة, واحدها شريان "كما ذكره في الصحاح" قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة. انتهى" ولأحمد والحاكم وغيرهما عن ابن مسعود، قال: لأن أحلف تسعًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قتل قتلًا أحبَّ إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيًّا واتخذه شهيدًا. "وقد اختلف في محل الوقوف للدعاء، فعند الشافعية أنه قبالة" بضم القاف "وجهه -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرته" سابقًا, "وقال ابن رحون من المالكية: اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء" لم يذكر خلافًا في ذلك، وإنما ذكر هل يدعو أم لا؟ وإذا دعا يستقبل القبر قطعًا كما ترى, ففي الشفاء" لعياض: "قال مالك في رواية ابن وهب" عبد الله, من أجَلّ أصحابه: "إذا سلم" الزائر على النبي -صلى الله عليه وسلم" ودعا, يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة", كما يستحب للداعي في غير هذا الموطن؛ لأن استدباره خلاف الأدب. وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا فقال: يا أبا عبد الله" خاطبه بكنيته تعظيمًا "أستقبل القبلة" أصله أأستقبل بهمزتين, همزة الاستفهام وهمزة المضارع المتكلم، فحذفت الأولى للتخفيف ووجود القرينة، وقد ورد حذفها كثيرًا كقوله: فوالله ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك, ووسيلة أبيك آدم -عليه السلام- إلى الله يوم القيامة. وقال مالك في "المبسوط": لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضي. قال ابن فرحون: ولعلَّ ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو به، ويعلم آداب الدعاء بين يديه -صلى الله عليه وسلم، فأمِنَ عليه من سوء الأدب, فأفتاه بذلك، وأفتى العامَّة أن يسلموا وينصرفوا لئلَّا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسَّلوا به   أراد أبسبع, وهو من خصائص الهمزة, "وأدعو أم أستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: أجعل وجهي مقابلًا لجهته, وحينئذ أستدبر القبلة، فلذا أشكل عليه؛ لأن استقبالها في الدعاء مشروع، فإذا عارضه هذا فأيهما يقدَّم, "فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه" أي: عن مقابلته ومواجهته حال الدعاء, وهو وسيلتك ووسيلة أبيك أدم -عليه السلام" الوسيلة: السبب المتوصّل به إلى إجابة الدعاء، وكنَّى بآدم عن جميع الناس، أي: هو الشفيع المشفّع المتوسّل به, "إلى الله يوم القيامة" إشارة إلى حديث الشفاعة العظمى, وإلى ما ورد أن الداعي إذا قال: اللهم إني أستشفع إليك بنبيك, يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك, استجيب له, وبقيته كما في الشفاء: بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] وإنما أعاد هذا المصنف وإن قدَّمه آنفًا لوقوعه في كلام ابن فرحون نقلًا عن الشفاء، لكن سؤال المنصور أورده في الشفاء بإسناده في الباب الثالث، ثم بعده يطول في حكم زيارة قبره. أورد رواية ابن وهب والمبسوط دون الحكاية، فجمع بينهما ابن فرحون, ونسبة للشفاء وهو صادق؛ لأنه كله فيه في موضعين، وإنما نبعت على هذا لئلّا يقف ناقص العلم على أحد الموضعين فينكر الآخر. وقال مالك في المبسوط" اسم كتاب لإسماعيل القاضي: "لا أرى" لا أستحب، وأعده رأيًا "أن يقف عند القبر يدعو" أي: حال كونه داعيًا؛ "لكن يسلِّم" عليه "ويمضي" ينصرف من غير وقوف. "قال ابن فرحون: ولعلَّ ذلك ليس اختلاف قول" هكذا في النسخ الصحيحة, ليس, وهو الذي يتأتَّى ترجيه؛ إذ كونه اختلافًا صريحًا ظاهرًا لا يترجى, ولهذا ولما بعده أشكل سقوط ليس في بعض النسخ, وتعسّف توجيهها لمنابذتها لقوله: "وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو به, ويعلم آداب الدعاء بين يديه -صلى الله عليه وسلم, فأمن عليه من سوء الأدب، فأفتاه بذلك"؛ لأنه كان عالمًا" وأفتى العامة أن يسلِّموا وينصرفوا" بدون دعاء "لئلَّا يدعو تلقاء" بكسر فسكون، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 في حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينفي الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم, فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى. ورأيت مما نسب للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلي إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك, وكذا قال والله أعلم، انتهى.   أي: مقابل "وجهه الكريم, ويتوسَّلوا به في حضرته إلى الله العظيم, فيما لا ينبغي الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم, فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة, وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى". ومقتضى كلام العلامة خليل في مناسكه، أنَّ المعتمد رواية ابن وهب ولو للعامّة، لكن يعلمون وينهون عمَّا لا ينبغي الدعاء به، "ورأيت مما نسب للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة ولا يصلي إليها ولا يقبلها, فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة" هو مسلِّم في التقبيل والصلاة، وأمَّا الدعاء فإن الجمهور ومنهم الشافعية والمالكية والحنفية على الأصح, عندهم كما قال العلامة الكمال ابن الهمَّام على استحباب استقبال القبر الشريف, واستدبار القبلة لمن أراد الدعاء, "ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك" يقال له: في أي كتاب نصَّ على كراهته، فإنه نصَّ في رواية ابن وهب عنه وهو من أجلّ أصحابه على أنه يقف للدعاء, وأقل مراتب الطلب الاستحباب. وجزم به الحافظ أبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن, وغيرهما من أئمة مذهب مالك, وجزم به العلامة خليل بن إسحاق في مناسكه، أفما يستحيي هذا الرجل من تكذيبه بما لم يحط بعلمه, وليس في قوله في المبسوط: لا أرى أن يقف عند القبر للدعاء تصريح بالكراهة، لجواز أنه أراد خلاف الأولى, مع أنا إذا سلكنا الترجيح على طريقة أصحاب الحديث، فرواية ابن وهب مقدَّمة لاتصالها على رواية إسماعيل؛ لأنه لم يدرك مالكًا, فهي منقطعة, "والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك، كذا قال والله أعلم" تبرأ منه؛ لأن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه: فضائل مالك, ومن طريقه الحافظ أبو الفضل عياض في الشفاء بإسنادٍ لا بأس به، بل قيل: إنه صحيح، فمن أين أنها كذب, وليس في رواتها كذّاب ولا وضَّاع، ولكنه لما ابتدع له مذهبًا وهو عدم تعظيم القبور ما كانت، وأنها إنما تزار للاعتبار والترحّم, بشرط أن لا يشد إليها رحل، صار كل ما خالف ما ابتدعه بفاسد عقله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 وأما قول الأبوصيري في بردة المديح: لا طيب يعدل تربًا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنَّه إشارة إلى النوعين المستعملين في الطيب؛ لأنه إمَّا أن يستعمل بالشمّ، وإليه أشار بقوله "لمنتشق", وإما بالتضمخ وإليها أشار بـ "ملتثم", قال: وأقلّ ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود في مسجده -صلى الله عليه وسلم, فليس المراد به تقبيل القبر الشريف, فإنه مكروه. ونقل الزركشي عن السيرافي: أن "طوبى" الطيب، وكذا قال ابن مرزوق: طوبى فعلى من أنواع الطيب. وهذا مبني على أنَّ المراد أنَّ تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إمَّا لأنه كذلك في نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار اعتقاد المؤمن في ذلك, فإن المؤمن لا يعدل بشمّ رائحة تربته -عليه السلام- شيئًا من   عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه, انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نسب إليه مباهتة ومجازفة، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله, "وأما قول الأبوصيري" صوابه البوصيري كما مَرَّ "في بردة المديح": لا طيب يعدل تربًا ضمَّ أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم "فقال شارحها العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق وغيره: كأنه أشار إلى النوعين المستعملين في الطيب؛ لأنه إمَّا أن يستعمل بالشمّ، وإليه أشار بقوله: لمنتشق"؛ لأن الانتشاق الشمّ, "وإما بالتضمخ، وإليه أشار بملتثم، قال: وأقلّ ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود في مسجده -عليه السلام، فليس المراد به" أي: بلمتثم "تقبيل القبر الشريف، فإنه مكروه" إلّا لقصد تبرُّك فلا كراهة كما اعتمده الرملي. "ونقل الزركشي عن السيرافي:" بكسر السين وبالفاء- نسبة إلى سيراف, بلد بفارس, أبي سعيد الحسن بن عبد الله, صاحب التصانيف، ولد قبل السبعين ومائتين, ومات ببغداد في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة, "أن طوبى الطيب، وكذا قال ابن مرزوق: طوبى فعلى" بضم الفاء "من الطيب" أي: لا الجنة والشجرة؛ إذ لا يقطع بذلك للشام ولا الملتثم, "وهذا مبني على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إمَّا لأنه كذلك في نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإمَّا باعتبار اعتقاد المؤمن في ذلك، فإن المؤمن الكامل لا يعدل بشمّ رائحة تربته -عليه السلام- من الطيب" بل هو عنده أجلّ كما قالت فاطمة: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 الطيب: فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد. فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط، وتنتفي الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه. ولما كانت أحوال القبر من الأمور الأخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلّا من كشف له الغطاء من الأولياء المقرَّبين؛ لأن متاع الآخرة باقٍ، ومن الدنيا فانٍ، والفاني لا يتمتع بالباقي للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلّق بشريعة الإسلام أن قبره -صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرنا وقد حوى جمسه الشريف -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدّس. ويرحم الله أبا العباس أحمد بن محمد العريف حيث يقول في قصيدته التي أولها:   ماذا عليَّ من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا "فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد", والواقع أن أكثر الناس لا يدركون ذلك "فالجواب لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك, مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف" أي: لم تزل "عنه", خصَّه لأنه أطيب الطيب, وطيبه ظاهر, "ولما كانت أحوال القبر من الأمور الأخروية ولا جرم" لا خفاء, جواب لما، وفي نسخ: بدون لما, كانت "لا يدركها من الأحياء إلّا من كشف له الغطاء من الأولياء المقرَّبين؛ لأن متاع الآخرة باق ومن في الدنيا فان" هالك, "والفاني لا يتمتَّع بالباقي للتضاد بينهما, "ولا ريب عند من له أدنى تعليق بشريعة الإسلام، أنَّ قبره -صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة" كما صحَّ عنه القبر روضة من رياض الجنة. الحديث, "بل أفضلها" أي: الجنة للإجماع على أن أفضل البقاع, "وإذا كان القبر كما ذكرناه" روضة, "وقد حوى جسمه الشريف -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أطيب الطيب، فلا مرية" بكسر الميم، أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدّس، ويرحم الله أبا العباس أحمد بن محمد العريف؛ حيث يقول في قصيدته التي أولها:" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 إذا ما حدا الحادي بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدي تعبق ثم قال بعد أبيات: فما عبق الريحان إلّا وتربها ... أجلّ من الريحان وأعبق راحت ركائبهم تبدي روائحها ... طيبًا فيا طيب ذاك الوفد أشباحًا نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا ولله در القائل: فاح الصعيد بجسمه فكأنه ... روض ينمّ بعرفه المتأرج ما جسمه مما يغيره الثرى ... والروح منه كالصباح الأبلج   إذا ما حدا الحادي بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدي تعبق الأولى بأحمال طيبة للنهي عن تسميتها يثرب، وإنما سميت في القرآن حكاية عن المنافقين، وتعبّق -بضم الفوقية وفتح المهملة وكسر الموحدة مشددة- أي: تظهر رائحة التراب المتعلق بخفافها بأن تمشي على خدي فيصل التراب إليهما، وفي نسخة: تعنق -بضم الفوقية وسكون المهملة وكسر النون- أي: تسير سيرًا فسيحًا سريعًا "ثم قال بعد أبيات", وهو يقوي الضبط الأول: فما عبق الريحان إلا وتربها ... أجل من الريحان طيبًا وأعبق وله أيضًا: راحت ركائبهم تبدي روائحها ... طيبًا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا تبدي -بموحدة- تظهر وتنشر، وفي نسخة: تندي -بفوقية مفتوحة ونون ساكنة- من الندى, وهي ظاهرة. نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا أي: إذا ذكروا من شمائله ومعجزاته شيئًا فاحت رائحتها, كما تفوح رائحة المسك المستعمل في بدن ونحوه، كذا في الشرح، والظاهر أنَّ ضمير ذكره للقبر، أي: إذا نشروا شيئًا من ذكر القبر, وأنه خير البقاع, وحوى خير الخلائق, وله ولصاحبه عند الله ما تقصر عنه العقول, ونحو ذلك فاح. ولله در القائل: فاح الصعيد بجسمه، فكأنه روض ينم" بكسر النون وضمها- أي: يظهر ويفوح, "بعرفه" طيبه المتأرج" بالجيم- المتوهج ريحه -كما في القاموس, "ما جسمه مما يغيره الثرى" التراب "والروح منه كالصباح الأبلج" أي: النير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 وقال ابن بطال في قوله -صلى الله عليه وسلم: "المدينة يَنْصَع طيبها" , هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل, والتزام المخافة من العدو، فلمَّا باع نفسه من الله, والتزم هذا الأمر بأن صدقه, ونصع إيمانه وقوي لاغتباطه بسكنى المدينة, وبقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خصَّ الله بها بلدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهّر، وقد جاء في الحديث: "إن المؤمن يقبر في التربة التي خلق منها".   وقال ابن بطال" علي أبو الحسن في شرح البخاري "في قوله -عليه الصلاة والسلام" لما جاءه أعرابي فبايعه، فجاء من الغد محمومًا فقال: أقلني, فأبى ثلاث مرار، فخرج فقال -صلى الله عليه وسلم: "المدينة" كالكبر تنفي خبثها "وينصع طيبها". قال المصنف: بفتح الطاء وشد التحتية وبالرفع فاعل ينصع بفتح التحتية وسكون النون وصاد مهملة مفتوحة وعين مهملة من النصوع وهو الخلوص، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: وتنصع -بفوقية- طيبها -بكسر الطاء وسكون التحتية- منصوب على المفعولية, والرواية الأولى قال أبو عبد الله الأبي: هي الصحيحة, وهي أقوم معنى، وأي مناسبة بين الكير والطيب. انتهى. وهذا تشبيه حسن؛ لأن الكير لشدة نفخه ينفي عن النار السخام والرماد والدخان, حتى لا يبقى إلا خالص الجمر، وهذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار, وإن أريد به الموضع، فالمعنى أنَّ ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والفضة والذهب, ويخرج خلاصة ذلك, والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمَّى والوصب وشدة العيش, وضيق الحال التي يخلص النفس من الاسترسال في الشهوات, وتظهر خيارهم وتزكيهم. انتهى. "هو مثل ضربه" صلى الله عليه وسلم "للمؤمن المخلص الساكن فيها, الصابر على لأوائها" أي: شدتها "مع فراق الأهل, والتزام المخافة من العدو" أي: من بينه وبينه عداوة سابقًا، فإنه إذا لم يكن بين أهله لا يجد في الغالب معاونًا على من يريد به سوءًا، أو المراد الشيطان، فإنه أعدى عدو الإنسان, "فلمَّا باع نفسه من الله والتزم هذا الأمر بان" أي: ظهر "صدقه, ونصع" أي: خلص "إيمانه, وقوي لاغتباطه" بغين معجمة- فرحه, "بسكنى المدينة, وبقربه من رسوله, كما ينصع" يسطع ويظهر ويخلص "ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا" بفتحتين- مصدر عبق الطيب كفرح, بالمكان أقام فيه "على سائر البلاد خصوصية، خص الله بها بلدة رسوله -عليه الصلاة والسلام- الذي اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر". "وقد جاء في الحديث: "إن المؤمن يقبر في التربة التي خلق منها، فكانت بهذا". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو -صلى الله عليه وسلم- أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان، انتهى. وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به -صلى الله عليه وسلم, فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه. واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجّه؛ لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علوّ القدر والمنزلة. وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلًّا من الاستغاثة والتوسّل والتشفع والتوجه بالنبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكره في "تحقيق النصرة", و "مصباح   بسببه "تربة المدينة أفضل الترب" أي: جميعها لا خصوص القبر الشريف، يعني: إنه سرى بسبب كون القبر الكريم فيها, تفضيل باقي تربتها على جميع الترب, وابن بطال مالكي قائل بفضل المدينة على غيرها، فعجيب نقل كلام في أن قبره أفضل بالإجماع, أما أولًا فلأنه ليس المراد القبر؛ إذ لا نزاع فيه، وأما ثانيًا، فلأنه يأتي للمصنف قريبًا مبسوطًا، وأما ثالثًا، فقوله: "كما أنه -عليه الصلاة والسلام- أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى". صريح في أن المراد ما قلته. "وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفُّع والتوسّل به -صلى الله عليه وسلم، فجدير" أي: حقيق "بمن استشفع به أن يشفّعه الله تعالى فيه", ونحو هذا في منسك العلامة خليل، وزاد وليتوسّل به -صلى الله عليه وسلم, ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسّل به؛ إذ هو محطّ جبال الأوزار وأثقال الذنوب؛ لأن بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته وأضل سريرته، ألم يسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} انتهى. ولعل مراده التعريض بابن تيمية, "واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث" الإعانة والنصر, "فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ الاستغاثة أو التوسّل أو التشفع أو التجوّه -بجيم قبل الواو, "أو التوجّه" بتقديم الواو على الجيم؛ لأنهما من الجاه والوجاهة, ومعناه: علو القدر والمنزلة" الرتبة. "وقد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه" كالتوسّل بالمصطفى إلى الله, ثم إنَّ كلًّا من الاستغاثة والتوسّل والتشفّع والتوجّه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكره في تحقيق النصرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 الظلام" واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة. فأمّا الحالة الأولى: فحسبك ما قدمته في المقصد الأول من استشفاع آدم -عليه السلام- به لما أخرج من الجنة، وقول الله تعالى له: يا آدم, لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك. وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: وإن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. ويرحم الله ابن جابر حيث قال: به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجَّى في بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح وصحَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوبًا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله, فعرفت أنك لا   ومصباح الظلام" في المستغيثين بخير الأنام" "واقع في كل حال قبل خلقه, وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا, وبعد موته في مدة البرزخ, وبعد البعث في عرصات القيامة" جمع عرصة, كل موضع لا بناء فيه "فأمَّا الحالة الأولى" قبل خلقه "فحسبك ما قدمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم به -عليه الصلاة والسلام- لما خرج من الجنة، وقول الله تعالى له: يا آدم, لو تشفَّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأض لشفعناك" أي: لقبلنا شفاعتك. وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: "وإن" للتعليل "سألتني بحقه غفرت لك" ما وقع منك "ويرحم الله ابن جابر حيث قال": به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجى في بطن السفينة نوح وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح "وصحَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم, وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتني بيدك, ونفخت في من روحك، رفعت رأسي, فرأيت قوائم العرش مكتوبًا عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال الله: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك, ولولا محمد ما خلقتك". ذكره الطبري، وزاد فيه: "وهو آخر الأنبياء من ذريتك". وأمَّا التوسل به بعد خلقه في مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به -صلى الله عليه وسلم- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوي العاهات به, وحسبك ما رواه النسائي والترمذي عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضريرًا أتاه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمد, نبي الرحمة، يا محمد, إني أتوجه بك إلى ربك في حاجتي لتقضي، اللهم شفّعه في" وصحَّحه البيهقي،   تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك, ولولا محمد ما خلقك" ذكره الطبري، وزاد فيه: "وهو آخر الأنبياء من ذريتك". نجي -بضم النون وشد الجيم, "وأمَّا التوسل به بعد خلقه مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به -عليه الصلاة والسلام- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع, ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك: استغاثة ذوي العاهات به، وحسبك:" كافيك على طريق الإجمال. "ما رواه النسائي والترمذي" والحاكم وقال على شرطهما, "عن عثمان بن حنيف" بمهملة ونون- مصغَّر, الأنصاري الأوسي، صحابي شهير، استعمله عمر على مساحة أرض الكوفة وعل البصرة, ومات في خلافة معاوية: "أن رجلًا ضريرا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني" من العمى .... اسقط من الحديث، فقال: "إن شئت أخَّرت وهو خير"، وفي رواية: "إن شئت صبرت فهو خير لك وإن شئت دعوت". قال: فادعه "قال" عثمان: "فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه" بالإتيان بفرائضه ونوافله, وتجنب مكروهاته, "ويدعو بهذا الدعاء" وهو: "اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك" الباء للتعدية "محمد" صرَّح باسمه تواضعًا؛ لأن التعليم منه "نبي الرحمة" إلي, أرسله الله رحمة للعالمين. وفي الحديث: "إنها رحمة مهداة" , "يا محمد إني أتوجّه" أي: أستشفع والباء في "بك" للاستعانة "إلى ربك في حاجتي لتقضى" أي: ليقضيها ربك لي بشفاعتك، سأل الله أولًا أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 وزاد: فقام وقد أبصر. وأمَّا التوسل به -صلى الله عليه وسلم- بعد موته في البرزخ, فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء, وفي كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" للشيخ أبي عبد الله بن النعمان طرف من ذلك. ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به -صلى الله عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادي الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة, بمكة زداها الله شرفًا، ومنَّ عليَّ بالعود في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذا جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة, بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي- والله شيئًا مما كنت أجده, وحصل الشفاء ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم. ووقع لي أيضًا في سنة خمس وثمانين وثمانمائة في طريق مكة، بعد رجوعي من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها   يأذن لنبيه أن يشفع، لقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، ثم أقبل على النبي ملتمسًا شفاعته، ثم كر مقبلًا على ربه أن يقبلها، فقال: "اللهم شفعه فيّ" اقبل شفاعته, "وصحَّحه البيهقي وزاد" في روايته: "فقام وقد أبصر ببركته -صلى الله عليه وسلم. وكذا رواه البخاري في تاريخه, وأبو نعيم, وللنسائي: فرجع وقد كشف الله عن بصره، وللطبراني: كأن لم يكن به ضر، قيل: لم يدع له بنفسه؛ لأنه لم يختر الصبر مع قوله: فهو خير لك، فجبر خاطره بأمره بالوضوء, وأن يدعو بنفسه متوسلًا به بهذا الدعاء. "وأما التوسّل به -صلى الله عليه وسلم- بعد موته في البرزخ, فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء، وفي كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام للشيخ أبي عبد الله بن النعمن طرف من ذلك, ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء, وأقمت به سنين، فاستغثت به -صلى الله عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة, بمكة زادها الله شرفًا, ومنَّ عليَّ بالعود إليها في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذا رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي والله شيئًا مما كنت أجده, وحصل الشفاء ببركة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم, هذا وما بعده ذكر المصنف تحدثًا بنعمة الله, "ووقع لي أيضًا في سنة خمسين وثمانين وثمانمائة بطريق مكة بعد رجوعي من الزيارة الشريفة؛ لقصد مصر أن صرعت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 أيامًا، فاستشفعت به -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي، ومعه الجني الصارع لها, فقال: لقد أرسله لك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعاتبته, وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا زالت في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين. وأما التوسّل به -صلى الله عليه وسلم- في عرصات القيامة، فما قام عليه الإجماع, وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة. فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصّل لحسن الحال في حضرة الغيب والشهادة, بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسُّل بجاهه الشريف, والتشفُّع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه،   خادمتنا غزال الحبشية, واستمرَّ بها أيامًا, فاستغثت به -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي, ومعه الجني الصارع لها، فقال: لقد أرسله لك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعاتبته" لمته, قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة, "وحلَّفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة -بفتح القاف واللام والموحدة- داء وتعب, "كأنما نشطت" بكسر الشين- حلت وأطلقت "من عقال -بالكسر: ما يعقل به الإبل ولا زالت" أي: استمرَّت, "في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة في سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين". "وأما التوسّل به -صلى الله عليه وسلم- في عرصات القيامة, فما قام عليه الإجماع، وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة", ويأتي في المصنف: "فعليك أيها الطالب إدراك" بالنصب- مفعول السعادة الموصل" ذلك الإدراك "لحسن الحال في حضرة الغيب والشهادة, بالتعلق بأذيال عطفه" بكسر العين المهملة- جانبه, "وكرمه, والتطفل على موائد نعمه" أي: التضرع بطلب ما يحتاج إليه, ويتقرّب إلى الله به, وإن لم يكن أهلًا لتلك الحضرات الشريفة، وعبَّر عن ذلك تشبيهًا للمقصر في الطاعة إذا طلب ما يليق بالخواص بالداخل وليمة بلا دعوة المسمى بالطفيلي, "والتوسل بجاهه الشريف, والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي, واقتناص" أي: صيد "المرام, والمفزع يوم الجزع" بفتح الجيم والزاي- خلاف الصبر, "والهلع" بفتحتين- الجزع, فالعطف للتفسير, "لكافة الرسل الكرام, واجعله أمامك" بالفتح- أمامك, "فيما نزل بك من النوازل وإمامك" بالكسر- قدوتك فيما تحاول من القرب والمنازل, فإنك تظفر من المراد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 وتدرك رضى من أحاط بكل شيء علمًا وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك في تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق في مدارج العبادات، ولج في سرادق المرادات. تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار فها أنا قد أبحت لكم عطائي ... وها قد صرت عندي في جواري فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار فقد وسعت أبواب التداني ... وقد قرب للزوار داري فمتّع ناظريك فها جمالي ... تجلى للقلوب بلا استتار ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة في مسجده المكرّم, خصوصًا بالروضة التي ثبت أنها روضة من رياض الجنة. كما رواه البخاري.   بأقصاه وتدرك" تصل وتنال رضى من أحاط بكل شيء علمًا وأحصاه, واجتهد ما دمت بطيبة الطيبةحسب طاقتك" قدرتك "في تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير" جمع ظفر -بضم فسكون وبضمتين- كما في القاموس "الطلبات" جمع طلبة, وزن كلمة وكلمات, ما تطلبه من غيرك, "وارق" اصعد "في مدارج العبادات, ولج" بكسر اللام وجيم- أمر من ولج يلج، أي: ادخل في جوانب, "سرادق" أي: خيام "المرادات", ولا يخفى ما في هذه الألفاظ من الاستعارات يعلمها من له تعلق بألفاظ العبارات، وأنشد المصنف: تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار أصله إذ تخار بذال فتاء، قلبت التاء دالًا لوقوعها بعد ذال معجمة، ثم قلبت دالًا وأدغمت في الدال المهملة المبدلة من التاء، ويجوز إبقاء المعجمة على أصلها، فيقال إذ دخار، ويجوز قلب المهملة معجمة، ثم تدغم فيها المعجمة، فيقال اذخار: فها أنا قد أبحث لكم عطائي ... وها قد صرت عندي في جواري فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار فقد وسعت أبواب التداني ... وقد قربت للزوار داري فمتع ناظريك فها جمالي ... تجلّى للقلوب بلا استشاري "ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة في مسجده المكرَّم, خصوصًا بالروضة التي ثبت أنها روضة من رياض الجنة -كما رواه البخاري" ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 قال ابن أبي جمرة: معناه: تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة, فتكون روضة من رياض الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا، يعني: احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة، قال: ولكل وجه منهما دليل يعضّده ويقويه من جهة النظر والقياس. أما الدليل على أنَّ العمل فيها يوجب روضة في الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده -صلى الله عليه وسلم- بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقي البقع, كما كان للمسجد زيادة على غيره. وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة، وكون المنبر أيضًا على الحوض، كما أخبر -صلى الله عليه وسلم, وأن الجذع في الجنة، والجذع في البقعة نفسها، فالعلة التي   قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة, ومنبري على حوضي". "قال ابن أبي جمرة: معناه: تنقل تلك البقعة", وقدرها ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلّا ثلثي ذراع, وهو الآن كذلك، فكأنَّه نقص لما أدخل بين الحجرة في الجدار، قاله الحافظ, "بعينها" يوم القيامة, فتجعل "في الجنة فتكون روضة من رياض الجنة". "قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا" إذ لا تخالف بينهما "يعني: احتمال كونها تنقل إلى الجنة, واحتمال كون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة". قال: ولكل وجه منهما" أي: الاحتمالين، وفي نسخة: منها، أي: الاحتمالين, والجمع بينهما "دليل يعضده ويقويه" عطف تفسير من جهة النظر والقياس. "أمَّا الدليل على أنَّ العمل فيها يوجب روضة في الجنة, فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده -عليه الصلاة والسلام- بألف فيما سواه من المساجد, فلهذه البقعة زيادة على باقي البقع" بضم ففتح- جمع بقعة "كما كان للمسجد زيادة على غيره", واعترض هذا بأنه لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، فالعمل في أي مكان، كذلك وأجيب بأنها سبب قوي يوصّل إليها على وجه أتم من بقية الأسباب، وبأنها سبب لروضة خاصَّة أجلّ من مطلق الدخول والتنعم، فإن أهل الجنة يتفاوتون في منازلها بقدر أعمالهم, "وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة, وكون المنبر أيضًا على الحوض, كما أخبر -عليه الصلاة والسلام" في بقية الحديث, "وأن" بالواو كما في نسخ صحيحة, عطف على كونها، أي: وعلى أن "الجذع في الجنة والجذع" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 أوجبت للجذع الجنة هي في البقعة سواء، على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى. والذي أخبر بهذا أخبر بهذا فينبغي الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان في موضعه، ويكون للعامل بالعمل فيها روضة في الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلوّ منزلته -صلى الله عليه وسلم, ولما خصّ الخليل -عليه السلام- بالحجر من الجنة، خص الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بالروضة من الجنة.   مدفون "في البقعة نفسها" وجواب أمَّا قوله: "فالعلة التي أوجبت للجذع الجنة هي" موجودة "في البقعة, سواء على ما أذكره بعد إن شاء الله، والذي أخبر بهذا أخبر بهذا" صلى الله عليه وسلم, "فينبغي الحمل على أكمل الوجوه وهو الجمع بينهما؛ لأنه قد تقرَّر من قواعد الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا و" فائدة "الإخبار بها لنا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر, وكذلك الأيام المباركة أيضًا" كأيام رمضان, "فعلى هذا يكون روضة من رياض الجنة الأن" لم يتقدم من كلامه ما يدل هذا التفريغ، ولكنَّه في أوّل كلام ابن أبي جمرة حيث قال: هذا يحتمل الحقيقة والمجاز, أما الحقيقة فبأن يكون ما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه من الجنة مقتطعًا منها, كما أنَّ الحجر الأسود منها، وكذلك النيل والفرات من الجنة، وكذلك الثمار الهندبة من الورق التي أهبط بها أدم من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة, ومن ترابها, ومن حجرها, ومن فواكهها, حكمة حكيم جليل، ويحتمل أنَّ معناه: تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة, فتكون روضة من رياض الجنة، وأمَّا المجاز فيحتمل أن يكون المراد أنَّ العمل, فذكر ما نقله المصنف عنه, فيصح حينئذ تفريعه بقوله: فعلى هذا، أي: المذكور من الاحتمالات والجمع بينها, بكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ولم يثبت خبر عن بقعة بخصوصها أنها من الجنة إلّا هذه البقعة على هذا الاحتمال, "ويعود روضة كما كان في موضعه, ويكون للعامل بالعمل فيها روضة في الجنة, وهو الأظهر لوجهين". "أحدهما: لعلوّ منزلته -عليه الصلاة والسلام"، والثاني: أنه "لما خص الخليل -عليه السلام- بالحجر" الذي كان يقف عليه لما بُنِيَ البيت, أتاه الجبريل به "من الجنة", وهو المقام الذي يصلي خلفه ركعتا الطواف وجواب لما قوله: "خص الحبيب عليه الصلاة والسلام بالروضة من الجنة" ويصح قراءته بكسر اللام وخفة الميم علة لقوله: خص الحبيب مقدمة عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد, فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة, فحينئذ يحتاج إلى البحث. والأظهر أنه لحكمة, وهي أنه قد سبق في العلم الرباني بما ظهر أن الله -عز وجل- فضله على جميع خلقه، وأنَّ كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلقوات, يكون له تفضيل على جنسه, كما استقرئ في كل أموره، من بدء ظهوره -صلى الله عليه وسلم- إلى حين وفاته، في الجاهلية والإسلام, فمنها ما كان في شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم, ومثل ذلك حليمة السعدية، وحتى الأتان, وحتى البقعة التي تجعل أتانه يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم. كان مشيه -صلى الله عليه وسلم- حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع -صلى الله عليه وسلم- يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًّا ومعنًى، كما هو منقول معروف. ولما شاءت القدرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لا بُدَّ له من بيت، ولا بُدَّ له من منبر، وأنه   "وهنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبُّد, فلا بحث" لأنه لا يعلم معناه, وإن قلنا: لحكمة, فحينئذ يحتاج" الكلام "إلى البحث" أي: التكلم في الحكمة والأظهر أنها لحكمة، وهي أنه قد سبق في العلم الرباني" أي: علم الله تعالى, "بما" أي: بسبب ما "ظهر" على لسانه ولسان الأنبياء, "أنَّ الله -عز وجل- فضَّله على جميع خلقه, وأنَّ كل ما" عبَّر بما تغليبًا للأكثر, نحو {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . وفي نسخة: من تغليبًا للعقلاء, "كان منه بنسبة ما" بشد الميم "من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه, كما استقرئ في جميع أموره من بدء ظهوره -علي السلام- إلى حين وفاته في الجاهلية" توكيد للأوّل، اشتق له من اسمه ما يؤكّد به، كما يقال: وتد واتد, وهمج هامج, وليلة ليلاء, ويوم يوم، قاله الجوهري "حسبما هو مذكور معلوم, ومثل ذلك حليمة السعدية" مرضعته, "وحتى الأتان" الحمارة "وحتى البقعة التي تجعل أتانه يدها عليها تخضر من حينها" فأشبه ما حصل له مما يدل على شرفه على جنسه ما حصل لأمه وظئره, "وما هو من ذلك كله معلوم، وكان مشيه -عليه السلام- حيثما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًّا ومعنًى, كما هو منقول معروف, ولما شاءت القدرة" أي: صاحب القدرة, ففيه مسامحة "أنه عليه السلام لا بُدَّ له من بيت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 بالضرورة يكثر بمشيئة -صلى الله عليه وسلم- بين المنبر والبيت، فالحرمة التي أعطي غيرهما إذا كان من مسّه واحدة بمباشرته, أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده -صلى الله عليه وسلم- في البقعة الواحدة مرارًا في اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنَّها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهي الآن منها. وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرناه في جنسها. فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يطؤها بقدمه مرارًا. فالجواب: إنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أنَّ ترابها شفاء كما أخبر -صلى الله عليه وسلم، مع ما شاركت فيه البقعة المكرَّمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام, وأنه -صلى الله عليه وسلم- أوّل ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأنَّ ما كان بها من الوباء والحمَّى رُفِعَ عنها، وأنَّه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة،   ولا بُدَّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر ترداده عليه السلام بين المنبر والبيت" حذف جواب لما, وهو: وجب أن يكون ذلك البيت والمنبر أفضل البقاع وأشرفها لكثرة تردده إليهما، وعلل هذا الجوب بقوله: "فالحرمة التي أعطي غيرهما إذا كان بمشية" بفتح الميم "واحدة, بمباشرة" بقدميه الكريمتين, "أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده -عليه السلام- في ابقعة الواحدة مرارًا في اليوم الواحد طول عمره من وقت هجرته إلى وقت وفاته، فلم يبق لها من الترفيع بالنسبة إلى عالمها" بفتح اللام وكسر الميم- التي هي منه, "أعلى مما وصفناه, وهو أنها كانت من الجنة" كما قدمته عن أول كلام ابن أبي جمرة الذي تركه المصنف, "وتعود إليها, وهي الآن منها, وللعامل فيها مثلها" روضة في الجنة, "فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في هذه الدار؛ لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرناه في جنسها" المعبَّر عنه بعالمها قريبًا, "فإن احتج محتج لا فَهْمَ له بأن يقول: ينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها؛ لأنه -عليه السلام- كان يطؤها" يمشي عليها "بقدمه مرارًا". "فالجواب: إنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها من ذلك" التفضيل الحاصل لها "أنَّ ترابها شفاء كما أخبر به -عليه السلام, مع ما شاركت" المدينة "فيه البقعة المكرَّمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام" الواقعة من الدجال, "وأنه -عليه السلام- أول ما يشفع في أهلها يوم القيامة" وأنهم يحشرون معه, "وإن ما كان بها من الوباء" المرض العام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولًا، بأنَّ تردده -صلى الله عليه وسلم- في المسجد نفسه أكثر مما في المدينة نفسها، وتردده -صلى الله عليه وسلم- فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض؛ لأنه جاءت البركة مناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد، والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة، وحجة ظاهرة موجودة. انتهى. وقال الخطَّابي: المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة، وأنَّ من لازم ذكر الله في مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقي يوم القيامة من الحوض, انتهى. وقد تقدَّم في الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك ...   بالهمز بمد ويقصر, "والحمَّى" لا ينصرف لألف التأنيث, "رفع عنها, وأنه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة" من ذلك, "فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولًا بأن تردده -عليه السلام- في المسجد نفسه أكثر مما" أي: من تردده "في المدينة نفسها, وتردده فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر" أي: باقي "المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض؛ لأنه جاءت البركة مناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة, والقرب من تلك النسمة" بفتح النون والسين "المرتفعة" مبتدأ, خبره "لا خفاء فيه إلا على ملحد" مائل عن الصواب, "أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد، والبقعة أرفع البقع"، والمراد كون هذه المذكورات كذلك "قضية معلومة" لا تجهل, "وحجة ظاهرة موجودة. انتهى" كلام ابن أبي جمرة. "وقال الخطابي: المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة, وأن من لازم ذكر الله في مسجدها آل" أي: رجع "به" أي: يكون سبب لوصوله "إلى روضة الجنة", وقيل: أن تشبيه بليغ، أي: كروضة في تنزل الرحمة وحصول السعادة, "وسُقِيَ يوم القيامة من الحوض" أخذه من قوله: "ومنبري على حوضي" "انتهى". والأصح أنَّ المراد منبره الذي كان يخطب عليه في الدنيا، ينقل يوم القيامة فينصب على حوضه, ثم تصير قوائمه رواتب في الجنة كما في حديث رواه الطبراني، وقيل: التعبّد عنده يورث الجنة، وقيل: إنه منبر يوضع له هناك، ورد بما روى أحمد برجال الصحيح: "منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" قاسم الإشارة ظاهر، أو صريح في أنه منبره الذي كان في الدنيا, والقدرة صالحة. "وقد تقدم في الخصائص من مقصد المعجزات" وهو الرابع "مزيد لذلك" قليل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 وعند مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". وقد اختلف العماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل؟ فذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد -في أصح الروايتين عنه, وابن وهب ومطرف وابن حبيب -الثلاثة من المالكية, وحكاه الساجي عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين والكوفيين، وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على   "وعند مسلم من حديث ابن عمر" عبد الله، ومن حديث ابن عباس عن ميمونة أيضًا، والشيخين معًا من حديث أبي هريرة، "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل" هكذا رواه ابن عمر وميمونة بلفظ: أفضل، وراه أبو هريرة عند الشيخين بلفظ: خير، وفي رواية عنه لمسلم: أفضل، وهما بمعنى, "من ألف صلاة فيما سواه, إلّا المسجد الحرام" بالنصب استثناء، وروي بالجر على أنَّ إلّا بمعنى غير. قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمنه -صلى الله عليه وسلم- دون ما يزيد فيه بعده؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده, وقد أكده بقوله: هذا بخلاف مسجد مكة, فإنه يشمل جميع مكة، بل صحَّحَ النووي أنه يعم جميع الحرم. كذا في الفتح, "وقد اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل، فذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه" عند أصحابه, "وابن وهب ومطرف" صاحبًا مالك, "وابن حبيب" تابع أتباعه, "الثلاثة من المالكية" المتقدِّمين, واختاره ممن بعدهم ابن عبد البر وابن رشد وابن عرفة, "وحكاه الساجي" بسين وجيم- الإمام الحافظ زكريا بن يحيى الضبي البصري، مات سنة سبع وثلاثمائة عن نحو تسعين سنة, "عن عطاء بن أبي رباح, والمكيين والكوفيين، وحكاه ابن عبد البر عن عمر" ابن الخطاب, وهو خلاف الآتي في المتن, وهو المروي في الموطأ وغيره عن عمر, تفضيل المدينة, "وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة وجماهير العلماء أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة؛ لأن الأمكنة تفضل بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة. وقد حكى ابن عبد البر أنه روي عن مالك ما يدل على أن مكَّة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة. انتهى. وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل. ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله بن الحمراء, أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" , قال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: "هذا أصح الآثار عنه -صلى الله عليه وسلم, قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.   "وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها" هي رواية ضعيفة، ولذا قال: ولكن المشهور عند أصحابه في مذهب تفضل المدينة انتهى. "وقال مالك" وأكثر أهل المدينة وعمر بن الخطاب وجماعة "المدينة" أفضل من مكة ومسجدها أفضل" من مسجد مكة, واختاره كثير من الشافعية, من آخرهم السيوطي، فقال: المختار تفضيل المدينة, والشريف السمهودي والمصنف كما يأتي معتذرًا عن مخالفة مذهبه، بأنَّ هوى كل نفس أين حل حبيبها, "ومما أحتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله" بن عدي بالدال "ابن الحمراء" القرشي الزهري، ويقال: إنه ثقفي حالف بني زهرة, وكان ينزل قديدًا وأسلم في الفتح وسكن المدينة. قال البغوي: لا أعلم له غير هذا الحديث، وهو "أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته" كذا في النسخ, والذي في الحديث على الحزورة -بفتح المهملة وإسكان الزاي فواو مفتوحة فراء فهاء تأنيث: سوق كانت بمكة أدخلت في المسجد, وقد قدمه المصنف في الهجرة على الصواب "يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا إني أخرجت منك ما خرجت". وفي رواية: "ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك" أي: تسببوا في إخراجي, "قال الترمذي: حسن صحيح", قال في الإصابة: تفرَّد به الزهري, واختلف عليه فيه، فقال الأكثر: عن الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء, وقال معمر: عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة أرسله، وقال ابن أخي الزهري عنه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عدي, والمحفوظ الأول, "وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 فعند الشافعي والجمهور معناه -أي: الحديث: "إلّا المسجد الحرام" فإنَّ الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي. وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف. وعن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلّا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" رواه أحمد وابن حزيمة وابن حبان في صحيحه وزاد: يعني في مسجد المدينة، والبزار ولفظه: "صلاة في مسجدي هذا   وجوابه أنه إنما يكون قاطعًا لو قاله بعد حصوله فضل المدينة، أما حيث قاله قبل ذلك فليس بقاطع؛ لأن التفضيل إنما يكون بين أمرين يتأتَّى بينهما تفضيل, وفضل المدينة لم يكن حصل حينئذ حتى يكون هذا حجة، وحاصل الجواب أنه قاله قبل أن يعمل بفضل المدينة، وأجيب أيضًا بأنها خير الأرض ما عدا المدينة، كما قالوا بكلٍّ منهما في قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له: يا خير البرية, ذاك إبراهيم. "فعند الشافعي والجمهور معناه، أي: الحديث: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي" بناءً على قولهم بفضل مسجد مكة على مسجد المدينة. "وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف", ويؤيده أن في بعض طرق حديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي: "إلا المسجد الحرام، فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد". قال عياض: هذا ظاهر في تفضيل مسجده لهذه العلة، قال القرطبي: لأنَّ ربط الكلام بقاء التعليل يشعر أن مسجده إنما فضل على المساجد كلها؛ لأنه متأخر عنها, ومنسوب إلى نبي متأخر عن الأنبياء كلهم, فتدبره، فإنه واضح. انتهى. وقال ابن بطال: يجوز في الاستثناء أن يكون المراد: فإنه مساوٍ لمسجد المدينة أو فاضلًا أو مفضولًا، والأوّل أرجح؛ لأنه لو كان فاضلًا أو مفضولًا لم يعلم مقدار ذلك إلّا بدليل, بخلاف المساواة, قيل: "كأنه لم ير دليل كونه فاضلًا, "و" هو ما جاء "عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد, إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا". رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه، وزاد: يعني: في مسجد المدينة" بيان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 أفضل من ألف صلاة فيما سواه, إلا المسجد الحرام, فإنه يزيد عليه مائة". قال المنذري: وإسناده صحيح أيضًا. ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب في "الواضحة" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه, وجمعة في مسجدي كألف جمعة فيما سواه، ورمضان في مسجدي كألف رمضان فيما سواه".   لاسم الإشارة، قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت, ومثله لا يقال بالرأي", ورواه أيضًا "البزار ولفظه: "صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه, إلا المسجد الحرام، فإنه يزيد عليه مائة" والصلاة فيه بألف، فتكون الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في مسجد المدينة. "قال المنذري: وإسناده صحيح", وفي ابن ماجه عن جابر مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض نسخه: "من مائة صلاة فيما سواه" , فعلى الأول معناه: إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه: من مائة صلاة في مسجد المدينة، وللبزار والطبراني عن أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في مسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة". قال البزار: إسناده حسن، فوضح أن المراد بالاستثناء تفضل الصلاة في المكي على الصلاة في المدني، ولكن كل ذلك لا يقتضي تفضيل المكي عليه؛ لأن أسباب التفضيل لم تنحصر في المضاعفة كما يأتي عن الشريف، ثم التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الأجزاء باتفاق العلماء، كما نقله النووي وغيره، فمن عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة. "ومما يستدل به المالكية ما ذكره ابن حبيب في الواضحة". وأخرجه البيهقي في الشعب عن ابن عمر "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه" زاد في رواية البيهقي: إلا المسجد الحرام, "وجمعة في مسجدي كألف جمعة فيما سواه، ورمضان في مسجدي كألف رمضان فيما سواه". لفظ رواية البيهقي: "وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها" وهذه أوسع، إذا قد يصوم بالمدينة ولا يكون بالمسجد؛ لعذر أو لغيره كالنساء، وأخرج الطبراني والضياء المقدسي عن بلال بن الحارث المزني، رفعه: "رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين -كما قاله القاضي عياض: إن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد. وأجمعوا على أن الموضع الذي ضمَّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجي والقاضي عياض، بل نقل التاج السبكي كما ذكره السيد السمهودي في "فضائل المدينة", عن ابن عقيل الحنبلي: إنها أفضل من العرش، وصرَّح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات, ولفظه: وأقول أنا: وأفضل من بقاع السماوات أيضًا. ولم أر من تعرض لذلك، والذي أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت   وللبزار عن ابن عمر، رفعه: "رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة" , وللبيهقي عن جابر رفعه: "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر فيما سواه إلا المسجد الحرام". "ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين" أي: علماء المدينة -كما قال القاضي عياض: إن المدينة أفضل, وهو إحدى الروايتين عن أحمد", والصحيح المشهور عن مالك, والأدلة كثيرة من الجانبين, حتى مال بعضهم إلى تساوي البلدين, "وأجمعوا على أنَّ الموضع الذي ضمَّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجي" أبو الوليد سليمان بن لف, الحافظ الفقيه, "والقاضي عياض" معبرًا بقوله: موضع قبره، والظاهر أن المراد جميع القبر لا خصوص ما لاقى الجسد الشريف؛ لأنه يقال عرفًا للقبر ضمّ الأعضاء، ويؤيد ذلك قول القائل في قصيدة أولها: دار الحبيب أحق أن تهواها إلى أن قال: جزم الجميع بأن خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكى مأواها "بل نقل التاج السبكي كما ذكره السيد السمهودي" بفتح السين وسكون الميم, "في فضائل المدينة, عن ابن عقيل الحنبلي أنها" أي: البقعة التي قُبِرَ فيها المصطفي -صلى الله عليه وسلم "أفضل من العرش، وصرَّح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات، ولفظه: وأقول أنا: وأفضل من بقاع السماوات أيضًا، ولم أر مَنْ تعرَّض لذلك" بالنص عليه, "والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- حالًّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعيّن. انتهى. وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أي: ما عدا ما ضمّ الأعضاء الشريفة. وقد استشكل ما ذكره من الإجماع على أفضلية ما ضمّ أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام في تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أنَّ الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما, لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذي فيهما أنَّ الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى ملخصًا.   "وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه, بل" إضراب انتقالي, "لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- حالًّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعيّن. انتهى" كلام الفاكهاني. "وحكاه" أي: تفضيل الأرض على السماء, "بعضهم عن الأكثرين" من العلماء, "لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض"؛ لأنها لم يعص الله فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها أو كانت فيها، ولكن لندورها, كأنه لم يعص فيها أصلًا، وصحَّحه بعضهم, وبعض آخر صحَّح الأول، فهما قولان مرجحان, ومحل الخلاف فيما عدا القبر الشريف، كما قال "أي: ما عدا ما ضمّ الأعضاء الشريفة" فإنها أفضل إجماعًا، بل قال البرماوي عن شيخه السراج البلقيني: الحق أن مواضع أجساد الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء, ومحل الخلاف غير ذلك. انتهى. "وقد استشكل ما ذكره من الإجماع على أفضلية ما ضمّ أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين" الذي قاله غيره: إن المستشك هو العز "بن عبد السلام في تفضيل بعض الأماكن على بعض, من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية, ويفضلان بما يقع فيهما" من الأعمال, "لا بصفة قائمة فيهما". "وقال" العز: "ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل" أي: يعطي, "الله العباد فيهما من فضله وكرمه والتفضيل الذي فيهما" هو "أنّ الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 لكن تعقَّبه الشيخ تقي الدين السبكي بما حاصله: إن الذي قاله لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما, وإن لم يكن عمل؛ لأن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبَّة, ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبي -صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حي كما تقرره، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن. قال: ومن فهم هذا انشرح صدره, لما قاله القاضي عياض من تفضيل ما ضمّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- باعتبارين: أحدهما: ما قيل: إنَّ كل أحد يدفن في الموضع   فيهما" قال العز: وموضع القبر الشريف لا يمكن العمل فيه؛ لأن العمل فيه يحرم فيه عقاب شديد. "انتهى ملخصًا، لكن تعقبه" تلميذه العلامة الشهاب القرافي, بأنَّ التفضيل للمجاورة والحلول كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محدث, ولا يلابس بقذر, لا لكثرة الثواب, وإلا لزمه أن لا يكون جلد المصحف، بل ولا المصحف نفسه أفضل من غيره؛ لتعذر العمل فيه, وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة, وأسباب التفضيل أعمّ من الثواب، فإنها منتهية إلى عشرين قاعدة, وبيِّنَها كلها في كتابه الفروق، ثم قال: إنها أكثر, وأنه لا يقدر على إحصائها خشية الإسهاب. انتهى. وكذا تعقَّبه "الشيخ تقي الدين السبكي بما حاصله: إن الذي قاله لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما" أي: الأزمنة والأمكنة, "وإن لم يكن عمل؛ لأن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة, ولساكنه, ما تقصر العقول عن إدراكه, وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل، و" والحال أنه, "ليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا, ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق" أي: حق للنبي -صلى الله عليه وسلم, وأيضًا" وجه آخر "فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حي -كما تقرّر" وأنه يصلي في قبره بأذان وإقامة, "وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من" مضاعفة عمل, "كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعملنا نحن" أيها الأمة. "قال" السبكي: "ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضي عياض" تبعًا للباجي وابن عساكر, "من تفضيل ما ضمَّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم باعتبارين:" "أحدهما" باعتبار "ما قيل: إن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه" ولذا أشكل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 الذي خلق منه، والثاني: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته, ولكن لأجل من حلَّ فيه -صلى الله عليه وسلم. انتهى. وقد روى أبو يعلي عن أبي بكر أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبض النبي إلّا في أحبّ الأمكنة إليه" , ولا شكَّ أن أحبها إليها أحبها إلى ربه تعالى؛ لأن حبه تابع لحب ربه -جلَّ وعلا، وما كان أحبَّ إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه" , ولا ريب أن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم؛ لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعي. وقد صحَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:   قول ابن عباس: أصل طينته -صلى الله عليه وسلم- من سرة الأرض بمكة, يعني: موضع الكعبة، وأجاب في العوارف بأن الماء، أي: الذي كان عليه العرش لما تموَّج رمي الزيد إلى النواحي، فوقعت طينة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة, كما بسطه المصنف أول الكتاب. "والثاني: تنزل الرحمة والبركات عليه وإقبال الله تعالى" قال السمهودي: والرحمات النازلات بذلك المحل يعمّ فيضها الأمة, وهي غير متناهية لدوام ترقياته -صلى الله عليه وسلم, فهو منبع الخيرات. انتهى. "ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته, ولكن لأجل من حلَّ فيه -صلى الله عليه وسلم: انتهى". "وقد روى أبو يعلى عن أبي بكر" الصديق, "أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبض" يموت "ني, إلّا في أحبِّ الأمكنة إليه"، ولا شكَّ أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى؛ لأن حبه تابع لحب ربه -جلَّ وعلا، وما كان أحب لله ورسوله فكيف لا يكون أفضل، وقد قال عليه السلام: "اللهم إن إبراهيم" عبدك ونبيك وخليلك, وإني عبدك ونبيك, وإن إبراهيم "قد دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم لمكة ومثله معه". أخرجه مسلم والموطأ وغيرهما, عن أبي هريرة في حديث: "ولا ريب أن دعاءه أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعي" خصوصًا، وقد قال ومثله معه, قال بعض العلماء: قد استجاب الله دعوته للمدينة، فصار يجبى إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كل شيء. وكذا مكة بدعاء الخليل، وزادت عليها المدينة لقوله: ومثله معه شيئين. إحداهما: في ابتداء الأمر وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما وإنفاقها في سبيل الله على أهلها. وثانيهما: في آخر الأمر، وهو أن الإيمان يأرز إليها من الأقطار. انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" , وفي رواية "بل أشد" وقد أجيبت دعوته, حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي, فأسكني في أحب البقاع إليك" أي: فيه موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان، قيل: وضعَّفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة؛ لحديث "إن مكة خير بلاد الله"، وفي رواية "أحب أرض الله إلى الله"، ولزيادة التضعيف بمسجد مكة. وتعقبه العلامة السيد السمهودي: "بأن ما ذكر لا يقتضي صرفه عن ظاهره؛ إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيّرها الله كذلك. وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدِّين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقًا بعد، ولهذا افترض الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم   وصحَّ في البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في حديث "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد". "وفي رواية: بل أشد", فأوفى الأولى للإضراب، فاستجاب الله له، فكانت أحب إليه من مكة كما جزم به السيوطي, ونحوه قوله: "وقد أجيبت دعوته حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها" أي: المدينة، كما رواه البخاري عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع, وإن كان على دابة حركها من حبها. "وروى الحاكم" في المستدرك, وأبو سعد في الشرف عن أبي هريرة "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي, فاسكنِّي في أحب البقاع إليك"، أي: في موضع تصيره كذلك فيجتمع فيه الحبان" وتمامه, فأسكنه الله المدينة. "قيل: وضعَّفه ابن عبد البر" فقال: لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه, "ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث "إن مكة خير بلاد الله". "وفي رواية: "أحب أرض الله إلى الله" ولزيادة التضعيف بمسجد مكة" في الصلوات, "وتعقبه العلامة السيد السمهودي، بأن ما ذكر" من الحديث والتضعيف "لا يقتضي صرفه عن ظاهره؛ إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها الله كذلك، وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة, وإظهار الدِّين, وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها" أي: المدينة "وأنال:" أعطى "بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر" بذلك "إجابة دعوته وصيرورتها أحب مطلقًا" أي: من مكة وغيرها "بعد" بالضم، أي: بعد حلوله فيها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 الإقامة بها، وحثَّ هو -صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به في سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل. قال: وأمَّا مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر في ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة؛ إذ في الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنَّفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة؛ إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضًا, وقد يبارك في العدد القليل فيربو على الكثير، ولهذا استدلّ به على تفضيل المدينة. وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما   ولهذا افترض الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها" حيًّا وميتًا, "وحثَّ هو -صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به في سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل" من مكة. "قال" السمهودي: "وأما مزيد" أي: زيادة "المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر في ذلك" أي: مزيد المضاعفة, "فالصلوات الخمس بمنى للمتوجِّه لعرفة أفضل منها" أي: من صلاتها "بمسجد مكة, وإن انتفت عنها المضاعفة؛ إذ في الاتباع" لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلَّاها بمنى, "ما يربو" يزيد عليها, أي: المضاعفة, "ومذهبنا" أي: الشافعية "شمول المضاعفة للنقل", وبه قال مطرف صاحب مالك, "مع تفضيله بالمنزل" مع أنه لا مضاعة فيه, "ولهذا قال عمر" بن الخطاب "بمزيد المضاعفة لمسجد مكة" على مسجد المدينة, "مع قوله" أي: عمر "بتفضيل المدينة" ومسجدها على مكة ومسجدها؛ لأن التفضيل لم ينحصل في المضاعفة "ولم يصب من أخذ من قوله" أي: عمر "بمزيد المضاعفة" أنه يرى "تفضيل مكة؛ إذ غايته أن للمفضول" مسجد مكة "مزية ليست للفاضل" مسجد المدينة, والمزية لا تقتضي الأفضلية, "مع أن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضًا"؛ إذ لا وجه لتخصيصه بالدنيوية, "و" لا يرد مزيد التضعيف؛ لأنه "قد يبارك في العدد القليل فيربو" يزيد نفعه على العدد "الكثير، ولهذا استدلّ به على تفضيل المدينة"؛ إذ لو لم يكن كذلك ما صحَّ الاستدلال, "وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة" نائب فاعل أريد "فقط". "فالجواب أنَّ الكلام فيما عداها, فلا يرد شيء مما جاء في فضلها", فإنها تلي القبر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومي: أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا، فأشير إلى عبد الله فانصرف. وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صحَّ في إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء في فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة, وإن كانت أقل من الإقامة مكة على القول به، فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر   الشريف, فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقًا كما في كلام السمهودي, "ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها". "ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش" بتحتية وشين معجمة- ابن أبي ربيعة, القرشي المخزومي, وأبوه قديم الإسلام, وهاجر إلى الحبشة، فولد له عبد الله هذا بها, وأدرك من حياته -صلى الله عليه وسلم- ثمان سنين, وحفظ عنه. وروى عن عمر وغيره, ومات سنة أربع وستين: "أنت القائل: لمكة" بفتح اللام للتأكيد, "خير" أي: أفضل "من المدينة, فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه, وفيها بيته" الكعبة، وما أضيف لله خير مما أضيف لرسوله, "فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" يعني: إنه ليس من محلّ الخلاف ولم أسألك عنه، وإنما سألتك عن البلدين, "ثم كرّر عمر: "لينظر هل تغيّر اجتهاده إلى موافقة عمر في تفضيل المدينة, "قوله الأول: أنت" القائل ..... إلخ. "فأعاد عبد الله جوابه": هي حرم الله ..... إلخ, فأعاد له عمر" قوله: "لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" وما تغيّر اجتهاد واحد منهما لموافقة الآخر، والقصة رواها مالك في الموطأ مطوَّلة عن أسلم مولى عمر، وفيها أنهم كانوا بطريق مكة, ولكن قال في آخرها: ثم انصرف ولم يقل, "فأشير إلى عبد الله فانصرف، وقد عوضت المدينة عن العمرة ما صحَّ في إتيان مسد قباء والمسجد" النبوي، وفي الحجج المبينة عن أبي أمامة مرفوعًا: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي هذا, حتى يصلي فيه, كان بمنزلة حجة". انتهى. "والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقلّ من الإقامة بمكة" بثلاث سنين, "على القول به", وهو الصحيح, "فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره, ونزول أكثر الفرائض" إذ لم يفرض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 الفرائض وإكمال الدّين، حتى كثر تردّد جبريل عليه السلام بها، ثم استقرَّ بها -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة, ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا -يعني المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلّا سلك عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟ وروى الطبراني حديث "المدينة خير من مكة" , وفي رواية للجندي "أفضل من مكة" , وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان في الثقات, وقال: كان يخطيء، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوي. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد".   بمكة بعد الإيمان سوى الصلاة على المعروف, "وإكمال الدّين حتى كثر تردّد" مجيء جبريل -عليه السلام- بها، ثم استقرَّ بها -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة" ولا يوازي ذلك شيء, "ولهذا قيل لمالك": "أيما أحب إليك المقام هنا؟ يعني: المدينة أو مكة، فقال: ههنا" أحب إلي, "وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلّا سلك عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين في أقلّ من ساعة" مدة من الزمن، فأيّ فضل يعادل هذا. "وروى الطبراني" في الكبير, والدارقطني "حديث" رافع بن خديج: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المدينة خير من مكة"؛ لأنه إذا تأمَّل ذو البصيرة لم يجد فضلًا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره، أو أعلى منه, كما في الحجج المبينة، وزادت ببقاء المصطفى فيها إلى يوم القيامة. "وفي رواية للجندي" بفتح الجيم والنون ودال مهملة- نسبة إلى الجند, بلد باليمن: "أفضل من مكة" وهما بمعنى, لكن أفضل أصرح, "وفيه محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان في الثقات". "وقال: كان يخطيء، وقال أبو زرعة" الرازي, الحافظ عبيد الله بن عبد الكريم: "لين، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم" محمد بن إدريس الرازي: "ليس بقوي", وحاصله أنه ضعيف متماسك". "وفي الصحيحين:" في الحج, والنسائي فيه، وفي التفسير, كلهم من طريق مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن يسار "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أمرت" بالبناء للمفعول "بقرية تأكل القرى, يقولون" أي: بعض المنافقين "يثرب" باسم واحد من العمالقة نزلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 أي: أمرني الله بالهجرة إليها، إن كان قاله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، أو بسكناها، إن كان قاله بالمدينة. وقال القاضي عبد الوهاب: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلّا رجوح فضلها عليها، أي: على القرى وزيادتها على غيرها.   أو يثرب بن فانية, من ولد أرم بن سام بن نوح, وكان اسمًا لموضع منها سميت به كلها, وكرهه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملازمة, أو من الثرب وهو الفساد, وكلاهما قبيح، وقد كان يحب الاسم الحسن ويكره القبيح، ولذا أبدله بطيبة وطابة والمدينة كما قال: "وهي المدينة" أي: الكاملة على الإطلاق؛ كالبيت للكعبة, فهو اسمها الحقيق بها؛ لدلالة التركيب على التفخيم كقوله الشاعر: هم القوم كل القوم يا أم خالد أي: المستحقة لأن تتخذ دار إقامة, وتسميتها في القرآن يثرب إنما هو حكاية عن المنافقين. وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه: "من سمَّى المدينة يثرب فليستغفر الله, هي طابة هي طابة" وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقال للمدينة يثرب. ولهذا قال عيسى بن دينار: من سمَّى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة, وحديث الهجرة في الصحيحين، فإذا هي يثرب، وفي رواية: لا أراها إلا يثرب, كان قبل النهي, "تنفي" المدينة "الناس" أي: الحديث الرديء منهم في زمنه -صلى الله عليه وسلم، أو في زمان الدجال, "كما ينف الكير" بكسر الكاف وسكون التحتية. قال في القاموس: زق ينفخ فيه الحداد, وأما المنبني من طين فكور, "خبث" بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة "الحديد" أي: وسخه الذي تخرجه النار، أي: إنها لا تبقي فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة, وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده, ونسب التمييز للكير؛ لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها. وقد خرج من المدينة بعد الوفاة النبوية معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود في طائفة، ثم علي وطلحة والزبير وعمّار وآخرون, وهم من أطيب الخلق، دلَّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس, ووقت دون ووقت, وقوله: "أمرت بقرية" أي: أمرني الله" تعالى "بالهجرة إليها إن كان قاله -عليه السلام- بمكة" أن يهاجر, "أو بسكناها إن كان قاله بالمدينة". "وقال القاضي عبد الوهاب" البغدادي، ثم المصري: وبها مات "لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلّا رجوح فضلها عليها، أي: على القرى, وزيادتها على غيرها", ومن جملته مكة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: إن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا، وهذا أبلغ من تسمية مكة "أم القرى"؛ لأن الأمومة لا ينمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى. ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهله على القرى، والأقرب: حمله عليهما؛ إذ هو أبلغ في الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودي. وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعي -رحمه الله- تفضيل مكة؛ لأن هوى كل نفس أين حلَّ حبيبها. عليَّ لربع العامرية وقفة ... ليملي على الشوق والدمع كاتب   "وقال" الزين "بن المنير" في حاشية البخاري، "قال السهيلي في التوراة: يقول الله: يا طابة, يا مسكينة, إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى. وهو قريب من قوله: "تأكل القرى"؛ لأنها إذا علت عليها علوّ الغلبة أكلتها، و"يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: إن الفضائل تضمحل" بمعجمة فميم فمهملة فلام- تذهب, "في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا" أي: يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها، فهو لمراد بأكل, "وهذا أبلغ من تسمية مكة أم القرى؛ لأن الأمومة لا ينمحي معها ما هي له أم, لكن يكون لها حق الأمومة. انتهى" كلام ابن المنير, وبقيته: وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل, "ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى" يعني: إن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها، يقال: أكلنا بني فلان، أي غلبناهم وظهرنا عليهم، فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه، وفي موطأ ابن وهب، قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى, "والأقرب حمله عليهما" بالتثنية، أي: على غلبتها على القرى, وغلبة فضلها على فضل غيرها؛ "إذ هو أبلغ في الغرض المسوق له. انتهى". "ما قاله السيد السمهودي" وهو من النفائس الخلية عن عصبية المذهبية, "وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة, وإن كان مذهب إمامنا الشافعي -رحمه الله- تفضيل مكة؛ لأن هوى كل نفس أين حلَّ حبيبها" كما قيل: وقائلة لي ما وقوفك ههنا ... ببرية يعوي من العصر ذيبها فقلت لها قلي الملامة واقصري ... هوى كل نفس أين حلّ حبيبها وأنشد لغيره: عليَّ لربع العامرية وقفة ... ليملي عليَّ الشوق والدمع كاتب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 ومن مذهبي حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب على أنَّ للقلم في أرجاء تفضيل المدينة مجالًا واسعًا ومقالًا جامعًا، لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه. وقد استنبط العارف ابن أبي جمرة من قوله -صلى الله عليه وسلم- المروي في البخاري: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجَّال إلا مكة والمدينة" التساوي بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأنَّ جميع الأرض يطؤها الدجال إلّا هذين البلدين، فدلَّ على تسويتهما في الفضل، قال: ويؤكد ذلك   ومن مذهبي حبّ الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب يملي -بضم الياء وكسر اللام- فاعله الشوق، ومن ذلك المعنى قول الشاعر: وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا "على أنَّ للقلم في أرجاء" بفتح الهمزة وسكون الراء وجيم- جمع رجا بالقصر: الناحية، أي: في جهات تفضيل "المدينة مجالًا" مصدر ميمي لجال، أي: طوافًا "واسعًا" في بيان أدلة ذلك, "ومقالًا جامعًا" لما تفرَّق "لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه, والرهبة" الخوف من "الإكثار تصرف" تصد "عن تطويله وإفراطه". "وقد استنبط": استخرج العارف بالله ابن أبي جمرة" بجيم وراء "من قوله -عليه السلام- المروي في البخاري", والنسائي في الحج، ومسلم في الفتن, عن أنس مرفوعًا: "ليس من بلد" من البلدان "إلا سيطؤه" يدخله "الدجال" , قال الحافظ: هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذَّ ابن حزم فقال: المراد لا يدخله بجنوده, وكأنه استبعد إمكان دخول الدجَّال جميع البلاد لقصر مدته، وغفل عمَّا في مسلم، أن بعض أيامه يكون قدر سنة, "إلا مكَّة والمدينة" لا يطؤهما, مستثنى من المستثنى لا من بلد في اللفظ، وإلّا ففي المعنى منه؛ لأن ضمير يطؤه عائد على بلد. وبقية هذا الحديث: "ليس من نقابهما نقب إلّا عليه الملائكة صافّين يحرسونهما, ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق" , "التساوي" مفعول استنبط, "بين مكة والمدينة"؛ حيث قال: وظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأنَّ جميع الأرض يطؤها الدجال إلّا هذين البلدين، فدلَّ على تسويتهما في الفضل، وليس ذلك بلازم، فإنهما متساويان في أشياء كثيرة, ومع ذلك الخلاف في أيهما أفضل. "قال: ويؤكد ذلك أيضًا من وجه النظر أنه" أي: الشأن "إن كانت خصت المدينة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 أيضًا من وجه النظر؛ لأنه إن كانت خُصَّت المدينة بمدفنه -صلى الله عليه وسلم- وإقامته بها ومسجده، فقد خُصَّت مكة بمسقطه -صلى الله عليه وسلم- بها, ومبعثه منها، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة, مثل إقامته -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، عشر سنين في كلّ واحدة منهما. كذا قاله. وأنت إذا تأمَّلت قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث سعد: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلمَّ إلى الرخاء, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون, والذي نفسي بيده, لا يخرج أحد غربة عنها إلّا أخلف الله فيها خيرًا منه".   بمدفنه -عليه السلام- وإقامته بها ومسجده، فقد خُصَّت مكة بمسقطه" أي: ولادته "عليه السلام- بها, ومبعثه منها, وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته المباركة مكة, ومغربها المدينة, وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة, قدر إقامته بالمدينة, عشر سنين في كل واحدة منهما, كذا قاله" تبرأ منه؛ لأنَّ دلالة ما قاله على التساوي ليست بقوية؛ ولأن ما قال: إنه المشهور خلاف المشهور، أنه أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة، وحمه على أنَّ المراد بعشر مكة العشر التي دعا الناس فيها؛ لأن الثلاثة قبلها لم يكن مأمورًا فيها بدعوة, يمنعه قوله على المشهور من الأقاويل؛ إذ لو حمل على ذلك لم يكن خلاف, "وأنت إذا تأمَّلت قوله -عليه السلام- فيما رواه مسلم من حديث سعد". كذا في النسخ، والذي في مسلم: إنما هو عن أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه" أي: الرجل "هلمَّ" أي: تعال "إلي الرخاء" الزرع والخصب وغير ذلك, "والمدينة خير لهم" من الرخاء؛ لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل في البركات, "لو كانوا يعلمون" بما فيها من الفضائل؛ كالصلاة في مسجدها, وثواب الإقامة فيها, وغير ذلك من الفوائد الدينية والأخروية التي تحتقر دونها الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها, وجواب لو محذوف، أي: ما خرجوا منها، أو لو للتمنى فلا جواب لها، وعلى التقديرين، ففيه تجهيل من فارقها تقويته على نفسه خيرًا عظيمًا, وللبزار برجال الصحيح عن جابر مرفوعًا: "ليأتينَّ على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الخاء, فيجدون رخاء, ثم يتحملون بأهليهم إلى الرخاء, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" والأرياف: جمع ريف -بكسر الراء- وهو ما قارب المياه في أرض العرض، وقيل: هو الأرض التي فيها الزرع والخصب، وقيل غير ذلك, "والذي نفسي بيده, لا يخرج أحد رغبة عنها" أي: كراهة لها, من: رغبت عن الشيء إذا كرهته، قاله المازري, "إلا أخلف الله فيها خيرًا منه" بمولود يولد بها، أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 ظهر لك أن فيه إشعارًا بذم الخروج من المدينة, بل نقل الشيخ محب الدين الطبري عن قوم أنه عام أبدًا مطلقًا، وقال: إنه ظاهر اللفظ. وفي الصحيح مسلم من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلّا كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا". وفيه عن سعيد -مولى المهري- أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها, فقال: ويحك. لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلّا كنت له شفيعًا أو   قدوم خير منه من غيرها, وهذا فيما استوطنها، أمَّا من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه, أو استوطنها وسافر لحاجة أو شدة أو فتنة, فليس من ذلك. قاله الباجي: "ظهر لك أن فيه إشعارًا" قويًّا "بذمِّ الخروج من المدينة" رغبةً عنها, كما قيد به الحديث, فلا يرد أن الصحابة الذين خرجوا منها لم تخلف المدينة بمثلهم, فضلًا عن خير منهم, بل نقل الشيخ محب الدين الطبري عن قوم أنه عامّ أبدًا مطلقًا, أي: في زمنه -صلى الله عليه وسلم- وبعده, "وقال" مختارًا له: "إنه ظاهر اللفظ". وقد اختلف في ذلك, فقال ابن عبد البر وعياض وغيرهما: أنه خاص بزمنه -صلى الله عليه وسلم, وقال آخرون: هو عام في زمنه وبعده، ورجَّحه النووي, وقال الأبي: إنه الأظهر, والذين خرجوا من الصحابة لم يخرجوا رغبة عنها، بل لمصالح دينية. "وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها" أي: اللأواء, أو المدينة احتمالان للمازري، فعلى الأوّل هو عطف تفسير, "أحد من أمتي, إلّا كانت له شفيعًا يوم القيامة, أو شهيدًا" وفيه عن سعيد" صوابه كما في مسلم عن أبي سعيد مولى المهري -بفتح الميم وسكون الهاء وبالراء- نسبة إلى مهرة, قبيلة من قضاعة. قال المنذري: لا يعرف له اسم, "أنَّه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة" بفتح الحاء والراء المهملتين, "فاستشاره في الجلاء" بفتح الجيم والمد- الخروج "من المدينة, وشكا إليه أسعارها" أي: غلوّها "وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد" مشقة "المدينة ولأوائها" عطف مساو, "فقال له أبو سعيد: ويحك, لا آمرك بذلك"، أي: الجلاء, "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلّا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 "شهيدًا يوم القيامة". و"اللأواء" بالمد: الشدة والجوع. و"أو" في قوله: "إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" الأظهر أنها ليست للشك؛ لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بن أبي عبيد، عنه -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك, وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله -صلى الله عليه وسلم. وتكون "أو" للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة, وشفيعًا لباقيهم، إمَّا شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين، وإما شهيدًا لمن مات في حياته، وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك. وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين, أو للعالمين في القيامة، وعلى   إذا كان مسلمًا، هذا تمام الحديث عند مسلم "واللأواء" بفتح اللام وسكون الهمزة بعدها واو، و "بالمد- الشدة" أي: شدة الكسب, "والجوع". قال عياض في شرح مسلم: سئلت قديمًا عن هذا الحديث, ولم خصَّ ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته -صلى الله عليه وسلم, وادخاره إياها. قال: وأجبت عنه بجواب شافٍ مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه، وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع وأو "في قوله: "إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" قال بعض شيوخنا: إنها للشك، "والأظهر أنها ليست للشك", فهذا كله كلام عياض قائلًا؛ "لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله" الأنصاري "وسعد بن أبي وقاص" عند مسلم والنسائي في حديث بلفظ: "ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلّا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" , "وابن عمرو وأبو سعيد" الخدري, "وأبو هريرة" الثلاثة عند مسلم, "وأسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر, وصفية بنت أبي عبيد" زوجة ابن عمر, في صحبتها خلاف, السبعة عنه -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ", أي: شهيدًا أو شفيعًا "ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشكّ وتطابقهم" توافقهم "على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله -عليه السلام, وتكون أو للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة, وشفيعًا لباقيهم" بيان للتقسيم، وأوضحه فقال: "إمَّا شفيعًا للعاصين, وشهيدًا للمطيعين" بطاعاتهم, "وإما شهيدًا لمن مات في حياته" صلى الله عليه وسلم, "وشفيعًا لمن مات بعده, أو غير ذلك" مما الله أعلم به كما في كلام عياض, "وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله على علو مرتبة وزيادة وحظوة. وإذا قلنا "أو" للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة "شهيدًا" اندفع الاعتراض؛ لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة "شفيعًا" فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة, أنَّ هذا شفاعة أخرى غير العامّة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات؛ لكونهم على منابر أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة, أو غير ذلك من خصوص الكرامات. كيف لا يتحمّل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز وعده   في القيامة و" زائدة على شهادته على جميع الأمم" بأن أنبيائهم بلغتهم, وحذف من كلام عياض، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في شهداء أحد: "أنا شهيد على هؤلاء" , "فيكون لتخصيصهم بهذا كله علوّ مرتبة" منزلة, "وزيادة منزلة وحظوة" بضم المهملة وكسرها الظاء المعجمة- محبَّة ورفعة قدر، وأسقط من كلام عياض: وقد تكون أو بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا. انتهى. وقد رواه البزار بالواو برجال الصحيح عن ابن عمر: "وإذا قلنا أو للشك" كما قال المشايخ، كما عبر عياض وهو يفيد أن قوله أولًا بعض شيوخنا, أراد بالبعض جماعة من شيوخه، قالوا: إنها للشك، "فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض" بأن شفاعته عامة؛ "لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة لغيرهم, وإن كانت اللفظة الصحيحة" أي: الواردة في نفس الأمر "شفيعًا، فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة, إن هذه شفاعة أخرى غير العامَّة" المدَّخرة, وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات" في الجنة, أو تخفيف الحساب يوم القيامة, "أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات، ككونهم على منابر أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو كونهم في روح أو غير ذلك من خصوص الكرامات" الواردة لبعضهم دون بعض، إلى هنا كلام عياض. وقد نقله عنه النووي: "كيف لا يتحمَّل المشقَّات" استفهام توبيخي, "من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات, وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات, و" ينال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 لشفاعته وشهادته, وبلوغ قصده في المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأمَّلت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوي على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال. على أنَّ المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان، قد وسَّع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها, مِمَّن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعَّم بها باله, دون سائر البلدان، فإن مَنَّ الله على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلّا فالصبر للمؤمن أَوْلَى، فمن وفَّقه الله تعالى صبره في إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرَّع مرارة غصتها؛ ليجتلي عروس منصتها، ويلقي نزرًا من لأوائها؛ ليوقي بذلك من مصائب الدنيا وبلائها. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمان   "إنجاز" أي: تعجيل "وعده الصادق بشفاعته وشهادته و" ينال "بلوغ قصده في المحيا والممات, وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها" بالقصر لتوافق السجعة بعده وإن كان ممدودًا, وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأمَّلت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة, وشظف" بفتح الشين والظاء المعجمتين وفاء- شدة "العيش" وضيقه "مثلها، أو أشق منها, وأهلها مقيمون فيها" جملة حالية, "وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل" يتحوَّل عنها, "وقوي على الرحلة فلا يرتحل, ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال"؛ لأن حب الوطن من الإيمان, "على أن المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان, قد وسَّع الله فيها على بعض السكان, حتى من أصحابنا من غير أهلها, ممن استوطنها وحسن فيها حاله, وتنعَّم بها باله" أي: قلبه, "دون سائر البلدان، فإن مَنَّ الله على المرء بمثل ذلك هنالك" أي: سعة العيش بالمدينة فظاهر؛ لأنها منة عظيمة يجب عليه شكرها, وإلا فالصبر للمؤمن أَوْلَى" {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} , "فمن وفقه الله تعالى" صيره, "رزقه الصبر "في إقامته بها ولو على أمرِّ من الجمر، فيتجرَّع مرارة غصتها؛ ليجتلي عروس منصتها" بكسر الميم- كرسي تقف عليه العروس في جلائها, "ويلقي" يصيب "نزرًا" شيئًا "قليلًا من لأوائها" شدتها؛ "ليوقى" يصان من مصائب الدنيا وبلائها". "وقد روى البخاري" وابن ماجه في الحج, ومسلم في الإيمان, من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمان ليأرز" بلام التأكيد وهمزة ساكنة وراء مكسورة، وحكى القابسي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها" , أي: تنقبض وتنضم وتلتجئ، مع أنها أصل في انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان، لحبه في ساكنها -صلى الله عليه وسلم، فأكرم بسكانها, ولو قيل في بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة لهذا الحبيب الجليل, فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عليهم اسم الجار، وقد عمم -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار" ولم يخص جارًا دون جار، وكل ما احتجَّ به محتج مِن رَمْي بعض عوامّهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك في شخص منهم فلا يترك   فتحها، وحكى غيره ضمها، وصوَّب ابن التين الكسر فزاي معجمة، أي: إنَّ أهل الإيمان لتنضمّ وتجتمع "إلى المدينة ,كما تأرز الحية إلى حجرها" بضم الجيم، أي: كما تنضمّ وتلتجئ إليه إذا خرجت في طلب المعاش ثم رجعت, "أي: تنقبض وتنضم وتلتجئ" تفسير للمشبّه والمشبه به, "مع أنها" أي: المدينة "أصل في انتشاره" أي: الإيمان, "فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان؛ لحبه في ساكنها -صلى الله عليه وسلم, قال الحافظ: لأنه في زمنه للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم, ومن بعد ذلك لزيارة قبره -صلى الله عليه وسلم, والصلاة في مسجده, والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه. وقال الداودي: كان هذا في حياته -صلى الله عليه وسلم, والقرن الذي كان منهم, والذين يلونهم, والذين يلونهم خاصّة، وقال القرطبي: فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع, وأن عملهم حجة. "فأكرم بسكانها، ولو قيل في بعضهم ما قيل, فقد حظوا -بفتح الحاء المهملة وضم الظاء المعجمة بزنة رضوا لأنَّ فعله لازم، فلا يصح ضم الحاء على البناء للمفعول؛ لأنه لا يبني من لازم إلّا إذا وجد ما يصلح للنيابة عن الفاعل بعد حذفه نحو مَرَّ بزيد؛ ولأنَّ شرط البناء للمفعول أن يحذف الفاعل ويقام المفعول, أو نحوه مقامه, وما هنا ليس كذلك, "بشرف المجاورة لهذا الحبيب الجليل، فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم, فلا يسلب عليهم اسم الجار، وقد عمَّم -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار" ولم يخص جارًا من جار" فشمل الطائع والعاصي, "وكل ما احتج به محتج من رمي بعض عوامهم السنية" بضم السين- أي عوامهم أهل السنة، لكن رمي بعضهم "بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 إكرامه، ولا ينتقص احترامه, فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى, ويمنح بهذا القرب الصوري قرب المعنى. فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب ولله در ابن جابر حيث قال: هناؤكمو يا أهل طيبة قد حُقَّ ... فبالقرب من خير الورى زتم السبقا فلا يتحرك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم في بحر نعمته غرقى ترون رسول الله في كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقَّا متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرًّا ولا رقًّا   ذلك في شخص" أو أشخاص, "منهم لا يترك إكرامه ولا ينتقص احترامه، فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار" اعتدى, "ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح" يعطي "بهذا القرب الصوري قرب المعنى" وأنشد لغيره: فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب "ولله در ابن جابر" العلامة محمد "حيث قال: هناؤكمو يا أهل طيبة قد حقا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا حق ثبت والسبق بسكون الباء التقدم. فلا يتحرك ساكن منكمو إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم في بحر نعمته غرقى ترون رسول الله في كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقا أي: ترون آثاره من مسجده وغيره، فهو كقول الآخر: إن لم تريه فهذه آثاره متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرًّا ولا رقّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلحظم فالدهر يجري لكم وفقا فكم نعمة لله فيها عليكم ... فشكرًا ونعم الله بالشكر تستبقى أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا كذلك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا حياة وموتا تحت رحماه أنتم ... وحشرًا فستر الجاه فوقكم ملقى فيا راحلًا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى أتخرج عن حوز النبي وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا لئن سرت تبغي من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا فعش في حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت في الدارين تطلب أتٍ ترقا إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى   بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا فكم نعمة لله فيها عليكم ... فشكرًا ونعم الله بالشكر تُسْتَبْقى أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا بكسر الطاء وسكون اللام، أي: خالصًا، أو بفتح الطاء وسكون اللام مخففًا من كسرها، أي: فرحًا مسرورًا, ووصفه بذلك تجوزًا. فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا حياة وموتًا تحت رحماه أنتم ... وحشرًا فستر الجاه فوقكم ملقى فيا راحلًا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى أتخرج عن حوز النبي وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا لئن سرت تبغي من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا فعش في حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت في الدارين تطلب أتٍ ترقا إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار في ترحاله فهو الأشقى وقد روى الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها" ورواه الطبراني في الكبير من حديث سبيعة الأسلمية. وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل   لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار في ترحاله فهو الأشقى ومعنى الأبيات ظاهر فلا حاجة للتطويل بالتعلق بالألفاظ. "وقد روى الترمذي" وقال حسن صحيح, "وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استطاع" أي: قدر "منكم أن يموت بالمدينة" أي: يقيم بها حتى يموت بها, "فليمت بها" أي: فليقم بها حتى يموت، فهو حضّ على لزوم الإقامة بها ليتأتَّى له أن يموت بها, إطلاقًا للمسبب على سببه كما في: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} , "فإني أشفع لمن يموت بها" أي: أخصه بشفاعة غير العامَّة زيادة في إكرامه, وأخذ منه ندب الإقامة بها مع رعاية حرمتها وحرمة ساكنها. وقال ابن الحاج: حثَّه على محاولة ذلك بالاستطاعة التي هي بذل المجهود في ذلك, فيه زيادة اعتناء بها، ففيه دليل على تمييزها على مكة في الفضل؛ لإفراده إياها بالذكر هنا، قال السمهودي: وفيه بشرى للساكن بها بالموت على الإسلام لاختصاص الشفاعة بالمسلمين, وكفى بها مزية، فكل من مات بها مبشَّر بذلك. "ورواه الطبراني في الكبير من حديث" ابن عمر "عن سبيعة" بنت الحرث "الأسلمية" زوج سعد بن خولة, لها حديث في عدة المتوفَّى عنها زوجها, وكذا أخرجه ابن منده في ترجمتها، وقال العقيلي: هي غيرها. وقال ابن عبد البر: لا يصح ذلك عندي, وانتصر ابن فتحون للعقيلي، فقال: ذكر الثعالبي أن سبيعة بنت الحرث أوّل امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية أثر العقد, وطينة الكتاب لم تجف، فنزلت آية الامتحان فامتحنها النبي -صلى الله عليه وسلم, ورَدَّ على زوجها مهر مثلها، وتزوّجها عمر، قال ابن فتحون: فابن عمر إنما يروي عن امرأة أبيه. قال: ويؤيد ذلك أن هبة الله في الناسخ والمنسوخ, ذكر أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الحديبية لحقت به سبيعة بنت الحرث امرأة من قريش، فبان أنها غير الأسلمية، ذكره في الإصابة. "وفي البخاري من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل" لا نافية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 المدينة المسيح الدجال ولا الطاعون". وفيه: عن أبي بكر -رضي الله عنه, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب, على كل باب ملكان". قال في فتح الباري: وقد استكمل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونها شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما. وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدّم في المقصد الثامن من أنه طعن الجن, حَسُنَ مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفَّار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله   "المدينة المسيح" بحاء مهملة وإعجامها تصحيف كما قال غير واحد, "الدجال" من الدجل, وهو الكذب والخلط؛ لأنه كذاب خلاط, "ولا الطاعون، وفيه" أي: البخاري في الحج, من أفراده عن أبي بكرة نفيع بن الحرث بن كلدة الثقفي "رضي الله عنه, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب" بضم الراء- فزع وخوف, "المسيح الدجال" إخبار من الصادق بأمن أهلها منه، ولا يعارض هذا حديث أنس في الصحيحين: "ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات, فيخرِج الله كل كافر ومنافق" كما قدَّمته؛ لأن المراد بالرعب ما يحصل من الفزع من ذكره, والخوف من عتوه وتجبره, لا الرجفة التي تقع بالزلزلة بإخراج من ليس بمخلص, "لها" أي: المدينة "يومئذ" أي: يوم نزوله بعض السباخ التي بالمدينة -كما في حديث أنس عند الشيخين، أي: "ينزل خارج المدينة على أرض سبخة"، وأضيف لها لقربها منها, "سبعة أبواب، على كل باب ملكان" يحرسانها منه -لعنه الله. "قال في فتح الباري: "وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونها شهادة" كما صحَّ في الحديث, "وكيف قرن بالدجال" ولا يقرن الخبيث بالطيب, "ومدحت المدينة بعدم دخولهما" الدجال والطاعون. "وأجيب بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أنَّ ذلك يترتب عليه وينشأ عنه؛ لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدَّم في المقصد الثامن" معلوم أن هذا ليس في الفتح، ولكن زاده المصنف لإفادة تقدّمه من أنه طعن الجن, حَسُنَ مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم"، أي: أهلها وهذا شرف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 فيها لا يتمكن من طعن أحد منها. وقد أجاب القرطبي في المفهم عن ذلك فقال: المعنى: لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها، كطاعون عمواس والجارف. وهذا الذي قاله يقتضي أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في "المعارف", وتبعه جمع منهم الشيخ محي الدين النووي في الأذكار": بأنَّ الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا، ولا مكة أيضًا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة الطاعون في العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة, لم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلًا. وأجاب بعضهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- عوَّضهم عن الطاعون بالحمَّى؛ لأن الطاعون يأتي   عظيم وأنت خبير بأن الإشكال إنما هو منع الطاعون منها مع أنه شهادة، وذكر قرن الدجال به تقوية للإشكال, لا أنه من جملته حتى يحتاج للجواب، ويقال: إنه تركه لظهوره أن صونها منه شرف لها لما في دخوله من الفتنة والفساد. وقد أجاب القرطبي في المفهم" شرح مسلم "عن ذلك فقال: المعنى: لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيره كطاعون عمواس" بفتح العين والميم- قرية بين الرملة وبيت المقدس، نسب إليها لكونه بدأ فيها, وقيل: لأنه عَمَّ الناس وتواسوا فيه سنة ثمان وستين، سُمِّي بذلك لكثرة من مات فيه، والموت يسمى جارفًا لاجترافه الناس, والسيل جارفًا لاجترافه ما على وجه الأرض وكسح ما عليها, "وهذا الذي قاله يقتضي أنه دخلها في الجملة وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في المعارف, وتبعه جمع منهم الشيخ محيى الدين النووي في الأذكار، بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا ولا مكة أيضًا". "لكن نقل جماعة أنه دخل مكة الطاعون في العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة", ولا يرد هذا على النووي؛ لأنه أخبر عمَّا سمعه وأدركه بالاستقراء إلى زمنه؛ لأنه مات قبل ذلك بزمن طويل سنة ست وسبعين وستمائة. لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة رفعه: "المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما ملك، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون"، وحينئذ فالذي نقل أن الطاعون دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظن, أو يقال: لا يدخلها مثل ما وقع في غيرها كالجارف "بخلاف المدينة، فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلًا". "وأجاب بعضهم بأنه -عليه الصلاة والسلام- عوَّضهم عن" الثواب الحاصل لهم بسبب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 مرة بعد مرة، والحمَّى تتكرر في كل حين, فيتعادلان في الأجر، ويتمّ المراد من عدم دخول الطاعون المدينة. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي جواب آخر، بعد استحضار الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب -بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه: "أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون, فأمسكت الحمَّى بالمدينة, وأرسلت الطاعون إلى الشام"، وهو أن الحكمة في ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا، وكانت المدينة وبئة، كما في حديث عائشة، ثم خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- في أمرين   "الطاعون بالحمى" وهي شهادة؛ "لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة" ويتخلّل بينهما زمن طويل عادة "والحمَّى تتكرر في كل حين, فيتعادلان في الأجر"؛ لأن كلًّا شهادة. وقد روى الديلمي عن أنس مرفوعا: "الحمى شهادة" وسنده ضعيف، لكن له شاهد يقويه "ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة" لفظاعته, وإن كان شهادة. "قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار" الحديث "الذي خرَّجه أحمد" والحارث بن أبي أسامة, والطبراني والحاكم أبو أحمد, وابن سعد "من رواية أبي عسيب -بمهملتين آخره موحدة بوزن عظيم- مولى النبي -صلى الله عليه وسلم, مشهور بكنيته، قيل: اسمه أحمر، وقيل: سفينة مولى أم سلمة، والمرجَّح أنه غيره -كما في الإصابة "رفعه: "أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون" بأن صورهما له بهيئة الأجسام المشخَّصة, وأراه إياهما كما جزم به بعضهم, ولا مانع من ذلك؛ لأن الأعراض والمعاني قد يجسَّمان، ويحتمل أن يريد أخبرني بهما, "فأمسكت" أي: حبست "الحمى بالمدينة"؛ لأنها لا تقتل غالبًا, بل قد تنفع كما بينه ابن القيم, وأرسلت الطاعون إلى الشام"؛ لأنها أخصب الأرض، والخصب مظنة الأشر والبطر، وبقية هذا الحديث: "فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين" وهو" أي: الجواب "إن الحكمة في ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا" أي: بالنسبة للعدد, "ومددًا" لقلة المناصرين لهم, "وكانت المدينة وبئة كما في حديث عائشة، في الصحيح: قدمن المدينة وهي أوبأ أرض الله تعالى، أي: أكثر وباءً وأشدّ من غيرها، والمراد: الحمَّى, بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم: "وانقل حماها إلى الجحفة" وليس المراد الطاعون. قال المصنف في مقصد الطب الدليل على أنَّ الطاعون يغاير الوباء, أنَّ الطاعون لم يدخل المدينة النبوية قط، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى أرض الوباء, "ثم خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- في أمرين يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمَّى حينئذ" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 256 يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل, فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفَّار، وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمَّى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمَّى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصحّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون، ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظّ المؤمن من النار، ثم استمرَّ ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته, وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره في هذه المدَّة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها, ولوازم دعائه -صلى الله عليه وسلم- لها بالصحة، وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون   أي: حين خُيِّر "لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون" لكثرة الموت غالبًا به, "ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار, وأذن له في القتال" بآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] "كانت قضية استمرار" إضافة بيانية، أي: هي استمرار "الحمَّى بالمدينة, تضعيف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمَّى من المدينة إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة؛ لأنها كانت حينئذ دار شرك؛ ليشتغوا بها من إعانة الكفار، فلم تزل من يومئذ أكثر البلاد حمَّى, لا يشرب أحد من مائها إلا حُمَّ, "فعادت المدينة أصحَّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك" أوبأ أرض الله, "ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون" وهذا قد يوهم أنه كان بها الطاعون, وليس بمراد كما علم, "ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظّ" أي: نصيب "المؤمن من النار" كما في الحديث، تقدَّم شرحه في الطب, "ثم استمرَّ ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته" قال الشريف السمهودي: والموجودة الآن من الحمَّى بالمدينة ليس حمَّى الوباء، بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير. وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة والعريض" وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها, وأن الذي نقل عنها أصلًا ورأسًا, وشدتها وباؤها وكثرتها، بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليه شيئًا، قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية، ثم أعيدت خفيفة لئلَّا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر: "وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره في هذه المدة المتطاولة, وكان منع دخول الطاعون من خصائصها" أي: المدينة, "ولوزام دعائه -صلى الله عليه وسلم- لها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصًا والله أعلم. ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص, بل من كل داء،   بالصحة" بقوله: "وصححها لنا, وانقل حماها إلى الجحفة" , "وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية" صغيرة, "وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة .... أهـ." كلام الفتح "ملخصًا" بمعنى: إنه ترك منه ما لم يتعلّق غرضه به, لا التلخيص العرفي "والله أعلم". ومن خصائص المدينة، أنَّ غبارها شفاء من الجذام والبرص", وهذا لا يمكن تعليله, ولا يعرف وجهه من جهة العقل ولا الطب، فإن توقف فيه متشرع, قلنا: الله ورسوله أعلم. ولا ينتفع به من أنكره أو شكَّ فيه أو فعله مجربًا، قال ابن جماعة: لما حج ابن المرحل المقدسي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، ورجع إلى المدينة سمع شيخًا من المحدثين يقول: كان في جسد بعض الناس بياض، فكان يخرج إلى البقيع عريانًا في السحر ويعود, فبرأ بذلك الغبار، فكأنَّ ابن المرحل حصل في نفسه شيء، فنظر في يده فوجد فيها بياضًا قدر درهم، فأقبل على الله بالتضرّع والدعاء, وخرج إلى البقيع, وأخذ من رمل الروضة، فدلّك به ذلك البياض, فذهب "بل من كل داء" إذا استعمل على وجه التداوي بمقدار خاص وزمن خاص، ونحو ذلك كسائر الأدوية، فلا يرد أن كثير مما بها يمرضون مع أنهم لا يخلون من مسّ غبارها، ويؤيد ذلك ما عند ابن النجار وغيره من طريق ابن زبالة, أنه -صلى الله عليه وسلم- أتى بني الحارث، فإذا هم مرضى فقال: "ما لكم"، قالوا: أصابتنا الحمَّى, قال: "فأين أنتم من صعيب"، قالوا ما نصنع به؟ قال: "تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: بسم الله, تراب أرضنا بريق بعضنا, شفاء لمريضنا بإذن ربنا" ففعلوا فتركتهم الحمَّى، قال بعض رواته: وصعيب وادي بطحان, وفيه حفرة من أخذ الناس، قال ابن النجار: رأيت الحفرة والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جرَّبوه فوجدوه صحيحًا وأخذت منه أيضًا. قال السمهودي: وهي موجودة الآن, يعرفها الخلف عن السلف, وينقلون ترابها للتداوي، وذكر المجد أن جماعة من العلماء جرَّبوه للحمَّى فوجدوه صحيحًا. قال: وأنا سقيته غلامًا لي واظبته الحمَّى ستة أشهر, فانقطعت عنه من يومه. وذكر في موضع آخر كالمطرزي أن ترابه يجعل في المال ويغتسل به من الحمَّى، قلت: فينبغي أن يفعل أولًا ما ورد ثم يجمع بين الشرب والغسل أ. هـ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 كما رواه رزين العبدري في جامعه من حديث سعد، زاد في حديث ابن عمر: عجوتها شفاء من السم، ونقل البغوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أنها المدينة. وذكر ابن النجار تعليقًا عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف, وافتتحت المدينة بالقرآن. وروى الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به, عن أبي هريرة يرفعه: "المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام". وبالجملة، فكل المدينة: ترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد   "وذكره رزين" بن معاوية "العبدري في جامعه من حديث سعد" وروى ابن النجار وأبو نعيم والديلمي عن ثابت بن قيس بن شماس مرفوعًا: "غبار المدينة شفاء من الجذام" وروى ابن زبالة عن صيفي ابن عامر، رفعه: "والذي نفسي بيده, إن تربتها لمؤمنة, وإنها شفاء من الجذام"، أي: مؤمنة حقيقة بأن جعل فيها إدراكًا وقوة تصديق، أو مجازًا لانتشار الإيمان منها. "وزاد في حديث ابن عمر: عجوتها شفاء من السم" العجوة اسم لنوع خاص من تمر المدينة, وتقدَّم في الطب. ونقل البغوي عن ابن عباس" في تفسير قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] أنها المدينة وقد عدَّ ذلك في أسمائها, وهي نحو مائة. "وذكر ابن النجار تعليقًا" أي: بلا إسناد, عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف" إمَّا بالفعل أو بالرعب الحاصل لهم, وافتتحت المدينة بالقرآن" من قبل هجرته إليها لما جاءه أصحاب العقبات الثلاث وأسلموا كما مَرَّ مفصلًا. "وروى الطبراني في الأوسط بإسنادٍ لا بأس به" نحوه قول الحافظ نور الدين الهيثمي, فيه عيسى بن مينا قالون, وحديثه حسن, وبقية رجاله ثقات، لكن قال تلميذه الحافظ في تخريج أحاديث المختصر: فرد به قالون, وهو صدوق, عن عبد الله بن نافع, وفيه لين, عن ابن المثنَّى, واسمه: سليمان بن يزيد الخزاعى، ضعيف, والحديث غريب جدًّا سندًا ومتنًا, "عن أبي هريرة يرفعه: "المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومتبوأ" وفي نسخة: ومثوى "الحلال والحرام" أي: محل بيانهما, "وبالجملة: فكل المدينة ترابها وطرقها وفجاجها" أي: طرقها الواسعة، فعطفها على ما قبلها خاص على عام, "ودورها" عطف جزء على كل, "وما حولها قد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 شملته بركته -صلى الله عليه وسلم, فإنهم كانوا يتبرَّكون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها, وإلى الصلاة في بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابّة في المدينة, وقال: لا أطأ بحافر دابّة في عراص كان -صلى الله عليه وسلم- يمشي فيها بقدميه -صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن يأتي قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يزوره راكبًا وماشيًا، رواه مسلم, وفي رواية له: "يأتي" بدل "يزور" فيصلي فيه ركعتين.   شملته بركته -صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يتبرَّكون بدخولهم منازلهم, ويدعونه إليها" لما شاهدوه من بركته العامّة لكل مكان حلّ فيه، ولكل من نظر إليه نظر رحمة, وإلى الصلاة في بيوتهم؛ كعتبان بن مالك؛ ليتخذ مكان مصلاه مسجدًا, ولذلك, أي: التبرك بما عمَّته بركته, وللتأدب, امتنع مالك -رحمه الله- من ركوب دابَّة في المدينة، وقال: لا أطأ بحافر دابة" للفرس ونحوها، كالخف للبعير, والقدم للإنسان, "في عراص" جمع عرصة, أرض لا بناء فيها، والمراد هنا: مطلق الأرض أو معناها الحقيقي: "كان -صلى الله عليه وسلم- يمشي فيها بقدميه", وفي الشفاء عن مالك: وقال: استحي من الله أن أطأ تربة مشى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحافر دابة. وروي عنه أنه وهب للشافعي كراعًا كثيرًا كان عنده، فقال له الشافعي: أمسك منها دابة، فأجابه بمثل هذا الجواب, وينبغي" للزائر أن يأتي مسجد قباء -بضم القاف يمد ويقصر ويذكر ويؤنث ويصرف ويمنع- موضع قرب المدينة, وهو محل بني عمرو بن عوف من الأنصار, نزل إليه -صلى الله عليه وسلم- أوّل ما هاجر, وصلَّى فيه ثلاث ليالٍ بمحل المسجد، ثم وضع أساسه بيده, وتَمَّمَ بناءه بنو عمرو, وهو الذي أسس على التقوى عند الأكثرين. وفي مسلم أنه المسجد النبوي ولا خلف، فكلّ أسس على التقوى، ومَرَّ بيان ذلك في الهجرة، وللطبراني برجال ثقات عن الشموس بنت النعمان، قالت: نظرت إليه -صلى الله عليه وسلم- حين قدم ونزل وأسس مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره، أي: يميله, وأنظر إلى التراب على بطنه وسرته، فيأتي الرجل فيقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أكفيك، فيقول: "لا خذ مثله" حتى أسسه, "فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يزوره راكبًا" تارةً, وماشيًا آخرى, بحسب ما تيسَّر، والواو بمعنى أو. "رواه مسلم" والبخاري في مواضع وغيرهما, كلهم عن ابن عمر، وكأنه قصر العزو لمسلم لانفراده بلفظ: يزور؛ لأن الذي في البخاري وغيره: يأتي, لكن لا يكفي هذا في الاعتذار؛ لأن المعنى واحد, ولأنَّه يوهم ناقص العلم أنه من إفراد مسلم". وفي رواية له يأتي بدل يزور, وهي التي في أكثر الروايات, وقوله: فيصلي فيه ركعتين, زيادة انفرد بها مسلم عن البخاري. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 وعنده أيضًا: أنَّ ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل سبت. وعند الترمذي وابن ماجه والبيهقي في حديث أسيد بن ظهير الأنصاري، يرفعه: "صلاة في مسجد قباء كعمرة" , قال الترمذي: حسن غريب. وقال المنذري:   قال ابن عبد البر: اختلف في سبب إتيانه، فقيل: لزيارة الأنصار، وقيل: للتفرّج في بساتينه، وقيل: للصلاة في مسجده, وهو الأشبه، قال: ولا يعارضه حديث: "لا تعمل المطيّ إلا لثلاثة مساجد"؛ لأن معناه عند العلماء للنذر، فإذا نذر أحد الثلاثة لزمه، أمَّا إتيان مسجد قباء أو غيره تطوعًا بلا نذر فيجوز. وقال الباجي: ليس إتيان مسجد قباء من المدينة من إعمال المطي؛ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطي, ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعه أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي, "وعنده" أي: مسلم "أيضًا" وكذا البخاري " أنَّ ابن عمر كان يأتيه كل سبت" خصَّه لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقده لحال من تأخّره منهم عن حضور الجمعة معه -صلى الله عليه وسلم- في مسجده بالمدينة، قاله الحافظ وغيره. وقال الزين العراقي: ومن حكمته أنه كان يوم السبت يتفرّغ لنفسه, ويشتغل بقية الجمعة من أوّل الأحد بمصالح الأمة ..... أهـ. ومن حكمته أيضًا إرغام اليهود وإظهار مخالفتهم في ملازمة بيوتهم, "وعند الترمذي وابن ماجه والبيهقي" وشيخه الحاكم "من حديث أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة, "ابن ظهير" بضم الظاء المعجمة المشالة وفتح الهاء- ابن رافع بن عدي بن زيد "الأنصاري" الحارثي, له ولأبيه صحبة. قال ابن عبد البر: مات في خلافة مروان, "يرفعه: "صلاة" وفي رواية: الصلاة بأل للجنس، فيشمل الفرض والنفل أو للعهد، فيختص بالفرض, "في مسجد قباء كعمرة" في الفضل, قال الحافظ: فيه فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه، كن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة. وروى عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص، قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إلي من أن آتي بيت المقدس مرَّتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل "وقال الترمذي: حسن غريب". قال الحافظ الزين العراقي: رواته كلهم ثقات، وقول ابن العربي: إنه ضعيف غير جيد, "وقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 لا نعرف لأسيد حديثًا صحيحًا غير هذا. ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: "من تطهَّر في بيته, ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة, كان له كأجر عمرة" وصححه الحاكم. وينبغي أيضًا بعد زيارته -صلى الله عليه وسلم- أن يقصد المزارات التي بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التي صلّى فيها -صلى الله عليه وسلم- التماسًا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفي في المدينة في حياته -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته مدفون في البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين. وروي عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" رواه   المنذري: لا نعرف لأسيد حديثًا صحيحًا غير هذا" نفى معرفته بذلك، جزم الترمذي فقال: لا يصح لأسيد بن ظهير غيره، قال في الإصابة: أخرج له ابن شاهين حديثًا آخر، لكن فيه اختلاف على راويه. "ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف" الأنصاري البدري، مرفوعًا "بلفظ: "من تطهر" توضأ "في بيته" , وفي رواية النسائي: "من توضأ فأحسن الوضوء" , "ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة" ركعتين فأكثر, "كان" الإتيان المشتمل على الصلاة, "له كأجر عمرة". وفي رواية النسائي: كان له عدل عمرة, "وصحَّحه الحاكم", ورواه الحافظ قاسم بن أصبغ عنه، مرفوعًا بلفظ: "من تطهر في بيته, ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء, لا يخرجه إلا الصلاة فيه, كان بمنزلة عمرة". "وينبغي أيضًا بعد زيارته -صلى الله عليه وسلم- أن يقصد المزارات" جمع مزار, محل الزيارة، أي: الأماكن التي اشتهرت "بالمدينة الشريفة, والآثار المباركة" التي علم مشيه فيها, "والمساجد التي صلى فيها -عليه الصلاة والسلام- التماسًا لبركته, ويخرج إلى البقيع" بالموحدة "لزيارة مَنْ فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفي بالمدينة في حياته -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته, مدفون بالبقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين". "وروي عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك" مات بها "أمهات المؤمنين سوى خديجة، فإنها بمكة" وقبرها معلوم, "وميمونة, فإنها بسرف -بفتح المهملة وكسر الراء وبالفاء- قرب مكة, "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع" الصغير؛ لأنه المراد عند الإطلاق "فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" بنصب دار على النداء، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 مسلم. قال ابن الحاج في "المدخل": وقد فرق علماؤنا بين الآفاقي والمقيم في التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف في حق الآفاقي أفضل له، والتنفل في حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيمًا خرج إلى زيارة أهل البقيع, ومن كان مسافرًا فليغتنم مشاهدته -صلى الله عليه وسلم. وحكي عن العارف ابن أبي جمرة، أنَّه لما دخل المسجد النبوي لم يجلس إلّا الجلوس في الصلاة، وأنه لم يزل واقفًا بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى.   وقيل: على الاختصاص، قيل: ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم، قال الخطابي: وفيه أن اسم الدار يقع على المقبرة وهو الصحيح. "رواه مسلم" في الجنائز عن عائشة، قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- كلما كان ليلتها منه, يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" قال المصنف: ظاهره أنَّه كان يأتي البقيع في كل ليلة من التسع التي هي نوبة عائشة، ويحتمل أنه كان يأتي كل ليلة, وإنما أخبرت عمَّا علمت من ليلتها. وهذا كان في آخر عمره -صلى الله عليه وسلم- بعدما أمره الله تعالى, لا كل ليلة في جميع مدة هجرته إلى المدينة، وفي قوله: آخر الليل تأكدًا لزيارة في هذا الوقت؛ لأنه مظنَّة لقبول الدعاء حسبما دلَّ عليه حديث النزول أهـ. "قال ابن الحاج في المدخل: وقد فرق علماؤنا" المالكية "بين الآفاقي والمقيم في التنفل بالطواف والصلاة فقالوا: الطواف في حق الآفاقي أفضل له, والتنفل في حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أَوْلى، فمن كان مقيمًا" بالمدينة المنورة "خرج" استحبابًا "إلى زيارة أهل البقيع، ومن كان مسافرًا فليغتنم مشاهدته -عليه الصلاة والسلام" ولا يخرج. "وحكى" ابن الحاج "عن العارف ابن أبي جمرة أنه لما دخل المسجد النبوي لم يجس إلا الجلوس في الصلاة، وأنه لم يزل واقفًا بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان خطر له أن يذهب إلى البقيع" ثم عَنَّ له الترك, "فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 وروى ابن النجار مرفوعًا: "مقبرتان مضيئتان لأهل السماء كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا: بقيع الغرقد ومقبرة بعسقلان"، وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة, يعني: مقبرة المدينة كقبة محفوفة بالنخيل, موكّل بها ملائكة, كلما امتلأت أخذوا فكفؤها في الجنة. وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر, ثم عمر، ثم آتي البقيع فيحشرون معي، ثم انتظر أهل مكة حتى نحشر بين الحرمين".   "وروى ابن النجار" الإمام الحافظ البارع الورع محمد بن البغدادي, واسع الرواية، له ثلاثة آلاف شيخ, وتصانيف عديدة، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة, ومات في شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة "مرفوعًا: "مقبرتان" بضم الباء وفتحها تثنية مقبرة, موضع القبور "مضيئتان لأهل السماء كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا" ما تحت السماء, "بقيع" بفتح الموحدة اتفاقًا وقاف, "الغرقد" بغين معجمة- موضع بظاهر المدينة, فيه قبور أهلها, كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه, "ومقبرة عسقلان" بفتح العين والقاف- مدينة من فلسطين, ناحية بالشام. "وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة، يعني: مقبرة المدينة كقبة" محلّ مرتفع "محفوفة بالنخيل" من كل جانب, "موكل بها ملائكة, كلما امتلأت أخذوا فكفؤها في الجنة". "وأخرج أبو حاتم" محمد بن حبان, "من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" للبعث, فلا يتقدم عليه أحد , "ثم أبو بكر" لكمال صداقته له, "ثم عمر" الفاروق, "ثم آتى" فعل المتكلم "البقيع" , وللترمذي: أهل البقيع, "فيحشرون معي" أي: أجتمع أنا وإياهم. قال الطيبي: الحشر هنا الجمع كقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} , "ثم أنتظر أهل مكة" أي: المسلمين منهم, حتى يأتوا إلي, "حتى نحشر" أي: نجتمع كلنا "بين الحرمين" ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح كا يأتي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 الفصل الثالث: [في أمور الآخرة] في تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم وعلى   الفصل الثالث: في تفضيله -عليه الصلاة والسلام- في الآخرة "بفضائل الأوليات" أي: كونه أوّل كذا، وأوّل كذا "الجامعة لمزايا التكريم" جمع مزية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 الدرجات العاليات, وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، المغبوط عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد في مجمع جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه يوم المزيد في أعلى معالي الحسنى وزيادة. اعلم أن الله تعالى كما فضّل نبينا -صلى الله عليه وسلم- في البدء, بأن جعله أول الأنبياء في الخلق، وأوّلهم في الإجابة في عالم الذر، يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، فضَّ له, كما ختم كمال الفضائل في العود، فجعله أوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع, وأول مشفَّع، وأوّل من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأوّل الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وأوّل داخل إلى الجنة، وأمته أوّل الأمم دخولًا إليها. وزاده من لطائف التحف ونفائس الطرف ما لا يجد ولا يعد:   فعيلة, وهي التمام والفضيلة، يقال: لفلان مزية، أي: فضيلة يمتاز بها عن غيره, "وعلى الدرجات" أي: الفضائل والرتب العلية, "وتحميده" أي: حمد الخلائق له "بالشفاعة" في فصل القضاء, "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه للشفاعة, "المغبوط" بغين معجمة- أي: المستحسن حاله "عليه من الأولين والآخرين, وانفراده بالسؤدد" بضم السين فهمزة ساكنة فدال مضمومة- المجد والشرف, "في مجمع" محل جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه" علوه "في جنة عدن" إقامةً, "أرقى" أعلى, "مدارج السعادة وتعاليه" ارتفاعه, فهو بمعنى ترقيه حسنه اختلاف اللفظ, "يوم المزيد" هو يوم المعة في الجنة كما مَرَّ, "أعلى معالي الحسنى" الجنة "وزيادة النظر" إلى الله. "اعلم أن الله تعالى كما فَضَّل نبينا -صلى الله عليه وسلم- في البدء" الابتداء "بأن جعله أوّل الأنبياء في الخلق", كما ورد عنه وقد تقدَّم, "وأولهم في الإجابة في عالم الذر" بنعمان, "يوم" عرفة, يوم أشهدهم على أنفسهم "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" قالوا: بلى، كان أوَّل من قال بلى, نبينا -صلى الله عليه وسلم, "فض" بفاء وضاد معجمة- أي: فتح, "له كما ختم كمال الفضائل في العود، فجعله أوّل من تنشق عنه الأرض" أي: أوّل من تعاد فيه الروح يوم القيامة ويظهر, "وأوّل شافع" فلا يتقدَّم عليه ملك ولا نبي, "وأول مشفَّع" بشدة الفاء مفتوحة- مقبول الشفاعة, "وأوَّل من يؤذن له بالسجود" فيسجد تحت العرش للشفاعة, "وأول من ينظر لرب العالمين, والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك" حتى يراه قبلهم, "وأوَّل الأنبياء يقضي بين أمته, وأولهم إجازة" أي: قطعًا "على الصراط بأمته، وأوّل داخل إلى الجنة، وأمته أول الأمم دخولًا إليها" بعد دخول جميع الأنبياء، فالأنبياء لهم دخولان: دخول خاصّ قبل جميع الأمم، ودخول عام مع أممهم, "وزاده" عطف على فضله, "من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 فمن ذلك أنه يحشر راكبًا، وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضًا بالسجود لله تعالى أمام العرش، وما يفتحه الله عليه في سجوده من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله, ولا يفتحه على أحد بعده, زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفّع، ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى. ومن ذلك: تكراره في الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه, والتحميد بما يفتح الله عليه. ومن ذلك: كلام الله تعالى له في كل سجدة: يا محمد, ارفع رأسك, وقل تسمع, واشفع تشفع، فعل المدل على ربه الكريم عليه, الرفيع عنده، المحب ذلك منه تشريفًا له وتكريمًا وتبجيلًا وتعظيمًا.   لطائف التحف:" جمع تحفة، وزان رطبة, وحكى سكون الحاء, ما أتحفت به غيرك, "ونفائس الطرف" بضم الطاء المهملة وفتح الراء- جمع طرفة وهي ما يستطرف، أي: يستملح, "ما لا يجد ولا يعد" لكثرته جدًّا, "فمن ذلك أنه يحشر راكبًا" على البراق كما مَرَّ في الخصائص، ويأتي قريبًا في حديث: وإلا فقد جاء في تفسير: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أي: راكبين، ويحتمل أنه يبعث راكبًا من أوّل بخلاف غيره، فيجوز أن ركوبه بعد بعثه وفيه شيء, "وتخصيصه بالمقام المحمود, ولواء الحمد, تحته آدم فمن دونه، واختصاصه أيضًا بالسجود لله تعالى أمام" قدام "العرش, وما" أي: واختصاصه بما "يفتحه الله عليه في سجوده من التحميد والثناء عليه" سبحانه, ما لم يفتحه على أحد قبله, ولا يفتحه على أحد بعده, زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله تعالى له" بقوله: "يا محمد, ارفع رأسك, وقل تسمع" ما تقول سماع قبول, "وسل تعط" ما سألت, "واشفع تشفع" تقبل شفاعتك, "ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى، ومن ذلك" الذي لا يعد ولا يحد, تكراره في الشفاعة, وسجوده ثانية ومرة "ثالثة, وتجديد الثناء عليه" سبحانه, "بما يفتح الله عليه من ذلك" الثناء, "وكلام الله تعالى له في كل سجدة" بقوله: "يا محمد, ارفع رأسك, وقل تسمع, واشفع تشفع, فعل" بالنصب أو الرفع بتقدير: ذلك فعل "المدل" أي: المقدم "على ربه" المطمئن المسرور بسماع كلامه الكريم عليه, الرفيع عنده, المحب ذلك" الإقدام "منه, تشريفًا له وتكريمًا وتبجيلًا وتعظيمًا". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 ومن ذلك: قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلغوهم، وإتيانهم إليه يسئولونه الشفاعة؛ ليريحهم من غمّهم وعرقهم وطول وقوفهم، وشفاعته في أقوام قد أمر بهم إلى النار. ومنها: الحوض، الذي ليس في الموقف أكثر أوان منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته. ومنها: أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيمًا وتبجيلًا وتكريمًا على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . فأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بأولية انشقاق القبر المقدّس عنه، فروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أوّل من   فلذا قدم عليه تعالى الكلام, وفعل معه فعل المدل وهو المرشد، فسأله ما لا يقدم غيره على سؤاله, "ومن ذلك قيامه عن يمين العرش" وهو فرق الجنة, وهي فوق السموات كما يأتي, "ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره, يغبطه" بكسر الباء- يستحسنه, "فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلّغوهم, وإتيانهم إليه يسألونه الشفاعة؛ ليريحهم من غمهم وعرقهم" بعين مهمة, "وطول وقوفهم وشفاعته في أقوام قد أُمِرَ بهم إلى النار، ومنها الحوض الذي ليس في الموقف أكثر أوان," جمع إناء, "منه, وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته، ومنها: أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم, وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة, إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيمًا وتبجيلًا وتكريمًا على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وهذا كله ترجمة على سبيل الإجمال وفصله، فقال: "فأما تفضيله بأولية انشقاق القبر المقدَّس عنه، فروى مسلم" في المناقب, وأبو داود في السنة, "من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصَّه؛ لأنه يوم مجموع له الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 ينشق عنه القبر وأوّل شافع وأوّل مشفّع". وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي -آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر ..... " رواه الترمذي. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض, ثم أبو   الناس، فتظهر سيادته لكل أحد عيانًا، فلا ينافي أنَّ سيادته ثابتة في الدنيا، فهو نحو قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] وأطلق في الوصف بذلك لإفادة العموم لأولي العزم وغيرهم، وتخصيص ولد آدم ليس للاحتراز؛ إذ هو أفضل حتى من خواص الملائكة إجماعًا, "وأنا أوّل من ينشق عنه القبر" أي: يعجل إحياءه مبالغةً في إكرامه, وتخصيصًا بجزيل إنعامه, "وأنا أوّل شافع" للخلائق لا يتقدمه شافع, لا بشر ولا ملك في جميع أقسام الشفاعات, "وأول مشفَّع" بشد الفاء المفتوحة- أي: مقبول الشفاعة، ولم يكتف بشافع؛ لأنه قد يشفع ثانٍ فيشفع قبل الأول. وأما حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والحاكم: "يشفع نبيكم رابع أربعة: جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه"، فقد ضعَّفه البخاري، فلا يعارض حديث مسلم. "وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" أي: أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، فهو نحو قول سليمان -عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس, وإن كان فيه فخر الدارين، وقيل: لا أفتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الفضائل, "وبيدي لواء الحمد" , يأتي بيانه للمصنف "ولا فخر" لا عظمة ولا مباهاة, "وما من نبي يومئذ -آدم فمن سواه" أي: دونه, "إلا تحت لوائي" قال الطيبي: آدم فمن سواه, اعتراض بين النفي والاستثناء، أفاد أن آدم بالرفع بدلًا أو بيانًا من محله, ومن فيه موصولة، وسواه صلته، وصحَّ لأنه ظرف, وآثر الفاء التفصيلية في, فمن لترتيب على منوال الأمثل فالأمثل, "وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض". وفي رواية: من تنشق الأرض عن جمجمتي, "ولا فخر" حال مؤكّدة، أي: أقول هذا ولا فخر، بل شكرًا وتحدثًا بالنعمة, وإعلامًا للأمَّة؛ لأنه مما يجب تبليغ؛ ليعتقدوا فضله على من سواه. وبقيه هذا الحديث عند رواته: "وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع ولا فخر"، وكان الأولى للمصنف لمن لا يتركها لإفادة أنه جاء عن صحابي آخر ولزيادة ولا فخر. "رواه الترمذي" في المناقب: وقال حسن صحيح، وكذا رواه ابن ماجه وأحمد, "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 بكر ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين". قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو حاتم وقال: حتى نحشر. وتقدَّم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أوّل من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش: فما أدري أكان فيمن صعق". وفي رواية: "فأكون أول من يفيق, فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي, أو كان ممن استثنى الله". رواه البخاري. والمراد بالصعق: غشي يلحق من سمع صوتًا أو رأى شيئًا يفزع منه.   بالمد أجيء, "أهل البقيع فيحشرون" , يجتمعون معي لكرامتهم على ربهم, وشرفهم عنده باستغفار نبيهم لهم وقربهم منه, "ثم أنتظر أهل مكة" المسلمين منهم, حتى يقدموا عليّ تشريفًا لهم بجوار بيت الله, "حتى أحشر بين الحرمين" أي: حتَّى يكون لي ولهم اجتماع بينهما, "قال الترمذي: حسن صحيح" وصحَّحه الحاكم. "ورواه أبو حاتم" ابن حبان, "وقال" في روايته: "حتى نحشر" أي: نجتمع كلنا, "وتقدَّم" قريبًا, "وعن أبي هريرة، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يصعق" بفتح العين, "الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق" بكسر العين- ترك تمامه استغناء بذكره في قوله: "وفي رواية: "فأكون أول من يفيق" بضم أوله, "فإذا موسى باطش" آخذ بقوة, "بجانب العرش". وفي رواية: بقائمة من قوائم العرش, "فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله" فلم يكن ممن صعق، أي: فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة، وإن كان ممن استثنى الله في فضيلة أيضًا. وفي رواية: أفاق قبلي أم جوزي بصعق الطور, ولا منافاة، فإن المعنى: لا أدري أيّ الثلاثة كان الإفاقة أو الاستثناء أو المحاسبة بصعقة الطور. "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" ومسلم, "والمراد بالصعق غشي" بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين فتحتية خفيفة وبكسر الشين وشد الياء "يلحق من سمع صوتًا أو رأى شيئًا يفزع منه" أصل الغشي, مرض معروف يحصل بطول القيام في الحر ونحوه, وهو طرف من الإغماء وهو المراد هنا. وأمَّا قول الحافظ المراد به هنا الحالة القريبة منه, فأطلقه عليه مجازًا، فإنما قاله في صلاة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 ولم يبين في هذه الرواية -من الطريقين- محل الإفاقة، من أي الصعقتين, ووقع في رواية الشعبي عن أبي هريرة في تفسير سورة الزمر: إني أوَّل من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة. والمراد بقوله: "ممن استثنى الله" قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] .   الكسوف في قول أسماء بنت أبي بكر: فقمت حتى تجلَّاني الغشي، فنقله هنا من نقل الشيء في غير موضعه، وإنما قال: هنا مثل لفظ المصنف بالحرف. "ولم يبين في هذه الرواية من الطريقين محل الإفاقة من أيّ الصعقتين" الأولى أم الثانية. "ووقع في رواية الشعبي" عامر بن شراحيل, "عن أبي هريرة في تفسير سورة الزمر" من البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني أوَّل من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" أي: الثانية، ولفظ البخاري: الآخر، قال المصنف: بمد الهمزة. وبقية هذه الرواية في البخاري: "فإذا أنا بموسى متعلّق بالعرش، فلا أدري" أكذلك كان أم بعد النفخة، زاد الحافظ: ووقع في حديث أبي سعيد: "فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض"، كذا عند البخاري في كتاب الأشخاص بهذا اللفظ، وله في غيره: "فأكون أول من يفيق"، وجزم المزي بأنه الصواب، وأنَّ تلك وهم من راويها, وكونه أوّل من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر ليس فيه ذكر موسى، نقله عنه ابن القيم في كتاب الروح، ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق أحيائهم وأمواتهم وهو الفزع، كما قال تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، ثم تعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه, وللأحياء موتًا، ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعون، فمن كان مقبورًا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره، ومن ليس مقبورًا ألا يحتاج إلى ذلك، وموسى ممن قبر في الدنيا، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره". أخرجه مسلم عن أنس, عقب حديث أبي هريرة, وأبي سعيد المذكورين، ولعله أشار بذلك إلى ما قررته. انتهى. "والمراد بقوله: ممن استثنى الله قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، وقال الداودي: أي: جعله ثانيًا لي، قال الحافظ: وهو غلط شنيع، وفي البعث لابن أبي الدنيا من مرسل الحسن: "فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أنَّ الموتى لا إحساس لهم؟ فقيل: المراد: إن الذين يصعقون هم الأحياء، وأمَّا الموتى فهم في الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي: إلا من سبق له الموت قبل ذلك, فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبي. ولا يعارضه ما ورد في الحديث: "إن موسى ممن استثنى الله؛ لأن الأنبياء أحياء عند الله". وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد: صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وتعقبه القرطبي: بأنه صرح -صلى الله عليه وسلم- بأنه يخرج من قبره, فيلقي موسى وهو متعلق   لا تصيبه النفخة أو بعث قبلي. وزعم ابن القيم أن قوله: "أكان ممن استثنى الله" وهمٌ من بعض الرواة، والمحفوظ: أو جوزي بصعقة الطور، قال: لأنَّ الله استثنى قومًا من صعقة النفخ, وموسى داخل فيهم، وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث, فلا يحسن التردد فيها، وأمَّا الصعقة العامَّة فتقع إذا جمعهم الله لفصل القضاء، فيصعق الخلق حينئذ جميعًا إلا من شاء الله. ويدل على ذلك قوله: "أوّل من يفيق"، فإنه دالّ على أنه ممن صعق، وتردّد في موسى هل صعق، فأفاق قبله أم لم يصعق، قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى لزم أن يكون -صلى الله عليه وسلم- جزم بأنه مات، وتردَّد في موسى هل مات أولًا، والواقع أن موسى كان قد مات، فدلّ على أنها صعقة فزع لا صعقة موت. انتهى. "وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون, مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل" في الجواب: "المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأمَّا الموتى فهم في الاستثناء" داخلون, "في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ} ، أي: إلّا من سبق له الموت قبل ذلك، فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح "مال" القرطبي" الشيخ أبو العباس في المفهم, "ولا يعارضه ما ورد في الحديث: "إن موسى ممن استثنى الله، لأن الأنبياء أحياء عند الله" , وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء، ولا شكَّ أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء, وهم ممن استثنى الله. أخرجه إسحق بن راهويه وأبو يعلى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي هريرة: هكذا في الفتح، ويتلوه قوله: "وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض", وعلى هذا فلا يشكل هذا الحديث: "أنا أول من ينشق عنه القبر". "وتعقَّبه القرطبي" في المفهم بأنه صرح -صلى الله عليه وسلم- بأن يخرج من قبره، فيلقى موسى وهو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 بالعرش, وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى. ووقع في رواية أبي سلمة عند ابن مردويه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة, فأقوم فأنقض التراب عن رأسي، فآتي قائمة العرش, فأجد موسى قائمًا عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله". واختلف في المستثنى من هو على عشرة أقوال: فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وبه قال البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه: أن يكون موسى ممن   متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى". قال الحافظ: ويردّه، أي: احتمال عياض صريحًا قوله في رواية: "إن الناس يصعقون فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق"، قال: ويؤيده أنه عبَّر بقوله: أفاق؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي: بعث من الموت، ولذا عبَّر عن صعقة الطور بالإفاقة؛ لأنها لم تكن موتًا بلا شك، وإذا تقرَّر ذلك ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف، هذا محصّل كلامه وتعقبه انتهى. وسبق للمصنف في الخصائص الجواب عن التعارض بقوله: الظاهر أنه -عليه السلام- لم يكن عنده علم ذلك، أي: كونه أوّل من ينشقّ عنه القبر حتى أعلمه الله تعالى فأخبر بذلك. انتهى. فإخباره بذلك يفيد أنه علم بإفاقته قبل موسى، فحينئذ يبقى التردد في أنه ممن استثنى الله أو جوزي بصعقة الطور, "ووقع في رواية أبي سلمة" ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة, "عن ابن مردويه" مرفوعًا: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة, فأقوم فأنفض التراب عن رأسي, فآتي" بالمد فعل المتكلم، أي: أجيء "قائمة العرش, فأجد موسى قائمًا عندها, فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي؟ أو كان ممن استثنى الله". قال الحافظ: يحتمل أن قوله: "أنفض التراب قبلي" تجويز لسبقه في الخروج من القبر, أو هو كناية عن الخروج منه, وعلى كل ففيه فضيلة لموسى. انتهى. ومعلوم أنه لا يلزم من فضيلته من هذه الجهة أفضليته مطلقًا, وبه صرَّح في المفهم، فقال: وهذه فضيلة عظيمة في حقه، ولكن لا توجب أفضليته على نبينا -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرًا كليًّا. انتهى. "وقد اختلف في المستثنى من هو على عشرة أقوال" ذكر منها خمسة "فقيل: الملائكة" كلهم على ظاهر هذا القول, وقيل: الأنبياء، وبه قال البيهقي في تأويل الحديث" المذكور, "في تجويزه بأن يكون موسى ممن استثنى الله", فإذا جوز ذلك في موسى فبقية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 استثنى الله، قال: وجههه عندي أنهم أحياء كالشهداء, فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتًا في جميع معانيه إلّا في ذهاب الاستشعار. وقيل الشهداء: واختاره الحليمي, قال: وهو مروي عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وضعَّف غيره من الأقوال. وقال أبو العباس القرطبي صاحب "المفهم": الصحيح أنه لم يأتي في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل. وتعقَّبه تلميذه في "التذكرة" فقال: قد ورد في حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء وهو صحيح, وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عن هذه   الأنبياء كذلك بجامع النبوة, "قال" البيهقي: "ووجهه عندي أنهم" ردَّت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا فهم "أحياء" عند ربهم؛ "كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتًا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار", فإن كان موسى ممن استثنى الله, فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة, ويحاسب بصعقة يوم الطور، هذا بقية قول البيهقي. قال السيوطي: وبهذا يتضح ترجيح أن المستثنى في الآية الملائكة الأربعة وحملة العرش الثمانية, بناءً على أن المراد بالصعق فيها الموت, وموسى -عليه السلام- بناءً على أنه الغشية, وكون الأمرين مرادين معًا, وكون الاستثناء على الأمرين، ولا يصح استثناء الشهداء من الغشية؛ لأنه إذا حصلت الغشية للأنبياء حتى سيد المرسلين فالشهداء أَوْلَى, انتهى. "وقيل: الشهداء واختاره الحليمي، قال: وهو مروي عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وضعَّف الحليمي "غيره من الأقوال" بأن الاستثناء إنما وقع في كان السماوات والأرض، وحملة العرش ليسوا إلى آخر ما يأتي في قول المصنف قريبًا، وتعقَّب بأن .... إلخ. "وقال أبو العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم, الإمام المحدث العلامة, "صاحب المفهم" في شرح مسلم, مات سنة ست وخمسين وستمائة: "الصحيح أنه لم يأت في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل، وتعقبه تلميذه" أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج, مات سنة إحدى وسبعين وستمائة, "في التذكرة" بأمور الآخرة, "فقال: قد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعًا تفسيره بأنهم الشهداء وهو الصحيح" لوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم, "و" أخرج أبو يعلى والحاكم والبيهقيّ "عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل -عليه السلام- عن هذه الآية" نقل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 الآية: من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله. وصححه الحاكم. وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، ثم يموتون، وآخرهم "موتًا" ملك الموت، وقيل هم الحور العين والولدان في الجنة.   بالمعنى, ولفظ أبي يعلى: ومن عطف عليه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سألت جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] الآية "من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا, قال" جبريل: "هم شهداء الله", يتقلّدون أسيافهم حول عرشه. هذا بقية الحديث الذي "صحَّحه الحاكم، وقيل: هم حملة العرش" الثمانية "وجبريل وميكائيل" زاد في رواية: "وإسرافيل, "وملك الموت" قال السيوطي: ولا تنافي بين هذا وبين الشهداء؛ لإمكان الجمع بأنَّ الجميع من المستثنى, "ثم يموتون, وآخرهم" موتًا "ملك الموت" كما أخرجه البيهقي عن أنس رفعه: "كان ممن استثنى الله ثلاثة: جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله وهو أعلم: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم الدائم, وعبدك جبريل وميكائيل وملك الموت, فيقول: توف نفس ميكائيل, ثم يقول -وهو أعلم: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: وجهك الباقي الكريم وعبدك جبريل وملك الموت, فيقول: توف جبريل, ثم يقول وهو أعلم: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت, وهو ميت، فيقول: مت, ثم ينادي: أنا بدأت الخلق ثم أعيده, فأين الجبَّارون المتكبون, فلا يجيبه أحد، فيقول: هو الله الواحد القهار". وورد أيضًا آخرهم موتًا جبريل. أخرج الفريابي عن أنس أنهم قالوا: يا رسول الله, من الذين استثنى الله، قال: "جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش، فإذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت: من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي وتعاليت, يا ذا الجلال والإكرام, بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس إسرافيل، فيقول: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس ميكائيل, فيقع كالطود العظيم، فيقول: يا ملك الموت, من بقي، فيقول: بقي وجهك الدائم وجبريل الميت الفاني، قال: لا بد من موته, فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه"، قال -صلى الله عليه وسلم: "إن فضل خلقه على ميكائيل كالطود العظيم" ولا يمكن الجمع بينهما، فيترجّح الأول بأن في حديث أبي هريرة عند ابن جرير وأبي الشيخ وغيرهم مرفوعًا في حديث طويل: "إن آخرهم موتًا ملك الموت". "وقيل: هم الحور العين والولدان في الجنة" وخزنة الجنة والنار وما فيها من الحيات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 وتعقَّب: بأن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض؛ لأن العرش فوق السماوات كلها، وبأنَّ جبريل وميكائيل وملك الموت من الصافين المسبحين؛ ولأن الحور العين والولدان في الجنة، وهي فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء, فلا شَكّ أنها بمعزل عمَّا خلقه الله للفناء. ثم إنه وردت الأخبار بأنّ الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يحييهم. وأمَّا أهل الجنة فلم يأتي عنهم خبر، والأظهر أنها دار خلود، فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا، مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أَوْلَى أن لا يموت فيها أبدًا. فإن قلت: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} [القصص: 88] يدل على أن   والعقارب "وتعقَّب" أي: ردَّ هذا الحليمي وضعَّفه "بأن" الاستثناء في الآية وقع من سكان السماوات والأض، أنَّ "حملة العرش ليسوا بسكان السماوات والأرض؛ لأن العرش" وحملته "فوق السماوات كلها", فهذا ينابذ تفسيره بأنهم حملته, "وبأن جبريل وميكائيل" وإسرائيل, "وملك الموت من الصافين أقدامهم في الصلاة وأداء الطاعة ومنازل الخدمة المسبحين المنزهين الله عمَّا لا يليق به، قال اليضاوي: ولعلَّ الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة, وهذا في المعارف, وعبارة الحليمي: من الصافِّين حول العرش, انتهى. يعني: فهذا يضعِّف تفسيره بالأربعة وما قبله تضعيف للتفسير بحملة العرش, "وضعَّف القول الخامس لأن الحور العين والولدان في الجنة، وهي فوق السماوات ودون العرش, فلم تدخل في الآية "وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شَكَّ أنها بمعزل" أي: بجانب بعيد عمّا خلقه الله للفناء وعبارة الحليمي والجنة والنار عالمنا بانفرادهما خلقًا للبقاء، فهما بعزل عمَّا خلق للفناء فلم يدخل أهلهما في الآية "ثم وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل" وإسرافيل وجبريل, "ثم يحييهم". "وأمَّا أهل الجنَّة فلم يأت عنهم خبر" بمثل ذلك، فلا يقال أنهم مثل أولئك؛ إذ لا دخل هنا للقياس "والأظهر أنها دار خلود, فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا" وكذلك النار، كما قال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] "مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أَوْلَى أن لا يموت فيها أبدًا. قال الحليمي: وأيضًا فإنَّ الموت لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار, ولا تكليف على أهل الجنة فأعفوا من الموت أيضًا, "فإن قلت: قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 الجنة نفسها تفنى ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون. أجيب: بأنَّه يحتمل أن يكون معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إنه قابل للهلاك, فيهلك إن أراد الله به ذلك, إلا هو سبحانه فإنه قديم, والقديم لا يمكن أن يفنى, انتهى ملخصًا من تذكرة القرطبي. ويؤيد القول بعد موت الحور العين قولهنّ: نحن الخالدات فلا نموت، كما في الحديث. ولا يقال: المراد من قولهن: الخلود الكائن بعد القيامة؛ لأنه لا خصوصية فيه، والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها، والله أعلم. وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حبان من طريق وهب بن منبه من قوله: قال: خلق الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش: خذ   يدل على أن الجنة نفسها تفنى" وكذا النار, "ثم تعاد ليوم الجزاء, ويموت الحور العين ثم يحيون" وبه قال بعضهم توفية بظاهر الآية. "أجيب بأنه يحتمل أن يكون معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: قابل للهلاك، فيهلك إن أراد الله به ذلك, إلا هو سبحانه, فإنه قديم, والقديم لا يمكن أن يفنى. انتهى ملخصًا من تذكرة القرطبي" "ويؤيد القول بعدم موت الحور العين قولهن" فيما يغنين به لأزواجهنّ في الجنة: "نحن الخالدات فلا نموت" أبدًا "كما في الحديث، ولا يقال: المراد من قولهن" ذلك "الخلود الكائن بعد القيامة" فلا ينافي موتهنَّ قبلها؛ لأنه لا خصوصية فيه" لهنّ؛ إذ كل من دخل الجنة كذلك, "والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها والله أعلم" لكن يحتمل أن قولهنَّ ذلك من باب التحدث بالنعمة, "وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حبان" بفتح المهملة والتحتية الثقيلة, واسمه: عبد الله "من طريق وهب بن منبه" بشد الموحدة المكسورة "من قوله" أي: كلامه الذي لم يروه عن صاحب ولا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فكأنه من الإسرائيليات، ولم يفهم هذا من تعسف، فجعل قول المصنف من قوله بيانًا لما مقدرة في قوله: وفي كتاب، أي: وما في كتاب, وأنه عطف على قوله سابقًا قولهن من قوله، ويؤيد القول بعدم موت الحور، كذا قال مع أنه لا تأييد في هذا أصلًا لذلك؛ إذ لا ذكر فيه للحور، قال وهب: "خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة" بزاي وجيمين واحدة- الزجاج -مثلث الزاي- معروف كما في القاموس, وتلك اللؤلؤة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 الصور فتعلق به، ثم قال: كن فكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه: ثم تجمع الأروح كلها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها، وعلى هذا, فالنفخ يقع في الصور أولًا؛ ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد،   الموصوفة بشدة البياض على صورة قرن، فلا يخالف ما رواه أبو داود والترمذي، وحسنه وصححه الحاكم وابن حبان عن عمرو, أن أعرابيًّا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصور، فقال: قرن ينفخ فيه، وإلى ذلك يشير قول ابن مسعود: الصور كهيئة القرن ينفخ فيه. أخرجه مسدد بسند صحيح عن موقوفًا: "ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلّق به", أي: أخذه, "ثم قال" تعالى: "كن فكان" أي: وجد, أي: خلق, "إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور" من العرش فأخذه, ولأحمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم رفعه، كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأحنى جبهته وأصغى السمع متى يؤمر، فسمع ذلك الصحابة فشقَّ عليهم فقال -صلى الله عليه وسلم: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"، وصحَّح الحاكم عن أبي هريرة رفعه: "إن طرف صاحب الصور منذ وكِّل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأنَّ عينيه كوكبان دريان" , "وبه ثقب" بمثلثة وقاف وموحدة: جمع ثقب وهو الخرق, "بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة" أي: مولودة كما في النهاية, فالعطف مغاير، أي: ما من شأنها أن تولد, وإلّا فهناك نفوس تخلق من الطين ومن العفونات, فذكر الحديث. فقال: لا يخرج روحان من ثقب واحد, وفي وسط الصور كوة كاسدارة السماء والأرض, وإسرافيل واضع فمه على تلك الكوة، ثم قال له الرب تعالى: قد وكَّلتك بالصور، فأنت للنفخة وللصيحة، فدخل إسرافيل في مقدم العرش، فأدخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يغض طرفه منذ خلقه الله ينتظر ما يؤمر به، فقال: والبحر المسجور أوَّله في علم الله, وآخره في إرادة الله, فيه ماء ثخين شبه ماء الرجل, تسير الموجة خلف الموجة سبعين عامًا لا تلحقها, يمطر الله منه على الخلق أربعين يومًا بين الراجفة والرادفة, فينبتون نبات الحبة في حميل السيل, ويجمل أرواح المؤمنين من الجنان, وأرواح الكفار من النار, فتجعل في الصور, "وفيه: ثم تجتمع الأرواح كلها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه" أي: الصور "فتدخل كل روح في جسدها". وبقية هذا الأثر: ثم يأمر الله جبريل أن يدخل يده تحت الأرض فيحركها حتى تنشق وينفضهم على الارض فإذا هم قيام ينظرون, وعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولًا ليصل النفخ" أي: أثره, "بالروح أي: الأرواح فتذهب "إلى الصور" بفتح الواو, "وهي الأجساد" جمع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 فإضافة النفخ إلى الصور الذي هو القرن حقيقة، وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، رفعه: "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل, فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون". و"الليت" بكسر اللام وبالمثناة التحتية ثم الفوقية: صفحة العنق، وهما ليتان. وأصغى: أمال. وأخرج البيهقي بسند قوي، عن ابن مسعود موقوفًا: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه -والصور قرن- فلا يبقى الله خلق في السماوات   صور "فإضافة النفخ إلى الصور" بضم فسكون الذي هو القرن حقيقة, وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز". وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو" بن العاص "رفعه" أي: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي" فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم ينفخ في الصور لا يسمعه أحد إلّا أصغى ليتا" بكسر فسكون، أي: أمال صفحة عنقه, "ورفع ليتا" أي: أنه يميلها ويرفعها، وأسقط بعد هذا في مسلم: فأوّل من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس، وقوله: يلوط، أي: يطين ويصلح ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل" المطر الخفيف, "فينبت منه أجساد الناس, ثم ينفخ فيه أخرى" النفخة الثانية, "فإذا هم" أي: جمع الموتى "قيام ينظرون" ينتظرون ما يفعل بهم, "والليت بكسر اللام وبالمثناة التحتية" الساكنة، ثم "الفوقية صفحة العنق وهما ليتان" من الجانبين, "وأصغى: أمال" صفحة عنقه مجازًا لأن حقيقته الاستماع. "وأخرج البيهقي" في البعث وشيخه الحاكم وصحَّحه "بسند قوي عن ابن مسعود" في حديث طويل "موقوفًا" عليه, وما في نسخ مرفوعًا خطأ، فقد صرَّح في مجمع الزوائد بأنه موقوف، وأوَّله عند البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه ذكر عنده الدجال، فقال: "تفترق الناس ثلاث فرق" فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه" قال القرطبي: قال علماؤنا: الأمم مجمعون على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل، وفي الأحاديث ما يدل على أن معه ملكًا آخر، فلعلَّ له قرنًا آخر ينفخ فيه. انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون". وأخرج ابن المبارك في الرقاق من مرسل الحسن: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيى الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس، وهو ضعيف. وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا   وما ترجاه صرح به عند ابن ماجه والبزار عن أبي سعيد مرفوعا: "إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران" , وفي حديث عائشة عند الطبراني بسند حسن رفعته: "وملك الصور جاث على ركبته وقد نصب الأخرى, فالتقم الصور فحنى ظهره، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضمّ جناحيه أن ينفخ في الصور". قال الحافظ: هذا يدل على أن النافخ غير إسرافيل, فيحمل على أنه ينفخ النفخة الأولى إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه، ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث, "والصور قرن" من لؤلؤة بيضاء على ما مر "فلا يبقي الله خلق في السماوات والأرض" ممن كان حيًّا حين النفخ, "إلا مات, إلا من شاء ربك, ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون" أبهمه. وقال الحليمي: اتفقت الروايات على أن بينهما أربعين سنة، وفي جامع ابن وهب: أربعين جمعة, وسنده منقطع. "وأخرج ابن المبارك في" كتاب "الرقاق" بكسر الراء- جمع رقيق, أي الأمور التي ترقق القلب وتلينه, من مرسل الحسن البصري: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي, والأخرى يحيي الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس" موقوفًا "وهو ضعيف" أي: إسناده في الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا، قال أبيت، قالوا: شهرًا قال: أبيت، قالوا: عامًا، قال: أبيت, قيل: معناه: امتنعت عن بيان ذلك، وعلى ذلك فعنده علم من ذلك سمعه منه -صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه: امتنعت أن أسأله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك, وعلى هذا لم يكن عنده علم, قال القرطبي: والأول أظهر, وإنما لم يبينه لأنه لا ضرورة إليه، وقد ورد من طريق آخر أن بين النفختين أربعين عامًا. انتهى. أي: عن ابي هريرة مرفوعًا, في حديث عند أبي داود في كتاب البعث، لكن قال الحافظ: قد ورد من طرق أنَّ أبا هريرة صرَّح بأنه ليس عنده علم بالتعيين, وعند ابن مردويه بسند جيد، أنَّ أبا هريرة لما قال أربعون، قالوا: ماذا؟ قال: هكذا سمعت. "وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا" من قبورهم وهو بمعنى قوله: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" وهذا من كمال عناية ربه به؛ حيث منحه هذا السبق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 قائدهم إذا وفدوا, وأنا خطيبهم إذا أنصتوا, وأنا شفيعهم إذا حبسوا, وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور" رواه الدارمي، وقال الترمذي: حديث غريب. ولم يقل: وأنا إمامهم؛ لأن دار الآخرة ليست دار تكليف.   وفيه مناسبة لسبقه بالنبوة, "وأنا قائدهم إذا وفدوا" قدموا على ربهم ركبانًا على نجائب من نور من مراكب الآخرة, والوافد الراكب، قاله ابن كثير وغيره، لكنه هنا مجرد عن بعض معناه مستعمل في مطلق القدم؛ لأن الذين يحشرون ركبانًا إنما هم المتقون، فأمَّا العصاة فمشاة كما في أحاديث, وهو -صلى الله عليه وسلم- قائد لجميع المؤمنين الطائعين والعصاة, "وأنا خطيبهم" أي: المتكلم عنهم "إذا انصتوا". قال بعض شراح الترمذي: هذه خطبة الشفاعة، وقيل: قبلها, "وأنا شفيعهم إذا حبسوا" منعوا عن الجنة, "وأنا مبشرهم" بقبول شفاعتي لهم عند ربي ليريحهم "إذا أيسوا" من الناس, وفي رواية: أبلسوا, من الإبلاس وهو الانكسار والحزن, "الكرامة" التي يكرم الله عباده يومئذ, "والمفاتيح يومئذ" أي: يوم القيامة ظرف له وللكرامة, والخبر قوله: كائنان, "بيدي" تصرفي وقدرتي, "ولواء الحمد يومئذ بيدي, وأنا أكرم ولد آدم على ربي" ودخل آدم بالأوّل؛ لأن في ولده من هو أكرم منه كإبراهيم وموسى, "يطوف عليّ" بشد الياء "ألف خادم كأنهم بيض مكنون" شبههم ببيض النعام المصون من الغبار، ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة، فإنه أحسن ألوان الأبدان, "أو لؤلؤ منثور" من سلكه أو من صدفه, وهو أحسن منه في غير ذلك شبههم به لحسنهم وانتشارهم في الخدمة، وهذا قاله تحدثًا بنعمة ربه كما أمره. قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه لوجوب اعتقاده وأنَّه حق في نفسه, وليرغب في الدخول في دينه, ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظم محبته في قلوب متبعيه, فتكثر أعمالهم, وتطيب أحوالهم, فيحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد, فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه -صلى الله عليه وسلم- مشافهةً حصل له العلم به كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التواتر المعنوي لكثرة أخبار الآحاد به. "رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ, "وقال" تلميذه "الترمذي" بعد روايته له مختصرًا: ولذا لم يعزه له المصنف "حديث غريب", وفيه الحسن بن يزيد الكوفي، قال أبو حاتم: ليّن, "ولم يقل: وأنا إمامهم" بدل قوله: وأنا قائدهم؛ "لأن دار الآخرة ليست دار تكليف", وهو إخبار عن حاله فيها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 وفي حديث رواه صاحب كتاب "حادي الأرواح". أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادي بالأذان. وفي كتاب "ذخائر العقبى" للطبري، مما عزاه لتخريج الحافظ السلفي, من حديث أبي هريرة، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتيَّ العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة".   "وفي حديث رواه صاحب كتاب حادي الأرواح" إلى ديار الأفراح, وهو العلامة ابن القيم, "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال" بن رباح, أحد السابقين الأولين, "بين يديه ينادي بالأذان" كما كان ينادي به في الدنيا, "وفي كتاب ذخائر العقبى" في مناقب ذوي القربى للطبري, الحافظ محبّ الدين المكي, "مما عزاه" نسبة "لتخريج الحافظ" العلامة الناقد, الديّن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني "السلفي" بكسر المهملة وفتح اللام وبالفاء- نسبة إلى سلفة, لقب لجده أحمد، ومعناه: الغليظ الشفة, له تصانيف. وروى عنه الحفَّاظ ومات سنة ست وسبعين وخمسمائة, "من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تبعث الأنبياء عل الدواب" إبل من الجنة، وعند الحاكم والبيهقي وغيرهما عن على أنه قرأ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِين} [مريم: 85] فقال: "والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساقون سوقًا، ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة, لم تنظر الخلائق إلى مثلها, عليها جلال الذهب, وأزمَّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة" , "ويحشر صالح" في قوة الاستثناء كأنه قال: إلّا صالحًا فيحشر "على ناقته" التي عقرها مكذبوا, "ويحشر إبنا فاطمة" الحسن والحسين "على ناقتيَّ" بشد الياء مثنى, "العضباء" بمهملة فمعجمة فموحدة ومد, "والقصواء" بالمد، وهذا حجة للقول بأنهما ناقتان، ورد للقول بأنهما واحدة، وللقول الآخر أنهما مع الجدعاء أسماء لناقة واحدة، ومَرَّ بسط ذلك في الدواب, "وأحشر أنا على البراق" بضم الموحدة- دابة فوق الحمار ودون البغل كما مَرَّ بيانه في المعراج, المخصوص بنبينا -صلى الله عليه وسلم، ومَرَّ الخلاف: هل ركب البراق غيره من الأنبياء في الدنيا أم لا، فقول المصباح: تركبه الرسل عند المعراج إلى السماء, صوابه الرسول بالإفراد لاختصاص المعراج به اتفاقًا، ثم بعد ذلك كونه عرج على البراق قول ضعيف، والصحيح أنه ربطه ببيت المقدس وعرج على المعراج, "خطوها" بالتأنيث على معنى البراق وهو دابة "عند أقصى طرفها" منتهى بصرها, "ويحشر بلال" المؤذّن "على ناقة من نوق الجنة" المخلوقة من نور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 وأخرجه الطبراني والحاكم بلفظ: "يحشر الأنبياء على الدواب، وأبعث على البراق، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادي بالأذان محضًا وبالشهادة حقًّا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين". وعند ابن زنجويه في "فضائل الأعمال" عن كثير بن مرة الحضرمي، قال:   "وأخرجه" أي حديث أبي هريرة المذكور "الطبراني والحاكم بلفظ: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تحشر الأنبياء" يوم القيامة "على الدواب" ليوافوا المحشر, ويبعث صالح على ناقته، هذا أسقطه المصنف من لفظ عزاه لهما, "وأبعث على البراق" إكرامًا له بركوبه مركوبًا لا يشبهه ما يركبه غيره، وأسقط من لفظ من عزاه لهما, ويبعث إبناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة, وبعده قوله: "ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي بالأذان محضًا" خالصًا من معارضة المنكرين في الدنيا لكشف الغطاء وظهور الحق عيانًا؛ لأنه لا ينكره أحد ذلك اليوم, "وبالشهادة حقًّا" أي: ثابتًا لا يقبل التغيير ولا التبديل، ولا معارضة بين الروايتين فيما يركبه الحسنان؛ لجواز ركوبهما الأمرين العضباء والقصواء، ثم يركبان ناقتين من الجنة أو عكسه, زيادة في إكرامهما وتعظيمهما؛ إذ لو قصر ركوبهما على ناقتيّ جدهما لنقصا عن غيرهما الراكبين من نوق الجنة, "حتى إذا قال" بلال: "أشهد أن محمدًا رسول الله" هكذا الرواية عند الطبراني والحاكم، فلا عبرة بما في نسخ سقيمة من زيادة: أشهد أن لا إله إلا الله, "شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين" , "فقبلت ممن قلبت, وردت على من ردت". هذا بقية الحديث. عند من عزاه لهما فلم يوفّ بقوله بلفظ, بل حذف منه جملًا كما علم. "وعند ابن زنجويه" بزاي مفتوحة فنون ساكنة فجيم مضمومة فواو ساكنة عند المحدثين؛ لأنهم لا يحبون، وبه وهو لقب لمخلد والد حميد -بضم المهملة- ابن مخلد بن قتيبة بن عبد الله الأزدي, أبي أحمد النسائي الحافظ الثقة الثبت، روى عن أبي عاصم النبيل, وعليّ بن المديني, ومحمد بن يوسف الفريابي, وعنه أبو داود والنسائي وغيرهما، مات سنة ثمان، وقيل: سبع وأربعين ومائتين، وقيل: سنة إحدى وخمسين ومائتين, "في فضائل الأعمال" أحد تصانيفه, "عن كثير بن مرة الحضرمي" نزيل حمص, له إدراك, أرسل حديثًا فذكره عبدان المروزي وابن أبي خيثمة في الصحابة، وذكره غيرهما في التابعين، ووثَّقه ابن سعد والعجلي والنسائي وغيرهم, وأدرك سبعين بدريًّا. وروى له أصحاب السنن والبخاري في جزء القراء خلف الإمام, وذكره فيمن مات في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تبعث ناقة ثمود لصالح فيركبها من عند قبره حتى توافي به المحشر، وأنا على البراق, اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة, ينادي على ظهرها بالأذان حقًّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها: أشهد أن محمدًا رسول الله, قالوا: ونحن نشهد على ذلك". وذكر الشيخ زين الدين المراغي، مما عزاه لابن النجار في تاريخ المدينة عن كعب الأحبار، والقرطبي في "التذكرة", وابن أبي الدنيا عن كعب, أنه دخل على عائشة -رضي الله عنها، فذكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفون بالقبر، ويضربون بأجنحتهم, ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم, حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر   العشر الثاني من الهجرة, قاله في الإصابة ملخصًا "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تبعث ناقة ثمود" يوم القيامة "لصالح, فيركبها من عند قبره حتى توافي" أي تأتي "به المحشر, وأنا على البراق اختصصت" بالبناء للمفعول، أي: خصَّني الله به من دون الأنبياء يومئذ, فإنهم يركبون على الدوابّ كما مَرَّ, "ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي على ظهرها بالأذان حقًّا" ثابتًا, "فإذا سمعت الأنبياء وأممها أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك", وجزم الحليمي والغزالي بأن الذين يحشرون ركبانًا يركبون من قبورهم، وقال الإسماعيلي: يمشون من قبورهم إلى الموقف, ويركبون من ثَمَّ جمعًا بينه وبين حديث الصحيحين: "يحشر الناس حفاة مشاة"، قال البيهقي: والأوّل أَوْلَى، ثم لا يعارض هذا ما ورد مرسلًَا أنَّ المؤمن يركب عمله, والكافر يركبه عمله؛ لأن بعضهم يركب الدواب وبعضهم الأعمال أو يركبونها فوق الدواب. "وذكر الشيخ زين الدين المراغي" بميم مفتوحة وغين معجمة- من مراغة الصيد بمصر, "مما عزاه لابن النجار" محمد بن محمد الحافظ, في تاريخ المدينة" المسمَّى بالدرر الثمينة "عن كعب الأحبار, والقرطبي في التذكرة, وابن أبي الدنيا" وأبو الشيخ ابن المبارك, كلهم "عن كعب" بن مانع, المعروف بكعب الأحبار "أنه دخل على عائشة -رضي الله عنها- فذكروا رسول الله" أي: ما يتعلق به مما خصّ به من الكرامات "صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: ما من فجر يطلع إلّا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفّون" أي: يطوفون. كذا في النسخ بالنون, "بالقبر" النبوي "يضربون بأجنحتهم, ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم", لفظ رواية المذكورين: "يضربون قبر النبي صلى الله عليه وسلم بأجنحتهم ويحفون به ويستعفرون له ويصلون عليه, حتى إذا أمسوا عرجوا, وهبط سبعون ألفًا بالليل, وسبعون ألفًا بالنهار, حتى إذا انشقت عنه الأرض, خرج في سبعين ألفًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم، سبعون ألفًا بالليل وسبعون ألفًا بالنهار، حتى إذا انشقَّت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه -صلى الله عليه وسلم. وفي "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي, من حديث ابن عمر قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمينه على أبي بكر, وشماله على عمر، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة". وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض, فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري" رواه الترمذي, وفي رواية جامع الأصول عنه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى" , وفي رواية كعب: "حلة خضراء".   من الملائكة يوقرونه" يعظمونه, "صلى الله عليه وسلم" إكرامًا. لم ينقل عن غيره, ولعلَّ كعبًا علم هذا من الكتب القديمة لأنه حبرها. "وفي نوادر الأصول للحكيم" محمد بن علي "الترمذي" من طبقة البخاري, "من حديث ابن عمر" قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمينه على أبي بكر, وشماله على عمر، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة" , ولعل ذلك عقب خروجهم من القبر, ركوب المصطفى البراق وركوبهما الناقتين. وعند ابن أبي عاصم عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد وأبو بكر عن يمينه آخذًا بيده, وعمر عن يساره آخذًا بيده, وهو متكيء عليهما، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة" ولا خلف، فإنه خرج من بيته ودخل المسجد. وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض فأكسى" بالبناء للمفعول "حلة من حلل الجنة" تكرمة له؛ حيث أتى من لباسها قبل دخولها؛ كدأب الملوك مع خواصّها، وشاركه في ذلك إبراهيم مجازاةً على تجرده حين ألقي في النار, "ثم أقوم عن يمين العرش" فوق كرسي يؤتى له به كما يأتي, "ليس أحد من الخلائق" جمع خليقة, فيمشل الثقلين والملائكة, "يقوم ذلك المقام غيري" خصيصة شرَّفني الله بها, وأخذ أعم العام وهذا هو الفضل المطلق، والمراد بالمقام يمين العرش, فلا يعارض ما ورد أن إبراهيم يقوم على يسار العرش. "رواه الترمذي" وقال: حسن صحيح غريب, "في رواية جامع الأصول، عنه" أي: الترمذي: "أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى" إلى آخر الحديث. وفي رواية كعب" بن مالك الأنصاري السلمي مرفوعًا في حديث بلفظ: "ويكسوني ربي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 وفي البخاري، من حديث ابن عباس عنه -صلى الله عليه وسلم: "تحشرون حفاة عراة غرلًا، كما بدأنا أول خلق نعيده, وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم". وأخرجه البيهقي، وزاد: "وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة, ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر" , وفيه: أنه يجلس على الكرسي عن يمين العرش.   حلة خضراء" رواه الطبراني فبيّن لونها, "وفي البخاري" في مواضع, ومسلم والترمذي، ويأتي للمصنف قريبًا، عزوه للشيخين "من حديث ابن عباس، عنه -صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "إنكم تحشرون" عند الخروج من القبور حال كونكم "حفاة" بضم الحاء وخفة الفاء- جمع حافٍ، أي: بلا خف ولا نعل, "عراة" لا ثياب عليهم, "غرلًا" بضم الغين المعجمة وإسكان الراء- يعني: غير مختونين, والغرلة ما يقطعه الخاتن وهي القلقة، قال في البدور: ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان, وكذلك يرد إليه كل جزء فارقه في الحياة كالشعر والظفر ليذوق الثواب وأليم العذاب انتهى. ونحوه قول ابن عبد البر: يحشر الآدمي عاريًا، ولكل من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه شيء يرد إليه حتى الأقلف، وقال أبو الوفاء بن عقيل: "حشفة الأقلف موقاة بالقلفة, فتكون أرق, فلما زالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله تعالى ليذيقها من حلاوة فضله، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} , أي: نوجده بعينه بعد إعدامه مرة أخرى, أو تركيب أجزائه بعد تفريقها من غير إعدام, والأول أوجه؛ لأنه تعالى شبّه الإعادة بالابتداء, والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة، بل عن الوجود بعد العدم، فوجب أن تكون الإعادة كذلك، وأورد الطيبي أن سياق الآية في إثبات الحشر والنشر؛ لأن المعنى: نوجدكم من العدم كما أوجدناكم أولًا من العدم، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور، أي: من كونهم غرلًا، وأجاب بأن سياق الآية وعبارتها يدل على إثبات الحشر وإشارتها على المعنى المراد من الحديث, فهو من باب الإدماج, انتهى. "وإن أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم"؛ لأنه جُرِّدَ حين ألقي في النار، أو لأنه أوّل من لبس السراويل. وأخرجه البيهقي" في البعث "وزاد: "وأول من يكسى من الجنة إبراهيم, يكسى حُلَّة من الجنة" فبيِّن ما يكساه, "ويؤتى بكرسي فيطرح" أي: يجعل "ويوضع عن يمين العرش, ثم يؤتى" بحاء "بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم" أي: لا يصلح "لها البشر" , فاستعمل القيام في لازم معناه اللغوي, وهو الاستقلال بالأمر دون غيره، وذلك اللازم عدم صلاحية غيره لتلك الحلة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 ولا يلزم من تخصيص إبراهيم -عليه السلام- بأنه أوّل من يكسى أن يكون أفضل من نبينا -صلى الله عليه وسلم، على أنه يحتمل أن يكون نبينا -صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسورة بالنسبة لبقية الخلق. وأجاب الحليمي بأنه يكسى إبراهيم أولًا، ثم يكسى نبينا -عليهما الصلاة والسلام- على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فيجبر بنفاستها ما فات من الأولية. وفي حديث أبي سعيد عند أبي داود وصححه ابن حبان، أنه لما حضره الموت, دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها".   "وفيه" أي: في بقية حديث البيهقي المذكور "أنه" صلى الله عليه وسلم "يجلس على الكرسي عن يمين العرش" فمعنى قوله في الحديث السابق: "ثم أقوم على يمين العرش"، أي: أثبت جالسًا على الكرسي, بدليل هذه الرواية, "ولا يلزم من تخصيص إبراهيم -عليه السلام- بأنه أوَّل من يكسى أن يكون أفضل من نبينا -صلى الله عليه وسلم"؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به, ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، وقول صاحب المفهم: يجوز أن يراد بالخلائق ما عدا نبينا -صلى الله عليه وسلم, فلا يدخل في عموم خطابه، تعقّبه تلميذه في التذكرة بحديث علي عند ابن المبارك في الزهد: أوَّل من يكسى يوم القيامة خليل الله قبطيتين، ثم يكسى محمد -صلى الله عليه وسلم- حلة حبرة عن يمين العرش. انتهى. "على أنَّه يحتمل أن يكون نبينا -صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره في ثيابه التي مات" أي: دفن "فيها, والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة, بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق", وعلى هذا الاحتمال يكون ذلك خصوية أخرى للمصطفى؛ حيث تبلى ثياب الخلائق وثيابه لا تبلى حتى يكسى الحلة. "وأجاب الحليمي بأنه يكسى إبراهيم أولًا, ثم يكسى نبينا -عليهما السلام, على ظاهر الخبر, لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فيجبر بنفاستها ما فات من الأولية" فكأنه كُسِيَ مع الخليل. هذا بقية كلام الحليمي, "وفي حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود وصححه ابن حبان "والحاكم "أنه لما حضره الموت" أي: أسبابه, وفي رواية: لما احتضر, دعا بثياب جدد فلبسها, وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 وعند الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن منيع: فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم. ويجمع بينه وبين ما في البخاري بأنَّ بعضهم يحشر عاريًا وبعضهم كاسيًا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء، وأوّل من يكسى إبراهيم -عليه السلام، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها, ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة, ثم يكون أوّل من يكسى إبراهيم. وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه في الشهداء, فحمله على العموم.   "وعند الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن منيع" بفتح الميم وكسر النون- ابن عبد الرحمن البغوي, نزيل بغداد, حافظة ثقة, يروي عنه مسلم والأربعة وغيرهم، مات سنة أربع وأربعين ومائتين, وله أربع وثمانون سنة، وكذا عند الخطيب, الثلاثة عن جابر رفعه: "إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه" , "فإنهم يبعثون" من قبورهم "في أكفانهم" التي يكفنون فيها, "ويتزاورون" يزور بعضهم بعضًا في القبور "في أكفانهم" إكرامًا للمؤمنين, بتأنيس بعضهم ببعض, كما كان حالهم في الدنيا, وإن كانت الأحياء لا تشاهد ذلك، فأحوال البرزخ لا يقاس عليها، وحديث جابر هذا إسناده صالح, كما نقله الحافظ في اللسان عن العقيلي. ورواه هو والخطيب وسموية من حديث أنس مثله, ويجمع كما قال البيهقي وغيره "بينه" أي: ما ذكر من هذه الأحاديث المصرّحة بأنهم يحشرون كاسين, "وبين ما في البخاري" ومسلم: "إنكم تحشرون حفاة عراة" , "بأن بعضهم يحشر عاريًا وبعضهم كاسيًا" بثيابه, "أو يحشرون كلهم عراة ثم تكسى الأنبياء, وأول من يكسى إبراهيم -عليه السلام"؛ لأنه جُرِّدَ لما ألقي في النار، أو لأنَّه أول من لبس السراويل، أو لشدة خوفه من الله, فعجلت له الكسوة أمانًا له ليطمئن قلبه. واختاره الحليمي, وروى ابن مندة مرفوعًا: "أوَّل من يكسى إبراهيم، فيقول الله: اكسوا خليلي ليعلم الناس فضله عليهم" , "أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر" تتساقط عنهم عند ابتداء الحشر, فيحشرون عراة، ثم يكون أوّل من يكسى إبراهيم -عليه السلام, وحمل بعضهم حديث أبي سعيد، أنَّ الميت يبعث في ثيابه التي مات فيها "على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه في الشهداء" الذين أمر أن يدفنوا بثيابهم التي قتلوا فيها وبها الدم, "فحمله" أبو سعيد "على العموم" في الشهداء وغيرهم، وهذا نقله القرطبي وفيه بعد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 وأمَّا ما رواه الطبري في "الرياض النضرة", وعزاه للإمام أحمد في المناقب عن محدوج بن زيد الهذلي, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أما علمت يا علي أنَّه أوّل من يدعى به يوم القيامة بي، فأقوم عن يمين العرش في ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش, ويكسون حللًا خضرًا من حلل الجنة، ألا وإنَّ أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر، فأوّل من يدعى بي، فيدفع لك لوائي وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله تعالى يستظلون بظل لوائي يوم القيامة, وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور, ذؤابة في المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالث في وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأوّل:   قال البيهقي: وبعضهم حمله على العمل الصالح لقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} "وأمّا ما رواه الطبري" الحافظ محب الدين "في الرياض النضرة" في فضائل العشرة, "وعزاه للإمام أحمد في المناقب عن محدوج" بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة فدال مهملة فواو فجيم- ابن زيد الهذلي" ذكره في الإصابة في القسم الأول, وقال: قال أبو نعيم: مختلف في صحبته, "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أما علمت يا علي أنَّه" أي: الحال والشأن, "أوَّل من يدعى به يوم القيامة بي" يعني: نفسه -صلى الله عليه وسلم, "فأقوم عن يمين العرش في ظله" , أي: العرش, "فاكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض فيقومون سماطين" بكسر السين بزنة كتابين، أي: جانبين, "عن يمين العرش ويكسون حللًا خضرًا من حلل الجنة" , هذا منابذ لما صحَّ: "لا يقوم ذلك المقام أحد غيري"، يعني: الذي عن يمين العرش, "ألا" بالفتح والتخفيف, "وإنَّ أمتى أوَّل الأمم يحاسبون يوم القيامة ثم أبشر" يا علي -بهمزة قطع- نحو: أبشروا بالجنة, "فأول من يدعى بك" أي: من الأمة, "بعد الأنبياء فيدفع لك لوائي وهو لواء الحمد" بكسر اللام والمد, "فتسير به بين السماطين آدم وجميع ما خلق الله تعالى يستظلون بظلّ لوائي يوم القيامة, وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة, وسنانه ياقوتة خضراء" وفي نسخة: حمراء، ولعلّ المراد بالسنان هنا: ما يجعل في رأس اللواء, "قبضته المحل الذي" يقبض منه، أي: يمسك, "فضة بيضاء, زجّه" بضم الزاي وبالجيم, "درة خضراء, له ثلاث ذوائب" بذال معجمة "من نور, ذؤابة في المشرق, وذؤابة في المغرب, والثالثة في وسط الدنيا, مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم, الثاني: الحمد لله رب العالمين, الثالث: لا إله إلا الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 بسم الله الرحمن الرحيم, الثاني: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله الله محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم -عليه السلام- في ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة", والسماطان من الناس والنخل: الجانبان". ورواه ابن سبع في الخصائص بلفظ: قال: سأل عبد الله بن سلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته؟ قال: "طوله مسيرة" ..... الحديث. فقال الحافظ قطب الدين الحليمي -كما نقله عنه المحب بن الهائم: إنه موضوع بَيِّن الوضع. قال: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد.   محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة" فنقص كل سطر عن طول ستمائة سنة؛ لأنه قدم أن طوله ألف وستمائة, "فتسير" يا علي "باللواء, والحسن عن يمينك, والحسين عن شمالك, حتى تقف بيني وبين إبراهيم -عليه السلام- في ظل العرش، ثم تكسى" يا علي "حلة من الجنة" والسماطان من الناس والنخل الجانبان". ورواه ابن سبع -بفتح السين وسكون الموحدة وضمها- أبو الربيع, "في" كتاب "الخصائص بلفظ: قال: سأل عبد الله بن سلام" الصحابي المبشّر بالجنة "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته, فقال: "طوله مسيرة" ألف سنة، فذكر الحديث المذكور, فقال الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبدا لنور الحلبي، ثم المصري، مفيد الديار المصرية وشيخها, وكان حبرًا عالمًا متواضعًا, حسن السمت غزير المعرفة, متقنًا, بلغ شيوخه الألف, ولد في رجب سنة أربع وستين وستمائة, ومات في رجب سنة خمس وثلاثين وسبعمائة, وله تصنيف عديدة, "كما نقله عنه المحب بن الهائم أنه موضوع بَيِّن" أي: ظاهر "الوضع", ولا يقدح ذلك في جلالة من خرَّجه أحمد بن حنبل؛ لأن المحدثين إذا أبرزوا الحديث بسنده برئوا من عهدته, "قال" القطب: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد، فيه إيماء إلى أنه حقيقي لا معنوي, وفيه قولان نقلهما الطيبي وغيره, أحدهما: إنه معنوي؛ لأن حقيقة اللواء الراية, والمراد: انفراده بالحمد يوم القيامة, وشهرته على رءوس الخلائق بالحمد, وقيل: حقيقي ورجّح، وعليه التوربشتي؛ حيث قال: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد, ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان -صلى الله عليه وسلم- أحمد الخلق في الدارين, أعطي لواء الحمد؛ ليأوي إلى لوائه الأولون والآخرون، وأضاف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأنه منصبه في الموقف وهو المقام المحمود المختَصّ به اهـ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 وفي حديث أبي سعيد -عند الترمذي بسند حسن- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي, آدم فمن سواه, إلّا تحت لوائي" الحديث. واللواء: الراية، وفي عرفهم لا يمسكها إلا صاحب الجيش ورئيسه، ويحتمل أن تكون بيد غيره بإذنه, وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيثما مال، لا أن يمسكها بيده؛ إذ هذة الحالة أشرف. وفي استعمال العرب عند الحروب، إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها ممسكًا لها أشد القتال، ولذا لا يليق بإمساكها كل أحد، بل مثل علي -رضي الله عنه، كما قال: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". وإنما أضاف "اللواء" إلى "الحمد" الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن   وفي حديث أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري "عند الترمذي بسند حسن" قال الترمذي: حسن صحيح، "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيام ولا فخر, وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه, إلّا تحت لوائي" ... الحديث" قدم المصنف تتمته قريبًا، وهو: "وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، ومَرَّ أن باقيه: "وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع" ولا فخر, "واللواء" بالكسر والمد: الراية، وفي عرفهم" أي: العرب, "لا يمسكها" يحملها "إلّا صاحب الجيش ورئيسه" عظيمه الشريف القدر. ويحتمل أن تكون مراده, وقد تجعل بيد غيره بإذنه, وتكون تابعة له ومتحركة بحركته, تميل معه حيثما مال, لا أنه يمسكه بيده؛ إذ هذه الحالة أشرف" من كَوْن يمسكها، أي: يحملها بيده, وفي استعمال العرب عند الحروب: إنما يمسكها صاحبها, ولا يمنعه ذلك من القتال بها, بل يقاتل بها" حال كونها ممسكًا لها أشد القتال" معمول يقاتل ولذا لا يليق بإمسكها كل أحد، بل البطل الشجاع الصنديد مثل علي -رضي الله عنه, كما قال -صلى الله عليه وسلم- في غزوة خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله, ويحبه الله ورسوله" , أراد وجود حقيقة المحبَّة, وإلّا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة, وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فكأنَّه أشار إلى أن عليًّا تام الاتباع له -صلى الله عليه وسلم- حتى وصفة بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان, وبغضه علامة النفاق, كما في مسلم وغيره، مرفوعًا: وقدم الجملة الأولى على الثانية إشارةً إلى أن محبَّة الله ورسوله لعلي جزاءً له على محبته لهما, "وإنما أضاف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 ذلك هو منصبه في ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء. وقد اختلف في هيئة حشر الناس. ففي البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث طرائق، راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير, وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم   ذلك هو منصبه في ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء" والمقام المحمود المخصوص به, واللواء في عرصات القيامة, مقامات لأهل الخير والشر, ينصب في كل مقام, لكلّ متبوع لواء يعرف به قدره، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به عند استه". رواه أحمد والطيالسي عن أنس بإسناد حسن, وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، فأعطي لأحمد الخلائق حمدًا أعظم الألوية, وهو لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون, فهو لواء حقيقي، وعند الله علم حقيقته, ولا وجه لصرفه إلى المجاز, وإن أفتى به السيوطي؛ لأنه لا يعدل عن الحقيقة ما وجد إليها سبيل كما نصّ على ذلك ابن عبد البر وغيره في حديث أكل الشيطان. "وقد اختلف في هيئة حشر الناس" أتى بلفظ هيئة, إشارةً إلى أنه لا خلاف في الحشر, إنما الخلاف في صفته, ففي البخاري من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث" ولمسلم: "ثلاث طرائق" جمع طريق, يذكر ويؤنث، قال المصنف: أي: فرق, "راغبين راهبين" يغيرا في الفرع كأصله، وقال في الفتح: وراهبين بالواو، وفي مسلم: بغير واو، وعلى الروايتين فهي الطريقة الأولى والفرقة الثانية, "واثنان على بعير, وثلاثة على بعير, وأربعة على بعير, وعشرة" يعتقبون "على بعير". قال المصنف: بإثبات الواو في الأربعة في فرع اليونينية كهي، وقال الحافظ ابن حجر بالواو في الأول فقط، وفي رواية مسلم والإسماعيلي: بالواو في الجميع, ولم يذكر الخمسة والستة إلى العشرة إيجازًا واكتفاءً بما ذكر من الأعداء, مع أنَّ الاعتقاب ليس مجزومًا به, ولا مانع أن يجعل الله في البعير ما يقوى به على حمل العشرة، قال: ولم يذكر أن واحدًا على بعير, إشارةً إلى أنه يكون لمن فوقهم كالأنبياء, قال: ويحتمل أن يمشوا وقتًا ثم يركبوا, أو يكونوا ركبانًا، فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا، وأما الكفار فإنهم مشاة على وجوههم. انتهى. وقال البيهقي: قوله: راغبين, إشارة إلى الأبرار, وراهبين: إشارة إلى المخلطين الذين هم بين الرجاء والخوف, والذين تحشرهم النار الكفار، وذكر الحليمي مثله وزاد: إن الأبرار وهم المتقون يؤتون بنجائب من الجنة, وأما البعير الذي يحمل عليه المخلطون فيحتمل أنه من إبل الجنة, وأنه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا" رواه الشيخان. وقد مال الحليمي إلى أنَّ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي، وقيل: إنهم يخرجون من القبور بالوصف المذكور في حديث ابن عباس عند الشيخين: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلًا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} " ثم يفترق حالهم من   من الإبل التي تحيا وتحشر يوم القيامة, وهذا أشبه؛ لأنهم بين الرجاء والخوف, فلم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، قال: ويشبه أيضًا تخصيص هؤلاء بمن تغفر لهم ذنوبهم عند الحساب ولا يعذبون, أمَّا المعذَّبون بذنوبهم فيكونون مشاة على أقدام نقلة في البدور, "وتحشر بقيتهم النار" لعجزهم عن تحصيل ما يركبونه, وهم الفرقة الثالثة، والمراد بالنار هنا: نار الدنيا لا نار الآخرة، فلمسلم في حديث ذكر فيه الآيات الكائنة قبل قيام الساعة كطلوع الشمس من مغربها، ففيه: وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس، وفي رواية له: تطرد الناس إلى حشرهم، قال المصنف: وقيل: المراد نار الفتنة, وليس المراد نار الآخرة، قال الطيبي: لأنه جعل النار هي الحاشرة, ولو أريد نار الآخرة لقال إلى النار، ولقوله: "تقيل" من القيلولة "معهم حيث قالوا, وتبيت" من البيتوتة "معهم حيث باتوا, وتصبح معهم حيث أصبحوا, وتمسي معهم حيث أمسوا" فإنها جملة مستأنفة بيان للكلام السابق، فإن الضمير في تقيل راجع إلى النار الحاشرة, وهو من الاستعارة، فيدل على أنها ليست النار الحقيقية, بل نار الفتنة كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه} [المائدة: 64] انتهى. ولا يمتنع إطلاق النار على الحقيقة, وهي التي تخرج من قعر عدن, وعلى المجازية وهي الفتنة؛ إذ لا تنافي بينهما. "رواه الشيخان" باعتبار أصله, وإن اختلفا في بعض ألفاظه، ولذا نسبه أولًا للبخاري، فلو قال أولًا: فعن أبي هريرة، ثم قال هنا: رواه الشيخان, واللفظ للبخاري لكان أحسن. "وقد مال الحليمي إلى أنَّ هذا الحشر" المذكور في حديث أبي هريرة, "يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي وقيل" وإليه أشار الخطابي, "أنهم يخرجون في القبور بالوصف المذكور في حديث ابن عباس عند الشيخين" الذي قصر المصنف آنفًا في عزوه للبخاري وحده، "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال" وفي رواية عن ابن عباس: قام فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال: "إنكم تحشرون" بضم الفوقية- مبني للمفعول، وفي رواية: محشورون -بفتح الميم- اسم مفعول، وفي رواية عن ابن عباس: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب على المنبر، يقول: "إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلًا" بضم المعجمة وإسكان الراء- جمع أغرل، أي: أقلف، زاد في رواية للشيخين: مشاة, "ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 ثم إلى الموقف، كما في حديث أبي هريرة: "ويحشر الكافر على وجهه"، قال رجل: يا رسول الله، كيف يحشر على وجهه؟ قال: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة" أخرجه الشيخان.   الإعادة والبعث, ونصب وعدًا على المصدر المؤكّد لمضمون الجملة المتقدمة, فناصبه مضمر، أي: وعدناه ذلك وعدًا. ورواه الشيخان أيضًا عن عائشة بزيادة: فقلت: يا رسول الله, الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: "يا عائشة, الأمر يومئذ أشد من ذلك"، وللطبراني والبيهقي عن سودة بنت زمعة، قلت: يا رسول الله, واسوأتاه, ينظر بعضنا إلى بعض، قال: "شغل الناس عن ذلك, لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه"، وللطبراني بسند صحيح عن أم سلمة: فقلت: يا رسول الله, واسوأتاه, ينظر بعضنا إلى بعض، فقال: "شغل الناس"، قلت: فما شغلهم؟ قال: "نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل" , "ثم يفترق حالهم من ثَم" , أي: من عند القبور, "إلى الموقف كما" قال "في حديث أبي هريرة" المذكور: "يحشر الناس على ثلاث طرائق" ..... إلخ. فلا خلف بينه وبين حديث ابن عباس: "ويحشر الكافر على وجهه" كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِم} [الإسراء: 97] ، وقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّم} [الفرقان: 34] "قال رجل" قال الحافظ: لم أعرف اسمه, "يا رسول الله, كيف يحشر الكافر" ماشيًا "على وجهه" وحكمه ذلك المعاقبة على عدم سجوده لله في الدنيا وكفره، فمشى على وجهه إظهارًا لهوانه في ذلك المحشر العظيم جزاءً وفاقًا, والسؤال للاستفهام عمَّا سمعه السائل في القرآن، فلا حاجة لقول المصنف هذا السؤال مسبوق بمثل قوله: "يحشر بعض الناس يوم القيامة على وجوههم, "قال" صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر" بالرفع خبر الذي, واسم ليس ضمير الشأن. وروي بالنصب خبر ليس, "على أن يمشيه" بضم التحتية وسكون الميم "على وجهه يوم القيامة" ولأحمد عن أبي هريرة أنهم قالوا: "يا رسول الله, كيف يمشون على وجوههم، قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم, أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك"، قال الحافظ: ظاهر الحديث أن المشي حقيقة، فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته، وزعم بعض المفسرين أنه مَثَل, وأنه كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] قال مجاهد: هذا مثل المؤمن والكافر، قلت: لا يلزم من تفسير مجاهد لهذه الآية بهذا أن يفسر به الآية الآخرى، فالجواب الصادر من النبي -صلى الله عليه وسلم- ظاهر في تقرير المشي على حقيقته أهـ. "رواه الشيخان" البخاري في تفسير سورة الفرقان وفي الرفاق، ومسلم في التوبة عن أنس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 293 وفي حديث أبي ذر عند النسائي مرفوعًا: "إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج, فوجًا راكبين طاعمين كاسين، وفوجًا تسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوجًا يمشون ويسعون".   "وفي حديث أبي ذر عند النسائي" وأحمد والحاكم والبيهقي "مرفوعا" قال: حدثني الصادق المصدق -صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الناس يحشرون" أسقط من الحديث يوم القيامة "على ثلاثة أفواج, فوجًا" كذا في النسخ بالنصب, والذي في شرحه للبخاري والبدور السافرة فوج بالخفض بدل من ثلاثة المجرور بعلى, وهي ثابتة في الحديث, وفي أصل نسخ المواهب، ولما رآها الجهال فوجًا بالنصب تجاسروا وضربوا على لفظ على, مع أنه لو روي بالنصب لكان بتقدير: أعنى, ولا داعية لشطب على, "راكبين طاعمين كاسين" وهم الأبرار, "وفوجا" بالخفض على الصواب، وإن كان في النسخ "فوجًا", "تسحبهم الملائكة على وجوههم" وهم الكفار "وفوجًا" صوابه وفوج, "يمشون ويسعون" وهم المؤمنون العاصون. والرواية كما في شرحه للبخاري والبدور بتقديم قوله: وفوج يمشون, على قوله: وفوج تسحبهم ..... إلخ. قال المصنف في بقية الحديث أنهم سألوا عن السبب في مشي المذكورين، فقال -صلى الله عليه وسلم: يلقي الله الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر, حتى إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف ذات الفتب، أي: يشتري الناقة المسنة لأجل كونها تحمله على القتب بالبستان الكريم؛ لهوان العقار الذي عزم على الرحيل عنه, وعزة الظهر الذي وصله إلى مقصوده, وهذا لائق بأحوال الدنيا، لكن استشكل قوله فيه يوم القيامة، وأجيب بأنه مئول على أنَّ المراد به: أنَّ يوم القيامة يعقب ذلك, فيكون من مجاز المجاورة، ويتعيّن ذلك لما وقع فيه أن الظهر يقل .... إلخ. فإنه ظاهر جدًّا في أنه من أحوال الدنيا لا بعد البعث, ومن أين للذين يبعثون حفاة عراة حدائق يدفعونها في الشوارف، ومال الحليمي وغيره إلى أنَّ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي والتوربشتي, وقرره بما يطول ذكره. انتهى كلام المصنف, وعلى ما جزموا به يئول في قوله: "يلقي الله الآفة" , بأن المراد يعدمها يوم القيامة فلا يجدون ظهرًا، وأما قوله: "حتى أن الرجل" .......... إلخ. فمعناه يود لو كانت له حديقة فيعطي .... إلخ على نحو قوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} [المعارج: 11] ، وغير ذلك, وليس التجوز في هذا بأبعد من التجوز في صرف يوم القيامة عن ظاهره، فإن بين النفختين أربعين سنة, ولا يذهبون إلى الحشر قبل النفخة الأولى، بل إذا وقعت مات كل حي مكانه، ثم إذا نفخ فيه الثانية قاموا من قبورهم ذاهبين إلى محل الحشر، وأي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد" رواه الشيخان.   مجاز يصح في قوله: "وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم"، فإن الملائكة لا تفعل ذلك في الدنيا بالكفار. "وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "يحشر" بضم التحتية مبنيًّا للمفعول "الناس" أي: يحشرهم الله تعالى, "يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء" بفتح المهملة وإسكان الفاء والمد- ليس بياضها بالناصع، قاله الخطابي، وقال عياض: تضرب إلى حمرة قليلًا, ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها، وقال ابن فارس: عفراء خالصة البياض, والداودي: شديدة البياض، قاله الحافظ, والأوّل المعتَمَد, "كقرصة" أي: خبز النقي -بفتح النون وكسر القاف- أي: الدقيق النقي من القشر والنخال، قاله الخطابي, "ليس فيها علم لأحد" بفتحتين لفظ مسلم، وفي البخاري: معلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة وهما بمعنى واحد، وهو ما يستدل به على الطريق، وقال عياض: ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتَدَى بها في الطرقات؛ كالجبل والصخرة البارزة, وفيه تعريض بأنَّ أرض الدنيا ذهبت وانقطعت العلاقة منها، وقال الداودي: المراد أنَّه لا يجوز أحد منها شيئًا إلّا ما أدرك منها، أي: من المشي عليها والأكل منها كما في الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعًا: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلًا لأهل الجنة" الحديث. قال الداودي: النزل هنا ما يعجل للضيف قبل الطعام، أي: إنه يأكل منها في الوقف من يصير إلى الجنة لا أنهم يأكلون حين يدخلونها، وكذا قال ابن برجان: يأكل المؤمن من بين رجليه ويشرب من الحوض. قال الحافظ: يستفاد منه أنَّ المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة، ويؤيد أن هذا مراد الحديث. ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: تكون الأرض خبزة بيضاء, يأكل المؤمن من تحت قدميه، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال: تبدل الأرض أرضًا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام, ولم يعمل عليها خطيئة. ورجاله ورجال الصحيح، وهو موقوف، ورواه البيهقي من وجه آخر مرفوعًا وقال: الموقوف أصحّ، ولابن جرير عن أنس مرفوعًا. يبدل الله الأرض بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا، والحكمة في ذلك، كما قال ابن أبي حمزة: إن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 وفي حديث عقبة بن عامر -عند الحاكم- رفعه: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه" وأشار بيده ألجمها فاه، "ومنهم من يغطيه عرفه" وضرب بيده على رأسه. وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق". وهذا ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم, ويتفاوتون في حصوله   ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرًا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه -سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته؛ ولأنَّ الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصًا له وحده. "رواه الشيخان" البخاري في الرقاق, ومسلم في التوبة, "وفي حديث عقبة بن عامر عند الحاكم رفعه: "تدنو" تقرب "الشمس من الأرض يوم القيامة, فيعرق" بفتح الراء, "الناس، فمنهم من يبلغ" عرقه "نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه" بفتح الميم وكسر الكاف- مجتمع رأس العضد والكتف, "ومنهم من يبلغ فاه، وأشار بيده ألجمها فاه" تفسير لما أشار به، أي: إنه جعل يده في فمه كما يجعل اللجام في الفم, إشارةً إلى أن العرق يصل إلى فمه, "ومنهم من يغطيه عرقه" وضرب بيده" أي: جعلها "على رأسه, وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود, وليس بتمامه، وفيه" وهو أوّله من طريق سليم بن عامر، قال: حدثني المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تدنو" أي: تقرب "الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل" قال سليم بن عامر: فوالله, ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض أم الميل الذي تكحَّل به العين، هكذا في مسلم، قال القرطبي: الميل مشترك بينهما، ولهذا أشكل الأمر على سليم, والأولى به هنا مسافة الأرض؛ لأنها إذا كان بينها وبين الرءوس مقدار المرود فهي متصلة بالرءوس لقلة مقدار المرود. انتهى. قال: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق" , "فمنهم من يكون إلى كعبيه, ومنهم من يكون إلى ركبتيه, ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا". قال: وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فيه، هذا بقية حديث مسلم بلفظه، وبه تعلم ما زاد عليه في حديث عقبة, "وهذا ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم" كلهم إلا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 فيهم. فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] والألف واللام في السماء للجنس، بدليل {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فما طريق الجمع؟ فالجواب: يجوز أن تقام بنفسها دانية من الناس في المحشر ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه. وقال ابن أبي جمرة: ظاهر الحديث يقتضي تعميم الناس بذلك، ولكن دلّت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم.   الأنبياء والشهداء, ومن شاء الله كما يأتي, "ويتفاوتون في حصوله فيهم". وأورد القرطبي في المفهم أنّ العرق للزحام ودنوّ الشمس وحرّ الأنفاس وحرّ النار التي تحدق بالمحشر, فترشح رطوبة بدن كل أحد, فيلزم أن يسبح الجميع فيه سبحًا واحدًا ولا يتفاضلون في القدر، وأجاب بأنه يزول هذا الاستبعاد بأن يخلق الله تعالى في الأرض التي تحت واحد ارتفاعًا بقدر عمله, فيرتفع العرق بقدر ذلك وجواب ثانٍ, وهو أن يحشر الناس جماعات متفرقة, فيحشر من بلغ كعبية في جهة, ومن بلغ حقويه في جهة, هكذا. انتهى. "فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} " اسم ملك "للكتب" صحيفة ابن آدم عند موته, واللام زائدة، أو السجل الصحيفة والكتاب بمعنى المكتوب, واللام بمعنى على, وفي قراءة: للكتب, جمعًا، وقيل: السجّل اسم كاتب للنبي -صلى الله عليه وسلم, "والألف واللام في السماء للجنس" فيشمل السبع, "بدليل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} مجموعات, "بيمينه" بقدرته "فما طريق الجمع، فالجواب، يجوز أن تقام" أي: توجد الشمس "بنفسها" بلا سماء تكون فيها, "دانية من الناس في المحشر؛ ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه". "وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء, "ظاهر الحديث يقتضي تعميم الناس بذلك" أي: العرق, "ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر, ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله" من غيرهم، كالذين في ظلّ العرش, "فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم", والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار، هذا باقي قول ابن أبي جمرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 وأخرج أبو يعلى، وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: "مقداره نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون على المؤمنين كتدلي الشمس إلى أن تغرب" , وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد. وللبيهقي في البعث عن أبي هريرة: "يحشر الناس قيامًا, أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، فليجمهم العرق من شدة الكرب". وفي البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه, عنه -صلى الله عليه وسلم: "يعرف الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم".   وآخرج أبو يعلى وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ} بدل من محل ليوم عظيم, فناصبه مبعوثون {يَقُومُ النَّاسُ} من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الخلائق؛ لأجل أمره وحسابه وجزائه, "قال: "مقداره" أي: مدته, "قدر نصف يوم من خمسين ألف سنة" حقيقة على ظاهره, أو لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات, "فيهون على المؤمنين؛ كتدلي الشمس" للغروب, "إلى أن تغرب" كناية عن قصره جدًّا. "وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد الخدري، وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] ، قال: "هذا في الدنيا, تعرج الملائكة في يوم مقداره ألف سنة" , وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال: "هذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة، لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم". "وللبيهقي في البعث عن أبي هريرة: "يحشر الناس قيامًا أربعين سنة شاخصة" رافعة, "أبصارهم إلى السماء" أي: إلى جهة العلو, "فيلجمهم العرق من شدة الكرب" الذي غشَّاهم. "وفي البخاري" في الرقاق, ومسلم في صفة النار, "من حديث أبي هريرة، عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعرق" بفتح الراء "الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم" يجري سائحًا "في" وجه "الأرض" , ثم يغوص فيها "سبعين ذراعًا" بالذراع المتعارف أو الملكي، وللإسماعيلي: سبعين باعًا, "ويلجمهم" بضم التحتية وسكون اللام وكسر الجيم- من ألجمه الماء إذا بلغ فاه, "العرق حتى يبلغ أذانهم" ظاهره استواؤهم في وصول العرق إلى الآذان, وهو مشكل بالنظر إلى العادة أنَّ الواقفين في ماء على أرض مستوية يتفاوتون في ذلك بالنظر إلى طول بعضهم وقصر بعضهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 وعند البيهقي من حديث ابن مسعود: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رءوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر". وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد، أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة "فريضة" مكتوبة, وسنده حسن. وللطبراني من حديث ابن عمر: "ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار". وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ الذي يلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال: "يشتد كرب الناس ذلك اليوم   وأجيب بأنه إشارة إلى غاية ما يصل، ولا ينفي أن يصل إلى دون ذلك كما مَرَّ في حديثي عقبة والمقداد, "وعند البيهقي من حديث ابن مسعود: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء" أي: جهة العلو, "لا يكلمهم" شخوص أبصارهم، بمعنى: لا يتركون الشخوص هذه المدة "والشمس على رءوسهم" , أي: قريبة منها, بدليل الحديث السابق: "تدنو الشمس" , "حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر" إمَّا أن يحمل هذا على البعض فلا يخالف حديثي عقبة والمقداد، وإمَّا أنه يجوز أن أصل العرق يقع لجميع الناس كرشحه في الدنيا, ولو على ما مَرَّ بحسب الأعمال. "وفي حديث أبي سعيد عند أحمد أنه يخفف الوقوف" أي: هوله "عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة" ثلاثية أو رباعية أو ثنائية, "وسنده حسن" وهو بشرى عظيمة، ولفظه عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد، قال: سئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, ما أطول هذا اليوم؟ فقال: "والذي نفسي بيده, أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا". "وللطبراني من حديث ابن عمر" بن الخطاب: "ويكون ذلك اليوم على المؤمن أقصر من ساعة من نهار" , وللحاكم والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفً: "يوم القيامة على المؤمنين كمقدار ما بين الظهر والعصر" وطريق الجمع بين الأحاديث أن ذلك يختلف باختلاف المؤمنين, "وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص" أنَّ الذي يلجمه العرق الكافر". "أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن، عنه قال" ذكر لفظه بعد أن ساق معناه، فقال: "يشتد كرب الناس ذلك اليوم حتى يلجم" من ألجم "الكافر" بالنصب "العرق"، قيل له: فأين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 حتى يلجم الكافر العرق"، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: "على كرسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام". وبسند قوي عن أبي موسى قال: "الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم". وأخرج ابن المبارك في "الزهد", وابن أبي شيبة في "المصنف" واللفظ له، بسند جيد عن سلمان قال: "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الرأس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشّح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل"، زاد ابن المبارك في روايته، "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة". قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان, كما يدل عليه حديث المقداد وغيره: أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم. وفي رواية عند أبي يعلى، وصححها ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار" وهو كالصريح في أن ذلك كله في الموقف.   المؤمنون، قال: على كراسي" بشد الياء، وقد تخفف جمع كرسي -بضم الكاف أشهر من كسرها "من ذهب, ويظلل عليهم الغمام" فلا يجدون حرًّا فلا يعرقون, وهذا البعض المؤمنون. "و" عند البيهقي أيضًا "بسند قوي عن أبي موسى" الأشعري "قال: الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم، وأخرج عبد الله بن المبارك" المروزي "في" كتاب الزهد له, "وابن أبي شيبة في المصنَّف، واللفظ له بسند جيد عن سليمان" الفارسي, "قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين وتدنو" تقرب, "من جماجم الناس" بمقدار ميل حتى تكون قاب قوسين, فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع" يعلو "حتى يغرغر الرجل". "زاد ابن المبارك في روايته: ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة، قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان كما يدل عليه حديث المقداد وغيره" كعقبة, "أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم". "وفي رواية عند أبي يعلى وصحَّحها ابن حبان" وغيره: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب, أرحني ولو إلى النار" من شدة كربه, "وهو كالصريح في أنّ ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 ومن تأمَّل الحالة المذكورة، عرف عظيم الهول فيها، وذلك أنَّ النار تحفّ بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق, مع أن كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه. إن هذا لما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضي بالإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول. فتأمل -رحمك الله- شدة هذا الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد في حرها، ويضاعف في وهجها، ولا ظلّ إلا ظل عرش ربك بما قدمته، مع ما انضاف إلى ذلك من حر البأس، لتزاحم الناس واحتراق القلوب، لما غشيها من الكروب.   كله في الموقف، ومن تأمَّل الحالة المذكورة عرف عظم الهول" المخافة من الأمر، لا يدري ما هجم عليه منه كما في القاموس, وفي ذلك الشدة الزائدة "فيها، وذلك أنّ الناس تحف" تحيط "بأرض الموقف, وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض, وماذا يرونه من العرق, مع أنّ كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه, إن هذا لما" أي: من الأشياء التي، وفي نسخ لما بفتح اللام وخفة الميم, "يبهر" بفتح الهاء- يغلب "العقول, ويدل على عظيم القدرة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال" مدخل, "ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس" لعدم الجامع, "ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول، فتأمّل رحمك الله شدة هذا الازدحام" الضيق والانضمام" الاجتماع, "والاتساق" الانتظام, "والالتصاق" بالصاد وبالزاي وبالسين لغات معناها الاجتماع بالجنب, والألفاظ الأربعة متغايرة بالاعتبار أو متساوية, "واجتماع الإنس والجانّ ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان وانضغاطهم" بضاد وغير معجمتين، أي: انعصارهم وتدافعهم واختلاطهم, وقرب الشمس منهم, وما يزاد في حرها "ويضاعف" يزاد "في وهجها" توقدها وحرها, "ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته" من عمل تجازى عليه بالظل, "مع ما انضاف" انضمَّ "إلى ذلك من حر البأس" بموحدة الشدة, "لتزاحم الناس واحتراق القلوب لما غشيها من الكروب, ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم وكثرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثَمَّ أعز موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود -صلى الله عليه وسلم, وزاده فضلًا وشرفًا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا تبرد أكبادهم إلا به، فالشربة منه كما ورد تروي الظمأ، وتشفي من الصدى، وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها, ولا يسقم بعدها أبدًا. وفي حديث أنس عند البزار: من شرب منه -أي: من الحوض- شربة لم يظمأ أبدًا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا، وزاد في حديث أبي أمامة عند أحمد وابن حبان، ولم يسود وجهه أبدًا. وفي حديث ثوبان عند الترمذي وصحّحه الحاكم: أكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين.   الالتهاب والماء، ثم" بالفتح والتشديد هناك "أعز موجود وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود" مقام الشفاعة، ويأتي للمصنف "صلى الله عليه وسلم, وزاده فضلًا وشرفًا لديه, ولا مشرب لأمته سواه, ولا يبرد أكبادهم إلا إياه". كذا في نسخ، وهي المناسبة للسجع لا نسخة إلا به "فالشربة منه تروي الظمأ" العطش, "وتشفي من الصدى" العطش، فحسنه اختلاف اللفظ, "وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها ولا يشكو", وفي نسخة: ولا يسقم "بعدها أبدًا" فهي ريّ وشفاء. "ففي حديث أنس عند البزار", والطبراني في الأوسط قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حوضي من كذا إلى كذا, فيه من الآنية عدد النجوم, أطيب ريحًا من المسك, وأحلى من العسل, وأبيض من اللبن من شرب منه"، أي: من الحوض "شربة لما يظمأ أبدًا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا". "وزاد في حديث أبي أمامة عند أحمد وابن حبان", والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي أن يزيد بن الأخنس، قال: يا رسول الله ما سعة حوضك؟ قال: "ما بين عدن إلى عمَّان, وأن فيه مثعبين من ذهب وفضة"، قال: فماء حوضك؟ قال: "أشد بياضا من اللبن, وأحلى مذاقة من العسل, وأطيب رائحة من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا, ولم يسوّد وجهه أبدًا" , والمثعب: بفتح الميم والعين المهملة بينهما مثلثة ساكنة وآخره موحدة- مسيل الماء. "وفي حديث ثوبان عند الترمذي وصححه الحاكم: "أكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين" , وجاء بلفظ: أوّل عند مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان: سمعت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عند الشيخين: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن, ورائحته أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء,   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "حوضي من عدن إلى عمّان, ماؤه أشد بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل, وأكاويبه عدد النجوم، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين" , فقال عمر بن الخطاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم الشعث رءوسًا, الدنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعمات, ولا تفتح لهم السدد" , يعني: أبواب السلاطين. ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن ابي الدنيا: أوّل من يرد عليه من يسقى كل عطشان ولا خلف، فهذا بتقدير من أي، من أوّل من يرد عليه؟ من كان في الدنيا يسقي كل عطشان، أو المراد: الأول بعد فقراء المهاجرين. "وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الشيخين" قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر, ماؤه أبيض من اللبن" قال المازري: مقتضى كلام النحاة أن يقال: أشد بياضًا ولا يقال أبيض، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلة، ويشهد له هذا الحديث وغيره، قال الحافظ: ويحتمل أه من تصرف الرواة، ففي مسلم عن أبي ذر، وأحمد عن ابن مسعود، وابن أبي عاصم عن أبي أمامة، كلهم بلفظ: "أشد بياضًا من اللبن" انتهى. وقال المصنف: فيه حجة للكوفيين على إجازة أفعل التفضيل من اللون، وقال البصريون: لا يصاغ منه ولا من الثلاثي، فقيل: لأنَّ اللون الأصل أن أفعاله زائدة على ثلاثة، وقيل: لأنه خلق ثابت في العادة، وإنما يتعجب مما يقبل الزيادة والنقصان، فجرت لذلك مجرى الأجسام الثابتة على حال واحدة، قالوا: وإنما يتوصّل إلى التفضيل, وفيما زاد على الثلاثي بأفعل مصوغًا من فعل, دالّ على مطلق الرجحان والزيادة نحو: أكبر وأزيد وأرجح وأشد، قال الجوهري: تقول: هذا أشد بياضًا من كذا، ولا تقل أبيض منه, وأهل الكوفة يقولونه ويحتجون بقول الراجز: جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني أباض قال المبرد: ليس البيت الشاذ بحجة على الأصل المجمع عليه، وأما قول طرفة: إذا الرجال شتوا واشتدّ أكلهم ... فأنت أبيضهم سربال طباخ فيحتمل أن لا يكون بمعنى أفعل الذي تصحبه من للمفاضلة، وإنما هو بمنزلة قولك: هو أحسنهم وجهًا وأكرمهم أبًا, تريد حسنهم وجهًا وكريمهم أبًا، فكأنه قال: فأنت مبيضهم سربالًا، فلمَّا أضافه انتصب ما بعده على التمييز, وجعل ابن مالك قوله: أبيض من الشاذ، وقال النووي: هو لغة قليلة الاستعمال انتهى. قال الأبي: ليس في الحديث ولا الأبيات صيغة تعجب, وإنما فيها صيغة أفعل, لكنهما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 من شرب منه شربة لا يظمأ أبدًا". قال القرطبي في "التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره, إلى أنَّ الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أنَّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمَّى كوثرًا. وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثرًا لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أنّ الحوض يكون قبل الصراط؛ لأن الناس يردون من الموقف عطاشًا، فيرد المؤمنون الحوض، ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا، فترفع لهم   أخوان، فما جاز بناء أحدهما منه جاز بناء الآخر معه، وما امتنع امتنع, "وريحه أطيب" ريحًا، ً"من المسك، وكيزانه كنجوم" السماء" في الإشراق والكثرة، ففي حديث أنس في الصحيحين: "فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء"، ولأحمد عن أنس: "أكثر من عدد نجوم السماء"، قال عياض: كناية عن الكثرة كما قيل، فيقول: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، وحديث: "لا يضع العصا عن عاتقه"، ومنه قولهم: كلمته في هذا ألف مرة, وهو من المبالغة المعروفة لغة ولا يعد كذبا، َ لكن شرط إباحته أن يكون المكنَّى عنه بذلك كثيرًا في نفسه لا قليلًا، وتعقبه النووي بأن المختار والصواب حمله على ظاهره، لا سيما وقد أقسم, ولا مانع شرعي ولا عقلي ولا نقلي يمنع منه, وردَّه الأبي بنه يمنع منه أنّ ما يعم نجوم السماء من المساحة أكثر من مساحة الحوض, "من شرب منها" أي: الكيزان، وللكشميهني منه، أي: الحوض, "لم يظمأ أبدًا" فشربه بعد ذلك في الجنة إنما هو تنعم وتلذذ لا للظمأ. "قال القرطبي في التذكرة: ذهب صاحب القوت" أي: كتاب قوت القلوب, وهو أبو طالب المكي "وغيره, إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، أي: المخالفة, وهو أنه قبل الصراط, والصحيح أنّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط, والآخر داخل الجنة, وكل منهما يسمىّّ كوثرًا, وتعقبه الشيخ ابن حجر" الحافظ أحمد العسقلاني "بأن الكوثر نهر لا حوض" داخل الجنة, وماؤه يصب في الحوض الذي في الموقف, ويطلق على الحوض كوثر" بالرفع نائب فاعل يطلق، وفي نسخة: بالنصب بتضمين يطلق، معنى: يسمَّى كوثرًا؛ "لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أنَّ الحوض يكون قبل الصراط" لا أنهما حوضان؛ "لأن الناس يردون من الموقف عطاشًا، فيرد المؤمنون الحوض ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا فترفع لهم جهنم كأنها سراب" شعاع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 جهنم كأنها سراب, فيقال: ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها". وفي حديث أبي ذر مما رواه مسلم: "إن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة" , وهو حجة على القرطبي لا له؛ لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين الموقف والجنة, والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة؛ ليصب فيه الماء من النهر الذي داخلها. وقال القاضي عياض: ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا". يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره.   يرى عند اشتداد الحر نصف النهار يشبه الماء "فيقال: "ألا تردون, فيظنونها ماء فيتساقطون فيها". "وفي حديث ابي ذر مما رواه مسلم: "إن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة" وهو حجة على القرطبي" في اختياره الهول بأنه قبل الصراط, "لا له؛ لأن الصراط جسر جهنم, وهو بين الموقف والجنة, والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه" أي: قبل الصراط؛ لحات النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض" وهذا بناء على العادة, وأحوال القيامة لا تبنى عليها، فلا مانع أن ماء الكوثر يمر على الهواء حتى يصل إلى الحوض, ولا تحول النار بينهما، ونظيره في الدنيا ما قيل: إن بين السماء والأرض بحرًا ومع ذلك فليس بحائل من رؤية السماء ولا نجومها. "وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيها الماء من النهر الذي" هو، أو يكون "داخلها", وهو الكوثر, "وقال القاضي عياض: ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرب منه" شربة "لم يظمأ بعدها أبدًا" يدل على أنَّ الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لم يظمأ أن لا يعذب بالنار", وظاهر هذا ترجيح أن الحوض بعد الصراط. وقد قال الحافظ: رجَّحه عياض، قال: وأمَّا ما أورد عليه من حديث أنَّ جماعة يدفعون عن الحوض، فجوابه أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه, ويردون فيدفعون في النار قبل أن يخصلوا من بقية الصراط "ولكن يحتمل" على القول بأنه قبل الصراط "إن من قدر عليه التعذيب ومنهم أن لا يعذب فيها" أي: النار "بالظمأ، بل بغيره" والله على كل شيء قدير "و" جاء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 وعن أنس قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: "أنا فاعل إن شاء الله" قلت: فأين أطلبك؟ قال: "أول ما تطلبني على الصراط" قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: "فاطلبني عند الميزان" قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فاطلبني عند الحوض, فإني لا أخطيء هذه الثلاثة مواطن"، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ثم أوتى بكسوتي فألبسها, فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحد, فيغبطني به الأولون والآخرون" قال: "ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض" الحديث. وقد بيِّن في حديث ابن عمرو بن العاص، عند البخاري، أن الحوض مسيرة شهر، وزاد في رواية مسلم من هذا الوجه: "زواياه سواء, طوله كعرضه". وهذه الزيادة   "عن أنس" ما يدل على أن الحوض بعد الصراط، فإنه "قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: "أنا فاعل" أي: شافع لك, "إن شاء الله"، قلت: فأين أطلبك؟، قال: "أول ما تطلبني على الصراط"، قلت: فإن لم ألقك على الصراط، قال: "فاطلبني عند الميزان"، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان، قال: "فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ" بضم الهمزة وكسر الطاء، أي: لا أتجاوز, "هذه الثلاث مواطن" إلى غيرها, فظاهر هذا الحديث أن الحوض بعد الصراط, وصنيع البخاري في إيراده لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة بعد نصب الصراط مشعر بذلك. قال السيوطي: ويحتمل الجمع بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم, ويتأخر بعده لآخرين بحسب ما ليهم من الذنوب, حتى يذهبوا منها على الصراط, ولعل هذا أقوى، قال: ثم رأيت في الزهد، للإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة، قال: كأني أنظر إلينا صادرين عن الحوض للحساب, فيلقى الرجل الرجل، فيقول: أشربت يا فلان؟ فيقول: لا واعطشاه. "رواه الترمذي وقال: حسن غريب" من جهة تفرّد روايه في جامع الحسن. "وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ثم أوتى بكسوتي فألبسها, فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحد" غيري, "فيغبطني به الأولون والآخرون" وهذا عند القيام من القبر، وذكره لقوله: "قال: "ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض" الحديث. فإنه دالّ على أن الحوض يمد من الكوثر "وقد بيِّن في حديث" عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري", ومسلم كما قدمه قريبًا: "إن الحوض مسيرة شهر". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 كما قاله في فتح الباري: تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول. وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه رفعه: إنّ لي حوضًا ما بين الكعبة وبيت المقدس. وفي حديث أبي برزة عند الطبراني وابن حبان في صحيحه: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر, عرضه كطوله". وفي حديث أنس عند الشيخين: "كما بين صنعاء والمدينة".   وزاد مسلم من هذا الوجه "أي: الطريق الذي أخرجه منه البخاري: "وزواياه" أي: أركانه, "سواء" فهو مربع مستدير الأضلاع؛ لأن تساوي الزوايا يدل على تساوي الأضلاع. قال بعضهم: وفيه دلالة على معرفته -صلى الله عليه وسلم- بسائر العلوم؛ لأن هذا من علم الهندسة والتكسير والحساب، وهو كقوله في الآخر: "طول وعرضه سواء"، قاله عياض: قيل: كون زواياه سواء لا يدل على تساوي الأضلاع, لولا قوله: "طوله كعرضه" , وعلى ذلك: فمسيرة الشهر لكل من طول وعرضه، قال الأبي: "وهذه الزيادة كما قاله في فتح الباري تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث التالية في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول, فمسافة شهر مثلًا محمولة على طوله وأنقص منه على عرضه. وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه رفعه: "إن لي حوضًا" طوله "ما بين الكعبة وبيت المقدس"، وفي حديث أبي برزة" بفتح الموحدة والزاي بينهما راء ساكنة, واسمه: نضلة -بفتح النون وسكون المعجمة- ابن عبيد -بضم العين, "عند الطبراني وابن حبان في صحيحه" والحاكم وصحَّحه والبيهقي، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء" بفتح المهملتين بينهما نون ساكنة, ممدود "مسيرة شهر, عرضه كطوله" فصرَّح بتساويهما، فلا يصح ذلك الجمع. "وفي حديث أنس عند الشيخين" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن"، هكذا لفظ حديث أنس عند الشيخين: وليس فيهما عنه "كما بين صنعاء والمدينة" وأيلة -بفتح الهمزة واللام بينهما تحتية ساكنة ثم هاء تانيث- مدينة كانت عامرة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر, فتكون من شمالهم, ويمر بها الحاج من غزة وغيرها فتكون أمامهم، وإليها نسبت العقبة المشهورة عند أهل مصر، قال الحافظ: وبين أيلة والمدينة النبوية نحو شهر، يسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 وفي حديث عتبة بن عبد السلمي عند ابن حبان في صحيحه: "كما بين صنعاء إلى بصرى". وفي حديث أبي عند الطبراني: "ما بين عدن وعمان" بضم المهملة وتخفيف الميم, وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الحوض: عرض من مقامي إلى عمان -هي بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأمَّا بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين, انتهى.   مرحلةٌ وإلا فدون ذلك. وفي حديث عتبة" بضم المهملة وإسكان الفوقية "ابن عبد" بلا إضافة, "السلمي -بضم السين- عند ابن حبان في صحيحه, والبيهقي قال: قام أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما حوضك الذي تحدث عنه، فقال: هو كـ "بما بين صنعاء إلى بصرى" بضم الموحدة وسكون المهملة- بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز. "وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني" مرفوعًا: كـ "ما بين عدن" بفتح المهملتين ونون- بلد باليمن "وعمان" بضم المهملة وتخفيف الميم" بلد على ساحل البحر من جهة البحرين. "وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الحوض: عرضه من مقامي" محل إقامتي المدينة "إلى عمان، هي بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام فقاف وبالمد- بلدة معروفة من فلسطين, يقول فيها القائل: في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتونًا بعمان "فأمَّا بالضم والتخفيف فهو صقع" بضم المهملة وإسكان القاف، أي: ناحية عند البحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع "انتهى". وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: "أمامكم حوضي كما بين جربا وأذرح" بفتح الجيم والموحدة بينهما راء ساكنة والقصر. قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة، وقال الشريف اليونيني: رأيته في أصل مقروء من رواية الحافظ أبي ذر والأصيلي بالقصر، وصوَّبه النووي، وقال المد: خطأ، لكن يؤيده قول أبي عبيد البكري تأنيث أجرب وأذرح -بفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء وحاء مهملة- عند الجمهور, وللعذري في مسلم بالجيم، قال عياض: وهم قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليال، قاله ابن الأثير, وغلطه الصلاح العلائي، بل بينهما غلوة سهم, وهما معروفتان بين القدس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 وهذه المسافات كلها متقاربة، وظنَّ بعضهم أنه وقع اضطراب في ذلك، وليس كذلك. وأجاب النووي عن ذلك، بأنَّه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة. وحاصله يشير إلى أنه أخيرًا أولًا بالمسافة اليسيرة, ثم أعلم بالمسافة الطويلة, فأخبر بما كان الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء, فيكون الاعتماد على أطوالها مسافة. فإن قلت: هل لكل نبي من الأنبياء غير نبينا -صلى الله عليه وسلم- حوض هناك يقوم عليه   والكرك، ولا يصحّ التقدير بالثلاث لمخالفة الروايات، لا سيما وقد قال الحافظ الضياء المقدسي: إن في سياق لفظها غلطًا لاختصار وقع من بعض الرواة، ثم ساقه بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا، فقال فيه: "عرضه مثل ما بينكم وبين جربا وأذرح". قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره: كما بين مقامي وبين جربا وأذرح, فسقط مقامي وبين. قال العلائي: ثبت المقدر المحذوف عند الدارقطني وغيره بلفظ: ما بين المدينة وجربا وأذرح "وهذه المسافات كلها متقاربة" ترجع إلى شهر أو تزيد عليه قليلًا أو تنقص قليلًا, "وظن بعضهم أنه وقع اضطراب في ذلك, وليس كذلك"؛ إذ ليس ذلك في حديث واحد حتى يكون اضطرابًا، وإنما هو في أحاديث مختلفة عن غير واحد، من الصحابة سمعوه في مواطن، فروى كل واحد منهم ما سمع, واختلاف عبارته -صلى الله عليه وسلم- إنما هو بحسب ما سنح له من العبارة تقريبًا للإفهام، فذكر ما بين كل بلدين من البعد لا على التقدير المحقق لما بينهما بل إعلام وكناية عن السعة، قاله عياض: وهو جواب حسن. "وأجاب النووي عن ذلك" بجواب آخر, وكلاهما حسن "بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة, فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح. فلا معارضة" لأنَّ الأقل داخل في الأكثر, "وحاصله يشير إلى أنه أخبر " بالبناء والمفعول, "أولًا بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم" بالبناء للمفعول أيضًا, أي: أخبره وأعلمه الله "بالمسافة الطويلة، فأخبر" صلى الله عليه وسلم "بما كان تفضّل الله عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة". قال المصنف: ومنهم من حمله على السير المسرع والبطيء، لكن في حمله على أقلها وهو الثلاث نظر؛ إذ هو عسر جدًّا، لا سيما مع ما سبق والله الموفق. "فإن قلت: هل لكل نبي من الأنبياء غير نبينا -صلى الله عليه وسلم- حوض هناك" في الموقف "يقوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 كنبينا؟ فالجواب: إنه اشتهر اختصاص نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض, قال القرطبي في "المفهم" مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أنه تعالى قد خصّ نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرّح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ روى ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك كما صحَّ نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرَّا، واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى. لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه: "إن لكل نبي حوضًا" وأشار   عليه كنبينا؟ فالجواب أنه اشتهر اختصاص نبينا -عليه السلام- بالحوض". "قال القرطبي في المفهم: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به, أن الله تعالى قد خص نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرَّح باسمه وصفته وشرابه, في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي". قال الأبي: ظاهره أنَّ الإيمان به من قواعد العقائد التي يجب تقريرها لمن أسلم، ولم يذكر ذلك الموثوق بهم في تقريره ذلك لمن أسلم؛ "إذ روى ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين, منهم في الصحيحين ما يزيد على العشرين, ففي البخاري تسعة عشر، وفي مسلم: سبعة عشر, لكنهما اتفقا على أكثرها, فلذا كان ما فيهما يزيد على عشرين, "وفي غيرهما بقية ذلك" الزائد على ثلاثين, وقد أوصلهم الحافظ إلى ست وخمسين, والسيوطي في البدور إلى ثمان وخمسين ذاكرًا لفظ كل واحد. "كما صحَّ نقله, واشتهرت رواته" وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض, وبعضها في صفته, وبعضها فيمن يرد عليه, وبعضها فيمن يدفع عنه، وبلغني أن بعض المتأخّرين أوصلها إلى ثمانين صحابيًّا، قاله الحائط "ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم, ومن بعدهم أضعاف أضعافهم, وهلمَّ جرَّا" إشارة إلى أن تواتره من أوله إلى آخره, "واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى". لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة" بن جندب "رفعه: "إن لكل نبي حوضًا" على قدر رتبته وأمته، والمتبادر أنه حوض حقيقي, وجوز الطيبي حمله على المجاز, ويراد به العلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 إلى أنه اختلف في وصله وإرساله، وأنَّ المرسل أصح، والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا، وهو قائم على حوضه بيده عصًا, يدعو من عرف من أمته، ألّا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعًا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا". وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله، وفي سنده لين.   والهدى ونحوه. انتهى وفيه نظر. وقال الحكيم الترمذي: الحياض يوم القيامة للرسل, لكلٍّ على قدره وقدر تبعه, وهو شيء يلطف الله به عباده، فإنهم تخلصوا من مرارة الموت, وطالت مدتهم في اللحد, ورأوا الهول العظيم, وغوث الله للموحّدين مترادف, أغاثهم يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} فأثبت أسماءهم بالولاية, ونقلهم في الأصلاب حتى آواهم إلى آخر قالب، ثم أنزلهم إلى الدنيا, فرباهم وهداهم وكلأهم, وختم لهم بما ابتلاهم به من الموت المر, وحبسهم مع البلاء الطويل، ثم أنشرهم إلى موقف عظيم، فمن غوثه أن جعل الرسول الذي أجابه فرطًا قد هيأ لهم مشربًا يروي منه فلا يظمأ بعدها أبدًا. انتهى. وبقية هذا الحديث في الترمذي: "وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة, وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" "وأشار" الترمذي "إلى أنه اختلف" أي: اختلفت رواته "في وصله وإرساله, وأن المرسل" أي: رواية من أرسله "أصح" من رواية من وصله, "والمرسل". "أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن" البصري "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا وهو قائم على حوضه" ظاهره حتى صالح، وقال البكري المعروف بابن الواسطي: إلّا صالحًا, فإن حوضه ضرع ناقته. قال القرطبي: ولم أقف على ما يدل عليه أو يشهد له, "بيده عصا يدعو من عرف من أمته" ظاهره أن المراد بالأنبياء الرسل الذين لهم شرائع وأمم، وبه صرَّح الحكيم كما علم ويحتمل عمومه, وإن لم يكن رسولًا على ظاهر قوله: نبي, ويكون الدعاء والتباهي للرسل, ولا مانع من ذلك, "ألا" بالفتح والتخفيف "وأنَّهم يتباهون أيهم أكثر تبعًا، ألا وإني لأرجو" ورجاؤه محقق الوقوع, "أن أكون أكثرهم تبعًا". وفي رواية الترمذي: واردة كما مَرَّ، أي: أمة واردة على الحوض، ولابن أبي عاصم عن أبي أمامة مرفوعًا: "إن الأنبياء مكاثرون يوم القيامة فلا تخزوني، فإني جالس لكم على الحوض". "وأخرجه الطبراني من وجه" أي: طريق "آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله, وفي سنده لين" أي: ضعف محتمل "وأخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي سعيد رفعه: "كل نبي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 وأخرج ابن أبي الدنيا أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "وكل نبي يدعو أمته, ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وفي إسناده لين. فإن ثبت, فالمختص بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الكوثر الذي يصبّ من مائه في حوضه, فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} انتهى ملخصًا من فتح الباري. و"الفئام" كما في الصحاح، الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامّة تقول "فيام" بلا همز. وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة رفعه، قال: "ترد عليَّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله" قالوا: يا رسول الله، تعرفنا؟ قال: "نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم, تردون عليَّ غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء".   يدعو أمته, ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام" بكسر الفاء والهمز, "ومنهم من يأتيه العصبة" أي أقاربه, "ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد, وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة" وفي إسناده لين، فإن ثبت" أي: كان حسنًا أو صحيحًا في نفس الأمر, فالمختص بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره, ووقع الامتنان عليه به في سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] انتهى لخصًا من فتح الباري", ويختص أيضًا بأنَّ حوضه أعرض الحياض كما في الخصائص, والفئام بالفاء كما في الصحاح: الجماعة من الناس, لا واحد له من لفظه, والعامة تقول: فيام -بلا همز". "وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة رفعه، قال: "ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود" بمعجمة ثم مهملة- أطرد الناس عنه, "كما يذود الرجل عن إبله" وفي رواية: "وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه" , "قالوا: يا رسول الله, تعرفنا؟ " يومئذ -بتقدير همزة الاستفهام, قال: "نعم, لكم سيما" بكسر فسكون، أي: علامة, "ليست لأحد من الأمم غيركم, تردون الحوض عليّ غرًّا" بضم المعجمة والتشديد جمع أغر, أي: ذي غرة بياض في جبهة الفرس فوق درهم، ثم استعملت في الجمال وطيب الذكر, شبه به نورهم في الآخرة, "محجَّلين" من التحجيل, بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها أو في غيره، قلَّ أو كثر, بعد ما يجاوز الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 قالوا: والحكمة في الذود المذكور، أنه -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدَّم "إن لكل نبيّ حوضًا" فيكون هذا من جملة إنصافه -صلى الله عليه وسلم, ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلًا عليهم بالماء، ويحتمل أن يكون بطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. والله أعلم. وفي حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لحوضي أربعة أركان، الأوّل بيد أبي بكر الصديق، والثاني بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذي النورين، الرابع بيد علي بن أبي طالب, فمن كان محبًّا لأبي بكر مبغضًا لعمر لا يسقيه أبو بكر، ومن كان محبًّا لعلي مبغضًا لعثمان لا يسقيه علي". رواه أبو سعد في "شرف النبوة" والغيلاني, والله أعلم.   الأرساغ, ولا يجاوز الركبتين, من آثار الوضوء, ويجوز فتحها، وظاهره: إن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ بالفعل، أمَّا من لم يتوضأ فلا يحصلان له, كما جزم به شيخ الإسلام على البخاري خلافًا للزناتي وتقدَّم الرد عليه في الخصائص, "قالوا: والحكمة في الذود أنه -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدَّم "إن لكل نبي حوضًا" وهذا ظاهر فيمن بلغتهم دعوته وعملوا بشرعه، أما أهل الفترات فعلم حالهم في الشرب عند الله, "فيكون هذا من جملة إنصافه -عليه السلام- ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلًا عليهم" بالماء, حاشاه من ذلك, "ويحتمل أن يكون يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض, والله أعلم" بحقيقة ذلك. "وفي حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لحوضي أربعة أركان: الأوَّل بيد أبي بكر الصديق, والثاني بيد عمر الفاروق, والثالث بيد عثمان ذي النورين" بنتي النبي -صلى الله عليه وسلم "والرابع بيد علي بن أبي طالب، فمن كان محبًّا لأبي بكر مبغضًا لعمر لا يسقيه أبو بك" بسبب بغضه لعمر, ولا يلتفت إلى كونه محبًّا له، "ومن كان محبًّا لعلي مبغضًا لعثمان لا يسقيه علي" وكذا عكسه. "رواه أبو سعد" بسكون العين- النيسابوري" "في" كتاب "شرف النبوة, والغيلاني" بغين معجمة- أبو طالب بن غيلان، ولا يعارض هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "علي بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة". أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وجابر، وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عن الحسن بن علي أنه قال لمعاوية: أنت الساب لعلي, أما والله لتردنّ عليه الحوض, وما أراك ترد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود, فقد قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} اتفق المفسرون, على أن كلمة "عسى" من الله واجب، قال أهل المعاني: لأنَّ لفظة "عسى" تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم أحرمه كان عارًا، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك. وقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال: أحدها: إنه الشفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسِّرون على أنه مقام الشفاعة كما قال -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي". وقال الإمام ابن الخطيب: اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قوم, فحمدوه على ذلك الإنعام،   فتجده مشمِّر الإزار على ساقٍ يذود عنه, لا يأتي المنافقون, ذود غريبة الإبل, قول الصادق المصدوق، وقد خاب من افترى نقلهما في البدور, "وأمَّا تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود" عطف مغاير؛ لأنه محل يقوم فيه للشفاعة يحتوي عليها، فلا ينافي المشهور أنه الشفاعة؛ لأن المضاف غير المضاف إليه، فهو يقوم مقامًا محمودًا للشفاعة, "فقد قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [السراء: 79] "اتفق المفسرون على أن كلمة عسى" وسائر صيغ الترجي الواقعة "من الله" تعالى, أمر "واجب" ثابت محقق الوقوع, وأن مدلولها من الترجي ليس مرادًا في حقه تعالى. "قال أهل المعاني: لأن لفظه عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم أحرمه كان عارًا" عرفًا يلام عليه, "والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك" كيف وقد قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "الأجود الله" , "وقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال: أحدها أنه الشفاعة، قال الواحدي" أبو الحسن علي, تلميذ الثعالبي: "أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في تفسير "هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي"، وقال الإمام" فخر الدين الرازي "ابن الخطيب:" بالري بلدة كان أبوه خطيبها بها: "اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام, فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام" وهو الشفاعة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع؛ لأن ذلك كان حاصلًا في الحال. وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} يدل على أنه يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص عن العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها؛ لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة. ولما ثبت أنَّ لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارًا قويًّا، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى كما في البخاري من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود فقال: "هو الشفاعة". وفيه أيضًا عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًى, كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا   فيهم, "وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع؛ لأن ذلك كان حاصلًا في الحال" أي: وقت نزول الآية عليه في الدنيا, "وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} يدل على أنه يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل"؛ لأن مدلولها الوعد بأمر مستقبل, "ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص عن العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب, ولا حاجة به إليها" الواو للحال, وفي نسخة بلا واو, على أنَّ الجملة صفة, والنسختان بمعنًى؛ لأن الحال وصف في المعنى؛ "لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة، و" جب أيضًا ذلك "لما" أي: لأجل ما ثبت أن لفظ الآية مشعر بذلك إشعارًا قويًّا" من جهة أنها وعد بشيء يحصل في المستقبل كما قدَّمه, "ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى" أي: إثباته "كما في البخاري من حديث ابن عمر، قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود، فقال: "هو الشفاعة". "وفيه" أي: البخاري أيضًا "عنه" أي: ابن عمر "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًى" بضم الجيم وفتح المثلثة المخففة منونًا مقصورًا، قال الحافظ: جمع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 فلان اشفع لنا, حتى تنتهي الشفاعة إلي, فذلك المقام المحمود". فإذا ثبت هذا، فيجب حمل اللفظ عليه, قال: ومما يؤكد هذا، الدعاء المشهور: وابعثه مقامًا محمودًا يغبطه فيه الأولون والآخرون. ونصب قوله "مقامًا" على الظرفية، أي: وابعثه يوم القيامة فأقمه مقامًا محمودًا, أو على أنه مفعول به، وضمَّن معنى "ابعثه" معنى "أقمه", ويجوز أن يكون حالًا بعد حال، أي: ابعثه ذا مقام. قال الطيبي: وإنما نكره لأنه أفخم وأجزل، أي: مقامًا محمودًا بكل لسان. وقول النووي: "إن الرواية ثبتت بالتنكير، وأنه كأنه   جثوة, كخطوة وخطى، وحكى ابن الأثير، أنه روي -بكسر المثلثة وشد التحتية- جمع جاثٍ, وهو الذي يجلس على ركبتيه. وقال ابن الجوزي عن ابن الخشاب: إنما هو جثا -بفتح المثلثة وتشديدها- جمع جاثّ مثل غاز وغزا، أي: جماعات, "كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع لنا". زاد الحافظ أبو ذر: يا فلان, اشفع لنا, "حتى تنتهي الشفاعة إلي" لفظ البخاري: إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, زاد في رواية معلقة عنده في الزكاة: فيشفع ليقضي بين الخلق, "فذلك المقام المحمود"، لفظ البخاري: "فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود" فهذا ثابت من لفظ الحديث، فلا يكون جوابًا لما في قول الرازي ولما ثبت كما زعم، وإنما هي لما بالكسر والتخفيف كما قدمه, "فإذا ثبت هذا وجب حمل اللفظ عليه، قال" ابن الخطيب: ومما يؤكد وفي نسخة: يؤيد ومعناهما واحد "هذا" القول أن المراد الشفاعة "الدعاء المشهور" في الحديث المرفوع: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آت محمدًا الوسيلة والفضيلة, وابعث مقامًا محمودًا الذي وعدته, حلت له شفاعتي يوم القيامة" "يغبطه فيه الأولون والآخرون تقدَّم أن المراد يستحسنه تجريدًا للغبطة عن بعض معناها؛ لأنها تمني مثل ما للغير من غير زواله عنه، وليس أحد يتمنى ذلك يومئذ؛ لعلمهم أنه خاص به. "ونصب قوله: مقامًا على الظرفية، أي" وهو "وابعثه يوم القيامة فأقمه مقامًا محمودًا، أو على أنه مفعول به، وضمّن" بالبناء للمفعول أو الفاعل "معنى ابعثه معنى أقمه" والأولى أنه مفعول مطلق "ويجوز أن يكون حالا بعد حال، أي: ابعثه ذا مقام" عظيم. "قال الطيبي: وإنما نكره لأنه أفخم وأجزل" أي: أعظم كأنه قيل: مقامًا، وأي مقام "أي مقامًا محمودًا بكل لسان" تكل عن أوصافه ألسنة الحامدين, ويشرف على جميع العالمين. وقول النووي: إن الرواية في الحديث المعبر عنه أولًا بالدعاء المشهور: وابعثه مقامًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 حكاية للفظ القرآن" متعقب بأنه جاء في هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائي قال ابن الجوزي: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة" وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه. القول الثاني: قال حذيفة: يجمع الله الناس في صعيد واحد، فلا تكلم نفس، فأول مدعو محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهتدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت" قال: فهذا هو المراد من قوله   محمودًا "ثبت بالتنكير، وأنه كانه حكاية للفظ القرآن, متعقّب بأنه جاء في هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائي" بلفظ: المقام المحمود، فالحديث يروى بالوجهين. قال ابن الجوزي: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة" العظمى في فصل القضاء, "وادعى الإمام فخر الدين" الرازي "الاتفاق عليه", ولعله أراد اتفاق المفسرين كما تقدَّم عن الواحدي: أجمع عليه المفسرون, "والثاني: قال حذيفة" بن اليمان: "يجمع الله الناس في صعيد واحد فلا تكلم" بحذف إحدى التاءين, والأصل: فلا تتكلم نفس" بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة إلا بإذن الله، كقوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38] وهذا في موقف, وقوله تعالى: {يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] ، في موقف آخر, أو المأذونون فيه هي الجوابات الحقة, والممنوع منه هي الأعذار الباطلة. قاله البيضاوي: "فأوّل مدعوّ محمد -صلى الله عليه وسلم، فيقول: "لبيك" إجابة لك بعد إجابة, "وسعديك" مساعدة بعد مساعدة, وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثناة, "والخير في يديك, والشر ليس إليك" أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة تأدبًا؛ لأنه وإن كان بقضائه وقدره وخلقه لكن لا يحبه ولا يرضاه, بخلاف الخير فإنه بتقديره وإرادته ورضاه ومحبته جميعًا، فبالنظر إلى جانب المحبة والرضا يضاف إليه الخير، كما قال: بيدك الخير، وبالنظر إلى القدرة والخلق والإرادة يضاف إليه كلاهما كما قال سبحانه {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه} والمهدي كذا في نسخ صحيحة، وفي بعضها المهتدي بزيادة تاء والمذكور في الفتح المهدي بلا تاء من هديت, "وعبدك بين يديك". وفي رواية النسائي: "عبدك وابن عبدك, وبك متمسك, وإليك راجع, ولا ملجأ" باللام, "ولا منجا منك" لأحد "إلا إليك". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} رواه الطبراني وقال ابن منده: حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجالة. قال الرازي: والقول الأول أَوْلَى؛ لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده, فيصير محمودًا، وأمَّا ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلّا الثواب، أمَّا الحمد فلا. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول؟ فالجواب: لأنَّ الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط، فإن ورد لفظ "الحمد" في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز. القول الثالث: مقام تحمد عاقبته، قال الإمام الدين، وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرنا. القول الرابع، قيل: هو إجلاسه -صلى الله عليه وسلم- على العرش, وقيل: على الكرسى، روي   هكذا الرواية بالجمع بينهما كما في الفتح, فسقطت الثانية من قلم المصنف أو نساخه, "تباركت" تعاظمت, "وتعاليت" عمَّا يتوهمه الأوهام ويتصوره العقول, "سبحانك رب البيت" أي: يا رب البيت, قال حذيفة: فهذا هو المراد من قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] الآية. "رواه الطبراني", والنسائي بإسناد صحيح، وصحَّحه الحاكم كما في الفتح، فالعزو للنسائي أَوْلَى؛ إذ ليس في رواية الطبراني زيادة عليه سوى قوله: "سبحانك رب البيت"، قال الحافظ: ولا منافاة بينه وبين حديث ابن عمر؛ لأنَّ هذا الكلام كأنَّه مقدمة للشفاعة, "قال ابن منده: حديث مجمع على صحيح إسناده وثقة رجاله, قال الرازي: والقول الأوّل" إنه الشفاعة, "أَوْلَى؛ لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده فيصير محمودًا، وأمَّا ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلّا الثواب، أمَّا الحمد فلا" لكن لما كان مقدمة للشفاعة كما ترجاه الحافظ صار كأنه سعى فيها. "فإن قيل: لم يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول" فيبطل قولك، أمَّا الحمد فلا "فالجواب، أن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط" والله تعالى المنعم, "فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز", وقولي: أمَّا الحمد فلا مبنى على الحقيقة القول الثالث مقام تحمد عاقبته, قال الإمام فخر الدين: وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرناه, يعني: قوله؛ لأن سعيه في الشفاعة .... إلخ. "القول الرابع قيل: هو إجلاسه -عليه السلام- على العرش" حملًا للمقام على أنه مصدر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش. قال الواحدي: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونصّ الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير، ويدل عليه وجوه. الأول: إن البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال: بعث الله الميت, أي: أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد. والثاني: يوجب أنه تعالى لو كان جالسًا على العرش بحيث يجلس عنده محمد -صلى الله عليه وسلم- لكان محدودًا متناهيًا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوًّا كبيرًا. والثالث: إنه تعالى قال: {مَقَامًا مَحْمُودًا} ولم يقل: مقعدًا, والمقام موضع   ميمي لا اسم مكان, "وقيل: على الكرسي" بناءً على أنه غير العرش وهو الصحيح. "وروي" عند الثعلبي "عن ابن مسعود أنه قال: يقعد" بضم أوله "الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على العرش", وهذا له حكم الرفع؛ إذ لا دخل للرأي فيه, وابن مسعود ليس ممن يأخذ عن أهل الكتاب. "وعن مجاهد أنه قال: يجلسه" الله "معه على العرش", أخرجه عنه عبد بن حميد وغيره, قال الواحدي: وهذا قول رذل" بذال معجمة, أي: رديء موحش منفر فظيع متجاوز الحد في القبح, ونص الكتاب أي: قوله {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} "ينادي بفساد هذا التفسير، ويدل عليه" على فساده "وجوه". الأول: إنَّ البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال: بعث الله الميّت, أي: أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد" على هذا, إن كان مقصورًا على ما زعمه, وإلّا فقد قال الفارابي: بعثه إذا أهبه وبعث به وجهه, وقال الجوهري: بعثه وابتعثه بمعنًى، أي: أرسله، فالمعنى على هذا: عسى أن يرسلك مقامًا تجلس فيه على الكرسي أو العرش على هذا القول. والثاني: يوجب أنه تعالى لو كان جالسًا على العرش؛ بحيث يجلس عنده محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لكان محدودًا متناهيًا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوًّا كبيرًا" ويأتي رد هذا. والثالث: إنه تعالى قال: {مَقَامًا مًحْمُودًا} ولم يقل: مقعدًا، والمقام موضع القيام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 القيام، لا موضع القعود. الرابع: إذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قومٍ لإصلاح مهماتهم, ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه، فثبت أن هذا القول ساقط، لا يميل إليه إلا قليل العقل عديم الدين، انتهى. وتعقّب القول الثاني، بأنه تعالى يجلس على العرش كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه المقدَّسة بلا كيف، وليس إقعاد محمد -صلى الله عليه وسلم- على العرش موجبًا له صفة الربوبية، أو مخرجًا عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله, وتشريف له على خلقه، وأما قوله: "معه" فهو بمنزلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان. وقال شيخ الإسلام أبو الفضل السعقلاني: قول مجاهد "يجلسه معه على   لا موضع القعود" وأجيب بأنه يصح على أنَّ المقام مصدر ميمي لا اسم مكان. "والرابع: إذا قيل: السلطان بعث فلانًا, فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه", وهذا مردود بأن هذا عادة يجوز تخلفها, على أن أحوال الآخرة لا تقاس على أحوال الدنيا, "فثبت أن هذا القول ساقط لا يميل إليه إلّا قليل" أي: ناقص العقل عديم الدِّين, فاقده أصلًا, وهذا مجازفة في الكلام لا تليق بطالب فضلًا عن عالم, بعد ثبوت القول عن تابعي جليل، ووجد مثله عن صحابيين ابن عباس وابن مسعود كما يأتي. "انتهى" كلام الواحدي" وتعقّب القول" أي: الوجه الثاني من الأوجه الأربعة التي رَدّ بها القول الرابع بأنه تعالى يلس على العرش, كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه المقدَّسة" بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بلا كيف, وليس إقعاد محمد -صلى الله عليه وسلم- على العرش موجبًا له صفة الربوبية, بل كإجلاس الملك على سريره من يعظمه, ولا يوجب له صفة الملك أو مخرجًا له عن صفة العبودية, بل هو رفع لمحله, وتشريف له على خلقه، وأمَّا قوله معه فهو بمنزلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الملائكة, وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] . فالعندية فيهما للتشريف، فكذلك المعية فيما نحن فيه, "فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة -بضم الحاء وكسرها, والدرجة الرفيعة لا إلى المكان" حتى يلزم منه التناهي وأنه محدود. "وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: قول مجاهد: يجلسه معه على العرش ليس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 العرش" ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به قال: وبالغ الواحدي في رد هذا القول: ونقل النقاش عن أبي داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا القول فهو متهم, وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبيّ، وعن ابن عباس عند أبي الشيخ قال: إن محمدًا يوم القيامة يجلس على كرسي الرب بين يدي الرب، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة. كذا قاله بعضهم، ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة.   بمدفوع لا من جهة النقل"؛ لأنه لم ينفرد به, "ولا من جهة النظر", وأشار للثاني بقوله: "وقال ابن عطية هو كذلك إذا حمل على ما يليق به" من أنها معية تشريف, قال: وبالغ الواحدي في رد هذا القول" بما قدمه المصنّف آنفًا. وأشار للأوّل بقوله: "ونقل النقاش" المفسر "عن أبي داود صاحب السنن" سليمان بن الأشعث احترازًا على الطيالسي أبي داود, وسليمان بن داود صاحب المسند, "أنه قال: من أنكر هذا القول فهو متهم" بعدم المعرفة؛ حيث أنكر شيئًا ثابتًا بمجرَّد ما قام في عقله, "و" لم ينفرد به مجاهد، فإنه "قد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي" ويقال له أيضًا: الثعالبي, وهو شيخ الواحدي. "وعن ابن عباس عند أبي الشيخ: قال: إن محمدًا يوم القيامة يجلس على كرسي الرب بين يدي الرب" وهذا له حكم الرفع؛ لأنه جاء عن صحابي, ولا دخل للرأي فيه, فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف, وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره" كما مَرَّ, ولا فساد فيه ولا قبح, ويحتمل أن يكون المقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس على الكرسي والعرش "هي" أنت؛ لمراعاة الخبر وهو "المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة". كذا قاله بعضهم: ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة" وعلى ذلك, فلا ينافي المشهور، وقيل: المقام المحمود أخذه بحلقة باب لجنة، وقيل: إعطاؤه لواء الحمد. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أنَّه بلغه أنَّ المقام المحمود الذي ذكر الله أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل, يغبطه لمقامه ذلك أهل الجمع ورجاله ثقات. لكنَّه مرسل، وعنده أيضًا عن علي بن الحسين بن علي: أخبرني رجل من أهل العلم أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 واختلف في "فاعل" الحمد في قوله تعالى: {مَحْمُودًا} فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل: النبي -صلى الله عليه وسلم، أي: إنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأوَّل أرجح لما ثبت في حديث ابن عمر بلفظ: مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم", ويجوز أن يحمل على أعمّ من ذلك، أي: مقامًا يحمده القائمة فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان، وأيّده بأنه نكرة, فدلَّ على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصًا. انتهى. فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور: إن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، فأيّ شفاعة هي؟ فالجواب: إن الشفاعة التي وردت في الأحاديث، في المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامَّة في فصل القضاء، والثاني: في الشفاعة في إخراج المذنبين من النار، لكن الذي يتجه: ردّ هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العظمى   النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تمد الأرض مد الأديم ..... " الحديث. وفيه: "ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول: أي رب, عبادك عبدوك في أطرف الأرض"، قال: فذلك المقام المحمود, رجاله ثقات, وهو صحيح إن كان الرجل صحابيًّا كما في الفتح. واختلف في فاعل الحمد في قوله تعالى: {مَحْمُودًا} ، فالأكثر أنَّ المراد به أهل المواقف" يحمدون, "وقيل" فاعله النبي -صلى الله عليه وسلم، أي: إنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجّده في الليل" المأمور به أوّل الأية, والأوّل, أي: أهل الموقف "أرجح, لما ثبت في حديث ابن عمر: مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم" فهذا نص صريح, "ويجوز" مع ذلك أن يحمل على أعمّ من ذلك، أي: يحمده القائم فيه" صلى الله عليه وسلم- يحمد كل من عرفه, وهم أهل الجمع, وهو مطلق في كل ما يجلبه" بجيم وموحدة، أي: يسببه "الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا" الحمل على الأعمّ أبو حيان, وأيده بأنه نكرة، فدل على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصً .... أهـ. "فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور أنَّ المراد بالمقام المحمود والشفاعة, فأي شفاعة هي؟ " لأنَّ له -صلى الله عليه وسلم- عدة شفاعات تأتي, "فالجواب: إن الشفاعة التي وردت في الأحاديث في المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامَّة في فصل القضاء" بين الخلائق, "و" النوع الثاني: في الشفاعة في إخراج المذنبين من النار, لكن الذي يتَّجه ردّ" أي: ترجع هذا الأقوال". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 العامة، فإنَّ إعطائه لواء الحمد، وثناءه على ربه, وكلامه بين يديه, وجلوسه على كرسيه, كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق. وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك, وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين, وتمسَّكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 8] . وأجاب أهل السنة بأنَّ هذه الآيات في الكفّار، قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا، ووجوبها سمعًا؛ لصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وكقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} المفسّر بها عند الأكثرين، كما قدمنا.   المذكورفي المقام المحمود, "كلها إلى لشفاعة العظمى العامّة" في فصل القضاء, "فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه, وكلامه بين يديه, وجلوسه على كرسيه" أو عرشه, "كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق". وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك" فلا تراد استقلالًا, "وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين, فأمَّا الشفاعة في فصل القضاء فلم يكذب بها أحد من المعتزلة ولا غيرهم، قاله الفاكهاني, وتمسكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] من الملائكة والأنبياء والصالحين, والمعنى: لا شفاعة لهم, وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} محب, {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} الآية" لا مفهوم للوصف؛ إذ لا شفيع لهم أصلًا، فما لنا من شافعين, أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء, أي: لو شفعوا فرضًا لم يقبلوا. وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات في الكفار"، فلا حجة فيها, "قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا"؛ إذ ليست بمحال فيها, "ووجوبها" ثبوتها "سمعًا لصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} أحدًا {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع له {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} بأن يقول: لا إله إله الله ووجه صراحته أن الاستثناء من النفي إثبات, وقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ} أي: الملائكة, إلا لمن ارتضى الله سبحانه أن يشفعوا له, وكقوله: عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا المفسَّر بها" أي: بالشفاعة العظمى عند الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 وقد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين, وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أريت ما تلقى أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم, فسألت الله أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل". وفي حديث أبي هريرة: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها, وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وفي رواية أنس: "فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي" , وهذا من مزيد شفقته علينا, وحسن تصرفه؛ حيث جعل دعوته المجابة في أهمّ أوقات حاجاتنا, فجزاه الله عنَّا أفضل الجزاء. وعن أبي هريرة قلت: يا رسول الله, ماذا ورد عليك في الشفاعة؟ فقال: شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا يصدق لسانه قلبه.   الأكثرين كما قدَّمته" وليس النزاع فيها, إنما هو في الشفاعة للمذنبين، ففي الاستبدال بالآية عنده شيء, "وقد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة", أي: وقوع "الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين", فلا معنى لإنكارها لحصول القطع بها, وأخرج الحاكم والبيهقي وصحَّحاه "عن أم حبيبة" أم المؤمنين "قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أريت" بضم الهمزة وكسر الراء- أي: أراني الله تعالى "ما تلقى أمتي من بعدي" بعد وفاتي, "وسفك بعضهم دماء بعض" أسقط من لفظه: فأحزنني, "وسبق لهم من الله" في علمه "ما سبق". وفي رواية: وسبق لهم ذلك من الله كما سبق, "للأمم قبلهم، فسألت الله أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة، ففعل" ذلك. "وفي حديث أبي هريرة: "لكلّ نبي دعوة مستجابة يدعو بها, وأريد أن أختبئ" أدَّخر "دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" تقدَّم شرحه في آخر المقصد التاسع. "وفي رواية أنس" عد مسلم: "فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي" , وهذا من مزيد شفقته علينا, وحسن تصرفه؛ حيث جعل دعوته المجابة" على سبيل القطع, "في أهم أوقات حاجاتنا، فجزاه الله عنَّا أفضل الجزاء". "وعن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله, ماذا ورد عليك" من الوحي, ومنه الإلهام من الله, "في" شأن "الشفاعة، قال: "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله, "مخلصًا يصدق لسانه" بالرفع فاعل, "قلبه" مفعول، أي: يخبر لسانه عن صدق قلبه، فليس كالمنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويجوز عكسه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 وعن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون, فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغتم، ألا تنظرون إلى مَنْ يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم, أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،   "وعن أبي زرعة" بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل: اسمه هرم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير, "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" آدم وجميع ولده، أي: أنا الفائق المفزوع إليه في الشدائد, وخص "يوم القيامة" لارتفاع دعوى السؤدد فيها لغيره، كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} خص السؤال به لأنه يوم تنقطع فيه الدعاوي، ولأنه يستلزم سيادته ف الدنيا بطريق الأولوية, ونهيه عن التفضيل على طريق التواضع, "هل تدرون ممن ذلك". وفي رواية: ذلك بألف بدل اللام "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد" أرض واسعة مستوية, "فيبصرهم الناظر" أي: يحيط بهم بصر الناظر؛ بحيث لا يخفى عليه منهم شيء؛ لاستواء الأرض وعدم الحجاب. وفي رواية: وينفذهم البصر -بتحتية مفتوحة وذال معجمة- على الأصح، أي: تحيط بهم أبصار الناظرين من الخلق لاستواء الصعيد، وهذا أوجه من قول أبي عبيد: بصر الرحمن؛ لأن الله أحاط بالناس أولًا وآخرًا في الصعيد المستوي وغيره, "ويسمعهم الداعي" بضم الياء من الإسماع، أي: إذا دعاهم سمعوه, "وتدنو الشمس" من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين, ويزاد في حرها عشر سنين كما مَرَّ, "فيبلغ الناس" بالنصب، أي: يصل إليهم, "من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" فاعل يبلغ, "فيقول الناس: "ألا" بفتح الهمزة وخفة اللام "ترون إلى ما أنتم فيه" من الغم والكرب, "إلى ما بلغكم" بدل من قوله: إلى ما أنتم فيه. وفي رواية مسلم: "ألا ترون ما قد بلغكم"، أي: وصل إليكم، ويقع في أكثر نسخ المواهب: بلغتم بمثناة بدل الكاف, ولا وجود لها في الصحيحين, ولا في أحدهما, "ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم" حتى يريحكم من مكانكم هذا, "فيقول بعض الناس" هم رؤساء الأمم كما في الفتح، وقال ابن برجان: رؤساء أتباع الرسل لبعض: "أبوكم آدم" وفي رواية: ائتوا آدم، وللبخاري: "عليكم بآدم" , "فيأتونه فيقولون: يا آدم, أنت أبو البشر" وشأن الأب الحنان والشفقة, "خلقك الله بيده" بقدرته بغير واسطة, "ونفخ فيك من روحه" بأن أمر الروح أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا   تدخل في جسدك وتجري مجرى نفسك. قال الكرماني: الإضافة إلى الله لتعظيم المضاف وتشريفه, "وأمر الملائكة فسجدوا لك" كلهم, "وأسكنك الجنة" , وفي رواية للبخاري: "وأسكنك جنته, وعلمك أسماء كل شيء" وذكروا هذا إشارة إلى أن من حوى هذه الفضائل أهلٌ للشفاعة، ولذا قدموها على قولهم: "ألا" بأداة العرض, "تشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه" من الغمِّ والكرب, "وما بلغنا" بفتح الغين على الصحيح المعروف، ويدل له قوله قبل: "ألا ترون إلى ما قد بلغكم"، ولو كان بإسكان الغين لقال بلغتم، قاله النووي. وفي رواية للشيخين: "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا" , "فقال: إن ربي غضب" بكسر الضاد "اليوم غضبًا لم يغضب" بفتح الضاد فيهما "قبله مثله ولا يغضب". كذا رواها الحموي والمستملي في البخاري بلفظ لا، ورواه غيرهما فيه، وكذا رواه مسلم بلفظ: "ولن يغضب" بلن "بعده مثله" وكل من لن، ولا يفيد النفي في المستقبل، والمراد من الغضب كما قال الكرماني لازمه, وهو إرادة إيصال العذاب، وقال النووي: المراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وما شاهده أهل الجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها, "وأنه" بالواو ودونها روايتان "نهاني عن الشجرة" أي: عن الأكل منها, فعصيته وأكلت منها, "نفسي نفسي نفسي" ذكرها ثلاثًا. وفي رواية للشيخين أيضًا: مرتين، أي: نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها؛ إذ المبتدأ والخبر إذا اتحدا فالمراد بعض لوازمه؛ إذ قوله: نفسي مبتدأ والخبر محذوف، وفي حديث أنس عند سعيد بن منصور: "إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي". وكذا عنده في بقية الأنبياء بعده، ومن البديهي أن المصنف لم يذكر ذلك؛ لأنه إنما ساق حديث أبي هريرة في الصحيحين, وليس فيه ذلك، لا للإشعار بأنه ليس ذنبًا يستغفر منه، وإنما قالوه تعظيمًا لله, وأنه لا ينبغي أن يوجد من مثلهم خلاف الأولى, فضلًا عن الذنب، فإن هذا وإن كان ظاهرًا في نفسه لكن لو كان كذلك لترك المصنف الحديث بالمرة؛ إذ ليس بأشد من قوله: "نهاني فعصيته". وفي رواية أنس في الصحيح فيقول: "لست لها"، وفي لفظ: "لست هناكم"، وفي حديث حذيفة: "لست بصاحب ذاك"، فالمعنى: إن هذا المقام ليس لي بل لغيري, "اذهبوا إلى غيري" زاد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا -عليه السلام- فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل بعث إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة، دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم -عليه السلام- فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي نفسي   في حديث سليمان: فيقولون: "إلى من تأمرنا"، فيقول: "ائتوا عبدًا شاكرًا" , "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح, أنت أول الرسل بعث إلى" قومه من "أهل الأرض, وقد سماك الله" في كتابه "عبدًا شكورًا" أي: كثير الشكر حامدًا في جميع أحواله, "ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا" بفتح الغين, "ألا تشفع لنا إلى ربك" حتى يريحنا من مكاننا, "فيقول" نوح: "إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب". وفي رواية: "ولن يغضب بعده مثله" , أي: إنه ظهر من انتقاه من العصاة وأليم عقابه ما لم يكن قبل, ولا يوجد بعد, "وأنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" هي التي أغرق بها أهل الأرض، يعني: إن له دعوة واحدة محققة الإجابة, وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض، فيخشى أن يطلب فلا يجاب. وفي حديث أنس عند الشيخين: "ويذكر خطيئته التي أصاب بها سؤاله ربه بغير علم" , فجمع بينهما بأنه اعتذر بأمرين، أحدهما: أنه استوفى دعوته المستجابة، وثانيهما: سؤاله ربه بغير علم، حيث قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك, "نفسي نفسي نفسي" ثلاث مرات، أي: هي التي تستحق أن يشفع لها. وفي رواية: مرتين, "اذهبوا إلى غيري" زاد في رواية سلمان: فيقولون إلى من تأمرنا، فيقول: "اذهبوا إلى إبراهيم" زاد في حديث أنس: خليل الرحمن, "فيأتون إبراهيم فيقولون" يا إبراهيم "أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض" لا ينفي وصف الخلة الثابت للمصطفى على وجهٍ أعلى من إبراهيم, "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات" بفتحات "فذكرها" لفظ البخاري، فذكرهنَّ أبو حيان في الحديث، أي: ذكرهنّ يحيى بن سعيد التيمي, تيم الرباب الراوي عن أبي زرعة، وانتصرهن من بعده في مسلم من طريق عمارة بن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى -عليه السلام، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضَّلك برسالته وبكلامه على الناس، ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى -عليه السلام- فيقولون: يا عيسى: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس في المهد، ألا   القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم. وفي حديث أبي سعيد قال -صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلّا ما حلَّ بها عن دين الله" وما حلّ -بمهملة- جادل، وذكر أن الثالثة قوله لأمر: إنه حين أتى على الملك أخبريه أني أخوك, "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا. وفي رواية: مرتين, "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى" بيان لقوله: غيري, "فيأتون موسى فيقولون: يا موسى, أنت رسول الله, فضلك الله برسالاته" بالجمع عند مسلم، أمَّا البخاري فبالإفراد كما قال المصنف, "وبكلامه على الناس" عام مخصوص بغير المصطفى، فإن كلامه له ثابت على وجه أكمل من موسى كما مَرَّ في المعراج، ولا يلزم منه أن يشتق له من اسمه الكليم كموسى؛ إذ هو وصف غلب على موسى كالمحبَّة للمصطفى, "ألا ترى ما نحن فيه, اشفع لنا إلى ربك". كذا في النسخ, والذي في الصحيحين: "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه"، زاد مسلم: "ألا ترى ما قد بلغنا, فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسًا لم أؤمر" بضم الهمزة وسكون الواو بقتلها يريد القبطي المذكور في آية القصص، وإنما استعظمه واعتذر به؛ لأنه لم يؤمر بقتل الكفار، أو لأنه كان مؤمنًا فيهم، فلم يكن له اغتياله ولا يقدح في عصمته لكونه خطأ, وعدَّه من عمل الشيطان في الآية، وسمَّاه ظلمًا, واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم, وإن لم تكن ذنبًا. وفي حديث أنس عند سعيد بن منصور: إني قتلت نفسًا بغير نفس, وأن يغفر لي اليوم، حسبي "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا، وفي رواية: مرتين "اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى, أنت رسول الله, وكلمته ألقاها إلى مريم" أي: أوصلها إليها وجعلها فيها, "وروح" صدر منه لا يتوسّط ما يجري مجرى الأصل والمادة له, "وكلمت الناس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 328 ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى -عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله, وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق فآتي تحت   في المهد" مصدر سُمِّيَ به ما يمهد للصبي من مضجعه, "ألا ترى إلى ما نحن فيه" من الكرب, "اشفع لنا إلى ربك" لفظ الشيخين: "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه". زاد مسلم: "ألا ترى ما قد بلغنا" , "فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, ولم يذكر ذنبًا" وفي حديث ابن عباس: إني اتخذت إلها من دون الله، وفي حديث أنس عند سعيد ابن منصور نحوه. وزاد: وأن يغفر لي اليوم، حسبي, "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا، ولمسلم مرتين في الكل, "اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى محمد" , زاد في رواية أنس عند الشيخين: فيقول: "لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر" , "فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد, أنت رسول الله وخاتم الأنبياء, وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر" يعني: إنه غير مؤاخذ بذنب لو وقع. قال الحافظ: يستفاد من قول عيسى في نبينا هذا، ومن قول موسى: إني قتلت نفسًا وأن يغفر لي اليوم، حسبي, مع أن الله قد غفر له بنص القرآن, التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع منه شيء أصلًا، فإن موسى مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك, ورأى في نفسه تقصير عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه بخلاف نبينا -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كله، ومن ثَمَّ احتجَّ عيسى بأنه صاحب الشفاعة؛ لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، بمعنى: إن الله أخبر أن لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، قال: وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد. وقال القاضي عياض: يحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد -صلى الله عليه وسلم- معينًا, وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إليه إظهارًا لشرفه في ذلك المقام العظيم، وإنما خص الخمسة بالمجيء إليهم دون باقي الأنبياء؛ لأنهم مشاهير الرسل وأصحاب شرائع عمل بها مددًا طويلة مع أن آدم والد الجميع, ونوح الأب الثاني, وإبراهيم مجمع على الثناء عليه عند جميع أهل الأديان, وهو أبو الأنبياء, بعده موسى أكثر الأنبياء أتباعًا بعد المصطفى وعيسى؛ لأنه ليس بينه وبينه نبي، ولأنه من أمته -صلى الله عليه وسلم, ولم يلهموا المجيء إليه من أول وهلة لإظهار فضله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 العرش, فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه, واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما   وشرفه. قال الحافظ: ولا شكَّ أن في السائلين يومئذ من سمع هذا الحديث في الدنيا, وعرف أن ذلك خاص به, ومع ذلك فلا يستحضره؛ إذ ذاك أحد منهم, وكأنَّ الله أنساهم ذلك للحكمة المذكورة, "ألا ترى إلى ما نحن فيه, اشفع لنا إلى ربك" الذي في الصحيحين تقديم هذه الجملة على التي قبلها، وزاد مسلم: "ألا ترى إلى ما قد بلغنا" , "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي". وفي حديث أنس: "فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى استأذن على ربي، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدًا, فيدعني ما شاء الله أن يدعني" والمستأذن له جبريل، ففي رواية أبي بكر الصديق عند أبي عوانة: "فيأتي جبريل ربه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة، فينطلق به جبريل فيخر ساجدًا قدر جمعة"، وسئل الجلال البلقيني عن حكم سجوده -صلى الله عليه وسلم- من حيث الوضوء، فأجاب بأنه باقٍ على طهارة غسل الميت؛ لأنه حي لا يموت في قبره, ولا ناقض لطهارته، ويحتمل أن يجاب بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا يتوقّف السجود على وضوء. قاله في البدور، ويحتمل أنه توضأ من حوضه, "ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي". وفي بعض طرق الحديث عند البخاري: "فيلهمني الله محامد لا أقدر عليها الآن, فأحمده بتلك المحامد"، قال المصنّف وغيره: وقد ورد ما لعله يفسر به بعض تلك المحامد لا جميعها، ففي النسائي وغيره من حديث حذيفة رفعة: "يجمع الله الناس في صعيد واحد، فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك ..... " الحديث السابق قريبًا " ثم يقال: "يا محمد, ارفع رأسك, سل تعطه" بسكون الهاء للسكت, "واشفع تشفع" بشد الفاء المفتوحة، أي: تقبل شفاعتك, "فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب, أمتي يا رب" مرتين، وهذه الشفاعة بعد العامَّة لجميع الأمم في فصل القضاء، ففي السياق حذف كما يأتي إيضاحه، وفي مسند البزار: "فأقول: يا رب, عجّل على الخلق الحساب" , "فيقال: يا محمد, أدخل" بكسر الخاء أمر من الإدخال. وفي رواية مسلم: "أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة" , وهم سبعون ألفًا, أوَّل من يدخلها, "وهم" أيضًا "شركاء الناس فيما سوى ذلك" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 سوى ذلك من الأبواب". الحديث رواه البخاري ومسلم. قال في فتح الباري: وقد استشكل قولهم لنوح: "أنت أول الرسل من أهل الأرض" فإن آدم نبي مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح. ومحصل الأجوبة عن ذلك: إن الأوَّلية مقيدة بقوله: "أهل الأرض"؛ لأنَّ آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، أو أنَّ الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم. وتعقَّبه القاضي عياض ما صحَّحه ابن حبان من حديث أبي ذر، فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال. وأمَّا إدريس فذهبت طائفة إلى أنه   من الأبواب" يعني: لا يلجئون إلى الدخول من الأيمن، بل إن شاءوا الدخول من غيره دخلوا وإن خصوا بالباب الأيمن دون غيرهم. قال القرطبي: وهذا يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته, شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم. "الحديث" تمامه، ثم قال: "والذي نفسي بيده, إن بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى". "رواه البخاري" في مواضع "ومسلم" في الإيمان، وروياه أيضًا من حديث أنس, وفيه تكرار السجود أربع مرات، وجاء من حديث صحابة أخر مطولًا ومختصرًا، ساقها في البدور بألفاظها. "قال في فتح الباري: وقد استشكل قولهم لنوح: أنت أوّل الرسل من أهل الأرض بأن آدم نبي مرسل، وكذا شيث" ابنه, "وإدريس, وهم قبل نوح", إلّا أنَّ في كون إدريس قبله خلافًا "فمحصّل الأجوبة عن ذلك أنَّ الأولية مقيدة بقوله: أهل الأرض؛ لأن آدم ومن ذكر معه" شيث وإدريس "لم يرسلوا إلى أهل الأرض" وإنما أرسلوا إلى بعض أهلها, ويلزم على ذلك عموم رسالة نوح. وأجيب بأنه بصدد أن يبعث في زمنه غيره بخلاف نبينا -صلى الله عليه وسلم, وبغير ذلك مما سبق, "أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح" مال "ابن بطّال في حق آدم, وتعقّبه القاضي عياض بما صحَّحه ابن حبان من حديث أبي ذر, فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا" ولفظه قلت: يا رسول الله, كم الرسل منهم، أي: الأنبياء؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قلت: من كان أولهم؟ قال: "آدم" وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث -بكسر المعجمة وإسكان الياء ومثلثة- وذلك من علامات الإرسال". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 كان من بني إسرائيل. ومن الأجوبة أنَّ رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحِّدون، ليعلمهم شريعته، ونوح رسالته كانت إلى قوم كفَّار يدعوهم إلى التوحيد. وذكر الغزالي في كتاب "كشف علوم الآخرة" أنَّ بين إتيان أهل الموقف آدم, وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي، إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشيء منها. ووقع في رواية حذيفة: إن الخليل -عليه السلام- قال: "لست بصاحب ذاك,   "وأمَّا إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان من بني إسرائيل" يعقوب, وهو بعد نوح بزمان طويل, "ومن الأجوبة: إن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهو موحِّدون؛ ليعلمهم شريعته," فهي كالتربية للأولاد, "ونوح رسالته كانت إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد" وينذرهم بالهلاك إن لم يوحدوا, "وذكر الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة أنَّ بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحًا ألف سنة". "وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها" وتعقبه العيني بأنَّ جلالة قدر الغزالي تنافي ما ذكره، وعدم وقوفه على أصلٍ لذلك لا يستلزم نفي وقوف غيره لذلك على أصل، فإنه لم يحظ علمًا بكل ما ورد حتى يدَّعي هذه الدعوى، وأجاب الحافظ في انتقاض الاعتراض بأنَّ جلالة الغزالي لا تنافي أنه يحسن الظن ببعض الكتب، فينقل منها, ويكون ذلك المنقول غير ثابت, كما وقع له ذلك في الإحياء في نقله من قوت القلوب، كما نبَّه على ذلك غير واحد من الحفَّاظ، وقد اعترف الغزالي بأن بضاعته في الحديث مزجاة, قال: ولم أدَّع أني أحطت علمًا وإنما نفيت اطلاعي وإطلاقي في الثاني محمول على تقييدي في الأول. والحديث لا يثبت بالاحتمال، فلو كان المعترض اطَّلع على شيء يخالف قولي لأبرزه وتبجح به. انتهى. ووقع في رواية حذيفة" وأبي هريرة معًا "أنَّ الخليل -عليه السلام- قال:" ولفظ مسلم عن أبي هريرة وحذيفة، قالا: قال -صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس, فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلّا خطيئة أبيكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 إنما كنت خليلًا من وراء وراء" بفتح الهمزة, "فيهما" بلا تنوين، ويجوز البناء فيها على الضمِّ للقطع عن الإضافة نحو: {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} واختاره أبو البقاء، قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء وراء -بالضم، وقال: إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي. ومعناه: لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده: إنَّ الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر "وراء" إشارة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى، الذي هو من وراء محمد، وسبق مزيد   آدم, لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك, إنما كنت خليلًا من وراء وراء" بفتح الهمزة فيهما بلا تنوين على المشهور, لتضمنهما معنى الحرف، فالتقدير من وراء، من وراء, فركِّبا تركيب خمسة عشر, وأكدا كشذر مذر وبين بين, قاله القرطبي. "يجوز البناء على الضم" فيهما "للقطع عن الإضافة, نحو" قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، واختاره أبو البقاء" قائلًا: لأنَّ تقديره من وراء, أو من وراء شيء آخر, "قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء بالضم" فيهما, "وقال" الشاعر: إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء "ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي" في شرح مسلم، قال القرطبي في المفهم: ووجدت في أصل شيخنا أيوب الفهري، وكان في اعتنائه بهذا الكتاب -أي: مسلم- الغاية من وراء وراء بتكرير من وفتح الهمزتين, وليس بمعنى بنائه في الأول لظهور من المضمرة في الأول، وإنما وجهه أن يكون وراء قطعت عن الإضافة إلى معين، فصارت كأنَّها اسم علم وهي مؤنثة، فاجتمع فيها التعريف والتأنيث فمنعت الصرف، قال: ووجدت بخط معتبر، قال الفراء: تقول العرب: فلان يكلمني من وراء وراء -بالنصب على الظرف, "ومعناه" كما قال النووي: "لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده" كما نقله النووي عن صاحب التحرير، قال: هذه كلمة تقال على وجه التواضع، وكأنه أشار إلى "أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة" بكسر السين، أي: بواسطة "جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلَّمه الله بلا واسطة" إشارةً إلى قوله في الحديث: "اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا" , "وكرَّر وراء إشارة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية لله سبحانه والسماع " لكلامه تعالى "بلا واسطة", فكأنه قال: أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، وسبق مزيد لذلك في الخصائص" الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 لذلك في الخصائص. وأمَّا ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوي: الحق أنها إنما كانت من معارض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استقصارًا لنفسه عن الشفاعة؛ لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفًا. وأما قوله في عيسى: "إنه لم يذكر ذنبًا" فوقع في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي: "إني اتخذت إلهًَا من دون الله". وفي حديث النضر بن أنس عن أبيه قال: حدثني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لقائم   في أوائلها, "وأمَّا ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوي: الحق إنها إنما كانت من معاريض الكلام" التي قال -صلى الله عليه وسلم: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب". رواه البخاري في الأدب المفرد, وابن عدي وابن السني والبيهقي, جمع معراض كمفتاح, من التعريض وهو خلاف التصريح، وعرَّفه المتقدمون بأنه ذكر لفظ محتمل يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم, "لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق": خاف منها استقصارًا لنفسه عن الشفاعة؛ لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفًا" وقال في المفهم: الكلمات الثلاث ليست بكذب حقيقة, ولا في شيء منها ما يوجب عتبًا، لكن هول المقام حمله على الخوف منها، فأمَّا الأولى، فقال المفسرون: كانت في حال الصغر والطفولية، فلما اتضح له الأمر قال: إني وجهت وجهي. الآية, وهذا لا يليق، فالأنبياء معصومون، ولم يحفظ عن نبي أنه تلبَّث بخبائث قومه، ولو كان لغيرهم به أممهم، وقيل: هو استفهام إنكار, والهمزة محذوفة، وقيل: قاله على سبيل الاحتجاج على قومه, والتنبيه لهم على أنَّ ما يتغير لا يصلح للربوبية، وأما الثانية: فإنما قالها توطئة منه للاستدلال على أنها ليست آلة, وقطعًا لدعواهم أنها تضر وتنفع، ولذا عقبه بقوله: فاسألوهم, وأجابوه بقولهم: لقد علمت .... الآية. فقال حينئذ: أتعبدون .............. الآية. وأما الثالثة: فإنما قالها تعريضًا بأنه سيسقم في المستقبل, واسم الفاعل يكون بمعنى المستقبل، ويحتمل أن يريد أني سقيم الحجة في الخروج معكم، وأما قوله: إنها أختي، فإنما عني أنها أخته في الإسلام، كما نص عليه بقوله: أنت أختي في الإسلام. وأما قوله عن عيسى: "إنه لم يذكر ذنبًا"، فوقع في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي: "إني اتُّخِذت" بالبناء للمفعول "إلهًا من دون الله" , وفي حديث أنس نحوه، وزاد: "وأن يغفر لي اليوم حسبي"، فسماه ذنبًا وليس بذنب؛ إذ لا صنع له فيه البتة. "وفي حديث النضر" بضاد معجمة "ابن أنس" بن مالك الأنصاري البصري، ثقة، من رجال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 انتظر أمتي عند الصراط، إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء لعظم ما هم فيه". فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وأنَّ هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار، وأنَّ عيسى هو الذي يخاطب نبينا -صلى الله عليه وسلم، وأنَّ جميع الأنبياء يسألونه في ذلك. وفي حديث سلمان عند ابن أبي شيبة: "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله، أنت فتح الله بك وختم بك، وغفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، وجئت في هذا اليوم، وترى ما نحن فيه, فقم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا صاحبكم، فيجوس الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة". فإن قلت: ما الحكمة في انتقاله -صلى الله عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة. أجيب: بأنَّ أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مقام مخافة وإشفاق, ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام.   الجميع، مات سنة بضع ومائة "عن أبيه قال: حدَّثني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لقائم أنتظر أمتي عند الصراط؛ إذ جاء عيسى فقال: يا محمد, هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله" اللام لام السؤال، وفي نسخ: لتدعو بالواو, فاللام للتعليل, "أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء لعظم ما هم فيه" من الغم والكرب, "فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ" وهو عند الصراط, "وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقوف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط وقوع الكفار في النار، وأنَّ عيسى هو الذي يخاطب نبينا -صلى الله عليه وسلم، وأنَّ جميع الأنبياء يسألون في ذلك، وفي حديث سلمان" الفارسي عند ان أبي شيبة: "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله, أنت فتح الله بك" كل خير, "وختم" بك النبيين "وغفر لك ما تقدَّم وما تأخر, وجئت في هذا اليوم وترى ما نحن فيه" من شدة الهول "فقم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا صاحبكم" المعين للشفاعة. وفي رواية: "أنا لها أنا لها" , "فيجوس" بالجيم، وقيل: بالحاء, وهما بمعنى, أي: يتخلل "الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة" , فإن قلت: ما الحكمة في انتقاله -صلى الله عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة, أجيب بأنَّ أرض الموقف لما كانت مكان عرض وحساب, كانت مكان مخافة وإشفاق" عطف مساوٍ, ومقام الشافع يناسب أن يكون في مقام إكرام" لعلو مقامه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى رفعه: "فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني". وفي حديث أبي بكر الصديق: "فينطلق إليه جبريل، فيخر ساجدًا قدر جمعة، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك". وفي رواية النضر بن أنس: "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل: ارفع رأسك". وعلى هذا, فالمعنى: يقول لي على لسان جبريل، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده وبعده وفيه, ويكون في كل مكان ما يليق به، فإنه ورد في رواية: "فأقوم بين يديه فيلهمني بمحامد لا أقدر عليها، ثم أخر ساجدًا" , وفي رواية البخاري: "فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني". وفي رواية أبي هريرة، عند الشيخين: "فآتى تحت العرش فأقع ساجدًا لربي   وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى" قال: "يعرفني الله نفسه يوم القيامة, فأسجد له سجدة يرضى" يزيد رضاه "بها عني، ثم أمتدحه" أثني عليه "بمدحة" يلهمنيها, "يرضى بها عني" , ثم يؤذن لي بالكلام .... الحديث. "وفي حديث أبي بكر الصديق" عند أبي عوانة: فيأتي جبريل ربه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة, "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدًا" إذ رأى ربه كما في حديث أنس: "قدر جمعة" من جمع الدنيا, "فيقال: يا محمد, ارفع رأسك" , وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه: "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد، فقل له: ارفع رأسك" على هذا, فالمعنى: يقول على لسان جبريل، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده وبعده وفيه" أي: في سجوده, ويكون في كل مكان من الثلاثة ما يليق به، فإنه ورد في رواية" للشيخين عن أنس: "فأوتي فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي" , "فأقوم بين يديه" , أي: الله -سبحانه وتعالى, "فيلهمني بمحامد لا أقدر عليها" أي: الآن في الدنيا, لكن لفظ مسلم: "لا أقدر عليها إلّا أن يلهمنيها الله"، ولفظ البخاري: "فيلهمني الله محامد أحمده بها لا تحضرني الآن" , "ثم آخر ساجدًا" فصرَّح بأنه يحمده قبل سجوده. وفي رواية البخاري من حديث أنس أيضًا: "فأرفع رأسي فأحمد ربي" بتحميد يعلمني "وفي رواية: "يعلمنيه" ولأحمد بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي, ولا يحمده أحد بعدي، فصرَّح في هذه الرواية بأنه يحمد بعد الرفع من السجود. وفي رواية أبي هريرة عند الشيخين الماضية قريبًا: "فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك". الحديث. وفي رواية البخاري من حديث قتادة عن أنس: "ثم أشفع، فيحد لي حدًّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة". قال الطيبي: أي يبين لي كل طور من أطوار الشفاعة حدًّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفعتك فيمن أخلَّ بالجماعة، ثم فيمن أخلَّ بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وهكذا على هذا الأسلوب، والذي يدل عليه سياق الأخبار أنَّ المراد به تفصيل مراتب المخرَجَين في الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن يحيى القطَّان عن سعيد بن أبي عروبة.   لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي" ولا يحمده به أحد بعدي كما رأيت؛ لأنه لا يفتحه عليه فهو من خصائصه, "ثم يقال: يا محمد, إرفع رأسك .... " الحديث. فصرَّح بأنه يحمده في السجود، وطريق الجمع ما رأيت أنه يلهمه في المواضع الثلاث. "وفي رواية البخاري من حديث قتادة عن أنس عقب قوله: "فأحمد ربي بتحميد يعلمني, ثم أشفع فيحِدّ" بفتح التحتية وضم الحاء المهملة، أي: يبين "لي حدًّا, ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة" , "ثم أعود فأقع ساجدًا مثله في الثالثة أو الرابعة حتى أقول: يا رب ما بقي إلّا من حبسه القرآن"، هذا بقية الحديث في البخاري. وأخرجه مسلم أيضًا، وفي رواية لهما من وجه آخر عن أنس: بالجزم بتكرار الشفاعة أربع مرات. "قال الطيبي:" في معنى يحِدّ "أي: يبين لي كل طور" أي: في كل طور "من أطوار الشفاعة" الأربع, "حدًّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفَّعتك فيمن أخلّ بالجماعة" في الحد الأول, "ثم فيمن أخلَّ بالصلاة" في الثاني, "ثم فيمن شرب الخمر" في الثالث, "ثم فيمن زنى" في الرابع, "وهكذا على هذا الأسلوب" يعني: أربعة أنواع من المعاصي يعين له في كل طور واحد منها لا يتعدّاه إلى غيره، وهذا أيضًا لقوله: مثل أن يقول, وإشارةً إلى أنه لا يتعين, وإنما هو تقريب للفهم. ولكن تعقَّبه الحافظ، بأنَّ "الذين يدل عليه سياق الأخبار، أنَّ المراد به تفصيل" بصاد مهملة، أي: تبيين "مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة, كما وقع عند أحمد عن" شيخه "يحيى" بن سعيد "القطان، عن سعيد بن أبي عروبة" مهران، عن قتادة في هذا الحديث بعينه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 وفي رواية ثابت عند أحمد فأقول: "أي رب، أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة"، وفي حديث سلمان: "فيشفع في كل مَنْ كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبه خردل، فذلك المقام المحمود". وفي رواية أبي سعيد عند مسلم: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير". قال القاضي عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان، وأمَّا قوله في رواية أنس عند البخاري: "فأخرجهم من النار" فقال الداودي: كأنَّ راوي هذا الحديث ركب شيئًا على غير أصله, وذلك أنه في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار. ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي. وقد أجاب عنه النووي، ومن قبله القاضي عياض: بأنه قد وقع في حديث   "وفي رواية ثابت" عن أنس "عند أحمد: "فأقول: أي رب, أمتي أمتي" مرتين, "فيقول: أخرج مَنْ كان في قلبه مثقال شعيرة" من عمل صالح. "وفي حديث سلمان" الفارسي: "فيشفع فيمَنْ كان في قلبه حبة" أي: مثال حبة "من حنطة, ثم شعيرة, ثم" حبة من "خردل, فذلك المقام المحمود". "وفي رواية أبي سعيد" الخدري "عند مسلم" في حديث طويل: "ارجعوا, فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير" فأدخلوه الجنة برحمتي, والأمر للمؤمنين الذين خلصوا من الصراط ناجين, وطلبوا الشفاعة في العصاة, كما في سياق الحديث في مسلم. "قال القاضي عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان, وأما قوله في رواية أنس عند البخاري" ومسلم: "فأخرجهم من النار" وأدخلهم الجنة. "فقال الداودي" أحمد بن نصر في شرح البخاري: "كأنَّ راوي هذا الحديث ركَّب شيئًا على غير أصله" أي: أدخل حديثًا في حديث, "وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط, وسقوط من يسقط في تلك الحالة" وهي المرور على الصراط في النار، ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج" كما ثبت ذلك كله في أحاديث أخر, "وهو إشكال قويّ، وقد أجاب عنه النووي ومن قبله القاضي عياض" كلاهما في شرح مسلم، "بأنه قد وقع في حديث حذيفة وأبي هريرة" معًا عند الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 حذيفة وأبي هريرة: "فيأتون محمدًا فيقوم, فيؤذن له في الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم, فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا"، أي: يقفان في ناحيتي الصراط. قال القاضي عياض: فبهذا ينفصل الكلام، لأنَّ الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي لإراحة الناس من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج. انتهى. والمعنى في قيام الأمانة والرحم أنها لعظم شأنهما، ومخافة ما يلزم العباد من رعاية حقها، يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فيحاجَّان عن المحق، ويشهدان على المبطل. وقد وقع في حديث أبي هريرة بعد ذكر الجمع في الموقف, الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأنَّ الأمر باتباع لكل أمة ما كانت تعبد هو أول   مسلم عقب ما قدمته، فيأتون موسى فيقول: "لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك" , "فيأتون محمدًا" الحبيب, صاحب القرب الأعظم, الخليل لا من وراء وراء, بل مع الكشف والعيان, "فيقوم فيؤذن له في الشفاعة, وترسل معه الأمانة والرحم" يصوَّران بصفة شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى, "فيقومان جنبتي الصراط" بفتح الجيم والنون والموحدة ويجوز سكون النون، وأنكر ابن جني فتحها, "يمينًا وشمالًا". "قال القاضي عياض: فبهذا ينفصل الكلام" قال الأبي: يعني أنَّ الراوي أسقط ذلك من هذا الطريق؛ "لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة للناس من كرب الموقف، ثم تجيء" بعدها الشفاعة في الإخراج" من النار "انتهى". قال الأبي: ويحتمل أن يكون شفع في الأمرين، واكتفى في حديث أنس بشفاعة الإخراج؛ لأنها تستلزم الأخرى؛ لأن الإخراج فرع وقوع الحساب فيه. انتهى. ويؤيده رواية البزار، فأقول: "يا رب عجّل على الخلق الحساب" , "والمعنى في قيام الأمانة والرحم أنهما لعظم شأنهما ومخافة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان للأمين والخائن, وللواصل والقاطع, فيحاجان عن المحقِّ, ويشهدان على المبطل". وفي شرح مسلم للمصنف: ليطالبا من يريد الجواز على الصراط، فمن وفَّى بحقهما عاوناه على الجواز وإلّا تركاه، ثم عاد المصنف لذكر بقية كلام عياض، وهو "وقد وقع في حديث أبي هريرة", وفي الصحيحين مطولًا بعد ذكر الجمع في الموقف الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتَّب معانيها. انتهى. فظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- أوَّل من يشفع ليُقْضَى بين الخلق، وأنَّ الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك, وأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن, ثم ينادى لتتبع كل أمة ما كان تعبد، فيسقط الكفار في النار, ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة   والمرور عليه، فكأنَّ" بالتشديد اختصار لقول عياض، فيحتمل أنَّ "الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء, والإراحة من كرب الموقف", والشفاعة الأخرى: هي الشفاعة في المؤمنين على الصراط، وهي له -صلى الله عليه وسلم- لا لغيره، ثم بعدها شفاعة الإخراج, هذا حذفه من كلام عياض, ويتلوه: وبهذا تجتمع متون الأحاديث, وتترتَّب معانيها. انتهى" كلام عياض. قال الحافظ: فكأنَّ بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأمَّا قول الطيبي جوابًا عن ذلك: لعلَّ المؤمنين صاروا فرقتين، فرقة سيق بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به -صلى الله عليه وسلم، فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زمرًا بعد زمر, كما دلَّ عليه قوله: "فيُحِدّ لي حدًّا .... " إلخ. فاختصر الكلام، أو يراد بالنار لحبس والكربة, وما كانوا فيه من الشدة ودنوّ الشمس إلى رءوسهم, وحرها وسفعها, حتى ألجمهم العرق, وبالخروج الخلاص منها, فهو احتمال بعيد إلّا أن يقال: إنه يقع إخراجان، وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه, والمراد به: الخلاص من كرب الموقف, والثاني: بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور, فيتجه, "فظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- أول من يشفع ليُقْضَى بين الخلق، وأنَّ الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك" أي: بعد الشفاعة في فصل القضاء, "وأنَّ العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادَى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد, فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود" فلا يستطيعه المنافقون, "عند كشف الساق", هو عبارة عن شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، يقال: كشفت الحرب عن ساق إذا اشتدَّ الأمر فيها، وقيل: غير ذلك, "ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليها, فيطفأ نور المنافقين فيسقطون:" يقعون "في النار أيضًا، ويمرّ المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 للمقاصصة بينهم, ثم يدخلون الجنة. وقد قال النووي ومن قبله القاضي عياض: الشفاعات خمس: الأولى: في الإراحة من هَوْل الموقف. الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب. الثالثة في إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذَّبوا. الرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة. الخامسة: في رفع الدرجات. انتهى. فأما الأولى: وهي التي لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حديث أبي هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخاري، ولفظه: قال صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم   الأمر فيها، وقيل غير ذلك, "ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه, فيطفأ نور المنافقين فيسقطون" يقعون "في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط, ويوقف بعض من نجا عند القنطرة" التي بعد الجواز على الصراط بين الجنة والنار "للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة" برحمة الله. "وقد قال النووي ومن قلبه القاضي عياض: الشفاعات خمس: الأولى: في الإراحة من هول الموقف" كربه وشدته, "الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب, الثالثة: في" منع "إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا" أي: أن لا يدخلوا النار كما عبَّر به عياض والنووي وتبعهما في الأنموذج, "الرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة" قبل استيفاء ما يستحقه من المكث فيها, "الخامسة: في رفع الدرجات" في الجنة. "انتهى". قال النووي: والختص به -صلى الله عليه وسلم- الأولى والثانية, وتجوز الثالثة والخامسة، وردَّه بعضهم بما صرَّحوا به أنَّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال, "فأمَّا الأولى وهي التي لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حيث أبي هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخاري" ومسلم, "ولفظه: قال -صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون" من الضجر والجزع مما هم فيه, "لو استشفعنا إلى ربنا". وفي رواية للشيخين: "على ربنا" بعلى بدل إلى، ووجهت بأنه ضمّن على معنى الاستعانة؛ لأن الاستشفاع طلب الشفاعة, وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى؛ ليستعين به على ما يرومه, "حتى يريحنا" بحاء مهملة من الإراحة، أي: يخلصنا من مكاننا هذا وأهواله، ولو هي المتضمنة للتمني والطلب, فلا تحتاج إلى جواب, أو جوابها محذوف, نحو: لكان خيرًا مما نحن فيه, "فيأتون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ, وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ, وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فسجدوا لك, فاشفع لنا عند ربك, فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا نوحًا"، وذكر إتيانهم الأنبياء واحدًا واحدًا، إلى أن قال: "فيأتوني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجدًا, فيدعني في السجود ما شاء الله, ثم يقال لي: ارفع رأسك، سل تعطه, وقل يسمع, واشفع تشفَّع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" الحديث. وأما الثانية: وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليهما ما في آخر حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم الذي قدَّمته, "فأرفع رأسي فأقول: يا رب   آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ" بقدرته, وهو تنبيه على أنَّ خلقه ليس كخلق بنيه من تقلبهم في الأرحام وغير ذلك من الوسائط، وإلّا فكل شيء بقدرته تعالى, "ونفخ فيك من روحه" إضافة خلق وتشريف، زاد في رواية: "وأسكنك جنته, وعلمك أسماء كل شيء" ووضع شيء موضع أشياء، أي: المسميات؛ كقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أي: أسماء المسميات, "وأمر الملائكة فسجدوا لك" سجود خضوع لا سجود عبادة, "فاشفع لنا عند ربنا" حتى يريحنا من مكاننا هذا "فيقول: "لست هناكم" بضم الهاء وخفة النون، أي: لست في المكانة والمنزلة التي تحسبونني, يريد به مقام الشفاعة, قاله تواضعًا وإكبارًا لما سألوه, أو إشارة إلى أنَّ هذا المقام ليس لي بل لغيري، ويؤيده قوله في حديث حذيفة: "لست بصاحب ذاك, ويذكر خطيئته" التي أصابها اعتذارًا عن التقاعد عن الشفاعة, "ائتوا نوحًا". "وذكر إتيانهم الأنبياء" الأربعة "واحدًا واحدًا" بنحو ما سبق في حديث أبي هريرة, "إلى أن قال: "فيأتوني" بإشارة عيسى. زاد في رواية الشيخين: "فأقول: أنا لها أنا لها, فأستأذن على ربي" , زاد في رواية للبخاري وغيره: في داره, فيؤذن, أي: في دخولها, وهي الجنة, أضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف, "فإذا رأيته" تعالى "وقعت" حال كوني "ساجدًا, فيدعني في السجود ما شاء الله" زاد مسلم: أن يدعني، وللطبراني في حديث عبادة: "فإذا رأيته خررت له ساجدًا شكرًا له" , "ثم يقال لي: ارفع رأسك" على لسان جبريل كما مَرَّ, "سل تعطه" بهاء السكت، ويحتمل أنها ضمير، أي: سل ما شئت تعط سؤالك, "وقل يسمع" بتحتية, أي: قولك, "واشفع تشفع" تقبل شفاعتك, "فأرفع رأسي, فأحمد ربي بتحميد يعلمني". وفي رواية مسلم: يعلمنيه ..... "الحديث" ذكر في بقيته: "ثم أشفع, فيُحِدُّ لي" إلى آخر ما مَرَّ, "وأمَّا الثانية: وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليها ما في آخر حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم الذي قدمته" وهو قوله: "فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي, يا رب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 أمتي، يا رب أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة" قال أبو حامد: والسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا، وإنما هي براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان ابن فلان، قد غفر له وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، فما مَرَّ عليه شيء أسَرَّ من ذلك المقام. وأما الثالثة: وهي إدخال قوم حوسبوا أن لا يعذبوا، فيدل على ذلك قوله في حديث حذيفة عند مسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم". وأما الرابعة: وهي في إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعًا: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم, فيدخلون الجنة ويسمَّون الجهنميين".   أمتي، فيقال: يا محمد أدخِلْ" بكسر الخاء "من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة" وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. "قال أبو حامد" الغزالي: "والسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا" أي: أوراقًا مكتوبًا فيها أعمالهم, "وإنما هي" أي: صورة الصحف "براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان بن فلان, قد غفر له, وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، فما مَرَّ عليه شيء أسرَّ من ذلك المقام" ويحتاج إلى ثبوت ذلك, "وأما الثالثة: وهي إدخال قوم حوسبوا" واستحقوا العذاب "أن لا يعذبوا" تقدَّم أن لفظ عياض وتابعه: أن لا يدخلون النار, "فيدل على ذلك قوله" صلى الله عليه وسلم- في حديث حذيفة" وأبي هريرة، جميعًا "عند مسلم: "ونبيكم" قائم "على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم" مرتين كما في مسلم، كلفظ قائم، فإسقاطه, وذكر سلّم مرة واحدة مع العزو لمسلم لا يليق، ولعل وجه دلالته أنَّ قوله ذلك على الصراط يستدعي طلب منع تعذيبهم بعد استحقاقهم للعذاب، أي: رب سلمهم من الوقوع في النار. "وأمَّا الرابعة: وهي في إخراج من أدخل النار من العصاة, فدلائلها كثيرة، وقد روى البخاري" وأبو داود والترمذي وابن ماجه "عن عمران بن حصين مرفوعًا" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم, فيدخلون الجنة ويسمّون" بفتح الميم المشددة "الجهنميين" , وللبخاري عن أنس مرفوعًا: "يخرج من النار قوم بعدما احترقوا, فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين"، زاد في حديث أبي سعيد عند الطبراني: "من أجل سواد في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 وأمَّا الخامسة: وهي في رفع الدرجات، فقال النووي "في الروضة": إنها من خصائصه -صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر لذلك مستندًا, فالله أعلم. وقد ذكر القاضي عياض شفاعة سادسة، وهي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب, لما ثبت في الصحيح أنَّ العباس قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار, فأخرجته إلى ضحضاح" , وفي الصحيح أيضًا من طريق أبي سعيد, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة, فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".   وجوههم، فيقولون: يا ربنا أذهب عنَّا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون من نهر في الجنة، فيذهب ذلك الاسم عنهم. "وأمَّا الخامسة: وهي في رفع الدرجات، فقال النووي في الروضة: إنها من خصائصه -صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر لذلك مستندًا" أي: دليلًا, فالله أعلم" بذلك. "وقد ذكر القاضي عياض شفاعة سادسة, وهي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب" عنه؛ "لما ثبت في الصحيح" للبخاري ومسلم، "أنَّ العباس قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك -بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة- وفي رواية: يحفظك, "وينصرك" يعينك على ما تريد فعله, "ويغضب لك" أي: لأجلك, إشارةً إلى ما كان يرد به عنه من القول والفعل, "فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم, وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح" بضادين معجمتين مفتوحتين وحاءين مهملتين أولاهما ساكنة, وأصله الماء الذي يبلغ الكعب، ويقال أيضًا لما قرب من الماء وهو ضد الغمر، والمعنى: إنه خفف عنه العذاب كما في الفح وغيره، وصريح هذا الحديث: إنه خفف عنه عذاب القبر في الدنيا, ويوم القيامة يكون في ضحضاح أيضًا كما في الحديث الآخر، وهو "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم "أيضًا من طريق أبي سعيد" الخدري, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال" وذكر عنده عمه أبو طالب "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر اللام "منه دماغه". وفي رواية أم دماغه، أي: رأسه, من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاروه، وصرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه للوقوع، بل قال في النور عن بعض شيوخه، إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه معناها التحقيق، ولا يشكل هذا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ؛ لأنه خص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 وزاد بعضهم سابعة: وهي الشفاعة لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه: "لا يثبت أحد على لأوائها إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة". وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن متعلقها لا يخرج عن واحد من الخمس الأول، وبأنه لو عدَّ مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أول من أشفع له أهل المدينة, ثم أهل مكة, ثم أهل الطائف". رواه البزار، وأخرى: لمن زار قبره الشريف، وأخرى: لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه -صلى الله عليه وسلم،   من عموم الآية لصحة الحديث. قاله البيهقي: ولذا عدّ في الخصائص النبوية، أو لأنَّ المنفعة الإخراج من النار، وفي الحديث بالتخفيف قاله القرطبي، وقيل غير ذلك كما مَرَّ في وفاة أبي طالب مع شرح الحديثين مبسوطًا. "وزاد بعضهم سابعة: وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد" بسكون العين ابن أبي وقاص، وحديث أبي سعيد سعد بن مالك الخدري "رفعه: "لا يثبت" المتقدم- لا يصبر "أحد على لأوائها" شدتها وجوعها, "إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" تقدَّم مشروحًا في فضل المدينة. "وتعقَّبه الحافظ ابن حجر بأن متعلقها بفتح اللام المشددة، أي: الشفاعة "لا يخرج عن واحد من الخمس الأُوَل" فليست بزائدة, وبأنه لو عُدَّ مثل ذلك لعُدَّ حديث عبد الملك بن عباد" بن جعفر المخزومي. ذكره ابن شاهين وغيره في الصحابة، وقال في البخاري في تاريخه: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم, وذكره ابن حبان في التابعين، وقال: من زعم أن له صحبة فقد وهم، قال الحافظ: فماذا يصنع بقوله: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أول م أشفع له أهل المدينة, ثم أهل مكة, ثم أهل الطائف" رواه البزار" في مسنده, وابن شاهين, وأخرجه الزبير بن بكار من طريق أخرى عن محمد بن عباد بن جعفر, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، فإن كان عبد الملك أخا محمد حكمنا بأن قوله: سمعت وهم من بعض رواته؛ لأن والدهما عبادًا لا صحبة له. انتهى. وكان هذا من إرخاء العنان لابن حبان، وإلّا فمعلوم تقديم رواية الوصل على الإرسال, وتقديم من أثبت الصحبة، لا سيما البخاري على من نفاها بلا دليل؛ إذ المثبت تمسك بقوله: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم, وأخرى: لمن زار قبره الشريف" للحديث السابق: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" , "وأخرى: لمن أجاب المؤذّن ثم صلى عليه -صلى الله عليه وسلم, ثم سأل له الوسيلة، قال: "فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه الشفاعة" كما في مسلم وغيره، وتقدَّم في مقصد المحبة, وأخرى في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 وأخرى في التجاوز عن تقصير الصلحاء. لكن قال الحافظ ابن حجر: إنها مندرجة في الخامسة. وزاد القرطبي: إنه أوَّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، [ويدل له ما رواه ..... ] . وزاد في فتح الباري أخرى: فيمَنْ استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون بشفاعته -صلى الله عليه وسلم. وأرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنَّهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.   التجاوز عن تقصير الصلحاء، لكن قال الحافظ ابن حجر" العسقلاني: "إنها مندرجة" أي: داخلة "في الخامسة" التي هي رفع الدرجات, فليست بزائدة, "وزاد القرطبي: إنه أوَّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس, ويدل عليه ما رواه". وزاد في فتح الباري أخرى: فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة, لما رواه الطبراني عن ابن عباس" عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" "قال" ابن عباس عقبه، موقوفًا عليه، "السابق بالخيرات", وهو الذي يضمّ إلى العمل بالكتاب التعليم والإرشاد إلى العمل به "يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد" الذي يعمل بالكتاب في غالب الأوقات يرحمه الله, والظالم لنفسه" بالتقصير بالعمل به, "وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعته -صلى الله عليه وسلم, وأرجح الأقوال" الاثنى عشر "في أصحاب الأعراف" سور بين الجنة والنار، وقيل: جبل أحد يوضع هناك كما في التذكرة "أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم". وأخرج ابن مردويه وأبو الشيخ عن جابر: سئل -صلى الله عليه وسلم- عَمَّن استوت حسناته وسيئاته فقال: "أولئك أصحاب الأعراف, لم يدخلوها وهم يطمعون"، وأخرج البيهقي عن حذيفة رفعه: "يجمع الناس يوم القيامة، فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة, ويؤمر بأهل النار إلى النار، ثم يقال لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قاوا: ننتظر أمرك, فيقال لهم: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها, وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوا بمغفرتي ورحمتي"، فهذا نص المصطفى، ولذا رجَّحه القرطبي وقال: القول الثاني: قوم صالحون فقهاء علماء، والثالث: الشهداء, والرابع، فضلاء المؤمنين، والشهداء فرغوا من شغل أنفسهم وتفرَّغوا لمطالعة أحوال الناس، والخامس: قوم خرجوا للجهاد عصاة بغير إذن آبائهم، فتعادل عقوقهم واستشهادهم، وردَّ به حديث السادس: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 وشفاعة أخرى وهي شفاعته فيمن قال: "لا إله إلا الله" ولم يعمل خيرًا قط، لرواية الحسن عن أنس: "فأقول: يا رب, ائذن لي في الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ من النار من قال: لا إله   عدول يوم القيامة الذين يشهدون على الناس وهم من كل أمة، السابع: فئة من الأنبياء، الثامن: قوم لهم صغائر لهم تكفَّر عنهم بالآلام, والمصائب في الدنيا, ولا كبائر لهم، فوقفوا لينالهم بالحبس غم يقابل صغائرهم، التاسع: أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة، العاشر: أولاد الزنا, الحادي عشر: ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، الثاني عشر: هم العباس وحمزة وعلي وجعفر. انتهى كلام القرطبي. قال السيوطي: القول الخامس والثامن يمكن اجتماعهما مع الأوّل، لأنَّ المدار في كل على تساوي الحسنات والسيئات، فتجتمع الأحاديث كلها ويقطع بترجيحه, "وشفاعة أخرى: وهي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- فيمن قال: لا إله إلا الله" محمد رسول الله؛ لأنها علم عليهما شرعًا, "ولم يعمل خير قط لحديث الحسن" البصري "عن أنس" بن مالك في الصحيحين: "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر ساجدًا، فيقال: ارفع رأسك, وقل يسمع لك، وسل تعطه, واشفع تشفع, فأقول: يا رب ائذن لي في الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله". قال الحميدي: يعني: من قالها من أمته، وقال أبو طالب عقيل بن أبي طالب: يحتمل ذلك, ويحتمل من قالها من كل أمة، ويؤيده طلبه الإذن في الشفاعة؛ لأنه أذن له في الشفاعة في أمته؛ لأنه إنما يقدم عليها بإذنه, قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 55] ، وحالات المشفوع فيه أربع: من عنده مثقال برة، ومن عنده مثقال ذرة، ومن عنده أدنى ذرة، والرابعة: من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله مرة واحدة صدقًا من قلبه، ثم غفل عن استصحابها. قال الحميدي: لأنه إن قالها مرتين، فالثانية خير زائد على الإيمان يرجع إلى أحد المقادير الأول, "قال: ليس ذلك لك" وإنما أفعله تعظيمًا لاسمي, وإجلالًا لتوحيدي، ولا يقال: أطلق تعالى في السؤال ووعده الإعطاء, ووعده تعالى صدق؛ لأنه إنما وعد ما يمكن إعطاؤه, وهذا غير ممكن؛ لأنه مما استأثر الله به، وإنما سأله المصطفى ظنًّا أن إعطاءه ممكن؛ لأنه وإن علمه في الدنيا فيجوز أن ينساه في الآخرة لجواز النسيان عليه، ولا سيما ذلك اليوم، وقد يتعيِّن هذا؛ لأنه لا يجوز أن نبيًّا يسأل ما يعلم أنه لا يمكن، قاله أبو عبد الله الأبي, "ولكن وعزَّتي" غلبتي على الجبارين وقهري لهم, "وكبريائي" عبارة عن كمال يقتضي ترفعًا على الغير، ولذا حرَّم في حق المخلوق ووجب لله؛ لأن له الكمال المطلق, وأصله من كِبَر السن أو كبر الجرم, "وعظمتي" بمعنى الكبرياء، لكنها لا تقضي تعظمًا على الغير كما يقتضيه الكبرياء؛ ولأنها تستعمل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 إلا الله". فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يرد، كما لا ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك؛ لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى. فإن قلت: فأي شفاعة ادَّخرها -صلى الله عليه وسلم- لأمته؟ أمَّا الأولى: فلا تختص بهم, بل هي لإراحة الجمع كلهم، وهي المقام المحمود كما تقدَّم، وكذلك باقي الشفاعات, الظاهر أنه يشاركهم فيها بقية الأمم. فالجواب: إنه يحتمل أنَّ المراد الشفاعة العظمي التي للإراحة من هول الموقف, وهي وإن كانت غير مختصة بهذه الأمَّة, لكن هم الأصل فيها، وغيرهم تبع لهم، ولهذا كان اللفظ المنقول عنه -صلى الله عليه وسلم- فيها أنه قال: "يا رب أمتي أمتي"   فيما لا يستعمل فيه التعاظم، فيقال: كبير السن ولا يقال عظيمه. زاد في رواية مسلم: "وجبريائي" بكسر الجيم لموازاة كبريائي, كما قالوا: الغدايا والعشايا, والأصل: وجبروتي, وهو العظمة والسلطان والقهر, "لأخرجنَّ" بفضلي بغير شفاعة "من النار من قال: لا إله إلا الله" من كل أمة، والظاهر أنَّه لا يأتي هنا احتمال التخصيص بالمحمدية, "فالوارد" أي: الزائد لا أنه يعترض بها "على الخمسة أربعة" هي الشفاعة في أبي طالب, وزائر القبر الشريف, ومجيب المؤذن, ومن استوت حسناته وسيئاته, ولم يعد زيادة القرطبي أنه أوّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، كأنه لأنها ليست بذاتها شفاعة, وإنما خص بأوليتها, "وما عداها لا يرد كما لا ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين" اللذين مَرَّ عليهما النبي -صلى الله عليه وسلم, فسمع صوتهما، فقال: "يعذبان وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى, كان أحدهما لا يستبرئ من بوله, وكان الآخر يمشي بالنميمة"، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا" كما في الصحيحين, "وغير ذلك, لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى" كلام الحافظ. "فإن قلت: فأي شفاعة ادَّخرها -صلى الله عليه وسلم- لأمته، أمَّا الأولى: فلا تختص بهم، بل هي لإراحة الجمع" أي: جمع الخلق كلهم من هول الموقف, وهي المقام المحمود كما تقدَّم، وكذلك باقي الشفاعات, الظاهر أنه يشاركهم" أي: أمته, "فيها بقية الأمم, فالجواب أنه يحتمل أنَّ المراد الشفاعة العظمى التي للإراحة من هول الموقف، وهي وإن كانت غير مختصَّة بهذه الأمة، لكن هم الأصل فيها وغيرهم تبع لهم" فيها, "ولهذا كان اللفظ المنقول عنه -صلى الله عليه وسلم- فيها" في الشفاعة العامة "أنه قال: "يا رب أمتي أمتي" بناءً على إبقائه على ظاهره، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 فدعا لهم, فأجيب، وكان غيرهم تبعًا لهم في ذلك، ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب, هي المختصة بهذه الأمة، فإنَّ الحديث الوارد فيها: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب" الحديث. ولم ينقل ذلك في بقية الأمم، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس. وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو في بعضها, لا ينافي أن يكون -صلى الله عليه وسلم- أخَّرَ دعوته شفاعة لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم, بل يشفع لهم أنبياؤهم, ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعًا كما تقدَّم مثله في الشفاعة العظمى، والله أعلم بالشفاعة التي ادَّخرها لأمته.   وأنه لا تقصير فيه من الراوي ولا وهم, "فدعا لهم فأجيب, وكان غيرهم تبعًا لهم في ذلك, وهذا يصلح جوابًا عن إشكال الداودي السابق. ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية, وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب هي المختصة بهذه الأمة, فإن الحديث الصحيح الوارد فيها: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب .... " الحديث في الصحيحين عن ابن عباس مطولًا، وللترمذي وحسَّنه عن أبي أمامة رفعه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم وا عذاب, مع كل ألف سبعون ألفًا, وثلاث حثيات من حثيات ربي" , ولأحمد وأبي يعلى عن الصديق رفعه: "فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا" , وللطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رفعه: "فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا، قلت: رب وتبلغ أمتي هذا؟ قال: أكمل لك العدد من الأعراب"، ولأحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر رفعه: "إن ربي أعطاني سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته, فأعطاني ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته، فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفًا"، قال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته, فأعطاني، هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وحثا"، وللطبراني بسند جيد رفعه: "إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالًا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب"، وظاهر أن لا تعارض؛ لأنه أخبر سبعين ألفًا قبل الاستزادة, فلمَّا حصلت أخبر بها, ولم ينقل ذلك" أي: مثله "في بقية الأمم" فيقوى احتمال أنها الشفاعة التي ادَّخرها لأمته. ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس, وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها" كلها, "أو في بعضها لا ينافي أن يكون -عليه السلام- أخَّر دعوته شفاعةً لأمته, فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم, بل يشفع لهم أنبياؤهم. ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعًا كما تقدَّم مثله في الشفاعة العظمى والله أعلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 وعن بريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما في الأرض من شجرة ومدرة" رواه أحمد. وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن آخر الأمم وأوّل من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأوّلون" رواه ابن ماجه. وفي حديث ابن عباس عند أبي داود الطيالسي مرفوعًا: "فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ: أين محمد وأمته, فأقوم وتتبعني أمتي غرًّا محجَّلين من أثر الطهور" , قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن الآخرون الأوّلون, وأول من يحاسب، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها" , وقد صحَّ أن أوَّل ما يقضى بين الناس في الدماء. رواه البخاري.   بالشفاعة التي ادَّخرها لأمته. وعن بريدة -بضم الموحدة مصغر, "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأرجو" ورجاؤه محقق الوقوع, "أن أشفع يوم القيامة" شفاعات كثيرة "عدد ما على الأرض" أو التقدير: في جمع عددهم كعدد ما على الأرض, والأول أولى لاقتضائه كثرة الشفاعات. وفي رواية الطبراني والبيهقي: لأكثر مما على وجه الأرض "من شجرة ومدرة" بفتحتين- التراب المتلبد واحده مدر -بزنة قصب وقصبة, وقد جاء أيضًا بالجمع من شجر ومدر. "رواه أحمد" والطبراني في الأوسط, والبيهقي, "وعن ابن عباس، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن آخر الأمم" في الوجود في الدنيا, "وأول من يحاسب" يوم القيامة, "يقال: أين الأمة الأمية" نسبة إلى نبيها, فلا ينافي أن كثيرًا من الأمَّة يكتب, "ونبيها، فنحن الآخرون" في الوجود, الأولون في الحساب وغيره. "رواه ابن ماجه، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي مرفوعًا: "فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ" للتشريف: "أين محمد وأمته، فأقوم وتتبعني أمتي غرًّا محجَّلين من أثر الطهور" بضم الطاء وفتحها. "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن الآخرون الأولون, وأول من يحاسب وتفرج" بفتح التاء وكسر الراء توسع "لنا الأمم عن طريقنا، وتقول الأمم: كادت" قاربت, "هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها" لما لهم من الشمائل الحسنة والنور الظاهر. "وقد صحَّ أن أول ما يقضى" بضم أوله "بين الناس" يوم القيامة في الدماء التي جرت بينهم في الدنيا تعظيمًا لأمرها، فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم, وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 وللنسائي مرفوعًا: "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء". وفي البخاري عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة"، يريد قصته في مبارته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش, قال أبو ذر: وفيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله   تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المعصية المتعلقة بعدمها, وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد. قال بعض المحققين: ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر أعظم منه "رواه البخاري" في الرقاق والديات, ومسلم في الحدود عن ابن مسعود، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" , ولبعض رواة البخاري: بالدماء -بموحدة بدل في- ولما احتمل اللفظ من حيث هو أنَّ الأولية خاصَّة بما يقع الحكم فيه بين الناس, وأنها أولية مطلقًا، وجاء ما يؤيد الأول، أتبعه به فقال: "وللنسائي" عن ابن مسعود مرفوعًا: "أول ما يحاسب عليه العبد" الإنسان حرًّا أو عبدًا, ذكرًا أو أنثى "الصلاة"؛ لأنها أمَّ العبادات وأول الواجبات بعد الإيمان, "وأول ما يقضى بين الناس في الدماء"؛ لأنها أكبر الكبائر بعد الكفر ولا تناقض؛ لأن هذا في حق الخلق، والصلاة في حق الحق. قال الحافظ العراقي: وظاهر الأخبار أنَّ لذي يقع أولًا المحاسبة على حق الله, "وفي البخاري عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: أنا أوّل من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة, يريد" على "قصته في مبارزته" بإضافة المصدر للفاعل, "هو وصاحباه حمزة وعبيدة بن الحارث المطلبي, الثلاثة بالنصب مفعول مبارزة من كفار قريش, وهم شيبة بن ربيعة, وأخوه عتبة -بضم المهملة وإسكان الفوقية- وابنه الوليد بن عتبة، ومرت قصتهم في بدر, وتصحف اسم عتبة في عبارة بعتيبة، فحيرت من رآها. "قال أبو ذر: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ومَرَّ أن الثلاثة الكفار قتلوا, وأن عبيدة الصحابي استشهد. وعن أبي هريرة" الذي في الترمذي, عن أبي برزة الأسلمي "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد" عن الموضع الذي هو واقف فيه, "يوم القيامة, حتى يسأل عن أربع: عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وفي البخاري من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نوقش الحساب عذّب". وروى البزار عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم   عمره فيما أفناه" طاعة أم عصيان, "وعن علمه فيما عمل به" هل أخلص فيه لله تعالى أم لا، كذا في النسخ, والذي في الترمذي: "علمه ما عمل فيه" , وله من رواية ابن مسعود: "وماذا عمل فيما علم" , "وعن ماله من أين اكتسبه" من حلال أو حرام أو شبهة, "وفيما أنفقه" أفي وجوه الطاعات أو ضدها, "وعن جسمه فيما أبلاه" أي: أفناه. وفي رواية ابن مسعود: "وعن شبابة فيما أبلاه" , "رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح" لكن عن أبي برزة الأسلمي لا عن أبي هريرة. ورواه أيضًا عن ابن مسعود مرفوعًا بلفظ: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه, وماذا عمل فيما علم"، وعدها تارة أربعًا وأخرى خمسًا بالاعتبار؛ لأن السؤال عن المال كسبًا وإنفاقًا يعد مرة أو مرتين. وفي البخاري في العلم والرقاق ومسل "من حديث عائشة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من مبتدأ موصول "نوقش" بضم أوله وكسر القاف صلة الموصول "الحساب" نصب على المفعولية, أي: من ناقشه الله، أي: استقصى حسابه, "عُذِّب" بضم أوله مبني للمفعول خبر المبتدأ, قال عياض: له معنيان، أحدهما: إن نفس مناقشة الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني: إنه يفضي إلى استحقاق العذاب؛ إذ لا حسنة للعبد إلّا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها؛ ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى: هلك. وقال النووي: التأويل الثاني هوالصحيح؛ لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك,. وبقية الحديث، قالت: أي عائشة، قلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، قال: "ذلك العرض". "وروى البزار عن أنس بن مالك, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج" أي: يؤتى "لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين, ديوان فيه العمل الصالح" الذي عمله في الدنيا, "وديوان فيه ذنوبه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 من الله تعالى عليه، فيقول الله تعالى لأصغر نعمة -أحسبه قال: من ديوان النعم: خذي بثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح, وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح, فإذا أراد الله أن يرحم عبدًا، قال: يا عبدي، قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك -أحسبه قال: ووهبت لك نعمي". وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليختصمنَّ كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا". وعن أنس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه،   وديوان فيه النعم من الله عليه، فيقول الله لأصغر نعمه -أحسبه" أي: أظنه "قال: من ديوان النعم" يعني أنه تحقق أنه قال لأصغر نعمه دون قوله من ديوان النعم, فلم يتحققه، وإنما ظنّه "خذي بثمنك من عمله الصالح, فتستوعب" تلك النعمة "عمله الصالح" كله, "وتقول: وعزتك ما استوفيت" ثمني, "وتبقى الذنوب والنعم". "وقد ذهب العمل الصالح" جملة حالية, "فإذا أراد الله أن يرحم عبدًا قال: يا عبدي, قد ضاعفت لك حسناتك" الحسنة بعشرة, إلى أكثر مما شاء الله, "وتجاوزت عن سيئاتك، أحسبه" أظنه "قال: ووهبت لك نعمي" وللطبراني عن واثلة رفعه: "يبعث الله يوم القيامة عبدًا لا ذنب ل، فيقول الله، بأي الأمرين أحبّ إليك, أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عليك، قال: رب أنت تعلم أنِّي لم أعصك، قال: خذوا عبدي بنعمة من نعمي، فما تبقى له حسنة إلّا استغرقتها تلك النعمة, فيقول: رب بنعمتك ورحمتك". "وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليختصمنَّ كل شيء" من الأشياء التي وقع فيها ما يوجب الخصومة "يوم القيامة, حتى الشاتان فيما" أي: في أي شيء "انتطحتا" عدلًا من الحكم العدل, ثم تكون البهائم كلها ترابًا، ولأحمد عن أبي هريرة قال: "يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير, فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كونا ترابًا، فذلك حين يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا" ولأحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني، قال: حدِّثت أنَّ البهائم إذا رأت بني آدم قد تصدعوا من بين يدي الله صنفين, صنفًا إلى الجنة وصنفًا إلى النار, تناديهم البهائم: يا بني آدم، الحمد لله الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم, لا جنة نرجوا ولا عقابًا نخاف". وعن أنس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت" ظهرت "ثناياه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 فقال له عمر: ما أضحك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب, خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: ما تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء, قال: يا رب, فليتحمل من أوزاري" وفاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء, ثم قال: "إن ذلك ليوم عظيم, يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فقال: يا رب, أرى مدائن من ذهب وفضة مكلَّلة باللؤلؤ, لأي نبي هذا، أو لأي صديق هذا، أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن يعطي الثمن، فقال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى، فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله يصلح بين المسلمين يوم القيامة " رواه   فقال له عمر" بن الخطاب: "ما أضحكك يا رسول الله" أفديك "بأبي أنت وأمي، قال: "أضحكني رجلان" أي: خبر رجلين "من أمتي, جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب, خذ لي مظلمتي" بفتح الميم وكسر اللام "من أخي" في الدين, "فقال الله" للطالب "ما تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء، قال: يا رب, فليحمل من أوزاري" وفاضت" سالت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء" شفقة ورأفة ورحمة على المؤمنين, ثم قال: "إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس" إلى "أن يحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله" للطالب "ارفع بصرك" إلى جهة العلوّ, فنظر "فقال: يا رب, أرى" أبصر "مدائن من ذهب وفضة مكلَّلة باللؤلؤ" وفي نسخة: باللآليء -بالجمع, "لأيّ نبي هذا، أو لأيّ صديق هذا، أو لأيّ شهيد هذا، قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب, ومن يملك ذلك؟ الثمن قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ " أي بأي شيء أملكه يا رب, "قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة" معك، فعفا بفضله عنهما جميعًا وأرضى الخصم عن مظلمته, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" أي: الحال الذي يقع به الاجتماع, يتلاقى خل الشيء, "فإن الله يصلح بين المسلمين" , وفي لفظ: المؤمنين "يوم القيامة" أي: يوفِّق بينهم بإلهام المظلوم العفو عن ظالمه, وتعويضه عن ذلك بأحسن الجزاء. وللطبراني بسند حسن عن أنس رفعه: "إذا التقى الخلائق يوم القيامة نادى منادٍِ: يا أهل الجمع, تداركوا المظالم بينكم, وثوابكم عليَّ" وله أيضًا عن أم هانيء رفعته: "إن الله يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، ثم ينادي منادٍ من تحت العرش: يا أهل التوحيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 الحاكم والبيهقي في البعث, كلاهما عن عبَّاد بن أبي شيبة الحبطي، عن سعيد بن أنس عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. كذا قال. وقد نقل: لو أنَّ رجلًا له ثواب سبعين نبيًّا، وله خصم بنصف دانق, لم يدخل الجنَّة حتى يرْضى خصمه. وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيري في التحبير. ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال؛ لأنَّ الوزن للجزاء, فينبغي أن يكون بعد المحاسبة, فإن المحاسبة لتقدير الأعمال, والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها.   إن الله -عز وجل- قد عفا عنكم، فيقوم الناس, فيتعلّق بعضهم ببعض في ظلامات، فينادي منادٍ: يا أهل التوحيد, ليعفو بعضكم عن بعض وعليَّ الثواب". قال الغزالي: هذا محمول على من تاب من الظلم ولم يعد إليه, وهم الأوَّابون في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 35] . قال القرطبي: وهذا تأويل حسن، قال: أو يكون فيمن له خبيئة, من عمل صالحًا يغفر الله له به, ويرضي خصماءه, ولو كان عامًّا في جميع الناس ما دخل أحد النار. "رواه الحاكم والبيهقي في البعث, كلاهما" وكذا رواه أبو يعلى وسعيد بن منصور, كلهم "عن عبَّاد بن أبي شيبة الحبطي" بفتح المهملة والموحَّدة, نسبة إلى الحبطات, بطن من تميم "عن سعيد بن أنس، عنه" أي: عن أبيه أنس بن مالك, "وقال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال: "تبرأ منه لقول الذهبي: عباد ضعفوه, وشيخه سعيد لا يعرف, فأنى له الصحة. انتهى. ونزاعه إنما هو في الصحة, وإلّا فله شواهد ترفعه إلى درجة الحسن، منها حديث أنس, وإسناده حسن, وحديث أم هانيء السابقان. "وقد نقل: لو أنَّ رجلًا له ثواب سبعين نبيًّا, وله خصم بنصف دانق, لم يدخل الجنة حتى يرضى خصمه" هذا إن صحَّ لا يعارض ذلك؛ لأنَّ الله إذا أراد أرضى خصمه عنه وجازاه، فصدق أنه أرضى خصمه, فليس فيه تقوية لتضعيف الحديث، كما أومأ له المصنف, "وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم، ذكره القشيري" أبو القاسم "في التحبير". وهذا أيضًا لا يعارض؛ لأنها إذا أخذت وقد عفا الله أدخله الجنة برحمته، وقوله: "ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال, والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها" نقله في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 وقد ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفظ الجمع، وجاءت السنة بلفظ الإفراد والجمع، فقيل: إن صورة الإفراد محمولة على أنَّ المراد الجنس، جمعًا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، ذهبت طائفة إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد في الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد، وهو نظير قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}   التذكرة عن العلماء، وقال: أفاد بهذا تقديم الحساب على الميزان، وأن المراد بالحساب السؤال، ولهذا لا ميزان لمن يدخل الجنة بغير حساب ولا للكفار، وإنما للميزان للمخلصين من المؤمنين. قال السيوطي: ومن ثَمَّ بُدِئَ بإلقاء الكفار في النار، قال: ولم يتعرَّض القرطبي للميزان والصراط أيهما قبل، لكن صنيعه وصنيع البيهقي يدلان على أن الميزان قبل؛ لأنهما ذكرا أبواب الميزان قبل الصراط، ووقع في كلام القرطبي نقلًا عن بعضهم استطرادًا ما يقتضي أنَّ الحساب قبل الصراط، وفي أثر أيفع الكلاعي ما يقتضي أنَّ الحساب على قناطر الصراط. انتهى. "وقد ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفظ الجمع": {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُه} [المؤمنون: 102] وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان} ، فالمراد: النهي عن عدم تحرير الوزن في معاملات الدنيا, والأمر بإقامة العدل فيما بينهم, "وجاءت السنة بلفظ الإفراد"؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الله كفتي الميزان مثل السماء والأرض". رواه ابن مردويه, وقوله -صلى الله عليه وسلم: "يوضع الميزان يوم القيامة, فلو وضعت فيه السماوات والأرض لوسعت" ....... الحديث. رواه الحاكم "والجمع" كقوله -صلى الله عليه وسلم: "توضع الموازين"، وكحديث حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل، رواه ابن جرير, "فقيل" في وجه الجمع بينهما: "إن صورة الإفراد محمولة على أنَّ المراد الجنس" الصادق بالمتعدد "جمعًا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال, فيكون هناك موازين للعامل الواحد, يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله, كما قال الشاعر: ملك تقوم الحادثات لأجله ... فلكل حادثة لها ميزان "وذهبت طائفة" وهم الأكثرون "إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد في الآية بصيغة الجمع للتفخيم, وليس المراد حقيقة العدد" أي: الجمع الذي أقلّه ثلاثة, "وهو نظير قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] والمراد رسول واحد،" وهو نوح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 [الشعراء: 105] والمراد رسول واحد، وهذا هو المعتمد، وعليه الأكثرون. واختلف في كيفية وضع الميزان، والذي جاء في أكثر الأخبار، أنَّ الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتى بالميزان، فينصب بين يدي الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار. ذكره الحكيم الترمذي في "نواد الأصول". واختلف أيضًا في الموزون نفسه, فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها, وهي وإن كانت أعراضًا إلّا أنها تجسَّم يوم القيامة فتوزن، وقال بعضهم: الموزون صحائف الأعمال، ويدل له حديث البطاقة المشهرة، وقد رواه الترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: "إن الله يستخلص رجلًا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟   عليه السلام, "وهذا هو المعتمد وعليه الأكثرون" وقيل: الجمع باعتبار العباد وأنواع الموزونات. "واختلف في كيفية وضع الميزان: والذي جاء في أكثر الأخبار أن الجنة توضع عن يمين العرش, والنار عن يسار العرش، ثم يؤتَى بالميزان" مذكّر, وأصله الواو, لجمعه على موازين "فينصب بين يدي الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة, وكفة السيئات مقابل النار" بتثليث كاف كفة، كما ذكره صاحب القاموس في كتابه المثلثات. "ذكره الحكيم الترمذي" محمد بن علي "في نوادر الأصول" اسم كتاب له, "واختلف أيضًا في الموزون نفسه، فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها، وهي وإن كانت أعراضًا" والعرض لا يقوم بنفسه ولا يوصف بخفة ولا ثقل, "إلّا أنها تجسَّم يوم القيامة فتوزن" كما جاء عن ابن عباس, ولا يلزم من ذلك محال لذاته, وإن عجزت عقولنا عن إدراكه, فنكل علمه إلى الله ولا نشتغل بكيفيته, "وقيل: الموزون صحائف الأعمال" وصحَّحه ابن عبد البر والقرطبي, "ويدل له حديث البطاقة المشهور". "وقد رواه الترمذي" وقال: حسن غريب، وابن ماجه وابن حبان والحاكم. وصححه البيهقي "من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: "إن الله يستخلص رجلًا" وفي رواية ابن ماجه: "يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة, فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا" مائة إلًا واحدًا, "كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 فيقول: لا، يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء". فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، والذي يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتي عبد واحد بالكفر والإيمان معًا حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في أخرى. أجاب الترمذي الحكيم: بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد في كفة الميزان، وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر   عذر" في فعل ذلك؟ "فيقول: لا يارب" لفظ الحديث عند المذكورين، فيقول: "أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل, فيقول: لا يارب" , "فيقول: بلى. إن لك عندنا حسنة" فهذا جواب لقوله: أو حسنة، الساقط من قلم المصنف أو كتابه، "وأنه لا ظلم عليك اليوم, فيخرج بطاقة" رقعة صغيرة مكتوبًا "فيها: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك, فيقول: يا رب, ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم, قال: فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في كفة، فطاشت" خفت "السجلات, وثقلت البطاقة, فلا يثقل مع اسم الله شيء"؛ إذ لا شيء يعدله، وقيل: يوزن العبد مع عمله، ويؤيده حديث أحمد بسند حسن عن ابن عمرو بن العاص، مرفوعًا: "توضع الموزاين يوم القيامة، فيؤتى الرجل فيوضع في كفة, ويوضع ما أحصي عليه, فيتمايل به الميزان, فيبعث به إلى النار، فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله, فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان" "فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء, وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة, والسيئات في كفة، والذي يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتي عبد واحد بالكفر والإيمان معًا, حتى يوضع الإيمان في كفة، والكفر في كفة" إن الضدان لا يجتمعان, قلت: "أجاب الترمذي الحكيم بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد في كفة الميزان" حتى يجتمع الضدان "وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر الحسنات، ويدل لما قاله قوله: "بلى إن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 الحسنات، ويدل لما قاله قوله: "بلى إن لك عندنا حسنة" , ولم يقل لك عندنا إيمانًا. وقد سئل -صلى الله عليه وسلم- عن لا إله إلا الله، أمِنَ الحسنات هي؟ فقال: "من أعظم الحسنات" أخرجه البيهقي وغيره. ويجوز -كما قاله القرطبي في التذكرة: أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا، كما في حديث معاذ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي "التحبير" للقشيري: قيل لبعضهم في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة في كفة الحسنات فرجحت، فحلت الصرة فإذا فيها، كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم.   لك عندنا حسنة" ولم يقل: لك عندنا إيمانًا، وقد سئل -عليه السلام- عن لا إله إلّا الله, أَمِنَ الحسنات هي، فقال: "من أعظم الحسنات". "أخرجه البيهقي وغيره" قال القرطبي: وتوزن أعمال الجن كما توزن أعمال الإنس, "ويجوز كما قاله القرطبي في التذكرة: أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا كما في حديث معاذ" بن جبل عند أحمد وأبي داود والحاكم، وصحَّحه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه" في الدنيا، قال أبو البقاء: آخر بالرفع اسم كان, و "لا إله إلا الله" في موضع نصب خبر, ويجوز عكسه. انتهى. فإن قيل: أهل الكتاب ينطقون بكلمة التوحيد, فلم لم يذكر قرينتها، أجاب الطيبي بأن قرينتها صدورها عن صدر الرسالة، قال الكشاف في: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاشتمال كلمة الشهادة عليهما مزدوجين, كأنهما واحد غير منفك, أحدهما عن صاحبه, انطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان برسوله, "دخل الجنة" , وذهب حرصه ورغبته وسكنت أخلاقه السيئة وذلَّ وانقاد لربه، فاستوى ظاهره بباطنه، فغفر له بهذه الشهادة لصدقها، وقائلها في الصحة قلبه مشحون بالشهوات والمنى, ونفسه شرهة بطرة ميتة على الدنيا عشقًا وحرصًا، فلا يستوجب المغفرة بها إلّا بعد رياضة نفسه وموت شهواته, وصفاته عن التخليط. "وفي التحبير للقشيري، قيل لبعضهم في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتي" وسيئاتي, "فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة في كفة الحسنات, فرجحت" الحسنات, "فحلت الصرة، فإذا فيها كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم" بحسن نية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 وفي الخبر: إذا خفَّت حسنات المؤمن, أخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطاقة كالأنملة, فيلقيها في كفة الميزان التي فيها الحسنات, فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي -صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي, ما أحسن وجهك, وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علي, وقد وفَّيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيري في تفسيره. وذكر الغزالي أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسوية، فيقول الله له -رحمة منه: اذهب في الناس فالتمس من   وانكسار, وعلم بأني صائر إلى ذلك, وأن لذات الدنيا التي حصلت لي لا شيء. "وفي الخبر: إذا خفَّت حسنات المؤمن, أخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم" من حجزته "بطاقة" بيضاء "كالأنملة, فيليقها في كفة الميزان التي فيها حسناته، فترجح الحسنات, فيقول ذلك العبد" بعد أن يؤمر به إلى الجنة, "للنبي -صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي, ما أحسن وجهك, وما أحسن خلقك, فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد, وهذه صلاتك عليّ, وقد وفَّيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيري في تفسيره". وأخرجه ابن أبي الدنيا مطولًا عن عبد الله بن عمر، وقال: إن لآدم من الله -عز وجل- موقفًا في فسح من العرش, عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق, ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة والنار، فبينما آدم على ذلك؛ إذ نظر إلى رجل من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ينطلق به إلى النار، فينادي آدم: يا أحمد, يا أحمد، فيقول: لبيك يا أبا البشر، فيقول: هذا رجل من أمتك منطلق به إلى النار، فأشد لمئزر وأسرع في أثر الملائكة وأقول: "يا رسل ربي قفوا، فيقولون: نحن الغلاظ الشداد لا نعصي الله ما أمرنا, ونفعل ما نؤمر"، فإذا أيس -صلى الله عليه وسلم- قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه، فيقول: "رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي"، فيأتي النداء من عند العرش: أطيعوا محمدًا وردّوا هذا العبد إلى المقام، "فأخرج من حجزتي بطاقة بيضاء كالأنملة, فألقيها في كفة الميزان اليمنى, وأنا أقول: بسم الله، فترجح الحسنات على السيئات, فينادي: سعد وسعد جده, وثقلت موازينه، انطلقوا به إلى الجنة، فيقول: يا رسل ربي, قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه، فيقول: بأبي أنت وأمي, ما أحسن وجهك, وأحسن خلقك, من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي؟ فأقول: أنا نبيك محمد, وهذه صلاتك التي كنت تصلي عليّ وافتك أحوج ما تكون إليها". "وذكر الغزالي أنه يؤتى برجل يوم القيامة, فما يجد حسنة ترجح بها ميزانه وقد اعتدلت بالسوية" لتساوي حسناتهه وسيئاته, "فيقول الله تعالى له -رحمة منه: اذهب في الناس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة، فما يجد أحدًا يكلمه في ذلك الأمر إلّا قال له: أنا أحوج لذلك منك فييأس، فيقول له رجل: لقد لقيت الله, فما وجدت في صحيفتي إلّا حسنة واحدة، وما أظنّها تغني عني شيئًا، خذها هبة مني، فينطلق بها فرحًا مسرورًا، فيقول الله له: ما بالك؟ وهو أعلم, فيقول: يا رب, اتفق لي من أمري كيت وكيت، قال: فينادي الله تعالى بصاحبه الذي وهب له الحسنة فيقول له تعالى: كرمي أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة. وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل، فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان, فيها مكتوب "أفّ" فترجح على الحسنات؛ لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار، قال: فيطلب الرجل أن يُرَدَّ إلى الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها العبد العاق, لأي شيء تطلب الرد إليّ؟ فيقول: إلهي، إني سائر إلى النار وكنت عاقًّا لأبي, وهو سائر إلى النار مثلي، فضعّف عليَّ عذابه وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى, ويقول: عققته في الدنيا وبررته في الآخرة، خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة.   فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك -بضم اللام- صفة لحسنة "بها الجنة، فما يجد أحدًا يكلمه في ذلك الأمر إلّا قال له: أنا أحوج لذلك منك، فييأس فيقول له رجل: لقد لقيت الله, فما وجدت في صحيفتي إلّا حسنة واحدة, وما أظنها تغني عني شيئًا، خذها هبة مني، فينطلق بها فرحًا مسرورًا, فيقول الله: ما بالك؟ " شأنك وحالك, "وهو أعلم, فيقول: يا رب, اتفق لي من أمري كيت وكيت" أي: كذا وكذا -بفتح التاء الفوقية فيهما وقد تكسر- وهي هاء في الأصل, فصارت تاء في الوصل, "قال: فينادي الله تعالى بصاحبه الذي وهبه الحسنة، فيقول له تعالى: كرمي أوسع من كرمك, خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة، وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل, فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان, فيها مكتوب أف, فترجح على الحسنات؛ لأنها كلمة عقوق, فيؤمر به إلى النار". "قال: فيطلب الرجل أن يردَّ إلى الله تعالى, فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها العبد العاق, لأي شيء تطلب الرد إليّ؟ فيقول: إلهي, إني سائر إلى النار، وكنت عاقًّا لأبي, وهو سائر إلى النار مثلي, فضعِّف عليَّ عذابه" أي: أبيه. وفي نسخة: عذابي, "وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى" يرضى عنهما جميعًا, "ويقول: عققته في الدنيا وبررته" بكسر الراء الأولى وإسكان الثانية بزنة علمته "في الآخرة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 وقد روى حذيفة أنَّ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل -عليه السلام، وهو الدين يزن الأعمال يوم القيامة. رواه ابن جرير في تفسيره. واختلف أيضًا في كيفية الرجحان والنقص, فقال بعضهم: الراجح أنَّ الموزون في الآخرة يصعد، عكس ما في الدنيا، واستشهد في ذلك بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] الآية. قال الزركشي: وهو غريب مصادم لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] . وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها؟ حكي عن وهب بن منبه أنه قال: يوزن من الأعمال خواتيمها، واستدلَّ بقوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بخواتيمها".   خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة" برحمة الله تعالى. "وقد روى حذيفة بن اليمان أنَّ صاحب الميزان يوم القيامة، أي: الذي يتولَّى أمره "جبريل -عليه السلام, وهو الذي يزن الأعمال يوم القيامة. "رواه ابن جرير في تفسيره" وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره, وهو موقوف له حكم الرفع، وللبيهقي عن أنس رفعه: "ملك الموت موكَّل بالميزان"، وللطبراني الصغير عن أبي هريرة رفعه: "يقول الله: يا آدم, قد جعلتك حكمًا بيني وبين ذريتك، قم عند الميزان, فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم، فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة, حتَّى تعلم أنِّي لا أدخل منهم النار إلّا ظالمًا". "واختلف أيضًا في كيفية الرجحان والنقص، فقال بعضهم: الراجح أنَّ من الموزون في الآخرة يصعد" إلى العلوّ "عكس ما في الدنيا, واستشهد بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} "الآية". "قال الزركشي: وهو غريب مصادم" مدافع أي: مدفوع لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في الجنة، أي: ذات رضًا بأن يرضاها، أي: مرضية له, فإن القرآن وارد بلغة العرب, والتعبير بثقلت, وفي مقابله بخفَّت, إنما يفهم منه أنها كميزان الدنيا، وأمَّا قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فمعناه يقبله. "وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها" حكي عن وهب بن منبه أنه قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها", وإذا أراد بعبد خيرًا ختم له بخير عمله، وإذا أراد به شرًّا خُتِمَ له بشر عمله، هذا من جملة المروي عن وهب. واستدلَّ بقوله -عليه السلام: "إنما الأعمال بخواتيمها" وظاهر الأحاديث والآثار أنها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 وذكر الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كنت واقفًا عند ميزانه، فإن رجحت وإلّا شفعت له". وقال بعض أهل العلم، فيما حكاه القرطبي في "التذكرة": ولن يجوز أحد على الصراط حتى يسأل على سبع قناطر، فأمَّا القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصًا جاز، ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الخامسة عن الحجِّ والعمرة، فإن جاء بهما تأمَّين جاز، ثم يسأل في السادسة عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامَّين جاز، ثم يسأل في السابعة، وليس في القناطر أصعب منها، فيسأل عن ظلامات الناس.   توزن كلها، ومن أصرحها ما رواه أحمد في الزهد, عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي، فقال: من هذا؟ قال: فلان، قال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلّا البكاء, فإن الله يطفيء بالدمعة بحورًا من نيران جهنم، وللبيهقي مرفوعًا: "ما من شيء إلّا له مقدار وميزان إلّا الدمعة، فإنه يطفأ بها بحار من النار". "وذكر" أي: روى الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قضى لأخيه" في الدين "المؤمن حاجة" أي حاجة كانت, "كنت واقفًا عند ميزانه، فإن رجحت وإلّا شفعت له" فترجح ميزانه فينجو من النار. "وقال بعض أهل العلم فيما حكاه القرطبي في التذكرة: ولن يجوز أحد" من هذه الأمة وغيرها "على الصراط, حتى يسأل على سبع قناطر, فأمَّا القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله, وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصًا" عن الشك والشرك, "جاز" على الصراط، وإلّا وقع في النار, "ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان فإن جاء به تامًّا جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما تامَّين جاز، ثم يسأل في السادسة. وفي نسخة: ثم إلى القنطرة السادسة, فيسأل عن الغسل والوضوء, فإن جاء بهما تأمَّين جاز، ثم يسأل في السابعة, وليس في القناطر أصعب منها" لعل المراد بعد الأولى التي هي الإيمان, فيسأله عن ظلامات الناس". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 وفي حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم: "ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أوّل من يجوز عليه، ولا يتكلّم يومئذ إلّا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان, غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلّا الله تعالى، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله, ومنهم   وفي حديث أبي هريرة" أثناء حديث طويل عنه -صلى الله عليه وسلم: "ويضرب" بضم أوله وفتح ثالثه، أي: يمد "الصراط بين ظهراني جهنم" أي: بين أجزاء ظهرها, كأنها محيطة به. قال القرطبي: الصراط لغة: الطريق, وعرفًا: جسر يضرب على ظهر جهنم, تمرّ الناس عليه إلى الجنة, فينجو المؤمنون على كيفيات تأتي, ويسقط المنافقون. وفي رواية للبخاري: "ويضرب جسر جهنم"، أي: الصراط, "فأكون أنا وأمتي أوّل من يجيز" بضم التحتية وكسر الجيم بعدها تحتية فزاي معجمة، أي: من يمضي عليه ويقطعه، يقال: جاز الوادي وأجازه لغتان بمعنى قطعه وخلفه، وقال الأصمعي: جازه: مشى فيه, وأجازه: قطعه، قاله النووي وغيره, وقال القرطبي: يحتمل أنَّ الهمزة للتعددية؛ لأنه لما كان هو وأمته أول من يجوز عليه, لزم تأخير غيرهم حتى يجوزوا، فإذا جازوا كأنه أجاز بقية الناس. وفي رواية للبخاري: "فأكون أنا أوّل من يجوز بأمته"، وله أيضًا: "أول من يجيزها"، أي: جهنم، أي: يجوز عليها, "ولا يتكلم يومئذ" أي: حين الإجازة "إلا الرسل" لشدة الهول؛ لأن في غيره: {تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ويسأل الناس بعضهم بعضًا ويتلاومون, ويخاصم التابع المتبوعين, "ودعاء الرسل" وفي رواية: "ولا يتكلم إلَّا الأنبياء, ودعوى الرسل" , "يومئذ: اللهمَّ سلِّم سلِّم" مرتين من كمال شفقتهم, "وفي جهنم كلاليب" جمع كلوب -بفتح الكاف وضم اللام الشديدة- حديدة مقطوفة الرأس. وفي رواية: وبه، أي: الصراط "كلاليب مثل شوك السعدان" بفتح السين والدال بينهما عين ساكنة مهملات جمع سعدانة, نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه، قالوا: مرعى ولا كالسعدان, والتشبيه به لسرعة اختطافها, وكثرة الانتشاب فيها مع الحرز والتصوف تمثيلًا بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة. زاد في رواية للشيخين: هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "فإنها مثل شوك السعدان" "غير أنه" أي: الشأن. وفي رواية: إنها، أي: الشوكة "لا يعلم قدر" , ولمسلم: "لا يعلم ما قدر"، قال القرطبي: قيدناه عن بعض مشايخنا بضم الراء على أن ما استفهامية، وقدر مبتدأ وبنصبها على أن ما زائدة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 من يخردل ثم ينجو" الحديث رواه البخاري. وفي حديث حذيفة وأبي هريرة عند مسلم: ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- قائم على الصراط يقول: "رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يأتي الرجل فلا يستطيع   وقدر مفعول يعلم "عظمها" بكسر العين وفتح المعجمة. وقال ابن التين: ضبطناه بضم العين وسكون الظاء والأول أشبه؛ لأنه لا يعلم قدر كبرها "إلّا الله تعالى" وفي الاستثناء إشارة إلى أنَّ التشبيه لم يقع في مقداره, "فتخطف" بكسر الطاء أفصح من فتحها، كما قاله ثعلب وتبعه النووي وغيره, "الناس بأعمالهم" بسبب أعمالهم القبيحة. وفي رواية السدي: "وبحافَّتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس, فمنهم من يوبق بعمله" وفي رواية: الموبق -وهما بموحدة بمعنى الهلاك، ولبعض رواة مسلم: الموثق -بمثلثة من الوثاق، ولبعض رواة البخاري ومسلم: المؤمن -بكسر الميم بعدها نون- بقي بعمله -بفتح التحتية وكسر القاف من الوقاية، أي: يستره عمله، وصوّب في المطالع: المؤمن، وقال: وفي يقي على هذا الوجه ضبطان بموحدة والثاني بتحتية، ولبعض رواة مسلم: يعني بمهملة ساكنة ونون مكسورة بدل بقي وهو تصحيف، كما قاله الحافظ: "ومنهم من يخردل" بلفظ المضارع. وفي رواية: المخردل اسم مفعول وهما بخاء معجمة وراء ودال مهملة ولام، أي: يقطع بالكلاليب, فيهوي في النار، ويحتمل أنَّه من الخردل، أي: جعلت أعضاؤه كالخردل، وقيل معناه: إنها تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل: المخردل المصروع، ورجَّحه ابن التين بأنَّه أنسب بسياق الخبر، ولبعض رواة البخاري: بجيم بدل الخاء, ووهاه عياض, والجردلة -بجيم- الإشراف على السقوط, والدال مهملة للجميع، وحكي إعجمامها، ورجَّح ابن قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة، ولمسلم: ومنهم المجازى -بضم الميم وخفة الجيم وزاي مفتوحتين بينهما ألف- من المجازاة، أي: بأعماله, "ثم ينجو". وفي رواية: ثم ينجَّى -بضم التحتية وفتح النون والجيم المشددة ... "الحديث" بطوله "رواه البخاري" في مواضع, مدارها على الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، كلاهما عن أبي هريرة. وكذا رواه مسلم في الإيمان من طرق, لكنه أحال طريق شعيب عن الزهري على رواية ذكرها قبلها, ولذا لم يعزه المصنف لهما؛ لأنه ساقط رواية شعيب ومسلم لم يسق لفظها "وإن ساق إسنادها. "وفي حديث حذيفة وأبي هريرة عند مسلم: "ونبيكم" صلى الله عليه وسلم "قائم على الصراط يقول: "رب سلِّم سلم" بكسر اللام المشددة فيهما, "حتى تعجز" بكسر الجيم "أعمال العباد, حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلّا زحفًا" بزاي وجاء مهملة ساكنة ففاء- مشي الرجل الضعيف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 "السير إلّا زحفًا، قال: وفي حافظتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به, فمخدوش ناجٍ ومكردَس في النار". وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث "حفَّت النار بالشهوات" فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار. قاله ابن العربي. ويؤخذ من قوله: "فمخدوش" إلخ, أنَّ المارِّين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة, ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو.   قال: "وفي حافتيّ" بخفة الفاء جانبي "الصراط كلاليب" وهي المسمَّاة في بعض الروايات خطاطيف "معلقة, مأمورة بأخذ من أمرت به, فمخدوش" بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة فدال مهملة فواو ساكنة فشين معجمة، وخدش الجلد قشره بعود ونحوه, "ناجٍ" بنون وجيم من النار, "ومكردس في النار" بضم الميم وفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة فسين مهملة المكسور الظهر من الكردوس وهو فقار الظهر، ويحتمل أنّه بمعنى المكدوس. يقال: كردس الرجل، قاله المصنف على مسلم، وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين: "فناجٍ مسلم, ومخدوش, ومكدوس في جهنم, حتى يمر أحدهم فيسحب سحبًا"، قال الحافظ: اختلف في ضبط مكدوس، ففي مسلم بمهملة، أي: الراكب بعضه على بعض، وقيل: بمعنى مكردس. ورواه بعضهم ومعناه: السوق الشديد، والمراد أنه يلقى في قعر جهنم. انتهى. وبقية حديث مسلم: والذي نفس أبي هريرة بيده, إن قعر جهنم لسبعين خريفًا, "وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث و" هو "حفت" وفي رواية: حجبت "النار بالشهوات" فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار"؛ لأنها خطاطيفها, "قاله ابن العربي" أبو بكر "ويؤخذ من قوله: فمخدوش إلى آخره, أنَّ المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناجٍ بلا خدش" هذا لا يؤخذ منه كما هو ظاهر، وإنما يؤخذ من حديث أبي سعيد من قوله: "فناج مسلّم" بشد اللام، أي: لا يصيبه مكروه أصلًا. نعم يؤخذ مما تركه من حديث أبي هريرة وحذيفة وهو: "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير, وشد الرحال تجري بهم أعمالهم, ونبيكم قائم على الصراط .... " إلخ. "وهالك من أوله وهلة" من قوله: "ومكردس في النار" , "ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو" يؤخذ من قوله: "مخدوش ناج"، ومن حديث أبي هريرة الذي قبله من قوله: "ومنهم من يخردل، ثم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 وفي حديث المغيرة عند الترمذي: "شعار المؤمنين على الصراط: ربِّ سلّم سلّم". ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل تنطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمَّى ذلك شعارًا لهم. وفي حديث ابن مسعود: فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين أيديهم، الحديث، وفيه: فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب, ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل, حتى يمر الرجل الذي يعطى نوره على ظهر   ينجو", على أن هذا كله إنما أخذه ابن أبي جمرة من حديث أبي سعيد، كما ذكره المصنف في شرح البخاري، فقال: ويؤخذ منه كما في بهجة النفوس أنَّ المارّين على الصراط ثلاثة أصناف، فذكرها. "وفي حديث المغيرة" بن شعبة "عند الترمذي" عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "شعار المؤمنين على الصراط رب سلّم رب سلم" ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين" أي: علامتهم التي يعرفون بها "أن ينطقوا به", فلا يخالف قوله: "ولا يتكلم يومئذ إلّا الرسل" , "بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمَّى ذلك شعارًا لهم" باعتبار دعاء الرسل لهم به، وللطبراني عن ابن عمر ورفعه: "شعار أمتي إذا حملوا على الصراط: يا الله, لا إله إلا أنت" ولعلهم يتكلمون به في نفوسهم. "وفي حديث ابن مسعود" في قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] ، قال: "يمرون على الصراط, فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين أيديهم .... " الحديث, ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ أخرى "وفيه: "فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين" بسكون الراء، أي: تحريكها, "ومنهم من يمر كالبرق" , وهو ما يلمع من السحاب، قيل: أي: شيء كمَرِّ البرق، قال -صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين" كما في مسلم, "ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب" سقوطه, "ومنهم من يمر كالريح, ومنهم من يمر كشد الفرس" عدوه وجريه, "ومنهم من يمر كشد الرجل" بالجيم على الصحيح المعروف المشهور، أي: سرعة جريه، ولبعض الرواة بحاء مهملة مفردة مفرد رحال، أي: كشد ذي الرحل. قال عياض: وهما متقاربان في المعنى, وشدهما عدوهما البالغ وجريهما, "حتى يمر الرجل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تجرّ يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد أن رأيتها". الحديث. رواه ابن أبي الدنيا والطبراني. وروى مسلم: قال أبو سعيد: بلغني أنَّ الصراط أحدّ من السيف وأرقّ من الشعرة. وفي رواية ابن منده من هذا الوجه, قال سعيد بن أبي هلال, ووصله البيهقي عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مجزومًا به, وفي سنده لين.   الذي يعطى نوره على ظهر قدميه، يحبو" يمشي "على وجهه ويديه ورجليه, تجر يد وتعلق يد, وتجر رجل وتعلق رجل, وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص" من النار "فإذا خلص وقف عليها، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد أن رأيتها .... " الحديث. "رواه ابن أبي الدنيا والطبراني" موقوفًا لفظًا مرفوعًا حكمًا؛ إذ لا دخل للرأي فيه, وروى مسلم: قال أبو سعيد الخدري: "بلغني أنَّ الصراط" لفظ مسلم: الجسر, فذكره المصنّف بالمعنى, "أحدّ من السيف, وأرقّ" بالراء "من الشعرة" بالإفراد، قاله المصنف, وذكر الحافظ البرهان الحلبي أنَّ الصراط شعرة من شعرة جفون ملك خازن النار، لكنه لم يذكر له مستندًا ولا من خرجه، فالله تعالى أعلم. "وفي رواية ابن منده من هذا الوجه، قال سعيد بن أبي هلال" الليثي مولاهم المدني، ثم المصري, راوي أصل الحديث عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: فجعل قائل: "بلغني" سعيد بن أبي هلال أبا سعيد, "ووصله البيهقي عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مجزومًا به" بلفظ: على جهنم جسر مجسور أرقّ من الشعر وأحدّ من السيف .... الحديث. ولابن منيع عن أبي هريرة رفعه: "الصراط كحدِّ السيف دحض مزلة ذا حسك وكلاليب"، وللطبراني والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: "يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حَدِّ السيف المرهف". "ولابن المبارك" والبيهقي وابن أبي الدنيا "من مرسل عبيد بن عمير" أحد كبار التابعين، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير: إن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، والذي نفسي بيده, إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر. وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه, وفيه: والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلّم سلّم. وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أنَّ الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أرق من الشعرة, وأحدّ من السيف, على متن جهنم، لا يجوز عليه إلّا ضامر مهزول من خشية الله. ذكره ابن عساكر في ترجمته، قال في فتح الباري: وهذا معضل لا يثبت. قال: وعن سعيد بن أبي هلال: بلغنا أنَّ الصراط أرق من الشعرة على بعض الناس، ولبض الناس مثل الوادي الواسع. أخرجه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل.   عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "أن الصراط مثل السيف" نقل بالمعنى, ولفظه: "الصراط على جهنم مثل حرف السيف" , "وبجنبتيه" بفتح الجيم والنون ويجوز سكونها بعدها موحدة تثنية جنبة، أي: ناحيتيه "كلاليب". زاد في رواية البيهقي وابن أبي الدنيا: وحسك يركبه الناس فيختطفون, "والذي نفسي بيده, إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد" بالفتح والتشديد بزنة تنور- حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور, "أكثر من ربيعة ومضر". وأخرجه ابن أبي الدنيا" والبيهقي "من هذا الوجه وفيه: "والملائكة على جنبتيه" تثنية جنبة "يقولون: رب سلّم سلّم, والملائكة يخطفون بكلاليب"، هذا بقية الحديث. "وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أنَّ الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسة آلاف صعود, وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى, أرق من الشعرة, وأحدّ من السيف, على متن" أي: ظهر "جهنم، لا يجوز عليه إلّا ضامر مهزول من خشية الله" تعالى, "ذكره" أي: رواه "ابن عساكر في ترجمته" أي: الفضيل "قال في فتح الباري" وهذا معضل لا يثبت، وعن سعيد" بكسر العين ابن أبي هلال: بلغنا أن الصراط أرقّ من الشعرة على بعض الناس, ولبعض الناس مثل الوادي الواسع". "أخرجه ابن المبارك" وابن أبي الدنيا" "وهو مرسل أمعضل" سقط منه اثنان فأكثر، ولأبي نعيم عن سهل بن عبد الله التستري، قال: من دقَّ الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الجواز على الصراط؛ لأنه ممدود على النار. وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط. وقيل الورود: الدخول. وعن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال   الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دقّ عليه في الآخرة، ومعناه: إن من عرف الصراط وأنَّ مآله إليه, وقف عند أوامر الله, جوزي باتساعه له ومروره عليه بلا ضرر, وعكسه بعكسه. "وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] "الجواز على الصراط" ورجَّحه النووي؛ "لأنه ممدود على النار". "وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط، وكذا قال الحسن البصري عند البيهقي بلفظ: الورود المرور عليها من غير أن يدخلها. وكذا قاله خالد بن معدان وعكرمة عند البيهقي وغيره، وللطبراني وابن عدي عن يعلى بن منبه عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن, فقد أطفأ نورك لهبي" , وقيل: الورود الدخول" ورجَّحه القرطبي. وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود والبيهقي عن ابن عباس، وقاله جماعة, قال في فتح الباري: وهذان القولان أصحّ ما ورد ولا تنافي بينهما؛ لأن من عبَّر بالدخول تجوّز به عن المرور؛ لأن المارَّ عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوالهم باختلاف أعمالهم، فأعلاهم من يمر كلح البرق كما بَيِّنَ في حديث الشفاعة، ويؤيده صحة هذا التأويل ما في مسلم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل النار أحد شهد الحديبية"، فقالت حفصة: "أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فقال: "أليس الله يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] وفي هذا ضعف القول بأن الورود مختص بالكفار، والقول بأن معناه: الدنو منها، والقول بأنه الإشراف عليها، وقيل: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمَّى, وهذا ليس ببعيد, ولا ينافيه بقية الأحاديث. انتهى. "وعن أبي سمية" بضم السين- مصغَّر, تابعي مقبول, ذكره في التقريب في الكنى ولم يذكر له اسمًا, "قال: اختلفنا في الورود" في الآية, "فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن" وروي ذلك عند ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس، أنه قال: وإن منكم إلّا واردها، فقال: يعني الكفار، وقال: لا يردها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 بعضنا: ندخلها جميعًا، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال جابر: يردونها جميعًا، فقلت: إنا اختلفنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعًا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتًا, إن لم أكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الورود والدخول لا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلّا دخلها, فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار أو قال: لجهنم ضجيجًا من بردهم, ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا" رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن. وأخرج ابن الجوزي -كما ذكره القرطبي في التذكرة- رفعه: "الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء" قال: "وإذا صار الناس على طرفي الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط, وليقف كل عاصٍ منكم وظالم". فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها، وأشد حرها، يتقدَّم فيها من كان في الدنيا ضعيفًا مهينًا، ويتأخَّر عنها من كان فيها عظيمًا.   مؤمن "وقال بعضنا: ندخلها جميعًا, ثم ينجي الله الذين اتقوا" الشرك والكفر منها, "فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: إنا اختلفنا في الورود, فقال جابر: يردونها جميعًا" المؤمن والكافر, "فقلت: إنا اختلفنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: ندخلها جميعًا" أعاد عليه السؤال ليعلم دليله؛ لأنه أجابه أولًا بدون دليل, فلمَّا فهم منه طلب الدليل؛ لأنه القاطع للنزاع، ذكره "فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتًا, إن لم أكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الورود الدخول، لا يبقي بر" متق, "ولا فاجر إلّا دخلها, فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم" نار الدنيا "حتى إن للنار، أو قال: لجهنم" شكَّ الراوي "ضجيجا" صياحًا قويًّا "من بردهم" الذي قام بهم وضجيجها حقيقي لا أنه من مجاز الحذف، أي: أهلها؛ لأنهم يودون بردها عليهم، وتقدَّم في الحديث: "تقول النار للمؤمن جز" والأصل الحقيقة, ولا داعية للتأويل، لا سيما المفسد للمعنى كما هنا, "ثم ينجي الله الذين اتقوا" الكفر بالإيمان "ويدر الظالمين" يترك الكافرين "فيها جثيًّا". "رواه أحمد" والحاكم والبيهقي بإسناد حسن" وصححه الحاكم. "وأخرج ابن الجوزي كما ذكره القرطبي في التذكرة، رفعه: "الزالون عن الصراط كثير, وأكثر من يزل عنه النساء" قال: "وإذا صار الناس على طرفي الصراط نادى مالك من تحت العرش: يا فطرة" خلقة "الملك" بكسر اللام "الجبار, جوزوا على الصراط, وليقف كل عاصٍ منكم وظالم" كافر، "فيا لها من ساعة ما أعظم" أكبر "خوفها وأشد حرها, يتقدَّم فيها من كان في الدنيا ضعيفًا مهينًا" بفتح فكسر, "ويتأخَّر عنها من كان فيها عظيمًا مكينًا" مرتفع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 مكينًا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- نادوا: وا محمداه وا محمداه، فيبادر -صلى الله عليه وسلم- من شدة إشفاقه عليهم، وجبريل آخذ بحجزته، فينادي -صلى الله عليه وسلم- رافعًا صوته: "رب أمتي أمتي، لا أسألك اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي"، والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلم, وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال، وينادونهم: أما نهيتهم عن كسب الأوزار، أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبي المختار. ذكره ابن الجوزي في كتابه "روضة المشتاق". وقد جاء في حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحسن الصدقة في الدنيا مَرَّ على الصراط" رواه أبو نعيم. وفي الحديث: "من يكن المسجد بيته, ضَمِنَ الله له بالروح والرحمة والجواز   القدر, "ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط" اشتدَّ وصعب أمره, "بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- نادوا: وا محمداه وا محمداه" مرتين, فيبادر -عليه الصلاة والسلام- من شدة إشفاقه" خوفه "عليهم, وجبريل آخذ بحجزته" بضم المهملة وإسكان الجيم- معقد الإزار, فينادي -صلى الله عليه وسلم- رافعًا صوته: "رب أمتي أمتي" مرتين, "لا أسأل اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي" والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلِّم سلِّم" مرتين, "وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال" جمع وجل -بجيم- الخوف, والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال, والزبانية" سموا بذلك من الزبن وهو الدفع؛ لدفعهم أهل النار فيها يتلقونهم بالسلاسل" ويسحبونهم بها, "والأغلال" في أعناقهم, تشتد فيها السلاسل, وينادونهم للتوبيخ: "اما نهيتم عن كسب الأوزار" الآثام, "أما أنذرتم كل الإنذار" البالغ البيّن, "أما جاءكم النبي المختار". ذكره ابن الجوزي في كتابه روضة المشتاق" أحد تصانيفه الكثيرة جدًّا "وقد جاء في حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحسن الصدقة" بأن حصلها من حِلٍّ وتصدَّق بها على مستحق في الدنيا, "جاز على الصراط" حال كونه مدلًا كما "رواه أبو نعيم" في الحلية, والأصبهاني في الترغيب، فسقط مدلًا من المصنف أو نساخه، قال الأصبهاني: أي: آمنًا غير خائف, والإدلال الانبساط والوثوق بما يأتي ويفعل. "وفي الحديث" المرفوع: "من يكن المسجد بيته" بحيث يلزمه ويعظمه، ورفع المسجد ونصب بيته أَوْلَى من عكسه؛ لأن الغرض الحكم عن المسجد بأنه اتخذ بيتًا "ضمن". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 على الصراط إلى الجنة. وروى القرطبي عن ابن المبارك عن عبد الله بن سلام: إذا كان يوم القيامة, جمع الله الأنبياء نبيًّا نبيًّا, وأمَّة أمَّة، ويضرب الجسر على جهنم, وينادى: أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وتتبعه أمته برها وفاجرها, حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه, فيتهافتون في النار يمينًا وشمالًا، ويمضي النبي -صلى الله عليه وسلم- والصالحون معه, فتتلقاهم الملائكة, فيدلونهم على الطريق: على يمينك على شمالك, حتى ينتهي إلى ربه، فيوضع له كرسيٍّ عن يمين العرش، ثم يتبعه عيسى -عليه السلام- على مثل سبيله, وتتبعه أمته برها وفاجرها، حتى إذا كانوا على الصراط طمس الله أبصار   أي: تكفَّل "الله له بالروح" بالفتح- الراحة, "والرحمة, والجواز على الصراط إلى الجنة". وهذا الحديث رواه سعيد بن منصور والطبراني والبزار وحسَّنه عن أبي الدرداء: "المساجد بيوت المتقين, وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة, والجواز على الصراط إلى رضوان الله .... " الحديث. وللطبراني وابن حبان عن عائشة, وابن عساكر عن ابن عمر، رفعاه: "من كان وصله لأخيه المسلم إلي ذي سلطان في تبليغ بر, أو تيسير عسير, أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام" وفي الباب أحاديث وآثار في البدور. "وروى القرطبي عن ابن المبارك" بسنده "عن عبد الله بن سلام" بالتخفيف- الإسرائيلي المبشر بالجنة، وقد رواه الحاكم وصحَّحه عنه، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيًّا نبيًّا " جمع الأمم "أمة أمة" ولفظ الحاكم: "يبعث الله الخليفة أمَّة أمَّة ونبيًّا نبيًّا, حتى يكون أحمد وأمته آخر الأمم مركزًا" , "ويضرب" وللحاكم: ثم يضرب "الجسر" بفتح الجيم وتكسر- "على جهنم, وينادى" بالبناء للمفعول، وللحاكم: ثم ينادي مناد: "أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته برها وفاجرها, حتى إذا كان على الصراط طمس الله" بفتح الميم، أي: محا "أبصار" أي: نور أبصار "أعدائه فيتهافتون" يتساقطون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 أعدائهم فيتهافتون في النار يمينًا وشمالًا. الحديث. واعلم أنَّ في الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلّا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله؛ لأنهم قد عبروا الصراط الأوَّل المضروب على متن جهنم, وقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخلص المؤمنون من النار, فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا, حتى إذا هذبوا ونقوا, أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي   في النار يمينًا وشمالًا". "الحديث" بقيته: وينجو النبي والصالحون, ثم تتبعهم الأنبياء, حتى يكون آخرهم نوح. قال الذهبي: غريب موقوف. انتهى، فيحتمل أن ابن سلام نقله من الكتب القديمة؛ لأنه حبرها، ويحتمل أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم, "واعلم أنَّ في الآخرة صراطين" كما ذكره القرطبي, "أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم" ثقيلهم وخفيفهم "إلّا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق" بضم العين والنون- أي: طائفة, وجانب "من النار, فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر" قال في التذكرة: ولا يخلص منه إلّا المؤمنون الذين علم الله منهم أنَّ القصاص لا يستنفد حسناتهم, "حبسوا على صراط آخر لهم, ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله، لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم" الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه وأربى على الحساب بالقصاص جرمه -كما في كلام القرطبي. وقد روى البخاري" في المظالم والرقاق "من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسو الله -صلى الله عليه وسلم- زاد الإسماعيلي في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] الآية "يخلص" بفتح التحتية وضم اللام، أي: ينجو: "المؤمنون من" السقوط في "النار" بعدما يجوزون الصراط, "فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار" قيل: إنها صراط آخر، وقيل: إنها من تتمة الصراط, وإنها طرفه الذي يلي الجنة, قال الحافظ: لعل أصحاب الأعراف منهم على القول الراجح, "فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا" بضم التحتية وسكون القاف ثم فوقية مفتوحة. كذا في الفرع بضم التحتية وضبطه الحافظ وتبعه العيني بفتحها، فاللام زائدة, أو الفاعل محذوف وهو الله تعالى, أو من أقامه في ذلك, وللبخاري في المظالم: "فيقتص بعضهم من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 نفس محمد بيده, لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا". وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أوَّل من يقرع باب الجنة وأوَّل من يدخلها، ففي صحيح مسلم, من حديث المختار بن فلفل, عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة، وأنا أوّل من يقرع باب الجنة".   بعض"، وفي رواية: فيقص -بضم التحتية وفتح القاف وبدون تاء- مبنيًّا للمفعول، قاله المصنف, "حتى إذا هذبوا" بضم الهاء وكسر المعجمة المشدَّدة فموحدة من التهذيب, "ونقوا" بضم النون والقاف المشددة من التنقية. قال الجوهري: التهذيب كالتنقية, ورجل مهذَّب أي: مطهر الأخلاق. فعلى هذا قوله: ونقوا, تفسير لهذبوا, والمراد التخليص من التبعات، فإذا خلصوا منها, "أذن" بضم الهمزة وكسر المعجمة "لهم في دخول الجنة" وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ كما في الحديث، أي: حقد كامن في قلوبهم، بل ألقى الله فيها التواد والتحاب, "فوالذي نفس محمد بيده, لأحدهم" فتح اللام للتأكيد, وأحد مبتدأ خبره قوله: "أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله" الذي "كان في الدنيا". قال الطيبي: هدى لا يتعدَّى بالباء بل باللام وإلى، فالوجه أن يضمَّن معنى اللصوق، أي: ألصق بمنزله هاديًا إليه، وفي معناه قوله: يهديهم ربهم بإيمانهم، أي: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة, فجعل تجري من تحتهم الأنهار بيانًا له وتفسيرًا؛ لأن التمسُّك بسبب السعادة كالوصول إليها. انتهى، وما سبق عن عبد الله بن سلام، أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينًا وشمالًا، فهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة, أو على الجميع, وأن الملائكة تقول لهم ذلك قبل دخول الجنة، فمن دخلها عرف منزله؛ لأن منازلهم كانت تعرض عليهم غدوًّا وعشيًّا, والله أعلم. "وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أوَّل من يقرع" يدق ويطرق "باب الجنة, وأول من يدخلها، ففي صحيح" أي: فدليله, أو فيدل عليه ما في "مسلم" في كتاب الإيمان, من حديث المختار بن فلفل -بضم الفاءين وإسكان اللام الأولى- مولى عمرو بن حريث، صدوق, له أوهام "عن أنس" هذا هو الصواب، ويقع في نسخ "عن ابن عباس" وهو خطأ, فالذي في مسلم عن أنس بن مالك "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس" كذا في النسخ، والذي في مسلم: الأنبياء "تبعًا" بفتح الفوقية والموحدة- جمع تابع, "يوم القيامة" لبقاء شريعته ودوامها إلى يوم القيامة، وخصَّه لأنه يوم ظهور ذلك لأهل الجمع, ويوضحه خبر مسلم أيضًا: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه مصدق غير واحد ولا يعارضه، وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا" إمَّا لأنَّ رجاءه محقق الوقوع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 وفيه أيضًا من حديث أنس, قال -صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح, فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك". ورواه الطبراني وزاد فيه: قال: "فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم   أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته, ويراهم، فلمَّا حقق الله رجاءه ورآهم جزم به, "وأنا أوّل من يقرع باب الجنة" أي: يطرقه للاستفتاح, فيكون أوّل داخل, "وفيه" أي: مسلم في الإيمان أيضًا من حديث ثابت البناني, عن "أنس" بن مالك قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "آتي" بمد الهمزة "باب الجنة يوم القيامة" بعد الحشر والحساب، وعبَّر بآتي دون أجيء؛ للإشارة إلى أنَّ مجيئه على تمهّل وأمان بلا تعب؛ لأن الإتيان كما قال الراغب: مجيء بسهولة, والمجيء أعم, "فأستفتح" بسين الطلب, إيماءً إلى تحقق وقوع مدخولها، أي: أطلب فتحه بالقرع, كما في الأحاديث لا بالصوت، وفاء التعقيب إشارة إلى أنه أذن له من الله بلا واسطة خازن ولا غيره؛ بحيث صار الخازن مأموره منتظرًا قدومه, "فيقول الخازن" الحافظ المؤتَمَن على ما استحفظه, وأل عهدية, والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة لأنَّه أعظمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزنة, "من أنت" أجابه بالاستفهام, وأكَّده بالخطاب تلذذًا بمناجاته, وإلّا فأبواب الجنة شفافة كما في خبر, وهو العلم الذي لا يشتبه, والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان قبل ذلك وعرفه أتمَّ معرفة، ولذا اكتفى بقوله: "فأقول محمد" وإن كان المسمَّى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة"، لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلّا في مجرد الاسم، كما في حديث، فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا, ولم يقل أنا؛ لإبهامه, مع إشعاره بتعظيم النفس, وهو سيد المتواضعين. قال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي, ولا نسي لسمو مقامي، وذهب بعض الصوفية والعلماء إلى كراهة إخبار الرجل عن نفسه بأنا تمسُّكًا بظاهر الخبر حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها، كقول إبليس: {أَنَا خَيْرٌ} ، وفرعون: {أَنَا رَبُّكُمْ} ، قال بعض المحققين: وليس كما قالوا، بل الشؤم لما صحبه من دعوى الخير والربوبية، وقد ناقضهم نصوص كثيرة, {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} , {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} , {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أنا سيد ولد آدم, أنا أثر الأنبياء تبعًا, وغير ذلك، وقد قال النووي: لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان, أو القاضي فلان, إذا لم يحصل التمييز إلّا به, وخلا عن الخيلاء والكبر" فيقول: "بك" بسببك متعلق بقوله: "أمرت" بالبناء للمفعول, والفاعل الله, قدمت للتخصيص، ويجوز أن تكون صلة للفعل، وأن قوله: "لا أفتح" بدل من الضمير المجرور، أي: أمرت الفتح, "لأحد قبلك" والرواية في مسلم: لا أفتح بدون أن قبلها -كما ذكره المصنف هنا خلافًا لما وقع له في الخصائص الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 لأحد بعدك". فقيامه له -صلى الله عليه وسلم- خاصة، فيه إظهار لمزيته ومرتبته, وأنه لا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته, وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم. وروى سهيل بن أبي صالح عن زياد المهري, عن أنس بن مالك قال: قال   والسيوطي في جامعيه من زيادة أن. وقد تعقَّب بأنَّ الذي في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة بدون أن، وأحد في سياق النفي للعموم, فيفيد استغراق جميع الأفراد, أي: لا من الأنبياء ولا من غيرهم، وفيه أنَّ طلب الفتح إنما هو للخازن, وإلّا لما كان هو المجيب, ولم يطلبه منها بلا واسطة, مع أنه جاء عن الحسن وقتادة وغيرهما أنَّ أبوابها يرى ظاهرها من باطنها وعكسه، وأنها تتكلم وتكلم, وتعقل ما يقال لها: انفتحي انغلقي؛ لأن الظاهر كما قال بعضهم: إنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق, وأنها لا تستطيع ذلك إلّا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم, ولا تعارض بين الحديث وبين قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} , {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ووجه الرازي وغيره: بأنه يوجب السرور والفرح؛ حيث نظروها مفتَّحة من بعد, وفيه الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح؛ لأن أبوابها تفتح أولًا بعد الاستفتاح من جمع, ويكون مقدمًا بالنسبة إلى البعض, كما يقتضيه خير أنَّ الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، والظاهر أنها لا تغلق بعد فتحها للفقراء, هذا أحسن الأجوبة الستة -كما قال بعض المحققين, ونوقش في باقيها. "ورواه الطبراني وزاد فيه، قال: "فيقوم الخازن" رضوان "فيقول: لا أفتح لأحد قبلك" كما أمرت، ولا يعارضه خبر الديلمي وأبي نعيم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فيفتحها الله عز وجل لي"؛ لأنه تعالى هو الفاتح الحقيقي, وتولي رضوان ذلك إنما هو بأمره تعالى وإقداره وتمكينه, "ولا أقوم لأحد بعدك" فقيامه له -صلى الله عليه وسلم- خاصَّةً فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته" أي: رضوان, "وهو كالملك" الحاكم عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم" حتى مشي وفتح له الباب, وحكمة اتخاذ الخدمة للجنة مع أنَّها إنما تكون عرفًا لما خيف ضياعه أو تلفه أو نقصه, فيفوت كله أو بعضه أو وصفه على صاحبه, ولا يمكن ذلك في الجنة هي مراعاة الداخلين إكرامًا لهم، فتقدم الخزنة لكل منهم ما أعد له من النعيم "وروى سهيل" بضم السين- مصغر "ابن أبي صالح" ذكوان السمّان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بأخرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر". وهو في مسند الفردوس, لكن من حديث ابن عباس. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، قال: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" فذكر الحديث إلى أن قال: "فيأتوني, فأنطلق معهم"، قال ابن   روى عنه مالك ونحوه قبل التغير، وروى له الستة إلّا أنَّ البخاري إنما روى له حديثًا واحدًا مقرونًا بيحيى بن سعيد, وعلق له في مواضع, مات في خلافة المنصور, "عن زياد المهري" بفتح الميم وإسكان الهاء- نسبة إلى مهرة, قبيلة من قضاعة "عن أنس بن مالك قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر" بذلك، بل بمن أعطانيه "وهو في مسند الفردوس" للديلمي, "لكن من حديث ابن عباس" وقد رواه أحمد والترمذي عن أنس رفعه: "أنا أول من يأخذ بحلقة الباب فأقعقعها" ففي هذا كله: "أنا أول من يدخل الجنة" استشكل بالسبعين ألفًا الداخلين بغير حساب, إنهم يدخلون قبله، وبحديث رؤياه -صلى الله عليه وسلم- بلالًا سبقه في دخولها، وحديث المرأة التي تبادره في دخولها، وبقوله -صلى الله عليه وسلم: "أول من يقرع باب الجنة عبد أدَّى حق الله وحق مواليه". رواه البيهقي، وبإدريس: فإنه أدخل الجنة بعد موته, وهو فيها كما ورد، وأجيب بأن دخوله -صلى الله عليه وسلم- يتعدد، فالدخول الأوّل لا يتقدمه ولا يشاركه فيه أحد, ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره، وقد روى ابن منده في حديث، أنه كرر الدخول أربع مرات، وأمَّا إدريس فلا يرد؛ لأن المراد الدخول التام يوم القيامة, وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ، هذا أظهر الأجوبة, ويأتي بعضها. "وعن أبي سعيد" الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" وفي أولاده من هو أفضل منه, وذلك يستلزم سيادته على آدم يوم القيامة, "ولا فخر" لا عظمة, "وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر, وما من نبي آدم" بالرفع- بدل من محل نبي المجرور لفظًا بمن الزائدة, "فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر" تقدَّم شرح هذا كله, قال: "فيفزع الناس ثلاث فزعات" من زفرات جهنم. روى أبو نعيم عن كعب، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فنزلت الملائكة فصاروا صفًّا، فيقول الله لجبريل: أئت بجهنم فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها افئدة الخلائق, الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 جدعان: قال أنس: كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لي, ويرحبون بي, فيقولون: مرحبًا، فآخِرّ ساجدًا, فيلهمني الله من الثناء والحمد، فيقال: ارفع رأسك". الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن. وفي حديث سلمان: "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب، فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح".   ثم زفرت زفرة ثانية, فلا يبقى ملك مقرَّب ولا نبي مرسَل إلّا جثا لركبتيه، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهب العقول" الحديث, "فيأتون آدم" فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء الخمسة, "إلى أن قال: "فيأتوني فأنطلق معهم". "قال ابن جدعان" بضم الجيم وسكون الدال وعين مهملتين- عليّ بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي، نزل البصرة وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان, ينسب أبوه إلى جده الأعلى، ضعيف, مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: قبلها -كما في التقريب. "قال أنس" بن مالك: " كأني انظر" حال تحديثي بذلك "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" إشارة إلى تحقق ما أخبر به, واستحضاره ونفي الشك عنه "قال:" أي قائلًا: "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقها" أي: أدق عليها فتصوت، إلى هنا ما رواه عن أنس -كما أفاده السيوطي, ثم عاد إلى حديث أبي سعيد "فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد" بالبناء للمفعول فيهما للعلم به, "فيفتحون لي" لا يعارضه ما مر أن الذي يفتح رضوان, الجواز أنه لما يقوم للفتح تبعه جنده؛ لأنهم في خدمته, وهو كالملك عليهم, "ويرحبون بي فيقولون" كلهم "مرحبًا" زيادة في تعظيم المصطفى؛ إذ رحبوا به أجمعون, "فأخِرّ ساجدًا فيلهمني الله من الثناء والحمد" ما لا أقدر عليه الآن, "فيقال: ارفع رأسك .... " الحديث" تمامه: "وسل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع لقولك" وهو المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] . "رواه الترمذي وقال حسن", ورواه ابن خزيمة أيضًا, "وفي حديث سلمان الفارسي: "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب" يخالفه ما لأبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة, فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة" ويمكن الجمع بأنَّ كونها من فضة حكم على المجموع، فلا ينافي أن حلقة منها ذهب, أو أنها لمجاورتها للذهب سمَّاها اسمه مجازًا, "فيقرع" يدق -صلى الله عليه وسلم "الباب، فيقال" أي: يقول الخازن "من هذا؟ فيقول" عليه السلام "محمد، فيفتح الباب". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 وفي حديث الصور: إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول، فيقصدون آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد -صلى الله عليه وسلم, كما فعلوا عند العرصات, عند استشفاعهم إلى الله -عز وجل في فصل القضاء؛ ليظهر شرف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر كلهم في المواطن كلها. وروى أبو هريرة مرفوعًا: "أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلّا أن امرأة تبادرني فأقول لها: مالك؟ أو ما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" رواه أبو   "وفي حديث الصور" إضافةً لأدنى ملابسة لذكره فيه, وهو حديث طويل نحو أربع ورقات, عن أبي هريرة مرفوعًا, وهو أول حديث في البدور وعزاه لجماعة، وقال: اختلف في تصحيحه وتضعيفه، فصحَّحه ابن العربي والقرطبي ومغلطاي, وضعَّفه البيهقي وعبد الحق, وصوبهما الحافظ ابن حجر, "إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول" ولفظه: "فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة، فيقولون: من أحق من أبيكم آدم" , "فيقصدون آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى, وكلٌّ يقول: ما أنا بصاحب ذلك وذكر ذنبًا" , "إلّا عيسى فيقول: ما أنا بصاحبكم, ولكن عليكم بمحمد -صلى الله عليه وسلم" , "ثم محمدًا" قال "صلى الله عليه وسلم: "فيأتوني, فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب, ثم استفتح فيفتح لي، فأحيي ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدًا، فيأذن الله لي في حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك, واشفع تشفع, وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة, فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة, فيقول: قد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" , "كما فعلوا عند العرصات عند استشفاعهم إلى الله -عز وجل- في فصل القضاء" وهي مذكورة قبل ذلك في نفس هذا الحديث بلفظ: "فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيأبى ويقول: ما أنا بصاحب ذلك, فيأتون الأنبياء نبيًّا نبيًّا, كلما جاءوا نبيًّا يأبى عليهم حتى يأتوني, فأنطلق معهم حتى الفحص قدام العرش، فأخِرّ ساجدًا, حتى يبعث الله ملكًا فيأخذ بعضدي، فيقول لي: يا محمد فأقول: نعم يا رب, فيقول: ما شأنك؟ وهو أعلم، فأقول: يا رب, وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك, فاقض بينهم, فيقول: قد شفعتك, آتيكم فأقضي بينكم" , "ليظهر شرف نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر كلهم في المواطن كلها". وروى أبو هريرة مرفوعًا أي: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل من يفتح له باب الجنة" أي: لا يتقدم على أحد في فتحه "إلّا أن امرأة تبادرني" تسابقني, "فأقول لها: ما لك؟ أو ما أنت" شكَّ الراوي, وعبَّر بما لأنه سؤال عن الصفة، أي: ما الصفة التي أوجبت لك أن تبادريني. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 يعلى، ورواته لا بأس بهم, قال المنذري: إسناده حسن إن شاء الله. وقوله: "تبادرني" أي: لتدخل معي أو لتدخل في أثري، ويشهد له حديث: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وقال بأصبعيه السبابة والوسطى. رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. قال ابن بطال، حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي -صلي الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك، انتهى. ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخوله الجنة كما في الحديث قبله.   وفي نسخة: أو من أنت, "فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" لي، وفي البدور: على أيتامي, لكنه قال: رواه أبو يعلى والأصفهاني، فلعله لفظه, ولفظ أبي يعلى ما للمصنف ولا خلف بينهما كما أشرت إليه. وفي الفتح عازيًا لأبي يعلى وحده: أنا امرأة تأيمت, "ورواته لا بأس بهم" كما قال الحافظ, "وقال المنذري: إسناده حسن إن شاء الله، وقوله: "تبادرني"، أي: لتدخل معي أو تدخل في أثري، ثم إن كانت امرأة واحدة فلعلّها قامت بأيتامها على صفة لم تتفق لغيرها، فلا يرد أن كثيرًا من النساء كذلك, وإن كان المراد جنس امرأة قعدت على يتاماها وهو مقتضى سياق المنذري في الترغيب لهذا الحديث, وقضية الحديث التالي فلا إشكال, "ويشهد له حديث: "أنا وكافل اليتيم" أي: القيم بأمره ومصالحه هبة من ماله، أو من مال اليتيم. زاد في رواية الموطأ: له أو لغيره، وللبزار عن أبي هريرة رفعه: "من كفل يتيمًا ذا قرابة أو لا قرابة له في الجنة هكذا" وقال: "أي: أشار بإصبعيه" بالتثنية السبابة والوسطى وفرج بينهما. "رواه البخاري من حديث سهل بن سعد" أي: فرق بينهما منشورتين مفرجًا بينهما، أي: إن الكافل معه -صلى الله عليه وسلم- في الجنة, إلّا أن درجته لا تبلغ درجته، بل تقاربها, وظاهره أن المشير هو المصطفى، وفي الموطأ رواية يحيى بن بكير, وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسبابة والوسطى وفي أكثر الموطآت: وأشار بإصبعيه بإبهام المشير وفي مسلم: وأشار مالك بالسبابة والوسطى. "قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة, ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك. انتهى". "ويحتمل أن يكون المراد: قرب المنزلة حاله دخوله الجنة -كما في الحديث قبله" كما قاله الحافظ وزاد: ويحتمل أن المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلوّ المنزلة. وقد روى أبو داود عن عوف بن مالك رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة, امرأة ذات منصب وجمال حَبسَت نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا" فهذا فيه قيد، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 ووجه التشبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم, فيكون كافلًا لهم ومرشدًا, وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه, ويعلمه ويحسن أدبه. وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظرونه، قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبًا, إنَّ الله اتخذ من خلقه خليلًا، اتخذ الله إبراهيم خليلًا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليمًا, وقال آخر: فعيسى روح الله، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلّم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم, إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا وهو كذلك, وموسى كلمه الله وهو كذلك, وعيسى روح الله وهو كذلك, وآدم اصطفاه الله وهو كذلك, ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا   وللطبراني الصغير عن جابر، قلت: يا رسول الله, مم اضرب منه يتمي؟ قال: "ما كانت ضاربًا منه ولدك غير واقٍ مالك بماله"، وزاد في رواية مالك: "حتى يستغني عنه" فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدًا. انتهى. "ووجه التشبيه" كما نقله الحافظ عن شيخه العراقي في شرح الترمذي, بين النبي والكافل أنَّ النبي من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم, فيكون كافلًا لهم ومرشدًا لهم ومعلمًا, وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل" إضراب انتقالي, "ولا دنياه, ويعلمه ويحسن أدبه" فناسب علوّ منزلته بقرب النبي -صلى الله عليه وسلم. "وعن ابن عباس قال: جلس" قع "ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظرونه, قال" ابن عباس: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم, فقال بعضهم: عجبًا إنَّ الله اتخذ من خلقه خليلًا" مع أنه لا نسبة بين الخالق والمخلوق, "اتخذ الله إبراهيم خليلًا", "وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى, كلمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى روح الله, وقال آخر: فآدم اصطفاه الله, فخرج -صلى الله عليه وسلم، فسلَّم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم, إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلًا وهو كذلك" فإنه تعالى قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 185] "وموسى كليم الله وهو كذلك" قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] "وعيسى روح الله وهو كذلك" في القرآن, "وآدم اصطفاه الله وهو كذلك" {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} , "ألا" بالفتح والتخفيف، أي: تنبهوا لما تعلموه مما حباني به زيادة عليهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي, فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر" رواه الترمذي. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل الناس خروجًا إذا بعثوا, وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا, لواء الحمد بيدي، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد   "وأنا حبيب الله ولا فخر" ولم يقل: وإني خليل الله, مع قوله في حديث آخر: "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا"؛ لأنه في مقام بيان ما زاد به عليهم, "وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأوّل مشفَّع" بشد الفاء مفتوحة، أي: مقبول الشفاعة, وذكره لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني قبل الأول، وفيه: أن غيره يشفع ويشفع, وكونه أولًا فيهما بين علوّ منزلته وتقدم هذا, "ولا فخر، وأنا أوّل من يحرك حلق الجنة" بفتح اللام- جمع حلْقة بسكونها لى غير قياس، وفي لغة بفتحها، فالجمع قياسي, "فيفتح الله لي" لا يعارضه ما مَرَّ أنَّ الفاتح رضوان؛ لأن الفاتح الحقيقي هو الله تعالى, وتولّي رضوان ذلك إنما هو بأمره وإقداره وتمكينه، ونظيره: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 39] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} "فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين" أي: يدخلون عقبه بسرعة فكأنهم دخلوا معه، ولأبي داود عن أبي هريرة رفعه: "إن أبا بكر أوّل من يدخل الجنة" , ولأبي نعيم عن أبي هريرة مرفوعًا: "أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر, وأول من يدخل عليَّ الجنة ابنتي فاطمة"، أي: من النساء, وأبو بكر من الرجال, فلا خلف, "ولا فخر" أي: لا أفتخر بذلك، بل بمن أعطانيه، أو أقول ذلك شكرًا لا فخرًا, وهو ادعاء العظمة والمباهاة, "وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر". "وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا" من القبر "إذا بعثوا" وهذا بمعنى قوله: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض" , "وأنا خطيبهم" المتكلم عنهم "إذا أنصتوا, وقائدهم إذا وفدوا" على ربهم, "وشافعهم إذا حبسوا" منعوا عن دخول الجنة, "وأنا مبشرهم" بقبول شفاعتي لهم عند ربهم ليريحهم "إذا أيسوا" من الناس, "لواء الحمد بيدي, ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي" يعني: أشفع فيمن شئت، فكأنَّ المفاتيح بيدي افتح بها لمن شئت وأدخله, وأمنع من شئت، ويحتمل أنها بيده حقيقة على ظاهره, وإن كانت لا تغلق بعد أن تفتح على ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 آدم على ربي ولا فخر، ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون" رواه الترمذي والبيهقي واللفظ له. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة" رواه مسلم. وعنه أيضًا، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولًا الجنة". فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض, وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط, وأسبقهم إلى دخول الجنة, وهي أكثر أهل الجنة.   استظهر زيادة في كرامته في اليوم المشهود, "وأنا أكرم ولد آدم على ربي" ودخل آدم بالأولى؛ لأن في ولده من هو أكرم منه كإبراهيم وموسى, "ولا فخر" لا عظمة ولا مباهاة, "ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم" في الحسن واللطافة "اللؤلؤ المكنون" المصون في الصدف؛ لأنه فيها أحسن منه في غيرها. وفي رواية الدارمي: "كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور" رواه الترمذي والبيهقي واللفظ له, ورواه الدارمي بنحوه, وقدَّم المصنف لفظه, قال الترمذي: حديث غريب, وهذه الألف من جملة ما أعد له، فقد روى ابن أبي الدنيا عن أنس، رفعه: "إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم". وعنده أيضًا عن أبي هريرة قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً وليس فيهم دنيء لمن يغدو ويروح عليه خمسة عشر ألف خادم, ليس منهم خادم إلّا معه طرفة ليست مع صاحبه". "وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون" زمانًا "الأولون" أي: السابقون "يوم القيامة" في كل شيء, "ونحن أوّل من يدخل الجنة" قبل الأمم "رواه مسلم، وعنه أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولًا الجنة" هذا مثل ما قبله, غايته أنه عبَّر بالناس بدل من "فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف"؛ لأنهم يكونون على تل يومئذ كما مَرَّ في الخصائص، وفي لفظ: على كوم عالٍ وهما بمعنى، ويحتمل أن يؤخذ من قول هنا الأولون بمعنى السابقين؛ لأن العلوَّ سبق أيضًا "وأسبقهم إلى ظلّ العرش, وأسبقهم إلى فصل القضاء, وأسبقهم إلى الجواز على الصراط, وأسبقهم إلى دخول الجنة" ولمسلم من حديث حذيفة: "نحن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 384 وروى عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبي هريرة: لما نزلت الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39-40] قال -صلى الله عليه وسلم: "أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة"، قال الطبراني: تفرَّد برفعه ابن المبارك عن الثوري. وفي حديث بهز بن حكيم، رفعه: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون". وعن عمر بن الخطاب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الجنة حُرِّمَت على   الآخرون من أهل الدنيا, والأولون يوم القيامة, المقضي لهم قبل الخلائق" "وهي" أي: هذه الأمة "أكثر أهل الجنة". "روى عبد الله ابن الإمام أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني, أبو عبد الرحمن البغدادي الحافظ، ابن الحافظ روى عن أبيه وابن معين وخلق، وعنه النسائي والطبراني وجماعة، قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا فهمًا, ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين, ومات سنة تسعين ومائتين, من حديث أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: {ثلة} جماعة {مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39، 40] قيل: الأولى من الأمم الماضية, والثانية من هذه الأمة، لكن ورد بسند حسن عن أبي بكر، رفعه: أنهما جميعًا من هذه الأمة، فالأولى الصحابة, والثانية ممن بعدهم، لكن يؤيد الأول أنه "قال -صلى الله عليه وسلم" مخاطبًا للحاضرين, ومن بعدهم إلى آخر الدنيا من أمة الإجابة: "أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة" يحتمل أنَّه فهم أولًا أنهم ثلث نظرًا لكثرة الأولين، ثم عدل عنه إلى النصف نظرًا إلى أن أصل التساوي في مثل هذا لقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ، ثم أوحى إليه في الحال ولو بالإلهام أنهم ثلثان، فأخبر به, هذا ما ظهر لي والله أعلم. "قال الطبراني: تفرَّد برفعه ابن المبارك" عبد الله "عن الثوري" سفيان بن سعيد "وفي حديث بهز" بفتح الموحدة وإسكان الهاء وزاي منقوطة "ابن حكيم" بفتح فكسر, ابن معاوية القشيري, صدوق, لم يلق أحدًا من الصحابة، مات في بضع وخمسين ومائة "رفعه: "أهل الجنة عشرون ومائة صف, أنتم منها ثمانون" صفًّا، فهم ثلثا أهل الجنة، وهذا رواه أحمد والترمذي وحسنه, وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحَّحه على شرطهما, عن بريدة بن الحصيب، قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صف, ثمانون منها من هذه الأمة, وأربعون من سائر الأمم". "وروى الطبراني في الأوسط وابن النجار والدارقطني "عن عمر بن الخطاب, أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 385 الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحُرِّمَت على الأمم حتى تدخلها أمتي". قال الدارقطني: غريب عن الزهري. فإن قلت: فما تقول في الحديث الذي صححه الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فدعا بلالًا فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلّا سمعت خشخشتك أمامي"، الحديث. أجاب عنه ابن القيم: بأنَّ تقدم بلال بين يديه -صلى الله عليه وسلم, إنما هو لأنَّه كان يدعو إلى الله أولًا بالأذان، ويتقدَّم أذانه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم, فيتقدَّم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم، قال: وقد روي في حديثٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة   رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الجنة حُرِّمَت" أي: منعت "على الأنبياء كلهم" المراد بهم ما يشمل المرسلين, "حتى أدخلها، وحُرِّمَت على الأمم حتى تدخلها أمتي" أي: إن المطيع الذي لم يعذب من أمته يدخلها قبل الطائع الذي لم يعذَّب من أمة غيره، وداخل النار من أمته يدخل الجنة قبل داخل النار من أمة غيره، فجملة أمته وتمام دخولها الجنة سابق على دخول أمة غيره، فلا يرد ما قد يتوهم أنه لا يدخل أحد من سابق الأمم الطائعين إلّا بعد خروج العاصين من الأمة المحمدية من النار، ولذا لم يؤكد بكل في الأمم بخلاف الأنبياء، وأخذ من الحديث: إن هذه الأمة يخفَّف عن عصاتها ويخرجون قبل عصاة غيرها. "قال الدارقطني: غريب عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب, "فإن قلت:" إذا ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- أوَّل داخل على الإطلاق, "فما تقول في الحديث" أي: فما الجمع بينه وبين الحدي "الذي" رواه أحمد و"صححه الترمذي" وابن حبان والحاكم "من حديث بريدة" بموحدة- مصغَّر "ابن الحصيب" بمهملتين- مصغَّر, الأسلمي, "قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بلالًا، فقال: "يا بلال, بم سبقتني إلى الجنة, فما دخلت الجنة قط إلّا سمعت خشخشتك" بخاءين وشينين معجمات، أي: صوتك "أمامي" بالفتح- قدَّامي، "إني دخلت البارحة الجنة, فسمعت خشخشتك أمامي" الحديث بقيته, المقصود منه هنا قوله: "إني دخلت البارحة ...... " إلخ. وباقيه رؤيته قصرًا من ذهب لعمر, "أجاب عنه ابن القيم، بأن تقدم بلال بين يديه -صلى الله عليه وسلم- إنما هو لأنه كان يدعو إلى الله أولًا بالأذان، ويتقدَّم أذانه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة وبلال بين يديه" ينادي "بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له -صلى الله عليه وسلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 386 وبلال بين يديه "ينادي" بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له -صلى الله عليه وسلم، وإظهارًا لشرفه وفضيلته لا سبقًا من بلال له. وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي"، فقال أبو بكر: يا رسول الله, وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما إنك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنة من أمتي". وقد دلَّ هذا الحديث على أنَّ لهذه الأمة بابًا مختصًا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم. فإن قلت: من أي أبواب الجنة يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إنه قد ذكر الترمذي الحكيم أبواب الجنة، كما نقله عنه القرطبي   واظهارًا لشرفه وفضيلته, لا سبقًا من بلال له". وتعقَّب هذا بأنه لا يلائم السياق؛ إذ لو كان كحاجبه لما قال له: "بم سبقتني"، فقال له بلال: ما أذَّنت قط, إلّا صليت ركعتين, وما أصابني حدث قط إلّا توضأت وصليت ركعتين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بهذا" كما في رواية في الجامع الكبير، فالأولى في الجواب أنها رؤيا منام, ولا يرد بأن رؤيا الأنبياء حق؛ لأن معناه ليست من الشيطان, فمثل له بلال ماشيًا أمامه, إشارة إلى أنه استوجب الدخول لسبقه إلى الإسلام, وتعذيبه في الله, وأن ذلك صار أمرًا محققًا، وأَوْلَى منه ما سبق أن الدخول النبوي يتعدَّد أربع مرات. "وروى" الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد "بن أبي شيبة", واسمه: إبراهيم الواسطي الكوفي, صاحب تصانيف، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين -كما في التقريب وغيره، وتقدَّم مرارًا "من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فأخذ بيدي, فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي" فقا أبو بكر" الصديق: "يا رسول الله, وددت" بكسر الدال الأُولَى "أني كنت معك حتى أنظر إليه، قال -صلى الله عليه وسلم: "أما" بالفتح والتخفيف "إنك" بكسر الهمزة "يا أبا بكر, أوَّل من يدخل الجنة من أمتي" من الرجال, وفاطمة أول من يدخل من النساء -كما ورد أيضًا, فلا خلف، وما ورد من الأولية في غيرهما, فالمراد بعدهما، "فقد دلَّ هذا الحديث" وقد رواه أحمد وصحَّحَه الحاكم "على أنَّ لهذه الأمة بابًا مختصًا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم" تشريفًا لهم. "فإن قلت: من أي أبواب الجنة يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إنه قد ذكر الترمذي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 387 في التذكرة، فذكر باب محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة. فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟ فاعلم أنَّ في حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله, هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب   الحكيم أبواب الجنة -كما نقله عنه القرطبي في التذكرة، فذكر باب محمد -صلى الله عليه وسلم، قال: وهو باب الرحمة, وهو باب التوبة" مناسب لكونه أرسل رحمة للعالمين, ولكونه يحب توبة أمته -عليه السلام. فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟ فاعلم أنَّ في حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين" أي: شيئين من نوع واحد من أنواع المال، وقد جاء تفسيره مرفوعًا: بعيرين شاتين حمارين درهمين، وفي رواية: فرسين نعلين، زاد في بعض طرق الحديث من ماله, "في سبيل الله" أي: في طلب ثوابه أعمَّ من الجهاد وغيره من العبادات. وقيل: المراد شيئين ولو اختلف نوعهما؛ كدينار ودرهم, ودرهم وثوب, وخف ولجام، أي: لأنَّ الزوج يطلق على الواحد المقترن بغيره, كما يطلق على الاثنين، وجوَّز التوربشتي أن يزيد الإنفاق مرة بعد أخرى. قال الطيبي: وهو الوجه: إذا حملت التثنية على التكرير؛ لأن القصد من الإنفاق التثبيت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال, والمواظبة على ذلك -كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سورة البقرة: 265] أي: ليتثبتوا ببذل المال الذي هو شقيق الروح, وبذله أشق شيء على النفس من سائر العبادات الشاقات, "دعي" وفي رواية: نودي "من أبواب الجنة, يا عبد الله, هذا خير" قال الحافظ: أي: فاضل لا بمعنى أفضل, وإن أوهمه اللفظ، ففائدته: رغبة السامع في طلب الدخول من ذلك الباب. وفي لفظ للبخاري: "دعاه خزنة الجنة, كل خزنة باب"، أي: خزنة كل باب، أي: "فُلُ هلمَّ" بضم اللام لغة في فلان، وبه ثبتت الرواية، وقيل: ترخيمه, فاللام مفتوحة, "فمن كان من أهل الصلاة" أي: كانت أغلب أعماله وأكثرها, "دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد" , "ومن كان من أهل الصدقة" المكثرين منها "دعي من باب الصدقة". لا يتكرر مع قوله: أولًا: "من أنفق زوجين"؛ لأن الإنفاق ولو قلَّ من الخيرات العظيمة, وذلك حاصل من كل أبواب الجنة, وهذا استدعاء خاص, "ومن كان من أهل الصيام" المكثرين منه "دعي من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 388 الريان". وروى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء, ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله, إلّا فتحت له من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" بزيادة "من". قال القرطبي: وهو يدل على أنَّ أبواب الجنة أكثر من ثمانية، قال: وانتهى عددها إلى الثلاثة عشر بابًا، كذا قال:   باب الريان" مشتق من الريّ، خُصَّ بذلك لما في الصوم من الصبر على ألم العطش في الهواجر. قال الحافظ: ومعنى الحديث: إن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل، ولأحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي هريرة: "لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل"، فذكر أربعة أبواب وهي ثمانية, وبقي الحج فله باب بلا شك، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، رواه أحمد عن الحسن مرسلًا: "إن لله بابًا في الجنة لا يدخله إلّا من عفا عن مظلمة"، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب، والثامن لعلَّه باب الذكر، ففي الترمذي ما يوميء إليه, ويحتمل أنه باب العلم، ويحتمل أنَّ الأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الثمانية الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية، والمراد ما يتطوّع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها؛ لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات بخلاف التطوعات، فقلَّ من يجتمع له العمل بجميع أنواعه، وإليه الإشارة بقوله في بقية الحديث، فقال أبو بكر: يا رسول الله, ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة, فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها، قال: "نعم, وأرجو أن تكون منهم"، ولابن حبان، فقال: "أجل, وأنت هو يا أبا بكر". "وروى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء" بإتيان فرائضه وسننه وآدابه, "ثم قال" في مسلم: ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا عبده ورسوله, إلّا فُتِحَت له من أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء" بزيادة من في رواية الترمذي وليست في رواية مسلم. "قال القرطبي: وهو يدل على أنَّ أبواب الجنة أكثر من ثمانية"؛ لأن الثمانية بالرفع نائب فاعل فتحت, وجملة من أبواب الجنة حال، ومن للتبعيض، أي: فتحت له الثمانية حالة كونها بعض أبواب الجنة، فلا يرد عليه منع إفادة من للزيادة؛ لأن غايته إفادة أنه فتحت له بعض الأبواب الموصوفة بأنها ثمانية, وقد يكون هذا أقرب ليوافق رواية مسلم بدون من, وهو حديث واحد، ويحتمل أنَّ مِنْ ليست للتبعيض, بل للبيان لرواية مسلم, "قال: وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابًا، كذا قال: "تبرأ منه لاحتياجه إلى توقيف؛ ولأن دليله محتمل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 فإن قلت: أيُّ الجنان يسكنها النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فاعلم -منحني الله وإياك التمتع بذاته القدسية في الحضرة الفردوسية- أنَّ الله تعالى قد اتخذ من الجنان دارًا اصطفاها لنفسه، وخصَّها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل, ومن البشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} . وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن, لا يكون معه فيها أحد إلّا   فإن قلت: أيّ الجنان يسكنها النبي -صلى الله عليه وسلم, فاعلم -منحني" أعطاني "الله وإياك التمتع بذاته" رؤيته تعالى التي لا نعيم يدانيها "القدسية" الطاهرة عمَّا لا يليق بها من صفات المحدثات, ليس كمثله شيء, وفي إطلاق الذات على الله مقال, "في الحضرة الفردوسية" أعلى الجنة, "أنَّ الله تعالى قد اتّخذ من الجنان دارًا اصطفاها" اختارها "لنفسه" أي: ليسكنها خُلَّص أوليائه, ويتجلَّى لهم فيها؛ إذ هو سبحانه لا يحويه مكان "وخصَّها بالقرب من عرشه, وغرسها بيده" بقدرته من غير واسطة, والإضافة للتشريف، وإلّا فكل شيء بقدرته, "فهي سيدة" أي: أفضل "الجنان, والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله, كما اختار من الملائكة جبريل" بناءً على أنه أفضلهم, على ما روي عن كعب الأحبار، وقال صاحب الحبائك: الأحاديث متعارضة في أنّه الأفضل أو إسرافيل، وحديث أفضل الملائكة جبريل ضعيف "ومن البشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم", بل هو أفضل الخلق إجماعًا {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما يشاء. "وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى" هو مصروف عن ظاهره إجماعًا، واختلف: هل يخاض في تأويله أو لا, وهو أسلم بدليل اتفاقهم على أن التأويل المعيّن لا يجب، كما قاله البيهقي: "في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل" أي: في الثلاث الساعات الآخرة, فلا ينافي قوله الآتي: "ثم يهبط آخر ساعة .... " إلخ. ولا قوله: "فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره, فيمحو الله" منه "ما يشاء ويثبت" بالتخفيف والتشديد- فيه "ما يشاء" من الأحكام وغيرها, على ما يشاء من تغيير الأحوال وتصريف الأسباب, لا بمعنى تغيير حكم استقر بأمر بدا له, "ثم ينظر في الساعة الثانية" من الثلاثة نظر عطف ورحمة وإبداء نعمة "في جنة عدن, وهي مسكنه الذي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 390 الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا سائل يسألني فأعطيه، ألا داعٍ يدعوني فأستجيب له، حتى يطلع الفجر". وفي حديثٍ أنه -صلى الله عليه وسلم- أري جنة عدن, ومنازل المرسلين منها، وأُرِيَ منازله فوق منازلهم. وروى أبو الشيخ عن شمر بن عطية قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي. فتأمّل هذه العناية، كيف جعل الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده،   يسكن" من المتشابه أيضًا. قال ابن فورك: معناه: إنها دار كرامته ومثوبته, وهي إضافة تشريف وتخصيص، كقولنا: الكعبة بيت الله, لا أنه يسكنها سكون حلول -تعالى عن ذلك، قال: وقوله: "لا يكون معه فيها أحد, إلّا الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون" أي: فإنهم فيها بالحلول والسكنى حقيقة, وهو تعالى معهم بالنصرة والكرامة. انتهى. "وفيها ما لم يره أحد, ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل" إلى السماء الدنيا -كما في بعض طرق هذا الحديث. "فيقول: ألَا مستغفر يستغفرني فأغفر له" ذنوبه, "ألا سائل يسألني فأعطيه" مسئوله، "ألا داعٍ يدعوني فأستجيب له" دعاءه، أي: أجيبه، فليست السين للطلب, والأفعال الثلاثة بالنصب جواب الطلب, وبالرفع استئناف، وبهما قرئ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ، واقتصر على الثلاثة؛ لأن المطلوب إمَّا رفع المضار أو جلب السار، وذلك إمَّا ديني أو دنيوي، فالاستغفار إشارة إلى الأوّل، والدعاء إشارة إلى الثاني، والسؤال إشارة إلى الثالث, "حتى يطلع الفجر" وفي بعض الروايات: الشمس, وهي شاذة. "وفي حديث أنه" صلى الله عليه وسلم "أري جنة عدن ومنازل المرسلين منها، وأري منازله فوق منازلهم" ورفع بعضهم درجات. "وروى أبو الشيخ عن شمر" بكسر المعجمة وإسكان الميم "ابن عطية" الأسدي الكوفي، صدوق, لم يلق أحدًا من الصحابة "قال: خلق الله جنة الفردوس" أعلى الجنة ووسطها كما في حديث مرفوع "بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات" لعلّها عند أوقات الصلوات الخمس, "فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي. فتأمّل هذه العناية" بكسر العين- كيف جعل الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده, ولأفضل بريته: خليقته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 391 ولأفضل بريته اعتناءً وتشريفًا، وإظهارًا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره. وروى الدارمي عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده, وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزَّتي وجلالي, لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث" وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن تُكُلِّمَ فيه. وروى الدارمي أيضًا، عن عبد الله بن عمر قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم وعدن وآدم -عليه السلام، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان".   اعتناءً وتشريفًا وإظهارًا لفضل ما خلقه بيده وشرفه, وتمييزه بذلك عن غيره". "وروى الدارمي" وابن أبي الدنيا "عن عبد الله" بن عبد الله بن الحارث" بن نوفل -كما في رواية ابن منده, فنسبه إلى جَدِّه, وذكره في التقريب فيمن وافق اسمه اسم أبيه, ونوفل ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي, تابعي ثقة، مات سنة تسع وتسعين، فالحديث مرسل "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده" أي: بصفة خاصة وعناية تامة، فإن الإنسان لا يضع يده في أمر إلّا إذا كان له به عناية شديدة، فأطلق اللازم وهو اليد, وأراد الملزوم وهو العناية مجازًا؛ لأن اليد بمعنى الجارحة محال على الله تعالى, "خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده, وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزَّتي وجلالي, لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث" بفتح المهملة وشد التحتية ومثلثة. زاد في رواية ابن أبي الدنيا، قالوا: يا رسول الله, وما الديوث؟ قال: "الذي يقر السوء في أهله" وفيه أبو معشر نجيح -بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية وحاء مهملة- ابن عبد الرحمن" السندي -بكر المهملة وإسكان النون- مولى بني هاشم, مشهور بكنيته "تكلِّمَ فيه" بالضعف, وأنه أسن واختلط، مات سنة سبعين ومائة، لكن له شواهد عن أنس مرفوعًا "إن الله بنى الفردوس بيده, وحظرها على كل مشرك وكل مدمن خمر". رواه البيهقي, وعنده أيضًا عن كعب: "إن الله خلق الجنة بيده, وكتب التوراة بيده, وخلق آدم بيده" ومن شواهده قوله: "وروى الدارمي أيضًا" وأبو الشيخ في العظمة "عن عبد الله بن عمر، قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم والعلم وعدن وآدم، ثم قال لسائر الخلق كن فكان" وهذا موقوف له حكم الرفع، والطبراني عن ابن عباس رفعه: "خلق الله جنة عدن بيده, ودلَّى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 392 وعنده أيضًا عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده. فجنة عدن أعلى الجنان وسيدتها, وهي قصبة الجنة، وفيها الكثيب الذي تقع فيه الرؤية، وعليه تدور ثمانية أسوار, بين كل سورين جنة، فالتي تلي جنة عدن من الجنان جنة الفردوس، وأصله البستان، وهي أوسط الجنان التي دون جنة عدن وأفضلها, ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، وهي التي يأوي إليها جبريل وميكائيل والملائكة. وعن مقاتل: تأوي إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام؛ لأنها دار السلامة من كل مكروه، ثم دار المقامة. واعلم أن للجنة أسماء عديدة, وكلها باعتبار صفاتها، ومسمَّاها واحد باعتبار ذاتها،   فقال: وعزَّتي وجلالي, لا يجاورني فيك بخيل" , "وعنده أيضًا عن ميسرة قال: إنَّ الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده, وغرس جنة عدن بيده، فجنة عدن أعلى الجنان" وبذلك سميت في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [الزمر: 71] وسيدتها" أي: أفضلها "وهي قصبة الجنة" أي: وسطها, "وفيها الكثيب" بمثلثة "الذي تقع فيه الرؤية" لله تعالى, "وعليها تدور ثمانية أسوار, بين كل سورين جنة، فـ" الجنة "التي تلي جنة عدن من الجنان جنة الفردوس" {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] وأصله" لغةً "البستان" يذكَّر ويؤنَّث. قال ابن الأنباري: فيه كروم، قال الفراء، هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل: منقول من الرومية إلى العربية, "وهي أوسط الجنان التي دون جنة عدن وأفضلها" في جزمه، أنَّ جنة عدن أفضل من جنة الفردوس, نظر؛ لأنه خلاف ما في الصحيحين مرفوعًا: "إنَّ في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة"، والمراد بوسط الجنة: خيارها وأفضلها, "ثم جنة الخلد {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} [فصلت: 8] ثم جنة النعيم {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ثم جنة المأوي {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] ، وهي التي يأوي إليها جبريل وميكائيل والملائكة". "وعن مقاتل: تأوي إليها أرواح الشهداء, ثم دار السلام" {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] لأنها دار السلامة من كل مكروه، ثم دار المقامة" بضم الميم- {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] فهذه سبع جنان مذكورة في القرآن كما علم "واعلم أنَّ للجنة أسماء عديدة" منها هذه السبع, ودار الله, ودار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 393 فهي مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنَّة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين، وهذه اللفظة مشتَقَّة من الستر، ومنه سمي البستان جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدًّا، كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأم حارثة لما قُتِلَ ببدر، وقد قالت: يا رسول الله, ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء عليه، فقال: "يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى" وقال تعالى: {لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]   الإقامة, والمقامة الأمين, ومقعد صدق, وقدم صدق, والحيوان, وغير ذلك, "وكلها باعتبار صفاتها ومسمَّاها واحد باعتبار ذاتها، كأسماء الله, وأسماء رسوله -كما في حادي الأرواح, فهي مترادفة من هذا الوجه, ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين" فرحها "وهذه اللفظة" أي: الجنة "مشتَقَّة من الجن، أي: الستر، ومنه سُمِّيَ البستان جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدًّا كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأم حارثة" بن سراقة الأنصاري, واسم أمه: الربيع بنت النضر, عَمَّة أنس بن مالك "لما قتل يوم بدر" رماه ابن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض فقتله. "وقد قالت: يا رسول الله, ألا تحدثني عن حارثة, فإن كان في الجنة صبرت, وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء عليه" ومقول القول: "يا أم حارثة: إنها جنان" أي: درجات في الجنة, "وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى" وهذا الحديث رواه البخاري في الجهاد, عن أنس بلفظ المصنف, وضمير إنها مبهم يفسره ما بعده، كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء، والمراد بذلك التفخيم والتعظيم. ورواه في المغازي: والرقاق عن أنس بلفظ: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام, فجاءت أمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله, قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن يكن الأخرى ترى ما أصنع, فقال: "ويحك, أوهبلت, أوجنة واحدة, إنها جنان كثيرة, وإنه في الفردوس الأعلى" وقال تعالى: {لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قيامه بين يديه للحساب بترك معصيته روى الحافظ أبو الغنائم الترسي في كتابه أنس العاقل وتذكرة الغافل, عن أم سلمة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا وصيفة له فأبطأت عليه، فقال لها: "لولا خوف الله يوم القيامة لأوجعتك بهذا السواك"، وروي فيه أيضًا عن مجاهد في الآية، قال: "هو الذي يهمّ بالمعصية، فيذكر الله فيدعها" "جنتان" جنة للخائف الأنسي, والأخرى للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، والمعنى: لكل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 فذكرهما ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] أي: فهذه أربع، وقال -صلى الله عليه وسلم: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما, وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري. وقد قسَّم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة. اختصاص إلهيّ, وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة رسول.   خائفين منكما، أو لكلّ واحد جنة لعقيدته، والأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها, وأخرى يتفضل بها عليه, وروحانية وجسمانية "فذكرهما ثم قال: ومن دونهما" أي: الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين "جنتان" لمن دونهم من أصحاب اليمين. كذا في البيضاوي: "فهذه أربع", وفي كل جنة درجات ومنازل وأبواب, وكلها تتصف بالمأوى والخلد وعدن والسلام، ولذا اختار الحليمي أنَّ الجنان أربع لهذه الآية، والحديث وهو: "وقال -عليه السلام: "جنتان" مبتدأ "من فضة" خبر قوله: "آنيتهما وما فيهما" عطف عليه, وحذف متعلق من فضة، أي: آنيتهما كائنة من فضة, والجملة خبر جنتان, "وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" بإعراب سابقه. وللبيهقي عن أبي موسى رفعه: "جنتان من ذهب للسابقين, وجنتان من ورق لأصحاب اليمين"، وله ولأحمد والطيالسي, عن أبي موسى, عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما, وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما" رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "جنتان من فضة" فذكره بتقديم الفضة كما سقته، ويقع في كثير من نسخ المصنف بتقديم الذهب, وهو خلاف ما في الصحيحين. وإن كان رواته في غيرهما، وبقية الحديث عند الشيخين وغيرهما: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن"، وقوله: "في جنة عدن" ظرف للقوم, أو نصب حالًا منهم. قال البيهقي: رداء الكبرياء استعارة لصفة الكبرياء والعظماء؛ لأنه بكبريائه لا يراه أحد من خلقه إلّا بإذنه، ويؤيده أنَّ الكبرياء ليس من جنس الثياب المحسوسة, "وقد قسَّم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة: جنة اختصاص إلهيّ" أي: خصَّ الله بها هؤلاء الذين لا عمل لهم, وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها" أيضًا "أهل الفترات" جمع فترة, بين الرسل, "ومن لم تصل إليه دعوة رسول، والجنة الثانية: جنة ميراث ينالها كل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 395 والجنة الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها. والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر, وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن، غير أنَّ فضله في هذا المقام لهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلّا وله جنة. ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم, قال -صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة" الحديث. فعلم أنها كانت جنة مخصوصة، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم إلّا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص، يناله من دخلها، وقد يجمع الواحد من الناس في الزمان الواحد أعمالًا من العبادات, فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس كذلك. فقد تبيِّن أن نيل المنازل والدرجات في الجنات بالأعمال, وأمَّا الدخول فلا يكون إلّا برحمة الله تعالى، كما في البخاري ومسلم من حديث عائشة، أن   من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها" لو آمنوا وماتوا عليه, "والجنة الثالثة جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر, وسواء كان الفضل دون المفضول, أو لم يكن, غير أنَّ فضله في هذا المقام بهذه الحالة, ولا يلزم منه الفضل المطلق, "فما من عمل من الأعمال إلّا وله جنة, ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم". "قال -صلى الله عليه وسلم: "يا بلال, بم سبقتني إلى الجنة .... " الحديث السابق قريبًا, "فعلم أنها" أي: الجنة التي سبقه بلال إليها "كانت جنة مخصوصة", فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير" زيادة إطناب؛ إذ هو لا ينفك عن أحدهما, "ولا ترك محرم" داخل في الفريضة "إلّا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها". "وقد يجمع الواحد من الناس في الزمان الواحد أعمالًا من العبادات, فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس كذلك" مثاله: معتكف صائم صلى الضحى مثلًا وتصدَّق بدينار أو رغيف ناوله لمن يجنبه، أو أشار إليه بأخذه وهو يصلي. :فقد تبيِّن أن نيل المنازل والدرجات في الجنان بالأعمال، وأمَّا الدخول فلا يكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 396 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني الله برحمته" أي: يلبسنيها ويسترني بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه. وعند الإمام أحمد بإسناد حسن، من حديث أبي سعيد الخدري: "لن يدخل الجنة أحد إلّا برحمة الله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني الله برحمته"، وقال: بيده فوق رأسه، يعني: إن الجنة إنما تدخل برحمة الله وليس عمل العبد سببًا مستقلًّا بدخولها, وإن كان سببًا، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزحرف: 72] ونفى -صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين، لما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار   إلّا برحمة الله تعالى" التي وسعت كل شيء في الدنيا, وخصّ بها في الآخرة المتقين الكفر بالإيمان. "كما في البخاري ومسلم من حديث عائشة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يدخل أحد الجنة بعمله" لما كان أجره -صلى الله عليه وسلم- في الطاعة أعظم, وعمله في العبادة أقوم "قالوا: ولا أنت يا رسول الله" لا تدخلها بعملك مع عظم قدرك, "قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني" بغين معجمة "الله برحمته" استثناء منقطع، ويحتمل اتصاله من قبيل قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي: يلبسنيها ويسترني بها" تفسير لتغمدني, "مأخوذ من غمد السيف" بكسر المعجمة وسكون الميم- وهو غلافه -بمعجمة وفاء- قرابه. وعند الإمام أحمد بإسناد حسن من حديث أبي سعيد" الخدري مرفوعًا: "لن يدخل الجنة أحد إلّا برحمة الله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله, قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني" يسترني "الله برحمته" وقال بيده" أي: وضعها "فوق رأسه" كأنَّه إشارة إلى أنَّه يتغمده ويستره كله، وفيه: إن العامل لا يتَّكِلُ على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات؛ لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته, "يعني: إن الجنة إنما تدخل برحمة الله, وليس عمل العبد سببًا مستقلًّا بدخولها, وإن كان سببًا" في الجملة, "ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] ونفى -صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين الإثبات والنفي, "لما ذكر سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله, ودخول الجنة برحمة الله, واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال, وهذا قالوه: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 بعفو الله، ودخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبي هريرة: "إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم" رواه الترمذي. قال ابن بطال: مجمل الآية على أنَّ الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، ومحل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها, ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فصرَّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال. وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول. ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية على وجه آخر، والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته؛ حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو   جمعًا بين الآية والحديث، وأيده في البدور بما رواه هنا، وفي الزهد عن ابن مسعود، قال: تجوزون الصراط بعفو الله, وتدخلون الجنة برحمة الله, وتقتسمون المنازل بأعمالكم. "ويدل له" أي: لهذا الذي قالوه "حديث أبي هريرة" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة إذا دخلوها" برحمة الله "نزلوا فيها" المنازل "بفضل" أي: زيادة "أعمالهم". "رواه الترمذي" وابن ماجه في مبدأ حديث طويل, "قال ابن بطال: مجمل الآية على أنَّ الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة" في العلوِّ "بحسب تفاوت الأعمال, ومحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها" فلا تعارض بينهما, "ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى" في سورة النحل: يقولون {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرَّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون" ففيه تقدير مضاف بدليل الحديث, "وليس المراد بذلك أصل الدخول" فلا تعارض بينهما, "ثم قال" ابن بطال: "ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية على وجه آخر"؛ إذ ما قبله تفسير لها أيضًا؛ إذ لولاه ما جاز تقدير المضاف، "والتقدير: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم" على طريقة الاكتفاء أو حذف الصفة؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك" المذكور، ولا يخلو شيء من مجازاته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 398 شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضَّل الله عليهم ابتداءً بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم. وأشار إلى نحوه القاضي عياض فقال: وإنَّ من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحق العامل بعمله، وإنِّما هو بفضل الله ورحمته. وقال غيره: لا تنافي بين ما في الآية والحديث؛ لأن "الباء" التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًّا بحصوله، و"الباء" التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنَّه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده -ولو تناهي- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضًا لها؛ لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة, فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها،   لعباده من رحمته وفضله"؛ إذ لولا توفيقه لهم للأعمال وبيانها لهم ما عملوها، كما أفاده بقوله: "وقد تفضل الله عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم" الأحكام الشرعية: واجباتها ومندوباتها المسببة لرفع المنازل. "وأشار إلى نحوه القاضي عياض، فقال: وإن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة, وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله, وإنما هو بفضل الله ورحمته، وقال غيره: لا تنافي بين ما في الآية والحديث؛ لأن الباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره, وإن لم يكن مستقلًّا بحصوله" بل مع رحمة الله وتوفيقه للعمل وقبوله, لا بمجرده "والباء التي نفت الدخول هي باء المعارضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر, نحو: اشتريت منه بكذا" تمثيل لباء المعارضة, "فأخبر" صلى الله عليه وسلم "أنَّ دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد, وأنه لولا رحمة الله بعبده ما أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده ولو تناهى" بلغ النهاية، أي: الغاية "لا يوجب بمجرده دخول الجنة, ولا يكون عوضًا لها" فكأنه قيل: لن يدخل أحد الجنة عوضًا عن عمله؛ "لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي" لا يقابل "نعمة واحدة" من نعم الله تعالى, "فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها؛ لأن نفس الشكر على النعمة نعمة تستدعي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 399 فلذلك لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم، كما في حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي داود وابن ماجه. وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة, والتعليل القائلين بأنَّ القيام للعبادة ليس إلّا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاش ولا معاد، ولا لنجاة المتعقدين أنَّ النار ليست سببًا للإحراق، وأنَّ الماء ليس سببًا للإرواء والتبريد. والقدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل, والقائلين بأنَّ العبادات شرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هي بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجِّين بأن الله تعالى يجعلها عوضًا عن العمل، كما في قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله -صلى الله عليه وسلم- حاكيًا عن ربه تعالى: "يا عبادي،   شكرًا وهكذا إلى غير نهاية, "فلذلك لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم كما في حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي داود وابن ماجه" وصحَّحه ابن حبان، كلهم عن أُبَيّ وحذيفة وابن مسعود موقوفًا، وزيد بن ثابت مرفوعًا, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنَّ الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك, ولو مت على غير هذا لدخلت النار". ورواه أحمد أيضًا "وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة" جمع نافٍ كرام ورماة وقاض وقضاة, "للحكمة والتعليل" وأنَّ العبد المجبور على جميع ما فعل القائلين بأنَّ القيام بالعبادة ليس إلّا لمجرد الأمر" من الله بها من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاش" للدنيا, "ولا معاد" للأخرى, "ولا" سببًا "لنجاة المعتقدين" أنَّ النار ليست سببًا للإحراق، وأنَّ الماء ليس سببًا للإرواء" للظمأ "والتبريد" للحر إذا صب على الجسد مثلا بلا شرب "و" فصل النزاع أيضًا "مع القدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل, والقائلين بأن العبادات شرعت اثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنهما" أي: الثواب والنعيم. وفي نسخة: وإنها بالإفراد, أي: العبادات, وفي أخرى: وإنما هي، أي: العبادات "بمنزلة استيفاء الأجير أجرته, محتَجِّين بأنَّ الله تعالى يجعلها عوضًا" عن العمل كما "في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله -عليه السلام- حاكيًا عن ربه تعالى: "يا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 400 إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها". وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل الأعمال ارتباطًا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنًا لها, والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أنَّ الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأنَّ الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته, وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها في قلبه، وكرّه إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له تعالى إن قبلها سبحانه، ولهذا نفى -صلى الله عليه وسلم- دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين بأن الجزاء بمحض الأعمال وثمنًا لها، وأثبت -سبحانه وتعالى- دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية   عبادي, إنما هي أعمالكم أحصيها" أضبطها لكم بعلمي وملائكتي؛ ليكونوا شهداء بين الخالق وخلقه، وقد يضم لذلك شهادة الأعضاء زيادة في العدل, {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} "ثم أوفيكم إياها" وهذا قطعة من آخر حديث طويل في مسلم وغيره, "وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشدَّ التقابل, وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا" تعلقًا "بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنًا لها, والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر" خلق "الله عليه عباده" وطبعهم عليه, "وجاءت به رسله, ونزلت به كتبه، وهو أنَّ الأعمال أسباب موصَّلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها, وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته, وصدقته علي عبده أن أعانه عليها ووفقه لها, وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها, وحببها إليه وزيِّنَها" حسَّنها "في قلبه" كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] وكرَّه إليه أضدادها {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7] ومع هذا, فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له تعالى" لأجل "إنْ قَبِلَها سبحانه"؛ إذ لو شاء لم يقبلها, "ولهذا نفى -عليه السلام- دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين بأنَّ الجزء بمحض الأعمال وثمنًا لها" بناء على أصلهم الفاسد أنَّ العبد يخلق أفعال نفسه. قال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله, ولا كما قال النبيون, ولا كما قال أصحاب الجنة, ولا كما قال أصحاب النار, ولا كما قال أخوهم إبليس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 401 الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء, فتبيِّنَ أنه لا تنافي بينهما؛ إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنًا وعوضًا لها, ردًّا على القدرية, والمثبت الدخول بسبب العمل ردًّا على الجبرية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا: فمعنى قوله {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر مع هذا أنْ تكون "الباء" للمصاحبة, أو للإلصاق, أو للمقابلة، ولا يلزم من   قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} ، وقال أصحاب الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَن هَدَانَا اللَّهُ} ، وقال أصحاب النار: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وقال إبليس: {رب بما أغويتني} . أخرجه الزبير بن بكار "وأثبت -سبحانه وتعالى- دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء" على أصلهم الفاسد، أنَّ العبد مجبور على الفعل, لا ينسب إليه منه شيء، فلا يثاب على طاعة, ولا يعاقب على معصية, وهذا هدم للشريعة, وإبطال للآيات والأحاديث الكثيرة، وقد تشبشوا بنحو قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وتقدَّم الرد عليهم في غزوة بدر, "فتبيِّن أنَّه لا تنافي بينهما؛ إذ توارد النفي" في الحديث, والإثبات في الآيتين, ليس على معنى واحد حتى يحصل التنافي, فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال, وكون الأعمال ثمنًا وعوضًا لها ردًّا على القدرية, والمثبت الدخول بسبب العمل مع رحمة الله وفضله وتوفيقه إليه وقبوله, لا بمجرده ردًّا على الجبرية, والله يهدي من يشاء هدايته إلى صراط مستقيم, دين الإسلام. وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كانت كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى, وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه, وعلى هذا فمعنى قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول. ولا يضر مع هذا التقدير أن تكون الباء للمصاحبة" أي: مصاحبين لأعمالكم, "أو للإلصاق, أو للمقابلة" أي: المعارضة, ولا يلزم من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 402 ذلك أن تكون سببية. قال: ثم رأيت النووي جزم بأنَّ ظاهر الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أنَّ التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها, وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى. انتهى. وروى الدارقطني عن أبي أمامة، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم الرجل أنا لشرار أمتي"، فقالوا: "فكيف؟ أنت لخيارها، فقال: "أمَّا خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم, وأما شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي" ذكره عبد الحق في العاقبة. وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة بالكوثر -وهو على وزن فَوْعَل من الكثرة- سُمِّيَ به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته, وعظيم قدره وخيره.   ذلك أن تكون سببية" فلا يخالف الحديث. "قال" الحافظ: "ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال, والجمع بينها وبين الحديث أنَّ التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل" كما في الآية, "وهو من رحمة الله تعالى. انتهى" كلام النووي، وعليه فالباء سببية في الآية والحديث. "وروى الدارقطني" والطبراني وأبو نعيم "عن أبي أمامة, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال: "نِعْمَ" بكسر فسكون- كلمة مدح, "الرجل أنا لشرار أمتي"، قالوا: فكيف؟ أنت لخيارها، قال: "أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم" فظاهره أنَّ الباء للسببية, فيحمل على ما مَرَّ, "وأمَّا شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي"، ذكره عبد الحق" وللترمذي والحاكم والبيهقي عن جابر رفعه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي". ورواه البيهقي من حديث أنس بزيادة: "ولأهل العظائم وأهل الدماء"، وأخرجه أيضًا عن كعب بن عجرة, ومن مرسل طاوس بدون الزيادة، وقال: هذا مرسل حسن يشهد لكون هذه اللفظة شائعة فيما بين التابعين، وللطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: "إني ادَّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، وله عن أم سلمة رفعته: "اعملي ولا تَتَّكِلي, فإن شفاعتي للهالكين من أمتي". "وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بالكوثر وهي وزن فَوْعل" مأخوذ "من الكثر" كنوفل من النفل "سُمِّيَ به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته, وعظم قدره وخيره" والعرب تسمي كل كبير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 403 فقد نقل المفسرون في تفسير "الكوثر" أقوالًا تزيد على العشرة، ذكرت كثيرًا منها في المقصد السادس من هذا الكتاب، وأَوْلَاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه, لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم, فلا معدل عنه. فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل, وعلى بن مسهر، كلاهما عن المختار بن فلفل, عن أنس -واللفظ لمسلم- قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا في المسجد، إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، قلنا:   القدر والعظم كوثرًا, "فقد نقل المفسرون في تفسير الكوثر أقوالًا تزيد على العشرة" أي: تفوق بمثلها على العشرة, "ذكرت كثيرًا منها في المقصد السادس من هذا الكتاب" وقال: المشهور المستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة, أو أولاده أو الخير الكثير، أو النبوة أو علماء أمته، أو الإسلام، أو كثرة الأتباع أو العلم أو الخلق الحسن, أو جميع نعم الله عليه، هذه العشرة هي التي ذكرها المصنف، ثم ذكرت هناك بقيتها: وهي الحوض الذي في القيامة, أو الشفاعة, أو المعجزات الكثيرة, أو المعرفة، أي: العلوم الخمس التي خُصَّت بها أمته, أو كثرة الأمة, ومغايرته لكثرة الأتباع بحملهم على أصحابه لكثرتهم جدًّا على اتباع غيره من الرسل, فهذه العشرة تمام العشرين، وفي الفتح: وقيل: نور القلب، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: القرآن. انتهى. فأمَّا نور القلب فهو المعرفة، وأمَّا الفقه في الدين فهو العلم, "وأولادها" لو لم يفسره -صلى الله عليه وسلم- بخلاف قول ابن عباس" عند البخاري وغيره "أنه الخير الكثير لعمومه الشامل" لكل ما قيل, لكن ثبت تخصيصه بالنهر " الذي في الجنة من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم, فلا معدل عنه فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل" مصغَّر- الضبي الكوفي, من رجال الجميع, وعليّ بن مسهر" بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء- القرشي، الكوفي، من رجال الكل أيضًا "كلاهما عن المختار بن فلفل" بفاءين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة, من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي, "عن أنس واللفظ لمسلم، قال" أنس: "بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا" أي: بيننا, وأظهر زائدة, وبين إنما تضاف لمتعدد، فيقدر بين كون أوقاته بيننا "في المسجد؛ إذ أغفى إغفاءة" أي: نام نومة خفيفة، قال الأبي: ويحتمل أن يراد بها إعراضه عمَّا كان فيه من حديث. انتهى. هكذا في النسخ الصحيحة وهو الذي في مسلم، وفي بعضها: غفا بدون ألف، فيكون قوله: إغفاءة مصدرًا غير مقيس؛ إذ قياسه غفوًا "ثم رفع رأسه متبسمًا, فقلنا: ما أضحكك؟ " زاد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 404 ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أنزلت عليّ آنفًا سورة"، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ثم قال: "أتدرون ما الكوثر" , قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "إنه نهر وعدنيه ربي -عز وجل". الحديث. لكن فيه إطلاق الكوثر على الحوض، وقد جاء صريحًا في حديث عند   في رواية: أضحك الله سنَّك "يا رسول الله". قال الأبي: عبَّروا بالضحك عن التبسُّم منه؛ لوضوح التبسم منه -صلى الله عليه وسلم, فعبروا عنه بالضحك "قال: أنزلت عليّ آنفًا" بفتح الهمزة ممدودة ومقصورة، وبهما قرئ في السبع, وكسر النون وبالفاء، أي: قريبًا "سورة, فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم". قال الأبي: لا دلالة فيه على أنها آية منها, ولا من كل سورة, وإنما هو في المعنى؛ كقول الشاطبي: ولا بد منها في ابتداء سورة. انتهى, يعني: أن يستحب ابتداء القراء بها في غير الصلاة اتفاقًا: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أكَّد مع ضمير العظمة إشارة إلى عظمة المعطي والمعطى والمعطى له, وتشويقًا إليه, ونفيًا للشبهة فيه، وعبَّر بلفظ الماضي دلالة على أن الإعطاء حصل في الزمان الماضي؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد وغيره، ولا شكَّ أن من كان في ماضي الزمان عزيزًا, مرعي الجانب, أشرف ممن يصير كذلك {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أمر بالصلاة مطلقًا, أو التهجد بالليل، وكان الظاهر: فاشكر, فعدل عنه؛ لأن مثل هذه النعمة العظيمة ينبغي أن يكون شكرها العبادة, وأعظمها الصلاة، فأمر بأعظم العبادات بالنفس وبالمال بقوله: {وَانْحَرْ} البدن؛ لأنَّ النحر يختص بها، وفي غيرها يقال: ذبح، وإن جاز نحر البقر, وخص الشكر بالمال بها؛ لأنها كرائم أموال العرب {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك {هُوَ الْأَبْتَرُ} منقطع العقب، وقيل: المنقطع عن كل خير، قال في الإتقان: والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وفهم فاهمون من هذا الحديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وأجاب الرافعي بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزَّلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسَّره لهم، أو الإغفاءة ليست نومًا، بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي، قلت: والأخير أصح من الأوّل، أي: وجيهه؛ لأن قوله: "أنزلت عليَّ آنفًا" يدفع كونها أنزلت قبل ذلك, ثم قال: "أتدرون ما الكوثر"، قلنا: الله ورسوله أعلم" فيه حسن أدبهم -رضي الله عنهم, "قال: "إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل .... " الحديث تمامه: "في الجنة, عليه خير كثير, وهو حوضي, ترد عليه أمتي يوم القيامة, آنيته عدد النجوم، فيختلع العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقال: ما تدري ما أحدث بعدك" , "لكن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 405 البخاري أنَّ الكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض. وعند أحمد: "ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض" وعند مسلم: "ويغت فيه" -يعني: الحوض- ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق". وقوله: "يغت" بالغين المعجمة، أي: يصب. وفي البخاري من حديث قتادة عن أنس قال: لما عُرِجَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافَّتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر".   فيه" أي: في قوله في بقية الحديث: "وهو حوضي ... " إلخ. "إطلاق الكوثر على الحوض" باعتبار أنه ممدود منه، فكأنه قيل: هو مادة حوضي، فلا تنافي بينه وبين قوله: "نهر في الجنة" "و" يؤيد ذلك أنه "قد جاء صريحًا في حديث البخاري أنَّ الكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض، وعند أحمد: "ويفتح نهر الكوثر" الذي في الجنة "إلى الحوض" الذي فيه الموقف. "وعند مسلم" من حديث أبي ذر: "يغت" بمعجمة وفوقية "فيه" يعني: الحوض "ميزابان يمدَّانه" بفتح التحتية وضمها من مَدَّ وأَمَدَّ. زاد "من الجنة: أحدهما من ذهب, والآخر من ورق" فضة, "وقوله: يغت بالغين" المعجمة مضمومة ومكسورة، كما قال النووي وغيره: "أي: يصب" وفي النهاية: أي: يدفقان فيه الماء دفقًا دائمًا متتابعًا. وفي البخاري" في التفسير, ورواه مسلم أيضًا، كلاهما "من حديث قتادة عن أنس، قال: لما عُِرجَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء, قال: "أتيت على نهر حافَّتاه" بحاء مهملة وخفة الفاء- جانباه، لأنه ليس أخدودًا، أي: شقًّا مستطيلًا في الأرض يجري فيه الماء حتى يكون له حافتان، ولكنه سائل على وجه أرض الجنة, فما جاوز ما انتهى إليه سيلانه هو جانبه. روى أبو نعيم وابن مردويه وصحَّحه الضياء عن أنس، رفعه: "لعلكم تظنون أنَّ أنهار الجنة أخدود في الأرض, لا والله, إنها لسائحة على وجه الأرض" , "قباب" بكسر القاف وخفة الموحدة جمع قبة، والترمذي: "حافَّتاه فيهما لؤلؤ مثل القباب"، فالمراد في جانبيه مثل قباب "اللؤلؤ المجوف" بفتح الواو مشددة صفة اللؤلؤ. قال المصنف: ولأبي ذر: مجوفًا، أي: بالنصب حالًا من اللؤلؤ، وفي رواية للبخاري وغيره: قباب الدر المجوف، وأعربه المصنف وغيره صفة للدر, "فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" زاد البخاري في الرقاق: "الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر" بذال معجمة، أي: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 406 ورواه ابن جرير عن شريك بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أُسْرِيَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مضى به جبريل، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فذهب يشم ترابه, فإذا هو مسك، قال: يا جبريل، ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي الذي خبَّأ لك ربك. وروى أحمد عن أنس: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل". وعن أبي عبيدة عن عائشة قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: نهر أعطيه نبيكم في الجنة, شاطئاه عليه در مجوّف، آنيته كعدد النجوم" رواه البخاري. وقوله: "شاطئاه" أي: حافَّتاه.   شديد الرائحة الطيبة، ولأبي نعيم وغيره عن أنس، قلت: يا رسول الله, ما الأذفر؟ قال: "الذي لا خلط معه, وطينه بنون على المعتمد"، ففي رواية البيهقي: ترابه مسك. ورواه ابن جرير عن شريك بن أبي نمر" بفتح النون وكسر الميم "قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم" أي: لما عُرِجَ به -كما عبَّر في البخاري في التي قبلها- ليلة الإسراء ودخل الجنة, "مضي به جبريل" فيها, "فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد" جوهر معروف، ويقال: هو الزمرد, "فذهب يشم" بكسر الشين وضمها لغة "ترابه، فإذا هو مسك، "قال: يا جبريل ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي خبَّأ" -بالهمز- "لك ربك" أي ستره وادخره. "وروى أحمد عن أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله, ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي" والله "لهو أشدّ بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل" أي: ماؤه كما عبَّر به في الرواية الآتية. "وعن أبي عبيدة" عامر بن عبد الله بن مسعود "عن عائشة قال" أبو عبيدة: "سألتها" أي: عائشة "عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، أي: ما المراد بالكوثر "قالت" هو نهر أعطيه نبيكم" صلى الله عليه وسلم "في الجنة, شاطئاه" أي: جانباه, "عليه" أي: على الشاطئ "در مجوف" بفتح الواو مشددة- صفة لدر, خبره الجار والمجرور, والجملة خبر المبتدأ الأول الذي هو شاطئاه، قاله المصنف: "آنيته كعدد النجوم". "رواه البخاري" في التفسير, والنسائي, "وقوله: شاطئاه، أي: حافَّتاه، وقوله: در مجوف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 407 وقوله: در مجوف" أي: القباب التي على جوانبه. ورواه النسائي بلفظ قالت: نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها، حافَّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك, وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت. و"بطنان" بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون. و"وسط" بفتح المهملة، المراد به أعلاها، أي: أرفعها قدرًا، أو المراد به: أعدلها. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة, حافَّتاه من الذهب, والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل" رواه أحمد وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل،   أي: القباب التي على جوانبه" بدليل روايته أنس آنفًا: حافَّتاه قباب اللؤلؤ "ورواه النسائي بلفظ: قالت عائشة: هو "نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها, حافَّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت, ترابه" المعبَّر عنه في الرواية السابقة: بطينه, "المسك, وحصباؤه" بالمد، أي: حصاه: جمع حصبة بزنة قصبة "اللؤلؤ والياقوت" وبطنان -بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون فألف فنون "ووسط بفتح المهملة، والمراد به: أعلاها، أي: أرفعها قدرًا، أو المراد به أعدلها" من حيث الفضل بكثرة الخدم والآلات. "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الكوثر" صيغة مبالغة في المفرط كثرة, "نهر في الجنة, حافَّتاه من الذهب" لا يناقض ما قبله: حافتاه اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، لجواز أنها مبنية بذهب مرصعة بذلك، ويؤيده قوله: "والماء يجري على اللؤلؤ, وماؤه أشد بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل". "رواه أحمد والترمذي "وابن ماجه، وقال الترمذي بعد أن رواه: "حسن صحيح" الذي في الجامع معزوًّا للثلاثة عن ابن عمر، لفظه: "الكوثر نهر في الجنة, حافَّتاه من ذهب, ومجراه على الدر والياقوت، ترتبه أطيب ريحًا من المسك, وماؤه أحلى من العسل, وأشد بياضًا من الثلج". "وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قال: هو نهر في الجنة" كأنَّه بلغه ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم, فرجع عن تفسيره بالخير الكثير الثابت في البخاري عنه؛ لأنه قال أولًا بناء على مدلول اللغة، فلمَّا بلغه خبر الصادق المصدوق بتخصيصه بنهر الجنة رجع عنه؛ إذ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 408 شاطئاه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خصَّ الله به نبيه قبل الأنبياء. رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا. وعن أنس قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "نهر أعطانيه الله" -يعني: في الجنة- "أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق البخت، أو أعناق الجزر"، قال عمر: إنها لناعمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكلتها أنعم منها". رواه الترمذي, وقال: حسن. و"الجزر" بضم الجيم والزاي، جمع جزور وهو البعير. قال الحافظ ابن كثير: قد تواترت -يعني: أحاديث الكوثر- من طرقٍ تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، قال: وهكذا روى   النصَّ مقدَّم على الاستنباط "عمقه سبعون ألف فرسخ" عورض بما رواه ابن أبي الدنيا عنه -أي: ابن عباس- أنَّه سُئِلَ ما أنهار الجنة، أفي أخدود؟ قال: لا, ولكنها تجري على أرضها, لا تفيض ههنا ولا ههنا، وأجيب بأن المراد أنها ليست في أخدود كالجداول ومجاري الأنهار التي الأرض، بل سائحة على وجه أرض الجنة مع عظمها وارتفاعها، فلا ينافي ما ذكر في عمقها, "ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل, شاطئاه" أي: حافَّتاه "اللؤلؤ والزبرجد والياقوت, خص الله به نبيه قبل الأنبياء". رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا" على ابن عباس, وله حكم الرفع إن صحَّ؛ إذ لا مجال للرأي فيه, "وعن أنس قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "نهر أعطانيه الله"، -يعني: في الجنة- "أشد بياضًا من اللبن" أي: ماؤه, "وأحلى من العسل, فيه طير". وفي رواية: ترده طير "أعناقها كأعناق البخت" نوع من الإبل, الواحد بختي, مثل روم ورومي, "أو أعناق الجزر" شك الراوي, ويحتمل أنَّ أو للتنويع، أي: بعضها كأعناق البخت وبعضها كأعناق الجزر, "قال عمر بن الخطاب: إنها لناعمة" حيث شبهت أعناقها بذلك, "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكلتها" جمع آكل "أنعم منها"، رواه الترمذي وقال: حسن" وصحَّحه الحاكم. وروى البيهقي عن حذيفة رفعه: أنَّ في الجنة طيرًا أمثال البخاتي، قال: أبو بكر: إنها الناعمة يا رسول الله، قال: "أنعم منها من يأكل منها, وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر" , "والجزر: بضم الجيم والزاي جمع جزور وهو البعير" كقوله: لا يبعدون قومي اللذين هم ... سم العداة وآفة الجزر "قال الحافظ ابن كثير: قد تواتر -يعني: حديث الكوثر- من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث" الذين لهم الاطلاع على الطرق, "وكذلك أحاديث الحوض، قال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 409 عن أنس وأبي العالية ومجاهد وغير واحد من السلف: إن الكوثر نهر في الجنة. وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتنم المؤذن فقولوا مثل ما يقول, ثم صلوا عليَّ، فإنَّ مَنْ صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة".   وهكذا روي عن أنس وأبي العالية" رفيعه بن مهران "ومجاهد, وغير واحد من السلف, أنَّ الكوثر نهر في الجنة", وهو المشهور المستفيض. وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الجنَّة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم" في الصلاة "من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص" الصحابي بن الصحابي, "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا" قولًا "مثل ما يقول" أي: مثل قوله بدون صفته، فلا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن؛ لأن قصده الإعلام, وقصد السامع الذِّكْر، فيكفي السر أو الجهر بلا رفع صوت، نعم, لا يكفي إجراؤه على قلبه بلا لفظ؛ لظاهر الأمر بالقول, ولا يطلب بقيام وغير ذلك مما يطلب من المؤذّن, ويستثنى من مثلية القول الحيعلتان, فيبدلهما بلا حول ولا قوة إلا بالله كما في الصحيحين, "ثم صلوا عليَّ, فإنه مَنْ صلى عليَّ صلاة" واحدة "صلى الله عليه بها عشرًا" أي: عشر صلوات، أي: رحمة, وضاعف أجره بشهادة "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" , وفائدة ذكره وإن كانت كل حسنة كذلك أنَّه تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلّا ذكره، فكذلك جعل ذِكْرَ نبيه ذكر من ذكره, ولم يكتف بذلك، بل زاد كما في حديث أنس عند أحمد، وصحَّحه ابن حبان والحاكم "وحُطَّ عنه عشر خطيئات, ورفع له عشر درجات" قيل: إنما هذا لمن فعل ذلك محبَّة وأداءً لحقه -صلى الله عليه وسلم- من التعظيم والإجلال, لا لمن قصد به الثواب أو قبول دعائه, قال عياض: وفيه نظر. وقال الحافظ: هو تحكم غير مرضي، ولو أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه, "ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة" عظيمة "في الجنة, لا تنبغي" لا تكون "إلّا لعبد" واحد عظيم، فالتنوين والتنكير للتعظيم "من عباد الله" الأشراف المقربين, فالإضافة لاختصاصهم بالشرف والقرب من سيدهم, "وأرجو أن أكون أنا" تأكيد للضمير المستتر في أكون, "هو" خبر وضع بدل إياه, ويحتمل أن لا يكون تأكيدًا، بل مبتدأ وخبر, والجملة خبر أكون، ويجوز أن هو وضع موضع اسم الإشارة، أي: أكون أنا ذلك، قاله الأبي, "فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة" أي: وجبت له شفاعة تناسبه زيادة على شفاعته في جميع أمته، كشفاعته لأهل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 410 قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش. وقال غيره: الوسيلة "فعيلة" من وسل إليه إذا تقرَّب، يقال: توسَّلت أي: تقرَّبت، وتطلق على المنزلة العليّة، كما قال في هذا الحديث، فإنها منزلة في الجنة، على أنه يمكن ردَّها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فيكون كالقربة التي يتوسّل بها، ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية, وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر أمته أن يسألوها له؛ لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضًا: فإن الله تعالى قدَّرها له بأسباب, منها: دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الهدى والإيمان.   المدينة، وفي بعض أصول مسلم له بدل عليه، وقيل: معنى حلَّت غشيته ونزلت به, نقله عياض عن المهلّب وقال: الصواب: وحلت من حلَّ يَحِلُّ -بالكسر- إذا وجب، وأما حَلَّ يَحُلُّ -بالضم، فمعناه نزل، زاد الحافظ: ولا يجوز أن يكون حَلَّت من الحِلِّ؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرَّمَة، قال المصنف في مقصد المحبَّة، وذكره بلفظ الرجاء: وإن كان محقق الوقوع أدبًا وإرشادًا وتذكيرًا بالخوف وتفويضًا إلى الله تعالى بحسب مشيئته, وليكون الطالب للشيء بين الخوف والرجاء. انتهى. وقال القرطبي: هذا الرجاء قبل علمه أنه صاحب المقام المحمود، ومع ذلك فإن الله يزيده بدعاء أمته له رفعة كما يزيدهم بصلاتهم عليه. "قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة عَلَمٌ على أعلى" أرفع وأفضل "منزلة في الجنة, وهي منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وداره في الجنة, وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش". "وقال غيره: الوسيلة فعيلة من وَسَلَ" من باب وعد, "إليه, إذا تقرَّب، يقال: توسَّلت إذا تقربت, وتطلق" الوسيلة أيضًا "على المنزلة العلية، كما قال في هذا الحديث، فإنها منزلة في الجنة" علية "على أنه يمكن ردها إلى الأوّل، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله" القرب المعنوي, "فيكون كالقربة التي يتوسّل بها" أي: يتقرب، "ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه, وأعلمهم به, وأشدهم له خشية, وأعظمهم له محبة, كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى, وهي أعلى درجة في الجنة" ليس فوقها درجة "وأمر" صلى الله عليه وسلم "أمته أن يسألوها له" مع أنها محققة الوقوع له, "لينالوا بهذا الدعاء الزلفى" القرب, "وزيادة الإيمان" بالله ورسوله, "وأيضًا فإن الله تعالى قدَّرها له بأسباب, منها: دعاء أمته له بها بما نالوه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 411 وأما الفضيلة فهي المرتبة الزائدة على سائر الخلق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة عند الله -عز وجل, ليس فوقها درجة, فسلوا الله لي الوسيلة". رواه أحمد في المسند، وذكره ابن أبي الدنيا، وقال: "الوسيلة درجة ليس في الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينها على رءوس الخلائق". وروى ابن مردويه عن عليٍّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتم الله فسلوا لي   على يده من الهدى والإيمان", فهي من الشكر على ذلك, "وأما الفضيلة فهي المرتبة الزائدة على" مراتب "سائر الخلائق"؛ لأن الفضل الزيادة, "ويحتمل" بعد ذلك "أن تكون منزلة أخرى, "يحتمل أن تكون "تفسيرًا للوسيلة". روى البخاري وأحمد والأربعة عن جابر مرفوعًا: "من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آت محمدًا الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته, حلَّت له شفاعتي يوم القيامة". قال السخاوي: وزيادة, والدرجة الرفيعة لم أرها في شيء من الروايات, ولا في نسخ الشفاء إلّا في نسخة علم عليهاكاتبها بما يشير إلى الشكِّ فيها, وقد عقد لها في الشفاء فصلًا في مكان آخر, ولم يذكر فيه حديثًا صريحًا, وهو دليل لغلطها, قاله المصنف في مقصد المحبة. فعجيب نقله عن غيره, ولكن آفة العلم النسيان. وعن أبي سعيد" بكسر العين سعيد بسكونها- ابن مالك ابن سنان "الخدري, "الصحابي ابن الصحابي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة" منزلة رفيعة "عند الله -عز وجل, ليس فوقها درجة" بل هي أعلى الدرجات كما يأتي, وهو مفاد النفي عرفًا وإن صدق لغة بالتساوي, "فسلوا الله لي الوسيلة". "رواه أحمد في المسند، وذكره" أي: رواه "ابن أبي الدنيا، وقال" في سياقه: "الوسيلة درجة ليس في الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينها على رءوس الخلائق" فصرَّح بأنها أعلى الدرجات، فعلم أنه المراد في قوله: "ليس فوقها درجة" ووجه تخصيص الدعاء له -صلى الله عليه وسلم- بالوسيلة والفضيلة بعد الأذان أنَّه لما كان دعاء إلى الصلاة، وهي مقرَّبة إلى الله تعالى ومعراج المؤمنين، ومما امتنَّ به علينا بإرشاده وهدايته -صلى الله عليه وسلم- ناسب أن يجازى على ذلك بالدعاء له بالتقرب إلى الله ورفعة المنزلة، فإن الجزاء من جنس العمل. "وروى ابن مردويه" بفتح الميم وقد تكسر "عن عليٍّ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 412 الوسيلة"، قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: "علي وفاطمة والحسن والحسين", لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر من هذا الوجه. وعند ابن أبي حاتم من حديث عليٍّ أيضًا: أنَّه قال على منبر الكوفة: أيها الناس, إنَّ في الجنة لؤلؤتين, إحداهما بيضاء, والأخرى صفراء، فأمَّا البيضاء فإنها إلى بطنان العرش, والمقام المحمود من الؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسِرَّتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته، والصفراء فيها مثل ذلك، هي لإبراهيم -عليه السلام- وأهل بيته. وهي أثر غريب كما نبَّه عليه الحافظ بن كثير أيضًا. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}   الله فسلوا لي الوسيلة" أعلى منازل الجنة "قالوا: يا رسول الله, من يسكن معك؟ " فيها, على سبيل التبعية لك؛ إذ هي لا تكون إلّا لواحد "قال: عليّ وفاطمة والحسن والحسين، لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر" أي: ضعيف "من هذا الوجه" الذي أخرجه منه ابن مردويه. وعند ابن أبي حاتم" الحافظ ابن الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي, من حديث عليٍّ أيضًا أنه قال على منبر الكوفة: أيها الناس, إن في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء, والأخرى صفراء، فأمَّا البيضاء فإنها إلى بطنان العرش" بضم الموحدة وإسكان الطاء المهملة ونونين بينهما ألف، أي: إلى جهة أعلاه، أي: إنها أقرب إلى أعلاه من غيرها, "والمقام المحمود " مبتدأ خبره "من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة, كل بيت منها ثلاثة أميال, وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق" أي: أصل "واحد, واسمها الوسيلة, هي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته, و" اللؤلؤة قسيم قوله: فأمَّا البيضاء بتقدير، وأمَّا اللؤلؤ "الصفراء" على نحو قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] بعد قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] في أحد الوجهين "فيها مثل ذلك, هي لإبراهيم -عليه السلام- وأهل بيته" وهذا حكمه الرفع؛ إذ لا يقال إلّا عن توقيف "و" لكن هي أثر غريب كما نبه عليه الحافظ ابن كثير أيضًا". "وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال: أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر" من لؤلؤ أبيض, ترابها المسك, كما في المقصد السادس عن ابن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 413 [الضحى: 5] قال: أعطاه في الجنة ألف قصر, وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والدم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريقه، ومثل هذا لا يقال إلّا عن توقيف، فهو في حكم المرفوع.   عباس "وفي كل قصر" من الألف "ما ينبغي" ما يليق "له من الأزواج والخدم". رواه ابن جرير محمد الطبري "وابن أبي حاتم من طريقه, ومثل هذا" من الإخبار عن الغيب "لا يقال إلّا عن توقيف" من النبي -صلى الله عليه وسلم, فهو في حكم المرفوع" وإن كان موقوفًا لفظًا، وهكذا كل ما جاء عن صحابي إن أمكن كونه رأيًا, فليس له حكم الرفع، وإلّا فله حكمه، وليس المراد حصر ما أعطاه فيما ذكر؛ لأن الآية دلَّت على أنه يعطيه كل ما يرضيه مما لا يعلم حقيقته إلا الله. وقد روى الديلمي في الفردوس عن عليٍّ قال: لما نزلت قال -صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار". ولأبي نعيم في الحلية عن عليٍّ في الآية قال: ليس في القرآن آية أربى منها, ولا يرضى -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل أحد من أمته النار. وقوله: "ولا يرضي" موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، ولا يشكل بما صح أن بعض بعض العصاة من أمته يدخل النار، وأنه تعالى يحد له -صلى الله عليه وسلم- حدًّا يشفع فيهم، فلا يدع أحدًا منهم, ولا يزيد على من أذن له في الشفاعة فيه، كما مَرَّ قريبًا, ولا شَكَّ أنه يرضى بما يرضى ربه؛ لأنه لا يبعد أن تعذيب العصاة غير مرضي لله, فلا يرضى به رسوله، فإذا لم يرض به لعدم رضا ربه شفعه فيهم، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، أو لا يرضى دخولهم على وجه الخلود، وإنما قال: أن يدخل دون أن يخلد قصد الإرادة نفي الرضا بالخلود عن نهج المبالغة والاستدلال, أو لا يرضى دخولهم النار دخولًا يشدد عليهم العذاب فيه، بل يكون خفيفًا لا تسود وجوهم ولا تزرق أعينهم كما وردت به الأحاديث، فهو تعذيب كتأديب الحشمة، بل قال -صلى الله عليه وسلم: "إنما حر جنهم على أمتي كحر الحمام". أخرجه الطبراني برجال ثقاتٍ من حديث الصديق، وللدارقطني عن ابن عباس رفعه: "إن حظَّ أمتي من النار طول بلائها تحت التراب" وقيل، غير ذلك في توجيه الحديث. وإن كان ضعيفًا لتعدد طرقه كما سبق في المقصد السادس، وأنه لا وجه لقول المصنف هناك تبعًا لابن القيم: إنه افتراء لمخالفة حديث الشفاعة؛ لأنه إبطال للروايات بأوهام الشبهات، ولأنَّ تعليل الحديث بالافتراء ودعوى الكذب لا يكون بمخالفة ظاهر القرآن فضلًا عن الحديث، وإنما يكون من جهة الإسناد كما صرَّح به الحافظ ابن ظاهر وغيره، وللبزار والطبراني وأبي نعيم بسند حسن، كما قال المنذري عن على: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أشفع لأمتي حتى يناديني ربي -تبارك وتعالى: أرضيت يا محمد، فأقول: أي رب رضيت". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 414 خاتمة : عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، إنك لأحبك إليَّ من أهلي، وإنك لأحبَّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي   "خاتمة": ونسأل الله من فضله حسن الخاتمة في عافية بلا محنة، والفوز بالجنة, والنجاة من النار بوجاهة الحبيب المختار, "عن عائشة" رضي الله عنه تعالى عنها "قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" هو ثوبان أو عبد الله بن زيد الأنصاري، كما يأتي "فقال: يا رسول الله, إنك" والله "لأحب" فاللام جواب قسم مقدَّر "إليَّ من نفسي, وإنك لأحب إليَّ من أهلي, وإنك لأحب إليَّ من ولدي". زاد في رواية: ومالي، ولا يلزم من تقديمه على نفسه تقديمه على من بعده؛ لأن الإنسان قد يسمح بموت نفسه عند حصول المشاق دون ولده, حرصًا على بقاء العقب، وهذا هو الإيمان الكامل المشار إليه بحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" ودخل في عموم الناس نفسه، ونصَّ عليها في حديث آخر. كما مَرَّ بسط ذلك في مقصد المحبة, وأنَّ لها علامات كثيرة، منها: أنه لو خُيِّرَ بين فقد غرض من أغراضه وبين رؤيته -عليه السلام، لو أمكنته- لكانت أشد عليه من فقد غرضه، فهو كامل الحب، ومن لا فلا. قال القرطبي: كل من آمن به -صلى الله عليه وسلم- إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبَّة الراجحة, ولكنَّهم يتفاوتون فيها تفاوتًا ظاهرًا, فمنهم من أخذ بالحظ الأوفى, ومنهم أخذ بالأدنى؛ لاستغراقه في الشهوات وحجبه بالغفلات، لكن الكثير منهم إذا ذكره -صلى الله عليه وسلم- اشتاق إلى رؤيته؛ بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده, ويُلْقِي نفسه في الأمور الصعبة، ومن ذلك من يؤثر زيارة قبره ومواضع آثاره على جميع ما ذكر؛ لما ثبت في قلوبهم من محبته, غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفات. انتهى. "وإني لأكون في البيت" أي: بيتي "فأذكرك" أي: أتذكرك في ذهني وأتصورك, أو أذكر اسمك وصفاتك، فهو من الذََّكر بالكسر أو الضم, "فما أصبر" عن رؤيتك للجزع والقلق الزائدين "حتى آتيك فأنظر إليك" فتطمئنّ نفسي وينشرح صدري، فقوله: "إنك لأحب، أي: أوثر محبتك حبًّا اختيارًا إيثارًا لك على ما يقتضي العقل رجحانه من حبِّك إكرامًا لك, وإن كان حب نفسي وولدي وغيرهما مركوزًا في غريزتي, "وإذا" وفي رواية: "وإني "ذكرت موتي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 وموتك, عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، حتى نزل عليه جبريل -عليه السلام- بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] رواه أبو نعيم عن عائشة، وقال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: لا أعلم بإسناد هذا   وموتك" أي: مكاني ومكانك بعد الموت, "عرفت" تحقَّقت "أنك إذا دخلت الجنة" بعد الموت "رفعت" إلى الدرجات العلا مع النبيين -صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين, "وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك" فيها؛ لأنك في مقام لا يصل إليه غيرك, "فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى نزل جبريل -عليه السلام- بهذة الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] بامتثال أمه ونهيه, ويلزمه محبته له أيضًا. ولم تذكر لتحققها الذكر الرجل لها والعلم بخلوصه فيها {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بنعيم الجنة وعالي مراتبها, ففيه تبشير له بمرافقة أفضل خلق الله وأكرمهم وأرفعهم منزلة, {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} بيان للمنعَم عليهم بما أُخْفِيَ لهم من قرة أعين, {وَحَسُنَ أُولَئِكَ} تعجب، أي: ما أحسنهم {رَفِيقًا} تمييز، ولم يجمع لوقوعه على الواحد وغيره. قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام باعتبار منازلهم في العلم والعمل, وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المجاوزون حدَّ الكمال إلى درجة التكميل، ثم صديقون صعدت نفوسهم تارةً إلى مراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى إلى معارج القدس بالرياضة والتصفية حتى اطَّلعوا على ما لم يطلع عليه غيرهم، ثم شهداء بذلوا أنفسهم في إعلاء كلمة الله وإظهار الحق، ثم صالحون صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته، ولك أن تقول: المنعَم عليهم هم العارفون بالله, وهؤلاء إمَّا أن يكونوا بالغين درجة العيان, أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان، والأوَّلون إمَّا أن ينالوا مع العيان القرب؛ بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا، وهم الأنبياء أولًا, كمن يرى الشيء من بعد وهم الصديقون، والآخرون إمَّا أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة, وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في الأرض، وإمَّا أن يكون بإمارات وإقناعات تطمئنّ إليها نفوسهم, وهم الصالحون. انتهى. "رواه أبو نعيم" والطبراني في الصغير "عن عائشة" وابن مردويه عن ابن عباس, "وقال الحافظ أبو عبد الله" محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي الحنبلي ضياء الدين "المقدسي, الدَّيِّن، الزاهد الورع، الحجة الثقة، صاحب التصانيف المشهورة, سمع ابن الجوزي وخلقًا, وُلِدَ سنة تسع وستين وخمسمائة, ومات سنة ثلاث وأربعين وستمائة, "لا أعلم بإسناد هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 416 الحديث بأسًا. كذا نقله ابن القيم في "حادي الأرواح". وذكره البغوي في "معالم التنزيل" بلفظ: نزلت -يعني: الآية- في ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحبِّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه, فأتاه ذات يوم، وقد تغيِّر لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما غَيِّرَ لونك"؟ فقال: يا رسول الله، ما بي وجع ولا مرض، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة, فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا. فنزلت هذه الآية.   الحديث بأسًا" أي: إن رواته مقبولون لم يجرَّح أحد منهم. "كذا نقله ابن القيم في حادي الأرواح" إلى ديار الأفراح, "وذكره البغوي" محيي السنة الحسين بن مسعود، أحد الحفاظ, "في معالم التنزيل" اسم تفسيره بلا عزوٍ "بلفظ: نزلت -يعني: الآية- في ثوبان" بفتح المثلثة والموحدة- ابن بجدد -بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى, "مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم", قال في الإصابة: يقال: إنه من العرب, من حكم بن سعد بن حمير، وقيل: من السراة، اشتراه ثم أعتقه, فخدمه إلى أن مات، ثم تحوّل إلى الرملة, ثمَّ إلى حمص، ومات بها سنة أربع وخمسين. روى ابن السَّكَن عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت، فقال في الثالثة: "نعم, ما لم تقم على باب سدة, أو تأت أميرًا فتسأله"، ولأبي داود عن أبي العالية، عن ثوبان, قال -صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل إليّ أن لا يسأل الناس أتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، وكان لا يسأل أحدًا شيئًا، تقدَّم ذكره في الموالي النبوية, "وكان شديد الحب" بضم الحاء- المحبَّة، أما بكسرها فالمحبوب, "لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, قليل الصبر عنه" ولذا لازمه حضرًا وسفرًا, "فأتاه ذات يوم وقد تغيِّر لونه". وعند الثعلبي: تغيِّر وجهه ونحل جسمه, "يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما غيِّرَ لونك؟ " فقال: يا رسول الله, ما بي وجع" أي: مرض مؤلم, "ولا مرض مطلق علة، ويقع الوجع أيضًا على كل مرض، لكن لا يرد هنا ليحصل التغاير, "غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة" أي: حصل لي انقطاع وبعد قلب وعدم استئناس "حتى ألقاك" فتزول وحشتي, "ثم ذكرت الآخرة" أي: فكَّرت في أمرها, "فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين" في أعلى الدرجات, "وإني إن دخلت الجنة" أكون "في منزلة أدنى من منزلتك" فتقل رؤيتي لك؛ بدليل قوله: "وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا. فنزلت هذه الآية". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 417 وكذا ذكره ابن ظفر في "ينبوع الحياة", لكن قال: إن الرجل هو عبد الله بن زيد الأنصاري, الذي رأى الأذان. وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم في الجنة؛ بحيث يتمكَّن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية.   قال الولي العراقي: هكذا ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسنادٍ ولا راوٍ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي. وروى الطبراني في الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن الشعبي، وابن جرير عن سعيد بن جبير، كل منهم يحكي عن رجل، فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. انتهى. "وكذا ذكره ابن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء وراء- واسمه: محمد بن محمد بن ظفر الصقلي, أبو عبد الله الأديب الفاضل، له تصانيف، ولد بصقلية, وسكن حماة، وبها مات سنة خمس وستين وخمسمائة, "في ينبوع الحياة" اسم تفسيره وهو كبير, "لكن قال" عن مقاتل بن سليمان، "أنَّ الرجل هو عبد الله بن زيد" بن عبد ربه "الأنصاري" الخزرجي, "الذي رأى الأذان" في منامه، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: استُشْهِدَ بأحد، فإن صحَّ فلعل كلًّا منهما ذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقد ورد أن قائل ذلك جمع كثير، فروى ابن أبي حاتم عن مسروق، قال: قال أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو مت لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية, وهي وإن كان سببها خاصًّا فهي عامَّة لجميع من أطاع الله ورسوله، ولا ينحصر في تسلية المحبين والتخفيف عنهم، بل يشمل ذلك وغيره, وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فمن فعل ذلك فاز بالدرجا العالية عند الله تعالى, "وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة؛ لأنَّ هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز" اعتقاده؛ لأن الأنبياء لا يساويهم غيرهم بالنصوص والإجماع, "فالمراد" بالمعية "كونهم في الجنة؛ بحيث يتمكَّن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بَعُدَ المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك"؛ إذ لو عجزوا عنه لتحسَّروا, ولا حسرة في الجنة "فهذا هو المراد من هذه المعية" لا المساواة في المنزلة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 418 وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله, متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء, إلّا أني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر, وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم.   "وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلًا" قال الحافظ: هو ذو الخويصرة اليماني, الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرَّج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذر فقد وَهِمَ، فإنهما وإن اشتركا في معنى الجواب وهو المرء مع مَنْ أحب، فقد اختلف سؤالهما، فإن كلًّا من أبي موسى وأبي ذر إنما سأل عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم. هذا. "قال: يا رسول الله, متى الساعة؟ " زاد في رواية: قائمة -بالرفع- خبر الساعة، فمتى ظرف متعلق به, والنصب حال من الضمير المستكن في متى؛ إذ هو على هذا التقدير خبر الساعة, فهو ظرف مستقر. وفي رواية لمسلم: متى تقوم الساعة؟ ولما احتمل السؤال التعنّت والخوف من الله, امتحنه النبي -صلى الله عليه وسلم؛ حيث "قال: "وما أعددت لها" هكذا في رواية للشيخين. وفي رواية لهما أيضًا: ويحك, وما أعددت لها؟ قال الطيبي: سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأله عن وقت الساعة وأيَّان إرساؤها، فقيل له: فيم أنت من ذكراها، وإنما يهمك أن تهتم بأهبتها, وتعتني بما ينفعك عند إرسائها من العقائد الحقَّة والأعمال الصالحة المرضية، فأجاب حيث "قال: لا شيء". وفي رواية للبخاري، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولمسلم: ما أعددت لها من كثير عمل أحمد عليه نفسي، وكثير بمثلثة, "إلّا أني أحب الله ورسوله" يحتمل الاتصال والانقطاع، قاله الكرماني. وفي رواية في الصحيح أيضًا: ولكني أحب الله ورسوله, "قال: "أنت" وفي رواية: إنك "مع من أحببت" أي: ملحق بهم, وداخل في زمرتهم, لما امتحنه وظهر له من جوابه صدق إيمانه ألحقه بمن ذكر, "قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت مع مَنْ أحببت". وفي رواية في الصحيح أيضًا: فقلنا: ونحن كذلك، قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم" ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا، وفي أخرى. فلم أر المسلمين فرحوا فرحًا أشد منه، وفي أخرى: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام ما فرحوا به, "قال أنس: فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر, وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم" والحديث متواتر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 419 وفي الحديث الإلهي الذي رواه حذيفة -كما عند الطبراني بسند غريب- أنه تعالى قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" الحديث. وفيه من الزيادة على حديث البخاري: ويكون   قال في الفتح: جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب المحبين مع المحبوبين، فبلغ عدد الصحابة فيه نحو عشرين، ولفظ أكثرهم: "المرء مع مَنْ أحب"، وفي بعضها بلفظ حديث أنس: "أنت مع من أحببت". "وفي الحديث الإلهي" المنسوب لله تعالى, مما تلقاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة, أو بواسطة, احتمالان في جميع الأحاديث الإلهية, وليس لها حكم القرآن، فيمسها المحدِثُ وتبطل الصلاة بقراءتها فيها، وغير ذلك, "الذي رواه حذيفة" بن اليمان, عن النبي -صلى الله عليه وسلم "كما عند الطبراني بسند غريب" لفظ الفتح حسن غريب مختصر. انتهى. فأوله قوله "أنه تعالى قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي" بإضافة التشريف "بمثل أداء ما افترضت عليه" أي: تأديته لا المقابل للقضاء فقط، قال الحافظ: ظاهرة الاختصاص بما ابتدأ الله فرضه، وفي دخول ما أوجبه المكلّف على نفسه نظرًا للتقييد بقوله: "افترضت عليه" لا أن أخذ من جهة المعنى الأعمّ، ويستفاد منه أنَّ أداء الفرض أحبَّ الأعمال إلى الله، قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم, ويقع بتركها المعاقبة, بلاف النقل في الأمرين وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أحبَّ إلى الله تعالى وأشد تقربًا, "ولا". هكذا رواية الطبراني عن حذيفة بلفظ: ولا، وللبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: وما "يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل" من صلاة وصيام وغيرهما "حتى أحبه" بضم أوَّله، أي: أرضى عنه, والتقرُّب طلب القرب. قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولًا بإيمانه ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه, وفي الآخرة من رضوانه, وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه، وقرب الرب بالعلم والقدرة عامّ للناس, وباللطف والنصرة خاص بالخواص, وبالتأنيس خاص بالأولياء. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي: "يتحبَّب إليَّ" بدل يتقرَّب، واستشكل كون النوافل تنتج محبة الله؛ لأنه تعالى جعلها مرتبة على كثرتها, ولا تنتجها الفرائض؛ لأنه جعلها أحب الأشياء إليه, ولم يذكر سبب الأحبية، فلم يرتب المحبة على الفرائض. وأحيب، بأنَّ المراد النوافل إذا كانت مع الفرائض مشتملة عليها, أو مكملة لها لا مطلقًا، فإنما أنتجت المحبة من حيث الاشتمال والتكميل, وبأن الإتيان بالنوافل بمحض المحبَّة لا لخوف عقاب على الترك، فأنتجت محبة الله لكونها لا في مقابلة شيء، بخلاف الفرائض، ففعلها مانع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 420 من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة". فلله درها من كرامة بالغة، ونعمة على المحبين سابغة، فالمحب يرقى في درجات الجنات على أهل المقامات؛ بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر في أفق السماوات؛ لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه، ومعيته معه، وإن المرء   من العقاب عليها، فهي في مقابلة عوض وإن كانت أفضل .... "الحديث وفيه" أي: حديث حذيفة "من الزيادة على حديث البخاري" عن أبي هريرة الذي قدَّمه المصنف في مقصد المحبَّة مع الكلام عليه بنحو ورقتين، يعني: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته, ولئن استعاذ بي لأعذته" , "ويكون من أوليائي وأصفيائي" في الدنيا والآخرة، والمراد بولي الله: العالم بالله المواظب على طاعته, المخلص في عبادته، ولذا أشكل قوله: صدر حديث أبي هريرة: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب" بأنه لا يوجد معادٍِ للولي؛ لأن المعاداة إنما تقع من الجانبين, ومن شأن الولي الحلم والصفح عن كل مَنْ يجهل عليه, وأجيب كما في الفتح عن التعصب: كرافضي في بغضه لأبي بكر, ومبتدع في بغضه للسني، فتقع المعاداة من الجانبين، أما من جانب الولي فلله وفي الله تعالى، وأما من جانب الآخر فلما تقدَّم، وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل، ومن الآخر بالقوة, "ويكون جاري" بإسكان الياء، ويجوز فتحها "مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة" ولم يقل: والصالحين, إمَّا اكتفاءً أو تقصيرًا من الراوي. وفي بعض النسخ: والصالحين, "فلله درها" بدال مهملة "من كرامة بالغة" إلى الغاية, "ونعمة على المحبين سابغة" بغين معجمة- عامَّة, "فالمحب يرقى في درجات الجنات على أهل المقامات" المراتب التي نالوها بمعرفتهم لله, وإن اختلفت باختلاف مراتبهم وعرفانهم وأعمالهم، فانتقلوا من معرفة إلى كشف، ومنه إلى مشاهدة، ومنها إلى معاينة، ومنها إلى اتصال، ومنه إلى فناء، ومنه إلى بقاء، إلى غير ذلك من المقامات المعلومة لأهلها؛ "بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر" بمعجمة وموحدة- أي: الباقي. قال الأزهري: الغابر من الأضداد, يطلق على الماضي والباقي، والمعروف الكثير أنَّه بمعنى الباقي، وفي المطالع: الغابر البعيد أو الذاهب الماضي -كما في الرواية الأخرى: الغارب، يعني: بتقديم الراء على الموحدة, "في أفق السماوات؛ لعلوِّ درجته وقرب منزلته من حبيبه" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تراءون الكوكب الغابر من الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله, تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم, الجزء: 12 ¦ الصفحة: 421 مع مَنْ أحب، ولكلِّ عملٍ جزاء، وجزاء المحبَّةِ المحبّةُ والوصول والقرب من المحبوب. رؤيت امرأة مسرفة على نفسها بعد موتها فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لها, فقيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهوتي النظر إليه، نوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذله بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه. وانظر إلى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] وإن طوبى اسم شجرة في الجنة, غرسها الله بيده، وتنبت الحلي والحلل، وإن أغصانها لترى من وراء   قال -صلى الله عليه وسلم: "بلى. والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين". رواه الشيخان, "ومعيته معه, وإن المرء مع مَنْ أحب" في الجنة, بحسن نيته من غير زيادة عمل؛ لأن محبته لهم لطاعتهم، والمحبة من أفعال القلوب، فأثيب على ما اعتقده؛ لأن النية الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية استواء الدرجات، قاله المصنف. وفي البخاري في الأدب, باب علامة الحب لله، ولأبي ذر: الحب في الله؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، قال الكرماني: يحتمل أن يراد في الترجمة محبة الله للعبد, فهو المحب، أو محبة العبد لله فهو المحب، أو المحبة بين العباد في ذات الله؛ بحيث لا يشوبها شيء من الرياء, والآية مساعدة للأوّلين، واتباع الرسول علامة للأولى؛ لأنها مسببة للاتباع، وللثانية؛ لأنها مسببة. انتهى. "ولكل عمل جزاء" كما دل عليه الكتاب والسنة, "وجزاء المحبَّة" مبتدأ خبره "المحبةُ والوصول والقرب من المحبوب, رؤيت امرأة مسرفة على نفسها" أي: مخالفة للمطلوب منها من فعل الطاعات واجتناب المناهي "بعد موتها" في المنام, "فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي" إسرافي, "قيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, وشهوتي النظر إليه، نوديت: مَنْ اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذله" نحقره "بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه، وانظر" نظر تأمُّل وتدبُّر "قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] مرجع "فإن طوبى" المرادة في الآية عند جماعة من المفسرين: "اسم شجرة في الجنة". كما رواه ابن جرير عن قرة بن إياس, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "طوبى شجرة في الجنة, غرسها الله بيده, ونفخ فيها من روحه" كما في حديث قرة المذكور، ومثله في حديث ابن عباس: "تنبت الحلي". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 422 سور الجنة، وإن أصلها في دار النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي دار كل مؤمن منها غصن، فما من جنة من الجنات إلّا وفيها من شجرة طوبى؛ ليكون سر كل نعيم، ونصيب كل ولي من سرّه -صلى الله عليه وسلم، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ملأ الجنة، فلا ولي يتنعَّم في جنته إلّا والرسول متنعِّم بتنعمه؛ لأن الوليّ ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلا باتباعه لنبيه -صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان سر النبوة قائمًا به في تنعمه, وكذلك إبليس ملأ النار، فلا عذاب لأحد من أهلها إلّا وإبليس -لعنه الله- سر تعذيبه, ومشارك له فيه. وفي "البحر" لأبي حيان عند تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] قيل: هي عين في دار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفجر إلى   وفي رواية: بالحلي، "والحلل" جمع حلة, "وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة لطولها، زاد في ابن عباس عند ابن مردويه: والثمار متدلية على أفواههم، أي: متدلية على أفواه أهلها، وأعاد الضمير من غير سبق ذكرهم للعلم به؛ نحو: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} . ولابن مردويه عن ابن عمر، وأبي نعيم والديلمي عن ابن مسعود رفعاه: "طوبى شجرة في الجنة, لا يعلم طولها إلّا الله، فيسير الراكب تحت غصنٍ من أغصانها سبعين خريفًا, ورقها الحلل, يقع عليه كأمثال البخت". وفي الصحيحين مرفوعًا: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها"، ولأحمد وابن حبان مرفوعًا: "طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام, ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". "و" حكى بعضهم "أنَّ أصلها في دار النبي -صلى الله عليه وسلم, وفي دار كل مؤمن منها غصن" سواء كان من أمته أم لا، كما صرَّح به في قوله: "فما من جنة من الجنان إلّا وفيها من شجرة طوبى", ومعلوم أن الجنان ليست مقصورة على هذه الأمة؛ "ليكون سر كل نعيم, ونصيب كل ولي, من سره -عليه السلام، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ملأ الجنة, فلا ولي يتنعّم في جنته إلّا والرسول متنعِّم بتنعمه؛ لأن الولي ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلّا باتباعه لنبيه -صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان سر النبوة قائمًا به في تنعمه", وهذا ظاهر في الأمة المحمدية, وفي مؤمني الأمم السابقة أيضًا؛ لأنه قد أخذ على الأنبياء الميثاق أن يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم, وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ولذا كان نبي الأنبياء، كما مَرَّ مبسوطًا في المقصد الأول. "وكذا إبليس -لعنه الله- ملأ النار, فلا عذاب لأحد من أهلها إلّا وإبليس -لعنه الله- سر تعذيبه, ومشارك له فيه، وفي البحر" التفسير الكبير "لأبي حيان, عند تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا} بدل من كافورًا {يَشْرَبُ بِهَا} أي: منها {عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يجرونها إجراء سهلًا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 423 دور الأنبياء والمؤمنين. وإذا علمت هذا، فاعلم أنَّ أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب -تبارك وتعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم، وقرة العين بالقرب من الله ورسوله, مع الفوز بكرامة الرضوان التي هي أكبر من الجنان وما فيها، كما قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .   قيل: هي عين في دار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دور الأنبياء والمؤمنين" كل بحسب مقامه، ثم ذكر المصنف بارقة صوفية لامعه بمعاني أحاديث نبوية، فقال: "وإذا علمت هذا" المذكور الدال على عظم نعيم الجنة, فاعلم أنَّ أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب -تبارك وتعالى" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, يقول الله -تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولوا: ألم تبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة, وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم" ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] . رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن صهيب، قال القرطبي: معنى كشف الحجاب: رفع الموانع عن إدراك أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة والجلال، فالحجاب إنما هو الخلق لا للخالق -تقدَّس وتعالى، وجاء مرفوعًا: "الحسنى الجنة, والزيادة النظر إلى وجه لرحمن" من حديث أبي موسى وكعب بن عجرة وابن عمر وأُبَيّ بن كعب وأنس وأبي هريرة, كلهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم, وجاء موقوفًا على الصديق وحذيفة وابن عباس وابن مسعود، وجاء عن جماعة من التابعين كما بسطه في البدور، وقال: قال البيهقي: هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لا يقال إلّا بتوقيف، وقال يحيى بن معين: عندي سبعة عشر حديثًا كلها صحاح، وزاد عليه في البدور اثنين، وساق ألفاظ الجميع عازيًا لمخرجيهم، وقال: إنها بلغت مبلغ التواتر عندنا معاشر أهل الحديث "و" إلى وجه "رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقرة العين" يردها وسرورها, "بالقرب من الله ورسوله, مع الفوز" الظفر "بكرامة الرضوان, إضافةً بيانية "التي هي أكبر" أجلّ وأعظم "من الجنان وما فيها، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة, والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وما أفضل من ذلك، فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 424 ولا ريب أنَّ الأمر أجلَّ مما يخطر ببال أو يدور في خيال، ولا سيما عند فوز المحبين في روضة الأنس وحظيرة القدس بمعية محبوبهم, الذي هو غاية مطلوبهم, فأيّ نعيم وأيّ لذة وأيّ قرة عين وأيّ فوز يداني تلك المعية ولذاتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شيء والله أجلَّ ولا أكمل ولا أجمل ولا أجلى ولا أحلى ولا أعلى ولا أغلى من حضرة يجمتع فيها المحبّ بأحبابه في مشهد مشاهد الإكرام؛ حيث يتجلَّى لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق -جلَّ جلاله- خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف، فينفقه عليهم نور يسري في ذواتهم, فيبهتون من جمال الله، وتشرق ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس، بحضرة الرسول الأرأس، ويقول لهم الحق -جل جلاله: سلام عليكم عبادي، ومرحبًا بكم أهل ودادي، أنتم المؤمنون الآمنون، لا خوف عليكم   وللطبراني, وصحَّحه الضياء عن جابر، رفعه: "إذا دخل أهل الجنة قال الله: يا عبادي, هل تسألوني شيئًا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا, ما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر" , "ولا ريب أن الأمر أجلَّ مما يخطر ببالٍ, أو أو يدور في خيال" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "قال الله -عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" , ثم قرأ هذه الآية: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] . رواه الشيخان, ولا سيما عند فوز المحبين في روضة الأنس وحظيرة القدس" الجنة, "بمعية محبوبهم الي هو غاية مطلوبهم، فأيّ نعيم وأيّ لذة وأيّ قرة عين وأيّ فوز يداني" يقارب "تلك المعية ولذاتها, وقرب العين بها" والاستفهام بمعنى النفي، أي: لا يقاربها شيء, "وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شيء والله أكمل ولا أجمل" يجيم:ولا أجلى" بالجيم "ولا أحلى" بالحاء أشدَّ حلاوة ولا أعلى" بعين مهملة أشد علوًّا، أي: رفعة "ولا أغلى" بمعجمة- أزيد مما يقوم بالبال, من غلا السعر إذا زاد وارتفع, " من حضرةٍ يجتمع فيها المحبّ بأحبابه" في مشهد مشاهد الإكرام؛ حيث يتجلَّى" يظهر "لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق -جل جلاله- خلف حجاب واحد" بالنسبة إليهم, "في اسمه الجميل اللطيف, فينفقه" بفتح أوله وسكون النون وفتح الفاء وكسر الهاء وبالقاف، أي: يتسع ويفيض "عليهم نور يسري في ذواتهم فيبهتون" بفتح الياء وضم الهاء وفتحها مبنيًّا للفاعل، أي: يتحيّرون "من جمال الله, وتشرق ذواتهم بنور ذاك الجمال الأقدس" الأطهر, "بحضرة الرسول الأرأس" أعظم الناس وأشدّهم سيادة, "ويقول لهم الحق -جلَّ جلاله: "سلام عليكم عبادي". روى ابن ماجه وغيره مرفوعًا: "بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ سطع لهم نور فرفعوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 425 اليوم ولا أنتم تحزنون, أنتم أوليائي وجيراني وأحبابي, إني أنا الله الجواد الغني، وهذه داري قد أسكنتموها، وجنتي قد أبحتكموها، وهذه يدي مبسوطة ممتدة عليكم، وأنا ربكم أنظر إليكم، لا أصرف نظري عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إليّ حوائجكم, فيقولون: ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم, والرضى عنا, فيقول لهم -جلَّ جلاله: هذا وجهي فانظروا إليه, وأبشروا فإني عنكم راضٍ, ثم يرفع الحجاب ويتجلَّى لهم, فيخرون سجَّدًا, فيقول لهم: ارفعوا رءوسكم, فليس هذا موضع سجود يا عبادي، ما دعوتكم إلّا لتتمتعوا بمشاهدتي، يا عبادي قد رضيت عنكم, فلا أسخط عليكم أبدًا.   رءوسهم, فإذا بالرب قد أشرف عليهم من فوقهم, فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم وإشرافه سبحانه" إطلاعه منزهًا عن المكان والحلول, "ومرحبًا بكم أهل ودادي، أنتم المؤمنون الآمنون, لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون" كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] الذين آمنوا وكان يتقون, "أنتم أوليائي وجيراني وأحبابي, إني أنا الله الجوّاد الغني، وهذه داري" بإضافة التشريف "قد أسكنتموها, وجنتي قد أبحتكموها، وهذه يدي مبسوطة" ممتدة "عليكم, وأنا ربكم أنظر إليكم" نظر رحمة ولطف, "لا أصرف نظري عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إليّ حوائجكم، فيقولون: ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم, والرضا عنَّا" أي: دوامه "فيقول لهم -جلَّ جلاله: هذا وجهي انظروا إليه وأبشروا" بهمزة قطع, "فإني عنكم راضٍ، ثم يرفع الحجاب" بالنسبة إليهم, "ويتجلَّى لهم فيخرون سجدًا، فيقول لهم: ارفعوا رءوسكم, فليس هذا موضع سجود". وعند ابن المبارك والآجرى عن جابر موقوفًا ومرفوعًا: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, وأنعم عليهم بالكرامة, جاءتهم خيول من ياقوت أحمر, لا تبول ولا تروث, لها أجنحة، فيقعدون عليها, ثم يأتون الجبّار، فإذا تجلّى لهم خروا سجدًا، فيقول الجبار: يا أهل الجنة, ارفعوا رءوسكم, فقد رضيت عنكم رضًا لا سخط بعده، يا أهل الجنة ارفعوا رءوسكم، فإن هذه ليست بدار عمل, إنما هي دار مقامة ودار نعيم، فيرفعون رءوسهم" , "يا عبادي ما دعوتكم إلّا لتتمتعوا" أي: تنتفعوا وتتلذذوا "بمشاهدتي، يا عبادي قد رضيت عنكم, فلا أسخط عليكم أبدًا". وفي حديث حذيفة عند البزار، رفعه: "إن الله إذا صيِّرَ أهل الجنَّة إلى الجنة, وليس ثَمَّ ليل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 426 فما أحلاها من كلمة، وما ألذَّها من بشرى، فعندها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن, وأحَلَّنا دار المقامة من فضله, لا يمسنا نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إنَّ ربنا لغفور شكور،   ولا نهار, قد علم الله مقدار تلك الساعات، فإذا كان يوم الجمعة في وقت الجمعة التي يخرج أهل الجمعة إلى جمعتهم, نادى منادٍ: يا أهل الجمعة, أخرجوا إلى دار المزيد، فيخرجون في كثبان المسك"، قال حذيفة: والله لهو أشد بياضًا من دقيقكم هذا، "فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور, وغلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت، فإذا قعدوا وأخذوا مجالسهم, بعث الله عليهم ريحًا تثير عليهم المسك الأبيض فتدخله في ثيابهم, وتخرجه من جيوبهم، فيقول الله: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب, وصدقوا رسلي, فهذا يوم المزيد, فيجتمعون على كلمة واحدة، إنا قد رضينا فارض عنَّا، فيقول: لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، فهذا يوم المزيد، فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة، أرنا وجهك ننظر إليه, فيتجلَّى لهم فيغشاهم من نوره، فلولا أنَّ الله قضى أن لا يموتوا لاحترقوا". وللبيهقي عن جابر رفعه: "بينا أهل الجنة في منازلهم؛ إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم, فإذا الرب قد أشرف، فقال: يا أهل الجنة سلوني، قالوا: نسألك الرضا عنَّا, قال: رضاي أحلَّكم داري, وأنيلكم كرامتي، هذا أوانها فسلوني، قالوا: نسألك الزيادة، فيؤتون بنجائب من ياقوت، إلى أن قال: حتى ينتهي بهم إلى جنة عدن, وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد جاء القوم، فيقول: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين، فيكشف لهم الحجاب, فينظرون إليه، فيتمتعون بنور الرحمن, حتى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثم يقول: ارجعوهم إلى القصور بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضًا" قال -صلى الله عليه وسلم: فذلك قول الله: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت/ 32] الآية, "فما أحلاها من كلمة وما ألذَّها من بشرى, فعندها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن". قال ابن عباس: حزن النار، رواه الحاكم وصحَّحه، ولابن أبي حاتم عن ابن عباس: حزن ذنوب سلفت، وله عن الشعبي: طلب الخبز في الدنيا غداء وعشاء، وقيل: الجوع، وقيل: وسوسة إبليس وغيرها, "وأحلَّنَا دار المقامة" أي: الإقامة من فضله, من إنعامه وتفضله؛ إذ لا واجب عليه "لا يمسنا فيها نصب" تعب, "ولا يمسنا فيها لغوب" إعياء من التعب لعدم التكليف فيها، وذكر الثاني التابع للأول للتصريح بنفسه. أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى، قال رجل: يا رسول الله, إن النوم مما يقر الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة نوم؟ قال: "لا، النوم شريك الموت, وليس في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 427 وهذا يدل على أن جميع العبادات تزول في الجنة إلّا عبادة الشكر والحمد والتسبيح والتهليل، والذي يدل عليه الحديث الصحيح، إنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس، كما في مسلم من حديث جابر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخَّطون ولا يبولون, ويكون طعامهم ذلك جشاء ورشحًا   الجنة موت"، قال: فما راحتهم، فأعظم ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة"، فنزل: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} [فاطر: 35] . وللبزار وللطبراني والبيهقي بسند صحيح عن جابر, قيل: يا رسول الله, أينام أهل الجنة؟ قال: "النوم أخو الموت, وأهل الجنة لا ينامون" , "إن ربَّنَا لغفور" للذنوب, "شكور" للطاعات، والمصنف لم يقصد التلاوة، بل بَيِّنَ ما يقولونه أولًا من النعم التي أفاضها عليهم، ثم ثناءهم عليه تعالى بأنه غفور شكور، ولكنه خلاف ظاهر القرآن, مع أنه أبلغ لجعله الثناء عليه متوسطًا بين تعداد النعم، على أنَّه ورد في خبر وإن كان معضلًا عند ابن أبي الدنيا وأبي نعيم وابن أبي حاتم مرفوعًا, في حديث طويل في ذكر ما أنعم الله به على أهل الجنة بنحو ورقتين، قال في آخره: "فلما تبئوا منازلهم، قال لهم ربه: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم, رضينا فارض عنَّا، قال: برضاي عنكم أحللتكم داري, ونظرتم إلى وجهي, وصافحتكم ملائكتي، فهنيئًا هنيئًا، عطاء غير مجذوذ, ليس فيه تنغيص، فعند ذلك قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن، إن ربنا لغفور شكور, الذي أحلَّنا دار المقامة من فضله, لا يمسنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب"، فصرح بأنهم يقولون الآيتين على وجههما, "وهذا يدل على أنَّ جميع العبادات تزول في الجنة إلّا عبادة الشكر والحمد، كما هو لفظ الآية: "والتسبيح والتهليل". روى الأصبهاني في حديث عن عليّ رفعه: "ثم يحلّ بهم كرامة الله, والنظر إلى وجهه, وهو وعد الله أنجزه لهم، فعند ذلك ينظرون إلى وجه رب العالمين فيقولون: سبحانك, ما عبدناك حق عبادتك" , والذي يدل عليه الحديث الصحيح أنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس" بفتحتين، فيحمل ما دلَّ عليه الأول على أن ذلك عبادة بدون تكليف فلا خلف. "كما في مسلم من حديث جابر" بن عبد الله "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون" ولا يتغوطون كما في مسلم قبل قوله: "ولا يتمخطون ولا يبولون" , قال في المفهم: لأنَّ هذه فضلات مستقذرة, ولا مستقذر في الجنة، ولما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال لم يكن لها فضلة مستقذرة، بل تستطاب وتستلذّ، وعبَّر عنها بالمسك في قوله: "ويكون طعامهم" أي: خروج طعامهم أي: مطعومهم. ولفظ مسلم: ولكن طعامهم "ذلك جشاء" بضم الجيم ومعجمة ومد- صوت مع ريح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 428 كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس" يعني: إن تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس، فليس عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله، وكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة. وسر ذلك أن قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبَّته ومخاللته, فألسنتهم ملازمة لذكره، وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] وقوله تعالى:   يحصل من الفم عند حصول الشبع, "ورشحًا" عرفًا "كرشح المسك". قال القرطبي: وقد جاء في لفظ آخر: "لا يبولون ولا يتغوَّطون, وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك"، يعني: من أبدانهم, "يلهمون التسبيح والتحميد". وفي رواية لمسلم: التسبيح والتكبير "كما يلهمون النفس"، يعني: إنَّ تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس, فليس عن تكليف وإلزام, وإنما هو عن تيسير وإلهام" لأنها ليست دار تكليف, ووجه التشبيه" كما قال القرطبي في المفهم: "إنَّ تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله" بل فيه لذة وراحة, "فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة، وسِرّ ذلك" أي: حكمته ونكتته "أنَّ قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته, وقد غمرتهم" غطتهم "سوابغ نعمته, وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره" ومن أحبّ شيئًا أكثر من ذكره، إلى هنا كلام المفهم، قال الأبي: فهو تسبيح "تنعم وتلذذ, "وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] بالجنة. وقال البيضاوي: بالبعث والثواب, {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة, وإيراثها تمليكها, مختلعة من أعمالهم, أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. وروى ابن ماجه والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلّا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله" , فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 11] {نَتَبَوَّأُ} ننزل {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ؛ لأنها كلها لا يختار فيها مكان على مكان ويهدي الله كل أحد لمنزله, فلا يختار سواه, {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الجنة, وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 429 {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.   يشتهونه في الجنة أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوه بين أيديهم, {وَتَحِيَّتُهُمْ} فيما بينهم {فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ} مفسرة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 74] الآية. وفي البيضاوي: تحيتهم: ما يحيي بعضهم بعضًا, أو تحية الملائكة إياهم، ولعلَّ المعنى: إنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظيم الله وكبرياءه, مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حيَّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام، انتهى. وفي الحديث المعضل الذي سبقت الإشارة إليه: "بينما هم يومًا في ظلّ شجرة طوبى يتحدثون؛ إذ جاءتهم الملائكة يقودون نجبًا" إلى أن قال: "فأناخوا لهم النجائب"، وقالوا لهم: "إن ربكم يقرئكم السلام, ويريدكم لتنظروا إليه وينظر إليكم, وتكلموه ويكلمم, ويزيدكم من فضله ومن سعته، فيتحوّل كل رجل منكم على راحلته, فينطلقون صفًّا معتدلًا" إلى أن قال: "فلما دفعوا إلى الجبار أسفر لهم عن وجهه الكريم, وتجلَّى لهم في عظمته العظيمة, تحيتهم فيها سلام، قالوا: ربنا أنت السلام ومنك السلام .... " الحديث. "فائدة" وقع في كلام بعض الأئمة أنَّ رؤية الله خاصَّة بمؤمني البشر، وأنَّ الملائكة لا يرونه، واحتج له بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فإنه عامّ خص بالآية والأحاديث في المؤمنين، فبقي على عمومه في الملائكة, قال في الحبائك: والأرجح أنهم يرونه, قد نصَّ إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري على أنهم يرونه. وقال في البدور: وكذا نصَّ عليه البيهقي في كتاب الرؤية, وأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "خلق الله الملائكة لعبادته أصنافًا, وإنَّ منهم ملائكة قيامًا صافِّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة, وملائكة ركوعًا خشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلَّى لهم -تبارك وتعالى، فإذا نظروا إلى وجهه الكريم، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك". ثم أخرجه من وجه آخر بنحوه، عن رجل من الصحابة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي آخره: "فإذا كان يوم القيامة تجلَّى لهم ربهم فينظرون إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك"، قال في الحبائك: وأما دخول الملائكة الجنة فمِمَّا لا خلاف فيه ولا مرية لأحد, خلافًا لمن وَهِمَ فيه. انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 430 قال مؤلفه وجامعه أحمد بن الخطيب القسطلاني -عامله الله بما يليق بكرمه: فهذا آخر ما جرى به قلم المدد، من هذه المواهب اللدنية, وسطرته يد الفيض من المنح المحمدية، وذلك وإن كثر لقليل في جنب شرفه الشامخ، ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ, ولو تتبعنا ما منحه الله به من مواهبه، وشرف به من مناقبه، لما وسعت بعض بعضه الدفاتر، وكانت دون مرماه الأقلام   "قال جامعه ومؤلفه" وفي نسخ: مؤلفه وجامعه, "أحمد بن" محمد "الخطيب" بن أبي بكر محمد "القسطلاني" بفتح القائف وشد اللام على ما اشتُهِرَ، وُلِدَ كما ذكره شيخه السخاوي في الضوء اللامع بمصر, ثاني عشر ذي القعدة, سنة إحدى وخمسين وثمانمائة, وحفظ عدة كتب، وأخذ عن الشهاب العبادي, والبرهان العجلوني, والفخر المقسي, والشيخ خالد الأزهري النحوي, والسخاوي, وغيرهم، وقرأ البخاري على الشهاوي في خمسة مجالس، وحج مرارًا, وجاور بمكة مرتين. وروى بها عن جمع جمّ، منهم: النجم بن فهد, وكان يعظ بجامع الغمري وغيره، ولم يكن له في الوعظ نظير. انتهى. وله تصانيف كشرح البخاري، ثم اختصره في آخر: سماء الإسعاد مختصر الإرشاد, لم يكمل، وشرح صحيح مسلم إلى أثناء الحج, والشاطبية والبردة, وله مسالك الحنفا في الصلاة على المصطفى, ولطائف الإشارات في القرءات الأربع عشرة, وهذه المواهب اللدنية، وقدمت إسنادي إليه بها في أول هذا الشرح، وأعلاه شيخنا دراية. ورواية عن أحمد بن خليل السبكي, عن إجازة الشريف يوسف الأرميوني، عن المؤلف وشيخنا أبو عبد الله الحافظ البابلي, إجازة عن النور الزيادي، عن أبي الحسن البكري، عن المصنف, ومات يوم الخميس مستهلّ محرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بمنزله بالعينية، وتعذّر الخروج به إلى الصحراء؛ لأنه اليوم الذي دخل فيه السلطان سليم مصر، وكانت وفاته بشيء أصابه من البندق, ودفن على الإمام العيني، وقوله: وجامعه بعد قوله: مؤلفه, إشارة إلى أنه ليس له في تصنيفه إلّا مجرد الجمع من كلامهم، ولا ينافيه قوله: بعد أنه بفيض الله وإنعامه؛ لأن المعنى: أنعم الله عليه بهدايته لأخذه من كلامهم وإطلاعه عليه, "عامله الله بما يليق بكرمه، فهذا آخر ما جرى به قلم المدد من هذه المواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء- وهي العطية على جهة التمليك بلا عوض, "اللدنية, وسطرته يد الفيض من المنح" بكسر ففتح- العطايا "المحمدية, وذلك وإن كثر" الواو للحال, "لقليل في جنب شرفه الشامخ" الرفيع, "ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ" الثابت, "ولو تتبعنا ما منحه" أعطاه, وخصَّه الله به من مواهبه وشرفه به من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 431 وجفت المحابر، وضاقت عن جمعة الكتب، وعجزت عن حمله النجب. وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وإلى الله أضرع أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم, مخلصًا من شوائب الرياء ودواعي التعظيم، وأن ينفعني به والمسلمين والمسلمات, في المحيا وبعد الممات، سائلًا من وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سريرته، أن يصلح بحلمه عثاري وزللي، ويسد بسداد فضله خطئي.   بعض بعضه الدفاتر" الكراريس, جمع دفتر, "وكانت دون مرماه الأقلام, وجفت المحابر" جمع محبرة "وضاقت عن جمعه الكتب, وعجزت عن حمله النجب" بنون وجيم وموحدة- كرام الإبل, وأنشد المصنّف قول العارف ابن الفارض: وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف "وإلى الله تعالى" لا إلى غيره, "أضرع" أخضع وأذل, "أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم, مخلصًا" بضم الميم وسكون وسكون الخاء وفتح اللام، أي: مبعدًا, "من شوائب الرياء ودواعي التعظيم" جمع شائبة، والمراد بها هنا: الأسباب التي يحصل بها الرياء, "وأن ينفعني به والمسلمين والمسلمات في المحيا والممات" بالثواب؛ لأنَّ تأليف الكتب من العمل الباقي بعد الموت، كما قيل في قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث" فذكر منها: "أو علم ينتفع به"، وقد قال بعضهم: الأقسام السبعة التي التي لا يؤلف عالم عاقل إلّا فيها, هي: إما شيء لم يسبق إليه يخترعه, أو شيء ناقض يتممه, أو شيء مغلق يشرحه, أو شيء طويل يختصره دون أن يخلّ بشيء من معانيه, أو شيء مفرَّق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه. انتهى. وكل ذلك داخل في قوله: "أو علم ينتفع به" بشرط كون العلم شرعيًّا, "سائلًا من وقف عليه من فاضلٍ أنار الله بصيرته" هي قوة القلب المنور بنور القدس، يرى حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للعين, يرى به صور الأشياء وظاهرها، قاله ابن الكمال, وقال الراغب: البصر الجارحة كلمح البصر والقوة التي فيها، ويقال: لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر, ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة, "وجبل" بفتح الجيم والباء- طبع, "على الإنصاف سريرته, أن يصلح بحلمه عثاري" بعين مكسورة ومثلثة مصدر عثر, إذا انعقل في ثوبه مثلًا, فسقطت رجله عن الاستقامة، والمراد هنا: الزلة، فقوله: "وزلّي" عطف تفسير, "ويسد بسداد" بكسر السين وفتحها "فضله". قال في المصباح: السداد -بالكسر: ما يسد به القارورة وغيرها، واختلف في سداد من عيش وسداد من عوز لما يرمق به العيش وتسد به الخلة، فقال ابن السكيت والفارابي، وتبعه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 432 وخللي، فالكريم يقيل العثار، ويقبل الاعتذار، خصوصًا عذر مثلي، مع قصر باعه في هذه الصناعة، وكساد سوقه بما لديه من مزجاة البضاعة، وما ابتلي به من شواغل الدنيا الدنية، والعوارض البدنية، وتحمّله من الأثقال التي لو حملها رضوى لتضعضع, أو أنزلت على ثبير لخشع وتصدّع، لكنني أخذت غفلة الظلام الغاسق،   الجوهري -بالفتح والكسر، واقتصر الأكثر على الكسر، منهم: ابن قتيبة وثعلب والأزهري؛ لأنه مستعار من سداد القارورة "خطئي وخللي". قال العلامة ناصر الدين اللقاني: والمرتضى عندهم في إصلاح ما يقف عليه الناظر في كلام غيره التنبيه على ذلك بالكتابة في حاشية أو غيرها، لا المحو والإثبات من الأصل؛ إذ لعلَّ الصواب ما في الأصل والتخطئة خطأ. انتهى. ولذا قال شيخنا: ليس المراد أنَّه يغير ما يراه من الخلل، بل المراد أنه إذا رآه وأمكن الجواب عنه أجاب، وإلّا بَيِّنَ فساده, واعتذر بأنَّ الإنسان محلّ السهو والغفلة. انتهى. وقد قيل بذلك, ولو كان لحنًا أو خطًأ محضًا في الحديث النبوي، لكن الأكثر من العلماء والمحدثين أنه يصلح ويقرأ الصواب، لا سيما في لحنٍ لا يختلف المعنى به وهو الأرجح؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقله، ومنهم من صوب إبقاءه مع التضبيب عليه, "فالكريم يقيل" من الإقالة, "العثار" بكسر المهملة "ويقبل" من القبول "الاعتذار, خصوصًا عذر مثلي, مع قصر باعه في هذه الصناعة" الحديثية, "وكساد سوقه" عدم نفاقه ورواجه "بما لديه" أي: بسبب ما عنده "من مزجاة البضاعة" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بضاعة مزجاة. قال البيضاوي: ردية أو قليلة ترد وتدفع رغبةً عنها, من أزجيته إذا دفعته، وفي المصباح: البضاعة -بالكسر- قطعة من المال تعد للتجارة، ففيه استعارة, شبَّه العلم الذي حصله بمال قليل معَدّ للتجارة فيه وطلب الربح منه, والقليل في يد التاجر بعد حصول الربح منه، فلا اعتراض من كان بصفته, وتعرض للتأليف بأن في عبارته سقطًا أو غيره، قال هذا المصنف تواضعًا واعترافًا بالعجز؛ إذ له اليد الطولى في علوم عديدة ومصنفات كثيرة مستعملة مرغوب فيها, من أجَلِّها المواهب, "وما ابتلي به من شواغل الدنيا الدنية, والعوارض البدنية" من الأمرض, وذلك عذر كبير في حصول الخلل, "وتحمله من الأثقال التي لو حملها رضوى" بفتح الراء وإسكان المعجمة بوزن سكرى- جبل بالمدينة "لتضعضع" خضع وذلَّ وافتقر -كما في القاموس, "أو أنزلت على ثبير" جبل بمكة قرب المزدلفة, "لخشع وتصدَّع" أي: تشقَّقَ، والقصد بهذا التمثيل لشدة ما أصابه, حتى أنه لو حلَّ بهذين الجبلين مع غلظهما وصلابتهما ما أطاقاه. قال ذلك مبالغة في شدة البلايا التي أصابته, "لكنني أخذت غفلة الظلام الغاسق" أي: الشديد السواد، أي: الغفلة الحاصلة للناس في شدة الظلام المانعة عن سعيهم في مصالحهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 433 والليل الواسق، فسرقته من أيدي العوائق، والليل يعين السارق، واستفتحت مغالق المعاني بمفاتيح فتح الباري، واستخرجت من مطالب كنوز العلوم نفائس الدراري، حامدًا الله تعالى على ما أنعم وألهم وعلّم ما لم أكن أعلم, مصليًا مسلمًا على رسوله محمد أشرف أنبيائه، وأفضل مبلغ لأنبائه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه   فاشتغلت فيها بتصنيف هذا الكتاب, وخصها لقلة المتاعب والأسباب المعوقة عن المطلوب غالبًا, "والليل الواسق" الجامع للدواب وغيرها، كاللصوص الذين تخشاهم الناس فيهابون الخروج فيه ويلزمون بيوتهم, "فسرقته من أيدي العوائق" التي تعوقه عمَّا يريده من الاشتغال به وجمعه, "والليل يعين السارق" يمنع رؤية الناس له بظلامه, حتى يتمكَّن من السرقة، ولذا فضل العشاق الليل على النهار، وقال الشاعر: وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب "واستفتحت مغالق المعاني" أي: طلبت إزالة ما يمنع من إدراك الوصول إلى المعاني، بأن تعلقت بما يزيل اللبس والإشكال عنها, حتى ظهرت له وانكشفت، فعبرت عنها بألفاظ سهلة قريبة المأخذ, واضحة الدلالات، وفي تسمية تلك الإشكالات المغطية للمعاين بالمغالق -جمع مغلاق بالكسر- استعارة تحقيقة, شبَّه الإشكالات المانعة من إدراك ما وراءها بما هو محفوظ فيها, واستعار لها اسمها, "بمفاتيح فتح الباري" أي: بالبحث واتفتيش عمَّا استعمل هذا اللفظ الذي هو عَلَمٌ لهذا الكتاب, وأراد به فتح الباري -جلا وعلا- بإفاضة النعم عليه, واستخراج المعاني الدقيقة من مواضعها, ووضع ما يدل عليها في كتابه. كذا قال شيخنا، أي: فالمراد: مفاتيح فتح الباري -سبحانه وتعالى, على طريق الاستعارة, وفيه التورية بذكر اسم الكتاب؛ لأن الأخذ منه من جملة نعم الله تعالى, "واستخرجت من مطالب كنوز العلوم" أي: الكتب المشتملة على العلوم؛ كاشتمال المطالب على الأموال المكنوزة فيها, "نفائس الدراري" أي: المسائل النفيسة المشبهة للدرر النفيسة المكنوزة, "حامدًا الله تعالى على ما أنعم" أي: على إنعامه، ولم يتعرض للمنعم به إيهامًا لقصور العبارة عن الإحاطة به, ولئلَّا يتوهم اختصاصه بشيء دون شيء, "وألهم وعلم" يتعدَّى لمفعولين نحو: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أولهما محذوف للقرينة، أي: علمني "ما لم أكن أعلم, مصليًا مسلمًا على رسوله محمد أشرف" أفضل أنبيائه "وأفضل مبلغ لأنبائه" بالهمزة المفتوحة- لأخباره تعالى التي أمره بتبليغها، وليس الضمير للمصطفى كما هو بين؛ إذ المعنى: إن الرسل كلهم بلغوا ما أمرهم الله بتبليغه وهو أفضلهم, "وعلى آله وأصحابه وأحبابه وخلفائه" يحتمل أنه خاص على عام، ويحتمل المغايرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 434 وخلفائه صلاةً لا ينقطع مددها، ولا يفنى أمدها. والله أسأل أن ينفع به جيلًا بعد جيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل, وأستودع الله تعالى نفسي وديني وخواتيم عملي، وما أنعم به عليَّ ربي، وهذا الكتاب، وأن   يجعل أحبابه من غير آله وصحبه لجريهم على سننهم, وخلفائه القائمين بنشر أحاديثه وتبليغها للناس كما ورد: الأئمة المقسطين من غير الصحابة, "صلاة لا ينقطع مددها, ولا يفني أمدها" غايتها. قال مؤلفه -رحمه الله تعالى ورفع درجاته في الجنان: وقد انتهت كتابة هذا النسخة المباركة النافعة -إن شاء الله تعالى, المنقولة من المسوَّدة المرجوع عن كثير منها, مع زيادات جَمَّة مَنَّ الله تعالى بها في خامس عشر شعبان المكرم, سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وتَمَّت المسودة في الثاني من شوال سنة ثمان وتسعين وثمانمائة, وكان الابتداء في المسودة المذكورة ثاني يوم من قدومي من مكة المشرَّفة صحبة الحاج في شهر محرم, سنة ثمان وتسعين وثمانمائة", وفي هذا همة علية جدًّا من المصنف -رحمه الله، يبدأ عقب السفر غير مبالٍ بالتعب، ثم يتمّ جزئين في نحو تسعة أشهر، فذكره لهذا من باب التحدث بالنعمة, "واللهَ" بالنصب قدّم على عامله, وهو "أسأل" لإفادة التخصيص عند البيانين، والحصر عند النحويين -كما قاله الزمخشري: في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي} , {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} خلافًا لابن الحاجب في أنه للاهتمام, قال: ولا دليل على كونه للحصر، قال بعضهم: دليله الذوق وفهم أئمة التفسير, مع حصوله الاهتمام أيضًا؛ إذ لا ينافي الاختصاص "أن ينفع به جيلًا" بكسر الجيم وسكون التحتية- أمة "بعد جيل" ويجمع على أجيال، وفيه محض الإخلاص بتأليفه, وأنه لم يترقّب عليه منفعة من مخلوق, ولا قصد به التوسل إلى القرب منهم؛ كعادة كثير من المؤلفين، وسلك سنن الأئمة في الدعاء بالانتفاع بتأليفه؛ لتحصل الثمرة به عاجلًا بالانتفاع به في الدنيا, وآجلًا بالثواب الجزيل بفضل الله في الأخرى؛ لئلّا يذهب عناؤه باطلًا، بجميل صنع الله تعالى قبول دعوته, فإن الله تعالى قد نشر ذكره في الآفاق, وجبل قلوب كثير من الخلق على محبته, والاشتغال به, وهي من علامات القبول, وتعجيل بشرى المؤمن, وإلا فكم من تأليف حسن طوى ذكره, ولم يشتغل به، والرجاء منه تعالى أن يتمّ الإنعام بالإحسان الأخروي, "وحسبنا الله" كافينا "ونعم الوكيل" المفوّض إليه الأمر، وأتى بها استعانةً لوقوف في أمر عظيم, هل يقبل تأليفه وينتفع به، وقد دلّت الآية على استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة. وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل" قاله في الإكليل, "وأستودع الله تعالى نفسي وديني وخواتيم عملي وما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 435 ينفعني به والمسلمين، وأن يردني وأحبابي إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقني الإقامة بهما في عافية بلا محنة، وأن يطيل عمري في طاعته، ويلبسني أثواب عافيته، ويجمع لي وللمسلمين بين خيري الدنيا والآخرة، ويصرف عني سوءهما، ويجعل وفاتي ببلد رسوله، ويمنحنا من المدد المحمدي بما منحه   أنعم به عليَّ ربي" أي: أَكِلُ ذلك كله إلى الله, وأتبرأ من حفظه, وأتخلى من حرسه, وأتوكل عليه، فإنه تعالى الوافي الحفيظ, إذا استودع شيئًا حفظه، وفيه إلماح إلى أنه مسافر من الدنيا، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول للمسافر: "استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك". رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم على شرطهما, "بهذا" التأليف، "وأن ينفعني به والمسلمين" ذكر السؤال بالنفع ثلاث مرات؛ لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وأقلّ الإلحاح ثلاث مرات، "وأن يردَّني وأحبابي إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقني الإقامة بهما في عافية بلا محنة" بلية واختيار, "وأن يطيل عمري في طاعته"؛ لأنها خير الزاد, موجبة للسعادة الأبدية. روى الحاكم عن جابر، قال -صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخياركم"، قالوا: بلى، قال: "خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا". وروى أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح, والحاكم، وقال: على شرطهما, عن أبي بكرة رفعه: "خير الناس من طال عمره وحَسُنَ عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله" , "ويلبسني أثواب عافيته" لأقوى بها على طاعته. روى أحمد والترمذي عن العباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا عباس, يا عم رسول الله, سل الله العافية في الدنيا والآخرة". ولأحمد والترمذي عن الصديق: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام أوّل على المنبر، فقال: "سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية". وللنسائي وابن ماجه عن أنس رفعه: "سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت المعافاة في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت" , "ويجمع لي والمسلمين بين خيري الدنيا والآخرة, ويصرف عني سوءهما" وعن المسلمين, ففيه اكتفاء, "ويجعل وفاتي ببلد رسوله" ولم يقع ذلك، بل مات بمصر كما مَرَّ, ولكن الرجاء من كرم الله وجوده أن يعوضه عن هذه الدعوة. وقد روى أحمد وصحَّحه الحاكم عن أبي سعيد، رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يعجل له دعوته, وإمَّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها". الجزء: 12 ¦ الصفحة: 436 عباده الصالحين مع رضوانه، ويمتِّعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم, من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئًا حفظه، والحمد لله وحده, وصلى الله على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم.   وللحاكم عن جابر مرفوعًا في حديث طويل: "فلا يدعو المؤمن بدعوة إلّا استجيب له، إمَّا أن تعجل له في الدنيا, وإما أن تدخر له في الآخرة" , فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجّل له شيء من دعائه، وتعجيلها في الدنيا شامل لعين المسئول، ولبدله بدليل قوله في الحديث قبله: "وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". ولذا قال الحافظ: إن الإجابة تتنوّع، فتارة بعين المطلوب فورًا، وتارة يتأخّر لحكمة فيه، وتارة يغير عين المطلوب؛ حيث لا مصلحة فيه، وفي الواقع مصلحة ناجزة, أو أصلح منها, "ويمنحنا من المدد المحمدي بما منحه" أعطاه "عباده الصالحين, مع رضوانه, ويمتعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئًا حفظه". روى أحمد عن ابن عمر، رفعه: "إن لقمان الحكيم قال: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه" والحمد لله وحده, وصلى الله على سيدنا محمد, وآله وصحبه وسلم" هذا, وقد مَنَّ الله سبحانه وتفضَّل على عبده مع عجزه وضعفه بإتمام هذا الشرح المبارك -إن شاء الله تعالى- في مدة طويلة جدًّا, آخرها يوم الاثنين المبارك بين الظهر والعصر, ثالث عشر جمادى الثانية سنة سبع عشرة بعد مائة وألف من الهجرة النبوية, على صاحبها أفضل صلاة وتحية، والله أسأل من فضله متوسلًا إليه بأشرف رسله أن يجعله لوجهه خالصًا, وأن يظلني في ظل عرشه؛ إذ الظل أضحى في القيامة قالصًا، وأن ينفع به إلى المعاد, وأن يثيبني والمسلمين به في يوم التناد، وأن ينفع به نفعًا جمًّا, ويفتح به قلوبًا غلفًا, وأعينًا وآذانًا صمًّا، وأعوذ بالله من حاسدٍ يدفع بالصدر، فهذا لله لا لزيد ولا لعمرو قد سار بنعمة الله قبل كمال نصفه سير الشمس في المشارق والمغارب، وتقطَّعت أوراقه قبل إكماله بكثرة من له كتاب, وكتب منه نسخ لا تحصى من خطى, ومن فروعه, فرحم الله تعالى من نظر إليه بعين الإنصاف, والتمس مخرجًا لما يراه من زلل وإتلاف، فإني لجدير بأن أنشد قول القائل: حمدت الله حين هدى فؤادي ... لما أبديت مع عجزي وضعفي فمن لي بالخطأ فأرد عنه ... ومن لي بالقبول ولو بحرف وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق, إلى تمام السورتين، فما أجدني بإنشاد قول من قال من أهل الكمال: إني لأرحم حاسدي لفرط ما ... ضاقت صدورهم من الأوعار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 437 قال مؤلفه -رحمه الله: وقد انتهت كتابة النسخة المنقول منها النسخة المباركة النافعة -إن شاء الله تعالى- في خامس عشر شعبان المكرم, سنة تسع وتسعين وثمانمائة, وكان الابتداء في المسوّدة المذكورة ثاني يوم قدومي من مكة المشرفة،   نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة وقلوبهم في نار لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي ... فكأنما علقتها بمنار لكن من يكن الله تعالى هو المعين له, وتوكله عليه, لا يضره حسد الحاسدين, ولا كيد المبغضين، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أسألك أن تجعله لك خالصًا، ومن أسباب الفوز والرضا لك ولرسولك، وأن تريني وجهك ووجه حبيبك في القيامة، وأن ترزقني العافية في الدّارين, والمعافاة والسلامة ما شاء الله, لا قوة إلّا بالله, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأميّ, وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزَّة عمَّا يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمن, آمين. تم. الحمد لمنزل القرآن الكريم, وأفضل الصلاة وأتمَّ التسليم على ذي الخلق العظيم, ومن هو بالمؤمنين رءوف رحيم, وبعد: حمدًا لله على آلائه, والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه, فقد تَمَّ بعون منزل السبع المثاني, طبع الشرح الرقيق المباني, المحرر الأساليب والمعاني، المنسوب للإمام المسدد والهمام الجهبذي الممجد، صاحب التآليف الرائقة, والتصانيف الفائقة، المشهور فضله عند القاصي والداني, شمس الملة والدين, سيدي محمد الزرقاني, على المواهب اللدنية للإمام القسطلاني -قدس الله روحهما ونوّر بالرضوان ضريحهما. وهذا الكتاب البديع الرائق السهل المنيع الفائق، قد جمع من تاريخ المصطفى وسيرته, ونسبه الشريف وسنته, وأخلاقه وأسمائه وهديه, وطريقته وطبه, وخصائصه وبلاغته وفصاحته, وبعوثه وسراياه وغزواته, وعباداته وإرهاصاته ومعجزاته, وسائر أحواله الشريفة, وما يتعلق بحضرته السنية المنيفة, ما لا يكاد يحويه بهذا النمط مؤلف, ولا يستوعبه على هذا الوجه مصنّف، فيا له من كتاب حلت بتكرير الطبع مشاربه, وبزغت في سماء الفضل شموسه وكواكبه، وقد حليت طرره, ووشيت غرره بالكتاب المسمَّى زاد المعاد في هدي خير العباد, للإمام الحافظ النقاد, الذي حظي من مواهب العرفان ما له في العالم استيعاد, العلامة الهمام, شيخ الإسلام: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية, وكان طبعه الباهر الجليل, وإفراغه في هذا القالب الجميل, بالمطبعة العامرة الأزهرية, الكائن محلها بجوار الرياض الأزهرية, إدارة حضرة مصطفى بك شاكر وأخيه" لا زالت الأيام مضيئة بشموس علاهم, والليالي منيرة ببدور حلاهم، وذلك في شهر صفر الخير سنة 1329 على صحابها أفضل الصلاة وأزكى التحية. أمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 438 صحبة الحاج في شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم. آمين. بعونه تعالى تَمَّ الكتاب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 439 الفهرس : * النوع السابع من عبادتاته -عليه الصلاة والسلام- في نبذة من أدعيته وذكره وقراءته 3 * المقصد العاشر: الفصل الأول في إتمامه تعالى نعمته عليه 70 * الفصل الثاني: في زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف 177 * الفصل الثالث: في أمور الآخرة 264 * خاتمة 415 الجزء: 12 ¦ الصفحة: 440